[المسألة الثانية] :
الإيمان في اللغة هو التصديق الجازم -كما ذكرنا لك- الذي يتبعه عمل يأمن معه المُؤْمِنْ الغائلة أو العقوبة إلى آخره.
وقولنا التصديق الذي معه عمل هذا تحصيل حاصل؛ لأنَّهُ إذا كان الشيء يلزَمُ منه العمل فإنه لا يُطْلَقُ لفظ مُصَدِّقَاً في اللغة على من صَدَّقَ حتى يعمل.
مثاله: أتى شخص وقال لآخر سيارتك الآن تُسْرَقْ.
فقال له الآخر: جزاك الله خيراً.
قال: لك فيها أموال ولك فيها أشياء وهي الآن تُسْرَقْ.
قال الآخر: جزاك الله خيرا وجَلَسَ ولم يتحرك.
فهل يُعْتَبَرُ في اللغة مُصَدِّقَاً؟
إذا كان قد صَدَّقَ الخبر فإنه لابد أن يتبعه بعمل يدلُّ على صدقه؛ لأنَّ الناس لا يُفَرِّطُونْ بأموالهم ولا يفرِّطُون بما فيه قوام حياتهم.
فإذا مَكَثَ وقال أنا مُصَدِّقْ، وهو ما ذَهَبَ، ما أتْبَعَهُ عمل، فلا يُسَمَّى مُصَدِّقَاً في اللغة، ليس في الشرع، لا يسمى مُصَدِّقَاً في اللغة.
ودلَّ على هذا الأصل قول الله - عز وجل - في قصة إبراهيم الخليل مع ابنه إسماعيل في سورة الصافات قال {قَالَ يَابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ الصَّابِرِينَ (102) فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} [الصافات:102-103] ، لاحظ العمل {فَلَمَّا} و {لَمَّا} انتبه لكلمة {لَمَّا} ، {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَاإِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا} [الصافات:103-105] ، رؤيا الأنبياء حق، إذا رآها النبي صدَّقَ بأنها وحي من الله - عز وجل -.
لكن متى صار مُصَدِّقَاً بالرؤيا؟
لمَّا امتثل دلالتها {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَاإِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا} وهذا تصديق لغوي وهو أيضاً تصديق شرعي.
إذاً فالإيمان في العُرْفْ - الحقيقة العرفية- ولو أرجعناه إلى التصديق فإنَّ حقيقة التصديق أن يكون معه عمل، فلا يُسَمَّى مُصَدِّقَاً من ليس يعمل أصلاً فيما صدّق به.(1/397)
[المسألة الثالثة] :
يمكن أن يُضْبَطَ ما جاء في القرآن من استعمال الإيمان في الحقيقة اللغوية والعرفية والشرعية بضابط وهو أنه:
- إذا اقْتُرِنَ بالإيمان الأمَنْ ْأو كانت الدِّلَالَةُ عليه فإنَّ المراد به سعة المعنى اللغوي.
- وإذا عُدِّيَ الإيمان باللام في القرآن أو في السنة فإنَّ المراد به الإيمان العرفي؛ يعني اللُّغَوِي العرفي.
- وإذا عدي الإيمان بالباء، فإنه يراد به الإيمان الشرعي.
وهذه كل واحدة لها طائفة من الأدلة تَدُلُّ عليها.
1- المعنى اللغوي: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمْ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام:82] ، {آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمْ الْأَمْنُ} هذا دلالة على عموم المعنى اللغوي.
2- المعنى العرفي: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا} [يوسف:17] ، لاحظ التعدية باللام {بِمُؤْمِنٍ لَنَا} ، {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ} [العنكبوت:26] ، {وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ} [براءة:61] يعني النبي صلى الله عليه وسلم {وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ} هذا المعنى العرفي.
3- الإيمان الشرعي: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ} [البقرة:285] ، لاحظ الباء، عُدِّيَ الباء للدلالة الشرعية.
لماذا اختلفت التعدية؟
لأنَّ المطلوب اختلف.
كيف؟
@ الإيمان اللغوي ما دام أنَّهُ تصديق فتقول: العرب صَدَّقَ لفلان، تعديه باللام، صَدَّقَ لفلان، وتقول صَدَّقَ بكذا أيضا فتعديه بالباء
@ لكن الإيمان الشرعي آمن بكذا -لاحظ التعدية مُضَمَّنٌ أَقَرَّ بكذا -أَقَرَّ تتعدى بالباء في اللغة أليس كذلك؟ - أَقَرَّ بكذا، فتكون صحيحة، عمل بكذا صحيحة، صَدَّقَ بكذا صحيحة.
ولهذا لمَّا عُدِّيَ الإيمان في اللغة بالباء علمنا أنه ضُمِّنَ المعنى الأصلي في اللغة وزيادة تصلح للتعدية بالباء.
فالمعنى اللغوي يتعدى باللام، فلماذا عُدِّيَ بالباء تفريقاً ما بين الإيمان الشرعي والإيمان اللغوي؟
هو تضمين العمل للإيمان الذي هو زيادة على ما جاء في المعنى العُرفي.
هذا كثير: في القرآن وفي اللغة أنه يأتي الفعل ويراد منه معنى، ثم تختلف التعدية بالحرف فيُضَمَّنْ الفعل معنى فعل آخر.
سنضرب له مثالاً حاضر عندكم جميعاً وإن كان الأمثلة كثيرة لكن لقربه منكم.
مثلا تعلمون قول ابن القيم وابن تيمية وعدد من مشايخنا حفظ الله الجميع ورحم الأموات في قوله تعالى في المسجد الحرام {وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج:25] ، قالوا هنا ما معنى الإرادة؟
الهم، يعني الهم الجازم.
لماذا؟
قالوا لأنَّ الإرادة بنفسها تَتَعَدَّى، الإرادة المعروفة تتعدى بنفسها، تقول أردت الذهاب، أردت المجيء، أردت القراءة، ما تقول أردت بالقراءة، فلما قال {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ} ، ما قال (ومن يرد فيه إلحاداً) ، بل قال {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ} علمنا أنَّ كلمة {يُرِدْ} هذه فيها فعل يناسب التعدية بالباء وهو هَمَّ.
هَمَّ بكذا هَمَّ فلان بكذا هذا الذي يناسب.
ولذلك فسره الأئمة بأنَّ المراد بالإرادة هنا الهم الجازم فيُؤَاخَذْ عليه ولو لم يحقق الإرادة من كل وجه وإنما يَصْدُقُ عليه الهَمْ؛ إذا هَمَّ بالفعل، هَمَّ به صار داخلاً في الفعل.
نرجع هنا في اللغة {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ} [العنكبوت:26] ، يعني صَدَّقَ له، أَقَرَّ لَهُ، تقول أنا أقررت لك، إيش أقول أقررت إياك؟
لا، أقررت بكذا؛ لكن لفلان، أقررت بفلان ولا أقررت لفلان ما قال؟
أقررت لفلان ما قال، {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ} يعني صَدَّقَ له، أَقَرَّ له، إلى آخره.
لاحظ هذا التصديق والإقرار الذي هو المعنى اللغوي؛ لكن جاء المعنى الشرعي في القرآن بزيادة عن التعدية باللام إلى التعدية بالباء قال - عز وجل - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} [النساء:136] . ما قال آمنوا لله ولرسوله مع أنه قال في النبي - صلى الله عليه وسلم - {وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ} [براءة:61] ، وقال في لوط {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ} قال {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ} إلى آخره {وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ} [النساء:136] .
فإذاً دَلَّنَا على أَنَّ هذا المعنى هو المعنى اللغوي، وزيادة عليه ما دخل فيه مما يناسب التعدية بالباء وهو العمل.
تقول عملت بكذا يعني آمنت بكذا فعملت به، آمنت بأنَّ الأمر واقع فعملت به؛ يعني عَمِلْتَ بما آمنت، فلذلك دخلت زيادة تعدية بالباء لتدلنا على أنَّ العمل دخل في مسمى الإيمان أصلاً، وهذه يأتي لها مزيد تفصيل في الأدلة إن شاء الله تعالى.(1/398)
إذا تبين هذا فمن المهم في تأصيل هذه المسألة التي غَلِطَ فيها الكثيرون منذ نَشَأَتْ المرجئة، أن يُعرَفَ أنَّ الإيمان في اللغة في حقيقته تصديق وإقرار؛ لكن تصديق معه نوع عمل وليس لازماً في حقيقته؛ لكن لا يُسَمَّى تصديقاً حتى يكون معه عمل يأمن به، لصلته بالمعنى اللغوي العام.
أما في الشرع فهو إقرارٌ وتصديقٌ وعمل؛ لأنَّ الشرع جاء بزيادة على المعنى اللغوي في هذه المسألة العظيمة.(1/399)
[المسألة الرابعة] :
تعريف الطحاوي لهذه المسألة وهي (وَالْإِيمَانُ: هُوَ الْإِقْرَارُ بِاللِّسَانِ، وَالتَّصْدِيقُ بِالْجَنَانِ) ، هذا فيه إخراج العمل أن يكون مورِدَاً للإيمان وقَصْرْ الإيمان من حيث المورد على الإقرار والتصديق، وهذا كما ذكرت لك مذهب مرجئة الفقهاء.
والمرجئة في هذه المسألة لهم أقوال متعددة أشهرها قولان:
1- قول جمهور المرجئة وهو أنَّ الإيمان هو التصديق، ولا يلزم معه إقرار.
2- ثُمَّ مرجئة الفقهاء -وذهب إليه الماتريدية والأشاعرة وجماعة- أنَّ الإيمان إقرار باللسان وتصديق بالجنان.
وسُمُّوا مرجئة لأنهم أرجؤوا العمل عن مسمّى الإيمان؛ يعني أخَّرُوهُ عن مسمى الإيمان، فجعلوا الإيمان متحققاً بلا عمل.
واستدلوا لمذهبهم بعدة أدلة من أشهرها قول الله - عز وجل - في آيات كثيرة {الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} وهذا من أقوى أدلتهم على هذه المسألة، فعَطَفَ العمل على الإيمان، قالوا فهذا يدل على التغاير ما بين العمل وما بين الإيمان؛ لأنه لو كان عمل الصالحات في الإيمان لما قال {الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} فلمَّا عَطَفَ العمل على الإيمان قالوا دلَّنَا على تأخير العمل وإرجاء العمل عن مسمى الإيمان.
والجواب عن ذلك؛ يعني عن هذا الاستدلال بجواب مختصر ونرجئ الجواب المطول، الجواب عن ذلك أنَّ اللغة فيها:
& العطف بالواو ويُرَادُ بالعطف بالواو التَّغايُرْ:
والتغاير:
- تارةً يكون تغاير ذوات:
ومعناه أنك تقول مثلاً في اللغة: دخل محمد وخالد، فمحمد ذاته غير ذات خالد، هذا له حقيقة ذات وهذا له حقيقة، هذا يسمى تغاير ذوات.
- وتارةً يكون تغاير صفات.
تغاير الصفات تقول عندي مُهَنَّدٌ وصارمٌ وحسام، والذي عندك سيفٌ واحد يعني الذي عند العربي سيفٌ واحدٌ، لكن يقول:
مُهَنَّدٌ من جهة وصفه أنه صُنِعَ في الهند.
وصارمٌ من جهة شهرته وأنه يَصْرِمْ.
وحسام من جهة أنه من وَقَعَ عليه حَسَمَهُ وقتله.
منه في القرآن قال - عز وجل - في تغاير الصفات {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ} [الحجر:1] ، الكتاب هو القرآن، والقرآن هو الكتاب، عَطَفَ بالواو هل لتغاير الذوات، الكتاب شيء والقرآن شيء؟
لا أحد يقول بهذا من المتقدمين لا أحد يقول بهذا، فصار التعاطف هنا لتغاير الصفات {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ} نُظِرَ فيه إلى جهة كونه مكتوباً باقياً، {وَقُرْآنٍ مُبِينٍ} يعني أنه يُقْرَأُ ويُنْظَرُ فيه إلى التلاوة والقراءة فهذا تغاير صفات.
@ وتارةً يكون العطف بالواو لا لأجل التغاير ولكن تَغَايُرٌ ما بين الجزء والكل، وما بين العام والخاص:
فيُعْطَفْ الخاص على العام ويعطف العام على الخاص، ومثاله قول الله - عز وجل - في سورة البقرة {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة:98] {عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ} لاشك الملائكة غير الله - عز وجل -، الملائكة مخلوقة والرب - عز وجل - هو مالك الملك وخالق الخلق.
{وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ} الرسل منهم رسل من الملائكة، ومنهم رسل من {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ} [الحج:75] ، فالرسل هنا أعم من الملائكة لأنَّ منهم الرسل من الملائكة ومنهم الرسل من البشر.
فإذاً هنا صار عطفاً: عَطْفْ الكلي على الجزئي.
ثم قال {وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} جبريل وميكال من الرسل أو لا؟
من الرسل.
من الملائكة؟
نعم.
فعطفهم، هل حقيقة جبريل وميكال غير الملائكة؟
لا، هذا تغاير صحيح؛ ولكن تغايرٌ بين حقيقة الجزء والكل والكل والجزء، وليس تغاير ذوات ولا تغاير صفات ولا تغاير حقيقة.
ومن هذا عَطْفُ الخاص على العام لأجل التغاير ما بين الجزء والكل بقوله {الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} ، {وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ، {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ} [الكهف:107] ، {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمْ الرَّحْمَانُ وُدًّا} [مريم:96] ، الآيات كثيرة آمنوا وعملوا الصالحات، عَطَفَ العمل على الإيمان لأجل هذا وإلا فهو داخل في حقيقته.
هنا لماذا تُخَصُّ الخاص بالذكر بعد العام؟
لأجل التنبيه على شرفه.
فالعرب تَعْطِفُ الخاص على العام وتغاير في هذا لأجل التنبيه على شرف ما ذُكِرْ.
لأنك تقول مثلا جاءني المشايخ وسماحة الشيخ عبد العزيز، هل هو ليس من المشايخ؟
لكن هنا للتنبيه على شرفه أنه هو المقصود، جاءني المشايخ جميعاً وجاء المقصود أو المقدم فيهم إلى آخره تنبيهاً على شرفه ومنزلته إلى آخره.
فإذاً الاستدلال بهذا، هذا جواب مختصر ونذكر لكم بقية الأدلة والإجابة عليها فيما يأتي.(1/400)
* أنا أردت بهذا التطويل اللغوي تأصيل المسألة لكم؛ لأنَّ مسألة الإيمان خاض فيها كثيرون في هذا العصر، كتبوا فيها كتابات سواء في الإيمان أو في التكفير، وهم لم يدركوا حقيقة مذهب أهل السنة والجماعة في هذه المسألة.
فمنهم من أدخل مذاهب المرجئة في مذهب أهل السنة وقَصَرْ الكفر على التكذيب والإيمان على التصديق وإما قولاً أو باللازم.
ومنهم من ذهب إلى أنَّ الإيمان قول واعتقاد وأنَّ العمل ليس من الإيمان أصلاً كما هو قول المرجئة، والأقوال في هذا متعددة.
نسأل الله - عز وجل - أن يثبتني وإياكم على طريقة أئمتنا، وأن يَكُفَّ عنا الشر وأن لا يخذلنا وأن ينور بصائرنا وبسائر أحبابنا إنه جواد كريم.
نكتفي بهذا القدر ونكمل المرة القادمة.(1/401)
وَالْإِيمَانُ: هُوَ الْإِقْرَارُ بِاللِّسَانِ، وَالتَّصْدِيقُ بِالْجَنَانِ.
____________________________________________
قال رحمه الله (وَالْإِيمَانُ: هُوَ الْإِقْرَارُ بِاللِّسَانِ، وَالتَّصْدِيقُ بِالْجَنَانِ) هذه الجملة من كلامه في تعريف الإيمان المقصود بها التعريف الشّرعي للإيمان عند الطحاوي رحمه الله.
والذي دَلَّتْ عليه الأدلة من الكتاب والسنة وإجماع الأئمة -أئمة أهل الحديث والسنة- أنَّ الإيمان قول وعمل.
وبعض أهل العلم يُعَبِّرْ بقوله (الإيمان قول وعمل ونية) كما قالها الإمام أحمد في موضع؛ ويعني بالنية الإخلاص يعني الإخلاص في القول والعمل.
وهذا الأصل وهو أنَّ الإيمان قول وعمل وُضِّحَ بقول أهل العلم:
الإيمان اعتقادٌ بالقلب يعني بالجنان، وقولٌ باللسان وعملٌ بالجوارح والأركان، يزيد بطاعة الرحمن وينقص بطاعة الشيطان.
فشمل الإيمان إذاً فيما دلت عليه الأدلة هذه الأمور الخمسة، وهي:
أنه اعتقاد، وأنه قول، وأنه عمل، وأنه يزيد، وأنه ينقص.
وتعريف الطحاوي للإيمان بقوله (هُوَ الْإِقْرَارُ بِاللِّسَانِ، وَالتَّصْدِيقُ بِالْجَنَانِ) هذا تعريفٌ بالمقارنة مع ما سبق فيه قصور، وهو موافقٌ لما عليه الإمام أبو حنيفة رحمه الله وأصحابُه، فإنهم لم يجعلوا العمل من مُسَمَّى الإيمان، وجعلوا الإيمان تصديق القلب وإقرار اللسان، وجعلوا الأعمال زائدة عن مُسَمَّى الإيمان مع كونها لابد منها ولازمة للإيمان.
فقول الطحاوي هذا ليس مستقيماً مع معتقد أهل السنة والجماعة وأتباع أهل الحديث والأثر، وفيه قصور لأنه أخرَجَ العمل عن تعريف الإيمان.
وكون العمل من الإيمان له أدلةٌ كثيرة من الكتاب والسنة أظن أني قدمت لكم بعضها قبل رمضان:
ومنها في هذا المقام قول الله - عز وجل - {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة:143] ، ويعني بالإيمان الصلاة، فسمى الصلاة إيماناً والصلاة عمل.
وقال أيضا - عز وجل - {الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} .
وقال {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} [البقرة:285] . دَلَّتْ الآية على أنّ الإيمان له حقيقةٌ هي الاعتقاد والإيمان بهذه الأركان الخمسة {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} فإذا كان العمل ناشئاً عن هذه، فإنه لا يُتَصَوَّرْ الانفكاك ما بين العمل والإيمان، ولهذا في آية البقرة {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} جَعَلَ العمل هو الإيمان لأنّه منه ولأنه ينشأ عنه.
فنفهم إذاً أنَّ قوله {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} (1) {الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} ونحو ذلك، بما فيه عَطْفْ العمل على الإيمان -كما قدّمنا آنفاً- أنَّ هذا عَطْفُ الخاص بعد العام وعَطْفُ الجزء بعد الكل، وهذا كثير في القرآن وفي اللغة كما قدمته لك.
ومن السنة قول النبي صلى الله عليه وسلم كما قال لوفد عبد القيس لما أتوه في المدينة قال «آمركم بالإيمان بالله وحده أتدرون ما الإيمان بالله وحده» ثم فَسَّرَهٌ بأركان الإيمان ثم قال «وأن تؤدوا الخمس من المغنم» (2) وهذا -أداء الخمس- عمل فجعله تفسيراً للإيمان.
وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم «الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان» (3) فجعل الإيمان:
- له قولْ مرتبط بالنطق.
- وله عمل الذي هو إماطة الأذى عن الطريق-يعني الذي هو نوع العمل-.
- وجَعَلَ له عمل القلب وهو الحياء.
ففي هذا الحديث مَثَّلَ النبي صلى الله عليه وسلم شُعَبْ الإيمان بثلاثة أشياء منها القول ومنها الاعتقاد أو عمل القلب ومنها عمل الجوارح.
ويأتي مزيدُ بيان لهذا الأصل في المسائل إن شاء الله تعالى.
ثُمَّ زيادة الإيمان ونقصانه دلَّ على الزيادة قول الله - عز وجل - {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً} [الأنفال:2] ، وكذلك قوله {لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} [الفتح:4] ، وكذلك قوله {زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ} [محمد:17] ، ونحو ذلك مما فيه زيادة، وإذا كان فيه الزيادة فإنه لابد أن يكون فيه النقص بمقابل ما تُرِكَ مما يسبب الزيادة في الإيمان.
__________
(1) الشعراء:227، ص:24، الإنشقاق:25، التين:6، العصر:3.
(2) البخاري (87) / أبو داود (4677)
(3) البخاري (9) / مسلم (162)(1/402)
ولهذا بعض الصحابة لما ذَكَرَ زيادة الإيمان وذَكَرَ نقصانه قال (إذا سَبَّحْنَا الله وحمدناه وذكرناه فذلك زيادته، وإذا غفلنا فذلك نقصانه) (1) .
فزيادة الإيمان ونقصانه دل عليها قول الله - عز وجل - والسنة وقول الصحابة رضوان الله عليهم.
فمن هذا يتقرر أنَّ قول الطحاوي (وَالْإِيمَانُ: هُوَ الْإِقْرَارُ بِاللِّسَانِ، وَالتَّصْدِيقُ بِالْجَنَانِ.) هذا يوافق قول مرجئة الفقهاء وهم أبو حنيفة النعمان بن ثابت الإمام المعروف، وأصحابه ممن أخرجوا العمل عن كونه جزءا من الماهيَّةْ؛ عن كونه ركناً في الإيمان.
إذا تقرّر هذا فإنَّ في مسألة الإيمان مباحث كثيرة جداً، وذلك لكثرة الخلاف في هذه المسألة وطول الكلام عليها وكثرة التصانيف التي صنفها السلف ومن بعدهم في هذه المسألة؛ لكن يمكن تقريب هذه المسألة لطالب العلم في مسائل:
__________
(1) عن عمير بن حبيب بن خماشة أنه قال ((الإيمان يزيد وينقص قيل له وما زيادته وما نقصانه قال إذا ذكرناه وخشيناه فذلك زيادته وإذا غفلنا ونسينا وضيعنا فذلك نقصانه)) مصنف ابن أبي شيبة (30327) / شعب الإيمان (56)(1/403)
[المسألة الخامسة] :
الإيمان يجمع:
- أولاً: الاعتقاد بالقلب، وهو الذي يسميه المرجئة -مرجئة الفقهاء- أو يسميه العامة التصديق.
- ثانياً: قول اللسان.
- ثالثاً: عمل الجوارح والأركان.
- رابعاً: الزيادة.
- خامساً: النقصان.
هذه خمسة أشياء فيها اختلف المنتسبون إلى القبلة على أقوال:
1- القول الأول:
هو أنَّ الإيمان تصديقٌ فقط، وهذا هو قول جمهور الأشاعرة، وهو أيضاً قول أبي منصور الماتريدي والماتريدية بعامة.
وهذا مبنيٌ منهم على أنَّ القول ينشأ عن التصديق، وعلى أنَّ العمل ينشأ عن التصديق، فَنَظَرُوا إلى أصله في اللغة بحَسَبِ ظنهم، وإلى ما يترتّب عليه فجعلوه التصديق فقط.
واستدلوا له بعدة أدلة مما فيه أنّ الإيمان تصديق كقوله {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} [البقرة:285] ، وهذه أمور غيبية والإيمان بها يعني التصديق بها، وغير ذلك من الأدلة التي فيها حَصْرْ الإيمان بالغيبيات، والإيمان بالغيبيات يُفْهَمْ على أنه التصديق.
وهؤلاء يُسَمَّونَ المرجئة، وهم المشهورون بهذا الاسم.
ومن المرجئة طائفة غالية جداً وهم الذين جعلوا الإيمان ليس التصديق بالقلب ولكن هو المعرفة بالقلب، وهو القول المنسوب إلى الجهمية وغلاة الصوفية كابن عربي ونحوِهِ ممن صَنَّفُوا في إيمان فرعون.
2- القول الثاني:
من قال إنَّ الإيمان قول باللسان فقط، وهؤلاء يُسَمَّونَ الكَرَّامِيَّة -بالتشديد-.
الكَرَّامِيَّة يُنْسَبونَ إلى محمد بن كرّام، وهذا يقول: الإيمان هو الإقرار باللسان.
لم؟
قال لأنَّ الله - عز وجل - جَعَلَ المنافقين مخاطَبِينَ باسم الإيمان في آيات القرآن، فإذا نودي المؤمنون في القرآن فيدخُلُ في الخطاب أهل النّفاق، والمنافقون إنما أقرُّوا بلسانهم ولم يصدِّقُوا بقلوبهم فدخلوا في اسم الإيمان لهذا الأمر.
3- القول الثالث:
هو مذهب مرجئة الفقهاء الذين قالوا: إنَّ الإيمان قول باللسان وتصديق بالجنان. وهو قول أبي حنيفة وأصحابه، إقرارٌ باللسان وتصديق بالجنان، ويجعلونَ أنَّ الناس في التصديق -كما سيأتي- وفي أعمال القلوب أنهم واحد، فأعمال القلوب التي أصلها التصديق عندهم شيءٌ واحد، والعمل ليس من الإيمان عندهم يعني من حقيقة الإيمان وإن كان لا بد منه في تحقيق الإيمان، بخلاف أهل القولين السابقين يعني الماتريدية (1) .
: [[الشريط الثلاثون]] :
والأشاعرة والكرامية فإنهم يقولون أنَّهُ لو وَافَى بلا عمل فإنه ناجٍ، لو لم يعمل قط فإنه ينجو.
وأما مرجئة الفقهاء فيقولون لابُدَّ لَهُ مِنَ العمل فإذا ترك العمل فهو فاسقٌ، لكن [لا] (2) يُدْخِلُونَهُ في مُسَمَّى الإيمان.
وأظن شبهتهم نَصْ أبي حنيفة في هذه المسألة وهو بَنَاهُ على أنَّ الذين خُوطِبُوا بالإيمان هم المؤمنون والمنافقون، والمنافقون ليس لهم عمل، عَمَلُهُم باطل، وإنما أَقَرُّوا باللسان فقط، والمؤمنون مُصَدِّقُونَ مُقِرُّونْ، فَجَمَعَ لهم ما بين -يعني بين الطائفتين- ما بين الإقرار باللسان والتصديق بالجنان؛ يعني في الخطاب الظاهر، وأما الأعمال فالحساب عليها آخر.
ومن أدلّتهم الأصل اللغوي الذي هو حَسَبْ ما قالوا أنَّ الإيمان هو التصديق، والإقرار أُخِذَ من زيادة في الشريعة لأنه لابد من قول لا إله إلا الله محمد رسول الله.
4- القول الرابع:
هو قول الخوارج والمعتزلة وهو أنَّ الإيمان: اعتقادْ بالجنان أو تصديق بالجنان وإقرار باللسان وعمل بالجوارح.
وهذا العمل عندهم بِكُلِّ مأمورٍ به، والانتهاء عن كلِّ منهيٍّ عنه.
فما أُمرِ َبه وُجُوبًا فيدخل في مسمى الإيمان بِمُفْرَدِهِ، وما نُهِيَ عنه تحريماً فيدخل في مسمَّى الإيمان بمفرده.
يعني أنَّ كلَّ واجبٍ يدخل في مسمى الإيمان على حِدَهْ، فيكون جزءاً وركناً في الإيمان، وكُلُّ محرمٍ في الانتهاء عنه يدخل في مسمى الإيمان بمفرده.
وبناءً على ذلك قالوا: فإذا تَرَكَ واجباً فإنه يكفر، وإذا فعل محرماً من الكبائر فإنه يكفر؛ لأنَّ جزء الإيمان وركن الإيمان ذَهَبْ.
فعندهم أنَّ هذا العمل جزء واحد، إذا فُقِدَ بعضه فُقِدَ جميعه.
وبين الخوارج والمعتزلة خلاف فيمن استحق النار بالآخرة ماذا يسمى في الدنيا؟
على القول المعروف عندهم:
- وهو عند الخوارج في الدنيا عند يُسَمَّى كافر.
- وعند المعتزلة هو في منزلة بين المنزلتين لا يقال مؤمن ولا يقال كافر.
مع اتفاقهم على أنه في النار مخلدْ فيها لانتفاء الإيمان في حقه.
5- القول الخامس:
هو قول أهل الحديث والأثر وقول صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أنَّ الإيمان:
اعتقاد -ومن الاعتقاد التصديق-، وقول باللسان وهو إعلان لا إله إلا الله محمد رسول الله، وعمل بالأركانـ وأنه يزيد وينقص.
ويعنون بالعمل جنس العمل؛ يعني أنْ يكون عنده جنس طاعة وعمل لله - عز وجل -.
فالعمل عندهم الذي هو ركن الإيمان ليس شيئاً واحداً إذا ذَهَبَ بعضه ذهَبَ جميعه أو إذا وُجِدَ بعضه وُجد جميعه؛ بل هذا العمل مُرَكَّبٌ من أشياء كثيرة، لابد من وجود جنس العمل.
وهل هذا العمل الصلاة؟ أو هو أيُّ عملٍ من الأعمال الصالحة بامتثال الواجب طاعةً وترك المحرم طاعةً؟
هذا ثَمَّ خلافٌ بين علماء الملة في المسألة المعروفة بتكفير تارك الصلاة تهاونا أو كسلاً.
* الفرق ما بين مذهب أهل السنة والجماعة وما بين مذهب الخوارج والمعتزلة:
- أنَّ أولئك جعلوا تَرْكَ أي عمل واجب أو فعل أي عمل محرّم فإنه ينتفي عنه اسم الإيمان.
- وأهل السنة قالوا: العمل ركن وجزءٌ من الماهية؛ لكن هذا العمل أبعاض ويتفاوت وأجزاء، إذا فات بعضه أو ذهب جزء منه فإنه لا يذهب كله.
فيكون المراد من الاشتراط جنس العمل؛ يعني أن يُوجَدَ منه عملٌ صالح ظاهراً بأركانه وجوارحه، يدلُّ على أنَّ تصديقه الباطن وعمل القلب الباطن على أنه استسلم به ظاهراً.
وهذا مُتَّصِلٌ بمسألة الإيمان والإسلام، فإنه لا يُتَصَوَّرْ وجود إسلام ظاهر بلا إيمان، كما أنه لا يُتَصَوَّرْ وجود إيمان باطن بلا نوع استسلام لله - عز وجل - بالانقياد له بنوع طاعةٍ ظاهراً.
__________
(1) انتهى الشريط التاسع والعشرون.
(2) لعل الشيخ لم يقصد هذا الحرف وإنما أراد أنهم يُدْخِلُونَهُ في مسمى الإيمان إذ قال عن مرجئة الفقهاء في شرح العقيدة الواسطية/ الشريط (23) ما نصه ((فقالوا الايمان قول واعتقاد وأما العمل فليس من مُسَمَّى الايمان وإنما هو لازم له - يعني لابد أنه يعمل لكن لو لم يعمل ما خرج عن اسم الايمان)(1/404)
[المسألة السادسة] :
الطحاوي هنا تَرَكَ العمل؛ يعني ما ذَكَرَ العمل في مسمى الإيمان، وكما ذكرتُ لك أنَّ العمل عند أهل السنة والجماعة داخِلٌ في مسمى الإيمان وفي ماهيته وهو ركن من أركانه.
والفرق بينهما يعني بين قول مرجئة الفقهاء -وهو الذي قرَّرَهُ الطحاوي- وبين قول أهل السنة والجماعة أتباع الحديث والأثر، الفرق بينهما:
- من العلماء من قال: إنه صُورِي لا حقيقة له؛ يعني لا يترتب عليه خلافٌ في الاعتقاد.
- ومنهم من قال: لا، هو معنوي وحقيقي.
ولبيان ذلك؛ لأنَّ الشارح ابن أبي العز رحمه الله على جلالة قدره وعُلُوِّ كعبه ومتابعته للسنة ولأهل السنة والحديث فإنه قَرَّرَ أنَّ الخلاف لفظي وصوري، وسبب ذلك أنَّ جهة النظر إلى الخلاف منفكَّة:
- فمنهم من ينظر إلى الخلاف بأثَرِهِ في التكفير.
- ومنهم من ينظر إلى الخلاف بأثرِهِ في الاعتقاد.
@ فمن نظر إلى الخلاف بأثرِهِ في التكفير قال الخلاف صوري، الخلاف لفظي.
لأنَّ الحنفية الذين يقولون هو الإقرار باللسان والتصديق بالجنان هم متّفقون مع أهل الحديث والسنة مع أحمد والشافعي على أنَّ الكفر والرِدَّةْ عن الإيمان تكون بالقول وبالاعتقاد وبالعمل وبالشك.
فهم متفقون معهم على أنَّ:
- من قال قولاً يخالف ما به دخل في الإيمان فإنه يكفر.
- ومن اعتقد اعتقاداً يخالف ما به دخل في الإيمان فإنه يكفر.
- وإذا عمل عملاً ينافي ما دخل به في الإيمان فإنه يكفر.
- وإذا شَكَّ أو ارتاب فإنه يكفر.
بل الحنفية في باب حكم المرتد في كتبهم الفقهية أشد في التكفير من بقية أهل السنة مثل الحنابلة والشافعية ونحوهم.
فهم أشد منهم، حتى إنهم كَفَّرُوا بمسائل لا يُكَفِّرُ بها بقية الأئمة كقول القائل مثلا سورةٌ صغيرة فإنهم يُكفِّرون بها، أو مسيجد أو نحو ذلك أو إلقاء كتاب فيه آيات فإنهم يُكَفِّرون إلى آخر ذلك.
فمن نَظَرَ -مثل ما نَظَرْ الشارح، ونَظَرْ جماعة من العلماء- من نَظَرَ في المسألة إلى جهة الأحكام وهو حكم الخارج من الإيمان قال:
الجميع متّفقون، سواءٌ كان العمل داخلاً في المسمى أو خارجاً من المسمى فإنه يكفُرُ بأعمال ويكفُرُ بترك أعمال.
فإذاً لا يترتّب عليه على هذا النحو:
1 - دُخُولٌ في قول المرجئة الذين يقولون: بلا عَمَلٍ ينفع، ولا يَخْرُجُ من الإيمان بأي عَمَلٍ يعمله.
2 - ولا يدخلون مع الخوارج في أنهم: يُكَفِّرونَ بأي عمل أو يترك أي واجب أو فعل أي محرم.
فمِنْ هذه الجهة إذا نُظِرَ إليها تُصُوِّرْ أنَّ الخلاف ليس بحقيقي؛ بل هو لفظي وصوري.
@ الجهة الثانية التي يُنْظَرُ إليها وهي أنَّ العمل -عمل الجوارح والأركان- هو مما أمَرَ الله - عز وجل - به في أن يُعْتَقَدَ وجوبُهُ أو يُعْتَقَدَ تحريمه من جهة الإجمال والتفصيل.
يعني أنَّ الأعمال التي يعملها العبد لها جهتان:
1- جهة الإقرار بها.
2- وجهة الامتثال لها.
وإذا كان كذلك فإنَّ العمل بالجوارح والأركان، فإنه إذا عَمِلَ:
- فإما أن نقول: إنَّ العمل داخِلٌ في التصديق الأول؛ التصديق بالجنان.
- وإما أن نقول: إنه خارجٌ عن التصديق بالجنان.
& فإذا قلنا إنَّهُ داخلٌ في التصديق بالجنان -يعني العمل بالجوارح باعتبار أنَّهُ إذا أقَرَّ به امتثل- فإنه يكون التصديق إذاً ليس تصديقاً، وإنما يكون اعتقاداً شاملاً للتّصديق وللعزم على الامتثال، وهذا ما خَرَجَ عن قول وتعريف الحنفية.
& والجهة الثانية أنَّ العمل يُمتَثَلُ فعلاً فإذا كان كذلك كان التنصيص على دخول العمل في مسمى الإيمان هو مقتضى الإيمان بالآيات وبالأحاديث، لأنَّ حقيقة الإيمان فيما تُؤْمِنُ به من القرآن في الأوامر والنواهي في الإجمال والتفصيل أنَّكَ تؤمن بأنّ تَعْمَلْ، وتؤمن بأن تنتهي، وإلا فلو لم يدخل هذا في حقيقة الإيمان لم يحصل فرقٌ ما بين الذي دخل في الإيمان بيقين والذي دخل في الإيمان بنفاق.
يُبَيِّنُ لك ذلك أنَّ الجهة هذه وهي جهة انفكاك العمل عن الاعتقاد، انفكاك العمل عن التصديق هذه حقيقةً داخلةٌ فيما فَرَّقَ الله - عز وجل - به فيما بين الإسلام والإيمان.
ومعلومٌ أنَّ الإيمان إذا قلنا إنَّهُ إقرارٌ وتصديق فإنه لابد له من إسلام وهو امتثال الأوامر والاستسلام لله بالطاعات.
لهذا نقول إن مسألة الخلاف هل هو لفظي أو هو حقيقي راجعة إلى النظر في العمل.
هل العمل داخلٌ امتثالاً فيما أمر الله - عز وجل - به أم لم يدخل امتثالاً فيما أمر الله - عز وجل - به؟(1/405)
والنبي صلى الله عليه وسلم بَيَّنَ أنه يأمُرُ بالإيمان «آمركم بالإيمان بالله وحده» (1) ، والله - عز وجل - أمر بالإيمان {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا} [النساء:136] . فالإيمان مأمور به، وتفاصيل الإيمان بالاتفاق بين أهل السنة وبين مرجئة الفقهاء يَدْخُلُ شُعَبْ الإيمان، يَدْخُلُ فيها الأعمال الصالحة؛ لكنها تَدْخُلُ في المُسَمَّى من جهة كونها مأموراً بها، فمن امتثل الأمر على الإجمال والتفصيل فقد حَقَّقَ الإيمان، وإذا لم يمتثل الأمر على الإجمال والتفصيل فإنه بعموم الأوامر لا يدخل في الإيمان.
وهذه يكون فيها النظر مُشْكِلَاً من جهة:
هل يُتصوَّرْ أن يوجد أحد يؤمن بالإيمان، يؤمن بما أنزل الله - عز وجل - ولا يفعل خيراً البتة، لا يفعل خيراً قط، لا يمتثل واجباً ولا ينتهي عن محرم مع اتساع الزمن وإمكانه؟؟
في الحقيقة هذا لا يُتَصَوَّرْ أن يكون أحد يقول أنا مؤمن ويكون إيمانه صحيحاً ولا يعمل صالحاً مع إمكانه، لا يعمل أي جنس من الطاعات خوفا من الله - عز وجل -، ولا ينتهي عن أي معصية خوفا من الله - عز وجل -، هذا لا يُتصَوَّرْ.
ولهذا حقيقةً المسألَةُ تَرْجِعُ إلى الإيمان بالأمر، الأمر بالإيمان في القرآن وفي السنة كيف يؤمن به؟ كيف يحققه؟
يحقق الإيمان بعمَلٍ، بِجِنْسِ العمل الذي يمتثل به، فَرَجَعَ إذاً أن يكون الامتثال داخل في حقيقة الإيمان بأمره، وإلا فإنه حينئذ لا يكون فرقاً بين من يعمل ومن لا يعمل.
لهذا نقول إن الإيمان الحق بالنص، بالدليل يعني بالكتاب والسنة بالله وبرسوله صلى الله عليه وسلم وبكتابه لابد له من امتثال، وهذا الامتثال لا يُتَصَوَّرُ أن يكون غير موجودٍ للمؤمن، أن يكون مؤمن ممكن أن يعمل ولا يعمل البتة.
وإذا كان كذلك، كان إذاً جزءاً من الإيمان لـ:
- أولا لدخوله في تركيبه.
- والثاني أنه لا يُتَصَوَّرْ في الامتثال للإيمان والإيمان بالأمر أن يؤمن ولا يعمل البتة.
إذاً فتحَصَّلْ من هذه الجهة أنّ الخلاف ليس صورياً من كل جهة؛ بل ثَمَّ جهة فيه تكون لفظية، وثَمَّ جهة فيه تكون معنوية.
والجهات المعنوية والخلاف المعنوي كثيرة متنوّعة، لهذا قد ترى من كلام بعض الأئمة من يقول أنَّ الخلاف بين مرجئة الفقهاء وبين أهل السنة صوري؛ لأنهم يقولون العمل شرط زائد لا يدخل في المسمى، وأهل السنة يقولون لا هو داخل في المسمى فيكون إذاً الخلاف صوري.
من قال الخلاف صوري فلا يُظَنْ أنَّهُ يقول به في كل صُوَرِ الخلاف، وإنما يقول به من جهة النظر إلى التكفير وإلى ترتب الأحكام على من لم يعمل.
أما من جهة الأمر، من جهة الآيات والأحاديث والاعتقاد بها والإيقان بالامتثال فهذا لابد أن يكون الخلاف حينئذ حقيقياً.
__________
(1) سبق ذكره (402)(1/406)
[المسألة السابعة] :
زيادَةُ الإيمان ونقصانُهُ اختلف فيها العلماء على أقوال:
1- القول الأول:
وهو قول جمهور أهل العلم من أهل السنة ومن المرجئة ومن غيرهم، قول الجمهور من جميع الطوائف أنَّ الإيمان يزيد وينقُصْ.
2- القول الثاني:
أنَّ الإيمان يزيد ولا ينقُصْ، وهذا منسوبٌ إلى بعض أئمة أهل السنة؛ لأنَّ الدليل دلَّ على زيادته وهذا أمْرٌ لا يدخله القياس، فلا نقول بنقصانه لعدم ورود الدليل في ذلك.
3- القول الثالث:
من قال إنَّ الإيمان لا يزيد ولا ينقص وهو قول طائفة من المرجئة ومن غيرهم.
* ولا ارتباط ما بين الإرجاء والخلاف في الثلاثة أركان الأولى وما بين القول بزيادة الإيمان وبنقصانه.
تارَةً تجد من ذهب إلى أحد الأقوال يقول بزيادته ونقصانه ومن ذهب إليه لا يقول بزيادته ونقصانه.
يعني مثلاً الأشاعرة الذي هم مرجئة والماتريدية منهم من يقول بزيادته ونقصانه ومنهم من لا يقول بذلك لعدم ترتبها على حقيقة الإيمان، هذا أمر زائد أَدْخَلُوهُ في البحث.
فإذاً لا أثر في الخلاف في مسألة زيادته أو نقصانه على كونه مرجئاً.
فإذا قال أحد (الإيمان ما يزيد ولا ينقص) فإن هذا لا يدل على كونه مثلاً مرجئاً؛ لكنَّهُ يدل على أنه ليس من أهل السنة.
إذا قال (الإيمان نقول بزيادته ونقصانه) فهذا لا يدل على أنه من أهل السنة والجماعة، بل قد يكون مرجئاً.
فلا ارتباط بين مسألة الزيادة والنقصان ومسائل التعريف السالفة للإيمان.(1/407)
[المسألة الثامنة] :
عرَّف الإيمان بقوله إقْرارٌ باللِّسانِ، وتصديقٌ بالجَنَانِ، وقلنا في التعريف اعتقاد بالجنان.
والفرق ما بين التصديق والاعتقاد:
أنَّ التصديق شيء واحد؛ بمعنى أنَّهُ أمْرٌ واحد، عِبَادَةٌ واحدة.
وأما الاعتقاد فإنه يشمل أشياء كثيرة من أعمال القلوب.
لهذا قالت طائفة من السّلف في تعريف الإيمان (الإيمان قول وعمل) وهذا دقيق لأنه يشمل قول القلب وقول اللّسان.
(قول القلب) هو تصديقه وإخلاصه في الله - عز وجل -.
(وقول اللّسان) هو إعلانه الشّهادة.
وعَمَلْ: يشمل عمل القلب وعمل الجوارح.
(وعَمَلُ القلب) من محبة الله - عز وجل - والتوكل عليه والخوف منه - جل جلاله - ورجاؤه والإنابة إليه وخشية الرّب - جل جلاله - ونحو ذلك من أعمال القلوب.
فإذاً ما يتّصِلُ بالقلب من أمور الإيمان ليست شيئاً واحداً، ليس هو التصديق فقط، بل ثَمَّ أشياء كثيرة في القلب، والتصديق هو أحدها.
ولهذا فإنَّ التفاضل -الزيادة والنقصان- زيادةٌ ونقصان باعتبار العمل الظاهر، وزيادةٌ ونقصان باعتبار عمل القلب الباطن.
فالناس يتفاوتون في الإيمان من جهة:
1 - زيادته ونقصانه في أعمالهم الظاهرة وهي أمور الإسلام: من الصلاة والزكاة والصيام والحج والاستسلام لله - عز وجل - في الأوامر والانقياد ونحو ذلك والانتهاء من المحرمات.
2 - وكذلك أعمال القلوب.
وأعمال القلوب نوعان:
- أعمالٌ واجِبَةُ الفعل.
- وأعمالٌ مُحَرَّمَةُ العمل أو واجبة الترك.
@ أما واجبة الفعل مثل: محبة الله - عز وجل -، والإنابة إليه، والتوكل عليه، وخشيته، والخوف منه، والطمأنينة له، ونحو ذلك من أعمال القلوب.
@ وما يجب تركه من أعمال القلوب المحرمات، محرمات أعمال القلوب التي هي الكِبْرْ والبَطَر وتزكية النفس وسوء الظن بالله - عز وجل - ونحو ذلك، هذه كلها يجب تركها.
فإذاً أعمال القلوب مشتملة على:
1 - تصديق.
2 - ومشتملة على أمور واجبٌ أن يعملها القلب، وأمور واجب أن ينتهي عنها القلب.
* وهذه كلها في الحقيقة متصلة؛ فالتصديق مُتَأَثِرٌ زيادَةً ونُقْصَانَاً بأعمال القلوب.
فأعمال القلوب تؤثر على تصديقه، فأعمال القلوب الواجبة إذا زادت محبته لله - عز وجل - زاد تصديقه، إذا زادت إنابته إلى الله وزاد خشوعه وخضوعه بين يدي الله وزاد توكله على الله سبحانه وتعالى زاد تصديقه وزاد يقينه.
وكذلك إذا انتهى عن المحرمات، خضع لله - عز وجل -، لم يكن مُتَكبرا، ذليلاً لله - عز وجل -، غير مترفع على الخلق، مُحِبَاً لسلامته -سلامة قلبه-، مُبْتَعِداً عما يفسد القلب، هذه كلها مؤثرة في تصديقه.
فإذاً رجع الأمر في زيادة الإيمان وفي نقصانه إلى زيادة الإيمان في أركانه الثلاثة ونقصان الإيمان في أركانه الثلاثة.
فإذاً زيادة الإيمان (يزيد بطاعة الرحمن) يعني:
- يزيد التصديق أو الاعتقاد بطاعة الرحمن.
- يزيد الإقرار باللسان بطاعة الرحمن.
- يزيد العمل بالأركان أيضا بطاعة الرحمن.
فزيادة الإيمان راجِعَةٌ للثلاثة جميعاً.
لأنَّ الزيادة: تارةً تكون بالعمل الظاهرمثل زيادة صلاة، زيادة صدقة، زيادة بر، زيادة جهاد في سبيل الله، طلب علم ونحو ذلك، فيَرْجِعُ هذا إلى التصدِيقِ وإلى الإقرار بزيادة.
فيكون تصديقه واعتقاده أكثر وأعظم وأمتن وأثبت وكذلك إقراره.
وهذا يُحِسُّهُ الإنسان من نفسه فإنه إذا زاد إيمانه زاد لَهَجُهُ بذكر به - عز وجل - تهليلاً وتسبيحاً وتحميداً وتكبيراً وتمجيداً.
المسائل كثيرة نرجئ البقية إلى موضعٍ آتٍ إن شاء الله.(1/408)
قال بعدها (وَجَمِيعُ مَا صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الشَّرْعِ وَالْبَيَانِ كُلُّهُ حَقٌّ.)
_____________________________________________
يعني به أنَّ المؤمن لا يُفَرِّقُ بين كلام الله - عز وجل - ولا بين السُّنَنِ، فكل ما جاء في الكتاب أو صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمور العقيدة والشريعة هذا يجب التسليم له، وكله حق يجب الإيمان به، وذلك كما قال - عز وجل - في وصف اليهود {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ} [البقرة:85] الآية، وكذلك قوله {لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} [البقرة:285] ، وكذلك قوله {وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا} [النساء:150] .
فالواجب هو الإيمان بجميع ما أنزل الله - عز وجل - على رسوله في القرآن، وما صَحَّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في السنة، فالكل حق صَدَرَ عن مشكاة واحدة، عن الرب - جل جلاله - وتقدست أسماؤه.(1/409)
(وَالْإِيمَانُ وَاحِدٌ وَأَهْلُهُ فِي أَصْلِهِ سَوَاءٌ، وَالتَّفَاضُلُ بَيْنَهُمْ بِالْخَشْيَةِ وَالتُّقَى، وَمُخَالَفَةِ الْهَوَى، وَمُلَازَمَةِ الْأَوْلَى)
____________________________________________
هذه العبارة منه تقريرٌ لكلام أبي حنيفة وأصحابه الذين يُسَمَّونَ مرجئة الفقهاء في أنَّ الإيمان واحد؛ يعني أنَّهُ في أصل وجوده شيءٌ واحد، إذا دَخَلَ في الإيمان دَخَلَ بشيءٍ واحد، إذا وُجِدَ سُمِّيَ مؤمناً وإذا لم يوجد لم يُسَمَّ مؤمنا.
وهذا القدر القليل الذي هو الأصل نظروا إليه بأنه شيء واحد وأنَّ أهله في أصله سواء.
يعني أنَّ أصل الإيمان يتساوى فيه المؤمنون، فجعلوا إيمان الناس كإيمان النبي صلى الله عليه وسلم، كإيمان أبي بكر، كإيمان محمد صلى الله عليه وسلم؛ بل كإيمان الرسل جميعاً بل جعلوه كإيمان الملائكة جميعاً.
لمَّا كان أصل الإيمان واحداً -يعني ما يحصل به الإيمان أول الأمر- جَعَلُوا أهله في أصله سواء.
وهذا كما ذكرتُ لك راجع إلى أنَّ التصديق عندهم، وما يتصل به من أعمال القلب أنه شيءٌ واحد، وقد نَصَّ على ذلك أبو حنيفة في كتابه الفقه الأكبر في أنَّ: التصديق واحد وأنَّ التوكل واحد والمحبة واحدة وأنَّ الخشية خشية القلب واحدة ونحو ذلك.
فجعلوا ما في القلب مما يَحصُلُ به الإيمان جعلوه شيئاً واحداً.
والذي دلت عليه الأدلة من الكتاب والسنة أنَّ أهل الإيمان متفاضلون فيما بينهم، فالله - عز وجل - فَضَّلَ بعض الرسل على بعض فقال سبحانه {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} [البقرة:253] . وتفضيل بعضهم على بعض نتيجة وسبب ونتيجة لسبب وهو تفاضلهم في الإيمان.
فالرسل منهم أولوا العزم وهم أعظم الرسل مقاماً وأرفع الرسل مكانَةً {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنْ الرُّسُلِ} [الأحقاف:35] ، فالرسل ليسوا في منزلةٍ واحدة عند الله - عز وجل -.
والتفاضل هنا يكون بالإيمان -بإيمان القلب- ويكون بإيمان الجوارح بفعلها.
وهنا جَعَلْ الطحاوي التفاضل بالأمور الظاهرة قال (بِالْخَشْيَةِ وَالتُّقَى، وَمُخَالَفَةِ الْهَوَى، وَمُلَازَمَةِ الْأَوْلَى) ولكن هذا التفاضل هو بعض التفاضل؛ لكن القلب يكون بين هذا وهذا من التفاضل في أعمال القلوب وفي تصديق القلب ما ليس بمحدود.
ولهذا خصّ الله - عز وجل - أبا بكر الصديق رضي الله عنه بأنه صَدَّقَ من بين سائر الصحابة، فقال - عز وجل - {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُتَّقُونَ} [الزمر:33] ، فخَصَّهُ بالتصديق لأنَّ عنده تصديقاً زائداً عن غيره، وكذلك قوله - عز وجل - في سورة الليل {وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى (18) وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى (19) إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى} [الليل:17-20] فهذا الابتغاء الذي هو أصل الدخول في الدين الذي هو ابتغاء ما عند الله - عز وجل - خُصَّ به أبو بكر لأنَّ له في ذلك مزيداً ليس لغيره.
لهذا قال صلى الله عليه وسلم «لو وُزن إيمان الأمة بإيمان أبي بكر لرَجَح إيمان أبي بكر» (1) وقال أيضاً التابعي الجليل أبو بكر شعبة القارئ المعروف (ما سبقهم أبو بكر بكثرة صدقة ولا صلاة ولكن بشيء وقر في قلبه) (2) .
هذا الشَّيء الذي وَقَرَ في القلب الذي هو التصديق، الناس يعرفون أنَّ فلاناً وفلاناً من جهة تصديقهم للخبر يختلفون -أي خبر-.
فيأتي ثقة إلى أناس فيقول هذا حاصل، فهذا مُصَدِّقٌ وهذا مُصَدِّقٌ؛ لكن تصديق الأول يختلف عن تصديق الثاني من حيث قوته، من حيث الجزم به بقوة وثبات ويقين.
ولهذا أبو بكر رضي الله عنه حصل له من المقامات كما هو معروف في السيرة ما ليس لغيره.
هذا التصديق أيضاً فيه أشياء تؤثر فيه من جهة التفاضل كما سيأتي بيانه.
إذاً كلام الطحاوي فيما سمعت جعل التفاضُلَ بأمورٍ خارجة عن تصديق القلب، عن اعتقاد القلب، جعلها، الخشية الظاهرة والتقوى الظاهرة ومخالفة الهوى وملازمة الأَوْلى بامتثال الأوامر واجتناب النواهي.
إذا تبين هذا فنذكر على هذا عدة مسائل:
__________
(1) فضائل الصحابة لاحمد بن حنبل (653) / شعب الايمان للبيهقي (36) / كشف الخفاء للعجلوني (2130) / إتحاف السادة المتقين للزبيدي (1/323) / مسند اسحاق بن راهويه (1266)
(2) منهاج السنة (6/223)(1/410)
[المسألة الأولى] :
أنَّ قوله (وَأَهْلُهُ فِي أَصْلِهِ سَوَاءٌ) يُرَدُّ عليه بأنَّ أصل الإيمان:
- إما أن يكون لُغَوياً.
- وإما أن يكون شرعياً.
فإذا كان المراد الشرعي -يعني الإيمان الشرعي-، فإنّ الإيمان يَصْدُقُ على:
- ما به يدخل المرء فيه.
- وأيضاً يكون أصله فيما بعد ذلك من الزيادات.
بمعنى أنَّهُ يدخل في الإيمان بتصديقٍ وبكلمة، ثم بعد ذلك يكون تصديقه غَيْرَ تصديقه الأول، وتكون كلمته غيرَ كلمته الأولى.
فلهذا كلمة (أَصْله) فيها إجمال وعدم وضوح.
هل المقصود بالأصل أنه الأصل الشرعي حين دخل في الإسلام؟
أو المقصود الأصل الشرعي الذي يتابعه ويمشي معه، يعني يلازم الإنسان دائماً وأنه أصل واحد لا يزيد دائما؟.
هذا فيه إجمال، وأيضاً لا يتفق هذا وذاك، فلا يَتَّفِقُ أَصْلُ إيمانِهِ أَوَّلَ ما دَخَلَ مع أَصْلِ إيمانه الذي يصاحبه، وكُلُّ أحد يعرف من نفسه الفرق ما بين أصل الإيمان حين أسلم وأصل إيمانه حين رسخت قدمه وحَسُنَ إسلامه.
فإذاً كلمة (أَهْلُهُ فِي أَصْلِهِ) ، أصل الإيمان ما هو؟
هذه كلمة مجملة غير واضحة مرجعها غير واضح ولا دليل من الكتاب أو السنة على هذه الكلمة؛ يعني التعبير بأصل الإيمان وعدم التفريق فيما بين الإيمان اللغوي والشرعي.(1/411)
[المسألة الثانية] :
أنَّ أصل الإيمان إذا قلنا هو التصديق، فإنَّ التصديق يتفاوت.
التّصديق نفسه الذي هو حد الإيمان -لأنهم عَرَّفُوا الإيمان إقرار باللسان وتصديق بالجنان- هذا التصديق الذي هو في تعريف الإيمان يتفاوت الناس فيه، وأيضاً يزيد في المعين وينقص.
وأسباب زيادة التصديق ونقصان التصديق أمور:
1 - الأول: أنَّ مسائل الشّرع، مسائل الكتاب والسنة كثيرة، سواء في الأمور الاعتقادية أو في الأمور العملية، وهذه كلها يجب الإيمان بها على الإجمال والتفصيل.
فإيمانُ وتَصْدِيْقُ مَنْ كَانَ مُقْتَصِرَاً على الإجماليات من جُهَّال المسلمين ليس كإيمان وتصديق من صَدَّقَ بكل ما عَلِمَهُ.
فالعَالِمُ تصديقُه مُجْمَلْ وتَصْدِيقُهُ مُفَصَّلْ بكل ما عَلِمَهْ، وأمّا الجاهل فتصْدِيقُهُ مُجْمل وما عَلِمَهُ من الشريعة قليلٌ صَدَّقَ به لكنه تصديقٌ ببعض الأمور.
فمن صَدَّقَ بكل الفروع -سواءٌ فروع العقيدة أو فروع الشريعة- من صَدَّقَ بها جميعاً فتصديقه أعلى ممن صَدَّقَ تصديقاً إجمالياً لا تفصيل فيه.
فإذاً نفس التصديق من جهة أوامر الشريعة والإيمان بالنصوص يختلف من جهة الإجمال والتفصيل.
2- الثاني: الأعمال الظاهرة أيضاً امتثالاً للأوامر واجتناباً للنواهي تُؤَثِّرْ في التصديق ويؤثر فيها التصديق.
ويدل على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا ينتهب نُهبة ذات شرف يرفع إليه فيها الناس أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن» (1) كما في الصحيح، وفي مسند الإمام أحمد قال «إذا زنى العبد ارتفع الإيمان فكان على رأسه كالظلة فإذا ترك عاود» (2) ، فإذاً هو حينما يفعل هذه الكبيرة، كبيرة الزنا أو كبيرة شرب الخمر أو كبيرة السرقة أو ما شابهها، حين يفعل، قال «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن» ؛ لكن هنا هل زال تصديقه بالكلية؟
لا، لكن التصديق القوي المُسْتَحْضَرْ بالله - عز وجل - وبالدّار الآخرة وبعقابه والحساب والعذاب وما يكون بعد ذلك ومن العقوبات في الدنيا، هذا التصديق المتجزِّئ الكثير، هذا التصديق غاب عنه حين واقع المحظور، فلذلك قال «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن» .
فإذاً الأعمال الظاهرة امتثالاً للواجب وانتهاءً عن المحرم هذه تزيد في التصديق، قال - عز وجل - {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانَاً} [الأنفال:2] ، وزيادة الإيمان ترجع إلى أركان الإيمان، إذْ تخصيص بعض الأركان دون بعض ليس عليه دليل، زيادة التصديق وزيادة العمل وزيادة الإقرار، وكذلك قوله - عز وجل - {لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} [الفتح:4] ، {لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا} ، {إِيمَانًا} هنا نكرة فتفيد الإطلاق في هذا المقام يعني إيماناً من جهة العمل وإيمان من جهة الإقرار وإيمان من جهة التصديق والاعتقاد.
3- الثالث: أعمال القلوب مختلفة، الإنابة إلى الله - عز وجل -، ومحبة الرب سبحانه والخضوع له والتلذذ بمناجاته والأُنْسْ بتلاوة كتابه والتعرض لنفحاته في الأوقات الفاضلة، هذه أمور تزيد من اعتقاد القلب، وكل أحد يعلم من نفسه أنَّ حاله مع وجود هذه الأمور ومجاهدة النفس فيها ليس كحاله بدونها، وإيقانه بالجنة والنار وبالنعيم وبالعذاب وتوكُلُهُ على الله - عز وجل - ويقينه وقوّته في الإيمان تختلف فيما إذا تعاطى هذه العبادات وفيما إذا تهاون بها.
فإذاً إيقانه وتصديقه متصل بعبادات القلوب، وعبادات القلوب تزيد في التصديق والتصديق زيادته يؤثر فيها، فعمل القلب واحد، وإذا قلنا عمل القلب نسميه كذا ونسميه كذا فباعتبار التَّجْزِيء باعتبار الإيضاح؛ لكن في الحقيقة القلب شيء واحد، إذا جاءه التوكل قَوِيَ التصديق، إذا قَوِيَ التصديق قويت محبة الله - عز وجل -، إذا قويت محبة الله سبحانه وتعالى قويت الإنابة إليه وامتثال أوامره والرغبة فيما عنده.
فالقلب -إذاً- تفريقُ أعماله إنما هو للإيضاح والبيان، وإلا فكل عملٍ قلبيٍ مؤثر على العمل الآخر صِدْقَاً في الاعتقاد وإنابة وخضوع وامتثال ظاهر وامتثال باطن وإقرار وإيقان.
ولهذا تجد أنّ أعظم المؤمنين إيمانا أكثرهم خضوعاً وذلاً لله - عز وجل - وعدم ترفع على الخلق؛ لأنَّ هذا الذي في القلب بعضه يؤثر على بعض.
الصلاة يؤثر على الثواب فيها وعلى حُسنها تصديق القلب وخشية القلب وإنابته وحضوره إلى آخره، وكذلك هي تؤثر في هذه الأعمال.
__________
(1) البخاري (2475) / مسلم (211)
(2) الترمذي (2625) / المستدرك (56)(1/412)
إذاً في التفريق ما بين أعمال القلوب هذا تصديق وهذا توكل وهذه خشية وهذه إنابة بأنه تفريق منطقي صحيح يعني بمعنى يمكن أن ترى هذه بلا هذه ولا صلة بينهما هذا بحثٌ نظري لا حقيقة له، فالإيمان -إيمان القلب- وأعمال القلوب مترابطة بعضها آخذٌ ببعض فإذا زاد التوكل زاد التصديق، وإذا قوي التصديق واليقين بأسباب الأعمال الظاهرة قوي التوكل قويت الخشية قويت المحبة قوي الرجاء ونحو ذلك.
فإذاً من أوجُهِ زيادة التصديق وزيادة أصل الإيمان -إذا صح التعبير موافقةً لأولئك- فإنه يُنْظَرُ فيه إلى تفاوت الأعمال؛ أعمال القلوب.
هذه بعض أسباب تفاوت الناس في تصديق القلب، وهناك أوجُهْ أخرى ذَكَرَهَا أهل العلم في مواطنها وخاصَّةً ابن تيمية في كتاب الإيمان؛ فإنه ذكر سبعة أوجه أو أكثر في تفاوت الناس في أصل الإيمان أو في التصديق أو في الاعتقاد، وأسباب الزيادة والنقصان بما يتعلق باعتقاد الناس. (1)
__________
(1) انتهى الوجه الأول من الشريط الثلاثين.(1/413)
[المسألة الثالثة] :
قوله (وَالتَّفَاضُلُ بَيْنَهُمْ بِالْخَشْيَةِ وَالتُّقَى، وَمُخَالَفَةِ الْهَوَى، وَمُلَازَمَةِ الْأَوْلَى) هذا صحيح؛ لكنَّهُ وجه تفاضل وليس كل أوجُهْ التفاضل.
(فالتفاضل قد يكون مِنَّةً مِنَ الله - عز وجل - وتَكَرُّمَاً أن يَمُنَّ على أحد بأن يكون أفضل من أحد، والله - عز وجل - يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء.
(ويكون التفاضل أيضاً بأمورٍ زمانية مثل صحبة النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه زائدة عن الأمور التي ذكرها وهي (الْخَشْيَةِ وَالتُّقَى، وَمُخَالَفَةِ الْهَوَى، وَمُلَازَمَةِ الْأَوْلَى) ، وقد جاء في الحديث لمقام أحدهم ساعة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم خير من عبادة أحدكم ستين سنة أو كما جاء عن بعض الصحابة رضوان الله عليهم (1) ، وقد قال صلى الله عليه وسلم أيضاً في الحديث الذي في الصحيحين «لا تسبوا أصحابي -لما نِيلَ من عبد الرحمن بن عوف وهو من السابقين- فوالذي نفس محمد بيده فلو أنفق أحكم مثل أحدٍ ذهبا ما بلغ مُدَّ أحدهم ولا نصيفه» (2) يعني ولا نصف المد، وذلك فضل خاص زماني لأنهم اتّصلوا وصبحوا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(الوجه الثالث: التفاضل يكون بأعمال القلوب دون الأعمال الظاهرة، فقد تكون الأعمال الظاهرة قليلة؛ لكن أعمال القلوب عظيمة.
وأعمال القلوب يُؤْجَرْ عليها العبد في الواجبات، ويُؤْجَرْ على الانتهاء عن المنهيات -منهيات أعمال القلوب من الكِبْرْ والبَطَرْ ورؤية النفس ونحو ذلك وسوء الظن بالله أو سوء الظن بالخلق يعني بالمسلمين-، ومنها أعمال يؤجر على فعلها ويأثَمْ على فعلها؛ يعني يؤجر على فعل بعض الأعمال ويأثم على فعل بعض الأعمال.
فإذا كان كذلك كان فعل القلب ميداناً للتفاضل، عمل القلب ميداناً للتفاضل.
لهذا يُرْوَى عن الحسن البصري رحمه الله أنه سئل: لماذا سَبَقَ الصحابة وفُضِّلوا مع أنّ عبادة من بعدهم يعني التابعين أكثر من عبادتهم؟ فقال الحسن (كانوا يتعبدون -يعني الصحابة- والآخرة في قلوبهم، وهؤلاء يتعبدون والدنيا في قلوبهم) .
العمل الظاهر واحد؛ بل ربما يكون أكثر، ولهذا صار الابتلاء بحسن العمل، وحُسْنُ العمل فيه الإخلاص وفيه المتابعة، وإذا اتّفق هذا وهذا في المتابعة، فهل يتّفقان في عمل القلب؟
وهل يتّفقان في الإخلاص؟ وهل يتّفقان في حسن العمل الباطن وفي الخشية والإنابة؟
لا يتفقون، هذا وهذا يصلون جنب بعضٍ وهذا وهذا يختلفون تماما.
هذه بعض المسائل المتعلقة بذلك، فتحصَّلَ من هذا أنَّ قوله (أَهْلُهُ فِي أَصْلِهِ سَوَاءٌ) ليس صواباً بل هو غلط، وليس إيمان الرسل كإيمان عامة أتباعهم، وليس إيمان الناس كإيمان الصحابة، وليس إيمان الصالحين كإيمان الفاسقين، وليس إيمان المُقَرَّبين كإيمان سائر خلق الله من المكلَّفين.
هذا فيه اختلاف فهم يختلفون أعظم الاختلاف في إيمانهم بالله وأسمائه وصفاته وربوبيته وألوهيته، وما في قلوبهم من العلم الإجمالي والعلم التفصيلي وما في قلوبهم من الأعمال الصّالحة وكذلك ما عملوه ظاهراً من الأعمال الصّالحة وانتهوا عما نهاهم الله - عز وجل - عنه، فهم يختلفون في ذلك أعظم الاختلاف.
أسأل الله - عز وجل - أن يجعلني وإياكم من أهل المقامات العالية في الإيمان، وأن يغفر لنا ذنوبنا الكثيرة وزللنا وتقصيرنا، وأن يبارك لنا في قليل أعمالنا، وأن يُصلح لنا نياتنا وذريّاتنا وأهلينا، إنه سبحانه جواد كريم.
وصلى الله وسلم وبارك على محمد وعلى آله وصحبه.
__________
(1) ابن ماجه (162)
(2) البخاري (3673) / مسلم (6651)(1/414)
وَالْمُؤْمِنُونَ كُلُّهُمْ أَوْلِيَاءُ الرَّحْمَنِ، وَأَكْرَمُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَطْوَعُهُمْ وَأَتْبَعُهُمْ لِلْقُرْآنِ.
____________________________________________
قال الطحاوي رحمه الله (وَالْمُؤْمِنُونَ كُلُّهُمْ أَوْلِيَاءُ الرَّحْمَنِ، وَأَكْرَمُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَطْوَعُهُمْ وَأَتْبَعُهُمْ لِلْقُرْآنِ.)
يقرّر الطحاوي مُعْتَقَدْ أهل السنة في أنّ وَلَايَةْ الرحمن متعلقة بكل مؤمن.
فأولياء الرحمن هم المؤمنون، وكلُّ مؤمن له نصيبٌ من وَلَايَةِ الله - عز وجل - التي وَعَدَ بها عباده المؤمنين المتقين.
وكذلك يُقَرِّرْ أنَّ التفاضل فيما بينهم يعني فيما بين المؤمنين إنما هو باتِّبَاعِهِم للقرآن وتقواهم وكثرة طاعتهم لله - عز وجل -، فمن كان أكْثَرَ طاعةً لله - عز وجل - وأحسَنَ طاعة وأتْبَعَ للقرآن فإنه أحقُّ بتفضيلٍ في ولاية الرحمن - عز وجل - له.
وهذا الأصل الذي قَرَّرَهُ الأئمة في عقائدهم في أنّ كل مؤمن وليٌ للرحمن - عز وجل -، ويتفاضلون في الوَلاية بحسب تفاضلهم في الإيمان والتقوى هذا الأصل مُقَرَّرٌ في القرآن وفي السنة:
ففي كتاب الله - عز وجل - قال ربنا سبحانه وتعالى {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمْ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} [يونس:62-64] ، قال {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} ، قوله {الَّذِينَ آمَنُوا} الأظهر فيها أنها نعت للأولياء؛ يعني منصوبة على أنها نعت للأولياء، {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ} ....المؤمنين المتقين، أو أنها بدل منه والأمر قريب.
فأولياء الله هم المؤمنون المتقون.
وكذلك قال الله - عز وجل - {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمْ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنْ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ} [البقرة:257] ، فبيَّنَ الله - عز وجل - في الآية هذه أنَّ الله سبحانه هو ولي المؤمنين.
وكذلك قوله - عز وجل - {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ} [محمد:11] .
وكذلك قوله - عز وجل - {إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمْ الْغَالِبُونَ} [المائدة:55-56] .
ونحو ذلك من الآيات الكثيرة في هذا المعنى، وهي أنَّ وَلَايَةَ الله - عز وجل - للعبد إنما هي بسبب إيمانه، وكل مؤمن له نصيبٌ من التقوى بحسب إيمانه، فإنه ما آمَنَ إلا طلباً للأمن، والأمن تقوى وخوف وخشية، يعني طلب الأمن تقوى وخوف وخشية.
إذا تَبَيَّنَ هذا الأصل وهو واضح في معتقدهم -يعني في مُعْتَقَدْ أتباع السلف الصالح رضوان الله عليهم- فهذه المسألة وهي: مسألة أولياء الرّحمن، ومسألة الكرامة، ومن هو الأكرم عند الله - عز وجل -، يمكن أن نُبَيِّنَها في مسائل:(1/415)
[المسألة الأولى] :
الولي في اللغة: هو الناصر والمعين {إِنَّ وَلِيِّي اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ} [الأعراف:196] ، يعني إنَّ ناصري ومُعِيني الله - عز وجل -.
والوَلَايَةَ في اللغة -بالفتح- المحبة والنُّصْرَةْ.
والوِلَايَة -بالكسر- الإمارة أو السُّلْطَة.
يعني في غالب استعمال العرب، ومنه قول الله - عز وجل - {هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ} [الكهف:44] ، يعني المحبة والنُّصْرَة يستحقها الرب - جل جلاله -.
وفي تعريف أهل العلم بما فهموا من الأدلة قالوا: الولي هو كلُّ مؤمِنٍ تقي ليس بنبي.
ويمكن أن تقولَ: كل مؤمن ليس بنبي؛ لأنَّ كل مؤمن له نصيب من التقوى.
لكن في الاصطلاح الخاص لابد من تكميل الإيمان والتقوى بحسب الاستطاعة، كما سيأتي بيانه فيما بعد إن شاء الله.(1/416)
[المسألة الثانية] :
في دليل هذا الأصل وهو قول الله - عز وجل - {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس:62-63] ، فجَعَلَ الرب - عز وجل - لمن أوْحَى إليه اسماً -وهو اسم النبي أو الرّسول- ولمن أطاع وآمن واتقى اسماً وهو أنَّهُ ولي، فصار اسم الولي غير اسم النبي، فهذا شيء وهذا شيء، وكل نبي له وَلَايَة بِحَسَبِه.
فإذاً الوَلَايَةُ داخلةٌ في النبوة لأنَّ النبوة أعظم وأرفع، والإيمان والتقوى هما سببا الوَلاية.
وإذا كان كذلك، فإنَّ المُتَقَرِرْ عند أهل السنة والجماعة: أنَّ الإيمان يتفاضل أهله فيه والتقوى يتفاضل أهلها فيها.
وإذا كان الإيمان مُتَفَاضِلاً والتقوى متفاضلةً فينتج من ذلك أنَّ وَلاية الله لعبده متفاضلة.
فيجتمع -إذاً- في حق المؤمن المُعَيَّنْ ما يُوجِبُ الولاية من الله - عز وجل - بإيجابه على نفسه ووعده الحق، وما يُسَبِّبُ العداوة.
فمادة الإيمان والتقوى أثرُهَا وَلَاية الله - عز وجل - لعبده وهي محبته له ونُصْرَتُهُ له.
ومادة الظلم والطغيان والذنب عليها وعيد من الله - عز وجل - بسلب الوَلَايَة الكاملة، فهذه تجتمع في حق المؤمن، من جهة يكون ولياً ومن جهةٍ يكون ظالماً لنفسه.(1/417)
[المسألة الثالثة] :
الله - عز وجل - وليٌّ للعبد، والعبد أيضاً وليٌّ لله - عز وجل -، وهذا عند أهل السنة والجماعة له جهتان:
- جهة الوَلاية من الله.
- وجهة الوَلاية مِنَ العبد.
فالله - عز وجل - يَنْصُرُ عبده، والعبْدُ ينصُرُ ربه - جل جلاله -.
والله - عز وجل - يُحِبُّ عبده المؤمن التَّقي، والمؤمن التقي يُحِبُّ ربه - جل جلاله -.
فهاتان جهتان تجمع الوَلَاية من جهة المحبة والنُّصْرَةْ من العبد لربه -يعني محبته لله ولرسوله ولكتابه ولدينه-، وكذلك نُصْرَتُهُ لله - عز وجل - ولكتابه ولدينه ولنبيه صلى الله عليه وسلم.
فمن العبد فِعْلُ وَلَايَةْ، ومن الرب - عز وجل - وَلَايَةْ للعبد.(1/418)
[المسألة الرابعة] :
الأولياء قسمان فيما دَلَّتْ عليه الأدلة:
- مقتصدون.
- وسابقون مُقَرَّبون.
وذلك أنَّ الله - عز وجل - جَمَعَ في آية سورة فاطر أنواعَ الذين أُورِثُوا القرآن فجعلهم ثلاثة أصناف في قوله {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} [فاطر:32] فجعلهم ثلاثة أصناف:
- الظالم لنفسه.
- والمقتصد.
- والسابق بالخيرات.
والظالم لنفسه لا يستحق اسم الإيمان المطلق ولا التقوى المطلقة، فخَرَجَ من قوله {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} فبقي أنَّ الأولياء المؤمنين المتقين صنفان:
- المقتصد.
- والسابق بالخيرات.
والسابق بالخيرات أطوَعُ وأتبَعُ للقرآن مِنَ المقتصد، فنصيبه من الولاية وهي محبة الله - عز وجل - له ونُصْرَتُهُ له أعظم من نصيب المقتصد.
وهؤلاء هم الذين جاء فيهم الحديث المشهور المسمى بحديث الولي وهو قوله صلى الله عليه وسلم «قال الله تعالى: من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إليَّ عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته -هذا سابق بالخيرات- كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي في قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته ولابد له من ذلك» (1) . رواه البخاري وغيره، وهو حديث صحيح لا مَطْعَنَ فيه، فدَلَّ الحديث على أنَّ السابق بالخيرات أحَقْ وأعظم وَلاية لله - عز وجل - من الذي يتقرب إلى الله بالفرائض.
قال «وما تقرّب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه» ، وما افْتَرَضَهُ الله - عز وجل - على العباد أوامِرْ يمتثلها ونواهٍ يجتنبها، فيتقرب إلى الله بفعل المأمور، ويتقرب إلى الله - عز وجل - بترك المنهي المُحَرَّمْ، وهذا هو حال المقتصد، ثم ذَكَرَ الفئة الثانية وهم السابقون بالخيرات.
__________
(1) البخاري (6502)(1/419)
[المسألة الخامسة] :
ارتبطت مسألة الوَلَاية -ولاية الله - عز وجل - للمؤمن العبد- بمسألة الكرامة، ولهذا أكثر من يتكلم عن الأولياء في صفاتهم وتقرير المُعْتَقَدْ فيهم لابد أن يتكلم عن الكرامات.
وهذه أشار إليها الطحاوي في قوله (وَأَكْرَمُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَطْوَعُهُمْ وَأَتْبَعُهُمْ لِلْقُرْآنِ) .
والكرامة هذه عُرِّفت بأنها: أمر خارق للعادة جرى على يدي ولي.
وهي متصلة بالآية والبرهان عند الأنبياء، وبالخوارق مُطلقاً عند الأنبياء والأولياء والكهنة والسحرة وأشباههم.
ولهذا فتعريف الكرامة بأنها أمرٌ خارقٌ للعادة جَرَى على يدي ولي متصلٌ بذلك:
أولا من كونها خارقة للعادة.
وثانيا هذه العادة عادة من؟
والثالث أنه جرى على يدي ولي.
فقولهم (أمر خارق للعادة جرى على يدي ولي) أخْرَجَ الخوارق التي تجري على أيدي الكهنة والسحرة، وأخْرَجَ الخوارق التي هي الآيات والبراهين والمعجزات التي تجري على أيدي الأنبياء.
لهذا يُقَرّرونَ في هذه المسألة أنواع الخوارق، وسيأتي في آخِرِ هذه العقيدة المباركة قول الطّحاوي (وَلاَ نُفَضِّلُ أَحَداً مِنَ الأوْلِيَاءِ عَلَى أَحَدٍ مِنَ الأَنْبِيَاءِ عَلَيْهمُ السَّلامُ، ونقولُ: نَبِيٌّ وَاحِدٌ أَفْضَلُ مِنْ جَمِيعِ الأوْلِيَاءِ. وَنُؤْمِنُ بِمَا جَاءَ مِنْ كَرَامَاتِهِم، وَصَحَّ عَنِ الثِّقَاتِ مِنْ رِوَايَاتِهِم) فنرجئ الكلام المُفَصَّلْ عن الكرامات وما يتعلق بها إلى موضعه.
لكن الذي يتصل بهذا البحث وهو أنَّ المؤمن ولي الرحمن أنّ الكرامة هذه التي يُفردُونها بالبحث هي ما اشتهر عند الناس أنها أَثَرُ الوَلاية، والكرامة عندهم أمرٌ خارق للعادة -مثل ما عرفناه لكم-.
وهذا ليس بدقيق؛ لأنَّ الكرامة بعضُ أنواع البشرى، والله - عز وجل - ذَكَرَ أنّه جعل لأوليائه البشرى فقال {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمْ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} [يونس:62-63] .
و {الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} منها الإكرام بأمْرٍ خارقٍ للعادة يُجْريهُ الله لهذا الولي، قد يشعر به وقد لا يشعر، وقد يَتَفَطَّنْ لأثره وقد لا يَتَفَطَّنْ {إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ} [يوسف:100] ، لكن البشرى التي وعد الله - عز وجل - بها أولياءه إكراماً هذه كثيرة الأنواع وكثيرة الأسباب.
فالسلف اختلفوا في تفسير البُشْرَى واختلافهم من باب اختلاف التنوع؛ لأنَّ كلاً ذَكَرَ بِشارة:
1 - فمن البشارة وعد الله - عز وجل - بنصرة المؤمن التقي {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [غافر:51] ، {إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ} [محمد:7] .
2- كذلك البشرى في الدنيا بأنَّ الله - عز وجل - يثبته {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69] (1) .
: [[الشريط الواحد والثلاثون]] :
- من البشرى وعد الله - عز وجل - بمعيته لعبده، معية التوفيق والتأييد في كل موطن -في الحِجَاجْ باللسان أو في المُجَاهَدَة بالبدن أو في ترك مُشْتَهَيَات النفس والرغبة فيما عند الله - عز وجل -.?
- من البشرى التي ذُكِرَتْ في الآية الرؤية الصالحة كما ثَبَتَ في الصحيح «لم يبقَ من النبوة إلا المُبَشِّرَات الرؤية الصالحة يراها المؤمن أو تُرَى له» (2) وقد رَأَى عدد من أهل العلم لبعض العلماء والأئمة أنَّهَم في الجنة وأنهم مع الأئمة أو مع النبي صلى الله عليه وسلم أو مع الصحابة ونحو ذلك، وهذه من المُبَشِّرَات.
- من البشرى في الحياة الدنيا أنَّ الله - عز وجل - يجعَلُ بعض الأعمال التي عَمِلُوها مُكَفِّرَةً لسيئاتهم -الكبائر والصغائر جميعاً-، كما تَفَضَّلَ الله - عز وجل - لأوليائه من الصحابة من أهل بدر فقال «اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم» (3) قال يقتضي مغفرة الكبائر والصغائر وهي التي غفرت لحاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه ما فعل من إسراره بخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ومَسِيرِهِ إلى مكة إلى الكَفَرَةْ من قريش.
فالبشرى إذاً أنواع عظيمة:
1 - وَعْدُ الله - عز وجل - بالجنة لعبده
2 - توفيقه لمِحَبَّتِهِ للإيمان
3 - محبته للعمل الصالح، محبته للقرآن
4- انشراح صدره بالصلاة وبتلاوة كتابه
5 - الأُنْسْ بالله جل جلاله والرغبة في ذلك والاشتياق إلى عبادة الرب سبحانه وتعالى والإسراع في ذلك
هذه كلها من أنواع البشرى التي يُبَشِّرُ الله - عز وجل - بها في ذلك.
فإذاً كرامة الله - عز وجل - لعبده بأن جَعَلَ الله له البُشْرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة، ومن البشارة هذه {لَهُمْ الْبُشْرَى} منها أنواع الكرامات.
لكن أنواع الكرامات قد تحصل وقد لا تحصل، قد تكون للولي وقد لا تكون.
كما سيأتي بَحْثُهُ من أنَّ الكرامة بحسب حاجة العبد إليها لا بِحَسَبْ إيمانه وتقواه.
يعني ليس بحسب رِفْعَةْ مقامه وأنَّهُ كلما ارتفع المقام أُعْطِيَ كرامة، لا، ولكن بحسب حاجته، وهذا له تفصيل إن شاء الله يُرْجَؤُ إلى موطنه، لكن هذ نوع من البشرى وأنواع البشرى التي للأولياء كثيرةٌ متنوعة.
- ومنها التسديد في السمع والبصر وما يكتبه بيده وما يمشي برجله كما جاء في حديث الولي قال «كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به» يعني أُسَدِّدُهُ وأُوَفِقُهُ في سمعه، فلا يأنس لسماع إلا ما يحبه الله، أُسَدِّدُهُ في بصره وأُوَفِقُهُ، فلا يأنس لنظر ولا إبصار إلا ما يحبه الله - عز وجل -، أُسَدِّدُهُ في يده التي يبطش بها فلا يبطش ولا يعتدي إلا بما أذن الله - عز وجل - به، أُسَدِّدُهُ وأُوَفِقُهُ في رجله في ممشاه فلا يمشي إلا ممشىً يحبه الله - عز وجل - ورسوله صلى الله عليه وسلم.
قال هنا «ورجله التي يمشي بها» يعني يكون فيما يُحِبُّ الله - عز وجل -.
وهذا أمر عظيم أن يكون إِلْفْ العبد ما يُحِبُّ الله - عز وجل -، ولا تُنَازِعُهُ نفسه للشر، لا تُنَازِعُهُ نفسه للمعصية، لا تُنَازِعُهُ نفسه لمخالفة الأمر وارتكاب المنهي، يكون إلفُهُ الخير وإلفُهُ ما يحبه الله - عز وجل -، هذا من إعانة الله - عز وجل - العبد على نفسه الأمارة بالسوء، وعلى قرينه الذي يأمره بالشر.
فهذا إذاً نوع من الإكرام وهي بُشْرَى يَحُسُّهَا العبد ويحمد الله - عز وجل - عليها ويسأله سبحانه وتعالى الثبات على ذلك.
__________
(1) انتهى الشريط الثلاثون.
(2) البخاري (6990)
(3) سبق ذكره (350)(1/420)
[المسألة السادسة] :
[أولياء الله] هم المؤمنون المتقون، ومن أعظم مظاهر التقوى فيهم عدم تزكية النفس؛ لأنَّ الله - عز وجل - قال {فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ اتَّقَى} [النجم:32] ، فجَعَلَ العلم بالتقوى مَوكُولاً أو مِنْ خصائصه سبحانه، جعله مَوكُولاً إلى علمه سبحانه وتعالى.
فإذاً صفة المؤمن التقي الذي هو وليٌ لله - عز وجل - أنَّهُ لا يُزَكِّيْ نفسه، فمن زَكَّى نفسه وقال: أنا تقي أو أنا من أولياء الله ونحو ذلك، فهو حقيقٌ بالبُعْدِ عن استحقاق هذا اللفظ، لأنَّ التواضع لله - عز وجل - والذُلَّ لَهْ والخضوع له سبحانه وتعالى والخوف منه والعلم بأنَّ العبد مهما عمل لن يَبْلُغَ التقوى هذا يوجِبْ أن لا يُثْنِي على نفسه بأنَّهُ وَلِي وأنه مُتَّقٍ ونحو ذلك.
فإذاً ما شاع في العصور المتأخرة وهو موجود إلى الآن من أنَّ طائفة يذكرون لِمُرِيدِيهِمْ، يذكرون لأتباعهم أنهم أولياء ويُحَدِّثُونَ بكراماتهم، هذا من أسباب الجرح في حقيقة التقوى، ويعني ذلك أنَّ أولياء الرحمن ليسوا على هذا الوصف.(1/422)
[المسألة السابعة] :
لشيخ الإسلام ابن تيمية مَصَنَّفْ مُهِمْ في الفرق ما بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان سماه (الفرقان ما بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان) . يحسُنُ مطالعته (1) في معرفة صفات أولياء الرحمن، وصفات أولياء الشيطان لأنه بَسَطَ هذه الصفات بَسْطَاً شافيا كافيا كعادته رحمه الله وأجزل له المثوبة وجزاه عنا وعن أهل السنة خير الجزاء.
__________
(1) وللشيخ صالح آل الشيخ شرحا لهذا المصنف في 9 أشرطة وهي مفرغة تحت اسم: التعليقات الحسان على الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان.(1/423)
[المسألة الثامنة] :
أولياءُ كُل أمَّةٍ شاهدون لأنبيائها ولِرُسُلِهَا، مُؤَيِّدُونَ لما اتَّصَفُوا به لكون ما جاء به الرسول الذي اتبعوه حقاً.
فأولياء بني إسرائيل يشهدون بِفِعْلِهِمْ واتِّبَاعِهِمْ على أنَّ ما جاء به موسى حَقٌ من عند الله - عز وجل -، وكذلك حواريو عيسى وهم أولياء يشهدون بِفِعْلِهِمْ ونُصْرَتهم ووَلَايَتِهِم أنّ ما جاء به عيسى حق، وكذلك صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين هم أفضل أَتْباع الرسل يشهدون بما اتصفوا به من الإيمان والتقوى والجهاد والعلم والبذل بأنَّ رسالة محمدصلى الله عليه وسلم حق.
ولهذا تتصل مباحث الأولياء والكرامات بمعجزات الأنبياء، فالكرامة والوَلاية -يعني أنْ يكون ولياً وأن يكون له كرامة- لها اتصال بالمعجزات التي هي الآيات والبراهين.
فكل اتِّبَاعْ شاهِدٌ لأصله، وكل كرامة دالَّةٌ على المعجزة التي أُعْطِيَها النبي عليه السلام أياً كان ذلك النبي.
وهذا أَصْلٌ مهم يقضي بأنَّ الولي لا يخرج عن طاعة النبي الذي اتَّبَعَهُ، بخلاف ما زعمت طائفة من الغلاة المتصوفة والرافضة من أنَّ الولي قد يكون أفضل من النبي كما سيأتي بيانه في موضعه مُفَصَّلاً إن شاء الله، وصَنَّفَ فيه الحكيم الترمذي ختم الأولياء) كتاب معروف طُبِعَ، وصَنَّفَ فيه أيضاً ابن عربي الطائي وذَكَرَ فيه أنَّ الولي يكون أفضل من النبي، وأيضا هذا مُعْتَقَدْ الرافضة من أنَّ الأولياء أفضل.
الأصل العام الذي ذكرنا لك في هذه المسألة تُخَالِفُ كل هذا من أنَّ الولي ناصِرٌ وتَبَعٌ؛ بل كونه ولياً يشهد لنبيه الذي اتّبعه، وبالتالي يكون تابعاً دائماً والتابع متأخر.
نكتفي بهذا القدر.(1/424)
الأسئلة:
س1/ ذَكَرَ أحد الباحثين أنَّ الإرجاء أثَّرَ على بعض العلماء فلم يُكَفِّرُوا تارك الصلاة تهاوناً وكسلاً، فهل هذا الكلام على إطلاقه؟
ج/ هذا الكلام غير صحيح، فليس لمسألة تكفير تارك الصلاة تهاوناً وكسلاً صلة بالإرجاء.
فالنزاع جارٍ ما بين أهل السنة في تكفير تارك الصلاة تهاوناً وكسلاً، وليس في هذا فحسب؛ بل في تكفير من ترك رُكناً من أركان الإسلام، تكفير تارك الصلاة وغيره، ترى من ترك ركناً من أركان الإسلام الزكاة والصيام والحج، عن الإمام أحمد أيضاً وعن غيره، حتى الإمام أحمد ثَمَّ خلاف عنده -يعني في الروايات- في تكفير من ترك رُكْنَاً من أركان الإسلام.
ومن العجائب أنَّ الإمام أحمد رحمه الله له في هذه المسألة خمس روايات في هل يكفر من ترك أركان الإسلام العملية -يعني غير الشهادتين-:
الرواية الأولى: أنه يكفر بترك أي ركن من أركان الإسلام.
الرواية الثانية: أنه يكفر بترك الصلاة والزكاة.
والثالثة: يكفر يترك الصلاة والزكاة إذا قاتل عليها الإمام؛ يعني إذا قاتَلَ في الزكاة الإمام، ليس مطلق الترك.
والرابعة: يكفر بترك الصلاة فقط.
الخامسة: نسيت الخامسة.
المقصود أنّ الخلاف في تكفير من ترك رُكْنَاً من الأركان تهاوناً وكسلاً ليس له صلة بالإرجاء، وما ذكره الباحث محل نظر.
س2/ ما هو ضابط الإعراض الذي هو من نواقض الإسلام؟
ج/ الإعراض ذَكَرَهُ العلماء في باب حكم المرتد، وذَكَرَهُ إمام الدعوة شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله الناقض العاشر في رسالته النواقض، قال: الإعراض عن دين الله لا يتعلمه ولا يعمل به.
والدليل على أنَّ الإعراض ناقِضْ من النواقض قول الله - عز وجل - {وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُون} [الأحقاف:3] ، في أول سورة الأحقاف {مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ} [الأحقاف:3] ، وكذلك قوله جل جلاله {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ} [الأنبياء:24] ، ونحو ذلك {فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ} [فصلت:4] ، ونحو ذلك من الأدلة.
والإعراض ضابطه أنه لا يتعلم الدين ولا يعمل به، ليس له هِمَّةْ في معرفَةِ توحيدٍ ولا عبادة لا من جِهَةِ العلم ولا من جهة العمل؛ يعني جميعاً، لا من جهة العلم ولا من جهة العمل جميعاً؛ بل لا يهمه الأمر وليس من شأنه هذا الأمر مع تمكنه من ذلك.
مثاله شخص في بلدنا عنده الوسائل كافية، والكتب موجودة، والدراسة موجودة، وأهل العلم موجودين، والخُطَبْ والجُمَعْ، ولا يهتم بهذا أبدا، مُعْرِضْ تماماً؛ مادِّي لا يهتم لا بصلاةٍ ولا بسماع آية ولا بسماع خطبة ولا يتعلم.
هذا هو الذي يكفر بالإعراض، لا يتعلم الدين ولا يعمل به، لا يرفع به رأساً ولا يهمه لا من قريب ولا من بعيد، ولو احتاج خبزاً لمعيشته لذهب وبحث حتى يأتي به، لو احتاج لأمر في بيته لذهب حتى يأتي به، وأما الدين فهو مُعْرِضٌ عنه لا يتعلم ولا يعمل، فهذا هو ضابط الإعراض.
لا يبحث عن علم ولا يهتم به -يعني في توحيد الله - عز وجل - وفي بيان الواجب ومعرفة ما أنزل الله - عز وجل -- ولا يهتم بالعمل جميعا؛ يعني علم وعمل لا يهتم بهما.
أما إذا كان عنده علم ولم يعمل أو كان عنده عمل ولا يعلم هذا لا يُسَمَّى مُعْرِضَاً.
وتطبيقها على المُعَيَّنْ صعب جداً، فلان مُعْرِضْ تماماً.
غالب أهل القبلة بل لا يوجد أحد من أهل القبلة يعني من يَصِحْ ممن شهد أن لا إله إلا الله أو عنده انتساب أنه لا يهتم أصلاً، مُعْرِضْ تماما.
لكن قد يكون أحياناً تأتي دعوة للتوحيد مثل ما حصل في وقت إمام الدعوة، يعني أناس يرون جهاد قائم ودعوة ومُجَادَلَة ومجاهدة باللسان ومجاهدة بالسنان، وهو لا يهتم، لا يسأل، يقول أنا ما علي منهم ولا عَلي من هذا الدين، ولا يعني لنفسه؛ يعني مادي.
يمكن أنك تُلَخِّصْهَا المُعْرِضْ هو المادي البحت، لا يتعلمه ولا يعمل به.
س3/ قال بعضهم: إنَّ جُلْ السلف الصالح كانوا من الصوفية، فهل هذا صحيح؟
ج/ الصوفية ما نشأت إلا في القرن الثاني الهجري؛ يعني بعد سنة مائة وخمسين (150) كَنِحْلَةْ بَدَأَتْ تتأطر في عُزْلَةْ وأَوْرادْ وأشياء.
والسلف الصالح القرون الثلاثة المفضلة الصحابة والتابعون وتبع التابعين.
فهذا الكلام الرد عليه من جهات كثيرة؛ لكن ليس كلاماً ذا بال.
س4/ ذكرت في الدرس السابق الخلاف في تعريف الإيمان وأنَّ الخلاف صوري من وجه وحقيقي من وجه آخر، أرجو إعادة هذه النقطة وذلك لأهميتها؟
ج/ ذكرنا لكم أنَّ عدداً من أهل العلم قالوا: إنَّ الخلاف صوري أو لفظي يعني، غير معنوي وغير حقيقي. وذكرنا أنَّ هذه المسألة لها جهتان:
الجهة الأولى: جهة الحكم.
والجهة الثانية: جهة امتثال الأوامر العلمية والعملية.(1/425)
من جهة الحكم ومرتكب الكبيرة وخروجه من الإيمان و [.....] ، المرجئة -مرجئة الفقهاء- كحماد بن أبي سليمان والإمام أبي حنيفة ومن تبِعَهُمْ ليس ثَمَّ خلاف مع بقية أهل السنة في الحكم، فهم لا يُكَفِّرُونَ مرتكب الكبيرة، وأيضاً لا يقولون لا يضر مع الإيمان ذنب؛ بل الحنفية من أشد الناس في التكفير وفي الحكم بالردَّة كما هو معروف من كتبهم.
ولهذا ابن تيمية رحمه الله في كتاب الإيمان لما ذَكَرَ الخلاف -وهذه احتج بها بعضهم وليست في محل الاحتجاج- قال: (وأغلبُ أو قال أكثر الخلاف الذي بين أهل السنة في مسألة الإيمان لفظي) .
وهذا نستفيد منه فائدتين:
الفائدة الأولى: أنَّ مرجئة الفقهاء لا يُخْرَجُونَ من أهل السنة في هذه المسألة إِخْرَاجَاً مُطلقاً؛ بل يُقَيَّدْ يُقال أنهم من أهل السنة إلا في مسألة الإيمان، فهم من جملة أهل السنة إلا في هذه المسألة.
فشيخ الإسلام في كتابه الإيمان يُدْخِلْ مرجئة الفقهاء خاصة في عموم أهل السنة؛ لأنَّ الخلاف كما قال أكثَرُهُ لفظي.
الفائدة الثانية: أنَّ قوله أكثره لفظي يدلُّ على أنَّ ثَمَّةَ منه ما ليس كذلك، وهو الذي ذكرته لك أنه من جهة الأوامر واعتقاد ذلك، وامتثال جهة الأوامر العملية والعلمية.
س5/ ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى أنَّ الإيمان والإسلام إذا اجتمعا افترقا وإذا افترقا اجتمعا فهل هذا التقسيم كان معروفا، مُجْمَعَاً عليه عند السلف؛ لأنَّ الأحناف فيما أعلم يُدْخِلُونَ العمل في مسمى الإسلام؟
ج/ الإسلام والإيمان هل هما شيء واحد؟ أم هما أمران مختلفان؟ وهل إذا اجتمعا افترقا أو لا؟
هذه مسألة فيها خلاف كبير بين السلف، مسألة الإيمان والإسلام، الخلاف فيها:
- من قال الإيمان والإسلام واحد.
- أو قال هما شيئان مختلفان.
- أو قال إذا اجتمعا افترقا وإذا افترقا اجتمعا.
فالكل من أقوال أهل السنة، الخلاف في هذه المسألة لا يُخْرِجْ القائل من أهل السنة.
[....] فثَمَّ جَمْعْ قالوا الإسلام هو الإيمان، واستدلوا عليه بقوله تعالى {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنْ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الذاريات:35-36] .
ومنهم من قال لا، الإسلام شيء والإيمان شيء مختلف تماماً عنه، ويستدلون عليه بقوله {قَالَتْ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات:14] ، فجعل الإيمان شيئًا وجعل الإسلام شيئا آخر، وكذلك حديث جبريل قال الإسلام كذا والإيمان كذا.
والثالث الذي هو التحقيق أنّ الإسلام لابد له من إيمان حتى يَصِحْ، والإيمان لابد له من إسلام حتى يصح، فليس ثَمَّ مسلم بلا أي قَدْرْ من الإيمان وليس ثَمَّ مؤمن بلا أي قدْر من الإسلام؛ بل لابد هذا وهذا، والإسلام على كماله والإيمان على كماله قد يُطلق الإسلام مع الإيمان فيُعْنَي بالإيمان ما جاء في حديث جبريل:
- الأعمال: الباطنة؛ يعني الإيمان الباطن.
- والإسلام الظاهر.
مثل ما جاء في الحديث الذي رُوي في مسند الإمام أحمد قال «الإسلام علانية والإيمان في القلب» (1) فيجتمعان فتكون هذا دلالته على حديث جبريل، تكون دلالته الشهادتين والأركان العملية الأربع، والإيمان التصديق الباطن مع العلم.
ويفترقان فيكون الإسلام يدل على الإيمان، ويكون الإيمان يدل على الإسلام.
المسألة الخلاف فيها سائغ، يعني من خالف فيها، الخلاف منقول عن أئمة السنة؛ ولكن التحقيق هو ما ذكرنا.
زادني الله وإياكم من كل خير ومن حمل الفقه في الدين، وغفر لنا ولآبائنا وأمهاتنا ومن له حق علينا، ووفق ولاة أمورنا وعلماءنا لكل خير، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد. (2)
__________
(1) المسند (12404)
(2) انتهى الوجه الأول من الشريط الواحد والثلاثون.(1/426)
وَالْإِيمَانُ: هُوَ الْإِيمَانُ بِاللَّهِ، وَمَلَائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ، وَحُلْوِهِ وَمُرِّهِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى.
_____________________________________________
قال رحمه الله (وَالْإِيمَانُ: هُوَ الْإِيمَانُ بِاللَّهِ، وَمَلَائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ، وَحُلْوِهِ وَمُرِّهِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى)
لَمّا ذَكَرَ الإيمان وأنَّهُ الإقرارُ باللسان والتصديق بالجنان، ومَرَّ معك أنَّهُ لابد فيه من العمل وهو جزء مسماه، عَرَّفَ الإيمان الذي يُصَدَّقْ به والذي يُقَرْ به.
ما هو الإيمان؟
(الْإِيمَانُ: هُوَ الْإِقْرَارُ بِاللِّسَانِ، وَالتَّصْدِيقُ بِالْجَنَانِ)
تصديق بالجنان بأي شيء؟ وإقرار باللسان بأي شيء؟
فذَكَرَ لك أركان الإيمان الستة المعروفة التي دلَّ عليه الكتاب والسنة وإجماع الأمة.
وهذه الأركان الستة تسمى أركان الإيمان؛ لأنها جاءت حصراً في جواب سؤال وهو قول جبريل عليه السلام للنبي صلى الله عليه وسلم: أخبرني عن الإيمان؟
قال «الإيمانُ أن تؤمن باللهِ، وَمَلاَئِكَتِهِ، وَكتبهِ، وَرُسُلِهِ، واليومِ الآخِر، وَالقَدَرِ: خَيْرِهِ وشَرِّهِ» (1) قال: صدقت.
وسُمِّيَت أركان الإيمان هذه عند أهل السنة والجماعة وعند غيرهم أيضاً؛ لأنها جاءت جواباً على سؤال، والأصل في الجواب أنه يقتضي الحصر والحد الأدنى مما يَصْدُقُ عليه الجواب، وذِكْرُهَا للتنصيص عليها في القرآن والسنة:
أما في القرآن فجاءت في غير موضع كقول الله - عز وجل - {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} [البقرة:177] .
و {الْبِرَّ} هنا المقصود به الإيمان.
وكذلك قوله {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} [البقرة:285] .
وكذلك قوله جل جلاله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا} [النساء:136] .
وفي القَدَرِ قوله - عز وجل - {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} [الفرقان:2] ، وكذلك قوله جل جلاله {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:49] .
ومن السنة حديث عمر رضي الله عنه الذي رواه مسلم في الصحيح -المعروف بحديث جبريل- حيث جاء أعرابي في الحديث المعروف لديكم إلى النبي صلى الله عليه وسلم لا يُرَى عليه أثر السفر ولا يعرفه أحد من الصحابة، إلى أن سأله عن الإيمان فقال أخبرني عن الإيمان فذكر هذه الستة.
وكذلك هو في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
وهذه الأصول الستة، أركان الإيمان الستة هي التي يجب التصديق بها والإقرار بها لساناً؛ يعني يُقِرْ بلسانه أنَّهُ آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره، وكذلك يعتقد بقلبه مُصَدِّقَاً بهذه الأشياء الستة.
وقد مر معنا فيما قبل تفصيل الكلام على هذه الأركان الستة من الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله، ويأتي الكلام على الإيمان باليوم الآخر تفصيلاً، وتتمة الكلام على الإيمان بالقدر.
وعلى هذه الجملة نذكر بعض المباحث والمسائل.
__________
(1) سبق ذكره (9)(1/427)
[المسألة الأولى] :
أنَّ هذه الستة يُعَبَّرُ عنها بالأركان، وكلمة الأركان سواءً أركان الإسلام أو أركان الإيمان أو غير ذلك هي تسمية اصطلاحية، لم يأتِ بها الدّليل أنَّ هذا ركن.
فالأدلة ليس فيها تفريق في المباني ما بين الركن وما بين غيره من حيث التّسمية.
وفي العبادات أيضاً ليس في الأدلة تسمية الأركان أركاناً والواجبات واجبات.
والعلماء من جهة الاصطلاح وما دلَّ عليه الدليل:
- جعلوا ما يقوم عليه الشيء ويسقُطُ بسقوطه رُكناً.
- وجعلوا ما يتمّ به الشيء على جهة اللزوم جعلوه واجباً.
ولهذا سَمُّوا أركان الإسلام الخمسة أركاناً وهي واجبات؛ لأنَّ الركن أعظم من الواجب فيُسَمَّى واجباً وهو ركن بسقوطه يسقط البناء.
ومما يدلّك على أنَّ التسمية اصطلاحية أنهم مع اتِّفَاقِهِم على أنَّ أركان الإسلام خمسة فهم اختلفوا اختلافاً شديداً فيمن ترك ركناً من هذه الأركان الخمسة غير الشهادتين والصلاة والزكاة؛ يعني من ترك الصيام أو ترك الحج فهل يقال انهدم إسلامُه.
وكذلك في أركان الإيمان هل من تَرَكَ بعض أفراد هذه الأركان يعني شكَّ أو تَرَكَ الإيمان ببعض ما يتصل باليوم الآخر لجهله أو لتأويله أو نحو ذلك هل يسقط الركن في حقه؟ أو ما تتصل به مسائل القدر هل يسقط الركن في حقه؟ مما للعلماء فيه بحث.
هذا مهم لك لأجل أنَّ تسمية الركن تسمية اصطلاحية، ولا يعني أن تُرَتِّبَ عليها أنَّ ذهاب ما تظن أنه الركن أو بعض أفراده أنَّهُ يعني عدم صحة الإيمان أو عدم صحة الإسلام أو الكفر.
وحقيقة الركن في الاصطلاح هو ما تقوم عليه ماهية الشيء ولا يُتَصَوَّرُ بدونه.
والإيمان بالله - عز وجل - ركْنٌ، فمن لم يؤمن بالله لم يصحّ إيمانه، كذلك الإيمان بالملائكة وأنهم موجودون وعلى نحو ما فصَّلنا لك في القَدْرِ المُجْزِئِ من الإيمان هذا ركن.
فلكل ركنٍ من هذه الأركان الستة قَدْرٌ يَصِحُّ به، وهناك شيء زائد قد يكون واجباً؛ ولكن يأثم الإنسان على عدم الإيقان به ولكن ليس داخلاً في حد الركن؛ يعني بمعنى إذا سَقَطْ أو لم يأت به فإنه لا يَصِحّ إيمانه.
فإذاً الإيمان إقرارٌ باللسان وتصديق بالجنان وعمل بالأركان، وما يتصل بأركان الإيمان الستة هذه تصديق بالجنان على نحو ما فصلنا لك سابقا في القَدْرِ المجزئ من كل مسألة وركن منها.
من تتمة البحث مسألة أركان الصلاة وواجبات الصلاة، ثَمَّ خلاف كبير بين العلماء هل هذا ركن أو هذا واجب؟ ولماذا سَمَّوا هذا ركناً وهذا واجباً؟ إلى آخره مما له صلة بفهمك لمعنى الركن ومعنى الواجب.(1/428)
[المسألة الثانية] :
خلاصة الكلام على هذه الأركان السّتة بحيث يمكنك معه أن تُقَرِّرْ حقيقة الإيمان وعقيدة السلف فيما يتصل بهذه الأركان الستة.
1- أولاً الإيمان بالله:
الإيمان بالله ثلاثة أقسام:
@ إيمان بالربوبية: يعني إيمان بأنَّ الله واحد في ربوبيته، في تدبيره لهذا الملكوت، وفي رجوع كل شيء إليه.
@ إيمان بالألوهية: يعني بأنَّ الله واحد في استحقاقه العبادة، ولا أحد معه يستحق شيئا من العبادة.
@ إيمان بالله في أسمائه وصفاته: يعني بأنَّ الله واحدٌ في أسمائه وصفاته ليس له مثيلٌ ولا ند وليس له كُفُو وليس له سَمِيٌ في أسمائه وصفاته من جهة الكيفية ومن جهة تمام المعنى وشمول ما دلّ عليه الاسم والصفة من المعنى.
2- ثانياً الإيمان بالملائكة:
الإيمان بالملائكة إيمانٌ بأنهم موجودون، وهذا الإيمان فيه إجمال وتفصيل، وكلُّ من عَلِمَ شيئاً مما جاء في الدليل من كتاب الله جل جلاله أو في سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم الصحيحة فإنه يجب إيمانه به، كما ذكرنا لك سابقاً أنَّ القَدْرَ المجزئ للإيمان بالملائكة الإيمان بوجود الملائكة، وأنهم عُبَّادْ لله - عز وجل - لا يُعبَدُون.
3- ثالثاً الإيمان بالكتب:
وهو الإيمان بكل كتاب أنزله الله - عز وجل - ما عَلِمْنَا منه وما لم نعلم، إيماناً إجماليا في المجملات -يعني فيما لم نعلم- وتفصيلياً فيما وقفنا على اسمه من كتب الله - عز وجل -.
4- رابعاً الإيمان بالرسل:
الإيمانبالرسل أيضاً على نفس المنوال؛ إيمانٌ بأنَّ الله - عز وجل - أرسَلَ رُسُلاً وأيّدهم بالبراهين والآيات والمعجزات، وجعلهم هُدَاةً إلى الحق دالّين عليه، وهم كثير منهم من قُصَّ علينا ومنهم من لم يُقَصَّ علينا، فتؤمن بهم إجمالا ونؤمن بهم تفصيلا فيما بلغنا تفصيله.
هذه كلها جمل سبق الكلام عليها مُفَصَّلاً -تذكرون- في مواضعها.
5- خامساً الإيمان باليوم الآخر:
القَدْرْ المُجْزِئْ منه أن يؤمن العبد ويوقن ويُصَدِّقْ بأنَّ هناك يوماً يبعث الله فيه العباد فيجزي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته، ثُمَّ تحته مباحث كثيرة من الحال في البرزخ، ثم ما بعد النفخة الأولى، ثم ما بعد النفخة الثانية، ثم اجتماع الناس في العَرَصَات -عرصات القيامة-، ثم الحوض، ثم الصحف، ثم الميزان والصراط والظُلْمَة والنار والجنة والحساب والاقتصاص وانقسام الناس كل ما في القرآن من ذلك.
واليوم الآخر كثيرٌ تفاصيله في القرآن جداً، وكذلك في السنة كثيرٌ تفاصيله.
ويمكن أن يضبطه طالب العلم من جهة التفصيل بأن يُرَتِّبَ ما جاء فيه من الأدلة في القرآن أو في السنة، يرتبها في قلبه من حين نفخة البعث إلى دخول أهل الجَنة الجنة ودخول أهل النّار النار.
تُرَتِّبْ ما يحدث على مراحل:
النفخة، ما يحصل بعدها، مسير الناس، كيف يجتمعون، ما يحصل أثناء اجتماعهم بما جاء في الأدلة، ثم بعد ذلك ما هي الأشياء التي تحصل تباعاً شيئاً فشيئاً وتفاصيل ذلك إلى دخول أهل الجنة الجنةَ وأهل النار النارَ، وسيأتي تفصيلٌ للكلام على اليوم الآخر إن شاء الله تعالى في آخر هذه العقيدة المباركة.
6- سادساً الإيمان بالقدر:
ذكرنا لك أنَّ مراتب الإيمان بالقدر أربع، وأنه يجب على العبد والقَدْرْ المجزئ من الإيمان به أن يعلَمَ أنَّ كل شيء يحصل إنما هو بإذن الله وبمشيئته وبعلمه، ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وأن الرب جل جلاله قَدَّرَ كل شيء إجمالاً وتفصيلاً.
الإيمان بالقدر كما ذكر قال (وَالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ، وَحُلْوِهِ وَمُرِّهِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى) والخير والشر والحلو والمر في القَدَرْ المقصود بها ما يضاف للعبد من القَدَرْ -يعني المقدور- فالقَدَرْ له جهتان:
- جهة صفة الله - عز وجل - وفعل الله - عز وجل -: وهذه مرتبطة بعددٍ من صفات الرب جل جلاله: أولها العلم، والثاني الكتابة والمشيئة والخلق والحكمة وهي وضع الأمور مواضعها اللائقة بها الموافقة للغايات المحمودة منها، والعدل في حُكْمِهِ - عز وجل - القدري وهو وضع الأمور والمقادير في مواضعها، هذه جهَةٌ تتعلق بالله جل جلاله.
- جهة تتعلق بالعبد: وهي المقدُورْ، وقوع المقدور وقوع المُقَدَّر عليه، وقوع القَدَرْ عليه أو حصول القَدَرْ وهذه تسمى المقدُور، وتسمى القضاء كما أسلفنا لكم في الفرق ما بين القَدَرْ والقضاء. هذا المُقَدَّر هو الذي ينقسم إلى خير وشر وإلى حلو ومر.
أما الجهة الأولى وهي صفة الله - عز وجل - فليس فيها شر؛ بل كلها خير؛ لأنَّ الله - عز وجل - طيبٌ ولأنه سبحانه ليس في أفعاله إلا الجميل والخير وما يؤولُ إليه فِعلُهُ وقَدَرُهُ هوالحكمة وما ينبغي أن تكون الأمور عليه.(1/429)
لهذا صحّ عنه صلى الله عليه وسلم في دعائه في الليل أنه قال في ثنائه على ربه - عز وجل - «والشر ليس إليك» (1) ؛ يعني أنّ الشر ليس إلى الله - عز وجل - فِعْلاً وليس إلى الله - عز وجل - إضافة، فلا يُنْسَبْ الشر إلى الله سبحانه وتعالى لا من جهة الفعل ولا من جهة إضافة الشر إليه، وإنما هو شَرٌ بالنسبة إلى العبد فيؤمن بما كان خيراً، له بما كان حسنة في حقه، ويؤمن بما كان شراً في حقه أو كان سيئة تسوؤه في حقه، وكذلك ما كان حلواً وما كان مُرَّاً.
وهذا للعباد فيه أحوال عظيمة، وهو الذي يظهر من العبد الإيمان به؛ يعني الإيمان بالمَقْدُورْ، يعني ما موقفه من المقدور هذا شر وخير بالنسبة إليه.
لكن معظم الناس -حاشا أهل العلم والحكمة- لا ينظرون إلى الجهة الأولى وهي جهة فعل الله - عز وجل - وعلمه ومشيئته وتقديره وخلقه ونحو ذلك في وقوع المُقَدَّرَاتْ عليهم أو فيما يرون من تقدير الله - عز وجل - الناس، هذا حاله كذا وهذا حاله كذا، لا ينظرون إلى الجهة الأولى، في الغالب يكون نظرهم من جهة الإضافة إليه، هذا حلو بالنسبة له هذا شر، ينظر إلى الناس هذا جاءه كذا وما جاءه كذا، هذا من صفته كذا وليس من صفته كذا.
ولأجل هذا نُصَّ على الخير والشر والحلو والمر هنا، وأصله -التنصيص عليه- في الحديث الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم قال «أن تؤمن بالقدر خيره وشره» (2) وفي الحديث الآخر أيضا قال «خيره وشره وحلوه ومره» (3) ، وهذا هو الذي يُحَاسِبْ العبد نفسه عليه فيما يراه حاصلاً من المُقَدَّرْ.
ومن جهة الإيمان بالقَدَرْ يأتي كثير من السّيئات التي يُصَاب العبد بها، وهي جهة سوء الظن بالله عز وجل.
ولهذا كان الإيمان بالقدر خيره وشره فيما يضاف إلى العبد من وقوع المُقَدَّرَات كان الإيمان به عظيماً؛ لأنَّ أكثر الخلق يُسيئون الظن بالله - عز وجل - وهذه من سِمَةِ أهل الجاهلية {يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ} [آل عمران:154] ، يأتيه الشيطان في خاطره فيما وقع عليه مما يسوؤه من الشر يقول: غيري كذا وأما لا أستحق هذا أو كيف يحصل هذا ونحو ذلك.
ولقد أحسن ابن القيم رحمه الله حينما ذكر سوء الظن بالله - عز وجل - وقال في أواخر بحثه (ففتش نفسك فإن تنجُ منها تنجُ من ذي عظيمة وإلا فإني لا إِخالُك ناجيا) (4)
وقلَّ من يسلم من سوء الظن بالله - عز وجل - ومن الاعتراض.
فهو أعظم وأكثر من التَطَيُّرْ؛ لأنَّ التَطَيُّرْ يحصل أحياناً؛ ولكن وقوع المُقَدَّرَات هذا كل لحظة.
ولهذا ينبغي للعبد في إيمانه بالقدر خيره وشره؛ بل يجب عليه أن يُحَسِّنْ الظن دائما بالله - عز وجل -، وأن يُسَلِّمَ لما أراده الله - عز وجل - بعبده من الأمور الكونية.
__________
(1) مسلم (1848) / أبو داود (760) / الترمذي (3422) / النسائي (897)
(2) سبق ذكره (9)
(3) ابن حبان (168) / المعجم الكبير (13581) / مصنف ابن أبي شيبة (30429)
(4) زاد المعاد (3/196) / إغاثة اللهفان (2/256) / مفتاح دار السعادة (2/71)(1/430)
[المسألة الثالثة] :
الإيمان إقرارٌ وتصديقٌ وعمل، وهذه الأركان أركان الإيمان الستة لا يظهر تعلُّقُها بنفسها بالعمل، فهي كلها أمور اعتقادية بحتة، فأين العمل في هذه الأركان الستة؟
الجواب عن هذا من جهتين:
أ - الجهة الأولى:
أنَّ العمل مُتَضَمَّنٌ في هذه الأركان الستة:
فالإيمان بالله إيمانٌ بربوبيته وألوهيته وبالأسماء والصفات.
والإيمان بتوحيده في العبادة يعني بأنه هو المستحق للعبادة وحده - عز وجل - فيه التوجه إليه بالعبادة.
وكذلك الإيمان بالربوبية فيه الاعتراف له بالربوبية.
وهذا يَلْزَمُ منه أن يُعْبَدْ أو أن يُشْكَرْ أو نحو ذلك وهذا مَدْخَلٌ للعمل في الإيمان.
الإيمان بالملائكة يتصل به العمل من جهة المراقبة، باعتقاده أنَّ الملائكة موجودون وأنَّ منهم من يُرَاقب العبد ويكتب ويحسب عليه {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18] .
الإيمان بالكتب فيها الإيمان بأعظم الكتب وهو القرآن، والإيمان بالقرآن فيه العمل بما في القرآن من أوامر ونواهٍ والحكم به، وهذا عمل.
الإيمان بالرسل فيه الإيمان بمحمدصلى الله عليه وسلم؛ بل هو أعظم أركان الإيمان بعد الإيمان بالله جل جلاله، والإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم أنه رسول لابد فيه من العمل.
الإيمان باليوم الآخر وأن الله يحاسب العباد فيجزي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته، هذا يَبْعَثُ على العمل في أن يَتَقِيَ السوء ويعمل بالخير.
الإيمان بالقدر كذلك من جهة أنه متضمّن إلى أنَّ العبد لا يعمل عملاً يسخط الله - عز وجل - فيما قدر، ويعمل عملاً يشكر الله - عز وجل - به فيما قدر.
لأنَّ القدر إما خير يستوجب الشكر، أو شر بالنسبة للعبد (1)
: [[الشريط الثاني والثلاثون]] :
يستوجب الصبر، وهذه أعمال.
هذه هي الجهة الأولى من التعلق.
ب - الجهة الثانية:
أنه لا يُتصَوَرُ في الشرع أنَّ ثَمَّ إيمان بلا إسلام، كما أنَّهُ لا يُتَصَوَّرْ أن ثمة إسلاماً بلا إيمان.
فكل إسلامٍ لابد فيه من قَدْرٍ من الإيمان يصح معه الإسلام الظاهر.
كذلك كل إيمان بهذه الأركان السّتة الباطنة الاعتقادية لابد معه من عملٍ، من إسلامٍ، يُصَحِّحُ هذا الإيمان.
ولهذا كان من الشرطِ في صحة الإسلام أن يكون ثَمَّ إيمان، وفي صحة الإيمان أن يكون ثَمَّ إسلام.
فلا يُتَصَوَّرُ مسلمٌ ليس معه من الإيمان شيء، ولا يُتَصَوَّرُ مؤمنٌ ليس معه من الإسلام شيء.
فإذاً دَخَلَ العمل بدخول الإسلام -وهو أركان الإسلام- في صحة هذا الإيمان، فالإيمان المُنْجِي إيمانٌ لابد معه من إسلام، وهذا ظاهرٌ بَيِّنْ في أنَّ الله لا يقبل عمل أحدٍ حتى يكون مؤمناً.
__________
(1) انتهى الشريط الواحد والثلاثون.(1/431)
قال بعدها (وَنَحْنُ مُؤْمِنُونَ بِذَلِكَ كُلِّهِ، لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ، وَنُصَدِّقُهُمْ كُلَّهُمْ عَلَى مَا جَاءُوا بِهِ) .
______________________________________________
(نَحْنُ) يعني به أهل الإسلام -أهل القبلة-.
(مُؤْمِنُونَ بِذَلِكَ كُلِّهِ) يعني بأركان الإيمان الستة.
وفي الإيمان بالرسل للتنصيص على ذلك وكذلك الإيمان بالكتب، (لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ) ؛ وذلك لأنَّ الله - عز وجل - أثنى على عباده بعدم التفريق بين الرسل؛ لأنَّ الرسل جميعاً جاءوا بشيءٍ واحد قال - عز وجل - {لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [البقرة:285] ، وهذا قول أهل الإيمان بثناء الله - عز وجل - عليهم، وكذلك قول الله - عز وجل - {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِوَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ} [النساء:150] ، وهذا فيه الذم الشديد لهؤلاء اليهود.
(نُصَدِّقُهُمْ كُلَّهُمْ عَلَى مَا جَاءُوا بِهِ) يعني أنَّ الرسول الذي بُعِثَ إلى قومه برسالةْ فكل ما قاله عن الله - عز وجل - حَقْ ما عَلِمْنَا منه وما لم نعلم، فلم يَقُل رسولٌ من لدن نوح عليه السلام إلى محمد صلى الله عليه وسلم قولاً ينسبه إلى الله - عز وجل - ويجعله من شريعته، من دينه ولا يكون في ذلك مُحِقَّاً؛ بل كل ما قالته الرسل فيما بلَّغوا عن الله - عز وجل - حق يجب التصديق به إجمالاً فيما لم نعلم وتفصيلاً فيما عَلِمْنا وعُلِّمنا.
والرسل صلوات الله وسلامه عليهم دينهم واحد -كما سيأتي في المسألة التالية-.
يريد الطحاوي بذلك أنَّ نَفْسَ أهلِ السنة وأهل القبلة سليمة تجاه رسل الله - عز وجل - فيؤمنون بالجميع ويُسَلِّمُونَ للجميع، خلافاً لأهل الملل الباطلة الزائغة الذي يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض {وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا} [النساء:150] .
على هذه الجملة بعض المسائل:(1/432)
[المسألة الأولى] :
الرّسل دينهم واحد، والله - عز وجل - لم يبعث رسولاً إلا بدين الإسلام.
ولكن الشّرائع تختلف كما قال - عز وجل - {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة:48] ، وقال {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران:19] ، وقال {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران:85] يعني سواءٌ أكان من قبل محمد صلى الله عليه وسلم أم كان بعد محمد صلى الله عليه وسلم، لا يقبل الله من أحد إلا الإسلام.
فالرّسل جميعا دينهم واحد كما صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال «الأنبياء إخوة لعلاّت الدين واحد والشرائع شتى» (1) .
وهذا يُبَيِّنُ لك أنَّ أهل الإسلام وخاصَّةً أهل السنة والجماعة لا يقولون ولا يعتقدون بأنَّ الأديان التي جاءت من السماء متعددة، كما يقول الجاهل الأديان السماوية، فالسماء التي فيها الرب - جل جلاله - وتقدس في علاه ليس منها إلا دينٌ واحد، وهو الإسلام، جاء به آدم عليه السلام، وجاء به نوح وجاء به جميع المرسلين إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
فدين موسى عليه السلام الإسلام، ودين عيسى عليه السلام الإسلام، ودين إبراهيم عليه السلام الإسلام، وهكذا، فجميع المُرسلين جاؤوا بدين الإسلام الذي لا يقبل الله - عز وجل - من أحد سواه {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} .
ومن الباطل قول القائل الأديان السّماوية، ففي هذا القول تفريق بين الرسل؛ لأنَّ الرسل دينهم واحد نُصَدِّقُهُمْ كلهم على ما جاءوا به لم يأتوا بعقائد مختلفة ولا بأخبار مختلفة غيبية، فكل الرسل يُصَدِّقُ بعضهم بعضاً فيما أخبروا به عن غيب الله - عز وجل -، ما يتعلق بأسماء الله - عز وجل -، بصفاته بذاته العلية - عز وجل -، بالجنة بالنار، فالأخبار ليس فيها نسخ، الأخبار ليس فيها تغيير ما بين رسول ورسول، فالأمور الغيبية كل ما جاءت به الرسل فيها حق.
لهذا نُصَدِّقُ إجمالاً بكل ما جاءت به الرسل، ونحبهم جميعاً ونتولاهم جميعاً، وننصرهم جميعاً ننصر دينهم -دين الإسلام- الذي جاءت به الرسل جميعاً.
__________
(1) سبق ذكره (4)(1/433)
[المسألة الثانية] :
شرائع الرسل تختلف وهي التي تُضَافْ إليها الملة، فيقال اليهودية، يقال النصرانية ونحو ذلك، هذا باعتبار الشرائع، باعتبار اختلاف الشرائع.
والشريعة هي: ما لا يختص بأمور الغيب مما يتعلق بالأمور العَمَلِيَّة، الله - عز وجل - يَشْرَعُ ما يشاء بما يوافق حكمته البالغة تقدس ربنا وجل في علاه.
فإذاً الفرق ما بين الدين العام والشريعة:
- أنَّ الدين العام هو ما يتصل بالغيب.
- والشريعة هي ما يَخْتَلِفُ به من جهة العمل.
ولهذا تجد بين بعض الرسالات ربما كان في الشرائع اختلاف في بعض الوسائل، مثلاً وسائل الشرك، ففي بعضها ما يُبَاح وفي بعضها مُنِعَتْ.
مثلاً اتخاذ التماثيل كان مباحاً في شريعة موسى وسليمان {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ} [سبإ:13] ، كذلك بعض أنواع التوسل، بعض أنواع الانحناء والتحية، هذه وسائل راجعة إلى جهة العمل ليس على جهة الاعتقاد الغيبي وما يختص الله - عز وجل - به.
هذه منعُهَا مَنْعُ وسائل، فهي راجعة إلى الشرائع وما يَشْرَعُهُ الله - عز وجل - لكل أمة.
أما العقيدة المتصلة بالغيب فهذا هو الدين العام، دين الإسلام العام الذي بعث الله به جميع المرسلين.
محمد صلى الله عليه وسلم له خصوص وهو أنَّ رسالته جمعت دين الإسلام وشريعة الإسلام.
فالاسم -اسم الإسلام الكامل- الأحق به محمد صلى الله عليه وسلم لأنَّ شريعته سَمَّاهَا الله الإسلام ولأنَّ الدين الذي جاء به الإسلام، كما جاءت به جميع الرسل.
فجمع الله له ما بين شريعة الإسلام ودين الإسلام فصار مُخْتصاً بهذا الإسلام دون غيره.(1/434)
[المسألة الثالثة] :
(لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ) خلافاً لكل أهل الملل والديانات.
ويجوز أن نقول ديانات؛ لأنَّ لكل أمَّةٍ دين، لكن ما نضيفها إلى السماء؛ يعني ما نقول ديانات سماوية، الديانات اليهودية والنصرانية إلى آخره باعتبار ما هي عليه.
هذه جميعا فَرَّقَتْ بين الرسل.
ولهذا في الحقيقة من فَرَّقَ بين الرسل فليس له حَظٌ في الإيمان بالرسل، حتى إنَّ رسولهم الذي أُرْسِلَ إليهم ما دام أنهم فرَّقُوا فليس لهم حظ في الإيمان به.
فإذاً نقول: حقيقةً النصارى لم يؤمنوا بعيسى، حقيقةً اليهود -بعد تحريف الدين- لم يؤمنوا بموسى عليه السلام، وإنما أحبّوا وآمنوا بشيء وضعوه في أذهانهم سَمَّوهُ عيسى وسموه موسى وسموه داوود وسموه سليمان، وإلا فالرسل مُتَبَرِّئون ممن عبدهم أو ممن لم يؤمن بكل رسول.
من الذي آمن؟
المسلمون آمنوا بكل رسول.
لهذا الأحق بحماية ميراث الأنبياء جميعاً والرسل وبالدفاع عنهم وبأن يَرِثَ ما ورَّثُوهُ هم أهل الإسلام، ولهذا جعل الله - عز وجل - القرآن مهيمنا على كل كتاب.(1/435)
قال بعدها (وَأَهْلُ الْكَبَائِرِ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم فِي النَّارِ لَا يُخَلَّدُونَ، إِذَا مَاتُوا وَهُمْ مُوَحِّدُونَ)
______________________________________________
هذه الجملة يقرر فيها الطحاوي رحمه الله عقيدة أهل الأثر وأهل السنة في أهل الكبائر، مُخَالِفين في اعتقادهم ذلك لطوائف الضلال من الخوارج والمعتزلة والوعيدية بعامة.
فأهل السنة في أهل الكبائر وسط ما بين فرقتين غالية كالخوارج والمعتزلة وجافية كالمرجئة.
وسَطٌ ما بين من يقول (يخرج من الإيمان بكل كبيرة) وما بين من يقول (لا يضر مع الإيمان كبيرة) .
فيعتقد أهل السنة والجماعة أنَّ أهل الكبائر من هذه الأمة مُتَوَعَّدُونَ بالنار؛ لكن إذا دخلوها وكانوا مُوَحِّدِينَ فإنهم لا يخلدون فيها، وقد يعذِّبهم الله - عز وجل - وقد يغفر لهم.
وهذه مسألة واضحة من جهة الصّلة بمباحث الإيمان -كما سيأتي-، وسبق أن تكلمنا عن القول أو صلة البحث في الكبائر وأهل الكبائر مع الإيمان والمسألة المُسَمَّاةْ بمسائل الأسماء والأحكام.
ودليل الطحاوي على هذه الجملة من النصوص كثير لا يُحْصَى-يعني كتقعيد-أنَّ كل آية فيها ذِكْرُ وَعْدٍ لأهل الإيمان فإنه يدخل فيها أهل الكبائر؛ لأنهم يدخلون في أنهم مؤمنون.
وكل وعيد جاء لأهل الكفر بالخلود في النار فإنه يخرج منه أهل الكبائر من هذه الأمة إذا ماتوا موحّدين؛ لأنهم ليسوا من أهل الإشراك والكفر.
فنصوص الوعد تشمل أهل الكبائر، ونصوص الوعيد للكفار لا يدخُلُهَا أهل الكبائر، وإنما لأهل الكبائر من هذه الأمة وعيدٌ خاص في أنهم قد يُعذَّبون وقد يُغفر لهم، وأنهم يَؤُول بهم الأمر بتوحيدهم إلى الجنة.
ومن ذلك قول الله - عز وجل - في وعد أهل الإيمان {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الفتح:29] ، وهذا في حق الصحابة رضوان الله عليهم، وكان منهم بالنَّصْ من عَمِلَ بعض الكبائر، وكذلك قوله {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمْ الرَّحْمَنُ وُدًّا} [مريم:96] ، وكذلك قوله {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} [النساء:57، 122] ، ونحو ذلك من آيات الوعد التي فيها وَعْدٌ لأهل الإيمان بدخول الجنة تشمل أهل الكبائر لأنهم مؤمنون.
ومِنَ السّنة ما صح عنه صلى الله عليه وسلم من دخول الموحد الجنة وإن زنى وإن سرق إذا مات على التوحيد.
والمسألة مشهورة؛ يعني الأدلة فيها أنواع «يَخْرُجُ من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان» (1) ، «أخْرِجُوا من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان» (2) ، «من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة» (3) ، «من قال لا إله إلا الله مُخْلِصَاً من قلبه أو نفسه دخل الجنة» (4) كما رواه البخاري عن أبي هريرة؛ يعني أنواع النصوص في وعد المؤمنين بعامة، وكذلك في التنصيص على أنه يدخل الجنة وإن حصلت منه الكبيرة.
نذكر هنا مسائل:
__________
(1) الترمذي (2598)
(2) الترمذي (2593)
(3) أبو داود (3116)
(4) البخاري (99)(1/436)
[المسألة الأولى] :
(أهل الكبائر) يُسَمَّى من ارتكب الكبيرة أنه من أهل الكبائر، أو يُوصَفُ أنه من أهل الكبائر إذا اجتمع فيه وصفان:
- الأول: العلم.
- والثاني: عدم التوبة.
فإذا عَلِمْ أنَّ هذا الفعل معصية واقتَحَمَهُ وكان مَنْصُوصَاً عليه أنَّهُ من الكبائر فيكون من أهل الكبائر.
والثاني أن لا يكونَ أَحْدَثَ توبة فإذا أحدث توبة فلا يُوصَفُ أنه من أهل الكبائر.
والكبائر جمع كبيرة، والكبيرة اختلف فيها العلماء اختلافاً كبيراً، على أقوال شتى -ذكر لك عددا من الأقوال الشارح ابن أبي العز-:
- فمن أهل العلم من قال هي سبع مُقْتَصِراً على حديث «اجتنبوا السبع الموبقات» (1) .
- ومنهم من قال هي سبعون -يعني من جهة العدد-.
- ومنهم من قال كل معصية كبيرة.
وهذه الأقوال ليست جيدة؛ بل الجميع غلط، فلا يُحَدُّ العدد بِحَدْ لعدم النص عليه، وليست كل معصية كبيرة للفَرْقِ في القرآن -كما سيأتي-، وكذلك ليست هي سبعين؛ يعني لم يثبت في العدد ولا في أنَّ كل معصية كبيرة شيء يمكن أن يُستَدَلَ به على ذلك.
ولهذا صار أجود الأقوال في الكبيرة قولان:
1- القول الأول: أنّ الكبيرة ما فيه حَدٌ في الدنيا أو عيدٌ بنار أو غضب.
2- والقول الثاني: أنّ الكبيرة هي المعصية التي يُؤَثِّرُ فِعْلُهَا في أحد مقاصد الشّرعْ أو كُلِّيَاتِهِ الخمس، مقاصد الشّرع العظيمة أو في أحد كلياته الخمس.
والقول الأول هو المعروف عن الإمام أحمد وعددٍ من أهل العلم من أهل السنة.
والقول الثاني اختاره جمع من العلماء كالفقيه العز بن عبد السلام في قواعده، وقوّاهُ جمعٌ ممن تبعه في ذلك، وذكره النووي أيضاً في شرحه على مسلم من الأقوال القوية في المسألة.
هذان القولان قريبان.
والقول الأول عُرِّفَتْ فيه الكبائر بـ (ما فيه حد في الدنيا أو وعيد) .
(حد في الدنيا) يعني ما رُتِّبَ عليه حَدْ مَحْدُودْ، مثل السرقة فيها حد كبيرة، الزنا فيه حد كبيرة، شرب الخمر فيه حد كبيرة، السحر فيه حد كبيرة، الشرك بالله - عز وجل - هو رأس الكبائر، وكُلُّ ما رُتِّبَ فيه حد، فهذا ضابط لمعرفة أنه كبيرة.
(أو وعيد) ما تُوُعِّدَ عليه بالنار، فِعْلٌ تَوَعَدَ الله - عز وجل - عليه بالنار، جاء في الكتاب أو السنة التَوَعُّدْ عليه بالنار، قتل النفس هذا فيه حد وأيضاً تَوَعُّدْ بالنار، والخيانة، وأكل المال بالباطل أكل مال اليتامى {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء:10] ، وأشباه ذلك، فما كان فيه حد أو كان توعد بنار فهذا ظاهر في أنه كبيرة.
ابن تيمية أضاف (ما نُفِيَ فيه الإيمان -لا يؤمن-، أو جاء فيه -ليس منا-) :
ما نُفِيَ فيه الإيمان (لا يؤمن) : يعني أضاف على التعريف الأول ما نُفِيَ فيه الإيمان «لا يؤمن من لا يأمن جاره بوائقه» (2) يقول: عَدَمُ أَمْنِ الجار من البوائق والاعتداء عليه هذا صار من الكبائر؛ لأنه نَفَى فيه الإيمان، ونَفْيُ الإيمان لا يُطْلَقُ عند ابن تيمية إلا على نَفْيِ الكمال الواجب، ولا يُنْقِصْ الكمال الواجب عنده إلا ما كان كبيرة.
أو جاء فيه (ليس منا) : ليس منا من فَعَلَ كذا، ليس منا من غش، «من غشنا فليس منا» (3) ، «ليس منا من لطم الخدود، وشق الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية» (4) هذا يدُلْ على أنَّ الفعل كبيرة عند ابن تيمية؛ لأنَّ النفي هذا (ليس منا) يقول يتوجَهُ إلى أنَّهُ ليس من أهل الإيمان وهذا النفي يرجع إلى الأول في أنه فَعَلَ كبيرة.
وذكرت لكم مرة أو أكثر أنَّ ابن عبد القوي في منظومته في الآداب الطويلة ذكر التعريف بقوله:
فما فيه حد في الدُّنى أو تَوَعُدٌ ****** بأخرى فَسَمْ كبرى على نَصِّ أحمدِ
وزاد حفيد المجد أو جا ****** وعيدُه بنفي لإيمان وطرد لمُبْعَدِ
يعني جَمَعَ قول الإمام أحمد واستدراك ابن تيمية عليه.
والتحقيق أن يُقال هذه الأقوال أعني هذين القولين قريبة، وهي صواب، وما كان فيه قَدْحٌ في مَقْصَدْ من مقاصد الشارع أو ضروري من الضروريات الخمس وصار إِحْدَاثُهُ أو فِعْلُهُ مَضَرَّتُهُ وإِفْسَادُهُ يرجع إلى هذه فهو في الحقيقة يكون في الشرع مُرَتَّبَاً عليه حد أو يكون في الشرع مُرَتَّبَاً عليه لعن أو طرد أو وعيد.
يدخل في التعريف الأول -يعني على كلام ابن تيمية- اللعن، كل ما فيه لعن أيضاً يدخل في حد الكبيرة -سبق أن ذكرنا لكم شيئا من ذلك-.
__________
(1) سبق ذكره (264)
(2) سبق ذكره (264)
(3) مسلم (294) / ابن ماجه (2224)
(4) البخاري (1294)(1/437)
[المسألة الثانية (1) ] :
هل الإصرار على الصغيرة يُصَيِّرُهَا كبيرة أم لا؟
يعني من أَصَرَّ على كبيرة قلنا هو من أهل الكبائر من أمة محمد صلى الله عليه وسلم أم لا؟
للعلماء في ذلك قولان:
القول الأول:
أنَّ الإصرار على الصغيرة يُصَيِّرُهَا كبيرة، كما جاء عن بعض الصحابة رضوان الله عليهم كابن عباس وغيره.
- القول الثاني:
أنَّ الصغائر تختلف، وأنَّ الإصرار على الصغائر لِمَنْ تَرَكَ الكبائر لا يبقى معه صغيرة؛ لأنَّ الله - عز وجل - جعل الصلاة إلى الصلاة مُكَفِّرَات لما بينهن، إذا اجتُنِبَتْ الكبائر وجعل رمضان إلى رمضان مُكَفِّرَاً لما بينهما إذا اجتُنِبَتْ الكبائر، وهكذا العمرة إلى العمرة، وهكذا الحج ليس له جزاء إلا الجنة، الحج المبرور «ومن حج ولم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه» (2) ، ونحو ذلك من الأذكار التي يمحو الله بها السّيئات، كذلك اتْبَاع السّيئة الحسنة، وهذا يَدُلُّ على أنَّ الموحد الذي لم يفعل الكبائر فإنَّ هذه العبادات العظيمة بفضل الله - عز وجل - تمحو عنه الصغائر التي وقعت منه، فلا يُتَصَوَّرْ أنَّ الصغائر تجتمع في حقه فتتحول إلى كبيرة، وهذا النّظر ظاهر من حيث الاستدلال.
ومن قال: إنَّ المُدَاوَمَة على الصغائر تحولها إلى كبيرة. يحتاج إلى دليل واضح من الكتاب أو السنة، والأدلة كما ذكرت تدلُّ على أنَّ الصغيرة من الموحد تُكَفَّرْ، فلا تجتمع عليه؛ ولكن هذا بشرط اجتناب الكبائر كما قال - عز وجل - {إنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفَّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلاً كَرِيمًا} [النساء:31] .
نقف هنا، ونكمل بقية المسائل على بحث الكبائر في الدرس القادم إن شاء الله تعالى.
وفّقكم الله لما يحب ويرضى، وجمعنا على الحق والهدى. وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
__________
(1) هذه المسألة لم يجعلها الشيخ مستقلة وإنما هي تابعة لما قبلها، وقد جعلتها في مسألة مستقلة تنبيهاً عليها.
(2) البخاري (1521)(1/438)
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه، أما بعد:
الأسئلة
س1رحمه الله ما توجيهكم لحديث البطاقة وحديث «يا ابن آدم لو أتيتني بقراب الأرض خطيئة ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لأتيتك بقرابها مغفرة» رواه مسلم (1) مع العلم أنَّ صاحب الكبيرة تحت المشيئة؟
جرحمه الله ما فهمت وجه الاستشكال؛ لكن لعله أنه فَهِمْ من العموم في حديث «يا ابن آدم لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لأتيتك بقرابها مغفرة» فَهِمْ من العموم أنَّ هذا يعارض كون صاحب الكبيرة تحت المشيئة إذا مات غير تائب.
وهذا غير وارد لأنَّ النصوص يُصَدِّقُ بعضها بعضاً، والآيات يفسر بعضها بعضاً، والأحاديث يفسر بعضها بعضاً، وكذلك الوعد لا ينافي الوعيد، فقوله «أتيتك بقرابها مغفرة» هذا وعدٌ من الله - عز وجل - لمن حقَّقَ التوحيد لا يُشْرِكُ بالله شيئا، وكون صاحب الكبيرة تحت المشيئة لا يُعَارِضُ هذا الأصل؛ لأنَّ هذا والوعد والوعيد يُطلقان ويكونان على إطلاقهما، وكذلك يجتمعان في حق المعين، فيجتمع في حق المعين الوعد والوعيد، وهذا في حق مرتكب الكبيرة، ويدخُلُ في عموم أهل الإيمان الذين وعدهم الله - عز وجل - بالجنة، كل مؤمن وعَدَهُ الله - عز وجل - بالجنة، يدخل في المسلمين الذين جعل الله - عز وجل - لهم مغفرة وأجرا عظيما كما في آية الأحزاب {الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} إلى قوله {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب:35] ونحو ذلك.
فأهل السنة والجماعة في مثل هذه الأدلة التي فيها الوعد وفيها الوعيد، يُعمِلُونَ الوعد ويُعمِلُونَ الوعيد والوعد بشرطه والوعيد أيضا بشرطه، فلا مُنافاةَ ما بين الأدلة بل الأدلة يُصدِّق بعضها بعضا.
س2/ رحمه الله ما الضابط في التفريق بين الفعل والصفة في صفات الله - عز وجل - وأفعاله؟
ج/ رحمه الله صفة الرب - جل جلاله - مُشتملة على فِعلٍ له سبحانه وتعالى ومُشتملة على ما هو لازِمٌ من غير الفعل؛ يعني أنَّ صفات الرب - جل جلاله - منها ما هو صِفَةُ فعل ومنها ما هو صفة ذات، فليست كلها متعدية تَعَدِّي الأفعال.
فمثلا وجه الرّب - جل جلاله - صفة وليس بفعل، اليدان للرب - جل جلاله - وصف له سبحانه وليستا باسْمٍ ولا فعل.
فإذاً الفعل هو فِعْلٌ يفعله الله - عز وجل - له أثره، فالصفات منها ما هو صفة فعلٍ مثل الرحمة وهي صفة ذات لكن لها أثرها ومثل النزول وأشباهه والغضب الرضا، وهذا يتعلق بالمخلوق، فيفعله - عز وجل - ويتصف به سبحانه وتعالى.
وهناك القسم الآخر التي هي صفات الذات، صفات الذات كثيرة لا علاقة لها بالأفعال.
فإذاً نقول: ليست كل صفة لله - عز وجل - فِعْلاً، فقد تكون متعلِّقَة بفعل أو لها فعل أو أثرُها فيه فعل، وقد لا يكون ذلك، ولهذا لا يُشْتَقُ من الصفة فِعْلْ مُطْلَقَاً، كما أنه لا يُشتق من الفعل صفة مطلقاً، وذلك أنّ الأفعال أوسع في باب وصف الله - عز وجل - من الصفات، فقد يكون ثَمَّ فعل لله - عز وجل - ولا نشْتَقُ منه صفةً؛ يعني لا نشتق من الحدث المُسْتَكِنّْ في الفعل صفة لله - عز وجل -.
مثلاً الأفعال المنقسمة إلى محمود ومذموم مثل المكر {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ} [الأنفال:30] ، ومثل {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء:142] ، ومثل {مُسْتَهْزِئُونَ (14) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} [البقرة:14-15] ، ونحو ذلك من الأسماء نشتق منها صفات مُطْلَقَاً (2) ، ونقول الفعل أُطْلِقَ على الله - عز وجل - فنقول له صفة الاستهزاء، له صفة المخادع، له صفة المكر، وهكذا، بل تُطْلَقْ هذه الصفات مُقَيَّدَة لأنَّ المكر والمخادعة والاستهزاء ليست كمالاً في كل حال؛ بل قد تكون كمالاً، وقد تكون نقصاً، فتكون كمالاً إذا كانت بحق، ومن آثار صفات الكمال الأخّرْ، وتكون نقصاً إذا كانت بباطل، وكانت من آثار صفات النقص في المخلوق.
فإذاً باب الأفعال أوسع من باب الصفات، وليس كل فعل نشتق منه صفة لله - عز وجل -، وليست كل صفة نشتق منها الفعل لله - عز وجل -؛ لأن الصفات منها ما هو صفة ذات ومنها ما هو صفة فعل.
نكتفي بهذا.
__________
(1) مسلم (2687)
(2) - لعل مراد الشيخ (ونحو ذلك من الأفعال لا نشتق منها صفات مطلقاً)(1/439)
[المسألة الثالثة] :
في قوله (مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم) هذه الجملة أو شبه الجملة لا مفهوم لها، فليس هذا الحكم خاصاً بأمة محمد صلى الله عليه وسلم بل هو عام لهذه الأمة ولغيرها؛ لأنه:
- لم يَدُلَّ دليل على تخصيص هذه الأمة بهذا الفضل.
- ولأنَّ هذه ترجع إلى قاعدة الوعد والوعيد، وهما مما تشترك فيه الأمم لأنَّ أصلها واحد، قال (وَأَهْلُ الْكَبَائِرِ فِي النَّارِ لَا يَخْلُدُونَ -أو يُخَلَّدُونَ-) بشرط (إِذَا مَاتُوا وَهُمْ مُوَحِّدُونَ، وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا تَائِبِينَ) .(1/440)
[المسألة الرابعة] :
دخول أَهْلُ الكَبَائِرِ في النَّارِ، هذا وعيد، وهذا الوعيد يجوز إخلافُهُ من الرب - جل جلاله -؛ وذلك أنَّ مرتكب الكبيرة إذا تابَ في الدنيا تابَ الله عليه، وإذا طُهِّرَ بِحَدٍ أو نحوه كتعزير فإنه تكون كَفَّارَةْ له.
فإذاً يكون مرتكب الكبيرة من أهل الوعيد إلا في حالات:
الحال الأولى:
أن يكون تائباً كما ذكرنا لك؛ لأنَّ التوبة تَجُبُّ ما قبلها، قال الله - عز وجل - في آخر سورة الزمر {قُلْ يَاعِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر:53] أجمَعَ أهل التأويل والتفسير-: أنها نزلت في التّائبين، فمن تَابْ تابَ الله - عز وجل - عليه، فلا يلحق التائب وعيد لأنه قد مُحِيَتْ عنه زلته وخطيئته بالتّوبة.
2- الحال الثانية:
أن يُطَهَّرَ من تلك الكبيرة إما بِحَدْ كمن شرب الخمر مثلاً فأُقيمَ عليه الحد فهو طهَّارَةْ وكفَّارة له، وكذلك من قَتَلَ مسلماً فقُتِلَ، أو من قَتَلَ مسلماً خطأً فَدَفَعَ الدّية، فإنَّ هذا كفارةٌ له، أو سرق فقُطِعَتْ يده فهو كفارة له، أو قَذَفْ فأقيم عليه حد القذف (1) فهو كفارة له، أو زنى إلى أخره، أو كان تعزيراً أيضاً فإنه طهارة.
يعني أنَّ ما يُقَامُ على المسلم من حد أو تعزير من عقوبة في الدنيا فإنها من جنس العقوبة في الآخرة تُطَهِّرُهُ من هذا الذنب.
3- الحال الثالثة:
بعض الذنوب الكبائر تكون لها حسنات ماحية، مثلاً الصدقة في حق القاتل قال - عز وجل - {فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} [المائدة:45] ، ومثل الجهاد العظيم فإنه يُنْجِي من العذاب الأليم، قال سبحانه {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ} [الصف:10-11] ، والعذاب الأليم هو لمن فعل الكبيرة؛ لأنه وعيد شديد.
4- الحال الرابعة:
أن يكون الله - عز وجل - يغفر له ذلك لأسباب متعددة، ذكرنا لكم شيئا منها فيما مضى في العشرة أسباب المشهورة (2) وقد يدخُلُ بعضها فيما ذكرنا لكم آنفا.
5- الحال الخامسة:
أن يغفر الله - عز وجل - له بعد أن صار تحت المشيئة.
يعني يوم القيامة، لا يكون عنده حسنات، ولا يكون أتى بشيء؛ ولكن يغفر له الله - عز وجل - مِنَّةً منه وتَكَرُّماً.
وهؤلاء هم الذين يقال عنهم تحت المشيئة؛ يعني إذا لم يتوبوا ولم يُقَم عليهم الحد أو طُهِّرُوا ولم يأتوا بشيءٍ من أسباب تكفير الذنب، فإنهم تحت المشيئة إن شاء الله - عز وجل - غفر لهم وإن شاء عذّبهم في النار ثم يخرجون لا يخلدون.
وهنا شَرَطَ المؤلف -شرط الطحاوي- رحمه الله لهؤلاء الذين لا يَخلُدون في النار إذا دخلوها -يعني لمن لم يغفر الله - عز وجل - له؛ بل شاء أن يعذبه- شَرَطَ له شرطين نذكرهما في المسألة الخامسة.
__________
(1) انتهى الوجه الأول من الشريط الثاني والثلاثين.
(2) انظر (372)(1/441)
[المسألة الخامسة] :
من لم يُغْفَرْ له ممن لم يتب فإنه يُشتَرَطُ لعدم خلوده في النار شرطان:
@ الشرط الأول: أن يكون مات على التوحيد، وهذا كما هو شرطٌ عام في دخول الجنة، كذلك هو شرطٌ عام في الخروج من النار، كما ثبت في الصحيح أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال «يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرّة من إيمان» (1) ، فالتوحيد أساس لعدم الخلود في النار، فكل موَحِدٍ لابد أن يخرج من النار.
@ الشرط الثاني: أنه لا يَخْلُدُ في النار إذا لم يأتِ في ارتكابه لهذه الكبيرة بما يجعله مُسْتَحِلاً لها، فقد يكون من جهةٍ مُوَحِّداً في الأصل، في نطقه بالشهادتين، ويكون من جهة أخرى في هذه الكبيرة بعينها مُسْتَحِلاً لها، وهذا بقيد:
1 - أن تكون الكبيرة مما أُجْمِعَ على تحريمه.
2 - وكان المُسْتَحِلُّ لها غير متأول.
وهذه قد تدخل مع شيء من النظر في الحال الأول لأنَّ حقيقة الموحد هو أنه غير مستحلٍ لشيءٍ من محارم الله - عز وجل -.
__________
(1) سبق ذكره (436)(1/442)
[المسألة السادسة] :
الخلود في النار نوعان: خلودٌ أمدي إلى أجل، وخلودٌ أبدي.
- والخلود الأمدي: هو الذي تَوَعَّدَ الله - عز وجل - به أهل الكبائر.
- والخلود الأبدي؛ المُؤَبد: هو الذي تَوَعَّدَ الله - عز وجل - به أهل الكفر والشرك.
& فمن الأول: قول الله - عز وجل - {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا} [النساء:93] ، فهذا خلود لكنه خلود أمدي؛ لأنَّ حقيقة الخلود في لغة العرب هو المُكث الطويل، وقد يكون مُكْثَاً طويلاً ثُمَّ ينقضي، وقد يكون مُكْثَاً طويلاً مؤبداً.
& ومن الثاني: وهو الخلود الأبدي في النار للكفار قول الله - عز وجل - {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} [الجن:23] ، وكذلك قوله - عز وجل - في آخر سورة الأحزاب {إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا (64) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} [الأحزاب:64-65] ، هذا خلود أبدي.
ولذلك يُمَيَّزْ الخلود في القرآن بالأبدية في حق الكفار، وأما في حق الموحدين فإنه لا يكون معه كلمة (أبداً) .
وهذا الذي بسببه ضَلَّتْ الخوارج والمعتزلة فإنهم رأوا (خالدين فيها) في حق المُرَابي وفي حق القاتل فظنوا أنَّ الخلود نوع واحد، والخلود نوعان.
ومما يتصل بهذا أيضاً لفظ التحريم في القرآن، ولفظ عدم الدخول للجنة في القرآن، وكذلك عدم الدخول إلى النار.
يعني لفظ التحريم (إنَّ الله حَرَّمَ الجنة) ، أو (حَرَّمَ الله عليه النار) ، أو (لا يدخل الجنةَ قاطع رحم) ، أو (لا يدخلون الجنةَ) ، ونحو ذلك.
فهذه مما ينبغي تأمُلُهَا وهو أنَّ التحريم في القرآن والسنة ونفي الدخول نوعان:
- تحريمٌ مؤبد.
- وتحريمٌ إلى أمد.
كما أنّ نفي الدخول:
- نفْيُ دخولٍ مؤبد.
- ونفي دخولٍ إلى أمد.
فتَحَصَّلَ من هذا أنَّ الخلود في النار نوعان: خلود إلى أمد، وخلود أبدي.
وأنَّ تحريم الجنة -كما جاء في بعض النصوص- أو تحريم النار وقد يكون تحريماً إلى أمد وقد يكون تحريماً إلى الأبد.
وكذلك نفي الدخول (لا يدخل الجنة) (لا يدخل النار) هذا أيضا نفي دخولٍ مؤبد أو نفي دخولٍ مؤقت
وهذا التفصيل هو الذي به يفترق أهل السنة والجماعة أتباع السلف الصالح مع الخوارج والمعتزلة وأهل الضلال بجميع أصنافهم فإنهم جعلوا الخلود واحداً وجعلوا التحريم واحداً وجعلوا نفي الدخول واحداً، والنصوص فيها هذا وهذا.(1/443)
[المسألة السابعة] :
في قوله (لَا يَخْلُدُونَ، إِذَا مَاتُوا وَهُمْ مُوَحِّدُونَ، وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا تَائِبِينَ) هذه الجملة معروفة أصلاً لأنَّ التائب من الذنب كمن لا ذنب له، فهي من باب التأكيد ليست إشارة لخلاف ولا إشارة لشرط ونحو ذلك.(1/444)
[المسألة الثامنة] :
في قوله (بَعْدَ أَنْ لَقُوا اللَّهَ عَارِفِينَ مُؤْمِنِينَ) هنا توقف الشارح ابن أبي العز عند قوله (بَعْدَ أَنْ لَقُوا اللَّهَ عَارِفِينَ) وتَعَقَّبَ الطحاوي في لفظ (عَارِفِينَ) وأنَّ المعرفة ليست ممدوحة، فإنَّ بعض الكفار كانوا يعرفون، إبليس يعرف، وفرعون يعرف، وأنَّ في هذا القول وهو (بَعْدَ أَنْ لَقُوا اللَّهَ عَارِفِينَ) فيه نوع مشاركة للجهمية ولغلاة المرجئة.
وهذا التعقيب من الشارح رحمه الله في هذا الموطن فيه نظر؛ لأنَّ لفظ العارف أو المعرفة هذه ربما جاءت في النص ويُرادُ بها التوحيد والعلم بالشهادتين، فكأنَّ الطحاوي يقول: بعد أن لقوا الله عالمين بالشهادتين مؤمنين.
وهذا جاء في حديث معاذ المشهور أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لمَّا بعثه إلى اليمن قال له «إنك تأتي قوما أهل كتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله فإن هم عرفوا ذلك فأعلمهم» (1) إلى آخره وهذا اللفظ رواه مسلم في الصحيح، فاستَعْمَلَ لفظ المعرفة ويُعنَى به العلم بالشهادتين.
وتوجيه كلام الطحاوي إلى هذا الأصل أولى من تخطئته فيه؛ لأنَّ الأصل في كلام العلماء الإتباع إلا ما دَلَّ الدليل على خلافه.
__________
(1) البخاري (7372)(1/445)
[المسألة التاسعة] :
في قوله (وَهُمْ فِي مَشِيئَتِهِ وَحُكْمِهِ إِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُمْ، وَعَفَا عَنْهُمْ بِفَضْلِهِ، كَمَا ذَكَرَ - عز وجل - فِي كِتَابِهِ: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48، 116] ، وَإِنْ شَاءَ عَذَّبَهُمْ فِي النَّارِ بِعَدْلِهِ، ثُمَّ يُخْرِجُهُمْ مِنْهَا بِرَحْمَتِهِ وَشَفَاعَةِ الشَّافِعِينَ مِنْ أَهْلِ طَاعَتِهِ، ثُمَّ يَبْعَثُهُمْ إِلَى جَنَّتِهِ) هذه الجملة الطويلة تقريرٌ لأصل عند أهل السنة والجماعة خالفوا به الخوارج والمعتزلة: أنَّ أهل الكبائر إذا ماتوا غير تائبين تحت المشيئة.
وقول الله - عز وجل - {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} يعني في الكبائر لمن مات غير تائبٍ منها.
والمحققون من أهل العلم جمعوا بين هذه الآية وآية سورة الزمر {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر:53] ، وهنا {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} فأطْلَقَ في آية الزمر وهنا قال {لِمَنْ يَشَاءُ} ، وذلك أنَّ هذه الآية في حق غير التائبين، وأما آية الزمر ففي حق من تاب.
فهو سبحانه لمن مات غير تاب إن شاء غفر وعفا وهذا فضل وإن شاء عَذَّبَ وهذا عدل منه سبحانه بعباده.
ثم قوله (ثُمَّ يُخْرِجُهُمْ مِنْهَا بِرَحْمَتِهِ وَشَفَاعَةِ الشَّافِعِينَ مِنْ أَهْلِ طَاعَتِهِ) هذا فيه ذِكْرُ سببين للخروج من النار في حق أهل الكبائر.
وهذان السَّببان ضَلَّتْ فيها الفرق من المعتزلة والخوارج ومن شابههم:
1- السبب الأول: رحمة الله - عز وجل -، والرحمة قاعدة عامة في كل فَضْلٍ يحصل للعبد في الدنيا وفي الآخرة.
فالخروج من النار برحمة الله، التخفيف من الحساب برحمة الله، دخول من دَخَلَ الجنة برحمة الله - عز وجل -، كما صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال «لن يُدْخِلَ أحَدَكُم الجنة عملُه» (1) أو «لن يَدْخُلَ أحدكم الجنة بعمله» ، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال «ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل» ، فهذا السبب عام، فكل من خَرَجَ هو برحمة الله، حتى فيمن شَفَعْ وشُفِّعْ فإنَّ العبد يخرج بعد شفاعة الشافعين برحمة الله - عز وجل -، وهذا يعني أنَّ قوله (بِرَحْمَتِهِ وَشَفَاعَةِ الشَّافِعِينَ) أنها نفهم منها أنه أراد شيئاً مستقلاً وهو أنه محض تفضِّلٍ منه - عز وجل -؛ عَذَّبَ ثم أخرجهم برحمته.
وهذه الرحمة في هذا الموطن لها تفسيران:
- الوجه الأول: أنَّ جَعْلْ الكبيرة مع ما فيها من عِظَمْ المبارزة لله - عز وجل - والتهاون بأمره ومخالفته وارتكاب نهيه، أنَّ هذه الكبيرة لم يحكم الله - عز وجل - على من ارتكبها أنَّهُ يُعَذَّبُ أبدًا.
فكون العذاب إلى أمد رحمة، ثم انقضاء العذاب رحمة، ثم بعثهم إلى الجنة أيضا رحمة.
- الوجه الثاني: أنّ الله - عز وجل - يُخرجُ من النار أيضاً أقواماً صاروا حِمَماً، يعني صاروا على لون السواد من شدة العذاب -والعياذ بالله-، ثم يُلْقَونَ في نهر الحياة فينبُتون فيه من جديد كما تنبت الحِبَّةُ في جانب الوادي وحميل السيل، وهذا أيضاً رحمةٌ من الله - عز وجل - في حق من ارتكب الكبيرة.
2- والسبب الثاني: شفاعة الشافعين من أهل طاعته.
وشفاعة الشافعين:
- أعلاها شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم في أهل الكبائر أن يخرجوا من النار.
- ثم شفاعة الملائكة للمؤمنين الذين ارتكبوا الكبائر أن يخرجوا من النار.
- ثم شفاعة الوالدين لأولادهما.
- وهكذا شفاعة المُحِبْ لحبيبه من أهل الإيمان فيمن شاء الله - عز وجل - أن يُشَفِّعَهُ.
وهذان الأمران: الرحمة على ما ذكرت، وشفاعة الشافعين أيضاً على هذا الوصف- وقد تقدم أظن بحث الشفاعة مُطولاً-، وهذان خالف فيهما أهل الفرق وخاصةً الخوارج والمعتزلة ومن شابههم.
__________
(1) سبق ذكره (378)(1/446)
[المسألة العاشرة] :
قال (وَذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَوَلَّى أَهْلَ مَعْرِفَتِهِ، وَلَمْ يَجْعَلْهُمْ فِي الدَّارَيْنِ كَأَهْلِ نُكْرَتِهِ الَّذِينَ خَابُوا مِنْ هِدَايَتِهِ، وَلَمْ يَنَالُوا مِنْ وَلَايَتِهِ) هذه الجملة يُذَكِّرُ بها الطحاوي رحمه الله كُلَّ من أَنْعَمَ الله - عز وجل - عليه بنعمة أن يتذكَّرْ بأنه أُنْعِمَ عليه وتُفُضِّلَ عليه وأُحْسِنَ إليه ومَنَّ الله - عز وجل - عليه بهذه النعمة، فالذي عَصَى الله - عز وجل - وعفا الله عنه أو عَذَّبَهُ ثم أنجاه، هذا كله من آثار تولي الله - عز وجل - لأهل الإيمان.
وهذا يدل على أنَّ وَلاية الله - عز وجل - لعباده المؤمنين تتبعض ليست كاملة، فإنَّ وَلايَة الله - عز وجل - -وهي محبته لعبده ومودته له ونُصرتُه له وتوفيقه ونحو ذلك- لا يكون جملةً واحدة؛ إما أن يأتي في المعيّن وإما أن يزول كقول الوعيدية، بل يجتمع في حق المعين في الدنيا والآخرة أنه محبوبٌ من جهة ومُبغَضٌ من جهة، مُتولاً من جهة ومخذول من جهة أخرى.
وهذا هو الذي أراده في أنَّ أهل الكبائر في اعتقاد أهل السنة والجماعة لا يَخْلُون من نوع وَلايَةِ لله - عز وجل - لهم، فالله - عز وجل - (تَوَلَّى أَهْلَ مَعْرِفَتِهِ) يعني أهل توحيده، (وَلَمْ يَجْعَلْهُمْ فِي الدَّارَيْنِ) في الدنيا والآخرة (كَأَهْلِ نُكْرَتِهِ) ؛ يعني أهل الكفر الذين {يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا} [النحل:83] ؛ بل لهم نصيب من وَلايَةِ الله - عز وجل -.
فوَلايَةُ الله وهي محبَتُهُ ونُصرَتُهُ في حق المُعيَّن من أهل القبلة تتبعَّض، يعني تكون في فلان أعظم منها في فلان، فالمؤمن المًسَدَّد الذي كَمَّلَ إيمانه بحسب استطاعته له من وَلايَةِ الله - عز وجل - الولاية الكاملة التي تناسب مقامه في الإيمان، والذي يخلط عملاً صالحاً وآخر سيئاً له نصيب من محبة الله - عز وجل - ووَلايَتِهِ ونُصرَتِهِ بحسب ما عنده من الإيمان.
فإذاً في حق المُعَيَّنْ حتى من أهل الكبائر يجتمع فيه وَلَايَة من جهة وخُذلان من جهة أخرى، وهذا هو معتقد السلف وأهل السنة والجماعة في هذه المسألة العظيمة.(1/447)
ثم دعا آخراً بقوله (اللَّهُمَّ يَا وَلِيَّ الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ ثَبِّتْنَا عَلَى الْإِسْلَامِ حَتَّى نَلْقَاكَ بِهِ)
____________________________________________
وهذه الجملة رُوِيَتْ في حديث لكن لا يصح، وهي دعاءٌ طيب.
ومعنى (وَلِيَّ الْإِسْلَامِ) يعني ناصر الإسلام؛ لأنَّ الولي هو الناصر، والله - عز وجل - وَعَدَ بنصر دينه سبحانه وتعالى قال - عز وجل - {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} [الفتح:28] . وقال أيضاً - عز وجل - {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [غافر:51] ، ونحو ذلك كقوله في آخر الصّافات {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمْ الْمَنصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمْ الْغَالِبُونَ} [الصافات:171-173] .
فقوله (اللَّهُمَّ يَا وَلِيَّ الْإِسْلَامِ) يعني اللهم يا ناصر الإسلام وأهله، فالله - عز وجل - وَعَدْ بنُصرة دينه ونصرة أهل الإسلام ووعده حق.
فنسأل الله - عز وجل - الذي وَعَدَ بنصر الإسلام ونصر أهل الإسلام أن يثبتنا على هذا الدين حتى نلقاه، وأن يرينا نَصْرَ دينه وإعجاز كلمته وإعلاء رايته إنه سبحانه على كل شيء قدير.(1/448)
وَنَرَى الصَّلَاةَ خَلْفَ كُلِّ بَرٍّ وَفَاجِرٍ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ، وعَلَى مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ.
__________________________________________
قال رحمه الله (وَنَرَى الصَّلَاةَ خَلْفَ كُلِّ بَرٍّ وَفَاجِرٍ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ، وعَلَى مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ)
هذه الجملة يريد بها تقرير ما دلَّتْ عليه الأدلة العامة والخاصة في أنَّ الصلاة عند أهل الأثر، أتباع الصحابة رضوان الله عليهم تُقَامُ خلف كل إمام؛ إمام عام وهو ولي الأمر أو إمام خاص وهو إمام المسجد -سواءٌ أكانَ براً أو كان فاجراً- إذا كان من أهل التوحيد؛ يعني من أهل القبلة.
وهذا يريد به مخالفة من ضلُّوا عن سبيل السلف فيمن لم يُصَلُّوا إلا خَلْفَ من يماثلهم في العقيدة أو يماثلهم في العمل أو يكون سليماً من الفجور، يعني لا يصلون إلا خلف من يعلمون بِرَّهُ وتقواه ونحو ذلك.
وهذا صنيع الخوارج وكل أنواع المُتعصِّبَة من الضُلاَّل من أهل الفرق جميعاً.
فكل فرقة من الفِرَقْ تُكَفِّرْ الفرقة الأخرى أو تُضَلِّلُها ولا يرون الصلاة خلف الآخرين، ولو كانوا مبتدعةً أو كانوا فجاراً، فإنهم يقولون: لا نصلي إلا خلف من نعلم دينه أو خلف من هو مثلنا في الاعتقاد.
بل زاد الأمر حتى صار أصحاب المذاهب المتبوعة: الشافعية والحنفية المالكية لا يصلي أحدٌ منهم إلا خلف من كان على مثل مذهبه الفقهي، وهذا مخالف لهدي السلف الصالح في أعظم مُخَالَفَةْ في مسائل البِدَعْ والاعتقاد، ومسائل الفقه كذلك مخالفتها شنيعة جداً.
وكذلك يرون الصلاة على كل ميتٍ من أهل القبلة ما دام أنَّه مات على التوحيد ولم يُعرَفْ بكفرٍ أو نفاق.
وتحت هذه الجملة مسائل:(1/449)
[المسألة الأولى] :
الصّلاة خلف الإمام الأعظم أو الأمير الخاص هذه سُنَّةٌ ماضية دلَّ عليها سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ودلَّ عليها عمل السلف الصالح.
أما السّنة ققد صحَّ عنه صلى الله عليه وسلم كما في البخاري وغيره أنه ذكر الأئمة والأمراء الذين يؤخرون الصلاة عن مواقيتها فقال «يصلون لكم فإن أصابوا فلكم ولهم، وإن أخطؤوا فلكم وعليهم» (1) .
وكان السلف إذا صلَّوا خلف من يعلمون فجوره فإنهم لا يفارقونه لأجل فجوره، كما صح عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه صلى خلف أمير الكوفة الفجر وصلاها أربعاً فقال ذاك الأمير: أزيدكم؟ يعني هل أنا نَقَصْتُ من الصلاة وكان في سُكرِهِ، فقال له ابن مسعود: ما زلنا معك في زيادة (2) .
فلم يحمله فِعْلُ الكبيرة، شرب الخمر وما ظهر من أماراتها من تضييع عدد الركعات من أن لا يصلي خلفه لأنَّ مصلحة الاجتماع وعدم التفرق عن الأمير أعظم من هذه المصلحة الخاصة.
كذلك لما أُمِّرَ الحجاج بن يوسف الثقفي على الحج في سنةٍ من السنوات من قِبَلِ خلفاء بني أمية وحَجَّ بالناس، فجاء يوم عرفة وكان ابن عمر هو مفتي الحج بأمر ولي الأمر، فجاء ابن عمر للحجاج وقال له: اخرج إلى الصلاة -لمَّا قَرُبَ الزوال- لأنَّ هذه هي السنة أن يصلي الظهر والعصر جمعاً وقصراً في أول وقت الظهر.
فقال: أُخْرُجْ إلى الصلاة.
فقال الحجاج: أفي هذه الساعة يا أبا عبد الرحمن؟
قال: نعم أترغب عن السنة؟
فخرج فصلى الحجاج وصلى خلفه ابن عمر وصلى وراءه المسلمون. (3)
وهذه أيضاً ثبتت عن أنس في صلاته خلف الحجاج، وعدد من الصحابة رضوان الله عليهم وجمعٌ كثير من التابعين صَلَّوا خلف من يعلمون فجوره ويعلمون إسرافه بقتلٍ أو معاصٍ كبائر ونحو ذلك.
والصلاة خلف هؤلاء سُنَّةٌ ماضية وعمل للسلف، لذلك صار من المتقرر في قواعد أهل السنة والجماعة أن يصلي المرء خلف الإمام على أي حالٍ كان ما دام أنه مسلم، ويصلي خلف الأمير -الأمير العام أمير البلد-، ويصلي خلف الأمير المُقَيَّدْ أيضاً -أمير السفر أو أمير الحج أو المسؤول أو نحو ذلك-؛ لأنَّ مصلحة الاجتماع مطلوبة والخلاف شر، وهذه صارت سُنَّةْ ماضية لأهل السنة والجماعة.
__________
(1) البخاري (694)
(2) الإستيعاب (1/492)
(3) الموطأ (896) / النسائي (3009)(1/450)
[المسألة الثانية] :
مما نَصَّ عليه السلف أيضاً في هذا الأصل أنَّ الصلاة نراها ونفعلُهَا خلف كل إمامٍ بر أو فاجرٍ أو أيضاً ممن نجهل عقيدته.
وقد بَدَّعَ الأئمة الأربعة وأئمة السلف من قال لا أصلي خلف أحدْ إلا بعد أن أعلم عقيدته؛ بل يُصَلَّى خلف مستور الحال، ومن لا نعلم حاله ولا نبحث ولا نمتحن الناس في عقيدتهم قبل الصلاة، ونرى هل هو موافق أم ليس بموافق، هل هو مبتدع أم ليس بمبتدع.
نرى ظاهر الأمر، وما دام أنَّ ظاهر الأمر السلامة فإننا نصلي خلفه دون بحث.
فإذاً على هذا الأصل لا يجوز امتحان الناس في عقيدتهم عند إرادة الصلاة، ولا بَحْثْ أَمْرْ الباطن وإثارة الباطن؛ لأنَّ الأصل الظاهر.
وهذا هو الذي نصَّ عليه الأئمة الأربعة وجماعة كثيرون من أئمة السلف، وقرَّرَهُ المحققون كشيخ الإسلام ابن تيمية وجماعة.(1/451)
[المسألة الثالثة] :
قوله (خَلْفَ كُلِّ بَرٍّ وَفَاجِرٍ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ) هذا إذا كان إماماً مُرَتَّبَاً، ولم يكن بوسع المرء أن يختار الأمثل.
أما إذا كان في سَعَةْ في أن يختار من هو أمثل لصلاته وإمامته، فإنه يتعيَّنْ عليه أن يصلي خلف الأقرء ((يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله)) (1) ،.
وهذا في حال الاختيار، يعني جماعة موجودون من يقدموا؟، تَقَدَمْ رجل يُعْرَفْ عنه فجور فيقال له تأخر؛ لأنه ليس بإمامٍ للمسلمين وليس أميراً وليس إماماً راتباً في هذا المسجد أو في هذا المكان، فلم يتقدم؟
فتقديمه والرضا بذلك هذا نوع قصور بل مخالفة لأمر النبي صلى الله عليه وسلم.
وهذه المسائل ما فيها حياء ولا فيها مجاملات، يعني إذا كان الأمر في الاختيار لا تجعل أحد يتقدم ممن هو معروف بفجور أو بدعة أو مخالفات أو كبائر أو نحو ذلك من المسائل؛ لأنَّ هذا الإمام هو بين يدي الله - عز وجل -، وهو مُقَدَّمْ الوفد بين يدي الله سبحانه وتعالى، وهو الذي يدعو لهم ويَؤُمُهُم فلا يُجَامَل في هذه المسائل.
مما يتصل بذلك أيضاً إذا كانت صلاة الجماعة، وإذا تَرَكَ هذا المسجد فإنه يَجِدُ مسجداً آخر فيه إمامٌ أسلم له في دينه وأَتْبَعْ، فإنه يذهب يصلي خلف الأسْلَمْ؛ لأنَّ هذا مما فيه السَّعَةْ؛ يعني لم يتعين عليه أو ليس ثَمَّ مفسدة أن يصلي خلف هذا، بخلاف ما إذا كان هذا الإمام أمير البلد أو ولي الأمر أو نحو ذلك فإن التخَلُّفَ عنه يثير مفسدة والأصل الجواز.
__________
(1) مسلم (1564) / أبو داود (582) / النسائي (780) / الترمذي (235)(1/452)
[المسألة الرابعة] :
أهل القبلة هم من يُوصَفُ بالإسلام، والذين يُوصفون بالإسلام أنواع:
1- النوع الأول: المؤمنون الصالحون.
2- النوع الثاني: مسلم له فجور بمعاصٍ مختلفة.
3 - النوع الثالث: مسلم له فجور بمعاصٍ خاصة يأتي بيانها.
4 - النوع الرابع: المنافق.
@ أما القسم الأول: فالصلاة على من مات منهم قُرْبَةْ وحَقْ، في أنَّهُ إذا مات المسلم المُسَدَّدْ أن يُصَلَّى عليه وأن تُشهَدَ الصلاة عليه وأن تُشهَدَ جنازته لأنَّ هذا من حق المسلم على المسلم.
@ وأما القسم الثاني: أن تكون الصلاة على من له فجور عام؛ يعني المعاصي المختلفة، هو ممن خَلَطَ عملاً صالحاً وآخر سيئا وعُرِفَ بذلك في معاصٍ مشهورة عنه، فهذا يُصَلَّى أيضاً عليه بإطلاق، ولا يُشرَعُ التخلف عن الصلاة عليه إذا كان غير داعٍ ومُعْلِنٍ لهذا الفجور بدعوة غيره إليه.
@ أما القسم الثالث: من أهل الإسلام هو من له فجور بكبائر خاصَّةْ، وهي التي جاء الدليل بأن يَتْرُكَ طائفة الصلاة عليه، مثل الغَالْ، ومثل من قَتَلَ نفسه، وأشباه هذه الذنوب، ومن أقيم عليه الحد -حد القتل- وأشباه ذلك، فهذا يُصَلِي عليه بعض المسلمين ويترك الصلاة عليه أهل الشَّارَةْ والعلم، كما جاءت بذلك السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
@ وأما القسم الرابع: أهل النفاق، والنفاق قسمان:
1- القسم الأول: نفاق يعلمه كل أحد، وهذا لا يكون في المسلمين لأنه يكون زنديقاً؛ يعني مُعْلِنْ الاستهزاء بالله - عز وجل - في كتبه أو في قصائده أو نحو ذلك، مُعْلِنْ عدم الإيمان بالقرآن ولا بالمعاد وأشباه ذلك فهذه زَنْدَقَةٌ ظاهرة.
ب - والقسم الثاني نفاقٌ خَفِي يَعْلَمُهُ البعض ولا يَعْلَمُهُ البعض.
& أما القسم الأول وهو الظاهر فهو لا يجوز الصلاة على من كان زنديقاً أو منافقاً وذلك لقول الله - عز وجل - في المنافقين {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [التوبة:80] ، إلى آخر الآية، وقال - عز وجل - أيضا لنبيه {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} [التوبة:84] ، فمن كان معلوماً ظاهراً النفاق منه -الزندقة، محاربة الدين والزندقة الظاهرة، الكفر الظاهر مما يكون معه المرء منافقاً خالص النفاق- فهذا لا يُصَلَّى عليه فيجب على المسلمين أن لا يُصَلُّوا عليه؛ لأنه حينئذ لا يكون من أهل القبلة بالوصف العام.
& وأما القسم الثاني وهو من نفاقه مُلْتَبِسْ، هل هو منافق أم ليس بمنافق؟
فهذا من عَلِمَ نفاقه بيقين له أن لا يصلي عليه، إذا حَضَرَ في المسجد أو نحو ذلك، فإنه إذا علم نفاقه بيقين فإنه لا يُصَلِّيْ عليه ويترك البقية يصلون لأنَّ الصلاة عليه هي باعتبار الإسلام الظاهر ولم يظهر منه ما يخالف هذا الأصل.
ويدل على ذلك أنَّ عمر رضي الله عنه كان لا يصلي على من لا يعلم حاله إلا إذا صَلَّى عليه حذيفة؛ لأنَّ حذيفة بن اليمان رضي الله عنه أخبره النبي صلى الله عليه وسلم بأسماء المنافقين، فكان عمر بن الخطاب الخليفة الرّاشد ينظر هل يُصَلِّي عليه حذيفة أم لا يصلي عليه؟
فإن صَلَّى عليه حذيفة أو توجه للصلاة عليه أو لم يحكم عليه فإنه يصلي عليه.
وهذا يدل على التفريق في هذه المسائل، ما بين ما يُعْلَمُ من حال المنافق وما لا يُعْلَمُ.
فمن عَلِمَ حاله لم يُصَلَّ عليه ومن لم يعلم فإنه يُصَلِّي عليه، ولا يَلْزَمُ من عَلِمْ أن يُعْلِنَ وينهى الآخرين عن الصلاة عليه؛ لأنَّ الأصل هو ظاهر الإسلام.
وقد قرَّر الأئمة من أهل السنة أنَّ المنافق له أحكام المسلمين؛ لأنَّ له حكم الإسلام الظاهر فيرث ويورث ويُصَلِّيْ عليه من لا يعلم حاله ونحو ذلك مما هو من آثار الإسلام الظاهر (1)
__________
(1) انتهى الشريط الثاني والثلاثون.(1/453)
: [[الشريط الثالث والثلاثون]] :
الأسئلة
س1/ فإن لم يكن مرتكب الكبيرة من أهل الوعيد، إلا في حالات ذكرتم فيها بعض الذنوب ... وقال الله - عز وجل - {فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} [المائدة:45] ، وما وجه ذلك؟
ج/ وجهها الإطلاق؛ يعني من تصدَّقَ بِقَتْلِ القاتل فهو كفَّارة له، والقتل كبيرة فكفارته كونها تُكَفِّرْ الصغائر غير مناسب، تُكَفِّرْ ما يقابلها من كبيرة، ولهذا قال العلماء في تفسير {فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} يعني فيما يناسب عِظَمْ العمل، ذاك قتل والآن يستحق أن يُقْتَل وأن يُسْفَكَ دمه فهو تصدق به، تصدق بتلك النفس يعني باستحقاقه القتل {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنصُورًا} [الإسراء:33] ، واضح.
س/ [.....]
كفَّارة لمن قتل وكفَّارة للمتصدّق، الكفَّارة هنا هل هي للصغائر، الصغائر تُكَفِّرها الصلاة إلى الصلاة، لكن كفارة لما يناسب؛ لأنَّ عِظَمْ الذنب يقابله عِظَمْ التكفير.
س2/ الصلوات الخمس والجمعة ورمضان هل يكفر الله سبحانه بها الكبائر والصغائر أم لا يكفر إلا الصغائر، أما الكبائر فلا بد لها من توبة؛ لأنَّ من أهل العلم من يقول بذلك؟
ج/ الحديث نصَّ على أنَّ الصلوات الخمس والجمعة ورمضان إلى رمضان أنها مُكفرات لما بينهما ما اجتُنبت الكبائر، فتُكفر الصغائر، الصلاة في الجماعة إلى الصلاة في الجماعة تُكفر ما بينهما من الصغائر؛ لكن الكبائر لابد فيها من توبة.
وأما من قال أنَّ هذه الحسنات تُكفر الصغائر والكبائر كابن حزم وغيره، وهذا قول باطل وردَّ عليه ابن عبد البر في التمهيد رداً جيّداً مطولاً.
س/ عدم الإصرار على الكبيرة ألا ... ؟
لا، لأنه لو كانت الكبيرة تُكفَّر بغير التوبة ما يبقى أحد من أهل القبلة يلحقه وعيد، ولهذا قال ابن رجب رحمه الله في معرض كلامٍ له (ومن قال إن الكبائر تُكفَّر بمثل هذه الأمور فهذا أشبه بقول المرجئة؛ لأنَّ المؤمن يصلي ويصوم ويحج ويعتمر إلى آخره) ، معناه أنَّ كل هذه الأفعال تكفر الكبائر، يعني أنَّ أهل الإسلام سيموتون ولا....؛ بمعنى أنه لا يلحق مسلم وعيد، وهذا أشبه بقول أهل الإرجاء.
فالصحيح أنَّ الأحاديث التي فيها تكفير السيئات بفعل الطاعات أنَّ هذا للسيئات الصغائر.
في بعض الأعمال خلاف، بعض الأعمال مثل الحج قال «من حج فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه» (1) يعني هذا التمثيل يدخل فيه الصغائر والكبائر ولذلك فيه طائفة من أهل العلم خصُّوا الحج، قالوا الحج غير العمرة إلى العمرة «حج فلم يرفث ولم يفسق» هذا يكفر الكبائر والصغائر، ولهذا شبه النبي صلى الله عليه وسلم الحج بالجهاد، والجهاد يمحو الله - عز وجل - به السيئات لأنها حسنة عظيمة، وهذه فيها خلاف؛ لكن القاعدة أنَّ الحسنات من الصلاة والصيام والجمعة والعمرة إلى العمرة أنها مُكَفِّرَة للصغائر دون الكبائر بشرط اجتناب الكبائر؛ لقوله {إنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفَّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء:31] . فجعل شرط التكفير اجتناب الكبائر.
ثم هنا اختلف العلماء هل ترك الكبيرة وحده تُكفَّر به السيئات أم لابد أن يترك الكبيرة مع عمل صالح؛ يعني ترك مع فعل، أم الترك وحده مُكَفِّر؟
على قولين: والظاهر من قول المحقّقين أنَّ ترك الكبيرة لا تُكَفَّر به السيئات وحده بل لابد من فعل.
يعني ترك الكبيرة مع الصلاة إلى الصلاة، ترك الكبيرة مع عمرة إلى عمرة، ترك الكبيرة مع رمضان إلى رمضان وهكذا، وهذا هو الذي تجتمع به الأدلة. والله أعلم. وصلى الله على نبينا محمد.
س3/ قول شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب في قوله: الشفاعة شفاعتان: شفاعة منفيّة وشفاعة مثبَتة، ما المقصود؟
ج/ يعني أنَّ الله - عز وجل - أثبت شفاعة ونفى شفاعة.
نفى شفاعة فقال {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} [المدثر:48] ، {لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ} [الأنعام:51] ، هذه شفاعة منفية.
وهناك شفاعة مُثبَتَة، وهي في قوله {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنْ ارْتَضَى} [الأنبياء:28] , {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} [النجم:26] ، {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة:255] ، فأثبت شفاعة ونفى شفاعة.
فإذاً الشفاعة المنفية هي عن أهل الكفر والشرك.
والشفاعة المثبتة بشرطين الإذن والرضا، هذا مراد الشيخ.
__________
(1) سبق ذكره (438)(1/454)
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
الأسئلة:
س1/ كيف نجيب على الإشكال في الأحاديث النبوية التي تذكر دخول الجنة والنار بالفعل الماضي، مثل حديث «عُذبت امرأة في هرة سجنتها حتى ماتت فدخلت بها النار» (1) ، هل المقصود عذاب القبر أم ماذا؟
ج/ ما ذُكِرَ من العذاب لمن أخبر الله - عز وجل - أنه يُعَذَّب في النار أو يُعَذَّب مطلقاً أو أنه عُذِّب، هذا محمول عند أهل السنة والجماعة على حقيقته، فإنَّ الجنة والنار مخلوقتان الآن لا تفنيان ولا تبيدان.
فمن شاء الله - عز وجل - أن يعذبه في النار من أهل القبلة أو من استحق النار من أهل الشرك والضلال فهو إذا مات في النار وهو في قبره يكون مُعَذباً في النار، والقبر إما روضة من رياض الجنة وإما حفرة من حفر النار، وقد قال - عز وجل - في سورة غافر لما ذَكَرَ عذاب آل فرعون قال {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر:46] ، فدَلَّت الآية على أنَّ عذاب أولئك في النار حاصل في زمنين: الآن وبعد قيام الساعة. وكلها على حقيقتها يعذبون في النار؛ لأنَّ الواجب الأخذ بالظاهر، وهذه أمور غيبية، والنار مخلوقة والجنة مخلوقة والنعيم في الجنة حاصل الآن والعذاب في النار حاصل الآن.
لكن ينبغي أن يُفهَمَ أنَّ العذاب في البرزخ يختلف عن العذاب في الآخرة:
وهو أنَّ العذاب في البرزخ يقع على الروح والبدن تَبَعْ، كما أنَّ النعيم في البرزخ للروح والبدن تَبَعْ.
وأما بعد قيام الساعة فإنَّ النعيم والعذاب للإنسان بروحه وبدنه جميعا في أكمل تعلقٍ بينهما.
ويوضِّح ذلك أنَّ الأحاديث جاء فيها ذِكْرُ نَسَمَةْ المؤمن وروح المؤمن أنها في الجنة، وأنَّ روح الكافر يؤخذ بها في النار، فالعذاب والنعيم في البرزخ يقعان على الروح، ليس الروح فقط ولكن الروح والبدن تبع، بعكس الحياة الدنيا، الحياة الدنيا التنعم أو التعذُّب يكون على البدن والروح أيضاً تتنعم وتتعذب لكن بالتّبع، وبعد الموت عكس حالة الحياة الدنيا هي على الروح والبدن تبعٌ لها، وهذا هو ما قرَّرَهُ أئمة أهل الإسلام.
وهذا خلاف قول من يقول أنَّ النعيم يكون للروح والعذاب على الروح فقط وأنَّ البدن في البرزخ لا يُعَذَّبْ، هذا غلط كبير ولا ينبغي أن يُنْسَبَ هذا إلى أحد من أئمة الإسلام؛ بل هو على الروح والبدن جميعاً؛ وذلك أنَّ الأدلة جاء فيها أنَّ الميت يُعَذب، وأنَّ الإنسان يُعَذّب، والميت والإنسان اسم لبدنه وروحه معاً، فمن ادعى الانفصال فلابد له من إقامة دليل على ذلك، هذا من جهة في جواب السؤال.
والجهة الأخرى هو أنَّ ما جاء في الكتاب أو السنة من التعبير عن الشيء بالفعل الماضي له أنحاء:
الأولى: أن يُعَبَّر أو يوصَفْ الشيء الذي لم يتحقق، لم يأتِ بعد، بالفعل الماضي، أو الذي يكون دائم التحقق بالفعل الماضي.
مثال الأول {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ} {أَتَى} هذا فعل ماضٍ {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ} يعني بقيام الساعة {فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ} ؛ يعني كأنَّه من شدة التأكيد على حصوله وأنه يقيناً حاصل لا محالة، ووقوعه لا شك فيه ولا ريب، كأنه قد وقع وانقضى، والناس يرون ما وقع وانقضى يقيناً؛ لأنهم شاهدو، حصل أمس وشاهده الناس وانتهى، فيُعَبَّرُ عما يُسْتَقْبَلْ بالماضي إذا كان وجوده وتحصيله يقيناً بلا ريبٍ ولا شك، وكأنه قد وقع وانقضى في حصول اليقين لمن علم به.
والوجهة الثانية: أو الحال الثانية أن يكون الشيء منه ما وقع ومنه ما يقع الآن ومنه ما يقع في المستقبل، وهذا وصْفُهُ بالفعل الماضي، التعبير عنه بالفعل الماضي لتَحَقُقِ الاتصاف به وللتأكيد على الاتصاف به، وهذا ما يُحمَلُ عليه مثل قول الله - عز وجل - {وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} [النساء:134] ، {كَانَ اللَّهُ} هذا فعل ماضي، الله - عز وجل - سميع بصير صفة ذاتية في الماضي والحال والاستقبال، هذا للتأكيد على تحقق هذا الاتصاف وتحقق آثاره، {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِرًا} [الكهف:45] ، {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا} [النساء:47، الأحزاب:37] ، وهكذا في أمثالها مما يدل على هذا المعنى.
س2/ هل الكتب السماوية التي نزلت قبل القرآن جميعها من كلام الله وكُتِبَتْ مثل ما كُتِبَ القرآن الكريم؟ أم أنها لم تُكْتَبْ حتى تُوُفِّيَ الرسل الذين نزلت عليهم وكتبها من بعدهم؟
__________
(1) البخاري (3318) / مسلم (6845)(1/455)
ج/ لا أعلم شيئا يدل على تعميم أنَّ الكتب السماوية جميعا كُتِبَتْ، أو أنها نُقِلَتْ بعد ذلك؛ لكن الكتب السماوية بمعنى الكتب التي أنزلها الله - عز وجل - هي كلام الرب أأوحاه إلى الرسول البشري بواسطة جبريل عليه السلام، ومنها ما اختصه الله - عز وجل - بأنْ كتبه بيده كصحف موسى عليه السلام قال - عز وجل - {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [الأعراف:145] ، فالله - عز وجل - كتبها بيده الكريمة العظيمة تبارك ربنا وتعالى وتقدس.
فالأصل أنَّ الكتب السماوية كلام الله - عز وجل -، وأنها كُتِبَتْ، وهل هذا يعُمُّ كل كتاب أم يُستثنى منه بعضها تحتاج المسألة إلى بحث وتحقيق. والله أعلم.(1/456)
وَلَا نُنَزِّلُ أَحَدًا مِنْهُمْ جَنَّةً وَلَا نَارًا، وَلَا نَشْهَدُ عَلَيْهِمْ بِكُفْرٍ وَلَا بِشِرْكٍ وَلَا بِنِفَاقٍ، مَا لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُمْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، وَنَذَرُ سَرَائِرَهُمْ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى.
__________________________________________
قال رحمه الله (وَلَا نُنَزِّلُ أَحَدًا مِنْهُمْ جَنَّةً وَلَا نَارًا، وَلَا نَشْهَدُ عَلَيْهِمْ بِكُفْرٍ وَلَا بِشِرْكٍ وَلَا بِنِفَاقٍ، مَا لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُمْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، وَنَذَرُ سَرَائِرَهُمْ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى)
يريد العلامة الطحاوي رحمه الله أنّ أهل السنة والجماعة يتَّبِعُونَ في الأمور الغيبية ما دلَّ عليه الدليل من كتاب الله - عز وجل - ومن سنة رسوله صلى الله عليه وسلم فلا يَقْفُون ما ليس لهم به علم ولا يقولون على الله - عز وجل - ما لا يعلمون امتثالاً لقوله سبحانه {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء:36] ، وامتثالاً لقوله - عز وجل - {وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:33] ، فَحَرَّمَ الله - عز وجل - القول عليه بلا علم، ومن القول عليه بلا علم أن يُشهَدَ في أمرٍ غيبي أنَّ الله - عز وجل - لا يغفر لفلان، أو أنَّ فلاناً من أهل الجنة؛ يعني قد غُفِرَ له، أو أنه من أهل النار المُعَيَّن لأنه لم يشأ الله أن يغفر له.
فأصل هذه المسألة وهي ما قَرَّرَهُ من أننا لا نُنَزِّلُ أَحَداً من أهل القبلة جنةً ولا ناراً، هذه لأجل أنَّ هذا الأمر غيبي والله - عز وجل - حًكمُهُ في أهل القبلة قد يُعذِّبْ وقد يغفر؛ يغفرُ لمن يشاء ويعذبُ من يشاء، فمن نزَّلَ جنةً أو ناراً أحداً من أهل القبلة ممن لم يدل الدليل على أنه من أهل الجنة أو من أهل النار فقد قال على الله بلا علم وتجرأ على الرب جل جلاله.
فالواجب اتِّبَاعْ النص وتقديس الرب - عز وجل - وتعظيم صفات الرب جل جلاله، وأن لا يُشْهَدَ على مُعين من أهل القبلة بأنه من أهل الجنة جزماً أو من أهل النار جزماً إلا من أخبر الوحي بأنه في هذا الفريق أو في هذا الفريق.
وهذا نَصَّ عليه خِلافاً لأهل الضلال في مسائل الأسماء والأحكام من المعتزلة والخوارج قبلهم ومَنْ يرون السيف ونحو ذلك ممن يشهدون لمن شاءوا بالجنة ولمن شاءوا بالنار؛ بل قد شَهِدُوا على بعض الصحابة بأنهم من أهل النار وعلى بعضهم من أنهم من أهل الجنة بمحض أهوائهم وآرائهم.
وأهل السنة يخالفون الفِرقْ الضالة في هذا الباب ويتَّبِعُون ما دلّ عليه الدليل ويُعظمون الله - عز وجل -، ولا يتجاسرون على الغيب، ويُعَظمون صفة الرب سبحانه بأنه يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء.
وتحت هذه الجملة مسائل:(1/457)
[المسألة الأولى] :
أنَّ هذا الحكم ذَكَرَ أنه مختصٌ بأهل القبلة فقال (وَلَا نُنَزِّلُ أَحَدًا مِنْهُمْ) يعني من أهل القبلة (جَنَّةً وَلَا نَارًا) ؛ لأنَّ أهل القبلة ظاهرهم الإسلام والله - عز وجل - قد وَعَدَ المسلم بالجنة، وقد تَوَعَّدَ من عصاه من أهل الإسلام بالنار.
فهذا الحكم مختصٌ بأهل القبلة، فمن مات من أهل الإسلام لا يُشْهَدُ عليه بأنه من أهل النار ولا يُشْهَدُ له بالجنة، إلاّ من شَهِدَ له رسول الله صلى الله عليه وسلم كما سيأتي.
وإذا تبيَّنَ هذا فلا يدخل في كلامه من مات على الكفر وقد كان في حياته كافراً؛ كان طول حياته نصرانياً، أو كان طول حياته يهودياً، أو كان طول حياته وثنياً أو مشركاً الشرك الأكبر المعروف؛ يعني من أهل عبادة الأوثان أو ممن لا دين له.
فهؤلاء لا يدخلون في هذه العقيدة؛ بل يُشهَدُ على من مات منهم بأنه من أهل النار؛ لأنه مات على الكفر وهو الأصل.
وقد ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «حيثما مررت بقبر كفار فبشره بالنار» (1) وهذا عموم وهو الموافق للأصل، وهو أنَّ من مات على الكفر نحكم عليه بالظاهر، ولا نقول قد يكون مات على الإسلام؛ لأنَّ هذا خلاف الأصل.
والقواعد المُقَرَّرَةْ تقضي باتباع واستصحاب الأصل.
لهذا المسلم نستصْحِبُ أصلَه -كما سيأتي- فلا نشهد عليه بشركٍ ولا كفرٍ ولا نفاق إذا مات، كذلك نستصحب الأصل في من مات على الكفر من النصارى واليهود والوثنيين وأشباه هؤلاء.
ومِنْ أهل العلم من أدخَلَ الحكم على المُعَيَّنْ الذي ورد في هذه الجملة الكفار بأنواعهم فقال: حتى الكافر لا نشهد عليه إذا مات لأننا لا ندري لعله أسلم قبل ذلك.
وهذا خلاف الصواب وخلاف ما قرَّرَهُ أهل التوحيد وأئمة الإسلام في عقائدهم، فإنَّ كلامهم كان مُقَيداً بمن مات من أهل القبلة، أما من لم يكن من أهل القبلة فلا يدخل في هذا الكلام.
__________
(1) سبق ذكره (105)(1/458)
[المسألة الثانية] :
ذكرنا لك أنَّ أصل هذه العقيدة تعظيم صفات الله - عز وجل - وعدم الخوض في الأمور الغيبية، والعلماء في إعمالِ هذا الأصل في هذه المسألة لهم أقوال:
1- القول الأول: من قال: لا أشهد لأحدٍ ولا على أحدٍ مُطلقاً، وإنما نشهد للوصف للجنس دون المعين، فنقول: المؤمن في الجنة، والظالم في النار، والمؤمن المسدد في الجنة، ومرتكب الكبيرة متوَعَدْ بالنار، ونحو ذلك من ذكر الجنس والنوع دون ذكر المعين، إعمالاً منهم للأصل الذي ذكرنا، وأنَّ الحكم بالخاتمة أمرٌ غيبي لا ندري هل حصل الختام بالتوحيد أم لا.
2- القول الثاني: وهو قول جمهور أهل العلم وأئمة أهل الحديث والسنة والأثر أنَّ هذه المسألة غيبية فمجالها ومدارها على قاعدة الأمور الغيبية أنّه يُقْتَفَى فيها الدليل دون تجاوز للقرآن والحديث، فلا يُنَزَّلُ أحد جنة ولا نار إلا من أنزله الله - عز وجل - الجنة أو أنزله النار بدليلٍ من الكتاب أو من السنة، وسواءٌ في هذا النوع الوصف الجنس أو المعين.
فجاءت الشهادة لأبي بكر رضي الله عنه بأنه من أهل الجنة في القرآن، وجاءت الشهادة لأهل البيت بأنهم مُطَهَّرُون أيضا بالقرآن منهم علي رضي الله عنه وفاطمة وزوجات النبي صلى الله عليه وسلم الذين قال الله - عز وجل - فيهم {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب:33] ونحو ذلك، وجاء في السنة الشهادة على مُعَيَّنِينَ من الصحابة بأنهم في الجنة كما في العشرة المبشرين بالجنة: الخلفاء الأربعة، وطلحة بن عبيد الله، وأبو عبيدة عامر بن الجراح، وسعد بن أبي وقاس، وسعيد بن زيد إلى آخره، وكذلك الشهادة لبلال رضي الله عنه، ونحو ذلك ممن جاء في الحديث أنه من أهل الجنة، وكذلك من شُهِدَ عليه بالنار ممن هو منتسب إلى القبلة مِما جاء في السنة فإننا نشهد عليه بالنار.
وهذا القول هو المراد بكلام الطحاوي هذا وهو قول جمهور أهل الحديث والسنة.
3- القول الثالث: فهو مثل القول الثاني؛ لكنه زاد عليه بأنَّ الشهادة المستفيضة للإنسان من أهل القبلة بأنه من أهل الجنة أو أنه من أهل الوعيد فإنه يُشهَدُ للمعين أو يُشهَدُ عليه بالشهادة المستفيضة.
وهذا جاء رواية عن الإمام أحمد وعن غيره من الأئمة واختارها الإمام شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيمية رحمهم الله تعالى، وقال (دلت السنة على هذا الأصل فإنَّ النبي صلى الله عليه وسلم مُرَّ عليه بجنازة فأثْنِيَ عليها خيراً فقال «وجبت» ، ثم مُرَّ بجنازة أخرى فأثنى الصحابة عليها شراَ، فقال «وجبت» ، قالوا يا رسول الله ما وجبت؟ قال «تلك أثنيتم عليها خيرا فوجبت لها الجنة، وهذه أثنيتم عليها شراً فوجبت لها النار، أنتم شهداء الله في أرضه» (1) ، وأيضاً جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال «يوشك أن تعلموا أهل الجنة من أهل النار» قالوا وكيف ذلك يا رسول الله قال «بالثناء الحسن وبالثناء السيئ» (2) .
فيدخل في هذا القول المعرُوفون الذين شُهِدَ لهم بقدم الصدق من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك من شُهِدَ له من أئمة الإسلام بهذا المقام كالإمام مالك مثلاً والشافعي وأحمد والبخاري ومسلم ونحوهم من أئمة الإسلام.
* والأظهر هو القول الثاني وهو قول الجمهور؛ لأنّ الشهادة بالاستفاضة هذه الدليل يتقاصر على أنْ يُشهَدَ له مطلقاً، ولكن يكون الرجاء فيه أعظم، ولهذا في الحديث الأول قال «وجبت» ، فدلَّ على أنَّ شهادتهم له في مقام الشفاعة له لأنه قال «أثنيتم عليها خيرا فوجبت» فدل على أنَّ الوجوب له بالجنة مترتب على الثناء عليه بالخير، وليس الثناء عليه بالخير نتيجة وإنما هو سبب لوجوب الجنة، فكأنه في مقام الشفاعة له والدعاء له، وليس هذا مطلقاً.
والحديث الثاني أيضا يُحْمَلْ على هذا بأنه في مقام الشفاعة والدعاء له، بالإضافة إلى أنّ القول الأول هو قول الأكثر من أئمة أهل الإسلام.
__________
(1) البخاري (1367) / مسلم (2243)
(2) ابن ماجه (4221)(1/459)
[المسألة الثالثة] :
أننا إذا لم نشهد لأحدٍ أو على أحدٍ فإنَّ المقصود المُعَيَّنْ، أما الجنس والنوع فنشهد للجنس والنوع، فنشهد على الظالم بالنار دون تنزيله على معين، ونشهد للمطيع بالجنة دون تنزيله على معين.
والمقصود إذا مات على ذلك، إذا مات المطيع على الطاعة، وإذا مات الظالم على الظلم؛ لأنَّ المسألة مبنية على ما يُختَمُ للعبد، وقد صَحَّ عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيح أنه قال «إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يَكُونَ بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكونَ بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها» (1) ، وهذا يدل على أنَّ الأعمال بالسوابق -سوابق الكتاب- وبالخواتيم، وهذا يمنع من الشهادة المُعَيَّنَة لأنَّ الأعمال بالسوابق والخواتيم، والله - عز وجل - خلق الجنة وخلق لها أهلاً وهذا غيبي، وخَلَقَ النار وخَلَقَ لها أهلاً وهذا أمر غيبي.
فإذاً الشهادة على الجنس أو للجنس بالجنة أو على نوع بالنار هذا المقصود من مات على ذلك، من مات على الطاعة فإننا نشهد لجنس الميتين على الطاعة، ولجنس من مات على الكبيرة بأنَّهُ مُتوَعَد بالعذاب قد يغفر الله - عز وجل - له وقد يُؤاخذه بذنوبه.
__________
(1) البخاري (3208) / مسلم (6893)(1/460)
[المسألة الرابعة] :
أننا مع ذلك كله فإننا نرجو للمحسن ونخاف على المسيء.
أهل السنة أهل رحمة لأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان رحيماً بهذه الأمة، فيرِثُ أهل السنة الرحمة من صفاته صلى الله عليه وسلم، فيرحمون هذه الأمة، ومن رحمتهم لها أنهم يرجون لأهل الإحسان ويخافون على أهل الإساءة.
ورجاؤُهُم لأهل الإحسان يحمِلُهُم على أن يَدْعُو لهم وأن يُصَلُّوا عليهم إذا ماتوا؛ لأنَّ حق المسلم على مسلم ست ومنها أنه إذا مات يُصَلِّي عليه ويدعو له.
وتَحْمِلُهُم الرحمة للمسيء أنه إذا مات على الإساءة أنه يُخافُ عليه الإساءة، فيُسْأَلْ الرب - عز وجل - أن يغفر له ذنبه وأن يتجاوز عن خطيئته وأن يبارك له في قليل عمله، ونحو ذلك من آثار الرحمة.
ولهذا يدعو المسلم لجميع المسلمين لمن كان منهم صالحاً ومن كان منهم غير صالح؛ بل من الدعاء الذي تداوله أهل السنة والعلماء أن يُسأَلْ الرب - عز وجل - أن يُشَفَّعَ المحسن في المسيء، وأن يُوهَبْ المسيء للمحسن، مثل ما في دعاء القنوت الذي يتداوله الأكثرون: وهب المسيئين منا للمحسنين، (هب المسيئين) يعني من كان مُسيئَاً عاصياً عنده ذنوب هبه للمحسن فَشَفِّعْ المُحْسِنَ فيه في هذا المقام بالدعاء.
وهذا كله من آثار الرحمة التي كان عليها صلى الله عليه وسلم، فإنه كان بهذه الأمة رحيماً؛ بل كان رحمةً للعالمين صلى الله عليه وسلم.
فإذاً نرجو للمحسن ونخاف على المسيء، ولرجائنا للمحسن آثار، ولخوفنا على المسيء آثار.
فرجاؤنا للمحسن يحمِلُنَا على توليه وكثرة الدعاء له ونُصْرَتِهِ واقتفاء أثره.
وخوفنا على المسيء يحملنا على الدعاء له والاستغفار ونحو ذلك، فكان أسيراً للشيطان، ونسأل الله - عز وجل - له المغفرة الرضوان.(1/461)
[المسألة الخامسة] : (1)
وهي مسألة الشهادة بما يدل على الشهادة بالجنة، مثل أن يقال فلان شهيد، إذا كان شهيداً فالله - عز وجل - ذكر ونَصَّ على أن الشهداء بالجنة.
وكذلك الشهادة له بالمغفرة، المغفور له، المرحوم، النفس المطمئنة، ونحو ذلك، مما هو من أسباب دخول الجنة.
فإذا شُهِدَ له بهذه الأوصاف بأنه غُفِرَ له فقد شُهِدَ له بأمر غيبي، فإذا شُهِدَ له بأنه مرحوم فقد شُهِدَ له بأمر غيبي، إذا شُهِدَ له بأن نفسه مطمئنة {ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر:28-30] ، فقد شُهِدَ له بالجنة.
فإذاً الشهادة للمُعَيَّنِ بالجنة ممنوعة، وكذلك بما يَدُلُّ على أنه يُشهَدُ له بالجنة، مثل هذه الأسباب ونحوها.
من ذلك الشهادة له بأنه شهيد وقد جاء في صحيح البخاري بحث هذه المسألة، وبَوَّبَ عليها هل يقال فلان شهيد؟ وذكَرْ أثر عمر (إنكم تقولون لمن مات في معارككم فلانٌ شهيد فلانٌ شهيد، والله أعلم بمن يُكْلَمُ في سبيله، والله أعلم بمن يقتل في سبيله) (2) .
لأنه هل كان يُقَاتِلُ يريد أن تكون كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا السفلى؟
هذا أمر غيبي فلذلك لا تجوز الشهادة لمعين؛ لكن نرجوا له، من مات في أرض المعركة نرجوا له الشهادة، نقول نرجوا له أن يكون شهيداً وهذا تبع للأصل أننا نرجو للمحسن ونخاف على المسيء.
نسأل الله سبحانه لنا جميعاً أن يغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وأن يجزل لنا الأجر على قليل عملنا، وأن يغفر لنا كثرة الذنب والخطايا فإنه سبحانه جوادٌ كريم، اللهم فأجب واغفر جماً إنك على كل شيء قدير.
__________
(1) هذه المسألة لم يذكرها الشيخ وإنما وردت في سؤال فقال الشيخ هذه كان ينبغي أن نذكرها في الشرح فتُضَافْ عليه.
(2) سبق ذكره (211)(1/462)
قال رحمه الله (وَلَا نَشْهَدُ عَلَيْهِمْ بِكُفْرٍ وَلَا بِشِرْكٍ وَلَا بِنِفَاقٍ، مَا لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُمْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، وَنَذَرُ سَرَائِرَهُمْ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى.)
_____________________________________________
هذه الجملة مثل الأولى في تقرير هذه العقيدة المباركة وهي أنَّ الأمر ما دام تَبَعْ للخاتمة، والخاتمة مُغَيَّبَة وهذا أمر غيبي فلا نَقْفُ ما ليس لنا به علم، ولا نتجَرَأْ على الله - عز وجل - في وصف شيءٍ والحكم يَتَعَلَّقُ به والحكم على عباده بدون دليل.
لهذا نعتبر الظاهر من كل أحد، فمن كان ظاهره السلامة في الدنيا ومات على ذلك، فإننا نحْكُمُ بالظاهر، والله يتولى السرائر، ومن كان ظاهره الكفر أو ظاهره الشرك أو ظاهره النفاق فإننا نحكم بالظاهر؛ ولأنه ظهر منه ذلك وأمره إلى الله - عز وجل -.
وفيها بعض المسائل (1) :
__________
(1) انتهى الوجه الأول من الشريط الثالث والثلاثين.(1/463)
[المسألة الأولى] :
قوله (وَلَا نَشْهَدُ عَلَيْهِمْ بِكُفْرٍ وَلَا بِشِرْكٍ وَلَا بِنِفَاقٍ) يعني على المُعَيَّن من أهل القبلة، وهذا يدلُّ على أنَّ المُعَيَّن من أهل القبلة قد يجتمع فيه إيمان وكفر، ويجتمع فيه إسلام وشرك، ويجتمع فيه طاعة وإسلام وإيمان ونفاق، وهذا هو المُتَقَرِّرْ عند الأئمة تَبَعَاً لما دلَّ عليه الدليل، فإنَّ المُعَين قد يجتمع فيه الإيمان فيكون مؤمناً ويكون عنده بعض خصال الكفر؛ يعني من الكبائر مما لا يُخرجه من الإيمان.
فمثلا قتال المسلم كفر وسبابه فسوق كما ثبت في الحديث الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال «سباب المسلم فسوق وقتاله كفر» (1) ، فسِبَابُ المسلم فسوق وقتاله كفر فيجتمع في المسلم فسوقٌ وطاعة وكفرٌ وإيمان، كذلك قال صلى الله عليه وسلم «ثنتان في الناس هما بهم كفر: الطعن في النسب والنياحة على الميت» (2) ونحو ذلك من خصال الكافرين، فلا يعني وجود بعض خصال الكُفْرْ في المُعين أن يُحْكَمْ عليه بالكفر، الحكم بغير ما أنزل الله في حق القاضي أو في حق المُعَين إذا حَكَمَ بغير ما أنزل الله وهو لا يعتقد جواز ذلك أو يعلَمْ أنَّ بحكمه عاص، يعني حَكَمَ وهو يعلم أنه بحكمه عاصٍ ومُخطِئ فإنه اجتمع فيه كفر وطاعة.
فلا يُخرَج أحد من الإيمان بخصلة من خصال الكفر وُجِدَتْ فيه، أو خصلة من خصال الشرك وُجِدَتْ فيه، أو خصلة من خصال النفاق وُجِدَتْ فيه، فإن المؤمن يجتمع فيه هذا وهذا.
ولهذا قال (وَلَا نَشْهَدُ عَلَيْهِمْ بِكُفْرٍ وَلَا بِشِرْكٍ وَلَا بِنِفَاقٍ) إذا كان مُسْتَسِرَّاً بذلك (مَا لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُمْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ) ، فإن ظَهَرْ تَشْهَدُ عليه بقدر ما ظَهَرْ، والشهادة عليه جوازاً لا وجوباً كما سيأتي في المسألة التي بعدها.
كذلك الشرك يكون مؤمن ويكون عنده شرك أصغر، يكون عنده حلف بغير الله مما هو من الشرك الأصغر، أو تعليق التمائم واعتقاد أنها أسباب، أو نسبة النِعَمْ إلى غير الله - عز وجل - أو نحو ذلك من أمور الشرك الأصغر أو الشرك الخفي من يسير الرياء ونحوه، فيجتمع في المؤمن هذا وهذا.
وكذلك بعض خصال النفاق يكون المؤمن مطيعاً مسلماً؛ لكن عنده خصال النفاق إذا وعد أخلف، وإذا حدَّثَ كذب، وإذا أؤتمن خان، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر، ونحو ذلك من خصال النفاق.
__________
(1) البخاري (6044) / مسلم (230)
(2) مسلم (236)(1/464)
[المسألة الثانية] :
أنَّ قوله (وَلَا نَشْهَدُ عَلَيْهِمْ مَا لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُمْ) يعني أنَّه إذا ظَهَرَ منهم فإننا قد نشهد عليهم، يعني يجوز لنا الشهادة إذا ظهر منهم شيء من ذلك، وجواز الشهادة عليهم منوطٌ بالمصلحة؛ لأنها من باب التعزير، فقد يجوز أن يُشْهَدَ على مُعَيَّنْ ببعض خصاله؛ خصال الكبائر التي فيه أو الشرك الأصغر الذي فيه أو بعض خصال النفاق الذي فيه إذا كانت الشهادة عليه بذلك عَلَنَاً فيها مصلحة مُتَعَدِّيَة، أما إذا لم يكن فيها مصلحة، فإنَّ الأصل على المسلم أنه لا يُشْهَدُ عليه بل يُسْتَرُ عليه.
وهذا يدل على أنَّ الأصل في المؤمن ما دام اسم الإيمان باقياً عليه الأصل فيه أن يكون على اسم الإسلام وعلى اسم الإيمان وعلى اسم الطاعة، فلا يُنْتَقَلْ عن الأصل في الثناء عليه وفي الشهادة له بالإسلام والإيمان والتسديد إلاّ إذا كانت فيها مصلحة.
فإذاً ليس الأصل الشهادة على المُخَالف أو على من فيه كُفْرْ (خصلة من كفر أو شرك) نشهد عليه بهذه الأشياء؛ بل هذه منوطة بالمصلحة المتَوَخَّاة؛ لأنها من باب التعزير، ويدل على ذلك أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم ما شَهِدَ على هؤلاء الذين فعلوا هذه الأشياء إلا على مُعَيَّنِيْنْ قِلَّة، وأما الأكثر فإنه صلى الله عليه وسلم حَمَلَهُمْ على الظاهر، وأهل النفاق الذين باطنهم نفاق ما أعلن أسماءهم صلى الله عليه وسلم ولا شهد عليهم لكل أحد لأن المصلحة بخلاف ذلك.(1/465)
[المسألة الثالثة] :
هذا كله في أهل القبلة، أما من خَرَجَ من الإسلام بكفرٍ أكبر أو بشركٍ أكبر أو بردةٍ وقامت عليه الحجة في ذلك فإنه يُشهَدُ عليه بعينه لأنه ظهر منه ذلك واستبان.(1/466)
وَلَا نَرَى السَّيْفَ عَلَى أَحَدٍ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم إِلَّا مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ السَّيْفُ.
وَلَا نَرَى الْخُرُوجَ عَلَى أَئِمَّتِنَا وَوُلَاةِ أُمُورِنَا وَإِنْ جَارُوا، وَلَا نَدْعُو عَلَيْهِمْ، وَلَا نَنْزِعُ يَدًا مِنْ طَاعَتِهِمْ، وَنَرَى طَاعَتَهُمْ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ - عز وجل - فَرِيضَةً، مَا لَمْ يَأْمُرُوا بِمَعْصِيَةٍ، وَنَدْعُو لَهُمْ بِالصَّلَاحِ وَالْمُعَافَاةِ.
_____________________________________________
قال رحمه الله أيضاً (وَلَا نَرَى السَّيْفَ عَلَى أَحَدٍ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - إِلَّا مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ السَّيْفُ)
يريد بهذه الجملة أنَّ أهل الحديث والأثر والسنة والجماعة لا يعتقدون جواز الخروج على هذه الأمة وتفريق الجماعة بالسيف، وأيضا لا يرون جواز قتل أحد من هذه الأمة لغير الإمام الذي بيده الأمر.
وهذا منهم اتِّبَاعَاً لما دَلَّتْ عليه الأدلة من حفظ دم المسلم وعدم جواز إراقته وأنَّ «كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه» (1) ونحو ذلك من الأصول، والأدلة التي سيأتي ذكر بعضها إن شاء الله.
وأرادوا بذلك أيضاً مخالفة الطوائف التي استباحت دم المسلمين رأت الخروج على جماعة المسلمين بعامة بالخروج على الإمام ولي الأمر أو بجواز قتل من حكموا هم بردته أو بكفره.
وهم طوائف الخوارج والمعتزلة، وطائفة ممن يُنْسَبُ إلى الفقه من أتباع المذاهب فإنَّ طائفةً من أتباع المذاهب أيضاً - وهم في الجملة منسوبون إلى السنة- تَأَثَّرُوا بمذهب الخوارج في هذا والمعتزلة ونحو ذلك فَرَأَوا جواز الخروج -كما سيأتي- ورأوا جواز قتل المعين للعامة ولا يُخصُّ ذلك بولي الأمر.
فيريد من ذلك تقرير القول الحق والمنهج العام لأهل السنة الذي صاحوا به وأعلنوه وصاحوا بالمخالف فيه من أنه لا يجوز لأحدٍ أن يخرج على أحد من هذه الأمة بالسيف ولا أن تُستباح الدماء ولا دم أحد إلا ببرهان من الله - عز وجل -.
وفيها مسائل:
__________
(1) مسلم (6706) / أبو داود (4882) الترمذي (1927)(1/467)
[المسألة الأولى] :
قوله (وَلَا نَرَى السَّيْفَ) هذه الكلمة مصطلح شائع عند العلماء والناس في القرون الثاني والثالث والرابع، فكان يُمَيَّزْ مَنْ من يُحَبِّذْ الخروج ولو لم يدخل فيه بِفِعْلِهِ وإنما يَسْتَحْسِنُهُ لفظاً ويُؤَيِّدُ من يَفْعَلُهُ، كان يُوصم عند الأئمة بأنه كان يرى السيف، ويُوصَفْ من خالفهم ثناءً عليه بأنه كان لا يرى السيف.
وقد ضَعَّفَ الأئمة جمعاً من الرواة وقدحوا فيهم بقولهم كان يرى السيف.
والإمام أحمد حذَّرَ من عدد وكذلك سفيان وغيرهما ووكيع وجماعة كانوا يُحَذِّرُونَ من فلان؛ لأنه كان يرى السيف.
فإذاً مصطلح (لَا نَرَى السَّيْفَ) هذا يراد به أحد فئتين:
- الفئة الأولى: من يرى الخروج على الولاة بعامة، سواء أدخل في الخروج بلسانه ويده أم كان يراه عقيدة.
- الفئة الثانية: من رأى جواز قتل المعين إذا ثبت عِنده كفر منه أو ردة، ولا يكل ذلك إلى الإمام.
والسلف يُسَمُّونَ من كان على أحد هذين الوصفين يقولون (كان يرى السيف) .
وفي تهذيب التهذيب عِدَّةْ تراجم، كثير من التراجم ممن طَعَنَ فيهم الأئمة بهذا القول كان يرى السيف ونحو ذلك.(1/468)
[المسألة الثانية] :
هذه الجملة دَلَّ عليها القرآن والسنة في مواضع كثيرةٍ منها:
قوله - عز وجل - {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التوبة:5] ، وقوله {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} [التوبة:11] ، ومنها قوله - عز وجل - {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً} [النساء:92] ، يعني لا يكون لمؤمن أن يتجرأ ويسفك دم مؤمن واحد إلا خطأ، أَمَّا يَتَعَمَّدْ فهذا معه لا يستحق وصف الإيمان؛ لأنه ارتكب هذه الكبيرة العظيمة التي قال الله - عز وجل - فيها بعد ذلك {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا} [النساء:93] .
وأيضاً قول الله - عز وجل - {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى} -يعني بالقتل- {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات:9] ، فدَلَّ على أنَّ من تَجَرَأَ على المُقَاتَلَةْ أنه ليس من أمر الله في شيء؛ بل خَرَجَ عن أمر الله وهو شريعته ودينه الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم.
ومنها أيضاً في السنة قول النبي صلى الله عليه وسلم «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث» ، وفي اللفظ الآخر «لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث النفس بالنفس والثيب الزاني والتارك لدينه المفارق للجماعة» (1) ، فهذا يدل على أنَّ الأصل أنْ لا أحد يتجرأ ويسفك الدم أو يراه.
فلا يحل ذلك فِعْلاً، وكذلك لا يحل أن يُعْتَقَدَ جواز قتل مسلم باقٍ على اسم الإسلام وهو ليس من هذه الأصناف الثلاثة.
__________
(1) البخاري (6878) / مسلم (4470)(1/469)
[المسألة الثالثة] :
قوله (إِلَّا مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ السَّيْفُ.) يعني من الأمة.
ووجوب السيف (وَجَبَ عَلَيْهِ السَّيْفُ) هذا لمن بيده السيف وهو ولي الأمر المسلم.
فولي الأمر هو الذي بيده أن يسفك الدم تحقيقاً للشرع لا بمحض الهوى، فيقتل تحقيقاً للشرع لا بمحض الهوى، ويحكم ويأمر بالقتال أو يأمر بقتل معين أو بقتال طائفة ونحو ذلك، فهو الذي بيده السيف وهو الذي له هذا الحكم.
وليس لآحاد الناس من العلماء أو من العامة هذا الأمر، يعني أن يَقْتُلُوا؛ لأنَّ السيف ليس بيدهم وإنما السيف بيد ولي الأمر الذي بيده الحَلْ والأمر والنهي وبيده الأمور في القتال وفي إقامة الحدود وأشباهها.
* وهذا يبين أنَّ المسألة التي تظهر في بعض الأمكنة وهي مسألة الاغتيالات؛ أن يُغْتَالَ من ظاهره الإسلام، أو من لم يَحْكُمْ عليه ولاة الأمر -من العلماء في الأمر الديني والحكام والأمراء في الأمر العام- من لم يحكموا عليه بأنه يقتل، فلا يحل لأحد أن يتجرأ على قتله أو على اغتياله.
والنبي صلى الله عليه وسلم إنما أباح اغتيال كعب بن الأشرف في القصة المعروفة لمصلحة عامة ولأنه هو الإمام.
وإلا فالأصل العام بالشريعة أنَّ هذا الأمر للإمام أولاً ثُمَّ أنَّه لا يُؤَاخَذُ أحد إلا بظهور ذلك منه وحُكْمٍ شرعي عليه.
فمن ظَهَرَتْ منه زندقة أو كفر أو رِدَّةْ ولم يَحْكُمْ عليه ولي الأمر بذلك فلا يحل لأحد أن ينتهك دمه وأن يسفك دمه؛ لأنَّهُ حينئذ له حكم الزنادقة وله حكم المنافقين، والنبي صلى الله عليه وسلم سيرته مع المنافقين ظاهرة، والصحابة ربما عَلِمُوا أنَّ فلاناً منافق ولم يتجرؤوا على قتله حتى يستأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستأذنوه في قتل عدد فلم يأذن لهم، قال لهم مرة «لا، لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه» وأولئك النفر الذي استهزؤوا ونزل فيهم قول الله - عز وجل - {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:65-66] ، والقصة المعروفة في سبب نزولها ولم يَرِد أن محمداً صلى الله عليه وسلم قتلهم.
ولمَّا حصلت القصة المعروفة قالوا له يا رسول الله: أنقتل هؤلاء؟
قال «لا، لا يُتحَدَّثْ أن محمدا يقتل أصحابه» (1) .
وكانوا يستأذنونه، فقال عمر لمَّا حَصَلَ من حاطب رضي الله عنهم ما حصل قال: يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق، وهذا استئذان من النبي صلى الله عليه وسلم.
فإذاً القاعدة الماضية والتي دلَّتْ عليها الأدلة وسيرة النبي صلى الله عليه وسلم وسيرة الصحابة، وكذلك ما قَرَّرَهُ الأئمة من أنَّ الحكم بقتل أحد أو تنفيذ ذلك ليس إلا لولي الأمر، وهذا فيه من المصالح العظيمة وتحقيق المقاصد الشرعية ما يجب معه الاعتناء بهذا الأصل، وأن لا يَدْخُلُ أحد من المسلمين في هذه التبعة العظيمة بقولٍ أو بفعل.
ولهذا جاء في الحديث وفي إسناده بحث لكن حسَّنَهُ عدد من أهل العلم رواه ابن ماجه وغيره «من أعان على قتل مسلم ولو بشطر كلمة لم يرح رائحة الجنة أو كان من أهل النار (2) » وهذا فيه الإعانة على قتل مسلم بشطر كلمة، فكيف من يتكلم بلسانه ويُعين على قتل مسلم أو يُفتي بذلك، وهو ليس من ولاة الأمر من العلماء أو القضاة أو ممن جُعِلَ لهم ذلك.
فالواجب في هذا الأمر رعاية هذا الأصل العظيم، والسلامة في هذا الأصل، ولا يَتَجَرأَ أحد على هذا المقام؛ لأنَّ الأصل حُرْمَةْ دم من أَظْهَرَ الإسلام، ومن حصل منه ردة أو عُلِمَتْ منه زندقة أو نفاق فيوكل إلى ولي الأمر، ولا يجوز لآحاد الناس منهم أن يفتئتوا على ولي الأمر وأن يقْتُلُوا، ولو جاز ذلك لتسابق الصحابة رضوان الله عليهم على قتل المنافقين الذين علموا نفاقهم؛ بل لَقَتَلَهُم الرسول صلى الله عليه وسلم.
والمسألة منوطة بالمصلحة وبإذن الإمام سواءٌ من القتل الابتدائي ممن عُلِمَ نفاقه أو رِدَّتُهُ أو زندقته، أو في الاغتيال الذي فيه قتل دون رجوع إلى الإمام.
نكتفي بهذا القدر، ونقف عند قوله (وَلَا نَرَى الْخُرُوجَ عَلَى أَئِمَّتِنَا وَوُلَاةِ أُمُورِنَا وَإِنْ جَارُوا) .
__________
(1) البخاري (3518) / مسلم (6748)
(2) ابن ماجه (2620)(1/470)
الأسئلة:
س1/ تكلمتم أنَّ النصارى كفار يجوز الجزم بدخولهم النار فما موقفنا أمام الآيات التي تستثني بعضهم؟
ج/ ما جاء من استثناء بعضهم هو استثناء لمن مات مؤمناً، لمن أسلم، من أسلم منهم فله حكم أهل الإسلام هذا ما مات على الكفر، كقوله - عز وجل - {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ} [المائدة:82] ، هذا في فئة آمنت أسلمت، لهذا قال - عز وجل - بعدها {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنْ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنْ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83) وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنْ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ} [المائدة:83-84] ونحو ذلك، فهؤلاء فيمن أسلم، وأما من يسلم فإنه باق على كفره.
س2/ إذا لم يكن للمسلمين إمامٌ مسلم يقيم الشرع مثل الأقليات المسلمة، فهل لرئيسهم المسلم أو لإمام المسجد أن يقيم الحدود عليهم؟
ج/ هذه المسألة تحتاج إلى تفصيل وبحث، وهذه كل صورة لها حكمُها وكل بلد لها حكمها، فيَلْزَمْ أولئك أن يستفتوا أهل العلم ويأخذوا الفتوى، ليس ثَمَّ قاعدة؛ لأنَّ كل بلد لها حكمها، وكل أقلية لها حكمها وقد يدخلون في أشياء بمحض اجتهادهم، تكون عليهم ضرر، تكون تلك الأشياء عليهم ضرراً في عاقبة أمرهم، فلابد من استفتاء أهل العلم الراسخين فيه، وتُنْزَلْ كل مسألة منزلتها.
س3/ كيف قتلت حفصة أم المؤمنين الساحرة التي سَحَرَتْهَا وكيف قتل جُنْدُبْ الساحر الذي كان عند الوليد بن عبد الملك وليس لهما من الأمر شيء.
ج/ آخر السؤال: ليس لهما من الأمر شيء، هذا يحتاج إلى دليل؛ يعني فيه نوع تأصيل وهو ليس بظاهر.
الظاهر العلماء لما ذَكَرُوا هاتين الصورتين وأمثالها قالوا إنَّهُ مُخَوَّلْ لهما ذلك.
وما جاء في الأحاديث قد يكون ثَمَّ فيه اختصار، ففي أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم يكون اختصار فكيف بأفعال الصحابة رضوان الله عليهم، والأصل أنه لا تُعَارَضْ الأصول الشرعية والأدلة من الكتاب والسنة بفعل بعض الصحابة، فإذا فَعَلَ أحد من الصحابة فِعْلَاً يخالف الأصول، فإننا نُرْجِعُهُ إلى الأصول ونحمله على المُحْكَمَات؛ بل بعض أفعال النبي صلى الله عليه وسلم بل بعض آيات القرآن إذا كان فيها اشتباه ولم يتضح لنا وجهها وكونها مخالفة للقواعد أو الأصول أو للآيات الأخرى فنُرْجِعُهَا إليها، فيكون من باب حمل المتشابه على المحكم وفهم المتشابه بالمحكم.
أفعال الصحابة رضوان الله عليهم ليست حجة بمجردها فنفهمها على وفق الأدلة، فالعبرة بالدليل الكتاب والسنة وفعل النبي صلى الله عليه وسلم سنته، أما فعل الصحابة فالصحابة حصل منهم أو بعض التابعين حصل منهم خروج أصلاً على الأئمة، فهذا اجتهاد اجتهدوه في بعض المسائل؛ لكن لا يُوَافِقُ الأدلة من الكتاب والسنة ولا يُوَافِقُ ما قرَّرَهُ الأئمة من الصحابة وأئمة الإسلام في أصل الاعتقاد وفي الاتباع.
لهذا كتأصيل لا تُعَارَضْ الأدلة بفعلٍ قد يكون لم يُنْقَلْ جميع أسبابه، قد يكون أُختُصِرْ إلى آخره.
فإذاً ليس لهما من الأمر شيء، هذه محل نظر وتحتاج إلى تأمل يعني في وجه هذه المقولة.
وهذا ذكرته لكم مرة في محاضرة بعنوان قواعد القواعد في كيف تفهم الأدلة؟ كيف تفهم أفعال السلف؟
الآن كل واحد يجيء يقول السلف فعلوا كذا؛ لكن فعل السلف أقل درجة من نص القرآن، والله - عز وجل - جعل نصوص الوحي منها محكم ومنها متشابه، وما ضَلَّتْ الفرق إلا بأخذ المتشابه من كلام الله بأخذ المتشابه من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، وعدم الرجوع فيه إلى العلماء من الصحابة والرجوع فيه إلى المُحْكَمْ فكيف بمن نَزَلَ مراحل واستدل بالمتشابه من أفعال السلف، هذا لابد أن يكون عندك فهم كيف تَعَامَلْ الأئمة والسلف في هذا، ويكون قاعدة لك في حمل المتشابه من أفعالهم على المُحْكَمْ من النصوص؛ لأن الأصل أنهم لا يخالفون وإذا لم يكن ثَمَّ مجال للحمل فيكون اجتهاد منهم خالفوا فيه الدليل وأمرهم إلى الله عز وجل.
ولهذا جاء في كلام علي رضي الله عنه في مقابلته لبعض الفرق قال (إذا سمعتم بالحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم فَظُنُّوا به الذي هو أهْنَاهُ وأَفْقَاهْ) الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم قد يكون فيه أيضاً مجال شبهة.(1/471)
مثلاً الحديث المشهور أنَّ رجلاً جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال له يا رسول الله إن امرأتي لا تَرُدُّ يد لامس. فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - «غَرِّبها» وفي رواية «فارقها» ، قال: يا رسول الله أخاف أن تَتْبَعُهَا نفسي. وفي الرواية الأخرى قال: يا رسول الله إني أحبها. قال «فاستمتع بها» (1) .
قال الإمام أحمد: لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم ليأمره أن يبقيها مع فجورها، ولهذا صار تفسير (إن امرأتي لا ترد يد لامس) ليس معناه أنها تمشي في الفاحشة، أي أنَّ كل من جاءها يريدها في نفسها وافقت، وإنما معناه القول الثاني الذي هو قول جمهور العلماء أنها تتصرف في مالي، ومن أراد من قرابتهافإنها تأخذ من مالي في البيت وتعطيه، يعني تصرفت وأرهقتني في التصرفات المالية إلى آخره، هذه لا ترد يد لامس.
يد لامس لها أو يد لامسٍ لمالي؟
هذا ما ذُكِرْ، فهنا نظن بالنبي صلى الله عليه وسلم مثل ما قال علي الذي هو أهناه وأفقاه.
وهكذا أفعال السلف الصالح نظن بها الذي هو موافق للدليل، هذا الأصل أن تحملها على موافقة أهل السنة، موافقة أفعالهم للدليل، إذا خالفوا الأدلة فإنها اجتهاد، هم بشر يجتهدون ويُؤْجَرُون على اجتهادهم وقد يصيبون وقد يخطئون.
أسأل الله - عز وجل - أن يبارك لي ولكم في العلم والعمل، وأن يقينا العِثَارْ وصلى والله وسلم وبارك على نبينا محمد. (2)
__________
(1) النسائي (3465)
(2) انتهى الشريط الثالث والثلاثون.(1/472)
: [[الشريط الرابع والثلاثون]] :
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، نعوذ بك اللهم من فتنة القول، كما نعوذ بك اللهم من فتنة العمل.
الأسئلة:
س1/ ورد في فتح المجيد حديث زينب زوج عبد الله بن مسعود أنها كانت تختلف إلى يهودي فيرقي لها عينها فتهدأ، إلى آخره، ما صحة الحديث وما توجيهه؟
ج/ الحديث هذا معروف، وهو سبب قول ابن مسعود رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إنّ الرقى والتمائم والتولة شرك» (1) وهو حديث صحيح رواه الإمام أحمد وأبو داوود وجماعة.
أما قراءة اليهودي وكون اليهودي يرقي حَمَلَهُ العلماء على أحد الوجهين:
الأول: أنه كان يرقيها بذكر الله، بالدعاء العام، والرُّقية تكون بكتاب الله - عز وجل - وبسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وبالدعاء الذي ينفع المشتمل على: خير واستعانة واستغاثة وتوسل إلى الله - عز وجل - ونحو ذلك، فيُحْمَلْ على أنه كان يدعو ورقيته كانت دعاء.
والثاني: أنه كان يرقي بالتوراة، بما يعلمه من التوراة مناسباً للرقية، وهذا الوجه رُجِّحْ بقول ابن مسعود رضي الله عنه (إنما ذلك الشيطان كان ينخسها بيده) ، فإذا رقى اليهودي سكنت، وهذا يدل على أنَّ الرقية عنده لم تكن مشروعة على هذا النحو فلا تُحْمَل على أنها رقية بذكر الله - عز وجل - مطلقاً.
__________
(1) أبو داود (3883)(1/473)
وَلَا نَرَى الْخُرُوجَ عَلَى أَئِمَّتِنَا وَوُلَاةِ أُمُورِنَا وَإِنْ جَارُوا، وَلَا نَدْعُو عَلَيْهِمْ، وَلَا نَنْزِعُ يَدًا مِنْ طَاعَتِهِمْ، وَنَرَى طَاعَتَهُمْ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ - عز وجل - فَرِيضَةً، مَا لَمْ يَأْمُرُوا بِمَعْصِيَةٍ، وَنَدْعُو لَهُمْ بِالصَّلَاحِ وَالْمُعَافَاةِ.
____________________________________________
قال الطحاوي رحمه الله (وَلَا نَرَى الْخُرُوجَ عَلَى أَئِمَّتِنَا وَوُلَاةِ أُمُورِنَا وَإِنْ جَارُوا)
هذه الجملة يذكر فيها العقيدة التي أجمع عليها أئمة السلف الصالح ودوَّنُوهَا في عقائدهم وجعلوا من خالفها مُخالِفَاً للسّنة وللجماعة بأنّا (لَا نَرَى الْخُرُوجَ عَلَى أَئِمَّتِنَا وَوُلَاةِ أُمُورِنَا وَإِنْ جَارُوا) ؛ يعني الخروج بالسيف بالبغي عليهم أو بتشتيت الاجتماع وتفريق الكلمة، أو باعتقاد الخروج، أو باعتقاد جوازه أو ذهاب مذهب من أجازه-كما سيأتي-.
فقوله (وَلَا نَرَى الْخُرُوجَ) ، (وَلَا نَرَى) يعني أهل السنة والجماعة المُتَّبِعِينَ للأثر ولهدي السلف ولما كان عليه الصحابة ولِما دلَّتْ عليه الأدلة، هؤلاء لا يَرَوْن الخروج على الأئمة وولاة الأمر حتى ولو كان عندهم جور وطغيان وظلم، فإنه يجب أن يُطاعوا؛ لأن طاعتهم فريضة، هاهنا مسائل:(1/474)
[المسألة الأولى] :
لفظ الأئمة وولاة الأمور مما جاء به الكتاب والسنة.
فولي الأمر العام -يعني ولي الأمر للأمة للناس- يُطْلَقُ عليه ولي الأمر، ويُطْلَقُ عليه إمام.
أما ولي الأمر فقد جاء في الكتاب قال الله - عز وجل - {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59] ، وسُمُّوا وُلَاةَ الأمر؛ لأنَّ ما يَنْفُذُ من الأمور الشرعية والأمور الاجتهادية في الناس إنما يكون عن أَمْرِهِمْ، فالأمر راجع إليهم.
فإذاً ولي الأمر هو من بيده الأمر والنهي أو بالعُرْفْ المعاصر القرار الذي يَنْفُذُ في الناس، كما قال - عز وجل - {وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} .
وهذا جاء في السنة في عددٍ من الأحاديث كما جاء في الآية بتسمية الحكام بولاة الأمور.
أما لفظ الأئمة فولي الأمر هو الإمام، ومن ولَّاهُ الله أمر الناس وابتلاه بذلك فيُسَمَّى إماماً؛ لأنه يُؤْتَمْ بأمره ونهيه وقراره وما يختاره اجتهاداً للأمة.
ولفظ الأمام لولي الأمر جاء في السنة في قول النبي صلى الله عليه وسلم «خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم وتصلون عليهم ويصلون عليكم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم وتلعنونهم ويلعنونكم» (1) ، وهذا ظاهر في تسمية ولي الأمر إماماً.
__________
(1) مسلم (4910)(1/475)
[المسألة الثانية] :
الأصل أنَّ ولي الأمر يجمع ما بين:
- حسن التدبير في أمور الناس العامة، في أمور دنياهم وما يُصْلِحُهُمْ وما يحفظ بيضتهم ويدفع عنهم الأعداء.
- العلم بأحكام الشريعة بما يناسب، ولا يُشْتَرَطُ فيه أن يكون الأعلم كما هو مبسوط في مكانه في كتب الفقه.
واجتمعت الصفتان في الخلفاء الراشدين الأربعة وفي معاوية رضي الله عنه وفي عددٍ من الأئمة وولاة الأمور في التاريخ إلى الآن.
ولكن ربما لم يجتمع في ولي الأمر الصفتان فحينئِذْ يكون ما يُشْكِلُ على الناس في أمر دينهم فَمَرْجِعُهُم فيه إلى أهل العلم بالدين، وما يكون من قبيل الأمر العام للناس فإنه يكون لولي الأمر العام، وولي الأمر العام يستشير ويأخذ بقول أهل العلم فيما يرى أن يستشيرهم فيه.
وهذا المَأْخَذْ هو وجه قول من قال (إن ولاة الأمر هم الأمراء والعلماء) ؛ يعني كلاًّ فيما يخصه:
- الأمراء في الأمر العام، الأمر الدنيوي وما يُصْلِحُ الناس وما به تكون حياتهم.
- والعلماء فيما يكون من أمر الدين بما يأتون وما يذرون.
وهذا ليس هو الأصل، وإنما الأصل أنَّ ولي الأمر هو من يعلم، وهو الذي جاءت فيه الآيات {وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59] ، وكذلك {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء:83] ، لأنَّ الأصل اجتماع الصفتين في ولي الأمر.
فإذا لم تجتمع الصفتان أُعْطِيَ ولي الأمر الذي بيده الأمر والنهي حق الإمام، وفي المسائل الدينية يُسْتَفْتَى ويُسْأَلْ أهل العلم.
ولهذا اجتنب كثير من العلماء بل أكثر العلماء والأئمة أن يُطْلِقُوا على العالم ولي الأمر؛ لأجل أن يكون هناك افتئات وخروج ولأجل أن لا يكون هناك مأخذ لمن يريد الخروج على الإمام أو ولي الأمر.
ومنهم من استعمل هذا وهذا؛ يعني أنَّ الأمور الدينية يُرجَعُ فيها إلى من يلي الأمر الديني، وهم العلماء في أمور الفتوى وفيما يأتي المرء ويذر فيما بينه وبين ربه - عز وجل -، وفي الأمور العامة فتكون لولاة الأمور.(1/476)
[المسألة الثالثة] :
الخروج على ولاة الأمور وعلى من انْعَقَدَتْ له بَيْعَةْ هو مذهب طوائف من المنتسبين إلى القبلة، منهم الخوارج والمعتزلة، وبعض شواذ قليلين من التابعين وتبع التابعين، وبعض الفقهاء المتأخرين ممن تأثروا بمذهب المعتزلة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
والذي عليه الصحابة جميعاً وعامة التابعين وهكذا أئمة الإسلام من أنَّ الخروج على ولي الأمر مُحَرَّمٌ وكبيرة من الكبائر، ومن خرج على ولي الأمر فليس من الله في شيء.
والأدلة على هذا الأصل من الكتاب والسنة متعدّدة، احتجّ بها الأئمة ورأوا أنَّ من خالفها ممن تأول مِنَ السلف أنهم خالفوا فيه الدليل الواضح البَيِّنْ المتواتر تواتراً معنوياً، كما سيأتي ذكر الأدلة إن شاء الله.
فإذاً أهل السنة والجماعة لما رَأَوْا ما أحْدَثَتْهُ اجتهادات بعض الناس ممن اتُّبِعُوا فخرجوا على ولاة الأمر من بني أمية، أو خَرَجُوا على ولي الأمر، على بعض ولاة الأمر من بني العباس، أو قبل ذلك ممن خرجوا على علي رضي الله عنه؛ بل قبل ذلك على عثمان وإن لم يكونوا من المنتسبين للسنة في الجملة، ذَكَرُوا هذا في عقائدهم ودَوَّنُوهْ، وجعلوا أنَّ الخروج بدعة لمخالفته للأدلة.
وتلخيص ذلك أنَّ اجتهاد من اجتهد في مسألة الخروج على ولي الأمر المسلم كان اجتهاداً في مقابلة الأدلة الكثيرة المتواترة تواتراً معنوياً مِنْ أنَّ ولي الأمر والأمير تجب طاعته وتَحْرُمُ مخالفته إلا إذا أمر بمعصية فإنه لا طاعة لأحدٍ في معصية الله.
ومِنْ أهل العلم من قال تَوَسُّعَاً في اللفظ (الخروج على الولاة كان مذهباً لبعض السلف قديم، ثم لما رُئِيَ أنَّهُ ما أَتَى للأمَّة إلا بالشر والفساد فأجمعت أئمة الإسلام على تحريمه وعلى الإنكار على من فعله) كما قاله الحافظ ابن حجر
* وهذا فيه تَوَسُّعْ لأنَّهُ لا يقال في مثل هذا الأمر أنه مذهب لبعض السلف، وإنما يُقَالُ إنَّ بعض السلف اجتهدوا في هذه المسائل من التابعين كما أنه يوجد مِنَ التابعين من ذهب إلى القَدَرْ والقول المنافي للسّنة في القَدَرْ، ومن ذهب إلى الإرجاء، ومن ذَهَبَ إلى إثبات أشياء لم تَثْبُتْ في النصوص، فكذلك في مسألة طاعة ولاة الأمور فربما وُجِدَ منهم الشيء الذي الدليل بخلافه، والعبرة بما دَلَّتْ عليه الأدلة لا باجتهاد من اجتهد وأخطأ في ذلك.(1/477)
[المسألة الرّابعة] :
هذا الأصل الذي قرَّرَهُ الطحاوي رحمه الله دلت عليه الأدلة من الكتاب والسنة:
أمّا القرآن فمنه قول الله - عز وجل - {مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء:80] ووجه الدلالة منه أنّ النّبي صلى الله عليه وسلم قال «من يُطع الأمير فقد أطاعني ومن يعصِ الأمير فقد عصاني» (1) .
وقال الله - عز وجل - أيضا في سورة النساء {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59] ، قال ابن القيم رحمه الله وقاله غيره أيضاً: لفظ {أَطِيعُوا} جاء في طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ يعني الأمر بالفعل {أَطِيعُوا} ثُمَّ لَّما ذَكَرَ وُلَاةْ الأمور لم يُكَرِّرْ الفعل {أَطِيعُوا} ، فقال {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} قالوا: وفي هذا مناسبة أنَّ طاعة ولي الأمر المسلم لا تكون إلا في غير مخالفة طاعة الله وطاعة رسوله، أما إذا كانت طاعته فيها مخالفة لطاعة الله وطاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم -؛ يعني أَمَرَ بمعصية فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، فلم يُكَرِّرْ الفعل لأنَّ طاعة الله تجب استقلالاً؛ ولأنَّ طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم تجب استقلالاً، وأما طاعة ولي الأمر فإنها تجب تَبَعَاً لا استقلالاً.
لهذا الرجل الذي أمَّرَهُ النبي - صلى الله عليه وسلم - على سرية وقال لهم «أطيعوه» فأجَّجَ ناراً وأمر الناس أن يقتحموها، فأَبَوا وقالوا: إنَّما فررنا من النار، يعني بالإيمان والإسلام، فأخبروا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذلك، فقال «أَمَا لو أنهم أطاعوه لم يخرجوا منها» (2) ؛ لأنهم أطاعوه في معصية الله - عز وجل -، ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
ومن الأدلة قول الله - عز وجل - {يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعْ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [ص:26] الآية، ووجه الدّلالة من الآية أنّ الله - عز وجل - أَمَرَ داوود، وفي أَمْرِهِ أَمْرْ للأنبياء أَمْرْ لمن وَلِيَ الأمر أن يحكم بين الناس بالحق وأن لا يتّبع الهوى، وهذا مقصد والوسائل لها أحكام المقاصد، فطاعة ولي الأمر فيما فيه تحقيق الحق وتكثير الخير وتقليل الشر وإبعاد الهوى، هذه لها حكم المقصد فتكون واجبة وجوب المقاصد؛ لأنها وسيلة والوسائل لها أحكام المقاصد.
ومن السنة قول النبي صلى الله عليه وسلم «من أطاع الأمير فقد أطاعني ومن عصى الأمير فقد عصاني» (3) .
وأيضاً ثَبَتَ عنه صلى الله عليه وسلم أنَّهُ قالَ «على المرء السمع والطاعة فيما أحب وفيما كره إلا أن يؤمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة» (4) .
وصحَّ عنه صلى الله عليه وسلم أيضاً أنه قال «إنما الطاعة في المعروف» (5) يعني طاعة ولي الأمر في المعروف.
وأيضاً ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنَّهُ قال «من رأى من أميره شيئا يكرهه فليَكْرَهْ ما يأتي من معصية الله ولا ينزعَنَّ يداً من طاعة» (6) .
وأيضاً صحَّ عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال «من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية» .
وأيضاً في الباب الحديث الذي ذكرت لكم أنه صلى الله عليه وسلم قال «خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم وتصلون عليهم وتصلون عليهم وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم وتلعنونهم ويلعنونكم» ، ثم سئل صلى الله عليه وسلم فقيل له: أفلا نقاتلهم؟ يعني هؤلاء الذين نُبْغِضُهُمْ ويُبْغِضُونَنَا ونلعنهم ويلعنوننا، قال «لا ما أقاموا فيكم الصلاة، ألا مَنْ وَلِيَ عليه والٍ فرآه يأتي شيئاً من معصية فليكره ما يأتي من معصية الله ولا ينزعنّ يدا من طاعة» (7) .
وأيضاً صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال «من رأى من أميره شيئا يكرهه فليصبر» .
والأدلة على كثيرة في السنة كثيرة جداً وأُفْرِدَتْ بالتأليف، وحَرِيٌ بطالب العلم أن يتتبعها في هذا الموضوع المهم الذي تكثر فيه الأهواء، وأصل الاتباع أن يَتَخَلَّصْ المرء من هواه، فقد كثر التأويل من القديم من عهد الصحابة، التأويل والتبرير في هذه المسائل، والواجب على المرء أن يموت على الطريقة الأولى بغير تغيير ولا تبديل.
وهذه المسائل من المسائل التي كثر فيها التغيير والتبديل إمَّا عملاً وإما اعتقاداً -ولا حول ولا قوة إلا بالله- والسنة عزيزة واتباع طريقة السلف مطلوبة، والواجب على المرء أن يُخَلِّصَ نفسه من هواها، وأن يمتثل ما دلت عليه السنة دون مخالفة.
__________
(1) البخاري (2957) / مسلم (4852)
(2) البخاري (4340) / مسلم (4871)
(3) مسلم (4859)
(4) مسلم (4869) / النسائي (4206)
(5) البخاري (7145) / مسلم (4871)
(6) مسلم (4911)
(7) مسلم (4910)(1/478)
[المسألة الخامسة] :
الخروج على ولي الأمر يكون بشيئين:
- الصورة الأولى: عدم البَيْعَةْ واعتقاد وجوب الخروج عليه أو تسويغ الخروج عليه.
وهذا هو الذي كان السلف يطعنون فيمن ذهب إليه بقولهم (كان يرى السيف) ؛ يعني اعتقاداً ولم يُبَايِعْ.
- الصورة الثانية: وهي المقصودة بالأصالة أنهم الذين يخرجون على الإمام بسيوفهم، يعني يَخْرُجْ على الإمام ويجتمعون في مكان ويريدون خلع الإمام وتبديله، أو إحداث فتنة بها يُقْتَلْ ولي الأمر أو يُزال أو نحو ذلك؛ يعني الخروج بالعمل عليه سعياً في قتله أو إزالته.
فهاتان الصورتان للخروج.
والخروج على هذا:
- يكون بالاعتقاد
- ويكون بالعمل.
* أما الصورة الثالثة التي أدخلها بعض أهل العلم فيها وهي الخروج بالقول؛ لأنَّ ولي الأمر يكون الخروج عليه بالقول، فهذه لا تَنْضَبِطْ؛ لأنَّ الخروج بالقول قد يكون خروجاً وقد لا يكون خروجاً، يعني أنه قد يقول كلاماً يؤدي إلى الخروج فيكون سعياً في الخروج، وقد يقول كلاماً هو من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولا يوصِلُ إلى الخروج ولا يُحْدِثُ فتنة في الناس، وهذا لا يدخل فيه.
ولهذا من أدخل من أهل العلم الخروج بالقول في صور الخروج، فإنَّ الخروج بالقول فيه تفصيل، لا يُطْلَقْ القول بأنه ليس بخروج ولا أنَّهُ خروج.
ومعاوية رضي الله عنه قتل بعض الصحابة لما خَرَجُوا على أميرهم بالقول (1) ...
[......] أنَّ يقول للناس شيئاً أو أنَّ الناس كرهوه فاجتمع حجر بن عدي أو عدي بن حجر مع بعض أصحابه فحصبوه، حصبوا الأمير وقالوا: لا نسمع ما تقول، فَأَرْسَلَ إلى معاوية فأمر معاوية بأن يُؤْخَذُوا وأن يُسَيَّرُوا إليه، وكانوا سبعة عشرة رجلاً منهم الصحابي هذا، فقبل أن يَصِلُوا إلى دمشق أمر بهم فَقُتِلُوا (2) ، وهذا اسْتُدِلَّ به على أنَّ فعل معاوية رضي الله عنه مَصِيْرٌ منه إلى أنَّ الخروج يكون بالقول، وتُنَزَّلْ على هذا الأحاديث.
وهذا الاستدلال محل نظر وليس بجيد؛ بل معاوية رضي الله عنه فعل ذلك تعزيراً وله اجتهاده في هذا الأمر.
فإذاً نقول الذي عليه أهل العلم في تقرير العقائد أنَّ الخروج يكون في صورتين:
- الصورة الأولى: عدم البيعة واعتقاد جواز الخروج أو تسويغه أو وجوبه؛ يعني على ولي الأمر المسلم.
- والصورة الثانية: السعي باليد بالسيف بالسلاح على ولي الأمر.
أمَّا بالقول فهذه فيها تفصيل فقد تكون وقد لا تكون.
__________
(1) انتهى الوجه الأول من الشريط الرابع والثلاثين.
(2) انظر المستدرك (5981)(1/479)
[المسألة السادسة] :
الخروج على الولاة والأئمة له أسباب، ولم يَخْرُجْ أحَدْ إلا وله في خروجه تأويل:
@ فالخروج على عثمان رضي الله عنه الذي أدى إلى مقتله رضي الله عنه وأرضاه كان بسبب التصرفات المالية لعثمان رضي الله عنه وتوليته قَرَابَتَهُ، فَتَجَمَّع الخوارج ممن يدينون بالخروج منكرين هذا الأمر متأولين، فخرجوا عليه حتى قتلوه رضي الله عنه وأرضاه في قصة مبكية حتى إنَّهُ رضي الله عنه لم يُدْفَنْ إلا ليلاً وتَبِعَهُ ثلاثة أو أربعة صُلِّيَ عليه سِرَّاً، ثم أُخِذَ ليلاً على النعش بسرعة ولم يُدْفَنْ في البقيع وإنما في حائط، يعني في بستان قريب من البقيع، حتى لا يُعْرَفْ أنه دُفِنْ، حتى جاء في الرِّواية أنهم كانوا من سرعة مسيرهم به قالوا نسمع رأسه يضرب في نعشه من شدة السير به خشية أن تصل أيدي الخوارج إليه.
وهذا بسبب التأويل، التأويل في المال عندهم، يعني تَأَوَلُوا خروجهم بالرغبة في الصلاح في الأمور المالية، وكذلك في مسائل التولية ونحو ذلك.
وأجْمَعَ الصحابة رضوان الله عليهم على تصويب عثمان وعلى مُعَاداةِ هؤلاء، رضي الله عن الصحابة أجمعين وخَذَلَ من خالف سبيلهم إلى يوم الدين.
@ والسبب الثاني رُؤْيَةِ المرء ما يكره: في نفسه أو في بلده أو في مجتمعه بعامة، ما يكرَهُهُ ديناً أو ما يكرَهُهُ دُنْيَاً.
وهذا السّبب في رؤية المرء ما يكرهه قد يكون معه عدم صبر فيُؤَدِيهِ إلى الانتصار مُتَأوّلَاً الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فيكون آخذاً بالخروج أو خارجاً فعلاً.
وهذه المسألة وهي مسألة رؤية ما يكره المرء في الدين أو في الدنيا أعْظَمُهَا ما حَصَلَ في عهد الإمام أحمد رضي الله عنه حيث رأى ورأى أئمة الحديث ما يكرهون في أعظم مسألة وهي مسألة خلق القرآن؛ حيث دُعِيَ الناس إلى القول بخلق القرآن الذي هو الكفر، وأُلْزِمُوا بذلك حتى وقع بعض الأئمة الكبار في الإجابة خشيَةً من بعض مسائل الدنيا.
والإمام أحمد لما قيل له بالخروج نفض يديه وقال: إياكم والدماء، وأَخَذَ بقول النبي صلى الله عليه وسلم «من رأى من أميره شيئا يكرهه فليصبر» .
(شيئا يكرهه) هذه عامة لأنها جاءت في سياق الشرط، وهذه تعمّ الكراهة الدينية والكراهة الدنيوية، فأَمَرَ بالصبر، والصبر معناه لزوم الطاعة وعدم الخروج.
وكذلك ما دلَّ عليه الحديث الآخر «ألا من رأى أميره يأتي شيئاً من معصية الله فليكره ما يأتي من معصية الله ولا ينزعنَّ يدا من طاعة» ، وعلى هذا كان هدي الصحابة، فابن مسعود رضي الله عنه صَلَّى خلف أمير الكوفة من قبل عثمان رضي الله عنه، وصَلَّى وهو يشرب الخمر فصلوا معه حتى صَلَّى بهم الفجر أربعاً، ثم لما سَلَّمْ قال: أزيدكم؟ يعني هل أنا نقصت من الصلاة قالوا لازلنا معك اليوم في زيادة (1) .
والنصوص الدالة على وجوب الطاعة بالمعروف وتحريم نكث البيعة ونحو ذلك تدلُّ على عدم اعتبار هذا السبب سبباً للخروج، وهو أَنْ يَرَى ما يَكْرَهُهُ ديناً أو ما يكرهه دنياً، إلا أن يرى كُفْراً بواحاً عندنا فيه من الله برهان، كما جاء في الحديث قال: أفلا ننابذهم؟ أو قال: أفلا نخرج عليهم؟ قال «لا إلا أَنْ تَرَوا كُفْرَاً بُوَاحاً عندكم من الله فيه برهان» (2) .
والعلماء في هذا الحديث لهم قولان:
القول الأول:
أنه عند رؤية الكفر البواح فإنه يَجِبُ الخروج، وإذا قالوا يَجِبْ؛ فمعناه أنَّ أخذ العدة والوسيلة فإنها تجب وجوب وسائل للمقاصد.
وهذا قول طائفة من أهل العلم متفرقين في شروحهم للأحاديث.
2- القول الثاني:
أنَّ هذا يجوز ولا يجب؛ بل الصبر أولى إلا إذا كان تغيير هذا الولي الذي كَفَرَ ليس فيه مفسدة من سفك الدماء.
__________
(1) سبق ذكره (450)
(2) البخاري (7056) / مسلم (4877)(1/480)
[المسألة السابعة] :
الأئمة وولاة الأمور طاعتهم مِنْ طاعة الله - عز وجل - ومِنْ طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، فطاعة المؤمن لهم في المعروف عبادة وقُرْبَةْ؛ لأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم جعل طاعتهم من طاعته حِفْظَاً لبيضة هذه الأمة وجمعاً للكلمة وقوةً لها على أعدائها.
والعلماء ذكروا أنَّ تصرفات ولاة الأمور يعني من حيث التنظير تكون على أحد أنحاء:
1- الأول: أن يأمروا بالطاعة، أن يأمروا بشيءٍ فيه طاعة، يأمروا الناس بإقامة الصلاة، يأمروا الناس بإيتاء الزكاة، يأمروا الناس بأداءْ الحقِّ الشرعي بعامَّة، ينهون الناس عن المحرمات، يقيمون الحدود، يأمرون بالمعروف ينهون عن المنكر ونحو ذلك مما هو مَعْلُومٌ الأمر به أمر إيجاب أو أمر استحباب أو معلومٌ النهي عنه نهي تحريم أو كراهة في الشَّريعة.
2- الثاني: أن يأمروا بأَمْرٍ اجتهادي لهم فيه اجتهاد، وهذا الاجتهاد إما أنْ يكون عن خلافٍ شرعي واختاروا أحد الأقوال أو أحد الرأيين أو أحد الوجهتين، أو اجتهادهم كان مبنياً في مسائل حادثة لا يَعْلَمُ الناس لها الحُكْمْ، أو لم يُرَاد أن تُبْحَثْ مثل المسائل الدنيوية والمسائل العامة التي تجري في الناس.
3- الثالث: أن يأمروا بمعصية الله - عز وجل -.
@ أما الأول فإن طاعتهم في ذلك واجبة بالإجماع وطاعتهم في ذلك من طاعة الله - عز وجل - وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم.
@ والثاني: وهي المسائل الاجتهادية فإنَّ ولي الأمر إذا ذَهَبَ إلى أحد الأقوال في المسألة واجتهد، أو اجتهد في المسألة اجتهاداً له لا يُخَالِفُ مُجْمَعَاً عليه، فإنَّ طاعته في ذلك متعينة أيضاً إذا كان متعلقاً بالأمة بعامة.
فالمسائل الاجتهادية داخلة في عموم الأحاديث التي فيها الطاعة في المعروف؛ لأنَّ طاعة الأمير في المعروف التي جاء فيها الدليل، إنَّما الطاعة في المعروف تشمل الصورتين: الصورة الأولى والصورة الثانية لأن الاجتهاد مُعتبرٌ شرعاً.
@ والثالث: وهي أن يأمر بمعصية الله - عز وجل -، فالأمر بالمعصية قد يكون عاماً وقد يكون خاصاً، وعلى كلٍّ فلا تجوز طاعته فيما فيه معصيةٍ لله - عز وجل -؛ لأنَّهُ لا طاعة لمخلوقْ في معصية الخالق لقوله صلى الله عليه وسلم «على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحبّ وكره إلا أن يؤمر بمعصية» .
فإذاً الأدلة التي فيها الأمْرْ بطاعة ولي الأمر، أو التي فيها بيان الطاعة، إنما الطاعة في المعروف، تُفْهَمُ معاً ولا يُضْرَبُ بعضها ببعض؛ يعني أنَّ ولي الأمر يطاع إلا في المعصية:
- يُطَاع فيما فيه طاعة.
- ويطاع في المسائل الاجتهادية.
- ولا يطاع بما فيه معصية لله - عز وجل -.(1/481)
[المسألة الثامنة] :
قوله في آخر الكلام (وَإِنْ جَارُوا) هذا فيه تَبْيِينْ لأَصْلِ المسألة أنَّ الطاعة لا تُتَقَيَّدْ بأنها لولي الأمر العدل؛ يعني للعادل من الأئمة أو للتقي من الأئمة أو لمن يسير في كل الشرع من ولاة الأمر؛ بل وإن كان منه جَوْرْ فإنه يُطَاع.
والجَوْرْ يكون في صورتين:
- الصورة الأولى: جورٌ في الدين.
- الصورة الثانية: جورٌ في الدنيا.
والجَورْ في الدين ضابطه أن لا يَصِلَ فيه إلى الكفر.
والجَورْ في الدنيا يطاع فيه حتى ولو أخذ مالك وضرب ظهرك، كما صح عنه صلى الله عليه وسلم قال «أطع وإن أخذ مالك وضرب ظهرك» (1) .
ومن أهل العلم من فَرَّقَ بين ولاة العدل وولاة الجور في الطاعة، فقال:
- ولي الأمر ذو العدل يطاع مُطْلَقَاً إلا في المعصية.
- وأما ولي الأمر بالجور فإنه لا يُطَاع إلا فيما يُعْلَمُ أنه طاعة، أما إذا لم نعلم أنه طاعة قال فلا يُطَاعْ.
وهذا الكلام وإن كان منسوباً إلى بعض كبار أهل العلم المتقدمين؛ لكنه في مقابلة النصوص، ومُخَالِفٌ لإطلاق الأئمة في هذه المسائل.
والتفريق بين إمام العدل وإمام الجور له أصلٌ من كلام الأئمة؛ لكن في غير هذه الصورة.
فهم فَرَّقُوا ما بين إمام العدل وإمام الجور في صورة الأمر بالقتل أو بالاعتداء، فإنه إذا كان يُعْلَمْ أنَّ جوره في قتل من لا يستحق القتل فإنَّهُ إذا أَمَرَ أحداً أن يقتل فلاناً، قالوا: لا تتعين عليه الطاعة؛ لأنَّه قد يكون قَتْلُهُ ظُلْمَاً إذا لم يَسْتَبِنْ له أنه مستحقٌّ للقتل، وهذا يكون في أزمنة الفِتَنْ ونحو ذلك والعِدَاءات، يقول: أُقْتُلْ فلانَاً، ولا يسأل.
فهنا فَرَّقَ طائفة من الأئمة المتقدمين ما بين إمام العدل وإمام الجور، قالوا: إمام العدل لا يُسْأَلْ، وأما إمام العدل فَيُتَحَرَى إذا كان يُعْرَفْ أنَّهُ يسفك الدماء فإنه لا يَقْتُلُ أحداً إلا إذا استبان له أنه مستحقٌ للقتل.
* والذي يظهر في هذه المسألة ويتعيّن الأخذ به أن يُعمَلْ بِمُطْلَقَاتْ الأدلة؛ لأنَّ المسائل إذا اشتبهت وجَبَ الرجوع -خاصة في مسائل العقيدة- وجب الرجوع إلى ظاهر الدليل، ولا يَسُوغْ لأحد مخالفة ظاهر الدليل فيما أجمع العلماء على جَعْلِهِ عقيدة، وهي مسألة الخروج على الولاة وطاعة ولاة الأمر.
فحينئِذْ دلّتْ الأدلة على ما ذكرنا من أنَّ ولي الأمر يُطاع في الطاعة ويُطَاعُ في المسائل الاجتهادية، ولا يطاع في صورة -صورة واحدة-؛ وهي أن يأمر بمعصية الله - عز وجل - فلا سَمْع ولا طاعة.
ويكون إذاً الجور ليس سبباً في الخروج -سواء كان جوراً في الدين أو كان جوراً في الدنيا-؛ بل أكثر ما يكون الخروج بسبب الجَوْرِ في الدنيا، كما ذكر ذلك ابن تيمية في منهاج أهل السنة قال: أكثر تأويل من خَرَجْ بسبب جور بعض الولاة في أمور الدنيا.
فإذاً قوله هنا (وَلَا نَرَى الْخُرُوجَ عَلَى أَئِمَّتِنَا وَوُلَاةِ أُمُورِنَا وَإِنْ جَارُوا) يعني به أنّ عقيدة السلف الصالح أن يُسْمَعَ ويُطَاعْ ولي الأمر، ويحافظ على البيعة، ولا يخرج المرء ولا يَلْقَى الله وليس له حجة بنزع اليد من الطاعة، ومهما كان الذي رآه إذا لم يَرَ الكفر البَوَاحْ الذي فيه من الله برهان.
__________
(1) مسلم (4891)(1/482)
قال الطّحاوي رحمه الله بعدها (وَلَا نَدْعُو عَلَيْهِمْ)
____________________________________________
يريد أنَّ هَدْيَ السّلف الصالح وأئمة الإسلام أنَّهُمْ لا يَدْعُونَ على ولي الأمر والأئمة؛ لأنّ الدعاء عليهم سِيْمَا أهل الخروج وسِيمَا الذين يرون السيف إما اعتقاداً أو عملاً.
وهدي السلف الصالح أنهم يدعون لهم ولا يدعون عليهم؛ لأنَّ:
- بالدعاء لهم الصلاح والمعافاة كما سيأتي.
- وفي الدعاء عليهم توطين القلوب على بُغْضِهِمْ وهو سَبَبٌ من أسباب اعتقاد الخروج عليهم والوسائل لها أحكام المقاصد، فكما أنَّ المقصد وهو الخروج واعتقاد الخروج ممنوع عند الأئمة في عقائدهم، فكذلك وسيلته في القلوب هي الدعاء عليهم لأنه يُحْدِثُ البغض لهم والبغض يؤدي إلى الخروج عليهم.
وهذه تَضُمُّهَا إلى قوله في آخر الجملة (وَنَدْعُو لَهُمْ بِالصَّلَاحِ وَالْمُعَافَاةِ) يعني أنَّ هدي السلف وأئمة الإسلام في عقيدتهم أنَّهُ كما أنَّا لا ندعو عليهم فإننا لا نسكت؛ بل ندعو لهم بالصلاح والمعافاة.
والدعاء لولي الأمر بالصلاح دعاءٌ للأمَّةْ في الواقع؛ لأنَّ صلاحه صلاح للناس.
(وَالْمُعَافَاةِ) يعني أن يُعَافيه الله - عز وجل - مما ابتلاه به أو مما أَجْرَاهُ في رعيته من الأمور المخالفة للدين.
وقد كان بعض الصحابة رضوان الله عليهم -أظنه أبا ذر- كان يتكلم في معاوية رضي الله عنه في بعض تصرفاته السلوكية أو المالية أو التولية، فأتى به وقال له: يا فلان أليس لك ذنوب؟
قال: بلى.
قال: فما ترجو في ذنوبك؟
قال: أرجو العفو والمعافاة من الله - عز وجل -.
قال معاوية رضي الله عنه: أفلا رجوتَ لي ما رجوتَ لنفسك.
قال فسكت.
وهذا يدل على أنَّ الدعاء بالصلاح والمعافاة والتوفيق لولاة الأمر أنَّهُ هو الهدي الماضي وهو الذي يوافق الأصول الشرعية.
وقد قال جمع من الأئمة منهم الفضيل بن عياض ومنهم الإمام أحمد وجماعة (لو كان لنا دعوة مستجابة لجعلتها للسلطان) (1) .
وقد نصّ البربهاري رحمه الله في كتابه شرح أصول السنة على أنَّ (من سيما أهل البدع الدعاء على ولاة الأمور ومن سيما أهل السنة الدعاء لولاة الأمور) .
فهذه المسألة التي ذكرها الطحاوي هنا مقررة في كتب الأئمة تقريراً مستفيضاً.
__________
(1) شرح السنة (107)(1/483)
*قال رحمه الله (وَلَا نَنْزِعُ يَدًا مِنْ طَاعَتِهِمْ، وَنَرَى طَاعَتَهُمْ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ - عز وجل - فَرِيضَةً)
______________________________________________
يريد أنَّ أهل السنة لا ينزعون اليد من طاعة ولي الأمر.
وذَكَرَ اليد لأنها وسيلة البيعة؛ لأنَّ البيعة تكون بصفقة اليد، وهذه هي بيعة أهل الحل والعقد بأن يبايع يداً بيد، وبيعة الناس تكون بمبايعة أهل الحل والعقد أو بمبايعة بعض المؤمنين لولي الأمر.
(ولا نَنْزِعُ يَدًا مِنْ طَاعَتِهِمْ) يعني بعد البيعة باليد؛ لأنَّ هذا سيما الخوارج.
(وَنَرَى طَاعَتَهُمْ) طاعة ولي الأمر في غير المعصية من طاعة الله - عز وجل - فريضة واجب ما لم يأمروا بمعصية، وهذه الجملة مُقَرَّرَة فيما سلف وواضحة في دلالتها.
نقف عند قوله (وَنَتَّبِعُ السُّنَّةَ وَالْجَمَاعَةَ، وَنَجْتَنِبُ الشُّذُوذَ وَالْخِلَافَ وَالْفُرْقَةَ) جعلنا الله وإياكم من المتبعين للسنة والجماعة المُهَيَّئِيْنَ لذلك إنه سبحانه جواد كريم.(1/484)
الأسئلة:
س/ ما ضابط الكفر البواح؟
ج/الكفر البواح الذي عندنا فيه من الله برهان، الذي عليه دليل، يعني واضح بَيِّنْ، وبعض أهل العلم قال أنه ترك الصلاة، أنه ما يأمر بالصلاة، وينهى عنها، مثل ما جاء في الحديث قال «ما أقاموا فيكم الصلاة» ففهموا حديث الكفر البواح بإقامة الصلاة، وآخرون قالوا: لا، ما يشترط إقام الصلاة، الكفر البواح هو إذا حصل منه كفر عندنا من الله فيه برهان وليس له شبهة فيه ولا تأويل.
نُخْرِجْ منه صورة المأمون وأمثاله في عهد الإمام أحمد؛ لأنه كانت عندهم بنوع تأويل، أطاعوا بعض العلماء في هذه المسألة، وواضح في الحديث قال «عندكم فيه من الله برهان» يعني شيء مجمع عليه واضح.
س2/إن قال قائل إنَّ معاوية خرج على علي رضي الله عنه؟
ج/لا، هو ما دخل في البيعة أصلا.
س3/ فإن قيل إنَّ البيعة ثبتت لعلي؟
ج/ثبتت لعلي من أهل المدينة، وأهل الشام قالوا ما نبايعك حتى تُسَلِّمْ لنا قتلة عثمان؛ لأنَّ قتلة عثمان صاروا جيش علي، يعني الخوارج الذين قتلوا عثمان أجبروا علي أنه يخرج وخرج، علي رضي الله عنه اجتهد وصارت البيعة له وأهل الحل والعقد في المدينة.
فمعاوية رضي الله عنه قال: لا، ما نبايع حتى تُسَلِّمْ لنا قتلة عثمان، ويرى معاوية أنه هو ولي الدّم {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا} [الإسراء:33] ، يقول أنا وليه، أنا ولي دم عثمان أنا أقرب الناس إليه، سَلِّمْ لي القتلة كي أقتلهم، فعلي رضي الله عنه خشي إن سلمهم تصير فتنة أعظم، فأراد أنه يجتمع هو وإياه وسار إليه على أساس يجتمع معه ويبحث معه إلى آخره، فاجتمع معاوية، نقلوا له طبعاً الخوارج أنَّ هذا علي سار بجيشه فسار يخشى أنه يباغته، ثم لما اجتمعوا هذا في جهة وهذا في جهة، وقَصْدْ معاوية خير أنه يبحث مع علي وقصد علي رضي الله عنه خير أنه يبحث مع معاوية، حَرَّكْ الخوارج الحرب بين الجهتين ووقعت وقعة صفِّين، هم الذين حركوها من تحت، لا الصحابة يريدون، وقعت بغير اختيارهم.
سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك (1) .
__________
(1) انتهى الشريط الرابع والثلاثون.(1/485)
: [[الشريط الخامس والثلاثون]] :
وَنَتَّبِعُ السُّنَّةَ وَالْجَمَاعَةَ، وَنَجْتَنِبُ الشُّذُوذَ وَالْخِلَافَ وَالْفُرْقَةَ.
_____________________________________________
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا، أما بعد:
قال الطحاوي رحمه الله هنا (وَنَتَّبِعُ السُّنَّةَ وَالْجَمَاعَةَ، وَنَجْتَنِبُ الشُّذُوذَ وَالْخِلَافَ وَالْفُرْقَةَ.)
هذه الجملة ذَكَرَهَا بعد الكلام على الخروج على الولاة أو قتل أحد من أمة محمد صلى الله عليه وسلم لظهور معنى الجماعة في ذلك.
وكلُّ ما ذَكَرَه من أول العقيدة إلى آخرها -يعني فيما أجمع عليه أهل السنة والجماعة- داخِلٌ في هذه الجملة.
فكُلُّ مسائل العقائد التي قَرَّرَهَا أئمة الإسلام فإنها اتِّبَاعْ للسنة وللجماعة، وكُلُّ مُخَالَفَةْ لهذه العقائد التي دلَّ عليها الكتاب والسنة وقرَّرَهَا الأئمة فهي شذوذ وخِلافٌ وفُرْقَةْ.
ولهذا هذه الجملة قاعدة عظيمة من قواعد العقائد بجميع تفاصيلها، كما سيأتي في بيان السنة والجماعة وبيان ما يُضاد ذلك إن شاء الله تعالى.
وهذا الاتِّبَاعْ الذي ذَكَرَهُ -اتِّبَاعْ السنة والجماعة واجتناب الشذوذ والخلاف والفرقة- هو منشأ السَّيْرْ على ما كانت عليه الجماعة الأولى؛ لأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم أوْرَثَ الجماعة الأولى -وهي جماعة الصحابة رِضوان الله عليهم- أورَثَهُمْ العلم النافع والعمل والهدى في أمور الدين كلِّه، في الأمور العلمية والأمور العملية.
فَأَجْمَعُوا على مسائل العلم والعقيدة والتوحيد، وعلى كثيرٍ من مسائل العمل، واختلفوا في بعض مسائل العمليات والفروع.
ثُمَّ صار سبيل المؤمنين الذي هو سبيل الجماعة الأولى، صار عَلَماً على اتِّبَاعِ النبي صلى الله عليه وسلم وترك الأهواء، ثُمَّ تَبِعَهُمْ التابعون، ثم هكذا إلى زماننا؛ بل إلى أن يموت آخر المؤمنين.
وهذا الأصل من أهم الأصول التي يُقَرِّرُهَا أئمة الإسلام؛ لأنه أصل وما بعده فرع.
فالخلاف في توحيد العبادة، أو في طريقة إثبات الربوبية، أو في الأسماء والصفات، أو في الإيمان، أو في القَدَرْ، أو في الصحابة، أو في التعامل مع ولاة الأمور، أو في أي مسألة من المسائل التي تُذْكر، الخلاف في ذلك خِلافٌ للجماعة الأولى.
ولهذا قال من قال من أئمة الصحابة (إذا فسدت الجماعة فعليك بما كانت عليه الجماعة قبل أن تفسد) .
(إذا فسدت الجماعة) يعني إذا صارت الجماعة في اختلاف، فإنَّ المصيب منهم من وافق الجماعة التي كانت مجتمعة، غير مختلفة.
ولهذا صار هذا الأصل عَلَمَاً على أهل السنة والجماعة أتباع الصحابة والسلف الصالح، فَسُمُّوا أهل السنة والجماعة لهذا الأصل لأنهم يتَّبِعُونَ السنة والجماعة، ويأتي تفسير السنة وتفسير الجماعة.
وهذا الذي ذكروه هنا أخذوه من النصوص التي لا تُحْصَى في الكتاب والسنة في الأمر بالاجتماع نصاً أو معنى، وفي النهي عن الفرقة نصاً أو معنى.
فمن ذلك قول الله - عز وجل - {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران:103] ، ومنه قوله - جل جلاله - {أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى:13] ، ومنه أيضاً قول الله - عز وجل - {وَمَنْ يُشَاقِقْ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء:115] ،ومنه قوله أيضاً - جل جلاله - {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ} [النور:54] ؛ يعني على الرسول ما حُمِّلَ من بيان السنة وبيان الشريعة وتبليغ ذلك.
{وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ} من اتباع السنة والجماعة واتباع هدي النبي صلى الله عليه وسلم.
فحُمِّلَ الرسول صلى الله عليه وسلم البلاغ وحُمِّلَتْ الأمة الاتباع والمتابعة.
ومنه أيضا قول الله - عز وجل - {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران:31] ، ونحو ذلك من الآيات الصريحة في اتباع الجماعة والنهي عن الافتراق.
والسنة فيها من ذلك شيءٌ كثير:
كقوله صلى الله عليه وسلم «وستفترق هذه الأمة على ثلاثٍ وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة» قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال «هي الجماعة» (1) ، وفي رواية قال «هي ما كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي» (2) .
__________
(1) سبق ذكره (5)
(2) سبق ذكره (344)(1/486)
ومنه أيضاً الأحاديث التي في خروج الخوارج وخلاف الخوارج للصحابة، وأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقتلهم، فقال في وصفهم «يمرقون من الدِّين كما يمرق السهم من الرمية، أينما لقيتموهم فاقتلوهم فإن في قتلهم أجراً لمن قتلهم» (1) وذلك لمخالفتهم للسنة والجماعة.
كذلك قوله صلى الله عليه وسلم في أهل الأهواء «يتجارى بهم الهوى كما يتجارى الكَلَبُ بصاحبه لا يبقى منه مفصل أو عِرْقْ إلا دخله» (2) .
ومنه أيضا ما صحّ عنه صلى الله عليه وسلم بقوله «الجماعة رحمة والفرقة عذاب» (3) .
ومنه أيضا قوله «من أتاكم وأمْرُكُمْ جميع يريد أن يشق عصاكم فاقتلوه كائناً من كان» (4) .
ومنه أيضا دعاء النبي صلى الله عليه وسلم ألا يَجْعَلَ بأس هذه الأمة بعضها ببعض قال «فمنعنيها» . ونحو ذلك من الأدلة التي تدل على هذا الأصل العظيم.
فإذاً هذا الأصل الأدلة عليه في منزلة التواتر لكثرة ما دلَّ عليه؛ بل هو أظهر أصول الشريعة، فإنَّ الخلاف والفُرْقَةْ عمَّا كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم والجماعة الأولى هو حقيقَةً خلافٌ لرب العالمين واتّباع غير السبيل الذي يرضى عنه - جل جلاله -.
فإذاً هذا الأصل -كما ذكرنا في أول الكلام- ذَكَرَهُ الطحاوي؛ لأنَّ كل مسائل العقيدة يتفرع عنه.
وإذا تبين ذلك فنقول: إنَّ مسائل الاعتقاد التي يذكرها أهل السنة والجماعة:
- منها ما هو من سبيل المقاصد.
- ومنها ما هو من سبيل الوسائل إلى المقاصد.
- ومنها ما هو من سبيل المحافظة على المقاصد.
@ فأما الأول وهو المقاصد هي: أركان الإيمان الستة.
@ وأما الثاني وهو وسائل المقاصد فهي القواعد العامة في التلقي والأخذ لأنها لا يُحْفَظُ أصل إلا بدليل، بقاعدة.
ولهذا صار هذا الكلام هنا وهو قوله (وَنَتَّبِعُ السُّنَّةَ وَالْجَمَاعَةَ، وَنَجْتَنِبُ الشُّذُوذَ وَالْخِلَافَ وَالْفُرْقَةَ.) هذا له حكم المقاصد من جهة وله حكم الوسائل من جهةٍ أخرى؛ لأنَّ اتباع السنة والجماعة مقصد تعبُّدِي مطلوب {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [النور:54] ، والثاني وهو اجتناب الشذوذ والخلاف والفُرْقَة هذا من وسائل المحافظة على أصول الاعتقاد.
وفي هذه الجملة مسائل:
__________
(1) البخاري (3610) / مسلم (2500)
(2) أبو داود (4597)
(3) المسند (19369) / مسند الشهاب (15)
(4) مسلم (4904)(1/487)
[المسألة الأولى] :
في قوله (وَنَتَّبِعُ السُّنَّةَ وَالْجَمَاعَةَ) الاتباع هو أن تَقْفُوَ أثر الشيء، تَبَعَهُ أي قَفَا أثره، اتِّبَاع الحق أن تَقْفُوَ الأثر.
والأَثَرُ سواءٌ أَكَانَ أثر دليل أو كان أثر مسير -يعني أثر قول أو أثر مسير- كلٌ منهما دليل.
ولهذا صار الاتِّبَاعُ موسوماً عند أهل العلم بأنه أخذ القول بدليله.
ويقابل هذا التقليد، يقابل الاتباع التقليد.
والتقليد قَبُولْ القول والتِزَامُهُ دون حجةٍ واضحة.
لأنه إن كان عنده حجة فهو مُتَّبِع ولو كان مُتأولاً أو مُخْطِئاً، وإذا كان ليست عنده حجة وإنما يتعصب أو يقبل قول الغير هكذا لأنه قاله فقط مع ظهور الحُجَّةْ في خلافه، فهذا يُسمى مُقَلداً لأنه جعل القول قِلادةً له دون بيانه.
والتقليد في الاعتقاد فيه تفصيل:
- فما كان مما يُشْتَرَطُ لصحة الإسلام والإيمان فلا ينفع فيه التقليد؛ بل لابُدَّ فيه من أخذ القول بدليله وجوباً؛ لأنَّ هذا هو العلم الذي أمر الله - عز وجل - به في قوله {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [محمد:19] .
- أَمَّا التقليد في الاستدلال فلا بأس به؛ يعني أن يَعْلَمَ وجه الدليل من الحُجَّةْ ويُقَلِّدُ العالم في الاقتناع بهذا الدليل يعني بوجه الاستدلال، فهذا لا بأس به لأنَّ المجتهد في فهم الدليل هذا قليل في الأمة.
فإذاً الواجب في الاتباع وما يَحْرُمُ من التقليد في العقيدة هو ما كان من أصول الإسلام؛ يعني ما لا يصح الإسلام إلا به، مثل العلم بالشهادتين، وأركان الإيمان الستة، وفرض أركان الإسلام الخمسة.
إذا كان التقليد كذلك فهل يُشْتَرَطُ استدامة العلم واستصحاب العلم والاتِّبَاع أم لا يُشْتَرَطْ؟
الذي عليه العلماء المحققون وقرَّرُوهُ أنَّ الاستدامة ليست شرطاً، وإنما يكفي أن يَعْلَمَ الحق في هذه المسائل في عمره مرةً بدليله، ويأخذ ذلك ويقتنع به، يأخذ ذلك عن دليل وبيِّنَة، ثم يعمل بما دلَّ عليه.
فمن تَعَلَّمَ مسألةً، مثلاً تَعَلَّمَ معنى الشهادتين في عمره، ثم بعد ذلك نسي المعنى، أو تَعَلَّمَ أدلة أركان الإيمان ثم نسي، أو تَعَلَّمَ فرضية الأركان الخمسة، أركان الإسلام أو الأربع العملية ثم جاءه فترة ونسي، فإنَّ هذا لا يؤثر ولا يأثم بذلك، المهم أن يكون أصل استسلامه عن دليلٍ فيما لا يصح الإيمان والإسلام إلا به.
* وهذا هو حكم التقليد عند أهل السنة والجماعة ووجوب الاتباع.
وأما المخالفون من أهل الكلام من المعتزلة والأشاعرة وجماعات فإنَّهُمْ جعلوا العلم الواجب هو النَّظَرْ أو القصد إلى النظر أو إلى آخره من أقوالهم، ويعنون بذلك النظر في الكونيات.
وأهل السنة يقولون: الاتِّبَاع النظر في الأدلة الشرعية، يعني النَّظَرْ في الشرعيات.
وأولئك عندهم النظر في الكونيات؛ لأنهم جعلوا أنَّ أصل الإسلام والإيمان إنما يصح إذا نظر في برهان وجود الله - جل جلاله -.
وأما أهل السنة والجماعة فقالوا: وجود الله - عز وجل - مركوزٌ في الفِطَرْ، وإنما يتعلم ما يجب عليه أن يعتقده وما يجب عليه أن يعلمه مما أمر الله - عز وجل - به، وجعله فارقاً بين المؤمن والكافر.
وبالمقابل التقليد عندهم في الكونيات، وعندنا التقليد في الأقوال والشَّرعيات.
وثَمَّ تفاصيل لمسألة الإتِّبَاعْ والتقليد في مناهج التلقي ما بين أهل السنة والمخالفين.(1/488)
[المسألة الثانية] :
في قوله (وَنَتَّبِعُ السُّنَّةَ) السُّنَّة يُراد بها العلم الموروث عن النبي صلى الله عليه وسلم في مسائل الاعتقاد؛ في المسائل الغيبية وما يتّصل بذلك من الوسائل وما يُحافَظُ به على الأصول.
فما دَلَّتْ عليه الأدلة من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - وكان عليه هديه فإنَّهُ السنة الماضية التي يجب اتِّبَاعُهَا وترك ما خالفها؛ لأنَّ المسائل العلمية في [.....] الغيبيات البيان فيها واضح وليست مجالاً للاختلاف وتنوع الآراء والأقوال.
ولهذا سمَّى طائفة من العلماء ممن صنَّفُوا في التوحيد كتبهم السنة، وهي كثيرة جداً كالسنة لعبد الله بن الإمام أحمد، والسنة للخلال، والسنة لابن أبي عاصم، والسنة للطبراني، وكذلك السنة في كتب الحديث -يعني في أثناء الكتاب- قد يُبَوِّبُ بعضهم بكتاب الاعتصام بالكتاب والسنة أو السنة أو ما أشبه ذلك.
فإذاً يجمع السنة أنه هدي النبي صلى الله عليه وسلم في العِلْمْ في هذا الموطن؛ في العِلْمِيَّاتْ، يعني فيما يُعْلَمْ ويُعْتَقَدْ فإنَّ منهجنا اتباع السنة في ذلك وأن لا نخوض فيه بالعقليات.(1/489)
[المسألة الثالثة] :
الجماعة تُطْلَقُ إطلاقين:
& تُطْلَقْ الجماعة ويراد بها الجماعة في الدين، الجماعة في العلم بما أمر الله - عز وجل - به أن يُعْتَقَدْ، أو في تصديق الأخبار في الكتاب والسنة.
وهذه الجماعة تكون في الدين، الجماعة في الدين؛ يعني الاجتماع على الدين الواحد.
& والمعنى الثاني للجماعة الجماعة في الأبدان، أنْ يجتمعوا في أبدانهم وأنْ لا يكون بأْسُهُم بينهم، وأن لا يتفرَّقُوا في أبدانهم بأنواع التَّفَرُّقْ.
ومسائل الاعتقاد تجمع هذين الأصلين، تجمع الاجتماع في الدين والاجتماع في الأبدان، وكل المسائل التي تُذكَرُ في مسائل العقيدة منها ما يرجع إلى هذا، ومنها ما يرجع إلى الثاني.
ثُم هذا اللفظ (السُّنَّةَ وَالْجَمَاعَةَ) صار عَلَماً على من كان على ما كانت عليه الجماعة الأولى وهم الصحابة رضوان الله عليهم.
والذي عليه أئمة أهل الحديث والمحققون من أهل الإسلام أنَّ هذا اللفظ (أهل السنة والجماعة) إنما يدخل فيه أهل الحديث والأثر الذين لم ينحرفوا في مسائل الاعتقاد.
وقد ذهب بعض الحنابلة من المتأخرين وبعض الأشاعرة وجماعات من الفقهاء إلى أنَّ لفظ (أهل السنة والجماعة) يشمل ثلاث طوائف:
- يشمل أهل الحديث والأثر.
- والأشاعرة.
- والماتريدية.
وممن صرَّحَ بذلك السَّفَّاريني في كتابه لوامع الأنوار وجماعة آخرون.
وهذا ليس بصحيح؛ لأنَّ الأشاعرة والماتريدية خالفوا السنة والجماعة في مسائل كثيرة معلومة:
@ فهم في إثبات وجود الله - عز وجل - خالفوا طريقة القرآن والسنة.
@ وفي تفسير (لا إله إلا الله) خالفوا ما دلَّ عليه القرآن والسنة وكان عليه السلف.
@ وفي إثبات الصفات خالفوا وقالوا طريقة السلف أسلم وطريقتنا أعلم وأحكم وجعَلُوا الصواب بين التأويل والتفويض:
وكل نص أوهم التشبيهَ أوِّلْهُ أو فَوِّضْ ورُمْ تنزيهَا
فالتأويل عندهم حق والتفويض حق وأما الإثبات فليس بحق.
@ وفي مسائل الإيمان خالفوا، وقالوا بالإرجاء وعندهم الإيمان هو التصديق فقط دون الإقرار والعمل، @ وفي مسائل القدر هم جبرية متوسطة.
وفي مسائل أُخَرْ خالفوا أيضا مما يضيق المقام عن ذكره.
فإذاً من خالف في هذه الأصول العظيمة في الغيبيات والعقائد فإنَّ إدراجه في أهل السنة والجماعة وفي الفرقة الناجية هذا ليس بواضحٍ من جهة الدّليل والإتباع، ولهذا هم يدخلون في الفِرَقْ المخالفة للسنة والجماعة.
لكن ينبغي أن يُعْلَمْ أنَّ إطلاق السنة قد يُرَادْ به ما يقابل الرافضة والشيعة والخوارج، فيدخل في إطلاق أهل السنة الأشعرية والماتريدية والمرجئة وجماعات لأجل مقابلتهم بالفرق التي ضلالها عظيم.
لهذا من الأفضل؛ بل من المُتَعَيِّنْ عند إطلاق أهل السنة والجماعة أن يُنتَبَهْ أن لا يكون شعاراً يدخل فيه من ليس من أهل السنة والجماعة حتى لا يَضِلَّ الناس، وحتى يكونُ مُقتصراً على من اعتقد الاعتقاد الحق، والباقون يمكن أن يُقَال عنهم أهل السنة؛ ولكن لا يُوصفون بأهل السنة والجماعة؛ لأنهم فَرَّقُوا دينهم وكانوا شيعاً ولم يقيموا الدين كما أمر الله - عز وجل -؛ بل فَرَّقُوا في ذلك وأخذوا ببعض الكتاب وتركوا بعضًاً كما هو معلوم من تفاصيل أقوالهم.(1/490)
[المسألة الرابعة] :
في قوله (وَنَجْتَنِبُ الشُّذُوذَ) :
الاجتناب هو التَّرْكْ، ويريد بالترك أنه يَتْرُكُهُ ديناً وتَعَبُّدَاً وتقرباً إلى الله - عز وجل - لملازمته للسنة والجماعة.
والشذوذ: هو الانفراد، وقد جاء في حديث وفي إسناده ضعف «ومن شذَّ شذَّ في النار» (1) يعني من انفرد عن الجماعة التي وَعَدَهَا الله - عز وجل - بالجنة فإنه سينفرد عنهم أيضاً في الآخرة في النار، وهذا من جهة الوعيد.
فمعنى الشذوذ في العلم والعقيدة الإنفراد بأشياء ليس عليها الدليل ولم تكن عليها الجماعة الأولى.
ولهذا كان الإمام أحمد رحمه الله وجماعة من أئمة السلف يقولون في مسائل العقائد (لا نتجاوز القرآن والحديث) ؛ لأنه إذا تجاوز المرء القرآن والحديث بمسائل الغيبيات والعقائد فإنه لا يُؤْمَنْ عليه الخلاف ولا يُؤْمَنْ عليه أن ينفرد بآراء ليست مُدَلَّلاً عليها.
والشذوذ قد يكون:
- في أصل من الأصول-يعني الانفراد.
- في فرعٍ لأصْلٍ من أصول الاعتقاد.
فالشذوذ مرتبتان:
1 - المرتبة الأولى: أن ينفرد ويَشُذْ في أصل من الأصول؛ يعني في الصفات، في الإيمان، في القدر، فهذا بانفراده في الأصل يخرج من الاسم العام المُطْلَقْ لأهل السنة والجماعة.
2 - المرتبة الثانية: أن يوافق في الأصول؛ لكن يُخَالِفُ في فرعٍ لأصل أو في فَرْدٍ من أفراد ذلك الأصل.
مثلاً يؤمن بإثبات الصفات وإثبات استواء الرب - جل جلاله - على عرشه وبعلو الرب - جل جلاله - وبصفات الرحمن سبحانه وتعالى؛ لكن يقول: بعض الصفات أنا لا أثبتها، لا أثبت صفة السّاق لله - عز وجل -، أو لا أثبت صفة الصورة لله - عز وجل -، أو أُثْبِتُ أنَّ لله أعيناً، أو أثبت لله - عز وجل - كذا وكذا مما خالف به ما عليه الجماعة.
فهذا لا يكون تاركاً لأهل السنة والجماعة؛ بل يكون غَلِطَ في ذلك وأخْطَأْ ولا يُتَّبَعُ على ما زلَّ فيه بل يُعْرَفُ أنه أخطأ، والغالب أن هؤلاء مُتَأَوِلُونَ في الاتباع.
وهذا كثير في المنتسبين للسنة والجماعة كالحافظ ابن خزيمة فيما ذكر في حديث الصورة، وكبعض الحنابلة حينما ذكروا أنَّ العرش يخلو من الرحمن - جل جلاله - حين النزول، وكمن أثبت صفة الأضراس لله وأثبت صفة العضد أو نحو ذلك ممَّا لم يقرره أئمة الإسلام.
فإذاً من شذَّ في ذلك في هذه المرتبة، يقال: غَلِطَ وخالَفَ الصواب؛ ولكن لم يخالف أهل السنة والجماعة في أصولهم؛ بل في بعض أفرادِ أصلٍ وهو مُتَأَوِّلٌ فيه.
وهذا هو الذي عليه أئمة الإسلام فيما عاملوا به من خالف في أصل من الأصول في هذه المسائل، وكُتُب ابن تيمية بالذات طافحة بتقرير هذا في من خالف في أصل أو خالف في مسألة فرعية ليست بأصل.
__________
(1) الترمذي (2167)(1/491)
[المسألة الخامسة] :
في قوله (وَنَجْتَنِبُ الشُّذُوذَ وَالْخِلَافَ وَالْفُرْقَةَ) الخلاف شَرٌّ ومذموم في الشريعة.
والخلاف يُطلق ويُراد به الاختلاف أيضاً كما قال - عز وجل - {وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود:118-119] ، فمدح من لم يَخْتَلِفْ وذَمَّ من كان في اختلاف.
وأهل الاصطلاح يُفَرِّقُونَ بين الخلاف والاختلاف، وهذا ليس هذا مورده وإنَّمَا في هذا الموضع الاختلاف والخلاف بمعنىً واحد وهما شر، كما قال ابن مسعود رضي الله عنه (الخلاف شر) (1) .
والخلاف له صورتان:
1- الأول خلاف في العِلْمِيَّاتْ: في العلم والعقيدة، وهذا البحث فيه كالبحث في الشذوذ والفرقة الآتي.
2- الثاني الخلاف في العَمَلِيِّاتْ: يعني فيما يُسَمَّى بالفروع.
والخلاف الثاني في الفروع ليس مُبَاحَاً أو مأذوناً به دائماً؛ بل قد يكون الخلاف مذموماً ولو كان في الفروع، وذلك إذا كان سيترتب عليه مفسدة في الناس أو افتراق أو إساءة ظن أو مخالفة لأئمة المسلمين.
ولهذا ابن مسعود رضي الله عنه في قصته مع عثمان كان يُقَرِّرْ ويَذْكُرْ أنَّ السنَّة أن يُصَلِّي أهل منى في منى ركعتين للرباعية وعثمان رضي الله عنه صَلَّى الرباعية أربعاً وكان ابن مسعود يُصَلِّي معه أربعاً، فقيل له في ذلك: تقول السنة ركعتان وتصلي مع عثمان أربع؟
فقال: الخلاف شر.
وهذا من عظيم فقهه رضي الله عنه مع أنَّهُ كان بينه وبين عثمان رضي الله عنه خُصومة أو نوع خلاف واختلاف في مسألةِ عطائه، فكان يَطْلُبُهُ وعثمان لم يُعْطِهِ عَطَاءَهُ الذي كان يرى ابن مسعود أنَّهُ له؛ لأنَّ ابن مسعود بدري، وكان له في ذلك قولْ يجادل به عثمان معروف؛ لكن مع ذلك تَخَلَّصَ من هوى نفسه وقال (الخلاف شر) .
فإذاً الخلاف في الفروع، في العمليات ليس دائما مأذوناً به أو لا يُعَابُ صاحبه؛ بل قد يُعَابُ إذا كان في الخلاف مفسدة أوفُرْقَة أو الخلاف يُسَاءْ به الظن أو يَسُدُّ أبوابا من الخير ونحو ذلك.
والطحاوي هنا لا يريد تقرير هذا البحث الثاني، وإنما يريد أنَّ الخلاف الذي هو بمعنى الشذوذ والفُرْقَةْ يُجْتَنَبْ ويُحْذَرْ منه.
__________
(1) أبو داود (1960)(1/492)
[المسألة السادسة] :
الفُرْقَةْ هنا بمعنى الافتراق، والفُرْقَةْ أكثر النصوص في النهي عنها.
والأمر بالجماعة معه النهي عن الفرقة لأنه لا يجتمع الناس إلا إذا انتهوا عن الافتراق والفُرْقَةْ.
ولهذا كما قَدَّمْتُ لك بعض الآيات نَهَى الله - عز وجل - عن الافتراق فقال {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} [آل عمران:103] ، دَلَّتْ هذه الجملة من الآية على أنَّ النهي عن الفُرْقَةْ هنا المقصود به الفُرْقَةْ في الأبدان، ثم قال - عز وجل - {وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا} [آل عمران:103] ، وهذه الفُرْقَة في الدين، وهذا كما في قوله مثلاً في سورة الشورى {شَرَعَ لَكُمْ مِنْ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى:13] ، يعني في الدين.
فتحَصَّلَ من هذا أنَّ الأدلة دَلَّتْ على أنَّ الفُرْقَةْ قسمان:
- فُرقة في الأبدان.
- وفُرقة في الدين.
مُقَابِلَةٌ للجماعة التي هي:
- جماعة في الدين.
- وجماعة في الأبدان.
فكذلك الفُرْقَةْ فُرقة في الدين وفُرقة في الأبدان.
@ أما فُرقة الدين: فتكون بانتحال الأهواء والأخذ بطريقة أهل الهوى من الخوارج فمن بعدهم.
وأعظم أهل الأهواء الخوارج -يعني ممن خَرَجَ على الصحابة-، ثُمَّ بعد ذلك إلى أن أتت الأقوال الكُفْرِيَة عند الجهمية والحلولية إلى آخره.
وهذا أعظم افتراق في الدِّيْنْ، فإنّ الله - عز وجل - جعل الدين واضحاً لا لَبْسَ فيه، في أصوله وعقائده وفي قواعده العلمية لا لَبْسَ فيه، ولهذا قال - عز وجل - {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ (1) بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام:153] .
: [[الشريط السادس والثلاثون]] :
فإذاً كل أنواع الافتراق التي حدثت إنما كانت لأجل الهوى، ولذلك سُمُّوا أهل الأهواء.
هل وجود المتشابه في القرآن والسنة يُعْتَبَرُ سبباً في خروج أهل الأهواء؟
الجواب ليس كذلك؛ لأنَّ الله - عز وجل - بيَّنَ أنَّ أهل الأهواء في قلوبهم زيغ قبل أن ينظروا إلى الأدلة، فقال - عز وجل - {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} [آل عمران:7] ، قال سبحانه في أول الآية {الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} فبيَّنَ - جل جلاله - أنَّهُ جَعَلَ كتابه منه محكم ومنه متشابه، يعني يشتبه على المرء العلم به.
ما الذي حصل؟
أنَّ الذين في قلوبهم زيغ اتَّبَعُوا قال {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ} فأَثْبَتَ الزيغ في قلوبهم ثم وصفهم باتباع المتشابه.
فإذاً المتشابه في الكتاب والسنة ابتلاء ليظْهَرَ أهل الأهواء من أهل السنة والجماعة، فحُصُولُ الهوى والزيغ في القلب ينتج عنه أن يبحَثَ عمَّا يُؤَيِّدُ به هواه ويُؤَيِّدُ به زيْغَهُ، وهذا ما نصت عليه الآية قال {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ} بالفاء الترتيبية.
ولهذا قال الأئمة (إنَّ أعظم ما أمر الله - عز وجل - به الاجتماع، وأعظم ما نهى الله - عز وجل - عنه الافتراق) ؛ لأنَّ حقيقة الاجتماع اجتماع في الدين وفي الأبدان وبهما صلاح العباد، وأعظم المصائب الافتراق وبهما يحصل البلاء كله.
فالشرك فُرْقَة، والتوحيد جماعة.
والبدعة فُرْقَة، والسنة جماعة.
والعقائد الصحيحة جماعة، والعقائد الفاسدة فُرْقَة.
الاستدلال بالكتاب والسنة وصحة منهج التلقي جماعة، والاستدلال بالأهواء والعقول وما ألْفَ المرء آباءه وأقوامه عليه فُرقَة؛ لأنّه خالف المنهج الصحيح في الاستدلال.
الاجتماع مع جماعة المسلمين وأئمتهم جماعة، والافتراق وترك أئمة المسلمين وجماعتهم فُرقة.
وهكذا، فكل خير في الجماعة والسنة، وكل شر في الشذوذ والخلاف والفُرقة.
__________
(1) انتهى الشريط الخامس والثلاثون.(1/493)
قال بعدها رحمه الله (وَنُحِبُّ أَهْلَ الْعَدْلِ وَالْأَمَانَةِ، وَنُبْغِضُ أَهْلَ الْجَوْرِ وَالْخِيَانَةِ)
________________________________________________
الحب والبغض من مسائل النفس التي يدخلها الهوى.
وقاعدة الشريعة والقرآن والسنة والصحابة أنَّ العبد لا يكون حقيقةً مستسلماً حتى يتخلّص من هواه.
ومِنَ الهوى الذي يُتَخَلَّصُ منه الهوى في مَحَبَّتِهِ والهوى في بُغْضِه، ونستغفر الله ونتوب إليه.
فمن أَحَبَ ما يُحِبُّ الله - عز وجل - ورسوله، ومن يُحِبُّ الله - عز وجل - ورسوله فقد تَخَلَّصَ من هواه، ومن أبْغَضَ ما يُحِبُّ الله - عز وجل - ورسوله من الحق أو أبْغَضَ من يُحِبُّهُ الله ورسوله فلم يتخلّص من هواه؛ بل الهوى هو الذي قاده إلى ذلك.
ولهذا كان من أعظم ما يتميز به أهل السنة والجماعة أئمة الحديث والأثر الذين تخلَّصُوا من أهوائهم أنهم أهل عدل في أقوالهم حتى مع مخالفيهم، فيُحِبُّونَ أهل العدل؛ لأنَّ الله يُحِبُّهُم وكذلك رسوله صلى الله عليه وسلم، ويُحِبُّونَ أهل الأمانة؛ لأنَّ الله - عز وجل - يحبهم ورسوله صلى الله عليه وسلم، ويبغضون أهل الجور والخيانة لأنَّ الله - عز وجل - ورسوله صلى الله عليه وسلم يبغضونهم.
فإذاً أصل هذه الجملة أساسها أنَّ محبة المؤمن المتبع لعقيدة السلف وبُغضَهُ يكون تبعاَ لنص الكتاب والسنة فيما يُحِبْ وفيما يُبْغِضْ، كما قال - عز وجل - {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65] ، وفي الحديث «لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به» (1) وهذا الإيمان الكامل هو الذي يتخلص فيه صاحبه من الهوى.
وهاهنا مسائل قليلة:
__________
(1) رواه الإمام المقدسي في كتاب الحجة على تارك المحجة بإسناد صحيح حسب ما ذكره النووي.(1/494)
[المسألة الأولى] :
أهل العدل وأهل الجَوْر متقابلان، كما أنَّ أهل الأمانة وأهل الخيانة متقابلان -يعني هؤلاء يقابلون هؤلاء، هؤلاء ضد هؤلاء، هذا صنف وهذا صنف-، ولا أعني بالتَّقَابُلْ والتضاد المصطلح الكلامي أو المنطقي فيه.
فمن هم أهل العدل، ومن هم أهل الجَوْر؟
العدل أَمَرَ الله - عز وجل - به أَمْرَاً مُطلَقَاً فقال سبحانه {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى} [النحل:90] ، وأقام السموات والأرض على العدل، ودينه وأحكامه كلها عدلٌ وخيرٌ للعباد في مآلهم وفي حاضرهم.
العدل الذي أمر الله - عز وجل - به أن يُعطَى كل ذي حق حقه، أن تُعْطِي الله - عز وجل - حقه الذي أمرك به، وأن تُعْطِي رسوله صلى الله عليه وسلم حَقَّهُ الذي أُمِرْتَ به، وأن تُعْطِي الصحابة حقهم الذي أُمِرْتَ به، وأن تُعْطِي المؤمنين حقهم الذي أُمِرْتَ به، وهكذا في سائر أحكام في الشريعة.
ولهذا قال بعض التابعين على هذه الآية {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى} ، قال (أتت هذه الآية على جميع المأمورات) ؛ يعني في العلميات وفي العمليات؛ لأنَّ المأمور:
- إما أن يكون عَدْلَاً في العلم والعمل.
- وإما أن يكون فَضْلاً في العمليات والعبادات وأنواع التعامل.
يقابله أهل الجور وهم أهل الظلم، والجَورُ هو الحَيْفْ وهو بمعنى الظلم.
وأهل الظلم:
- تارَةً يكون ظلمهم في حق الله - عز وجل -.
- وتارَةً يكون ظلمهم في حق النبي صلى الله عليه وسلم.
- وتارَةً يكون ظلما في حق العباد أو في حق أنفسهم.
فإذاً هذه المَحَابْ؛ محبة أهل العدل والأمانة وبُغْضْ أهل الجور والخيانة هذه تَبَعْ لمحبة الله - عز وجل - ولبُغْضِه، وأهل العدل يُقَابِلُونَ أهل الجور بهذا المعنى.
إذا تبيَّنَ هذا فإنَّ المتقرر عند أهل السنة أنَّ الله - عز وجل - يُحِبُّ ويُبْغِضْ، وهما صفتان حقيقيتان على ما يليق بجلال الرب - عز وجل -، لا يماثل في محبته وبُغْضِهْ محبة العباد وبغضهم، تعالى ربنا عن ذلك وتقدّس.
والله - عز وجل - يُحِبُّ العبد لما فيه من الصفات الحسنة، صفات الإيمان والعدل والطاعة، ويُبْغِضُ العبد لما فيه من صفات الظلم والطغيان أو المعصية والمخالفة ونحو ذلك.
فإذاً قرَّرُوا أنَّهُ يجتمع في حق المعين في صفات الله - عز وجل - أنّ الله يُحِبُّ العبد من جهة ويبغضه من جهة.
وهذا يخالف قول المبتدعة الذين قالوا: المحبة والبغض شيءٌ واحد، فالله - عز وجل - يُحِبُّ العبد الكافر حال كفره إذا كان سيوافيه على الإيمان، ويُبْغِضُ العبد المؤمن الصالح حال إيمانه إذا كان سيوافيه على الكفر.
وهذا هو المسألة الموسومة بمسألة (الموافاة) عندهم، وهي مسألة المحبة والبغض عندهم أزلي، فالله يُحِبُّ من يُحِبْ مطلقاً ويُبْغِضُ من يبغض مطلقاً، والمحبة عندهم مؤولة بإرادة الخير، والبغض عندهم مُؤَوَلْ بإرادة الخذلان.
إذا تبيَّنَ ذلك فإنَّ المؤمن فيما يُحِبُّ من إخوانه المؤمنين يُحِبُّهُمْ بقدر ما معهم من الإيمان والعدل والأمانة، ويبغِضُ فيهم بقدر ما معهم من الجَوْر والظلم والخيانة.
فالمؤمن تَبَعٌ لمحبة الله - عز وجل - ليس عنده حبٌ كامل أو بغضٌ كامل؛ بل يُحِبُّ بقدر الطاعة ويُبْغِضُ بقدر المعصية، وهذا من العدل حتى في رغبات النفس وفي نوازع القلب.
فإذاً يجتمع في المسلم العاصي الحب من جهة والبغض من جهة، ترى حسناته فتَسُرُّكْ فتحبه، وترى سيئاته فتسوؤك فتبغِضُهُ من هذه الجهة.
فإذاً الحب الكامل لأهل الكمال والبغض الكامل لأهل الكفر، والمؤمن الذي خلط عملاً صالحا وآخر سيئاً فإنه يُحَبُّ من جهة ويُبْغَضُ من جهة.
وهذا أهل السنة والجماعة فيه تبع لما دلت عليه النصوص التي أوجبت موالاة المؤمن ما دام اسم الإيمان باقياً عليه، والبراءة من الكافر ما دام اسم الكفر عَلَمًا عليه.(1/495)
[المسألة الثانية] :
الأمانة والخيانة متقابلان أيضاً، ويُعنَى بالأمانة هنا الوفاء بأمانة التكاليف التي أخذ الله - عز وجل - العهد من آدم عليها في قوله {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب:72] ، وأصح الأقوال في تفسير الأمانة هنا أنها أمانة التكاليف؛ يعني أن يَقْبَلَ أنه يُخَاطَبُ بالأمر والنهي، وبعد ذلك الثواب والعقاب.
والخيانة ضد الأمانة وهي عدم رعاية التكاليف، فَرَجَعَ الأمر إلى أنّ حقيقة الأمانة في معناها الواسع يرجع إلى التكاليف العَقَدِيَة وإلى التكاليف العملية، والخيانة ترجع إلى التكاليف العقدية -خان فيها- وإلى التكاليف العملية.
فالأمر إذاً فيه نوع ترادفٍ في معناه الواسع مع العدل والجور.
فأهل العدل والأمانة بالمعنى الواسع يقابلون كطائفة أهل الجور والخيانة، فهؤلاء يُحَبُّونَ وهؤلاء يُبْغَضُونْ، ومن كان فيه عدل وأمانة وفيه جور وخيانة فإنه يُحَبُّ من جهة ويُبْغَضُ من جهة.(1/496)
قال بعد ذلك رحمه الله (وَنَقُولُ: اللَّهُ أَعْلَمُ فِيمَا اشْتَبَهَ عَلَيْنَا عِلْمُهُ)
_____________________________________________
(نقول) يريد به أتْبَاعْ الأئمة الأربعة وأتباع أهل الحديث والأثر، فإنهم يمتثلون ما أَمَرَ الله - عز وجل - به في أنَّهُمْ لا يقولون على الله ما لا يعلمون، وأنهم لا يَقْفُونَ ما لا يعلمون، امتثالاً لقوله - جل جلاله - {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء:36] ، وقال - عز وجل - في بيان المحرّمات {وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:33] .
فالقول على الله - عز وجل - بلا علم محرم وهو قرينٌ للكفر والشرك؛ لأنَّهُ ما حصل الشرك والكفر وعبادة غير الله - عز وجل - إلا بالقول على الله بلا علم، {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:148] ، فإذاً كل ضلال حصل إنما هو بالقول على الله - عز وجل - بلا علم.
فأهل السنة والجماعة أتباع الحديث والأثر فيهم تَخَلِّي عن أهوائهم وغَلَبَة لأنفسهم وامتثال لأمر الله - عز وجل - وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، فيقولون: الله أعلم فيما لا يعلمون.
ولهذا جبريل عليه السلام -في حديث جبريل في سؤاله للنبي - صلى الله عليه وسلم - الحديث المعروف السؤال عن الإسلام والإيمان إلى آخره- قال عمر رضي الله عنه في آخره لمَّا سأله النبي صلى الله عليه وسلم: «يا عمر أتدري من السائل؟» قال: الله ورسوله أعلم، قال «هذا جبريل جاءكم يعلمكم أمر دينكم» (1) ، فالصحابة رضوان الله عليهم استعملوا هذا الأصل في عهده صلى الله عليه وسلم واستعمله العلماء والأئمة إلى وقتنا الحاضر.
ونذكر مسألتين:
__________
(1) سبق ذكره (9)(1/497)
[المسألة الأولى] :
في قول (اللَّهُ أَعْلَمُ) أفعل التفضيل هنا (أَعْلَمُ) :
- إما أن ترجع إلى المتكلم، يعني نقول: الله أعلم منا أو مني فيما اشتبه علينا علمه.
- أو الله أعلم بحكم هذه المسألة من خلقه.
@ فالأُولى: فيها إرجاع للمتَكَلِّمْ.
@ والثانية: فيها إرجاعٌ إلى الجميع.
وأفعل التفضيل هنا (أَعْلَمُ) ليس معناها اشتراك الجميع في العلم في هذه المسألة؛ لأنَّ العبد إذا لم يعلم شيئاً قال: الله أعلم، ولو أراد (مني) فإنه لا يعني أنَّ عنده علم قليل.
ولهذا صار معنى (الله أعلم) أي الله هو العالم بحكم هذه المسألة فأنا لا أعلم.
وقول (الله ورسوله أعلم) ، لم يذكرها هنا لأنه لا يُقَال الله ورسوله أعلم إلا في حياته صلى الله عليه وسلم، وأما بعد وفاته فلا يقال إلا الله أعلم؛ لأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم انقطع عن دار التكليف ودار الوحي الذي هو العلم الذي ينزل به جبريل عليه السلام عَلَيْهِ.(1/498)
[المسألة الثانية] :
قوله (فِيمَا اشْتَبَهَ عَلَيْنَا عِلْمُهُ) الاشتباه يعني بِهِ وُرُودْ ما لا تَعْلَم مُطْلَقَاً أو فيما تعلم واشتبه عليك هل هو الصواب أم لا.
ولهذا قال العلماء الاشتباه والمتشابهات المراد منها فيما جاء في النصوص {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آل عمران:7] ، وهنا قال (فِيمَا اشْتَبَهَ عَلَيْنَا عِلْمُهُ) المراد بـ: (ما اشتبه، والمتشابهات) المُتَشَابِهْ الإضافي النّسبي لمن قال هذه الكلمة، وأما المُتَشَابِهْ المُطْلَقْ فيما فيه تكليف علماً أو عملاً فإنه لا يوجد في الكتاب والسنة.
فكل ما فيه تكليف في الكتاب أو السنة -تكليف بالأوامر والنواهي- في العلم أو في العمل فلا يكون مُشْتَبِهَاً على الأمة كلها؛ بل قد يشتبه على البعض ويعلمه آخرون؛ لأنَّ الاشتباه الموجود نسبي إضافي بحسب علم العبد، لهذا قد يَرِدُ على العالم أو على من هو أقل علماً أو على الإمام مسائل يشتبه عليه فيها العلم أو لا يعلمها أصلاً.
ترد عليه آية لا يعلم معناها أو مَخْرَجَها، فيسأل عنها، عمر رضي الله عنه سَأَلَ عن آيات، أبو بكر رضي الله عنه جاء عنه أنه قال (أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إذا قلت في كتاب الله ما لا أعلم) (1) ، وعمر رُوي عنه نحو هذه الكلمة وسأل عن تفسير آيات وسُئِلَ، والصحابة لم يزل بينهم إِرْجَاعْ في المسائل إلى بعضهم بعضاً، بعضهم يُرْجِعُ إلى بعض المسائل.
فإذاً هذا أصل في أنّ المرء إذا لم يعلم يقول (الله أعلم) ، ويُحِيلُ إلى غيره ممن يعلم.
الاشتباه هنا كما ذكرت لك قد يكون اشتباهاً في الدليل، وقد يكون اشتباهاً في المدلول:
@ في الدليل: ما عَرَفْتَ وجه الدليل أو المسألة، لا تعرف دليلها أصلاً، ليس معنى ذلك أنها ليست بحق؛ لأنَّ علماء الأمة يعلمون دليلها.
@ في المدلول: يكون الدليل معك؛ لكن وجه الاستدلال يشتبه عليك، فلا تَخُضْ في كتاب الله تفسيراً ببيان وجه استدلال وأنت ليس عندك علم به، فتقول (الله أعلم، هذا هو الدليل لكن إيش وجه الاستدلال الله أعلم.
لهذا الإمام مالك يُذْكَرْ عنه أنه سُئِلَ عن أربعين مسألة أو عن ثلاث وثلاثين مسألة فأجاب عن أربع والبقية قال (الله أعلم لا أدري) .
وهذا من عظيم تعظيمهم لله - عز وجل - وأن يقولوا في دين الله ما لا يعلمون.
وهذا في الحقيقة القاعدة هذه أو هذا الأصل تحتاجه كثيراً في النقاش؛ لأنَّ المرء إذا ناقش غيره قد يأتيه الشيطان ويقول أنت تعلم كل شيء، فيترك لا أعلم ويترك الله أعلم ويترك لا أدري فيقع ويأثم.
وهَدْيُ أهل السنة والجماعة التواضع في العلم كما أنَّهُ التواضع لله - عز وجل - في العلم والعمل، لهذا قال ابن المبارك رحمه الله (إنَّ للعلم طغياناً كطغيان المال) (2) . والله - عز وجل - وصف أهل المال بقوله {كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق:6-8] ، كذلك المرء قد يزداد عنده العلم حتى تُكْسِبَهُ تلك الزيادة طغيانَاً فيَتَعَدَّى على غيره، ولا يسلك مع الناس سبيل الشّرع في العدل في اللفظ وحمل أقوالهم ونحو ذلك مما يجب على المرء أن يعدل فيه؛ لأنَّ من أراد أن يُقَيِّمْ الأقوال فهو قاض، والقاضي يجب عليه أن يحكم بالعدل لا أن يحكم بالهوى {فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعْ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [ص:26] ، والمرء إذا أخطأ (الله أعلم) جاءه كل غلط، تأتيه الآراء الخطأ ويقتنع بها ويُؤَيِّدُهَا ثم يَتَعَصَّبْ لها ثم يحصل فساد من أقواله؛ لكن إذا عَوَّدَ نفسه أن يمتثل هذا الأصل وهو ما لا يعلم يقول (الله أعلم) فُتِحَتْ لقلبه أنوار من العلم، ثم إذا عَلِمَ العلم ثبت عنده بإذن الله تعالى، تَوَاضَعْ لله - عز وجل - ومن تواضع لله - عز وجل - رَفَعَهُ.
هذه بعض الكلمات على هذا الأصل.
أسأل الله - عز وجل - أن يوفقني وإياكم لما فيه رضاه، وأن يغفر لأئمتنا الذين وَرَّثُونَا هذا العلم النافع، وأن يجمعنا بهم في دار كرامته وأن يُورِدَنَا حوض نبيه، إنه سبحانه أكرم مسؤول جوادٌ غفورٌ رحيم.
__________
(1) سبق ذكره (149)
(2) حلية الأولياء (4/55)(1/499)
الأسئلة:
س1/ يقول ذَكَرْتَ أنَّ لفظ (أهل السنة والجماعة) صار عَلَمًا على من اقتدى بالصحابة، وذكرت أنَّ هذا اللفظ يُرَادُ به أهل الحديث والأثر، ألا ترى أنَّ هذه الألفاظ مُحْدَثَةْ ليست على نهج الله، فقد قال الله تعالى {هُوَ سَمَّاكُمْ الْمُسْلِمينَ} [الحج:78] ، فلماذا لا نلتزم بهذا المصطلح القرآني حتى وإنْ صارَ عَلَمَاً على طائفة معينة؟ فلماذا لا نلتزم به ونترك غيرها من المصطلحات الحادثة؟ وجزاكم الله خيرا.
ج/ أولاً قبل الدخول في الجواب استعمال لفظ (المصطلح القرآني) هذا استعمال حادث -والأخ عنده يعني رغبة في الاتِّبَاع-، لفظ المصطلح القرآني أو المصطلحات القرآنية هذه من الألفاظ الحادثة التي مرت قرون الإسلام ولا تعرف هذا اللفظ، وهذا لأنَّ كلمة (المصطلح) تعني اصطلاح، والاصطلاح هو أنْ يكون هناك من اصطلح مع غيره على هذه التسمية.
والله - عز وجل - أنزل القرآن بلسانٍ عربيٍ مبين، فإذاً العلماء يقولون: الدِّلالات القرآنية، الألفاظ القرآنية، المعاني، الآيات، ونحو ذلك مما هو مُسْتَعْمَلْ عند السلف.
أما ما جرى السؤال عليه، فالتأصيل الذي ذكره صحيح، والتطبيق قاصر.
أمَّا التأصيل فهو صواب؛ في أنَّهُ لا يُحدَثُ ألفاظ وأسماء يُجْمَعْ الناس عليها ويَتَعَصَّبُونَ لها، وهي ليست من الألفاظ الشّرعية؛ لأن َّهذا نوع من الفُرْقَةْ والخلاف والافتراق.
ولهذا قال العلماء: الله - عز وجل - سَمَّى أتباع محمد صلى الله عليه وسلم مسلمين ومؤمنين، وَسَّمى منهم المهاجرين، وسَمَّى منهم الأنصار، وسَمَّى منهم الأعراب، وسَمَّى منهم إلى آخره، وهذه التسميات لأجل مجيئها في القرآن فهي شرعية، وهذه التسميات الشرعية إذا تُعُصِّبَ لها مع أنَّهَا شرعية صارت مذمومةً حاشا اسم الإسلام والإيمان.
لهذا لما قام رجل من المهاجرين لأجل خلاف وقال: يا للمهاجرين. ينتخي بهم، وقام غلام من الأنصار فقال: يا للأنصار. ينتخي بهم فقال النبي صلى الله عليه وسلم «أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم» (1) لم؟
لأنَّ النخوة هنا والتَّعَصُّبْ صار لطائفةْ من المؤمنين وللفظٍ ليس هو لفظ الإسلام والإيمان أو المسلمين والمؤمنين فصار هذا مُحْدِثَاً للتفرق، ولهذا قال (أبدعوى الجاهلية) ؛ لأنَّ الجاهلية هم الذين ينتخون ويتعصبون للأسماء دون غيرهم.
فكذلك الأسماء المحدَثَة في الأمة إذا تُعُصِّبَ لها دون غيرها فإنه يكون ذلك مردوداً على أصحابه، مثلاً اسم الحنابلة، اسم الشافعية، اسم المالكية، اسم السعوديين، اسم المصريين، اسم الشرقيين المغاربة الشُّوام إلى آخره، هذه أسماء إذا كانت في الأمَّة لأجل التعريف فإنَّ هذا الأمر فيه واسع؛ لكن إن كان ثَمَّ تَعَصُّبْ عليها وذم لما خالفها لأجل الاسم، أن يمدح الشافعية لأجل أنهم شافعية، أو يذم الحنابلة لأنهم ليسوا بشافعية، أو العكس فإنّ هذا من التعصُّبْ المذموم، وهو من التفرق والأخذ بالشعارات أو الأسماء التي لم يُدُلَّ عليها الدليل.
إذا تَبَيَّنَ هذا الأصل وهو ما ذكره السائل جزاه الله خيرا في سؤاله، فإنَّ لفظ السنة والجماعة لفظان شرعيان قد ثبتا عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي» (2) ، وسنَّتُهُ هي سنته وسنة الخلفاء الراشدين هي ما كان عليه الجماعة في وقت الخلفاء الراشدين، وفي الجماعة قال صلى الله عليه وسلم في الفِرَقْ «كلها في النار إلا واحدة» قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال «هي الجماعة» ، فالله - عز وجل - أَمَرَ باتِّبَاعِ نبيه صلى الله عليه وسلم فقال {وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} [الحشر:7] ، مطلقاً في كل مسألة {وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7] ، مطلقاً في كل مسألة يعني الأخذ بالسنة.
فإذاً الأصل باتباع السنة واتباع الجماعة والثناء على اتباع السنة والثناء على الالتزام بالجماعة، هذا الأصل موجود في النصوص.
جاء في أواخر زمن الصحابة، في عهد عثمان وفي عهد علي رضي الله عنه بدأ خروج أهل الأهواء، وأهل الأهواء وهم الخوارج مثلاً في أول الأمر ثُمَّ الشيعة ثم المرجئة ثم القدرية، هؤلاء أهل الأهواء صارت لهم هذه الأسماء وهم مسلمون لا نُكَفِّرُهُمْ؛ لكن ليسوا آخذين بكل الحق فصار الاسم الذي سُمُّوا به عَلَمًا لهم على ترك بعض الحق والافتراق.
فإذاً تَبَقَّى الطائفة الأولى التي كانت مواصلة للمأمور به من السنة والجماعة يبقون يُقَابَلُونْ، إن قلنا هؤلاء -أعني من مشى على الطريق ولزم السنة والجماعة- هؤلاء هم المسلمون، فماذا نسمي الآخرين؟
نقول: هؤلاء هم المسلمون أيضاً، إذاً لم يَصِرْ فرقاً بين السنة والبدعة وما بين الاتباع والمخالفة ولا ما بين الخارجي والصحابي.
__________
(1) البخاري (4905) / مسلم (6748)
(2) أبو داود (4607) / الترمذي (2676) / ابن ماجه (42)(1/500)
فإذاً لَزِمَ الفَرْقُ، واسم الإسلام من ورع الصحابة رضوان الله عنهم وعدلهم أنَّ الذين قاتلوهم وضَلَّلُوهُمْ لم يُخْرِجُوهم من الإسلام بل أبقوا عليهم اسم الإسلام واسم الإيمان؛ لكن من كان على وَفْقْ ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين تميَّزُوا بالاسم الذي هو الاسم الأصلي وهو أنَّهُمْ أهل السنة وأهل الجماعة، ولا يَصِحْ أن يقال إنهم مسلمون فقط؛ لأنه إن قيل إنهم مسلمون فغيرهم أيضاً مسلمون، وهذا التخصيص لهم هو في الأصل مطابق لقولهم مسلم، ففي عهد النبي صلى الله عليه وسلم المسلم يُقابل المنافق، المؤمن يقابل المنافق، والمسلم هم أهل السنة والجماعة، فلم يكن ثَمَّ فرق في عهده صلى الله عليه وسلم، ولا في عهد أبي بكر ولا في عهد عمر ما بين المسلم وما بين أهل السنة والجماعة؛ الدلالة واحدة، مسلم مؤمن أهل السنة والجماعة الكل واحد لا فرق.
متى ظهر الاعتناء بأهل السنة والجماعة؟
لَمَّا ظَهَر الاختلاف.
والاعتناء بالاسم تمييزاً ليس ثناءً فقط لمن اتبع للسنة والجماعة؛ ولكن هو أيضاً عدل مع من خالف؛ لأنَّ الذي خالف لو قلنا هؤلاء مسلمون لكان ألئك نقول كفار، كيف تُخَصُّونَ أنتم بالمسلمين والآخرون؟
فإذاً صار عند السلف من كان على الطريقة الأولى يقال له أهل السنة والجماعة ومن كان مُخَالفاً يقال له أهل الأهواء المرجئة الخوارج إلى آخر ذلك.
ولهذا أجمع أئمة الإسلام على صحة هذه التسمية من أهل الحديث؛ بل ومن غيرهم من الأشاعرة والماتريدية على أنَّ تسمية أهل السنة والجماعة صحيحة، وهذا اتفاقٌ منهم على ذلك، فالتسمية صحيحة مُجْمَعْ عليها؛ لكن دلالتها مُخْتَلَفْ فيها، والاختلاف في الدلالة لم يرد له ذكر في السؤال، إنما كان السؤال في إحداث الاسم فإيضاحه بما مر، والله الموفق.
س2/ ما يجده المسلم من ميل ومحبة للكافر إذا أحسن إليه كالطبيب والدكتور فهل يؤثر على الولاء والبراء، وكذلك محبة الزوج المسلم لزوجته الكتابية، هل يؤثر على الولاء والبراء علماً بأنه لو أبغضها لما تزوجها؟
ج/ الحب هنا ليس مطلقاً، ما أحب الكافر مطلقاً ولا أحب الكتابية مطلقاً، وإنما أحبَّ ذاك لأجل النفع الذي وصل إليه منهم، وهذا محبة في واقع لنفسه لأمر دنيوي، ولهذا ذكر العلماء أنَّ محبة الرجل لزوجه الكتابية لا بأس به؛ لأنه كما ذكر لو لم يحبها أو يكون لها مودة في قلبه لما أبقاها معه.
لكن المحبة التي هي في الولاء والبراء، لأنَّ الحقيقة الولاء والبراء هي المحبة والبغض:
المحبة لدينه ومن أحب الكافر لدينه فإنه يكفر.
أو المحبة لدنياه مُطلقَاً وهذه مُوادة له لا تجوز ونوع موالاة.
والثالث محبةٌ مُقَيَّدَة لأجل النفع المُقَيَّد الحاصل له منه فهذه فيها سعة لأجل أنَّ النفوس جُبِلَتْ على حب من أحسن إليهم.
والذي ينبغي من جهة الكمال أن يكون تعامل المرء مع الكفار تعاملاً ظاهرياً بالعدل ولا يكون في قلبه ميل لهم ولا مودة لهم، وإنما إذا أحسنوا إليه فإنه يحسن إليهم.
استدل أهل العلم (1) على هذه الصورة الثالثة بحديث أظنه حديث أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها وكانت أمها مشركة وقدمت عليهم في المدينة، فسألت النبي صلى الله عليه وسلم عن أمها قالت: أَأَصِلُ أمي؟ قال: «نعم صِلِي أمك» (2) والصلة المراد بها في هذا الحديث أنها تكرمها إكرام الولد لوالده إذا قدم عليه، وهذا الإكرام لا يخلو؛ بل لابد فيه من مودة.
والاستدلال الثاني وهو استدلال ضمني بأنَّ الله - عز وجل - نهى عن الإحسان إلى المحاربين وأَذِنَ بالصلة والإحسان لمن لم يحارب من الكفار فقال - عز وجل - {لَا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الممتحنة:8،9] ، وقوله هنا {أَن تَوَلَّوْهُمْ} في وصف المحاربين يدل على أنَّ غير المحاربين له نوع موالاة جائزة بالإحسان والمودة الجزئية ونحو ذلك، وهذا واضح بالمقابلة.
المقصود من ذلك أن يعلم أنَّ الولاء والبراء للكافر -يعني للمعين- ثلاث درجات:
1- الدرجة الأولى: موالاة ومحبة الكافر لكفره، وهذا كفر.
الدرجة الثانية: محبته وموادته وإكرامه للدنيا مطلقاً، وهذا لا يجوز ومحرم ونوع موالاة مذموم.
الدرجة الثالثة: وهو أن يكون في مقابلة نعمة أو في مقابلة قرابة، فإن نوع المودة الحاصلة أو الإحسان أو نحو ذلك في غير المحاربين هذا فيه رخصة.
__________
(1) انتهى الوجه الأول من الشريط السادس والثلاثين.
(2) البخاري (2620) / مسلم (2372)(1/501)
وَنَرَى الْمَسْحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ فِي السَّفَرِ وَالْحَضَرِ، كَمَا جَاءَ فِي الْأَثَرِ.
_____________________________________________
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه، أما بعد:
يقول العلامة الطحاوي رحمه الله (وَنَرَى الْمَسْحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ فِي السَّفَرِ وَالْحَضَرِ، كَمَا جَاءَ فِي الْأَثَرِ.)
يريد بذلك أَنَّ أهل السنة والجماعة المتبعين للآثار لا يُعَارِضُون الآثار الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن صحابته الكرام بالأقْيِسَةْ أو بالدِّلالات العقلية، وإنما يجعلونها مُقَدَّمَةً على ما هو دونها من القياس والدلالة العقلية ونحو ذلك؛ لأنَّ منهج الاستدلال عندهم أنْ يُؤْخَذَ بما جاء في الكتاب والحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وما جاء في القرآن حق وما جاءت به السنة حق، والحق يعضد الحق ولا يعارضه أو يناقضه؛ بل هذا يدل على هذا كما السنة تدل على القرآن وتُبَيِّنُهْ.
وهذه المسألة كما هو ظاهر مسألة المسح على الخفين هي من مسائل الفقه لا من مسائل العقيدة؛ ولكن أُدْخِلَتْ في مسائل الاعتقاد لأجل أنَّ أهل السنة تميَّزُوا عن عدد من الفرق بأنَّهُمْ يرون المسح على الخفين، والمخالف في ذلك هم الخوارج -أعني طائفةً منهم- والرافضة وعدد من الناس مختلفون في أماكنهم لا يُنْسَبُونَ إلى فرقة من الفرق.
فلأجل مخالفة تلك الفرق صارت المسألة من المسائل العقدية؛ لأنَّهَا تُمَيِّزْ أهل العقيدة الحقة من الفرق الباطلة، فصارت هذه المسألة وهي المسح على الخفين صارت عَلَمَاً يُفَرَّقُ به ما بين السني وما بين الرافضي والخارجي ونحوهما.
ولهذا فإنَّ مسائل الاعتقاد أعني المسائل التي تُذْكَرْ في العقيدة في مصنفات أهل السنة في الماضي وفي الحاضر على أقسام منها:
1- القسم الأول: ما هو في بيان الأركان الستة.
2- القسم الثاني: ما تميَّز به أهل السنة عن غيرهم في مسائل المعاملة؛ معاملة ولاة الأمر أو معاملة المبتدع أو معاملة العصاة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو التعامل مع صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وزوجاته صلى الله عليه وسلم وهكذا.
3- القسم الثالث: ما هو من المسائل الفُروعية لكن القول بها صار عَلَمَاً لأهل السنة في مقابلة بعض فرق الضَّلالْ، فتُذْكَرْ في العقائد؛ لأنها مَيْزَةٌ لهم في مقابلة الفِرَقْ التي خالفت في ذلك.
4- القسم الرابع: أخلاق أهل السنة وصفاتهم التي تَحَلَّوا بها من العبادة واحتقار النفس والعمل الصالح والأمر والجهاد والدعوة والإحسان إلى الخَلْقْ والتواضع ونحو ذلك من المسائل التي ربما ذكرها بعض الأئمة في مصنفات الاعتقاد.
وهذه المسألة التي ذكرها الطحاوي هنا من القسم الثالث وهي المسائل الفروعية التي صارت عَلَمَاً لأهل السنة في مقابلة بعض الفرق الضالة.
وهاهنا مسائل:(1/502)
[المسألة الأولى] :
في قوله (وَنَرَى الْمَسْحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ) ، كلمة (أرى) و (نَرَى) إذا قالها العالم فيعْنِي بها ما رآه عِلْمَاً وما رآه شرعاً، ليست رَأْيَهُ المجرد عن الدليل بأنواع الأدلة.
وهذا هو الموافق لهذه المسألة ولغيرها، فإذا قال الإمام أَرَى أن يكون كذا فيكون مُعْتَمِدَاً على أحد الأدلة.
وأنواع الأدلة عند الأصوليين ثلاثة عشر دليلاً منها وهو أولها النص من القرآن، والنص من السنة، ثم الإجماع ثم القياس إلى آخر الأدلة المعروفة.
والذي يَرَى هنا في قوله (نرى) المقصود بهم أهل السنة، وهؤلاء منهم أهل الأثر ومنهم بعض الفرق التي تخالف في الصفات، فهذه المسألة -كما ذكرتُ لك- خالف فيها الروافض والخوارج وعدد من العلماء أو من الناس المختلفين في فرقهم.(1/503)
[المسألة الثانية] :
(الْمَسْح عَلَى الْخُفَّيْنِ) جاء في الأثر عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو متواتر لأنه منقولٌ عن نحو ثمانين من الصحابة رضوان الله عليهم، فَنَقْلُهُ من حيث الدّليل بالسنة متواتر، وكذلك نَقَلَهُ فئام من الأمّة؛ بل نقلته الأمة جيلاً بعد جيل بالرؤية وبالعمل، فهو متواترٌ نقلاً ومتواترٌ عملاً.
وأمَّا المسح على الجوارب فليس كذلك؛ لأنَّهُ نُقِلَ عن نحو سبعة أو ثمانية من الصحابة أو أكثر بقليل، ولهذا المسح على الجوربين فيه خلافٌ فقهي معروف عند أهل السنة.
أما المسح على الخفين فهو أصل من الأصول العظيمة في العمل؛ لأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم تواتَرَ عنه المسح وفَعَلَهُ صحابته وتواتر عنهم ونقلوه نقلاً قولياً وعملياً.
والآثار فيها مسحه صلى الله عليه وسلم على الخفين في أسفاره وفي الحضر أيضاً، كما قال صلى الله عليه وسلم «يمسح المقيم يوما وليلة، ويمسح المسافر ثلاثة أيام بلياليهن» (1) ، فهذا معنى قوله في السفر والحضر؛ لأنَّ السُّنَّةَ ماضية في هذا وهذا.
__________
(1) مسلم (661) / النسائي (128) / ابن ماجه (552)(1/504)
[المسألة الثالثة] :
مما أُسْتُدِلَّ به على المسح على الخفين من القرآن قوله - عز وجل - في آية الوضوء {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلِكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة:6] ، أسْتُدِلَّ به على أنَّ المسح هنا -مسح الأرجل- يُرَادُ به المسح على الخفين، والقراءة هكذا بالجر هي أحد القراءتين السبعيَّتَين، هاهنا قراءتان:
- القراءة الأولى {وَأَرْجُلَكُمْ} بنصب الأرْجُل عطفاً على المغسولات.
- والثانية {وَأَرْجُلِكُمْ} عَطْفَاً على الرأس عند أصحاب هذا القول؛ يعني فتكون مجرورة.
وهذا الاستدلال فيه نظر، وإن كان محلُّهُ كتب الفقه؛ لكن من باب الاستطراد نذكره، فيه نظر لأنَّ المسح على الخفين لا يكون إلى الكعبين، وإنما يَمْسَحُ ظاهر الخف على ظاهر القدم، وليست السُّنَّة أن تُسْتَوعَبْ الرجل مسحاً إلى الكعبين، ولهذا صار القول الظاهر في الآية على قراءة الجر أنَّ لها توجيهين:
1- التوجيه الأول: أن يكون هذا الجر لأجل المجاورة، والجر بالمجاورة أسلوب عربي معروف كثير الاستعمال، ومنه قول الله - عز وجل - {إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ} [هود:26] ، مع أنَّ الألم وصف للعذاب، وأما اليوم فهو ظرف ولا يُوصف اليوم بأنه مؤلم أو ليس بمؤلم، ولهذا صار الظاهر هنا في هذه الآية أنَّ معناها إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم، يعني عذاباً أليماً في يوم، كما هو القول الأظهر من قولي العلماء هنا.
وجُرَّ هنا لأجل المجاورة فهي أسهل في اللفظ ولأجل الختام قال {عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ} ، وأما في لغة العرب فهو كثير معروف ومنه قول الشاعر:
فظلّ طُهَاةُ اللحم ما بين مُنْضِجٍ خفيفاً شواءٍ أو قَدِيرٍ مُعَجَّلِ
(ما بين منضج خفيفاً شواء) ؛ لأنها مفعول لاسم الفاعل.
(خفيف شواء) فجر شواء لأنها مضاف إليه.
ثم قال (أو قديرٍ) مع أنَّ حقها أن يقول أو قديراً لأنها معطوفة على ما يُنْضَجْ لكنه جَرَّهَا بالمجاورة.
2- التوجيه الثاني: أنَّ قراءة الجر إذا كانت معطوفة على الرأس فإنه يكون المسح هنا بأنَّ العطف في مقام تسليط الفعل الأول على الجملة الثانية أو على الاسم الثاني.
فكأنه قال: وامسحوا برؤوسكم وامسحوا بأرجلكم إلى الكعبين.
والمسح هنا لما جَعَلَ له غاية وهي أنه إلى الكعبين دلَّ على دخول الكعبين في المسح، وهذا يدل على أنَّ المسح المراد به هنا الغسل الخفيف؛ لأنَّ العرب تُطْلِقُ على الغسل مسحاً لأنَّهُ إمرارٌ خفيف وهو موجودٌ في اللغة، ومنه قوله تعالى {فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ} [ص:33] يعني مَرَّ عليها قتلاً على خفة.
فالمسح يكون بمرورٍ على خِفَّة، فالمسح الذي هو من الغَسْلْ هو غسل خفيف وهو مستعمل عندهم حيث يقولون مثلاً تَمَسَّحْتُ للصلاة إذا أراد أن يكون وضوؤه خفيفاً.(1/505)
[المسألة الرابعة] :
قراءة الجر هذه بأبْعَدَ من أن تكون دليلاً على المسح على الخفين؛ قيل إنَّهَا دليلٌ على إبطال المسح على الخفين، وهذا هو الذي يتوجه إليه من يتكلم على الآية وذَكَرَهُ عندكم الشارح والرَّدُّ بَأَوْجَهْ أن يكون بالوجهين السالفين.(1/506)
قال بعدها (وَالْحَجُّ وَالْجِهَادُ مَاضِيَانِ مَعَ أُولِي الْأَمْرِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، بَرِّهِمْ وَفَاجِرِهِمْ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ، لَا يُبْطِلُهُمَا شَيْءٌ وَلَا يَنْقُضُهُمَا)
______________________________________________
يريد بذلك رحمه الله تقرير مسألة من المسائل الفقهية التي صار القول بها عَلَماً على أهل السنة مُخَالَفَةً للروافض والخوارج أيضاً، وهي أنّ الإمارة والوِلاية يُمْضَى مع أهلها -يعني مع الأمير أو ولي الأمر- في الطاعة والمعروف والحج والجهاد والعبادات جميعاً، سواءٌ أكان براً أو فاجراً، وسواءٌ أكان مطيعاً أم عاصياً، وسواءٌ أكان كاملاً كالخلفاء الراشدين أم كان يخلط عملا صالحاً وآخر سيئاً كغيره.
وذلك لأنَّ الحج عبادة عظيمة يجتمع فيها الخلق الكثير فلابد أن تُقَام عبادةً لله - عز وجل -، ثم لابد أن يكون فيها ولها أمير يُسَيِّرُ الناس وإلا لكانوا فوضى فيما يرون؛ لأنَّ أهواء الناس لا حد لها ولا غاية لها.
والجهاد فيه مقابلة الأعداء والنكاية بهم وإذلال العدو وهذا لا يكون إلا بولاية، والولاية هي التي تُسَيِّرُ هذا الأصل، وبر ولي الأمر أو عدم بِرِّهِ، صلاحه أم فساده هذا يرجع إلى نفسه، وهذه الأمور -أمور العبادات- من المعروف الذي يجب على المسلم أن يطيع فيه ومِنَ البر والتقوى التي يجب أن يتعاون مع ولاة الأمر فيه، كما قال - عز وجل - {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة:2] ، الخطاب لجميع المؤمنين بجميع طبقاتهم.
ونذكرهنا بعض المسائل:(1/507)
[المسألة الأولى] :
أنّ المُخَالِفْ في هذا الأصل هم الروافض والخوارج أو من شابه الخوارج.
* أما الروافض فامتنعوا من الحج والجهاد مطلقاً حتى يخرج المعصوم؛ وهو الإمام الثاني عشر من أئمتهم وهو المدعو محمد بن عبد الله العسكري الذي يزعمون أنه دَخَلَ السرداب وكان صغيراً، دخلت به أمه وهم ينتظرون خروجه، فلم يَحُجُّوا، أو رأوا أنَّ الحج غير قائم، لا يرونه إلا مع معصوم وكذلك الجهاد لا يرونه إلا مع معصوم.
وليتهم أخذوا بهذا وانتظروا خروجه ولم يُشْغِلُوا المسلمين ببدعهم وفتنتهم.
* وأما الخوارج فعندهم أنَّ هذه الأعمال إنما هي تبع للوِلاية، والوِلاية عندهم لا تصلح في مَنْ لم يكن بَرَّاً فلا بد أن يكون الإمام براً صالحاً تقياً كاملاً حتى يُجَاهَدَ معه وحتى يُحَجَّ معه، وإلا نَصَّبُوا لهم أميراً وصاروا يجاهدون معه ويحجون معه ولا يدينون بدين الجماعة، وهذا ظهر منهم في خلافهم لعثمان رضي الله عنه ثُمَّ وفي خلافهم لعلي رضي الله عنه ثُمَّ في قتالهم لخلفاء بني أمية إلى آخره.
وممن يشبه الخوراج في ذلك من لم ير الطاعة -الطاعة في الحج والجهاد وما فيه مصلحة عامة للمسلمين وما هو من البر والتقوى والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر- إلا مع الإمام الصالح الذي ليس عنده فساد أو ليس عنده محرمات.
وهذا قولٌ يُلْحَقُ بأقوال الخوارج؛ لأنَّ الحج والجهاد وكل أنواع المعروف أوْجَبَ النبي صلى الله عليه وسلم الطاعة فيها فقال «إنما الطاعة في المعروف» (1) والمعروف هو ما عُرِفَ في الشرع أنه ليس بمعصية وأعلاه الطاعات التي يُتَقَرَّبُ بها إلى الله - عز وجل -.
__________
(1) سبق ذكره (478)(1/508)
[المسألة الثانية] :
قوله (إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ) هذا المقصود منه إلى قرب قيام الساعة؛ يعني إذا كان يوجد ولي أمر مسلم وجماعة وإمام وأناس يَحُجُّون ويُجَاهدون.
والذي دَلَّتْ عليه الأحاديث أنه يُتْرَكُ ذلك قبل قيام الساعة ولا يبقى في الأرض من يقول الله الله؛ يعني أطع الله أطع الله أو اتق الله اتق الله.
وهذا كثير عند أهل العلم حتى في العقائد يذكرون إلى قيام الساعة، ويريدون به ما يَقْرُبُ مما هو زمن وجود المؤمنين.(1/509)
[المسألة الثالثة] :
قوله (لَا يُبْطِلُهُمَا شَيْءٌ وَلَا يَنْقُضُهُمَا) يعني لا يُبْطِلُ الحج شيء من معصية الولاة ولا ينقض الحج والجهاد مع ولاة الأمر شيء من فجورهم أو نَقْصِهِمْ؛ لأنَّ هذه من العبادات العظيمة فلا تبطل بمخالفة المرء على نفسه؛ بل يجب القيام بها الحج مع المسلمين والجهاد مع المؤمنين بأمرٍ عام.
وهذا الأصل الذي ذُكِر -تذكرونها في أول الكلام- مضى عليه هَدْيُ الصحابة رضوان الله عليهم، فقد حَجَّ عدد من الصحابة أو حَجَّ الصحابة في عهد بعض ولاة بني أمية وكان فيهم من النقص ما فيهم؛ بل أُمِّرَّ الحجاج بن يوسف الثقفي على الحجيج من قبل والي بني أمية -والحجاج معروف بسفكه للدماء وظلمه وعدوانه وعدم رعايته للعلماء ولا لنفوس المؤمنين- مع ذلك أُمِّرَّ على الحج، وكان عالم الحج ابن عمر رضي الله عنه -لأنه كان هدي السلف أن يكون ثَمَّ أمير وثَمَّ عالم يفتي الناس-، فكان ابن عمر هو الذي يُفْتِي الناس، وقيل للحجاج لا تعمل شيئاً من أمور الحج إلا بأمر ابن عمر -يعني في مناسك الحج-، فحج معه ابن عمر وصلى وراءه في حجة الوداع -يوم عرفة أتاه عند زوال الشمس وقال: أُخرج، قال: أفي هذه الساعة يا أبا عبد الرحمن؟ قال: نعم سنة أبو القاسم صلى الله عليه وسلم، فخرج فخطب الناس ثم صلى بهم الظهر والعصر، وكان ممن صلى خلفه ابن عمر وطوائف من الصحابة وسادات التابعين (1) .
فهذا الأصل كثير عند السلف كانوا يفعلونه، وتَلَقَوهُ جيلاً بعد جيل في مُضِيِّ الحج والجهاد مع ولاة الأمر مهما كانت مرتبتهم؛ لأنَّ ذلك فيه إعلام للدين وإعانة على الحق والهدى.
__________
(1) سبق ذكره (450)(1/510)
قال بعدها (وَنُؤْمِنُ بِالْكِرَامِ الْكَاتِبِينَ، فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ جَعَلَهُمْ عَلَيْنَا حَافِظِينَ)
________________________________________________
نؤمن أي نُصَدِّقُ ونعتقد وجود الكرام الكاتبين كما أخبرنا ربنا - عز وجل - بذلك وهم الملائكة الذين كَرَّمَهُم الله - عز وجل - بأنواع التكريم، وجعلهم مُوَكَّلين بابن آدم يكتبون عمله؛ ما يصدر منه من قول أو عمل.
فهؤلاء الذين يُقَارِنُونَنَا من الكَتَبَة نؤمن بهم؛ لأنَّ الله - عز وجل - أخبرنا عنهم وأخبرنا عنهم نبينا صلى الله عليه وسلم.
وهذا فرعٌ للإيمان بموجود الملائكة أصلاً، فهذا تبعٌ لركن من أركان الإيمان وهو الإيمان بالملائكة، وقد مَرَّ معنا أنَّ الإيمان بالملائكة له درجتان:
1 - الدرجة الأولى: إيمانٌ واجبٌ وفرض إجمالي وتفصيلي.
2 - الدرجة الثانية: إيمانٌ بما أخبر الله - عز وجل - مُطلقاً ما علمنا وما لم نعلم، وما جاء في السنة ما علمنا وما لم نعلم، وكل من بلغه شيء وجب عليه الإيمان به.
فالإيمان بالكرام الكاتبين ليس شرطاً في صحة الإيمان، ليس رُكْنَاً في صحة الإيمان بحيث إنَّ من قال ليس ثَمَّ من يكتب من الملائكة، فيُقَال إنه لم يصح إيمانه بل هو كافر، إلَّا إذا عُرِّف بالآيات والأحاديث فأنكر فهنا له حُكْمُ أمثاله من المنكرين ما في الكتاب أو السنة، وإنما الإيمان الذي يتحقق به ركن الإيمان بالملائكة كما ذكرنا لكم، هو أن يؤمن بوجودهم وأنهم يعبدون الله لا يُعْبَدُون.
ثُمَّ الإيمان التفصيلي: فكل من سمع آية أو حديثاً صحيحاً واضحاً فيه الخبر بالغيبيات وجب عليه التصديق بذلك واعتقاد ما دل عليه.
والطحاوي فَرَّقَ الكلام على أركان الإيمان، وكثيرْ من العلماء الذين صَنَّفُوا في العقيدة ما رتَّبُوا الكلام على مسائل الاعتقاد بترتيبٍ منهجي؛ يعني ما جعلوا الكلام على الإيمان بالله وما يتّصل به أولاً ثم بالملائكة ثم بالكتب ثم بالرسل ثم بالقدر ثم باليوم الآخر، ثم انتقلوا إلى القسم الثاني إلى آخره؛ بل فرقوا ذلك.
وهذا راجع إلى ما درجوا عليه من أنَّ المرء يكتب عقيدته بحسب ما يحضُرُهُ من المسائل، ولم يقصدوا فيها الترتيب المنهجي وإلا فمسائل الإيمان بالملائكة الكاتبين أو بملك الموت هذا متصل بإيمان بالملائكة.
وهاهنا مسائل:(1/511)
[المسألة الأولى] :
قوله (وَنُؤْمِنُ بِالْكِرَامِ الْكَاتِبِينَ) إلى آخره، أخَذَهُ من قول الله - عز وجل - {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} [الانفطار:10-12] ، فوصفهم الله - عز وجل - بأنهم حَفَظَة علينا وبأنهم كرامٌ وبأنهم كتبة، والآيات التي تَدُلُّ لهذا الأصل متعددة -يأتي بيان بعضها إن شاء الله تعالى-.
لكن هاهنا على هذه الآية وعلى لفظ الطحاوي رحمه الله: وَصَفَ الله - عز وجل - الملائكة هؤلاء:
- الوصف الأول: بأنهم حَفَظَة على ابن آدم.
- الوصف الثاني: بأنهم كَتَبَة.
- الوصف الثالث: بأنهم يعلمون ما تفعلون.
@ أما الوصف الأول: وهو أنهم حَفَظَة على ابن آدم فَفَرْقٌ ما بين أن يكون حافِظَاً على ابن آدم وما بين أن يكون حافظاً لابن آدم -وسيأتي بيان الفرق في المسائل التي بعدها-، ففي هذه الآية أنهم حَفَظَة على ابن آدم؛ يعني يحفظون على ابن آدم ما يصدر منه.
@ ثُمَّ وَصَفَهُم بوصف ثانٍ: أنهم إذا حَفِظُوا على ابن آدم ما صَدَرَ منه فإنهم يكتبونه في صحُفْ عندهم بأيدي الملائكة، والملك مُوَكَّل بكتابة الحسنات والملك الآخر موكّل بكتابة السيئات.
فإذاً الكتابة منقسمة إلى كتابة للحسنات في صحف والكتابة للسيئات في صحف.
@ الوصف الثالث: أنَّهُ قال {يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} ، والفعل الذي يفعله ابن آدم:
- يكون بقلبه فيشمل أعمال القلوب.
- ويكون بلسانه ويشمل ما يُحَرِّكُ به لسانه ولو لم ينطق به.
- ما يعمله بجوارحه المختلفة من الأيدي والأرجل والفرْج واللسان إلى آخره، فكل ما يعمله بجوارحه أيضاً تَعْلَمُهُ الملائكة.
هذه دلالة الآية.
هل يُكْتَبُ هذا كله؟
ظاهر الآية أنَّ هذا بأجمعه يُكْتَبْ.
وآية سورة (ق) فيها قول الله - عز وجل - {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18] .
{رَقِيبٌ} يراقبه.
{عَتِيدٌ} يعني مُعَدٌّ للحفظ عليه ولمراقبته، فكل شيء -يعني مما يلفظه- يُعْلَمْ فَيُكْتَبْ.
ودلالة آية الانفطار هذه تشمل الأصناف الثلاثة، وهذا هو الصحيح أنَّ الملائكة تكتب أعمال القلوب؛ لأنها أفعال، وتكتب عمل اللسان ونطق اللسان، وتكتب عمل الجوارح؛ وذلك لأنَّ عمل القلب منه ما هو واجب وهو إخلاصه ونيته وتوكله على الله وخوفه ورجاؤه ونحو ذلك، من أعمال القلوب، وهي أعظم العبادات التي يتعبد بها المرء رَبَّه هذه العبادات الجليلة.
ثُمَّ من أعمال القلوب ما يكون من باب إتيان السيئات مِنَ: الهم، أو إرادة السيئة والعزم عليها، أو من المنهيات من سوء الظن بالمسلم، أو سوء الظن بالله - عز وجل -، أو نحو ذلك من الكِبْرْ إلى آخره من المنهيات.
والملائكة يعلمون هذا كله.
وعِلْمُهُمْ به، هل هو لقدرتهم عليه ذاتاً؟ أو لأنَّ الله - عز وجل - أقْدَرَهُمْ عليه لأنهم مُوَكَّلون بهذا الأمر؟
الظاهر هو الثاني؛ لأنَّ الملائكة ليس لهم سلطان على ابن آدم ولا علم بالغيب، وإنما الله - عز وجل - أقْدَرَ هذا الصنف من الملائكة بخصوصه على الإطلاع لأنهم موكلون بالكتابة، والقلب يُحَاسَبْ عليه الإنسان واللسان يُحَاسَبْ عليه وكذلك الجوارح يحاسب عليها.
فإذاً كل هذه تُكْتَبْ وحتى ما يكون من قبيل الهَمِّ الذي يَهُمْ به الإنسان فإنه يُعْلَمْ ويُحفَظْ، ثم هل يُكْتَبُ عليه أو يُكْتَبُ له؟
هذا فيه البحث المعروف لديكم في أنّ «الله تجاوز لهذه الأمة ما حدّثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم» (1) والمقصود بـ (ما حدّثت به أنفسها) ما هو من قبيل الهم أو من قبيل الوسوسة أو من قبيل حديث النفس؛ لكن إذا انْتَقَلَ الهم أو حديث النفس إلى العزم والإرادة على الشرّ صار مُؤَاخَذاً عليه، إذا انتقل حديث النفس أو الهم هذا إلى شرف المكان وهو مكة فإنه يُؤَاخَذُ عليه في قول بعض أهل العلم وهكذا.
فإذاً {يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} هذه عامة يمكن أن يُسْتَثْنَى منها ما تجاوز الله - عز وجل - لهذه الأمة عنه والباقي على عمومه.
وهذا مما يُعْظِمُ الخوف من حركات العبد وفي قلبه ولسانه وجوارحه، ويُعْظِمْ عند العبد المؤمن شأن الاستغفار فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يُحْسَبُ له في المجلس الواحد أنه يستغفر ويتوب إلى الله مائة مرة؛ لأجل عِظَمْ ما يفعله وما تَعْلَمُهُ الملائكة، فإنَّ أشباهنا أعظم وأعظم وأعظم حاجة إلى كثرة الاستغفار والتوبة والإنابة إلى الله - عز وجل -.
__________
(1) البخاري (5269) / مسلم (347)(1/512)
[المسألة الثانية] :
كثير من العلماء عند هذه المسألة -عند ذكر الكرام الكاتبين وعند الآية- يجعلون الكَتَبَة والحَفَظَة شيئاً واحداً، فيجعلون الجميع أربعة ملائكة:
- منهم اثنان للكتابة.
- اثنان للحفظ.
وهذا دَرَجَ عليه كثيرٌ من العلماء في شروحهم حتى شارح الطحاوية عندكم نَسَجَ على هذا المنوال.
وهذا الأمر يحتاج إلى نظر وجمع للنصوص والأحاديث حتى تُنْظَرَ في دلالتها، والذي يظهر لي بنوعٍ من التأمل وليس ببحثٍ مستفيض: أنَّ الملائكة الكتبة غير الحَفَظَة.
فالحَفَظَة يحفظون الإنسان، وأمَّا الكتَبَة فإنهم يحفظون عليه.
الحَفَظَة هم المُعَقِّبَات الذين ذكرهم الله - عز وجل - في قوله في سورة الرعد {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [الرعد:11] ، أوجَهْ التفاسير فيها أنَّ معنى {يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} يعني يحفظونه بأمر الله؛ يعني يحفظونه وحِفْظُهُمْ له بأمر الله لهم أن يحفظوه، وفيه -يعني في الحفظة- قوله صلى الله عليه وسلم «يتعاقبون فيكم ملائكة أربعة بالليل وأربعة بالنهار فيجتمعون» (1) إلى أخر الحديث «فيقول: كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: آتيناهم وهم يصلون وتركناهم وهم يصلون» (2)
: [[الشريط السابع والثلاثون]] :
وهذا الحديث يدل على أنَّ الحفظة هؤلاء يتعاقبون، منهم من يحفظ بالليل ومنهم من يحفظ بالنهار، وأنَّ هؤلاء يلتقون في وقت الصلاة، يعني في هذا الوقت من اليوم ثم يُفَارقون العبد.
وهذا خلاف ما دَلَّتْ عليه الآية الأخرى والأحاديث في وصف الملائكة الكَتَبَة في أَنَّهُم لا يُغَادرون ابن آدم ولا يفارقونه على أيّ حال كان فيها حاشا الجنابة.
فإذاً نقول: الذي يظهر من الأدلة التفريق في الحفظ ما بين الحفظ لابن آدم والحفظ عليه:
- فحفظ ابن آدم هذا عمل الملائكة الذين يتعاقبون؛ المُعَقِّبَات.
- وأما الحفظ عليه فهذا عمل الكَتَبَة.
والكَتَبَةُ اثنان: أحدهما يكتب الحسنات والآخر يكتب السيئات.
وأما الحَفَظَة: فكما قال النبي صلى الله عليه وسلم إنهم أربعة يتعاقبون في الليل والنهار.
__________
(1) البخاري (555) / مسلم (1464)
(2) انتهى الشريط السادس والثلاثون.(1/513)
[المسألة الثالثة] :
الإيمان بالكَتَبَة يقتضي الإيمان بأنَّهُمْ يَكْتُبُون؛ لأنَّ أصل المسألة الإيمان بالملائكة الكَتَبَة، ويقتضي ذلك الإيمان بأنهم يكتبونَ في صحف، وقد جاءت الأدلة في السنة أنَّ منهم من يكتب الحسنات ومنهم من يكتب السيئات.
وربما تنازعوا في كتابة بعض الأشياء فيحكم الله - عز وجل - بينهم.
والكتابة هذه في صحف الملائكة هذه هي التي تُجْمَعْ على العبد، وهي كتَابُهُ الذي يُجْمَعُ معه في عنقه إذا أُدْخِلَ القبر، وهو الذي جاء فيه قول الله - عز وجل - {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} [الإسراء:14] ، وهي الصُّحُفْ التي يُحَاسِبُ الله - عز وجل - العبد بها فَيُقَرِّرُه على ما فيها من أعمال، وفيه أنَّهُ يَسْأَلُهُم ربنا - عز وجل - هل ظَلَمَكُم ملائكتي؟ فيقولون: لا يا رب، يعني بعد أن يُحَاسِبَهُم الرب - جل جلاله -.
وإذا كان كذلك فإنَّ مقتضى الإيمان بالكتابة وأنَّ الإنسان على ما في قلبه يُكْتَبُ له أو عليه، وحركة لسانه يُكْتَبُ له أو عليه، وحركة جوارحه يُكْتَبُ له أو عليه، فإنَّ عِظَمْ الإيمان بهذا الأصل يطلب العبد إلى أَنْ يَجعَلَ صحائفه ليس فيها إلا الخير، وإذا عمل شيئاً من السوء فليُعظْمِ ْالحسنات الماحية وليُعظْمِ الاستغفار الذي يمحو الله - عز وجل - به السيئات.
ولهذا صار من نتائج الاعتقاد الصحيح أنَّ العبد يكون أذل ما يكون لله - عز وجل -، فأصحاب العقيدة الحَقَّة يَذِلُّونَ لله - عز وجل - حتى ولو عَصَوا أو صار عندهم ما صار فإنهم أكثَرُ ذُلَّاً لله - عز وجل -؛ لأنَّ عندهم من الإيمان بالغيبيات واليوم الآخر وبالكتابة وبمعرفة الله - عز وجل - والعلم به وصفاته وما هو عليه - جل جلاله - من نعوت الجلال والكمال ما يوجب عليهم قسراً أن لا يكون في قلوبهم إعراض أو كِبْرْ أو طاعة للشيطان في البعد عن ربهم - جل جلاله -.
ولهذا الوصية للجميع أنّهم إذا عَلَّمُوا العقيدة فإنهم يُعَلِّمُونَهَا لأنَّ صلاح القلب به تَصْلُحْ الأعمال، وهذا واقع.
وأما أهل الكلام وأهل البدع فإنهم يُعَلِّمُونَ مسائل الاعتقاد كمسائل عقلية، مسائل عقلية ينظرون إليها نظراً عقلياً برهانياً، عقلياً أو نقلياً دون نظر في آثار ذلك، ولهذا تجد فيهم من قسوة القلوب ومن قلة العبادة، وترك التواضع، والكِبِرْ إلى آخره من الصفات المذمومة ما فيهم.
بخلاف أهل الحق من أهل السنة والحديث والعبادة، فإنهم ألْيَنْ قُلُوباً لأجل ما معهم من العلم بالله - عز وجل -، وأكثر تواضعاً للخلق، ونفع للعباد وخوف من الله - عز وجل -، لأجل صحة العقيدة أثمرت في قلوبهم وفي أعمالهم.
زادني الله - عز وجل - وإياكم من الهدى وغَفَرَ لنا ما كان منا من نقصٍ أو ضعف أو ذنب أو خطيئة إنّه سبحانه غفور رحيم.(1/514)
قال بعدها (وَنُؤْمِنُ بِمَلَكِ الْمَوْتِ، الْمُوَكَّلِ بِقَبْضِ أَرْوَاحِ الْعَالَمِينَ)
_____________________________________________
مَلَكُ الموت الذي يقبض الأرواح ذَكَرَهُ الله - عز وجل - في القرآن في قوله {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ} [السجدة:11] ، فالإيمان به إيمانٌ بالملائكة وإيمانٌ بما ذَكَرَ الله - عز وجل - وأخْبَرَ به من ملك الموت بخُصُوصِهِ ومن الرُّسُل التي تتوفى نفس المؤمن.
فالإيمان بذلك فرض، والذين يُنْكِرُونَ الغيبيات ربما أنْكَرُوا حقيقة المَلَكْ الذي يقبض الأرواح، ومنهم من يقول: الروح إذا ذهبت فإنها تذهب إلى جسد آخر فَتَحِلُّ فيه، ونحو ذلك من أقوال الحلولية أو التناسخية أو ما أشبه ذلك ممن يرون التَّجَسُّدْ، يعني العودة إلى التَجَسُّد كما يزعمون من أهل القديم والحديث من المنتسبين للإسلام أو من ملل الكفر والضلال.
يريد الطحاوي رحمه الله بهذه الكلمة أن يقول: إنَّ أهل السنة والجماعة مُسَلِّمُونَ للنص فيؤمنون بملك الموت وأنه يقبض الأرواح وأنه مُوَكَّلٌ بها، مُفُوِّضٌ إليه قبض الأرواح، وهذا ظاهر في دلالة الآية على ما ذكرنا.
ونذكر عدة مباحث ومسائل:(1/515)
[المسألة الأولى] :
ملك الموت جاء ذكره مَرَّة مُفْرَدَاً وجاء ذكره في موضع آخر في القرآن مجموعَاً بأنهم رسل في سورة الأنعام في قوله {إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ} [الأنعام:61] ، وهؤلاء الرسل هم أعوان ملك الموت وجنود ملك الموت، فهو لهم كالملك أو كالأمير الذي يأمرهم ويطيعونه، هذا منهم من يقبض نفس فلان ومنهم من يقبض نفس فلان إلى آخره، فقوله - عز وجل - {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ} هو بمعنى قوله {تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا} [الأنعام:61] ؛ لأنَّ ملك الموت ومن معه يمتثلون أمر الله - جل جلاله -.(1/516)
[المسألة الثانية] :
متى يقبضون الروح هل هو بِأَمْرٍ مُجَدَّدٍ من الله - عز وجل -؟ أوإذا انتهى الأجل بما معهم من صُحُفْ بأنَّ أَجَلَ فلان ينتهي بالوقت الفلاني؟ خلاف بين أهل العلم في هذه المسألة.
والذي يظهر هو الأول لأنَّهُم وُكِّلُوا والمُوَكَّلْ يقبض بأمر المُوَكِّلْ وهو الله - جل جلاله -.(1/517)
[المسألة الثالثة] :
قوله (الْمُوَكَّلِ بِقَبْضِ أَرْوَاحِ الْعَالَمِينَ) جاء فيه الآية نَصَّاً أنَّهُمْ مُوَكَّلُون، وهذا لا يعني أنَّ المُوَكِّلَ غائب أو أَنَّ المُوَكِّلَ قاصر؛ ولكنَّ الله - عز وجل - خلق الملائكة وجَعَلَ لهم هذه المهمة وغيرها من المهام للتَّعَبُّدِ لا لِنَقْصٍ في ملكوت الله - عز وجل - أو في صفاته - جل جلاله -؛ بل هو الكامل وله الصفات الكاملة سبحانه ولكن لأجل التَّعَبُّدِ بذلك.
وهذا فيه من الاعتقاد بتصرف الله - عز وجل - في ملكوته في جميع الخلائق ما يطول وصفه، إذا نُظِر إلى سَعَةِ ملك الله وسَعَةِ التصرفات في الملكوت وكثرة الملائكة وأنهم مُوَكَّلُون هذا بكذا وهذا بكذا إلى آخره.(1/518)
[المسألة الرابعة] :
ذكر لك هنا الشارح ابن أبي العز كلاماً طويلاً في الكلام على الأرواح والروح وحقيقتها والنفس والفَرْقُ بينها وبين الروح، وهل الروح مخلوقة الآن، الأرواح مخلوقة أوغير ذلك من البحوث التي هي استطراد، لأجل ذِكْرْ الطحاوي لفظ (أَرْوَاحِ الْعَالَمِينَ) .
وتَبِعَ في ذلك؛ بل نقل نَصَّاً ما فتاوي ابن تيمية في الجزء الرابع من البحث في مسألة الروح والنفس والبحث في الآية {قُلْ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء:85] ، بما يُطَالَعُ ويُسْتَفَاد من كلامه إن شاء الله تعالى.
يعني مباحث الروح ليست من المباحث المهمة في فهم كلام الطحاوي في هذا الموضع.(1/519)
[المسألة الخامسة] :
في قوله (أَرْوَاحِ الْعَالَمِينَ) لفظ (الْعَالَمِينَ) يريد به هنا من له رُوحْ من المُكَلَّفين.
(بِقَبْضِ أَرْوَاحِ العَالَمِينَ) يعني من له روح من المكلفين دون غيرهم، وذلك لِدِلَالَةْ ظاهر الآية على ذلك بقوله {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ} {يَتَوَفَّاكُمْ} الخطاب للمُكَلَّفين من الجن والإنس.
ولفظ (العَالَمينَ) له في القرآن عدة إطلاقات:
1- الإطلاق الأول: وهوالمعروف وهو أنه اسم لكل ما سوى الله - عز وجل -، وهذا هو الذي يُذْكَرْ عند قوله تعالى {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ، يقول العلماء: العالمون اسم لكل ما سوى الله - عز وجل -، فكل ما سوى الله عَالَمْ وأنا واحِدٌ من هذا العالم.
لكن هذا الاستدلال أو هذا التفسير ليس تفسيراً وحيداً؛ يعني ليس إطلاق لفظ (العَالَمينَ) على هذا المعنى فقط، فإنَّ العالمين كلفظ في الكتاب والسنة يطلق على هذا المعنى ويُطْلَقُ إطلاقات أُخَرْ.
2- الإطلاق الثاني: أنَّهُ يراد بـ (العَالَمينَ) الناس الذين تُشَاهِدُهُم، كما في قوله - عز وجل - {أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنْ الْعَالَمِينَ} ، ومعلومٌ أنَّ {الذُّكْرَانَ مِنْ الْعَالَمِينَ} لا يشمل الملائكة لأنهم ليسوا بإناث ولا يشمل الجن لأنهم لا يدخلون في هذا اللفظ.
فقوله {أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنْ الْعَالَمِينَ} يعني به - عز وجل - أو معنى الآية يعني الناس الذين يأتُونَهُم ويَرَونَهُم.
3 - الإطلاق الثالث: يأتي لفظ (الْعَالَمِينَ) ويُرَادُ به أهل الزمان الواحد من الإنس والجن، أهل الزمان الواحد يقال لهم عالمَوُنْ، وهذا يُسْتَدَلُّ عليه بقول الله - عز وجل - {وَلَقَدْ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [الدخان:32] ؛ يعني بهم بني إسرائيل اخْتِيرُوا على العالمين المراد بهم أهل الأرض في ذلك الوقت، أهل ذلك الزمان من الجن والإنس، وقد اختار الله - عز وجل - بني إسرائيل على علم لأنَّهم أصلح ذلك الزمان.
وهذه الإطلاقات الثلاث موجودة أيضاً في السنة.
ومن أهل العلم من يُقَسِّمْ هذا التقسيم ومنهم من يقول إنَّ المراد هو الأول فقط.
وهذا الإطلاق الأول (عَالَمْ) وهو أنَّ كل ما سوى الله - عز وجل - عَالَمْ وأنا واحد من هذا العالم، هذا عامٌّ يُرَادُ به الخصوص في مواضع.
وهذا وَجْهْ هو قوي وواضح؛ يعني أنَّ السياق يَدُلُّ على إخراج بعض ما دل عليه العموم، فقول الله - عز وجل - {أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنْ الْعَالَمِينَ} معلومٌ أنَّهُ لا يدخل فيهم الجن ولا يدخل فيهم من ليس مُشَاهَدَاً لهم إلى آخره، فلم يأتوا كُلَّ ذَكَر وإنما أَتَوا بعض الذكور الذين رَأَوهُمْ، فيكون هذا من العام الذي أُرِيْدَ به الخصوص، كذلك قوله {وَلَقَدْ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} يُرَادُ به العَالَموُن الذين في زمانهم فهذا من العام المخصوص؛ لأنهم لم يُفَضَّلُوا على أمة محمد صلى الله عليه وسلم ولم يُفَضَّلُوا على الملائكة فيكون هذا من العام المراد به الخصوص.
المقصود من ذلك أنَّ قوله هنا (الْمُوَكَّلِ بِقَبْضِ أَرْوَاحِ الْعَالَمِينَ) يُرَادُ به العالَمون الذين لهم روح ومن المكلّفين.
نقف عند هذا إن شاء الله تعالى، ونكمل غَدَاً بإذن الله.(1/520)
وَنُؤْمِنُ بِمَلَكِ الْمَوْتِ، الْمُوَكَّلِ بِقَبْضِ أَرْوَاحِ الْعَالَمِينَ.
وَبِعَذَابِ الْقَبْرِ لِمَنْ كَانَ لَهُ أَهْلًا
_____________________________________________
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه، أما بعد:
قال رحمه الله هنا (وَنُؤْمِنُ ... بِعَذَابِ الْقَبْرِ لِمَنْ كَانَ لَهُ أَهْلًا، وَسُؤَالِ مُنْكَرٍ وَنَكِيرٍ فِي قَبْرِهِ عَنْ رَبِّهِ وَدِينِهِ وَنَبِيِّهِ)
هذه الجملة تقريرٌ لما يجب الإيمان به بما دلّ عليه النص من الكتاب والسنة من أنَّ القبر يُعَذَّبُ أهلُه فيه ويُنَعَّمُ أهله فيه، فما بين مُعَذَّبٍ ومُنَعَّم، وما بين مُعَذَّبٍ دائماً وما بين مُنَعَّم دائماً.
وهذا الأصل في الإيمان بعذاب القبر وبسؤال منكر ونكير وفتنة القبر، قد دَلَّ عليه القرآن والسنة وتظاهرت الأدلة وتواترت من سنة النبي صلى الله عليه وسلم في الدلالة على أنَّ القبر والبرزخ يكون فيه عذاب ويكون فيه نعيم للإنسان المكلَّف على ما يَحْكُمُ الله - عز وجل - به على الميت.
وأصل هذه المسألة في إيرادها في العقائد لأجل أنَّ طائفةً من المعتزلة والجهمية والفلاسفة وأهل الكلام يُنْكِرُونَ عذاب القبر ويُنْكِرُونَ السؤال والفتنة، وذلك لعدم إيمانهم بِدِلَالَةِ السنة والحديث على ذلك، ويتأولون ما جاء في القرآن مما يَدُلُّ على عذاب القبر.
ومن جنس المسائل السابقة فإنّ تقرير هذه المسألة في العقائد له أوجه:
1- الوجه الأول: أنَّ عذاب القبر وفتنة القبر أمرٌ غيبي، والأمور الغيبية مجالها الاعتقاد؛ لأنَّهَا لا تُدرَك بالنظائر ولا تُدرِكها العقول؛ بل تَحَارُ فيها العقول، فيجب الإيمان بها والتسليم على نحو ما جاء في الخبر الصادق في الوحي.
2- الوجه الثاني: أنَّ الأدلة من الكتاب والسنة دَلَّتْ على حصول العذاب في القبر والنعيم فيه، وعلى السؤال والفتنة في القبر، وهذه في كثرتها معنىً تَدُلُّ على تواتر الدليل بثبوت العذاب وأنَّ دار البرزخ محل للنعيم وللعذاب على الإنسان، وإذا كان كذلك فيجب التسليم لما دَلَّ عليه الدليل، فكيف إذا كان متواترا معنىً أو متواتراً لفظاً وهو أعلاه.
3- الوجه الثالث: أنَّ المخالفين خَالَفُوا في هذا ممن يُحَكِّمُونَ العقل ويَرُدُّونَ عَالَم الغيب إلى عَالَم الشهادة، ويقيسون الأمور الغيبية على الأمور المُشَاهَدَة، ويُحَكِّمُونَ العقل فيما جاءت به النصوص في أنَّ هذا يُعْقَلْ وأنَّ هذا لا يُعْقَلْ فيحملونه على العقول.
فلأجل مخالفة الضالين ممن ذكرنا من طوائف من الجهمية والمعتزلة والفلاسفة وأهل الكلام وبعض فقهاء السنة إمَّا في كل المسألة أو في بعضها نَصَّ عليها وصارت من مسائل العقائد التي يُعْلِنُ أهل السنة الإيمان بها وتقرير ما دلت عليه.
وكما ذكر لك الطحاوي هنا أنَّ هذا الإيمان سِمَةٌ لأهل السنة والجماعة المُسَلِّمِينَ للنُّصُوص، وأنه تَبَعٌ لما جاء في الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونَصَّ الطحاوي على الأخبار ولم يذكر الآيات؛ لأنَّ الأخبار متواترة معنىً في الدلالة عليه، وأما الآيات فإنها قليلة وهي مجال للأخذ والتأويل عند من تَأَوَّلَ، والحجة هنا ظاهرة فيما تواترت بها السنة.
فيجب أن يكون على ما أوْرَدَهُ هنا يجب أن يكون الاستدلال قائماً على الكتاب والسنة؛ لكن إن كان المُعَارِضْ يَتَأَوَّلُ أحد الأدلة فإنه يُسْتَدَلُّ عليه بما لا يكون مجالاً لِتَأَوُّلِهِ فيه، وهذا هو الذي صنعه الطحاوي رحمه الله هنا.
والأَدِلَّة التي دَلَّتْ على هذا الأصل من كتاب الله - عز وجل - ومن السنة كثيرة، يمكن أن تُراجَع في كتاب الروح للعلامة ابن القيم أو في شرح ابن أبي العز لهذا المتن، ونذكرمنها:(1/521)
1 - قول الله - عز وجل - لمَّا ذَكَرَ آل فرعون قال {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر:46] .
2 - وقال أيضاً - عز وجل - {سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ} [التوبة:101] .
3 - وقال - عز وجل - أيضاً {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (50) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ} [الأنفال:50-51] .
4 - في آية الأنعام {وَلَوْ تَرَى إِذْ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمْ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ} [الأنعام:93] فقوله - عز وجل - هنا {الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ} هذا متعلقٌ بإخراج الرُّوحِ من بدن الكافر، و {الْيَوْمَ} دِلَالَة على بداية العذاب وهو بداية الحياة البرزخية.
5 - وكذلك من الأدلة في القرآن قول الله - عز وجل - {وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ} [الطور:48] ، ويَعْنِي بـ {عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ} العذاب الأكبر يوم القيامة، وهو ما يكون في البرزخ، وهكذا في أنواعٍ من الأدلة.
وهذه كما ذكرنا لك ربما تَأَوَّلَهَا المُعَارِضُ من الفِرَقِ الضالة؛ لكن كثرتها وظهور كلام السلف فيها يدلّ على أنها في عذاب القبر والبرزخ.
وأما السنة فهي كثيرة جدا منها:
1 - قوله صلى الله عليه وسلم «القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار» (1) .
2 - ومنها «أنَّ المسؤول في القبر إذا أجاب بالإجابة الصائبة فيُفتح له باب إلى الجنة فيأتيه من نعيمها ونسيمها، إلى آخره، وأما الذي لم يُحسن الجواب أو الكافر أو الفاجر أو المنافق فيُفتح له باب إلى النار فيأتيه من حَرِّهَا وسمومها» (2) إلى آخره.
3 - ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم لما مَرَّ على قبرين «إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير بلى إنه كبير» (3) فأثبت أنهما يعذبان.
4 - وذكر صلى الله عليه وسلم أنَّ المسؤول «يُضْرَبْ إذا لم يحسن الجواب بمطرقة أو بمِرْزَبَّةٍ من حديد يسمعها من يليه إلا الجن والإنس» (4) .
5 - وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم «لولا ألا تدافنوا لسألت الله أن يسمعكم من عذاب القبر» (5) .
6 - ومنه أيضاً سؤال النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الجنازة بأنواع الأدعية للميت أن يقيه الله - عز وجل - عذاب القبر، وربما دعا لصغير لم يبلغ الحلم أن يقيه الله عذاب القبر (6) .
والأدلة في السنة على هذا كثيرة جداً كما ذكرنا تبلغ مبلغ التواتر المعنوي المختلف.
فإذاً الأدلة على ذلك من الكتاب متنوعة، ومن السنة متواترة، وهذا يُثبت هذا الأصل العظيم، ويكون فيه أعظم رد على المخالفين من الفِرَقِ الضالة.
إذا تبيَّن ما قرَّرَهُ هنا الماتن نذكر هاهنا عدَّة مسائل:
__________
(1) الترمذي (2460)
(2) المسند (18557)
(3) البخاري (218) / مسلم (703)
(4) أبو داود (4753)
(5) مسلم (7392) / النسائي (2058)
(6) النسائي (1983)(1/522)
[المسألة الأولى] :
قوله (بِعَذَابِ الْقَبْرِ) عذاب القبر اسم (1) لما بعد الموت، وقيل عنه عذاب القبر تَغْلِيباً، وقد يكون عذاباً في القبر وقد يكون عَذَابَاً في غير القبر.
يعني أنَّ من فارَقَتْ روحه جسده فإنَّهُ إمَّا أن يُنَعَّمْ وإما أن يُعَذَّبْ، وغالب الناس من جميع الملل والنِّحَلْ والديانات يُقْبَرون، فلذلك صارت سِمَةً للمسألة اسم نعيم القبر أو عذاب القبر، وإلا فحقيقتها عذاب البرزخ ونعيم البرزخ؛ لأنَّ الحياة المقصود بالتَّنَعُّمِ أو العذاب فيها هي الحياة الثانية وهي الحياة البرزخية.
فالحياة ثلاث:
- الحياة الدنيا.
- والحياة البرزخية.
- والآخرة.
والمقصود هنا الحياة البرزخية ولذلك من دُفِنَ أو من لم يُدْفَنْ وأُحْرِقَ وذُرَّ أو من أُكِل فَتَفَرَّقَتْ أَجْزَاؤُهُ أو مَنْ رُمِيَ في البحر ولم يُقْبَرْ أو إلى آخره، أو من رُفِعَ في مكان ولم يُجْعَلْ تحت الأرض في قبر، فالجميع صاروا إلى حياةٍ برزخية.
فإذاً قول العلماء عذاب القبر أو ما جاء في الدليل في بعض النصوص من تسميته عذاب القبر هذا من باب التغليب؛ لأنَّ غالب الناس يُدْفَنُون.
وقوله هنا (لِمَنْ كَانَ لَهُ أَهْلًا) يعني بِحَسَبِ عِلْمِ الله - عز وجل - فيه، فمن هُوَ أهل للعذاب عُذِّبْ، ومن هو أهل للنعيم صار في نعيم.
__________
(1) انتهى الوجه الأول من الشريط السابع والثلاثين.(1/523)
[المسألة الثانية] :
عذاب القبر مُسَلَّطٌ على الإنسان المُكَلَّفْ، والإنسان المُكَلَّفْ اسْمْ لِرُوحِهِ وجَسَدِهِ، ولذلك الأدلة التي دَلَّتْ على حصول عذاب القبر تتناول الروح والجسد معاً، فالعذاب والنعيم يقع على الروح ويقع على الجسد.
يقع على الروح مُتَّصِلَةً بالجسد بنوع من الاتصال الذي يصلح للحياة البرزخية، ويقع على الروح مُجَرَّدَة، وربما على البدن مُجَرَّدَاً؛ يعني على البدن وحده ونحو ذلك.
ذكر هذا طائفة من العلماء لأجل دِلَالَةْ النصوص على هذا وهذا.
والظاهر أنَّ العذاب والنعيم وما يحصل في البرزخ يقع على الإنسان بروحه وجَسَدِه؛ لكن تَعَلُّقْ الروح بالجسد هنا يختلف، لهذا صار قول أهل السنة والجماعة أنَّ العذاب يقع على الروح وعلى الجسد، وأنَّ النعيم أيضاً في المقابل للروح وللجسد.(1/524)
[المسألة الثالثة] :
المخالف في تَعَلُّقْ الروح بالبدن هنا ربما كان من المنتسبين للسنَّة، فمن المنتسبين للسنة من العلماء من يقول العذاب على الروح والنعيم للروح وأما البدن فإنه لا يُعَذَّبْ ولا يُنَعَّمْ كما ذكرنا، ولهذا صارت أقوال أهل السنة في هذه المسألة؛ يعني المنتسبين للسنة ثلاثة أقوال:
1- القول الأول: قول أهل السنة الذي دَوَّنوه في عقائدهم وقَرَّرَهُ أَئِمَّتُنَا أَنَّ العذاب -كما ذكرنا- والنعيم يقع على الروح والجسد معاً على هذا وهذا.
2- القول الثاني: أَنَّهُ على الروح فقط دون الجسد، وهذا قول طائفة منهم ابن حزم، وطائفة من المعتزلة والأشاعرة وجماعة، هذه إضافة المعتزلة والأشاعرة، وأقوال أهل السنة يدخل فيها ابن حزم.
3- القول الثالث: أَنَّ العذاب والنعيم يكون للروح والبدن ما دام باقياً، وأما إذا تحلل فإنه يكون العذاب والنعيم للروح فقط.
وظاهر الأدلة كما ذكرنا هو الأول وهو الذي قَرَّرَهُ الأئمة وللمسألة تفصيل وردود على ابن حزم وعلى غيره تُطْلَبْ من المطولات.(1/525)
[المسألة الرابعة] :
الروح والبدن ذكر العلماء أن لها أربعة (1) أنواع من التعلق وهو:
1- أنَّ الروح تتعلق بالبدن قبل الولادة وبعد نفخ الروح: وهذا التعلق ناقص ليس للروح فيه إدراكات ولا إحساس، ولهذا الجنين في بطن أمه لا يحصل له بكاء ولا ضحك، إلى آخره من الأشياء التي يُسْتَدَلُّ بها على حصول الإحساس عنده في روحه حيث تعلقت ببدنه.
2- تعلق الروح بالبدن بعد الولادة: والروح تَتَنَمَّى معلوماتها وإدراكاتها مع الزمن، وتوحيدها وضِدُّهُ والشرك مع الزمن، فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه، إذا صُرف عن الفطرة فإنه يكون بالتعليم يَتَنَمَّى هذا في الروح، والبدن يتبع الروح في ذلك، فعنده من الاستعداد ما عند الروح فهو كالآلة وبينهما تَعَلُّق كبير؛ لكن الحياة المحسوسة للبدن من جهة النماء والاستعدادات إلى آخره والرُّوحُ هنا تبعٌ له.
3- تعلق الروح بالبدن في البرزخ: الحياة البرزخية بعكس الحياة الدنيا؛ لأنَّ الروح هنا اكتملت، والبدن في انتهاء، وأما الروح فقد اكتملت، فالحياة للروح والبدن تَبَعْ؛ يَتْبَعُ الروح فيما يختص بالروح، فإذا تَنَعَّمَتْ الروح وَصَلَ إلى البدن من النعيم، وإذا تَنَعَّمَ البدن يحصل ويصل إلى الروح النعيم أو العذاب، ولك أن تقيس ذلك بالحياة الدنيا فإنه في الدنيا يحصل العذاب والنعيم للروح والبدن لا يصيبه ظاهراً عذاب أو نعيم؛ لكن يصل إليه لأجل تَعَلُّقْ الروح به والحياة في البرزخ للروح والبدن تبع؛ لأجل أنَّ النماء لا يكون للبدن بل يكون إلى زوال والروح مُسْتَقرُّها عند رب العالمين.
4 - تعلق الروح بالبدن في الحياة الأخرى: وهي أنَّ الحياة للروح والبدن جميعاً في أكمل تَعَلُّقْ بحيث إنَّ الروح كاملة للبقاء والبدن كامل للبقاء، لا يعطب البدن بحيث يَفْنَى ولا تعطب الروح، فالحياة بينهما كاملة والتَّعَلُّقْ أكمل ما يكون، ولهذا في الحياة الآخرة النعيم والعذاب يقع على هذا وهذا في أكمل حال.
وقد جاء عن بعض السلف في ذكر العذاب أنَّ الروح والجسد اختصما يوم القيامة عند الحساب.
فقال الجسد للروح: أنْتِ أمرتني بالشر، ونهيتني عن الخير.
وقالت الروح للجسد: لو لم تفعل لما صار عليك العذاب.
فاختصما إلى المَلَكْ، فقال: المَلَكْ إنما مثلكما مثل رجلين أعمى لا يَرَى، ومُقْعَدْ لا يستطيع القيام، أتيا على بستان فيه من الثمار، فقال: المُقْعَدْ إني أرى كذا وكذا من الثمار ولكني لا أستطيع الوصول إليه.
وقال الأعمى: إني لا أرى شيئاً ولكني أستطيع الوصول إليه إنْ أرشدتني.
قال له المقعد احملني: وأنا أتناول لي ولك، فالعمل صار بينهما جميعاً.
قال الملك: فكذلك أنتما فلوما حالكما.
وهذا واقع؛ لأنَّ حقيقة الروح والبدن في تَعَلُّقِهِما لا يعلم مداه إلا رب العالمين؛ لهذا وجب التسليم لما دَلَّتْ عليه النصوص في حال الروح وفي حال البدن وفي تَعَلُّقِ هذا وهذا دون أخْذٍ بما يدل عليه العقل المخطئ.
__________
(1) قال الشارح في شرحه للطحاوية بتحقيق أحمد شاكر صفحة 395: فالروح لها خمسة أنواع من التعلق، متغايرة الأحكام:
أحدها: تعلقها به في بطن الأم جنينا.
الثاني: تعلقها به بعد خروجه إلى وجه الأرض.
الثالث: تعلقها به في حال النوم، فلها به تعلق من وجه، ومفارقة من وجه.
الرابع: تعلقها به في البرزخ، فإنها وإن فارقته وتجردت عنه فإنها لم تفارقه فراقا كليا بحيث لا يبقى لها إليه إلتفات البتة، فإنه ورد ردها إليه وقت سلام المسلم، وورد أنه يسمع خفق نعالهم حين يولون عنه وهذا الرد إعادة خاصة، لا يوجب حياة البدن قبل يوم القيمة.
الخامس: تعلقها به يوم بعث الأجساد، وهو أكمل أنواع تعلقها بالبدن، ولا نسبة لما قبله من أنواع التعلق إليه، إذ هو تعلق لا يقبل البدن معه موتا ولا نوما ولا فسادا، فالنوم أخو الموت.
فتأمل هذا يزح عنك إشكالات كثيرة.(1/526)
[المسألة الخامسة] :
عذاب القبر هل هو عامٌّ لجميع فئات الأمة أم هو لبعض الفئات؟ يعني هل يشمل غير المُكَلَّفِين أم إنَّ عذاب القبر ونعيم القبر للمُكَلَّفِين؟
يعني من مات وهو صغير لم يبلغ سن التكليف أو مات وهو مجنون أو إلى آخره، ممن ليسوا محل التكليف، هل يحصل لهم في القبر نعيم أو عذاب؟
والجواب: أنَّ المُتَقَرِّرْ عند أئمة الإسلام أنَّ نعيم هؤلاء إذا لم يجر عليهم التكليف أنهم في ذلك تبع لحال آبائهم، فآباؤهم لمَّا كانوا مسلمين فإنَّ هؤلاء من أهل الجنة، فأطفال المسلمين الذين يموتون هم من أهل الجنة ومن أهل النعيم؛ لأنهم على الفطرة ولم يَجْرِ عليهم التكليف.
والصغير تُكْتَبُ له الحسنات لأنها فَضْلٌ من الله - عز وجل - ونِعْمَةْ، ولا تُكْتَبُ عليه السيئات لأنه لم يَجْرِ عليه القلم، فإذا عمل بحسنة تكتب له ويثاب عليها، وإذا عمل بسيئة فإنه لا يُؤَاخَذُ عليها لأنه لم يجر عليه التكليف، فيكون تَنَعُّمُهُ في القبر هو الأصل؛ لكن قد يُعَذَّبْ كما ثبت في السنة في الموطأ وغيره أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم دعا لصبي أن يقيه الله عذاب القبر (1) ، فهل يكون معنى عذاب القبر هنا العذاب الذي يصيب المكلفين أو هو معنىً آخر؟
اختلف العلماء في ذلك -يعني علماء السنة-:
1- القول الأول: إنَّهُ يُصِيبُهُ العذاب كما يُصِيبُهُ النعيم، والله - عز وجل - أعلم بما كان سيعمل لو كَبُر، وهذا قول طائفة من أهل السنة.
2- القول الثاني: وهو الصحيح الذي عليه أهل التحقيق أنَّ العذاب هنا ليس المراد منه العذاب الذي يصيب الكبار وهو العذاب على السيئات؛ لأنَّ الصغير ومن مات وهو مجنون لم يُكَلَّفْ -يعني جُنَّ وهو صغير ثم كَبُر ولم يُكَلَّفْ وأشباه هؤلاء- فإنهم ليس عليهم سيئات حتى يُعَذَّبُوا عليها؛ لأنَّ هذا الأصل واضح أنَّ القلم لا يجري إلا مع البلوغ.
فإذاً تُفهم أحاديث الدعاء للصغار بأن يقيهم الله عذاب القبر كما دعا النبي صلى الله عليه وسلم لصغير بقوله «اللهم قِهِ عذاب القبر» أنَّ العذاب هنا هو الألم الذي يحصُلُ للمدفون، والألم ليس دائماً في مقابلة سيئات عَمِلَهَا فقد يكون من أنواع الآلام التي الله أعلم بها مما يحصل في القبر كضمته أو أشباه ذلك مما يكون فيه من الموجعات؛ لكن الألم لا يعني العذاب، والقبر والبرزخ عَالَمٌ الله أعلم به.
* لذلك نقول: الصحيح أن يُحمل قول النبي في دعائه لمن لم يجر عليه التكليف «اللهم قِهِ عذاب القبر» على أنَّ المراد الألم والسوء وليس المراد العذاب الذي هو في مقابلة السيئات لأنَّ الصغير لم يجر عليه التكليف.
__________
(1) الموطا (536)(1/527)
قال بعدها (وَنُؤْمِنُ بَسُؤَالِ مُنْكَرٍ وَنَكِيرٍ فِي قَبْرِهِ عَنْ رَبِّهِ وَدِينِهِ وَنَبِيِّهِ)
___________________________________________
منكر ونكير مَلَكَانْ يأتيان الميت ويَسْأَلَانِهِ عن ربه وعن دينه ونبيه.
وقد جاء في ذكر المَلَكَينْ عِدَّةْ أحاديث وهي حسنة أو صحيحة في التنصيص على اسميهما أنهما منكر ونكير، أو الأول المنكَر والثاني النكير.
وقد قال بعض العلماء إنَّ الأول اسمه المُنْكِرْ -على اسم الفاعل- والثاني النَّكِيْرْ، وهذا ليس بصحيح بل هو مُنْكَرْ ونكير يعني أيضاً مَنْكُورْ، مُنْكَرْ في شكله وهيئته، ونكير أيضاً في شكله وهيئته وذلك لأنهما من صِفَتِهِمَا كما جاء في الحديث أنهما شديدان أزرقان يأتيان في صورة لم يألفها الميت (1) .
الإيمان بسؤال منكر ونكير جاءت بها الأدلة في ذكر هذا السؤال وفتنة القبر بأنواعٍ من الذكر في الأخبار فالإيمان بذلك فرض وواجب على ما جاء في السنة.
وطوائف من المعتزلة وأهل الكلام والفلاسفة يُنكِرُونَ فتنة القبر، ويقولون: إنَّ هذه ليست بصحيحة وينفون دِلَالَة الدليل عليها وربما تَأَوَّلَهَا بعضهم وربما رَدَّهَا بعضهم لأنها أخبار آحاد.
وأهل السنة والجماعة قَرَّرُوا ذلك للأسباب التي ذكرت لك سالفاً في أنها:
- أمور غيبية
- أنه دلت عليها النصوص.
- لمخالفة الفِرَقْ أو بعض الفرق الضالة في ذلك.
والأدلة على مجيء المنكر والنكير والسؤال كثيرة في السنة معلومة لا نُطِيل الكلام عليها أو إيرادها، ونذكر بعض المسائل هنا:
__________
(1) الترمذي (1071)(1/528)
[المسألة الأولى] :
أنّ سؤال الملكين يقع عن ثلاثة أشياء:
أولاً: عن ربه.
ثانيا: عن دينه.
ثالثا: عن نبيه.
فيقولون: من ربك؟ ما دينك؟ من نبيك؟
فأمَّا المؤمن المُسَدَّدْ الصالح يُثَبِّتُهُ الله - عز وجل - بالقول الثابت ويقول: ربي الله وديني الإسلام ونبيي محمد صلى الله عليه وسلم.
وأما الفاجر المنافق فإنه يقول: ها ها، ها ها -يعني لا أعلم أو لا يُحْسِنْ الجواب- سمعت الناس يقولون شيئا فقلته؛ يعني لا يُلْهِمُهُ الله - عز وجل - حُسْنَ الجواب ولا يثبته عند السؤال.
والرب المسؤول عنه هنا (من ربك؟) المقصود به المعبود.
(من ربك؟) يعني من تعبد، فالربوبية هنا بمعنى العبادة؛ لأنَّ الربوبية في النصوص تُطْلَقُ ويُرَادُ بها الألوهية في مواضع إذا دَلَّ عليها السياق، وهنا الحال يقتضي أنَّ السؤال ليس هو عن الخالق الرازق المحيي المميت الذي يجير ولا يجار عليه؛ لأنَّ هذه يُقِرُّ بها الجميع، والسؤال عن العبادة لأنها هي محل الابتلاء، فمعنى (من ربك؟) يعني من تعبد؟
ثم سؤال الثاني (ما دينك؟) يعني الذي تدين به، فإن كان يدين بعبادة الله وحده لا شريك له، بالإسلام أخبر بذلك، وإن كان يدين بعبادة الأوثان أخبر عن نفسه فيكون إقراراً على نفسه بعبادة غير الله - عز وجل -، وهكذا في السؤال الثالث.(1/529)
[المسألة الثانية] :
هذا السؤال هل هو مختص بهذه الأمة أم هو لجميع الأمم؟ هذه بَحَثَها العلماء، ولهم أقوال.
والقول الظاهر الصحيح منها أنَّ هذا السؤال لهذه الأمة ولجميع الأمم، فالجميع يُسْأَلُ إذا أُدْخِلَ القبر لأجل عدم ورود التخصيص.
وأما ما جاء في بعض الأدلة من بعض الأحاديث «إنه أوحي إلي أن هذه الأمة تبتلى في قبورها» (1) هذا لا يقتضي التخصيص؛ لأنَّ هذا ليس له مفهوم مخالفة، فإثباته لهذه الأمة لا يعني أنها مخصوصة بذلك.
__________
(1) سبق ذكره (523) برقم 5(1/530)
[المسألة الثالثة] :
سؤال منكر ونكير، هل يكون للكافر أم لمن أجابَ النبي صلى الله عليه وسلم ظاهراً؟، أيضاً اختلف فيها علماء السنة على أقوال.
والصحيح منها أنَّ السؤال -لا نطيل الكلام فيها تجدونها في الكتب المطولة- والصحيح أن السؤال يكون لكل مُكَلَّفْ -من المسلمين المؤمنين، ومن المنافقين، ومن الكفار-، وهذا يدل له ورود لفظ الكافر في بعض روايات حديث البراء فيقول «وأما الكافر أو الفاجر» (1) ، وفيها «أما المنافق أو الفاجر» فَذُكِرَ في الروايات المنافق والفاجر والكافر، وهذه سواء حملناها على ورودها بالمعنى أو أنَّ الجميع محفوظ؛ لكن التخصيص ليس له وجه، فالجميع يُسأل عن هذه المسائل؛ لأنها هي فاتحة ما سيكون بعدها في الحياة البرزخية.
__________
(1) انظر البخاري (1338)(1/531)
قال رحمه الله بعد ذلك (وَالْقَبْرُ رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ، أَوْ حُفْرَةٌ مِنْ حُفَرِ النِّيرَانِ)
____________________________________________
يريد بذلك التصديق والإيمان بما دلت عليه الأحاديث والآيات من أنَّ المقبور يكون في نعيمٍ أو في عذاب وأنَّ قبره إما أن يكون روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار كما جاء في الحديث.
وسبب إيراده أنَّ العقلانيين في مسائل عذاب البرزخ والفلاسفة وطائفة من أهل الكلام ينفون أن يكون القبر جنة أو نار، ويقولون بعقولهم إننا نفتح القبر فلا نجد فيه أثراً لِخُضْرَةْ ولا أثراً لكذا وكذا من النعيم، ونفتح القبر فلا نجد فيه أثراً لنار، ونلمس الأرض من الخارج ولا نجد أثراً لنار، وهذا من جَرَّاءِ قاعدتهم أنَّ عالم الغيب يُقَاس على عالم الشهادة وأنَّ الجميع يمكن إدراك العقول، يقولون: إنَّ خلق الله واحد وهذا وهذا مداره من حيث القياس واحد.
وهذا الأصل الذي أصَّلُوه خلاف ما دَلَّتْ عليه الأدلة من أَنَّ عالم الغيب غير عالم الشهادة، وعالم الملائكة وعالم الجن غير عالم ما نراه، وهكذا في ما لا نراه من المخلوقات فإنَّ قوانينه وسنة الله - عز وجل - فيه تختلف عما نراه.
والحياة البرزخية والعذاب والنعيم والجنة والنار لا يعرف كيف يكون إيصال ذلك إلى الإنسان وإلى الأرض إلا رب العالمين - عز وجل -، ولهذا الواجب أنَّ المسائل الغيبية لا تُحكَّم عليها العقول لأنَّ الله - عز وجل - أخبر بها فيؤخذ بها على ظاهرها، وكما ذكر شيخ الإسلام وابن القيم وشارح الطحاوية وجماعة (بأنّ الشريعة تأتي بما تحار فيه العقول ولا تأتي بما تُحيله العقول) وهذه قاعدة مهمة في نظرك فيما يلتبس عليك، فإنَّ الشريعة تأتي بأخبار غيبية وبأشياء يحار فيها عقل الناظر لكن العقل الصريح الواضح السليم من الأهواء والآفات والذي يطبق القواعد الصحيحة تطبيقاً صحيحاً يخرج بأنَّ العقل لا يُحِيلُ هذه الأشياء؛ لكن يحار العقل في حقيقتها نعم، لأنَّ العقل إنما نَمَا بما شاهد، فالعقل تَنَوَّعَت إدراكاته ونما فيه أشياء بما شاهد {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمْ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ} [النحل:78] ، هذه وسائل الإدراك، فعقل الطفل لم يكن شيئاً فنمت فيه الإدراكات بِما شاهد من القوانين، وأما ما لم يُشَاهد فإنه لم يدركه عقله لأنه لم يشاهده ولم يعرف حقيقته، فلهذا لا يسوغ له أن يَحْكُمَ على ما لم ير بما رأى وبما حَصَّلَهُ من معلومات نشأت معه من صغره إلى أن وصل إلى ما وصل إليه.
وعالم الغيب ليست قوانينه كعالم الشهادة، خذ مثلاً السموات وما فيها وبُعْدَها، وخذ مثلاً الشمس وبُعْدها وكيف تنير الأرض إلى آخره والقمر وحاله والخسوف والكسوف وأنواع ما يحصل، فإنَّ هذه عند من لا يعرف لا يدرك حقيقتها، وربما أدرك بعض الناس حقيقتها فأدركوا قوانين الرب - عز وجل - وسنة الرب - عز وجل - في بعض خلقه.
فإذاً نقول: [.....]
لهذا بنى ابن تيمية كتابه العقل والنقل الذي هو (موافقة صريح المعقول لصحيح المنقول) أو (درء تعارض العقل والنقل) على هذه المسألة، وهي المسألة التي خالف فيها العقلانيون من الجهمية والمعتزلة والفلاسفة إلى آخره وهذه من المسائل التي يذكرونها ويُشَنِّعُونَ أو يُؤَكِّدُونَ عليها.
ولاشك أنَّ كون القبر روضة أو حفرة هذا من عالم الغيب الذي لا يُدْرَكْ والإنسان تراه نائماً بجنبك وهو إما في نعيم أو في تألم وأنت لا تدري؛ بل ربما استغاث وهو نائم بالذي حوله ويسمع كلامه؛ لكنه لا يجاب لأنَّ عالمه ليس فيه إيصال الصوت إلى الآخر، وهكذا في أنواع مما يدل على هذا الأصل.
فإذاً الواجب في هذه المسائل التسليم بالغيبيات بما دلت عليه الأدلة، وأن لا يُقَاس عالم الغيب على عالم الشهادة، وأن لا يَعْتَرِضْ المرء بعقلياته على الشريعة بل يعلم ويُسَلِّمْ بأنَّ العجز عن الإدراك إدراك؛ لأنَّ الله - عز وجل - على كل شيء قدير.(1/532)
قال رحمه الله بعدها (وَنُؤْمِنُ بِالْبَعْثِ وَجَزَاءِ الْأَعْمَالِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَالْعَرْضِ وَالْحِسَابِ، وَقِرَاءَةِ الْكِتَابِ، وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، وَالصِّرَاطِ وَالْمِيزَانِ) .
_________________________________________
قوله (وَنُؤْمِنُ بِالْبَعْثِ) هذا ركن من أركان الإيمان، فَرْضٌ الإيمان به، ولا يصح إيمانُ أحد ولا إسلامه حتى يؤمن باليوم الآخر، فمن أنكر البعث أو اليوم الآخر فإنه كافر بالله - جل جلاله -، فالإيمان بالبعث ركن من الأركان؛ وهو أنَّ الناس لهم يوم يعودون فيه إلى الله - جل جلاله -.
وهذا الإيمان باليوم الآخر له تفاصيل هي التي ذَكَرَ بعضها هنا بأنه إيمان ببعث الناس؛ يعني بقيامهم من قبورهم وإرجاع أرواحهم إليهم، وإيمان بجزاء الأعمال، وإيمان بالعرض، وإيمان بالحساب، وإيمان بقراءة الكتاب، وإيمان بالثّواب، وإيمان بالعقاب، وإيمان بالصراط، وإيمان بالميزان، وإيمان بالجنة، وإيمان بالنار إلى آخره.
فحقيقة الإيمان باليوم الآخر أنه إيمانٌ بحصول ذلك اليوم ورجوع الناس إلى ربهم، ثم إيمانٌ تفصيلي بكل ما يجري في ذلك اليوم.
وهذا واجِبٌ الإيمان به لمن سمع النص والدليل في كل مسألة من مسائل ذلك اليوم.
وهذه التي ذَكَرَ كُلُّهَا دَلَّتْ عليها الأدلة، فجزاء الأعمال يوم القيامة الأدلة كثيرة فيه في القرآن {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:17] ، {الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية:28] ، {هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية:29] ، والآيات تعلمونها كثيرة جداً في هذا الباب؛ بل بعد ذِكْرِ توحيد الله - عز وجل - والإيمان برسوله صلى الله عليه وسلم أكثر ما في القرآن من التقرير تقرير الإيمان بالبعث ورجوع الأجساد؛ لأنَّ أكثر مخالفة المخالفين في هذا الأصل العظيم؛ يعني من المشركين يخالفون في البعث وما يجري مجراه.
ونذكر هنا مسائل فيها تفصيل لهذه الجمل:(1/533)
[المسألةالأولى] :
قوله (نُؤْمِنُ بِالبَعْثِ وَجَزَاءِ الأعْمَالِ) لمَّا عَطَفْ دَلَّ على أنه يريد بالبعث بعض ما يكون في اليوم الآخر، وهو بعث الناس من قبورهم.
والذي دلّت عليه الأدلة أنَّ الله - عز وجل - يأمر المَلَكْ فينفخ في الصور نفخة الصعق فيَصْعَقْ الناس وتموت الخلائق، ثم تمضي أربعون بعد النفخة الأولى ثم يأمر الملك فينفخ نفخة ثانية -وقبلها يأمر الله - عز وجل - الأرواح فتجتمع في الصور الذي ينفخ فيه الملك-، فينفخ فتذهب الأرواح جميعاً من هذا القرن العظيم، والذي ينفخ فيه إسرافيل، فتذهب الأرواح إلى الأجساد، روح كل إنسان إلى جسده.
قبل هذا فيما بين النفخة الأولى والنفخة الثانية تحصل أشياء حتى تحصل حياة الإنسان من جديد وهي أنَّ الله - عز وجل - يُغَيّر الأرض ويُغَيّر معالمها، وتُسَيَّر الجبال وتُدَكْ، والأرض تكون مستوية وتُعَدْ لمسير الناس إلى أرض محشرهم، ويُمْطِرُ الله - عز وجل - مطراً تنبت منه الأجساد شيئاً فشيئاً حتى تتكامل، وتُخرج الأرض أثقالها من المدفونين، ثم بعد ذلك تكون الأجسام كالأشجار بلا أرواح.
فينفخ إسرافيل فتعود الأرواح فتهتزُّ تلك الأجسام فإذا هم قيام ينظرون.
هنا يعني هو الظاهر من مراد الطحاوي بالبعث، يعني قيام الأجساد من القبور.
وهذا الأدلة عليه في الكتاب والسنة كثيرة كقوله - عز وجل - مثلاً في القرآن {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ (68) وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا} [الزمر:68-69] ، وكقوله - عز وجل - {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنْ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ (51) قَالُوا يَاوَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَانُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ} [يس:51-52] إلى آخره، وكقوله {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَانِ وَفْدًا (85) وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا} [مريم:85-86] ، ونحو ذلك من الأدلة، ثم بعد البعث يسير الناس إلى محشرهم.(1/534)
[المسألة الثانية] :
في قوله (جَزَاء الْأَعْمَالِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) الجزاء المراد به المُجَازَاةْ؛ يعني أنهم يُجْزَونَ على أعمالهم الصالحة ويُجْزَونَ على أعمالهم السيئة، على هذا وهذا.
والجزاء لا يكون بعد البعث مباشرة؛ بل يكون متأخراً، ولهذا الطحاوي هنا لم يُرَتِّبْ ما يحصل يوم القيامة الشيء بعد الشيء مما يكون في ذلك اليوم العظيم، وإنما قَدَّمَ وأَخَّرْ بحسب أغراضٍ له في ذلك-يأتينا الترتيب إن شاء الله في مسألة لاحقة-.
الجزاء بمعنى المجازاة {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} يعني بعد أن يُقَرَّرَ على أعماله ويحاسب والوزن إلى آخره يُجْزَى المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته.(1/535)
[المسألة الثالثة] :
في قوله (الْعَرْض) العرض جاء في الأدلة ذِكْرُهُ نصاً ومعنىً كقوله - عز وجل - {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ (18) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ} [الحاقة:18-19] الآيات {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ} هذا العرض.
وكذلك ما جاء في السنة من قوله صلى الله عليه وسلم «عرضتان جدال ومعاذير» (1) .
فالعرض على الرب - عز وجل - كثير في القرآن وفي السنة {وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفّاً} [الكهف:48] ونحو ذلك.
العرض معناه: أنْ يُعْرَضَ المُكَلَّفْ وأن يُعْرَضَ عمل المكلف.
فهناك عرْضٌ للمُكَلَّفِين على رب العالمين، ثُمَّ رب العالمين يَعْرِضُ أعمال كل مُكَلَّفْ عليه.
ومعنى العرض أنه يُقَالُ له: عملت كذا في يوم كذا، يعني يعرض عليه أنه عملت وعملت وعملت إلى آخره، فيُعْرَضُ الإنسان ويُعْرَضُ عمله بحيث يراه، وقد يُجَادِلْ وقد يعتذر إلى آخره ثم يكون بعد ذلك الكتاب والحساب إلى آخره.
__________
(1) الترمذي (2425) / ابن ماجه (4277)(1/536)
[المسألة الرابعة] :
في قوله (الْحِسَاب) الْحِسَاب المقصود منه المحاسبة، يعني بعد أن يقرأ الكتاب فإنه يُحَاسَب هذا خير سَتُجْزَى عليه وهذا شرٌ سَتُجْزَى عليه، يحاسب الله - عز وجل - المؤمن حسابَاً يسيراً، ويحاسب الكافر والمنافق حساباً عسيراً.
والحساب من حيث هو تقريرٌ للعمل مع الجزاء والعقاب هذا يكون بعد أخذ الكتاب وقبل أخذ الكتاب؛ لأنَّ حقيقة المحاسبة أنَّ الله - عز وجل - يُحَاسِبُهُم على ما عَمِلُوا بعرض ما عملوا من خيرٍ أو شر، وهذا يكون بالشهادة عليه من جسده ومن الكتاب، ويكون قبل ذلك بذكر الله - عز وجل - له.
وهذا كله يحصل في سرعةٍ خاطفة، كما قال - عز وجل - {وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ} [الأنعام:62] قال علماء التفسير: يحاسب الخلائق في ساعة، جميع الخلائق في ساعة {وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ} ؛ يعني تكون المحاسبة بسرعة لهذا وهذا جميع الخلائق.(1/537)
[المسألة الخامسة] :
في قوله (وَقِرَاءَةِ الْكِتَابِ) ويعني بالكتاب الصحف التي كُتِبَتْ فيها أعماله وهو الكتاب الذي يلقاه العبد يوم القيامة منشوراً {وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا (13) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} [الإسراء:13-14] (1)
: [[الشريط الثامن والثلاثون]] :
وهذا الكتاب هو الصحف.
والصحف هذه تُنْشَرْ للإنسان وتُوَزَع على الناس في الموقف؛ يعني أنَّ الناس في ذلك الموقف تُنْشَر لهم السِّجِلَّاتْ والكتب، ويُؤْمَرُون بأخذها وتتطاير أيضاً إليهم؛ يعني على اختلاف الصفات فمن آخذٍ كتابه بيمينه وآخذٍ كتابه بشماله وراء ظهره.
فقِرَاءَةْ الكتاب، العبد يَقْرَأ والله - عز وجل - يُقَرِّرْ العبد على ما عَمِلْ حتى يكون عليه شاهداً.
__________
(1) انتهى الشريط السابع والثلاثون.(1/538)
[المسألة السادسة] :
في قوله (وَالثَّوَاب وَالْعِقَاب) يعني بعد الوزن؛ لكن هنا أراد الإيمان بأنَّ هذه الأشياء حاصلة لأجل ورود الدليل بها؛ بل معنى البعث إنما هو حصول الثواب والعقاب، فحَقِيْقَةْ معنى يوم البعث واليوم الآخر أن يُثَابْ المطيع وأن يُعَاقب الكافر.(1/539)
[المسألة السابعة] :
في قوله (الصِّرَاط) الصراط هو الطريق، والصراط طريق موضوع على ظهر جهنم؛ يعني فوقها -فوق جهنم-، وهو طريق يُوصِلُ من العَرَصَات من أرض المحشر إلى ساحات الجنة؛ يعني ما قبل دخول الجنة.
وهذا العبور على الصراط هو المذكور في قوله {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا (71) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا} [مريم:71-72] .
والصراط جاءت صفته في السّنّة، وجاء ذِكْرُهُ مُجملاً في القرآن.
أما صفته في السنة فإنه: دقيق جداً وطويل، وأنَّ على جَنَبَاتِهِ كلاليب تخطَفُ من قضى الله - عز وجل - أن يكون من أهل النار، وأنَّ الناس في العبور عليه يخافون خوفاً شديداً، فالأنبياء يقولون قبل العبور اللهم سَلِّم سَلِّم.
ودون هذا الصراط ظُلْمَةْ لا يَتَبَيَّنْ أحد ممن يريد أن يعبر طريق الصراط إلا المؤمنين بما فيهم العصاة.
وأما الكافرون والمنافقون فإنهم يجتمعون في الظلمة ويسيرون ويتهافتون في النار تهافت الجراد.
وغير ذلك مما جاء في وصفه وأنه أَدَقُّ من الشعرة وأحَدُّ من السيف، إلى آخره.
وهذه الصفات أنكرها المعتزلة وأنكرها العقلانيون والفلاسفة، وقالوا: هذه لا يُعْقَلْ أن يكون الطريق من صفته كذا وكذا.
وإذا كان هذا الأمر قد جاء عن المصطفى صلى الله عليه وسلم وثَبَتَتْ به السنة فالإيمان به واجب على نحو ما ورد على ما ذكرنا لكم من أنَّ عالم الغيب لا يقاس على عالم الشهادة.(1/540)
[المسألة الثامنة] :
في قوله (الْمِيزَان) الميزان ذَكَرَهُ الله - عز وجل - في كتابه وجاء في السنة وصفه وذِكْرُهُ، فالإيمان به واجب.
والميزان حقيقةً وليس هو العدل كما تقوله المعتزلة؛ لأنَّ المعتزلة أنكروا حقيقة الميزان -كما سيأتي-، وقالوا: الميزان هو العدل مطلقاً، الله يحاسبهم بالعدل.
والله - عز وجل - بَيَّنْ أنَّ الميزان يوزن فيه العمل ولو كان مثقال ذرة، قال - عز وجل - {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء:47] ، وقال - عز وجل - {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ (8) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ} [المؤمنون:102-103] الآية، وقال - عز وجل - {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ} [الأعراف:8] ، الآية التي ذكرت لكم في الأعراف ونحو ذلك من الآيات التي فيها ذكر الوزن والموازين.
والميزان هنا أفرده قال (وَالْمِيزَانِ) وهو قولٌ لكثيرٍ من العلماء بأنه يوم القيامة ليس ثَمَّ إلا ميزان واحد، وأنَّ الجمع هنا في بعض الآيات في قوله {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} أنَّ هذا على تعدد الموزونات وليس على تعدد الموازين.
والصحيح أنَّ الموازين متعددة لأنَّ الله - عز وجل - جَمَعَهَا فقال {نَضَعُ الْمَوَازِينَ} وهذا ظاهِرٌ في إرادة الموازين حقيقة وليست الموزونات؛ لأنَّ الموزونات لا يقال عنها إنها تُوضَعْ، قال {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} والموزونات لا توصف بأنها تُوضَعْ ولا تُوصَفْ بأنها قسط أيضاً.
فإذاً {الْقِسْطَ} يعني العادلة التي لا تظلم في الوزن هذه متعددة على ظاهر الآية.
وجاء في السنة أنَّ الميزان له كِفتان: كفة توضع فيها السيئات وكفة توضع فيها الحسنات، فمن ثقلت كفة حسناته أفْلَحْ وأَنْجَحْ ودَخَلَ الجنة، ومن ثقلت كفة سيئاته فهو مُعَرَّضٌ لوعيد الله - عز وجل -.
قال بعض العلماء من السنة في عقائدهم: إنَّ الميزان له كفتان وله لسان.
وكون الميزان له لسان كما ذكره ابن قدامة في اللمعة وذكره غيره، هذا لا أحفظ فيه دليلاً واضحاً -أو ما اطَّلَعْتُ فيه على دليل واضح-؛ لكن أخذوه من أنَّ ظاهر الوزن في الرُّجْحَان يتبين باللسان، فأَعْمَلُوا ظاهر اللفظ وجعلوا ذلك مثبتاً لوجود اللسان، فينبغي أن تكون محل بحث.
الذي يوزن في الميزان ثلاثة أشياء:
1 - يوزن الإنسان نفسه كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لما ضَحِكُوا من دقة ساقي عبد الله بن مسعود قال «أتضحكون من دقة ساقيه، والذي نفسي بيده لهما في الميزان يوم القيامة أثقل من أحد» (1) .
2 - ويوزن أيضاً العمل، فالعمل الصالح يُوضَع في كفة، والعمل السيئ يوضع في كفة.
3 - ويوزن أيضاً صحائف العمل، الصحائف التي تُكْتَبُ فيها الأعمال توزن.
وهذا من عِظَمِ عدل الله - عز وجل - وعِظَمِ إرادته أن يقطع عن العبد العذر، وأن يكون حجة العبد عليه من نفسه وعمله وصحائف عمله.
__________
(1) المسند (3991) / ابن حبان (7069)(1/541)
[المسألة التاسعة] :
وهذه المسألة في ترتيب هذه الأشياء يوم القيامة، وهي مسألة مهمة.
فإنَّ ما يحصل يوم القيامة وما يكون فيه الذي جاء في الكتاب والسنة أشياء كثيرة، مثل ما ذَكَرْ قيام الناس، الحوض، الميزان، الصحف، الحساب، العرض، القراءة، تطاير الصحف، الكتاب، الصراط، الظلمة، وهذه أشياء متنوعة، فكيف ترتيبها؟
الظاهر والذي قرَّرَهُ المحققون من أهل العلم أنَّ ترتيبها كالتالي:
1 - إذا بُعث الناس وقاموا من قبورهم ذهبوا إلى أرض المحشر، ثم يقومون في أرض المحشر قياماً طويلا، تشتد معه حالهم وظمؤُهُم، ويخافون في ذلك خوفاً شديداً؛ لأجل طول المقام ويقينهم بالحساب وما سيُجري الله - عز وجل - عليهم.
2 - فإذا طال المُقام رَفَعَ الله - عز وجل - لنبيه صلى الله عليه وسلم أولاً حوضه المورود، فيكون حوض النبي صلى الله عليه وسلم في عرصات القيامة إذا اشتد قيامهم لرب العالمين في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة.
فمن مات على سنّته غير مًغَيِّرٍ ولا مُحْدِثٍ ولا مُبَدِّلْ وَرَدَ عليه الحوض وسُقِيَ منه فيكونُ أول الأمان له أن يكون مَسْقِيَاً من حوض نبينا صلى الله عليه وسلم، ثم بعدها يُرْفَعُ لكل نبي حوضه، فيُسْقَى منه صالح أمته.
3 - ثم يقوم الناس مُقاماً طويلاً ثم تكون الشفاعة العظمى -شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم- بأن يُعَجِّلَ الله - عز وجل - حساب الخلائق في الحديث الطويل المعروف أنهم يسألونها آدم ثم نوحاً ثم إبراهيم إلى آخره، فيأتون إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويقولون له: يا محمد، ويصِفُونَ له الحال وأن يقي الناس الشدة بسرعة الحساب، فيقول صلى الله عليه وسلم بعد طلبهم اشفع لنا عند ربك، يقول «أنا لها، أنا لها» ، فيأتي عند العرش فيخر فيحمد الله - عز وجل - بمحامد يفتحها الله - عز وجل - عليه، ثم يقال: يا محمد ارفع رأسك وسل تُعْطَ واشْفَعْ تُشَفَّعْ. فتكون شفاعته العظمى في تعجيل الحساب. (1)
4 - بعد ذلك يكون العرض -عرض الأعمال-.
5 - ثم بعد العرض يكون حساب.
6 - وبعد الحساب الأول تتطاير الصحف، والحساب الأول من ضمن العرض؛ لأنه فيه جدال ومعاذير، ثُمَّ بعد ذلك تتطاير الصحف ويُؤْتَى أهل اليمين كتابهم باليمين وأهل الشمال كتابهم بشمالهم فيكون قراءة الكتاب.
7 - ثم بعد قراءة الكتاب يكون هناك حساب أيضاً لقطع المعذرة وقيام الحجة بقراءة ما في الكتب.
8 - ثم بعدها يكون الوزن، الميزان، فتوزن الأشياء التي ذكرنا.
9 - ثم بعد الميزان ينقسم الناس إلى طوائف وأزواج؛ أزواج بمعنى كل شكل إلى شكله، وتُقَامْ الألوية -ألوية الأنبياء- لواء محمد صلى الله عليه وسلم، ولواء إبراهيم، ولواء موسى إلى آخره، ويتنوع الناس تحت اللواء بحسب أصنافهم، كل شَكْلٍ إلى شكله.
والظالمون والكفرة أيضاً يُحْشَرُونَ أزواجاً يعني متشابهين كما قال {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الصافات:22-23] ؛ يعني بأزواجهم يعني أشكالهم ونُظَرَاءَهُمْ، فيُحْشَرْ علماء المشركين مع علماء المشركين، ويُحْشَرْ الظلمة مع الظلمة، ويُحْشَرْ منكري البعث مع منكري البعث، ويُحْشَرْ منكري الرسالة وهكذا في أصناف.
10 - ثُمَّ بعد هذا يَضْرِبُ الله - عز وجل - الظُّلمة قبل جهنم والعياذ بالله، فيسير الناس بما يُعْطَونَ من الأنوار، فتسير هذه الأمة وفيهم المنافقون، ثُمَّ إذا ساروا على أنوارهم ضُرِبَ السُّور المعروف {فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ (13) يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى} [الحديد:13-14] الآيات، فيُعْطِيْ الله - عز وجل - المؤمنين النور فيُبْصِرُون طريق الصراط، وأما المنافقون فلا يُعْطَون النور فيكونون مع الكافرين يتهافتون في النار، يمشون وأمامهم جهنم والعياذ بالله.
11 - ثم يأتي النبي صلى الله عليه وسلم أولاً ويكون على الصراط، ويسأل الله - عز وجل - له ولأمته فيقول: «اللهم سلّم سلم، اللهم سلّم سلم» . فَيَمُرْ صلى الله عليه وسلم وتَمُرُّ أمته على الصراط، كُلٌ يمر بقدر عمله ومعه نور أيضاً بقدر عمله، فيمضي مَنْ غَفَرَ الله - عز وجل - له، ويبقى في النار يسقط في النار في طبقة الموحّدين من شاء الله - عز وجل - أن يُعَذبه.
ثم إذا انتهوا من النار اجتمعوا في عَرَصَات الجنة يعني في السّاحات التي أعدها الله - عز وجل -؛ لأن يُقْتَصَّ أهل الإيمان بعضهم من بعض ويُنْفَى الغل حتى يدخلوا الجنة وليس في قلوبهم غل.
12 - فيدخل الجنة أول الأمر بعد النبي صلى الله عليه وسلم فقراء المهاجرين، فقراء الأنصار إلى آخره ثم فقراء الأمة، ويُؤَخَرْ الأغنياء لأجل الحساب الذي بينهم وبين الخلق ولأجل محاسبتهم على ذلك.
إلى آخر ما يحصل في ذلك مما جاء في القرآن العظيم.
__________
(1) حديث الشفاعة في البخاري (4476) / مسلم (495)(1/542)
أسأل الله - عز وجل - أن يجعلني وإياكم من أهل الجنة، وأن يعيذنا من سَخَطِهِ والنار.
اللهم لَقِّنَّا حُجَّتَنَا في القبور واجعلنا ممن يأخذه كتابه باليمين وتُحَاسِبُهُ حساباً يسيراً يا أكرم الأكرمين.
أسأل الله - جل جلاله - لي ولكم ولأحبابنا جميعاً ولمن له حق علينا المغفرة والرضوان، وأن لا يؤاخذنا بسيئات أعمالنا وأن يغفر لنا ذنوبنا فإنه سبحانه أهل للجود والكرم والمغفرة والرحمة.
سبحانك اللهم وبحمدك اشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.
وصلى الله وسلم بارك على نبينا محمد.(1/543)
وَالْجَنَّةُ وَالنَّارُ مَخْلُوقَتَانِ، لَا تَفْنَيَانِ أَبَدًا وَلَا تَبِيدَانِ
____________________________________________
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، اللهم نسألك العلم النافع والعمل الصالح، اللهم هيئ لنا من أمرنا رشدا، ومُنَّ علينا بحسن الختام، وقنا الشر وأسبابه، إنك على كل شيء قدير.
قال رحمه الله (وَالْجَنَّةُ وَالنَّارُ مَخْلُوقَتَانِ، لَا تَفْنَيَانِ أَبَدًا وَلَا تَبِيدَانِ)
يريد بذلك أن يُقَرِّرَ ما دلَّ عليه كتاب الله - عز وجل - وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم مِنْ أنَّ الجنة موجودة اليوم، وأنّ النار موجودة وأنَّ الجنة مخلوقة قبل خلق آدم والنار موجودة خَلَقَهَا الله - عز وجل - كما خَلَقَ الجنة وخَلَقَ لها أهلاً كما قال (وَخَلَقَ لَهُمَا أَهْلًا) .
وهذا الأصل قُرِّرَ في العقائد لأجل ما ذكرت لكم من الأسباب فيما قبله مِنْ أَنَّ هذه المسألة غيبية والدليل جاء بإثباتها، وطائفة من الفِرَقْ الضالة خالفت في هذا الأصل.
وأهل السنة يذكرون في عقائدهم -كما سبق أن بَيَّنْتُ لكم- الأمور الغيبية وما يجب أن يُعْتَقَدَ فيها، ويذكرون ما دَلَّتْ عليه النصوص مما يجب التسليم له، ويذكرون أيضاً في عقائدهم ما يتميزون به عن الفِرَقْ الضالة أو عن بعض تلك الفِرَقْ.
وهذه المسألة وهي مسألة خلق الجنة والنار، وأنَّ الجنة باقية أبداً والنار باقية أبداً، لا تفنى الجنة والنار ولا تبيدان، كانت من المسائل التي جرى فيها الكلام بعد ظهور الجهمية.
وأصل هذه المسألة -كما سيأتي- مرتَبِطٌ بأصلين كلاميين زعمهما الجهمية ومن وافقهم في القدر، وفي تسلسل الأفعال والمخلوقات والمُؤثِرَات.
فالله - جل جلاله - لم يُجْرِ عالم الغيب على قياس عالم الشهادة، وهذا أصلٌ مهم في بيان ضلال من ضَلَّ في المسائل الغيبية، حيث جَعَلُوا عَالَم الغيب مَقِيساً على عالم الشهادة، فما يصلح لعالم الشهادة يصلح لِعَالَم الغيب، والقوانين والسُنَنْ التي تحكم عالم الشهادة يجعلونها صالحةً لعالَم الغيب، والله - عز وجل - خلق كل شيء فَقَدَّرَُه تقديراً، كلٌّ له تقديره الخاص.
ووجود الجنة والنار عقيدةٌ ماضية دلَّ عليها القرآن والسنة، والأدلة في ذلك كثيرة جداً:
نذكر منها قول الله - عز وجل - {وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} [الأعراف:19] ، والجنة هذه هي جنة الخلد، التي فيها الخلود الذي لا يزول عنه المرء ولا يَحُولْ.
ووَصَفَ الله - عز وجل - حين عُرِجَ بنبيّه أن عنده جنة المأوى فقال - عز وجل - {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى} [النجم:13-16] ، فأثبت - عز وجل - أنه حين عُرِجَ برسول الله صلى الله عليه وسلم كانت الجنة هناك.
والنبي صلى الله عليه وسلم أُرِيَ في ذلك المقام الشجرة الملعونة قال - عز وجل - {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا} [الإسراء:60] ، لهذا لما وَصَفَ لهم حال النار وحال تلك الشجرة قالوا ما قالوا في أَنَّ الزَّقُوم والتَّزَقُّمْ إنما هو خلط التمر بالزبد ونحو ذلك فقال - عز وجل - {إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ (43) طَعَامُ الْأَثِيمِ (44) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (45) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ} [الدخان:43-46] والآيات في هذا المعنى كثيرة.
وفي السنة أيضاً في بيان هذا الأصل، وأنَّ نَسَمَةْ المؤمن في الجنة كقوله «نسمة المؤمن طائر يعلق من ثمار الجنة (1) »
وكقوله في أرواح الشهداء «أرواح الشهداء في جوف طير خضر تهوي إلى قناديل معلقة تحت العرش في الجنة» (2) .
وكذلك قوله - عز وجل - في الشهداء {بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [آل عمران:169-170] .
ونحو ذلك مما فيه تقرير على أنَّ الجنة موجودة والنار موجودة، وأنَّ هذه سيدخلها من يدخلها وهذه سيدخلها من شاء الله أن يدخلها.
فإذاً أهل السنة قَرَّرُوا هذا في العقائد تَبَعَاً للدليل، وهذا أمرٌ واضح بَيِّنْ فيما دلَّ عليه القرآن والسنة.
ونذكر المسائل المتعلقة بهذا:
__________
(1) النسائي (2073) / ابن ماجه (4271)
(2) مسلم (4993) / أبو داود (2520)(1/544)
[المسألة الأولى] :
قوله (الْجَنَّةُ وَالنَّارُ مَخْلُوقَتَانِ) يعني به أنَّ خَلْقَهُما قد تَمَّ، ليس موقوفاً على قيام الساعة، وليس حال الجنة والنار كحال السموات والأرض {تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ} [إبراهيم:48] ، فذاك شان والجنة والنار شأنهما آخر، فهما مخلوقتان يعني الآن حين قال وحين بعث الله نبيه وقبل ذلك، فهما مخلوقتان لا يُعْلَمُ متى خَلَقَهُمَا الله - جل جلاله -، وإنما خَلَقَهُمَا الله - عز وجل - قبل خَلْقِ الخَلْقْ -يعني قبل خلق آدم قبل خَلْقِ المُكَلَّفِين- وهذا يدلّ عليه قوله {يَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} [البقرة:35، الأعراف:19] والألف واللام في {الْجَنَّةَ} للعهد يعني الجنة المعهودة التي هي دار النعيم.(1/545)
[المسألة الثانية] :
قوله (لَا تَفْنَيَانِ أَبَدًا وَلَا تَبِيدَانِ) يعني أنَّ الجنة خُلِقَتْ للبقاء والنار خُلِقَتْ للبقاء، وهذا هو الذي دَلَّ عليه القرآن والسنة؛ لأنَّ أهل الجنة خالدين فيها أبداً، وأنَّ أهل النار خالدين فيها أبداً، قال - عز وجل - في ذكر النار {يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنْ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا (63) إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا (64) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا} [الأحزاب:63-65] ، وفي الجنة آيات كثيرة جداً فيها ذكر الأبدية، وأنَّ من دخلها فهو خالد فيها أبداً.
وهذه الأبدية في الجنة والنار معاً مما أَجْمَعَ عليه أهل السنة والجماعة؛ بأنَّ الجنة والنار مخلوقتان للبقاء أبداً.
والمقصود بالنار هنا في الإجماع جنس النار، فإنَّ الإجماع مُنْعَقِدْ على أنَّ جنس النار باقٍ أبداً.
والفِرَقْ المخالفة لهم عدة أقوال في هذه المسألة تبلغ ستة أقوال أو أكثر، وأهمها:
1- القول الأول من الأقوال الضالة:
إنَّ الجنة والنار تفنيان في وقتٍ ويبقى نعيم أهل الجنة وعذاب أهل النار بالاستصحاب، لا بِتَجَدُدْ النعيم؛ يعني يحصل لهم نعيمٌ تَتَنَعَّمْ به أبدانهم ثم يَقِفْ، وتفنى الجنة.
وهذا منهم لأَصْلٍ أَصِّلُوه وهو أنَّ العقل اقتضى أنَّ الحركة التي تبدأ فإنها ستنتهي، وكُلُّ مُتَحَرِّكٍ بَدَأَ بحركة فلابد أن ينتَهِيَ بلا حركة، لهذا قالوا: أهل النار أيضاً لا يستمرون في العذاب بل تفنى النار ويبقى أهل النار ليسوا في نعيم وبذلك يَصِحُّ أنْ يُقَال عنهم إنهم في عذاب دائم.
وهذا منسوب إلى الفِرَقْ الضالة الكافرة كالجهمية وطائفة أيضاً من غيرهم.
2- القول الثاني من الأقوال الضالة:
إنَّ الجنة تبقى والنار تبقى لكن النعيم ينقطع والعذاب ينقطع، ويكون الجنة يفعل الله - عز وجل - بها ما يشاء والنار يفعل الله بها ما يشاء، وهذا لأجل الأصل السابق ولأجل النظر في القَدَرْ؛ حيث إنَّ استدامة النعيم عندهم على عملٍ صالحٍ قليل لا يُوَافِقُ العدل، واستدامة العذاب على عمل سيئٍ قليل الزمن لا يوافق العدل، ولهذا نفوا هذا الأصل.
وثَمَّ أقوال أُخَرْ ليس مناسبا أن تُذْكَر في مثل هذا المكان.
أمَّا قول أهل السنة المعروف هو ما ذكرته لك من أنَّ الجنة والنار مخلوقتان لا تبيدان ولا تفنيان أبد الآبدين، يُنَعَّمُ أهل الجنة في الجنة أبد الآبدين، ويُعَذَّب الكفار في النار أبد الآبدين.
وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنَّهُ قال «يؤتى يوم القيامة بالموت على هيئة كبش فيُذْبَحْ بين الجنة والنار ثم ينادي المنادي يا أهل الجنة خلود فلا موت ويا أهل النار خلود فلا موت» (1) ، والتنصيص على الأبدية في نعيم أهل الجنة وخلودهم فيها يدل على أنَّ المكان الذي يخلدون فيه يبقى، حيث قال - عز وجل - في الجنة {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} (2) ، وقال في النار {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} (3) فَهُمْ خالدون في المكان فيقتضي أنَّ المكان أيضاً يبقى أبد الآبدين.
* ومن أهل السنة من قال: إنَّ النار منها ما يَفْنَى وينتهي بإنهاء ربِّ العالمين له وهو طبقة أو دَرَكُ الموحّدين من النار، وهي الطَّبَقَةُ العليا من النار؛ لأنَّ الموحدين موعودون بأن يخرُجُوا من النار، فلا يَخْلُدْ في النار من كان في قلبه مثقال ذرة من الإيمان، لابد لهم من يوم يخرجون منها؛ لأنَّ معهم التوحيد ولو طالت مدتهم، ثم تبقى تلك الطبقة لا أحد فيها فيُفنيِهَا الله - عز وجل -.
وهذا منسوبٌ إلى بعض السلف، وجاء في الأثر عن عمر وفي إسناده مقال وضعف: أنَّ أهل النار لو لبثوا فيها كقدر رمل عَالجْ -موضع فيه رمل كثير-، لكان لهم يوم يخرجون منها، وليأتين عليها يوم تَصْطَفِقُ أبوابها ليس فيها أحد (4) .
ومما يُنسَبُ أيضاً إلى بعض أهل السنة من أئمة أهل السنة أنَّ فناء النار ممكن وأنَّ فناءها لا يمتنع، وهو القول المشهور عن الشيخ تقي الدين ابن تيمية رحمه الله وعن غيره كابن القيم وجماعة من المتقدمين أيضاً ومن الحاضرين.
__________
(1) سبق ذكره (60)
(2) النساء57، 122، المائدة، 119، التوبة:22، 100، التغابن:9، الطلاق:11، البينة:8.
(3) النساء:169، الأحزاب:65، الجن:23.
(4) انظر رفع الأستار (9)(1/546)
وهذا القول مَنْشَؤُهُ -مع عِلْمِ هؤلاء بالدليل وبالنصوص- على وجه الاختصاص النظر في صفات الله - عز وجل -، وذلك أنَّ من المتقرر في النصوص أنَّ صفة الرحمة ذاتية ملازمة للرب - عز وجل -، والجنة من آثار رحمة الله - عز وجل - «أنت رحمتي أرحم بك من أشاء» (1) والنار أَثَرُ غضب الله - عز وجل - والغضب صفة فعلية اختيارية لا تنقَلِبُ إلى أن تكون صفة ذاتية كالرحمة، ولو بقي أثَرُ الغضب لبقي الأصل وهو الغضب، لو بقيت النار وهو أثر الغضب لبقي الغضب أبد الآبدين، وهذا يعني أنَّهُ أصبح صفة ملازمة، وهذا هو مأخذ هؤلاء الأئمة في هذه المسألة.
وهذا فيه بحث ونظر معروف في تقرير هذه المسألة؛ لكن من بَحَثَهَا وكثيرٌ من الناس كتبوا فيها لم يلحَظُوا علاقة المسألة في قول هؤلاء بصفات الله - عز وجل -، وهي أصلُ منشأ هذه المسألة.
قد قال ابن القيم (سألت ابن تيمية عنها فقال: هذه مسألةٌ عظيمة) (2) ، وذَكَرَ في موضع بعد أن ذَكَرَ أدلة الجمهور أهل السنة وأدلة هؤلاء، فقال في آخره: فإن قلت إلى أي شيءٍ انتهت أقدامكم في هذه المسالة العظيمة؟ قلنا انتهت أقدامنا إلى قول الله - عز وجل - {إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [هود:107] .
ومما لا ينبغي أن يُخَاضَ في هذه المسألة؛ لكن لمَّا أوردها الشارح وهي مسألةٌ مشهورة عند طلبة العلم أَوْرَدْتْ عليها هذا التقرير الموجز وهي معروفة بتفاصيل من التعليل لقول ابن تيمية وابن القيم.
* ولم يُصِبْ من زَعَمْ أنه لا يَصِحْ نسبة هذا القول إلى الشيخين ابن تيمية وابن القيم.
__________
(1) البخاري (4850) / مسلم (7351)
(2) شفاء العليل (1/264)(1/547)
[المسألة الثالثة] :
قال في ذِكْرِ خلق الجنة والنار (خَلَقَ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ قَبْلَ الْخَلْقِ) وهذا مأخَذُهُ قول الله - عز وجل - {وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} [الأعراف:19] ، وهذه الجنة معناه أنَّها موجودة بعد أن نُفِخَ الروح في آدم، وهذا يعني أنَّها تَقَدَّمَتْ قبل خلق آدم.
وهذه الجنة التي سكنها آدم للعلماء فيها أقوال أشهرها:
- الأول: أنها جَنَّةٌ مخلوقة في الأرض وليست بجنة الخلد.
- الثاني: أنَّها الجنة المعروفة دار الكرامة عند رب العالمين.
ويُرَجِّحْ جماعة منهم ابن القيم وكثير من المفسرين من المعتزلة ومن أهل السنة أنَّ الجنة هذه ليست هي جنة الخلد، ولهم في ذلك أدلة طَوَّلَ عليها ابن القيم في أول مفتاح دار السعادة بأكثر من أربعين صحيفة في ذكر هذه المسألة.
* والصحيح أنَّ الجنة هي الجنة المعهودة لأسباب كثيرة وأدلة من القرآن ومن السنة:
من أعظمها قوله - عز وجل - في وصف الجنة {إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى (119) فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَاآدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى} (1) [طه:118-120] إلى آخر الآيات وهذه الصفات (إن لك فيها..) إلى آخره هذه ليست مناسبة للأرض، فالأرض وإنْ كان فيها مكان مرتفع جَنَّةْ إلى آخره مُخْتَلِفْ عن بقية الأرض فلا يوصف مَنْ فيه بهذه الصفات أنَّهُ لا يظمأ ولا يضحى، يعني ما يأتيه شمس فيها ولا يجوع ولا يعرى ونحو ذلك من الصفات، فهذه صفات تدل على أنَّ المكان مُغَايِرْ للأرض.
ومن الأدلة أنَّ الله - عز وجل - قال في ذكرها لَّما عصى آدم {اهْبِطَا مِنْهَا} [طه:123] ، وهذا الاهباط والخروج يقتضي أن يكون من جهةٍ عالية، والمكان الذي هو من جنسه فإنَّه وإنْ هَبَطَ منه فإنَّه ليس خارِجاً إلى غيره؛ بل هو منه إلى جنسه ولا تحصل العقوبة بالإهباط وإنَّما العقوبة بالإخراج، والله - عز وجل - جعل في القرآن هذا وهذا، الإخراج والإهباط، إلى أدلةٍ أخرى معروفة.
المقصود أنَّ قوله (خَلَقَ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ قَبْلَ الْخَلْقِ) الجنة واحدة هي المعروفة وكل الأدلة التي فيها ذِكْرْ الجنة الغيبية فهي دار الكرامة التي أعدَّهَا الله لعباده.
__________
(1) - انتهى الوجه الأول من الشريط الثامن والثلاثين.(1/548)
قال رحمه الله (وَخَلَقَ لَهُمَا أَهْلًا)
_____________________________________________
يعني به قبل خلق السموات والأرض، فإنَّ الله - عز وجل - كتب أنَّهُ سيخلق هؤلاء وهؤلاء وأنَّ الجنة لها أهلها وأنَّ النار لها أهلها، ولما خَلَقَ آدم أيضاً نَشَرَ ذريته من ظهره ثم قَبَضَ قبضة فقال هؤلاء إلى الجنة، وقبض أخرى وقال هؤلاء إلى النار.
فالله - عز وجل - خَلَقَ الجنة وجعل لها أهلاً سيدخلونها فضلاً منه وتكرماً، وخلق النار وجعل لها من يملؤها عدلاً منه وحكمة.
قال بعدها (فَمَنْ شَاءَ مِنْهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ فَضْلًا مِنْهُ، وَمَنْ شَاءَ مِنْهُمْ إِلَى النَّارِ عَدْلًا مِنْهُ)
وهنا مسألتان:(1/549)
[المسألة الأولى] :
الفضل هو الإكرام، والله - عز وجل - عَلَّقَ دخول الجنة بالعمل الصالح {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [النحل:32] ، وعَلَّقَ دخول النار بالعمل السيئ وبالكسب السيئ {جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ} [فصلت:28] ، ونحو ذلك من الآيات، وهذه الباء في المقامين هي باء السبب فإنَّ الله - عز وجل - جعل الأعمال الصالحة وأعظمها التوحيد سبباً في دخول الجنة، وجعل الأعمال السيئة وأعظمها الشرك بالله سبباً لدخول النار.
ولكن هذا السبب ليس كافياً في تحقيق المراد؛ بل لا أحد يدخل الجنة إلا برحمة الله - عز وجل -، لهذا صح عنه صلى الله عليه وسلم أنَّهُ قال «لن يُدْخِلَ أحدكم عمله الجنة» قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال «ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضلا» (1) ، فدلّ على أنَّ أصل دخول الجنة برحمة الله وفضله، وذلك لأنَّ:
- الفضل هنا هو الامتنان، الفضل هنا هو الإعطاء والإكرام، والأعمال وإنْ كان للعبد فيها أجور فلو قوبِلَتْ بالنعم لصارت القسمة أو لصار الشأن واضحاً في أنَّ العبد قوبلت أعماله بالنِّعَمْ التي كرّمه الله - عز وجل - بها.
- وأيضاً لو نظرت إلى أنَّ العمل الصالح أصلاً ما كان من العبد إلا بإعانة وتوفيق من الله - عز وجل -، فأصلاً نشوء العمل الصالح هو بفضل من الله وهدى من الله وإعانة وتوفيق فما يكون نتيجة فلابد أنَّهُ فضل أيضاً من العدل معناه أن يُعَامَل المرء بما يستحقه دون تَفُضُّلٍ عليه، يعني أن يُنظَرَ ويُنَاقَشْ الحساب ويُعْطَى ما يستحق.
وأهل النار دَخَلُوا النار بما يستحقون عدلاً مِنَ الله - عز وجل -؛ لأنَّهُ سبحانه لِمَا عَلِمَ بما في صدورهم لم يُعِنْهُمْ إعانةً خاصة ولم يوفقهم للعمل الصالح؛ بل خذلهم يعني لم يوفقهم، ترك إعانتهم على أنفسهم، فوُكِلُوا إلى أنفسهم، وهذا عَدْلٌ أن تَعْمَلَ بما لديك، وبما عندك من الاستعدادات والآلات إلى آخره.
ولهذا قال الله - عز وجل - في بيان مِنَّتِهِ لأهل الإيمان {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمْ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمْ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمْ الرَّاشِدُونَ} [الحجرات:7] ، فدلّ على أنَّ الله - عز وجل - مَنَّ على هؤلاء بشيء، ولم يتفضّل على أولئك بل عاملهم بالعدل.
وذلك بسبب أنَّ هؤلاء في قلوبهم الخير وهم يريدونه وأقبلوا عليه، وأولئك لا يريدون الخير ولا يحبون سماعه ولم يريدوا الإهتداء أصلاً، فعاملهم الله - عز وجل - بعدله، قال - عز وجل - {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6) خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [البقرة:6-7] الآية.
فقوله {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} يعني أنَّ الكفر وُجِدَ منهم، الكفر أصلاً في قلوبهم، ولهذا قال في آية النساء {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنْ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا} [النساء:137] ، {لَمْ يَكُنْ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا (168) إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} [النساء:168-169] الآية، فَدَلَّ هذا على أنَّ المعاملة بالعدل أن يُوكَلَ إلى نفسه، وهو أصلاً لم يُعَنْ ويُتَفَضَّلْ عليه لأنَّهُ لم يسع إلى الخير، لم يُوَفَّقْ لأنه لم يسعَ، وفي قلبه حب للشر ونوع بغض للخير، فلذلك لم يُعِنْهُ الله - عز وجل - على نفسه.
__________
(1) سبق ذكره (378)(1/550)
قال بعدها (وَكُلٌّ يَعْمَلُ لِمَا قَدْ فُرِغَ لَهُ، وَصَائِرٌ إِلَى مَا خُلِقَ لَهُ)
____________________________________________
يعني أنَّ مَنْ خَلَقَهُمْ الله - عز وجل - كلٌ يعمل لما كُتِبَ في الكتاب أنَّهُ سيؤولُ إليه فإنَّ الله - عز وجل - عالم بما العباد يفعلون، إذا خلقهم فهذا سيفعل الخير على تفاصيله فكتب عليه ذلك وهذا سيعمل الشر على تفاصيله فكتب عليه ذلك، وقد قال نبينا صلى الله عليه وسلم «اعملوا فكل ميسر لما قد خلق له» يعني أنَّ الله - عز وجل - خلق الجنة وخلق لها أهلاً وهذا سيعمل حتى يصل إلى ما خلقه الله - عز وجل - له، وخلق النار إلى آخره، وهذا سيأتي مزيد بيان له في القدر في المسائل القريبة إن شاء الله تعالى.(1/551)
قال (وَالْخَيْرُ وَالشَّرُّ مُقَدَّرَانِ عَلَى الْعِبَادِ)
____________________________________________
يعني أنَّ ما يفعله العبد من الخير أو يفعله من السوء فهو لم يحصل ابتداءً منه دون قَدَرٍ سابق، بل الله - عز وجل - قَدَّرَ عليه ذلك.
ومعنى قَدَّرَ عليه ذلك أي أنَّهُ سبحانه عَلِمَ ذلك منه وكَتَبَهُ عليه، وأنَّهُ أعانه بالأدوات والقُدْرَةْ والإرادة، بحيث فَعَلَ الخير وفعل الشّر، ما شاء الله كان، وَقَعَ الخير ووَقَعَ الشر بمشيئته، وهو سبحانه خالق كل شيء.
وذَكَرَهُ هنا لأنَّ:
@ (الْخَيْرُ وَالشَّرُّ مُقَدَّرَانِ) لأجل قوله صلى الله عليه وسلم في جواب جبريل «وأن تؤمن بالقدر خيره وشره» .
@ ولأنَّ الفِرَقْ المخالفة في مسألة القدر والخير والشر وأفعال العباد ونحو ذلك طرفان:
- الطرف الأول: الجبرية.
- والطرف الثاني: القدرية.
& والجبرية يقولون: العبد مُجْبَرْ على كل شيء فهو كالريشة في مهب الريح وكحركة الأمعاء في داخل البطن ليس له فيها اختيار؛ بل هو يجري كما يشاء الله - عز وجل -، دون أن يكون العبد مُخْتَارَاً للخير أو مُخْتَارَاً للشر.
& والقدرية يقولون: الخير والشر ليسا مُقَدَّرَيْنْ؛ بل العبد يعملهما وهما عمل العبد وخَلْقُ العبد لفعله، والله - عز وجل - يحاسب الناس على ما فعلوا، ليس الخير خَلْقَاً له في فعل العبد، وليس الشر خَلْقَاً له في فعل العبد، ولم يُقَدِّرْهُمَا على العباد فِعْلاً وتركاً، وذلك لأنّه عندهم ينافي العدل الواجب فيما قاسوا به أفعال العباد على أفعال الله - عز وجل -.
نذكر هنا عدة مسائل:(1/552)
[المسألة الأولى] :
أنَّ الخير والشر المُقَدَّرَيْنْ على العباد؛ يُعنَى بهما ما يصيب العبد من خيرٍ له ومن شرٍ عليه، أمَّا في فعل الله - عز وجل - فليس في أفعاله سبحانه إلا الخير، كما قال صلى الله عليه وسلم في دعائه في صلاته «والشر ليس إليك» (1) يعني أنَّ أفعال الله - عز وجل - لا توصف بالشر؛ بل كلها عدل أو فَضْلٌ وخير لما فيها من الغايات المحمودة؛ لكن ما يُضَافُ للعبد يكون شرّاً بالنسبة له؛ لكن بالنسبة للقدر هو خير.
مثلاً أصيب فلان بفقد والده، أصيب بفقد ماله فهذا بالنسبة له سوء وشر؛ لكن بالنسبة إلى الَقَدْر وفعل الله - عز وجل - هو خير؛ لأنَّهُ لا يُنْظَرُ إلى المسألة بمجردها؛ بل إلى الغاية المحمودة من ورائها، والغاية المحمودة من ورائها أن يَبْتَلِيَ العباد بذلك، يبتلي الحي يبتلي الميت {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك:2] .
فإذاً أفعال الله - عز وجل - كلها خير، وأما ما يضاف إلى العبد فينقسم إلى الخير والشر.
فقوله (وَالْخَيْرُ وَالشَّرُّ مُقَدَّرَانِ عَلَى الْعِبَادِ) يعني الخير والشر الذي يحصل للعبد مُقَدَّرٌ.
__________
(1) سبق ذكره (430)(1/553)
[المسألة الثانية] :
القَدَرْ هنا في قوله (مُقَدَّرَانِ عَلَى الْعِبَادِ) يعني أنَّهما لم يقعا استئنافاً؛ بل الله - عز وجل - يعلم ما سيحصل على العبد وكتب ذلك.
وذَكَرْتُ لك أنَّ الفِرَقْ المخالفة في هذه المسألة -في القَدَرْ - أنها طرفان:
1 - الجبرية:
والجبرية تنقسم إلى فرقتين:
@ الفرقة الأولى الجبرية الغلاة:
وهم الجهمية الذين يقولون: الله - عز وجل - يُجْبِرْ العبد على كل شيء، على الخير وعلى الشر، وإنما هو كالريشة في مهب الريح إلى آخره.
ويستدلون على ذلك بقوله - عز وجل - {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال:17] ، يقولون إنَّ الذي رَمَى في الحقيقة هو الله - عز وجل - ولكن النبي صلى الله عليه وسلم ما رَمَى.
وهذا قول الغلاة منهم -غلاة الجبرية-، ويُرَدُّ عليهم في هذا الاستدلال على وجه الاختصار بجوابين:
& الجواب الأول: أنَّ الله - عز وجل - قال {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ} يعني حين رميت فإنَّ الله - عز وجل - هو الذي رَمَى، وظاهر الآية كما هو واضح أنَّهُ أثْبَتَ للنبي صلى الله عليه وسلم رمياً فقال {إِذْ رَمَيْتَ} ، ونفى عنه رمياً بقوله {وَمَا رَمَيْتَ} ، والنظر الصحيح يدلُّ على أنَّهُ لا بد من الجمع ما بين الرمي المَنْفِي والرمي المُثْبَتْ، وهذا يتضح بأنَّ العبد إذا فَعَلَ الفعل فإنَّ الفعل الذي يفعله سَبَبٌ في حدوث المُسَبَّبْ، ولا يحصل المُسَبَّبْ ولا تحصل النتيجة بفعل العبد وحده في أكثر أو في جُلِّ المسائل؛ بل لابد من إعانة من الله - عز وجل -.
وهذا ظاهِرٌ في الرمي بخصوصه؛ لأنَّ الرمي عن بعد له ابتداءْ وله انتهاءْ، فابتداء الرمي من النبي صلى الله عليه وسلم لكن الانتهاء بأن يصيب رمي النبل أو رمي الحصاة أن يصيب فلاناً المشرك ويموت منه هذا من الله - عز وجل -؛ لأنَّ العبد ما يملك أن تكون رميته ماضية فتصيب.
ولهذا فيكون العبد هنا مُتَخَلِّصَاً مِن رؤيته لنفسه ومِن حَوْلِه وقُوَّتِهْ مع فعله، فأراد - عز وجل - أن يُعَلِّمَ نبيّه والمؤمنين أن يتخلصوا من إعجابهم ورؤيتهم لأفعالهم وأنفسهم، فقال: افعلوا ولكن الذي يَمُنُّ عليكم ويُسَدِّدْ رميكم هو الله - جل جلاله -.
فيكون إذاً معنى [.....] أصاب بما أعان على التسديد.
& الجواب الثاني: أنَّهُ لو قيل على قول الجبرية: إنَّ الله هو الذي يفعل الأشياء لكان تقدير الآية كما قاله جماعة أن يقال في كل فعل فعله العبد (ما فعله ولكن الله فعله) كأن تقول: ما صليت إذ صليت ولكن الله صلى، وما زكيت إذ زكيت ولكن الله زَكَّى، وما مشيت إذ مشيت ولكن الله مشى وهكذا في الأعمال القبيحة المشينة التي يُنَزَهْ الله - عز وجل - عنها بالإجماع كقول القائل -أعوذ بالله - وما سرقت إذ سرقت ولكن الله سرق، وما زنيت إذ زنيت ولكن الله إلى آخره، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً.
والقول إذا كان يلزم منه اللازم الباطل يدل على فساده وعدم اعتباره؛ لأنَّ القول الحقيق القول الصحيح القول الحق لا يلزم منه لوازم باطلة.
والقول الباطل هو الذي ينشأ عنه لوازم باطلة، ما الفرق بين هذه وهذه؟
@ الفرقة الثانية الجبرية المتوسطة:
والجبرية المتوسطة -أو يعني الذين هم ليسوا بالغلاة-، هم الذين يتوسطون، فيقولون: العبد مجبور باطناً لكنه في الظاهر مختار، يعني ظاهراً هو يَخْتَارُ فيمشي ويروح ويأتي للمسجد ويذهب إلى المكان الثاني باختياره؛ لكنَّهُ في الباطن مُجْبَرْ.
وهذا قول كثير من أهل الكلام والأشاعرة والماتريدية وجماعة ممن ينحون هذا المنحى بأنَّ الإنسان مجبور لكنه في الظاهر ليس بمجبور.
وإذا كان كذلك فإنهم يجعلون أفعال الإنسان له ولكنَّهَا عديمة الفائدة، لا معنى لها.
وهؤلاء هم الذين يقال عنهم نُفَاةْ الأسباب.
يعني إنَّ الإنسان إذا جامع زوجته فَحَمَلَتْ، يقولون: لم يحدث الحمل بالجماع.
إذاً كيف حدث الحمل؟
يقولون: أَحْدَثَ الله الحمل عند التقاء الرجل بالمرأة؛ لكن أنَّ ماء الرجل يلتقي بماء المرأة أو ببويضة المرأة ويحدث منهما حمل بما أجرى الله الأسباب عليه ينفون ذلك، ويطرُدُونَ هذا في كل شيء.
فيقولون: إنَّ فعل الإنسان فيما يفعله كحركة السّكين في قَطْعِهَا للورق أو قطعها للخبز أو قطعها لما تقطع، فيقولون بالتمثيل: إنَّ الله هو الذي كأنه يحمل السكين والسكين تتحرك هي التي تقطع؛ لكن في الواقع هي مجبورة على القطع وإن كانت ظاهرا تتحرك وقَطَعَتْ.
وهذا القول وهو قول هؤلاء مع زعمهم أنَّهُمْ عقلاء وأنَّهُمْ متكلمون وأنهم فلاسفة إلى آخره، هؤلاء قولهم هذا ينفيه العقل البسيط، فضلاً عن العقل الرصين، وأحْدَثُوا قولاً على هذا يسمى الكسب سيأتي بيانه في موضعه.
فالماء عندهم لم يُنْبِتْ الأرض، الله - عز وجل - يقول {فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ} [ق:9]
{فَأَنْبَتْنَا} بإيش؟
بالماء.(1/554)
{أَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ} يعني أن النبات خرج بإيش؟
بالماء، الماء سبب والتراب سبب.
لكن هل هذا يعني أنَّ الله لم يفعل لم يخلق لم يُنَمِيْ؟
لا.
الجماع سبب، لكن هل معناه أنَّ الله لم يفعل؟
لا.
فإذاً إثبات الأسباب هو سبيل العقلاء في أنَّ السبب ينتج عنه المُسَبَّبْ، وأنَّ الشيء تَنْتُجُ عنه نتيجته، الفعل ينتج عنه نتيجته، الأثر يقتضي أن يُوجَدَ مؤثر، وهكذا.
فإذا صار هنا هواء بارد لابد أنَّ فيه مصدر لهذا الهواء البارد الذي يأتينا.
يقول هؤلاء الأشاعرة ونحوهم -نفاة الأسباب- يقولون: لا، الهواء أرسله الله - عز وجل - عند تشغيل الجهاز.
وهذا مما يقتضي العقل أن ينفيه لأنَّهُ غير مطابق للعقل أصلاً.
وهؤلاء تجد ذكرهم في كثير من كتب أهل العلم بعنوان نفاة الأسباب.
إذا قيل لك نفاة الأسباب يعني الجبرية المتوسطة من الأشاعرة ونحوهم.
عمل العبد بين فعل الله - عز وجل - -لأنهم يقولون بخلق الله للأفعال- وبين فعل العبد الحاصل يُسَمُّونَهُ كَسْبَاً ويأتي عند قوله (وَأَفْعَالُ الْعِبَادِ خَلْقُ اللَّهِ، وَكَسْبٌ مِنَ الْعِبَادِ) .
2 - القدرية:
والقدرية أيضاً فرقتان:
@ الفرقة الأولى القدرية الغلاة:
وهم الذين ينكرون علم الله السابق، ويقولون الأمر مُسْتَأْنَفْ جديد.
هل الخير والشر مُقَدَّرْ؟
لا، إنما هو مستأنف جديد، لا يعلم الله الخير حتى يقع، ولا يعلم الشر حتى يقع، تعالى الله عن قولهم عُلُواً كبيراً {وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} [الأحزاب:40] سبحانه وتعالى.
فهؤلاء هم الذين صاح بهم السلف وكفَّرُوهم فقال فيهم الشافعي: ناظروا القدرية بالعلم فإن أقرُّوا به خُصِمُوا وإن أنكروا العلم -يعني عِلْمَ الله - عز وجل -- كفروا.
هؤلاء فرقة كانت موجودة وانتهت.
@ الفرقة الثانية المعتزلة وأشباه المعتزلة:
وهم الذين يُسَمَّونْ القدرية، وهم الذين يقولون: إنَّ الإنسان يخلق فعل نفسه، وأنَّ الله - عز وجل - لا يُضَافُ إليه خَلْقَاً كل ما هو سيئ، لا يُضَافُ إليه خَلْقَاً الشر ولا القتل ولا إلى آخره.
ويقولون أيضاً: إنَّ فعل العبد واستطاعة العبد وقدرة العبد، هذه ليس لله - عز وجل - فيها مأخذ؛ بل قدرة المطيع وقدرة العاصي وقدرة المؤمن وقدرة الكافر، إرادة المؤمن، إرادة الكافر للعمل واحدة.
وهذا الأصل الذي قالوه وذهبوا إليه لأجل شبهةٍ عندهم وضلالٍ عندهم، وهو أنهم قالوا: إنَّ العدل يوجب على الله - عز وجل - أن يساوي بين العباد، والظلم بالتفريق ما بين هذا وهذا، ما بين المؤمن والكافر والمطيع والعاصي هذا ظلم.
فَحَكَّمُوا عقولهم وآراءهم في فعل الله - عز وجل - وفي تَصَرُّفِهِ وصفاته - عز وجل -، والله سبحانه وتعالى يقول {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [هود:107، البروج:16] ويقول - عز وجل - {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23] .
وقوله {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ} لجهتين:
- الجهة الأولى: أنَّ الله - عز وجل - له التصرف في ملكه كيف يشاء.
- الجهة الثانية: أنَّ الله - عز وجل - له الحكمة البالغة فيما يفعل، وفيما يُجْرِيه في ملكوته ويشاؤه، والعباد قاصرون عن معرفة الحِكَمْ في أنفسهم، فكيف بالحِكَمْ في أفعال الله - عز وجل - وصفاته وتصرفه في ملكوته.
وهؤلاء المعتزلة هم الذين يكثر رد الأشاعرة عليهم في مسائل القدر وهم كالأشاعرة في المخالفة لما دَلَّتْ عليه الأدلة.
* الخلاصة: أنَّ هؤلاء وهؤلاء كُلٌ نَزَعَ بأدلة مختلفة، فهدى الله - عز وجل - أهل السنة ومَنَّ عليهم بأنهم لم يُفَرِّقُوا بين الكَلِمْ، ولم يُفَرِّقُوا بين الكتاب؛ بل اخذوا بكل الأدلة فقالوا:
- بخلق الله - عز وجل - لفعل العبد.
- وأنّ العبد يفعل حقيقة.
- وأنَّ الله يهدي من يشاء ويضل من يشاء.
فأعملوا كل النصوص والأدلة، وقالوا إنَّ ربك فعال لما يريد سبحانه وتعالى، لا مُعَقِّبَ لحكمه ولا رادَّ لقضائه، ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، جرى الأمر على ما يريده الرب - جل جلاله - وتقدست أسماؤه.
ثم أَعْمَلُوا العقل الصحيح في أنَّ الإنسان يُحِسُّ من نفسه أنَّهُ مُخْتَار، يُحِسُّ من نفسه أنَّهُ يذهب إلى الخير ويذهب إلى الشر، يذهب إلى الخير فينشرح صدره له، ويذهب إلى الشر فيقتل ثُمَّ يندم وتُعَاقِبُهُ نفسه وتؤنبه نفسه على ذلك.
ففي الإنسان ما يُحِسُّ به أنَّهُ يختار ويختار؛ يختار الشر ويختار الخير، وهذه ضرورة في قَلْبِ كل أحد لا مَفَرَّ منها، فالإنسان مختار لهذا ومختار لهذا.
ثم ثالثاً يُقال: إنَّ أهل السنة نظروا إلى المسألة في قولهم في القدر في أنَّ الخير والشر مُقَدَّرَانِ على العباد بأنَّ من احتج على القدر فإنه يناقض نفسه، لماذا؟(1/555)
لأنَّهُ كل من قال في القدر قولاً؛ يقول مثلاً: إنَّ الله - عز وجل - كتب علي السيئات وجعلني أفعل الشر وكذا ثُمَّ يُعَذبني بالنار؛ لكنهم لا يتجاسرون أن يُحَكِّمُوا القضية المقابلة لذلك وهي أن يقول القائل: كذلك إذا جعلني أصلي جعلني أطيع الله - عز وجل - وجعلني أفعل من الخيرات، فلماذا يثيبني؟
والمسألة هذه بمقابل هذه.
فإذا قال القائل كتب علي السيئات فلماذا يعذب؟ فكذلك لابد أن يقول وكتب علي الخير فلماذا يُثِيْبْ؟
والإنسان بطبيعته يهرب مما هو عليه، فلا يُقِر على نفسه بما فيه مصلحته بأنَّ الخير الذي هو مصلحة له فيذهب ويسكت عنه؛ لأنَّهُ فيه مصلحة له.
لكن يأتي بما فيه مضرة عليه أو بما فيه تبرير لفعله ليهرب من الواقع.
والحقيقة أنَّ العقل الصحيح وإدراك الإنسان لنفسه وفطرته وضرورياته يَجِدْ أنَّهُ يفعل الخير اختياراً ويفعل الشر اختياراً، يفعل الخير فتنشرح نفسه له، ويفعل الشر فتنكره نفسه عليه؛ لأنه مفطورٌ على حب الخير وعلى كراهة الشر.
فإذاً اختياره دليل فطري في كل إنسان، مثل إحساس الإنسان، تحس بالشيء، الأعمى يحس ويقول هذا كذا ويستدل به ويكون مُتَيَقِّنَاً؛ لأن دليله صار ضرورياً، وكذلك يُحِسْ بالأمر الآخر فيكرهه لنفسه لأنَّ دليله صار ضرورياً.
نكتفي بهذا القدر. وصلى الله وسلم على نبينا محمد.(1/556)
وَالِاسْتِطَاعَةُ الَّتِي يَجِبُ بِهَا الْفِعْلُ مِنْ نَحْوِ التَّوْفِيقِ الَّذِي لَا يَجُوزُ أَنْ يُوصَفَ الْمَخْلُوقُ بِهِ، فَهِيَ مَعَ الْفِعْلِ، وَأَمَّا الِاسْتِطَاعَةُ مِنْ جِهَةِ الصِّحَّةِ وَالْوُسْعِ وَالتَّمَكُّنِ وَسَلَامَةِ الْآلَاتِ فَهِيَ قَبْلَ الْفِعْلِ، وَبِهَا يَتَعَلَّقُ الْخِطَابُ، وَهُوَ كَمَا قَالَ تَعَالَى {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] .
وَأَفْعَالُ الْعِبَادِ خَلْقُ اللَّهِ، وَكَسْبٌ مِنَ الْعِبَادِ.
____________________________________________
الحمد لله حق حمده، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلَّمَ تسليماً، أما بعد:
مضى معنا طائفة من الكلام على الإيمان بقدر الله - عز وجل - خيره وشره، وأنَّ الخير والشر مُقَدَّرَانِ من الله - عز وجل - فما يصيب العبد من خير فهو من الله - عز وجل - تقديراَ وتدبيراَ، وما يصيب العبد من شر وسوء فإنَّهُ من الله - عز وجل - تقديراً وتدبيراً.
ومَرَّ معنا مراتب الإيمان بالقَدَرْ وما يتصل بهذا المبحث مما فيه تقريرٌ لعقيدة أهل السنة والجماعة في هذه المسألة العظيمة، التي أَمَرَ الله - عز وجل - بالإيمان بها والتسليم لما جاء به رسوله صلى الله عليه وسلم فيها.
ومَرَّ معنا أيضاً أنَّ القدر سِرُّ الله - عز وجل - في خلقه، لم يعطِ حقيقته لملكٍ مقرب ولا لنبيٍ مُرْسَلْ، وإنما هو سبحانه وتعالى الذي يعلم كل شيء، وهو - عز وجل - الخالق لكل شيء، وهو سبحانه ذو الحكمة البالغة {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23] ونحو ذلك من المباحث والموضوعات التي سبق الحديث عنها، وسبق تقريرها على ما جاء في كتاب الله - عز وجل - وفي سنة نبيه صلى الله عليه وسلم.
ومبحث القَدَرْ من المباحث العظيمة في الملة، ولأجل كونه سراً من أسرار الله - عز وجل -، وإدراك كُنْهِهِ وحكمة الله - عز وجل - في عباده غير متحققة من كل وجه، فلذلك صار الخائض في القدر بلا دليل عُرْضَةً لمزلة القدم؛ بل لم يخض في القدر أحد بغير حجة وبرهان إلا وزلَّتْ قدمه وتَنَكَّبَ سواء الصراط.
ولهذا ينبغي أن يُتكَلَمَ في القدر بما جاء في النص دون زيادة لأنَّهُ أمر غيبي، ولا يمكن للعبد أن يخوض في الأمور الغيبية إلا مع الدليل، ودون الدليل فهو كالذي يسير في الظلمات ليس بخارج منها.
والمخالفون في القَدَرْ كثيرون، ولهذا الطحاوي رحمه الله لم يُرَتِّبْ الكلام على مسائل القَدَرْ في موضعٍ واحد حتى يُمْكِنَ الناظر أن يبسط الكلام فيه بتقرير قول أهل السنة وقول المخالفين، وما يترتّب على ذلك؛ بل فَرَّقَهْ فأتى في آخر رسالته هذه بشيء من الكلام على القَدَرْ؛ لكن من جهة النظر إلى خلاف المخالفين.
ولهذا هذه الجمل التي معنا من قوله (وَالْخَيْرُ وَالشَّرُّ مُقَدَّرَانِ عَلَى الْعِبَادِ) إلى قوله (وفي دُعَاءِ الأَحْياءِ وَصَدَقَاتِهم مَنْفَعَةٌ لِلأَمْوَات) هذه كلها لأجل خلاف المخالفين من الجبرية والقدرية.
وقبل أن نخوض في بيان كلامه وما فيه من المسائل نُلَخِّصْ شيئاً من أسباب الضلال في القَدَرْ، والذي به خَرَجَ القدرية سواء الغلاة أم المعتزلة أو الجبرية أو من ضَلَّ في مسألةٍ أو في مسائل في هذا الباب. (1)
1- السبب الأول: هو ترك الاقتصار على ما جاء في الكتاب أو السنة من الواضحات المُحْكَمَات التي تُبَيِّنُ حقيقة القَدَرْ، والأخذ بما فيهما من المتشابهات وجعل ذلك أصلاً.
ومعلومٌ أنَّ الواجب على العبد أن يأخذ بالمُحْكَمْ وأن يَرُدَّ المتشابه إلى المحكم؛ فقد أمر الله - عز وجل - بذلك، وقد خرج النبي صلى الله عليه وسلم مَرَّةً على الصحابة وهم يتنازعون في القَدَرْ، كلٌّ يَنْزِعُ إلى قوله بآية، فكأنما فُقِئَ في وجهه حَبُّ الرُّمَان صلى الله عليه وسلم، يعني أحْمَرَّ وجهه صلى الله عليه وسلم، وهذا لأجل أنَّ الواجب على العباد أن يُسَلِّمُوا للمحكمات والأصول العامة وأن يَرُدُوا المتشابه إلى المُحْكَمْ على ما كان عليه الصحابة رضوان الله عليهم.
وبالتالي فإنَّ كل تفسيرٍ لآيات القَدَرْ لم يكن معروفاً في زمن الصحابة رضوان الله عليهم فإنَّهُ باطلٌ وضلال؛ لأنه من الأخذ بالمتشابه وترك المحكم.
2- السبب الثاني: أنَّ العباد لم يعرفوا حكمة الله - عز وجل - في الأشياء ولا حِكْمَتَهُ فيما يُقَدِّرُ ويخلُقُ من الخير ومن الشر أو من المخلوقات بعامَّةْ، ولما لم يُدْرِكُوا الحكمة عارضوا فِعْلَ الله - عز وجل - في ملكوته بما يرون من ظاهر رأيهم.
فعارض الجاهل العالم واقتنع بجهله فصار على شُعْبَةِ ضلالة.
ومعلومٌ أنَّ حكمة الله - عز وجل - في خلقه منها ما هو مُدَلَّلٌ عليه، ومنها ما ليس بمعروف، ولذلك إذا جُهلت الحكمة فإنَّ المرء يُسَلِّمْ ولا يعترض. (2)
: [[الشريط التاسع والثلاثون]] :
وقد ذَكَرَ جماعة من أهل العلم أنَّ سبب الضلال في القدر هو الجهل بحكمة الله فيما يخلق ويُقَدِّرْ، ثُمَّ الخوض في ذلك وقد لخَّصَها شيخ الإسلام بقوله فيما ذكرته لكم مراراً في تائيته حيث يقول:
وأصلُ ضلالِ الخلْقِ مِنْ كُلِّ فِرقَةِ ****** هو الخوضُ في فعْلِ الإلهِ بعلَّةِ
فإنَّهمُ لم يَفْهَمُوا حِكْمَةً لَهُ ****** فصاروا على نَوْعٍ مِنَ الجاهليَّةِ
وهذا حق لأنَّ حِكْمَةَ الله غير معلومة؛ بل جَعَلَ الله - عز وجل - مثالاً لمن جَهِلَ حكمته في أنَّهُ حُرِم العلم، كقصة موسى مع الخضر عليه السلام، وهذا ظاهر بَيِّن لمن يتأمل سورة الكهف، فإنَّ موسى عليه السلام عارَضَ الخَضِرْ لظاهر رأيه، والخَضِرْ يعمل على ما أمر الله - عز وجل - بما يوافق حكمته، وهي الغاية المحمودة من وراء الأفعال، فلما عَارَضْ، كان ممن لم يستطع صبرا فَحُرِمَ العلم، قال {قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا} [الكهف:78] .
3- السبب الثالث: هو قياس أفعال الله - عز وجل - على أفعال العباد فيما هو من قبيل العدل والظلم.
فنظروا إلى أفعال الرب - عز وجل - فجعلوا ما هو عَدْلٌ في تصرفات البشر واجِبَاً وعدلاً في تصرفات الرب - جل جلاله -، وجَعَلُوا ما هو ظلمٌ من تصرفات البشر محرّماً أو منفياً وظُلْمَاً في تصرف الرب - جل جلاله -.
وهذا هو ضلال القدرية المعروف حيث جعلوا العدل والظلم في تفسيرها في حق الله - عز وجل - كتفسيرها في حق المخلوق، فقاسوا هذا على هذا وضَلُّوا في هذا الباب؛ لأنَّ الخالق - عز وجل - لا يُقَاسُ على المخلوق في أفعاله وفي تدبيراته في ملكوته.
4- السبب الرابع: إحداثُ ألفاظ ومصطلحات جُعِلَتْ أصلاً في هذا الباب، ثم حُمِل الكتاب والسنَّة عليها، مثل لفظ الاستطاعة بتفسيرهم، والطاقة، وما لا يطاق، والتكاليف وأشباه ذلك.
ومنها أيضاً عند الجبرية الكسب ونحوه.
ومن المعلوم أنَّ هذه الأمور الغيبية كالقَدَرْ الاصطلاح عليها بألفاظ وأسماء لمُسَمَيَّات لم يأتِ عليها برهان أنَّهُ يجعل المرء يُؤَصِلُ ويُقَعِّدْ بشيء لا أساس له.
ولهذا لَمَّا فهموا وظنوا من الشريعة أنَّهُ يُقال كذا، مثلاً الاستطاعة لا تكون إلا مع الفعل، أو قالوا الاستطاعة لا تكون إلا قبل الفعل -كما سيأتي-، أو قالوا الكسب هو الاقتران، أو قالوا كذا وكذا في تكليف ما لا يطاق -كما سيأتي الآن في هذه المواضع-، فسَّرُوها بتفسيراتٍ تَخُصُّهُم.
ولهذا ضَلُّوا في أصلٍ يجب الرجوع فيه إلى الدليل؛ لأنَّ إحداث لفظ وإحداث مصطلح لا شك أنَّهُ سيترتب عليه أشياء كثيرة.
وسيأتي الكلام على الكسب مثلاً وهو أنَّ الكسب مع وروده في الدّليل في قوله مثلا {لَهَا مَا كَسَبَتْ} [البقرة:286] ، {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [التوبة:82، 95] ، ونحو ذلك مع ورود لفظ كَسَبَ، يَكْسِبُ، والكَسْبْ فإنَّ التفسيرات تَنَوَّعَتْ فيه وأحدثوا له فهماً جديداً غير المراد بالكتاب والسنة، فصار ثَمَّ كَسْبْ عند الجبرية، وصار ثَمَّ كَسْبْ عند القدرية، وصار ثَمَّ كَسْبْ عند أهل السنة لأجل أنَّ هذا اللفظ في أصله وإن كان وارداً لكن جُعِلَ مُصْطَلَحَاً على فكرة جديدة توافق ما هم عليه.
فإذاً المصطلحات الجديدة في مسائل القَدَرْ هي سبب الافتراق فيه والضلال فيه، ولو أُلغِيَتْ هذه المصطلحات وبَقِيَ الناس على ما دلَّ عليه الدليل، فإنَّ كثير من الخلاف فيه سيذهب.
ولهذا عند النقاش والحوار مع المخالف في هذه المسائل سَيُبْحَثْ معه أصلاً في اللفظ وفي نشأته، ومن أين أتوا بهذه الألفاظ والتعريفات.
لهذا العلم بالقرآن والسنة حُجَّةْ على كل مخالفٍ أحدث المصطلحات؛ لأنَّ إحداث المصطلحات عقلي واتِّبَاعُ الكتاب والسنة نقلي، ولهذا يغلب النقل العقل الحادث والمصطلح عليه في هذه المسائل.
5- السبب الخامس: من الأسباب التي أنشأت الخلاف والفُرْقَةْ في أبواب القَدَرْ، ما يَصْلُح أن يُقرًّرْ بأنْ نقول: إنَّ التساوي بين العباد في فعل الله - عز وجل - وادعاء أنَّهُم سواءْ في كل شيء -يعني فيما يفعل الله - عز وجل - بهم- هذا مع كونه مخالفة للدليل؛ لكنه نَشَأَ عنه تفريعات وأقوال جعلت الأقوال المخالفة في القَدَرْ كثيرة.
أعيد صياغة هذا السبب بأن نقول: من أسباب ومنشأ الضلال في القَدَرْ الحكم على أفعال الله - عز وجل - بأحكام من جهة النظر إلى الخلق، فجعلوا فعلاً لله - عز وجل - واجباً عليه بالنسبة للجميع، وجعلوا فعلاً لله - عز وجل - ممتنعاً عليه بالنسبة للجميع.
وسيأتي فيما سنذكر اليوم إن شاء الله أنَّ خلاف القدرية في مسألة الاستطاعة ناشئٌ عن أنهم قالوا: الواجب على الله - عز وجل - أن يجعل الناس سواسية فيما يُعطيهم، فكون هذا يُوَفَّقْ وهذا يُخْذَلْ هذا غير سائغ؛ لأنَّهُ تفريق، فإذا جعلنا الأصل هو أن يكون الناس سواسية، فإنَّ هذا قاعدة نبني عليها غيرها من مسائل القَدَرْ.
وهذا التقعيد أو هذه المقدمة نشأ عنها كثير من الخلاف، خاصَّةً عند المعتزلة، ولهذا نشأت أقوال كثيرة مُحْدَثة في القَدَرْ، وخلاف متنوع في المسائل العقلية، وما يجب على الرب - عز وجل - وما لا يجوز عليه.
وهذه تتضح أكثر ببحثنا في الاستطاعة إن شاء الله.
إذا تَبَيَّنَ هذا فالواجب في مسائل الغيب بعامَّة أن لا يُتجاوَزْ القرآن والحديث، وأن يُسَلَّمْ للدِّلَالَةْ، وإذا أشكل على المرء شيء فواجبٌ عليه أن يقول {آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا} [آل عمران:7] كما يقول الراسخون في العلم، مع أنهم يعلمون التأويل في كثير؛ لكن قد لا يعلمون التأويل في بعضٍ؛ يعني طائفة من الراسخين قد لا يعلمون ويعلمه غيرهم، فيقولون {آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا} .
أما ضرب النصوص بعضها ببعض، أو الأخذ بالمتشابه وترك المحكمات، أو قياس أفعال الله - عز وجل - على أفعال خلقه، ونحو ذلك من المسائل التي ذكرنا، أو الخوض في الحِكَمْ والمصطلحات، فإنَّ هذا يُنْشِئُ الافتراق والضلال في هذا الباب لأنَّهُ أمرٌ غيبي بحت.
لهذا ما أحسن قول من قال -قول علي رضي الله عنه وقول غيره (القدر سر الله فلا تكشفه) . يعني لا تحاول كشفه فإنَّ من حاول كشفه لا شك أنَّهُ سيضل؛ لأنَّهُ سِرٌّ من الأسرار اختص الله - عز وجل - به.
هذه مقدمة للمسائل التي سيأتي بيانها إن شاء الله.
__________
(1) وقد ذكر الشيخ بعضاً منها، تجدها في (68) ، وكذا (224)
(2) انتهى الشريط الثامن والثلاثون.(1/557)
قال الطحاوي رحمه الله (وَالِاسْتِطَاعَةُ الَّتِي يَجِبُ بِهَا الْفِعْلُ مِنْ نَحْوِ التَّوْفِيقِ الَّذِي لَا يَجُوزُ أَنْ يُوصَفَ الْمَخْلُوقُ بِهِ، فَهِيَ- يعني الاستطاعة- مَعَ الْفِعْلِ، وَأَمَّا الِاسْتِطَاعَةُ مِنْ جِهَةِ الصِّحَّةِ وَالْوُسْعِ وَالتَّمَكُّنِ وَسَلَامَةِ الْآلَاتِ فَهِيَ قَبْلَ الْفِعْلِ، وَبِهَا يَتَعَلَّقُ الْخِطَابُ، وَهُوَ كَمَا قَالَ تَعَالَى {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا}
_____________________________________________
يريد رحمه الله أن يُقَرِّرْ أنَّ مسألة الاستطاعة وهي القُدْرَةْ والطاقة اختلف فيها الناس ما بين الجبرية إلى القدرية، والقول الوسط فيها هو قول أهل السنة المتابعين لظاهر القرآن والحديث في أنَّ الاستطاعة منقسمة إلى قسمين:
- استطاعة قبل الفعل.
- واستطاعة مع الفعل.
يعني استطاعة يُتَكَلَمُ عنها: قدرة وطاقة يُوصَفُ العبد بها قبل أن يفعل الفعل، وتستمر معه إلى أن يفعل.
وقدرة أخرى -استطاعة أخرى- هذه تكون مع الفعل، ولا يجوز أن ينفَكَّ الفاعل عنها.
وهذا الذي ذكر هو الذي دلَّتْ عليه الآيات ودلَّتْ عليه السنة من أنَّ الإنسان المُكَلَّفْ يوصف بأنَّهُ مستطيع ويوصف بأنه غير مستطيع.
فقال - عز وجل - في الوصف بالاستطاعة {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران:97] ، وقال - عز وجل - {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] ، يعني ما تستطيع، الاستطاعة هي الوسع والطاقة والقدرة، وقال - عز وجل - أيضاً في هذا الباب {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا} [التغابن:16] .
وفي الاستطاعة المنفية قال - عز وجل - في سورة هود {مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ} [هود:20] ، وقال - عز وجل - {وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا (100) الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا} [الكهف:100-101] ، وقال صلى الله عليه وسلم «صل قائما فإن لم تستطع فقاعدا فإن لم تستطع فعلى جنب» (1) ونحو ذلك.
فإذاً الشريعة فيها استطاعةٌ مُثْبَتَة، وفيها استطاعة مَنْفِيَّةْ، وواجب إذاً أن يُنْظَرْ إلى هذه النصوص بالفهم وهي أنَّ المُثْبَتْ غير المنفي.
فإذاً لابد أن تكون الاستطاعة على قسمين، وهذا هو الذي أراده هنا وهو الذي عليه عامة أهل السنة والجماعة، وسيأتي لها مزيد تقرير -إن شاء الله- في المسائل.
وقوله هنا (وَالِاسْتِطَاعَةُ الَّتِي يَجِبُ بِهَا الْفِعْلُ) يعني يجب بها حُصُولُ الفعل وإيقاعُ الفعل ووجود الفعل؛ يعني العمل، فهناك استطاعة، قدرة إذا وُجِدَتْ وُجِدَ الفعل.
لهذا قال هنا (مِنْ نَحْوِ التَّوْفِيقِ الَّذِي لَا يَجُوزُ أَنْ يُوصَفَ الْمَخْلُوقُ بِهِ) وذلك أنَّ الله - عز وجل - هو الخالق لأفعال العباد.
فقوله هنا (مِنْ نَحْوِ التَّوْفِيقِ) هذه جملة اعتراضية وسبك الكلام (وَالِاسْتِطَاعَةُ الَّتِي يَجِبُ بِهَا الْفِعْلُ فَهِيَ مَعَ الْفِعْلِ) .
وقوله (مِنْ نَحْوِ التَّوْفِيقِ) هذا ليُدَلِّلْ على أنَّ الاستطاعة هذه التي يجب معها حصول الفعل هذه فيها أمْرٌ غيبي زائد، فيها إعانة [....] فيها شيءٌ زائد عن الظاهر، ولهذا قال (وَالِاسْتِطَاعَةُ الَّتِي يَجِبُ بِهَا الْفِعْلُ فَهِيَ مَعَ الْفِعْلِ) ؛ لأنه لا يمكن أن يحدث الفعل إلا بقُدْرة، وهذه القدرة لا يمكن أن تكون قبله ثم تنعدم وقت الفعل، فكيف يمكن أن يحصل فعل بلا قدرة للفاعل على فعله؟؟
لكن هل يستقل بهذه القدرة أم ثَمَّ أمر زائد؟
لابد هناك أمر زائد يأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
وقوله في (الِاسْتِطَاعَةُ مِنْ جِهَةِ الصِّحَّةِ وَالْوُسْعِ وَالتَّمَكُّنِ وَسَلَامَةِ الْآلَاتِ فَهِيَ قَبْلَ الْفِعْلِ، وَبِهَا يَتَعَلَّقُ الْخِطَابُ) وهذه الاستطاعة هي الاستطاعة المُثْبَتَة، وهي التي يتعلق بها الحساب والعقاب والخطاب والأمر والنهي؛ لأنَّ الله - عز وجل - جعل للمكلَّفِينَ من المشركين، جعل لهم أسماعاً وأبصاراً وأفئدة، وجعل لهم قُدْرَة على أن يُصَلُّوا، قدرة على أن يتأملوا، وقدرة على تَبَيُّنِ ما أُيِّدَ به صلى الله عليه وسلم من المعجزات والآيات والبراهين؛ لكنهم لا يريدوا أن يسمعوا مع وجود الآلات، ووجود الصحة ووجود القدرة.
إذاً فالمنفي ليس هو الآلة، المنفي بعدم الاستطاعة هو ما يكون مع الفعل مِنَ التوجه إلى الخير والهدى والسماع النافع لما معهم مما يَصُدُّهُ وينفيه من الهوى واتباع الشهوات.
إذا تبين هذا فإيضاح هذه الجمل في مسائل:
__________
(1) البخاري (1117) / أبو داود (952) / الترمذي (372) / ابن ماجه (1223)(1/558)
[المسألة الأولى] :
هذه المسألة متصلة بالقدر والإيمان به وأَصْلُ بَحْثِهَا من المعتزلة.
وذلك أنهم قَعَّدُوا قاعدة وهي أنَّ الناس في فعل الله - عز وجل - سواء، وهو أنَّ العاصي والمؤمن، الكافر والمؤمن، العاصي والمطيع كلهم أُعْطُوا شيئاً واحداً، فهذا فَعَلَ الخير، وهذا فَعَلَ الشر بمحض قدرته.
فهذه التسوية بين الجميع جعلتهم ينفون أنْ يكون هناك أمراً زائداً خُصَّ به هذا ومُنِعَ ذاك.
فجعلوها جميعاً قبل الفعل، وأمَّا مع الفعل في أثناء الفعل فعندهم العبد هو الذي يخلق فعل نفسه.
وبالتالي فلو جُعِلَ هذا مُسْتَطِيعَاً للفعل وهذا غير مستطيع للفعل لكان الناس ليسوا سواسية فيما أعطاهم الله - عز وجل -، وبالتالي يترتب على هذا أنَّ هذا ظُلِمْ وهذا أُعْطِيَ ما لم يُعْطَ غيره.
فإذاً أصل بحث المسألة هي عند المعتزلة.
ولماذا بحثوها؟
للقاعدة التي قَعَّدُوهَا هي أنَّ الجميع يجب أن يكونوا في فعل الله واحد، حتى لا يُظْلَمَ هذا ويُتْرَكْ ذاك.
إذا فهمت هذا الأساس تفهم لماذا افْتَرَقَ الناس في هذه المسألة.
فلمَّا قالوا الاستطاعة لا تكون إلا على هذا النحو؛ وهي أن تكون قَبْلْ، أما المُقَارِنَة فالعبد هو الذي يخلق فعل نفسه، هو الذي يقدر ويفعل، الله - عز وجل - لا يَجْعَلُ هذا مستطيعاً وذاك غير مستطيع؛ لأنَّ هذا ظلم.
وإذا كان كذلك فقابلهم من يُثْبِتُ الاستطاعة المُقَارِنَة وهم الجبرية ونفوا أصلاً أن يكونَ للإنسان قدرة على فعل أي شيء.
لهذا قالوا: ليس هناك استطاعة سابقة، وإنما الاستطاعة هي أنَّه يقدر على الفعل وهذه القُدْرَة في الواقع من الله - عز وجل -، لهذا الإنسان أصلاً لا يستطيع لأنَّ الله - عز وجل - نَفَى قال {وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا} [الكهف:101] ، وقال {مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ} [هود:20] ، ونفى أيضاً عنهم الرمي فقال {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ} [الأنفال:17] .
إذاً لا يمكن أن يفعلوا شيئاً، فقابلوا القدرية في مسألة الاستطاعة لا في مسألة القَدَرْ والجبر.
القَدَرْ والجبر أصلاً الجبرية سبقوا القدرية في مسألة الجبر المُعَيَّنْ، أما القَدَرْ اللي هو نفي العلم فهو الذي كان أولاً.
يعني الجهمية الذين هم الجبرية سابقين المعتزلة الذين هم القدرية، يعني كفرقة.
الجهمية هم الذين أظهروا الجبر ونَصَرُوهُ، من جهة وجود الجهمية قبل وجود المعتزلة الذين هم القدرية.
فإذاً نقول: إنَّ الجبرية قبل لأنَّ الذي مَثَّلَهُمْ الجهمية، وأولئك مَثَّلَهُمْ المعتزلة وهم متأخرون عنها.
أما من جهة القَدَرْ والجبر كقول القدرية سابقون لأنَّ نفاة العلم ظهروا في زمن الصحابة، وأما الجبرية فجاؤوا بعد ذلك؛ لكن تفاصيل أقوال الجبرية والقدرية ما نشأت إلا مع ترسُّخْ المذهبين في الجهمية وفي القدرية المعتزلة.(1/559)
[المسألة الثانية] :
قَرَّرَ الطحاوي هنا أن الاستطاعة على قسمين:
- استطاعة مُتَقَدِّمَةْ، وهذه لا يجب أن تكونَ مع الفعل؛ بل تتقدم وهي المُتَعَلَّقْ بها الأمر والنهي.
- واستطاعة مُقَارِنَة يَجِبُ بها الفعل؛ يعني إذا وُجِدَتْ الاستطاعة حصل الفعل دون تأخر.
1 - أولاً: الاستطاعة قبل الفعل:
«صل قائما فإن لم تستطع فقاعداً» عدم الاستطاعة هنا هل هي خاضعة لِأَنْ يُجَرِّبْ إذا أراد أن يصلي، أو لعدم تمكن آلته من القيام، معروف قبل أن يدخل أصلاً في الصلاة.
{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران:97] ، يَبْدَأْ يَحِجْ ثم ينظر هل هو مستطيع أو لا، أم أنَّ الاستطاعة التي هي الزاد والراحلة وغير هذين أيضاً، هذه تكون قبله؟
تكون قبله.
إذاً هذه معلومة قبل.
فإذاً التكليف الأمر والنهي والعُذْرْ إلى آخره، هذه مُتَقَدِّمَة، استطاعة؛ قدرة، وُسْعْ، آلات، سلامة، صحة، إلى آخره متقدمة.
أيضاً ليست الاستطاعة المرادة في الشرع هي الاستطاعة الكونية؛ بل المراد الاستطاعة الشرعية. -وهذا أوضحت لكم أنَّ الدليل دلَّ عليه-.
والاستطاعة الكونية هذه أخصُّ من الاستطاعة الشرعية، فإنَّه قد يكون المرء مُستطيعاً كوناً ولكنه ليس بمستطيعٍ شرعاً.
مثاله: يمكن له أن يُسِيْلَ الماء على جُرْحِهِ الذي لم يندمل، يمكن أن يغتسل ويُسِيْلْ الماء عليه، هذا يمكنه كونَاً ويستطيع، يمدُّ يده ويصب الماء عليه إلى آخره.
يمكنه أن يصلي الصلوات قائماً لأنَّه غير مشلول؛ لكنه شرعاً لا يُسَمَّى مُستطيعاً لأنَّ:
الأول يورثه زيادة في المرض والشريعة مُتَشَوِّفَة للتيسير.
والثاني يورثه أيضاً عدم الخشوع في الصلاة والتعب إلى آخره ومجاهدة النفس وربما أورثه زيادة المرض، والشريعة متشوفة في الصلاة إلى خشوعه وحضور قلبه وإلى أن لا يزيد مرضه إلى آخره.
فإذاً مما لم ينظُرُوا إليه في البحث أيضاً أنَّ الاستطاعة التي هي سلامة الآلات المُرَادَةْ في القَدَرْ والمرادة في تحقيق المسألة هي الاستطاعة الشرعية لا الاستطاعة الكونية.
أما كونه يقدر، سليم الآلات إلى آخره، هذا قد يُدْخِلُنَا في تكليفه ما هو فوق طاقته أو فوق ما فيه مصلحته شرعاً.
ولهذا نقول: الاستطاعة التي هي قبل الفعل نقسمها إلى قسمين:
- استطاعة كونية.
- واستطاعة شرعية.
والاستطاعة الشرعية هي المُرَادَةْ؛ لأنها هي التي تَعَلَّقَ بها التكليف والأمر والنهي.
فإذاً حَصَلَ من هذه المسألة أنَّ الاستطاعة قبل الفعل ومع الفعل، والتي قبل الفعل تنقسم إلى قسمين، يعني من حيث النظر إليها.
2 - ثانياً: الإستطاعة مع الفعل:
أما الاستطاعة التي مع الفعل (وهي المهمة في هذا الباب، وهذه المسألة عَرْضُهَا في الكتب غير واضح، ويُدْخِلُونْ بعض البحث في بعض، وأنا أُرَتِّبْهَا لك، فكن حاضر القلب معي حتى تستوعب الخطوات) .
فالفعل لا يكون ولا يحصل لأي إنسان -ما يمكن أن يَفْعَلْ الشيء ولا أن يَحْدُثَ هذا الشيء- إلا بوجود ثلاثة أشياء، إذا تَخَلَّفَ واحدٌ منها ما حَصَلَ هذا الشيء أبداً:
@ - القدرة التامة على إيجاد الفعل:
القدرة التَّامَّة ما معناها؟
معناه أنَّهُ إذا لم يكن عنده القدرة على الفعل فإنَّه لا يمكن أن يحصل الفعل.
الأعمى إذا أراد أن يقرأ كتاباً فهل يمكنه؟
يأخذ الكتاب هذا الذي معي ويقرأه، وحروف الكتاب هي الحروف التي يقرأها الُمْبِصْر غير الحروف الثانية التي يستدل بها باللمس.
لو وَضَعَهُ أمام عينيه فإنه لا يمكنه، لو أخذ المصحف ووضعه أمام عينيه فإنه لا يمكن أن يقرأ شيئاً، واضح، لماذا؟
لأنه ليس عنده القدرة.
الذي لم يتعلم الكتابة لو أخذ القلم بيده بين أنامله وأراد أن يَخُطَّ جملة لم يستطع، لماذا؟
لأنَّهُ لم يتعلم.
المتعلم للكتابة باللغة العربية لا يمكن أن يكتب باللغة الصينية؛ لأنَّهُ وإن كان يعرف الحروف باللغة العربية؛ لكن لا يمكنه أن يكتب بالصينية، لأنه لا يقدر على هذا بخصوصه.
فإذاً القدرة التامة هي التي يحصل بها الفعل.
@ - الإرادة الجازمة:
ونعني بالجازمة غير المترددة، فإذا وُجِدَتْ الإرادة الجازمة مع بقية الشروط وُجِدَ الفعل.
لكن لو وُجِدَتْ الإرادة فقط ولم توجد بقية الشروط -ونذكر مثالنا الآن الذي ذكرنا القدرة- فهل يمكن أن يحصل الفعل؟
لا يمكن أن يحصل الفعل.
يريد أن يذهب إلى مكة لكن ما عنده قدرة مالية، يمكن يذهب؟
ما يمكن.
يريد أن يكون حافظاً لكتاب الله لكن ليس عنده القدرة على الحفظ هل يمكن؟
ولو كانت إرادته جازمة ويتمنى وإلى آخره، لا يمكن.
فإذاً الإرادة الجازمة غير المترددة شرطٌ في حصول الفعل، لا يمكن أن يحصل الفعل بإرادةٍ مترددة [.....]
@ - أن يشاء الله - عز وجل - حصول هذا الفعل:
فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، ومشيئته الكونية في هذا، إذا شاء أن يكون الفعل ممن عنده قدرة وإرادة فإنه يُعِينُ العبد على حصول هذا الفعل، كيف يعين العبد؟(1/560)
يعينه بأشياء:
- الأول التوفيق.
- الثاني أن يُعْدِمَ المُعَارِضْ.
مثلاً هو يريد أن يذهب إلى مكة وعنده القدرة المالية وعنده الإرادة الجازمة، ويريد أن يحج هذا العام.
المُعَارِضْ الذي يُعَارِضْ أن يكون هذا من حصول خللٍ له في بدنه، من حصول خللٍ في الطائرة، من عدم تَمَكُّنِهِ، من سرقة المال، من أسباب كثيرة لا تُحْصَى من المُعَارِضَاتْ، هذه هل هي في قدرة العبد؟
ليست في قدرة العبد.
إذاً هذا يدخل في الأمر الغيبي الذي لا يدخل العبد فيه.
إذا اجتمعت هذه الثلاثة حَصَل الفعل، إذا تَخَلَّفَ واحدٌ منها لم يحصل الفعل.
فإذاً الاستطاعة التي يجب بها الفعل، وهي القدرة التي يجب بها الفعل -يعني يحصل معها الفعل- المراد بوجوب حصول الفعل مع وجود الإرادة الجازمة، ووجود إعانة الله - عز وجل - ومشيئته وتوفيقه ودَفْعْ المُعَارِضْ إلى آخر ذلك من الأسباب الذي هو الأمر الغيبي المختص بالرب - جل جلاله -.
القدرة في نفسها -قدرة العبد على الفعل- هل هو الذي أوجدها في نفسه أم الله الذي خلقها فيه؟
الله - عز وجل - الذي خلقها فيه.
الإرادة الجازمة للفعل، تَوَجُّهْ العبد للفعل هذا اختيارٌ منه أم هو مفروض عليه؟
هو اختيار منه.
& ولذلك جاءت الجبرية وقالت:
القدرةُ منفية، لا قدرة له.
والإرادة هو مُرْغَمٌ على أن يريد.
والمشيئة: العبد خَضَعَ للمشيئة فَعَمِلَ ما يريده الرب.
فإذاً: الفعل كله فعل الرب - عز وجل - بلا اختيار، فصار فعل العبد بعد أن حَدَثْ كحركات الأشجار والورقة في الماء والريشة في مهب الريح إلى آخره.
& جاءت القدرية في المقابل وقالت:
القدرة بيد العبد، والإرادة عنده هو، ولا علاقة لفعل الله - عز وجل - به؛ بل العبد هو الذي يَقْدِرْ، فالقدرة خَلْقُهُ، هُوَ الذي خَلَقَ الفعل بقدرته، والإرادة تَوَجَّهَتْ إليه، والقُدْرَة والإرادة يستوي الناس فيها.
فهذا خَلَقَ أفعال الطاعات وهذا خَلَقَ أفعال المعاصي، فنفوا الجزء الثاني.
& أما أهل السنة والجماعة فنظروا إلى الأدلة فوجدوا فيها الثلاثة جميعاً فأثبتوها.
فإذاً حقيقة بحث القدر وبحث الاستطاعة وبحث تكليف ما لا يُطَاق إلى آخره من المباحث، مَبْنِيَّةٌ على الفعل إذا وُجِدْ كيف وُجِدْ؟
فَبَحَثُوا الفعل إذا وُجِدْ كيف وُجِدْ؟
منهم من بَحَثَ في أوائله فتَكَلَّمَ في الاستطاعة المقارنة والاستطاعة السابقة إلى آخره في الكلام الذي بحثنا.
ومنهم من نَظَرَ إلى نتائجه وهو أنَّ هذا فيه فعل طاعة فينتج عنه الجنة وهذا فيه فعل كفر فينتج عنه النار، فلما نَظَرَ إلى نتائجه والظلم والعدل إلى آخره حَكَمَ على المسألة بالنتائج.
والذي ذهب إليه أهل الوسط {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة:143] ، وسط في المِلَلْ ووسط في المذاهب وهم أهل السنة والجماعة قالوا: الفعل لا يوجد إلا بهذه الثلاثة أشياء.
لهذا الطحاوي هنا أشار إلى هذا بإدخال التوفيق بقوله (مِنْ نَحْوِ التَّوْفِيقِ الَّذِي لَا يَجُوزُ أَنْ يُوصَفَ الْمَخْلُوقُ بِهِ)
وهذه الجملة في الواقع ليس لها علاقة بالكلام، والشارح عندكم -شارح الطحاوية- ما تَكَلَمَ على هذه الجملة لماذا أدخلها الطحاوي، وإلا الكلام يستقيم بدونها أن يقول (وَالِاسْتِطَاعَةُ الَّتِي يَجِبُ بِهَا الْفِعْل فهي مَعَ الفِعْلِ)
يريد الطحاوي أن يقول لك: إنَّ الفعل لا يمكن أن يكون إلا بالقدرة والإرادة وفِعْلُ الله - عز وجل - الذي فيه المشيئة وفيه التوفيق والإعانة وفيه دفع المعارض إلى آخره من المسائل.
س/ [.....]
لأ، هذا أمرٌ خارج، هذا فِعْلُ الله - عز وجل -، تنظر الآن فيه شيء ظاهر أنَّ العبد يملكه وهو قدرته وإرادته لكن فيه شيء ما يملكه، وهو دفع المُعَارِضْ.
مثلاً شخص رَكِبَ طائرة جديدة من أحسن الطائرات سليمة ما طار عليها وكل أجهزتها جديدة وإلى آخره وأثناء طيرانها جاءتها زوبعة واحترقت أو ضَرَبَتْ في الأرض إلى آخره فتحطمت، أو جاءتها طائرة ثانية وهو لا يدري وضربتها، فهذا من جهة من؟
ليس من جهة العبد.
مثلاً معك سيارة جديدة، جميع الآلات فيها سليمة، احتطت بجميع الاحتياطات، وأخذت بوسائل السلامة فهل ستنتج السلامة بهذه الأشياء التي عملتها؟
لا، فقد يأتي بعير في الطريق وتصدمه وأنت لا تدري، أيضا قد تأتي أمامك شاحنة وتصدمك إلى آخره.
ولهذا من أعظم النظر في الأسباب أن تنظر في هجرة النبي صلى الله عليه وسلم.
النظر في الهجرة يعطيك ما يجب على العبد أن يفعله، وما ليس للعبد أن يُحَقِّقَهُ من أسباب السلامة.
النبي صلى الله عليه وسلم لمَّا أراد الهجرة إلى المدينة عَمِلَ جميع الاحتياطات:(1/561)
رأى الطريق البعيد الذي ما يمكن أن يظن المشركون أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم يسير فيه، واستأجر رجلاً هاديا خريتاً يقال له ابن أرقد لِيَدُلَّ على هذا الطريق البعيد، ثُمَّ بعد ذلك أيضاً مع هذا الطريق أَمَرَ راعي الغنم أن يمشي على أثره هو وأبو بكر والذي معهم حتى لا ينظروا إلى الأقدام، واختبؤوا في غار.
هذه الأشياء التي فعلها النبي صلى الله عليه وسلم وواجبٌ عليه أن يفعلها؛ لأنَّ الله أَمَرَ باتخاذ الأسباب.
وقف المشركون على رأس الغار.
يقول أبو بكر رضي الله عنه لو أَبْصَرَ أحدهم إلى موضع قدميه لرآنا.
الآن الأشياء التي فعلها النبي صلى الله عليه وسلم ويتحقق بها قَدَرُ السلامة، فعلها أو لم يفعلها؟
فعلها.
لكنها هل نَفَعَت؟
لم تنفع، فالمشركون وقفوا على رأس الغار، أقرب شيء؛ لكن بَقِيَ لو أبصر أحدهم موضع قدمه لرأهما، لم يقدر أحد أن يُنْزِلْ عينيه إلى أسفل، هذا ليس من جهة فعل العبد.
ولهذا المعتزلة في ضلالهم لمَّا جعلوا العبد يخلق فعل نفسه فقط، وهو الذي يتصرّف في نفسه، في مثل هذا لا يستطيعون تفسيره.
كيف هو لم يستطع أن يُنْزِلَ رقبته تحت؟
كأنَّ في رقابهم غُلاًّ يمنعهم من النظر، وهم عدد ما فيهم أحد ينظر أسفل ولو بالغلط؟؟
إذاً هذا فِعْلْ شيء لا يملكه العبد.
لهذا المؤمن ينظر في باب الاستطاعة وباب الأفعال إلى ما يفعله هو وما يُكْرِمُهُ الله - عز وجل - به.
ولهذا {مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُّرْشِدًا} .(1/562)
[المسألة الثالثة] :
- الاستطاعة التي قبل الفعل كما ذَكَرْ هي مناط التكليف: الأمر والنهي.
- والاستطاعة التي مع الفعل -ولم يَذْكُرْها- هي مناط الثواب والعقاب. (1)
- والاستطاعة التي قبل الفعل من جهة السلامة ومن جهة البلوغ مثلاً واليقظة إلى آخره من جميع الأسباب، هذه تتعلق بها الأوامر والنواهي وهي التي يتكلم عنها الفقهاء.
@ أما التي مع الفعل وهي المنوط بها الثواب والعقاب، فمعلوم أنَّ فِعْلَ العبد -كما ذكرنا- لم يستَقِلْ بتحصيل النتيجة، وبالتالي فالثواب إذاً لم يستقل العبد بتحصيل أسبابه.
ولهذا فتقول إذاً: أنَّ إثابة الله - عز وجل - لعبده هو مِنَّةٌ من الله على عبده.
لم؟
لأنَّ أصل تحقيق الفعل لم يكن مُجَرَّدَاً باختيار العبد؛ بل هناك أمر زائد وهو مِنَّةْ الله وفضله على العبد وإعانته عليه.
ولهذا سألني أحد الإخوان الأسبوع الماضي سؤالاً متعلق بهذا المبحث وهو أنَّ رضا الله - عز وجل - عن العبد وإثابته للعبد هو نتيجة لشيءٍ فَعَلَهُ الله - عز وجل - وهو هداية العبد لأن يفعل.
ولهذا المؤمن الصالح كلما زاد علماً عَلِمَ أنَّهُ ليس منه شيء وليس إليه شيء، مثل ما كان يقول ابن تيمية (اللهم ليس مني شيء ولا فِيَّ شيء ولا إِلَيَّ شيء؛ لكن مع ذلك ليس مجبوراً) .
هُوَ ينظر إلى أنَّهُ يختار وعنده قُدْرَة ويعرف أنه مُحَاسَبْ؛ لكن إنْ أعانه الله - عز وجل - ووَفَّقَهُ على الفعل وصار من أهل الطاعة، فإنَّه يعلم أنَّهُ بِسَبَبٍ أَحْدَثَهُ الله - عز وجل - له وهداه إليه.
وهذا معنى نصوص الهداية في القرآن، ليس معنى نصوص الهداية ونصوص القَدَرْ السابق، أنها إجبار على العبد وإنما معناها أنَّ الله هيأ لهذا العبد الأسباب التي تعينه على تحصيل المراد، وأعانه عليها.
وهذا هو تفسير أهل السنة للتوفيق.
في المقابل من جهة العاصي فإنَّ الله - عز وجل - منعه أسباب الهدى.
لماذا منعه؟
لأمْرٍ يرجع إلى نفسه وفِعْلِهْ؛ لأنَّهُ كما أعطى ذاك بسبب فإنَّه مَنَعَ هذا بسبب وهو أنَّهُ رَغِبَ في هواه وتَرَكَ التخلي من هواه ومن شهوته.
ولهذا قال - عز وجل - في وصف الكفار {أَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا} [الفرقان:43] ، وقال - عز وجل - في الآية الأخرى في سورة الجاثية {أَفَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ} [الجاثية:23] ، أضَلَّهُ الله على علم.
إذاً فالذي أُعْطِيَ أُعِيْنْ، والذي حُرِمْ عُومِلَ بسبب فِعْلِهِ هو {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى:30] .
فإذاً نَظَرْ المعتزلة في المسألة وهي أنَّ الذي أُعْطِيَ والذي مُنِعْ إنما من أنفسهم، لم يُعْطِ الله هذا ولم يمنع هذا، هذا في الواقع نَظَرْ منهم إلى الظلم والعدل بما يُحَكِّمُونَ فيه فعل العبد.
مثل أن يُعْطِي ولده هذا ويمنع هذا ويقول لهذا تزوج وهذا ما تزوج، هذا فيه تفريق، لأنَّهُ أُعْطِيَ هذا ومُنِعَ هذا.
لكن هنا الإعطاء صار للجميع، أين الإعطاء الذي صار للجميع؟
هو ما قبل الفعل وهو الاستطاعة المُثْبَتَةْ، لم يُكَلِّفْ الله - عز وجل - المجنون الكافر ورَفَعْ التكليف عن المجنون المؤمن، الجميع سواء لأنَّ هذا تكليف واستطاعة قبل الفعل.
لكن الاستطاعة التي مع الفعل، ينتج عنها الفعل، فَأُعِيْنَ هذا بسبب وحُرِمَ ذاك بسبب، ولو أنَّ الكافر أو الذي ضل لو أنَّهُ سَلَكَ سبيل الهدى ورَغِبَ بإرادته لأعانه الله - عز وجل - ووفَّقَه؛ لكن كما قال - عز وجل - في وصفهم {أَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا} .
ويُمَثِّلْ هذا قول أبي جهل قال (حتى إذا تنازعنا نحن وبنو هاشم الشَرَفْ وكنا كفرسي رهان قالوا منا نبي يأتيه الوحي من السماء وليس منكم نبي، والله لا نؤمن به أبداً) (2) ، هنا دخل الهوى، دخلت الشهوة، ودخلت الدنيا فصدَّتْ.
فإذاً تحقيق القول في المسألة هنا أنَّ سبب ضلال المعتزلة في باب الاستطاعة وباب القَدَرْ في هذه أنهم جَعَلُوا الظلم واحداً، جعلوا هذا وهذا متساويين في القُدْرَة وفي الآلات، ولهذا نَفَوا خلق الله - عز وجل - للأفعال، وقالوا العبد يخلق فعل نفسه لأجل أن لا ينتج عنها أنَّ الله ظَلَمْ فأدخل الجنة هذا وأدخل النار ذلك.
ونَظَرْ أهل السنة أنَّ الله - عز وجل - ساوى بين الناس في التكليف في الآلات في الاستطاعة التي هي قبل الفعل، أمَّا الاستطاعة التي مع الفعل، لا يحدث الفعل إلا بأشياء الله سبحانه وتعالى أعان هذا بأسباب، ومنع هذا بأسباب، وهو سبحانه وتعالى الحكم العدل في هذا كله.
__________
(1) انتهى الوجه الأول من الشريط التاسع والثلاثين.
(2) البداية والنهاية (3/64)(1/563)
قال بعدها رحمه الله (وَأَفْعَالُ الْعِبَادِ خَلْقُ اللَّهِ، وَكَسْبٌ مِنَ الْعِبَادِ)
____________________________________________
يريد أنَّ فعل العبد ليس مَخْلُوقاً له بل الله - عز وجل - هو الذي خَلَقَ فعل العبد.
وهذا يعني أنَّ العبد يفعل ولا يُنْفَى عنه الفعل؛ بل هو يفعل ويعمل، وأفعاله صدرت منه، وهو الذي فَعَلَهَا وهو الذي اختارها وهو الذي أنتجها بإرادته وقدرته، وأمَّا نتيجة الفعل-يعني مع اجتماع الأسباب: القدرة والإرادة إلى آخره- فالله - عز وجل - هو الذي خَلَقَ الفعل.
وهذا يخالف مذهب القَدَرِيَّة الذين يقولون إنَّ العبد يخلق فعل نفسه.
وقوله (خَلْقُ اللَّهِ، وَكَسْبٌ مِنَ الْعِبَادِ) يعني فِعْلْ وعَمَل من العباد، فالعبد يُنْسَبُ إليه الفعل ولا يُنْسَبُ إليه خلق الفعل.
فهو يفعل حقيقة، والله - عز وجل - هو الخالق لفعله.
ودليل ذلك لأهل السنة والجماعة قول الله - عز وجل - {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} [الزمر:62] ، وقال أيضاً - عز وجل - {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة:286] ، وقال - عز وجل - {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [البقرة:281] .
إذاً فإثبات عمل العبد وكسب العبد وأنَّهُ هو الذي حَصَّلْ الفعل هذا واضح، وكذلك إثبات أنَّ الله - عز وجل - خلق كل شيء، هذا دليل هذه المسألة.
ونذكر عدة مسائل تفصيلية:(1/564)
[المسألة الأولى] :
خَلْقْ الله - عز وجل - لأفعال العباد اختلف الناس فيه على أقوال ثلاثة:
1- القول الأول:
هو قول أهل الحق والسنة والهدى أنَّ الله - عز وجل - خَلَقَ العبد وخَلَقَ عمله أيضاً، فأعمال العبد من الخير والشر من الحسنات والسيئات هي خَلْقٌ من الله - عز وجل -؛ لأنَّهُ لا يحدث في ملك الله شيء إلا وهو خالقه سبحانه وتعالى.
2- القول الثاني:
قول المعتزلة بأنَّ الله - عز وجل - لا يَخْلُقُ فعل المكلفين أما غير المُكَلَّفْ فهو خالق كل شيء أما فعل المُكَلَّفْ فلا يخلقه سبحانه وتعالى؛ بل العبد هو الذي يخلق فعل نفسه، ويستدلون لذلك:
- بأدلةٍ عقلية واضحة على مذهبهم.
- وأدلة نقلية محتملة.
أمَّا الأدلة العقلية فهم يقولون: إنَّ الله لا يُوصَفُ بأنَّهُ يخلق فعل العبد لسببين:
@ السبب الأول: أنَّ فعل العبد فيه الأشياء المشينة، فيه الكفر وفيه الزنا وفيه السرقة وفيه القتل وفيه إلى آخره، ولو قيل أنَّ الله هو الذي يخلق هذه الأشياء لصار نسبةً للأشياء السيئة إلى الله وهو منزهٌ عنها.
@ والسبب الثاني: أنَّ خَلْقَ الفعل من الله يقتضي التفريق بين المُكَلَّفِين، هذا خَلَقَ فعل طاعته فأدخله الجنة، وهذا خَلَقَ فعل معصيته فأدخله النار، وهذا ظلم لأنَّهُ لم يساوي بينهم في خلقه وفعله.
3- القول الثالث:
قول الجبرية بأنَّ العبد لا يخلق فعل نفسه، بل الله يخلق فعله وهو ليس له فِعْلْ حقيقة، وليس له تَصَرُّفْ حقيقة، ولا كسب حقيقة، وإنما هذه أمور مَجَازِيَّة، وفِعْلُ العبد في الحقيقة هو فِعْلُ الله - عز وجل - لكن أُضِيفَ للعبد اقتراناً ولم يُضَفْ إليه حقيقةً، وأخرجوا لفظ الكسب كما سيأتي وعلَّلُوا به.(1/565)
[المسألة الثانية:]
قول أهل السنة إنَّ العبد فِعْلُهُ مخلوق لله - عز وجل - استدلوا له بـ: -أدلةٍ نقلية. و -أدلة عقلية.
$ أولاً: من الأدلة النقلية:
قوله تعالى {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الرعد:16، الزمر:62] وهذا عموم لأنَّ كلمة {كُلِّ} في الأصول من الألفاظ الظاهرة في العموم، وهي في عموم كل شيء بحسبه.
فهنا لم يدخل في ذلك صفات الرب سبحانه وتعالى، يعني الله - عز وجل - وذاته وصفاته لم تدخل لأنه سبحانه ليس بمخلوق بذاته وصفاته وأفعاله - جل جلاله -؛ لأنَّ المخلوق حَادِثْ والله - عز وجل - مُتَنَزِّهٌ عن أن يكون حادثاً بل هو - عز وجل - هو الأول والآخر والظاهر والباطن.
ويُسْتَدَلْ أيضاً لهم بقوله تعالى في قصة إبراهيم {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الجاثية:96] .
والعلماء يبحثون كلمة {مَا} هنا {مَا تَعْمَلُونَ} هل {مَا} هنا مصدرية أو موصولة بمعنى الذي؟ (1)
- فقالت طائفة {مَا} هنا مصدرية فيكون المعنى: والله خلقكم وعملكم.
فعند هؤلاء واضح الاستدلال بأنّ العمل مخلوق لله - عز وجل -.
- وقال آخرون وهم أحظى بالتحقيق أنَّ {مَا} هنا ليست مصدرية بل بمعنى الذي فتقرير الآية: والله خلقكم والذي تعملون.
@ فمن قال إنها مصدرية وليست موصولة ففيه ضعف من جهة أنَّهُ احْتَجَّ عليهم في عبادتهم لَِما نُحِتَ، فقال - عز وجل - في قول إبراهيم في سورة الصافات صلى الله عليه وسلم {قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ (95) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات:95-96] ، فإذا كانت مصدرية صار المعنى: والله خلقكم وعملكم.
وعَمَلُهُمْ إيش؟
النحت.
فيصير معنى الكلام والله خلقكم ونحتكم وهم لم يعبدوا النحت إنما عبدوا المنحوت.
@والقول الثاني إنها موصولة أوضح في الاستدلال وموافق لقصة إبراهيم الخليل عليه السلام {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} يعني والذي تعملون، والاستدلال على هذا واضح وهو موافق للسياق.
وتقدير {مَا} بمعنى الذي أفاد فائدتين:
- الفائدة الأولى: أنَّهُ موافق لقوله {أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ} والذي يعملون هو ما ينحتون وهي الأصنام؛ يعني يقول: أنَّ الله خَلَقَكُم وخلق الأصنام التي تعلمونها.
- الفائدة الثانية: أنه في إثبات هذا إثبات أنَّ الأصنام هذه التي عملوها أنها مخلوقة أيضاً؛ لأنهم مخلوقون، قال {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ} وخَلْقُهُمْ يشمل خلق ذواتهم وخلق تصرفاتهم، فرجع الأمر إلى أنَّ هذه الأصنام التي تعملونها مخلوقة لله وأيضاً هي عملكم الذي هو مخلوق لأنكم مخلوقون.
فتحصَّلَ من هذا القول أنَّهُ مناسبٌ للسياق، ويشمل خلق الأصنام والاحتجاج عليهم بعبادتها -يعني في عدم عبادتها- وكذلك فعلهم لذلك.
$ ثانياً: من الأدلة العقلية:
أنَّ الفعل لا يكون -مثل ما ذكرنا- إلا: بقدرةٍ وإرادة.
وقدرة العبد لم يخلقها هُوَ وإنما خلقها الله.
والإرادة نفسها، وجودها في العبد لم يخلقها هو وإنما خلقها الله.
ثم الثالث وهو مشيئة الله.
هذه الثلاث يحصل بها الفعل، والأول والثاني مخلوقة لله - عز وجل - والثالث هو فعل الله - عز وجل - مشيئته صفته سبحانه وتعالى.
فإذاً ما ينتج عنها يكون مخلوقاً.
فإذا كان العَمَلْ حَصَلَ بقدرة وإرادة، والقدرة مخلوقة والإرادة مخلوقة إذاً فالعمل مخلوق.
وهذا استدلالٌ عقلي صحيح وهو موافق للأدلة.
أما كلام المعتزلة والرد عليهم فله مكان آخر لأنَّ المقام يضيق عن بسطه.
__________
(1) سبق ذِكْرُ هذه المسألة (231) وكذلك (241)(1/566)
[المسألة الثالثة] :
في قوله (كَسْبٌ مِنَ الْعِبَادِ) الكَسْبُ من الألفاظ التي جاءت في الكتاب والسنة.
- فأُضيفَ الكسب إلى القلب فقال - عز وجل - {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} [البقرة:225] .
- وأضيف الكسب إلى العبد فقال - عز وجل - {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنْ الْأَرْضِ} [البقرة:267] .
- وأضيف في التكليف أيضاً في قوله {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة:286] ، {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [التوبة:82، 95] ، ونحو ذلك.
وتفسيره في الآيات أن يُقَال:
@كسب القلب هو عمله وهو قَصْدُهُ وإرادته، يعني عمل القلب هو قَصْدُهُ وإرادته وتوجهه وعزمه إلى آخره، يعني في اليمين {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} يعني بما قَصَدْتُمْ أن تُوقِعُوهُ يميناَ، ولهذا في الآية الأخرى في المائدة قال {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمْ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ} [المائدة:89] الآية.
@ أما كسب العمل {مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} يعني من طيبات ما تَمَوَّلْتُمْ من الأموال ومن التجارات ومما أُخْرِجَ لكم من الأرض نتيجة لعملكم.
@ أما الكسب الذي هو نتيجة التكليف {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} فالكسب هنا بمعنى العمل، لذا قال في الآية {ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [البقرة:281، آل عمران:161] وفي الآية الأخرى سورة [آل عمران] ، قال {وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [النحل:111] .
فإذاً كَسَبَتْ وعَمِلَتْ تتنوع في القرآن:
فالكسب الذي هو نتيجة التكليف هو العمل؛ لكن قيل عنه كسب تفريقاً ما بينه وما بين الاكتساب؛ لأنَّ الله - عز وجل - لمَّا ذَكَرَ التكليف في آية البقرة قال {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} ليبيِّنَ - عز وجل - أنَّ عمل العمل الصالح كسب سهل يمكن أن يعمله بدون كُلفةٍ منه ومشقة عليه، أما عمل السيئات التي عليه فيعملها بكُلفَةٍ منه ومخالفَةْ وزيادة اعتمال وتَصَرُّفْ في مخالفة ما تأمره به فطرته.
لهذا قالوا: زاد المَبْنَى في {اكْتَسَبَتْ} لأنَّهُ يحتاج إلى جُهدٍ منه ومشقة بخلاف العمل الصالح فإنه يُقْبِلُ عليه بنفسه.
فإذاً العمل هو الكسب، وهذا هو تفسير أهل السنة والجماعة للكسب على ما دلّت عليه الآيات.
وأما الآخرون من الفِرَقْ: الجبرية والقدرية ففسَّرُوا الكسب بتفسيرات أُخَرْ.
- أما القدرية فإنهم قالوا: الكسب هو خَلْقُ العبد لفعله؛ لأنَّهُ يوافق لمعتقدهم في ذلك.
- والجبرية الذين هم الأشاعرة في هذا الباب فأخرجوا للكسب مصطلحاً جديداً غير ما دلَّ عليه الكتاب والسنة، وقد ذكرته لكم عدة مرات في أنَّ الكسب عندهم هو اقتران الفعل بفعل الله - عز وجل -، اقتران ما يُحْدِثُهُ العبد بفعل الله - عز وجل -.
فعندهم أنَّ الفعل حقيقة هو فعل الله، والعبد حَصَلَ له العمل؛ لكن النتيجة هي الكسب.
فالعبد في الظاهر مُخْتَارْ، العبد في الظاهر يعمل، العبد في الظاهر يُحَصِّلْ ما يريد؛ لكنه في الباطن مفعول به.
والكسب هذا عندهم مما اختلفوا فيه على أقوال كثيرة جداً وليس تحتها حاصل.
المقصود من الكلام أنَّ الكسب عند الجبرية عند الأشاعرة ما يُفَسَّر بتفسيرٍ صحيح، وهو من الألفاظ المبتدعة التي ضَلُّوا بسببها في باب القدر، أَحْدَثَهُ الأشعري ولم يُفَسِّرْهُ بتفسيرٍ صحيح، وأصحابه أيضاً لم يُفَسِّرُوهُ بتفسير صحيح إلا بدعوى الاقتران.
إذا تبيَّنَ هذا، فإذاً حقيقة الكسب الذي أثبته الطحاوي هنا بقوله (خَلْقُ اللهِ، وَكَسْبٌ مِنَ العِبَادِ) نحمِلُهُ على قول أهل السنة والجماعة، مع أنَّهُ يمكن أن يُحْمَلَ على قول الأشاعرة والماتريدية في ذلك.
والأَوْلَى أن يُحْمَلْ على الأصل وهو ما يوافق القرآن والسنة؛ لأنَّهُ هو في جُلِّ عقيدته يوافق طريقة أهل السنة والحديث.
كان بودي أن أذكر تفصيل أكثر؛ لكن على كل حال لها إن شاء الله موضع آخر، أو مناسبة أخرى.
نكتفي بهذا القدر، فالجملة هذه ما أعطيناها حقها (خَلْقُ اللَّهِ) المفروض أن نتكلم على الردود على المعتزلة في قولهم بأنَّ العبد يخلق فعل نفسه ونُبْطِلُ مسألة الظلم والعدل والقياس في الأفعال، ونتكلم عن الكسب عند الأشعرية بتفصيل أكثر؛ لأني سبق أن أوضحته لكم أكثر من هذا في الواسطية (1) ؛ لكن على كل حال، بعض العلم يخدم بعضاً.
نكتفي بهذا القدر، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد. (2)
__________
(1) ذكر الشيخ مسألة الكسب في الشريط 22 من شرح العقيدة الواسطية
(2) انتهى الشريط التاسع والثلاثون.(1/567)
: [[الشريط الأربعون]] :
وَلَمْ يُكَلِّفْهُمُ اللَّهُ تَعَالَى إِلَّا مَا يُطِيقُونَ، وَلَا يُطِيقُونَ إِلَّا مَا كَلَّفَهُمْ.
________________________________________________
قال رحمه الله (وَلَمْ يُكَلِّفْهُمُ اللَّهُ تَعَالَى إِلَّا مَا يُطِيقُونَ، وَلَا يُطِيقُونَ إِلَّا مَا كَلَّفَهُمْ)
يعني العباد المُكَلَّفِين؛ لأنَّهُ لما ذَكَرَ أفعال العباد وأنَّهَا خَلْقُ الله وكَسْبٌ من العباد، ذَكَرَ هذه المسألة وهي أنّه - عز وجل - لم يكلفهم إلا ما يطيقون (وَلَا يُطِيقُونَ إِلَّا مَا كَلَّفَهُمْ، وَهُوَ تَفْسِيرُ: "لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ") إلى آخره، يريد بهذا الكلام أن:
- يَرُدَّ على طائفة ممن يقولون: إنَّ الله - عز وجل - كَلَّفَ العباد بما فوق طاقتهم، وأنَّ بعض الأوامر أو النواهي فوق طاقة العبد.
- ويَرُدَّ على طائفة أخرى يقولون: إنَّ العباد لم يكونوا ليقدِرُوا على أكثر مما أمرهم الله - عز وجل - به.
وهذا معنى كلامه هنا، وسيأتي ما فيه من الصواب والخلل في المسائل إن شاء الله تعالى.
والذي دَلَّت عليه النصوص أنَّ الرب - جل جلاله - رحيم بعباده، يَسَّرَ لهم، وما جعل عليهم في الدين من حرج، ولم يُكَلِّفْهُمْ فوق ما يستطيعون، والآيات في هذا الباب كثيرة كقوله - عز وجل - {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] وكقوله - عز وجل - {رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ} [البقرة:286] ، وكقوله {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16] ، وكقوله - عز وجل - {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78] ، وكقوله - عز وجل - {يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة:158] ، وكقوله صلى الله عليه وسلم «أَحَبُّ الدين إلى الله الحنيفية السَّمحة» (1) ، وكقوله «لن يشادَّ الدِّيْنَ أحد إلا غلبه» (2) ، وكقوله في الحديث الحسن «إنَّ هذا الدين متين فأوغل فيه برفقٍ فإن الْمُنْبَتَّ لا أرضاً قطع ولا ظهرا أبقى» (3) ونحو ذلك من الأحاديث التي فيها صفة الله - عز وجل - في تحريمه الظلم على نفسه وإقامته للعدل في ملكوته وفي أمره ونهيه.
وفي هذه الجملة مسائل:
__________
(1) البخاري (30) / المعجم الأوسط (7351)
(2) البخاري (39) / النسائي (5034)
(3) المسند (13074) / شعب الإيمان (3885) / سنن البهقي الكبرى (4520)(1/568)
[المسألة الأولى] :
قوله (وَلَمْ يُكَلِّفْهُمُ) التكليف جاء في نصوص الكتاب والسنة كقوله {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} ، ويَصِحُّ أن يُقَال على هذا عن العبادات الشرعية أنَّهَا تكليف لأجل هذه الآية، فالأوامر والنواهي فيما يجب الإيمان به وفيما يجب عمله ويجب تركه ونحو ذلك، هذا تكليف.
ومعنى التكليف أنَّ الامتثال له يحتاج إلى كَلَفَةْ لِمُضَادَّتِهِ أصل الطَّبْعْ في استرسال النفس مع هواها.
ولهذا كان المؤمنون قليلين {وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبإ:13] .
فيسوغ أن يقال عن التكاليف الشرعية -يعني عن الأوامر الشرعية- إنها تكاليف لا بمعنى أنَّهَا فوق الطاقة أو أنها غير مرغوب فيها؛ لكن تمشياً مع قول الله - عز وجل - {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} يعني أنَّ ما تَسَعَهُ النفوس وما يمكنها أن تعمله فإنَّ الله - عز وجل - كَلَّفَهَا به.(1/569)
[المسألة الثانية] :
في قوله (إِلَّا مَا يُطِيقُونَ) الطاقة هنا بمعنى الوُسْعْ والتَمَكُنْ؛ يعني ما يمكن أن يفعله وما يَسَعُهُ أن يفعله من جهة قدرته على ذلك.
فيكون معنى الكلام أنَّ الرب - عز وجل - لا يطلب من الإنسان، لا يطلب من الناس؛ بل من الجن والإنس؛ من المكلفين، لا يطلب منهم شيئاً فوق وسعهم؛ بل إنَّ بعض الأوامر والنواهي قد تكون في حق البعض خارجة عن الوُسْعْ فتسقط في حقهم لقوله {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16] ، وقوله {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} [النور:61] .
فبعض التكاليف -بعض الأوامر- تكون في حقِ بَعْضٍ في الوُسْعِ والطَّاقَةْ وفي حق بعضٍ خارجة عن الوسع والطاقة فتسقط عن بعضٍ وتجب على بعض.
فيكون إذاً عدم تكليف ما لا يُطَاقْ فيه التفصيل: بأنه - عز وجل - لا يُكَلِّفُ الفرد المؤمن فوق طاقته.
وهذا يعني أنَّ إطلاق الكلمة (لا يكلف الله - عز وجل - بما لا يُطاق) يعني في جهتين:
- الجهة الأولى: في أصل التشريع فهو - عز وجل - الأعلم بخلقه.
- الجهة الثانية: في التشريع المُتَوَجِّهْ إلى الفرد بعينه، فإنَّه - عز وجل - لا يُكَلِّفُ المسلم المُعَيَّنْ بما لا يطيق، وقد يكون ما لا يطيقه فلان يطيقه الآخر.(1/570)
[المسألة الثالثة] :
قوله (وَلَا يُطِيقُونَ إِلَّا مَا كَلَّفَهُمْ) هذه العبارة أدخَلَهَا هنا لأجل تتمة الكلام السّابق في أنَّ العبد لا يطيق أكثر مما أُمِرَ به.
وهو أراد بذلك أنَّ الأصل في الإنسان التَّعَبُّدْ وأنَّهُ عَبْدٌ لله - عز وجل -، وأنَّ الملائكة لمَّا كانت تطيق كذا وكذا من الأعمال والعبادات جعلهم الله - عز وجل - يقومون بذلك أمراً لا اختياراً، والإنسان بحكم أنَّهُ عَبْدْ لله - عز وجل -، ومربوب ومُكَلَّفْ، فإنه يجب عليه أن يُمْضِيَ عمره وجميع وقته في طاعة الله - عز وجل -.
فَنَظَرَ إلى هذا -يعني نَظَرَ إلى جانب العبودية- وقال: إنَّ العباد لا يطيقون إلا ما كَلَّفَهُمْ، ويعني به أصل التشريع وجملة الشريعة، في أنَّ الناس لا يطيقون أكثر من هذا في التَّعُبُّدْ.
وكأنَّهُ نظر إلى قصة فرض الصلاة أيضاً وما جاء من التردّد أو الحديث بين موسى عليه السلام وبين النبي صلى الله عليه وسلم حتى خُفِّفَتْ إلى خمس صلوات.
وكأنَّهُ نَظَرَ أيضاً إلى جهةٍ ثالثة وهي أنَّ (لَا يُطِيقُونَ) هنا بمعنى أنَّهُ سبحانه لم يجعل عليهم شيئاً في فعله بالنسبة لهم تكليف فوق ما كُلِّفُوا به.
يعني أنَّ نَفْسَ التشريع هو موافق لما كُلِّفُوا به من جهة الأصل العام.
فيتفق جهة الفرد مع جهة التشريع ويدخل في ذلك حينئذ معنى التوفيق.
وهذا التوجيه الذي ذكرته لك من باب حمل كلام الطحاوي رحمه الله على موافقة كلام أهل السنة والقُرب من كلامهم، وإلا ففي الحقيقة فإنَّ الكلام هذا مُشْكِلْ، وقد رَدَّ عليه جمعٌ من العلماء ومن الشُّرَاحْ.
ولهذا نقول: إنَّ هذا التخريج الذي ذَكَرْنَاه وهذا التوجيه من باب إحسان الظن وتوجيه كلام العلماء بما يتفق مع الأصول لا بما يخالفها ما وُجِدَ إلى ذلك سبيل.
وإلا فإنَّ العبارة ليست بصحيحة وهي موافقة لبعض كلام أهل البدع من القدرية ونحوهم؛ في:
- أنَّ العبد لا يَسَعُهُ ولا يَقْدِرُ إلا على ما كُلِّفَ به وأكثر من ذلك لا يستطيع.
- وأنه لا يطيق إلا ما كُلِّفْ ولو كُلِّفَ بأكثر لما استطاع.
وهذا بالنظر منهم إلا أنَّ الاستطاعة تكون مع الفعل، ولا يُدْخِلُونَ سلامة الآلات وما يكون قبل الفعل في ذلك كما فَصَّلْنَا لكم فيما سبق.
ولهذا نقول: إنَّ الأولى بل الصواب أن لا تُستعمل هذه الكلمة؛ لأنها مخالفة لما دلَّتْ عليه النصوص من الكتاب والسنة في أنَّ الله - عز وجل - خَفَّفَ عن العباد، فانظر مثلاً إلى الصيام في السّفر فإنه لو كُلِّفَ به العباد لأطاقوه ولكن فيه مشقة شديدة يَسَّرَ الله - عز وجل - وخَفَّفْ فقال - عز وجل - {يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة:185] ، وكذلك مسألة التيمم والتخفيفات الشرعية من قصر الصلاة ونحو ذلك، وقد قال - عز وجل - {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ} [النساء:101] ، والنبي صلى الله عليه وسلم قَصَرَ في الخوف وقَصَرَ في الأمن، ومعلوم أنَّ قَصْرَ الصلاة في الأمن كونه يصلي ركعتين لو كُلِّفْ فرضاً بأن يصلي أربع ركعات كل صلاة في وقتها كما في الحضر لكان في وسعه أن يعمل وفي طاقته أن يعمل؛ لكنه فيه مشقة عليه، لهذا خُفِّفَ عنه، وهو يطيق أكثر من قصر الصلاة، يطيق لو صَلَّى كل صلاةٍ في وقتها أربع ركعات؛ لكن فيه مشقة.
ولهذا النصوص الكثيرة التي في تخفيف العبادة وفي الرُّخَصْ وفي التيسير كلها تَرُدُّ هذه الجملة من كلامه؛ بل العبد في بعض الأحكام يطيق أكثر مما كَلَّفَه، صَلِّ قائما فإن لم تستطع فقاعداً، عدم الاستطاعة هنا لا تعني أنَّهُ إذا قام يَسْقُطْ وإلا يكون مستطيعاً بل إذا كان يُخْشَى عليه أن يزداد في مرضه أو يتعب أو قيامه يُذهب بخشوعه فإنَّه لأجل ما معه من المرض وعدم الاستطاعة النسبية فإنه يجلس، وهكذا.
فإذاً هذه الجملة (وَلَا يُطِيقُونَ إِلَّا مَا كَلَّفَهُمْ) ظاهرها غير صحيح، وإن كان إحسان الظن بالمؤلف رحمه الله يمكن معه أن تُحمَلَ بِتَكَلُّف على محملٍ صحيح.(1/571)
قال بعدها (وَهُوَ تَفْسِيرُ: "لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ")
_________________________________________________
وفي هذه الجملة إلى آخرها يعني في تفسير كلمة (لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّه) مسائل:(1/572)
[المسألة الأولى] :
كلمة ("لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ") من أعظم الأذكار التي فيها الإقرار بربوبية الله - عز وجل - وبإلهيته وبأسمائه وصفاته، وفيها الإقرار بتَخَلِّي العبد عن كل حولٍ له وقوة ورؤية لما عنده من الآلات والقُدَرْ إلى ما عند الله وحده.
ففيها الفرار من الله - عز وجل - إليه وحده سبحانه وتعالى، وفيها التَّخَلِّي من رؤية النفس التي أوجبت الهلكة في الدنيا والآخرة على طائفة من الخلق.
فمعنى (لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ) :
(لَا) : هنا نافية للجنس؛ يعني جنس الحول.
(حول) : هو إمكان التَّحَوُّلْ من حالٍ إلى حال، وحتى رَفع الكأس إلى فيك، وحتى حركة ثوبك وحركة عمامتك، وحتى حركة عينيك، فإنَّ هذا التحوّل من حالٍ إلى حال في أي شيءٍ تفعله فإنك تنفي جنسه، وتنفي القدرة على هذا التحول، إلا أن يكون بالله - جل جلاله -.
وهذا فيه التبرُّؤْ من الحول والقوة، وأنَّهُ لا يمكنك أن تتخلّى عن الله - عز وجل - طرفة عين، حتى في طرف عينك وفي حركة لسانك وفي حركة أنفاسك فإنَّه لا تَغَيُّرَ من حالٍ إلى حال ولا قدرة لك على تحول شأنٍ من شؤونك مهما قلّ إلا بالله - عز وجل -.
(وَلَا) : لَا نافية للجنس
(قُوَّةَ) : يعني أنَّكَ تنفي جنس القوة التي بها تُوجَد الأشياء والتي بها تُحَصِّل الأمور، تنفي جنسها أن تكون حاصلة لك استقلالاً، أو حاصلة لك في إحداث الأشياء، وهذا منفي، إلا أن تكون بالله - عز وجل -.
وهذه الكلمة العظيمة فيها:
1- أولاً: توحيد الربوبية:
وهذا حقيقة توحيد الربوبية لله - عز وجل -، فإنَّ الإيقان بأنَّ الله - عز وجل - هو المدبر للأمر {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ} [السجدة:5] وأنَّهُ - عز وجل - {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} [الأنعام:59] وأنه - عز وجل - {يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ} [المؤمنون:88] ، وأنَّهُ {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ} [فاطر:2] ، وأنَّهُ ما تسقط من ورقة، وأنه ما من شجرة، ولا هبوب ريح، ولا تحرك في وليد ولا في جنين ولا في دمٍ في العروق، ولا في حركة حيوان صَغُرَ أم كَبُرْ، وأنَّ ذلك كلَّه بتدبير الله - عز وجل -، وأنَّ كلماته الكونية - عز وجل - وسعت كل شيء، كما قال - عز وجل - في آخر سورة الكهف {قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} [الكهف:109] ، يعني الكلمات الكونية لكثرة أوامره - عز وجل - الكونية فيما يحدث في أحوال العباد.
فتَنْظُرْ إلى توحيد الربوبية وتَعْلَمْ أنَّكَ لا فِعْلَ لك ولا حول في أي شيء ولا قوة إلا بالكريم - جل جلاله -.
ومن أعظم ذلك الذي تَتَبَرَأْ فيه من الحول والقوة الهداية وصلاح النفس وصلاح الظاهر وصلاح الباطن، فإنه لا يمكن لعبدٍ يرى نفسه أنَّهُ يفعل ويفعل وأنَّهُ يَقْدِرْ وأن يُوَفَّقَ أبداً؛ بل لا يُوَفَّقَ إلا من تبرأ من الحول والقوة في شأن التكليف وفي شأن الهداية {وَمَن يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ} [الإسراء:97] ، سبحانه وتعالى.
2- ثانياً: توحيد الألوهية:
فيها توحيد الإلهية أيضاً في أنَّهُ إذا كان لا حول ولا قوة إلا بالله وأنَّ المرء والمخلوق لا يمكنُ له أن يفعل إلا بالله وحده دون ما سواه، فلماذا يتعلق قلبه إذاً بغير الله من الآلهة والأنداد والأموات والأولياء والقوى المختلفة في حال البشرية، القوة المادية أو غيرها؟ لماذا يتعلق قلبه بهذه الأشياء؟
فإنما يكون إذاً تعلق القلب بمن يملك الانتقال والنُّقْلَةْ من حالٍ إلى حال ومن يملك القوة.(1/573)
فإذاً تتوجه القلوب في الدعاء ويتوجه المرء في عباداته إلى الله - عز وجل - وحده، ويعلم أنَّ من توجَّهَ إليه الخلق بالعبادة وألَّهُوهُ من دون الله - عز وجل - هم كما وصفهم الله - عز وجل - بقوله {أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (191) وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلاَ أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ} [الأعراف:191-192] ، وقال - عز وجل - في وصفهم يعني في وصف الآلهة {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لَّا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَومِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ (5) وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاء} [الأحقاف:5-6] ، وفي قوله - عز وجل - {قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً (56) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} [الإسراء:56] ، فالآلهة المختلفة مُحْتَاجَةْ ذليلة إلى الرب - جل جلاله -، لا تملك لأنفسها شيئاً من الضر ولا النفع، فإذاً وجب التوجه إلى الله - عز وجل -.
3- ثالثاً: توحيد الأسماء والصفات:
هذه الكلمة العظيمة فيها توحيد الأسماء والصفات عن طريق التّضمُّنْ واللُّزُومْ؛ لأنَّ وصف الله - عز وجل - هنا بأنَّهُ القوي القدير - جل جلاله - يتضمن إثبات صفات الكمال التي تقتضي أنَّهُ لا انتقالَ من حالٍ إلى حال إلا به، فهل ينتقل المرء من حالٍ إلى حال إلا برحمته، هل يستقيم في حياته إلا بهدايته؟ هل يستقيم في أموره إلا بقدرته - عز وجل - وبرحمته وبعفوه وبمغفرته وبعدله إلى آخر الصفات؟
فإذاً هذه الكلمة مُتَضَمِّنَة ويلزم أيضاً من إثباتها إثبات أنواع من الأسماء والصفات للرب - جل جلاله -.
فهي كلمةٌ عظيمة جليلة لذلك كانت من أعظم الكلمات التي هي غراس الجنة ووسيلة إلى الرب - جل جلاله -.(1/574)
قال المؤلف رحمه الله في تفسيرها (نَقُولُ: لَا حِيلَةَ لِأَحَدٍ، وَلَا حَرَكَةَ لِأَحَدٍ، وَلَا تَحَوُّلَ لِأَحَدٍ عَنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ إِلَّا بِمَعُونَةِ اللَّهِ، وَلَا قُوَّةَ لِأَحَدٍ عَلَى إِقَامَةِ طَاعَةِ اللَّهِ وَالثَّبَاتِ عَلَيْهَا إِلَّا بِتَوْفِيقِ اللَّهِ.)
____________________________________________
فتلحظ هنا من هذا التفسير أنَّهُ خَصَّ من معنى هذه الكلمة الانتقال من المعصية إلى الطاعة والتوفيق للطاعات.
وهذا هو الذي يناسب المقام في ذِكْرْ القَدَرْ؛ لأنَّ المخالفين في القَدَرْ -أعني بهم القَدَرِيَّة- ظنوا أنَّ المرء هو الذي يُحَصِّلُ الطاعة بنفسه وأنَّ الله - عز وجل - أعطاه الأسباب إلى آخره فهو القادِرُ على تحصيل الطاعة والهداية لكنه لم يفعل ذلك.
وهذا خلاف ما دلَّتْ عليه هذه الكلمة فضلاً عن مخالفته لأصولٍ كثيرة.
وتحت هذا التفسير مسائل:(1/575)
[المسألة الأولى] :
أنَّ تحوّل المرء عن المعصية إلى الطاعة والقوة على الطاعة لا يكون إلا بتوفيق الله - عز وجل -.
والتوفيق لفظٌ شرعي جاء في النصوص كما في قوله - عز وجل - {وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود:88] ، ويقابله الخذلان.
والتوفيق والخذلان متصلان بالقَدَرْ اتصالاً وثيقاً، ولأجل ذلك فَسَّرَتْ كل فرقة من الفِرَقْ الضالة التوفيق والخذلان بما عندها من الاعتقاد في القدر:
فالمعتزلة والقدرية يُفَسِّرُون التوفيق بما يوافق عقيدتهم.
والجبرية والأشاعرة والماتريدية ومن شابههم يفسرون التوفيق والخذلان بما يناسب عقيدتهم.
وأهل السنة يُفَسِّرُونَهُ بما يوافق ما دلَّ عليه القرآن والسنة ويوافق العقيدة السلفية التي كان عليها هدي السلف الصالح.(1/576)
[المسألة الثانية] :
1- أولاً: معنى التوفيق والخذلان عند أهل السنة:
التوفيق الذي ذكره هنا يقول (وَلَا تَحَوُّلَ لِأَحَدٍ [عَنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ] إِلَّا بِمَعُونَةِ اللَّهِ، وَلَا قُوَّةَ لِأَحَدٍ عَلَى إِقَامَةِ طَاعَةِ اللَّهِ وَالثَّبَاتِ عَلَيْهَا إِلَّا بِتَوْفِيقِ اللَّهِ.)
- التوفيق: هو إعانَةٌ خاصة من الله - عز وجل - للعبد بها يَضْعُفُ أثر النفس والشيطان وتقوى الرغبة في الطاعة، وإلا فالعبد لو وُكِلَ إلى نفسه لغلبته نفسه الأمّارة بالسوء والشيطان.
وهذا يُحِسُّ به المرء من نفسه فإنَّه يرى أنَّ هناك قدراً زائداً من الإعانة على الخير زَائِدْ على اختياره، فهو يختار ويتوجه لكن يُحِسُّ أنَّ هناك مدداً مَدَّهُ الله - عز وجل - يُقَوِّيه على الخير فيما يتّجه إليه من الخير.
وهذا ليس لنفسه وليس من قدرته وقوته ولكن هذه إعانة خاصة.
ولهذا فإنَّ العبد المؤمن يرى أنّه لا شيءَ من الطاعات حَصَّلَهَا إلا والله - عز وجل - وَفَّقَهُ إليها، يعني مَنَحَهُ إعانةً على تحصيلها وعدم الاستسلام للنّفس وللشيطان.
فالتوفيق فيه معنى الهداية والإعانة الخاصة، ويقابله الخذلان.
- فالخذلان: هو سلب العبد الإعانة التي تُقَوِّيْهْ على نفسه والشيطان.
(نعوذ بالله من الخذلان) يعني نعوذ بالله من أن نُسْلَبَ الإعانة على أنفسنا وعلى كيد الشيطان.
2- ثانياً: معنى التوفيق عند الأشاعرة:
أما تفسير التوفيق والخذلان عند الأشاعرة، ويحسُنْ التنبيه عليه لأنَّهُ أكثر ما تجد في كتب التفسير وكتب شروح الأحاديث، وخاصَّةً تفسير القرطبي وتفسير أبي السعود والرازي وأشباه هذه التفاسير، وشروح الأحاديث كشروح النووي والقاضي عياض وابن العربي ونحو ذلك من شروح الأحاديث، فإنَّ أكثر ما تجد تفسير التوفيق والخذلان هو تفسيره عند الأشاعرة.
لهذا ينبغي العناية بهذا الموطن لصلته بالقَدَرْ.
- التوفيق عندهم: خلق القُدْرَةْ على الطاعة، يعني جَعَلُوا التوفيق هو القُدْرَةْ.
- والخُذْلَان: هو عدم خلق القُدْرَةْ على الطاعة.
يعني إِقْدَارُ الله - عز وجل - العبد على الطاعة هذا توفيق، وعدم إِقْدَارُ الله - عز وجل - العبد على الطاعة هذا خذلان.
وهذا كما هو ظاهر لك فيه خلل كبير لأنَّهُ جعل التوفيق إقداراً، وجعل الخذلان سلباً للقدرة، وهذا فيه نوع قوة لاحتجاج المعتزلة على الجبرية في معنى التوفيق والخذلان.
وتفسير أهل السنة وسط في أنَّ التوفيق زائد على الإِقْدار، فالله - عز وجل - أَقْدَرْ العبد على الطاعة بمعنى جَعَلَ له سبيلاً إلى فعلها وأعطاه الآلات وأعطاه القوة ليفعل؛ ولكن لن يَفْعَلَ هو إلا بإعانَةٍ خاصة؛ لأنَّ نفسه الأمارة بالسوء تحضُّهُ على عدم الفعل، عدم العبادة.
وهذا يلحظه كل مسلم من نفسه فإنه يريد أن يتوجه إلى الصلاة ويأتيه نوع تثاقل يريد أن يقوم بنوعٍ من العلم والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويصيب نفسه نوع من التثاقل، وهذا من الشيطان ومن النفس الأمارة بالسوء، فإذا منحه الله التوفيق وأعانه على أن يَتَعَّبْد، أعانه على أن يقول ما يقول بموافَقَةٍ للشرع فهذا توفيق وإعانة خاصة يمنحها الله - عز وجل - من يشاء من عباده.(1/577)
[المسألة الثالثة] :
أنَّ معرفة العبد المؤمن بحقيقة هذه الكلمة ومعنى توفيق الله - عز وجل - ومعنى الخذلان يُوجِبُ له أن ينطَرِحَ دائماً بين يدي ربه - عز وجل - متبرئاً من نفسه ومن حولها وقوتها ومن أن لا يكله الله إلى نفسه طرفة عين.
لهذا قال صلى الله عليه وسلم «ربي لا تكلني لنفسي طرفة عين» (1) يعني حتى في تحريك العين وفي طرفها لا تكلني إلى نفسي، وهذا من عِظَمِ معرفته صلى الله عليه وسلم بربه فهو أعلم الخلق بالرب - جل جلاله - وأخشاهم له - عز وجل - وأتقاهم صلى الله عليه وسلم إلى يوم الدين.
فلهذا إذا علمت معنى (لا حول ولا قوة إلا بالله) ومعنى (التوفيق) ومعنى (الخذلان) فإنه يجب عليك أن تستحضر ذلك في كل حال، واستحضارك ذلك ومجاهدة نفسك على طلب التوفيق من الله - عز وجل - وعدم رؤية النفس وقوة النفس والرأي وما عندك من الأدوات والمال وما عندك من الأسباب، فإنَّ هذا من أسباب التوفيق.
فلا يُطْلَبُ التوفيق من الله - عز وجل - بمثل الانطراح بين يدي الله - عز وجل - في الحاجة إلى توفيقه - جل جلاله -، وإذا ظَهَرَ في العبد استغناء عن توفيق الله - عز وجل - ورؤية ما عنده فإنه يُخْذَلْ.
ألم تر إلى يوسف عليه السلام وهو الكريم ابن الكريم وهو نبي الله - عز وجل - ورسوله صلى الله عليه وسلم حين كان في السجن وظَهَرَ له من السّبب ما ظهر في تفسيره للرؤية ونجاة السّجين من السجن بسبب تفسيره للرؤيا، {وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِّنْهُمَا اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ} قال - عز وجل - {فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ} [الكهف:42] ، وهذا على أحد التفسيرين أنَّ الشيطان أنسى يوسفَ عليه السلام ذِكْرَ الله - عز وجل - في هذا الموطن والتَّعَلُّقَ به - عز وجل - وحده، لا نقصاً في مقام يوسف عليه السلام ولكنه بيانٌ لنوعٍ من الرسالة التي تُؤَدَّى بأقوال الأنبياء وبأفعالهم عليهم الصلاة والسلام.
فالعبد إذا التَفَتْ إلى غير الله - عز وجل - طرفة عين فإنه يُوْكَلْ إلى نفسه ويخرج متضرراً.
وهذا نبي الله - عز وجل - محمد صلى الله عليه وسلم لما أراد الهجرة أخذ بالأسباب التي تُعِينُ على تحقيق المراد، الأسباب المشروعة التي تعين تحقيق المراد ولم يَرَ صلى الله عليه وسلم تلك الأسباب ولم تقم في قلبه بأنه يتَّكِلْ عليها صلى الله عليه وسلم وإنما فعلها لأنها مُقْتَضِيَة لحُدُوثِ مُسَبَّبَاتِهَا في العادة، فأتى برجل من المشركين هادٍ خرِّيت يعرف الطُرُقْ ليسير به صلى الله عليه وسلم بطريقٍ آخر في الهجرة حتى لا يعلم المشركون طريقه، وأيضاً أَمَرَ أسماء وأَمَرَ راعي الغنم أن يَمُرَّ بالغنم على مسيرهم حتى لا يَرَوا الأقدام، فكل الأسباب بُذِلَتْ؛ ولكنها لم تنفع حتى قام المشركون على رأس الغار على ظهر الجبل والنبي صلى الله عليه وسلم في الغار، وأبو بكر رضي الله عنه يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم (يا رسول الله لو أبصر أحدهم موضع قدمه لرآنا) فقال له صلى الله عليه وسلم (يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما) (2)
حركة عين المشرك من أن يرى، هم كانوا يرون ما أمامهم من جهة الساحل.
حركة عين المشرك من أن يرى، كانوا يرون ما أمامهم جهة الساحل، حركة العين إلى أن ترى الأسفل، ترى موقع القدم، فيُبْصرون الغار ويبصرون النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه هذه لا حيلة للنبي صلى الله عليه وسلم ولا حيلة لأبي بكرٍ بها ولا تنفع فيها الأسباب التي فُعِلَتْ؛ لكن بقي توفيق الله وعونه وحقيقة التوكل عليه - عز وجل -.
لهذا أَعْظِمْ في كل شأنٍ من شؤونك وخاصَّةً الهداية والتوفيق للصالحات وطلب العلم النافع والتوفيق للسنة والالتزام بها وملازمة هدي السلف الصالح ومُجَانَبَة طريق المخالفين للسنة والمخالفين لهدي السلف وهدي العلماء، دائماً إِلْجَأْ إلى ربك في تحصيله، فما طُلِبَ من الله - عز وجل - شيء وبوسيلة أعظم من مسيلة التبرؤ من الحول والقوة.
أسأل الله - عز وجل - أن يُفيض علينا من معرفته والعلم به وما به نزدلف إلى رضاه ونبتعد عمّا يسخط ويأبى إنه سبحانه جواد كريم.
__________
(1) أبو داود (5090)
(2) نهاية الوجه الأول من الشريط الأربعين، والحديث رواه البخاري (3653) / مسلم (6319)(1/578)
قال بعد ذلك (وَكُلُّ شَيْءٍ يَجْرِي بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَعِلْمِهِ وَقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ، غَلَبَتْ مَشِيئَتُهُ الْمَشِيئَاتِ كُلَّهَا، وَغَلَبَ قَضَاؤُهُ الْحِيَلَ كُلَّهَا، يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ غَيْرُ ظَالِمٍ أَبَدًا، تَقَدَّسَ عَنْ كُلِّ سُوءٍ وَحَيْنٍ، وَتَنَزَّهَ عَنْ كُلِّ عَيْبٍ وَشَيْنٍ: {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23] .)
___________________________________________
يريد رحمه الله بهذا أن يُقَرِّرَ مُعْتَقَدْ أهل السنة والجماعة أنّه ما من شيء يحدث إلا وهو بمشيئة الله وعلمه وقضائه - عز وجل - وقدَرِه، وأنَّ الأمور لا تُسْتَأْنَفْ، لا يعلمها الله - عز وجل - إلا بعد وقوعها، كلا وحاشا، وإنما تقع على وَفْقِ تقدير الله - عز وجل - لها في الأزل.
يعني علمه - عز وجل - بها، وكتابته - عز وجل - لها في اللوح المحفوظ قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة وأنَّهُ سبحانه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن.
وفي هذه الجملة ذِكْرُ مراتب الإيمان بالقدر المعروفة.
- المرتبة الأولى ذَكَرَهَا في قوله العلم.
- والمرتبة الثانية ذَكَرَهَا في قوله القدر، وهو الكتابة.
- والمرتبة الثالثة ذَكَرَهَا بقوله (بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَعِلْمِهِ وَقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ، غَلَبَتْ مَشِيئَتُهُ الْمَشِيئَاتِ كُلَّهَا) .
- المرتبة الرابعة ذَكَرَهَا في قوله فيما سبق (وَأَفْعَالُ الْعِبَادِ خَلْقُ اللَّهِ، وَكَسْبٌ مِنَ الْعِبَادِ) .
فهو لم يَنُصْ على مراتب القدر المعروفة وهي مُفَرَّقَةٌ في هذا الكلام.
وها هنا مسائل:(1/579)
[المسألة الأولى] :
تفصيل الكلام على مراتب القَدَرْ، هنا لم يُنَصَّ عليه، والشارح أيضاً لم يتعرض له في هذا الموطن وتفصيله أنَّ الإيمان بالقدر يشمل الإيمان بمرتبتين:
1- المرتبة الأولى: سابقة لوقوع الواقعة أو لوقوع المُقَدَّرْ.
وهذا الإيمان السابق يشمل درجتين:
- الدرجة الأولى: الإيمان بعلم الله - عز وجل - بالأشياء قبل وقوعها عِلْمًا كُلِّيَاً وعلما جُزْئِيَّاً؛ يعني عِلْمَاً منه - عز وجل - بالكُلِّيَات وبالجزئيات، وعِلْمُهُ سبحانه وتعالى بهذه الأشياء أوَّلْ كصفاته - عز وجل -.
- الدرجة الثانية: وهو الإيمان بكتابة الله - عز وجل - للأشياء قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة كما جاء في الحديث الذي في الصحيح «قَدَّرَ الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة وكان عرشه على الماء» (1)
(قدر الله مقادير الخلائق) يعني كَتَبَها في اللوح المحفوظ قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، أما مرتبة العلم فهي سابقة فعلمه - عز وجل - بالأشياء أَوَّلْ لا حدود له.
2- المرتبة الثانية: إيمانٌ بالقدر إذا وقع المُقَدَّرْ.
وهذا يشمل درجتين أيضاً:
- الدرجة الأولى: أن يعلم العبد أنَّ مشيئته في إحداث الأشياء هي تَبَعٌ لمشيئة الله - عز وجل -، وأنَّ مشيئة الله نافذة ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن كما قال - عز وجل - {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير:29] ، وقال - عز وجل - {وَمَن يَشَإِ اللهُ يُضْلِلْهُ وَمَن يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الأنعام:39] ، وقال - عز وجل - {وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (30) يُدْخِلُ مَن يَشَاء فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [الإنسان:30-31] .
- الدرجة الثانية: هو أنَّهُ لا يقع شيء مما يقع إلا والله - عز وجل - هو الذي قضاه، وهو الذي خَلَقَ هذا الفعل، فالله - عز وجل - هو الخالق لكل شيء، وفي ضمن ذلك حركات العبد وأفعال العباد كما قال سبحانه {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الجاثية:96] ، على نحو ما فصَّلْنَا في دلالة الآية.
والقضاء والقدر لفظان أتيا في الكتاب والسنة، والعلماء تَكَلَّمُوا في معنى القضاء والقدر والصلة بين هذا وهذا.
والتحقيق في ذلك أنَّ القَدَرَ هو ما يسبق وقوع المُقَدَّر، فإذا وَقَعَ المُقَدَّرْ صار قَضَاءً.
قُضِيَ يعني انتهى، ومادة قَضَى في اللغة تدور حول هذا.
فيُقَال قَضَى القاضي بكذا إذا أَنْفَذَ حكمه وانتهى، وقال - عز وجل - {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ} [فصلت:12] ؛ يعني أَنْهَاهُنَّ بخلقهن سبع سماوات، وقال - عز وجل - {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ} [طه:72] يعني احكم بما تحكم به حتى يكون قضاءً، وقال {فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ} [سبإ:14] .
فالقضاء يُطْلَقْ بمعنى إنفاذ المقَدر، فإذا وَقَعَ المُقَدَّرْ سُمِيَّ قَضَاءً.
وهذا نعني به القضاء الكوني؛ لأنَّ القضاء في النصوص يكون قضاءً كونياً ويكون قضاءً شرعياً.
أما القضاء الكوني فهو على نحو ما مر.
وأما القضاء الشرعي فمعناه أَمَرَ الله ووَصَّى كقوله {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ} [الإسراء:23] ، يعني أمر ربك ووَصَّى أن لا تعبدوا إلا إياه.
ويأتي القضاء في معنىً ثالث إذا عُدِّيَ بحرف (إلى) بمعنى أوحينا وأعْلَمْنَا.
تقول قَضَيْتُ إليه أن يفعَلَ كذا يعني أخبرته أعلمته ولا يعني معنى الإنفاذ كما قال - عز وجل - {وَقَضَيْنَا إِلى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ} [الإسراء:4] وكما في قوله - عز وجل - في آخر سورة الحجر {وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلاَءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ} [الحجر:66] .
{وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الأَمْرَ} يعني أوحينا ذلك الأمر، فهذا بابٌ آخر غير الباب الذي نتتكلم عنه.
__________
(1) سبق ذكره (61)(1/580)
[المسألة الثانية] :
ذَكَرَ هنا الظلم فقال (يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ غَيْرُ ظَالِمٍ أَبَدًا) ولفظ الظلم من الألفاظ التي أدخلها هنا لأنَّ الفِرَق الضالة تكَلَّمَتْ فيها:
- فالمعتزلة لهم كلام في الظلم.
- والجبرية لهم كلام في الظلم.
- وأهل السنة والجماعة أتباع السلف الصالح وسط بين الفئتين.
@ فالظلم عند المعتزلة في حق الله - عز وجل - هو الظلم في حق الإنسان، فما يفعله الإنسان ويكونُ ظلماً منه إذا نُسب إلى الله - عز وجل - فإنَّه ظُلْمْ.
فقاسوا الظلم الذي يضاف إلى الله - عز وجل - بالظلم الذي يقع من الإنسان.
فعندهم الظلم واحد، سواءٌ أكانَ في المخلوق أم في الخالق، ضابطه واحد، وتعريفه واحد، وما يُنَزَّهُ الله - عز وجل - عنه من الظلم، هو ما لا يليق بالإنسان أن يفعله.
@ وأما المتكلمون والأشاعرة ونحو هؤلاء فإنَّ الظلم عندهم هو الامتناع عن القدرة.
وعندهم قُدْرَةْ الرّب - عز وجل - مُتَعَلِّقَة بما لا يشاؤه سبحانه في تَعَلُّقِهَا الأزلي وفي تعلقها الصُّلُوحي -على حد كلماتهم -لا ينشغل ذهنك بها-.
فعندهم القدرة متعلقة بما يشاؤه سبحانه، فما لا يشاؤه غير مَقْدُور.
فمعنى ذلك: الممتنع عن القدرة في تفسير الظلم هو الممتنع في حق الله - عز وجل - عما لم يشأه - عز وجل -.
فعند المتكلمين أو -الأحسن طائفة من المتكلمين لأنها ليست موضع اتفاق بين المتكلمين والأشاعرة ثَمَّ خلاف بينهم وإن كان قليلا- عندهم الظلم هو الامتناع أو ما يمتنع أو ما هو مُمْتَنِعٌ مِنَ القُدْرَة.
فما هو ممنوع ممتنع في قدرة الرب - عز وجل - هو الذي لو فَعَلَهُ لكان ظلماً.
لكن هذا كما ترى تحصيل حاصل، فإنَّه - عز وجل - إذا كان لم يفعل فيكون عدم ظُلْمِهْ في أنَّهُ - عز وجل - لا يفعل الأشياء؛ لأنه لا يَظْلِمُ أحداً، فلو فَعَلَ شيئاً لا يدخل في قدرته -بحسب كلامهم- يكون ظلماً.
وهذا تفسير لا حاصل تحته لأن القدرة شيء والظلم شيء آخر.
فالظلم إذاً في تفسيرهم -تفسير طائفة من المتكلمين والأشاعرة ومن نحا نحوهم- يرجع إلى المُمْتَنِعِ في صفة القدرة لله - عز وجل -، فَرَجَعْ إلى أنَّ المُمْتَنِعْ في مشيئة الله - عز وجل - لو فعله لكان ظلماً؛ لأنَّ عندهم الأفعال أيضاً غير مُعَلَّلَة، وحكمة الله - عز وجل - غير مرتبطة بالعِلَلْ والأسباب في بحثٍ يطول ذكره هنا.
@ وأما تفسير أهل السنة والجماعة والأئمة والذي دَلَّتْ عليه النصوص فهو أنَّ الظلم هو وضع الأشياء في غير موضعها اللائق بها الموافق للحكمة منه - عز وجل -.
والظلم بالتالي يكون غير مرتبط بالقُدْرَةْ وغير مَقيس على أفعال الإنسان؛ بل هو سبحانه متنزه عن الظلم وقد حَرَّمَهُ على نفسه.
مما يتصل أيضاً أنَّ الظلم عند المعتزلة لا يكون إلا من مأمورٍ ومَنْهِي؛ يعني أنَّ حقيقة الظلم تكون فقط ممن يُؤْمَرْ ويُنْهَى، ويورِدُون الآيات في ذلك، ويقولون الآيات كلها دالَّةْ على أنَّ الظلم إنما يكون في حق من أُمِرْ فلم يفعل ونُهِيْ ففَعَلْ وهم المُكَلَّفُونْ.
ولذلك ينفون عن الله - عز وجل - حقيقة الظُّلْمْ لأجل أنَّهُ غير مأمور وغير مَنْهِي، ويَرُدُّون الأحاديث التي فيها تحريم الظلم على الله - عز وجل - ونحو ذلك.
نقول: نضرب مثالا ًعلى ذلك في حديثين:
أما الحديث الأول فقوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم في الصحيح حديث أبي ذر المعروف «يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا» (1) وهذا يدل على أنَّ الله حَرَّمَ الظلم على نفسه، فلو كان الظلم على تفسير أولئك لا يقع إلا من مأمور ومنهي، فكيف يكون تحريمه على الله - عز وجل -؟
يكون تحريمه تحصيل حاصل لا معنى له، ولو كان الظلم هو الامتناع عن القدرة لكان أيضاً إضافته إلى الله - عز وجل - تحريم الظلم ليس له معنى.
فإذاً تحريم الظلم «حرّمت الظلم على نفسي» يعني جعلت وضع الأشياء في غير موضعها الموافق للحكمة جعلته مُحَرَّمَاً على نفسي، وحَرَّمْتُ عليكم أن تظالموا.
والحديث الثاني وقوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو داوود وغيره وصحَّحَهُ بعض العلماء قال صلى الله عليه وسلم «لو أن الله عذب أهل سمواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم» (2) الحديث.
يعني أنَّ أهل السموات والأرض لو عَذَّبَهُمْ الله - عز وجل - لعذبهم وهو غير ظالمٍ لهم.
المعتزلة يَرُدُّون هذه الأحاديث أصلاً، والأشاعرة يُجَوِّزُونَ أن يُعَذِّبَ الله - عز وجل - الناس من غير سبب؛ لأنهم لا حكمة عندهم ولا تعليل لأفعال الله، يفعل ما يشاء بدون علة وبدون سبب، ومنها أَخَذَ صاحب السَّفَارينية في قوله في منظومته، السَّفاريني:
وجَازَ للمولى يعذب الورى ****** من غير ما ذنبٍ ولا جُرْمٍ جرى
__________
(1) سبق ذكره (51)
(2) أبو داود (4699) / ابن ماجه (77)(1/581)
يقول (جائز أن يُعَذِّبَ الورى) يعني الله - عز وجل - من غير ما ذنب ولا جرم جرى.
هذا الحديث أهل السنة لا يُفَسِّرُونه بهذا ولا بهذا؛ يل يفسرونه بعِظَمِ معرفتهم لربهم - جل جلاله - وخشيتهم له ومعرفتهم بحقوقه، فيقول أئمة أهل السنة:
بأنَّ أهل السموات وأهل الأرض إنَّمَا قاموا برحمة الله - عز وجل -، فما فيهم حركة ولا حياة ولا شأن إلا وفي كلٍّ منها فضل من الله - عز وجل - ورحمة ونعمة أفاضها عليهم بها قامت حياتهم وبها استقاموا، كما قال - عز وجل - {وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ} [النحل:53] ، فمِنْ حَقِّهِ - عز وجل - على هذا العبد المكلف الذي لا ترمش عينه إلا بنعمة، ولا يأكل إلا بنعمة، ولا يتنفس إلا بنعمة، ولا يتعلم إلا بنعمة، ولا يخطو خطوة إلا بنعمة، ولا ينظر إلا بنعمة، ولا يسمع إلا بنعمة، ولا يتكلم إلا بنعمة، ولا يفرح إلا بنعمة، إلى آخر نِعم الله - عز وجل - التي لا تُحْصَى ولا تُعَد، من حقه - عز وجل - أن يُقَابَلَ مع كل نعمة بشكر يقابل تلك النعمة.
فإذاً سيمضي حياته في شكر الله - عز وجل - على الصغير والكبير، فهل تسع حياة المكلفين ذلك؟
لا تسع ذلك.
ولهذا تأمل مع هذا قول الله - عز وجل - لنبيه {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح:1-2] .
وتأمَّلْ قول النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة لما قام حتى ورمت قدماه صلى الله عليه وسلم «أفلا أكون عبداً شكوراً» (1) ولن يَبْلُغْ جميعَ ما يَسْتَحِقْ الله - عز وجل - من الشكر بالعمل؛ بل لابد من الاستغفار والإنابة حتى يكْمُلَ شكر العبد لربه - عز وجل -.
وتأمل أيضاً ما عَلَّمَهُ - صلى الله عليه وسلم - الصديق الذي هو أفضل هذه الأمة أن يقول في آخر صلاته: «اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك» (2) كيف عَبَّرَ هنا بالظلم، «ظلمت نفسي ظلما كثيرا» لم؟ هل ظلم أبو بكر بارتكاب الكبائر؟
حاشا وكلا.
هل ظَلَمَ بِظُلْمِ العباد؟
حاشا وكلا.
هل ظلم أبو بكر رضي الله عنه بالتقصير في حق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفي الاستجابة لله ولرسوله الظلم الكثير؟
حاشا وكلا.
ولكن ينظر العبد إلى ما يُفَاضُ عليه من النِّعَمِ في كل لحظة، فيشعر بأنه مُقَصِّرْ والله - عز وجل - وصف القليل من الإعراض في حق العبد بأنه من الظلم، ووَصَفَ الكثير بأنه من الظلم، فلهذا يشعر المؤمن بأنَّهُ ظلم نفسه ظلماً كثيراً؛ لأنه لا يمكن أن يشكر حقيقة الشكر.
فلو حاسَبْ الله - عز وجل -العباد، حاسب أهل السموات وأهل الأرض وأهل الأرض على حقيقة شكر ما أنعم الله به عليهم وأعظم ذلك أن جعلهم مُتَّصِلِينَ منه بسبب ومرفوعين إليه - عز وجل - وأنهم من المنيبين وأنهم من المهتدين لما قامت حيلة العبد ولما قام إيمانه ولما قام له شيء؛ ولكن ما ثَمَّ إلا رحمة الله - عز وجل - «لن يدخل أحداً منكم عمله الجنة» قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال «ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضلا» (3) .
فإذاً ننظر إلى قوله «لو عذب الله أهل سمواته وأهل أرضه لعذبه وهو غير ظالم لهم» لأنَّ الشكر لن يكون في تمامه، فإذاً هم لن يُعْدَمُوا؛ بل لن يكونوا إلا مُقَصِّرِين، لن يكونوا إلا لم يُوَفُّوا مقام الشكر حقه.
بل حتى التوبة والإنابة إذا العبد كَمَّلَ الشكر بتوبته وإنابته دائماً واستغفاره فإن قَبُول التوبة وحصول المغفرة وقبول الإنابة من العبد أليست هذه نعمة تستحق شكرا مجددا؟
فإذاً لو عَذَّبَ الله أهل سمواته وأهل أرضه لَعَذَّبَهُم وهو غير ظالم لهم، فلا يبرح العبد أن يرى نعمة الله - عز وجل - تُفِيْضَ عليه في أمر دينه وفي أمر دنياه وليس ثَمَّ أمامه سبيل إلا أن يشعر بالتقصير.
وهذا المؤمن الحق دائماً يقول مُحَقِّراً نفسه، عسى الله أن يتغمدنا برحمة منه وفضل ولو كان يصوم النهار ويقوم الليل، وانظر إلى كلام أبي بكر رضي الله عنه في دعائه.
فكيف حال المغرورين الجهلة والمذنبين من هذه الأمة الذين لا يرون أثراً لذنوبهم ولا لإعراضهم؛ بل إذا فعلوا القليل مَنُّوا وأدْلَوا على الله - عز وجل - به وهذه حال من لم يُوَفَّقْ.
أسأل الله - عز وجل - أن يوفقنا جميعا إلى ما يحب ويرضى.
هذا تفسير الظلم عند الطوائف المشهورة: القدرية وهم المعتزلة والجبرية وهم أصناف والمتكلمين وقول أهل السنة فيما بين هؤلاء وهؤلاء.
نختم بهذا، وهذه المسائل التي ذكرت مختصرة جدا، وإلا فبحوث القدر كثيرة، ولا نريد منكم أن تتوسعوا أكثر إلا فيما شملته العقيدة الواسطية وشملته العقيدة الطحاوية، ففيهما بركة؛ لأنَّ كثرة الخوض في القدر مُلْبِسَة إلا بعلمٍ راسخٍ في الكتاب والسنة.
في الختام أسأل الله - عز وجل - لي ولكم التوفيق للصالحات وأن يرحمنا برحمته وأن يوفقنا إلى طاعته.
__________
(1) البخاري (1130) / مسلم (7302)
(2) سبق ذكره (369)
(3) سبق ذكره (378)(1/582)
الحمد لله الذي أنْعَمَ بالصالحات ويَسَّرَ لِسُبُلِ الخيرات، هو المحمود على كل حال، وهو المحمود على نعمه التي لا ينفكّ منها العبد في صباحٍ ولا مساء، له الحمد كلّه كثيراً كما ينعم كثيراً، وله الشكر - عز وجل - كثيراً كما أنه يشفي ويتفضّل كثيرا، اللهم عاملنا بعفوك إنك سميع قريب، أما بعد:
الأسئلة:
س1/ هل الملائكة الموكلة بالإنسان سواء الكتبة أو الحافظون تكون ملازمة للإنسان؟ أم أنهم ينفكون عنه عند دخوله الخلاء؟ وما معنى قوله تعالى {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق:16] ؟ (1)
: [[الشريط الواحد والأربعون]] :
ج/ أما معنى الآية فقوله {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} فهذا قرب الملائكة، لا قرب الرب - عز وجل - بذاته سبحانه وتعالى؛ لأنَّ القرب كما هو معلوم نوعان:
- قربٌ عام.
- وقربٌ خاص.
والقرب العام لا يُثْبَتْ لله - عز وجل - قربٌ عام من جميع خلقه وإنما يُثْبَتْ القرب الخاص، وما جاء في النصوص من ذكر القرب العام كهذه الآية {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} فإنما هو قرب الملائكة كما حققه ابن تيمية وابن القيم وجماعة آخرون.
والملائكة أنواع منها ملائكة ملازمة للعبد لا تنفك عنه البتة، ومنها ملائكة تنفك عنه وتفارقه في بعض المواضع أو لبعض الأسباب.
فدخول الخلاء، وجماع الإنسان لأهله، وكون الإنسان يكون جُنُبَاً، وأشباه ذلك مما جاء في الأحاديث، هذا من أسباب أنَّ بعض الملائكة لا يرافقونه، ينفكون عنه.
ثُمَّ هل الملائكة هذه هي الملائكة الكَتَبَة أم الحَفَظَة أم هما معاً؟
خلافٌ بين أهل العلم، والصحيح أنَّ الحَفَظَة بخصوصهم هؤلاء ينفكون عن ملازمته وأما الكتبة فإنهم لا ينفكون.
والحَفَظَة يحفظ الله - عز وجل - العبد بهم كما قال {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [الرعد:11] ؛ يعني يحفظونه بأمر الله، فإذا جاء قَدَرُ الله تَخَلَّوا عنه، فالله - عز وجل - ييسر لهم من أسباب الحفظ ما ييسر.
هذا وجه في الجمع بين الأحاديث، وثَمَّ تفصيل آخر نكتفي بهذا، نعم
__________
(1) نهاية الشريط الأربعين.(1/583)
وَفِي دُعَاءِ الْأَحْيَاءِ وَصَدَقَاتِهِمْ مَنْفَعَةٌ لِلْأَمْوَاتِ.
____________________________________________
قال رحمه الله (وَفِي دُعَاءِ الْأَحْيَاءِ وَصَدَقَاتِهِمْ مَنْفَعَةٌ لِلْأَمْوَاتِ.)
يقرّر العلامة الطحاوي رحمه الله مذهب أهل السنة والجماعة في أنَّ الميت ينتفع بِعَمَلٍ يعمله الحي، وأنَّ الميت إذا مات لا ينقطع من الانتفاع البتة؛ بل ربما انتفع ببعض الأعمال.
فَذَكَرَ أنَّ الدعاء من الحي للميت ينفع، وأنَّ الصدقة تنفع بمعناها العام وبمعناها الخاص أيضاً.
وهذا يريد منه تقرير مذهب أهل السنة والجماعة في مُضَادَّةِ مذاهب المعتزلة ونحوهم من العقلانيين الذين يَرُدُّونْ النصوص أو يتأولونها على غير وجهها.
وهذه المسألة كانت شائعة في ذلك الزّمان وأنَّ الحي لا ينفع الميت، وإنما الميت إذا مات انتهى وانقطع من أن ينفعه الحي، وإنما الحي ينفع نفسه وثَمَّ مجادلات في هذا.
وأهل السنة والجماعة صاحوا على من خالف النُّصوص في ذلك من كل جانب وقَرَّرُوا ما جاءت به الأدلة من الكتاب والسنة وأقوال السلف الصالح في هذه المسألة.
وفي الظاهر أنَّ هذه المسألة لا علاقة لها بالعقيدة؛ لأنها في الدعاء والانتفاع، وهذه المسألة يبحثها الفقهاء في آخر كتاب الجنائز كما هو معروف، وأمَّا وجودها في كتب الاعتقاد فليست لأنها مسألة عَقَدِيَّةْ داخلة في أحد أركان الإيمان الستة؛ ولكن لأجل أنَّ المبتدعة ضَلُّوا فيها عن تحكيم القرآن والسنة، وأهل السنة والجماعة أتباع السلف الصالح لهم فيها إجماع واتفاق، فصارت من جملة مسائل الاعتقاد لمخالفة أهل السنة فيها لأهل البدع ثُمَّ تقريراً لما جاء فيها من النصوص والأدلة.
ثم هاهنا مسائل:(1/584)
[المسألة الأولى] :
أنَّ انتفاع الميت بِسَعْيٍ الحي هذا اتَّفَقَ عليه علماء أهل السنة من الأئمة من أهل الحديث ومن الفقهاء ومن أهل التفسير، اتفقوا فيه على نوعين دون خلافٍ بينهم:
1- النوع الأول الدعاء: وهو أنَّ الدعاء نافع، فالدعاء يجيبه الله - عز وجل - من الحي للحي ومن الحي للميت، ولهذا شُرِعَتْ صلاة الجنازة وهي صلاةٌ بلا ركوع ولا سجود، وإنما هي ثناء على الله - عز وجل - وحمد له سبحانه وصلاة على نبيه صلى الله عليه وسلم ثم دعاء للميت، فهي كلها دعاء وأدبها أدب الدعاء، ولذلك هي تَفْتَتِحْ بالفاتحة {الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ، قال العلماء: ولا يُسَنُّ هنا أن يستفتح بقوله: سبحانك الله وبحمدك. لأنه داعٍ وليست من جنس الصلاة الأخرى، ولم يأت في السنة ما يدل على الاستفتاح، ثم بعد الفاتحة وهي حمد لله - عز وجل - وثناء تأتي الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بعد التكبير الثاني، ثم إذا صلى فإنو يدعو.
وهذا هو أدب الدعاء فإنَّ العبد إذا دعا ربه - عز وجل - في أي دعاء فإنه يحمد الله - عز وجل - ثُمَّ يصلي على نبيه صلى الله عليه وسلم ثم يدعو الله بما شاء من المسائل.
فصلاة الجنازة دعاء، وهي بالاتفاق مشروعة وبالإجماع مشروعة، فدعاء الحي للميت هذا جَارٍ عليه الاتفاق.
وكذلك ما جرى عليه الاتفاق أيضاً أنَّ الحي يتصدّق عن الميت بصدقة مالية يبذلها لأجل الميت؛ يعني لينفع الميت بها تَبَرُّعَاً منه، وهذا اتفق عليه علماء السنة من علماء الحديث والتفسير والفقه -كما هو معلوم- على خلافٍ بينهم في بعض تفصيلات ذلك.
2- النوع الثاني كل عملٍ صالح تَسَبَّبَ فيه الميت في حياته فإنه ينفعه ذلك بعد وفاته: وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم «من دعا إلى هدى كان له من الأجور مثل أجور من اتبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا» (1) وكما جاء في الحديث الثاني أيضا في صحيح مسلم «من سنّ في الإسلام سنة حسنة كان له أجرها وأجر من علم بها إلى يوم القيامة» (2) ، وهذا يعني أنَّ ما تسبب فيه في حياته فإنه ينفعه بعد وفاته.
وكذلك الولد -الولد الصالح- فإنه تسبب فيه العبد، فإنه إذا دعا لأبيه فهو يدخل في ما أُجْمِعَ عليه أولا وما يدخل في السبب ثانياً.
فإذاً ثَمَّ صور أُجْمِعَ عليها، والأدلة على ما أُجْمِعَ عليه كثيرة متنوعة من الكتاب والسنة، يأتي بعضها إن شاء الله تعالى.
__________
(1) مسلم (6980) / أبو داود (4609) / الترمذي (2674) / ابن ماجه (206)
(2) مسلم (2398) / النسائي (2554)(1/585)
[المسألة الثانية] :
اختلف العلماء في مسائل العبادات التي لا تدخل في معنى الصدقة المالية، وهي العبادات البدنية، مثل تلاوة القرآن، ومثل الصلاة، ومثل الصيام والحج فيما فيه من البدن، ونحو ذلك؛ يعني فيما يصل فيه من الثواب هل هو الكل أو البعض، وإن كان الخلاف في الحج ضعيفاً.
هذه المسائل التي اخْتُلِفَ فيها وهي العبادات البدنية:
من أهل العلم من قال تصل ومنهم من قال لا تصل.
1- القول الأول: ذهب جمهور السلف كما عزاه إليهم ابن تيمية ابن القيم وغير ذلك وعَبَّرُوا بالجمهور وذهب الإمام أبو حنيفة والإمام أحمد وجماعات من أهل الحديث والأثر إلى أنَّ الميت ينتفع بما تَقَرَبَ الحي به إلى ربه وأهدى ثوابه إلى الميت؛ يعني أهدى الحي الثواب إلى الميت.
ويقول في هذا طائفة من العلماء: وأَيُّ قُرْبَةٍ فَعَلَها المسلم وأهدى ثوابها لمسلمٍ حيٍ أو ميتٍ نَفَعَهُ ذلك.
2- القول الثاني: وهو ما ذهب إليه مالك والشافعي وطائفة من العلماء أنَّ الميت لا ينتفع من سعي الحي بالعبادات البدنية المحضة، العبادات التي فيها صلاة مثلاً قراءة القرآن الصيام وأشباه ذلك، وإنما ينتفع بما كانت عبادةً مالية أو دخل فيها المال كالحج، وأما غير ذلك فإنه لم تدلَّ الأدلة عن انتفاعه فيبقى الباب على عدم الانتفاع -وسيأتي التفصيل والترجيح-(1/586)
[المسألة الثالثة] :
من أدلة أهل السنة والجماعة على أصل الانتفاع قول الله - عز وجل - {وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} [الحشر:10] فأثنى عليهم بالدعاء وهذا يقتضي الإنتفاع.
ومنه قوله صلى الله عليه وسلم «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له» (1) .
وفي الصحيح أيضاً أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم جاءه رجل فقال: إن أمي أُفْتُلِتَتْ نفسها -يعني ماتت فجأة- وإنها لو تكلمت لأوصت أو لتصدقت أفينفعها إن تصدقت عنها؟ قال «نعم» (2) .
وجاء أيضاً في صدقات الصحابة عن الأموات الشيء الكثير.
كذلك جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وطلب منه أن يحج عن ميتٍ له فأذن له بالحج.
وفيه أيضاً أنَّ امرأة قالت: إنَّ أمي ماتت ولم تحج أفأحج عنها؟ قال «أرأيت إن كانت على أمك دين أكنت قاضيته؟» قالت: نعم. قال «فاقض عنها، فإن الله أحق بالقضاء» (3) .
ونحو ذلك في هذا الباب.
أيضاً مما يدخل فيه مع تنوع الأعمال أصل الوقوف؛ يعني أصل الأوقاف، فإنَّ الصحابة ما كان منهم أحد له فضل مال إلا وحبس يعني أَوقَفَ -أوقف على نفسه- وهذا مما ينفعه ويدخل في قوله «صدقة جارية» .
وأما الذين قالوا إنه لا ينتفع إلا بالعبادة المالية قالوا:
إنَّ هذه المسائل منها:
- ما هو مُجمعٌ عليه، وهذه اتَّفَقْنَا عليها وهي الصورتان الأوليان.
- ومنها ما هو مُخْتَلَفٌ فيه وهي العبادات البدنية فهذه لم يأت دليل فيها؛ بل جاء الأثر عن ابن عباس بأنه قال (لا يصل أحد عن أحد ولا يصوم أحد عن أحد) (4) فهذا يدل عن امتناع أن يكون أحد يصلّي عن أحد أو يصوم أحدٌ عن أحد.
وأجاب الأولون عن ذلك بـ:
- أنَّ الصيام جاء فيه أنَّ الحي يصوم عن الميت إذا كان عليه صيام، كما جاء في الحديث الذي رواه البخاري وغيره «من مات وعليه صوم صام عنه وليه» (5) يعني صوم واجب.
وهل الصوم الواجب هذا صوم النذر كما في الرواية الأخرى؟ أو كل صيامٍ واجب سواءٌ أكان صيام رمضان الواجب الذي لم يقضه مع إمكانه القضاء، أو صيام الكفارات أو نحو ذلك؟
خلاف بين أهل العلم؛ ولكنهم قالوا: إنَّ الحي يصوم عن الميت الصيام الواجب بدلالة السنة على ذلك.
- وأيضاً قالوا: إنَّ ما جاء في السنة من الأحوال هذه جاءت جواباً عن أسئلة، فالنبي صلى الله عليه وسلم سُئِلْ عن الصدقة فأوصى بها، سُئِلْ عن الحج فقال «حُج» أو قال «حُجي» ونحو ذلك.
وهذه الأسئلة لا تفيد العموم فلا يُفْهَمْ من جواب السؤال أنه لا يجوز إلا فيما جاء السؤال والجواب عنه؛ لأنَّ السائل ليس هو المُشَرِّعْ، وإنما جواب النبي صلى الله عليه وسلم كان بقدر السؤال.
ولهذا كان الأقرب أن يُعَمَّ ذلك وأن يُقَال إنَّ ما جاء الإذن فيه دَلَّ على وصول جنس الثواب دون تفريق لأنَّ التفريق ما بين نوع ونوع يحتاج إلى دليل، وهذه المسائل لم يبتدئها الشارع وأَذِنَ بكذا وكذا أصلاً يعني ابتداء وإنما كان إجابة لأسئلة.
وبين هذا الاستدلال وهذا الاستدلال ذهب المفتون من العلماء إلى أحد هذين القولين من المتقدين والمتأخرين:
@ فمنهم من يقول بالتعميم كما قال ابن القيم وجمهور السلف والإمام أحمد وأصحابه وابن تيمية وابن القيم وطائفة من أئمة الدعوة رحمهم الله تعالى.
@ ومنهم من يقول بقول مالك والشافعي بأنه يُقْتَصَرْ على ما ورد دون غيره.
وهذا تجد من يفتي به وهذا تجد من يفتي به.
* والأقرب في ذلك هو التفصيل وهو أنَّ إهداء الثواب غير ابتداء العبادة، فهما صوراتان:
1- الصورة الأولى إبتداء العبادة:
ابتداء العبادة هذا عبادة فيحتاج إلى دليل يدلُّ على أنَّ المرء ينوب عن غيره عن حيٍ أو ميت في العبادة، فيبتدئ العبادة عن فلان، وهذا لابد فيه من التوقيف لأنَّ الأصل عدمه، وجاء الإذن في العبادات المالية فينبغي أن يكون أن يُقْتَصَرْ عليها بل يجب أن يُقْتَصَرْ عليه كما جاء في الأدلة؛ لأنها ابتداء عبادة وابتداء العبادة هذا لابد فيه من دليل؛ لأنَّ الأصل أنَّ أحداً لا يعمل عن أحد، لا ينوب أحد عن أحد، وكل إنسان يعمل.
لهذا الصحابة سألوا؛ لأنَّ الأصل متقرر عندهم، سألوا أأحج؟ أتصدق عنها؟
وهذا يدل على أنَّ الأصل المستقر هو أن لا ينوب أحد عن أحد في ذلك.
__________
(1) الترمذي (1376) / النسائي (3651)
(2) البخاري (1388) / مسلم (2373)
(3) البخاري (1852)
(4) سنن النسائي الكبرى (2918) ، وروى الإمام مالك في الموطأ (669) أنه بلغه أن عبد الله بن عمر: كان يسأل هل يصوم أحد عن أحد أو يصلي أحد عن أحد فيقول لا يصوم أحد عن أحد ولا يصلي أحد عن أحد.
(5) البخاري (1952) / مسلم (2748)(1/587)
هذه صورة وهو أن يبتدئ العبادة، يحج لبيك حجا عن فلان عن فلانة، هذا ابتدأ العبادة عن فلان أو فلانة، أو اللهم إنَّ هذه الصدقة عن فلان أو عن والدي أو عن والدتي فلانة، فهذا ابتدأ العبادة، فهذه جاءت الأدلة بجوازه.
لكن ابتداء الصلاة يقول: اللهم إنَّ هذه الصلاة عن والدي أو عن والدتي، اللهم إنَّ هذا الصيام عن والدي أو عن والدتي، فهذا لم يأتِ به دليل لأنه ابتداءُ به عبادة، وهذا يدل عليه أثر ابن عباس قال (لا يصلي أحد عن أحد، ولا يصوم أحد عن أحد إلا من مات وعله صيام صام عنه وليّه) .
فدلَّ على أنَّ الأصل عدم النيابة في هذه العبادات؛ بمعنى أن لا يبتدئها فيجعل العبادة من أولها مَعْمُولَةً لفلان أو فلانة.
2- الصورة الثانية أن يبتدئ العبادة لنفسه ثم إذا فرغ من العبادة أهدى ثوابها:
وهي مختلفة عن الصورة الأولى وهي أن يبتدئ العبادة لنفسه، أن يعمل العمل لنفسه، يصلي لنفسه، يقرأ القرآن لنفسه، يعتمر لنفسه، يصوم عن نفسه، وهكذا في أي عمل، يذكر الله - عز وجل - عن نفسه، ثم إذا فرغ من العبادة قال اللهم اجعل ثواب قراءتي هذه لوالدي لوالدتي، لمن له حق علي، لفلان إلى آخره.
فهذا ليس الأصل المنع؛ لأنَّ العبادة وقعت صحيحة، وهو يقول أنَّ الأجر إنْ تقبله الله وثَبَتَ الأجر، فإنَّ هذا الثواب إذا استقر لي فإنه مهدىً إلى غيري؛ يعني دعا الله - عز وجل - أن يتقبل منه وأن يجعل فلاناً أو فلانة شريكين في الثواب.
وهذا التفريق لا رَدَّ له، لا من جهة السنة ولا من جهة كلام السلف الصالح، فإنهم إنما نَهَوا عن الابتداء ولم ينهوا أو ينهى الأئمة ولا المعروفين من السلف لم ينهوا عن إهداء الثواب للميت.
وهذا يقتضي أنَّ التفريق ما بين الابتداء وإهداء الثواب مُتَعَيِّنْ في هذه المسألة، وأنَّ إهداء الثواب بعد الفراغ من العبادة ليس تعبداً وإنما هو محض تفضّل وإحسان.
ولهذا أئمة السنة المتحققون بالسنة ورد البدعة ذهبوا إلى جواز إهداء الثواب كالإمام أحمد وابن تيمية وابن القيم وطائفة من أئمة الدعوة كالشيخ محمد بن عبد الوهاب وجماعة.
ومن نهى من أئمة الدعوة فإنه لم يلحظ هذا التفريق في كلام الأئمة لأنهم رأوا إهداء الثواب ولم يرعوا النيابة في أصل العبادة.
فقالوا: وأي قربة فَعَلَهَا المسلم وأهدى ثوابها، فالقربة فُعِلَتْ وانتهت وأهدى ثوابها لمسلم حي أو ميت والأجر يتصرف فيه من حازه على ما يرغب، فإذا أَعْطَى بعض أجره غيره، فإنَّ هذا له ولا أصل يدلُّ على المنع من ذلك.(1/588)
[المسألة الرابعة] :
المبتدعة -أعني المعتزلة من شابههم- احتجوا بحجتين:
1- الحجة الأولى: قالوا يقول الله تعالى {وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم:39] ، وهذا يدل على أنَّ سَعْيَ الإنسان لنفسه.
وهذا الاحتجاج كذلك بعض أهل السنة احْتَجَّ به على هذا الشوكاني وبعض المعاصرين بأنه لا ينتفع البتة إلا بما سعاه فالولد من سعيه والصدقة الجارية من سعيه والعمل الصالح من سعيه والعلم النافع من سعيه، أما غير ذلك فلا يُعَدُّ من سعيه فلا ينتفع إلا بما سعى.
فإذاً احتج المبتدعة وطائفة من أهل السنة على مذهبهم بقوله تعالى {وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} قالوا فلو كان ينتفع لكان سعيه لغيره وهذا يخالف ظاهر الآية.
والجواب عن ذلك من وجهين:
أ - الوجه الأول: أنَّ الله - عز وجل - في الآية قال {وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ} اللام هنا كما هو معروف لام المِلك؛ يعني الإنسان لا يملك إلا سعيه، أما غيره فلا يملك سعي فلان، أحمد لا يملك سعي خالد؛ بل إذا تَقَرَّبَ خالد إلى ربه بقربة فإنَّ سعيه له، ثواب السعي له هو وليس للآخر، فاللام هذه لام الملك.
والمسألة التي ذكروا أنَّ الآية رَدّْ عليها أو حجة فيها هي أنَّ الآخر ينتفع من سعي الأول، وهذا لا تناقض بينها وبين هذه؛ لأنَّ اللام إذا كانت للملك فالأجر للأول؛ ولكن هو ينفع الثاني بما يتصدق به عليه أو ما ينفعه به.
ب - الوجه الثاني: أنَّ قوله {إِلَّا مَا سَعَى} السعي هنا لابد أن يُنْظَرْ إلى مفهومٍ واحد، وهو أنَّ أعظم الأسباب في السعي في أنْ ينتفع الميت من سعي الحي، أعظم الأسباب هي دخوله في الإيمان، فإنَّ الإيمان والإسلام إذا تحقق به العبد يوجب وَلَايَةْ بين المسلم والمسلم، ويوجِبُ محبة بين المؤمن والمؤمن، وهذا أعظم أسباب العلاقة بين الناس، فجميع العلائق تَقَطَّعَتْ إلا سبب الإيمان والإسلام، قال - عز وجل - {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة:71] ، فإذاً دخل في اسم الإيمان فقد أتى بأعظم سبب من أجله ينفع إخوانه، وأيضاً من أجله ينفعه إخوانه.
فإذا كانت الولادة سبب بأن ينتفع الأب بسعي ولده، والعلم سبب فإنَّ أعظم الأسباب هو ما له من الإيمان بالرب - جل جلاله -، فبالله - عز وجل - انعقدت الأواصر، وفي الله - عز وجل - قامت الوسائط والوسائل، وبالله - عز وجل - تقاربت القلوب، وهذا يعني أنَّ أعظم الأسباب في الانتفاع في السعي ما سعاه المرء في نفسه ولنفسه وهو سبب الإيمان.
فإذاً الإيمان سَعْيٌ له، فقوله {وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم:39] ، إذا قلنا: إنَّ العمل له لا لغيره -كما قلنا سابقا- ويكون سعيه إذاً لغيره سَعْيٌ في شيءٍ تَسَبَّبَ ذلك الغير فيه.
وانعقاد السبب في شيءٍ تَسَبَّبَ فيه هذا شيءٌ عمله العبد وتَسَبَّبَ فيه وهو الإيمان.
ولهذا صلاة الجنازة دعاء للميت وإذا أتى العبد المقابر دعا للأموات، واستَغْفَرَ لهم، هذا سببه الإيمان، فالمؤمن يصلي على المؤمن لأجل ما بينهما من وثيقة الإيمان ومن الحب في الله وما بينهما من الحقوق.
إذاً فالإحتجاج بالآية ليس بظاهر كما هو بَيِّنْ فيما ذكرنا.
2 - الحجة الثانية: قالوا إنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث» (1) ، فدلَّ على أنَّ العمل ينقطع، وإذا انقطع العمل هذا يعني أنه لا ينتفع بشيء.
والجواب عن ذلك: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال «انقطع عمله» ولم يقل: انقطع انتفاعه كما هي صورة المسألة التي نبحثها، ولم يقل أيضا: انقطع عمل غيره له، وإنما قال «انقطع عمله» ، فعمل الإنسان بالوفاة في دار التكليف انتهت، فعمله انقطع كما جاء في الحديث، أما عمل غيره وانتفاع هذا بعمل غيره فإنه لم ينقطع.
ويدل على ذلك أنَّ الثلاثة التي ذُكِرَتْ وهي الصدقة الجارية والعلم والولد الصالح لم يُذْكَرْ فيها الدعاء -دعاء الحي للميت في صلاة الجنازة-، وهي بالاتفاق نافعةٌ للميت وهي لم تدخل في هذه الثلاث، لأنها ليست بعمل للميت ولكنها عملٌ للحي وهو ينفع للميت.
__________
(1) سبق ذكره (587)(1/589)
[المسألة الخامسة] :
هاهنا مسائل تكلّم العلماء في هذا الموضع فيها وهي المتعلقة بقراءة القرآن وإهداء الثواب أو استئجار من يقرأ القرآن على الأموات في المقابر ونحو ذلك، وهذه المسائل واضح أنَّ التقرب فيها إلى الله - عز وجل - بِنَفْعْ الميت بالاستئجار أنَّ هذا بدعة ولم يأتِ دليلٌ من السنة ولا من فِعْلْ السلف على عمله.
ثُمَّ الاستئجار وهو دفع المال لفلان ليتعبد لفلان هذا مبطل للعمل في أصله، لم؟
لأنَّ العلم لا يصلح ولا يتقبله الله - عز وجل - إلا بالإخلاص، فالإخلاص شرط في قَبول العمل، فإذا لم يعمل العمل الصالح لم يُصَلِّ إلا بمال، ولم يصم إلا بمال، ولم يقرأ القرآن إلا بِأُجْرَةْ يُسْتَأْجَرْ عليه، فيقول مثلاً أنا أقرأ لكم السورة بمائة ريال، أو يقول أقرأ الجزء بألف ريال، ونحو ذلك، فهذا لاشك أنه لم يُخْلِصْ لله - عز وجل - في هذه العبادة، فكيف ينتفع الميت من عبادةٍ لم يُخْلَصْ لله - عز وجل - فيها، وإنما عُمِلَتْ لأجل عرض من الدنيا.
ولهذا من البدع الوخيمة استئجار قوم عند المقابر يتلون، أو في المآتم يُعْقَدْ سُرَادَقْ كبير ويأتون بمن يقرأ القرآن ويقولون ننفع الميت، وهم يستأجرون هذا التالي للقرآن بأموال باهضة وعظيمة، وهذا فيه هلكة للفاعل؛ يعني للقارئ لأنه عَمِلَ عملاً لغير الله، وفيه أيضاً إفساد للمال في غير طاعة الله - عز وجل - وهذا لا ينفع الميت لأنه عمل لم يُخْلَصْ فيه لله - عز وجل -.
أما لو تَبَرَّعَ أحد وقرأ القرآن لنفسه وبعد القراءة قال اللهم اجعل ثواب قراءتي لفلان فإنَّ هذا جائزٌ على الصحيح كما ذكرنا لك.
وقد ذكر الجد الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله رحمةً واسعة في تقريرٍ له موجود في الفتاوى أنَّ رجلاً -لَمَّا عرض لهذه المسألة- ذَكَرَ أنَّ امرأة تُوُفِّيَتْ، وكان أحد قرابتها أظنه زوجها كان يقرأ القرآن، وبعد أن فرغ من الختمة أهدى ثوابها لنفسه ولزوجته، فلما فرغ وجاء وقت الصلاة أقبل رجل، وقال أنا رأيت فلانة في المنام، وقالت لي أنا الآن ختمت القرآن.
وهذه وإن لم تكن حجة لكن هي للاستئناس ونقلها ثقات وذكرها علماء وأئمة، فهي ماشية مع الأصل وليس فيها ما يعارض ذلك.
* فإذاً الانتفاع في إهداء الثواب لا يكون بالطرق البدعية التي يعملها أصحاب المآتم، والذين يستأجرون للقراءة على القبور.(1/590)
[المسألة السادسة] :
في قوله (وَفِي دُعَاءِ الْأَحْيَاءِ وَصَدَقَاتِهِمْ) صدقات هنا يُعْنَى بها الصدقات المالية خاصَّة، وعلى القول الصحيح الذي ذكرنا أنها كل شيء فيه صدقة؛ بالمفهوم العام للصدقة.
فأمر الإنسان بالمعروف ونهيه عن المنكر والعلم والذكر وقراءة القرآن ونحو ذلك مما يدخل في اسم الصدقة العام وهي النوافل والطاعات التطوعية العامة فإنها تنفع الميت إذا أهدى الثواب لا إذا ابتدأ العبادة كما ذكرنا.
فإذاً نقول: إنَّ الصحيح أن قوله (وَفِي دُعَاءِ الْأَحْيَاءِ وَصَدَقَاتِهِمْ) هذا يشمل جميع أنواع العبادات كما ذكرنا.
نكتفي بهذا القدر، والمسألة التي بعدها تحتاج إلى تفصيل.(1/591)
الأسئلة:
س1/ يقول: إذا حج رجل عن رجل ميت هل الرجل الحي يأخذ الأجر على هذا الحج، عِلْمَاً أنَّ هذه الحجة للميت؟
ما فهمت سؤالك بدقة: إذا حج رجل عن رجل ميت هل الرجل الحي يأخذ الأجر على هذا الحج، يعني قصده إذا أخذ مال.
هذا الميت إذا مات وعليه حجٌ واجب فإنَّ أولى الناس بالحج عنه ولده أو أقربائه أو وليه، هذا هو أولى الناس بالحج عنه؛ لأنه نوع برٍ له وبراءة لذمته وقضاءْ للدَّيْنْ الذي عليه.
أما إذا لم يوجد أو كان فيه كَلَفَة أو نحو ذلك أو كان يريدون السرعة بالحج عن الميت، فجاء من يرغب في الحج؛ ولكنه ليس عنده من النفقة ما يكفيه لأداء الحج فإنه لا بأس أن يُعطَى ليحج عن الميت لما قام في قلبه من الرغبة في شهود المشاعر ورؤية الكعبة والذكر هناك وشهود دعوة المسلمين في ذلك.
فإذا كان الرجل يريد الحج أو كان المسلم يريد الحج؛ لكن لم يجد نفقة، فإنه لا بأس أن يأخذ نفقة ليحج عن غيره؛ ولكن لا يجوز أن يحج ليأخذ.
يعني لا يقوم في قلبه محبة الحج ولا الرغبة في الآخرة وإنما إذا أتاه مال حج وإذا ما أتى مال يقول ما الذ يتعبني، لماذا أذهب أنا.
هذا لا يجوز لأنه استئجار على عبادة، وكما قال ابن تيمية: إنما يجوز أن يأخذ ليحج، لا أن يحج ليأخذ فالأشبه أنَّ هذا ليس له في الآخرة من خلاق، وهو كما قال رحمه الله.
فإذاً إذا أتى من يريد الحج وهذا الحي يريد أن يدفع من مال أبيه؛ يعني من التركة مال يحج به عنه مكانه فهذا لا بأس به.
س2/ يقول كيف يُجاب عن الحصر في قوله صلى الله عليه وسلم «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث» ؟
ج/ الحصر على بابه؛ لكن عمل غيره لا يدخل في كلمة عمل. فعمله ينقطع، عباداته تنقطع إلا هذه الثلاث، وهي الصّدقة الجارية، علم ينتفع به، وولد صالح يدعو له.
الصدقة الجارية هي الوقف المحبس الذي يبقى كبناء المسجد وحفر الآبار وتيسير سبل الماء، أو طباعة كتب أهل العلم النافعة أو المصحف، طباعة المصاحف ونحو ذلك، هذه من الصدقات الجارية عبادة.
والولد الصالح معروف ولده يدعو له ويستغفر لأبيه.
والعلم الذي يُنْتَفَعُ به هذا يشمل العلم الذي عَلَّمَه أو ما أَمَرَ به بالمعروف ونهى عن المنكر وسَنَّ سُنَّةْ حسنة ودعا إلى هدى، الدعوة بأنواعها هذه تدخل في العلم الذي ينتفع به؛ لأنَّ الأنبياء دعاة والنبي صلى الله عليه وسلم داعية {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ} [يوسف:108] ، وإنما وَرَّثْ العلم، فإذاً العلم يدخل فيه كل أبواب الدعوة وتوريث العلم والتأليف وأشباه ذلك.
فإذاً الحصر على بابه والحصر في هذه الأنواع في عمل الميت، أما عمل غيره فلا يدخل في ذلك كما ذكرنا.
نكتفي بهذا القدر وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.(1/592)
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
الأسئلة:
[سائل] هنا تعليق لبعض الإخوان.
[الشيخ] اقرأ التعليق.
[السائل] بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين: اختلف الناس فيما يقع عليه اسم الإيمان اختلافاً كثيراً، فذهب مالك والشافعي وأحمد والأوزاعي وإسحاق بن راهويه، وسائر أهل الحديث، وأهل المدينة رحمهم الله، وأهل الظاهر، وجماعة من التابعين إلى أنه تصديق بالجنان وإقرار باللسان وعمل بالأركان. (1)
قال: وهو قول المعتزلة أيضاً، فإنهم قالوا: الإيمان هو العمل والنطق والاعتقاد، والفارق بينهم وبين السلف أنهم جعلوا الأعمال شرطاً في صحته والسلف جعلوها شرطاً في كماله. وانظر شرح السنة إلى آخره. (2)
ج/ هذا غلط، التعليق هذا غلط:
أولا: ليس هو قول المعتزلة. (3)
ثانياً: ليس الفرق بين أهل السنة والمعتزلة، أهل السنة لا يرون العمل شرط يرونه ركن لأنَّ ما أُدْخِلَ في المسَمَّى فهو ركن.
هذا تعليق شعيب؟
[السائل] نعم.
هذا ليس بسليم، هذا الكلام غلط، هذه أي طبعة، رقم 1413؟، لا هذا ما هو صحيح؛ تعليقه غلط.
كل تعليقه غلط، هو جَعَلَ أَنَّ قول أهل السنة أنَّ الإيمان قول باللسان وتصديق بالجنان وعمل بالأركان جعله قولاً للمعتزلة، وهذا ليس بصحيح، ثم جعل أيضاً الأعمال عند السلف شرطاً في الكمال، وجعله عند المعتزلة شرطاً في صحة الإيمان، وهذا أيضا ليس بصحيح، كل تعليقه مبني على فهم الماتريدية في الغالب؛ يعني ينحو منحى الماتريدية في هذه المسألة.
س2/ يقول: ما يقول الأئمة الأعلام في مخالفي أهل السنة والجماعة في باب الأسماء والصفات من المعطلة والمشبهة وغيرهم، هل هم كفار أم لا؟ وأي نوعي الكفر وقعوا فيه وما سبب ذلك؟ هل لقولهم على الله بغير علم أم لإنكارهم بعض نصوص الوحي أم ماذا؟ وما تأويل الإمام أحمد رحمه الله عندما قال: الواقفة أو المفوّضة أشد ضلالاً من غيرهم أو كما قال؟
ج/ شُوف بعض الأسئلة كأنها أسئلة اختبارات، يعني هل هم كذا وهل؟؟، هل هم كفار أم لا وأي نوعي الكفر وقعوا فيه؟ وما سبب ذلك هل لقولهم على الله بغير علم؟؟ على كل حال الإفادة مطلوبة.
الضالون في باب الأسماء والصفات درجات وأقسام، منهم الجهمية ومن شابههم ممن ينفون جميع الأسماء والصفات، إلا صفة الوجود المطلق، وهؤلاء هم الذين اشتد عليهم صوت السلف والأئمة؛ بأنهم ليسوا من الثنتين وسبعين فرقة وإنما هم خارجون أصلاً.
فجهم ومن معه لا يُعتبرون أصلاً في الإسلام، يعني الجهمية الأصليين الذين ينفون جميع صفات الرحمن - عز وجل - وجميع أسماء الرحمن - عز وجل - إلا صفة الوجود المطلق، وهؤلاء لا وجود لهم اليوم بادوا في ذلك الوقت، هؤلاء ليسوا من المسلمين.
والفئة الثانية التي أيضاً يُحكم بكفرهم: المشبهة الذين يقولون وجه الله كوجه الإنسان، أو يده كأيدينا، أو عيناه - عز وجل - كأعيننا أو سمعه كسمعنا، يجعل المماثلة في ذلك في تمام الاتصاف بالصفة، هؤلاء أيضاً المجسمة على هذا النحو والممثلة فإنهم أيضا ليسوا من أهل الإسلام؛ لأنهم شبّهوا الخالق بالمخلوق أو شبهوا المخلوق بالخالق - عز وجل -.
أما من ليسوا كذلك وإنما هم مبتدعة على درجاتٍ في الصفات، منهم المعتزلة ومنهم الأشاعرة والكلابية والماتريدية ومن على هذا النحو، فإنَّ هؤلاء منهم من يُثبت بعض الصفات، منهم من يُثبت سبع صفات أو ثمان أو أكثر أو أقل على خلافٍ بينهم، فلا يُطلَقْ القول بتكفير الطائفة، ولا يُطلَقْ القول بعدم التكفير أيضاً، وإنما يُقال هؤلاء أهل بدع، وبحسب ما نفى يكون الحكم عليه، ليسوا على بابٍ واحد، لكن الأصل أنَّ من أثبت بعض الصفات وتأوَّلَ في الباقي ونفى أو أوَّلْ فإنه لا يُحكَمُ بكفره، وإنما يُقال هذا من أهل البدع.
لهذا أهل السنة والجماعة لمَّا تكلّموا في المعتزلة وحَكَمُوا بكفرهم، يعني بكفر أهل الاعتزال، ذكروا أنَّ ذلك متعلِقٌ بالقول بخلق القرآن أو ببعض المسائل الأخرى، أما نفي الصفات أصلاً فهو مردود وكفر كما هو عليه الجهمية، أما تأويل الصفات في إثبات بعضٍ أو نفي بعض فلا يُطلَقْ القول بتكفير هذه الفئة.
__________
(1) هذا تعليق شارح الطحاوية.
(2) هذا التعليق عليه: أنظر الصفحة 459 الجزء الثاني من شرح العقيدة الطحاوية للقاضي أبي العز الحنفي تحقيق وتعليق الدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي وشعيب الأرنؤوط طبع مؤسسة الرسالة الطبعة 13 سنة 1419هـ/1998م.
(3) قارن هذا بالقول الرابع في المسألة الأولى على شرحه لـ: (وَالْإِيمَانُ: هُوَ الْإِقْرَارُ بِاللِّسَانِ، وَالتَّصْدِيقُ بِالْجَنَانِ.) في الشريط التاسع والعشرون(1/593)
ومن أهل العلم -من أهل السنة والجماعة- من خصّ مسألة علو الرحمن - عز وجل - لأجل ظهور دليلها (علو الذات للرّب - عز وجل -) ، لأجل ظهور دليلها وقوّة برهانها وعدم وجود مجال للتأويل فيها خَصَّهَا بأنَّ من أنكر علو الذات للرب - عز وجل - فإنه يَكْفُرْ، لكن الأصل الذي عليه أئمة أهل السنة والجماعة أنهم يستعملون في هذا الباب عبارات الابتداع، البدعة والضلالة والمخالفة وطريقة الخلف وأشباه ذلك.
وليس كل من نفى صفة أو تَأَوَلَهَا يعتبر كافراً خارجاً من الدّين، وإنما ذلك الاتفاق مخصوص بالجهمية والمجسمة، وأما المعتزلة ففيهم تفصيل بحسب المسألة التي تُتَنَاوَلْ، أما الأشاعرة والماتُريدية والكلابية فلا أعلم أحدًا من أهل السنة أطلق عليهم الكفر.
نكتفي بهذا.(1/594)
واللهُ تَعالَى يَسْتَجِيبُ الدَّعَوَاتِ، وَيَقْضِي الحَاجَاتِ.
____________________________________________
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فيقول الطحاوي رحمه الله: (واللهُ تَعالَى يَسْتَجِيبُ الدَّعَوَاتِ، وَيَقْضِي الحَاجَاتِ)
يريد بذلك بيان بعض آثار ربوبية الله - عز وجل - على خلقه وأنَّهُ سبحانه وتعالى خَلَقَ الخلْق، وهو ربهم ومالكهم وسيدهم والمتصرّف فيهم، وهو الذي يفيض عليهم من خيراته - عز وجل - ويُنَزِّلُ عليهم من رحماته، فإذا احتاجوا فإليه الملجأ، فكما أنه - عز وجل - يَبْتَدِؤُهُم بالعطايا ويُنْعِمُ عليه بأنواع النِّعَمْ، فإنهم إذا سألوه ودعوه فإنه سبحانه وتعالى يُجيبهم؛ لأنَّ ربوبيته لهم وخَلْقَهُ لهم يقتضي أن يُيَسِّرَ ما يحتاجون إليه.
وخصَّ هنا إجابة الدعوات وقضاء الحاجات لأجل خلاف طائفة من الفلاسفة وغلاة الصوفية ومن شابههم في هذا الأصل وهو أنَّه لا حاجة للدعاء ولا حاجة للسؤال ولا طَلَب الحاجات لأنَّ كل شيء إما أن يكون مُقَدَّرَاً من عند الله كقول الصوفية فلا يؤثِّر فيه شيء، وإما أن يكون أثراً لمؤثِرٍ ومُنْفَعِلَاً لِفِعْلٍ كقول الفلاسفة أو غلاة الفلاسفة.
وها هنا مسائل:(1/595)
[المسألة الأولى] :
الله - عز وجل - ذَكَرَ في القرآن كثيراً إجابته للدعاء وللسؤال وإعطاءه، كقوله - عز وجل -: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر:60] ، وأثنى الله - عز وجل - على الأنبياء بأنهم يدعون الله - عز وجل - خوفاً وطمعا، وبيَّنَ - عز وجل - أنه يُجيب دعوة المضطر فقال سبحانه: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ} [النمل:62] ، بل بَيَّنَ - عز وجل - أنه أجاب دعاء إبليس، إذ قال سبحانه: {قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ} [الحجر:36-37] ، وبَيَّنَ الله - عز وجل - أنه ربما أجاب دعاء أولياء الشيطان والكفرة فقال سبحانه: {وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوْا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ} [لقمان.32] .، ونحو ذلك من الآيات كقوله {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء:67] ، وهذا مُنَوَّعٌ في القرآن كثيراً في أنَّ الله سبحانه خَلَقَ الخلق جميعاً، فهو رب المؤمن ورب الكافر، وربوبيته للكافر تقتضي إعطاءه، وربوبيته للمؤمن تقتضي إعطاءه، وهكذا، ربما أعطى المؤمن فكان في حقه نعمة وربما أعطى الكافر فكان في حقه عذاباً ونقمة، فهم يَسْأَلُونْ والله - عز وجل - يجيب الداعي ويجيب المضطرّ إذا دعاه.
وقضاء الحاجات أيضاً يبتدئه الرب - عز وجل - ويُعْطِيْ عبده إذا سأله قضاء حاجة، قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (16) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ} [فاطر:15-17] ، وصحّ عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال في حديث سلمان: «إن الله حييٌ [ستِّير] (1) يستحيي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردهما صفرا خائبتين» (2) رواه أبو داوود، والإمام أحمد وجماعة بإسنادٍ صحيح، وأيضاً جاء في سنن ابن ماجه وعند غيره: «من لم يسأل الله يغضب عليه» (3) ، وفي إسناده نظر، وأيضاً صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إنّ الله ينزل آخر كلّ ليلة إلى السماء الدنيا فيُنادي هل من داع فأستجيبَ له، هل من سائل فأعطيه، هل من مستغفر فأغفر له» (4) ، وهذا يدلّ على أنَّ الرّب - جل جلاله - يقضي حاجات العباد ويُفيض عليهم من الخيرات وهو سبحانه الذي دعا إلى دعائه وهو الذي يُجيب، وهذا يدل -كما سيأتي- على أنَّ الدعاء سبب من الأسباب العظيمة النّافعة التي جعلها الله - عز وجل - سبباً.
__________
(1) الصواب: كريم. والله أعلم.
(2) أبو داود (1488) / الترمذي (3556) / ابن ماجه (3865)
(3) الترمذي (3373)
(4) سبق ذكره ص 174(1/596)
[المسألة الثانية] :
سبب مخالفة من خالف -ولأجلها أورد الطحاوي هذه الجملة- من غلاة المتصوّفة وطائفة من الفلاسفة، فهؤلاء يقولون: الدعاء لا حاجة إليه وسؤال الرب - عز وجل - قَضَاءَ حاجة العبد لا حاجة إليه، وعَلَّلُوا ذلك بأمرين:
1- الأمر الأول: أنه سبحانه قَدَّرْ الأشياء وجعل لكل أمرٍ سيحصلُ قَدَرَاً مقدوراً، فإذا كان مُقَدَّرَاً فسيقع، وإن لم يكن مُقَدَّرَاً قالوا: فلن يقع، فإذاً لا حاجة إلى الدعاء ولا فائدة منه.
2- الأمر الثاني: أنهم قالوا إنَّ الله - عز وجل - عَوَّدَ خلقه وسُنَّةُ الله فيهم على أنَّهُ يعطيهم ما يحتاجون، ولم يجعل قلوبهم مُعَلَّقَة بـ: هل يأتي الأمر أم لا يأتي، فتمام إخلاص القلوب عندهم أن ترضى بما هي عليه من الحال وأن تنتظر إفاضة الله - عز وجل - لما يريده ولما يعطيه.
وهذا عندهم هو مقام الصديقين والعارفين والأولياء، وهذا الذي ذكروه لا شك أنَّ أهله انقرضوا إلا ما نَدَرْ بحيث أنه لا توجد الآن فئة تُنسب إليهم هذه المقالة.
وسبب ذلك أنَّ الرَّدَ عليهم وبيان بطلان ما قالوا واضح بيِّنْ، لأنَّ:
@ التعليل الأول الذي ذكروه وهو أنَّهُ لا حاجة إلى الدعاء لأنه إما أن يكون مُقَدَّرَاً أو غير مقدرٍ، فيُجاب عليهم ويُرد على ما قالوا بأنَّ الله - عز وجل - أَنَاطَ أشياء كثيرة جداً، بل أناط أكثر ما يُوجِدُهُ في خلقه بالأسباب المقتضية بمُسَبَّبَاتِهَا، فأناط إخراج الولد وانعقاد الحمل بأن ينزوي الرجل على المرأة {يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ} [الشورى: 49] ، لكن لا يهب إلا بسبب، وكذلك قَدَّرَ - عز وجل - أن فلاناً يمرض لكنه لم يُقَدِّرْ هذا المرض إلا -غالبا- بسبب، وكذلك هو - عز وجل - جعل فلاناً عالماً وقَدَّرَ ذلك لكن لا يكون إلا بسبب وهو أن يتعلم، كما قال صلى الله عليه وسلم: «إنما العلم بالتعلم» (1) .
فإذاً قول غلاة الصوفية هو مصيرٌ منهم إلى نفي الأسباب ونفي النظر إليها وأنَّ الأمور بِجَبْرْ وليست منوطة بأسباب بل الله - عز وجل - يُجْبِرُ الأشياء على أن تكون على وفق ما يراد دون أن يرتبط شيء بسببه.
وهذا لا شك قدحٌ في العقل لأنه إلغاء لما يُدركه كل عقل من أنَّ الشيء منوط بسببه.
من جملة الأسباب التي أناط الله - عز وجل - بها إيقاع ما قدّر: الدعاء.
فَكَونُ العبد يدعو الله - عز وجل - يكون الدعاء سبباً في حصول ما قَدَّرَ الله - عز وجل -، فيكون ما قَدَّرَهُ الله - عز وجل - لا يقع إلا بعد وجود السبب، كما أنَّ الحمل لا ينعقد إلا بعد وجود السبب.
بل الدعاء في الحقيقة أعظم أنواع الأسباب لأنَّ به يحصل إِمْدَادْ الله - عز وجل - في كلّ شيء ونفع الرب - عز وجل - بكل سبب يعمله العبد، فالدعاء أعظم أنواع الأسباب.
@ أما التعليل الثاني: فإن ذاك مبني على أنَّ حالة النبي صلى الله عليه وسلم وحالة الصحابة رضوان الله عليهم ليست هي الحال الكاملة؛ بل كيف ينظرون إلى فعل النبي صلى الله عليه وسلم في أحواله كلها وأنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يترك الدعاء لنفسه ولأهله ولأمته صلى الله عليه وسلم، بل أرشد الصديق وعمر إلى أن يُعْظِمُوا الرّجاء والدعاء وهذا يدل على أنَّ حال الكاملين بأن يتعرضوا لدعاء الله - عز وجل -، فكم دعا النبي صلى الله عليه وسلم من دعاء في صلاته في آخر الليل وفي أوقات الإجابة صلى الله عليه وسلم، وهذا لأنه أعرف الناس وأعلم الناس بربّه - جل جلاله - وتقدّست أسماؤه.
أما قول الفلاسفة، فالفلاسفة أنواع:
- منهم من يوقن بنفع الدعاء؛ لكنهم يقولون: إنَّ الدعاء ينفع لأنه يؤثِّرُ فيما عقدته الأفلاك، لأنَّ عندهم أنَّ الأثر للفلك الثامن الذي يؤثر في مجموعة الأفلاك، فينقل فيها التأثيرات التي تؤثر على سلوك أهل الأرض وما يكون في الأرض.
- ومنهم من يقول الدعاء أصلاً لا ينفع لأنَّ الأمور بنظام، وكل شيء يقع على مقتضى الطبيعة، والدعاء ليس سبباً طبيعياً، وهذا قول الملاحدة منهم، وظاهِرٌ فيه أنهم لا يؤمنون بحال الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
__________
(1) المعجم الأوسط (2663)(1/597)
[المسألة الثالثة] :
دعاء العبد لله - عز وجل - وتَضَرُّعْ العبد عند الله - عز وجل - فيه أمور:
1- الأمر الأول: أنَّهُ تَعَرُضٌ لرحمة الله - عز وجل - ولآثار ربوبيته، فهو سبحانه وتعالى يُعْطِي من سأله ويجيب من دعاه - عز وجل -، لأنه هو الرب.
ولهذا قد يُعطي الله - عز وجل - الكافر كما أجاب دعاء إبليس، فقد يَمْرَضُ الكافر فيسأل الله - عز وجل - فيُشْفَى، وقد يَتَعَرَّضْ الكافر لمصيبة فيسأل الله - عز وجل - أن يكفيه شرها فيُجاب.
بل يأتي المشرك والخرافي والمشرك المتعلق بالأموات فيأتي عند القبر بقلب مُضطرّ فيسأل الله - عز وجل - بصاحب هذا القبر أو يسأل الله - عز وجل - ثُمَّ يسأل صاحب القبر، فيُجاب الدعاء لما في قلبه من الاضطرار لله - عز وجل -، ويكون في حقه ابتلاء ويكون أيضاً فتنةً للآخرين.
فإذن العطاء لا يقتضي الرضا عن المُعطَى، وإجابة الدعاء لا تقتضي الرضا عن من أُجِيبَ دعاه فهذا إبليس أُجِيبَ دعاه وقد دعا بأعظم دعوةٍ عنده وهي أن يطول عمره حتى يكون إلى يوم القيامة، {قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي} يعني أمد في عمري {إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الحجر:36] ، إلى أن ينتهي تكليف آدم وأبناءه، فأعطاه الله - عز وجل - هذا السؤال الذي لم يُعْطِهِ نبياً من الأنبياء في إطالة العمر إلى هذا الحد، وهذا كما أعطى الكفار بعض ما سألوا، وكما يُعْطِي بعض من يعبدون المسيح أو يعبدون عزيراً أو يعبدون غير الله، فيُعطيهم لأمر، لا لأجل كفرهم، ولكن لحكمةٍ يعلمها الله أو لأجل اضطرارهم أو لأنَّ هذا الإعطاء أصلاً من مقتضيات ربوبيته - عز وجل - لهم وهم بحاجة إليه، والله هو الذي خلقهم وجعل لهم قدَراً مقدورا.
2- الأمر الثاني: أنَّ الدعاء فيه إثباتْ لصفاتٍ كثيرة من صفات الرب - عز وجل -.
فمن دعا الله - عز وجل - بحق فإنه يستحضر إذ دعا، ولو لم يستحضر فإنَّ هذا متضمنٌ لدعائه:
- الصفة الأولى: أنَّهُ موقن بوجود الرب - عز وجل -.
- الصفة الثانية بأنه سبحانه وتعالى يسمع دعاءه مع أنه في عليائه - عز وجل -، وهو يهمس همساً لا يجهر، وهو يعتقد أنَّ الرب - عز وجل - سميعٌ لدعائه.
- الصفة الثالثة: يوقن أنَّهُ - عز وجل - قدير على إجابة دعائه.
- الصفة الرابعة: يوقن أنّه سبحانه وتعالى غني يُعْطِي بغير حساب.
- الصفة الخامسة: يوقن أيضا أنه - عز وجل - رحيم بعباده، فإن سؤال الرب - عز وجل - تَعَرُضٌ لآثار لرحمته سبحانه وتعالى.
- الصفة السادسة: يوقن بأنه سبحانه وتعالى حي، وهكذا.
فمن تأمل دعاء العبد، نَظَرَ في أنَّ في دعاء العبد أنواعاً من إثبات الكمالات للرب - عز وجل -، ولذلك يَضْعُفُ التوحيد إذا ترك العبد دعاء ربه - عز وجل -، وكلّما قلّ الدعاء، قَلَّ تعلُّقْ العبد بالله - عز وجل -، لأنّ آثار التوحيد على النفس والنور الذي يُقْذَفْ في القلب من آثار التعلق بالله - عز وجل - يضعف شيئاً فشيئاً.
3 - الأمر الثالث: الله - عز وجل - في إجابة الدعاء، وفي إعطاء الحاجة التي سُئِلَت، جعل لذلك شروطاً وجعل لذلك موانع.
فإنَّ العبد قد يسأل ولا يُعْطَى وقد يدعو دُعَاءَ سؤال ولا يُستَجَاب له في عين ما سأل؛ لأنه لم تكتمل الشروط في حقه أو قام مانِعٌ من الموانع، وهذا يتضح بمسألةٍ تأتي.
4- الأمر الرابع: أنَّ إجابة الدعوات وقضاء الحاجات ليس دليلاً على شيء، وإنما هو من جنس مطلق الإعطاء.
فكما أنَّ الله - عز وجل - جعل هذا على صفة، وهذا على صفة، وهذا على صفة؛ فإنه سبحانه، يُعْطِي هذا، ويُعْطِي هذا، ويعطي هذا. وقد -كما ذكرتُ لك- يُعْطِي فاسق ويُعْطِي المبتدع ويُعْطِي الفاسق، ويجيب دعاء هذا وهذا وربما هذا بأكثر وهذا بأكثر.
لكن يمتاز المؤمن والعبد الصالح وولي الله - عز وجل - أن يكون جواب الله - عز وجل - له وإعطاؤه لسؤاله -يعني إعطائه لما سأل-، عن محبَةٍ ورضا فيكون في حقه نعمة ولا يكون في حقه نقمة أو إبتلاء.
وهذا هو الذي جاء في حديث الولي، حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم: «قال الله تعالى (1)
: [[الشريط الثاني والأربعون]] :
وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه» (2) هذا عطاء محبة، «ولئن استعاذني لأعيذنه» هذه إعاذة محبّة ورضا.
__________
(1) نهاية الشريط الواحد والأربعون.
(1) سبق ذكره (250)(1/598)
[المسألة الرابعة] :
الله سبحانه وتعالى قال {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60] ، وقال «من يدعوني فأستجيبَ له، من يسألني فأعطيَه، من يستغفرني فأغفرَ له» ، وإجابة الدعاء عام يشمل إجابة دعاء العبادة وإجابة دعاء المسألة.
- أما إجابة دعاء العبادة: فهو بالإثابة.
- وأما إجابة دعاء المسألة: فهو بالإعطاء.
ولهذا في آية سورة غافر قال ? {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر:60] ، ورجَّحَ طائفة من أهل العلم أنها في الدعاء الذي هو العبادة، {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} ، يعني أعبدوني أُثِبْكُم، {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} .
والنوع الثاني الذي هو دعاء المسألة فيكون إستجابة دعاء المسألة بإعطاء العبد ما سأل.
وإجابة الدعاء يَعُمُّ إعطاء العبد ما سَأَلْ أو ما هو في مقام إعطائه ما سأل من صَرْفِ السُّوءِ عَنْهْ.
ولهذا قال العلماء: إنَّ العبد إذا دعا الله ? ولم يُعطَ ما سأَل فإنّ لهذا عدة تعليلات:
1- التعليل الأول: أنه يُصْرَفْ عنه من الشر بمثل ما سأل، فإنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما من عبد مسلم يدعو بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاثة خصال: إما أن تُعَجَّلَ له دعوته، وإما أن يُصرَفَ عنه من الشر مثلُها، وإما أن تُدخَرَ له يوم القيامة» (1) . وهذا يعني أنَّ دعاء العبد المؤمن لا يضيع بل يُسْتَجَابْ لكن:
- ربما أُستْجُيِبَ بثوابٍ يوم القيامة.
- وربما أُستْجُيِبَ بعطاء.
- وربما أُستْجُيِبَ بصرف الشرعنه.
والله ? أعلم بما يُصْلِحُ العبد في دنياه وفي آخرته.
قد تكون حاجة العبد المؤمن للحسنات في الآخرة أعظم من حاجته لما سَأَلْ في الدنيا، فَيُدَّخَرْ له ما سأل يوم القيامة، وهذا من أعظم لُطْف الله ? ورحمته بعبده وعنايته بعبده ? وتَقَدَّست أسماؤه، سبحان ربنا لا نُحصي ثناءً عليه.
2- التعليل الثاني: أنَّهُ كما ذكرنا أنَّ الدعاء يكون له شروط وله موانع، فقد يكون العبد في دعائه أتى بمانع من الموانع من إجابة الدعاء كما قال صلى الله عليه وسلم: «ما من عبد مسلمٍ يدعو الله بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم» ، قطيعة الرحم معروفة، والإثم قد يكون منه الإعتداء في الدعاء؛ لأنَّ الله ? نَهَى عن الإعتداء في الدعاء فقال سبحانه: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [الأعراف:55] ، يعني المعتدين في الدعاء وأيضاً المعتدين في غيره، فالإعتداء لا يُحبه الله ?. (2)
فالإعتداء في الدعاء إثم وله صور كثيرة:
فقد يدعو العبد ويعتدي في الدعاء فيزيد في أدعيته.
أو يأتي بأشياء ليست من الأدب مع الرب ?، فيكونُ مانعاً من إجابة الدعاء لإثْمٍ وقع فيه في الدعاء، أو لإثمٍ وقع فيه في سلوكه فإنه صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إنّ الرجل ليُحرَمُ الرزق بالذنب يصيبُه» (3) ، وهذا يكون مانعا.
أيضاً هناك شروط للدعاء من الآداب فيه، فلا بدّ من توفرها.
3- التعليل الثالث: أنَّ حديث النبي صلى الله عليه وسلم في نزول الرب ? آخر الليل أو في النصف الأخير من الليل أو في الثلث الأخير من الليل على إختلاف الروايات، رَتَّبَ مسألة الدعاء على ثلاث درجات، فقال صلى الله عليه وسلم «إنَّ الله يُنادي هل من داعٍ فأستجيبَ له، هل من سائِلٍ فأُعْطِيَهُ، هل من مستغفر فأغفر له» .
ومغفرة الذنب أخص من إعطاء السؤال، وإعطاء السؤال أخص من إجابة الدعاء.
فلهذا رتّبها صلى الله عليه وسلم على هذه الثلاث درجات -يعني في الحديث-، فالله ? جعلها ثلاث مراتب:
- ينادي من يدعو، والدعاء يَعُمُّ السؤال ويعمّ غيره كما أوضحت لك.
- أو مَنْ يسأل.
- ثُمَّ مَنْ يستغفر، فهذه مراتب ثلاث.
فإذاً ليس كل سؤال إستغفار، وليس كل دعاء سؤال.
وهذا يعني أنَّ إجابة الدعاء التي وَعَدَ الله ? بها عباده: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة:186] ، هذا يَعُمُّ كل مايحتاجه العبد في عبادته وفي دنياه، وأيضاً ما يحتاجه ثواباً على العبادة وإعطاءً للسّؤال.
__________
(1) مسند أبي يعلى (1019) / حلية الأولياء (6/311)
(2) للمزيد عن الإعتداء في الدعاء انظر (599)
(3) ابن ماجه (4022)(1/599)
[المسألة الخامسة] :
إذا كان الله جل جلاله يستجيب الدُّعَاء ويقضي الحاجة ويُعطِي السَّائل، فإنَّ مما ينبغي على العبد أن يَتَأَدَّبَ به أن يُعِدَّ للدّعاء عُدَّتَه وأن يجتهد في حُسْنِ المسألة.
ولهذا أَحْسَنَ أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه أيَّما إحسان إذْ أرشد الأمة إلى قوله (إني لا أحمل هَمَّ الإجابة ولكن أحملُ هَمَّ الدعاء، فإذا وُفِّقْتُ للدعاء جاءت الإجابة) (1) .
وهذا من أعظم الكلام الذي قاله عمر رضي الله عنه ومن أحْسَنِهِ لأنّه لا يُدَلُّ عليه في بيانه ولا في تصويره لهذه المسألة من كلام الصحابة بمثله.
لهذا ينبغي على العبد إذا أراد أن يدعو أن يَعْلَمْ أنَّهُ إنَّمَا يدعو مالك الملك الذي خَلَقْ، الذي هذه {الْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر:67] ، الذي {عِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام:59] ، الذي {يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} [النمل:62] ، الذي {يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} [طه:7] ، الذي يَطَّلِعُ على خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ.
لهذا ينبغي على العبد المؤمن أن يُعِدَّ للدعاء عُدَّتَه كما قال عمر رضي الله عنه (إني لا أحمل همّ الإجابة ولكن أحمل همّ الدعاء، فإذا وُفِّقْتُ للدعاء جاءت الإجابة) .
لهذا يَحْسُنْ بالداعي أن يجتهد في دعائه وأن يُحَضِّرَ له، أن يَسْتَعِدَّ في تحسينه لأنه سيدعو ويرفع يديه لله جل وعلا، وخاصَّةً إذا كان الدعاء في موقع من مواقع العبادة العظيمة كحال السجود إذا لم يَدْعُ بما أُثِرَ عن النبي صلى الله عليه وسلم الذي هو جوامع الكلم في الدعاء فإنَّهُ لا بُدَّ أن يستعد ولا يدعو بإثم أو يجتهد فيتساهل في هذا الأمر.
كذلك في موقع خطبة الجمعة، فإنّه ينبغي له أن يُعِدَّ العُدّة فيما يدعو به إذا دعا بشيءٍ لم يُؤْثَرْ.
وكذلك في صلاته في قنوته كل ليلة أو في سجوده أو في صلاة التراويح من الأئمة الذين يقنتون بالناس فإنّهم ينبغي لهم أن يعلموا أنَّ إجابة الدعاء منوطةٌ بِحُسْنِ الدعاء، فمن أحسن الدعاء رُجِيَ له الإجابة، أما أنَّهُ يدعو بما خَطَرَ على باله ويَتَعَدَّى في ذلك وهو ليس بِمُحْسِنْ ويأتي بكلامٍ كثير ربما يكون فيه إعتداء في الدعاء وهو لا يشعر فيأثم ويأثم من خلفه وربما لم تُستَجَبْ دعواتهم بعموم أنواع الإستجابة التي ذكرنا، فهذا مما ينبغي التَّنَكُبْ عنه والبُعْد عنه.
لهذا هذه المسألة عظيمة، فالدعاء أَثَرْ من آثار الإيمان وبه تُسْتَمْطَرُ الرحمات من الرب ?، ولهذا أَعِدُّوا له عُدَّتَهْ ولا يكن المرء مُستغنيَاً عن فضل الله ?.
لابد من: الإلحاح في الدعاء، الإضطرار، في أوقات الإجابة.
كلّ أحد له حاجة، فإذا أَحْسَنَ السؤال جاءت الإجابة.
أسأل الله ? أن يجعلني وإياكم ممن تُجَابُ دعواتهم وتُغْفَرَ زلَّاتُهُم، إنه سبحانه جواد كريم.
__________
(1) اقتضاء الصراط المستقيم (2/706)(1/600)
قال بعد ذلك (وَيَمْلِكُ كُلَّ شَيْءٍ، وَلاَ يَمْلِكُهُ شَيْءٌ)
_____________________________________________
يريد بذلك أنه سبحانه وتعالى هو المتَفَرِّدْ في أنَّهُ يملك كل شيء.
فما من شيء إلا والله ? ربّه، وهو مالكه وهو سَيِّدُهْ الُمَتصَرِّفْ في شؤونه، وكذلك هو سبحانه وتعالى لا يَمْلِكُهُ شيء ولا يُؤَثِّرُ في ملكه شيء سبحانه وتعالى إلا بإذنه، فهو الواحد الأحد في مُلكِه، الرّب وحده، والعباد محتاجون إليه في ذلك.
وهذه الجملة واضحة في تقرير بعض أفراد الربوبية التي تجعل العبد يُقبِل على ربه في الدعاء، فهو سبحانه يقضي الحاجات لأنه يملك كلّ شيء ولا يملكه شيء سبحانه وتعالى.
والعبد يدعو ربّه لأنه يعلم أنَّ الله يملك كلّ شيء ولا يملكه شيء سبحانه وتعالى.
وهذا يَدُلُّكْ على عِظَمِ شأن الرّب ? وعلى أنَّهُ هو المتفرد بتصريف الأحوال على التفصيل والإجمال.(1/601)
قال بعدها (وَلاَ غِنَى عَنِ اللهِ تَعَالى طَرْفَةَ عَيْنٍ وَمَنِ اسْتَغْنَى عَنِ اللهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ، فَقَدْ كَفَرَ وَصَارَ مِنْ أَهْلِ الحَيْنِ) .
___________________________________________
(لاَ غِنَى عَنِ اللهِ تَعَالى طَرْفَةَ عَيْنٍ) ، يعني أنَّ العبد في طَرْفِ عينه وحركة عينه لا يستغني فيها عن الله (؛ لأنه إنما حرَّكَ عينه برحمة الله، وبفضله وبإمداده وبإعطائه سبحانه وتعالى، فلا يستغني عن الله طرفة عين.
وهذا مأخوذ من قول النبي صلى الله عليه وسلم: «اللهم لا تكلني إلى نفسي طَرفة عين (1) » ، وهذا إذا وكَلَهُ إلى نفسه طرفة عين فمعناه أنه استغنى.
قال: (وَمَنِ اسْتَغْنَى -هذا حُكْمْ- عَنِ اللهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ، فَقَدْ كَفَرَ وَصَارَ مِنْ أَهْلِ الحَيْنِ) لأنه إستغنى عن الله (ورأى أنه يَقْتَدِرْ وأنه ليس بحاجة إلى الله ?، وهذا كما صَنَعَ إبليس اللّعين فإنه استغنى فكفر، وتَكَبَّرَ فاستحق الكفر والخلود في النار.
(اسْتَغْنَى عَنِ اللهِ) ، (اسْتَغْنَى) معناها كان في غِنَى وليس معنى اسْتَغْنَى طَلَبَ الغِنَى.
فاستغنى: يعني ومن كان في غِنَىً عن الله طرفة عين فقد كفر، لأنَّ كلمة استغنى ليس فيها الطلب.
فالأصل في السين والتاء الطلب إلا في مسائل.
ومن أهل العلم من يقول إنَّهُ لا قاعدة في السين والتاء أنَّهَا للطلب، لكن يُقال الأكثر في مجيئها أنَّهُ للطلب.
وقد تأتي لبيان تمكُّنْ الصفة من الموصوف، فقول الله ? في سورة التغابن: {وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} [التغابن:6] ، {اسْتَغْنَى اللَّهُ} يعني غَنِيَ الله فصارت صفة الغِنَى له صفة كمال، له الغِنَى الكامل الذي لا نقص فيه من وجه من الوجوه، لأن زيادة المبْنَى تدل على زيادة المعنى.
وهنا في قوله (وَمَنِ اسْتَغْنَى) يعني ليس معناه من طلب الغِنَى، معناه كان في غِنَى.
(مَنِ اسْتَغْنَى عَنِ الله) ، يعني كان في غِنَى عن الله طرفة عين.
(فَقَدْ كَفَرَ وَصَارَ مِنْ أَهْلِ الحَيْنِ) (الحَيْنِ) هنا بمعنى الهلاك لأنه صار مُتَوَعَّدَاً بل صار من أهل العذاب لأنه كَفَرْ والعياذ بالله.
هذه كلها يريد منها الطحاوي رحمه الله بيان آثار ربوبية الله ? وتَعَلُّقْ [العقل] بالله سبحانه وتعالى.
نقف عند هذا، والجملة القادمة تحتاج إلى تفصيل طويل (واللهُ يَغْضَبُ وَيَرْضَى لاَ كَأحَدٍ مِنَ الوَرَى) لأنَّ لها تعلّق بالصفات الإختيارية وبمسائل كثيرة فيما ذهب إليه أهل البدع في الصفات الإختيارية صفات الأفعال، يأتي بيانها إن شاء الله تعالى.
__________
(1) سبق ذكره (277)(1/602)
الأسئلة:
س1/ما الفرق بين قيام الحجة وبين فهم الحجة؟ وهل من لم يفهم الحجة يُعاقَبْ على ما لم يَفْهَمْهُ، أفدني؟
ج/ ذكرنا الفرق بين قيام الحجة وفهم الحجة في أَجْوِبَةْ أسئلة، وكذلك فَصَّلْنَاهُ في كشف الشبهات، فأنا أريد الأخ السائل أنه يرجع إلى شرح كشف الشبهات ليستفيد أولاً ثُمَّ ينظر إلى هذا الموضوع. (1)
وخلاصة الكلام أنَّ فهم الحجة ليس بشرط، وأما قيام الحجة فهو شرطٌ في التكفير ووقوع العذاب.
وفهم الحجة -يعني الذي ليس بشرط- يراد منه أن يفهم أنَّ هذه الحجة أرجح مما عنده من الحُجَجْ.
المهم أن يَفْهَمَ الحُجَّةْ ودِلالة الحجة من كلام الله ? وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم وأن تُزَالَ أو يُبيَّنْ له بطلان الشبهة التي عنده.
وليس من شرط قيام الحجة أن يفهم الحجة كفهم أبي بكر وعمر والصحابة الذين نَوَّرَ الله قلوبهم، ولا من نَوَّرَ الله قلبه ممن تبعهم بإحسان؛ لأنه لو قيل بِفَهْمِ الحُجَّةْ هنا، صار لا يكفر إلا من عاند.
يعلم أنَّ هَذِهِ الحُجَّةْ ويَفْهَمْ الحُجَّةْ ويفهم أنها صحيحة ويفهم أنها راجحة ومع ذلك لا يستجيب فهذا يعني أنه معاند، والله ? بَيَّنَ في القرآن أنَّ منهم من لم يفقه أصلاً قوله كقوله ? {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ} يعني أن يفهموه فهم الحجة كما فهمها من أراد الله ? هدايته.
وهناك قسم آخر من فهم الحجة، الذي هو فهم اللسان.
فهم اللسان هذا لا بد منه {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} [إبراهيم:4] ، فلا بُدَّ أن يَفْهَمَ وجه الحجة باللّسان الذي يتكلم به.
لكن ليس بلازم أن يفهم أَنَّ حجته هذه أرجح من الحُجَّةْ التي عنده، أو أنها أقوى من الشبهة التي عنده ونحو ذلك، المهم أن تُوَضَّحْ بشروطها الكاملة.
وهذه يقوم بها العلماء فتختلف مسألة قيام الحجة وفهم الحجة بحسب نوع الشبهة التي تَعرِضْ، فمثلاً مسائل الإستغاثة بالله ? وحده وأن الإستغاثة بغيره شرك أكبر ليست في قيام الحجة وفي مسألة فهمها مثل مسألة طلب الشفاعة من النبي صلى الله عليه وسلم، فهذه مسألة ربما حَصَلْ فيها نوع اشتباه عند من لم يعلم، وتلك واضحة بيّنة.
فإذاً مسألة قيام الحجة تختلف بإختلاف نوع قيام الحجة وكيف تُقَام الحجة وبِمَ تقام وتختلف بما يُبَيِّنُ المسألة إلى آخره.
س2/ هل يجوز أن يُدعى بقول القائل: يا مجيب دعوة نوح أجب دعائي.
ج/ هو سَأَلَ الله ? وتعرّض لذلك، فلا بأس.
س3/ وهل يجوز نحو ذلك بقول القائل: يا مجيب دعوة إبليس أجب دعائي؟
ج/ هذا خلاف الأدب، فكونه ما يدعو إلا بهذا، هذا يدل على سوء أو على جهل؛ لأنه عليه أن يتعرض بما يناسب أنه يجيبه في الدعاء، ودعوة إبليس أُجِيْبَتْ امتحان وبلاء له لِيَعْظُمَ إثمه وإضلاله للخلق فيكون أعظم في عذابه هذا من الاعتداء في الدعاء ومن عدم الأدب مع الله ?.
س4/ هل القول أنَّ العمل شرط في صحة الإيمان صحيح، وإذا كان غير صحيح نرجو ذكر السبب، وكذلك القول إن العمل شرط في كمال الإيمان؟
ج/ ينبغي إيضاح مسألة وأنا أوضحتها لكم عدة مرّات وفي شرح الطحاوية أيضاً فَصَّلْنَا الكلام فيها، في الواسطية.
كلمة (شرط) لا يُدْخِلُهَا أهل السنة في الكلام على مُسَمَّى الإيمان.
الإيمان له حقيقة، وحقيقته التي يقوم عليها هي أركانه وليست شروطه.
الشرط يسبق المشروط، أما الأركان فهي ما تقوم عليه حقيقة الشيء.
فإذا لم قامت الأركان فما قامت حقيقة الإيمان.
فالإيمان قول وعمل: قول اللسان، تصديق الجنان، عمل الأركان. هذه أَرْكَانٌ للإيمان (القول والعمل والإعتقاد) وليست شروطاً؛ لأنَّ الشروط خارجة عن المسمى، والسلف أجمعوا على أنَّ مُسَمَّى الإيمان: الإعتقاد والقول والعمل. وبه تميَّزُوا عن باقي الفرق الأخرى.
لهذا إدخال كلمة شرط تدل على عدم فهم حقيقة مَعْنَى الركن وحقيقة معنى الشرط.
قبل أن يُبْحَثْ هل هو شرط كمال أو شرط صحة، هذا ليس بحثاً صحيحاً لأنه:
- عندنا أنَّ العمل ركن في الإيمان.
- عند الخوارج العمل شرطٌ في صحة الإيمان.
- وعند المعتزلة أنه شرط في الصحة.
عندنا ليست كذلك؛ بل العمل ركن من الأركان.
إذا نظرت إلى أنواع الحكم التكليفي والحكم الوضعي وماهِيَّةْ المُسَمَّيَات التي تدل على الأسماء بَانَ لك أنَّ الركن هو ما يقوم عليه الشيء؛ يعني لا يمكن أن يُتَصَوَّرْالشيء إلا به.
والشرط هو مُصَحِّحٌ للأركان، كيف؟
خذ مثلاً البيع، ما أركان البيع، هل تحفظها؟
هل تحفظ أركانه كذا وكذا حِفْظَاً؟
لا، هي مُتَصَوَّرَة، لأنَّ الركن هو ما تقوم عليه حقيقة الشيء، بدونه لا يمكن أن يقوم هذا الشيء، يعني يقوم مسماه.
في البيع مثلا إذا قيل لك ما أركان البيع، ماذا تقول، أركان البيع ما هي؟
لا بد من بائع، -وإلا فمن الذي يبيع؟ -
ولا بد من مشتري -صحيح؟ -.
ولا بد من مُثْمَنْ -شيء يقع عليه البيع-
__________
(1) انظر (360)(1/603)
ولا بد من صيغة تبادل -بعتك، اشتريت- إلخ.
لكن الأخ قال: الثمن، هل الثمن من الأركان؟
يمكن أن يقع البيع -يعني صورة البيع تقع- بلا ثمنٍ موجود، يكون الثمن غير موجود أو يكون إلخ ...
فالثمن من مقتضيات البيع لكن ليس ركناً، المهم المُثْمَنْ الذي يقع عليه البيع، السلعة التي تبايعوها.
إذا أتينا للشرط، شروط البيع، شروط البيع إيش؟
هي مُصَحِّحَاتْ هذه الأركان.
يعني مثلاً تقول البائع، إذا قلنا الشرط، الشرط ما معناه عند أهل العلم؟
شَرْطٌ يُصَحِّحُ أن يكون هذا الرّكن شرعياً.
فالبائع ماشَرْطُهُ ليكون تصَرُّفُهُ شرعياً؟
أن يكون من أهل التصرّف إلخ ...
طيب، المُثمَن -السلعة- ما شرط هذا الركن ليكون هذا مالاً يقع عليه المعاملة؟
يقول لك اشترطوا أن يكون معلوماً، أن يكون له مالية، ما يكون محرّم إلخ ... أن يكون مباح النفع إلخ ...
إذاً فالشروط خارجة عن حقيقة الشيء وإنما هي لتصحيح الشيء.
خذ مثالاً آخر الصلاة:
حقيقة الصلاة تقع بالأركان، أركان الصلاة هل هي خارجة عنها أو فيها؟
هل فيه ركن للصلاة خاج عنها؟
كلّ الأركان في داخلها إبتداءً من تكبيرة الإحرام وإنتهاءً بالتسليمة، كلها في داخل مسمى الصلاة.
لكن الشروط؟
يقول إستقبال القبلة، نأتي للطهارة قبْل، نجي للبقعة، يعني فيه أشياء قبل، وهناك النية تكون مُسْتَصْحَبَة إلى آخره.
فإذاً في مسألة الإيمان -وأنا أوضحت لكم هذا في ما سبق لكن تأكيداً عليه-، الذي يتكلم في الإيمان وإذا تكلم عن العمل أتى بكلمة شرط فإنه لم يفهم مذهب السلف لأنَّ الشرط، لا يمكن أن تقول الإيمان قول وعمل وتقول العمل شرط.
كيف يكون الإيمان قول وعمل، ويكون العمل شرط؟
الشرط خارج عن الحقيقة.
فإذاً كانت حقيقة الإيمان قول وعمل، باتفاق السلف، بالإجماع، بإجماع السلف، حتى إن البخاري رحمه الله ذكروا عنه أنه لم يرْوِ في كتابه لمن لم يقل الإيمان قول وعمل.
إذا كان الإيمان قول وعمل معناه هذه حقيقة الإيمان، فكيف يُجعل العمل شرط؟
فإذاً جعلنا العمل شرطاً معناه أخرجناه من كونه ركناً وجعلناه شرطاً للقول أو شرطاً للإعتقاد.
فإما أن نَدْخُلْ في مذهب المرجئة أو ندخل في مذهب الخوارج والمعتزلة.
وهذه مسائل مهمة تُبَيِّنُ لك ضرورة الاتصال بعلم أصول الفقه وتعريفات الأشياء حتى يُفْهَمْ معنى اللفظ ودلالته، وهذا كتفصيل للإجمال الذي به غَلَّظْنَا المُحَشِّي للطحاوية على حاشيته. (1)
س5/ ما الفرق بين المشيئة والإرادة وهل تعلقهما واحد أم ثَمَّ تفريق بين الكوني والشرعي؟
ج/ هذا سؤال جيد ويدل على إدراك العلم إن شاء الله تعالى.
مشيئة الله ? غير الإرادة من جهة أنَّ الإرادة تنقسم إلى قسمين والمشيئة نوع واحد.
فمشيئة الله ? في النصوص واحدة، وتُفَسَّر بما يشاؤه كونَاً، يعني بما يريده كوناً، بما يأذن به ? أن يحدث في ملكوته كوناً.
أما الإرادة فلها قسمان في ألفاظٍ أُخَرْ جاءت في الشريعة مثل الإذن، والكتابة، والقضاء، والأمر إلخ..
فالإرادة منها إرادة كونية، ومنها إرادة شرعية:
الإرادة الكونية -وهي المشيئة-، لا تَعَلُّقَ لها بمحبة الله ? وبرضاه، يعني يريد كوناً ويشاء كوناً مما شاءه أشياء يحبها ? ويرضاها، ومما شاءه أيضاً وأراده كوناً أشياء يكرهها الله ?، لكن أَذِنَ بها في ملكه لحكمة.
أما الإرادة الشرعية فهو ? لا يريد شرعاً، لا يأذن شرعاً إلا بما يُحبُّهُ ويرضاه، فالله سبحانه وتعالى لا يرضى لعباده الكفر ولذلك لا يريد الكفر شرعاً وإن أراده وشاءه كوناً، وهكذا.
يقول: هل تعلقهما واحد أم ثَمَّ تفريق بين الكوني والشرعي؟
التَّعَلُّقْ مختف لأنَّ الإرادة الكونية تعلقها بما يكون، يعني تعلقها بالحُكْمِ، بالخلق.
والإرادة [الشرعية] (2) تعلقها بالأمر وبما شَرَعْ.
والله سبحانه وتعالى فَرَّقَ ما بين الخلق والأمر فقال: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} [الأعراف:54] .
فالخَلْقُ: هذا تعلق المشيئة والإرادة الكونية به.
والأمر تعلق الإرادة الشرعية به.
ولهذا يختلف هذا عن ذاك.
س7/ هذا سؤال يقول ما الفرق بين الدعاء والمسألة؟
ج/ الدعاء قسمان: دعاء عبادة ودعاء مسألة.
مَعْنَى دُعَاءْ العِبَادَةْ أنَّهُ يَتَعَبَّدُ الله ? لِيَرْجُوَ ثَوَابَهْ، سُمِّيَتْ العِبَادَةْ دُعَاءً لأنَّ كُلَّ مُتَعَبِّدٍ يَطْلُبُ بعبادته الثواب، فهو طَالِبٌ ضِمْنَاً، من صَلَّى فَهُوَ في عبادة، كُلُّ مَصِلٍ سَائِلْ لأنَّهُ يَسْأَل الثِّوَاب ورِضَا الله ? عنه إلخ، وإن لم يَقُلْ اللَّهُمَّ ارْضَ عَنِّيْ، اللَّهُمَّ أَثِبْنِي إلخ.
أمَّا دُعَاءْ المَسْأَلَةْ، وهُوَ السُّؤَالْ: فَهُوَ أَنْ يَرْفَعَ يَدِيهِ ويَقُولْ اللَّهُمَّ أَعْطِنِي كَذَا، اللَّهُمَّ أَسْأَلُكَ كَذَا، هذا يُسَمَّى دُعَاءْ المَسْأَلَةْ.
__________
(1) يقصد شعيب الأرناؤوط.
(2) قال الشيخ حفظه الله: الكونية.(1/604)
والدُّعَاءْ في القرآن، في ما ورد في النصوص في القرآن والسنة تارةً يأتي بمعنى دعاء العبادة وتارةً يَأْتِيْ بِمَعْنَى دُعَاءْ المَسْأَلَةْ وتَارَةً يكون بما يحتمل هذا وذاك.
فمما يحتمل هذا وهذا أو يشمل الأمرين معاً كقوله في الآية التي ذكرتها لكم: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60] ، وكذلك قوله: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة:186] .
ودعاء المسألة كقوله: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ} [العنكبوت:65] دعوا هنا يعني إيش؟ ليس معناها عبدوا، بل معناها سألوا الله مخلصين في سؤالهم والسؤال من الدين.
وما خُصَّ به العبادة كقوله ?: {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيّاً (48) فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ} [مريم:48-49] ، فقوله هنا في الأولى {تَدْعُونَ} وفي الثانية {يَعْبُدُونَ} دلَّ على أنَّ معنى الدعاء هنا هو العبادة.
فإذاً في النصوص الدعاء ينقسم إلى قسمين: دعاء العبادة ودعاء المسألة.
ومعنى دعاء العبادة، يعني العبادات بأنواعها، ودعاء المسألة يعني السؤال {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} [الجن:18] ، هذا يشمل دعاء العبادة ودعاء المسألة، وهكذا.
وفقكم الله.(1/605)
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه وعلى من اهتدى بهداه.
الأسئلة:
س1/ يقول: سمعت حديثاً أنه «ليس يتحسّر أهل الجنة على شيء إلا على ساعة لم يذكروا الله تعالى فيها» (1) ، فهل هذا التحسُّرْ مما ينافي النعيم أو غير ذلك؟
ج/ لا يحضرني الحديث في تخريجه، وعلى القول أو على فرض ثبوته، فإنَّ التحسُّرْ في فوات المراتب العالية نقص ولكنَّهُ ليس عذاباً؛ لأنَّ الذي مُنِعَ أهل الجنة من أن يكون عليهم هو العذاب، أما النَّقص في النعيم بأنواعه، هذا حاصل، فإنَّ نعيم أهل الجنة ليس بمرتبة واحدة ولا بمنزلةٍ واحدة، يتفاوتون في النعيم البدني وفي النعيم البصري والسمعي وكذلك النعيم النفسي، يتفاوتون في ذلك بحسب مراتبهم، فإذا وُجِدَ التحَسُّرْ فهذا نقص؛ يعني بمعني فوت بعض النعيم، يعني يقولون: ليتنا ذكرنا الله ? في كل ساعة حتى تزيد أو ترتفع درجتنا.
س2/ يقول: عندما يتكلم العلماء على مسألة الزيادة والنقص في الإيمان يأتون بعبارات مثل: إنه متبعِّضْ، وإنه متفاضَل، وإنه يذهب بعضه ولا يذهب أصله، وإنه يذهب بعضه ولا يذهب كله. فهل هذه العبارات مقصودة أم أنها تدلُّ على مسألة الزيادة والنقص؟ أم أنها تدل على معنىً زائد عن الزيادة والنقص؟
ج/ الذي ينبغي على طالب العلم إذا درس مسألة من مسائل العلم أن يبتدئ بأصول المسألة ويستوعبَها جيّداً؛ لأنَّ الأصول والمسائل الأولى في العلم أو في أي مسألة من المسائل قبل الدخول في التفصيلات هي التي عليها بناء هذا الباب أو بناء هذه المسألة.
ولذلك قد يُكثر طالب العلم من القراءة فتدخل عليه مسائل في مسائل، خاصةً في العقيدة ويشتبه عليه التأصيل بالتفريق ويشتبه عليه المسائل التي هي عُقَدْ ويُبْنَى عليها العلم من المسائل التي هي من الإيضاح أو من اللوازم أو من الاستطرادات وأشباه ذلك.
الإيمان عند جمهور أهل السنة والجماعة يزيد وينقص، وزيادته دلّ عليها القرآن كما هو معلوم في قوله: {زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال:2] ، وفي قوله: {فَزَادَهُمْ إِيمَاناً} [آل عمران:173] ، وفي قوله: {وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَاناً} [المدثر:31] ، ونحو ذلك.
وهذه الزيادة قال بها جميع أهل السنة؛ بأنَّ الإيمان يزيد، هذا إجماع من أهل السنة.
لكن هل ينقص أم أنه يزيد ويقف ثمّ يزيد مرة أخرى؟
عامة أهل السنة، جمهور أهل السنة إلا ما ندر يقولون ما زاد فإنه ينقص؛ وذلك لأنَّ سبب الزيادة وعلة الزيادة هي الإيمان، فدلّ على أنَّ النّقص علته وسببه هو ضد شعب الإيمان التي هي المعاصي، فإذا عصى الله ? نقص إيمانه وإذا عَبَدَ الله ? وتَقَرَّبَ إليه زاد إيمانه.
وهذا يدل عليه أيضا جمع من الأحاديث الصحيحة منها قوله صلى الله عليه وسلم: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن» (2) ، وفي لفظ عند الإمام أحمد «إذا زنى الزاني خرج منه الإيمان فكان على رأسه كالظلّة، فإذا ترك ونزع عاد إليه» (3) ، وهذا يدل على أنَّ فِعْلَ المعاصي سبب في زوال بعض الإيمان، وهذا هو معنى النّقص. (4)
فإذاً الإيمان يزيد وينقص، هذا هو قول أهل السنة، يعني عامة أهل السنة، أكثر أهل السنة أو تقول كل أهل السنة إلا من ندر.
أما مسألة التبعض فهذه متصلة -تذكرون الإيمان متبعض- هذه متصلة بمسائل الزيادة والنقصان ومسائل الأسماء والأحكام، يعني أنَّ الإيمان ليس شيئاً واحداً، إما أن يأتي ويثْبُتَ كله، وإما أن يذهب ويزول كلُّه، لأنَّ هذا هو قول الخوارج ومن شابههم؛ في أنَّ الإيمان شيء واحد إما أن يُوجَدْ وإما أن يزول، هو شيء واحد لا يقبل التفاضل، وكذلك المعين، هذا من جهة الحكم، ومن جهة الأسماء فإنَّ من ارتكب المعصية فليس بمؤمن عندهم لأنه ارتكب ما يَذْهَبُ معه أصل الإيمان فليس بمؤمن.
فإذاً مسألة التبعض وأنَّ الإيمان يزيد وينقص، يتبعض، يذهب بعضه لا يذهب أصله، هذه المسائل متعلقة بمذهب أهل السنة والجماعة في الإيمان، ثُمَّ التبعض له علاقة بالأحكام والتكفير والأسماء التي تُطلق على مرتكب المعصية والكبيرة.
فإذاً قولك في الأخيرة: هل تدل على مسألة الزيادة والنقص أم تدل على معنى زائداً على الزيادة والنقص؟
لا هي تدل على معنى زائد على الزيادة والنقص، لكن لها صلة بالزيادة والنقص، لأنَّ منبع الزيادة والنقص ومنبع التبعض واحد وهو أنَّ الإيمان ليس شيئاً واحداً، وإنما الإيمان قد يأتي وقد يذهب قد يزيد وقد ينقص بحسب الحال.
س3/ يقول: قرأت كتاباً لأحد العلماء المعاصرين يقول فيه: إنَّ الوجه - وجه الرحمن- صفة ذاتية زائدة. فما المقصود بقوله ذلك؟
__________
(1) المعجم الكبير (182) / شعب الإيمان (512)
(2) سبق ذكره (412)
(3) سبق ذكره (412)
(4) نهاية الوجه الأول من الشريط الثاني والأربعين.(1/606)
ج/ أنا لا أعلم، لكن أحياناً تُستعمل، المقصود بها زائدة على الذات، يعني للذهاب عن قول من يقول الوجه هو الذات، {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} [الرحمن:27] يعني وتبقى ذات ربك، فقد يكون مراده أنه زائدة يعني عن الذات، ليست هي الذات، صفة زائدة، توجد ذات ويوجد وجه للرب ?، لكنها ليست من العبارات المستعملة عند السلف.
س4/ لما مُيِّزت نصوص الوعيد بميزة أنها تُمَرُّ كما جاءت؟ وهل تُلْحَقْ بها نصوص الرحمة في هذا الوصف؟
ج/ الوعيد الذي هو توعُّدٌ من الله ? للكافر أو للفاسق بالعذاب هذا حق، والله ? خبره صدق، لكن وعيده ? مع كونه حقاً وصِدْقَاً كما أخبر ? فإنه في حق المسلم الموحّد على رجاء الغُفْرانْ، وعلى رجاء العفو.
ولذلك لا يُطَبَّقُ الوعيد في حق المعين؛ بل نقول: هذا الوعيد يُمَرُّ كما جاء ولا ندخل في تفصيلاته من حيث إنَّ هذا الوعيد لمن فعل كذا بالنار في تفصيلات هذا الوعيد، أو في تفصيلات المعيَّنْ الذي ارتكب شيئاً مما ينطبق عليه هذا الوعيد، الأصل أن نُمِرَّ ذلك كما جاء ونُبقيهِ وعيداً للتخويف والجزاء عند رب العالمين.
ولهذا يقول العلماء: إخلاف الوعيد فضل وكرم، وأما إخلاف الوعد فكذب.
ولهذا الله جل وعلا لا يُخلف وعده، {لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ} [الروم:6] وَعْد الله مفعول لا بدّ منه، ما وعد به عباده فلا بدّ منه.
أما وعيده سبحانه وتعالى، فإنه قد يَتَخَلَّفْ في حَقِّ المعين بفضل منه وكرم. وكما جاء في الحديث الذي في الصحيحين: أنه يوم القيامة يكون آخر من يُخرَجْ من النار أقوام «يُخْرَجُونَ من النار وقد امتحشوا، فيلقون في نهر يقال له نهر الحياة فينبتون كما تنبت الحِبة أو الحبة في جانب الشيء» (1) ، هذا بفضله ? فَيَخْرُجُ من النار أقوام لم يعملوا خيراً قط، ويغفر الله ? لمن يشاء سبحانه وتعالى.
فإذاً الوعيد يبقى كما هو بدون تفصيل يُمَرْ كما جاء من جهة معناه ومن جهة من يتعلق به.
ثُمَّ وعيد الله ? بالعذاب في الدنيا أو العقوبة في الدنيا، هذا متعلق بحكمته سبحانه وتعالى، وحكمة الله ? غالبة، لهذا يُثبَتُ الوعيد في حقّ الكافر من جهة الجنس لا من جهة المُعَيَّنْ حتى يموت على الكفر، فإذا مات على الكفر فإنّه يُقال فيه ما أوْعَدَهُ الله ?، لأنه قد جاء في الحديث الصحيح «حيث ما مررت بقبر كافر فبشّره بالنّار» (2) ، وهو في بعض السنن بإسنادٍ جيّد.
وهناك قسم ثاني من الوعيد وهو وعيد الحكم وليس وعيد العذاب وهو مثل: «من أتى كاهنا لم تُقبل له صلاة» (3) ، «من أتى كاهنا فصدقه فقد كفر بما أُنزل على محمّد» (4) ، «من أتى حائضاً أو امرأة في دبرها فقد كفر بما أُنزل على محمّد» (5) ، «لا يدخل الجنة قاطع رحم» ، «لا يدخل الجنة قتّات» (6) ، ونحو ذلك، هذا وعيدٌ في الاسم، في الحكم وليس وعيداً في نوع العذاب وأشباه ذلك.
وهذا الوعيد هو الذي يكثر كلام السلف فيه، بأنه يُمَرُّ كما جاء، لماذا؟
لأنَّ الدخول في نوعية حُكْمِهِ، يعني هل هو كافر كفر أكبر أو أصغر؟ هل هو لا يدخل الجنة؟ يعني نقول له لأنَّ الغرض من الوعيد هو التخويف من هذه الأفعال حتى يرتدع العباد، فإذا دخل الناس في تفصيلاتها ولم يُمِرُّوهَا كما جاءت كأنه يضعف جانب الوعيد فيها.
لكن لها تفصيل، مع كونه يُمَرْ كما جاء فإنَّهُ له تفصيل بحسب ما عند أهل العلم من الأدلة.
فمثلاً نقول في «لا يدخل الجنة قتّات» نُفَرِّقْ بين الدخول الأول والدخول المتأخِّر، مثلاً «من أتى كاهناً فصدقه فقد كفر» نقول مثلاً هذا كفر أصغر وليس بكفر أكبر، وأشباه ذلك من الأدلة التي فيها الوعيد بالحكم.
وهذا يحتاج إلى أدلة أخرى لبيان معنى هذا الحديث أو معنى هذه الآية، وإلا فالأصل أن يُمَرْ؛ بمعنى لا يدخل العالم أو طالب العلم في تفصيله أو في تفسيره لأن الغرض منه التخويف.
لهذا مثلاً في حديث: «من أتى كاهنا فصدقه فقد كفر بما أُنزل على محمّد» ، سُئِلَ عنه الإمام أحمد هل هو كفر أكبر أو أصغر فتوقف عن ذلك وقال -كما هي الرواية الثالثة أو القول الثالث- توقف وقال أقول كُفْر وبَسْ؛ يعني وسكت. وهذا لأجل أنَّ النَّصَ أَطْلَقْ والمقصود منه التخويف.
__________
(1) سبق ذكره (436)
(2) سبق ذكره (105)
(3) مصنف عبد الرزاق (20349)
(4) المسند (9532) / مسند الطيالسي (382) / مسند البزار (1873)
(5) أبو داود (3904)
(6) سبق ذكره مع ما قبله (351)(1/607)
والقول الأول أنه كفر أكبر، كما ينحو إليه قلة من أهل العلم، والقول الثاني أنه كفر أصغر مع أنَّ النص نص وعيد لكن دخل العلماء في تفسيره لأجل ورود الأدلة الأخرى، كما جاء في مسند الإمام أحمد بإسنادٍ صحيح ثابت أنه صلى الله عليه وسلم قال: «من أتى كاهنا أو عرّافاً فسأله عن شيء فصدقه لم تُقبل له صلاة أربعين ليلة» ، وهذا من رواية الإمام أحمد وهي زيادة مقبولة قوية زائدة على ما في صحيح مسلم «من أتى كاهنا أو عرّافاً فسأله عن شيء فصدقه لم تُقبل له صلاة» ، بدون زيادة «فَصَدَّقَهُ» ، فقد جاءت بإسنادٍ ثابتٍ صحيح بل هي أرجح في الزيادة من رواية مسلم ولذلك اعتمدها إمام الدعوة رحمه الله في كتاب التوحيد.
المقصود أنه قال «فصدَّقَهُ لم تُقبل له صلاة» ، فكونه صلى الله عليه وسلم حدَّ عدم قبول الصلاة بأربعين ليلة دلَّ على بقاء الإسلام، لأنَّ الكافر إذا كَفَرَ من بعد إيمانه فإنه لا تُقبَلُ له صلاة مطلقاً، أما عدم قبول الصلاة أربعين ليلة، فهذا يدل على أنَّهُ مُسلم لكن عدم القَبُولْ لأجل عِظَمِ ما فعل، ثُمَّ لأجل الشبهة في حقه، الشبهة في حق من يسأل الكاهن، فإنه قد يقول: أنا لا أقول أنَّهُ يعلم الغيب ولا أعتقد أنه يعلم الغيب ولكن قد يُخبر بالشيء الذي تُخبرُهُ به الشياطين أو من يسترق السمع فتوجد شبهة تمنع من مأخذ التكفير.
أما الساحر فيختلف عن الكاهن، الساحر هذا شيء آخر لأنَّهُ لا يسحر إلا بالاستعاذة والاستغاثة بشياطين الجن.
س5/ هل دعاء: اللهم انصر جميع المستضعفين من المسلمين، أو دعاء ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا من باب التعدي في الدعاء بحيث إنَّ الأول قد كتبه الله في الأرض والثاني قال الله سبحانه كما في الحديث قد فعلت؟
والسؤال الثاني: هل اعتقاد القبوريين والصوفية في الأولياء وأنهم يملكون الشفاعة ونحوها ناشئ من الغلو في الدعاء أم ما هو سبب هذا الاعتقاد لديهم؟
ج / مسألة الاعتداء في الدعاء بحثنا فيها باختصار في الدرس الماضي، وهي مسألةٌ مهمة جداً ينبغي لطلاّب العلم أن يعتنوا بها لأنَّ الداعي إذا اعتدى في الدعاء فإنه يأثم، والاعتداء في الدعاء سبب لردِّهْ؛ بل من أعظم أسباب ردّ الدعاء أن يدعو العبد ربّه الجليل العظيم ويعتدي ولا يتأدَّبْ وهو يدعو.
وبعض البشر وهُمْ مَنْ هُمْ في ضعف شأنهم وقلة حيلتهم؛ لكنهم إذا رأوا من يسألهم ويعتدي في السؤال فإنهم لا يصبرون وربما عاقبوا وربما نَفَرُوا؛ لأنَّ من حُسْنِ أو من أسباب الإجابة حُسْنِ السؤال حتى في حق المخلوق، والله ? هو المستحق لكل أدب من عبده وتَذَلُّلٍ من عبده وحُسْنِ السؤال وحُسْنِ الدعاء؛ ولهذا مبحث الاعتداء في الدعاء مما ينبغي على كل طالب علم أن يعتني به وخاصَّةً خطباء المساجد والأئمة الذين يدعون لأنفسهم وللمسلمين في القنوت وفي غيره.
لهذا جاء مثل هذا السؤال لأجل الاهتمام بهذا الموضوع.
قول القائل اللهم أنصر جميع المسلمين من المستضعفين هل هذا فيه اعتداء في الدعاء أم لا؟
هذا فيه حسن رجاء وظن بالله ?، وليس فيه اعتداء، والنبي صلى الله عليه وسلم دعا بنجاة المستضعفين فقال: «اللهم أنْجِ المستضعفين، اللهم أنْجِ فلانا وفلانا» ، والدعاء بنجاة جميع المستضعفين من المسلمين أو بنصر المسلمين جميعاً، هذا طَلَبْ والطلب قد يُجابْ بنحوه؛ يعني قد يُجابْ بنفس المطلوب وقد يُجَابُ بصورةٍ أخرى كما أوضحنا في الدرس الماضي، «ما من عبد يدعو بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث خصال، إما أن يُعجل له دعوته، وإما أن يختبئها له يوم القيامة، وإما أن يصرف عنه من الشر مثلها» وهذا يدل على أنَّ العبد إذا أعْظَمَ في الطلب فإنه هذا مع عِظَمِ الرجاء.
الاعتداء في الدعاء لا يدخل في هذه اللفظة؛ لأنه لم يسأل سؤالاً فيه إثم، ولم يسأل سؤالاً ويدعو بدعاء فيه قطيعة رحم، ولا بشيءٍ مضادٍ لأمر الله ? في القرآن والسنة ولم يدعُ بدعاءٍ فيه مناقضة لحكمة الله ?.
مثال ما يناقض الحكمة- مثلاً يقول القائل: اللهم دمر اليهود والنصارى أجمعين، اللهم اجعلهم كذا واجعل ... إلخ، وتدميرهم بأجمعهم هذا ينافي الحكمة التي أخبرنا الله ? بها أنه يؤخر هؤلاء حتى ينزل المسيح عليه السلام، فيُسْلِمْ النصارى ويُقتَلْ اليهود.
فمثل هذا الدعاء العام هذا فيه مناقضة بما أُخبرنا منا الحكمة، وفيه -مثل ما ذكرت- اعتداء في الدعاء.
ولهذا كان من دعاء عمر رضي الله عنه وهو الخليفة الراشد والفقيه الأعلم، في دعائه أنَّهُ لم يكن يدعُ على جميع الكفار بأصنافهم من اليهود والنصارى وغيرهم، وإنما كان يدعو دُعَاءً مقيد –في القنوت- فيقول رضي الله عنه (اللهم عليك بكفرة أهل الكتاب الذين يصدون عن دينك ويقاتلون أولياءك) .(1/608)
وهذا مما يوافق قول الله ? في سورة الممتحنة: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة:8] . ومن البِرّ في حقهم عدم الدعاء عليهم، ومن البر في حقهم الدعاء لهم بالهداية ونحو ذلك، ثمّ قال ?: {إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ} [الممتحنة:9] ، هؤلاء هم الذين يُدْعَى عليهم وهم الذين يُنْتَصَرْ عليهم إلخ.
أما الشِّق الثاني في ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا هل هو من باب الاعتداء في الدعاء:
عدَّهُ بعض العلماء من الاعتداء في الدعاء كالقرافي في الفروق وغيره، وسبب ذلك أنَّ الله ? قال قد فعلت، والله ? أجرى هذا حُكْماً في أنه من نسي أو أخطأ فإنه لا يؤاخذه ولا يجعل عليه وِزْرَاً ?.
فإذا دعوت وأنت عالم بأنَّ الله أعطى هذا فيقول هذا اعتداء لأنه أنت تدعو بشيء قد تَكَفَّلَ الله به فكأنك تقول إنَّ الله لم يتكفل به أو تشك في تَكَفُّلِ الله به.
هذه وجهة القرافي ومن معه، وربما مال إليه بعض أهل العلم الآخرين.
والقول الثاني وهو الصحيح أنَّ هذا ليس من الاعتداء في الدعاء لأنّ الذي عفا الله ? عنه أن يؤاخذه بالنسيان والخطأ هو المؤمن المُوَحِّدْ فهذا السائل لا يسأل بما يتعلق بإعطاء الله ? ولا بفعل الله ? وإنما يسأل أن يكون هو ممن أكرمه الله ? بالدّخول في زمرة المؤمنين الذين أعطاهم هذا الفضل والإحسان، فكأنه قال: اللهم ثبتني على الإيمان، اللهم لا تُزغ قلبي حتى لا يُؤاخَذْ بنسيانه أو بخطئه، وهذا هو المعتمد في مثل هذه المسألة.(1/609)
واللهُ يَغْضَبُ وَيَرْضَى لاَ كَأحَدٍ مِنَ الوَرَى.
_____________________________________________
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين، أمَّا بعد:
يريد الطحاوي رحمه الله بهذه الكلمة إثبات صفات الله ? الفعلية الاختيارية المتعلقة بمشيئته وقدرته ?.
وهذا هو الذي تَمَيَّزَ به أهل الحديث والأثر مخالفين في ذلك كل الفِرَقْ الأخرى التي لم تُثْبِتْ صفات الذات أو لم تُثْبِتْ صفات الأفعال الاختيارية التي تقوم بذات الرب ? إذا شاء الله ? ذلك، يعني منوطة بإرادته وقدرته كما سيأتي.
وذلك أنَّ الجهمية والمعتزلة والكلابية والأشعرية والماتريدية، كل هؤلاء ينفون الصفات الفعلية الاختيارية على اختلافٍ بينهم في هذا النفي.
فأراد الطحاوي رحمه الله أن يُقَرِّرْ أنَّ منهج السلف الصالح وأنَّ عقيدة الصحابة وأئمة الإسلام أنهم يُثبتون صفة الغضب والرِّضا على حدّ قوله ? {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:11] .
فكما أنّه ? يتكلم لا كأحدٍ من الورى، ويسمع لا كأحدٍ من الورى، ويُبصر لا كأحدٍ من الورى، وهو ? له الحياة كاملة لا كأحدٍ من الورى، وله الإرادة ? وله القدرة لا كأحدٍ من الورى، فكذلك هو ? يُوصَفُ بأنَّ له وجهاً لا كأحدٍ من الورى، وأنَّ له يدين لا كأحدٍ من الورى، وأنه سبحانه وتعالى مستوٍ على عرشه لا كأحدٍ من الورى، وأنه ? يغضب لا كأحدٍ من الورى، ويريد لا كأحدٍ من الورى، ويرضى لا كأحدٍ من الورى، ويحب لا كأحدٍ من الورى، ويسخط لا كأحدٍ من الورى. وهكذا في كل الصفات، فباب الصفات باب واحد كما سيأتي بيانه.
إذاً فالطحاوي رحمه الله يريد بذلك أن يُقَرِّرَ هذه العقيدة، وأنَّ منهج السلف فيها كقولهم في غيرها من الصفات لا يُفَرِّقُونَ بين صفة وصفة.
ثُمَّ هاهنا مسائل:(1/610)
[المسألة الأولى] :
أنّ صفة الغضب وصفة الرِّضَى من الصفات التي ذُكِرَتْ في القرآن والسنة في آيٍ وفي أحاديث كثيرة.
أمَّا القرآن فكقوله (في الرضا {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [الفتح:18] ، وقال ? أيضاً في الرضا {رَّضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ} (1) في غير ما آية. وقال (في الغضب {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ} [المائدة:60] ، وقال ? {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ} [النساء:93] ، وقال ?: {وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ} (2) ، وقال: {فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ} [البقرة:90] . ونحو ذلك من الآيات.
أمَّا السنة فقد قال صلى الله عليه وسلم في الرضا، في الحديث الذي فيه ذِكْرُ نعيم أهل الجنة، قال في آخره: لمّا سألهم قال: «هل أعطيتكم؟ قالوا نعم، قال فإني أُحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدا» (3) ، إِحْلَالْ الرضوان، إحلال الرضا من الله ?. ونحوه في قوله «من لم يسأل الله يغضب عليه» (4) ، والأحاديث في هذا الباب معروفة.
__________
(1) المائدة: 119، التوبة 100، المجادلة: 22، البينة 8.
(2) البقرة:61، آل عمران:112.
(3) البخاري (6549) / مسلم (7318)
(4) سبق ذكره (596)(1/611)
[المسألة الثانية] :
في قوله (يَغْضَبُ وَيَرْضَى لاَ كَأحَدٍ مِنَ الوَرَى) ، الغضب والرضا من الصفات التي يتّصف بها الرب ? إذا شاء.
فَغَضَبُهُ سبحانه ورضاه متعلّق بمشيئته وقدرته.
الغضب يحِلُّ ثمّ يزول، والرضا يحِلُّ ثُمَّّ يزول، وهكذا، يعني أنَّ الغضب ليس دائماً والرضا ليس دائماً وإنما هذا مُرْتَبِطٌ كجنسه في الصفات الفعلية بمشيئة الله وبقدرته.
وهذا هو الذي قَرَّرَهُ أهل الحديث والأثر وأئمة أهل السنة واستدلوا لذلك بقول الله ?: {وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى} [طه:81] ، فدلَّ على أنَّ الغضب يحِلّ بعد أن لم يكن حالَّاً، وحُلُولُهُ يَدُلُّ على أنّه متعلق بمشيئة الله ? لأنَّهُ ما شاء الله ? كان.
فإذا شاء الله أن يغضب فإنه سبحانه يغضب وإذا شاء أن يرضى فإنه ? يرضى.
وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث: «أُحل عليكم رضواني فلا أسخط بعده أبدا» ، دلَّ على أنَّ أهل الجنّة مَنَّ عليهم ? بأنه أحَلَّ عليهم رضاه فلا يسخط بعده عليهم أبداً، وهذا يدل على أنَّ الرضا متعلق بمشيئة الله ? وإرادته وقدرته سبحانه وتعالى.
هذا هو مذهب أهل السنة والجماعة في أنَّ الغضب والرضا صفات فعلية اختيارية للرّب ? ومن جنسها صفة المحبة والسَخَطْ والوَلَايَةْ والعداوة وأشباه ذلك فإنها تختلف ومتعلقة بمشيئة الله وقدرته.
أما مذاهب المخالفين في هاتين الصفتين بخصوصهما:
@ فإنَّ الجهمية ومن شابههم ممن ينفون الصفات أصلاً يجعلون الآيات والأحاديث التي فيها ذِكْرْ الغضب أو فيها ذِكْرْ الرضا أنَّهَا أسماء للشيء الذي سُمِّيَ غَضَبْ، يعني العقوبة هي الغضب والنعيم هو الرضا.
فعندهم أنَّ هذه الأشياء مخلوقات منفصلة متعلقة بمن قيل عنه: إنه غُضِبَ عليه أو رضي الله عنه.
فإذا نَعَّمْ فهذا رضاه، يعني نفس النعيم هو رضا الله ? ونفس العقوبة هي الغضب، وهذا مذهب الجهمية ومن شابههم.
@ أما الكلابية وهم أوَّلْ من نفى هذه الصفات لأجل نَفْيِ تَعَلُّقِهَا بمشيئة الله وقدرته وتعليلهم لذلك بأنَّ إثباتها يقتضي أنّه ? محلَّاً للحوادث.
ولهذا ذهبوا إلى أنَّ غضب الله ? واحد وأنَّ رضاه واحد، فغضبه عندهم قديم، من غَضِبَ عليه فإنه لا يرضى عليه أبداً، ومن رضي عنه فإنه لا يغضب عليه أبداً.
فعندهم أنَّ غضب الله ? ليس له تَعَلُّقْ بعمل العبد أو بعمل العبيد وأنَّ رضاه ليس متعلقاً بعمل العبد أو بعمل العباد، وإنما هو شيءٌ واحد.
ولهذا يقولون إنه مَنْ كان مِنْ أهل الجنة في العاقبة فإنه مَرْضِيٌ عنه ولو كان حال عبادته للوثن، ولو كان حال زناه، شربه للخمر -يعني قبل أن يُسلم-، ومن غَضِبَ الله عليه وكانت خاتمته النار والعذاب فإنه مغضوبٌ عليه ولو في حال صلاته وخشوعه وبكائه بين يدي الله في حال إسلامه.
وهذا يعني:
1 - أنَّهُ إبطال للصفة.
2 - ثُمَّ أنَّهُ لا معنى حِيْنَئِذْ عندهم لكتابة الحسنات للمسلم ولكتابة السيئات على الكافر في حال إيمان الأول وكفر الثاني؛ لأنَّ الإنسان إذا أسلم فإنَّ الإسلام يَجُبُّ ما قبله، فكيف يكون مَرْضِيَّاً عنه والملائكة تكتب عليه السيئات.
ثُمَّ هذا المسلم يكون خاشعاً تُكْتَبُ له الحسنات، ثمّ تأتي الرِدَّة فيحبط عمله فيكون عندهم دائماً في حال الغضب وأشباه ذلك.
وهذا خلاف ما دلَّتْ عليه الأدلة كما ذكرت لك في قوله: {وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى} ، «أُحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدا» ، وأشباه هذه الأدلة.
إذاً فعند الكلابية، وهو الذي ذهب إليه الأشعرية والماتريدية أنَّ صفة الغضب والرضا ونحوها من الصفات أنها صفات قديمة ذاتية، يعني أنها لا تتعلق بمشيئةٍ ولا إرادةٍ ولا قدرة بل هي قديمة، غَضِبَ وانْتَهَى ورَضِيَ وانتهى وليس ثَمَّ شيء يتجدّد بتعلقه بالآحاد.(1/612)
[المسألة الثالثة] :
نقول: الذين تَأَوَّلُوا كابن كلاب ومن معه، على النحو الذي ذكرنا لك سالفاً، هم أول من أحْدَثَ هذا المصطلح وهو الصفات الذاتية والصفات الفعلية، وجعلوا الباب عندهم أنَّ إثبات صفات الفِعْلْ يعني حلول الحوادث بالرّب ?، وأهل السنة والجماعة استعملوا هذا التقسيم: الصفات الذاتية والصفات الفعلية على ما دَلَّتْ عليه النصوص.
فَعُرِّفَت الصفات الذاتية بأكثر من تعريف وهو اجتهاد من العلماء، لكن لعله يكون من أقربها:
- أنَّ الصفات الذاتية هي الملازمة للموصوف.
- والصفات الفعلية هي الصفات غير الملازمة للمتصف بها، غير الملازمة للذات.
ويُعْنَى بالمُلَازَمَةْ التي لا تنفك عن الذات الموصوفة بهذه الصفة.
ففي حق الله ? نقول الوجه صفة ذات لأنه لا ينفك، فالله ? متصفٌ بهذه الصفة دائماً وأبداً وأنه سبحانه متصفٌ بالعظمة والكبرياء والجلال والنور وأشباه ذلك، هذه صفات ذاتية.
والقسم الثاني الصفات الفعلية، وهذه الصفات الفعلية هي غير الملازمة، يعني التي تتعلق بمشيئة الله ? وقدرته واختياره سبحانه وتعالى، فليست ملازمة فإنها تكون في حال دون حال.
والصفات الفعلية:
- منها ما يكون دائماً صفة فعلية.
- ومنها ما يكون آحاده صِفَةَ فِعْلٍ واختيار وأَصْلُهُ صفةَ ذات مُلازِمة.
& مثال الأول صفة الغضب والرضا فإنها متعلقة بمن يغضب عليه وبمن يرضى عنه.
& ومثال الثاني الكلام لله ?، فإنه سبحانه كلامه كما أنه قديم فإنه متجدد الآحاد.
والشبهة التي أوقعت الكلابية [.... (1) ] .
لمَّا ترك الاعتزال الذي كان عليه في أوّل أمره، ذهب يبحث عن جوابٍ لأسئلة عنده قبل تركه للاعتزال، فوجد في جامِعٍ في بغداد أصحاب ابن كُلاَّب يتباحثون ومنهم من يُعَلِّم فجلس فأعجبَه كلامهم لأنهم كانوا يَرُدُّونَ على المعتزلة، فأخذ مذهب الكُّلَّابِيَّة وهو المذهب الذي دَرَج عليه أصحابه -أصحاب الأشعري-، ثمّ مَرَّ عليه زمن في ذلك وصنّف في مذهبهم مصنفات، ثم نظر في قول أهل الحديث فرجع إليه فصار آخر أمره على أنّه من أهل الحديث كما هو مُقَرَّرْ في كتبه كالإبانة ومقالات الإسلاميين ورسالة أهل الثغر أو رسائل أهل الثغر وغيرها.
المقصود من هذا أنَّ هذه المدرسة الكلابية الأشعرية الماتريدية في هذه المباحث، مباحث الصفات رأيهم واحد وشُبْهَتُهُم في نفي الغضب والرضا والحب والبغض والعداوة وأشباه ذلك كالولاية، أنه إذا أُثْبِتَتْ مُتَعَلِّقَة بالمُعَيَّنْ فإنه يعني ذلك أنَّ يكون الله ? مَحَلَّاً للحوادث مَحَلَّاً للمُتَغَيِّرَات، كيف؟
قال ابن كُلَّاب ومن معه إنه إذا قلنا إنها متغيرة متجددة، يغضب ثُمَّ يتغَيَّر فيرضى على هذا ثُمَّ يغضب على هذا ثمّ..إلخ، فمعناه أنَّ ذاته ? تتغيَّرْ.
وهذا منهم لأنَّهُم قَعَّدُوا قاعدة، وهذا الكلام بناءً عل تلك القاعدة لا يستقيم.
فلهذا وَجَبَ مناقشتهم في الأصل الذي بنوا عليه هذا النفي -هل الله محل الحوادث أو لا؟
فيُقال لهم أولاً هذه الكلمة (محلّ للحوادث أو غير محل للحوادث) ، هذه لماذا أتيتم بها، ولماذا قلتم هذا الكلام؟
فيقولون: إنَّا قلناه لأننا أَثْبَتْنَا وجود الرّب ? وأنَّهُ سبحانه موجود ورَبْ وخالق للأشياء عن طريق ما أسموه حُلُولْ الأعراض أو نظرية أو قاعدة حلول الأعراض في الأجسام.
ما معنى هذه النظرية؟
نَظَرَ، وهي التي أتى بها جهم بن صفوان رأس الجهميّة الضالّة -وقد سبق أن أوضحتها لكم مُفَصَّلاً (2) ، نختصرها في هذا المقام-، لمَّا تَفَكَّرَ جهم في الدليل على وجود الله ? وعلى أنَّ هذه الأجسام مخلوقة، قال: الجسم المعين فيه صفات تَتَغَيَّرْ، والجسم لم يَخْتَرْ هذه التغيرات.
ما هذه الصفات التي تَتَغَيَّرْ؟
قال: الصفة؛ صفة البرودة، الحرارة، صفة كثافة الجسم، امتداده وضآلته، نوعية الجسم، ارتفاعه، انخفاضه إلخ ... فهذه أشياء لا يختارها الجسم بنفسه؛ بل هي حَالَّةٌ فيه.
فكونها حَلَّتْ فيه دَلَّ على أنَّهُ هناك مُؤَثِّر جعلها تَحُلُّ في هذا الجسم.
وهذا يعني أنَّ الجسم مُحْتَاجٌ إلى غيره، لأجل حلول هذه الأشياء فيه.
فإذا كان محتاجاً، فإنه إنما احتاج لمن لا يحتاج، وهو الرّب ?.
فَثَبَتَ عندهم أَنَّ الجسم مخلوق من جهة هذه الأشياء التي أَسْمَوهَا حلول الأعراض في الأجسام أو حلول الحوادث في الأجسام.
فَثَبَتَ عندهم وجود الله ?، وأنّه خالق الأجسام، وأنّه هو المستغني، وأنَّ هذه الأجسام مُحْتَاجَة مُحْدَثَةْ بهذا الدليل الذي هو في أصله غلط ومخالف للكتاب والسنّة، والتفكير فيه وأنّه هو دليل وجود الله ? تفكير فيما لم يدل عليه نص لا من القرآن ولا من السنّة.
__________
(1) انقطاع في الصوت.
(2) انظر ص 131، 398، كذلك ذكر الشيخ هذه النظرية بتفصيل في الشريط الثامن من شرح العقيدة الواسطية للشيخ.(1/613)
وإثبات وجود الله ? موجود في القرآن والسنة، فَهُمْ ذهبوا عن الكتاب والسنة إلى العقل فهداهم عقلهم الخاطئ إلى برهان غلط من أصله، وإن ثبتت به نتيجة مؤقتة؛ لكنها فيما يترتب عليها غلط فادح.
لهذا في القرآن، الدليل على وجود الله مختلف عن هذا {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ} [الطور:35-36] هنا عندنا احتمالان:
هل خُلِقْتَ من غير شيء؟ هذا احتمال.
هل أنت الخالق لنفسك؟ هذا احتمال.
هل الإنسان هو الذي خلق السماوات والأرض؟ (1) ،
: [[الشريط الثالث والأربعون]] :
أو يكون أنَّهُ هذه الأشياء كلها مخلوقة.
والسَّبْرْ والتَّقْسِيمْ يعطيك النتيجة الصحيحة لأنَّهُ برهانٌ عقلي.
كذلك التفكير في الآحاد {نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ (57) أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ} [الواقعة:57-58] . هذه أدلَّةْ خلق الله - عز وجل -، الذي خلق فهو القادر على البعث {نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ} .
ما دليل صدق أنَّ الله - عز وجل - هو الذي خلق؟
{أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ} [الواقعة:58-59] ، {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ} [الواقعة:63-64] ، {أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ} [الواقعة:68-69] ، {أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ} [الواقعة:71-72] .
إذاً فتفكير الإنسان في ضعفه وأنَّ الأشياء مُسَخَّرَةٌ له، وأنَّهُ لم يَخْلُقْ نفسه ولم يَخْلُقْ ولده، وإنما جَعَلَ الله - عز وجل - الخلق في أتفه الأسباب وهو هذه النطفة المُحتقرة التي تُماطُ كالأذى؛ ولكن جَعَلَ الله - عز وجل - فيها سرّ الخلق ليُبيِّنْ للإنسان أنَّهُ أعجز ما يكون عن الخلق؛ لأنَّ الله أودع في هذا الشيء المُحْتَقَرْ أو في هذا الشيء الذي هو كالأذى أسرار الخلق.
فإذاً البرهان على وجود الله - عز وجل - في كل شيء:
وفي كل شيء له آية ****** تدلّ على أنَّهُ الواحد.
أولئك الجهمية ذهبوا إلى برهانٍ آخر فأصَّلُوا ذلك.
لمَّا أتوا إلى إثبات الصفات وافَقَ جهم المعتزلة ووافَقَهُ على هذا البرهان الكلابية ووافقه عليه الأشاعرة والماتريديّة.
مثلاً الكلابية جاؤوا في الصفات، في صفة الغضب والرضا -ولا نطيل في البحث-، لمّا أتوا إليها قالوا: لو أثبتنا صفة الغضب والرضا لكَانَ مَحَلَّاً للحوادث.
طيب، إذا كان مَحَلَّاً للحوادث -هذه اللفظة لم تأت في الكتب ولا في السنة-، إذا كان مَحَلَّاً للحوادث فما النتيجة؟
النتيجة أنَّهُ يَبْطُلُ الدليل على وجود الله - عز وجل -، والدليل العقلي على وجود الله - عز وجل - هو الأصل الأصيل الذي لا يجوز أن يُتَعَرَّضَ له بشيء، وإذا كان شيء يُضْعِفُ أو يُبْطِلُ ذاك الدليل الذي هو دليل الأعراض، فإنَّهُ يجب إبطال ما يُضْعِفُهُ أو ما يُضَادُهُ، لا أن يُبْطَلَ أصل الدليل.
لهذا أتوا إلى هذه المسألة في الغضب والرضا وقالوا هذا معناه أنَّهُ محل للحوادث إذا كانت الأشياء بمشيئته واختياره، فَنَفَوا هذه الصفة.
فإذا أنتم أثبتم صفة الحياة، صفة القدرة، وصفة الإرادة، وصفة السمع وصفة البصر وإلخ ... فكيف أثبتموها؟
قالوا: تُثْبَتُ بالدليل العقلي إمَّا بمطابقته أو بلزومه كما هو معروف في أدلتهم للصفات التي أثبتوها.
إذاً في الحقيقة، أنَّ الذين عناهم الطحاوي رحمه الله بقوله (واللهُ يَغْضَبُ وَيَرْضَى لاَ كَأحَدٍ مِنَ الوَرَى) ، أننا نُثبِتْ الصفة ونَنفي مماثلة الرّب - عز وجل - لأحدٍ من خلقه في اتصافه بهذه الصفة.
ففيها رد على الكُلَّابِيَّة والأشاعرة والماتريدية ومن نحا نحوهم من الفِرَقْ المختلفة.
أنا اختصرت لكم الكلام السابق، لكن تفصيله في عددٍ من الشروح التي شرحتها لكم، في الحموية ممكن والواسطية، وفي عدد فصَّلنا هذه المسألة لأنَّهُا مهمّة في مسألة نفي الصفات.
__________
(1) نهاية الشريط الثاني والأربعين.(1/614)
[المسألة الرابعة] :
أنَّ الذين لا يُثْبِتُونَ صفة الغضب والرضا كَصِفَةٍ فِعْلِيَّةٍ اختيارية، يَتَأَوَلُوَنها بإرادة الانتقام والعذاب في الغضب وإرادة الإنعام والإحسان في الرِّضَى.
فيقولون: إنَّ الغضب: هو إرادة الانتقام والعذاب، فجعلوها صفة الإرادة.
الرضا: هو إرادة الإحسان والإنعام.
لماذا أَوَّلْتُمُوها إلى صفة الإرادة؟
قالوا: لأنَّ صفة الإرادة صفةٌ ثابتةٌ بالعقل، فوجب رَدْ هذه الصفة التي لا يَصْلُحُ أن يُوصَفَ الله - عز وجل - بها إلى ما دلَّ عليه الدليل العقلي.
فصفة الإرادة نعم دلَّ عليها الدليل العقلي، هذا صحيح، كما دلَّ عليها الدليل السمعي.
ولكن تَسْمِيَتُكُمْ لهذا تأويلاً هو في الحقيقة نَفْيٌ للصفة؛ لأنَّ صفة الإرادة دلَّ عليه العقل ودلَّ عليها السمع كما عندهم، فكونكم تقولون: لا يتصف بالغضب، لا يتصف بالرضا وإنما يتصف بالإرادة، الإرادة أقسام: إرادة غضب، إرادة انتقام، إرادة إحسان، إرادة خلق إلخ ... لكن هي تبقى صفة إرادة.
فإذاً لمَّا أَوَّلُوا الغضب والرضا بالإرادة، فإنَّهُم -يعني- ينفون صفة الغضب والرضا.
ولهذا في الحقيقة الذي يتأول الصفة بصفة أخرى فإنَّهُ ينفي الصفة، فكل مُتَأوِّلٍ نافٍ للصفة التي يقول أنَّهُا لا تصلح في حق الله - عز وجل -.
ولهذا يَدْخُلُ في نُفَاة الصفات عند السلف -مسمى نُفاة الصفات-، يدخل فيه الجهمية الذين ينفون جميع الصفات، والمعتزلة الذين ينفون جميع الصفات إلا ثلاث صفات، ويدخل فيه الكلابية الذين ينفون جميع الصفات إلا صفات سبع ومعهم الأشاعرة، ويدخل فيهم الماتريدية الذين ينفون جميع الصفات إلا صفات ثمان، وهكذا، فمسمى نُفاة الصفاة يدخل فيه كل هذه الفرق، في بعض الأحيان.
وهذا في الحقيقة تَعَدٍّ على الشريعة وعلى النَّصْ لأنَّهُم ينفون -وحاشانا من ذلك- ما أثبته الله لنفسه وأثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم.
فهل يتجاسر مسلم على أن ينفي شيئاً وصف الله - عز وجل - به نفسه أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم؟
فتقول لهم: الله يغضب؟
يقولون: لا يغضب.
تقول: {غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ} [النساء:93] .
يقولون لم يغضب عليه وإنما أراد به الانتقام وهكذا.
لكن لأجل الشُّبْهَة عندهم فإنَّهُم يكونون من أهل البدع لعدم متابعتهم للسلف في هذه المسائل وإحداثهم لبدعة التأويل في هذه النصوص الغيبية ولا يُكَفَّرُونَ في تأويلهم لأجل الشبهة التي عندهم.(1/615)
[المسألة الخامسة] :
قوله هنا (لاَ كَأحَدٍ مِنَ الوَرَى) ، يعني لا كأحدٍ من الخلق، فإنَّ غضب الإنسان يناسبه ورضا الإنسان يناسبه، وغضب الرب - عز وجل - ورضاه ومحبة الرب - عز وجل - وبُغْضُهُ سبحانه وتعالى، وهكذا جميع الصفات هذا بما يليق بجلاله - عز وجل - وعظمته.
فالصّفات تناسب الذات، صفات الإنسان تناسب ذاته الحقيرة الوضيعة -الحقيرة يعني لا باعتبار أنَّهُ مُكَرَّمْ، الحقيرة بإعتبار ضآلته وضعفه وحاجته، وإلا فهو مُكَرَّمْ -، صفة الإنسان تناسب ذاته الضعيفة الفقيرة المحتاجة، وصفة الرب - عز وجل - تناسب ذاته الكاملة العَلَيَّة الجليلة الجميلة - جل جلاله - وتقدست أسماؤه.
فإذن بين الصفة والصفة كما بين الذات والذات، فذات الرب - عز وجل - لا يمكن أن تُقَارَنْ ذات المخلوق بها بأي شكل من الأشكال فكذلك صفاته - عز وجل - لا يمكن أن تُقَارَنْ صفات المخلوق بها.
إذا تَبَيَّنَ ذلك فإنَّهُ إذا أُطْلِقَ لفظ الصفة: غضب، رضا، محبة، إلخ ... فإنَّ بعض الناس يأتي في ذهنه معنىً للغضب، يأتي في ذهنه معنً للرضا، وذلك لأنَّ الإنسان لم يستقبل المعاني إلا لمَّا رأى المُسَمَّيَات.
يعني لم يفهم الشيء إلا لمَّا رأى صورةً أمامه جعلت المعنى يرتبط في ذهنه بهذه الصورة، وإلا في الحقيقة فإنَّ هناك ثلاثة أشياء في أبواب الصفات:
1- الشيء الأول: المعنى الكلي للصفة.
ما معنى المعنى الكلي؟
يعني غير المتعلق لا بالرب - عز وجل - وغير المتعلق بالإنسان بالمخلوق، معنىً كلي.
هل في الحقيقة، في الحياة، هل في الوجود هناك معنىً كُلِّيْ تراه يمشي أمامك؟
إنَّمَا المعاني الكلية من اللغة ودلالات الألفاظ من حيث المعنى هذه إنما موجودة في الذهن للتَّصَوُّرْ.
هذا التَّصَوُّرْ لا يُدركه كل أحد لأنَّ جمهور الخلق إنما يتَصَوَّرُونَ من المعاني بعد رؤية الصّور التي تدلهم عليها.
فلا يَتَصَوَّرْ شيئاً لم يره؛ لأنَّهُ لا يمكن أن يتصور شيء، قدرته ما تستوعبه.
2 - الشيء الثاني وهو الصفة، أو هذا المعنى الكلي المضاف إلى الله - جل جلاله -.
3- الشيء الثالث: المعنى الكلي المضاف إلى المخلوق المُعَيَّن.
فإذا أُضيف المعنى الكلي إلى المخلوق فإنَّهُ في الحقيقة لا يبقى كليَّاً وإنما لابد أن يَتَخَصَّصَ بشيء.
يَدُلُّ عليه أنك ترى في السمع مثلاً فإنَّ البعوضة لها سمع وبصر، والإنسان له سمع وبصر، هل نقول هنا:
السمع والبصر هو كلي في الإنسان وفي البعوضة؟
لا، وإنما هو كُلِّيْ من جهة فهمك لمعنى السمع ومعنى البصر.
فإذا كان عندك قدرة لاستيعاب المعاني الكلية دون تأثيرٍ لما ترى وما تسمع للمعاني والقواعد التي في ذهنك، فإنَّهُ يمكن أن تتصور المعاني الكلية، وإلا فإنَّهُ في الخارج، في الواقع، في الحياة، لا يوجد إلا مُخَصَّصْ.
تقول: سمع الإنسان وبصر الإنسان، سمع المخلوق، سمع البعوض وبصر البعوض، سمع الفيل وبصر الفيل، سمع الوطواط وبصر الوطواط، وهكذا ...
الغضب والرضا، المولود الذي وُلِدَ أليس عنده أساس من الرضا والغضب؟
يرضى عن والديه فيفرح ويبتسم، ويغضب فيُعَبِّرْ بطريقةٍ أخرى.
هل تعبير الطفل في غضبه ورضاه هوكتعبير أبيه في غضبه ورضاه؟
لا، بل الإنسان في نفسه لمَّا كان طفلاً فإنَّهُ يُعَبِّرُ عن غضبه ورضاه بشيء، وإذا صار شاباً يُعَبِّرُ عن غضبه ورضاه بشيء، وإذا صار كهلاً وشيخاً فإنَّهُ يُعَبِّرُ عن رضاه وغضبه بشيء.
وهذا يدلّك على أنَّ هذه المعاني لا يمكن أن تُنْفَى عن الله - عز وجل - وهذه الصفات بإعتبار النظر للمخلوق، لأنَّهُ أصلاً المخلوقات تختلف في حياتها وتختلف في آثار الغضب والرضا، وكيف يغضب ومتى يغضب وإلخ ...
فإذا كان المخلوق يختلف فالله - عز وجل - له المثل الأعلى والصفات العليا.
* وهذه قاعدة مهمة تستمسك بها في الرد على المتأولين للصفات والخائضين في عموم الغيبيات، فاستمسك بها وادرسها شيئاً فشيئاً فإنَّهُا مهمة.
لهذا نقول: إنَّ الذين يقولون الغضب والرضا هو الإرادة نَفَوا الصفة ونَفْيُهُمْ لهذه الصفة لأجل اتصاف المخلوق بها هذا تَعَدٍّ على النص، وأيضاً جَهْلْ بالعقليات على الحقيقة.(1/616)
الأسئلة:
س/ هل المعتزلة والكلابية في تأويل تلك الصفات مجتهدين عند تأويلها، وإذا كانوا مجتهدين فهل يُنْكَرُ عليهم وهل يحصل لهم ثواب على اجتهادهم لقوله عليه السلام «من اجتهد فأصاب فله أجران ومن أخطأ فله أجر» (1) ؟
ج/ أولاً هم مجتهدون نعم؛ لكن لم يُؤْذَنْ لهم في الاجتهاد، لأنَّهُم اجتهدوا بدون أن يأذن لهم الشرع بالاجتهاد.
فالاجتهاد يكون في المسائل التي له فيها أن يجتهد، أمَّا مسائل الغيب والصفات والجنة والنار والشيء الذي لا يُدْرِكُهُ الإنسان باجتهاده فإنَّهُ إذا اجتهد فيه فيكون تعَدَّى ما أُذِنَ له فيه، والمُتَعَدِّي مُؤَاخَذ.
ولهذا هم لاشك أنَّهُم ما بين مبتدع بدعته كُفْرِيَّة وما بين مبتدع بدعته صغرى، يعني بدعة معصية.
والواجب على كل أحد أن يعلم أنَّ اجتهاده إنما يكون فيما له اجتهاد فيه، وهذا يختلف باختلاف الناس فيها، علماء الشريعة يجتهدون في الأحكام الشرعية، الأحكام الدنيوية التي فيها مجال الاجتهاد، أما الغيب فلا مجال فيه للاجتهاد ولم يُؤْذَنْ لأحَدٍ أن يجتهد فيه بعقله.
لكن إنْ اجتهد في فهم النصوص في حمل بعض النصوص على بعض، في ترجيح بعض الدِّلَالاتْ على بعض، هذا من الاجتهاد المأذون به سواء في الأمور الغيبية أم في غيرها.
لكن أن يجتهد بنفي شيء لدلالَةٍ أخرى ليست دلالة مصدر التشريع الذي هو الوحي من الكتاب والسنة، -في الأمور الغيبية مصدر التشريع الكتاب والسنة- فإنَّهُ ليس له ذلك.
فلذلك لا يدخل هؤلاء من المعتزلة والكلابية ونفاة الصفات أو الذين يخالفون في الأمور الغيبية لا يدخلون في مسألة الاجتهاد وأنَّهُ إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإن أخطا فله أجر، وإنما هم مأْزُورُونَ لأنَّهُم اجتهدوا في غير ما لهم الاجتهاد فيه، والواجب أن يُسَلِّمُوا لطريقة السلف وأن يُمِرُّوا نصوص الغيب كما جاءت وأن يؤمنوا كما دَلَّتْ عليه.
لهذا نقول: قد يكون لهذا المبتدع أو لهذا الموافق للمبتدعة أو لهذا المُتَأَوِّلْ أو لهذا المتكلّم في الغيب برأيه وعقله مع وزره وإثمه وبدعته، قد يكون لهم من الحسنات ما يمحو تلك السيئات؛ لأنَّ البدعة والتأويل وأشباه ذلك معصية، بدعة صغرى معصية وكبيرة من جنس غيرها من الذنوب -يعني من جنس غيرها بأنَّهُ يأثم فيها- لكنها هي أعظم لأنَّ جنس البدع أعظم من جنس الكبائر والذنوب، قد يكون له حسنات عظيمة مثل مقام عظيم من الجهاد في سبيل الله، أو نُصرة للشريعة في مسائل كثيرة ونحو ذلك، ما يُكَفِّرُ الله - عز وجل - به خطيئته أو تكون حسناته راجحة على سيئاته، ولكن من حيث الأصل ليس له أن يجتهد، وهو آثمٌ بذلك؛ لكن ربما يكون عَفْوُ الله - عز وجل - يدركه.
ولهذا لمَّا ذكر ابن تيمية في أول الواسطية -وهذه مهمة- قال: هذا اعتقاد الفرقة الناجية الطائفة المنصورة أهل السنة والجماعة.
وعقدوا له المحاكمة على هذه العقيدة قالوا: ما تعني بقولك الفرقة الناجية؟
قال يعني الناجية من النار.
قال: هل يعني هذا أنك تقول إنَّ من لم يؤمن بهذه العقيدة ويقول بها بجميع ما أوردت أنَّهُ من أهل النار؟
قال: لم أقل هذا ولا يلزم من كلامي لأنَّ هذه العقيدة هي عقيدة الفرقة الناجية الطائفة المنصورة أهل السنة والجماعة فمن اعتقدها فهو موعود بالنجاة وبالنصر، موعود بالنجاة من النار، «كلها في النار إلا واحدة» قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال «من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي» (2) ومعلوم قطعاً أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة لم يكن عندهم تأويل ولا خوض في الغيبيات باجتهاد ورأي، وأنَّ من لم يعتقد هذا الإعتقاد فهو على ذنب، وقد يغفر الله له فلا يُدخله النار لا يعذبه بالنار ابتداء يغفر له الله؛ لأنَّ هذا دون الشرك؛ وقد يغفر الله - عز وجل - له بحسنات ماحية، وقد يغفر الله - عز وجل - له بمقام صدق في الإسلام كجهاد ونحوه إلى آخره؛ لكنه مُتَوَعَّدْ لأنَّهُ أتى أو قال بغير دليل.
لهذا ليس لأحدٍ أن يجتهد في الغيبيات بما لم يُوقَفْ فيه على دليل.
س2/ أليس الغضب والرضا مُتَعَلِّقْ حصوله بِمُسَبَّبات، ليس كما قَرَّرْنَا إنَّهُ متعلق بالمشيئة والقدرة، فإذا حصل سبب الرضا حصل رضا الله - عز وجل -، فمثله يُقَالُ في الغضب، فيُقَال رضا الله أو غضبه متعلقٌ بمشيئته إذا حصل السبب، وضح لي ما اشتبه عليَّ.
ج/ هذا الذي تفضل به أو ذكره السائل غير خاص بالغضب والرضا، كلها يعني المغفرة متعلقة بسبب، الرحمة متعلقة بسبب، إجابة الدعاء متعلقة بسبب، كلام الله - عز وجل - تنزيله القرآن متعلقٌ بسبب {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} [المجادلة:1] ، هذا متى صار؟
بعد أن تكلمت وجادلت.
{قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَأنَّهُمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا} [الأحزاب:18] ، هذا بعد سبب.
__________
(1) سبق ذكره (347)
(2) سبق ذكره (344)(1/617)
إذاً فتعليقه بالسّبب الذي من العبد ليس هو بحث في الصفات البحث المراد، إنما المُرَاد أنَّهُ يتّصف الله - عز وجل - بهذه الصفة إذا شاء سبحانه وتعالى، إذا شاء سبحانه وتعالى فإنَّهُ يتصف بها؛ يعني إذا أراد الله - عز وجل - أن يغضب غَضِبْ، وقد لا يغضب، فلا يلزم من وقوع الشيء الذي يغضب عليه الله - عز وجل - أن يغضب سبحانه وتعالى بل قد يغضب وقد لا يغضب، وإذا وقع ما يرضى عنه - عز وجل - فإنَّ رضاه سبحانه وتعالى متعلق بمشيئته وقدرته.
أما الأسباب من العبد فهذه في الجميع.
س3/ هذا يقول: صفة الغضب والرضا كصفة الكلام قديمة الأصل متجددة الآحاد، هل يقال بهذا؟
ج/ الكلام يختلف عن صفة الغضب والرضا، كلام الله - عز وجل - منه الكلام الكوني الذي به تُكُونْ المخلوقات، فالله - عز وجل - خلق الماء بكلامه الكوني، وخلق العرش بكلامه الكوني - عز وجل -، وخلق الهواء بكلامه الكوني، وخلق القلم بكلامه الكوني، وخلق اللوح المحفوظ بكلامه الكوني، خلق السموات والأرض ومن فيها من المكلفين وما فيها من المخلوقات ومن يغضب عليه ويرضى عليه بكلامه الكوني.
الغضب والرضا صفةٌ فعلية تقوم بمشيئته - عز وجل - وبقدرته، أما أنَّهُا كالكلام في هذا فلا أعلم هذا ممن قرره أهل العلم بأنَّهُا قديمة النوع حادثة الآحاد، أنا لا اعلمه ممكن نبحثها زيادة أو يبحثها أحد الإخوان ويفيدنا فيها.
شيخ الإسلام له رسالة مستقلة ترى في المسألة ممكن إني أُرَاجِعْهَا، اللي هي رسالة في الصفات الاختيارية، [.......] تعرفونها؟ ليست في الفتاوى، مستقلة في مجموعة الرسائل التي طبعها الدكتور محمد رشاد سالم رحمه الله، أول رسالة فيه رسالة في الصفات الاختيارية وبحث كل هذا، يمكن مراجعتها ونجدد المعلومة في الدرس القادم إن شاء الله.
س6/ يقول: نرجو من فضيلتكم -وتقرأه على ما هو عليه- التعليق على هذه الكلمة، إلى آخره.
ج/ الكلمة أعرفها، وأعرف من قالها وهذه الطريقة في الأسئلة أنا لا أحبها من قديم، الواحد لا يأتي يعني يأخذ المتكلم أو يأخذ الشيخ أو المعلم يسأله عن كلمة لا يُعْرَفْ.
هُوَ ربما لا يَعْرِفْ من قالها، ثُمَّ يُقَال أنَّ فلان يقول في الشيخ الفلاني كذا وكذا، هذه كلمة معروفة يعني أُثِيْرَتْ هذه الأيام، لهذا ينبغي أن يكون السؤال واضحاً حتى يكون الجواب واضحاً.
المقصود أنَّ كون الأشاعرة من أهل السنة والجماعة أم لا، فبعض علماء الحنابلة المتأخرين أو أكثر المتأخرين ممن صَنَّفُوا في عقيدة السلف وهم لم يُحَقِّقُوا في هذا الأمر عَدّوا أهل السنة والجماعة ثلاثة فئات:
أهل الحديث والأثر، والأشاعرة، والماتريدية.
مثل ما فعلها السَّفَاريني وفعله أيضاً غيره، وهذه مشت على كثيرين وتبنَّاهَا أخيراً بعض الجماعات الإسلامية وَوَسَّعُوا الكلام فيها كما هو معلوم.
ولكن في الحقيقة كلمة أهل السنة نعم، الجميع من أهل السنة ولاشك؛ لأنَّهُم جميعا يحتجون بالسنة ويؤمنون بها إلى آخره؛ لكن كلمة الجماعة كُلٌّ يدعيها، فالأشاعرة يقولون نحن أهل السنة والجماعة، الماتريدية يقولون نحن أهل السنة والجماعة، وربما لا يُفَرَّقْ بينهما فالجميع يقولون أهل السنة والجماعة يعنون الأشاعرة والمارتريدية، وأهل الحديث والأثر يقولون نحن أهل السنة والجماعة إلخ..
لكن إذا نظرت للحقيقة، كُلٌ يَدَّعِي وَصْلَاً بالجماعة؛ لكن هل يصح ادِّعَاؤُهُ أم لا يصح؟
كلمة (الجماعة) هنا معناه الذي لم يُفَرِّقْ في الدين، ما كانت عليه الجماعة الأولى وهم الصحابة والتابعون، فهل أقوال هؤلاء فَرَّقَتْ في الدين، وهل هي على ما كان عليه الأوائل أم لا؟
إذا أتى الجواب جاءت النتيجة، فإذا كان فعلاً هم على ما كان عليه الأوائل؛ يعني الأشاعرة ونحوهم وبعض الفرق الموجودة الآن والجماعات الإسلامية وغيرها، إذا كانوا على ما كان عليه السلف فحافظوا على الجماعة الأولى ممن لم يُفَرِّقُوا بين دليل ودليل خاصة في الأمور الغيبية في مسائل العقيدة، ولم ينفوا شيئاً بل أثبتوا كما أثبت الله - عز وجل -، فإنَّ هؤلاء من الجماعة، لكن إذا كانوا يُفَرِّقُونَ ويَتَأَوَّلُون ويَتَعَرَّضُون للغيبيات بما يتعرضون له؛ بل يخالفون في معنى كلمة التوحيد، في أول واجب، وفي الإيمان يخالفون وفي القدر يخالفون، وفي الصفات يخالفون، وفي مسائل أُخَرْ أيضاً في العقيدة يخالفون ما كان عليه السلف كيف نقول أنَّهُم متمسكون بالجماعة.(1/618)
التمسك بأهل السنة والجماعة ليست دعوة وليست مِنْحَةْ يمنحها الإنسان باختياره، نقول فلان من أهل السنة والجماعة أو لا، ليست مزاجاً وليست عقلاً وليست هِبَات تُوَزَّعْ على الناس، هذا وصف جاء في الكتاب والسنة بأنَّ الذي فَرَّقَ دينه ليس من الجماعة، {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى:13] ، نقول: إنّناَ نَصِفُ الله - عز وجل - بالسمع والبصر ما نتأول؛ لكن الغضب والرضا نتأوله يعني نقول هي الإرادة. معنا أنه ما يغضب؟ نقول: نعم ما يغضب.
طيب الذي يعبد الصنم، نقول مثلاً: خالد ابن الوليد لما علا جبل أحد فأصبح يرمي النبل على النبي صلى الله عليه وسلم والسهام على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى الصحابة وقُتِلَ من قُتِلْ من شهداء أحد، في تلك الحال كان مغضوباً عليه أو مرضيا عنه؟
عندهم أنَّهُ مرضي عنه لأنَّ بعد خمس سنين أو ست سنين سيسلم.
إذاً فثَمَّ مخالفة ودخول في صفات الله بالعقليات، هذا خطا كبير.
الأصل الأصيل عندهم أنَّ الشرع تَبَعٌ العقل، ولهذا يقول قائلهم (العقل هو القاضي والشرع هو الشاهد)
(القاضي) يعني الذي يقضي في الخصومات هو العقل لكن الشرع شاهد، يأتي الدليل من الكتاب والسنة فيقول هذا شاهد، لكن يرجع إلى عقله، إن كان صحيح أمضاه، وإن لم يصح ما احتج به وقال: لا، لازم نشوف له طريقة.
هذه لاشك أنَّهُا ليست طريقة الجماعة.
الجماعة هم الذين لم يُفَرِّقُوا في الدين، أخذوا ما جاء من الله - عز وجل - وما جاء من الرسول صلى الله عليه وسلم أخذاً واحداً.
نفرق!! نأخذ بآية ونقول هذه نُسَلِّمْ، نُمِرُّهَا، نُثْبِتُهَا، وآية أخرى لا، ما نُثْبِتْ.
لماذا تُفَرِّقْ بين هذا وهذا؟ ما الفرق بين مسائل الصفات بعضها مع بعض؟
لماذا تُثْبِتْ وتنفي؟
لماذا تقول يُرَى الله في الآخرة ثُمَّ تقول لكن إلى غير جهة؟
تَرُدُّ على المعتزلة بخلق القرآن وأنت تقول أنَّ الذي بين أيدينا مخلوق لكن القديم غير مخلوق؟
إذاً فيه أشياء كثيرة عند الأشاعرة والماتريدية وأشباههم خالفوا فيها الجماعة قبل أن تتغير الجماعة.
الجماعة ما هي؟
قبل أن تحدث هذه الأقوال، يعني قبل أن يحدث القول في الصفات ما الذي كان عليه المسلمون قبل ذلك؟
مائة سنة الناس ما يعرفون التأويل يكونون على ضلال؟، أو يكون غيرهم أدرك الصواب وهم لم يدركوه وفيهم الصحابة؟
هذا ما يمكن.
حَدَثْ الخوارج، قول الخوارج، ننظر إلى ما كان عليه الناس قبل ظهور الخوارج، قبله الصحابة ما الذي كانوا عليه في مسائل الإيمان ومسائل الأسماء والأحكام التكفير إلى غير ذلك ما الذي كانوا عليه؟
لاشك أنَّ هذا هو الجماعة.
الجماعة في مسألة الإيمان ومسألة الأحكام والأسماء هي ما قبل ظهور الخوارج.
ظَهَرَ بعد ذلك القدرية، غيلان الدمشقي ومعبد الجهني إلى آخره.
في مسائل القدر ما الجماعة قبل خروجهم؟
يعني تبحث عما قبل، هل ما قبل فيه شيء يدل على؟
ما فيه شك أنه لا يوجد.
ولهذا عندك الذين ذَكَرُوا أنَّ الأشاعرة من أهل السنة والجماعة، نقول لهم: أهل السنة نعم؛ لكن الجماعة نحن نود ونرغب ونتمنى أنَّهُم من أهل السنة والجماعة حقيقة، وليست منحة ولا هوى؛ لكنهم هل كانوا على الجماعة؟
لاشك أنَّ أهل العلم أُمَنَاء في الأوصاف التي عَلَّقَهَا الله - عز وجل - بمن وعده بالنجاة.
أمناء في الأوصاف لا يجوز لهم أن يُوَزِّعُوا الأوصاف بمحض اجتهادهم هذا كذا وهذا كذا.
لا هم أمناء على الشريعة.
فلابد أن يُؤَدُّوا الشريعة على ما أؤتمنوا عليه.
يُطَاعُون ما يطاعون، لكن لابد يكون ما عنده.
نعم يأتي أسلوب ما يقول به وهو أن يقول بالتي هي أحسن، هذا رعاية مصالح ومفاسد.
لكن الكلمة في نفسها لابد أن تكون حقاً واضحةً، لا مداهنة فيها ولا مجاملة.
الجماعة وصف شرعي من تَحَقَقَ به وُصِفَ به، ومن لم يتحقق به فإنَّهُ لا يوصف به.
ولاشك أنَّ هذا مما الناس فيه متنوعون -خاصة المنتسبين للعلم والبحث-.
فممن يغلو في أحد الطرفين وممن يتساهل فيجعل الأمور تمشي ودون أمانة في الحكم، ومنهم من توسط، وهم الذين تمسكوا بهدي السلف الصالح وبطريقة الجماعة لأنَّهُم لم يقولوا على الله - عز وجل - بلا علم.
أسأل الله - عز وجل - أن يوفّقكم جميعا لما فيه صلاحكم في دنياكم وفي آخرتكم، وأن يقينا وإياكم العثار وأن يبارك لنا في الأعمار إنَّهُ سبحأنَّهُ رحيم جواد، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.(1/619)
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه، أما بعد:
الأسئلة:
س1/ أليس البحث والتدقيق في بعض الأمور الغيبية والمستقبلية وكثرة المباحثات والمُطَارَحَات فيها، يعتبر من فضول العلم وإشغال النفس فيه إشغالٌ بالمفضول عن الفاضل، وذلك كبحث هل الحوض قبل الصراط أو بعده، وكبحث كفتي الميزان، وهل هما حقيقتان أم لا، ونحو ذلك من المسائل؟
ج/ هذا السؤال مفيد؛ لأنَّهُ يُنبِئْ عن رغبة في طريقة السلف في بحث المسائل العلمية العَقَدِيَّة، سواءٌ كانت من مسائل الغيب خالصةً أم من المسائل التي جرى فيها البحث.
والأصل لكل مؤمن أن يكون طالباً للحق الذي ذكره الله - عز وجل - في كتابه أو ذكره النبي صلى الله عليه وسلم في حديثه.
وطلب الحق في هذه المسائل أو طلب العلم في معنى آي القرآن أو حديث النبي صلى الله عليه وسلم هذا هو طلب العلم النافع.
والآي والأحاديث التي فيها ذِكْرُ المسائل الغيبية، تارةً يكون بَحْثُ أهل العلم فيها فيما دلَّ عليه النص، وتارةً يكون البحث فيها من جهة الرد على الذي خالف النص.
أمَّا الأول كبحث الميزان مثلاً، هل له كفتان أم لا؟
فإنه جاء في القرآن أنَّ الميزان يُوضَعْ {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا} [الأنبياء:47] ، وقال أيضاً {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ (8) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ} [المؤمنون:102-103] الآية، وكذلك قولك {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة:7-8] .
وهذا فيه إثبات الميزان والموازين، وأنَّهَا توزن بها الأعمال، وأنَّهُ يعلَمُ الناس؛ يَعْلَمْ المؤمن إذا ثَقُلَ الميزان وإذا خفّ، وهذه الإيمان بها واجب لأنَّ الله - عز وجل - أخبر بها، هذه المسائل الغيبية، والسنة دلَّتْ على أنَّ الميزان له كفتان كما في أحاديث كثيرة، وأنَّ مقتضى الوزن أن يكون له كفتان.
لهذا من دار حول دِلَالَةْ الكتاب والسنة فهذا عقيدة، وليس من فضول العلم بل هذا من العلم النافع الذي يُؤْمَرْ طالب العلم بِتَتَبُّعِهِ والإيمان به؛ لأنَّهُ ما أخبر الله - عز وجل - به إلا ليُؤْمَنْ به ويُعْتَقَدْ، وما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك إلا لأنَّهُ من العلم النافع.
أما المسألة الثانية أو الشق الثاني فإنَّهُم يبحثون في مسائل لم يَدُلَّ الدليل على عين المسألة ولكن لابد من الخوض فيها ردًّا على المخالفين.
الأصل في هدي الصحابة رضوان الله عليهم هو إمرار النصوص التي جاء في الكتاب والسنة والإيمان بها والعلم بذلك والحرص عليه وتتبع العلم في هذه المسائل، هذا ظاهر.
لكن تفصيلُ الكلام في مسائل لم يأتِ الدليل بها ومن جهة التعريفات ومن جهة الدلائل وبزيادة بعض الألفاظ الإيضاحية أو ذِكْرْ بعض المسائل الخلافية، مثل هل الحوض قبل أو الصراط قبل؟، وهذه المسائل ليس فيها نص عن الصحابة، ليس فيها قول واضح عنهم، ونَشَأَ القول في كثير من المسائل لأجل المخالفين، فكثير من مسائل الأسماء والأحكام التي يتكلم فيها الخوارج والمعتزلة لم يتكلم فيها الصحابة بالتفصيل، تكَلَّمْ فيها من بعدهم ردَّاً على هذه الفئات لمَّا قويت ولم يندحر شرها.
كذلك في مسائل القدر فإنَّ الصحابة تكلموا في الرد على القدرية النفاة الذين أنكروا العلم، واشْتَدَّ إنكارهم على ذلك وأتوا بالأدلة التي فيها إثبات أنَّ مِنْ قَدَرِ الله - عز وجل - علمه سبحانه وتعالى بالأشياء قبل حدوثها العلم السابق الأزلي وأن الأمر (1) ليس بمستأنف، بل كل شيء يجري بقدر.
ثم بعد ذلك أتى الذين ضلوا في هذا الباب فأتوا بمسائل جديدة.
فإذاً بحث أهل السنة والجماعة في المسائل ليس بحثاً فضولياً، وإنما هو بحث لتثبيت دلائل الكتاب والسنة بنفيه، لأنَّ الواجب الدفاع عن القرآن والسنة، وإبقاء دلالة القرآن والسنة وتوجيه الناس إلى الإيمان بهما وعدم البعد عنهما.
فإذا جاء من يُشَكِّكْ في دلالة الآية على العقيدة أو دلالة السنة على العقيدة بأقوال وتعريفات وَجَبَ الدخول معه بقدْرِ ما يُدْفَعُ به شره، والصائل يجب دفعه بحسب القدرة، والصِّيال العلم على أصول الشريعة على الكتاب والسنة هذا أعظم من الصِّيال على الأبدان لأنَّ الصيال على الأبدان مؤقت ويذهب بذهاب بعض الأبدان، لكن الصيال على الشريعة به تحريف الشرع.
__________
(1) نهاية الوجه الأول من الشريط الثالث والأربعين.(1/620)
فلهذا صار أعظم الجهاد: الجهاد بالعلم، أعظم من جهاد العدو الذي هو الجهاد غير المتعين، جهاد العلم أعظم؛ لأنَّهُ به حفظ الشريعة وليس حفظ الثغور أو حفظ بيضة أهل الإسلام بها، حفظ الشريعة وبقاء هذه الشريعة للناس حتى يتحقق قول الله - عز وجل - {فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا} [الفرقان:52] وأعظم ما يوغر العدو المحافظة على العلم والبقاء عليه، والآن بل قبل ذلك بأزمان إلى الآن الشهوات والحروب على الأبدان هذه فيها مد وجزر؛ يعني تارَةَ يقوى أمر المؤمنين وتارة يضعف، والله - عز وجل - يقول {وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:140] لكن الصِّيال على العلم وعلى الكتاب والسنة وعلى دلائل ذلك وإلقاء الناس في الشُّبَهْ وبعدهم عن دلائل الشرع هذا هو الذي يزيل الإيمان والذي به تحصل الشُّبَه ويَقْوَى جانب الشيطان في البُعْدْ عن الدِّيَانة.
لهذا ما يتكلم فيه أهل العلم وخاصَّةً المحققين ليس من فُضُولِ العلم في مسائل الاعتقاد لأنَّ هذا بحسب الحال.
نعم قد يأتي زمان يكون فيه بحث بعض المسائل من الفضول؛ لأنَّهُ ليس ثَمَّ حافز إليها في ذلك الزمن، فيكون بقاؤها عند طائفة قليلة من أهل العلم كفرض كفاية؛ لكن بَحْثُهَا -وليس ثَمَّ حاجة إليها- ليس هذا من صنيع أهل العلم.
لذلك العلماء يذكرون للناس في كل زمان ما يحتاجون إليه، وليس كل ما يعلمون أو ليس كل ما في الكتاب ينقلون إليهم؟ لا، ما يحتاجون إليه بحسب ما يعلمون من الزمن وما فيه من مضادة للأدلة ونحو ذلك.
لهذا مثلاً تجد أنَّهُ عندنا في الدروس نُفَصِّلْ في أقوال الأشاعرة والماتريدية والردِّ عليها أكثر من أقوال المعتزلة؛ لأنَّ المعتزلة أقوالهم الباقية الآن أقوال قليلة مثل يعني بعض المسائل المشهورة، أما الآن أكثر التآليف وأكثر المضادَّةْ والذين ينسبون إلى السلف التأويل، إنما هي من جهة الأشعرية والماتريدية ونحو ذلك، فَفَهْمُ مذهبهم الآن لطلاب العلم لأجل كثرة الاختلاط وكثرة الكتب المؤلفة في التشكيك في حقيقة مذهب السلف، هذا هو المتعين، لهذا يختلف هذا باختلاف البلد واختلاف الزمان والمكان.
قد يذهب ذاهِبْ من طلاب العلم إلى بلد ويرى الحاجة فيها إلى تفصيل أقوال لا يحتاجها بلد آخر في بعض المسائل، يكون في بلد الناس لا يعلمون، فَذِكْرُهَا والتفصيل فيها ليس من المناسب.
فطالب العلم يكون ربانياً يُعَلِّمْ الناس ما يحتاجون إليه في جهادهم في فهمهم للشريعة وفي جهادهم ضدّ الذين عقدوا ألوية البدعة.
س2/ من قَسَمَ الدعاء إلى دعاء عبادة ودعاء مسألة، أين دعاء الثناء؟
ج/ دعاء الثناء هو دعاء العبادة، لأنَّ الثناء على الله - عز وجل - عبادة، فإذا أثنى على الله - عز وجل - في دعائه فدعا دعاء عبادة.
س3/ ذكرتم في كتابكم المنظار أنَّ الخوف من الجن يدخل في خوف السِّرْ الذي عَدَّهُ العلماء من الشرك الأكبر، فهل هذا على إطلاقه؟ وهل ينطبق ذلك على من يخاف إيذاء الجن في المناطق الموحشة كالصحاري والبيوت المهجورة؟
ج/ لا، خوف السر ضَبَطَهُ العلماء في شرح كتاب التوحيد في مسألة الخوف.
خوف السر: أن يخاف المرء من غير الله - عز وجل - في إيصال الأذى إليه بدون سبب.
هذا هو الذي يختص الله - عز وجل - به، الله - عز وجل - يُقَدِّرْ على العبد مرض بدون سبب يعلمه، يُقَدِّرْ الموت بدون سبب بدون ما يعلم، أما إذا كان الشيء له سبب ظاهر أو كان له سبب؛ لكنه يخشى أن يكون الجني يتسبب فيه فيما، ويكون سبب طبيعي مثل الخوف من الدخول في الأماكن المهجورة أو في الظلام أو نحو ذلك يخاف من الشياطين أو الجن هذه أسباب.
لكن خوف السر أن يخاف أن يناله الولي أو أن يناله الجني أو نحو ذلك بغير سبب؛ يعني أن يعتقد أنَّ عنده قوة وتَصَرُّفْ حيث يؤذيه بدون سبب.
هذا ليس بحاصل ما ممكن للجني أن يؤذي العباد بدون سبب، الجني هو مثل الإنسي ما يؤذي بدون سبب.
فإذا خاف أن يوصله إلى الإيذاء بدون أسباب يعني لا اعتداء من الإنسي ولا فعل أو شيء يدل عليه من الجني، فهذا لا يجوز.
وإذا كان الخوف -الخوف الطبيعي- ليس خوف اعتقاد وإنما ناتج عن ضعف الإنسان، وليس خوف اعتقاد في الجن وإنما يخاف من إيذائهم واعتدائهم في مثل البيوت، فهذا قد يدخل في الخوف الطبيعي الذي يخشاه الإنسان ولا يدخل في الخوف المحرم ولا في الخوف الشركي.
فإذاً المسألة ليس على إطلاقها لكن يوضحها لك ضابط خوف السر الذي وصفته لك.
س/ [......]
بدون سَبَبٍ يمكنهم أن يعملوه، ليس بدون سبب ظاهر، قد يقول هو سبب خفي، قد يعمل ويقول للجني سبب خفي ما أدري عنه، لكن هو بدون سبب يمكنهم أن يعملوه.
مثل مثلاً أن يتسلط الجني، يخاف من الجني أن يؤذيه دائماً، يخاف من الجني أن يتسلط على أولاده، لماذا يخاف؟ يخاف لاعتقاد ليس خوفاً طبيعياً، خوف اعتقاد، يعتقد الجن يتسلطون.(1/621)
مثل ما كان الكفار الذين نزلوا وادياً قالوا: نعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه. يظنون كل وادي له جني يمسكونه وأنَّهُم يعتدون على الناس، وهذا هو الذي نزل في قوله تعالى {وَأنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} [الجن:6] لأنَّهُ سببه الخوف، خوف من شيء لا يملكون، فهذا خوف اعتقاد، خوف السر خوف اعتقاد، يعني يعتقد أنَّ هذا الذي خاف منه يُوصِلُ الأذى إليه بدون سبب يعلمه بدون سبب معقول؛ ولكنه هو عنده القدرة، فإذا اعتقد هذا الاعتقاد في الولي أو في الجني أو نحو ذلك فهذا هو خوف السر.
أما خَاف من مكان مظلم أو خاف من جن هذا قد يدخل في الخوف الطبيعي في بعض الحالات، ليس خوف اعتقاد.
س4/ هل يجوز قراءة الأخبار الموجودة في كتب الأدب عن الصحابة وما جرى بينهم من الردود؟
ج/ يجوز لمن يقوى على فهم العقيدة أو عنده أصل شرعي يرجع إليه.
س5/ ما يحل بالمسلمين هذه الأيام في الشيشان فهل يجوز القنوت لهم في الفرائض؟
ج/ القنوت، قنوت النوازل هذا مربوط بإذن الإمام، إذن ولي الأمر، وليس لآحاد الناس أن يقنتوا لمن شاءوا، ونزلت بالصحابة رضوان الله عليهم نوازل كثيرة فما قَنَتُوا إلا إذا أذِنَ ولي الأمر فإنَّهُ يقنط.
والذي جرى عليه الأمر في هذه البلاد أنَّهُ إذا جرت الفتوى على القنوت فإنَّهُ يُرْفَعْ بذلك إلى ولي الأمر فيأذن بالقنوت، إذا جاءت الفتوى، وهنا لابد من فتوى ليس لأحدٍ من الناس في مسجده أن يقنت دون إذن، فالناس في هذا تبعٌ للإمام.
مع أنَّ القول الصحيح في هذا أنَّهُ لا تقنت كل المساجد؛ لأنَّهُ لمَّا حَصَلْ القنوت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم إنما قَنَتَ هو في مسجده الأعظم صلى الله عليه وسلم، أما المساجد الأخرى مسجد قباء والمساجد الأخرى مسجد العالية ومسجد بني [زُرَيْرْ] المساجد الأخرى لم تقنت في المدينة وإنما قَنَتَ المسجد الأعظم.
لهذا الرواية الثالثة عن الإمام أحمد في المسألة أنَّ الناس تبعٌ للإمام إذا قَنَتَ، ليس إذا أذِن.
يقصدون بالإمام يعني في المسجد الأعظم، فليس كل مسجد يَقْنُتْ، وهذا في الحقيقة هو أولى الأقوال وأحظاها بالدليل، أنَّهُ ليس كل المساجد تَقْنُتْ؛ لأنَّ هذا دعاء وإذا قام به بعض المؤمنين كفى عن الآخرين.
كذلك إذا جاء الإذن بوقت ليس له أن يجعله في وقت آخر؛ يعني جاء الإذن مثلاَ أن يُقْنَتَ في الفجر فَيُقْتَصَرْ على الفجر، ليس له أن يقنت في المغرب أو في العشاء لأنَّ هذا تَبَعْ الفتوى وليس لآحاد الناس في المساجد أن يجتهدوا.(1/622)
وَنُحِبُّ أَصْحَابَ رسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، وَلاَ نُفْرِطُ (1) في حُبِّ أَحَدٍ مِنْهُم؛ وَلاَ نَتَبَرَّأُ مِنْ أَحَدٍ مِنْهُم، وَنُبْغِضُ مَنْ يُبْغِضُهُم، وَبِغَيْرِ الخَيْرِ يَذْكُرُهُم، ولا نُذْكُرُهُم إِلاَّ بِخَيْرٍ, وَحُبُّهُم دِينٌ وإيمَانٌ وإحْسَانٌ، وَبُغْضُهُم كُفْرٌ ونِفَاقٌ وطُغْيَانٌ.
____________________________________________
هذه الجملة من المسائل العظيمة لتعلّقها بخير الخلق من هذه الأمة وهم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والكلام في الصحابة صار عقيدةً في حُبِّهِم وبُغْضِ من يُبْغِضُهُم لقيام طوائف من أهل البدع والضلال في شأن الصحابة بما يخالف الدلائل من القرآن والسنة التي أوجبت حُبَّهم ونُصْرَتَهُم والذبَّ عنهم رضي الله عنهم أجمعين، وذكَرتْ عدالتهم وفضلهم وسابقتهم.
فخالف في ذلك من خالف من الخوارج والصابئة والرافضة من الخوارج والناصبة والرافضة وطوائف في شأن الصحابة جميعاً أو في شأن بعض الصحابة.
فكان منهج أهل السنة والجماعة وعقيدتهم أن يُثنَى على جميع الصحابة وأن نُحِبَّ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم جميعاً الحب الشرعي الذي ليس فيه إفراط بالتجاوز عن الحد المأذون به والغلو، وليس فيه تفريط بذم بعضهم أو سب بعضهم، أو أن يكون ثَمَّ تَبَرُؤْ من بعضهم أو أن لا تُثْبَتْ العدالة لهم.
فلابد في حبّهم من الاعتدال، فلا غلو ولا تفريط في الحب بسلب بعض ما يَجِبُ لهم مما يُحَبُّونَ فيه، إذ الواجب أن يُحَبَّ جميع الصحابة على مجموع أعمالهم، فهم خيرة هذه الأمة وهم خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفي الأصل كما هو معلوم أنَّ هذا ليس من مسائل الاعتقاد لأنَّ مسائل الاعتقاد هو ما يجب على المرء أن يعتقده في أمور الغيب، فصارت من مسائل الاعتقاد لأنَّهُا مِمَّا تَمَيَّزَ به أهل السنة والجماعة الفرقة الناجية بما خالفوا فيه الفرق الأخرى.
فكان المسلمون على جماعة في اعتقادهم وفيما يقولون به ثُمَّ خالفت الفرق المختلفة كالخوارج والرافضة والناصبة وأشباه هؤلاء في مسائل.
فصار أهل السنة في هذه المسائل التي خالف فيها أهل البدع والضلال والفِرَقْ التي خالفت الجماعة، صار القول فيها من الاعتقاد؛ لأنَّهُم خالفوا الفرق التي خالفت في الاعتقاد.
وهذا من جنس مسائل أخرى في مسائل التعامل والحب، أو في مسائل المنهج والسلوك وأشباه ذلك مما سبق أن مَرَّ معنا.
وقد مَرَّ معنا مثلاً مسألة المسح على الخفين، مسألة المسح على الخفين لاشك أنَّهُا مسألة من الفقه ولا تدخل في الاعتقاد دخولاً واضحاً لكن لمَّا خالف فيها من خالف دخلت في مسائل الاعتقاد.
وحب الصحابة رضوان الله عليهم والموقف من الصحابة وعقيدة المسلم في صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم صارت عقيدة لمُخَالَفَتِهَا اعتقاد الضالين في هذا الباب.
ويمكن أن نُفَرِّعْ الكلام في مسائل.
__________
(1) قال الشيخ صالح: نُفْرِطُ يعني نتجاوز الحد أما نفرّط لا، وَلاَ نُفْرِطُ في حُبِّ أَحَدٍ مِنْهُم.(1/623)
[المسألة الأولى] :
صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم: هم من صَحِبَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بِلُقِيِّهِ ولو ساعةً مؤمناً به ومات على ذلك.
أو يقال الصاحب والصحابي: من لَقِيَ النبي صلى الله عليه وسلم ولو ساعة مؤمناً به ومات على ذلك.
والصحابة هم الذين صحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهذا اللُّقِي الذي سمعته في التعريف يختلف:
- منهم من صَحِبَهُ والتقى به مدة طويلة.
- ومنهم من قَلَّ ذلك.
- ومنهم من تقدّم.
- ومنهم من تأخر.
وهذا يُبَيِّنُ لك أنَّ نوع الصحبة وقَدْرْ الصُّحْبَة يختلف فيه الناس ويختلف فيه الصحابة فليسوا على مرتبة واحدة كما سيأتي.
والصحابة كلهم أثنى الله - عز وجل - عليهم بدون استثناء وأثنى عليهم رسوله صلى الله عليه وسلم، فقال - عز وجل - {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا} إلى أن قال {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الفتح:29] ، وقال - عز وجل - {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأنَّهُارُ} [التوبة:100] ، وكذلك قوله - عز وجل - {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [الفتح:18] ، حتى سُمِّيَتْ هذه البيعة بيعة الرضوان؛ لأنَّ الله رَضِيَ ما عملوه، رَضِيَ بَيْعَتَهُمْ فَسُمِّيَتْ بيعة الرضوان، ومنها أيضاً قول النبي صلى الله عليه وسلم «خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم» (1) كذلك قوله صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين «لا تسبوا أصحابي فوالذي نفس محمد بيده فلو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مدّ أحدكم ولا نصيفه» (2) وقال أيضاً - عز وجل - {لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [الحديد:10] والآيات في فضل الصحابة بِمُجْمَلِهِمْ في أنواعٍ من الدلالات والأحاديث كثيرة جداً وصُنفت مصنفات في ذلك.
وهذه الآيات والأحاديث تفيد في شأن الصحابة أمور:
1- الأول: أنَّ الصحابِيَّ إذا مات على الإيمان فإنَّهُ موعودٌ بالمغفرة والرضوان.
2 - الثاني: أنَّ الصحابة كلهم عدول لتعديل الله - عز وجل - لهم وثنائه عليهم.
ومعنى العدالة هنا أنَّهُم عُدولٌ في دينهم وفيما يروون وينقلون من الشريعة، وأنَّ ما حَصَلَ من بعضهم من اجتهاد، فإنَّهُ لا يقدح عدالتهم ولا يُنْقِصُهَا، لِمُضِيِّ ثناء الله - عز وجل - عليهم مطلقاً.
3- الثالث: أنَّ سبَّ الصحابة ينافي ما دَلَّتْ عليه الأدلة من الثناء عليهم، وهو منهيٌ عنه بالنَّصْ، فلذلك أفادت هذه الآيات حُرْمَةْ سبِّ الصحابة كما سيأتي تفصيل الكلام على ذلك إن شاء الله.
4- الرابع: أنَّ الآيات دلَّتْ على أنَّ الصحابة يتفاوتون في المنزلة وفي المرتبة وأنَّهُم ليسوا على درجة واحدة.
__________
(1) البخاري (2652) / مسلم (6635)
(2) سبق ذكره (414)(1/624)
[المسألة الثانية] :
حب الصحابة فرض وواجب وهو من الموالاة الواجبة للصحابة، وهذا الحب يقتضي أشياء:
- الأول: قيام المودة في القلب لهم.
- الثاني: الثناء عليهم بكل موضع يُذْكَرُونَ فيه والترضي عنهم.
- الثالث: أن لا يَحْمِلَ أفعالهم إلا على الخير فكلُّهُم يريد وجه الله - عز وجل -.
- الرابع: أن يَذُبَّ عنهم؛ لأنَّ مِنْ مقتضى المحبة والولاية؛ بل من معنى المحبة والولاية النُّصْرَةْ، أَنْ يَنْصُرَهُمْ إذا ذُكِرُوا بغير الخير أو انتقص منهم منتقص، أو شَكَّكَ في صدقهم أو عدالتهم أحد، فإنَّهُ واجبٌ أن يُنْتَصَرَ لهم رضي الله عنهم.
ولذا توَسَّطَ أهل السنة والجماعة في الحب بين طرفين: بين طرف المُفْرِطِينْ وطرف المتبَرِّئِين.
@ أما الغلاة والمُفَرِّطُون في الحب فهم الذين جعلوا بعض الصحابة لهم خصائص الإلهية كما فعل طائفة مع علي رضي الله عنه، وكما فعل طائفة مع أبي بكر، أو غلو بما هو دون الإلهية بأن يجعلو هذا الحب يقتضي انتقاص غيرهم، فيُحِبُّ أبا بكر وينتقص علياً، أو يحبّ علياً رضي الله عنهم وينتقص أبا بكر، هذا إفراط وغلو.
فالوسط هو طريقة الصحابة وأهل السنة فإنَّ الحب يقتضي موالاة الجميع وأن لا يَغْلُوَ المسلم في أي صحابي؛ بل يُحِبُّهُم ويَوَدُّهُم ويذكرهم بالخير ولا يجعل لهم شيئا من خصائص الإلهية.
بل أجمع أهل العلم أنَّ من ادَّعَى في صحابيٍ أنَّ له شيئاً من خصائص الإله، أو أنَّهُ يُدْعَى ويُسْأَلْ كما يُعْتَقَد في علي رضي الله عنه ونحوه أنَّهُ كافر بالله العظيم.
وهذا الغلو وقع فيه كثير في الأمة بعد ذلك فأُقِيْمَتْ المزارات والمشاهد والقبور والقباب على قبور الصحابة، كقبر أبي أيوبٍ الأنصاري قرب اسطنبول، وكقبر أبي عبيدة بن الجراح في الأردن، وكقبر عدد من الصحابة كالحسين والحسن وعلي إلى آخره في أمصارٍ مختلفة.
فجعلوا قبورهم من فَرْط المحبة أوثاناً يأتون فيسألون ويدعون ويستغيثون ويتقربون للصحابة، وهذا إفراط وليس هو الحب المأذون به؛ بل هذا حبٌ معه الشرك المُحَقَّقْ إذا وصل إلى سؤال الميت ودعائه والتقرب إليه.
@ وفي المقابل يكون فِعْلُ طائفةٍ ضالة أخرى تتبرأ من الصحابة جميعاً كفعل الزنادقة، أو تتبرأ من أكثر الصحابة كفعل الرافضة والخوارج، أو تتبرأ من طائفة من الصحابة كفعل النواصب ومن شابههم.
فهؤلاء تبرؤوا.
@ ومنهم من يعتقد أنَّهُ لا حُبَّ ولا ولاء إلا بِبَرَاءْ.
يعني لا يصلح حب صحابي وولاء صحابي إلا بالتبرؤ ممن ضَادَّهْ.
فيجعلون في ذلك أنَّ حب علي رضي الله عنه والولاء لعلي والحسن والحسين يقتضي بُغْضَ أبي بكر وبُغْضَ عمر وبُغْضَ عثمان ومن سلب هؤلاء حقهم كفعل الرافضة عليهم من الله ما يستحقون.
لهذا كان مُعْتَقَدْ أهل السنة والجماعة في هذا أنَّ التبرؤ من الصحابة واعتقاد أنَّهُ لا موالاة إلا بالبراءة أنَّ هذا ضلالٌ وقد يوصل إلى الكفر، كما سيأتي في المسألة إن شاء الله.
لذا قال بعدها (وَنُبْغِضُ مَنْ يُبْغِضُهُم، وَبِغَيْرِ الخَيْرِ يَذْكُرُهُم) وهذا من مقتضى المحبة الوَسَطْ، ودين الله وسط بين الغالي والجافي، فإننا من ذَكَرَهُمْ بخير أحببناه ومن ذَكَرَهُمْ بغير الخير أبغضناه؛ لأنَّ من مقتضى المحبة والولاية أن يُحَبَّ من يُحِبُّهُمْ وأن يُبْغَضَ من يُبْغِضُهُمْ.(1/625)
[المسألة الثالثة] :
أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على مراتب، يختلفون في منزلتهم.
1 - فأعظم الصحابة وأرفع الصحابة العشرة الذين بُشِّرُوا بالجنة في مكانٍ واحد، وهم الذين يشتهر عند الناس أنهم العشرة المبشرون بالجنة.
والذين بَشَّرَهُمْ النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة أكثرمن عشرة، عددهم كثير من الصحابة؛ ولكن خُصَّ هؤلاء بفضلٍ لأنَّهُم بَشَّرَهُم صلى الله عليه وسلم بالجنة في مكان واحد، وفي حديثٍ واحد ساقَهُم صلى الله عليه وسلم «أبو بكر في الجنة، وعمر في الجنة، وعثمان في الجنة، وعلي في الجنة، وطلحة في الحنة، وسعد في الجنة» (1) إلى آخر العشرة.
فهؤلاء هم أفضل الصحابة وترتيبهم في الفضل كترتيبهم في الذِّكْرْ؛ لأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم رَتَّبَهُمْ كترتيبهم في الفضل، فأبو بكر أفضل ويليه عمر ثم يليه عثمان ثم يليه علي إلى آخره.
2 - يلي هؤلاء المهاجرون -أعني جنس المهاجرين- الذين أسلموا في مكة وتقدم إسلامهم وصبروا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وصابَرُوا حتى هاجروا.
3 - ثُمَّ الذين شهدوا بدراً من المهاجرين والأنصار فهم يلونهم في الفضل.
4 - ثُمَّ جنس الأنصار الذين سبقوا وأثنى الله عليهم بقوله {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ} [التوبة:100] والمراد بالسَّبْقْ هنا السبق إلى الإيمان به صلى الله عليه وسلم وتصديق رسالته والجهاد معه، فهذا هو بالسَّبْقْ الذي له الفضل العظيم.
5 - ثُمَّ بعد ذلك يليهم من أسلم قبل الفتح، ويُقْصَدْ بالفتح هنا صلح الحديبية أو فتح مكة وهو الذي جاء فيه قول الله - عز وجل - {لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [الحديد:10] فالذي أسلم وآمن وأنفق وجاهد من قبل صلح الحديبية أو من قبل فتح مكة فإنَّهُ أفضل ممن بعدهم.
ولذلك يُقَالُ لكثيرٍ من الصحابة مُسْلِمَةْ الفتح، يعني الذين أسلموا بعد فتح مكة.
وهؤلاء -وهم الفئة الأخيرة-: مَنْ أَسْلَمَ مِنْ بعد الفتح إلى عام الوفود.
ثُمَّ بعد ذلك دخل الناس في دين الله أفواجاً، يعني السنة التاسعة والعاشرة حتى حَجَّ النبي صلى الله عليه وسلم، هؤلاء هم أقل الصحابة منزلة.
وهذا الترتيب لِما دلَّتْ عليه الأدلة من التفضيل.
والمراد بهذا التفضيل الجنس؛ يعني جنس هذه الطائفة على جنس هذه الطائفة.
يعني التفضيل في الظاهر باعتبار الجنس، فقد يكون في بعض الطبقات من هو أفضل ممن قبله.
وهذا من حيث التَّنْظِيرْ لا من حيث التَّطْبِيقْ لأنَّنَا لا نعلم دليلاً يَدُلُّ على أنَّ فلاناً من المتأخرين أفضل من فلان من المتقدمين، أو أنَّ فلاناً من الأنصار أفضل من فلان من المهاجرين؛ لكنه من حيث الجنس فُضِّلَ ما فَضَّلَتْهُ الأدلة أو ما دَلَّتْ الأدلة على تفضيله جِنْسَاً؛ لكن حديث النبي صلى الله عليه وسلم في المفاضلة بين عبد الرحمن بن عوف وخالد بن الوليد ظاهر، وعبد الرحمن بن عوف من العشرة المبشرين بالجنة، وهؤلاء هم أفضل الصحابة، هؤلاء فَضْلُهُمْ بأعيانِهِمْ ظاهر، وأهل بدر أيضاً قد يدخلون في أنَّ فضلهم بأعيانِهِمْ؛ لكن الكلام على الجنس مع الجنس.
ولمَّا وَقَعَ خالدٌ في مَسَبَّةِ عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهما قال النبي صلى الله عليه وسلم «لا تسبوا أصحابي» إلى آخر الحديث، فخَصَّ المُتَقَدِّمْ باسم الصُّحْبَةْ فَكَأَنَّ الذي أسلم من بعد الفتح وقاتل لقِصَرِ إسلامه وقِصَرْ صحبته للنبي صلى الله عليه وسلم وقِلَّةِ نُصْرَتِهِ بالنسبة إلى من قبله، كأنَّهُ صارَ تَحْقِيقُ اسم الصحبة عليه ليس كتحقيق من كان قبله، بل هذا هو الواقع، ولهذا خَصَّ النبي صلى الله عليه وسلم السابقين باسم الأصحاب دون غيرهم مع اشتراك من أسلم بعد ذلك باسم الأصحاب؛ ولكن لأجل طول الصُّحْبَةْ صار عبد الرحمن بن عوف وسُلِبَ الاسم عن خالد بن الوليد لأجل هذه الحيثية، وإلا فالكل صاحب للنبي صلى الله عليه وسلم، وهذا فيه تخصيص بالاسم لأجل مزيد الفضل وتَحَقُّقْ الصفة اللازمة في مقتضى الصحبة.
__________
(1) أبو داود (4649) / الترمذي (3748) / ابن ماجه (133)(1/626)
[المسألة الرابعة] :
الصحابة رضوان الله عليهم بشر يُصيبون ويُخطئون ويجتهدون فيما يجتهدون فيه، وربما وافق بعضُهُمْ الصواب، وربما لم يوافق الصواب.
لهذا الواجب على المؤمن من مُقْتَضَى المحبة والنُّصْرَةْ أن يحمِلَ جميع أعمال الصحابة على إرادة الخير والدِّيْنْ وحب الله - عز وجل - وحب رسوله صلى الله عليه وسلم، وأنَّ ما اجتهدوا فيه:
- إما أن يكون لهم فيه الأجران إذ أصابوا.
- وإما أن يكون لهم فيه الأجر الواحد إذ أخطؤوا.
وكُلُّ عَمَلٍ لهم مما اجتهدوا فيه حتى القتال فإنَّهُ مَعْفُوٌّ عنهم فيه لأنَّهُم مجتهدون، فلا نَحْمِلُ أحداً من الصحابة على إرادة الدنيا المحضة -يعني فيما اجتهدوا فيه من القتال- وإنما نحملهم على أنَّهُم أرادوا الحق واجتهدوا فيه فمن مُصيبٍ ومن مخطئ.
ولهذا كان الصحابة وهم يتقاتلون يُحِبُّ بعضهم بعضاً، ولا يتباغضون كما أَبْغَضَ طائفة منهم من جاء بعد ذلك من أهل البدع، فلم يكن أحَدُهُمْ يَذُمُّ الآخر ذَمَّاً يقدح في دينه، أو يقدح في عدالته، وإنما بين من يُصَوِّبُ نفسه ويُخَطِّئُ غَيْرَهْ وبين من يعتزل أو يُثْنِي على الجميع وأشباه ذلك.
وهذا هو الواجب في أننا نحمل أفعالهم على الحق والهدى، وإن كان بعضهم يكونُ أصوبَ من بعض، أو يعضهم يكون مصيباً والآخر مخطئاً.
وما جرى من الصحابة من الشِّجَار فيما اجتهدوا فيه والقتال أو ما اجتهد فيه الصحابة في المسائل العملية في علاقتهما بعض الصحابة الآخرين، فهذا لا يُبْحَثُ فيه وإنما يُذْكَرُونَ بالخير، ونعتمد على الأصل الأصيل وهو أنَّ الله - عز وجل - أثنى عليهم، وخاصَّةً أهل بيعة الرضوان الذين أنزل الله - عز وجل - فيهم قوله {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَة} [الفتح:18] ، وكانوا إذ ذاك بين ألف وأربعمائة وألف خمسمائة قد رضي الله عنهم وأرضاهم.(1/627)
[المسألة الخامسة] :
سَبُّ الصحابة تَبَرُؤٌ منهم، وإذا سَبَّ بعضاً فهو تَبَرُؤٌ ممن سب أو بَعْضُ تَبَرُؤٍ ممن سب.
لأنَّ حقيقة السبّ عدم الرضا عن من سُبَّ، وكُرْهْ ما فَعَلْ وإلا فإنَّ الراضي يحمد ويُثْنِي، والمُبْغِضْ هو الذي يسب ويتبرأ.
لهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن سب الصحابة فقال «لا تسبّوا أصحابي» وهذا يقتضي التحريم، فكل سَبٍّ للصحابة محرم، وأكَّدَّ ذلك صلى الله عليه وسلم بقوله «من سبَّ أصحابي فقد آذاني» وأذيته صلى الله عليه وسلم محرمة وكبيرة وكذلك إيذاء الصحابة فقد قال - عز وجل - {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا} [الأحزاب:58] ، وإيذاء الصحابي احتمالٌ للإثم المُبِيْنْ، وهذا دخولٌ في المحرّمات الشديدة.
ومعنى السَّبْ أن يَشْتُمْ بِلَعْنٍ، أو يَتَنَقَّصْ، أو يطعن في عدالتهم، أو في دينهم، أو أن يتنقصهم بنوعٍ من أنواع التنقص عمَّا وصفهم الله - عز وجل - به، وهذا يختلف بأنواع:
- فقد يشتم بعض الصحابة، فهذا سب.
- قد يَتَنَقَّصْ من جهةٍ دينية.
- وقد يَتَنَقَّصْ من جهة دنيوية لا تُنْقِصُ من عدالته.
مثلاً في الجهة الدينية أن يقول: أنَّهُ لم يكن مؤمناً مُصَدِّقَاً، كان فيه نفاق. أو أن يقول عن الصحابة: كان فيهم قلة علم، أو بعضهم فيه قلة دِيَانَة، أو كان فيهم شَرَهْ على المال أو حب للمناصب، أو كان في بعضهم رغبة في النساء، جاهدوا لأجل النساء، أْكَثُروا من النساء تلذذاً في الدنيا، هم طُلَّابُ دنيا.
إمَّا في وصفهم جميعاً أو في وصف بعضهم.
هذه أمثلة لأنواع السب والقدح الذي قد يرجع إلى قدحٍ في دينهم، وقد يرجع إلى تنقصٍ لهم في عدالتهم وما أشبه ذلك. (1)
: [[الشريط الرابع والأربعون]] :
وسَبُّ الصحابة رضوان الله عليهم كما أنَّهُ مُحَرَّمْ قد اختلف العلماء في هل يكون كفراً أم لا يصل إلى الكفر؟
وكما ذكرتُ لك فإنَّ السَّبَّ مورِدُهُ البُغْضْ؛ لأنَّهُ إذا أْبَغَضَ مُطْلَقَاً أو أَبْغَضَ في جزئية فإنه يَسُبْ، فإنَّ السَبَّ مورده البُغْضْ، ينشأ البغض والكراهة ثم ينطلق اللسان -والعياذ بالله- بالسب.
لهذا الطحاوي هنا قال في آخر الكلام (وَبُغْضُهُم كُفْرٌ ونِفَاقٌ وطُغْيَانٌ)
فيقصد بالكفر هنا الكفر الأصغر ليس الكفر الأكبر، أو ما يشمل -وهو الذي حمله عليه شارح الطحاوية- أو ما يشمل القسمين، قد يكون كفراً أكبر وقد يكون أصغر، والنفاق قد يكون نفاقاً أكبر وقد يكون نفاقاً أصغر بحسب الحال ويأتي تفصيل الكلام في ذلك.
والإمام أحمد رحمه الله وعلماء السلف لهم في تكفير من سَبِّ الصحابة روايتان:
1 - الرّواية الأولى: يَكْفُرْ وسَبَبُ تكْفِيرِهِ أَنَّ سَبَّهُ طعنٌ في دينه وفي عدالة الصحابي، وهذا رَدٌّ لثناء الله - عز وجل - عليهم في القرآن، فرجع إذاً تكفير السابِّ إلى أنَّهُ رَدَّ ثناء الله - عز وجل - في القرآن والثناء من النبي عليهم في السنة.
2 - والرواية الثانية: أنَّهُ لا يكفر الكفر الأكبر، وذلك لأنَّ مَسَبَّةْ مَنْ سَبَّ الصحابة من الفِرَقْ دَخَلَهُ التأويل ودَخَلَهُ أمر الدنيا والاعتقادات المختلفة.
@ والقول الأول هو المنقول عن السلف بكثرة، فإنَّ جمعاً من السلف من الأئمة نَصُّوا على أنَّ من سَبَّ وشَتَمَ أبا بكر وعمر فهو كافر، وعلى أنَّ من شَتَمَ الصحابة وسبَّهُمْ فهو زنديق، بل قيل للإمام أحمد كما في رواية أبي طالبٍ: قيل فلانٌ يشتم عثمان، قال: ذاك زنديق. وأشباه هذا.
وهذا هو الأكثر عن السلف لأنَّ شَتْمْ الصاحب تكذيبٌ للثتاء أو رد للثناء، سواءٌ كان شتمه لأجلٍ تأويلٍ عَقَدِي أو لأجل دنيا.
وقد فَصَّلَ في بحث السَّبْ ابن تيمية في آخر كتابه الصارم المسلول على شاتم الرسول، وذكر الروايات والأقوال في ذلك ثم عَقَدَ فصلاً في تفصيل القول في الساب.
وما فَصَّلَ به حَسَنْ، وما يدور كلامه عليه رحمه الله وأجزل له المثوبة أنَّهُ يُرْجِعُ السَّبُّ إلى أحوال:
فتارَةً يكون كفراً أكبر، وتارةً يكون محرماً ونفاقاً، ولا يتفق الحال؛ يعني ليس السَبُّ على حالٍ واحدة.
فيكون للسّاب مراتب أو أحوال:
1- الحالة الأولى: أن يَسُبَّ جميع الصحابة بدون استثناء ولا يَتَوَلَّى أحداً منهم، فهذا كفر بالإجماع، يَسُبُّ جميع الصحابة، هذا فعل الزنادقة والمادِّيِينْ والملاحدة الذين يقدحون في كل الصحابة، فيقول: هؤلاء الصحابة جميعاً لا يفهمون، هؤلاء طلاب دنيا، بدون تفصيل، كل الصحابة ولا يستثني أحداً.
فمن سَبَّ جميع الصحابة أو تَنَقَّصَ جميع الصحابة بدون استثناء، تقول له: أتستثني أحدا؟، فلا يستثني أحداً، فلا شك أنَّ هذه زندقة، ولا تصدر من قلبٍ يحب الله - عز وجل - ويحب رسوله ويحب الكتاب والسنة ومن نقل السنة وجاهد في الله حق جهاده.
2- الحالة الثانية: أن يَسُبَّ أكثر الصحابة تَغَيُّظاً من فِعْلِهِمْ كالغيض الذي أصاب مَنْ عَدَّ نفسه من الشيعة وهو من الرافضة، أو نحوهم ممن سَبُّوا أكثر الصحابة الذين خالفوا -كما يزعمون- خالفوا علياً أو لم ينتصروا لعلي وأثبتوا الولاية لأبي بكر وعمر ثم عثمان، وأشباه ذلك فيَسُبُّونَهُمْ تَغَيُّظَاً وحَنَقَاً عليهم واعتقاداً فيهم.
فهؤلاء أكثر السلف على تكفيرهم ونَصَّ الإمام مالك على أنَّ من سَبَّ طائفة من الصحابة تَغَيُّظَاً؛ يعني غَيظَاً من موقفهم في الدين، فإنَّهُم كفار لقول الله - عز وجل - في آية سورة الفتح {ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} [الفتح:29] ، فالذي يكون في قلبه غَيْظْ ويَغْتَاظْ مِنَ الصحابة ألحقه الله - عز وجل - بالكفار، واستدلَّ بها مالك رحمه الله إمام دار الهجرة على أَنَّ من سَبَّهُمْ أو سَبَّ طائفة منهم تَغَيُّظَاً فهو كافر، وهذا صحيحٌ ظاهِرْ.
3- الحالة الثالثة: أن يَسُبَّ بعض الصحابة لا تَغَيُّظَاً؛ ولكن لأجل عدم ظهور حُسْنْ أفعاله، مثلاً يقول:
هؤلاء بعض الصحابة فيهم قلة علم أو فيهم جشع، أو هذا ما يفهم، أو فيه حب للدنيا، أو نحو ذلك، فهذا ليس بكفر، وإنما هذا محرم لأنه مَسَبَّةْ وهو مخالفٌ لمقتضى الوَلَايَةْ.
وهذا هو الذي يُحْمَلُ عليه كلام من قال من السلف: إنَّ سابَّ الصحابة أو من سَبَّ بعض الصحابة لا يكفر، فيُحْمَلْ على أنَّ نوع السب هو أنَّهُ انْتَقَصَ في ما لا يظهر لَهُ وَجْهُهْ، إمَّا في -مثل ما ذكرت- نقص علم أو في رغبة في دنيا أو نحو ذلك، ولا يُعَمِّمْ وإنما قد يتناول واحد أو اثنين أو أكثر بمثل هذا.
وهذه المسائل، كونه يَقِلْ عِلْمُهُ أو يقول يحب الدنيا، هذا ليس طعنَاً في عدالته لأنَّ قلة العلم ليست طعناً في العدالة، وحب الدنيا بما لا يؤثر على الدين ليس طعناً في العدالة -العدالة يعني الثقة والدين والأمانة-، وإنما هذا انتقاص وتَجَرُّؤْ عليهم بما لا يجوز فعله، ويخالِفُ مقتضى المحبة.
هذا هو الذي يصدق عليه أنَّهُ لا يدخل في الكفر فهو محرم؛ لأنه ليس فيه رد لقول الله - عز وجل - ولكن فيه سوء أدب وانتقاص ودخولٌ في المسبة.
والواجب في أمثال هؤلاء أن يُعَزَّرُوا؛ وذلك لِدَرْءِ شَرِّهِمْ والمحافظة على مقتضى الثناء من الله - عز وجل - على صحابة نبيه صلى الله عليه وسلم.
4- الحالة الرابعة: أن ينتقص الصحابي أو أن يَسُبَّهُ لاعتقادٍ يعتقده في أَنَّ فِعْلَهُ الذي فَعَلَ ليس بالصواب، وهذا في مثل ما وقع في مقتل عثمان وفِعْلْ علي رضي الله عنه وفِعْلْ معاوية ونحو ذلك، فقد يأتي ويَنْتَقِصْ البعض؛ لأنَّهُ يرى أنَّهُ في هذا الموقف بذاته أنَّهُ كان يجب عليه أن يفعل كذا، لماذا لم يفعل كذا، وهذا يدل على أنَّهُ فَعَلَ كذا، وهذا أيضاً أخف من الذي قبله لأنه متعلق بفرد وبحالة.
وهذا محرمٌ أيضاً، وهل يُعَزَّرْ في مثل هذه الحال أو لا يُعَزَّرْ؟
هذا فيه اختلاف، ولاشك أنَّ قوله وفِعْلَهْ فيما فَعَلْ دُخُولٌ في المسبّة والانتقاص وهذا محرم ودون الدخول في رَدِّ ثناء الله - عز وجل - أو في انْتِقَاصٍ عام، إنما هذا يجب في حقه التوبة من الله - عز وجل - والإنكار عليه.
وهل يُعَزَّرْ أو لا؟
اختلف العلماء في مقتضى التَّعْزِيْرْ، التَّعْزِيْرْ المقصود به التَّعْزِيْرْ بالجلد أو بالقتل، أما التَّعْزِيْرْ بالقول والرَّدْ عليه وانتقاصه هذا واجب.
5- الحالة الخامسة: ربما تشتبه علي لكن تراجعونها أكثر، نتركها راجعونا أنتم.
__________
(1) نهاية الشريط الثالث والأربعين.(1/628)
[المسألة السادسة] :
في قول الطحاوي رحمه الله (وَحُبُّهُم دِينٌ وإيمَانٌ وإحْسَانٌ) :
1- أولاً: حبُّ الصحابة دِيْنْ: لأنَّ الله - عز وجل - أثنى عليهم، وتصديق خبر الله - عز وجل - وانعقاد الوَلَاية لا شك أنَّ هذا دين؛ بل من أعظم الدين.
والصحابة اجتمع ذلك في حقهم من ناحيتين:
أ - الناحية الأولى: أنَّ الله عَقَدَ الوَلَاية بين المؤمنين فقال {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة:71] ومعنى الوَلَاية المحبة والنصرة، وأعظم المؤمنين إيماناً هم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم فلهم من الوَلَاية والمحبة والنصرة أعلاها، كذلك قال الله - عز وجل - {وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} [الحشر:10] فأثنى على هؤلاء لأجل اتِّصَافِهِمْ بالدين ولاشك أنَّ حب الصحابة من هذه الجهة دين.
ب - الناحية الثانية أنَّ تصديق خبر الله - عز وجل - فيما أثنى الله به عليهم في آياتٍ كثيرة، سواءٌ ما أثنى به على المهاجرين والأنصار كجنس، أو ما أثنى به على أهل بيعة الرضوان، أو ما أثنى به على السابقين، أو ما أثنى به على جميع مَنْ مَعَ النبي صلى الله عليه وسلم {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ} هذا يشمل الجميع، {وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ} هؤلاء حُبُّهُم لثناء الله - عز وجل - وتصديق خبر الله هذا لاشك أنَّهُ دين، وقال الله - عز وجل - في آخر سورة الفتح {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الفتح:29] .
وحرف الجر في قول الله - عز وجل - {مِنْهُم} (مِنْ) هذه، أهل السنة والجماعة؛ بل أهل السنة الذين يخالفون الرافضة والخوارج يجعلون (مِنْ) هنا بَيَانِيَّةْ لبيان الجنس، والآخرون من الرافضة يجعلونها تبعيضية، وهي لبيان الجنس.
{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} لو لم يقل {مِنْهُم} لصارت تشمل كل مؤمن عَمِلَ الصالحات، وهذا يدخل فيه أجناس التابعين وتبع التابعين ومن وَلِيَهُمْ إلى يوم القيامة، فأراد تخصيص جنس الصحابة بهذا الفضل وهو الوعد بالمغفرة والأجر العظيم، فقال {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} ليس على الإطلاق {مِنْهُم} يعني مِنَ الصحابة مِنَ الذين مع محمد {مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} .
وليست (مِنْ) هاهنا تبعيضية لأنَّها لا تنطبق عليها شروط التبعيض في هذا الموطن وإنما فسَّرَهَا بأنها تبعيضية الرافضة ومن شابههم، وهو الموجود في تفاسيرهم، يريدون أن يكون هذا الوعد لبعض الصحابة لا لكل الصحابة.
و (مِنْ) هنا لبيان الجنس وليست لبيان وليست للتبعيض كقولك: الكتاب من ورق، هذا لبيان جنسه أو ما شابه ذلك.
أما التبعيض فهذا لا يكون في الوصف، يكون الثاني بعض الأول.
وهنا جاء وعداً بالوصف فقال {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [النور:55] فلا يكون التبعيض في مثل هذا السياق.
لهذا كان عامة بل كان كل مفسري السلف والأئمة على أنَّ (من) هنا لبيان الجنس لاتفاق آخر الآية مع أول الآية.
2- ثانياً: أن حبهم إيمان: لأنَّهُ واجبٌ أَوجَبَهُ الله - عز وجل -، وما أَوجَبَهُ الله - عز وجل - فهو من شُعَبِ الإيمان، فَحُبُّ الصحابة إيمان، والنبي صلى الله عليه وسلم نَصَّ في بعض الصحابة على أَنَّهُ إِيمانْ بقوله «آية الإيمان حُبُّ الأنصار، وآية النفاق بُغْضُ الأنصار» (1) .
3- ثالثاً: أنّّ حبَّهم إحْسَانٌ: لأنَّهُ يدل على أنَّ المُحِبْ لهم مُحْسِنْ في دينه وأتى بما يجب عليه وما يتقرب به إلى ربه من أنواع إحسانه وصِدْقِهِ في دينه.
طبعاً (وَحُبُّهُم دِينٌ وإيمَانٌ وإحْسَانٌ) كل هذه تتبعض، ليست شيئاً واحداً، فالناس في حب الصحابة يختلفون، وأجرهم على قدر كثرة محبتهم ونصرتهم وفقههم لفضائلهم.
__________
(1) البخاري (17) / مسلم (128)(1/629)
[المسألة السابعة] : (1)
في قول الطحاوي رحمه الله (وَبُغْضُهُم كُفْرٌ ونِفَاقٌ وطُغْيَانٌ) :
1- أولاً: بُغْضُ الصحابة كُفْرْ:
أ - فإذا كان البُغْضُ للدين أو للغيض كما فَصَّلْنَا فيكون الكفر هنا كفراً أكبر.
ب - وإذا كان البُغْضْ لأجل الدنيا -كما قد تَتَنَاوَلْ النُّفُوسُ الكَرَاهَةَ والبُغْضَ لِأَجْلِ الدنيا-، فهذا كفرٌ أصغر ولا يصل إلى الكفر الأكبر، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم «لا ترجعوا بعدي كفرا يضرب بعضكم أعناق بعض» (2) .
وكون بعض الصحابة قاتل بعضاً آخر، هذا فيه دخول في خصال الكفار، لهذا قال «لا ترجعوا بعدي كفارا» ، ولاشك أنَّهُ قد يكون الباعث على ذلك البغض والكره لأنَّ القتال يكون معه ما في النفس؛ لكن مع تقاتل الصحابة فإنَّ بعضهم لم يُسُبَّ بعضاً يعني بلسانه والنفس قد يوجد فيها ما لا يسلم منه البشر.
فإذاً الكفر هنا قد يكون كفراً أصغر وقد يكون كفراً أكبر بحسب نوع البغض.
2- ثانياً: بُغْضُ الصَّحابة نِفَاقٌ: لأنَّ آية النفاق أن يُبغِضَ من نقل هذا الدين وحفظ الإسلام في الناس وجاهد في الله حق الجهاد وهم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والمنافقون في عهده صلى الله عليه وسلم كانوا يُبْغِضُونَ الصحابة ويَتَوَلَّونَ الكفار، ووصفهم الله - عز وجل - في ذلك بقوله {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ} [التوبة:67] .
والنفاق هنا:
أ - قد يكون نفاق أكبر اعتقادي بحسب حال البُغْضْ.
ب - وقد يكون نفاق عملي بحسب نوع البغض وعدم المحبة.
3- ثالثاً: بغض الصَّحابة طُغْيَانٌ: يعني أنَّ بُغْضَهُمْ طغيان، طَغَى فيه صاحبه وجاوَزَ الأمر.
فالله - عز وجل - أَمَرَ بِحُبِّهِمْ أو أَمَرَ بِمُوَالاتِهِمْ، وهذا معناهُ أنَّهُ أَمْرٌ بِحُبِّهِمْ وأثنى على من تَرَضَّى عنهم واستغفر لهم ولم يكن في قلبه غِلٌّ لهم، وهذا معناه أنَّ الذي خالَفَ ذلك فهو قد طَغَىَ وتجاوز الحد في ذلك.
__________
(1) هذه المسألة لم يجعلها الشيخ مستقلة وإنما جعلها مع ما قبلها وقد جعلتها مسألة مستقلة حتى لا تشتبه المسائل.
(2) البخاري (121) / مسلم (232)(1/630)
[المسألة الثامنة] :
العلماء صَنَّفُوا في الصحابة مُصَنفَاتْ في بيان ما يجب لهم وفي الثناء عليهم وذكر أخبارهم وسيرتهم، ولاشك أنَّ الدّفاع عن الصحابة والتأليف في ذلك مِنْ الجهاد، وخاصَّةً في الأزمنة التي يكثر فيها أو يوجد فيها من يقدح في الصحابة أو في بعضهم، فإنَّ مِنْ مُقتَضَى الوَلاية أن يُنْصَرْ الصحابة بالتآليف وبالرَّدْ وبالذبِّ عنهم وبِبُغْضِ من يُبْغِضُهُمْ.
وهذا يقتضي أنَّ مِنَ الجهاد في سبيل الله ومن المحافظة على الدّين أن يُنَالَ وأن يُرَدْ وأن يُجَاهَدْ مَنْ يقدح في الصحابة أو يطعن في عدالتهم أو يُشَكِّكُ في صدق بعضهم وفي حفظه ونحو ذلك.
وهذا هو الذي صنعه أئمة الحديث فإنهم رحمهم الله تعالى لم يُصَنِّفُوا المُصَنَّفَات لحُبِّ التَّصْنِيفْ في الغالب؛ ولكن لأجل نُصْرَةْ الدين وأَفْرَادْ ما أوجب الله - عز وجل - البيان فيه.
التأليف في الصحابة إما التآليف المستقلة أو في ما في كتب أهل الحديث، مناقب الصحابة، مناقب المهاجرين، مناقب أبو بكر، مناقب عمر إلخ..، كما في كتاب المناقب في البخاري، أو كتاب فضائل الصحابة في مسلم، أو غير ذلك كما هو معروف فهذا من الجهاد في سبيل الله ومن البيان للأمة.
فالذي ينبغي لطلاب العلم خاصَّةً في هذا الزمن أن ينتبهوا لهذه الأصول، وأن يعلموا ما فيها، وأن تكون عُدَّتُهُم دائمة في هذا البحث للجهاد إذا جاء ما يستوجبه في المواطن التي تُنْتَقَصُ فيها مكانة الصحابة من المبغضين لهم أو لبعضهم قبّحهم الله.
نكتفي بهذا القدر.(1/631)
الأسئلة:
س1/ ذكرتم أنَّ مسائل الصحابة ليست في الأصل من مسائل الاعتقاد، وفي الحديث «حب الأنصار إيمان وبغضهم نفاق» فهل ثَمَّ فرق بين كونهم من الإيمان وكونها أنها ليست مسائل الاعتقاد؟
ج/الإيمان شُعَبُهُ كثيرة «الإيمان بضع وستون شعبة أو بضع وسبعون شعبة» (1) فمنها ما يدخل في مسائل الاعتقاد ومنها ما لا يدخل.
فأصل حب الصحابة هي مسألة حب، موالاة، وهذه ليست من العقيدة لأنَّ أصل العقيدة ما يتعلق بمسائل الغيب ثُمَّ دخل فيها ما يتميز به أهل السنة عن غيره، فأصل العقيدة الذي يدخل في أركان الإيمان الستة: الاعتقاد في الله ربوبيته إلهيته الأسماء والصفات في الملائكة في الكتب والرسل اليوم الآخر والقدر هذه العقيدة، مسائل الإيمان في نفسها، أما المسائل الأخرى المُلْحَقَة هذه لأجل المُخَالفة، وصارت من العقيدة، وكونها من الإيمان هذا حق الإيمان ليست كل مسائله مسائل اعتقاد.
س2/ أراني أجد شيئاً في نفسي على معاوية رضي الله عنه من حيث موقفه، لا سيما ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لعمار «تقتلك الفئة الباغية» (2) فهل عَلَيَّ في هذا إثم، مع العلم أني لا أتكلم بذلك ولا أتحدث به؟
ج/ نعم عليك إِثْمْ في ذلك إذا كان العلم سهلاً عليك أن تتحصل عليه وأن تَجْلُوَ هذه الشبهة، وتَبْقَى وأنت لا تَجْلُوَ هذه الشبهة عندك، كون الشيء يكون في نفس الإنسان وليس عنده وسيلة لكشفه ولا وسيلة لتعلم ما يدفع عنه هذه الشبهة وتسويل الشيطان، هذه قد يُعْذَرُ معه؛ لكن إذا كان العلم قريباً والكتب موجودة وأهل العلم الذين يكشفون الشُّبَه موجودون فهذا يأثم الإنسان بالتقصير ويأثم على بقاء هذا الشيء في نفسه.
ومعاوية رضي الله عنه فَعَلَ فيما فَعَلَ أداءً لواجب شرعي يراه أنَّهُ مُتَقَدِّم على مسألة البيعة، وهو أنَّ دَمَ عثمان سُفِك رضي الله عنه، وهو وليه، هو ولي الدم، هو ذو القرابة من عثمان، وولي الدم لا بد أن يُسَلَّمْ من قَتَلْ، تحقيقاً لقول الله - عز وجل - {وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا} [الإسراء:33] ، وكذلك الآيات التي فيها القصاص وأنَّ الولي {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} [البقرة:178] ، فمعاوية رضي الله عنه أراد أخذ الحق الذي جعله الله له والانتصار من قتلة عثمان، وسفك دم عثمان، لاشك أنَّ دم عثمان إذ ذاك هو أطهر دَمٍ لإنسان سُفِكْ، فالانتصار لعثمان رضي الله عنه واجب، وعلي رضي الله عنه أخَّرَّ بحث دم عثمان حتى لا تذهب بيضة الإسلام وبيضة أهل الإسلام لأنَّ هؤلاء الخوارج الذين جاؤوا أرادوا الفتنة العظيمة، فأراد أن يستقر الأمر ثم يُسَلِّمْ القَتَلَةْ لمعاوية؛ لكنه لم يفهم هذا؛ يعني اختلف الاجتهاد فلم يفهم هذا مع سعي الخوارج في الإعلام الفاسد، فَسَعَوا في التفريق ما بين هؤلاء، ينقلون لمعاوية أخبار عن علي ولعلي أخبار عن معاوية، والحققية الصحابة كلُّهُم هدفهم واحد في ذلك وهو حفظ بيضة الاسلام والانتصار من قتلة عثمان، لكن حصل ما حصل.
فمعاوية رضي الله عنه مجتهد يريد أن يأخذ بحقه الشرعي؛ لكن الصواب مع علي؛ لأنَّ بيعة علي واستقامة أمر الناس في الخلافة وعدم حصول القتال هذا هو الواجب والحق مع علي في ذلك، ومعاوية رضي الله عنه مجتهد مأجورٌ على اجتهاده ولكنه مُخْطِئ في ما اجتهد فيه في ذلك ولكن هو مأجور.
والإنسان لا يُبْغِضُ من اجْتَهَدَ أو يجد في نفسه شيئاً على من اجتهد في الحق، وإن كان أخطأ، فإنَّهُ إذا اجتهد في الحق وتَحَرَّاه، فإنَّ هذا هو الذي يجب عليه، ومعاوية رضي الله عنه به استقام المسلمون وحُفظت البيضة بعد علي رضي الله عنه، فالناس في زمن علي كانوا متفرقين ولم يستقم الأمر لعلي في الخلافة ولم يجتمع الناس عليه.
ثُمَّ لمَّا حصل تنازل الحسن ابن علي في الولاية لمعاوية رضي الله عنهم أجمعين وحصل هذا الاجتماع العظيم في سنة إحدى والأربعين في العام الذي سُمِيَّ عام الجماعة يعني عام اجتماع الناس، حصل غيظ العدو، حتى الخوارج هربوا بعد أن كانت لهم الصولة وكانوا يُفَرِّقُون وسُفِكَتْ من دماء الصحابة ودماء التابعين ما سُفِكْ؛ ولكنهم لما اجتمع الناس كان أول من اندحر هؤلاء الخوارج أخزاهم الله.
__________
(1) سبق ذكره (402)
(2) مسلم (7506) / الترمذي (3800)(1/632)
فمعاوية رضي الله عنه له من الفضائل ما لَهُ، هو كاتب الوحي للنبي صلى الله عليه وسلم، وهو من الصحابة الذين كانت لهم مواقف عظيمة في الجهاد، وجهاد الروم وجهاد الأعداء كما هو معلوم، ووَلِيَ الشام وكانت في سيرته في ولايته في عهد عثمان كان طيب السيرة، والاجتهاد في المال أو اجتهاد في بعض الأمور هذا إنما لا يمشي على وفق منهج الخوارج، أما الصحابة فكانوا يرون في ما اجتهد فيه أنه ما بين مصيبٍ وما بين مخطئ، والمخطئ لا يُعاب على ما اجتهد فيه إذا لم يكن مخالفاً للأصول، فمعاوية رضي الله عنه مكانته وحبه من الإيمان، ولا يجوز لمسلم أن يُبْقِيَ في نفسه شيئاً على صحابي من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
س3/ هل يُفرَّقْ بين سَبِّ الصحابة بعضهم لبعض وسَبِّ غيرهم لهم؟
ج/ ما سبَّ صحابِيٌّ صحابياً مطلقاً، وإنما قد يتسابون يعني مثل ما يحصل للبشر، يَتَرادُّونَ في موقف، لكن لا يَسُبُّهُم مطلقاً أو يذم صحابياً مطلقاً؛ لكن يكون بينهم تَرَادْ في مجلس لأجل ما يحصل بين البشر مقاتلة مؤقتة تحصل بينهم؛ لكن سَبْ الساب المطلق وانتقاص قدر فلان من الصحابة مطلقاً هذا لم يحصل عند الصحابة.
س4/ ما حكم تقديم بعض الصحابة على بعض مثل تقديم علي على أبي بكر وعمر وعثمان؟
ج/ الصحابة أفضلهم كما ذكرت لكم العَشَرَة وترتيبهم في الفضل كترتيبهم في الذِّكر، ومُعْتَقَدْ أهل السنة والجماعة والذي دلَّتْ عليه النصوص ولا يجوز عليه خلافه أنَّ أفضل هذه الأمة أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي هؤلاء هم أفضل الصحابة وترتيبهم في الفضل كترتيبهم في الذكر وكترتيبهم في الخلافة.
أما تقديم علي على أبي بكر وعمر فكما قال السَّخْتَيَاني (من فَضَّلَ علياً على أبي بكر عمر فقد أزرى بالمهاجرين والأنصار) (1) ، كيف يكون أفضل ويُقَدِّمُونَ غيره عليه، فمعناه أنَّهُمْ خَوَنَةْ كما يَدَّعِي الرافضة، أو أنَّ لهم كذا وكذا.
والصحابة من المهاجرين والأنصار قدَّمُوا من هو الأفضل لهم في دينهم وفي أيضاً في الولاية، تقديم علي على جملة الثلاثة هذا صنيع الرافضة.
نكتفي بهذا وفقكم الله لما فيه رضاه وبارك فيكم.
__________
(1) حلية الأولياء (7/27)(1/633)
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه، أما بعد:
الأسئلة:
س1/ كثير من الإخوان -جزاهم الله خيرا- إذا ما وقع بينهم خلاف في مسألةٍ ما إما فقهية أو غيرها وأُنْكِرَ عليهم شِدَّةْ الخلاف بينهم، قالوا: الصحابة اختلفوا فما بالك بحالنا؟
ج/ أولاً هذا ليس مما يسوغ أن يُذْكَرْ هذا عن الصحابة ويُجْعَلْ اختلاف الصحابة حُجَّةً مُطْلَقَاً لاختلاف غيرهم.
الصحابة رضوان الله عليهم أولاً لم يختلفوا ولله الحمد في بابٍ من أبواب العقيدة والتوحيد والأصول وإنما اختلفوا في بعض المسائل الاجتهادية كالمسائل الفقهية وبعض مسائل الإمامة التي كانت في زمنهم لها تأويلها.
ثُمَّ إنّ من القواعد المقررة عند أهل السنة كما كتبوا في عقائدهم أنَّنَا نحمل جميع أعمال الصحابة وأقوال الصحابة وأفعال الصحابة على إرادة الخير وعلى أنهم لم يقصدوا إحداث الخلاف ولا الانتصار للنفس، ولم ويذهبوا إلى النزعة القبلية أو نزعة علو الشأن أو نزعات الدنيا وإنما كان لهم في ذلك تأويلات، وربما دخل بعض هذه المطالب كشيءٍ من الدنيا دَخَلَ في تأويل الدين، ولم يكن يُقْصَدْ أساساً، فلم يكن في الصحابة ولله الحمد ممن يشار إليهم وحصل منهم الخلاف لم يكن منهم من يقصد الدنيا فقط محضة، وإنما يريدون الدين وربما يدخل في شيء من ذلك بعض استمساك بأمور الدنيا التي لهم فيها تأويل سائغ.
ولهذا لا يسوغ أن يحتج (1) أحد إذا اختلف مع غيره باختلاف الصحابة مطلقاً، وإنما في بعض الوسائل إذا اختلف فيها الصحابة فالخلاف يسع من بعدهم إذا كانت من المسائل التي ليس فيها دليل واضح، أما إذا كانت المسالة فيها نص أو فيها دليل ظاهر من الكتاب أو من السنة فأقوال الصحابة بين راجحٍ ومرجوح إذا اختلفوا، فالله - عز وجل - أمرنا أننا عند التنازع والاختلاف أن نرد إلى الله - عز وجل - وإلى الرسول {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [النساء:59] ، وهذا هو الذي يجب أنَّهُ يُرَدْ للدليل، فإذا لم تظهر دلالة الدليل في المسائل فإنَّ في اختلاف الصحابة سعة إذا اختلفوا، وهم لم يختلفوا ولله الحمد في التوحيد ولم يختلفوا في العقيدة ولم يختلفوا في أصول الدين، وإنما اختلفوا في بعض مسائل اجتهادية معروفة، ولهم فيها تأويل وكل يقوم بحجته وأقوال ما بين راجح ومرجوح رضي الله عنهم وأرضاهم.
__________
(1) نهاية الوجه الأول من الشريط الرابع والأربعين.(1/634)
وَنُثْبِتُ الْخِلَافَةَ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَوَّلًا لِأَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رضي الله عنه تَفْضِيلًا لَهُ وَتَقْدِيمًا عَلَى جَمِيعِ الْأُمَّةِ
____________________________________________
بعد أنْ ذَكَرَ الطحاوي رحمه الله محبة صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنَّنَا نتولاهم جميعاً، ولا نتبرأُ من أحدٍ منهم أتى إلى مسألةٍ عظيمة فارَقَ فيها جَمْعُ أهل السنة من عَدَاهم من الخوارج والرافضة وأشباههم في مسألة: الخلافة، ومن الأحق بالخلافة، ومن الأفضل، وترتيب هؤلاء على ما جاء في النصوص وعلى ما قَرَّرَهُ الصحابة والأئمة من بعدهم.
فقال (وَنُثْبِتُ الْخِلَافَةَ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم)
ويعني بذلك أنَّ الخلافة يُثبِتُهَا أهل السنة لأبي بكر دون غيره استحقاقاً للخلافة أو تقديماً له أو تفضيلاً، كما عليه الرافضة وبعض الفئات الأخرى.
وهذا في الأصل كما ذكرت لكم قبل ذلك صار من العقيدة لأنَّهُ في أمر الخلافة التي بسببها وبسبب البحث في الخلافة افترقت الأمة إلى فِرَقٍ كثيرة.
فأولُ خلافٍ وَقَعَ في الأمة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم هو من الذي يلي المسلمين بعده صلى الله عليه وسلم؟
فوقع الخلاف بين المهاجرين والأنصار ولم يَطُلْ، وأجمع المسلمون في وقتٍ قصير على استحقاق أبي بكر للخلافة كما سيأتي بيانه.
ويمكن أن نتحدث عن هذا في عدة مسائل.(1/635)
[المسألة الأولى] :
أنَّ خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه أَجْمَعَ عليها أهل السنة والجماعة؛ بل وغيُرهُم من الخوارج والمعتزلة والأشاعرة والماتريدية والمتكلمين وسائر الفرق عدا الرّافضة ومن نحا نحوهم.
فخلافة أبي بكر الصديق وأنَّهُ هو المستحق للخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرٌ أجْمَعَ عليه هؤلاء، واختلفوا في مأخَذِ الخلافة وأحقية أبي بكر بالخلافة:
هل لأنَّ خلافته ثبتت بالنص الجلي؟
أو أنها ثبتت بالنص الخفي؟
أو أنها ثبتت بالاختيار واتفاق واختيار الصحابة؟
على ثلاثة أقوال:
1- القول الأول: أنَّ خلافة أبو بكر الصديق رضي الله عنه ثبتت بالنص الجلي، ويعنون بالنص الجلي أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم أرشد إلى خلافته وأَوْضَحَ أنَّهُ الأحق بعبارات مختلفة وأدلةٍ متنوعة بدلالات قولية وفعلية يحصل من مجموعها التنصيص على أنَّ الذي يلي الناس بعده صلى الله عليه وسلم هو أبو بكر.
وهذا القول هو الذي عليه جماعة كثيرة من أهل الحديث، وهو قول الإمام أبي عبد الله أحمد بن حنبل وأصحابه الحنابلة وطائفة كبيرة من الشافعية، وهو اختيار أيضاً ابن حزم وجماعة من الظاهرية.
وهو الذي حرَّرَهُ المحققون أيضاً كشيخ الإسلام ابن تيمية وكغيره فإنه قال:
والتحقيق أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم دلَّ على خلافة أبي بكرٍ الصديق بدلالات كثيرة من قوله وفِعْلِهْ صلى الله عليه وسلم وسيأتي ذكر بعضها إن شاء الله.
2- القول الثاني: أنَّ خلافة أبي بكر ثبتت بالنص الخَفِيْ، يعني بالدليل الخفي والإشارة، فهذا هو الذي ذهب إليه الحسن البصري، فقال حينما سئل: هل كانت ولاية أبي بكر بالنص عليه؟
فقال (لقد كان أبو بكر الصديق اتقى لله من أن يَتَوَسَّدَ عليها) ، يعني الخلافة.
وذهب إلى هذا أيضاً جماعة من أهل الحديث بأنها ثبتت بالنص الخفي والإشارة والدليل، ويعنون بذلك ما أرشد إليه صلى الله عليه وسلم من تقديم أبي بكر في أمر الدنيا وفي أمر الدين في الصلاة وفي صحبته له وفي بيان فضله وعدم تقديم غيره عليه؛ يعني في الفضل.
3- القول الثالث: أنها ثبتت بالاختيار ويُعْنَى بذلك اختيار المسلمين له رضي الله عنه في سقيفة بني ساعدة، وإلا فعند هؤلاء لم يكن ثمََّ نص وإلا لاحتجوا به عند الخلاف.
وهذا ذهب إليه أيضاً كثير من أهل الحديث وطائفة من الحنابلة وهو رواية عن الإمام أحمد.
وهو مذهب المعتزلة الأشاعرة والماتريدية وأهل الكلام فإنَّهُم يرون أنها إنما ثبتت بالاختيار.
* والصحيح من هذه الأقوال هو القول الأول، وهو أنها ثبتت بالنص الجلي الذي لا يحتَمِلُ غَيْرَهُ.
ويدلّ على هذا عدد من الأدلة:
& الدليل الأول: هو أنَّ أبا بكر رضي الله عنه هو أفضل الأمة حين مات رسول الله صلى الله عليه وسلم، والصحابة جميعاً لم يكن أحد منهم يُقَدِّمُ أحداً من الصحابة على أبي بكر في الفضل.
ومعلومٌ أنَّ فضله رضي الله عنه كان بنص القرآن ونص السنة على تقديمه على غيره في الفضل وأنه اخْتُصَّ بالنبي صلى الله عليه وسلم في القرآن في قوله {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا} [التوبة:40] ، وفي قوله «هل أنتم تاركي لي صاحبي» (1) وفي قوله «لو اتخذت خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا» (2) وفي قوله «اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر» (3) -وهو دليل لمسألةٍ تأتي- ونحو ذلك من الأدلة التي فيها بيانُ فضله.
والمسلمون لمَّا مات النبي صلى الله عليه وسلم لم بكن أحدٌ منهم يُقَدِّم أحداً في الفضل في أبي بكر، ومعلومٌ أنَّ الإمامة تكون للأفضل.
والفضل له شُعَبْ منها الفضل في الدين، والفضل في العلم، والفضل في التقوى، ونحو ذلك، وكذلك أن يكون قرشياً في إمامة الاختيار وهذه كلها كانت موجودة في أبي بكر الصديق رضي الله عنه.
فالتنصيص على أنَّ أبا بكر هو أفضل هذه الأمة بمجموع أدلة كثيرة بالتنصيص على فضله وأنَّهُ أفضل وعلى اختصاصه بالنبي صلى الله عليه وسلم يدلُّ على أنَّ الأفضل هو الأحق بالخلافة.
هذا تنصيص على أنّ أبا بكر هو الذي توجد فيه شروط الخلافة.
& الدليل الثاني: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لمَّا مرض مرضه الأخير أمَرَ الناس أن يُقَدِّمُوا أبا بكر فقال «مروا أبا بكر فليصلي بالناس» (4) قد قال بعض الصحابة: إذا ارتضاه رسول الله لديننا أفلا نرتضيه لدنيانا. يعني أنَّ تقديمه في الإمامة الصغرى وهي إمامة الصلاة دليل؛ بل هي نَصٌّ على أنَّهُ هو الأحق بالتقدم في الإمامة العظمى.
__________
(1) البخاري (3661)
(2) سبق ذكره ص (99)
(3) الترمذي (3662) / ابن ماجه (97)
(4) البخاري (664) / مسلم (967)(1/636)
& الدليل الثالث: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم أمَرَ الصحابة أن يأتوا بكتابْ ليَكْتُبَ لهم، فقال «يأبى الله والمسلمون إلا أبا بكر» (1) ثم إنه لما دَعَا بذلك الكتاب قال «إيتوني بكتابٍ أعهد إليكم عهداً لا تختلفوا بعده» قال عمر رضي الله عنه (عندنا كتاب ربنا وما أظنُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا غلب عليه الوَجَعْ) (2) .
وهذا اجتهادٌ من عمر رضي الله عنه حمَلَهُ عليه أنَّهُ ظَنَّ أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم سيذكر غير أمر الخلافة، غير أمر الوِلاية؛ لأنَّ أمر الولاية الدليل عليه قام بأدلة كثيرة أخرى فلا تحتاج إلى عهدٍ مكتوبٍ خاص يعهد إليهم به، فخَشِيَ أن يقول شيئاً آخر ويكون ذلك فتنةً للناس لأنَّهُ صلى الله عليه وسلم في تلك الحال بشر، والناس قد لا يدركون كل شيء.
ولهذا النبي صلى الله عليه وسلم أراد الكتابة بالعهد لأبي بكر، وعمر رضي الله عنه مَنَعَ أو رَأَى -كما قال بعض أهل العلم- أنه لا يُجْلَبْ الكتاب لأنَّهُ إن كان تنصيصاً بالولاية فهذا مدلولٌ عليه بغيره.
وقال بعض العلماء: ولا يُحْمَلُ قول عمر رضي الله عنه على أنَّهُ ظَنَّ أنّ النبي صلى الله عليه وسلم سيكتب شيئاً آخر، ولكن نَظَرَ في أنَّ الأمر لم يكن على الإيجاب وإنما كان على باب الشفقة والرحمة لهم، وباب الشفقة الرحمة لهم قال هؤلاء لا تلزم فيه الاستجابة وخاصَّةً في مثل مرضه صلى الله عليه وسلم.
* والأول هو الأظهر في تحليل قول عمر رضي الله عنه.
& الدليل الرابع: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر» .
& الدليل الخامس: أنَّ امرأةً أتت إلى النبي صلى الله عليه وسلم في حاجة لها فوعدها موعدةً أخرى، فقالت كأنها تُشِيْرْ: إن لم أجدك -يعني بالموت- قال «إن لم تجديني فأتي أبا بكر» (3) .
والأدلة على هذا كثيرة متنوعة في أنَّ أبا بكر رضي الله عنه كان منصوصاً على استحقاقه للخلافة بعدة أدلة يُؤْخَذُ منها أنَّهُ نصٌ جلي لا يحتمل التأويل.
أما القول الثاني وهو من قال أنها ثبتت بالإشارة، فهذا فيه نظر؛ لأنَّ الإشارة هي الشيءٍ الخفي، وهذه الأدلة ظاهرة في الدلالة.
وأما من قال بالاختيار فلاشك أنَّ أبا بكر الصديق رضي الله عنه اختاره المسلمون؛ بل أَجْمَعَ عليه السلمون، وقد نقل الحاكم في المستدرك وصححه أنَّ علي بن أبا طالب ذكر إجماع المسلمين على خلافة وولاية أبا بكر (4) ، ونُقِلَ ذلك أيضاً عن طلحة بن عبيد الله وعن الشافعي وعن جماعة حَكَوا الإجماع على اختيار المسلمين لأبي بكر الصديق رضي الله عنه.
وثُبُوتُهَا بالاختيار هذا لاشك فيه لكنه ليس ثبوتاً مستقلاً بل هو تبعٌ لتنصيص النبي صلى الله عليه وسلم على أبي بكر في بيان فضله ومنزلته وأنَّهُ هو الأحق بالتقدم في أمر الدين وفي الإمامة العظمى.
__________
(1) مسلم (6332)
(2) البخاري (114) / مسلم (4322)
(3) البخاري (7360) / الترمذي (3676)
(4) المستدرك (4426)(1/637)
[المسألة الثانية] :
خلافة أبي بكرٍ الصديق رضي الله عنه وبيعة أبي بكرٍ الصديق تمت في سقيفة بني ساعدة في القصة المعروفة حيث اختلف المهاجرون والأنصار، ثم آل الأمر إلى أن يكون الخليفة من قريش لقوله صلى الله عليه وسلم «الأئمة من قريش الخلافة فيكم» (1) يعني في قريش ثُمَّ قُدِّمَ أبو بكر للأدلة التي ذكرنا، واجتمع المسلمون على بيعة لأبي بكر.
ومنهم من المسلمين مِنَ الصحابة مَنْ حصلت منه البيعة التي هي التزام لهذا الإمام ولهذا الخليفة بالمبايعة اللفظية دون المبايعة بصفقة اليد، وهذا كما حصل من علي رضي الله عنه ومِنْ طلحة بن عبيد الله، فإنهما -وهناك معهم آخرون- لم يبايعوا مباشرة بصفقة اليد وإنما بايعوا لمَّا بايع أهل الحل والعقد.
ومعلومٌ أنَّ المبايعة قسمان:
- بيعة لأهل الحل والعقد ومن استطاع من المسلمين أن يبايع بصفقة اليد والعهد.
- والبقية يبايعون بيعةً شرعية باللسان أو باعتقاد القلب بالتزام طاعة هذا الخليفة وهذا الإمام.
وعلي رضي الله عنه ومن معه قال طائفة: إنهم لم يبايعوا إلا بعد ستة أشهر أو بعد بضعة أشهر أو ثلاثة أشهر أو أكثر أو أقل وأنَّهُم لم يكونوا يرتضون تلك البيعة الأولى.
وهذا غلطْ كبيرْ بل عليٌ رضي الله عنه قد بايع ولكنه لم يَقْدَمْ على أبي بكر حتى تُوُفِّيَتْ فاطمة، وكذلك طلحة بن عبيد الله تأخر في إعطاء أبي بكر الصديق ثمرة القلب وصفقة اليد في البيعة.
وهذا التأخر له أسباب من أهمها:
1- السبب الأول: أنَّ علياً وطلحة من العشرة ومن المُقَدَّمِين وقد أُخِّرُوا أو لم يُدْعَوا أو لم يأتوا إلى الشورى -السقيفة- وفي اجتماع الأمر، فرأوا أنهم لمَّا لم يكن لهم الأمر في الشورى أنهم حينئذ ليسوا من أهل الحل والعقد فلا يلزم أن يستعجلوا في إعطاء البيعة بصفقة اليد.
2- السبب الثاني: أنَّ علياً رضي الله عنه رَاعَى فاطمة فيما كان في شأنها -إن صَحَّتْ الحكاية- فيما كان في نفسها في تأخير بعض الميراث، وأبو بكر رضي الله عنه أخَذَ بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - «إنا لا نُورَثْ ما تركناه صدقة» (2) وكان عليٌ رضي الله عنه يُراعي حال فاطمة لأنها بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان صلى الله عليه وسلم يقول في شأنها «إنما أنت بضعَةٌ مني يؤذيني ما يؤذيك» (3) ، فَتَأَخَّرَ عليٌ لسبب ليس براجع إلى أحقية أبي بكر بالخلافة ولا إلى أحقيته بالبيعة بل إلى مسألةٍ يرى أنَّهَا الأفضل في مراعاته لفاطمة أو لأنه لم يكن من أهل الشورى فلا تلزمه المبادرة مع حصول بيعته لأبي بكر، حيث ذكر هُوَ أنَّ المسلمين والصحابة أجمعوا على خلافة أبي بكر.
3- السبب الثالث: أَنَّ التأخر قد يحصل، والتأخر أو التقدم ليس أمراً قادحاً في استحقاق أبي بكر للخلافة ولا إلى إجماع الناس عليه؛ لأنَّ التأخر -كما ذكرتُ لك- مَرَدُّهُ إلى ترك الأفضل من البَيعتَينْ وهو بيعة اليد، فإذا حصلت البيعة الواجبة وهي بيعة الاعتقاد، بيعة الالتزام بمبايعة المسلمين وارتضائهم، حصل القصد الشرعي، والأمر الثاني يمكن أن يكون له أكثر من سبب فلا يُجعَلْ قادحاً لا من جهةٍ علمية ولا من جهة أيضاً عملية.
لهذا من نَقَلَ أَنَّ علياً رضي الله عنه أو طلحة أو نحو ذلك لم يكونوا يرتضون خلافة أبي بكر أو أنَّهُم جاملوا لمَّا رأوا الأمر استقر وأنَّ علياً كان الأحق ونحو ذلك، هذه كلها أقوال هي من أقوال أهل الرِّفْضْ والبدع الوخيمة.
ولا يصح في هذا شيء عن صحابي أصلاً في أنه يقدم نفسه لا في الفضل ولا في الخلافة على أبي بكر رضي الله عنه؛ بل المسلمون تبعٌ لأبي بكر رضي الله عنه وأرضاه.
__________
(1) البخاري (3501) / مسلم (4807)
(2) البخاري (4240) / مسلم (4679)
(3) البخاري (3714) / مسلم (6461)(1/638)
[المسألة الثالثة] :
خلافة أبو بكر الصديق طَعَنَ فيها الرّافضة، فلم يقتصروا على ذلك بل طعنوا في أبي بكر الصديق.
وطعنهم في الخلافة يريدون منها أنَّ أبا بكر وعمر اغتصبا الخلافة واغتصبا الولاية، وكان الأحق بها علي رضي الله عنه.
ويستدلون لذلك بقول النبي صلى الله عليه وسلم لِعَلِيٍ في حديث غدير قم المعروف أنه صلى الله عليه وسلم قال لِعَلِي «أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنَّهُ لا نبي بعدي» (1) ومنزلة هارون من موسى أنَّهُ قال له {اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ} [الأعراف:142] ، وهذا الحديث وقد رواه مسلم في الصحيح -حديث غدير قم المعروف- حديثٌ صحيح.
و «أنت مني بمنزلة هارون من موسى» لا تدُلُّ على استحقاقه للخلافة مُطْلَقَاً، وإنّما على استحقاقه للولاية في تلك السَّفرة التي سافرها النبي صلى الله عليه وسلم، فهو لمَّا ذهب فإنَّ علياً صار منه بتلك المثابة وطَمَّنَّ خاطره وشرح صدره بهذه المنزلة إذ لم يرافقه صلى الله عليه وسلم، وهذا شيءٌ مؤقت لا يدل على التقديم في كل حال [.....]
لمَّا حَجَّ أبو بكر بالناس عام تسعٍ من الهجرة كان هو أمير الحج، وعلي رضي الله عنه كان معه ليقرأ على الناس أول سورة براءة، {بَرَاءةٌ مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ (1) فَسِيحُواْ فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ} [براءة:1-2] الآيات.
وسبب إرسال علي رضي الله عنه مع أبي بكر أنَّهُ كان من عادة العرب أنها لا تقبل الأمر الجلل إلا من الرجل نفسه أو من ذي قرابَةٍ منه يقول بقوله، فَرِغِبَ صلى الله عليه وسلم في أن لا يحدث اختلاف في هذا الأمر وأن يُعْلِنْ البراءة من المشركين في أن لا يحج بعد العام مشرك، أن يُعْلِنَهَا أقرب الناس من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو علي ين أبي طالب ابن عمه وزوج بنته رضي الله عنه.
وهذا يدل على أنَّهُ كان مع أبي بكر تابعاً، وكان أبو بكر رضي الله عنه هو الأمير.
وما ذكروه من قوله «أنت مني بمنزلة هارون من موسى» إنما هذا في شيءٍ مؤقت لا يدل على منزلةٍ عامة.
ولهذا علي رضي الله عنه كان في الستة نفر الذين عهد إليهم عمر رضي الله عنه باختيار الخليفة، فكان من اختيارهم أن يختاروا عثمان رضي الله عنه خليفةً للمسلمين، ولهم في ذلك -يعني للرافضة في ذلك - أقوال في القدح من أبي بكر وفي القدح من عمر وعثمان معروفة عاملهم الله بما يستحقون.
[المسالة الرابعة] :
قال (تَفْضِيلًا لَهُ وَتَقْدِيمًا عَلَى جَمِيعِ الْأُمَّةِ) وهذا هو الذي ذكرت لك في أول الكلام من أنَّ تقديم أبي بكر لأجل تَفْضِيلِهِ، فهو الأفضل وهو المُقَدَّم، كذلك عمر هو الأفضل وهو المُقَدَّم، كذلك عثمان هو الأفضل وهو المُقَدَّم، ثم علي هو الأفضل وهو المُقَدَّم، رضي الله عنهم أجمعين.
فإثبات الخلافة فيها إثبات الفضيلة، وأيضاً المسألة تنعكس، إثبات فضل أبي بكر على جميع الأمة فيه إثبات الخلافة له رضي الله عنه وتقديم أبي بكر على جميع الأمة في الفضل هو تقديمٌ لأبي بكر على جميع الأمة في استحقاقه في الولاية والخلافة.
__________
(1) البخاري (3706) / مسلم (6370)(1/639)
قال بعدها (ثُمَّ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه)
____________________________________________
عمر بن الخطاب هو في الأفضل في هذه الأمة بعد أبي بكر الصديق وهو في الخلافة أيضاً هو الخليفة الثاني بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وخلافته بالإجماع ثبتت بالعهد من أبي بكر حيث إنَّ أبا بكر الصديق رضي الله عنه نَصَّ على عمر بالخلافة بعده.
لهذا لم يختلف المسلمون في أن يكون بعد أبي بكر عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
وفضائل عمر أكثر من أن تُحْصَرْ، ومناقبه كثيرة مبثوثة، وفي عهده رضي الله عنه اتسعت بلاد الإسلام وانتشر لواؤُهُ وكَثُرَ الداخِلُونَ في الدين، وأُرغمت أنوف الكفرة والمشركين وسار الصحابة والمسلمون إلى أمكنة بعيدة.
وكان في عهده يأخُذُ نفسه بالحزم والشدة على نفسه وعلى قرابته، حتى إنَّهُ قيل له في آخر أمره: ألا تعهد لعبد الله بن عمر بن الخطاب، فقال (يكفي أن يشقى بهذا الأمر واحدٌ من آل الخطاب) (1) .
وكان رضي الله عنه وهو عمر من أحزم الناس في أمر الوِلَايَة؛ بل كان أحزم هذه الأمة بعد أبي بكر الصديق في أمر الوِلاية.
ومع أنَّهُ كان متصفاً بالقوة والبأس والهيبة، وكان أبو بكر رضي الله عنه متصفاً بالرفقة والرّحمة والسعي في الحاجات عن قلبٍ رحيم، فإنَّ أبا بكر كان في الولاية أفضل منه وفي مقامه مقام أبي بكر في الوَلاية كان أفضل وأرفع من عمر رضي الله عنه في مقامه.
فأبو بكر الصديق رضي الله عنه هو الذي وقف في الردة ذلك الموقف العظيم الذي لم يثبت له عمر ولم يثبت له كثير من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين.
فولاية عمر بالاتفاق والإجماع من أهل السنة أنها ثبتت بالنص وثبتت بالعهد من أبي بكر، وأنه هو المستحق لها إلا خلاف الرافضة المعروف.
__________
(1) تاريخ الطبري (2/580)(1/640)
قال بعدها (ثُمَّ لِعُثْمَانَ رضي الله عنه)
___________________________________________
وعثمان رضي الله عنه وَلِيَ الخلافة بالاختيار، فَعُمَرْ لمَّا وَلِيَ الخلافة وَلِيَهَا بِعَهْدْ، ثم استمر، فلما قَرُبَتْ وفاته وشهادته رضي الله عنه قال (إنْ أَعْهَدْ فقد عَهِدَ أبو بكر، وإن أترك فقد ترك النبي صلى الله عليه وسلم) (1) ، وجعل الأمر شورى في الستة نفر فآل إليهم الأمر فاختاروا أفضلهم وأعظمهم صحبةً للنبي صلى الله عليه وسلم ومقامُ صدقٍ في الإسلام وهو عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه.
فخلافة عثمان ثبتت بالاتفاق ثبتت باختيار أهل الشورى الخاصِّينْ وهم الستة من العشرة - رضي الله عنهم -.
__________
(1) البخاري (7218) / مسلم (4817)(1/641)
(ثُمَّ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه)
___________________________________________
ونثبت الخلافة بعد عثمان لِعَلِيٍ رضي الله عنه، وعلي بن أبي طالب لم يُجْمِعْ عليه المسلمون في عهده لأنَّهُ -مع أنه الأحق من كل وجه من غيره- لأنه كان بعد مقتل عثمان، ومقتل عثمان سعى فيه المفسدون من الخوارج ونحوهم وأوغروا الصدور في هذا الشأن حتى وقع قَتْلْ عثمان، ثُمَّ وقع الخلاف بين الصحابة بسبب ذلك، فمعاوية رضي الله عنه في جهة وعلي رضي الله عنه في جهة، وطلحة والزبير وعائشة في جهة، وحدث من ذلك ما حدث.
فعلي رضي الله عنه خلافته ثابتة باختيار أهل الحل والعقد له في المدينة، فخلافته بالاختيار؛ ولأنَّهُ هو الأفضل من هذه الأمة بعد عثمان، وإذا كان هو الأفضل فهو الأحق بالولاية وهو الأحق بالخلافة.
لهذا كان الواجب على جميع المسلمين في وقته -يعني من الصحابة والتابعين- أن يعقدوا البيعة لِعَلِيٍ رضي الله عنه؛ لكن لم يجتمع الناس عليه وقضى في الخلافة رضي الله عنه سنين لم يكن السِّلْكُ فيها منتظماً ولا حبل الولاية فيها مستقيماً؛ بل كان زمن قتال وخلاف، وعلي رضي الله عنه لَقِيَ من الناس فيها الأمَرَّينْ.
لهذا خلافة علي -وإن لم تكن مُجْمَعَاً عليها- فهي ثابتةٌ بيعة أهل الحل والعقد له في المدينة، وأهل الحل والعقد هم الذين يُصارُ إليهم في مسائل البيعة، وبعدهم لا يجوز لأحدٍ أن يَتَخَلَّفْ لأنَّ انتظام تلك واجتماع الأمة هذا فرضٌ ومن الفرائض، إضافةً إلى أنَّ علياً هو الأفضل، وهو رضي الله عنه في مكانته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمكان الذي لا يخفى.(1/642)
قال بعدها (وَهُمُ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ وَالْأَئِمَّةُ الْمَهْدِيُّونَ.)
___________________________________________
كلمة (الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ) مأخوذة من حديث النبي صلى الله عليه وسلم في وصفهم بالرّاشدين في قوله مثلاً في حديث العرباض بن سارية «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها وعظوا عليها بالنواجذ» (1) ووَصْفُ الخلافة ووَصْفُ الرُّشْدْ ليس مُخْتَصَّاً بهؤلاء، فقد يكون بعدهم من يكون خليفةً، ويكون بعدهم من يكون راشداً.
لكنهم اتَّصَفُوا بِوَصْفٍ زائدٍ على الخلافة الراشدة في أنَّهُم على خلافةٍ راشدة على منهاج النبوة كما صَحَّ عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال «الخلافة ثلاثون سنة على منهاج النبوة ثم يكون ملكاً» (2) إلى آخره.
فهم الخلفاء الأربعة الذين شَهِد لهم النبي صلى الله عليه وسلم بالخلافة وبالرُّشْدْ.
وهاهنا مسائل.
__________
(1) سبق ذكره (5)
(2) المسند (18430) / المعجم الكبير (368)(1/643)
[المسألة الأولى] :
أَنَّ وصف الخليفة استمر بعدهم في وُلاةٍ بني أمية؛ لكنَّهُ مع تغير الاسم إلى أمير المؤمنين.
وهذا ابتدأ من عهد عمر رضي الله عنه لما قيل له: أنت (1)
: [[الشريط الخامس والأربعون]] :
(خليفة خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أنتم المؤمنون وأنا أميركم أو كما جاء عنه رضي الله عنه) (2)
وإلا فَهُمْ خلفاء، فيَصِحُّ أن يُقَال الخليفة عمر، الخليفة عثمان، والخليفة الراشد علي وهكذا؛ لكنه اقْتُصِرْ على أمير المؤمنين عمر وأمير المؤمنين عثمان وأمير المؤمنين علي، ثمَّ بعده أمير المؤمنين معاوية إلى آخره.
وهؤلاء خلفاء لقول النبي «لا يزال هذا الدين عزيزاً إلى اثنتي عشر خليفة» (3) وهذا يَدُلّ على دخول ملوك بني أمية مع اتِّصَافِهِم بالمُلْكْ باسم الخليفة؛ لأنَّ لفظ الخليفة ليس فيه مزيد فضل؛ ولكن معناه أنَّهُ الذي يخْلُفُ من قبله، وقد يكون يخلف بحسن، وقد يكون يخلف بغير ذلك.
لكن قال صلى الله عليه وسلم «لا يزال هذا الدين عزيزا إلى اثنتي عشر خليفة» وهذا يدل أيضاً على أنَّ ما بعد الاثني عشر خليفة يصح أن يُسَمَّوا خلفاء لكن لم يَخْتَصُّوا بهذا الاسم ولكن اخْتُصُّوا بألقاب أخرى، وربما أُطْلِقَ هذا اللقب.
__________
(1) نهاية الشريط الرابع والأربعين.
(2) تاريخ الطبري (2/569) / تاريخ الخلفاء (1/124)
(3) مسلم (4812)(1/644)
[المسألة الثانية] :
لو كان ثَمَّ خليفة خامس بعد الخلفاء الأربعة الذين اخْتُصُّوا باسم الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين، لو كان ثَمَّ من يستحق الخليفة الخامس فالذي يستحقه الصحابي الجليل معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه.
وهذا هو الذي عليه أهل السنة بخلاف قول طائفة من أهل البدع في عمر بن عبد العزيز رحمه الله إنَّهُ خامس الخلفاء الراشدين، أو الخليفة الخامس، أو الخليفة الراشد الخامس ونحو ذلك.
هذا ليس من أقوال أئمة أهل السنة؛ بل لو كان ثَمَّ خامس فالأحق به معاوية بن أبي سفيان فهو أفضل من عمر بن عبد العزيز بلا شك لأنَّهُ:
- اجتمع عليه الناس.
- وصار في مدته إغاظة للكافرين.
- ولأنه هو صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكاتب الوحي، وقد قال ابن مسعود (لَمُقام أحدهم ساعة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم خير من عبادة أحدكم كذا وكذا سنة) (1) .
والنبي صلى الله عليه وسلم قال «لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه» (2) ، وقد قال - عز وجل - أيضاً {لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [الحديد:10] .
وعمر بن عبد العزيز لاشك أنَّهُ دون معاوية ولم يحصل له في ولايته الانتشار، وإنَّمَا أرادَ أشياء في نشر السنة، وفي الجهاد وفي إحقاق الحق والعدل بين الناس، وإزالة المظالم؛ لكن لم يستقم له الأمر فما عاش في ولايته إلا أقل من سنتين او نحو السنتين، ثم بعدها قُبِضْ.
لهذا فلا يُقَدَّمْ أحد من التابعين على أحد من الصحابة - رضي الله عنهم -.
__________
(1) ابن ماجه (162)
(2) سبق ذكره (414)(1/645)
[المسألة الثالثة] :
الحسن بن علي رضي الله عنه ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وريحانة النبي صلى الله عليه وسلم، لما قُتِلَ علي بايعوه بالخلافة، فما استقام الأمر له، فأراد رضي الله عنه وأرضاه أن يحقن الدماء وأن يجمع كلمة المسلمين فتنازل بالخلافة والولاية إلى معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، وسُمِّيَ عام تنازله بعام الجماعة حيث اتفق المسلمون واجتمعوا، وهذا لشدّة ورعه وتقواه -أعني الحسن- فإنَّهُ هو الأحق بالأمر؛ لكن رأى أنَّ مصلحة العظمى للإسلام والمسلمين تقضي بأن يترك الأمر لمعاوية الصحابي.
وفي اختيار الحسن الخير والبركة وهكذا كان، فعاش المسلمون نحواً من عشرين سنة وهم في أمن وأمان وقوة على الأعداء ومَكَنَةٍ في أمر دينهم وفي أمر دنياهم.(1/646)
قال رحمه الله بعدها (وَإِنَّ الْعَشَرَةَ الَّذِينَ سَمَّاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَبَشَّرَهُمْ بِالْجَنَّةِ، نَشْهَدُ لَهُمْ بِالْجَنَّةِ عَلَى مَا شَهِدَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَقَوْلُهُ الْحَقُّ)
____________________________________________
هذا فيه تخصيص هؤلاء العشرة بالفضل وبالشهادة لهم بالجنة.
ودخل هذا في العقائد مخالفةً للرافضة وبعض الخوارج الذين يتبرؤون من أكثر هؤلاء العشرة، ويرون أنَّ لفظ العشرة لفظٌ مشؤوم، وأنَّهُ لا يصح الشهادة لهؤلاء بالجنة، ولا أن يُتَوَلَّوا، فصار من عقيدة أهل السنة مع توليهم لجميع الصحابة أن يُشْهَدَ لهؤلاء العشرة بالجنة وأن يُتَوَلَّوا بخصوصهم لمزيد فضلهم وسابقتهم وحبهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وجهادهم معه.
فأُدْخِلَتْ في العقيدة لأجل خلاف الرافضة في هذه المسألة وتَبَرُّئِهِم من أكثر العشرة ومن لفظ العشرة.
وفي هذه الجملة مسائل:(1/647)
[المسألة الأولى]
هؤلاء العشرة سمَّاهُم الطحاوي هنا: أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب رضي الله عنه، وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، وسعد بن أبي وقاص، وطلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوام، وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، وعبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنهم -.
وذكرت لكم مسألة قبل ذلك (1) وهي أنَّ هؤلاء العشرة قيل عنهم إنَّهُم المُبَشَّرُونَ بالجنة لا لأجل اختصاصهم بهذه الشهادة والبشارة بل النبي صلى الله عليه وسلم بَشَّرَ عدداً كبيراً من الصحابة بالجنة فبَشَّرَ بلال بالجنة، وبَشَّرَ خديجة بالجنة، وبَشَّرَ عائشة بالجنة، وبَشَّرَ عكاشة بن محصن بالجنة، وبَشَّرَ آخرين بالجنة، وإنما اخُتُصَّ هؤلاء لأنهم أفضل هذه الأمة؛ ولأنهم بُشِّرُوا بالجنة في مكانٍ واحد، في حديثٍ واحد، فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال «أبو بكر في الجنة، وعمر في الجنة، وعثمان في الجنة، وعلي في الجنة، وطلحة في الجنة، والزبير في الجنة، وسعد بن أبي وقاص في الجنة، وسعيد في الجنة، وأبو عبيدة في الجنة، وعبد الرحمن بن عوف في الجنة» أو كما جاء عنه صلى الله عليه وسلم، وجاء أيضاً في حديثٍ آخر أنَّهُ بَشَّرَهُم واحداً تلوى الآخر في دخولهم عليه في بستان فقال «أَدْخِلْهُ وبَشِّرْهُ بالجنة» لمَّا أَدْخَلَ أبا بكر، ثُمَّ دَخَلَ عمر فقال «أدخله وبشره بالجنة» ، ثُمَّ لما أتى عثمان قال «أدخله وبشره بالجنة على بلوى تصيبه» (2) ثُمَّ هكذا إلى آخره.
فالمقصود من ذلك أنَّ هؤلاء نُصَّ عليهم لمزيد فضلهم ولاختصاصهم بالنبي صلى الله عليه وسلم وكلّهم من المهاجرين.
__________
(1) انظر (626)
(2) البخاري (3693) / مسلم (6365)(1/648)
[المسألة الثانية] :
الرافضة -خذلهم الله- ومن شابههم يتبَرَؤُونَ مِنْ أفْضَلِ هذه الأمة وهم هؤلاء العشرة ما عدا بعض المذكورين، ويرون أنَّ لفظ العشرة من الألفاظ المنكرة التي ينبغي التبرُؤْ منها، فيكرهون لفظ العشرة لأجل وروده في العشرة المبشرين، ولأجل مقتل الحسين في اليوم العاشر من محرم ونحو ذلك مما يعتقدونه.
والواجب أنَّ المسلم يتولى من تَوَلَّاهُ النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي تولى هؤلاء، وهو الذي أشار إلى فضلهم وهو الذي بَشَّرَهُم بالجنة، فأيُّ خيبةٍ بعد ذلك على من عاداهم ولم يتولهم، فبِحُبِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ونُصْرَتِهِم له أحببناهم ونصرناهم ودافعنا عنهم.
فالذين يُبْغِضُونَ مَنْ أَحَبَّ النبي صلى الله عليه وسلم ومن شَهِدَ له بالجنة هم الحقيقون بأن يُبْغَضُوا.
وأهل السنة لكمال عدهم وأنَّهُم هم الوسط الذين شُهِدَ لهم بذلك في قوله {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة:143] ، فأهل السنة هم الوسط فهم يتولون من توَلَّاهُ النبي صلى الله عليه وسلم.
والفرق على اختلافها الخوارج والنّواصب والشيعة والرافضة يتولَّونَ بعضاً ويكرهون بعضاً؛ بل ربما كَفَّرُوا بعضاً وحكموا بالإيمان على بعض.
وهذا كله من الاعتداء والحكم على ما ليس لهم الحكم فيه.
لهذا الواجب على كل مسلم في أي مكانٍ كان من الأرض أن يُعْلِنَ موالاته لهؤلاء العشرة لأبي بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد وسعيد وعبد الرحمن بن عوف وأبو عبيدة، يعلن موالاته لهؤلاء لأنَّ موالاتهم من الدين.
ومن موالاتهم أيضاً الشهادة لهم بالجنة، ومن موالاتهم أن يُنْصَرُوا في موضعٍ يُنالْ منهم، ومن موالاتهم ومحبتهم أن يُجَاهِدَ المسلم في سبيل دفع الشُّبَه عنهم، الشُّبَه التي ربما يكون مَرَدُّهَا إلى الإثارات العلمية.
فطالب العلم يَحْسُنُ به؛ بل هذا من الجهاد أن يكون عالماً بما أُثير على أبي بكر الصديق وكيف أجاب أهل العلم عن ذلك لأنه قد يحتاج، ثُمَّ على عمر، ثُمَّ على عثمان، ثُمَّ على البقية كأبي عبيدة بن الجراح الذي يزعم الرافضة أنه كان متفقاً مع أبي بكر وعمر أن يلي الأمر بعدهما ولكنه مات قبل ذلك، وهذه دعوى يكذبون بها.
فالواجب إذاً أن يكون مقتضى المحبة والوَلَايَة أن يكون المؤمن عالماً بفضائلهم وأن يكون مدافعاً عنهم لأنَّ هؤلاء هم الصفوة، والله - عز وجل - يقول {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة:71] ، وقال صلى الله عليه وسلم «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا» (1) وقال «المسلم أخو المسلم لا يخذله ولا يحقره» (2)
يخذله متى؟
في موضعٍ يحتاج فيه إلى نُصْرَتِهِ، فإذا وقع الناس في عرض خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو في عرض عائشة الصديقة بنت الصديق، أو في عرض عمر أو في عثمان أو أبي عبيدة أو نحوهم، فإنَّ الواجب أن يُنْتَصَرَ لهم، والانتصار لهم من الانتصار للدين لأنه انتصار لمن شهد الله - عز وجل - له وشهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) البخاري (481) / مسلم (6750)
(2) مسلم (6706) / أبو داود (4882)(1/649)
[المسألة الثالثة] :
أنَّ قوله (نَشْهَدُ لَهُمْ بِالْجَنَّةِ عَلَى مَا شَهِدَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَقَوْلُهُ الْحَقُّ) فيه إشارة إلى المسالة التي مَرَّتْ معنا سالفاً وهي أنَّنَا أهْلَ السنة والجماعة لا نشهد لمعينٍ من أهل القبلة لا بجنةٍ ولا بنار إلا من شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فنشهد لهم بالجنة لا لأجل أنَّ لهم الفضائل السائرة وأنَّ لهم المنزلة بل لأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم شَهِدَ لهم بالجنة، فنشهد لشهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد ذكرت لكم (1) أنَّ أهل العلم في االشهادة بالجنة للمعين اختلفوا فيها على ثلاثة أقوال ذكرتها لكم سالفاً، ومنها:
أن يُشْهَدَ لمن استفاض عند الأمة الشهادة له بالخير والصلاح والتقوى؛ لأنَّ الله - عز وجل - وَعَدَ أهل الصلاح والخير والتقوى بالجنة، ووَعْدُهُ الحق، والأمة شُهُودُ الله - عز وجل - في الأرض كما جاء في الحديث الصحيح أنه لما مُرَّ بجنازة شَهِدُوا لها بالخير قال «وجبت» ثم مر بأخرى فأثنوا عليها شرا فقال «وجبت» ، قالوا: يا رسول الله، ما وجبت؟ قال «تلك أثنيتم عليها خيراً فوجبت لها الجنة، وهذه أثنيتم عليها شراً فوجبت لها النار أنتم شهداء الله في الأرض» (2) ، لهذا كان رواية عن الإمام أحمد واختيار ابن تيمية وجماعة أنه بالاستفاضة يُشْهَدْ.
وهؤلاء العشرة مع شهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم بالجنة فإنَّ الأمة أجمعت عليهم، فليس ثَمَّ في الأمة إلى وقْتِ خروج الخوارج إلَّا مَنْ يُحِبْ هؤلاء العشرة ويَتَوَلَّاهم ويَنْصُرُهُم؛ لأنهم الذين نصروا الدين.
فَكُلُّهُم ماتوا والأمة تشهد لهم بالخير والحق والصلاح ونُصْرَةْ النبي صلى الله عليه وسلم والجهاد معه.
__________
(1) انظر (459)
(2) سبق ذكره (459)(1/650)
قال بعدها (وَمَنْ أَحْسَنَ الْقَوْلَ فِي أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَزْوَاجِهِ الطَّاهِرَاتِ مِنْ كُلِّ دَنَسٍ، وَذُرِّيَّاتِهِ الْمُقَدَّسِينَ مِنْ كُلِّ رِجْسٍ؛ فَقَدْ بَرِئَ مِنَ النِّفَاقِ.)
__________________________________________
يريد بذلك أيضاً الردَّ على الروافض والزيدية والخوارج ومن شابههم في عدم تَوَلِّيهِم لجميع الصحابة ولجميع أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، وإنَّ من علامات الإيمان محبة الصحابة وزوجات النبي صلى الله عليه وسلم جميعاً، ومن علامات النفاق بُغْضْ بعض الصحابة وبغض بعض زوجات النبي صلى الله عليه وسلم، أو الوقيعة في بعض زوجاته صلى الله عليه وسلم.
تَمَيَّزَ أهل السنة وفارقوا طوائف من أهلٍ الفرق الضالة بأنهم يُحْسِنُونَ القول في الصحابة وفي الزوجات الطاهرات وفي ذرية النبي صلى الله عليه وسلم أعني ذرية الحسن والحسين وبقية أولاد علي - رضي الله عنهم - وأرضاهم.
ويندرج الكلام في مسائل:(1/651)
[المسألة الأولى] :
قوله (وَمَنْ أَحْسَنَ الْقَوْلَ فِي أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) يَعْنِي بإحسانْ القول هنا:
- ما يشملُ إحسان القول القلبي بما يُحَدِّثُ به المرء نفسه.
- وإحسان القول الكلامي، وهو ما يتكلم به المرء.
فمن لم يكن في نفسه شيءٌ على الصحابة والزَّوجات الطاهرات فقد بَرِئَ من النفاق.
ويُفْهَمُ من ذلك أنَّ من كان في نفسه شيء على بعض الصحابة أو لم يُحْسِنْ الظن أو لم يُحْسِنْ القول فيهم ظاهراً أو باطناً فإنه يُخْشَى عليه من النفاق بقدر ما فيه من الإساءة.
وهذا يدل على أنَّ الواجب على كل مسلم ومسلمة أن يكون اعتقادهم في صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الاعتقاد وأن يُثْنُوا عليهم بالجميل وأن يكِلُوا أمرهم إلى الله فيما اختلفوا فيه وأن يعلموا أنهم إنما اختلفوا في أمر لهم فيه اجتهاد وتأويل لأجل الدين.(1/652)
[المسألة الثانية] :
أزواج النبي صلى الله عليه وسلم الطاهرات تسع، ووَصَفَهُمْ هنا بأَنَّهُنَّ طاهرات.
ويعني بطاهرات: ما وَعَدَ الله - عز وجل - به أو ما وصفهم الله - عز وجل - به في قوله {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب:33] .
وتَطْهِيرْهنَّ وإِذْهَابْ الرجس يعني: أنَّهُنَّ مع بقية أهل البيت طاهرات مُطَهَّرات، فمن وَصَفَهُنَّ بغير الطهر وقذف بعض نساء النبي صلى الله عليه وسلم فإنه منافق وربما يكفر بقذفه أو بعدم تطهيره لهنّ.
والله - عز وجل - يقول {يَا نِسَاء النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاء} [الأحزاب:32] ، وهذا في التفسير معناه أنَّهُنَّ رضي الله عَنْهُنَّ لَسْنَ مثل بقية نساء المؤمنين؛ لأنهن زوجات النبي صلى الله عليه وسلم في الدنيا وزوجاته في الآخرة؛ ولأنهنَّ أيضاً أمهات المؤمنين وقال {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [الأحزاب:6] فأزواج النبي صلى الله عليه وسلم أمهات المؤمنين، وهذا يدلُّ على فضلِهِنَّ على كل مؤمن وعلى تطهيرهِنَّ كما في آية الأحزاب السابقة، وعلى أنَّ الواجب نحوهُنَّ الموالاة التامة وأنَّهُ لا يجوز أن يُعْتَقَدْ في واحدةٍ منهن بغير الكمال في أمر دينها بحسب ما وَسِعَه.
ومعنى أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ومعنى كون أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أُمَّهَات للمؤمنين أنَّهُنَّ بمنزلة الأمهات كما جاء في القراءة الأخرى أو في الحَرْفْ الآخَرْ {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَهُوَ أَبٌ لَهُمْ} يعني هو صلى الله عليه وسلم، فَهُنَّ أمهات المؤمنين في المنزلة وفي واجِبْ المحبة والتقدير وفي واجب النُّصْرَة وما يجب من الموالاة ونحو ذلك.
أما في المَحْرَمِيَّة فليس أفراد المؤمنين محارم لزوجات النبي صلى الله عليه وسلم؛ بل كان زوجات النبي صلى الله عليه وسلم يَحْتَجِبْنَ عن بقية المؤمنين، فهن أمهات المؤممنين في المكانة والمنزلة والفضل وليسوا أمهات في المَحْرَمِيَّة؛ لأنَّ المَحْرَمِيَّة أقسام ثلاثة، هذا القسم أحدها.(1/653)
[المسألة الثالثة] :
في قوله (وَذُرِّيَّاتِهِ الْمُقَدَّسِينَ مِنْ كُلِّ رِجْسٍ) يعني بكلمة (الْمُقَدَّسِينَ) المُطَهَّرِين لأنَّ التَّقْديس معناه التَّطهير، (الأرض المُقَدَّسة) يعني الأرض المُطَهَّرَة.
وهنا نَوَّعْ العبارة مع أنَّهُ لم يأت في الكتاب ولا في السنة وصف ذرية النبي صلى الله عليه وسلم بالقُدْسِيَة أو أنَّهُم مُقَدَّسُون وإنما استعمل ذلك في المعنى لثبوت المعنى وهو التطهير في قوله {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} .
لهذا قال بعدها (الْمُقَدَّسِينَ مِنْ كُلِّ رِجْسٍ) إلْماحاً للآية وأنَّهُ يريد بالتقديس هنا التطهير من كل رجسٍ الذي هو الإثم والعيب.
وذُرِّيَات النبي صلى الله عليه وسلم:
- منهم من انقطع النَّسْلْ وهم أولاده صلى الله عليه وسلم وأولاد بناته الذين انقَطَعَ نسلهم.
- ومنهم من بَقِيَ نسله إلى اليوم وهم الذين يُسَمَّونَ بآل البيت.
وآل البيت الموجود الآن في الغالب من ذرية الحسن بن علي بن أبي طالب، ومنهم القليل من ذرية الحسين بن علي بن أبي طالب.
ومن ينتَسِبُ إلى الحسين أو إلى الحسن، فإنَّهُ في الغالب عندهم صكوك نسبة يَسْرِدُونَ فيها النِّسَبْ إلى الحسن أو الحسين، يعني إلى علي بن أبي طالب وإلى فاطمة الزهراء.
وهذه النِّسَبْ سواءٌ اطّلع عليها المسلم أو لم يَطَّلِعْ عليها فإنَّ اعتقاده في جنس الذرية الذين طَهَّرَهُمْ الله - عز وجل - من الرجس، ولا يُنْسَبُ لِمُعَيَّنٍ من الذرية بأنَّهُ مُطَهَّرٌ من كل رجس.
يعني أنَّ المسلم يُحْسِنُ القول في ذرية النبي صلى الله عليه وسلم الذين شُهِدَ لهم بالتطهير من الأرجاس في الآية، وهذه شهادةٌ عامة وهي خاصَّةٌ بأهل ذاك الزمان، وما تَسَلْسَلَ الزمان ما بَقُوا على سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وإلا فإنَّ مِنَ المعلوم أنَّ القَرَابَة وحدها ليست بسببٍ كافٍ في نزع الآثام أو ثبوت التَّوَلِّي فقد يرتد القريب وقد يفْسُقْ وقد يكون كذا وكذا.
لكن من كان منهم صالحاً فله حق التقديم وله حق التبجيل وله حق الاحترام -يعني أعظم من غيره- لمكانِهِ من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يُبْحَثُ في مثل هذه المسائل في الأنساب؛ لأنَّهُ كما قال الإمام مالك رحمه الله (الناس مُؤْتَمَنُونَ على أنسابهم) (1) .
فلا يُبْحَثْ عن النَّسَبْ وإنَّمَا من كان صالحِاً فَيُصَدَّقُ بظاهره، ومعيار صِدْقِهِ المحافظة على سنة النبي صلى الله عليه وسلم في أصل الأصول وهو التوحيد والعقيدة ثُمَّ في البراءة من البدع ونحو ذلك.
قد صَحَّ عنه صلى الله عليه وسلم أيضاً أنَّهُ قال «ثنتان أمتي من أمر الجاهلية لا يدعونهن: الطعن في الأنساب والنياحة على الميت» (2) وهذا يحصل كثيراً الحقيقة في اختلاط بمن يَنْتَسِبُ إلى آل البيت لأنَّهُ قد يأتي آتٍ ويطعن في النَّسَبْ.
وهذا لا يجوز شرعاً أن يُخَاضَ في مسألة النَّسَبْ إلَّا من شاعَ وانتَشَرْ وظَهَرْ أنَّهُ مقدوحٌ في نَسَبِهِ فهذا أمر آخر، لكن يُشَكَّكْ في النسب فهذا أمرٌ لا يعني.
المقصود الاستقامة والناس مؤتمنون على أنسابهم، ومن لم يكن مستقيماً منهم فله الحق أن يُدْعَى له بالاستقامة والهداية ومغفرة الذّنب ونحو ذلك لأجل منزلته من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) كشف الخفاء (2690)
(2) البخاري (3850) / مسلم (236)(1/654)
[المسألة الرابعة] :
قوله في آخر الجملة (فَقَدْ بَرِئَ مِنَ النِّفَاقِ) يعني به ما يشمل: النفاق العملي والنفاق الاعتقادي، لأنَّ ضد إحسان القول في الصحابة والزوجات والذرية هو الإساءة في القول ظاهراً أو باطناً، وهذه الإساءة قد تكون من النفاق العملي وقد تكون من النفاق الاعتقادي بحسب الحال.
ومن طَعَنْ مثلاً في عائشة رضي الله عنه بما بَرَّأَهَا الله منه فإنَّ نفاقه حينئذٍ نفاق اعتقادي كما قال - عز وجل - في وصف المنافق {وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور:11] .
وقد يكون نفاقاً عملياً بحسب إساءة الظن؛ لأنَّ آية الإيمان حُبْ الصحابة، وآية النفاق بُغْضْ الصحابة، وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قال في الأنصار «آية الإيمان حب الأنصار وآية النفاق بغض الأنصار» (1) فإنَّ المهاجرين أفضل من حيث الجنس من الأنصار، فلهم الحق أعظم، كذلك زوجات النبي صلى الله عليه وسلم وعامة الصحابة لهم في ذلك المقام الأعظم.
لهذا نقول إنَّ النفاق العملي قد يدخل إلى القلب في الإساءة في القول أو في الظن في صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أو زوجاته أو ذرياته.
__________
(1) سبق ذكره (629)(1/655)
الأسئلة:
س1/ بعض أهل العلم يذكر في تعريف الصحابي من آمن بالرسول ورآه ومات على ذلك وإن تخلَّلَتْهُ رِدَّة، فَذَكَرْ وإن تَخَلَّلَتْ صُحْبَتُهُ رِدَّةْ.
ج/ هذه المسألة معروفة في تعريف الصحابي في مصطلح الحديث؛ ويَعْنِي هذا القيد وإن تخلَّلَتْهُ رِدَّةْ، لا داعي له، لأنَّهُ آمن بالرسول صلى الله عليه وسلم ورآه ومات على ذلك. فقوله وإن تخللته رِدَّةْ هذا لأجل خلاف من خالف في هذه المسألة؛ لكن قوله ومات على ذلك يكفي.
وإن تخلَّلَتْهُ رِدَّة لا تصلح للتعاريف على ما هو معروف في موطنه.
س2/ هل يصح أَنْ يقال إنَّ حسان بن ثابت رضي الله عنه جبان أو نحو ذلك كما ذكر ذلك ابن حجر في الإصابة، علماً أنَّ وصف الجبان وصفٌ ليس عامًّا وإنما هو لحادثة أو نحوه؟
ج/ ليس كذلك، بل حسان بن ثابت رضي الله عنه من الشُّجعان لأنَّهُ كان يهجو المشركين، وقد قال صلى الله عليه وسلم لحسان «أُهجهم حسان وروح القدس معك» (1) وقال أيضاً له في وصفه هجائه للمشركين «لَهُوَ أشدُّ عليهم من وقع النبل» (2) ، والعرب كانت تثأر ممن يهجو وتكيد له بالسوء، فحسان رضي الله عنه كان مِقداماً لكنَّهُ كان كبير السن جداً، فكان تَقَدَّمَ قبل النبوة قبل أن يسلم عليه ستون سنة، فأسلم وهو ابن ستين سنة، ولما جاءت المغازي كان كبيراً فربما تَأَخَّرَ لضعفه لا لأجل شيءٍ في نفسه رضي الله عنه.
فوصفه بهذا أولاً لا يجوز لأنه تَأَخَّرُه في بعض الوقعات لا لأجل ما ذكره هنا؛ ولكن لأسبابٍ أُخَر، وله له في ذلك مقام الصدق رضي الله عنه وأرضاه.
س3/ ما رأيكم في ولاية عبد الله بن الزبير وهل هي ولاية شرعية؟
ج/ القرن يبدأ من سنة الصفر أو من سنة الواحد، بداية القرن يعني سنة واحد أو من سنة صفر؟ يعني الآن لما أقول عشرة هذه تتمة إيش؟ تتمة العاشرة أو هو هي تبدأ من عندما السنة تبدأ تتناقص.
على كل حال هذا هروب من السؤال يعني.
س4/ هل لمن يَدَّعِي أنَّهُ مِنَ الأشراف حَقٌّ عَلَي وإذا كان من الفسقة هل يجب عليّ شيء تجاهه؟
ج/ لا، له حق المحبة لأنَّهُ من الأشراف أما من جهة الحقوق الأخرى فهي مُتَبَادَلَة كغيره من المسلمين، لكن له حق المحبة له حق التقديم، له حق المزيد من النصيحة.
والأشراف، الشرف المقصود به شرف النِّسْبَة يعني أنه مُنتَسِبْ إلى الآل، وفيه اصطلاح خاص، يعني كل واحد منتسب إلى على رضي الله عنه يقال من الأشراف.
لكن فيه اصطلاح خاص آخر وهو أن يُفَرَّقْ بين الأشراف والسّادة، يُقَال هذا من الأشراف وهذا من السادة.
يُعْنَى بالسَّادَة من لم يكن من بيت الأشراف الذين وَلُوا الإمارة في وقتٍ من الأوقات، ولوا الحكم في مكة ونحوها في وقت من الأوقات، يقال لهؤلاء السادة.
وسلسلة النسب الأخرى يقال هؤلاء الأشراف الذين وَلُوا الولاية والإمارة والملك.
هذا اصطلاح خاص، يقال هذا سيد وهذا شريف.
لكن المقصود أنَّ لفظ الشرف أو الأشراف المقصود به أنَّهُ من الآل ولا يُعْنَي به هذا المعنى الخاص أنه من أهل بيت الحكم السابق فهذا لا يُخَصُّونَ بشيء إنما هم مثل كل من انتسب إلى النبي، يعني إلى علي رضي الله عنه، لهم حق الذي لهم، ويُقَدَمُون إذا كان هم فضل وعلم ومزية وصلاح، أما إذا لم يكن لهم ذلك فلهم حقوق أخرى تُؤَدَّى ويُدْعَى لهم ويُنْصَحون ولهم في ذلك أكثر من غيرهم.
س5/ ما رأيك بمن يقول: لو كانت خلافة أبي بكر منصوصاً عليها لما اختلف الصحابة - رضي الله عنهم - في سقيفة بني ساعدة؟
ج/ أولاً دائما في الأسئلة لا تقول (رأيك فيمن) قل رأيك في قول كذا أحسن، يكون السؤال عن القول لا عن القائل، هذا أمر.
الأمر الآخر، العلم يختلف الناس فيه، يختلف الناس في استحضاره ويختلف الناس أيضاً في العلم به، وقد يكون عند فلان من الناس علماً لكنه في الموضع الفلاني ما استحضره ثُمَّ بعد ساعة قد يستحضر أكثر مما قال في الوقت ذلك، ثم قد يكون في وقت الخصومة ما فيه من ذهاب بعض ما يُسْتَحْضَرْ لكن الأمر صار إليهم وأجمعوا لما ذكّرهم في قوله (الأئمة من قريش) .
وهذا من حسن سياسة أبي بكر رضي الله عنه ومن حسن معالجته للأمور؛ لأنه لم يذكر هُوَ ولا من معه من المهاجرين لم يذكروا التنصيص على أبي بكر وإنما ذكروا التنصيص على قريش ليقطعوا بذلك دابِرْ تَمَسُّكْ الأنصار بالخلافة، وقال فيهم أبو بكر الكلمة الشهيرة (نحن الأمراء وأنتم الوزراء) (3) ، ثم لم يَختلفوا كثيراً إنما كانت بعض الأيام.
نكتفي بهذا القدر، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
__________
(1) المسند (18665) / ابن حبان (7146) / المستدرك (6062)
(2) قاله النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن رواحة، النسائي (2893)
(3) البخاري (3668)(1/656)
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه، أما بعد:
الأسئلة:
س1/ يقول كيف يُنَاظَرْ ويُجَادَلْ الروافض وهم لا يؤمنون بكتاب إلا بتحريف ولا بسنة إلا بتصحيف فعلى أي شيء نجادلهم وبأي شيء نُفْحِمُهُم؟
ج/ ينبغي للمجادل -يعني طالب العلم- أن ينظر في الكتب التي صُنِّفَتْ في الرد على الشيعة والزيدية والروافض؛ لأنَّ فيها من العلم ما يهيئ لطالب العلم تصور المسائل التي يختلف فيها أهل السنة مع تلك الطوائف وكيفية الرد.
وخلاصة الخلاف مع الشيعة أو مع الرافضة بالخصوص:
يرجع إلى خلافٍ في توحيد العبادة لأنهم يرون أنَّ لأئمتهم مقاماً يصلح معه أن يُسْأَلُوا وأن يُدْعَوا وأنْ يُسْتَغَاثَ بهم؛ بل بناء القباب على القبور والحج إلى المشاهد التي يسمونها مشاهد -يعني قبور الأولياء وما أشبه ذلك-، هذا راجعٌ إلى الشيعة الرافضة فإنهم هم أول من أحدث فتنة البناء على القبور وتعظيم ذلك وشد الرحال إليها.
توحيد العبادة ثَمَّ فرق بيننا وبينهم كبير؛ بل هم لا يُقِرُّونَ بتوحيد العبادة إلا على طريقتهم، فعندهم دعوة الأولياء ودعوة الأئمة الاثني عشر أو دعوة النبي صلى الله عليه وسلم وتعظيم القبور والمقابر وشد الرحل إليها والتوسل بها والاستغاثة بأصحابها لتفريج الكُرَبْ وفي طلب الخيرات هذا كله عندهم مشروع ومطلوب؛ بل هو الحج أو من الحج عندهم.
وأئمتهم -سيأتي بيان في هذا الدرس إن شاء الله- عندهم أَنَّهُم أبلغ وأرفع من الأنبياء مثل ما قال الخميني في كتابه الدولة الإسلامية يقول (ومن ضروريات مذهبنا أنَّ لأئمتنا مقاماً لا يبلغه ملك مقرب ولا نبي مرسل وأنهم كانوا قبل خلق هذا العالم أنواراً وجعلهم الله بعرشه مُحْدَثِين وجعل لهم من المنزلة والقربى ما لم يجعله لأحد من العالمين) .
وهذا يعني أنَّ فيهم من صفة الملائكة أو من نور الله أو ما أشبه ذلك وأَنَّهُم أرفع من الأنبياء، دعوة أولئك والاستغاثة بهم هذه مطلوبة، هذا في توحيد العبادة.
كذلك النبوة والوَلَاية هناك فرق، كذلك في مصدر التلقي الكتاب والسنة وما هو الكتاب وما هي السنة، في ذلك أيضاً هناك فرق، كذلك النظرة في مسائل العقيدة بعامة في الغيبيات والأسماء والصفات والقدر والإيمان ثَمَّ فروق كثيرة بين أهل السنة وبينهم.
وهذه تتطلبها من كتب أهل العلم التي صنفوها في بيان هذه المسائل مثل كتاب ابن تيمية منهاج السنة ومثل المنتقى للذهبي ومثل جواب أهل السنة للشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب وثَمَّ كتب كثيرة في هذا الباب.
س2/ من الذين يمثلون النّواصب وهل هم فقط الخوارج؟
ج/ النواصب هم الذين يناصبون العِدَاءْ للصحابة عقيدةً، فهؤلاء هم ضد الشيعة؛ يعني مَنْ مَدَحَهُ الشيعة هم يناصبونه، تجد أنَّهُم مَدَحُوا علياً فهم يناصبون علياً العداء ويتولون معاوية ويتولون يزيد بن معاوية ضد الحسين، وهكذا.
وهؤلاء ثَمَّ فِرَقْ ينتسبون إلى هذه المقالة مثل فرقة اليزيدية في العراق وفي سوريا ونحو ذلك من الفِرَقْ.
س3/ يدعو بعض الأئمة هذه الأيام يقول: يا غِيَاثَ المستغيثين، فهل اسم غِيَاثْ من أسماء الله تعالى؟
ج/ هذا الدعاء صَحَّحَهُ الإمام أحمد رحمه الله، وصَوَّبَهُ ابن تيمية في الفتاوى أيضاً وذلك لأنَّ الله - عز وجل - هو الذي يُغِيثْ {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ} [الأنفال:9] ، فمن استغاث بالله أغاثه، والاستغاثة نوع من الدعاء لأنها طلب الغوث الذي هو دعاء خاص ونداء خاص، فالله - عز وجل - يجيب المضطر إذا دعاه كما قال في سورة النمل {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ} [النمل:62] ، فهذا الدعاء مما صُحِّحْ، ومسألة النداء فيه يا غياث المستغيثين لا يلزم منه أن يكون اسم غياث من الأسماء الحسنى لأنَّ معناه ثابتٌ بطريقة أخرى وهذه يمكن الرجوع فيها كلام ابن تيمية.
س4/ من المعلوم أنَّ الاجتماع ونبذ الفرقة من أهم المقاصد الشرعية فما صِفَةْ الذين يجب علينا مراعاة هذا المقصد معهم وذلك أنَّ كثيراً من المبتدعة كالأشاعرة والرافضة وغيرهم لو أُنْكِرَ عليهم مذهبهم حصلت الفرقة فهل يسكت عليهم مراعاة لذلك المقصد الكبير؟(1/657)
ج/ هذه مسألة كبيرة يضيق عنها المقام؛ لكن المقصود الاجتماع: الإجتماع على الدين، والدعوة تكون إلى الدين الذي أمرنا الله - عز وجل - بالاجتماع عليه، وهو ما نزل به القرآن وصَحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم وكان عليه السلف الصالح، هذا هو الدين كما قال - عز وجل - {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ} [الشورى:13] الآية، وكذلك قوله - عز وجل - في سورة آل عمران {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ} [آل عمران:103] ، {وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ} [آل عمران:105] ، والآيات في هذا المعنى كثيرة وأوضحت لكم هذا مراراً.
فالدين الذي يجب الاجتماع عليه هو الدين الذي كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وكان عليه صحابته وكان عليه السلف الصالح، وأمَّا ما أحدثته الأمة من البدع في الاعتقاد أو البدع في العمليات والعبادات، فهذا لاشك أنه ليس الدين الأول هو شيء جديد، ولذلك صار فُرْقَةً وافتراقاً عما كانت عليه الجماعة الأولى، لهذا يجب أن يُحَافَظْ على ما كانت عليه الجماعة الأولى قبل أن تَفْسُدْ وتحدث الفِرْقَةْ والاختلاف، وهذا مما يجب الدعوة إليه بتثبيته، بتثبيت العقيدة في النفوس والدعوة إلى التوحيد والالتزام بالعمل الصالح، ونبذ الخلاف في هذه المسائل بتأصيل الأصول الشرعية في ملازمة الدليل وعدم الذهاب إلى العقليات.
من جهة ثانية الاجتماع والائتلاف يكون بالاجتماع على من ولَّاهُ الله - عز وجل - أمر المسلمين، فهذا الاجتماع مقصود في الشريعة أمَرَ به الله - عز وجل - وأمَرَ به النبي صلى الله عليه وسلم وحض عليه وأبدى فيه وأعاد كما يقول إمام الدعوة محمد بن عبد الوهاب في مسائل الجاهلية حتى غدا عند كثيرين هذا الأصل كأنه لم يكن فيه شيء من حديث النبي صلى الله عليه وسلم.
فالإجتماع نوعان إجتماع في الدين وإجتماع على ولي الأمر وعدم مخالفته ولزوم طاعته في المعروف، فإذا أمر بالمعصية فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
س5/ يوجد على كثير من السيارات تعليقات وخِرَقْ في مقدمتها ومؤخرتها، وأكثر هذه السيارات تَخُصُّ باكستانيين وأفغان، وتوضع هذه الخرق لدفع العين ولدفع الحوادث. فما توجيهكم للعمل على إزالتها وبالأخص أنَّهَا في بلد التوحيد؟
ج/ هذه الأشياء التي تُعَلَّقْ ربما تكون من التمائم، وربما لا تكون.
ولهذا ينبغي أن يُتَثَبَتْ من ذلك فإذا ثبت أنها تميمة عُلِّقَتْ مثل خيوط حمر أو أرنب على الزجاجة أو على خلف المقعد الخلفي يوضع رأس حيوان، أو وضع مصحف في الخلف خلف الناس قد أكلته الشمس من كُثُرْ ما أصابه منها وأشباه ذلك هذا ظاهر أنها من التمائم.
فإذا كانت من التمائم وجب مناصحة من هي معه، وإزالتها إن أمكن إزالتها بدون مفسدة.
ووجب أيضاً أن يقوم أهل الحسبة الأمر بالمعروف والنهي في هذه المسائل؛ لأنَّ الشرك هو أخبث ما يكون، هو التعلق بغير الله واعتقاد النفع والضر في هذه الخرق والأشرطة والحيوانات، وأنها تدفع العين أو تجلب الخير أو نحو ذلك، هذه من الاعتقادات الفاسدة، والنبي صلى الله عليه وسلم صَحَّ عنه أنَّهُ قال «إن الرقى والتمائم والتولة شرك» (1) وقال أيضا «من تعلق تميمة فقد أشرك» (2) و (تَعَلَّقْ) تشمل شيئين:
تشمل التعليق بنفسه وتَعَلُّقْ القلب.
فمن عَلَّقَ شيئاً وتَعَلَّقَ قلبه به فقد أشرك.
والقرآن على الصحيح لا يجوز أن يُسْتَخْدَمْ تميمة، لا من جهة وضعه في السيارات للحفظ أو لدفع العين، ولا أيضاً من جهة لبسه كتمثال مثل ما يباع أحيانا لبعض النساء ويُلْبَسْ، هذا كله من جهة التمائم، أو يجعل القرآن في خرقة وتُرْبَطْ أو يُعَلَّقْ هذا كله من حهة التمائم ويجب أن ينهى عن ذلك، وأن لا يتخذ القرآن تميمة لأنه داخل في العموم وصيانَةً لهم من استعماله في غير ما شرع الله - عز وجل -.
__________
(1) سبق ذكره (473)
(2) المسند (17458)(1/658)
وَعُلَمَاءُ السَّلَفِ مِنَ السَّابِقِينَ، وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ التَّابِعِينَ -أَهْلُ الْخَيْرِ وَالْأَثَرِ، وَأَهْلُ الْفِقْهِ وَالنَّظَرِ-، لَا يُذْكَرُونَ إِلَّا بِالْجَمِيلِ، وَمَنْ ذَكَرَهُمْ بِسُوءٍ فَهُوَ عَلَى غَيْرِ السَّبِيلِ.
__________________________________________
هذه الجملة من هذه العقيدة المباركة قَرَّرَ فيها الطحاوي منهج أهل السنة والجماعة في التعامل مع أهل العلم من أهل الأثر وأهل الفقه.
فإنهم كما قال (لَا يُذْكَرُونَ إِلَّا بِالْجَمِيلِ) لأنَّهُم نَقَلَةْ الشريعة ولأنهم المُفتون في مسائل الشريعة، ولأنهم المُبَيِّنُون للناس معنى كلام الله - عز وجل - في كتابه ومعنى حديث النبي صلى الله عليه وسلم، وهم الذين يدفعون عن الدين ويذبُّونَ عنه بتثبيت العقيدة الصحيحة وتثبيت سنة النبي صلى الله عليه وسلم ورد الموضوعات والأحاديث المنكرة والباطلة التي أضيفت للنبي صلى الله عليه وسلم.
فهم إذاً حُمَاةُ الشريعة -الحماية العلمية-، ولهذا كان العلماء ورَثَةَ الأنبياء؛ لأنَّ الأنبياء لم يُوَرِّثُوا دينارا ولا درهما وإنما وَرَّثُوا العلم، والذين حَمَى العلم هم الصحابة رضوان الله عليهم، وهم التابعون من علماء السلف وعلماء تابعي التابعين من أهل الحديث ومن أهل الفقه.
فهؤلاء منهج أهل السنة والجماعة أن يُذْكَرَ الجميع بالجميل، وأن لا نقع في عالمٍ من العلماء لا من أهل الحديث ولا من أهل الفقه، بل يُذْكَرُونَ بالجميل ولا يُذْكَرُونَ بسوء، وإنما يُرْجَى لهم فيما أخطؤوا فيه أنهم إنِّمَا اجتهدوا ورَجَوا الأجر والثواب والخطأ لا يُتَابَعُ عليه صاحبه.
وهذا الأصل ذكره الطحاوي في هذا المقام لأجل أنَّ طائفةً من غلاة أهل الحديث في ذاك الزمن كانوا يقعون في أهل الفقه، وطائفة من غلاة أهل الفقه كانوا يقعون في أهل الحديث ويصفونهم بالجمود.
وأهل السنة الذين تحققوا بالكتاب وبسنة النبي صلى الله عليه وسلم وبهدي الصحابة يعلمون أنَّ الجميع مُحْسِنْ، وأنَّ هؤلاء وهؤلاء ما أرادوا إلا نصرة الشريعة والحفاظ على العلم والفقه.
نعم هم درجات في مقامهم وفي علمهم، لكنَّهُم لا يُذْكَرُونَ إلا بالجميل، والله - عز وجل - سَخَّرَ هؤلاء لشيء وسَخَّرْ هؤلاء لشيء، والوسط هو سِمَةُ أهل الاعتدال وسِمَةُ أهل السنة والجماعة كما كان عليه الإمام أحمد والبخاري ومسلم والشافعي ومالك وأبي حنيفة وجماعات أهل العلم فإنهم كانوا على هذا السبيل.
ونذكر هاهنا مسائل:(1/659)
[المسألة الأولى] :
أنَّ ذِكر العلماء بالجميل وعدم ذكرهم بأي سوءٍ أو قدح هذا امتثال لأمرين:
1- الأمر الأول: امتثال لقول الله - عز وجل - {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة:71] ، ولقوله {يَرْفَع اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة:11] ، ولقوله - عز وجل - {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء:83] ، فَبَيَّنَ الله - عز وجل - منزلة أهل العلم وبَيَّنَ فضل العلم وفضل أهله وأنهم مرفُوعون عن سائر المؤمنين درجات لِمَا عندهم من العلم بالله - عز وجل -.
وبَيَّنَ أنَّ المؤمن للؤمن مُوالي، أنَّ المؤمن يُوالي المؤمن، ومعنى هذه الموالاة في قوله {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة:71] ، هي من الوَلَاية وهي المحبة والنُّصْرَة.
وهذه المحبة والنُّصْرَة عند أهل السنة والجماعة تتفاضل بتفاضل تحقق وصف الإيمان.
فالمؤمن يحب ويوالي المؤمن الآخر إذا كان كامل الإيمان أكثر من نُصْرَتِهِ ومحبته لمن كان دونه.
ومعلومٌ أنَّ العلماء هم الذين أثنى الله - عز وجل - عليهم وأثنى عليهم رسوله صلى الله عليه وسلم، فواجبٌ إذاً بنص الآية أن يُوَالَوا وأن يُذْكَرُوا بالجميل وأن يُحَبُّوا وأن يُنْصَرُوا وأن لا يُذْكَرُوا بغير الحَسَنِ والجميل.
2- الأمر الثاني: أنَّ القدح في أهل العلم فيما أخطؤوا فيه -وسيأتي مسألة مستقلة لذلك إن شاء الله- أنَّ القدح فيهم يرجع في الحقيقة عند العامة إلى قَدْحٍ في حَمَلَةِ الشريعة ونَقَلَةِ الشريعة وبالتالي فيضعف في النفوس محبة الشّرع؛ لأنَّ أهل العلم حينئذٍ في النفوس ليسوا على مقامٍ رفيع وليسوا على منزلةٍ رفيعة في النفوس.
فحينئذ يُشَكْ فيما ينقلونه من الدين وفيما يحفظون به الشريعة، فتؤول الأمور حينئذ إلى الأهواء والآراء فلا يكون ثَمَّ مرجعية إلى أهل العلم فيما أشكل على الناس فَتَتَفَصَّمْ عرى الإيمان وتتناثر [.....] اليقين.
لهذا كان ذِكْرُ العلماء بسوء هو من جنس ذكر الصحابة بسوء، ولهذا أتْبَعَ الطحاوي ذكر الصحابة بذكر العلماء، يعني لمَّا فَرَغَ من ذِكْرِ الصحابة ذَكَرَ العلماء؛ لأنَّ القدح في الصحابة والقدح في العلماء منشؤه واحد ونهايته واحدة، فإنَّ القدح في الصحابة طعنٌ في الدين، والقدح في العلماء المستقيمين، العلماء الربانيين فيما أخطؤوا فيه أو فيما اجتهدوا فيه هذا أيضاً يرجع إلى القدح في الدين، فالباب بابٌ واحد.(1/660)
[المسألة الثانية] :
لا يُشْتَرَطُ في العالم أنْ لا يُخْطِئ، فعلماء الحديث والأثر وأهل الفقه والنظر ربما حصل منهم أغلاط لأنَّهُم غير معصومين، وهذه الأغلاط التي قد تحصل منهم حُصُولها من نِعَمِ الله - عز وجل -.
ولمَّا سُئِلَ بعض الأئمة عن غلط العالم؛ كيف يغلط العالم، كيف يخالف السنة، كيف يكون في سلوكه مُقَصِّرْ، كيف يغيب عن ذهبنه في مسألة التدقيق ويتساهل؟
فقال (لئلا يُشَابِهْ العلماء الأنبياء) ، لأنَّ النبي هو الذي لا ينطق عن الهوى، هو الذي يصيب في كل شيء وهو الذي يُتَّبَعْ في كل شيء، فإذا كان العالم على صوابٍ كثير وربما وقع في اجتهاد هو عليه مأجور ولكنه أخطأ في ذلك، لم يكن عند الناس رَفْعْ لعالم في منزلة النبي فَيُتَّبَعْ على كل شيء، فيحصل في النفوس التوحيد والبحث عن الحق من الكتاب والسنة والنظر فيما يُبَرِّئْ الذمة في ذلك.
وهذه عبوديات في القلب يسلكها الناس مع وجود هذا الخلاف بين أهل العلم.
ولهذا إذا نظرت في هؤلاء الذين عَنَاهُمْ الطحاوي (أهل الخير والأثر وأهل الفقه والنظر) هو عَنَى بهم أوَّلِيًّا الأئمة الأربعة:
- أبو حنيفة: وهو من أهل الفقه والنظر ليس هو من أهل الحديث والأثر.
- والإمام مالك والشافعي وأحمد: وهؤلاء هم أئمة أهل الحديث كما أنهم أئمة أهل الفقه في المذاهب المتبوعة المعروفة.
هؤلاء بينهم خلاف في مذاهبهم، أبو حنيفة يذهب إلى قول، مالك يذهب إلى قول، الشافعي يذهب إلى قول، الإمام أحمد يذهب إلى قول.
هؤلاء منهم من يكون قوله هو الصواب، ومنهم من يكون قوله خلاف الأولى، أو يكون قوله مرجوحاً وهكذا.
فالعالم يُدَقِّقْ ويَتَحَرَّى من الأقوال ولا يُقَلِّدُ عالماً في كل ما قال؛ لأنَّ المسائل كثيرة جداً وهو بشر فقد يتهيأ له في المسألة أَنْ يُدَقِّقْ وفي مسألة أخرى لا يدقق وهكذا.
لهذا وجب على أهل الإيمان أنْ يَتَوَلَّوا جميع العلماء وأن يذكروهم بخير وأن لا يذكروا أحداً منهم بسوء، وخلافهم فيما اختلفوا فيه راجعٌ إلى أسباب يأتي ذكرها إن شاء الله.
فليس منهم أحد أراد المخالفة وإنما كلهم أراد المتابعة وتَحَرِّيْ الحق ولكن ربما أصاب وربما لم يصب.(1/661)
[المسألة الثالثة] :
قوله في أول الكلام (وَعُلَمَاءُ السَّلَفِ مِنَ السَّابِقِينَ) الطحاوي رحمه الله توفي أول القرن الرابع الهجري وعاش أكثر حياته في القرن الثالث، ويَعْنِي بعلماء السلف السابقين من كان سلفاً له؛ يعني من سَبَقَه من أهل العلم، وهذا يَصِحُّ أن يُعْتَبَرَ سلفاً باعتبار.
فكلمة السلف أو علماء السلف إذا أطلقت فلها اصطلاحان:
1- الإصطلاح الأول: تُطْلَق ويرادُ بها من سَلَفَ العَالِمْ ومن سَبَقَه.
وهذا الإطلاق فيه سَعَة، ولهذا استعملها أناس في القرن الرابع وفي القرن الخامس وفي السادس، إلخ.. ويعنون بالسلف من سبقهم؛ لأنهم كانوا سَلَفَاً لهم، يعني كانوا سابقين لهم.
2- الاصطلاح الثاني: وهو المعتمد عند المحققين أنَّ كلمة علماء السلف يُعْنَى بها علماء القرون الثلاثة المفضلة من الصحابة والتابعين وتبع التابعين، ومن كان من الأئمة على هذا النحو وإن لم يكن من تبع التابعين.
فهؤلاء هم الذين شَهِدَ لهم النبي صلى الله عليه وسلم بالخيرية «خير الناس قرني ثم الذي يلونهم ثم الذين يلونهم» (1) قال الراوي (فلا أدري أذَكَرَ بعد قرنه ثلاثة قرون أو أربعة قرون) .
والقرن هنا المراد به الجيل من الناس وليس القرن الزمني الذي هو مائة سنة.
(قرني) يعني الذين اقْتَرَنْ زمانهم بي، وهم الجيل من الناس، انقضى الصحابة أتى التابعون، انقضى التابعون أتى تبع التابعين وهكذا.
وهؤلاء هم الذين قَلَّت فيهم البدع وقَلَّ فيهم الخلاف للسنة، وكثر فيهم الخير بشهادة النبي صلى الله عليه وسلم وبشهادة الواقع أيضاً.
فإذاً كلمة السلف، علماء السلف يُعْنَى بها وقد تطلق على من سلف، وسبق على ما ذكرت لك من الإصطلاح الخاص.
__________
(1) سبق ذكره (624)(1/662)
[المسألة الرابعة] :
الطحاوي في هذه الجملة قَسَمَ العلماء إلى قسمين، قالَ (أَهْلُ الْخَيْرِ وَالْأَثَرِ، وَأَهْلُ الْفِقْهِ وَالنَّظَرِ) فجعل العلماء على فئتين:
- الفئة الأولى: أهل الأثر.
- والفئة الثانية: أهل الفقه والنظر.
@ وأهل الأثر: هم الذين اعتنوا بالحديث روايَةً ودراية، -الدراية يعني بها الفقه-، ويدخل فيهم الإمام مالك والشافعي وأحمد وإسحاق وابن جرير وجماعات على هذا النحو.
@ وأهل الفقه والنظر هم الذين غَلَّبُوا القواعد المستنبطة الكلية على السُّنَنْ المروية، وهم أصحاب الرأي والنظر في مدرستيه الكبيرتين:
& في المدينة التي كان يتزعمها الإمام ربيعة المشهور بربيعة الرأي.
& وفي الكوفة التي كان يتزعمها الإمام أبو حنيفة النعمان بن ثابت رحمهم الله تعالى أجمعين.
أهل الفقه والنظر يعتنون بالسنة؛ ولكن عنايتهم بالسنة قليل، وأهل الحديث والأثر يعتنون بالنظر لكن عنايتهم بالأقيسة وبالتَّقْعِيد قليلة.
ولهذا صار هناك في الأمة في الاجتهاد صارت هناك مدرستان:
- مدرسة أهل الحديث والأثر.…
- ومدرسة أهل النظر.
ولا تُقَابِلْ بين أهل الحديث وأهل الفقه؛ لأنَّ هذه المقابلة لا حقيقة لها.
وإنما المُقَابَلَة بين أهل الحديث والأثر وبين أهل الفقه والنظر.
وكلمة النظر أرادها الطحاوي لأنَّ الجميع موصوفون بالفقه وبالعناية به يعني استنباط الأحكام من الأدلة؛ لكن من جهة النظر والقياس والعقليات والقواعد هذه اعتنى بها الحنفية وأهل الرأي ولم يعتنِ بها أهل الحديث والأثر، وإنما اعتنوا باستخراج الفقه من الأدلة بدون تحكيمٍ للأقيسة على الدليل.
مثاله: مثلاً عند الحنفية -أهل النظر- الحديث المرسل أقوى من المسند، فإذا اجتمع حديثان: مُرْسَلٌ ومُسْنَدْ حُكِمَ في الفقه بالمرسل ولم يُحْكَمْ بالمسند، لماذا؟
لدليلٍ عقلي عندهم، وهو أنَّ المُرْسِلْ من أهل الفقه من علماء التابعين لا ينسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً إلا وهو متحققٌ به لأنَّهُ من أهل الفقه، وأمَّا الروايات المُجَرَّدَة فإنها يدخلها الغلط ويدخلها ما يدخلها.
ولاشك أنَّ هذا تعليل عقلي ولكنه ليس بمنطقي.
أيضاً ينظرون إلى القواعد أنَّهَا قطعية والأدلة غير المتواترة أنها ظنية فيقولون:
إذا صار هناك قاعدة أو قياس كلي فإنه يكون قطعياً في الدلالة على محتواه، وأما الدليل فيكون ظنياً: إما ظَنِّيْ الرواية -يعني إذا كان من السنة-، وإما أن يكون ظَنِّيْ الدلالة، أيضاً غير قطعي الدلالة من الكتاب أو من السنة.
فَيُحْكَمْ بالقاعدة ويُصْرَفْ ظاهر الدليل لأجل أنَّهُ يحتمل الظن والقاعدة قطعية.
ونحو ذلك من الخلاف المؤَسَّسْ على مشارب شتى.
ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية وذكره شارح الطحاوية وجماعة (إنَّ العلماء فيما اختلفوا فيه من عدم الأخذ بالدليل من الكتاب والسنة يمكن أن يرجع إلى عدة أسباب) ، ومن أهم هذه الأسباب.
- أولا: أنْ لا يثبت عند الإمام صحة الدليل.
- الثاني: أن يكون منسوخا أو مُؤَوَّلاً.
- الثالث: أن يكون مُعَارَضَاً بما هو أقوى عند الإمام من ذلك الدليل، إمَّا مُعَارَضْ بدليلٍ آخر وإما مُعَارَضْ بقاعدة كما عند الحنفية.
- الرابع: أن يكون للإمام هذا شرط في الرواية ليس هو شرط الإمام الآخر في الحديث.
مثلاً عندك الإمام الشافعي يقول حدثني الثقة ويعني به إبراهيم بن أبي يحيى، فإذا عَرَفْ الإمام أحمد أو غيره أَنَّ الرواية عن إبراهيم بن أبي يحيى هو عندهم ليس بثقة بل هو بضعيف بل ربما كان أدنى من ذلك مما اتُّهِمْ به بالكذب ونحو ذلك.
فهو عند إمام ثقة فيما يرويه يأخذ بروايته، وعند آخر ليس بشيء فلا يأخذ بروايته.
وهذا يُبَيِّنُ لك أنَّ اختلاف الأئمة من أهل الفقه والنظر وأهل الحديث والفقه والأثر في ذلك اختلاف ليس راجعاً إلى عدم الأخذ بالدليل؛ ولكنه راجع إلى فهم الدليل، وما هو الدليل الذي يُسْتَدَلُ به وكون الدليل راجحاً غير مرجوح.
ولهذا لا يوجد في مسألة أن يقال: ليس للعالم هذا دليل. (1)
: [[الشريط السادس والأربعون]] :
أنا لا أعلم مسألة يقال ليس للإمام أبي حنيفة فيها دليل أو ليس للإمام أحمد فيها دليل أو ليس للإمام مالك فيها دليل، كلٌ منهم لا يقول قولاً ولا يذهب إلى مذهب إلا بدليل.
والأدلة أعم من النصوص من الكتاب والسنة لأن جِمَاعْ الأدلة عند أهل الأصول يرجع إلى ثلاثة عشرة دليلاً وتصير بالتفريق كما ذكره أهل الأصول وذكره القرافي في الفروق إلى عشرين دليلاً.
فهذه الأدلة منها ما هو مُتَّفَقٌ على الاستدلال به ومنها ما هو مُخْتَلَفٌ في الاستدلال به، فقد يكون الدليل دليلاً عند الإمام مالك وليس دليلاً عند الإمام أحمد مثل عمل أهل المدينة، وقد يكون الدليل مرعياً عند أبي حنيفة وهو قاعدة ولا يكون مرعياً عند الشافعي بورود دليلٍ من السنة في خلاف ذلك وهكذا.
فإذاً مأخذ العلماء اجتهادي، وواجبٌ حينئِذْ إذْ كانت هذه مآخذهم أن لا يُذْكَرُوا إلا بالجميل، وأن لا يُذْكَرْ العالم حتى فيما أخطأ فيه وابتعد في الخطأ حتى إباحة المالكية لأكل لحم الكلب وحتى في إباحة الحنفية لشرب النبيذ يعني غير المُسْكِرْ لا يُشَنَّعْ عليهم في ذلك لأنها اجتهادات فيما اجتهدوا فيه.
__________
(1) نهاية الشريط الخامس والأربعون.(1/663)
[المسألة الخامسة] :
الواجب على طلبة العلم الذين يريدون أن يسلُكُوا هذا السبيل أن يُلْزِمُوا أنفسهم مع أهل العلم السابقين والأئمة الذين أشادوا للدين بنياناً وللعلم أركاناً، واجبٌ عليهم أن يدافعوا عنهم وأن يُثْنُوا عليهم وأن ينشروا في الناس سيرتهم حتى يُقْتَدَى بهم وحتى يقوى ركن علماء الشريعة.
وهكذا أيضاً واجبٌ على طلاب العلم أن لا يقعوا في أحدٍ من العلماء بسوء، فمن أصاب من أهل العلم من أهل الحديث والأثر أو من أهل الفقه والنظر فقد أحسن ويُثْنَى عليه ويُتَابَعْ فيما أصاب فيه، ومن أخطا فأيضاً قد أحسن إذ اجتهد؛ لكن الصواب من الله تعالى.
وهذا لا يدخل في العلماء الذين نشروا الشّرك والبدع والخرافات ولم يكن لهم حظ لا من الحديث والأثر ولا من الفقه والنظر، وإنما سَخَّرُوا جهدهم في مخالفة السنة في البدع، فأرادوا نشر البدعة ونشر الخرافة ودافعوا عن الشرك وعَلَّقُوا الناس بالموتى وعَلَّقُوا الناس بالبدع والاحتفالات وأشباه ذلك.
فهؤلاء لا يدخلون في هذا الكلام الذي ذكره؛ لأنهم أرادوا ما خالفوا به إجماع الأئمة الأربعة.
هؤلاء يُرَدْ عليهم وربما يُحتَاج من باب التعزير إلى ذكرهم بما فيهم حتى يحذرهم الناس.
* تنبيه أخير: إلى أنَّ قول الطحاوي في أول الكلام (وَعُلَمَاءُ السَّلَفِ مِنَ السَّابِقِينَ) قال بعدها (وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ التَّابِعِينَ) ، كلمة (وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ التَّابِعِينَ) فيما أفهم أنه لا يريد بها التابعين عند أهل الاصطلاح؛ يعني التابعين الذين صحبوا الصحابة، وإنما يريد بهم من تبع علماء السلف على اصطلاحه؛ لأنَّ التابعين ما فيهم هذا التقسيم أهل الحديث وأهل النظر، التابعون والصحابة ما فيهم هذا التقسيم أهل الحديث وأهل النظر إنما هذا التقسيم فيمن بعدهم.(1/664)
قال بعدها رحمه الله (وَلَا نُفَضِّلُ أَحَدًا مِنَ الْأَوْلِيَاءِ عَلَى أَحَدٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَام، وَنَقُولُ: نَبِيٌّ وَاحِدٌ أَفْضَلُ مِنْ جَمِيعِ الْأَوْلِيَاءِ)
___________________________________________
يريد العلاّمة الطحاوي في هذا أن يُقَرِّرَ عقيدةً عظيمة وهي أنَّ أفضل الناس هم الأنبياء، وأنَّ النبي أفضل من جميع الأولياء، وأنَّ أهل السنة والأثر والجماعة هؤلاء لا يُفَضِّلُونَ ولياً على نبي؛ بل كل نبيٍ أفضل من جميع الأولياء.
وأدْخَلَهَا في العقيدة مع أنها مسألة تفضيل لِصِلَتِهَا بالنبوة وبالوَلاية؛ ولأنَّهُ ظهر في عصره طائفة ممن زعموا أنَّ الولي قد يبلغ مرتبةً أعظم من مرتبة النبي.
وهذه الطائفة التي تُفَضِّلُ الأولياء على الأنبياء تشمل فئتين كبيرتين:
1- الفئة الأولى: الباطنية في زمنه من إخوان الصَفَا والإسماعيلية ومن شايعهم، وكذلك ربما دخل فيها طائفة من أهل الرفض والتشيع، فإنهم يُفَضِّلُونَ بعض الأولياء على بعض الأنبياء.
2- الفئة الثانية: هم غلاة المتصوفة في ذلك الزمن الذين تَزَعَّمَهُم الحكيم الترمذي، محمد بن علي بن حسن الترمذي في كتابٍ سَمَّاهُ (خَتْمْ الوَلَاية) كما سيأتي بيانه.
فأراد أن يُبَيِّنْ أهل العقيدة الصحيحة لهذه الطائفة ولهذه الفئات جميعاً وأنَّنَا نعتقد أنَّ الولي مهما بلغ من الصلاح والطاعة فإنَّه حسنة من حسنات النبي الذي تَبِعَهُ، فإنَّمَا علا مقداره وظهر شأنه في متابعته للنبي لا باستقلاله، على الأنبياء جميعاً صلوات الله وسلامه.
ونذكر هنا مسائل.(1/665)
[المسألة الأولى] :
تفضيل الأولياء على الأنبياء هذا نَشَأْ مع عقيدة عند المتصوِّفَة ومن شابههم -يعني غلاة المتصوفة- وهي ما أسموه بِخَتْمِ الوَلَاية.
ويعنون بِخَتْمِ الوَلَاية أنَّهُ كما أنَّ للأنبياء نبياً خاتماً لهم، فكذلك للأولياء وليٌ خاتمٌ لهم، وكما أنَّ خاتم الأنبياء أفضل من جميع الأنبياء، فكذلك خَاتَم الأولياء هو أفضل من جميع الأولياء.
وعقيدة خَتْمْ الوَلَايَة ذَكَرَهَا الحكيم الترمذي في كتابٍ سَمَّاه (خَتْمْ الوَلَاية) وقد طُبِعَتْ منتخبات منه قديماً، وأَسَّسَ فيها القول بأنَّ الأولياء يُخْتَمُونَ، وأنَّ الولي في باطنه قد يبلغ مقاماً يَتَلَقَّى فيه من الله - عز وجل - مباشرة، وأنَّ الولي قد يكون أفضل من النبي، وهذه لم يَنُصَّ عليها ولكنها تُفْهَمْ من فحوى كلامه.
ولاشك أنَّهُ غَلِطَ في ذلك غَلَطَاً فاحشاً، وإن كان هو من أهل العناية بالحديث كرواية، ومن أهل الخير والصلاح كما وصفه بذلك ابن تيمية؛ لكنَّهُ غَلِطَ في هذه البدعة الكبرى التي ابتدعها في الأمة والشرور التي حدثت من القول بوحدة الوجود وتفضيل الولي على النبي والاستقاء من الله - عز وجل - مباشرة إنَّمَا حدثت بعد هذا الكتاب وهذه النظرية الباطلة التي تُبْطِلُ شريعة محمد صلى الله عليه وسلم على الحقيقة.
وهذا لم يَخْتَصَّ به الحكيم الترمذي؛ بل تبعه عليه أُنَاس منهم ابن عربي في كتابه (الفصوص) وفي كتابه (الفتوحات المَكِيَّة) ، ومنهم محمد بن عثمان المرغني السوداني الذي له طريقة معروفة عند أهل السودان (الطريقة الختمية) ، ومنهم التيجاني، هؤلاء كانوا في القرن الثالث عشر، وصّرَّحْ المرغني في كتابه (تاج التفاسير) صَرَّح بهذه العقيدة، ومنهم التيجاني عند أهل المغرب فيما يعتقدون فيه ووُصِفَ به.
هؤلاء يعتقدون أنَّ الولاية تُخْتَم؛ لكن ادَّعَى ابن عربي أنَّهُ هو الذي خَتَمَ الأولياء، وادَّعَى الميرغني أنَّهُ هو الذي خَتَمَ الأولياء وادَّعَى أيضاً التيجاني أنَّهُ هو الذي خَتَمَ الأولياء.(1/666)
[المسألة الثانية] :
عقيدة خَتْمْ الوَلَايَةَ أو خَتْمْ الأَوْلِيَاءْ مبنيةٌ على ثلاثة أمور:
1- الأمر الأول: أنَّ النبي إنما أتى بشريعةٍ ظاهرة، وخاتَمْ الأولياء جاء بشريعةٍ باطنة، فخَاتَمْ الأولياء في الظاهر مع النبي وفي الباطن مستقلٌ عن النبي.
لهذا يقولون: إنَّ الأنبياء راعَوا الظاهر واهتموا بالعبادات الظاهرة، وخَاتَم الأولياء وصفوة الأولياء اهتموا بالأخذ عن الله - عز وجل -.
ولهذا ابن عربي في كتابه الفُصُوصْ لمَّا جاء إلى حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي في الصحيح أنَّ بُنْيَان الأنبياء تَمْ ولم يبق فيه إلا موضع لبنة، قال صلى الله عليه وسلم «مثلي ومثل الأنبياء من بنى بنيانا فكَمَّلَهُ وأحسنه حتى لم يبق منه إلا موضع لبنة فجعل الناس يطوفون به ويقولون لم كملت هذه اللبنة- قال:- فكنت أنا اللبنة وأنا خاتم النبيين» (1) .
قال ابن عربي -قَبَّحَهُ الله- في هذا الموطن: وخاتَمْ الأولياء يَرَى نفسه في قَصْرْ الوَلَاية في موضع لبنتين لبنةُ فضة في الظاهر ولبنةُ ذهب في الباطن، فهو يَفْضُلُ النبي في الحاجة إليه؛ لأنَّ البنيان احتاج إلى لَبِنَتَينْ وذاك احتاج إلى لَبِنَة واحدة، ولَبِنَتُهُ الظاهرة من الفضة في متابعة النبي ظاهراً، ولَبِنَتُهُ الذهبية في الباطن بها يأخذ من المشكاة التي تُنْزِلُ الوَحْيَ على خاتم الأنبياء، يعني يأخذوا عن الله مباشرة أو كما جاء في كلامه.
وقد كرَّرَ هذا في مواضع في الفصوص وخاصَّةً في فَصٍّ واحد يعني كَرَّرَ الكلام وعَبَّرَ عنه.
وهذا ليس خاصًّاً بهذا الرجل بل كذلك مَنْ بعده ممن شَرَحُوا أو الميرغني أو التيجاني أو مَنْ شابههم كان كلٌ منهم يعتقد في نفسه أَنَّهُ خاتم الأولياء.
2- الأمر الثاني: أنَّ خَاتَمْ الأولياء أفضل من خَاتَمْ الأنبياء؛ لأنَّ خَاتَمْ الأنبياء يأخذ عن الله بواسطة وخَاتَمْ الأولياء يأخذ مباشرة؛ ولأنَّ خَاتَمْ الأنبياء يأخذ الناس بما يُصْلِحِ ظاهرهم وخَاتَمْ الأولياء يُصْلِحُ باطنهم.
ولهذا يقول: مثلاً الميرغني في بعض كلامه: من رآني، ومن رَأَى مَنْ رَآني إلى خمسة أجيال فإنَّهُم مُحَرَّمُونَ عن النار، لما في خَاتَمْ الأولياء من النُّور الذي قذفه الله - عز وجل - فيه، فينبَعِثُ هذا النور فيمن رآه ورَأَى من رآه إلى آخره. أو كما قال.
وهذا العقيدة بها جعلوا أنَّ للوَلِي ما يَفْضُلُ به النبي والعياذ بالله.
3- الأمر الثالث: أنَّ الولي والنبي بينهما فَرْقْ من جهة أنَّ النبي جاءَهُ الوحي اختياراً من الله - عز وجل -، وأمَّا خَاتَمْ الأولياء فَفَاضَ عليه الوحي؛ لأنَّهُ اسْتَعَدَّ لذلك بتصفية باطنه، فعنده القَبُولْ والاستعداد لأَنْ يُفَاضَ عليه، وبهذا صار خَاتَمْ الأولياء أفضل من خَاتَمْ الأنبياء.
هذه ثلاث مجملات في تلخيص كلامهم.
__________
(1) البخاري (3535) / مسلم (6101)(1/667)
[المسألة الثالثة] :
أهل السنة يعتقدون بكرامات الأولياء كما سيأتي لكن بالاعتقاد الصحيح، لكن عند كثيرين من الفئات التي تعتقد في الأولياء، مثل الباطنية والرافضة وغلاة الصوفية يعتقدون أنَّ أفضل المقامات مقام الولي، ويليه الدرجة الثانية مقام النبي، ويليه مقام الرسول، وفيها يقول قائلهم:
مقام النبوة في برزخٍ ****** فُوَيْقَ الرسولِ ودونَ الولي
(مقام النبوة في برزخٍ) يعني هو الوسط.
(فُوَيْقَ الرسول) الرسول تحت النبي مع أنَّ الرسول هو أفضل من النبي، النبي تحته بقليل يعني بقليل.
(فويق) يعني بينهما شيء يسير.
(ودون الولي) يعني بينه وبين الولي مراتب.
فالأعلى عندهم الولي ثُمَّ بعده النبي ثُمَّ الرسول.
وهذا القول في الترتيب قال به غلاة الصوفية وكما ذكرت لك النقل عنهم، وقال به أيضاً أئمة مذهب الاثني عشرية مثل ما ذكرت لك في أول الكلام عن قول الخميني حيث قال (من ضروريات مذهبنا) .
(ضروريات) معناها الشيء الذي لا يحتاج إلى استدلال، الذي يُحَسْ بأحد الحواس الخمس، ما يحتاج إلى دليل ولا برهان، الشيء الضروري ما يحتاج إلى دليل وبرهان لأنَّهُ محسوس.
قال (من ضروريات مذهبنا أنَّ لأئمتنا مقاماً لا يبلغه ملكٌ مقرب ولا نبي مرسل) .
يعني أَنَّ مقام الأولياء -يعني الأئمة الاثني عشر- أعلى من مقام الأنبياء.
وهذا بلا شك طعنٌ في القرآن وطعنٌ في السنة وطعنٌ في الصحابة، وهكذا يبلغ الأمر عند من قاله؛ لِأَنَّ أفضل هذه الأمة وأحق الناس بأن يكون من الأولياء أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه ثم عمر ثم عثمان ثم علي ثم العشرة المبشرون بالجنة، وهكذا، فهؤلاء هم الأولياء وهم سادة الأولياء والأصفياء وخير الصحابة رضوان الله عليهم.
وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم فَضَّلَ قرنه فقد فَضَّلَ أبا بكر وفَضَّلَ عمر.
فكيف يكون واحد من هذه الأمة يأتي ويَزْعُمُ أَنَّهُ أفضل من الصحابة، ثم يَزْعُمُ أَنَّهُ أفضل الأولياء وخاتَمْ الأولياء، ثم يَزْعُمُ أَنَّهُ أفضل من الأنبياء.
لا شك أنَّ هذا القول من صاحبه قد يُحْكَمُ بِكُفْرِ صاحبه؛ بل حَكَمَ كثير من العلماء بكفر من قال هذه المقالة؛ لأنَّهَا قدح في القرآن وقدح في السنة، ورفع لمقام الولي، وتهجين مقام النبي والرسول، ورفع خَاتَمْ الأولياء على خَاتَمْ الأنبياء.
ولهذا مع اختصارٍ في المقام، ذكر الطحاوي رحمه الله هذه الجملة ورَكَّزَ عليها يعني في هذه العقيدة لأنها بدأت في زمانه وهي سبب الشر في افتراق الناس مع طرق الصوفية إلى هذا الزمان، وقال (وَلَا نُفَضِّلُ أَحَدَاً مِنَ الْأَوْلِيَاءِ عَلَى أَحَدٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَام) ما فيه ولي يمكن أن يكون أفضل من نبي؛ بل أفضل الناس هم الأنبياء ثم يليهم الأولياء، صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابة كل نبي إلى آخره.
قال (وَنَقُولُ: نَبِيٌّ وَاحِدٌ أَفْضَلُ مِنْ جَمِيعِ الْأَوْلِيَاءِ) {اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام:124] سبحانه وتعالى.(1/668)
قال بعدها (وَنُؤْمِنُ بِمَا جَاءَ مِنْ كَرَامَاتِهِمْ، وَصَحَّ عَنِ الثِّقَاتِ مِنْ رِوَايَاتِهِمْ)
____________________________________________
يريد رحمه الله أنَّ أهل السنة الجماعة وأهل الحديث والأثر والمتابعين للسلف الصالح يؤمنون بما جاء في الكتاب والسنة وما صَحَّتْ به الرواية من كرامات الأولياء وهم يُصَدِّقُونَ بكرامات الأولياء ولا ينفونها، وما صَحَّ عن الثقات من الروايات في بيانات كراماتهم فإنهم يُصَدِّقُونَ بذلك ويعتقدونه ويؤمنون به؛ لأنَّ هذا من فضل الله - عز وجل - عليهم لأنَّ في التصديق بهم تصديقاً بما أخبر الله - عز وجل - به في القرآن وأخبر به النبي صلى الله عليه وسلم في السنة.
ويريد بذلك مخالفة طوائف من العقلانيين الذين أنكروا كرامات الأولياء، ويُخَصُّ بالذكر منهم المعتزلة، فإنهم أنْكَرُوا كرامة الأولياء وقالوا ليس لوليٍ كرامة لأنَّهُ لو صَحَّ أَنْ يكون لوليٍ كرامة لاشتبهت كرامات والأولياء بمعجزات الأنبياء، وحينئذْ تشتبه الكرامة بالنبوة ويشتبه الولي بالنبي وهذا قدحٌ في النبوة وقدحٌ في الشريعة.
ونذكر هنا مسائل:(1/669)
[المسألة الأولى] :
كرامات الأولياء جمع كرامة، والكرامَةُ في اللغة: إِكْرَامْ من الإِكْرَامْ، وهو ما يُؤْتَى المُكْرَمْ من هِبَةٍ وعَطِيَّة وهِيَ في باب الكرامة من الله - عز وجل -.
وفي الاصطلاح عُرِّفَتْ كرامة الولي بأنَّهَا أَمْرٌ خارق للعادة جرى على يدي ولي.
وكونه خارِقَاً للعادة يخرُجُ به ما يُنْعِمُ الله - عز وجل - به من النِّعَمْ على عباده مما لا يدخل في كونه خارِقَاً للعادة، فأهل الإيمان يُنْعَمُ عليهم بنعم كثيرة وهي إكرامْ من الله - عز وجل -؛ لكن لا تدخل في حد الكرامة.
فالكرامة ضابطها أنَّهَا أمرٌ خارقٌ للعادة.
والعادة هنا، خارقٌ للعادة أي عادة؟
عادة أهل ذلك الزمان.
فقد يكون خارقَاً لعادة أناس في القرن الثاني وهو ليس بخارِقٍ لعادتنا في هذا الزمن.
مثلاً أنْ يَنْتَقِلْ من بلدٍ إلى بلد في ساعة، من الشام إلى مكة أو إلى القدس في ساعة، ويُصَلِّي هنا إلى آخره، أو أن يُحْجَبَ عن بعض المكروه، أو أن يكون عنده علم بحال أُنَاسٍ بالتفصيل يسمع كلامهم ويرى صورتهم في بلدٍ بعيدٍ عنه، هو في الجزيرة ويرى حالهم في الشام أو في مصر أو في خراسان أو ما أشبه ذلك.
هذه في زَمَنٍ مَضَى كانت خوارق لعادة أهل ذلك الزمان لكنَّهَا بالنسبة لأهل هذا الزمان ليست بخارقٍ مُطْلَقاً.
لهذا تُضْبَطْ العادة في تعريف الكرامة (خارقٌ للعادة) بأنها عادة أهل ذلك الزمن.
والمعجزة أيضاً أو الآية والبرهان للنبي وخوارق السَّحَرَة والكهنة كما سيأتي فيها خَرْقٌ للعادة لكن مع اختلاف الخارق واختلاف العادة كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
(جرى على يَدَي ولي) قوله جرى يعني أنَّهُ أُكْرِمَ به الولي فَجَرَى على يديه.
وقد يكون أُعْطِيَ القدرة وقد يكون الولي أَحَسَّ بالشيء وجَرَى على يديه دون قدرةٍ منه، إما من الملائكة أو بسببٍ شاءه الله - عز وجل -.
وآخر جملة (على يدي ولي) يخْرُجُ منها ما جرى على يَدْ الأنبياء فهي أمرٌ خارق للعادة لكنَّهُ ليس على يدي ولي، وإنما على يدي نبي، كذلك خوارق السحرة والكهنة والمشعوذين فهي شيطانية ليست إيمانية، ولذلك لا تدخل في التعريف.(1/670)
[المسألة الثانية] :
الأصل في كرامات الأولياء من القرآن قول الله - عز وجل - {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [يونس:62-64] ، وقوله - عز وجل - أيضاً {وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا} [الكهف:82] ، وقوله صلى الله عليه وسلم «ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه» (1) .
ومن الواقع فإنَّهُ تواتر النَّقْلُ عن الصحابة وعن التابعين ومن تَبِعَهُمْ وعن الأُمَمْ السالفة، تَواتَرَ النقل بما لا يكون معه مجال للتكذيب ولا للرَّدْ بنَقْلِ عددٍ كبير يختلفون في أماكنهم ويختلفون في لغاتهم بحصول هذه الكرامات، فيكون معه النقل متواتراً ويكون دليلاً من الأدلة في هذه المسألة.
فإذاً حصول الكرامات دَلَّ عليه القرآن والسنة ودَلَّ عليه التواتر في النقل عن الأمم السالفة وعن هذه الأمة.
__________
(1) سبق ذكره (250)(1/671)
[المسألة الثالثة] :
الكرامة تَبَعٌ للوَلَايَة، والأولياء جعلهم الله - عز وجل - هم أهل الإيمان والتقوى قال {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس:62-63] ، فالولي الذي يُعْطَى الكرامة هو الموصوف بهذين الوصفين: الإيمان والتقوى.
فلو جَرَى الخَارِقْ على يدي من لم يُوصَفْ بالإيمان والتقوى فليس هو مِنَ الكرامة؛ لأَنَّ الله - عز وجل - جَعَل الوَلاية في أهل الإيمان والتقوى، وهم الذين يُعْطَونَ الكرامة.
وهاهنا سؤال: هل المبتدع أو الضَّالْ أو العاصي يُعْطَى كرامة؟
والجواب عن ذلك: أَنَّ الأولياء -كما قَرَّرَ أهل العلم- على فئتين:
- الفئة الأولى السابقون.
- والفئة الثانية المُقْتَصِدُونْ.
فليس للظالم لنفسه المقيم على المعصية حظ في الكرامة.
لكن قد تجري الكرامة على يَدَيْ من عنده بدعة أو معصية أو ظلم لنفسه، وذلك راجع لأسباب:
1- السبب الأول: أن يكون ليس هو المراد بها وإنَّمَا يكون هذا المبتدع أو هذا الظالم لنفسه في جهادٍ مع الكافر، في جهادٍ مع العدو الكافر فيعطيه الله - عز وجل - الكرامة لا لذاته ولكن لما يُجَاهِدَ عليه، وهو الإسلام والإيمان ورد الكفر.
فيكون إعْطَاؤُهُ الكرامة لا يغتر بها لأنها ليست لشخصه وإنما هي للدليل على ظهور الإيمان والإسلام على الكفر والإلحاد والشرك ونحو ذلك.
2- السبب الثاني: أن يكون إعْطَاؤُهُ الكرامة لحاجته إليها في إيمانه أوفي دُنْيَاه، فتكونُ سبباً له في استقامة أو في خير.
فلهذا من جرى على يديه شيء في ذلك فينظر في نفسه:
- إنْ كان من أهل الإيمان والتقوى فيحمد الله - عز وجل - ويُثْنِي عليه ويُلازِمُ الاستقامة على ما أكرمه الله - عز وجل - به.
- وإن كان من أهل البدعة أو المعصية أو الظلم للنَّفْسْ، فيعلم أَنَّ في ذلك إشارة له أن يلازم سنة النبي صلى الله عليه وسلم والإيمان والتقوى حتى تكون البُّشرى له في الدنيا والأخرى، وإلَّا يكون قد قامت عليه حُجَّةْ ونعمة من الله رآها ثُمَّ أَنْكَرَهَا.(1/672)
[المسألة الرابعة] :
كرامة الأولياء هي أمْرٌ خارِقٌ للعادة، وتشترك مع مخاريق السَّحَرَة والكَهَنَة في أنها أَمْرٌ خارق للعادة، وكذلك معجزات الأنبياء والآيات والبراهين هي أمر خارق للعادة.
فخَرْقُ العادة في نفسه ليس مُثْنَىً عليه، فقد تُخْرَقُ العادة لِمُبْطِلْ، وقد تُخْرَقُ العادة لصالح -يعني لرجلٍ صالح-، وقد تُخْرَقُ العادة لكاهنٍ، ساحر، وقد تُخْرَقُ العادة لوليٍ صالح.
ولهذا وَجَبَ أن يكون ثَمَّ فُرْقَانْ في خَرْقْ العادة عند من حصلت له وعند الناس.
هل خُرِقَتْ العادة لمؤمِنٍ تقي أو لمبطلٍ غير متابع للسنة من السحرة والكهنة وأشباههم؟
فنعلم حينئِذْ الفُرقانْ البَيِّنْ بين كرامة الولي وخرق العادة له وأنَّهَا خَرْقٌ إيماني، خَرْقٌ من الله - عز وجل - لإكرامه وكرامته، وبين خرق العادة للساحر والكاهن والمشعوذ وأنها خارقٌ شيطاني؛ لأنَّ الشياطين لها قدرة في خَرْقِ عادة.
لكن ثَمَّ فرق بين خارق العادة للشياطين وخارق العادة للأولياء، وهو:
@ أنَّ خارق العادة للأولياء هذا:
- أولاً: من الله - عز وجل - أولاً.
- ثانياً: وأَثَرٌ من متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم.
- ثالثاً: أنَّهُ خرقٌ لعادة أهل الزمان، فهو في جنسه أعظم وأرفع من جنس خوارق السحرة.
@ وأما خوارق السحرة فهي:
- أولا: من الشيطان، مخاريق شيطانية نتجت من التَّقَرُبْ للشياطين والتعاون معهم حتى خدمتهم الشياطين، كما قال - عز وجل - في سورة الأنعام لما ذَكَرَ حشر الجن والإنس يوم القيامة قال {وَيَوْمَ نحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُم مِّنَ الإِنسِ وَقَالَ أَوْلِيَآؤُهُم مِّنَ الإِنسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ} [الأنعام:128] ، فاسْتَمْتَعَ الإنْسِيْ بالشيطان الجني واستمتع الشيطان الجني بالإنسي، فهذا تَقَرَّبَ وهذا خَدَمْ، لهذا منشؤُهَا من جهة الشيطان.
- ثانياً: أنها متابعة للمعصية والبدعة والشرك إلى آخره التي هي مخاريق السحرة.
- ثالثاً: أنَّهَا محدودة، وفي الغالب أنها تَخْيِيْلْ وليست حقيقة، والشيطان هو الذي يَتَمَثَّلْ وليس من أُعْطِيَ الخارق أو من جَرَى الخارق على يديه في ظاهر أعين الناس أنه هو الذين انتقل.
مثلاً وُجِدَ في الشام ووُجِدَ في مكة في نفس الوقت، وُجِدَ في مصر في القرية الفلانية ووُجِدَ في القرية الفلانية، هذا لا يمكن أن يكون إلا من الشيطان.
مثلاً مثل ما قال عبد الوهاب الشعراني في ترجمة أحد من ادَّعَى أنهم مجاذيب ومجانين وأولياء-يعني في الثناء عليه- قال في ترجمته (وكان رحمه الله يخطب الجمعة في سبع قرىً في مصر) .
وهذا خارقٌ عند الناس، كيف القرية هذه والقرية هذه كلهم يخطب فيهم هذا؟؟
فيكون الشيطان تَمَثَّلَ به وخَدَمَه حتى يُغوِي الناس، وبالإضافة إلى ذلك هو مجنون ومجذوب وما شابه ذلك.
فإذن الشياطين تخدم الساحر والكاهن لكنْ أكثر ذلك تَخْيِيْلْ كما قال - عز وجل - {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} [طه:66] ، وثَمَّ تفصيل للكلام على هذه المسائل المهمة في مسائل نأتي إليها إن شاء الله تعالى في الدّرس القادم.(1/673)
الأسئلة:
س2/ ألا يقصد المؤلف رحمه الله بأهل الحديث والأثر من ذُكِرُا في حديث (خير القرون قرني) ؟
ج/ هذا قد يرد ولكن لا يُسَمَّى الصحابة أهل الأثر، لأنَّ التقسيم بين أهل الأثر وأهل النظر هذا إنما أتى بعد ذلك فلا نقول إنَّ في الصحابة أهل أثر وأهل نظر، إنما هذا نشأ في أوائل القرن الثاني من مدرسة المدينة أهل الرأي والكوفة الرأي إلخ، فانقسم أهل العلم إلى مدرستين مدرسة النظر والفقه ومدرسة الفقه والأثر.
س3/ تكثر المراثي والأشعار فيمن يموت من العلماء وغير ذلك، ويحصل من المبالغة في ذكر المحاسن والثباكي عليه وثَمَّ سؤالان:
الأول: هل هذا من النياحة؟
الثاني: يرد في كثيرٍ منها بعض الألفاظ الشركية أو قريب منها والمبالغة الشديدة إلى آخره. وذَكَرَ أمثلة من ذلك، وأظنه يقول القصائد كانت في رثاء الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله وثَمَّ مدخل لأهل البدع؟
ج/ لاشك أنَّ ما رُثِيَ به سماحة الشيخ عبد العزيز رحمه الله فيه قسم منه حق وطَيِّبْ وجزى الله الرَّاثين خيراً.
والعلماء يرثون العلماء والشعراء يرثون أهل العلم ومن في فقدهم على الإسلام والمسلمين الأَثَرْ.
لكن القسم الثاني من تلك المراثي كما ذَكَرْ من الأمثلة فيها من الغلو ووسائل الشرك ونداء الميت ما فيه، وهذا مما يُبَيِّنُ لك غُرْبَةْ التوحيد، وأَنَّ الناس لا يَصِحُّ أن يقولوا التوحيد علمناه والحمد لله، الناس على الفطرة ولا يحتاجون للعقيدة والتوحيد.
هذا في موت سماحة الشيخ لمَّا سِيْرَ بجنازته من الناس من تَمَسَّحَ به وألقى عليه غترة وسمح من الجهلة، ولمَّا جاءت القصائد فيه من يُشَارُ إليهم من ناداه في قصيدته يا أبا عبد الله وغوث الملاهيف (1) ونحوه من المبالغات.
وهذا يدلك على أنَّ رسالة الشيخ رحمه الله في حياته والدعوة التي أقامها في ملازمة السنة وترك البدع ورَدْ وسائل الشرك ووسائل البدع فيمن هو أفضل من الشيخ رحمه الله هو النبي صلى الله عليه وسلم، أبو بكر وعمر وعثمان وعلي إلى آخره.
الشيخ أقام حياته لتقريض السنة والرد على البدع ووسائل الشرك، فيأتي من يغلو فيه إما لغرضٍ صالح أو لغرضٍ غير صالح أيضاً.
لاشك أنَّ هذا ذنب وإثم على من قاله ويجب عليه التوبة وسحب هذه القصائد وأن يراجعها أهل العلم إذا كان فيها شيء منكر وجَبَ عليه أن.
وهذه نتبرأ منها، نحن نتبرأ ممن غلا في مدح الأولياء، الصحابة، وفي مدح النبي صلى الله عليه وسلم غلا فيه الغُلُو الذي أوصله إلى مقامٍ لم يجعله الله - عز وجل - له، فكيف بمن هو دون النبي صلى الله عليه وسلم ودون الصحابة من العلماء والأولياء ومثل سماحة الشيخ رحمه الله؟
لاشك أنَّ الواجب الإنكار ولا نُقِرُّ شيئاً من ذلك ونبرأ منه.
وليس لأهل البدعة حجة في ذلك لأنَّ أهل التوحيد فيهم جَهَلَة أيضاً، مثل ما في أهل البدع جَهَلَة، فَمِنْ أهل البدع جَهَلَة يبالغون في المدح ويطرون، كذلك في المنتسبين إلى التوحيد وإلى أهل التوحيد وإلى أهل العقيدة فيهم من يجهل كثيراً فيُخْطِئْ ويتجاوز.
وذَكَّرَنِي هذا حينما رأيت بعض الأشياء، ذَكَّرَنِي هذا بحياة شيخ الإسلام ابن تيمية الذي عاش حياته للعقيدة وللتوحيد ولنصرة السنة ولرد البدع ووسائل الشرك والغلو في الأموات ثُمَّ بعد ذلك جنازته صُلِّيَ عليها الظهر وظلت تمشي إلى المقبرة والناس يُلْقُونَ عمائمهم ويُلْقُونَ أَرْدِيَتَهُمْ على جثمان شيخ الإسلام تَبَرُّكَاً به، فما حياته إذاً؟
هؤلاء الجهلة الكثيرون حتى ولو انتسبوا إلى الثقافة وإلى العلم، هؤلاء الجهلة بحاجة إلى أن يدرسوا العقيدة ويعلمون ما يحل وما يحرُمْ.
هو يريد أن يرثي إماماً وعالماً مثل سماحة الشيخ ويقع في الإثم ويجعل الإثم أيضاً ينتشر في الأمة والبدعة ووسائل الشرك، فبَدَلَ أن نسير في دعوته وما عاش في حياته له نخالفه بعد وفاته.
وهذا لاشك أنه مما يَسُرُّ الشيطان ويأنس له.
والغلو شرٌّ، الغلو شر، وهدي الصحابة في ذلك هو الهدي الكامل، فكم المراثي في أبي بكر وكم المراثي في عمر وفي عثمان وكم المراثي في ابن عمر وابن عباس، اجمعوها أليس في زمنهم من الشعراء والعلماء من فيه؟
لكنها قليلة، مُحَافَظَةً، لا لأنهم لا يستحقون؛ لكن خشيةً من الغلو، وأحياناً بعض المسائل يُعَامِلْ فيها الإنسان الناس بنقيض القصد حتى لا يتوسعوا في الشرك والبدع.
ولهذا ينبغي عليكم جميعاً أن تَسْتَدِلُّوا بما حصل من هذه التجاوزات على غربة التوحيد ويعطيكم دليلاً على أنَّهُ في هذا البلد والذين هم قريبون من الشيخ ويعلمون دعوته ويعلمون الكتب التي شرحها ودَرَّسَها وفتاويه التي يرد فيها على أقل البدع وعلى أقل وسائل الشرك كيف أَنَّ الناس يخالفونه وهم عاشوا معه سنين عدداً.
فما أشد الغربة وما أشد حاجة الناس إلى التوحيد والعقيدة العلم الصحيح والالتزام بالسنة.
__________
(1) نهاية الوجه الأول من الشريط السادس والأربعين.(1/674)
أسال الله - عز وجل - أن يرفع درجة شيخنا في عليين وأن يجزيه عنا خير الجزاء وأن يجعله مع الأئمة السابقين ممن أحبهم واقتفى أثرهم إنه سبحانه على كل شيء قدير.
س4/ ما رأيكم ما جاء في كتاب عبد الله بن الإمام أحمد من اتهام لأبي حنيفة وبالقول عليه بخلق القرآن إلى آخره؟
ج/ هذا سؤال جيد، هذا موجود في كتاب السنة لعبد الله بن الإمام أحمد، وعبد الله بن الإمام أحمد في وقته كانت الفتنة في خلق القرآن كبيرة، وكانوا يستدلون فيها بأشياء تُنْسَبْ لأبي حنيفة وهو منها براء في خلق القرآن، وكانت تنسب إليه أشياء ينقلها المعتزلة من تأويل الصفات إلى آخره مما هو منها براء، وبعضها انتشر في الناس ونُقِلْ لبعض العلماء فَحَكَمُوا بظاهر القول، وهذا قبل أن يكون لأبي حنيفة مدرسة ومذهب؛ لأنَّهُ كان العهد قريباً -عهد أبي حنيفة- وكانت الأقوال تُنْقَلْ: قول سفيان قول وكيع قول سفيان الثوري قول سفيان بن عيينة قول فلان وفلان من أهل العلم في الإمام أبي حنيفة.
فكانت الحاجة في ذلك الوقت باجتهادِ عبد الله بن الإمام أحمد قائمة في أن ينقل أقوال العلماء فيما نَقَلْ.
ولكن بعد ذلك الزمان كما ذكر الطحاوي أَجْمَعَ أهل العلم على أن لا ينقلوا ذلك، وعلى أن لا يذكروا الإمام أبا حنيفة إلا بالخير والجميل، وهذا فيما بعد زمن الخطيب البغدادي، يعني في عهد بعض أصحاب الإمام أحمد ربما تكلموا وفي عهد الخطيب البغدادي نقل نقولات في تاريخه معروفة، وحصل ردود عليه بعد ذلك، حتى وصلنا إلى استقراء منهج السلف في القرن السادس والسابع هجري وكَتَبْ في ذلك ابن تيمية الرسالة المشهورة (رفع الملام عن الأئمة الأعلام) ، وفي كتبه جميعاً يذكر الإمام أبا حنيفة بالخير وبالجميل ويترحم عليه وينسبه إلى شيءٍ واحد وهو القول بالإرجاء، إرجاء الفقهاء دون سلسلة الأقوال التي نُسِبَتْ إليه لأنَّهُ يوجد كتاب أبي حنيفة الفقه الأكبر وتوجد رسائل له تدل على أنَّهُ كان في الجملة يتابع السلف الصالح إلا في هذه المسألة، في مسألة دخول الأعمال في مُسَمَّى الإيمان.
وهكذا درج العلماء على ذلك كما قال الإمام الطحاوي إلا -كما ذكرت لك- بعض من زاد، غلا في الجانبين:
إما غلا من أهل النظر في الوقيعة في أهل الحديث وسَمَّاهُمْ حَشْوِيَّةْ وسَمَّاهُم جهلة.
ومن غلا أيضاً من المنتسبين للحديث والأثر فوقع في أبي حنيفة رحمه الله أو وقع في الحنفية كمدرسة فقهية أو في العلماء.
والمنهج الوسط هو الذي ذكره الطحاوي وهو الذي عليه أئمة السلف.
لمَّا جاء الإمام الشيخ محمد بن عبد الوهاب أصَّلَ هذا المنهج في الناس وأنْ لا يُذْكَرَ أحد من أهل العلم إلا بالجميل وأن يُنْظَرْ في أقوالهم وما رَجَّحَهُ الدليل فَيُؤْخَذُ بِهِ وأن لا يُتَابَعْ عالم فيما أخطأ فيه وفيما زل؛ بل نقول هذا كلام العالم وهذا اجتهاده والقول الثاني هو الراجح.
ولهذا ظهر بكثرة في مدرسة الدعوة القول الراجح والمرجوح ورُبِّيَ عليه أهل العلم في هذه المسائل تحقيقاً لهذا الأصل.
حتى أتينا إلى أول عهد الملك عبد العزيز رحمه الله لمَّا دَخَلْ مكة، وأراد العلماء طباعة كتابة السنة لعبد الله بن الإمام أحمد وكان المشرف على ذلك والمراجع له الشيخ العلامة الجليل عبد الله بن حسن آل الشيخ رحمه الله رئيس القضاة إذ ذاك في مكة، فَنَزَعَ هذا الفصل بكامله من الطباعة، فلم يُطْبَعْ لِأَنَّهُ من جهة الحكمة الشرعية كانَ لَهُ وقته وانتهى، ثُمَّ هو اجتهاد والسياسة الشرعية ورعاية مصالح الناس أن يُنْزَعْ وأن لا يُبْقَى وليس هذا فيه خيانة للأمانة؛ بل الأمانة أن لا نجعل الناس يَصُدُّونَ عن ما ذكره عبد الله بن الإمام في كتابه من السنة والعقيدة الصحيحة لأجل نُقُولٍ نُقِلَتْ في ذلك.
وطُبِعَ الكتاب بدون هذا الفصل وانْتَشَرَ في الناس وفي العلماء على أَنَّ هذا كتاب السنة لعبد الله بن الإمام أحمد.
حتى طُبِعَت مُؤَخَّرَاً في رسالةٍ علمية أو في بحثٍ علمي وأُدْخِلَ هذا الفصل -وهو موجود في المخطوطات معروف- أُدْخِلْ هذا الفصل من جديد، يعني أُرْجِعْ إليه، وقالوا إنَّ الأمانة تقتضي إثباته إلى آخره.
وهذا لاشك أَنَّهُ ليس بصحيح، بل صنيع علماء الدعوة فيما سبق من السياسة الشرعية ومن معرفة مقاصد العلماء في تآليفهم واختلاف الزمان والمكان والحال وما استقرت عليه العقيدة وكلام أهل العلم في ذلك.
ولما طُبِعْ كُنَّا في دعوة عند فضيلة الشيخ الجليل الشيخ صالح الفوزان في بيته، وكان داعياً لسماحة الشيخ عبد العزيز رحمه الله، فطَرَحْتْ عليه أول ما طُبِعْ كتاب السُّنَّة الطبعة الأخيرة التي في مجلدين إدخال هذا الباب فيما ذُكر في أبي حنيفة في الكتاب وأًنَّ الطبعة الأولى كانت خالية من هذا لصنيع المشايخ.
فقال رحمه الله في مجلس الشيخ صالح قال لي: الذي صنعه المشايخ هو المُتَعَيِّنْ ومن السياسة الشرعية أن يُحْذَفْ وإيراده ليس مناسباً. وهذا هو الذي عليه منهج العلماء.(1/675)
زاد الأمر حتى صار هناك تآليف يُطْعَنْ في أبي حنيفة وبعضهم يقول أبو جيفة ونحو ذلك، وهذا لاشك أنه ليس من منهجنا وليس من طريقة علماء الدعوة، ولا علماء السلف لأننا لا نذكر العلماء إلا بالجميل، إذا أخطؤوا فلا نتابعهم في أخطائهم، وخاصَّةً الأئمة هؤلاء الأربعة؛ لأنَّ لهم شأنَاً ومقاما لا يُنْكَرْ.
نكتفي لهذا القدر أسأل لكم التوفيق والسداد، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.(1/676)
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
الأسئلة:
س1/ هل في هذه الكلمة محذور شرعي وهي صورة لقطعة من الذُّرَة ومكتوب عليها: (هذه من خيرات الطبيعة) حيث أنها تنتشر دعاية لمثل هذا في الشوارع؟
ج/ هذا صحيح رأيناه في الشوارع، هذه الكلمة كلمة فيها سو؛ ء لأنَّ الخير من الله - عز وجل -، والطبيعة مطبوعة ليست طابعة للأشياء، فعيلة بمعني مفعولة، هي مطبوعة، طَبَعَهَا الله - عز وجل - وجعلها على هذا النحو من سُنَنِهِ، فالله - عز وجل - هو الذي جعل سُنَّتَهْ أَنَّ الماء ينزل وأَنَّ الأرض تُنبِتْ وأنَّ الأرض تتنوع، ما ينتج منها. ولهذا هذه الكلمة فيها مخالفة فينبغي بل يجب تجنبها حفظَاً لنعم الله - عز وجل - على عباده.
س2/ في قوله تعالى {فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى} [الأعلى:9] هل إذا غلب على الظن عدم الانتفاع يجوز السكوت عن المنكر؟
ج/ هذه المسألة اختلف فيها العلماء، وقد ذكرت لكم الخلاف أظن في شرح الواسطية (1) أو في بعض المواضع، والآية استدَلَ بها جماعة من العلماء منهم الشيخ تقي الدين ابن تيمية شيخ الإسلام ومنهم ابن عبد السلام في القواعد وجماعة، وذكر هذا أيضاً ابن رجب عن بعض أهل العلم في شرحه على الأربعين.
والآية فيها دليلْ على أنَّ الذِكْرَى مأمور بها إذا كانت ستنفع؛ لأنَّ الله قال {فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى} أَمَرَ بالتذكير إذا كانت الذكرى ستنفع.
هل يدخل هذا في النهي عن المنكر، أم هذا في التذكير بما ينفع الناس؟
ظاهر لكلمة {الذِّكْرَى} أنها تشمل الأمر بالمعروف وتشمل النهي عن المنكر؛ لأنَّ التذكير يشمل هذا وهذا في القرآن والسنة.
لهذا قال طائفة من العلماء ممن سَمَّيْنَا ومن غيرهم: إنَّهُ للمرء أنْ يترك الإنكار إذا غَلَبَ على الظن عدم الانتفاع، كذلك يجوز له أن لا يُذَكِّرْ إذا غَلَبَ على الظن عدم الانتفاع، أما إذا غلب على الظن الانتفاع بالإنكار أو الانتفاع بالذِّكْرَى فهنا يجب عليه أن يُنْكِرْ ويحب عليه أن يأمر بالمعروف بحسب الحال، هذا قول.
الجمهور على خلاف ذلك وهو أنَّ الأحاديث دَلَّتْ على أَنَّ المنكر إذا رُئِيَ وَجَبَ تغييره، لهذا قالوا سواءٌ غلب على الظن أو لم يغلب على الظن فلابد منه حفاظاً على ما أجب الله - عز وجل -.
ولهذا قال سبحانه وتعالى لمَّا ذَكَرَ حال أهل القرية {وَإِذَ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [الأعراف:164] ، فَدَلَّ على هذا أنَّ المعذرة مطلوبة وأن لا يُسْكَتْ عن المنكر؛ لكن هذا لا يَدُلُّ على الوجوب، وحال الصحابة بكثيرٍ من أحوالهم وخاصَّةً لما دَخَلُوا على الولاة -ولاة بني أمية والأمراء- فيما سكتوا عنه وفيما لم يُنْكِرُوهُ، قال ابن عبد السلام ويُلْمِحُ إليه كلام ابن تيمية أيضاً أنهم أخذوا بأنه غلب على ظنهم أنهم لا ينتفعون بذلك لِعِلْمِ الواقع في المنكر ولأجل أنَّهُ يعلم أنَّهُ لو أُنْكِرَ عليه فإنه لن يستجيب.
المقصود من ذلك أن العلماء لهم في ذلك ثلاثة أقوال:
1 - القول الأول: أنه يجب الإنكار مطلقا كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم.
2 - القول الثاني: أنَّهُ يجب مع غلبة الظن، وإذا لم يغلب على الظن فإنه يجوز له أن ينكر (2) .
3 - والقول الثالث: وهو المتوسط بينهما أنَّهُ لا يجب ولكن يستحب إذا غلب على الظن عدم الانتفاع.
وهذا معناه أنَّ الإنسان لا يُؤَثِّمْ نفسه فيما غلب على الظن عدم الانتفاع.
وهذا يحصل في المسائل التي يغلب فيها الظن على عدم الانتفاع مثل المنكرات المنتشرة، مثل مثلاً حلق اللحى، ومثل الإسبال، ومثل كشف المرآة لوجهها، ومثل رؤية المجلات رؤية صور النساء المحرمة في المجلات، أو مثل هذه يغلب على الظن من الناس عدم الانتفاع مطلقاً أو عدم الانتفاع في وقتها؛ يعني بحسب الحال.
لكن إذا غَلَبَ على الظن أنه إذا وَعَظَهُ أو أَمَرَهُ أو نهاهُ أنه ينتهي ولو في الوقت نفسه، فهذا يتعين عليه.
يعني دَخَلَ في المسألة مثل غيرها مع القدرة؛ لكن إذا كان يظن أنَّهُ إذا قال له لا تحلق لحيتك أو هذا حرام أنه لن ينتفع، فلا يجب عليه حينئذ ويسلم من الإثم.
المقصود السلامة من الإثم في مثل هذه الحال، والله المستعان كلٌ في هذا الباب مقصر، نسأل الله - عز وجل - أن يعفو عنا وعنكم.
__________
(1) في الشريط الثامن والعشرون من شرح العقيدة الواسطية، وهو مفرغ أيضاً والحمد لله
(2) - لعل الشيخ أراد (يجوز أن لا ينكر)(1/677)
[المسألة الخامسة] :
كرامات الأولياء ترجع إلى نوعين:
- ترجع إلى القُدْرَةْ.
- وترجع إلى التأثير.
والقُدْرَةْ والتأثير قد يكونان في الأمور الكونية وقد يكونان في الأمور الشرعية.
1 - القسم الأول: كرامات ترجع إلى القدرة:
القدرة قد تكون في الكونيات وقد تكون في الشرعيات:
@ النوع الأول من القُدْرَةْ: قدرة في الكونيات:
مثال القُدْرَةْ في الأمور الكونية: أن يُقْدِرَهُ الله - عز وجل - على ما لم يُقْدِرْ عليه غيره من الناس؛ بأن يَسْمَعْ ما لم يسمعوا، أو أن يَقْدِرْ من حيث المشي أو القُدْرَةْ البدنية على ما لم يقدروا، أو أنَّهُ يَغْلِبْ بما لم يَقْدِرُ عليه الواحد في العادة.
يعني أنه راجعٌ إلى قُدْرَةٍ -يعني الكونيات- إلى قُدَرٍ في السماع، في الآلات، في السمع أو في البصر أو في القوى والأركان.
هذا له مثال أو له أمثلة، فمن القدرة في السمعيات سَمَاعْ سارية كلام عمر رضي الله عنه وهو في المدينة حيث كان يخطب، فقال (يا سارية الجبل الجبل) ، يعني الزم الجبل، وسارية كان في بلاد فارس وسَمِعَ الكلام.
وهذا لاشك قدرة في السماع خارقة للعادة أُوتِيَهَا.
وكذلك هي من جهة عمر رضي الله عنه قُدْرَةْ في الإبصار حيث إنَّهُ أَبْصَرَ ما لم يُبْصِرُهُ غيره، فقال: يا سارية الجبل الجبل. فنظر إلى سارية ونظر إلى الجبل ونظر إلى العدو وكأنَّ الجميع أمامه، ولهذا قال: الزم الجبل.
هذه قدرة في الآلات، في السمع وفي البصر.
كذلك قد تكون القدرة في القُوَى -يعني هذه في الكونيات- قد تكون القدرة في القُوَى بأن يَغْلِبْ ما لم يغلبه مثله، وبأن يمشي مثلاً على الماء مثل ما حصل لسعدٍ ومن معه، سعد بن أبي وقاص، ومثل أن ينوم نومة طويلة كأصحاب الكهف لا يتغير فيها البدن ولا يتأثر فيها أكثر ثلاثمائة وتسع سنين وهكذا.
ومثل إحياء الفرس، يُعْطَى قوة فيمسح على الفرس أو يأمره بأن يحيى فيحيى له فرسه.
ومثل أن يدخل في النار فلا تؤثر فيه أو فلا تأكله النار.
المقصود هذه القدرة راجعة إلى قُدَرٍ في الكونيات يُكْرِمُ الله - عز وجل - بها العبد بحيث تكون فيما يحصل له في ملكوت الله - عز وجل -.
@ النوع الثاني من القُدْرَةْ: قدرة في الشرعيات:
ونقصد بالشرعيات يعني المسائل الدينية، فيكون عنده قدرة بأن يستقبل من العلم والدين ما لا يستقبله غيره من جهة الحفظ -حفظ الشريعة- أو الفهم الذي يُؤتيه الله - عز وجل - من خَصَّهُ من أوليائه أو ما شابه ذلك، فعنده قدرة في فهم الشرعيات وفي فهم مراد الله وفي الحفظ وفيما أُعْطِيَ بمزيد عن عادة أمثاله.
هذا يكون بالإكرام إذا خَرَجَ عن مقتضى العادة، صار خارقَاً للعادة في حال بعض الناس.
2- القسم الثاني: كرامات ترجع إلى التأثير:
التأثير قد يكون أيضاً في الكونيات وقد يكون التأثير في الشرعيات.
@ النوع الأول من التأثير: تأثير في الكونيات:
يعني تأثيرٌ يرجع إلى تأثيرٍ في الكون بأن يُؤَثِّرْ في المكان الذي هو فيه، أو في أبصار الناس بأن لا يروه، مثل ما حصل مثلاً للحسن البصري رحمه الله حيث دَخَلَ عليه بعض الشُّرَطْ لِطَلَبِهِ فلم يروه، دخلوا وداروا في المكان وهو جالس في وسط الدار فلم يروه، وأشباه ذلك مما فيه تأثيرٌ في قُدَرْ الآخرين.
الأول قُدْرَةْ في نفسه والتأثير يكونُ في قُدَرِ الآخرين، التأثير في خصائص الأشياء، التأثير في خاصية الهواء، خاصية الماء ونحو ذلك، هذا قد يؤتيه الله - عز وجل - بعض أوليائه لحاجتهم إليه كما ذكرنا.
@ النوع الثاني من التأثير: تأثير في الشرعيات:
يعني أن يُؤَثِّرْ في ما هو مطلوب شرعَاً، إذا عَلَّمَ فإنَّهُ يقع تعليمه موقع النفع أكثر من غيره، يعني بشيءٍ لا يُسْتَطاع عادة، يكون فيه الأمر زائِدْ عن العادة، له قَبُولْ والكلام يقع موقعه أكثر مما اعتداده الناس في أمثال أهل العلم، كذلك تأثير في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إذا أمر ونَهَى فإنه يؤثر التأثير البالغ بحيث لا يُعَارَضْ، ومثل أن يُؤَثِّرْ في الناس في هدايتهم إذا وعظ، إذا قال لفلان من الناس افعل كذا أطَاعَهْ، إذا وعظ رق قلبه، إذا أَمَرَ بالتوبة أُطِيع ونحو ذلك مما هو خارجٌ العادة إلَّا أنَّ الناس من عادتهم أن يطيعوا ولا يطيعوا.
هذا التقسيم ذكره شارح الطحاوية في هذا الموقع، وشيخ الإسلام قَسَمَهُ في الواسطية -كما تعلمون- إلى أنَّ الخوارق التي تجري على يدي الولي وتُسَمَّى كرامة:
- تارةً تكون في العلوم والمكاشفات.
- وتارةً تكون في القدرة والتأثيرات.
فَجَعَل القدرة والتأثير باباً واحداً، وجَعَلَ العلم والمكاشفة جعله باباً آخر.
وهذا التقسيم أيضاً ظاهر، وهي تقاسيم باعتبارات مختلفة.(1/678)
[المسألة السادسة] :
ذكرنا لكم أنَّ الخوارق ثلاثة أقسام:
- خارقٌ للعادة جرى على يدي نبي ورسول، وهذا يسمى آية وبرهان ومعجزة.
- وخارقٌ للعادة جرى على يدي ولي، وهذا يسمى كرامة.
- وخارقٌ للعادة جرى على يدي شيطان أو عاصي أو مبتدع أو من ليس مطيعاً لله ومُتَّقِيَاً له، فهذا يسمى حالاً شيطانياً.
فالفرق بين هذه الثلاثة أشياء واضح:
1 - أولاً: أنَّ الأمْرَ الخارق للعادة بحسب من يضاف إليه:
- فإذا أضيف إلى النبي صار اسمه آية وبرهانا ومُعْجِزَاً.
- وإذا أضيف إلى الولي فإنه يُسَمَّى كرامة.
- وإذا أضيف إلى أصحاب الكهانة والسحر والشعوذة فيُسَمَّى حالاً شيطانياً.
2- ثانياً: أنَّ خرق العادة الذي يجري للولي لا يكون مصحوباً بِدَعْوَى النُّبُوَة، فقد يجري للأولياء أحوالٌ عظيمة لكنها مع عدم دعوى النبوة.
فإذا ادَّعَى مع تلك الأحوال النبوة صار شيطاناً، وصار ما يُسَاعَدُ به إنما هو من جهة الشياطين والسحرة وأشباه ذلك.
3- ثالثاً: أنَّ ما تُخْرَقُ به العادة للنبي أوْسَعْ بكثير وأعظم من مما تُخْرَقُ به العادة للولي، فخَرْقُ العادة للولي محدود بالنسبة لخرق العادة للنَّبِي.
وخَرْقُ العادة للسحرة والكهنة الشياطين وأهل الشعوذة وأهل العصيان الذين يَدَّعُونَ الأحوال هذه ليست خرقاً للعادة في الحقيقة ولكنها قُدْرَةْ مما أَعْطَى الله الشيطان أن يوهم به الناس وأن يُضِلَّ الناس به، من جهة التخييل تارة، ومن جهة تصَوُّرِهِ وتَشَكُّلِهِ في صُوَرْ وأشكال تارة أخرى.
أما خرق العادة بالنسبة للأنبياء، فالأنبياء يَخْرِقُ الله - عز وجل - لهم العادة أي عادة الجن والإنس في زمانهم، حتى يكون ما يُعْطَوهُ آيةً وبُرْهَانَاً؛ لأنَّ الساحر والكاهن قد يُعارِضُ النبي بما أُعْطِيَ من خارقٍ للعادة بما يمكِنُ للشياطين أن تُمِدَّ بِهِ هذا الساحر والكاهن إلى آخره.
لكن جَعَلَ الله - عز وجل - الخارق للعادة بما لا يمكن للإنسي ولا للجني لو اجتمعت أن يُعْطَوا ذلك، كما قال - عز وجل - {قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء:88] ، فالقرآن آية، برهان، وهكذا آية موسى عليه السلام، الآيات التي أوليتها موسى لا تستطيعها السَّحَرَة ولا الكهنة، وكذلك ما أعطى الله - عز وجل - عيسى من الآيات، وكذلك كل نبي ورسول لا يستطيعه أهل زمانهم من الإنس والجن لو اجتمعوا، فإنهم لا يستطيعون ذلك.
ولهذا صار مثلاً حمل الشيء الكبير العظيم من بلدٍ إلى بلد لا يدخل ضمن معجزات الأنبياء كما حصل في قصّة سليمان عليه السلام: {قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ} [النمل:39] ، هذا حَمْلْ لِمُدَّةْ أنْ يقومَ بالمقام، {قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ} [النمل:40] ، فصار جَلْبْ هذا الشيء من مكانٍ إلى مكان، من اليمن إلى أرض سليمان عليه السلام في فلسطين، صار جَلْبُهُ ليس من آيات الأنبياء ولا من براهين الأنبياء، فصار في حق الذي أُوتي علماً من الكتاب: كرامة (1) .
: [[الشريط السابع والأربعون]] :
وما قام به الجن هذا مما يَقْدِرُونَ عليه، فَخَرْقُ الجن للعادة بما لا يستطيع البشر قُصَارَى ما عندهم أنْ يأتوا به قبل أن يقوم من هذا المقام، يعني ذلك الجني الذي قال تلك الكلمة، وهذا الذي أُكرِمْ، أُكرِمْ بأن يَدْعُوَ فيُؤْتَى بالعرش إلى سليمان عليه السلام.
وهذا من جهة هو كرامة لمن أُعْطِي، ومن جهة أخرى هو أيضاً آية لسليمان عليه السلام بالنظر إلى تسخير هذا الإنس والجن له مما لا يُسَخَّرُ معه الإنس والجن والطير لغير نبيِّ من الأنبياء.
المقصود من ذلك:
- أنَّ خارق النبي آية وبرهان؛ لأنه يَخرِقُ عادة الجن والإنس في ذلك الزمان.
- أمَّا خارق الولي فهو محدودٌ بالنسبة إلى خارق النبي في أَنَّهُ تُخْرَقُ له العادة التي لا يستطيعها الإنس ولا بعض الجن.
لأنَّ اجتماع الإنس والجن، هذا خاص -يعني لو أرادوا أن يحدث شيء- هذا لا يمكن لأنَّ معجزة النبي أكبر وأعظم، وأما الولي فإنَّهُ بِحَسَبِ مَنْ هُوَ فيهم لأنها كرامة وليست آيةً ولا برهاناً على رسالةٍ ولا نبوة؛ بل هو خاصٌ بما يُكْرَمُ به هُوَ.
- أمَّا خوارق الشياطين والسحرة بما يُولُونَ به أولياء الشياطين من الإنس فهذه محدودة:
& وقد تكون تَخْيِيلاً -يعني تصوير للعين-.
& وقد تكون تَشَكُّلاً لكن تَشَكُّلْ من الجني في صورة إنسي أو في صور حيوان أو ما أشبه ذلك.
لهذا قد يظهر الجني في صورة إنسان، في صورة العبد الصالح ويكون في مكانٍ آخر، مثل ما قال ابن تيمية رحمه الله في موضع (كان وَقَعَ بأصحابي شِدَّةْ، قال: فَرَأَوا صورتي عندهم فاستغاثوا بي، ثم أخبروني فَأَعْلَمْتُهُم أَنِّي لم أَبْرَحْ مكاني -يعني في دمشق وهم كانوا خارج دمشق-، وإنما هذا جني تَصَوَّرَ بي) .
وهذا مما أَقْدَرَ الله عليه الجن، لكن لا يَقْلِبُونَ الحال؛ لكن يتشكلون في صورة ينظر إليها الإنسي أنَّ هذا هو صورة فلان، من قَبِيْلِ التَّشَكُّل، لكن ليس ثَمَّ مادة وقلب حقيقي.
لكن قد يدخلون في جسد حيوان، قد يدخلون في جسد إنسان، هذه مسألة التَّلَبُّسْ مسألة أخرى لكن من حيث التَّشْكِيلْ والتَّصْوِير هذا من جهة التخييل، أو من جهة إظهار الشيء بدون حقيقة مادية؛ لأنهم هم ليس لهم مادة يعني مثل مادة الإنسان.
لهذا صار صاحب الخوارق الشيطانية، هذا ليس بكرامة وإنما هو من جهة الشيطان، ولا يُعْطِيه الله - عز وجل - على ذنبه ومعصيته واستعانته بالشياطين، فيستعين بالشياطين على ذلك.
4- رابعاً: أنَّ كرامة الولي لا تبلغ جنس آية النبي.
هذا هو الذي عليه أهل السنة والجماعة؛ -يعني أهل الحديث- في أنها لا تبلغ جنسها وإنْ شَرِكَتْهَا، يعني اشتركت معها في الصورة فلا تبلغ جنسها.
يعني قد يدخل النار فلا يحترق، وإبراهيم عليه السلام دخل ناراً فلم تضره أو صارت برداً وسلاماً عليه؛ لكن لا يشتركان في الجنس، وإن اشتركوا في النوع.
يعني إنْ اشتركوا لكن هذه قدْرَهَا ليس كَقَدْرِ هذه، صفة النار هذه ليست النار كصفة هذه، وصفة ما يحصل للولي ليس كصفة ما يُعْطَاهُ النبي.
وأما الأشاعرة وطائفة فإنهم قالوا تتساوى، تتساوى الكرامة بآية وبرهان النبي والمعجزة من حيث الجنس، لكن الفرق بينهما أنَّ النبي يقول: أنا نبي، وأما الولي فيقول: أنا تابعٌ للنبي.
والأول مثل ما ذكرت لك هو المتَعَيِّنْ لأنَّ الله - عز وجل - فَرَّقَ بين ما يُعْطِيهْ النبي من خرق العادة وما يُعْطِيهْ غيره فقد قال فيما يُعْطِيهْ للنبي: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ} [الإسراء:88] ، وأما ما يُعْطِيهْ الإنسي فإنَّه قد يكون محدوداً.
مثلاً أصحاب الكهف ناموا تلك النومة، ولم يتأثروا ثلاثمائة وتسع سنين، فيه من يعيش أكثر من ذلك.
وهذا أقل مما يحصل للأنبياء في جنس ما يُعطَوْن.
__________
(1) نهاية الشريط السادس والأربعين.(1/679)
[المسألة السابعة] :
أنكرت المعتزلة وجماعات كرامات الأولياء وقالوا: إنَّ إثبات كرامات الأولياء يعود على معجزات الأنبياء بالإبطال؛ لأنَّ الجميع خرقٌ للعادة، وما عَادَ على معجزات الأنبياء بالإِبْطَالْ فهو باطل.
فالجواب عن ذلك أنَّ الله - عز وجل - أثبت هذه الأنواع الثلاث:
أثبت الآيات والبراهين التي يعطيها للأنبياء.
وأثبت - جل جلاله - كرامات الأولياء.
وأثبت - عز وجل - مخاريق السحرة وتخييلات السحرة.
فَكُلُّ هذه في القرآن وفي السنة، وكلها تشترك في أنها أمور خارقة للعادة، فعدم الإيمان بها هو ردٌ للقرآن فيما دَلَّ عليه.
وقد لا تكون الدِّلالة عندهم قطعية وبذلك لا تدخل المسألة في الكفر؛ لكن ظاهر أنَّ القرآن فيه هذا وهذا.
فمثلاً مريم عليها السلام أُعْطِيَتْ أشياء وليست بِنَبِيَّة لأنَّهُ ليس في النساء نَبِيَّةْ كما هو معلوم، {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران:37] ، وكذلك قصة أصحاب الكهف، وهؤلاء جميعاً ليسوا بأنبياء.
المقصود من ذلك أنَّ جنس الكرامة هذا ثابِتْ في القرآن وفي السنة وقَصَّهُ الله - عز وجل -، فَنَفْيُ الكرامة لأنها خارق للعادة هذا رَدٌّ لما أثبته الله - عز وجل -، والله - عز وجل - فَرَّقَ بين هذا وهذا.
وأما أنها تشتَبِهْ مع خارق الأنبياء فهذا ليس بصحيح كما ذكرنا لك من الفروق السّابقة لأنَّهُ ثَمَّةَ فُروق ما بين كرامات الأولياء وما بين معجزات الأنبياء.
وطَرَدُوا المعتزلة هذا الباب فقالوا: كل الخوارق الشيطانية وكل الخوارق التي تجري للعقل والسحر والأشياء كل هذه مما يدخل في باب خرق العادة، لا نؤمن به ويُرَدْ.
وكُلُّهُ جَرْيَاً منهم على هذا الأصل، وهو أنَّهُ يعود على آيات الأنبياء بالإِبْطَال.(1/680)
[المسألة الثامنة] :
مما يشتبه بالكرامة: الإعانة الخاصة مِنَ الله - عز وجل - لبعض عباده، فقد يُعِينُ الله - عز وجل - بعض العباد بأشياء يُفَرِّجُ بها عنهم الهم والكرب والضيق لكن لا تدخل في باب الكرامة؛ لأنها ليست أموراً خارقة للعادة، فَثَمَّ فَرْقْ بين نِعَمِ الله تعالى المتجددة مما يُنَجِّي الله به مثلاً عبده من حادث أو من مرض أو نحو ذلك ولا يكون هذا الإنْجَاءْ من الخوارق للعادة.
فلذلك يُفرَّقْ ما بين جنس النِّعَمْ التي يُعطيها الله - عز وجل - خاصة العباد وما بين الكرامات، فليس كل ما يُنْعِمُ الله - عز وجل - به على العبد من الأمور العظيمة كرامة؛ بل الكرامة ضابطها أنها أمرٌ خارقٌ للعادة جرى على يدي ولي.
ولهذا أصحاب الطُّرُقْ والذين يريدون صرف وجوه الناس إليهم قد يُعَظِّمُون ذِكْرْ بعض الإِنْعَامْ حتى يجعلوه كرامةً، فيُغْرُونَ الناس بأنهم أولياء وأنهم أُكْرِمُوا بكذا وكذا إلخ.
والله - عز وجل - يُنعم على عباده بأنواع النِّعَمْ الدينية، والشرعية والكونية، وهذه الأنواع من الإِنْعَامْ هذه ليست دائماً مما تُخرَقُ به العادة، لهذا نقول الكرامة مما تُخْرَقُ به العادة.(1/681)
[المسألة التاسعة] :
الكرامة إذا أعطاها الله - عز وجل - الولي فإنَّهُ ليس معنى ذلك أنَّهُ مُفَضَّلٌ وأعلى منزلة على من لم يُعْطَ الكرامة.
فالكرامة إكرامٌ وإِنْعَامْ من الله - عز وجل - للعبد لأجل حاجته إليها، وقد تكون حاجته إليها دينية وقد تكون حاجته إليها كونية دنيوية.
لهذا قَلَّتْ الكرامات عند الصحابة، فالمُدَوَّنْ من الكرامات بالأسانيد الثابتة عن الصحابة أقل بكثير مما يُروَى عن التابعين، وهكذا فيمن بعدهم؛ لأنَّ المرء إذا قَوِيَ إيمانه وقَوِيَ يقينه فإنه قد يُتْرَكْ للابتلاء لا للتفريج كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي في الصحيحين: «يُبتلى الرجل على قدر دينه، أشد الناس بلاءً الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل» ، «يُبتلى الرجل على قدر دينه» (1) .
وهذا يدل على أَنَّ الله - عز وجل - قد يختار للولي الصالح وللعبد الصالح الذي تَعْظُمُ منزلته في وَلَايَةِ الله - عز وجل - وإكرامه ومحبته له في أن يتركه للإبتلاء، وأن يتركه لغير هذه الأمور الخارقة للعادة.
فتكون إذاً هذه الخوارق للعادة وهذه الكرامات لحاجته إليها ولأنه قد يصيبه ضعف في الإيمان لو لم يُعطَ.
فبعض الناس قد يكون عنده عبادات عظيمة وقيام وصلاة وصيام ثُمَّ إذا أصابته شدة ولم يُفَرَّجْ عنه فإنه قد يعود على قلبه بالضعف في الإيمان، فيُكْرِمُهُ الله - عز وجل - لأجل ضعفه لا لأجل كماله.
ولهذا فإنَّ باب الكرامة ليس معناهُ تفضيل من جرت له، فقد يكون مُفَضَّلاً وقد لا يكون، فليست الكرامة بمجردها دليلاً عند السلف من الصحابة والتابعين وأئمة الإسلام؛ بل الإيمان بالكرامات -كرامات الأولياء- لأجل وجودها وأنَّ الله - عز وجل - يُكْرِمْ بها عباده وأَنَّ الأدلة دَلَّتْ على ذلك وليس من أجل تفضيل من حصلت له الكرامة فقد يكون أقل درجة بكثير ممن من لم تحصل له الكرامة.
إذا كان كذلك، فإنه حينئِذْ من دُوِّنَتْ عنه الكرامات لا يلزم أن يكون أعلم ولا أفضل ولا أن يُقْتَدَى به ولا أن تُؤْخَذْ أقواله لأجل أنَّهُ حصلت منه الكرامة؛ بل لم يزل الصَّالحون إذا حصلت لهم مثل هذه الأنواع من الكرامات لم يزالوا يكتمونها ولا يُشيعُونَها لأَنَّهَا قد تكون في حقّهم من الفتنة، وهم لِعِلْمِهِمْ بالله - عز وجل - وما يستحقه - جل جلاله - من الطاعة والإنابة والإقبال عليه أَنْ لا يَفْتِنُوا الناس بذلك.
وهذا من أسباب أنَّ المنقول عن الصحابة من الكرامات قليل جداً، وعند التابعين أكثر، ثُمَّ هكذا، كلما ضَعُفَ الناس كلما أَحَبُّوا إذا حصل لهم أي شيء أن ينشروه وأنْ لا يكتموه.
لهذا نقول: الواجب على الناس أن لا يعتقدوا فيمن حصل له إكرام أو كرامة.
أن لا يعتقدوا فيه؛ بل يقولون: هذا دليل على إيمانه وتقواه إذا كان مُتَحَقِّقَاً بالإيمان والتقوى، وهذا دليلٌ على محبة الله - عز وجل - له.
وهو يَسْأَلْ لنفسه الثبات ويحرص على ذلك.
وهم أيضاً لا يأمنون عليه الفتنة، وإذا مات على هذه الحال أيضاً من الصّلاح والطاعة فإنه يُرْجَى له الخير ولا تتعلق القلوب به، أو يُستغَاثْ به أو يُؤْتَى لقبره ويُسْتَنْجَدْ به أو يُطْلَبْ منه تفريج الكربات أو يُرَاعَى وهو في غيبته في حال الحياة ونحو ذلك كما يفعله ضُلَّالْ أصحاب الطرق الصوفية ومن يعتقدون فيه ممن ينتسبون للأولياء وربما لم يكونوا منهم.
لهذا فالواجب على المؤمن أن لا يتحدث بهذه إلا إذا رأى ثَمَّ حاجة دينية لذلك، أما إذا كانت لأجل إظهار منزلته أو لإظهار إكرام الله - عز وجل - له ونحو ذلك، فهذا الأفضل كتمانها سِيَّمَا إذا كان مع إظهارها والتحدث بها فتنة قد تصيب البعض، وإذا كان في مثل هذه الأزمنة التي يظهر فيها الجهل ويتعلق الناس بمن ظهر عليهم الصلاح لأجل الاعتقاد فيهم فإنه يجب على المؤمن أن يصد وسائل الشر وأن يسد ذرائع الشرك والغلو التي منها ذكر الكرامات وتداول ذلك.
__________
(1) ابن حبان (2900)(1/682)
[المسألة العاشرة] :
مما يتصل بالكرامة من المباحث مبحث الفِرَاسَةْ؛ لأنَّ الفِرَاسَةْ الإيمانية بها يَعْلَمْ صاحب الفِرَاسَةْ ما في نفس الآخرين.
والفِرَاسَةْ لفظٌ جاء في السنة: «اتقوا فِراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله» (1) ، والحديث حَسَّنَهُ جماعة من أهل العلم، وهو في الترمذي وفي غيره.
هذه الفِرَاسَةْ عُرِِّفَتْ بأنها: شيء من العلم يُلْقَى في رُوعِ المؤمن به يعلم حالْ من أَمَامَهْ، إمَّا حالُهُ الإيماني وإما حالُهُ في الصدق والكذب، وإما بمعرفة ما في نفسه ويجول في خاطره.
ولهذا عُرِّفت الفِرَاسَةْ أيضاً بأنها نور يقذفه الله في قلب بعض عباده، بها يعلم مُخَبَّئَاتْ ما في صدور بعض الناس.
والعلماء قسموا الفِرَاسَةْ إلى أقسام أشهرها ثلاثة:
1- الأول: الفِرَاسَةْ الإيمانية:
وهي التي قد يُدْخِلُهَا بعضهم في باب الكرامة وليست منها.
2- الثاني: فراسةٌ رياضية:
يعني تحصل بالترويض وبالتعود وبتخفيف ما في النفس من العلائق، وهي التي يحصل فيها دُرْبَة عند بعض أصحاب الطُّرُقْ.
3- الثالث: فراسة خَلْقِيَّة:
وهذه ليست راجعت إلى استبطان ما في النفوس ولكن باعتبار الظَّاهر.
يُنْظَرُ إلى الخَلْقْ فيستدل بشكل الوجه على الخُلُق، ويستدل بشكل العينين على مزاج صاحبها، يستدل بشكل البدن أو شكل اليد أو تقاطيع الوجه على حاله مِنْ جِهَةْ الأخلاق.
فهذه اعتنى كثير من الناس، وصُنِّفَتْ فيها مصنفات عند جميع الأمم، من الأمم السابقة لأمة الإسلام، وفي أمة الإسلام أيضاً لأنها فراسة خَلْقِيَّةْ، ويقولون: إنَّهُ ثَمَّ ترابط ما بين الخَلْقْ والخُلُقْ.
ومن الأئمة الذين اعتنوا بهذا الباب وتَعَلَّمُوهُ الشافعي رحمه الله وصَنَّفَ طائفة من أصحاب الشافعي في الفِراسة مصنفات الفراسة الخَلقية.
المقصود من ذلك أَنَّ الفراسة -وهي النوع الأول الفراسة الإيمانية-، ليست من الكرامة لأنها أقرب ما تكون إلى الإلهام، والإلهام قد يكون خارقاً للعادة وقد لا يكون.
فجنس الفراسة الإيمانية ليست من جنس الكرامات، وقد يكون من أنواع الفراسة ما يكون فيه خرق للعادة فيكون كالعلوم والمُكَاشَفَات التي يُجريها الله - عز وجل - على يد أوليائه.
__________
(1) الترمذي (3127)(1/683)
[المسألة الحادية عشر (1) ] :
كرامات الأولياء قد تجري للمجموع لا للأفراد، وهذا في حال الجهاد سواءٌ أكان جهاداً علمياً أم كان جهاداً بدنياً -يعني بالسِّنان-.
فقد يُكْرِمُ الله - عز وجل - الأُمَّةَ المجاهدة، جماعة المجاهدين من أهل العلم، يعني من الجهاد باللسان بقوة في التأثيرات الشّرعية وبالنصر على من عاداهم بالمَلَكَة والحُجَّة وبما يعلمون به مواقع الحُجَجْ وما في نفوسهم بما يكون أقوى من قُدَرِهِمْ في العادة.
قد يُكرمهم الله - عز وجل - بذلك وإن لم يكونوا من الملتزمين بالسنة.
وقد يكون كما ذُكِرْ بعض أهل البدع يُعْطَى قوّة وينتصر على عَدُوِّهِ من النصارى مثلاً أو من اليهود أو من الملاحدة في أبواب المناظرات ويُكْشَفُ له من مُخَبَّآتِ صدر الآخر ما لا يكون لأفراد الناس، ويُكْشَفْ له من القوة والحجة في التأثير على الناس ما يدخل في باب التأثير في الكونيات والشرعيات كما ذكرت لك سابقاً.
وكذلك في أبواب جهاد الأعداء بالسيف، فقد يُؤْتَى طائفة من المسلمين من أهل البدع والذنوب والمعاصي بعض الكرامات إذا جاهدوا الأعداء.
وهذا يُنْظَرُ فيه إلى المجموع لا إلى الفرد، والمجموع أرادَ نُصْرَةْ القرآن والسنة ودين الله - عز وجل - ضِدْ من هو كافِرٌ بالله - جل جلاله - وضد من هو مُعَارِضٌ لرسالة الرسل أو من يريد إذلال الإسلام وأهل الإسلام.
فيُعطى هؤلاء بعض الكرامات وهي لا تدل على أنهم صالحون وعلى أنَّ مُعْتَقَدْ الأفراد أَنَّهُ مُعْتَقَدٌ صالحٌ صحيح؛ بل تدل على أَنَّ ما معهم من أصل الدين والاستجابة لله والرسول في الجملة أنهم أحَقُّ بنصر الله وبإِكرامه في هذا الموطن لأنهم يجاهدون أعداء الله - عز وجل - وأعداء رسوله صلى الله عليه وسلم.
ولهذا لا يُغْتَرْ بما يُذْكَرْ عن بعض المجاهدين أنهم حصلت لهم كرامات وكرامات وكرامات.
وهذه الناس فيها لهم أنحاء:
- منهم من يُكَذِّبْ ويقول هؤلاء عندهم وعندهم من البِدَعْ والخُرَافات وإلخ، وبالتالي الكرامة لا تكون لهم، فينفي وجود هذه الكرامات.
- ومنهم من يُصَدِّقُ بها ويجعل هذا التصديق دليلاً على أنهم صالحون وأنَّهُ لا أثر للبدعة وأنَّ الناس يتشددون في مسائل السنَّةْ والبدعة.
وأما أهل العلم المتبعون للسلف كما قَرَّرَ ذلك ابن تيمية بالتفصيل في كتابه النَّبُوَاتْ فإِنَّهُم يعلمون أنَّ المجاهد قد يُعْطَى كرامَةً ولو كان مُبتدعاً، لا لذاته ولكن لما جاهد له، فهو جاهد لرفع راية الله - عز وجل - ضد ملاحدة، ضد كفرة، ضد نصارى، ضد يهود، ضد وثنيين، وهذا يستحق الإكرام لأنَّهُ بَذَلَ نفسه في سبيل الله - عز وجل -.
والبدع ذنوب، والجهاد طاعة، ومن أعظم الأعمال قُرْبَةْ، ومعلوم أَنَّ الحسنات تُذْهِبْ ما يقابلها من السيئات، فقد تكون في حَقِّ البعض حسنة الجهاد أعظم من سيئة بعض البدع والذنوب؛ بل الجهاد سبب في تكفير الذنوب والآثام كما قال - عز وجل -: {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [الصف:10-12] الآية.
من أعظم أسباب مغفرة الذنوب الجهاد، ومن أعظم أسباب تحقيق وَلَايَةْ الله ومحبته أَنْ يُجَاهِدْ العبد، لكن هذا يكون في موازنة الحسنات والسيئات والله - عز وجل - أعلم بنتيجة هذه الموازنة.
المقصود من ذلك أَنَّ أهل السنة والجماعة يُقَرِّرُون أَنَّ الكرامة هي للولي الصالح كما قال تعالى: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس:62-63] ، وقد يُعْطِيْ الله - عز وجل - الكرامة لجَمْعٍ من المسلمين، أو لفردٍ في جَمْعٍ من المسلمين لأجل ما ذكرتُ لك من الحال إذا كان على غير التقوى والإيمان ومتابعة السّنة أو الأخذ ببعض البدع.
ولهذا لا يَغْتَرْ مُغْتَرْ بما يحدث من ذلك ويَزِنْ الأمور بموازينها:
- فمن نَفَى مُطْلَقَاً فهو مَتَجَنِّي لأنَّهُ لا عِلْمَ له بذلك.
- ومن قَبِلَ مُطْلَقَاً وجعلها دليلاً على الصلاح والطاعة وأنَّهُ لا أثر للعقائد ولا أثر للسنة في مثل هذه المسائل هذا أيضاً تَجَنَّى على الشرع وتَجَنَّى نفسه، والعلم يقضي بما ذكرته لك في ذلك.
__________
(1) ذكرها الشيخ حفظه الله تعالى تحت المسألة الثالثة عند الإجابة على السؤال: هل المبتدع أو الضال أو العاصي يعطى كرامة (672)(1/684)
[المسألة الثانية عشر] :
الواجب على المؤمنين أن يَسْعَوا في الإيمان (1) وفي شُعَبِهِ -امْتِثَالَاً للأوامر واجتناباً للنواهي- طلباً لمرضاة الله - عز وجل - وأن يبذلوا أنفسهم في الجهاد بأنواعه: الجهاد في العلم والجهاد في العمل والدعوة، أو الجهاد بالسيف والسنان إذا جاء وقته، أو إذا حَضَرَهُ المؤمن، أن يسعوا فيه طَلَبَاً لرضا ربهم - عز وجل -، وأن لا يلتفت العبد مهما بَذَلْ إلى حصول الكرامة أو عدم حصول الكرامة.
فمن الناس من تعلّقت قلوبهم بالكرامات؛ بل بما هو دونها من الرُؤَى وربما الأحلام ومن القصص والحكايات والأخبار وأَثَّرَ ذلك على إيمانه سلباً أو إيجاباً، ضعفاً أم زيادة.
وهذه الأمور نؤمن بها -يعني مسائل الكرامات-، نؤمن بها لأَنَّهَا جاءت في النصوص؛ لكن العبد لا يَتَطَلَّبُهَا، لا يبحث عنها، كما ذكرت لك ربما كان الأكمل في حقه أن لا تحصل له الكرامة، وربما كان الأكمل في حقه أن يُبْتَلَى، وربما كان الأكمل في حقه أن يُذَلْ ولا يُعْرَفْ ما يقضي الله - عز وجل - به في هذه المسائل.
ومن نظر لسيرة من نعتقد فيهم أنهم من أفضل أهل زمانهم إيمانَاً وتقوى ومُتابعة للسنة وأمراً بالمعروف ونهياً عن المنكر ومُجَاهدةً لأعداء الله، حصل لهم من الابتلاء والفتنة ما حصل، كما حصل لإمام أهل السنة والجماعة الإمام أحمد بن حنبل، وكذلك ما حصل لشيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم، فالجميع حصل لهم من البلاء والسجن والفتنة، يعني والصد والإيذاء ما حصل لهم، ومع ذلك هم أكمل ممن هم دونهم ممن حصل لبعضهم من الكرامات فيما نُقل بأسانيد ثابتة.
بل ابن القيم رحمه الله طِيْفَ به في دمشق وهو العالم الإمام على حمار ظهره إلى السماء ووجهه إلى الأرض تنكيلاً به، ومع ذلك ما ضَرَّهُ لا في وقته ولا فيما بعده فالتراجم طافحة بالثناء عليه، لأنَّ هذه مسائل من الابتلاء التي يَبْتَلِي بها الله - عز وجل - بعض عباده كيف شاء.
فالمقصود من هذا أنَّ الميزان هو متابعة السنة.
تحقيق الإيمان والتقوى، متابعة طريقة السلف الصالح قد يحصل معه إكرام وقد لا يحصل معه، يحصل معه ضد ذلك من الابتلاء والإيذاء، وقد يكون المُبْتَلَى أكمل ممن لم يُبْتَلَ.
فالعبرة بلزوم منهج السلف الصالح وطريقة السلف الصالح، فقد يُبْتَلَى من هو من أهل البدع، وقد يُبْتَلَى من هو من أهل السنة، وقد يُبْتَلَى العاصي المذنب، وقد يُبْتَلَى التقي الناصح، وهكذا.
فإذاً الميزان هو كتاب الله - عز وجل - وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وملازمة طريقة السلف الصالح في ذلك.
أسأل الله - عز وجل - أن يجعلنا من أوليائه وأن يغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، وأن يُكَفِّرَ عنا الخطايا والآثام، وصلى الله وسلّم وبارك على نبينا محمد.
__________
(1) نهاية الوجه الأول من الشريط السابع والأربعين(1/685)
الأسئلة:
س1/ يقول أشكل عند قول الطحاوي: (حب الصحابة دين وإيمان) (1) ، وذلك من جهة تسمية حب الصحابة إيمان، والحب عمل القلب وليس هو التصديق، فيكون العمل داخِلَاً في مُسَمَّى الإيمان.
ج/ هذا مُشْكِلْ وقد ذكر الشارح أنه مُشْكِلٌ على أصل الشيخ، وهذا ظاهر أنه مُشْكِلْ، وما من أحد يخالف السّنة إلا ويقع في التناقض، لأنَّ الميزان الذي لا يختلف هو الكتاب والسنة، أما الرأي فيختلف، الإنسان يرى رأياً اليوم وغداً يبدو له شيء آخر، ما يلتزمه في كل كلمة، يلتزمه إذا جاء في التعريف، يلتزمه إذا جاء في الوصف ثُمَّ يخالفه في سَنَنْ كلامه وهكذا.
ولهذا بعض أهل البدع حتى في مسائل الصفات، إذا جاؤوا يتكلمون مثلاً عن الاستواء على العرش، لو تَحَقَّقَ هو من نفسه لوجد أنَّ نفسه تغلبه إلى أنَّ الله - عز وجل - مستوٍ على عرشه بذاته بائنٌ من خلقه حتى وهو يتكلم فيها.
لكن إذا أراد أن يُقَرِّرْ المسألة ذهب إلى ما تَعَلَّمَهُ فَثَمَّ فرق مابين الشيء الفطري وهو التسليم لكلام الله - عز وجل - وكلام رسوله وما يأتي في باب التعليم تارَةً.
ولهذا نبهناكم مراراً إلى غلط قول من يقول إنَّ أكثر المسلمين أشاعرة أو أكثر المسلمين ليسوا من أهل السنة والجماعة، وإنما أكثر المسلمين أشاعرة، أو أكثر المسلمين ماتريدية أو نحو ذلك، والقليل هم من يتبعون منهج السلف الصالح، هذا غلط كبير.
بل أكثر المسلمين في المسائل الغيبية على الطريقة المرضية، لكن ليس أكثر العلماء؛ لأَنَّ العلماء هم الذين عندهم ما يخالف ظاهر الكتاب والسنة، وما يُخالف الفطرة، أما لو تسأل أي عامي في البلاد التي هي بلاد لنصرة المذاهب المخالفة لطريقة السلف، إما للأشعرية والماتريدية بحسب اختلاف البلدان وتأخذ عامي وتسأله عن الاستواء على العرش، ما يستحضر إلا ما يدل عليه الظاهر وما يؤمن به، إلا إذا أتى أحد من العلماء وعَلَّمَهْ أَنَّ هذه تأويلها كذا وكذا، فيذهب إلى كلام العالم.
والإيمان بالظاهر في الصفات ما يستحضر أَنَّ الله لا يُوصَفْ بالرحمة، ما يستحضر أنَّ الله لا يوصف بالرضا.
لو تسأل عامي: هل الله يرضى؟
يقول: نعم الله يرضى، في القرآن.
هل الله يغضب؟
يقول: نعم يغضب.
فلذلك عامة الناس حتى في مسائل الإيمان، العمل، لو تسأل عامة الناس: هل العمل من الإيمان؟
أكثر المسلمين يقولك نعم العمل من الإيمان، كذلك مسائل القَدَرْ ما عندهم مبحث الجبر ولا يعرفون الجبر الداخلي لا الظاهري الذي هو الكسب عند الأشاعرة، هذه مسائل مُخَالِفَة للفطرة ومخالفة لظاهر النصوص، والناس لا يستوعبونها إلا بالدرس والتعليم.
ولهذا مِيْزَةْ هَدْيْ السلف الصالح ومِيْزَةْ طريقة أئمة الحديث أنَّهُم على ظاهر القرآن والحديث، وهذا هو الذي يسع الذكي والبليد والعامي وغير العامي والعالم وغير العالم، يسع الجميع لأنها سهلة ميسورة، وإنما فصَّلنا في المسائل وكَثُرَ الكلام لأجل كثرة المخالفين وحماية للشريعة.
مثل الإعداد بالسلاح، عندنا مال كثير نحتاج فيه إلى بناء مساجد فنذهب نبني المساجد لكن إن دَهَمَنَا عدو وَجَّهنَاه في العدو، أَخَّرْنَا بناء المساجد لأن لا يقضي ما هو موجود من الدين والمساجد.
فلهذا النفوس، نفوس المسلمين هي على ظاهر الكتاب والسنة ما عندهم التأويل والعقلانيات إلخ.
فأكثر المسلمين على طريقة السلف في الاعتقاد.
لكن، أما العلماء فهذه هي المصيبة هم الذين تعلموا، منذ نشؤوا دخلوا في مدارس تعلمهم الأشعرية بقوانينها، دخلوا في مدارس تعلمهم دين الخوارج أو دين الرافضة أو إلخ، فأخذوا منها شيئاً فشيئاً بالتعليم وبالقصد، ولهذا كما جاء في الحديث: «كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو يمجسانه أو ينصرانه» (2) .
المقصود من ذلك أنَّ المُعَلِّمْ قد يكون أعظم من الأبوين في التأثير أو المربي أو الذي تخالط.
ولهذا احرص تمام الحرص على أن يسلم القلب من مخالفة الكتاب والسنة في الاعتقاد.
الأعمال والذنوب فهي على باب الغفران كما قال ابن القيم رحمه الله في النونية:
فَوَالله مَا خَوْفِي الذُّنُوبَ فَإِنَّهَا ******* لَعَلَى سَبِيلِ الْعَفْوِ وَالْغُفْرَانِ
لَكِنَمَا أَخْشَى انْسِلاَخَ الْقَلْبِ مِنْ ****** تَحْكِيمِ هَذَا الْوَحْيِ وَالْقُرْآنِ
تحكيمه ليس معناه الدولة اللَّتي تُحَكِّمْ فقط، لا أنت أيضا تُحَكِّمْ الوحي والقرآن في المسائل، تعتقد ما في القرآن وتعتقد ما في السنة.
فالمقصود من ذلك أنَّ الإشكال الذي وقع فيه الطحاوي يُبَيِّنُ لك أَنَّ بعض العلماء حتى من الذين ربما أصَّلُوا شيئاً مُخَالِفاً للسنة، مثل ما أصَّلْ في مسألة الإيمان شيئاً وبَيَّنَا عدم صحت ذلك هو يُخالفه.
نحن نقول إشكال، لكن هو في الواقع مُخَالف وهو الصحيح أَنَّ حب الصحابة إيمان وحب الصحابة عمل القلب وأَدْخَلَهْ في الإيمان، حب الصحابة إيمان، خلاص واضح أنَّ هذا العمل إيمان.
ولهذا قال الشارح: وهذه الكلمة مُشْكِلَةْ على أصل الشيخ. كما ذكره السائل.
س2/ هل تُقاس الرؤية الصالحة على الكرامة؟ أي هل هي من الكرامة أم لا؟
ج/ الرؤية الصالحة ليست أمراً خارقاً للعادة، الرؤية الصالحة تحصل لآحاد الناس ليست خارقة لعادة البشر ولا لعادة بعض الجن، فهي رؤية يَضْرِبُهَا الملك، فهي رؤية صالحة وليس لها دخل في الكرامات.
أمَّا وهل هي مما قد يحتاج إليه المؤمن أو لا؟
لا، المؤمن لا يتعلق قلبه بالرُّؤَى، إذا رأى رؤية صالحة حَمِدَ الله - عز وجل - ولازَمَ الطاعة حتى لا يفتتن، وإذا رأى رؤية لا تسره أو فيها سوء بالنسبة له فيعمل ما أَوْصَى به النبي صلى الله عليه وسلم، أنه ينفث عن يساره ثلاثاً، ويستعيذ بالله - عز وجل - من شرها وينقلب على جنبه الآخر، فإنها لا تضره.
س3/ هل العاصي يُعْطَى كتابه بيمينه أم بشماله؟
ج/ العاصي يُعْطَى كتابه بيمينه، أما الذي يُعْطَى كتابه يوم القيامة بشماله فهو الكافر، يُعْطَى كتابه بشماله وراء ظهره، أما المؤمن فيُعْطَى كتابه باليمين سواءٌ أكَانَ من السابقين أم من المقتصدين أم ممن ظلم نفسه، ثم يأتي بعد ذلك الحساب والوزن ثم تأتي الْمُجَازات.
س4/ هل تصح هذه العبارة: كرامات الأولياء معجزات الأنبياء، ومعجزات الأنبياء كرامات الأولياء؟
ج/ يعني ما أدري من اللي قالها، ولكنها عبارة حلوة: كرامات الأولياء معجزات الأنبياء. لو قال كرامات الأولياء معجزاتٌ للأنبياء أو كرامة الولي معجزةٌ للنبي، يعني من حيث الجنس فربما صَحَّتْ، يعني باعتبار جميع الأولياء، كرامات جميع الأولياء ما حصلت لهم إلا باتِّبَاعِهِم لهذا النبي، فكل أنواع الخوارق التي حصلت للولي الأول والولي الثاني والعاشر والمائة، كل أنواع هذه الخوارق والكرامات في مجموعها هي معجزة للنبي؛ لأنها ما حصلت لهم إلا بالإتباع، قال: ومعجزات الأنبياء كرامات الأولياء. هذا عكس الكلمة السابقة، فهي إيضاحها على ما ذَكَرْتُ لك، إذا كان المقصود أنَّ كرامات جميع الأولياء هي معجزة وآية وبرهان للنبي الذي تابعوه، فهذا صحيح.
نكتفي بهذا القدر ونراكم إن شاء الله على خير حال، وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله وسلّم على نبينا محمد (3)
__________
(1) قال الطحاوي رحمه الله: وَحُبُّهُم دِينٌ وإيمَانٌ.
(2) سبق ذكره (220)
(3) نهاية الشريط السابع والأربعين.(1/686)
: [[الشريط الثامن والأربعون]] :
الحمد لله حق حمده، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لمجده، وأشهد أنَّ محمداً عبد الله ورسوله وصفيه وخليله، أما بعد:
الأسئلة:
س/ ما معنى قول (منه بدأ وإليه يعود) ؟
ج/ قول طائفة من السلف في القرآن الكريم الذي هو كلام الله - جل جلاله -: (منه بدأ وإليه يعود) ، يعني منه - جل جلاله - بدأ قولاً وكلاماً وتنزيلاً، فلما تَكَلَّمَ به سمعه منه جبريل عليه السلام فبلَّغَهُ جبريل نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم كما سمعه، وقولهم (وإليه يعود) يعني في آخر الزمان حين لا يُعْمَلُ بالقرآن فَيُكَرِّمُ الله - عز وجل - كلامه أن يبقى في الأرض ولا ثَمَّ من يعمل به فيُسْرَى على القرآن في ليلةٍ، من الأوراق من الصحف ومن الصدور فلا يبقى منه في الأرض آية. هذا معنى قولهم (منه بدأ وإليه يعود) .
نكتفي بهذا القدر ...(1/687)
وَنُؤْمِنُ بِأَشْرَاطِ السَّاعَةِ: مِنْ خُرُوجِ الدَّجَّال، ونُزُولِ عِيسَى ابنِ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ مِنَ السَّماءِ، وَنُؤْمِنُ بِطُلُوعِ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، وَخُرُوجِ دَابَّةِ الأرْضِ مِنْ مَوْضِعِهَا.
___________________________________________
يريد الطحاوي رحمه الله أنَّ ما جاء في القرآن الكريم وفي سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - من ذِكْرِ أمورٍ غيبية تكون قريباً مِنْ السّاعة، أو تكون من أشراطها فإنها داخلةٌ في الإيمان في أركان الإيمان، ويجب الإيمان بها.
ودخولها في أركان الإيمان من جهتين:
الجهة الأولى: أنَّهَا غيب والإيمان كُلُّهُ إيمانٌ بالغيب الذي أخبر به الله - جل جلاله - أو أخبر به نبيُّه الله صلى الله عليه وسلم.
الجهة الثانية: أنَّ من أركان الإيمان: الإيمان باليوم الآخر، ومُقَدِّمَات اليوم الآخر وأشراط الساعة التي ثبتت في كتاب الله وفي سنة محمد الله صلى الله عليه وسلم فإنَّ الإيمان بها واجب إذا بلغ المسلم الخبر في ذلك فيجب عليه التصديق بالغيب والإيمان به.
وقد خَصَّ الله - عز وجل - أهل الإيمان بصفة الإيمان بالغيب، فهي أَوْلَى وأُولَى صفات المؤمنين كما قال - جل جلاله -: {الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ} [البقرة:1-2] فالإيمان بالغيب يدخل فيه جميع أركان الإيمان لأنَّ الإيمان بالله، وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشرّه، هذا كله إيمانٌ بالغيب.
ويريد أيضاً رحمه الله بإيراد هذه الجملة مخالفة عددٍ من الطوائف الضّالة الذين لا يؤمنون بما يخالف ما دَلَّهُمْ عليه عقلُهُم، فإنَّ طوائف أنكرت وجود الدجال، وطوائف أنكرت نزول عسى بن مريم عليه السلام، وطوائف أنكرت طلوع الشمس من مغربها وخروج الدابة ونحو ذلك مما ليس مألوفاً لهم ولا يدخل في السُّنَنْ، فَنَفَوهُ لأجل ذلك.
وأهل السنة باب الغيب عندهم بابٌ واحد، فما صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإنه يجب الإيمان به.
وهذه الجملة تحتها مباحث ومسائل:(1/688)
[المسألة الأولى] :
الأشراط جمع شرط، والشّرط هو العلامة التي تُفَرِّقُ الشيء وتُمَيِّزُهُ عن غيره.
وأشراط الساعة المقصود به الآيات والعلامات التي تدل على قرب قيام الساعة، إما دُنُواًّ فتكون أشراطاً كبرى، وإما دِلَالَةً على القُرْبْ فتكون من جملة الأشراط الصغرى.
وقد جاء ذكر كلمة الأشراط في القرآن الكريم في سورة محمد، قال - عز وجل -: {فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أنَّ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا} [محمد:18] ، وأفادت الآية فائدتين:
- الفائدة الأولى: أنَّ الساعَةَ لها أشراط وعلامات.
- الفائدة الثانية: أنَّ أشراط الساعة قد وقعت في وقت تَنَزُّلِ القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم.
وهذا يعني أنَّ مِنَ الأشراط ما يكون بعيداً عن وقوع الساعة ومنها ما يكون قريباً من وقوع الساعة.
ومن الأحاديث في ذلك: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لما تَذَاكَرُوا عنده الساعة قال: «إنها لن تكون حتى تروا قبلها عشر آيات» (1) ، فدلَّ ذلك على أنَّ ثمَّتَ أشراط قريبة منها سَمَّاهَا النبي صلى الله عليه وسلم آيات.
والآيات جمع آية وهي: ما يَدُلُّ دِلَالَةً واضحةً ظاهرة على المراد وعلى الشيء حيث لا يكون فيه لَبْسْ.
__________
(1) مسلم (7467) / أبو داود (4311) / الترمذي (2183) / ابن ماجه (4055)(1/689)
[المسألة الثانية] :
أشراط الساعة قَسَمَهَا العلماء إلى قسمين:
- إلى أشراطٍ كبرى.
- وإلى أشراطٍ صغرى.
ومن أهل العلم من قَسَمَهَا إلى ثلاثة أقسام:
- أشراط صغرى.
- ووسطى.
- وكبرى.
والأول هو المعتمد والثاني اصطلاح تفسيري ولكن ليس ثَمَّ ما يدل عليه من وجود الوسطى وإن كانت موجودةً وداخلة في الصغرى.
أما تعريف الأشراط الصغرى: فهي ما دلَّ الدليل على أنَّهُ مِنْ علامات قُرْبْ الساعة وليس من العشر آيات التي جاءت في الحديث أنها تكون بين يدي الساعة.
فحصلت الأشراط الصغرى في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ولا تزال تحصل وتحصل إلى بَدْءِ الأشراط الكبرى.
وسيأتي تفصيل الأشراط الصغرى والكبرى إن شاء الله.
فمن أهل العلم من جعل الأشراط الصغرى كما ذكرت لك:
- ما قَرُبَ من عهد النبي صلى الله عليه وسلم فهي صغرى.
- وما بَعُد من عهده فهي وسطى إلى حدوث الأشراط الكبرى.
والأول هو المعتمد في ذلك.(1/690)
[المسألة الثالثة] :
الأشراط الصغرى كثيرة جداً ومتنوعة، ولا يدلُّ كون الحَدَثْ من أشراط الساعة على مدحه أو ذمه، بل هي آيات ودلائل على القرب:
- فتارةً تكون ممدوحةً غاية المدح، منها بعثة محمد صلى الله عليه وسلم وانشقاق القمر باعتباره آية لمحمد صلى الله عليه وسلم، ومنها فتح بيت المقدس.
- وقد تكون مذمومةً مُحَرَّمَةً أو مكروهة، أو تكون واقِعَةً كونِيَّةً فيها ابتلاء أو عقوبة للعباد.
والمقصود من ذلك أنَّ ما جاء في الدليل أنَّهُ من آيات أو أشراط الساعة فلا يدلُّ كونه من أشراط الساعة على أنَّهُ ممدوحٌ أو مذموم إلا بدليلٍ آخر أو بحقيقة الأمر.
وأشراط الساعة الصغرى كثيرةٌ جداً جداً، فمما يشار إليه فيها ما جاء في الحديث الذي رواه البخاري وغيره، حديث عوف بن مالك أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أُعْدُدْ سِتَّاً بين يدي الساعة، موتي ثم فتح بيت المقدس، ثم مُوتَانٌ يَأْخُذُ فيكم كقٌعَاصِ الغنم، ثم استفاضة المال» (1) ... إلخ الحديث.
ومنها مما حَدَثَ وهذه حدثت قريباً من عهده صلى الله عليه وسلم.
ومنها مما حَدَثَ بعيداً عن عهده صلى الله عليه وسلم، النار التي خرجت من المدينة في القرن السابع الهجرى، في نحو سنة أربع وخمسين وستمائة، وقال صلى الله عليه وسلم: «لا تقوم الساعة حتى تخرج نار من الحجاز» أو «من المدينة تُضيئ لها أعناق الإبل ببُصرى» (2) .
منها ما يكون قريباً من الأشراط الكبرى.
وأشراط الساعة الصغرى والكبرى أُلِّفَتْ فيها مؤلفات كثيرة في جمعها وجمع الأحاديث التي جاءت في ذِكْرِ أشراط الساعة، وهي من العلم النافع الذي يدلُّ على صدق النبي صلى الله عليه وسلم فيما أخبر به، لأنَّهُ ولا شك أخبر عن أمرٍ غيبيٍ لم يحدث، وكان خبره صِدْقاً ويقيناً.
فهذه الأخبار التي فيها أنَّهُ بين يدي الساعة يكون كذا، أو لا تقوم الساعة حتى يكون كذا، أو من أشراط الساعة كذا، أو أُعْدُدْ بين يدي الساعة كذا، هذه كلها تدلّ:
- على صدقه صلى الله عليه وسلم.
- ثُمَّ أيضاً تدلّ على أنَّ الساعة آتية لا ريب فيها؛ لأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بحدوث هذه الأمور وحدوثها حَصَلَ وكان حقاً كما أخبر به صلى الله عليه وسلم.
لهذا كان التّحديث بأشراط الساعة الصغرى والكبرى وذِكْرُهَا مما يُقَوِّي اليقين ويُقَوِّي الإيمان وهو من دلائل نبوة محمد صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) البخاري (3176) / ابن ماجه (4042)
(2) البخاري (7118) / مسلم (7473)(1/691)
[المسألة الرابعة] :
الأشراط الكبرى يُعْنَى بها العلامات والآيات التي تكون قريبةً من الساعة، بحيث إذا حدثت فإنَّ يوم القيامة قريبٌ جداً جداً.
وسُمِّيَتْ كبرى لأنها آيات عظيمة تحدث ليس في حُسْبَانْ العِبَادْ أنْ تحدُثْ ولم يكن لها دليلٌ قبلها أو لها ما يشابهها.
وهذه الأشراط الكبرى عشر كما جاءت في الأحاديث؛ ولكنها جاء في عدة أحاديث غير مرتبة، يعني من جهة الوقوع.
وهنا ذَكَرَ الطحاوي رحمه الله في هذه الجملة، أربعة من أشراط الساعة:
- ذكر خروج الدجال.
- ونزول عيسى ابن مريم.
- وطلوع الشمس من مغربها.
- وخروج الدابة.
وهذه أربعة من عشرة أشراط، وهُوَ إنَّمَا ذَكَرَ هنا الأشراط الكبرى لأنها هي العظيمة وهي الآيات الكبيرة التي يجب الإيمان بها
وهذه العشرة وهي مرتبة في الحدوث كما أسوقها:
- أول ما يحدث خروج الدجال.
- ثم نزول عيسى ابن مريم عليه السلام من السماء.
- ثم خروج يأجوج ومأجوج.
- ثم ثلاثة خسوف: خسفٌ بالمشرق وخسفٌ بالمغرب وخسفٌ بجزيرة العرب.
- ثم طلوع الشمس من مغربها.
- ثم خروج الدابة على الناس ضحى.
- ثم الدُّخان.
- ثم خروج النار التي تحشر الناس إلى أرض المحشر.
وفي ترتيب الدخان هل هو قبل طلوع الشمس من مغربها أو هو بعد طلوع الشمس فيه خلاف بين أهل العلم، والأظهر هو ما ذكرت لك مِنَ الترتيب.
& خروج الدجال:
فالدجال جاءت النصوص الكثيرة بخروجه وأنه سيخرج من مَحْبَسٍ هُوَ فيه، إذا أَذِنَ الله - عز وجل - بخروجه، وأنَّهُ بَشَرْ من جنس البشر؛ لكنَّهُ أعور العين كأنَّ عينه عنبة طافية أو عنبة طافئة، مكتوب بين عينه (كَافْ- فَاءْ- رَاءْ) ثلاثة حرف يقرؤها كل مؤمن يعني (كافر) ، يعطيه الله - عز وجل - من القدرة ما تَحَارُ معه الألباب، فيقول للناس (إني ربكم) فيكون معه جنة ومعه نار وتكون فتنته تستمر في الأرض أربعين، وتكون فتنته أعظم فتنة حدثت في الأرض؛ لأنَّهُ يَدَّعِي أنَّهُ رب العالمين وأنَّ معه جنة وأنَّ معه نار وأنه يُحيي الموتى.
فيأتي في ذلك وتُحرَّم عليه مكة والمدينة والملائكة تحرسها، ويخرج إليه شاب فيقول له: أنا ربك.
فيقول له: أنت الدجال الذي أخبرنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فيقول للناس: أنا أقتل هذا ثم أحييه، فيَقْتُلُه ثم يُحْيِيه.
فيقول: قد ازددت الآن بك علماً، -يعني أنك الدجال-.
وهذا من خِيرة الناس على وجه الأرض، أو خير الناس على وجه الأرض في زمانه.
والدجال لا يخرج حتى لا يُذْكَرَ في الأرض، وما من نبي إلا حذَّرَ أمَّتَهُ فتنة المسيح الدجال، ولهذا كان من المتأكدات على المؤمن في كل صلاة قبل السّلام أن يستعيذ بالله من أربع ومنها فتنة المسيح الدجال.
وأخبار المسيح الدجال والأحاديث التي جاءت فيه كثيرةٌ متنوعة معروفةٌ في كتب السنة وفي كتب من ألَّفَ في أشراط الساعة، لكن ننبه في هذا على عدة أمور:
1- الأمر الأول: أنَّ المسيح الدجال لم يكن حياً في عهده صلى الله عليه وسلم، والأحاديث التي جاء فيها أنَّهُ حَيْ وأنه رُئِيَ إمَّا في المدينة كقصة ابن صائد أو ابن صيّاد، أو في حبسه في جزيرةٍ خرج إليها بعض الصحابة فرأوه فقصوا ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم، كل هذا لا يدلُّ أنَّهُ كان في ذلك الزمن، وأنه يبقى إلى وقت خروجه.
وإنَّمَا في قصة الجزيرة في قصة الرجل المحبوس وسؤاله عن النبي صلى الله عليه وسلم، الحديث الذي رواه مسلم المعروف، من العلماء من حَكَمَ عليه بالشذوذ، ومنهم من قال خَرَجَ آيَةً، جعله الله آية للدلالة على صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس مستمر الحياة.
والمقصود من هذا أنَّ الدجال بَشَرْ يخلقه الله - عز وجل - في وقتٍ من الأوقات ثم يأذَنُ بخروجه من مكانٍ هو فيه على ما يشاء ربنا - جل جلاله -.
2- الأمر الثاني: أنَّ خروج الدجال يكون بعد خروج المهدي، والمهدي ليس من أشراط الساعة الكبرى، وإنَّمَا يكون قريباً من خروج الدجال.
والمهدي سُمِّيَ مَهْدِيَّاً لأنَّ الله - عز وجل - سيهديه ويُصْلِحُه في ليلة كما جاء في الحديث الصحيح أنَّهُ يذهب إلى مكة في حين اختلافٍ من الناس؛ يعني أنَّ الناس لا أمير لهم ولا إمام ولا جماعة، فيعود بالبيت فيخرج إلى الحرم يعني إلى مكة فيلوذ بالكعبة، ثم يأتيه الناس فيأمرونه بالخروج ويبايعونه.
وقوله صلى الله عليه وسلم: «يصلحه الله في ليلة» (1) ، اختلف العلماء فيه، هل معناه:
أنَّهُ يُصْلِحُهُ في أمر دينه ولم يكن صالحاً؟
أو أنَّهُ يصلحه لأمر الوَلاية وإمارة الناس؟
* والأظهر هو الثاني أنَّهُ يصلحه الله في ليلة لإمارة الناس ولقيادتهم.
وهو من ذرية الحسن بن علي بن أبي طالب، واسمه كاسم محمد صلى الله عليه وسلم، محمد بن عبد الله، وجاء في الأحاديث صفاته، وبلغت الأحاديث التي فيها ذكر المهدي بأسانيد صحيحة وحِسَانْ وضعاف أكثر من أربعين حديثاً.
__________
(1) ابن ماجه (4085)(1/692)
ولهذا قال طائفة من أهل العلم إنَّ أحاديث المهدي تبلغ مبلغ التواتر المعنوي، يعني الذي في جملته، لا في أفراده، يدل على أنَّ المهدي سيخرج في آخر الزمان قُرْبْ خروج الدجال.
وفي قصة المهدي أنَّهُ حين [....] يصيح صائح إنَّ الدجال خَلَفَكُم في أهليكم وأولادكم أو أموالكم، وينقسم الناس، في القصة المعروف التي لا مجال لسردها بطولها.
[.....] أنَّهُ في أثناء ولاية المهدي وغزوِهِ وجهاده وانتشار الخيرات في وقته يخرج الدجال فتعظُمُ فتنته.
& نزول عيسى ابن مريم عليه السلام:
ثم ينزل عيسى عليه السلام وهو حَيٌّ الآن، ينزل من السَّماء في دمشق عند المنارة البيضاء شرقي دمشق.
والنبي صلى الله عليه وسلم كما روى ابن ماجه وغيره أنَّهُ ينزل عند المنارة البيضاء في شرقي دمشق ثم يدرك الدجال بباب لُدْ فيقتله هناك، وأصله في مسلم (1) .
وهذا قبل وجود المنارة وقبل بناء المسجد الأموي، والمنارة البيضاء الآن معروفة في دمشق.
فما أصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم وما أعظم ما بيَّنَهُ لأمته صلى الله عليه وسلم.
ثاني أشراط الساعة نزول عيسى بن مريم، والله - عز وجل - دلَّ على نزوله في القرآن بقوله - عز وجل - {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً} [النساء:159] ، وقد جاء في الصحيح أنَّ أبا هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يوشك أنْ ينزل فيكم عيسى ابن مريم حَكَماً عَدْلاً مُقْسِطَاً فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية، ويفيض المال في عهده -أو في وقته- حتى لا يقبله أحد ويؤمن به أهل الكتاب» ، قال أبو هريرة رضي الله عنه واقْرَأُوا إنْ شئتم: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً} (2) .
فقوله هنا {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} ، المقصود به قبل موت الكتابي أو قبل موت عسى ابن مريم؟
من أهل العلم من قال بالأَوَّلْ أنَّهُ قبل موت الكتابي فيؤمن بعيسى ابن مريم.
وأكثر أهل العلم وأهل التفسير على أنَّ المقصود به {قَبْلَ مَوْتِهِ} يعني قبل موت عيسى ابن مريم لأنَّ سياق الآية والآيات قبلها يدل على ذلك، وظاهرها أيضاً وهو قوله {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ} ، يعني بعيسى ابن مريم عليه السلام، {قَبْلَ مَوْتِهِ} ، يعني موت عيسى أيضاً ابن مريم عليه السلام.
وهذا في معنى الآية التي في سورة الزخرف وهي قوله - جل جلاله - في ذِكْرِ عيسى {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِهَا} [الزخرف:61] ، وفي القراءة الأخرى {وَإِنَّهُ لَعَلَمٌ لِلسَّاعَةِ} والعَلَمْ هو العلامة والشرط، {لَعَلَمٌ لِلسَّاعَةِ} يعني شرط من أشراط الساعة، وهو الذي دلت عليه الأحاديث الصحيحة واتفق عليه [......] حتى أنَّ أبا هريرة رضي الله عنه إذا ساق ذلك قال لمن يروي له هذا الحديث: فإذا رأيت عيسى ابن مريم فأقرئه منّي السلام (3) ، ويرويها مَنْ بَعْدَه لمن بعده، فإذا رأيت عيسى ابن مريم فأقرئه مني السلام، وهذا من شدة إيمانهم وتصديقهم بنبينا صلى الله عليه وسلم الذي {مَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3-4] .
عيسى عليه السلام يمكث ما شاء الله في الأرض أنْ يمكث ثم يموت ثم يُصَلَّى عليه.
& خروج يأجوج ومأجوج:
ويخرج في عهد عيسى عليه السلام يأجوج ومأجوج، وقد جاء ذكرهم في القرآن في سورتين، في سورة الكهف وفي سورة الأنبياء، قال - عز وجل -: {حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (96) وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ} [الأنبياء:96-97] ، يعني الساعة، وفي سورة الكهف: {إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدّاً} [الكهف:94] الآيات، فأفادت الآيتان فائدتين:
1- الفائدة الأولى: أنَّ يأجوج ومأجوج موجودان اليوم وموجودان قبل ذلك فهما قبيلان أو قبيلتان أو شَعْبَانِ كبيران يعْظُمُ أمرهما عند قيام الساعة.
2- الفائدة الثانية: أنَّهُمْ يأتون من كل حَدَبْ، قال في آية الأنبياء: {وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ} ، والحَدَبْ هو الجهة، و (يَنْسِلُونَ) هذا من النَسَلاَن وهو السير ليلاً، فهم يأتون من كل جهة، فربما مروا على البحيرة العظيمة فشربوا ماءها إلخ.
فخروج يأجوج ومأجوج في عهد عيسى عليه السلام، هذا من آيات الساعة الكبرى.
ثم يدعوا عليهم عيسى عليه السلام فيموتون ثم تُنْتِنُ الأرض التي هم فيها بنَتَنِ أجسادهم فيأمر الله - عز وجل - ريحاً أو طيوراً بحملهم في البحر.
__________
(1) مسلم (7559) / أبو داود (4321) / ابن ماجه (4075)
(2) البخاري (2222)
(3) المسند (9110)(1/693)
& ثلاثة خسوف: خسفٌ بالمشرق وخسفٌ بالمغرب وخسفٌ بجزيرة العرب:
وهذه الخسوف الثلاثة، خسوفٌ عظيمة لم يسبق أَنْ حَدَثَ مثلها.
فالزلازل وخسوف الأرض تحدث في الأرض وهي من آيات الله - جل جلاله - يبتلي بها ويعذِّبُ بها، ولكنها آيات عند قرب قيام الساعة لم يحدث لها مثيل، فهي غير مألوفة.
خسوف عظيمة كبيرة تكون في الشرق وفي الغرب وفي جزيرة العرب.
والخَسْفْ معروف أنَّهُ ذهاب الأرض إلى أسفلها، يعني ذهاب علو الأرض إلى أسفلها. (1)
& طلوع الشمس من مغربها:
وطلوع الشمس من مغربها جاء ذكره في القرآن وكذلك في السنة الصحيحة، كما في قوله - عز وجل -: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً} [الأنعام:158] .
والتوبة (2) لا تزال مقبولة من العبد ما لم تطلع الشمس من مغربها.
وطلوع الشمس من مغربها حقٌ وصدق وهي آية غير مألوفة؛ لأنَّ المألوف أنَّ الشمس تطلع من الشرق ثم تغرب في الغرب، فكونها تعود من حيث جاءت أو من حيث غَرَبَتْ، تعود من الغرب إلى الشرق هذه آية عظيمة غير مألوفة تجعل الناس جميعاً يؤمنون.
ولهذا إذا طلعت الشمس من مغربها فإنَّ الناس يؤمنون لكن {لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً} ، فيبقى بعد طلوع الشمس من مغربها الناس فيهم المؤمنون الذين آمنوا قبل طلوع الشمس من مغربها، وفيهم المنافقون والكافرون والمشركون.
& خروج الدابة على الناس ضحى:
ثم تخرج الدابة، والدابة حيوان عظيم الخِلْقَةْ يُعْطِيهْ الله - عز وجل - القدرة على وَسْمْ الناس، كما قال - عز وجل - في آخر سورة النمل: {وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآياتِنَا لا يُوقِنُونَ} [النمل:82] .
{وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ} يعني بقيام الساعة وبطلوع الشمس من مغربها.
{أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ} وفي قراءة أخرى: {تَكْلِمُهُمْ أنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآياتِنَا لا يُوقِنُونَ} وأيضاً {إِنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآياتِنَا لا يُوقِنُونَ} ، يعني بفتح الهمزة من {أَنَّ} وكسرها.
وقوله: {تُكَلِّمُهُمْ} و {تَكْلِمُهُمْ} قراءتان صحيحتان تدلاَّنِ على معنيين مختلفين:
1- المعنى الأول: أنها تُكَلِّمْ وتحدِّثْ الناس، وهي آية، والعادة في الحيوان أنَّهُ لا يُكَلِّمُ الناس، فهي تكلم الناس بلغاتهم وبما يفهمون عنها.
2- المعنى الثاني: أنها تَكْلِمْ الناس بمعنى أنَّهَا تَسِمُ الناس، والوسْمُ سَمَّاهُ الله - عز وجل - هنا كَلْماً لأنه يكون معه كَلْمُ الجلد والتأثير في الجلد كما يحصل في وسْمِ الدواب فإنه لا بد فيه من جُرْحٍ فيها أو من أثرٍ فيها، فتَسِمُ الناس هذا مؤمن وهذا كافر، وهذه هي الآية الثامنة.
ثم بعد ذلك تأتي وليست من الآيات تأتي ريح يرسلها الله - عز وجل - خفيفة في ليلة فتقبض أرواح أهل الإيمان أو يموت معها أهل الإيمان، فيبقى أهل الكفر والنفاق والشرك يتهارجون في الأرض كتهارج الحُمُرْ فلا يقال في الأرض (الله الله) (3) كما جاء في الصحيح، يعني لا يُقَال في الأرض اتق الله اتق الله، أو أذكر الله أذكر الله.
& الدخان:
ثم يكون الدخان، والدخان حَصَلَ مَرَّةً كما في سورة الدخان؛ ولكنه ليس بالآية العظيمة كالدخان الذي يحصل قرب قيام الساعة، فذاك دخان يغشى الناس من أولهم إلى آخرهم في الأرض كلها ويشتد معه الخطب والأمر.
ومن أهل العلم من قال: إنَّ الآية في سورة الدخان المقصود بها ما هو في قرب قيام الساعة، وفي الأحاديث والسنة أنَّ الدخان حَصَلَ في المسلمين، يعني قد رآه المسلمون والمشركون في مكة، وهذا غير هذا.
& خروج النار التي تحشر الناس إلى أرض المحشر:
وآخرها نار تخرج من جنوب الجزيرة من قعر عدن؛ يعني يبدأ خروجها من هذا الموطن، ثم تنتشر في الأرض فتحيط بالناس تحشُرُهُمْ إلى أرض المحشر، تبيت معهم وتَقِيلُ معهم، وهذا أيضاً آية عظيمة أنَّ ناراً تتحرك تمشي تقف مع الناس ومع خوفهم حتى تحشر الناس إلى أرض المحشر.
ثم بعد ذلك يحصل النفخ في الصور: النفخة الأولى، نفخة الفزع والصّعق، ثم تكون أربعون وتكون نفخة البعث أعاننا الله - عز وجل - على كربات يوم القيامة وغفر الله لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا.
__________
(1) انقطاع في الشريط والله أعلم
(2) نهاية الوجه الأول من الشريط الثامن والأربعين
(3) مسلم (392) / الترمذي (2207)(1/694)
[المسألة الخامسة] :
الناس في ما كتبوا من أهل العلم في أشراط الساعة ما بين مُصِيبٍ مُدَقِّقْ وما بين متساهل.
ولهذا المؤلفات في هذا الباب كثيرة جِدَّاً، يعني وما بين كُتُبٍ مُؤَلَّفَة مستقلة وما بين شروحٍ في كتبٍ مطولة.
لكن ينبغي لطالب العلم أنْ يتحَرَّزْ في هذا الأمر وذلك لأنَّ أشراط الساعة أمرٌ غيبي، والأمور الغيبية يجب أنْ يُسَلَّمَ لها إذا صح فيها دليل، إذا كان الدليل من كتاب الله - جل جلاله - أو كانَ الدّليل مما صح من كلام النبي صلى الله عليه وسلم.
وفيها ما في جنس أخبار الغيب بأنه لا يُتَعَرَضُ لها بمجاز ولا بما يَنْفِيْ حقيقتها ولا بالتأويل الذي يصرفها عن ظواهرها.
فباب التأويل والمجاز مرفوضٌ في مسائل الغيب جميعهاً، أو رَدْ هذه الآيات بالعقلانيات وأنَّ العقل يُحيلُ مثل هذا، هذا كله مردود.
ولهذا تجد في الكتب المؤلفة والشروح، ربما ما يصرف الأحاديث عن ظاهرها والواجب هو التسليم لها.
وهذا يَدْخُلْ في مقتضى الشهادة بالنبي صلى الله عليه وسلم، لأنه من مقتضى الشهادة معناها تصديقه صلى الله عليه وسلم فيما أخبر، فكل ما أخبر به من أمور الغيب ومن قصص السالفين ومما لم تُدْرِكْهُ فيجب التصديق به والإيمان بذلك لأنه صلى الله عليه وسلم يُبَلِّغُ عن ربه - جل جلاله - وتقدست أسماؤه.
والناس في مسائل أشراط الساعة كما ذكرت لك في أول الكلام:
- منهم من يتأولها وينفي ما لا يدل عليه العقل، ويأخذ بما دلَّ عليه العقل.
- ومنهم من يتأول بعضاً.
- ومنهم من يؤمن بها على ظاهرها كما جاءت لأنها أمورٌ غيبية وهذا هو الذي ينبغي.
لهذا تجد مثلاً أنَّ في نزول عيسى عليه السلام والمهدي إذا جاء أنَّهُ يكون مثلاً بالسيف وبالخيل، والسيف والخيل قال فيها صلى الله عليه وسلم: «إني لأعرف -أو لأعْلَمُ- أسماء خيولهم وألوانها» (1) ، أو كما جاء عنه صلى الله عليه وسلم، وهذا تأكيد للحقيقة.
وكذلك أشراط الساعة الأخرى مثل خروج الدجال وأن يسمع به الناس:
فمِنَ الناس من قال أنَّ الدجال مثلاً يركب الطائرة، مما أُلِّفْ في هذا الباب، يركب الطائرة وأنه يَسْمَعْ الناس بخبره عن طريق كذا وكذا من الآلات التي هي موجودة الآن، وهذا مما لا يصلح أنْ يُثْبَتْ ولا أنْ يُنْفَى.
بل الواجب في مثل هذا التسليم للخبر لأنه إثباته فيه إثبات أنَّ هذه الأشياء ستبقى إلى خروجه، وهذا ما ليس لنا به علم، والنفي أيضاً نفيٌ بما لم نُدْرِكْ علما.
والواجب في هذا التسليم وأن لا يخوض الناس في عقليات تنفي ظاهر الأدلة.
فنؤمن بها كما جاءت ولا ندخل فيها كما ذكرت بتأويلٍ أو بمجازٍ يصرفها عن ظواهرها.
__________
(1) مسلم (7463)(1/695)
[المسألة السادسة] :
عيسى ابن مريم عليه السلام إذا نزل فإنَّهُ ينزِلُ تابِعَاً لشريعة محمد صلى الله عليه وسلم، لأنَّهُ ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم وَجَبَ على من يكون حَيَّاً أنْ يؤمن به.
ولهذا عيسى عليه السلام إذا نَزَلْ وكان الإمام يُصَلِّيْ بالناس أو يريد الصلاة، فيأتي يَتَأَخَّرْ ليتقدم عيسى عليه السلام، فيقول عيسى عليه السلام (لا، إمامكم منكم تَكْرِمَةُ الله لهذه الأمة) (1) .
وهذا فيه الدِّلالة من أول وهلة ومن أول لحظة على أنَّهُ تابعٌ لمحمد صلى الله عليه وسلم، وليس رسولاً مُتَجَدِّدَاً يعني كما كان قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم.
ولهذا إذا نزل عليه السلام فإنه يكون حاكماً بكتاب الله - عز وجل - وبسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وينطَبِقُ في حَدِّهِ عليه السلام أنَّهُ صحابي أيضاً لأنَّهُ رأى النبي صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج حياًّ وينزل بعد ذلك مُتَّبِعَاً له ويموت على اتِّبَاعِهِ لمحمدٍ صلى الله عليه وسلم.
وهذا ينطبق عليه حد الصحابي أنَّهُ من لقي النبي صلى الله عليه وسلم ساعَةً مؤمناً به ومات على ذلك.
ولهذا بعض أهل العلم ربما ألْغَزْ فقال: مَنْ رجل مِنْ أمة محمد صلى الله عليه وسلم هو أفضل من أبي بكر بالإجماع؟
ربما ألْغَزْ بعض أهل العلم وليس من الألغاز السائرة -يعني المشهورة- مَنْ رجل مِنْ أمة صلى الله عليه وسلم هو أفضل من أبي بكر بالإجماع؟
والجواب أنَّهُ عيسى عليه السلام لأنَّهُ تفضيله لأنه رسول ومن أولي العزم من الرسل وهو من أتْبَاعِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم بعد نزوله.
فبعد أنْ ينزل ويُخَاطَبْ ويحكم في الأرض بشريعة الإسلام لأنَّ شريعة الإسلام ناسخةٌ لما قبلها من الشرائع.
__________
(1) مسلم (412)(1/696)
[المسألة السابعة] :
أشراط الساعة ربما حَلاَ لبعض الناس أنْ يُنَزِّلَهَا على الواقع الذي يعيش فيه، دون تحقيقٍ في انطباقها على ما ذكر.
ولهذا ألَّفَ مَنْ أَلَّفْ من المعاصرين في أنَّ هذه العلامة أو هذا الشرط هو كذا بعينه.
وهذا مما لا يتجاسر العلماء عليه بل يتحرون فيه أَتَمْ التَّحَرِّيْ فإنَّ تطبيق الواقع على أنَّهُ هو ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم هذا يحتاج إلى علم لأنَّهُ إخبارٌ بما تؤول إليه أحاديثه صلى الله عليه وسلم وهذا يحتاج إلى علم، والله - عز وجل - يقول: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ} [الأعراف:53] ، يعني ما تؤول إليه حقائق أخباره، وهذا ربما لم يظهر لكل أحد، -يعني الآية في يوم القيامة لكن انتظار التأويل يعني ما تؤول إليه حقائق الأخبار-.
بعضها ظاهر مثل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، انشقاق القمر، موت النبي صلى الله عليه وسلم، الموتان يعني الطاعون الذي حصل، طاعون عمواس في سنة 18 من الهجرة ونحو ذلك، مثل النار التي خرجت من المدينة.
لكن في بعضها يكون ثَمَّ اشتباه، هل هو منطبق أو ليس بمنطبق، هل هو تمت، يعني هل الصفات منطبقة أو ليست كذلك.
ولهذا كما ذكرت لك في أول الكلام أنَّ أشراط الساعة إيرادُهَا من الشارع إنما هو لأمرين:
1 - لأجل الإيمان بها.
2 - ثُمَّ لتكون دِلَالَةْ من دلائل نبوة محمد صلى الله عليه وسلم.
فوجود الأحاديث أو ذِكْرِ الشيء من أشراط الساعة لا يقتضي مدحاً ولا ذمَّاً ولا نستفيد منه حكماً شرعياً.
مثلاً حديث: «لا تقوم الساعة حتى يتباهى الناس بالمساجد» (1) ، وكما في حديث عمر المشهور في قصة جبريل، قال: أخبرني عن السَّاعة، قال: «ما المسؤول عنها بأعلم من السائل» ، قال: فأخبرني عن أشراطها، قال: «أنْ تلد الأمة ربتها وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان» (2) .
منهم من طَبَّقْ (أنْ تلِدَ الأَمَةُ رَبَّتَهَا) على عصرٍ من العصور أو على وضعٍ من الأوضاع.
ومنهم من طَبَّقَ (الحفاة العراة العالة رعاء الشاء) على وقتٍ من الأوقات.
ومثل ما جاء من نُطْقْ الحديد، مثل (وأَنْ تُحَدِّثَ المرأة عَذَبَةُ سوطه) (3) .
ومثل الحديث الذي في السنن: «لا تقوم الساعة حتى يتباهى الناس بالمساجد» ، هل هذا يقتضي ذمّ هذا الفعل أو لا يقتضي ذمَّاً ولا مدحَاً؟ يعني هل يُحكم عليه بالكراهة لأجل هذا الحديث؟
المعتمد عند أهل العلم أنَّ مثل هذه الأحاديث لم تَرِدْ للأحكام الشرعية وإنما وردت للإخْبَارِ بها لتكون دليلاً على نبوته صلى الله عليه وسلم ولابتلاء الناس بالإيمان بخبره صلى الله عليه وسلم حتى يظهر المُسَلِّمْ له صلى الله عليه وسلم من غير المُسَلِّمْ.
لهذا احذر من التطبيق، وخاصَّةً في ما يشتبه.
قد مَرَّتْ أَزَمَاتْ ومَرَّتْ فِتَنْ ومَرَّتْ أشياء، من الناس من طَبَّقْ فأخطأ في ذلك، وهو ربما بَنَى على تطبيقه أشياء من التصرفات أو الآراء أو الأحوال فأخطأ في ذلك خطأً بليغاً، وظَهَرَ بيان خطئه.
لهذا ما المقصود من إيراد أهل السنة والجماعة الإيمان بأشراط الساعة؟ وذكر أشراط الساعة وتقسيمات ذلك؟
ليس المقصود منه التطبيق، وإنما المقصود منه ما ذكرت لك من الأمرين العظيمين:
1 - الأمر الأول: دلالة من دلالات نبوة النبي صلى الله عليه وسلم كي يدخل ذكر أشراط الساعة في دلائل النبوة.
2 - الأمر الثاني: أنْ يُبتلى الناس بالإيمان بها كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم.
نكتفي بهذا القدر، وعلى العموم مباحث أشراط الساعة كثيرة وأُلِّفَ فيها عدة مؤلفات يمكن أنْ ترجعوا إليها للمزيد، حتى الشارح ابن أبي العز ررحمه الله اقْتَضَبَ جداً في شرحه فاقتصر على إيراد الأحاديث الواردة في هذا الباب.
من أفضلها كتاب "النهاية" للحافظ ابن كثير لأنه مُحَرر، ومن الكتب المعاصرة كتاب أشراط الساعة ليوسف الوابل، وكذلك كتاب: "إتحاف الجماعة بما جاء في الفتن والملاحم وأشراط الساعة" للشيخ العلامة حمود بن عبد الله التويجري رحمه الله، ونحو هذه الكتب.
__________
(1) أبو داود (449) / النسائي (689) / ابن ماجه (739)
(2) سبق ذكره (9)
(3) الترمذي (2181)(1/697)
الأسئلة:
س1/ هل إيمان أهل الكتاب بعيسى عليه السلام إيمانٌ ينفعهم أو إيمانُ إقرار لا ينفع؟
ج/ إذا نزل فكسر الصليب وقتل الخنزير ووضع الجزية فآمَنَ به أهل الكتاب واتَّبَعُوهُ، يعني اتَّبَعُوا ما أَمَرَ به من شريعة الإسلام فإنَّهُ ينفعهم؛ أما إذا آمنوا به يعني إيماناً بنزوله لا بما جاء به وإلى ما دعا إليه فهذا لا ينفع. المسألة ترجع إلى الأصول العامة.
س/ [.....] ؟
هل هذا في زمن عيسى أم في غيره؟ الحديث هذا صحيح كما هو معلوم، لكن هل هذا في زمن عيسى أم في غيره؟ أنا ما اتحدث وربما يكون قبل ذلك ثم تحدث فتنة وربما المقصود منه بعض البيوت لا كل بيوت الأرض.
س3/ ما رأيكم في القول بأنَّ قوله: {فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا} ، على نحو قول تعالى: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ} [النحل:1] ؟
ج/ إذا كان المراد بقوله: {فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا} ، الأشراط الكبرى فهو على نحو قوله: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ} ، يعني قَرُبَ المجيئ ودَنَا، {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ} يعني بقيام الساعة، {فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ} يعني قَرُبَ جداً، و {فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا} ، إذا كان المقصود بالأشراط الأشراط الكبرى يعني فُسِّرَتْ الأشراط بالأشراط الكبرى فيكون {جَاءَ} ، بمعنى قَرُبِ ودَنَا مجيؤها مثل {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ} هذا صحيح.
لكن التخصيص بأنَّ الأشراط هنا هي الأشراط الكبرى دون الصغرى يحتاج إلى دليل، والنبي صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل جاء ذكر أشراط الساعة وفسَّرَهَا بالأشراط الصغرى، قال (أخبرني عن الساعة) ، ثم قال له (أخبرني عن أشراطها) ، قال: «أنْ تلد الأمة ربتها» إلخ ... ، كما ذكرت لك آنفاً وهذه من الأشراط الصغرى.
إذن حَمْلْ آية سورة محمد صلى الله عليه وسلم على الأشراط الكبرى دون الصغرى يحتاج إلى دليل، والأمران وشمول الآية للأمرين أولى.
س4/ إنَّ المسيح الدجال لم يكن حياً في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ألا يُعارِضْ هذا شك النبي صلى الله عليه وسلم في ابن صياد هل هو المسيح الدجال أم لا؟ وكذلك إقسام بعض الصحابة؟
ج/ المسألة معروفة من جهة البحث لكن في قصة ابن صائد أنَّهُ لما ذَهَبَ إليه النبي صلى الله عليه وسلم ليراه، قال «ما ترى؟» .
قال له: (إني أرى الدُّخْ) ولم يُكْمِلْ.
فقال له صلى الله عليه وسلم «اخسأ فلن تعدو قدرك» (1) .
لأنه علم أنَّهُ كاهن، لهذا الأظهر فيه أنَّهُ كاهن صفته كانت مقاربة للصفة، لكن الدجال أمره يختلف، وابن صائد مات ودُفِنْ بإجماع الناس في ذلك الزمان.
س5/ أين يوجد يأجوج ومأجوج؟
ج/ لا أعلم.
س6/ ما علاقة ابن الصيّاد بالدجال، وهل رأى الصحابة ابن صائد؟
ج/ نعم ابن صيّاد أو ابن صائد كان موجوداً في المدينة، وظَهَرَ عليه بعض العلامات وخُشِيَ أنْ يكون الدجال، لكن من المعلوم أنَّ الدجال لا يخرج من المدينة، الدجال يخرج من مكان هو فيه محبوس وهذا الرجل مات ودُفن إلخ، فالقول أنَّ الدجال هو ابن صائد ليس [......] ، الصحابة شَكُّوا ثم تبَيَّنْ لهم هذا الأمر، ومن أقسم على أنَّ ابن صياد هو الدجال هذا بحسب ظنه أو أنَّ المقصود أنَّهُ دجالٌ من الدجاجلة.
س7/ ما رأيكم في من قال أنَّ يأجوج ومأجوج هم شعوب الصين؟
ج/ هذا محتمل؛ لكن ما فيه ما يدل على الجزم به، لأنَّ بعض الصفات التي وردت منطبقة عليهم، في أشكالهم لأنهم قصيرو القامة جداً وبعض الصفات قد ما تنطبق من كل جهة، والتحديد ما الذي يفيد فيه؟
يعني كانوا شعوب الصين أو شعوب أخرى أو ناس يكثرون بقرب زمن خروج عيسى عليه السلام، يكثرون جداً، يتناسلون ثم يذهبون للناس، يعني ما الذي يختلف من ذلك؟
ويأجوج ومأجوج مثل ما ذكرنا لك سابقاً هم موجودون من زمن الأنبياء قبل {إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ} [الكهف:94] ، وأنهم يخرجون في زمن، فهم شَعْبان أو قبيلان أو قبيلتان كبيرتان موجودة، لكن ما المقصود بها؟
قد يكون الصين وقد يكون غير ذلك، أنا ما أعلم لأنَّ ما عندي ما يحدد ذلك بالدليل.
س8/ ورد حديث فيه التردد بين خروج الدابة وطلوع الشمس من مغربها، أيهما أول خروجاً فما الجواب عنه؟
ج/ يعني الحديث الذي في صحيح مسلم بأنها إذا خرجت إحداهما كانت الأخرى تليها، وهذا الحديث إذا كان فيه التَّرَدُّدْ، فإنَّ الأحاديث الأخرى دلت على أنَّ خروج الدابة تكون على الناس ضُحَى، طلوع الشمس، الطلوع ما يكون بعد الضحى، الطلوع يكون وقت الطلوع، يعني في أول إدبار الليل وإقبال الصباح، والصحيح أنَّ طلوع الشمس من مغربها أول ثُمَّ بعد ذلك خروج الدابة.
وهذا يقتضيه أيضاً المعنى، لأنَّ طلوع الشمس من مغربها، هذا خلاص فاصلة الإيمان، يعني من لم يؤمن من قبل لا ينفعه إيمانه، ثمّ الدابة التي تَسِمْ الناس وتَكْلِمَهُمْ.
س9/ ألا يكون مفرد أشراط هو شَرَطْ؟ أما شَرْطْ فجمعه شروط؟
__________
(1) البخاري (1354) / مسلم (7529)(1/698)
ج/ هذا صحيح لكن هو يصح شَرْطٌ وشَرَطْ، وهذا كثير، أعني شَرْطْ وشَرَطْ في المفرد يتبادلان، يعني من حيث القياس ومن حيث النقل، مثل نَهْرْ ونَهَرْ، وسَمْعْ وسَمَعْ، وفي القرآن في القراءات في كثير تناويع بين فَعْل وفَعَلْ في المفرد الذي جمعه أفعال، والنهر: {وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهْراً} [الكهف:33] ، وفي القراءة الأخرى: { [وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَراً} ، اللي هو قراءتنا، وجمع نَهْرْ، أنهار وأنْهُر.
فالمسألة صحيح شَرْطٌ وشَرَطْ، ولا يعني استعمال الشَرْطْ فيما ذُكر أنَّه.
المقصود أنها صحيح شَرْطٌ وشَرَطْ كلها.
س10/ كيف تكون أطوار حياة الدجال الأولى؟
ج/ الله أعلم، الله يعيذنا من فتنتة.
هم حذروا من الفتنة، خوفوا الناس من الفتنة، من فتنة المسيح الدجال.
وبالمناسبة لم أذَكُرْ: في المسيح الدجال والمسيح عيسى ابن مريم، اشتركا في اسم المسيح والمعنى مختلف.
المسيح الدجال: فعيل بمعنى مفعول، يعني لأنَّهُ ممسوح العين اليسرى وعينه الأخرى كأنها عنبةٌ طافية، يعني بالية، فمسيح بمعنى ممسوح، يعني إحدى العينين غير موجودة، أعور.
وأما المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام: فهو مسيح بمعنى ماسح فاعل لأنَّهُ كان إذا مَسَحَ على مريضٍ أو من يشتكي أبرأه الله - عز وجل - كما جاء في القرآن في سورة آل عمران والمائدة: {وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي} [المائدة:110] .
في بعض الكتب يقولون المسيخ، أو لا؟
هذه أنا ما أعرف إيش أصلها، المسيخ يعني بمعنى ممسوخ! هل هو ممسوخ هو؟
هل جاء في الأحاديث ممسوخ أو مسيخ؟
أنا ما أعلم فيها، ولكن الأحاديث كلها اللي في السنن اللي في الصحيح، اللي في السنن كلها المسيح بالحاح لا بالخاء.
س11/ حبذا لو أبَنْتَ لي معنى قول بعض العلماء إنَّ القدرة لا تتعلق بالمستحيل، بل لا تتعلق القدرة إلا بالممكن بخلاف العلم، وهل هذا القول صحيح؟
ج/ يحتاج تَأَمُّلْ، ما أستحضر يعني، لكن كأنها من كلمات الأشاعرة، القدرة لا تتعلق بالمستحيل بل تتعلق القدرة بالممكن، قدرة الله - عز وجل - تتعلق بكل شيء كما هو نص القرآن: {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً} ، {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} ، {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} ، {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً} [الكهف:45] ، ونحو ذلك، فالقُدْرَةْ متعلقة بكل شيء.
وكل شيء هذه تشمل ما أَذِنَ الله - عز وجل - بوقوعه وما لم يأذن بوقوعه.
أما تَعَلُّقْهَا بالممكن، من قال تَتَعَلَّقْ بالممكن، فالممكن وقوعاً أو الممكن إذناً؟
فهذا الكلام فيه صلة بكلام الأشاعرة والماتريدية ونحوهم ممن يُعَلِّقُونَ القدرة بما يشاؤه الله - عز وجل - وما يأذن به.
والقرآن فيه الرد على هذا القول من جهتين:
- الأولى: في عموم كل شيء في الآيات التي ذكرت لك.
- الثانية: في آية سورة الأنعام، في قوله: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً} [الأنعام:65] ، قال - عز وجل -: {هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ} ، هل حصل هذا العذاب من فوق؟
قال صلى الله عليه وسلم لما قرأها «أعوذ بوجهك» ، {أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} قال «أعوذ بوجهك» ، {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً} قال «هذه أهون» (1) . وهذه وقعت كما في الحديث الثاني أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم سأل ربه ثلاثاً فأعطاه اثنتين ومَنَعَهُ واحدة.
فهناك أشياء كما في نص الآية الله - عز وجل - قادرٌ عليها ولم يأذن بوقوعها، فهي من جهة الوقوع ما دام أنَّهُ لم يأذن الله - عز وجل - بها ولم تقع لكن تعلّقت بها قدرته، فإذاً دلت الآية على أنَّ قدرته - عز وجل - متعلقة بكل شيء بما يشاء أنْ يقع وبما لم يشأ أنْ يقع، وهذا هو قول أهل السنة خلافاً لقول الآخرين.
__________
(1) سبق ذكره (65)(1/699)
الحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه، أما بعد:
الأسئلة:
س1/ هل هذا [.....] عمار يعني، يقول - صلى الله عليه وسلم - لعمار: «تقتلك الفئة الباغية» (1) ، هل هذا معناه أنَّ فرقة معاوية فرقة باغية؟
ج/ قول النبي صلى الله عليه وسلم لعمار بن ياسر «تقتلك الفئة الباغية» هذا حديثٌ صحيح، وأهل العلم يستدلون به على أنَّ الحق مع علي رضي الله عنه وأصحابه، وأنَّ معاوية رضي الله عنه ومن معه أنهم كانوا متأولون وبغوا على علي رضي الله عنه، وإنما فعلوا ذلك باجتهاد كما هو معلوم.
ولهذا لما قيل لمعاوية هذا الحديث: (إنَّ عماراً تقتله الفئة الباغية) ، قال: (إنما قتله الذين أخرجوه) (2) ، يعني ما قتلناه، قتله الذين أخرجوه في أمرٍ ليس بحق، فتأوَّلَ حتى الحديث وجعل علياً رضي الله عنه ومن معه الذين بغوا على أولياء بني عثمان رضي الله عنه.
والصواب في ذلك هو ما عليه مُعتَقَد أهل السنة والجماعة من الترضي عن الجميع، واعتقاد أنَّ الصواب والحق مع علي رضي الله عنه وأصحابه، وأنَّ معاوية رضي الله عنه بَغَى على عليٍ في ما ذهب إليه وأنه لم يكن أيضاً كل ما حصل باختيار معاوية رضي الله عنه، بل كان ثَمَّ من يفسد بين الفئتين وهم الخوارج قاتلهم الله.
فالمقصود من ذلك أنَّ محبة الجميع فرض، ومعاوية رضي الله عنه كاتب وحي النبي صلى الله عليه وسلم ولا يجوز التَّنَقُّص منه، وولايته كانت من خير الولايات، يعني هو خير ملِكٍ مَلَكْ لأنه صحابي وأقام الجهاد واجتمعت عليه الأمة في وقته، وعلي رضي الله عنه من هذه الجهة لم تجتمع عليه الأمة، فلذلك حصل من الخير ومراغمة الأعداء وقتال أعداء الله وجهاد المشركين وسَعَةْ انتشار الإسلام في وقت معاوية ما لم يحصل في خلافة علي رضي الله عنه. فلهذا الله أعلم بمواقع حكمته وقدَرِهِ ولكن علي رضي الله عنه هو المصيب وهو الحق وهو الخليفة الراشد وهو رابع الخلفاء ورابع المبشرين بالجنة وهو أفضل وأعلى مقاماً من معاوية - رضي الله عنهم - جميعاً بلا شك، ولكن معاوية كان في ذلك متأولاً وكان في عهده من الخير ما يُحمد له.
س2/ ما رأيكم بموسى الموسوي؟ قرأت له ردوداً على الإمامية وقيل إنَّهُ شيعي؟
ج/ هذا موسى الموسوي أحد الإمامية الرافضة، نَقَمَ ما على الخميني دعوته في ولاية الفقيه وفي بعض أمور السياسة فرحل إلى أمريكا وأنشأ له هناك داراً ومركزاً، وألَّفَ بعض الكتب باللغة الإنجليزية والبعض باللغة العربية، وبعض كتبه كـ: (الشيعة والتصحيح) و (التشيع والتشيع) ، و (يا شيعة العالم استيقضوا) ونحو هذه الكتب مفيدة في الرّد على الشيعة وبيان أنَّ منهم من يردُّ عليهم من كتبهم وأنهم متناقضون، وأنَّ الحقّ ليس معهم وأنَّ عندهم من التناقض وعندهم من مخالفة ما عليه أكابرهم المتقدمون ما يدل على فساد ما ذهبوا إليه، فكتبه مفيدة في ذلك.
لكنه هو يذهب إلى شيء يجب أنْ تنتبه إليه، وهو أنَّ الشيعة حق وأنَّ التشيع حق وأنَّ الجعفرية حق، وأنه لا يجوز أنْ يُتَعَدَّى على التشيع من حيث هو، وأنَّ السنة والشيعة فرقتان من فرق الإسلام لا ينبغي أنْ يكون بينهما كبير فرق، ومع هذا فهو رَدْ على الشيعة في مواضع كثيرة.
مَثَلَاً أذكر له في كتابه (الشيعة والتصحيح) ذَكَرَ عدة مسائل منها مسألة العصمة، مسألة ترك يوم الجمعة وزواج المتعة.
وأيضاً ذَكَرَ وهي مسألة مهمة عقد لها باباً سماه (الشيعة ومراقد الأئمة) ، وذَكَرَ في هذا نقداً واضحاً وتضليلاً للذين يُقَدَّسُون الأئمة ويتجهون إلى مراقدهم بالحج يعني إلى قبورهم، وقال حتى في صدر هذا الباب إنْ صح حفظي يقول في أول أسطر منه (يحلو لبعض الفئات أنْ تجعل مُعَظَّمَهُم مُقَدَّسَاً ويجعلون عليه خِلَعَاً من صفات الإله كما فعل الناس من المسلمين بمُعَظَّمِيْهِمْ، فلدى السنة مُعَظَّمُونْ خلعوا عليهم من صفات الإله وجعلوا يذهبون إليهم بالذبائح والنذور والطلبات والاستغاثات، وللشيعة أيضاً مُقَدَّسُون ومُعَظَّمُون خلعوا عليهم من صفات الإله ولم يَنْجُ -هذه عبارته- ولم ينجُ من هذا التخريف إلا الطائفة الموسومة بالسلفية) (3) .
فعلى العموم عنده ما عنده وكتبه تستفيد منها، يستفيد منها طالب العلم في بعض الأمور وخاصة في مسألة متى بدأ القول بالعصمة؟، ومتى بدأ انحراف الشيعة عن أقوال الأوائل؟
أرَّخَهَا في كتبه تَأْرِيْخَاً جيداً، وبَيَّنَ أَنَّ بداية الانحراف كانت في أوائل المائة الرابعة بدأ القول بالعصمة وبدأ الانحراف عن طريقة أئمتهم الأولين، فيُرَدُّ عليهم من كلام بعضهم (4) .
__________
(1) سبق ذكره (798)
(2) المسند (6499) / المستدرك (2663) / المعجم الكبير (758)
(3) رفع الله لواءها
(4) نهاية الشريط الثامن والأربعين.(1/700)
: [[الشريط التاسع والأربعون]] :
وَلَا نُصَدِّقُ كَاهِنًا وَلَا عَرَّافُا، وَلَا مَنْ يَدَّعِي شَيْئًا يُخَالِفُ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَإِجْمَاعَ الْأُمَّةِ.
___________________________________________
هذه الجملة منه في عقيدته يريد بها تقرير أصلٍ من أصول أهل السنة والجماعة؛ وهو أنهم لا يُصَدِّقُونَ من يَدَّعِي شيئاً من علم الغيب أو يَدَّعِي حالاً مخالفةً لما دل عليه القرآن وسنة النبي صلى الله عليه وسلم وما أجمعت عليه الأمة في صدرها الأول.
وسبب إيرادها في العقيدة أنَّ زَمَنَهُ كَثُرَ فيه من ينتسب إلى الأولياء ويكون له أحوال شيطانية ويكون له هَدْيْ يخالف به ما يجب على الأولياء من طاعة الله ورسوله ومعاداة الشياطين، وربما كان منهم من يَدَّعِي بعض علم الغيب فيكون كاهناً، أو يُخبِرَ ببعض المُغَيَّبَاتِ فيكون عرَّافاً، أو يكون على حال لم يكن عليها السلف ولا ما أجمعت عليه الأمة فيكون مُدَّعِيَاً لشيءٍ يخالف الكتاب والسنة وإجماع الأمة.
وهذا كما أَنَّهُ كان في الدجالين كذلك كان في السحرة والكهنة حقيقةً، وكذلك في بعض من ينتسب إلى الصلاح والطاعة ظاهراً وهو في الباطن من إخوان الشياطين ومُوَاليهم.
وما ذكره ظاهر الدليل من كتاب الله - عز وجل - ومن سنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
ونذكر تحت هذه الجملة مسائل:(1/701)
[المسألة الأولى] :
الله - جل جلاله - هو المختص بعلم الغيب فلا يعْلَمُ أحدٌ الغيب، بل الله - عز وجل - هو الواحد الأحد وهو العالم بغيب السماوات والأرض وما فيهن ومن فيهن، قال - عز وجل - {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ} [الأنعام:59] ، وقال - عز وجل - في سورة النمل {قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} [النمل:65] ، وقال - عز وجل - {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (27) لِيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ} [الجن:26-28] ، الآية وكذلك في قوله - عز وجل - {إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} [لقمان:34] ، فدَلَّتْ هذه الآيات أنَّ علم الغيب مختصٌ بالله - عز وجل -، والمقصود به علم الغيب المُسْتَقْبَلْ؛ يعني ما سيكون في الأرض أو في السماء هذا لا يعلمه على اليقين والحقيقة إلا الله - عز وجل -، وإنما الناس يَخْرُصونَ في ذلك فواجبٌ اعتقاد أنَّ الله - عز وجل - يعلم الغيب وحده - جل جلاله - وتقدست أسماؤه.
ومن ادَّعَى شيئاً من علم الغيب فإنما هو من الشياطين أو من إخوان الشياطين كما قال - عز وجل - {وَيَوْمَ نحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُم مِّنَ الإِنسِ وَقَالَ أَوْلِيَآؤُهُم مِّنَ الإِنسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِيَ أَجَّلْتَ لَنَا} [الأنعام:128] ، فذكر أَنَّ الجني يستمتع بالإنسي بعبادته له وتقرُّبِهِ له، وأنَّ الإنس يستمتع بالجني بما يخبره من المُغَيَّبَاتْ وما يكون.
هذا دلَّتْ عليه أيضاً عدد من الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت الكهانة وهي ادِّعَاء ما يُسْتَقْبَلْ من الأمور من الغيبيات، أو العِرَافَةْ -سيأتي تفسيرها- كانت من الأمور الشائعة في زمنه صلى الله عليه وسلم وقبل ذلك من أمور الجاهلية.
وقد روى مسلمٌ في الصحيح (أنَّ معاوية بن الحكم السُّلَمِي أتى النبي صلى الله عليه وسلم وقال له إنَّ رجالاً يَتَكَهَّنُونَ فنهاه النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك) (1) ، وقد جاء أيضاً في الحديث (ليس منَّا من تَكَهَّنَ أو تُكُهِّنَ له) (2) ، وسيأتي باقي الأحاديث في الكهانة.
وسبب ادِّعاءْ علم الغيب في الناس من قبيل الكُّهَانْ أو العَرَّافِين أو المُنَجِّمِين أو من شابههم هو أنَّ الشياطين تُمِدُّهُم بالمعلومات.
والشياطين قد تُمِدُّهُم بمعلوماتٍ كاذبة، وقد تُمِدُّهُم بمعلومات فيها صدق، وقد يكذب الكاهن أو العراف أو المنجم مع ما أَتَاهُ من المعلومات مائة كذبة أو أكثر.
وما يَصْدُقُونَ فيه من الإخبار بالمعلومات سببه أنَّ الله - عز وجل - إذا أوحى بالأمر في السماء وأَمَرَ ملائكته به مما يُنْفِذُهُ في خلقه -لأنَّ الملائكة مُنَفِّذُونَ لأوامر الله - عز وجل -- فإنَّ الشياطين أعطاهم الله - عز وجل - القدرة على الاستماع وعلى الصعود وأن يَعْلُوَ بعضهم بعضاً فيما أَقْدَرَهُمْ الله عليه.
فربما استمعوا إلى بعض ما يوحيه الله - عز وجل - لملائكته وما يُلْقيه الملائكة بعضُهُمْ إلى بعض.
ولأجل هذا مُلِئَتْ السماء بالشهب وحُرِسَتْ بالنجوم التي تقتل من يسترق السمع، كما قال - عز وجل - {إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُّبِينٌ} [الحجر:18] ، وقال - عز وجل - {فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ} [الصافات:10] وقال - عز وجل - {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} [النجم:1] في بعض التفاسير.
فجعل الله - عز وجل - في السماء رُجُومَاً للشياطين وهي هذه الشهب.
وإذا كان كذلك فإن مَلْءْ السماء بالشُهُبْ واستراق السمع له تفصيل سيأتي إن شاء الله تعالى في مسألةٍ لاحقة.
__________
(1) مسلم (5949)
(2) المعجم الكبير (355)(1/702)
[المسألة الثانية] :
قال (وَلَا نُصَدِّقُ كَاهِنًا وَلَا عَرَّافُا) العلماء اختلفوا في معنى الكاهن والعَرَّافْ وتفسير هذا وهذا على عدة أقوال.
وظاهر صنيع المؤلف الطحاوي رحمه الله أنَّهُ يُفَرِّقُ بين العَرَّافْ وبين الكاهن.
وسبب التفريق أنَّ الأحاديث جاء فيها ذِكْرُ الكاهن مفرداً والعَرَّافْ مُفْرَداً، وجاء فيها ذِكْرُ الكاهن والعرَّافْ مَجْمُوعَينِ مما يَدُلُّ على الفرق بينهما.
لهذا إذا نظرت إلى أصل اللغة فإنَّ كلمة تَكَهَّنَ وكاهِنْ غير كلمة تَعَرَّفَ وعارِفَ وصيغة المبالغة عَرَّافْ.
لأنَّ التَكَهُّنْ هو رَجْمُ الإنسان بالغيب فيما لا يعلم، يعني أنَّهُ يستقبل ما سيأتي بما لا علم له به.
ويدخل في ذلك عموم الظن؛ لكن الظن ليس معه ادِّعاءْ لعلم الغيب، وأما التَّكَهُّنْ فصار فيه ظَنٌّ هو في الأصل يعني في اللغة وظَنٌ فيما سيحصل مُسْتَقْبَلَاً.
لهذا يجوز لغَةً أنْ يقول القائل تَكَهَّنْتُ أَنُّهُ سيكونُ كذا وكذا على اعتبار يعني في المستقبل أنَّهُ يظن أنَّه سيكون كذا وكذا.
ثم شاع هذا الاسم فيمن يَدَّعُونَ علم الغيب بواسطة الشياطين، فصار لَقَبَاً واسْمَاً على طائفةٍ مخصوصة وهم الذين يَتَوَلَّونَ هذه الصَّنْعَةْ ويُخْبِرُونَ الناس عمّا سيكونُ من أحوالهم فيما يستقبلون من الزّمان.
فإذاً صار الكاهن كما عَرَّفَهُ بعض العلماء على هذا الاعتبار هو من يقضي ويُخْبِرُ بالمُغَيَّبات.
وأما لفظ العَرَّافْ فهو في اللغة أَصْلُهُ من عَرَفَ أو تَعَرَّفَ يَتَعَرَّفُ فهو مُتَعَرَّفٌ أو عَرَّافْ.
فهو الذي يُعَرِّفُ بأمورٍ غيبية يَعْرِفُهَا فَيُخْبِرُ بها.
وهذا يشمل الأمور الغيبية في الزمان الماضي مما حدث أو مما سيكون؛ لأنَّ المعرفة والتَّعَرُّفْ تشمل الماضي والمستقبل.
لكن خُصَّ في بعض الاستعمالات بأنَّهُ من يُخْبِرُ عن الأمور التي حصلت وانتهت مما خَفِيَ عن الناس كالإخبار عن مكان المسروق أو الضَّالَةْ أو عن شيءٍ أَضَاعَهُ الإنسان أو عن شيءٍ حصل وخَفِيَ عن الناس ونحو ذلك من المسائل.
إذا نظرت إلى هذا الأصل اللغوي وارتباط ذلك بحال أهل الجاهلية، فالعلماء اختلفوا في ذلك على أقوال:
1 - القول الأول:
أنَّ الكاهن: هو القاضي بالغيب، وهو الذي يُخْبِرُ عن أمورٍ مُسْتَقْبَلَةٍ من الغيب مستعيناً في ذلك بالشياطين.
والعراف: هو الذي يُخْبِرُ عما خَفِيَ مما حَدَثَ وغاب عن الناس بالاستعانة أيضاً بالشياطين.
2 - القول الثاني:
أنَّ الكاهن يَعُمُّ الجميع، فالعراف أخص، والكاهن يدخل فيه من يُخْبِرُ باُمورٍ مُسْتَقْبَلَة أو ماضية غابت عن الناس، أو التنجيم أو نحو ذلك، فيجعلون:
الكاهن: اسماً عاماً لكل من يَدَّعِي شيئاً من علم الغيب، فيدخل في صور كثير من الضرب بالرمل ومن الوَدَعْ ومن الخشب والاستقسام بالأزلام، خشبة (آبا جاد) والطرق بالحصى ونثر السُّبَح، والخط في الرمل ونحو ذلك مما هو شائعٌ عندهم، وأدْخَلَ فيها طائفة من المعاصرين -كما سيأتي بيانه- التنويم المغناطيسي وما يجري مجراه.
والعراف أخص من هذا فيكون مخصوصاً باسْمٍ، والاسم العام الكاهن.
هذا القول الثاني هو المشهور عند أهل العلم والأكثر عليه.
3 - القول الثالث:
أنَّ العراف أشمل والكاهن أخص منه.
لأنَّ الكاهن مخصوص بالعلم المسْتَقْبَلِي عل حسب قولهم.
والعراف لكل من يدَّعي شيئاً من علم الغيب.
وهذا هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية كما نقله عنه شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب في كتاب التوحيد.
* والراجح من هذه الثلاثة أنَّ الكاهن اسم غير اسم العَرَّافْ.
فالكهانة لها صفتها وأحكامها، والعَرَّاف له صفته وأحكامه على نحو ما ذكرنا في القول الأول.(1/703)
[المسألة الثالثة] :
دَلَّتْ الأدلة في سنة النبي صلى الله عليه وسلم على أنَّ تصديق الكاهن أو العراف محرَمٌ بل كفر، وعلى أنَّ إتيان الكهنة والعرافين فيها إثمٌ كبير.
فمن ذلك ما رواه الإمام مسلم في صحيحه من حديث حفصة -ولم يسمها مسلم-؛ بل قال عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وهي حفصة أم المؤمنين أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال «من أتى عرافا فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين ليلة» (1) .
وجاء في سنن أبي داوود حديث أبي هريرة أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال «من أتى كاهنا فصدقه فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم» (2) .
وفي مسند الإمام أحمد أيضاً من حديث أبي هريرة أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال «من أتى كاهناً أو عرافاً فسأله عن شيء فصدقه لم تقبل له صلاة أربعين ليلة» (3) . وإسناده صحيح.
فَدَلَّت هذه الأحاديث على أنَّ:
- إتيان الكاهن أو العراف منهي عنه.
- وأنَّ سؤاله كبيرة من كبائر الذنوب إثمها عظيم يَتَرتَبْ عليها أن لا تقبل للمرء صلاة أربعين ليلة من عِظَمِ الإثم.
- وأنه إن سَأَلَ فَصَدَّقْ فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم.
إذا تبين ذلك فقوله صلى الله عليه وسلم «من أتى عرافا فسأله عن شيء» هذا فيه عموم، (سأله عن شيء) يعني عن أي شيء سواءٌ أكَانَ فيما مضى عن ضالة أو عن شيءٍ مفقود أو عن شيءٍ في المستقبل فإنه لا تُقْبَلُ له صلاة أربعين ليلة.
وسبب ذلك أنَّ العراف لا يستدل على ما غاب بأمورٍ ظاهرة أو بتجربة أو بأسبابٍ معلومة، وإنما يستعين بالجن، والاستعانة بالجن شرك لأنَّ الجن لا يُعينون الإنسان إلا إذا تَقَرَّبَ إليهم وأعطى بعض العبادة لهم ومَكَّنَهُم ليستمتعوا به، كما قال - عز وجل - {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} [الجن:6] ، يعني زاد الجنيُّ الإنسيَّ رهقاً وإثماً وبلاءً.
«لم تقبل له صلاة أربعين ليلة» اختلف العلماء هنا هل عدم القبول يعني الإجزاء ولكنه لا يثاب؟ أم أنها لا تقبل بمعنى أنها لا تُجْزِئُهُ لو صَلَّى ولكن يجب عليه أن يفعلها -يعني أن يقيمها-، وأنه لا يثاب عليها لأنها لم تُقْبَلْ منه؟
وهذا في نظائره في تفسيره (عدم القبول) هل عدم القبول يعني عدم الإجزاء أو عدم الثواب؟
والظاهر هنا أنَّ عدم القبول بمعنى عدم الثواب؛ لكنه إذا أَدَّاهَا سقط عنه الفرض، لإجماع الأمة أَنَّهُ لا يجب عليه أن يعيدها بعد اقتضاء الأربعين ليلة.
وأما تصديق الكاهن أو العراف -يعني إذا سَأَلَ كاهناً فَصَدَّقَه- فما في الحديث ظاهر وهو أنه قال «فقد كفر بما أنزل على محمد» هذا في حال السائل المُصَدِّقْ فكيف بحال الكاهن نفسه؟؟
يعني تُوُعِّدَ السائل الذي يسأل ويُصَدِّق أَنَّهُ قد كفر فكيف بالكاهن أو بالعراف؟
لهذا هنا مسألتان:
1 - المسألة الأولى: في حكم الكاهن أو العراف؟
والصحيح أنهم إذا استعانوا بالشياطين في ذلك، يعني لم يكونوا دجَّالين وإنما فعلاً يُخْبِرُونَ عن اسْتِعَانَةٍ بالشياطين فإنَّ هذا كفر، ويجب استتابتهم إنْ تابوا وإلا قُتِلُوا عند كثير من أهل العلم، على تفصيلٍ مَرَّ معنا في حكم الزنديق وأمثاله.
2 - المسألة الثانية: في حال السائل؟
قال صلى الله عليه وسلم «فقد كفر بما أنزل على محمد» وهنا الكفر هل هو كفرٌ أكبر مخرج من الملة أم كفرٌ أصغر دون كفر؟ أم يُتَوَقَّفْ فيه فلا يُقَالُ كفرٌ أكبر ولا كفرٌ أصغر لعدم الدليل على ذلك؟
ثلاثة أقوال لأهل العلم:
@ من أهل العلم من المعاصرين وممن قبلهم من قال أنه كفرٌ أكبر لظاهر قوله «فقد كفر» ، ويُفْتِي به عدد من مشايخنا هنا.
@ ومن أهل العلم من يقول هو كفرٌ دون كفر، وهذا أظهر من حيث الدليل لأمرين:
& الأمر الأول: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كما في رواية أحمد قال «من أتى كاهنا أو عرافا فسأله عن شيء فَصَدَّقَهْ لم تقبل له صلاة أربعين ليلة» فرتَّبَ عدم قبول الصلاة على السؤال والتصديق معاً ولو كان السائل الذي صَدَّقَ كافراً فإنه لا تقبل صلاة حتى يتوب دون تحديدٍ لمدةٍ معلومة.
& الأمر الثاني: أنَّ الناس يُصَدِّقُونَ العراف والكاهن لا على اعتبار أنهم يَدَّعُونَ علم الغيب وأنهم ينفُذُونَ على علم الغيب بأنفسهم؛ ولكن يقولون: هذا -يعني ربما قالوا- هذا ممن اخْتَرَقَتْهُ الشياطين.
فيكون لهم شبهة في ما يُصَدِّقُونَ به، وهذه الشبهة تمنع من أن يعتقدوا فيهم أنهم يعلمون علم الغيب مطلقاً.
وهذا يكثر في حال من يُصَدِّقْ من ينتسبون إلى الصلاح أو يظهر عليهم الوَلَايَةْ والصلاح ويُخْبِرُونَ بالمغيبات، والناس يصدقونهم على اعتبار أنهم يُحَدَّثُونَ بذلك، ولهم في ذلك -كما ذكرنا- شبهة وهذه تمنع من إخراجهم من الملة والكفر الأكبر.
__________
(1) مسلم (5957)
(2) أبو داود (3904) / الترمذي (135) / ابن ماجه (639)
(3) المسند (23270)(1/704)
ولهذا صار الصحيح هو القول بأنَّ تصديق الكاهن يعني في الخبر المُغَيَّبْ بخصوصه، يعني (من أتى فسأل فصدق) بالخبر بعينه أنَّ هذا كفر دون كفر لا يُخْرِجُ من الملة؛ لكن يجب معه التعزير البليغ والردع حتى ينتهي عمَّا سَمَّاهُ النبي صلى الله عليه وسلم كفراً.
@ القول الثالث وهو رواية عن الإمام أحمد أنَّه يُتَوَقَّف فيه، فلا يقال هو كفر أكبر ولا أصغر لأنَّ الحديث أطلق ثم لبقاء الردع في الناس والتخويف في هذا الباب.(1/705)
[المسألة الرابعة] :
الشبهة التي ذكرنا من اسْتِرَاقْ السمع هي التي جاءت فيها الآيات أنَّ الشهاب يُرْسَلُ على الشيطان أو على الشياطين الذين يسترقون السمع.
واستراق السمع له ثلاثة أزمنة:
1- الزمن الأول: ما كان قبل البعثة، قبل أن يُوحَى إلى محمد صلى الله عليه وسلم، يعني في حال أهل الجاهلية، وهذا كان استراق السمع كثيراً لحكمةٍ لله - عز وجل - في ذلك،، ولذلك كان ما يُخْبِرُ به الكُّهَان ويصدقهم الناس فيه كثيراً.
2- الزمن الثاني: بعد أن أُوحِيَ إلى النبي صلى الله عليه وسلم فإنَّ السماء مَلَأَهَا الله - عز وجل - حرساً شديداً وشُهُبَاً، كما قال - عز وجل - في سورة الجن مخبرا عن قول الجن في صدر السورة {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا} [الجن:1] إلى أنْ قال {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاء فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا} [الجن:8] فَدَلَّ على أَنَّهَا مُلِئَتْ، ولم يَعْهَدُوا ذلك من قبل؛ يعني أنَّ الله - عز وجل - جَعَلَهَا محروسةً لأجل وقت تَنَزُّلِ وحيه على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم حكمةً منه، وإلا فالله سبحانه قادر على أن لا يأذن بشيء من استراق السمع لكن لله - عز وجل - الحكمة والابتلاء لعباده.
فمُنِعُوا من الاستماع، ومُنِعُوا من استراق السمع وبَقِيَ ما ينفذ القليل جداً بالنسبة إلى ما سبق.
3- الزمن الثالث: هو ما بعد عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فإنَّ ظاهر الأدلة يدلُّ على أَنَّها لم تَخْلُ بعد ذلك من الشهب ومن حراستها في ذلك لئلا يَدَّعِّيَ أحدٌ النبوة وتكثر الشبهة معه فيما يخبِرُ بالمغيبات ممن يدَّعِي النبوة.
وإذا كان الأمر كذلك في هذه الأحوال الثلاثة فإنَّ ادِّعاء علم الغيب كفر:
- إما لتَهَجُّمِهِ على ما يختص الله - عز وجل - به.
- أو لأَنَّهُ لا يدَّعِي علم الغيب إلا من يستعين بالجن ويتقرب إليهم.
وأما الذي يُصَدِّقُ من يَدَّعِي علم الغيب في بعض الأحوال مثل ما ذكرنا هذه لها تفاصيل ذلك.
والواجب أن يُعْتَقَدَ أَنَّ الغيب كما قدَّمْتُ لك في أول المسائل مختصٌ بالله - عز وجل - {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا} هذا يعمّ لأنَّ أحداً نكرة في سياق النفي، فتعم كل أحد، ثم استثنى الله - عز وجل - فقال {إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا} [الجن:26-28] فاستثنى الله - عز وجل - الرسول الملكي والرسول البشري فيما يُطْلِعُهُم عليه من علم الغيب لدليل صدقهم أو لحكمةٍ لله - عز وجل - في ذلك.(1/706)
[المسألة الخامسة] :
الكِهَانَة والعِرَافَة متنوعة الصور.
ففي الزمن الأول كان لها صور متعددة مثل: الضرب بالحصى، ومثل الخط، هذه لو كانت توجد لَوْحَة لَبَيَّنْتُ لكم كيف يضربون بالحصى وكيف يَخُطُّونْ ويَصِلُون إلى النتيجة بزعمهم ويَتَّضِحْ لك أَنَّهُ دَجَلْ؛ لأنَّهُ لا دليل منطقي ولا سبب كوني ولا شرعي يَدُلُّ على النتيجة التي يَدَّعُونَها.
لكن يُدَجِّلْ على الناس بأن يجعل شيئاً لا يفهمه الناس يَدَّعِي الكاهن أو العَرَّاف أو الضارب بالحصى والرمل إلى آخره يَدَّعِي أنها تَدُلُّهُ على المعلومة، وهو في الحقيقة لا يستدل عليها بالخط ولا يستدل عليها بالخشبة التي يكتب عليها، ولا يستدل عليها بالحصى وإنما هي من الشياطين.
وهذه الأشياء، الصور المختلفة منها ما هو قديم ومنها ما هو حديث في أنحاء شتى لكن كُلُّهَا يُظْهِرُونَ أَنَّهَا سبب وليست بسبب.
وبخصوص الخط فإنهم يَدَّعُون دَجَلاً وكَذِبَاً أَنَّ هذا من عِلْمِ الله لبعض أنبيائه.
وهذا قد يَذْكُرُ عليه بعضهم قول النبي صلى الله عليه وسلم لما سُئِلَ عن الخط كما رواه مسلم في الصحيح قال «كان نَبِيٌّ يَخُطْ فمن وافق خطه فذاك» (1) يعني أَنَّ أصل الخط آية لنبيٍ من الأنبياء، عَلَّمَهُ الله - عز وجل - نبياً من الأنبياء ليكون دِلالَةً على ما يُعَلِّمُهُ الله - عز وجل -، وبقي في الناس لكن لا يوافقون آية النبي؛ لأنَّ آية النبي لا يستطيع أحد أن يفعلها؛ لأنها آية مُخْتَصَّة به، ولو كانت آية نبي تكون لكل أحد لما خُصَّ النبي بالآية.
لهذا كان قال «كان نبي يخط» ثم قال «فمن وافق خطه فذاك» .
قوله «فمن وافق خطه فذاك» هذا من الإحالة على مستحيل؛ يعني أنَّ أَحَدَاً من هؤلاء الذين يَخُطُّونْ والكهنة والعرافين ومن نحا نحوهم لا يمكن لأحدٍ أن يقول هكذا خَطَّ ذاك النبي أو أَنَّ هذه آية من جنس آية ذاك النبي [ ... ] الكهنة والذين يَخُطُّونْ ويَدَّعُون علم الغيب من أنَّ الخط كان عند الأنبياء فَيُرَدُّ عليهم بهاتين الجهتين:
- الأول: أنَّهُ آية وآية النبي لا يمكن لأحدٍ أن يدركها.
- الثاني: أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم أحَالَ على مستحيلٍ قال «فمن وافق خطه فذاك» ، وهذا لا يمكن لأحد أنْ يُدْرِكَهْ.
لهذا الخط في الرمل والضرب بالحصى والخشب وأنواع ذلك هذه من الصور القديمة وهي موجودة الآن في بعض البلاد، وهي كلها من وسائل الكُهَّان ومن نَحَا نحوهم.
ومن الصور الحديثة التي اختلف فيها العلماء، هل تدخل من الكهانة أم لا تدخل؟، وهل هي من استخدم الجن وعلم الغيب أم لا تدخُل؟ ما يُسَمَّى بالتنويم المغناطيسي.
وهذا له صفته وثَمَّ كتب كثيرة مُؤَلَّفَةْ في ذلك من مختصين في هذا في أوربا وفي مصر وفي لبنان وفيه معاهد تُعَلِّمْ هذا الذي يَدَّعُونَ أَنَّهُ فَنٌ أو علم من العلوم.
وقد أفتت اللّجنة الدائمة عندنا في فتوىً مشهورة مُطَوَّلَة بأنَّ التنويم المغناطيسي ضَرْبٌ من ضروب الكهانة واستخدام الجن ليتسلَّطَ -بحسب ما عَبَّرُوا- الجني على الإنسي فيَحْمِلُهُ ويَرْتَفِعْ عن الأرض ويُخْبِرْ بأمورٍ مُغَيَّبَة ويتسلط على نفسه وعلى روحه فيكون له عليها سلطان.
وثَمَّ صور كثيرة، واليوم في عدد من البلاد -والعياذ بالله- ثَمَّ معاهد لتعليم عددٍ من هذه الأمور المنكرة، والواجب على المسلمين جميعاً أن يُنْكِرُوا هذا أشد الإنكار، لأنه:
- أولاً: تَهَجُّمٌ على ما يختص الله - عز وجل - به.
- ثانياً: لأنَّهُ لا يكون إلا بالإشراك بالله - عز وجل - إذا صَدَقَ استخدامهم للجن.
- ثالثاً: إنه فتحٌ لباب الدَّجَلْ وباب الكذب على الناس وأخذ أموال الناس بالباطل.
وما يأخُذُهُ المُتَكَهِّنْ من المال فهو حرامٌ عليه وخبيث كما جاء في الحديث الصحيح «حُلْوانُ الكاهن خبيث» (2) يعني أنه كَسْبٌ مُحَرَّمٌ خبيث.
(وقد جاء غلام عند أبو بكر الصديق رضي الله عنه فأعطاه طعاماً فأكله أبو بكر رضي الله عنه، ثم قال الغلام: أتدري من أين هذا؟
قال: لا.
قال: كنت تَكَهَّنْتُ -يقول غلام أبي بكر لبي بكر رضي الله عنه- يقول: كنت تَكَهَّنْتُ لرجلٍ في الجاهلية فأعطاني هذا الحلوان، فجعل أبو بكر الصديق رضي الله عنه يُدْخِلُ أصبعه في فيه حتى قَاءَ كل ما في بطنه) (3)
فهذا من حيث الكسب حرام، ومن حيث السؤال حرام، وذلك لعِظَمِ هذا الذنب، فإنه لا يجوز إقْرَارُهْ ويجب على من يقدر على إنكاره أن يُنْكِرْ، وعلى أهل الحسبة ومن يلي هذا الأمر بخصوصه أن لا يتساهلوا في ذلك، وكذلك على الدعاة إلى الله - عز وجل - وأهل العلم أن يُبَيِّنُوا ذلك لأنه من مسائل التوحيد.
نكتفي بهذا القدر، وثَمَّ مسائل أخرى متعلقة بالجملة الأخرى هي قوله (وَلَا مَنْ يَدَّعِي شَيْئًا يُخَالِفُ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَإِجْمَاعَ الْأُمَّةِ.) نرجئها إن شاء الله تعالى إلى الدرس القادم.
__________
(1) مسلم (1227)
(2) ذكره شاح الطحاوية ولم أجده
(3) البخاري (3842)(1/707)
الأسئلة:
س1/ قال بعض أهل العلم إنه لا يُسْتَعَانُ بالجن لا مسلمهم ولا كافرهم، وذكر أَنَّ الجن يُخْبِرُونَ أَنَّهُمْ مسلمون فهذا لا يُصَدَّقْ؛ لأنه من علم الغيب فنؤمن أنه من الجن من هو مسلم وكافر، إلى آخره؟
ج/ الاستعانة بالجن حرام سواءٌ كانت استعانة بالجني الكافر الشيطان أم بالجني المسلم، وذلك لعدة أدلة:
1 - الدليل الأول: أنَّ استمتاع الجني بالإنسي والإنسي بالجني محرمٌ في نصوص الكتاب والسنة وأنه لا يُسْتَثْنَى من ذلك، لم يرد الدليل بالاستثناء ولا بالتخصيص، فبقاء الأمر على عمومه بما يشمل الجميع هذا هو الأصل وهو المتَعَيِّن.
2 - الدليل الثاني: أنَّ الجن لهم قُدَرْ كما هو معلوم وأنه في زمن النبي صلى الله عليه وسلم كان منهم مسلمون كثير أسلموا، قال - عز وجل - {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا} [الجن:1] إلى أن قالوا {وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ} [الجن:11] ، وكذلك قوله {وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ} [الجن:14] ، وكذلك في آخر سورة الأحقاف {إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ} [الأحقاف:30] .
فالجن في زمن النبوة كان منهم من صَحِبَ النبي صلى الله عليه وسلم وأسْلَمَ على يديه، وعندهم من القُدَرْ ما ليس عند غيرهم، وقد مضى زمن النبوة بأزمان ولم يَسْتَعِنْ النبي صلى الله عليه وسلم بالجن، ولم يَسْتَعِنْ الصحابة بهم وقد واجهتهم أشياء.
فهذا الدليل وهذا الإجماع أعظم وأبْلَغْ مما يُسْتَدَلْ به على أَنَّ هذا الأمر من البِدَعْ لأنَّهُ لم يكن في زمن السلف.
هذه المسألة أظهر وأبلغ لأنهم لم يستخدموا ذلك ولم يستعينوا بهم لا بمسلمهم ولا بكافرهم.
وهذا له سبب، وهو أنَّ الجني إذا زَعَمَ أَنَّهُ مسلم فإنَّ إثبات إسلامه وإثبات صلاحه متوقِفٌ على أمر باطن لا يَطَّلِعْ عليه الإنسان، فأنت بالظاهر تحكم على الرجل إذا قابلك والجن منهم رجال ومنهم نساء {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ} [الجن:6] ، تَحْكُمْ عليه بالظاهر من هيئته وشكله على أنه مسلم ونحو ذلك، والجن لا تعلم صدقهم ولا تعلم حقيقة ما ادَّعَوا فبقي الأمر على الأمْرْ المُغَيَّبْ.
ولهذا قال أهل العلم إنَّ رواية الجن للأحاديث ضعيفة، فلو أَتَى جني وروى بالإسناد وقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا وهذا يقول أنا مسلم والثاني يقول أنا مسلم في الإسناد فعند أهل الاصطلاح بَحَثُوا رواية الجن وقالوا: إنها ضعيفة لأنَّ الجن مجاهيل، حتى ولو قال أنا مسلم فلا يُصَدَّقْ في خَبَرِهِ.
3 - الدليل الثالث: أنَّ فتح باب الاستعانة هذا هو فتحٌ لباب الشرك بالله - عز وجل -، فيجب سَدُّهُ، وهو أولى من سَدِّ بعض أنواع ذرائع الشرك.
فالشريعة حَرَّمَتْ البناء على القبور لئلا يكون وسيلة لتعظيم أصحابها، وجاء تحريم بعض وسائل الشرك لئلا يكون وسيلة، بعض وسائل البيوع المحرمة لئلا يكون وسيلةً إلى الربا وهكذا، والاستعانة بالجن الذين يُجْهَلُونَ ولا يُعْلَمْ حقيقة الحال، الاستعانة بهم لاشك أنَّهُ ذريعة لأن يأمر الجني الإنسي إذا فُتِحَ الباب أن يأمره بالتَّقَرُّبْ أو ببعض الأشياء.
وقد بَلَغَنِي بيقين عن بعض من يتعاطى القراءة وهو من الجَهَلَة، ليس من أهل العلم ولا من طلبة العلم ممن فَتَحَ هذا الباب فسَيْطَرَ عليه الجن وهو لا يعلم في هذا، وأصبح يأمرونه بأشياء وينهونه عن أشياء، وربما أَذَلُّوهُ في بعض الأمور، فَسَدُّ الذريعة في هذا واجبٌ ولا يجوز التساهل به.
وق استدل بعض من قال بجوازه ببعض التعبير، بعض العبارات عن شيخ الإسلام ابن تيمية في آخر كتاب النبوات وفي الفتاوى معلومة كلام ابن تيمية في الموضوع؛ لكن شيخ الإسلام لا يريد بما قال إباحة الاستعانة، وإنما بَحَثَ في حال المسلم مع الجني، فقال في أوله (وأولياء الله لا يُعَامِلُونَ الجن إلا بأمرهم الشرع ونهيهم عن ضده، كما كانت حال النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه) .
ثُمَّ ذكر الحال الثالثة: أنه قد يعرض الجني للإنسي في أَمْرٍ يُعِيْنُهُ فيه هذا لا بأس به.
فيُحْمَلْ كلامه على أنه في حالة -لأن بعض السلف فعلها- في حالة أنَّهُ يَعْرِضْ له.
مثلاً يأتيه ويقول أنا أيقظك لصلاة الفجر، أو يضيع من الطريق مثل ما حصل للإمام أحمد، قد يكون من الملائكة وقد يكون من الجن الله أعلم؛ لكن يقول الطريق من هاهنا فيتبعه.
هذا ليس استعانة ليس طلباً للعون، وإنما هو إرشاد، وهذا الإرشاد مُتَوَقِّفْ على صدق المُرْشِدْ وعلى كذبه.
يعني ليس هو استعانة طلب للعون.
هو يقول له مثلاً: هو كذا أو الطريق من هنا أو هذا الشيء في الفلاني من دون أن يطلب.
وهذا خبر قد يكون صادقاً وقد يكون كاذباً.(1/708)
واختبار الخبر لا ما نع منه، يختبر هل هو صادقٌ فيذلك أم لا.
المقصود هذه المسألة لا تتساهلوا فيها، لا في هذا الوقت ولا فيما بعده؛ لأني أخشى أن ينفتح علينا ذرائع الشرك ووسائل البدع من جَرَّاءِ القراء الجهلة الذين فتحوا باب الاستعانة بالجن في هذا الباب.
ولأجل طول الجواب نكتفي بهذا القدر، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
س2/ ما ذكروه عن عمر رضي الله عنه أنه كان يَسِمُ إبل الصدقة، ثم الصحابة سَأَلُوا عنه فقالوا إنَّ امرأة معها قرين، فأخبرته، فأخبرهم الجني أَنَّ عمر كان يسم إبل الصدقة، ذكره بعض العلماء الأثر؟
[الشيخ] : لا أدري ما المقصود.
[السائل] : يعني هنا الصحابة استعانوا بهذا القرين في البحث عن عمر رضي الله عنه فأخبرهم أنه كان يسم إبل الصدقة، وهذا ذكره الشيخ ابن عثيمين في القول المفيد، فما رأيك هل هو طلب أو خبر؟
الشيخ: لا أعرف، هذا يحتاج إلى إثبات أولاً ثُمَّ هذا قد يُحْمَلْ على أنَّهُ خبر لكن ما نُعَارِضْ.
فيه شُبَهْ أكثر من هذا من الأفعال، لكن ما نعارض الأصول الشرعية.
لماذا لم يُسْتَخْدَم في عهد النبوة؟
فيه مسائل في التوحيد لو نأخذ بعض المسائل هي أيضاً تؤثر على كثير.
لا نأخذ شيئاً لا يُعْرَفْ، يجب في المشتبهات هذه أن تُحْمَلْ على المُحْكَمْ، المُحْكَمْ هو الأصل ونرد له المشتبهات.
كون حادثة حدثت لا تدري عن تأويلها لأنَّ حكايات الأفعال لها عدة توجيهات وعدة أحوال، ما تدري هذه تُوَجِّهُهَا بكذا ولا تُوَجِّهُهَا كذا.
ومن قال أنها تُوَجَّهْ إلى الاستعانة فقط هذا يحتاج إلى استدلال.
هل هم طلبوا العون؟ أو أُخْبِرُوا؟ وش الحال في الحقيقة؟
فما نحكم على فعل الصحابة بمناقَضَةْ حال النبي صلى الله عليه وسلم.
هذا في ما لو كان يعني فعلهم حجة في هذا، ومعلوم أنَّ أقوال الصحابة فيها نظر في الاحتجاج، فكيف بأفعالهم إذا خالفهم (1) ...
__________
(1) نهاية الشريط التاسع والأربعين.(1/709)
: [[الشريط الخمسون]] :
وَلَا نُصَدِّقُ كَاهِنًا وَلَا عَرَّافُا، وَلَا مَنْ يَدَّعِي شَيْئًا يُخَالِفُ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَإِجْمَاعَ الْأُمَّةِ.
وَنَرَى الجَمَاعَةَ حَقًّا وَصَوَاباً، والفُرْقَةَ زَيْغاً وَعَذَاباً.
_____________________________________________
مرّت معنا عدة مسائل تتعلق بالجملة الأولى وهي قوله (وَلَا نُصَدِّقُ كَاهِنًا وَلَا عَرَّافُا) .
وفي قوله (وَلَا مَنْ يَدَّعِي شَيْئًا يُخَالِفُ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَإِجْمَاعَ الْأُمَّةِ) مسائل أيضاً:(1/710)
[المسألة الأولى] :
أنَّ مخالفة الكتاب والسنة وإجماع الأمة، هذه مذمومة وضلال وقد تصل بصاحبها إلى الكفر في باب الاعتقاد أو في باب العمليات أو في أبواب السلوك.
والواقع يدلُّ على أنَّ طائفةً ممن ادَّعوا الصلاح والسُّلوك والزُّهد والعبادة، ادَّعوا أشياء تحصل لهم، إمَّا بالإلهام أو بخبر الغيب أو بأحوال لم يدلَّ عليها الكتاب والسنة وأجمعت الأمة على خلافها.
وهذا كثير فيمن يَدَّعُون التَّصَوُف ممن كانوا في زمن الطحاوي وما قبله.
والطحاوي رحمه الله قرن -فيما ترى- ما بين تصديق الكُهَّانِ والعَرَّافِين وما بين ادِّعَاءِ أشياء تخالف الكتاب والسنة وإجماع الأمة؛ لأنَّ الناس قد يظهرُ لهم في موضوع الغيب عدم تصديق الكاهن والعرَّاف لأنَّ الكاهن والعرَّاف حالهما معروف والناس يحذرون من أهل الكهانة لا سيما في الأوقات القريبة من السنة أو التي تظهر فيها ألوية السنة، فيكرهون الكِهَانَةْ والعِرَافَةْ ويكرهون الكاهن والعَرَّاف لأنهم من أولياء وإخوان الشياطين.
لكن مسألة الصالحين والأولياء ومن يُظْهِرْ الصلاح فإنَّ هذه قد تشتبه كما هو الواقع في كثيرٍ من أحوال المسلمين الماضية والحاضرة، لهذا قرن بينهما؛ لأنَّ مسألة الكاهن والعَرَّافْ ظاهرة؛ لكن أيضاً لا نُصَدِّقُ من يَدَّعي شيئاً يخالف الكتاب والسنة وإجماع ممن ظاهره الصلاح ويدَّعي أحوالاً أو العلم بأمور الغيب.(1/711)
[المسألة الثانية] :
الذين نُسِبوا إلى الوَلَاية -بفتح الواو- وعُدُّوا من الأولياء وأهل الزَّهَادَةْ فئات مختلفة متنوعة:
- منهم الغلاة الذين زعموا أنهم يُوحَى إليهم.
- ومنهم من هم دونهم ممن يزعمون أنهم يُلهَمون ويُخبَرونَ بالغيب.
- ومنهم -وهم دونهم- من يزعمون أنهم على قُدْرَةٍ في تغيير الأحوال والعلم بالضمائر وأنهم يُحَدَّثُونَ بما أحدثه الناس بعدهم؛ يعني فيما مضى والذين قبلهم فيما سيأتي.
ولا شك أنَّ طريقة السلف في الزهد والعبادة هي التي أجمعت عليها الأمة، وهي أَنَّهُم يَتَعَبَّدُونَ ويَتَزَهَّدُون، ويرجون الله - عز وجل - ولا يَدَّعُونَ شيئاً من أحوال الكُهَّانْ والعَرَّافين ولا إخبار بالغيب ولا الأحوال الشيطانية المختلفة التي تُسَمَّى الكرامات عند بعضهم.(1/712)
[المسألة الثالثة] :
الواجب على كل مسلم أن يعتقد أنَّ علم الغيب مختصٌ بالله - عز وجل -، وأنه قد يُعْطِي بعض علم الغيب لرسولٍ.
والرسول هو الذي جاء في قوله: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (27) لِيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ} [الجن:26-28] ، فالذي اِسْتُثْنِي هو الرسول.
والرسول نوعان:
- رسول ملكي، نِسْبَةْ إلى الملائكة.
- ورسول بشري.
وهؤلاء يُسْتَثْنَونَ فيما أراد الله - عز وجل - أن يُعْلِمَهُم إياه من أمور الغيب، لحكمته - عز وجل - ولكمال علمه وقدرته.
أما من ليس برسول فلا يُكْشَفُ له الغيب، لكن قد يكون لبعضهم كرامة، ليست من باب كشف الغيب المستقبلي، ولكن هي من باب الكشف العلمي الذي سبق أن ذَكَرنَاهُ لكم في نحو قصة عمر رضي الله عنه مع سارية حيث قال له (يا سارية الجبل الجبل) يعني الزم الجبل.
فصار بالنسبة إلى عمر كشف علمي، ليس علماً للغيب المستقبلي، كشف علمي أو بصري، فرأى الجبل ورأى سارية.
وبالنسبة إلى سارية أيضاً سَمِعَ كلام عمر فصار بالنسبة له كشف سمعي، وهذا من جهة الكرامة، وقد أوضحنا لك ذلك في قوله (وَنُؤْمِنُ بِمَا جَاءَ مِنْ كَرَامَاتِهِمْ، وَصَحَّ عَنِ الثِّقَاتِ مِنْ رِوَايَاتِهِمْ) فيما مضى.(1/713)
[المسألة الرابعة] :
ذكر لك الشارح هنا -ابن أبي العز رحمه الله- أحوالاً متنوعة فيمن ادَّعَى أشياء مخالفة للكتاب والسنة وإجماع الأمة ترجع إليه فيها.
وننبه زيادة على ذلك من أنَّ طائفة - أظنه ذكرها في هذا الموضع- أسْمَتْ نفسها بـ: (الطائفة المَلَامَكِيَّةْ) أو (الملامِيَّةْ) وهذه الطائفة من الصوفية نشأت في أواخر القرن الثامن الهجري تَزَعَّمَهَا طائفة من الزُّهَادْ والعُبَّادْ الذين أرادوا تصفية النفوس وتحقيق الإخلاص، فصاروا يُظْهِرُونَ حالاً خلاف ما هم عليه، يُظهرون المعصية، يُظْهِرونَ خلاف الطاعة، يُظْهِرونَ التفريق في الواجبات، لأجل أن يذمهم الناس وهم في الحقيقة في داخلهم ليسوا على هذا الأمر ويكرهونه وهم من أهل العبادة والزهد.
فأرادوا الإخلاص عن هذا الطريق، وهذه لا شك حال تخالف الكتاب والسنة وإجماع الأمة في أنَّ العبد المُكَلَّفْ يجب عليه أن يستقيم على الطاعة وأن يُحَقِّقَ الإخلاص كما أمره الله - عز وجل - في حاله ظاهراً وباطناً.
فإذن هذه الجملة (وَلَا مَنْ يَدَّعِي شَيْئًا يُخَالِفُ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَإِجْمَاعَ الْأُمَّةِ) تدلُّ على عدم تصديق كل من ادَّعَى الوَلَاية وهو يَدَّعِي شيئاً من علم الغيب أو يَدَّعِي شيئاً من المقامات العلية أو من الوحي أو من الإلهام مما يخالف الكتاب والسنة وإجماع الأمة.(1/714)
قال رحمه الله بعد ذلك (وَنَرَى الجَمَاعَةَ حَقًّا وَصَوَاباً)
____________________________________________
يريد العلامة الطحاوي رحمه الله وأجزل له المثوبة بهذه الجملة من هذه العقيدة النافعة بأنَّ:
- أهل السنة والجماعة أهل الحديث والأثر أتباع السلف الصالح يَرَونَ الجماعة حقاً أَحَقَّهُ الله - عز وجل - وأَحَقَّهُ رسوله صلى الله عليه وسلم ثابت وخلافه باطل.
- وأنهم يرون الجماعة صواباً في الالتزام بها وفي التمسك بها وفي الحال والمآل وفي الدنيا والآخرة.
- وأنَّ خلاف الجماعة والتمسك بها أنه باطل وغلط وضلال.
وقابلها بقوله (والفُرْقَةَ زَيْغاً وَعَذَاباً) يعني يرى أهل السنة والجماعة أهل الحديث والأثر أتباع السلف الصالح يرون الفرقة بأنواعها زيغاً عن الصراط، وزيغاً وبُعْدَاً عما أمر الله - عز وجل - به من الاعتصام بحبله والإتباع لرسوله صلى الله عليه وسلم، ويرونها أيضاً عذاباً يعني عُقَوبَةً تُعَاقَبُ بها الأمة -كما سيأتي بيانه إن شاء الله.
وسبب إيراد هذه الجملة في العقائد أمران:
1 - الأمر الأول: أنَّ أعظم ما حصل به الزيغ والدَّمْ في الأمة وإضعاف الأمة والبدع والمحدثات والشرك وجميع الموبقات بأنواعها إنما حصل من جَرَّاءِ ترك الجماعة والأخذ بالفُرْقَةْ أو استحسان الفُرْقَةْ.
2 - الأمرالثاني: أنَّ الفِرَقْ الضالة رأت الفُرْقَةْ خيراً وطلبتها ورَأَتْ الجماعة ضعفاً فنبذتها.
ومخالفتهم وترك سبيلهم هو سِمَةُ الفِرْقَةِ الناجية الذين قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم: «كلها في النار إلا واحدة» قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال: «هي الجماعة» (1) .
إذا تبيَّنَ ذلك فهاهنا مسائل:
__________
(1) سبق ذكره (5)(1/715)
[المسألة الأولى] :
في قوله (نَرَى) ، كلمة (نَرَى) في هذا الموطن يُرادَ بها الاعتقاد، يعني ونعتقدُ، وليست مذكورةً لأجل أنَّ المسألة اجتهادية، كما يعبر الفقهاء (أرى كذا، وأرى أنَّ الأظهر كذا) فيما سبيله الاجتهاد.
فكلمة (نَرَى) في كتب أهل السنة، في كتب العقائد إذا جاءت بصيغة الجمع فإنه يُرَادُ بها ما قَرَّرَهُ أئمة أهل السنة والجماعة في عقائدهم دون خلافٍ بينهم.(1/716)
[المسألة الثانية] :
الجماعة جاء ذِكْرُهَا في حديث الافتراق وفي أحاديث أُخَرْ كقوله صلى الله عليه وسلم: «الجماعة رحمة والفُرْقَةْ عذاب» ، وكقوله «من أتاكم وأمركم جميع يريد أن يشق عصاكم فاقتلوه كائناً من كان» (1) وكذلك قوله في حديث الافتراق «إنَّ اليهود افترقت على إحدى وسبعين فرقة، وإنَّ النصارى افترقت على اثنتين وسبعين فرقة، وإنَّ هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة كلُّها في النار إلا واحدة» قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال: «هي الجماعة» ، وفي رواية قال: «هي ما كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي» (2) .
فكلمة (الجَمَاعَةَ) جاءت في عدد من الأحاديث نَصَّاً، وجاءت في القرآن مَعْنَىً في قوله تعالى {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ} [آل عمران:103] ، وفي قوله {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً} يعني جميعاً دون تفريق، و {السِّلْمِ} في الآية يعني الإسلام.
{ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً} يعني ادخلوا في الإسلام كافة.
{وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} [البقرة:208] ، بأن تُفَرِّقُوا بين أمرٍ وأمرٍ من أمور الإسلام، فيجب الدخول فيه كافة، وألَّا يقول المسلم إذا أسلم (أنا أدخل في بعض الإسلام ولا أدخل في بعض، أو ألتزم ببعضٍ ولا ألتزم ببعض أو أُقِرُّ ببعضٍ ولا أُقِرُّ ببعض) ، ونحو ذلك.
و (الجَمَاعَةَ) في هذا الموطن اختلف السلف في تفسيرها على عدة أقوال -يعني الآية والحديث وفي غيرهما أيضاً من كلام السلف-.
والذي يجمع كلام السلف كما أوضحته لكم في غير موضع: أَنَّ الجماعة نوعان:
- جماعَةٌ في الدين.
- وجماعَةُ في الأبدان والدنيا.
وأنَّ النصوص تشمل هذا وهذا، وأَنَّ من فَسَّرَ من السلف (الجَمَاعَةَ) بجماعة الدين فإنه -يعني من الصحابة والتابعين - تَفْسيرٌ للشيء ببعض أفراده، كما هو عادة السلف، ومن فَسَّرَهَا بأنها جماعة الأبدان والاجتماع على الإمام وولي الأمر فإنَّهُ يعني بها فرداً أو بعض أفراد الجماعة.
فالجماعة نوعان:
1 - أولاً: جماعةٌ في الدين: وهي الأساس الأعظم لما أنزل الله - عز وجل - به كتبه وأرسل به رسله، فإنَّ الله أرسل الرسل وأنزل الكتب لأجل أن يجتمع الناس في دينهم، وهو توحيد الله - عز وجل -، عبادته وحده دون ما سواه والبراءة من الشرك وأهله، وطاعة رسوله الذي أرسله على الرسل صلوات الله وسلامه.
وهذا هو الذي جاء في نحو قوله - جل جلاله - في سورة الشورى {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى:13] يعني واجتمعوا عليه، وهو المذكور في قوله {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ} [آل عمران:103] .
وهذا الاجتماع في الدين هو أَعْظَمُ أَمْرٍ لأجله بُعِثَتْ الرسل وأُنْزِلَتْ الكتب، وهو الذي من أجله يجاهد المجاهد ويدعو الدَّاعِي، وهو الذي من أجله آتى الله - عز وجل - الرسل الآيات والبينات، أن يجتمعوا لأجل تحقيق الدين، لأجل ألا يفترق الناس في الالتزام بما يُرْضِي الله - عز وجل - فيما يستحقه في العبادة والطاعة له ولرسوله صلى الله عليه وسلم.
فيدخل هنا في الاجتماع: الاجتماع في ملازمة الإسلام، والالتزام به، وألا نؤمن ببعضٍ ونكفر ببعض، وأن يُدْخَلَ في الإسلام كافَّةْ دون تفريقٍ ما بين مسألة ومسألة -يعني من حيث الاعتقاد والإقرار والإذعان والالتزام-.
2 - ثانياً: جماعة الأبدان: يعني اجتماع الأبدان والدنيا بملازمة طاعة من وَلَّاهُ الله - عز وجل - الأمر، والسمع والطاعة في غير معصية الله - عز وجل -.
وهذا النوع وسيلة لتحقيق الأوَّلْ، فالأمْرُ به والنهي عن الخروج عن الولاة والأمْرْ بالاجتماع فيما أَحَبَّ الإنسان وكَرِهْ، كما جاء في الحديث «على المرء السمع والطاعة فيما أحب وكره» (3) ، هذا به يتحقق الاجتماع في الدين.
والتفريط في الأول أو في بعضه يُعَاقِبُ الله - عز وجل - به بالفرقة في الثاني أو بعضه -كما سيأتي بالبحث في الفُرْقَة-، وكذلك التفريط في الثاني وهو: السمع والطاعة لولاة الأمور في غير المعصية والاجتماع وعدم الخروج، التفريط في الثاني يُنْتِجُ التفريط في الأول أو في بعضه.
ولهذا ما مِنْ فُرْقَةٍ في الأبدان حصلت في الأمة إلا وكان معها وبعدها من الافتراق في العقائد ونفوذ البدع والمُحْدَثَات ما لا يدخل في حُسْبَان.
فالأمران مترابطان، والجماعة مطلوبَةٌ في هذا وهذا ومأمورٌ بها، وجماعة الدِّين واجتماع الناس في دينهم حقٌ وصواب، وإحداث المحدَثَات باطل وغلط وضلال، وكذلك الاجتماع في الأبدان والدنيا حقٌ وصواب وخلافه بالفُرْقَةْ والخروج باطلٌ وزيغٌ وضلال.
__________
(1) سبق ذكره مع ما قبله (487)
(2) سبق ذكره (344)
(3) سبق ذكره (481)(1/717)
[المسألة الثالثة] :
جماعة الدين حصل فيها الافتراق أو حصل فيها الخلل ووقعت الفُرْقَة قبل الافتراق في الأبدان أو قبل اختلال جماعة الأبدان، وذلك حين نشأت الخوارج في عهد عثمان رضي الله عنه، وحدث منهم ما حدث حتى آل الأمر إلى قتل عثمان ثم بعد ذلك وقعت الفُرْقَة واخْتَلَّتْ الجماعة.
وهذا يؤخذ منه أنَّ من دعا إلى الدين والاجتماع عليه وتحقيق التوحيد ونبذ البدع ووسائل الشّرك والبدع وإحلال الحلال وتحريم الحرام والأمر بما أوجب الله - عز وجل - والنهي عن ضد ذلك أنَّ هذا في الحقيقة يدعو إلى الاجتماع في الأبدان، لأنّه إذا اجتمع الناس في دينهم آل الأمر إلى اجتماعهم في أبدانهم، والمسائل مرتَبِطٌ بعضها ببعض.
لهذا كان من اللَّوازِمْ على كل من يطلب معرفة منهج السلف والأئمة وأهل الحديث أن ينظر إلى التلازم العظيم ما بين الجماعة الأولى والجماعة الثانية أو الاجتماع الأول والاجتماع الثاني.
والتوازن فيما بينهما هو سبيل أهل العلم، فإنَّ الناس في هذين الأمرين على ثلاثة أنحاء:
@ الفئة الأولى: منهم من قَدَّمَ تحقيق المطالب الدينية ورَعَاهُ حتى ولو حصل خلل في الاجتماع في الأبدان- يعني بحسب اعتقادهم -.
وهذا هو طريقة من ضل في هذا الباب وغلا من الخوارج والمعتزلة، ومن رَأَى رأياً يشابه ما قاله الخوارج والمعتزلة ونحوهما.
@ الفئة الثانية: من تساهلت فرَأَتْ المحافظة على الجماعة في الأبدان والدنيا سبيلاً لترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والنصيحة الواجبة وإعلان الحق بضوابطه الشرعية في أمر الجماعة، فَتَرَكُوا إنكار المنكر من الشرك والبدع تَسَاهُلَاً وضَعْفَاً.
@ الفئة الثالثة: هم الراسخون في العلم ومن تَوَلَّاهُ الله - عز وجل - بتوفيقه، فإنهم أخذوا بهذا وهذا، فدعوا إلى الاجتماع في الدين وتحقيق ذلك بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبنشر العلم النافع والدعوة إلى ذلك وبالنصيحة بطرقها الشرعية، ولم يروا ذلك مُخَالِفَاً لما أوجب الله - عز وجل - من الاجتماع في الأبدان والدنيا، فوازنوا بين هذا وهذا وأَجْرَوا الحكمة في هذا وهذا.
ولا شك أَنَّ أحوال الناس تختلف في مثل هذه المقامات ما بين مقام الأمن ومقام الخوف ومقام الفتنة ومقام الاستقرار.
والراسخون في العلم ومن تبعهم يضعون لكل شيءٍ موضعه، فلا يتركون الأمر والنهي والدعوة والنصيحة لأجل تَوَهُّم أَنَّ هذا يُفَرِّقْ، ولا يأمرون مع مَظِنَّةِ وجود الفرقة.
ولهذا يقول ابن تيمية رحمه الله في رسالته في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (أَنَّ الآمر والناهي إذا ظَنَّ أنه ستحدث مفسدة لأمره ونهيه أكبر مما أَمَرَ به ونَهَى، فإنه لا يُنْكِرْ، وقال: يأثم إذا أنكر) .
لأنَّ الشريعة جاءت لتحقيق المصالح وتكميلها ودرء المفاسد وتقليلها.
وهذا بخلاف التَّوَهُّمْ، لأنَّ التَّوَهُّمْ غير الظن الراجح، غير ما يعلمه أهل العلم مما ستُحْدِثُهُ الأمور.
التَّوَهُّمْ هذا راجع للخوف، فمن الناس من يخاف أن يقول لفلان: اتق الله في كذا وكذا أو صلّ الصلاة، يَتَوَهَّمْ أَنَّ كل شيءٍ سيؤثر على النفوس وأنَّ كل شيء سَيغَيِّرْ، الخ.
وهذه حيلة وطريقة مَنْ تَرَكَ ما أوجب الله - عز وجل -، وهي طريقة بني إسرائيل التي ذم الله - عز وجل - الناس عليها.
لهذا يجب في هذه المسائل أن يؤخذ بطريقة أئمة الإسلام الراسخين في العلم ممن رَعَوا هذا وهذا، وأَنَّ الاجتماع في الدين هو الأصل الذي يجب أن يُدْعَى إليه، وأنَّ الاجتماع في الأبدان والدنيا أنَّ هذا أصل عظيم يجب المحافظة عليه، والموازنة بين هذا وهذا إنما يدركه أهل العلم الراسخون.
وما ضلت الخوارج - يعني في أصلها- إلا لأجل أنهم رأوا أنَّ تحقيق ما يَظُنُّونْ من الشريعة يحصل بقتل عثمان وبجمع الناس على ما يرون، ثم حصل من المعتزلة ما حصل، الخ، فحَصَلَ الفساد والشرّ بسبب التفريط في الموازنة والوسط في هاتين المسألتين العظيمتين.(1/718)
[المسألة الرابعة] :
في قوله (وَنَرَى الجَمَاعَةَ حَقًّا وَصَوَاباً) معنى (حَقَّاً) يعني أَنَّهُ واجبٌ وثابتٌ.
والحق إمَّا أن يَنُصَّ الله - عز وجل - على أنَّهُ الحق أو يُعْلَمْ بما نَصَّ الله - عز وجل - عليه.
و (الجَمَاعَةَ) علمنا ذلك بدلالة ما نَصَّ الله - عز وجل - عليه.
(وَصَوَاباً) يعني أَنَّ من سلك غير طريقها فهو على غير السبيل، وأَنَّ من أراد الصراط المستقيم فهذا هو الصواب وهو ملازمة الجماعة.(1/719)
وقوله (والفُرْقَةَ زَيْغاً وَعَذَاباً) : فيها أيضاً مسائل:
____________________________________________
[المسألة الأولى] :
(الفُرْقَةَ) تقابل (الجَمَاعَةَ) ، وكما أنَّ (الجَمَاعَةَ) تكون في شيئين فـ (الفُرْقَةَ) أيضاً تكون في الأمرين نفسهما:
- الأول: الفُرْقَةَ في الدين.
- والثاني: الفُرْقَةَ في الأبدان.
وعلى هذا تفاسير السلف لآي القرآن في نصوص الافتراق وما بَيَّنُوا من دِلَالَةِ بعض الأحاديث.
فقوله - عز وجل - {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ} دَلَّتْ على الاعتصام بالقرآن جميعاً يعني بأَجْمَعِه وهو الجماعة في الدين.
وقوله {وَلاَ تَفَرَّقُواْ} دَلَّتْ على النهي عن فُرْقَةِ الأبدان، لهذا قال بعدها {وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} [آل عمران:103] .
فَذَكَرَ الاجتماع في الأبدان ونهى عن الفُرْقَةَ في الأبدان.
وقوله - عز وجل - في الآية الأخرى مثلاً التي ذكرناها لكم {أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى:13] يعني في الدين؛ يعني الفُرْقَةَ في دين الله - عز وجل -، فما ذُكِرَ هناك من الاجتماع على الدين والاجتماع في الأبدان يُذْكَرُ هنا بضده، لأن (الفُرْقَةَ) تُقَابِلُ وتُضَادْ (الجَمَاعَةَ) .(1/720)
[المسألة الثانية] :
الفُرْقَةَ في الدين التي حصلت في الأمة على مراتب:
1- النوع الأول: هوأعظمها، وهومخالفة أصل الدين بحدوث البدع المختلفة الشركية الكفرية، كإنكار صفات الله - عز وجل - وكعبادة غير الله وإقامة المشاهد والحج إليها وتقريب القرابين لها ودعاء الأموات أو التقَرُّبْ للكواكب أو نحو ذلك، كما حصل من الفرق الباطنية أو فرق الرافضة ومن شابههم.
2 - النوع الثاني: الافتراق البدعي غير الكفري الذي حصل من الخوارج والمرجئة والقدرية ومن نحا نحوهم.
وهذان النوعان مذمومان مُتَّفَقٌ على ذمِّهِمَا.
3 - النوع الثالث: الافتراق في المسائل العملية، في مسائل الفقه في أحكام الطهارة والآنية أحكام الصلاة الصيام، الخ، البيوع الجنايات، ما حصل من الاختلاف في هذه المسائل.
والاختلاف والفرقة التي حصلت في المسائل العملية:
& أولاً: هي مذمومة من حيث الأصل، وإنْ كان الذي قال قولاً باجتهاده معذور ويُؤْجَرْ؛ لكن في الجملة الافتراقُ مذموم لقوله - عز وجل - {وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ} [هود:118-119] .
& ثانياً: أنَّ الفُرْقَةَ في المسائل الفقهية، والاختلاف الذي وقع بين الصحابة وبين الأئمة المجتهدين اختلافٌ لأصحابه فيه إما أجران وإما أجر واحد، فإذا اجتهد وتَحَرَّى الحق وأصاب فله أجران، وإذا اجتهد وتَحَرَّى الحق فأخطأ فله أجرٌ واحد على اجتهاده وتحريه الحق.
وأما من قال قولاً ليس فيه بِمُتَحَرٍ للحق، وإنما هو نتيجة عن هوى ونتيجة عن شهوة، فهذا يأثم ولا يُؤْجَرْ، فإنَّ الذي يُؤْجَرْ هو المجتهد الذي يبحث عن الحق، يجتهد يتَحَرَّى الحق، كما هو صنيع السلف، أما إذا كان ميدانه الهوى والشهوة فإنَّ هذا مذمومٌ على كل حال.(1/721)
[المسألة الثالثة] :
نُفَصِّلْ الكلام في مسألة الخلاف الفقهي أكثر، وهو أنَّ الاختلاف - اختلاف العلماء في المسائل- هو اختلافٌ في مسائل من الدين في الفقهيات.
والعلماء إذا اختلفوا في الفقهيات فالواجب أن يُرْعَى معه ألاَّ يكون افتراقٌ في الأبدان ولا افتراقٌ في القلوب؛ لأنَّ هذا الخلاف الذي يُوجَدْ ابتلاء من الله - عز وجل - ابْتَلَى به الناس أن يختلف العلماء؛ وهذا يقول بقول وهذا يقول بقول، ويكون لهم فيه سَعَة في بعض البلاد ونحو ذلك، لكن هو ابتلاء يُبْتَلَى به الناس.
فالواجب على أنَّهُ إذا وقع هذا الاختلاف في الأقوال الفقهية أن ينظر إليه الناس أنَّ المختلفين إذا اجتهدوا وتَحَرَّوا الحق وخاصةً من الأئمة الذين شُهِدَ لهم بتحري الحق وطلبه أنَّهم ما بين أجرٍ وأجرين، وأنَّ من وَثِقَ بإمام فاتَّبَعَهُ على ذلك ولم يَسْتَبِنْ له الحق، أنَّهُ معذور في اتِّبَاعِه له، وأَنَّ الله - عز وجل - إذا أراد بالعباد عقوبة فإنه يجعل هذا الخلاف سبباً للتفريط في الجماعة الثانية وهي جماعة الأبدان.
إذا وقعت الفرقة -الاختلاف في الفقهيات- فإذا آل الأمر إلى اختلاف القلوب واختلاف الأبدان والفُرْقَةَ فيها فيكون هذا من العقوبة ومن الزَّيْغْ الذي حصل.
ولهذا قال هنا (والفُرْقَةَ زَيْغاً) عما يجب (وَعَذَاباً) يعاقب الله - عز وجل - به الناس.
ودليل ذلك قوله - عز وجل - لما ذَكَرَ أهل الكتاب قال {فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ} [المائدة:13] .
{نَسُواْ حَظًّا} يعني تركوا نصيباً {مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ} يعني مما جاءهم في كتاب الله.
ما النتيجة؟
قال {فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء} [المائدة:14] ، ومما أَمَرَ الله - عز وجل - به وذَكَّرَنَا به أن نحرص على الاجتماع، الاجتماع في النفوس والاجتماع أيضاً في الأبدان.
فإذا صار اختلاف أهل العلم سبباً لوقوع الفرقة ولوقوع التلاعن والتباغض والسبِّ والشتم وطعن كل فئة في أتْبَاعِ العالم الذي اجتهد وتَحَرَّى الحق فإنَّ هذا لاشك أنَّهُ بغيٌ وظلم يُعَاقَبْ عليه الإنسان، وهذا مما نهى الله - عز وجل - عنه.
وهذا هو الذي حصل، وهو الذي يحصل عند من لم يعلم حدود ما أنزل الله على رسوله، فإنَّهُ قَلَّ أن يحصل اختلاف إلا ويَبْغِي بعض الناس على بعض، إما بِتَجْهِيلٍ أو بسبٍّ أو بوقوعٍ فيه أو نحو ذلك من الأقوال.
والواجب أن يُنْصَرْ الحق وأن يُعْذَرْ من خالف في الفقهيات ويُعْلَمْ أنّه إذا اجتهد وتَحَرَّى الحق فإنَّهُ له أجر لكن لا يُتابع على ذلك.
ولا شك أَنَّ زلة العَالِمْ زلة العَالَمْ، ولكن هذا قضاء الله - عز وجل - وحكمته، فكم من مسائل ثَمَّ من الأئمة المشهورين من خالفوا فيها السنة وخالفوا فيها الدليل باجتهادهم فهم معذورون، ومن اتَّبَعَهُم بلا معرفةٍ للحق وإنما ثِقَةً بذلك الإمام معذور.
ولكن الواجب (1) هو تحرِّي الحق بإتِباعِ ما دَلَّ عليه الدليل من كتاب الله وسنة رسوله أو وافق القواعد والأصول العامة للشريعة التي يعلمها أهل العلم.
وهذا في الحقيقة هو أعظم ما حصل في كل زمان إلى زماننا الحاضر؛ بل وإلى يومنا هذا، فَقَلَّ من يعذُرُ في المسائل المُخْتَلَفْ فيها في الفقهيات؛ يعني التي فيها بحث، فينْظُرُ هذا فيه يجتهد في كذا وهذا يجتهد في كذا، حتى رمى بعضهم بعضاً بالضلال ورمى بعضهم بعضاً بمخالفة ما أمر الله - عز وجل - به؛ بل حُكِمَ على بعضهم بالبدع والمحدثات لأجل بعض المسائل الفقهية التي اختلف فيها الناس.
وهذا مما ينبغي أن يُعْلَمَ كعقيدة أَنَّهُ إذا كانت الفُرْقَةَ في الفقهيات والعمليات والاختلاف في ذلك إذا كانت سبباً للفُرقة في الأبدان فقد بَغَى العباد بعضهم على بعض، ووقعت الفتنة، ووقع البلاء فيهم.
والواجب أن لا يقع فيهم البغضاء والشّحناء لأجل ذلك، كيف إذا زاد الأمر؟! إذا حصل القتال؟! وحصل التكفير؟! ونحو ذلك كما حصل من بعضٍ في بعضِ الأزمان حيث كَفَّرَ بعض الشافعية بعض الحنفية في مسائل، وكَفَّرَ بعضهم بعض الحنابلة في مسائل ونحو ذلك مما وقع فيه طائفة في أعلى درجات الظلم والبغي والعدوان من الناس بعضهم على بعض، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وهذا لا يزال يوجد إلى يومنا هذا، فكلما زاد العلم زادت البصيرة بأمور:
- الأول: أن يحرص طالب العلم على تَحَرِّي الحق.
- والثاني: ألا يجعل تَحَرِّيهِ للحق سبباًً لفُرْقَةْ العباد ولا سبباً في وقوع الشحناء والبغضاء بينهم؛ بل يتودد في ذلك كثيراً ولا يجادل في ذلك مجادلة الذي يريد الانتصار والقوة؛ بل يتكلم في ذلك بسكينة وهدوء.
وما أجمل قول الإمام مالك رحمه الله في نحو هذا لما قيل له (الرجل تكون عنده السنة أيجادل عنها؟)
__________
(1) نهاية الوجه الأول من الشريط الخمسين(1/722)
قال (لا) يعني يرى من يخالف السنة ويذهب إلى قولٍ آخر، تعرفون المدينة كان فيها مدرسة الرأي ربيعة الرأي ومن معه، مدرسة قريبة من مدرسة الكوفة في الأخذ بالرأي وعدم العلم بتفاصيل السنة، فقيل له: (الرجل تكون عنده السنة أيجادل عنها؟)
قال (لا، يُخْبِرُ بالسنة، فإن قُبِلَتْ منه وإلا سكت) (1) .
لماذا؟
لأنَّ الشيطان يأتي فيجعل الإنسان ينتصر لنفسه لا للسنة، وهذا مَسْلَكٌ شائك في النفوس، ويُنَافي الإخلاص وينافي ما يجب، فيبحث فإذا هو يريد ينتصر للحق ثم تنقلب المسألة في النقاش أو في المجادلة أو في الإخبار بالصواب إلى انتصارٍ للنفس دون انتصارٍ للحق وهذا مما ينبغي تداركه.
ومما يدخل أيضاً في مثل هذا أنَّ اختلاف الفقهاء في المسائل العملية اختلافٌ كبيرٌ جداً، حتى إنَّ المسائل المُجْمَعْ عليها قليلة، وليس كل قولٍ من الأقوال المختلفة يصحُّ أن يكونَ في الخلاف المعتبر، كما قال أحد مشايخ السيوطي في قصيدةٍ في بعض علوم القرآن:
وليس كل خلافٍ جاء مُعْتَبَرَاً ****** إلا خلافٌ له حظٌ من النظر
وإذا وقع الخلاف فإنَّ الخلاف على نوعين:
- خلافٌ قوي.
- وخلافٌ ضعيف.
@ والخلاف القوي ضابطه: ما كان الخلاف فيه في فهم الدَّليل ولا مُرَجِّحْ.
@ والخلاف الضعيف: ما كان الخلاف فيه بمخالفة الدليل أو بالغَلَطِ في فهم الدليل.
والخلاف القوي لا إنكار فيه، فإذا كانت المسألة فيها خلافٌ قوي فلا عَتْبَ من الأصل لمن أَخَذَ بأحد القولين، أخذ بهذا وأخذ بهذا، هذا يرى كذا وهذا يرى كذا، المسألة فيها سَعَة.
وأما الخلاف الضعيف فإنَّهُ فيه الإنكار.
وقول العلماء (لا إنكار في مسائل الخلاف) يعنون به الخلاف القوي على الصواب دون الخلاف الضعيف، لأنَّ الخلاف الضعيف خلافٌ بلا دليل أو غَلَطٌ في فهم الدليل.
ويشتبه هذا -يعني الخلاف- يشتبه بمسألةٍ مهمة وهي مسائل الاجتهاد.
* والصواب: التفريق ما بين مسائل الخلاف ومسائل الاجتهاد.
فمسائل الخلاف التي مرجعها الخلاف في فهم الأدلة، وهذه هي التي فيها التفصيل الذي ذكرت لك: في أنَّ الخلاف القوي لا إشكال فيه، وأَما الخلاف الضعيف يلزم فيه البيان والإيضاح بدون أن يُحْدِثَ الفُرْقَةَ وتنافر القلوب.
أما المسألة الثانية وهي مسائل الاجتهاد: فهي الاجتهاد في النوازل.
إذا نَزَلَتْ نازلة واجتهد العلماء فيها، هل هذه تُلْحَقْ بكذا وهذه تُلْحَقْ بكذا فإنه لا إنكار في مسائل الاجتهاد.
وشيخ الإسلام ابن تيمية قال في بعض كلامه (لا إنكار في مسائل الخلاف يُعْنَى بها مسائل الاجتهاد) ، -أو نحو كلامه أنا أصوغه بفهمي-؛ لأنَّ مسائل الاجتهاد ليست هي مسائل الخلاف.
ولا إنكار في مسائل الخلاف يعنون بها لا إنكار في مسائل الاجتهاد.
وهذا يحتاج إلى زيادة وهي أنَّهُ: لا إنكار في مسائل الخلاف، يعنون بها الخلاف القوي.
أما مسائل الاجتهاد التي تحدث في الناس فهذه لا إنكار فيها من باب أولى؛ لأنَّ كل مجتهد له اجتهاده ونصيبه في إِلحاقِ النازلة ببعض الأصول والقواعد التي تدل عليها.
* نختم هذا الموضع بوصية في هذا الموطن: بأَنَّ طالب العلم يَتَّسِعْ صدره للعلم، وهذا إذا حباك الله - عز وجل - اتساع الصدر في العلم فإنَّكَ تُؤْتَى عِلْمَاً جديداً، وهذا هو الواقع والمُشَاهَدْ، أما من يضيق بالأقوال أو من يضيق باختلاف العلماء ولا يبحث في مَأْخَذِ هذا ومأخذ هذا، وإذا أورَدَ عليه أحد قولاً نَظَرْ في كلامه وتَأَمَّلْ فإنه يُحْرَمْ بعض العلم.
لهذا كلما اتسع صدر طالب العلم كلما أُوتِيَ الصواب في العلم، وأُوتِيَ الصواب أيضاً في العمل، في عدم التعدي على المسلمين والتعدي على العلماء أو على طلبة العلم أو نحو ذلك، والله - عز وجل - يقول لعباده: {وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ} [الإسراء:53] ، والفُرْقَة والخلاف يحصل فيه التعدي في كثيرٍ من الأحيان، ولا يقول: العبد التي هي أحسن، والله - عز وجل - أمر بأن تقول التي هي أحسن.
وأنا ألحظ وربما منكم كثير لَحَظُوا أنَّ أحداً منا قد يقول قولاً يكون غير واضح، فيأتي أحد ويعترض عليه فهو يتألم ويتَحَرَّجْ لنفسه أنه أخطأ أو أنه ما أدرك الصواب، فيأتي الشيطان فيصرِفُهُ من تقرير المسألة إلى وجود مَخْرَجٍ لنفسه.
وهذه من وسائل الحرمان، وإذا قوَّى الله طالب العلم على أن يكون قَوِيَّاً على نفسه في أنه إذا ما اتضحت له صورة المسألة:
لا يتكلم فيها، ينتظر، يسكت.
يُعَلِّمْ نفسه التؤدة، يُعَلِّمْ نفسه عدم الاستعجال في الكلام، عدم إلقاء الكلام على عواهنه، الدقة في الألفاظ، كيف يُعَبِّرْ عن المسائل.
وإذا غلط يقول: غلطت -ما أسهل منها عند من يرى تحقيق الحق- فعلاً.
يقول: أنا ما فهمت، أنا ظهر لي كذا، يبدو أنه انحرف ذهني إلى شيء آخر.
يقول: أنا ما فهمت، أنا غلطت، ما أسهل منها.
وهل من شرط طالب العلم ألا يخطئ؟!
ليس من شرطه.
إنما من قَلَّتْ غلطاته سواءً في قوله وفي عمله فهو السديد، وهو الذي يُثْنَى عليه.
أما أَنَّهُ يأتي أحد لا يخطئ لا يغلَط فيما يتكلم لا يغْلَطْ في تعامله، هذا لا يمكن.
النبي صلى الله عليه وسلم وهو أكمل الخلق قال «اللهم أيما عبدٍ سببته أو شتمته فاجعلها عليه رحمة» (2) .
يعني من مقتضى الطبيعة أنْ يغلط الإنسان، فالإنسان لا يتحمل.
لكنه من يَتَصَبَّر يُصَبِّرُهُ الله، ومن يَتَحَلَّم يعطيه الله - عز وجل - الحلم.
لهذا عَوِّدْ نفسك على الحلم عَوِّدْ نفسك على الصبر، عَوِّدْ على ألا تنتصر لنفسك في المسائل العلمية.
حتى لو جاء المُقَابِل وطعن في علمك، طعن في طريقة الإيراد، لا تتأثر بهذا واجعل الكلام على العلم لأنك مُبَلِّغ للعلم ولستَ منتصراً لنفسك، والمنتصر لنفسه يَحْرِمْ نفسَه انتصار الله - عز وجل - له.
أسأل الله - عز وجل - أن يمنحني وإياكم العلم والحلم والفقه في الدين، وأن يمنّ علينا بسلوك طريق السلف الصالحين، إنه سبحانه جوادٌ كريم، وهو ذو الفضل والإحسان والمنن والعطايا، اللهم فلا تحرمنا فضلك بذنوبنا ولا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، إنك على كل شيءٍ قدير.
__________
(1) سبق ذكره (334)
(2) مسلم (6781) / أبو داود (4659)(1/723)
الأسئلة:
س1/ جاء حديثٌ يدل على أنَّ الاختلاف في الأمة رحمة؟
ج/ هذا الحديث ليس بصحيح، وليس اختلاف الأمة رحمة، بل الاختلاف في الأمة أوقعها في بلابل كثيرة.
س2/ من اجتهد في إباحة نسبةٍ من الربا، كـ (5 %) ونحوه، فهل يُؤجر على هذا وهل يُشَنَّعْ عليه؟
ج/ هذا الربا نوعان:
ربا مُتَّفَقٌ عليه ومُجْمَعْ عليه، فهذا الذي يخالف فيه الإجماع هو صاحب ضلالٍ وهوى، وهو ربا الجاهلية، الذي فيه القرض الحسن، فيقرضه ثُمَّ بعد ذلك يقول: إما أن تَقْضِيَ وإما أن تُرْبِيَ، ويجعلون الربا أضعافاً مضاعفة.
وهذا هو الذي جاء فيه عدد من الآيات والأحاديث.
أما الربا غير المتفق على تحريمه: فإنَّ هذا يدخل في باب الخلاف القوي والخلاف الضعيف على نحو ما فَصًّلْنَا.
مثلاً خلاف ابن عباس في ربا الفضل وربا النسيئة كما معلوم، وأنه لا ربا في الفضل وإنما الربا ربا النسيئة استدلالاً بالحصر في قوله صلى الله عليه وسلم «إنما الربا في النسيئة» (1) ، فهذا اجتهادْ وخلاف، لكنه خلافٌ ضعيف، حتى خلاف الصحابة خلافٌ ضعيف -يعني خلاف ابن عباس في هذه المسألة-.
كذلك إباحته للمتعة مثلاً في بعض المواطن أيضاً خلافٌ ضعيف، وما أشبه ذلك.
من الصور المعاصرة التي جرى فيها البحث: الفوائد الربوية، ومن أباحَهَا من بعض المنتسبين إلى العلم، فهذه الفوائد الربوية منها ما هو مُتَّفَقْ على تحريمه وهو ربا الجاهلية، ومنها ما هو مُخْتَلَفٌ في تحريمه.
وما اخْتُلِفْ في تحريمه يدخل في الخلاف الضعيف أو في الاجتهاد في ما ليس بصواب، فيدخل في التفصيل الذي ذكرناه.
وحسب علمي فإنَّ أول من أباح الفوائد الربوية يعني فوائد البنوك الربوية والقرض - القرض الصناعي ونحوه- الشيخ محمد رشيد رضا صاحب مجلة المنار المعروف.
وهو رَجُلٌ يميل إلى مذهب السلف ونصر التوحيد والعقيدة في مواطن كثيرة، وله إلمام بالحديث والسنة والتخريج، لكنه غَلِطْ في المسائل الفقهية، فلم يكن من صناعته الفتوى، فأباح أشياء تبعه عليها عدد.
وله رسالة في هذا الموضوع بخصوصه وهو (الربا والمعاملات المالية) أجاز فيها هذه الفوائد لِشُبَهٍ عنده في ذلك ثم تبعه عليها عدد من المشايخ في مصر ما بين مُقَصِّرٍ وما بين [.....] في هذه المسائل.
ومعلومٌ أنَّ الحلاف -كما ذكرت لك في هذا - خلاف شاذ وضعيف وليس له حظ من الدليل.
لكنه وجود الخلاف في هذه المسألة يفيد فائدتين:
الأولى: أَنَّ مسألة الفوائد والقرض الصناعي ونحو ذلك ليس من مسائل الربا المُجْمَعْ عليها، فاعتقاد إباحتها والإفتاء بذلك أو إجازتها لا يدخل في إجازة واستحلال الربا؛ لأنَّ استحلال الربا المُجْمَعْ عليه كفر، والربا المجمع عليه هو ربا الجاهلية، أما ربا الفوائد وربا القرض وما أشبه ذلك فهذه محرمة ولا تجوز ويجب إنكارها لكن لا تدخل في الربا المتفق عليه.
س3/ أليس يُنكر على من خالف في الفروع الفقهية مع ظهور الدليل؟
ج/ هذا يدخل في التفصيل الذي ذكرته: الخلاف القوي والخلاف الضعيف، أو أَقَلُّ من الضعيف الخلاف الشاذ أو المنكر، يجب فيه الإنكار لأنه ما له
س4/ هل الفوائد الربوية من الخلاف الضعيف؟
كيف؟ أو أقل من الضعيف أيضاً، الخلاف الشاذ المنكر، يجب فيه الإنكار، يعني استدلوا بقوله - عز وجل - {لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ} [البقرة:179] وأنَّ الفوائد هذه ليس فيها؛ يعني الربا المحرم قالوا: هو الذي فيه ظلم للمسكين، يعني ظلم لصاحب المال، وهذا - يقولون - هذا صاحب المال إذا أودع ماله في البنك ولم يأخذ عليه شيئاً والبنك صار هو المظلوم، فأخذ الفوائد عندهم أنه عدل، وأن ترك الأخذ ظلم له، لأن البنك يستفيد وهو لا يُعْطَى شيئاً، يُشَغِّلْ المال ويستفيد، ومعلوم أن المال يقبل النماء باليوم، يعني كل يوم فيه كسب، يعني على طريقة التجارات العالمية وأشباه ذلك، فعندهم هذه الشبهة.
لكن هذا لو أُقِرْ لآل الأمر إلى أَنَّ البنوك - يعني من غير الأدلة النصية في الموضوع لكن على حد تعبيرهم بأن فيه ظلم وعدم ظلم - الحقيقة هو الذي فيه الظلم، لأنه لو أُقِرَ ذلك صارت البنوك تأخذ (100 %) وتُعْطِيْ هذا صاحب الفوائد (5 %) (6 %) (7 %) ونحو ذلك، والأصل في ذلك أنَّ صاحب المال إذا أراد أن يُعْطِيْ من يشتغل له أن يكون شريكاً له في مكسبه وفي خسارته، فالناس تنمو أموالهم، يعني لو فرضنا أنهم سيودِعُون وسيأخذون هذا (5 %) وهذا (6 %) وهذا (7 %) وهذا (10 %) سَيُودِعُون، البنك قد يُحَصِّلْ (50 %) فسيبقى نمو المال عند هذه الفئة قليلاً، ونمو المال عند أهل البنوك عظيماً فتقوى البنوك ويضعف الناس، ظاهر؟
هذا هو حقيقة الظلم، الظلم الجماعي.
س5/ ما الفرق بين الإعتقاد والإعتماد الكلي؟
ج/ مثلاً في ماذا؟
[السائل] مثلاً في فعل الأسباب قال الإعتماد كليا
[الشيخ] الإعتقاد قلب والإعتماد فعل.
__________
(1) مسلم (4173) / النسائي (4581) / ابن ماجه (2257)(1/724)
[السائل] لكنه اعتد اعتماداً كليَّاً على هذا الشيء، فهل يدخل في الإعتقاد؟
[الشيخ] ليس بشرط، فقد يعتمد دون اعتقاد.
[السائل] أنَّ..... إعتقاد بسبب الإعتماد؟
[الشيخ] لا الإعتقاد هو أنَّهُ في قلبه ليس فيه أنَّ الله نافعه ولا، إنما هذا السبب مادِّي، يعتقد في داخله أنَّ المادة هي كل شيء، هذا هو الإعتقاد.
لكن الإعتماد غفل قلبه واعتمد ظاهره.
فلا يُسَوَّى هذا بهذا.
لهذا صار الإعتماد على الأسباب –يعني بالكلية- ما هو بالإعتماد على الأسباب فقط، الإعتماد على الأسباب بالكلية يعني دون اعتماد القلب على الله - عز وجل -، هذا محرم، أو نقول يدخل في نقض التوحيد، شرك أصغر أو شرك خفي، أمَّ الإعتقاد فهذا كفر ظاهر، أن يعتقد أنَّ الأسباب كافية ولا نافع........ الله - جل جلاله -.
مثلاً الطبيب سيعمل لك عملية، يقول خلاص.......... ما جاء في قلبه أنَّه يعظم الإعتماد على الله، فعله....كذا بالطبيعة،...... هذا عمل يعني فاته الأفضل، لكن في قلبه فيه أصل الإعتماد، لكن فيه من اعتمد على السبب في هذا بالذات.
مثلاً جاء وقال: أبد، الطبيب يكفي، ما دام في قلبه أي شيء من التوكل على الله، اعتمد على السبب فقط فهذا يدخل في...... إمَّا محرم أو شرك أصغر أو شرك خفي بحسب الحال.
لكن المسألة الثانية: اعتقد أنَّ هذا السبب كافٍ، يعني قال يكفي الطبيب، هذا كفر إذا اعتقد قلبه، ما فيه أحد يعتقد أنَّ الإعتماد على الأسباب فقط، يعتقد الأسباب فقط ويكون عنده إيمان؟، ما يمكن، المؤمن لازم يكون عنده اعتماد على الله - عز وجل - لكن يعتمد على الأسباب ظاهراً بحسب الحال.
س6/ ذكر الشيخ سليمان بن عبد الله في تيسير العزيز الحميد أنَّ الخوف الذي يحمل على ترك الواجب وفعل المحرم هذا خوفٌ محرم، والشيخ عبد الرحمن في فتح المجيد قال إنَّه شرك أصغر؟
ايه نعم، وش ظهر لك؟، أنَّه محرم، محرم ما هو بشرك أصغر، وهو توسع، الشرك الأصغر فيه نوع تشريك لأنه ما ترك الأمر والنهي خوفاً، يعني ما هو مصلحة، بس مجرد خوف، إلا أنَّه إيش؟، خاف منهمكخوف، أو قدَّمَ خوفه منهم على خوفه من الله، فيه نوع تشريك، بس الأظهر التعبير بالمحرم.
س7/ الخوف من غير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله، هذا التعريف لخوف الشرك يصح؟
لا، لا يصح لأنه الخوف الشركي والخوف السري، يعني يُعطي شيء غيبي ما لله - عز وجل - من الخصائص، يعني يؤذي بدون سبب ظاهر.
س8/ لو قال شخص لولا فلان ما كان كذا، بدون....... مع الله سبحانه وتعالى هل يكون فيه نوع من الشرك الأصغر؟
هذا شرك أصغر، إذا كان أنَّهُ في مقابلة نعمة أو اندفاع نقمة، يعني فيه نعمة حصلت له، قال (لولا فلان ما حصل لي كذا) ، أو اندفع عنه مصيبة فقال (لولا فلان لك يأتيني كذا) هذا هو الشرك الأَصغر.
س9/ والذي ورد في السنة (لولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار) وقول عمر لحفصة (لولا أنا لطلَّقكِ رسول الله صلى الله عليه وسلم) ؟
ج/ هل القائل الآن هو المشفع المُتَفَضَّلْ عليه، أو المتفضِّل؟
المُتَفَضِّلْ، وصورتنا التي نتكلم فيها مُتَفَضَّلْ عليه، لأنَّ المُتَفَضَّلْ عليه يتعلَّق قلبه بمن تَفَضَّلَ عليه.
مثلاً لو أقول لك (لولا أنا ما كنت من أهل السنة والجماعة) ....... لأنه من المتفضِّل، لكن القلب هنا ما فيه تعلُّق، هنا يدخل بحث آخر كالفخر مثلاً أو يدخل في ضوابط أخرى، لكن الضابط المنهي عنه أن يكون ممن انتفع وليس من النافع، لأنَّ من انتفع تعلَّقَ قلبه بمن أحسن إليه، فالتعلق هذا هو الذي يدخل له التشريك.
أمَّا حديث (لولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار) هذا لم يدخل من جهتين:
الجهة الأولى: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم مُتَفَضِّل، والأحاديث التي فيها النهي إنما هو في المنتفع بالنعمة أو اندفاع النِّقمة.
الجهة الثانية: أنَّ قوله (لولا أنا) يقصد به لولا شفاعتي له، وشفاعته صلى الله عليه وسلم تُقبَلْ ابتداءً أم بفضل الله؟
بفضل الله، يعني شفاعته ما تُقْبَل إلا بإذن الله، فرجع الأمر –ولو لم يذكر ظاهر- إلى الله - عز وجل -.
وكذا قول عمر (لولا أنا لطلَّقكِ رسول الله صلى الله عليه وسلم) لأنَّهُ المُتَفضِّل عليها.
ولو قال إنسان (لولا الهوى ما اختلف الناس في هذا) فهذه ما فيها شيء.
فأقرب شيء تنضبط به ما كان في أمرين:
الأول: أن يكون استعمال لولا في تحصيل نعمة أو اندفاع نقمة بسبب من الأسباس، فيعزوه للسبب ولا يذكر الله.
الثاني: أن يكون في ذكره تَعَلَّقَ القلب بهذا السبب، إذا حصل تعلق بالسبب حصل الشرك قلباً ولفظاً.
س10/ بالنسبة للصلاة خلف الكاهن أو العَرَّاف إذا كان هو إمام مسجد، فهل تصلِّي في بيتك أو تُصَلِّي في المسجد معه؟
لا تصلي في بيتك، تصلي في جماعة أخرى إلَّا إذا اضطررت يعني للصلاة وتخشى من التفريط لأنَّه قصارى الأمر الصلاة خلفه باطلة، ظاهر؟، وفي الصلاة خلفه تقوية له أو تزكية له.(1/725)
فإذا اضطررت في هذا، لو صليت معه تعيد الصلاة لأنَّهُ كافر.
يعني ممكن تصلي معاه في المسجد وترجع في البيت تصلِّي، بس ما هو بدايم، يعني إذا اضطررت.
طيِّب إذا لم يكن هناك إلا هذا المسجد في الحي، فماذا تفعل؟
تصلي في بيتك، ولا تصلي خلفه، أو تشوف لك مسجد آخر وجماعة ولو بعيد، أمَّا الكهان والعرافين فلا يُصَلَّى وراءهم.
وفقكم الله وأعاننا وإياكم على الحق والهدى.(1/726)
الحمد لله حق حمده، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، أمَّا بعد:
الأسئلة
س1 هل عبارة (الله ما شفناه لكن بالعقل عرفناه) في قول العامة صحيح؟
ج/ هذا القول في غالب معناه صحيح وهو مأخوذ في الأصل من كلام علي رضي الله عنه في خطبه، وهو موجود في نهج البلاغة -نسيت العبارة- لكن حاصلها يقول (والله إن لم تُدْرِكْهُ الأبصار بالشهود لكن عَرَفَتْهُ وعَنْعَنَتْ له العقول بالدليل) أو نحو ذلك.
هي موجودة، يعني أصلها من كلام علي رضي الله عنه. (1)
__________
(1) نهاية الشريط الخمسون(1/727)
: [[الشريط الواحد والخمسون]] :
وَدِينُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ وَاحِدٌ، وَهُوَ دِينُ الْإِسْلَامِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران:19] ، وَقَالَ تَعَالَى {وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة:3] .
___________________________________________
الحمد لله رب العالمين، وبعد:
قال العلامة الطحاوي رحمه الله (وَدِينُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ وَاحِدٌ، وَهُوَ دِينُ الْإِسْلَامِ، قَالَ تَعَالَى {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران:19] ، وَقَالَ تَعَالَى {وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة:3] ) .
هذه الجملة من كلامه رحمه الله يُقَرِّرُ بها أنَّ دين الله - جل جلاله - وهو ما يُدَانُ به ويُتَقَرَّب إليه به طاعةً تحقيقاً للغَرَضِ من الخَلْقْ هو الإسلام، فهو الذي تَعَبَّدَتْ به الملائكة في السماء، وهو الذي تَعَبَّدَ به الحجر والشجر ممن يعبدون الله - عز وجل - بمقتضى الخِلْقَة لا بمقتضى الاختيار، وهو الذي لا يرضى الله - عز وجل - أن يَتَعَبَّدَ به من أعطاه الاختيار إلا أن يَتَعَبَّدَ بالإسلام.
وهذه الجملة يريد بها أنَّ الإسلام الذي هو الدِّين شيءٌ واحد اجتمعت عليه الرسل، وهو الدِّين الذي في السماء، وهو الدِّين الذي في الأرض، وهو الأمور الخَبَرِيَة أو العقائد الخبرية دون الأوامر والنواهي.
وهذا يعني أنَّ كل مِلَّةْ وكل رسول إنما جاء بالإسلام الذي أذِنَ الله به ورَضِيَه وأَمَرَ به، وبه تَعَبَّدَ المُتَعَبِّدُونَ في السماء، وبه أمر أنْ يَتَعَبَّدَ المُتَعَبِّدُونَ في الأرض.
وهاهنا مسائل:(1/728)
[المسألة الأولى] :
الإسلام ينقسم إلى قسمين وهو:
- الإسلام العام.
- والإسلام الخاص.
وكلام المؤلف هنا يعني به الإسلام العام وهو: الاستسلام لله - عز وجل - بالتوحيد والانقياد له بالطاعة، والبراءة من الشرك وأهله.
فهذا الإسلام وهو الاستسلام، هو الذي اجتمعت عليه الرسل من أولهم إلى آخرهم، فدَعَوا إلى توحيد الله وإلى الاستسلام له بالتوحيد بعبادته وحده دونما سواه وخلع الآلهة والأنداد والبراءة من كل معبودٍ سوى الله - عز وجل - ومن كل عبادة لِمَا سوى الرب - جل جلاله - وتقدست أسماؤه.
والانقياد لله - عز وجل - ظاهراً بطاعته - عز وجل - فيما أمر وبالانتهاء عما نهى عنه - جل جلاله -.
هذا هو الإسلام العام، وهو الذي ينطبق على رسالة كل رسول، وهو الذي ينطبق على إِسْلَامِ كل شيء له كما قال - عز وجل - {أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا} [آل عمران:83] .
فقوله {أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ} يعني أفَغَير دين الإسلام يبغون، فكل ما في السماوات والأرض، وكل من في السماوات والأرض أسْلَمْ لله - عز وجل - طوعاً أو كرهاً، يعني اسْتَسْلَمْ ولا بد، إلا المشرك فإنَّ استسلامه كان استسلامَ انقيادٍ لأمر الله الكوني دون استسلامٍ وانقيادٍ لأمر الله الشرعي.
والنوع الثاني الإسلام الخاص وهو شريعة محمد صلى الله عليه وسلم.
دين كل الأنبياء هو الإسلام بمعناه العام، ودين محمد صلى الله عليه وسلم هو الإسلام، وهو شريعة الإسلام، الإسلام الخاص.
وهذا الإسلام الخاص هو الذي جاء تفسيره في قول النبي صلى الله عليه وسلم «بُنِيَ الإسلام على خمس: شهادة أَنْ لا إله إلا الله وأنَّ محمد رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت وصوم رمضان» (1) حديث ابن عمر، وهو الذي جاء في جوابه صلى الله عليه وسلم لجبريل حينما سأله عن الإسلام فقال «الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله» ثم سأله عن الإيمان، ثم سأله عن الإحسان، ثم قال في آخره «هذا جبريل جاءكم يعلمكم أمر دينكم» (2) .
فالإسلام الخاص يشمل هذه المراتب الثلاثة: الإسلام والإيمان والإحسان أيضاً.
وكل واحدةٍ منها من شريعة محمد صلى الله عليه وسلم.
وطبعاً تفاصيل الشريعة قد تدخل مع العقيدة؛ يعني في ما دعا إليه جميع الأنبياء في الإسلام العام.
يعني مثلاً الإيمان: أنْ تؤمن بالله وملائكته هذه تدخل في الإسلام العام الذي اشترك فيه جميع الأنبياء، كذلك شهادة أن لا إله إلا الله هذه أيضاً لكل المرسلين.
فهذا الإسلام الخاص هو الشريعة التي جاءت في قول الله - عز وجل - {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة:48] ، فالشِّرْعَةْ هي ما خَصَّ الله - عز وجل - به كل نَبِيٍّ عن النبي الآخر، خَصَّهُ بهذه الرسالة خَصَّهُ بهذا الوحي، فهذا هو الإسلام.
__________
(1) البخاري (8) / مسلم (122)
(2) سبق ذكره (9)(1/729)
[المسألة الثانية] :
(دِينُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ وَاحِدٌ) كما قال الطحاوي هنا، فحينئذٍ ليس عندنا أديان سماوية، ولا الأديان الثلاثة.
ومن عَبَّرَ عن اليهودية والنصرانية والإسلام أو غيرها أيضاً بأنها أديان سماوية، هذا غلط عَقَدِي، وغلطٌ أيضاً على الشريعة وعلى العقيدة؛ لأنَّ الدين واحد كما قال - عز وجل - {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران:19] ، فالدِّيْنُ الذي جاء من السماء من عند الله وارتضاه الله في السماء وارتضاه في الأرض واحدٌ ليس باثنين، وليس بثلاثة.
فمن الغلط قول القائل: الأديان السماوية الثلاثة اليهودية والنصرانية والإسلام؛ بل ليس ثَمَّ إلا دينٌ سماويٌ واحد وهو الإسلام فقط، على التفصيل الذي ذكرنا في المسألة الأولى.
فشريعة عيسى عليه السلام تُسَمَّى النصرانية، وشريعة موسى عليه السلام تُسَمَّى اليهودية، أو تقول اليهودية والنصرانية وغير ذلك؛ لكن لا تَنْسِبْ هذه الثلاث بقول القائل الأديان السماوية الثلاثة؛ لأنه كما قال الطحاوي هنا (دِينُ اللَّهِ وَاحِدٌ) ليس متعدداً.
وهذه ذَهَبَ إليها جمعٌ من النصارى ومن اليهود في تصحيح كل الديانات، يعني من القرون الأولى في أنَّ النصرانية دين من الله وأنَّ اليهودية دين من الله والإسلام دين من الله.
وهذا لاشك أنَّهُ باطل ومخالف لنصوص الكتاب والسنة وللإجماع في أنَّ الله - عز وجل - لا يرضى إلا الإسلام، كما قال - عز وجل - {وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة:3] وقال {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران:85] وقال - عز وجل - {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا} [الحج:78] يعني من قبل يعني عند الرسل السالفة.(1/730)
[المسألة الثالثة] :
الدّين أصل اشتقاقه في اللغة من دَانَ يَدِينُ إذا التَزَمَ، أو أُلْزِمْ بما يكون مُلَازِمَاً له ومُعْتَادَاً في شأنه.
ولذلك قيل أيضاً الدَّيْدَنْ، دَيْدَنُهُ كذا يعني ما اعتاده كذا، دَيْدَنِي يعني ما اعتدته.
ومنه أيضاً الدِّين، يقول أنا ديني كذا -يعني في أصل اللغة- يعني أعتاد كذا والتَزِمُهُ.
ولهذا صار كل ما يُلْتَزَمْ يقال له دين، لهذا جاء في القرآن ذكر دِيْنْ الملك في قصة يوسف في قوله - عز وجل - {كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَن يَشَاء اللهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مِّن نَّشَاء وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف:76] ، فقوله - جل جلاله - {مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ} يعني في شريعة الملك؛ لأنها مُلْتَزَمَة والالتزام والحكم بها صارت عادة وصارت دَيْدَناً، يعني صارت ديناً يُعتادُ ويُلْزَمْ به الناس.
لهذا يقال فلانٌ دينه ضعيف أو دينه قوي يعني ما اعتاده من الالتزام بأمر الإسلام.
إذاً فقوله هنا (دِينُ اللَّهِ) ، هنا إضافة الدين إلى الرب - عز وجل - ليست إضافة إلى الفاعل هي إضافة إلى الآمر بها، تقول دين فلان لأنه هو يَتَدَيَّنْ، ودين الله يعني الدين الذي أمر الله به وأَلْزَمَ به الناس ولم يَرْضَ غيره هو الإسلام.
وهنا فَرْقْ طبعاً بين الدين وبين الشريعة وبين العقيدة يحتاج إلى وقتٍ أطول لبيانه، يعني تشترك:
- الدين يمكن أن يُطْلَقْ على الشريعة والعقيدة جميعا.
- والشريعة يمكن أن تُطْلَقْ على الدين وعلى العقيدة أيضاً.
- والعقيدة أيضاً يمكن أن تُطْلَقْ على الشريعة وعلى الدِّين.
لكن بينها عموم وخصوص، فهي تشترك في أشياء وتختلف في أشياء، ويمكن أن يُعَبَّرْ عن كل واحدٍ بالآخر.(1/731)
[المسألة الرابعة] :
& الإسلام ينقسم من حيث الاستسلام إلى ثلاثة أقسام:
- إسلام الوَجْهْ.
- وإسلام العمل.
- وإسلام القلب.
@ القسم الأول: إسلام الوجْه: يُعْنَى به أن لا يَتَوَجَّهْ إلى غير الله - عز وجل - في عبادته، فيستسلم لربه - جل جلاله - ويُقْبِلْ عليه بوجهه وحده دون ما سواه.
وهذا جاء في نحو قوله - جل جلاله - {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ} [البقرة:112] ، وقوله - عز وجل - {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً} [النساء:125] .
@ القسم الثاني: إسلام العمل لله - عز وجل -: وهو أن يكون العمل مُسْتَسْلَمَاً فيه لله مُتَخَلَّصَاً فيه من الهوى.
فيُسْلِمْ العمل: يعني يَسْتَسْلِمْ في العمل فلا يُسَلِّطْ دَاعِيَ الهوى على الأعمال الصالحة.
@ القسم الثالث: إسلام القلب: وهو أصل هذه الأنواع كلها، وهو أنَّهُ يُخْلِصُ في قوله وفي عمله، ويستسلم لربه - عز وجل - في كل أحوال قلبه.
& وينقسم الإسلام أيضاً باعتبارٍ آخر إلى شرائع ذكرناها لكم:
فكل نبيٍ دينه الإسلام لكن شريعته مختلفة، وقد يقال دين النصرانية، دين اليهودية باعتبار التَّدَيُّنْ كما ذكرنا لك، باعتبار الالتزام، والمقصود الشريعة لكن لا يقال الأديان الثلاثة السماوية كما ذكرنا لك.
& باعتبارٍ آخر ينقسم الإسلام الخاص إلى ثلاثة أقسام:
- الإسلام.
- الإيمان.
- الإحسان.
& وينقسم أيضاً باعتبارٍ رابع إلى:
- إسلامٍ كامل
- وإسلامٍ ناقص، يعني باعتبار الاستسلام
@ إسلامٌ كامل يعني استسلام كامل.
@ إسلام ناقص يعني استسلام ناقص.
وهذا بَحَثَهُ أهل العلم واختلفوا فيه، هل الإسلام مثل الإيمان يزيد وينقص؟
أم أنَّ الإسلام شيءٌ واحد، والإيمان هو الذي يزيد وينقص؟
أم أنَّ كلاً منهما شيء واحد؟ أم العكس؟
على أقوال متنوعة، والذي ينطبق على طريقة أهل السنة والجماعة، وإن لم يُصَرِّحْ به الأوائل؛ لكن صَرَّحَ به المتأخرون مثل ابن تيمية ونحوه من أهل العلم، أنَّ الإسلام يزيد وينقص باعتبار الاستسلام، وأنَّ الإسلام له كمال وله نقص، وهذا ظاهر باعتبار الاستسلام.
فإذا نظرنا إلى إسلام الوجه والعمل والقلب أو القصد لله، فالناس في ذلك متباينون تبايناً شديداً.
وإذا نظرنا إلى التقسيم السالف وهو أنَّ الإسلام ينقسم إلى إسلام وإيمان وإحسان، والناس في الصلاة مختلفو المراتب وفي الصدقة الواجبة الزكاة مختلفو المراتب، وأنَّ الناس في الصيام مختلفو المراتب، وفي الحج مختلفو المراتب، ثُمَّ في الإيمان أيضاً مختلفو المراتب، فلابد أن يكون ما تَكَوَّنْ من هذه مُتَفَاضِلَاً.
ولذلك ليس من كان وصفه الإسلام على مرتبة واحدة.
كذلك ليس كل مؤمن على مرتبة واحدة.
فأهل الإيمان في الإيمان متفاوتو المراتب، وكذلك أهل الإسلام في الإسلام متفاوتو المراتب؛ لأنَّ الإسلام الذي هو الاستسلام يقبل التفاوت ويقبل الزيادة والنقص.(1/732)
قال رحمه الله بعدها (وَهُوَ بَيْنَ الْغُلُوِّ وَالتَّقْصِيرِ، وَبَيْنَ التَّشْبِيهِ وَالتَّعْطِيلِ، وَبَيْنَ الْجَبْرِ وَالْقَدَرِ، وَبَيْنَ الْأَمْنِ وَالْيَأْسِ.)
____________________________________________
هذه الأربع الألفاظ المتقاربة نَصَّ عليها رحمه الله لأجل أَنَّ الفِرَقْ الضالة أو التي خالفت نَحَتْ إلى أَحَدِ هذه الثمان صفات.
فذكر ثماني صفات:
- الأولى: الغلو.
- الثانية: التقصير.
- الثالثة: التشبيه.
- الرابعة: التعطيل.
- الخامسة: الجبر.
- السادسة: القدر.
- السابعة: الأمن.
- والثامنة: اليأس.
ثم قال بعدها (فَهَذَا دِينُنَا وَاعْتِقَادُنَا) إلى آخره.
قوله (وَهُوَ بَيْنَ) يعني أَنَّ هذه الصفات الإسلام لا يرتضيها ودين الله الحق ليس مع الغُلُو كما أنه ليس مع التقصير، ودين الله الحق ليس مع التشبيه كما أنه ليس مع التعطيل، وكذلك دين الله الحق ليس مع الجبر في الأفعال كما أنه ليس مع إثبات الفعل للإنسان خَلْقَاً دون الله - عز وجل - وهو المسمى بالقَدَرْ، وكذلك بين الأمن من مكر الله - عز وجل -، وبين اليأس من روح الله - جل جلاله -.
فيريد أَنَّ أهل السنة والجماعة أتباع السلف الصالح أخذوا بهذه الوسطية بين هذه المسائل.
فهم وسط بين الغلو والتقصير وهم وسطٌ بين التمثيل والتعطيل وهم وسطٌ بين الجبر والقدر وهم وسط بين الأمن واليأس.
وإذا تبين لك ذلك فهذه الجملة يُبْحَثُ فيها كل العقيدة، كل ما ذكرنا من شرحٍ في هذا الكتاب تدخل في هذه الجُمَلْ:
فهو بين الغلو والتقصير في العمل والإيمان ومراتبه، بين التشبيه والتعطيل في مسائل الصفات والإثبات إلى آخره.
الغلو ذهب إليه الخوارج، والتقصير ذهب إليه المرجئة وأهل الشهوات.
التشبيه ذهب إليه المجسمة، والتعطيل ذهب إليه المعَطِّلَة والمُؤَوِّلَة ونُفَاة الصفات.
والجبر ذهب إليه الجبرية: الجهمية والأشاعرة والماتريدية، والقَدَرْ يعني القَدَرِيَّة الأوائل نُفَاة العلم، ثم المعتزلة الذين أثبتوا خلق الإنسان لفعله.
والأمن من مكر الله - عز وجل - ذهب إليه أهل الشهوات، فعلوا ما يشاءون وأمِنُوا مكر الله، واليأس ذهب إليه طائفة من المتصوفة فيئِسُوا من رَوحِ الله - عز وجل -.
وهكذا في أصنافٍ شتى في هذه الأمور.
فإذاً هذه الجملة هي في الحقيقة تلخيصٌ لما سبق، وهي عَرَضْ لها كما تذكرون شيخ الإسلام ابن تيمية في مبحث الوَسَطِيَّةْ.
وكل من صَنَّفَ في الاعتقاد يَعْرِضُ لها لكن بأساليب مختلفة.
وهي التي سماها عدد من طلبة العلم في هذا العصر الوسطية، الوسطية في الاعتقاد في الصفات، الوسطية في الإيمان، الوسطية في القَدَرْ، الوسطية في السلوك، الوسطية في العبادة، الوسطية في الحُكْمْ على الناس وعلى الأحوال، وهكذا.
ولاشك أنَّ دين الإسلام وسط كما أثنى الله - عز وجل - على أهله بقوله {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة:143] .
وقوله {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} يعني أُمَّةً عَدْلَاً خِيَارَاً، كما فَسَّرَهَا السلف.
لماذا صارت عدلا؟
لأنها تَوَسَّطَتْ في ما ذهب إليه المِلَلْ من قبل.
فعندك اليهود عندهم التشدد والغلو والأغلال والآصار، والنصارى عندهم التساهل والزيادة والابتداع إلى آخره.
فأهل الإسلام وسط في كل أحوالهم، وسطٌ في العقيدة ووسطٌ في العبادات بجميع أحوالها وأنواعها.
إذا تبين ذلك فنعرض لهذه الجُمَل سريعاً في مسائل:(1/733)
[المسألة الأولى] :
الغلو والتقصير قد يُعَبَّرُ عنه بالغلو والجفاء.
والغلوُّ لفظٌ جاء في الكتاب والسنة، كما قال - عز وجل - {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللهِ إِلاَّ الْحَقِّ} [النساء:171] ، وقال - عز وجل - في الآية الأخرى {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ} [المائدة:77] ، وقال صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي في بعض السنن «بمثل هؤلاء فارموا» لما ذَكَرَ أَنَّ مَسَكَ أو قَبَضَ على حصى الحذف «وإياكم والغلو فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو» (1) فنهى عن الغلو صلى الله عليه وسلم.
والغلو كما أنه يكون في الاعتقاد كذلك يكون في العبادة.
وحقيقة الغلو في تعريفه الشرعي: هو الزيادة عما أُذِنَ به شرعاً في السلوك أو في التَّعَبُّدْ أو في الاعتقاد.
يعني في الدين إذا زاد عما أُذِنَ به فإنه يكون غالياً، كما أنه إذا زاد في الإنفاق عَمَّا، أو في الفعل عما أُذِنَ به صار مسرفاً.
أما التقصير فهو: ترك ما أُمِرَ به العبد بأن يُقَصِّر ويجفو ويتبع الشهوات وهو عكس الغلو.
وأولئك يغلون في الاعتقاد أو يغلون في الإثبات أو يغلون في السلوك.
مثاله الخوارج غلوا في جانبين؛ بل في عدة جوانب.
غَلَو في العقيدة: فَضَلُّوا، كَفَّرُوا، وتركوا نهج الصحابة.
وغلوا في العبادة: حتى إنَّ أحد الصحابة يحقر صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم كما جاء في الحديث.
وغلوا أيضاً في الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فقاتلوا جِهَادَاً من لا يستحق القتال شرعَاً؛ بل من يَحْرُمُ قتاله، حتى آل الأمر بغلوهم أنهم تَعَبَّدُوا بقتل خيار الله - جل جلاله - مثل الصحابة.
فأَكْرَمُ الصحابة وأعلاهم منزلة في زمنه علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ومع ذلك تَقَرَّبُوا إلى الله بقتله؛ بل أساس قتل عثمان هو من فعل الخوارج رضي الله عنه.
قَتَلُوا علياً وهم يتمنون الجنة بقتل عثمان وبقتل علي من شدة غُلُوِّهِم.
وكما وصفهم النبي صلى الله عليه وسلم «يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان» (2) يعني أهل الشرك.
وأما التقصير فهو حال أهل الشهوات الذين تركوا العبادة وتركوا طاعة الله - عز وجل - ولم يَبْلُغُوا ما أَمَرَ الله - عز وجل - به.
بل هم في تقصيرٍ وغِشيانٍ للشهوات والمحرمات والكبائر ولا يَرْعَونَ ولا يثوبون ولايتذكرون.
هؤلاء يقابلون المتشددين، يقابلهم أهل التساهل والكبائر والذنوب والمعاصي.
__________
(1) النسائي (3057) / ابن ماجه (3029)
(2) البخاري (3344) / مسلم (2499)(1/734)
[المسألة الثانية] :
في قوله (بَيْنَ التَّشْبِيهِ وَالتَّعْطِيلِ)
1 - القسم الأول: التشبيه:
التشبيه هو أن يُجْعَلْ شيء شَبَهَاً لشيء.
فعملية الجَعْلْ هذه هي تشبيه، شَبَّهَ تَشْبِيْهَاً.
والتشبيه قسمان، يعني جَعْلْ الشَّبِيهْ قسمان:
@ القسم الأول: جعْل الشبيه لله - عز وجل - في صفاته كلها، أو في بعض صفاته، أو في تمام معنى الصفة [.....] .
[.....] يمكن أن تقول اختصاراً أنْ يُشَبَّهْ الله - عز وجل - بخلقه أو يُشَبَّهْ الخلق بالله - عز وجل - في كيفية الصفات أو كيفية صِفَةْ أو في تمام معنى بعض الصفة.
@ القسم الثاني: أن تُشَبَّه صفة الله - عز وجل - بصفة خلقه في أصل المعنى دون تمامه، أن تُشَبَّه صفة الخالق - عز وجل - بصفة المخلوق في بعض المعنى أو في أصل المعنى.
وهذان القسمان هل يُنْفَيَان عن الله - عز وجل - جميعاً أم ينفى أحدهما عن الآخر؟
اختلف أهل العلم في ذلك.
والذي يوافق طريقة أهل السنة والجماعة أن يُنْفَى القسم الأول وهو المراد بالتمثيل دون نفي القسم الثاني؛ لأنَّ إثبات الصفات إثباتٌ للصفة مع المعنى، والمعنى يشترك المخلوق مع الخالق فيه في أصل الصفة، في أصل المعنى دون كماله.
كما أنَّ المخلوق يُوصَفْ بالوجود والله - عز وجل - يُوصَفُ بالوجود فبينهما اشتراك في أصل المعنى دون تمامه ودون حقيقته.
كذلك يُوصَفُ المخلوق بالسمع، والله - عز وجل - يُوصَفُ بالسمع وللمخلوق سمع يناسبه، ولله - عز وجل - سمعٌ كامل متنزه عن النقائص وما لا يليق بجلاله وعظمته - عز وجل -.
فتحَصَّلَ من هذا أَنَّ:
- الأول مُتَّفَقٌ على منعه وهو التمثيل.
- والثاني مُخْتَلَفٌ في إطلاقه بين أهل العلم. (1)
* والأوْلَى أن لا يُسْتَعْمَل التشبيه إلا في معنى التمثيل حتى لا يَظُنْ الظَّان ممن لا يفهم طريقة أهل السنة والجماعة أنهم يتساهلون في مسألة التشبيه، فَيُصَدِّقُونَ أنهم مُشَبِّهَة أو يؤكدون أنهم مُشَبِّهَة.
وهذا وإن استعمله بعض أهل العلم كابن تيمية وغيره؛ ولكن أرادوا منه حَقَاً، وهو أن لا تُنْفَى الصفات.
ولكن من حيث الاستعمال لا تُسْتَعْمَلْ، لا يقال أنه هناك تشبيه جائز أو أنَّ من التشبيه ما هو حق، فهذا ليس كذلك.
لذلك لفظ التشبيه لم يأت في الكتاب والسنة مَنْفِيَّاً، وإنما جاء نفي المثيل {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] ، ولكن لا نستعمل لفظ التشبيه، فالله - عز وجل - ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته، وكذلك ليس له شبيه - عز وجل -، وأهل التشبيه هم أهل الضلال.
لهذا قال هنا (وَبَيْنَ التَّشْبِيهِ وَالتَّعْطِيلِ) فالمُشَبِّهَة وهم الذين جعلوا صفات الله - عز وجل - مُشْبِهَةْ لصفات خلقه، إما جميع الصفات كحال أهل التجسيم أو بعض الصفات، هؤلاء نتبرأ منهم وليس في طريقة أهل السنة لفظ تشبيه مُثْبَتَاً.
ما نقول قد يكون مثل ما استعمله بعض المعاصرين ممن لم يتحقق بطريقة أهل السنة والجماعة وأهل الحديث.
2 - القسم الثاني التعطيل:
والتعطيل مأخوذٌ أو معناه الإخلاء، مأخوذ من العُطْلِ وهو التَّخْلِيَة.
يقال جِيدٌ المرأة عاطل؛ يعني أنه خالٍ من الحُلِيْ كما قال الشاعر وهو امرئ القيس:
وجيدٌ كجيد الرِّيم ليس بفا **** حِشٍ إذا هي نَصَّتْهُ ولا بمُعَطلِ
(بِمُعَطَّلِ) يعني بخالٍ من الحلية.
فالتعطيل معناه التخلية.
فالتعطيل في حق الله معناه أن يُخْلَى الله - عز وجل - من صفاته.
فَنُفَاةْ الصفات مُعَطِّلَة، وكل من نفى صفة أو أكثر فله نصيب من التعطيل بقدر ما نفى؛ لأنَّ التعطيل إخلاء من الصفات.
فنفاة الصفات مثل المعتزلة والأشاعرة، أو من نفى كل الصفات أو نفى بعضها؛ فإنه يطلق عليه مُعَطِّلَة.
وبالمناسبة تجد في كتب أهل العلم، تارَةً يقولون عن هؤلاء نُفَاة الصفات، وتارة يقولون مُثْبِتَةْ الصفات، ففي موضعٍ يجعلونهم مع النفاة، وفي موضع يجعلونهم مع المُثْبِتَةْ بحسب السياق.
فإذا نُظِرَ إلى نفيهم للصفات -يعني المعتزلة والأشاعرة- قيل لهم نفاة للصفات مع الجهمية لأنَّ الجهمية هم أصلاً نفاة الصفات.
وإذا نُظِرَ إلى ما أثبتوا وأنَّ الجهمية تنفي جميع الصفات قيل عنهم أنهم مُثْبِتَةْ للصفات؛ يعني لأصل الصفات وليسوا منكرين لأصل الاتصاف.
فالمقصود من ذلك أنَّ التعطيل ينطبق على نُفَاة الصفات سواءٌ نَفَى كل الصفات أو نفى بعض الصفات.
إذا كان كذاك فدين الله بين التشبيه والتعطيل؛ يعني ما بين نفي الصفات، وما بين أن يُجْعَلْ لله - عز وجل - صفات كصفات المخلوق.
فنُثْبِت لله - عز وجل - الصفات؛ لكن (2) على قاعدة {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] ، وعلى قاعدة أهل العلم أنَّ إثباتُ الصفات إثبات وجود لا إثبات كيفية، وأنَّ بين الصفة وبين الصفة، يعني بين صفة الخالق وبين صفة المخلوق كما بين الذات والذات.
والله - عز وجل - ضَرَبَ لنا مَثَلاً في المخلوقات:
المخلوقات ليست متساوية في الصفات، الذباب له قوة تناسبه والإنسان له قوة تناسبه، ولكن هنا ثَمَّ قوة وثَمَّ قوة، البعوض له سمع وله بصر يناسبه والإنسان له سمع وله بصر يناسبه، والفيل له قوة وله سمع وله بصر وله قدرة تناسبه.
فإذاً المخلوقون، الأصناف التي خلقها الله - عز وجل - جعلها متفاوتة فيما تتصف به، وإذا كان كذلك فإذاً ما بين الخالق وما بين المخلوقين من البون والفرق الكبير في الاتصاف بالصفات كما بين ذات الرب - جل جلاله - وذوات المخلوقين الوضيعة والناس يُدركون هذا تمام الإدراك فيما يزاولونه وينظرون إليه.
__________
(1) انظر المسألة الثالثة (16)
(2) نهاية الوجه الأول من الشريط الواحد والخمسون(1/735)
[المسألة الثالثة] :
في قوله (بَيْنَ الْجَبْرِ وَالْقَدَرِ) الجبر والقدر مر معنا تفصيلاً ذلك.
وأنَّ الجبر يعني به الجبرية، وأنَّ الجبرية صنفان:
- جبريةٌ غالية.
- وجبريةٌ متوسطة.
وكذلك القدرية صنفان:
- قدريةٌ غلاة وهم الذين نفوا العلم.
- وقدريةٌ ليسوا بغلاة وهم المعتزلة الذين نفوا مرتبة من مراتب القدر وهي خلق الله - عز وجل - لأفعال للعباد وعموم مشيئته سبحانه وتعالى.(1/736)
[المسألة الرابعة] :
في قوله (وَبَيْنَ الْأَمْنِ وَالْإِيَاسِ) الأمن كما ذكرت لك هو الأمن من مكر الله واليأس هو اليأ س من روح الله - عز وجل -.
والواجب على المؤمن والمسلم أن يعلم أنَّ الإسلام لا يُقِرُّ الأمن من مكر الله كما لا يُقِرُّ اليأس من روح الله، فهو بين هذا وهذا، فهو أن يسير خائفاً راجيا يخاف من الله - عز وجل - أن يعاقبه، أو أن يستدرجه، وأنه إذا فعل ذنباً فإنه لا ييأس من روح الله - عز وجل -.
وهاهنا مسألة يذكرها أهل العلم: وهي الأمن والإياس والخوف يعني والرجاء أيهما يُغَلَّبْ؟ هل يكون خائفاً أو يكون راجياً؟
وهم متفقون على أنَّ الخوف الذي يُبْلِغُ المرء إلى اليأس فإنه مذموم، وأنَّ الرجاء الذي يُبْلِغُ المرء إلى الأمن من مكر الله فإنه مذموم.
فإذا كان كذلك فهم يبحثون بين الخوف والرجاء ولا يقصدون الخوف الذي يوصل إلى اليأس، ولا الرجاء الذي يوصل إلى الأمن.
اختلف أهل العلم في ذلك كما هو معلوم لديكم في أي الخوف والرجاء يُغَلَّبْ؟
- قالت طائفة يُغَلَّبْ جانب الخوف.
- وقال آخرون يُغَلَّبْ جانب الرجاء.
* والصحيح في ذلك هو التفصيل وهو أنَّ الإنسان لا يخلو في حاله من أحد ثلاثة أحوال:
- إما حال صحة.
- أو حال مرض.
- أو حال قرب للوفاة.
@ فإذا كان في حال الصحة: فيغلب جانب الخوف على الرجاء حتى ينتهي عن الذنوب ولا تَغُرَنَّه صحته في الإقدام على الذنوب والمعاصي واقتحام ما لا يُرْضِي الله - عز وجل -، وكذلك يرجو حتى يعمل ويستمر في العمل، وهذه الحال قال فيها طائفة من أهل العلم: إنه يُسَوِّي بين الخوف والرجاء، وهذا ليس بموضعه كما سيأتي.
@ وإذا كان في حال المرض: فحال المرض ينبغي على الإنسان أن يُغَلَّبْ جانب الرجاء في الله - عز وجل - ويكون أعظم من خوفه؛ لأنه في حالٍ الخوف عنده ولو أُمِرَ بتغليب الخوف خُشِيَ أن يصل به إلى عدم الرجاء في الله - عز وجل -، وقد قال نبينا صلى الله عليه وسلم «قال الله تعالى أنا عند ظن عبدي بي فليظن بي ما شاء» (1) ويناسب المريض أن يكون راجياً مُغَلِّبَاً على الخوف حتى يَلْطُفْ الله - عز وجل - به.
@ وإذا كان في حال قرب الوفاة: الأفضل للمرء فيها أن يُسَوِّيَ بين الجانبين، أن يكون خائفاً راجياً، وقد جاء رجل للنبي صلى الله عليه وسلم فقال له -أظنه كان مريضا فعاده- فقال: «كيف تجدك» قال: أجدني أخشى ذنوبي وأرجو رحمة ربي. فقال صلى الله عليه وسلم له «لا يجتمعان في قلب عبد في مثل هذا إلا أنجاه الله من النار» (2) أو كما جاء في الحديث.
المقصود أنه اسْتُدِلَّ به أنه في هذه الحال أن يُسَوِّيَ المرء بين الخوف والرجاء.
__________
(1) سبق ذكره (371)
(2) الترمذي (983) / ابن ماجه (4261)(1/737)
قال رحمه الله بعدها (فَهَذَا دِينُنَا وَاعْتِقَادُنَا ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، وَنَحْنُ بَرَآءُ إِلَى اللَّهِ مِنْ كُلِّ مَنْ خَالَفَ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ وَبَيَّنَّاهُ)
__________________________________________
يريد بذلك أنَّ جميع ما ذكره في هذه الرسالة وفي هذه العقيدة المباركة من أوله وآخره أنه دينه واعتقاده ظاهراً وباطنا؛ يعني أنه لا ينافق في ذلك ولا يُظْهِرُ شيئاً ويُخْفِي شيئاً، كما كان عليه طائفة من أهل زمانه من أنهم يقولون (لا تُظهر عقيدتك عند أحد؛ لأنك بين مخالِفِينَ فإما أن يثنوا عليك وإما أن يذموك) ، بل هذا ديننا وعقيدتنا واعتقادنا ظاهراً وباطناً؛ لأنَّ الاعتقاد والدّين الأصل في الإنسان أن يُعْلِنَهْ، وقد يجوز أن يستخفي به إذا كانت المصلحة في ذلك؛ لكن هذا في حال الفتنة وعدم استطاعة الثبات على البلاء؛ لكن الأصل أنَّ الإنسان يُعْلِنْ ما يعتقده ويدين به ظاهراً وباطناً.
قال متبرئاً من كل من خالف طريقة أهل الحديث والسنة والجماعة (وَنَحْنُ بَرَآءُ إِلَى اللَّهِ مِنْ كُلِّ مَنْ خَالَفَ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ وَبَيَّنَّاهُ)
وقد تقدم لك أنه غلط رحمه الله في عدد من المسائل، هذه توكل إلى اجتهاده، وغلط في ذلك وفي الجملة كلامه موافق لكلام أهل الحديث وكلام أهل السنة في إثبات الصفات وفي القدر وفي سائر المسائل، لكن في مسألة الإيمان تابع فيها قول أبي حنيفة ومرَّ معك البحث في ذلك.
فنحن برآء إلى الله من كل مخالفة للكتاب والسنة لكل ما أمر الله - عز وجل - به أو أخبر من خالفه فنحن نتبرأ إلى الله - عز وجل - منه سواءً علمنا أو لم نعلم.
وهذا هو الأصل وهذا هو الاعتقاد أننا ندين إجمالا بما أمرنا الله - عز وجل - أن ندين به بالتصديق بالأخبار وباعتقاد وجود الأوامر والانتهاء عن النواهي، وجوب امتثال الأوامر ووجوب الانتهاء عن النواهي، إذا كان أمر إيجاب أو نهي تحريم.
وهذا ديننا وهذا اعتقادنا، أمَّا تعليقه بقول فلان أو بما ورد، فهذا يحتاج إلى تأمل ونظر لأن الناس يختلفون في ذلك اختلافاً بيِّنَاً.
وما من عالم ممن كتب في العقائد إلا وله اجتهاد يكون في مسألة في مسألتين، وهذا لا يعني أنه ليس من أهل السنة أو أنه خالف أو أنَّ كتابه لا يصلح.
فمثلا تنظر إلى أعظم الكتب التي كتبها السلف تجد فيها مسائل لا يُقِرُّهَا الآخرون لكنها مسائل نادرة في خِضَمِّ غيرها، إما أن يُثْبِتْ ما لا يَثْبُتْ مَثَلَاً في بعض الصفات، أو أنه يتأول واحدة بشيءٍ ظهر له، أو أنه يصف شيئاً ليس من العقيدة يجعله في العقيدة، مثل ما فعل البربهاري مثلاً في بعض المسائل، أو أنه ينسب شيء لأهل السنة وهو ليس من عقيدة أهل السنة.
فلذلك ما قَعَّدُوهُ وأجْمَعُوا عليه واتفقوا عليه فهذا ما يجب اتباعه، ولا تجوز مخالفته لأنه هو عقيدة أهل السنة والجماعة، وما اختلفوا فيه فلكل واحدٍ منهم عذره في ذلك؛ لكنه لا يُتَّبَعُ على ما زَلَّ فيه.
الحافظ ابن خزيمة كَتَبَ كتابا عظيما وهو قطعة من صحيح سماه التوحيد، ومع ذلك غلط فيه في بعض المسائل، في مسألة الصورة كما هو معروف لم يوافق بقية أهل السنة في ذلك.
مثلا عندك البربهاري ذكر مسائل ليست من العقيدة أصلاً وأشياء لم تثبت.
من ألَّفْ مثلاً في العرش جاء بأشياء ليس فيها دليل واضح وهكذا.
المقصود من ذلك أنه ليس من شرط أن يكون الكتاب على طريقة أهل السنة والجماعة وأهل الحديث أن يكون سالما من كل اجتهاد؛ لكن إذا كانت أصوله التي انطلق منها هي الاستسلام للكتاب والسنة، ورَدْ التأويل والتعطيل واتباع الدليل، وعدم تسليط العقل على النصوص فهذا من أهل الحديث وأهل السنة، فلا بد أن يحصل له من الغلط ما يحصل له.
لهذا عَظَّمْ أهل العلم كتب شيخ الإسلام ابن تيمية لأنه قَرَّرَ فيها ما اتفقوا عليه وأجمعوا عليه، وترك فيها ما لكل واحدٍ من أهل العلم ممن كتبوا في العقائد اجتهادات.
اعتنى المتأخرون من أئمة أهل السنة بكتب الشيخين شيخ الإسلام وابن القيم لسلامتها من المذاهب الردية وللاجتهادات التي [.....] يُوَافَقْ عليها.
نقف عند هذاويبقى عندنا الجملة الباقية هذه نبقى معها الدرس القادم إن شاء الله تعالى.
نسأل الله لنا ولكم التوفيق والسداد وأن يختم لنا برضاه إنه جواد كريم.(1/738)
الأسئلة:
س1/ قال - عز وجل - {وَقَالُواْ كُونُواْ هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُواْ قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} [البقرة:135] ؟
ج/ معلومٌ أنَّ موسى عليه السلام جاء بالحنيفية مثل دين إبراهيم، جاء بالإسلام، وعيسى عليه السلام جاء بالحنيفية عبادة الله وحده دون ما سواه.
لكن اليهودية المُحَرَّفَة والنصرانية المُحَرَّفَة هذه إبراهيم عليه السلام بريءٌ منها، ولهذا قال - عز وجل - {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلاَ نَصْرَانِيًّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [آل عمران:67] ؛ لأنَّ كل طائفة ادَّعَتْهُ على ضلالها.
فاليهود حَرَّفُوا دينهم وأرادوا أم ينسبوا التحريف إلى إبراهيم، وهو أنهم يدعون إلى الإبراهيمية، وكذلك النصارى، وكذلك المشركون ينسبون أنفسهم إلى إبراهيم الخليل وهو بريء من هؤلاء وهؤلاء عليه السلام.
س2/ هل تنصحون بإهداء كتب موسى الموسوي للرافضة؟
ج/ نعم، كتبه نافعة وتنفع القوم، تقيم الحجة عليهم أو تهز ثقتهم بأصولهم.
س3/ ما رأيك في مقولة لأحد الشباب ممن ينتسب إلى الدعوة يقول (إنَّ زمن القرآن وَلَّى بسبب وجود القنوات الفضائية فلابد أن نواجه الشباب بغير القرآن أن نكون عصريين) هذه رسالة في توجيه الشباب؟
ج/ ما أظن المسلم يقول هذا الكلام، ما أظن احد من الشباب يقول زمن القرآن ولّى هكذا بهذا النص، ما أظن أحد يصلي يقول هذا الكلام (زمن القرآن ولَّى) لا ما يمكن أحد يقول هذا.
لكن يجب على الإنسان أن يتحرى في ألفاظه، وكما تعلمون الحديث «وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً تهوي به في النار سبعين خريفا» (1) قد يقول كلمة ويقول مقصدي زين، وليست المسألة بالمقاصد، لازم أن تتقي الله - عز وجل - في ألفاظك، أن تخاف الله بما تنطق به حتى مع أهلك وحتى مع أولادك وحتى في عملك، المسلم وقور يتحَرَّى في لفظه ويتحرى في تعامله؛ لأن اللسان يحاسب عليه، تحاسب على لسانك في كل ما تقوله.
حديث معاذ معلوم لديكم وهو قوله صلى الله عليه وسلم «كُفَّ عليك هذا» حديث معاذ الطويل قال «وكف عليك هذا» قال: يا رسول الله أَوَ مؤاخذون بما نقول؟ قال «ثكلتك أمك يا معاذ وهل يكب الناس في النار على مناخرهم -أو قال على وجوههم- إلا حصائد ألسنتهم» (2) .
ألحظ أنا من بعض طلبة العلم أو بعض الشباب أو بعض أهل الخير إذا جاوا يمزحون ما يهمه وش يقول أي كلام، هذا سيئ للغاية، أحيانا يطلقون كلاما قبيحا.
اضرب لكم مثال، مثلاً يأتي ذكر القبر مثلاً وأنه نور يجيء واحد ويقول والله كهرباء زين، مثل هذا الكلام حرام وقد يهوي به القائل، أو يقول كشاف ألف شمعة أو مثل هذا الكلام؛ يعني قد يحصل أنهم يتناقلون مثل هذا الكلام ويقولونه بينهم؛ لكن مثل هذا لا يجوز البتة.
الأمور الشرعية وطِّنْ نفسك على الهيبة فيها، لأنَّ هذا من تعظيم شعائر الله، {وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج:32] ، تطلق لفظ لا تلقي له بالا وآخر لا تلقي له بالا، ما تدري يعاقبك الله - عز وجل - بسلب الإيمان منك وأنت لا تشعر.
فلذلك يجب على الشباب وعلى طلاب العلم أن يمزحوا بما مزح به النبي صلى الله عليه وسلم ما يأتون للأمور الشرعية ويتعرضون لها بأقوال ليست كالتوقير.
س4/ أشكل علي قول بعض المؤلفين في كتب القرآن وغيرها أنَّ (الـ) في قوله تعالى {الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2] للاستغراق عند أهل السنة خلافاً للمعتزلة بناءً على خلافهم لخلق أفعال العباد فلا يقولون بأنها للاستغراق؟
ج/ تحتاج إلى نظر، يعني معنى الاستغراق هل فعلاً المعتزلة ينكرون الاستغراق هنا؟ ما أعلم.
لكن الحمد (الألف واللام) هنا استغراق الجنس؛ يعني جنس أو أجناس الحمد جميعا لله رب العالمين يعني مُسْتَحَقَّة لله - عز وجل -، وأجناس الحمد خمسة:
حمد لله في ربوبية، وحمد في الألوهية، وحمد في الأسماء والصفات، وحمد في الشرع، وحمد في الكون والقدر.
فأجناس الحمد كلها لله، إيش علاقة هذا بخلق أفعال العباد؟
ما أعلم، وأظن -إذا ما خانتني الحافظة- أظن أن الزمخشري يقول إنها للاستغراق في فاتحة التفسير وقال أل للاستغراق أظنه يقول ذلك. فيحتاج إلى مراجعة.
س5/ هل يجوز أن نَصِفَ القدر بالظلم؟
ج/ لا يجوز لأنَّ القدر فعل الله - عز وجل - وتقديره فلا يوصف بالظلم {وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف:49] .
س6/ أعرف أناسا جُلُّ مجالسهم الكلام في أعراض علمائنا الكبار من أنهم لا يفقهون واقع المسلمين وفتاواهم في حيضٍ وغيره، ما أفعل مع هؤلاء وكيف التوجيه؟
__________
(1) الموطأ (1782) / الترمذي (2314) / ابن ماجه (3970)
(2) الترمذي (2616) / ابن ماجه (3973)(1/739)
ج/ أظن حصل من السنين الماضية ما فيه كفاية في وضوح هذه المسألة، وأنَّ من استعجل فوقع في أعراض العلماء أو استنقص رأيهم بَانَ الأمر على خلافه، وأنَّ مصالح الناس في الحال وفي المآل هي بقول أهل العلم الكبار، ورحم الله سماحة الإمام الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله فقد كان لموقفه في الأزمة من الخير العظيم على الناس في ذلك الوقت وإلى وقتنا الحاضر ما لم يدركه إلا العالمون بالشرع وأحوال ما يُصْلِحُ الناس.
والواجب علينا جميعا ونحن طلاب علم وكلكم حريصٌ على الخير أن نكون متقين لله - عز وجل -، الكلام والغيبة ومحرمة، الكلام في الأعراض والغيبة محرمة.
ومن العجب أن يأتي شاب صغير لم يدرك من العلم شيئا فضلاً عن أنه يدرك الواقع، ويقع في حق كبارٍ من أهل العلم الذين عرفوا العلم وعرفوا الواقع؛ ولكن هل الواقع هو الأخبار السياسية؟
هل الواقع هو التفصيلات؟
هل الواقع هو تفصيلات الكيد؟
أم الواقع هو واقع الأعداء وكيف تُطَبِّقُ حالهم على الشرع؟ أو تُطَبِّقُ حالهم على ما في القرآن والسنة؟
يعني لا تنفك المسألة من وجود أعداء للإسلام والمسلمين، وهؤلاء الأعداء فَصَّلَهُمْ الله - عز وجل - في القرآن قال سبحانه {للهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللهِ نَصِيرًا} [النساء:45] بَيَّنَ لنا الله - عز وجل - حال اليهود وتفاصيل عداوة اليهود لنا والنصارى {وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} لكن هل من شرط العالم أن يتتبع جميع الجرائد ويقرأها والأخبار والقنوات الفضائية والتحليلات السياسية حتى يكون فقيها بواقع؟
لاشك أنَّ هذا ليس بمقصود.
والأحكام الشرعية لابد أن تكون عن فَهْمْ وفقه؛ لكن ليس كل ما عَلِمَهُ الناس يكون مؤثراً في الفتوى أو في الحكم أو في التصرفات، فهناك أشياء تُعْلَمْ لا قيمة لها ولا أثر، وليس كل ما يُعْرَضْ لكم أو تسمعونه أو ينقل يكون صحيحاً؛ لأن الناس الآن يُضَلُّونَ بالأخبار، الأخبار والإعلام يُضِلْ وينوع الأقوال، ويجعل الناس يتصرفون تصرفات ويبنون أحكامَاً على ما نُقِلْ، ربما بعضكم ينظر في الأخبار التي تُعْرَضْ سواءٌ كانت مقروءة أو مسموعة أو مرئية أنَّ تفاصيل الخبر واحدة تُنْقَلْ في جميع الوسائل، في الجرائد في أمريكا وفي أوربا وفي الشرق وفي المسموع في الأخبار، الصياغة متقاربة؛ بل الصورة الواحدة أحيانَاً المعروضة في أخبار في قنوات، تجد أن الصورة الواحدة تتردد في الأخبار في جميع القنوات، من الذي صاغ الخبر الأساسي؟ ومن الذي صَوَّرْ؟ ومن الذي فعل؟ ومن الذي ينشر هذه الأخبار في العالم؟
والناس يدورون حول هذه الأخبار، لاشك أنَّ هناك تسلط إعلامي عالمي على المسلمين وعلى غيرهم؛ يعني لتكون المواقف السياسية ولتكون رغبة الناس ولتكون آراء الناس على نحوٍ ما.
لهذا فالذي ينبغي لطلاب العلم أولاً أن ينشغلوا بالعلم عن غيره؛ لأنَّ الأمة بل الدّين والجهاد الآن جهاد علم، الناس بحاجة إليكم، بحاجة إلى طلبة علم إذا ضيعتم الوقت في قيل وقال دون فائدة، نحن مرينا قبلكم بمراحل كان بعض الناس يتتبعون المجلات، يشترون المجلات الحوادث ومجلة الوطن العربي وأنا أذكر من ثلاثين سنة ومجلة كذا وجريدة وجرائد متنوعة لا فَقِهُوا في السياسة ولا فقهوا في العلم فضاعوا بين هذا وهذا.
الناس بحاجة إليكم بحاجة إليكم في العلم النافع في توحيد الله - عز وجل -، وفي بيان السنة وفي بيان الأحكام الشرعية، فتعلموا العلم النافع واتركوا المسائل الكبار لأهل العلم فإن هذا أنفع لكم.
طالب ينظر إذا رأى تحليلاً جيداً في مجلةٍ مأمونة أو فيه خبر يتعلم ويفهم؛ لكن أن يَنْقُدْ على أهل العلم إذا لم يتتبعوا مثل تَتَبُعِهِ هذا ليس بنَصَفَةْ ولا بعدل فضلاً أن يكون مأمورا به في الشرع.
فلنقي ألسنتنا من الغيبة ولنحفظ قليل أعمالنا -وإن أثابنا الله - عز وجل - عليها- من الضياع والغيبة كما تعلمون وقوع في العرض فلابد أن يؤخذ ممن اغتاب أن تؤخذ منه المظلمة يوم القيامة.
والله المستعان، يعني الواحد الذي يعرف نفسه وحريص على الآخرة وما يقربه إلى الله - عز وجل - يُضَيِّعْ نفسه بهذا اللسان الذي يقع دون عمل.
وكثير من الأعمال النافعة -وأنتم انظروا- التي بقيت ونفعت في دينهم وفي دنياهم هي أعمال أهل العلم الكبار هي التي هادية ونافعة، وما أحسن قول ابن الوردي في لاميته:
ملك كسرى عنه تغني كسرة ****** وعن البحر اجتزاء بالوشل
البحر كثير لكنه مالح لا تشرب منه، والوشل ماء عذب قليل لكنه يطفئ الظمأ ويروي الغَلَّةْ.
س/ مقولة (من لم يُكَفِّر الكافر فهو كافر) هل هي صحيحة وهل هي على اطلاقها؟
صحيحة، من م يُكَفِّر الكافر الذ ي نصَّ الله - عز وجل - على تكفيره فهو كافر، والميتدع..... لا، هذه ما هي بقاعدة.
أمَّا اللي نصَّ عليها أهل العلم أنَّ من لم يكفر الكافر فهو كافر، ويقصدون بالكافر، ابن تيمية ذكرها في موضع قال (والمقصود الكافر الذي جاء كفره في الكتاب والسنة، لأنه تكذيب للكتاب والسنة) ، أمَّا لو كل واحد، هذا ما يكفر، هذا يكفر، يصير، لكن لابد من رجوعه إلى أصل.
يعني مثلاً واحد يجي ويقول (والله فرعون مسلم) فيه من يقوله، وفيه من الصوفية من يقول (الجلال والدوافي وشركت، وابن عربي، أو يجي ويقول (أبو لهب أنا لا أكفره) أو يقول أبو طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم ما أكفره؟، وهو قد ثبت كفره بالكتاب والسنة وأنكر الكتاب والسنة.
في هذا القدر كفاية وبارك الله فيكم وعليكم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد (1) .
__________
(1) نهاية الشريط الواحد والخمسون(1/740)
: [[الشريط الثاني والخمسون]] :
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه.
الأسئلة:
س1/ هل الميت يعلم عن الأحياء أخبارَهم؟ فقد سمعتُ من بعض أهل العلم من يقول ذلك وآخر ينفيه، وآخر من يقول هذه المسألة لا أحد يسأل عنها لأنها من علم الغيب؟
ج/ هذه المسألة من المسائل المهمّة جداً، وكما ذكر السائل تنوَّعَتْ أقوال العلم فيها ما بين نافٍ مطلقاً وما بين مثبتٍ مطلقاً وما بين مفصلٍ للمسألة بحسب ما ورد في الدليل.
والصواب في ذلك التفصيل.
- فمن نَفَى مطلقاً بأنَّ الأموات لا يسمعون ولا يعلمون؛ بل انقطع سبيلهم، استدلوا بقول الله - عز وجل -: {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [فاطر:22] ، واستدلوا أيضاً بأنَّ الميت انقطع من هذه الدنيا وارتحل إلى الآخرة وهو مشغولٌ عن هذه الدنيا بالآخرة، وهو في حياة برزخ، وحياة البرزخ مختلفة عن هذه الحياة، فَصِلَتُه بهذه الحياة تحتاج إلى دليل، ولا دليل يدل على سماعه مطلَقَاً فلذلك وجب نفيه لدلالة قوله {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} ، ولم يدل أيضاً الدليل على أنَّ الملائكة تُبَلِّغْ الأموات الأخبار والأحوال، فبنوا على هذا النفي العام بأنَّ الميت لا يسمع شيئاً.
- والقول الثاني أنَّ الأموات يسمعون مطلقاً ويُبَلَّغُون، يعني يسمعون ما يحدث عندهم ويُبَلَّغُونَ ما يحصل من أهليهم وأقاربهم من خيرٍ وشر، فيأنسونَ للخير ويستاءون للشر، وهؤلاء بَنَوا كلامهم على أنَّ في الأدلة ما يدل على جنس سماع الميت لكلام الحي:
كقوله صلى الله عليه وسلم «إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا وُضِعَ فِى قَبْرِهِ، وَتَوَلَّى عَنْهُ أَصْحَابُهُ، وَإِنَّهُ لَيَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالِهِمْ» (1) ، واستدلوا بهذا على أنه يسمع.
ويستدلون أيضاً ببعض الأحاديث الضعيفة كحديث التلقين، حديث أبي أمامة الضعيف في التلقين ونحوه بأنه يسمع بعض السماع.
ويستدلون أيضاً بما ورد من الأحاديث بأنَّ الملائكة تُبَلِّغْ الميت بأخبار أهله من بعده، ويعرضون عليه ما فعلوا فإن وجد خيراً فَرِحْ واستبشر وإن بُلِّغ غير ذلك استاء من أهله.
ويستدلون أيضاً بما يحصل للأحياء من رؤيةٍ لأرواح الأموات في المنام، وأنهم ربما قالوا لهم فعلت كذا وفعلت كذا وأتانا خبرك بكذا ونحو ذلك.
وهؤلاء أيضاً في مسألةٍ خاصة استدلوا بفعل النبي صلى الله عليه وسلم مع صناديد قريش لمَّا دَفَنَهُم في القليب ورماهم فأطَلَّ عليهم صلى الله عليه وسلم، وقال لهم «هل وجدتُّم ما وعد ربكم حقا؟ فإنّي وجدت ما وعد ربي حقاً» ، قالوا له: يا رسول الله أتُكَلِّمُ أمواتاً؟ قال: «ما أنتم بأسمع لي منهم» (2) ، واستدلوا بهذا اللفظ: «ما أنتم بأسْمَعَ لي منهم» على أنهم يسمعون، وإذا كانوا يسمعون فإنهم لهم نوع تعلق بالدنيا فلا يمنع أن يُبَلَّغُوا ويُقَوِّيْ ما جاء في هذا الباب من أحاديث.
- والثالث وهو الصواب، التفصيل، وهو أنَّ المَيّت يسمع بعض الأشياء التي ورد الدليل بأنه يسمعها، والأصل أنَّ الميت لا يُسَمَّع لقوله: {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} ، وأنه أيضاً لا يسمع، فما خَرَجَ عن الأصل احتاج إلى دليل، وكذلك التبليغ -تبليغ الأخبار- أيضاً خلاف الأصل، ولهذا كان من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم أنَّ الله جعل له ملائكة سيّاحين في الأرض يُبَلِّغُونَهُ من أمته السلام.
وهذا هو الأقرب للدليل، وهو الأظهر من حيث أصول الشريعة، وهو أنَّ الميت لا يسمع كل شيء، لا يسمع من ناداه، لا يسمع من أتاه يُخْبِرُهُ بأشياء، وأنه لا دليل على أنّه يُبَلَّغ ما يحصل لأن هذا من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم، وأنَّ الأحاديث الواردة في ذلك بأنه يُبَلَّغ ونحو ذلك أنها أحاديث ضعيفة لا تقوم بها الحجة.
فينحصر إذاً سماعه فيما دل الدليل عليه، وهو أنه يسمع قرع النعال وأنَّ أهل بدر سمعوا، يعني أنَّ المشركين من صناديد قريش سمعوا النبي صلى الله عليه وسلم، لهذا في الرواية الثانية الصحيحة أيضاً أنه قال لما قالوا له: أتكلم أمواتاً؟ قال: «ما أنتم بأسمع لي منهم الآن» (3) وهذه الرواية ظاهرة الدلالة بأنَّ إسْمَاعَهُمْ وتكليمهم هو نوع تبكيت وتعذيب لهم، وزيادة «الآن» زيادة صحيحة ظاهرة وبها يجتمع قول من نفى وقول من أثبت، فيكون الإثبات بالسماع فيه تخصيصٌ لهم بتلك الحال لازدياد تبكيتهم وتعذيبهم أحياء وميتين.
__________
(1) البخاري (1374) / مسلم (7395)
(2) البخاري (1370) / مسلم (7403)
(3) البخاري (3980) / النسائي (2076)(1/741)
والعلماء ألَّفُوا في هذا أيضاً تواليف في الثلاث اتجاهات، يعني في القول الأول والثاني والثالث، وابن القيم رحمه الله في كتاب (الرّوح) توسَّعَ في هذا على القول الثاني، توسَّعَ فيه على القول الثاني، لكنه ليس هذا القول أو غيره موافقاً لقول المشركين الذين يجيزون مناداة الميت وسؤال الميت الحاجات وطلب تفريج الكربات وإغاثة اللهفات، وفي النذر والنذور أن يخاطبوه ليستغيثوا به أو يستشفعوا به. هذا غير داخل في المسألة، لكن هذه المسألة أساس يُرَوِّجُ به من دعا إلى الشرك لأنهم يعتمدون على مثل هذه الأقوال.
ألّف ابن القيم كتاب الروح وبَحَثْ في هذه المسألة وتوسع فيها جداً حتى أنه رحمه الله نقل منامات وحكايات في هذا المقام، هي من قبيل الشواهد على طريقته، لكن العبرة بما دلّ عليه الدليل من الكتاب والسنة ولا مُتَمَسَّكْ في كلام ابن القيم لمن زعم أنَّ الموتى يُغِيثُونْ وأنهم يسمعون ويجيبون من سألهم إلخ. بل ابن القيم رحمه الله مع ما أورد فإنه ردَّ على المشركين والخرافيين وأهل البدع والضلال الذين يصفون الأموات بأوصاف الإله جلّ الله عمَّا ادَّعى المدَّعُون.
وهناك من ذهب إلى المنع مطلقاً، وعدد من أهل العلم ومذهب الحنفية بالخصوص و (التواليف) طائفة من الحنفية في هذا الباب على هذا الأساس من أنَّ الأموات لا يسمعون أصلاً، فكيف يُبَلَّغُون وكيف يجيبون، والصواب اللي عليه الدليل هو التفصيل الذي مرَّ ذِكْرُهُ.
سلام النبي صلى الله عليه وسلم، ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية في رده على البكري قاعدة مهمَّة في فحوى كلامه، وهو أنَّ الميت على القول بسماعه، وسماع النبي صلى الله عليه وسلم بخصوصه فإنّه لا يسمع بقوة هي أكبر من قوته في الدنيا، لا يسمع البعيد لأنَّ إعطاءه قوة أكبر من قوته في الدنيا على السَّمَاع، هذا باطل ولم يدلَّ عليه أصل ولم يقل به أحد، ولهذا جاء في بعض الآثار، أو جاء في بعض الأحاديث وإن كان فيها مقال، طبعاً فيها تعليل والبحث معروف: «من سلَّمَ عَلَيَّ عند قبري أجبته أو رددت عليه، ومن سلَّمَ علي بعيداً بُلِّغتُهُ» . وهذا الصواب أنه من قول بعض السلف، يعني إستظهاراً، في أنه من سلّم قريباً أُجِيب ومن سلّم بعيداً بُلّغ، ولا يصح الحديث في ذلك.
المقصود من هذا أنَّ تبليغ سلام من سَلَّمَ للنبي صلى الله عليه وسلم يدل على أنَّهُ ليس عنده قوة تحضر في كلِّ مكان، من سَلَّمَ عليه صلى الله عليه وسلم عند قبره فله حكم من سَلَّمَ عليه عند القبر، يَرُدْ عليه السلام. والآن القبر بعيد، قبر النبي صلى الله عليه وسلم الآن بعيد، ليس قريب، وبينك وبينه أربع جدران كبيرة، فإذا تَكَلَّمَ المرء خافتاً بأدب وسَلَّمْ (السلام عليك يا رسول الله) بهدوء، فإنه لو كان صلى الله عليه وسلم حياً في مكانه أي في غرفته، في حجرته التي دُفِنَ فيها لَمَا سمع. ولهذا ليس ثَمَّ فيه إلا التبليغ، يعني أنه يُبلَّغ، الملائكة تبلغه من سَلَّمَ عليه، لأنَّ الذي يُسَلّم بعيد ولا يَسْمَع.
ذكر ابن تيمية أنه لم يَدُلَّ دليل على أنه يُعطَى قوّة غير القوة التي كانت معه في الدنيا، ولو قيل أنَّ الميت عامةً يسمع، فإنه لا يسمع من يُكَلِّمُهُ من خلف المقبرة، أو بينه وبينه عشرين متر (20م) يتكلم بهدوء، أو نحو ذلك فإن هذا من وسائل الاعتقادات الباطلة أو من وسائل الشرك والخرافة.
أما النبي صلى الله عليه وسلم فحياته حياةٌ كاملة برزخية ولا شك أكمل من حياة الشهداء، على كل حال.
س2/ هل يجوز أن يقال لليهودي والنصراني يا أخ فلان؟ وما المراد بقوله سبحانه: {إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ} [الشعراء:161] ؟
ج/ الأخوة تختلف، فيه أُخُوَّةْ نسب، وثَمَّ أُخُوَّةْ دين، وفيه أخوة في صناعة، والأخ يُطلَقُ على المُصَاحِبْ أيضاً والقريب، فما يأتي في قصص القرآن مِنْ جَعْلِ النبي أخاً للمشركين الذين كَذَّبُوه، هذا من قبيل أُخُوَّةْ النسب لأنه منهم نسباً كما نصَّ على ذلك أهل العلم، أمَّا أُخُوَّةْ الدِّين أو أُخُوَّةْ الملة أو أُخُوَّةْ المحبة فهذه لا شك منفية وباطلة.
ولهذا من قال لليهود والنصارى إخواننا ويقصد بذلك التودُّد فهذا يدخل من الموالاة المحرَّمَة، وإذا كان له للنصراني نسب أو صلة أو كان مشترك معه في صناعة أو في تجارة ويَقْصِدْ هذا الاشتراك فهذا له بابٌ آخر وفيه نوع موالاة ومُقَارَبَة والواجب تجنُبُهَا، أما أُخُوَّةْ النسب والقبيلة فهذه أمرها واسع كما في القرآن.
س3/ ما حكم الرقية على الكافر والحيوان؟(1/742)
ج/ الرقية هي دواء وعلاج فلا يختَصُّ بها مسلم أو آدمي، فإذا رَقَى كافراً فلا بأس، إذا رقى أيضاً حيواناً فلا بأس فهي دواء وعلاج، حديث أبي سعيد الخدري المعروف «بأنهم مَرُّوا بقومٍ فاستطعموهم أو استضافوهم فلم يُضَيِّفُوهُمْ، فلُدِغَ سَيِّدُ أولئك القوم، فأتوا لهؤلاء النفر من الصحابة، فقالوا: أفيكم راق؟ قالوا: نعم ولكن لا نرقي إلا بجُعْلٍ. فجَاعَلُوهُمْ على قطيعٍ من الغنم ثم جَعَلَ يرقي بفاتحة الكتاب ويتفل ويقرأ فاتحة الكتاب ويتفل حتى برأ كأن لم يصبه شيء. فلما أتوا للنبي صلى الله عليه وسلم قالوا، قصوا عليه القصة، فقال: «وما يدريكم أنها رقية!! اضربوا لي معكم بسهم» .
فالرقية علاج وقراءة القرآن على الكافر نوع إسماعٌ له أيضاً القرآن وليست من جنس مس المصحف، والله - عز وجل - قال: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [التوبة:6] ، ففيها علاج وفيها إقامة لِحُجَّةٍ من الحُجَجْ عليه ونحو ذلك.(1/743)
وَنَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يُثَبِّتَنَا عَلَى الْإِيمَانِ، وَيَخْتِمَ لَنَا بِهِ، وَيَعْصِمَنَا مِنَ الْأَهْوَاءِ الْمُخْتَلِفَةِ، وَالْآرَاءِ الْمُتَفَرِّقَةِ، وَالْمَذَاهِبِ الرَّدِيَّةِ، مِثْلَ الْمُشَبِّهَةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَالْجَهْمِيَّةِ وَالْجَبْرِيَّةِ وَالْقَدَرِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ، مِنَ الَّذِينَ خَالَفُوا السُّنَّةَ وَالْجَمَاعَةَ، وَحَالَفُوا الضَّلَالَةَ، وَنَحْنُ مِنْهُمْ بَرَآءٌ، وَهُمْ عِنْدَنَا ضُلَّالٌ وَأَرْدِيَاءُ وَبِاللَّهِ الْعِصْمَةُ وَالتَّوْفِيقُ.
___________________________________________
هذه هي الجملة الأخيرة من هذه العقيدة المباركة، عقيدة أبي جعفر الطحاوي رحمه الله حيث بَيَّنَ فيها أصول الاعتقاد في الله - عز وجل - وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشرّه، وبيَّنَ فيها تفاصيل الكلام على مسائل كثيرة تدخل تحت أركان الإيمان الستة، وذَكَرَ فيها كعادة من ألَّف في عقائد السلف ما يتصل بذلك من الكلام في الصحابة وما وقع من الفتن والكلام في من الأحق بالخلافة، والكلام في العشرة المبشرين بالجنّة، وما أشبه ذلك من المسائل المتصلة بمسائل الإيمان، وكذلك ذكر عِدَّةَ مسائل تتعلق بالقول في أهل العلم، وأننا لا نذكر أهل العلم سواءٌ أكانوا من أهل الحديث والأثر أو من أهل الفقه والنظر إلا بالخير ومن ذَكَرَهُم بغير الخير فهو على غير السبيل، وما شابه ذلك من المسائل.
وهذه المسائل التي ذَكَرَهَا حقّ، ويُقِرُّها عامَّة الأئمة إلا فيما استُثْنِي مما وافق فيه أبا حنيفة رحمه الله في بعض مسائل الإيمان ونحوه، مما لاحظنا عليه ولاحظ عليه العلماء من قبل وبعض الألفاظ التي تجنُّبُهَا أولى، كما مرّ معنا في مواضعه.
فلما ذَكَرَ ذلك كله قال (فَهَذَا دينُناً واعْتِقَادُناً ظَاهِراً وَبَاطِناً. وَنَحْنُ بُرَآءُ إلى الله مِنْ كُلِّ مَنْ خَالَفَ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ وبَيَّنَّاهُ) .
ولا شك أَنَّ أبواب الاعتقاد متعلقة بالقلب، فالقلب أشد ما يكون في التغير، وأشد ما يكون في التقلُّب، ولهذا كان من دعائه صلى الله عليه وسلم أنَّهُ كان يقول «يا مقلّب القلوب صرِّف قلوبنا إلى طاعتك» (1) ، «يا مقلب القلوب ثبّت قلبي على دينك» (2) ، ونحو ذلك مما ورد في الآثار.
فالقلب يَتَقَلَّبْ سريعاً وأكثر شيء يتقَلَّبُ فيه القلب قول القلب وعمل القلب واعتقاد القلب؛ لأنَّ هذه مبناها على العلم، والعلم ينفع ويذهب، فكلما ترك شيئاً من العلم كلما أثَّرَ ذلك على القلب، فإذا ترك مسائل العقيدة أَثَّرَ ذلك على عقيدة القلب إما أَثَّرَ بنقص العلم وهذا له أثر في اليقين والاعتقاد الحق، أو أَثَّرَ بوجود الشبهة مع عدم العلم أو ضعف العلم.
والشيطان أفرح ما يكون من الإنسان أن يَتَغَيَّرَ قلبه، لأنه إذا تغير قلبه فإنَّ الجوارح تتغير كما قال صلى الله عليه وسلم «ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب» (3) ، ففساد القلب يكون بالشبهات وبالشهوات، فإذا عَرَضَت الشُبُهَاتْ وتَمَكَّنَتْ، وسبب تمكنها نقص العلم فإنَّ القلب يفسد، وأعظم ما تعرض الشبهات في مسائل العقيدة.
لهذا ما زال الأئمة وأهل العلم والنَّصَحَة للأمة حق النصيحة لأئمة المسلمين ولعامّتِهِم مازالوا يوصون بالاهتمام بالتوحيد والعقيدة؛ لأنَّهُ أقرب ما يكون تغَيُّرْ القلب في العقيدة لأنهها تُنْسَى، وقد تبقى المُجْمَلَات لكن التفصيلات تُنْسَى، ثُمَّ تأتي ذنوب القلب شيئاً فشيئاً وتقع الشُّبْهَة وتقع المِريَة ويقع الرَّيْبْ في القلب، ثمّ يُضِرُّ الإنسان بنفسه شيئاً فشيئا.
لهذا من أعظم الأدعية التي علمنا إياها ربنا - عز وجل - الدعاء بالهداية إلى الصراط المستقيم في الصلاة: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:5] ، والهداية للصراط طلب بأنْ يُهْدَى إلى الصراط، والصراط هو الإسلام والقرآن والسنة، والإسلام والإيمان والقرآن والسنة له تفاصيل، تفاصيل مختلفة، الإسلام شيء يتعلق بالقلب وشيء يتعلّق بالجوارح والعمل، والإيمان يتعلَّقْ بالقلب، والقرآن ثَمَّ أشياء كثيرة فيه آيات التوحيد وفي الغيبيات، هذه كلها عقائد والسنة كذلك.
__________
(1) مسلم (6921)
(2) الترمذي (2140)
(3) سبق ذكره (345)(1/744)
فإذاً طلب الهداية إلى الصراط المستقيم في الحقيقة لمن أَحْسَنَ هذا الطلب وطلبه بحق وتضرّع إلى الله - عز وجل - به، رغبةً في تحقيق هذا المراد الأعظم هو عدم رضاً عن النفس؛ لأنَّ النفس لابد أن يكون فيها نقص عن تمام الهداية للصراط المستقيم، فلا دعاء الإنسان أحوج إليه من هذا الدعاء، {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} ، ولهذا كان من لطف الله - عز وجل - بعباده أن جَعَلَ هذا الدعاء هو أوَّل دعاء في القرآن وأوَّل سؤال في القرآن، وهو أوَّل سؤال واجبٍ أيضاً في الصلاة، يعني أوَّل سؤال في الصلاة واجب -دعاء الاستفتاح ليس بواجب-، هو الهداية للصراط، وهذا من أعظم الأدعية لأنَّ القلب يتقلب، والإيمان يتغيّر، والإسلام يتغير في العبد وهذا كله بحكم ضعف العلم وزيادته وضعف التطبيق وزيادته.
لهذا أحسَنَ العَلَّامة أبو جعفر الطحاوي رحمه الله حين دعا بهذا الدعاء في خاتمة هذه الرسالة والعقيدة الطيبة، فقال (نَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يُثَبِّتَنَا عَلَى الْإِيمَانِ، وَيَخْتِمَ لَنَا بِهِ، وَيَعْصِمَنَا مِنَ الْأَهْوَاءِ الْمُخْتَلِفَةِ) ، وهذا يُبَيِّنْ مقام هذا السؤال عند هؤلاء العلماء الربّانيين لأنهم يسألون الله الثبات على الإيمان الذي شَرَحَ في هذه العقيدة أركانها، وبَيَّنَهَا ومع ذلك هو أشد ما يكون حاجة إلى الثبات على الإيمان وإلى الخَتْمِ له في حياته به لشدة معرفته بأنَّ هذا الإيمان يُسْلَبْ سواءٌ أكان سَلْبَاً كاملاً أم سلب بعض كماله أو بعض التفاصيل فيه أو بعض أجزائه.
فدعا بهذا الدعاء المتضمن الثبات على الإيمان، والذي تَضَمَّنَ أيضاً العصمة من الأهواء المختلفة والآراء المتفرقة.
وهل مثل هذا العالم الذي عَلِمَ أحوال هذه الفرق الضالة من المُشَبِّهَة والمعتزلة والجهمية والجبرية والقدرية ومن نحا نحوهم والمرجئة والخوارج والرافضة وأشباه هؤلاء، هل من عَلِمَ هذا العلم الواسع يخشى على نفسه؟
نعم، من عَلِمْ خَشِيَ وهذا هو الواقع لأنَّ الشيطان حريص ولأن الإنسان ضعيف جداًّ.
فلما كان الأمر كذلك كان واجباً على العبد وجوب وسائل أن يحرص على أمرين:
1- الأمر الأول: العلم النافع بالعقيدة الصحيحة والتوحيد بدلائله من الكتاب والسنة، وأن يكون ذلك ظاهراً في قلبه لا شُبْهَةَ عنده فيه مُسْتَحْضِرَاً له، مُرَاجِعَاً له في كل حال، حتى يسلم قلبه من أن يكون فيه فجوة يدخل منها شيطان.
2- الأمر الثاني: لا بُدَّ من إستغاثته بالله وسؤاله لمولاه أن لا يُزيغَ قلبه بعد إذ هداه.
هذه مسألة عظيمة، وسؤال جليل، وإنما يَعْرِفُ شدة الخطر من علم حَقَّ الله - عز وجل - وما له من الأسماء والصفات وعلم أثر هذه الأسماء والصفات في ملكوت الله - عز وجل -، فكم تَقَلَّبْ قلب أحد وكم ضَلَّ فلان وخُذِلْ فلان، وكم ضل من إنسان وكم زاغ من قلب إلخ ...
فنسأل الله - عز وجل - بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يُثَبِّتَنَا على الإيمان وأن يختم لنا ولوالدين ولأحبابنا به، وأن يعصمنا من الأهواء المختلفة والآراء المتَفَرِّقَة والمذاهب الرَّدِيَّة إنه سبحانه جواد كريم.
والأهواء المختلفة هذه منها ما هو كفري ومنها ما هو دون ذلك.
وإمام الحنفاء ابراهيم عليه السلام دعا بتلك الدعوات الصالحة التي قال فيها {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ (35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كًثِراً مِنَ النَّاسْ} [إبراهيم: 35-36] ، فَجَعَلَ الأصنام المُضلة لكثيرٍ من الناس لما يقع في القلوب منها أو من أوليائها من الشبهة، فسأل ربه أن يُجَنِّبَهُ وأن يُجَنِّبَ بنيه عبادة الأصنام.
وهذا يدلّ على عظم خوف الخليل إبراهيم عليه السلام من هذا الزَّيْغْ وهو الكامل وهو الخليل وهو المجْتَبَى عند ربه - عز وجل -.
ولذلك تحفظون كلمة إبراهيم التيمي، من التابعين رحمه الله عند تفسير هذه الآية كما رواه ابن جرير وغيره، حين تلا هذه الآية قال (ومن يأمن البلاء بعد إبراهيم) (1) .
وهذا يدل على أنَّ الناصح حقاًّ لنفسه وللأُمَّةْ ولأئمة المسلمين وعامّتهم حقاً، من نصح حقاًّ، فإنه يوصيهم بالاهتمام بتوحيد الله - عز وجل - الذي هو حقّ الله على العبيد وبتصفية القلب من أدران العقائد الفاسدة؛ لأنَّهُ بصلاح القلب وبسلامة عقيدته يُبارِكُ الله - جل جلاله - في قليل العمل، فإنَّ في العمل القليل يُبَارَكْ ويزيد ويضاعفه الله - عز وجل - إذا سلِمَ القلب وسلمت العقيدة فإنَّ الله يبارك، أما إذا كان العمل كثيرا والعقيدة فاسدة فإن هذا ليس بشيء.
__________
(1) تفسير الطبري (7/460)(1/745)
ومن محاسن كلام أبي الدرداء الذي ذَكَرَهُ شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب في كتابه "فضل الإسلام": أنَّ أبا الدرداء رضي الله عنه كان يقول (يا حبذا نوم الأكياس وإفطارهم، كيف يَغْبِنُونَ سَهَرْ الحمقى وصومهم؟ ولمثقالُ ذَرَّةِ من بر مع تقوى ويقين) ، (بِرْ) يعني في الأعمال الظاهرة مع تقوى لله - عز وجل - وخوف ويقين في اعتقاده ويقين فيما ضَمَّهُ قلبه، قال (ولمثقال ذرة من بر مع تقوى ويقين، أعظم من أمثال الجبال عبادة من المغترين) (1) . وهذا هو الواقع ومن تَأَمَّلَ الكتاب والسنة وَجَدَ ذلك صحيحاً.
فنسأل الله العصمة من الأهواء المختلفة وأن لا يُزيغَ قلوبنا بعد إذ هداها.
وهذه الجملة إلى آخره فيها مسائل:
__________
(1) حلية الأولياء (1/211)(1/746)
[المسألة الأولى] :
عِظَمِ شأن الدعاء، وخاصَّة إذا ذُكِرَ في المذاهب الرَّدِيَّة وذُكِرَ الاعتقاد الحق فإنَّ الواجب على المسلم أن لا يَأمَنْ، بل الواجب عليه أن يخاف ويحذر ويعمل بأسباب الحَذَرْ، وأن يَتَقَرَّبْ إلى الله - عز وجل - بالدعاء العظيم لأنَّ الله - جل جلاله - يجيب من سأله ويُعْطِي من دعاه سبحانه.
فهذا الأصل يدخل تحت ما مَرَّ الكلام عليه من منفعة الدعاء وإجابة الله - عز وجل - للدعاء وقضاء الحاجات.(1/747)
[المسألة الثانية] :
ذَكَرَ هنا الثبات على الإيمان، والثبات على الإيمان نوعان:
- ثباتٌ على أصله.
- وثباتٌ على كماله.
والعبد محتاجٌ إلى هذا وهذا، وأهل العلم بالله - عز وجل - يسألون الله سبحانه ويُلِحُّونَ في السؤال أن يُثَبَّتُونَ على كمال الإيمان وأن يُغْفَرَ لهم ما فيهم من نقص.
فقوله هنا (أَنْ يُثَبِّتَنَا عَلَى الْإِيمَانِ) يعني على كماله، وكمال الاعتقاد وكمال العمل.(1/748)
[المسألة الثالثة] :
قوله هنا (وَيَخْتِمَ لَنَا بِهِ) ،ِ الخاتمة من أعظم وسائل النجاة إذا أَحْسَنَهَا الله - عز وجل -.
فمن حَسُنَتْ خاتمته فهو إلى الجنة إن شاء الله ومن ساءت خاتمته فهو على خطر.
ولهذا جاء في الحديث الصحيح «أنَّ العبد يعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخل النار، وإن العبد ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخل الجنة» (1) ، فالخاتمة هي المقصود، أن يُختَم للعبد بما يحب الله - عز وجل - ويرضاه.
وإذا كان الأمر كذلك، فإن حُسْنَ الخاتمة منوطٌ بمعرفتها، يعني إحسان العبد خاتمته منوطٌ بمعرفتها، أن يعرف متى تنتهي حياته حتى يستعد.
وإذا كان ذلك محالاً أن يعلم متى سيموت ومتى سينتهي فإنَّ الواجب حينئذ أن يَحْذَرَ صباح مساء وليلاً ونهاراً، أن من سوء الخاتمة.
هذا هو عمل الأكياس وعمل الصالحين جعلنا الله - عز وجل - منهم وغَفَرَ لنا ذنوبنا، أنهم يستعدون للخاتمة.
الاستعداد للخاتمة من وسائل النجاة، وهما استعدادان:
- استعدادٌ في صلاح القلب.
- واستعدادٌ في صلاح العمل.
والاستعداد في صلاح القلب هو بالعلم النافع الذي يُورِثْ في القلب العلم بالله - عز وجل - ومعرفته وأسمائه وصفاته وبيقين في ذلك.
ثم العمل الصالح، يعني يمتثل الأمر ويجتنب ما نَهَى الله عنه، أونهى عنه رسوله صلى الله عليه وسلم وأن يستغفر من الذنوب والخطايا.
__________
(1) سبق ذكره (223)(1/749)
[المسألة الرابعة] :
عَبَّرَ هنا بالعِصْمَة في قوله (وَيَعْصِمَنَا مِنَ الأهْوَاءِ المُخْتَلِفَةِ) والعِصْمَة كلمة لم يكن لها استعمال شائع عند السلف ولم تَأتِ بهذا المعنى في الكتاب ولا في السنة.
لهذا العِصْمَة في الحقيقة تحتاج إلى تفصيل لأنها بهذا المعنى -يعني العِصْمَة من الذنوب، العِصْمَة من البدع-، فيها حق وفيها باطل.
وسبب ذلك أنَّ العِصْمَة معناها أن يُعْصَمَ من الذنب، والذنْبُ قد يكون في العقيدة فيكون بدعَةً، وقد يكون في العبادة تقصيراً أو زيادةً فيكون ما بين الإثم في البِدَعْ أو في ترك الواجبات.
ولهذا وجب أن تُفسَّر العِصْمَة في هذا الموضع وفي كُلُّ موضعٍ استعملها فيه أهل العلم، أن تُفَسَّرْ بالمعنى الصحيح لأنها مجملة ولا أحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم يُنَزَّهْ عن جنس الذنب، وقد يكون الذنب ذنب قلب، وقد يكون الذنب ذنب عمل جوارح.
والعِصْمَة تُوهَب كما قال هنا (نسأل الله العِصْمَة) لأنَّ العِصْمَة يَهَبُهَا الله - عز وجل -.
وإذا كانت معناها عدم الوُقوع في الذنوب المُخِلَّة، فهي إنّما وَهَبَهَا الله - عز وجل - لرسوله صلى الله عليه وسلم، أمّا الأُمَّة فلم تُوهَبْ هذا النوع وهو أنه يُعْصَمُ مُطْلَقَاً من كل ذنب: ذنب اعتقاد ذنب قول أو ذنب عمل.
وإذا كانت توهب فالعِصْمَة ليست لله - عز وجل -، أو يقال (الله معصومٌ عن كذا) ، أو كما قال بعضهم (العِصْمَة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم) .
فالعِصْمَة لله مُلْكَاً، هو الذي يملكها لكنه لا يوصَفُ بها، يملكها مُلْكْ كما يَمْلِكُ سائر ما في الملكوت من أعيانٍ وغيرها، فهو الذي يُعْطِي العصمة ويهبها لمن شاء من أنبيائه.
فإذا كان كذلك تَلَخَّصَ الأمر بأنَّ العِصْمَة الكاملة هي للنبي صلى الله عليه وسلم، وأما من عداه من الأمة فلم يُعطَ العِصْمَة الكاملة، ولا بد أن يقع في الذنب يصيبه.
والذنوب كما ذكرنا قسمان:
- ذنوب اعتقاد.
- وذنوب عمل.
@ وذنوب الاعتقاد ليست موجودةً في الصحابة رضوان الله عليهم، ولهذا يَصِحْ أن تقول: عَصَمَ الله الصحابةَ من الخَلَلْ في العقيدة. عَصَمَ الله السلفَ من مجانبة الحق في الاعتقاد.
وهذا هو الواقع لأنهم أجمعوا على مسائل التوحيد والعقيدة، والأمة لا تجتمع على ضلالة.
@ أما العمل فلم يُعْصَمُوا -يعني الذنوب لم يعصموا لهم ذنوب-، والنبي صلى الله عليه وسلم عَلَّمَ أبا بكر أن يدعو بقوله (اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي) (1) .
حتى صغائر الذّنوب ربما حَصَلَتْ من النبي صلى الله عليه وسلم مما لا يقدح في الرسالة، ولهذا قال الله - عز وجل - {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح:1-2] .
فإذاً مقصده هنا من الدعاء هذا (أن يَعْصِمَنَا مِنَ الْأَهْوَاءِ الْمُخْتَلِفَةِ، وَالْآرَاءِ الْمُتَفَرِّقَةِ، وَالْمَذَاهِبِ الرَّدِيَّةِ) يعني أن يَسْلُكَ الله - عز وجل - به سبيل السلف لأنهم عُصِمُوا من أن يَسْلُكُوا الأهْوَاءِ المُخْتَلِفَةِ، والآرَاءِ المُتَفَرِّقَةِ، أو المَذَاهِبِ الرَّدِيَّةِ.
فمعنى سؤال العِصْمَة هنا أن يلزم طريقة السلف الصالح من الصحابة والتابعين الذين لم تظهر فيهم هذه الأهواء والآراء والمذاهب الردية.
__________
(1) سبق ذكره (369)(1/750)
[المسألة الخامسة] :
مَثَّلَ بعد ذلك بأمثلةٍ للأهواء والآراء والمذاهب فقال (مِثْلَ الْمُشَبِّهَةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَالْجَهْمِيَّةِ، الخ)
هذه الفئات يُطْلَقُ عليها أهواء، ويُطْلَقُ عليها فِرَقْ، ويُطْلَقُ عليها أراء، ويُطْلَقُ عليها مذاهب.
فيصح أن تقول المعتزلة من الأهواء كما يستعملها السلف أو يعني أئمة السنة في القرون الأولى، وقد يقولون (الجهمية مذهبٌ رَدِي) ، أو (إياك وهذه الأهواء) (1) ،، وهو جَمَعَهَا لاستعمال الأئمة في وقته وما قبله لها.
فإذاً المعتزلة أهواء، والجهمية أهواء وآراء ومذاهب.
إذا تَبَيَّنَ ذلك فنفصل الكلام في معنى هذه الفِرَقْ:
1- الفرقة الأولى الْمُشَبِّهَةِ:
ظهرت فرق شَبَّهَتْ الله - عز وجل - في الصفات بخلقه سواءٌ أكانت صفات الذات أو صفات الأفعال، ويُحْكَى هذا عن طائفة كالجَوَارِبِيِّ ونحوه ويقال لهم المُجَسِّمَة كما عند مقاتل بن سليمان ونحوه.
والمقصود بها تشبيه الله - عز وجل - بخلقه، ويريدون بالتشبيه التمثيل، فيقولون: وجه الله كوجه الإنسان، كوجه ابن آدم، ويده كيده، وعيناه كعيني ابن آدم، وأصابعه كأصابعه الخ. ويقولون: إنَّ هذا مقتضى النص، مقتضى النص المشابهة، مقتضى النص المماثلة.
وهؤلاء يقال لهم أيضاً المُجَسِّمَة، وقد ذكرت لكم فيما سبق أنَّ كلمة (التشبيه) فيها بحث، وأنَّ الذي جاء في النصوص هو التمثيل، فهم مُجَسِّمَة مُمَثِّلَة مُشَبِّهَة، تصح هذه الاستعمالات جميعها.
وثَمَّ قسم ثاني من التشبيه لا يدخل في هذه الفئة أو الطائفة أو المذهب، وهو تشبيه المخلوق بالخالق، وأن يُجعَلْ للإنسان صفات مثل صفات الله - عز وجل -.
مثل عيسى عليه السلام جَعَلُوهُ إلهًا وجعلوا له صفات، تُخْتَصُّ به كصفات الله، ومثل الذين عبدوا الأولياء والموتى، جعلوا لهم التَّصَرُّفْ في الربوبية، وجعلوا لبعضهم ربع العالم، ولبعضهم سبع العالم، ولبعضهم جزءًا من أربعين جزءًا من العالم، حتى إنَّ بعضهم أَلَّفْ في أَنَّ في بلدة كذا أربعين من الأولياء الصّالحين هم الذين بيدهم تصريف أمورها من الأموات، وثَمَّ رسائل كثيرة في ذِكْرِ هذا الأمر.
وهؤلاء الذين شَبَّهُوا المخلوق بالخالق في التصرف في الربوبية، -يعني في الملك- جعلوه بتفويض الله له نعم، لكنهم جعلوا التَّصَرُّفَ له.
وهم على أربع فئات:
- منهم من جَعَلَهُ لواحد وهو المُسَمَّى عندهم الغوث الأكبر أو القطب الأعظم أو نحو ذلك.
- ومنهم من جَعَلَ التصرف في الأرض بهذا الملكوت لأربعة من الأولياء، ويختلفون في تحديد الأربعة.
- ومنهم من جعله لسبعة.
- ومنهم من جعله لأربعين.
والصوفية الغلاة الذين يَدَّعُونَ هذه الادعاءات الباطلة التي خالفوا بها طريقة السلف أصلاً وفرعاً وسلوكاً، واتَّبَعُوا أهل الضلال والكفر، ألَّفُوا كُتُبَاً كثيرة في هذا الباب في تَصَرُّفِ هؤلاء في الملكوت أو في أرزاق أهل الأرض أو في أحوالها.
والكلام حول الفِرَقْ يطول تأخذونه من المطولات.
2- الفئة الثانية المعتزلة:
والمعتزلة هم أتباع عمر بن عبيد وواصل بن عطاء اللذيْن كانا من تلامذة الحسن البصري كما هو معلوم، ولما دَخَلُوا في البحث في مسائل الإيمان يعني الأسماء والأحكام، الإيمان والحكم على مرتكب الكبيرة والكلام على الصحابة الذين تقاتلوا، خالف عمرو بن عبيد الحسن، كذلك واصل ابن عطاء فاعْتَزَلَا حلقة الحسن البصري، فسُئِل الحسن البصري عنهم فقال هؤلاء المعتزلة، فبقي الاسم عليهم، فكثر أتْبَاعُهُمَا حتى تَقَعَّدَ مذهبهم وسُمِّيَ بمذهب المعتزلة.
فبنوا ذلك بعد الانعزال وتفصيل المذهب والنقاشات وما حَصَلَ من تطوّر فيه، بنوه على أصولٍ خمسة عندهم، وهي المسماة بالأصول الخمسة عند المعتزلة وهي:
- التوحيد.
- والعدل.
- والوعد والوعيد.
- والمنزلة بين المنزلتين.
- والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وأُلِّفَتْ فيها المؤلفات لتقعيدها في القرن الثاني الهجري.
وهذه الأصول الخمسة جعلوها أُصُولَاً عقلية، دَلَّ عليها العقل، وأما الدليل النقلي أو السمع، فهو تابعٌ لها، ولهذا جعلوا دليلهم في الغيبيات ودليلهم في الأصول الخمسة، جعلوه دليلاً واحداً وهو العقل، هوالحجة والنقل مُفَصِّلٌ له أو تابِعْ أو شاهد كما يزعمون.
فهذه الأصول الخمسة تَمَّ تفاصيل لهم فيها تأخذونها من مواطنها.
والمعتزلة فئات وفِرَقْ مُخْتَلِفَة، فيه معتزلة البصرة وهم الأوائل، وثَمَّ معتزلة بغداد وهؤلاء هم الذين قَعَّدُوا مذهب الاعتزال وأَلَّفُوا فيه وأجابوا عن الشُبَهِ عليه.
وهناك من أَلَّفَ في طبقات المعتزلة وفِرَقْ المعتزلة.
والمعتزلة قد يتفقون في المسألة وقد لا يتفقون، ولذلك تجد في بعض المسائل يقال مذهب المعتزلة كذا، لكن إذا بحثت وجد فيه اختلاف، فمن أثبت يكون مصيباً ومن نفى يكون مصيباً باعتبار من نقل عنه، وباعتبار مدارس المعتزلة وفرق أهل الاعتزال.
__________
(1) نهاية الوجه الأول من الشريط الثاني والخمسون(1/751)
فليسوا فرقة واحدة لكن في تفسير الأصول الخمسة وفي أصولها، أصول التوحيد عندهم، أصول العدل، المنزلة بين المنزلتين، الوعد والوعيد، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، في الأصول يتفقون، لكن في التفاصيل يختلفون.
3- الفرقة الثالثة: الجهمية:
والجهمية يُنْسَبُونَ إلى جهم بن صفوان الترمذي وكان عالماً فقيهاً، يُنْسَبُ إلى الحنفية في الفقه، ولكنه لشدة اعتنائه بالرأي كان يُناظِرُ ويُكْثِر من المناظرة حتى ناظر طائفة من دُهْرِيَّةِ الهند، الدُّهْرِيَّةْ بضم الدال يُنْسَبُونَ إلى القول بالدهر {وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [الجاثية:28] ، يُنْسَبُ إلى الدَّهْرِ، دُهري بضم الدال على غير [اعتياد] كما قاله المرتضى في كتاب تاج العروس وقاله غيره.
المقصود ناظره قوم من الدُّهْرِيَّةْ يقال لهم السُّنَّمية في الصفات لأنهم لا يؤمنون بوجود الله أصلاً ويريد أن يقنعهم بوجود الله، فجرى منه معهم مناظرة ذكرتها لكم في مكانٍ آخر، فآل به الأمر، نتيجة المناظرة وتوابعها وما حصل -وقد ذكر أصل القصة البخاري في خلق أفعال العباد-، نتج عن ذلك أنَّهُ نفى الصّفات وعطَّلَ الرب - عز وجل - من صفاته وآمن بالوجود المطلق.
فالجهمية في مسائل العقيدة يذهبون في الصفات إلى النَّفْيِ، فينفون عن الله - عز وجل - كلّ الصفات، ويجعلون الصفة الواحدة الموجودة هي صفة الوجود المطلق، ويقولون بِشَرْطِ الإطلاق.
وفي الأسماء يثبتون الأسماء كدِلالات على الذات -أسماء أعلام- ويفسِّرُونَهَا بمخلوقاتٍ منفصلة، فيجعلون الكريم هو الذات التي حصل عنها إكرام فلان -يعني يفسرونها بالكرم الذي خلقه الله-، القوي بالقوة التي خلقها الله، العزيز بالعزّة التي خلقها الله يعني في الإنسان، في المخلوق يعني من حيث هو، ويجعلون تفسير الأسماء في القرآن وفي السنة يفسرونها بمخلوقات منفصلة؛ لأنه لا دِلَالَةَ للأسماء على صفة، لأنهم ينفون الصفات، وإنما يجعلونها دالة على علم لا تفسير لها من حيث العلمية لكن تفسيرها من حيث الصّفة بأنها مخلوقات منفصلة.
لهذا قال بعض أهل العلم ينفون الأسماء والصفات، الجهمية ينفون الأسماء والصفات، وهذا صحيح باعتبار الحقيقة.
وطائفة يقولون لا، لا ينكرون الأسماء باعتبار أنهم يثبتون شيئاً من الأسماء على طريقتهم لأنَّ عندهم الأسماء دلالات على ذات بدون صفة في الاسم، وإنما هو مثل ما تقول مثلاً (ماء سلسبيل) أو تقول في السيف حسام ومهند وسيف إلخ للدلالة على شيء واحد بدون صفة، أما صفة أنه يحكم فلا، أما صفة أنه صُنِعَ في الهند فلا، أما صفة أنه كذا فلا.
فهم يجعلونها من جهة الدلالة على الذات واحدة ومن جهة الدلالة على الصفات أنها لا تدل على صفة.
ولهذا في الآيات يفسرون الأسماء في الآيات بالمخلوقات المنفصلة، يعني أثر الصفة في المخلوق ويجعلونه مخلوقاً.
أما في الإيمان فالجهمية مرجئة، وهم أشد فِرَقْ الإرجاء لأنهم قالوا يكفي في الإيمان المعرفة فقط.
ففرعون عندهم مؤمن وإبليس عندهم مؤمن.
ولم يكفر فرعون عندهم بعدم الإيمان وإنما بمخالفة الأمر، وإبليس لم يكفر بعدم الإيمان؛ بل بمخالفة الأمر، وهكذا، وهذا القول مشهور عنهم في أنه يَثْبُتُ الإيمان بالمعرفة.
وفي القدر هم جبرية يرون أنَّ الإنسان في أفعاله هو كالريشة في مهب الريح لا اختيار له البتة، هو مُجْبَرٌ على كل شيء، وأنه يُفْعَلُ به ولا يَفْعَلُ شيئاً.
وفي الغيبيات يُنْكِرُونَ كل ما لا يوافق العقل من أمور الغيب.
وفي الآخرة يُنْكِرُونَ دوام الجنة والنار.
يقولون الجنة لا تدوم والنار لا تدوم لأنَّ دوام الجنة والنار ظلم، فتفنى الجنة وتفنى النار معاً.
بخلاف المعتزلة فإنهم يقولون بفناء النار والجنة كدار نعيم وعذاب، لكن التَّلَذُّذُ والألم يبقى، فيستمر التلذذ ويستمر الألم ولا تستمر الدار.
فيه أقوالٌ مختلفة نسأل الله - عز وجل - السلامة منها ومما جَرَّ إليها.
المقصود فيه مباحث ترجعون إليها في مواطنها.
4- الفرقة الرابعة: الجبرية:
والجبرية مذهبٌ منسوبٌ إلى القول بالجبر.
والجبر هو أنَّ الله أجبر الإنسان المكلف على أفعاله.
والجبرية قسمان:
- جبرية غلاة.
- وجبرية متوسطة أو غير غلاة.
@ أما الجبرية الغلاة فهم الجهمية وغلاة الصوفية الذين ينفون أصل الاختيار، ويقولون أنَّ الإنسان كالريشة في مهب الريح.
@ وأما الجبرية غير غلاة فهم الذين يُثبتون الجبر باطناً والاختيار ظاهراً، يقولون:
هو مجبورٌ في الباطن ومختارٌ في الظاهر، هؤلاء الأشاعرة ومن نحا نحوهم.
وقد مَرَّ مَعَنَا البحث في هذه المسألة وأنهم اخترعوا لفظ الكسب وجعلوه مَخْرَجَاً للعلاقة ما بين جبر الباطن واختيار الظاهر مما ابتدعوه وأحدثوه.
وذكرت لكم أنَّ الكسب على ثلاثة إطلاقات:
فيه كسب عند أهل السنة وكسب عند الجبرية وكسب عند القدرية ترجعون له في مكانه.
5- الفرقة الخامسة: القدرية:(1/752)
القدرية يُنْسَبُونَ إلى القَدَرْ لا لإثباته ولكن لنفيه، وهي نِسْبَةٌ إلى من لا يُثبت.
نَسَبُوهُمْ إلى القَدَرْ لأنهم لا يُثبتونه.
والذين ينفون القَدَرْ أقسام متنوعة يجمعهم أنّهم ينفون مرتبةً من مراتب القَدَرْ.
وأشهر المسائل التي نُفِيَ فيها القَدَرْ مسألتان:
- المسألة الأولى: العلم السابق وقد نفته طائفة.
- المسألة الثانية: عموم خلق الله - عز وجل - في الأشياء ومشيئته الشاملة لكل شيء فقد نفته طائفة.
@ أما الذين نفوا العلم فهم القدرية الغلاة الذين خرجوا في زمن الصحابة رضوان الله عليهم وردَّ عليهم الصحابة وتبرؤوا منهم، وأخبروا بأنهم ليس لهم في الإيمان ولا في الإسلام نصيب.
وهم الذين قال فيهم الإمام الشافعي رحمه الله (ناظروا القدرية بالعلم فإن أقروا به خُصِموا وإن أنكروه كفروا) ؛ لأنهم ينكرون علم الله السابق ويقولون إن الأمر أُنُفْ يعني مُستَأنَفْ، لا يعلم الله الأشياء عندهم إلا بعد وقوعها، لا يعلم الأشياء قبل أن تقع. أعاذنا الله منهم.
@ أما القدرية الذين نفوا مرتبة عموم المشيئة وعموم خلق الله للأفعال فهؤلاء طائفة كبيرة، أصَّلَ مذهبهم أهل الاعتزال: المعتزلة، حتى صار عند الكثير أنَّ المراد بالقدرية النفاة: المعتزلة.
وفي الحقيقة القدرية لفظٌ يصح إطلاقه على كل من لم يؤمن بالقدر على ما جاء في الكتاب والسنة بِنَفْيٍ لشيء منه.
ولهذا يدخل في القدرية من اعترض على القَدَرْ، أو على أفعال الله - عز وجل - أو على الحكمة وقد قال فيه ابن تيمية في تائيته القدرية:
وَيُدْعَى خُصُومُ الله يَوْمَ مَعَادِهِم ****** إِلى النَّارِ طُرّاً مَعْشَرَ الْقَدَرِيَةِ
يعني يا معشر القدرية هَلُمُّوا إلى النار جميعاً،
سواء نفوه أو سعوا ليخاصموا ****** به الله أو ماروا به للشريعة
فجعل نفي شيء من القَدَرْ يَدْخُلُ صاحبه في القَدَرِيَّة، وجعل أيضاً المخاصمة والمجادلة كحال المشركين، القدرية الذين قالوا {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آَبَاؤُنَا} [الأنعام:148] ، هؤلاء يدخلون في القدرية لأنهم نفوا حكمة الله - عز وجل - التي هي أساسٌ في القول بالقَدَرِ كما جاء في القرآن وسنة النبي العدنان صلى الله عليه وسلم.
ثَمَّ بحوث أخرى أيضاً تُأخذ من كتبهم.
قال (وَغَيْرِهم) لأنَّ الفِرَقْ كثيرة والمذاهب الرَّدِيَّةْ والأهواء والآراء مختلفة.
وليشمل أيضاً ما ظهر في زمانه وما قبله وما سيظهر أيضاً في الأزمنة الأخرى.
فممن لم يذكرهم: الخوارج والشيعة الغلاة والمرجئة الغلاة قد يدخلون مع هؤلاء في شيءٍ من الأقوال.
ويدخل أيضاً العقلانيون في ذلك الزمان وما بعده، ويدخل غلاة المتصوفة، ويدخل الذين ابتدعوا طرقاً بين هذا وهذا.
لهذا أوصلهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى اثنتين وسبعين فرقة.(1/753)
[المسألة السادسة] :
في قول الطحاوي (مِنَ الَّذِينَ خَالَفُوا السُّنَّةَ والجَمَاعَةِ وَحَالَفُوا الضَّلالَةَ) ، قال (خَالَفُوا السُّنَّةَ والجَمَاعَةِ) ، هذا مما يُؤكد لك أنَّ قصده بالثبات على الإيمان والعصمة من الأهواء هي موافقة الجماعة، وهي الجماعة الأولى جماعة الصحابة، وجماعة التابعين الذين لم يُفَرِّقُوا بين ما أنزل الله - عز وجل - على رسوله؛ بل آمنوا به جميعاً، وحملوا المتشابه على المحكم ولم يبتدعوا ديناً لم يأذن به الله - عز وجل -.
فمخالفة السنة والجماعة:
- قد تكون مخالفةً كبيرةً جداً توصِلُ صاحبها إلى الكفر والعياذ بالله كحال الجهمية ومن نحا نحوهم، والمشبهة المجسمة.
- وقد تكون المخالفة أقل من ذلك فتوصِلُ صاحبها إلى ما دون الكفر.
- وقد تكون بِدَعَاً مُغَلَّظَة وقد تكون بِدَعَاً خفيفة.
فكل مخالفة للسنة والجماعة على النحو الذي أوضحنا في معنى السنة والجماعة في مكان سابق، هذا مذهبٌ ردي ولا شك؛ لكن صاحبه يكون ذنبه بقدر ما خالف.
فمن خالف السنة والجماعة فإنه لا بد أن يكون حليفاً للضلالة، ولهذا قال بعدها (وَحَالَفُوا الضَّلالَةَ) .
فلا يمكن للإنسان أن يكون مخالفاً للجماعة وعلى مذهبٍ رديٍ في الاعتقاد ولا يقال إنه ضال.
الله - عز وجل - وصف المرأة إذا أخطأت أو لم تدرك تمام الحقيقة في الشهادة بأنها تَضِلْ، فقال: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} [البقرة:282] ، لأنها لم تصل إلى الحق والصواب الواقع، فكيف بحال بهؤلاء فلا شك أنهم ضُلاَّلْ.
وأرى أنَّ بعض الناس يستنكف في ذكر بعض مسائل العقائد والتوحيد أن يصف المخالف للسنة والجماعة بأنه ضال؛ بل هو ضال لأنه ضلّ الطريق، وقد يكون ضلاله كبيراً جداً وقد يكون قليلاً لكنه ضلّ السبيل لأنه خالف السنة والجماعة وحالف الضلالة كما ذكر المؤلف رحمه الله.(1/754)
[المسألة السابعة] :
أعلن المصنف رحمه الله براءته منهم فقال (وَهُمْ عِنْدَنَا ضُلاَّلٌ وأَرْدِيَاءُ) ، (ونَحْنُ مِنْهُم بَرَآءٌ أو بَرَاء) ، وهذا هو الواجب على المسلم أن يتبرأ جُمْلَةً وتفصيلا، أن يتبرأ من القول ومن المذاهب الردية ومن أصحابها.
لأنَّ هذا عقيدة، لأنَّ ذلك اهتداء بهدي إبراهيم الخليل عليه السلام إذ قال الله - عز وجل - في شأنه: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ} ، يعني من المرسلين.
{إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ} ، يعني لأقوامهم.
{إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الممتحنة:4] ، فأعلن البراءة منهم ومما عَبَدُوا، يعني من العبادة ومن العابدين، أي من العبادة ومن الذين عُبِدُوا ومن العابدين.
وهذا هو الواجب أنَّ المرء يتبرّأ ولا يقول أتبرأ من العمل دون صاحب العمل، فإنَّ هذا لا أصل له؛ بل نتبرّأ من العمل ومن صاحبه الذي عَمِلَ بالبدع والضلالات أو بالشركيات، فلا مكان للتفريق ما بين العمل وبين صاحب العمل.
إذا كان كذلك، فهل البراءة من العمل ومن صاحبه هل هي في حكمٍ واحد؟
الجواب أنها ليست في حكمٍ واحد، البراءة من العمل -العمل الكفري الشرك في نفسه- واجبٌ، فمن لم يتبرّأ فإنه لم يُوَحِّد.
فهو داخلٌ في معنى الشهادتين -يعني إذا دخلنا في الشرك-.
الولاء والبراء في نفس العمل هذا داخلٌ في حقيقة التوحيد، ولاءٌ للتوحيد وبراءٌ من الشرك، ولاءٌ للتوحيد كفعل وعقيدة وبراءٌ من الشرك كفعل وعقيدة.
أما موالاة أهل التوحيد والبراءة من أهل الشرك فهي واجبٌ لكن ليس تركها كفراً إلا بشروطٍ وتفاصيل.
ولهذا يذكر العلماء في التوحيد وفي غيره أنَّ البراءة متلازمة.
البراءة ملازمة لمعنى التّوحيد، لمعنى الشهادة لله - عز وجل - بالوحدانية.
فهكذا البراءة من أهل البدع ملازمة للسنة، فكما أنَّ البراءة من الشرك ملازمة لكلمة التوحيد.
ليست ملازمة، يعني هي من معنى كلمة التوحيد، فكذلك البراءة من البدع ملازمة للسنة.
فلا يُتصوَّرْ من جهة الحق أن يكون موالياً للسنة وهو ليس مُتَبَرِئاً من أهل البدع إلا إذا كان لم يفهم السنة أو أنَّ عنده هوى تفريق.
فمن والى السنة فلا بد عليه أنه يتبرأ من البدعة، ومن والى أهل السنة فلا بد أن يتبرأ من أهل البدعة.
لكن إذا حصل هذا التَّبَرُؤُ عقيدةً فهل يلزم منه أن يُظْهَر في كل حال؟
لا، إظهاره بحسب المصلحة الشرعية.
قد يُظْهَرْ ويكون إعلان للبراءة ظاهراً في التبرؤ من الأشخاص.
وقد يُؤَخّر بحسب ظهور السنة وخفائها وما يُنْظَرْ في ذلك من المصالح.(1/755)
[المسألة الثامنة] :
قال في آخرها (وَبِالله العِصْمَةُ وَالتَّوْفِيقُ) ، وذكرنا لكم ما في العِصْمَة من البحث سابقاً وأنَّ الله - عز وجل - لم يعطِ العِصْمَة لأحد بعد الأنبياء، الأنبياء هم المعصومون وأما سائر البشر فهم على خطر في قلوبهم وفي أعمالهم.
(وَبِالله َالتَّوْفِيقُ) التوفيق هو الهداية إلى طريق الرشاد والإعانة على سلوك هذا الطريق جملةً وتفصيلاً.
رحم الله أبا جعفرٍ الطحاوي رحمةً واسعة وجزاه خيرا، فكم انتفع بكتابه هذا وبعقيدته الناس.
ونسأل الله - عز وجل - أن يغفر لنا وله زلَلَنَا وخَطَأَنَا وجدنا وهزلنا.
اللهم إنا نعوذ بك أن نُشرك بك شيئاً نعلمه، ونستغفرك مما لا نعلم، ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا واغفر لنا ذنوبنا وتوفنا وأنت راضٍ عنا.
اللهم هيئ لنا من أمرنا رشدا واجعلنا سالكين لسبيل السلف الصالحين، ومستمسكين بطريق السنة والجماعة. ربنا هب لنا من لدنك رحمة وهيئ لنا علماً نافعاً وعملاً صالحاً، وأعنا على ذلك ووفقنا إليه.
وكم استفدنا من هذا الكتاب من فوائد، ولا شك أنَّ طالب العلم لا يستغني عن مطالعة المختصرات ومعرفة شروحها مهما ظن أنَّ المسائل واضحة عنده، فَثَمَّ مسائل في هذا الكتاب كما ترون ما مررنا عليها لا في الواسطية ولا في لمعة الاعتقاد، ثَمَّ مسائل جديدة فيه لم تكن في غيره، فطالب العلم بتكراره لقراءة كتب العلم ولشرحها استماعاً أو أداءً فإنه ما بين معلومة يُؤَكِدُهَا ويثبتها، وما بين شيء جديد يستفيده.
وفي الختام أرجوا وآمل لي ولكم أن نصبر على طريق العلم لأنه في الحقيقة من أراد نجاة نفسه فإنه لا نجاة إلا بالعلم والعمل الصالح، وأنَّ أعظم ما تكون به النجاة العلم بالتوحيد وبالعقيدة الصحيحة، لأنَّ هذا فيه قساءُ القلب وسلامته من الأهواء والشبهات المضلة.
فأنا أوصي نفسي وإياكم بالتأكيد على ذلك ومطالعة هذه الكتب ونشر العلم بحسب ما تستطيعون، يعني المرء ينشره بحسب ما يستطيع في بيته مع زملائه، بل في أي مقام، ينشره بحسب ما يستطيع، والناس محتاجون إلى طلبة العلم أعظم حاجة.
والحمد لله أن هيَّأ لكم من العلم النافع ومن سُبُلِ تحصيله وجود العلماء وسهولة الكتب ووفرة الأمن والصحة وعدم الشواغل التي تشغل الإنسان في أموره العامة، يعني في الأمن وما يُشْغِلْ القلوب والعقول ما يهيئ لنا أن نطلب العلم وأن نبذل فيه، فلا ندري ربما يأتي في وقت قد لا يتمكن الإنسان من أن يطلبه على هذا الوجه، أو أن يتعلم على هذا الوجه.
لهذا احرصوا واغتنموا فراغكم قبل شغلكم، وتفقهوا قبل أن تسوّدوا.
وصلى الله وسلّم وبارك على نبينا محمد.(1/756)
الأسئلة:
س1/ لو أنَّ طالب العلم المستجد قرأ في هذه العقيدة وشرع فيها قبل الشروع في طلب العلم أجملت الاعتقاد العام؟
ج/ لا بأس، الواحد يحْضُر ما استطاع ويُكمل، يُكمل فيما فات.
س2/ هل من صفات الله تعالى الجَنْبْ لقوله تعالى {عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} [الزمر:56] ؟، وهل من صفات الله التردد لحديث «ما ترددت في شيء أنا فاعله» ؟
ج/ هذه مما اختلف فيها من أهل السنة، هل يُطْلَقُ القول بإثباتها أم لا؟
والواجب هو الإيمان بظاهر الكلام، وهل الظاهر هنا في إطلاق صفة الجنب هل هو الظاهر الصفة؟ أم الظاهر غير ذلك؟
الراجح أنَّ الظاهر غير ذلك وأنه ليس المقصود من قوله: {عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} أنَّ المقصود الجنب الذي هو الجنب، لأنَّ العرب تستعمل هذه الكلمة وتريد بها الجَنَاب لا الجَنْبْ يعني الجهة، إنما تقصد الجناب المعنوي. {عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} يعني في حق الله، في ما يستحق الله - عز وجل -.
فمن أهل العلم من أثبتها لكن ليس ذلك هو ظاهر الكلام.
أما صفة التردد فهي تُثْبَتُ لله - عز وجل - على ما جاء، لكن تَرَدُّدُهُ بحق، وتردده ليس تَعَارُضَاً بين علمٍ وجهل أو بين علمٍ بالعاقبة وعدم علمٍ بالعاقبة، وإنما هو تردُّدٌ فيما فيه مصلحة العبد، هل يقبض نفس العبد أم لا يقبض نفسه، وهذا تردّدٌ فيه رحمة بالعبد، وفيه إحسان إليه ومحبة لعبده المؤمن وليس من جهة التردد المذموم الذي هو عدم الحكمة أو عدم العلم بالعواقب.
يعني تردد فلان في كذا، صفة مذمومة أنه يتردّد، إذا كان تردده أنه ما يعلم، أتردد والله أفعل كذا أو أروح ولا ما أروح، لأنه إما عنده ضعف في نفسه أو أنه يجهل العاقبة، فتردد أتزوج ولا ما أتزوج، أشتري أم لا أشتري لأنه ما يدري هل فيه مصلحة له، أم ليس فيه مصلحة، هذا هو التردد الذي هو صفة نقص في من اتصف بها، ترددٌ ناتجٌ عن عدم العلم بالعاقبة، أما التردد الذي ورد في هذا الحديث هو تردد بين إرادتين لأجل محبة العبد «ما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي في قبض نفس عبدٍ مؤمن يكره الموت وأكره مساءته ولابد له من ذلك» ، وهو تردد لا لأجل عدم العلم ولكن لأجل إكرام العبد المؤمن ومحبة الرب - جل جلاله - لعبده المؤمن.
فهو إذاً ترددٌ بحق وصفة كمال لا صفة نقص فيُثبَتُ على ما جاء في هذا الحديث مُقَيَّدَة لا مطلقة.
س3/ يوجد من أعلام أهل السنة قديماً وحديثاً من خالف عقيدة أهل السنة وطريقة السلف في بعض الأقوال وليس كلها فما موقفنا منها؟
ج/ ذكرت أنا عدة مرات الجواب يعني على مثل هذا، وهو أنَّ مخالفة من خالف على قسمين:
1- القسم الأول: مخالفة في الأصول، الأصول العامة ما هي؟
مثلاً الأصل في الغيبيات الإثبات،
الأصل في صفات الله - عز وجل - الإثبات وعدم تجاوز القرآن والحديث،
الأصل في الإيمان هو أنه قول وعمل، وقول اللسان واعتقاد الجنان وعمل الجوارح والأركان وأنه يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية.
في مسائل القدر، إثبات القدر على المراتب التي جاءت وأن الله - عز وجل - خلق كل شيء بقدر وأنه خالق الأفعال إلخ.
هذه الأصول العامة التي يتفق عليها، هذه الأصول التي من خالفها فهو ليس من أهل السنة، الذي خالف في أصل من الأصول ليس من أهل السنة والجماعة على التمام.
2- القسم الثاني: أن يتفق معهم في الأصول لكن يخالف في بعض التفصيلات، يعني يؤمن بأنَّ الصفات لا نتجاوز القرآن والحديث لكن يظهر له فيه صفة أنها غير مثبتة، أنها منفية، فهذه ننظر في الصفة هل السلف متفقون عليها، أو هل الأئمة نصوا عليها واتفقوا وهذا خالف، أم أنه هو خالف ولم ينص عليها أحد من قبله، تختلف.
يعني مثلاً من قال في مسألة الخلو من العرش هذه معروفة في النزول:
هنا هذه المسألة من قال يخلو من العرش قول، لكنه هو موافق على أنَّ الله - عز وجل - مستوٍ على العرش، كما يليق بجلاله وعظمته ومثبت لنزول الله - عز وجل -، لكن جاء بقول لم يُسبق إليه وهذا يكون مما لا يَنْفِيهِ من أهل السنة ولكن يُغَلَّطْ في هذه الجهة.
مثل نفي ابن خزيمة، صورة الرب - جل جلاله -، يعني أنها على صورة، صورة آدم أنها على صورة الرحمان، نفي إثبات الصورة، وتفسير الصورة بشيء آخر.
مثل ابن قتيبة لما نفى النزول، يعني حقيقة النزول وفسره بنزول الأمر، أو نزول الرحمة أو، هذه أغلاط لكنهم موافقون في الأصل، فانتبه إلى هذا، كذلك في الإيمان بالقدر، فمن وافق في الأصول فهو من أهل السنة فإذا غلط في التطبيق فيكون مخطئ فيه.
الصفات، أن لا تُؤَوَّلْ الصفات، إذا قال: لا شك الصفات لله - عز وجل - تُثْبَتْ على ظاهرها بلا تأويل، ويُطبِّقْ هذه في كل الصفات، جاء في صفة أوَّلْ.
مثل ما فَعَلَ الشوكاني في بعض المسائل، تجد أنه يُثبت ويجيء في صفة أو صفتين يتأول، لماذا تأولها؟(1/757)
لأنه لا يعرف حقيقةً كلام السلف فيها، أشكلت عليه، ظنَّ أن تأويلها هو الموافق لقول السلف، نَظَرْ في بعض الكتب وجد كلام بعض أهل التفسير ظنه أنه موافق لأهل السلف ولقول أهل السلف وهكذا.
المقصود من هذا أنَّ موافقة الأصول بها يكون المرء من أهل السنة، إذا أخطأ في مسألة أو في مسألتين في التطبيق لا ينفي أن يكون من أهل السنة فيقال أخطأ في هذا ولا حرج، يعني لا إخراج له من ذلك، أخطأ ويُناصح ويُبَيَن له أو يُبَيَن ما في كلامه من خطأ. (1)
: [[الشريط الثالث والخمسون]] :
س4/ يقول في قوله تعالى {قَالَ لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ} [هود:43] ، قال هل هي هنا باعتبار الإضافة أم هي غير ما يُراد فيما نحن بصدده، يعني يقصد بحث العصمة اللي مرّ معنا؟ ?
ج/هذه العصمة مقيدة، يعني العصمة من الغرق، وهي ظاهرة، لا عاصم من الغرق هذا اليوم إلا من رحمه الله - عز وجل -، فهي غير داخلة في العصمة العامة.
س5/ أهل المذاهب الردية كالمعتزلة والأشاعرة والجبرية والقدريّة أين يوجدون في هذا الزمان؟
ج/ في كلّ مكان يوجدون، المعتزلة والأشاعرة والجبرية والقدريّة، يوجدون في كل مكان، في كل مكان، وأيضاً كتبهم في كل مكان، ربما يَدُسُّون، يعني الواحد مثلا يقرأ كتاب أو تعليق ويجد أنه أدخلوا فيه بعض هذه الكلمات.
س6/ ما حال من يقول إنَّ العلماء لا يفهمون الاقتصاد وبالتالي لا يستطيعون إيجاد واستنباط الأحكام فيه؟
ج/ العلماء لا يُشترطُ فيهم أن يفهموا كل ما يجري في العالم من أمورٍ حادثة حالة وجودها أو حصولها.
يعني جاءت مسألة في العالم اقتصادية، تَفْتَرِضْ أَنَّ العالم يفهمها مباشرة؟
أصلاً حتى بعض المتخصصين لا يفهم الشيء في حقيقته بسرعة.
يعني مثلاً الآن عندك مسألة البطاقات هذه: بطاقات الخصم أو بطاقات الائتمان أو أنواع البطاقات هذه الموجودة، هذه حقيقتها يجيء واحد يقول مفهومة، هو طبعاً يفهم استعمالُهُ هو لها، لكن هل يفهم حقيقة ما يجري في هذه الشركات؟
قد ما يفهم، الشركات هذه كيف تتكوّن وكيف تخصم وفعلاً ما الذي يحصل؟، وهل ما يحصل في كل بلد ما يحصل في كل بلد ما أو يحصل في كل بلد، وفعل الشركات العظمى، يعني مثلاً إذا أخذت فيزا في شركة، هي تصدر عدد أنواع من القروض إلخ، هل هي تخصم من البنك أو تخصم من البائع؟، وكيف تسدّد وهل تُجْلِسْ الأموال عندها فترة أو ما تُجْلِسْ، وصفة المشتري، هل صفته حين اشترى هل الشركة ضامنة أو هي حوالة؟؛ يعني هنا الآن تكييف المسألة، أحياناً تجيء الصورة تكون واضحة في صورة معيّنة، لكن تكييف المسألة فقهياً يُشْكِلْ، تكييف المسألة فقهياً.
طبعاً العلماء يتباينون في مثل التكييف لكن شرح الصورة تُفْهَمْ الصورة.
الآن النقد مثلاً، النقد، وتغطية النقد، وكيف يُغَطَّى النقد وكيف تصدر العملات، كيف يكون؟
هذا لا شك أنه يختلف.
يعني مثلاً بلد اقترضت فيها، لنفرض مثلاً -مع اعتذاري للإخوة السودانيين-، لنفرض السودان اقترضت من واحد عشرة آلاف دينار سوداني قبل عشر سنين، وجاء الآن بيردها، إذا يردها الآن عشرة آلاف سوداني كيف تمثل؟
لا تمثل، لا تمثل قيمة عشرة آلاف دينار سوداني اللي كانت قبل عشر سنين، ممكن ما تمثّل 10% منها، الآن هل يرد العدد أو يرد ما يساوي القوة الشرائية له؟ فيُطْلَبْ أنه يُعَادَلْ هذا بهذه.
هذه مسائل لها تعلق بفهم حقيقة الأمر، كيف يمشي، فيه من يقول لا يرد العدد هذا قرض، والقرض إحسان والعشرة آلاف هي العشرة آلاف.
طيب لما أنا سلَّفتَهُ العشرة آلاف قبل عشر سنين، كان راتبه هو، كان راتبه خسمائة دينار والآن راتبه هو عشرين ألف دينار، كيف يعني يكون؟ يتضاعف راتبه أربعين ضعف؟
ما يكون، الآن الدينار السوداني بكم يا أخ صلاح؟ كم الدينار السوداني؟
(مجيب من الحاضرين) قبل عشر سنوات كان يساوي 3 دولارات) ، يعني حوالي إحدى عشر ريال (والآن الدولار بمائتين) مئتين، يعني كم يطلع؟ ميتين؟ الدولار بمائتين، يعني أنا بعد مثالي كان متساهل، إذاً المسألة تحتاج إلى يعني معرفة بحركات كثيرة وأشياء.
الأسهم الآن العالمية وما يدخل فيه والبورصة و، يعني فيه قضايا كثيرة لا يُشترط في العالم أن يفهمها فوراً، ويعطيك تفاصيلها فورا وإلا ما يكون عالم، ليس صحيحا، أيضاً فهمها على الدقة مشكل.
والعالم لا تشترط فيه أنه متجرئ أنه دائماً يُبَيِّنْ، أحياناً يتورّع حفظاً لدينه، مو ملزم، هذا أمر الله، مو ملزم بأنه يبين للناس ما لم يصل فيه إلى اجتهادٍ واضح.
إذا قال أنا والله ما وصلت فيه إلى اجتهاد واضح، هل يلزمه أن يبين ما لم يصل فيه إلى حق عنده؟
ما يلزمه، هو يكون فهم المسألة لكن أنا والله ما أتحمل ذمة الناس، تأتيه أشياء ديانية، يعني من جهة التدين تمنعه، فالأصل طبعاً في هذا هو حسن الظن بالعلماء وأنهم يفهمون، لكن يفهمون ما يُعرَض عليهم لكن يعترض الأمور أشياء قد تسبب التأخير.
س7/ متى يكون الرياء شركاً أكبر؟
ج/يكون إذا كان كرياء المنافقين يُبطن الكُفر ويُظهر الإسلام.
س8/ ما حكم قول المسلم للكافر كلمة "سيد" أو "السيد"؟
ج/ كلمة "سيد" لا يجوز أن تُطلق على كافر ولا على منافق لأنه لا سيادة لهما؛ لكن طبعاً هذه لأن دلالتها بالعربية سيادة، لكن أحياناً تكون بالإنجليزية مثلاً أو بلغة أخرى تُتَرجم بالعربية على أنها "سيد" لكن ليست ترجمتها صحيحة، يعني مثلاً كلمة "ميستر"، "ميستر" تُتَرجم سيد، وهو في الواقع ليس معناها، يعني السيادة معناها التصرف والملك الخ، لكن كلمة "ميستر" بالإنجليزي لا تعني السيادة والتصرف ونحو ذلك، هي أقرب إليها كلمة "لورد" يعني اللي هو الربوبية أو السيادة، أما كلمة "ميستر" يعني مثل ما تقول إيش؟ نعم؟ يعني المحترم أو وجيه أو، يعني كلمة تقدير. لكن تُرجمت في بعض البلاد المجاورة على أنها كلمة مجاملة، ويضعون بدلها كلمة سيد لأنها مستعملة عندهم، فإذاً إطلاقها باللغة العربية سيد، لا يصلح لكن لو قيل مثلاً "ميستر" فلان هذه لا تدخل في معنى السيادة في اللغة العربية.
نكتفي بهذا القدر ونلتقي نحن وإياكم على خيرٍ وهدى، تقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
********************************************
هذا ختام الشرح المبارك النافع للعقيدة الطحاوية
للشيخ العلامة صالح بن عبد العزيز بن محمد بن ابراهيم آل الشيخ -حفظه الله-.
وقد انتهى منه يوم السبت بعد العشاء الموافق 20/11/1420هـ.
جزا الله الشيخ ومن قام بتسجيل هذا الشرح ومن قام بتفريغه، ومن قام بتنسيقه عن الموحدين خير الجزاء.
__________
(1) نهاية الشريط الثاني والخمسون(1/758)