التعليقات العلمية التقريبية
على
القواعد الأربع وثلاثة الأصول التوحيدية
إعداد
عبدالعزيز بن ريس الريس
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .................. أما بعد ،،،
فقد منّ الله على العالمين في هذه العصور المتأخرة من السنين بدعوة الإمام المجدد المصلح محمد بن عبدالوهاب – رحمه الله تعالى – فقام بما قامت به الأنبياء والمرسلون من الدعوة إلى تجريد التوحيد لرب العالمين ، فناله كثير الأذى من المخالفين المعادين، كما هو شأن المصلحين . فصبر وصابر وجاهد بلسانه وقلمه ويده دعاة الشرك وعلماءه علماء السوء ، فألصق به الأعداء من المنتسبين للإسلام وغيرهم كالإنجليز لقب الوهابية لينفروا الناس من دعوته دعوة الحق دعوة الأنبياء والمرسلين ، كما قال تعالى ( يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ) (الصف:8) وكما قال ( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً )(الأنعام:112)(1/1)
وإن من أعظم سبل جهاده تصنيف المصنفات المفيدة في التوحيد والسنة كـ " كتاب التوحيد " و " ثلاثة الأصول " و " القواعد الأربعة " و " الأصول الستة " و " فضل الإسلام " ، فكانت من أحسن ما كتب في بابه ، بل لو قيل: إن ما كتبه في توحيد الإلهية كـ " كتاب التوحيد " لم يكتب مثله في بابه لصدق القائل ، وبهذا شهد غير واحد من أهل العلم ، وإن مما تمايزت به مصنفاته أنها جمعت بين الإفادة والاختصار والسهولة ، ومن المصنفات الفريدة رسالة " القواعد الأربعة " و " ثلاثة الأصول " ، ولكونهما مقدمة لغيرهما كـ " كتاب التوحيد " أحببت إخراجها محلات بتعليقات علمية توضح مراد المصنف وتلفت النظر إلى بعض المهمات من غير إطالة تنسي الأصل ، فإن مما يؤخذ على بعض الشارحين إطالة الشرح والاستطراد بما ينسي الأصل المشروح والمعلق عليه ، فيهمل السنة الكونية من التدرج في التعلم ، فترى بعضهم إذا شرح " ثلاثة الأصول " أورد في شرحه مسائل حقها أن تكون في شرح " كتاب التوحيد " لا " ثلاثة الأصول " ، فهي مع كونها مفيدة إلا أنها لا تعطي الطالب ما أراد ورمى إليه المصنف من كتاب " ثلاثة الأصول " ، بل وتضعف التأصيل العلمي الذي يكون بالتدرج في طلب العلم ؛ لذا ترى أزمانا طويلة تستغرق في شرح " القواعد الربعة " و " ثلاثة الأصول " ، ولو أن المعلم اختصر على ما رمى إليه المصنف في هذه المتون المختصرة ؛ لانتهى من هذه المتون المختصرة سريعاً ، فزادة همة الطالب ، وكان علمه مؤصلاً ؛ لأنه قد سار وفقاً للسنة الكونية في التدرج لإدراك المعارف .
أسأل الله أن يرفع راية التوحيد والسنة في بلاد المسلمين ، وأن يجزي الإمام المجدد محمد بن عبدالوهاب عنا خير ما جزى مصلحاً ومجدداً لأصل ما دعت إليه الأنبياء والرسل .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
( القواعد الأربع )
بسم الله الرحمن الرحيم(1/2)
اسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يتولاك في الدنيا والآخرة ، وأن يجعلكِ مباركاً أينما كنت ، وأن يجعلك ممن إذا أعطي شكر ، وإذا ابتلي صبر ، وإذا أذنب استغفر ، فإن هؤلاء الثلاث عنوان السعادة(1).
اعلم أرشدكَ الله لطاعته أن الحنيفية(2)
__________
(1) وبهذا استهل الإمام ابن القيم كتابه الوابل الصيب ، فأسأله سبحانه أن يجعلنا ممن إذا أعطى شكر وإذا ابتلي صبر وإذا أذنب استغفر .
(2) الحنيف لغة المقبل . ولازمه الميل كما أفاده ابن تيمية في مجموع الفتاوى (9/319) ، وابن القيم فقال في كتابه " جلاء الأفهام " ص391: والحنيف: المقبل على الله ، المعرض عما سواه ، ومن فسره بالمائل ، فلم يفسره بنفس موضوع اللفظ ، وإنما فسره بلازم المعنى . فإن الحنف: هو الإقبال ، ومن أقبل على شيء مال عن غيره ، والحنف في الرجلين هو إقبال إحداهما على الأخرى ، ويلزمها ميلها عن جهتها ، قال تعالى ( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا) فحنيفاً: هو حال مفردة لمضمون قوله (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ ) ولهذا فسرت " ملخصاً " فتكون الآية قد تضمنت الصدق والإخلاص ، فإن إقامة الوجه للدين هو إفراد طلبه بحيث لا يبقى في القلب إرادة لغيره . والحنيف: المفرد لمعبوده ، لا يريد غيره . فالصدق أن لا ينقسم طلبك ، والإخلاص: أن لا ينقسم مطلوبك ، الأول: توحيد الطلب . والثاني: توحيد المطلوب ا.هـ ، وهو الميل عن الشرك طاعة لله ، وهي ملة أي دين إبراهيم كما قال تعالى ( ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً ) وقال الله تعالى ( إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) .(1/3)
ملّة إبراهيم أن تعبد الله وحده مخلصاً له الدين ، كما قال تعالى : (( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ))(1)سورة الذاريات الآية : 56 ، فإذا عرفت أن الله خلقك لعبادته فاعلم أن العبادة لا تسمى عبادة إلا مع التوحيد ، كما أنّ الصلاة لا تُسمى صلاة إلا مع الطهارة ، فإذا دخل الشرك في العبادة فسدت ، كالحدث إذا دخل الطهارة ، فإذا عرفت أن الشرك إذا خالط العبادة أفسدها وأحبط العمل وصار صاحبه من الخالدين في النار عرفت أنّ أهمّ ما عليك معرفة ذلك ، لعل الله أن يخلّصك من هذه الشبكة ، وهي الشرك بالله ، الذي قال الله تعالى فيه : (( إن الله لا يغفر أن يُشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء )) سورة النساء الآية : 116 ، وذلك بمعرفة أربع قواعد ذكرها الله تعالى في كتابه :
القاعدة الأولى : أن تعلم أن الكفار الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مقرّون بأنّ الله تعالى هو الخالق المدبّر ، وأن ذلك لم يدخلهم في الإسلام .
والدليل قوله تعالى : (( قل من يرزقكم من السماء والأرض ، أمن يملك السمع والأبصار ، ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ، ومن يدبّر الأمر ، فسيقولون : الله ، فقل : أفلا تتقون )) سورة يونس ، الآية:31.(2)
__________
(1) معنى ( إلا ليعبدون ) إلا لأمرهم وأنهاهم كما جاء عن علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – قال عبدالرحمن بن حسن في فتح المجيد : وقال علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – في الآية: إلا لآمرهم أن يعبدوني وأدعوهم إلى عبادتي . وقال مجاهد: إلا لآمرهم وأنهاهم . اختاره الزجاج وشيخ الإسلام ا.هـ ، وأعظم الأوامر التوحيد وأعظم النواهي الشرك .
(2) خلاصة القاعدة الأولى / أن كفار قريش مقرون بتوحيد الربوبية ( وهو إفراد الله بأفعاله ) ولم ينفعهم هذا الإقرار لأنهم مشركون في توحيد الألوهية ( وهو إفراد الله بالعبادة ) وكثيراً ما يردد الإمام المجدد – رحمه الله – هذه القاعدة في كتبه لأهميتها وعظيم فائدتها .
فوائد هذه القاعدة ما يلي:
1/ خطأ من فسر كلمة التوحيد ( لا إله إلا الله ) بأنه لا خالق ولا رازق إلا الله ، وإلا لزم على هذا أن يقر بها كفار قريش لأنهم مقرون بأنه لا خالق ولا رازق إلا الله ، ولما قالوا ( أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ) (صّ:5) فلما أنهم لم يقروا بها دل على أن معناها راجع إلى توحيد الإلهية الذي أشركوا فيه ولم يقروا به ، فيكون معناها ( لا معبود بحق إلا الله ) .
2/ الرد على من ظن أن كفار قريش صاروا مشركين بالإشراك في الربوبية لا الإشراك في الألوهية ، فإن أعداء دعوة التوحيد المنتسبين للإسلام كثيراً ما يرددون أن شرك الأولين ( كفار قريش ) في الربوبية ؛ لذلك صاروا كفاراً أو مشركين ، وأنهم لو اقتصروا على الشرك في الألوهية ( العبادة ) لما كانوا كفاراً مشركين ؛ لذا يقولون: إشراكنا في الألوهية مع عدم الإشراك في الربوبية لا يعد شركاً .
3/ بيان أن المشركين المتأخرين أعظم شركاً من الأولين لأن هؤلاء المتأخرين لا يعلمون معنى ( لا إله إلا الله ) بخلاف الأولين . أفاده المصنف في كتابه " كشف الشبهات " .
فائدة/ إقرار كفار قريش بتوحيد الربوبية إقرار في الجملة ؛ لذا وقعوا في شرك التمائم والتطير وهي من الشرك في الربوبية ، ثم إنه يستثنى من ذلك البعث والنشور فإنهم كافرون به كما قال تعالى ( زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) (التغابن:7) .(1/4)
القاعدة الثانية : أنهم يقولون ، ما دعوناهم وتوجّهنا إليهم إلا لِطلب القربة والشفاعة(1).
فدليل القربة قوله تعالى : (( والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى إن الله يحكم بينهم في ما هم فيه يختلفون ، إن الله لا يهدي من هو كاذبٌ كفّار )) سورة الزمر الآية : 3 .
ودليل الشفاعة قوله تعالى : (( ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ، ويقولون : هؤلاء شفعاؤنا عند الله )) سورة يونس الآية : 18 ، والشفاعة شفاعتان : شفاعة منفيّة ، وشفاعة مثبتة .
فالشفاعة المنفية ما كانت تطلب من غير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله(2).
__________
(1) الشفاعة : التوسط للآخرين في جلب منفعة أو دفع مضرة . وهي المشهورة في استعمال الناس باسم الواسطة , وهي أقسام باعتبار المشفوع إليه ، وهكذا ...
(2) هذا ضابط الشرك الأكبر وهو تسوية غير الله بالله في شيء من خصائص الله كما قال تعالى ( تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ . إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ) (الشعراء:97-98) ( ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ)(الأنعام: من الآية1) ومنه كل أمر لا يقدر عليه إلا الله .
فوائد هذه القاعدة:
1/ بيان أن شبهة المتأخرين في الشرك هي شبهة الأولين ، ولم يعذرهم الله بهذا ، بل جعلهم مشركين ، فكذلك يقال للمشركين المتأخرين: إن هذه الأعذار لا تنفعكم عند الله كما لم تنفع من قبلكم وأنهم مثلهم ، فهلا اعتبرتم وتركتم الشرك !!.
2/ أن الطريق الذي يسلكه المشركون الأولون والمتأخرون سبب لمنعهم الشفاعة لأنها لا تكون إلا لمن رضي الله قوله وعمله ، كما قال ( وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى)(الانبياء: من الآية28) ولا يرضى الله قول وعمل إلا الموحدين ، فلا إله إلا الله كيف استطاع الشيطان خديعتهم بقلب الحقائق وجعل الحق باطلاً والباطل حقاً .
3/ بيان أن حجتهم في الشرك ألا وهو الشفاعة حجة داحضة ، فالواجب علىالمشركين المتأخرين تركها وعدم الاعتماد عليها .(1/5)
والدليل قوله تعالى : (( يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة ، والكافرون هم الظالمون )) سورة البقرة الآية : 254 ،
والشفاعة المثبتة هي التي تطلب من الله ، والشافع مكرم بالشفاعة(1)، والمشفوع له من رضي الله قوله وعمله بعد الإذن ، كما قال تعالى : (( من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه )) سورة البقرة الآية : 255 .(2)
والقاعدة الثالثة : أن النبي صلى الله عليه وسلم ظهر على أناس متفرقين في عبادتهم منهم من يعبد الملائكة ، ومنهم من يعبد الأنبياء والصالحين ، ومنهم من يعبد الأشجار والأحجار ، ومنهم من يعبد الشمس والقمر ، وقاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يفرّق بينهم ، والدليل قوله تعالى : (( قاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله )) سورة الأنفال الآية : 9 .
__________
(1) هذا جواب سؤال يردده بعضهم: لماذا الله لا يغفر للمشفوع مباشرة دون أن يشفع له شافع ؟. فالجواب أن يقال: إن الله أراد بشفاعة الشافع أن يظهر مكانته ويكرمه بها بأن يوقف غفرانه لعباده على شفاعة عبده ؛ لذلك سماها الله مقاماً محموداً فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم ( عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً)(الاسراء: من الآية79) .
(2) وخلاصة هذه القاعدة أن الكفار لا يعبدون الأصنام والأشجار والصالحين لذواتهم ، وإنما لأجل التوسط عند الله في إدخالهم الجنة وإبعادهم عن النار ، وهي المسماة بالشفاعة . فأورد المصنف ما يدل على أنها لا تنفع ، وحتى لا يظن تعارض ما أورد المصنف من أدلة في نفي الشفاعة بأدلة أخرى تثبت الشفاعة ، بين – رحمه الله – أن الشفاعة في الكتاب والسنة شفاعتان : مثبتة ، وهي التي توافر فيها شرطان: إذن الله للشافع أن يشفع ، ورضاه عن المشفوع له . وهذا لا يكون إلا لأهل التوحيد ؛ لأن من لم يكن موحداً فإن الله لا يرضى فعله ولا قوله .(1/6)
ودليل الشمس والقمر قوله تعالى : (( ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر ، لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذي خلقهن إن كنتم إياه تعبدون )) سورة فصلت الآية : 37 .
ودليل الملائكة قوله تعالى : (( ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أرباباً ) ، سورة آل عمران الآية : 80 .
ودليل الأنبياء قوله تعالى : (( وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمّي إلهين من دون الله ، قال : سبحانك ، ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق ، إن كنتُ قلته فقد علمته ، تعلم ما في نفسي ولا أعلم مافي نفسك ، إنك أنت علام الغيوب )) سورة المائدة الآية : 116 .
ودليل الصالحين قوله تعالى : ( أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ، ويرجون رحمته ويخافون عذابه )) سورة الإسراء الآية : 57.(1)
ودليل الأشجار والأحجار قوله تعالى : (( أفرأيتم اللات والعزّى ومناة الثالثة الأخرى (( وحديث أبي واقد الليثي رضي الله عنه قال : (( خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى حنين ونحن حدثاء عهدٍ بكفر ، وللمشركين سدرة يعكفون عندها وينوطون بها أسلحتهم(2)يقال لها ذات أنواط ، فمررنا بسدرة ، فقلنا : يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط ))(3)
__________
(1) أخرج البخاري عن ابن مسعود أنه قال في هذه الآية: أناس من الجن كانوا يعبدون فأسلموا . فمعنى الآية أولئك الذين يدعون أي يُعبدون وهم الجن قد أسلموا فصاروا يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه ، ولا يزال عابدوهم مستمرين في عبادتهم . وبهذا يتضح أن هذه الآية من أدلة حرمة عبادة الصالحين وأنها داخلة في عموم الشرك .
(2) يعكفون عندها تقرباً ، وينوطون أي يعلقون بها الأسلحة لتزداد قوتها لأن هذه السدرة تعطي البركة – كما يزعمون -.
(3) في هذه القصة من الفوائد:
1/ سرعة رجوع الشرك في بني آدم ؛ لذا وجب كثرة التذكير به تحذيراً من شره وخطره كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل مع أصحابه حتى في مرض موته كما في حديث عائشة وابن عباس في الصحيحين , وبهذا تدرك خطأ من يقول: إنا عرفنا التوحيد ولسنا في حاجة إليه ، إذ لو كان أحد كذلك لكان الصحابة الكرام !!، وتدرك خطأ من يشغل الناس بما لا ينفعهم ( كفقه الواقع المبتدع ) أو بما ينفعهم ، لكنه يصدهم عما هو أنفع ألا وهو التوحيد والتحذير من الشرك . وتدرك – أيضاً – خطأ من يزهد في التحذير من شرك القبور ، ويدعو إلى الاشتغال بشرك القصور كما يسمونه. فيا ليت شعري أين عقول أبناء هذه الدعوات ؟! فما نسبة الواقعين في شرك القصور إلى الواقعين في شرك القبور . ومن الأيسر في دعوته وليس بينه وبينهم حجاب ، ثم لو أن دولة كافرة طبقت أحكام الله في الزاني والسارق والقاتل وهكذا بقية أحكام الشرع بغية ضبط الأمن فإنها لا تدخل في الإسلام ولا تعتبر مسلمة إلا إذا نطقت بكلمة التوحيد وصارت موحدة . أفلا يدل هذا على أهمية التوحيد وأن شرك القبور أشد مما يسمونه بشرك القصور ، لو سلم لهم بهذه التسمية !؟
2/ إذا كان التبس على بعض الصحابة بين صور الشرك الأكبر ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين ظهرانيهم فغيرهم من باب أولى .(1/7)
الحديث .(1)
القاعدة الرابعة أنّ مشركي زماننا أغلظ شركاً من الأولين ، لأن الأولين يشركون في الرخاء ويخلصون في الشدة ، ومشركو زمانناشركهم دائماً في الرخاء والشدة .
والدليل قوله تعالى : ( فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين ، فلما نجّاهم إلى البر إذا هم يشركون ) ، سورة العنكبوت الآية : 65 .(2)
تمّت وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم .
( ثلاثة الأصول )
بسم الله الرحمن الرحيم
اعلم رحمك الله أنه يجب علينا تعلم أربع مسائل :
__________
(1) خلاصة هذه القاعدة: بيان أن كفار قريش أشركوا مع الله في العبادة أناساً صالحين لا الأصنام والأحجار فحسب . والداعي لهذه القاعدة أن الكفار المتأخرين المنتسبين للإسلام يرددون شبهة وهي: أنهم ليسوا مشركين لأن الكفار الأوائل يشركون مع الله الأصنام والأحجار ، أما نحن فنشرك معه الصالحين وفرق بينهما .
ورد الإمام المجدد هذه الشبهة بدليلين:
الأول/ عام وهو قوله تعالى ( وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ)(لأنفال: من الآية39) ففي هذا الدليل نفي أي معبود آخر مع الله حتى ولو كان صالحاً .
الثاني/ خاص وهو أنه أثبت بالدليل القاطع أن الكفار الأوائل أشركوا مع الله في العبادة الصالحين ، ثم أورد أدلة خاصة في عبادة الملائكة والأنبياء وعموم الصالحين .
(2) بعد أن ذكر ما ذكر من تفنيد شبهات المشركين المتأخرين في محاولة التفريق بين فعالهم ، وإشراك الأولين . بين في هذه القاعدة أنهم أشد من المشركين الأولين لأن الأولين يشركون في الرخاء دون الشدة ، أما المتأخرون فشركهم دائم في الرخاء والشدة ، وأيضاً مما يدل على أن شركهم أغلظ ما تقدم من أنهم لا يعلمون معنى كلمة التوحيد ( لا إله إلا الله ) بخلاف المشركين الأولين ، وأيضاً من المشركين المتأخرين من يشرك في الربوبية كغلاة الصوفية بخلاف المشركين الأولين فإنهم مقرون بتوحيد الربوبية في الجملة .(1/8)
الأولى:العلم . وهو معرفة الله ، ومعرفة نبيه ، ومعرفة دين الإسلام بالأدلة(1).الثانية : العمل به. الثالثة: الدعوة إليه . الرابعة : الصبر على الأذى فيه .
والدليل قوله تعالى : (( والعصر ، إن الإنسان لفي خسر ، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر) سورة العصر .
__________
(1) قوله ( بالأدلة ) مشكل ؛ لأن ظاهره وجوب معرفة الدليل على العامي ، وهذا ما لا يقول به أهل السنة خلافاً للأشاعرة وبعض المتعزلة على خلاف بينهم ( انظر لوامع الأنوار (1/267-275) والقواطع للسمعاني (5/112) وابن تيمية في الفتاوى (20/203) . ولأن الإمام المجدد من أئمة أهل السنة السلفيين فيحمل كلامه على أن العامي لا يعتقد إلا بدليل من كتاب أو سنة أو تقليد عالم سلفي معتبر موثوق به ، فإن قول العالم دليل للعامي .
تنبيه: استدل بعض من يوجب الدليل على العامي بما خرج البخاري عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" فأما المؤمن فيقول: أشهد أنه عبد الله ورسوله فيقال له انظر إلى مقعدك من النار ، قد أبدلك الله به مقعداً من الجنة فيراهما جميعاً .- ثم قال – وأما المنافق والكافر فيقال له: ما كنت تقول في هذا الرجل؟ فيقول: لا أدري كنت أقول ما يقول الناس ، فيقال: لا دريت ولا تليت ..." ، وهذا لا دلالة فيه لما يلي:
1/ أن منزع عدم الجواب في القبر على قول هؤلاء عدم الدراية والمعرفة، فمعناه: أن الكافر إذا عرف الإسلام بدليله فإن سيجيب ، وهذا خطأ ، بل منزع عدم جوابهم هو عدم الإسلام لا عدم الدرية ، فلو تعلموها ليل نهار ، ولم يدخلوا في الإسلام فإن جوابهم : لا أدري .
2/ لازم قول هؤلاء تكفير من لم يعرف الدليل على أصل الإسلام لا تأثيمه ، فإن ظاهر الحديث التكفير ؛ لذا جعل المنافق أو المرتاب في مقابل المؤمن .(1/9)
قال الشافعي رحمه الله تعالى : لو ما أنزل الله حجة على خلقه إلا هذه السورة لكفتهم(1)، وقال البخاري رحمه الله تعالى : باب العلم قبل القول والعمل .
والدليل قوله تعالى : (( فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك )) سورة محمد آية : 19 ،فبدأ بالعلم قبل القول والعمل .
اعلم رحمك الله أنه يجب على كل مسلم ومسلمة تعلم ثلاث هذه المسائل والعمل بهن .
الأولى : أن الله خلقنا ورزقنا ولم يتركنا هملاً بل أرسل إلينا رسولاً فمن أطاعه دخل الجنة ومن عصاه دخل النار .
والدليل قوله تعالى : (( إنا أرسلنا إليكم رسولاً شاهداً عليكم ، كما أرسلنا إلى فرعون رسولاً فعصى فرعون الرسول فأخذناه أخذاً وبيلا )) سورة المزمل آية : 15 .
الثانية : أن الله لا يرضى أن يشرك معه أحد في عبادته لا ملك مقرب ولا نبي مرسل .
والدليل قوله تعالى : (( وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحداً )) سورة الجن ، آية : 18 .
الثالثة : أن من أطاع الرسول ووحد الله لا يجوز له موالاة من حاد الله ورسوله ولو كان أقرب قريب .
والدليل قوله تعالى : (( لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان ، وأيدهم بروح منه ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها رضي الله عنهم ورضوا عنه أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون )) سورة المجادلة آية :22 .
اعلم(2)
__________
(1) مقولة الشافعي نقلها ابن القيم في إغاثة اللهفان ومفتاح دار السعادة وابن كثير في تفسيره ( لو تدبر الناس هذه السورة لوسعتهم ) وهي أدق من العبادة التي أثبتها المصنف – رحمه الله - .
(2) من هنا تبدأ الأصول الثلاثة ، والمسائل الأربع والثلاثة أدخلها بعض طلاب المصنف – رحمه الله- كما أشار إليه ابن قاسم في حاشيته .(1/10)
أرشدك الله لطاعته ، أن الحنيفية(1)ملة إبراهيم أن تعبد الله وحده مخلصاً له الدين ، وبذلك أمر الله جميع الناس ، وخلقهم لها كما قال تعالى : (( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون((2)
__________
(1) الحنيف لغة المقبل . ولازمه الميل كما أفاده ابن تيمية في مجموع الفتاوى (9/319) ، وابن القيم فقال في كتابه " جلاء الأفهام " ص391: والحنيف: المقبل على الله ، المعرض عما سواه ، ومن فسره بالمائل ، فلم يفسره بنفس موضوع اللفظ ، وإنما فسره بلازم المعنى . فإن الحنف: هو الإقبال ، ومن أقبل على شيء مال عن غيره ، والحنف في الرجلين هو إقبال إحداهما على الأخرى ، ويلزمها ميلها عن جهتها ، قال تعالى ( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا) فحنيفاً: هو حال مفردة لمضمون قوله (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ ) ولهذا فسرت " ملخصاً " فتكون الآية قد تضمنت الصدق والإخلاص ، فإن إقامة الوجه للدين هو إفراد طلبه بحيث لا يبقى في القلب إرادة لغيره . والحنيف: المفرد لمعبوده ، لا يريد غيره . فالصدق أن لا ينقسم طلبك ، والإخلاص: أن لا ينقسم مطلوبك ، الأول: توحيد الطلب . والثاني: توحيد المطلوب ا.هـ وهو الميل عن الشرك طاعة لله ، وهي ملة أي دين إبراهيم كما قال تعالى ( ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً ) وقال الله تعالى ( إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) .
(2) معنى ( إلا ليعبدون ) إلا لأمرهم وأنهاهم كما جاء عن علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – قال عبدالرحمن بن حسن في فتح المجيد : وقال علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – في الآية: إلا لآمرهم أن يعبدوني وأدعوهم إلى عبادتي . وقال مجاهد: إلا لآمرهم وأنهاهم . اختاره الزجاج وشيخ الإسلام ا.هـ ، وأعظم الأوامر التوحيد وأعظم النواهي الشرك .(1/11)
سورة الذاريات آية : 56 ، ومعنى يعبدون : يوحدون ، وأعظم ما أمر الله به التوحيد ، وهو إفراد الله بالعبادة وأعظم ما نهى عنه الشرك وهو دعوة غيره معه(1).
والدليل قوله تعالى : (( واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً )) النساء آية 36 .
فإذا قيل لك ما الأصول الثلاثة التي يجب على الإنسان معرفتها ؟ فقل : معرفة العبد ربه ودينه ونبيه محمداً صلى الله عليه وسلم فإذا قيل لك : من ربك ؟ قل ربي الله الذي رباني وربى جميع العالمين بنعمه وهو معبودي ليس لي معبود سواه والدليل قوله تعالى (( الحمد لله رب العالمين )) سورة الفاتحة آية : 1 ،
وكل ما سوى الله عالم وأنا واحد من ذلك العالم : فإذا قيل لك بم عرفت ربك ؟ فقل : بآياته ومخلوقاته(2)،
__________
(1) هذا تعريف لبعض أفراد الشرك الأهم والمحتاج إليه في هذه الرسالة ، والتعريف الأشمل هو: تسوية غير الله بالله في شيء من خصائص الله . والدليل قوله تعالى (( تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ . إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ) (الشعراء:97-98) وقوله ( ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ)(الأنعام: من الآية1) ، فمن سوى غير الله بالله في الخلق فهو مشرك في الربوبية ، ومن سوى غير الله بالله في أحد أفراد العبادة فهو مشرك في الألوهية ، ومن سوى غير الله بالله في أحد أسمائه وصفاته فهو مشرك في توحيد الأسماء والصفات .
(2) الفرق بين الآيات والمخلوقات أن الآيات تتحرك ، أما المخلوقات بالنسبة لنا لا تتحرك ثابتة ، وإلا فإن كلاً منهما مخلوق .(1/12)
ومن آياته الليل والنهار ، والشمس والقمر ، ومن مخلوقاته السموات السبع والأرضون السبع وما فيهن وما بينهما .والدليل قوله تعالى : (( ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذي خلقهن إن كنتم إياه تبعدون(( سورة فصلت آية : 37 وقوله تعالى : (( إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يغشى الليل النهار يطلبه حثيثاً والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين )) الأعراف آية : 54 .
والرب هو المعبود .والدليل قوله تعالى : (( يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون ، الذي جعل لكم الأرض فراشاً والسماء بناء وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقاً لكم فلا تجعلوا لله أنداداً وأنتم تعلمون ))(1)سورة البقرة آية : 21 ، 22 . قال ابن كثير رحمه الله تعالى :
الخالق لهذه الأشياء هو المستحق للعبادة . وأنواع العبادة(2)
__________
(1) هذا من تقرير توحيد الإلهية ( العبادة ) بتقرير توحيد الربوبية ، فالمقر بتوحيد الربوبية يلزمه الإقرار بتوحيد الألوهية كما ألزمهم الله في هذه الآية . وعلى هذا يدل كلام الإمام ابن كثير – رحمه الله – الآتي .
(2) هي فعل كل ما يرضاه الله من قول أو عمل أو تركه ، فكل ما يرجى ثوابه فعلاً أو تركاً فهو عبادة ، فيدخل في هذا الواجبات والمستحبات فعلاً والمحرمات والمكروهات تركاً ، وعلى هذا تعريف الإمام ابن تيمية: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة .
وتعرف العبادة بأنها كل ما أمر الله بها أو نهى عنها أو رتب عليها ثواباً ، أو جعلها جزء من الإيمان ، أو أثنى عليها وهكذا ..
وإن مما عاند فيه خصوم دعوة التوحيد في زمن الإمام المجدد أنهم لا يقرون بأن الذبح والنذر عبادة كما أبانه الإمام المجدد في " كشف الشبهات "
والرد عليهم أن يقال: إن هذه الفعال مما رضيها الله وأحبها بأن أمر بها وحث عليها ، فبهذا تكون من العبادات .(1/13)
التي أمر الله بها مثل الإسلام ، والإيمان ، والإحسان ومنه الدعاء ، والرغبة ، والرهبة ، والخشوع ، والخشية ، والإنابة والاستعانة ، والاستعاذة ، والاستغاثة ، والذبح ، والنذر ، وغير ذلك من أنواع العبادة التي أمر الله بها كلها لله تعالى .والدليل قوله تعالى ( وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً) (الجن:18)(1).
فمن صرف منها لغير الله فهو مشرك كافر(2).
__________
(1) وجه الدلالة من الآية (وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً ) أي فلا تعبد مع الله أحداً لأن الأصل في الدعاء إذا أطلق شمل معنى العبادة .
(2) هذه قاعدة: من صرف شيئاً من العبادة لغير الله فهو مشرك كافر ، لكن ليتنبه أن الأعمال قسمان:
قسم لا يأتي إلا عبادة كالذبح والنذر .
وقسم يأتي عبادة وغير عبادة كالحب والخوف .
فالقسم الثاني لا يكون شركاً إلا إذا صرف لغير الله على وجه التعبد ، أما إذا صرف على غير وجه التعبد فليس شركاً ، سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم : من أحب الناس إليك ؟ قال:" عائشة " أخرجه الشيخان عن عمرو بن العاص . وقال تعالى ( وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا)(النساء: من الآية35) فدل على جواز حب غير الله وخوف غير الله وأنه لا يعد شركاً ؛ لأنها تأتي على غير وجه التعبد بخلاف الذبح والنذر والصلاة .(1/14)
والدليل قوله تعالى : (( ومن يدع مع الله إلهاً آخر لا برهان له به فإنما حسابه عند ربه إنه لا يفلح الكافرون )) سورة المؤمنون : آية117 وفي الحديث : (( الدعاء مخ العبادة )) .والدليل قوله تعالى : (( وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين ))(1)سورة غافر آية : 60 .
ودليل الخوف قوله تعالى : (( فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين )) سورة آل عمران آية : 175 .
ودليل الرجاء قوله تعالى : (( فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحداً ))(2)سورة الكهف آية : 1
__________
(1) الدعاء من الأمور التي تأتي على غير وجه العبادة كما قال تعالى ( تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ ...)(آل عمران: من الآية61) وقال (لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً)(النور: من الآية63) فالدعاء الذي لا يقدر عليه إلا الله شرك أكبر سواء كان في صفته بأن يكون على صفة كمال الذل والمحبة ، أو أن يكون المدعو بعيداً ، فإن اتساع السمع خاص بالله .
(2) الرجاء هو الطمع فيما يمكن حصوله ويرادفه الأمل ، والفرق بينه وبين التمني أنه في القريب والتمني في البعيد ( كتاب " الكليات " لأبي البقاء ). وهو من الأمور التي تأتي على غير وجه العبادة كما قال تعالى ( وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحاً)(النور: من الآية60) والرجاء الشركي هو رجاء غير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله .
تنبيه/ استدل محمد بشير السهسواني- رحمه الله – في كتابه النافع " صيانة الإنسان " على جواز صرف الرجاء لغير الله بقوله تعالى ( قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوّاً قَبْلَ هَذَا)(هود: من الآية62) وهذا الاستدلال لا يصح لأنه استدلال بكلام الكفار وهو ليس حجة .(1/15)
ودليل التوكل قوله تعالى : (( وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين )) سورة المائدة آية : 23 وقال (( ومن يتوكل على الله فهو حسبه ))(1)سورة الطلاق : آية : 3 .
ودليل الرغبة(2)والرهبة(3)
__________
(1) الذي يظهر – والله أعلم – أن التوكل خاص بالله كما هو اختيار الشيخ سليمان بن عبدالله – رحمه الله – في أوائل التيسير ؛ لأنه جاء على صيغة الحصر ولا دليل يدل على جواز إطلاقه على غير الله ، ومعناه: اعتماد القلب على الله في الأمور مع بذل الأسباب فهو عمل قلبي ، كما قال الإمام أحمد وابن القيم .
(2) الرغبة: في لسان العرب " الرغبة الحرص على الجمع مع منع الحق رغب يرغب رغبة إذا حرص على الشيء وطمع فيه والرغبة السؤال والطمع . ا.هـ ، وقال الراغب في مفرداته " والرغبة والرَّغَبُ والرُّغْبَى السعة في الإرادة قال تعالى ( وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً)(الانبياء: من الآية90)ا.هـ ، وقال الشيخ محمد بن عثيمين في شرح ثلاثة الأصول ص 55 : "الرغبة محبَّة الوصول إلى الشيء المحبوب . ا.هـ ، وقال ابن قاسم في الحاشية على ثلاثة الأصول ص 39 :" والرغبة السؤال والطلب والابتهال والتضرُّع . ا.هـ. ولعلَّ الأشملَ للرغبة أن تكون بحرصٍ وطمع فإن اتَّصفت بالطلب صار كذلك . وهي من الأمور التي تأتي على غير وجه التعبد كما قال تعالى ( وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ )(النساء: من الآية127) ، والرغبة الشركية هي رغبة غير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله .
(3) الرهبة نقل في لسان العرب كلام أهل العلم عنها وهي راجعةٌ إلى الخوف والفزع ، وهي من الأمور التي تأتي على غير وجه التعبد كما قال تعالى (تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ )(لأنفال: من الآية60) والرهبة الشركية هي رهبة غير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله .(1/16)
والخشوع(1)قوله تعالى : (( إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغباً ورهباً وكانوا لنا خاشعين )) سورة الأنبياء : 90 .
دليل الخشية(2)
__________
(1) الخشوع لا أعلم دليلاً خاصاً يجوز إطلاقها على غير الله ، لكن الأصل جواز إطلاقها على غير الله ولا دليل يفيد حصرها في حق الله ، والخشوع الشركي هو الخشوع لغير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله .
(2) الخشية نوعٌ من الخوف لكنها أخص منه والفرق بينهما مايلي:
1- قال ابن القيم في مدارج السالكين (1/549 ): الخشية أخص من الخوف فإن الخشية للعلماء بالله قال تعالى ( إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ )(فاطر: من الآية28) فهي خوف مقرونٌ بمعرفة ا. هـ ، وقال الشيخ محمد العثيمين في القول المفيد ( 1/171):" إن الخشية تكون مع العلم بالمخشِي وحاله كقوله تعالى ( إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ )(فاطر: من الآية28)، والخوف قد يكون من الجاهل . ا. هـ
2-أن الخشية تكون بسبب عظمة المخشِيّ بخلاف الخوف فقد يكون من ضعف الخائف لا من قوة المخوف كما في القول المفيد (2/211) ، وقد ذكر الراغب في مفرداته كلاماً لعلَّ فيه الإشارة إلى هذين الفرقين . قال " والخشية خوفٌ يشوبه تعظيمٌ ، وأكثر ما يكون ذلك عن علمٍ بما يُخشى منه ولذلك خص العلماء بها ... ا.هـ .
3-قال ابن القيم في مدارج السالكين (1/549):"فالخوف حركة والخشية انجماعٌ وانقباضٌ وسكونٌ فإن الذي يرى العدو والسيل ونحو ذلك له حالتان إحداهما حركة للهرب منه وهي حالةٌ من الخوف . والثانية سكونه وقراره في مكان لا يصل إليه فيه وهي الخشية ا . هـ .
والخشية من الأمور التي تأتي على غير وجه التعبد كما قال صلى الله عليه وسلم:" فإذا خشي أحدكم الصبح صلى ركعة واحدة توتر له ما قد صلى " متفق عليه عن ابن عمر . والخشية الشركية هي خشية غير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله .(1/17)
قوله تعالى (( فلا تخشوهم واخشوني )) سورة البقرة : 150 .
ودليل الإنابة(1)قوله تعالى : (( وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له )) سورة الزمر آية : 54 .
ودليل الاستعانة(2)قوله تعالى : (( إياك نعبد وإياك نستعين )) سورة الفاتحة آية : 4 وفي الحديث " (( وإذا استعنت فاستعن بالله )) .
ودليل الاستعاذة(3)قوله تعالى( قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ . مَلِكِ النَّاسِ) (الناس:1-2) ودليل الاستغاثة(4):
__________
(1) الإنابة لا أعلم دليلاً خاصاً يجوز إطلاقها على غير الله ، لكن الأصل جواز إطلاقها على غير الله ولا دليل يفيد حصرها في حق الله ، والإنابة الشركية هو الإنابة لغير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله .
(2) الاستعانة من الأمور التي تأتي على غير وجه التعبد كما قال صلى الله عليه وسلم :" واستعينوا بالغدوة والروحة وبشيء من الدلجة " أخرجه البخاري عن أبي هريرة والاستعانة الشركية هي الاستعانة بغير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله .
(3) الاستعاذة من الأمور التي تأتي على غير وجه التعبد كما قال صلى الله عليه وسلم:" أن امرأة من بني مخزوم سرقت فأتي بها النبي صلى الله عليه وسلم فعاذت بأم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم فقال:" لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها " أخرجه مسلم عن جابر . والاستعاذة الشركية هي الاستعاذة بغير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله .
(4) الاستغاثة من الأمور التي تأتي على غير وجه التعبد كما قال صلى الله عليه وسلم:" لا ألفين أحدكم يوم القيامة على رقبته شاة لها ثغاء على رقبته فرس له حمحمة ، يقول: يا رسول الله أغثني . فأقول: لا أملك شيئاً قد أبلغتك " أخرجه الشيخان عن أبي هريرة . والاستغاثة الشركية هي الاستغاثة بغير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله .
فائدة/ يستدل بعض أهل العلم على جواز الاستغاثة بالمخلوق فيما يقدر عليه بقوله تعالى ( فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ ... ) كما فعل الشيخ محمد بن عبد الوهاب في كشف الشبهات والشيخ ابن عثيمين في القول المفيد (1/335) وسليمان بن عبدا لله في التيسير ص243.
والظاهر أن الاستدلال بهذه الآية على جواز الاستغاثة بالمخلوق فيه نظر ذكره ابن تيمية في الرَّد على البكري ص 140 :" فإن قوله تعالى ( فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه) لا يقتضي أنه شرع لنا وجوباً ولا استحباباً مثل هذه الاستغاثة بل ولا يقتضي الإباحة فإن هذا الإسرائيلي ليس ممن يحتج بأفعاله بل ولا في الآية ما يقتضي أن هذا المستغيث بموسى كان مظلوماً بل لعلَّه كان ظالماً وموسى لما أغاثه فقتل عدوه ندم على ذلك ... " . ا . هـ وبنحوه قال أحمد بن حجر آل بوطامي في كتابه تطهير الجنان ص 62. ، إلا أن قول ابن تيمية في الصارم المسلول (2/210 ) " بل لعلَّه كان ظالماً وموسى ... " قد خالفه .(1/18)
قوله تعالى (( إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم )) سورة الأنفال : آية : 9 .
ودليل الذبح(1)قوله تعالى : (( قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين ، لا شريك له )) سورة الأنعام آية : 163 .
ومن السنة : (( لعن الله من ذبح لغير الله )) .
ودليل النذر(2)قوله تعالى : (( يوفون بالنذر ويخافون يوماً كان شره مستطيراً )) سورة الإنسان آية : 7 .
) الأصل الثاني ) معرفة دين الإسلام بالأدلة وهو الاستسلام لله بالتوحيد والانقياد له بالطاعة ، والبراءة من الشرك وأهله ، وهو ثلاث مراتب : الإسلام والإيمان والإحسان وكل مرتبة لها أركان ، فأركان الإسلام خمسة :
__________
(1) الذبح عبادة لا يجوز صرفه لغير الله ، ومجرد الذبح لغير الله شرك أكبر ولا يكون أصغر .
فائدة/ فرقٌ بين التقرُّب لإراقة الدم وإزهاق النفس وبين التقرب باللحم فإن الثاني يكون إكراماً للضيف وصدقة وهديةً بخلاف الأول ، لذا عند الكلام على أنواع الذبح لا يصح ذكر إكرام الضيف بالذبح نوعاً من أنواع الذبح لكون إراقة الدم فيه جاء تبعاً لا قصداً وإنما المقصود به اللحم بخلاف الذبح الذي يُذكر في أبواب التوحيد فإن إراقة الدم فيه جاء قصداً لاتبعاً والله أعلم .
(2) النذر عبادة لا يجوز صرفه لغير الله ، ومجرد النذر لغير الله شرك أكبر ولا يكون أصغر .(1/19)
شهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً رسول الله ، وإقامة الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وصوم رمضان ، وحج بيت الله الحرام فدليل الشهادة قوله تعالى : (( شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائماً بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم )) سورة آل عمران آية : 18 ومعناها لا معبود بحق إلا الله (( لا إله )) نافياً جميع ما يعبد من دون الله (( إلا الله )) مثبتاً العبادة لله وحده لا شريك له في عبادته كما أنه لا شريك له في ملكه وتفسيرها الذي يوضحها قوله تعالى : (( وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني براء مما تعبدون ، إلا الذي فطرني فإنه سيهدين ، وجعلها كلمة باقية في عقبة لعلهم يرجعون )) سورة الزخرف آية : 26 ، 27 ، 28 ، وقوله : (( قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأننا مسلمون )) . سورة آل عمران آية : 64 .
ودليل شهادة أن محمداً رسول الله قوله تعالى : (( لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم )) .سورة التوبة آية : 128 .
ومعنى شهادة أن محمداً رسول الله طاعته فيما أمر وتصديقه فيما أخبر واجتناب ما عنه نهى وزجر وأن لا يعبد الله إلا بما شرع .
ودليل الصلاة ، والزكاة ، وتفسير التوحيد قوله تعالى : (( وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة )) . سورة البيئة آية : 5 .
ودليل الصيام قوله تعالى : (( يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذي من قبلكم لعلكم تتقون )) سورة البقرة آية 183 .
ودليل الحج قوله تعالى : (( ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً ومن كفر فإن الله غني عن العالمين )) سورة آل عمران آية : 97 .(1/20)
المرتبة الثانية : الإيمان : وهو بعض وسبعون شعبة فأعلاها قول لا إله إلا الله ، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان .
وأركانه ستة : أن تؤمن بالله ، وملائكته ، وكتبه ، ورسله ، واليوم الآخر ، وتؤمن بالقدر خيره وشره .
والدليل على هذه الأركان الستة قوله تعالى : (( ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم والآخر والملائكة والكتاب والنبيين)) .
ودليل القدر قوله تعالى : (( إنا كل شيء خلقناه بقدر )) سورة القمر : 49 .
المرتبة الثالثة الإحسان ركن واحد وهو : (( أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك )) والدليل قوله تعالى : (( إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون(( سورة النحل : 128 وقوله : (( وتوكل على العزيز الرحيم ، الذي يراك حين تقوم ، وتقلبك في الساجدين ، إنه هو السميع العليم )) سورة الشعراء آية 217 – 220 وقوله ((وما تكون في شأن وما تتلو منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهوداً إذ تفيضون فيه )) سورة يونس آية : 61.(1/21)
والدليل من السنة حديث جبرائيل المشهور عن عمر رضي الله عنه قال : (( بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر لا يرى عليه أثر السفر ولا يعرفه منا أحد حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسند ركبتيه إلى ركبتيه ووضع كفيه على فخذيه وقال : يا محمد أخبرني عن الإسلام قال : (( أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً )) فقال : صدقت فعجبنا له يسأله ويصدقه ، قال : فأخبرني عن الإيمان قال : (( أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره )) قال : صدقت قال : فأخبرني عن الإحسان ، قال : (( أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك )) ، قال : فأخبرني عن الساعة ، قال : (( ما المسؤول عنها بأعلم من السائل )) ، قال : فأخبرني عن أماراتها ، قال : (( أن تلد الأمة ربتها : وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان )) ، قال : فمضى فلبثنا ملياً ، فقال : (( يا عمر أتدري من السائل ؟ )) قلت : الله ورسوله أعلم ، قال : (( هذا جبرائيل أتاكم يعلمكم أمر دينكم )) .
الأصل الثالث(1):
__________
(1) تقرير هذا الأصل فيه رد على من يتهم دعوة الإمام المجدد محمد بن عبدالوهاب بأنها تستنقص رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تحبه ، فعلى إثر هذا ربوا العامة على أن من يسمونهم بالوهابية ضلال ، ومن أسباب ذلك عدم جبهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهذا كلام باطل عاطل لا يستند إلى برهان، بل الواقع الذي ماله من دافع أن من يسمونهم بالوهابية هم الوحيدون الراقمون على عَلَم دولتهم شهادة أن محمداً رسول الله أفلا يعقلون؟ وعن زخرف وغرور أعداء الحق يفطنون ؟
علماً أن نبز هذه الدعوة بالوهابية مما لا يرضاه من نبزوا به ؛ لأنهم مقيمون دعوتهم على اتباع دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم والسلف الصالح ، فدعوة الإمام محمد بن عبدالوهاب دعوة تجديدية لمعالم الشريعة المحمدية ، وليس فيها إحداث ولا ابتداع حتى تميز بلقب ، ومما قاله عن نفسه في عدة مواضع من رسائله " إني بحمد الله متبع وليس مبتدعاً " .(1/22)
معرفة نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم وهو محمد ابن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم ، وهام من قريش وقريش من العرب ، والعرب من ذرية إسماعيل بن إبراهيم الخليل عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام وله من العمر ثلاث وستون سنة ، منها أربعون قبل النبوة وثلاث وعشرون نبياً رسولاً ، نبيء (( باقرأ )) ، وأرسل المدثر ، وبلده مكة ، وهاجر إلى المدينة بعثه الله بالنذارة عن الشرك ويدعو إلى التوحيد ، والدليل قوله تعالى : (( يا أيها المدثر ، قم فأنذر ، وربك فكبر ، وثيابك فطهر ، والرجز فاهجر ، ولا تمنن تستكثر ، ولربك فاصبر )) سورة المدثر آية : 1- 7 ، ومعنى (( قم فأنذر )) : ينذر عن الشرك ويدعو إلى التوحيد (( وربك فكبر )) أي عظمه بالتوحيد (( وثيابك فطهر )) أي طهر أعمالك عن الشرك (( والرجز فاهجر )) الرجز بالأصنام ، وهجرها تركها ، والبراءة منها وأهلها ، أخذ على هذا عشر سنين يدعو إلى التوحيد(1)وبعد العشر عرج به إلى السماء ، وفرضت عليه الصلوات الخمس ، وصلى في مكة ثلاث سنين ، وبعدها أمر بالهجرة إلى المدينة .
والهجرة : الانتقال من بلد الشرك إلى بلد الإسلام والهجرة فريضة على هذه الأمة من بلد الشرك إلى بلد الإسلام وهي باقية إلى أن تقوم الساعة .
__________
(1) هذه دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم دعوة توحيد وتحذير من شرك العامة شرك القبور ، فمن أراد سلوك سبيله فليفعل فعله ( قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (يوسف:108) فوا عجباً ممن يدعي متابعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عن دعوة الناس إلى التوحيد بمعزل ، وإن دعا إلى التوحيد اقتصر على التحذير مما يسميه بشرك القصور !!.(1/23)
والدليل قوله تعالى : (( إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم ؟ قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيراً ، إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً ، فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفواً غفوراً )) النساء آية 97 – 99 وقوله تعالى : (( يا عبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة فإياي فاعبدون )) سورة العنكبوت . آية : 56 قال البغوي رحمه الله تعالى : سبب نزول هذه الآية في المسلمين الذي بمكة لم يهاجروا ناداهم الله باسم الإيمان .
والدليل على الهجرة من السنة قوله صلى الله عليه وسلم : (( لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها )) .
فلما استقر بالمدينة أمر ببقية شرائع الإسلام مثل الزكاة والصوم والحج والجهاد والأذان والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
وغير ذلك من شرائع الإسلام أخذ على هذا عشر سنين وبعدها توفي صلوات الله وسلامه عليه ، ودينه باق وهذا دينه لا خير إلا دل الأمة عليه ، ولا شر إلا حذرها منه والخير الذي دل عليه : التوحيد وجميع ما يحبه الله ويرضاه ، والشر الذي حذر منه : الشرك وجميع ما يكرهه الله ويأباه بعثه الله إلى الناس كافة وافترض الله طاعته على جميع الثقلين : الجن والإنس .
والدليل قوله تعالى : (( قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً )) سورة الأعراف آية : 158 ، وأكمل الله به الدين ، والدليل قوله تعالى : (( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيتُ لكم الإسلام ديناً )) سورة المائدة آية : 3 .
والدليل على موته صلى الله عليه وسلم قوله تعالى : (( إنك ميت وإنهم ميتون ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون )) سورة الزمر آية : 30 ، 31 والناس إذا ماتوا يبعثون .(1/24)
والدليل قوله تعالى : (( منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى )) سورة طه آية : 55 وقوله تعالى : (( والله أنبتكم من الأرض نباتاً ثم يعيدكم فيها ويخرجكم إخراجاً )) سورة نوح : آية 17 ، 18
وبعد البعث محاسبون ومجزيون بأعمالهم .والدليل قوله تعالى : (( ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى )) سورة النجم آية 31 ومن كذب بالبعث كفر .
والدليل قوله تعالى: (( زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا قل بلى وربي لتبعثن ثم لتنبؤن بما عملتم وذلك على الله يسير )) سورة التغابن آية : 7 وأرسل الله جميع الرسل مبشرين ومنذرين .
والدليل قوله تعالى : (( رسلاً مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل )) ، سورة النساء آية : 165 ، وأولهم نوح عليه السلام(1)وآخرهم محمد صلى الله عليه وسلم .
__________
(1) إنه كان بين آدم ونوح عليهما السلام عشرة قرون كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما ثبت عند ابن حبان عن أبي أمامة ، وما أخرجه البخاري عن ابن عباس من قوله .
وسبب إرساله أنه وقع الشرك في قومه بعبادة ( ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر ) وهو أول شرك وقع في العالم ، فلم يرسل الرسل إلا لأجل الدعوة إلى التوحيد والتحذير من الشرك ، مع أن هذه القرون لا تخلو من قتل ، كما حصل بين الأخوين قابيل وهابيل ، ولا تخلو من زنى إلى آخره . ومع هذا لم يرسل الرسل . أفليس هذا برهاناً واضحاً على أهمية التوحيد؟ وأنه وظيفة الرسل وأتباعهم ، ومن لم يدعو إليه فليس من أتباع الرسل ولا من الفرقة الناجية الذين هم على ما عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ؟ فتباً لدعوات تنسب نفسها إلى الإصلاح وهي عن دعوة التوحيد بمعزل .(1/25)
والدليل على أن أولهم نوح عليه السلام قوله تعالى : (( إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده )) سورة النساء آية : 163 ، وكل أمة بعث الله إليها رسولاً من نوح إلى محمد يأمرهم بعبادة الله وحده وينهاهم عن عبادة الطاغوت .
والدليل قوله تعالى : (( ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت )) سورة النحل آية :36 .
وافترض الله على جميع العباد الكفر بالطاغوت والإيمان بالله قال ابن القيم رحمه الله تعالى : الطاغوت ما تجاوز به العبد حده من معبود ، أو متبوع ، أو مطاع والطواغيت كثيرة ، ورؤوسهم خمسة : إبليس لعنه الله ، ومن عبد وهو راض ، ومن دعا الناس إلى عبادة نفسه ، ومن ادعى شيئاً من علم الغيب ، ومن حكم بغير ما أنزل الله .
والدليل قوله تعالى : (( لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى )) سورة البقرة آية : 256 وهذا معنى لا إله إلا الله ، وفي الحديث : (( رأس الأمر الإسلام ، وعموده الصلاة ، وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله ، والله أعلم ، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم ..(1/26)