التكفير وضوابطه
من شرح العقيدة الطحاوية
للشيخ العلامة سفر بن عبد الرحمن الحوالي، حفظه الله
من موقع الشيخ (http://www.alhawali.com/index)
هذه الكلمات أتت في صفحات كثيرة في موقع الشيخ سفر - حفظه الله - جُمعت لما فيها من الفوائد، وجُعلت في ملف واحد، وقد جاء فيها من الفوائد التي قلما تجتمع في كتاب واحد في الموضوع
أسأل الله أن يحفظ ويرحم كاتبه، وجامعه، وكل من انتفع به من المسلمين
بسم الله الرحمن الرحيم
لزوم جماعة المسلمين
من درس: التكفير وضوابطه (الحلقة الأولى)
قال الإمام أبو جعفر الطحاوي : [ولا نكفر أحداً من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله، ولا نقول: لا يضر مع الإيمان ذنب لمن عمله] قال الإمام ابن أبي العز رحمه الله:
[أراد بأهل القبلة الذين تقدم ذكرهم في قوله: "ونسمي أهل قبلتنا مسلمين مؤمنين ما دامو بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم معترفين، وله بكل ما قال وأخبر مصدقين" يشير الشيخ رحمه الله بهذا الكلام إلى الرد على الخوارج القائلين بالتكفير بكل ذنب.
واعلم -رحمك الله وإيانا- أن باب التكفير وعدم التكفير باب عظمت الفتنة والمحنة فيه، وكثر فيه الافتراق، وتشتتت فيه الأهواء والآراء، وتعارضت فيه دلائلهم، فالناس فيه -في جنس تكفير أهل المقالات والعقائد الفاسدة، المخالفة للحق الذي بعث الله به رسوله في نفس الأمر، أو المخالفة لذلك في اعتقادهم- على طرفين ووسط، من جنس الاختلاف في تكفير أهل الكبائر العملية.
فطائفة تقول: لا نكفر من أهل القبلة أحداً، فتنفي التكفير نفياً عاماً، مع العلم بأن في أهل القبلة المنافقين، الذين فيهم من هو أكفر من اليهود والنصارى بالكتاب والسنة والإجماع، وفيهم من قد يُظهر بعض ذلك حيث يمكنهم، وهم يتظاهرون بالشهادتين.(1/1)
وأيضاً: فلا خلاف بين المسلمين أن الرجل لو أظهر إنكار الواجبات الظاهرة المتواترة، والمحرمات الظاهرة المتواترة، ونحو ذلك؛ فإنه يستتاب، فإن تاب وإلا قُتل كافراً مرتداً] .
المقصود هو التنبيه على خطورة باب التكفير وعظم الشأن فيه واختلاف الأمة فيه، وأهميته وضرورة أن يُعلم وأن يُقرأ وأن يفهم على فهم السلف الصالح رضوان الله تعالى عليهم، وأول فرقة خرجت في الإسلام، وأول صراع وخلاف في العقيدة هو مع الخوارج في تكفير أصحاب الذنوب، وخلافها في أول الأمر لم يكن في الصفات، ولم يكن في القدر، وإنما كان في موضوع الإيمان والحكم على مرتكبي الكبيرة -دون الشرك- هذا هو أول ما نشب الخلاف فيه بين الأمة، وتفرقت فيه بظهور هذه الفرقة.
ومعنى الخوارج : جمع (خارجة) وهي صفة لموصوف مقدر، والتقدير فرقة خارجة أو طائفة خارجة، فجُمعت الخارجة جمع تكسير؛ فأصبحت خوارج ، وهذا معروف في لغة العرب مثلما تقول: فاكهة جمعها: فواكه، وفاطمة جمعها: فواطم، وقاعدة جمعها: قواعد كما في القرآن: وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ [النور:60] إلى آخره، وهذا كثير، وأصل الخوارج من خرجوا عن الإمام أو عن السنة والإجماع، وسنوضح إن شاء الله أن الخوارج الأولين خرجوا من السنة إلى البدعة، وخرجوا عن الجماعة إلى الفرقة.
معنى لفظ: (الجماعة) شرعاً
الجماعة في الإسلام -التي أمر الله تبارك وتعالى بها- لها معنيان مهما كثرت الأحاديث {عليكم بالجماعة }... أو {فالزم جماعة المسلمين وإمامهم }.
المعنى الأول:
الاجتماع على الحق ولزوم السنة، فإذا خرج أي إنسان عن السنة فقد خرج عن الجماعة، وهذا الذي سوف نوضحه إن شاء الله بالتفصيل في مبحث الجماعة، ومن الأدلة عليه قوله صلى الله عليه وسلم: {لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثّيب الزاني، والتارك لدينه المفارق للجماعة }. المفارق للجماعة: فارق جماعة المسلمين، أي فارق الحق وفارق الإجماع وخرج من الدين.(1/2)
وأوضح صورة من صور الخروج عن الجماعة هي الخروج من الدين والخروج من الملة، فتارك الدين المرتد فارق الجماعة من جميع الوجوه، وأهل البدع فارقوا الجماعة أي فارقوا السنة إلى البدعة وإن بقي بعضهم من أهل القبلة على الاختلاف بينهم كما سنذكر إن شاء الله.
والمعنى الآخر للجماعة:
هو اجتماع المسلمين على طاعة إمام حق، ونقيضها الخروج على الإمام الحق الذي اجتمعت عليه الأمة، فمن خرج عليه فيطلق عليه: أنه خارج، والفئة التي خرجت يطلق عليها أنها خارجة، وتجمع على خوارج، وفي الأصل الخوارج هم الذين خرجوا في زمن علي رضي الله تعالى عنه بعد حادثة التحكيم يوم صفين ، وقالوا: حكَّم علي الرجال في دين الله، وهؤلاء كانوا شباباً أحداث السن مشغوفون بالعبادة والزهد والتطلع إلى الآخرة، ولكن كان لديهم من ضيق الأفق والنظرة السطحية ومن الحنق والاندفاع والثورة العمياء ما لم يكن في الصحابة الكرام رضوان الله تعالى عليهم، بل هي بعيدة عنهم وعن منهج النبي صلى الله عليه وسلم، وعن منهج السنة وأهلها، ذلك المنهج الرحب الواسع الذي يقبل تعدد الرأي ووجهات النظر والشورى ولكن في حدود ما قرره الشرع، أما هؤلاء فلا يعرفون إلاَّ أمراً واحداً ورأياً واحداً، كما سنعرف ذلك من خلال أخبارهم وأحوالهم.(1/3)
كانوا في أول الأمر من أشد الناس وقوفاً مع علي رضي الله تعالى عنه، ويرون أنه على الحق مطلقاً، فلما قبل التحكيم قالوا: حكّم الرجال في دين الله، إذاً كفر؛ فكفروا علياً رضي الله تعالى عنه، وخرجوا عليه وفارقوا الجماعة، والنبي صلى الله عليه وسلم وصف هذه الفرقة ودل عليها وذكر صفاتها، حتى كأن الإنسان يراها، ولهذا بعد معركة النهروان وبعد أن ناظرهم عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنه، ورجع منهم من رجع وبقي منهم من بقي، وقاتلهم علي رضي الله تعالى عنه، وقال: [ابحثوا عن صاحب الثدية -تصغير ثدي- فبحثوا عنه فلم يجدوه، فقالوا: ما وجدناه، فقال لهم: والله ما كَذبت ولا كُذبت -يعني: والله! ما كذبت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما كُذبت أي لا يمكن أن يكذب عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم- فابحثوا عنه -وقيل: إن اسمه حرقوص بن زهير ، فبحثوا عنه فوجدوه في ساقية تحت القتلى، فاستخرجوه وفي عضده مثل الثدي، فقالوا: هذا صاحب الثدية ] يعني: أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر علياً بأنه سيقاتلهم وأن هذا هو حالهم وشأنهم وأن منهم أو من قادتهم رجلٌ يسمى ذا الثدية …
معنى لفظ: (الجماعة) شرعاً
من درس: لزوم جماعة المسلمين
الجماعة في الإسلام -التي أمر الله تبارك وتعالى بها- لها معنيان مهما كثرت الأحاديث {عليكم بالجماعة }... أو {فالزم جماعة المسلمين وإمامهم }.
المعنى الأول:
الاجتماع على الحق ولزوم السنة، فإذا خرج أي إنسان عن السنة فقد خرج عن الجماعة، وهذا الذي سوف نوضحه إن شاء الله بالتفصيل في مبحث الجماعة، ومن الأدلة عليه قوله صلى الله عليه وسلم: {لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثّيب الزاني، والتارك لدينه المفارق للجماعة }. المفارق للجماعة: فارق جماعة المسلمين، أي فارق الحق وفارق الإجماع وخرج من الدين.(1/4)
وأوضح صورة من صور الخروج عن الجماعة هي الخروج من الدين والخروج من الملة، فتارك الدين المرتد فارق الجماعة من جميع الوجوه، وأهل البدع فارقوا الجماعة أي فارقوا السنة إلى البدعة وإن بقي بعضهم من أهل القبلة على الاختلاف بينهم كما سنذكر إن شاء الله.
والمعنى الآخر للجماعة:
هو اجتماع المسلمين على طاعة إمام حق، ونقيضها الخروج على الإمام الحق الذي اجتمعت عليه الأمة، فمن خرج عليه فيطلق عليه: أنه خارج، والفئة التي خرجت يطلق عليها أنها خارجة، وتجمع على خوارج، وفي الأصل الخوارج هم الذين خرجوا في زمن علي رضي الله تعالى عنه بعد حادثة التحكيم يوم صفين ، وقالوا: حكَّم علي الرجال في دين الله، وهؤلاء كانوا شباباً أحداث السن مشغوفون بالعبادة والزهد والتطلع إلى الآخرة، ولكن كان لديهم من ضيق الأفق والنظرة السطحية ومن الحنق والاندفاع والثورة العمياء ما لم يكن في الصحابة الكرام رضوان الله تعالى عليهم، بل هي بعيدة عنهم وعن منهج النبي صلى الله عليه وسلم، وعن منهج السنة وأهلها، ذلك المنهج الرحب الواسع الذي يقبل تعدد الرأي ووجهات النظر والشورى ولكن في حدود ما قرره الشرع، أما هؤلاء فلا يعرفون إلاَّ أمراً واحداً ورأياً واحداً، كما سنعرف ذلك من خلال أخبارهم وأحوالهم.(1/5)
كانوا في أول الأمر من أشد الناس وقوفاً مع علي رضي الله تعالى عنه، ويرون أنه على الحق مطلقاً، فلما قبل التحكيم قالوا: حكّم الرجال في دين الله، إذاً كفر؛ فكفروا علياً رضي الله تعالى عنه، وخرجوا عليه وفارقوا الجماعة، والنبي صلى الله عليه وسلم وصف هذه الفرقة ودل عليها وذكر صفاتها، حتى كأن الإنسان يراها، ولهذا بعد معركة النهروان وبعد أن ناظرهم عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنه، ورجع منهم من رجع وبقي منهم من بقي، وقاتلهم علي رضي الله تعالى عنه، وقال: [ابحثوا عن صاحب الثدية -تصغير ثدي- فبحثوا عنه فلم يجدوه، فقالوا: ما وجدناه، فقال لهم: والله ما كَذبت ولا كُذبت -يعني: والله! ما كذبت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما كُذبت أي لا يمكن أن يكذب عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم- فابحثوا عنه -وقيل: إن اسمه حرقوص بن زهير ، فبحثوا عنه فوجدوه في ساقية تحت القتلى، فاستخرجوه وفي عضده مثل الثدي، فقالوا: هذا صاحب الثدية ] يعني: أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر علياً بأنه سيقاتلهم وأن هذا هو حالهم وشأنهم وأن منهم أو من قادتهم رجلٌ يسمى ذا الثدية …
الفرق بين الخوارج والبغاة
من درس: التكفير وضوابطه (الحلقة الأولى)(1/6)
الشاهد أن النبي صلى الله عليه وسلم وصفهم بأوصافهم، ومن جملة ما وصفهم به النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء في الحديث: {يخرجون } وفي رواية: {يمرقون }، ولهذا سُمُّوا خوارج وهو اسم مشتق من لفظ الحديث، ويُسمون أيضاً المارقة اشتقاقاً من قوله صلى الله عليه وسلم: {يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية }، وكانوا يُسمون القُراء لكثرة اجتهادهم في القراءة، وهم سموا أنفسهم الشراة ولا يرضون أن يسموا خوارج ولا مارقة وإنما يسمون أنفسهم الشراة ، وهو جمع شارٍ والشاري هو المبتاع، قالوا: نحن الشراة الذين شروا أنفسهم لله؛ يعني باعوا أنفسهم في سبيل الله عز وجل، ففي الخوارج الأولين اجتمع الوصفان أنهم خرجوا على السنة؛ المنهج القويم والصراط المستقيم، وفي الوقت نفسه خرجوا عن الإمام الحق والولي العدل، ولما طال بهم الزمن أصبحوا فرقة من الفرق المشهورة التي لها منهج، وتطور هذا المنهج على امتداد تاريخ المسلمين، فأصبح يطلق اسم الخوارج على من يخرجون عن السنة وعن الدين، ويكفرون المسلمين بالذنب.
وعليه فلم يعد الخروج عن الإمام السمة البارزة لهم فقط إذ ليس كل من خرج على الإمام العدل يسمى خارجياً، وبعض الناس يقع في خطأ فيظن أنهم خوارج ؛ لأنهم خرجوا على الإمام الحق، وفي حالة علي رضي الله تعالى عنه اجتمع فيهم الوصفان، لكن بعد أن تحدد الاصطلاح وأصبح علماً على فرقة ذات أصول بدعية فلا يجوز أن يسمى خارجياً إلا من كان على هذا الوصف، وأما من خرج على الإمام العادل فقد اصطلح على تسميته بالباغي وجمعه: البغاة، والباغي قد يكون من أهل السنة . والإمام علي رضي الله تعالى عنه، كان أهل الشام خارجين عن طاعته، ومع ذلك لم يُسمِّهم خوارج ، وإنما كان يعتبرهم ويعدهم بغاة.(1/7)
إذاً: لو كان الخارجون هم كل من خرج على الإمام العدل، لكان كل من خرج على علي رضي الله تعالى عنه من أهل الجمل، وأهل الشام خوارج ، لكن الحقيقة أن أصل كلمة (الخوارج) إذا أطلقت فالمراد من يعتقد هذه البدعة أو هذه العقيدة، ولا يجوز أن تطلق على مجرد الخروج على الإمام، فالخارج على الإمام إن كان خرج عليه معتقداً اعتقاد الخوارج فهو خارجي؛ لأنه على عقيدة الخوارج ؛ أما إن خرج عن طاعة الإمام الحق على تأويل آخر أو طمعاً في الدنيا أو ما أشبه ذلك فيسمى باغياً.
فأوضح وصف لهؤلاء أنهم:
الذين يكفرون المسلمين بمجرد المعاصي والذنوب التي هي دون الكفر أو الشرك، ولم يكفر الله ورسوله من اقترفها، وإن كانوا قد تأولوا بعض النصوص.
فرق الخوارج
من درس: التكفير وضوابطه (الحلقة الأولى)
وهؤلاء الخوارج طبقات ودرجات وفرق -وإن كان أصلها واحداً- ويجب أن ننبه دائماً على أن البدعة مدعاة للفرقة فما ابتدع قوم بدعة قط إلا وتفرقوا فيها، فأول ما بدأ الرفض والتشيع في رجل واحد اسمه عبد الله بن سبأ اليهودي، ثم أصبحوا -كما في كتبهم- أكثر من سبعين فرقة، وكذلك الخوارج ، ومثل ذلكالصوفية إذ أنها بدأت بأشخاص زهَّاد يتعبدون و... إلخ، والآن طرق الصوفية لا تحصى كثرةً، بل الطريقة الواحدة تنشق إلى طريقتين والطريقة التي انشقت تنشق إلى طريقتين أو ثلاث أو أربع أو عشر... إلخ.(1/8)
وبما أن البدعة دائماً مدعاة للفرقة فلا يوحد الناس ولا يجمعهم إلاَّ منهج أهل السنة والجماعة الذي هو المنهج الحق، فالخوارج أول ما خرجوا كانوا فرقة واحدة، وكانوا رأياً واحداً كل همهم وكل جهدهم هو تكفير علي رضي الله تعالى عنه، ثم كفروا أيضاً عثمان رضي الله تعالى عنه، وكفروا بطبيعة الحال معاوية وعمرو بن العاص ، بل لما كانت معركة الجمل -وكانوا مع علي رضي الله تعالى عنه- كفروا أصحاب الجمل، وهكذا أخذوا يكفرون حتى إنه لم يسلم من تكفيرهم من الأمراء المؤمنين أو الخلفاء إلا الشيخان أبو بكر وعمر رضي الله تعالى عنهم أجمعين، ولهذا لما أرسل إليهم علي رضي الله عنه من يناظرهم قالوا: لا نبايعه ولا نرجع في طاعته، وقالوا: إن جئتمونا بمثل عمر دخلنا في طاعته، وعلي ليس كمثل عمر ، فمن أين نأتي بمثل عمر ؟! وليت الخوارج رضوا بعد الجهد أن يبايعوا علياً رضي الله تعالى عنه، لكنهم أبوا واستمروا بلا راية، حتى اجتمعوا في مكان يقال له حروراء ، ولهذا يقال لهم: حرورية -كما قالت أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها: [أحرورية أنتِ؟ ] عند أن سألتها امرأة: لماذا تقضي الحائض الصيام ولا تقضي الصلاة؟ تريد أن تكشف لنا منهج الخوارج ، وهكذا سؤال الخوارج دائماً: لماذا كذا؟ أما المؤمنون فهم يسلّمون ولا ينازعون ولا يجادلون، هذا هو الدين وهذا هو الشرع-.
بعد أن تجمع الخوارج في حروراء أمَّروا عليهم رجلاً من بني تميم يقال له عبد الله بن وهب الراسبي ، هذا في زمن علي رضي الله تعالى عنه حتى إن ابن حزم رحمه الله نقدهم في ذلك قال: "طالبوا بعمر أو بمثل عمر ، فلما لم يجدوا أمَّروا عليهم عبد الله بن وهب وهو أعرابي بوال على عقبيه ليس له سابقة ولا فضل ولا شهد الله له بخير" وليتهم أمروا أحد الصحابة.(1/9)
فالمقصود أنهم خرجوا وكانت المعركة التي أشرنا إليها ثم تطور حالهم فيما بعد، وبعد عام الجماعة بقي الأمر في مدة خلافة معاوية رضي الله تعالى عنه هادئاً، وكانت تلك العشرون سنة التي تولى فيها معاوية رضي الله تعالى عنه من أفضل وأصلح العصور، هدأت فيها الأحوال وسكنت فيها الفتن وانصرف الناس إلى العلم، وكثير من الأحاديث والآثار إنما رويت في هذه الفترة، وأراد الله سبحانه وتعالى أن يأتي بعده يزيد ومع يزيد ظهرت الفتن واستشرت، ومنها انتشار الخوارج ، ثم بعد ذلك في أيام عبد الملك بن مروان والحجاج كان ظهورهم أشد، فالخوارج أشد ما ظهروا وقويت شوكتهم في زمن بني أمية، مع أنهم خرجوا في أيام علي رضي الله تعالى عنه، واستمرت فتنتهم حتى قتلوه رضي الله تعالى عنه، لكن ما تطوروا وتفرقوا وحكموا بعض الأقطار إلا في آخر زمن صغار الصحابة، كعبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنه وعبد الله بن عمر وأبي سعيد الخدري وأمثالهم.
ونستطيع على سبيل الإجمال أن نصنف الخوارج بحسب غلوهم إلى ثلاثة أصناف رئيسية، وإلا فهم فرق كثيرة:
الأزارقة
الأزارقة هم أعظم الخوارج غلواً وأبعدهم عن السنة -وقد ظهر الأزارقة بعد المحكمة الأولى وهم أصحاب النهروان - وترأسهم نافع بن الأزرق الذي هو شيخهم وإمامهم وهو مشهور في كتب التفسير كما تجدون في الدر المنثور مثلاً أو في الطبري وحتى في البخاري لكن لم يسمه، وهو الذي عرف بسؤالاته لابن عباس عندما كان يسأل ابن عباس ويجيبه، ولا يقبل، ويجادل، وهذا شأن الخوارج وأساس ضلالهم أنهم يعتقدون أن العبد متعبد بعين الحق في كل مسألة، وهذا مخالف لما نحن مأمورون به من الاجتهاد لبلوغ الحق والتسديد والمقاربة في حدود الاستطاعة.(1/10)
فنافع بن الأزرق كان يعتقد هو ومن معه أن المسلمين جميعاً كفار، وأن الأمة بأجمعها كافرة إلا نافعاً ومن كان معه، حتى من كان على مذهب نافع ولكنه لم يهاجر إليه فهو عندهم كافر، فلو أن إنساناً محبوس، ولا يستطيع أن يتخلص من ظلم الحجاج أو من سيطرته -مثلاً- فلم يخرج ولم يهاجر إلى نافع ويلتحق بجيشه، فهذا عندهم كافر وإن كان على مذهبهم، وهؤلاء يسمونهم القعدة ، فكان نافع يكفر القعدة ، ويرى أن دارهم كلها دار كفر، فكل الأمة الإسلامية دار كفر إلا معسكره فقط.
النجدات
لما جاء نافع بهذا التشدد وهذا الغلو وهذا التكفير العام للأمة خالفه رجل من أتباعه يدعى نجدة بن عامر الحنفي ، فقال: نجدة هذا غلو، فخفف الغلو فقط وقال: من كان على مذهبنا ولم يستطع أن يهاجر إلينا لا يكفر، ومن أقمنا عليه الحد لا يكفر، وكلاهما متفقان على أن علياً رضي الله تعالى عنه وعثمان ومعاوية وطلحة والزبير وعائشة ... إلخ كفار، لكن اختلفوا في مسائل تتعلق بالتكفير، فالطائفة الأشد غلواً في الخوارج الذين هم الأزارقة يرون التكفير العام المطلق، وأقل منهم غلواً أو الوسط في مذهب الخوارج الذين هم النجدات -أتباع نجدة بن عامر الحنفي ، الذي خفف قليلاً أو شيئاً من غلو الأزارقة وبقيت مصائب أخرى لم يخففها، وخرج من الأزارقة ومن النجدات أيضاً فرق وطوائف ومقالات، وقد اجتمعوا على تكفير عثمان رضي الله تعالى عنه؛ لأنه تأصل لديهم أن كل من ارتكب معصية فهو كافر، ولو كان مؤمناً لم يعصِ، فعندهم أن عثمان رضي الله تعالى عنه قد فعل أموراً خالف فيها سيرة الشيخين.(1/11)
وقد قلنا: إن أصل الضلال في مسألة الإيمان هو اعتقاد الفرق المخالفة من المرجئة أو الخوارج في القديم أو الحديث: أن الإيمان شيء واحد لا يزيد ولا ينقص ولا يتبعض ولا يتجزأ ولا يتركب، ولو كانوا كأهل السنة والجماعة -استنباطاً من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم- يؤمنون بأن الإيمان يزيد وينقص لقالوا: إن عثمان رضي الله تعالى عنه أقل من الشيخين، فليس هنالك مشكلة، ولن نعترض عليهم.
وفي مثل هذا الباب من يسرق أو يزني أو يشرب الخمر ضعيف الإيمان، ويبقى على إسلامه ولكنه ناقص الإيمان، وهذا وأشباهه قول يقبل ولا بأس به، لكنهم يرون أنه شيء واحد فقط، وليس عندهم تدرج بل نفي للإيمان بالكلية، بخلاف الإيمان عند أهل السنة والجماعة فإنه بضع وسبعون شعبة، أعلاها كذا وأدناها كذا، فقد يكون عند الإنسان ثلاثون شعبة، أو أربعون، أو خمسة وأربعون أو خمسون يتعبد بها وهكذا، ومن ذلك الناس يتفاوتون في إيمانهم وفي صلاتهم وفي صيامهم وفي زكاتهم وفي حجهم تفاوتاً واختلافاً كبيراً، فقد يصلي الرجلان في الصف الواحد وبين صلاتهما بون عظيم، وهذا شيء واضح ومعلوم، لكن هؤلاء قالوا: لا. إما يكون مؤمناً إذا كان موافقاً للحد الذي وضعناه، وإما أنه ليس بمؤمن إذا خالف ولو في شيء يسير، وعليه فعثمان رضي الله تعالى عنه عندهم كافر غير مؤمن لأنه ارتكب كبيرة -في نظرهم- إذ أنه نقص عما كان عليه الشيخان، فمثلاً حمى الحمى، واستأثر بشيء من بيت المال -بزعمهم- وولى أقرباءه، وأتم الصلاة في مكة .. إلى غير ذلك من أمور اجتهادية وهو رضي الله تعالى عنه له فيها رأي وله اجتهاد، وغاية ما في الأمر أنه أخطأ، لكنهم ليس عندهم شيء اسمه خطأ أو صواب، إما كافر أو مؤمن فقط، وليس هناك ناقص إيمان وضعيف إيمان، كذلك من جاء بعده كعلي رضي الله تعالى عنه قالوا: حكَّم الرجال، والله يقول: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ [الأنعام:57]، فهذا كلام الله، وهو يقول بحكم فلان(1/12)
وفلان فقد كفر، سبحان الله! أهكذا يكون الاحتجاج؟!! أهكذا يكون الاستدلال؟!!
ولهذا حاجهم وألزمهم حبر الأمة عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنه من كتاب الله تعالى كما تقدم.
إذاً: ليس عندهم حجج ولا براهين، وليس عندهم إلا شبهات وآراء يجمعونها ويتصلبون عليها ولا يقبلون فيها نقاشاً، وهم بذلك يكفرون الصحابة رضوان الله تعالى عليهم.
فرقة الإباضية
ثم ظهر بعد ذلك عبد الله بن إباض زعيم الإباضية ، فخفف من غلو الطائفتين، فخالف نافعاً ونجدة وقال: إنما هو كفر دون كفر، أو كفر النعمة -كما يسميه البعض- وهم المؤمنون قطعاً وغيرهم مؤمنون لكنهم كفار كفر نعمة، إلا السلطان وعسكره فقط، أي: الذين يخرجون من الملة، فالقضية المهمة عند الخوارج في جميع فرقهم ومقالاتهم هي السلطة أو الحاكم أو الخليفة، وكأنه إذا صلح صلح كل شيء وإذا فسد فسد كل شيء، وليس عندهم إيمان يزيد وينقص، فإذاً ليس عندهم في الحاكم إلا أن يكون مثل أبي بكر وعمر أو يكون كافراً، ولهذا استحل الخوارج دماء المسلمين المخالفين لهم وقالوا: دارهم دار كفر، إما كفر مخرج من الملة، كما هو رأي الأزارقة والنجدات ، أو كفر دون كفر كما هو رأي الإباضية ، لكن في الآخرة كلهم مجمعون على أنه خالد مخلد في النار ... إلخ، وقضيتهم الأساسية مع الأمة هي بماذا تكفر -حتى لو كان كفراً أصغر-؟!، وبأي شيء يمتحن الناس؟! وعلى أي شيء يوالى ويعادى الناس؟! وكل ذلك مبني على موقفهم من السلطان وعسكره، فهذا هو عندهم أصل الإيمان والدين والولاء والبراء، فإن قال رجل: عبد الملك بن مروان خليفتنا وأمير المؤمنين كفروه؛ لأنه يواليه؛ وهكذا لو كان من جنده فهذا كافر، وإن تبرأ منه فهو مسلم مؤمن، هذا هو الإيمان عندهم، ولذلك استحلوا أن يغزوا وأن يهاجموا العوام من المسلمين، وانتشار هؤلاء الخوارج ملاحظ في أواسط نجد خاصة، ثم في بلاد فارس ثم في عمان ثم انتشروا في المغرب وأنشئوا دولاً في بلاد الفرس ...(1/13)
وكلهم يستحلون دماء المسلمين، ويقولون: هؤلاء كفار لأنهم لم يعينونا ولم يخرجوا معنا على حكام الجور وسلاطين الظلم.
الأزارقة
من درس: فرق الخوارج
الأزارقة هم أعظم الخوارج غلواً وأبعدهم عن السنة -وقد ظهر الأزارقة بعد المحكمة الأولى وهم أصحاب النهروان - وترأسهم نافع بن الأزرق الذي هو شيخهم وإمامهم وهو مشهور في كتب التفسير كما تجدون في الدر المنثور مثلاً أو في الطبري وحتى في البخاري لكن لم يسمه، وهو الذي عرف بسؤالاته لابن عباس عندما كان يسأل ابن عباس ويجيبه، ولا يقبل، ويجادل، وهذا شأن الخوارج وأساس ضلالهم أنهم يعتقدون أن العبد متعبد بعين الحق في كل مسألة، وهذا مخالف لما نحن مأمورون به من الاجتهاد لبلوغ الحق والتسديد والمقاربة في حدود الاستطاعة.
فنافع بن الأزرق كان يعتقد هو ومن معه أن المسلمين جميعاً كفار، وأن الأمة بأجمعها كافرة إلا نافعاً ومن كان معه، حتى من كان على مذهب نافع ولكنه لم يهاجر إليه فهو عندهم كافر، فلو أن إنساناً محبوس، ولا يستطيع أن يتخلص من ظلم الحجاج أو من سيطرته -مثلاً- فلم يخرج ولم يهاجر إلى نافع ويلتحق بجيشه، فهذا عندهم كافر وإن كان على مذهبهم، وهؤلاء يسمونهم القعدة ، فكان نافع يكفر القعدة ، ويرى أن دارهم كلها دار كفر، فكل الأمة الإسلامية دار كفر إلا معسكره فقط.
النجدات
من درس: فرق الخوارج(1/14)
لما جاء نافع بهذا التشدد وهذا الغلو وهذا التكفير العام للأمة خالفه رجل من أتباعه يدعى نجدة بن عامر الحنفي ، فقال: نجدة هذا غلو، فخفف الغلو فقط وقال: من كان على مذهبنا ولم يستطع أن يهاجر إلينا لا يكفر، ومن أقمنا عليه الحد لا يكفر، وكلاهما متفقان على أن علياً رضي الله تعالى عنه وعثمان ومعاوية وطلحة والزبير وعائشة ... إلخ كفار، لكن اختلفوا في مسائل تتعلق بالتكفير، فالطائفة الأشد غلواً في الخوارج الذين هم الأزارقة يرون التكفير العام المطلق، وأقل منهم غلواً أو الوسط في مذهب الخوارج الذين هم النجدات -أتباع نجدة بن عامر الحنفي ، الذي خفف قليلاً أو شيئاً من غلو الأزارقة وبقيت مصائب أخرى لم يخففها، وخرج من الأزارقة ومن النجدات أيضاً فرق وطوائف ومقالات، وقد اجتمعوا على تكفير عثمان رضي الله تعالى عنه؛ لأنه تأصل لديهم أن كل من ارتكب معصية فهو كافر، ولو كان مؤمناً لم يعصِ، فعندهم أن عثمان رضي الله تعالى عنه قد فعل أموراً خالف فيها سيرة الشيخين.
وقد قلنا: إن أصل الضلال في مسألة الإيمان هو اعتقاد الفرق المخالفة من المرجئة أو الخوارج في القديم أو الحديث: أن الإيمان شيء واحد لا يزيد ولا ينقص ولا يتبعض ولا يتجزأ ولا يتركب، ولو كانوا كأهل السنة والجماعة -استنباطاً من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم- يؤمنون بأن الإيمان يزيد وينقص لقالوا: إن عثمان رضي الله تعالى عنه أقل من الشيخين، فليس هنالك مشكلة، ولن نعترض عليهم.(1/15)
وفي مثل هذا الباب من يسرق أو يزني أو يشرب الخمر ضعيف الإيمان، ويبقى على إسلامه ولكنه ناقص الإيمان، وهذا وأشباهه قول يقبل ولا بأس به، لكنهم يرون أنه شيء واحد فقط، وليس عندهم تدرج بل نفي للإيمان بالكلية، بخلاف الإيمان عند أهل السنة والجماعة فإنه بضع وسبعون شعبة، أعلاها كذا وأدناها كذا، فقد يكون عند الإنسان ثلاثون شعبة، أو أربعون، أو خمسة وأربعون أو خمسون يتعبد بها وهكذا، ومن ذلك الناس يتفاوتون في إيمانهم وفي صلاتهم وفي صيامهم وفي زكاتهم وفي حجهم تفاوتاً واختلافاً كبيراً، فقد يصلي الرجلان في الصف الواحد وبين صلاتهما بون عظيم، وهذا شيء واضح ومعلوم، لكن هؤلاء قالوا: لا. إما يكون مؤمناً إذا كان موافقاً للحد الذي وضعناه، وإما أنه ليس بمؤمن إذا خالف ولو في شيء يسير، وعليه فعثمان رضي الله تعالى عنه عندهم كافر غير مؤمن لأنه ارتكب كبيرة -في نظرهم- إذ أنه نقص عما كان عليه الشيخان، فمثلاً حمى الحمى، واستأثر بشيء من بيت المال -بزعمهم- وولى أقرباءه، وأتم الصلاة في مكة .. إلى غير ذلك من أمور اجتهادية وهو رضي الله تعالى عنه له فيها رأي وله اجتهاد، وغاية ما في الأمر أنه أخطأ، لكنهم ليس عندهم شيء اسمه خطأ أو صواب، إما كافر أو مؤمن فقط، وليس هناك ناقص إيمان وضعيف إيمان، كذلك من جاء بعده كعلي رضي الله تعالى عنه قالوا: حكَّم الرجال، والله يقول: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ [الأنعام:57]، فهذا كلام الله، وهو يقول بحكم فلان وفلان فقد كفر، سبحان الله! أهكذا يكون الاحتجاج؟!! أهكذا يكون الاستدلال؟!!
ولهذا حاجهم وألزمهم حبر الأمة عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنه من كتاب الله تعالى كما تقدم.
إذاً: ليس عندهم حجج ولا براهين، وليس عندهم إلا شبهات وآراء يجمعونها ويتصلبون عليها ولا يقبلون فيها نقاشاً، وهم بذلك يكفرون الصحابة رضوان الله تعالى عليهم.
فرقة الإباضية
من درس: فرق الخوارج(1/16)
ثم ظهر بعد ذلك عبد الله بن إباض زعيم الإباضية ، فخفف من غلو الطائفتين، فخالف نافعاً ونجدة وقال: إنما هو كفر دون كفر، أو كفر النعمة -كما يسميه البعض- وهم المؤمنون قطعاً وغيرهم مؤمنون لكنهم كفار كفر نعمة، إلا السلطان وعسكره فقط، أي: الذين يخرجون من الملة، فالقضية المهمة عند الخوارج في جميع فرقهم ومقالاتهم هي السلطة أو الحاكم أو الخليفة، وكأنه إذا صلح صلح كل شيء وإذا فسد فسد كل شيء، وليس عندهم إيمان يزيد وينقص، فإذاً ليس عندهم في الحاكم إلا أن يكون مثل أبي بكر وعمر أو يكون كافراً، ولهذا استحل الخوارج دماء المسلمين المخالفين لهم وقالوا: دارهم دار كفر، إما كفر مخرج من الملة، كما هو رأي الأزارقة والنجدات ، أو كفر دون كفر كما هو رأي الإباضية ، لكن في الآخرة كلهم مجمعون على أنه خالد مخلد في النار ... إلخ، وقضيتهم الأساسية مع الأمة هي بماذا تكفر -حتى لو كان كفراً أصغر-؟!، وبأي شيء يمتحن الناس؟! وعلى أي شيء يوالى ويعادى الناس؟! وكل ذلك مبني على موقفهم من السلطان وعسكره، فهذا هو عندهم أصل الإيمان والدين والولاء والبراء، فإن قال رجل: عبد الملك بن مروان خليفتنا وأمير المؤمنين كفروه؛ لأنه يواليه؛ وهكذا لو كان من جنده فهذا كافر، وإن تبرأ منه فهو مسلم مؤمن، هذا هو الإيمان عندهم، ولذلك استحلوا أن يغزوا وأن يهاجموا العوام من المسلمين، وانتشار هؤلاء الخوارج ملاحظ في أواسط نجد خاصة، ثم في بلاد فارس ثم في عمان ثم انتشروا في المغرب وأنشئوا دولاً في بلاد الفرس ... وكلهم يستحلون دماء المسلمين، ويقولون: هؤلاء كفار لأنهم لم يعينونا ولم يخرجوا معنا على حكام الجور وسلاطين الظلم.
تطور البدع وعدم وقوفها عند حد
من درس: التكفير وضوابطه (الحلقة الأولى)(1/17)
الإمام الشعبي رحمه الله يقول كما روى عنه ابن سعد أنه ضرب للخوارج مثلاً فقال: شأن هؤلاء كرجل مات وترك ثلاثة أبناء: كبير وأوسط وصغير، فجاء الكبير فاستأثر بالمال كله، ولم يترك للاثنين شيئاً فجاء الأوسط للأصغر، وقال له: أعني على قتال الكبير، فقال الأصغر: لا أستطيع أن أقاتله، ولكن أصبر وأحتسب، فعدا الأوسط على الصغير وقاتله؛ لأنه لم يخرج معه ولم يقاتل معه الأكبر، فهذا المثال المبسط يدلنا على حقيقة وضع الخوارج ، فعبد الملك بن مروان -أو الحجاج - أخذ بيت المال وظلم الناس وفعل وفعل.(1/18)
فإنهم قالوا للناس: اشتركوا معنا لنقاتل هؤلاء فأبى الناس فأخذوا يستحلون أموال الناس؛ لأنهم لم يخرجوا معهم ليقاتلوا عبد الملك والحجاج ومن بعده ويأخذوا حقهم ونصيبهم من بيت المال، وأكثر ما نقموا على بني أمية -كما تعلمون، ومخالفة بني أمية لم تكن في الاعتقاد- ما كان في المال، ولا شك أن بني أمية خاصة بعد معاوية رضي الله تعالى عنه خالفوا سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين في بيت المال؛ فبيت المال إنما هو للمسلمين، ولذلك أبو بكر رضي الله عنه بعد أن بويع بالخلافة أراد أن يسعى في طلب الرزق وأن يعمل، فقالوا: يا خليفة رسول الله إلى أين؟ قال: عيالي؛ فرتبوا له من بيت المال ما يكفيه، وعمر رضي الله تعالى عنه معلوم عدله حتى مع أهله وأبنائه، فكان لا يسمح أن يأخذ أحد من بيت المال درهماً واحداً، بل يذكر عنه رضي الله تعالى عنه أنه ذهب مرة إلى السوق فوجد إبلاً سماناً أسمن من غيرها من الإبل فقال: لمن هذه الإبل؟ قالوا: هذه لابنك عبد الله بن عمر ، فدعاه فقال: يا عبد الله ! هذه الإبل لك؟ قال: نعم. قال: مالي أراها أسمن من غيرها من الإبل؟ قال: والله! يا أمير المؤمنين: لا علم لي، هذه إبلي، واستأجرت لها الرعاة يرعونها، قال: لا. هذه الإبل إذا ذهبت عند الماء قيل: إبل ابن أمير المؤمنين فتشرب قبل إبل المسلمين، وإذا ذهبت في مرعى قالوا: دعوها ترتع؛ لأنها إبل ابن أمير المؤمنين، فلذلك كانت أسمن من غيرها، بيعوها، ولك يا عبد الله رأس مالك، والباقي في بيت مال المسلمين، هكذا ضرب الأمثلة في القسطاس والعدل، فلما كانت تلك سيرتهم أحبهم الناس ولا شك أنها سيرة عالية راقية، وهذا الذي يجب أن تتطلع الأمة إلى أن تُوجد مثله، وإن وجد من يخالف؛ فقولوا لهم: كونوا مثلهم، فلو نُصح عبد الملك بن مروان مثلاً أو من بعده: كن كعمر ، كن كأبي بكر -ويجب أن يقال له ذلك- حتى تبقى عند الأمة هذه الصورة العليا، لكن هناك تفاوت وهناك(1/19)
درجات، وليس الأمر كله كذلك، فكان أوضح ما يكون من انحراف في عهد بني أمية في بيت المال في عهد عبد الملك بن مروان والوليد بن عبد الملك ثم سليمان حتى جاء عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه الذي سار بسيرة جده عمر بن الخطاب ، فرد المظالم ورد الأموال حتى إن عقد زوجته فاطمة بنت عبد الملك -وهو عقد أعطاها إياه أبوها وأقرها عليه أخواها- رده إلى بيت المال.
وهكذا أرجع إلى الناس مظالمهم حتى شكرت له الأمة ذلك، يذكر التاريخ في سيرته -كما ذكر ابن الجوزي وابن عبد الحكم - أن عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه في أيامه أخذ المظالم فردها، ومن جملة ما رد من المظالم ضيعة كانت لرجل، فجاء هذا الرجل بعد وفاته بزمن إلى هشام بن عبد الملك وقال: يا أمير المؤمنين! إنه كانت لي ضيعة أو بستان وهبني إياها أبوك عبد الملك وأقرني عليها أخوك الوليد وأخوك سليمان ، ثم جاء عمر رحمه الله فنزعها مني وأرجو أن تعيدها لي، فقال: أعد ما تقول يا رجل! قال: إنه كانت لي ضيعة أعطاني إياها أبوك عبد الملك ثم أقرني عليها أخواك الوليد وسليمان حتى جاء عمر رحمه الله فنزعها مني، فتعجب هشام سبحان الله! يترحم على من أخذها ولا يترحم على من أعطاه.(1/20)
فالأمة بفطرتها تشهد له أنه على الحق وإن كان حَرَمَها، لكنه لم يظلمها، وإنما أخذ منها الظلم ورد الحق لأهله، والذين أعطوا بغير حق لا يشكرون ولا يذكرون، ولا يقال لأحدهم رحمه الله، هذا الجزاء في الدنيا وما عند الله أشد -ونعوذ بالله- المهم في الأمر أن بيت المال أمره عظيم، فكان الخلاف في مسألة بيت المال أوضح ما كان عند الخوارج ، فالخوارج كانوا يجادلون من يجادلون في هذا، ولهذا ضرب الشعبي رحمه الله هذا المثل للخوارج بما قاله الأخ الأوسط للأصغر: تعال معي نأخذ حقنا. فقال: لا. ولكن أصبر وأحتسب، وكثير من الأمة وكثير من الناس في البوادي وفي وسط الجزيرة وغيرها، قالوا: لا نقاتل الوليد لأنه لم يعطنا حقنا من الفيء ومن بيت المال، نتركه وأمره إلى الله، فقالت: الخوارج إذا لم تقاتلوه فأنتم تقرونه، وعليه فأنتم كفار، وقاتلوهم على ذلك، فهذه مشكلة الخوارج ولهذا لما قدموا على أبي مجلز السدوسي وهو من التابعين المشهورين جاء إليه نفر منهم يناظرونه وقالوا له: [فسر هذه الآية: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [المائدة:44] قالوا: أليس هؤلاء يحكمون بغير ما أنزل الله؟ قال: بلى، قالوا: إذاً هم كفار، ولكنك وأمثالك تداهنونهم، وهم يحكمون بغير ما أنزل الله، قال: لا. إن دينهم الذي يدينون به هو الحكم بما أنزل الله، ولكنهم يخالفون في العمل ]، والكفر كما سيأتينا إن شاء الله ليس هو مجرد المخالفة في العمل -لأن المخالفة في العمل تسمى معاصي وذنوباً، وهذا في الغالب- لكن منهجهم في الحكم ودينهم وشرعهم هو كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فهذه القضية كانت تشغل بال الخوارج ، وكانوا يُثيرون الأمة بالذنوب والمعاصي التي تقع من الحكَّام وقد كان بعضهم كذلك، فهؤلاء يريدون أن يقولوا للناس: إن من ارتكب كبيرة فهو كافر، إذاً فالحجاج وعبد الملك والوليد كلهم كفار، وكل من أقر هؤلاء أو(1/21)
اعترف بأنهم ولاة أمر للمسلمين فهو كافر مثلهم.
ولم يقف مذهب الخوارج عند هذا الحد، فالبدع دائماً تتطور وتتفاقم وهذه من العبر التي يجب علينا نحن الشباب المسلم أن نأخذها دائماً بعين الاعتبار، فالخوارج كان أصل مذهبهم التعبد كما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك: {تحقرون -يعني الصحابة رضي الله عنهم- صلاتكم إلى صلاتهم }، فهؤلاء مع هذه العبادة ومع هذا الغلو والشدة في أخذ الحق وفي الوقوف عند حدود الله، لكن لأن المنهج قائم على البدعة، فالذي حصل أنه لم ينته القرن الأول أو الثاني حتى ظهر في الخوارج من ينكر بعض الحدود، وبعض القرآن والعياذ بالله، فلم ينفعهم الغلو ولا يظن أحد أن الغلو نافع لأهل البدع، فمن ابتدع بدعة وخالف بها الحق فلا يغرنك منه قيامه ولا صلاته وهو على هذه الضلالة -عياذاً بالله- حتى الصوفية أصل مقالتهم هي: السياحة في الأرض والطواف وذكر الله، وترك الدنيا وترك ملذاتها والزهد فيها، فلم ينفعهم ذلك المنهج المبتدع! بل آل بهم الأمر إلى حد استحلال الفروج، واستحلال المحرمات -والعياذ بالله- ويرون ذلك عين الحلال، فلا يمكن أن يثبت على الحق إلا أهل الحق أهل السنة والجماعة ، أما أولئك فلابد أن ينحرفوا عن المنهج القويم والصراط المستقيم، وإن كان أصل مذهبهم يقوم على الطاعات، كما كان حال الخوارج والصوفية ، فقد كان أصل مذهبهم هو الزهد والبعد عن المعاصي، فيتجنبونها تماماً، لكن هل يتجنبونها على منهج السلف ، أم على منهج بدعي؟
وقوع الخوارج فيما هو أعظم من المعاصي
من درس: التكفير وضوابطه (الحلقة الأولى)(1/22)
إن مخالفة الخوارج لمنهج السلف جعلهم يقعون فيما هو أكبر من المعاصي، فهذا الخارجي الذي كان يقول إذا خالف الإنسان في آية أو في حديث يكفر أصبح هو يخالف في أمور كثيرة من ذلك، فقالوا: ليس الرجم في كتاب الله إنما ذكر الله الجلد: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ [النور:2] فأين الرجم، وهكذا بدءوا ينكرون السنة، فإن جئت بالحديث عن علي ، عن عائشة ، عن طلحة ، عن الزبير ، عن ابن عباس فهؤلاء من الكفار عندهم أو من جنود السلطان وأتباع السلطان إذاً ليس عندهم دليل، وإن كان أصل الخروج التشدد والتنطع في العبادة إلا أنهم خرجوا عن الدين عياذاً بالله، كما قال عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنه وقد أدرك مقالتهم قال: [من كفر بالرجم فقد كفر بالقرآن ]؛ لأن الله تعالى يقول: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ [الحشر:7]. وقال: أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا [النساء:15] والسبيل كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هو الرجم، وأيضاً إن الرجم كانت له آية تقرأ: {الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة }، ثم نسخت تلاولها، وبقي حكمها.(1/23)
توجيه آخر لكلام ابن عباس يعني قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ [المائدة:41] إلى أن قال: وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ [المائدة:43] ثم تستمر الآيات إلى أن قال: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [المائدة:44] ثم: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [المائدة:45]، وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [المائدة:47] في أي شيء هذا؟ وما هو الحكم الذي أراد اليهود أن يحكموا النبي صلى الله عليه وسلم فيه؟ الجواب: هو حد الزنا، فقالوا: نحكمه فإن حكم بغير الرجم عملنا به، وقلنا: يا رب! هذا رسول أرسلته آمنا بشرعه، يعني إذا أعجبهم الشرع أخذوه وإذا لم يعجبهم تركوه، وهذا حال كثير من الناس إذا توافقت أهواؤهم وشهواتهم مع فتاوى بعض المشايخ قالوا: نحن ما أتينا بشيء من عندنا، هذا في القرآن، وهذا كلام العلماء، والحقيقة أن هذا المنهج هو منهج اليهود وأتباع اليهود وكثير من المنافقين -نعوذ بالله- ولهذا الله تعالى قرنهما أول ما افتتح الآيات: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا [المائدة:41] أي: المنافقون واليهود يسارعون في الكفر؛ لأنهم حكموا بغير ما أنزل الله في الرجم.(1/24)
قالوا: إن لم يحكم لنا بما نريد تركناه، فهم -أصلاً- كافرون بكل ما جاء به، فأنزل الله سبحانه وتعالى هذه الآيات على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وقال: وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ [المائدة:43] قال: ائتوا بالتوراة، فجاءوا بها وقرأ الحبر وعبد الله بن سلام رضي الله تعالى عنه يراه ووضع يده على موضع الآية وقرأ ما قبلها وما بعدها، قال عبد الله : ارفع يدك، فرفعها فإذا آية الرجم تلوح وإذا الرجم في التوراة موجود ، وأكده الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات -وهذا ما سنشرحه إن شاء الله في موضوع الحكم بغير ما أنزل الله- إذاً! من كفر بالرجم فقد كفر بالقرآن.
فالمقصود أن بعض الخوارج كفر ببعض الحدود بعد أن كانوا يتشددون ويقولون: من زنى كفر، فكفروا هم بالرجم، وكفروا بالقرآن بعد أن كانوا يرون من خالف آية منه أو حرفاً منه كافراً، وظهرت من فرق الخوارج من تقول: إن سورة يوسف ليست من القرآن؛ قالوا: لأن هذه مجرد قصص وفيها ذكر العشق فليست من القرآن.
والقرآن لا يمكن أن يكون فيه هذا الهوى والعشق، وقالوا: ليست من القرآن فكفروا، وآل بهم الحال بعد التشدد والتنطع والغلو في الدين إلى أن خرجت منهم طوائف عن دين الله.
قواعد في التكفير
من درس: التكفير وضوابطه (الحلقة الأولى)
قال رحمه الله: [أراد بأهل القبلة الذين تقدم ذكرهم في قوله: (ونسمي أهل قبلتنا مسلمين مؤمنين -ما داموا بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم معترفين، وله بكل ما قال وأخبر مصدقين) يشير الشيخ رحمه الله بهذا الكلام إلى الرد على الخوارج القائلين بالتكفير بكل ذنب].
[بكل ذنب] تعبير المصنف بـ(كل) أصح من قول الماتن: [ولا نكفر أحداً من أهل القبلة بذنب] لأن من الذنوب ما يكفر، والحق أننا لا نكفر بكل ذنب، وبين التعبيرين بون واضح.(1/25)
قال: [واعلم رحمك الله وإيانا أن باب التكفير وعدم التكفير باب عظمت الفتنة والمحنة فيه، وكثر فيه الافتراق، وتشتت فيه الأهواء والآراء] وتجد أن الفرق جميعاً ضلت وتخبطت في موضوع التكفير، وإن شاء الله سنتعرف على نماذج من كلام الخوارج والمرجئة وغيرهم، وما فيه من غرائب وعجائب.
قال رحمه الله: [باب عظمت الفتنة والمحنة فيه، وكثر فيه الافتراق، وتشتت فيه الأهواء والآراء، وتعارضت فيه دلائلهم، فالناس فيه- في جنس تكفير أهل المقالات والعقائد الفاسدة، المخالفة للحق الذي بعث الله به رسوله في نفس الأمر، أو المخالفة لذلك في اعتقادهم -على طرفين ووسط، من جنس الاختلاف في تكفير أهل الكبائر العملية].
والمقصود بالكبائر العملية: الكبائر الظاهرة الواضحة مثل: الزنا والسرقة وشرب الخمر والخيانة والقذف -والعياذ بالله- والخلاف فيها طويل وشديد وقائم.
والمقالات، أي: الاعتقادات، والمسألة هي: هل من يعتقد كذا يكفر أو لا يكفر!! تماماً مثل مسألة تكفير مرتكب الكبائر العملية.(1/26)
إذاً: الخلاف في التكفير يدخل في بابين هما: باب العمليات، وباب المقالات أو الاعتقادات المخالفة لما جاء به الشرع والدين في نفس الأمر أو في اعتقاد المخالف، أي: قد تكون مخالفة حقيقةً لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد تكون مخالفةً فقط في اعتقاد المخالف فيكفر من خالفه فهذا التكفير في الاعتقاديات، أما في العمليات فالأمر فيه واضح وهو أن هؤلاء الضُّلال الذين ضلوا -عياذاً بالله- كالخوارج يكفرون المسلمين بارتكاب الكبائر العملية، فمن زنى أو سرق أو شرب الخمر فهو عندهم كافر، وهذا خلاف ما نصت عليه نصوص الكتاب والسنة، وليس هناك كبيرة بعد الشرك أعظم من قتل النفس المعصومة، فالله تبارك وتعالى لم يحكم بالكفر على من قتل نفساً أو قتل مؤمناً، ولقد بين الله سبحانه وتعالى معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: {سباب المسلم فسوق وقتاله كفر } وأن ذلك ليس كفراً مخرجاً من الملة، وقد يقع من المؤمن فلا يكفر كفراً مخرجاً من الملة قال تعالى: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا [الحجرات:9] إذاً: القتال قد يصدر من المؤمنين ويقع بينهم، وبهذا يتضح ضلال الخوارج في باب الكبائر.
اختلاف الناس في إطلاق التكفير وعدمه
من درس: التكفير وضوابطه (الحلقة الثانية)
قال المصنف رحمه الله تعالى:
[واعلم رحمك الله وإيانا أن باب التكفير وعدم التكفير بابٌ عظمت الفتنة والمحنة فيه، وكثر فيه الافتراق، وتشتتت فيه الأهواء والآراء، وتعارضت فيه دلائلهم، فالناس فيه -في جنس تكفير أهل المقالات والعقائد الفاسدة، المخالفة للحق الذي بعث الله به رسوله في نفس الأمر، أو المخالفة لذلك في اعتقادهم- على طرفين ووسط، من جنس الاختلاف في تكفير أهل الكبائر العملية.(1/27)
فطائفة تقول: لا نكفر من أهل القبلة أحداً، فتنفي التكفير نفياً عاماً، مع العلم بأن في أهل القبلة المنافقين، الذين فيهم من هو أكفر من اليهود والنصارى بالكتاب والسنة والإجماع، وفيهم من قد يُظهر بعض ذلك حيث يمكنهم، وهم يتظاهرون بالشهادتين.
وأيضاً فلا خلاف بين المسلمين أن الرجل لو أظهر إنكار الواجبات الظاهرة المتواترة، والمحرمات الظاهرة المتواترة ونحو ذلك؛ فإنه يستتاب فإن تاب وإلا قتل كافراً مرتداً.
والنفاق والردة مظنتهما البدع والفجور، كما ذكره الخلال في كتاب السنة بسنده إلى محمد بن سيرين أنه قال: [إن أسرع الناس ردة أهل الأهواء ]، وكان يرى هذه الآية نزلت فيهم: وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ [الأنعام:68] اهـ.
الشرح:
حتى تفهم العبارة فهماً صحيحاً لابد من وضع خط اعتراض بعد (فالناس فيه) إلى (في اعتقادهم) فتكون الجملة الاعتراضية: "في جنس تكفير أهل المقالات والعقائد الفاسدة المخالفة للحق الذي بعث الله به رسوله في نفس الأمر، أو المخالفة لذلك في اعتقادهم" فكأن العبارة: الناس فيه على طرفين ووسط، أي فيما بين علامتي الاعتراض.
وقال أطال المصنف رحمه الله تعالى في الكلام في التكفير وعدم التكفير، وحكم مرتكب الكبيرة، واختلاف الفرق فيه، وأنواع الكفر والنفاق، ولكنه فرق الكلام مع ما فيه من تكرار وتداخل تبعاً للأصل، فإن الإمام الطحاوي رحمه الله فرق الكلام في التكفير، فالكلام مفرق ومتداخل على وجه العموم، وسنجتهد بإذن الله أن لا يكون هناك تكرار، فنقول:(1/28)
ذكر المصنف رحمه الله أن أهل المقالات والعقائد الفاسدة المخالفة للحق اختلفوا في تكفير غيرهم من الفرق، والمقصود بالمقالة هنا: الاعتقاد والعقيدة، فكلمة (القول) قد تطلق بمعنى الاعتقاد، فإذا قيل: هذا قول الجهمية أو قول الكرامية ، فالمراد هو اعتقادهم، لا مجرد لفظهم؛ لأن القول يشمل قول اللسان وقول القلب، أي: اعتقاده وإقراره.
يقول رحمه الله: [أن باب التكفير وعدم التكفير باب عظمت الفتنة والمحنة فيه، وكثر فيه الافتراق، وتشتتت فيه الأهواء والآراء، وتعارضت فيه دلائلهم]، ثم أجمل ذلك بأن جعلهم على طرفين ووسط، فقال: [فالناس فيه.. على طرفين ووسط، من جنس الاختلاف في تكفير أهل الكبائر العملية].
فيلاحظ أنه قسم الخطأ الذي اختلف في تكفير أهله إلى نوعين: الأول: اعتقاديات أو علميات، والثاني: العمليات، فالاعتقاديات: مثل أن نعتقد أن عذاب القبر حق، فهذه عقيدة، والعمليات: مثل الصلاة، فهذا عمل نعمله، وبينهما تلازم؛ فإن الأمر وإن كان اعتقادياً فإنه يلزم منه العمل، فمن يؤمن بعذاب القبر ونعيمه يلزم من ذلك أن يعمل له، وأيضاً من يؤدي الصلاة يلزم من ذلك أن يكون مؤمناً بالله مؤمناً بالصلاة وبوجوبها، فالتلازم موجود، لكن التفريق فقط من باب الإيضاح ولمعرفة حكم كل منهما.
وأول ما نشب الخلاف في هذه الأمة وحصل فيه النزاع بين الخوارج والمرجئة وأهل السنة ؛ كان في العمليات، أي: في حكم العاصي الذي ترك واجباً أو فعل محرماً، وهذا كان في الصدر الأول للأمة، ولكن تطور الأمر بعد أن ظهرت الفرق وأصبح لكل فرقة منهج مستقل وأدلة وبراهين وحجج وشبهات، فبدأ الكل يكتب ويتكلم في بيان خطأ المخالف له في هذا الاعتقاد، فبعد أن كان الاختلاف في التكفير أو عدم التكفير مقتصراً على الأمور العملية؛ أصبح اختلاف الناس في مسائل المقالات -أي: الأمور العلمية الاعتقادية- من جنس اختلافهم في أمور الكبائر العملية.
المرجئة لا تكفر أحداً من أهل القبلة(1/29)
يقول ابن أبي العز رحمه الله: [فطائفة تقول: لا نكفر من أهل القبلة أحداً، فتنفي التكفير نفياً عاماً، مع العلم بأن في أهل القبلة المنافقين...] إلخ، يعني بأهل القبلة: كل من أظهر الإسلام بالشعائر الظاهرة، فهو عندهم لا يكفر أبداً، فأطلقوا القول، وقالوا: لا نكفر أحداً، وأوضح مثال على هؤلاء هم المرجئة ، وهم أصناف، وهذا هو مذهبهم، وممن ذكر ذلك صاحب المواقف عضد الدين الإيجي في المقصد الخامس في موضوع الإيمان عندما تكلم عن التكفير؛ فقال -في معنى كلامه-: (جمهور المتكلمين والفقهاء على أنه لا يكفر أحد من أهل القبلة) يعني: مهما اعتقد من اعتقادات فإنه لا يكفر، ثم قال: (وتحامقت المعتزلة بعد أبي الحسين البصري ، فكفروا أصحابنا) يعني كفروا الأشاعرة ، قال: (فرد عليهم بعض أصحابنا بالمثل)، أي أنه ظهر أيضاً من الأشاعرة من يكفر المعتزلة ، فالفتن في هذه الأمة فتن قديمة ومستمرة ما لم تعتصم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: (وكفرت المجسمة من خالفهم)، والمقصود بالمجسمة في الغالب عند أهل الكلام أو عند نفاة الصفات هم أهل السنة والجماعة ، ثم قال: (وقال الأستاذ: لا نكفر إلاَّ من كفَّرنا، أو قال: من كفَّرنا كفَّرْناه وإلاَّ فلا)، ويعنون بالأستاذ غالباً أبا منصور البغدادي ، وبعضهم يقول: الأستاذ؛ ويعني به أبا إسحاق الإسفرائيني ، وإن كان البغدادي عندهم أشهر وقد نسب الإيجي الكلام في هذا إلى جمهور المتكلمين والفقهاء، وهو بذلك يريد أن يقوي هذا القول، وهذه النسبة غير صحيحة، وبيان ذلك:
أولاً: بالنسبة للمتكلمين فإنالمعتزلة هم رأس علم الكلام وأصله وأساسه، وهم مع ذلك ضد هذا القول تماماً؛ حتى إنهم -كما ذكر- يكفرون الأشاعرة أنفسهم.(1/30)
ثانياً: وأما الفقهاء؛ فنسبة هذا القول إليهم ليس بصحيح؛ إذ أن كل مذاهب الفقه الأربعة وغير المذاهب الأربعة كالظاهرية وما شابهها، تذكر في كل كتاب من كتبها: باب المرتد، أو باب الردة، أو باب أحكام أهل الردة -تختلف الأسماء، ولكن المسمى واحد- فكل الفقهاء مجمعون على أن هناك مرتداً.. لكن ما هي أحكامه؟ ومتى يكفر؟ هنا يفصلون الكلام، وبعضهم أكثر غلواً -إن صح التعبير- من بعض، مثل بعض كتب الفقه الحنفية، فإنها تستطرد وتذكر أموراً غريبة -على الأقل عند المخالف لهم- فمثلاً يقولون: من قال: مصيحف أو مسيجد كفر؛ لأنه صغر المسجد، وهذا يشعر بالاحتقار، وكذلك إذا أهدى إلى مجوسي بيضة في يوم النيروز كفر؛ لأنه عيد من أعياد المجوس ، وقد ذكر هذا علي القاري في الفقه الأكبر .
إذاً: فغير صحيح أن الفقهاء لا يكفرون أحداً من أهل القبلة، وهذه القضية ليست قضية نظرية، ولم تكن كذلك عندما ظهرت دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى، حيث ثاروا وقاموا في وجهه في أكثر البلاد، وقالوا: إنه يكفر المسلمين، وهذه هي الشبهة التي يرددونها دائماً ولا ينفكون عنها في كل البلاد، منذ ثلاثة قرون وإلى الآن وهم يكررون ويقولون: إن الشيخ رحمه الله يكفر المسلمين، فإذا قيل: وأنتم كذلك! قالوا: نحن لا نكفر أحداً! وقد أرادوا الطعن في دعوته رحمه الله تعالى بهذا الشيء، وأنه خارج عن الإجماع وأنه يكفر المسلمين، ولكن في حقيقة الأمر أنهم هم الذين خرجوا عن إجماع الأمة، وخرجوا عن الكتاب والسنة بدعواهم أن أهل القبلة فلا يكفر منهم أحد، وأن كل من قال: (لا إله إلاَّ الله) لا يكفر، والغريب أن الأولين من المرجئة كانوا يقولون: إن الذي يقيم أحكام الإسلام الظاهرة لا يكفر، أي: يصلي ويصوم ويزكي -كما سبق بيانه- لكن وصل الحال عند أكثر المتأخرين إلى القول بأنه ما دام يقول: (لا إله إلاَّ الله) فإنه لا يكفر وانتشر هذا حتى أصبح كأنه قضيةٌ بدهية مسلّّم بها.(1/31)
الرد على المرجئة بأن في أهل القبلة منافقين
ويقال لهم: نريد ولو واحداً في عهد النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا إله إلاَّ الله)، ولم يصلِّ ولم يزكِ ولم يحج ولم يجاهد ولم يعمل أي عمل من أعمال الإسلام، وظل في عرف النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والمؤمنين أنه من المسلمين والمؤمنين؟ لا يستطيع أحد أن يأتي بدليل على ذلك أبداً، فلذلك يقول المصنف رحمه الله: "فطائفة تقول: لا نكفر من أهل القبلة أحداً، فتنفي التكفير نفياً عاماً، مع العلم بأن في أهل القبلة المنافقين..."، فأوضح دليل في الرد عليهم: أن في أهل القبلة من يشهد أن لا إله إلاَّ الله وأن محمداً رسول الله، ويدعي الإيمان، ويصلي مع المؤمنين في المساجد، ويزكي معهم زكوا أو تصدقوا، ويجاهد معهم إذا جاهدوا العدو، ومع ذلك فهو منافق لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر، كافر في الباطن، وهو في الدرك الأسفل من النار مع الكفار.
والأدلة كثيرة جداً في القرآن والسنة على أن المنافق كافر مع أنه يأتي بالشعائر أو الشرائع الظاهرة، ومع ذلك فهو كافر لنفاقه، فكيف يقال بأنه ليس في أهل القبلة من يُكفَّر؟ فهذا يكفر بناءً على ما في قلبه من المرض الذي أوصله إلى الخروج من الملة.
ومن الأدلة على أن المنافقين كفار مع أنهم يقولون: أشهد أن لا إله إلاَّ الله وأن محمداً رسول الله؛ قوله تعالى: إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ [المنافقون:1]، فقد نطقوا بالشهادة، ومع ذلك قال تعالى: وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ [التوبة:107]، فمن كذب في دعوى الشهادة فليس بمؤمن، وقد كان عبد الله بن أبي يقوم ويخطب في القوم مبيناً فضل الله تعالى ونبيه عليهم، ويشهد أن محمداً رسول الله، لكن لم ينفعه شيء من ذلك.(1/32)
ومن أبلغ الأدلة على كفر المنافقين سورة التوبة -وهي من آخر ما نزل بعد غزوة تبوك - وقد سميت الفاضحة أو المخزية أو المشقشقة؛ لأنها فضحتهم وأخزتهم وشقشقت عما في قلوبهم، وقد بين الله سبحانه وتعالى فيها كفرهم وردتهم بسبب النفاق، مع أنهم كانوا يظهرون الإسلام، بل إنه أثبت أنه كان لديهم دين وإسلام، قال الله تعالى: وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ [التوبة:84]، وآية أخرى: وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلا يُنفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ [التوبة:54] فقد كانوا يصلون وينفقون، ثم قال بعد ذلك: فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ [التوبة:55]، وقال تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ [التوبة:65-66].
فهذا دليل على أنهم كفروا مع أنه أثبت أنه كان لهم إيمان من قبل.(1/33)
وقال تعالى: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا [النساء:145]، وقال تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ [البقرة:8] وقال تعالى: يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا [التوبة:74]، وكذلك في سورة البقرة والنساء وفي كثير من السور إثبات أن المنافقين كفار.
إذاً: المنافقون هم في ظاهر الأحكام من أهل القبلة: يشهدون أن لا إله إلاَّ الله وأن محمداً رسول الله، باللسان، ويصلون، وينفقون مع من ينفق من المؤمنين، ويخرجون للجهاد، وقد خرج بعضهم كالذين استهزءوا بالقراء في غزوة تبوك -وقد يتخلف بعضهم- ومع ذلك فهم كفار وليسوا بمؤمنين، وهذا من أقوى الردود على من يزعم أنه ليس في أهل القبلة من كفار.
وقد يقول بعض الناس: أولئك هم المنافقون في صدر الإسلام. وكأن النفاق ما وجد إلاَّ في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فنقول: لا، بل إنه كلما ازداد بُعد الأمة -في جملتها- عن الإيمان الحق؛ اشرأب النفاق وأصبح أظهر وأشهر وأكثر انتشاراً، وكثير من الناس هذا حاله، حتى ذكر أن الحسن البصري رحمه الله سمع رجلاً يدعو ويقول: [اللهم أهلك المنافقين، فقال: لا تقل هذا -يا ابن أخي- فإنه لو فعل لخلت الطرقات ] لأن أكثر الناس فيهم شعبة من النفاق على الأقل، إن لم يكن نفاقاً خالصاً، نسأل الله العفو والعافية.(1/34)
إذاً: في أهل القبلة من هو من المنافقين الذين فيهم من هو أكفر من اليهود والنصارى، وفيهم من قد يُظهر بعض ذلك الكفر إذا سنحت لهم الفرصة وأمكنهم ذلك، وهم يتظاهرون بالشهادتين! فإذا جاءت المحن ظهروا، فإن الله سبحانه وتعالى قد جعل المحن والأحداث تمحيصاً لما في القلوب، وتمييزاً يبن المؤمن الحق والمنافق الزائغ، قال تعالى: وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ [آل عمران:141]، وقال جل ثناؤه: لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ [الأنفال:37]، فمثلاً: بعد معركة بدر دخل كثير من المنافقين في الإسلام، وخرست ألسنتهم وأذعنوا، لكن بعد هزيمة أحد ؛ رفع المنافقون رءوسهم، وأيضاً يوم الأحزاب أثناء الشدة عندما رأوا أن المؤمنين مقهورين، ولا حيلة لهم، وظنوا أنهم قد انتهوا، وما بقي إلاَّ أيام أو أسابيع وينتهي أمر هذا الدين؛ حينها ظهر النفاق، وأعلن المنافقون نفاقهم، وقالوا: إن محمداً صلى الله عليه وسلم يعدنا بملك كسرى وأحدنا لا يستطيع أن يذهب لكي يقضي حاجته!
وهذا هو حال المنافقين على مر التاريخ الإسلامي عموماً، إلا في عهد عمر رضي الله عنه، فقد كان النفاق خافتاً خافياً ذليلاً، فلما قبضه الله ظهرت الفتنة في زمن عثمان رضي الله عنه، وإذا بالنفاق يظهر، وإذا بعبد الله بن سبأ يشعل الفتنة في الكوفة ، وفي مصر ، وغيرها، إلى أن قتل عثمان رضي الله عنه.. وهكذا إذا ضعف الإيمان، وإذا ضعف أهل الحق؛ ظهر المنافقون وكشروا عن أنيابهم، فهم كالأفاعي تتستر متحينة الفرصة المناسبة، والسم ناقعٌ في أنيابها.(1/35)
وكلما ظهر عدوٌ للأمة أعانوه، فعندما جاء الصليبيون ظهر المنافقون ظهوراً واضحاً في بعض دويلات الرافضة في مصر ، وفي بلاد الشام ، وكان من ملوكهم الصالح إسماعيل صاحب دمشق ، وغيره، ممن فتحوا الحصون لأعداء الأمة، وأعطوهم السلاح، وأعانوهم على المسلمين -نسأل الله العفو والعافية- فظهر نفاقهم، ولمَّا جاء التتار بقيادة هولاكو الذي دخل بغداد ، قام ابن العلقمي ومن يسمى نصير الدين الطوسي وأظهرا النفاق وراسلا هولاكو ، وظهر شيوخ الطرق يجاهرون بضلالهم، حتى إن بعضهم كان يقود فرس هولاكو ؛ لأن المؤمنين قد قضي عليهم، ولم يعد لهم قوة فلم تعد هناك حاجة في أن يتظاهر بالإيمان، فأظهر النفاق، وأصبح في ركب أعداء الله وأعداء الإسلام.
فالنفاق موجود في هذه الأمة منذ أن هاجر محمد صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، والنفاق: هو عدم الإيمان والإخلاص والإقرار لله سبحانه وتعالى بالوحدانية، ولمحمد صلى الله عليه وسلم بالرسالة عن صدق واعتقاد بالقلب.
يقول رحمه الله: [وفيهم من قد يظهر بعض ذلك حيث يمكنهم]، فإذا كانت الفرصة مواتية، والمصلحة موجودة؛ ظهر نفاقهم وكفرهم، وإلا فلا.
من أنكر معلوماً من الدين بالضرورة فهو كافر بالإجماع
قال المصنف رحمه الله: [وأيضاً فلا خلاف بين المسلمين أن الرجل لو أظهر إنكار الواجبات الظاهرة المتواترة والمحرمات الظاهرة المتواترة، ونحو ذلك؛ فإنه يستتاب، فإن تاب وإلاَّ قتل كافراً مرتداً].
فلو أن إنساناً أنكر أن الزكاة واجبة، أو أنكر أن الصلاة واجبة، أو أنكر أي واجب من الواجبات -ونقصد بها ما كان ظاهراً متواتراً معلوماً من الدين بالضرورة، فجاء أحد فأنكره فقامت عليه الحجة- فإنه كما يقول المصنف: "يستتاب، فإن تاب وإلاَّ قتل كافراً مرتداً"؛ لأنه أصر وعاند في إنكار أمر ظاهر معلوم من الدين بالضرورة.(1/36)
وأما استحلال المحرم فكأن يأتي من يقول: إن الزنا -والعياذ بالله- حلال، أو أن الخمر حلال، وجاهر بذلك، فإنه يكفر بذلك؛ لأنه قد استحل أمراً مجمعاً على تحريمه، معلوم لكل مسلم أنه محرم، ولا يدخل في ذلك من أسلم حديثاً، أو من جاء من بادية أو غيرها، ولم يعرف أحكام الإسلام فإن المقصود بالحكم هو حال أغلب الناس، أي: من كان مسلماً ويعرف شيئاً من دينه، فيعلم وجوب الصلاة، ويعلم حرمة الزنا، فمثل هذا إذا استحل شيئاً من ذلك، وقامت عليه الحجة، واستتيب فلم يتب وقتل؛ فإنه يقتل كافراً مرتداً، وسيأتي مزيد بسط لهذا قريباً إن شاء الله تعالى.(1/37)
ومن الأمثلة على ذلك: حديث قدامة بن عبد الله لما شرب الخمر بعد تحريمها هو وطائفة متأولين قوله تعالى: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [المائدة:93]، فلما ذكر ذلك لعمر بن الخطاب رضي الله عنه، اتفق هو وعلي بن أبي طالب وسائر الصحابة على أنهم إن اعترفوا بالتحريم جلدوا، وإن أصروا على استحلالها قتلوا. وثبت في حديث صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم بلغه أن رجلاً تزوج امرأة أبيه، فأرسل إليه من قتله؛ لأن هذا استحلال لأمر قد علم من دين الإسلام بالضرورة أنه حرام.. وهكذا، فالحال في مثل هذا أن من شرب الخمر وأُتي به، فإن اعترف بالتحريم جلد؛ لأن غالب من يشرب الخمر فإنه يشربها عصياناً، لكن لو جاء أحد وقال: هي حلال؛ فإنه يقتل في هذه الحالة ردة وكفراً والعياذ بالله! وكذلك لو استحل شخص الزنا؛ كحال كثير من الناس في هذا العصر الذين يرون أن الزنا مباح، ويسمونه: حباً، ويقتدون في ذلك بالغربيين الذين لا يرون هذه الفاحشة إلاَّ مجرد علاقة شخصية، ولا يرون فيها جريمة إلاَّ إذا كانت اغتصاباً! أو كانت من الزوجة على فراش الزوجية! أما إذا كانت علاقة مع أحد خارج البيت -عياذاً بالله- أو مع امرأة غير متزوجة، فتعاشر هذا يوماً وهذا ساعة كما تفعل الكثيرات منهن، وهي راضية وهو راضٍ، فإن هذا الأمر لا يعد جريمة في عرف الغرب! والقوانين الغربية صريحة في إباحة ذلك.(1/38)
فجاء بعض من ينتسب إلى الإسلام وأخذوا يبثون هذه الأمور: الشعراء منهم في شعرهم، والكتاب في كتاباتهم، والصحفيون في صحافتهم.. ومما عرض علينا من ذلك ما كتبته تلك المرأة التي كانت عميدة كلية الشريعة والحقوق في جامعة الكويت، فقد كتبت تطالب بتعديل قانون الأحوال الشخصية -وهي تعني تعديل الشريعة- فتقول: لابد أن تعدل الأعراف، أو ما هو مألوف عندنا نحن في الشرق بأن المرأة أقل من الرجل، وأنها ترث نصف ميراث الرجل، وأن القوامة للرجل، وإباحة الحب للمرأة، وهي تطالب بتعديل ذلك بحجة مواكبة العصر!! وما أكثر ما كنا -وما نزال- نقرأ ونسمع عن ذلك! نسأل الله العفو والعافية.
المقصود: أن استحلال المحرمات الظاهرة المعلوم تحريمها كفر وردة، وإن كان صاحبها يدعي أو يزعم أنه مسلم، حتى مسألة الحجاب، فإن المرأة التي تخرج متبرجة متكشفة، وهي تعلم أن هذا معصية، ولكن دواعي الهوى والشهوة والغفلة دعتها إلى ذلك، فهي عاصية مذنبة فاجرة، ولكن لو أنها خرجت بناءً على أن الحجاب غير واجب عليها، وإن كان في القرآن، وإن كانت الصحابيات ملتزمات به، وإن رددت ما يزعمه البعض بقولهم: إن الحجاب كان في عصور الظلمات، ونحن الآن في عصور التحرر والانطلاق والحرية والتقدم والتطور! فهي إن نزعت الحجاب معتقدة أنه غير واجب عليها، فليس فعلها مجرد معصية، وإنما ردة وكفر والعياذ بالله!(1/39)
وقد كتب في مسألة عدم وجوب الحجاب الكثير من المفكرين والكتاب، وحاربوا الحجاب أشد المحاربة، ومن هؤلاء: درية شفيق ، وأمينة سعيد ، وقاسم أمين ، وأمثالهم ممن لا يزالون يكتبون ويدعون إلى مثل ذلك، وبعضهم قد أهلكه الله عز وجل. فمستحلة التبرج والسفور مرتدة كافرة وليست مجرد عاصية؛ إذ أن العاصية إذا خُوفت وذكرت فإنها تقر وتلتزم بالحجاب، أما هذه فإنها تعاند وتكتب وترد على من يستدل بالآيات والأحاديث، ولو قيل لبعضهن: إما أن تتوبي وإلاَّ قتلناك؛ لاختارت -عياذاً بالله- أن تموت على غير توبة؛ لأنها أصبحت عندها عقيدة ومنهجاً.(1/40)
وكذلك في الربا، فقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في الفتاوى مستدلاً على كفر التتار، أن أناساً من ثقيف امتنعوا عن تحريم الربا، مع أنه من آخر ما نزل من المحرمات -ومعنى قوله رحمه الله: مع أن الربا من آخر المحرمات: أنه أي قد يخفى تحريمه بالنسبة لمن كانوا حديثي عهدٍ بالإسلام- ومع ذلك أنزل الله سبحانه وتعالى: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [البقرة:279]، فدل ذلك على وجوب قتال الطائفة إذا اجتمعت على فعل محرم أوترك واجب، وهذا القتال ليس من جنس قتال البغاة، ولكن من جنس قتال أهل الردة، كما قاتل أبو بكر رضي الله عنه مانعي الزكاة، وذلك لأن الطائفة اجتمعت لتدافع عن هذه القضية بالسيف، فمعنى ذلك: أنها أصبحت لديها عقيدة ومبدأ، وليست مجرد معصية، ولو أن رجلاً واحداً في ذاته شرب الخمر فيحمل في الأصل على أنه عاصٍ، لكن إذا كانت قبيلة -أو مدينة أو دولة- أعلنت أن الخمر من روافد اقتصادها، وأنها تعصر الخمر وتبيعه وتصدره، فكتب إليها المسلمون وناصحوها، فقالت: لا نمتنع أبداً! ونحن مستعدون أن نقاتل دون هذا الشيء، وتجمعوا وحملوا السلاح، وجاءوا لقتال من يقاتلهم من أجل هذا الحرام، فهؤلاء يقاتلون قتال ردة وليس قتال بغاة؛ لأن الباغي أو قاطع الطريق يُقَاتل مع اعتقاد أنه مسلم، أما هؤلاء فقتالهم قتال ردة؛ لأنهم اجتمعوا على هذا الأمر.(1/41)
ويذكر شيخ الإسلام رحمه الله في ضمن الفتوى أن بعض أهل العلم قال بقتال من عطل شيئاً من الشعائر، وحتى ما هو أقل من الشعائر مثل ركعتي الفجر أو صلاة الاستسقاء، أو ما أشبه ذلك، وإذا امتنعت أمة عن الجهاد في سبيل الله وقالت: لا نجاهد في سبيل الله، ولا نضرب الجزية على أهل الكتاب، فإنها أيضاً تقاتل؛ لأنها تركت أمراً معلوماً من الدين بالضرورة وهو الجهاد وفرض الجزية. وهذا من باب الامتناع عن أداء واجبات معلومة من الدين بالضرورة، ويشهد لهذا الحديث الصحيح الذي ذكرناه فيما سبق، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرسل السرية، فإن سمعوا الآذان وإلاَّ أغاروا؛ لأن سماع الأذان يعني أن هذه دار إسلام، فهم معصومون، وإن لم يسمعوا أذاناً أغاروا عليهم، فهم ليسوا بمعصومي الدم والمال؛ لأنهم لو كانوا مسلمين لأذنوا للصلاة، وهذا هو الفرق بين الدارين.
إذاً: المثال الأول على أن بعض أهل القبلة كفار: هم المنافقون، والمثال الثاني: هم الممتنعون عن الالتزام بالشريعة. ولا يستطيع المرجئة إنكار ذلك؛ فدل ذلك على خطأ دعواهم في عدم تكفير أحد من أهل القبلة.
الواجبات التي يكفر منكرها والمحرمات التي يكفر مستحلها
والواجبات التي يكفر منكرها هي الظاهرة المتواترة، وهناك واجبات ليست ظاهرة متواترة، وهناك فرق بين هذه الواجبات وشعب الإيمان عموماً، فمثلاً: إذا نكح رجل امرأة أبيه، أو تزوج من محارمه كأخته -عياذاً بالله- فإنه يكفر؛ لأن هذا ظاهر متواتر، لكن قد يغفل بعض الناس عن بعض أحكام الرضاعة، فيتزوج أخته من الرضاعة مثلاً، فهذا لا يكفر؛ لأن هذا الأمر غير ظاهر، فيمكن أن تخفى الأخوة من الرضاعة، لكن لا تخفى الأخوة من النسب.(1/42)
وكذلك الأمر في المحرمات، فمثلاً: تحريم الزنا لا يخفى على أحد، لكن بعض النساء في بلاد كثيرة لا ترى أن ترك الحجاب حرام، مع أنه ظاهر متواتر بالنسبة للدين، لكن نقول كما قال رحمه الله: (فإنه يستتاب) أي: يبين له أن هذا واجب وأن هذا حرام.
فالمقصود: أن بعض الواجبات أدق من بعض، وبعض المحرمات أظهر تحريماً من بعض، فمثلاً: الربا الصريح عند الجاهلية وظاهر مشهور متواتر، لكن -مثلاً- بيع العينة، وبعض أنواع البيوع كبيع الغرر؛ فإنه محرم، لكنه أقل وأخفى ظهوراً أو تواتراً من الربا، وكذلك في العبادات نجد أن بعض الأمور أظهر من بعض، فإن الناس -مثلاً- يعلمون أن الأذان واجب؛ لأنه معلوم وظاهر في بلاد الإسلام، وأن الصلاة أيضاً واجبة ظاهرة في بلاد الإسلام، لكن قد يخفى على بعضهم واجبات أخرى، كبعض الصلوات التي قد يرى بعض العلماء وجوبها، أو بعض الواجبات في الصلاة نفسها، والمقصود بكلام الشيخ رحمه الله هو الواجب الظاهر المتواتر.
تنزيل الحكم على المعين
أما عند تطبيق الحكم على المعين، فإنه يجب ملاحظة أن الناس يتفاوتون في الحكم عليهم بحسب أحوالهم، فلو أن عالماً درس الشريعة وأخذ عليها الشهادات، وهو يعد من العلماء، أفتى بأن الخمر حلال؛ فإنه يكفر، ولا يُتردد في تكفيره؛ لأنه عالم، لكن لو أن رجلاً جاء من البادية وقال: أنا مسلم، وهو يرى أن الخمر حلال، أو أن الزنا حلال؛ فإنه يعذر ويُعلَّم.(1/43)
فهناك فرق بين الناس بحسب البيئات وبحسب الأحوال عند التطبيق، كما سيأتي شرحه كاملاً، فلابد من تحقق الشروط وانتفاء الموانع حتى يكفر المعين بذاته، لكن من حيث الحكم العام فإنه يطلق على الفعل بأنه كفر، ومن بُين له الدليل وقامت عليه الحجة وأصر على الإنكار، فإنه يكفر، أي: أن من بين له الدليل على أمرٍ محرم فأصر، فإنه يكفر، وهذا من باب كفر العناد، لكن ينبغي ألاَّ نخلط بين من عاند ورد الدليل وعنده شبهة، وبين من رده دون شبهة، فمن لم يكن لديه شبهة ورد الآية أو رد الحديث، أو ردهما معاً، وأصر على رأيه ولم يقبل الإذعان لأمر الله ورسوله، فهذا هو الذي يكفر، وأما المتأول وهو الذي يرد الدليل، وعنده دليل آخر، ولكن لا دلالة فيه، وهو يرى أنه دليل بالنسبة له، كأن يستدل بكلام عالم من العلماء، وهذا العالم مخطئ ولا يجوز تقليده، أو قد يكون كافراً مرتداً ولا يؤخذ بكلامه، لكنه يرى أنه إمام معتبر؛ فهذا يسمى متأولاً.(1/44)
وكلامنا هنا إنما هو فيمن يرد الآية أو الحديث رداً بلا شبهة ولا تأويل، وهذا يدخل فيه أمور قد تساهل فيها بعض الناس، فمثلاً: هناك أشياء يرى بعض الناس أنها سهلة ولا محذور في إتيانها، فإن كان دافع المرء لإتيانها الإنكار والجحود ورد الأدلة؛ فإن الأمر خطير جداً - نسأل الله العفو والعافية-؛ لأنه ينافي أصل الإيمان؛ إذ أن أصل الإيمان هو الإذعان والانقياد والرضا، فإذا لم يوجد عنده أصل الإيمان أو الإذعان فإنه يكفر، وإن كان العمل في الأصل لا يكفر من فعله إن كان محرماً، أو من تركه إن كان واجباً، لكن إذا لم ينقد للأمر في ذاته وفي نفسه؛ فإنه في هذه الحالة يكفر، ولهذا قلنا: إن الطائفة الممتنعة عن أداء الواجبات المعلومة من الدين بالضرورة تقاتل قتال ردة؛ لأن اجتماعها وامتناعها ومقاومتها للحق ليس مجرد عصيان ومخالفة غير مكفرة، وإنما هو كفر ناتج عن اعتقاد؛ لأنها رد للحق، وهذا كما ذكر الله سبحانه وتعالى عن أهل الكتاب فقال: وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ [التوبة:29]، فقوله: (لا يدينون دين الحق) لأنهم يقولون: إن الله ثالث ثلاثة، وإن محمداً صلى الله عليه وسلم ليس برسول -عياذاً بالله من هذا الزيغ والكفر- وهذا واضح، لكن زيادة على ذلك فإنهم لا يحرمون ما حرم الله ورسوله؛ فإنهم يشربون الخمر، ويأكلون الخنزير، وهذا من أسباب كفرهم، مع أنهم كفار في العقيدة، لكن الكفر تجتمع له أسباب كثيرة، فالنصارى مثلاً يكفرون بقولهم: إن الله ثالث ثلاثة، وأيضاً يكفرون باستحلالهم أكل الخنزير، وشرب الخمر.
المرجئة لا تكفر أحداً من أهل القبلة
من درس: اختلاف الناس في إطلاق التكفير وعدمه(1/45)
يقول ابن أبي العز رحمه الله: [فطائفة تقول: لا نكفر من أهل القبلة أحداً، فتنفي التكفير نفياً عاماً، مع العلم بأن في أهل القبلة المنافقين...] إلخ، يعني بأهل القبلة: كل من أظهر الإسلام بالشعائر الظاهرة، فهو عندهم لا يكفر أبداً، فأطلقوا القول، وقالوا: لا نكفر أحداً، وأوضح مثال على هؤلاء هم المرجئة ، وهم أصناف، وهذا هو مذهبهم، وممن ذكر ذلك صاحب المواقف عضد الدين الإيجي في المقصد الخامس في موضوع الإيمان عندما تكلم عن التكفير؛ فقال -في معنى كلامه-: (جمهور المتكلمين والفقهاء على أنه لا يكفر أحد من أهل القبلة) يعني: مهما اعتقد من اعتقادات فإنه لا يكفر، ثم قال: (وتحامقت المعتزلة بعد أبي الحسين البصري ، فكفروا أصحابنا) يعني كفروا الأشاعرة ، قال: (فرد عليهم بعض أصحابنا بالمثل)، أي أنه ظهر أيضاً من الأشاعرة من يكفر المعتزلة ، فالفتن في هذه الأمة فتن قديمة ومستمرة ما لم تعتصم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: (وكفرت المجسمة من خالفهم)، والمقصود بالمجسمة في الغالب عند أهل الكلام أو عند نفاة الصفات هم أهل السنة والجماعة ، ثم قال: (وقال الأستاذ: لا نكفر إلاَّ من كفَّرنا، أو قال: من كفَّرنا كفَّرْناه وإلاَّ فلا)، ويعنون بالأستاذ غالباً أبا منصور البغدادي ، وبعضهم يقول: الأستاذ؛ ويعني به أبا إسحاق الإسفرائيني ، وإن كان البغدادي عندهم أشهر وقد نسب الإيجي الكلام في هذا إلى جمهور المتكلمين والفقهاء، وهو بذلك يريد أن يقوي هذا القول، وهذه النسبة غير صحيحة، وبيان ذلك:
أولاً: بالنسبة للمتكلمين فإنالمعتزلة هم رأس علم الكلام وأصله وأساسه، وهم مع ذلك ضد هذا القول تماماً؛ حتى إنهم -كما ذكر- يكفرون الأشاعرة أنفسهم.(1/46)
ثانياً: وأما الفقهاء؛ فنسبة هذا القول إليهم ليس بصحيح؛ إذ أن كل مذاهب الفقه الأربعة وغير المذاهب الأربعة كالظاهرية وما شابهها، تذكر في كل كتاب من كتبها: باب المرتد، أو باب الردة، أو باب أحكام أهل الردة -تختلف الأسماء، ولكن المسمى واحد- فكل الفقهاء مجمعون على أن هناك مرتداً.. لكن ما هي أحكامه؟ ومتى يكفر؟ هنا يفصلون الكلام، وبعضهم أكثر غلواً -إن صح التعبير- من بعض، مثل بعض كتب الفقه الحنفية، فإنها تستطرد وتذكر أموراً غريبة -على الأقل عند المخالف لهم- فمثلاً يقولون: من قال: مصيحف أو مسيجد كفر؛ لأنه صغر المسجد، وهذا يشعر بالاحتقار، وكذلك إذا أهدى إلى مجوسي بيضة في يوم النيروز كفر؛ لأنه عيد من أعياد المجوس ، وقد ذكر هذا علي القاري في الفقه الأكبر .
إذاً: فغير صحيح أن الفقهاء لا يكفرون أحداً من أهل القبلة، وهذه القضية ليست قضية نظرية، ولم تكن كذلك عندما ظهرت دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى، حيث ثاروا وقاموا في وجهه في أكثر البلاد، وقالوا: إنه يكفر المسلمين، وهذه هي الشبهة التي يرددونها دائماً ولا ينفكون عنها في كل البلاد، منذ ثلاثة قرون وإلى الآن وهم يكررون ويقولون: إن الشيخ رحمه الله يكفر المسلمين، فإذا قيل: وأنتم كذلك! قالوا: نحن لا نكفر أحداً! وقد أرادوا الطعن في دعوته رحمه الله تعالى بهذا الشيء، وأنه خارج عن الإجماع وأنه يكفر المسلمين، ولكن في حقيقة الأمر أنهم هم الذين خرجوا عن إجماع الأمة، وخرجوا عن الكتاب والسنة بدعواهم أن أهل القبلة فلا يكفر منهم أحد، وأن كل من قال: (لا إله إلاَّ الله) لا يكفر، والغريب أن الأولين من المرجئة كانوا يقولون: إن الذي يقيم أحكام الإسلام الظاهرة لا يكفر، أي: يصلي ويصوم ويزكي -كما سبق بيانه- لكن وصل الحال عند أكثر المتأخرين إلى القول بأنه ما دام يقول: (لا إله إلاَّ الله) فإنه لا يكفر وانتشر هذا حتى أصبح كأنه قضيةٌ بدهية مسلّّم بها.(1/47)
الرد على المرجئة بأن في أهل القبلة منافقين
من درس: اختلاف الناس في إطلاق التكفير وعدمه
ويقال لهم: نريد ولو واحداً في عهد النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا إله إلاَّ الله)، ولم يصلِّ ولم يزكِ ولم يحج ولم يجاهد ولم يعمل أي عمل من أعمال الإسلام، وظل في عرف النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والمؤمنين أنه من المسلمين والمؤمنين؟ لا يستطيع أحد أن يأتي بدليل على ذلك أبداً، فلذلك يقول المصنف رحمه الله: "فطائفة تقول: لا نكفر من أهل القبلة أحداً، فتنفي التكفير نفياً عاماً، مع العلم بأن في أهل القبلة المنافقين..."، فأوضح دليل في الرد عليهم: أن في أهل القبلة من يشهد أن لا إله إلاَّ الله وأن محمداً رسول الله، ويدعي الإيمان، ويصلي مع المؤمنين في المساجد، ويزكي معهم زكوا أو تصدقوا، ويجاهد معهم إذا جاهدوا العدو، ومع ذلك فهو منافق لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر، كافر في الباطن، وهو في الدرك الأسفل من النار مع الكفار.
والأدلة كثيرة جداً في القرآن والسنة على أن المنافق كافر مع أنه يأتي بالشعائر أو الشرائع الظاهرة، ومع ذلك فهو كافر لنفاقه، فكيف يقال بأنه ليس في أهل القبلة من يُكفَّر؟ فهذا يكفر بناءً على ما في قلبه من المرض الذي أوصله إلى الخروج من الملة.
ومن الأدلة على أن المنافقين كفار مع أنهم يقولون: أشهد أن لا إله إلاَّ الله وأن محمداً رسول الله؛ قوله تعالى: إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ [المنافقون:1]، فقد نطقوا بالشهادة، ومع ذلك قال تعالى: وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ [التوبة:107]، فمن كذب في دعوى الشهادة فليس بمؤمن، وقد كان عبد الله بن أبي يقوم ويخطب في القوم مبيناً فضل الله تعالى ونبيه عليهم، ويشهد أن محمداً رسول الله، لكن لم ينفعه شيء من ذلك.(1/48)
ومن أبلغ الأدلة على كفر المنافقين سورة التوبة -وهي من آخر ما نزل بعد غزوة تبوك - وقد سميت الفاضحة أو المخزية أو المشقشقة؛ لأنها فضحتهم وأخزتهم وشقشقت عما في قلوبهم، وقد بين الله سبحانه وتعالى فيها كفرهم وردتهم بسبب النفاق، مع أنهم كانوا يظهرون الإسلام، بل إنه أثبت أنه كان لديهم دين وإسلام، قال الله تعالى: وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ [التوبة:84]، وآية أخرى: وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلا يُنفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ [التوبة:54] فقد كانوا يصلون وينفقون، ثم قال بعد ذلك: فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ [التوبة:55]، وقال تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ [التوبة:65-66].
فهذا دليل على أنهم كفروا مع أنه أثبت أنه كان لهم إيمان من قبل.(1/49)
وقال تعالى: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا [النساء:145]، وقال تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ [البقرة:8] وقال تعالى: يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا [التوبة:74]، وكذلك في سورة البقرة والنساء وفي كثير من السور إثبات أن المنافقين كفار.
إذاً: المنافقون هم في ظاهر الأحكام من أهل القبلة: يشهدون أن لا إله إلاَّ الله وأن محمداً رسول الله، باللسان، ويصلون، وينفقون مع من ينفق من المؤمنين، ويخرجون للجهاد، وقد خرج بعضهم كالذين استهزءوا بالقراء في غزوة تبوك -وقد يتخلف بعضهم- ومع ذلك فهم كفار وليسوا بمؤمنين، وهذا من أقوى الردود على من يزعم أنه ليس في أهل القبلة من كفار.
وقد يقول بعض الناس: أولئك هم المنافقون في صدر الإسلام. وكأن النفاق ما وجد إلاَّ في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فنقول: لا، بل إنه كلما ازداد بُعد الأمة -في جملتها- عن الإيمان الحق؛ اشرأب النفاق وأصبح أظهر وأشهر وأكثر انتشاراً، وكثير من الناس هذا حاله، حتى ذكر أن الحسن البصري رحمه الله سمع رجلاً يدعو ويقول: [اللهم أهلك المنافقين، فقال: لا تقل هذا -يا ابن أخي- فإنه لو فعل لخلت الطرقات ] لأن أكثر الناس فيهم شعبة من النفاق على الأقل، إن لم يكن نفاقاً خالصاً، نسأل الله العفو والعافية.(1/50)
إذاً: في أهل القبلة من هو من المنافقين الذين فيهم من هو أكفر من اليهود والنصارى، وفيهم من قد يُظهر بعض ذلك الكفر إذا سنحت لهم الفرصة وأمكنهم ذلك، وهم يتظاهرون بالشهادتين! فإذا جاءت المحن ظهروا، فإن الله سبحانه وتعالى قد جعل المحن والأحداث تمحيصاً لما في القلوب، وتمييزاً يبن المؤمن الحق والمنافق الزائغ، قال تعالى: وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ [آل عمران:141]، وقال جل ثناؤه: لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ [الأنفال:37]، فمثلاً: بعد معركة بدر دخل كثير من المنافقين في الإسلام، وخرست ألسنتهم وأذعنوا، لكن بعد هزيمة أحد ؛ رفع المنافقون رءوسهم، وأيضاً يوم الأحزاب أثناء الشدة عندما رأوا أن المؤمنين مقهورين، ولا حيلة لهم، وظنوا أنهم قد انتهوا، وما بقي إلاَّ أيام أو أسابيع وينتهي أمر هذا الدين؛ حينها ظهر النفاق، وأعلن المنافقون نفاقهم، وقالوا: إن محمداً صلى الله عليه وسلم يعدنا بملك كسرى وأحدنا لا يستطيع أن يذهب لكي يقضي حاجته!
وهذا هو حال المنافقين على مر التاريخ الإسلامي عموماً، إلا في عهد عمر رضي الله عنه، فقد كان النفاق خافتاً خافياً ذليلاً، فلما قبضه الله ظهرت الفتنة في زمن عثمان رضي الله عنه، وإذا بالنفاق يظهر، وإذا بعبد الله بن سبأ يشعل الفتنة في الكوفة ، وفي مصر ، وغيرها، إلى أن قتل عثمان رضي الله عنه.. وهكذا إذا ضعف الإيمان، وإذا ضعف أهل الحق؛ ظهر المنافقون وكشروا عن أنيابهم، فهم كالأفاعي تتستر متحينة الفرصة المناسبة، والسم ناقعٌ في أنيابها.(1/51)
وكلما ظهر عدوٌ للأمة أعانوه، فعندما جاء الصليبيون ظهر المنافقون ظهوراً واضحاً في بعض دويلات الرافضة في مصر ، وفي بلاد الشام ، وكان من ملوكهم الصالح إسماعيل صاحب دمشق ، وغيره، ممن فتحوا الحصون لأعداء الأمة، وأعطوهم السلاح، وأعانوهم على المسلمين -نسأل الله العفو والعافية- فظهر نفاقهم، ولمَّا جاء التتار بقيادة هولاكو الذي دخل بغداد ، قام ابن العلقمي ومن يسمى نصير الدين الطوسي وأظهرا النفاق وراسلا هولاكو ، وظهر شيوخ الطرق يجاهرون بضلالهم، حتى إن بعضهم كان يقود فرس هولاكو ؛ لأن المؤمنين قد قضي عليهم، ولم يعد لهم قوة فلم تعد هناك حاجة في أن يتظاهر بالإيمان، فأظهر النفاق، وأصبح في ركب أعداء الله وأعداء الإسلام.
فالنفاق موجود في هذه الأمة منذ أن هاجر محمد صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، والنفاق: هو عدم الإيمان والإخلاص والإقرار لله سبحانه وتعالى بالوحدانية، ولمحمد صلى الله عليه وسلم بالرسالة عن صدق واعتقاد بالقلب.
يقول رحمه الله: [وفيهم من قد يظهر بعض ذلك حيث يمكنهم]، فإذا كانت الفرصة مواتية، والمصلحة موجودة؛ ظهر نفاقهم وكفرهم، وإلا فلا.
من أنكر معلوماً من الدين بالضرورة فهو كافر بالإجماع
من درس: اختلاف الناس في إطلاق التكفير وعدمه
قال المصنف رحمه الله: [وأيضاً فلا خلاف بين المسلمين أن الرجل لو أظهر إنكار الواجبات الظاهرة المتواترة والمحرمات الظاهرة المتواترة، ونحو ذلك؛ فإنه يستتاب، فإن تاب وإلاَّ قتل كافراً مرتداً].
فلو أن إنساناً أنكر أن الزكاة واجبة، أو أنكر أن الصلاة واجبة، أو أنكر أي واجب من الواجبات -ونقصد بها ما كان ظاهراً متواتراً معلوماً من الدين بالضرورة، فجاء أحد فأنكره فقامت عليه الحجة- فإنه كما يقول المصنف: "يستتاب، فإن تاب وإلاَّ قتل كافراً مرتداً"؛ لأنه أصر وعاند في إنكار أمر ظاهر معلوم من الدين بالضرورة.(1/52)
وأما استحلال المحرم فكأن يأتي من يقول: إن الزنا -والعياذ بالله- حلال، أو أن الخمر حلال، وجاهر بذلك، فإنه يكفر بذلك؛ لأنه قد استحل أمراً مجمعاً على تحريمه، معلوم لكل مسلم أنه محرم، ولا يدخل في ذلك من أسلم حديثاً، أو من جاء من بادية أو غيرها، ولم يعرف أحكام الإسلام فإن المقصود بالحكم هو حال أغلب الناس، أي: من كان مسلماً ويعرف شيئاً من دينه، فيعلم وجوب الصلاة، ويعلم حرمة الزنا، فمثل هذا إذا استحل شيئاً من ذلك، وقامت عليه الحجة، واستتيب فلم يتب وقتل؛ فإنه يقتل كافراً مرتداً، وسيأتي مزيد بسط لهذا قريباً إن شاء الله تعالى.(1/53)
ومن الأمثلة على ذلك: حديث قدامة بن عبد الله لما شرب الخمر بعد تحريمها هو وطائفة متأولين قوله تعالى: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [المائدة:93]، فلما ذكر ذلك لعمر بن الخطاب رضي الله عنه، اتفق هو وعلي بن أبي طالب وسائر الصحابة على أنهم إن اعترفوا بالتحريم جلدوا، وإن أصروا على استحلالها قتلوا. وثبت في حديث صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم بلغه أن رجلاً تزوج امرأة أبيه، فأرسل إليه من قتله؛ لأن هذا استحلال لأمر قد علم من دين الإسلام بالضرورة أنه حرام.. وهكذا، فالحال في مثل هذا أن من شرب الخمر وأُتي به، فإن اعترف بالتحريم جلد؛ لأن غالب من يشرب الخمر فإنه يشربها عصياناً، لكن لو جاء أحد وقال: هي حلال؛ فإنه يقتل في هذه الحالة ردة وكفراً والعياذ بالله! وكذلك لو استحل شخص الزنا؛ كحال كثير من الناس في هذا العصر الذين يرون أن الزنا مباح، ويسمونه: حباً، ويقتدون في ذلك بالغربيين الذين لا يرون هذه الفاحشة إلاَّ مجرد علاقة شخصية، ولا يرون فيها جريمة إلاَّ إذا كانت اغتصاباً! أو كانت من الزوجة على فراش الزوجية! أما إذا كانت علاقة مع أحد خارج البيت -عياذاً بالله- أو مع امرأة غير متزوجة، فتعاشر هذا يوماً وهذا ساعة كما تفعل الكثيرات منهن، وهي راضية وهو راضٍ، فإن هذا الأمر لا يعد جريمة في عرف الغرب! والقوانين الغربية صريحة في إباحة ذلك.(1/54)
فجاء بعض من ينتسب إلى الإسلام وأخذوا يبثون هذه الأمور: الشعراء منهم في شعرهم، والكتاب في كتاباتهم، والصحفيون في صحافتهم.. ومما عرض علينا من ذلك ما كتبته تلك المرأة التي كانت عميدة كلية الشريعة والحقوق في جامعة الكويت، فقد كتبت تطالب بتعديل قانون الأحوال الشخصية -وهي تعني تعديل الشريعة- فتقول: لابد أن تعدل الأعراف، أو ما هو مألوف عندنا نحن في الشرق بأن المرأة أقل من الرجل، وأنها ترث نصف ميراث الرجل، وأن القوامة للرجل، وإباحة الحب للمرأة، وهي تطالب بتعديل ذلك بحجة مواكبة العصر!! وما أكثر ما كنا -وما نزال- نقرأ ونسمع عن ذلك! نسأل الله العفو والعافية.
المقصود: أن استحلال المحرمات الظاهرة المعلوم تحريمها كفر وردة، وإن كان صاحبها يدعي أو يزعم أنه مسلم، حتى مسألة الحجاب، فإن المرأة التي تخرج متبرجة متكشفة، وهي تعلم أن هذا معصية، ولكن دواعي الهوى والشهوة والغفلة دعتها إلى ذلك، فهي عاصية مذنبة فاجرة، ولكن لو أنها خرجت بناءً على أن الحجاب غير واجب عليها، وإن كان في القرآن، وإن كانت الصحابيات ملتزمات به، وإن رددت ما يزعمه البعض بقولهم: إن الحجاب كان في عصور الظلمات، ونحن الآن في عصور التحرر والانطلاق والحرية والتقدم والتطور! فهي إن نزعت الحجاب معتقدة أنه غير واجب عليها، فليس فعلها مجرد معصية، وإنما ردة وكفر والعياذ بالله!(1/55)
وقد كتب في مسألة عدم وجوب الحجاب الكثير من المفكرين والكتاب، وحاربوا الحجاب أشد المحاربة، ومن هؤلاء: درية شفيق ، وأمينة سعيد ، وقاسم أمين ، وأمثالهم ممن لا يزالون يكتبون ويدعون إلى مثل ذلك، وبعضهم قد أهلكه الله عز وجل. فمستحلة التبرج والسفور مرتدة كافرة وليست مجرد عاصية؛ إذ أن العاصية إذا خُوفت وذكرت فإنها تقر وتلتزم بالحجاب، أما هذه فإنها تعاند وتكتب وترد على من يستدل بالآيات والأحاديث، ولو قيل لبعضهن: إما أن تتوبي وإلاَّ قتلناك؛ لاختارت -عياذاً بالله- أن تموت على غير توبة؛ لأنها أصبحت عندها عقيدة ومنهجاً.(1/56)
وكذلك في الربا، فقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في الفتاوى مستدلاً على كفر التتار، أن أناساً من ثقيف امتنعوا عن تحريم الربا، مع أنه من آخر ما نزل من المحرمات -ومعنى قوله رحمه الله: مع أن الربا من آخر المحرمات: أنه أي قد يخفى تحريمه بالنسبة لمن كانوا حديثي عهدٍ بالإسلام- ومع ذلك أنزل الله سبحانه وتعالى: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [البقرة:279]، فدل ذلك على وجوب قتال الطائفة إذا اجتمعت على فعل محرم أوترك واجب، وهذا القتال ليس من جنس قتال البغاة، ولكن من جنس قتال أهل الردة، كما قاتل أبو بكر رضي الله عنه مانعي الزكاة، وذلك لأن الطائفة اجتمعت لتدافع عن هذه القضية بالسيف، فمعنى ذلك: أنها أصبحت لديها عقيدة ومبدأ، وليست مجرد معصية، ولو أن رجلاً واحداً في ذاته شرب الخمر فيحمل في الأصل على أنه عاصٍ، لكن إذا كانت قبيلة -أو مدينة أو دولة- أعلنت أن الخمر من روافد اقتصادها، وأنها تعصر الخمر وتبيعه وتصدره، فكتب إليها المسلمون وناصحوها، فقالت: لا نمتنع أبداً! ونحن مستعدون أن نقاتل دون هذا الشيء، وتجمعوا وحملوا السلاح، وجاءوا لقتال من يقاتلهم من أجل هذا الحرام، فهؤلاء يقاتلون قتال ردة وليس قتال بغاة؛ لأن الباغي أو قاطع الطريق يُقَاتل مع اعتقاد أنه مسلم، أما هؤلاء فقتالهم قتال ردة؛ لأنهم اجتمعوا على هذا الأمر.(1/57)
ويذكر شيخ الإسلام رحمه الله في ضمن الفتوى أن بعض أهل العلم قال بقتال من عطل شيئاً من الشعائر، وحتى ما هو أقل من الشعائر مثل ركعتي الفجر أو صلاة الاستسقاء، أو ما أشبه ذلك، وإذا امتنعت أمة عن الجهاد في سبيل الله وقالت: لا نجاهد في سبيل الله، ولا نضرب الجزية على أهل الكتاب، فإنها أيضاً تقاتل؛ لأنها تركت أمراً معلوماً من الدين بالضرورة وهو الجهاد وفرض الجزية. وهذا من باب الامتناع عن أداء واجبات معلومة من الدين بالضرورة، ويشهد لهذا الحديث الصحيح الذي ذكرناه فيما سبق، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرسل السرية، فإن سمعوا الآذان وإلاَّ أغاروا؛ لأن سماع الأذان يعني أن هذه دار إسلام، فهم معصومون، وإن لم يسمعوا أذاناً أغاروا عليهم، فهم ليسوا بمعصومي الدم والمال؛ لأنهم لو كانوا مسلمين لأذنوا للصلاة، وهذا هو الفرق بين الدارين.
إذاً: المثال الأول على أن بعض أهل القبلة كفار: هم المنافقون، والمثال الثاني: هم الممتنعون عن الالتزام بالشريعة. ولا يستطيع المرجئة إنكار ذلك؛ فدل ذلك على خطأ دعواهم في عدم تكفير أحد من أهل القبلة.
الواجبات التي يكفر منكرها والمحرمات التي يكفر مستحلها
من درس: اختلاف الناس في إطلاق التكفير وعدمه
والواجبات التي يكفر منكرها هي الظاهرة المتواترة، وهناك واجبات ليست ظاهرة متواترة، وهناك فرق بين هذه الواجبات وشعب الإيمان عموماً، فمثلاً: إذا نكح رجل امرأة أبيه، أو تزوج من محارمه كأخته -عياذاً بالله- فإنه يكفر؛ لأن هذا ظاهر متواتر، لكن قد يغفل بعض الناس عن بعض أحكام الرضاعة، فيتزوج أخته من الرضاعة مثلاً، فهذا لا يكفر؛ لأن هذا الأمر غير ظاهر، فيمكن أن تخفى الأخوة من الرضاعة، لكن لا تخفى الأخوة من النسب.(1/58)
وكذلك الأمر في المحرمات، فمثلاً: تحريم الزنا لا يخفى على أحد، لكن بعض النساء في بلاد كثيرة لا ترى أن ترك الحجاب حرام، مع أنه ظاهر متواتر بالنسبة للدين، لكن نقول كما قال رحمه الله: (فإنه يستتاب) أي: يبين له أن هذا واجب وأن هذا حرام.
فالمقصود: أن بعض الواجبات أدق من بعض، وبعض المحرمات أظهر تحريماً من بعض، فمثلاً: الربا الصريح عند الجاهلية وظاهر مشهور متواتر، لكن -مثلاً- بيع العينة، وبعض أنواع البيوع كبيع الغرر؛ فإنه محرم، لكنه أقل وأخفى ظهوراً أو تواتراً من الربا، وكذلك في العبادات نجد أن بعض الأمور أظهر من بعض، فإن الناس -مثلاً- يعلمون أن الأذان واجب؛ لأنه معلوم وظاهر في بلاد الإسلام، وأن الصلاة أيضاً واجبة ظاهرة في بلاد الإسلام، لكن قد يخفى على بعضهم واجبات أخرى، كبعض الصلوات التي قد يرى بعض العلماء وجوبها، أو بعض الواجبات في الصلاة نفسها، والمقصود بكلام الشيخ رحمه الله هو الواجب الظاهر المتواتر.
تنزيل الحكم على المعين
من درس: اختلاف الناس في إطلاق التكفير وعدمه
أما عند تطبيق الحكم على المعين، فإنه يجب ملاحظة أن الناس يتفاوتون في الحكم عليهم بحسب أحوالهم، فلو أن عالماً درس الشريعة وأخذ عليها الشهادات، وهو يعد من العلماء، أفتى بأن الخمر حلال؛ فإنه يكفر، ولا يُتردد في تكفيره؛ لأنه عالم، لكن لو أن رجلاً جاء من البادية وقال: أنا مسلم، وهو يرى أن الخمر حلال، أو أن الزنا حلال؛ فإنه يعذر ويُعلَّم.(1/59)
فهناك فرق بين الناس بحسب البيئات وبحسب الأحوال عند التطبيق، كما سيأتي شرحه كاملاً، فلابد من تحقق الشروط وانتفاء الموانع حتى يكفر المعين بذاته، لكن من حيث الحكم العام فإنه يطلق على الفعل بأنه كفر، ومن بُين له الدليل وقامت عليه الحجة وأصر على الإنكار، فإنه يكفر، أي: أن من بين له الدليل على أمرٍ محرم فأصر، فإنه يكفر، وهذا من باب كفر العناد، لكن ينبغي ألاَّ نخلط بين من عاند ورد الدليل وعنده شبهة، وبين من رده دون شبهة، فمن لم يكن لديه شبهة ورد الآية أو رد الحديث، أو ردهما معاً، وأصر على رأيه ولم يقبل الإذعان لأمر الله ورسوله، فهذا هو الذي يكفر، وأما المتأول وهو الذي يرد الدليل، وعنده دليل آخر، ولكن لا دلالة فيه، وهو يرى أنه دليل بالنسبة له، كأن يستدل بكلام عالم من العلماء، وهذا العالم مخطئ ولا يجوز تقليده، أو قد يكون كافراً مرتداً ولا يؤخذ بكلامه، لكنه يرى أنه إمام معتبر؛ فهذا يسمى متأولاً.(1/60)
وكلامنا هنا إنما هو فيمن يرد الآية أو الحديث رداً بلا شبهة ولا تأويل، وهذا يدخل فيه أمور قد تساهل فيها بعض الناس، فمثلاً: هناك أشياء يرى بعض الناس أنها سهلة ولا محذور في إتيانها، فإن كان دافع المرء لإتيانها الإنكار والجحود ورد الأدلة؛ فإن الأمر خطير جداً - نسأل الله العفو والعافية-؛ لأنه ينافي أصل الإيمان؛ إذ أن أصل الإيمان هو الإذعان والانقياد والرضا، فإذا لم يوجد عنده أصل الإيمان أو الإذعان فإنه يكفر، وإن كان العمل في الأصل لا يكفر من فعله إن كان محرماً، أو من تركه إن كان واجباً، لكن إذا لم ينقد للأمر في ذاته وفي نفسه؛ فإنه في هذه الحالة يكفر، ولهذا قلنا: إن الطائفة الممتنعة عن أداء الواجبات المعلومة من الدين بالضرورة تقاتل قتال ردة؛ لأن اجتماعها وامتناعها ومقاومتها للحق ليس مجرد عصيان ومخالفة غير مكفرة، وإنما هو كفر ناتج عن اعتقاد؛ لأنها رد للحق، وهذا كما ذكر الله سبحانه وتعالى عن أهل الكتاب فقال: وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ [التوبة:29]، فقوله: (لا يدينون دين الحق) لأنهم يقولون: إن الله ثالث ثلاثة، وإن محمداً صلى الله عليه وسلم ليس برسول -عياذاً بالله من هذا الزيغ والكفر- وهذا واضح، لكن زيادة على ذلك فإنهم لا يحرمون ما حرم الله ورسوله؛ فإنهم يشربون الخمر، ويأكلون الخنزير، وهذا من أسباب كفرهم، مع أنهم كفار في العقيدة، لكن الكفر تجتمع له أسباب كثيرة، فالنصارى مثلاً يكفرون بقولهم: إن الله ثالث ثلاثة، وأيضاً يكفرون باستحلالهم أكل الخنزير، وشرب الخمر.
أسباب الوقوع في الردة والنفاق
من درس: التكفير وضوابطه (الحلقة الثانية)(1/61)
يقول: [والنفاق والردة مظنتهما البدع والفجور]، فالإيمان له أبواب والكفر له أبواب، فمن أبواب الإيمان الطاعات جميعاً، فإن الإنسان إذا سلك باباً من أبواب الإيمان مثل: الصبر، والصيام، والجهاد، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر؛ فإنه يهتدي إلى أوضح السبل وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا [العنكبوت:69]، ويصل بإذن الله إلى كمال الإيمان وتحقيقه وطمأنينته في قلبه.
وإذا سلك الإنسان طريق البدع والفجور، فإنه يصل إلى النفاق والرد عياذاً بالله! فإن المبتدع قبل أن يصبح زنديقاً منافقاً يبدأ بالشك في بعض الأحاديث، فيرد الأدلة بالشبهات، ويقول: هذه الأحاديث أخبار آحاد.. وهذه الأحاديث تخالف العقل؛ حتى يفضي به الأمر إلى أن ينكر أموراً معلومة من الدين بالضرورة، دلت عليها هذه الأحاديث، وربما أنكر السنة كلها، وربما طعن في الرواة بأجمعهم، وربما طعن في كتب الحديث بأكملها، وربما طعن في الصحابة الذين رووها، نسأل الله العفو والعافية.
البدع من أسباب الردة والكفر بالله
وهكذا تبدأ البدعة، كما قال بعض السلف : (واحذر صغار البدع، فإن البدع تبدو صغاراً، ثم تغدو كباراً)، وقال الآخر: (ائتني بزيدي صغير أخرج لك منه رافضياً كبيراً)، فالبدع لا تقف عند حد، فيأتي أحدهم فيقول: أنا لا أفضل علياً على أبي بكر وعمر ، ثم بعد ذلك يقول: أبو بكر وعمر فيهما كذا وكذا، فيطعن فيهما، ثم يئول به الأمر إلى أن يخرجهما من الدين، وفي شأن عائشة رضي الله عنها يقول: لقد قاتلت علياً ، وأخطأت، ثم يتجرأ أكثر فيقول: فعلت .. وفعلت .. حتى يصبح -عياذاً بالله- كالرافضة الذين يفترون عليها الإفك الذي برأها الله تبارك وتعالى منه.. وهكذا.(1/62)
ولذلك ذكر شيخ الإسلام رحمه الله في مواضع كثيرة من كتبه أن أكثر الناس نفاقاً في هذه الأمة وردة هم الرافضة ؛ لأنهم يبتدعون بدعاً تجعلهم يصلون إلى النفاق بسرعة، وقد ذكر أبو الربيع الزهراني رحمه الله تعالى أنه لقي رجلاً كان له جار من أهل الزندقة وكان يظهر الرفض، ثم لما تاب سأله، فقال: إنا فكرنا فوجدنا أقرب أهل الأهواء إلينا الرافضة .
فمن أراد أن يصل إلى الكفر من طريق البدعة فليأتِ من طريق الرافضة ؛ لأنهم شر أهل البدع، فيبدأ الرافضي بالطعن في الإسلام من خلال عقيدة الرافضة ، فإذا كان في مجلس طعن في أبي بكر وعمر ، وطعن في بقية الصحابة، وتكلم في القرآن، وأن فيه كذا وكذا، فلو قيل: إن هذا كافر زنديق، لقيل: إن هذا شيعي، وهذه عقيدته، وهذا هو مذهب الشيعة .
ولذلك فإن الباطنية والقرامطة كما ذكر ابن الجوزي رحمه الله، وغيره ممن كتب عنهم، قالوا: أول ما يدخلون على المريد أو العامي أو الساذج من باب علي والتشيع له، ويظهرون له بعد ذلك مثالب الصحابة رضي الله تعالى عنهم، فيقولون: أبو بكر فعل.. وعمر فعل.. والصحابة فعلوا.. حتى يقتنع بأن هؤلاء الصحابة كلهم مرتدون إلاَّ الاثني عشر أو الأربعة.. وهو إلى هنا لا يزال يسمى رافضياً، ولا يزال يرى نفسه مسلماً، ثم بعد ذلك -كما قال:- إذا تمكن من ذلك أظهروا له مثالب علي والأربعة الباقين، أو الخمسة أو السبعة أو الاثني عشر، فيظهرون عيوبهم ويقولون له: إن علياً فعل أشد من عمر ، فلماذا لم ينكر علي على عمر عندما غير المصحف؟! وقد زوجعلي عمر ابنته! إذاً: علي كان موالياً ومداهناً لعمر وللكفار؛ لأنه قد تقرر عنده أنهم كفار، فيكفر هؤلاء البقية، ولم يبق إلا الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم ينتقلون إلى المرحلة الثالثة وهي قولهم: إن الأنبياء ما هم إلا ساسة عباقرة، فيدخلون على أتباعهم بمثل قول الشاعر:
ولا ترى الشرع إلاَّ سياسة مدنية(1/63)
فيقولون: إن الأنبياء أرادوا أن يصلحوا الناس بالشريعة التي هي سياسة مدنية، فلو جاءوا إلى العامة من باب العقل لما قبل كلامهم إلاَّ الحكماء -والحكماء دائماً قليل- لكن العامة لا ينزجرون إلاَّ بالتخويف، فاختلقوا ما يسمى: الجنة والنار والوعد والوعيد، وقالوا: إن هذا من عند الله، وفي النهاية يكفر بالرسل -نسأل الله العفو والعافية- وهكذا تكون مداخل أهل البدع قديماً وحديثا!!ً
المعاصي من أسباب الردة والكفر بالله
ثم يأتي بعد ذلك سبب آخر: وهو المعاصي والفجور -نسأل الله العفو والعافية- فإن الشاب إذا ذهب إلى بلاد الكفار كـ أمريكا أو غيرها للنزهة وللتمتع ونحوها، فلن يقال له من أول الأمر: اكفر، ولو طلب منه ذلك فإنه لن يقبل، لكنهم يتدرجون معه في بادئ الأمر، ويحثونه على ارتياد المسارح والمراقص؛ معللين ذلك بوجود كثير من الشباب ممن يصلون يفعلون ذلك، فيبدأ بالانحراف معهم، ويبدأ بالفاحشة -عياذاً بالله- فيقع في الزنا، ثم يقال له: إن الخمر يقوي الطاقة والنشاط، فيشرب الخمر حتى يدمن عليها، ثم بعد ذلك يقال له: إن التمتع والتحرر هو أصل الحياة، أما الدين والتقاليد والعادات فإنما هي قيود لا حقيقة لها.. فيكفر -عياذاً بالله- ويرتد.. والسبب في ذلك هو الفجور والمعصية.
قال المصنف رحمه الله: [كما ذكره الخلال في كتاب السنة بسنده إلى محمد بن سيرين ، أنه قال: [إن أسرع الناس ردة أهل الأهواء ] ] وصدق رحمه الله، وهذا أمر واقع في أهل الأهواء كالرافضة والخوارج والصوفية ؛ فإن الصوفي قد يبدأ بالذكر البدعي وينتهي بوحدة الوجود وبعبادة القبور، كما هو معلوم من حال كثير من الصوفية والشيعة .(1/64)
قال: "وكان يرى أن هذه الآية نزلت فيهم: وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ [الأنعام:68]"، كان محمد بن سيرين رحمه الله تعالى يرى أن هذه الآية نزلت في أهل البدع، والمقصود بالخوض في الآية: هو الخوض الكفري، فهو أصل الخوض المنهي عنه من أساسه، وهو أعظمه، وهو يعني: خوض الكفار في أمر يعد كفراً في ملتنا، لكنه يشمل ما دونه وهو خوض أهل البدع في آياتنا، فيضربون كتاب الله تعالى بعضه ببعض، ويضربون الأحاديث بعضها ببعض، ويقولون: هذا يخالف النص.. وهذا يخالف العقل.. وهذا يخالف الإجماع.. فهم يخوضون في الآيات، ويتكلمون في دين الله، ويفترون على الله الكذب وهم يعلمون، ولا يبالون أن يقعوا في كتاب الله أو في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أو في الصحابة؛ فضلاً عن الفقهاء أو العلماء، فإنهم يقعون فيهم ويستسهلون ذلك تماماً، ويطعنون فيهم بكل عيب ومنقصة، فهؤلاء قد نهينا عن مجالستهم تبعاً للنهي عن مجالسة من يخوضون في الكفر؛ لأن أهل البدع قد يصل خوضهم إلى الكفر -نسأل الله العفو والعافية- عندما يصلون إلى درجة النفاق الأكبر، وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [الأنعام:68].
البدع من أسباب الردة والكفر بالله
من درس: أسباب الوقوع في الردة والنفاق(1/65)
وهكذا تبدأ البدعة، كما قال بعض السلف : (واحذر صغار البدع، فإن البدع تبدو صغاراً، ثم تغدو كباراً)، وقال الآخر: (ائتني بزيدي صغير أخرج لك منه رافضياً كبيراً)، فالبدع لا تقف عند حد، فيأتي أحدهم فيقول: أنا لا أفضل علياً على أبي بكر وعمر ، ثم بعد ذلك يقول: أبو بكر وعمر فيهما كذا وكذا، فيطعن فيهما، ثم يئول به الأمر إلى أن يخرجهما من الدين، وفي شأن عائشة رضي الله عنها يقول: لقد قاتلت علياً ، وأخطأت، ثم يتجرأ أكثر فيقول: فعلت .. وفعلت .. حتى يصبح -عياذاً بالله- كالرافضة الذين يفترون عليها الإفك الذي برأها الله تبارك وتعالى منه.. وهكذا.
ولذلك ذكر شيخ الإسلام رحمه الله في مواضع كثيرة من كتبه أن أكثر الناس نفاقاً في هذه الأمة وردة هم الرافضة ؛ لأنهم يبتدعون بدعاً تجعلهم يصلون إلى النفاق بسرعة، وقد ذكر أبو الربيع الزهراني رحمه الله تعالى أنه لقي رجلاً كان له جار من أهل الزندقة وكان يظهر الرفض، ثم لما تاب سأله، فقال: إنا فكرنا فوجدنا أقرب أهل الأهواء إلينا الرافضة .
فمن أراد أن يصل إلى الكفر من طريق البدعة فليأتِ من طريق الرافضة ؛ لأنهم شر أهل البدع، فيبدأ الرافضي بالطعن في الإسلام من خلال عقيدة الرافضة ، فإذا كان في مجلس طعن في أبي بكر وعمر ، وطعن في بقية الصحابة، وتكلم في القرآن، وأن فيه كذا وكذا، فلو قيل: إن هذا كافر زنديق، لقيل: إن هذا شيعي، وهذه عقيدته، وهذا هو مذهب الشيعة .(1/66)
ولذلك فإن الباطنية والقرامطة كما ذكر ابن الجوزي رحمه الله، وغيره ممن كتب عنهم، قالوا: أول ما يدخلون على المريد أو العامي أو الساذج من باب علي والتشيع له، ويظهرون له بعد ذلك مثالب الصحابة رضي الله تعالى عنهم، فيقولون: أبو بكر فعل.. وعمر فعل.. والصحابة فعلوا.. حتى يقتنع بأن هؤلاء الصحابة كلهم مرتدون إلاَّ الاثني عشر أو الأربعة.. وهو إلى هنا لا يزال يسمى رافضياً، ولا يزال يرى نفسه مسلماً، ثم بعد ذلك -كما قال:- إذا تمكن من ذلك أظهروا له مثالب علي والأربعة الباقين، أو الخمسة أو السبعة أو الاثني عشر، فيظهرون عيوبهم ويقولون له: إن علياً فعل أشد من عمر ، فلماذا لم ينكر علي على عمر عندما غير المصحف؟! وقد زوجعلي عمر ابنته! إذاً: علي كان موالياً ومداهناً لعمر وللكفار؛ لأنه قد تقرر عنده أنهم كفار، فيكفر هؤلاء البقية، ولم يبق إلا الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم ينتقلون إلى المرحلة الثالثة وهي قولهم: إن الأنبياء ما هم إلا ساسة عباقرة، فيدخلون على أتباعهم بمثل قول الشاعر:
ولا ترى الشرع إلاَّ سياسة مدنية
فيقولون: إن الأنبياء أرادوا أن يصلحوا الناس بالشريعة التي هي سياسة مدنية، فلو جاءوا إلى العامة من باب العقل لما قبل كلامهم إلاَّ الحكماء -والحكماء دائماً قليل- لكن العامة لا ينزجرون إلاَّ بالتخويف، فاختلقوا ما يسمى: الجنة والنار والوعد والوعيد، وقالوا: إن هذا من عند الله، وفي النهاية يكفر بالرسل -نسأل الله العفو والعافية- وهكذا تكون مداخل أهل البدع قديماً وحديثا!!
المعاصي من أسباب الردة والكفر بالله
من درس: أسباب الوقوع في الردة والنفاق(1/67)
ثم يأتي بعد ذلك سبب آخر: وهو المعاصي والفجور -نسأل الله العفو والعافية- فإن الشاب إذا ذهب إلى بلاد الكفار كـ أمريكا أو غيرها للنزهة وللتمتع ونحوها، فلن يقال له من أول الأمر: اكفر، ولو طلب منه ذلك فإنه لن يقبل، لكنهم يتدرجون معه في بادئ الأمر، ويحثونه على ارتياد المسارح والمراقص؛ معللين ذلك بوجود كثير من الشباب ممن يصلون يفعلون ذلك، فيبدأ بالانحراف معهم، ويبدأ بالفاحشة -عياذاً بالله- فيقع في الزنا، ثم يقال له: إن الخمر يقوي الطاقة والنشاط، فيشرب الخمر حتى يدمن عليها، ثم بعد ذلك يقال له: إن التمتع والتحرر هو أصل الحياة، أما الدين والتقاليد والعادات فإنما هي قيود لا حقيقة لها.. فيكفر -عياذاً بالله- ويرتد.. والسبب في ذلك هو الفجور والمعصية.
قال المصنف رحمه الله: [كما ذكره الخلال في كتاب السنة بسنده إلى محمد بن سيرين ، أنه قال: [إن أسرع الناس ردة أهل الأهواء ] ] وصدق رحمه الله، وهذا أمر واقع في أهل الأهواء كالرافضة والخوارج والصوفية ؛ فإن الصوفي قد يبدأ بالذكر البدعي وينتهي بوحدة الوجود وبعبادة القبور، كما هو معلوم من حال كثير من الصوفية والشيعة .(1/68)
قال: "وكان يرى أن هذه الآية نزلت فيهم: وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ [الأنعام:68]"، كان محمد بن سيرين رحمه الله تعالى يرى أن هذه الآية نزلت في أهل البدع، والمقصود بالخوض في الآية: هو الخوض الكفري، فهو أصل الخوض المنهي عنه من أساسه، وهو أعظمه، وهو يعني: خوض الكفار في أمر يعد كفراً في ملتنا، لكنه يشمل ما دونه وهو خوض أهل البدع في آياتنا، فيضربون كتاب الله تعالى بعضه ببعض، ويضربون الأحاديث بعضها ببعض، ويقولون: هذا يخالف النص.. وهذا يخالف العقل.. وهذا يخالف الإجماع.. فهم يخوضون في الآيات، ويتكلمون في دين الله، ويفترون على الله الكذب وهم يعلمون، ولا يبالون أن يقعوا في كتاب الله أو في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أو في الصحابة؛ فضلاً عن الفقهاء أو العلماء، فإنهم يقعون فيهم ويستسهلون ذلك تماماً، ويطعنون فيهم بكل عيب ومنقصة، فهؤلاء قد نهينا عن مجالستهم تبعاً للنهي عن مجالسة من يخوضون في الكفر؛ لأن أهل البدع قد يصل خوضهم إلى الكفر -نسأل الله العفو والعافية- عندما يصلون إلى درجة النفاق الأكبر، وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [الأنعام:68].
مراتب الكفر فيمن ينتسب إلى الإسلام
من درس: التكفير وضوابطه (الحلقة الثالثة)
قد ذكرنا في موضوع أركان الإيمان عند قوله: [وأعظم الناس لها إنكاراً الفلاسفة ] مراتب المنتسبين إلى أهل القبلة في الكفر.(1/69)
وهذا الترتيب يقبل الاجتهاد ولا حرج إن اختلفنا فيه، والمقصود إنما هو ضبط أصل المسألة، وهي معرفة أشد الفرق كفراً، والذين لا يجوز الخلاف في كفرهم، ثم من دونهم، ثم من دونهم؛ حتى نصل إلى أهل البدع والضلال الذين لا يكفرون، وإنما يبدعون ويضللون فقط.
فأول الطوائف كفراً، وهم أعدى أعداء الإيمان بالله سبحانه وتعالى، وأبعد الناس عن الإيمان بالله وبأصول الإسلام، وبأركان الإيمان؛ هم الفلاسفة ، ونعرف مذهبهم من خلال أشخاصهم؛ كابن سينا والرازي الطبيب والكندي والفارابي وأمثالهم، فهؤلاء أبعد الناس عن منهج الأنبياء، وهم مرتدون، لا شك في كفرهم وردتهم وخروجهم عن الإسلام.
ويليهم في الكفر الباطنية ، وهم فرق كثيرة، ولهم أسماء كثيرة مثل: الخرمية والبابكية والقرامطة والسبعية والمحمرة والمعلمية (التعليمية) ، هذه كلها أسماء للباطنية ، ولا شك أيضاً في كفرهم وخروجهم من الإسلام، وممن يعد من الفرق الباطنية في وقتنا الحاضر: الإسماعيلية والدروز والنصيرية ، وهم منهم معنىً ومبنىً.
وهناك فرق باطنية حديثة النشأة، وكفرهم من جنس كفر الباطنية ؛ كالبابية والبهائية -ويوجد منهم جماعات في أمريكا - والآغاخانية وهم في الأصل من الباطنية ، وأيضاً القاديانية يلحقون بها.
ويلي الباطنية في الكفر -ويلحق بهم ويشبههم فيه- غلاة الصوفية الذين لا شك في كفرهم وردتهم وخروجهم عن الملة، وهم ثلاث فرق: أهل الاتحاد ، وأهل الوحدة ، وأهل الحلول ، وهي كلها في الكفر سواء، وهذه الثلاث الطوائف هي أكفر من ينتسب إلى التصوف، وهم يضارعون ويوازنون الباطنية في الكفر إن لم يكونوا أكفر منهم.
فأهل الاتحاد يؤمنون بذاتين منفصلتين اتحدت هذه بتلك، فهؤلاء يسمون: الاتحادية .(1/70)
أما أهل الحلول ، فإنهم أيضاً يثبتون ذاتين، ولكنهم يقولون: هذه حلت في هذه، فأصبحت هي عينها بعد أن حلت فيها، فأصبحت الذاتان ذاتاً واحدة، ولكن يجوز أن تفارقها؛ كما يقول النصارى؛ فإن أصل قولهم: أن الله تعالى حل في عيسى.. تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً.
وأما أهل وحدة الوجود ، فإنهم يرون أن الذات واحدة وليس هناك ذاتان، بل ما ثَمَّ إلا هو، أي أن الموجود هو عين الموجِد، المخلوقات هي عين ذات الخالق.. تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً.
فهؤلاء كلهم كفار مرتدون وإن انتسبوا إلى الملة والإسلام.
وعلى رأس هؤلاء الذين قالوا بالحلول أو الاتحاد أو وحدة الوجود: ابن عربي ، والحلاج ، وابن الفارض ، وابن سبعين ، والفاجر الذي يسمي نفسه: العفيف التلمساني ، والصدر القونوي ، وشمس الدين التبريزي .. وآخرون، لكن هؤلاء هم أشهرهم، ومقصودنا هو التمثيل فحسب.
والطبقة التي تلي هذه الطبقة في الكفر -وإن انتسبت إلى الإسلام-: الجهمية ، واسم الجهمية يطلق على عموم من ينفي الصفات، لكننا نعني هنا الجهمية الغلاة الذين مذهبهم إنكار الأسماء والصفات جميعاً، ويقولون في الإيمان: إنه مجرد المعرفة، ويقولون في القدر: إن الفاعل هو الله، والإنسان لا إرادة له مطلقاً؛ فبهذه الأقوال وأمثالها تكون الجهمية -أيضاً- خارجة من الملة.(1/71)
ويليهم في الكفر الروافض ، ولا نعني بهم مجرد من يطلق عليه أنه شيعي أو فيه تشيع، وإنما المقصود الرافضة الغلاة الذين يرون تكفير الصحابة عموماً ومنهم الشيخان أبو بكر وعمر ، ويؤلهون علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ويعتقدون أن القرآن محرف، وأن الإمامة أعلى من النبوة، ويشركون في الألوهية بدعاء غير الله، والاستغاثة بغير الله، والالتجاء إلى غير الله، واعتقاد أن أئمتهم يعلمون الغيب، ويديرون الكون، وتخضع لهم ذرات الوجود، ويذهبون عند قبورهم يتضرعون ويدعون ويستغيثون بهم؛ فهؤلاء قد حرفوا التوحيد وصرفوا العبادة لغير الله؛ فهم -ومن كان على شاكلتهم- كفار مرتدون.
ثم بعد ذلك تأتي المعتزلة ، والذين يكفرون من المعتزلة هم زنادقتهم وغلاتهم الملاحدة الذين أسسوا هذا الإلحاد والضلال، وهم الذين كفرهم بعض السلف بأعيانهم.
وأما من جاء من بعدهم، ففي تكفيرهم نظر -وإن كانت مقالاتهم كفرية- لما طرأ عليهم من شبهات.
فمن أعلامهم المشهورين الذين كفرهم بعض السلف : واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد .
وأعظم منهما كفراً وأصرح في الاعتزال -وهما اللذان أصلا مذهب المعتزلة على علم الكلام، وليس على شبهات نقلية- أبو الهذيل العلاف وإبراهيم بن سيار النظام ، وكل منهما كان على مذهب المعتزلة في تكفير مرتكب الكبيرة، وإن لم يقولوا: إنه كافر بالاسم، ولكنهم يجعلونه في منزلة بين المنزلتين، وكل منهما ألف في تكفير الآخر، وهكذا أهل البدع نسأل الله العفو والعافية.
أما بقية المعتزلة ، فإننا نقول: هم من فرق الضلالة، وإن كانت مقالاتهم كفرية؛ فإن المعتزلة -في باب الأسماء والصفات- أثبتوا الأسماء جميعاً لكنهم نفوا الصفات جميعاً، فيقولون: سميع بلا سمع، بصير بلا بصر... إلخ.(1/72)
بعد ذلك نأتي إلى الذين يثبتون الأسماء ويثبتون بعض الصفات، لكنهم ينفون بعض الصفات ولا يثبتون الصفات جميعاً، وهم الأشاعرة ، وهم لا يُكَفَّرون، لكنهم -كفرقة- يعدون من فرق الضلال، وأما الأفراد فأحكامهم تختلف وتتفاوت، حتى إن من أوائل الأشعرية من كان أقرب إلى السنة، ومن أواخرهم من أصبح قريباً من الفلاسفة ، كما بين ذلك شيخ الإسلام رحمه الله.
والخوارج في درجة المعتزلة ، لكن من غلا من الخوارج وأنكر بعض القرآن أصبح في درجة الروافض .
ولو قارنت بين الرافضة وبين الخوارج ، أيّ الطائفتين أخف وأقل شراً وضرراً، لعلمت أنها الخوارج بلا شك، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم نص على ذكرهم، وأنهم على ضلالة، لكنهم إذا قورنوا مع الروافض يظلون أقل ضرراً من جهتين: أولاهما أن الخوارج لم يكفروا أبا بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما، وإنما تكلموا في من بعدهم؛ فهم إذن أخف ممن يكفر الشيخين، ولا شك أن من يكفر عثمان أو علياً رضي الله تعالى عنهما هو على خطر عظيم، لكنه ليس كمن كفر الشيخين أو كفر جميع الصحابة.
ثانيهما: أن الخوارج أعلى رتبة من الرافضة في عبادتهم، فلو ألحقنا كل طائفة من الطائفتين بمن هو شبيه بها في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، فإننا نلحق الخوارج -جزئياً- بالثلاثة الذين تقالّوا العبادة، قال أولهم: أصوم ولا أفطر... إلخ، بينما الرافضة يلحقون بالمنافقين.
وإذا أردنا أن نمد المقارنة وأن نطبق صفات هذه الفرق على ما نقوله في صلاتنا في كل ركعة: صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:7] كيف نصنف هذه الفرق؟ ومن نجعله مع المغضوب عليهم؟ ومن نجعله مع الضالين؟(1/73)
الروافض مع المغضوب عليهم، والخوارج مع الضالين؛ لأن المغضوب عليهم عرفوا الحق ولم يعملوا به؛ ولذلك قال سفيان بن عيينة رحمه الله -ونقل أيضاً عن عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنه-: [من ضل من علمائنا ففيه شبه من اليهود، ومن ضل من عبادنا ففيه شبه من النصارى ].
وأهل الكلام يلحقون بمنهج ومسلك المغضوب عليهم، والصوفية يلحقون بالضالين.
والمقصود أننا عرفنا أن في أهل القبلة من المنتسبين للإسلام من يكون في الحقيقة كافراً، وعرفنا تصنيفاً مجملاً لهم.
الفرق بين النفي العام ونفي العموم في التكفير
من درس: التكفير وضوابطه (الحلقة الثالثة)
نرجع إلى عبارة المصنف رحمه الله يقول:
[ولهذا امتنع كثير من الأئمة عن إطلاق القول: بأنا لا نكفر أحداً بذنب، بل يقال: لا نكفرهم بكل ذنب، كما تفعله الخوارج ، وفرق بين النفي العام ونفي العموم، والواجب إنما هو نفي العموم مناقضة لقول الخوارج الذين يكفرون بكل ذنب.
ولهذا -والله أعلم- قيده الشيخ رحمه الله بقوله: (ما لم يستحله) وفي قوله: (ما لم يستحله) إشارة إلى أن مراده من هذا النفي العام لكل ذنب من الذنوب العملية لا العلمية، وفيه إشكال، فإن الشارع لم يكتفِ من المكلف في العمليات بمجرد العمل دون العلم، ولا في العلميات بمجرد العلم دون العمل، وليس العمل مقصوراً على عمل الجوارح، بل أعمال القلوب أصل لعمل الجوارح، وأعمال الجوارح تبع.. إلا أن يُضمّن قوله: (يستحله) بمعنى: يعتقده أو نحو ذلك.
وقوله: (ولا نقول: لا يضر مع الإيمان ذنب لمن عمله.. إلى آخر كلامه) رد على المرجئة ، فإنهم يقولون: لا يضر مع الإيمان ذنب، كما لا ينفع مع الكفر طاعة، فهؤلاء في طرف، والخوارج في طرف، فإنهم يقولون: نكفر المسلم بكل ذنب، أو بكل ذنب كبير، وكذلك المعتزلة الذين يقولون: يحبط إيمانه كله بالكبيرة، فلا يبقى معه شيء من الإيمان.(1/74)
لكن الخوارج يقولون: يخرج من الإيمان، ويدخل في الكفر، والمعتزلة يقولون: يخرج من الإيمان، ولا يدخل في الكفر، وهذه المنزلة بين المنزلتين!! وبقولهم بخروجه من الإيمان أوجبوا له الخلود في النار! ] .
قوله: (ولهذا) الإشارة إلى وجود مرتدين ممن ينتسبون إلى الإسلام؛ أي لكونه في أهل القبلة من هو منافق ومرتد [امتنع كثير من الأئمة عن إطلاق القول بأنا لا نكفر أحداً بذنب؛ بل يقال: لا نكفرهم بكل ذنب] فهذا مما يستدرك على الإمام الطحاوي وهو يقول: [ولا نكفر أحداً من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله] فالمستدرك عليه هو هذه العبارة، لكن الاستدراك أيضاً محل نظر، وسنأخذ الآن وجهة نظر من يستدرك ومن لا يستدرك.
هناك فرق بين: (لا نكفر أحداً بذنب) و(لا نكفر أحداً بكل ذنب)؛ (لا نكفر أحداً من أهل القبلة بذنب) معناه لا أحد يكفر بذنب؛ هكذا فهم بعض العلماء، وكيف لا نكفر أحداً بذنب، وهناك ذنوب تكفر؟! لكن إذا قلنا: ولا نكفر أحداً من أهل القبلة بكل ذنب؛ فمعناه أنه يوجد ذنوب مكفرة، ويوجد ذنوب غير مكفرة.
[وفرق بين النفي العام ونفي العموم]، العبارة التي تكون على النفي العام هي: (ولا نكفر أحداً من أهل القبلة بذنب) فهذا نفي عام، ونفي العموم هو: (ولا نكفر أحداً من أهل القبلة بكل ذنب) فهنا نفينا العموم.
يقول المصنف رحمه الله: "والواجب إنما هو نفي العموم مناقضة لقول الخوارج الذين يكفرون بكل ذنب" فقوله رحمه الله: (مناقضة) مفعول لأجله أي: نقول ذلك مناقضة لقول الخوارج الذين يكفرون بكل بذنب.
فعندنا ثلاث عبارات: (من لا يكفر بذنب) (من يكفر بكل ذنب) و(من لا يكفر بكل بذنب)؛ فالمرجئة لا يكفرون بذنب، والخوارج يكفرون بكل ذنب.(1/75)
أما أهل السنة فإنهم لا يكفرون بكل ذنب. قال: "ولهذا -والله أعلم- قيده الشيخ رحمه الله" أي: مراعاة لكونه ليس كل ذنب لا يكفر فاعله، بل مِن الذنوب مَن يكفر مقترفها ومنها من لا يكفر مقترفها "قيده الشيخ رحمه الله بقوله: (ما لم يستحله)" كأن الإمام أبا جعفر الطحاوي رحمه الله تنبه لهذا، فقال: أنا لا أقصد أنني لا أكفر أحداً بذنب -كما تقول المرجئة - فإني أقول: (ما لم يستحله).
إذاً: عند الطحاوي من أهل الذنوب من يكفرون بالاستحلال.
يقول المصنف: "وفي قوله: (ما لم يستحله) إشارة إلى أن مراده من هذا: النفي العام لكل ذنب من الذنوب العملية لا العلمية" إذاً: فالاستدراك على الإمام الطحاوي خطأ؛ لأن الإمام الطحاوي تنبه لخطر العموم في النفي فقال: (ما لم يستحله) والاستحلال يكون في الأمور العملية من الزنا وشرب الخمر والسرقة.
وكأن الإمام الطحاوي رحمه الله يكتب هذه العبارة وأمام عينيه الرد على الخوارج ، فهو يقصد بما يكتبه الرد عليهم، ويقول: "لا نكفر أحداً بذنب ما لم يستحله"، أي: أنا أتكلم في الكبائر العملية من زنا وسرقة وشرب خمر، ولا أقول: إن فاعل هذه الأمور خارج عن الإسلام، لكنه من أهل الوعيد، ولا أخرجه من الملة إلا إذا استحل الذنب، فإذا استحل الكبيرة فهو مرتد.
ثم استدرك المصنف على نفسه فقال: "وفيه إشكال؛ فإن الشارع لم يكتف من المكلف في العمليات بمجرد العمل دون العلم، ولا في العلميات بمجرد العلم دون العمل، وليس العمل مقصوراً على عمل الجوارح، بل أعمال القلوب أصل لعمل الجوارح، وأعمال الجوارح تبع" ذكرنا تعريف الإيمان وأنه (قول وعمل) فيقول هنا: إن العلاقة بين العمل والعلم لا تنفك؛ بل هي متلازمة؛ فحين يصلي المصلي فصلاته من الأمور العملية، لكن المصنف رحمه الله: هذه ليست عملية فقط؛ لأنه لم يصلِّ إلا بنية الصلاة وبالإخلاص وبالإيمان بها وبالخشوع؛ وهذه أعمال قلبية.(1/76)
وحين حرم الله تعالى علينا الزنا أو الخمر أو السرقة، حرمها لكي نعتقد تحريمها، وليس لمجرد ألا نفعلها، فهي -أي العلاقة بين العلم والعمل- مرتبطة لا تنفك، فأعمال القلوب وأعمال الجوارح مرتبطة، والأصل هو أعمال القلوب، والشارع لم يكتفِ منا في العمليات بمجرد العمل؛ بل لابد أيضاً من العلم -أي الاعتقاد- فهناك ترابط قائم ولا شك في وجوده.
وقد ضربنا مثالاً لذلك، كما ذكره الله تعالى بقوله: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً [إبراهيم:24] الآية، فالتلازم بين الظاهر والباطن قائم وحق.
يقول المصنف: "إلا أن يُضَمَّنَ قوله: (يستحله) بمعنى يعتقده، أو نحو ذلك" فتكون العبارة صحيحة؛ لأن الاعتقاد يتضمن فعل القلب.
فالمصنف يقول: [ولا نكفر أحداً من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله]، أي: ما لم يعتقده حلالاً، فإن كان عملياً فالمقصود لم يعتقد حله، وإن كان علمياً فالمقصود أنه لم يعتقد صحته وصدقه.
مسألة الإيمان بين أهل السنة وبين المرجئة والخوارج
من درس: التكفير وضوابطه (الحلقة الثالثة)
يقول المصنف: [وقوله: (ولا نقول: لا يضر مع الإيمان ذنب لمن عمله) إلى آخر كلامه: رد على المرجئة ، فإنهم يقولون: لا يضر مع الإيمان ذنب، كما لا ينفع مع الكفر طاعة فهؤلاء في طرف، والخوارج في طرف] أي: نحن أهل السنة والجماعة لا نقول: لا يضر مع الإيمان ذنب لمن عمله كما لا ينفع مع الكفر طاعة.
وهذه العبارة تنسب في الأصل إلى المرجئة ، ولهذا تجد من يتحدث عن المرجئة يذكر هذه العبارة، ومنهم -على سبيل المثال-: الأشعري في المقالات ، والبغدادي في الفرق بين الفرق ، وإن لم ينسبوه إلى قائل معين، لكنه أمر موجود في النفوس، فإنه يوجد من يقول في نفسه: نحن -والحمد لله- ما دمنا مسلمين فلا يضرنا شيء، وما علينا شيء، والله غفور رحيم؛ لكنه لا يعتقد هذه المقالة عقيدة يدافع عنها ويلتزم بها، فهناك فرق بين الأمرين.(1/77)
فكتاب المقالات والفرق من المرجئة قد أرادوا أن تبرأ ساحتهم من تهمة الإرجاء، فقرروا أن المرجئة هم الذين يقولون: لا يضر مع الإيمان ذنب، ولا ينفع مع الكفر طاعة.
ولكن ليس هذا ضابط المرجئة ؛ بل إن المرجئ هو: (كل من أخرج العمل عن الإيمان)، ثم هم درجات متفاوتة.
وهذا الخلاف في تعريف المرجئ هو خلاف منهجي بين أهل السنة والجماعة من جهة، وبين المرجئة -ولاسيما الأشعرية وغيرهم ممن كتب في المقالات- من جهة أخرى، فالمرجئ عندهم من يقول: لا يضر مع الإيمان معصية؛ كما لا ينفع مع الكفر طاعة؛ والمرجئ عند أهل السنة هو من يقول: العمل ليس داخلاً في الإيمان.
قال: [فهؤلاء في طرف، والخوارج في طرف؛ فإنهم يقولون: نكفر المسلم بكل ذنب، أو بكل ذنب كبير، وكذلك المعتزلة الذين يقولون: يحبط إيمانه كله بالكبيرة؛ فلا يبقى معه شيء من الإيمان لكن الخوارج يقولون: يخرج من الإيمان ويدخل في الكفر، والمعتزلة يقولون: يخرج من الإيمان ولا يدخله في الكفر، وهذه المنزلة بين المنزلتين].
بعض الخوارج استدرك على إخوانه قولهم: بكل ذنب، وقال: بكل ذنب كبير؛ أي: يكفر صاحب الكبائر، وأما صاحب الصغائر فإنه لا يكفر.
والمعتزلة والخوارج يتفقون في الحكم، ويختلفون في الاسم؛ فمرتكب الكبيرة مآله الخلود في النار عند الطائفتين، ولكن الطائفتين تختلفان في الاسم، فيسميه الخوارج كافراً؛ أما المعتزلة فقالوا: ليس بمؤمن ولا كافر؛ بل هو في منزلة بين منزلتي الإيمان والكفر.
قال رحمه الله: [وبقولهم بخروجه من الإيمان أوجبوا له الخلود في النار!!] فوافقوا الخوارج .
التفريق بين خطأ المتأول وخطأ المعاند
من درس: التكفير وضوابطه (الحلقة الثالثة)(1/78)
قال: [وطوائف من أهل الكلام والفقه والحديث لا يقولون ذلك في الأعمال، لكن في الاعتقادات البدعية، وإن كان صاحبها متأولاً، فيقولون: يكفر كل من قال هذا القول] أي: أن طوائف من أهل الكلام والفقه والحديث لا يقولون بالخروج من الإيمان بسبب الأعمال؛ كما يقوله هؤلاء الخوارج ، لكن يقولون ذلك عن الأمور الاعتقادية، ويقصدون بذلك الأعيان، فيقولون مثلاً: كل من قال بنفي القدر فهو كافر بعينه.
أما أهل السنة والجماعة فيقولون: نحن ننظر إلى المعين هل هو مجتهد مخطئ متأول أراد الحق أم لا؛ فلابد أن نتوقف.
يقول المصنف: [فيقولون: يكفر كل من قال هذا القول، لا يفرقون بين المجتهد المخطئ وغيره].
إن الإنسان قد يرتكب ذنباً من الذنوب العملية وهو لا يقصده، مثلاً: إذا جاء إنسان وقال لأخيه المسلم: يا كافر! -والعياذ بالله- أو يا مشرك! هذه كبيرة من الكبائر العظيمة -نسأل الله العفو والعافية- فإذا كان بعض الصحابة رضي الله تعالى عنهم قد قال لأخيه: (أنت منافق تجادل عن المنافقين) فهل نقول: حكمه أنه مرتكب لكبيرة كما تقدم أم أنه مجتهد مخطئ؟! وقد قال ذلك أسيد بن حضير لسعد بن عبادة رضي الله عنهما، وقال عمر عن حاطب أنه منافق، وكان كل منهما متأولاً أراد الحق، وأراد نصرة الدين، وعمل بظاهر الأمر، وما قصد الطعن والتهمة.
أما ذاك الذي يؤذي المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا، فقد أراد الطعن والتهمة، وافترى من عنده، وفرق بين هذا وهذا.
فالمقصود أنه لا يجوز أن نقول: هذا فاسق، وهذا فاجر؛ لأنه قد يكون عنده شبهة، فما دامت الشبهة ترد في العمليات وهي ظاهرة، فكيف لا ترد في العلميات التي هي مظنة الشبهة؟!(1/79)
فمسألة نصوص الوعد ونصوص الوعيد والتعارض بينهما هي من مواضع الشبهات؛ لأنه ليس كل أحد يفقه الأدلة؛ فلو كان كل من قرأ الآيات أو الأحاديث وكلام العلماء يفقهه على وجهه الصحيح لما وجد الخلاف، وهذا بعيد؛ بل يوجد من يقرأ الآية، فيفهمها على غير وجهها، أو يقرؤها فيضادها، ويعاند ما دلت عليه، وهذا وارد حتى في العمليات؛ فالتيمم -مثلاً- كيفيته معروفة، وكل واحد من الصحابة فهم هذه الكيفية؛ فعمار رضي الله عنه قال: فتمرغت كما تتمرغ الدابة، وكأنه ظن أن التراب ما دام ينوب عن الغسل، والغسل يكون للجسم كله، فعليه أن يتمرغ بكامل جسمه في التراب؛ فهذا اجتهاده.
يقول المصنف: [وهؤلاء يدخل عليهم في هذا الإثبات العام أمور عظيمة]، المقصود بالإثبات العام هو أن يكفر كل مبتدع أو يكفر كل من قال بكذا.
فأراد المصنف رحمه الله أن يرد عليهم، وذكر الدليل الأول، فقال: [فإن النصوص المتواترة قد دلت على أنه يخرج من النار من في قلبه مثقال ذرة من إيمان] أي: لازم قولهم أن من فعل هذا، فقد كفر وأنه لن يدخل الجنة، وأنه ليس في قلبه مثقال ذرة من إيمان؛ فهل يستطيع أحد أن يثبت ذلك في حق كل مبتدع، وفي حق كل قائل دون تفريق بين من يقول بالبدعة متأولاً مجتهداً مخطئاً وبين من يقول بها رداً وجحوداً وعناداً؟!
فما دام ذلك غير ممكن، فإنه يجب علينا أن نفرق بين هذا القائل وبين ذاك، وإن كان القول واحداً، وإلا لزم من ذلك أن نحكم على كل من وقع في أي بدعة بأنه ليس في قلبه مثقال ذرة من إيمان، فيرد على هذا القول أن أناساً يفعلون هذه الأفعال، ونحن لا نستطيع أن ننفي الإيمان من قلوبهم، ولا سيما من كان صادقاً ومخلصاً، وأراد الحق ولم يوفق إليه.(1/80)
ويحب أن نفرق بين من أخطأ من أهل السنة في بعض أمور العقيدة، وبين من ابتدع من المبتدعة في هذه الأمور، فلابد من التفريق بين النوعين، وهذه مسألة عظيمة ومهمة؛ إذ ليس كل أحد من أهل السنة معصوماً، بل يمكن أن يخطئ بعض أهل السنة حتى في أمور الاعتقاد، لكنه يظل من أهل السنة ما دام قد اجتهد فأخطأ.
وأما أهل البدعة الذين هم أهلها، فهم الذين فعلوها عن جحود للحق وإنكار وشبهة، ولم يستجيبوا لمن كشفها، واعتمدوا على أصل من الأصول غير الكتاب والسنة.
فقد يتفق السني والبدعي في الواقع والحال، لكنهما يختلفان في الحكم، ولهذا كانت عبارات السلف رحمهم الله دقيقة، فأحياناً يقولون: هذا قول المعتزلة ووافقهم عليه فلان من الرافضة مثلاً، وموافقته لهم لا تعني أنه منهم، لكنها تعني أنه وافقهم عليه وأقرهم، وقال بمثل قولهم، فبذلك نفرق بين المخطئ من أهل السنة وبين المبتدع، وإن كانت البدعة قد تكون أحياناً واحدة.
وهناك أمثلة تطبيقية على هذا، وعندنا في باب الإيمان مثال واضح لذلك، فإننا سنجد أن بعض أئمة السلف وقعوا في الإرجاء.
ومع أننا سنذكر الوعيد والإنكار الشديد من أهل السنة على المرجئة ، فلابد أن نفرق بين من وقع فيه عن خطأ وبين من وقع فيه عن تعمد وابتداع.
التكفير في الاعتقادات والعمليات عند أهل البدع
من درس: التكفير وضوابطه (الحلقة الرابعة)
قال المصنف رحمه الله تعالى:
[وطوائف من أهل الكلام والفقه والحديث لا يقولون ذلك في الأعمال، لكن في الاعتقادات البدعية، وإن كان صاحبها متأولاً، فيقولون: يكفر كل من قال هذا القول، لا يفرقون بين المجتهد المخطئ وغيره، أو يقولون: بكفر كل مبتدع، وهؤلاء يدخل عليهم في هذا الإثبات العام أمور عظيمة، فإن النصوص المتواترة قد دلت على أنه يخرج من النار من في قلبه مثقال ذرة من إيمان، ونصوص الوعد التي يحتج بها هؤلاء تعارض نصوص الوعيد التي يحتج بها أولئك.(1/81)
والكلام في الوعيد مبسوط في موضعه، وسيأتي بعضه عند الكلام على قول الشيخ: "وأهل الكبائر في النار لا يخلدون إذا ماتوا وهم موحدون.
والمقصود هنا: أن البدع هي من هذا الجنس، فإن الرجل يكون مؤمناً باطناً وظاهراً، لكن تأوَّل تأويلاً أخطأ فيه، إما مجتهداً وإما مفرطاً مذنباً، فلا يقال: إن إيمانه حبط بمجرد ذلك، إلا أن يدل على ذلك دليل شرعي، بل هذا من جنس قول الخوارج والمعتزلة ، ولا نقول: لا يكفر؛ بل العدل هو الوسط وهو: أن الأقوال الباطلة المبتدعة المحرمة المتضمنة نفي ما أثبته الرسول أو إثبات ما نفاه، أو الأمر بما نهى عنه أو النهي عما أمر به؛ يقال فيها الحق، ويثبت لها الوعيد الذي دلت عليه النصوص، ويبين أنها كفر، ويقال: من قالها فهو كافر ونحو ذلك، كما يُذكر من الوعيد في الظلم في النفس والأموال، وكما قد قال كثير من أهل السنة المشاهير بتكفير من قال بخلق القرآن، وأن الله لا يرى في الآخرة، ولا يعلم الأشياء قبل وقوعها.
وعن أبي يوسف رحمه الله أنه قال: "ناظرت أبا حنيفة رحمه الله مدة، حتى اتفق رأيي ورأيه أن من قال بخلق القرآن فهو كافر"] اهـ.
الشرح:
يقول رحمه الله: [وطوائف من أهل الكلام والفقه والحديث لا يقولون ذلك في الأعمال] أي: هناك من فرق بين العمليات والعلميات، فلا يكفرون في العمليات كشرب الخمر أو الزنا أو السرقة مثلاً، فيوافقون في هذا مذهب أهل السنة ، لكنهم إذا جاءوا إلى باب العلميات أو الاعتقاديات تجرءوا في التكفير؛ لأن الأمر يتعلق بالعقيدة، وهم يظنون أن من اعتقد عقيدة مخالفة للحق إما في ذاته أو في نظرهم فإنه يكفر.
وهذه الطوائف لا يشترط أن تكون من الخوارج أو المعتزلة ، وإنما هي طوائف توافق كلام الخوارج أو المعتزلة ، إلا أن الذي يقوله هؤلاء في العمليات هم يقولونه في الاعتقاديات أو العلميات.(1/82)
يقول المصنف: [لكن في الاعتقادات البدعية وإن كان صاحبها متأولاً] أي: لا يفرقون بين قائل وقائل، وهذا يدخلنا في مسألة المعين، وقد أطال المصنف رحمه الله في مسألة التفريق بين إطلاق الوعيد على عمومه وبين وصف المعين به، فكل وعيد عام جاء في الآيات أو الأحاديث فإنه يقال ويقرر كما جاء في النصوص، لكن تنزيله على معين يحتاج إلى تثبت واستيفاء شروط وانتفاء موانع.
تكفير المتأول والمخطئ عند أهل البدع
قال المصنف: "وإن كان صاحبها متأولاً، فيقولون: يكفر كل من قال هذا القول لا يفرقون بين المجتهد المخطئ وغيره"، أو يقولون بكفر كل مبتدع، فمثلاً يقولون: من نفى صفة من صفات الله فقد كفر، فهذه العبارة من حيث الجملة صحيحة، وذلك لو قيلت على أساس أن النفي إذا أطلق فإنه يطلق على من ينفي نفي إنكار وجحود لما في القرآن مثلاً.
لكن هذه العبارة أحياناً تطلق على من نفى متأولاً، فتكون في هذه الحالة خاطئة؛ لأن من الناس من يخطئ فينفي بعض الصفات وإن كانت في القرآن، أو ينفي بعض ما ورد في القرآن ويكون متأولاً لا جاحداً ولا منكراً، فبعض العلماء قال في مثل قول الله تعالى في آية الكرسي: وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ [البقرة:255] الكرسي هو العلم!! وهذا تأويل، فهل يكفر قائله وإن كان متأولاً؟! ونعني بالمتأول الذي لا يكفر: هو من كان له تأويل سائغ، أو كان القول ناشئاً عن اجتهاد له وجه من النظر.
والتأويل له ثلاث حالات: منه ما يكون كفراً، ومنه ما يكون بدعة ضلالة، ومنه ما يكون خطأ.(1/83)
فالتأويل الكفري مثل تأويلات الباطنية عموماً، وكقول الرافضة : يجب أن تقتل عائشة ؛ لأن الله تعالى يقول: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً [البقرة:67] فهذا التأويل غير سائغ وليس له أي وجه من النظر؛ لأن هذه الآية نزلت في موسى عليه السلام وبني إسرائيل، وقد ذكر الله تعالى أنهم ذبحوها، فقال: فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ [البقرة:71] فهذا التأويل مردود من أصله.
والتأويل البدعي مثل تأويل قوله تعالى: وَسِعَ كُرْسِيُّهُ [البقرة:255] بأنه علمه، فهذا التأويل له شبهة وله وجه، وهو أن هذا ورد ونقل، وقد يكون النقل غير صحيح؛ ولكن بعض الناس قد يعتمد على دليل ضعيف وهو يرى أنه صحيح، أو أنه نقل عن السلف ، فمثل هذا لا نكفره؛ لأن له وجهاً، فالحل الصحيح في مثل هذا أن نكشف الشبهة، ونبين له عدم صحة الدليل إن كان غير صحيح، أو قد يكون الدليل صحيحاً؛ لكنه لا يدل دلالة صريحة على ما ذهب إليه، لكن وقعت شبهة في فهمه رأى أنها هي الدليل، فهذا نكشف له الشبهة ولا نكفره؛ لوجود أدلة وقرائن لديه وشبهات، وهذه الشبهات لا تصلح أن تكون قطعيات، وليست دلائل صريحة بلا شك، ولكن أيضاً لا نتناساها ونلغيها بالكلية؛ إذ هي موجودة عنده، فمثل هذا لا يبادر بتكفيره، وإنما يبين له الحق وتقام عليه الحجة، وذلك كمن ينكر الرؤية متأولاً، فإن أئمة من أهل السنة كفروا من أنكر الرؤية؛ لكن المتأول تقام عليه الحجة وتكشف له الشبهة ولا يبادر إلى تكفيره، ومثله من جهل بأحاديث عذاب القبر ونعيمه ولم تقم الحجة عنده بالآيات، فهذا أيضاً متأول تكشف له الشبهة.
والناس في ذلك مراتب ودرجات؛ فمن الناس من هو عالم جليل له بحار من الحسنات وأخطأ في قول، فالله يغفر له.
ومنهم من هو مبتدع ضال زائغ، ولكن لا يصل بنا الأمر إلى تكفيره، وبينهما درجات متفاوتة تتدرج في الحكم.(1/84)
فمن كفَّر كل من قال هذا القول ولم يفرق بين المجتهد المخطئ وبين المعاند المكابر فقد أخطأ، وكذلك من قال بكفر كل مبتدع فإنه مخطئ أيضاً.
الرد على أهل البدع في تكفيرهم المتأول والمخطئ
قال المصنف رحمه الله: [وهؤلاء يدخل عليهم في هذا الإثبات العام أمور عظيمة، فإن النصوص المتواترة قد دلت على أنه يخرج من النار من في قلبه مثقال ذرة من إيمان] وهذا لا شك في صحته، فقد وردت فيه نصوص متواترة، منها: حديث أنس في الصحيحين وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان } وهؤلاء هم الجهنميون، ولا يمكن أن تدخل الجنة إلا نفس مؤمنة قطعاً.
إذاً: هذا عنده إيمان ولو ذرة، وليس بكافر، وهنا الدلالة، فلو كفرتم كل من قال بدعة ولو مغلظة لكانت هذه الأحاديث ضدكم في هذا؛ لأنكم تجعلونه خارجاً من الملة، ومعنى ذلك: أنه خالد مخلد في النار.
قال المصنف: [ونصوص الوعد التي يحتج بها هؤلاء تعارض نصوص الوعيد التي يحتج بها أولئك] فهما طائفتان متقابلتان في العمليات والعلميات؛ فطائفة أطلقت نصوص الوعيد فقط، وطائفة نظرت إلى نصوص الوعد فقط، وكلتاهما على خطأ؛ كما قال: "وإذا اجتمعت نصوص الوعد التي استدلت بها المرجئة ونصوص الوعيد التي استدلت بها الخوارج والمعتزلة ؛ تبين لك فساد القولين"، أي أنك إذا نظرت إلى كلام المرجئة تجد عندهم أدلة على أنه من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان فإنه يخرج من النار، وهذا حق، وأن الصدقة تطفئ الخطيئة، وأن من مات في سبيل الله غفر له عند أول قطرة من دمه، وأن الصلاة إلى الصلاة، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، والعمرة إلى العمرة مكفرة لما بينها، حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم مثلَّ الصلوات الخمس بنهر جار غمر يغتسل منه الإنسان كل يوم خمس مرات، فهل يبقى فيه درن؟! وأن الإنسان إذا قال سبحان الله وبحمده مائة مرة غفرت ذنوبه وإن كانت مثل زبد البحر.(1/85)
فينظرون إلى هذا الجانب، فيقولون: كيف تقولون بعد ورود هذه الفضائل: إن من اعتقد كذا فهو في النار! صحيح أن عنده بدعة، لكن عنده هذه الأعمال كلها، فينسون البدعة نهائياً وينظرون إلى هذه الأعمال التي ورد فضلها.
ولكن الوعيدية الذين يأخذون نصوص وألفاظ الوعيد، يقولون مثلاً: هذا يأكل أموال اليتامى وقد قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا [النساء:10] فهذا في النار وسيصلى سعيراً، وينظرون إلى حديث: {لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن } يقولون: هذا زنى، وهكذا حديث: {ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن } وهذا شرب الخمر، وقول النبي صلى الله عليه وسلم في الكاسيات العاريات المائلات المميلات: {لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها }، إذاً: هذه لن تجد عرف الجنة الذي هو ريحها.
ولو نظرنا إلى كتاب الترغيب والترهيب للحافظ المنذري رحمه الله في جانب الترغيب فقط لقلنا: لن يدخل النار أحد، ولو نظرنا جانب الترهيب فقط لقلنا: لن يسلم منها أحد، ولكن الواجب هو أن تجمع هذه وهذه، فهذا هو المنهج الوسط والعدل والحق، إذ الإنسان الذي يأكل الربا ويأكل أموال اليتامى ولكن عنده حج وجهاد وصدقة وذكر وإنفاق وقراءة قرآن، ليس مثل الذي حياته كلها ربا وأكل مال يتيم أو زنا وليس عنده هذه الأمور.
تكفير المتأول والمخطئ عند أهل البدع
من درس: التكفير في الاعتقادات والعمليات عند أهل البدع
قال المصنف: "وإن كان صاحبها متأولاً، فيقولون: يكفر كل من قال هذا القول لا يفرقون بين المجتهد المخطئ وغيره"، أو يقولون بكفر كل مبتدع، فمثلاً يقولون: من نفى صفة من صفات الله فقد كفر، فهذه العبارة من حيث الجملة صحيحة، وذلك لو قيلت على أساس أن النفي إذا أطلق فإنه يطلق على من ينفي نفي إنكار وجحود لما في القرآن مثلاً.(1/86)
لكن هذه العبارة أحياناً تطلق على من نفى متأولاً، فتكون في هذه الحالة خاطئة؛ لأن من الناس من يخطئ فينفي بعض الصفات وإن كانت في القرآن، أو ينفي بعض ما ورد في القرآن ويكون متأولاً لا جاحداً ولا منكراً، فبعض العلماء قال في مثل قول الله تعالى في آية الكرسي: وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ [البقرة:255] الكرسي هو العلم!! وهذا تأويل، فهل يكفر قائله وإن كان متأولاً؟! ونعني بالمتأول الذي لا يكفر: هو من كان له تأويل سائغ، أو كان القول ناشئاً عن اجتهاد له وجه من النظر.
والتأويل له ثلاث حالات: منه ما يكون كفراً، ومنه ما يكون بدعة ضلالة، ومنه ما يكون خطأ.
فالتأويل الكفري مثل تأويلات الباطنية عموماً، وكقول الرافضة : يجب أن تقتل عائشة ؛ لأن الله تعالى يقول: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً [البقرة:67] فهذا التأويل غير سائغ وليس له أي وجه من النظر؛ لأن هذه الآية نزلت في موسى عليه السلام وبني إسرائيل، وقد ذكر الله تعالى أنهم ذبحوها، فقال: فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ [البقرة:71] فهذا التأويل مردود من أصله.(1/87)
والتأويل البدعي مثل تأويل قوله تعالى: وَسِعَ كُرْسِيُّهُ [البقرة:255] بأنه علمه، فهذا التأويل له شبهة وله وجه، وهو أن هذا ورد ونقل، وقد يكون النقل غير صحيح؛ ولكن بعض الناس قد يعتمد على دليل ضعيف وهو يرى أنه صحيح، أو أنه نقل عن السلف ، فمثل هذا لا نكفره؛ لأن له وجهاً، فالحل الصحيح في مثل هذا أن نكشف الشبهة، ونبين له عدم صحة الدليل إن كان غير صحيح، أو قد يكون الدليل صحيحاً؛ لكنه لا يدل دلالة صريحة على ما ذهب إليه، لكن وقعت شبهة في فهمه رأى أنها هي الدليل، فهذا نكشف له الشبهة ولا نكفره؛ لوجود أدلة وقرائن لديه وشبهات، وهذه الشبهات لا تصلح أن تكون قطعيات، وليست دلائل صريحة بلا شك، ولكن أيضاً لا نتناساها ونلغيها بالكلية؛ إذ هي موجودة عنده، فمثل هذا لا يبادر بتكفيره، وإنما يبين له الحق وتقام عليه الحجة، وذلك كمن ينكر الرؤية متأولاً، فإن أئمة من أهل السنة كفروا من أنكر الرؤية؛ لكن المتأول تقام عليه الحجة وتكشف له الشبهة ولا يبادر إلى تكفيره، ومثله من جهل بأحاديث عذاب القبر ونعيمه ولم تقم الحجة عنده بالآيات، فهذا أيضاً متأول تكشف له الشبهة.
والناس في ذلك مراتب ودرجات؛ فمن الناس من هو عالم جليل له بحار من الحسنات وأخطأ في قول، فالله يغفر له.
ومنهم من هو مبتدع ضال زائغ، ولكن لا يصل بنا الأمر إلى تكفيره، وبينهما درجات متفاوتة تتدرج في الحكم.
فمن كفَّر كل من قال هذا القول ولم يفرق بين المجتهد المخطئ وبين المعاند المكابر فقد أخطأ، وكذلك من قال بكفر كل مبتدع فإنه مخطئ أيضاً.
الرد على أهل البدع في تكفيرهم المتأول والمخطئ
من درس: التكفير في الاعتقادات والعمليات عند أهل البدع(1/88)
قال المصنف رحمه الله: [وهؤلاء يدخل عليهم في هذا الإثبات العام أمور عظيمة، فإن النصوص المتواترة قد دلت على أنه يخرج من النار من في قلبه مثقال ذرة من إيمان] وهذا لا شك في صحته، فقد وردت فيه نصوص متواترة، منها: حديث أنس في الصحيحين وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان } وهؤلاء هم الجهنميون، ولا يمكن أن تدخل الجنة إلا نفس مؤمنة قطعاً.
إذاً: هذا عنده إيمان ولو ذرة، وليس بكافر، وهنا الدلالة، فلو كفرتم كل من قال بدعة ولو مغلظة لكانت هذه الأحاديث ضدكم في هذا؛ لأنكم تجعلونه خارجاً من الملة، ومعنى ذلك: أنه خالد مخلد في النار.
قال المصنف: [ونصوص الوعد التي يحتج بها هؤلاء تعارض نصوص الوعيد التي يحتج بها أولئك] فهما طائفتان متقابلتان في العمليات والعلميات؛ فطائفة أطلقت نصوص الوعيد فقط، وطائفة نظرت إلى نصوص الوعد فقط، وكلتاهما على خطأ؛ كما قال: "وإذا اجتمعت نصوص الوعد التي استدلت بها المرجئة ونصوص الوعيد التي استدلت بها الخوارج والمعتزلة ؛ تبين لك فساد القولين"، أي أنك إذا نظرت إلى كلام المرجئة تجد عندهم أدلة على أنه من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان فإنه يخرج من النار، وهذا حق، وأن الصدقة تطفئ الخطيئة، وأن من مات في سبيل الله غفر له عند أول قطرة من دمه، وأن الصلاة إلى الصلاة، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، والعمرة إلى العمرة مكفرة لما بينها، حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم مثلَّ الصلوات الخمس بنهر جار غمر يغتسل منه الإنسان كل يوم خمس مرات، فهل يبقى فيه درن؟! وأن الإنسان إذا قال سبحان الله وبحمده مائة مرة غفرت ذنوبه وإن كانت مثل زبد البحر.(1/89)
فينظرون إلى هذا الجانب، فيقولون: كيف تقولون بعد ورود هذه الفضائل: إن من اعتقد كذا فهو في النار! صحيح أن عنده بدعة، لكن عنده هذه الأعمال كلها، فينسون البدعة نهائياً وينظرون إلى هذه الأعمال التي ورد فضلها.
ولكن الوعيدية الذين يأخذون نصوص وألفاظ الوعيد، يقولون مثلاً: هذا يأكل أموال اليتامى وقد قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا [النساء:10] فهذا في النار وسيصلى سعيراً، وينظرون إلى حديث: {لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن } يقولون: هذا زنى، وهكذا حديث: {ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن } وهذا شرب الخمر، وقول النبي صلى الله عليه وسلم في الكاسيات العاريات المائلات المميلات: {لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها }، إذاً: هذه لن تجد عرف الجنة الذي هو ريحها.
ولو نظرنا إلى كتاب الترغيب والترهيب للحافظ المنذري رحمه الله في جانب الترغيب فقط لقلنا: لن يدخل النار أحد، ولو نظرنا جانب الترهيب فقط لقلنا: لن يسلم منها أحد، ولكن الواجب هو أن تجمع هذه وهذه، فهذا هو المنهج الوسط والعدل والحق، إذ الإنسان الذي يأكل الربا ويأكل أموال اليتامى ولكن عنده حج وجهاد وصدقة وذكر وإنفاق وقراءة قرآن، ليس مثل الذي حياته كلها ربا وأكل مال يتيم أو زنا وليس عنده هذه الأمور.
منهج أهل السنة في الحكم على أهل البدع والكبائر
من درس: التكفير وضوابطه (الحلقة الرابعة)(1/90)
إن المنهج الرباني هو أن يحكم على الإنسان بمجموع أعماله، فبالنسبة للآخرة يجب أن لا نختلف، فالموازين تنصب يوم القيامة عند الله تعالى: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ [الأنبياء:47] ومذهب أهل السنة والجماعة أنه ميزان حقيقي وله كفتان، ففي كفة توضع الحسنات وفي الأخرى توضع السيئات، فتوزن الأعمال كما في حديث صاحب البطاقة وغيره، وهذا في الآخرة.
وأما في الدنيا فإنه يجب علينا أيضاً أن نأخذ نفس الميزان، فلهذا أمرنا الله سبحانه وتعالى عندما وضع الميزان أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ * وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ [الرحمن:8-9].
وليس معنى الميزان بالقسط هو في البيع والشراء فقط! بل هو ميزان عام في الحياة كلها كما قال تعالى: وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا [الأنعام:152] وقال: وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ [الإسراء:35] أي في جميع أمور حياتكم، وقال: أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ * وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ [الرحمن:8-9]، فيجب عليك أيها المسلم أن تقيم الوزن في كل شيء حتى في عباراتك، ولا يصح أن يكون الحال أنك إذا كنت راضياً عن فلان قلت فيه أحسن ما تعلم ومدحته، وإذا غضبت عليه قلت فيه أسوأ ما تعلم! بل لابد أن يكون كل ذلك بميزان، فكما أن الميزان يوم القيامة عدل؛ فكذلك يجب علينا في الدنيا أن نزن بالعدل، فإذا ارتكب شخص جريمة فلا ننسى فضله إن كان له فضل، والعكس صحيح: فعندما نتكلم عن الفضائل، فليس معنى ذلك أننا ننكر ما يكون قد وقع فيه مما لا يليق، وقد بين ضوابط ذلك علماء الجرح والتعديل.(1/91)
فنجد عندهم الموازين العادلة، فهم يعطون الإنسان ما له وما عليه دون حيف أو جور، ولذا ائتمنهم الله على هذا العلم الشريف الذي اختصت به هذه الأمة، وهو علم الإسناد والجرح والتعديل، فيزنون الناس بالميزان الصحيح. فإذا تعرضوا -مثلاً- لأحد من الخوارج ، فلا يقولون: إنه خارجي وانتهى، أو شيعي وانتهى؛ بل إذا كان له فضل في علم أو جهاد، أو حتى في الشعر والتأليف فإنهم يقولون: وله كتاب في البلدان أبدع فيه، أو له شعر جيد، وله كذا وكذا.. لكن عقيدته كذا، حتى إنهم عندما تكلموا عن شعر أبي العلاء لم يقولوا: إنه ملحد ضال وشعره من أسفه الشعر! وكذا أبو نواس الشاعر الماجن، بل إن الإمام الذهبي والخطيب البغدادي أثنيا على شعره، فشعره جيد لكن موضوعاته باطلة وفيها خطأ، فلابد من الميزان العدل.
ثم من مزايا العدل أنك إذا كنت عادلاً منصفاً؛ فإن الخصم تؤنبه نفسه ويستسلم ويضطر أن يرجع إلى الحق، لكنه إذا رآك تظلمه ولا تذكر إلا معايبه وتنسى فضائله ولا تنصفه، فإن ذلك يدفعه إلى عدم قبول الحق وإلى المكابرة والمجادلة والمدافعة، وإن كان ذلك بالباطل، نسأل الله العفو والعافية.(1/92)
يقول المصنف: [والمقصود هنا أن البدع هي من هذا الجنس] قوله: (هذا) إشارة إلى الكبائر العملية، فالبدع حكمها حكم الكبائر العملية، قال: "فإن الرجل يكون مؤمناً باطناً وظاهراً" واحترز بقوله: (باطناً) لكي يبين خطأ من كفره؛ لأننا إذا قلنا: إنه كافر؛ فمعناه أنه في الباطن غير مؤمن، وإذا قلنا: إنه مؤمن ظاهراً فقط فليس بغريب؛ لأن المنافقين مؤمنون في الظاهر، لكن المصنف يقول: "فإن الرجل يكون مؤمناً باطناً وظاهراً، لكن تأوَّل تأويلاً أخطأ فيه؛ إما مجتهداً وإما مفرطاً مذنباً، فلا يقال: إن إيمانه حبط بمجرد ذلك، إلا أن يدل على ذلك دليل شرعي"، فالمصنف رحمه الله يُعلِّم أهل السنة أن لا يغلوا ولا يتسرعوا في إطلاق التكفير أو التبديع أو التضليل حتى يتبين حل المعنى هل هو مخطئ معذور أو مجتهد أم لا؟
فهذه هي عقيدة أهل السنة ، لكننا نجد أهل البدعة يكفرون أهل السنة بما يعتقدونه من الحق، فمثلاً: تجد معظم كتب الأشاعرة ونفاة الصفات يقولون: ما حكم من يثبت الجهة لله؟ ويقصدون بالجهة العلو.
فهناك ثلاثة أقوال عند الأشاعرة في هذه المسألة: القول الأول: من أثبت أن الله فوق العالم فإنه يكفر، ومعنى هذا أن من أثبت ما جاء في القرآن وما جاء في السنة فإنه يكفر! وهذا من العدوان والبغي والظلم! قالوا: لأنه أثبت شيئاً في حق الله مستحيلاً، فأثبت لله المحال، وهو أن الله في حيز، وأنه تحيط به المخلوقات، وهذه كلها لوازم باطلة أوردوها وهي لا تلزم القائل، لكنهم جعلوها لوازم فكفروا بها، وهذا غاية البغي والظلم والعدوان.
القول الثاني: أن قائل هذا القول لا يكفر، بل هو فاسق.(1/93)
القول الثالث: هو التفصيل؛ فإن كان جاهلاً على معتقد العوام فلا يكفر؛ لأنه يعذر بجهله، مثل: الجارية التي سألها النبي صلى الله عليه وسلم فأجابت بمعتقد العوام ومعتقد الناس في الجاهلية على حد زعمهم! فمن كان كذلك فلا يكفر، قالوا: أما العالم الذي تبين له الأدلة، مثل: الفخر الرازي أو الزمخشري ومن هو عارف بعلم الكلام وعالم بلوازم الحيز والجهة والجوهر والعرض، قالوا: فهذا إن قال ذلك فإنه يكفر -نسأل الله العفو والعافية-.
فانظر كيف يكون البغي! وقد تقدم قول الخوارج المعاصرين منهم والأقدمين، وقول المعتزلة في مسألة الرؤية حيث قالوا: من قال: إن الله يُرى في الآخرة فقد كفر، فهكذا تجد أهل البدع!
فالشيخ المصنف هنا يعلم أهل السنة الإنصاف، ولم يقابل المبتدعة بمثل منهجهم، وذلك أن من منهج أهل السنة أنهم لا يكفرون المبتدع حتى يعلموا: هل هو متأول أو غير متأول؟ أله شبهة أو ليس له شبهة؟
فليس في أهل الفرق من هو متحلٍ بالإنصاف والعدل مثل أهل السنة والجماعة أبداً!
فأهل السنة في معتقداتهم على الحق، ومع ذلك يعدلون مع من كان على الباطل، ولا يخرجون عما أمر الله به بقوله:: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ [النحل:90]، وأما الظلم فقد حرمه الله سبحانه وتعالى، فقال: {يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً }.
أما أهل البدع فإنهم يجورون على أهل السنة ويتهمونهم ويكفرونهم؛ بناءً على ما يعتقدونه من الحق، وكفى بهذا فارقاً بين الطائفتين.(1/94)
يقول المصنف رحمه الله: "لكن تأول تأويلاً أخطأ فيه، إما مجتهداً وإما مفرطاً مذنباً، فلا يقال: إن إيمانه حبط بمجرد ذلك" أي أنه: قد يحبط إيمانه بأسباب أخرى مثلما قلنا في المعتزلة ، فإنَّ منهم من كُفِّر بعينه لأنه قال القول ولديه عقائد فاسدة باطلة غير ذلك القول، ولكن من المعتزلة من لم يكفر؛ لأنه أخذ القول المنسوب إلى ذلك الكافر أو الملحد ظاناً أنه هو الحق والهدى، حتى إن الذين كفَّروا ابن أبي دؤاد وبشر المريسي من العلماء لم يكفر كثير منهم المعتصم أو المأمون لما اتبعوا قول المعتزلة في مسألة خلق القرآن وجلدوا الإمام أحمد وغيره؛ لأنهم كانوا يعلمون أن هؤلاء الخلفاء لبس عليهم، فترى أن هؤلاء العلماء كفروا المشير بالجلد والتعذيب ولم يكفروا من قام بتنفيذ ذلك، وذلك لأن من أشار بذلك عالم يعرف الأدلة، وقد اقترن بقوله هذا اعتقادات فاسدة أوجبت تكفيره عند من كفره. ومقصدنا هو أننا لا نقول: يحبط عمل المبتدع بمجرد هذه البدعة التي هي غير مكفرة وربما تكون مكفرة، فيكون القول في ذاته كفراً ولكن صاحبه لا يكفر.
ثم قال المصنف: "إلا أن يدل على ذلك دليل شرعي، بل هذا من جنس قول الخوارج والمعتزلة " أي: القول بأنه كفر وحبط عمله، هو من جنس قول الخوارج والمعتزلة في أصحاب الكبائر العملية.
ومن ورد الشرع بتكفيره فلا نقول: إنه لا يكفر، ولا نقول: إنه يكفر ويحبط عمله؛ وذلك حتى نفرق بين المقالة والقائل. فمثلاً: نفي رؤية الله في الآخرة ونفي الصفات ونفي القدر... كل هذه المقالات كفر، بل ونقول: (يكفر قائلها) إطلاقاً عاماً، لكن القائل المعين هو الذي فيه التفصيل، فمن كفر قائل هذه المقالات كائناً من كان وحكم بأن عمله يحبط رددنا عليه، ومن قال: إن قائل ذلك لا يكفر بأي حال نرد عليه أيضاً ولا نقره على قوله.
حكم فرق أهل القبلة المتوعدين بالنار والهلاك
من درس: التكفير وضوابطه (الحلقة الرابعة)(1/95)
نأتي إلى مسألة الاثنتين والسبعين فرقة، فإن من المعلوم أن هذه الأمة تفترق على ثلاث وسبعين فرقة، فما حال الثنتين وسبعين فرقة: أهم من أهل الوعيد أم هم خارجون عن الملة؟
الجواب: الفرق على نوعين:
النوع الأول: فرق خارجة عن الإسلام، وهي فرق كثيرة، وقد ذكرنا أمثلة لها؛ كفرق الباطنية القديمة والحديثة وغلاة الشيعة وغلاة الصوفية وأشباههم.
النوع الثاني: فرق خارجة عن السنة، والفرق الخارجة عن السنة هي الاثنتين والسبعين فرقة، ولهذا لما عرَّف النبي صلى الله عليه وسلم الفرقة الناجية قال: {هي الجماعة } أو: {ما أنا عليه وأصحابي } !!
فمن خالفهم فهو خارج عن الجماعة، ومخالف لما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، أما الفرق الخارجة عن الإسلام بالكلية فهذه قد انتقلت إلى ملة أخرى وإن انتسبت إليه، كما ذكر ذلك شيخ الإسلام رحمه الله في كتاب الإيمان ولم يذكر غير هذا القول، وفي مجموع الفتاوى ذكر أن بعض السلف اختلفوا في ذلك، لكنه رجح أنها من أهل الوعيد، ولا يعني قولنا: إنها من أهل الوعيد أن كل فرد منها سيدخل النار، وإنما نقصد أنه متوعد؛ ففي الدنيا نحكم عليه بالميزان كما سبق، وفي الآخرة يكون الحكم عليه كذلك.
ولنضرب على ذلك مثلاً: لو أن إنساناً ابتدع بدعة من بدع الصوفية التي لا تخرج صاحبها من الملة، وليس عنده إلا هذه البدعة وهو مُصر عليها ومعاند ويرفض الحق، وليس عنده أي حسنة، فهذا يقال عنه: مبتدع، ويكون من أهل الوعيد، ويوم القيامة إذا وزنت أعماله وليس عنده حسنات وعنده هذه البدع، فهو مثل أهل الكبائر الداخلين تحت مشيئة الله، ولابد أن يعذب الله منهم أناساً، فلا ننفي ونقول: لن يعذب أحد منهم؛ بل لابد أن يعذب أناساً منهم ويغفر لأناس، كما قال تعالى: يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ [المائدة:40].(1/96)
وشخص آخر عنده هذه البدعة نفسها، لكن معه جهاد وصيام وزكاة وحج وصدقة، وأمور كثيرة من الحسنات، فهذه إذا وضعت مع تلك البدعة رجح ميزان الحسنات؛ سواء وفق ميزاننا نحن في الدنيا عندما نزن الرجال أو عند الله سبحانه وتعالى.
إذاً: القائل المعين شيء والفرقة شيء آخر.
التفريق بين الخطأ في أصل المنهج والخطأ في جزئية منه
من درس: التكفير وضوابطه (الحلقة الرابعة)
بعد ما ذكر المصنف رحمه الله حديث الرجل الذي كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، واسمه عبد الله وكان يلقب حماراً ، قال: "وهذا أمر متيقن به في طوائف كثيرة وأئمة في العلم والدين، وفيهم بعض مقالات الجهمية ، أو المرجئة ، أو القدرية ، أو الشيعة ، أو الخوارج ، ولكن الأئمة في العلم والدين لا يكونون قائمين بجملة تلك البدعة بل بفرع منها" أي: أنه لا يمكن لإمام من الأئمة في العلم والدين أن يكون شيعياً أو قدرياً -مثلاً- من جميع الوجوه ويكون قائماً بجملة تلك البدعة، لكن قد يقوم بفرع وجزئية منها.
وأعبر بتعبير واضح عن هذا فأقول: هناك فرق بين المنهج العام للإنسان وبين الأخطاء في المسائل التفصيلية، فالإنسان إذا كان منهجه العام الأخذ من الكتاب والسنة، فهذا يعد من أهل السنة وإن أخطأ في التفاصيل، ومن كان منهجه الاعتزال، فيقال: إنه معتزلي وإن أصاب في بعض الأمور أو وافق أهل السنة أو أخذ بحديث أو بأكثر من أحاديث الصحيح، فالأئمة المشاهير ممن اتهم بارتكاب بعض العقائد البدعية أو الضلالات لم يأخذها جملة، ولو أخذها جملة لصار من أهلها، ولكنه أخذ فرعاً منها.
فلابد من التفريق بين المنهج والجزئية، وبهذا المنهج نتعامل مع الأحزاب والجماعات والفئات المعاصرة؛ فقد يكون فلان مثلاً زعيماً زنديقاً ملحداً، لكن قد يكون من أتباعه من فيه خير ودين وصلاح وإن وافقه في بعض ما يقول، وهذا الحكم من العدل الذي أمر الله سبحانه وتعالى به.(1/97)
لكن في الجملة نقول: إن كل معتزلي أو رافضي فهو ضال أو زائغ، ولا شك في ذلك، لكن عندما نأخذ الأمر على التفصيل فقد نجد بعض الناس أخذ من الرافضة شعبة فقط، وقد يكفرهم من غير هذه الشعبة، وبعض الناس أخذ من الاعتزال شعبة، وقد يضللهم في الباقي، ففرق بين المنهج المتكامل وبين أن يأخذ الإنسان بجزئية من المنهج، ولو كان هذا الميزان واضحاً عند المسلمين وعند كثير من أهل السنة في القديم والحديث لما احتاجوا أن يتخاصموا فيما بينهم ويختلفوا ويرد بعضهم على بعض، ولكانوا كما كان علماؤنا الأولون على القسطاس المستقيم والميزان العدل الذي لا طغيان فيه.
قال رحمه الله: "بل العدل هو الوسط، وهو أن الأقوال الباطلة المبتدعة المحرمة المتضمنة نفي ما أثبته الرسول صلى الله عليه وسلم أو إثبات ما نفاه" أي: كما في مسائل الصفات أو مسائل القدر وغيرها.
مثال ما أثبته النبي صلى الله عليه وسلم: قوله للجارية: {أين الله؟ قالت: في السماء، فأقرها } فأثبت النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث أن الله في السماء وكذلك في غيره من الأحاديث، فجاء أناس فنفوه. أو إثبات ما نفاه الرسول صلى الله عليه وسلم كمن أثبت لله من الصفات أو نسب ما لم يقله النبي صلى الله عليه وسلم.
الرد على من زعم أن الورع هو عدم تكفير من ارتكب الكفر
من درس: التكفير وضوابطه (الحلقة الرابعة)(1/98)
قال المصنف رحمه الله: [أو الأمر بما نهى عنه أو النهي عما أمر به، يقال فيها الحق] أي هذه الأقوال المبتدعة المحرمة، قال: [ويثبت لها الوعيد الذي دلت عليه النصوص ويبين أنها كفر] أي: لا تلغى النصوص، فإن كانت النصوص تنص على أعمال كفرية فيبين أنها كفر، فنقول مثلاً: الحكم بغير ما أنزل الله كفر، ونفي أسماء الله وصفاته كفر، وإنكار القدر كفر، فنقول هذا القول ونطلقه كما أطلقته الأدلة، قال: "كما يذكر من الوعيد في الظلم في النفس والأموال"، أي كما نقول: من اقتطع من مال آخيه شيئاً بغير حق فهو ظالم، من اغتاب أخاه فقد ظلمه، فمثلما يقال في الظلم يقال في الكفر والفسق والضلال، فتبقى نصوص الوعيد على إطلاقها وعلى بابها.
والمصنف رحمه الله يريد أن يرد على بعض الناس الذين يظنون أن من الورع ألا يكفِّروا أحداً، فيقولون عن عبادة القبور والطواف بها: هذه أمور منكرة ومحرمات، أو هذه أشياء لا تنبغي ولا تليق بالمسلمين! وهذا الظن منهم خاطئ، لأننا نكون بذلك قد سلبنا النصوص دلالتها ولم نعمل بها ولم نعلنها ونبينها.(1/99)
وقد استدل المصنف رحمه الله على ما قررناه بكلام الأئمة، مع أن القرآن والسنة مليئان بالتكفير؛ لكن لأن بعض الناس ينتسب إلى هؤلاء الأئمة، فقال المصنف رحمه الله: [وكما قد قال كثير من أهل السنة المشاهير بتكفير من قال بخلق القرآن وأن الله لا يرى في الآخرة ولا يعلم الأشياء قبل وقوعها] فإذا كان كثير من الأئمة قد كفروا من قال: القرآن مخلوق، وكفروا أيضاً من قال: إن الله لا يرى في الآخرة، وهذا وارد ومنقول في كتب العقيدة، وكذلك من قال: إن الله لا يعلم الأشياء قبل وقوعها -أي: من أنكر مرتبة العلم من مراتب القدر وهي المرتبة الأولى، وإنما نص على هذه المرتبة لأن القدرية ينكرونها، ولذا قال الإمام أحمد والإمام الشافعي رضي الله عنهما: "ناظروا القدرية بالعلم"، فمن أنكر علم الله بالأشياء قبل وقوعها فقد كفر، فهذا نص عليه السلف ، فهل هناك أحد يدعي أنه أكثر ورعاً أو تحرزاً من السلف ؟!
فأراد المصنف رحمه الله أن يبين لأتباع الأئمة الأربعة وغيرهم أن الأئمة كفروا من كفره الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، لكن ذلك على العموم لا للأشخاص.(1/100)
يقول المصنف: [وعن أبي يوسف رحمه الله أنه قال: (ناظرت أبا حنيفة رحمه الله مدة حتى اتفق رأيي ورأيه أن من قال بخلق القرآن فهو كافر)] وقد نص المصنف رحمه الله على أبي حنيفة بالاسم؛ لأنه حنفي وهو يؤلف للحنفية، فحتى لا يقال: أنت خرجت عن مذهب إمامك؛ أراد أن يقول: إن مذهب الإمام أبي حنيفة -كما قال عنه تلميذه أبو يوسف -: إنه يكفر من قال: إن القرآن مخلوق، ولا شك أن أي حنفي مُسلِّم بأن الإمام أبا حنيفة أورع منه، وكل الحنفية مسلِّمون أنه متبوع ومجتهد وأن آراءه صحيحة، حتى إن بعضهم يغلو فيه غلواً عجيباً، فلشدة غلوهم وكون الشيخ المصنف منهم، ولأنه يريد أن يخاطبهم؛ نص على أن الإمام أبا حنيفة رحمه الله نص -كما روى عنه تلميذه أبو يوسف -: "أن من قال: القرآن مخلوق فقد كفر"، ولا يعني ذلك أن الإمام أبا حنيفة كفَّر كل معين! وإنما أطلق القول، ولهذا قال المصنف رحمه الله: "وأما الشخص المعين إذا قيل... إلخ"، أي أنه سيأتي الكلام على المعين، وأما ما هنا فإنما هو في الحكم على القول على العموم، أي أنه لابد من التفريق بين الحكم على المقالة والحكم على قائلها، والتفريق بين إطلاق الوعيد العام وبين تنزيله على المعين، والتفريق بين العقوبة وبين تنفيذها في حق المعين.
منهج أهل السنة والجماعة في تكفير المعين
من درس: التكفير وضوابطه (الحلقة الخامسة)
قال المصنف رحمه الله تعالى:
[وأما الشخص المعين، إذا قيل: هل تشهدون أنه من أهل الوعيد وأنه كافر؟ فهذا لا نشهد عليه إلا بأمر تجوز معه الشهادة، فإنه من أعظم البغي أن يشهد على معين أن الله لا يغفر له ولا يرحمه بل يخلده في النار، فإن هذا حكم الكافر بعد الموت.(1/101)
ولهذا ذكر أبو داود في سننه في كتاب الأدب: (باب النهي عن البغي)، وذكر فيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {كان رجلان في بني إسرائيل متواخيين، فكان أحدهما يذنب والآخر مجتهد في العبادة، فكان لا يزال المجتهد يرى الآخر على الذنب، فيقول: أقصر، فوجده يوماً على ذنب، فقال له: أقصر. فقال: خلني وربي أبعثت علي رقيباً؟ فقال: والله لا يغفر الله لك، أو لا يدخلك الله الجنة، فقبض أرواحهما فاجتمعا عند رب العالمين، فقال لهذا المجتهد: أكنت بي عالماً؟ أو كنت على ما في يدي قادراً؟ وقال للمذنب: اذهب فادخل الجنة برحمتي، وقال للآخر: اذهبوا به إلى النار. قال أبو هريرة : والذي نفسي بيده! لتكلم بكلمة أوبقت دنياه وآخرته }، وهو حديث حسن. ] اهـ.
الفرق بين إطلاق الكفر على الفعل وإطلاقه على المعين
الشرح:
لقد أطال المصنف رحمه الله في هذا الموضوع، وكلامه واضح -والحمد لله- وسوف نستعرض كلامه ثم نعضده بكلام بعض العلماء الآخرين، مثل شيخ الإسلام وابن القيم ، وبعض علماء الدعوة، كالشيخ سليمان بن سحمان رحمهم الله وأمثالهم، ولكن لوضوحه ولتفصيله نستعرضه أولاً لنفهم مراده منه.
فقوله رحمه الله: "وأما الشخص المعين"، (أما) للتفصيل، وهذا دليل على أنه قد ذكر قبلها شيئاً آخر، وهو ما يتعلق بالفرقة، أي: (من قال كذا) أو (من اعتقد كذا)، على سبيل الإجمال، ولا يقصد بذلك إنساناً معيناً بذاته، كما قال المصنف سابقاً: "قد قال كثير من أهل السنة المشاهير بتكفير من قال بخلق القرآن، وأن الله لا يرى في الآخرة، ولا يعلم الأشياء قبل وقوعها"، ومثله ما ذكره أيضاً عن أبي حنيفة رحمه الله كغيره من علماء السلف أن: (من قال: القرآن مخلوق، فهو كافر)، وكما يقال أيضاً: من أنكر أسماء الله وصفاته، أو أنكر الرؤية فهو كافر، وهكذا...(1/102)
فهذه العبارات كان السلف الصالح يطلقونها وهم أشد الناس تحرزاً، وأبعد الناس عن الوقوع في البغي أو الظلم أو الجور أو مجانبة العدل، ولا شك أن هذه الأقوال حق، لكن السلف الصالح رضي الله عنهم قالوها مطلقة لا معينة، ولذلك نجدهم في المعين قد يختلفون؛ فمثلاً: بشر المريسي منهم من كفره ومنهم من لم يكفره، وكذلك النظام ، لكن قد يتفقون على تكفير ضال خرج من الدين ومرق من الملة كالحلاج ؛ فإن كل من نقل سيرته من المؤرخين والعلماء والفقهاء قد اتفقوا على تكفيره، وكذلك الفلاسفة كفروا بأعيانهم؛ مثل الكندي ، والفارابي ، وابن سينا ، والرازي الطبيب ، وأمثالهم ممن نص على تكفيرهم بأعيانهم في كلام السلف وغيرهم، كما تمتلئ كتب الرجال بأنواع من هذا ممن اشتهر كفره وزندقته وإلحاده وخروجه من الدين.
ويوجد كثير مختلف فيه، فمنهم من يعذره ومنهم من يكفره، كما ذكرنا عن بشر المريسي وغيره؛ وذلك لأن تطبيق الحكم على المعين قابل لاختلاف وجهات النظر، فالحكم العام على الفعل شيء، وتطبيقه وتنزيله على المعين شيء آخر.(1/103)
ولنأخذ بعض الأحكام المعلومة غير مسألة التكفير في الأحكام التنفيذية؛ كالحدود مثلاً: فإن الله سبحانه وتعالى قد نص في القرآن على حد الزنا فقال: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ [النور:2]، فهذا حد ذكره الله سبحانه وتعالى صريحاً في كتابه، وهو أن من ارتكب جريمة الزنا فإنه يجلد مائة جلدة، وهذا الحد نعتقده وندين الله به، وهذا هو الواجب على كل مسلم، ولا يجوز اعتقاد غير ذلك؛ لأن الله تعالى نص على هذه العقوبة، كما نص الله سبحانه وتعالى في القرآن على حد السرقة في قوله: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [المائدة:38]، فنحن أيضاً نعتقد وندين الله سبحانه وتعالى بأن عقوبة السارق هي القطع، وهذا أمر غير قابل للنقاش، ومن اعتقد غير ذلك فقد رد ما في كتاب الله، لكن تطبيق هذه الحدود على معين لا بد أن تستوفي فيها الشروط وأن تنتفي الموانع، وذلك يحتاج إلى نظر يسمى: تحقيق المناط.(1/104)
وكذلك مسألة التكفير أو التبديع، فإذا قلنا: إن من فعل كذا فهو كافر، أو من فعل كذا فهو مبتدع، ولنا من الأدلة أنه قد ذُكِر ذلك في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، أو أنه مما ذكره السلف الصالح الذين لا يأخذون أحكامهم إلا من كتاب الله أو من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا خطأ في ذلك، بل نقول: يجب أن يقال: إن الكافر كافر، وإن المبتدع مبتدع، وإن الضال ضال، فكل ما أخبر به الله ورسوله ونقل عن السلف الصالح يجب أن يقال وأن يبلغ؛ حتى تكون الأمة على علم ومعرفة بهذه الأحكام، لكن المعين لا نطلق عليه الاسم وما يترتب على الاسم إلا ببينة؛ لأن مجرد الإطلاق ليس هو الهدف وإنما ما يترتب عليه، فلابد أن يكون لدينا بينة وعلم وبرهان من الله سبحانه وتعالى حتى نطلق ذلك.
يخطئ كثير من الناس في فهم هذه الأمور، فمثلاً: شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله يكفر عباد القبور، ففهم بعض الناس من ذلك أن كل من يذهب إلى قبر ويصلي عنده فإنه كافر مرتد خارج من الملة، وللشيخ رحمه الله كلام ينفي به عن نفسه هذه التهمة، فقال بعض الناس: إن الشيخ متناقض، أو كان له رأي ثم رجع عنه، أو غير ذلك.. وليس الأمر كذلك، فإن عقيدة الشيخ ودعوته التي دعا إليها هي أن من عبد غير الله فهو مشرك مرتد... إلخ.
أما في المعينين -كما هو مذهب أهل السنة والجماعة - فينظر في المسألة: فهل جاء هذا المعين لعبادة القبر أم لمجرد الزيارة؟ وهل هو خارج من الملة أو مبتدع؟ فإن بعض الناس لا يقع في الشرك عند القبور، وإنما يقع في بدعة.
فالمقصود أن هذا الأمر لما لم يفهم على حقيقته؛ كان ولا يزال موضع بحث ونقاش وخلاف بين كثير من الناس.
وبعض الناس يظن أن من الورع ألاَّ يطلق على فعل أو على وصف اسم الكفر أو البدعة، بل يقال: هذه أخطاء ومحرمات وأمور خطيرة... إلخ، ويقول: لا نتكلم بالكفر ولا نطلقه؛ لأنه أمر ليس بالسهل، وتترتب عليه أمور كثيرة.(1/105)
فنقول له: إن كنت تقول هذا في حق إنسان لم يكفره الله ولا رسوله فهذا صحيح، وإن كنت تقوله على سبيل التحرج؛ لأنك لا تعرف المعينين ولا تستطيع أن تجزم به، فهذا أيضاً صحيح.
أما إن كنت تتحرج أو تتحرز عن إطلاق شيء أطلقه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فهذا لا يجوز، كما أن الذي يطلق الألفاظ بغير حق يعد ظالماً باغياً.
حكم الشهادة على المعين بأنه من أهل الوعيد
يقول المصنف رحمه الله: [وأما الشخص المعين إذا قيل: هل تشهدون أنه من أهل الوعيد وأنه كافر؟]، أي: ممن ينزل بهم الوعيد، كما ذكرنا لو أن إنساناً شهد بأن فلاناً من أهل الوعيد بناءً على أنه أكل مال اليتيم، أو زنى، أو شرب خمراً، أو سرق، أو نحو ذلك، "أو أنه كافر"، أي: إذا ارتكب مكفراً في نظر أحد، قال الشيخ: "فهذا لا نشهد عليه إلا بأمر تجوز معه الشهادة".
ولم يقل الشيخ: لا نشهد على أحدٍ أو لا نكفر أحداً بالكلية، فإن هذا ليس هو مذهب أهل السنة ، ومن الناس من يقول: لا نكفر أحداً بالكلية، ولا ننطق بكلمة الكفر بأفواهنا، ولا نطلقها في كتاباتنا، ومجرد أن يراها أو يسمعها يقشعر جلده وتشمئز نفسه، ويقول: هذه سبب الفتنة، وهي التي أدت إلى الخلاف منذ قديم الزمان، وهي التي منعتنا من توحيد الصفوف ومن جمع الكلمة.. ويأتي بعلل ما أنزل الله بها من سلطان!!
فنقول: ليس هذا هو المنهج الصحيح، فإن الشيخ يقول: "لا نشهد عليه إلا بأمر تجوز معه الشهادة"، والشهادة تجوز في الأمر المتيقن، فمن رأى إنساناً يسرق ويأخذ مالاً من حرز، أو يشرب خمراً، فإنه يشهد عليه.
فمن كان متيقناً من أمر فإنه يشهد به ولا حرج في ذلك، فيكون قد أدى ما عليه من الشهادة، بل قد يأثم إذا لم يشهد كما قال تعالى: وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ [البقرة:283]، فلو كتم شيئاً من الشهادة يترتب عليها حقوق أو مصالح للعباد فإنه آثم.(1/106)
فالشهادة يدلى بها وتقال وتبين، فلا ننفي مطلقاً بأن لا نشهد على معين بالكفر، وأيضاً لا نطلق الحكم جزافاً، فنقول: هذا المعين كافر، وهذا هو التوسط.
أما الفرق الضالة فإنها خالفت أهل السنة في هذا الأمر، فالمرجئة وأشباههم ابتعدوا عن إطلاق الكفر بالكلية!
والخوارج يكفرون الرجل بعينه! وإن كان من أفضل الناس ومن خيارهم؛ لأنه فعل فعلاً قد لا يكون كفراً ولا كبيرة، ولكنه في نظرهم كذلك.
وأهل السنة والجماعة هداهم الله تعالى للطريق الوسط بين هذين، فهم لا يكفرون أو يبدعون أو يضللون أو يفسقون إلاَّ بأمر تجوز معه الشهادة، أي: في حق المعين.
يقول المصنف رحمه الله: [فإنه من أعظم البغي أن يشهد على معين أن الله لا يغفر له ولا يرحمه بل يخلده في النار].
فمن ادعى أن فلاناً من الناس كافر، وهو على غير يقين وعلى غير علم بحاله وبحقيقة أمره، فقد بغى عليه أعظم البغي؛ لأن من لوازم ذلك ومما يترتب عليه: أن هذا الرجل سيكون خالداً مخلداً في النار، وأن الله لن يغفر له ولن يرحمه.
وأنه في هذه الدنيا ليس من المسلمين، ولا يقبل منه أي عمل، ويموت كافراً، ولا تتوفاه إلا ملائكة العذاب التي تتوفى الكافرين، ويعذب في قبره عذاب الكافرين، ويحشر يوم القيامة مع الكفار، ويكون مصيره النار والخلود فيها … إلخ، وكل هذه الأحكام تابعة للقول بأن فلاناً من الناس كافر.(1/107)
إذاً: هذه أمور ليست هينة حتى تطلق جزافاً؛ بل تحتاج إلى تبصر مهما بلغت الذنوب، وليس هناك جرم بعد الشرك بالله كقتل النفس، وقد قتل رجل مائة نفس، وفي طريقه إلى القرية الصالحة مات، ولو أن أحداً من الناس رأى حاله وظاهره لقال: هو كافر، وهو في النار، لا سيما وأنه قد يستشهد بآية القتل: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا [النساء:93]، ويقول: هذا إنسان فعل ما فعل فلا حرج أن أقول: هو خالد مخلد في النار! فنقول: هذا الاستدلال غير صحيح، فهذا الرجل قد تاب، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم توبته، وما ذهب إلى تلك القرية إلاَّ مهاجراً تائباً.
فسيقول الذي كفره: أنا لا أعلم ذلك.
فنقول: ما دمت لا تعلم فلا تكفر، فإنه مهما قتل أو زنى أو سرق أو ارتكب أي معصية أو كبيرة، لم يحكم الله ولا رسوله صلى الله عليه وسلم على فاعلها بالكفر؛ فلا يجوز أن تقول: قد كفر، وأنت لم تتأكد هل يستحق الكفر أم لا؟
وأيضاً من علمت كفره يقيناً فإنك تشهد عليه بالكفر دون أن تجزم أنه سيموت على ذلك؛ فما يدريك لعله قد يتوب! وهذا أمر مهم، ولا يعني ذلك أن الإنسان لا يكفر أحداً وإن ظهر كفره، وذلك حتى لا نقع في الطرف الآخر وهو التفريط، فإن بعض الناس قد يرى الكافر ويقول: لا أستطيع أن أكفره؛ لأنه يمكن أن يتوب.
فنقول: إذا تاب ورجع إلى الإسلام فارجع أنت أيضاً بالحكم له بالإسلام، وما دام أنه على هذا الكفر فاشهد له بالكفر.. فالمسألة فيها طرفان ووسط.
فمن هلك ومضى وأنت تعلم يقيناً أنه مات على الكفر ولا تعلم له توبة، فاشهد أنه مات على الكفر.
فإن قيل: أنت لا تعلم حاله في الباطن؟
قلنا: نحن لا نتكلم عن الباطن، لكن الله تعبدنا أن نحكم بالظاهر والله تعالى يتولى السرائر، فلو لم نكفر من مات على الكفر لاختل الأمر وأصبح الناس في شك؛ لأنه يمكن أن يموت بعض الكفار على الإسلام، فإذا جوزنا الإمكان فإنه يرد على كل.(1/108)
فنقول: إذا وجدت قرائن تصلح لأن تكون شبهات تحول دون الإطلاق فلا نطلق الحكم، وإن لم يكن إلا مجرد الاحتمال فلا يجوز البناء على الاحتمال ما دام أن الله تعالى أو الرسول صلى الله عليه وسلم نص على خلافه، فما حكم الله سبحانه وتعالى أو رسوله صلى الله عليه وسلم على قائله أو فاعله أو معتقده بالكفر، ونحن نعلم يقيناً أن رجلاً كان عليه إلى أن مات، فلا يرد احتمال أنه تاب قبل أن يموت، ونقول: من كان عنده بينة فليخبرنا، أما ما نعلمه يقيناً عنه فإنه لا يزول بمجرد الاحتمال أو الشك؛ فإن اليقين لا يزول بالشك.
يقول المصنف رحمه الله: [فإنه من أعظم البغي أن يشهد على معين أن الله لا يغفر له ولا يرحمه بل يخلده في النار، فإن هذا حكم الكافر بعد الموت]، أي: أن الشهادة بذلك هي حكم من يموت وهو يهودي أو نصراني أو من أهل الكفر والشرك الأصلي، أما المسلم أو من كان من أهل القبلة فإننا لا نطلق ذلك عليه إلا في مثل ما تجوز عليه الشهادة، بأن نشهد له على يقين؛ لأن هذه الأحكام لازمة ومترتبة على هذا القول.
ونوضح ذلك بمثال على الشهادة لمعين من أهل الكفر بأنه من أهل النار:
مثال ذلك: رجل يهودي نشأ مع اليهود ومات على دين اليهودية ، فهل نشهد له بالنار أم لا؟
الجواب: لا شك في هذا، ولا يأخذنا الورع فنقول: لا ندري! ولا يعني ذلك أنه (100%) لم يسلم منهم أحد؛ لكن مجرد الاحتمال لا يلغي الأصل.
أما حكمه عند الله فهذا شيء آخر، فمن مات في بيئة لم يبلغه الدين ولا الحق، ولا سمع عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن القرآن ولا عن الإيمان شيئاً، فهذا حكمه حكم أهل الفترة، والراجح في حكم أهل الفترة أنهم يمتحنون يوم القيامة، وبذلك يصدق عليهم أن الله سبحانه وتعالى لا يظلم أحداً، ولن يدخلهم النار إلاَّ وهم مستحقون، فينتفي الظلم وتتحقق الرحمة والحكمة والعدل من الله سبحانه وتعالى بأن يمتحنهم، وهذا أصل كلي يدل على ذلك ويشهد له.(1/109)
فمن الأدلة التفصيلية حديث الامتحان، وقد روي بأسانيد بعضها حسن وبعضها ضعيف، لكن يشد بعضها بعضاً، وقد فصل ابن كثير رحمه الله في طرقه تفصيلاً لا بأس به عند تفسير قول الله سبحانه وتعالى: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء:15].
شرح حديث: (كان رجلان في بني إسرائيل متواخيين)
قال المصنف رحمه الله: [ولهذا ذكر أبو داود ...]، هذا الحديث دليل على ما ذكره الشيخ رحمه الله من أنه لا يجزم ولا يقطع للمعين بغير علم، وأنه من البغي والظلم ومن القول على الله تعالى بغير علم. قال المصنف: [عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول صلى الله عليه وسلم يقول: {كان رجلان في بني إسرائيل... }].
(كان) هنا تامة بمعنى: وُجد، ويصح أن تكون ناقصة ويكون (متواخيين) خبرها، وقوله: (متواخيين)، أي: أصدقاء، ولا يشترط أن يكونا أخوين من النسب، وإنما كان بينهما تآخٍ ومحبة ومودة.
{فكان أحدهما يذنب والآخر مجتهد في العبادة }.
كان أحدهما على الصلاح والاستقامة، ولم يكتب للآخر أن يستقيم على الدين، وهذا في أول الأمر وظاهر الحال، فقد اختلفا في الطريق ولكن جمعت بينهما رابطة الأخوة والصداقة، {فكان لا يزال المجتهد يرى الآخر على الذنب، فيقول: أقصر }، وهذا عمل خير، فقد اجتمعت في هذا الرجل صفتان: الصفة الأولى: أنه مجتهد في العبادة. والصفة الثانية: أنه يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ولم تمنعه الصداقة والعلاقة والأخوة أن ينكر على صاحب المنكر.(1/110)
وبعض الناس يظن مادام أنه داعية يدعو الناس إلى الحق ويأمرهم وينهاهم، فكأن لديه موثقاً من الله أنه آمن وناجٍ من عذاب الله، وأنه لن يضره شيء! وهذا خطأ، فإن الواجب هو الحذر؛ لأننا قد نقع في مدحضة أو مزلة ونحن لا نشعر، فلينتبه الدعاة إلى الله لهذه المسألة، فإن هذا رجل مجتهد في العبادة وداعية إلى الله، ولولا أنه داعية لما كان يدعو هذا المؤاخي له؛ لأن العادة أن بعض الناس يدعو الآخرين؛ لكنه لا يدعو صديقه وقريبه، ومحك الحقيقة هو دعوة الصديق أو القريب أو الزوجة أو الزوج أو الأبناء وما أشبه ذلك؛ لأن عادة الناس جرت أن يداهنوا من كان لهم معه علاقة أو صلة أو ما أشبه ذلك.
فهذا الرجل داعية ومجتهد في الخير، فكان لا يزال يرى الآخر على الذنب، فيقول: (أقصر) يعظه ويذكره وينصحه بأن يدع هذا الذنب، {فوجده يوماً على ذنب }، أي: مما نهى الله سبحانه وتعالى عنه، إما ترك الواجبات، كأن يكون غافلاً عن الصلاة، أو عن غيرها من الواجبات، أو فعل المنهيات، كأن يفعل فاحشة أو موبقة أو ما أشبه ذلك، المهم أنه وجده على ذنب، {فقال له: أقصر }، فكرر عليه النصح وكرر له الدعوة.
فقال: {خلني وربي! أبعثت علي رقيباً؟ }، وقد يُفهم من الحديث: أنه إذا قال لك أخذ هذه العبارة فمعنى ذلك ألا تدعوه ولا تكلمه، وليس هذا هو المقصود، فليس كل عبارة يقولها الإنسان -وإن كانت حقاً أو شبيهة بالحق- تجعلك تترك دعوته أو نصحه، والمشكلة في هذا الرجل ليست في أمره ونهيه، وإنما في بغيه وظلمه عندما قال: {والله لا يغفر الله لك }، لكنه لو لم يقل ذلك حتى وإن قال له المدعو أو صاحب المنكر: {أبعثت علي رقيباً؟! } وقال: لم أبعث عليك رقيباً، وإنما أمرت أن آمرك وأنهاك، لكان هذا هو الرد الذي ينبغي أن يقوله.(1/111)
فقال: {خلني وربي! أبعثت علي رقيباً؟! }، وهذا دليل على أن الرجل فيه شيء من الخير، لكنه أظهر تضجره وتبرمه من صديقه الذي يدعوه دائماً، فيقول: كأنك واقف فوق رأسي مترصد لجميع أخطائي! {خلني وربي، أبعثت علي رقيباً؟! }، فهو مذنب، لكنه لم يقل ما يقوله المجاهرون والفساق في هذا الزمان: أنا على صواب، وهذا ذنب فيه اختلاف، وبعض العلماء يقول: لا بأس به! لا. بل فيه نزعة خير {خلني وربي }، أي: أنا إن أذنبت ففي حق الله، وأنت لم تبعث علي رقيباً.
إذاً: هو متضجر ومتذمر من هذا الإنكار.
ونستنتج من هذا: أن الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر عليه ألا يتسرع فيظلم كما ظلم هذا الرجل، وأيضاً لا يدفع المدعو إلى الملل والضجر؛ لأنه إذا دفع المدعو أو المنكَر عليه إلى أن يمل ويتضجر منه؛ فإنه لن يقبل الحق الذي يدعوه إليه، وهذا أمر مشاهد، فإن بعض الناس يدعوه البعض أياماً وسنين ولا يقبل، ثم يأتيه آخر فيهتدي بإذن الله ويقبل منه الخير؛ لأن هذا الأسلوب كان ألطف وأرق وألين.
وأيضاً فإن المتابعة الشديدة والمحاسبة والمراقبة ليست وسيلة نافعة من وسائل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلا يشترط التوبيخ الدائم وراء كل ذنب، والتأنيب المستمر عقب كل خطيئة، فلابد أن يكون الداعية حكيماً، فإنه لم يبعث رقيباً، لكن يجب عليه أن ينكر المنكر، وقد وقع الدعاة في هذا الأمر فإن من الدعاة من ترك الدعوة بالكلية فلا يأمر ولا ينهي ولا يدعو، ومنهم من عنده هذه الرقابة التي تجعله دائماً وراء كل عمل ووراء كل خطأ يحاسب عليه.
{فقال: والله لا يغفر الله لك، أو لا يدخلك الله الجنة }، لما رأى ملله وتضجره منه، رد عليه بهذا الرد والعياذ بالله! فأتاه الشيطان في هذه الحالة النفسية، فقال كما قال أبو هريرة رضي الله عنه: {قال كلمة أوبقت دنياه وآخرته }.(1/112)
فقد شعر بأن هذا المدعو ميئوس منه، فتجاوز الأمر والنهي والموعظة والتذكير وأبى إلا أن يتدخل في أمر هو من اختصاص الله سبحانه وتعالى، فتألى على الله، وقال على الله بغير علم ولا حجة ولا برهان: {والله لا يغفر الله لك } وما أدراك يا مسكين؟! كيف تقول هذا؟! كيف تقسم وتجزم بذلك؟ أعندك من الله موثق أو عهد حتى تقول هذا الكلام؟!
لقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم في قنوته على قبائل وأحياء من العرب آذته، وحقاً كان صلى الله عليه وسلم على صواب ويقين من أذية من آذاه ومما فعلوا به وبأصحابه، وكانوا كفاراً حقاً، ومع ذلك يقول الله تبارك وتعالى: لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ [آل عمران:128]، سبحان الله! ليس لك من الأمر شيء، فإن أمرهم إلى الله سبحانه وتعالى، فقد يتوبون أو يعذبهم.
فيؤخذ من ذلك: أن الداعية عليه ألاَّ يتجاوز أمر الله سبحانه وتعالى في دعوته، بل يقتصر على الدعوة كما أمر الله سبحانه وتعالى، ثم تجتمع الخصوم عند الله سبحانه وتعالى، كما جاء في الحديث: {حتى إنه يقتص للشاة الجماء من الشاة القرناء }، ولما مر النبي صلى الله عليه وسلم بعنزتين تنتطحان قال: {والله إن الله ليعلم فيم تنتطحان وسيقضي بينهما }، فلا يوجد خصمان إلاَّ والله تبارك وتعالى يعلم فيما اختصما وسيقضي بينهما يوم القيامة، حتى الدواب، فإن كانت الشاة القرناء طغت وبغت على الجلحاء التي لا قرون لها، فيوم القيامة يكون القصاص، وهذه سنة لا يدركها الظالمون والمتجبرون الذين أعطاهم الله سبحانه وتعالى قوة أو سلطة فيظلمون الضعفاء، وهناك عند الله سبحانه وتعالى تجتمع الخصوم.(1/113)
فجاء الرجلان المتخاصمان فوقفا بين يدي رب العالمين، والمطالب هنا هو الموعود بأن الله لا يغفر له ولا يرحمه ولا يدخله الجنة، ولكن الذي تولى الخصومة هو رب العالمين؛ لأن الموضوع يتعلق بصفات الله سبحانه وتعالى؛ لأن الرجل تألى على الله سبحانه وتعالى ولم يقتصر على ما أمره الله به.
فالخصم هنا هو رب العالمين، وإن كان المظلوم هو الذي تعرض لتلك التهمة وذلك التخويف بغير حق، وذلك أنه ربما يكون قد صدقه، فإن بعض المدعوين إذا جاء شخص وأيسه وقنطه صدقه؛ لأنه يظن أنه على علم وعلى خير، فإذا قال: هذه ردة، وهذا كفر، ولن يغفر لك، صدقه، وهنا فائدة دعوية: وهي أن المذنب إذا قيل له أنه غير مغفور له أو لا توبة له، فلن يتوب بل سيستمر ويتعمد المعصية، كما في قصة قاتل المائة، لما أفتاه العابد الجاهل بأنه لا توبة له؛ أكمل به المائة، فاعتقد أن من قتل تسعة وتسعين أو مائة أو ألفاً سواء من جهة أنه لا توبة له، فليكثر من القتل إذاً، عياذاً بالله!(1/114)
نقول: فكان الخصم هو رب العالمين سبحانه وتعالى، فقال لهذا المجتهد العابد الداعية المخطئ: {أكنت بي عالماً؟ أو كنت على ما في يدي قادراً؟! } (أكنت بي عالماً) أي: أعلمت أني لا أغفر لمن فعل الذنب؟ كيف علمت ذلك؟ بل المقطوع به أن الله سبحانه وتعالى يخبر على لسان رسله أنه يغفر لمن يشاء، وهذا عيسى عليه السلام يقول عندما سأله الله سبحانه وتعالى: وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ [المائدة:116] إلى أن يقول: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [المائدة:118]، وقد ورد أن الله سبحانه وتعالى قد يعذب الشخص وقد لا يعذبه: يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ [المائدة:40]، وعليه: فمن أين قلت: إن الله لا يغفر لفلان المعين؟
فالذي أنزله الله وأعلم به عباده على لسان أنبيائه هو أنه يغفر الذنوب لمن يشاء، وأن الذي يحرمه من الجنة ويحرمه من رحمته هو الكافر، فهل لديك علم بأن هذا المعين كافر، وأن الله لن يرحمه ولن يدخله الجنة؟
قال: {أو كنت على ما في يدي قادراً؟! }، أي: هل أعطاك الله تبارك وتعالى النار وأقدرك على أن تدخل من تشاء وتخرج من تشاء، فجزمت وقطعت أن هذا سيدخلها؟
فليس هو على علم من الله، وليس قادراً على ما في يدي الله سبحانه وتعالى، فالجنة والنار والعذاب والسعادة والشقاء والتوفيق والخذلان من الله سبحانه وتعالى وليس لأحد من الناس.
إذاً: هذا ظلم وبغي في حق الله وفي حق هذا العبد أيضاً.(1/115)
قال: {وقال للمذنب: اذهب فادخل الجنة برحمتي }، ويؤخذ من هذا أنه كان مستحقاً للعقوبة؛ لأنه لو لم يكن مستحقاً للعقوبة لكان العتاب للمتألي بأن يقال له: عاتبت غير معاتب، وعاقبت غير معاقب، فكيف تتوعده وهو لم يذنب؟ لكنه قد أذنب، وإنما أدخله الله سبحانه وتعالى الجنة برحمته، وقد مات أيضاً وهو مُصِرٌّ على الذنب، ولو كان قد تاب لكان الجواب: كيف تقطع له بالنار وقد تاب؟ لكن قال له ربه تبارك وتعالى: {اذهب فادخل الجنة برحمتي }، فرحمة الله تبارك وتعالى وسعت كل شيء، ومن يشأ الله تعالى أن يرحمه رحمه وإن فعل ما فعل من الموبقات والذنوب، ولا يعني ذلك أن يطمئن أصحاب الوعيد ويأمنون! لكن نقول: ذلك راجع إلى مشيئة الله، وإلا فالاحتمال الآخر صعب جداً وهو النار، فلا أقل من أن يتوب العبد لينجو من عذاب الله سبحانه وتعالى ولو قبيل الموت.
قال: {وقال للآخر: اذهبوا به إلى النار }، فبعد الدعوة والعبادة والاجتهاد في الخير كانت خاتمة السوء. قال أبو هريرة رضي الله عنه : {والذي نفسي بيده لتكلم بكلمة أوبقت دنياه وآخرته }، أما دنياه فذهاب العمل والعبادة كلها هباء، وأما الآخرة فدخوله النار، نسأل الله العفو والعافية.(1/116)
وقد تعرضنا لحديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه في سوء الخاتمة: {إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها }، وقلنا: إن هذا الحديث لا يعني أن الإنسان يعمل بعمل أهل الجنة في ظاهر الأمر كما هو في بعض الروايات، وحمله عليه بعض العلماء قديماً وحديثاً، فلا يشترط ذلك؛ لأننا إذا قلنا: إن العبد إنما يعمل الخير في الظاهر، فهو في الباطن منافق وغير صادق، وإذا قلنا هذا فإن الحكمة المقصودة من الحديث تنتفي، وكأنه لم يبق له معنى؛ لأن من كان يعمل بعمل أهل الجنة في الظاهر فقط وهو في الباطن يعمل بعمل أهل النار؛ فهو في الحقيقة يعمل بعمل أهل النار، فما ينفعه الظاهر ولا يثاب عليه.
فالحديث فيه التخويف من سوء الخاتمة، ويبقى التخويف على بابه، ويبقى للحديث معناه من الزجر والوعيد؛ ليحذر العابد الصادق، والداعية المحسن، والمنيب القانت من الوقوع فيما قد تسوء به خاتمته، فهذا الرجل ثبتت له الشهادة بأنه مجتهد في العبادة وخطؤه أو ذنبه كان في الدعوة إلى الله لا في الذنوب والموبقات، مع أن الدعوة إلى الله عمل الأنبياء، قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ [يوسف:108]، لكن من هذا الباب زلَّ ووقع، فكانت خاتمته ونهايته هي النار بهذه الكلمة، وهذا مما يؤكد ويؤيد المعنى الذي قلناه، فيظل هذا الحديث على ظاهره وعلى بابه؛ تخويفاً للصالح المنيب القانت، بأنه ربما حبط عمله بكلمة أو بزلة ولم يلق لها بالاً، كما جاء في الحديث الآخر: {إن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً تهوي به في النار سبعين خريفاً }، وقد يقول الكلمة من رضا الله لا يلقي لها بالاً يرفعه الله بها الدرجات.(1/117)
فالواجب في باب التربية والتزكية: هو الاحتراز والتنبه، وعدم الاغترار والإعجاب بالعمل أو الركون إليه، وإن كان عبادات أو صلاة أو قراءة قرآن أو عمل خير ودعوة، فهذا شأن عباد الله الخائفين المراقبين، وإنما الأعمال بالخواتيم.
والشاهد من الحديث: أن إطلاق الوعيد على مستحقه في الجملة وعلى العموم يظل على بابه، وأما المعين فلا يجوز أن يقال في حقه إلاَّ ما يجوز للإنسان أن يشهد به عليه، وهذا الرجل قال وحكم بأمر لا تجوز معه الشهادة.
وهنا مسألة: هل يجوز لأحد أن يشهد بأن فلاناً يدخل النار أو لن يرحمه الله؟
الجواب: لا يجوز ذلك، أما ما كان عن يقين أو أمر تجوز معه الشهادة، بأن يكون هذا الشخص المعين قد استوفى شروط العقوبة، وانتفت عنه موانعها؛ فهذا يشهد له بذلك، متى تيقن الإنسان من ذلك، سواءً كان في التسمية، أو كان في الحكم وفي تحقيق المناط وفي تطبيق الحكم على موضعه وعلى محله.
الخطأ من أسباب عدم الشهادة على المعين بأنه من أهل الوعيد
يقول المصنف رحمه الله: [ولأن الشخص المعين يمكن أن يكون مجتهداً مخطئاً مغفوراً له]، وهذا أيضاً من رحمة الله وعفوه، فلو أن الله تبارك وتعالى يؤاخذ الناس بخطئهم لما نجا من عقوبته إلا المعصومون، وهم الأنبياء، ولكن الاجتهاد الخطأ مهما بلغ -كما قال شيخ الإسلام رحمه الله- كائناً ما كان، فهو مغفور له وصاحبه معذور، وقد يكون له أجر واحد إذا كان الخطأ باجتهاد، كما أن المجتهد المصيب له أجران، كما صح ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الفرق بين إطلاق الكفر على الفعل وإطلاقه على المعين
من درس: منهج أهل السنة والجماعة في تكفير المعين
الشرح:(1/118)
لقد أطال المصنف رحمه الله في هذا الموضوع، وكلامه واضح -والحمد لله- وسوف نستعرض كلامه ثم نعضده بكلام بعض العلماء الآخرين، مثل شيخ الإسلام وابن القيم ، وبعض علماء الدعوة، كالشيخ سليمان بن سحمان رحمهم الله وأمثالهم، ولكن لوضوحه ولتفصيله نستعرضه أولاً لنفهم مراده منه.
فقوله رحمه الله: "وأما الشخص المعين"، (أما) للتفصيل، وهذا دليل على أنه قد ذكر قبلها شيئاً آخر، وهو ما يتعلق بالفرقة، أي: (من قال كذا) أو (من اعتقد كذا)، على سبيل الإجمال، ولا يقصد بذلك إنساناً معيناً بذاته، كما قال المصنف سابقاً: "قد قال كثير من أهل السنة المشاهير بتكفير من قال بخلق القرآن، وأن الله لا يرى في الآخرة، ولا يعلم الأشياء قبل وقوعها"، ومثله ما ذكره أيضاً عن أبي حنيفة رحمه الله كغيره من علماء السلف أن: (من قال: القرآن مخلوق، فهو كافر)، وكما يقال أيضاً: من أنكر أسماء الله وصفاته، أو أنكر الرؤية فهو كافر، وهكذا...
فهذه العبارات كان السلف الصالح يطلقونها وهم أشد الناس تحرزاً، وأبعد الناس عن الوقوع في البغي أو الظلم أو الجور أو مجانبة العدل، ولا شك أن هذه الأقوال حق، لكن السلف الصالح رضي الله عنهم قالوها مطلقة لا معينة، ولذلك نجدهم في المعين قد يختلفون؛ فمثلاً: بشر المريسي منهم من كفره ومنهم من لم يكفره، وكذلك النظام ، لكن قد يتفقون على تكفير ضال خرج من الدين ومرق من الملة كالحلاج ؛ فإن كل من نقل سيرته من المؤرخين والعلماء والفقهاء قد اتفقوا على تكفيره، وكذلك الفلاسفة كفروا بأعيانهم؛ مثل الكندي ، والفارابي ، وابن سينا ، والرازي الطبيب ، وأمثالهم ممن نص على تكفيرهم بأعيانهم في كلام السلف وغيرهم، كما تمتلئ كتب الرجال بأنواع من هذا ممن اشتهر كفره وزندقته وإلحاده وخروجه من الدين.(1/119)
ويوجد كثير مختلف فيه، فمنهم من يعذره ومنهم من يكفره، كما ذكرنا عن بشر المريسي وغيره؛ وذلك لأن تطبيق الحكم على المعين قابل لاختلاف وجهات النظر، فالحكم العام على الفعل شيء، وتطبيقه وتنزيله على المعين شيء آخر.
ولنأخذ بعض الأحكام المعلومة غير مسألة التكفير في الأحكام التنفيذية؛ كالحدود مثلاً: فإن الله سبحانه وتعالى قد نص في القرآن على حد الزنا فقال: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ [النور:2]، فهذا حد ذكره الله سبحانه وتعالى صريحاً في كتابه، وهو أن من ارتكب جريمة الزنا فإنه يجلد مائة جلدة، وهذا الحد نعتقده وندين الله به، وهذا هو الواجب على كل مسلم، ولا يجوز اعتقاد غير ذلك؛ لأن الله تعالى نص على هذه العقوبة، كما نص الله سبحانه وتعالى في القرآن على حد السرقة في قوله: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [المائدة:38]، فنحن أيضاً نعتقد وندين الله سبحانه وتعالى بأن عقوبة السارق هي القطع، وهذا أمر غير قابل للنقاش، ومن اعتقد غير ذلك فقد رد ما في كتاب الله، لكن تطبيق هذه الحدود على معين لا بد أن تستوفي فيها الشروط وأن تنتفي الموانع، وذلك يحتاج إلى نظر يسمى: تحقيق المناط.(1/120)
وكذلك مسألة التكفير أو التبديع، فإذا قلنا: إن من فعل كذا فهو كافر، أو من فعل كذا فهو مبتدع، ولنا من الأدلة أنه قد ذُكِر ذلك في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، أو أنه مما ذكره السلف الصالح الذين لا يأخذون أحكامهم إلا من كتاب الله أو من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا خطأ في ذلك، بل نقول: يجب أن يقال: إن الكافر كافر، وإن المبتدع مبتدع، وإن الضال ضال، فكل ما أخبر به الله ورسوله ونقل عن السلف الصالح يجب أن يقال وأن يبلغ؛ حتى تكون الأمة على علم ومعرفة بهذه الأحكام، لكن المعين لا نطلق عليه الاسم وما يترتب على الاسم إلا ببينة؛ لأن مجرد الإطلاق ليس هو الهدف وإنما ما يترتب عليه، فلابد أن يكون لدينا بينة وعلم وبرهان من الله سبحانه وتعالى حتى نطلق ذلك.
يخطئ كثير من الناس في فهم هذه الأمور، فمثلاً: شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله يكفر عباد القبور، ففهم بعض الناس من ذلك أن كل من يذهب إلى قبر ويصلي عنده فإنه كافر مرتد خارج من الملة، وللشيخ رحمه الله كلام ينفي به عن نفسه هذه التهمة، فقال بعض الناس: إن الشيخ متناقض، أو كان له رأي ثم رجع عنه، أو غير ذلك.. وليس الأمر كذلك، فإن عقيدة الشيخ ودعوته التي دعا إليها هي أن من عبد غير الله فهو مشرك مرتد... إلخ.
أما في المعينين -كما هو مذهب أهل السنة والجماعة - فينظر في المسألة: فهل جاء هذا المعين لعبادة القبر أم لمجرد الزيارة؟ وهل هو خارج من الملة أو مبتدع؟ فإن بعض الناس لا يقع في الشرك عند القبور، وإنما يقع في بدعة.
فالمقصود أن هذا الأمر لما لم يفهم على حقيقته؛ كان ولا يزال موضع بحث ونقاش وخلاف بين كثير من الناس.
وبعض الناس يظن أن من الورع ألاَّ يطلق على فعل أو على وصف اسم الكفر أو البدعة، بل يقال: هذه أخطاء ومحرمات وأمور خطيرة... إلخ، ويقول: لا نتكلم بالكفر ولا نطلقه؛ لأنه أمر ليس بالسهل، وتترتب عليه أمور كثيرة.(1/121)
فنقول له: إن كنت تقول هذا في حق إنسان لم يكفره الله ولا رسوله فهذا صحيح، وإن كنت تقوله على سبيل التحرج؛ لأنك لا تعرف المعينين ولا تستطيع أن تجزم به، فهذا أيضاً صحيح.
أما إن كنت تتحرج أو تتحرز عن إطلاق شيء أطلقه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فهذا لا يجوز، كما أن الذي يطلق الألفاظ بغير حق يعد ظالماً باغياً.
حكم الشهادة على المعين بأنه من أهل الوعيد
من درس: منهج أهل السنة والجماعة في تكفير المعين
يقول المصنف رحمه الله: [وأما الشخص المعين إذا قيل: هل تشهدون أنه من أهل الوعيد وأنه كافر؟]، أي: ممن ينزل بهم الوعيد، كما ذكرنا لو أن إنساناً شهد بأن فلاناً من أهل الوعيد بناءً على أنه أكل مال اليتيم، أو زنى، أو شرب خمراً، أو سرق، أو نحو ذلك، "أو أنه كافر"، أي: إذا ارتكب مكفراً في نظر أحد، قال الشيخ: "فهذا لا نشهد عليه إلا بأمر تجوز معه الشهادة".
ولم يقل الشيخ: لا نشهد على أحدٍ أو لا نكفر أحداً بالكلية، فإن هذا ليس هو مذهب أهل السنة ، ومن الناس من يقول: لا نكفر أحداً بالكلية، ولا ننطق بكلمة الكفر بأفواهنا، ولا نطلقها في كتاباتنا، ومجرد أن يراها أو يسمعها يقشعر جلده وتشمئز نفسه، ويقول: هذه سبب الفتنة، وهي التي أدت إلى الخلاف منذ قديم الزمان، وهي التي منعتنا من توحيد الصفوف ومن جمع الكلمة.. ويأتي بعلل ما أنزل الله بها من سلطان!!
فنقول: ليس هذا هو المنهج الصحيح، فإن الشيخ يقول: "لا نشهد عليه إلا بأمر تجوز معه الشهادة"، والشهادة تجوز في الأمر المتيقن، فمن رأى إنساناً يسرق ويأخذ مالاً من حرز، أو يشرب خمراً، فإنه يشهد عليه.
فمن كان متيقناً من أمر فإنه يشهد به ولا حرج في ذلك، فيكون قد أدى ما عليه من الشهادة، بل قد يأثم إذا لم يشهد كما قال تعالى: وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ [البقرة:283]، فلو كتم شيئاً من الشهادة يترتب عليها حقوق أو مصالح للعباد فإنه آثم.(1/122)
فالشهادة يدلى بها وتقال وتبين، فلا ننفي مطلقاً بأن لا نشهد على معين بالكفر، وأيضاً لا نطلق الحكم جزافاً، فنقول: هذا المعين كافر، وهذا هو التوسط.
أما الفرق الضالة فإنها خالفت أهل السنة في هذا الأمر، فالمرجئة وأشباههم ابتعدوا عن إطلاق الكفر بالكلية!
والخوارج يكفرون الرجل بعينه! وإن كان من أفضل الناس ومن خيارهم؛ لأنه فعل فعلاً قد لا يكون كفراً ولا كبيرة، ولكنه في نظرهم كذلك.
وأهل السنة والجماعة هداهم الله تعالى للطريق الوسط بين هذين، فهم لا يكفرون أو يبدعون أو يضللون أو يفسقون إلاَّ بأمر تجوز معه الشهادة، أي: في حق المعين.
يقول المصنف رحمه الله: [فإنه من أعظم البغي أن يشهد على معين أن الله لا يغفر له ولا يرحمه بل يخلده في النار].
فمن ادعى أن فلاناً من الناس كافر، وهو على غير يقين وعلى غير علم بحاله وبحقيقة أمره، فقد بغى عليه أعظم البغي؛ لأن من لوازم ذلك ومما يترتب عليه: أن هذا الرجل سيكون خالداً مخلداً في النار، وأن الله لن يغفر له ولن يرحمه.
وأنه في هذه الدنيا ليس من المسلمين، ولا يقبل منه أي عمل، ويموت كافراً، ولا تتوفاه إلا ملائكة العذاب التي تتوفى الكافرين، ويعذب في قبره عذاب الكافرين، ويحشر يوم القيامة مع الكفار، ويكون مصيره النار والخلود فيها … إلخ، وكل هذه الأحكام تابعة للقول بأن فلاناً من الناس كافر.(1/123)
إذاً: هذه أمور ليست هينة حتى تطلق جزافاً؛ بل تحتاج إلى تبصر مهما بلغت الذنوب، وليس هناك جرم بعد الشرك بالله كقتل النفس، وقد قتل رجل مائة نفس، وفي طريقه إلى القرية الصالحة مات، ولو أن أحداً من الناس رأى حاله وظاهره لقال: هو كافر، وهو في النار، لا سيما وأنه قد يستشهد بآية القتل: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا [النساء:93]، ويقول: هذا إنسان فعل ما فعل فلا حرج أن أقول: هو خالد مخلد في النار! فنقول: هذا الاستدلال غير صحيح، فهذا الرجل قد تاب، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم توبته، وما ذهب إلى تلك القرية إلاَّ مهاجراً تائباً.
فسيقول الذي كفره: أنا لا أعلم ذلك.
فنقول: ما دمت لا تعلم فلا تكفر، فإنه مهما قتل أو زنى أو سرق أو ارتكب أي معصية أو كبيرة، لم يحكم الله ولا رسوله صلى الله عليه وسلم على فاعلها بالكفر؛ فلا يجوز أن تقول: قد كفر، وأنت لم تتأكد هل يستحق الكفر أم لا؟
وأيضاً من علمت كفره يقيناً فإنك تشهد عليه بالكفر دون أن تجزم أنه سيموت على ذلك؛ فما يدريك لعله قد يتوب! وهذا أمر مهم، ولا يعني ذلك أن الإنسان لا يكفر أحداً وإن ظهر كفره، وذلك حتى لا نقع في الطرف الآخر وهو التفريط، فإن بعض الناس قد يرى الكافر ويقول: لا أستطيع أن أكفره؛ لأنه يمكن أن يتوب.
فنقول: إذا تاب ورجع إلى الإسلام فارجع أنت أيضاً بالحكم له بالإسلام، وما دام أنه على هذا الكفر فاشهد له بالكفر.. فالمسألة فيها طرفان ووسط.
فمن هلك ومضى وأنت تعلم يقيناً أنه مات على الكفر ولا تعلم له توبة، فاشهد أنه مات على الكفر.
فإن قيل: أنت لا تعلم حاله في الباطن؟
قلنا: نحن لا نتكلم عن الباطن، لكن الله تعبدنا أن نحكم بالظاهر والله تعالى يتولى السرائر، فلو لم نكفر من مات على الكفر لاختل الأمر وأصبح الناس في شك؛ لأنه يمكن أن يموت بعض الكفار على الإسلام، فإذا جوزنا الإمكان فإنه يرد على كل.(1/124)
فنقول: إذا وجدت قرائن تصلح لأن تكون شبهات تحول دون الإطلاق فلا نطلق الحكم، وإن لم يكن إلا مجرد الاحتمال فلا يجوز البناء على الاحتمال ما دام أن الله تعالى أو الرسول صلى الله عليه وسلم نص على خلافه، فما حكم الله سبحانه وتعالى أو رسوله صلى الله عليه وسلم على قائله أو فاعله أو معتقده بالكفر، ونحن نعلم يقيناً أن رجلاً كان عليه إلى أن مات، فلا يرد احتمال أنه تاب قبل أن يموت، ونقول: من كان عنده بينة فليخبرنا، أما ما نعلمه يقيناً عنه فإنه لا يزول بمجرد الاحتمال أو الشك؛ فإن اليقين لا يزول بالشك.
يقول المصنف رحمه الله: [فإنه من أعظم البغي أن يشهد على معين أن الله لا يغفر له ولا يرحمه بل يخلده في النار، فإن هذا حكم الكافر بعد الموت]، أي: أن الشهادة بذلك هي حكم من يموت وهو يهودي أو نصراني أو من أهل الكفر والشرك الأصلي، أما المسلم أو من كان من أهل القبلة فإننا لا نطلق ذلك عليه إلا في مثل ما تجوز عليه الشهادة، بأن نشهد له على يقين؛ لأن هذه الأحكام لازمة ومترتبة على هذا القول.
ونوضح ذلك بمثال على الشهادة لمعين من أهل الكفر بأنه من أهل النار:
مثال ذلك: رجل يهودي نشأ مع اليهود ومات على دين اليهودية ، فهل نشهد له بالنار أم لا؟
الجواب: لا شك في هذا، ولا يأخذنا الورع فنقول: لا ندري! ولا يعني ذلك أنه (100%) لم يسلم منهم أحد؛ لكن مجرد الاحتمال لا يلغي الأصل.
أما حكمه عند الله فهذا شيء آخر، فمن مات في بيئة لم يبلغه الدين ولا الحق، ولا سمع عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن القرآن ولا عن الإيمان شيئاً، فهذا حكمه حكم أهل الفترة، والراجح في حكم أهل الفترة أنهم يمتحنون يوم القيامة، وبذلك يصدق عليهم أن الله سبحانه وتعالى لا يظلم أحداً، ولن يدخلهم النار إلاَّ وهم مستحقون، فينتفي الظلم وتتحقق الرحمة والحكمة والعدل من الله سبحانه وتعالى بأن يمتحنهم، وهذا أصل كلي يدل على ذلك ويشهد له.(1/125)
فمن الأدلة التفصيلية حديث الامتحان، وقد روي بأسانيد بعضها حسن وبعضها ضعيف، لكن يشد بعضها بعضاً، وقد فصل ابن كثير رحمه الله في طرقه تفصيلاً لا بأس به عند تفسير قول الله سبحانه وتعالى: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء:15].
شرح حديث: (كان رجلان في بني إسرائيل متواخيين)
من درس: منهج أهل السنة والجماعة في تكفير المعين
قال المصنف رحمه الله: [ولهذا ذكر أبو داود ...]، هذا الحديث دليل على ما ذكره الشيخ رحمه الله من أنه لا يجزم ولا يقطع للمعين بغير علم، وأنه من البغي والظلم ومن القول على الله تعالى بغير علم. قال المصنف: [عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول صلى الله عليه وسلم يقول: {كان رجلان في بني إسرائيل... }].
(كان) هنا تامة بمعنى: وُجد، ويصح أن تكون ناقصة ويكون (متواخيين) خبرها، وقوله: (متواخيين)، أي: أصدقاء، ولا يشترط أن يكونا أخوين من النسب، وإنما كان بينهما تآخٍ ومحبة ومودة.
{فكان أحدهما يذنب والآخر مجتهد في العبادة }.
كان أحدهما على الصلاح والاستقامة، ولم يكتب للآخر أن يستقيم على الدين، وهذا في أول الأمر وظاهر الحال، فقد اختلفا في الطريق ولكن جمعت بينهما رابطة الأخوة والصداقة، {فكان لا يزال المجتهد يرى الآخر على الذنب، فيقول: أقصر }، وهذا عمل خير، فقد اجتمعت في هذا الرجل صفتان: الصفة الأولى: أنه مجتهد في العبادة. والصفة الثانية: أنه يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ولم تمنعه الصداقة والعلاقة والأخوة أن ينكر على صاحب المنكر.(1/126)
وبعض الناس يظن مادام أنه داعية يدعو الناس إلى الحق ويأمرهم وينهاهم، فكأن لديه موثقاً من الله أنه آمن وناجٍ من عذاب الله، وأنه لن يضره شيء! وهذا خطأ، فإن الواجب هو الحذر؛ لأننا قد نقع في مدحضة أو مزلة ونحن لا نشعر، فلينتبه الدعاة إلى الله لهذه المسألة، فإن هذا رجل مجتهد في العبادة وداعية إلى الله، ولولا أنه داعية لما كان يدعو هذا المؤاخي له؛ لأن العادة أن بعض الناس يدعو الآخرين؛ لكنه لا يدعو صديقه وقريبه، ومحك الحقيقة هو دعوة الصديق أو القريب أو الزوجة أو الزوج أو الأبناء وما أشبه ذلك؛ لأن عادة الناس جرت أن يداهنوا من كان لهم معه علاقة أو صلة أو ما أشبه ذلك.
فهذا الرجل داعية ومجتهد في الخير، فكان لا يزال يرى الآخر على الذنب، فيقول: (أقصر) يعظه ويذكره وينصحه بأن يدع هذا الذنب، {فوجده يوماً على ذنب }، أي: مما نهى الله سبحانه وتعالى عنه، إما ترك الواجبات، كأن يكون غافلاً عن الصلاة، أو عن غيرها من الواجبات، أو فعل المنهيات، كأن يفعل فاحشة أو موبقة أو ما أشبه ذلك، المهم أنه وجده على ذنب، {فقال له: أقصر }، فكرر عليه النصح وكرر له الدعوة.
فقال: {خلني وربي! أبعثت علي رقيباً؟ }، وقد يُفهم من الحديث: أنه إذا قال لك أخذ هذه العبارة فمعنى ذلك ألا تدعوه ولا تكلمه، وليس هذا هو المقصود، فليس كل عبارة يقولها الإنسان -وإن كانت حقاً أو شبيهة بالحق- تجعلك تترك دعوته أو نصحه، والمشكلة في هذا الرجل ليست في أمره ونهيه، وإنما في بغيه وظلمه عندما قال: {والله لا يغفر الله لك }، لكنه لو لم يقل ذلك حتى وإن قال له المدعو أو صاحب المنكر: {أبعثت علي رقيباً؟! } وقال: لم أبعث عليك رقيباً، وإنما أمرت أن آمرك وأنهاك، لكان هذا هو الرد الذي ينبغي أن يقوله.(1/127)
فقال: {خلني وربي! أبعثت علي رقيباً؟! }، وهذا دليل على أن الرجل فيه شيء من الخير، لكنه أظهر تضجره وتبرمه من صديقه الذي يدعوه دائماً، فيقول: كأنك واقف فوق رأسي مترصد لجميع أخطائي! {خلني وربي، أبعثت علي رقيباً؟! }، فهو مذنب، لكنه لم يقل ما يقوله المجاهرون والفساق في هذا الزمان: أنا على صواب، وهذا ذنب فيه اختلاف، وبعض العلماء يقول: لا بأس به! لا. بل فيه نزعة خير {خلني وربي }، أي: أنا إن أذنبت ففي حق الله، وأنت لم تبعث علي رقيباً.
إذاً: هو متضجر ومتذمر من هذا الإنكار.
ونستنتج من هذا: أن الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر عليه ألا يتسرع فيظلم كما ظلم هذا الرجل، وأيضاً لا يدفع المدعو إلى الملل والضجر؛ لأنه إذا دفع المدعو أو المنكَر عليه إلى أن يمل ويتضجر منه؛ فإنه لن يقبل الحق الذي يدعوه إليه، وهذا أمر مشاهد، فإن بعض الناس يدعوه البعض أياماً وسنين ولا يقبل، ثم يأتيه آخر فيهتدي بإذن الله ويقبل منه الخير؛ لأن هذا الأسلوب كان ألطف وأرق وألين.
وأيضاً فإن المتابعة الشديدة والمحاسبة والمراقبة ليست وسيلة نافعة من وسائل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلا يشترط التوبيخ الدائم وراء كل ذنب، والتأنيب المستمر عقب كل خطيئة، فلابد أن يكون الداعية حكيماً، فإنه لم يبعث رقيباً، لكن يجب عليه أن ينكر المنكر، وقد وقع الدعاة في هذا الأمر فإن من الدعاة من ترك الدعوة بالكلية فلا يأمر ولا ينهي ولا يدعو، ومنهم من عنده هذه الرقابة التي تجعله دائماً وراء كل عمل ووراء كل خطأ يحاسب عليه.
{فقال: والله لا يغفر الله لك، أو لا يدخلك الله الجنة }، لما رأى ملله وتضجره منه، رد عليه بهذا الرد والعياذ بالله! فأتاه الشيطان في هذه الحالة النفسية، فقال كما قال أبو هريرة رضي الله عنه: {قال كلمة أوبقت دنياه وآخرته }.(1/128)
فقد شعر بأن هذا المدعو ميئوس منه، فتجاوز الأمر والنهي والموعظة والتذكير وأبى إلا أن يتدخل في أمر هو من اختصاص الله سبحانه وتعالى، فتألى على الله، وقال على الله بغير علم ولا حجة ولا برهان: {والله لا يغفر الله لك } وما أدراك يا مسكين؟! كيف تقول هذا؟! كيف تقسم وتجزم بذلك؟ أعندك من الله موثق أو عهد حتى تقول هذا الكلام؟!
لقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم في قنوته على قبائل وأحياء من العرب آذته، وحقاً كان صلى الله عليه وسلم على صواب ويقين من أذية من آذاه ومما فعلوا به وبأصحابه، وكانوا كفاراً حقاً، ومع ذلك يقول الله تبارك وتعالى: لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ [آل عمران:128]، سبحان الله! ليس لك من الأمر شيء، فإن أمرهم إلى الله سبحانه وتعالى، فقد يتوبون أو يعذبهم.
فيؤخذ من ذلك: أن الداعية عليه ألاَّ يتجاوز أمر الله سبحانه وتعالى في دعوته، بل يقتصر على الدعوة كما أمر الله سبحانه وتعالى، ثم تجتمع الخصوم عند الله سبحانه وتعالى، كما جاء في الحديث: {حتى إنه يقتص للشاة الجماء من الشاة القرناء }، ولما مر النبي صلى الله عليه وسلم بعنزتين تنتطحان قال: {والله إن الله ليعلم فيم تنتطحان وسيقضي بينهما }، فلا يوجد خصمان إلاَّ والله تبارك وتعالى يعلم فيما اختصما وسيقضي بينهما يوم القيامة، حتى الدواب، فإن كانت الشاة القرناء طغت وبغت على الجلحاء التي لا قرون لها، فيوم القيامة يكون القصاص، وهذه سنة لا يدركها الظالمون والمتجبرون الذين أعطاهم الله سبحانه وتعالى قوة أو سلطة فيظلمون الضعفاء، وهناك عند الله سبحانه وتعالى تجتمع الخصوم.(1/129)
فجاء الرجلان المتخاصمان فوقفا بين يدي رب العالمين، والمطالب هنا هو الموعود بأن الله لا يغفر له ولا يرحمه ولا يدخله الجنة، ولكن الذي تولى الخصومة هو رب العالمين؛ لأن الموضوع يتعلق بصفات الله سبحانه وتعالى؛ لأن الرجل تألى على الله سبحانه وتعالى ولم يقتصر على ما أمره الله به.
فالخصم هنا هو رب العالمين، وإن كان المظلوم هو الذي تعرض لتلك التهمة وذلك التخويف بغير حق، وذلك أنه ربما يكون قد صدقه، فإن بعض المدعوين إذا جاء شخص وأيسه وقنطه صدقه؛ لأنه يظن أنه على علم وعلى خير، فإذا قال: هذه ردة، وهذا كفر، ولن يغفر لك، صدقه، وهنا فائدة دعوية: وهي أن المذنب إذا قيل له أنه غير مغفور له أو لا توبة له، فلن يتوب بل سيستمر ويتعمد المعصية، كما في قصة قاتل المائة، لما أفتاه العابد الجاهل بأنه لا توبة له؛ أكمل به المائة، فاعتقد أن من قتل تسعة وتسعين أو مائة أو ألفاً سواء من جهة أنه لا توبة له، فليكثر من القتل إذاً، عياذاً بالله!(1/130)
نقول: فكان الخصم هو رب العالمين سبحانه وتعالى، فقال لهذا المجتهد العابد الداعية المخطئ: {أكنت بي عالماً؟ أو كنت على ما في يدي قادراً؟! } (أكنت بي عالماً) أي: أعلمت أني لا أغفر لمن فعل الذنب؟ كيف علمت ذلك؟ بل المقطوع به أن الله سبحانه وتعالى يخبر على لسان رسله أنه يغفر لمن يشاء، وهذا عيسى عليه السلام يقول عندما سأله الله سبحانه وتعالى: وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ [المائدة:116] إلى أن يقول: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [المائدة:118]، وقد ورد أن الله سبحانه وتعالى قد يعذب الشخص وقد لا يعذبه: يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ [المائدة:40]، وعليه: فمن أين قلت: إن الله لا يغفر لفلان المعين؟
فالذي أنزله الله وأعلم به عباده على لسان أنبيائه هو أنه يغفر الذنوب لمن يشاء، وأن الذي يحرمه من الجنة ويحرمه من رحمته هو الكافر، فهل لديك علم بأن هذا المعين كافر، وأن الله لن يرحمه ولن يدخله الجنة؟
قال: {أو كنت على ما في يدي قادراً؟! }، أي: هل أعطاك الله تبارك وتعالى النار وأقدرك على أن تدخل من تشاء وتخرج من تشاء، فجزمت وقطعت أن هذا سيدخلها؟
فليس هو على علم من الله، وليس قادراً على ما في يدي الله سبحانه وتعالى، فالجنة والنار والعذاب والسعادة والشقاء والتوفيق والخذلان من الله سبحانه وتعالى وليس لأحد من الناس.
إذاً: هذا ظلم وبغي في حق الله وفي حق هذا العبد أيضاً.(1/131)
قال: {وقال للمذنب: اذهب فادخل الجنة برحمتي }، ويؤخذ من هذا أنه كان مستحقاً للعقوبة؛ لأنه لو لم يكن مستحقاً للعقوبة لكان العتاب للمتألي بأن يقال له: عاتبت غير معاتب، وعاقبت غير معاقب، فكيف تتوعده وهو لم يذنب؟ لكنه قد أذنب، وإنما أدخله الله سبحانه وتعالى الجنة برحمته، وقد مات أيضاً وهو مُصِرٌّ على الذنب، ولو كان قد تاب لكان الجواب: كيف تقطع له بالنار وقد تاب؟ لكن قال له ربه تبارك وتعالى: {اذهب فادخل الجنة برحمتي }، فرحمة الله تبارك وتعالى وسعت كل شيء، ومن يشأ الله تعالى أن يرحمه رحمه وإن فعل ما فعل من الموبقات والذنوب، ولا يعني ذلك أن يطمئن أصحاب الوعيد ويأمنون! لكن نقول: ذلك راجع إلى مشيئة الله، وإلا فالاحتمال الآخر صعب جداً وهو النار، فلا أقل من أن يتوب العبد لينجو من عذاب الله سبحانه وتعالى ولو قبيل الموت.
قال: {وقال للآخر: اذهبوا به إلى النار }، فبعد الدعوة والعبادة والاجتهاد في الخير كانت خاتمة السوء. قال أبو هريرة رضي الله عنه : {والذي نفسي بيده لتكلم بكلمة أوبقت دنياه وآخرته }، أما دنياه فذهاب العمل والعبادة كلها هباء، وأما الآخرة فدخوله النار، نسأل الله العفو والعافية.(1/132)
وقد تعرضنا لحديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه في سوء الخاتمة: {إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها }، وقلنا: إن هذا الحديث لا يعني أن الإنسان يعمل بعمل أهل الجنة في ظاهر الأمر كما هو في بعض الروايات، وحمله عليه بعض العلماء قديماً وحديثاً، فلا يشترط ذلك؛ لأننا إذا قلنا: إن العبد إنما يعمل الخير في الظاهر، فهو في الباطن منافق وغير صادق، وإذا قلنا هذا فإن الحكمة المقصودة من الحديث تنتفي، وكأنه لم يبق له معنى؛ لأن من كان يعمل بعمل أهل الجنة في الظاهر فقط وهو في الباطن يعمل بعمل أهل النار؛ فهو في الحقيقة يعمل بعمل أهل النار، فما ينفعه الظاهر ولا يثاب عليه.
فالحديث فيه التخويف من سوء الخاتمة، ويبقى التخويف على بابه، ويبقى للحديث معناه من الزجر والوعيد؛ ليحذر العابد الصادق، والداعية المحسن، والمنيب القانت من الوقوع فيما قد تسوء به خاتمته، فهذا الرجل ثبتت له الشهادة بأنه مجتهد في العبادة وخطؤه أو ذنبه كان في الدعوة إلى الله لا في الذنوب والموبقات، مع أن الدعوة إلى الله عمل الأنبياء، قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ [يوسف:108]، لكن من هذا الباب زلَّ ووقع، فكانت خاتمته ونهايته هي النار بهذه الكلمة، وهذا مما يؤكد ويؤيد المعنى الذي قلناه، فيظل هذا الحديث على ظاهره وعلى بابه؛ تخويفاً للصالح المنيب القانت، بأنه ربما حبط عمله بكلمة أو بزلة ولم يلق لها بالاً، كما جاء في الحديث الآخر: {إن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً تهوي به في النار سبعين خريفاً }، وقد يقول الكلمة من رضا الله لا يلقي لها بالاً يرفعه الله بها الدرجات.(1/133)
فالواجب في باب التربية والتزكية: هو الاحتراز والتنبه، وعدم الاغترار والإعجاب بالعمل أو الركون إليه، وإن كان عبادات أو صلاة أو قراءة قرآن أو عمل خير ودعوة، فهذا شأن عباد الله الخائفين المراقبين، وإنما الأعمال بالخواتيم.
والشاهد من الحديث: أن إطلاق الوعيد على مستحقه في الجملة وعلى العموم يظل على بابه، وأما المعين فلا يجوز أن يقال في حقه إلاَّ ما يجوز للإنسان أن يشهد به عليه، وهذا الرجل قال وحكم بأمر لا تجوز معه الشهادة.
وهنا مسألة: هل يجوز لأحد أن يشهد بأن فلاناً يدخل النار أو لن يرحمه الله؟
الجواب: لا يجوز ذلك، أما ما كان عن يقين أو أمر تجوز معه الشهادة، بأن يكون هذا الشخص المعين قد استوفى شروط العقوبة، وانتفت عنه موانعها؛ فهذا يشهد له بذلك، متى تيقن الإنسان من ذلك، سواءً كان في التسمية، أو كان في الحكم وفي تحقيق المناط وفي تطبيق الحكم على موضعه وعلى محله.
الخطأ من أسباب عدم الشهادة على المعين بأنه من أهل الوعيد
من درس: منهج أهل السنة والجماعة في تكفير المعين
يقول المصنف رحمه الله: [ولأن الشخص المعين يمكن أن يكون مجتهداً مخطئاً مغفوراً له]، وهذا أيضاً من رحمة الله وعفوه، فلو أن الله تبارك وتعالى يؤاخذ الناس بخطئهم لما نجا من عقوبته إلا المعصومون، وهم الأنبياء، ولكن الاجتهاد الخطأ مهما بلغ -كما قال شيخ الإسلام رحمه الله- كائناً ما كان، فهو مغفور له وصاحبه معذور، وقد يكون له أجر واحد إذا كان الخطأ باجتهاد، كما أن المجتهد المصيب له أجران، كما صح ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الجهل مانع من موانع التكفير
من درس: التكفير وضوابطه (الحلقة السادسة)
قال المصنف رحمه الله تعالى:(1/134)
[ولأن الشخص المعين يمكن أن يكون مجتهداً مخطئاً مغفوراً له، ويمكن أن يكون ممن لم يبلغه ما وراء ذلك من النصوص، ويمكن أن يكون له إيمان عظيم وحسنات أوجبت له رحمة الله، كما غفر للذي قال: إذا متُّ فاسحقوني ثم ذُرُّوني.. ثم غفر الله له لخشيته، وكان يظن أن الله لا يقدر على جمعه وإعادته، أو شك في ذلك.
لكن هذا التوقف في أمر الآخرة لا يمنعنا أن نعاقبه في الدنيا لمنع بدعته، وأن نستتيبه، فإن تاب وإلا قتلناه. ]
الشرح: هذا مثال آخر لكون المعين قد لا يندرج تحت الوعيد العام؛ فإن الإنسان قد يفعل الكفر أو يقوله، لكنه لا يندرج تحت الوعيد العام في التكفير أو التضليل أو التفسيق؛ لمانع من الموانع قام به، وقد ذكر المصنف من الموانع: أن الشخص المعين يمكن أن يكون مجتهداً مخطئاً مغفوراً له، فقد يكون مذنباً، وقد يكون جاهلاً، كما يظهر من هذا الحديث، أن الحامل لصاحبه على أن قال ما قال هو الجهل، وسوف نفصل الكلام في هذا الحديث بعد أن نذكر بعض ألفاظه.
حديث الرجل الذي قال لبنيه (إذا مت فاسحقوني)
من درس: التكفير وضوابطه (الحلقة السادسة)
صحة الحديث والرد على من أنكره
هذا الحديث متفق عليه، رواه الإمام البخاري والإمام مسلم ، ورواه غيرهما من الأئمة، فهو حديث صحيح ثابت، ومن رده فقد ردَّ حديثاً صحيحاً ثابتاً من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا دليل له على رده، ولم يرده أحد أولم يعمل به بناءً على دليل علمي أو شبهة، وإنما غاية ما عندهم أن يقولوا: إنه مخالف للقطعيات أو للكليات، أو مخالف للأصول، أو ما أشبه ذلك، وهذا كله من معارضة الحق بالباطل؛ لأن الأصول والقطعيات عندنا هي كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهناك فرق بين القواعد العقلية والقواعد الشرعية: فالقواعد العقلية لا تقبل التخصيص، فإذا وُجدت جزئية واحدة، أو مثال واحد لا تنطبق عليه القاعدة؛ بطلت القاعدة.(1/135)
أما القواعد الشرعية: فإنها وإن كانت قطعية فإنها تقبل التخصيص وتقبل التقييد.
فهذا الحديث وأمثاله هو أصل برأسه، إذْ قد قاله النبي صلى الله عليه وسلم وصحّ عنه، ولا يقال: إنه عارض الأصول.
ذكر روايات الحديث التي في الصحيح
وقد رواه الأئمة عن جمع من الصحابة، منهم: أبو سعيد الخدري ، وحذيفة ، وأبو هريرة رضي الله تعالى عنهم، وغيرهم كما في بعض الروايات، لكن هذه الروايات هي التي في الصحيح، فقد رواه الإمام البخاري عن هؤلاء الثلاثة:
رواية أبي سعيد الخدري رضي الله عنه
الرواية الأولى: رواية أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم: {أن رجلاً كان قبلكم رغسه الله مالاً، فقال لبنيه لما حُضر: أي أب كنت لكم؟ قالوا: خير أب، قال: فإني لم أعمل خيراً قط، فإذا متُ فأحرقوني، ثم اسحقوني، ثم ذرُّوني في يومٍ عاصف، ففعلوا، فجمعه الله عز وجل، فقال: ما حملك؟ قال: مخافتك، فتلقاه برحمته }.
هذا الرجل من بني إسرائيل ممن كان قبلنا {رغسه الله مالاً } أي: أعطاه الله مالاً ووسع عليه، وقيل: إن الرواية الصحيحة {رأسه}.(1/136)
{فقال لبنيه لما حُضر } أي: عندما جاءه الموت وحضره، {أي أبٍ كنتُ لكم؟ } يسأل أبناءه فيقول لهم: يا أبنائي! كيف كانت أبوتي ومعاملتي لكم؟ {قالوا: خير أب }، وأبوهم يريد بذلك أن يستوثق منهم، فكأنه يقول: مقابل إحساني إليكم وتربيتي لكم وأبوتي الحانية عليكم ... إلخ؛ أريد منكم أن تنقذوني من عذاب الله {قال: فإني لم أعمل خيراً قط }، ولا يلزم من كونه لم يعمل خيراً قط، أن يكون تاركاً لجميع الفرائض مرتكباً لجميع المحرمات، لكن قد يقال: إنه قالها هضماً للنفس، واعترافاً بالتقصير، فهذا الرجل لا ريب أنه من أهل التوحيد، وإلا لما استحق رحمة الله سبحانه وتعالى، فإن الكفار ملعونون مطرودون من رحمة الله، لكن هذا الرجل لم يعمل خيراً قط، ومعناه كما جاء في بعض الروايات: أنه أسرف على نفسه في المعاصي، وفرط في حق الله؛ تركاً للواجبات، وارتكاباً للمحظورات، فقال: {فإذا أنا مت فأحرقوني ثم اسحقوني، ثم ذروني في يوم عاصف } واليوم العاصف هو الذي تكون الريح فيه شديدة، فهو يريد منهم أن يذروه كما في قوله تعالى: تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ [الكهف:45]، بمعنى: أن يحرقوه ثم يسحقوه ثم يطحنوه، ثم يذروه في يوم عاصف، فتذهب به الريح في كل مكان، {ففعلوا، فجمعه الله عز وجل، فقال: ما حملك؟ }، أي: ما الذي دفعك إلى ذلك؟ وما الذي حملك على ما صنعت؟ وما سبب الإقدام على هذا الفعل؟ {قال: مخافتك، فتلقاه برحمته }.
رواية حذيفة بن اليمان رضي الله عنه(1/137)
الرواية الثانية: رواية حذيفة رضي الله تعالى عنه أن عقبة قال له: ألا تحدثنا ما سمعت من النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: سمعته يقول: {إن رجلاً حضره الموت، لما أيس من الحياة أوصى أهله }، وفي الرواية الأولى: (أبناءه)، قال: {إذا مت فاجمعوا لي حطباً كثيراً، ثم أوروا ناراً، حتى إذا أكلت لحمي وخلصت إلى عظمي، فخذوها فاطحنوها، فدرُّوني في اليم في يوم حارٍّ -أو راحٍّ- } (في اليم) أي: في البحر، (في يوم حارٍ -أو راحٍّ-)، قيل: من الحور، وقيل: في يوم حانٍ، فإن العرب تقول إذا اشتدت الريح: تحن كحنين الإبل، أو تحور كحور الإبل، (أو راحٍّ) أي: شديد الريح، {فجمعه الله، فقال: لِمَ فعلت؟ قال: خشيتك. فغفر الله له، فقال عقبة : وأنا سمعته يقول }. فالحديث من رواية عقبة وحذيفة رضي الله عنهما.
رواية أبي هريرة رضي الله عنه
الرواية الثالثة: رواية أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، إلا أنه قال في أولها: {كان رجل يسرف على نفسه في المعاصي، فلما حضره الموت قال لبنيه: ... } إلخ الحديث.
شرح الحديث
وقد ذكر الإمام البخاري رحمه الله هذا الحديث في كتاب الرقاق، وفي كتاب التوحيد، وفي كتاب أخبار الأنبياء، وبوب له في كتاب الرقاق: (باب الخوف من الله)، وهذا من فقه الإمام البخاري رحمه الله، وكما قال العلماء: فقه البخاري في تراجمه.
ومن هنا نعلم ما يريده البخاري رحمه الله وما الذي يختاره في معنى هذا الحديث؛ لأن الحديث فيه خلاف كبير، فالبخاري رحمه الله عندما يضعه في باب معين ويختار له ترجمة معينة؛ فإنه يضعه في الباب الذي يرى أنه يدل عليه، فقد قال رحمه الله وغفر له: (باب الخوف من الله)، فلينتبه لهذه الترجمة!(1/138)
عن حذيفة رضي الله عنه مرفوعاً: {كان رجل ممن كان قبلكم يسيء الظن بعمله }، ولهذا قال في الرواية الأولى: {لم أعمل خيراً قط }، وفي رواية: (لم يبتئر خيراً قط) فقد كان يسيء الظن بعمله، وقد جاء في بعض الروايات: أنه (كان نباشاً)، ينبش القبور فيسرق الأكفان وما قد يجد فيها، وهذا الفعل من أقبح أنواع الجرائم، فإن الإنسان إذا سرق الأحياء فهي جريمة بشعة وشنيعة، فكيف إذا سرق الأموات؟! ومعنى ذلك: أن الخوف من الله والخوف من الموت وتذكر الآخرة غائب عن ذهنه تماماً، فإن بعض الناس -وإن كان مسرفاً في المعاصي- إذا رأى جنازة أو ميتاً أو مقبرة خاف وارتدع، أما الذي يقدم على سرقة القبور ويحفرها وينبشها ليأخذ ما فيها من الأكفان؛ فإن هذا دليل على قسوة القلب وغلظته وبعده عن الله، وأنه لا يفكر في اليوم الآخر، ولا يخاف الله، ولا يرجو لقاءه، وهذا العمل وأعمال أخرى -كما يبدو من ظاهر الروايات- تستحق أن يُساءَ الظن بها.
{فقال لأهله: إذا أنا مت فخذوني فذروني في البحر في يوم صائف }، ولا تعارض بين الروايات، فقد ورد: {نصفه في البر ونصفه في البحر }، المهم أنه حدد لهم (في يوم صائف)، أي: يوم عاصف، شديد الرياح، فبعد أن تطحن عظامه يذر بعضها في البر وبعضها في البحر؛ ليكون -كما يظن- أصعب إعادة؛ فهو يظن أنه لو بقي على هيئته ووضع في القبر، فستكون إعادته سهلة، لكن إذا تفرق بهذا الشكل فسوف يغيب فكأنه يغيب ويتلاشى تماماً، ولن يبعث ولن يحاسب ولن يعاقب. قال: {ففعلوا به، فجمعه الله، ثم قال: ما حملك على الذي صنعت؟ قال: ما حملني عليه إلا مخافتك، فغفر له }.(1/139)
وعن أبي سعيد رضي الله تعالى عنه، {أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر رجلاً فيمن كان قبلكم آتاه الله مالاً وولداً }، أي: أعطاه الله مالاً وولداً، وفي الرواية السابقة: (رغسه أو رأسه)، وهي بمعنى واحد. {فلما حضر قال لبنيه: أي أبٍ كنت لكم؟ } (أيّ) اسم استفهام منصوب على أنه خبر كان مقدم، {قالوا: خير أب } كما في الرواية الأولى، فهو أراد أن يستوثق منهم بأنهم سوف يمتثلون ما يريد، قال: {فإنه لم يبتئر عند الله خيراً فسرها قتادة : لم يدخر }، وهذه الرواية فيها الثقات، فإن الرجل قال: فإني لم أبتئر، لكن الصحابي أو الراوي عدل عن قوله: (فإني) فقال: (فإنه)، كما جاء في حديث موت أبي طالب قال: {هو على ملة عبد المطلب }، فعدل الراوي عن أن يقول: (أنا)، وهذا من حسن الكلام، أن يعدل الإنسان عما لا يستساغ أن يقوله، وخاصةً في مثل هذا الأمر؛ لأن فيه كفراً والعياذ بالله! وهنا الأمر أخف من الكفر، لكن الراوي عدل عنه فقال: {قال: فإنه لم يبتئر عند الله خيراً }، أي: قال الرجل لأبنائه: أنا لم أدخر عند الله خيراً قط، فمعنى ذلك: أنا قادم على مصير خطير، فماذا أرجو وقد حضر الموت وحان اللقاء؟ فيقول لأبنائه: لابد من حيلة، فأعينوني على الخلاص من هذه المشكلة، وكان الحل الذي تخيله وظنه هو هذا. قال: {وإن يقدم على الله يعذبه }، وفي بعض الروايات: {لئن قدر الله علي ليعذبني }، وهذا سنذكره فيما بعد؛ لأن قوله: (قدر) جاء في بعض الروايات فقط، ولذلك فقد أخطأ من قال: إن إنكاره أو شكه في قدرة الله ناشئ من قوله: (لئن قدر علي)، فإن قوله هذا ليس شرطاً في إنكاره للقدرة، فإن الروايات التي ذكرناها وليس فيها ذكر القدرة، الظاهر منها أنه ليس موقناً بقدرة الله.(1/140)
فالرجل يريد أن يتخلص ويفر من عقاب الله، وظن أن هذه الوسيلة مؤدية إلى الخلاص، فقال: {وإن يقدم على الله يعذبه، فانظروا فإذا مت فأحرقوني، حتى إذا صرتُ فحماً فاسحقوني -أو قال: فاسهكوني- ثم إذا كان ريحٌ عاصف فاذروني فيها }، وفي هذه الرواية زيادة بعض المعاني، فإن قوله: {إذا مت فأحرقوني، حتى إذا صرت فحماً } أي: اجمعوا حطباً، وأحرقوا الجسد حتى لا يبقى منه شيء، ثم إذا احترقت -أو امتحشت- العظام فاسحقوها، وانتظروا حتى إذا كانت ريح عاصف فاذروه فيها، واجعلوا بعضه في البر وبعضه في البحر، وهذا غاية ما يمكن أن يُتَصور من التلاشي، وفقدان المادة التي يعاد أو يبعث منها الإنسان.
{فأخذ مواثيقهم على ذلك }، وعند مسلم : {فأخذ منهم يميناً }، فعاهدوه وحلفوا له بالأيمان أنه إذا مات أن يفعلوا به هكذا، فلما أخذ منهم الموثق على ذلك مات، والتقدير: فمات ففعلوا، {فقال الله: كن }، هذه قدرة الله تعالى كما قال سبحانه: قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ [يس:78-79]، وقال عز وجل: كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ [الأعراف:29] وقال تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [الروم:27]، فهو أهون عليه، سبحانه وتعالى، ولا فرق عند الله تعالى سواء بقي الإنسان على هيئته، أو سحق وطحن، أو أكله السبع، أو الحوت، أو رمي في أي مكان ... فلا يؤثر ذلك في شيء من قدرة الله سبحانه وتعالى.
فلهذا قال الله سبحانه وتعالى: {كن، فإذا رجلٌ قائم }، وهذا مصداق قوله تعالى: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس:82]، فإذا رجلٌ قائم، من البر ومن البحر.. العظام المطحونة.. اللحم الذي أكلته النار.. كل شيء سحق وطحن وذُري، أعاده الله سبحانه وتعالى كما كان، فإذا به رجل قائم بين يدي الله سبحانه وتعالى.(1/141)
هل وقعت المساءلة للرجل من الله تعالى أم لم تقع؟
يورد البعض سؤالاً حول قصة هذا الرجل فيقولون: هل وقعت المسائلة لهذا الرجل من الله على الحقيقة في قبره، أم أنه حكاية لما سيقع في يوم القيامة؟
فالظاهر أنه وقع قبل يوم القيامة، وإن كان بعض العلماء يقول: إن هذا ذكر لما سيكون يوم القيامة.
وعلى أية حال: إن كان ذلك قد وقع -وهو الظاهر الذي نراه- فهو ظاهر الحديث، وإذا لم يقع، فهو -كما ذكرنا- من باب أن الله سبحانه -وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم- قد يخبر عن أشياء مستقبلية لم تقع على أنها قد وقعت؛ لتيقن وتحقق وقوعها كما أخبر الله تعالى وكما أخبر رسوله صلى الله عليه وسلم. {قال: كن، فإذا رجلٌ قائم، ثم قال: أي عبدي! ما حملك على ما فعلت؟ فقال: مخافتك، أو قال: فرقٌ منك }، والفرق: هو الخوف، قال: يا رب! مخافتك والفرق منك.
صحة الحديث والرد على من أنكره
من درس: حديث الرجل الذي قال لبنيه (إذا مت فاسحقوني)
هذا الحديث متفق عليه، رواه الإمام البخاري والإمام مسلم ، ورواه غيرهما من الأئمة، فهو حديث صحيح ثابت، ومن رده فقد ردَّ حديثاً صحيحاً ثابتاً من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا دليل له على رده، ولم يرده أحد أولم يعمل به بناءً على دليل علمي أو شبهة، وإنما غاية ما عندهم أن يقولوا: إنه مخالف للقطعيات أو للكليات، أو مخالف للأصول، أو ما أشبه ذلك، وهذا كله من معارضة الحق بالباطل؛ لأن الأصول والقطعيات عندنا هي كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهناك فرق بين القواعد العقلية والقواعد الشرعية: فالقواعد العقلية لا تقبل التخصيص، فإذا وُجدت جزئية واحدة، أو مثال واحد لا تنطبق عليه القاعدة؛ بطلت القاعدة.
أما القواعد الشرعية: فإنها وإن كانت قطعية فإنها تقبل التخصيص وتقبل التقييد.
فهذا الحديث وأمثاله هو أصل برأسه، إذْ قد قاله النبي صلى الله عليه وسلم وصحّ عنه، ولا يقال: إنه عارض الأصول.(1/142)
ذكر روايات الحديث التي في الصحيح
من درس: حديث الرجل الذي قال لبنيه (إذا مت فاسحقوني)
وقد رواه الأئمة عن جمع من الصحابة، منهم: أبو سعيد الخدري ، وحذيفة ، وأبو هريرة رضي الله تعالى عنهم، وغيرهم كما في بعض الروايات، لكن هذه الروايات هي التي في الصحيح، فقد رواه الإمام البخاري عن هؤلاء الثلاثة:
رواية أبي سعيد الخدري رضي الله عنه
من درس: حديث الرجل الذي قال لبنيه (إذا مت فاسحقوني)
الرواية الأولى: رواية أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم: {أن رجلاً كان قبلكم رغسه الله مالاً، فقال لبنيه لما حُضر: أي أب كنت لكم؟ قالوا: خير أب، قال: فإني لم أعمل خيراً قط، فإذا متُ فأحرقوني، ثم اسحقوني، ثم ذرُّوني في يومٍ عاصف، ففعلوا، فجمعه الله عز وجل، فقال: ما حملك؟ قال: مخافتك، فتلقاه برحمته }.
هذا الرجل من بني إسرائيل ممن كان قبلنا {رغسه الله مالاً } أي: أعطاه الله مالاً ووسع عليه، وقيل: إن الرواية الصحيحة {رأسه}.(1/143)
{فقال لبنيه لما حُضر } أي: عندما جاءه الموت وحضره، {أي أبٍ كنتُ لكم؟ } يسأل أبناءه فيقول لهم: يا أبنائي! كيف كانت أبوتي ومعاملتي لكم؟ {قالوا: خير أب }، وأبوهم يريد بذلك أن يستوثق منهم، فكأنه يقول: مقابل إحساني إليكم وتربيتي لكم وأبوتي الحانية عليكم ... إلخ؛ أريد منكم أن تنقذوني من عذاب الله {قال: فإني لم أعمل خيراً قط }، ولا يلزم من كونه لم يعمل خيراً قط، أن يكون تاركاً لجميع الفرائض مرتكباً لجميع المحرمات، لكن قد يقال: إنه قالها هضماً للنفس، واعترافاً بالتقصير، فهذا الرجل لا ريب أنه من أهل التوحيد، وإلا لما استحق رحمة الله سبحانه وتعالى، فإن الكفار ملعونون مطرودون من رحمة الله، لكن هذا الرجل لم يعمل خيراً قط، ومعناه كما جاء في بعض الروايات: أنه أسرف على نفسه في المعاصي، وفرط في حق الله؛ تركاً للواجبات، وارتكاباً للمحظورات، فقال: {فإذا أنا مت فأحرقوني ثم اسحقوني، ثم ذروني في يوم عاصف } واليوم العاصف هو الذي تكون الريح فيه شديدة، فهو يريد منهم أن يذروه كما في قوله تعالى: تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ [الكهف:45]، بمعنى: أن يحرقوه ثم يسحقوه ثم يطحنوه، ثم يذروه في يوم عاصف، فتذهب به الريح في كل مكان، {ففعلوا، فجمعه الله عز وجل، فقال: ما حملك؟ }، أي: ما الذي دفعك إلى ذلك؟ وما الذي حملك على ما صنعت؟ وما سبب الإقدام على هذا الفعل؟ {قال: مخافتك، فتلقاه برحمته }.
رواية حذيفة بن اليمان رضي الله عنه
من درس: حديث الرجل الذي قال لبنيه (إذا مت فاسحقوني)(1/144)
الرواية الثانية: رواية حذيفة رضي الله تعالى عنه أن عقبة قال له: ألا تحدثنا ما سمعت من النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: سمعته يقول: {إن رجلاً حضره الموت، لما أيس من الحياة أوصى أهله }، وفي الرواية الأولى: (أبناءه)، قال: {إذا مت فاجمعوا لي حطباً كثيراً، ثم أوروا ناراً، حتى إذا أكلت لحمي وخلصت إلى عظمي، فخذوها فاطحنوها، فدرُّوني في اليم في يوم حارٍّ -أو راحٍّ- } (في اليم) أي: في البحر، (في يوم حارٍ -أو راحٍّ-)، قيل: من الحور، وقيل: في يوم حانٍ، فإن العرب تقول إذا اشتدت الريح: تحن كحنين الإبل، أو تحور كحور الإبل، (أو راحٍّ) أي: شديد الريح، {فجمعه الله، فقال: لِمَ فعلت؟ قال: خشيتك. فغفر الله له، فقال عقبة : وأنا سمعته يقول }. فالحديث من رواية عقبة وحذيفة رضي الله عنهما.
رواية أبي هريرة رضي الله عنه
من درس: حديث الرجل الذي قال لبنيه (إذا مت فاسحقوني)
الرواية الثالثة: رواية أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، إلا أنه قال في أولها: {كان رجل يسرف على نفسه في المعاصي، فلما حضره الموت قال لبنيه: ... } إلخ الحديث.
شرح الحديث
من درس: حديث الرجل الذي قال لبنيه (إذا مت فاسحقوني)
وقد ذكر الإمام البخاري رحمه الله هذا الحديث في كتاب الرقاق، وفي كتاب التوحيد، وفي كتاب أخبار الأنبياء، وبوب له في كتاب الرقاق: (باب الخوف من الله)، وهذا من فقه الإمام البخاري رحمه الله، وكما قال العلماء: فقه البخاري في تراجمه.
ومن هنا نعلم ما يريده البخاري رحمه الله وما الذي يختاره في معنى هذا الحديث؛ لأن الحديث فيه خلاف كبير، فالبخاري رحمه الله عندما يضعه في باب معين ويختار له ترجمة معينة؛ فإنه يضعه في الباب الذي يرى أنه يدل عليه، فقد قال رحمه الله وغفر له: (باب الخوف من الله)، فلينتبه لهذه الترجمة!(1/145)
عن حذيفة رضي الله عنه مرفوعاً: {كان رجل ممن كان قبلكم يسيء الظن بعمله }، ولهذا قال في الرواية الأولى: {لم أعمل خيراً قط }، وفي رواية: (لم يبتئر خيراً قط) فقد كان يسيء الظن بعمله، وقد جاء في بعض الروايات: أنه (كان نباشاً)، ينبش القبور فيسرق الأكفان وما قد يجد فيها، وهذا الفعل من أقبح أنواع الجرائم، فإن الإنسان إذا سرق الأحياء فهي جريمة بشعة وشنيعة، فكيف إذا سرق الأموات؟! ومعنى ذلك: أن الخوف من الله والخوف من الموت وتذكر الآخرة غائب عن ذهنه تماماً، فإن بعض الناس -وإن كان مسرفاً في المعاصي- إذا رأى جنازة أو ميتاً أو مقبرة خاف وارتدع، أما الذي يقدم على سرقة القبور ويحفرها وينبشها ليأخذ ما فيها من الأكفان؛ فإن هذا دليل على قسوة القلب وغلظته وبعده عن الله، وأنه لا يفكر في اليوم الآخر، ولا يخاف الله، ولا يرجو لقاءه، وهذا العمل وأعمال أخرى -كما يبدو من ظاهر الروايات- تستحق أن يُساءَ الظن بها.
{فقال لأهله: إذا أنا مت فخذوني فذروني في البحر في يوم صائف }، ولا تعارض بين الروايات، فقد ورد: {نصفه في البر ونصفه في البحر }، المهم أنه حدد لهم (في يوم صائف)، أي: يوم عاصف، شديد الرياح، فبعد أن تطحن عظامه يذر بعضها في البر وبعضها في البحر؛ ليكون -كما يظن- أصعب إعادة؛ فهو يظن أنه لو بقي على هيئته ووضع في القبر، فستكون إعادته سهلة، لكن إذا تفرق بهذا الشكل فسوف يغيب فكأنه يغيب ويتلاشى تماماً، ولن يبعث ولن يحاسب ولن يعاقب. قال: {ففعلوا به، فجمعه الله، ثم قال: ما حملك على الذي صنعت؟ قال: ما حملني عليه إلا مخافتك، فغفر له }.(1/146)
وعن أبي سعيد رضي الله تعالى عنه، {أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر رجلاً فيمن كان قبلكم آتاه الله مالاً وولداً }، أي: أعطاه الله مالاً وولداً، وفي الرواية السابقة: (رغسه أو رأسه)، وهي بمعنى واحد. {فلما حضر قال لبنيه: أي أبٍ كنت لكم؟ } (أيّ) اسم استفهام منصوب على أنه خبر كان مقدم، {قالوا: خير أب } كما في الرواية الأولى، فهو أراد أن يستوثق منهم بأنهم سوف يمتثلون ما يريد، قال: {فإنه لم يبتئر عند الله خيراً فسرها قتادة : لم يدخر }، وهذه الرواية فيها الثقات، فإن الرجل قال: فإني لم أبتئر، لكن الصحابي أو الراوي عدل عن قوله: (فإني) فقال: (فإنه)، كما جاء في حديث موت أبي طالب قال: {هو على ملة عبد المطلب }، فعدل الراوي عن أن يقول: (أنا)، وهذا من حسن الكلام، أن يعدل الإنسان عما لا يستساغ أن يقوله، وخاصةً في مثل هذا الأمر؛ لأن فيه كفراً والعياذ بالله! وهنا الأمر أخف من الكفر، لكن الراوي عدل عنه فقال: {قال: فإنه لم يبتئر عند الله خيراً }، أي: قال الرجل لأبنائه: أنا لم أدخر عند الله خيراً قط، فمعنى ذلك: أنا قادم على مصير خطير، فماذا أرجو وقد حضر الموت وحان اللقاء؟ فيقول لأبنائه: لابد من حيلة، فأعينوني على الخلاص من هذه المشكلة، وكان الحل الذي تخيله وظنه هو هذا. قال: {وإن يقدم على الله يعذبه }، وفي بعض الروايات: {لئن قدر الله علي ليعذبني }، وهذا سنذكره فيما بعد؛ لأن قوله: (قدر) جاء في بعض الروايات فقط، ولذلك فقد أخطأ من قال: إن إنكاره أو شكه في قدرة الله ناشئ من قوله: (لئن قدر علي)، فإن قوله هذا ليس شرطاً في إنكاره للقدرة، فإن الروايات التي ذكرناها وليس فيها ذكر القدرة، الظاهر منها أنه ليس موقناً بقدرة الله.(1/147)
فالرجل يريد أن يتخلص ويفر من عقاب الله، وظن أن هذه الوسيلة مؤدية إلى الخلاص، فقال: {وإن يقدم على الله يعذبه، فانظروا فإذا مت فأحرقوني، حتى إذا صرتُ فحماً فاسحقوني -أو قال: فاسهكوني- ثم إذا كان ريحٌ عاصف فاذروني فيها }، وفي هذه الرواية زيادة بعض المعاني، فإن قوله: {إذا مت فأحرقوني، حتى إذا صرت فحماً } أي: اجمعوا حطباً، وأحرقوا الجسد حتى لا يبقى منه شيء، ثم إذا احترقت -أو امتحشت- العظام فاسحقوها، وانتظروا حتى إذا كانت ريح عاصف فاذروه فيها، واجعلوا بعضه في البر وبعضه في البحر، وهذا غاية ما يمكن أن يُتَصور من التلاشي، وفقدان المادة التي يعاد أو يبعث منها الإنسان.
{فأخذ مواثيقهم على ذلك }، وعند مسلم : {فأخذ منهم يميناً }، فعاهدوه وحلفوا له بالأيمان أنه إذا مات أن يفعلوا به هكذا، فلما أخذ منهم الموثق على ذلك مات، والتقدير: فمات ففعلوا، {فقال الله: كن }، هذه قدرة الله تعالى كما قال سبحانه: قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ [يس:78-79]، وقال عز وجل: كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ [الأعراف:29] وقال تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [الروم:27]، فهو أهون عليه، سبحانه وتعالى، ولا فرق عند الله تعالى سواء بقي الإنسان على هيئته، أو سحق وطحن، أو أكله السبع، أو الحوت، أو رمي في أي مكان ... فلا يؤثر ذلك في شيء من قدرة الله سبحانه وتعالى.
فلهذا قال الله سبحانه وتعالى: {كن، فإذا رجلٌ قائم }، وهذا مصداق قوله تعالى: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس:82]، فإذا رجلٌ قائم، من البر ومن البحر.. العظام المطحونة.. اللحم الذي أكلته النار.. كل شيء سحق وطحن وذُري، أعاده الله سبحانه وتعالى كما كان، فإذا به رجل قائم بين يدي الله سبحانه وتعالى.(1/148)
هل وقعت المساءلة للرجل من الله تعالى أم لم تقع؟
من درس: حديث الرجل الذي قال لبنيه (إذا مت فاسحقوني)
يورد البعض سؤالاً حول قصة هذا الرجل فيقولون: هل وقعت المسائلة لهذا الرجل من الله على الحقيقة في قبره، أم أنه حكاية لما سيقع في يوم القيامة؟
فالظاهر أنه وقع قبل يوم القيامة، وإن كان بعض العلماء يقول: إن هذا ذكر لما سيكون يوم القيامة.
وعلى أية حال: إن كان ذلك قد وقع -وهو الظاهر الذي نراه- فهو ظاهر الحديث، وإذا لم يقع، فهو -كما ذكرنا- من باب أن الله سبحانه -وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم- قد يخبر عن أشياء مستقبلية لم تقع على أنها قد وقعت؛ لتيقن وتحقق وقوعها كما أخبر الله تعالى وكما أخبر رسوله صلى الله عليه وسلم. {قال: كن، فإذا رجلٌ قائم، ثم قال: أي عبدي! ما حملك على ما فعلت؟ فقال: مخافتك، أو قال: فرقٌ منك }، والفرق: هو الخوف، قال: يا رب! مخافتك والفرق منك.
الخوف من الله عزوجل
من درس: التكفير وضوابطه (الحلقة السادسة)(1/149)
إن الخوف من الله تعالى من أهم الأمور التي يجب أن نتعظ ونعتبر بها، فقد ترجم البخاري رحمه الله لهذا الباب: (باب الخوف من الله)، فلابد أن نكون خائفين من الله.. خائفين من ذنوبنا، فإن هذا الرجل قد بلغ به الخوف حداً بعيداً، أذهله وأنساه قدرة الله سبحانه وتعالى على الإعادة وعلى الخلق، ونحن لا نصل إلى هذا الحد، لكن لابد من الخوف من الله عز وجل، ولهذا يقول الحافظ ابن حجر رحمه الله في الفتح "هو من المقامات العلية، وهو من لوازم الإيمان، قال الله تعالى: وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران:175]، وقال تعالى: فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ [المائدة:44]، وقال تعالى: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28]، وتقدم حديث: {أنا أعلمكم بالله، وأشدكم له خشية }"، فلا شك أن النبي صلى الله عليه وسلم هو أشد الناس خشية لله وتعظيماً له، قال: "وجمع بين العلم والخشية، وهما متلازمان في الحديث كما هما في الآية"، فأشد الناس خشية لله هم أعلمهم بالله وبصفاته، وقدرته وعذابه، كما قال تعالى: نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ [الحجر:49-50] فإذا عرفوا ذلك فإنهم سوف يتقون ويخافون ويرجون.
خوف المقربين(1/150)
يقول الحافظ رحمه الله: "وكلما كان العبد أقرب إلى ربه كان أشد له خشية ممن دونه"، أي: كلما كان الإنسان أقرب إلى الله وأحرص على طاعة الله، فإنه يكون أشد خوفاً من غيره، ولذلك فإن المسرفين على أنفسهم بالمعاصي، والمجاهرين بما حرم الله، والمرتكبين للموبقات، نجد أن الخوف من الله في قلوبهم مفقوداً أو شبه مفقود، وبالعكس؛ فإن العباد الأتقياء الصالحين الورعين الزاهدين، هم أكثر الناس خوفاً من ربهم، كما قال تعالى: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ [المؤمنون:60]، ولهذا لما سألت عائشة رضي الله عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم: {أهؤلاء هم الذين يسرقون ويزنون ويسرفون على أنفسهم بالمعاصي؟ قال: لا يا ابنة الصديق . هؤلاء الذين يصومون ويصلون ويزكون، ولكنهم يخافون ألا يتقبل منهم }، فهم يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ [المؤمنون:60]، والوجل: هو الخوف أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ [المؤمنون:60]، فيأتون بالطاعات، ويفعلون الواجبات، ويتركون المحرمات، ويتقربون إلى الله سبحانه وتعالى بما شرع من النوافل بعد الفرائض، ومع ذلك (قلوبهم وجلة) أي: خائفة؛ إذ لا يدرون هل يتقبل منهم أم لا؟(1/151)
يقول الحافظ : "وكلما كان العبد أقرب إلى ربه كان أشد له خشيةً ممن دونه، وقد وصف الله تعالى الملائكة بقوله: يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ [النحل:50]، والأنبياء بقوله: الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ [الأحزاب:39]"، وكلما عظمت خشية الله سبحانه وتعالى في قلب عبدٍ من العباد هانت عليه خشية الناس حتى لا يكاد يخافهم، وقد ذُكر عن بعض السلف -قيل هو العز بن عبد السلام ، وقيل: غيره من العلماء- أنه دخل على أحد سلاطين المماليك وكان بطاشاً جباراً، فقالوا له: لِمَ لمْ تخف منه؟ قال: لما دخلتُ على السلطان ورأيت عظمته وهيبته تذكرت عظمة الله، فإذا هو عندي -أي: السلطان- مثل الهر. إن هؤلاء بالنسبة إلى الله عز وجل لا شيء، فلا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً، ومثل هذا لو شاء الله لأسكته وأماته وأهلكه في تلك اللحظة، ولو شاء الله لكان أول من يقتله جنده الذين يفتخر ويعتز بهم، ولكان أول ما يدمره ماله الذي يظن أنه هو الذي جمعه، كما قال قارون : إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي [القصص:78] فقد تقتضي مشيئة الله أن يكون مالك أو جاهك أو غيره سبب هلاكك؛ إذ الكل بيد الله سبحانه وتعالى.
فكلما كان الإنسان أخشى لله سبحانه وأخوف منه، فإنه يكون أقل خوفاً وخشيةً ممن دونه؛ لأنه يكون على يقين بأن الرازق والخالق والمدبر لكل شيء هو الله، وأن الناس لو اجتمعوا على أن يضروه بشيء لم يضروه إلا بشيء قد كتبه الله عليه، وكذلك لو أرادوا أن ينفعوه، فالكل منه سبحانه وتعالى، فالفضل له وحده، والخوف يكون منه وحده سبحانه وتعالى.(1/152)
يقول الحافظ ابن حجر رحمه الله: "وإنما كان خوف المقربين أشد؛ لأنهم يطالَبون بما لا يطالَب به غيرهم، فيراعون تلك المنزلة"، فالمقربون مع قربهم من الله وعلمهم به، ومعرفتهم لدين الله، إذا أخطئوا خطأً صغيراً فإنه يكون كالخطأ الكبير من غيرهم، فقد تكون النظرة من طالب العلم أو من العالم أشد أو مثل الزنية من الفاجر، ذلك لأن الفاجر ليس عنده علم بالله عز وجل، وكذلك لخلو قلبه وفراغه من خشية الله، فلهذا يخاف المقرب من الذنب وإن كان صغيراً بالنسبة إلى ما يرتكبه أصحاب الكبائر، وهذا -مع الأسف- عكس ما هو سائد في حياتنا الآن، فإن خطابنا وكلامنا دائماً إنما هو ( نحن أحسن من غيرنا) وهذه مصيبة، فقد أصبحنا عكس ما أمر الله به ونبيه صلى الله عليه وسلم، وعكس ما كان عليه السلف الصالح والمقربون، فشعارنا أمام كل فحشاء وكل منكر ومصيبة وداهية تحصل منا (أننا أحسن من غيرنا)، حتى تارك الصلاة إذا قيل له: اتق الله، أقم الصلاة، فإنه لا حظَّ في الإسلام لمن ترك الصلاة، قال: أنا أحسن من غيري! هناك أناس يشربون الخمر، ويذهبون إلى بانكوك ويفعلون.. ويفعلون.. وهل هناك شيء أشد من ترك الصلاة يقول النبي صلى الله عليه وسلم: {أو تترك أمتي الصلاة؟! } لقد استغرب النبي صلى الله عليه وسلم أن تترك أمته الصلاة! ولكن مع الأسف هذا هو الحاصل من بعض من ينتسب إلى الإسلام، كما ذكر الله تعالى عن بني إسرائيل: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ [مريم:59]، فإذا كان تارك الصلاة يرى أنه أحسن من غيره، فإن شارب الخمر يرى أنه أحسن من غيره، فيقول: هناك أناس يتعاطون المخدرات ويزنون! وآكل الربا يرى أنه أحسن من غيره ... وهكذا، ولا حول ولا قوة إلا بالله.(1/153)
فهل هذا شعار الصالحين المؤمنين، إن المؤمنين هم الذين يخافون إذا أطاعوا واستقاموا .. يجاهدون في سبيل الله ويخافون ألا يتقبل الله منهم الجهاد، ويصلون جماعة بإقامة الأركان والواجبات والسنن، ويخافون أن لا تقبل منهم، وينفقون في السر من طيب أموالهم وكسبهم، ويخافون أن لا يقبل منهم، فما أبعد حالنا عن حال السلف الصالح والله المستعان!
يقول: "لأنهم يطالبون بما لا يطالب به غيرهم".
فالمجتمع الذي يعرف دين الله تعالى وأمره، ويعرف الحلال والحرام، مطالب بما لا يطالب به غيره، والإنسان وإن كان مقرباً أو صالحاً أو فيه خير، فهو مطالب بما لا يطالب به غيره.
إذاً: اعرف منزلتك، واعرف قدرك، واستقم على أمر الله.
يقول رحمه الله: "ولأن الواجب لله منه الشكر على المنزلة؛ فيضاعف بالنسبة لعلو تلك المنزلة، فالعبد إن كان مستقيماً فخوفه من سوء العاقبة؛ لقوله تعالى: يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ [الأنفال:24]"، إذاً: الواجب على الإنسان إذا كان من المقربين أن يشكر الله سبحانه وتعالى، ويضاعف الخوف منه سبحانه، فإن هذا من شكر النعمة، فإذا رزق العبد الخوف من الله فمن شكر النعمة أن يخاف الله أكثر، وإذا رزق التقوى فمن شكرها أن يتقي أكثر، وإذا رزق الاستقامة فمن شكرها أن يستقيم أكثر.. وهكذا، فكل عمل من أعمال الخير من شكر الله عز وجل عليه أن يزيد العبد منه، هذا هو معنى كلامه رحمه الله كما يبدو.
يقول رحمه الله: "فالعبد إن كان مستقيماً فخوفه من سوء العاقبة"، وما أكثر من تكون حياته كما أخبر الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم: {يعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها }.(1/154)
إذاً: الخوف من سوء العاقبة والخاتمة، هو ديدن الصالحين، وعباد الله المتقين، وما من أحد إلا وهو يخاف على نفسه من ذلك حتى الأنبياء، ولذلك كان دعاء يوسف عليه السلام: تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ [يوسف:101] فلابد أن يدعو العبد ربه أن يحييه مؤمناً ويتوفاه على الإيمان، فإنه لا يضمن ذلك مهما استقام في حياته، والكلام في هذا يطول.
يقول الحافظ : "أو نقصان الدرجة بالنسبة" فالعبد إما أن يحال بينه وبين قلبه فيحبط عمله بالكلية -عياذاً بالله- كما مر معنا في قصة الرجل الذي قال: (والله لا يغفر الله لفلان)، أو تنقص درجته؛ إذْ ربما يكون في شبابه على استقامة، ودعوة، وجهاد، وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر، ثم يختم له في آخر عمره بضعف وفتور ونقص في ذلك، وإن لم ينقطع بالكلية.
يقول: "وإن كان مائلاً فخوفه من سوء فعله"، أي: إن كان مذنباً فخوفه من سوء فعله، ولذلك ضرب النبي صلى الله عليه وسلم مثل المؤمن والمنافق مع ذنوبهما، فقال: "المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه، والمنافق يرى ذنوبه كذباب وقع على أنفه، فقال به هكذا" أي: أطاره بيده، فمهما افترى، أو كذب، أو زنى، أو سرق، أو أكل الحرام، أو ترك الصلاة، كلها عنده كذباب وقع على أنفه ثم طار وذهب، وكأن لم يكن شيء، لكن المؤمن الذي يخاف الله ويشعر بخطر الذنوب، لو فعل ذنباً واحداً لرآه كالجبل يخاف أن يقع عليه.
يقول الحافظ : "وينفعه ذلك مع الندم والإقلاع، فإن الخوف ينشأ من معرفة قبح الجناية والتصديق بالوعيد عليها، وأن يحرم التوبة، أو لا يكون ممن شاء الله أن يغفر له، فهو مشفق من ذنبه، طالب من ربه أن يدخله فيمن يغفر له"، ثم ذكر رحمه الله أحاديث كثيرة في الدلالة على هذا الموضوع، والمقصود هنا هو دلالة الحديث، وما يتعلق بموضوع العقيدة، وهو الحكم على المعين، وأن المعين قد لا يندرج تحت الوعيد.
خوف المقربين
من درس: الخوف من الله عزوجل(1/155)
يقول الحافظ رحمه الله: "وكلما كان العبد أقرب إلى ربه كان أشد له خشية ممن دونه"، أي: كلما كان الإنسان أقرب إلى الله وأحرص على طاعة الله، فإنه يكون أشد خوفاً من غيره، ولذلك فإن المسرفين على أنفسهم بالمعاصي، والمجاهرين بما حرم الله، والمرتكبين للموبقات، نجد أن الخوف من الله في قلوبهم مفقوداً أو شبه مفقود، وبالعكس؛ فإن العباد الأتقياء الصالحين الورعين الزاهدين، هم أكثر الناس خوفاً من ربهم، كما قال تعالى: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ [المؤمنون:60]، ولهذا لما سألت عائشة رضي الله عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم: {أهؤلاء هم الذين يسرقون ويزنون ويسرفون على أنفسهم بالمعاصي؟ قال: لا يا ابنة الصديق . هؤلاء الذين يصومون ويصلون ويزكون، ولكنهم يخافون ألا يتقبل منهم }، فهم يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ [المؤمنون:60]، والوجل: هو الخوف أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ [المؤمنون:60]، فيأتون بالطاعات، ويفعلون الواجبات، ويتركون المحرمات، ويتقربون إلى الله سبحانه وتعالى بما شرع من النوافل بعد الفرائض، ومع ذلك (قلوبهم وجلة) أي: خائفة؛ إذ لا يدرون هل يتقبل منهم أم لا؟(1/156)
يقول الحافظ : "وكلما كان العبد أقرب إلى ربه كان أشد له خشيةً ممن دونه، وقد وصف الله تعالى الملائكة بقوله: يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ [النحل:50]، والأنبياء بقوله: الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ [الأحزاب:39]"، وكلما عظمت خشية الله سبحانه وتعالى في قلب عبدٍ من العباد هانت عليه خشية الناس حتى لا يكاد يخافهم، وقد ذُكر عن بعض السلف -قيل هو العز بن عبد السلام ، وقيل: غيره من العلماء- أنه دخل على أحد سلاطين المماليك وكان بطاشاً جباراً، فقالوا له: لِمَ لمْ تخف منه؟ قال: لما دخلتُ على السلطان ورأيت عظمته وهيبته تذكرت عظمة الله، فإذا هو عندي -أي: السلطان- مثل الهر. إن هؤلاء بالنسبة إلى الله عز وجل لا شيء، فلا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً، ومثل هذا لو شاء الله لأسكته وأماته وأهلكه في تلك اللحظة، ولو شاء الله لكان أول من يقتله جنده الذين يفتخر ويعتز بهم، ولكان أول ما يدمره ماله الذي يظن أنه هو الذي جمعه، كما قال قارون : إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي [القصص:78] فقد تقتضي مشيئة الله أن يكون مالك أو جاهك أو غيره سبب هلاكك؛ إذ الكل بيد الله سبحانه وتعالى.
فكلما كان الإنسان أخشى لله سبحانه وأخوف منه، فإنه يكون أقل خوفاً وخشيةً ممن دونه؛ لأنه يكون على يقين بأن الرازق والخالق والمدبر لكل شيء هو الله، وأن الناس لو اجتمعوا على أن يضروه بشيء لم يضروه إلا بشيء قد كتبه الله عليه، وكذلك لو أرادوا أن ينفعوه، فالكل منه سبحانه وتعالى، فالفضل له وحده، والخوف يكون منه وحده سبحانه وتعالى.(1/157)
يقول الحافظ ابن حجر رحمه الله: "وإنما كان خوف المقربين أشد؛ لأنهم يطالَبون بما لا يطالَب به غيرهم، فيراعون تلك المنزلة"، فالمقربون مع قربهم من الله وعلمهم به، ومعرفتهم لدين الله، إذا أخطئوا خطأً صغيراً فإنه يكون كالخطأ الكبير من غيرهم، فقد تكون النظرة من طالب العلم أو من العالم أشد أو مثل الزنية من الفاجر، ذلك لأن الفاجر ليس عنده علم بالله عز وجل، وكذلك لخلو قلبه وفراغه من خشية الله، فلهذا يخاف المقرب من الذنب وإن كان صغيراً بالنسبة إلى ما يرتكبه أصحاب الكبائر، وهذا -مع الأسف- عكس ما هو سائد في حياتنا الآن، فإن خطابنا وكلامنا دائماً إنما هو ( نحن أحسن من غيرنا) وهذه مصيبة، فقد أصبحنا عكس ما أمر الله به ونبيه صلى الله عليه وسلم، وعكس ما كان عليه السلف الصالح والمقربون، فشعارنا أمام كل فحشاء وكل منكر ومصيبة وداهية تحصل منا (أننا أحسن من غيرنا)، حتى تارك الصلاة إذا قيل له: اتق الله، أقم الصلاة، فإنه لا حظَّ في الإسلام لمن ترك الصلاة، قال: أنا أحسن من غيري! هناك أناس يشربون الخمر، ويذهبون إلى بانكوك ويفعلون.. ويفعلون.. وهل هناك شيء أشد من ترك الصلاة يقول النبي صلى الله عليه وسلم: {أو تترك أمتي الصلاة؟! } لقد استغرب النبي صلى الله عليه وسلم أن تترك أمته الصلاة! ولكن مع الأسف هذا هو الحاصل من بعض من ينتسب إلى الإسلام، كما ذكر الله تعالى عن بني إسرائيل: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ [مريم:59]، فإذا كان تارك الصلاة يرى أنه أحسن من غيره، فإن شارب الخمر يرى أنه أحسن من غيره، فيقول: هناك أناس يتعاطون المخدرات ويزنون! وآكل الربا يرى أنه أحسن من غيره ... وهكذا، ولا حول ولا قوة إلا بالله.(1/158)
فهل هذا شعار الصالحين المؤمنين، إن المؤمنين هم الذين يخافون إذا أطاعوا واستقاموا .. يجاهدون في سبيل الله ويخافون ألا يتقبل الله منهم الجهاد، ويصلون جماعة بإقامة الأركان والواجبات والسنن، ويخافون أن لا تقبل منهم، وينفقون في السر من طيب أموالهم وكسبهم، ويخافون أن لا يقبل منهم، فما أبعد حالنا عن حال السلف الصالح والله المستعان!
يقول: "لأنهم يطالبون بما لا يطالب به غيرهم".
فالمجتمع الذي يعرف دين الله تعالى وأمره، ويعرف الحلال والحرام، مطالب بما لا يطالب به غيره، والإنسان وإن كان مقرباً أو صالحاً أو فيه خير، فهو مطالب بما لا يطالب به غيره.
إذاً: اعرف منزلتك، واعرف قدرك، واستقم على أمر الله.
يقول رحمه الله: "ولأن الواجب لله منه الشكر على المنزلة؛ فيضاعف بالنسبة لعلو تلك المنزلة، فالعبد إن كان مستقيماً فخوفه من سوء العاقبة؛ لقوله تعالى: يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ [الأنفال:24]"، إذاً: الواجب على الإنسان إذا كان من المقربين أن يشكر الله سبحانه وتعالى، ويضاعف الخوف منه سبحانه، فإن هذا من شكر النعمة، فإذا رزق العبد الخوف من الله فمن شكر النعمة أن يخاف الله أكثر، وإذا رزق التقوى فمن شكرها أن يتقي أكثر، وإذا رزق الاستقامة فمن شكرها أن يستقيم أكثر.. وهكذا، فكل عمل من أعمال الخير من شكر الله عز وجل عليه أن يزيد العبد منه، هذا هو معنى كلامه رحمه الله كما يبدو.
يقول رحمه الله: "فالعبد إن كان مستقيماً فخوفه من سوء العاقبة"، وما أكثر من تكون حياته كما أخبر الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم: {يعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها }.(1/159)
إذاً: الخوف من سوء العاقبة والخاتمة، هو ديدن الصالحين، وعباد الله المتقين، وما من أحد إلا وهو يخاف على نفسه من ذلك حتى الأنبياء، ولذلك كان دعاء يوسف عليه السلام: تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ [يوسف:101] فلابد أن يدعو العبد ربه أن يحييه مؤمناً ويتوفاه على الإيمان، فإنه لا يضمن ذلك مهما استقام في حياته، والكلام في هذا يطول.
يقول الحافظ : "أو نقصان الدرجة بالنسبة" فالعبد إما أن يحال بينه وبين قلبه فيحبط عمله بالكلية -عياذاً بالله- كما مر معنا في قصة الرجل الذي قال: (والله لا يغفر الله لفلان)، أو تنقص درجته؛ إذْ ربما يكون في شبابه على استقامة، ودعوة، وجهاد، وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر، ثم يختم له في آخر عمره بضعف وفتور ونقص في ذلك، وإن لم ينقطع بالكلية.
يقول: "وإن كان مائلاً فخوفه من سوء فعله"، أي: إن كان مذنباً فخوفه من سوء فعله، ولذلك ضرب النبي صلى الله عليه وسلم مثل المؤمن والمنافق مع ذنوبهما، فقال: "المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه، والمنافق يرى ذنوبه كذباب وقع على أنفه، فقال به هكذا" أي: أطاره بيده، فمهما افترى، أو كذب، أو زنى، أو سرق، أو أكل الحرام، أو ترك الصلاة، كلها عنده كذباب وقع على أنفه ثم طار وذهب، وكأن لم يكن شيء، لكن المؤمن الذي يخاف الله ويشعر بخطر الذنوب، لو فعل ذنباً واحداً لرآه كالجبل يخاف أن يقع عليه.
يقول الحافظ : "وينفعه ذلك مع الندم والإقلاع، فإن الخوف ينشأ من معرفة قبح الجناية والتصديق بالوعيد عليها، وأن يحرم التوبة، أو لا يكون ممن شاء الله أن يغفر له، فهو مشفق من ذنبه، طالب من ربه أن يدخله فيمن يغفر له"، ثم ذكر رحمه الله أحاديث كثيرة في الدلالة على هذا الموضوع، والمقصود هنا هو دلالة الحديث، وما يتعلق بموضوع العقيدة، وهو الحكم على المعين، وأن المعين قد لا يندرج تحت الوعيد.(1/160)
الجواب على استشكال: كيف غفر للرجل وهو منكر للبعث؟
من درس: التكفير وضوابطه (الحلقة السادسة)
يقول الحافظ رحمه الله: عند رواية: {فو الله لئن قدر الله علي } "قال الخطابي : قد يستشكل هذا فيقال: كيف يغفر له وهو منكر للبعث والقدرة على إحياء الموتى؟" لأنه قال: (لئن قدر الله عليَّ)، حتى وإن لم يذكر لفظ القدرة فإنه قد أوصى أبناءه أن يحرقوه؛ ظناً منه أن هذا الشيء سيخلصه من البعث والحساب.
لقد كان يرى أنه وقع في مأزق عظيم.. فالموت أدركه وحضره، وصفحته كلها سوداء، وديوانه كله خطايا، وتذكر شدة عذاب الله سبحانه وتعالى، وتذكر أن أمامه كتاباً لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، وملائكةً يكتبون ما يفعل ولن يظلموه شيئاً، وميزاناً ينصب يوم القيامة: وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ [الأنبياء:47]، وعرضاً على الله سبحانه وتعالى، ووقوفاً بين يديه.. تذكر هذه المعاني كلها، فظن أن لا مخرج له أبداً، وأمام هذا الضيق والكرب والشدة والبحث عن حلٍّ؛ أوصى بهذه الوصية.
إذاً: هو يظن أن هذه الوصية سوف تنجيه من عذاب الله، وأنهم إن فعلوا به ذلك فلن يقف بين يدي الله ولن يسأله الله؛ لأنه قد تفرق في البر والبحر وذهبت به الريح في كل مكان وانتهى أمره.
فهو -على حسب الاستشكال الذي أورده الخطابي رحمه الله- منكر للبعث والقدرة على إحياء الموتى، قال الخطابي : "والجواب: أنه لم ينكر البعث"؛ لأنه لو كان منكراً للبعث لما خاف من لقاء الله عز وجل، فهو معترف ومصدق بالبعث، لكن الخطأ والخلل جاء من ظنه أن هذه الحيلة سوف تنجيه من البعث.(1/161)
يقول الخطابي : "وإنما جهل فظن أنه إذا فعل به ذلك لا يعاد فلا يعذب، وقد ظهر إيمانه باعترافه بأنه إنما فعل ذلك من خشية الله"، فإيمانه واضح، إذ قد قال: (خشيتك يا رب). (مخافتك يا رب)، يقول الحافظ : "قال ابن قتيبة " وهو أديب أهل السنة كما أن الجاحظ أديب المعتزلة ". قال: "قد يغلط في بعض الصفات قوم من المسلمين فلا يكفرون بذلك"، وهذه العبارة انتصر لها وأيدها شيخ الإسلام رحمه الله، فقوله: (قد يغلط في بعض الصفات قوم من المسلمين)، فليس كل مسلم لابد أن يكون محيطاً بجميع صفات الله، فقد يغلط، وهذا شيء وارد، لكنه قال: (في بعض الصفات)، وقال: (قوم من المسلمين)، أي أن هناك أسباباً؛ إما لجهلهم، وإما لغير ذلك، فلتلك الأسباب يقع بعض المسلمين في الخطأ أو الغلط في بعض الصفات، فليس هذا من باب الإنكار والجحود، فلا يكفرون بذلك.
وهنا تقام عليهم الحجة، وتكشف لهم الشبهة، ويبين لهم. وإن كان الأصل أن جحد الصفات كفر بلا شك، لكن قد يغلط من يغلط في ذلك، فلهذا قلنا: إن المُعَيَّن لا يُسرع في الحكم عليه، فربما يكون جاهلاً، وربما يكون مخطئاً.. فليس كالجاحد إنكاراً، الذي يكفر بها رداً وتكذيباً.
ذكر من أول قوله: (لئن قدر الله علي)
قال الحافظ : "ورده ابن الجوزي -أي: رد كلام ابن قتيبة - وقال: جحده صفة القدرة كفر اتفاقاً"، أي: ما دام أنه جحد القدرة، وأن الله لا يقدر على جمعه وبعثه؛ لأنه ظن أن الله لن يقدر على بعثه بعد أن يطحنوه ويذروه؛ فإن هذا كفر اتفاقاً. قال: "وإنما قيل: إن معنى قول: (هلئن قدر الله عليَّ) أي: ضيّق"، وهذه هي التأويلات، فإذا أخرجنا اللفظ عن ظاهره فلابد من تأويله، وهناك عدة تأويلات:
التأويل الأول: قوله: (لئن قدر الله عليَّ) أي: ضيق، قال ابن الجوزي: "وهي كقوله: وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ [الطلاق:7] أي: ضيق".(1/162)
التأويل الثاني: قال: "ولعل هذا الرجل قال ذلك من شدة جزعه وخوفه، كما غلط ذلك الآخر فقال: {اللهم أنت عبدي وأنا ربك }" والجواب عن التأويل الأول سنذكره عندما نذكر كلام شيخ الإسلام ، وأما التأويل الثاني: فإن هناك فرقاً بين الرجلين؛ إذ إن صاحب الدابة عندما قال: {اللهم أنت عبدي وأنا ربك } أخطأ في اللفظ فقط، أما في المعنى فهو يريد أن يقول: (اللهم أنت ربي وأنا عبدك)، لكنه من شدة الفرح أخطأ لسانه، أما هذا فإنه قال: (أحرقوني ثم اسحقوني..) إلخ، فهو معتقد من قلبه وجازم على الفعل، ومصمم عليه ومريد له، إذ قال: افعلوا بي هذا الفعل حتى لا يبعثني ربي ولا يجازيني.
إذاً: الفرق بينهما واضح، فليس حكمهما واحداً.
التأويل الثالث: قال: "أو يكون قوله: (لئن قدَّر عليَّ) -بتشديد الدال- أي: قدَّر علي أن يعذبني ليعذبني"، أي: إن كان مقدراً علي العذاب، وقد قضى الله بأني أعذب، فإني سوف أعذب عذاباً لا يعذبه أحد قبلي.
وهذا التأويل يخرج الحديث عن معناه؛ لأنه لا فائدة حينئذ من حرقه وطحنه وذره في الريح؛ لأنه إن كان كتب عليه العذاب فسيعذب؛ سواء طحنوه أو لم يطحنوه، أحرقوه أو لم يحرقوه، فهذا الكلام إذاً ليس له معنى، وقد رد عليه شيخ الإسلام رداً علمياً كما سنذكره.
التأويل الرابع: قال: "أو على أنه كان مثبتاً للصانع، وكان في زمن الفترة، فلم تبلغه شرائط الإيمان"، وهذا تأويل غير صحيح؛ لأنه كان من بني إسرائيل، وقد قال: أسرفتُ على نفسي بالمعاصي، وما ادخرتُ خيراً قط، فهذا دليل على أنه عارف بأمر الله، عالم بشرع الله، فكيف يقال بأنه من أهل الفترة؟!(1/163)
يقول الحافظ رحمه الله: "وأظهر الأقوال: أنه قال ذلك في حال دهشته وغلبة الخوف عليه، حتى ذُهب بعقله لما يقول"، أي: لم يعد يعقل حقيقة ما يقول، قال: "ولم يقله قاصداً لحقيقة معناه؛ بل في حالة كان فيها كالغافل والذاهل والناسي، الذي لا يؤاخذ بما يصدر منه"، فهذا الرجل عند الموت غلب عليه الخوف حتى نسي ما عدا ذلك، وقد يأتي على بعض الناس حالة يذكر فيها الرجاء المطلق وينسى الخوف، في حال الموت وفي غيره، لكن هذا لأنه في حال الموت ولإسرافه في الذنوب والمعاصي؛ كان ذلك أليق به أن يكون أكثر ذهولاً ونسياناً لقدرة الله سبحانه وتعالى، فهو لا ينكر أن الله على كل شيء قدير، ولا ينكر البعث بعد الموت، لكن لشدة خوفه من البعث أمر أبناءه أن يفعلوا به ذلك، فهو موقن أن البعث سيكون، لكنه ظن أن هذه حيلة يمكن أن ينجو بها من العذاب فيتلافى البعث.
يقول الحافظ : "وأبعد الأقوال قول من قال: إنه كان في شرعهم جواز المغفرة للكافر"، وهذا كلام بعيد؛ إذ كيف يجوز أن يغفر الله للكفار؟ وعلى هذا التأويل لن يكون للحديث معنى، لكن يظل معناه وموعظته وعبرته قائمة على الاحتمال الصحيح: أن الخوف من الله عز وجل هو الذي حمله على ذلك.
ذكر من أول قوله: (لئن قدر الله علي)
من درس: الجواب على استشكال: كيف غفر للرجل وهو منكر للبعث؟
قال الحافظ : "ورده ابن الجوزي -أي: رد كلام ابن قتيبة - وقال: جحده صفة القدرة كفر اتفاقاً"، أي: ما دام أنه جحد القدرة، وأن الله لا يقدر على جمعه وبعثه؛ لأنه ظن أن الله لن يقدر على بعثه بعد أن يطحنوه ويذروه؛ فإن هذا كفر اتفاقاً. قال: "وإنما قيل: إن معنى قول: (هلئن قدر الله عليَّ) أي: ضيّق"، وهذه هي التأويلات، فإذا أخرجنا اللفظ عن ظاهره فلابد من تأويله، وهناك عدة تأويلات:
التأويل الأول: قوله: (لئن قدر الله عليَّ) أي: ضيق، قال ابن الجوزي: "وهي كقوله: وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ [الطلاق:7] أي: ضيق".(1/164)
التأويل الثاني: قال: "ولعل هذا الرجل قال ذلك من شدة جزعه وخوفه، كما غلط ذلك الآخر فقال: {اللهم أنت عبدي وأنا ربك }" والجواب عن التأويل الأول سنذكره عندما نذكر كلام شيخ الإسلام ، وأما التأويل الثاني: فإن هناك فرقاً بين الرجلين؛ إذ إن صاحب الدابة عندما قال: {اللهم أنت عبدي وأنا ربك } أخطأ في اللفظ فقط، أما في المعنى فهو يريد أن يقول: (اللهم أنت ربي وأنا عبدك)، لكنه من شدة الفرح أخطأ لسانه، أما هذا فإنه قال: (أحرقوني ثم اسحقوني..) إلخ، فهو معتقد من قلبه وجازم على الفعل، ومصمم عليه ومريد له، إذ قال: افعلوا بي هذا الفعل حتى لا يبعثني ربي ولا يجازيني.
إذاً: الفرق بينهما واضح، فليس حكمهما واحداً.
التأويل الثالث: قال: "أو يكون قوله: (لئن قدَّر عليَّ) -بتشديد الدال- أي: قدَّر علي أن يعذبني ليعذبني"، أي: إن كان مقدراً علي العذاب، وقد قضى الله بأني أعذب، فإني سوف أعذب عذاباً لا يعذبه أحد قبلي.
وهذا التأويل يخرج الحديث عن معناه؛ لأنه لا فائدة حينئذ من حرقه وطحنه وذره في الريح؛ لأنه إن كان كتب عليه العذاب فسيعذب؛ سواء طحنوه أو لم يطحنوه، أحرقوه أو لم يحرقوه، فهذا الكلام إذاً ليس له معنى، وقد رد عليه شيخ الإسلام رداً علمياً كما سنذكره.
التأويل الرابع: قال: "أو على أنه كان مثبتاً للصانع، وكان في زمن الفترة، فلم تبلغه شرائط الإيمان"، وهذا تأويل غير صحيح؛ لأنه كان من بني إسرائيل، وقد قال: أسرفتُ على نفسي بالمعاصي، وما ادخرتُ خيراً قط، فهذا دليل على أنه عارف بأمر الله، عالم بشرع الله، فكيف يقال بأنه من أهل الفترة؟!(1/165)
يقول الحافظ رحمه الله: "وأظهر الأقوال: أنه قال ذلك في حال دهشته وغلبة الخوف عليه، حتى ذُهب بعقله لما يقول"، أي: لم يعد يعقل حقيقة ما يقول، قال: "ولم يقله قاصداً لحقيقة معناه؛ بل في حالة كان فيها كالغافل والذاهل والناسي، الذي لا يؤاخذ بما يصدر منه"، فهذا الرجل عند الموت غلب عليه الخوف حتى نسي ما عدا ذلك، وقد يأتي على بعض الناس حالة يذكر فيها الرجاء المطلق وينسى الخوف، في حال الموت وفي غيره، لكن هذا لأنه في حال الموت ولإسرافه في الذنوب والمعاصي؛ كان ذلك أليق به أن يكون أكثر ذهولاً ونسياناً لقدرة الله سبحانه وتعالى، فهو لا ينكر أن الله على كل شيء قدير، ولا ينكر البعث بعد الموت، لكن لشدة خوفه من البعث أمر أبناءه أن يفعلوا به ذلك، فهو موقن أن البعث سيكون، لكنه ظن أن هذه حيلة يمكن أن ينجو بها من العذاب فيتلافى البعث.
يقول الحافظ : "وأبعد الأقوال قول من قال: إنه كان في شرعهم جواز المغفرة للكافر"، وهذا كلام بعيد؛ إذ كيف يجوز أن يغفر الله للكفار؟ وعلى هذا التأويل لن يكون للحديث معنى، لكن يظل معناه وموعظته وعبرته قائمة على الاحتمال الصحيح: أن الخوف من الله عز وجل هو الذي حمله على ذلك.
فتوى ابن تيمية في الاحتراز من تكفير المعين
من درس: التكفير وضوابطه (الحلقة السادسة)(1/166)
سئل شيخ الإسلام رحمه الله: "عن قومٍ داوموا على الرياضة مرة -أي: الرياضة الروحانية وهي التعبد- فرأوا أنهم قد تجوهروا" أي: قد صُفِّيت نفوسهم حتى تحولوا إلى جواهر، ومعلوم أن أصل التصوف مأخوذ من الديانة الهندوسية ، وعندهم أن الإنسان يتجوهر أو يتروحن، أي: يعذب الجسد حتى يُصفى الجوهر فيبقى الروح فقط، وهذه طريقة عبادة الهنود، فإذا صُفِّيت الروح اتحدت ببراهما، ولهذا فإن أصل دين الاتحادية والحلولية والوجودية هو من ذلك الدين الباطل، فإنهم يقولون: نعبد الله حتى نتحد معه، ثم يقول أحدهم: أنا الله! أو سبحاني سبحاني! أو ما في الجبة إلا الله! تعالى الله عما يصفون!
يقول: "فرأوا أنهم قد تجوهروا فقالوا: لا نبالي الآن ما عملنا، وإنما الأوامر والنواهي رسوم العوام، ولو تجوهروا -أي: العوام- لسقطت عنهم، وحاصل النبوة يرجع إلى الحكمة والمصلحة"، أي: أن الغرض من النبوة ومن الدين ومن القرآن هو الحكمة والمصلحة، "والمراد منها ضبط العوام"، وهذا كما يقول الفلاسفة كابن سينا وغيره: أن هذه الأوامر والنواهي والخطابات التي في القرآن عن صفات الله وغيرها، المراد بها الجمهور والعوام فقط، قال: "ولسنا نحن من العوام فندخل في حجر التكليف؛ لأننا قد تجوهرنا وعرفنا الحكمة.
فهل هذا القول كفر من قائله؟ أم يبدع من غير تكفير؟ وهل يصير ذلك عمن في قلبه خضوع للنبي صلى الله عليه وسلم؟".
لأنهم مع هذا الكفر يدعون محبة النبي صلى الله عليه وسلم واتباعه.
فأجاب رحمه الله: "لا ريب عند أهل العلم والإيمان أن هذا القول من أعظم الكفر وأغلظه، وهو شرٌ من قول اليهود والنصارى؛ فإن اليهودي والنصراني آمن ببعض الكتاب وكفر ببعض"، وكذلك عندهم التزام ببعض الأوامر، أما هؤلاء فقد قالوا بالتحلل من كل أمرٍ ونهيٍ.(1/167)
ثم ذكر أن هذا أيضاً شرٌ من شرك العرب؛ لأن العرب الذين بعث فيهم النبي صلى الله عليه وسلم كان لديهم التزام ببعض الشيء، فلم يقل بالتحلل بالكلية من الأمر والنهي إلا هؤلاء وشيوخ الصوفية الذين يقولون: يسقط عنا التكليف إذا بلغنا درجة اليقين، فإن الله يقول: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الحجر:99] فعندهم: إذا بلغ العبد منزلة في العبادة سقطت عنه التكاليف!
يقول: "فمن كان من قوله هو أنه أو طائفة غيره قد خرجت عن كل أمرٍ ونهي، بحيث لا يجب عليها شيء، ولا يحرم عليها شيء، فهؤلاء أكفر أهل الأرض، وهم من جنس فرعون وذويه، وهم مع هذا لابد أن يلتزموا بشيء يعيشون به".
فحتى لو قالوا: لا نلتزم أمراً ولا نهياً، فإن هذا محال؛ لأنه لابد أن يلتزموا بشيء يعيشون به. قال: "إذ لا يمكن للنوع الإنساني أن يعيش إلا بنوع أمرٍ ونهي" بل حتى في بلاد الغرب التي يسمونها بلاد الحرية الشخصية والديمقراطية ...إلخ، لا يمكن أن يعيشوا من غير التزام أمرٍ ونهي، فالذي يقول: أنا لا أعبد شيئاً ولا ألتزم بأمر ولا بدين، فإن هذا محال، وإذا لم يكن عابداً لله فلابد أن يكون عابداً حتى للشيطان أو الطواغيت عموماً.
قال: "فيخرجون عن طاعة الرحمن وعبادته إلى طاعة الشيطان وعبادته"، ولهذا فالأوراد والأذكار والرياضات البدعية؛ كلها من عبادتهم للشيطان.
يقول: "ففرعون هو الذي قال لموسى: وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ [الشعراء:23]" على سبيل الإنكار، "ثم كانت له آلهة يعبدها كما قال له قومه: وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ [الأعراف:127]، أو (وإلهتك) كما في قراءة أخرى، فيصير المعنى على هذه القراءة: لا يعبدك، وليس فيها شاهد على ما نحن بصدده، لكن على القراءة المشهورة (وآلهتك) أي: لا يعبد ما تعبد يا فرعون، وهنا الشاهد على ما قاله شيخ الإسلام .(1/168)
إذاً: حتى فرعون كان يعبد آلهة، وهذا هو الواقع من تاريخ الفراعنة والمصريين القدماء أنهم كانوا يعبدون أصناماً.
يقول: "فمنهم من يزعم أنه سقطت عنه الصلوات الخمس لوصوله إلى المقصود، وربما قد يزعم سقوطها عنه إذا كان في حال مشاهدة وحضور"، كما يقول بعض الصوفية : أن الصلاة لا تسقط عنه دائماً لكن أحياناً، فيصلي بعض الصلوات، ويحضر بعض الجمع ويتخلف عن بعضها، فإذا قيل له في ذلك قال: لقد كنتُ في حال الجمع! أو كنت في حال المشاهدة والحضور! نعوذ بالله من ذلك! يقول: "وقد يزعمون سقوط الجماعات عنهم استغناءً عنها بما هو فيه من التوجه والحضور"، يقولون: إن الغرض من الذهاب إلى المسجد أن يكون الإنسان قلبه متعلقاً بالله وحاضراً، وهذا الأمر يحصل لنا ونحن في البيت! وهذا من أشد الكفر والضلال، يقول: "ومنهم من يزعم سقوط الحج عنه مع قدرته عليه؛ لأن الكعبة تطوف به"، وكم من شيوخ الصوفية قيلت عنه هذه الحكاية! يقال لأحدهم: لمَِ لم يحج الشيخ؟ فيقول: كيف يحج والكعبة تطوف به؟!! نعوذ بالله من هذا الكذب والافتراء على الله، فهذا القول أكفر من تركه لهذا الركن من أركان الإسلام، قال: "ومنهم من يستحل الفطر في رمضان لغير عذر شرعي، زعماً منه استغناءه عن الصيام"، يقول: إن الغرض من الصيام هو التهذيب الروحي ونحن في قمة الروحانية، فلِمَ الصيام؟!! "ومنهم من يستحل الخمر"، وأول من اكتشف الحشيش هم الصوفية الفقراء الهنود، عندما كانوا يمشون في الأرض ويأكلون أي شيء من النبات، فوجدوا هذه الشجرة فأكلوها، فرأوها شجرة عجيبة، يأكلها الفرد فيخرف ويظن أنه يرى الجنة والنار ..إلخ، فخدمت قضيتهم الروحانية الحمقاء، ولذلك أُثِرَ عن بعضهم أنهم كانوا ينهون عن شرب الخمر، ويقولون: الحشيش أحسن منه، والعياذ بالله!(1/169)
يقول رحمه الله: "ومنهم من يستحل الخمر زعماً منه أنها إنما تحرم على العامة الذين إذا شربوها تخاصموا وتضاربوا دون الخاصة العقلاء"، فالحكمة عندهم والعلة في تحريم الخمر أنها تورث العداوة والبغضاء، كما ذكر الله في القرآن، يقولون: وهذه العداوة إنما تحصل بين العوام، الذين إذا سكروا تشاجروا وتخاصموا، لكن مشايخ الطرق إذا شربوا فلن يفعلوا شيئاً من هذا، فالعلة منتفية. قال: "ويزعمون أنها تحرم على العامة الذين ليس لهم أعمال صالحة، فأما أهل النفوس الزكية والأعمال الصالحة، فتباح لهم دون العامة".
وهذه من الشبهات الشيطانية التي لبسها عليهم الشيطان، وما أكثر التلبيس!
قال شيخ الإسلام : "وهذه الشبهة كانت قد وقعت لبعض الأولين"، فقد شرب أفراد من الصحابة الخمر ظناً منهم أنها حلال، تأويلاً لقوله تعالى: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا [المائدة:93].
قال: "ومن هؤلاء من يستحل بعض الفواحش؛ كاستحلال مؤاخاة النساء الأجانب والخلو بهن، زعماً منه أنه يحصل لهن البركة بما يفعله معهن، وإن كان مُحرماً في الشريعة"، لقد كان يقال هذا الكلام فيقول البعض: لعله إشاعات غير صحيحة، وها هو ذا شيخ الإسلام يذكره، وهذا ما يقوله الصوفية من البركة في الخلوة والزنا والفواحش والموبقات، والعياذ بالله!
يقول: "فهؤلاء كفار باتفاق المسلمين، وهم بمنزلة من يستحل قتل المسلمين بغير حق، ويسبي حريمهم، ويغنم أموالهم، وغير ذلك من المحرمات".(1/170)
الشاهد لهذا الموضوع قوله: "لكن من الناس من يكون جاهلاً ببعض هذه الأحكام جهلاً يعذر به، فلا يحكم بكفر أحدٍ حتى تقوم عليه الحجة من جهة بلاغ الرسالة، كما قال الله تعالى: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [النساء:165]"، فمع ما ذكر شيخ الإسلام رحمه الله عنهم إلا أنه يحترز ويذكر احتمالات حتى لا يفهم كلامه في سياقٍ دون ما يقصد، فيقول: لا يعني ذلك أن كل من استحل شيئاً من المحرمات يكفر مطلقاً؛ لأن من الناس من يكون جاهلاً ببعض هذه الأحكام جهلاً يعذر به، والتكفير يكون كما قال: "فلا يحكم بكفر أحد حتى تقام عليه الحجة من جهة بلاغ الرسالة"، فلابد أن يبلغ قبل أن نكفره، وهذا الحكم إنما هو عندنا نحن في تكفير الناس، وليس عند الله، أما عند الله فإن الله تعالى أعلم بعباده.
يقول: "كما قال تعالى: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [النساء:165]، وقال تعالى: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء:15]، وقد جعل شيخ الإسلام هذه الآية في العذاب الذي هو العقوبة في الدنيا، لكن المراد بها: عذاب الآخرة الذي هو العذاب على ترك أوامر الله، وليس العذاب الكوني القدري الذي يقع لهم في الدنيا إذا كفروا أو أعرضوا.
قال رحمه الله: "ولهذا لو أسلم رجل ولم يعلم أن الصلاة واجبة عليه، أو لم يعلم أن الخمر يحرم؛ لم يكفر بعدم اعتقاد إيجاب هذا وتحريم هذا؛ بل ولم يعاقب حتى تبلغه الحجة النبوية".
وهذا الأمر يقع كثيراً عند الذين أسلموا قريباً ولم يعلموا بأحكام الشريعة.
أثر الجهل في التكفير
من درس: التكفير وضوابطه (الحلقة السابعة)
ما زلنا في موضوع الحكم على المعين بالتكفير أو التضليل أو التفسيق أو التبديع ونحو ذلك، وأن الحكم على المعين يختلف عن الحكم العام.(1/171)
فمن ذلك ما ذكره المصنف رحمه الله من أن المعين قد يكون مجتهداً مخطئاً مغفوراً له، أو يكون جاهلاً, أو يكون له إيمان عظيم وحسنات، فهذه ثلاثة احتمالات.
وحديث الرجل الذي أوصى بحرقه إذا مات وذره إنما يُحْمَل على الجهل، أي أنه يناسبه قول المصنف: [ويمكن أن يكون ممن لم يبلغه ما وراء ذلك من النصوص] فهذا أقرب ما يمكن حمله عليه، فإن كان يعلم لكنه جهل هذا،فالمقصود هو العلم الحقيقي لا أي علم.
وكنا قد وصلنا في شرح كلام شيخ الإسلام رحمه الله في الفتوى التي سئلها عن الذين يداومون على الرياضة حتى يتجوهروا إلى قوله(11/406): "لكن من الناس من يكون جاهلاً ببعض هذه الأحكام جهلاً يعذر به، فلا يحكم بكفر أحدٍ حتى تقوم عليه الحجة من جهة بلاغ الرسالة".
بلوغ الحجة شرط في المؤاخذة والتكفير
فقوله: "فلا يحكم بكفر أحدٍ حتى تقوم عليه الحجة من جهة بلاغ الرسالة" يعتبر قاعدة مهمة ومعياراً يقاس به.
يقول: "كما قال تعالى: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [النساء:165] وقال تعالى: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء:15]".
يقول رحمه الله: [ولهذا لو أسلم رجلٌ ولم يعلم أن الصلاة واجبةٌ عليه، أو لم يعلم أن الخمر يحرم؛ لم يكفر بعدم اعتقاد إيجاب هذا وتحريم هذا].
لا يَكفُر ولا يُكفَّر بعدم اعتقاده أن الصلاة واجبة أو أن الخمر محرم، وهاتان القضيتان من أظهر الأمور؛ لأن من أشهر وأظهر الواجبات: الصلاة، ومن أشهر وأظهر المحرمات: الخمر، وشيخ الإسلام رحمه الله دقيق في عبارته، لذلك عدل عن الزنا إلى الخمر؛ لأن الخمر تنفر منه النفوس السليمة وإن لم تكن متدينة، أما الزنا فإن الشهوات تدعو إليه، ولا يرتدع عنه إلا من كان يخاف الله، أو من لا يستطيعه.(1/172)
المقصود: أن واجباً معلوماً ظاهراً وهو الصلاة، ومحرماً معلوماً ظاهراً وهو شرب الخمر، من لم يعلم وجوب هذا وحرمة ذلك جاهلاً به، فإنه لا يكفَّر حتى تقوم عليه الحجة.
يقول: "بل ولا يعاقب حتى تبلغه الحجة النبوية".
قوله: "لا يعاقب" أي: لا في الدنيا ولا في الآخرة.
أما في الدنيا: فمعلوم أنه لا يعاقب وهو لا يَعلَم، لكن يُعلَّم.
وأما في الآخرة: فلدلالة ما تقدم من الآيات مع ما ذكرناه في حديث الأربعة الذين يمتحنون يوم القيامة.
حكم من أسلم بدار حرب وما علم أن الصلاة واجبة
يقول: "بل قد اختلف العلماء فيمن أسلم بدار الحرب ولم يعلم أن الصلاة واجبة، ثم علم".
هذه مسألة تتفرع عن تلك المسألة، فإذا أسلم رجل في دار الحرب كأمريكا أو بريطانيا أو الصين أو يوغسلافيا ، وهو لا يعلم أن الصلاة واجبة، لأنه إنما أسلم بأن وجد شخصاً فعلَّمه الإسلام، أو وجد كتاباً فقرأ في هذا الكتاب أن الإسلام عقيدة صحيحة، وأن الله سبحانه وتعالى بعث محمداً صلى الله عليه وسلم بالدين الحق، فآمن بالله وآمن برسوله محمد صلى الله عليه وسلم، واعتقد أن القرآن حق والإيمان حق؛ لكن ما علم أن هناك صلاة ولا صياماً، وبقي شهراً أو سنةً، ثم وجد شباباً مهتدين دعاةً إلى الله فعلَّموه الصلاة، وأنها واجبة، فهل يقضي المدة التي لم يصلّ فيها؟
يقول شيخ الإسلام : "اختلف العلماء: هل يجب عليه قضاء ما تركه بحال الجهل، على قولين في مذهب الإمام أحمد وغيره:
أحدهما: لا يجب عليه القضاء، وهو مذهب أبي حنيفة :
والثاني: يجب عليه القضاء، وهو المشهور عند أصحاب الشافعي ".
بلوغ الحجة شرط في المؤاخذة والتكفير
من درس: أثر الجهل في التكفير
فقوله: "فلا يحكم بكفر أحدٍ حتى تقوم عليه الحجة من جهة بلاغ الرسالة" يعتبر قاعدة مهمة ومعياراً يقاس به.(1/173)
يقول: "كما قال تعالى: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [النساء:165] وقال تعالى: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء:15]".
يقول رحمه الله: [ولهذا لو أسلم رجلٌ ولم يعلم أن الصلاة واجبةٌ عليه، أو لم يعلم أن الخمر يحرم؛ لم يكفر بعدم اعتقاد إيجاب هذا وتحريم هذا].
لا يَكفُر ولا يُكفَّر بعدم اعتقاده أن الصلاة واجبة أو أن الخمر محرم، وهاتان القضيتان من أظهر الأمور؛ لأن من أشهر وأظهر الواجبات: الصلاة، ومن أشهر وأظهر المحرمات: الخمر، وشيخ الإسلام رحمه الله دقيق في عبارته، لذلك عدل عن الزنا إلى الخمر؛ لأن الخمر تنفر منه النفوس السليمة وإن لم تكن متدينة، أما الزنا فإن الشهوات تدعو إليه، ولا يرتدع عنه إلا من كان يخاف الله، أو من لا يستطيعه.
المقصود: أن واجباً معلوماً ظاهراً وهو الصلاة، ومحرماً معلوماً ظاهراً وهو شرب الخمر، من لم يعلم وجوب هذا وحرمة ذلك جاهلاً به، فإنه لا يكفَّر حتى تقوم عليه الحجة.
يقول: "بل ولا يعاقب حتى تبلغه الحجة النبوية".
قوله: "لا يعاقب" أي: لا في الدنيا ولا في الآخرة.
أما في الدنيا: فمعلوم أنه لا يعاقب وهو لا يَعلَم، لكن يُعلَّم.
وأما في الآخرة: فلدلالة ما تقدم من الآيات مع ما ذكرناه في حديث الأربعة الذين يمتحنون يوم القيامة.
حكم من أسلم بدار حرب وما علم أن الصلاة واجبة
من درس: أثر الجهل في التكفير
يقول: "بل قد اختلف العلماء فيمن أسلم بدار الحرب ولم يعلم أن الصلاة واجبة، ثم علم".(1/174)
هذه مسألة تتفرع عن تلك المسألة، فإذا أسلم رجل في دار الحرب كأمريكا أو بريطانيا أو الصين أو يوغسلافيا ، وهو لا يعلم أن الصلاة واجبة، لأنه إنما أسلم بأن وجد شخصاً فعلَّمه الإسلام، أو وجد كتاباً فقرأ في هذا الكتاب أن الإسلام عقيدة صحيحة، وأن الله سبحانه وتعالى بعث محمداً صلى الله عليه وسلم بالدين الحق، فآمن بالله وآمن برسوله محمد صلى الله عليه وسلم، واعتقد أن القرآن حق والإيمان حق؛ لكن ما علم أن هناك صلاة ولا صياماً، وبقي شهراً أو سنةً، ثم وجد شباباً مهتدين دعاةً إلى الله فعلَّموه الصلاة، وأنها واجبة، فهل يقضي المدة التي لم يصلّ فيها؟
يقول شيخ الإسلام : "اختلف العلماء: هل يجب عليه قضاء ما تركه بحال الجهل، على قولين في مذهب الإمام أحمد وغيره:
أحدهما: لا يجب عليه القضاء، وهو مذهب أبي حنيفة :
والثاني: يجب عليه القضاء، وهو المشهور عند أصحاب الشافعي ".
اختلاف العلماء في وجوب القضاء على الجاهل بعد علمه
من درس: التكفير وضوابطه (الحلقة السابعة)
يقول: "بل النزاع بين العلماء في كل من ترك واجباً قبل بلوغ الحجة".
أمثلة لترك الواجب من الجاهل
قال: "مثل من ترك الصلاة عند عدم الماء، يحسب أن الصلاة لا تصح بتيمم":
وهذا حكم آخر غير الحكم الأول، فالأول لا يعلم وجوب الصلاة أصلاً، وهذا يعلم وجوب الصلاة لكن يظنها لا تجب إذا لم يجد الماء.
قال: "أو من أكل حتى تبين له الخيط الأبيض من الخيط الأسود، فيحسب أن ذلك هو المراد بالآية، يعني قوله تعالى: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ [البقرة:187]".
وضع حبلين أحدهما أسود والآخر أبيض، وقعد ينتظر حتى يميز بينهما وقد طلع الفجر، لكنه يظن جواز الأكل حتى يتبين له الأبيض من الأسود، فهل يقضي أو لا يقضي؟(1/175)
وهذا أمر وقع لبعض الصحابة، وهو عدي بن حاتم ، وقال له النبي صلى الله عليه وسلم: {إنك -إذاً- لعريض الوساد }.
قال ابن تيمية :"أو مسَّ ذكره، ثم تبين له وجوب ذلك".
أي: كان يعتقد عدم وجوب الوضوء من مس الذكر، ثم تبين له وجوب ذلك على الخلاف الفقهي، بأن ترجح لديه بعد حين أن القول الصحيح هو أن من مس ذكره فليتوضأ.
يقول رحمه الله: "وأمثال هذه المسائل: هل يجب عليه القضاء؟".
وكذلك لو أن رجلاً قرأ أو علم أن الله شرع التيمم؛ لكن جهل كيف يتيمم فتمرغ كما تتمرغ الدابة، فصلى بهذا شهوراً أو أسابيع أو أياماً، وهكذا غير ذلك من الأحكام.
ذكر الخلاف في حكم الخطاب في حق المكلف قبل التمكن من سماعه
والمقصود من هذه الأمثلة أن هناك خلافاً فيمن وقع في مثل هذه المسائل، وهو المكلف الذي ترك واجباً قبل بلوغ الحجة، ثم بلغته الحجة هل عليه القضاء؟
يقول: "على قولين في مذهب أحمد وغيره، وأصل ذلك هذه المسائل الأصولية". يعني من علم الأصول لا من أصول الدين، والمسألة الأصولية هي ما ذكره بقوله:
"هل يثبت حكم الخطاب في حق المكلف قبل التمكن من سماعه؟ أو لا يثبت إلا بعد أن يتمكن من سماعه؟!"
قال: "على ثلاثة أقوال في مذهب أحمد وغيره":
فالقول الأول: "قيل: يثبت مطلقاً" وذلك على القول بأن الله تعالى إذا خاطب العباد بشيء، فإنه يثبت في حق جميع المكلفين وإن لم يبلغهم.
والقول الثاني: "وقيل: لا يثبت مطلقاً".
أي: لا يثبت حتى يتمكن من سماعه ويبلغه، فيكون بلوغ الحجة شرطاً للوجوب كما سيأتي.
والقول الثالث: "وقيل: يفرق بين الخطاب الناسخ والخطاب المبتدأ، كأهل القبلة"
أي: استدلالاً بمسألة نسخ القبلة من بيت المقدس إلى المسجد الحرام، وقد جاء خبر النسخ بعض الصحابة وهم يصلون، فتحولوا إلى الكعبة ولم يقضوا تلك الصلاة، ومعلوم أن النسخ كان قبل أن يبدءوا فيها؛ لكنهم لما كانوا ثابتين على حكم شرعي لم يجب عليهم.
الراجح عدم المؤاخذة قبل بلوغ الخطاب(1/176)
يقول شيخ الإسلام : "والصحيح الذي تدل عليه الأدلة الشرعية، أن الخطاب لا يثبت في حق أحدٍ قبل التمكن من سماعه".
وهو القول الثاني من الأقوال الثالثة، ومن الحجة له أنه كيف يثبت الخطاب في حق أحد وهو لم يسمعه؟ والوقائع في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وأحواله الكثيرة تشهد وتدل لهذا القول بعد أن يبلغه، فإذا لم يبلغ المكلف الخطاب بقي على البراءة الأصلية، فلا يجب عليه شيء، وعليه قال شيخ الإسلام :
"فإن القضاء لا يجب عليه في الصور المذكورة ونظائرها"، فإذا جاءنا شخص وقال: كنت لا أدري أن الصلاة واجبة، قلنا له: صل من حين علمت وجوبها، ولا يجب عليك قضاء ما قبل علمك بوجوبها.
وآخر كان يترك الصلاة لعدم وجود الماء ولم يبلغه حكم التيمم، أو تيمم على غير الكيفية المشروعة، والآخر كان يأكل في رمضان حتى يتبين له الحبل الأبيض من الأسود يفسر الآية بذلك جهلاً، فالصحيح من أقوال العلماء أنه لا يجب عليه القضاء، وكل هذه الصور قد وقعت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر أحداً ممن وقع له ذلك بالقضاء، وهذا دليل صحيح صريح على أنه لا يثبت حكم الخطاب في حق أحدٍ إلا بعد تمكنه من سماعه، وقيام الحجة عليه.
ويدخل في هذا أيضاً: لو أنه بلغه النص ولكن لم يفهم منه الوجوب، كأن فهم منه الندب مثلاً، أو فهمه على غير وجهه، فإنه أيضاً لا يجب في حقه؛ لأن الله سبحانه وتعالى إنما تعبدنا بأن نطيعه في حدود ما نعلم أنه شرعه، فمن لم يعلم أن الله شرع هذا فلا يؤاخذ به.(1/177)
ما سبق يذكرنا بما يحدث هذه الأيام من الفتوى، ونذكر ذلك لشدة الحاجة إليه، ولخطأ من يفتي في هذه الأيام -وهم كثيرون مع الأسف-! يفتون أن من تاب وعمره أربعون سنة أو ستون أو أكثر، ولم يكن يصلي ولا يصوم قبل ذلك؛ بأن عليه أن يقضي جميع الصلوات التي فاتته، وصيام جميع شهور رمضان التي فاتته، وهذه الفتوى تجعل التوبة أمراً عسيراً، مما ينفر الناس عن التوبة!
والصحيح أنه لا يقضي، لكن هل ذلك لأنه لم يبلغه الحكم مثلما قلنا هنا؟
الجواب: ليس انتفاء وجوب القضاء لكون الحكم لم يبلغه، بل لأنه كان كافراً حيث لم يكن يصلي، والآن نقول له: أسلم حقيقةً، وصلِّ، فإذا ابتدأ الصلاة فقد استأنف الإسلام، وكل ما يفعله الإنسان في حال الردة فإنه لا يجب عليه أن يقضيه.
أمثلة لترك الواجب من الجاهل
من درس: اختلاف العلماء في وجوب القضاء على الجاهل بعد علمه
قال: "مثل من ترك الصلاة عند عدم الماء، يحسب أن الصلاة لا تصح بتيمم":
وهذا حكم آخر غير الحكم الأول، فالأول لا يعلم وجوب الصلاة أصلاً، وهذا يعلم وجوب الصلاة لكن يظنها لا تجب إذا لم يجد الماء.
قال: "أو من أكل حتى تبين له الخيط الأبيض من الخيط الأسود، فيحسب أن ذلك هو المراد بالآية، يعني قوله تعالى: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ [البقرة:187]".
وضع حبلين أحدهما أسود والآخر أبيض، وقعد ينتظر حتى يميز بينهما وقد طلع الفجر، لكنه يظن جواز الأكل حتى يتبين له الأبيض من الأسود، فهل يقضي أو لا يقضي؟
وهذا أمر وقع لبعض الصحابة، وهو عدي بن حاتم ، وقال له النبي صلى الله عليه وسلم: {إنك -إذاً- لعريض الوساد }.
قال ابن تيمية :"أو مسَّ ذكره، ثم تبين له وجوب ذلك".
أي: كان يعتقد عدم وجوب الوضوء من مس الذكر، ثم تبين له وجوب ذلك على الخلاف الفقهي، بأن ترجح لديه بعد حين أن القول الصحيح هو أن من مس ذكره فليتوضأ.(1/178)
يقول رحمه الله: "وأمثال هذه المسائل: هل يجب عليه القضاء؟".
وكذلك لو أن رجلاً قرأ أو علم أن الله شرع التيمم؛ لكن جهل كيف يتيمم فتمرغ كما تتمرغ الدابة، فصلى بهذا شهوراً أو أسابيع أو أياماً، وهكذا غير ذلك من الأحكام.
ذكر الخلاف في حكم الخطاب في حق المكلف قبل التمكن من سماعه
من درس: اختلاف العلماء في وجوب القضاء على الجاهل بعد علمه
والمقصود من هذه الأمثلة أن هناك خلافاً فيمن وقع في مثل هذه المسائل، وهو المكلف الذي ترك واجباً قبل بلوغ الحجة، ثم بلغته الحجة هل عليه القضاء؟
يقول: "على قولين في مذهب أحمد وغيره، وأصل ذلك هذه المسائل الأصولية". يعني من علم الأصول لا من أصول الدين، والمسألة الأصولية هي ما ذكره بقوله:
"هل يثبت حكم الخطاب في حق المكلف قبل التمكن من سماعه؟ أو لا يثبت إلا بعد أن يتمكن من سماعه؟!"
قال: "على ثلاثة أقوال في مذهب أحمد وغيره":
فالقول الأول: "قيل: يثبت مطلقاً" وذلك على القول بأن الله تعالى إذا خاطب العباد بشيء، فإنه يثبت في حق جميع المكلفين وإن لم يبلغهم.
والقول الثاني: "وقيل: لا يثبت مطلقاً".
أي: لا يثبت حتى يتمكن من سماعه ويبلغه، فيكون بلوغ الحجة شرطاً للوجوب كما سيأتي.
والقول الثالث: "وقيل: يفرق بين الخطاب الناسخ والخطاب المبتدأ، كأهل القبلة"
أي: استدلالاً بمسألة نسخ القبلة من بيت المقدس إلى المسجد الحرام، وقد جاء خبر النسخ بعض الصحابة وهم يصلون، فتحولوا إلى الكعبة ولم يقضوا تلك الصلاة، ومعلوم أن النسخ كان قبل أن يبدءوا فيها؛ لكنهم لما كانوا ثابتين على حكم شرعي لم يجب عليهم.
الراجح عدم المؤاخذة قبل بلوغ الخطاب
من درس: اختلاف العلماء في وجوب القضاء على الجاهل بعد علمه
يقول شيخ الإسلام : "والصحيح الذي تدل عليه الأدلة الشرعية، أن الخطاب لا يثبت في حق أحدٍ قبل التمكن من سماعه".(1/179)
وهو القول الثاني من الأقوال الثالثة، ومن الحجة له أنه كيف يثبت الخطاب في حق أحد وهو لم يسمعه؟ والوقائع في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وأحواله الكثيرة تشهد وتدل لهذا القول بعد أن يبلغه، فإذا لم يبلغ المكلف الخطاب بقي على البراءة الأصلية، فلا يجب عليه شيء، وعليه قال شيخ الإسلام :
"فإن القضاء لا يجب عليه في الصور المذكورة ونظائرها"، فإذا جاءنا شخص وقال: كنت لا أدري أن الصلاة واجبة، قلنا له: صل من حين علمت وجوبها، ولا يجب عليك قضاء ما قبل علمك بوجوبها.
وآخر كان يترك الصلاة لعدم وجود الماء ولم يبلغه حكم التيمم، أو تيمم على غير الكيفية المشروعة، والآخر كان يأكل في رمضان حتى يتبين له الحبل الأبيض من الأسود يفسر الآية بذلك جهلاً، فالصحيح من أقوال العلماء أنه لا يجب عليه القضاء، وكل هذه الصور قد وقعت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر أحداً ممن وقع له ذلك بالقضاء، وهذا دليل صحيح صريح على أنه لا يثبت حكم الخطاب في حق أحدٍ إلا بعد تمكنه من سماعه، وقيام الحجة عليه.
ويدخل في هذا أيضاً: لو أنه بلغه النص ولكن لم يفهم منه الوجوب، كأن فهم منه الندب مثلاً، أو فهمه على غير وجهه، فإنه أيضاً لا يجب في حقه؛ لأن الله سبحانه وتعالى إنما تعبدنا بأن نطيعه في حدود ما نعلم أنه شرعه، فمن لم يعلم أن الله شرع هذا فلا يؤاخذ به.
ما سبق يذكرنا بما يحدث هذه الأيام من الفتوى، ونذكر ذلك لشدة الحاجة إليه، ولخطأ من يفتي في هذه الأيام -وهم كثيرون مع الأسف-! يفتون أن من تاب وعمره أربعون سنة أو ستون أو أكثر، ولم يكن يصلي ولا يصوم قبل ذلك؛ بأن عليه أن يقضي جميع الصلوات التي فاتته، وصيام جميع شهور رمضان التي فاتته، وهذه الفتوى تجعل التوبة أمراً عسيراً، مما ينفر الناس عن التوبة!
والصحيح أنه لا يقضي، لكن هل ذلك لأنه لم يبلغه الحكم مثلما قلنا هنا؟(1/180)
الجواب: ليس انتفاء وجوب القضاء لكون الحكم لم يبلغه، بل لأنه كان كافراً حيث لم يكن يصلي، والآن نقول له: أسلم حقيقةً، وصلِّ، فإذا ابتدأ الصلاة فقد استأنف الإسلام، وكل ما يفعله الإنسان في حال الردة فإنه لا يجب عليه أن يقضيه.
ذكر الاتفاق على انتفاء الإثم مع الجهل
من درس: التكفير وضوابطه (الحلقة السابعة)
يقول: "مع اتفاقهم على انتفاء الإثم"
أي أن الفقهاء عامةً من الصحابة وغيرهم اتفقوا على انتفاء الإثم، ولكن الخلاف في وجوب القضاء.
والحاصل مما ذكرنا، أنه لا يقضي من الناحية الحكمية والفقهية على الصحيح الراجح، وأيضاً لا يؤاخذ من الناحية الأخروية.
فيقول: "مع اتفاقهم على انتفاء الإثم؛ لأن الله عفا لهذه الأمة عن الخطأ والنسيان" قال تعالى: رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا [البقرة:286].
فاستجاب الله لهم أن لا يؤاخذهم إذا نسوا أو أخطئوا، كما صح ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم في تفسير هذه الآية.
يقول: "فإذا كان هذا في التأثيم، فكيف في التكفير؟" أي: إذا كان لا يأثم ولا يقضي، فكيف نقول: إنه يكفُر؟!
ثم يعلل لذلك رحمه الله، ويقول: "وكثير من الناس قد ينشأ في الأمكنة والأزمنة التي يندرس فيها كثيرٌ من علوم النبوات".
بهذه المناسبة لشيخ الإسلام رحمه الله كلام قريب من هذا المعنى وأكثر وأوسع في تفسير سورة الإخلاص أيضاً، وموجزه: أنه قد توجد أمكنة أو أزمنة يندرس فيها كثير من علوم النبوات، فآثار النبوة تمحى وما أكثر ذلك! والجاهلية المطلقة لا تقع بعد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم؟ لأن الله تعالى تأذن وتكفل: أن لا تزال طائفة من هذه الأمة على الحق منصورة ظاهرة لا يضرها من خالفها؛ لكن هناك جاهلية مقيدة في زمانٍ ومكان تكون آثار النبوة عنه غائبة، يقول رحمه الله عن مثل ذلك:(1/181)
"حتى لا يبقى من يبلغ ما بعث الله به رسوله من الكتاب والحكمة، فلا يُعلم كثيرٌ مما يبعث الله به رسوله، ولا يكون هناك من يبلغه ذلك، ومثل هذا لا يكفر".
أي: أنه قد يوجد مسلمون -وهذا موجود في كل الأزمنة- لكن في مناطق نائية بعيدة لم يجدوا من يبلغهم دين الله الحق، فلا يعرفون من الإسلام إلا بعض الأمور كشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، أو يصلي، أو يعرف أن الحج واجب، وهذا ظاهر في كثير من الحجاج، لكن إذا جاء لا يدري بأعمال الحج، فعنده شعور وعاطفة فأحب أن يحج، لكن لا يعرف ما هو الحج، ويجهل هذه الأمور جميعاً.
ذكر حديث حذيفة ودلالته على انتفاء الإثم بالجهل
يقول: "ولهذا اتفق الأئمة على أن من نشأ ببادية بعيدة عن أهل العلم والإيمان، وكان حديث العهد بالإسلام، فأنكر شيئاً من هذه الأحكام الظاهرة المتواترة، فإنه لا يحكم بكفره حتى يعرف ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، ولهذا جاء في الحديث: {يأتي على الناس زمانٌ لا يعرفون به صلاةً ولا زكاةً، ولا صوماً ولا حجاً، إلا الشيخ الكبير والعجوز الكبيرة، يقولون: أدركنا آباءنا وهم يقولون: لا إله إلا الله، وهم لا يدرون صلاةً ولا زكاةً ولا حجاً، -فقال:- ولا صوم ينجيهم من النار }".
هذا حديث حذيفة رضي الله عنه، وهو حديث صحيح، ويبدو لي أن فيه خطأ من المطبعة؛ لأن الحديث يقول فيه الراوي صلة بن أشيم لحذيفة رضي الله تعالى عنه: {فما تنفعهم لا إله إلا الله، وهم لا يدرون ما صلاةً ولا زكاةً؟ قال: تنجيهم من النار }.
هذا يكون في آخر الزمان؛ لأن الإسلام يدرس كما يدرس وشي الثوب الخلق، فلا يبقى من آثاره شيء، إلا أن الشيخ الكبير أو المرأة الكبيرة، يقولون: لا إله إلا الله، أدركنا آباءنا وهم يقولون هذه الكلمة، نعوذ بالله أن يدركنا ذلك الزمان أو ذريتنا!
وفي الحديث الآخر: {لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض: الله } أي: لا يُعرف الله عز وجل ولا يذكر.(1/182)
مذهب السلف فيمن ترك الصلاة والصيام والحج
وأهل ذلك الزمان يتسافدون كما تتسافد الحمُر في الطرقات، وذلك لانتشار الجهل، فتنتشر الفواحش والمنكرات، ولا توجد مساجد ولا تقام الصلوات، ومع ذلك فإن هؤلاء لا يكفُرون، لأنه قال: {وما تغني عنهم لا إله إلا الله؟ } وهذا السؤال يدل على أنه من المتقرر عند الصحابة والتابعين، أن من لا يصلي ولا يصوم ولا يحج فليس بمسلم، ولذلك تعجب التابعي فقال: {وما تغني عنهم لا إله إلا الله؟ قال حذيفة : تنجيهم من النار } ولم يقل: تدخلهم الجنة؛ لأن الأصل قبل ذلك: أن من ترك هذه الأمور أنه مؤاخذ، فالأصل المؤاخذة، فتنجيهم من النار، سواء تنجيهم بمعنى أنهم لا يدخلونها، أو أنهم يعاقبون، ولا تنافي بين ذلك، فقد يكون حجب العلم عنهم نتيجة ذنوب ومعاصٍ أجرموها هم أو آباؤهم.
والمقصود أن لفظ: (تنجيهم) محتمل الأمرين: تنجيهم من النار وتدخلهم الجنة، أو تخرجهم منها بعد أن يعذبوا فيها.
فالمقرر عند السلف أن من لا يصلي ولا يصوم ولا يحج ولا يزكي ليس بمسلم، ولذلك استنكر التابعي ذلك في حق قوم لم يدروا ولم يسمعوا إلا الشهادتين، فكيف بمن يسمع الأذان كل وقت حتى في الإذاعة والتلفاز في وقت كل صلاة، ويرى الناس يصومون، ويسمع عن الحج كل عام، ومع ذلك لا يصوم ولا يصلي ولا يحج؛ لكن يسهر إلى آخر الليل، ثم ينام إلى الساعة الثامنة أو التاسعة، ثم يذهب إلى العمل ويرجع بلا صلاة ولا صوم، ولا عنده شيء من الدين، هل هذا يكون مسلماً؟!
حديث حذيفة لا يدل على عدم كفر تارك الصلاة
ثم إن حديث حذيفة لا يدل على عدم كفر تارك الصلاة وعدم خلوده؛ فكيف نقول: إن تارك الصلاة الذي يسمع الأذان ويعلم الوجوب، ويرى الناس يغدون ويجيئون إلى بيوت الله، ومع ذلك لا يصلي ولا يصوم ولا يفعل شيئاً من ذلك، أيكون هذا مسلماً أو ينجو من النار؟!
لا يمكن ذلك.(1/183)
فإذا كان هذا في حق من كانوا في آخر الزمان، فكذلك -كما يقول شيخ الإسلام - من نشأ ببادية بعيدة، أو منطقة مغمورة لم تظهر فيها آثار النبوة؛ فإنه لا يؤاخذ حتى يبلغه ما أمر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم.
ذكر حديث حذيفة ودلالته على انتفاء الإثم بالجهل
من درس: ذكر الاتفاق على انتفاء الإثم مع الجهل
يقول: "ولهذا اتفق الأئمة على أن من نشأ ببادية بعيدة عن أهل العلم والإيمان، وكان حديث العهد بالإسلام، فأنكر شيئاً من هذه الأحكام الظاهرة المتواترة، فإنه لا يحكم بكفره حتى يعرف ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، ولهذا جاء في الحديث: {يأتي على الناس زمانٌ لا يعرفون به صلاةً ولا زكاةً، ولا صوماً ولا حجاً، إلا الشيخ الكبير والعجوز الكبيرة، يقولون: أدركنا آباءنا وهم يقولون: لا إله إلا الله، وهم لا يدرون صلاةً ولا زكاةً ولا حجاً، -فقال:- ولا صوم ينجيهم من النار }".
هذا حديث حذيفة رضي الله عنه، وهو حديث صحيح، ويبدو لي أن فيه خطأ من المطبعة؛ لأن الحديث يقول فيه الراوي صلة بن أشيم لحذيفة رضي الله تعالى عنه: {فما تنفعهم لا إله إلا الله، وهم لا يدرون ما صلاةً ولا زكاةً؟ قال: تنجيهم من النار }.
هذا يكون في آخر الزمان؛ لأن الإسلام يدرس كما يدرس وشي الثوب الخلق، فلا يبقى من آثاره شيء، إلا أن الشيخ الكبير أو المرأة الكبيرة، يقولون: لا إله إلا الله، أدركنا آباءنا وهم يقولون هذه الكلمة، نعوذ بالله أن يدركنا ذلك الزمان أو ذريتنا!
وفي الحديث الآخر: {لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض: الله } أي: لا يُعرف الله عز وجل ولا يذكر.
مذهب السلف فيمن ترك الصلاة والصيام والحج
من درس: ذكر الاتفاق على انتفاء الإثم مع الجهل(1/184)
وأهل ذلك الزمان يتسافدون كما تتسافد الحمُر في الطرقات، وذلك لانتشار الجهل، فتنتشر الفواحش والمنكرات، ولا توجد مساجد ولا تقام الصلوات، ومع ذلك فإن هؤلاء لا يكفُرون، لأنه قال: {وما تغني عنهم لا إله إلا الله؟ } وهذا السؤال يدل على أنه من المتقرر عند الصحابة والتابعين، أن من لا يصلي ولا يصوم ولا يحج فليس بمسلم، ولذلك تعجب التابعي فقال: {وما تغني عنهم لا إله إلا الله؟ قال حذيفة : تنجيهم من النار } ولم يقل: تدخلهم الجنة؛ لأن الأصل قبل ذلك: أن من ترك هذه الأمور أنه مؤاخذ، فالأصل المؤاخذة، فتنجيهم من النار، سواء تنجيهم بمعنى أنهم لا يدخلونها، أو أنهم يعاقبون، ولا تنافي بين ذلك، فقد يكون حجب العلم عنهم نتيجة ذنوب ومعاصٍ أجرموها هم أو آباؤهم.
والمقصود أن لفظ: (تنجيهم) محتمل الأمرين: تنجيهم من النار وتدخلهم الجنة، أو تخرجهم منها بعد أن يعذبوا فيها.
فالمقرر عند السلف أن من لا يصلي ولا يصوم ولا يحج ولا يزكي ليس بمسلم، ولذلك استنكر التابعي ذلك في حق قوم لم يدروا ولم يسمعوا إلا الشهادتين، فكيف بمن يسمع الأذان كل وقت حتى في الإذاعة والتلفاز في وقت كل صلاة، ويرى الناس يصومون، ويسمع عن الحج كل عام، ومع ذلك لا يصوم ولا يصلي ولا يحج؛ لكن يسهر إلى آخر الليل، ثم ينام إلى الساعة الثامنة أو التاسعة، ثم يذهب إلى العمل ويرجع بلا صلاة ولا صوم، ولا عنده شيء من الدين، هل هذا يكون مسلماً؟!
حديث حذيفة لا يدل على عدم كفر تارك الصلاة
من درس: ذكر الاتفاق على انتفاء الإثم مع الجهل
ثم إن حديث حذيفة لا يدل على عدم كفر تارك الصلاة وعدم خلوده؛ فكيف نقول: إن تارك الصلاة الذي يسمع الأذان ويعلم الوجوب، ويرى الناس يغدون ويجيئون إلى بيوت الله، ومع ذلك لا يصلي ولا يصوم ولا يفعل شيئاً من ذلك، أيكون هذا مسلماً أو ينجو من النار؟!
لا يمكن ذلك.(1/185)
فإذا كان هذا في حق من كانوا في آخر الزمان، فكذلك -كما يقول شيخ الإسلام - من نشأ ببادية بعيدة، أو منطقة مغمورة لم تظهر فيها آثار النبوة؛ فإنه لا يؤاخذ حتى يبلغه ما أمر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم.
ذكر حديث الرجل الذي أوصى بحرقه جاهلاً
من درس: التكفير وضوابطه (الحلقة السابعة)
يقول: رحمه الله: "وقد دل على هذا الأصل".
الذي هو عدم المؤاخذة.
"ما أخرجاه في الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {قال رجل -لم يُعجِّل حسنة قط- لأهله: إذا مات فحرقوه، ثم اذروا نصفه في البر ونصفه في البحر، فوالله لئن قدر الله عليه ليعذبنه عذاباً لا يعذبنه أحداً من العالمين، فلما فمات الرجل فعلوا ما أمرهم، فأمر الله البر فجمع ما فيه، وأمر البحر فجمع ما فيه، ثم قال: لم فعلتَ هذا؟ قال من خشيتك يا رب، وأنت أعلم! فغفر الله له }"، ثم ذكر لفظاً آخر وروايات أخر.
بيان أن الرجل أنكر القدرة والمعاد
قال رحمه الله: "فهذا الرجل: ظن أن الله لا يقدر عليه إذا تفرق هذا التفرق"، فظن أنه لا يعيده إذا صار كذلك، فوقع هذا الرجل في أمرين عظيمين: حيث ظن أنه إذا تفرق لن يقدر الله عليه، وظن بناء على ذلك أنه لا يعيده، أي: لا يبعثه.
قال رحمه الله: "وكل واحدٍ من إنكار قدرة الله تعالى وإنكار معاد الأبدان وإن تفرقت؛ كُفر".
فشيخ الإسلام رحمه الله يقول: هذا الرجل وقع في مصيبتين:
الأولى: إنكار القدرة.
والثانية: إنكار المعاد.(1/186)
فيقول: "لكنه كان مع إيمانه بالله وإيمانه بأمره، وخشيته منه جاهلاً بذلك"، أي فهذا مؤمن أسرف على نفسه ولم يعمل خيراً قط، ولكن أيقظ الله قلبه في تلك اللحظة، ولكنه غلا في الخوف حين وجد أنه في انقطاع من الدنيا وإقبال على الآخرة، ولا يستطيع أن يتقدم ولا يتأخر عن ذلك، وأمامه صفحة سوداء ملطخة بالذنوب والمعاصي، وهو يخشى عذاب الله، ويريد أن ينجو من العذاب بأي وجه، فوقع في هذه المشكلة؛ حيث غلا في الخوف، وظن الحل والخلاص فيما ليس بحل ولا خلاص، بل هو وقوع في مصيبة أو مشكلة أخرى، وهكذا حال كثير من الناس إلا من مَنَّ الله تبارك وتعالى عليه بالهداية، وليس كل من حَسُن دافعه أو رغبته يصيب الحق، ويحسن التصرف والتدبير في الأمر.
يقول: "ولكنه كان مع ذلك جاهلاً ضالاً في هذا الظن مخطئاً؛ فغفر الله له ذلك".
قال: "والحديث صريح بأن الرجل طمع أن لا يعيده إذا فعل ذلك، وأدنى هذا أن يكون شاكاً في المعاد، وذلك كفر؛ إذا قامت حجة النبوة على منكره حكم بكفره، وهو بيِّن".
أي أن من شك في المعاد وأقيمت عليه الحجة حكم بكفره.
ذكر بعض التأويلات المخالفة لظاهر الحديث
قال: "ومن تأول قوله: لئن قدر الله علي، بمعنى (قضى) أو بمعنى (ضيَّق) فقد أبعد النجعة وحرف الكلم عن مواضعه".
أي أن بعض العلماء أوَّل هذا الحديث، وذلك على أقوال:
الأول: أن قدر بمعنى قضى.
الثاني: أنه بمعنى ضيق.
الثالث: أنه غلط في اللفظ، مثل الرجل الذي قال: {اللهم أنت عبدي وأنا ربك }.
الرابع: قال ابن الجوزي : إنه كان في زمن الفترة.
والخامس: أنه كان في شرعهم جواز المغفرة للكافر. وهذا بعيد.
بيان أن الرجل أنكر القدرة والمعاد
من درس: ذكر حديث الرجل الذي أوصى بحرقه جاهلاً(1/187)
قال رحمه الله: "فهذا الرجل: ظن أن الله لا يقدر عليه إذا تفرق هذا التفرق"، فظن أنه لا يعيده إذا صار كذلك، فوقع هذا الرجل في أمرين عظيمين: حيث ظن أنه إذا تفرق لن يقدر الله عليه، وظن بناء على ذلك أنه لا يعيده، أي: لا يبعثه.
قال رحمه الله: "وكل واحدٍ من إنكار قدرة الله تعالى وإنكار معاد الأبدان وإن تفرقت؛ كُفر".
فشيخ الإسلام رحمه الله يقول: هذا الرجل وقع في مصيبتين:
الأولى: إنكار القدرة.
والثانية: إنكار المعاد.
فيقول: "لكنه كان مع إيمانه بالله وإيمانه بأمره، وخشيته منه جاهلاً بذلك"، أي فهذا مؤمن أسرف على نفسه ولم يعمل خيراً قط، ولكن أيقظ الله قلبه في تلك اللحظة، ولكنه غلا في الخوف حين وجد أنه في انقطاع من الدنيا وإقبال على الآخرة، ولا يستطيع أن يتقدم ولا يتأخر عن ذلك، وأمامه صفحة سوداء ملطخة بالذنوب والمعاصي، وهو يخشى عذاب الله، ويريد أن ينجو من العذاب بأي وجه، فوقع في هذه المشكلة؛ حيث غلا في الخوف، وظن الحل والخلاص فيما ليس بحل ولا خلاص، بل هو وقوع في مصيبة أو مشكلة أخرى، وهكذا حال كثير من الناس إلا من مَنَّ الله تبارك وتعالى عليه بالهداية، وليس كل من حَسُن دافعه أو رغبته يصيب الحق، ويحسن التصرف والتدبير في الأمر.
يقول: "ولكنه كان مع ذلك جاهلاً ضالاً في هذا الظن مخطئاً؛ فغفر الله له ذلك".
قال: "والحديث صريح بأن الرجل طمع أن لا يعيده إذا فعل ذلك، وأدنى هذا أن يكون شاكاً في المعاد، وذلك كفر؛ إذا قامت حجة النبوة على منكره حكم بكفره، وهو بيِّن".
أي أن من شك في المعاد وأقيمت عليه الحجة حكم بكفره.
ذكر بعض التأويلات المخالفة لظاهر الحديث
من درس: ذكر حديث الرجل الذي أوصى بحرقه جاهلاً
قال: "ومن تأول قوله: لئن قدر الله علي، بمعنى (قضى) أو بمعنى (ضيَّق) فقد أبعد النجعة وحرف الكلم عن مواضعه".
أي أن بعض العلماء أوَّل هذا الحديث، وذلك على أقوال:
الأول: أن قدر بمعنى قضى.(1/188)
الثاني: أنه بمعنى ضيق.
الثالث: أنه غلط في اللفظ، مثل الرجل الذي قال: {اللهم أنت عبدي وأنا ربك }.
الرابع: قال ابن الجوزي : إنه كان في زمن الفترة.
والخامس: أنه كان في شرعهم جواز المغفرة للكافر. وهذا بعيد.
دفع تأويلات من أول حديث الشك في القدرة من وجوه
من درس: التكفير وضوابطه (الحلقة السابعة)
فذكر شيخ الإسلام أن من تأول الحديث، فقد أبعد النجعة، وحرف الكلم عن مواضعه، وسيرد رحمه الله على من تأول الحديث من وجوه:
الترتيب بين الجملتين بالفاء يدل على السببية
الوجه الأول: قال: "فإنه إنما أمر بتحريقه وتفريقه لئلا يجمع ويعاد، وقال: إذا أنا متُ فأحرقوني ثم اسحقوني ثم ذروني، فوالله لئن قدر عليَّ ربي ليعذبني عذاباً ما عذبه أحداً، فذِكْر هذه الجملة الثانية بحرف الفاء عقيب الأولى يدل على أنها سبب لها" فالجملة الثانية هي سبب أمره بالحرق وغيره مما ذكر في الجملة الأولى.
يقول: "فهو فعل ذلك لئلا يقدر الله عليه إذا فعل ذلك، فلو كان مقراً بقدرة الله عليه إذا فعل ذلك كقدرته إذا لم يفعل، لم يكن في ذلك فائدة".
أي أنه إذا كان مقراً بأن الله يقدر على هذا وهذا فما الفائدة؟! لكن هو يرى أنه لو دفن بجثته فسيقدر الله على أن يبعثه، فإذا أحرق وسحق فلن يقدر الله عليه، وأدنى هذا أن يكون شاكاً في قدرة الله على إعادة الإنسان.
فالوجه الأول أن التأويل يتنافى مع لفظ الحديث في الترتيب والتعقيب.
المغايرة بين تفريقه وأن يقدر الله عليه
الوجه الثاني: قال: "ولأن التقدير عليه والتضييق موافقان للتعذيب".
أي: إذا كان (لئن قدر عليَّ) بمعنى: ضيق، أو بمعنى: قضى وحكم علي بالعذاب، فذلك هو العذاب نفسه.
قال: "فقد جعل تفريقه مغايراً لأن يقدر الرب عليه، ولهذا قال: فوالله لئن قدَر الله عليّ ليعذبني، فلا يكون الشرط هو الجزاء، فهو يقول: أنا أوصي بتفريقي حتى لا يعذبني" وعلى قولهم يكون كأنه قال: لئن عذبني الله ليعذبني، وليس هذا مراداً.(1/189)
لو كان معنى (قدَر) قدَّر أو ضيق لما لجأ إلى كلمات بعيدة وعامة
الوجه الثالث: يقول: "ولأنه لو كان مراده ذلك لقال: فوالله لئن جازاني ربي أو لئن عاقبني ربي ليعذبني".
لو كان قصده ما قيل إنه بمعنى ضيَّق أو بمعنى قدَّر عليَّ العذاب، لقال: يا أبنائي افعلوا هذا، فوالله لئن جازاني ربي ليعذبني عذاباً شديداً، ولم يقل: لئن قدر علي، فتكون القدرة والتقدير خارجين عن المقصود، "كما هو الخطاب المعروف في مثل ذلك" يعني فالناس عادةً لا يلجئون إلى خطاب بعيد المعنى مع إمكان الخطاب بخطاب معروف واضح، وهذا الرجل لم يكن في مقام بلاغة، حتى يأتي بالمعاني البعيدة، بل في مقام موت، يريد أن يقول لأولاده شيئاً واضحاً سهلاً يفهمونه.
لفظ (قَدِرَ) بمعنى ضيق لا أصل له في اللغة
قال: "ولأن لفظ (قَدرَ) بمعنى ضيّق لا أصل له في اللغة".
شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تبحرُّه وتوسُّعه في لغة العرب معروف، فقد جاء إليه مرة أبو حيان ، بكتاب سيبويه ، وبدأ يفتخر به على شيخ الإسلام ، فقال له شيخ الإسلام : اسكت، فإن في كتاب سيبويه ثمانين خطأً.
فقد كان رحمه الله حجة في اللغة.
يقول: "ومن استشهد على ذلك"، أي على أن قدَّر بمعنى: ضيق، "بقوله: وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ [سبأ:11]، وقوله: وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ [الطلاق:7] فقد استشهد بما لا يَشْهَد له فإن الله قال: وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ [الطلاق:7]، وكما قال عز وجل: وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ * قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ [سبأ:35-36]، وقال في آية أخرى: وَيَقْدِرُ لَهُ [العنكبوت:62].(1/190)
يقول شيخ الإسلام : يقدر هنا ليس معناها: التضييق، فليس المعنى: ومن ضُيِّق عليه رزقه، يقول: "فإن اللفظ كان في قوله: وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ [سبأ:11] معناه: اجعل ذلك بقدْر ولا تزد ولا تنقص" أي: وليس معنى وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ [سبأ:11]: ضيِّق؛ لأنهم قد يقولون: تضييق السرد أدعى إلى الإحكام، لأنه عندما يكون الدرع مخلخلاً لا يكون كما إذا كان مشتبكاً محكماً، وعليه فالتقدير يكون بمعنى: التضييق، هذه وجهة نظرهم.
شيخ الإسلام رحمه الله يقول: معنى قدِّر: اجعله بقَدْر معين ولا تزد ولا تنقص.
أي: التزم مقداراً معيناً، لا تزد عليه ولا تنقص منه، وذلك أدعى إلى الإحكام والضبط.
يقول: "وقوله: وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ [الطلاق:7]: أي: جُعل رزقه بقدر ما يكفيه من غير فضل، بحيث لو أنفق منه لاختل" فهذا دخله على قدْر ما يقيم نفسه وأولاده، ولو كان أقل من ذلك لأصبح من غير أهل الكفاية، وصار مسكيناً أو فقيراً فيعْطَى من الزكاة.
يقول: "إذ لو ينقص الرزق عن ذلك لم يعش".
يعني: بمقدار لو نقص عن هذا المقدار لم يعش، فالله سبحانه وتعالى يرزق العباد جميعاً؛ فيرزق بعضهم رزقاً واسعاً، ويرزق البعض الآخر بحيث يكون على أدنى الكفاية، كما في قوله: قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِر [سبأ:36].
تأويل لفظ (قدر) بمعنى قضى غير صحيح
الوجه الخامس: قال: "وأما قَدر بمعنى قدَّر أي: أراد تقدير الخير والشر، فهو لم يقل: إن قدَّر عليّ ربي العذاب".
فالموضوع ليس له علاقة بالقَدَر، لو كان كذلك لقال الرجل: لئن قدَّر عليَّ ربي العذاب ليعذبني..
يقول: "بل قال: لئن قَدِر عليَّ ربي. والتقدير يتناول النوعين، فلا يصح أن يقال: لئن قضى الله عليّ؛ لأنه قد مضى وتقرر عليه ما ينفعه وما يضره".(1/191)
أي: ولا يصلح أن يقول: لئن قضى الله عليّ؛ لأن القضاء قد كتب، وهو يريد شيئاً يتخلص منه، فيقول: (لئن قَدر) لأنه لا يدري: هل يقدر أو لا يقدر؟ أما أنه قضى وقدَّر فيما مضى فهذا أمر قد فرِغ منه.
يقول: "ولأنه لو كان المراد التقدير أو التضييق لم يكن ما فَعَله مانعاً من ذلك في ظنه".
قال: "ودلائل فساد هذا التحريف كثيرة، ليس هذا موضع بسطها".
الترتيب بين الجملتين بالفاء يدل على السببية
من درس: دفع تأويلات من أول حديث الشك في القدرة من وجوه
الوجه الأول: قال: "فإنه إنما أمر بتحريقه وتفريقه لئلا يجمع ويعاد، وقال: إذا أنا متُ فأحرقوني ثم اسحقوني ثم ذروني، فوالله لئن قدر عليَّ ربي ليعذبني عذاباً ما عذبه أحداً، فذِكْر هذه الجملة الثانية بحرف الفاء عقيب الأولى يدل على أنها سبب لها" فالجملة الثانية هي سبب أمره بالحرق وغيره مما ذكر في الجملة الأولى.
يقول: "فهو فعل ذلك لئلا يقدر الله عليه إذا فعل ذلك، فلو كان مقراً بقدرة الله عليه إذا فعل ذلك كقدرته إذا لم يفعل، لم يكن في ذلك فائدة".
أي أنه إذا كان مقراً بأن الله يقدر على هذا وهذا فما الفائدة؟! لكن هو يرى أنه لو دفن بجثته فسيقدر الله على أن يبعثه، فإذا أحرق وسحق فلن يقدر الله عليه، وأدنى هذا أن يكون شاكاً في قدرة الله على إعادة الإنسان.
فالوجه الأول أن التأويل يتنافى مع لفظ الحديث في الترتيب والتعقيب.
المغايرة بين تفريقه وأن يقدر الله عليه
من درس: دفع تأويلات من أول حديث الشك في القدرة من وجوه
الوجه الثاني: قال: "ولأن التقدير عليه والتضييق موافقان للتعذيب".
أي: إذا كان (لئن قدر عليَّ) بمعنى: ضيق، أو بمعنى: قضى وحكم علي بالعذاب، فذلك هو العذاب نفسه.(1/192)
قال: "فقد جعل تفريقه مغايراً لأن يقدر الرب عليه، ولهذا قال: فوالله لئن قدَر الله عليّ ليعذبني، فلا يكون الشرط هو الجزاء، فهو يقول: أنا أوصي بتفريقي حتى لا يعذبني" وعلى قولهم يكون كأنه قال: لئن عذبني الله ليعذبني، وليس هذا مراداً.
لو كان معنى (قدَر) قدَّر أو ضيق لما لجأ إلى كلمات بعيدة وعامة
من درس: دفع تأويلات من أول حديث الشك في القدرة من وجوه
الوجه الثالث: يقول: "ولأنه لو كان مراده ذلك لقال: فوالله لئن جازاني ربي أو لئن عاقبني ربي ليعذبني".
لو كان قصده ما قيل إنه بمعنى ضيَّق أو بمعنى قدَّر عليَّ العذاب، لقال: يا أبنائي افعلوا هذا، فوالله لئن جازاني ربي ليعذبني عذاباً شديداً، ولم يقل: لئن قدر علي، فتكون القدرة والتقدير خارجين عن المقصود، "كما هو الخطاب المعروف في مثل ذلك" يعني فالناس عادةً لا يلجئون إلى خطاب بعيد المعنى مع إمكان الخطاب بخطاب معروف واضح، وهذا الرجل لم يكن في مقام بلاغة، حتى يأتي بالمعاني البعيدة، بل في مقام موت، يريد أن يقول لأولاده شيئاً واضحاً سهلاً يفهمونه.
لفظ (قَدِرَ) بمعنى ضيق لا أصل له في اللغة
من درس: دفع تأويلات من أول حديث الشك في القدرة من وجوه
قال: "ولأن لفظ (قَدرَ) بمعنى ضيّق لا أصل له في اللغة".
شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تبحرُّه وتوسُّعه في لغة العرب معروف، فقد جاء إليه مرة أبو حيان ، بكتاب سيبويه ، وبدأ يفتخر به على شيخ الإسلام ، فقال له شيخ الإسلام : اسكت، فإن في كتاب سيبويه ثمانين خطأً.
فقد كان رحمه الله حجة في اللغة.(1/193)
يقول: "ومن استشهد على ذلك"، أي على أن قدَّر بمعنى: ضيق، "بقوله: وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ [سبأ:11]، وقوله: وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ [الطلاق:7] فقد استشهد بما لا يَشْهَد له فإن الله قال: وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ [الطلاق:7]، وكما قال عز وجل: وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ * قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ [سبأ:35-36]، وقال في آية أخرى: وَيَقْدِرُ لَهُ [العنكبوت:62].
يقول شيخ الإسلام : يقدر هنا ليس معناها: التضييق، فليس المعنى: ومن ضُيِّق عليه رزقه، يقول: "فإن اللفظ كان في قوله: وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ [سبأ:11] معناه: اجعل ذلك بقدْر ولا تزد ولا تنقص" أي: وليس معنى وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ [سبأ:11]: ضيِّق؛ لأنهم قد يقولون: تضييق السرد أدعى إلى الإحكام، لأنه عندما يكون الدرع مخلخلاً لا يكون كما إذا كان مشتبكاً محكماً، وعليه فالتقدير يكون بمعنى: التضييق، هذه وجهة نظرهم.
شيخ الإسلام رحمه الله يقول: معنى قدِّر: اجعله بقَدْر معين ولا تزد ولا تنقص.
أي: التزم مقداراً معيناً، لا تزد عليه ولا تنقص منه، وذلك أدعى إلى الإحكام والضبط.
يقول: "وقوله: وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ [الطلاق:7]: أي: جُعل رزقه بقدر ما يكفيه من غير فضل، بحيث لو أنفق منه لاختل" فهذا دخله على قدْر ما يقيم نفسه وأولاده، ولو كان أقل من ذلك لأصبح من غير أهل الكفاية، وصار مسكيناً أو فقيراً فيعْطَى من الزكاة.
يقول: "إذ لو ينقص الرزق عن ذلك لم يعش".
يعني: بمقدار لو نقص عن هذا المقدار لم يعش، فالله سبحانه وتعالى يرزق العباد جميعاً؛ فيرزق بعضهم رزقاً واسعاً، ويرزق البعض الآخر بحيث يكون على أدنى الكفاية، كما في قوله: قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِر [سبأ:36].(1/194)
تأويل لفظ (قدر) بمعنى قضى غير صحيح
من درس: دفع تأويلات من أول حديث الشك في القدرة من وجوه
الوجه الخامس: قال: "وأما قَدر بمعنى قدَّر أي: أراد تقدير الخير والشر، فهو لم يقل: إن قدَّر عليّ ربي العذاب".
فالموضوع ليس له علاقة بالقَدَر، لو كان كذلك لقال الرجل: لئن قدَّر عليَّ ربي العذاب ليعذبني..
يقول: "بل قال: لئن قَدِر عليَّ ربي. والتقدير يتناول النوعين، فلا يصح أن يقال: لئن قضى الله عليّ؛ لأنه قد مضى وتقرر عليه ما ينفعه وما يضره".
أي: ولا يصلح أن يقول: لئن قضى الله عليّ؛ لأن القضاء قد كتب، وهو يريد شيئاً يتخلص منه، فيقول: (لئن قَدر) لأنه لا يدري: هل يقدر أو لا يقدر؟ أما أنه قضى وقدَّر فيما مضى فهذا أمر قد فرِغ منه.
يقول: "ولأنه لو كان المراد التقدير أو التضييق لم يكن ما فَعَله مانعاً من ذلك في ظنه".
قال: "ودلائل فساد هذا التحريف كثيرة، ليس هذا موضع بسطها".
بيان أن الرجل الشاك في قدرة الله لم يكن كافراً بل جاهلاً ببعض الصفات
من درس: التكفير وضوابطه (الحلقة السابعة)
قال ابن تيمية : "فغاية ما في هذا أنه كان رجلاً لم يكن عالماً بجميع ما يستحقه الله من الصفات" أي: إنما كان يعلم بعضها، مثل أن الله شديد العقاب، وأنه مالك يوم الدين يحاسب ويجازي عباده على أعمالهم، وعنده إقرار بأن الله سبحانه وتعالى يحصي على الإنسان ما فعل، أي أنه من خلال هذا الحديث نعرف أنه كان عنده شيء من العلم بالشرع، ولذلك قال: أسرفت على نفسي بالمعاصي، وما عملت حسنة، بل فعلت كل قبيح وخطيئة!
فإذاً: فهو يعلم أن الله سبحانه وتعالى يشرع لعباده، وأنه ينزل عليهم الأحكام فيأمرهم وينهاهم، وأنه شديد العقاب، وأنه يحاسب، وأنه يحصي على العباد أفعالهم، وغير ذلك.
فالرجل لم يكن عالماً بجميع الصفات، والشك إنما جاء في صفة القدرة، ولا يتعداها إلى غيرها.(1/195)
يقول: "وبتفصيل أنه القادر"، أي أنه كان يعلم اتصاف الله بالقدرة في الأصل، لكن لا يعلم بتفصيل ذلك.
قال: "وكثيرٌ من المؤمنين قد يجهل مثل ذلك".
فكثير منهم إما أن يجهل بعض الصفات، أو يجهل تفصيل بعض الصفات، ولا يكون كافراً بذلك إلا إذا قامت عليه الحجة وبلغته الرسالة، فأنكر وجحد ولم يلتزم بذلك.
حديث عائشة في سؤالها عن علم الله بكل شيء ودلالته على عدم المؤاخذة بالجهل
من درس: التكفير وضوابطه (الحلقة السابعة)
يقول: "ومن تتبع الأحاديث الصحيحة وجد فيها من هذا الجنس ما يوافقه".
أي: فهذا أصل دلت عليه عدة أحاديث: حديث حذيفة -الذي ذكرناه- في الرجل الذي أوصى أولاده بأن يحرقوه.
ومن ذلك ما ذكره قال: "كما روى مسلم في صحيحه عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت: {ألا أحدثكم عني وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قلنا: بلى: قالت: لما كانت ليلتي التي النبي صلى الله عليه وسلم فيها عندي، انقلب فوضع رداءه وخلع نعليه، فوضعها عند رجليه، وبسط طرف إزاره على فراشه واضطجع ... } ".
فعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك؛ كأنه يتهيأ للقيام.
قالت: {فلم يثبت إلا ريثما ظن أني رقدت ... }".
أي: حتى ظن أن أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها رقدت، وهي لم تكن نامت، وهذا يدل على أنه كان لا يعلم الغيب، خلافاً لأولئك الذين يكفرون بآيات الله، ويكذبون الله ورسوله، ويقولون: إن الرسول صلى الله عليه وسلم يعلم الغيب.
قالت: " {فأخذ رداءه رويداً }" أي: سحب الرداء بهدوء.
" {وانتعل رويداً، وفتح الباب رويداً، فخرج، ثم أجافه رويداً }".
أي: أغلق الباب رويداً.(1/196)
{قالت: فجعلت درعي في رأسي، واختمرتُ وتقنعتُ إزاري، ثم انطلقت على أثره حتى جاء البقيع ... }"، أي: المقبرة، ليتذكر الموت، ويزكي نفسه، ويدعو للموتى كما قالت: {فقام، فأطال القيام ثم رفع يديه ثلاث مرات، ثم انحرف فانحرفت، وأسرع فأسرعت، فهرول وهرولت ... }" وذلك أنها رضي الله تعالى عنها تخاف أنه يصل قبلها فلا يجدها، لأنه ما علم بها صلى الله عليه وسلم.
{قالت: فسبقته، فدخلت، فليس إلا أن اضطجعت، وإذا به صلى الله عليه وسلم قد دخل فقال: ما لك يا عائشة ؟ قلت: لا شيء، قال: أخبريني أو ليخبرني اللطيف الخبير، قالت: قلت: يا رسول الله! بأبي أنت وأمي فأخبرته! فقال: فأنت السواد الذي رأيت أمامي؟ قلت: نعم! فلهَزَنِي في صدري لهزةً أوجعتني، ثم قال: أظننتِ أن يحيف الله عليك ورسوله؟! }"، ومعنى يحيف: يجور، وهذا هو الشاهد من الحديث؛ إذ ظنت أن يجور عليها فيعطي ليلتها لغيرها من نسائه.
{... قالت: قلت: يا رسول الله! مهما يكتم الناس يعلمه الله؟ ... }".
أي: أهذا الخاطر الذي خطر في نفسي أنك ذهبت عند أحد أزواجك يعلمه الله؟
{... قال: نعم. قال: فإن جبريل عليه السلام أتاني حين رأيت، فناداني فأخفاه منكِ، فأجبتُه وأخفيتُه منك، ولم يكن يدخل عليك وقد وضعتِ ثيابكِ، وظننتُ أنكِ رقدتِ، وكرهتُ أن أوقظك، وخشيتُ أن تستوحشي }".
أي أنه لو أيقظها وقال: لا تخافي، لربما خافت، لكنه تركها تنام حتى يرجع، لكن هي رضي الله تعالى عنها خافت أن يذهب إلى غيرها من أزواجه، لما رأته فعل ذلك.(1/197)
"{فقال: -أي: جبريل عليه السلام- إن ربك يأمرك أن تأتي أهل البقيع، فتستغفر لهم }، ولم يكن من عقيدة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يحيف عليها، أو يترك ليلتها ويخدعها ويذهب عند غيرها، فهي لا تظن ذلك ولا تعتقده؛ لكن يأتي أحياناً خاطر خفيف جداً فتسأل عن هذا الخاطر العابر الذي لا يكاد الشخص يعتقده، أيعلمه الله؟ قال: نعم! يقول: سبحانه تعالى: وَهُو بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [البقرة:29]، وقال:يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى [طه:7]، أي: وما هو أخفى من السر، وهو أنه يعلم السر قبل كونه سراً، فلا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ [آل عمران:5] سبحانه وتعالى.
{... فقالت: كيف أقول يا رسول الله؟ }" أي: عند زيارة المقابر {فقال: قولي: السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، يرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين، وإنا إن شاء الله للاحقون ... }".
قال ابن تيمية : "فهذه أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها، سألت النبي صلى الله عليه وسلم: هل يعلم الله كل ما يكتم الناس؟ فقال لها النبي صلى الله عليه سلم: نعم!.
وهذا يدل على أنها لم تكن تعلم ذلك، ولم تكن قبل معرفتها بأن الله عالم بكل شيء يكتمه الناس كافرة".
أي: لم تكن رضي الله تعالى عنها قبل أن تعلم هذا من النبي صلى الله عليه وسلم كافرة، وحاشاها رضي الله تعالى عنها من ذلك، فهي تستفهم وتسأل، لأنها كانت تجهل، فأمرٌ تجهله سألت عنه فعلمته، ولو كان الجهل به يقتضي الكفر لكانت قبل أن تسأله كافرة.(1/198)
قال: "وإن كان الإقرار بذلك بعد قيام الحجة من أصول الإيمان" أي: فالمخاطب بعد أن تبلغه الحجة يصبح إقراره بأن الله بكل شيء عليم من أصول الإيمان، وليس من فروعه، ولذلك فالقدرية الذين أنكروا العلم كفار، وقد قال الشافعي وأحمد رضي الله تعالى عنهما: (ناظروا القدرية بالعلم)، فمن أنكر علم الله كَفَر؛ لكن أن يظن الإنسان أو يتوهم أن بعض الشيء من العلم قد يخفى على الله فهذا لا يجعله يكفر، لكن إذا سأل عنه وعُلِّمَه علمه.
إقامة الحجة شرط في تكفير المعين
من درس: التكفير وضوابطه (الحلقة الثامنة)
قال شيخ الإسلام رحمه الله:
"فهذه عائشة أم المؤمنين سألت النبي صلى الله عليه وسلم: {هل يعلم الله كل ما يكتم الناس؟ فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: نعم! }" وهذا يدل على أنها لم تكن تعلم ذلك، ولم تكن قبل معرفتها بأن الله عالمٌ بكل شيءٍ يكتمه الناس كافرة" والقضية عندنا هي: أن بعض الناس قد يعتقدون الكفر، أو يقولون الكفر، وهذا لا يعني تكفير قائله أو معتقده إلا إذا قامت عليه الحجة وبلغته الدعوة.
يقول: "ولم تكن قبل معرفتها بأن الله عالم بكل شيء يكتمه الناس كافرة، وإن كان الإقرار بذلك بعد قيام الحجة من أصول الإيمان" أي: أن الإقرار بأن الله تبارك وتعالى بكل شيء عليم؛ هو من أصول الإيمان، ولكن إنما يثبت في حق المعيَّن بعد قيام الحجة عليه.
قال رحمه الله: "وإنكار علمه بكل شيء، كإنكار قدرته على كل شيء" أي: أن ما خفي على عائشة هو مثل ما خفي على الرجل المذكور في الحديث.
قال: "هذا مع أنها كانت ممن يستحق اللوم على الذنب"، أي: هذا مع أن عائشة رضي الله عنها لم تكن خالية الذهن من الإيمان تماماً، بل كان عندها علم ودين وخير، ولذلك فهي مؤاخذة، فكانت تستحق اللوم على الذنب لو كان هذا الجهل ذنباً.(1/199)
قال: "ولهذا لهزها النبي صلى الله عليه وسلم وقال: {أتخافين أن يحيف الله عليك ورسوله؟ }. يعني: عندها علم، وتعلم أن الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم لن يحيفا عليها، فهي مؤاخذة وتستحق اللوم، بمعنى: أن من لم يبلغه شيء من الدين ولا يدخل تحت المؤاخذة أصلاً، فهو أولى بأن يُعذر ولا يُعاقب على ما لم يبلغه.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: "وهذا الأصل مبسوط في غير هذا الموضع.
فقد تبين أن هذا القول كفر، ولكن تكفير قائلِه لا يُحكم به حتى يكون قد بلغه من العلم ما تقوم به عليه الحجة التي يكفر تاركها.
وهكذا في كل قولٍ كفري: لا ُيحكم على قائله بالكفر حتى تُقام عليه الحجة التي يكفر تاركها" وقيد الحجة هنا بأنها التي يكفر تاركها، فكل إنسان بحسبه، ولا يشترط معنىً معيناً للحجة، ولا مقداراً معيناً؛ لأن من الناس من يكفي في إقامة الحجة عليه موعظة أو كلمة أو تذكير، ومن الناس من لا يكفي فيه إلا سنوات أو شهور من التعليم؛ لضحالة علمه وقلة فهمه وفرط جهله.
وكذلك الذي يقيم الحجة، فمن الناس من يستطيع أن يقيم الحجة في مجلس واحد، ومن الناس من لا يقيمها وإن ظن أنه قد أقامها، وهذه أمور نسبية بحسب الأحوال والأشخاص، سواء في المقيم للحجة أو المتلقِّي لها، ولذلك يُراعى كل إنسان بحسبه، والله تعالى هو المطلع على الأحوال والسرائر.
ثم يرد شيخ الإسلام على من يقول بسقوط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، يقول: "ودلائل فساد هذا القول كثيرةٌ في الكتاب والسنة واتفاق سلف الأمة وأئمتها ومشايخها، لا يُحتاج إلى بسطها، بل قد علم بالاضطرار من دين الإسلام: أن الأمر والنهي ثابت في حق العباد إلى الموت".
يعني: بهذا القول قول من قالوا: إنهم إذا تجوهروا سقطت عنهم التكاليف، وهو القول سبق أن شرحناه فيما مضى.
إقامة العقوبات على المبتدعة في الدنيا
من درس: التكفير وضوابطه (الحلقة الثامنة)(1/200)
ما تقدم ذكره كان في أحكام الآخرة، وأما أحكام الدنيا فإنها كما ذكر المصنف رحمه الله بعد ذكره للحديث قال: "وكان يظن أن الله لا يقدر على جمعه وإعادته، أو شك في ذلك، لكن هذا التوقف في أمر الآخرة لا يمنعنا أن نعاقبه في الدنيا لمنع بدعته، وأن نستتيبه، فإن تاب وإلا قتلناه".
أي: أنه كان يظن أن الله لا يقدر عليه أو شك في ذلك كما تقدَّم إيضاحه، يقول: [لكن] وهي هنا للاستدراك "لكن هذا التوقف في أمر الآخرة لا يمنعنا أن نعاقبه في الدنيا" فالكلام السابق هو في حقِّه في الآخرة، أي: لا نقطع ولا نجزم بكفره أو ردته أو خلوده في النار .. إلى آخره، ومع أننا نقول ذلك بالنسبة لما يتعلق بالآخرة؛ لكن ذلك لا يمنعنا من معاقبته في الدنيا، وربما يُعاقب في الدنيا وهو عند الله تعالى معذور، لكن بالنسبة لأحكام الدنيا لابد من العقاب إذا أقمنا عليه الحجة وأوضجنا له الدليل، ولم يقبل ولا اهتدى، ونحن معذورون عند الله إذا عاقبناه؛ لأننا اجتهدنا وتحرينا ألا نقيم الحد والعقوبة إلا على من يستحقها، فهذا غاية اجتهادنا، وهو قد يكون معذوراً.
تقام الحجة على المبتدع قدر الإمكان ثم يعامل حسب الظاهر منه(1/201)
عندما تقابلت جيوش الإيمان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم مع جيوش الكفر والضلال من مشركي العرب ومن الروم والفرس، فإننا لا نجزم أن كلَّ واحد من أعيان تلك الجيوش قد قامت عليه الحجة واتضحت له المحجة؛ لكن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد دعا كبراءهم، كما كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هرقل وإلى كسرى، ثم قبل القتال دعا قادة الإسلام أمثال: سعد وخالد وأبي عبيدة وغيرهم رضي الله تعالى عنهم؛ دعوا قادة الكفرة إلى الإسلام، أو الجزية، أو القتال، وهذا غاية ما يمكن فعله، لكن قد يُقتل من يكون معذوراً، فقد لا يفقه ولا يفهم، ولم يبلغه شيء من الدين ولا من الحق، وإنما سيق إلى المعركة كالبهيمة، وهذا يقع، ولكن لا يعني ذلك أنه لا يقاتل في الدنيا أو لا تقام عليه الحدود إن كان من أهل الحدود، ثم مصيره إلى الله سبحانه وتعالى: وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [الكهف:49].
فنحن في الدنيا نعتقد أنهم كفار، ونستحلُّ دماءهم وأموالهم، وإذا كان فيهم من هو عند الله تبارك وتعالى معذور؛ فأمره إلى الله. وما قرَّرناه من أن رحمة الله سبقت غضبه لا يتنافى مع هذا؛ لأن أحكام الدنيا لابد أن تقام، ودين الله لابد أن يُنصر، ولا بد أن تُقام الحدود، ولو أننا لا نجاهد ولا نقيم الحد إلا على من علمنا يقيناً أنه في باطنه عرف الحق وبلغه، لكان هذا من تكليف ما لا يطاق، والله سبحانه وتعالى لم يكلفنا ما لا طاقة لنا به: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286]، وإنما أمرنا أن نتخذ الأسباب، ثم بعد ذلك هؤلاء أمرهم إلى الله سبحانه.
قتل المبتدع واستتابته
ثم ذكر المصنف رحمه الله الحكمة من عقاب المبتدع فقال: [لمنع بدعته]، أي: يُعاقب لمنع بدعته.
ثم قال: [أو أن نستتيبه فإن تاب وإلا قتلناه].(1/202)
وهذه العبارة فيها إجمال فلابد لها من التفصيل، من ذلك أن يقال: ما حكم المبتدع؟ نقول: حكم المبتدع التفصيل، فمن المبتدعة من يقتل، ومن المبتدعة من يُهجر، بحسب الأحوال وبحسب المقالات، وكل ذلك له أصل من السلف .
فأما قتل المبتدعة، فهذا أصلٌ مشهور قائم عند السلف ، يدل عليه الوقائع التي وقعت لبعض المبتدعة، وأجمعت الأمة على استحقاقه للقتل، وأثنت على من قتله على بدعته، فمنهم مثلاً: الجعد بن درهم ، وكفعل علي رضي الله تعالى عنه في قتل السبئية الذين قالوا له: أنت الله، ولم يختلف الصحابة رضي الله تعالى عنهم في ذلك، وكذلك قتاله رضي الله عنه للخوارج ، ولم يختلف الصحابة رضي الله عنهم عليه، لكن الأمر فيهم مختلف عما نحن فيه، فذاك قتال لا قتل، وفرق بين القتال والقتل، فالقتل لمعين، ومثاله الجعد بن درهم ، والجهم بن صفوان ، والحلاج ، والقتال لجماعة، وتقدم الكلام عليه.
والحاصل أن القتل مما يعاقب به صاحب البدعة إذا كانت بدعته مغلَّظة مكفرة واستتيب ولم يتب، أو رأى أهل الحل والعقد، أو الإمام أو من أفتى من العلماء أن هذا المبتدع يُقتل وإن لم يُستتب؛ وقد تعرضنا فيما مضى لهذه المسألة في حكم توبة الزنديق، ورجحنا ما رجحه شيخ الإسلام رحمه الله وهو ما ذهب إليه الإمام مالك رحمه الله، وهو رواية عن الإمام أحمد : أن الزنديق يُقتل ولا تقبل توبته.
والذي نريد أن نقوله: إن المبتدع يجوز أن يُقتل رأساً من غير استتابة؛ إذا كان ممن اشتهرت بدعته وظهرت، وكان في قتله مصلحة للدين وللإسلام والمسلمين.
هجر المبتدع
وهناك عقوبات يعاقب بها المبتدع هي دون القتل، وكثيراً ما تلتبس على طلاب العلم، وهي الهجر؛ وهذا أصل مشهور عن السلف الصالح رضوان الله تعالى عليهم، لكن كيف يُهجرون؟ وما أنواع الهجر؟ وما الأحكام المتعلقة به؟(1/203)
للإجابة على هذه الأسئلة نلتقط هذه الدرر الثمينة من كلام شيخ الإسلام في هذه المسألة، فإنه سُئل رحمه الله عن أحكام الهجر، وهو في حق المبتدع أدنى وأخفُّ من القتل، والمبتدع لا يجوز أن يوقَّر: [من وقَّر صاحب بدعة فقد أعان على هدم الإسلام ].
تقام الحجة على المبتدع قدر الإمكان ثم يعامل حسب الظاهر منه
من درس: إقامة العقوبات على المبتدعة في الدنيا
عندما تقابلت جيوش الإيمان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم مع جيوش الكفر والضلال من مشركي العرب ومن الروم والفرس، فإننا لا نجزم أن كلَّ واحد من أعيان تلك الجيوش قد قامت عليه الحجة واتضحت له المحجة؛ لكن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد دعا كبراءهم، كما كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هرقل وإلى كسرى، ثم قبل القتال دعا قادة الإسلام أمثال: سعد وخالد وأبي عبيدة وغيرهم رضي الله تعالى عنهم؛ دعوا قادة الكفرة إلى الإسلام، أو الجزية، أو القتال، وهذا غاية ما يمكن فعله، لكن قد يُقتل من يكون معذوراً، فقد لا يفقه ولا يفهم، ولم يبلغه شيء من الدين ولا من الحق، وإنما سيق إلى المعركة كالبهيمة، وهذا يقع، ولكن لا يعني ذلك أنه لا يقاتل في الدنيا أو لا تقام عليه الحدود إن كان من أهل الحدود، ثم مصيره إلى الله سبحانه وتعالى: وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [الكهف:49].(1/204)
فنحن في الدنيا نعتقد أنهم كفار، ونستحلُّ دماءهم وأموالهم، وإذا كان فيهم من هو عند الله تبارك وتعالى معذور؛ فأمره إلى الله. وما قرَّرناه من أن رحمة الله سبقت غضبه لا يتنافى مع هذا؛ لأن أحكام الدنيا لابد أن تقام، ودين الله لابد أن يُنصر، ولا بد أن تُقام الحدود، ولو أننا لا نجاهد ولا نقيم الحد إلا على من علمنا يقيناً أنه في باطنه عرف الحق وبلغه، لكان هذا من تكليف ما لا يطاق، والله سبحانه وتعالى لم يكلفنا ما لا طاقة لنا به: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286]، وإنما أمرنا أن نتخذ الأسباب، ثم بعد ذلك هؤلاء أمرهم إلى الله سبحانه.
قتل المبتدع واستتابته
من درس: إقامة العقوبات على المبتدعة في الدنيا
ثم ذكر المصنف رحمه الله الحكمة من عقاب المبتدع فقال: [لمنع بدعته]، أي: يُعاقب لمنع بدعته.
ثم قال: [أو أن نستتيبه فإن تاب وإلا قتلناه].
وهذه العبارة فيها إجمال فلابد لها من التفصيل، من ذلك أن يقال: ما حكم المبتدع؟ نقول: حكم المبتدع التفصيل، فمن المبتدعة من يقتل، ومن المبتدعة من يُهجر، بحسب الأحوال وبحسب المقالات، وكل ذلك له أصل من السلف .
فأما قتل المبتدعة، فهذا أصلٌ مشهور قائم عند السلف ، يدل عليه الوقائع التي وقعت لبعض المبتدعة، وأجمعت الأمة على استحقاقه للقتل، وأثنت على من قتله على بدعته، فمنهم مثلاً: الجعد بن درهم ، وكفعل علي رضي الله تعالى عنه في قتل السبئية الذين قالوا له: أنت الله، ولم يختلف الصحابة رضي الله تعالى عنهم في ذلك، وكذلك قتاله رضي الله عنه للخوارج ، ولم يختلف الصحابة رضي الله عنهم عليه، لكن الأمر فيهم مختلف عما نحن فيه، فذاك قتال لا قتل، وفرق بين القتال والقتل، فالقتل لمعين، ومثاله الجعد بن درهم ، والجهم بن صفوان ، والحلاج ، والقتال لجماعة، وتقدم الكلام عليه.(1/205)
والحاصل أن القتل مما يعاقب به صاحب البدعة إذا كانت بدعته مغلَّظة مكفرة واستتيب ولم يتب، أو رأى أهل الحل والعقد، أو الإمام أو من أفتى من العلماء أن هذا المبتدع يُقتل وإن لم يُستتب؛ وقد تعرضنا فيما مضى لهذه المسألة في حكم توبة الزنديق، ورجحنا ما رجحه شيخ الإسلام رحمه الله وهو ما ذهب إليه الإمام مالك رحمه الله، وهو رواية عن الإمام أحمد : أن الزنديق يُقتل ولا تقبل توبته.
والذي نريد أن نقوله: إن المبتدع يجوز أن يُقتل رأساً من غير استتابة؛ إذا كان ممن اشتهرت بدعته وظهرت، وكان في قتله مصلحة للدين وللإسلام والمسلمين.
هجر المبتدع
من درس: إقامة العقوبات على المبتدعة في الدنيا
وهناك عقوبات يعاقب بها المبتدع هي دون القتل، وكثيراً ما تلتبس على طلاب العلم، وهي الهجر؛ وهذا أصل مشهور عن السلف الصالح رضوان الله تعالى عليهم، لكن كيف يُهجرون؟ وما أنواع الهجر؟ وما الأحكام المتعلقة به؟
للإجابة على هذه الأسئلة نلتقط هذه الدرر الثمينة من كلام شيخ الإسلام في هذه المسألة، فإنه سُئل رحمه الله عن أحكام الهجر، وهو في حق المبتدع أدنى وأخفُّ من القتل، والمبتدع لا يجوز أن يوقَّر: [من وقَّر صاحب بدعة فقد أعان على هدم الإسلام ].
أحكام هجر المبتدع
من درس: التكفير وضوابطه (الحلقة الثامنة)
وهذه فتوى شيخ الإسلام في الجزء الثامن والعشرين (ص:203) من مجموع الفتاوى : "وسُئل رحمه الله عمن يجب أو يجوز بُغضه أو هجره، أو كلاهما لله تعالى؟ وماذا يشترط على الذي يُبغضه أو يهجره لله تعالى من الشروط؟ وهل يدخل ترك السلام في الهجران أم لا؟ وإذا بدأ المهجور الهاجر بالسلام هل يجب الردُّ عليه أم لا؟ وهل يستمر البغضُ والهجران لله عز وجل حتى يتحقق زوال الصفة المذكورة التي أبغضه وهجره عليها، أم يكون لذلك مدةٌ معلومة؟ فإن كان له مدةٌ معلومة، فما حدها؟ أفتونا مأجورين".
وهذا سؤال يدل على فقه سائله.
أنواع الهجر في الشرع(1/206)
فأجاب رحمه الله: "الهجر الشرعي نوعان: أحدهما: بمعنى الترك للمنكرات، والثاني: بمعنى العقوبة عليها".
أي الأول: أن تهجر أنت المنكر وتتركه، والآخر العقوبة، وهو أن تعاقب صاحب المنكر بهجره وقطيعته.
ومن الأدلة على النوع الأول وهو هجر الشيء بمعنى تركه والابتعاد عنه، مثل قوله تعالى: وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ [المدثر:5] والرجز: الشرك، وعبادة الأصنام.
وقوله صلى الله عليه وسلم: {والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه }.
وهناك علاقة بين الهجر والهجرة في لغة العرب، وعادةً ما يكون اتفاق وتقارب في المعنى اللغوي والشرعي إذا تقارب اللفظان في المبنى.
وقد ذكر شيخ الإسلام رحمه الله عدداً من الأدلة فقال: "فالأول هو المذكور في قوله تعالى: وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [الأنعام:68].
وقوله تعالى: وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ [النساء:140]." فالشاهد في الآيتين وجود معنى الهجر، كما قال تعالى: فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [الأنعام:68].(1/207)
قال: "فهذا يراد به أنه لا يشهد المنكرات لغير حاجة شرعية، مثل: قوم يشربون الخمر فلا يجلس عندهم، أو قوم دعوا إلى وليمة فيها خمر وزمْر لا يجيب دعوتهم، وأمثال ذلك، بخلاف من حضر عندهم للإنكار عليهم، أو حضر بغير اختياره" كأن يكون لا يعلم بذلك "ولهذا يقال: حاضر المنكر كفاعله... إلى أن قال رحمه الله: "وهذا الهجر من جنس هجر الإنسان نفسه عن فعل المنكرات كما قال صلى الله عليه وسلم: {المهاجر من هجر ما نهى الله عنه }، ومن هذا الباب: الهجرة من دار الكفر والفسوق إلى دار الإسلام والإيمان، فإنه هجر للمُقام بين الكافرين والمنافقين الذين لا يمكِّنونه من فعل ما أمر الله به، ومن هذا قوله تعالى: وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ [المدثر:5]"، وهذا النوع واضح؛ لكن ذكره لداعي التقسيم.
هجر المبتدع تعزير له
ثم ذكر النوع الثاني فقال: "النوع الثاني: الهجر على وجه التأديب، وهو هجر من يُظهر المنكرات حتى يتوب منها كما هجر النبي صلى الله عليه وسلم الثلاثة الذين خُلِّفوا حتى أنزل الله توبتهم؛ حين ظهر منهم ترك الجهاد المتعيِّن عليهم بغير عذر، ولم يهجر من أظهر الخير وإن كان منافقاً. فهنا الهجر هو بمنزلة التعزير.
والتعزير يكون لمن ظهر منه ترك الواجبات وفعل المحرمات، كتارك الصلاة والزكاة، والتظاهر بالمظالم والفواحش، والداعي إلى البدع المخالفة للكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة، التي ظهر أنها بدع -هذا شاهد موضوعنا- وهذا حقيقة قول من قال من السلف والأئمة: إن الدعاة إلى البدع لا تُقبل شهادتهم، ولا يُصلَّى خلفهم، ولا يُؤخذ عنهم العلم، ولا يناكحون".(1/208)
وهذا معلوم بالتواتر عن السلف رحمهم الله، أعني أن أصحاب البدع الداعين إليها لا تقبل شهادتهم، سواء كانوا من أصحاب الكلام أو من الخوارج والروافض ، فأياً كانوا فشهادتهم مردودة، ولا يُزَكُّون، فإذا شهد أحد أهل البدع عند قاضٍ فإن شهادته مردودة، كما فعل شريك بن عبد الله القاضي فقد ردَّ شهادة حماد بن أبي حنيفة ؛ لأنه يقول: إن العمل ليس من الإيمان. وكذلك لا يصلَّى خلف أصحاب البدع، ولا يؤخذ عنهم العلم، ولا يناكحون.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: "فهذه عقوبة لهم حتى ينتهوا" ولهذا يفرِّقون بين الداعية وغير الداعية؛ لأن الداعية أظهر المنكرات فاستحق العقوبة، بخلاف الكاتم، فإنه ليس شراً من المنافقين الذين كان النبي صلى الله عليه وسلم يقبل علانيتهم، ويَكلُ سرائرهم إلى الله، مع علمه بحال كثيرٍ منهم".
أي: كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم مع المعذرين بعد غزوة تبوك ، جاءوا يحلفون للنبي صلى الله عليه وسلم ليرضى عنهم، فأمره الله سبحانه وتعالى أن يقبل أيمانهم، ويعرض عنهم، ويكل أمرهم إلى الله، وهو يحاسبهم ويجازيهم.
يقول شيخ الإسلام رحمه الله: "ولهذا جاء في الحديث أن المعصية إذا خفيت لم تضر إلا صاحبها، ولكن إذا أعلنت فلم تُنكر ضرَّت العامة، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيِّروه أوشك أن يعمَّهم الله بعقاب منه } أعاذنا الله من عقاب الله.
يقول: "فالمنكرات الظاهرة يجب إنكارها؛ بخلاف الباطنة فإن عقوبتها على صاحبها خاصة".(1/209)
وأصحاب المنكرات الباطنة تقوم عليهم الحجة بالنصح والتذكير العام، فلو أنك وقفت في المسجد محذراً من بدعة ومخوفاً منها، والمستمعون أمامك فيهم من يعلم في نفسه أنه معتقد لهذه البدعة، فقد قامت عليه الحجة في نفسه، وهذه هي فائدة التذكير العام، وكذلك لو تكلمت في مسجد من المساجد عن شر الزنا وخطره وضرره، فكل جالس همَّت نفسه بالزنا، فأنت قد خاطبته وأقمت عليه الحجة، وهذا هو بالنسبة لمن يفعل المعصية سراً ويكتمها، أما المعلِن المجاهر فله حكمٌ آخر.
أنواع الهجر في الشرع
من درس: أحكام هجر المبتدع
فأجاب رحمه الله: "الهجر الشرعي نوعان: أحدهما: بمعنى الترك للمنكرات، والثاني: بمعنى العقوبة عليها".
أي الأول: أن تهجر أنت المنكر وتتركه، والآخر العقوبة، وهو أن تعاقب صاحب المنكر بهجره وقطيعته.
ومن الأدلة على النوع الأول وهو هجر الشيء بمعنى تركه والابتعاد عنه، مثل قوله تعالى: وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ [المدثر:5] والرجز: الشرك، وعبادة الأصنام.
وقوله صلى الله عليه وسلم: {والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه }.
وهناك علاقة بين الهجر والهجرة في لغة العرب، وعادةً ما يكون اتفاق وتقارب في المعنى اللغوي والشرعي إذا تقارب اللفظان في المبنى.
وقد ذكر شيخ الإسلام رحمه الله عدداً من الأدلة فقال: "فالأول هو المذكور في قوله تعالى: وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [الأنعام:68].(1/210)
وقوله تعالى: وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ [النساء:140]." فالشاهد في الآيتين وجود معنى الهجر، كما قال تعالى: فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [الأنعام:68].
قال: "فهذا يراد به أنه لا يشهد المنكرات لغير حاجة شرعية، مثل: قوم يشربون الخمر فلا يجلس عندهم، أو قوم دعوا إلى وليمة فيها خمر وزمْر لا يجيب دعوتهم، وأمثال ذلك، بخلاف من حضر عندهم للإنكار عليهم، أو حضر بغير اختياره" كأن يكون لا يعلم بذلك "ولهذا يقال: حاضر المنكر كفاعله... إلى أن قال رحمه الله: "وهذا الهجر من جنس هجر الإنسان نفسه عن فعل المنكرات كما قال صلى الله عليه وسلم: {المهاجر من هجر ما نهى الله عنه }، ومن هذا الباب: الهجرة من دار الكفر والفسوق إلى دار الإسلام والإيمان، فإنه هجر للمُقام بين الكافرين والمنافقين الذين لا يمكِّنونه من فعل ما أمر الله به، ومن هذا قوله تعالى: وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ [المدثر:5]"، وهذا النوع واضح؛ لكن ذكره لداعي التقسيم.
هجر المبتدع تعزير له
من درس: أحكام هجر المبتدع
ثم ذكر النوع الثاني فقال: "النوع الثاني: الهجر على وجه التأديب، وهو هجر من يُظهر المنكرات حتى يتوب منها كما هجر النبي صلى الله عليه وسلم الثلاثة الذين خُلِّفوا حتى أنزل الله توبتهم؛ حين ظهر منهم ترك الجهاد المتعيِّن عليهم بغير عذر، ولم يهجر من أظهر الخير وإن كان منافقاً. فهنا الهجر هو بمنزلة التعزير.(1/211)
والتعزير يكون لمن ظهر منه ترك الواجبات وفعل المحرمات، كتارك الصلاة والزكاة، والتظاهر بالمظالم والفواحش، والداعي إلى البدع المخالفة للكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة، التي ظهر أنها بدع -هذا شاهد موضوعنا- وهذا حقيقة قول من قال من السلف والأئمة: إن الدعاة إلى البدع لا تُقبل شهادتهم، ولا يُصلَّى خلفهم، ولا يُؤخذ عنهم العلم، ولا يناكحون".
وهذا معلوم بالتواتر عن السلف رحمهم الله، أعني أن أصحاب البدع الداعين إليها لا تقبل شهادتهم، سواء كانوا من أصحاب الكلام أو من الخوارج والروافض ، فأياً كانوا فشهادتهم مردودة، ولا يُزَكُّون، فإذا شهد أحد أهل البدع عند قاضٍ فإن شهادته مردودة، كما فعل شريك بن عبد الله القاضي فقد ردَّ شهادة حماد بن أبي حنيفة ؛ لأنه يقول: إن العمل ليس من الإيمان. وكذلك لا يصلَّى خلف أصحاب البدع، ولا يؤخذ عنهم العلم، ولا يناكحون.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: "فهذه عقوبة لهم حتى ينتهوا" ولهذا يفرِّقون بين الداعية وغير الداعية؛ لأن الداعية أظهر المنكرات فاستحق العقوبة، بخلاف الكاتم، فإنه ليس شراً من المنافقين الذين كان النبي صلى الله عليه وسلم يقبل علانيتهم، ويَكلُ سرائرهم إلى الله، مع علمه بحال كثيرٍ منهم".
أي: كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم مع المعذرين بعد غزوة تبوك ، جاءوا يحلفون للنبي صلى الله عليه وسلم ليرضى عنهم، فأمره الله سبحانه وتعالى أن يقبل أيمانهم، ويعرض عنهم، ويكل أمرهم إلى الله، وهو يحاسبهم ويجازيهم.
يقول شيخ الإسلام رحمه الله: "ولهذا جاء في الحديث أن المعصية إذا خفيت لم تضر إلا صاحبها، ولكن إذا أعلنت فلم تُنكر ضرَّت العامة، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيِّروه أوشك أن يعمَّهم الله بعقاب منه } أعاذنا الله من عقاب الله.
يقول: "فالمنكرات الظاهرة يجب إنكارها؛ بخلاف الباطنة فإن عقوبتها على صاحبها خاصة".(1/212)
وأصحاب المنكرات الباطنة تقوم عليهم الحجة بالنصح والتذكير العام، فلو أنك وقفت في المسجد محذراً من بدعة ومخوفاً منها، والمستمعون أمامك فيهم من يعلم في نفسه أنه معتقد لهذه البدعة، فقد قامت عليه الحجة في نفسه، وهذه هي فائدة التذكير العام، وكذلك لو تكلمت في مسجد من المساجد عن شر الزنا وخطره وضرره، فكل جالس همَّت نفسه بالزنا، فأنت قد خاطبته وأقمت عليه الحجة، وهذا هو بالنسبة لمن يفعل المعصية سراً ويكتمها، أما المعلِن المجاهر فله حكمٌ آخر.
اختلاف الهجر حسب المصلحة الدينية
من درس: التكفير وضوابطه (الحلقة الثامنة)
يقول شيخ الإسلام : "وهذا الهجر يختلف باختلاف الهاجرين".
وهذا من الحكمة في الدعوة، ولكن ما أكثر ما تُظلم هذه الحكمة! حتى إذا جئت ونصحت أحداً من الناس، قالوا: لابد أن تكون النصيحة بالحكمة، والحكمة عند بعض الناس أن تسكت ولا تنكر، وليس الأمر كما يظنون، بل الحكمة أن تتخذ الوسيلة المناسبة، والموقف الصحيح من المنكر، حسبما يقتضيه الحال وفقاً للدليل.
يقول رحمه الله: "وهذا الهجر يختلف باختلاف الهاجرين في قوتهم وضعفهم، وقلَّتهم وكثرتهم".
إذا كان الهاجر قوياً، كأن يكون عالماً معتبراً له شأن في المجتمع وقال: هجرت فلاناً ولا أسلم عليه؛ لأن فيه بدعة أو لأن فيه معصية، فهذا ليس مثل من يهجره إنسان لا يبالى به.
اختلاف الهجر بقوة وضعف الهاجر والمهجور
سُئل الإمام أحمد عن هجر من يقول: إن القرآن مخلوق؟ قال: إن أهل خراسان لا يقوونهم.
يعني: نحن في بغداد نستطيع أن نهجر من يقول إن القرآن مخلوق، لكن أهل السنة في خراسان لا يقدرون؛ لأن البدعة غلبت عليها، والأهواء استحكمت فيها.(1/213)
وأيضاً: لما سُئل الإمام أحمد رضي الله تعالى عنه وأرضاه عن القدرية ، كما قال شيخ الإسلام : "لما سُئل عن القدرية وعن الحديث عنهم قال: لو تركنا الحديث عن القدرية لتركنا عامة حديث أهل البصرة ". يعني أن بدعة القدر انتشرت فيهم، فإن كان كل من تلبَّس ببدعة القدر ترك حديثه ترك عامة حديث أهل البصرة ؛ لأن البصرة فشا فيها القدر والتصوف؛ والغلو في العبادة والزهد، والكوفة فشا فيها الإرجاء، ولو قلنا: لا نروي عن القدرية ، لتركنا عامة رواية أهل البصرة ، وإن قلنا: لا يروى عن من تلبس ببدعة المرجئة ، فإننا لن نروي عن عامة أهل الكوفة ، ولذلك وضع علماء الحديث معياراً منضبطاً لقبول الرواية، وهو الصدق، لذلك روي عن الخوارج ، وكان من رواة البخاري وغيره بعض الخوارج كعمران بن حطان وغيره؛ لأن الخوارج لا يكذبون، والكذب عندهم كفر، وليس مجرد معصية، وبالعكس تُركت الرواية عن الروافض ، فلا تجد على الإطلاق رافضياً داعيةً من رواة الصحيح، لا من قيل عنه: فيه تشيُّع، والروافض لا تجد أحداً زكَّاهم أو وثَّقهم أو روى عنهم أحد ممن يشترط الصحة في كتابه؛ لأنهم يستحلون الكذب.
اختلاف الهجر بانزجار المهجور وعدمه
يقول شيخ الإسلام رحمه الله: "فإن المقصود به" يعني: الهجر "زجر المهجور وتأديبه"، أي إنما نهجر من يهجر من مبتدع وعاص لكي نزجره ونؤدبه، ولكي ترجع العامة عن مثل حاله، وحتى لا يقلِّده الناس ويتَّبعوه.
يقول رحمه الله: "فإن كانت المصلحة في ذلك راجحة، بحيث يفضي هجره إلى ضعف الشرّ وخفيته كان مشروعاً".
أي: إذا كان هجر هذا الإنسان يؤدي إلى تخفيف الشر أو إلى إضعافه فعلناه.
قال: "وإن كان لا المهجور ولا غيره يرتدع بذلك، بل يزيد الشر، والهاجر ضعيف بحيث تكون مفسدة الهجر راجحة على مصلحته؛ لم يُشرع الهجر، بل يكون التأليف لبعض الناس أنفع من الهجر"(1/214)
ومثال ذلك: لو أن طالباً طلب العلم، ثم ذهب إلى أهله في بادية بعيدة، أو ذهب إلى أهله في بلدٍ من البلدان التي يغلبُ عليها البدع، فوجدهم يفعلون ما يفعلون من البدع، فقال: أنا أعرف أن من أصول أهل السنة والجماعة هجر أهل البدع، فلنهجرهم، فهجر أمه وأباه، فإنه لن يدع أحداً إلا هجره؛ لأن الناس ألفوا هذه البدع وعاشوا عليها، فيصير هو المنكر المهجور لأن الهاجر في هذه الحالة ضعيف والمصلحة لا تتحقق، والمشكلة ليست في عدم قيام طالب العلم بالإنكار أو عدم هجره لأهل البدع، ولكن المشكلة أن المصلحة الشرعية غير حاصلة، ولهذا قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى، ورضي عنه وأرضاه: "بل يكون التأليف لبعض الناس، أنفع من الهجر" أي: بأن تتألفه على الحق بحسب ما فيه من الخير، ومن العلم والفهم.
اختلاف الهجر بقوة وضعف الهاجر والمهجور
من درس: اختلاف الهجر حسب المصلحة الدينية
سُئل الإمام أحمد عن هجر من يقول: إن القرآن مخلوق؟ قال: إن أهل خراسان لا يقوونهم.
يعني: نحن في بغداد نستطيع أن نهجر من يقول إن القرآن مخلوق، لكن أهل السنة في خراسان لا يقدرون؛ لأن البدعة غلبت عليها، والأهواء استحكمت فيها.(1/215)
وأيضاً: لما سُئل الإمام أحمد رضي الله تعالى عنه وأرضاه عن القدرية ، كما قال شيخ الإسلام : "لما سُئل عن القدرية وعن الحديث عنهم قال: لو تركنا الحديث عن القدرية لتركنا عامة حديث أهل البصرة ". يعني أن بدعة القدر انتشرت فيهم، فإن كان كل من تلبَّس ببدعة القدر ترك حديثه ترك عامة حديث أهل البصرة ؛ لأن البصرة فشا فيها القدر والتصوف؛ والغلو في العبادة والزهد، والكوفة فشا فيها الإرجاء، ولو قلنا: لا نروي عن القدرية ، لتركنا عامة رواية أهل البصرة ، وإن قلنا: لا يروى عن من تلبس ببدعة المرجئة ، فإننا لن نروي عن عامة أهل الكوفة ، ولذلك وضع علماء الحديث معياراً منضبطاً لقبول الرواية، وهو الصدق، لذلك روي عن الخوارج ، وكان من رواة البخاري وغيره بعض الخوارج كعمران بن حطان وغيره؛ لأن الخوارج لا يكذبون، والكذب عندهم كفر، وليس مجرد معصية، وبالعكس تُركت الرواية عن الروافض ، فلا تجد على الإطلاق رافضياً داعيةً من رواة الصحيح، لا من قيل عنه: فيه تشيُّع، والروافض لا تجد أحداً زكَّاهم أو وثَّقهم أو روى عنهم أحد ممن يشترط الصحة في كتابه؛ لأنهم يستحلون الكذب.
اختلاف الهجر بانزجار المهجور وعدمه
من درس: اختلاف الهجر حسب المصلحة الدينية
يقول شيخ الإسلام رحمه الله: "فإن المقصود به" يعني: الهجر "زجر المهجور وتأديبه"، أي إنما نهجر من يهجر من مبتدع وعاص لكي نزجره ونؤدبه، ولكي ترجع العامة عن مثل حاله، وحتى لا يقلِّده الناس ويتَّبعوه.
يقول رحمه الله: "فإن كانت المصلحة في ذلك راجحة، بحيث يفضي هجره إلى ضعف الشرّ وخفيته كان مشروعاً".
أي: إذا كان هجر هذا الإنسان يؤدي إلى تخفيف الشر أو إلى إضعافه فعلناه.
قال: "وإن كان لا المهجور ولا غيره يرتدع بذلك، بل يزيد الشر، والهاجر ضعيف بحيث تكون مفسدة الهجر راجحة على مصلحته؛ لم يُشرع الهجر، بل يكون التأليف لبعض الناس أنفع من الهجر"(1/216)
ومثال ذلك: لو أن طالباً طلب العلم، ثم ذهب إلى أهله في بادية بعيدة، أو ذهب إلى أهله في بلدٍ من البلدان التي يغلبُ عليها البدع، فوجدهم يفعلون ما يفعلون من البدع، فقال: أنا أعرف أن من أصول أهل السنة والجماعة هجر أهل البدع، فلنهجرهم، فهجر أمه وأباه، فإنه لن يدع أحداً إلا هجره؛ لأن الناس ألفوا هذه البدع وعاشوا عليها، فيصير هو المنكر المهجور لأن الهاجر في هذه الحالة ضعيف والمصلحة لا تتحقق، والمشكلة ليست في عدم قيام طالب العلم بالإنكار أو عدم هجره لأهل البدع، ولكن المشكلة أن المصلحة الشرعية غير حاصلة، ولهذا قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى، ورضي عنه وأرضاه: "بل يكون التأليف لبعض الناس، أنفع من الهجر" أي: بأن تتألفه على الحق بحسب ما فيه من الخير، ومن العلم والفهم.
الأدلة على أن العمل في الهجر تابع لمصلحة الدين
من درس: التكفير وضوابطه (الحلقة الثامنة)
هجر الثلاثة المخلفين وتألف الأعراب
يقول رحمه الله: "والهجر لبعض الناس أنفع من التأليف، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يتألَّف قوماً ويهجر آخرين. كما أن الثلاثة الذين خلِّفوا كانوا خيراً من أكثر المؤلَّفة قلوبهم".
أي: أن الثلاثة الذين خلِّفوا لن يرجعوا عن الدين مهما كان، بل الهجر يزيدهم خوفاً، كما كان واقع حالهم من بكائهم، وما غشيهم من الهمِّ والكرب، حتى ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، وأظلمت الدنيا في وجوههم، وهجرهم أحبُّ الناس إليهم ممن يعرف صدقهم وإيمانهم، ومع ذلك لم يزدهم ذلك إلا خوفاً وخشيةً وطمعاً في توبة الله عليهم، ولما أرسل ملك الغساسنة إلى كعب بن مالك يرغبه باللحاق به، سجر بكتابه التنور، فأمثال هؤلاء لا يخشى عليهم.(1/217)
لكن المؤلَّفة قلوبهم، لو أغضبوا أو هجروا فإنهم قد يرتدون؛ لأن ضعيف الإيمان يستجيب لعدوه وعدو دينه؛ لأنه قابل للفتنة، لذلك لا يهجر؛ بل يتألف حتى يدخل في الإسلام أمثاله من المؤلفة قلوبهم، أما من كان حاله كحال هؤلاء الثلاثة من الصحابة رضوان الله عليهم فالواحد منهم يعرف الحق ويعلمه، فيعاقب ليرتدع ويرتدع أمثاله من المؤمنين.
أما المؤلفة قلوبهم فيتألفون، فمثلاً لو سمع الأعراب بأن شيخاً من مشايخ بني تميم أو غيرهم أُعطي مائة ناقة، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم مع الأقرع بن حابس وعيينة بن حصن الفزاري ، فستجد كل شيخ من شيوخ الأعراب.. يقول: نسلم لنأخذ مثلهم، فيدخل في الإسلام وتُسلم القبيلة، وربما هدى الله تعالى القبيلة أو كثيراً منها عن إيمانٍ ويقين، وإن كان الشيخ أسلم من أجل الشاة والبعير والدرهم والدينار، ثم يصلح الله حاله ويحسن إيمانه، فهنا تحصل المصلحة للإسلام والمسلمين بهذا التأليف بخلاف الهجر.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : "كما أن الثلاثة الذين خلفوا كانوا خيراً من أكثر المؤلَّفة قلوبهم، لمَّا كان أولئك سادةً مطاعين في عشائرهم، فقد كانت المصلحة الدينية في تأليف قلوبهم، وهؤلاء كانوا مؤمنين، والمؤمنون سواهم كثير، فكان في هجرهم عزُّ الدين وتطهيرهم من ذنوبهم". يعني: أن الثلاثة وأمثالهم كان في هجرهم عز للدين، وتطهيرٌ لهم من الذنب، فعز الدين بأن يشعر الناس أن هذا الدين متين، وأن هذا الدين ليس لكل من ادعاه، وليس بالنفاق ولا بالدعاوى ولا بالشعارات الزائفة، وإنما هو جهاد وصبر وتضحية، إذ كيف يرغبون بأنفسهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! وكيف يتخلفون عن ركبٍ يقوده رسول الله صلى الله عليه وسلم ويتركون الجهاد معه؟! فهجر هؤلاء فيه مصلحة للمؤمنين.
قتال الكفار وتركه حسب المصلحة في العهد النبوي(1/218)
يقول رحمه الله: "وهذا كما أن المشروع في العدو القتال تارةً، والمهادنة تارةً، وأخذ الجزية تارةً، كل ذلك بحسب الأحوال والمصالح".
وتجد شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله دائماً يمثل بالمثال الآتي، وذلك لأن واجب العلماء والدعاة مثل واجب المجاهدين. ونذكر كلامه رحمه الله للفائدة، يقول رحمه الله (28/188): "ترك أهل العلم لتبليغ الدين كترك أهل القتال للجهاد، وترك أهل القتال للقتال الواجب عليهم كترك أهل العلم للتبليغ الواجب عليهم". أي: قد يكون الأفضل في قتال العدو هو الإثخان في الأرض والقتل، كما في يوم بدر ، فهذا كان الأفضل، وهو الذي اختاره الله سبحانه وتعالى للمؤمنين؛ فقال: مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ [الأنفال:67]، وقد تكون المهادنة أو المصالحة أفضل، كما كان ذلك في عام الحديبية ، وأخذ الجزية قد يكون أفضل، وهذا ما فعله الصحابة رضوان الله تعالى عليهم مع بعض أهل الكتاب؛ فإن أهل الكتاب إذا عقد لهم عقد الذمة وأخذت منهم الجزية، أتيح لهم أن يسمعوا عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن دينه؛ وهم يعرفون صفته صلى الله عليه وسلم، كما في كتابهم، وعندهم قابلية للتديُّن، لكنهم يتدينون على ضلال، فلو سمعوا الحق لآمنوا وأذعنوا، فتكون المصلحة في أخذ الجزية منهم.
قصة نور الدين زنكي في أسر ملك الألمان والعمل بالمصلحة(1/219)
والمقصود أن يُقدر الأمر بحسب المصلحة التي يراها الناس، ولنا مثل في سيرة نور الدين الشهيد رحمه الله، الذي هزم الله سبحانه وتعالى على يديه الصليبيين، فعندما أُسر ملك الألمان، احتار فيه نور الدين وقواده، هل يقتلونه أو يطلقونه بمالٍ عظيم، فنظروا فإذا هم بحاجة إلى المال؛ لأن نور الدين رحمه الله ألغى المكوس والضرائب، وقال: كيف ننتصر عليهم ونحن نأخذ المكوس ونأخذ الضرائب؟! فقال: والله لو لم يبق في بيت المال شيء؛ فإنا لا نغلب أعداءنا إلا بطاعة الله، فترك المكوس فقلَّ ما في بيت المال فاحتار، وملك الألمان يعرض عليه فدية كبيرة، ولكنه يخشى إن أطلقه أن يأتيهم بعد حين بجيش عظيم فيقول: يا ليتنا قتلناه، ففكَّر واستخار، فأراد الله تبارك وتعالى له الخير، فأطلقه بعد أن أخذ منه مالاً عظيماً جداً ورجع إلى بلاده، وما أن وصل إلى بلاده وبدأ يؤلِّبهم ويجمعهم ليعودوا إلى أرض المسلمين، حتى أهلكه الله عز وجل، فتفاءل المسلمون وفرحوا، فقالوا: جمع الله لنا بين الحسنيين، أخذنا ماله ومات.
إذاً: فيُنظر حيثما تكون المصلحة، والله تعالى لن يضيع هذه الأمة إن اجتهدت في طلب الخير والحق.
يقول شيخ الإسلام رحمه الله: "وجواب الأئمة كأحمد وغيره في هذا الباب مبنيٌ على هذا الأصل، ولهذا كان يفرق ...".
الإمام أحمد جعله الله تعالى عَلماً لأهل السنة ، وجعل كلامه في أهل البدع كالسيف القاطع، من قال فيه الإمام أحمد : نعم؛ ارتفع إلى قيام الساعة، ومن قال فيه: لا؛ سقط إلى قيام الساعة، فقد جعله الله فيصلاً وجعل كلامه فرقاناً بصبره وثباته على الحق، فرضي الله تعالى عنه.(1/220)
يقول شيخ الإسلام رحمه الله: "ولهذا كان رحمه الله يفرِّق بين الأماكن التي كَثُرت فيها البدع، كما كثر القدر في البصرة ، والتنجيم بخراسان والتشيع في الكوفة ، وبين ما ليس كذلك"، أي: أن التنجيم انتشر في خراسان والمناطق المجاورة لها، وقد ألف الفخر الرازي -وهو إمام الأشعرية في زمانه- ألَّف كتاباً اسمه: (السر المكتوم في مخاطبة النجوم ).
فقد فرق الإمام أحمد ، والمعنى أنه لو وجد شيعي يدعو إلى بدعته في المدينة النبوية ، وهي البقعة التي بقيت هي ومكة أنظف البلاد عن البدع؛ لظهور آثار النبوة فيهما؛ ولأن فيهما أولاد الصحابة، لا سيما في المدينة ، التي فيها المهاجرون والأنصار والتابعون الذين تتلمذوا عليهم، ثم تلاميذهم، فكانت أقلَّ البلاد احتواء لأهل البدع.
يقول شيخ الإسلام : "ويُفرّق بين الأئمة المطاعين وغيرهم" يُفرَّق بين الإمام المطاع المتَّبع من أهل البدع وبين غيره، قال: "وإذا عُرف مقصود الشريعة سُلك في حصوله أوصل الطرق إليه" فالمهم أن تنظر إلى مقصد الشرع، ثم تسلك أوصل وأقصر وأفضل الطرق التي تؤدي إليه، أي: أن الحكمة هي فهم مقاصد الشرع، ثم إنزال النصوص عليها وأخذ كل حالةٍ بحسبها، وهناك مشكلة تواجه كثيراً من الدعاة، فهم يعرفون الحق ويقولونه، ويلتزمون منهج السلف في الاعتقاد، وفي الدعوة والعلم، لكن ينقصهم إنزال هذا العلم على واقعه الصحيح.
هجر الثلاثة المخلفين وتألف الأعراب
من درس: الأدلة على أن العمل في الهجر تابع لمصلحة الدين
يقول رحمه الله: "والهجر لبعض الناس أنفع من التأليف، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يتألَّف قوماً ويهجر آخرين. كما أن الثلاثة الذين خلِّفوا كانوا خيراً من أكثر المؤلَّفة قلوبهم".(1/221)
أي: أن الثلاثة الذين خلِّفوا لن يرجعوا عن الدين مهما كان، بل الهجر يزيدهم خوفاً، كما كان واقع حالهم من بكائهم، وما غشيهم من الهمِّ والكرب، حتى ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، وأظلمت الدنيا في وجوههم، وهجرهم أحبُّ الناس إليهم ممن يعرف صدقهم وإيمانهم، ومع ذلك لم يزدهم ذلك إلا خوفاً وخشيةً وطمعاً في توبة الله عليهم، ولما أرسل ملك الغساسنة إلى كعب بن مالك يرغبه باللحاق به، سجر بكتابه التنور، فأمثال هؤلاء لا يخشى عليهم.
لكن المؤلَّفة قلوبهم، لو أغضبوا أو هجروا فإنهم قد يرتدون؛ لأن ضعيف الإيمان يستجيب لعدوه وعدو دينه؛ لأنه قابل للفتنة، لذلك لا يهجر؛ بل يتألف حتى يدخل في الإسلام أمثاله من المؤلفة قلوبهم، أما من كان حاله كحال هؤلاء الثلاثة من الصحابة رضوان الله عليهم فالواحد منهم يعرف الحق ويعلمه، فيعاقب ليرتدع ويرتدع أمثاله من المؤمنين.
أما المؤلفة قلوبهم فيتألفون، فمثلاً لو سمع الأعراب بأن شيخاً من مشايخ بني تميم أو غيرهم أُعطي مائة ناقة، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم مع الأقرع بن حابس وعيينة بن حصن الفزاري ، فستجد كل شيخ من شيوخ الأعراب.. يقول: نسلم لنأخذ مثلهم، فيدخل في الإسلام وتُسلم القبيلة، وربما هدى الله تعالى القبيلة أو كثيراً منها عن إيمانٍ ويقين، وإن كان الشيخ أسلم من أجل الشاة والبعير والدرهم والدينار، ثم يصلح الله حاله ويحسن إيمانه، فهنا تحصل المصلحة للإسلام والمسلمين بهذا التأليف بخلاف الهجر.(1/222)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : "كما أن الثلاثة الذين خلفوا كانوا خيراً من أكثر المؤلَّفة قلوبهم، لمَّا كان أولئك سادةً مطاعين في عشائرهم، فقد كانت المصلحة الدينية في تأليف قلوبهم، وهؤلاء كانوا مؤمنين، والمؤمنون سواهم كثير، فكان في هجرهم عزُّ الدين وتطهيرهم من ذنوبهم". يعني: أن الثلاثة وأمثالهم كان في هجرهم عز للدين، وتطهيرٌ لهم من الذنب، فعز الدين بأن يشعر الناس أن هذا الدين متين، وأن هذا الدين ليس لكل من ادعاه، وليس بالنفاق ولا بالدعاوى ولا بالشعارات الزائفة، وإنما هو جهاد وصبر وتضحية، إذ كيف يرغبون بأنفسهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! وكيف يتخلفون عن ركبٍ يقوده رسول الله صلى الله عليه وسلم ويتركون الجهاد معه؟! فهجر هؤلاء فيه مصلحة للمؤمنين.
قتال الكفار وتركه حسب المصلحة في العهد النبوي
من درس: الأدلة على أن العمل في الهجر تابع لمصلحة الدين
يقول رحمه الله: "وهذا كما أن المشروع في العدو القتال تارةً، والمهادنة تارةً، وأخذ الجزية تارةً، كل ذلك بحسب الأحوال والمصالح".(1/223)
وتجد شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله دائماً يمثل بالمثال الآتي، وذلك لأن واجب العلماء والدعاة مثل واجب المجاهدين. ونذكر كلامه رحمه الله للفائدة، يقول رحمه الله (28/188): "ترك أهل العلم لتبليغ الدين كترك أهل القتال للجهاد، وترك أهل القتال للقتال الواجب عليهم كترك أهل العلم للتبليغ الواجب عليهم". أي: قد يكون الأفضل في قتال العدو هو الإثخان في الأرض والقتل، كما في يوم بدر ، فهذا كان الأفضل، وهو الذي اختاره الله سبحانه وتعالى للمؤمنين؛ فقال: مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ [الأنفال:67]، وقد تكون المهادنة أو المصالحة أفضل، كما كان ذلك في عام الحديبية ، وأخذ الجزية قد يكون أفضل، وهذا ما فعله الصحابة رضوان الله تعالى عليهم مع بعض أهل الكتاب؛ فإن أهل الكتاب إذا عقد لهم عقد الذمة وأخذت منهم الجزية، أتيح لهم أن يسمعوا عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن دينه؛ وهم يعرفون صفته صلى الله عليه وسلم، كما في كتابهم، وعندهم قابلية للتديُّن، لكنهم يتدينون على ضلال، فلو سمعوا الحق لآمنوا وأذعنوا، فتكون المصلحة في أخذ الجزية منهم.
قصة نور الدين زنكي في أسر ملك الألمان والعمل بالمصلحة
من درس: الأدلة على أن العمل في الهجر تابع لمصلحة الدين(1/224)
والمقصود أن يُقدر الأمر بحسب المصلحة التي يراها الناس، ولنا مثل في سيرة نور الدين الشهيد رحمه الله، الذي هزم الله سبحانه وتعالى على يديه الصليبيين، فعندما أُسر ملك الألمان، احتار فيه نور الدين وقواده، هل يقتلونه أو يطلقونه بمالٍ عظيم، فنظروا فإذا هم بحاجة إلى المال؛ لأن نور الدين رحمه الله ألغى المكوس والضرائب، وقال: كيف ننتصر عليهم ونحن نأخذ المكوس ونأخذ الضرائب؟! فقال: والله لو لم يبق في بيت المال شيء؛ فإنا لا نغلب أعداءنا إلا بطاعة الله، فترك المكوس فقلَّ ما في بيت المال فاحتار، وملك الألمان يعرض عليه فدية كبيرة، ولكنه يخشى إن أطلقه أن يأتيهم بعد حين بجيش عظيم فيقول: يا ليتنا قتلناه، ففكَّر واستخار، فأراد الله تبارك وتعالى له الخير، فأطلقه بعد أن أخذ منه مالاً عظيماً جداً ورجع إلى بلاده، وما أن وصل إلى بلاده وبدأ يؤلِّبهم ويجمعهم ليعودوا إلى أرض المسلمين، حتى أهلكه الله عز وجل، فتفاءل المسلمون وفرحوا، فقالوا: جمع الله لنا بين الحسنيين، أخذنا ماله ومات.
إذاً: فيُنظر حيثما تكون المصلحة، والله تعالى لن يضيع هذه الأمة إن اجتهدت في طلب الخير والحق.
يقول شيخ الإسلام رحمه الله: "وجواب الأئمة كأحمد وغيره في هذا الباب مبنيٌ على هذا الأصل، ولهذا كان يفرق ...".
الإمام أحمد جعله الله تعالى عَلماً لأهل السنة ، وجعل كلامه في أهل البدع كالسيف القاطع، من قال فيه الإمام أحمد : نعم؛ ارتفع إلى قيام الساعة، ومن قال فيه: لا؛ سقط إلى قيام الساعة، فقد جعله الله فيصلاً وجعل كلامه فرقاناً بصبره وثباته على الحق، فرضي الله تعالى عنه.(1/225)
يقول شيخ الإسلام رحمه الله: "ولهذا كان رحمه الله يفرِّق بين الأماكن التي كَثُرت فيها البدع، كما كثر القدر في البصرة ، والتنجيم بخراسان والتشيع في الكوفة ، وبين ما ليس كذلك"، أي: أن التنجيم انتشر في خراسان والمناطق المجاورة لها، وقد ألف الفخر الرازي -وهو إمام الأشعرية في زمانه- ألَّف كتاباً اسمه: (السر المكتوم في مخاطبة النجوم ).
فقد فرق الإمام أحمد ، والمعنى أنه لو وجد شيعي يدعو إلى بدعته في المدينة النبوية ، وهي البقعة التي بقيت هي ومكة أنظف البلاد عن البدع؛ لظهور آثار النبوة فيهما؛ ولأن فيهما أولاد الصحابة، لا سيما في المدينة ، التي فيها المهاجرون والأنصار والتابعون الذين تتلمذوا عليهم، ثم تلاميذهم، فكانت أقلَّ البلاد احتواء لأهل البدع.
يقول شيخ الإسلام : "ويُفرّق بين الأئمة المطاعين وغيرهم" يُفرَّق بين الإمام المطاع المتَّبع من أهل البدع وبين غيره، قال: "وإذا عُرف مقصود الشريعة سُلك في حصوله أوصل الطرق إليه" فالمهم أن تنظر إلى مقصد الشرع، ثم تسلك أوصل وأقصر وأفضل الطرق التي تؤدي إليه، أي: أن الحكمة هي فهم مقاصد الشرع، ثم إنزال النصوص عليها وأخذ كل حالةٍ بحسبها، وهناك مشكلة تواجه كثيراً من الدعاة، فهم يعرفون الحق ويقولونه، ويلتزمون منهج السلف في الاعتقاد، وفي الدعوة والعلم، لكن ينقصهم إنزال هذا العلم على واقعه الصحيح.
الهجر بين حظ النفس ومصلحة الدين
من درس: التكفير وضوابطه (الحلقة الثامنة)
يقول شيخ الإسلام رحمه الله: "وإذا عُرف هذا فالهجرة الشرعية هي من الأعمال التي أمر الله بها ورسوله، فالطاعة لا بد أن تكون خالصة لله، وأن تكون موافقة لأمره".
وهذان شرطان في قبول كل عمل من الأعمال، وهما: الإخلاص، والموافقة للسنة.(1/226)
يقول رحمه الله: "فمن هجر لهوى نفسه، أو هجر هجراً غير مأمورٍ به، كان خارجاً عن هذا". أي فالذي يجب على الإنسان ألا يعمل العمل إلا لله، إن هجر فلله، وإن أحب فلله، وإن أبغض فلله.
وإن مما ينبغي التنبه له: أن كل داعية قد يُبتلى ويُمتحن ويُؤذى، فإياك إياك أن تجعل ما ابتليت به أو أوذيت به هو المعيار في العداوة، أي: أن تعامل أحداً بشر لأنه آذاك أو أساء إليك، وإن كانت النفوس مفطورة على هذا، لكن اجعل المعيار هو أن تكون محبتك وعداوتك لله، فلا تظلم منهم أحداً ولا تحيف عليه وإن كان ظالماً لك، بل اجعل غضبك لله تعالى، ودعوتك إلى الله تعالى، فتجرَّد من حظ النفس ومن هواها، واجعل هواها وحظَّها تبعاً للحق الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، فمن أقام الدين ونصره فأحبه ولو آذاك في حقك أو ظلمك في نفسك؛ لأنه نصر الحق وأظهر الله به الدين، ومن كان غير ذلك وإن أحسن إليك في نفسك؛ فإنه لا يجوز لك أن تحبه أو أن تداهنه في دين الله.
هجر المؤمن أخاه لحقه
هل يعني ذلك أن الإنسان لا يهجر لحظ النفس، كمن ظلمه، أو كذب عليه، أو أخذ حقه شخص ثم أنكره؟ وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: {بُعثت بالحنيفية السمحة }، وعليه فلا تهجر من ظلمك؟!(1/227)
الجواب: لا. بل تهجره، أما شريعة الإنجيل فتقول: (من سخرك ميلاً فامش معه ميلين، ومن لطمك على خدك الأيمن فأدر له الأيسر، ومن أخذ رداءك فأعطه الإزار). وهذا ليس من شريعة الإسلام، بل قال الله: وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا [الشورى:40] لكن... فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّه [الشورى:40] فالشريعة الإسلامية جمعت بين العدل والعفو، فمن حقك أن تعاقب من ظلمك، وذلك حتى لا تحمل النفس على خلاف ما جبلت عليه من حب الانتقام، وذلك ربما أدى بها إلى النفور من الأوامر الشريعة، فأجاز الله للمرء أن يأخذ حقه ممن اعتدى عليه، وله أن يهجره ثلاث ليال، وهي كافية للقلوب المؤمنة أن تمحو أثر الخطأ والظلم، أو الغضب والانتقام الذي يقع في النفس، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: {لا يحل للمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث، يلتقيان فيُعرض هذا ويُعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام } قوله: (وخيرهما) أي: خير المتخاصمين الذي يبدأ صاحبه بالسلام.
يقول بعد كلام له رحمه الله: "وهذا لأن الهجر من باب العقوبات الشرعية، فهو من جنس الجهاد في سبيل الله، وهذا يُفعل لأن تكون كلمة الله هي العليا ويكون الدين كله لله".
أي: كل الأعمال يجب أن تكون لله، والهجر من جنس العقوبات، وأعلى أنواع العقوبات التي يُعاقب بها أعداء الله أن يُقاتلوا فيقتلوا ويسبوا ويُغنموا؛ فيُفعل هذا الجهاد حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله، قال تعالى: وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ [البقرة:193] فكذلك أيضاً: إن هجرت فيكون الهجر لله، وإن بدَّعته أو فسَّقته أو حكمت عليه، فأيضاً من باب الانتصار لدين الله، حتى يكون الدين كله لله.(1/228)
ويقول رحمه الله: "والمؤمن عليه أن يُعادي في الله، ويُوالي في الله؛ فإن كان هناك مؤمن فعليه أن يواليه وإن ظلمه، فإن الظلم لا يقطع الموالاة الإيمانية، قال تعالى: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات:9-10].
فجعلهم إخوة مع وجود القتال والبغي، وأمر بالإصلاح بينهم".
المحبة والبغض للمرء حسب ما فيه من خير وشر
ثم قال بعد كلام له رحمه الله: "وإذا اجتمع في الرجل الواحد خير وشر -وهذا حال أكثر الناس في دار الإسلام- وطاعة ومعصية، وسنة وبدعة، استحق من الموالاة والثواب بقدر ما فيه من الخير واستحق من المعاداة والعقاب بحسب ما فيه من الشر، فيجتمع في الشخص الواحد موجبات الإكرام والإهانة، فيجتمع له من هذا وهذا، كاللص الفقير تقطع يده لسرقته، ويعطى من بيت المال ما يكفيه لحاجته".
أي: إذا كان هناك لص فقير تسوَّر على دكان وكسر الأقفال وسرق ما فيه، فإنه تقطع يده لسرقته، ويُعطى من بيت المال لفقره، فيُعاقب بموجب الذنب، ويُعطى بموجب الاستحقاق الذي هو الفقر.(1/229)
فديننا كله عدل ورحمة، وحتى في عقوبات الله الكونية، فالأمة إذا عصت الله سبحانه وتعالى وتمحَّضت للشر؛ استحقت العقوبة الكاملة والفناء، وذلك إذا كثر الخبث وغلب، وأصبح أهل الحق في قِلَّة وذِلَّة وضعف، ولم يَعد لهم وزن ولا كلمة ولا منزلة، وأما ما دام فيها خير وشر، فإن العقوبات تأتيها نذراً وغير عامة، حتى تجعل أهل الخير يجتهدون في الدعوة ويخشون وقوع العذاب، وأهل الشر يرتدعون وينزجرون، ويسمعون لدعاة الخير؛ لأنهم يرون العذاب، فإذا جاءت النُذُر وتوالت؛ فإن نفعت وحصلت التوبة والاستقامة، دفع الله تبارك وتعالى البلاء العام، وإن لم تحصل التوبة والرجعة والإنابة، بل ازداد أهل الكفر كفراً، وزِيد في ذُلِّ أهل الإيمان وإيذائهم؛ جاءت العقوبة عامة، ونجّى الله تبارك وتعالى الذين اتقوا برحمته.
يقول رحمه الله: "هذا هو الأصل الذي اتفق عليه أهل السنة والجماعة ، وخالفهم الخوارج والمعتزلة ومن وافقهم عليه".
هجر المؤمن أخاه لحقه
من درس: الهجر بين حظ النفس ومصلحة الدين
هل يعني ذلك أن الإنسان لا يهجر لحظ النفس، كمن ظلمه، أو كذب عليه، أو أخذ حقه شخص ثم أنكره؟ وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: {بُعثت بالحنيفية السمحة }، وعليه فلا تهجر من ظلمك؟!(1/230)
الجواب: لا. بل تهجره، أما شريعة الإنجيل فتقول: (من سخرك ميلاً فامش معه ميلين، ومن لطمك على خدك الأيمن فأدر له الأيسر، ومن أخذ رداءك فأعطه الإزار). وهذا ليس من شريعة الإسلام، بل قال الله: وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا [الشورى:40] لكن... فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّه [الشورى:40] فالشريعة الإسلامية جمعت بين العدل والعفو، فمن حقك أن تعاقب من ظلمك، وذلك حتى لا تحمل النفس على خلاف ما جبلت عليه من حب الانتقام، وذلك ربما أدى بها إلى النفور من الأوامر الشريعة، فأجاز الله للمرء أن يأخذ حقه ممن اعتدى عليه، وله أن يهجره ثلاث ليال، وهي كافية للقلوب المؤمنة أن تمحو أثر الخطأ والظلم، أو الغضب والانتقام الذي يقع في النفس، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: {لا يحل للمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث، يلتقيان فيُعرض هذا ويُعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام } قوله: (وخيرهما) أي: خير المتخاصمين الذي يبدأ صاحبه بالسلام.
يقول بعد كلام له رحمه الله: "وهذا لأن الهجر من باب العقوبات الشرعية، فهو من جنس الجهاد في سبيل الله، وهذا يُفعل لأن تكون كلمة الله هي العليا ويكون الدين كله لله".
أي: كل الأعمال يجب أن تكون لله، والهجر من جنس العقوبات، وأعلى أنواع العقوبات التي يُعاقب بها أعداء الله أن يُقاتلوا فيقتلوا ويسبوا ويُغنموا؛ فيُفعل هذا الجهاد حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله، قال تعالى: وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ [البقرة:193] فكذلك أيضاً: إن هجرت فيكون الهجر لله، وإن بدَّعته أو فسَّقته أو حكمت عليه، فأيضاً من باب الانتصار لدين الله، حتى يكون الدين كله لله.(1/231)
ويقول رحمه الله: "والمؤمن عليه أن يُعادي في الله، ويُوالي في الله؛ فإن كان هناك مؤمن فعليه أن يواليه وإن ظلمه، فإن الظلم لا يقطع الموالاة الإيمانية، قال تعالى: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات:9-10].
فجعلهم إخوة مع وجود القتال والبغي، وأمر بالإصلاح بينهم".
المحبة والبغض للمرء حسب ما فيه من خير وشر
من درس: الهجر بين حظ النفس ومصلحة الدين
ثم قال بعد كلام له رحمه الله: "وإذا اجتمع في الرجل الواحد خير وشر -وهذا حال أكثر الناس في دار الإسلام- وطاعة ومعصية، وسنة وبدعة، استحق من الموالاة والثواب بقدر ما فيه من الخير واستحق من المعاداة والعقاب بحسب ما فيه من الشر، فيجتمع في الشخص الواحد موجبات الإكرام والإهانة، فيجتمع له من هذا وهذا، كاللص الفقير تقطع يده لسرقته، ويعطى من بيت المال ما يكفيه لحاجته".
أي: إذا كان هناك لص فقير تسوَّر على دكان وكسر الأقفال وسرق ما فيه، فإنه تقطع يده لسرقته، ويُعطى من بيت المال لفقره، فيُعاقب بموجب الذنب، ويُعطى بموجب الاستحقاق الذي هو الفقر.(1/232)
فديننا كله عدل ورحمة، وحتى في عقوبات الله الكونية، فالأمة إذا عصت الله سبحانه وتعالى وتمحَّضت للشر؛ استحقت العقوبة الكاملة والفناء، وذلك إذا كثر الخبث وغلب، وأصبح أهل الحق في قِلَّة وذِلَّة وضعف، ولم يَعد لهم وزن ولا كلمة ولا منزلة، وأما ما دام فيها خير وشر، فإن العقوبات تأتيها نذراً وغير عامة، حتى تجعل أهل الخير يجتهدون في الدعوة ويخشون وقوع العذاب، وأهل الشر يرتدعون وينزجرون، ويسمعون لدعاة الخير؛ لأنهم يرون العذاب، فإذا جاءت النُذُر وتوالت؛ فإن نفعت وحصلت التوبة والاستقامة، دفع الله تبارك وتعالى البلاء العام، وإن لم تحصل التوبة والرجعة والإنابة، بل ازداد أهل الكفر كفراً، وزِيد في ذُلِّ أهل الإيمان وإيذائهم؛ جاءت العقوبة عامة، ونجّى الله تبارك وتعالى الذين اتقوا برحمته.
يقول رحمه الله: "هذا هو الأصل الذي اتفق عليه أهل السنة والجماعة ، وخالفهم الخوارج والمعتزلة ومن وافقهم عليه".
مواقف الفرق من نصوص الوعد والوعيد
من درس: التكفير وضوابطه (الحلقة التاسعة)(1/233)
قال شيخ الإسلام في (ص:468) من المجلد الثاني عشر من مجموع الفتاوى : "فصل، إذا تبين ذلك فاعلم أن (مسائل التكفير والتفسيق) هي من مسائل (الأسماء والأحكام) التي يتعلق بها الوعد والوعيد في الدار الآخرة" ثم تكلم عن الفرق وعن معنى الإيمان، إلى أن يقول في (ص:474): "ولهذا قال علماء السنة في وصفهم اعتقاد أهل السنة والجماعة أنهم لا يكفرون أحداً من أهل القبلة بذنب" وهي العبارة التي يشرحها المصنف رحمه الله هنا، ثم يستمر الكلام إلى أن يقول في (ص:477): "وإذا عرف مسمى الإيمان؛ فعند ذكر استحقاق الجنة والنجاة من النار، وذم من ترك بعضه ونحو ذلك، يراد به الإيمان الواجب" وهذا أيضاً سيأتي إن شاء الله شرحه في موضوع الإيمان؛ لأنه رحمه الله يتوسع ويستطرد في كلامه، فتتداخل عنده القضايا، لكن الأمر المهم الذي نريد أن نصل إليه هو قوله في (ص:478): "وإذا تبين هذا" يعني: إذا تبينت حقيقة الإيمان والخلاف فيه، وأن الإيمان إذا نفي، فالمقصود به الإيمان الواجب لا الكامل المستحب، وإن قيل: الكامل، فالمقصود به الكمال الواجب، قال: "وإذا تبين هذا، فمن ترك بعض الإيمان الواجب لعجزه عنه، إما لعدم تمكنه من العلم: مثل ألا تبلغه الرسالة، أو لعدم تمكنه من العمل، لم يكن مأموراً بما يعجز عنه، ولم يكن ذلك من الإيمان والدين الواجب في حقه، وإن كان من الدين والإيمان الواجب في الأصل؛ بمنزلة صلاة المريض، والخائف، والمستحاضة، وسائر أهل الأعذار الذين يعجزون عن إتمام الصلاة، فإن صلاتهم صحيحة بحسبما ما قدروا عليه" يعني من الصلاة أو من الطهارة، "وبه أمروا إذ ذاك" والمقصود من هذا أن المعذور الذي لم تبلغه المسائل العلمية، فحاله كحال المتفق عليه بين الجميع، وهو المعذور في الأمور والأحكام الشرعية الواضحة؛ كالمستحاضة والعاجز عن القيام والمريض.
اجتماع الثواب والعقاب في حق المعين عند أهل السنة(1/234)
ثم قال: "فصل، فهذا أصل مختصر في (مسألة الأسماء)" يعني ما يتعلق بالأسماء؛ متى يسمى المرء مؤمناً أو يسمى كافراً أو يسمى عاصياً أو يسمى فاجراً.
يقول: " وأما (مسألة الأحكام) وحكمه في الدار الآخرة، فالذي عليه الصحابة ومن اتبعهم بإحسان وسائر أهل السنة والجماعة : أنه لا يخلد في النار من معه شيء من الإيمان، بل يخرج منها من معه مثقال حبة أو مثقال ذرة من إيمان" وهذا قد تقدم.
ثم يقول: "وأما الخوارج ومن وافقهم من المعتزلة ، فيوجبون خلود من دخل النار، وعندهم من دخلها خلد فيها، ولا يجتمع في حق الشخص الواحد العذاب والثواب.
وأهل السنة والجماعة وسائر من اتبعهم متفقون على اجتماع الأمرين -حصول الثواب من جهة والعقاب من جهة- لأن الإيمان يزيد وينقص؛ ولأن الإنسان يطيع الله في أمور ويعصيه في أمور، فيأتي ببعض شعب الإيمان مع إتيانه ببعض المعاصي، فيستحق اللوم والعقاب من جهة كما يستحق المدح والثواب من جهة أخرى".
قال: "(وأيضاً): أهل السنة والجماعة لا يوجبون العذاب في حق كل من أتى كبيرة، ولا يشهدون لمسلم بعينه بالنار لأجل كبيرة واحدة عملها؛ بل يجوز عندهم أن صاحب الكبيرة يدخله الله الجنة بلا عذاب، إما لحسنات تمحو كبيرته منه أو من غيره"، يعني كمن كان له حقوق على الناس أو له ولد صالح يدعو ويستغفر له، ويدخل في ذلك أيضاً الشفاعة، فقد يشفع له من لا يعرفه، ومن ليس بينه وبينه قرابة، وليس عليه حق؛ كإنسان صالح يشفعه الله سبحانه وتعالى في مجموعة، وهناك رجل من هذه الأمة يشفع في مثل مضر، فهذا من نعم الله ومن رحمته، فالمقصود أنه قد يدخل الجنة بحسناته أو بحسنات غيره.
قال: "وإما لمصائب كفرتها عنه، وإما لدعاء مستجاب منه أو من غيره فيه" أي: قد يكون ذلك بسبب دعائه لنفسه أو دعاء غيره له، فيستجاب للدعاء في الحالين، قال: "وإما لغير ذلك".
أخذ الخوارج والمعتزلة بنصوص الوعيد وأخذ المرجئة بنصوص الوعد(1/235)
ثم قال: "والوعيدية من الخوارج والمعتزلة " يسمون الوعيدية لأنهم يأخذون بنصوص الوعيد "يوجبون العذاب في حق أهل الكبائر" يعني بأعيانهم، يقولون ذلك "لشمول نصوص الوعيد لهم" فيرون أنهم يدخلون تحت نصوص الوعيد العامة "مثل قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا [النساء:10]. وتجعل المعتزلة إنفاذ الوعيد أحد الأصول الخمسة التي يكفرون من خالفها".
وقد تقدم شرح الأصول الخمسة وشرح كلام المعتزلة ، ويقابلهم في هذا القول المرجئة الذين أخذوا بنصوص الوعد.
يقول رحمه الله: "فعارضهم غالية المرجئة بنصوص الوعد، فإنها قد تتناول كثيراً من أهل الكبائر" يعني: أنهم يعتمدون نصوص الوعد؛ مثل قوله صلى الله عليه وسلم: {من قال: لا إله إلا الله دخل الجنة } فإنه يتناول أصحاب الكبائر، ومثل قوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي ذر : {وإن زنى وإن سرق } فردوا عموم الوعيد بعموم الوعد.
يقول: "فهنا اضطرب الناس، فأنكر قوم من المرجئة العموم" وهذا من المذاهب الغريبة، وهو الذي يظهر من مذهب الأشعرية ومن أكثر كلامهم، فقد اضطروا حتى يتخلصوا من هذه القضية إلى أن يقولوا: (العموم مجاز، ولا يوجد عموم في اللغة أصلاً).
منهج أهل السنة في الجمع بين نصوص الوعد والوعيد
يقول: "وقال المقتصدة -ويعني بكلامه هذا أهل الحق-: بل العموم صحيح" العموم حق "والصيغ صيغ عموم"، يعني: قد أنكر أولئك المبتدعة صيغ العموم جميعاً مثل (من، وما، وكل، والنكرة في سياق النفي، وألفاظ العموم جميعاً)، وأثبت أهل السنة العموم ينكروا الصيغ الدالة عليه.
قال: "لكن العام يقبل التخصيص" يعني: أي نص عام يمكن أن يأتي نص يخصصه، فالعموم يبقى، ولكن في حق المعين نأخذ الحكم بشروطه هل تحققت، وبموانعه هل انتفت، ثم نحكم عليه.(1/236)
يقول: "والتحقيق أن يقال: الكتاب والسنة مشتمل على نصوص الوعد والوعيد، كما ذلك مشتمل على نصوص الأمر والنهي، وكل من النصوص يفسر الآخر ويبينه" يعني أنه لا تعارض بين آيات وأحاديث الوعد وبين آيات وأحاديث الوعيد، يقول: "فكما أن نصوص الوعد على الأعمال الصالحة مشروطة بعدم الكفر المحبط" يعني أن من كفر فقد حبط عمله والعياذ بالله، حيث قال الله تعالى: وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ [المائدة:5] قال: "لأن القرآن قد دل على أن من ارتد فقد حبط عمله، فكذلك نصوص الوعيد للكفار والفساق مشروطة بعدم التوبة"، أي: مشروطة بعدم إيمانهم إن كانوا كفاراً، أو توبتهم إن كانوا فساقاً، فهذه مع تلك عمومها باق، ولكن يدخلها التخصيص في حق المعينين.
ثم يقول: "فإن الله قد بين بنصوص معروفة أن الحسنات يذهبن السيئات، وأن من يعمل مثقال ذرة خيراً يره، ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره، وأنه يجيب دعوة الداعي إذا دعاه، وأن مصائب الدنيا تكفر الذنوب، وأنه يقبل شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم في أهل الكبائر، وأنه لا يغفر أن يشرك به، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء، كما بين أن الصدقة يبطلها المن والأذى، وأن الرياء يبطل العمل"، كما جاء في الحديث القدسي يقول الله تعالى: {أنا أغنى الشركاء عن الشرك؛ من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري، تركته وشركه } رواه مسلم .
قال: "وأنه إنما يتقبل الله من المتقين؛ أي في ذلك العمل" قال تعالى: إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ [المائدة:27] يعني: من صلى بإخلاص وتصدق برياء؛ فإن الله يقبل صلاته؛ لأنه كان متقياً فيها، ولا يقبل صدقته منه؛ لأنه راءى فيها؛ فهناك حسنات وموانع لوقوعها، وهناك سيئات وموانع لوقوعها.(1/237)
يقول: "فجعل للسيئات ما يوجب رفع عقابها، كما جعل للحسنات ما يبطل ثوابها"، أي: ما يمنع حصول ثوابها؛ فكما أن الله جعل للسيئات ما يوجب رفع عقابها، فكذلك جعل الله تعالى بنص القرآن والسنة للحسنات ما قد يكون سبباً في عدم حصول ثوابها.
قال: "لكن ليس شيء يبطل جميع السيئات إلا التوبة" حتى لو ارتكب أعظم ذنب وهو الشرك، قال تعالى: فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ [التوبة:11] هذا إذا تاب من الشرك، ولو كان ذلك الذنب قتل النفس -كما مر معنا في حديث الذي قتل المائة- ثم تاب القاتل؛ الله تبارك وتعالى يتوب عليه، فأي ذنب فهو داخل تحت قوله تعالى: إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ [الفرقان:70]؛ فهذه التوبة تمحو جميع السيئات.
قال: "كما أنه ليس شيء يبطل جميع الحسنات إلا الردة"، فهو إن فعل محظوراً أو ترك واجباً، وهو في نفس الوقت يفعل الواجبات الأخرى، ويترك المحظورات الأخرى، فذلك لا يستدعي بطلان جميع العمل ولا قبول جميع العمل.
يقول: " وبهذا يتبين أنَّا نشهد بأن الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا [النساء:10] على الإطلاق والعموم" وبعموم كلام الله لا بد أن نقول وأن نشهد، إذا وعظنا الناس في المساجد، وفي خطب الجمعة، وفي المجالس أو في أي مكان؛ لنزجرهم ونخوفهم من عذاب الله، ونأتي بهذه الآية ونبين أن هذا حكمه وهذا جزاؤه.(1/238)
ثم يقول: "ولا نشهد لمعين أنه في النار"، أي: لا نقول: هذا في النار؛ لأنه أكل مال يتيم؛ فإننا نشهد بالعموم والإطلاق، ولكن لا نشهد في المعين؛ يقول: "لأنا لا نعلم لحوق الوعيد له بعينه" فما عندنا علم فيه بذاته وبعينه؛ "لأن لحوق الوعيد بالمعين مشروط بشروط وانتفاء موانع، ونحن لا نعلم ثبوت الشروط وانتفاء الموانع في حقه".
مفهوم كلامه رحمه الله أننا لو علمنا ثبوت الشروط وانتفاء الموانع أجرينا الحكم عليه في الدنيا، ولكننا مع ذلك لا نعلم حكمه في الآخرة، وهذا هو الذي يجعلنا نعاقب في الدنيا ولا نتكلم عن العقوبة في الآخرة إلا بنص أو على يقين، أما في الدنيا، فإننا نستطيع أن نتأكد في حدود علمنا أن الشرط متحقق وأن المانع منتفٍ، فنجزي عليه العقوبة الدنيوية؛ مع أننا لا نجزم مائة بالمائة أننا على صواب؛ فقد يكون عند الله تعالى غير مذنب، لكن على القاضي أن يحكم ويتحرى؛ فإذا أصاب فله أجران، وإن اجتهد فأخطأ فله أجر.
وقد يقال: ما دمنا لا نجزم بالوعيد في حق المعين، فما فائدته؟
يقول: "وفائدة الوعيد بيان أن هذا الذنب مقتضٍ لهذا العذاب، والسبب قد يقف تأثيره على وجود شرطه وانتفاء مانعه".(1/239)
يعني أننا نقول للناس: من فعل هذا الفعل فهذا حكمه، فإذا أنت وعظت الناس، وذكرتهم بالله عز وجل؛ فقلت لهم: لا تأكلوا أموال اليتامى؛ فإن الله تعالى قال في ذلك: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا [النساء:10] فأنت قد أعذرت وأبلغت، وبينت للناس حكم هذا الذنب، وكل واحد من الحاضرين يرى في نفسه ويعلم أنه فاعل لهذا الذنب؛ فعليه أن يتوب ويستغفر الله ويجتهد في الخير؛ ففي هذه الحالة وجود الوعيد له فائدة عظيمة، ولا يستلزم وعظ الناس أن تعين فلاناً بذاته، وتقول: فلان من أهل النار؛ لأن الله تعالى قال إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا [النساء:10].
يقول: "يبين هذا -يبين الفرق بين العموم والإطلاق وبين المعين- أنه قد ثبت: {أن النبي صلى الله عليه وسلم لعن الخمر، وعاصرها، ومعتصرها، وحاملها، والمحمولة إليه، وشاربها، وساقيها، وبائعها، ومبتاعها، وآكل ثمنها }.
وثبت عنه في صحيح البخاري عن عمر : {أن رجلاً كان يكثر شرب الخمر، فلعنه رجل، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله }".
فالحديث الأول يدل على أن اللعن في العموم حق، وقد صرح به النبي صلى الله عليه وسلم، والحديث الثاني يدل على أن لعن المعين منهي عنه، وكثير من الناس في هذه المسألة على طرفي نقيض؛ فإما أنهم ممن لا يرى ذكر هذه الأمور مطلقاً ويقول: لا نكفر، ولا نفسق، ولا نضلل، وهذا مذهب المرجئة ، وإما أنهم ممن يطلقها على المعينين رأساً بلا تثبت، وهذا منهج الخوارج وطريقهم.(1/240)
ففي الحديث الثاني علل النبي صلى الله عليه وسلم نهيه عن لعن شارب الخمر بقوله: {إنه يحب الله ورسوله } أي أنه وجد في هذا الشخص بعينه مانع يمنع لحوق الوعيد العام به، ولم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم اللعن في العموم؛ لأنه هو الذي قاله وأطلقه؛ فلو أنك سمعت أن رجلاً شرب الخمر، فقلت: لعن الله شاربها وعاصرها ومعتصرها وبائعها ومبتاعها، فما عليك شيء؛ لأنك لم تلعنه هو بعينه؛ بل أطلقت اللعن بعمومه؛ فإن كان هذا الرجل يستحق اللعن شمله اللعن، وإن لم يكن مستحقاً للعن، فأنت حينئذ ما أخطأت وما أثمت، لكن إن قلت: فلان ملعون، فقد يقال: هناك مانع يمنع من إطلاق هذا الحكم.
وربما لو انتفى هذا المانع في حق ذلك الرجل، لسكت النبي صلى الله عليه وسلم وأقر اللاعن له على لعنه، لكن وجد المانع وهو حب الله ورسوله، يقول: "فنهى عن لعن هذا المعين، وهو مدمن خمر؛ لأنه يحب الله ورسوله، وقد لعن شارب الخمر على العموم".
اجتماع الثواب والعقاب في حق المعين عند أهل السنة
من درس: مواقف الفرق من نصوص الوعد والوعيد
ثم قال: "فصل، فهذا أصل مختصر في (مسألة الأسماء)" يعني ما يتعلق بالأسماء؛ متى يسمى المرء مؤمناً أو يسمى كافراً أو يسمى عاصياً أو يسمى فاجراً.
يقول: " وأما (مسألة الأحكام) وحكمه في الدار الآخرة، فالذي عليه الصحابة ومن اتبعهم بإحسان وسائر أهل السنة والجماعة : أنه لا يخلد في النار من معه شيء من الإيمان، بل يخرج منها من معه مثقال حبة أو مثقال ذرة من إيمان" وهذا قد تقدم.
ثم يقول: "وأما الخوارج ومن وافقهم من المعتزلة ، فيوجبون خلود من دخل النار، وعندهم من دخلها خلد فيها، ولا يجتمع في حق الشخص الواحد العذاب والثواب.(1/241)
وأهل السنة والجماعة وسائر من اتبعهم متفقون على اجتماع الأمرين -حصول الثواب من جهة والعقاب من جهة- لأن الإيمان يزيد وينقص؛ ولأن الإنسان يطيع الله في أمور ويعصيه في أمور، فيأتي ببعض شعب الإيمان مع إتيانه ببعض المعاصي، فيستحق اللوم والعقاب من جهة كما يستحق المدح والثواب من جهة أخرى".
قال: "(وأيضاً): أهل السنة والجماعة لا يوجبون العذاب في حق كل من أتى كبيرة، ولا يشهدون لمسلم بعينه بالنار لأجل كبيرة واحدة عملها؛ بل يجوز عندهم أن صاحب الكبيرة يدخله الله الجنة بلا عذاب، إما لحسنات تمحو كبيرته منه أو من غيره"، يعني كمن كان له حقوق على الناس أو له ولد صالح يدعو ويستغفر له، ويدخل في ذلك أيضاً الشفاعة، فقد يشفع له من لا يعرفه، ومن ليس بينه وبينه قرابة، وليس عليه حق؛ كإنسان صالح يشفعه الله سبحانه وتعالى في مجموعة، وهناك رجل من هذه الأمة يشفع في مثل مضر، فهذا من نعم الله ومن رحمته، فالمقصود أنه قد يدخل الجنة بحسناته أو بحسنات غيره.
قال: "وإما لمصائب كفرتها عنه، وإما لدعاء مستجاب منه أو من غيره فيه" أي: قد يكون ذلك بسبب دعائه لنفسه أو دعاء غيره له، فيستجاب للدعاء في الحالين، قال: "وإما لغير ذلك".
أخذ الخوارج والمعتزلة بنصوص الوعيد وأخذ المرجئة بنصوص الوعد
من درس: مواقف الفرق من نصوص الوعد والوعيد
ثم قال: "والوعيدية من الخوارج والمعتزلة " يسمون الوعيدية لأنهم يأخذون بنصوص الوعيد "يوجبون العذاب في حق أهل الكبائر" يعني بأعيانهم، يقولون ذلك "لشمول نصوص الوعيد لهم" فيرون أنهم يدخلون تحت نصوص الوعيد العامة "مثل قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا [النساء:10]. وتجعل المعتزلة إنفاذ الوعيد أحد الأصول الخمسة التي يكفرون من خالفها".(1/242)
وقد تقدم شرح الأصول الخمسة وشرح كلام المعتزلة ، ويقابلهم في هذا القول المرجئة الذين أخذوا بنصوص الوعد.
يقول رحمه الله: "فعارضهم غالية المرجئة بنصوص الوعد، فإنها قد تتناول كثيراً من أهل الكبائر" يعني: أنهم يعتمدون نصوص الوعد؛ مثل قوله صلى الله عليه وسلم: {من قال: لا إله إلا الله دخل الجنة } فإنه يتناول أصحاب الكبائر، ومثل قوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي ذر : {وإن زنى وإن سرق } فردوا عموم الوعيد بعموم الوعد.
يقول: "فهنا اضطرب الناس، فأنكر قوم من المرجئة العموم" وهذا من المذاهب الغريبة، وهو الذي يظهر من مذهب الأشعرية ومن أكثر كلامهم، فقد اضطروا حتى يتخلصوا من هذه القضية إلى أن يقولوا: (العموم مجاز، ولا يوجد عموم في اللغة أصلاً).
منهج أهل السنة في الجمع بين نصوص الوعد والوعيد
من درس: مواقف الفرق من نصوص الوعد والوعيد
يقول: "وقال المقتصدة -ويعني بكلامه هذا أهل الحق-: بل العموم صحيح" العموم حق "والصيغ صيغ عموم"، يعني: قد أنكر أولئك المبتدعة صيغ العموم جميعاً مثل (من، وما، وكل، والنكرة في سياق النفي، وألفاظ العموم جميعاً)، وأثبت أهل السنة العموم ينكروا الصيغ الدالة عليه.
قال: "لكن العام يقبل التخصيص" يعني: أي نص عام يمكن أن يأتي نص يخصصه، فالعموم يبقى، ولكن في حق المعين نأخذ الحكم بشروطه هل تحققت، وبموانعه هل انتفت، ثم نحكم عليه.(1/243)
يقول: "والتحقيق أن يقال: الكتاب والسنة مشتمل على نصوص الوعد والوعيد، كما ذلك مشتمل على نصوص الأمر والنهي، وكل من النصوص يفسر الآخر ويبينه" يعني أنه لا تعارض بين آيات وأحاديث الوعد وبين آيات وأحاديث الوعيد، يقول: "فكما أن نصوص الوعد على الأعمال الصالحة مشروطة بعدم الكفر المحبط" يعني أن من كفر فقد حبط عمله والعياذ بالله، حيث قال الله تعالى: وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ [المائدة:5] قال: "لأن القرآن قد دل على أن من ارتد فقد حبط عمله، فكذلك نصوص الوعيد للكفار والفساق مشروطة بعدم التوبة"، أي: مشروطة بعدم إيمانهم إن كانوا كفاراً، أو توبتهم إن كانوا فساقاً، فهذه مع تلك عمومها باق، ولكن يدخلها التخصيص في حق المعينين.
ثم يقول: "فإن الله قد بين بنصوص معروفة أن الحسنات يذهبن السيئات، وأن من يعمل مثقال ذرة خيراً يره، ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره، وأنه يجيب دعوة الداعي إذا دعاه، وأن مصائب الدنيا تكفر الذنوب، وأنه يقبل شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم في أهل الكبائر، وأنه لا يغفر أن يشرك به، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء، كما بين أن الصدقة يبطلها المن والأذى، وأن الرياء يبطل العمل"، كما جاء في الحديث القدسي يقول الله تعالى: {أنا أغنى الشركاء عن الشرك؛ من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري، تركته وشركه } رواه مسلم .
قال: "وأنه إنما يتقبل الله من المتقين؛ أي في ذلك العمل" قال تعالى: إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ [المائدة:27] يعني: من صلى بإخلاص وتصدق برياء؛ فإن الله يقبل صلاته؛ لأنه كان متقياً فيها، ولا يقبل صدقته منه؛ لأنه راءى فيها؛ فهناك حسنات وموانع لوقوعها، وهناك سيئات وموانع لوقوعها.(1/244)
يقول: "فجعل للسيئات ما يوجب رفع عقابها، كما جعل للحسنات ما يبطل ثوابها"، أي: ما يمنع حصول ثوابها؛ فكما أن الله جعل للسيئات ما يوجب رفع عقابها، فكذلك جعل الله تعالى بنص القرآن والسنة للحسنات ما قد يكون سبباً في عدم حصول ثوابها.
قال: "لكن ليس شيء يبطل جميع السيئات إلا التوبة" حتى لو ارتكب أعظم ذنب وهو الشرك، قال تعالى: فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ [التوبة:11] هذا إذا تاب من الشرك، ولو كان ذلك الذنب قتل النفس -كما مر معنا في حديث الذي قتل المائة- ثم تاب القاتل؛ الله تبارك وتعالى يتوب عليه، فأي ذنب فهو داخل تحت قوله تعالى: إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ [الفرقان:70]؛ فهذه التوبة تمحو جميع السيئات.
قال: "كما أنه ليس شيء يبطل جميع الحسنات إلا الردة"، فهو إن فعل محظوراً أو ترك واجباً، وهو في نفس الوقت يفعل الواجبات الأخرى، ويترك المحظورات الأخرى، فذلك لا يستدعي بطلان جميع العمل ولا قبول جميع العمل.
يقول: " وبهذا يتبين أنَّا نشهد بأن الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا [النساء:10] على الإطلاق والعموم" وبعموم كلام الله لا بد أن نقول وأن نشهد، إذا وعظنا الناس في المساجد، وفي خطب الجمعة، وفي المجالس أو في أي مكان؛ لنزجرهم ونخوفهم من عذاب الله، ونأتي بهذه الآية ونبين أن هذا حكمه وهذا جزاؤه.(1/245)
ثم يقول: "ولا نشهد لمعين أنه في النار"، أي: لا نقول: هذا في النار؛ لأنه أكل مال يتيم؛ فإننا نشهد بالعموم والإطلاق، ولكن لا نشهد في المعين؛ يقول: "لأنا لا نعلم لحوق الوعيد له بعينه" فما عندنا علم فيه بذاته وبعينه؛ "لأن لحوق الوعيد بالمعين مشروط بشروط وانتفاء موانع، ونحن لا نعلم ثبوت الشروط وانتفاء الموانع في حقه".
مفهوم كلامه رحمه الله أننا لو علمنا ثبوت الشروط وانتفاء الموانع أجرينا الحكم عليه في الدنيا، ولكننا مع ذلك لا نعلم حكمه في الآخرة، وهذا هو الذي يجعلنا نعاقب في الدنيا ولا نتكلم عن العقوبة في الآخرة إلا بنص أو على يقين، أما في الدنيا، فإننا نستطيع أن نتأكد في حدود علمنا أن الشرط متحقق وأن المانع منتفٍ، فنجزي عليه العقوبة الدنيوية؛ مع أننا لا نجزم مائة بالمائة أننا على صواب؛ فقد يكون عند الله تعالى غير مذنب، لكن على القاضي أن يحكم ويتحرى؛ فإذا أصاب فله أجران، وإن اجتهد فأخطأ فله أجر.
وقد يقال: ما دمنا لا نجزم بالوعيد في حق المعين، فما فائدته؟
يقول: "وفائدة الوعيد بيان أن هذا الذنب مقتضٍ لهذا العذاب، والسبب قد يقف تأثيره على وجود شرطه وانتفاء مانعه".(1/246)
يعني أننا نقول للناس: من فعل هذا الفعل فهذا حكمه، فإذا أنت وعظت الناس، وذكرتهم بالله عز وجل؛ فقلت لهم: لا تأكلوا أموال اليتامى؛ فإن الله تعالى قال في ذلك: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا [النساء:10] فأنت قد أعذرت وأبلغت، وبينت للناس حكم هذا الذنب، وكل واحد من الحاضرين يرى في نفسه ويعلم أنه فاعل لهذا الذنب؛ فعليه أن يتوب ويستغفر الله ويجتهد في الخير؛ ففي هذه الحالة وجود الوعيد له فائدة عظيمة، ولا يستلزم وعظ الناس أن تعين فلاناً بذاته، وتقول: فلان من أهل النار؛ لأن الله تعالى قال إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا [النساء:10].
يقول: "يبين هذا -يبين الفرق بين العموم والإطلاق وبين المعين- أنه قد ثبت: {أن النبي صلى الله عليه وسلم لعن الخمر، وعاصرها، ومعتصرها، وحاملها، والمحمولة إليه، وشاربها، وساقيها، وبائعها، ومبتاعها، وآكل ثمنها }.
وثبت عنه في صحيح البخاري عن عمر : {أن رجلاً كان يكثر شرب الخمر، فلعنه رجل، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله }".
فالحديث الأول يدل على أن اللعن في العموم حق، وقد صرح به النبي صلى الله عليه وسلم، والحديث الثاني يدل على أن لعن المعين منهي عنه، وكثير من الناس في هذه المسألة على طرفي نقيض؛ فإما أنهم ممن لا يرى ذكر هذه الأمور مطلقاً ويقول: لا نكفر، ولا نفسق، ولا نضلل، وهذا مذهب المرجئة ، وإما أنهم ممن يطلقها على المعينين رأساً بلا تثبت، وهذا منهج الخوارج وطريقهم.(1/247)
ففي الحديث الثاني علل النبي صلى الله عليه وسلم نهيه عن لعن شارب الخمر بقوله: {إنه يحب الله ورسوله } أي أنه وجد في هذا الشخص بعينه مانع يمنع لحوق الوعيد العام به، ولم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم اللعن في العموم؛ لأنه هو الذي قاله وأطلقه؛ فلو أنك سمعت أن رجلاً شرب الخمر، فقلت: لعن الله شاربها وعاصرها ومعتصرها وبائعها ومبتاعها، فما عليك شيء؛ لأنك لم تلعنه هو بعينه؛ بل أطلقت اللعن بعمومه؛ فإن كان هذا الرجل يستحق اللعن شمله اللعن، وإن لم يكن مستحقاً للعن، فأنت حينئذ ما أخطأت وما أثمت، لكن إن قلت: فلان ملعون، فقد يقال: هناك مانع يمنع من إطلاق هذا الحكم.
وربما لو انتفى هذا المانع في حق ذلك الرجل، لسكت النبي صلى الله عليه وسلم وأقر اللاعن له على لعنه، لكن وجد المانع وهو حب الله ورسوله، يقول: "فنهى عن لعن هذا المعين، وهو مدمن خمر؛ لأنه يحب الله ورسوله، وقد لعن شارب الخمر على العموم".
تكفير أهل البدع والأهواء متفرع عن مسألة الأحكام والأسماء
من درس: التكفير وضوابطه (الحلقة التاسعة)
ضوابط أهل السنة في تكفيرهم لأهل البدع والأهواء
ثم يقول: "فصل، إذا ظهرت هذه المقدمات في اسم المؤمن والكافر والفاسق الملّي، وفي حكم الوعد والوعيد، والفرق بين المطلق والمعين، وما وقع في ذلك من الاضطراب؛ فـ(مسألة تكفير أهل البدع والأهواء) متفرعة على هذا الأصل".
فهذه المسألة هي موضوع بحثنا، والتي بناءً عليها ذكر ابن أبي العز رحمه الله حديث الرجل الذي أمر أبناءه، وأوصاهم بحرقه بعد الموت وذر رماده في البحر؛ يبين شيخ الإسلام رحمه الله أن هذه المسألة متفرعة عن هذه القضايا.(1/248)
قال: "ونحن نبدأ بمذهب أئمة السنة فيها قبل التنبيه على الحجة، فنقول: المشهور من مذهب الإمام أحمد وعامة أئمة السنة تكفير الجهمية " وهذا سبق أن قلناه؛ فالمشهور عن أئمة السلف تكفير الجهمية في العموم، قال: "وأما المرجئة فلا تختلف نصوصه أنه لا يكفرهم".
ذكر هنا الجهمية ثم قال بعدها: " أما المرجئة "، فالمقصود بالمرجئة هنا غير الغلاة منهم؛ لأن المرجئة الغلاة -وهم الجهمية- يقولون: إن الإيمان هو المعرفة في القلب فقط، فهؤلاء يدخلون في التكفير في العموم، لكن كلامه هنا في المرجئة غير الغلاة الذين يقولون: لا يدخل العمل في الإيمان، لكنهم يرون أن الأعمال ثمرات للإيمان، وأنه يجب على الإنسان أن يأتي بالعمل، وأنه يثاب ويعاقب على العمل، لكنهم لا يدخلونه في الإيمان، فهذا مذهب المرجئة غير الغلاة الذين يقال لهم: مرجئة أهل السنة أو مرجئة الحنفية، وهذا سيأتي بيانه إن شاء الله.
والمقصود أنه غاير بين المرجئة والجهمية ، فعرفنا أنه يريد من قوله: (المرجئة): غير الغلاة منهم، والإمام أحمد رحمه الله لم يكفر المرجئة ، وكذلك الأئمة.
قال: "وكذلك الشيعة المفضلون لعلي على أبي بكر " الشيعة الذين ليس فيهم من التشيع إلا تفضيل علي على أبي بكر ، هؤلاء أيضاً لم يكفرهم السلف ، ولم يخرجوهم من الملة في الجملة.
قال: "وأما القدرية المقرّون بالعلم" إنما قال المقرون بالعلم؛ لأن من نفى العلم فهو كافر.
"والروافض الذين ليسوا من فرقة الغالية " يعني بهم الذين لم يقتصروا على تفضيل علي على أبي بكر ، بل تعدوا ذلك إلى سب الصحابة، لكنهم لم يؤلهوا علياً ولا أهل بيته.(1/249)
يقول: " وأما القدرية المقرون بالعلم والروافض الذين ليسوا من الغالية والجهمية والخوارج " فيذكر عنه -يعني الإمام أحمد رحمه الله- في تكفيرهم روايتان، هذا حقيقة قوله المطلق، مع أن الغالب عليه التوقف عن تكفير القدرية المقرين بالعلم، والخوارج ، مع قوله: ما أعلم قوماً شراً من الخوارج ".
قد ذكر الإمام أحمد حديث النبي صلى الله عليه وسلم في الخوارج فقال: "صح الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في الخوارج من عشرة أوجه".
ثم قال: "ما أعلم قوماً شراً من الخوارج "، لكنه لم يكفرهم؛ بل توقف في تكفيرهم وفي تكفير من أنكر القدر وهو مقر بالعلم، أما من أنكر العلم فهو كافر لا شك في ذلك.
فهناك مراتب عند الإمام أحمد في هؤلاء؛ حيث صنفهم إلى قوم لم يتردد في أنهم يكفرون، وقوم لم يتردد في أنهم لا يكفرون، وقوم توقف في أمرهم، أو وردت عنه روايات متعارضة بشأنهم، وهذا من عدل أهل السنة والجماعة ؛ حيث إنهم لا يعممون الأحكام على الناس، وإنما كل بحسبه، وهذا من الميزان الذي أمر الله تعالى به.
ثم يبين شيخ الإسلام أن الناس اختلفوا في فهم كلام الإمام أحمد رحمه الله، وفي فهم كلام الإمام الشافعي وأمثالهم، يقول: "وسبب هذا التنازع تعارض الأدلة".
ثم يقول: "وحقيقة الأمر أنهم أصابهم في ألفاظ العموم في كلام الأئمة ما أصاب الأولين في ألفاظ العموم في نصوص الشارع" يعني أنهم كما اختلفوا في آيات الوعيد وأحاديث الوعيد، فكذلك اختلفوا في كلام الأئمة، فمنهم من جعله في المعينين، ومنهم من نفاه بإطلاق.
قال: "ولم يتدبروا أن التكفير له شروط وموانع قد تنتفي في حق المعين، وأن تكفير المطلق لا يستلزم تكفير المعين إلا إذا وجدت الشروط وانتفت الموانع، يبين هذا أن الإمام أحمد وعامة الأئمة الذين أطلقوا هذه العمومات لم يكفروا أكثر من تكلم بهذا الكلام بعينه".(1/250)
إذاً: لا تناقض في كلام الإمام أحمد ؛ إذ أنه يكفر من قال: إن القرآن مخلوق، وفي نفس الوقت حين يسأل عن فلان يقول: كان مرجئاً -مثلاً- أو كان جهمياً أو كان كذا، أي أنه يجرحه جرحاً دون الكفر، ولو كان مرتداً لصرح بذلك واكتفى به، فإن الكافر لا يقبل حديثه مطلقاً.
قال: "فإن الإمام أحمد -مثلاً- قد باشر الجهمية الذين دعوه إلى خلق القرآن ونفي الصفات، وامتحنوه وسائر علماء وقته، وفتنوا المؤمنين والمؤمنات" ثم ذكر شيخ الإسلام رحمه الله أنهم فعلوا الأفاعيل حتى إنه كان لا يعين في أي منصب إلا من نادى بمذهبهم الخبيث، وأعلن أنه عليه، وأنه معارض لمذهب السلف .
يقول: "ومعلوم أن هذا من أغلظ التجهم؛ فإن الدعاء إلى المقالة أعظم من قولها، وإثابة قائلها وعقوبة تاركها أعظم من مجرد الدعاء إليها، والعقوبة بالقتل لقائلها أعظم من العقوبة بالضرب" فهم لم يتوقفوا عند مجرد الدعاء إليها، بل استخدموا السلطة لذلك، فكانوا يعطون المناصب لمن قال بقولهم في هذه البدعة التي هي كفر، ويعاقبون من لم يقل بها.
يقول: "ثم إن الإمام أحمد دعا للخليفة -يعني: المعتصم الذي عذبه- وغيره ممن ضربه وحبسه، واستغفر لهم، وحللهم مما فعلوه به من الظلم والدعاء إلى القول الذي هو كفر" فالإمام أحمد بالرغم من قوله: إن قولهم كفر، فإنه حين سئل عن المعتصم ، دعا له وعفا عنه لقرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهذا هو منهج أهل السنة ، يظهرون الحق ويدافعون عنه، ويستميتون في سبيله، ومع ذلك لا يحملون غلاً ولا حقداً على أحد؛ بل الأصل عندهم الرحمة والتجاوز والتسامح.(1/251)
وكذلك كان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، فقد سجن وأوذي وعذب، ولما أظهره الله على من فعل به ذلك، وطلب منه السلطان معاقبتهم بمثل ما عاقبوه به -تصديقاً لكلام الله سبحانه وتعالى: وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا [الشورى:40].. وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ [النحل:126]- عفا عنهم، وهذا هو خلق أهل السنة ؛ يعملون بالإحسان مع أنه بإمكانهم أن يعاملوا خصومهم بالعدل.
يقول: "ولو كانوا مرتدين عن الإسلام لم يجز الاستغفار لهم -قطعاً- فإن الاستغفار للكفار لا يجوز بالكتاب والسنة والإجماع".
وهذا معلوم، قال تعالى: مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى [التوبة:113] يقول: "وهذه الأقوال والأعمال منه -أي من الإمام أحمد رحمه الله- ومن غيره من الأئمة صريحة في أنهم لم يكفروا المعينين من الجهمية الذين كانوا يقولون: القرآن مخلوق، وإن الله لا يرى في الآخرة، وقد نقل عن أحمد ما يدل على أنه كفر قوماً معينين".
فقد نقل عن أحمد من طريق تلاميذه الثقات أنه كفر معينين، وهذا الذي نريد أن نفهمه؛ فإن المسألة ليست على إطلاقها في أنه لا يَكْفُر من هؤلاء أحد؛ بل هناك من يَكْفُر من هؤلاء المعينين؛ كذلك لابد من إطلاق القول العام بالتكفير في غير المعين.
يقول: "فإما أن يذكر عنه في المسألة روايتان، ففيه نظر، أو يحمل الأمر على التفصيل، فيقال: من كفر بعينه؛ فلقيام الدليل على أنه وجدت فيه شروط التكفير، وانتفت موانعه، ومن لم يكفره بعينه؛ فلانتفاء ذلك في حقه".
أي أنه قد يقال: إن الإمام أحمد روي عنه روايتان، أنه كفر فلاناً أو ما كفره، فهذا جائز أن يقع، لكنه احتمال ضعيف، والأولى التفصيل "فيقال: من كفر بعينه فلقيام الدليل على أنه وجدت فيه شروط التكفير وانتفت موانعه".(1/252)
أي أن من كفره الإمام أحمد رحمه الله بعينه، فمعنى ذلك أنه قد قام عنده الدليل على تحقق شروط التكفير فيه وانتفاء الموانع. "ومن لم يكفره بعينه، فلأن ذلك منتفٍ في حقه، هذا مع إطلاق قوله بالتكفير على سبيل العموم".
إذاً: لا تعارض، فهو يقولها على سبيل العموم، وأما في الأعيان فيتحرى، فمن ثبتت فيه الشروط، وانتفت عنه الموانع، أطلق الحكم بتكفيره، ومن لم يكن كذلك، لم يطلق ذلك في حقه.
ثم ذكر الأدلة على ذلك من الكتاب والسنة والإجماع والاعتبار؛ فمن أدلة الكتاب على أن الإنسان لا يؤاخذ بالتأويل والخطأ ما لم يتعمد: قوله تعالى: وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ [الأحزاب:5]... وقوله تعالى: رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا [البقرة:286].
وقد ثبت في الصحيح عن النبي: {أن الله تعالى قال: قد فعلت } لما دعا النبي والمؤمنون بهذا الدعاء.
قال: "وأيضاً قد ثبت في الصحيح من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {إن رجلاً لم يعمل خيراً قط }" وذكر الحديث، ثم قال: "وهذا الحديث متواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه متعددة يعلم أهل الحديث أنها تفيدهم العلم اليقيني" أي: يعلم ذلك المشتغلون بهذا الفن، الذين يؤمنون بالكتاب والسنة، والذين يأخذون الأدلة منها، وأما أهل الكلام فيردون الحديث ولو بلغ مائة طريق؛ لأنهم ليسوا من أهل هذا الفن، ولا من أهل هذا الشأن، ولا يريدون أن يؤمنوا بما يرونه مخالفاً لعقولهم أصلاً، قال: "وإن لم يحصل ذلك لغيرهم ممن لم يشركهم في أسباب العلم، فهذا الرجل كان قد وقع له الشك والجهل في قدرة الله".
قال: "وأيضاً قد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: {أن الله يخرج من النار من كان في قلبه مثقال دينار من إيمان }" إلى آخره، وذكر أدلة أخرى.
الخطأ في التكفير عند السلف وما يترتب على ذلك(1/253)
قال: "وأيضاً فإن السلف أخطأ كثير منهم في كثير من هذه المسائل" فهو هنا يستدل على وقوع الخطأ من السلف على عدم التكفير، فلو أن قائلاً قال قولاً بدعياً وهو كفر، فإننا نتأكد في حقه من وجود الشروط وانتفاء الموانع، أما الذي يخطئ فيوافقه دون أن يقصد ذلك، فهذا أقل درجة منه ولا شك.
وشيخ الإسلام رحمه الله يستدل على عدم إطلاق التكفير أو التعجل في إطلاقه بأن كثيراً من السلف أخطئوا في بعض المسائل، قال: "واتفقوا على عدم التكفير بذلك" ومن القضايا التي خاض فيها الصحابة موضوع المعراج يقظة، ورؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه في ليلة الإسراء، والكلام في الخلافة.
يقول: "وكذلك لبعضهم في قتال بعض، ولعن بعض، وإطلاق تكفير بعض أقوال معروفة" ويذكر بعض الأمثلة على ذلك فيقول: "وكان القاضي شريح ينكر قراءة من قرأ: (بل عجبتُ) ويقول: إن الله لا يعجب، فبلغ ذلك إبراهيم النخعي فقال: إنما شريح شاعر يعجبه علمه.. كان عبد الله أفقه منه" يعني ابن مسعود ، وهو شيخ الاثنين "كان عبد الله أفقه منه، فكان يقول: (بل عجبتُ).. فهذا قد أنكر قراءة ثابتة، وأنكر صفة دل عليها الكتاب والسنة".
حين أنكر شريح (بل عجبتُ) فإنه قد ترتب على ذلك أمران:
أولاً: أنه أنكر أولاً قراءة ثابتة. ثانياً: أنه أنكر صفة من صفات الله الثابتة والتي دل عليها الكتاب والسنة، وهي صفة التعجب أو العجب، ومع ذلك يقول: "واتفقت الأمة على أنه إمام من الأئمة" ولم يكفروه لأنه لم ينكرها على سبيل الرد والجحود؛ كما فعلت الجهمية .
قال: "وكذلك أنكر بعض السلف بعض حروف القرآن مثل إنكار بعضهم قوله: أَفَلَمْ يَيْئَسِ الَّذِينَ آمَنُوا [الرعد:31]، وقال: إنما هي: أولم يتبين الذين آمنوا - وإنكار الآخر قراءة قوله: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ [الإسراء:23] وقال: إنما هي: ووصى ربك"، وقد تقدم معنا ذلك بالتفصيل في موضوع الخلاف في القراءات.(1/254)
قال: "وأيضاً فإن الكتاب والسنة قد دلا على أن الله لا يعذب أحداً إلا بعد إبلاغ الرسالة، فمن لم تبلغه جملة" يعني: لم يبلغه شيء من الدين جملة "لم يعذبه رأساً" أي: لا يعذب أيضاً جملة.
"ومن بلغته جملة دون بعض التفصيل لم يعذبه إلا على إنكار ما قامت عليه الحجة الرسالية"، فيحاسب على الجملة التي بلغته، لكن لا يعذب ولا يحاسب على التفصيل الذي لم يبلغه، وهذا من عدل الله سبحانه وتعالى، وذكر رحمه الله بعد ذلك الأدلة على ذلك.
مواضع إطلاق التكفير العام
ومن ثم يقول: "هذا الكلام يمهد أصلين عظيمين:
أحدهما: أن العلم والإيمان والهدى فيما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن خلاف ذلك كفر على الإطلاق، فنفي الصفات كفر، والتكذيب بأن الله يرى في الآخرة، أو أنه على العرش، أو أن القرآن كلامه، أو أنه كلم موسى، أو أنه اتخذ إبراهيم خليلاً كفر، وكذلك ما كان في معنى ذلك" أي: ما كان فيه جحد أو إنكار لأصل من أصول العقيدة والإيمان أو من أصول الأحكام العملية التي دل عليها الكتاب والسنة.
وهنا فائدة وهي: أن الأصول تطلق على ما يتعلق بالعقيدة، ويقابلها الفروع، وهي الأحكام العملية، ولكن ليس هذا هو المراد هنا، إنما المراد بالأصول هنا: أصول العقائد من جهة، وأصول الأحكام العملية من جهة أخرى.
فمثلاً: وجوب الصلاة، وتحريم الزنا، وتحريم الخمر، هي من أصول الأحكام.
وقد يعبر عنها أحياناً بقولهم: هي المعلوم من الدين بالضرورة، فهذه الأصول جميعاً -أصول العقائد وأصول الأحكام- نحكم على من لم يؤمن بها بأنه كافر في الجملة وفي الإطلاق وفي العموم.
قال: "والأصل الثاني أن التكفير العام -كالوعيد العام- يجب القول بإطلاقه وعمومه". فالتكفير أو ما كان دونه كالوعيد العام يطلق كما جاء في الكتاب والسنة.
التوقف في مصير المعين في الآخرة وعلاقته بإقامة الحد عليه في الدنيا(1/255)
قال: "وأما الحكم على المعين بأنه كافر، أو مشهود له بالنار، فهذا يقف على الدليل المعين، فإن الحكم يقف على ثبوت شروطه وانتفاء موانعه". ثم بدأ شيخ الإسلام في تفصيل موضوع العقوبة، قال: "لكن هذا التوقف في أمر الآخرة -أننا لا نشهد بالجنة أو النار- لا يمنع أن نؤاخذه في الدنيا وأن نعاقبه لمنع بدعته، وأن نستتيبه، فإن تاب وإلا قتلناه".
إذاً: نحن نعاقب المبتدع لنمنعه عن بدعته؛ وذلك لأننا نفرق بين وقوع العقوبة وبين ارتباط ذلك بصلاح الإنسان أو فساده، وأنه غير مقبول عند الله، أو بمعنى آخر: نفرق بين وقوع العقوبة في الدنيا ووقوعها في الآخرة، أما في الآخرة، فهو تبارك وتعالى الذي يتولى الجزاء، ولا ارتباط بين هذا وذاك.
يقول: "ومما ينبغي أن يعلم في هذا الموضع أن الشريعة قد تأمرنا بإقامة الحد على شخص في الدنيا؛ إما بقتل أو جلد أو غير ذلك، ويكون في الآخرة غير معذب، مثل: قتال البغاة والمتأولين، مع بقائهم على العدالة".
هناك فرق بين قتال الخوارج وقطاع الطرق وبين قتال المتأولين؛ فالخوارج يُقَاتَلُون لأنهم على البدعة، وقطاع الطريق الذين يسمون المحاربين يُقَاتَلُون لأنهم مفسدون في الأرض؛ أخذاً من قوله تعالى: إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا [المائدة:33].(1/256)
أما المتأول، فهو الذي يظن أنه على الحق، واجتهاده أدى به إلى أن هذا هو الحق، فخرج به على جماعة المسلمين بأحد المعنيين؛ إما على الجماعة بمعنى الحق، أو على الجماعة بمعنى الإمام وأهل الحل والعقد الذين معه، فهذا اجتهاده، وقد يكون معذوراً؛ لكنه يقاتل حتى لا ينتشر خطؤه ولو أن أحداً استحل شيئاً مما حرم الله، أو ابتدع شيئاً في الدين، وإن كان يريد الحق، ولكنه لم يفهم الأدلة، وتأولها على غير وجهها ولم يقصد إلا الخير، لكنه أخطأ، فإذا تركناه تديَّن الناس بما هو عليه من الخطأ، ومن البدعة والضلال، وإن قاتلناه، قالوا: كيف تقاتلونه وهذا اجتهاده وهو عند الله معذور؟! فنقول: حكمه في الآخرة شيء آخر، أما في الدنيا فإننا نقاتله؛ لأن هناك فرقاً بين عقوبة الدنيا وعقوبة الآخرة.
وأوضح مثال على ذلك ما أورده شيخ الإسلام في قوله: "ومثل إقامة الحد على من تاب بعد القدرة عليه توبة صحيحة، فإنا نقيم الحد عليه مع ذلك، كما أقامه النبي صلى الله عليه وسلم على ماعز بن مالك والغامدية مع قوله: {لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لغفر له }، ومثل إقامة الحد على من شرب النبيذ المتنازع فيه متأولاً، مع العلم بأنه باقٍ على العدالة".
يعني: إذا قال شارب النبيذ: أنا على مذهب أهل العراق ، والنبيذ عندي جائز، نقول: نحن بالنسبة لمذهبنا -وهو الراجح وعليه السلف - نجلد في شرب النبيذ، لكننا لا نحكم على شارب النبيذ بأنه منزوع العدالة كشارب الخمر؛ لأنه ما شربها لهوى أو لشهوة؛ إنما اتبع مذهبه، لكن لأننا نرى أن هذا المذهب مرجوح؛ لا نقول له: اشرب كما تريد؛ لأنه لو فعل ذلك وأقر عليه، لشرب الناس الخمر باسم النبيذ؛ ولذلك فإننا نمنعه ونعاقبه ونقول: هو غير آثم إذا كان هذا اجتهاده .. ونحن حين نعاقبه لا يلزم من معاقبتنا له أنه آثم، كما لا يلزم عكس ذلك.
يقول: "بخلاف من لا تأويل له" هذا سيأتي شرحه إن شاء الله.(1/257)
يقول: "وكذلك نعلم أن خلقاً لا يعاقبون في الدنيا مع أنهم كفار في الآخرة"، وهذا حاصل، كحال المنافقين مع النبي صلى الله عليه وسلم حين جاءوا يحلفون بالله أنهم كانوا من المعذورين في غزوة تبوك، ليرضى عنهم النبي صلى الله عليه وسلم؛ قال تعالى:يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ [التوبة:96] وقال تعالى: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ [النور:53] يحلفون ويقسمون الأيمان للنبي صلى الله عليه وسلم إن خرجت مرة أخرى لنجاهدن معك قُلْ لا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ [النور:53] أي أنه قد عرف من شأنهم أنهم في كل مرة يحلفون ويكذبون، والله تعالى يطلع المؤمنين على أحوالهم من عنده، وأيضاً المؤمنون يعرفونهم بلحن القول.
فكثير من الناس تعلم أنه منافق، ورغم ذلك لا تقدر أن تعاقبه بشيء في الدنيا.
ومع أنك قد اجتمعت لديك قرائن وأدلة معينة تجعلك تعتقد أنه منافق، إلا أنك تكل أمره إلى الله.
وكحال المنافقين -في كف العقوبة عنهم في الدنيا مع اعتقاد أنهم معاقبون في الآخرة- حال أهل الذمة، من النصارى الذين يعتقدون أن الله ثالث ثلاثة -تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً- ويذهبون إلى الكنائس، ولا يؤمنون بالقرآن، ويكذبون بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، ويشربون الخمر، ويأكلون الخنزير؛ يقترفون كل هذه الأمور؛ ومع ذلك فإن الله أمرنا أن نقرهم على دينهم بالشروط العمرية، وهي شروط أهل الذمة.
فنحن نعلم أنهم على الكفر، وأنهم لا يحلون ما أحل الله ورسوله، ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله، ويعتقدون هذا الكفر، ومع ذلك نقرهم؛ فهناك فرق بين أحكام الدنيا وبين أحكام الآخرة؛ نقرهم في الدنيا ونحن نعلم ونعتقد أنهم معاقبون عند الله على هذا الكفر، وأن مصيرهم ومآلهم إلى النار.
يقول رحمه الله: "وهذا لأن الجزاء في الحقيقة إنما هو في الدار الآخرة".(1/258)
السبب في كف العقوبات عن أهل الذمة وعن المنافقين وإجرائها على التائبين والمتأولين أن الجزاء الحقيقي يكون في الدار الآخرة، فنحن إنما أمرنا أن نقيم حدود الله بما استطعنا.
يقول: "التي هي دار الثواب والعقاب، وأما الدنيا، فإنما يشرع فيها من العقاب ما يدفع به الظلم والعدوان".
ولذلك لم تكن غاية قتالنا لهم أن يؤمنوا بقلوبهم، فنحن لن نعلم ذلك؛ وإنما غاية قتالنا لهم ألا يفتن مؤمن؛ كما قال تعالى: وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ [البقرة:193] فبعد ذلك: لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ [البقرة:256].
فنحن نقاتل حتى يعلم الناس الحق، وحتى يصل إليهم الحق، وحتى لا يوجد في الدنيا من يفتن الناس عن الحق بالشبهات أو الشهوات.
قتل الداعي إلى البدعة بغض النظر عن تكفيره
يقول رحمه الله: "وإذا كان الأمر كذلك، فعقوبة الدنيا غير مستلزمة لعقوبة الآخرة، ولا بالعكس، ولهذا أكثر السلف يأمرون بقتل الداعي بالبدعة الذي يضل الناس لأجل إفساده الدين، سواء قالوا: هو كافر أو ليس بكافر".
انظروا فقه السلف وفهم السلف ؛ لم يتجادلوا كثيراً في الجعد هل هو كافر أو ليس بكافر.. أما نحن الآن -مع الأسف- فتجد أكثر خلافنا هل فلان كافر أم ليس بكافر.(1/259)
لقد كان السلف الصالح رضي الله عنهم يعلمون أن أمور العباد إلى الله، وحقيقة العقوبة إنما هي في الآخرة، لكن إن وجد في الدنيا رجل ابتدع بدعة تفسد الدين، وجب أن يقتل؛ فأجمعوا على هذا القدر، ومنهم من أطلق الكفر، ومنهم من لم يطلقه، والمقصود أنهم لم يتجادلوا، بل القضية والنظر الأساسي عند السلف هو أن من كان في وجوده أو في بقائه خطر على الدين، وفي قتله مصلحة للدين، فإنه يقتل، أما كونه قتل كافراً أو غير ذلك، فذلك أمر ثانوي، فقد كان نظرهم إلى أصل القضية، ولذلك لا يمنع أننا قد نعذر أحداً من الناس، لكن لا يعني ذلك أننا لا نعاقبه، بل قد نعاقبه في الدنيا، ونحن نعلم أنه معذور، ونعلم أنه غير مؤاخذ عند الله سبحانه وتعالى حسب ما يظهر لنا من نيته ومن عمله.
قال: "وإذا عرف هذا، فتكفير المعين من هؤلاء الجهال وأمثالهم -بحيث يحكم عليه بأنه من الكفار- لا يجوز الإقدام عليه إلا بعد أن تقوم على أحدهم الحجة الرسالية التي يتبين بها أنهم مخالفون للرسل، وإن كانت هذه المقالة لا ريب أنها كفر.
وهذا الكلام في تكفير جميع المعينين، مع أن بعض هذه البدع أشد من بعض، وبعض المبتدعة يكون فيه من الإيمان ما ليس في بعض، فليس لأحد أن يكفر أحداً من المسلمين وإن أخطأ وغلط حتى تقام عليه الحجة، وتبين له المحجة.
ومن ثبت إيمانه بيقين لم يزل ذلك عنه بالشك، بل لا يزول إلا بعد إقامة الحجة، وإزالة الشبهة".
يقول رحمه الله: "وهذا الجواب لا يحتمل أكثر من هذا، والله المسئول أن يوفقنا وسائر إخواننا لما يحبه ويرضاه، والله سبحانه أعلم".
وهذا الفصل الطويل في المجلد الثاني عشر مجموع الفتاوى من صفحة (479-501) يوضح ويجلي هذه المسألة.
ومن أهم النقاط التي نحب أن نركز عليها أن المبتدع يجوز أن يقتل تعزيراً ولو لم نحكم بردته؛ لأن هناك مع الأسف من يثير هذه المسألة ويقول: (لا يقتل) بناءً على حرية الفكر، وأن الإسلام أتى بحرية الرأي.(1/260)
فنقول: نعم الإسلام جاء بحرية الاجتهاد؛ فيجوز أن يجتهد الإنسان في ضوء الأدلة والنصوص، لكن الاجتهاد قد يكون خطأً، وقد يكون المجتهد مأجوراً عليه عند الله، ولكنه في الدنيا يعاقب.
وغاية ما عندهم أن يقولوا: إن هذا الرجل وقع في البدعة عن اجتهاد، فنقول: إن كان مجتهداً مخطئاً، فذلك يجعله غير معاقب عند الله، لكن نحن في الدنيا لابد أن نقيم الحد عليه وأن نعاقبه.
فمن أنكر شيئاً من أصول العقائد والأحكام، ومن قال: إن القرآن مخلوق، ومن قال: إن الله لا يرى في الآخرة، ومن أنكر القدر، ومن سب الصحابة رضوان الله تعالى عليهم أو كفرهم، أو أتى بأي بدعة من هذه البدع، فإنه يقتل تعزيراً دفعاً لبدعته بغض النظر عن الكفر وعدمه؛ يقتل من جهة النظر إلى مصلحة الدين واستقامة المسلمين.
وعلى هذا قتل الجعد بن درهم ، وقتل غيلان الدمشقي لما أنكر القدر، وكثير غيره من أهل البدع، ثم جاء الحلاج وأمثاله، فأجمعت الأمة على قتلهم.
وهذا أصل أحببناً أن ننبه عليه؛ لأنه يوجد الآن من يحاول أن ينكره، ويقول: كل هؤلاء ما قتلوا إلا لأغراض سياسية، فلو كانت أغراضاً سياسية من الحكام، فهل حين كفرهم العلماء أو استحسنوا قتلهم -هل كان ذلك لأغراض سياسية؟!
إن هؤلاء السلف أو علماء الأمة حين رضوا بقتلهم وأثنوا على فاعله جعلوا ذلك من باب العقوبة الشرعية، والله تبارك وتعالى أعلم بالنيات، والظاهر من حال من قتلهم أنه إنما قتلهم من أجل المصلحة الدينية.
ضوابط أهل السنة في تكفيرهم لأهل البدع والأهواء
من درس: تكفير أهل البدع والأهواء متفرع عن مسألة الأحكام والأسماء
ثم يقول: "فصل، إذا ظهرت هذه المقدمات في اسم المؤمن والكافر والفاسق الملّي، وفي حكم الوعد والوعيد، والفرق بين المطلق والمعين، وما وقع في ذلك من الاضطراب؛ فـ(مسألة تكفير أهل البدع والأهواء) متفرعة على هذا الأصل".(1/261)
فهذه المسألة هي موضوع بحثنا، والتي بناءً عليها ذكر ابن أبي العز رحمه الله حديث الرجل الذي أمر أبناءه، وأوصاهم بحرقه بعد الموت وذر رماده في البحر؛ يبين شيخ الإسلام رحمه الله أن هذه المسألة متفرعة عن هذه القضايا.
قال: "ونحن نبدأ بمذهب أئمة السنة فيها قبل التنبيه على الحجة، فنقول: المشهور من مذهب الإمام أحمد وعامة أئمة السنة تكفير الجهمية " وهذا سبق أن قلناه؛ فالمشهور عن أئمة السلف تكفير الجهمية في العموم، قال: "وأما المرجئة فلا تختلف نصوصه أنه لا يكفرهم".
ذكر هنا الجهمية ثم قال بعدها: " أما المرجئة "، فالمقصود بالمرجئة هنا غير الغلاة منهم؛ لأن المرجئة الغلاة -وهم الجهمية- يقولون: إن الإيمان هو المعرفة في القلب فقط، فهؤلاء يدخلون في التكفير في العموم، لكن كلامه هنا في المرجئة غير الغلاة الذين يقولون: لا يدخل العمل في الإيمان، لكنهم يرون أن الأعمال ثمرات للإيمان، وأنه يجب على الإنسان أن يأتي بالعمل، وأنه يثاب ويعاقب على العمل، لكنهم لا يدخلونه في الإيمان، فهذا مذهب المرجئة غير الغلاة الذين يقال لهم: مرجئة أهل السنة أو مرجئة الحنفية، وهذا سيأتي بيانه إن شاء الله.
والمقصود أنه غاير بين المرجئة والجهمية ، فعرفنا أنه يريد من قوله: (المرجئة): غير الغلاة منهم، والإمام أحمد رحمه الله لم يكفر المرجئة ، وكذلك الأئمة.
قال: "وكذلك الشيعة المفضلون لعلي على أبي بكر " الشيعة الذين ليس فيهم من التشيع إلا تفضيل علي على أبي بكر ، هؤلاء أيضاً لم يكفرهم السلف ، ولم يخرجوهم من الملة في الجملة.
قال: "وأما القدرية المقرّون بالعلم" إنما قال المقرون بالعلم؛ لأن من نفى العلم فهو كافر.
"والروافض الذين ليسوا من فرقة الغالية " يعني بهم الذين لم يقتصروا على تفضيل علي على أبي بكر ، بل تعدوا ذلك إلى سب الصحابة، لكنهم لم يؤلهوا علياً ولا أهل بيته.(1/262)
يقول: " وأما القدرية المقرون بالعلم والروافض الذين ليسوا من الغالية والجهمية والخوارج " فيذكر عنه -يعني الإمام أحمد رحمه الله- في تكفيرهم روايتان، هذا حقيقة قوله المطلق، مع أن الغالب عليه التوقف عن تكفير القدرية المقرين بالعلم، والخوارج ، مع قوله: ما أعلم قوماً شراً من الخوارج ".
قد ذكر الإمام أحمد حديث النبي صلى الله عليه وسلم في الخوارج فقال: "صح الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في الخوارج من عشرة أوجه".
ثم قال: "ما أعلم قوماً شراً من الخوارج "، لكنه لم يكفرهم؛ بل توقف في تكفيرهم وفي تكفير من أنكر القدر وهو مقر بالعلم، أما من أنكر العلم فهو كافر لا شك في ذلك.
فهناك مراتب عند الإمام أحمد في هؤلاء؛ حيث صنفهم إلى قوم لم يتردد في أنهم يكفرون، وقوم لم يتردد في أنهم لا يكفرون، وقوم توقف في أمرهم، أو وردت عنه روايات متعارضة بشأنهم، وهذا من عدل أهل السنة والجماعة ؛ حيث إنهم لا يعممون الأحكام على الناس، وإنما كل بحسبه، وهذا من الميزان الذي أمر الله تعالى به.
ثم يبين شيخ الإسلام أن الناس اختلفوا في فهم كلام الإمام أحمد رحمه الله، وفي فهم كلام الإمام الشافعي وأمثالهم، يقول: "وسبب هذا التنازع تعارض الأدلة".
ثم يقول: "وحقيقة الأمر أنهم أصابهم في ألفاظ العموم في كلام الأئمة ما أصاب الأولين في ألفاظ العموم في نصوص الشارع" يعني أنهم كما اختلفوا في آيات الوعيد وأحاديث الوعيد، فكذلك اختلفوا في كلام الأئمة، فمنهم من جعله في المعينين، ومنهم من نفاه بإطلاق.
قال: "ولم يتدبروا أن التكفير له شروط وموانع قد تنتفي في حق المعين، وأن تكفير المطلق لا يستلزم تكفير المعين إلا إذا وجدت الشروط وانتفت الموانع، يبين هذا أن الإمام أحمد وعامة الأئمة الذين أطلقوا هذه العمومات لم يكفروا أكثر من تكلم بهذا الكلام بعينه".(1/263)
إذاً: لا تناقض في كلام الإمام أحمد ؛ إذ أنه يكفر من قال: إن القرآن مخلوق، وفي نفس الوقت حين يسأل عن فلان يقول: كان مرجئاً -مثلاً- أو كان جهمياً أو كان كذا، أي أنه يجرحه جرحاً دون الكفر، ولو كان مرتداً لصرح بذلك واكتفى به، فإن الكافر لا يقبل حديثه مطلقاً.
قال: "فإن الإمام أحمد -مثلاً- قد باشر الجهمية الذين دعوه إلى خلق القرآن ونفي الصفات، وامتحنوه وسائر علماء وقته، وفتنوا المؤمنين والمؤمنات" ثم ذكر شيخ الإسلام رحمه الله أنهم فعلوا الأفاعيل حتى إنه كان لا يعين في أي منصب إلا من نادى بمذهبهم الخبيث، وأعلن أنه عليه، وأنه معارض لمذهب السلف .
يقول: "ومعلوم أن هذا من أغلظ التجهم؛ فإن الدعاء إلى المقالة أعظم من قولها، وإثابة قائلها وعقوبة تاركها أعظم من مجرد الدعاء إليها، والعقوبة بالقتل لقائلها أعظم من العقوبة بالضرب" فهم لم يتوقفوا عند مجرد الدعاء إليها، بل استخدموا السلطة لذلك، فكانوا يعطون المناصب لمن قال بقولهم في هذه البدعة التي هي كفر، ويعاقبون من لم يقل بها.
يقول: "ثم إن الإمام أحمد دعا للخليفة -يعني: المعتصم الذي عذبه- وغيره ممن ضربه وحبسه، واستغفر لهم، وحللهم مما فعلوه به من الظلم والدعاء إلى القول الذي هو كفر" فالإمام أحمد بالرغم من قوله: إن قولهم كفر، فإنه حين سئل عن المعتصم ، دعا له وعفا عنه لقرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهذا هو منهج أهل السنة ، يظهرون الحق ويدافعون عنه، ويستميتون في سبيله، ومع ذلك لا يحملون غلاً ولا حقداً على أحد؛ بل الأصل عندهم الرحمة والتجاوز والتسامح.(1/264)
وكذلك كان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، فقد سجن وأوذي وعذب، ولما أظهره الله على من فعل به ذلك، وطلب منه السلطان معاقبتهم بمثل ما عاقبوه به -تصديقاً لكلام الله سبحانه وتعالى: وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا [الشورى:40].. وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ [النحل:126]- عفا عنهم، وهذا هو خلق أهل السنة ؛ يعملون بالإحسان مع أنه بإمكانهم أن يعاملوا خصومهم بالعدل.
يقول: "ولو كانوا مرتدين عن الإسلام لم يجز الاستغفار لهم -قطعاً- فإن الاستغفار للكفار لا يجوز بالكتاب والسنة والإجماع".
وهذا معلوم، قال تعالى: مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى [التوبة:113] يقول: "وهذه الأقوال والأعمال منه -أي من الإمام أحمد رحمه الله- ومن غيره من الأئمة صريحة في أنهم لم يكفروا المعينين من الجهمية الذين كانوا يقولون: القرآن مخلوق، وإن الله لا يرى في الآخرة، وقد نقل عن أحمد ما يدل على أنه كفر قوماً معينين".
فقد نقل عن أحمد من طريق تلاميذه الثقات أنه كفر معينين، وهذا الذي نريد أن نفهمه؛ فإن المسألة ليست على إطلاقها في أنه لا يَكْفُر من هؤلاء أحد؛ بل هناك من يَكْفُر من هؤلاء المعينين؛ كذلك لابد من إطلاق القول العام بالتكفير في غير المعين.
يقول: "فإما أن يذكر عنه في المسألة روايتان، ففيه نظر، أو يحمل الأمر على التفصيل، فيقال: من كفر بعينه؛ فلقيام الدليل على أنه وجدت فيه شروط التكفير، وانتفت موانعه، ومن لم يكفره بعينه؛ فلانتفاء ذلك في حقه".
أي أنه قد يقال: إن الإمام أحمد روي عنه روايتان، أنه كفر فلاناً أو ما كفره، فهذا جائز أن يقع، لكنه احتمال ضعيف، والأولى التفصيل "فيقال: من كفر بعينه فلقيام الدليل على أنه وجدت فيه شروط التكفير وانتفت موانعه".(1/265)
أي أن من كفره الإمام أحمد رحمه الله بعينه، فمعنى ذلك أنه قد قام عنده الدليل على تحقق شروط التكفير فيه وانتفاء الموانع. "ومن لم يكفره بعينه، فلأن ذلك منتفٍ في حقه، هذا مع إطلاق قوله بالتكفير على سبيل العموم".
إذاً: لا تعارض، فهو يقولها على سبيل العموم، وأما في الأعيان فيتحرى، فمن ثبتت فيه الشروط، وانتفت عنه الموانع، أطلق الحكم بتكفيره، ومن لم يكن كذلك، لم يطلق ذلك في حقه.
ثم ذكر الأدلة على ذلك من الكتاب والسنة والإجماع والاعتبار؛ فمن أدلة الكتاب على أن الإنسان لا يؤاخذ بالتأويل والخطأ ما لم يتعمد: قوله تعالى: وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ [الأحزاب:5]... وقوله تعالى: رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا [البقرة:286].
وقد ثبت في الصحيح عن النبي: {أن الله تعالى قال: قد فعلت } لما دعا النبي والمؤمنون بهذا الدعاء.
قال: "وأيضاً قد ثبت في الصحيح من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {إن رجلاً لم يعمل خيراً قط }" وذكر الحديث، ثم قال: "وهذا الحديث متواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه متعددة يعلم أهل الحديث أنها تفيدهم العلم اليقيني" أي: يعلم ذلك المشتغلون بهذا الفن، الذين يؤمنون بالكتاب والسنة، والذين يأخذون الأدلة منها، وأما أهل الكلام فيردون الحديث ولو بلغ مائة طريق؛ لأنهم ليسوا من أهل هذا الفن، ولا من أهل هذا الشأن، ولا يريدون أن يؤمنوا بما يرونه مخالفاً لعقولهم أصلاً، قال: "وإن لم يحصل ذلك لغيرهم ممن لم يشركهم في أسباب العلم، فهذا الرجل كان قد وقع له الشك والجهل في قدرة الله".
قال: "وأيضاً قد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: {أن الله يخرج من النار من كان في قلبه مثقال دينار من إيمان }" إلى آخره، وذكر أدلة أخرى.
الخطأ في التكفير عند السلف وما يترتب على ذلك(1/266)
من درس: تكفير أهل البدع والأهواء متفرع عن مسألة الأحكام والأسماء
قال: "وأيضاً فإن السلف أخطأ كثير منهم في كثير من هذه المسائل" فهو هنا يستدل على وقوع الخطأ من السلف على عدم التكفير، فلو أن قائلاً قال قولاً بدعياً وهو كفر، فإننا نتأكد في حقه من وجود الشروط وانتفاء الموانع، أما الذي يخطئ فيوافقه دون أن يقصد ذلك، فهذا أقل درجة منه ولا شك.
وشيخ الإسلام رحمه الله يستدل على عدم إطلاق التكفير أو التعجل في إطلاقه بأن كثيراً من السلف أخطئوا في بعض المسائل، قال: "واتفقوا على عدم التكفير بذلك" ومن القضايا التي خاض فيها الصحابة موضوع المعراج يقظة، ورؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه في ليلة الإسراء، والكلام في الخلافة.
يقول: "وكذلك لبعضهم في قتال بعض، ولعن بعض، وإطلاق تكفير بعض أقوال معروفة" ويذكر بعض الأمثلة على ذلك فيقول: "وكان القاضي شريح ينكر قراءة من قرأ: (بل عجبتُ) ويقول: إن الله لا يعجب، فبلغ ذلك إبراهيم النخعي فقال: إنما شريح شاعر يعجبه علمه.. كان عبد الله أفقه منه" يعني ابن مسعود ، وهو شيخ الاثنين "كان عبد الله أفقه منه، فكان يقول: (بل عجبتُ).. فهذا قد أنكر قراءة ثابتة، وأنكر صفة دل عليها الكتاب والسنة".
حين أنكر شريح (بل عجبتُ) فإنه قد ترتب على ذلك أمران:
أولاً: أنه أنكر أولاً قراءة ثابتة. ثانياً: أنه أنكر صفة من صفات الله الثابتة والتي دل عليها الكتاب والسنة، وهي صفة التعجب أو العجب، ومع ذلك يقول: "واتفقت الأمة على أنه إمام من الأئمة" ولم يكفروه لأنه لم ينكرها على سبيل الرد والجحود؛ كما فعلت الجهمية .(1/267)
قال: "وكذلك أنكر بعض السلف بعض حروف القرآن مثل إنكار بعضهم قوله: أَفَلَمْ يَيْئَسِ الَّذِينَ آمَنُوا [الرعد:31]، وقال: إنما هي: أولم يتبين الذين آمنوا - وإنكار الآخر قراءة قوله: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ [الإسراء:23] وقال: إنما هي: ووصى ربك"، وقد تقدم معنا ذلك بالتفصيل في موضوع الخلاف في القراءات.
قال: "وأيضاً فإن الكتاب والسنة قد دلا على أن الله لا يعذب أحداً إلا بعد إبلاغ الرسالة، فمن لم تبلغه جملة" يعني: لم يبلغه شيء من الدين جملة "لم يعذبه رأساً" أي: لا يعذب أيضاً جملة.
"ومن بلغته جملة دون بعض التفصيل لم يعذبه إلا على إنكار ما قامت عليه الحجة الرسالية"، فيحاسب على الجملة التي بلغته، لكن لا يعذب ولا يحاسب على التفصيل الذي لم يبلغه، وهذا من عدل الله سبحانه وتعالى، وذكر رحمه الله بعد ذلك الأدلة على ذلك.
مواضع إطلاق التكفير العام
من درس: تكفير أهل البدع والأهواء متفرع عن مسألة الأحكام والأسماء
ومن ثم يقول: "هذا الكلام يمهد أصلين عظيمين:
أحدهما: أن العلم والإيمان والهدى فيما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن خلاف ذلك كفر على الإطلاق، فنفي الصفات كفر، والتكذيب بأن الله يرى في الآخرة، أو أنه على العرش، أو أن القرآن كلامه، أو أنه كلم موسى، أو أنه اتخذ إبراهيم خليلاً كفر، وكذلك ما كان في معنى ذلك" أي: ما كان فيه جحد أو إنكار لأصل من أصول العقيدة والإيمان أو من أصول الأحكام العملية التي دل عليها الكتاب والسنة.
وهنا فائدة وهي: أن الأصول تطلق على ما يتعلق بالعقيدة، ويقابلها الفروع، وهي الأحكام العملية، ولكن ليس هذا هو المراد هنا، إنما المراد بالأصول هنا: أصول العقائد من جهة، وأصول الأحكام العملية من جهة أخرى.
فمثلاً: وجوب الصلاة، وتحريم الزنا، وتحريم الخمر، هي من أصول الأحكام.(1/268)
وقد يعبر عنها أحياناً بقولهم: هي المعلوم من الدين بالضرورة، فهذه الأصول جميعاً -أصول العقائد وأصول الأحكام- نحكم على من لم يؤمن بها بأنه كافر في الجملة وفي الإطلاق وفي العموم.
قال: "والأصل الثاني أن التكفير العام -كالوعيد العام- يجب القول بإطلاقه وعمومه". فالتكفير أو ما كان دونه كالوعيد العام يطلق كما جاء في الكتاب والسنة.
التوقف في مصير المعين في الآخرة وعلاقته بإقامة الحد عليه في الدنيا
من درس: تكفير أهل البدع والأهواء متفرع عن مسألة الأحكام والأسماء
قال: "وأما الحكم على المعين بأنه كافر، أو مشهود له بالنار، فهذا يقف على الدليل المعين، فإن الحكم يقف على ثبوت شروطه وانتفاء موانعه". ثم بدأ شيخ الإسلام في تفصيل موضوع العقوبة، قال: "لكن هذا التوقف في أمر الآخرة -أننا لا نشهد بالجنة أو النار- لا يمنع أن نؤاخذه في الدنيا وأن نعاقبه لمنع بدعته، وأن نستتيبه، فإن تاب وإلا قتلناه".
إذاً: نحن نعاقب المبتدع لنمنعه عن بدعته؛ وذلك لأننا نفرق بين وقوع العقوبة وبين ارتباط ذلك بصلاح الإنسان أو فساده، وأنه غير مقبول عند الله، أو بمعنى آخر: نفرق بين وقوع العقوبة في الدنيا ووقوعها في الآخرة، أما في الآخرة، فهو تبارك وتعالى الذي يتولى الجزاء، ولا ارتباط بين هذا وذاك.
يقول: "ومما ينبغي أن يعلم في هذا الموضع أن الشريعة قد تأمرنا بإقامة الحد على شخص في الدنيا؛ إما بقتل أو جلد أو غير ذلك، ويكون في الآخرة غير معذب، مثل: قتال البغاة والمتأولين، مع بقائهم على العدالة".
هناك فرق بين قتال الخوارج وقطاع الطرق وبين قتال المتأولين؛ فالخوارج يُقَاتَلُون لأنهم على البدعة، وقطاع الطريق الذين يسمون المحاربين يُقَاتَلُون لأنهم مفسدون في الأرض؛ أخذاً من قوله تعالى: إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا [المائدة:33].(1/269)
أما المتأول، فهو الذي يظن أنه على الحق، واجتهاده أدى به إلى أن هذا هو الحق، فخرج به على جماعة المسلمين بأحد المعنيين؛ إما على الجماعة بمعنى الحق، أو على الجماعة بمعنى الإمام وأهل الحل والعقد الذين معه، فهذا اجتهاده، وقد يكون معذوراً؛ لكنه يقاتل حتى لا ينتشر خطؤه ولو أن أحداً استحل شيئاً مما حرم الله، أو ابتدع شيئاً في الدين، وإن كان يريد الحق، ولكنه لم يفهم الأدلة، وتأولها على غير وجهها ولم يقصد إلا الخير، لكنه أخطأ، فإذا تركناه تديَّن الناس بما هو عليه من الخطأ، ومن البدعة والضلال، وإن قاتلناه، قالوا: كيف تقاتلونه وهذا اجتهاده وهو عند الله معذور؟! فنقول: حكمه في الآخرة شيء آخر، أما في الدنيا فإننا نقاتله؛ لأن هناك فرقاً بين عقوبة الدنيا وعقوبة الآخرة.
وأوضح مثال على ذلك ما أورده شيخ الإسلام في قوله: "ومثل إقامة الحد على من تاب بعد القدرة عليه توبة صحيحة، فإنا نقيم الحد عليه مع ذلك، كما أقامه النبي صلى الله عليه وسلم على ماعز بن مالك والغامدية مع قوله: {لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لغفر له }، ومثل إقامة الحد على من شرب النبيذ المتنازع فيه متأولاً، مع العلم بأنه باقٍ على العدالة".
يعني: إذا قال شارب النبيذ: أنا على مذهب أهل العراق ، والنبيذ عندي جائز، نقول: نحن بالنسبة لمذهبنا -وهو الراجح وعليه السلف - نجلد في شرب النبيذ، لكننا لا نحكم على شارب النبيذ بأنه منزوع العدالة كشارب الخمر؛ لأنه ما شربها لهوى أو لشهوة؛ إنما اتبع مذهبه، لكن لأننا نرى أن هذا المذهب مرجوح؛ لا نقول له: اشرب كما تريد؛ لأنه لو فعل ذلك وأقر عليه، لشرب الناس الخمر باسم النبيذ؛ ولذلك فإننا نمنعه ونعاقبه ونقول: هو غير آثم إذا كان هذا اجتهاده .. ونحن حين نعاقبه لا يلزم من معاقبتنا له أنه آثم، كما لا يلزم عكس ذلك.
يقول: "بخلاف من لا تأويل له" هذا سيأتي شرحه إن شاء الله.(1/270)
يقول: "وكذلك نعلم أن خلقاً لا يعاقبون في الدنيا مع أنهم كفار في الآخرة"، وهذا حاصل، كحال المنافقين مع النبي صلى الله عليه وسلم حين جاءوا يحلفون بالله أنهم كانوا من المعذورين في غزوة تبوك، ليرضى عنهم النبي صلى الله عليه وسلم؛ قال تعالى:يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ [التوبة:96] وقال تعالى: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ [النور:53] يحلفون ويقسمون الأيمان للنبي صلى الله عليه وسلم إن خرجت مرة أخرى لنجاهدن معك قُلْ لا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ [النور:53] أي أنه قد عرف من شأنهم أنهم في كل مرة يحلفون ويكذبون، والله تعالى يطلع المؤمنين على أحوالهم من عنده، وأيضاً المؤمنون يعرفونهم بلحن القول.
فكثير من الناس تعلم أنه منافق، ورغم ذلك لا تقدر أن تعاقبه بشيء في الدنيا.
ومع أنك قد اجتمعت لديك قرائن وأدلة معينة تجعلك تعتقد أنه منافق، إلا أنك تكل أمره إلى الله.
وكحال المنافقين -في كف العقوبة عنهم في الدنيا مع اعتقاد أنهم معاقبون في الآخرة- حال أهل الذمة، من النصارى الذين يعتقدون أن الله ثالث ثلاثة -تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً- ويذهبون إلى الكنائس، ولا يؤمنون بالقرآن، ويكذبون بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، ويشربون الخمر، ويأكلون الخنزير؛ يقترفون كل هذه الأمور؛ ومع ذلك فإن الله أمرنا أن نقرهم على دينهم بالشروط العمرية، وهي شروط أهل الذمة.
فنحن نعلم أنهم على الكفر، وأنهم لا يحلون ما أحل الله ورسوله، ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله، ويعتقدون هذا الكفر، ومع ذلك نقرهم؛ فهناك فرق بين أحكام الدنيا وبين أحكام الآخرة؛ نقرهم في الدنيا ونحن نعلم ونعتقد أنهم معاقبون عند الله على هذا الكفر، وأن مصيرهم ومآلهم إلى النار.
يقول رحمه الله: "وهذا لأن الجزاء في الحقيقة إنما هو في الدار الآخرة".(1/271)
السبب في كف العقوبات عن أهل الذمة وعن المنافقين وإجرائها على التائبين والمتأولين أن الجزاء الحقيقي يكون في الدار الآخرة، فنحن إنما أمرنا أن نقيم حدود الله بما استطعنا.
يقول: "التي هي دار الثواب والعقاب، وأما الدنيا، فإنما يشرع فيها من العقاب ما يدفع به الظلم والعدوان".
ولذلك لم تكن غاية قتالنا لهم أن يؤمنوا بقلوبهم، فنحن لن نعلم ذلك؛ وإنما غاية قتالنا لهم ألا يفتن مؤمن؛ كما قال تعالى: وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ [البقرة:193] فبعد ذلك: لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ [البقرة:256].
فنحن نقاتل حتى يعلم الناس الحق، وحتى يصل إليهم الحق، وحتى لا يوجد في الدنيا من يفتن الناس عن الحق بالشبهات أو الشهوات.
قتل الداعي إلى البدعة بغض النظر عن تكفيره
من درس: تكفير أهل البدع والأهواء متفرع عن مسألة الأحكام والأسماء
يقول رحمه الله: "وإذا كان الأمر كذلك، فعقوبة الدنيا غير مستلزمة لعقوبة الآخرة، ولا بالعكس، ولهذا أكثر السلف يأمرون بقتل الداعي بالبدعة الذي يضل الناس لأجل إفساده الدين، سواء قالوا: هو كافر أو ليس بكافر".
انظروا فقه السلف وفهم السلف ؛ لم يتجادلوا كثيراً في الجعد هل هو كافر أو ليس بكافر.. أما نحن الآن -مع الأسف- فتجد أكثر خلافنا هل فلان كافر أم ليس بكافر.(1/272)
لقد كان السلف الصالح رضي الله عنهم يعلمون أن أمور العباد إلى الله، وحقيقة العقوبة إنما هي في الآخرة، لكن إن وجد في الدنيا رجل ابتدع بدعة تفسد الدين، وجب أن يقتل؛ فأجمعوا على هذا القدر، ومنهم من أطلق الكفر، ومنهم من لم يطلقه، والمقصود أنهم لم يتجادلوا، بل القضية والنظر الأساسي عند السلف هو أن من كان في وجوده أو في بقائه خطر على الدين، وفي قتله مصلحة للدين، فإنه يقتل، أما كونه قتل كافراً أو غير ذلك، فذلك أمر ثانوي، فقد كان نظرهم إلى أصل القضية، ولذلك لا يمنع أننا قد نعذر أحداً من الناس، لكن لا يعني ذلك أننا لا نعاقبه، بل قد نعاقبه في الدنيا، ونحن نعلم أنه معذور، ونعلم أنه غير مؤاخذ عند الله سبحانه وتعالى حسب ما يظهر لنا من نيته ومن عمله.
قال: "وإذا عرف هذا، فتكفير المعين من هؤلاء الجهال وأمثالهم -بحيث يحكم عليه بأنه من الكفار- لا يجوز الإقدام عليه إلا بعد أن تقوم على أحدهم الحجة الرسالية التي يتبين بها أنهم مخالفون للرسل، وإن كانت هذه المقالة لا ريب أنها كفر.
وهذا الكلام في تكفير جميع المعينين، مع أن بعض هذه البدع أشد من بعض، وبعض المبتدعة يكون فيه من الإيمان ما ليس في بعض، فليس لأحد أن يكفر أحداً من المسلمين وإن أخطأ وغلط حتى تقام عليه الحجة، وتبين له المحجة.
ومن ثبت إيمانه بيقين لم يزل ذلك عنه بالشك، بل لا يزول إلا بعد إقامة الحجة، وإزالة الشبهة".
يقول رحمه الله: "وهذا الجواب لا يحتمل أكثر من هذا، والله المسئول أن يوفقنا وسائر إخواننا لما يحبه ويرضاه، والله سبحانه أعلم".
وهذا الفصل الطويل في المجلد الثاني عشر مجموع الفتاوى من صفحة (479-501) يوضح ويجلي هذه المسألة.
ومن أهم النقاط التي نحب أن نركز عليها أن المبتدع يجوز أن يقتل تعزيراً ولو لم نحكم بردته؛ لأن هناك مع الأسف من يثير هذه المسألة ويقول: (لا يقتل) بناءً على حرية الفكر، وأن الإسلام أتى بحرية الرأي.(1/273)
فنقول: نعم الإسلام جاء بحرية الاجتهاد؛ فيجوز أن يجتهد الإنسان في ضوء الأدلة والنصوص، لكن الاجتهاد قد يكون خطأً، وقد يكون المجتهد مأجوراً عليه عند الله، ولكنه في الدنيا يعاقب.
وغاية ما عندهم أن يقولوا: إن هذا الرجل وقع في البدعة عن اجتهاد، فنقول: إن كان مجتهداً مخطئاً، فذلك يجعله غير معاقب عند الله، لكن نحن في الدنيا لابد أن نقيم الحد عليه وأن نعاقبه.
فمن أنكر شيئاً من أصول العقائد والأحكام، ومن قال: إن القرآن مخلوق، ومن قال: إن الله لا يرى في الآخرة، ومن أنكر القدر، ومن سب الصحابة رضوان الله تعالى عليهم أو كفرهم، أو أتى بأي بدعة من هذه البدع، فإنه يقتل تعزيراً دفعاً لبدعته بغض النظر عن الكفر وعدمه؛ يقتل من جهة النظر إلى مصلحة الدين واستقامة المسلمين.
وعلى هذا قتل الجعد بن درهم ، وقتل غيلان الدمشقي لما أنكر القدر، وكثير غيره من أهل البدع، ثم جاء الحلاج وأمثاله، فأجمعت الأمة على قتلهم.
وهذا أصل أحببناً أن ننبه عليه؛ لأنه يوجد الآن من يحاول أن ينكره، ويقول: كل هؤلاء ما قتلوا إلا لأغراض سياسية، فلو كانت أغراضاً سياسية من الحكام، فهل حين كفرهم العلماء أو استحسنوا قتلهم -هل كان ذلك لأغراض سياسية؟!
إن هؤلاء السلف أو علماء الأمة حين رضوا بقتلهم وأثنوا على فاعله جعلوا ذلك من باب العقوبة الشرعية، والله تبارك وتعالى أعلم بالنيات، والظاهر من حال من قتلهم أنه إنما قتلهم من أجل المصلحة الدينية.
ليس كل من قال الكفر يكفر
من درس: التكفير وضوابطه (الحلقة العاشرة)
قال المصنف: [ثم إذا كان القول في نفسه كفراً، قيل: إنه كفر، والقائل له يكفر بشروط وانتفاء موانع، ولا يكونُ ذلك إلا إذا صار منافقاً زنديقاً؛ فلا يُتَصور أن يُكفَّر أحد من أهل القبلة المظهرين الإسلام إلا من يكون منافقاً زنديقاً، وكتاب الله يبين ذلك، فإن الله صنف الخلقَ فيه ثلاثة أصنافٍ:(1/274)
صنفٌ: كفار من المشركين ومن أهل الكتاب، وهم الذين لا يقرون بالشهادتين.
وصنفٌ: مؤمنون باطناً وظاهراً.
وصنفٌ: أقروا به ظاهراً لا باطناً.
وهذه الأقسام الثلاثة مذكورة في أول سورة البقرة، وكل من ثبت أنه كافر في نفس الأمر وكان مقراً بالشهادتين؛ فإنه لا يكون إلا زنديقاً، والزنديق هو المنافق.
وهنا يظهر غَلَطُ الطرفين، فإنه من كفَّر كل من قال القول المبتدع في الباطن، يلزمه أن يكفر أقواماً ليسوا في الباطن منافقين، بل هم في الباطن يحبون الله ورسوله، ويؤمنون بالله ورسوله، وإن كانوا مذنبين، كما ثبت في صحيح البخاري عن أسلم مولى عمر رضي الله عنه عن عمر : {أن رجلاً كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم كان اسمهُ: عبد الله ، وكان يلقب حماراً ، وكان يُضحِكُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جلده من الشراب، فأُتي به يوماً، فأمر به فجلد، فقال رجل من القوم: اللهم العنه! ما أكثر ما يُؤتى به! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله } ] .
قول المصنف رحمه الله: [ثم إذا كان القول في نفسه كفراً؛ قيل: إنه كفر، والقائل له يكفر بشروط وانتفاء موانع].
أي أن القول أو العمل؛ إما أن يكون دون الكفر، سواء أكان بدعة أو ذنباً أو كبيرة؛ فلا يجوز أن يقال: إنه كفر، ولا يجوز أن يقال: إن مرتكبه كافر.
وإما أن يكون القول أو العمل كفراً في حكم الله ورسوله فهنا نقول عن القول أو العمل: إنه كفر. ولا يقال: إن هذا القول أو الفعل حرام أو بدعة حتى لا نكفّر فاعله؛ فإنه ما دام أن الله ورسوله قد حكما بكفر هذا القول أو الفعل فلا حرج من إطلاقه، أما المقترف لذلك القول أو الفعل المحكوم عليه شرعاً بأنه كفرٌ؛ فلا يكفَّر إلا بتوافر الشروط وانتفاء الموانع.(1/275)
قال: [ولا يكون ذلك إلا إذا كان منافقاً زنديقاً] أي: لا يكون تكفيرُ قائله إلا إذا كان منافقاً زنديقاً، فلا يمكن أن يقع الكفر منه على الحقيقة، أو يكون كافراً على الحقيقة إلا إذا صار منافقاً زنديقاً، فتغير اسمه فلم يعد مؤمناً، لأننا حكمنا عليه بالكفر، وهو نفسه يظهر الإسلام، فأصبح حكمه أنه زنديق منافق. وهذا الذي يريد المصنف رحمه الله أن يتوصل به إلى أنه لا يجوز الحكم بالتكفير إلا بتحقق شروط وانتفاء موانع.
يقول: [فلا يتصور أن يُكفِّر أحد من أهل القبلة المظهرين للإسلام إلا من يكون منافقاً زنديقاً] فأهل القبلة المظهرون للإسلام لا يمكن أن نحكم على أحد منهم أنه كافر إلا إذا كان منافقاً زنديقاً، أي: كافراً في الباطن بدلالة القرائن وتوافر الشروط وانتفاء الموانع والتي بمجموعها يستدل على كفر باطنه، وإذا لم يكن كافراً على الحقيقة فإن إطلاق الكفر عليه لا يجوز ولا يصح ويترتب عليه إثم كما هو معلوم.
أصناف الناس وموقفهم من دين الله
من درس: التكفير وضوابطه (الحلقة العاشرة)
وقد ذكر المصنف أصناف الناس فقال: [وكتاب الله يبين ذلك، فإن الله صنف الخلق فيه ثلاثة أصناف]: أي أن الله تعالى صنف الخلق وقسمهم في القرآن إلى ثلاثة أقسام ليس لها من رابع.
القسم الأول: المنكرون، والقسمان الآخران: المقرون، ولكن أحدهما مقر ظاهراً وباطناً، والآخر مقر ظاهراً فقط، وهو في الحقيقة والباطن كافر. فيبين أن الصنف الأول: [كفار؛ من المشركين ومن أهل الكتاب] وفي القرآن في أوائل سورة البقرة: ألم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ [البقرة:1-3] الآيات، وهذه الآيات الكريمات جمعت صفات الأصناف الثلاثة (المؤمنين، الكافرين -وأخيراً- المنافقين) ولنا مع ذلك وقفات وتأملات.
الصنف الأول: المؤمنون(1/276)
الصنف الأول وهم المؤمنون، فإن الله تعالى أنزل سورة البقرة وهي أول سورة نزلت في المدينة مع بداية ظهور المجتمع المسلم، بعد أن كان المشركون -في مكة - يعذبونهم ويفتنونهم ليتخلوا عن دينهم، فبعد الهجرة أصبح للمسلمين مجتمع وكيان مستقل، وأصبحت السيادة في المدينة للنبي صلى الله عليه وسلم، فبين الله تعالى في هذه السورة للمؤمنين أصناف الناس الموجودين في المدينة -والناس عامة- وبين أن من أصناف الناس -أرفعهم درجة- المهاجرون والأنصار الذين آمنوا بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وجاهدوا معه، ولم يرتابوا، إلى آخر ما جاء في صفاتهم، فهؤلاء هم حزب الله.
الصنف الثاني: الكفار
ثم إن الله تعالى ذكر الكفار من المشركين وأهل الكتاب وهم الذين كفروا وكذبوا بالقرآن وبرسالة النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يسلموا، ولم ينقادوا ظاهراً ولا باطناً، بل ردوا ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم جملة، وهؤلاء الكفار هم المشركون الذين منهم كفار قريش، والمشركون ممن حول المدينة من الأعراب الذين ذكر الله أنهم أشد كفراً ونفاقاً، ومنهم أهل الكتاب الذين كانوا في المدينة وخصوصاً اليهود؛ لأن النصارى كانوا قلة في الجزيرة ، أما في شمال الجزيرة -جنوب بلاد الشام - فكان منهم الغساسنة، لكن في مكة أو في المدينة وجد قلة ممن تنصر أو من الحنفاء وأشباههم، والمقصود أن أهل الكتاب في المدينة كانوا أيضاً كفاراً، ولذلك أتت الآيات الكثيرة في الحديث عن بني إسرائيل ضمن سورة البقرة وغيرها، وما ذكره الله من كفرهم وتكذيبهم مع أنهم كانوا يستفتحون على الذين كفروا، أي: يقولون: سنغلبكم وننتصر عليكم، حين يبعث نبي آخر الزمان ونقاتلكم تحت رايته، ولكن لما جاءهم ما عرفوا وما استفتحوا به كفروا كما بين الله تعالى في كتابه؛ فهؤلاء هم الكفار.
الصنف الثالث: المنافقون(1/277)
والصنف الثالث -صنف جديد- وهم المنافقون، إذ أن مكة لم يكن فيها منافقون؛ لأن الابتلاء الذي وقع على المسلمين بها يمنع وجود من يظهر الإسلام ويبطن الكفر، ولهذا ينبغي ألا نكره الفتن والمصائب والعوائق -من هذه الحيثية- التي تأتي في طريق الدعوة -على الحقيقة- وإن كانت النفوس بطبيعتها تكره ذلك، لكن يجب علينا أن نعتقد أن الله كتب هذا الابتلاء للتمحيص، وليميز الله الخبيث من الطيب، وهذا فيه حكمة عظيمة، فلو أن الإسلام والإيمان والدرجات العلى في الجنة تُعطى بالادّعاء لادعاها ولطمع فيها كل أحد، لكن تأتي الفتن والزلازل والعوائق والعقبات ليمحص الله الصف، وليعلم المؤمن والصادق على الحقيقة، وليظهر ذلك أمام الناس وليتساقط على الطريق كل من لا خير فيه، فكل من لا يصلح لحمل هذا الدين، ولا يستطيع أن يحيط به من جميع جوانبه، ولا يقوم به حق القيام؛ فإنه يسقط ولا تبقى إلا القلة المؤمنة.
لذلك فقد تفاضل الناس حتى الصحابة -رضوان الله تعالى عليهم-، فليس من أسلم وآمن وجاهد بعد الفتح، كمن فعل ذلك قبل الفتح، وليس من أسلم من الأعراب طمعاً في الغنائم وأُلِّفَ بها قلبه على الإيمان، كالسابقين الأولين الذين أوذوا في الله عز وجل، وحوصروا في الشعب ، وهاجروا إلى الحبشة ، ونالهم ما نالهم من الأذى وهم صابرون محتسبون. وهكذا فالناس درجات وطبقات في هذا الدين، وكذلك منازلهم عند الله تعالى ودرجاتهم في الجنة بحسب هذا الابتلاء، وخلاصة القول أن النفاق لم يكن موجوداً في مكة ، أما في المدينة فقد ظهر -بسبب الأمن وتهيؤ الأمور للمسلمين- وبزغ نجمه، وجاء ذكره في آيات كثيرة من كتاب الله سبحانه وتعالى في معرض التحذير منه، وفي بيان صفات أهله وأحوالهم، إلى آخر ما قصه الله تعالى في سورة البقرة.(1/278)
بعد أن بين المولى جل وعلا صفات الصنفين الأولين أفاض في ذكر صفات الصنف الأخير، وكذلك جاء هذا الصنف في سورة التوبة، والنساء، والمنافقون، وفي غير ذلك من السور، كما قد أسلفنا من قبل.
والخلاصة أن الناس ثلاثة أصناف، أما الذين هم من أهل القبلة -أي: المنتسبون للإسلام- فهم في الحقيقة على صنفين:
صنف مؤمن على الحقيقة ظاهراً وباطناً، فهؤلاء لا يجوز أن يكفروا بأي حال من الأحوال.
وصنف ظاهره الإيمان وباطنه الكفر، وهؤلاء يكفّرون إذا توافرت فيهم الشروط وانتفت عنهم الموانع، ويسمى الواحد منهم منافقاً أو زنديقاً.
فإذا قُطع أو جزم أنه كافر، فمعنى ذلك الشهادة عليه بأنه ليس في قلبه ذرة من إيمان.
يقول المصنف رحمه الله: [وصنف أقروا به ظاهراً لا باطناً -وهذه الأقسام الثلاثة مذكورة في أول سورة البقرة- وكل من ثبت أنه كافر في نفس الأمر] أي في حقيقته التي ظهرت في فلتات كلامه وسوء فعاله [وكان مقراً بالشهادتين] أي في ظاهره [فإنه لا يكون إلا زنديقاً، والزنديق هو المنافق].
معنى ذلك أنه لا يجوز الإقدام على تكفير من لم يقل الكفر أو يعتقده على الحقيقة؛ لأنك إذا فعلت ذلك فقد أخرجته من أن يكون مؤمناً في الباطن، وجعلته مجرد مؤمن في الظاهر، رغم أنه ليس لديك أي دليل على ذلك، ففعلك هذا يُعد من كبائر الذنوب بتكفيرك من ليس بكافر حقيقة.
فلو أن إنساناً قال مقالة، والمقالة في ذاتها تحتمل أن تكون كفراً أو بدعة، ونحن نعلم أن هذا الرجل مؤمن في باطنه إن شاء الله -كما يظهر لنا- ولا يقصد الكفر ولا يريده، فإن قلنا: إنه كافر بناءً على أن هذا اللفظ كفر، أو أن هذا الاعتقاد يؤدي إلى كفر، فقد وقعنا في التناقض؛ لأننا نقول: إننا لا نستطيع أن نشهد بأنه كافر في الباطن، وفي نفس الوقت نكفره!!
وإذا قلنا: إنه كافر؛ فكيف نقول ذلك وهو يقر بالشهادتين ويقر بالإسلام.
وإذا قلنا: إنه مؤمن. فكيف يكون مؤمناً بإطلاق وفيه هذا العيب؟ فكيف يكون حكمه؟!!(1/279)
نقول: يبقى له هنا اسم الإسلام لا يُسْلَب منه، لكنه يكون من المخطئين أو من المتأولين، وإن لم يتعمد ذلك -كأن يكون لديه شبهة أو تأويل- فهذا يعتبر من أهل البدع، ويقال: هو باقٍ على الإسلام، ولكن فيه هذه البدعة فلا يكفر، فيثبت له اسم الإسلام.
إلا أن هناك حالات نستطيع أن نجزم في حق صاحبها أنه كافر في الباطن، كما قال ابن القيم رحمه الله -وقبله شيخ الإسلام ابن تيمية - في مسألة تارك الصلاة: لو أن إنساناً يدعي الإسلام وهو لا يصلي، فسألناه عن ذلك، فأقر بوجوبها وقال: سأصلي ثم لم يصلِ، فاستتابه ولي الأمر ثلاثة أيام إما أن يصلي وإما أن يقتل، ثم إنه مع هذا لا يصلي، فهنا نجزم أنه غير مؤمن، ونشهد بذلك؛ لأنه فضَّل أن يُقتل على أن يصلي، فكيف يكون هذا في حقيقته مؤمناً؟!
فظهر لنا هنا شيء يمكن أن نشهد به عليه بدون تردد.
وكذلك لو أن إنساناً يقول: أنا أحب الشيخين أبا بكر وعمر رضي الله عنهما، وهو متهم أنه من الروافض فإن طلبنا منه أن يترضى عنهما، قال: لا أترضى عنهما، فقلنا: نضربك ونعاقبك، فقال: لو ضربتموني ألف سوط فلن أقول: رضي الله عنهما. فهذا نستطيع أن نجزم أنه في الباطن لا يحبهما، فغير معقول أن تحب أبا بكر وعمر ولا تبادر بالترضي عنهما.
فالخلاصة: أننا وإن كانت الأمور باطنة فيمكن أن نستدل عليها بالأمور الظاهرة، فإن الله قد ركب في النفوس من معرفة الحق والاستدلال بالظاهر على الباطن ما يشهد له الواقع، وإن كنا لا نعلم الغيب ولا ندعيه، لكن ظاهر الحال يدلنا على ذلك، وهو دليل حق- فالاستدلال به يوصلنا إلى اليقين في هذه المسألة.
الصنف الأول: المؤمنون
من درس: أصناف الناس وموقفهم من دين الله(1/280)
الصنف الأول وهم المؤمنون، فإن الله تعالى أنزل سورة البقرة وهي أول سورة نزلت في المدينة مع بداية ظهور المجتمع المسلم، بعد أن كان المشركون -في مكة - يعذبونهم ويفتنونهم ليتخلوا عن دينهم، فبعد الهجرة أصبح للمسلمين مجتمع وكيان مستقل، وأصبحت السيادة في المدينة للنبي صلى الله عليه وسلم، فبين الله تعالى في هذه السورة للمؤمنين أصناف الناس الموجودين في المدينة -والناس عامة- وبين أن من أصناف الناس -أرفعهم درجة- المهاجرون والأنصار الذين آمنوا بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وجاهدوا معه، ولم يرتابوا، إلى آخر ما جاء في صفاتهم، فهؤلاء هم حزب الله.
الصنف الثاني: الكفار
من درس: أصناف الناس وموقفهم من دين الله
ثم إن الله تعالى ذكر الكفار من المشركين وأهل الكتاب وهم الذين كفروا وكذبوا بالقرآن وبرسالة النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يسلموا، ولم ينقادوا ظاهراً ولا باطناً، بل ردوا ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم جملة، وهؤلاء الكفار هم المشركون الذين منهم كفار قريش، والمشركون ممن حول المدينة من الأعراب الذين ذكر الله أنهم أشد كفراً ونفاقاً، ومنهم أهل الكتاب الذين كانوا في المدينة وخصوصاً اليهود؛ لأن النصارى كانوا قلة في الجزيرة ، أما في شمال الجزيرة -جنوب بلاد الشام - فكان منهم الغساسنة، لكن في مكة أو في المدينة وجد قلة ممن تنصر أو من الحنفاء وأشباههم، والمقصود أن أهل الكتاب في المدينة كانوا أيضاً كفاراً، ولذلك أتت الآيات الكثيرة في الحديث عن بني إسرائيل ضمن سورة البقرة وغيرها، وما ذكره الله من كفرهم وتكذيبهم مع أنهم كانوا يستفتحون على الذين كفروا، أي: يقولون: سنغلبكم وننتصر عليكم، حين يبعث نبي آخر الزمان ونقاتلكم تحت رايته، ولكن لما جاءهم ما عرفوا وما استفتحوا به كفروا كما بين الله تعالى في كتابه؛ فهؤلاء هم الكفار.
الصنف الثالث: المنافقون
من درس: أصناف الناس وموقفهم من دين الله(1/281)
والصنف الثالث -صنف جديد- وهم المنافقون، إذ أن مكة لم يكن فيها منافقون؛ لأن الابتلاء الذي وقع على المسلمين بها يمنع وجود من يظهر الإسلام ويبطن الكفر، ولهذا ينبغي ألا نكره الفتن والمصائب والعوائق -من هذه الحيثية- التي تأتي في طريق الدعوة -على الحقيقة- وإن كانت النفوس بطبيعتها تكره ذلك، لكن يجب علينا أن نعتقد أن الله كتب هذا الابتلاء للتمحيص، وليميز الله الخبيث من الطيب، وهذا فيه حكمة عظيمة، فلو أن الإسلام والإيمان والدرجات العلى في الجنة تُعطى بالادّعاء لادعاها ولطمع فيها كل أحد، لكن تأتي الفتن والزلازل والعوائق والعقبات ليمحص الله الصف، وليعلم المؤمن والصادق على الحقيقة، وليظهر ذلك أمام الناس وليتساقط على الطريق كل من لا خير فيه، فكل من لا يصلح لحمل هذا الدين، ولا يستطيع أن يحيط به من جميع جوانبه، ولا يقوم به حق القيام؛ فإنه يسقط ولا تبقى إلا القلة المؤمنة.
لذلك فقد تفاضل الناس حتى الصحابة -رضوان الله تعالى عليهم-، فليس من أسلم وآمن وجاهد بعد الفتح، كمن فعل ذلك قبل الفتح، وليس من أسلم من الأعراب طمعاً في الغنائم وأُلِّفَ بها قلبه على الإيمان، كالسابقين الأولين الذين أوذوا في الله عز وجل، وحوصروا في الشعب ، وهاجروا إلى الحبشة ، ونالهم ما نالهم من الأذى وهم صابرون محتسبون. وهكذا فالناس درجات وطبقات في هذا الدين، وكذلك منازلهم عند الله تعالى ودرجاتهم في الجنة بحسب هذا الابتلاء، وخلاصة القول أن النفاق لم يكن موجوداً في مكة ، أما في المدينة فقد ظهر -بسبب الأمن وتهيؤ الأمور للمسلمين- وبزغ نجمه، وجاء ذكره في آيات كثيرة من كتاب الله سبحانه وتعالى في معرض التحذير منه، وفي بيان صفات أهله وأحوالهم، إلى آخر ما قصه الله تعالى في سورة البقرة.(1/282)
بعد أن بين المولى جل وعلا صفات الصنفين الأولين أفاض في ذكر صفات الصنف الأخير، وكذلك جاء هذا الصنف في سورة التوبة، والنساء، والمنافقون، وفي غير ذلك من السور، كما قد أسلفنا من قبل.
والخلاصة أن الناس ثلاثة أصناف، أما الذين هم من أهل القبلة -أي: المنتسبون للإسلام- فهم في الحقيقة على صنفين:
صنف مؤمن على الحقيقة ظاهراً وباطناً، فهؤلاء لا يجوز أن يكفروا بأي حال من الأحوال.
وصنف ظاهره الإيمان وباطنه الكفر، وهؤلاء يكفّرون إذا توافرت فيهم الشروط وانتفت عنهم الموانع، ويسمى الواحد منهم منافقاً أو زنديقاً.
فإذا قُطع أو جزم أنه كافر، فمعنى ذلك الشهادة عليه بأنه ليس في قلبه ذرة من إيمان.
يقول المصنف رحمه الله: [وصنف أقروا به ظاهراً لا باطناً -وهذه الأقسام الثلاثة مذكورة في أول سورة البقرة- وكل من ثبت أنه كافر في نفس الأمر] أي في حقيقته التي ظهرت في فلتات كلامه وسوء فعاله [وكان مقراً بالشهادتين] أي في ظاهره [فإنه لا يكون إلا زنديقاً، والزنديق هو المنافق].
معنى ذلك أنه لا يجوز الإقدام على تكفير من لم يقل الكفر أو يعتقده على الحقيقة؛ لأنك إذا فعلت ذلك فقد أخرجته من أن يكون مؤمناً في الباطن، وجعلته مجرد مؤمن في الظاهر، رغم أنه ليس لديك أي دليل على ذلك، ففعلك هذا يُعد من كبائر الذنوب بتكفيرك من ليس بكافر حقيقة.
فلو أن إنساناً قال مقالة، والمقالة في ذاتها تحتمل أن تكون كفراً أو بدعة، ونحن نعلم أن هذا الرجل مؤمن في باطنه إن شاء الله -كما يظهر لنا- ولا يقصد الكفر ولا يريده، فإن قلنا: إنه كافر بناءً على أن هذا اللفظ كفر، أو أن هذا الاعتقاد يؤدي إلى كفر، فقد وقعنا في التناقض؛ لأننا نقول: إننا لا نستطيع أن نشهد بأنه كافر في الباطن، وفي نفس الوقت نكفره!!
وإذا قلنا: إنه كافر؛ فكيف نقول ذلك وهو يقر بالشهادتين ويقر بالإسلام.
وإذا قلنا: إنه مؤمن. فكيف يكون مؤمناً بإطلاق وفيه هذا العيب؟ فكيف يكون حكمه؟!!(1/283)
نقول: يبقى له هنا اسم الإسلام لا يُسْلَب منه، لكنه يكون من المخطئين أو من المتأولين، وإن لم يتعمد ذلك -كأن يكون لديه شبهة أو تأويل- فهذا يعتبر من أهل البدع، ويقال: هو باقٍ على الإسلام، ولكن فيه هذه البدعة فلا يكفر، فيثبت له اسم الإسلام.
إلا أن هناك حالات نستطيع أن نجزم في حق صاحبها أنه كافر في الباطن، كما قال ابن القيم رحمه الله -وقبله شيخ الإسلام ابن تيمية - في مسألة تارك الصلاة: لو أن إنساناً يدعي الإسلام وهو لا يصلي، فسألناه عن ذلك، فأقر بوجوبها وقال: سأصلي ثم لم يصلِ، فاستتابه ولي الأمر ثلاثة أيام إما أن يصلي وإما أن يقتل، ثم إنه مع هذا لا يصلي، فهنا نجزم أنه غير مؤمن، ونشهد بذلك؛ لأنه فضَّل أن يُقتل على أن يصلي، فكيف يكون هذا في حقيقته مؤمناً؟!
فظهر لنا هنا شيء يمكن أن نشهد به عليه بدون تردد.
وكذلك لو أن إنساناً يقول: أنا أحب الشيخين أبا بكر وعمر رضي الله عنهما، وهو متهم أنه من الروافض فإن طلبنا منه أن يترضى عنهما، قال: لا أترضى عنهما، فقلنا: نضربك ونعاقبك، فقال: لو ضربتموني ألف سوط فلن أقول: رضي الله عنهما. فهذا نستطيع أن نجزم أنه في الباطن لا يحبهما، فغير معقول أن تحب أبا بكر وعمر ولا تبادر بالترضي عنهما.
فالخلاصة: أننا وإن كانت الأمور باطنة فيمكن أن نستدل عليها بالأمور الظاهرة، فإن الله قد ركب في النفوس من معرفة الحق والاستدلال بالظاهر على الباطن ما يشهد له الواقع، وإن كنا لا نعلم الغيب ولا ندعيه، لكن ظاهر الحال يدلنا على ذلك، وهو دليل حق- فالاستدلال به يوصلنا إلى اليقين في هذه المسألة.
ظاهرة الزندقة وما يتعلق بها من أحكام
من درس: التكفير وضوابطه (الحلقة العاشرة)(1/284)
ثم قال المصنف: [فإنه لا يكون إلا زنديقاً، والزنديق هو المنافق] أي أن من قال قولاً كفرياً في مقالة له أو خطبة أو كتاب أو نحو ذلك، فهذا لا يخرج عن أحد أمرين: إما أن يكون مخطئاً؛ فننظر لماذا أخطأ في هذا، هل كان ذلك لبدعة دعته إلى هذا القول؟ أو أن لديه تأويلاً معيناً للقول بذلك القول؟
وإما أن يكون زنديقاً أي: أظهر هذه الكلمة الكفرية مع إظهاره للإسلام، ولكنه في الحقيقة يبطن الكفر، وهذا من لحن القول الذي ذكره الله تعالى: وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ [محمد:30]؛ لأن كل إنسان لا يمكن أن يعتقد الشيء ويخفيه على من يجاوره ويخالطه بالكلية. ولا يمكن أن يعتقد أحد عقيدة إلا ويظهر أثرها في سقطات لسانه أو جوارحه أو تصرفاته، لأنه من المستحيل أن يؤمن الإنسان بشيء إيماناً حقيقياً ولا يظهر ذلك أبداً.
وهذا من حكمة الله تعالى ومن الدلالة على تلازم الظاهر والباطن، ويستثنى من ذلك ما كان مجرد شيء عابر، فإنه لا ينبني عليه حكم على الباطن سواء كان كفراً أو إيماناً، فالإيمان العابر كإنسان يحب بعض الطيبين بشكل عارض وتجده في الأصل لا يهتم بالمؤمنين ولا بالإيمان؛ لأنه ليس حباً حقيقياً، إنما هو عبارة عن عاطفة طرأت على قلبه، وكذلك إذا كان الإنسان مؤمناً ثم طرأ عليه نوع من الزيغ أو الشبهات فإنه يظهر لك أن إيمانه ثابت وباقٍ، لكن المنافق الذي يظهر الإسلام، ويحلف بالله كما حلف المنافقون للرسول صلى الله عليه وسلم، فمعلوم أن هذه الأيمان وراءها ما وراءها -نسأل الله العفو والعافية- فإن كفرهم قد ظهر في لحن القول وفلتات الألسن وسقطاتها.
من هو الزنديق؟(1/285)
يقول المصنف رحمه الله: [والزنديق هو المنافق] كلمة (الزنديق) لم تكن معروفة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولا في عهد الصحابة، ولهذا كانوا إذا أرادوا أن يحكموا على أحد ممن لا يستطيعون أن يشهدوا له بالإيمان، ولم يكن في ظاهره من الكفار، بل كان من المقرين بالإسلام المظهرين له، فإنهم يقولون عنه: إنه منافق، ويعرفون المنافق بعلاماته المعروفة التي تكون قرائن واضحة دالة على باطنه المناقض لظاهره، كما قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه في صلاة الجماعة: [ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق ] وكما قال كعب في حديث الثلاثة الذين تاب الله عليهم بعد توبتهم من تخلفهم أنه رأى الذين تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {إما منافق مغموس عليه في النفاق أو ممن عذر الله }، فكان المنافقون يعرفون بقرائن تدل على بواطنهم.
أصل مصطلح (الزنديق) وتاريخ ظهوره عند المسلمين
ظهر هذا المصطلح الجديد؛ وهو (الزنديق) أكثر ما ظهر في العصر العباسي وانتشر وأصبح يقال: هذا رجل زنديق، أو متهم بالزندقة، فأصل هذه الكلمة كما قال بعضهم: إن الزندقة مأخوذة من كتاب كان يؤمن به المجوس يسمونه (زندفسته ) وهذا (الزندفسته ) هو كتاب المجوس ، فكانوا يتهمون من يظهر الإسلام وهو في الحقيقة غير مؤمن؛ بالزندقة؛ لأنه يعتقد ما في كتاب الفرس.(1/286)
وقال آخرون: الزندقة مأخوذة من كلمة (زندكي)، والعرب يقلبون الكاف قافاً؛ فإذا نطقوا أي علم أو كلمة غير عربية فإنهم ينطقونها على قواعد لغتهم؛ فمثلاً الفرس كانوا يقولون: (خسرو) أي: ملك الفرس، وعند العرب لا يمكن أن يأتي اسم آخره واو قبلها حرف مضموم، وكذلك الخاء استثقلوها فقلبوها كافاً فصارت الكلمة عند العرب (كسرى)، فلما جاء المتأخرون ردوا الكلمة إلى (خسرو)، فتجد بعض المؤلفين اسمه (خسرو) على الاسم القديم، ومعنى كلمة (زندكي): الحياة أو الزمان أو الدهر، والعرب يسمون الذي لا يؤمن بالبعث (دَهري) بفتح الدال، أما (دُهري) بالضم فهي نسبة سماعية على غير القياس، فالقياس أن النسبة إلى دَهْر (دَهْري) بالفتح، فالعرب تقول: (دَهري) أي: لا يؤمن بالبعث، ويعتقد ببقاء الدهر، وأنه هو المتحكم في سير الخلائق، وقد حكى الله ذلك عنهم بقوله: وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ [الجاثية:24]. فالدهريون هم الذين لا يؤمنون بالبعث ولا باليوم الآخر، فأطلق عليهم الزنادقة نسبة إلى كلمة (زندكي) وهي تعني الدهر.(1/287)
ونستنتج مما تقدم أن الصحيح أن الزنديق: هو الدهري الذي لا يؤمن بالبعث ولا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر، وقد ظهر هذا المصطلح في تلك الفترة؛ لأن من الفرس من دخل في دين الإسلام كذباً وزوراً، وأخذوا يدسون ويكيدون للنيل منه، أما في زمن بني أمية فكان الإسلام ظاهراً عزيزاً قوياً فلم يستطيعوا أن يظهروا شيئاً من مقالاتهم، فلما جاء بنو العباس -وإنما قام ملكهم على أكتاف الفرس- قام بالدعوة إليهم أبو مسلم الخراساني ، وجاء من خراسان بجموع هائلة وقاتلوا الأمويين حتى أسقطوا دولة بني أمية وأقاموا بدلاً منها دولة بني العباس، وكان غرض أبي مسلم الخراساني إقامة دولة شيعية غالية باسم بني العباس، تكون شيعية في الظاهر مجوسية في الباطن، ولكن بني العباس فطنوا إلى ذلك وكان السفاح أول من تولى أمر الدولة العباسية، ثم جاء بعده أخوه أبو جعفر المنصور ، وكان أبو مسلم الخراساني قائداً له، وكان أبو جعفر المنصور من دهاة الرجال، ويروى عنه في الدهاء العجب العجاب، ففطن إلى أبي مسلم وإلى خطره وضرره، وبعد أن مكن له أمره ووطد له الملك قتله وقضى عليه، وقامت إثر ذلك حركة عظيمة في الفرس، وظهرت فرقة يقال لها: (الأبي مسلمية ) نسبة إلى أبي مسلم فحاربت الدولة العباسية محاربة شديدة، ولكن أبا جعفر المنصور انتصر عليها وأهلك الله تعالى أبا مسلم الملحد ومن معه، فتحول المجوس إلى دور التستر وإظهار الإسلام، ونشطوا في الدس له باطناً وذلك نتيجة لعدم قدرتهم على المجاهرة له بالحرب، وصاروا يدسون الإلحاد والكفر والزيغ في نفوس جهلة المسلمين.
انتشار الزندقة في البلاد الإسلامية(1/288)
إن الزندقة أكثر ما انتشرت في العراق ؛ لأنها الأقرب إلى بلاد المجوس ، فظهرت الزندقة في البصرة ، والكوفة أما في مصر فكان ظهورها نادراً، وأما في المدينة وسائر أرض الحجاز فلم يكن هناك وجود للزنادقة والحمد لله؛ لأن الدسائس والمؤامرات كانت من أجل النفاذ إلى مرافق الدولة، لتقويض دولة الخلافة العباسية ولإبراز المجوسية مرة أخرى، فظهر هذا المبدأ، وكان الخليفة المهدي أشهر من عرف بقتل الزنادقة ، فحين تقرأ في أي كتاب من كتب التاريخ فإنك تجد أن أعظم أعمال المهدي قتله للزنادقة ، فكان يتتبعهم ويتصيدهم تصيداً، ويسلط عليهم العلماء والثقات من الناس يتتبعون كلامهم وآراءهم، فمن وجدوه قبضوا عليه، ومن وجدوا عنده شيئاً من كتب الإلحاد وأثبت عليه هذا الإلحاد فإنه يقتل فوراً، فقتل منهم المهدي جمعاً كبيراً، ومع ذلك بقيت الزندقة ، وكان ممن اشتهر بالزندقة وقتل عليها كثير من الكتاب والشعراء والوزراء، ومنهم البرامكة الذين كانوا وزراء لهارون الرشيد وكانوا أشهر وزراء الدولة العباسية، إلا أنهم لم يتبعوا منهج أبي مسلم في الدعوة إلى هذه العقيدة، بل سلكوا طريقاً آخر حتى تمكنوا في الدولة، وحين تبين للرشيد رحمه الله أنهم زنادقة، قتلهم وأقام فيهم حكم الله تعالى، وقد ظهر له ذلك بأدلة كثيرة، كما نبهه بعض العلماء الربانيين إلى أنهم مجوس يعبدون النار، كما قال فيهم الأصمعي رحمه الله:
إذا ذكر الشرك في مجلسٍ أضاءت وجوه بني برمك
وإذا تليت عندهم آية أتوا بالأحاديث عن مزدك(1/289)
ومزدك هو رأس المزدكية (الشيوعية الأولى) قبل ماركس ولينين ، فكان أن حج هارون الرشيد ، وكان قد بدأ يشعر بمكرهم فأشاروا عليه قائلين: يا أمير المؤمنين! لو أنك وضعت في الكعبة مجمرة كبرى، ووضعت فيها العود لكان ذلك سابقة لك لم يفعلها أحد قبلك، فعلم وفطن أن هذه حيلة منهم لتكون ذريعة إلى عبادة النار، وقال: (لئن رجعنا إلى بغداد ليرين الله ما أصنع) فلما عاد إلى بغداد فتك بهم.
ومن الكتاب والأدباء المتهمين بالزندقة عبد الله بن المقفع ، وكان يقال عنه: إنه ألف الكتب ليصرف الناس عن القرآن -وما أكثر الملهيات اليوم والله المستعان- فعبد الله بن المقفع كان مهتماً بالزندقة وثبتت عليه التهمة، وكان إذا مر ببيت تعبد فيه النار يتمثل بقول الشاعر الأحوص :
يا بيت عاتكة الذي أتعزل حذر العدا وبه الفؤاد موكل
إني لأمنحك الصدود وإنني قسماً إليك مع الصدود لأَمْيَلُ
يعني: أنا أصد عنك في الظاهر، لكنني والله أحبك وأميل إليك بالباطن، ومن الشعراء الذين قتلوا على الزندقة بشار بن برد ، وله أشعار يظهر فيها وقوعه في الزندقة، منها قوله:
إبليس أفضل من أبيكم آدم...
وهذا كفر واضح والعياذ بالله.
وصالح بن عبد القدوس له شعر كثير في الزهد، ويلمس من شعره أن غايته التزهيد في الدنيا، ولكن هذا التزهيد في الدنيا لم يكن عن إيمان بدين محمد صلى الله عليه وسلم، وإنما كان على مذهب الصوفية من الهندوس وأمثالهم ممن يزهدون في الدنيا، ويعتقدون أنه لابد أن تُصفَّى الروح لتتحد بـ(براهما)، وعلينا أن نعلم أن الزهد إذا لم يكن أصله وباعثه الإيمان بالله وبرسوله؛ فإن ذلك لا ينفع صاحبه؛ فهو أشبه برهبان النصارى.
ومن أولئك الزنادقة أبو العلاء المعري ، وأشعاره مشهورة تشهد بزندقته، وكل من ترجم له يذكر ذلك -والعياذ بالله- وكذلك الحلاج ، الذي قتل بسبب ما أظهره من زندقة، وكذلك السهروردي وأمثالهم ممن قتلوا بتهمة الزندقة.(1/290)
إلا أن بعض هؤلاء الزنادقة ظهر أمره، وبعضهم لم ينفضح أمثال المعتزلة الكبار الأوائل كأبي الهذيل العلاف وإبراهيم النظام ، فقد كانوا زنادقة، بل الجاحظ يعد من الزنادقة، وله رسائل تشهد على أنه زنديق والعياذ بالله.
وقد قتل كثير من الناس بتهمة الزندقة حتى قيل: إنهم بلغوا الآلاف، ثم انتشر هذا المصطلح وأصبح يطلق على كل من انحرف عن الدين وأظهر الطعن في آيات الله أو الاستهزاء بدين الله بأي شكل من الأشكال.
الرافضة ودورهم في نشر الزندقة
كانت الزندقة أكثر ما تظهر في ظل الدول الرافضية، فعندما يحكم الروافض أي بلد من البلدان تظهر فيه الزندقة و الفلسفة التي يظهر منها الكفر بالله، والترجمات التي يستمد منها الكفر والضلال والعياذ بالله، وكان هذا واضحاً جداً، فنجده في أيام الدول العباسية عندما سيطر بنو بويه وكانوا شيعة ، وفي مصر عندما سيطر العبيديون وكانوا باطنية ، فأينما ظهر هذا المذهب الخبيث ظهرت الزندقة، ويبوح بها من كان يضمرها.
ومن المناسب في هذا المقام أن نذكر أن أبا الربيع الزهراني -المحدث الثقة المعروف- كان له جار من الزنادقة، ثم هداه الله فقال له أبو الربيع : ما بالكم تظهرون التشيع؟! قال: إنا -أي:معشر الزنادقة- نظرنا إلى أهل الأهواء وإلى هذه الفرق، فوجدنا أن أسهل باب ندخل منه إلى هدم الإسلام هو التشيع.(1/291)
فيدخل أحدهم الإسلام على أنه شيعي، وهو في الحقيقة زنديق يطعن في الله وفي رسوله صلى الله عليه وسلم وفي أصحابه رضي الله عنهم، -كما يشاء- تحت ستار أنه شيعي؛ لأن الشيعة من أحمق الناس وأجهل الناس، فمع أنهم يطعنون في القرآن والسنة والصحابة يجتهدون ويبذلون أقصى جهدهم من أجل إضلال الآخرين على جهل فيهم، ولهذا قال بعض المحدثين: "لو طاوعت الشيعة لملئوا بيتي ذهباً وفضة" لأنهم يطلبون منه أحاديث في فضل علي أو الحسن أو الحسين ، وهم لا يستطيعون التمييز بين صحيح الحديث وضعيفه، وبين ما فيه مدح أو طعن في الأئمة، فكثير من الفضائل التي ينقلها الشيعة عن علي رضي الله عنه والحسن والحسين فيها طعن فيهم، وليست مما يزكّى به الناس، لكن هم غاية عقلهم ومبلغ علمهم أن هذا مدح أو ثناء، فلذلك دخل هؤلاء الكَذَبة الزنادقة من هذا الباب فأصبحوا يروون الروايات الطويلة في فضائل أهل البيت، ويفسرون الآيات حسب ما يوافق هوى الشيعة ، ومقابل ذلك فإن الشيعة تعظمهم وتوقرهم وتبذل لهم الأموال، فالزنادقة يدخلون من هذا الباب.
ولما ذكر ابن الجوزي رحمه الله أسباب انتشار مذهب القرامطة ذكر أنهم يدخلون على أتباعهم من باب حب آل البيت ومدحهم، فإذا وجدوا من المدعوين من يوافقهم رسخوا في ذهنه وغرسوا في عقله أن جل آل البيت كفار، ولم يبق إلا هؤلاء الأربعة أو الخمسة أو الاثنا عشر ثم لا يلبثون حتى يلحقوهم بمن قبلهم. فإذا سئلوا ما هو الدين الصحيح؟ قالوا: الدين الصحيح هو ما عليه الحكماء، أي فلاسفة إخوان الصفا والأديان كلها باطلة.. فيكفر. ولا حول ولا قوة إلا بالله.(1/292)
وهكذا نلاحظ أن الزندقة بدأت تحت شعار التشيع، ومن هنا كانا مقترنين أي: ظهور الزندقة وانتشارها في المجتمعات الإسلامية يقترن بظهور دول الرفض والإلحاد، فمثلاً: ما جاء التتار ودخلوا بغداد إلا بتدبير ابن العلقمي الخبيث، وبتأييد نصير الكفر الطوسي وعندئذٍ ظهر أمر الزندقة وانتشر؛ لأن هؤلاء هم في الحقيقة زنادقة يتسترون بالرفض، وتحت غطاء التشيع انتشر الرفض وعم البلاد، لذلك تجد أن كل الخلفاء والسلاطين الذين كانوا يتميزون بالعدل في التاريخ الإسلامي، يقال في ترجمتهم: من مآثره أو من فضائله -كما في البداية والنهاية - أنه كان يحرم قراءة كتب الأوائل -ضمن حربه على الزندقة- والمقصود بكتب الأوائل كتب اليونان ؛ لأنها مصدر الزندقة والإلحاد، وقد وقع كثير من ذلك، كما كان في أيام نور الدين وصلاح الدين رحمهما الله، والدولة الأيوبية عموماً، ومن قبلهم كثير من الخلفاء؛ كالخليفة القادر وأمثاله، كانوا يمنعون الناس من قراءة كتب الفلاسفة ويحرقونها، ومن وجدت عنده فإنه يعاقب، حتى يتوصلوا إلى القضاء على هذه الفتنة وعلى هذا الإلحاد.
وعلى هذا فالزنديق في عرف المتأخرين هو من عرف في عهد الصحابة بالمنافق.
قول علماء أهل السنة في الزنديق
قال: "وهنا يظهر غلط الطرفين" والطرفان هنا يقصد بهما: الذين كفّروا بإطلاق، والذين لم يكفَّروا بإطلاق.(1/293)
يقول: "فإنه من كفَّر كل من قال القول المبتدع في الباطن، يلزمه أن يكفر أقواماً ليسوا في الباطن منافقين، بل هم في الباطن يحبون الله ورسوله، ويؤمنون بالله ورسوله، وإن كانوا مذنبين، كما ثبت في صحيح البخاري عن أسلم مولى عمر رضي الله عنه عن عمر : {أن رجلاً كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم كان اسمه عبد الله ، وكان يلقب حماراً ، وكان يُضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جلده في الشراب، فأُتي به يوماً، فأمر به فجلد، فقال رجل من القوم: اللهم العنه! ما أكثر ما يؤتى به! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله } ". وهذا الحديث في مقابل حديث: {لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخمر عشرة -وذكر منهم شاربها ... } وهذا الصحابي كان يشرب الخمر، والذي في الحديث لعن الشارب بإطلاق، أما المعين كما هو حال هذا الصحابي فلا. وسنستعرض هنا رواية الحديث والكلام عليه كما ذكرها الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى في كتاب الحدود (ج12 ص:64، 65) في رواية، والرواية الأخرى التي -ذكرها المصنف- هي عن عمر (ج12 ص:75) ونحن نأتي بالرواية الأولى؛ لأن فيها بعض الفوائد.
الرواية الأولى: يقول الإمام البخاري رحمه الله: (باب من أمر بضرب الحدّ في البيت) بسنده عن عقبة بن الحارث قال: {جيء بالنعيمان أو بابن النعيمان شارباً، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم من كان بالبيت أن يضربوه قال: فضربوه، فكنت أنا فيمن ضربه بالنعال } ثم قال: (باب الضرب بالجريد والنعال) بسنده عن عقبة بن الحارث {أن النبي صلى الله عليه وسلم أُتي بنعيمان أو بابن نعيمان وهو سكران، فشق عليه، وأمر من في البيت أن يضربوه، فضربوه بالجريد والنعال، وكنت فيمن ضربه }.(1/294)
ورواية أخرى عن أبي هريرة في نفس هذا الباب قال: {أتي النبي صلى الله عليه وسلم برجل قد شرب، قال: اضربوه، قال أبو هريرة رضي الله عنه: فمنّا الضارب بيده، والضارب بنعله، والضارب بثوبه، فلما انصرف قال بعض القوم: أخزاك الله! قال: لا تقولوا هكذا، لا تعينوا عليه الشيطان } هذه الرواية ليس فيها اللعن، وإنما فيها بدل (لعنه الله) (أخزاه الله).
أما حديث عمر رضي الله عنه فهو ما ترجم له البخاري رحمه الله بقوله: (باب ما يكره من لعن شارب الخمر وأنه ليس بخارج من الملة) وفي هذا التعبير إشارة إلى أن من العلماء من كره لعن شارب الخمر، ومنهم من لم يكره، وهذا دليل لمن يرى عدم جواز لعن المعين قال: "عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه {أن رجلاً كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم كان اسمه عبد الله وكان يلقب حماراً، وكان يضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم .. } إلى آخر الحديث" كما ذكره المصنف.(1/295)
ذكر ابن حجر اختلاف العلماء في لعن المعين وقد تقدم هذا الموضوع ومن جملة ما قال: (وصوَّب ابن المنير أن المنع مطلقاً في حق المعين، والجواز في حق غير المعين؛ لأنه في حق غير المعين زجر عن تعاطي ذلك الفعل، وفي حق المعين أذى له وسب، وقد ثبت النهي عن أذى المسلم، واحتج من أجاز لعن المعين بأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما لعن من يستحق اللعن فيستوي المعين وغيره، وتُعقب بأنه إنما استحق اللعن بوصف الإبهام"، يعني: أن مسألة لعن المعين أو عدمه مرتبطة بالمصلحة، فإذا قيل: لعن الله فلاناً، فقد لا يكون فيه مصلحة، بل قد يكون من باب التنفير وإعانة الشيطان عليه، كما بين في الرواية الأخرى التي ورد فيها: (أخزاه الله) لكننا نقول: يمكن أن نجمع بين القولين بأن يلعن لعناً عاماً أمام صاحب الفعل المعين، فإذا جيء برجل شرب الخمر، فقلت: لعن الله شارب الخمر، أو إذا جيء برجل كذب، فقلت: لعنة الله على الكاذبين، فأنت في هذه الحالة حققت المصلحتين: أول شيء أنه انزجر؛ لأنه لما سمع الناس يلعنون الكاذبين فمعنى ذلك أنهم يريدون زجره، وفي نفس الوقت لم تلعنه بعينه أو بشخصه.
فعدم لعن المعين لا يقتضي أنه يلعن سراً، فإنك إذا رأيت منكراً معيناً كالتعامل بالربا فإنه لا يتعين عليك أن تقول: لعن الله آكل الربا بينك وبين نفسك، ثم تحتج بأن المصلحة عدم لعن المعين في هذه الحالة، بل عند تحقق المصلحة بإظهار اللعن فإنك تقول: لعن الله آكل الربا.(1/296)
يقول الحافظ ابن حجر : "وصنيع البخاري يقتضي لعن المتصف بذلك من غير أن يعين اسمه، فيجمع بين المصلحتين) والمصلحتان هما: مصلحة إظهار الزجر واللعن، ومصلحة عدم أذى المسلم لاحتمال أنه يحب الله ورسوله، أو أنه من أهل الخير. وهكذا فتوضع الأمور في مواضعها، ولهذا يفرق بين شارب وشارب، وبين زانٍ وزانٍ. أما بالنسبة لحد الله الذي شرعه فالحكم واحد، فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يعفِ شارب الخمر من حد الله بل جلده، لكنه شهد له بالخير، وقد يجلد غيره ولا يشهد له بالخير، وهذا من الحكمة في التعامل مع الناس، وعليه فإن هناك أموراً لا يستوي فيها الناس، وأموراً يجب أن يستوي فيها الناس، ومن الحكمة أن نضع الشيء موضعه، فالمجاهر بالمعصية لا حرمة له.
يقول ابن حجر رحمه الله: "وصنيع البخاري يقتضي لعن المتصف بذلك من غير أن يعين باسمه فيجمع بين المصلحتين؛ لأن لعن المعين والدعاء عليه قد يحمله على التمادي، أو يقنطه من قبول التوبة" يعني: إذا رأى الناس يلعنونه فإن ذلك قد يؤدي به إلى أن ينتكس بالكلية، ويفارق أهل الخير، ويصاحب أهل الشر"، لكن لو أحسن التعامل معه لكان ذلك أدعى إلى أن ينزجر ويتوب.
ويقول -أيضاً- ابن حجر رحمه الله: "بخلاف ما إذا صرف ذلك إلى المتصف فإن فيه زجراً وردعاً عن ارتكاب ذلك، وباعثاً لفاعله على الإقلاع عنه، ويقويه النهي عن التثريب على الأمة إذا جلدت على الزنا كما سيأتي قريباً.(1/297)
واحتج شيخنا الإمام البلقيني على جواز لعن المعين بالحديث الوارد في المرأة إذا دعاها زوجها إلى فراشه فأبت لعنتها الملائكة حتى تصبح، وهو في الصحيح، وقد توقف فيه بعض من لقيناه" أي أن شيخه البلقيني قال بقول خالفه فيه بعض من عاصره من المشايخ، وهذا القول من الحافظ يدلك على أن هؤلاء العلماء لم يتأهلوا للعلم والتدريس إلا بعد أن تخلقوا بمكارم الأخلاق التي شرعها الله عز وجل، ولهذا بقي لهم الذكر الحسن عند الناس، فيقول: (وقد توقف فيه بعض من لقيناه) ومن أدب الحافظ رحمه الله أنه أظهر اسم الشيخ صاحب القول الراجح وأغفل تعيين صاحب القول المرجوح؛ لأنه لو قال: وقد توقف فيه فلان، فإنه يفهم منه الطعن في القائل، فتأدباً مع شيوخه لم يعين القائل لعدم الحاجة إليه، قال: "بأن اللاعن لها الملائكة" وهو اعتراض له وجاهته فاللاعن لها هم الملائكة وليس نحن، فيتوقف الاستدلال به على جواز التأسي بهم، وعلى التسليم فليس في الخبر تسميتها"، قال ابن حجر : "والذي قاله شيخنا -يعني: البلقيني - أقوى، فإن الملك معصوم، والتأسي بالمعصوم مشروع، والبحث في جواز لعن المعين وهو الموجود" يعني لا يقال: إنه ما سماها، فالكلام هنا في امرأة معينة، وواضح أن زوجها دعاها فأبت، ويعلم بناءً على ذلك أن الملائكة تلعنها، فيجوز له أن يلعنها.
ونحن نورد كلامه هنا من باب الفائدة، ولا شك أنه إن ترك لعنها فهو أفضل: فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ [الشورى:40]، لكن الكلام هنا في الجواز.(1/298)
وهنا يظهر الخلاف في اسم صاحب الترجمة، فقيل هو عبد الله ويلقب حماراً وقيل: نعيمان وقيل: ابن نعيمان والخلاف في اسمه طويل، لكن الذي ظهر لي أنه رجل واحد، فلا نقول: إن القصة متعددة، وإن كان ابن حجر أحياناً يميل إلى ذلك، وأحياناً يميل إلى غيره، فحيناً يقول: (وهذا مما يقوي أن صاحب الترجمة ونعيمان واحد، والله أعلم) وهنا لم يجزم ابن حجر رحمه الله بأحدهما، والذي يظهر أنه رجل واحد، وأن القصة تكررت؛ لأنه ورد في نفس الحديث: (ما أكثر ما يؤتى به) يعني أنه كان يؤتى به مراراً والذي لعنه كان رجلاً من الصحابة فقال: (اللهم العنه! ما أكثر ما يؤتى به) وفي بعض الروايات أنه عمر .
فهذا الرجل جيء به أكثر من مرة، فربما أن الصحابة دعوا عليه أول مرة فقالوا: (أخزاك الله) ثم لما جيء به بعدها قالوا: (اللهم العنه!) فهذا أقرب من أن يقال: إن القصة في أكثر من واحد، وعليه يكون نعيمان هو نفسه عبد الله الذي يلقب حماراً ؛ والله أعلم.(1/299)
قال: {وكان يضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم } وهذا يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمزح ولا يقول إلا حقاً، وكذلك الصحابة رضي الله عنهم كانوا يمزحون ولا يقولون إلا حقاً قال بكر بن عبد الله رضي الله عنه [كانوا يتبادحون بالبطيخ، فإذا جد الجد كانوا هم الرجال ] أي أنهم كانوا يمزحون -فهم بشر- ويحب بعضهم بعضاً، ويألفون ويؤلفون، ولكن إذا جد الجد كانوا هم الرجال في العبادة والدعوة والجهاد، أما في وقت أكل أو شرب أو جلسة أخوية فكانوا يمزحون ويتداعبون، لكن لا يقولون إلا حقاً ولا يفعلون إلا حقاً، وما ليس فيه إثم، لكن هذا الرجل له وصف متميز فقد كان جريئاً في المزاح حتى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ينقل ابن حجر بعض قصصه في ذلك (بسند الباب : {أن رجلاً كان يلقب حماراً ، وكان يهدي لرسول الله صلى الله عليه وسلم العُكة من السمن والعسل، فإذا جاء صاحبه يتقاضاه، جاء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أعط هذا متاعه، فما يزيد النبي صلى الله عليه وسلم أن يبتسم ويأمر به فيعطى } فكان يأخذ العكة ويعطيها النبي صلى الله عليه وسلم ويقول: هذه هدية مني لك والنبي صلى الله عليه وسلم يقبل الهدية، ولا يقبل الصدقة. فيأخذ تلك الهدية، وبعد فترة إذا بصاحب الدين يقف على رأسه مطالباً بحقه، فيجيء به نعيمان إلى رسول الله ويسأله أن يعطي الرجل حقه. يقول الحافظ: "ووقع في حديث محمد بن عمرو بن حزم بعد قوله: {يحب الله ورسوله } قال: {وكان لا يدخل إلى المدينة طرفة إلا اشترى منها، ثم جاء فقال: يا رسول الله! هذا أهديته لك، فإذا جاء صاحبه يطلب ثمنه، جاء به فقال: أعط هذا الثمن فيقول: ألم تهده إليَّ؟ فيقول: ليس عندي، فيضحك -النبي صلى الله عليه وسلم- ويأمر لصاحبه بثمنه } فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مع ما هو فيه من الجد، ومع انشغال قلبه بالله تعالى في ذكر واستغفار وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر، ومع ذلك فقد كان(1/300)
في حياته -وفي قلبه- متسع للمزاح والدعابة، وكان يداعب أزواجه ويحادثهن، كما ثبت في حديث أم زرع الطويل، حين حدثته عائشة بالقصة كلها وهو يستمع إليها... -والقصة معروفة وقد أخرجها مسلم - والمسألة ليست أن نقرأ أحاديثه، وإنما الأساس أن نهتدي بهديه ونستن بسنته، ونقتدي به قولاً وعملاً واعتقاداً صلوات ربي وسلامه عليه.
ولهذا كان التابعون كما قال سفيان قبل أن يأخذوا الحديث عن الرجل ينظرون إلى هديه وسمته ودله، وهذا قول عمرو بن ميمون الأودي لما تتلمذ على يد معاذ رضي الله عنه، ثم انتقل إلى حذيفة ، وكانوا يُشَبِّهُون عبد الله بن مسعود بالنبي صلى الله عليه وسلم في هديه وسمته.
وقد كان الصحابة والتابعون لهم بإحسان يحسنون التأمل والتفكر في هدي الرسول صلى الله عليه وسلم وسيرته وقوله وفعله؛ فيضعون الأمور في مواضعها، وكان النبي صلى الله عليه وسلم بينهم بهذه المنزلة.
نسأل الله أن يرضى عنهم وأن يلحقنا بهم.
من هو الزنديق؟
من درس: ظاهرة الزندقة وما يتعلق بها من أحكام
يقول المصنف رحمه الله: [والزنديق هو المنافق] كلمة (الزنديق) لم تكن معروفة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولا في عهد الصحابة، ولهذا كانوا إذا أرادوا أن يحكموا على أحد ممن لا يستطيعون أن يشهدوا له بالإيمان، ولم يكن في ظاهره من الكفار، بل كان من المقرين بالإسلام المظهرين له، فإنهم يقولون عنه: إنه منافق، ويعرفون المنافق بعلاماته المعروفة التي تكون قرائن واضحة دالة على باطنه المناقض لظاهره، كما قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه في صلاة الجماعة: [ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق ] وكما قال كعب في حديث الثلاثة الذين تاب الله عليهم بعد توبتهم من تخلفهم أنه رأى الذين تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {إما منافق مغموس عليه في النفاق أو ممن عذر الله }، فكان المنافقون يعرفون بقرائن تدل على بواطنهم.(1/301)
أصل مصطلح (الزنديق) وتاريخ ظهوره عند المسلمين
من درس: ظاهرة الزندقة وما يتعلق بها من أحكام
ظهر هذا المصطلح الجديد؛ وهو (الزنديق) أكثر ما ظهر في العصر العباسي وانتشر وأصبح يقال: هذا رجل زنديق، أو متهم بالزندقة، فأصل هذه الكلمة كما قال بعضهم: إن الزندقة مأخوذة من كتاب كان يؤمن به المجوس يسمونه (زندفسته ) وهذا (الزندفسته ) هو كتاب المجوس ، فكانوا يتهمون من يظهر الإسلام وهو في الحقيقة غير مؤمن؛ بالزندقة؛ لأنه يعتقد ما في كتاب الفرس.
وقال آخرون: الزندقة مأخوذة من كلمة (زندكي)، والعرب يقلبون الكاف قافاً؛ فإذا نطقوا أي علم أو كلمة غير عربية فإنهم ينطقونها على قواعد لغتهم؛ فمثلاً الفرس كانوا يقولون: (خسرو) أي: ملك الفرس، وعند العرب لا يمكن أن يأتي اسم آخره واو قبلها حرف مضموم، وكذلك الخاء استثقلوها فقلبوها كافاً فصارت الكلمة عند العرب (كسرى)، فلما جاء المتأخرون ردوا الكلمة إلى (خسرو)، فتجد بعض المؤلفين اسمه (خسرو) على الاسم القديم، ومعنى كلمة (زندكي): الحياة أو الزمان أو الدهر، والعرب يسمون الذي لا يؤمن بالبعث (دَهري) بفتح الدال، أما (دُهري) بالضم فهي نسبة سماعية على غير القياس، فالقياس أن النسبة إلى دَهْر (دَهْري) بالفتح، فالعرب تقول: (دَهري) أي: لا يؤمن بالبعث، ويعتقد ببقاء الدهر، وأنه هو المتحكم في سير الخلائق، وقد حكى الله ذلك عنهم بقوله: وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ [الجاثية:24]. فالدهريون هم الذين لا يؤمنون بالبعث ولا باليوم الآخر، فأطلق عليهم الزنادقة نسبة إلى كلمة (زندكي) وهي تعني الدهر.(1/302)
ونستنتج مما تقدم أن الصحيح أن الزنديق: هو الدهري الذي لا يؤمن بالبعث ولا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر، وقد ظهر هذا المصطلح في تلك الفترة؛ لأن من الفرس من دخل في دين الإسلام كذباً وزوراً، وأخذوا يدسون ويكيدون للنيل منه، أما في زمن بني أمية فكان الإسلام ظاهراً عزيزاً قوياً فلم يستطيعوا أن يظهروا شيئاً من مقالاتهم، فلما جاء بنو العباس -وإنما قام ملكهم على أكتاف الفرس- قام بالدعوة إليهم أبو مسلم الخراساني ، وجاء من خراسان بجموع هائلة وقاتلوا الأمويين حتى أسقطوا دولة بني أمية وأقاموا بدلاً منها دولة بني العباس، وكان غرض أبي مسلم الخراساني إقامة دولة شيعية غالية باسم بني العباس، تكون شيعية في الظاهر مجوسية في الباطن، ولكن بني العباس فطنوا إلى ذلك وكان السفاح أول من تولى أمر الدولة العباسية، ثم جاء بعده أخوه أبو جعفر المنصور ، وكان أبو مسلم الخراساني قائداً له، وكان أبو جعفر المنصور من دهاة الرجال، ويروى عنه في الدهاء العجب العجاب، ففطن إلى أبي مسلم وإلى خطره وضرره، وبعد أن مكن له أمره ووطد له الملك قتله وقضى عليه، وقامت إثر ذلك حركة عظيمة في الفرس، وظهرت فرقة يقال لها: (الأبي مسلمية ) نسبة إلى أبي مسلم فحاربت الدولة العباسية محاربة شديدة، ولكن أبا جعفر المنصور انتصر عليها وأهلك الله تعالى أبا مسلم الملحد ومن معه، فتحول المجوس إلى دور التستر وإظهار الإسلام، ونشطوا في الدس له باطناً وذلك نتيجة لعدم قدرتهم على المجاهرة له بالحرب، وصاروا يدسون الإلحاد والكفر والزيغ في نفوس جهلة المسلمين.
انتشار الزندقة في البلاد الإسلامية
من درس: ظاهرة الزندقة وما يتعلق بها من أحكام(1/303)
إن الزندقة أكثر ما انتشرت في العراق ؛ لأنها الأقرب إلى بلاد المجوس ، فظهرت الزندقة في البصرة ، والكوفة أما في مصر فكان ظهورها نادراً، وأما في المدينة وسائر أرض الحجاز فلم يكن هناك وجود للزنادقة والحمد لله؛ لأن الدسائس والمؤامرات كانت من أجل النفاذ إلى مرافق الدولة، لتقويض دولة الخلافة العباسية ولإبراز المجوسية مرة أخرى، فظهر هذا المبدأ، وكان الخليفة المهدي أشهر من عرف بقتل الزنادقة ، فحين تقرأ في أي كتاب من كتب التاريخ فإنك تجد أن أعظم أعمال المهدي قتله للزنادقة ، فكان يتتبعهم ويتصيدهم تصيداً، ويسلط عليهم العلماء والثقات من الناس يتتبعون كلامهم وآراءهم، فمن وجدوه قبضوا عليه، ومن وجدوا عنده شيئاً من كتب الإلحاد وأثبت عليه هذا الإلحاد فإنه يقتل فوراً، فقتل منهم المهدي جمعاً كبيراً، ومع ذلك بقيت الزندقة ، وكان ممن اشتهر بالزندقة وقتل عليها كثير من الكتاب والشعراء والوزراء، ومنهم البرامكة الذين كانوا وزراء لهارون الرشيد وكانوا أشهر وزراء الدولة العباسية، إلا أنهم لم يتبعوا منهج أبي مسلم في الدعوة إلى هذه العقيدة، بل سلكوا طريقاً آخر حتى تمكنوا في الدولة، وحين تبين للرشيد رحمه الله أنهم زنادقة، قتلهم وأقام فيهم حكم الله تعالى، وقد ظهر له ذلك بأدلة كثيرة، كما نبهه بعض العلماء الربانيين إلى أنهم مجوس يعبدون النار، كما قال فيهم الأصمعي رحمه الله:
إذا ذكر الشرك في مجلسٍ أضاءت وجوه بني برمك
وإذا تليت عندهم آية أتوا بالأحاديث عن مزدك(1/304)
ومزدك هو رأس المزدكية (الشيوعية الأولى) قبل ماركس ولينين ، فكان أن حج هارون الرشيد ، وكان قد بدأ يشعر بمكرهم فأشاروا عليه قائلين: يا أمير المؤمنين! لو أنك وضعت في الكعبة مجمرة كبرى، ووضعت فيها العود لكان ذلك سابقة لك لم يفعلها أحد قبلك، فعلم وفطن أن هذه حيلة منهم لتكون ذريعة إلى عبادة النار، وقال: (لئن رجعنا إلى بغداد ليرين الله ما أصنع) فلما عاد إلى بغداد فتك بهم.
ومن الكتاب والأدباء المتهمين بالزندقة عبد الله بن المقفع ، وكان يقال عنه: إنه ألف الكتب ليصرف الناس عن القرآن -وما أكثر الملهيات اليوم والله المستعان- فعبد الله بن المقفع كان مهتماً بالزندقة وثبتت عليه التهمة، وكان إذا مر ببيت تعبد فيه النار يتمثل بقول الشاعر الأحوص :
يا بيت عاتكة الذي أتعزل حذر العدا وبه الفؤاد موكل
إني لأمنحك الصدود وإنني قسماً إليك مع الصدود لأَمْيَلُ
يعني: أنا أصد عنك في الظاهر، لكنني والله أحبك وأميل إليك بالباطن، ومن الشعراء الذين قتلوا على الزندقة بشار بن برد ، وله أشعار يظهر فيها وقوعه في الزندقة، منها قوله:
إبليس أفضل من أبيكم آدم...
وهذا كفر واضح والعياذ بالله.
وصالح بن عبد القدوس له شعر كثير في الزهد، ويلمس من شعره أن غايته التزهيد في الدنيا، ولكن هذا التزهيد في الدنيا لم يكن عن إيمان بدين محمد صلى الله عليه وسلم، وإنما كان على مذهب الصوفية من الهندوس وأمثالهم ممن يزهدون في الدنيا، ويعتقدون أنه لابد أن تُصفَّى الروح لتتحد بـ(براهما)، وعلينا أن نعلم أن الزهد إذا لم يكن أصله وباعثه الإيمان بالله وبرسوله؛ فإن ذلك لا ينفع صاحبه؛ فهو أشبه برهبان النصارى.
ومن أولئك الزنادقة أبو العلاء المعري ، وأشعاره مشهورة تشهد بزندقته، وكل من ترجم له يذكر ذلك -والعياذ بالله- وكذلك الحلاج ، الذي قتل بسبب ما أظهره من زندقة، وكذلك السهروردي وأمثالهم ممن قتلوا بتهمة الزندقة.(1/305)
إلا أن بعض هؤلاء الزنادقة ظهر أمره، وبعضهم لم ينفضح أمثال المعتزلة الكبار الأوائل كأبي الهذيل العلاف وإبراهيم النظام ، فقد كانوا زنادقة، بل الجاحظ يعد من الزنادقة، وله رسائل تشهد على أنه زنديق والعياذ بالله.
وقد قتل كثير من الناس بتهمة الزندقة حتى قيل: إنهم بلغوا الآلاف، ثم انتشر هذا المصطلح وأصبح يطلق على كل من انحرف عن الدين وأظهر الطعن في آيات الله أو الاستهزاء بدين الله بأي شكل من الأشكال.
الرافضة ودورهم في نشر الزندقة
من درس: ظاهرة الزندقة وما يتعلق بها من أحكام
كانت الزندقة أكثر ما تظهر في ظل الدول الرافضية، فعندما يحكم الروافض أي بلد من البلدان تظهر فيه الزندقة و الفلسفة التي يظهر منها الكفر بالله، والترجمات التي يستمد منها الكفر والضلال والعياذ بالله، وكان هذا واضحاً جداً، فنجده في أيام الدول العباسية عندما سيطر بنو بويه وكانوا شيعة ، وفي مصر عندما سيطر العبيديون وكانوا باطنية ، فأينما ظهر هذا المذهب الخبيث ظهرت الزندقة، ويبوح بها من كان يضمرها.
ومن المناسب في هذا المقام أن نذكر أن أبا الربيع الزهراني -المحدث الثقة المعروف- كان له جار من الزنادقة، ثم هداه الله فقال له أبو الربيع : ما بالكم تظهرون التشيع؟! قال: إنا -أي:معشر الزنادقة- نظرنا إلى أهل الأهواء وإلى هذه الفرق، فوجدنا أن أسهل باب ندخل منه إلى هدم الإسلام هو التشيع.(1/306)
فيدخل أحدهم الإسلام على أنه شيعي، وهو في الحقيقة زنديق يطعن في الله وفي رسوله صلى الله عليه وسلم وفي أصحابه رضي الله عنهم، -كما يشاء- تحت ستار أنه شيعي؛ لأن الشيعة من أحمق الناس وأجهل الناس، فمع أنهم يطعنون في القرآن والسنة والصحابة يجتهدون ويبذلون أقصى جهدهم من أجل إضلال الآخرين على جهل فيهم، ولهذا قال بعض المحدثين: "لو طاوعت الشيعة لملئوا بيتي ذهباً وفضة" لأنهم يطلبون منه أحاديث في فضل علي أو الحسن أو الحسين ، وهم لا يستطيعون التمييز بين صحيح الحديث وضعيفه، وبين ما فيه مدح أو طعن في الأئمة، فكثير من الفضائل التي ينقلها الشيعة عن علي رضي الله عنه والحسن والحسين فيها طعن فيهم، وليست مما يزكّى به الناس، لكن هم غاية عقلهم ومبلغ علمهم أن هذا مدح أو ثناء، فلذلك دخل هؤلاء الكَذَبة الزنادقة من هذا الباب فأصبحوا يروون الروايات الطويلة في فضائل أهل البيت، ويفسرون الآيات حسب ما يوافق هوى الشيعة ، ومقابل ذلك فإن الشيعة تعظمهم وتوقرهم وتبذل لهم الأموال، فالزنادقة يدخلون من هذا الباب.
ولما ذكر ابن الجوزي رحمه الله أسباب انتشار مذهب القرامطة ذكر أنهم يدخلون على أتباعهم من باب حب آل البيت ومدحهم، فإذا وجدوا من المدعوين من يوافقهم رسخوا في ذهنه وغرسوا في عقله أن جل آل البيت كفار، ولم يبق إلا هؤلاء الأربعة أو الخمسة أو الاثنا عشر ثم لا يلبثون حتى يلحقوهم بمن قبلهم. فإذا سئلوا ما هو الدين الصحيح؟ قالوا: الدين الصحيح هو ما عليه الحكماء، أي فلاسفة إخوان الصفا والأديان كلها باطلة.. فيكفر. ولا حول ولا قوة إلا بالله.(1/307)
وهكذا نلاحظ أن الزندقة بدأت تحت شعار التشيع، ومن هنا كانا مقترنين أي: ظهور الزندقة وانتشارها في المجتمعات الإسلامية يقترن بظهور دول الرفض والإلحاد، فمثلاً: ما جاء التتار ودخلوا بغداد إلا بتدبير ابن العلقمي الخبيث، وبتأييد نصير الكفر الطوسي وعندئذٍ ظهر أمر الزندقة وانتشر؛ لأن هؤلاء هم في الحقيقة زنادقة يتسترون بالرفض، وتحت غطاء التشيع انتشر الرفض وعم البلاد، لذلك تجد أن كل الخلفاء والسلاطين الذين كانوا يتميزون بالعدل في التاريخ الإسلامي، يقال في ترجمتهم: من مآثره أو من فضائله -كما في البداية والنهاية - أنه كان يحرم قراءة كتب الأوائل -ضمن حربه على الزندقة- والمقصود بكتب الأوائل كتب اليونان ؛ لأنها مصدر الزندقة والإلحاد، وقد وقع كثير من ذلك، كما كان في أيام نور الدين وصلاح الدين رحمهما الله، والدولة الأيوبية عموماً، ومن قبلهم كثير من الخلفاء؛ كالخليفة القادر وأمثاله، كانوا يمنعون الناس من قراءة كتب الفلاسفة ويحرقونها، ومن وجدت عنده فإنه يعاقب، حتى يتوصلوا إلى القضاء على هذه الفتنة وعلى هذا الإلحاد.
وعلى هذا فالزنديق في عرف المتأخرين هو من عرف في عهد الصحابة بالمنافق.
قول علماء أهل السنة في الزنديق
من درس: ظاهرة الزندقة وما يتعلق بها من أحكام
قال: "وهنا يظهر غلط الطرفين" والطرفان هنا يقصد بهما: الذين كفّروا بإطلاق، والذين لم يكفَّروا بإطلاق.(1/308)
يقول: "فإنه من كفَّر كل من قال القول المبتدع في الباطن، يلزمه أن يكفر أقواماً ليسوا في الباطن منافقين، بل هم في الباطن يحبون الله ورسوله، ويؤمنون بالله ورسوله، وإن كانوا مذنبين، كما ثبت في صحيح البخاري عن أسلم مولى عمر رضي الله عنه عن عمر : {أن رجلاً كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم كان اسمه عبد الله ، وكان يلقب حماراً ، وكان يُضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جلده في الشراب، فأُتي به يوماً، فأمر به فجلد، فقال رجل من القوم: اللهم العنه! ما أكثر ما يؤتى به! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله } ". وهذا الحديث في مقابل حديث: {لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخمر عشرة -وذكر منهم شاربها ... } وهذا الصحابي كان يشرب الخمر، والذي في الحديث لعن الشارب بإطلاق، أما المعين كما هو حال هذا الصحابي فلا. وسنستعرض هنا رواية الحديث والكلام عليه كما ذكرها الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى في كتاب الحدود (ج12 ص:64، 65) في رواية، والرواية الأخرى التي -ذكرها المصنف- هي عن عمر (ج12 ص:75) ونحن نأتي بالرواية الأولى؛ لأن فيها بعض الفوائد.
الرواية الأولى: يقول الإمام البخاري رحمه الله: (باب من أمر بضرب الحدّ في البيت) بسنده عن عقبة بن الحارث قال: {جيء بالنعيمان أو بابن النعيمان شارباً، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم من كان بالبيت أن يضربوه قال: فضربوه، فكنت أنا فيمن ضربه بالنعال } ثم قال: (باب الضرب بالجريد والنعال) بسنده عن عقبة بن الحارث {أن النبي صلى الله عليه وسلم أُتي بنعيمان أو بابن نعيمان وهو سكران، فشق عليه، وأمر من في البيت أن يضربوه، فضربوه بالجريد والنعال، وكنت فيمن ضربه }.(1/309)
ورواية أخرى عن أبي هريرة في نفس هذا الباب قال: {أتي النبي صلى الله عليه وسلم برجل قد شرب، قال: اضربوه، قال أبو هريرة رضي الله عنه: فمنّا الضارب بيده، والضارب بنعله، والضارب بثوبه، فلما انصرف قال بعض القوم: أخزاك الله! قال: لا تقولوا هكذا، لا تعينوا عليه الشيطان } هذه الرواية ليس فيها اللعن، وإنما فيها بدل (لعنه الله) (أخزاه الله).
أما حديث عمر رضي الله عنه فهو ما ترجم له البخاري رحمه الله بقوله: (باب ما يكره من لعن شارب الخمر وأنه ليس بخارج من الملة) وفي هذا التعبير إشارة إلى أن من العلماء من كره لعن شارب الخمر، ومنهم من لم يكره، وهذا دليل لمن يرى عدم جواز لعن المعين قال: "عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه {أن رجلاً كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم كان اسمه عبد الله وكان يلقب حماراً، وكان يضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم .. } إلى آخر الحديث" كما ذكره المصنف.(1/310)
ذكر ابن حجر اختلاف العلماء في لعن المعين وقد تقدم هذا الموضوع ومن جملة ما قال: (وصوَّب ابن المنير أن المنع مطلقاً في حق المعين، والجواز في حق غير المعين؛ لأنه في حق غير المعين زجر عن تعاطي ذلك الفعل، وفي حق المعين أذى له وسب، وقد ثبت النهي عن أذى المسلم، واحتج من أجاز لعن المعين بأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما لعن من يستحق اللعن فيستوي المعين وغيره، وتُعقب بأنه إنما استحق اللعن بوصف الإبهام"، يعني: أن مسألة لعن المعين أو عدمه مرتبطة بالمصلحة، فإذا قيل: لعن الله فلاناً، فقد لا يكون فيه مصلحة، بل قد يكون من باب التنفير وإعانة الشيطان عليه، كما بين في الرواية الأخرى التي ورد فيها: (أخزاه الله) لكننا نقول: يمكن أن نجمع بين القولين بأن يلعن لعناً عاماً أمام صاحب الفعل المعين، فإذا جيء برجل شرب الخمر، فقلت: لعن الله شارب الخمر، أو إذا جيء برجل كذب، فقلت: لعنة الله على الكاذبين، فأنت في هذه الحالة حققت المصلحتين: أول شيء أنه انزجر؛ لأنه لما سمع الناس يلعنون الكاذبين فمعنى ذلك أنهم يريدون زجره، وفي نفس الوقت لم تلعنه بعينه أو بشخصه.
فعدم لعن المعين لا يقتضي أنه يلعن سراً، فإنك إذا رأيت منكراً معيناً كالتعامل بالربا فإنه لا يتعين عليك أن تقول: لعن الله آكل الربا بينك وبين نفسك، ثم تحتج بأن المصلحة عدم لعن المعين في هذه الحالة، بل عند تحقق المصلحة بإظهار اللعن فإنك تقول: لعن الله آكل الربا.(1/311)
يقول الحافظ ابن حجر : "وصنيع البخاري يقتضي لعن المتصف بذلك من غير أن يعين اسمه، فيجمع بين المصلحتين) والمصلحتان هما: مصلحة إظهار الزجر واللعن، ومصلحة عدم أذى المسلم لاحتمال أنه يحب الله ورسوله، أو أنه من أهل الخير. وهكذا فتوضع الأمور في مواضعها، ولهذا يفرق بين شارب وشارب، وبين زانٍ وزانٍ. أما بالنسبة لحد الله الذي شرعه فالحكم واحد، فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يعفِ شارب الخمر من حد الله بل جلده، لكنه شهد له بالخير، وقد يجلد غيره ولا يشهد له بالخير، وهذا من الحكمة في التعامل مع الناس، وعليه فإن هناك أموراً لا يستوي فيها الناس، وأموراً يجب أن يستوي فيها الناس، ومن الحكمة أن نضع الشيء موضعه، فالمجاهر بالمعصية لا حرمة له.
يقول ابن حجر رحمه الله: "وصنيع البخاري يقتضي لعن المتصف بذلك من غير أن يعين باسمه فيجمع بين المصلحتين؛ لأن لعن المعين والدعاء عليه قد يحمله على التمادي، أو يقنطه من قبول التوبة" يعني: إذا رأى الناس يلعنونه فإن ذلك قد يؤدي به إلى أن ينتكس بالكلية، ويفارق أهل الخير، ويصاحب أهل الشر"، لكن لو أحسن التعامل معه لكان ذلك أدعى إلى أن ينزجر ويتوب.
ويقول -أيضاً- ابن حجر رحمه الله: "بخلاف ما إذا صرف ذلك إلى المتصف فإن فيه زجراً وردعاً عن ارتكاب ذلك، وباعثاً لفاعله على الإقلاع عنه، ويقويه النهي عن التثريب على الأمة إذا جلدت على الزنا كما سيأتي قريباً.(1/312)
واحتج شيخنا الإمام البلقيني على جواز لعن المعين بالحديث الوارد في المرأة إذا دعاها زوجها إلى فراشه فأبت لعنتها الملائكة حتى تصبح، وهو في الصحيح، وقد توقف فيه بعض من لقيناه" أي أن شيخه البلقيني قال بقول خالفه فيه بعض من عاصره من المشايخ، وهذا القول من الحافظ يدلك على أن هؤلاء العلماء لم يتأهلوا للعلم والتدريس إلا بعد أن تخلقوا بمكارم الأخلاق التي شرعها الله عز وجل، ولهذا بقي لهم الذكر الحسن عند الناس، فيقول: (وقد توقف فيه بعض من لقيناه) ومن أدب الحافظ رحمه الله أنه أظهر اسم الشيخ صاحب القول الراجح وأغفل تعيين صاحب القول المرجوح؛ لأنه لو قال: وقد توقف فيه فلان، فإنه يفهم منه الطعن في القائل، فتأدباً مع شيوخه لم يعين القائل لعدم الحاجة إليه، قال: "بأن اللاعن لها الملائكة" وهو اعتراض له وجاهته فاللاعن لها هم الملائكة وليس نحن، فيتوقف الاستدلال به على جواز التأسي بهم، وعلى التسليم فليس في الخبر تسميتها"، قال ابن حجر : "والذي قاله شيخنا -يعني: البلقيني - أقوى، فإن الملك معصوم، والتأسي بالمعصوم مشروع، والبحث في جواز لعن المعين وهو الموجود" يعني لا يقال: إنه ما سماها، فالكلام هنا في امرأة معينة، وواضح أن زوجها دعاها فأبت، ويعلم بناءً على ذلك أن الملائكة تلعنها، فيجوز له أن يلعنها.
ونحن نورد كلامه هنا من باب الفائدة، ولا شك أنه إن ترك لعنها فهو أفضل: فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ [الشورى:40]، لكن الكلام هنا في الجواز.(1/313)
وهنا يظهر الخلاف في اسم صاحب الترجمة، فقيل هو عبد الله ويلقب حماراً وقيل: نعيمان وقيل: ابن نعيمان والخلاف في اسمه طويل، لكن الذي ظهر لي أنه رجل واحد، فلا نقول: إن القصة متعددة، وإن كان ابن حجر أحياناً يميل إلى ذلك، وأحياناً يميل إلى غيره، فحيناً يقول: (وهذا مما يقوي أن صاحب الترجمة ونعيمان واحد، والله أعلم) وهنا لم يجزم ابن حجر رحمه الله بأحدهما، والذي يظهر أنه رجل واحد، وأن القصة تكررت؛ لأنه ورد في نفس الحديث: (ما أكثر ما يؤتى به) يعني أنه كان يؤتى به مراراً والذي لعنه كان رجلاً من الصحابة فقال: (اللهم العنه! ما أكثر ما يؤتى به) وفي بعض الروايات أنه عمر .
فهذا الرجل جيء به أكثر من مرة، فربما أن الصحابة دعوا عليه أول مرة فقالوا: (أخزاك الله) ثم لما جيء به بعدها قالوا: (اللهم العنه!) فهذا أقرب من أن يقال: إن القصة في أكثر من واحد، وعليه يكون نعيمان هو نفسه عبد الله الذي يلقب حماراً ؛ والله أعلم.(1/314)
قال: {وكان يضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم } وهذا يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمزح ولا يقول إلا حقاً، وكذلك الصحابة رضي الله عنهم كانوا يمزحون ولا يقولون إلا حقاً قال بكر بن عبد الله رضي الله عنه [كانوا يتبادحون بالبطيخ، فإذا جد الجد كانوا هم الرجال ] أي أنهم كانوا يمزحون -فهم بشر- ويحب بعضهم بعضاً، ويألفون ويؤلفون، ولكن إذا جد الجد كانوا هم الرجال في العبادة والدعوة والجهاد، أما في وقت أكل أو شرب أو جلسة أخوية فكانوا يمزحون ويتداعبون، لكن لا يقولون إلا حقاً ولا يفعلون إلا حقاً، وما ليس فيه إثم، لكن هذا الرجل له وصف متميز فقد كان جريئاً في المزاح حتى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ينقل ابن حجر بعض قصصه في ذلك (بسند الباب : {أن رجلاً كان يلقب حماراً ، وكان يهدي لرسول الله صلى الله عليه وسلم العُكة من السمن والعسل، فإذا جاء صاحبه يتقاضاه، جاء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أعط هذا متاعه، فما يزيد النبي صلى الله عليه وسلم أن يبتسم ويأمر به فيعطى } فكان يأخذ العكة ويعطيها النبي صلى الله عليه وسلم ويقول: هذه هدية مني لك والنبي صلى الله عليه وسلم يقبل الهدية، ولا يقبل الصدقة. فيأخذ تلك الهدية، وبعد فترة إذا بصاحب الدين يقف على رأسه مطالباً بحقه، فيجيء به نعيمان إلى رسول الله ويسأله أن يعطي الرجل حقه. يقول الحافظ: "ووقع في حديث محمد بن عمرو بن حزم بعد قوله: {يحب الله ورسوله } قال: {وكان لا يدخل إلى المدينة طرفة إلا اشترى منها، ثم جاء فقال: يا رسول الله! هذا أهديته لك، فإذا جاء صاحبه يطلب ثمنه، جاء به فقال: أعط هذا الثمن فيقول: ألم تهده إليَّ؟ فيقول: ليس عندي، فيضحك -النبي صلى الله عليه وسلم- ويأمر لصاحبه بثمنه } فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مع ما هو فيه من الجد، ومع انشغال قلبه بالله تعالى في ذكر واستغفار وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر، ومع ذلك فقد كان(1/315)
في حياته -وفي قلبه- متسع للمزاح والدعابة، وكان يداعب أزواجه ويحادثهن، كما ثبت في حديث أم زرع الطويل، حين حدثته عائشة بالقصة كلها وهو يستمع إليها... -والقصة معروفة وقد أخرجها مسلم - والمسألة ليست أن نقرأ أحاديثه، وإنما الأساس أن نهتدي بهديه ونستن بسنته، ونقتدي به قولاً وعملاً واعتقاداً صلوات ربي وسلامه عليه.
ولهذا كان التابعون كما قال سفيان قبل أن يأخذوا الحديث عن الرجل ينظرون إلى هديه وسمته ودله، وهذا قول عمرو بن ميمون الأودي لما تتلمذ على يد معاذ رضي الله عنه، ثم انتقل إلى حذيفة ، وكانوا يُشَبِّهُون عبد الله بن مسعود بالنبي صلى الله عليه وسلم في هديه وسمته.
وقد كان الصحابة والتابعون لهم بإحسان يحسنون التأمل والتفكر في هدي الرسول صلى الله عليه وسلم وسيرته وقوله وفعله؛ فيضعون الأمور في مواضعها، وكان النبي صلى الله عليه وسلم بينهم بهذه المنزلة.
نسأل الله أن يرضى عنهم وأن يلحقنا بهم.
أحكام تتعلق بمرتكب الكبيرة
من درس: التكفير وضوابطه (الحلقة الحادية عشرة)
النهي عن لعن مرتكب الكبيرة(1/316)
قال ابن حجر رحمه الله في (ص:78) ذاكراً الفوائد من الحديث: "وفيه الرد على من زعم أن مرتكب الكبيرة كافر لثبوت النهي عن لعنه، والأمر بالدعاء له" وهذا واضح والحمد لله، حيث أن هذا الرجل صحابي وشرب الخمر، فلم ينف عنه شرب الخمر صحبته، بل أثبت له النبي صلى الله عليه وسلم أمراً زائداً عن مجرد الصحبة، وهو أنه يحب الله ورسوله، وهذه ليست في كل أحد من الناس، فهذه صفة لم يشهد بها النبي صلى الله عليه وسلم لكل أحد، بل وجد في زمنه صلى الله عليه وسلم من الأعراب ومن ضعفاء الإيمان ومن أشباههم من لم ينل شرف هذه الشهادة، فمرتكب الكبيرة كما هو معلوم عند أهل السنة والجماعة لا يكفر، ولا يخرج من الملة، فمن زعم أن مرتكب الكبيرة كافر فقوله مردود بأدلة كثيرة منها هذا الحديث، والذين زعموا أن مرتكب الكبيرة كافر هم الخوارج ، وأيضاً قاربهم في ذلك المعتزلة ، فقالوا: هو في منزلة بين المنزلتين، لكن في الآخرة هو عندهم مخلدٌ في النار، فإذن هو عندهم كافر في الحكم والحقيقة، وإن كانوا لا يكفرونه في الاسم والإطلاق.(1/317)
يقول رحمه الله: "وفيه أن لا تنافي بين ارتكاب النهي وثبوت محبة الله ورسوله في قلب المرتكب؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أخبر بأن المذكور يحب الله ورسوله مع وجود ما صدر منه" فلا تنافي بين ارتكاب النهي أو الوقوع في المحرم أو ارتكاب الكبيرة وثبوت محبة الله ورسوله، وهذا يمكن أن نعبر عنه بتعبير آخر فنقول: إنه يجتمع في القلب الواحد الطاعة والمعصية، ويجتمع فيه الإيمان والنفاق، كما تجتمع فيه السنة والبدعة، فهناك المبتدع الخالص، والمنافق الخالص، والفاجر أو العاصي الخالص الذي لا خير فيه مطلقاً، لكن أيضاً نجد من يجتمع فيه الأمران، فهذا الرجل (ابن نعيمان ) أو (نعيمان ) اجتمع فيه أمران: شرب الخمر وهو كبيرة ومعصية ولا شك في ذلك، وحب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا من أعظم الأدلة على أصل عظيم عند أهل السنة والجماعة وهو أن الإيمان يزيد وينقص؛ لأن هذا الرجل لا يخلو من أن يقال فيه أحد قولين: إما أنه فاقد الإيمان كما تقول الخوارج ، وإما أن يكون كامل الإيمان كما تقول المرجئة ، وهذا الحديث رد عليهما، فلا هو كامل الإيمان، إذ كيف يقال: إنه كامل الإيمان وقد شرب الخمر؟ وليس بفاقد الإيمان، إذ كيف يكون فاقد الإيمان وهو يحب الله ورسوله؟
إذن لابد أن نقول: إنه ينقص إيمانه بقدر ما فيه من المعصية، ولكن له أيضاً من شعب الإيمان ما يكون إيمانه بها خيراً ممن هو أقل منه إيماناً، وأما نفي الإيمان عنه بالكلية فصريح الحديث يرده ويبطله.
تكرار المعصية لا يستلزم نفي محبة الله ورسوله(1/318)
يقول ابن حجر رحمه الله في ذكر فوائد الحديث: "وأن من تكررت منه المعصية لا تنزع منه محبة الله ورسوله" فنقول: من أين أخذ الحافظ رحمه الله هذه الفائدة؟ أخذها من قول الصحابي: (ما أكثر ما يؤتى به)، فالرجل كان يشرب مراراً، وهذا موضع الاستدلال، وفي هذا الاستدلال نظر قال: "وأن من تكررت منه المعصية لا تنزع منه محبة الله ورسوله" والمفروض أن يقال: لا تنتفي عنه محبة الله بالكلية، لكنها قد تنقص. والمقصود التحفظ على إطلاق الكلام، فلا تؤخذ هذه الفائدة على إطلاقها؛ بل لابد من التقييد، حيث إن هذا الصحابي كان يُغلب فيشرب الخمر.
ثم يرده حب الله ورسوله زمناً عن شرب الخمر، ثم يُغلب؛ أي أنه ليس في حالة استقرار على شربها ولا اطمئنان إلى ذلك، ولو وصل الأمر به إلى أن يكون مدمن خمر مطمئناً إليها، فهذا ينتزع منه حب الله ورسوله والعياذ بالله، وتسقط عنه سيما المؤمنين؛ لأنه أصبح مدمن خمر وملكت قلبه بالكلية، وهذا لا يظن بهذا الصحابي.
محبة الله ورسوله تستوجب حسن اتباعه صلى الله عليه وسلم(1/319)
إذن فالفائدة التي يمكن أن نستنتجها هي أن الإنسان مهما بلغ في الفضل والإيمان والتقوى يمكن أن يتكرر منه الذنب، وهذا ما وقع في حق ذلك الصحابي، ولأن حالته حالة خاصة ومخالفة للأصل، فقد أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم أنه يحب الله ورسوله، لكن العادة أن من يشرب الخمر مراراً لا يكون أهلاً لأن يثنى عليه أو يمدح، وهذا هو الأصل في من يشرب الخمر، لكن هذا الرجل ليس ممن أدمن، وإنما هو رجل فيه إيمان وفيه خير، إنما يغلبه شيطانه، ولا شك أن الصحابة رضي الله تعالى عنهم كانوا يشربون الخمر في أول الإسلام، فقد كانت الخمر حلالاً، فربما يكون هذا الرجل ممن كان قد اعتادها قبل أن تحرّم، ولم يستطع الفكاك منها، وهذا ليس عذراً له، ولكنه يجعلنا نعلم أن اجتماع محبة الله ورسوله مع تكرار هذا الذنب له ما يفسر بالنسبة لحالته، إلا أنه لا شك عندنا أنه مع حبه لله ورسوله لا يمكن أن يكون مدمناً محباً راضياً عن نفسه وهو يفعل هذه الفعلة، لكنه يغلب عليها، فهذا دليل على أنه غير مصر، قال تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ الله [آل عمران:31] ولا شك أن اتباع النبي صلى الله عليه وسلم هو الشرط في حصول المحبة ودعواها، ولهذا سمى السلف هذه الآية آية الامتحان وآية المحنة، فكل إنسان يدعي المحبة، لكن حقيقتها: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ الله وكذلك قال في آية الجهاد: قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ [التوبة:24] إلى أن قال: أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ [التوبة:24].(1/320)
ولو كان الإنسان محباً لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم: فإنه يتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يقدم هذا المتاع أو المحبات أو العلاقات على الجهاد في سبيل الله، لكن قد يقع الضعف من الإنسان ويدخل فيه التقصير فيجتمع في نفسه هذا وهذا، فوعيد الله هنا يتعلق بالمحبة المطلقة الكاملة، وهذا الصحابي يحب الله ورسوله إلا أن هذه المحبة تنخفض وترتفع عند إتيانه هذه المعصية.
معنى نفي الإيمان عن مرتكب الكبيرة
قال رحمه الله: "ويؤخذ منه تأكيد ما تقدم أن نفي الإيمان عن شارب الخمر لا يراد به زواله بالكلية" نفي الإيمان عن شارب الخمر، {ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن }. المقصود به -كما يقول الإمام- أنه لا يراد به زواله بالكلية، قال: "بل نفي كماله كما تقدم"، وهذا منطوق العبارة، ولو رجعنا إلى كلام الحافظ ابن حجر رحمه الله في أول الصحيح في كتاب الإيمان، لعلمنا لماذا وقع في مثل هذه العبارة، فهو -ابن حجر رحمه الله- يرى أن الأعمال كمال للإيمان، وأنها شرط في كمال الإيمان، وهو في هذا رحمه الله متأثر بكلام النووي والقاضي عياض والقرطبي رحمهم الله جميعاً، لكنه مع تبحره وسعة علمه ونقله عن أهل السنة من كتاب الإيمان للإمام أحمد ، ومن كتاب أصول أهل السنة والجماعة للالكائي ، ومن كتاب الشريعة للآجري ، ومن السنة لابن أبي عاصم وغيرها، وقد أدرج هذه النقولات بأكملها -تقريباً- في ضمن هذا الكتاب العظيم الذي هو الفتح ، إلا أنه في هذه النقطة تابع كلام هؤلاء الأئمة الشراح -على فضلهم وجلالتهم- الذين خفي عليهم الحق في هذه المسألة والتبست عليهم القضية، فجعلوا الفرق بين مذهب المعتزلة ومذهب السلف أن المعتزلة يرون أن الأعمال شرط في ثبوت الإيمان، والسلف يرون أن الأعمال شرط في كمال الإيمان، وليس هذا مذهب السلف ، فمذهب أهل السنة والجماعة في الإيمان أنه قول وعمل، فالأعمال هي جزء من الإيمان.
النهي عن لعن مرتكب الكبيرة(1/321)
من درس: أحكام تتعلق بمرتكب الكبيرة
قال ابن حجر رحمه الله في (ص:78) ذاكراً الفوائد من الحديث: "وفيه الرد على من زعم أن مرتكب الكبيرة كافر لثبوت النهي عن لعنه، والأمر بالدعاء له" وهذا واضح والحمد لله، حيث أن هذا الرجل صحابي وشرب الخمر، فلم ينف عنه شرب الخمر صحبته، بل أثبت له النبي صلى الله عليه وسلم أمراً زائداً عن مجرد الصحبة، وهو أنه يحب الله ورسوله، وهذه ليست في كل أحد من الناس، فهذه صفة لم يشهد بها النبي صلى الله عليه وسلم لكل أحد، بل وجد في زمنه صلى الله عليه وسلم من الأعراب ومن ضعفاء الإيمان ومن أشباههم من لم ينل شرف هذه الشهادة، فمرتكب الكبيرة كما هو معلوم عند أهل السنة والجماعة لا يكفر، ولا يخرج من الملة، فمن زعم أن مرتكب الكبيرة كافر فقوله مردود بأدلة كثيرة منها هذا الحديث، والذين زعموا أن مرتكب الكبيرة كافر هم الخوارج ، وأيضاً قاربهم في ذلك المعتزلة ، فقالوا: هو في منزلة بين المنزلتين، لكن في الآخرة هو عندهم مخلدٌ في النار، فإذن هو عندهم كافر في الحكم والحقيقة، وإن كانوا لا يكفرونه في الاسم والإطلاق.(1/322)
يقول رحمه الله: "وفيه أن لا تنافي بين ارتكاب النهي وثبوت محبة الله ورسوله في قلب المرتكب؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أخبر بأن المذكور يحب الله ورسوله مع وجود ما صدر منه" فلا تنافي بين ارتكاب النهي أو الوقوع في المحرم أو ارتكاب الكبيرة وثبوت محبة الله ورسوله، وهذا يمكن أن نعبر عنه بتعبير آخر فنقول: إنه يجتمع في القلب الواحد الطاعة والمعصية، ويجتمع فيه الإيمان والنفاق، كما تجتمع فيه السنة والبدعة، فهناك المبتدع الخالص، والمنافق الخالص، والفاجر أو العاصي الخالص الذي لا خير فيه مطلقاً، لكن أيضاً نجد من يجتمع فيه الأمران، فهذا الرجل (ابن نعيمان ) أو (نعيمان ) اجتمع فيه أمران: شرب الخمر وهو كبيرة ومعصية ولا شك في ذلك، وحب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا من أعظم الأدلة على أصل عظيم عند أهل السنة والجماعة وهو أن الإيمان يزيد وينقص؛ لأن هذا الرجل لا يخلو من أن يقال فيه أحد قولين: إما أنه فاقد الإيمان كما تقول الخوارج ، وإما أن يكون كامل الإيمان كما تقول المرجئة ، وهذا الحديث رد عليهما، فلا هو كامل الإيمان، إذ كيف يقال: إنه كامل الإيمان وقد شرب الخمر؟ وليس بفاقد الإيمان، إذ كيف يكون فاقد الإيمان وهو يحب الله ورسوله؟
إذن لابد أن نقول: إنه ينقص إيمانه بقدر ما فيه من المعصية، ولكن له أيضاً من شعب الإيمان ما يكون إيمانه بها خيراً ممن هو أقل منه إيماناً، وأما نفي الإيمان عنه بالكلية فصريح الحديث يرده ويبطله.
تكرار المعصية لا يستلزم نفي محبة الله ورسوله
من درس: أحكام تتعلق بمرتكب الكبيرة(1/323)
يقول ابن حجر رحمه الله في ذكر فوائد الحديث: "وأن من تكررت منه المعصية لا تنزع منه محبة الله ورسوله" فنقول: من أين أخذ الحافظ رحمه الله هذه الفائدة؟ أخذها من قول الصحابي: (ما أكثر ما يؤتى به)، فالرجل كان يشرب مراراً، وهذا موضع الاستدلال، وفي هذا الاستدلال نظر قال: "وأن من تكررت منه المعصية لا تنزع منه محبة الله ورسوله" والمفروض أن يقال: لا تنتفي عنه محبة الله بالكلية، لكنها قد تنقص. والمقصود التحفظ على إطلاق الكلام، فلا تؤخذ هذه الفائدة على إطلاقها؛ بل لابد من التقييد، حيث إن هذا الصحابي كان يُغلب فيشرب الخمر.
ثم يرده حب الله ورسوله زمناً عن شرب الخمر، ثم يُغلب؛ أي أنه ليس في حالة استقرار على شربها ولا اطمئنان إلى ذلك، ولو وصل الأمر به إلى أن يكون مدمن خمر مطمئناً إليها، فهذا ينتزع منه حب الله ورسوله والعياذ بالله، وتسقط عنه سيما المؤمنين؛ لأنه أصبح مدمن خمر وملكت قلبه بالكلية، وهذا لا يظن بهذا الصحابي.
محبة الله ورسوله تستوجب حسن اتباعه صلى الله عليه وسلم
من درس: أحكام تتعلق بمرتكب الكبيرة(1/324)
إذن فالفائدة التي يمكن أن نستنتجها هي أن الإنسان مهما بلغ في الفضل والإيمان والتقوى يمكن أن يتكرر منه الذنب، وهذا ما وقع في حق ذلك الصحابي، ولأن حالته حالة خاصة ومخالفة للأصل، فقد أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم أنه يحب الله ورسوله، لكن العادة أن من يشرب الخمر مراراً لا يكون أهلاً لأن يثنى عليه أو يمدح، وهذا هو الأصل في من يشرب الخمر، لكن هذا الرجل ليس ممن أدمن، وإنما هو رجل فيه إيمان وفيه خير، إنما يغلبه شيطانه، ولا شك أن الصحابة رضي الله تعالى عنهم كانوا يشربون الخمر في أول الإسلام، فقد كانت الخمر حلالاً، فربما يكون هذا الرجل ممن كان قد اعتادها قبل أن تحرّم، ولم يستطع الفكاك منها، وهذا ليس عذراً له، ولكنه يجعلنا نعلم أن اجتماع محبة الله ورسوله مع تكرار هذا الذنب له ما يفسر بالنسبة لحالته، إلا أنه لا شك عندنا أنه مع حبه لله ورسوله لا يمكن أن يكون مدمناً محباً راضياً عن نفسه وهو يفعل هذه الفعلة، لكنه يغلب عليها، فهذا دليل على أنه غير مصر، قال تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ الله [آل عمران:31] ولا شك أن اتباع النبي صلى الله عليه وسلم هو الشرط في حصول المحبة ودعواها، ولهذا سمى السلف هذه الآية آية الامتحان وآية المحنة، فكل إنسان يدعي المحبة، لكن حقيقتها: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ الله وكذلك قال في آية الجهاد: قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ [التوبة:24] إلى أن قال: أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ [التوبة:24].(1/325)
ولو كان الإنسان محباً لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم: فإنه يتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يقدم هذا المتاع أو المحبات أو العلاقات على الجهاد في سبيل الله، لكن قد يقع الضعف من الإنسان ويدخل فيه التقصير فيجتمع في نفسه هذا وهذا، فوعيد الله هنا يتعلق بالمحبة المطلقة الكاملة، وهذا الصحابي يحب الله ورسوله إلا أن هذه المحبة تنخفض وترتفع عند إتيانه هذه المعصية.
معنى نفي الإيمان عن مرتكب الكبيرة
من درس: أحكام تتعلق بمرتكب الكبيرة
قال رحمه الله: "ويؤخذ منه تأكيد ما تقدم أن نفي الإيمان عن شارب الخمر لا يراد به زواله بالكلية" نفي الإيمان عن شارب الخمر، {ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن }. المقصود به -كما يقول الإمام- أنه لا يراد به زواله بالكلية، قال: "بل نفي كماله كما تقدم"، وهذا منطوق العبارة، ولو رجعنا إلى كلام الحافظ ابن حجر رحمه الله في أول الصحيح في كتاب الإيمان، لعلمنا لماذا وقع في مثل هذه العبارة، فهو -ابن حجر رحمه الله- يرى أن الأعمال كمال للإيمان، وأنها شرط في كمال الإيمان، وهو في هذا رحمه الله متأثر بكلام النووي والقاضي عياض والقرطبي رحمهم الله جميعاً، لكنه مع تبحره وسعة علمه ونقله عن أهل السنة من كتاب الإيمان للإمام أحمد ، ومن كتاب أصول أهل السنة والجماعة للالكائي ، ومن كتاب الشريعة للآجري ، ومن السنة لابن أبي عاصم وغيرها، وقد أدرج هذه النقولات بأكملها -تقريباً- في ضمن هذا الكتاب العظيم الذي هو الفتح ، إلا أنه في هذه النقطة تابع كلام هؤلاء الأئمة الشراح -على فضلهم وجلالتهم- الذين خفي عليهم الحق في هذه المسألة والتبست عليهم القضية، فجعلوا الفرق بين مذهب المعتزلة ومذهب السلف أن المعتزلة يرون أن الأعمال شرط في ثبوت الإيمان، والسلف يرون أن الأعمال شرط في كمال الإيمان، وليس هذا مذهب السلف ، فمذهب أهل السنة والجماعة في الإيمان أنه قول وعمل، فالأعمال هي جزء من الإيمان.(1/326)
عقيدة أهل السنة والجماعة في الإيمان الزيادة والنقصان
من درس: التكفير وضوابطه (الحلقة الحادية عشرة)
إن الفرق الواضح بين أهل السنة وبين المعتزلة هو أن أهل السنة يقولون: إن الإيمان يزيد وينقص، بينما المعتزلة لا يرون ذلك، فهذا فرق واضح، وليس عند أهل السنة والجماعة مشكلة في حكم صاحب الكبيرة أنه ناقص الإيمان، فإذا كان يشرب الخمر فلا شك أنه ناقص الإيمان، فلو جمع مع الخمر الزنا فإنه يكون أشد نقصاً، وحين يجمع مع ذلك عقوق الوالدين -والعياذ بالله- يكون أكثر نقصاً، وهكذا.
وكذلك إن كان في طاعة كأن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر فيكون له في الدين درجة عظيمة، ولو زاد على ذلك أنه يحفظ كتاب الله ويتلوه آناء الليل وآناء النهار، فيكون له درجة أعظم، ولو زاد على ذلك أن جاهد في سبيل الله، فهذا درجته أعظم، وهكذا.
فالإيمان ينقسم إلى شعب كما في الحديث الصحيح: {الإيمان بضع وسبعون أو قال بضع وستون شعبة } فبقدر ما يحقق الإنسان من الشعب يكون إيمانه أكثر، وبقدر ما يفقد من هذه الشعب يفقد من الإيمان.(1/327)
فعلى منهج أهل السنة والجماعة لا نقول: إن الأعمال شرط في كمال الإيمان، ولا في وجود أصله، وإنما نقول: الأعمال جزء من الإيمان، وبعضها جزء من أصله، وبعضها جزء من كماله الواجب، وبعضها جزء من كماله المستحب، بمعنى أن بعض الأعمال شرط في أصل الإيمان، وبعض الأعمال من الكمال الواجب، وبعضها من الكمال المستحب، ففي أعمال الجوارح مما هو من شعب الإيمان: شهادة أن لا إله إلاَّ الله، وهي من أصل الإيمان، كما أجمع السلف أيضاً على أن الصلاة من أصل الإيمان، فتارك الصلاة نقول عنه: إنه ترك أصل الإيمان، كما أجمع عليه الصحابة رضي الله تعالى عنهم، أما من ترك واجباً من الواجبات في الصلاة أو في الحج أو ترك أي عمل من الأعمال الواجبة الكثيرة يعني كترك الإحسان إلى الجار، وترك بر الوالدين، فهذا نقول عنه: إنه لا ينتفي عنه أصل الإيمان، لكن نقول: ينتفي عنه كمال الإيمان، والمقصود كماله الواجب.
فلو ضربنا كل الأمثلة في الصلاة، فنقول: من ترك أصل الصلاة، فهذا ترك أصل الإيمان، ومن ترك صلاة الجماعة، فقد ترك الكمال الواجب؛ لأنه واجب، أما من ترك بعض النوافل، وبعض السنن المستحبة فقد ترك الكمال المستحب.
إذن: أهل السنة منهجهم في الإيمان منضبط وواضح والحمد لله، ولا يؤثر مثل هذا القول الذي قال به الإمام الحافظ رحمه الله على منزلته وعلمه؛ لأنه:
كفى المرء نبلاً أن تعد معايبه
فمثل هذا الكتاب العظيم والذي جمع فيه من جميع فنون العلوم: من علم العربية، إلى علم التاريخ والسير، إلى الفقه بجميع أنواعه وأحكامه، إلى الرجال والجرح والتعديل، وعلم المصطلح، وعلوم القرآن، فقد جمع الحافظ في فتح الباري علوماً عظيمة، فلا يضره رحمه الله ورضي الله عنه وأرضاه أنه أخطأ في متابعته لبعض الأئمة، وهم أئمة ثقات جبال في العلم، لكن جل من لا يسهو.(1/328)
ولو رجعنا إلى أول كتاب الإيمان ونظرنا إلى ما قاله الحافظ رحمه الله عن الإيمان في موضعه وما قاله هنا، فلابد لنا من تقييد كلامه رحمه الله، يعني في مسألة زيادته ونقصه، فأهل السنة والجماعة بخلافه فالإيمان عندهم يزيد وينقص، والأعمال تتفاوت، والناس يتفاوتون فيه بحسب ما يأتون من شعب الإيمان وما يتركون، ولذلك يمكن تطبيق هذه القاعدة على حديث الشعب: {أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان } فالحديث اشتمل على ثلاثة أمثلة، فالذي لا يأتي بالشهادة قد أخل بأصل الإيمان، والذي ليس عنده حياء قد أخل بواجبات الإيمان، والذي لم يمط الأذى عن الطريق ترك الكمال المستحب، كما يفهم قول الفقهاء حين يتكلمون عن الغسل الكامل أو الوضوء الكامل، والغسل المجزئ أو الوضوء المجزئ، فماذا يقصدون بالكامل؟ نقول: الفقهاء دائماً يعنون الكمال المستحب، وماذا يقصدون بالصلاة الكاملة؟ أي الصلاة التي يؤتى بأركانها وشروطها وواجباتها ومستحباتها.
لكن في عرف المتكلمين في الإيمان أو أصحاب العقيدة أو عندما نتكلم في أبواب الإيمان، فعند إطلاق الكمال، فإنه يطلق باعتبارين: باعتبار الكمال الواجب الذي نقصه يُعد معصية وذنباً يعاقب عليه، والكمال المستحب الذي نقصه يُعد تفويتاً للأفضلية.
قال الحافظ رحمه الله كأنه يستدرك: "ويحتمل أن يكون استمرار ثبوت محبة الله ورسوله في قلب العاصي مقيداً بما إذا ندم على وقوع المعصية"، وهو يقصد من وقع في الذنب غير مصر عليه "وأقيم عليه الحد فكفر عنه الذنب المذكور، بخلاف من لم يقع منه ذلك" يعني: لم يقع منه الندم ولم يقم عليه الحد "فإنه يخشى عليه بتكرار الذنب أن يطبع على قلبه حتى يسلب منه ذلك، نسأل الله العفو والعافية".
حكم من قال بمقالات أهل الأهواء والبدع
من درس: التكفير وضوابطه (الحلقة الحادية عشرة)(1/329)
يقول المصنف رحمه الله: [وهذا أمر متيقن به في طوائف كثيرة وأئمة في العلم والدين، وفيهم بعض مقالات الجهمية أو المرجئة أو القدرية أو الشيعة أو الخوارج ، ولكن الأئمة في العلم والدين لا يكونون قائمين بجملة تلك البدعة، بل بفرعٍ منها، ولهذا انتحل أهل هذه الأهواء لطوائف من السلف المشاهير.
فمن عيوب أهل البدع تكفير بعضهم بعضاً، ومن ممادح أهل العلم أنهم يخطئون ولا يكفرون ].
اجتماع الطاعة والبدعة في الفرق والأعيان(1/330)
فقول المصنف: [وهذا أمر متيقن به في طوائف كثيرة وأئمة في العلم والدين]، يعني اجتماع الوقوع في البدعة أو المعصية أو الذنب أو النفاق العملي مع محبة الله ورسوله والإيمان باطناً أمر متيقن به في طوائف كثيرة، هذا بالنسبة للفرق، وأيضاً عند أئمة في العلم والدين كثيرين، فيلاحظ اجتماع البدعة والطاعة، أو البدعة ومحبة الله ورسوله في الباطن حتى عند بعض الطوائف البدعية، ولذلك نجد الخوارج على سبيل المثال لم يكفرهم كثير من السلف ، وتوقف فيهم الإمام أحمد ، وظاهر كلامه أنه لا يكفرهم رحمه الله، وقد جاء في الحديث: {يمرقون من الدين } إلى آخره، لكن الخوارج في واقع أمرهم وحالهم في الباطن يحبون الله ورسوله، بغض النظر عمن غلا منهم ومرق من الدين، لكن أول من خرج منهم وهم القراء متيقن أن عندهم محبة الله ورسوله، ولهذا لما قيل لعلي رضي الله تعالى عنه: [أكفار هم؟ قال: من الكفر فروا، قالوا: أمنافقون هم؟ قال: إن المنافقين يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلاً، وهؤلاء يذكرون الله كثيراً ]، يعني هم ليسوا كفاراً ولا منافقين، ويتضح ذلك من حالهم وشدة اجتهادهم في العبادة، وقراءتهم للقرآن ومحبتهم له، وحرصهم على الاقتداء بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، والاقتداء بالشيخين والترضي عنهما، فأصل مشكلة الخوارج كما تعلمون الغلو في الدين وليست في التفريط والتهاون، فالغلو هو الذي جعلهم يريدون أن يكون عثمان وعلي كأبي بكر وعمر ، ولم يقبلوا أن يكون الخليفة أقل في كماله أقل من أبي بكر وعمر والكمال العالي جداً لا يصله كل أحد، وهناك كمال أقل منه وهو كمال معتبر أيضاً، وقد كانت مشكلة الخوارج أنهم أرادوا أن يكون معيار الكمال معياراً واحداً لكل أحد، فهم في الباطن يحبون الله ورسوله؛ فهذا كمثال، ولهذا تجدون في مقابلهم دائماً الروافض وقد ذكرهم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله مقابل الخوارج وما هم عليه في الباطن ، فالروافض هم الفرقة(1/331)
التي تجد قلوبها في الباطن مبنية على النفاق، فالأصل فيهم النفاق مع إظهار الخير والدين، ومحبة الله ومحبة الرسول صلى الله عليه وسلم ومحبة الصحابة والمؤمنين أحياناً، لكن الباطن بخلاف ذلك، فأصل مذهبهم النفاق، وأما الخوارج فأصل مذهبهم الإخلاص، لكن لم يأتوا بالموافقة وبالمتابعة، والإخلاص ضد النفاق، هذا من حيث الأصل ككل، والفرق بعد ذلك تتشعب والأفراد يختلفون، وهذا أمر آخر، لكن كمبدأ عام فإن الفرقة الواحدة تتفرع، فالشيعة تفرع منهم الرافضة ، وكان من الشيعة غير الغلاة من يقدم علياً على عثمان رضي الله تعالى عنهما، أو فيهم تشيع يسير في المواقف العملية، لكنهم في حقيقة أمرهم أئمة وعلماء وعباد، ويحبون الله ورسوله، إلا أنهم وقعوا في هذه البدعة، وهي بدعة قد غَلَظَ فيها بعض السلف حتى قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى: (من فضل علياً على عثمان فقد أزرى بالمهاجرين والأنصار)؛ لأنهم بعد موته صلى الله عليه وسلم كانوا إذا تكلموا يقولون: أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي وهذا شائع ومشهور بينهم، ومن فضل علياً على عثمان وخالفهم في هذا الترتيب، فقد أزرى بهم، فكأنه احتقر عقولهم واحتقر رأيهم، إذن فمثل هؤلاء الشيعة عندهم حب الله ورسوله وفيهم الإيمان، ولكن وقعوا في مثل هذه البدعة، وتفاوتوا فيها، كما يوجد أناس في واقعنا المعاصر يقيمون البدع وينسبونها إلى محبة الرسول صلى الله عليه وسلم، فلا نستطيع نفي المحبة لله ورسوله عنهم، ولكننا نستطيع أن ننفي عنهم فعل الصواب والمتابعة والموافقة، وأنهم في هذا العمل لم يتابعوا النبي صلى الله عليه وسلم ولم يتبعوا سنته، ولم يوافقوا هديه وهدي خلفائه الراشدين وصحابته.(1/332)
فما دمنا لا نستطيع أن ننفي عنهم الإيمان في الباطن، فهم ليسوا كفاراً؛ لأنهم مع بدعتهم مسلمون، وهذا هو مقصود الشارح من قوله: [وهذا أمر متيقن به في طوائف كثيرة، وأئمة في العلم والدين] فيوجد أئمة من أئمة العلم والدين والهدى يخطئون في بعض المسائل، يقول: [وفيهم بعض مقالات الجهمية ، أو المرجئة ، أو القدرية ، أو الشيعة ، أو الخوارج ، ولكن الأئمة في العلم والدين لا يكونون قائمين بجملة تلك البدعة أي: بالمنهج كله، بل بفرع منها] وهذا فرق عظيم ومهم جداً، ونحن أمة العدل الذين أمرنا الله بالعدل؛ يجب أن نعدل وننصف في حكمنا على الأئمة وعلى الطوائف وعلى الناس مراعين هذا الجانب.
أخطاء بعض الأئمة في موافقتهم لمقالات أهل البدع
وفي إشارتنا إلى بعض الأئمة، نورد هنا مثالاً، فالإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى أخطأ في مسألة الإيمان، وقال بقول المرجئة ، يعني: أخرج العمل من الإيمان، أو على الأقل فإن تلميذيه وصاحبيه أبا يوسف ومحمد بن الحسن بقيا ثابتين على ذلك.(1/333)
كما أن من الأمثلة ما جاء عن بعض المتأخرين الذين وافقوا الجهمية . ومنهم الإمام أبو حامد الغزالي الذي وافق في كتبه كلام الجهمية في نفي الصفات، فقد جاء عنه في الحديث الذي فيه أن الله سبحانه وتعالى يضع قدمه في نار جهنم، أنه يقول: يضع الجبار، والجبار اسم ملك، أو أن الجبار هو الشيطان، يعني يقول: إن التأويل لابد منه هنا، وعلى هذا فإن أبا حامد الغزالي وقع في بعض مقالات الجهمية ، ووقع أيضاً في بعض مقالات من هو أشد من الجهمية وهم الباطنية ، فتجدون كلام الغزالي عندما يتكلم عن العلم الباطن، والعلم الظاهر، وعالم الملكوت، وعالم الجبروت، وهذا مذهب الباطنية ، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعلم الناس العلم الظاهر، وكان هناك علم باطن اختص به علي بن أبي طالب أو اختص به فلاناً أو فلاناً، وحاشاه من ذلك صلى الله عليه وسلم! لكن هذا هو معتقدهم، فيأتي الإمام الغزالي رحمه الله ويكتب المضنون به على غير أهله -سبحان الله- ويقول: هذا العلم لا يقبله العامة، ويقول: هذه العلوم النفيسة لا تعطى للعامة.
يا رب جوهر علم لو أبوح به لقيل لي: أنت ممن يعبد الوثنا
ولاستحل أناس مسلمون دمي يرون أقبح ما يأتونه حسنا
يقول هذا الشاعر: هناك جوهر علم لا نبثه في الناس ولا نقوله؛ لأننا لو قلناه لقيل: هؤلاء ممن يعبدون الوثن ولتقرب المسلمون بدمائنا، وهم يرون ذلك من أفضل الأعمال، ولذلك فلن نبث ذلك العلم.
وهذا الأمر عجيب عنهم، فلماذا لا يظهرون هذا العلم لو كان حقاً؟!(1/334)
فوقع في كلام الغزالي رحمه الله ما هو من جنس كلام القرامطة الباطنية وأتباعهم، بل وقع في كلامه ما هو من جنس كلام الفلاسفة والمناطقة؛ حتى قال الغزالي رحمه الله في أول كتاب المستصفى : "من لم يتعلم المنطق وقواعده لا يوثق بعلمه"، وهذا شيء عجيب جداً وناقشه فيه الأئمة، حتى إن المازري رحمه الله رد عليه وكان من علماء المغرب في دولة المرابطين، وكانت كتب الغزالي تحرق حرقاً، إذ كيف يقول هذا الكلام، والصحابة رضي الله تعالى عنهم وهم أوثق الناس علماً، ونحن نثق بعلمهم أعظم الثقة، لم يتعلموا قواعد المنطق، ولا من جاء بعدهم؟! فالمقصود أنه وقع في كلامه من جنس كلام هؤلاء، ومع ذلك فمن يستطيع أن يشهد ويتحمل القول بأنه في الباطن لا يحب الله ورسوله؟ هذا لا يقوله أحد.
ولهذا اختلف العلماء في حكمه وفي إعذاره وعدم إعذاره، ولكنهم لم يقولوا عنه: إنه كافر أو مرتد، إذن فالعالم يمكن أن يجتمع فيه محبة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم والإيمان، ومع ذلك يقع في مثل هذه الأقوال وموافقة كلام الآخرين، ولو أن كل مبتدع يكفر؛ لقلنا: بكفر أناس لا نجزم نحن بأنهم في الباطن منافقون وكفار وزنادقة، لكننا نعتقد أنه تجتمع فيهم محبة الله ورسوله، والوقوع في هذه البدع.
فلو أن المسلمين فهموا هذه الأمور وأخذوا هذه القواعد الذهبية المستقيمة لما جاروا في الأحكام، فهم في حالين متعاكستين: إما غلو في المحبة يتناسون معه الأخطاء وإن كانت كبيرة وفادحة، وإما غلو في العداوة يتناسون معه الفضائل وإن كانت عظيمة وظاهرة.(1/335)
كما وقع الخطأ من بعض الشراح الكبار للحديث، فجاء في شروحهم موافقة لكلام غيرهم، حتى الحافظ ابن حجر رحمه الله نجد أنه ينقل كثيراً عن ابن فورك في كتابه، وينقل عن أبي المعالي الجويني تأويلات؛ خاصة عند شرحه كتاب التوحيد وإثبات الصفات من صحيح البخاري ، فماذا نقول في هؤلاء الأئمة؟ لا يحل لأحد أن يقول: إنهم في الباطن لا يريدون الحق، أو إنهم منافقون أو يكرهون الحق؟! لكننا نقول: إنهم أخطئوا فوافقوا غيرهم ووقعوا في أخطائه.
قال رحمه الله: [ولكن الأئمة في العلم والدين لا يكونون قائمين بجملة تلك البدعة] فنقول: هل يكون أحد من أئمة العلم والدين متمسكاً وقائماً بكل البدعة؟ يعني: هل يكون باطنياً كاملاً؟ إذا صار باطنياً كاملاً فقد خرج عن أهل السنة وليس بإمام في الدين، وهل يمكن أن يأخذ التجهم كاملاً، فيكون جهمياً من جميع الوجوه؟ أيضاً لا يكون ذلك، ولو كان كذلك لم يعد في العلماء والأئمة، وإنما يعد مع تلك الفرقة ومن أهلها.
وفي عصرنا الحاضر يوجد بعض العلماء الذين يعدون من الأئمة الدعاة ولهم فضل، وهم على خير، وقعوا في أخطاء مماثلة، فيقوم أحدهم رغبة منه في التعبير عن العدالة الاجتماعية في الإسلام فيقول: هذه اشتراكية في الإسلام، فهل نقول: هذا على مذهب لينين واستالين وجورباتشوف ؟ إننا سنكون عندئذٍ ظالمين وجائرين في الحكم؛ لأننا لا نستطيع أن نجزم بما في باطنه، ولا نعلم أنه في الباطن اشتراكي أو شيوعي أو غير ذلك، لكن نقول: هو أخطأ عندما أخذ بهذا الكلام.(1/336)
رجل آخر يقول: الديمقراطية هي الإسلام، فهل يعني هذا أنه ديمقراطي ومن دعاة الديمقراطية الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، ويحكمون أهواء الناس وآراء الناس؟ كلا! لا يجوز ذلك، وليس هذا من العدل، ولكن نخطئ الفكرة وننقضها، أما الرجل فينظر إليه بحسب حاله، فقد يكون من أهل الخير والصلاح، وقد يكون مجرماً مفسداً أيضاً؛ لأنه لو كان ديمقراطياً مائة بالمائة، أو اشتراكياً مائة بالمائة، أو قومياً مائة بالمائة، لما كان من أهل الدين والدعوة والإيمان أصلاً، وإنما كان محسوباً في عداد أهل هذه المذاهب الباطلة.
من استكمل أصول مذهب معين صار من أهله
قاعدة مهمة: كل مذهب من المذاهب ومبدأ من المبادئ له أصول، من استكملها فقد استكمل المذهب، كما نقول: مذهب أهل السنة والجماعة له أصول، من استكملها فهو من أهل السنة ، ومن نقص واحداً منها نقص من أصول أهل السنة شيئاً، وتعرضنا لهذا في معرفة الفرق، ونقول: المعتزلي هو من يؤمن بالأصول الخمسة، فإن جاءنا من يوافق المعتزلة في أصلهم الذي يسمونه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو يعني -عندهم-: الخروج على أئمة الجور، فهل نقول: هذا معتزلي بإطلاق؟ الجواب: لا. لكن نقول: هذا الرجل وافق المعتزلة في رأيهم في هذه القضية، ونقول: هو معتزلي في مسألة الخروج، فنقيد المسألة.(1/337)
ولو أن رجلاً آخر أخطأ في الإيمان -كبعض فقهاء الحنفية- لكنه في موضوع القدر والصفات، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والصحابة رضي الله تعالى عنهم، وجميع أبواب التوحيد على منهج أهل السنة ، فإن كان وافق المرجئة فنقول: هذا وافق المرجئة في الإيمان، وإن كان وافق المعتزلة فنقول: هذا وافق المعتزلة في الإيمان، ولذلك تجدون أن أعدل الناس هم أهل السنة ؛ لأن الله تعالى علم فيهم العدل والصدق والإخلاص، فرفع منزلتهم في الأمة، فهم في الجرح والتعديل يطلقون عدة عبارات، فيقولون عن فلان: فيه تشيع، وأحياناً يقولون: رافضي، وأحياناً يقولون: رافضي جلد، وأحياناً يقولون: سبئي، فهم يقولون في الرجل بحسب ما فيه، فلا يظلمونه ولا يزيدون على الحق، فهم يحكمون على الناس من خلال ما فيهم، فكل فرقة لها ضابط معين.
الرد على أهل الأهواء ليس شرطاً في صحة مذهب القائل به
وقد يكون ممن رد على بعض الفرق من وقع في بعض مقالتهم، فمثلاً ابن الجوزي رحمه الله في المنتظم وفي غيره من الكتب يهاجم الأشعرية هجوماً عنيفاً، وابن رشد يهاجم الأشعرية هجوماً عنيفاً، فلو وجدنا هذا الكلام عن ابن رشد ، فهل نقول: إنه من أهل السنة والجماعة ؛ لأنه يهاجم الأشاعرة ؟ لا. هو ليس كذلك، فابن رشد هذا شر من الأشاعرة ، فهم أقرب إلينا منه مع مهاجمته لهم؛ لأنه يقول قول الفلاسفة الذين هم أبعد الفرق في الانحراف حسب دوائر الانحراف والكفر التي رتبناها للفرق.(1/338)
إذن لا نقول: هذا من أهل السنة ؛ لأنه رد على الأشاعرة ، وكذلك ابن الجوزي رحمه الله رد عليهم، بينما تجده هو نفسه يؤول الصفات، ويتبع في ذلك شيخه ابن عقيل ، وشيخه ابن عقيل كان أقرب ما يكون من مذهب الاعتزال مع أنه حنبلي، وكذلك تلميذه ابن الجوزي كان حنبلياً، وقد وقع في شر مما وقع فيه الأشاعرة ، أو في مثله وهو يهاجمهم ويتكلم عليهم، لكن هو في نفس الوقت ليس من أهل السنة في هذه المسألة التي يقول فيها بخلاف قول أهل السنة ، يعني: نجد أنه اجتمع فيه أنه من أهل السنة في جوانب كثيرة، ولكن عنده تأويل في جوانب أخرى، وهكذا فلا نستطيع أن نقول: إنه أشعري لمجرد أنه أوَّل؛ لأنه هو نفسه يرد على الأشاعرة ، ولا نستطيع أن نقول: إنه من أهل السنة ؛ برده على الأشاعرة ؛ لأنه مع رده عليهم وقع فيما وقعوا فيه في أبواب أخرى، إذن فلابد من الميزان، وقد قال الله تعالى: وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ [الرحمن:7] * أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ [الرحمن:8] * وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ [الرحمن:9] لابد من الميزان العدل الذي نحكم به على الأفراد وعلى الجماعات وعلى الطوائف وعلى الأمم وعلى المواقف، ويكون الميزان هو ميزان العدل إن شاء الله في جميع أمورنا.
انتحال أهل الأهواء الانتساب للأئمة(1/339)
يقول المصنف: [ولكن الأئمة في العلم والدين لا يكونون قائمين بجملة تلك البدعة]، فلا نجد أبداً عالماً من أئمة الدين المتبوعين قائماً بجملة بدعة من البدع، يعني: آخذاً بمنهجها كله، لكن يحصل أنه يخطئ في مسألة أو يتابع في جزئية، فما يكون بعد ذلك من الأتباع إلا أن ينسبوه كله له ويتغاضون عن فضائله، فمثلاً الإمام مالك رحمه الله كان أول مذهبه في الصفات على منهج أهل السنة والجماعة ، وسار على منهجه أئمة المذهب المشهورون الكبار وظهر منهم الإمام ابن أبي زيد القيرواني الذي يسمونه مالكاً الصغير؛ لأنه أحيا وجدد ذكر الإمام مالك رحمه الله تعالى، فكتب الرسالة في فقه المالكية، وبدأه بمقدمة في العقيدة والإيمان -وهذه عادة طيبة وحسنة- والرسالة لابن أبي زيد يقال: إنها أول مدونة قانونية جمعت مواد تشريعية، وهو كتاب قيم ولا شك، وبالذات في المذهب، فمقدمة الرسالة مقدمة إيمانية سلفية ليس عليها غبار، فجاء من بعده وحاولوا أن يجعلوا الشيخ أشعرياً على مذهبهم، والشيخ ابن أبي زيد كلامه واضح، فمثلاً في مسألة العلو يقول: (وهو على عرشه المجيد بذاته) وهذا إثبات العلو (وفي كل مكان بعلمه) وهذه عبارة واضحة لا لبس فيها، فجاء الأشعرية ليؤولوا كلامه، فقالوا: (وهو على عرشه)، إلى هنا تنتهي العبارة، ثم تستأنف بقول: (المجيدُ بذاته)، أي أن الله مجيد بذاته، وهو حكيم بذاته، وعليم بذاته، أما أن يكون (وهو على عرشه المجيد) فتكون المجيد هنا صفة للعرش، فقد رفضوا ذلك، لأننا إذا قلنا: (وهو على عرشه المجيدِ بذاته) أثبتنا العلو، وهم لا يريدون ذلك بل يريدون أن يؤولوا كلامه ليوافق مذهبهم، من أجل أن ينتحلوا من ليس منهم.(1/340)
وإن أمامنا مثالاً واضحاً جلياً في مسألة الانتحال، فهذا الإمام زيد المشهور نسبة الزيدية إليه، والزيدية على منهج ومذهب المعتزلة ثم يقولون: نحن زيدية ، فيقال: ليس عند زيد ما يوافق به منهج الزيدية ، فإن زيداً وافق المعتزلة في مسألة واحدة فقط وهي مسألة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتي على أساسها خرج على بني أمية، ولم يكونوا كفاراً، بل كانوا حكام جور، وخرج من اتبعه من بعده على بني العباس، فخرجوا على أئمة الجور، ورغم هذا فنقول: لا نجزم أنه كان يعتقد هذا المبدأ للاعتقاد، لكن قد يكون رأى المصلحة في هذا الخروج. والمقصود أن الزيدية جاءوا من بعده ونسبوا كل مذهب المعتزلة إليه، وقالوا: من فضل زيد وشرفه وعلمه أنه تلقى المذهب على يد عمرو بن عبيد وواصل بن عطاء ، بئس الشيخ وبئس المعلم عمرو بن عبيد وواصل بن عطاء ! لكن يظن الزيدية أنه مدح لزيد أن يقال عنه: إنه تلقى ذلك عنهما، كما يقولون أنهما تلقيا المذهب عن الحسن بن محمد بن الحنفية أو عن أبي هاشم ، ثم مع ظنهم أن الاعتزال شيء عظيم نسبوا أئمتهم إلى الاعتزال ونسبوا الاعتزال أيضاً إلى أئمتهم، وأغرب من ذلك أنك تجد في كتاب المنية والأمل ، وهو من كتبهم في الفرق يزعمون أن أول من قام بهذا المذهب الخلفاء الراشدون، حتى كادوا أن يجعلوا النبي صلى الله عليه وسلم على مذهبهم، فجعلوا أبا بكر وعمر على مذهبهم، ثم بعد ذلك جعلوا علياً على مذهبهم، ثم من بعده، فكأنهم يدعون أن مذهبهم هو الإسلام.
وهم ليسوا وحدهم في هذا، فقد قال المتكلمون : أول من بدأ الكلام عمر ؛ لأنه ناقش السارق في القدر، فقالوا: إن عمر جيء بسارق فقال له عمر : لم سرقت؟ فقال: هذا قدر الله، فقال عمر : [سرقت بقدر الله، ونقطع يدك بقدر الله ].(1/341)
إذن فعمر عندهم من أهل الكلام ، ورأيت كتاباً من الكتب التي تناولت نشأة الكلام، فوجدت فيه هذه العبارة، كما نسبوا إلى علي رضي الله تعالى عنه أنه ناقش أو ناظر رجلاً من القدرية ، وبهذا يكون متكلماً، يعني: كل من له رأي أو كلام أو شيء يتعلق بالعقيدة فهو عندهم متكلم، مع أن علم الكلام هو ضد التوحيد وضد العقيدة.
وتأتي الصوفية وتنتحل المشاهير، وهم في انتحالهم أشد ممن قبلهم، حتى قالوا: إن الخرقة نزل بها جبريل، وألبسها محمداً صلى الله عليه وسلم، وهو ألبسها أبا بكر أو علياً ، وهكذا إلى أن وصلت إلى الحسن ، ومن ثم إلى أن وصلت إلى الجنيد ، إلى أن طارت إلى عبد القادر الجيلاني ، إلى أن وصلت إلى فلان، فسبحان الله! كيف ينتحلون هؤلاء وينسبونهم إلى ذلكم الباطل، فالادعاء كثير، لكن بعض هذا الادعاء له أصل وهو أن يكون هذا الإمام أو العالم أو المشهور المتبع قد وافق بعض جزئيات هذه البدعة، أو قال بشيء من جزئيات البدعة، فينسبونها كلها إليه، ويتركون ما هو من صريح كلامه في مخالفتهم، كما ذكرنا في مثال زيد ، فهم لا يقبلون ما ذكره زيد في أمور أخرى، فهم يأخذون بأقوال الأعلام الموافقة لهم ويلبسونهم ثوب الاعتزال ويجعلونهم جميعاً معتزلة .
وهذا ما يفعله الأشعرية في تأويل الصفات، فتجد بعضهم يقول: إن أوَّل من أوَّل: الصحابة ومن بعدهم، فيقولون: إن مجاهداً أوَّل قوله تعالى: تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ [الملك:1] فقال: قدرته؛ وهذا تأويل، فنقول: هناك فرق بين نفي الصفة وبين تفسير الآية أو المعنى الكلي للآية، كما ينسبون إلى الصحابة نفي الصفات، فيقولون: إن ابن مسعود أوَّل؛ قلنا: ماذا أوَّل؟ قالوا: ألم يقل في قول الله سبحانه وتعالى: يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ [القلم:42]: الهول والكرب والفزع؟!(1/342)
إذن فهم ينتحلون المشاهير من الأئمة، حتى وإن كانوا من الصحابة رضي الله تعالى عنهم، وينسبونهم إلى مذهبهم، مع أننا نعلم ونجزم بأن هذا القول لو عرض على أحد هؤلاء الأئمة المتبوعين المشهورين بالعلم والدين لأنكره، بل لو قرءوا تاريخ أي واحد من الأئمة لوجدوا أنه ينكر بدعتهم إنكاراً شديداً وإن كان قد أخطأ فوافقهم في بعض جزئيات بدعتهم، فيقول: "ولهذا انتحل أهل هذه الأهواء لطوائف من السلف المشاهير" فالخوارج انتحلوا كثيراً من المشاهير كما قالوا في حجر بن عدي ، وأبي بلال مرداس بن حدير وغيرهما، والقدرية انتحلوا الحسن البصري ونسبوا الحسن إلى القدر وقالوا: إمامنا في القدر: الحسن البصري !
سبحان الله! الحسن البصري يكون من أئمة المبتدعة؟ حاشاه والله! ولكن هذا مما سولت لهم أنفسهم.
اجتماع الطاعة والبدعة في الفرق والأعيان
من درس: حكم من قال بمقالات أهل الأهواء والبدع(1/343)
فقول المصنف: [وهذا أمر متيقن به في طوائف كثيرة وأئمة في العلم والدين]، يعني اجتماع الوقوع في البدعة أو المعصية أو الذنب أو النفاق العملي مع محبة الله ورسوله والإيمان باطناً أمر متيقن به في طوائف كثيرة، هذا بالنسبة للفرق، وأيضاً عند أئمة في العلم والدين كثيرين، فيلاحظ اجتماع البدعة والطاعة، أو البدعة ومحبة الله ورسوله في الباطن حتى عند بعض الطوائف البدعية، ولذلك نجد الخوارج على سبيل المثال لم يكفرهم كثير من السلف ، وتوقف فيهم الإمام أحمد ، وظاهر كلامه أنه لا يكفرهم رحمه الله، وقد جاء في الحديث: {يمرقون من الدين } إلى آخره، لكن الخوارج في واقع أمرهم وحالهم في الباطن يحبون الله ورسوله، بغض النظر عمن غلا منهم ومرق من الدين، لكن أول من خرج منهم وهم القراء متيقن أن عندهم محبة الله ورسوله، ولهذا لما قيل لعلي رضي الله تعالى عنه: [أكفار هم؟ قال: من الكفر فروا، قالوا: أمنافقون هم؟ قال: إن المنافقين يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلاً، وهؤلاء يذكرون الله كثيراً ]، يعني هم ليسوا كفاراً ولا منافقين، ويتضح ذلك من حالهم وشدة اجتهادهم في العبادة، وقراءتهم للقرآن ومحبتهم له، وحرصهم على الاقتداء بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، والاقتداء بالشيخين والترضي عنهما، فأصل مشكلة الخوارج كما تعلمون الغلو في الدين وليست في التفريط والتهاون، فالغلو هو الذي جعلهم يريدون أن يكون عثمان وعلي كأبي بكر وعمر ، ولم يقبلوا أن يكون الخليفة أقل في كماله أقل من أبي بكر وعمر والكمال العالي جداً لا يصله كل أحد، وهناك كمال أقل منه وهو كمال معتبر أيضاً، وقد كانت مشكلة الخوارج أنهم أرادوا أن يكون معيار الكمال معياراً واحداً لكل أحد، فهم في الباطن يحبون الله ورسوله؛ فهذا كمثال، ولهذا تجدون في مقابلهم دائماً الروافض وقد ذكرهم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله مقابل الخوارج وما هم عليه في الباطن ، فالروافض هم الفرقة(1/344)
التي تجد قلوبها في الباطن مبنية على النفاق، فالأصل فيهم النفاق مع إظهار الخير والدين، ومحبة الله ومحبة الرسول صلى الله عليه وسلم ومحبة الصحابة والمؤمنين أحياناً، لكن الباطن بخلاف ذلك، فأصل مذهبهم النفاق، وأما الخوارج فأصل مذهبهم الإخلاص، لكن لم يأتوا بالموافقة وبالمتابعة، والإخلاص ضد النفاق، هذا من حيث الأصل ككل، والفرق بعد ذلك تتشعب والأفراد يختلفون، وهذا أمر آخر، لكن كمبدأ عام فإن الفرقة الواحدة تتفرع، فالشيعة تفرع منهم الرافضة ، وكان من الشيعة غير الغلاة من يقدم علياً على عثمان رضي الله تعالى عنهما، أو فيهم تشيع يسير في المواقف العملية، لكنهم في حقيقة أمرهم أئمة وعلماء وعباد، ويحبون الله ورسوله، إلا أنهم وقعوا في هذه البدعة، وهي بدعة قد غَلَظَ فيها بعض السلف حتى قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى: (من فضل علياً على عثمان فقد أزرى بالمهاجرين والأنصار)؛ لأنهم بعد موته صلى الله عليه وسلم كانوا إذا تكلموا يقولون: أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي وهذا شائع ومشهور بينهم، ومن فضل علياً على عثمان وخالفهم في هذا الترتيب، فقد أزرى بهم، فكأنه احتقر عقولهم واحتقر رأيهم، إذن فمثل هؤلاء الشيعة عندهم حب الله ورسوله وفيهم الإيمان، ولكن وقعوا في مثل هذه البدعة، وتفاوتوا فيها، كما يوجد أناس في واقعنا المعاصر يقيمون البدع وينسبونها إلى محبة الرسول صلى الله عليه وسلم، فلا نستطيع نفي المحبة لله ورسوله عنهم، ولكننا نستطيع أن ننفي عنهم فعل الصواب والمتابعة والموافقة، وأنهم في هذا العمل لم يتابعوا النبي صلى الله عليه وسلم ولم يتبعوا سنته، ولم يوافقوا هديه وهدي خلفائه الراشدين وصحابته.(1/345)
فما دمنا لا نستطيع أن ننفي عنهم الإيمان في الباطن، فهم ليسوا كفاراً؛ لأنهم مع بدعتهم مسلمون، وهذا هو مقصود الشارح من قوله: [وهذا أمر متيقن به في طوائف كثيرة، وأئمة في العلم والدين] فيوجد أئمة من أئمة العلم والدين والهدى يخطئون في بعض المسائل، يقول: [وفيهم بعض مقالات الجهمية ، أو المرجئة ، أو القدرية ، أو الشيعة ، أو الخوارج ، ولكن الأئمة في العلم والدين لا يكونون قائمين بجملة تلك البدعة أي: بالمنهج كله، بل بفرع منها] وهذا فرق عظيم ومهم جداً، ونحن أمة العدل الذين أمرنا الله بالعدل؛ يجب أن نعدل وننصف في حكمنا على الأئمة وعلى الطوائف وعلى الناس مراعين هذا الجانب.
أخطاء بعض الأئمة في موافقتهم لمقالات أهل البدع
من درس: حكم من قال بمقالات أهل الأهواء والبدع
وفي إشارتنا إلى بعض الأئمة، نورد هنا مثالاً، فالإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى أخطأ في مسألة الإيمان، وقال بقول المرجئة ، يعني: أخرج العمل من الإيمان، أو على الأقل فإن تلميذيه وصاحبيه أبا يوسف ومحمد بن الحسن بقيا ثابتين على ذلك.(1/346)
كما أن من الأمثلة ما جاء عن بعض المتأخرين الذين وافقوا الجهمية . ومنهم الإمام أبو حامد الغزالي الذي وافق في كتبه كلام الجهمية في نفي الصفات، فقد جاء عنه في الحديث الذي فيه أن الله سبحانه وتعالى يضع قدمه في نار جهنم، أنه يقول: يضع الجبار، والجبار اسم ملك، أو أن الجبار هو الشيطان، يعني يقول: إن التأويل لابد منه هنا، وعلى هذا فإن أبا حامد الغزالي وقع في بعض مقالات الجهمية ، ووقع أيضاً في بعض مقالات من هو أشد من الجهمية وهم الباطنية ، فتجدون كلام الغزالي عندما يتكلم عن العلم الباطن، والعلم الظاهر، وعالم الملكوت، وعالم الجبروت، وهذا مذهب الباطنية ، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعلم الناس العلم الظاهر، وكان هناك علم باطن اختص به علي بن أبي طالب أو اختص به فلاناً أو فلاناً، وحاشاه من ذلك صلى الله عليه وسلم! لكن هذا هو معتقدهم، فيأتي الإمام الغزالي رحمه الله ويكتب المضنون به على غير أهله -سبحان الله- ويقول: هذا العلم لا يقبله العامة، ويقول: هذه العلوم النفيسة لا تعطى للعامة.
يا رب جوهر علم لو أبوح به لقيل لي: أنت ممن يعبد الوثنا
ولاستحل أناس مسلمون دمي يرون أقبح ما يأتونه حسنا
يقول هذا الشاعر: هناك جوهر علم لا نبثه في الناس ولا نقوله؛ لأننا لو قلناه لقيل: هؤلاء ممن يعبدون الوثن ولتقرب المسلمون بدمائنا، وهم يرون ذلك من أفضل الأعمال، ولذلك فلن نبث ذلك العلم.
وهذا الأمر عجيب عنهم، فلماذا لا يظهرون هذا العلم لو كان حقاً؟!(1/347)
فوقع في كلام الغزالي رحمه الله ما هو من جنس كلام القرامطة الباطنية وأتباعهم، بل وقع في كلامه ما هو من جنس كلام الفلاسفة والمناطقة؛ حتى قال الغزالي رحمه الله في أول كتاب المستصفى : "من لم يتعلم المنطق وقواعده لا يوثق بعلمه"، وهذا شيء عجيب جداً وناقشه فيه الأئمة، حتى إن المازري رحمه الله رد عليه وكان من علماء المغرب في دولة المرابطين، وكانت كتب الغزالي تحرق حرقاً، إذ كيف يقول هذا الكلام، والصحابة رضي الله تعالى عنهم وهم أوثق الناس علماً، ونحن نثق بعلمهم أعظم الثقة، لم يتعلموا قواعد المنطق، ولا من جاء بعدهم؟! فالمقصود أنه وقع في كلامه من جنس كلام هؤلاء، ومع ذلك فمن يستطيع أن يشهد ويتحمل القول بأنه في الباطن لا يحب الله ورسوله؟ هذا لا يقوله أحد.
ولهذا اختلف العلماء في حكمه وفي إعذاره وعدم إعذاره، ولكنهم لم يقولوا عنه: إنه كافر أو مرتد، إذن فالعالم يمكن أن يجتمع فيه محبة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم والإيمان، ومع ذلك يقع في مثل هذه الأقوال وموافقة كلام الآخرين، ولو أن كل مبتدع يكفر؛ لقلنا: بكفر أناس لا نجزم نحن بأنهم في الباطن منافقون وكفار وزنادقة، لكننا نعتقد أنه تجتمع فيهم محبة الله ورسوله، والوقوع في هذه البدع.
فلو أن المسلمين فهموا هذه الأمور وأخذوا هذه القواعد الذهبية المستقيمة لما جاروا في الأحكام، فهم في حالين متعاكستين: إما غلو في المحبة يتناسون معه الأخطاء وإن كانت كبيرة وفادحة، وإما غلو في العداوة يتناسون معه الفضائل وإن كانت عظيمة وظاهرة.(1/348)
كما وقع الخطأ من بعض الشراح الكبار للحديث، فجاء في شروحهم موافقة لكلام غيرهم، حتى الحافظ ابن حجر رحمه الله نجد أنه ينقل كثيراً عن ابن فورك في كتابه، وينقل عن أبي المعالي الجويني تأويلات؛ خاصة عند شرحه كتاب التوحيد وإثبات الصفات من صحيح البخاري ، فماذا نقول في هؤلاء الأئمة؟ لا يحل لأحد أن يقول: إنهم في الباطن لا يريدون الحق، أو إنهم منافقون أو يكرهون الحق؟! لكننا نقول: إنهم أخطئوا فوافقوا غيرهم ووقعوا في أخطائه.
قال رحمه الله: [ولكن الأئمة في العلم والدين لا يكونون قائمين بجملة تلك البدعة] فنقول: هل يكون أحد من أئمة العلم والدين متمسكاً وقائماً بكل البدعة؟ يعني: هل يكون باطنياً كاملاً؟ إذا صار باطنياً كاملاً فقد خرج عن أهل السنة وليس بإمام في الدين، وهل يمكن أن يأخذ التجهم كاملاً، فيكون جهمياً من جميع الوجوه؟ أيضاً لا يكون ذلك، ولو كان كذلك لم يعد في العلماء والأئمة، وإنما يعد مع تلك الفرقة ومن أهلها.
وفي عصرنا الحاضر يوجد بعض العلماء الذين يعدون من الأئمة الدعاة ولهم فضل، وهم على خير، وقعوا في أخطاء مماثلة، فيقوم أحدهم رغبة منه في التعبير عن العدالة الاجتماعية في الإسلام فيقول: هذه اشتراكية في الإسلام، فهل نقول: هذا على مذهب لينين واستالين وجورباتشوف ؟ إننا سنكون عندئذٍ ظالمين وجائرين في الحكم؛ لأننا لا نستطيع أن نجزم بما في باطنه، ولا نعلم أنه في الباطن اشتراكي أو شيوعي أو غير ذلك، لكن نقول: هو أخطأ عندما أخذ بهذا الكلام.(1/349)
رجل آخر يقول: الديمقراطية هي الإسلام، فهل يعني هذا أنه ديمقراطي ومن دعاة الديمقراطية الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، ويحكمون أهواء الناس وآراء الناس؟ كلا! لا يجوز ذلك، وليس هذا من العدل، ولكن نخطئ الفكرة وننقضها، أما الرجل فينظر إليه بحسب حاله، فقد يكون من أهل الخير والصلاح، وقد يكون مجرماً مفسداً أيضاً؛ لأنه لو كان ديمقراطياً مائة بالمائة، أو اشتراكياً مائة بالمائة، أو قومياً مائة بالمائة، لما كان من أهل الدين والدعوة والإيمان أصلاً، وإنما كان محسوباً في عداد أهل هذه المذاهب الباطلة.
من استكمل أصول مذهب معين صار من أهله
من درس: حكم من قال بمقالات أهل الأهواء والبدع
قاعدة مهمة: كل مذهب من المذاهب ومبدأ من المبادئ له أصول، من استكملها فقد استكمل المذهب، كما نقول: مذهب أهل السنة والجماعة له أصول، من استكملها فهو من أهل السنة ، ومن نقص واحداً منها نقص من أصول أهل السنة شيئاً، وتعرضنا لهذا في معرفة الفرق، ونقول: المعتزلي هو من يؤمن بالأصول الخمسة، فإن جاءنا من يوافق المعتزلة في أصلهم الذي يسمونه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو يعني -عندهم-: الخروج على أئمة الجور، فهل نقول: هذا معتزلي بإطلاق؟ الجواب: لا. لكن نقول: هذا الرجل وافق المعتزلة في رأيهم في هذه القضية، ونقول: هو معتزلي في مسألة الخروج، فنقيد المسألة.(1/350)
ولو أن رجلاً آخر أخطأ في الإيمان -كبعض فقهاء الحنفية- لكنه في موضوع القدر والصفات، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والصحابة رضي الله تعالى عنهم، وجميع أبواب التوحيد على منهج أهل السنة ، فإن كان وافق المرجئة فنقول: هذا وافق المرجئة في الإيمان، وإن كان وافق المعتزلة فنقول: هذا وافق المعتزلة في الإيمان، ولذلك تجدون أن أعدل الناس هم أهل السنة ؛ لأن الله تعالى علم فيهم العدل والصدق والإخلاص، فرفع منزلتهم في الأمة، فهم في الجرح والتعديل يطلقون عدة عبارات، فيقولون عن فلان: فيه تشيع، وأحياناً يقولون: رافضي، وأحياناً يقولون: رافضي جلد، وأحياناً يقولون: سبئي، فهم يقولون في الرجل بحسب ما فيه، فلا يظلمونه ولا يزيدون على الحق، فهم يحكمون على الناس من خلال ما فيهم، فكل فرقة لها ضابط معين.
الرد على أهل الأهواء ليس شرطاً في صحة مذهب القائل به
من درس: حكم من قال بمقالات أهل الأهواء والبدع
وقد يكون ممن رد على بعض الفرق من وقع في بعض مقالتهم، فمثلاً ابن الجوزي رحمه الله في المنتظم وفي غيره من الكتب يهاجم الأشعرية هجوماً عنيفاً، وابن رشد يهاجم الأشعرية هجوماً عنيفاً، فلو وجدنا هذا الكلام عن ابن رشد ، فهل نقول: إنه من أهل السنة والجماعة ؛ لأنه يهاجم الأشاعرة ؟ لا. هو ليس كذلك، فابن رشد هذا شر من الأشاعرة ، فهم أقرب إلينا منه مع مهاجمته لهم؛ لأنه يقول قول الفلاسفة الذين هم أبعد الفرق في الانحراف حسب دوائر الانحراف والكفر التي رتبناها للفرق.(1/351)
إذن لا نقول: هذا من أهل السنة ؛ لأنه رد على الأشاعرة ، وكذلك ابن الجوزي رحمه الله رد عليهم، بينما تجده هو نفسه يؤول الصفات، ويتبع في ذلك شيخه ابن عقيل ، وشيخه ابن عقيل كان أقرب ما يكون من مذهب الاعتزال مع أنه حنبلي، وكذلك تلميذه ابن الجوزي كان حنبلياً، وقد وقع في شر مما وقع فيه الأشاعرة ، أو في مثله وهو يهاجمهم ويتكلم عليهم، لكن هو في نفس الوقت ليس من أهل السنة في هذه المسألة التي يقول فيها بخلاف قول أهل السنة ، يعني: نجد أنه اجتمع فيه أنه من أهل السنة في جوانب كثيرة، ولكن عنده تأويل في جوانب أخرى، وهكذا فلا نستطيع أن نقول: إنه أشعري لمجرد أنه أوَّل؛ لأنه هو نفسه يرد على الأشاعرة ، ولا نستطيع أن نقول: إنه من أهل السنة ؛ برده على الأشاعرة ؛ لأنه مع رده عليهم وقع فيما وقعوا فيه في أبواب أخرى، إذن فلابد من الميزان، وقد قال الله تعالى: وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ [الرحمن:7] * أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ [الرحمن:8] * وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ [الرحمن:9] لابد من الميزان العدل الذي نحكم به على الأفراد وعلى الجماعات وعلى الطوائف وعلى الأمم وعلى المواقف، ويكون الميزان هو ميزان العدل إن شاء الله في جميع أمورنا.
انتحال أهل الأهواء الانتساب للأئمة
من درس: حكم من قال بمقالات أهل الأهواء والبدع(1/352)
يقول المصنف: [ولكن الأئمة في العلم والدين لا يكونون قائمين بجملة تلك البدعة]، فلا نجد أبداً عالماً من أئمة الدين المتبوعين قائماً بجملة بدعة من البدع، يعني: آخذاً بمنهجها كله، لكن يحصل أنه يخطئ في مسألة أو يتابع في جزئية، فما يكون بعد ذلك من الأتباع إلا أن ينسبوه كله له ويتغاضون عن فضائله، فمثلاً الإمام مالك رحمه الله كان أول مذهبه في الصفات على منهج أهل السنة والجماعة ، وسار على منهجه أئمة المذهب المشهورون الكبار وظهر منهم الإمام ابن أبي زيد القيرواني الذي يسمونه مالكاً الصغير؛ لأنه أحيا وجدد ذكر الإمام مالك رحمه الله تعالى، فكتب الرسالة في فقه المالكية، وبدأه بمقدمة في العقيدة والإيمان -وهذه عادة طيبة وحسنة- والرسالة لابن أبي زيد يقال: إنها أول مدونة قانونية جمعت مواد تشريعية، وهو كتاب قيم ولا شك، وبالذات في المذهب، فمقدمة الرسالة مقدمة إيمانية سلفية ليس عليها غبار، فجاء من بعده وحاولوا أن يجعلوا الشيخ أشعرياً على مذهبهم، والشيخ ابن أبي زيد كلامه واضح، فمثلاً في مسألة العلو يقول: (وهو على عرشه المجيد بذاته) وهذا إثبات العلو (وفي كل مكان بعلمه) وهذه عبارة واضحة لا لبس فيها، فجاء الأشعرية ليؤولوا كلامه، فقالوا: (وهو على عرشه)، إلى هنا تنتهي العبارة، ثم تستأنف بقول: (المجيدُ بذاته)، أي أن الله مجيد بذاته، وهو حكيم بذاته، وعليم بذاته، أما أن يكون (وهو على عرشه المجيد) فتكون المجيد هنا صفة للعرش، فقد رفضوا ذلك، لأننا إذا قلنا: (وهو على عرشه المجيدِ بذاته) أثبتنا العلو، وهم لا يريدون ذلك بل يريدون أن يؤولوا كلامه ليوافق مذهبهم، من أجل أن ينتحلوا من ليس منهم.(1/353)
وإن أمامنا مثالاً واضحاً جلياً في مسألة الانتحال، فهذا الإمام زيد المشهور نسبة الزيدية إليه، والزيدية على منهج ومذهب المعتزلة ثم يقولون: نحن زيدية ، فيقال: ليس عند زيد ما يوافق به منهج الزيدية ، فإن زيداً وافق المعتزلة في مسألة واحدة فقط وهي مسألة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتي على أساسها خرج على بني أمية، ولم يكونوا كفاراً، بل كانوا حكام جور، وخرج من اتبعه من بعده على بني العباس، فخرجوا على أئمة الجور، ورغم هذا فنقول: لا نجزم أنه كان يعتقد هذا المبدأ للاعتقاد، لكن قد يكون رأى المصلحة في هذا الخروج. والمقصود أن الزيدية جاءوا من بعده ونسبوا كل مذهب المعتزلة إليه، وقالوا: من فضل زيد وشرفه وعلمه أنه تلقى المذهب على يد عمرو بن عبيد وواصل بن عطاء ، بئس الشيخ وبئس المعلم عمرو بن عبيد وواصل بن عطاء ! لكن يظن الزيدية أنه مدح لزيد أن يقال عنه: إنه تلقى ذلك عنهما، كما يقولون أنهما تلقيا المذهب عن الحسن بن محمد بن الحنفية أو عن أبي هاشم ، ثم مع ظنهم أن الاعتزال شيء عظيم نسبوا أئمتهم إلى الاعتزال ونسبوا الاعتزال أيضاً إلى أئمتهم، وأغرب من ذلك أنك تجد في كتاب المنية والأمل ، وهو من كتبهم في الفرق يزعمون أن أول من قام بهذا المذهب الخلفاء الراشدون، حتى كادوا أن يجعلوا النبي صلى الله عليه وسلم على مذهبهم، فجعلوا أبا بكر وعمر على مذهبهم، ثم بعد ذلك جعلوا علياً على مذهبهم، ثم من بعده، فكأنهم يدعون أن مذهبهم هو الإسلام.
وهم ليسوا وحدهم في هذا، فقد قال المتكلمون : أول من بدأ الكلام عمر ؛ لأنه ناقش السارق في القدر، فقالوا: إن عمر جيء بسارق فقال له عمر : لم سرقت؟ فقال: هذا قدر الله، فقال عمر : [سرقت بقدر الله، ونقطع يدك بقدر الله ].(1/354)
إذن فعمر عندهم من أهل الكلام ، ورأيت كتاباً من الكتب التي تناولت نشأة الكلام، فوجدت فيه هذه العبارة، كما نسبوا إلى علي رضي الله تعالى عنه أنه ناقش أو ناظر رجلاً من القدرية ، وبهذا يكون متكلماً، يعني: كل من له رأي أو كلام أو شيء يتعلق بالعقيدة فهو عندهم متكلم، مع أن علم الكلام هو ضد التوحيد وضد العقيدة.
وتأتي الصوفية وتنتحل المشاهير، وهم في انتحالهم أشد ممن قبلهم، حتى قالوا: إن الخرقة نزل بها جبريل، وألبسها محمداً صلى الله عليه وسلم، وهو ألبسها أبا بكر أو علياً ، وهكذا إلى أن وصلت إلى الحسن ، ومن ثم إلى أن وصلت إلى الجنيد ، إلى أن طارت إلى عبد القادر الجيلاني ، إلى أن وصلت إلى فلان، فسبحان الله! كيف ينتحلون هؤلاء وينسبونهم إلى ذلكم الباطل، فالادعاء كثير، لكن بعض هذا الادعاء له أصل وهو أن يكون هذا الإمام أو العالم أو المشهور المتبع قد وافق بعض جزئيات هذه البدعة، أو قال بشيء من جزئيات البدعة، فينسبونها كلها إليه، ويتركون ما هو من صريح كلامه في مخالفتهم، كما ذكرنا في مثال زيد ، فهم لا يقبلون ما ذكره زيد في أمور أخرى، فهم يأخذون بأقوال الأعلام الموافقة لهم ويلبسونهم ثوب الاعتزال ويجعلونهم جميعاً معتزلة .
وهذا ما يفعله الأشعرية في تأويل الصفات، فتجد بعضهم يقول: إن أوَّل من أوَّل: الصحابة ومن بعدهم، فيقولون: إن مجاهداً أوَّل قوله تعالى: تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ [الملك:1] فقال: قدرته؛ وهذا تأويل، فنقول: هناك فرق بين نفي الصفة وبين تفسير الآية أو المعنى الكلي للآية، كما ينسبون إلى الصحابة نفي الصفات، فيقولون: إن ابن مسعود أوَّل؛ قلنا: ماذا أوَّل؟ قالوا: ألم يقل في قول الله سبحانه وتعالى: يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ [القلم:42]: الهول والكرب والفزع؟!(1/355)
إذن فهم ينتحلون المشاهير من الأئمة، حتى وإن كانوا من الصحابة رضي الله تعالى عنهم، وينسبونهم إلى مذهبهم، مع أننا نعلم ونجزم بأن هذا القول لو عرض على أحد هؤلاء الأئمة المتبوعين المشهورين بالعلم والدين لأنكره، بل لو قرءوا تاريخ أي واحد من الأئمة لوجدوا أنه ينكر بدعتهم إنكاراً شديداً وإن كان قد أخطأ فوافقهم في بعض جزئيات بدعتهم، فيقول: "ولهذا انتحل أهل هذه الأهواء لطوائف من السلف المشاهير" فالخوارج انتحلوا كثيراً من المشاهير كما قالوا في حجر بن عدي ، وأبي بلال مرداس بن حدير وغيرهما، والقدرية انتحلوا الحسن البصري ونسبوا الحسن إلى القدر وقالوا: إمامنا في القدر: الحسن البصري !
سبحان الله! الحسن البصري يكون من أئمة المبتدعة؟ حاشاه والله! ولكن هذا مما سولت لهم أنفسهم.
مذهب أهل السنة في من وقع منه الخطأ
من درس: التكفير وضوابطه (الحلقة الحادية عشرة)(1/356)
قال المصنف: [فمن عيوب أهل البدع تكفير بعضهم بعضاً، ومن ممادح أهل العلم أنهم يخطئون ولا يكفرون] وهذه قاعدة عظيمة في تعامل أهل السنة والجماعة مع الأمة حيث إنهم يخطئون ولا يكفرون، فمن عيوب أهل البدع تكفير بعضهم لبعض، ومن مدائح أهل السنة أو أهل العلم أنهم يخطئون ولا يكفرون، فالخطأ واضح ويستدل على أنه خطأ، ثم صاحب الخطأ قد يكون كافراً، وقد يكون مبتدعاً، وقد يكون غير ذلك، لكن ما يهمهم هو بيان الخطأ، ولذلك عندما يتكلم أهل السنة في حق أحدٍ من أهل القبلة يحرصون من أجل بيان الحق على أن يقولوا: أخطأ فلان، ويبينون خطأه، دون تكفير، أما أهل البدع فإنهم لمجرد أي مخالفة يحكمون على المخطئ بالكفر، فنجد هؤلاء يقولون لخصومهم: أنتم تكفرون لأنكم مشبهة، فيردون عليهم قائلين: وأنتم تكفرون لأنكم معطلة ، وأما أهل السنة والجماعة فيقولون: هؤلاء على ضلال وبدعة، وهؤلاء على ضلال وبدعة، والكل مخطئ، أما الكفر فقد يكون وقد لا يكون، فهم يفرقون بين المعين الفرد وبين الحكم المطلق، ويفرقون بين القول وبين القائل، ويفرقون بين جملة البدعة -الذي نسميه نحن في عصرنا هذا المنهج- وبين من يقول بجزئية من جزئياتها، حتى إنه يأتيك الإنسان ويقول: أنا من المعتزلة ، وربما يقولها بلسانه وهو لا يفقه ولا يعرف عن مذهب المعتزلة شيئاً، إنما سمع أن المعتزلة فرقة إسلامية تحرر العقل وتدعو إلى التفكر، فنسب نفسه إليها ظناً منه أنه نسب نفسه إلى الحرية العقلية، فنقول له: هل تقر بالأصول الخمسة؟ فيتبين أنه لا يعرف أصولاً خمسة ولا أربعة ولا يعرف شيئاً من مذهب المعتزلة ، فحتى مع دعوى بعض الناس أنه معتزلي أو غير ذلك من الأوصاف، فقد لا ينطبق عليه ذلك الوصف، فمن عدل أهل السنة والجماعة أنهم يرفقون به حتى وإن اعترف، فيبدءون ببيان هذه العقيدة لمعتقدها حتى يتضح له أنه كان مخطئاً، وأنها خلاف ما كان يرى، فربما كان ذلك سبباً لرجوعه عن هذه العقيدة، فأهل(1/357)
السنة أرحم به حتى من نفسه، وهذه ميزة من ميزات أهل السنة والجماعة .(1/358)