التكفير
حكمه - ضوابطه - الغلو فيه
فهد عبد الله
alfhdabd@maktoob.com
المقدمة
الحمدلله رب العالمين والصلاة والسلام على خير خلق الله محمد( الذي بعثه الله رحمة للعالمي، وأرسله ليبلغ الدين ويقيم الحجة فمن الناس من آمن به وصدق ومنهم من كفر به وجحد، وبعد.
فإن مسألة التكفير من المسائل الخطيرة التي ناقشها علماء الإسلام، وبينوا حدودها وضوابطها، لما في التمادي والغلو فيها بدون أي قيد أو ضابط من انعكاسات سلبيات مدمرة ومؤثرة على مسيرة الأمة الثقافية والعلمية والعملية، ولما في تمييعها من مضار دينية ودنيوية.
ولقد كان من أكثر الأسباب التي جعلت العلماء يهتمون ببيان قواعد وضوابط التكفير هو الرد على الفرق الغالية، والتي أصبحت تتخذ التكفير منهجاً تنطلق منه، وتبني وفقه آراءها وتوجهاتها، وأصبحت تُنَظر له في كل عمل فكري، محاولة حل أية قضية عملية أو علمية من خلال منظومة التكفير الفكرية وتطبيقها على أرض الواقع، وبالأسلوب الفج الذي لا يرتضيه النهج الإسلامي الحنيف، فرأى العلماء ضرورة كشف زيف هذا الفكر وعواره وتبيين معايبه للناس كي لا يقعوا في شره، وشر ما يقود إليه كما وقع فيه أقوام فضلوا وأضلوا.
لقد ظهر هذا الفكر بقوة عند فرقة عرفت عند العلماء بفرقة الخوارج، والتي برزت في عهد الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
لقد كانت السمة الرئيسية لهذه الفرقة هي رمي الناس بالكفر والمروق من الدين، وحشر الناس جميعاً في زاوية الإلحاد، وأخذ أصحابها يكفرون الناس لأتفه الأسباب، وأشعلوا في سبيل ذلك حروباً طاحنة مع الأمة بأسرها، استباحوا فيها الأموال والأعراض والدماء .
وبسبب التشدد الذي اتصف به هذا الفكر لم يلبث إلا قليلاً حتى اندثر، ولم يبق له إلا مناوشات طفيفة هنا وهناك.(1/1)
ولم تقتصر هذه البدعة على من سبق فقط بل انتشت هذه البدعة أيضاً لدى طوائف أخرى ، إذ ظهر مبتدعون آخرون كل كان يدعو إلى بدعته ويزينها للناس، ويدعي دعاوى باطلة في ثياب حق، فإذا ما أحس بالقوة أعلن التمرد وكفر الأمة وكر عليها بالسيف.
ومن أمثلة هذه البدع ظهور طائفة لم تكتف بتكفير الأمة فقط بل تعدت ذلك لتكفر خيار الأمة وهم صحابة رسول الله( وتلاميذه الذين فتحوا الدنيا، والذين أثنى عليهم القرآن الثناء العطر، ومدحتهم السنة، وشهد لهم التاريخ ببذلهم وتضحياتهم، ورغم هذا فلم ينجوا من أن يكونوا ضحية للمغالين في هذا الفكر المنحرف.
ثم توسع هؤلاء فحكموا بالكفر على من لم يكن معهم، وتبع هذا فتاوى وأحكام فقهية، فقد قضى علماؤهم بسقوط فرض الحج عنهم، وتعجب عندما تعلم أن السبب إنما هو لكون مرورهم (الغلاة) على بلاد المجبرة (أهل السنة)، ولا يمكن لهم الاحتراز من رطوباتهم، وهم يرون تنجيسها بشركهم؛ فأثبتوا فيهم أحكام المشركين وبعضهم بل أكثرهم لا يستنفعون بالزعفران، ولا يأكلون طبيخاً هو فيه -لكون الزعفران من بلاد المجبرة- ولا بد من ترطيبهم له عند جناته من أشجاره!! وما ذلك إلا لتكفيرهم أهل السنة، وإجرائهم أحكام الكفار عليهم، ويحكون عن أنفسهم أنهم متفقون على الرواية عن أئمتهم! أن حكم المجبرة حكم الحربيين!!!(1/2)
ولو تقدمنا في الزمن قليلاً لوجدنا فرقة المعتزلة، والتي ادعت أنها ترفع راية العقل والمنطق، فعندما تحقق لها شيء من الجاه السياسي، واعتنق بعض الخلفاء أفكارها نبذت العقل والمنطق جانبا وقامت بامتحان الناس في إيمانهم والزج بهم في السجون وتعذيبهم مريدة منهم تغيير معتقداتهم المستندة إلى القرآن وصحيح السنة، وموافقتهم على عقيدتهم، والتي لا يسندها نقل ولا عقل، ولو من وجهة النظر الأخرى على الأقل، والتي كان أبرزها في ذلك الحين مسألة خلق القرآن، وأظهر لنا التاريخ نموذجاً آخر للغلو التكفيري في هذا الفكر، وكيف أن قاضياً مغموراً جاهلاً بالدين والسنة، يفعل ما فعل لهوى في نفسه، وبدعة ملكت عليه شغاف قلبه.
لقد كان زعماء المعتزلة أناس لم يكن لهم السبق في الدين ولم يعرف عنهم كبير أثر في واقع الأمة العملي والعلمي أيضا إذ كان يغلب عليهم التأثر باتجاهات فكرية وافدة، أتت من خلف الحدود الإسلامية، إضافة إلى عدم مشاركتهم في علوم القرآن والسنة إلا من ندر منهم، وهذا لربما أفسح المجال واسعا لتنامي بدعة التكفير الغالي والتي حدت بهم إلى أن يفعلوا ما فعلوا، ولتصبح فترة ظهور المعتزلة فترة استعرت فيها المعارك بين جمهور الأمة من جهة والمعتزلة -و الذين كانوا قلة قليلة- من جهة أخرى .
ونقل بعضهم عن أحد علمائهم أنه أوجب بأن من لم يصف الباري -تعالى- بصفاته التي وصفوه بها أو تحير فيما وصفوه به بأنه مرتاب، وأن حكمه حكم الحربيين.(1/3)
ولكن بسبب التطرف الذي وقع فيه الفكر الاعتزالي لم يكتب له الاستمرار في السلطة، فبعد حكمهم في فترة ثلاثة خلفاء عباسيين جاء المتوكل ورفع هذه المحنة التي اكتوى بنارها أئمة العلم: أحمد بن حنبل، وابن نصر الخزاعي، والبويطي وابن معين وغيرهم كثير، والعجيب أن بعض المعتزلة المتأخرين يطعنون في الإمام أحمد ويقولون لامزين ومتهكمين: جلده المعتصم بالسياط! وإذا هم يجعلون غلوهم وتطرفهم حسنة وصبر الإمام أحمد وعدم انجراره وراء الفكر الغالي الذي ذكوه مذمة، ولكن يكفي الإمام فخراً أنه صبر رغم تسليم كثيرين، وأن الفكر المنحرف حتى لو كان يملك السلطة فلن يستطيع أبداً أن يملك العقول، وإن هون بعض علماء اليمن المتأخرين من شأن هذه المسألة ورأى أنها لا تستحق تشدد المعتزلة في فرضها، ولا الصبر الذي صبره الإمام أحمد في رفضها .
بعد خفوت نجم المعتزلة وتنحيتهم من السلطة لم يبق لهم سوى الحلقات العلمية والتنظير العقلي لعقيدتهم وأفكارهم في المساجد ونحوها .
ثم ظهر لا حقاً أشخاص ألفوا كتباً وأبحاثاً في علم العقيدة وناقشوا قضايا عقدية وانتصروا لمذهب أهل السنة -ولو من وجهة نظرهم على الأقل- من أمثال ابن كلاب وغيره، بيد أن ظهور أبي الحسن الأشعري ومدرسته كان قوياً جداً بحيث استطاع أن يجذب الأنظار إليه، وساعده على هذا نجابة تلاميذ مدرسته، ولم تكن الساحة حينها لتتسع لمذهب أبي الحسن فظهر الغلو التكفيري بشدة بين المدرستين الأشعرية والمعتزلية وألفت الكتب في إكفار بعضهم لبعض، وما لبث أن ظهر بعض متشددي الحنابلة فازداد الأمر سوءاً .
لقد كان كل فريق يرى في الآخر مبتدعاً ضالاً مضلاً، وأخذ -تبعاً لذلك- يكفره بعينه دون اعتبار لأي ضابط، ربما بسبب ما هم فيه من عراك، وربما لأن مسألة الضوابط والشروط هذه لم تكن ظاهرة بعد في أذهانهم بشكل واضح، أو للسببين معاً.(1/4)
الغريب أن المعتزلة رغم قلتهم لم يستطيعوا المحافظة على صفهم العقدي واحداً متحداً بل تفرقوا فرقاً وتحزبوا أحزاباً، وأكفر كل فريق منهم الآخر، فما لبثوا أن تلاشت مدرستهم بسبب البدع التي تراكمت وتكاثرت معهم عبر السنين، وبسبب ما ألحقوا الأمة من ويلات وفتن، وإذا كان الأساس باطلاً فإن ما يبنى عليه باطل كذلك، وهذا ما حدث مع الفرق البدعية، فقد تشظت المعتزلة إلى عشرين فرقة كل فرقة تكفر الأخرى وتؤلف الكتب في الرد عليها، ومثلهم كان الشيعة فقد بلغوا اثنتين وعشرون فرقة تكفر كل فرقة الأخرى(1) .
لقد خرج الأشاعرة منتصرين بعد عدة معارك خاضوها مع غيرهم فراجعوا أنفسهم في تكفير بعض الطوائف التي كانوا يكفرونها من قبل، فتراجعوا عما قالوه، أو قاله بعضه وأعلنوا عدم تكفيرهم لهم، وذكروا آخر كلام لأبي الحسن والذي قاله قبل موته أنه لا يكفر أحداً من أهل القبلة.
وبعد هدوء استمر قروناً ظهر في العصر الحاضر فكر التكفير بقوة في بعض البلاد الإسلامية، نتيجة لتصرفات سيئة اكتوى بنارها الكثيرون، ثم ما لبث هذا الفكر أن انقسم على نفسه ليصبح جماعات وفرقاً لها (علماء) ومنظرون!
والغريب أن بعض من لا يعلمون من الكتبة يلقون سبب النمو الفكري لهؤلاء على شيخ الإسلام ابن تيمية ومؤلفاته، ويزعمون أن هذه الجماعات وجدت في تراثه ما يؤيد اتجاهها، وهم بهذا القول يعربون عن جهلهم بالشيخ وكتبه، ولست أدري إذا ما كانت هناك دفائن ودغائل تتستر وراء مثل هذه الأقوال، إذ إن بعضهم ممن عرفوا بالطعن في كل ما هو إسلامي يحاولون إلصاق ما هو سيء بعلماء الإسلام، وأجزم موقناً كإيقاني بوجود الشمس والقمر أن كثيرين منهم لم يقرؤوا للشيخ البتة، وإن قرؤوا فمن خلال مناظير غيرية مع وجود سوابق فكرية رديئة المنبع، وقد يكون السبب التعصب الذميم والذي لا يروج في عالم الفكر والتدين.(1/5)
وحقيقة الأمر أنني من خلال مطالعتي لمن تحدث عن قضية التكفير ظهر لي بجلاء أن أكثر من ضبط هذه المسألة وبين الشروط والموانع بياناً شافياً من تقسيم وبيان واستدلال وضرب أمثلة واحتمال لأقوال الخصم ورحمة بالأمة هو شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.
وليس معنى هذا أن غيره لم يطرق هذا الموضوع بل على العكس فقد طرقه كثيرون من علماء الأمة، ولكنه لم يخرج عن نطاق الطَرق، فتجد لهم كلاماً متناثراً هنا وهناك، وأحياناً كثيرة تجده عاماً عائماً.
وشيخ الإسلام ابن تيمية وإن تشدد على غيره ممن يخالفه في بعض مسائل الاعتقاد، فهو في حقيقة الأمر يتشدد لما يراه صواباً ويرى وجوب بيانه، ويرى ما عليه غيره باطلاً يجب محاربته وكشفه، لكنه عندما يتكلم عن الأشخاص من علماء الإسلام المخالفين له فكثيراً ما كان يثني عليهم ويعتذر لهم ويتأول لأقوالهم، إلا إذا رأى أنه لا يصح تأويل هذه الأقوال، لكونها لا تقبل التأويل، ولما فيها من الكفر الصريح، كما فعل مع ابن عربي.
وللأسف تشدد غيره عليه بأشد مما تشدد الشيخ وقام كثيرون ضد ابن تيمية انتصاراً منهم في كثير من الأحيان لقضايا فقهية كالطلاق الثلاث، أو انتصاراً لأشخاص كابن عربي وأمثاله ممن امتلأت كتبهم بالغرائب التي لا يقولها مسلم مع اعتراف هؤلاء بما في كتبه من مخالفات شرعية وألفاظ تخالف الدين وتضرب العقيدة في العمق، ولهذا حرم بعضهم مطالعة كتب ابن عربي ونحوه كما ذهب إلى هذا السيوطي محاولة منه للجمع بين القولين في هذه الشخصية.
وهنا تبرز نقطة هامة وهي مسألة تشخيص المبادئ بحيث تصبح رديفة للأشخاص مع أن الأصل أن الرجال يعرفون بالحق لا العكس، لأن الحق -وهو المنبع الصافي- هو الوحيد الذي له العصمة كما أنه المعيار الوحيد أيضاً الذي يوزن به الناس وأفعالهم ومن خلاله يظهر قرب أحدهم من الحق أو بعده.(1/6)
لقد تعصب كثيرون ضد ابن تيمية لأنه قال في ابن عربي ما قال، مع أنه لم يحكم بكفره في نهاية المطاف، كما أن قول ابن تيمية في ابن عربي وأمثاله، لم يكن من ابتكارات الشيخ وحده، بل قاله وسبقه إليه كثيرون غيره، ويكفي أن نذكر منهم هنا الإمام العلم محمد بن إسماعيل بن المقري، والبرهان البقاعي، والموزعي وهم من أئمة الشافعية الكبار وقد كفروا ابن عربي صراحة بسبب عقيدته الفاسدة كما قالوا.
والخطأ الفادح أيضا أن بعضهم أراد أن ينتصر لابن عربي لا بتبيين خطأ قول الشيخ وتقديم البراهين والحجج على ذلك، ولكن بتكفير ابن تيمية! وهذا في حقيقة الأمر ليس منهج العلماء الربانيين ولهذا لم يسلكه إلا بعض المغمورين والمقلدين.
ولقد تأول بعضهم كلام ابن عربي الغريب عن المنهج الإسلامي والذي ملأ مجلدات بحيث حملوه على محامل حسنة وما صعب منه قالوا فيه بأنه على اصطلاح القوم، في حين أنهم لم يتأولوا للشيخ في مسألة ذكرها في بعض كتبه وهي مسألة القدم النوعي أو تسلسل الحوادث وجعلوا منها حجة لهم على تكفيره، ولم يحملوا كلامه محملاً حسناً -وهو قريب- كما فعلوا مع غيره على بعده واستحالته.
لقد رأى البعض ما ينقله من اعتنق الفكر التكفيري الغالي من نصوص مبتورة وغير كاملة وبعيدا عن سياقها عن ابن تيمية ويوجهها في إطار مذهبه الذي يأباه ابن تيمية نفسه، فظن بعض هؤلاء أن هذا هو فكر ابن تيمية والحق أنه بخلاف ذلك، ولهذا أكثرت من النقل عن الشيخ(2) إنصافاً له أولاً، وبياناً للحق ثانياً.(1/7)
وإن مما يستحق التنبيه أن الغلو في تنزيل حكم التكفير على الناس رافق كل الفرق الإسلامية، ولم تخل منه فرقة البتة، فجميعها يوجد فيها متشددون يستسهلون هذا الحكم، بيد أن هؤلاء المتشددين ليسوا متساوين في جميع الفرق، فهم يختلفون كمّا وموضوعاً ونسبة من فرقة إلى أخرى، وكلما كانت الفرقة بعيدة عن الهدي النبوي كلما كان تطرفها التكفيري أكبر، وكلما كانت قريبة من السنة كان غلوها طفيفاً، وهذه العلاقة طردية.
وهكذا بالنسبة للعلماء فكلما كان أحدهم قريباً من السنة أثر ذلك فيه إيجاباً، وجعله أكثر اعتدالاً والتماساً للأعذار، وأورثة ذلك الرحمة والشفقة بالأمة، حتى ولو كان من فرقة غالية في التكفير، وكلما كان بعيداً من السنة وفهم سلف الأمة فإنه -ولا شك- سيقع في الغلو التكفيري حتى ولو لم تكن فرقته أو منهجه كذلك.
تكمن أهمية طرح موضوع التكفير، وتبيين ضوابطه وموانعه وكلام علماء الإسلام في كيفية تنزيله في هذا العصر بقدر زائد كون الجهل عم الكثيرين، وأصبح التكفير عند بعضهم أسهل من شربة ماء، فبعضهم لا يجد حرجاً في أن يكفر من لقي أو يكفر من يختلف معه وبدون أي ضابط، بل تجرأ بعضهم فكفر بعض أعلام الإسلام من العلماء الأفذاذ والذين أفنوا حياتهم في خدمة الدين ونصرة السنة، يقول ابن الوزير: "فمن العجب تكفير كثير ممن لم يرسخ في العلم لكثير من العلماء وما دروا حقيقة مذاهبهم"(3) وهذا ما نراه اليوم بعينه.
وفي هذا الموضوع جاء هذا الكتاب الصغير الحجم والكبير المضمون، والذي ذكرت فيه حكم التكفير والضوابط التي ذكرها العلماء في هذا المجال، والتي تحدد كيف ومتى يكفر المسلم، وما يجب اعتباره من تأويل وإعذار، ثم ذكرت نماذج من الغلو التكفيري.
لقد حاولت جاهداً أن أجلي أفكار هذا البحث وربما اقتربت كثيراً من الصراحة في طرح بعض القضايا، لأن الصراحة ضرورية لمعالجة مشكلاتنا الكثيرة والمتراكمة والتي ملأت علينا حياتنا الفكرية المعاصرة.(1/8)
وأنا أكتب هذا البحث كنت استحضر المثل الشهير: إرضاء الناس غاية لا تدرك، وهي حقيقة يجدها كل إنسان، ولهذا سهل الله هذا الأمر وجعل إرضاءه هو الأساس وهو لعمري رضاً يدرك، أسأل الله أن يجعل عملي هذا في ميزان حسناتي، والحمد لله.
المبحث الأول: الإيمان والإسلام وما يتعلق بهما
إن معرفة حدود المصطلحات الشرعية من الأهمية بمكان، خاصة عندما تتعلق بها مسألة هي من أهم وأخطر المسائل وهي الإسلام و الكفر، ومن ثم الحكم على الآخرين بهما وبموجبهما، ومن هذه المصطلحات مصطلحي: (الإيمان، والإسلام) والذي دار حولهما جدل واسع بين علماء الإسلام وطوائف ممن لم يفهموا أو يدركوا المقصود الشرعي من هذه المصطلحات وعلى ماذا تطلق، مما تسبب هذا في زلة فرق أبعدت النجعة في فهم هذه المصطلحات.
لقد كانت مسألة الإيمان من المسائل التي امتحن بها الناس للتعرف على عقائدهم وأفكارهم ومذاهبهم، وكانت هذه المسألة من أوائل المسائل العقدية التي دخلتها البدعة بمخالفة ما درج عليه الصحابة عند طائفة ظهرت في عهد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب والمسماة بالخوارج، وهم جنود في جيش علي خرجوا عليه، وأعلنوا حربه ومنابذته.
لقد كان من أوائل البدع المحدثة في الإسلام البدع المتعلقة بمفهوم الإيمان وعلاقته بالإسلام، والتي جرت إلى مفاسد جمة، وفي هذا المبحث سأعرض لمفهوم هذين المصطلحين وعلاقة أحدهما بالآخر، وشيئاً ما يتعلق بهما مما له علاقة بموضوعنا.
المطلب الأول: الإيمان
يطلق الإيمان في اللغة على معنيين:
1- يتعدى بنفسه فيكون بمعنى التأمين أي إعطاء الأمان، ومنه قوله تعالى (وآمنهم من خوف)(قريش4)
2- يتعدى بالباء فيكون بمعنى التصديق ومنه قوله تعالى (وما أنت بمؤمن لنا)(يوسف17)أي بمصدق(1/9)
أما شرعاً: فذهب جماهير أهل العلم من السلف إلى أنه: اعتقاد وقول وعمل، أي اعتقاد بالقلب، وقول باللسان، وعمل بالجوارح والأركان، بمعنى أن الإيمان شامل لكل ما أمر به الشارع من اعتقادات وأقوال وأعمال، وعبارات السلف في هذا المعنى كثيرة.
وقد ذهب آخرون إلى ما يخالف المأثور، ولهم في معنى الإيمان أقوال أجملها فيما يلي:-
1- التصديق فقط.
2- اعتقاد وقول فقط.
3- اعتقاد وقول وعمل.
وهناك أقوال أخرى بيد أن هذه هي المشهورة منها، وقد قال بكل منها طائفة من الناس وعرفت بسبب قولها باسم خاص، بيد أن ما ينبغي التنبيه عليه هنا هو أن الطائفة الثالثة ليس المقصود بها علماء السلف بل المراد من يلقبون بالخوارج والمعتزلة، والفرق بين قولهم وقول علماء السلف أن الخوارج والمعتزلة جعلوا النقصان في العمل يؤثر سلباً على الإيمان برمته بحيث يخرج صاحبه من دائرة الإسلام، وخصوا هذا التأثير بنقص فريضة أو الوقوع في كبيرة بخلاف السلف الذين لم يقولوا هذا القول، ولم يصلوا إلى النتيجة التي وصل إليها أولئك، بل قالوا ببقاء المسلم على إسلامه ما لم يأت بمكفر.
وفي قضية عد العمل من الإيمان أو عدم عده زلت فئات من الناس حين اعتمدت عده بإطلاق فحكمت على من لم يعمل بالكفر باعتبار أن العمل شرط لصحة الإيمان، ومن ثم أخذوا يرددون بأنه لا إيمان بلا عمل .
والصواب الذي عليه سلف الأمة وأهل العلم ممن تبعهم أن جعل العمل داخلاً في مسمى الإيمان لا يعني كونه شرطاً لصحته، وإنما المقصود أنه شرط لكماله، وبالتالي فهذا يعني عدم كفر من لم يتحقق فيه شرط العمل إلا إذا ترك جنس العمل مطلقاً بمعنى أنه لم يعمل حسنة قط، فحينئذ يكون كافراً بالشروط والضوابط الآتي ذكرها، كما ذهب إلى هذا بعض العلماء، ومع هذا فإن خلو جنس العمل بعيد جداً.(1/10)
ويعني كلام السلف -أيضاً- عدم جعل مرتكب الكبيرة في مرتبة وسطى بين الإيمان والكفر بحيث يعامل في الدنيا على أنه مسلم وفي الآخرة على أنه كافر، كما قال بعضهم ممن لم يفهم نصوص الشرع .
لقد بين علماء الأمة بياناً شافياً أن العمل ليس شرطاً للصحة بل للكمال، لما يترتب على القول بأنه شرط لصحة الإيمان من تكفير عامة المسلمين وهذا مما يجعل رده أمراً مستحقاً.
وقد استدل السلف على ذلك بالأدلة الواضحة، ويكفي أن أسوق هنا دليلين منها :-
1- حديث الشفاعة الطويل والذي رواه أنس وفيه: "... فيأتونني فأقول: أنا لها، فأستأذن على ربي فيؤذن لي ويلهمني محامد أحمده بها لا تحضرني الآن، فأحمده بتلك المحامد وأخرّ له ساجداً، فيقال: يا محمد ارفع رأسك، وقل يسمع لك، وسل تعط، واشفع تشفع، فأقول: يا رب أمتي أمتي، فيقال: انطلق فأخرج منها من كان في قلبه مثقال شعيرة من إيمان، فأنطلق فأفعل، ثم أعود فأحمده بتلك المحامد، ثم أخر له ساجداً، فيقال: يا محمد ارفع رأسك، وقل يسمع لك، وسل تعط، واشفع تشفع، فأقول: يا رب أمتي أمتي، فيقال: انطلق فأخرج منها من كان في قلبه مثقال ذرة أو خردلة من إيمان، فأنطلق فأفعل ثم أعود فأحمده بتلك المحامد ثم أخر له ساجداً، فيقال: يا محمد ارفع رأسك، وقل يسمع لك وسل تعط، واشفع تشفع، فأقول: يا رب أمتي أمتي، فيقول: انطلق فأخرج من كان في قلبه أدنى أدنى أدنى مثقال حبة خردل من إيمان فأخرجه من النار..." (4).(1/11)
2- عن معاذ بن جبل رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: يا معاذ بن جبل - ومعاذ رديفه على الرحل- قال: لبيك يا رسول الله وسعديك، قال: يا معاذ، قال: لبيك يا رسول الله وسعديك ثلاثاً، قال: ما من أحد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صدقاً من قلبه إلا حرمه الله على النار قال: يا رسول الله أفلا أخبر به الناس فيستبشروا، قال: إذاً يتكلوا، وأخبر بها معاذ عند موته تأثماً(5) أي خوفاً من الإثم.
وستأتي أدلة أخرى في الصفحات القادمة.
إن جعل العمل شرطاً لصحة العمل -كما ذهب إليه الخوارج- يوقع في تساؤل هام ومفاده : ماهو مقدار العمل الذي يحكم من خلاله على الناطق بالشهادتين أنه مسلم حقيقة؟
والقوم ليس لديهم جواب لانعدام الدليل الذي يؤيد ما قالوه، بل دلت الأدلة على خلاف قولهم كما سقت سابقاً، وعليه فلا دليل يحدد مقدار هذه الأعمال وماهيتها وأوقاتها .
ولا يُفهم مما سبق التقليل من قدر الأعمال وقيمتها، فهي بلا شك ثمرة هذا الإيمان والدالة على مقداره ومكانته في النفوس، وبها -مع ما يرسخ في القلب من صفات وأعمال أُمرنا بهما- يتفاوت الناس في منازلهم الأخروية.
ومن هنا يتضح عدم وجود خلاف واضح بين القول بأن الإيمان هو الاعتقاد والقول وجعل العمل من ثمرات الإيمان أو من شرائعه، والذي يعزى إلى أبي حنيفة ومن تابعه والقول بأن الإيمان اعتقاد وقول وعمل، وجعل العمل شرطاً لكمال الإيمان، فالمؤدى واحد والخلاف يكاد يكون لفظياً، بل هو كذلك.
المطلب الثاني: علاقة الإيمان بالإسلام
من المسلّم لغوياً أن بين كلمتي: الإسلام والإيمان اختلافاً، فمعنى الإيمان التصديق في حين تعني كلمة الإسلام: الاستسلام والانقياد.(1/12)
بيد أنه وقع خلاف بين العلماء في هذين الاسمين من جهة الاصطلاح، والذي استقر عليه رأي الجماهير من أهل العلم أن مسماهما يختلف بحسب الإفراد والاقتران، فإذا ذكرا معاً كان معنى الإسلام الأعمال الظاهرة والإيمان الأعمال الباطنة، وإذا ذكر أحدهما استوعب المعنيين أي الأعمال الظاهرة والباطنة، وممن ذهب إلى هذا القول ابن عباس وابن سيرين والإمام أحمد والخطابي وابن تيمية وغيرهم.
ويدل لهذا قوله تعالى: (قالت لأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم((الحجرات14)
والذي يؤخذ من هذه الآية هو أن الإيمان أخص من الإسلام، وأن كون المرء مسلماً لا يعني ضرورة أن يكون مؤمناً، إذ إن مرتبة الإيمان أعلى من مرتبة الإسلام، فهما كدائرتين متداخلتين الكبرى منهما تمثل الإسلام والصغرى تمثل الإيمان .
ويستفاد من هذا أيضاً أن الخروج من دائرة الإيمان ليس معناه الخروج من دائرة الإسلام، بل من خرج من دائرة الإيمان فإنه يخرج إلى دائرة الإسلام باعتبار أن مرتبة الإيمان هنا تعني استحكام الدين وتمكنه من القلب، وهو أعلى من مرتبة الإسلام الذي يعني الإعلان عن الانقياد لتعاليمه، والأعراب هنا حاولوا ادعاء مرتبة لم يصلوا إليها بعد وهي مرتبة الإيمان، فصحح لهم الشارع دعواهم أنهم دخلوا في الإسلام ولم يرتقوا بعد إلى درجة الإيمان.
المطلب الثالث: زيادة الإيمان ونقصانه
وردت الأدلة من القرآن والسنة الدالة على أن الإيمان يزيد وينقص منها:-
1- من القرآن الكريم الآيات التالية:-
* (هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم((الفتح4)
* (وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا((الأنفال2)
* (وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون((التوبة124)
* (ويزداد الذين آمنوا إيمانا((المدثر31)
2- وأما الأحاديث فكثيرة أذكر منها ما يلي:-(1/13)
* عن أنس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال:"... ثم يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله، وفي قلبه وزن شعيرة من خير ويخرج من النار من قال: لا إله إلا الله، وفي قلبه وزن برة من خير ويخرج من النار من قال: لا إله إلا الله، وفي قلبه وزن ذرة من خير .
قال أبو عبد الله: قال أبان: حدثنا قتادة حدثنا أنس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم "من إيمان" مكان "من خير".
وقد أخرج البخاري في صحيحه هذا الحديث في باب زيادة الإيمان ونقصانه(6)
* عن أبي هريرة قال: قال ر سول الله ( : "أكمل المؤمنين أيمانا أحسنهم خلقاً"(7).
* كما وردت آثار عن السلف من الصحابة فمن بعدهم كأبي الدرداء وأبي هريرة وعبد الله بن مسعود والثوري وغيرهم تدل على هذا المعنى(8).
والقول بزيادة الإيمان ونقصانه غير مقتصر على عمل الجوارح واللسان فقط بل يدخل أيضاً في عمل القلب من الطاعات، فالحب والبغض في الله وحب الأنصار، وحب الخير للغير، والخوف، والرجاء، والتوكل كل هذه من الطاعات، ومن ثم يتفاوت الناس فيها.
كذلك ينقص الإيمان بالحسد والعجب والكبر وغيرها من الأعمال التي تنافي عمل القلب الواجب(9).
كذلك التصديق والمعرفة والعلم يدخله الزيادة والنقصان من حيثيات ثلاث:-
1- من حيث كثرة الأدلة وقوتها، أو قلتها وضعفها، فكلما كثرت وتضافرت الأدلة كان الإيمان قوياً، وكلما قلت أو ضعفت كان الإيمان ضعيفاً وناقصاً.
2- من حيث الإجمال والتفصيل، فليس من صدق الرسول مجملاً من غير معرفة منه بتفاصيل إخباره كمن عرف ما أخبر به عن الله وأسمائه وصفاته والجنة والنار والأمم وصدقه في ذلك كله، وليس من التزم طاعته مجملاً ومات قبل أن يعرف تفصيل ما أمره به كمن عاش حتى عرف ذلك مفصلاً وأطاعه فيه(10).(1/14)
3- من حيث التصديق المستلزم لعمل القلب أو عدمه، ذلك أن التصديق المستلزم لعمل القلب أكمل من التصديق الذي لا يستلزم عمله، فالعلم الذي يعمل به صاحبه أكمل من العلم الذي لا يعمل به، وإذا كان هناك شخصان يعلمان أن الله حق، ورسوله حق، والجنة حق، والنار حق، وأحدهما أوجب له علمه محبة الله وخشيته، والرغبة في الجنة، والهرب من النار، والآخر لم يوجب علمه له ذلك فعلم الأول أكمل بلا شك(11).
مما سبق يتضح أن الإيمان يزيد وينقص حقاً، ويظهر ضعف قول من قال بأن الإيمان الذي يعني التصديق القلبي لا يمكن دخول الزيادة والنقصان فيه، ويعلم -أيضاً- أن نقصان الإيمان لا يعني بالضرورة زواله بالكلية خلافاً لمن جعل العمل جزءاً من مسمى الإيمان يزول مسمى الإيمان بنقصانه.
المطلب الرابع: مراتب الإيمان
الإيمان الشرعي هو اسم لمعنى ذي شعب وأجزاء له حد أدنى بحيث لو أخل به ذهب إيمانه، وحد أعلى يبلغه من جاهد نفسه هواها، وشمر عن ساعد الجد، وأخلص النية، وبين هذين الحدين مراتب كثيرة، والناس موزعون عليها بحسب إيمانهم وأعمالهم وكلهم جميعاً يشملهم اسم الإيمان تماماً كما لو رأيت طبيباً تخرج حديثاً وآخر له الخبرة والتمكن، ومن بين بين، فكلهم يجمعهم اسم الطبيب، بيد أنهم متفاوتون في خبرتهم ومعرفتهم وكفاءتهم.
من هنا يظهر أن الإيمان له مراتب كثيرة، ولكن يمكن اختزالها في ثلاث مراتب رئيسية وهي:-
1- أصل الإيمان (الحد الأدنى)
2- الإيمان الواجب.
3- الإيمان المستحب.
أولاً: أصل الإيمان:-(1/15)
والمقصود به أدنى ما يمكن قبوله لاعتبار المرء مسلماً بحيث لو انتفى عنه لخرج من مسمى الإيمان، وهذا هو ما يمكن تسميته بالإيمان المجمل وما يقال في صاحبه: مؤمن ناقص الإيمان، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "فعامة الناس إذا أسلموا بعد كفر، أو ولدوا على الإسلام والتزموا شرائعه، وكانوا من أهل الطاعة لله ورسوله، فهم مسلمون ومعهم إيمان مجمل، ولكن دخول حقيقة الإيمان إلى قلوبهم إنما يحصل شيئاً فشيئاً إن أعطاهم الله ذلك، وإلا فكثير من الناس لا يصلون إلى اليقين ولا إلى الجهاد، ولو شككوا لشكوا، ولو أمروا بالجهاد لما جاهدوا، وليسوا كفاراً ولا منافقين، بل ليس عندهم من علم القلب ومعرفته ويقينه ما يدرأ الريب، ولا عندهم من قوة الحب لله ولرسوله ما يقدمونه على الأهل والمال، وهؤلاء إن عوفوا من المحنة وماتوا دخلوا الجنة، وإن ابتلوا بمن يورد عليهم شبهات توجب ريبهم فإن لم ينعم الله عليهم بما يزيل الريب وإلا صاروا مرتابين، وانتقلوا إلى نوع من النفاق، وكذلك إذا تعين عليهم الجهاد ولم يجاهدوا كانوا من أهل الوعيد، ولهذا لما قدم النبي( المدينة أسلم عامة أهلها، فلما جاءت المحنة والابتلاء نافق من نافق، فلو مات هؤلاء قبل الامتحان لماتوا على الإسلام ودخلوا الجنة، ولم يكونوا من المؤمنين حقاً، الذين ابتلوا فظهر صدقهم"(12).
ثانياً: الإيمان الواجب:-
والذي يطلق عليه الإيمان المفصل، ويقال في صاحبه (مؤمن كامل الإيمان) وهو الذي يؤدي الفرائض والواجبات ويجتنب الكبائر، قال الإمام المروزي: "إن اسم المؤمن قد يطلق على وجهين: اسم للخروج من ملل الكفر والدخول في الإسلام (أصل الإيمان)
واسم يلزم بكمال الإيمان، وهو اسم ثناء وتزكية يجب به دخول الجنة والفوز من النار...والمؤمنون الذين زكاهم الله وأثنى عليهم ووعدهم الجنة هم الذين أكملوا إيمانهم باجتناب كل المعاصي واجتناب الكبائر"(13)(1/16)
والصغائر هنا لا تخرج صاحبها عن إيمانه الكامل، لأن النبي ( لم ينفه إلا عن أصحاب الكبائر دون الصغائر التي تكفرها الأعمال الصالحة، والتي ثبت في السنة نماذج منها كالوضوء والصلاة والتصافح والذكر وغيرها، ومع هذا فإن درجة من اقترف الصغائر دون درجة من لم يقترفها، وكلهم في مرتبة واحدة(14).
ثالثاً: الإيمان المستحب:-
وهذه المرتبة أعلى من التي قبلها، والمقصود بها أن أصحابها من الذين قاموا بالواجبات واجتنبوا المحرمات، وزادوا بتتبع المندوبات والسنن والمستحبات، والذين لو وجدوا سنة عملوا بها، وقاموا بها خير قيام، وهم الذين يحاولون الالتزام بكل الآداب المستحب فعلها، وهم الذين بلغوا رتبة عليا في مراقبة المولى عز وجل، واستشعار وجوده ومراقبته لكل أعمالهم .
المطلب الخامس: يثبت الحكم بالإسلام بمجرد الإقرار
من المظاهر الجلية ليسر وسهولة الإسلام أن الدخول فيه لا يتطلب طقوساً أو مراسم طويلة، أو أماكن محددة، أو أزمنة مخصصة، أو شروطاً معينة، فلكي يكون المرء مسلماً وظافراً بالسعادة الأبدية يكفيه للدخول في الإسلام أن ينطق بالشهادتين (أشهد ألا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا رسول الله) .
وهذا الذي دلت عليه الأحاديث الشريفة والتي منها:-
1- عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى الحرقة فصبحنا القوم فهزمناهم، ولحقت أنا ورجل من الأنصار رجلاً منهم فلما غشيناه قال: لا إله إلا الله، فكف الأنصاري عنه فطعنته برمحي حتى قتلته، فلما قدمنا بلغ النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا أسامة أقتلته بعد ما قال لا إله إلا الله .
قلت: كان متعوذاً، فما زال يكررها حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم(15)(1/17)
وفي روايةٍ لمسلم " فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أقال لا إله إلا الله وقتلته، قال قلت: يا رسول الله إنما قالها خوفاً من السلاح، قال: أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا..." (16)
2- عن المقداد بن الأسود أنه قال: يا رسول الله أرأيت إن لقيت رجلاً من الكفار فقاتلني فضرب إحدى يدي بالسيف فقطعها ثم لاذ مني بشجرة فقال: أسلمت لله أفأقتله -يا رسول الله- بعد أن قالها؟
قال رسول الله (: لا تقتله .
فقلت: يا رسول الله، إنه قد قطع يدي ثم قال ذلك بعد أن قطعها أفأقتله؟
قال رسول الله (: لا تقتله، فإن قتلته فإنه بمنزلتك قبل أن تقتله، وإنك
بمنزلته قبل أن يقول كلمته التي قال. (17)
قال ابن حبان: يريد به أنك تقتل قوداً، لأنه كان قبل أن أسلم حلال الدم، وإذا قتلته بعد إسلامه صرت بحالة تقتل مثله قوداً به لا أن قتل المسلم يوجب كفراً يخرج من الملة(18).
3- عن عبد الله بن عمر قال: بعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم خالد بن الوليد إلى بني جذيمة فدعاهم إلى الإسلام، فلم يحسنوا أن يقولوا أسلمنا، فجعلوا يقولون: صبأنا صبأنا، فجعل خالد يقتل منهم ويأسر، ودفع إلى كل رجل منا أسيره حتى إذا كان يومٌ أمر خالد أن يقتل كل رجل منا أسيره، فقلت: والله لا أقتل أسيري، ولا يقتل رجل من أصحابي أسيره حتى قدمنا على النبي صلى الله عليه وآله وسلم فذكرناه، فرفع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يديه فقال: اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد مرتين(19) .
ومن المعلوم عند العلماء أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يقبل من كل من جاءه يريد الدخول في الإسلام الشهادتين فقط، ويعصم دمه وماله بذلك، ويجعله مسلماً، وقد أنكر على أسامة ابن زيد قتله لمن قال لا إله إلا الله لما رفع عليه السيف، واشتد نكيره عليه.(1/18)
ولم يكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يشترط على من جاءه يريد الإسلام أن يلتزم الصلاة والزكاة، بل قد روي أنه قبل من قوم الإسلام واشترطوا أن لا يزكوا، ففي مسند الإمام أحمد عن جابر رضي الله عنه قال: اشترطت ثقيف على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن لا صدقة عليهم ولاجهاد، وأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: سيصدقون ويجاهدون(20) .
وصح في المسند -أيضاً- عن نصر بن عاصم الليثي عن رجل منهم أنه أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأسلم على أن لا يصلي إلا صلاتين فقبل منه(21)
وأخذ الإمام أحمد بهذه الأحاديث وقال: يصح الإسلام على الشرط الفاسد ثم يلزم بشرائع الإسلام كلها، واستدل أيضاً بأن حكيم بن حزام قال: بايعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم على أن لا أخر إلا قائماً، (22)قال أحمد: معناه أن يسجد ركوع(23).
هذا هو المنهج النبوي الثابت من أن وصف الإسلام يكتفي فيه بالنطق بالشهادتين، بل ذهب بعض الفقهاء إلى أنه يحكم بإسلام المرء إذا أتى بأي عمل يدل على ذلك.
يقول الإمام ابن رجب رحمه الله: "من المعلوم بالضرورة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبل من كل من جاءه يريد الدخول في الإسلام الشهادتين فقط ويعصم دمه بذلك، ويجعله مسلماً، فقد أنكر على أسامة بن زيد قتله لمن قال لا إله إلا الله لما رفع عليه السيف واشتد نكيره عليه، ولم يكن صلى الله عليه وسلم ليشترط على من جاءه يريد الإسلام، ثم إنه يلزم الصلاة والزكاة ... "(24).
وهذا الالتزام له تبعات من فرائض ومحرمات يجب التنبه لها، والقيام بها، والحفاظ عليه من النواقض التي سيأتي بيانها.
هذا الذي عليه جماهير الأمة وتؤيده الأدلة،ومع ذلك فإن هناك منهجين آخرين:-(1/19)
1- من يرى أن مجرد النطق بالشهادتين كاف لثبوت وصف الإسلام مع عدم الأخذ بالاعتبار الالتزام بالأعمال الظاهرة، وهذا ما اصطلح على تسميته بالإرجاء، والذي يعني في اللغة التأخير، ويعني في الاصطلاح تأخير العمل عن مسمى الإيمان، ويقولون: لا يضر مع الإيمان معصية كما لا ينفع مع الكفر طاعة، وغلا بعضهم فقال إن إيمانه كإيمان جبريل.
وهذا المنهج نشأ قديماً واندثر لعدم موضوعيته، كما أنه لا يحيي في الإنسان روح المبادرة والعمل الصالحين، بل قد يؤدي إلى ضياع واضطراب وفوضى للفرد وللمجتمع برمته.
2- من يرى بأن مجرد النطق بالشهادتين لا يكفي للحكم لأحد بالإسلام بل لا بد من التوقف والتبين للتأكد من إسلام الإنسان، ومن التزامه بالحد الأدنى للإسلام، والذي هو الإلتزام بالفرائض واجتناب الكبائر، أما النطق بالشهادتين فما هو إلا للتعبير عن الدخول في الإسلام، فإذا التزم أحكام الدين حكمنا بإسلامه وإلا فهو باق على كفره!!!وهم بهذا لا يقيمون لشهادة التوحيد وزناً، هذه الشهادة التي قامت عليها السماوات والأرض، وورد في شأنها وفضلها الكثير من النصوص القرآنية والنبوية مما سبق بيانه.
يسمى هؤلاء بجماعات التوقف والتبين والتي ظهرت حديثاً، وهي بدعة شنيعة ولا شك، إذ هي لا تستند إلى النصوص المعصومة، كما لاتجد تأييداً من كلام علماء الأمة، وإنما ابتدع هذه البدعة بعض الكتبة آخذين لها من بعض فرق الخوارج والتي تذكر لنا كتب الفرق أن فرقة تسمى البهيسية كانت تقول بهذه النظرية، وهذا يدلنا على علاقة هذه البدعة بالفكر الخارجي، والبدعة الخارجية برمتها.
إن من حكم الله بإسلامه فلا يمكن أن يكفره إنسان، أو يتوقف في ذلك بناء على خزعبلات وتوهمات وافتراضات فارغة لا تساوي في ميزان الشرع شيئاً.
ويكفي في الرد عليهم ما يلي:-(1/20)
1- أن قولهم هذا مما أجمعت الأمة على خلافه، ولم يقل به أحد من أئمة أهل العلم المعتبرين من القرون المفضلة فمن بعدهم، ومن قال غير ذلك فاليأتنا به.
2- ما سقته من الأدلة الواضحة على أن النطق بالشهادتين كاف في الحكم بإسلام الناطق.
فإذا ما قالوا: إن هذه الأحاديث إنما تدل على أن من نطق بالشهادتين يكون معصوم الدم حتى نختبره ونتبين إسلامه ولا تعني ثبوت وصف الإسلام له.
فيجاب عليهم بما يلي:-
أ - لم تذكر الأحاديث السابقة هذا القيد، ولم تشر بأي وجه من الوجوه إلى ما قالوه، بل على العكس لقد اشتد نكير رسول الله ( على خالد وقال له: ماذا تفعل بكلمة لا إله إلا الله، ولو كان كما قالوا من عصمة الدم لقال: ماذا تفعل بدمه يوم القيامة.
ب - وبما أن قولهم هذا فيه تقييد لمطلق فهم مطالبون بالدليل الصحيح الصريح الخالي عن المعارضة الذي يقيد ما سبق.
ت - أن التفريق بين عصمة الدم والحكم بالإسلام تفريق بين متلازمين، ذلك أن عصمة الدم فرع عن الحكم بالإسلام، بمعنى أننا عصمنا دم الناطق بالشهادتين لكونه دخل في الإسلام، وقولهم تفريق لا يصح بين متلازمين.
ث - هذا القول يوجد منطقة وسطى بين الإسلام والكفر تفرق فيها الأحكام، وهذا قول في غاية الضعف والركاكة، فالآيات والأحاديث التي تحدثت عن الإيمان والكفر، والمسلمين والكفار على كثرتها لم ترد آية أو حديث تذكر هذه المنطقة الوسطى رغم أهميتها وكونها ستضم فئة كبيرة من الناس، إذ الداخلون في الإسلام كثر خاصة في بداية الدعوة الإسلامية وانتشارها في الآفاق.
ج - رغم كثرة غزوات النبي( وأصحابه لم نعلم أن رسول الله قال أو فعل ما يقولون بل كان يكتفي بالنطق بالشهادتين أو ما يدل على ذلك.(1/21)
ح - مما يرد عليهم الحديث الصحيح، والذي اشتهر باسم حديث الجارية فعن معاوية السلمي رضي الله عنه قال: كانت لي جارية ترعى غنماً لي قبل أحد والجوانية فاطلعت ذات يوم فإذا الذيب قد ذهب بشاة من غنمها، وأنا رجل من بنى آدم آسف كما يأسفون لكني صككتها صكة، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فعظم ذلك علي قلت: يا رسول الله أفلا أعتقها؟
قال: ائتني بها، فأتيته بها .
فقال لها: أين الله؟ قالت: في السماء.
قال: من أنا؟ قالت: أنت رسول الله .
قال: أعتقها فإنها مؤمنة(25) .
ففي هذا الحديث اكتفى النبي ( بإقرار هذه الجارية في إثبات أنها مسلمة مجزئة في العتق بمجرد إقرارها، وليس مثل هذا الحديث مما يستدعي أن يكون لعصمة الدم والمال، بل مورد الحديث وأصل طلب الرسول ( لها إنما كان لتبين إسلامها وإجزائها في العتق، لأنه لا يصح العتق إلا لرقبة مؤمنة(26).
المطلب السادس: الكفر
يطلق الكفر في اللغة على الستر والتغطية، ولهذا سمي الفلاح كافراً لأنه يغطي البذر بالتراب ومنه قوله تعالى: (كمثل غيث أعجب الكفار نباته((الفتح29) .
وسمي الكافر كافراً لأنه يستر نعم الله عليه.
أما في الاصطلاح الشرعي فقد جاء لفظ الكفر بمعنيين هما: كفر اعتقاد، وكفر عمل.
قال ابن القيم: " الكفر نوعان: كفر عمل، وكفر جحود وعناد .
فكفر الجحود أن يكفر بما علم أن الرسول جاء به من عند الله جحوداً وعناداً من أسماء الرب وصفاته وأفعاله وأحكامه، وهذا الكفر يضاد الإيمان من كل وجه .
وأما كفر العمل فينقسم إلى ما يضاد الإيمان وإلى ما لا يضاده، فالسجود للصنم والاستهانة بالمصحف، وقتل النبي وسبه يضاد الإيمان"(27)(1/22)
وعرف ابن حزم الكفر المخرج من الملة فقال: " وهو في الدين -أي الكفر-:من جحد شيئاً مما افترض الله تعالى الإيمان به بعد قيام الحجة عليه ببلوغ الحق إليه بقلبه دون لسانه، أو بلسانه دون قلبه أو بهما معاً، أو عمل جاء النص بأنه مخرج له بذلك عن اسم الإيمان"(28)
إذاً الكفر نوعان: كفر يخرج من الملة، وهو ما يناقض الإسلام مناقضة لا يجتمع معها بحال كتكذيب النبي (، وإنكار المعلوم من الدين بالضرورة، وكل ما حكم الشرع بأنه مخرج من الدين.
والنوع الثاني: كفر لا يخرج من الملة، والمقصود به فعل المحرمات غير المكفرة، وعدم فعل الواجبات، والذي يسميه العلماء أيضاً بكفر النعمة، بمعنى انه كفر بنعمة التأسي بالنبي ( التي أمر به الباري سبحانه، أو أن الأصل فيه أن يقابل نعم الله التي اعترف هو بأنها منه سبحانه بالطاعة والتسليم التام، لكنه قابلها بالعصيان.
وعلى هذا النوع -كفر النعمة- حمل علماء الإسلام الأحاديث التي تصف بعض المعاصي أو فاعليها بالكفر كقوله ( : "لا ترجعوا بعدي كفاراً، يضرب بعضكم رقاب بعض"(29)
وقوله ( : "أيما امرئ قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما"(30)
فنحن نسمي المعاصي كفراً كما سماها الشرع بيد أن الكفر هنا ليس مخرجاً من الدين كما نص على ذلك الشرع أيضاً، وهذه المعاصي هي المقصودة بقول السلف كفر دون كفر .
هذا التفصيل هو الذي عليه سلف الأمة -خير الناس- وعلماء الإسلام قاطبة، ومع هذا فقد زل هنا أناس فذهب البعض منهم إلى القول بتكفير مرتكبي المعاصي كفراً يخرجهم من الملة، دون التفريق بين نوعي الكفر، ودون الرجوع إلى النصوص الأخرى التي تبين عدم كفرهم والتي سنذكرها لاحقاً .
وآخرون ذهبوا إلى أن مرتكبي الكبائر مؤمنون كاملوا الإيمان .
ودين الله وسط بين الغالي فيه والجافي عنه.
المطلب السادس: أسباب التكفير (نواقض الإيمان)(1/23)
المقصود بنواقض الإيمان هي الأسباب التي جعلها الإسلام مخرجة للمرء منه بعد دخوله فيه، إذ إن معنى النقض لغة هو الحل بعد الإبرام، ومنه قوله تعالى: (كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا((النحل92).
ونواقض الإسلام خصص الفقهاء للكلام حولها وما يترتب عليها باباً في الفقه يسمى باب الردة، أي الكفر بعد الإيمان.
وأسباب الردة كثيرة، وقد أشبع الفقهاء المتقدمون والمتأخرون الكلام حولها، بيد أني سأقتصر هنا على بيان جمل من هذه الأسباب، والتي تشكل عينات يفهم منها غيرها .
تنحصر نواقض الإيمان أو أسباب الردة في ثلاثة أقسام: اعتقادات، وأفعال، وأقوال، وكل قسم منها يتشعب شعباً كثيرة:-
أولاً: النواقض الاعتقادية، ومنها:-
1. الشك في الله أو في رسالة رسوله.
2. الشك في شيء من القرآن، أو في اليوم الآخر، أو في وجود الجنة، أو النار أو في حصول الثواب للمطيع والعقاب للعاصي، ويجمع هذا وغيره أن يقال: الشك في حكم من أحكام الله تعالى أو في خبر من أخباره.
3. استحلال ما هو مجمع على تحريمه مما هو معلوم من الدين بالضرورة كالزنا ، والعكس كأن يحرم البيع والنكاح.
4. نفي وجوب مجمع عليه كنفي وجوب ركعة من الصلوات الخمس، وعكسه كاعتقاد وجوب زيادة ركعة في صلاة مفروضة.
5. اعتقاد أن بعض الناس يسعه عدم اتباع النبي( .
ثانياً: النواقض الفعلية: "والفعل المكفر ما تعمده استهزاءً صريحاً بالدين أو جحوداً له"(31) ومثل له العلماء بما يلي:-
1. السجود لصنم أو لشمس أو مخلوق آخر.
2. إلقاء مصحف بقاذورة.
3. السحر.
ثالثاً: النواقض القولية، ومنها:-
1. القول بالحلول والاتحاد.
2. سب الله عز وجل والاستهزاء به.
3. سب النبي ( والاستهزاء به.
4. الاستهزاء بالشعائر الإسلامية.
5. ادعاء النبوة .(1/24)
وإن من الخطأ الظن بأن قواطع الإسلام محدودة أو معينة بل هي كثيرة ومتنوعة لدرجة أن العلماء يقولون بأن الاستهزاء بالسنة كفر ( كأن يسخر من سنة قص الأظافر، أو يقال له -مثلا- كان النبي( إذا أكل لعق أصابعه الثلاثة فقال: ليس هذا بأدب(32)، فهذه الأقوال ونحوها تخرج من الإسلام مع التنبه لضوابط التكفير الآتي ذكرها، ولهذا كان لزاما على المسلم أن يحتاط لدينه.
هذا وقد ذكر الفقهاء صوراً ونماذج كثيرة لاعتقادات وأقوال وأفعال تخرج من الملة فمريد المزيد أن يرجع إليها في مظانها والكتب التي خصص لهذا الموضوع .
المبحث الثاني: حكم التكفير
في هذا المبحث سأتكلم عن حكم التكفير من خلال ثلاث نقاط هي بمثابة قواعد نعرف من خلالها حكم التكفير في الشرع .
القاعدة الأولى: الكفر والتكفير حكمان شرعيان:-
نص العلماء على أن الكفر حكم شرعي لما يترتب عليه من أحكام، يقول الإمام الغزالي: "الكفر حكم شرعي كالرق والحرية، إذ معناه إباحة الدم والحكم بالخلود في النار"(33).
كما نص العلماء على أن التكفير، حكم شرعي أيضاً(34).
وعليه لا يكون الحكم على فكرة أو حادثة أو شخص بالكفر إلا من أهل العلم الموثوقين والمعتبرين، الذين يفهمون الشرع حق فهمه وتلقوا علمهم من أهله، وهؤلاء يعرفون بالاستفاضة، ويحرم التكفير العيني على كل من لم يبلغ هذه المرتبة، وهم صنفان:-
1- طلاب علم، وهم من حصّلوا جملة طيبة من العلم، بيد أنهم لم يبلغوا مرتبة العلماء الراسخين، فهذا الصنف ممن لا يجوز له إطلاق التكفير على التخصيص، وبعبارة أخرى يحرم عليه تكفير المعين إلا إذا أكفره العلماء وتبعوهم في ذلك.(1/25)
وصفة العالم ليس بينها وبين الشهادات والأزياء تلازم أو انفكاك ، فليس كل من حمل شهادة أو لبس جبة أو اقتنى مكتبة عالماً بالمعنى الاصطلاحي، فالعلم ليس بالشهادة، بل المدار على ما يحمله في صدره من علم وافر مختمر، وفقه ونظر ثاقبين، بمعنى أن تتوفر فيه الملكة الفقهية في الفهم والاستنباط والتنزيل وهذا قد يكون حاملاً لشهادة أو لابساً لجبة أو لا يكون.
فمرتبة العالم لا تنال بالأوراق بقدر ما تنال بكثرة التحصيل وقوة الفهم مع الجد والمثابرة.
وطلبة العلم هم الكثرة الكاثرة في هذا العصر، فمعظم من نراهم أو نسمعهم في القنوات والإذاعات وسائر وسائل الاتصال الجماهيري، هم في حقيقة الأمر طلاب علم، وإن كان بعضهم يظن في نفسه أو يظن غيره فيه خلاف ذلك.
أقول هذا لكثرة ما بلينا به بسبب بعض من وسم بـ (طالب علم) أو (مستفيد)، والذي قرأ مجموعة مختصرات من الكتب، أو سمع مجموعة أشرطة من هنا وهناك، أو جمع نتفاً من المعلومات المتناثرة والتي لا يجمعها جامع ولا يربطها رابط ثم يظن في نفسه العلم، فيظلم نفسه ويظلم معه آخرين، "وقد قيل: إنما يفسد الناس نصف متكلم، ونصف فقيه، ونصف نحوي، ونصف طبيب، هذا يفسد الأديان، وهذا يفسد البلدان، وهذا يفسد اللسان، وهذا يفسد الأبدان"(35).
يقول الإمام الشاطبي رحمه الله تعالى: "من أنفع طرق العلم الموصلة إلى غاية التحقق به، أخذه عن أهله المتحققين به على الكمال والتمام"
وقد بين العلماء أمارات العالم المتحقق يقول الشاطبي: "وللعالم المتحقق بالعلم أمارات وعلامات:
إحداها: العمل بما علم، حتى يكون قوله مطابقاً لفعله.
والثانية: أن يكون ممن رباه الشيوخ في ذلك العلم لأخذه عنهم، وملازمته لهم، فهو الجدير بأن يتصف بما اتصفوا به من ذلك، وهكذا شأن السلف الصالح.(1/26)
فأول ذلك ملازمة الصحابة رضي الله عنهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخذهم بأقواله وأفعاله، وصار مثلُ ذلك أصلاً لمن بعدهم، فالتزم التابعون في الصحابة سيرتهم مع النبي صلى الله عليه وسلم، حتى فقهوا ونالوا ذروة الكمال في العلوم الشرعية.
وحسبك من صحة هذه القاعدة أنك لا تجد عالماً اشتهر في الناس الأخذ عنه، إلا وله قدوة اشتهر في قرنه بمثل ذلك، وقلما وجدت فرقة زائغة ولا أحداً مخالفا للسنة، إلا وهو مفارق لهذا الوصف"(36).
ولهذا فعلى المسلم أن يتحرى في سؤاله واتباعه من عرف في أوساط العلماء واستفاضة شهرته كعالم، وهؤلاء اليوم قلة قليلة جداً، ولهذا فمن اللازم على الأمة كافة والحكومات في مقدمتها إيجاد البيئة اللازمة لتخريج علماء فقهاء واعين محيطين بمتطلبات عصرهم ومعارفه، فهؤلاء في الحقيقة هم صمام الأمان للأمة من الفتن، وهم أعلام الطريق التي يهتدي بها الناس في حياتهم، والتاريخ الإسلامي خير شاهد.
2- العامة، وهم الذين يجهلون أحكام الدين التي لا تعلم منه بالضرورة، وهؤلاء لا يحق ولا يجوز لهم بأي حال من الأحوال الحكم على الناس بالتكفير، لجهلهم بالكتاب والسنة وآلة فهمهما وجهلهم بكلام العلماء.
هذا وقد عقد ابن القيم في كتابه الماتع إعلام الموقعين فصلاً في تحريم القول على الله بغير علم وقال تحته: "وقد حرم الله سبحانه القول عليه بغير علم في الفتيا والقضاء، وجعله من أعظم المحرمات، بل جعله في المرتبة العليا منها فقال تعالى: (قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون((الأعراف33) .
فرتب المحرمات أربع مراتب وبدأ بأسهلها، وهو الفواحش .
ثم ثنى بما هو أشد تحريما منه، وهو الإثم والظلم .
ثم ثلث بما هو أعظم تحريماً منهما، وهو الشرك به سبحانه .(1/27)
ثم ربع بما هو أشد تحريماً من ذلك كله وهو: القول عليه بلا علم، وهذا يعم القول عليه سبحانه بلا علم في أسمائه وصفاته وأفعاله، وفي دينه وشرعه .
وقال تعالى: (ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون متاع قليل ولهم عذاب أليم((النحل116)
فشدد عليهم سبحانه بالوعيد على الكذب عليه في أحكامه وقولهم لما لم يحرمه هذا حرام، ولما لم يحله هذا حلال، وهذا بيان منه سبحانه أنه لا يجوز للعبد أن يقول هذا حلال وهذا حرام إلا بما علم أن الله سبحانه أحله وحرمه .
وقال بعض السلف: ليتق أحدكم أن يقول: أحل الله كذا وحرم كذا، فيقول الله: له كذبت لم أحل كذا ولم أحرم كذا"(37)
ومما ورد في السنة من التحذير في الوقوع في التكفير بغير علم ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "إذا قال الرجل لأخيه يا كافر فقد باء به أحدهما"(38).
وعن أبي ذر أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول:"... ومن دعا رجلاً بالكفر، أو قال عدو الله وليس كذلك إلا حار عليه"(39).
فالحديثان ونحوهما سيقا لزجر المسلم عن أن يكفر أو يقول ذلك لأخيه المسلم، ويخشى عليه أن يؤول به ذلك إلى الكفر كما قيل: المعاصي بريد الكفر، فيخاف على من أدامها وأصر عليها سوء الخاتمة(40).
كما أن التكفير ليس مجالاً للمقايضات والمهاترات الساذجة، أو رد السيئة بمثلها، ومن منهج أهل السنة عدم تكفير المخالف الذي لم يكفر بمخالفته بسبب تكفيره لهم، بل يتعاملون مع الآخر مطلقاً بالحكمة والإحسان، ووضع كل حكم في موضعه، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "فلهذا كان أهل العلم و السنة لا يكفرون من خالفهم و إن كان ذلك المخالف يكفرهم، لأن الكفر حكم شرعي فليس للإنسان أن يعاقب بمثله كمن كذب عليك وزنى بأهلك ليس لك أن تكذب عليه و تزني بأهله، لأن الكذب و الزنا حرام لحق الله تعالى"(41).(1/28)
وتكمن خطورة التكفير في كونه تترتب عليه أحكام كثيرة منها:-
1- التفريق بين المرتد وزوجته.
2- عدم بقاء الأولاد تحت سلطانه.
3- فقدان حق الولاية والنصرة من المجتمع الإسلامي.
4- محاكمته أمام القضاء الإسلامي واستتابته فإن تاب وإلا قتل.
5- لا تجرى عليه أحكام المسلمين بعد موته، فلا يغسل ولا يصلى عليه، ولا يقبر في مقابر المسلمين .
6- الخلود في نار جهنم.
إن الحكم على معين بالكفر من غير ضوابط خطير للغاية؛ لما يستتبعه من أحكام دنيوية وأخروية، ولهذا كان السلف رغم تكفيرهم لبعض الطوائف يتحرزون أشد التحرز من إنزال هذا الحكم على أفرادها، ولئن أخطأ العالم في عدم تكفير معين خير له من تكفير من لا يكفر.
وأنبه هنا إلى نقطة هامة وهي أن مسألة التكفير مبنية على قاعدة الاحتياط، يقول ابن الوزير: "إن في الحكم بتكفير المختلف في كفرهم مفسدة بينة تخالف الاحتياط"(42) .
وقال -أيضاً- بعد أن ذكر عدم تكفير جمهور العلماء للخوارج:" فإذا تورع الجمهور من تكفير من اقتضت النصوص كفره، فكيف لا يكون الورع أشد من تكفير من لم يرد في كفره نص واحد، فاعتبر تورع الجمهور هنا، وتعلم الورع منهم في ذلك"(43).
ويقول ابن حزم:" إن كل من ثبت له عقد الإسلام فإنه لا يزول عنه إلا بنص أو إجماع، وأما بالدعوى والافتراء فلا"(44).
القاعدة الثانية: وجوب الاحتياط في التكفير العيني:
الاحتياط أصل من أصول الشريعة العامة، والتي تدخل في كثير من أبوابها، وإذا كان العلماء يحتاطون في أشياء من البيع والنكاح ونحوهما مما يعد ضئيلاً بالنسبة لحكم التكفير فهذا الأخير لا شك أنه أولى بالأخذ بهذا الأصل (الاحتياط) فنحتاط في الحكم بتكفير المعين لا في التشدد والتسرع في تكفيره، بل لا بد من التأني والإعذار وإقامة الحجة، احتياطاً لحفظ الدماء وأمن واستقرار الفرد والمجتمع.(1/29)
ولهذا قال العلماء "ينبغي للمفتي أن يحتاط في التكفير ما أمكنه، لأن الإيمان محقق فلا يرتفع إلا بيقين"(45).
ولمن يحتجون بكلام المودودي ننقل لهم كلامه في ضرورة الاحتياط في هذه المسالة حيث يقول: " يجب ملاحظة قضية تكفير المسلم، والاحتياط في هذه المسألة احتياطاً كاملاً، يتساوى مع الاحتياط في إصدار فتوى بقتل شخص ما(46)، وعلينا أن نلاحظ أن في قلب كل مسلم يؤمن بالتوحيد ولا إله إلا الله إيماناً، فإذا صدر عنه شائبة من شوائب الكفر فيجب أن نحسن الظن، ونعتبر هذا مجرد جهل منه وعدم فهم، و أنه لا يقصد بهذا التحول من الإيمان إلى الكفر، لأنه لا يجب أن نصدر ضده فتوى بالكفر بمجرد أن نستمع إلى قوله، بل يجب علينا أن نفهمه بطريقة طيبة ونشرح له ما أشكل عليه، ونبين له الخطأ من الصواب"(47).
القاعدة الثالثة: لا يكفر إلا من كفره الله ورسوله:-
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "التكفير حق لله فلا يكفر إلا من كفره الله و رسوله"(48) فمن نص الشرع على كفره قلنا بكفره، ومن لم يكفره لم نكفره مع ملاحظة أن فهم هذا النص لا يكون إلا للعلماء الراسخين، فلا يأتي أحدهم ويقرأ نصاً معيناً حكم فيه بالكفر على فاعل أو فعل ما، ويقول قد نص الشرع على كفر فاعل كذا ثم يكفره بناءً على قراءته لهذا النص، دون اعتبار للضوابط والقواعد والشروط المتعلقة بهذا الموضوع.
وبناءً على أن التكفير حق لله فلا يجوز:-(1/30)
1- التكفير بالعقليات، لأن الكفر هو الخروج من الدين أو مناقضته، ولا يعتبر الخروج عن العقليات ومناقضتها خروجاً عن الدين، مع إيماننا بألا تعارض بين النصوص القطعية الدلالة والثبوت وقطعيات العقل(49)، وما أهدف إليه هنا هو أن وضع أصول عقلية فلسفية لا تستند إلى الشرع وإنما إلى تنظيرات قياسية فلسفية إغريقية متنوعة والتي أثبتت عجزها وعقمها ثم تكفير مخالفها بناء عليها لا يصح، لأننا ببساطة متعبدون وتابعون للشرع، وعليه فالشرع هو الذي يحدد ويضبط ما يعتبر خروجاً عنه وما ليس كذلك.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: " الكفر حكم شرعي متلقي عن صاحب الشريعة والعقل قد يعلم به صواب القول وخطؤه، وليس كل ما كان خطأً في العقل يكون كفراً في الشرع، كما أنه ليس كل ما كان صواباً في العقل تجب في الشرع معرفته"(50).
هذا وقد عقد القاضي عياض فصلاً في كتابه الشفاء في المكفرات القولية قال في مطلعه: "اعلم أن تحقيق هذا الفصل وكشف اللبس فيه مورده الشرع، ولا مجال للعقل فيه"(51).
إن المتأمل في بعض الكتب المتعلقة بالكلام عن الفرق الإسلامية ومعتقداتهم يجد سيلاً من التكفير جلها بسبب خلافات عقلية، وفي قضايا ليس تحتها نفع أو طائل، بل على العكس لقد كانت مردوداتها سيئة للغاية على الفرد والمجتمع الإسلامي على السواء، وكانت بمثابة السوس الذي نخر في فكر الأمة، وأثر على أخوتها وسلامة وتراص صفها.
وقد تعجب الإمام ابن الوزير ممن أوغلوا في علم الكلام وتكفير بعضهم بعضاً بسبب دقائق كلامية، والذي أصبح القول بخلاف تلك الدقائق بمثابة الردة في الدين(52)، ولهذا نصح كثير من العلماء بعدم الخوض في علم الكلام لما قد يجره من المفاسد الدينية والدنيوية.(1/31)
وهذا لا يعني المنع من التفكير والنظر والتأمل بل إن هذه من أهم القضايا التي أرشد إليها الإسلام، فقد سئل ابن الوزير رحمه الله: هل تقبحون النظر؟ فقال: "إنا لا نقبح النظر، وكيف وقد أمر الله به، ونحن إنما دفاعنا عن الكتاب والسنة ولكنا نبطل مبتدع النظر بمسنونه، فنبطل من الأنظار ما أدى إلى القدح في الصحابة وإلى تكفير المسلمين"(53).
2- التكفير بالهوى، والهوى هنا يشمل :
أ - الهوى المبني على اللذة والشهوة دون الاستناد إلى شبهة دليل، ذلك أن التكفير والإفراط فيه عند البعض يكون سببه شهوة ورغبة جامحة ، وفكر تميل وترتاح إليه نفوسهم، وهي نفوس غير سوية في حقيقة الأمر، هذه النفوس التي لم تهتد بنور الشرع والنزول على الركب في حلقات العلم، والتي تمثل العلاج الناجع لهذا المرض.
ب - كما يشمل الهوى ما كان بدعة مستندةً إلى شبهة دليل أو غيره مما لا يصح أن يؤخذ منه معتقد ما .
ففي كلا الحالين لا يجوز التكفير بناءً عليهما، ولا شك أن المعرفة والتفريق بين الحق والهوى بمفهومه العام إنما يكون بالعلم والرجوع إلى أهله.
3- التكفير بالعواطف: يقع بعض الناس تحت ظروف وحالات نفسية وجسدية تفقده صوابية الحكم على شخص ما أو فعل ما بالكفر، فإذا انضم إلى هذا الجهل بالدين فالنتيجة ولا شك ستكون ماحقة.
المبحث الثالث: ضوابط التكفير
عندما بين علماء الإسلام نواقض الإيمان، والأسباب المخرجة من دائرة الإسلام كانوا يرمون من بيانهم هذا إلى ما يلي:-
1. بيان حكم الله أولاً في القضايا والصور التي تعرضوا لها.
2. بيان الحدود الدينية التي لا يجوز تجاوزها في حالة الاختيار بحيث لو تعداها المسلم فإنه يكون قد خرج من دينه .
3. أرادوا في الوقت نفسه حماية العقيدة ودين الأمة من لعب اللاعبين وتهور المتهورين .(1/32)
4. تحذير الناس وتنبيههم من الوقوع في المكفرات التي يجهلون كثيراً منها، ولهذا نادى بعض الفقهاء بضرورة تعليم الناس وتعريفهم بصور وأسباب الردة التي قد يقعون فيها عن جهل.
كانت هذه هي الأهداف الأساسية لذكر أسباب الردة وبيانها، ولم يكن مقصودهم تنزيل حكم الكفر على كل من قال أو عمل ما وصفوه بأنه ردة أو كفر، وأن يكون به قائله أو فاعله مرتداً، إذ ليست المسألة بهذه البساطة، ففي حين ذكر الفقهاء هذه الأسباب ذكروا أيضا ضوابط لإنزالها علىالأفراد، إذ الفرق بين القضيتين كبير، بين كون هذا الفعل أو القول كفراً، و كون قائله أو فاعله كافراً، فلا تلازم بينهما البتة.
وهذا التفريق من القواعد الهامة التي بينها العلماء واهتموا بها، وهذا المبحث سيكون مخصصاً لبيان هذه الضوابط والقواعد .
المطلب الأول: الفرق بين التكفير المطلق وتكفير المعين
التكفير المطلق هو: الحكم بالكفر على القول أو الفعل أو الاعتقاد الذي ينافي أصل الإسلام ويناقضه وعلى الفاعلين على سبيل الإطلاق بدون تحديد أحد بعينه.
تكفير المعين هو:الحكم على شخص بعينه بالكفر لاقترافه ما يناقض الإسلام بعد مراعاة ضوابط التكفير من استيفاء الشروط وانتفاء الموانع(54).
وفي هذا الصدد يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: " ليس كل من خالف في شيء من هذا الاعتقاد يجب أن يكون هالكاً، فإن المنازع قد يكون:-
1. مجتهداً مخطئاً يغفر الله خطأه .
2. وقد لا يكون بلغه في ذلك من العلم ما تقوم به عليه الحجة .
3. وقد يكون له من الحسنات ما يمحو الله به سيئاته .
وإذا كانت ألفاظ الوعيد المتناولة له لا يجب أن يدخل فيها المتأول والقانت وذو الحسنات الماحية والمغفور له وغير ذلك فهذا أولى، بل موجب هذا الكلام أن من اعتقد ذلك نجا في هذا الاعتقاد، ومن اعتقد ضده فقد يكون ناجياً وقد لا يكون ناجياً"(55).(1/33)
وقال: " كنت أبين لهم أنما نقل لهم عن السلف والأئمة من إطلاق القول بتكفير من يقول كذا وكذا فهو أيضاً حق، لكن يجب التفريق بين الإطلاق والتعيين، وهذه أول مسألة تنازعت فيها الأمة من مسائل الأصول الكبار، وهى مسألة الوعيد، فان نصوص القرآن في الوعيد مطلقة كقوله تعالى: (إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً)(النساء10) وكذلك سائر ما ورد من فعل كذا فله كذا، فإن هذه مطلقة عامة، وهى بمنزلة قول من قال من السلف: من قال كذا فهو كذا، ثم الشخص المعين يلتغي حكم الوعيد فيه بتوبة، أو حسنات ماحية، أو مصائب مكفرة، أو شفاعة مقبولة.
والتكفير هو من الوعيد فإنه وان كان القول تكذيباً لما قاله الرسول لكن قد يكون الرجل:-
1. حديث عهد بإسلام .
2. أو نشأ ببادية بعيدة، ومثل هذا لا يكفر بجحد ما يجحده حتى تقوم عليه الحجة
3. وقد يكون الرجل لم يسمع تلك النصوص.
4. أو سمعها ولم تثبت عنده .
5. أو عارضها عنده معارض آخر أوجب تأويلها وإن كان مخطئاً".
ويستدل الشيخ كثيراً بحديث الرجل الذي أمر أهله بحرقه بعد موته وكيف أثر جهله بقدرة الله عز وجل في عدم كفره ومغفرة الله له وأن المجتهد المتأول أولى بالمغفرة، يقول الشيخ: "وكنت دائماً أذكر الحديث الذي في الصحيحين في الرجل الذي قال: إذا أنا مت فأحرقوني ثم اسحقوني، ثم ذروني في اليم، فوالله لئن قدر الله عليّ ليعذبني عذاباً ما عذبه أحداً من العالمين، ففعلوا به ذلك فقال الله له: ما حملك على ما فعلت؟ قال خشيتك، فغفر له .
فهذا رجل شك في قدرة الله وفى إعادته إذا ذرى، بل اعتقد أنه لا يعاد وهذا كفر باتفاق المسلمين، لكن كان جاهلاً لا يعلم ذلك، وكان مؤمناً يخاف الله أن يعاقبه، فغفر له بذلك والمتأول من أهل الاجتهاد الحريص على متابعة الرسول أولى بالمغفرة من مثل هذا"(56)(1/34)
وقال الشيخ فيمن قال ببعض مقالات الباطنية جاهلاً ولم تقم الحجة عليه: " فهذه المقالات هي كفر لكن ثبوت التكفير في حق الشخص المعين موقوف على قيام الحجة التي يكفر تاركها، وإن أطلق القول بتكفير من يقول ذلك، فهو مثل إطلاق القول بنصوص الوعيد مع أن ثبوت حكم الوعيد في حق الشخص المعين موقوف على ثبوت شروطه وانتفاء موانعه"(57).
واستدل العلماء على هذا التفريق بأحاديث منها حديث عمر الآتي في الرجل الذي كان يضحك النبي ( وجلد في الخمر مراراً فلعنه بعض الحاضرين فنهاهم النبي ( عن ذلك، مع أنه قد جاء الوعيد المطلق في شارب الخمر.
المطلب الثاني: شروط تكفير المعين
وبما أن تكفير المعين مسألة خطيرة وذات أهمية عظيمة لما ينبني عليها من أحكام، فقد ذكر العلماء شرطين يجب توفرهما في المعين وهما: أن يقصد المعين بكلامه المعنى المكفر، وأن تقام عليه الحجة ، وبيان هذين الشرطين فيما يلي:
الشرط الأول: أن يقصد المعين بكلامه المعنى المكفر.
كثيراً ما يطلق الناس ألفاظاً هي في حقيقتها كفر بيد أنهم لا يقصدون الشيء المكفر، بل معنى آخر لا يكفرون به، وقد بين العلماء أن من سب موصوفاً بوصف أو مسمى باسم، وذلك يقع على الله سبحانه أو بعض رسله خصوصاً أو عموماً، لكن قد ظهر أنه لم يقصد ذلك، إما لاعتقاده أن الوصف أو الاسم لا يقع عليه، أو لأنه وإن كان يعتقد وقوعه عليه لكن ظهر أنه لم يرده، لكون الاسم في الغالب لا يقصد به ذلك بل غيره، فهذا القول وشبهه حرام في الجملة يستتاب صاحبه منه إن لم يعلم أنه حرام، ويعزر مع العلم تعزيراً بليغاً لكن لا يكفر بذلك و لا يقتل، وإن كان يخاف عليه الكفر .(1/35)
مثال ذلك: سب الدهر الذي فرق بينه وبين الأحبة، أو الزمان الذي أحوجه إلى الناس، أو الوقت الذي أبلاه بمعاشرة من ينكد عليه ونحو ذلك مما يكثر الناس قوله نظماً ونثراً، فإنه إنما يقصد أن يسب من فعل ذلك به، ثم إنه يعتقد أو يقول إن فاعل ذلك هو الدهر الذي هو الزمان فيسبه، وفاعل ذلك في حقيقة الأمر إنما هو الله سبحانه فيقع السب عليه من حيث لم يعتمده المرء، إذ لم يتبادر إلى ذهنه هذا المعنى البتة والى هذا أشار النبي( بقوله: "لا تسبوا الدهر، فإن الله هو الدهر، بيده الأمر"(58)، وقوله فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى: "يقول ابن آدم: يا خيبة الدهر، وأنا الدهر، بيدي الأمر، أقلب الليل والنهار"(59) فقد نهى النبي ( عن هذا القول وحرمه، ولم يذكر كفراً ولا قتلاً، والقول المحرم يقتضي التعزيز والتنكيل كما هو معلوم، إذ على المسلم أن يلتزم الشرع في أقواله كما يلتزمه في أفعاله.
ومثل هذا أن يسب مسمى باسم عام يندرج فيه الأنبياء وغيرهم، لكن يظهر أنه لم يقصد الأنبياء من ذلك العام مثل ما نقل الكرماني قال سألت أحمد قلت: رجل افترى على رجل فقال: يا ابن كذا وكذا إلى آدم وحواء، فقال: لقد أتى هذا عظيماً، وسئل عن الحد فيه، فقال: لم يبلغني في هذا شيء، فلم يجعل أحمد رضي الله عنه قائل هذا القول كافراً، مع أن اللفظ يدخل فيه نوح وإدريس وشيث وغيرهم(60).(1/36)
كما أن "المسلم إذا عنى معنى صحيحاً في حق الله تعالى أو الرسول، ولم يكن خبيراً بدلالة الألفاظ، فأطلق لفظاً يظنه دالاً على ذلك المعنى و كان دالاً على غيره أنه لا يكفر، و من كفر مثل هذا كان مخالفاً للكتاب و السنة و إجماع المسلمين، وقد قال تعالى: (لا تقولوا راعنا)(النساء46) وهذه العبارة كانت مما يقصد به اليهود إيذاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم و المسلمون لم يقصدوا ذلك، فنهاهم الله تعالى عنها ولم يكفرهم بها، و المطلق لمثل هذا على الله لا يكفر فكيف على الرسول صلى الله عليه وآله وسلم"(61)
ويندرج تحت هذا الشرط قاعدة العلاقة بين الظاهر والباطن، ففي حين ذهب البعض إلى القول بالتلازم المطلق بينهما، فيحكم على الباطن بمجرد العمل الظاهر واعتبروا الظاهر كالمرآة للباطن، فإذا تلبس المعين بعمل من أعمال الشرك في الظاهر فلا بد أن يكون مشركاً في الباطن دون نظر إلى تحقق شروط أو انتفاء موانع.
وذهب آخرون إلى عدم التلازم بين الظاهر والباطن، وهو ناتج عن القول بأن الإيمان هو التصديق فقط، وأن العمل ليس لازماً لتحقيقه بل يكون الإيمان كاملاً في الباطن دون أن يكون له لازم في الظاهر(62).
أما أهل السنة فوسط بين هذين المنهجين فهم لم يقولوا بالتلازم بإطلاق ولا بعدمه بإطلاق، وبيان هذا أن العلاقة بين الظاهر والباطن لها أربعة أحوال هي:-
* الحالة الأولى: أن يكون القصد مكفراً لكن لا يدل عليه العمل الظاهر:
وهذه الحالة تنطبق على المنافقين الذين يبطنون الكفر ويظهرون الإسلام، فقصدهم وباطنهم الكفر وظاهرهم الإسلام، لما يشهدون بلسانهم بإسلامهم، ولما يعملونه من أعمال أمر بها الشرع، وهنا قضيتان:-
الأولى: أن هؤلاء كفار في حقيقة الأمر بل أشد من الكفار معلومي الكفر، ونطقهم وعملهم لا يفيدهم يوم القيامة شيئاً .(1/37)
الثانية: كونهم كفاراً في حقيقة الأمر لا يعني أن يحكم بكفرهم؛ لأننا لا نعلم حقيقة ما في القلوب وما تبطنه من عقائد عموماً، ولنذكر حديث (هلا كشفت عن قلبه) سابق الذكر، وعليه فإننا متعبدون بالحكم على الظاهر والله يتولى السرائر ، ورسول الله ( رغم معرفته لبعض المنافقين بأعيانهم ولآخرين بأوصافهم، ومعرفته بوجود منافقين لا يعلم عنهم شيئاً مع هذا كله لم يعلن كفر من عرفه وعرف أوصافه، ويقيم عليه كل تبعات الحكم بالردة أو الكفر، كما أنه لم يقم بالتفتيش بين أتباعه ليعرف المنافق من غيره ليعلن كفره ويطبق عليه أحكام الكفر .
* الحالة الثانية: أن يكون العمل الظاهر كفراً غير محتمل غير الكفر في الباطن:
وهذا كسبّ الله سبحانه أو نبيه ( يقول شيخ الإسلام ابن تيمية :" إن سب الله أو سب رسوله كفر ظاهراً وباطناً، وسواء كان الساب يعتقد أن ذلك محرم أو كان مستحلاً له، أو كان ذاهلاً عن اعتقاده، هذا مذهب الفقهاء وسائر أهل السنة.
وقد قال الإمام ابن راهويه: قد أجمع المسلمون أن من سب الله أو سب رسوله، أو دفع شيئاً مما أنزل الله، أو قتل نبياً من أنبياء الله أنه كافر بذلك، وإن كان مقراً بكل ما انزل الله وكذلك قال محمد بن سحنون وغيرهما".(63)
وقال القاضي أبو يعلى في المعتمد: من سب الله أو سب رسوله فإنه يكفر، سواء استحل سبه أو لم يستحله، فإن قال: لم استحل ذلك، لم يقبل منه في ظاهر الحكم رواية واحدة، وكان مرتداً لأن الظاهر خلاف ما أخبر، لأنه لا غرض له في سب الله وسب رسوله إلا لأنه غير معتقد لعبادته، غير مصدق بما جاء به النبي ( ويفارق الشارب والقاتل والسارق إذا قال: أنا غير مستحل لذلك، أنه يصدق في الحكم؛ لأن له غرضاً في فعل هذه الأشياء مع اعتقاد تحريمها، وهو ما يتعجل من اللذة(64).(1/38)
فـ "سر المسألة أن الساب لا يمكن أن يكون معذوراً بجهل أو تأول، بل ذلك مما يناقض أصل الرضا بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد ( رسولاً، فليس السب مما يمكن فيه احتمال أن يتعلق بمناط غير نقض أصل الدين، فكان ولا بد كفراً لذاته"(65)
* الحالة الثالثة: أن يكون الفعل الظاهر محتملاً للكفر وعدمه:
من الأمثلة لهذه الحالة السجود للنبي ( فهو يحتمل الشرك ويحتمل الإعظام.
روى عبد الله بن أبي أوفى قال: "لما قام معاذ من الشام سجد للنبي ( قال النبي ( : ما هذا يامعاذ؟
قال معاذ: أتيت الشام فوافيتهم يسجدون لأساقفتهم وبطارقتهم، فوددت في نفسي أن نفعل ذلك بك.
فقال النبي (: فلا تفعلوا، فإني لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لغير الله لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها"(66).
فالسجود غير دال دلالة قطعية على عبادة غير الله بل قد يحتمل غيرها كالإكرام والتعظيم، وعليه فلا يكفر الفاعل حتى يتبين منه مراده، وليس المراد بالتبين هنا أن نحكم بكفره، أو عدم كفره وعدم إسلامه حتى نعلم إسلامه فعلاً، بل المراد بقاء حكم الإسلام عليه حتى نعرف مراده بالسجود فإذا لم نعلم مراده، أو قال: إنه أراد التعظيم فلا يكفر، ولكن عمله هذا حرام لا يخلو من الإثم إن علم حرمته.
* الحالة الرابعة: أن يقوم بالمعين ما هو كفر قطعاً لكن يمنع من تكفيره الاحتمال في قصده:-
وهذا كالرجل الذي أمر أهله بسحقه وذريه بعد موته، وظنه أن الله لن يقدر على بعثه، فهذا الظن كفر قطعاً، مع هذا غفر الله له بسبب جهله، ويدخل في هذه الحالة المعذورون بعذر من الأعذار الآتي ذكرها، والذين لا يكفرون مع وجودها(67).(1/39)
ومما له علاقة بهذا الموضوع مسألة حكاية الكفر، وهو أن يحكي أو ينقل مسلم قولا كفريا عن غيره مع عدم إيمانه بهذا القول الكفري أو تصديقه له، وإنما كانت هذه الحكاية أو النقل لغرض ما كأن يريد بيان حال القائل، أو غيره من القصود التي تختلف وتتنوع باختلاف وتنوع المكان والزمان والأحوال، فمن كان هذا حاله هل يكفر بهذه الحكاية أو لا؟
لقد ناقش فقهاء الإسلام هذه المسألة وبينوا ألا تكفير في حكاية الكفر، فمن حكى قولا كفريا لايكفر به قال النووي في المجموع: "لا يصير المسلم كافرا بحكايته الكفر"(68) وقال ابن مفلح في الفروع: "ولا يكفر من حكى كفرا سمعه ولا يعتقده، ولعل هذا إجماع"(69).
هذا وقد شرط بعضهم كالغزالي أن لا تقع الحكاية إلا في مجلس الحاكم، لكن قال ابن حجر الهيتمي: "وفيه نظر بل ينبغي أنه حيث كان في حكايته مصلحة جازت"(70)، ولهذا يحكي العلماء الحكايات الكفرية في كتاب الردة من الفقه، وفي الكتب العقدية وهم على هذا الحال منذ القدم دون نكير، ولو كانت الحكاية كفرا لما فعله العلماء وهذا يعني الإجماع على جواز ذلك وعد الكفر به، لكن ينبغي أن نفرق هنا بين مقامين: الأول حكاية الكفر قولا وهذا ما سبق الحديث عنه، والثاني حكايته فعلا كأن يشهد شاهد على آخر بأنه أخذ المصحف وداس عليه أو رآه يسجد لصنم ونحو هذا ففي هذه الحالة لا تجوز الحكاية بأن يقوم الشاهد ويحاكي تلك الأفعال، لأن الغرض معرفة الفعل وقد حصلت بالقول، كما أن فيه تكريرا للمنكر بغير داع.
الشرط الثاني: قيام الحجة:-
أن يكون قول أو عمل ما مكفراً كفراً أكبر -في غير سب الله ونحوه- مما سبق بيانه، لا يعني كفر القائل وإن قصده حتى تقوم على القائل الحجة بأن هذا القول كفر .
يقول ابن تيمية: "حكم الوعيد على الكفر لا تثبت في حق الشخص المعين حتى تقوم عليه حجة الله التي بعث بها رسله"(71).(1/40)
وقال: "وليس لأحد أن يكفر أحداً من المسلمين وإن أخطأ وغلط حتى تقام عليه الحجة وتبين له المحجة، ومن ثبت إسلامه بيقين لم يزل ذلك عنه بالشك، بل لا يزول إلا بعد إقامة الحجة وازالة الشبهة"(72)
الأدلة على هذا الشرط:-
وقد استدل العلماء على هذا الشرط بما يلي:-
1. قوله تعالى: (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا( (الإسراء15)
2. قوله تعالى: (كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شيء إن أنتم إلا في ضلال كبير((تبارك9،8) مفهوم الآية أن من لم يأته نذير لم يدخل النار.
3. قوله تعالى: (ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم وأهلها غافلون((الأنعام131)
"فعلم أنه لا يعذب من كان غافلاً ما لم يأته نذير، ودل أيضاً على أن ذلك ظلم تنزه سبحانه عنه"(73)
4. بوب البخاري في صحيحه: "باب قتل الخوارج والملحدين بعد إقامة الحجة عليهم" واستدل بقوله تعالى: (وما كان الله ليضل قوماً بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون((التوبة115) .
قال ابن كثير: "يقول تعالى مخبراً عن نفسه الكريمة وحكمه العادل إنه لا يضل قوماً إلا بعد إبلاغ الرسالة إليهم، حتى يكونوا قد قامت عليهم الحجة".(74)
معنى قيام الحجة:-
وقيام الحجة هنا معناها أن يعرف القائل بحكم الشرع في هذه القضية وأن مقالته مخالفة للدين ومناقضة له.
قال ابن حزم: " وكل ما قلنا فيه إنه يفسق فاعله أو يكفر بعد قيام الحجة عليه فهو ما لم تقم عليه الحجة معذور مأجور وإن كان مخطئاً، وصفة قيام الحجة عليه هو أن تبلغه فلا يكون عنده شيء يقاومها"(75)
قال ابن القيم :" وأما كفر الجهل مع عدم قيام الحجة وعدم التمكن من معرفتها فهذا الذي نفى الله التعذيب عنه حتى تقوم حجة الرسل"(76)(1/41)
وقيام الحجة يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "وكثير من الناس قد ينشأ في الأمكنة والأزمنة الذي يندرس فيها كثير من علوم النبوات حتى لا يبقى من يبلغ ما بعث الله به رسوله من الكتاب والحكمة، فلا يعلم كثيراً مما يبعث الله به رسوله، ولا يكون هناك من يبلغه ذلك ومثل هذا لا يكفر، ولهذا اتفق الأئمة على أن من نشأ ببادية بعيدة عن أهل العلم والإيمان، وكان حديث العهد بالإسلام فأنكر شيئاً من هذه الأحكام الظاهرة المتواترة فإنه لا يحكم بكفره حتى يعرف ما جاء به الرسول"(77)
قال الخطابي: "فإن قيل كيف تأولت أمر الطائفة التي منعت الزكاة على الوجه الذي ذهبت إليه وجعلتهم أهل بغى، وهل إذا أنكرت طائفة من المسلمين فرض الزكاة وامتنعوا من أدائها يكون حكمهم حكم أهل البغي، قلنا: لا، فإن من أنكر فرض الزكاة في هذه الأزمان كان كافراً بإجماع المسلمين، والفرق بين هؤلاء وأولئك أنهم إنما عذروا لأسباب وأمور لا يحدث مثلها في هذا الزمان منها: قرب العهد بزمان الشريعة الذي كان يقع فيه تبديل الأحكام بالنسخ .(1/42)
ومنها أن القوم كانوا جهالاً بأمور الدين وكان عهدهم بالإسلام قريباً، فدخلتهم الشبهة فعذروا، فأما اليوم وقد شاع دين الإسلام واستفاض في المسلمين علم وجوب الزكاة حتى عرفها الخاص والعام، واشترك فيه العالم والجاهل، فلا يعذر أحد بتأويل يتأوله في إنكارها وكذلك الأمر في كل من أنكر شيئاً مما أجمعت الأمة عليه من أمور الدين إذا كان علمه منتشراً كالصلوات الخمس، وصوم شهر رمضان، والاغتسال من الجنابة، وتحريم الزنا والخمر، ونكاح ذوات المحارم، ونحوها من الأحكام إلا أن يكون رجلاً حديث عهد بالإسلام ولا يعرف حدوده، فإنه إذا أنكر شيئاً منها جهلاً به لم يكفر، وكان سبيله سبيل أولئك القوم في بقاء اسم الدين عليه، فأما ما كان الإجماع فيه معلوماً من طريق علم الخاصة كتحريم نكاح المرأة على عمتها وخالتها، وأن القاتل عمداً لا يرث، وأن للجدة السدس وما أشبه ذلك من الأحكام فإن من أنكرها لا يكفر بل يعذر فيها لعدم استفاضة علمها في العامة"(78)
نستخلص من كلام العلماء السابق أن الأحكام نوعان:-
1- أحكام متواترة ظاهرة كالصلاة والزكاة والصوم والمسلمون فيها نوعان:-
أ- حديث عهد بإسلام، أو نشأ ببادية ليس فيها علماء، أو في بلد يغلب عليها الانحراف فهذا لا يكفر حتى يبين له الحكم وتقام عليه الحجة.
ب- من ليس كذلك أي أسلم قديماً أو نشأ في بلد فيه أهل علم ومجتمع يغلب عليه الإقرار ثم أنكر ما هو معلوم ضرورة كفر، لأن الحجة قائمة عليه، أو كان كذلك وأقيمت عليه الحجة بأن أعلم بحكم الإسلام ثم أصر على الإنكار فإنه يكفر.
2- أحكام متواترة غير ظاهرة، فلا يعرفها إلا الخاصة، كتوريث الجدة السدس والمسلمون فيها نوعان:-
أ- عامة: وهؤلاء إن أنكروها لا يكفرون لأن هذه المسألة مما تخفى عليهم حتى تقام عليهم الحجة.
ب- خاصة: وهم أهل العلم من أنكرها منهم يكفر.(1/43)
والحجة على العامي تقوم عن طريق سؤال أهل العلم، لأن العامة فرضهم سؤال أهل الذكر، ولا شأن لهم بالنظر في النصوص، وقد تقوم الحجة عليهم برجل ولا تقوم عليهم بآخر، ولا ضابط لمن ترد إليه الفتوى بالنسبة لهم إلا التسامع والاستفاضة، وفي مثل هذا تتفاوت الاجتهادات.
والحجة على أهل العلم تقوم بالأدلة الشرعية المعتبرة من الكتاب والسنة والإجماع والقياس، وقد يحسن عرضها رجل ولا يحسن عرضها آخر، فليس كل من حفظ دليلاً أو دليلين تقوم بمثله الحجة(79).
ومما ينبغي التنبه له التفريق بين المعلوم من الدين بالضرورة والمعلومات الضرورية، فمنكر الأولى فيه الكلام السابق أما من ينكر المعلومات الضرورية التي ليست من أركان الدين، كمن أنكر غزوة من غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم المتواترة التي ليست في القرآن، أو أنكر وجود أحد من الصحابة المعلوم بالضرورة صحبته، فلا يكفر؛ لأنه وإن كان من المعلومات الضرورية إلا أنه ليس أصلاً من أصول الدين الذي يجب التصديق به(80).
المطلب الثالث: موانع تكفير المعين وما يمحوه
ويتضمن هذا المطلب فرعان: الأول في الموانع التي تمنع إطلاق الكفر على المعين، والثاني في بيان أن الكفر بعد ثبوته قد يمحى ولا يصح بعد ذلك إطلاق الكفر عليه.
الفرع الأول: موانع إلحاق التكفير بالمعين:-
من الخطأ البين عدم الأخذ بالاعتبار الأعذار التي تمنع الحكم على المعين بالكفر، مع أن هذه القضية قد تكلم فيها العلماء جميعاً ونصوا على اعتبارها وطبقوها ونظّروا لها، وفي هذا المطلب سأبين الموانع التي تمنع من إطلاق التكفير، والتي ينبغي الإلمام بها ومعرفتها.
أولاً:الجهل:-
يأتي الجهل بعدة معاني:-
1- خلو النفس من العلم.
2- اعتقاد الشيء بخلاف ما هو عليه.
3- فعل الشيء بخلاف ما حقه أن يفعل سواء اعتقد فيه اعتقاداً صحيحاً أم فاسداً.(1/44)
ومقصود العلماء بالجهل الذي يعذر صاحبه أو لا يعذر هو أن يقول قولاً أو يفعل فعلاً بخلاف ما حقه أن يفعل، أو يعتقد اعتقاداً بخلاف ما هو عليه من الحق(81).
والجهل من الأعذار التي تمنع إطلاق الكفر على :-
1- من جهل حكماً يكفر بجهله أو إنكاره ولكنه لم يبلغه.
2- أو بلغه ولم يفهمه.
3- أو فهمه ولكن قام لديه معارض، فيما يصح أن يكون معارضاً.
4- الجهل تقليداً، بمعنى أن يقلد في عقيدته غيره لقصور نظره، وهذا الصنف أحق بالعذر من غيره لعجزه، وتكليفه خلاف ذلك تكليف لا يطاق، وهذا إذا كان في بلد يغلب فيها الجهل أو المعتقدات الباطلة، ما لم تكن في أصل الإيمان بالله ورسوله(.
إن "الإيمان من الأحكام المتلقاة عن الله ورسوله، فليس ذلك مما يحكم فيه الناس بظنونهم وأهوائهم، ولا يجب إن يحكم في كل شخص قال ذلك بأنه كافر حتى يثبت في حقه شروط التكفير وتنتفي موانعه مثل من قال إن الخمر أو الربا حلال لقرب عهده بالإسلام أو لنشوئه في بادية بعيدة، أو سمع كلاماً أنكره ولم يعتقد أنه من القرآن، ولا أنه من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما كان بعض السلف ينكر أشياء حتى يثبت عنده أن النبى( قالها وكما كان الصحابة يشكون في أشياء مثل رؤية الله وغير ذلك حتى يسألوا عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم"(82)
وقد دلل علماء الإسلام لاعتبار الجهل عذراً بالأدلة الكثيرة أذكر منها:-
1- قوله تعالى: (رسلاً مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزاً حكيما) (النساء65) وقوله تعالى: (من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا)(الإسراء15).(1/45)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "لكن من الناس من يكون جاهلاً ببعض هذه الأحكام جهلاً يعذر به، فلا يحكم بكفر أحد حتى تقوم عليه الحجة من جهة بلاغ الرسالة كما قال تعالى -وذكر الآيتين السابقتين- ولهذا لو أسلم رجل ولم يعلم أن الصلاة واجبة عليه، أو يعلم أن الخمر يحرم لم يكفر بعدم اعتقاد إيجاب هذا وتحريم هذا، بل ولم يعاقب حتى تبلغه الحجة النبوية"(83)
2- عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "كان رجل يسرف على نفسه، فلما حضره الموت قال لبنيه: إذا أنا مت فأحرقوني، ثم اطحنوني، ثم ذروني في الريح، فوالله لئن قدر علي ربي ليعذبني عذاباً ما عذبه أحداً فلما مات فعل به ذلك، فأمر الله الأرض فقال: اجمعي ما فيك منه ففعلت، فإذا هو قائم فقال: ما حملك على ما صنعت؟ قال: يا رب خشيتك فغفر له"(84).
"فهذا رجل شك في قدرة الله وفى إعادته إذا ذرى بل اعتقد أنه لا يعاد وهذا كفر باتفاق المسلمين، لكن كان جاهلاً لا يعلم ذلك، وكان مؤمناً يخاف الله أن يعاقبه فغفر له بذلك"(85)
قال الخطابي: "قد يستشكل هذا فيقال: كيف يغفر له وهو منكر للبعث والقدرة على إحياء الموتى؟
والجواب أنه لم ينكر البعث، وإنما جهل فظن أنه إذا فعل به ذلك لا يعاد فلا يعذب وقد ظهر إيمانه باعترافه بأنه إنما فعل ذلك من خشية الله"(86)
قال ابن عبد البر: "وأما جهل هذا الرجل المذكور في هذا الحديث بصفة من صفات الله في علمه وقدرته فليس ذلك بمخرجه من الإيمان"(87).
هذا وقد حاول بعضهم تأويل هذا الحديث على غير ظاهرة، وتمحلوا له معاني تخرجه عما يدل عليه مع التكلف الواضح في ذلك، وفي هذا مخالفة لصريح الحديث، وتضييق لرحمة الله وقد رد العلماء هذه التأويلات وفندوها، وكان من بين الرادين والمناقشين لها الإمام ابن حزم وبحدته المعروفة(88).(1/46)
3- عن أبي هريرة رضي الله عنه "أن ناساً قالوا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة؟
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: هل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر؟
قالوا: لا يا رسول الله، قال: هل تضارون في الشمس ليس دونها سحاب؟
قالوا: لا يا رسول الله، قال: فإنكم ترونه كذلك"(89)
فبعض الصحابة لم يكن يعلم أن الله يرى في الآخرة، وإلا لما سألوا.
وهنا أشير إلى قضايا متعلقة بما نحن فيه تجري مجرى القواعد والأصول:-
1- الجهل أمر أصلي ينبغي رفعه حسب الاستطاعة:-
قال ابن عبد البر: "ومن أمكنه التعلم ولم يتعلم أثم"(90)، وهذا يدخل في عموم الأمر في قوله تعالى: (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون)(الأنبياء7) فعلى الجاهل أن يسأل العلماء الربانيين ليزيل الجهل عن نفسه.
2- كل جهل يمكن للمكلف دفعه لا يكون حجة للجاهل:-
وهذه القاعدة ناتجة عن الأولى، إذ إن سؤال العلماء إذا تيسر واستطاع الجاهل ذلك ولم يكن هناك حائل أو مانع فلا يكون -والحالة هذه- للجاهل حجة في جهله وعدم علمه.
وقد جاءت هذه القاعدة في سياق كلام للقرافي حين قال: "القاعدة الشرعية دلت على أن كل جهل يمكن المكلف دفعه لا يكون حجة للجاهل، فإن الله تعالى بعث رسله إلى خلقه برسائله وواجب عليهم كافة أن يعلموها ثم يعملوا بها، فالعلم والعمل بها واجبان فمن ترك التعلم والعمل وبقي جاهلاً فقد عصى معصيتين لتركه واجبين"(91).
3- الإثم مرفوع عن الجاهل:-
ساق ابن عبد البر حديث ابن عباس رضي الله عنهما: أهدى رجل لرسول الله ( راوية خمر فقال النبي (: أما علمت أن الله حرمها، قال: لا...الحديث(92)، قال بعد ذلك: "وفي هذا الحديث دليل على أن الإثم مرفوع عمن لم يعلم قال الله عز وجل: (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا)(الإسراء15) وهذا الإثم مقيد بما سبق بمعنى أن الإثم مرفوع عن لم يستطع رفع الجهل عن نفسه لوجود موانع يأتي ذكر بعضها(93).(1/47)
4- ما يكفر به بعض الناس قد لا يكفر به آخرون:-
مما سبق يظهر جلياً أن الجهل عذر بيد أن هذا العذر أمر نسبي إضافي، فما يجهله أناس قد يكون بدهياً عند آخرين، كالمسلم حديثاً ولم يعرف بعد من أحكام الدين إلا القليل، أو من نشأ في بلدة يغلب عليها بعض العقائد الفاسدة المخرجة من الملة، أو من نشأ في بادية ليس فيها علماء .
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "من دعا غير الله وحج إلى غير الله فهو مشرك والذي فعله كفر لكن قد لا يكون عالماً بأن هذا شرك محرم كما أن كثيراً من الناس دخلوا في الإسلام من التتر وغيرهم وعندهم أصنام لهم، وهم يتقربون إليها ويعظمونها ولا يعلمون أن ذلك محرم في دين الإسلام...فكثير من أنواع الشرك قد يخفى على بعض من دخل في الإسلام، ولا يعلم أنه شرك"(94)
أما تقدير كون منطقة ما بادية أو لا فهو أمر يعود إلى العلماء، ذلك أن البادية يختلف ضبطها من مكان لآخر ومن منطقة لأخرى .
ومقصود العلماء بالعالم في البادية الذي يتمكن الجاهل من سؤاله ليس هو المتبادر إلى الذهن من أنه العالم العرفي أي الملم بمعظم أحكام الشريعة، بل المراد من يعلم حكم المسألة التي يجهلها الجاهل، ولتوضيح هذه النقطة نمثل بمثال فقهي وهو أن قراءة الفاتحة واجبة في الصلاة، وهناك جاهل لا يعرف ولا يعلم كيفية قراءتها، قال العلماء إن كان في بادية ليس فيها علماء يسقط عنه إثم عدم القراءة ولا تجب عليه الإعادة، فإن وجد عالم فيجب عليه التعلم عنده، فإن لم يفعل بطلت صلاته التي أداها في وقت كان يستطيع أن يتعلم ولم يتعلم ، والعالم المسؤول هنا المراد به هو من يعرف قراءة الفاتحة وليس العالم العرفي.
5- ليس كل من جهل شيئاً يكفر بإطلاق:-(1/48)
إذ إن معرفة الدين جملة وتفصيلاً لا يتم لأحد ولا حتى لأكابر العلماء، ولهذا إذا جهل بعض الناس - وهم كثيرون- بعض أحكام الدين فلا يحكم بكفرهم لأنهم معذورون بجهلهم، وهذا كأن يجهل بعضهم نصيب الأم أو الجدة في الميراث، مع أنه منصوص عليه في القرآن، بل ذكر الفقهاء أنه لا يلزم معرفة هذه المسائل لمن لم يمارسها أو يدخل في حكمها، فمن لا يمارس التجارة لا تجب عليه معرفة أحكامها فإذا مارسها وجبت، وهكذا.
ثانياً: الخطأ:-
الخطأ لغة: ضد الصواب أو العدول عن الجهة، كما قال الراغب في مفرداته.
وهو في الاصطلاح قريب من المعنى اللغوي، وحاصل كلام العلماء فيه أنه: ما صدر من المكلف دون قصد المكلف له، أو قصده مع ظنه صوابيته وليس كذلك، و ما صدر من غير المكلف مطلقاً، أي سواء قصده أم لا.
والخطأ يطلق على العمد أي العالم بخطأ فعله، فيكون صاحبه آثماً كما في قوله تعالى: (ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم إن قتلهم كان خطئاً كبيرا)(الإسراء 31) وعلى غير العمد كما في قوله تعالى: (وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً إلا خطئاً)(الأحزاب5).
والمقصود هنا النوع الثاني.
والأدلة على أن الخطأ عذر يمنع التكفير كثيرة كقوله تعالى: (ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا)(البقرة286) وصح في السنة أن الله قال: قد فعلت، وقوله تعالى: (وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به)(الأحزاب5)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "فمن ذمهم ولامهم على ما لم يؤاخذهم الله عليه فقد اعتدى، ومن أراد أن يجعل أقوالهم وأفعالهم بمنزلة قول المعصوم وفعله وينتصر لها بغير هدى من الله فقد اعتدى واتبع هواه بغير هدى من الله، ومن فعل ما أمر به بحسب حاله من اجتهاد يقدر عليه أو تقليد إذا لم يقدر على الاجتهاد وسلك في تقليده مسلك العدل فهو مقتصد إذ الأمر مشروط بالقدرة، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها"(95).(1/49)
ومما هو معلوم أنه لا فرق بين الأصول والفروع من ناحية الإعذار ما لم يكن في أصل الدين، مثل كون الله خالقاً، ومحمد( نبياً ورسولاً، وأنه يجب اتباع دينه سبحانه، والبراءة مما يخالف شرعه، والخطأ هنا يشمل صنفين من الناس:-
1- المجتهد المخطئ في إطلاق الحكم على المسألة، إما لعدم توفر الأدلة أو لعدم ثبوتها عنده، أو لاعتقاده ثبوت ما لا يثبت، فهذا معذور ولا إثم عليه، إذا بذل جهده في البحث والنظر، إذ إنه "ليس كل من اجتهد واستدل يتمكن من معرفة الحق"(96) والمطلوب في حقه هو بذل وسعه والعمل بما وصل إليه، بل إذا قصر في ذلك ووقع في أمر كفري لا يكفر بسببه، بل هو ذنب لا يبلغ به الكفر(97).
ويمكن التمثيل هنا ببعض من استحل بعض صور الربا متأولاً، فهذا لايدخل في لعنة الله لآكل الربا، لأنه فعله متأولاً تأويلاً سائغاً في الجملة لا قاصداً مخالفة الحكم الشرعي، وكذلك قد ثبت عنه أنه لعن في الخمر، وقد كان رجال من أفاضل الأمة علماً وعملاً من الكوفيين يعتقدون أن لا خمر إلا من العنب والتمر، وأن ما سوى العنب والتمر لا يحرم من نبيذه إلا مقدار ما يسكر ويشربون ما يعتقدون حله فلا يجوز أن يقال إن هؤلاء مندرجون تحت الوعيد. (98)"وهذا باب واسع فإنه يدخل فيه جميع الأمور المحرمة بكتاب أو سنة إذا كان بعض الأمة لم يبلغهم أدلة التحريم فاستحلوها، أو عارض تلك الأدلة عندهم أدلة أخرى رأوا رجحانها عليها مجتهدين في ذلك الترجيح بحسب عقلهم وعلمهم، فإن التحريم له أحكام من التأثيم والذم والعقوبة والفسق وغير ذلك لكن لها شروط وموانع"(99)
2- المتوقف عن الحكم في مسالة ما، وسببه التردد النظري بين طرفي القضية المراد الحكم فيها، والتوقف -في حقيقته- عجز عن إدراك الحق، والعجز عذر، وتكليفه ترجيح طرف على آخر دون مرجح ظاهر بالنسبة له من تكليف ما لا يطاق، وإن كنا نعلم أن الصواب في أحدهما .(1/50)
ومن أمثلة هذا الصنف التوقف في عدم وصف الله بالجسمية، فإن القول بأن صفة الجسم لم ترد في القرآن والسنة والبناء عليه القول بالتوقف في إطلاقه على الله سبحانه خطأ محض، ذلك أن الصفات مرجعها النصوص، والنصوص لم تذكر هذا الصفة فالنفي هنا هو الصواب، إضافة إلى كون صفة الجسمية تتنافى مع قوله تعالى: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)(الشورى: من الآية11) كما أن الجسمية من صفة المحدثات ولا شك.
هذا وقد يحصل أجر لبعض مجتهدي الصنفين السابقين وقد لا يحصل، ذلك أن المسائل التي يخطئ فيها المجتهدون من حيث أجر الاجتهاد من عدمه تنقسم على قسمين:-
الأول: خطأ لا يعاقب عليه صاحبه ولا يثاب حتى تبلغه الرسالة وتقوم عليه الحجة وهذا الخطأ فيما لم يشرع جنسه(100)"مثل الشرك فان هذا لا ثواب فيه، وإن كان الله لا يعاقب صاحبه إلا بعد بلوغ الرسالة كما قال تعالى: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً)(الاسراء: من الآية15) .
لكنه وإن كان لا يعذب فان هذا لا يثاب بل هذا كما قال تعالى (وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا)(الفرقان23) قال ابن المبارك: هي الأعمال التي عملت لغير الله، وقال مجاهد: هي الأعمال التي لم تقبل .
وقال تعالى (مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف لا يقدرون على شيء ذلك هو الضلال البعيد)(إبراهيم18) فهؤلاء أعمالهم باطلة لا ثواب فيها، وإذا نهاهم الرسول عنها فلم ينتهوا عوقبوا، فالعقاب عليها مشروط بتبليغ الرسول، وأما بطلانها في نفسها فلأنها غير مأمور بها .(1/51)
فكل عبادة غير مأمور بها فلا بد أن ينهى عنها، ثم إن علم أنها منهي عنها وفعلها استحق العقاب، فإن لم يعلم لم يستحق العقاب، وإن اعتقد أنها مأمور بها، وكانت من جنس المشروع فإنه يثاب عليها، وإن كانت من جنس الشرك فهذا الجنس ليس فيه شيء مأمور به، لكن قد يحسب بعض الناس في بعض أنواعه أنه مأمور به وهذا لا يكون مجتهداً، لأن المجتهد لابد أن يتبع دليلاً شرعياً، وهذه لا يكون عليها دليل شرعي، لكن قد يفعلها باجتهاد مثله، وهو تقليده لمن فعل ذلك من الشيوخ والعلماء والذين فعلوا ذلك قد فعلوه لأنهم رأوه ينفع، أو لحديث كذب سمعوه، فهؤلاء إذا لم تقم عليهم الحجة بالنهي لا يعذبون، وأما الثواب فإنه قد يكون ثوابهم أنهم أرجح من أهل جنسهم، وأما الثواب بالتقرب إلى الله فلا يكون بمثل هذه الأعمال"(101)
الثاني: لا يعاقب على خطئه وله أجر على اجتهاده، ويشترط في هذا الخطأ ثلاثة شروط:-
1- أن يكون قصده متابعة النبي ( .
2- أن يستفرغ وسعه في طلب الحق.
3- أن يكون متبعاً دليلاً شرعيا لكن هذا الدليل لم تتكامل فيه شروط الاستدلال.
ويذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أن المجتهد المخطىء له أجر، لأن قصده الحق وطلبه بحسب وسعه، فله الأجر ليس على إصابة الحق إذ هو لم يصبه، وإنما استحق الأجر على اتباعه الحق بحسب اجتهاده، و لو كان في الباطن حق يناقضه هو أولى بالاتباع لو قدر على معرفته لكنه لم يقدر، فهذا كالمجتهدين فى جهات الكعبة (102)
وقال أيضا: " وأما التكفير فالصواب أنه من اجتهد من أمة محمد( وقصد الحق فاخطأ لم يكفر بل يغفر له خطؤه، ومن تبين له ما جاء به الرسول فشاق الرسول من بعد ما تبين له الهدى واتبع غير سبيل المؤمنين فهو كافر .(1/52)
ومن اتبع هواه وقصر في طلب الحق وتكلم بلا علم فهو عاص مذنب، ثم قد يكون فاسقاً، وقد تكون له حسنات ترجح على سيئاته، فالتكفير يختلف بحسب اختلاف حال الشخص، فليس كل مخطىء ولا مبتدع ولا جاهل ولا ضال يكون كافراً، بل ولا فاسقاً، بل ولا عاصياً"(103).
ثالثاً: التأويل:-
للتأويل معاني عدة والمقصود منها هنا هو: "صرف اللفظ عن ظاهره الذي يدل عليه ظاهره إلى ما يخالف ذلك لدليل منفصل يوجب ذلك، وهذا التأويل لا يكون إلا مخالفاً لما يدل عليه اللفظ ويبينه، وتسمية هذا تأويلاً لم يكن في عرف السلف، وإنما سمى هذا وحده تأويلاً طائفة من المتأخرين الخائضين في الفقه وأصوله والكلام ...وهذا هو التأويل الذي اتفق سلف الأمة وأئمتها على ذمه"(104)
والتأويل ضرب من الخطأ ولذا فإن أدلة العذر به هي نفسها أدلة العذر بالخطأ "وقد تكاثرت الآيات والأحاديث في العفو عن الخطأ، والظاهر أن أهل التأويل أخطأوا ولا سبيل إلى العلم بتعمدهم، لأنه من علم الباطن الذي لا يعلمه إلا الله"(105).
يقول الإمام محمد الوزير بعد تقريره هذه القاعدة: "إن المتأولين غير كفار، لأن صدورهم لم تنشرح بالكفر قطعاً أو ظناً أو تجويزاً أو احتمالاً، وقد يشهد لهم بذلك كلام أمير المؤمنين علي رضي الله عنه، وهو الصادق المصدوق في المشهور عنه حيث سئل عن كفر الخوارج فقال: من الكفر فروا، فكذلك جميع أهل التأويل من أهل الملة وإن وقعوا في أفحش البدع والجهل، فقد علم منهم أن حالهم في ذلك هي حال الخوارج"(106).
وفي فيض القدير: " والصواب عدم تكفير أهل الأهواء المتأولين، لأنهم لم يقصدوا اختيار الكفر، بل بذلوا وسعهم في إصابة الحق فلم يحصل ما زعموه فهم كالمجتهد المخطئ هذا الذي عليه محققو علماء الأمة"(107).(1/53)
وقال الإمام الشافعي: "فلم نعلم أحداً من سلف هذه الأمة يقتدى به، ولا من التابعين بعدهم رد شهادة أحد بتأويل وإن خطّأه وضلله، ورآه استحل فيه ما حرم عليه، ولا رد شهادة أحد بشيء من التأويل كان له وجه يحتمله، وإن بلغ فيه استحلال الدم والمال أو المفرط من القول، وذلك أنا وجدنا الدماء أعظم ما يعصى الله تعالى بها بعد الشرك، ووجدنا
متأولين يستحلونها بوجوه، وقد رغب لهم نظراؤهم عنها، وخالفوهم فيها ولم يردوا شهادتهم بما رأوا من خلافهم، فكل مستحل بتأويل من قول أو غيره فشهادته ماضية لا ترد من أخطأ في تأويله"(108).
فالإمام الشافعي -كما ذكر هنا- لم يكفر المتأولين وإلا لما قبل شهادتهم.
هذا وإن العلماء عندما اعتبروا التأويل عذراً فإنهم لم يعذروا به على الإطلاق، ولتوضيح هذا فإن العلماء قسموا التأويل على ثلاثة أقسام:-
1- تأويل هو المراد من النص.
2- تأويل قريب، أي له وجه في اللغة
3- تأويل مستحيل غير معتبر.
والنوع الأول لا خلاف في اعتماده واعتباره بين العلماء إذا دل عليه النص، وهذا كتأويل الجنب في قوله تعالى (أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ)(الزمر: من الآية56) أي حق الله.
والثاني هو المقصود هنا، ومثاله من تأول صفة اليد على القدرة أو النعمة، إذ إن لهذا التأويل وجهاً في اللغة لا يمكن نكرانه، هذا إضافة إلى قيام شبهة خوف الوقوع في التشبيه الذي فروا منه، واعتقاد طائفة منهم كفر من أثبتها ولو من غير تكييف، كما هو مذهب بعض بعضهم، ومع أن هذا التأويل قريب لغة إلا أن الصواب هو الإثبات كما هي عقيدة خير سلف الأمة.(1/54)
أما التأويل غير المعتبر فهو الذي يستحيل حمل اللفظ عليه، كتأويل الباطنية الصلاة والزكاة وغيرها بما يخرجها عن ظاهرها، وكمن "تأولوا الرب جل جلاله وجميع أسمائه بإمام الزمان، وسموه باسم الله تعالى، وفسروا لا إله إلا الله أي لا إمام إلا إمام الزمان في زعمهم، وتلاعبوا بجميع آيات كتاب الله عز وجل في تأويلها جميعاً بالبواطن التي لم يدل على شيء منها دلالة ولا أمارة، ولا لها في عصر السلف الصالح إشارة"(109).
فهذه التأويلات لا يعذر قائلها البتة، يقول الإمام ابن الوزير: " وكذلك لا خلاف في كفر من جحد ذلك المعلوم بالضرورة للجميع وتستر باسم التأويل فيما لا يمكن تأويله كالملاحدة في تأويل جميع الأسماء الحسنى، بل جميع القرآن والشرائع والمعاد الأخروي من البعث والقيامة والجنة والنار، وإنما يقع الإشكال في تكفير من قام بأركان الاسلام الخمسة المنصوص على إسلام من قام بها إذا خالف المعلوم ضرورة للبعض أو للأكثر لا المعلوم له وتأول، وعلمنا من قرائن أحواله أنه ما قصد التكذيب، أو التبس ذلك علينا في حقه وأظهر التدين والتصديق بجميع الأنبياء والكتب الربانية مع الخطأ الفاحش في الاعتقاد ومضادة الأدلة الجلية عقلاً وسمعاً، ولكن لم يبلغ مرتبة الزنادقة"(110)(1/55)
وتثار هنا مسألة بعض المتصوفة القائلين بالحلول والاتحاد وإسقاط الشرائع عمن بلغ رتبة من التدين، معتمدين على تأويلات باطلة، وفهم خاطيء لبعض الآيات، فإن قائل هذا ولا شك ليس من المسلمين وإن زعم ذلك، ولكن بعد تعريفه حكم الإسلام في هذه المسائل ونحوها مما تقدح في أصل الدين والمعلوم ضرورة منه، هذا إذا كان حديث عهد بإسلام، أو نشأ في بادية أو بلد ليس فيه علماء، أما من نشأ في بلد فيها علماء ويسهل عليه معرفة ما جهل فلا عذر له البته، هذه هي القاعدة العامة لكن أنبه إلى عدم اتخاذ هذا ذريعة لتكفير من لم ينطبق عليه ذلك، وإذا نقل عن أحدهم شيء من هذه الكفريات فليقيده بالصحة، فمثلاً ابن عربي قيل فيه ماقيل من أن كتبه تحتوي على عقائد باطلة كالحلول، لكن ذكر الشعراني أنه وجد في بعض كتب ابن عربي ما أنكره، فرحل إلى مكة فوجد نسخاً من ذلك الكتاب ولم يجد فيه ما أنكره، وزعم أن أيدياً لعبت بكتب ابن عربي، وعلى هذا فقد قامت شبهة في تكفيره، والطريق الأسلم هنا أن يحكى كفر القول، وفي إنزال هذا الحكم على الشخص يقيد بالصحة فهنا مثلاً يقال: القول بالحلول والاتحاد كفر، فإن صحت عن ابن عربي هذه العقيدة أو قال بها فهو كافر، ولا يطلق عليه الكفر دون هذا التقييد، هذا ما أحبذه وإن كان بعيداً أن تلعب الأيدي بمؤلفات ابن عربي جملة، إذ إن كتبه ورسائله مليئة بما هو غريب عن هذا الدين، وذكرت هذا كمثال لتوضيح ما ذكرت، كما أن المسألة ليست هي كفر ابن عربي بقدر ما هي كفر عقيدة الحلول وما رافقها من معتقدات باطلة، فإذا ما أقر الآخرون بأن تلك العقائد دخيلة على المسلمين وليست من الإسلام في شيء فهذا هو المبتغى ثم قضية كون فلان أو علان كان يحمل تلك العقيدة أو لا ليست بذي بال كبير فيما نحن فيه، وإن كان لها أضرار من جهات أخرى.
تبقى نقطة هامة هنا وهي على من تقع مهمة تحديد كون هذا التأويل سائغاً من عدمه؟(1/56)
والجواب على ذلك أن هذه المهمة واقعة على العلماء الراسخين المعروفين بالاستفاضة فإذا ما اختلفوا عدنا إلى قاعدة (لا تكفير بالخلافيات) الآتي بيانها.
لا تكفير بالمآل أو بلازم المذهب:-
من القضايا المهمة جداً في مسألة التأويل قضية التكفير باللازم وبمآل المذهب أو القول، وقد حدثت معارك تكفيرية وجدلية كلامية (نسبة لعلم الكلام) بسبب هذه القضية.
يقول ابن رشد الحفيد معرفاً التكفير بالمآل: "ومعنى التكفير بالمآل أنهم لا يصرحون بقول هو كفر، ولكن يصرحون بأقوال يلزم عنها الكفر، وهم لا يعتقدون ذلك اللزوم"(111)
قال الحافظ: "لازم المذهب ليس بمذهب فقد يذكر العالم الشيء ولا يستحضر لازمه حتى إذا عرفه أنكره وأطال في ذلك جدا"(112).
قال شيخ الاسلام في جواب له: "وأما قول السائل هل لازم المذهب مذهبا أم ليس بمذهب فالصواب أن لازم مذهب الانسان ليس بمذهب له إذا لم يلتزمه فإنه إذا كان قد أنكره ونفاه كانت إضافته اليه كذبا عليه بل ذلك يدل على فساد قوله وتناقضه في المقال غير التزامه اللوازم التي يظهر أنها من قبيل الكفر والمحال فالذين قالوا بأقوال يلزمها أقوال يعلم أنه لا يلتزمها لكن لم يعلم أنها تلزمه ولو كان لازم المذهب مذهبا للزم تكفير كل من قال عن الاستواء وغيره من الصفات أنه مجاز ليس بحقيقة فان لازم هذا القول يقتضي أن لا يكون شيء من أسمائه أو صفاته حقيقة"(113)
ولا فرق هنا بين اللوازم البينة وغير البينة، لجواز أن لا يعتقد اللازم وإن كان بينا(114).
ولهذا فإن "كثيرا من الناس يظنون أن القائل بالجهة هو من المجسمة لأن من لازم الجهة التجسيم وهذا ظن فاسد فإنهم لا يقولون بذلك لأن لازم المذهب ليس بلازم عند المحققين فكيف يجوز أن ينسب للإنسان شيء من لازم كلامه وهو يفر منه"(115)(1/57)
"فإذا علمت هذا فمن كفر بعض فرق الطوائف المبتدعة كالخوارج المتقدمين -وإن كان الحق عدم تكفيرهم إلا بمكفر- يحتج بالنصوص المكفرة لهم من كتاب الله وسنة رسوله كقوله يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ... ولا يلزم من هذا تكفير من لم يكفرهم أوشك في كفرهم لأنه غير لازم لاحتمال مانع يمنع من ذلك عنده ولو كان لازما لقال به العلماء ووضحوه"(116).
ومن طرائف ما يحكى من التكفير باللازم أن أحدهم وضع نعله قريباً من بعض المتفقهة فقال الأخير: كفرت!! لأنك هونت العلماء، وهو تهوين للشريعة، ثم للرسول، ثم للمرسل .
وفعل بعضهم شيئاً من منكرات الدولة فقال المظلوم: هذا ظلم، وحاشا السلطان من الأمر والرضا به، فقال: أنا خادم الدولة المنتمية إلى السلطان، فقد نسبت الظلم إلى السلطان فهونت ما عظمت الشريعة من أمر السلطان فكفرت، فأخذوه وجاؤوا به إلى القاضي وحكم عليه بالردة، ثم جدد إسلامه، وفعل ما يترتب على ذلك!!! (117)
وبغض النظر عن مدى ثبوت هاتين الحكايتين وأمثالهما أوعدم ثبوتهما إلا أن التكفير باللازم ذهب إليه بعض المعتزلة، وكفروا بناء عليه الكثير من الأمة، واستباح بعضهم الأموال والأعراض وسفك الدماء، ولو ذكرت أمثلة تاريخية على ذلك لطال المقام.
لقد تكررت قاعدة عدم التكفير باللازم كثيراً في كتب العلماء وقرروها لعظم خطر الأخذ بها واعتبارها، وهي من القواعد التي ميزت أهل السنة عن أهل البدعة.
ذلك لأن اللوازم لا ضابط لها إذ يمكن أن ننتج سلسلة لوازم تنتهي إلى الكفر من الأخطاء الصغيرة الجزئية، كما سبق في الحكايتين السابقتين، بل يمكن ذلك فيما هو حق فكيف بغيره.
كما أن بعضهم قد يؤصل ويقعد قاعدة، ولا ينتبه في تأصيله وتقعيده هذا إلى اللوازم التي تناقض قوله أو تخرجه من دينه، والتناقض واقع من كل عالم كما يقول ابن تيمية.(1/58)
وبعضهم لا يقر بلزوم بعض المكفرات لقوله فينكر تعلقها بما قاله أو اعتقده، فهو-والحالة هذه- لم يعترف بما يصير بسببه كافراً فبأي سبب يكفر.
هذا وقد كان البحث حول هذه القاعدة عند الأقدمين مهماً جداً، بسبب كثرة الجدل واستحكام الدراسات المنطقية، والبحث في دقائق من الجزئيات والنظريات العقلية البحتة.
والتكفير باللازم نهج لا زالت بعض الفرق إلى اليوم تنتهجه في التكفير وتدندن حوله وتستحليه وترتضيه، وكونه منهجاً كلامياً لا يعني اندثاره؛ إذ إن علم الكلام ما يزال ينبض عند البعض وإن كانوا قلة، والقليل جداً من القلة هؤلاء لهم به المعرفة الجيدة.
ولقد رأيت من بعض عصريينا من يكفر باللوازم الباطلة، وبمنهج كلامي مكرور ممجوج ينقله عن غيره ناسباً أياه لنفسه، حتى يٌظن فيه العلم، وليس أي علم وإنما علم الكلام، وفي حقيقة الأمر أنه يجهل الكثير منه بله عويصاته ودخائله وتعقيداته.
رابعاً: الإكراه:-
الإكراه لغة هو: القهر والإجبار بدون محبة ورضا واختيار(118).
وفي الاصطلاح هو: "إلزام الغير بما لا يريده"(119) أو "الإلجاء إلى فعل الشيء قهراً"(120).
ويكون الإكراه عذراً يمنع من التكفير بشروط أربعة:-
1- أن يخشى تلف عضو من أعضائه.
2- أن يغلب على ضن المكرَه قدرة المكره على إيقاع ما هدد به.
3- أن يكون ما هدده به عاجلاً أو آجلاً وجرت العادة أنه لا يخلف ما هدد به.
4- أن لا يظهر من المكرَه ما يدل على اختياره، كما لو أكرهه على سب الله فسب المكرَه رسول الله.
والأصل في ذلك قوله تعالى: (من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن للإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم)(النحل106) "فأباح سبحانه عند الإكراه أن ينطق الرجل بالكفر بلسانه إذا كان قلبه مطمئناً بالإيمان، بخلاف من شرح بالكفر صدراً، وأباح للمؤمنين أن يتقوا من الكافرين تقاة مع نهيه لهم عن موالاتهم"(121).(1/59)
قال القرطبي "النطق بكلمة الكفر تسقط الأحكام المترتبة عليه في حال الإكراه باتفاق العلماء"(122)و" قال ابن بطال تبعاً لابن المنذر: أجمعوا على أن من أكره على الكفر حتى خشي على نفسه القتل فكفر، وقلبه مطمئن بالإيمان أنه لا يحكم عليه بالكفر، ولا تبين منه زوجته"(123)
ومما سبق بيانه في الشروط السابقة يعلم أنه ليس من الإكراه في شيء الحصول على منافع دنيوية زائلة، أو الخوف على فوات مصدر رزق ونحوه، أو توقع مضار على سبيل التخرص، أو وقوعها فعلاً دون إكراه مباشر، فهذه جميعاً لا تعتبر إكراهاً ولا تجيز لصاحبها أن يكفر لأجلها، ذلك أن "التقية لا تحل إلا مع خوف القتل أو القطع أو الإيذاء العظيم"(124)
ولا فرق هنا بين الأقوال والأفعال، بمعنى أن المكرَه إذا أكره على فعل أوقول كفريين لا يكفر بذلك، ومن الخطأ حصر العذر في الأقوال لعموم الآية السابقة الدالة على عدم الفرق بين القول والفعل، ولعدم وجود دليل آخر يفرق بينهما، ولعدم وضوح الفرق بينهما أصلاً.
الفرع الثاني: ما يمحو الكفر بعد ثبوته (التوبة):-
إن الله تعالى يقبل توبة العبد من جميع الذنوب الشرك فما دونه كما قال تعالى : (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم)(الزمر53) .
وقال تعالى: ( إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا)(البروج10) .
وقال تعالى: (فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين)(التوبة11).
وقال تعالى: (لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من اله إلا اله واحد وان لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب اليم أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم)(المائدة73،74) .(1/60)
فمن تاب من الاعتقادات الفاسدة كاستحلال شيء من المحرمات، أو التدين بشيء منها قبل الله توبته، وأما من استحل ذلك أو تدين به وان لم يفعله فالذي يفعل ذلك وهو معتقد للتحريم خير منه، فإن هذا مؤمن مذنب، وأما الاستحلال لها والتدين بها فكفر.
فالتوبة تمحو جميع السيئات، وليس شيء يغفر جميع الذنوب إلا التوبة، فإن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء(125) .
وعليه فإن من ثبت عليه حكم الكفر ثم تاب بعد ذلك فإن الأحكام المترتبة على كفره تزول، ولا يجوز لأحد أن يتهمه بالكفر بعد ذلك، حتى وإن قيل بأنه إنما تاب لأسباب وأغراض معينة، إذ إن لنا الظاهر والله يتولى السرائر، ونحن لم نؤمر بالتفتيش في قلوب الناس والتنقيب عن معتقداتهم.
ولا يشترط في التوبة أن تكون على يد شيخ أو قاض بل يكفي أن يناجي ربه ويستغفر من ذنبه وينطق الشهادتين إن كان كفره متعلقاً بالشهادتين كأن يكون منكراً لوجود الرب سبحانه أو منكراً لنبوة محمد( أو معتقداً نبوته ولكنه يخصصها بزمن أو مكان أو أناس محدودين.
أما لو كان بسبب آخر كجحده لوجوب معلوم من الدين بالضرورة كالصلاة والصيام ونحوهما فهذا يكفي في حقه أن يؤمن بما أنكره ويعتقده.
والاستتابة التي ورد بها الشرع لا تعني بالضرورة أن تكون أمام قاض أو نحوه ولا يلزم كذلك أن تكون فورية أو ممتدة لأيام، بل من الممكن أن تؤخر ما ظُنت التوبة.
والاستتابة ليس معناها فقط أن يقال للرجل تب أو عد إلى الله بل هي أكثر من ذلك، وهي تختلف باختلاف الأفراد ونوع الكفر الذي وقعوا فيه، فاستتابة العامي ليست كاستتابة من أخذ حظاً من العلم، وإنكار فرضية الصلاة، ليس كإنكارها رأساً.(1/61)
ولهذا على القاضي أن يشكل لجنة إن لم تكن موجودة أصلاً ممن لديهم العلم والمعرفة الدينية ويمتلكون موهبة فرز ودفع الشُبه، وكيفية التعامل معها، والقدرة على الإقناع، لتناقش اللجنة هذا الشخص وترى الشبهات التي جعلته يقع فيما وقع فيه، وتحاول إزالتها وتبيين الحق له، إذ ليس الهدف الأساسي هو التكفير وإقامة الأحكام المترتبة على ذلك، إذ المحكوم عليه في نهاية الأمر يعد فرداً من الأمة وجزء منها وزواله يعني نقصانها، وليس للدين ولا للأمة مصلحة في سفك دمه أو سجنه بدون مبرر قطعي واضح، بيد أنه عندما يكون معول هدم لمعتقدات ودين الأمة، وسوساً ينخر في جسدها، ويصبح ورما سرطانياً خبيثاً غريباً عن الجسم مهدداً له بالفوضى والاضطراب والأمراض الفتاكة والقاتلة، فإنه ولا شك ورم يجب إزالته(126).
المبحث الرابع : الغلو في التكفير
الغلو لغة يعني مجاوزة الحد يقال غلا في الدين غلواً إذا تشدد وتصلب حتى جاوز الحد، وعليه فالغلو في التكفير يعتبر تجاوزاً للحدود التي جعلها الشارع للحكم على الفرد بالدخول أو الخروج من الإسلام.
إن الإفراط في التكفير يشكل جزأ كبيراً ومؤثراً ضمن فكر ومنظومة الغلو، وإن الله عز وجل قد نهى عباده في كل دين عن الغلو بأي نوع كان وتحت أي مسمى يقول سبحانه: (قل يا أهل الكتاب لا تغلو في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيراً وضلوا عن سواء السبيل) (المائدة77) وصح في السنة قوله (: "أياكم والغلو في الدين، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين"(127).
إن من ميزات الإسلام عموماً أنه دين الاعتدال فهو وسط بين الغالي فيه والجافي عنه، وهو لا يقبل الغلو بأي شكل من الأشكال بل يرفضه وينبذه، ومع هذا فقد وقعت طوائف من المسلمين في هذه الحفرة المتنوعة والمختلفة الأنحاء، ومسألة التكفير مثلها مثل كثير من المسائل والقضايا التي انقسم فيها الناس إلى أطراف ووسط.(1/62)
والغلو في التكفير أمر وقع قديماً وحديثاً، فقد شهده المجتمع الإسلامي مبكراً في ثلة ممن لم يفقهوا الدين أخذوا يكفرون الأمة بما فيها الصحابة، ثم ما لبثوا أن كفر بعضهم بعضاً، وهؤلاء هم من عرفوا في تاريخنا الإسلامي بالخوارج، والذين وصمهم النبي( بأنهم (كلاب النار) كما روى هذا أبو أمامة، وعبد الله بن أبي أوفى(128).
ثم جاءت المعتزلة ونهجت نهجاً قريباً منهم فيما يتعلق بتوسيع نطاق التكفير والإفراط فيه تحت قاعدة ابتدعوها وهي (تكفير مرتكب الكبيرة) فكان عاقبة فكرهم هذا تكفير الأمة جميعاً خاصة أنهم لم يراعوا ضابطاً أو عذراً، ولم يتقيدوا بشرط أو مانع.
لقد كان من النتائج الوخيمة لهذا الفكر التكفيري الغالي أن قامت الخوارج بقتال المسلمين واستباحة دمائهم وأموالهم وأعراضهم، وقام آخرون بامتحان الناس والزجهم بهم في السجون وإذاقتهم أشد أنواع العذاب بسبب مخالفتهم لهم في قضايا ليس في الخوض أو البحث فيها جدوى أو طائل إضافة إلى كون ما قالوه بدعة مقيتة، اعتنقها بعض من تطرف في مذهبه وحاول فرضها على الناس.
ومن الأمثلة على هذا قول بعضهم: " فقد صح لنا كفر أكثر هذه الأمة" ثم يدلل على بدعته هذه ويقول بعد ذلك: "وإنما أردنا نبين لك تأكيد الأدلة وتظاهرها على كفر الأكثر من الأمة بالبرهان الجلي"!!!
وحديثاً نجد ظهور نوابت هنا وهناك حاولت إعادة الكرّة، مستمدة فكرها ممن سبقها في بناء هذا الفكر المتهافت، وليس حقيقة ما يحاول بعض هؤلاء قوله من أنهم لا يتبعون أحداً سوى الدليل، بل هم يتبعون من سبقهم ممن نبا عن الطريق وتاه في دياجير البدعة، وهو عن الدليل بمعزل.
وهناك أنواع من الغلو اختلفت باختلاف الأفكار والجماعات والفرق منها:-
1. تكفير الحاكم بغير ما أنزل الله بإفراط.
2. تكفير المحكومين بغير ما أنزل الله بإطلاق.
3. تكفير الخارج عن الجماعة.
4. تكفير المقيم غير المهاجر.
5. تكفير المعين دون اعتبار للضوابط الشرعية.(1/63)
6. تكفير من لم يكفر الكفار.
7. بدعة التوقف والتبين.
8. القول بجاهلية المجتمعات المسلمة.
9. تكفير المخالف.
10. تكفير مرتكب الكبيرة.
11. تكفير من لم يبايع الإمام.
وغيرها كثير إذ إن الغلو التكفيري قد يدخل كل جزئية من جزئيات الدين الكثيرة فيضخمها ويجعل منها سبباً للتكفير.
المطلب الأول: نماذج من غلو التكفير
نظراً لضيق المقام فسأكتفي هنا بذكر ثلاثة نماذج، هي كافية في تيين المراد.
أولاً: تكفير المعين دون اعتبار للضوابط الشرعية:-
ذكرت سابقاً أن التكفير حكم شرعي، ومن المعلوم أن الحكم الشرعي يستلزم أن يكون المفتي في الحوادث عموماً، والتكفير خصوصاً عالماً يدرك أبعاد الحكم وأهدافه ومقاصده وضوابطه، وكيفية تنزيله ومدى مردودات هذا التزيل، إن المسألة جد خطيرة وتبعاتها أخطر، ولهذا كان المرجع الوحيد في تنزيل هذا الحكم هم العلماء أو القضاة.
ولهذا كان من الأخطاء الفادحة التي يقع فيها البعض هو إطلاق التكفير دون العودة إلى علماء الأمة، إذ إنهم هم الوحيدون الذين لهم ذلك، فطالب العلم مهما بلغ من درجة العلم ليس له الحكم بالكفر على أحد، لأن هناك دقائق واحتمالات لا يتنبه لها أي أحد إلا العلماء الراسخون.
إن شيوع وإفراط الحكم بالتكفير دون اعتبار الضوابط الشرعية مرض قاتل وخاصة عندما يتحول إلى عقيدة، فإنه ولا شك سيقضي على الأخضر واليابس، وسينكب المجتمع بنكبات يعجز عن فعلها العدو اللدود.
لقد شغل فكر التكفير الغالي حيزاً كبيراً في فكر الأمة وتاريخها، فالإمام علي رضي الله عنه اشتغل معظم وقته في الحرب، ليس ضد من يهددون أمن الدولة الإسلامية وأراضيها حدودها من الروم وغيرهم ولكن ضد من يتصفون بالإسلام، والذين حاولوا قتله والقضاء عليه والاعتداء على المسلمين جميعاً، وإقلاق أمنهم وسفك دمائهم في عقر دارهم.(1/64)
لقد كان البغي الذي وقع في عهد الإمام علي رضي الله عنه سبباً كبيراً في جعل فترته فترة حرجة في سجل الإمام والتاريخ الإسلامي برمته، والذي ألقى بضلال سيئة على الإنسان والفكر والتاريخ، وإن كنا استفدنا الأحكام الفقهية من أفعاله رضي الله عنه المتعلقة بقتال البغاة، بيد أن الضرر الذي خلفه هذا الغلو كان كبيراً والأثر عميقاً.
ثانياً: التكفير والخلاف:-
لقد غلا البعض حتى أصبح يكفر بسبب خلاف بين العلماء أو خلاف حدث بينه وبين مسلم آخر، وهنا سأبين قواعد هامة تتعلق بما نحن فيه لتكون إشارات في طريق الاعتدال.
أولاً: لا تكفير بالظنيات:-
مما هو معلوم أن الاختلاف سنة إلهية في البشر إذ لا تجد اثنين يتطابقان في الآراء والأفكار والاجتهادات ، فالناس مختلفون أشد الاختلاف سواء على الصعيد الحسي أم المعنوي، والذي يهمنا هنا هو الاختلاف الفكري .
لقد ضبط الشرع هذا الاختلاف ولم يجعله كله في مستوى واحد أو رتبة واحدة، بل منه ما هو ممدوح ومنه ما هو مذموم، يدل على ذلك قوله تعالى: (ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم)(هود119،118) .
فاقتضت الآية وجود قسمين: أهل خلاف ومرحومين، فالقسم الأول هم المخالفون في أصل الدين كأهل الكتاب، والفرق الخارجة عن الدين، والثاني هم المختلفون في فروع الشرع وسيأتي بيان القسمين، والخلاف بين المسلمين ينقسم على قسمين:-
أولاً: الخلاف المذموم وهذا نوعان:
1- ما يخرج به صاحبه من الإسلام، وهو ما يناقض أصل الإيمان بحيث لا يجتمع معه بتاتاً وهي النواقض المذكورة سابقاً وغيرها مما ذكره العلماء، فالقول مثلاً بنقص القرآن أو تحريفه يتناقض كلياً مع الإيمان الذي من أركانه الإيمان بالكتاب والذي منه الإيمان ببقاء القرآن كاملاً إلى يوم الدين، كما أن فيه نسفاً لأحكام الإسلام والتي يشكل القرآن مع السنة المنبع الأساسي لها.(1/65)
2- ما لايخرج به صاحبه من الإسلام، وهو الخلاف في قضايا عقدية لاتناقض أصل الإيمان كالقول بتكفير أصحاب المعاصي.
فكلا النوعين السابقين خلاف مذموم بيد أن منه ما يكفر بسببه المسلم، ومنه ما لا يكفر بسببه.
ثانياً: خلاف ممدوح:-
وهو تعدد وجهات النظر وتنوع الآراء، وهذا ما يتعلق بالقضايا والفروع الفقهية، والتي تعتمد على الأدلة الظنية القابلة لاختلاف الفهوم، والخلاف هنا إرادة إلهية، إذ لو أراد الله خلاف ذلك لجعل النصوص كلها قطعية لا تحتمل إلا وجهاً واحداً لا تقبل الخلاف أو الاختلاف، ولكن من رحمة الله بالأمة أن يسر ووسع عليها في دينها، ومن هذا التيسير جعل النصوص تقبل أوجهاً متعددة لتتناسب مع تعدد الأزمنة والأمكنة واختلاف الحالات، ولكي لا ينحصر الناس في مذهب واحد .
هذا وقد ألف الفقهاء كتباً كثيرة في بيان أسباب الخلاف الفقهي والتي يمكن أن نجملها فيما يلي:-
1- عدم اعتقاده أن النبي ( قاله.
2- عدم اعتقاده إرادة تلك المسألة بذلك القول.
3- اعتقاده أن الحكم منسوخ.
4- الاختلاف في بعض أصول وقواعد الفهم والاستنباط والترجيح.
هذه رؤوس وعناوين كبيرة لأسباب الخلاف بين الأئمة، وكل واحدة من هذه الأقسام تنقسم إلى أنواع مختلفة، والذي أرمي إليه هنا بيان أن سبب الخلاف لا يقتصر فقط على ثبوت النص من عدمه كما يظنه بعض تلاميذ الكتب، والذين ينظرون إلى الخلاف الفقهي نظرة استنكار واستغراب مما حدا ببعضهم للتهجم على علماء الإسلام وعظمائه الذين أنار الله بهم دياجير الجهل، ونتج عن وهمهم هذا الدعوة إلى الرجوع المباشر للقرآن والسنة، والاستنباط منهما مباشرة دون الاهتداء والاقتداء بفهم علماء الإسلام، والدعوة إلى ما أسموه بفقه الكتاب والسنة محاولين إزالة ومحو نعمة ومنقبة لهذا الدين وهي المدارس الفقهية، والتراث الفقهي الضخم الذي لا يدانيه تراث .(1/66)
إن هذا ولا شك تصرف خاطئ إذ جرهم هذا إلى الوقوع في أخطاء فادحة كان منها الوقوع في تكفير المسلمين، وقد ساعد على نشوء واستمرار هذه الأخطاء -إضافة إلى قطع الصلة بين النص وفهم علمائة- الدعوة إلى الفهم الظاهري للنصوص دون التعمق في فهمها فأصبحوا مثلاً يقرؤون النصوص التي تصف العاصي بالكفر فلا يرجعون لما قاله علماء الإسلام، لأنهم في نظرهم مخطؤون باختلافهم، فيعتمدون على أنفسهم في الفهم والذي يعتمدون فيه على قاعدة الظاهر والمتبادر للذهن وغيرها من التعلات التي لن يتعبوا كثيراً في البحث عنها.
هذا وقد عذر الأئمة بعضهم بعضاً في هذا الخلاف، واعتٌذر لهم في مخالفة بعضهم لبعض أو مخالفة ما ثبت في السنة ومن هذه الاعتذارات " أن يكون احدهم لم يبلغه الحديث، أو بلغه من وجه لم يثق به، أو لم يعتقد دلالته على الحكم، أو اعتقد أن ذلك الدليل قد عارضه ما هو أقوى منه كالناسخ أو ما يدل على الناسخ"(129).
وفي ضوء ما سبق نقرر ما يلي:-
1- أن الخلاف واقع لا محالة ولا سبيل إلى إزالته أو حسمه بالكلية.
قال الشاطبي: "فإن الله تعالى حكم بحكمته أن تكون فروع هذه الملة قابلة للأنظار ومجالاً للظنون، وقد ثبت عند النظار أن النظريات لا يمكن الاتفاق فيها عادة، فالنظريات عريقة في إمكان الاختلاف لكن في الفروع دون الكليات، فلذلك لا يضر هذا الاختلاف"(130).
2- الخلاف الفقهي توسعة ورحمة.
كان بعض العلماء يقول عن الصحابة إجماعهم حجة قاطعة واختلافهم رحمة واسعة. وكان عمر بن عبد العزيز يقول: ما يسرني أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يختلفوا لأنهم إذا اجتمعوا على قول فخالفهم رجل كان ضالاً، وإذا اختلفوا فأخذ رجل بقول هذا ورجل بقول هذا كان في الأمر سعة .(1/67)
وكذلك قال مالك وغيره من الأئمة إنه ليس للفقيه أن يحمل الناس على مذهبه، ولكن يتكلم فيها بالحجج العلمية فمن تبين له صحة أحد القولين تبعه، ومن قلد أهل القول الآخر فلا إنكار عليه(131) .
3- عدم تأثيم المخالف في هذه المسائل.
ذلك لأن الخلاف قد وقع من خير الناس وهم صحابة رسول الله ( وهم ممن حصلت لهم الرحمة بالنصوص القطعية، كما أن التعامل النبوي مع اختلافهم كان تعاملاً ليناً، إذ لم يعنفهم أو يوبخهم بل يسكت أحياناً، أو يصوب آراءهم جميعاً أحياناً أخرى، من حيث إنهم جميعاً اجتهدوا في فهم نصوص الشرع، وبذلوا وسعهم في ذلك، ولهذا لم يكتف الشارع برفع الإثم فقط عن المختلفين أو عن المخطئ منهم أو من غيرهم، بل تعدى هذا إلى أن جعل للمجتهد المخطئ أجر، وللمصيب أجران كما ثبت في السنة.
4- المصيب في الخلافيات غير معلوم غالباً.
اختلف الأصوليون في تصويب المجتهدين، فمن قائل إن المصيب واحد، وقائل بأنهم مصيبون جميعاً، وسواء قلنا هذا أم ذاك فلم يقل أحد في حالة قولنا بان المصيب واحد بأننا نستطيع القطع بأن المصيب قول فلان لا في مذهب ما برمته ولا في مسألة بعينها، وإنما نحن نرجح بالأدلة -إذا كنا أهلاً لذلك- ما نرى صحته وفقاً للقواعد المنظمة لفهمها وتطبيقها والأدلة الواردة فيها، كما أن القول بأن المصيب واحد هو بالنسبة إلى علم الله أما نحن فقد نجهله، ولهذا قد نضعف قولاً ما نظراً لضعف حديثه مثلاً بسبب وجود علة قادحة في سنده في حين أنه صحيح في نفس الأمر، ولكنه لم يصل إلينا إلا بهذا الإسناد الضعيف، ومع هذا فنحن مأمورون باتباع ما نراه صحيحاً.
نخلص من هذا كله إلى أن التكفير بالخلافيات لا يجوز، وقد نبه علماء الإسلام إلى هذا فقالوا: "التكفير لا يكون بالظنيات"(132) فكون أنني أقول بالجواز في مسألة ما لا يعني هذا كفر من خالفني أو خالف من أقلده أو أتبعه.(1/68)
لقد نص العلماء استناداً إلى النصوص الظاهرة إلى تقعيد قاعدة مهمة وهي أن لا إنكار في المسائل الخلافية، فكيف الحكم بالتكفير.
إن التكفير بالخلافيات ليس من منهج أهل الحق، ونصوص علماء الإسلام متظافرة على هذا الأصل وبيانه أتم وأوضح بيان.
إن منهج التكفير بالخلافيات والظنيات منهج مبتدع ظهر في عصر الإمام علي عند من يسمون بالخوارج، والذين ناقضوا القرآن والسنة، وعلماء الأمة الراشدة، والذي قادهم فكرهم هذا إلى ما لا تحمد عقباه.
ثانياً: التكفير بما هو مختلف في تكفيره:
من القضايا التي يختلف فيها الفقهاء الحكم على قول أو فعل ما بالكفر أو عدمه، ويلاحظ توسع بعض المذاهب في هذا الباب، فالمذهب الحنفي مثلاً توسع في التكفير أكثر من غيره من المذاهب الفقهية كما هو واضح لمن طالع كتبه، ففي حين ينص الأحناف مثلاً على كفر من يستهزئ بالمؤذن، نجد فقهاء آخرين لا يكفرون بهذا العمل، وعليه فكيف يكون التعامل في بعض الصور أو القضايا التي يختلف فيها الفقهاء تكفيراً وعدمه؟
والذي يظهر والله أعلم عدم تكفير من اختلف العلماء في تكفيره، وأنه لا يتعامل معه هذه الصور والمسائل مثل تعاملنا مع مسائل الفقه من أننا نكيف المسألة ثم نورد أقوال الفقهاء وأدلتهم ثم نرجح بعد ذلك مما قد يؤدي أحيانا إلى ترجيح القول بالتكفير، بل الصواب ألا يحكم بالتكفير مطلقاً في مثل هذه الحالات؛ "لأن إخراج مسلم منها -أي الملة- عظيم في الدين" كما يقول أبو المعالي الجويني(133)، ويمكن أن نصوغ مما سبق قاعدة هامة وهي (لا تكفير إلا بإجماع)، فكما دخل المرء الإسلام بإجماع فلا يخرج منه إلا بإجماع، ويؤيد هذا القول ما يلي:-(1/69)
1- أن الاختلاف في عد هذا القول أو الفعل مكفراً أو غير مكفر يُدخل هذه المسألة في حيز الظنيات التي لا يجوز إطلاق التكفير بها، وهذا ما قاله العلماء في مسألة عد البسملة آية من الفاتحة فمع إجماعهم على كفر من جحد أو زاد حرفاً في القرآن إلا أنهم لم يكفروا من قال بأن البسملة آية من الفاتحة كما هو الصحيح، أو أنها آية من كل سورة كما ذهب إليه بعض الأئمة، وفي المقابل لم يكفر القائلون بالقول السابق من قال بأن البسملة ليست آية من الفاتحة أو من كل سورة، لوقوع الخلاف في هذه المسألة مما أخرجها عن كونها قطعية يكّفر بها.
2- أن كثيراً من الأحكام والفروع الفقهية كانت انعكاساً للواقع بما فيه من اختلاف العادات ودلالات الألفاظ، فقد يدل لفظ ما في زمن أو مكان أو أي وسط ما على ما لا يدل عليه في وسط آخر، ولهذا ينبغي التنبه أشد الانتباه إلى إسقاطات ما في الكتب على الواقع والأفراد دون أخذ الآلة العلمية ومعرفة الأعراف اللفظية والعملية، والأخذ بعين الاعتبار مقاصد المكلفين وعلاقتها بالألفاظ والعادات .
ثالثاً: التكفير بالمعاصي:
قضية التكفير بالمعصية ليست جديدة أو محثة بل قديمة تضرب بجذورها في أعماق التاريخ الإسلامي، إذ ظهرت هذه البدعة المنكرة مع بدايات فكر الغلو الخارجي، والذي كفر الأمة على أساس هذه البدعة بما فيهم خيرة عباد الله من مثل الإمام علي رضي الله عنه وبقية صحابة رسول الله ( ولم يعترفوا لأحد بالإسلام إلا لمن تبع جماعتهم واعتقد عقيدتهم.
وبنوا رأيهم هذا على حجج واهية تنم عن سوء فهم وجهل مطبق بالدين، ومما يكشف ابتداعهم هذا أنه لم يكن معهم صحابي واحد، بل كانوا أقواماً حديثي عهد بإسلام، أخذوا يتبعون متشابه القرآن ويتركون محكمه .
وقد كانت لهؤلاء سطوة كبيرة حاولوا من خلالها ضرب المسلمين في العمق ظانين بعملهم هذا أنهم يحسنون صنعا، وأنه يجاهدون في سبيل الله ! وأنهم بهمجيتهم هذه يقيمون شرع الله !(1/70)
فلما رأى الإمام علي رضي الله عنه ما وقعوا فيه من البدعة الشنيعة بسبب الجهل ومنابذة علماء الأمة من صحابة رسول الله، الذين كانوا متوافرين ومنتشرين في الأقطار، أرسل الإمام علي ترجمان القرآن والصحابي الجليل عبد الله بن عباس رضي الله عنه، والذي حاورهم وناظرهم، وأظهر الحجج القرآنية والسنن النبوية التي تدحض شبههم، حينها رجع الآلاف منهم عن هذه البدعة، واستمر آخرون عليها فما كان من الإمام إلا أن قاتلهم وأفنى الكثير منهم.
هذا وقد كانت الخوارج في مبتداها فرقة واحدة، ولكن عندما كانت فرقة بدعية غير منضبطة بضوابط الفهم والاستدلال السليمين، ومصادمة في تدينها للنصوص القرآنية والنبوية، وكان مبناها على الهوى أضحت هذه الفرقة في فترة وجيزة عشرين فرقة، تكفر كل واحدة منها الأخرى فقد تشعبت بزعمائها الآراء والضلالات التي يستغرب المرء حين يسمع طرفاً يسيراً منها وستقرأ في كتب الفرق والعقائد كيف أن هذه الفرق والجماعات توالدت توالد البكتيريا، وستقرأ أسماء غريبة لهذه الفرق نسبة إلى زعمائها ومبتدعي ضلالاتها مثل: الأزارقة والنجدات، والصفرية، والعجاردة المفترقة فرقاً منها: الخازمية، والشعيبية، والمعلومية والمجهولية...الخ، وكل واحدة من هذه الفرق تكفر سائرها(134) إنها ولا شك السبل التي نهينا عن اتباعها.
ولعظم خطر هؤلاء فقد وردت السنة ببيان بعض صفاتهم وأعمالهم من هذه الأحاديث ما رواه أبو سعيد رضي الله عنه في أن رجلاً اعترض على قسمة النبي( وفيه "فأقبل رجل غائر العينين، مشرف الوجنتين، ناتئ الجبين، كث اللحية، محلوق، فقال: اتق الله يا محمد! فقال: من يطع الله إذا عصيت أيأمنني الله على أهل الأرض فلا تأمنونني ... فلما ولي قال: إن من ضئضئ هذا، أو في عقب هذا قوم يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية، يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان، لئن أنا أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد"(135).(1/71)
بعد هذه الفترة وفي عصر الحسن البصري تحديداً ظهر أحدهم يسمى: واصل بن عطاء وكان من تلاميذ الحسن البصري، يحضر حلقته ودروسه، وذات يوم دخل أحدهم على الحسن البصري وسأله عن الكبائر هل تخرج من الإسلام كما تقول الخوارج أم لا؟
وبينما أراد الإمام الحسن البصري الجواب سارع واصل!! وقال: أنا! لا أقول إن صاحب الكبيرة مؤمن مطلقاً ولا كافر مطلقاً، بل هو في منزلة بين المنزلتين لا مؤمن ولا كافر!!.
ثم قام واعتزل إلى اسطوانة من اسطوانات المسجد يقرر ما أجاب على جماعة من أصحاب الحسن!!
إن هذه القصة ترينا نموذجاً لخلق وتصرفات أصحاب البدعة لا تنفك عنهم غالباً فمثلاً مسارعة واصل للإجابة مع أن السؤال موجه إلى الحسن والذي قيل فيه إنه سيد التابعين على بعض الأقوال، وواصل مازال تلميذاً في حلقته، هذه المسارعة التي تنم عن تهور وتطلع، فهو لم ينتظر أو يتريث ليسمع جواب أستاذه، كما أنه لم يتريث ليتفكر في مقولته، أو يستفسر عنها شيخه من حيث استقامتها وموافقتها للكتاب والسنة أو لا، ثم هو أيضاً يحاول سحب زملائه والتأثير عليهم ليس فقط خارج وقت دروس الحسن بل مزامناً لها، كما أنه نصب نفسه شيخاً منافساً لشيخه ومقرراً خلاف ما عليه خيار الأمة.(1/72)
كما تبين لنا هذه القصة الفكر الاستعجالي لأصحاب الغلو فهو يجيب مقاطعاً وبسرعة!! وكأني أتخيل الحسن وهو ما زال يزدرد ريقه ويبدأ في التفكير بالإجابة وكيفية توصيلها لهذا الأعرابي، الذي التبس في ذهنه الصغير العديد من الأقوال، والذي جاء سائلاً الحسن ليس غيره عله أن يدله على ما يريح فؤاده، فألقى سؤاله ونظراته تستعطف الحسن أن يجيبه بالجواب الشافي، وإذا بالطلاب ينظرون إلى الحسن وكلهم آذان مصغية لما سيقوله، إن الحواس جميعا منتظرة لما سيقوله فاه شيخ من شيوخ التابعين فإذا بهم جميعاً يفاجؤون بصوت فضولي نشاز من طرف الحلقة يجيب على هذا التساؤل مدبجاً إجابته بـ"أنا" في حين أنه سؤال عظيم الوقع يحتاج إلى التريث في توضيح إجابته، وكأني بالإمام الحسن تسمر مذهولاً من هذه الجرأة، ومستغرباً من هذه العجلة، ثم إنه ما إن أجاب حتى قام مسرعاً يؤصل وينظر لبدعته، وقيل إن الحسن طرده من حلقته.
كما نلحظ أيضاً الاستعجال في التصدر ولو كان قبل التأهل كما حدث مع واصل، هذه الرغبة التي كان سبباً رئيسياً في فكر الغلو التكفيري، إن لهذه القصة ظلالاً واسعة وإنها لحرية بالتحليل.
وقد كان من مقررات هذه العقيدة -عقيدة واصل- أن صاحب الكبيرة يعامل في الدنيا معاملة المسلم وفي الآخرة معاملة الكافر!! وأن "كل عاص لربه كافر كإبليس" أي يكون مصيره النار خالداً فيها مخلداً!!
وقد استدلت كلتا الفرقتين بنصوص الوعيد وغلبوها على نصوص الوعد ولهذا سماهم العلماء الوعيدية.
وإن هذا الفكر الوعيدي بعيد -بلا شك- عن المنهج النبوي الوسط، وهو الذي قررناه سابقاً من أن الكبائر -عدا الشرك- لا تخرج من الملة ولا تعني الكفر، سواء في أحكام الدنيا والآخرة أم في الآخرة فقط، ولتوضيح هذا كان لزاماً تبيين معنى الكبيرة وما يتعلق بها في إطار موضوعنا هذا كي يظهر الأمر بجلاء.
أ - تعريف الكبيرة:-(1/73)
تنقسم المعاصي إلى صغائر وكبائر، وقد اختلف العلماء في الكبائر هل تعرف بالحد أو لا تعرف إلا بالعدد، فقال الجمهور: إنها تعرف بالحد، ثم اختلفوا في ذلك على أقوال:-
1. المعاصي الموجبة للحد.
2. ما يلحق صاحبها وعيد شديد.
3. ما يشعر بقلة اكتراث مرتكبها بالدين.
4. ما نص الكتاب أو وجب في حقه حد.
5. ما ورد الوعيد عليه مع الحد أو لفظ يفيد الكِبَر .
وقال جماعة إنها لا تعرف إلا بالعدد، ثم اختلفوا هل تنحصر في عدد معين أم لا على أقوال: سبع، تسع، عشر، اثنتا عشرة، أربع عشرة، ست وثلاثون، والى السبعين أنهاها الحافظ الذهبي في جزء صنفه في ذلك، وقد جمع ابن حجر الهيثمي فيها مصنفا حافلاً سماه الزواجر، وذكر فيه نحو أربعمائة معصية، وبالجملة فلا دليل يدل على انحصارها في عدد معين، ومن المنصوص عليه: القتل، والزنا، واللواطة وشرب الخمر، والسرقة، والغصب، والقذف، والنميمة، وشهادة الزور، واليمين الفاجرة، وقطيعة الرحم، والعقوق، والفرار من الزحف، وأخذ مال اليتيم، وخيانة الكيل والوزن، والكذب على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وتقديم الصلاة وتأخيرها، وضرب المسلم، وسب الصحابة، وكتمان الشهادة، والرشوة، والدياثة ومنع الزكاة، واليأس من الرحمة، وأمن المكر، وأكل لحم الخنزير، والميتة، وفطر رمضان، والربا، والسحر، وامتناع الزوجة من زوجها بلا سبب(136).
والتعريف الذي اختاره ورجحه بعض العلماء ويجمع كل ما سبق، هو التعريف المروي عن ابن عباس أن الكبائر هي : "كل ذنب ختمه الله بنار أو غضب أو لعنه أو عذاب"(137)، وبمعناه ما روي عن الإمام أحمد أنها ما يوجب حداً في الدنيا ووعيداً في الآخرة.(1/74)
قال ابن تيمية: وهذا الضابط يسلم من القوادح الواردة على غيره، فإنه يدخل كل ما ثبت في النص أنه كبيرة كالشرك، والقتل، والزنا، والسحر، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات وغير ذلك من الكبائر التي فيها عقوبات مقدرة مشروعة، وكالفرار من الزحف، وأكل مال اليتيم، وأكل الربا، وعقوق الوالدين، واليمين الغموس، وشهادة الزور، فإن هذه الذنوب وأمثالها فيها وعيد خاص(138)، ومن الأمثلة على هذا:-
قوله تعالى في الفرار من الزحف (ومن يولهم يومئذ دبره الا متحرفاً لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير)(الأنفال16)
وقال في الذين يأكلون أموال اليتامى بدون حق: (إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنما يأكلون في بطونهم ناراً وسيصلون سعيراً)(النساء10) .
ويدخل في الكبائر -كذلك- كل ذنب توعد صاحبه بأنه لا يدخل الجنة ولا يشم رائحة الجنة، وقيل فيه من فعله فليس منا، وأن صاحبه آثم، فهذه كلها من الكبائر ومن أمثلته :-
* قوله(: (لا يدخل الجنة قاطع) (139) .
* وقوله: (لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر) (140) .
* وقوله: (من غشنا فليس منا) (141) .
* وقوله: (لا يزنى الزان حين يزنى وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا ينتهب نهبة ذات شرف يرفع الناس إليه فيها أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن) (142).(1/75)
أما الإصرار على الصغيرة فلا يحولها إلى كبيرة، وما يشاع من أن الصغيرة تصبح كبيرة مع الإصرار لا مستند له من جهة الشرع يقول الإمام الشوكاني: " وقد قيل إن الإصرار على الصغيرة حكمه حكم مرتكب الكبيرة، وليس على هذا دليل يصلح للتمسك به، وإنما هي مقالة لبعض الصوفية، فإنه قال لا صغيرة مع إصرار، وقد روى بعض من لا يعرف علم الرواية هذا اللفظ وجعله حديثاً، ولا يصح ذلك بل الحق أن الإصرار حكمه حكم ما أصر عليه، فالإصرار على الصغيرة صغيرة، والإصرار على الكبيرة كبيرة"(143) وهذا هو الصواب، ويضاف عليه بأن الصغائر تكفر دائماً بالوضوء والصلاة وأفعال الخير كما جاءت بهذا الأحاديث.
ب- حرمة التكفير بالكبيرة:-
أجمع أهل السنة على أن المسلم لا يكفر باقترافه الكبائر سوى الشرك، قال في الطحاوية: "ولا نكفر أحداً من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله"(144)
وعليه يحرم التكفير بالكبيرة سوى الشرك قال ابن تيمية: "لا يجوز تكفير المسلم بذنب فعله ولا بخطأ أخطأ فيه"(145)
وهذه المسألة مبنية عند أهل السنة على ثلاثة أصول:-
الأول: تفاضل المسلمين في الإيمان، إذ ليسوا على درجة واحدة من الإيمان، كما أن الإيمان يتبعض في نفسه بمعنى أنه قد يزيد وينقص كما سبق توضيح هذه القضية، والتدليل لها.
الثاني: أن الشخص الواحد قد يجتمع فيه مع الإيمان شعبة من شعب الكفر أو النفاق، وهذه الشعب هي الكبائر سوى الشرك ففي مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله ( قال: "اثنتان في الناس هما بهم كفر: الطعن في النسب، والنياحة على الميت"(146).
ونحوه حديث: "آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان"(147)
إذن "ليس كل من قام به شعبة من شعب الكفر يصير كافراً الكفر المطلق حتى تقوم به حقيقة الكفر، كما أنه ليس كل من قام به شعبه من شعب الإيمان يصير بها مؤمناً حتى يقوم به أصل الإيمان وحقيقته"(148).(1/76)
الثالث: أن دائرة الإسلام أوسع من دائرة الإيمان، فمرتكب الكبيرة مسلم غير مؤمن كما سبق بيانه.
ج - الأدلة:-
استدل أهل السنة على عدم كفر مرتكب الكبيرة بنصوص كثيرة نذكر بعضاً منها فيما يلي:-
1- قوله تعالى: (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء)(النساء48) فهذه الآية قسمت الذنوب والمعاصي إلى نوعين:-
1) شرك، لا يغفره الله إلا بالتوبة والعودة إلى التوحيد .
2) ما دون الشرك، وهي كبائر الذنوب، وصاحبها تحت المشيئة الإلهية إن شاء عذبه وإن شاء غفر له.
والمراد بالشرك في هذه الآية الكفر، لأن من جحد نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم مثلاً كان كافراً، ولو لم يجعل مع الله إلهاً آخر، والمغفره منتفية عنه بلا خلاف(149)
2- قوله تعالى: (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم)(الحجرات10،9) دلت هاتان الآيتان على وجود الإيمان والأخوة مع الاقتتال والبغي.
3- قوله تعالى: (فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان)(البقرة178) فسماه أخاً وهو قاتل.
4- عن أبي ذر قال: قال رسول الله ( : "ما من عبد قال لا إله إلا الله ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة، قلت وإن زنى وإن سرق؟ قال: وإن زنى وإن سرق، قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: وإن زنى وإن سرق ثلاثاً، ثم قال في الرابعة: على رغم أنف أبي ذر، فخرج أبو ذر وهو يقول: وإن رغم أنف أبي ذر "(150).
3- قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "من مات يشرك بالله شيئا دخل النار، ومن مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة"(151)(1/77)
4- عن جابر قال: أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم رجل فقال: يا رسول الله، ما الموجبتان؟ فقال: "من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة، ومن مات يشرك بالله شيئا دخل النار"(152).
5- عن جابر بن عبد الله قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: "من لقي الله لا يشرك به شيئاً دخل الجنة، ومن لقيه يشرك به دخل النار"(153).
وقد بوب الإمام النووي لهذه الأحاديث بـ: " باب من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة، ومن مات مشركاً دخل النار"(154) .
6- عن عمر بن الخطاب أن رجلاً على عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان اسمه عبد الله وكان يلقب حماراً، وكان يضحك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد جلده في الشراب، فأتى به يوماً فأمر به فجُلد، فقال رجل من القوم: اللهم العنه ما أكثر ما يؤتى به! فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: لا تلعنوه فوالله ما علمت إلا أنه يحب الله ورسوله(155).
7- لو كانت الكبيرة مكفرة لحكمنا على صاحبها بالردة ولم نقم على صاحبها الحد في الكبائر ذوات الحدود.
خ - الأحاديث الموهمة تكفير مرتكب الكبيرة:-
وردت أحاديث فهم بعضهم منها تكفير مرتكب الكبيرة، ويمكن هنا أن نقسمها إلى عدة أقسام:-
1- نصوص نفت الإيمان عن مرتكب الكبيرة، مثل حديث: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن".
2- نصوص ذكرت كفر من لم يعمل عمل ما كحديث "العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة من تركها فقد كفر"(156).
3- نصوص نفت أن يكون مرتكب الكبيرة منا كحديث: "من غشنا فليس منا".
4- نصوص نفت دخول مرتكب الكبيرة الجنة كحديث: "لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر".(1/78)
هذه النصوص ونحوها بيّن علماء الإسلام معناها والمقصود بها في ضوء غيرها من النصوص، لأن ضرب النصوص بعضها ببعض لا يجوز، وأخذ جانب من النصوص وإغفال جانب آخر لا يجوز، وادعاء التعارض الحقيقي بين النصوص -أيضاً- لا يجوز، إذ إن الشرع تنزيل من حكيم حميد.
قال العلماء:-
1- المقصود بنفي الإيمان نفي كماله الذي لا يزول أصل الإيمان بزواله، بل يبقى معه أصل الإيمان الذي يبقيه في دائرة الإسلام.
2- المقصود بالكفر في حديث تارك الصلاة ونحوه الكفر العملي أو كفر النعمة لا الكفر المخرج من الملة، إذ قد ثبت أن تارك الصلاة أو غير المحافظ عليها -كما يفرق شيخ الإسلام ابن تيمية بينهما- تحت المشيئة، أي إن شاء الله غفر له وإن شاء عذبه.
3- المراد بقوله( "ليس منا" أي ليس على هدينا وشريعتنا التي تحرم الغش.
4- المراد بنفي الدخول هو الدخول الأولي أو المطلق، بمعنى أنه يعذب أولاً بقدر ذنبه ثم يخرج منها ويدخل الجنة.
على أن بعض السلف كالإمام أحمد وابن المديني ذهبوا إلى إمرار هذه الأحاديث دون تفسيرها، وأنها إنما خرجت مخرج الزجر(157).
والذي يبدو هو التفريق بين مقامين :
1. مقام الدعوة والإرشاد، وفيه يجب أن نطلق هذه النصوص كما أطلقها رسول الله ( ولا يتأول لها بما يضعف أثرها المقصود بها، حتى تؤدي دورها في الزجر عن هذه المنكرات وتعظيم خطرها، وتحذير الكافة من التلبس بها.(1/79)
2. مقام التعليم وإجراء الأحكام، وفيه يجب أن يجمع بين النصوص الشرعية، وأن يبين مذهب أهل الحق في التعامل مع أصحاب المعاصي، وضوابط إجراء الأحكام عليهم منعاً للتهارج والتقاذف بأحكام الكفر بغير ضابط، مع ما قد يترتب عليه ذلك من استباحة الدماء والأموال والأعراض بغير سلطان من الله، وكم أدى هذا الخلط بين هذين المقامين إلى كثير من اللبس والاضطراب في إجراء الأحكام في واقعنا المعاصر، فرأينا فريقاً من الناس ينطلقون إلى عبارات وردت في مقام استجاشة العواطف، واستنفار الهمم، وإيقاد جذوة الإيمان، وتحريض الناس على الجهاد فيستخدمونها في إجراء الحكم على المخالف بطريقة لعلها لم تطف بخيال صاحبها قط، وما أشبه موقفهم هذا بموقف من بلغه أن علياً رضي الله عنه كان يخطب في الكوفة ويستنفر أهلها بقوله: يا أشباه الرجال ولا رجال! فيقول: شبه الرجل هو الخنثى المشكل، ثم يستقرئ كل أحكام الخنثى المشكل في كتب الفقه ويجريها على أهل الكوفة(158).
كان هذا هو تقرير علماء الإسلام في هذه المسألة، أما الخوارج فقد تمسكوا بجملة من الآيات والأحاديث ذات الدلالات العامة مثل:
(وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون)(الأنعام121) (أفرأيت من اتخذ إلهه هواه)(الجاثية23) .
(ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله ناراً خالداً فيها وله عذاب مهين) (الجن23) وقوله(: كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى، فقالوا: ومن يأبى يا رسول الله؟ قال: من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى(159).
والجواب على هؤلاء أن الآيات أو الأحاديث العامة التي استدلوا بها مطلقة، تقيدها الآيات والأحاديث الدالة على تقسيم الذنوب إلى شرك وما دون الشرك، فيكفر في الأولى ولا يكفر في الثانية.(1/80)
وهذا هو الأصل في التعامل مع النصوص من ناحية فهم بعضها في ضوء بعض لا الاقتصار على فهم مجموعة من الأدلة، ولوي عنق النصوص الأخرى لتوافق هوى في النفس أو غيره، ومن القواعد المقررة أنه لا تعارض بين نصوص الشريعة من كل وجه، ولهذا فإذا ما وردت نصوص ظاهرها التعارض فإن الجمع بينها هو أول ما يعمله العالم فإن "أمكن الجمع، فقد اتفق النظار على إعمال وجه الجمع وإن كان وجه الجمع ضعيفاً، فإن الجمع أولى عندهم، وإعمال الأدلة أولى من إهمال بعضها، فهؤلاء المبتدعة لم يرفعوا بهذا الأصل رأساً إما جهلاً به أو عناداً"(160)، ومعرفة الجمع وأوجهه والترجيح وأساليبه لا تكون إلا للعلماء المتبحرين، يقول الإمام النووي رحمه الله تعالى: "وأما إذا تعارض حديثان في الظاهر، فلا بد من الجمع بينهما أو ترجيح أحدهما، وانما يقوم بذلك غالباً الأئمة الجامعون بين الحديث والفقه، والأصوليون المتمكنون في ذلك الغائصون على المعاني الدقيقة الرائضون أنفسهم في ذلك"(161).
ويقع هؤلاء في خطأ فاحش حينما يواجهون بالأدلة الدامغة المناقضة لمذهبهم مما سقناه سابقاً فيلجؤون إلى القول بأن المقصود منها البشارة فقط، ولا تكفي للحكم لأحد بالإسلام، والإجابة على هذا سهل هين، ذلك أن قولهم هذا يمكن أن يُقلب عليهم فيقال بل ما استدللتم به من آيات الوعيد هي للنذارة فقط، ولا تكفي للحكم على أحد بالكفر.
وهنا أصل آخر يتعلق بمصطلحات: الكفر، والشرك، والنفاق، والظلم، والفسق، ونتحدث عن هذه المصطلحات في سياق موضوعنا هذا في نقطتين:-
النقطة الأولى: أن هذه المصطلحات يستخدم بعضها في مكان بعض، فيطلق الكفر على النفاق والعكس، والظلم عليهما جميعاً والعكس وهكذا .(1/81)
من ذلك تسمية الكافر ظالماً كما في قوله تعالى: (وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُون)(البقرة: من الآية254) وسمي متعدي حدود الله سبحانه في النكاح والطلاق والرجعة والخلع ظالماً قال تعالىال: (وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَه)(الطلاق: من الآية1) وليس هذا الظلم مثل ذلك الظلم.
ويسمى الكافر فاسقاً كما في قوله (وما يضل به إلا الفاسقين الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه)(البقرة27،26) ويسمى المؤمن -إذا عصى- فاسقاً كما في قوله تعالى: (ياأيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين)(الحجرات6) نزلت في الحكم ابن أبي العاص وليس الفاسق كالفاسق .
وعليه يظهر خطأ من تعامل مع هذه النصوص ونحوها تعاملاً مختلفاً يأباه الشرع كقول بعضهم بان القرآن قد سمى المعاصي ظلماً وسمى الكفر ظلماً فينتج أن المعاصي كفر أي مخرج من الملة، وهذا فهم مغلوط لم يقل به أحد من علماء الإسلام، كما أن فيه غفلة عن طريقة الشرع في استعمال الألفاظ من حيث وضع بعضها في مكان بعض لمعنى مشترك بينها كما هو حاصل هنا.
النقطة الثانية: أننا كما قلنا بأن هناك كفر دون كفر فكذلك نقول: فسق دون فسق، وظلم دون ظلم، وكما قلنا بأن الكفر نوعان كفر يخرج من الملة وكفر لا يخرج من الملة فكذلك نقول في الشرك: منه ما هو مخرج من الملة وهو الشرك الأكبر، ومنه ما ليس كذلك كالرياء مثلا، وكذا النفاق ينقسم إلى نفاق اعتقادي ونفاق عملي، فنفاق الاعتقاد هو الذي أنكره الله على المنافقين في القرآن وأوجب لهم الدرك الأسفل من النار بسببه، ونفاق العمل كقوله في الحديث الصحيح آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب وإذا وعد اخلف وإذا ائتمن خان".(1/82)
نخلص من هذا أن مصطلحات الكفر والشرك والنفاق ونحوها لا تعني بالضرورة وصف الفعل أو الفاعل بالكفر أو الشرك أو النفاق المخرج من الملة، والمسألة تعود إلى فهم واستيعاب النصوص الشرعية وفهم سياقها وسباقها ولحاقها، وفهم بعضها في ضوء بعض إذ إن الشريعة كاملة من كل النواحي فلا اضطراب أو تعارض أو اختلاف فيها، بل نصوصها في غاية الانسجام ولكن لا يتأتى فهمها الفهم السليم إلا للعلماء الراسخين، والذين قد كفونا المؤنة خاصة في هذا المجال الهام والخطر جداً، والذي به يعرف المسلم من غيره.
4- القول بجاهلية المجتمعات المسلمة:
لقد مثلت البعثة مرحلة جديدة من تاريخ المجتمع العربي بل والعالمي، والتي كانت البشرية قبل بعثته ( تعيش في جاهلية جهلاء بسبب بعدها عن هدي ربها .
فالجاهلية هي مرحلة ما قبل بعثة النبي ( بلا شك، وقد تطلق على صفة ما لكونها من صفات الجاهلية كما في حديث: "إنك امرؤ فيك جاهلية"(162) أي فيه خصلة من خصال الجاهلية(163)، ولكن ليس معنى هذا أن من كانت فيه بعض أو صاف الجاهلية أو من تلبس بصفة حكم الله أنها من صفات الجاهلية أن يكون الفاعل أو المتلبس بها كافراً، بل المقصود ذم هذه الصفات والزجر عنها أما فاعلها فلا يخرج عن دائرة الإسلام، ولو تلبس بصفات الجاهلية كلها حاشا الشرك ونحوه واستحلال المعصية.
فأمور الجاهلية هي في حقيقتها معاصي سواء كانت كبائر أم صغائر، وقد سبق بيان أن التكفير بالمعاصي عدا الشرك منهج مرفوض ترده الأدلة من القرآن والسنة، ويكفي هنا أن أدلل على هذا أن أبا ذر عندما قال له النبي ( إن فيه صفة من صفات الجاهلية لم يحكم عليه بالكفر أو الردة، وإلا لنفذ فيه أحكام المرتد .
حقيقة إنها لمأساة عندما نؤصل هنا أو في أي موضع آخر لحرمة الغلو التكفيري، وخاصة عندما يبلغ هذا الغلو مداه، فيشمل المجتمع برمته دون وضع أي اعتبار للشهادتين التي يحصل بها عقد الإسلام والتي لو وزنت بالسماء والأرض لرجحتهما.(1/83)
ومأساة أيضاً عندما يكون سبب التكفير للمجتمع مبنياً على فهم خاطئ لكلام كاتب أو فهم أعوج للقرآن والسنة، أو يكون مبنياً على إلزامات لم يأبه لها العلماء أو يلقوا لها بالاً، لعلمهم بتهافتها، وليقينهم بأنه لا يصح ولا يجوز الاعتماد عليها في مسألة خطيرة كهذه وهي تكفير الأمة .
ومأساة أن ينتج عن هذا الزعم بأن المسلمين -فقط- هم ثلة متناثرة هنا وهناك، ولفيف من الأفراد حكموا على أنفسهم بالجهل والعزلة وعلى غيرهم بالكفر والمروق .
إن إطلاق وصف الجاهلية على المجتمع الإسلامي إطلاق لا يجوز شرعاً، لأنه يعني تكفير الأمة أو على الأقل تضليلها برمتها ، كما أن وصف الجاهلية لم يرد في القرآن والسنة إلا مقيداً أو مضافاً كما في قوله تعالى: (أفحكم الجاهلية يبغون)(المائدة50) .
وقوله تعالى: (ولا تبرجن تبرج الحاهلية الأولى)(الأحزاب33)
وقوله تعالى: (إذ جعل في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية)(الفتح26).
فهذه أوصاف اتصفت بها الجاهلية ويمكن حدوثها في المجتمع المسلم إذ إنه مجتمع بشري معرض للعصيان وليس ملائكياً يفعل ما يؤمر ولا يعصي الله طرفة عين، فالمعصية واردة الحدوث في المجتمع المسلم، ومع هذا لم ينص القرآن أو السنة على وصف المجتمع المسلم بالجاهلي رغم ورود الأحاديث التي تدل على الفساد الذي سيحصل في الأمة وخاصة آخر الزمان، فكيف نستجيز لأنفسنا أن نصف الأمة بما ترده النصوص وتأباه.
المطلب الثاني: أسباب الغلو في التكفير
هناك جملة أسباب كانت وراء الغلو التكفير منها النفسي والسياسي و الاجتماعي والدولي وغيرها والتي تداخلت مع بعضها فأنتجت هذا الغلو، من أهمها:-
1- عدم فهم القرآن والسنة، وهذا وصف ذكره النبي( للخوارج فقال: "يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم" أي "لا تفقهه قلوبهم ولا ينتفعون بما تلوا منه، ولا لهم حظ سوى تلاوة الفم والحنجرة والحلق اذ بهما تقطيع الحروف"(164)(1/84)
وقد أفرز عدم الفهم والاستيعاب للنصوص إشكالات معرفية كبيرة، وتصورات خاطئة كان منها تنزيل آيات وردت في شأن الكفار على المسلمين كما قال النبي(: "يقتلون أهل الإيمان" "وكان بن عمر يراهم -أي الخوارج- شرار خلق الله وقال إنهم انطلقوا إلى آيات نزلت في الكفار فجعلوها على المؤمنين"(165).
وقال الخوارج محتجين على علي في قصة التحكيم: لا حكم إلا لله، واستدلوا بقوله تعالى: (إن الحكم إلا لله)(الأنعام57) وقالوا بأن الإمام علي حكم الرجال وكفروه نتيجة لهذا الفهم الذي حمل الآية غير ما تحتمله قال الحافظ: " وكان أول كلمة خرجوا بها قولهم: لا حكم إلا الله، انتزعوها من القرآن وحملوها على غير محملها"(166).
ومن التصورات الخاظئة رفع بعض الظنيات التي تقبل الخلاف إلى مرتبة القطعيات التي لا تقبل الخلاف، ثم الولاء والبراء عليها، وتضليل الناس بسببها، بل تصبح شخصية ما -أحياناً- هي المبدأ .
2- عدم الاعتماد على الكتاب والسنة، فبعض الطوائف الغالية إذا وجدت دليلاً يخالف هواها أعرضت عنه، وتأولت في رده التأويلات الباطلة، فمثلاً وردت الأدلة بعدم كفر مرتكب الكبيرة وعدم خلوده في النار، ومع هذا تصر بعض الطوائف على القول بعكس ما دلت عليه النصوص وردها بأدنى الحجج.
والصحابة رضي الله عنهم قد ثبت أنهم خير جيل، وخير صحب وأنهم في أعلى درجات الإيمان، ومع هذا نجد من يكفرهم تبعاً لهواه ولبعض الآثار التي دسها أعداء الإسلام نكاية فيمن هزوا عروش الباطل.
3- عدم التمييز بين السنة والبدعة:(1/85)
وهذا الباب كثر فيه اضطراب الناس في الأصول والفروع، حيث يزعم كل فريق أن طريقه هو السنة، وطريق مخالفه هو البدعة، ثم إنه يحكم على مخالفه بحكم المبتدع فيقوم من ذلك من الشر ما لا يحصيه إلا الله، وأول من ضل في ذلك هم الخوارج المارقون حيث حكموا لنفوسهم بأنهم المتمسكون بكتاب الله وسنته، وأن علياً ومعاوية والعسكرين هم أهل المعصية والبدعة، فاستحلوا ما استحلوه من المسلمين.(167)
3- تأصيل الأصول الفاسدة:
كثيراً ما استبيحت الدماء بتأصيل أصول وقواعد فاسدة لم يدل عليها القرآن أوالسنة، وليست مما درج عليه السلف الصالح، ومن هذه الأصول مثلاً:
1) تكفير مرتكب الكبيرة.
2) وجوب النظر.
3) جعل الإكراه والخطأ والتأويل ليس عذراً.
4) تكفير منكر أصول عقلية.
5) جعل البيعة من أركان الإسلام.
6) عصمة الإمام علي رضي الله عنه.
7) رد السنة.
فهذه الأصول ونحوها مما تخالف الدليل أوقعت الكثيرين في بدعة الغلو التكفيري.
ويشير الشهرستاني إلى نماذج من الغلو في بعض الأصول والتي وجهت حكم أصحابها على الآخرين نحو التكفير، يقول ابن حزم: "فالمعتزلة غلو في التوحيد بزعمهم حتى وصلوا إلى التعطيل بنفي الصفات، والمشبهة قصروا حتى وصفوا الخالق بصفات الأجسام، والروافض غلوا في النبوة والإمامة حتى وصلوا إلى الحلول، والخوارج قصروا حتى نفوا تحكيم الرجال"(168).(1/86)
وكان لتأصيل الأصول البدعية تأثير في تكفير أتباع الفرقة الواحدة بعضهم بعض فتحكي لنا بعض الكتب أنه في سنة (190ه( اجتمع ستة عشر رجلاً في باب أبي الحسن الثاني، فقال له أحدهم ويدعى جعفر بن عيسى: "يا سيدي، نشكو إلى الله وإليك ما نحن فيه من أصحابنا، فقال: وما أنتم فيه منهم؟ فقال جعفر: هم والله يزندقونا ويكفرونا ويتبرؤون منا، فقال: هكذا كان أصحاب علي بن الحسين، ومحمد بن علي، وأصحاب جعفر، وموسى: صلوات الله عليهم، ولقد كان أصحاب زرارة يكفرون غيرهم، وكذلك غيرهم كانوا يكفرونهم.." وقال يونس: "جعلت فداك إنهم يزعمون أنا زنادقة"(169).
لقد أوصلت البدعة أصحابها إلى هذه النتيجة وهي الغلو في تكفير الناس عامتهم وخاصتهم حتى رفقاء دربهم.
ومن المشكلات المتعلقة بما نحن فيه هنا أن يتحول الغلو التكفيري إلى عقيدة وفكر يتغلغل في أذهان وأفئدة وعقول أصحابه، ويصبح اللعن -كثمرة لهذا التكفير- متعة وعملاً يؤجر عليه قائله، وأصلاً يتعبد ويتقرب به إلى الله، وإن ديناً يأمر أتباعه بالرحمة لا يمكن أبداً أن يأذن لهم باللعن والغلو في التكفير، وبدلاً من أن تكون الزعامة الدينية مصدراً للتسامح ومعرفة للحق والحقوق أصبحت -بسبب البدعة- منبعاً لهذا السب والتكفير واللعن والشتم الذي تسمعه فترتاع لهول ما تسمع من كلام مقذع، وسب فاحش، وما ترى من انتفاخ للأعين والأوداج، وليس في السر بل وفي محاضرات عامة يكون جلها تعديد الأسماء ولعنها مراراً: فلان لعنه الله، الله يلعنه، لعنة الله عليه،عليه لعنة الله، بل وبدلاً من أن يعقب الصلاة التسبيح والحمد والاستغفار يعقبها هذا اللعن، لم لا وفيه الأجر والثواب الجزيلين من وجهة نظرهم، أهذا دين الله، أهذا دين الرحمة يا أمة الإسلام.(1/87)
ويبلغ الغلو مداه عندما يكون هذا كله ضد خير خلق الله وهم صحابة رسول الله، الذين امتلأ القرآن بمدحهم والثناء عليهم، ومع هذا فلم ينجو من غلو الغالين بدعوى أن المهاجرين والأنصار كتموا نص تولية الإمام علي الخلافة، فكفروا إلا نفرًا قليلاً أترى أن الله أثنى عليهم يوم أن كان لا يعلم ما الذي سيفعلونه بعد ذلك، أم ياترى أن إرادة من كتم النص كانت أقوى من إرادة الله حتى غلبتها وأخفت ما أراد الله إظهاره، ثم كيف اختزل الدين برمته القائم على توحيد الله وعبادته، والذي هو رحمة للعالمين إلى اعتقاد تولية فلان الخلافة!!! إنه لأمر يدعو إلى العجب حقاً.
لقد أصبح هذا الغلو ناقماً على كل حسنة يعملها هؤلاء الرجال حتى لو كانت من الميزات التي تميزوا بها فالشورى التي عقدها الصحابة بعد وفاة النبي( كيلا تنفلت الأمور خاصة وأن الأوضاع السياسية لم تكن مستتبة والدين ما زال في بداية انتشاره فاختار الصحابة أبا بكر ليكون خليفة للمسلمين فإذا بهذه المحمدة تصبح مذمة، ولا يقف الأمر عند ذلك بل يكفّر هؤلاء الرجال الأفذاذ لشوريتهم وعمق فهمهم، وبعد نظرتهم.
لقد كان من مظاهر الغلو هذا أن جر أتباعه بعد ذلك إلى تكفير الأمة برمتها وتسمية كل بلدة كمكة والمدينة ومصر وغيرها بأنها بلدان كفر وخبث، والثناء العطر على بلدان صغيرة لا تظهر على الخريطة، لا لشيء إلا لأنها أخذت بهذا المنهج.
ولم يقف الأمر عند هذا الحد بل تعداه إلى السباب السوقي، واتهام الأمة بتهم يتنزه عنها لسان العامي فضلاً عن غيره، أما وضع أحاديث وروايات لتأييد هذا اللعن والسب والتكفير فليس بالأمر الصعب.
4- أخذ الألفاظ الشرعية من غير تفسير الشرع لها:(1/88)
إن ألفاظ: ( الإيمان، الإسلام، الكفر، الفسق، الظلم، الشرك، المعصية، النفاق، الجاهلية) حملها البعض على هواه دون الرجوع إلى استعمالات الشرع ، وكلام العلماء، وهذه الأسماء هي من أعظم الأمور التي تعرف بالشرع فالنبي( قد بين المراد بهذه الألفاظ بياناً لا يحتاج معه إلى الاستدلال على ذلك بالاشتقاق وشواهد استعمال العرب ونحوه، فلهذا يجب الرجوع في مسميات هذه الأسماء إلى بيان الله ورسوله.
4- الجهل: وهذا من الأسباب الرئيسية في هذا المجال، والجهل سبب كل بلية في الدين والدنيا، وهو هنا كان السبب الخطير في نمو فكر التكفير عند بعض الطوائف أو الجماعات.
لقد شمل جهل هؤلاء كافة المستويات من الجهل بالقرآن والسنة وجهل بالمقاصد الشرعية ومآخذ الأدلة وأدوات الاستنباط، وأقوال العلماء واستنباطاتهم، وجهل باللغة العربية والواقع وملابساته والتاريخ والسنن الكونية وهذه كلها تعتبر من الضرورات العلمية الواجب توافرها في العالم.
لقد كان لعملية فصل العلماء عن الأمة، وصنع فجوة وهوة كبيرة بينهما ضناً أن ذلك سيبعد الأمة عن دينها، أو أنه سيسهل عملية التأثر بالآخر وتقليده والسير على خطاه، لقد كان مردود هذا التصرف السيء سلبياً للغاية على الإنسان والدولة والأمة بل والعالم برمته.
كما أن لفتح المجالات الواسعة أمام المغتربين فكرياً عن الأمة، ومن لا يدينون بدينها ويعتقدون معتقدها، ويسخرون من شريعتها وعلمائها وكل ما يمت إليها بصلة، في حين كان علماء الأمة يجدون الأبواب مغلقة أمامهم، أو يجدون أنفسهم يسيرون رغماً عنهم في طريق لا يدرون منتهاه، مما سهل للغلو بالنمو بسبب جهله بالعلماء وكيفية التواصل معهم، وبسبب التشويه المتعمد الذي نالهم من جهات عدة بحيث لم يعد لهم قبول عند المغالين.
إن الجهل الذي عم أتباع هذا التطرف شامل لزعمائهم وإن حاولوا أن يظهروا أن معهم علماء، وفي حقيقة الأمر أنهم رؤساء جهال يفتون بغير علم فيَضلون ويُضلون.(1/89)
5- لقد كان لبعض كتب التراث العقدي تأثيراً كبيراً في نمو هذا الغلو خاصة من التيارات البدعية التي لا تتورع عن التكفير على كل شيء، فتجد التكفير باللازم، والتكفير بدقائق علم الكلام، والتكفير بسبب أصول بدعية وهلم جراً.
لقد عانى كثيرون من علماء الأمة من الكتب التي على هذا النمط التكفيري، فالعلامة المقبلي ذكر أنه رأى كتاباً في العقيدة لأحد السالمية(170) واستنكر غلوه في التكفير فقال واصفاً له: "وإذا هو لم يكد يسلم منه أحد من التكفير"(171) و أنت لو طالعت بعض الكتب المقارنة في عقائد الفرق لوجدتها كذلك كلها تكفير .
يمكن أن نفهم شدة بعض الكتب وغلوها في هذا المجال إذا عرفنا مقدار المعارك التي خاضها هؤلاء فيما بينهم، والتي كان من إفرازاتها الكبيرة دعوى المروق من الدين، ولهذا يلاحظ الباحث أن تكفير بعض الأشخاص والفرق كان أكثر ما يكون من معاصريهم أو بعد عصرهم بقليل، ثم إذا ما انتصر أحدهم راجع نفسه وصحح عدم كفرهم، كما حدث للأشاعرة مع المعتزلة .
وهذه ليست قاعدة مطردة لأنا وجدنا بعض الطوائف عندما وصلت للحكم أفنت مخالفيها واضطهدتهم أيما اضطهاد وأجبرتهم على اعتناق مذهبها وأصبحوا أقلية بعد أن كانوا هم الأكثرية، لقد حدث هذا في القديم أم الحديث!
لقد كان من سمات بعض هذه الكتب عدم الحيادية إذ "صار كل من الفرق يحكي الشر عن مخالفه ويكتم الخير"(172) للسبب السابق، إضافة إلى محاولة الحفاظ على الأتباع، فكان بعضهم يدعي على خصمه ما لا يقوله بل وينكره، فمثلاً ينسب القول بإنكار عذاب القبر إلى المعتزلة مع أن المعتزلة ينكرون هذه النسبة، والحقيقة أنها تنسب لشخص كان معتزلياً ثم ترك الاعتزال يسمى ضرار بن عمرو، فجاء بعضهم وعمم النسبة .
وذكر المقبلي عن كتاب السالمي السابق الذكر أن مدلول المعتزلي عنده من يصح أن ينسب إليه كل ما ألقته الشياطين ووسوس به المجانين .(1/90)
وكذلك تجد بعض المعتزلة والشيعة يحكي عن خصمه ما لا يقوله، ولست أدري إذا كانوا يدرون أن ما ينقلوه كذب أم لا، ومع هذا كان عليهم أن يطالعوا كتب الآخرين، والتي تملأ الدنيا، ولكن -للأسف- نجد الافتراءات التي لا يسندها دليل أو واقع، فالأشعري مثلاً يصبح عند بعضهم مجرماً يصح نسبة كل باطل إليه، فيقول فيه أحدهم، وهو شيعي معتزلي: "...بل أحيا مذاهب لجهم بن صفوان كانت داثرة، فحرفها وصحفها، ليبقى له أدنى مسكة من الإسلام! وقد حيل بينه وبين ذلك بالدليل" ولست أدري أي دليل هذا الذي أقيم عليه والشيخ رحمه الله كان من رؤوس المعتزلة ومن تلاميذ جهبذهم أبوعلي الجبائي، وكان الشيخ عالماً بدخائل وسبل الفكر الاعتزالي أكثر بكثير من منتقده هذا، بل لا وجه للمقارنة بينهما فأين الثرى من الثريا، ثم أليس ترك الأشعري لمذهب الاعتزال دليل على أنه مذهب متهافت من وجهة نظره على الأقل، وأنه رغم بقائه فيه أربعين سنة لم يستطع الاستمرار فيه، ثم لاحظ قوله: "ليبقى له" تٌرى هل فتش عن قلبه حتى يحكم هذا الحكم، إن العصبية والبدعة إذا اجتمعتا في قلب فلا تنتظر منه إنصافاً.
ثم أخذ هذا يذكر بعض عقائد الأشعري، وتجد كثيراً منها مكذوبة عليه، أو أنها ليست بتلك الصيغة التي صاغها أو ليست بالعموم الذي قاله، ومن عجيب ما نسبه إليه زعمه بأن الأشعري يقول إن الله تعالى يدرك بجميع الحواس(173)، والمطالع لكتب الأشعري ورسائله ينفي يقيناً هذا العموم، ولكنها عصبية البدعة.
لم تخلوا بعض هذه الكتب من الاتهامات التي لا تحصى سواء العقدية أم الأخلاقية، خاصة من طوائف المبتدعة، فتجد بعضهم لا يتورع عن رمي من عاداه بالفواحش والفواقر، ويستجيز بعضهم هذا لظنه أنه ينصر الدين أو أنه بعمله هذا ينصر آل البيت .(1/91)
إن تهماً مثل الجبر والنصب والتشيع والإرجاء والحشو كانت جاهزة لدى البعض يستخدمها كسلاح يسيّر بها جحافل الغوغاء لينشر فكره أو عقيدته، وفي أحيان كثيرة ليوسع جاهه وماله (174).
لقد اندلعت حروب وأفنيت قرى بكاملها تحت راية الجهاد ومحاربة مخالفي ما يسمى بعقيدة أهل البيت!!! لقد حدث هذا في مواضع كثيرة من البلاد الإسلامية، ويقيني أن عقيدة أهل البيت هي ذاتها عقيدة الصحابة رضي الله عنهم أجمعين، لأن معلمهم واحد (.
لقد عانى كثير من العلماء من هذه التهم التي غالباً لا تمت إلى الواقع بصلة فشيخ الإسلام ابن تيمية مثلاً عندما أفتى بأن الطلقات الثلاث في مجلس واحد تعتبر واحدة قامت الدنيا وما قعدت، واتهموه بالتشيع، وأغدقت عليه الألقاب النابية والتي لا تزال تصم أذاننا من هنا هناك من بعض المقلدة، وكأنه لا يصح الانتساب إلى مذهب إلا بلعن وسب كل من يخالفه.
وشنع على ابن تيمية في إنكاره للبدع التي تصاحب زيارة قبر النبي( وقيل فيه بأنه أنكر شرعية الزيارة ولم يكن الأمر كذلك، يقول المقبلي عن كتاب اقتضاء الصراط المستقيم لابن تيمية: "وهذا الكتاب هو الذي يذكر عن ابن تيمية فيه أنه أنكر زيارة رسول الله( وشنعوا عليه، ومن عرف كلامه عرف أنهم لم ينصفوه، إنما أنكر هذه العوارض والحوادث، وكيف وهو مصرح بشرعية زيارة القبور، ولكن الناس يعادون من خالفهم"(175).
والمقبلي نفسه وهو عالم يماني اتهم في بلدته الشيعية بالنصب فرحل منها إلى مكة فما لبث فيهم إلا قليلاً حتى اتهمه بعض علمائها بالزندقة فقال: ناصبي في صنعاء ولا زنديق في مكة، وعاد أدراجه(176).
ومثل الأشعري وابن تيمية والمقبلي كثير في تاريخنا الثقافي والعلمي، ولو استطردنا في هذا الموضوع لطال المقام، فأكتفي بالإلماحات السابقة.(1/92)
لقد كان للغلو التكفيري المسطور في الكتب أثره الواضح والجلي على الكثير من التصورات الفكرية والفروعية الفقهية والتي جانبت الصواب، ونبذت الحق، وزادت من الشذوذ والخروج عن جماعة المسلمين، وأسجل هنا بعضا منها:-
1. تكريس الخلاف حتى قال بعضهم بأنه لا يجتمع هو ومن معه مع (غيرهم) على إله، ولا على نبي، ولا على إمام.
2. نقل بعضهم عن بعض السلف -ولا يصح عنه بلا شك- أنه سأله سائل: "ألقى الذمي فيصافحني ، قال : امسحها بالتراب والحائط ، قلت : فالناصب ، قال : فاغسلها".
3. وصم المخالفين بأنهم أنجس من الكلاب!!!
4. أصبح مقياس الحق عند بعضهم ليس الدليل بل مطلق المخالفة فإذا قال الآخر قولاً وجب على هؤلاء أن يقولوا بنقيضه!!!
5. استباحة الدماء وتجويز القتل العمد للمسلم ولو بالغيلة بأن يهدم عليه حائطاً أو غيره مثلاً.
6. استحلال أخذ الأموال وبأي سبيل كان هذا الأخذ فهو جائز.
7. الناس كلهم أولاد بغايا، وغير هذا كثير.
ورغم كل ما سبق لم يكن علماء الاتباع كذلك، فقد كانوا نسيجاً مختلفاً، فأنت إذا ما فتشت كتبهم تجدهم بمعزل عن الكذب والافتراء، محاولين أن يحتاطوا للتكفير قدر الإمكان، ويضبطوه ويبينوا حدوده بحيث يصبح في نطاق ضيق، وتجد رحمتهم بالأمة في هذا المجال ظاهرة جلية، ولا يكفرون بعد ذلك إلا كافر.
6- العصبية: من أكبر البلايا التي بليت بها الأمة والتي أثرت ولا زالت تؤثر سلباً على مسيرة الأمة الحضارية، وأضاعت الكثير من الجهود والأموال والأوقات، وسهلت للآخر أن يبسط نفوذه، وأن يجد المنافذ والخلل السهلة التي استطاع أن ينفذ من خلالها إلي حياتنا المتنوعة الأنحاء والمستويات .(1/93)
إن التعصب الأعمى مرض قاتل يهوي بصاحبه إلى الحضيض، ويودي به المهالك، وكلما اتسعت دائرة هذا المرض كلما زاد خطره وأثره، ومما يعنينا هنا خطر هذا المرض في كونه يفرز تطرفاً تكفيرياً بحيث يكون التكفير منهجاً يواجه به ممن يستقبلون قبلة واحدة، ويستبيح دماءهم وأموالهم.
ولا تقتصر العصبية هنا على العصبية العقدية المذهبية فقط وإن كانت هي السبب الكبير لبعضهم في هذا التطرف في العصور السابقة، إلا أنه ظهرت أشكال شتى للتعصب منها العصبية للجماعة والتي بسبب الجهل جعلت بعض أفراد هذه الجماعات بل وبعض قيادتها أيضاً يتطرفون في التكفير لكل من خالفهم ولو كان خلافاً في مسائل تخضع لفقه الأولويات ومراتب الأعمال، أو تدخل ضمن إطار الشورى والمصلحة، أو مسائل اجتهادية محضة لا دخل لها من قريب أو بعيد بقضية التكفير، والبعض منهم ينظرون إلى من ليس في جماعتهم نظرة المارق من الدين، الخارج من الملة، الذي لا يستحق أدنى حقوق الأخوة الإسلامية، والسبب يكمن -فقط- في كونه خارج إطار الجماعة، ولا أعني هنا جماعة بعينها لأن هذا المرض موجود في كل الجماعات الموجدة على الساحة للأسف وإن كان بنسب متفاوتة، ولا شك أن أكثرها وأعلاها نسبة تلكم الجماعات التي تأخذ طابع الفرق والتي تكفر من خرج عنها وعن بيعتها وإمامها!!بيد أن هؤلاء -بحمد الله- قلة وهم في حقيقة الأمر امتداد لتيار الخوارج قديماً والذي وردت في ذمه الأحاديث، وإن اختلفت التسميات، أو حاولوا تسمية أنفسهم بمسميات أخرى فكل هذا لا يغير الحقيقة.
الأمر الهام هنا والذي يدمي القلب هو التعامل مع مفهوم الجماعة بنظرة ضيقة بحيث يصغر الإسلام ليكون جماعة بعينها وتكبر الجماعة لتعني وترادف الإسلام.(1/94)
إذا كنا نتفهم أحياناً سبب التطرف في التكفير مما سببه الخلاف في القضايا العقدية فنحن هنا لا نجد مسوغاً أو مبرراً لهذا التطرف، سوى العصبية المقيتة المنتنة، ولهذا كان لزاماً على المشرفين على عمل هذه الجماعات أن يوعوا أفرادهم توعية دينية حقيقية ومنهجية بمعنى وماهية الجماعة وعلاقتها بالأمة والعكس، وبث ونشر مفهوم الأخوة الإسلامية العامة، وتبيين وتعريف وجهات نظر الآخرين ومناهجهم على وجهها لا أن تحرف ويكون الغرض في نهاية المطاف هو التكثر بالأتباع، ووضع حواجز بين المسلم وغيره ممن يعمل في الساحة الإسلامية والتي تتسع للجميع.
7- قمع الدولة، وهذا من الأسباب التي على الدولة المسلمة التنبه لها فالتطرف لا يولد إلا من تطرف،والغلو يولّد غلواً والواقع يغني عن الإيضاح، فحركات التطرف في القرن الماضي كان من أسبابها الرئيسية التطرف في قمع الشعوب ورفض إرادته، وستكون النتيجة نفسها إذا ما استمر السبب سواء مع دولة كبرى أو صغرى إذا ما جعلت من القوة والتطرف في استخدامها مسلكاً وحيداً في معالجة قضاياها أو مشاكلها، أو حتى مطامعها.
إن التطرف لا يقتصر على التعذيب الجسدي ونحوه بل يتعداه إلى الغلو في محاربة الآخر، وتشويه صورته ولو باختراع الأكاذيب وتوظيف أقلام مأجورة لاتتورع عن الطعن والتجريح والكلام الذي يكرس الكراهية بين فئات المجتمع ويولد تطرفاً وغلواً ويزيد من سعة دائرته، وهكذا تكبر الفجوة بين الطرفين مما يوجد مساحة واسعة وكبيرة يستطيع من خلالها أعداء الأمة وضعاف النفوس النفوذ من خلالها والترويج للغلو محتجين بالواقع والوقائع، وهكذا يجد بعضهم نفسه يدفع دفعاً نحو الغلو.
إن من الحقائق التي لا يمكن نكرانها أو المجادلة والمباهتة حولها أن الغلو التكفيري إنما نتج عن السياسات القمعية وأنه إنما ولد في رحم العنف والضغوط السياسية الشديدة بوسائلها المتنوعة.(1/95)
8- التطرف العلماني(177) والذي لا يلقي بالاً للمجتمع الإسلامي برمته، ويتجاهل أنه في بيئة لها معتقداتها التي لن تتنازل عنها، ولن تقبل التشكيك فيها، ومع هذا نجد بعض هؤلاء لا يترك مجالاً أو محاضرة أو عملاً فنياً -كما يسمونه- إلا ولمز فيه الدين والملتزمين به، وإن كان هذا يدل على الضعف والخور وانعدام المصداقية، إلا أنه يؤثر على شريحة من الشباب تأثيراً عكسياً تماماً، فرغم أن هؤلاء أرادوا إدخال الشباب في التطرف العلماني إلا أنهم كانوا سبباً في إدخالهم في التطرف البدعي، فضر هؤلاء أنفسهم من حيث لا يعلمون، وبدلاً من أن يراجعوا أنفسهم ويعترفوا بأخطائهم، راحوا يروجون لما يسمونه بالإرهاب الأصولي، واستغلوا ظروفاً مواتية فتحركوا متطرفين في أجوائها فزادوا الطين بلة .
إن من الحقائق المعروفة تاريخياً والملموسة واقعياً أن التطرف العلماني كان سبباً كبيراً في ظهور هذا الغلو ونموه، وإن العقلاء والوطنيين منهم الحريصين على وحدة الأمة يدركون هذا جيداً، في حين نجد آخرين لا يأبهون ولا يتعقلون أو يتفكرون فيما ينتج عن أقوالهم وأفعالهم من ردود أفعال غاضبة قد لا يستطيع كثيرون كبحها أو الإمساك بزمامها، ولا يدري الكثيرون منهم ماهية النهايات المؤسفة لها والمضرة بالمجتمع برمته، إضافة إلى الأضرار الأخرى للتطرف العلماني وغيره.(1/96)
كما أن المتطرفين هؤلاء يتعمدون ويتقصدون إظهار شذوذهم الفكري، والترويج له بشتى السبل، وهم في كل ذلك لا يتورعون عن الطعن في دين الأمة والاستخفاف به وبها جملة وتفصيلاً، وإن كان بعضهم يخشى مغبة هذه الأقوال فيلجأ إلى الطعن في علماء الأمة أو التأويل للنصوص بإفراغها من معانيها إما بحجة التأويل الباطني أو بحجة تغير الزمان والمكان أو غيرها فأعذار هؤلاء كثيرة المهم أنها تصب في نهاية المطاف في رد الشريعة والدين جملة، ويجاهدون في أن يجعلونا أتباعاً وذيولاً للآخر، وبدلاً من أن نقول: محمد وخالد وعمر نقول: كارل وتشالز وهوبز بحيث يكون الآخر هو وجماعته المراجع الوحيدة لتصوراتنا وتصرفاتنا.
إن التطرف العلماني يمارس الإرهاب والتكفير ولكن بصورة أخرى فإذا كان بعض المسلمين يتطرفون في التكفير فيرمون غيرهم به ويجعلونه سلاحاً يمشقونه ويصوبونه في وجه كل من خالفهم فإننا نجد هذا الأسلوب ذاته في التطرف العلماني بصورة أشد وأبشع وإن اختلفت المصطلحات إذ يكون التكفير عند هؤلاء برمي كل من يخالفهم بالرجعية والتخلف والماضوية والظلامية ...الخ من المصطلحات الاستعلائية الفارغة والتي عفا عليها الزمن، والتي لم تعد تروج في سوق الحقيقة والواقع .(1/97)
هذه الألفاظ التي أصبحت بحد ذاتها نوعاً من الإلغاء والإقصاء والحكم بالكفر على من يخالف عقيدتهم، إذ إن العلمانية في مبتدى أمرها ومنتهاه عقيدة ودين لأنها تحتوي على جملة أفكار وتصورات تنطلق من خلالها لتقولب الحياة وفقها، وهذا هو معنى العقيدة، وهم من هذا المنطلق يوزعون الألقاب السابقة ويلقونها هنا وهناك بل وعلى الأمة بمتها، والتي تحس من خلالها شيئا من الحقد والكره للمجتمع ومؤسساته ودينه ومعتقداته ونبيه وكتابه وعلمائه يظهر هذا بجلاء في كتاباتهم والتي تصل أحيانا إلى درجة الإسفاف والمهزلة والتي إذا ما نبههم العلماء وبينوا عوار ما يكتبون أو إذا خشوا انكشاف ما يقولون دبجوا كلامهم بألفاظ التكفير العلمانية السابقة والتي توازي مصطلحات التكفير عند المغالين وهذا في حد ذاته تكفير أيضاً ولكن بالتعبير والأسلوب العلماني.
إن القلة المتعقلة هم الذين يدركون العواقب الوخيمة لهذا التطرف، في حين يطغى على الكثيرين منهم التجاهل والرعونة أحياناً، وها نحن الآن نعيش ونلمس شيئاً من بركاتهم، فمتى سينتبهون.
9- غربة الإسلام في دياره بما في ذلك تغييبة عن الحكم في معظم بلدان المسلمين، ولم يُكتف بهذا الإقصاء بل عانت التوجهات الإسلامية في بعض البلدان الإسلامية الكثير من القمع كالسجن والتعذيب والقتل والتشريد، إضافة إلى الاتهام والاستهزاء إذا ما عولجت القضايا الإسلامية في الصحافة والإعلام وقد يصل الأمر عند بعضهم إلى الاستهزاء بالدين نفسه(178).
10- الأوضاع الاقتصادية المتردية والتي كان لها الأثر الكبير في تشكيل نفسية الغلو التكفيري.
11- سقوط الخلافة الإسلامية، وتجزئة الدولة الإسلامية الواحدة إلى دويلات، ثم الهزائم السياسية والعسكرية الفاضحة والمتتالية التي أصابت هذه الدويلات مما أوجد ردة فعل قوية تمثلت في هذا الغلو(179).
المطلب الثالث: التفريط في التكفير:-(1/98)
إننا عندما ننتقد الغلو في التكفير فلا يعني هذا الرضا والإقرار بالتفريط فيه بل الصواب هو التوسط والاعتدال.
والتفريط هذا كثيراً ما نجده عند بعض الكتاب الذين ينادون بنبذ شيء اسمه التكفير ويكررون بالمناداة بعدم تكفير الناس متعللين بعلل واهية، وحجج متهافتة، وهذه الدعاوى غالباً ما تكون ممن يخافون أن يحكم عليهم بالكفر، فيحول هذا بينهم وبين التأثير على الناس مما يصعب عليهم نشر أرائهم وأفكارهم المضللة، وإلا فبعضهم لا يأبهون بالتكفير أو عدمه، وهؤلاء -بحمد الله- ثلة قليلة ليس لها في المجتمع الإسلامي أي وزن يذكر، لأنهم ينطلقون من خارج أطر البناء الفكري الإسلامي، ويحاولون جاهدين سوق الأمة في طرق مغايرة ووجهات مضادة، والفشل -ولا شك- كان وسيكون حليفهم بإذن الله.
ويرد على هؤلاء بأن التكفير حكم شرعي لا يستطيع أحد إلغاءه، كائناً من كان، وهو بصفته حكماً لا يخضع لاعتبارات المصالح والمفاسد أو تغير الزمان والمكان، لأنه حكم ثابت بالنصوص القطعية فالله يقول في شأن النصارى مثلاً: (لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم...)(المائدة72)(لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة...)(المائدة73)
فمسألة الحكم على أحد بالكفر دلت عليه النصوص، ولكن نجد بعض لصوص النصوص يحاولون سرقة هذه الآيات وغيرها من ذاكرة الأمة مطالبين بعدم تكفير أحد، فهذا تفريط يتعارض والنصوص المعصومة الدالة على خلافه.
فنحن نقول القول الوسط والمعتدل وهو أن حكم التكفير خاضع لضوابط وشروط وموانع كلها فيها حفظ لكيان وعقيدة الأمة مع مراعاة أحوال الناس من خطأ وتأويل وجهل وغيره والإعذار للمخالف ومراعاة قيام الحجة وغيره مما سبق بيانه، بعيداً عن غلو الغالين، وتطرف المتطرفين، وإفراط المفرطين.(1/99)
ونقول كذلك بأن هذا الحكم لا ينزله على الأشخاص إلا العلماء، هذا إذا لم يكن الكفر صريحاً كسب الله أو الرسول، أو الإعلان أنه ضد الإسلام فردة هذا واضحة وضوح الشمس.
الخاتمة
بعد ما سبق يظهر بوضوح أن التكفير ليس حكماً متروكاً للأهواء والشهوات ونحوها بل جعل له الشرع ضوابط وقيوداً كما جعل له موانع وشروطاً تجعل من إطلاق التكفير أمراً صعباً وبعيد المنال إلا على الذي لا يلقي بالاً لدين الأمة، ولا يأبه لمعتقداتها وثوابتها، ويسخر من ذلك كله، فهذا -في حقيقة الأمر- يضر نفسه قبل مجتمعه، كما أنه أول من يحكم على نفسه بالكفر.
كما يظهر جلياً أن التكفير مسألة خطيرة جداً، والتفريط أو الإفراط فيها يفسد على المسلم دينه ودنياه، وأن هذه الظاهرة تستدعي علاجاً ناجعاً مبنياً على الهدوء والتعامل الحكيم، وهو -بغير شك- لن يكون في القوة والعنف.
ربما يسأل سائل عن كيفية معالجة هذه الظاهرة وهنا أجمل بعض الحلول التي أراها هامة ومفيدة في موضوعنا هذا:-
1- الحوار: إن الحوار هو الحل العملي الناجع لمثل هذا الفكر، الحوار المبني على تلمس الأخطاء ومحاولة معرفتها ومعالجتها، وليس الحوار الذي يريد إخضاع الغير، كما أنه ليس الحوار الذي ينتج عن ترويج أكاذيب وخدع لا تنطلي على كثيرين.
كما أنه ليس الحوار الديكوري والتمثيلي الذي لا يلامس الواقع ولا يناقش أويعالج الأفكار بمصداقية.
ولا بد أن يكون المحاورون من العلماء الربانيين الذين يكون هدفهم الحق وهو البيان والحفاظ على أمن الأمة واستقرارها وهذا كله ضروري لكي يكون الحوار جاداً ومثمراً.(1/100)
لقد مارس الإمام علي هذا الحل العملي وأرسل ابن عباس ليحاور الخوارج فكان أن رجع بالآلاف منهم، لأسباب كان من أهمها قوة الحجة والتي تستفيد قوتها أكثر ما تستفيدة من إيمان المحاور -ابن عباس- بأن ما يدعو إليه ليس من أجل منفعة دنيوية، مال أو جاه أو رضا أو إثبات اعتدال أو غيره، وإنما هو أساساً كان يطلب الأجر بإرجاعهم إلى الجماعة وتعليمهم العلم الحق، وانتشال هؤلاء المساكين من براثن الأفكار المشبوهة والموبؤة والتي يراها تهددهم أولاً قبل غيرهم، كما يهدف إلى الحفاظ على أمن الأمة واستقرارها وحقن دمائها.
إن من المهم جداً لكي ينجح هذا الحوار النظر في الأسباب التي أنتجت هذا الفكر ودراسة كيفية معالجته، بالأسلوب السليم المتزن الهادئ لا أن يتطرف الآخرون في حله ويظنون أن في تطرفهم هذا الحلول الناجعة والعصا السحرية التي ستقضي على هذه الظاهرة بين عشية وضحاها، وهي في حقيقة الأمر تزيد الطين بلة.
ولتوضيح بعض جوانب هذه النقطة أضرب مثالاً واحداً وهو إلغاء مدارس التحفيظ والمدارس الشرعية والجمعيات الخيرية ونحوها بدعوى محاربة الإرهاب أو التطرف، إن هذا العمل في حقيقة الأمر يذكي الغلو بسبب أنه يقدم حجة قوية على أن (...) يحاربون الدين، وإن كنا نوقن بوجود أيادٍ خفية تحارب الدين وتحاول تجفيف منابعة بيد أن الحل لم ولن يكون يوماً في الغلو سواء التكفيري أم غيره، كما أن هذه المنابع هي العاصم الكبير لشباب الأمة من الوقوع في الغلو بشتى أشكاله.
كما أن إلغاء المدارس الشرعية قد كرس الجهل بالدين ووسع دائرته مما أثمر سلباً وولد ما يسمى بالتطرف.(1/101)
لقد كان من الحكمة والنظر السليم أن تكثر المدارس الشرعية والتي يقوم عليها المؤتمنون كي تكون المحاضن التربوية والتوعوية للكثير من الشباب سواء منهم المتحمس للدين أم المتحمس للدنيا، وكي تكون حصونا صلبة وسداً منيعاً أمام الأفكار المنحرفة، ولكن بدلا من أن تتلقى هذه المدارس التشجيع الدعم قوبلت بالإزالة والإقصاء دون وعي لما قد ينتج عن ذلك من تجهيل وبغضاء وضراء.
كما أن في إلغاء الجمعيات الخيرية محاربة للكثير من العائلات والأسر في أقواتها وأرزاقها مما ولد عندهم عقدة الكراهية الشديدة، ونتج عن ذلك الغلو بكل صوره الديني وغير الديني، إذ أصبحوا يرون أنه لم يبق لديهم شيء يدافعون عنه أو ينتظرونه، كما سهل هذا كله للأفكار التكفيرية أن تتسلل إلى عقولهم وأفئدتهم، والتي هي في حقيقة الأمر نتاج للغضب والكره سواء للمجتمع أو للآخر.
2- نشر الثقافة الفقهية: من الحلول الهامة جداً في نظري هو نشر الثقافة الفقهية، التي تضبط المسلم في أحكامه، والتي من خلالها -أيضاً- يعرف المسلم مرجعيته الحقيقية .
وهنا نقطة هامة وهي التفريق بين نشر المعرفة الفقهية والمعرفة الدينية، فإن الأخيرة إذا لم تصاحبها الأولى قد تؤدي -وإن كان بنسبة ضئيلة- إلى الغلو، لأن المعرفة العامة والاطلاع على بعض النصوص المتفرقة سواء للمنبع الصافي أم لعلماء الأمة كل هذا قد يجعل القارئ أحياناً فريسة لأفكار مضللة، فالقراءة المتدرجة على أيد علماء يقل معه الغلو إن لم يندر.
إن مما يوضح لنا هذه القضية أننا نجد مصادر التنظير الشرعي لمثل هذه الأفكار تكون من غير المتخصصين في العلوم الشرعية فأحده زراعي وآخر مهندس وثالث طبيب ولست أدري لماذا أصبح الكلام في دين الله بهذه السهولة والبساطة بحيث يتسوره كل من طر شاربه أو بدأ يتعلم قراءة القرآن بالكاد.(1/102)
وقد يكون المفتي والمنظر طالباً جامعياً درس في كلية الشريعة أو نحوها، وكلنا يعلم مخرجات هذه الكليات من تدني مستوى علمي ديني ودنيوي، وضعف ملحوظ في أفكارهم وطروحاتهم إلا ماندر وإنهم لأندر من الكبريت الأحمر.
إن جامعاتنا وكلياتنا المتخصصة في تعليم العلوم الشرعية والتي وضعت على عاتقها تخريج علماء فقهاء، إذا ما فتشنا عن ثمرة تلك الجهود والأموال التي أنفقت في سبيل ذلك فإننا لا نجد هذه الأمنية.
أن جامعاتنا بآليتها الموجودة اليوم لا تخرج لنا فقهاء ولا حتى طلاب علم إنها في أحسن أحوالها ستخرج لنا أناساً صالحين، وإن كان هذا أمراً جيداً إلا أنه دون المؤمل بمفاوز.
كما أن المنظر هذا قد يكون ممن لم يسلك سبل التتلمذ التي ذكرها علماؤنا وشددوا على اتباعها، ولم يتلق التربية الروحية قبل التفقه، كما أن تفقهه هذا تفقه مبتور مقطع الأوصال لا يجمعه جامع ولا يربطه رابط مما يؤدي حتماً إلى تبلبل الأفكار واضطرابها وتناقضها، وتكون الثمرة إما الإفراط أو التفريط.
كما أنه من اللازم أن تشتمل المناهج الشرعية الجامعية على تجلية بعض القضايا الهامة المتعلقة بما نحن فيه كضوابط التكفير والبدعة والجماعة والخلاف والجهاد والفرقة الناجية وغيرها من المفاهيم التي التبست على كثيرين، فلم يعودوا يميزون بين قضاياها.
عندما ينظر المرء إلى تاريخنا الإسلامي لا يجد لفكر التكفير ظهوراً بارزاً إلا في فترات قليلة جداً وقضي على أصحابها فيها في فترة وجيزة، وإن بقي منهم شيء فإنهم لا يلبثون حتى يعتدلوا في أفكارهم ومعتقداتهم، إن السبب في نظري يكمن في سبب كبير -إضافة إلى انتفاء الأسباب السابقة- وهو كثرة الفقهاء والعلماء الراسخين، الذين كانوا يقيمون الدروس والحلقات المسجدية العلمية، والتي كانت بمثابة المدارس النظامية الآن، مما أدى إلى انتشار الثقافة الفقهية بين العامة والخاصة.(1/103)
لقد كانت المساجد والمدارس وغيرها مليئة بالحلقات والتجمعات العلمية، ومع هذا لم تشكل يوماً خطراً على الأمة، لأن الأمة كانت كلها كذلك، ولأن التوجيه وتسيير دفة الدولة في غالب الأحيان كان بيد العلماء إما مباشرة أو بواسطة، ولم يكونوا مغيبين حسياً أو معنوياً، بأسلوب أو بآخر.
إن القيادة الفكرية عندما تكون للفقهاء ويكونوا هم محور الارتكاز الذي يلتف ويدور حوله المجتمع برمته، بشعبه وحكومته، بحيث يسلّم لهم الجميع، تردم الفجوة بين الدولة والشعب، والشعب والعلماء، فتتحد الصفوف، وتتناسق الأفكار، وتتناغم الأفعال.
3-عدم الانجرار وراء التطرف العلماني أو استخدامهم كأداة للقضاة على جهات معينة، فهم في حقيقة الأمر لهم توجهات أخرى وستنقلب هذه الأداة على أصحابها، كما أن كلا التطرفين منبوذ وممجوج، وكلاهما يحمل أفكاراً شاذة عن النسيج الفكري والثقافي للأمة.
إن الحرب الشعواء التي قادها التطرف العلماني ضد الدين وبالأخص الفقه الإسلامي ومحاولاتهم الدائبة والمشبوهة لتشويه الفقه والفقهاء والدين والتدين، والذين قادوا في هذا المضمار حرباً سرية ومعلنة أخذت أسماء ولافتات شتى ظانين بفعلتهم هذه أنهم سيقضون على التدين فإذا بالسحر ينقلب على الساحر، وقد ساعد هؤلاء في حهادهم هذا الجهل المطبق عند العامة ومن يسمون بالطبقة المثقفة -ونمطها الثقافي معروف- .
ثالثاً: الانفتاح على الشعب وهذه نصيحة توجه إلى طائفتين من الناس: الزعماء والعلماء. أما الزعماء فبإعطاء الناس حرياتهم ليقرروا مصيرهم بأنفسهم، بأن يحيوا مفاهيم الشورى والتي كان يمارسها خير خلق الله(، وأن ينزلوا إلى الناس ويروا ما يصيبهم من جهل وجوع ومرض، وأن يكفوا عن استخدام التيارات الفكرية الشاذة.(1/104)
أما العلماء ففي الدخول في غمار الناس وتوعيتهم بأمور دينهم ودنياهم، وفي أن يمارسوا دورهم الريادي والقيادي والتوجيهي للأمة، وردم الهوة التي كبرت واتسعت بينهم هم، وبينهم وعامة الشعب.
أنا أدرك جيداً أن مهمة العلماء عظيمة وجسيمة وإن كانت كذلك دائما فهي في هذا العصر أشد جسامة لما تمر به الأمة من اختلالات على كافة الأصعدة، ولما تعانيه من عقوق أبنائها وجور أعدائها، وكأني بها كالغريق الذي يرفع يديه ويضرب بها هنا وهناك عله يجد ما ينقذه أو يمسك به ولو قشة، ولهذا أرجوا أن يأخذ العلماء دورهم وأن يمدوا أيدهم لأمتهم لإخراجها مما هي فيه، وإن كنت أدرك أيضاً أن العلماء جزء من الأمة يعانون مما تعاني منه أمتهم من تفرق وتباعد وانفصام عن الواقع في أحيان كثيرة ، وأدرك ما يعانونه نفسياً من الانفصام أيضاً بين ما تلقوه ودرسوه وتعلموه والواقع الذي يعيشون فيه، مما أحدث عند كثيرين منهم نوعاً من الارتباك وعدم الاتزان في معالجة القضايا المعاصرة، والتي قد تكون في أحيان كثيرة قضايا مصيرية.
كما يجب على الأمة الرجوع إلى دينها والالتفاف حول علمائها واتباع توجيهاتهم، والتلقي على أيديهم، فإن المسألة تكاملية، ولهذا فإن من الخطأ الجسيم تحميل العبء على العلماء وحدهم، ومحاولة التنصل من كل ما يصيب الأمة وتعليقه على مشجب أولي العلم وكأن هؤلاء قاصرون لا يستطيعون فعل شيء، بل كما أن العلماء مسؤولون فإن بقية الناس مسؤولون كذلك، وكل حسب موقعه.
نسأل الله أن يوفقنا لما يحبه ويرضاه، وأن يهدينا سواء السبيل.
والحمدلله رب العالمين.
الفهرس
المقدمة
المبحث الأول: الإيمان والإسلام وما يتعلق بهما
المطلب الأول: الإيمان
المطلب الثاني: علاقة الإيمان بالإسلام
المطلب الثالث: زيادة الإيمان ونقصانه
المطلب الرابع: مراتب الإيمان
المطلب الخامس: يثبت الحكم بالإسلام بمجرد الإقرار
المطلب السادس: الكفر(1/105)
المطلب السادس: أسباب التكفير (نواقض الإيمان)
المبحث الثاني: حكم التكفير
القاعدة الأولى: الكفر حكم شرعي
القاعدة الثانية: لا يكفر إلا من كفره الله ورسوله
المبحث الثالث: ضوابط التكفير
المطلب الأول: الفرق بين التكفير المطلق وتكفير المعين
المطلب الثاني: شروط تكفير المعين
المطلب الثالث: موانع تكفير المعين وما يمحوه
المبحث الرابع : الغلو في التكفير
المطلب الأول: نماذج من غلو التكفير
المطلب الثاني:أسباب الغلو في التكفير
المطلب الثالث: التفريط في التكفير
الخاتمة
(1) انظر المواقف 3/671 والفرق بين الفرق120 وما بعدها، ومثالاً على ذلك فرقتا الزيدية والإمامية تكفر كل فرقة منهما الأخرى، ويكفي أن تقرأ كتب الفرقتين العقدية ليتضح لك ذلك جلياً.
(2) لأحد الباحثين رسالة بعنوان: مسألة التكفير عند ابن تيمية بين من خلالها فكر وفقه ابن تيمية في هذه المسألة.
(3) إيثار الحق على الخلق 405
(4) صحيح البخاري 6/2727
(5) صحيح البخاري1/59ومسلم1/61
(6) صحيح البخاري1/24
(7) الطبراني في الأوسط4/356
(8) انظرها في شعار أصحاب الحديث 28
(9) انظر نواقض الإيمان الاعتقادية1/91
(10) مجموع فتاوى ابن تيمية 7/564
(11) المرجع سابق 7/234
(12) سابق 7/271
(13) تعظيم قدر الصلاة2/513وانظر نواقض الإيمان الاعتقادية1/91
(14) انظر مجموع الفتاوى 7/273
(15) البخاري 4/3555
(16) مسلم 1/68
(17) مسلم1/95
(18) صحيح ابن حبان1/382
(19) البخاري 4/1575.
(20) مسند الإمام أحمد3/341
(21) سابق 5/363.
(22) سابق 3/402(1/106)
(23) جامع العلوم 84، من الأخطاء الفادحة عند بعض من يتصدرون زعامة بعض المراكز الإسلامية في غير البلاد الإسلامية أنهم يجعلون مراسم لإسلام الداخلين فيه، ويدبجونها بتبيين واجبات وفروض وأركان الإسلام، ويدعي بعضه أنه يفعل هذا كي يدخل غير المسلم في الإسلام على بينة من أمره، وهذا خطأ جسيم لأنه قد ينفر الكثيرين من الدين، فإذا كان النبي( قد قبل إسلام من اشترط تلك الشروط الفاسدة من ترك زكاة وصلاة، فكيف بمن يعد قائمة الواجبات والمحرمات لمريد الدخول في هذا الدين، والأفحش من هذا أن يزاد على النطق بالشهادتين النطق بالإيمان بواجبات ومحرمات الشرع، ومن جهل بعضهم أن صد بعض مريدي الدخول في هذا الدين بسبب رأي فقهي ارتآه مع وجود أقوال أخرى في الفقه الإسلامي تسع هذا وغيره، كما أن الإنقاذ من الخلود في النار أكبر من أن يبقى هذا العاصي تحت المشيئة، أضف إلى أن البيئة الجديدة التي سيدخلها وإيمانه الجديد الذي اعتنقه وخالط بشاشة قلبه سيدفعه للعمل والالتزام وهذا ما ذكره رسول الله(، ومن هذه الأخطاء الفادحة أيضاً أن يُرفض قبول أحدهم الدخول في الإسلام مباشرة ويقوم هؤلاء الناصحون! بإعطائه كتباً عن الإسلام وينصحونه بالتريث والتفكير كي لا يدخل الإسلام إلا على قناعة تامة، وهذه جريمة عظيمة نص الفقهاء على كفر من عملها عالماً بتحريمها، فالمسألة جد خطيرة، ولهذا نقول دائماً يجب على الأمة أن تشيع العلم الشرعي، والثقافة الفقهية الأصيلين بين أبنائها خاصة ممن تأهلوا لذلك كي لا نفسد حيث نريد الإصلاح، ولا نبتدع حيث يراد التعبد.
(24) جامع العلوم والحكم (79).
(25) مسلم 1/381
(26) ضوابط التكفير 65
(27) الصلاة وحكم تاركها 72
(28) 1/49
(29) مسلم 1/81 البخاري 1/56
(30) مسلم 1/79والبخاري 5/2263
(31) منهاج الطالبين (4/168) مع المغني.
(32) انظر تحفة المحتاج مع حواشي الشرواني 9/84
(33) فيصل التفرقة128(1/107)
(34) انظر فتاوى السبكي2/585، والصواعق المحرقة 132، والملل والنحل 203
(35) مجموع الفتاوى 2/729
(36) الموافقات 1/91 وما بعدها بحذف وتصرف.
(37) إعلام الموقعين 1/39
(38) البخاري 5/2262 مسلم 1/79
(39) مسلم 1/79
(40) انظر فتح الباري 10/446
(41) الرد على البكري 257
(42) إيثار الحق على الخلق 405
(43) المرجع السابق 388
(44) الفصل3/138
(45) بغية المسترشدين 249، وانظر التحفة 9/88
(46) بل هو أشد منه .
(47) أبو الأعلى المودودي. فكره ودعوته لأسعد جيلاني (ص/274) نقلا عن ضوابط التكفير 72
(48) الرد على البكري 257
(49) وثق كثيرون بعقولهم فقدموا استنتاجاته على النص، وكفروا من خالفهم بناءً على هذه النتائج والذي أثبت العلم الحديث بطلان بعضها، وصحة ما ورد في النص، فإذا كان هذا في مخلوق فكيف بالخالق.
(50) درء تعارض العقل مع النقل1/242
(51) الشفاء 2/1065
(52) انظر إيثار الحق على الخلق 19
(53) الروض الباسم 2/136
(54) انظر مسألة التكفير عند ابن تيمية 1/193
(55) مجموع الفتاوى 3/179
(56) سابق 3/230
(57)بغية المرتاد353
(58) البخاري 5/2286 ومسلم 4/1763 والمعنى كما دل عليه آخر الحديث أن الله بيده تصاريف الأمور كلها، وأن المصائب ونحوها كلها بتقدير الله سبحانه إما ابتلاءً أو جزاءً، لا أن الدهر من اسمائه تعالى كما توهمه بعضهم.
(59) البخاري 52286 ومسلم 4/1762
(60) انظر الصارم المسلول1/564.
(61) سابق.
(62) ضوابط التكفير 203
(63) الصارم المسلول (516).
(64) سابق.
(65) ضوابط التكفير 213
(66) مسند ابن أبي أوفى 96 والمعجم الكبير 5/208.
(67) انظر هذه الحالات بتفصيل في ضوابط التكفير عند أهل السنة 211 وما بعدها.
(68) 3/107وانظر تحفة المحتاج 9/80
(69) 6/166وانظر مطالب أولي النهى6/282
(70) التحفة 9/80
(71) بغية المرتاد311
(72) مجموع الفتاوى 12/466
(73) مجموع الفتاوى 19/215
(74) تفسير القرآن العظيم2/395(1/108)
(75) الإحكام1/71
(76) طريق الهجرتين611
(77) مجموع الفتاوى 11/407 وانظر طريق الهجرتين612
(78) شرح النووي على مسلم1/205
(79) الثوابت والمتغيرات 197
(80) الرسالة التسعينية للأرموي 173
(81) نواقض الإيمان الاعتقادية 1/225
(82) مجموع الفتاوى 35 / 166
(83) سابق 11/406
(84) البخاري 3/1283 مسلم 4/2110
(85) مجموع الفتاوى 3/231
(86) فتح الباري 6/522
(87) التمهيد18/46
(88) انظر الفصل3/252
(89) البخاري 4/1672 ومسلم 1/164
(90) التمهيد 4/140
(91) الفروق 2/264
(92) مسلم 3/1206
(93) التمهيد 4/140
(94) الرد على الإخنائي62،61
(95) مجموع الفتاوى 19/128، وانظر فيصل التفرقة 111
(96) مجموع الفتاوى20/27
(97) الاستقامة1/163
(98) انظر مجموع الفتاوى20/236
(99) سابق
(100) مسألة التكفير عند ابن تيمية1/232
(101) مجموع الفتاوى20/32
(102) انظر مجموع الفتاوى20/ 31
(103) سابق 12/180
(104) مجموع الفتاوى 4/69
(105) إيثار الحق على الخلق 435
(106) سابق 437
(107) فيض القدير 4/207
(108) الأم 6/206
(109) إيثار الحق على الخلق402
(110) سابق 415
(111) بداية المجتهد 2/492
(112) فتح الباري12/337
(113) مجموع الفتاوى20/217
(114) حواشي الشرواني على التحفة 9/86
(115) أقاويل الثقات للكرمي92
(116) كشف الأوهام والالتباس108
(117) العلم الشامخ في إيثار الحق على الآباء والمشايخ للمقبلي 221
(118) انظر لسان العرب 13/534
(119) فتح الباري 12/311
(120) حاشية الشرقاوي على تحفة الطلاب 2/390
(121) الاستقامة2/319
(122) تفسير القرطبي3/432
(123) فتح الباري 12/314
(124) تفسير القرطبي4/57
(125) انظر الاستقامة 2/193
(126) قد رأينا هذا السوس كيف قضى على غيره وأذاقهم الويلات عندما سنحت له الفرصة.
(127) أخرجه ابن خزيمة في صحيحه 4/2867(1/109)
(128) أخرجه الترمذي 5/226 وابن ماجه 1/61 والحاكم 2/163و3/660 وغيرهم، ومعنى أنهم كلاب النار أي أخسهم وأحقرهم كما أن الكلاب أخس الحيوانات وأحقرها، أو أنهم ينبحون على أهلها لشدة العذاب كالكلاب، أو أنهم يكونون فيها على صورة الكلاب. (فيض القدير3/366).
(129) مجموع الفتاوى20/305
(130) الاعتصام2/168
(131) انظر مجموع الفتاوى 30/80
(132) تحفة المحتاج 2/36، حاشية البجيرمي على الإقناع 2/29
(133) شرح السيوطي لسنن النسائي 7/119
(134) انظر عجائب معتقدات هذه الفرق وانقساماتها في كتب الفرق مثل الفرق بين الفرق للبغدادي 54.
(135) أخرجه البخاري 3/1219 ومسلم 2/742.
(136) انظر إرشاد الفحول 99
(137) مجموع الفتاوى 11/652
(138) سابق
(139) البخاري 5/2231 ومسلم 4/1981
(140) مسلم 1/93
(141) مسلم 1/99
(142) البخاري 2/875 ومسلم 1/76
(143) إرشاد الفحول 99
(144) 1/355
(145) مجموع الفتاوى 3/282
(146) مسلم 1/82 ونحوه في البخاري3/1398
(147) البخاري 1/21 ومسلم 1/78
(148) اقتضاء الصراط المستقيم 70
(149) فتح الباري 1/85
(150)البخاري 5/ 2193، ومسلم 1/95
(151) مسلم1/94
(152) سابق
(153)سابق
(154) سابق
(155) البخاري 6/2384
(156) ابن حبان 4/305
(157) انظر شرح أصول اعتقاد أهل السنة1/162 وما بعدها.
(158) الثوابت والمتغيرات 116
(159) البخاري 6/2655
(160) الاعتصام 2/247
(161) شرح مسلم 1/35
(162) البخاري 1/20 ومسلم 3/1282
(163) انظر فتح الباري 1/85
(164) شرح النووي على مسلم 7/159
(165) البخاري 6/2539
(166) فتح الباري 6/619
(167) الاستقامة1/13
(168) رجال الكشي 498 وما بعدها.
(169) الاستقامة1/13
(170) السالمية فرقة من متكلمة البصرة تتبع شخصاً يدعى أبا الحسن بن سالم، في عقائدها شيء من التشبيه، إلا أنها في غالب أصولها على قول أهل السنة والجماعة.
(171) العلم الشامخ 222
(172) سابق 222
(173) بلوغ الأرب للشهاري 450(1/110)
(174) لا يتوهم أحد أنني أرد مدلول هذه الأسماء بل على العكس نقول بإطلاقها ولكن على من يعتقدها حقاً مع إعطاء كل واحد حقه من الإنصاف، أما الذي لست معه فهو أن تطلق هذه الألقاب على من لا يستحقها ثم تسحب عليه كل أحكام وتبعات هذه الألقاب والتي ليست من الحقيقة في شيء، فنقول: ليس كل من أحب آل البيت يعد رافضياً، ولا من أحب أبا بكر وعمر يكون ناصبياً، ولا من يقول بجواز التوسل بأنه صوفي حلولي، ولا يقال فيمن أنكر جواز التوسل بأنه حشوي مبغض للرسول(، إن اللعب بالمصطلحات يهدد التدين أولاً مع ما فيه من نشر البغضاء والتنافر وشق الصف بين المسلمين على لا شيء، إلا لمجرد الجاه أو الحفاظ على المذهب كما يظن، أو للاستهلاك بشتى أنواعه.
(175) العلم الشامخ 249
(176) قد يؤخذ على العلامة المقبلي انتصاره وتبنيه لبعض العقائد الاعتزالية ولكن لا يعني هذا وصفه بالزندقة لأنها التكفير بعينة خاصة وأن الرجل -المقبلي- لم يعتقد تلك العقائد عن تقليد ولكنه رآها الأوفق بالحق من وجهة نظره، ولقد كان الإمام المقبلي بحق علماً من أعلام الاجتهاد ونبذ التعصب.
(177) العلاقة بين الإسلام والعلمانية علاقة تناقضية إذ فيه إثبات الإسلام ونفيه وهما لا يجتمعان في فرد، إذ إن العلمانية تعني اللادينية، وعليه فلا يصح أن يقول أحدهم: إنه علماني مسلم فهذا كأنه يقول: إنه كافر إسلامي! فهل تصح هذه العبارة؟!.
(178) انظر الغلو في الدين لعبد الرحمن اللويحق 120
(179) انظر المصدر السابق.
??
??
??
??
- 12 -(1/111)