سبحان من أظهر ناسوته ... سر سنا لاهوته الثاقب
ثم بدأ في خلقه ظاهراً ... في صورة الآكل والشارب
حتى لقد عاينه خلقه ... كلحظة الحاجب بالحاجب
وصوفية وحدة الوجود هم القائلون بأن الموجودات كلها تمثل الباري عز وجل، وفى أولهم ابن عربي وهو من المؤسسين لمذهب وحدة الوجود، يقول في تقرير ذلك في كتابه الفتوحات المكية:
العبد رب والرب عبد ... يا ليت شعري من المكلف
إن قلت عبد فذاك رب ... أو قلت رب فأنّى يكلف
وقد قسم شيخ الإسلام الصوفية إلى ثلاثة أقسام هم:
1- صوفية الحقائق ... 2- صوفية الأرزاق ... 3-صوفية الرسم
وقال عن القسم الأول: "فأما صوفية الحقائق فهم الذين وصفناهم".
ولعله يقصد بذلك ما قدم من ذكر خلاف الناس في الحكم على الصوفية والتصوف حيث قال: "ولأجل ما وقع في كثير منهم من الاجتهاد والتنازع فيه، تنازع الناس في طريقهم، فطائفة ذمت الصوفية والتصوف وقالوا: إنهم مبتدعون خارجون عن السنة ... "، قال: وطائفة غلت فيهم وادعوا أنهم أفضل الخلق وأكملهم بعد الأنبياء ". ثم قال في بيان حكمه عليهم بعد ذكر هذا الخلاف: "وكلا طرفي قصد الأمور ذميم، والصواب أنهم مجتهدون في طاعة الله تعالى كما اجتهد غيرهم(3/892)
من أهل طاعة الله.." إلى آخر ما ذكره عنهم.
ولعل هذا الحكم منه إنما ينطبق على التصوف في بدء أمره حينما كان بمعنى الزهد والاجتهاد في العبادة.
ثم قال عن القسم الثاني منهم:
"وأما صوفية الأرزاق فهم الذين وقفت عليهم الوقوف كالخوانك، فلا يشترط في هؤلاء أن يكونوا من أهل الحقائق فإن هذا عزيز، وأكبر أهل الحقائق لا يتصدون بلوازم الخوانك ولكن يشترط فيهم ثلاثة شروط" ثم ذكرها , وهي: وجود العدالة الشرعية فيهم , والتأدب بآداب الشرع , وألا يكون متمسكاً بفضول الدنيا.
ثم قال عن القسم الثالث منهم:
"وأما صوفية الرسم فهمهم المقتصرون على النسبة، فهمُّم في اللباس والآداب الوصفية ونحو ذلك" (1) ، أي أنهم يتشبهون بالصوفية في الظاهر ويعرفون أقوالهم، ولكنهم خارجون عن طريقهم همهم جمع الأموال والاحتيال على الجهال بأمرهم.
وهذا التقسيم واضح جلي، إلا أنه ليس فيه توضيح وبيان لمدى ما وصلت إليه العقيدة الصوفية فيما بعد، ومدى تأثرها بالينابيع والمصادر الخارجة عن الإسلام.
لقد أصبح من الصعب جداً تمييز طوائف التصوف أو الحكم عليهم بحكم واحد شامل لجميع فرقهم وعقائدهم المتشعبة؛ إذ لا يمكن معرفة كل قسم من
_________
(1) الصوفية والفقراء ص33.(3/893)
أقسام التصوف قائما بنفسه متميزاً عن غيره إلا من خلال "الطرق" الكثيرة، والتي هي تعبير عن التزام مجموعة من الأتباع أو المريدين بشيخ يجعلونه قدوتهم، وينفذون ما يوجبه عليهم من أذكار وسلوك، وقد تتفق طريقته مع بعض الطرق وقد تختلف عنها، والطرق الصوفية لم تقف عند حد أو مفهوم، فهي دائماً في ازدياد وتجدد؛ إذ كل من ابتدع طريقاً، وجد له أتباعاً يتسمون باسمه أو باسم طريقته.
وقد ذكر الشيخ أبو علي حسن بن علي العجمي الحنفي طرق الصوفية، فعد منها أربعين طريقاً في رسالة له، وقد لخصها الشيخ أبو سالم العياشي في رحلته، وقد أوصلها غيرهم إلى أكثر من ذلك.
"والحق أن الطرق الصوفية كثيرة جداً بحيث يصعب حصرها؛ إذ كل من عنّ له أن يبتدع طريقا فعل، وسماها باسمه واسم قبيلته أو عشيرته، وهذا مشاهد بكثرة في أفريقيا؛ إذ بين فترة وأخرى تخرج طريقة جديدة تحمل اسماً جديداً ولها أوضاع معينة وأوراد مقررة" (1) .
وذكر الدكتور صابر طعيمة ما مجموعة 66 طريقة وقال:
"وأما الطرق الصوفية الحديثة فمن العسير تسجيل أسماء معظمها في كتاب، ويكفى أنه في النصف الثاني من القرن الرابع عشر الهجري قد بلغ عدد الطرق الصوفية في بلد واحد أكثر من مائة طريق" (2) .
_________
(1) انظر: التجانية ص28، وقد ذكر من طرق الصوفية أربعاً وثلاثين طريقة.
(2) الصوفية معتقداً ومسلكاً ص41-43.(3/894)
ثم أخذ بعد منها 52 طريقة نقلاً عن المنوفي في كتابه جمهرة الأولياء، الذي ذكر فيه قسماً كبيراً من طرقهم تحت عنوان "هذا بيان بشيوخ الطرق الصوفية في عصرنا" (1) .
وكل الطرق الصوفية ناتجة عن الهوى ونابعة منه ومبنية على الرغبة في الزعامة والعلو في الأرض واستعباد الناس، وصار زعماء الصوفية في مجموعهم يحرصون حرصاً شديداً على هذه الزعامة الروحية، ووصل بهم الحرص عليها أن جعلوها وراثية وكأنها جزء من المال الذي يخلفه الميت على حد ما أورده محمود أبو الفيض المنوفي الحسيني، فإنه قال بعد سرده الطويل لطرق الصوفية وأسماء مشائخها قال بعدها:
"وكل هذه الطرق تنسب كل واحدة لولي من الأولياء رضي الله عنهم، وقد يرثها حفيد أو سبط لولي من أولئك الأولياء فيكرمه الله سبحانه وتعالى بكرامة آبائه وأجداده الصالحين، فإن سار على دربهم أكرمه الله مثل ما أكرمهم، وإن فرط أو قصر أكرمه الله لأجلهم" (2) .
وهذا جهل شنيع وكذب من أشد أنواع الكذب، فإن هذه المحاباه التي افترضوها على الله تعالى إنما هي من جنس الهوس والأماني الباطلة والقرآن مملوء بالرد على مثل هذه الافتراءات، والسنة كذلك ترد مثل هذه الأفكار الجاهلية، فالقرآن يصرح بأن {كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِيِنٌ} (3) ، وأن كل نفس {لَهَا ما كَسَبَتْ وعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} (4) . وأن صلاح الآباء - إن كانوا
_________
(1) أنظر: جمهرة الأولياء 1/275 - 277، صدر ذكر تلك الطرق بقوله: "وهذا بيان بشيوخ الطرق الصوفية في عصرنا".
(2) جمهرة الأولياء وأعلام أهل التصوف 2/277.
(3) سورة الطور: 21.
(4) سورة البقرة:286(3/895)
صالحين بحق - لا يغني عن الأبناء إن لم يكونوا كذلك.
وقد صرح الرسول صلى الله عليه وسلم لقرابته أنه لا يملك لهم من الله شيئاً، وأن عليهم ألا يتكلوا على الأنساب، بل عليهم أن يحذروا الله عز وجل وأن يتقربوا إليه بالأعمال الصالحة؛ إذ لو كانت الأنساب تغني لما هلك والد إبراهيم وابن نوح على نبينا وعليهما الصلاة والسلام، وهذا رد صريح على ما يزعمه الصوفيون من التقرب إلى الله بولاية القطب الفلاني أو الغوث الفلاني، وأن الله يفيض حتى على العصاة منهم إكراماً لآبائهم، وإن الذي جرأهم على هذا هو قلة خوفهم من الله تعالى، واستحلالهم الكذب في سبيل مدح أوليائهم بالحق وبالباطل.
وقد قال عبد الرحمن عبد الخالق في بيان تاريخ نشأة الطرق الصوفية ونظامها الوراثى: "وقد قيل: إن أول صوفى وضع نظام الصوفية هو الصوفي الإيراني محمد أحمد المهيمي المتوفي سنة 430هـ، والمعروف باسم أبى سعيد، فقد أقام في بلدته نظاماً للدراويش، وأقام بناءً للصوفية بجوار منزله، وسن نظام تسلسل الطرق عن طريق الوراثة، وبين كثيراً من أمور التربية الصوفية؛ بل هو من أوائل من كتب في طريقه التربية الصوفية، وهو أكبر من عبد الكريم القشيري صاحب الرسالة القشيرية" (1) .
ومن طرق الصوفية الكثيرة:
الطريقة التجانية:
وسندرسها بالتفصيل كمثال للطرق الصوفية التي تعتم واجهة الإسلام
_________
(1) الفكر الصوفي في ضوء الكتاب والسنة ص349.(3/896)
المشرقة لدى كثير من جهلاء المسلمين الذين جرفهم تيار التجانية وأذلتهم واستعبدتهم وأوصلتهم إلى مآس يندى لها الجبين.
ولقد وقفت بنفسى على بعض ما يتعبد به التجانيون من طاعة مشائخهم، وإحياء خرافاتهم التي ما أنزل الله بها من سلطان وشدة تعصبهم لها، ونفورهم عن كل من يريد أن يسدي لهم النصيحة خروجاً عن كتمان الحق.
وهذه الطريقة التي لها الأمر والنهى في أقطار كثيرة من بلاد أفريقيا بخصوصها، وهى نسبة إلى شخص يسمى أحمد بن محمد بن مختار التجاني. ولد سنة 1150هـ، بقر ية عين ماضى، وينسب إلى بلدة تسمى "بني تجين" من قرى البربر، ولم يترك فضلاً مزعوماً ادعاه شيخ صوفي لنفسه إلا وادعاه هو لنفسه وزاد عليه (1) ، ولقد ادعى أموراً كثيرة يطول الحديث لو بسطت، وإنما نشير إليها إجمالاً فيما يأتي:
1- ادعى أنه خاتم الأولياء جميعاً وهى دعوى كاذبة مبنية على فهم خاطئ وقياس باطل، فزعم أن الولاية لها ختم كختم النبوة ومحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء، والتيجاني خاتم الأولياء فلا ولي بعده.
2- أنه الغوث الأكبر في حياته وبعد مماته وقد جعل نفسه بهذه الدعوى وثناً يعبد من دون الله.
3- أن أرواح الأولياء منذ آدم إلى وقت ظهوره، لا يأتيها الفتح والعلم الرباني إلا بواسطته هو، وهذا نهاية الحمق والقول على الله بغير علم،
_________
(1) انظر الفكر الصوفي ص 351.(3/897)
والاستهانة بعقول الناس وخداعهم.
4- زعم متطاولاً أن قدمه على رقبة كل ولي لله تعالى منذ أن خلق آدم إلى النفخ في الصور، وربما يجازى بهذا الكبر أن يحشر في صورة الذرة كما هو جزاء المتكبرين.
5- أنه هو أول من يدخل الجنة هو وأصحابه وأتباعهم، وصدق عليهم قول الله: {تِلْكَ أمَانِيِّهُمْ} (1) .
6- أن الله شفعة في جميع الناس الذين يعيشون في قرنه الذي عاش فيه.
7- أن الرسول صلى الله عليه وسلم أعطاه ذكراً يسمى "صلاة الفاتح" يفضل كل ذكر قرئ في الأرض ستين ألف مرة بما في ذلك القرآن الكريم، والذكر المزعوم هنا - صلاة الفاتح - ذكر مبتدع سيئ التركيب ركيك العبارة، وهو لا يعدو ثلاثة أسطر وهو:
"اللهم صل على سيدنا محمد الفاتح لما أغلق، والخاتم لما سبق، ناصر الحق بالحق، الهادي إلى صراطك المستقيم، وعلى آله، حق قدره ومقداره العظيم".
هذا هو الذكر الهائل عنده الذي ألهمه الله حسب زعمه، أو علّمَه، به النبي صلى الله عليه وسلم يقظة لا مناماً ثم فضله على كل ذكر.
ولقد رأيت أتباعه وهم يجلسون في يوم الجمعة - من بعد صلاة العصر إلى المغرب - وهم يرددون هذا الكلام بصوت جماعي ومرتفع جداً يسمع من مكان بعيد، ثم ينصرفون وهم لا يشكون في أنهم من أعظم الخلق عبادةً وأجراً عند الله، واستبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير.
فما الجديد في هذا الذكر؟، وما معنى تلك الكلمات الجوفاء وذلك
_________
(1) سورة البقرة:111.(3/898)
التركيب المفكك؟. الواقع أنه ليس فيها ما يستحق ذلك الأجر العظيم الذي لا يعده الحاسبون، حسب ما قدروه لصلاة الفاتح، ومع ذلك فهو يزعم أنه تلقاه عن الله وعن رسوله محمد صلى الله عليه وسلم. والقرآن الكريم مملوء بالأدعية الشرعية النافعة الفاضلة، وكتب الحديث مملوءة بالأذكار النبوية الصحيحة التي يؤجر صاحبها على قولها، وتجاب دعوته إذا اشتملت على أنواع التوحيد، بأحسن الألفاظ وأشمل المعاني ممن أوتى جوامع الكلم الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى.
ثم لم يقف التجاني عند هذا الحد في غلوه في تقدير نفسه وفى تقدير ما جاء به من خرافات وأذكار في صلاة الفاتح المزعومة أنها من الله تعالى، وأن لها ذلك الفضل الذي لا يصفه الواصفون وفى غيرها من الأذكار الأخرى، بل زعم أيضاً أن أتباعه لا تكتب عليهم سيئات ما عملوا، بل يدخلون الجنة مهما عصوا وبغير حساب ولا عقاب، ولو عملوا من الذنوب ما عملوا، بضمانة رسول الله صلى الله عليه وسلم له كما زعم لنفسه.
وهذا الهوس هو من جنس هوس اليهود، الذين زعموا أن الله لا يعذبهم إلا أياماً معدودة إن عذبهم؛ لأنهم شعب الله المختار، كما يعتقدون ويتشدقون بالتمدح بذلك في التلمود وقي غيره من كتبهم المقدسة عندهم.
ثم يدعي التجانيون كرامات لم يقل بها حتى أفضل الرسل محمد صلى الله عليه وسلم، ومنها: أن من رأى التجاني يومي الاثنين والجمعة، فإنه يكون من أهل الجنة إكراماً للتجاني، حتى وإن كان الرائي كافراً؛ لأنه لا يتمكن من رؤية التجاني في هذين اليومين إلا من سبقت له السعادة في علم الله تعالى، كما قرره علي حرازم والفوتى.
وهذه الدعوى لهذا الضال من غرائب الأمور، ولو كانت له ولأتباعه أفهام(3/899)
لعلموا أن الرسول صلى الله عليه وسلم وهو أفضل البشر لم يقل ذلك وأنه كان يراه المؤمن والكافر في كل أيامه ويبقى المؤمن مؤمناً والكافر كافراً إلى أن يؤمن، ولم يقل صلى الله عليه وسلم بما قاله التجاني المذكور.
ومن خرافات التجاني زعمه أنه يرى الرسول صلى الله عليه وسلم في كل وقت يشاء، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم يجالسهم ويحضر سمرهم ولهوهم، ويلقي عليهم أذكارهم وأدعيتهم الشركية والخرافية حسب ما يفترون.
ولقد صرف التجانيون الناس عن الهدى والطريق الصحيح، وملئوا أذهانهم بشركيات وخرافات لا تمت إلى الدين الإسلامي بأي علاقة، وجنوا على عقائد المسلمين بما ألقوه في قلوبهم من الرجوع إلى الوثنية والخرافات الجاهلية والتعلق بغير الله تعالى، وصرف أنظارهم عن واقعهم المتردي من حيث لا يشعر هؤلاء الأتباع.
ولقد انتشرت هذه الطريقة الضالة في شمال ووسط وغرب أفريقيا، وضمت تحت لوائها ملايين كثيرة من أبناء المسلمين، الذين أصبحوا لاهم لأحدهم إلا أن يأخذ بطريقة شيخه، ليضمن دخول الجنة بغض النظر عن العمل وصحبته.
ثم جاء من بني على هذا الواقع الفاسد وزعم أنه صاحب الفيض التجاني الذي بشر به التجاني، وأن أتباعه هو الآخر يدخلون الجنة جميعاً بغير حساب ولا عقاب، ولو كانوا على أي ملة قبل ذلك، ومن هؤلاء الذين ادعوا هذا الفيض المزعوم الحاج إبراهيم السنغالي، والذى كان له شأن عظيم وحركة قوية، وبسط دعوته تلك في أصقاع واسعة من القارة الأفريقية.
وإلى جانب الطريقة التجانية طرق كثيرة - كما ذكرنا من قبل - يحتاج بيانها إلى عدة صفحات، وهى في جملتها لا تخرج عن هوس وتخبطات التجانية.
وقد استحسنت هنا ذكر بعض الأمثلة من كتب الصوفية التجانية، تمثل(3/900)
أنواعاً من الآراء والمفاهيم التي يحرصون عليها، دون مبالاة بما فيها من الغلو والانحراف.
وقد وقع اختياري على قراءة وتمحيص ما في جواهر المعاني تأليف علي حرازم، ورماح حزب الرحيم تأليف الفوتي، وكتيب الهداية الربانية في فقه الطريقة التجانية؛ حيث أضع العنوان المناسب ثم أنقل تحته ما يدل عليه من كلام علماء التجانية.
وأوضح ما يميز الانحراف في كتب التجانية، هو الغلو الفاحش في أئمة الصوفية والتجاني وغيره، ومدحهم بما لا يليق إلا بالله العظيم، من علمهم المغيبات وأنواع العلوم والمعارف التي لا يدركها إلا الله عز وجل، وبالتالي ذكر مدائح لهم، وهي في الحقيقة ذم ما بعده ذم، تدل دلالة صريحة على بعد أولئك ومجونهم واستهتارهم بعقول الناس.
قال علي حرازم في كتابه جواهر المعاني عن السيد أحمد بن محمد بالفتح جد أحمد التيجاني:
" وقد حكي عنه رضي الله عنه أنه كان له بيت في داره لم يدخله أحد غيره، وكان إذا خرج من داره للمسجد يتبرقع ولا يرى أحد وجهه ولا يكشف عن وجهه ألا إذا دخل المسجد، ثم إذا رجع إلى داره عاد إلى ستر وجهه حتى يدخل لخلوته، وقد سألت الشيخ رضي الله عنه عن سبب ستر وجهه عن الناس فأجاب رضي الله عنه قال: لعله بلغ مرتبة في الولاية، فإن من بلغها يصير كل من رأى وجهه لا يقدر على مفارقته طرفة عين، وإن فارقة أو احتجب عنه مات لحينه" (1) .
_________
(1) 1/26.(3/901)
نسب التجاني:
ويقول عن نسب التجاني حين سأل الرسول صلى الله عليه وسلم يقظة لا مناماً كما يزعم دائماً: " ولم يكتف بما هو مذكور من الآباء والأجداد والرسوم وإخبار الأعيان والآحاد، حتى سأل سيد الوجود وعلم الشهود صلى الله عليه وسلم في كل نفس مشهود، عن نسبه، وهل هو من الأبناء والأولاد ومن الآل والأحفاد، فأجابه صلى الله عليه وسلم بقوله: أنت ولدي حقاً أنت ولدي حقا أنت ولدي حقا، كررها صلى الله عليه وسلم ثلاثاً، وقال له صلى الله عليه وسلم: نسبك إلى الحسن بن علي صحيح" (1) .
التجاني يرى الأنبياء كلهم:
أورد علي حرازم عدة روايات تثبت رؤية التجاني للرسول محمداً صلى الله عليه وسلم وسؤاله عن أحكام كثيرة في الفقه وعن الجمع بين بعض الأحاديث التي ظاهرها التعارض، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يجيبه عن كل سؤال بغاية التلطف، ثم التقى بموسى وسأله كذلك عن بعض الأسئلة وأجابه عنها ثم قال علي حرازم: " فانظر رحمك الله أحوال هذا الشيخ مع صفوة الله من خلقة" (2) .
المشابهة بين التجاني حال سكره وبين النبي صلى الله عليه وسلم حال تلقيه الوحي:
يقول علي حرازم: " لا يزال تظهر عليه الغيبة في حال ظهور صحوه فضلاً عن حال ظهور سكره.. وكذلك يظهر عليه رضي الله عنه من آثار جذبه وقوة حاله أمور أخرى، كعظم جثته، وامتلاء بدنه، وتهلل وجهه، وثقل الأمر عليه حتى لا يستطيع حركة" (3) . ونتذكر هنا ما كان يقع للنبي صلى الله عليه وسلم عند نزول
_________
(1) 1/26.
(2) ص 47.
(3) ص50.(3/902)
الوحي وتلقي الأمر الإلهي.
التجاني يعلم الغيب لكل أمر مهما كانت دقته ويعلم ما في قلوب أصحابه:
يقول في هذا: "ومن كماله رضي الله عنه نفوذ بصيرته الربانية ... من إظهار مضمرات وإخبار بمغيبات وعلم بعواقب الحاجات ... فيعرف أحوال قلوب الأصحاب ... ويعرف ما هم عليه ظاهراً وباطناً وما زاد وما نقص" (1) .
الاسم الأعظم وموقف التجاني منه:
قال علي حرازم: "قال سيدنا رضي الله عنه: أعطيت اسم الله العظيم الأعظم صيغاً عديدة، وعلمنى كيفية أستخرج بها ما أحببت من تراكيبه"، ثم أعطاه أيضاً الاسم الخاص بعلي رضي الله عنه فقال: "قال لي سيد الوجود صلى الله عليه وسلم: وهذا الاسم الخاص بسيدنا علي، لا يعطى إلا لمن سبق عند الله في الأزل أنه يصير قطباً"
وفى هذا الكلام الذي لا عقل له أمور:
1- ما هو الاسم الخاص بعلي غير علي بن أبى طالب؟
2- كيف يقول الرسول صلى الله عليه وسلم لعلي " سيدنا علي" كما هو ظاهر النص؟
وأما بالنسبة لثواب الاسم الذي أعطيه التجاني، فأقله ما يذكره علي حرازم بقوله: "قال الشيخ رضي الله عنه، حاكياً ما أخبره به سيد الوجود صلى الله عليه وسلم:
_________
(1) ص 54.(3/903)
فإنه يحصل لتاليه في كل مرة سبعون ألف مقام في الجنة، في كل مقام سبعون ألفاً من كل شيء في الجنة ... وله في كل مقام سبعون حوراً، وسبعون نهراً من العسل، وكلما خرج من فمه هبطت عليه أربعة من الملائكة المقربين، فكتبوه من فيه ... وله في كل مرة ثواب جميع ما ذكر به الله على ألسنة جميع خلقه في سائر عالمه، وله في كل مرة ثواب ما سبح به ربنا على لسان كل مخلوق، من أول خلق العالم إلى آخره، وله ثواب صلاة الفاتح لما أغلق (1) بتمامها، ستة آلاف مرة لكل مرة منه، وله ثواب سورة الفاتحة، وله ثواب من قرأ القرآن كله، أعنى بكل مرة أجر ختمة.
وله في كل مرة من تلاوته ثواب كل دعاء وقع في الوجود، وكل ما تلاه التالي تلته معه جميع ملائكة عوالم الله بأسرها، وكل ملك يتلوه بجميع ألسنته، فإن من الملائكة من له سبعون لساناً ومنهم من له ستون لساناً" (2) ، وخوفاً أن يمل القارىء فسأقف هنا، وإلا فإن النص قد استغرق ست صفحات في جواهر المعاني، كلها في مضاعفة الأجر لمن تلا دعاء التجاني، الذي علمه به الرسول صلى الله عليه وسلم في إحدى مقابلته له يقظة لا مناماً.
أوراد التجاني:
أورد علي حرازم في كتابه جواهر المعاني أوراداً عديدة- لا يتسع المقام لذكرها- عن شيخه التجاني، بأسلوب ركيك ومعان متنافرة هابطة مملة.
رؤية التجاني:
من رأى التجاني فهو في الجنة. قال علي حرازم: "قال رضي الله عنه:
_________
(1) وسيأتي أن صلاة الفاتح لها من الأجر ما لا يتصوره عقل.
(2) ص 72.(3/904)
أخبرني سيد الوجود صلى الله عليه وسلم يقظة لا مناماً؛ قال لي: أنت من الآمنين، وكل من رآك من الآمنين إن مات على الإيمان، وكل من أحسن إليك بخدمة أو غيرها وكل من أطعمك يدخلون الجنة بلا حساب ولا عقاب" (1) .
ثواب صلاة الفاتح:
ليس من السهل كتابة كل ما ذكره التجاني لفضل صلاة الفاتح؛ وذلك لكثرة ما أورده التجانيون، غير أننا سنكتفى بمثال واحد من تلك الترهات المفتراه، قال التجاني عن نفسه: "ثم أمرني صلى الله عليه وسلم للرجوع إلى صلاة الفاتح لما أغلق فلما أمرني بالرجوع إليها سألته صلى الله عليه وسلم عن فضلها فأخبرني أولاً بأن المرة الواحدة منها تعدل من القرآن ست مرات، ثم أخبرني ثانياً أن المرة الواحدة منها تعدل كل تسبيح وقع في الكون، ومن كل ذكر من كل دعاء كبيراً أو صغيراً، ومن القرآن ستة آلاف مرة.." إلى أن يقول:
"قال صلى الله عليه وسلم ما معناه: إن صلاة الفاتح لما أغلق بستمائة ألف صلاة، وكل صلاة من الستمائة ألف صلاة بأربعمائة عزوة، ثم قال بعده صلى الله عليه وسلم: إن من صلى بها أي بالفاتح لما أغلق.. إلخ مرة واحدة حصل له ثواب ما إذا صلى بكل صلاة وقعت في العالم، من كل جن وإنس وملك ستمائة ألف صلاة، من أول العالم إلى وقت تلفظ الذاكر بها، أي كأنه صلى بكل صلاة ستمائة ألف صلاة من جميع المصلين عموماً ملكاً وجناً وإنساً، وكل صلاة من ذلك بأربعمائة غزوة، وكل صلاة من ذلك بزوجة من الحور وعشر حسنات ومحو عشر سيئات ورفع عشر درجات، وأن الله يصلي عليه وملائكته بكل صلاة علي عشر مرات" (2) .
_________
(1) ص 109.
(2) ص 114-115.(3/905)
وقد أضاف محمد السيد التجاني إلى تلك الخيالات في فضل صلاة الفاتح خيالات أخرى قال فيها: "وصلاة الفاتح التي هي من الله كتبت بحروف مستقيمة بكل لسان تفهمه من لسان العربية، فوق رأسه، وهي تاجه وعزه وملكه، وبها فضل على سائر خلق الله، وبها تثبتت خلافته في الدنيا والآخرة، وبها ظهرت الحقيقة المحمدية كل الظهور، وبها ثبتت الحقيقة المحمدية في محراب القدس.
وبها أعز الله دينه وبها ظهرت مقامات الدين كلها، وبها فضلت هذه الأمة وصارت وسطاً، وبها قوام الأرواح والأشباح، وبها ظهرت التكاليف، وبها برزت الجنة ونعيمها، وبها ساد سيدنا محمد غيره ممن دونه من الأنبياء والمرسلين، وبها تعرف جبريل وإسرافيل وميكائيل وعزرائيل عليهم السلام.
وبها نظام الكائنات، وفيها روح الموجودات وحياتها، وبها شرفت الأنبياء والملائكة، وبها ظهرت محاسن الأخلاق المحمدية، وهي التي شرف الله بها النبي صلى الله عليه وسلم، وشرفها بالنبي صلى الله عليه وسلم وهي مرتبته وحقيقته صلى الله عليه وسلم.
وهي أول الصلوات التي ظهرت من قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو من قلوب العارفين، فإن الله جل جلاله هو الذي صلى عليه؛ أي تجلى فيه بكمال ذاته مراتبه وأسمائه وصفاته، وذلك التجلي هو عين تشريفه وإعزازه وتفضيله على سائر الخلائق؛ لأنه لم يتجل في أحد بكمال ذاته إلا فيه صلى الله عليه وسلم.." (1) إلى آخر هذه العجائب والغرائب التي لا مستند لها إلا الخيال والأماني الفارغة، وإلا فهل يوجد في الشريعة الإسلامية دليل واحد على تلك الخزعبلات والتهويلات؟!
_________
(1) الهداية الربانية في فقه الطريقة التجانية ص23.(3/906)
خاصية صلاة الفاتح:
قال الشعراني: "وخاصية صلاة الفاتح لما أغلق.. الخ، أمر إلهي لا مدخل للعقول فيه، ولو قدرت مائة ألف أمة، في كل أمة مائة ألف قبيلة، في كل قبيلة مائة ألف رجل، وعاش كل واحد منهم مائة ألف عام يذكر كل واحد منهم في كل يوم ألف صلاة على النبي صلى الله عليه وسلم من غير صلاة الفاتح لما أغلق، وجميع ثواب هذه الأمم كلها في مدة هذه السنين كلها في هذه الأذكار كلها، ما لحقوا كلهم ثواب مرة واحدة من صلاة الفاتح لما أغلق، فلا تلتفت لتكذيب مكذب (1) ".
الشيخ الواصل يرى الله علانية في كل وقت مع انتفاء الغير والغيرية بينهم:
قال الشعراني: " اعلم أن سيدنا رضي الله عنه سئل عن حقيقة الشيخ الواصل ما هو؟ فأجاب عنه بقوله: " أما حقيقة الشيخ الواصل فهو الذي رفعت له جميع الحجب عن كمال النظر إلى الحضرة الإلهية نظراً عينياً وتحقيقاً يقيناً، فإن الأمر أوله محاضرة: وهو مطالعة الحقائق من وراء ستر كثيف، ثم مكاشفة: وهو مطالعة الحقائق من وراء ستر رقيق، ثم مشاهدة: وهو تجلي الحقائق بلا حجاب لكن مع خصوصية، ثم معاينة: وهو مطالعة الحقائق بلا حجاب ولا خصوصية ولا بقاء للغير والغيرية عيناً وأثراً، وهو مقام السحق والمحق والدك وفناء الفناء، فليس في هذا إلا معاينة الحق في الحق للحق بالحق فلم يبق إلا الله لا شيء غيره. فلا ثم موصول ولا ثم واصل (2) ".
وفعل الأولياء للفواحش علانية إنما هو تخيل من الناظر، أو من باب ستر حال الولي، بعد أن رأوا عامة الناس لا هم لهم إلا قضاء رغباتهم، فأحب
_________
(1) ص 117.
(2) ص 135.(3/907)
الأولياء الصوفية عند ذلك ألا يظهروا أنفسهم للعامة، فاحتجبوا عنهم بارتكاب تلك الفواحش في الظاهر.
قال علي حرازم: "فلما عرف العارفون ما في العامة من هذا الأمر احتجبوا عن العامة وطردوهم بكل وجه وبكل حال ... فخلط العارفون عليهم بوجوه من التخليط استتاراً عن العامة بإظهار أمور من الزنا، والكذب الفاحش، والخمر، وقتل النفس، وغير ذلك من الدواهي التي تحكم على صاحبها أنه في سخط الله وغضبه، والأمور التي يقتحمها العارفون في هذا الميدان إنما يظهرون صوراً من الغيب لا وجود لها في الخارج إنما هي تصورات خيالية، يراها غيرهم حقيقة فيفعلون في تلك الصور أموراً منكرة في الشرع، وهم في الحقيقة لم يفعلوا شيئاً فاستتروا بذلك من العامة حفظاً لمقامهم" (1) .
وهكذا فعل الزنا وشرب الخمور وغيرها من الفواحش لا حقيقة لها، حتى وإن ثبت أن الصوفي يفعلها، فإنما ذلك خيال، وما أكثر ما يثبت عن هؤلاء من فعل الفواحش، حتى في البهائم، كما يثبت الشعراني ذلك في طبقاته عن علي وحيش، الذي يترضى عنه الشعراني كما هي عادته في الترضي عن أولئك الفجار؟!
دعاء تجاني في طلب الاتصاف بالألوهية؟!:
"ومن أدعيته رضي الله عنه، مما أملاه علينا ونصه رضي الله عنه: اللهم حققني بك تحقيقاً يسقط النسب، والرتب، والتعينات، والتعقلات، والاعتبارات، والتوهمات، والتخيلات؛ حيث لا أين، ولا كيف، ولا
_________
(1) ص 137.(3/908)
رسم، ولا علم، ولا وصف، ولا مساكنة، ولا ملاحظة، مستغرقاً فيك بمحق الغير والغيرية، بتحقيقي بك من حيث أنت بما أنت وكيف أنت؛ حيث لا حس ولا اعتبار إلا أنت، بك لا عنك منك" (1) .
مباسطة البسطامي مع ربه كما يرويها التجاني لتلميذه علي حرازم:
أنه قال: "إن أبا يزيد باسطه الحق في بعض مباسطته قال له: يا عبد السوء! لو أخبرت الناس بمساويك لرجموك بالحجارة، فقال له: وعزتك لو أخبرت الناس بما كشفت لي من سعة رحمتك لما عبدك أحد، فقال له: لا تفعل، فسكت" (2) .
إهانة للقرآن الكريم:
"فإذا عرفت هذه الحيثية، عرفت أن الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم، لمثل أهل هذا الوقت، أفضل لهم من تلاوة القرآن" (3) .
السر في وجود هذا الكون ومصدره:
"قال سيدنا رضي الله عنه: ما خلق الله لنفسه إلا سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم، والباقي من الوجود كله مخلوق لأجله صلى الله عليه وسلم، ولولا أنه خلق سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم ما خلق شيئاً من العوالم" (4) .
_________
(1) ص 146.
(2) ص 153.
(3) ص 154.
(4) ص 173.(3/909)
تلاعب بمعاني النصوص:
أورد علي حرازم، عن شيخه وسيده التجاني، نصوصاً كثيرة في تفسير القرآن الكريم وبعض الأحاديث، فسرها بمحض الهوى والجهل والتخبط والقول على الله بغير علم في جرأة عاتية.
الحلول والاتحاد:
قال التجاني: "فهو سبحانه وتعالى مع كل شيء بذاته، وأقرب إلى كل شيء بذاته، من وجه لا يدركه العقل" (1) .
وقال:
"اعلم أن أذواق العارفين في ذوات الوجود، أنهم يرون أعيان الموجودات كسراب بقيعةٍ ... الآية- فما في ذوات الوجود كله إلا الله سبحانه وتعالى، تجلى بصورها وأسمائها وما ثم إلا أسماؤه وصفاته، فظاهر الوجود صور الموجودات وصورها وأسماؤها ظاهرة بصورة الغير والغيرية ... " إلى أن يقول:
"فإذا رأيت ما يظهر من صور الموجودات، على اختلاف أحواله وتباين أشكاله وتشتيت أموره من مذمومة ومحمودة، فما فيها إلا تجليات الحق سبحانه وتعالى" (2) .
الولاية والألوهية وهل يوجد فرق بينهما أولا؟ عند التجاني:
1- معرفة الولي أصعب من معرفة الله.
_________
(1) ص 215.
(2) 1/350.(3/910)
2- لو كشف عن حقيقة الولي لعُبد. قاله المرسي.
3- وأمري بأمر الله إن قلت: كن، يكن. قاله الجيلاني.
4- يا ريح اسكني عليهم بإذنى (1) .
قال علي حرازم:
" فأجاب رضي الله عنه بقوله: "وحقيقة الولي أنه يسلب من جميع الصفات البشرية ويتحلى بالأخلاق الإلهية ظاهراً وباطناً ... " إلى أن يقول: " ومعنى قوله: لو كشف عن حقيقة الولي لعبد؛ لأن أوصافه من أوصاف إلهه ونعوته من نعوته؛ لأنه ينسلخ من جميع الأوصاف البشرية كما تنسلخ الشاة من جلدها، ويلبس خلعة الأخلاق الإلهية"".
تملك أقطاب الصوفية للكون بتفويض من الله لهم:
يقول حرازم عن شيخه: "قال رضي الله عنه: معنى ذلك أن الله ملكهم الخلافة العظمى واستخلفهم على مملكته تفويضاً عاماً أن يفعلوا في المملكة كل ما يريدون، وملكهم الله تعالى كلمة التكوين، متى قالوا للشيء: كن، كان من حينه"، فأي إلحاد بعد هذا من هؤلاء الذين يترضى عنهم علي حرازم.
الصلاحيات للولي أعلى من الصلاحيات للنبي:
قال: "وسألته رضي الله عنه عن قولهم: إن دائرة الولي أوسع من دائرة النبي صلى الله عليه وسلم فأجاب رضي الله عنه بقوله: المراد بالولي أولياء هذه الأمة فقط ... إلى أن قال:
_________
(1) تلك النصوص في 2/67.(3/911)
"الرسول ليس له عموم الأمر والنهي إلا ما سمعه من مرسله سبحانه وتعالى، لا يزيد وراء ذلك شيئاً، وإنما هو في ذلك مبلغ فقط؛ ليس بآمر ولا ناه، إلا أن يكون الرسول خليفة، فله المرتبة الأولى، فالخليفة الولي أوسع دائرة في الأمر والنهي والحكم من الرسول الذي ليس بخليفة" (1) .
حقيقة القطبانية تمتد قدرتها بامتداد ما وصلت إليه الألوهية وتحجبها أيضا:
قال علي حرازم:
"وسألته رضي الله عنه عن حقيقة القطبانية، فأجاب رضي الله عنه بقوله: اعلم أن حقيقة القطبانية هي الخلافة عن الحق مطلقاً في جميع الوجود جملة وتفصيلاً، حيثما كان الرب إلهاً كان هو خليفة في تصريف الحكم وتنفيذه في كل من عليه ألوهية الله تعالى، ثم قيامه بالبرزخية العظمى بين الحق والخلق، فلا يصل إلى الخلق شيء كائناً ما كان من الحق إلا بحكم القطب" (2) .
رغبة الصوفية في تجهيل الخلق بربهم ونسيانهم لذكره ليصفو لهم وحدهم:
قال التجاني:
"المحبة الصادقة هي التي تورث الغيرة لصالحبها، قيل للشبلي رضي الله عنه: متى تستريح؟ قال: إذا لم أر له ذاكراً غيرى، وقال: أبو يزيد رضي الله عنه لصاحبه حين قال له: وهل سألته المعرفة به؟ قال له: اسكت، غرت عليه
_________
(1) 2/79.
(2) 2/81.(3/912)
من أن يعرفه غيرى.
التوحيد عند التجانية يقتضي شعور الشخص أنه هو الله لا فارق بين ذاته وذات المولى عز وجل وأن ينسى جسمية نفسه تماماً:
قال حرازم: "سألت سيدنا رضي الله عنه عن هذا التوحيد، فأجاب رضي الله عنه عن التوحيد: هو توحيده لنفسه بنفسه عن نفسه، وهذا التوحيد لا سبيل إليه إلا بالفناء، قال الجريري رضي الله عنه: كل إشارة أشار بها الخلق إلى الحق فهي مردودة عليهم حتى يشيروا إلى الحق بالحق. أراد بهذا الذي ذكرناه هو عرو النسب حيث تنطمس النسب في الذات ... قال الشبلي حين دخل عليه رجل قال له: ما تريد؟، قال له: أسأل عن الشبلي، قال له: مات لا رحمه الله (1) .
كلمات غامضة صوفية:
التجلي الأول: هو الله عز وجل.
التجلي الثاني: هو ظهور محمد صلى الله عليه وسلم قبل الخلق حسب زعمهم.
التجلي الأخير: هو ظهور آدم، ويسمى أيضاً اللباس الأخير (2) .
حمق وخرافة:
يقرر التجاني أن الأنبياء لم يخرجوا من أمهاتهم من المحل المعتاد للولادة،
_________
(1) 2/97.
(2) 2/100.(3/913)
وإنما يخرجون من تحت سرة أمهاتهم تنزيهاً لهم، ثم أخذ يدلل على هذه الخرافة بما تمجه الأسماع (1) .
نزول الوحي على القطب من الله لكن بواسطة الحقيقة المحمدية وإن رآه من الله فقد خدع ولبس عليه:
قال: "وما ذكر من أن العقل يأخذ العلم عن الله بواسطة، فإنه نفي الواسطة المشهورة، لا يشهد واسطة بينه وبين الحق أصلاً، لكنها موجودة في نفسها غير مشهودة له، وهى الحقيقة المحمدية، فإنه لا مطمع لأحد في درك حقيقتها فضلاً عن مشاهدتها، فإنها أخفى من السر الخفي، فإنه يرى نفسه يأخذ العلم عن الله بلا واسطة، وما برز له ذلك العلم إلا من الحقيقة المحمدية من حيث لا يراها، وإن رآه من الله فإنه مغطى عليه بحجاب التلبيس، فهذا معنى أخذ العلم عن الله بلا واسطة" (2) .
شكوى علماء الصوفية من علماء المسلمين في حجزهم عن الإتيان بما تأت به الأنبياء:
قال علي حرازم:
"قال الشيخ الأكبر رضي الله عنه: لولا علماء الظاهر- أو كما قال- لأتت الأولياء عن الله بما أتت به الانبياء" (3) .
_________
(1) 104/105.
(2) 2/107.
(3) ص 108.(3/914)
معنى قول الشيخ الضال ابن عربي: من وحد فقد ألحد واعتبارهم التوحيد الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم إلحاداً:
قال علي حرازم عن شيخه التجاني:
"وسألته رضي الله عنه عن معنى قول الشيخ الأكبر: من وحد فقد ألحد فأجاب رضي الله عنه بقوله: معنى الإلحاد هو الخروج عن الجادة المستقيمة، فإن العارف إذا وحد بتوحيد العامة فقد ألحد، والعامي إذا وحد بتوحيد العارف فقد ألحد يعني كفر".
التجاني يعرف أنفاس الإنسان وخواطره بغض النظر عن طول عمره أو قصره:
قال: "وسألته رضي الله عنه عن عدد أنفاس الإنسان، فأجاب رضي الله عنه بقوله: عدد أنفاس الإنسان أربعة وعشرون ألفاً، نصفها داخل ونصفها خارج، وأما الخواطر فعددها سبعون ألف خاطرة، تخطر كل يوم على القلب حتماً لا يتخلف منها واحد" (1) .
القطب الصوفي لا يستطيع أن يسمع كلام الناس بعد أن يسمع كلام الله له إلا بعد فترة نقاهة وسماعه لكلام الله أعلى من سماع الأنبياء له:
قال: "ثم قال سيدنا رضي الله عنه: من فتح عليه في هذا الأمر العظيم والنعيم الجسيم، لا يقدر أن يسمع كلام الخلق إلا إذا اعتزل ثلاثة أيام يذكر الله، فحينئذ يقدر على سماع كلامهم، وإن لم يفعل ما ذكر، فإنه مهما سمع كلامهم يتقيأ لقبحه بالنسبة للذة ما سمع من كلام الحق، وسماع كلام الله لمن سمعه لا بأذن فقط بل بجميع أجزاء ذاته كلها، حتى يصير كل ذرة من ذاته
_________
(1) ص110.(3/915)
تلتذ مثل جميع ذاته بكمالها" (1) .
الجنة في نظر الصوفية لا قيمة لها:
قال: "ومن كلامه رضي الله عنه قال: كل العارفين في شغل عن الله تعالى؛ لأنهم بقي لهم ضرب من حظوظهم، إلا أهل التجلي الأكبر الذين لا حظ لهم في الجنة، فإنهم عنده سبحانه وتعالى مقيدون في حضرة قربه، وواصلهم بما لا تحيط العقول وصفه ... فإن، هؤلاء لا التفات لهم إلى الجنة ونعيمها ولا عبرة لهم بها أوجدت أم عدمت" (2) .
والبديل لها عند الصوفية هو النظر إلى المشائخ والجلوس بين أيديهم بكل الخضوع والتذلل؛ ولهذا يقول محمد السيد التجاني في كتابه الهداية الربانية في فقه الطريقة التجانية ناقلاً عن مشائخ الصوفية: "الجلوس بين يدي ولي قدر ما تحلب فيه شاة أفضل من عبادة ألف سنة" (3) .
وعلى المسلمين ألا يجتهدوا في طلب ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر فقط، بينما الجلوس أمام شيخ صوفي كالدجاجة، داجن في زاويته المظلمة حساً ومعنى، خمس دقائق، خير من عبادة ألف سنة، فهل بعد هذا السفه للنفس والحمق المردي حمق أو سفه؟
كيفية خلق هذا الكون عند الصوفية:
يقول:
"ومن كلامه رضي الله عنه قال: أول موجود أوجده الله تعالى من حضرة
_________
(1) 2/111.
(2) ص 131.
(3) الهادية الربانية في فقه الطريقة التجانية ص20.(3/916)
الغيب هو سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، ثم نسل الله أرواح العالم من روحه صلى الله عليه وسلم، الاجسام النورانية كالملائكة ومن ضاهاهم".
وأما الأجسام الكثيفة الظلمانية فإنما خلقت من النسبة الثانية من روحه صلى الله عليه وسلم، فإن لروحه صلى الله عليه وسلم نسبتين أفاضها على الوجود كله؛ فالنسبة الأولى نسبة النور المحض ومنه خلقت الأرواح كلها والأجسام النورانية التي لا ظلمة فيها، والنسبة الثانية من نسبة روحه صلى الله عليه وسلم نسبة الظلام ومن هذه النسبة خلق الأجسام الظلمانية كالشياطين وسائر الأجسام الكثيفة والجحيم ودركاتها، كما أن الجنة وجميع درجاتها خلقت من النسبة النورانية، فهذه نسبة العالم كله إلى روحه صلى الله عليه وسلم.
أما الحقيقة المحمدية صلى الله عليه وسلم فهي أول موجود أوجده الله تعالى من حضرة الغيب، وليس عند الله من خلق موجود قبلها (1) .
فالملائكة والشياطين والجنة والنار - بل والكون كله - مخلوق من روح محمد صلى الله عليه وسلم، فأين العقول التي تصدق بمثل هذا الفحش والإهانة لنبي الإسلام صلى الله عليه وسلم، أن تكون الشياطين والجحيم وغيرهما - مما نص عليه التجاني - مخلوقة من روح محمد صلى الله عليه وسلم، كبرت كلمة تخرج من فمه.
تطاول التجاني على الصحابة وكل من جاء بعدهم:
قال التجاني في كتابه إلى أهل الأغواط:
"وأقول لكم إن مقامنا عند الله في الآخرة لا يصله أحد من الأولياء، ولا يقاربه من صغر ولا من كبر، وأن جميع الأولياء من عصر الصحابة إلى
_________
(1) ص135.(3/917)
النفخ في الصور، ليس فيهم من يصل مقامنا ولا يقاربه؛ لبعد مرامه عن جميع العقول وصعوبة مسلكه على أكابر الفحول" (1) .
تصرف التجاني في الجنة:
جاء كذلك في كتابه إلى أهل الأغواط بالمغرب يقول لهم: "ولم أقل لكم ذلك حتى سمعته من الرسول صلى الله عليه وسلم تحقيقاً، وليس من الرجال أن يدخل كافة أصحابه الجنة بغير حساب ولا عقاب، ولو عملوا من الذنوب ما عملوا وبلغوا من المعاصي ما بلغوا، إلا أنا وحدي" (2) .
عدوان الصوفية بعضهم على بعض وطلب كل صاحب طريقة العلو على الآخرين:
سأل رجل من أهل فاس بالمغرب التجاني عن الدائرة الشاذلية وأسمائها وخواصها وفضائلها، فأجابه التجاني بقوله:
"اعلم أن التمسك بما في كتب أهل الخواص من دائرة الشاذلية رضى الله عنه: أسماء الله، والحروف، والجداول، كله كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً، ما في جميعها إلا التعب والطمع الذي لا يوجد فيه قليل من الفائدة ولا جدوى من الفائدة" (3) .
الصوفي له قوة الخلاق العظيم كما يرى التجاني:
قال علي حرازم تحت عنوان "سر شريف":
_________
(1) ص166.
(2) ص166.
(3) ص168.(3/918)
"قال سيدنا رضي الله عنه: إذا تجلى الله لسر عبد، ملكه جميع الأسرار، وألحقه بدرجة الأحرار، وكان له تصرف ذاتي؛ متى توجهت إرادته لأي خارق كان انخراق له في الحين، إلا أن بعضهم يضيف لها كلمة كن وبعضهم بمجرد الإرادة" (1) .
ومعنى هذا التطاول الغريب أن الله تعالى "إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون"، أما هؤلاء فإذا أراد أحدهم شيئاً تكفيه مجرد الإرادة لإيجاده وإذا أضاف إليها "كن" فلا حرج عليه عند بعضهم، فكلمة "كن" عندهم إنما هي مجرد إضافة عارضة.
مزايا التجاني لم يصلها أحد من البشر بل ولا ملك مقرب ولا نبي مرسل:
كل من أخذ وردنا وداوم عليه إلى الممات، أنه يدخل الجنة بغير حساب ولا عقاب هو ووالداه وأزواجه وذريته (2) .
وكذلك من حصل له النظر فينا يوم الجمعة أو الاثنين يدخل الجنة بغير، حساب ولا عقاب (3) .
والسبب في تخصيص يوم الجمعة والاثنين بحصول هذا الفضل العظيم، لمن نظر إلى وجهه الذي عليه غبرة، هو اعتقاده أن الجمعة خلق آدم والاثنين خلق فيه محمد صلى الله عليه وسلم ومن هنا حصل له هذا الفضل العظيم في هذين اليومين اللذين وقع فيهما الفرع أفضل من الأصل على ميزان التجاني المعكوس.
_________
(1) ص170.
(2) ، (3) ص170.
(3) ص180.(3/919)
جفاء وعتو ونفور عن الله تعالى وحمق مركب:
مدح التجاني أبا عُبيدة الخواص بقوله:
"وله منذ أربعين سنة ما رفع رأسه إلى السماء حياءً من الله تعالى، وهذا هو حياء العارفين" (1) .
أذكار وأدعية بعبارات متكلفة غامضة وأساليب ركيكة مرذولة:
قال علي حرازم:
"وأول ما نبدأ به ذكر الصلوات التي أملاها مولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم من فيضه الشريف يقظة على شيخنا أبى العباس.. الأولى سماها شيخنا رضى الله عنه ياقوتة الحقائق في التعريف بحقيقة سيد الخلائق، ونصها: الله الله الله اللهم أنت الله الذي لا إله إلا أنت العالي في عظمة انفراد حضرة أحديتك التي شئت فيه بوجود شؤونك ... اللهم برتبة هذه العظمة وإطلاقها في وجد وعدم، أن تصلي وتسلم على ترجمان لسان القدم اللوح المحفوظ والنور الساري المحدود.. لله لله لله آه أمين، هو هو هو آمين" (2) .
ذلك هو الدعاء الأول وما يحمله من هذيان يبعث على الاشمئزاز والنفور.
أما الدعاء الثاني فقد جاء فيه قوله، وبعباراته المتكلفة التي تخفى وراءها قبائح وجِهلاً شنيعاً - قال:
_________
(1)
(2) ص216.(3/920)
"وهي أيضاً من إملائه صلى الله عليه وسلم لشيخنا يقظة، وهي: اللهم صل وسلم على عين الرحمة الربانية والياقوتة المتحققة الحائطة بمركز الفهوم والمعاني، ونور الأكوان المتكونة الآدمي صاحب الحق الرباني، البرق الأسطع بمزون الأرياح المالئة لكل متعرض من البحور والأواني ... اللهم صل وسلم على عين الحق التي تتجلى منها عروس الحقائق عين المعارف الأقوم صراطك التام الأسقم ... إحاطة النور المطلسم" (1) .
وما أدري من أين يأتي الخشوع في مثل هذا الدعاء الذي هو أقرب إلى الألغاز والهذيان.
وجاء في نص الدعاء الثالث:
"اللهم صل وسلم على عين ذاتك العلية ... عبدك القائم بك منك لك إليك، بأتم الصلوات الزكية، المصلي في محراب عين هاء الهوية، فصل اللهم عليه صلاة كاملة تامة بك ومنك وإليك وعليك ... وتب علينا بمحض فضلك الكريم في الصلاة عليه" (2) .
وقد شرح علي حرازم تلك الأدعية فكان كمن أراد أن يكحلها فأعماها حيث جاء هو الآخر بكلمات أغمض من النص بغرض أن تلك الأدعية وشرحها تحمل علماً لا يعرفه إلا هؤلاء العباقرة.
وقد شرح وصف التجاني للرسول صلى الله عليه وسلم بأنه اللوح المحفوظ فقال: "قوله: اللوح المحفوظ" اعلم أن اللوح المحفوظ هنا هو نبينا وسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.
_________
(1) ص216.
(2) ص217.(3/921)
وتشبيهه هنا صلى الله عليه وسلم باللوح المحفوظ يسمى عند المتكلمين تشبيه التسامح، وإلا فهو صلى الله عليه وسلم أكبر وأوسع من اللوح المحفوظ بأضعاف مضاعفة؛ لأن غاية علوم اللوح وما سطر فيه إنما هو منشأ العالم إلى النفخ في الصور فرداً فرداً بلا شذوذ.
وأما ما وراء ذلك من أحوال يوم القيامة وأحوال الشؤون والأمور والاعتبارات واللوازم والمقتضيات كلها ليس في اللوح المحفوظ منه شيء إلا أمور قليلة، مثل فلان يعمل كذا وكذا من الأعمال وجزاؤه في جنة الخلد، أو جنة النعيم، أو جنة المأوى له فيها كذا وكذا، وفلان يعمل كذا وكذا من الشر، ومستقره في الدرك الثانية أو الثالثة، وهكذا هو قليل بالنسبة لأحوال الجنة والنار وأحوال يوم القيامة.
وأما هو صلى الله عليه وسلم فإنه جمع في حقيقته المحمدية كل ما أحاط به علم الله تعالى من الأزل إلى الأبد من علوم المخلوقات بأسرها ومعرفة مقتضياتها ولوازمها (1) .
المراتب الصوفية يبينها خليفة التجاني علي حرازم بقوله:
المرتبة الأولى: مرتبة الاستهتار بذكر الله تعالى حتى يقع صاحبها في الذهول عن الأكوان، والطمأنينة بذكر الله تعالى مستغرقاً جميع أوقات دهره، وهم الأولياء.
المرتبة الثانية: لباس الحلة الملكية، وهي فوق هذه المرتبة؛ وهي أن يتصف صاحبها بأحوال الملائكة (2) .
_________
(1) ص239.
(2) ومن أحيل علي مليء فليحتل وقد صدق من قال: "الجنون فنون"(3/922)
المرتبة الثالثة: وهى فوق هذه، وهى لباس الحلة الإلهية؛ لا تذكر ولا يعلمها إلى من ذاقها، وصاحبها هو الذي يطلق عليه اسم الصديق فهي ضرب من النبوة، أو هي النبوة بعينها، وهم العارفون والصديقون (1) .
وتفسيره بأنها النبوة خداع وجبن عن إظهار الحقيقة؛ إذ أن هذه المرتبة "لباس الحلة الإلهية التي لا يعرفها إلا من ذاقها" تفيد معنى الألوهية، إلا أنه لم يصرح بهذا لئلا يكشف الحقيقة فتظهر حقيقتهم الإجرامية.
جوهرة الكمال:
يسميها التجانيون صلاة جوهرة الكمال، وهى التي قدمنا منها، وأولها "اللهم صل وسلم علي عين الرحمة الربانية والياقوتة المتحققة ... " الخ (2) .
قال على حرازم في أول كلامه في شرحها:
"الحمد لله الذي فتق من كنه الغيب رتق الكائنات، وجعل أصلها ونشأتها نور حقيقة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم فكان أصل الموجودات، فأوجد منها بقدرته القدسية وكلمته الأزلية فطرة آدم وجعل شكله صورة العالم وعلمه الأسماء كلها، وجعله من جميع البرية خلاصتها وصفوتها، وأخرج من عنصره الأرواح والذرية والأشباح (3) ، واختار منها صفوة الأنبياء والرسل والأولياء بالرسالة والولاية ... " (4) إلى آخر ما جاء به من عجائب الحمق.
_________
(1) ص249.
(2) انظرها: 2/216.
(3) انظر إلى تعمق هؤلاء في الباطنية
(4) ص254.(3/923)
خواص صلاة جوهرة الكمال:
زعم التجانيون أن لهذه الصلاة أو الدعاء خواص لا يقدر لها قدر، ولا أظن أحداً لم تدنس الصوفية فطرته يصدقها، قال:
"وذكر لها رسول الله صلى الله عليه وسلم خواصاً منها:
1- أن المرة الواحدة تعادل تسبيح العالم ثلاث مرات.
2- أن من قرأها سبعاً فأكثر، يحضره روح النبي صلى الله عليه وسلم محبة خاصة، ولا يموت حتى يكون من الأولياء، وقال الشيخ رضي الله عنه: من داوم عليها سبعاً عند النوم، على طهارة كاملة وفراش طاهر، يرى النبي صلى الله عليه وسلم (1) .
إلى أن قال: "فإنه لولا وجوده صلى الله عليه وسلم ما كان وجود لموجود أصلاً من غير الحق سبحانه وتعالى ... فإنه لولا هو صلى الله عليه وسلم ما خلق شيء من الأكوان، ولا رحم شيء منها لا بالوجود ولا بإفاضة الرحمة" (2) .
ثم قال: " تنبيه شريف:
اعلم أنه لما خلق الله الحقيقة المحمدية، أودع فيها سبحانه وتعالى جميع ما قسمه لخلقة، من فيوض العلوم والمعارف والأسرار، والتجليات والأنوار، والحقائق بجميع أحكامها ومقتضياتها ولوازمها، ثم هو صلى الله عليه وسلم الآن يترقى في
_________
(1) ص255.
(2) ص256.(3/924)
شهود الكلمات الإلهية، مما لا مطمع فيه لغيره، ولا تنقضي تلك الكمالات بطول أبد الآباد" (1) .
وتظهر الطلاسم واضحة في هذا الدعاء التجاني العجيب الغريب المسمى بحزب البحر، قال محمد السيد التجاني:
"مقصد حزب البحر التعوذ والبسملة، وبه نستعين، وبه الحلول والقوة، رب سهل ويسر، ولا تعسر علينا يا ميسر كل عسير أبت خدذ رزط ظكل منص صعغ فقس شهولاي لا إله إلا الله عشراً، ثم صلاة الفاتح عشراً، ويرفع يديه إلى السماء، ويقرأ فاتحة الكتاب مرة بنية ما يريد، ثم البسملة الله الرحمن الرحيم، يا الله يا عليّ.. الخ" (2)
وقد ذكر دعاءً يقوله من أراد أن يجتمع بالنبي صلى الله عليه وسلم يقظة لا مناماً، وفي آخره يبخر بالعود أو الجاوي على طريقة الشعوذة والسحرة.
ثم ذكر دعاء آخر لجلب الغنى ودفع الفقر.
ثم ذكر دعاء لكيفية خاصة من جوهرة الكمال تقوم مقام اللطيف الكبير، هكذا وبهذا الأسلوب.
إلى أن ذكر الطامة الكبرى وهي في قوله الآتي:
"كيفية من الصلوات تسمى مهر السر والحور، وعين الفتح والنور، من أكثر من تلاوتها يرى رب العزة في المنام، ولا يفارقه رسول الله وروح القدس أبداً " (3) وأحب ألا أذكر تلك الأدعية، لأنزه سمع وبصر القارئ عن حشو
_________
(1) ص264.
(2) الهداية الربانية في فقه الطريقة التجانية ص25.
(3) المصدر السابق ص 25، 26.(3/925)
ذهنه بخزعبلات الصوفية وخرافاتهم، ومن تناقضاتهم أن يأتوا بدعاء لجلب الغنى ودفع الفقر، وهم لا يحبون الدنيا كما يزعمون، ويحبون الفقر ويجعلونه من أشرف الأسماء لديهم.
وأما زعمهم رؤية الرسول صلى الله عليه وسلم، ورؤية المولى عز وجل والاتحاد به، فهي ديدنهم وعليها قام دينهم.
الخضوع لأقطاب التصوف:
يجب الخضوع التام لأقطاب التصوف وترك الأفكار عليهم في أي شيء، يقول الفوتي في كتابه: "رماح حزب الرحيم على نحور حزب الرجيم"
هامش جواهر المعنى:
"اعلم أن المنكر على الأولياء ساقط من عين الله وهالك في الدنيا والآخرة وأنه في لعنة الله ومحاربته" (1) ، ويقصد بأولياء الله هنا أقطاب التصوف.
فليعتصم المريد بشيخه وليتمسك به تمسك الأعمى على شاطئ البحر بالقائد، بحيث يفوض أمره إليه بالكلية، ولا يخالفه في ورد ولا صدر، ولا يبقى في متابعته شيئاً ولا يذر، وليعلم أن نفعه في خطأ شيخه لو أخطأ، أكثر من نفعه في صواب نفسه لو أصاب (2) ، إلى أن قال: "ولا اعتراض بأن يكون بين يديه كالميت بين يدي غاسله، وقد قال من قال لشيخه: لمَ؟ فإنه لا ينتفع به" (3) .
التصدر للمشيخة خطر عظيم إلا بإذن شيخ صوفي:
يقول الفوتي: "قلت التصدر للشيخوخة بغير إذن شيخ كامل الخطر جداً، لأنه يكون سبباً لسوء الخاتمة، وإن لم يتب فاعله فلا يموت إلا كافراً" (4) .
_________
(1) 1/51.
(2) رماح ص 103.
(3) رماح ص 105.
(4) ص 110.(3/926)
الاتصاف بالله وتهوين الفاحشة:
ذكر الفوتي أن أحد المريدين طلب من شيخه أن يدله على الله فقال له: اتصف بصفة من صفات الله تعالى، فاختار الصدق، ثم ارتكب جريمة زنا، وحين سأل أجاب بقوله: نعم، فسجنه الوالي لظنه أنه مجنون، فشفع فيه بعضهم فأخرج من السجن بفضل صدقه كما يزعم.
وقد صاغها الفوتي بأسلوب مزخرف مطول يهون الجريمة بدلاً من التنفير عنها (1) ، وذكر الفوتي في رماحه قصصاً كثيرة جداً كلها تهدف إلى طاعة المشائخ طاعة عمياء، لا اعتراض ولا جدال، حتى ولو أمر الشيخ المريد بفعل الفواحش وقتل النفوس فعليه التنفيذ، لأنه لا يعرف الحكمة من وراء ذلك إلا الشيخ.
منها: أن بعض المشائخ أمر مريداً له بقتل والده، فجاء المريد بالليل ووالده عند أمه فاحتز رأسه وجاء به إلى الشيخ، فلما عرف صدق إيمان المريد كشف له عن الرأس، فإذا هو ليس والد المريد وإنما كان علجاً في حال غياب أبيه، جاء الشيخ الوحي بذلك.
ثم ذكر قصصاً كثيرة حول هذه الطاعة، ثم عقب بذكر قصص أخرى تفيد أن التلميذ لا ينبغي أن يشك في شيخه حتى ولو رآه يشرب الخمر ويزني ويقتل النفوس، وقد دخلت على أحد المشائخ امرأة ولكنها الدنيا تصورت في صورة امرأة ثم دخلت عليه.
إلى آخر ما ذكر من أمثال هذه الفواحش بأسلوب سافر لم أذكره بنصه، لأولئك الذين سماهم أولياء، والذين قال عنهم بعد ذلك:
_________
(1) ص 114.(3/927)
"الشيخ هو الولي الكامل في قوله كالنبي في أمته، وأن مبايعته كمبايعة النبي صلى الله عليه وسلم لكونه نائباً عن النبي صلى الله عليه وسلم" (1) .
ومن هنا فإنه ينبغي على المريد:
"أن يرى استمداده من شيخه هو استمداده من النبي صلى الله عليه وسلم، لأنه نائبه" (2) .
"فعلم أن كل من لم يعتقد في شيخه أنه أشفق عليه من نفسه، وأنه لا يأمر قط بترك شيء إلا ليعطيه أنفس منه، فمحبته نفاق" (3) .
وذكر أن الشيخ لو طلب إلى أحد مريديه أن يطلق زوجته، أو يأتي بنصف ماله، أو منعه من وظائفه ومصالحه فأبى، لكان دل على نفاق أيضاً.
ولعل في ذكر الآداب التي ينبغي على المريد أن يمتثلها، أقوى تصوير لمدى هيمنة شيوخ الصوفية على أتباعهم، ومدى الغبن والذل اللذين يلحقان بأولئك القطعان من أتباع رهبان الصوفية، وقد ذكر الفوتي منها ما يلي:
1- تعظيم الشيخ وتوقيره ظاهراً وباطناً، وعدم الاعتراض عليه في شيء فعله، ولو كان ظاهره أنه حرام، وعدم الالتجاء لغيره من الصالحين.
2- ألا يقعد وشيخه واقف.
3- ولا ينام بحضرته إلا بإذنه، في محل الضرورات، ككونه معه في مكان واحد.
4- ألا يكثر الكلام بحضرته ولو باسطه.
5- وألا يجلس على سجادته.
_________
(1) ص 126.
(2) ص 126/127
(3) ص 128(3/928)
6- ولا يسبح بسبحته.
7- ولا يجلس في المكان المعد له.
8- ولا يلج عليه في أمر.
9- ولا يسافر.
10- ولا يتزوج.
11- ولا يفعل فعلاً من الأمور المهمة إلا بإذنه.
12- ولا يمسك يده للسلام ويده مشغولة بشيء، كقلم أو أكل أو شرب، بل يسلم بلسانه، وينظر بعد ذلك ما يأمره به.
13- ولا يمشي أمامه ولا يساويه، إلا بليل مظلم، ليكون مشيه أمامه صوناً له عن مصادمة ضرر.
14- وألا يذكره بخير عند أعدائه، خوفاً من أين يكون وسيلة لقدحهم فيه.
15- وأنه يحفظه في غيبته كحفظه في حضوره.
16- وأنه يلاحظه بقلبه في جميع أحواله سفراً وحضراً لتعمه بركته.
17- وألا يعاشر من كان الشيخ يكرهه، أو من طرده الشيخ عنه.
18- وأن يحب كل من أحبه الشيخ، ويكره كل من يكرهه الشيخ.
19- وأن يرى كل بركة حصلت له من بركات الدنيا والآخرة فببركته.
20- وأن يصبر على جفوته وإعراضه عنه.(3/929)
21- وأن يحمل كلامه على ظاهره فيمتثله إلا لقرينة صارفة.
22- وألا يتجسس على أحوال الشيخ من عبادة أو عادة، فإن في ذلك هلاكه.
23- وألا يدخل عليه خلوة إلا بإذن.
24- ولا يرفع الستارة التي فيها الشيخ إلا بإذن وإلا هلك.
25- وألا يزور الشيخ إلا وهو على طهارة، لأن حضرة الشيخ حضرة الله تعالى.
26- وأن يحسن الظن به في كل حال. ,
27- وأن يقدم محبته على محبة غيره ما عدا الله ورسوله.
28- وألا يكلفه شيئاً، حتى لو قدم من سفر لكان هو الذي يسعى ليسلم على الشيخ، ولا ينتظر أن الشيخ يأتيه للسلام عليه.
29- وألا يكتم عن الشيخ شيئاً مما يخطر له.
30- وألا يعترض عليه فيما يكون منه.
31- وألا ينظر في أفعال الشيخ، ولا يعتدى أمر شيخه، ولا يتأول عليه كلامه.
32- ولا يطلب علة للأمر الذي يأمره به، بل يبادر إلى امتثال ما أمره به، سواء عقل معناه أو لم يعقل.. ومتى تأول على الشيخ ما أمره به، أو يقول: تخيلت أنك أردت كذا، فليعلم أنه في إدبار، فليبك على نفسه.
33- ولا يلبس ثوباً لبسه شيخه إلا إذا كساه الشيخ إياه.(3/930)
34- ولا يسأله عن شيء سؤال من يطلب الجواب منه، بل يجب عليه أن يقص ما وقع له، فإن أجابه كان وإلا فلا، وإن وصف ذلك على أن يجيب الشيخ فقد جعله سؤالاً، وإذا جعله سؤالاً فقد أساء الأدب.
35- ولا يخون شيخه في أمر مأمور به.
36- ومن شرط المريد أن يكون بين يدي الشيخ كالميت بين يدي الغاسل، إن غسل عضواً من أعضائه قبل آخر أو حركه أو تصرف فيه كيف يشاء، فلا يخطر عليه خاطر اعتراضه.
37- ولا يجلس بين يديه إلا مستوفزاً كجلوس العبد بين يدي سيده.
وذكر شروطاً إلى أن قال:
38- ولا يقعد مقعداً حيث كان إلا ويتيقن أن الشيخ يراه، فليلزم ذلك.
39- ولا يديم النظر إليه، فإن ذلك يورث قلة الأدب والحياء، ويخرج الاحترام من القلب.
40- ولا يكثر مجالسته.
41- ولا يقضي لأحد حاجة حتى يشاوره فيها.
42- وإن طلق امرأة فمن الأدب ألا يتزوجها.
43- ولا يدخل عليه متى دخل عليه إلا قبل يديه وأطرق.
44- ويتحبب إليه بامتثال أمره ونهيه.
45- وليكن حافظاً شحيحاً على عرضه.
46- وإذا قدم إليه طعاماً فليلقه أمامه بجميع ما يحتاج إليه، وليقف خلف(3/931)
الباب فإذا دعاه أجابه وإلا فليتركه حتى يفرغ، فإذا فرغ أزال المائدة، فإن بقي شيء من طعامه وأمره بالأكل فليأكل، ولا يؤثر بنصيبه أحداً.
47- ويجتهد ألا يراه إلا فيما يسره، ولا يتمن عليه، وليحذر مكر الشيوخ فإنهم يمكرون بالطالب، فليحافظ على أنفاسه في الحضور معه.
48- ومن شرط المريد ألا يرد على الشيخ كلامه، ولو الحق بيد المريد.
49- الاعتراض على الشيخ حرام على المريدين وقوعه، فهذا مريد مسخر للشيطان.
50- ومن شرط المريد إذا وجهه شيخه في أمر أن يمضي لأمره، من غير تأمل ولا توقف ولا يصرفه عنه صارف، حتى قال بعض الشيوخ لبعض المريدين: أرأيت لو وجهك شيخك في أمر فمررت بمسجد تقام فيه الصلاة، فما تصنع؟ فقال: امضي لأمر الشيخ ولا أصلي حتى أرجع إليه، فقال له: أحسنت.
51- ومن شروط المريد الوفاء بكل ما يشترط عليه الشيخ سواء كان صعباً أو سهلاً، وليس للمريد أن يعترض على الشيخ في شيء ... فإنهم قالوا: الاعتراض على الشيوخ سم قاتل.
وإن رأيت من الشيخ ما يتراءى عندك أنه غير مشروع فاتهم نفسك.
الولي ينظر إلى باطن المريد ولا عبرة عنده بظاهره.(3/932)
كل ما يفعله الولي من الأعمال التي تعينه في الظاهر، إنما يكون بسبب معاصي الناس المريدين له، وإلا ما حصل له ذلك، ولو كانوا أصحاب خير وبر لرأوا كل ما يفعله حسناً (1) .
ولقد تركت ذكر آداب وشروط كثيرة واجبة لمشائخ الصوفية بإيجاب النبي صلى الله عليه وسلم لها، على حد افتراء هؤلاء الكاذبين سراق عقول البشر، الذين لا يهمهم أن يدوسوا كرامة الإنسان بأرجلهم.
ولقد ظهر للقارئ الكريم من خلال ما قدمنا من الآداب التي تطلب من المريد - وهي في الحقيقة أغلال - ما يبعث على الأسى والحزن على أولئك الذي أصبحوا ضحايا الجشع الصوفي، ولقد كنت أتحرق غيظاً في أثناء كتاباتي لهذا الدجل الصوفي التجاني وتشويههم لصورة الإسلام السمحة، واستبعادهم لهؤلاء البله والعوام من المسلمين، إلى حد أنهم يشترطون عليهم أن يروا المنكرات التي يفعلها المشائخ، من الزنا، وبيع الحشيش، وسائر أنواع المنكرات - أن يروا ذلك إما أنهم يفعلونه لحكمة لا يعلمها إلا هؤلاء الأقطاب، أو بسبب معاصي الناس، أو أنها صور تخيل للشخص وليست حقيقية، فأي لصوصية هذه وأي استهتار بكرامة الإنسان؟!
قارن يا أخي المسلم بين من يدخل الإسلام ومدى ما يشعر به من كرامة لنفسه، حين يقال له: أنت الإنسان المكرم الذي سخر لك الله ما في السموات وما في الأرض، وأسبغ عليك نعمه ظاهرة وباطنة، أنت أكرم على الله من السموات والأرض، أنت خليفة الله في هذه الأرض (2) ، إلى غير ذلك من تعاليم الإسلام، وبين تعاليم هؤلاء اللصوص
_________
(1) انظر لتلك الأقوال: رماح الفوتي 1/94 - 140.
(2) أي في عمارتها وإحيائها إلى الأجل المسمى ولا يصح ما يتوهم بعض الناس من أن الإنسان نائبا عن الله في الأرض فإن الله تعالى لا ينوب عنه أحد من خلقه.(3/933)
المحترفين، حين يشترطون على الداخل في الإسلام على طريقتهم أن يرمي نفسه أرضا لا حراك به، كالميت بين يدي الغاسل، وإذا قدم لشيخه أكلاً أن يقف وراء الباب، ثم يأكل بعد ذلك ما يبقى بعد شبع شيخه الجشع الذي لا يسال عما يفعل.
لقد سد كهنة التصوف كل منفذ لعودة عقل الإنسان إلى الصواب وكبلوه بسلاسل وأغلال لا انفكاك له منها إلا إذا تداركته رحمة الله تعالى، ولهذا نجد أن من خرج عن طرقهم الفاسدة يكاد يصعق حين تذكر له.
تثليث صوفي:
يقول الفوتي: "فإن المريد لا يجيء منه شيء حتى لا يكون بقلبه غير الشيخ، والله تعالى، والرسول صلى الله عليه وسلم" (1) ، الشيخ، الله، الرسول.
تشريع جديد لأقطاب التصوف:
"ثم إن العبد إذا دخل طريق القوم وتبحر فيه أعطاه الله هناك قوة الاستنباط نظير الأحكام الظاهرة على حد سواء، فيستنبط في الطريق واجبات ومندوبات ومحرمات ومكروهات وخلاف الأولى" (2) .
تثبيت الفرقة بين المسلمين وإحكام قبضتهم على أتباعهم وحجرهم عليهم:
يقول علي حرازم: "وأما أتباعه رضي الله عنه-أي التجاني- فقد أخبره
_________
(1) 1/153.
(2) ص158.(3/934)
سيد الوجود صلى الله عليه وسلم أن كل من أحبه فهو حبيب للنبي صلى الله عليه وسلم ولا يموت حتى يكون ولياً قطعاً، وأمره أن ينهي أصحابه عن زيارة الأولياء، الأحياء منهم والأموات، وكل من زار منهم ينسلخ عن طريقته.."، إلى أن يقول:
"ويجب على الشيخ ألا يترك أصحابه يزورون شيخاً آخر، ولا يجالسون أصحابه، فإن المضرة سريعة للمريدين" (1) .
"وسمعت سيدي علياً المرصفي يقول: لا ينبغي لمريد أن يزور ولا يزار، لغلبة الآفات عليه" (2) .
تحكم على الله وترهيب للأتباع:
"حكى القشيري في رسالته أن شقيقاً البلخى وأبا تراب النخشبي قدما على أبي يزيد، وقدمت السفرة وشاب يخدم أب يزيد، فقال شقيق: كل معنا يا فتى!، فقال أنا صائم، فقال أبو تراب: كل ولك أجر صوم شهر، فأبى، فقال شقيق: كل ولك أجر صوم سنة، فأبى، فقال أبو يزيد: دعوا من سقط من عين الله، فأخذ الشاب بعد مدة وقطعت يده بسرقة" (3) .
مبدأ باطني وهو التبني الروحي كما يسمونه:
قال الفوتي: "الفصل الثالث والعشرون في إعلامهم بأن الوالد المعنوي الذي هو الشيخ أرفع رتبة وأولى بالبر والتوقير، وأحق رعاية، وآكد دراية، وأقرب حسباً، وأوصل نسباً من الوالد الحسي" (4) ، ثم جاء في هذا الفصل
_________
(1) ص159.
(2) ص160، وفي رسالة القشيري 2/176.
(3) ص 160.
(4) ص161.(3/935)
بكل طامة إلى أن قال أكاذيب ترددها النصوص الصحيحة والفطر السليمة في دور المشائخ الصوفية في يوم القيامة، منها:
"وأيضا يدعو المريدين بأسماء مشائخهم - أي في يوم القيامة - ويدعوهم إلى منازلهم، ودعاؤهم في ذلك اليوم الشديد الذي تذهل فيه كل مرضعة عما أرضعت بأسماء المشائخ دون أسماء الآباء والأمهات يكفي دليلاً على ارتفاع رتبة المشيخة التي هي الولادة المعنوية، على رتبة الولادة الجسمية" (1) .
جزاء المشايخ:
ومن هنا فجزاء المشائخ لا يكاد يبلغه أحد، وقد أوصله كهنة التصوف إلى مرتبة فوق مرتبة الأنبياء حسب قولهم الآتي:
"والله لو وقف المريدون على الجمر بين يدي أحد أشياخهم منذ خلق الله الدنيا إلى انقضائها، ولم يقوموا بواجب حق معلمهم، في إرشادهم إلى إزالة تلك الموانع التي تمنعهم من دخول حضرة الله: (2) قالوا: "ومن نسب تلميذاً إلى غير أستاذه، كمن نسب ولداً إلى غير أبيه" (3) .
العشق والغرام في المذهب الصوفي وأكاذيبهم في ذلك:
"روى السهرودي بسنده أنا النبي صلى الله عليه وسلم قال حاكياً عن ربه: إذا كان الغالب إلى عبدي الاشتغال بي، جعلت همه ولذته في ذكري، فإذا جعلت همته ولذته في ذكري عشقني وعشقته، ورفعت له الحجاب فيما بيني وبينه ولا يسهوا إذا سها الناس، أولئك كلامهم كلام الأنبياء، أولئك الأبطال الأبدال حقاً،
_________
(1) ص 162.
(2) ص 165.
(3) ص 165.(3/936)
أولئك الذين إذا أردت بأهل الأرض عقوبة أو عذاباً ذكرتهم فصرفته بهم عنهم" (1) .
وهذا الحديث بلا شك أنه من جنس الأحاديث التي يرويها الصوفي عن قلبه عن ربه مباشرة، دون أن يعلم بها النبي محمد صلى الله عليه وسلم.
متى يسقط ذكر الله تعالى عند الصوفية، فلا يعود لذكر الله وجود في حقهم؟:
يقول الفوتي: "قلت: وإذا كثر العبد ذكر ربه باللسان حصل له الحضور، وإذا حصل له كثرة الذكر مع الحضور، صار الحق مشهودة، وهناك يستغني عن ذكر اللسان ... لأن حضرة شهود الحق سبحانه حضرة بهت وخرس، يستغني صاحبها في الجمعية بالمدلول، فقد استغنى العبد عن الدليل فافهم" (2) .
ويوضح المقصود من الكلام السابق، قوله عما يجده الشخص في ميدان التصوف، في كفره الآتي:
"وفي هذا الميدان ينمحي الذاكر والذكر ويصير حالة أن لو نطق قال: أنا الله لا إله إلا أنا وحدي لاستهلاكه في بحار التوحيد، وهذه المرتبة هي آخر مراتب الذكر وصاحبها صامت جامد لا يذكر ولا يتحرك" (3) .
وإذا ذكر الله بلسانه في هذه الحال، فإنه يعتبر في حقه ذنباً وفي هذا
_________
(1) ص 169.
(2) ص 171.
(3) ص 172.(3/937)
الحال المعكوس يقول:
بذكر الله تزداد الذنوب ... وتنطمس السرائر والقلوب
فترك الذكر أفضل كل شيء ... وشمس الذات ليس لها غروب (1)
زاد الله ذنوبهم وطمس سرائرهم، انظر كيف تلاعب الشيطان بهم حتى أصبح ذكر الله يزيد ذنوب الإنسان، ويطمس سريرته وقلبه، لأن الأولى به حين يصل إلى تلك المرتبة أن يترك كل شيء، ولاتحاده التام بالله تعالى؛ حيث تصبح ذاته لا غروب لها بعد ذلك.
مستند الصوفية في وجدهم ورقصهم:
قال الفوتي: "قالت عائشة رضي الله عنها كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الله تعالى على كل أحيانه، فإذا انضم إلى هذا القيام رقص أو وجد ونحوه، فلا إنكار عليهم، فإن ذلك من لذات الشهود والمواجيد، وقد ورد في بعض طرق الحديث رقص جعفر بن أبي طالب بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم حين قال له: أشبهت خلقي وخلقي، من لذة هذا الخطاب، ولم ينكر عليه ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فكان هذا أصلاً في الجملة في رقص الصوفية ووجدهم" (2) .
ومما يدركه طلاب العلم أن هذا القول مملوء بالمغالطة والكذب، فأين اهتزاز جعفر وخفته في حال سماعه قول الرسول صلى الله عليه وسلم، من رقص الصوفية وتمايلهم طرباً الذي لا يمت إلى الخشوع بأدنى قرابة، وبذكر لا يورث أيضا أي خضوع ولا ذكر للآخرة، مثل ما يذكره الفوتي بقوله في تعداد أنواع ذكرهم
_________
(1) ص 172.
(2) ص 179.(3/938)
وقال:
"فلا حرج على الذكار ما دام مسلوب الاختيار ويستعمله كيف شاء على أنواع مختلفة كلها محمودة وصاحبها مشكور عليها، فلها أسرار، فربما يجري على لسانه الله الله الله، أو هو هو هو، أو لا لا لا لا لا لا لا، أو آآ آآ بالمد، أو أأ أأ أأ بالقصر، أو اهـ اهـ اهـ اهـ اهـ اهـ اهـ، أو ها ها ها ها ها ها ها ها، أو ... عياط بغير حرف أو صراخ وتخبيط، فأدبه في ذلك الوقت أن يسلم نفسه لوارده يتصرف فيه كيف يشاء" (1) .
ولك أيها القارئ اللبيب أن تتصور الصوفي وهو يترنح يميناً وشمالاً وهو يصرخ هو هو هو، أو لا لا لا لا لا لا لا، أو أأ أأ، أو ها ها ها ها ها ها ها ها ها، أو بغير تلك الصفات الهوجاء، بأن يكون عياطا بغير حرف، أو كان ذكره أن يصرخ، أو تخبط كالذي مسه الشيطان، فكيف تتصور النتيجة، إنها مآس تقشعر لها الجلود، إن هذا عار على الإسلام والمسلمين، بل عار على العقل والإدراك، إنك لو اطلعت عليهم وهم يرددون هو هو هو - ولم تكن تعرف التصوف من قبل - لوليت منهم فراراً ولملئت منهم رعباً.
ذكر الله وصفة طبية محتكرة على أقطاب الصوفية وبرضاهم:
"اعلم أن الذكر المأخوذ عن غير شيخ، أو عن شيخ غير مفتوح عليه عارف، هلاك صاحبه أقرب من سلامته، ولا سيما أسماء الله تعالى"؛ وسبب ذلك يبينه أحد كهنة الصوفية - وهو عبد العزيز الدباغ - بقوله: "الأسماء الحسنى لها أنوار من أنوار الحق سبحانه، فإذا أردت أن تذكر الاسم، فإن كان مع الاسم نوره الذي يحجب من الشيطان وأنت تذكره لم يضرك، وإن لم
_________
(1) ص 180.(3/939)
يكن مع الاسم نوره الذي يحجب من الشيطان، حضر الشيطان وتسبب في ضرر العبد والشيخ إذا كان عارفاً وهو في حضرة الحق" (1) .
رؤية الثعلبي:
من رأى الثعلبي أحد أقطاب الصوفية دخل الجنة. اجتمع أحمد التجاني بالشريف الحسني التهامي فقال له: "سمعت أن لك مزية عظيمة فقال له: ما هي؟ قال له: من رآك يدخل الجنة، قال: نعم، إلا أن المزية ليست لي، فقال له شيخنا: لمن هي، قال: للشيخ الثعلبي؛ لأن من رآه ومن رأى من رآه إلى سبعة أو ثمانية، أو اثني عشر إنساناً يدخل الجنة، وأنا رأيت من رأى من رآه" (2) .
وقال كذلك الثعلبي أنه قال: "من رآني إلى سبعة ضمنت له الجنة" (3) .
الأولياء والنبي صلى الله عليه وسلم:
الأولياء يرون النبي صلى الله عليه وسلم يقظة لا مناماً، حسب زعم الفوتي في قوله: "الفصل الحادي والثلاثون في إعلامهم أن الأولياء يرون النبي صلى الله عليه وسلم يقظة، وأنه صلى الله عليه وسلم يحضر كل مجلس أو مكان أراد بجسده وروحه، وأنه يتصرف ويسير حيث يشاء في أقطار الأرض والملكوت، وهو بهيئته التي كان عليها قبل وفاته ولم يتبدل منه شيء، وأنه مغيب عن الأبصار كما غيبت الملائكة مع كونهم أحياء بأجسادهم، فإذا أراد الله أنا يراه عبد، رفع الحجاب فيراه على
_________
(1) ص 286.
(2) ص 193.
(3) ص 193.(3/940)
هيئته التي كان هو عليها" (1) .
وجاء في الباب بما لا يتصوره عقل سليم من مجيء النبي صلى الله عليه وسلم إليهم ومقابلتهم له، وأخذهم عنه علوماً وفوائد، وغير ذلك مما لا نرى التطويل بذكره، وفوق ما تقدم يذكر الفوتي أن النبي صلى الله عليه وسلم يحضر الديوان الصوفي، وقد أطال في أخبار هذا الديوان والترتيب الذي يسيرون عليه حينما يحضر الرسول صلى الله عليه وسلم، أو حينما يتغيب، قال في أول ذلك الكلام:
"قلت: ولا ينكر رؤية النبي صلى الله عليه وسلم يقظة إلا من لا شعور له بمقامات العارفين ولا اطلاع له على ديوان الصالحين، فها أنا ألخص لك شيئاً من ذلك" (2) .
وقال الله من هذا التلخيص الذي هو أشبه ما يكون بحكايات ألف ليلة وليلة، إلا أن تلك الحكايات لألف ليلة وليلة لا تصل إلى عشر الأكاذيب التي ساقها أقطاب التصوف في تفاصيل ذلك الديوان الغريب، الذي يحضره الأولياء والنبي محمد صلى الله عليه وسلم، أحيانا يحضره الأنبياء كلهم ويحضره أيضا الأموات، ويعرفون بعلامات في لباسهم وكلامهم (3) ، وأخبار أخرى إذا قرأها العاقل حمد الله على نعمة العقل والدين.
والنبي صلى الله عليه وسلم لا يحضر الديوان الصوفي فقط، وإنما يحضر أيضاً- حسب أكاذيب الصوفية - صلاة جوهرة الكمال، حسبما يقرره محمد السيد التجاني في كتابه الهداية الربانية؛ حيث يقول:
_________
(1) ص 210.
(2) انظر رماح الفوتي ص 212: 214.
(3) انظر رماح الفوتي ص 212: 214.(3/941)
"وكذلك يحضر الرسول صلى الله عليه وسلم مع الخلفاء الأربعة، والشيخ، ومع عدد عظيم من صفوة الملائكة في الوظيفة السابعة من الجوهرة إلى الاختتام، ويشفع في جميع الحاضرين شفاعة خاصة تلحقهم، وتلحق السابع من أولاده ولو لم يكن فقيراً، إن حضرها بمحبة في الذكر وأهله، ولو لم يعرف خاصيتها، بل يحضر النبي صلى الله عليه وسلم لكل من قرأها في غير الوظيفة حتى يختم، ولو سار عمره ما فارقه صلى الله عليه وسلم صباحاً أو فقيراً أو تلميذاً، وهذا أغرب من كل غريب تفضل به الحق سبحانه على أهل هذه الطريقة لا غير" (1) .
ولئن كان محمد السيد التجاني، قد كذب في أن النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الأربعة وتلك الصفوف من الملائكة يحضرون، فإنه قد صدق حين قال عن كل ما ذكره سابقاً: "وهذا أغرب من كل غريب"، نعم إنه في منتهى الغرابة، فأي عقل سليم يصدق مثل ذلك الهراء السمج، والكذب على الله، وعلى نبيه، وعلى خيار الصحابة.
ولقد ذكرني كلامه بموقف مر علي حيث وقفت أمام بائع في حانوته- دكانه - وقد كتب عليها لوحة كبيرة هذا عنوانها "من يصدق؟! خصم خمسين في المائة! " فقلت له: نعم، لا أحد يصدق - وأنا أولهم - أنك تخصم خمسين في المائة فضحك وقال: "الناس لا يفهمون غير ما فهمته".
أمثلة مختصرة من مزاعم التجاني يذكرها الفوتي، وفيها من المبالغات تزكية النفس وإطرائها ما لا يليق بمخلوق:
منها قوله:
1- قد أخبرني سيد الوجود صلى الله عليه وسلم بأني أنا القطب المكتوم، منه إلى مشافهة
_________
(1) الهداية الربانية في فقه الطريقة التجانية ص 21.(3/942)
يقظة لا مناماً.
2- لا يشرب ولي، ولا يسقي إلا من بحرنا، من نشأة العالم إلى النفخ في الصور.
3- إذا جمع الله خلقه في الموقف ينادي مناد بأعلى صوته حتى يسمعه كل من في الموقف: يا أهل المحشر! هذا إمامكم الذي كان مددكم منه.
4- قال الشيخ عبد القادر الجيلاني: قدمي هذا على رقبة كل ولي لله تعالى - يعني أهل عصره - وأما أنا فقدماي هاتان - وجمعهما - على رقبة ولي لله تعالى من لدن أدم إلى النفخ في الصور.
5- هذا القرن أفضل من جميع ما تقدمه من القرون السالفة سوى القرون الثلاثة الوارد النص بأفضليتها (1) .
ثم ذكر الفوتي فضائل من تمسك بطريقة التجاني نوردها ليقف القارئ على مدى الهوس والأماني الفارغة التي أقام الصوفية مذهبهم عليها:
1- أن جده صلى الله عليه وسلم ضمن لهم أن يموتوا على الإيمان والإسلام.
2- أن يخفف الله عنهم سكرات الموت.
3- لا يرون في قبورهم إلا ما يسرهم.
4- أن يؤمنهم الله من جميع أنواع عذابه وتخويفه وجميع الشرور من الموت إلى المستقر في الجنة.
5- يغفر الله لهم جميع ذنوبهم ما تقدم وما تأخر منها.
_________
(1) انظر: 2/4 - 36.(3/943)
6- أن يؤدي الله عنهم جميع تبعاتهم ومظالمهم من خزائن فضله عز وجل لا من حسناتهم.
7- ألا يحاسبهم الله تعالى يوم القيامة ولا يناقشهم ولا يسألهم عن القليل والكثير.
8- أن يظلهم الله في ظل عرشه يوم القيامة.
9- أن يجيزهم الله تعالى على الصراط أسرع من طرفة العين على كواهل الملائكة.
10- أن يسقيهم الله تعالى من حوض النبي صلى الله عليه وسلم.
11- أن يدخلهم الله الجنة بغير حساب ولا عقاب في أول الزمرة الأولى.
12- أن يستقرون في عليين وجنة الفردوس وجنة عدن.
13- أن النبي صلى الله عليه وسلم يحب كل من أحب التجاني.
14- أن محب التجاني لا يموت حتى يكون ولياً.
15- أن أبوي آخذي ورده وأزواجه وذريته يدخلون الجنة بغير حساب ولا عقاب ولو لم يكن لهم به تعلق.
16- أن التجانيين تلاميذ للنبي صلى الله عليه وسلم وأحباب الله.
17- أن أصحاب التجاني يعتبرون صحابيين مثل صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم.
18- أن أي أذية لأي تجاني تعتبر أذية للرسول صلى الله عليه وسلم.
19- أن الإمام المهدي في آخر الزمان يأخذ عنهم ويدخل في زمرتهم ويطلب أن يعلموه الفاتحة.(3/944)
20- أن كل واحد من التجانيين أعلى من أكبر ولي من الأولياء ممن عداهم.
21- في الأذكار التي أعطيها التجاني اسم الله الأعظم.
22- أن كل تجاني يحفظ الأذكار آمن من السلب.
23- أن الله تعالى يعطيهم عن كل عامل تقبل الله عمله الضعف في أجره وهم رقود.
24- لا يمر عليه ما يمر على سائر الناس من التعب في الموقف.
25- أن النبي صلى الله عليه وسلم يحضر هو وخلفاؤه مع التجانيين دائماً.
26- يتميزون يوم القيامة عن سائر الناس بأن كل واحد منهم مكتوب بين عينيه محمد صلى الله عليه وسلم، وعلى قلبه مما يلي ظهره محمد بن عبد الله، وعلى رأسه تاج من نور مكتوب فيه الطريقة التجانية منشؤها الحقيقة المحمدية.
27- أن التجاني لا يعذب ولو قتل سبعين روحا إذا تاب بعدها.
أقتصر على ما ذكر وإلا فإن الفوتي ذكر بعد ذلك مزايا تدل على سعة خياله وعدم خوفه من القول على الله بغير علم.
ثم ذكر مزايا لأذكار الطريقة التجانية لا يستطيع الخلق حصرها ولو جائوا بكل أجهزة الآلات الحاسبة، واستدل على ذلك بأن الله يرزق من يشاء بغير حساب، وكل المخلوقات في السموات والأرض ومن فيهن والعرش والكرسي والقلم واللوح المحفوظ - كلها خلقت من نور محمد صلى الله عليه وسلم، والأرواح كلها(3/945)
كذلك من نوره صلى الله عليه وسلم. هذه الخرافات كلها يثبتها الفوتي في رماحه تبعاً لمفاهيم الصوفية الضالة، ويثبت أن الله قبل كل شيء ليس معه إلا ذات النبي صلى الله عليه وسلم، وأن الملائكة وجبريل في أولهم إنما خلقوا لخدمة محمد صلى الله عليه وسلم (1) .
تلاعب التجانية بتفسير القرآن الكريم:
"أنه صلى الله عليه وسلم عين الرحمة الربانية؛ لأن جميع الوجود رحم بالوجود بوجوده صلى الله عليه وسلم، ومن يفيض وجوده أيضا رحم جميع الوجود؛ فلهذا قيل فيه: عين الرحمة صلى الله عليه وسلم وهو المراد بقوله: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} (2) . وقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لَلْعَالَمِينَ} (3) " (4) .
الصوفية باطنية ويفضلون العلوم الباطنية على العلوم الإسلامية:
تسائل الفوتي على لسان شخص: ما الفائدة من الالتجاء إلى علم الشريعة - أي علم الظاهر - مع أن الحقيقة أي العلم الباطني أفضل؟، ثم أجاب عن ذلك، وصيغة السؤال والجواب هي: "فإن قلت: فلم لا يكتفي الإنسان بعلم الباطن المسمى علم الحقيقة، فيعمل بها حيث كانت هي المقصودة بالذات، فلم يقدم على الظاهر المسمى بالشريعة التي هي الوسيلة؟ "، قم قال في الجواب: "قلت: اعلم وفقني الله وإياك لما يحبه ويرضاه أن علم الشريعة الذي هو علم الظاهر وسيلة إلى المقصود بالذات
_________
(1) انظر: انظر: ص118 - 120.
(2) سورة الأعراف: 156.
(3) سورة الأنبياء: 107.
(4) ص127.(3/946)
الذي هو علم الحقيقة كما ذكرت، وعلم الحقيقة افضل وأشرف منه، إلا أن الانتفاع بعلم الحقيقة منوط باستصحاب علم الشريعة"، ونقل عن عبد العزيز بن مسعود الدباغ قوله:
"إن علم الظاهر بمثابة الفنار الذي يضيء ليلاً، فإنه يفيد في ظلمة الليل فائدة جليلة. وعلم الباطن بمثابة طلوع الشمس وسطوع أنوارها وقت الظهيرة" (1) .
* * * * * * * * * * * * * *
_________
(1) ص147.(3/947)
الفصل الثامن
الخلوات الصوفية ومنها الخلوات التجانية
أورد الفوتي في رماحه المعوجة، إيضاحات كثيرة لهذه الخلوات الصوفية تحتاج إلى دراسة مستقلة، ولئلا يفوت القارئ بعض أخبارها فإنني سأكتفي بإيجاز بعض ما قرره فيها كهنة الصوفية، الذين أسهموا بجهد كبير في تنويم الأمة الإسلامية وتأخرها، وتخدير كل عرق نابض فيها حتى وصلت إلى ما وصلت عليه، ومما لا يزال أقوى شاهد على تلك الجهود ما هو حاصل بين المسلمين في عصرنا الحاضر.
الدليل على الخلوات الصوفية حسب زعمهم:
يستدلون بما رواه البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: "أول ما بدئ برسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء فكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه - وهو التعبد الليالي ذوات العدد - ... " إلخ الحديث (1) .
يقول الفوتي:
"فهذا الحديث المنبئ عن بدء رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الأصل في إثبات المشائخ للخلوة لمريد من الطالبين" (2) .
_________
(1) انظر: صحيح البخاري مع الفتح 1/22.
(2) انظر: ما كتبه الفوتي ص161 -168، وقد ذكرت ذلك هنا بتصرف.(3/948)
والجواب:
1- أن هذا الحديث بينه وبين الخلوة الصوفية فراق لا لقاء معه، فإن خلوة الرسول صلى الله عليه وسلم إنما كانت لتحبيب الله عز وجل له ليهيئه لحمل الأمانة العظمى.
2- كانت قبل أن يؤمر بتبليغ الناس الدين الإسلامي،
3- لم يأمر بها النبي صلى الله عليه وسلم ولا أشار إليها ولا استحسنها لأمته على الطريقة الصوفية.
4- لم يفعلها أحد من الصحابة ولا من بعدهم من التابعين لهم بإحسان.
5- أنها تنافي ما هو ظاهر من الشريعة الإسلامية، بالاكتساب وبدعوة الناس ومخالطتهم، إلى غير ذلك من الأجوبة التي يدركها طلاب العلم.
والخلوة الصوفية بدعة مستحدثة، وليس فيها أي نفع لا للشخص ولا للمجتمع، يخرج منها مظلم الفكر محلاً للوساوس نافراً عن الناس.
مدتها:
يقول الفوتي:
"وأكثرها عند القوم لا حد له، لكن السنة تشير للأربعين بمواعدة موسى صلى الله عليه وسلم، والقصد في الحقيقة الثلاثون؛ إذ هي أصل المواعدة وجاور صلى الله عليه وسلم بحراء شهراً".(3/949)
شروط الخلوة الصوفية:
ذكر الفوتي ستة وعشرين شرطاً لصحتها نذكرها باختصار، وللقارئ أن يلاحظ أثناء عرضها مدى تغلغل الأفكار المخالفة للإسلام فيها، من بوذية وهندوسية ونصرانية وغير ذلك:
1- أن يعود نفسه قبل دخولها إذا أراد الشروع، السهر والذكر وخفة الأكل والعزلة.
2- أن يكون دخول الخلوة بحضور الشيخ ومباركته له وللمكان أيضاً.
3- أن يعتقد في نفسه أن دخوله الخلوة إنما هو بقصد أن يستريح الناس من شره.
4- أن يدخلها كما يدخل المسجد مبسملاً متعوذاً بالله تعالى من شر نفسه، مستعيناً مستمداً من أرواح مشايخه بواسطة شيخه المباشر.
5- أن يدخل الشيخ الخلوة ويركع فيها ركعتين قبل دخول المريد ويتوجه إلى الله تعالى في توفيق المريد.
6- أن يعتقد عند دخوله الخلوة أن الله تعالى ليس كمثله شيء، فكلما يتجلى له في خلوته من الصور، ويقول له: أنا الله، فيقل: سبحان الله! آمنت بالله.
7- ألا يتلهف كثيراً على كثرة ظهور الكرامات.
8- أن يكون غير مستند إلى جدار الخلوة ولا متكئاً على شيء، مطرقاً رأسه تعظيما لله تعالى، مغمضاً عينيه، ملاحظاً قوله تعالى: أنا جليس من ذكرني، ثم يجعل خيال شيخه بين عينيه، فإنه معه وإن لم يره المريد.(3/950)
9- أن يشغل قلبه بمعنى الذكر على قدر مقامه، مراعياً معنى الإحسان وهو أن تعبد الله كأنك تراه.
10- أن يداوم الصوم؛ لأنه يؤثر في تقليل الأجزاء الترابية والمائية فيصفو القلب.
11- أن تكون الخلوة مظلمة لا يدخل فيها شعاع الشمس وضوء النهار، فيسد على نفسه طرق الحواس الظاهرة، وسد طرق الحواس الظاهرة شرط لفتح حواس القلب.
12- دوام الضوء لتلألأ الأنوار فيها بعد ذلك.
13- دوام السكوت إلا عن ذكر الله تعالى إلا عند الضرورة القصوى فيتكلم بحذر شديد أن يزيد.
14- أن تكون الخلوة بعيدة عن حس الكلام وتشويش الناس عليه.
15- كونه إذا خرج للوضوء والصلاة يخرج مطرقاً رأسه إلى الأرض غير ناظر إلى أحد، ويحذر كل الحذر نظر الناس إليه، مغطياً رأسه ورقبته بشيء؛ لأنه ربما يحصل له عرق الذكر فيلحقه الهواء فيضره.
16- أن يحافظ على صلاة الجمعة والجماعة - وإن وجد نفقة فليتخذ له شخصاً يصلى معه في خلوته؛ أي بالإيجار.
وإذا خرج لصلاة الجماعة فليتأخر حتى يكبر الإمام تكبيرة الإحرام فإذا انتهى من الصلاة رجع فوراً إلى خلوته , قال السهروري: "وقد رأينا من يتشوش عقله في خلوته ولعل ذلك لشؤم إصراره على ترك صلاة الجماعة.(3/951)
17- المحافظة على الأمر الوسط في الطعام لا فوق الشبع ولا الجوع المفرط.
18- ألا ينام إلا إذا غلبه النوم بأن تشوش عليه الذكر.
19- نفي الخواطر عن نفسه خيره كانت أم شريرة.
20- دوام ربط القلب بالشيخ بالاعتقاد والاستمداد على وصف التسليم والمحبة، والاعتقاد التام بأنه لا يصل إليه أي خير إلا من قبل شيخه المباشر، ومتى غاب فكره عن الشيخ فقد خسر الصفقة.
21- ترك الاعتراض عن الشيخ؛ لأنه أعلم بمصالحه وأكبر عقلاً وأعظم؛ لأنه بالغ مبلغ الرجال بخلاف المريد.
22- أنهم في أثناء خلوتهم لا يفتحون أبواب خلوتهم لمجيء الناس وزيارتهم والتبرك بهم، وإياك وتلبيسات النفوس وخداع الشيطان بالإلقاء فيك أن هذا الشخص يهتدي بك وبكلامك وينتفع بملاقاتك في الدين، فإنها من شبكات مكر اللعين.
23- أنه إذا شاهدوا أشياء تقع لهم في اليقظة أو بين النوم واليقظة فلا يستقبحون ذلك ولا يستحسنونه، بل يعرضون ذلك على الشيخ وهو يتصرف بعد ذلك.
24- دوام الذكر والأذكار حسب ترتيب الشيخ لها.
25- الإخلاص وحسم مادة الرياء وطلب السمعة بالكلية.
26- ألا يعين مدة يخرج بعد كمالها، فإن النفس يصير لها بذلك تطلع(3/952)
إلى انقضاء المدة، بل يدخلها وهو يحدث نفسه بأنه قد انتهى من الحياة ودخل القبر.
هذه أهم الشروط التي لفقها علماء التصوف مثل حرازم الفوتي والسهروردي والشيخ نجم الدين البكري وغيرهم من عتاة التصوف.
ولا شك أن القارئ يدرك تأثير هؤلاء الصوفية بالمبادئ الخارجة عن الإسلام، وكيف حاولوا أن يظهروها ويغطوها بغطاء إسلامي، وإلا فأين مستندهم من القرآن والسنة النبوية على تلك الرهبانية وتلك الخلوة، في ذلك الحفش المظلم، الذي يسد فيه أي شعاع للنور، ويجلس غير مستند على شيء؟ !، هل هو من الإسلام؟ !، وتلك الطاعة العمياء التي ما أنزل الله بها من سلطان، والتي لا ينبغي أن تكون إلا لله ولرسوله فقط، هل هي من الإسلام؟.
إن كل ذلك جناية، على العقل أيما جناية وإذلال للمؤمن أيما إذلال، وإساءة لتعاليم الإسلام الحنيف وتشويه لصورته المشرقة عند من لا يعرفه.
وزوجة الشيخ المطلقة لا يحق للمريد أن يتزوجها لقول الله في حق نبيه محمد صلى الله عليه وسلم {وَلا أَن تَنكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِه} (1) ، يقول الفوتي في بيانه لأقسام الناس بالنسبة لطاعة شيوخهم:
"ومنهم من يتزوج مطلقة شيخه لولا قول الله تعالى: {وَلا أَن تَنكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِه أَبَداً} (2) .
_________
(1) سورة الأحزاب: 53.
(2) ص199.(3/953)
أقسام الخلوات الصوفية:
1- خلوة الأربعين يوماً التي تقدم ذكرها وشروطها.
2- خلوة فاتحة الكتاب، وكيفيتها أن تصوم أربعين يوماً وتحترز فيها من أكل الحيوان وما يخرج منه، وتقرأ هذا الدعاء.. إلى آخر ما يذكر، وهنا لا أظن أن الأمر يحتاج إلى اجتهاد في استكشاف نزعة التصوف الوثنية.
3- خلوة البسملة ومدتها تسعة عشر يوماً، ومن فاته سر بسم الله الرحمن الرحيم فلا يطمع أن يفتح عليه بشيء.
4- خلوة الفاتحة أيضاً وهي أن يلازم بقراءتها بالخلوة أربعين يوماً.
5- خلوة الياقوتة الفريدة، وخلوتها عشرون يوماً، تتلى كل يوم في الخلوة ألفي مرة.
وقال الفوتي بعد ذكر تلك الخلوات الخرافية:
"انتهى ما أردنا ذكره منها، ولكل واحد منها ثمرات لا يمكن حصرها، منعني من ذكر بعضها الخوف من شياطين الطلبة" (1) . ولعله يدرك أن هؤلاء الطلبة ربما لا يزال فيهم وميض من العقل والمعرفة، فأخر الأخبار بكل التفاصيل إلى وقتها.
ولعل الذي شجع الصوفية على هذا الخبط والاضطراب، ما هو مقرر عندهم في القاعدة الآتية: "أصحاب الفتح الأكبر لا يتقيدون بمذهب من مذاهب المجتهدين، بل يدورون مع الحق عند الله تعالى أينما دار" (2) ، ولهذا
_________
(1) ص170.
(2) ص171.(3/954)
فكل عمل يعملونه يعتبر من باب التشريع للأمة.
تثبيط الصوفية أتباعهم عن الجهاد في سبيل الله وقتال الكفار وتسميتهم للجهاد بالجهاد الأصغر وتسميتهم لما يسمونه جهاد النفس بالجهاد الأكبر:
قال الفوتي: "انعقد إجماع الأمة على وجوب جهاد النفس، والهجرة عن مألوفاتها وردها إلى الله تعالى، أكبر من جهاد الكفار بلا ريب، لوجوه (1) :
1- أحدها: أن جهاد النفس والهجرة عن مألوفاتها السيئة فرض عين وجهاد الكفار فرض كفاية.
2- أن النفس أعدى من كل عدو لصاحبها؛ لأن المجاهد جهاد الكفار إن قتل الكافر دخل الجنة، وإن قتله الكافر كان شهيداً، بخلاف النفس فإن غلبها صاحبها استولى عليها، وكان الحكم للروح وسعد وسعدت سعادة الأبد، ومن غلبت وتسلطت على الروح تسلط عليه الكفر والمعاصي فيهلك.
3- إن ضرر الكفار مقصور في الدنيا وهي فانية ولذلك كان جهادهم أصغر ... وفي عرائس البيان عند قوله تعالى: {يَا أًيُّهَا الًّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ} (2) النفوس التي هي تجمع الهوى والبلاء والحجاب، من عرفها قاتلها وأمتها؛ يعنون الرياضات.
4- أن جهاد الكفار قد لا يكون فرضاً في بعض السنين، وجهاد النفس
_________
(1) نذكرها بتصرف انظر: ص217 إلى آخر الفصل الذي أورده وهو الحادي والخمسين.
(2) سورة التوبة: 123.(3/955)
وردها عن مقتضى هواها والهجرة عن مألوفاتها الباطلة واجب عين على كل مسلم ومسلمة في كل لحظة.
5- أن بعض فروض الكفاية أفضل من جهاد الكفار.
6- أن فرض جهاد الكفار يسقط بمنع الأمر والنهي من الوالدين، لوجوب طاعتهما، ويحرم طاعتهما في مجاهدة نفسه.
7- أن جهاد الكفار يقدر عليه كل أحد وجهاد النفس والهجرة عن مألوفاتها ... لا يقدر عليه إلا الموفقين.
8- أن شهيد جهاد النفس والهجرة عن مألوفاتها المخزية شهيد قطعاً في الآخرة، وأكثر شهداء الكفار شهداء الدنيا فقط دون الآخرة.
9- أن القائم بجهاد نفسه والهجرة عن مألوفاتها المضلة، قائم لإصلاح نفسه وساع في تخليصها من الدنيا وعذاب الآخرة، والقائم بجهاد الكفار قائم لإصلاح غيره
10- أن شهيد جهاد النفس والهجرة عن مألوفاتها المبعدة عن الله تعالى أفضل من شهيد جهاد الكفار بدرجات.
وهناك أقوال أخرى كثيرة لأقطاب التصوف في تثبيط المسلمين عن جهاد الكفار، وتركهم، والانزواء في الزوايا والأربطة ومجاهدة النفس وإصلاحها دون إصلاح الآخرين.
ومن الواضح أن تلك التعليلات التي ذكرها الفوتي ويذكرها غيره من أقطاب الصوفية تعليلات واهية، تردها النصوص الكثيرة من كتاب الله تعالى وسنة نبيه، كما في سورة براءة وكما في أحاديث فضل الجهاد والقتل في سبيل الله، وتمني الشهيد الرجوع إلى الدنيا مرة أخرى ليقتل في سبيل الله، ولما يرى من(3/956)
إنعام الله ورضاه عنه.
وزعم الصوفية أن جهاد النفس أولى مغالطة؛ فإن جهاد الكفار هو أعلى جهاد للنفس، وفضله أعلى وأشرف، ولو أن المسلمين أطاعوا الصوفية، وقبعوا في الزوايا المظلمة، وتركوا قتال الكفار, واهتموا بجهاد أنفسهم على طريقة الصوفية لجاء الكفار , ولكان أول ما يبدءون به هو إخراج هؤلاء الدواجن من زواياهم، ثم هتك أعراض المسلمين وأخذ بلدانهم وأموالهم وإذلالهم وإهانتهم. إن ما يذهب إليه هؤلاء الصوفية هو تخدير وتنويم للمسلمين.
يا عابد الحرمين لو أبصرتنا ... لعلمت أنك بالعبادة تلعب
من كان يخضب خدّه بدموعه ... فنحورنا يوم الكتيبة تخضب
ومن الواضح أن أعداء الإسلام حينما ينظرون إلى الصوفية بعين الرضا والارتياح، فإنما ذلك لأجل هذه المواقف المتخاذلة التي وقفها أقطاب التصوف منهم، ولقد اتفقت دعوة الصوفية إلى ترك الجهاد مع كل الأفكار الخارجة عن منهج الله عز وجل؛ إذ ما من طائفة من تلك الطوائف إلا وكانت الدعوة إلى ترك الجهاد من أولويات اهتماماتهم.
وأرجو من الله عز وجل أن يهيئ لدراسة الأفكار الصوفية المتقدمة دراسة وافية، ورد كل مزاعمهم التي فرقوا بها دينهم وأمتهم إلى وقتنا الحاضر.
* * * * * * * * * * * * * *(3/957)
الفصل التاسع
مغالطات لجنة جماعة الصوفية في مدينة "ألورن" في نيجيريا
وأما لجنة جماعة الصوفية في مدينة "ألورن" في نيجيريا فقد أرادوا تحسين الوجه الكالح للتجانية والقادرية أيضاً؛ حيث أخرجوا كتيباً باسم "رفع الشبهات عما في القادرية والتجانية من الشطحات" (1) ، وقام بترتيبه الحاج محمد إبراهيم النفاوي القادري، والحاج علي أبو بكر جبتا التجاني. وقد صدروا هذا الكتيب بأبيات للحاج حمزة سلمان أبارغدرما الألوري ومنها:
انتبهوا يا معشر الإخوان ... على فساد واعظي الزمان
قد دخلوا في هذه البلدان ... لنصرة الإلحاد والشيطان
وطعنوا في شيخنا التجاني ... وطعنوا في شيخنا الجيلاني
إلى آخر تلك الأبيات التي يدافع بها عن التجانية ويحذر من دعوة المصلحين من المسلمين إلى رجوع التجانيين إلى الحق، وقد وصف هذه الدعوة الإصلاحية أنها نصرة للشياطين وللإلحاد، لمجرد انتقادها منهج التجانية وجرائمه، ويقصد بهم جماعة نصرة الإسلام في مدينة كادونا.
_________
(1) رفع الشبهات عما في القادرية والتجانية من الشطحات يتكون من 32 صفحة، مع مقدمة آدم عبد الله الألوري التجاني القادري مدير المركز العربي في نيجيريا.(3/958)
وما دامت النصيحة واجبة لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم، فإنني أحذرك أيها القارئ من قارئتها قبل أن تقرأ مبادئ الصوفية والردود عليهم، لا لغزارة علم فيها، وإنما لكثرة المغالطات والتأويلات وإيراد الأدلة على غير معانيها الصحيحة سواء كانت من القرآن الكريم، أو من السنة النبوية، فقد جاءت ردودهم من واقع الانفعال العصبي، ضد من كفرهم من بعض الدعاة وطلبة العلم في نيجيريا وغيرها، كما يذكرون، ولا ريب أن إعلان تكفيرهم وإخراجهم من الملة هم أو سائر الصوفية، حكماً عاماً دون تفصيل، لا ريب في قبح خطئه.
ومما أحب تنبيه طالب العلم إليه هو ما جاء في ردودهم من الأخطاء الفاحشة في تأويل صفات الله تعالى كما في الطريقة المعروفة عن نفاة الصفات؛ حيث جعلوها من المتشابهات ثم أكدوا أنهم يؤمنون بالمتشابهات من القرآن الكريم ومن السنة النبوية، ويطلبون لما ظاهره عدم موافقة الواقع تأويلاً؛ ليخلصوا بعد ذلك لأقطاب الصوفية - أيضاً - كلامهم يحمل ما كان منه مخالفاً للواقع أو فيه شطح على التأويل، مع حسن الظن بهم كيفما كان اعتقادهم، وهو طلب مردود؛ فإن الإنسان لا يعلم ما في نفسه إلا الله، وإنما يحكم عليه حسب ما يظهر من قوله أو فعله أو اعتقاده.
وهؤلاء أصحاب الشطح أظهروا كلمات كفرية، وفعلوا أفعالاً باطلة وتمدحوا بذلك كله، ولو جاز هذا المسلك لجاز أن نعتذر لمن لطم شخصاً أو لعنه، بأنه فعل ذلك من فرط حبه وتقديره له.
وأما بالنسبة لجواب التجانيين في مدينة "ألورن" عن بعض المبالغات في الطريقة التجانية- ومنها صلاة الفاتح - فقد أجابوا عن تقرير التجانيين، في أن(3/959)
صلاة الفاتح لما أغلق المرة الواحدة منها تعدل آلاف ختمة، بأن هذا من المتشابهات، ولعله أريد بذلك تفضيل الممكن على المستحيل؛ أي من حيث أنه يمكن أن يصلي بصلاة الفاتح في دقيقة واحدة، ويستحيل أن يقرأ ستة آلاف ختمة في دقيقة واحدة.
والغريب في هذا الجواب أن يتكلف له إلى هذا الحد بأن يقال: إنه من المتشابه، وكان الأسهل والأقوى في الجواب أنهم يقولون: هذا خطأ من التجاني وخروج عن الصواب لا أنهم يجعلونه من المتشابه الذي لا يعلمه إلا الله، فهو قول بشر، والبشر معرضون للخطأ والصواب، وأي حرج في أن يخطأ التجاني أو غيره، ومن المؤسف أن يقال: أخطأ عمر أو أخطأ ابن عباس أو ابن مسعود أو ابن عمر ثم لا تحصل هذه الجرأة أمام التجاني، ويقال له: أخطأت، فإن القرآن الكريم هو كتاب الله لا يعدله كلام البشر، مهما كانوا عليه من العلم أو الصلاح، ولكن التعصب ليس له عقل.
مع أن صلاة الفاتح هذه ليس فيها ذكر السلام على النبي صلى الله عليه وسلم بل فيها ذكر الصلاة فقط، وهو نقص بلا شك في صيغة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، على ضوء قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} (1) .
ونذكر للقارئ هنا جواب علماء "ألورن" من الصوفيين التجانيين، حيث قالوا: "فالجواب: على المسلم أن يصلي على النبي، وأن يسلم عليه مرة في عمره، ثم ما زاد فعلى الاستحباب، فلا يجب الجمع بينهما في زمان واحد".
وهذا رأى مرجوح وإن كان قد قال به جماعة من العلماء.
_________
(1) سورة الأحزاب: 56.(3/960)
فإن الحق الذي تطمئن إليه النفس هو: أن الصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم تجب في مواطن كثيرة وليس مرة واحدة (1) ، فإن هناك عشرات الأحاديث في الحث على الصلاة عليه في كل وقت وخصوصاً يوم الجمعة، والله تعالى في القرآن الكريم يطلب من المؤمنين أن يداوموا الصلاة والسلام عليه صلى الله عليه وسلم.
والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: "رغم أنف عبد ذكرت عنده فلم يصل عليّ"، فهل نترك الصلاة والسلام عليه في التشهد في الصلاة بحجة أنه لا يجب علينا السلام عليه إلا مرة واحدة في العمر؟
فجوابهم هذا سقيم مثل سقم جوهرة الكمال التي ورد فيها وصف النبي صلى الله عليه وسلم بالأسقم، ومع ذلك حاول كبراء الصوفية جاهدين إخراج ما جاء في هذه الصلاة من عثرات وجهل بصورة مقبولة، ولكنهم لم ينجحوا في ذلك، لأن في صلاة جوهرة الكمال أمور يقف عندها الشخص حائراً طالباً الدليل ملحاً عليه، منها:
1- إيجابهم الوضوء لقراءتها كما في الهداية الربانية وجوهرة الكمال ورماح الفوتي.
2- وصف النبي صلى الله عليه وسلم بالأسقم، وهي كلمة نابية لا تقبلها النفس مهما أسدل عليها من تأويلات.
3- ما جاء من وصف النبي صلى الله عليه وسلم بإحاطة النور المطلسم.
4- زعمهم أن النبي صلى الله عليه وسلم يحضر بنفسه عند قراءة جوهرة الكمال.
أجابوا عن وجوب الوضوء لقراءتها بأنه شرط كمال لتحصيل البركة.
_________
(1) وقد ذكر ابن كثير رحمه الله عن جماعة من العلماء أنهم يرون وجوب الصلاة مرة واحدة، ولكنه فنده: انظر تفسير القرآن العظيم 2/506 - 517.(3/961)
وعن الأسقم أنها بمعنى العدل.
وعن المطلسم أي الخفي عن الغير.
وعن حضور النبي صلى الله عليه وسلم بأنه ممكن؛ لأنه من الخوارق، والنبي في قبره يرد السلام على من يسلم عليه ويظهر لأحبابه في أي مكان.
ثم استدلوا على حضوره في كل مكان بدليل أحب أن تحكم عليه أنت بنفسك أيها القارئ، هذا الدليل هو محطة (التليفزيون) حيث تبث الصور في كل مكان وهي ثابتة في مكانها، فهل تلك الأجوبة التي أجابوا بها على مسائل في غاية الأهمية تقنع أحداً يحرص على معرفة الحق؟، وهل محطة التليفزيون تكفي لإقناع المسلم بأن الرسول صلى الله عليه وسلم يأتي بعد وفاته إلى مجالسهم؟!.
وكذا إيجابهم الوضوء لجوهرة الكمال، فإنه قد تقرر عند المسلمين أن الوضوء لا يجب إلا للصلاة ولقراءة القرآن والطواف بالبيت، أما أنه يجب لقراءة جوهرة الكمال فهو حكم جديد يحتاج إلى دليل، وأين الدليل؟ !.
وأما الأسقم والمطلسم فيكفي في النفور عن ظاهرها، فهي كلمات متكلفة لم ترد في كتاب الله ولا في سنة نبيه ولا في أقوال علماء الإسلام.
وأما حضور النبي صلى الله عليه وسلم مجلس لهوهم وطربهم فهو قول لا يسلم لهم به أي إنسان عنده مسكة من عقل أو أثاره من علم، فحينما مات النبي صلى الله عليه وسلم غسل، وحفر قبره، ودلي فيه كما هو الحال في بقية بني آدم، ثم دفن، بعد ذلك النزاع بين المسلمين في موضع دفنه، وحصل ما حصل للمسلمين بعد وفاته من فتن وبلايا - كانوا أحوج إليه، ومع ذلك لم يقل أحد منهم أنه رآه أو حضر أمرهم أو شاركهم فيه.(3/962)
وإذا كان الأمر على ما ذكره الصوفية في حقه الشريف، من أنه يخرج من قبره حين يجتمعون ويفرشون له بساطاً أبيض يليق بوقوفه عليه، فمن يدفنه مرة أخرى؟ !، فإنهم يزعمون أنه يحضر بجسده ويقابلهم يقظة لا مناماً، وهذا يبطل ما استدل به التجانيون المتأخرون من تمثيل حضوره بمحطة (التليفزيون) ؛ لأن هذا لا يتحقق إلا إذا قالوا: يحضر بروحة فقط وفي مكان واحد أيضاً فقط، وهم لا يقولون هذا؛ بل يقولون: يحضر في كل مكان في وقت واحد وبجسده الشريف.
وهل محطة التلفزيون تصلح أن تكون دليلاً مقنعاً على هذه المسألة الخطيرة؟.
ويجدر بالذكر هنا أن جماعة "ألورن" تناقضوا في مسألة أصلها خطأ، وبنوا عليها حكماً خاطئاً، وذلك في قولهم: فصلاة الفاتح خالصة جامعة شاملة للمعاني العالية، ولو كان مدح بها النبي صلى الله عليه وسلم في حياته لفرح بها، كما فرح بمدح كعب بن زهير حين مدحه بقوله:
إن الرسول لسيف يستضاء به ... مهند من سيوف الله مسلول
وبغض النظر عن صحة ترتيب البيت فإن الذي يهمنا هنا أمور، منها:
1- كيف يقولون: أن صلاة الفاتح لو مدح بها النبي صلى الله عليه وسلم في حياته لفرح بها، وهم يعتقدون ويقررون في كتبهم المعتمدة، أن الرسول يحضر أماكنهم ويجالسهم ويحضر الديوان العام لهم بجسده وروحه، ومعنى هذا أنه سمع بهذه الصلاة مرات عديدة؟!.
2- أنهم يقررون أنها وحي من الرسول صلى الله عليه وسلم للتجاني فكيف بعد ذلك سيقولون: إنه لو سمع بها لفرح؟!.(3/963)
3- أنه ليس فيها ما يفرح، ففي الأذكار الثابتة والصلوات التي علمها صلى الله عليه وسلم أمته لا تعتبر صلاة الفاتح لما أغلق شيئاً بالنسبة لها.
4- فكره، فهي من باب إن من البيان لسحراً، بخلاف دعاء الفاتح فليس فيه شيء من هذا.
5- كيف يقررون فرح النبي صلى الله عليه وسلم بها لو سمعها، مع أن فيها إثبات أجور لا يعلم عددها إلا الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بوحي، وهي أمور غيبية لا تقال إلا بإخبار الله ورسوله عنها، فإثباتهم لتلك الأجور إما أن تكون بإخبار الرسول صلى الله عليه وسلم وذكره لها، وإما أن تكون من وضع خيالاتهم، وإذا قالوا: ما لم يثبت فهو رد عليه، فكيف يدعون أنها كانت من تعاليم الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم يقولون لو علم بها لفرح بها ثم يثبتون فيها أجوراً خيالية بدون سند صحيح.
وعلى هذا فيعتبر قول جماعة "ألورن": إن النبي صلى الله عليه وسلم لو كان سمعها لفرح بها، كلام من تلقاء أنفسهم واجتهاد خاص بهم، تناقضوا فيه دون أن يشعروا، مع أن هذا القول غير مسلم به؛ فإنه بإمكان كل شخص أن يخترع في الدين ما يشاء، ثم يقول بمثل مقالتهم هذه ويعلل بمثل تعليلاتهم.
تنبيه:
لقد أطلت في النقل عن التجانية فيما تقدم لأمور أبديها فيما يأتي:
1- أن ذلك النقل كان من أهم كتب التجانية مثل: جواهر المعاني، ورماح الفوتي، وغيرهما من كتب التجانيين.(3/964)
2- لأن التجانية لا تزال مستولية على مفاهيم كثير من الناس، ولا تزال لها سلطتها الفولاذية على كثير من بلاد أفريقيا بخصوصها.
3- لكي يقف القارئ على أفكار التجانية وما تحمله من أخطار من كتبهم؛ لئلا يظن أحد بوقوع التحامل عليهم.
4- كنت قد جمعت تلك الأقوال في أوراق خاصة للرجوع إليها عند الحاجة، ثم رأيت أن حاجة طلاب العلم إليها أيضاً لدراستها وللرد على التجانية ربما تفوق حاجتي؛ فأحببت أن أقدمها بل أعتبرها هدية لهم؛ حيث قرأت أهم مصادرهم واستخلصت منها ما يحتاج إلى تنبيه ودراسة ونقد؛ لضرره على الإسلام والمسلمين.
عرضت لك الأفكار من باب النصيحة لكي لا يقع أي شخص ضحية تلك الأفكار التجانية الخاطئة، ولينجوا منها من أراد الله به خيراً، ممن وقع فيها، بعدما يقرأ بنفسه ما تبيته التجانية لأتباعها، من ذل واستعباد لا يليق بالإنسان الذي كرمه الله تعالى.
ما لمسته بنفسي من التعصب الأعمى للتجاني وأفكاره، من جهلة بعض المسلمين، مما يجعل الواقف على ذلك في حزن على هؤلاء الذين أرغمت أنوفهم في الأرض، دون أن يشعروا بكرامتهم المداسة من قبل أقطاب التصوف؛ حيث علقوا أنظارهم وأهدافهم بالوصل إلى الكرامات والاتحاد مع الله ومناجاته لهم، ووصولهم إلى درجة يسقط معها كل تكليف، وأنهم في الآخرة من الآمنين؛ لأنهم قد رأوا التجاني أو رأوا من يراه إلى اثني عشر رجلاً، وهو أو الثعلبي أو غيرهما ممن جرأ على استعباد أفكار الناس دون رحمة(3/965)
بهم أو عطف على مصيرهم.
كان في نيتي أن أجعل تلك النصوص موضع دراية خاصة؛ إذ لا تحتمل هذه الدراسة التوسع في دراسة تلك النصوص وفحصها والرد عليها، ومهما يكن، فقد حصلت عندي قناعة تامة بأن إطلاع طلاب العلم على تلك النصوص - حتى وإن كانت بطريقة موجزة - فيها نفع عظيم لهم، وفيها أيضاً تزويدهم بما يدحض تعصب التجانيين ضدهم، ودفع شبههم والتطاول عليهم، حين يغالطون في نفي المفاهيم الضالة التي توجد في كتبهم المعتمدة، والتظاهر بالاستقامة وعدم الغلو.
والله الهادي إلى سواء السبيل وهو حسبنا ونعم الوكيل.
* * * * * * * * * * * * * *(3/966)
الفصل العاشر
كيفية الدخول في المذهب الصوفي
للصوفية طرق عديدة ومسالك مظلمة وقواعد خاصة للتربية حسب منهجهم، وكيفية ذلك عندهم نوجز الكلام عنه فيما يلي:
1- أول ما يجب على الداخل هو أن يختار الفرد أو الجماعة من المريدين شيخاً لهم يسلك بهم رياضة خاصة بهم على دعوى وزعم تصفية القلب للوصول بالمريد إلى معرفة الله، هكذا يزعمون وهو في الحقيقة يصل إلى متاهات وضلال بعيد،
ولا يتم السير في الطريق الصوفي إلا إذا عطل المريد عقله وفكره.
2- أن يتبع المريد شيخه أتباعاً مطلقاً حتى وإن كان في تحريم الحلال وإحلال الحرام.
3- عليه أن يردد ما يردده الشيخ من أذكار.
4- ثم يكون وجوباً عليه أن يكون بين يدي شيخه كالميت بين يدي الغاسل يقلبه كيف يشاء، فإن الاعتراض وإبداء الرأي من أكبر الأخطار على المريد وطرده عن رحمة الله.
5- وعليه كذلك أن يعتقد أن جميع ما يفعله الشيخ هو الحق والصواب حتى وإن رآه يشرب الخمر ويزني؛ لأن الشيخ لا يفعل الفواحش(3/967)
بروحة وإنما بصورته البشرية لتربية المريدين، وهذا مخرج للصوفي إذا فعل فاحشة، وما أكثر ما يفعلونها تحت هذا الستار، وعلى التلميذ أن لا يفكر في أنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق؛ لأنه يتعارض تماماً مع ما يراه زعماء الصوفية من وجوب التسليم للشيخ في كل ما يأتي ويذر.
6- كما أنه يحب عليه أن يجتاز تلك الخلوة المفروضة.
7- وأن يتصور صورة الشيخ ماثلة أمامه في كل حال، وأن يعتقد أن الشيخ يعلم بكل شيء عنه وهو في داخل خلوته، ويعرف كل شؤونه ما دق منها وما جل.
8- وأن لا يغير شيخه بآخر.
9- ولا يزور أحد المشائخ والأولياء ما دام في أول أمره.
10- وأن يمشي في الطريقة منزلة منزلة حتى يصل إلى القطبانية.
11- وألا يخالط المقصرين والبطالين من أهل قيل وقال.
12- وألا يضن بماله ولو طلبه الشيخ كله.
13- وأن يرضى بالذل الدائم وحرمان النصيب، والجوع الدائم والخمول وذم الناس له، وتقديم أضرابه وأشكاله وأقرانه عليه في الإكرام والعطاء والتقريب عند الشيوخ ومجالس العلماء، فيجوع هو والجماعة يشبعون والكل أعزاء ونصيبه الذل، ويعز الجماعة ويستجيز الذل ويجعله نصيبه. قال الجيلاني بعد أن ذكر ما سبق:
"فمن لم يرض بهذا ويوطن نفسه عليه فلا يكاد أن يفتح عليه ويجيء منه(3/968)
شيء" (1) ، إلى آخر ما ذكر الجيلاني مما يطول نقله.
وأول المنازل في الطرق الصوفية يسمى فيها الداخل مريداً، أي يريد السير في الطريقة، وتسمى منزلة الإرادة يقبلة الشيخ ويأخذ عليه العهود بالتوبة من الذنوب وصدق النية وترداد الأوراد المقررة عليه من الشيخ، وألا يعتقد أي معتقد لم يقره الشيخ، ولا يحق له الاعتراض على الشيخ حتى إن رآه مخطئاً.
ويسمى بعد توجهه وإرادته المذهب الصوفي سالكاً، وبعد استمراره وسلوكه ومواظبته على الأوراد التي يلقنه الشيخ، فإذا أتقنها انتقل إلى مرتبة أخرى تسمى مرتبة العبودية (2) ، وعليه أن يكثر من الضراعة والإلحاح إلى الله بترداد ما يمليه عليه المشائخ من أذكار وأوراد.
ثم ينتقل المريد إلى مقام آخر حيث تقبل عليه العناية الإلهية وينتقل قلبه إلى مقام العشق لله، وعلى المريد هنا أن يكثر من الرياضة التي توصله إلى ربه فيما يزعمون، فيكثر من الأوراد والعزلة بنفسه والندم الشديد حتى تتملكه - بزعمهم - حال علوية شريفة ينتقل بها إلى مقام يسمى (الوجد (3) والهيام) وهو أسمى من مقام العشق، وعند هذا المقام المزعوم تتوارد على قلب السالك النفحات الربانية، ويعتقدون أنه في هذه الحال تزداد معرفة السالك الباطنة الصفات الذات العلية.
وهنا يصل السالك فيما يزعمون إلى الحقيقة وتسمى هذه المرحلة - مقام
_________
(1) 2/ 613 باب فيما يجب على المبتدئ في هذه الطريقة أولاً إلى آخر ص 169؛ حيث ذكر الآداب التي تجب على المريد والآداب التي تجب على الشيخ.
(2) عرفها المنوفي بقوله: "العبادة غاية التذلل للعامة، والعبودية صدق القصد للخاصة" جمهرة الأولياء 1/ 306.
(3) يقول النوفي: "الوجود: وجدان الحق بذاته ولهذا تسمى حضرة الجمع حضرة الوجود" جمهرة الأولياء 1/ 312.(3/969)
الحقيقة - التي يعرفها المنوفي بأنها "مشاهدة الربوبية" (1) ، وهي في الحقيقة الوصول إلى أعماق الوثنية والحلول، فإذا وصل بزعمهم إلى مقام الحقيقة يمكنه أن يظل يرتقي إلى أن يحقق منازل ثلاثاً هي: "الفناء"، و "اللقاء"، و "البقاء"، والفناء يقصدون به أن يفنى العبد عن كل شيء في الله تعالى، ويصير كما قال الحلاج: ما في الجبة إلا الله.
فالوجود عنده كله يمثل الله - تعالى عن قولهم، وخصوصاً النساء فإنه يتمثل فيهم بصورة أكمل، ومن هنا بدى على أدبهم العشق والغرام والهياج الجنسي إلا أنهم زعموا أن هذا الغزل وهذا الهياج الملتهب إنما هو في الله، وسموه الحب الإلهي يجتمع الرجال والنساء ويرددون إما أبياتاً شعرية أو غيرها في رقص وتمايل، كما يحصل في الرقصات والسهرات مما يتنافى مع أبسط المثل الإسلامية والخشوع المطلوب في العبادات.
وأما اللقاء والبقاء (2) فإن الصوفية يقصدون بذلك أن العبد من خلال تلك المنازل تتجلى عظمة الخالق سبحانه على قلب السالك فلا يرى أمامه إلا الله، ولا يجد في الوجود جميعاً إلا واجب الوجود سبحانه، وتمحى أثار الموجودات من أمام عينيه إلا وجود الله سبحانه وتعالى، قال المنوفي:
"سئل أبو يعقوب النهرجوري عن صحة الفناء والبقاء فقال: الفناء هو رؤية قيام العبد بالله عز وجل، والبقاء رؤية قيام الله تعالى منفرداً بذاته" (3) .
وهذه الدرجات هي ما عبر عنه الحلاج بقوله: "ما في الجبة إلا الله".
_________
(1) جمهرة الأولياء 1/ 302.
(2) عرفه المنوفي بأنه "قيام الأوصاف المحمودة بالله" جمهرة الأولياء 1/ 301.
(3) المصدر السابق ص264.(3/970)
وللسهرودي والمنوفي تفاصيل كثيرة حول المقامات ومراتبها العديدة في كتاب السهرودي "عوارف المعارف" وكتاب المنوفي "جمهرة الأولياء" (1) ،
والواقع أن غلاتهم وقعوا في هوس وتخبط، وتلاعب الشيطان بهم لبعدهم عن منهج الله وشرعه، فجاءوا بأفكار وأقوال وحكم تنضح وثنية وجهلاً وأشعار غزلية، وقد قال الشافعي: "ما تصوف رجل في أول النهار وأتى عليه الضحى إلا وهو أحمق".
والحاصل أن تلك هي الطرق لدخول المذهب كما أتضح مما سبق، ونجمل أهمها فيما يلي:
1- أن يلتزم الشخص أمام شيخه بالمحافظة على الطريقة التي يحددها له الشيخ.
2- أن يكون المريد - أي الدال في المذهب - على صلة بشيخه المأذون له هو أو من ينيبه الشيخ عنه ليتولى تعليم المريد.
3- أن يجتاز المريد عهداً يعاهد الشيخ ويده في يده مغمضاً عينيه على الالتزام والوفاء الدائم لشيخه ولطريقته لا يحيد عنها ابداً.
4- أن يكون المريد دائم الاشتغال بالأوراد والأدعية التي يقررها عليه الشيخ سواء عرف معانيها أم لا.
5- أن يكمل مدة الخلوة التي يقررها الشيخ على المريد في سرداب أو دهليز أو زاوية مدة لا تزيد عن أربعين ليلة ولا تقل عن أربعين ليلة ولا تقل عن عشر ليال،
_________
(1) انظر: جمهرة الأولياء 1/ 190 في عنوان "المقامات والأحوال".
وانظر: عوارف المعارف من ص 330 - 338.(3/971)
ولهم شروط كثيرة لصحة هذه الخلوة قاسية جداً يخرج الشخص منها وهو في منتهى الحمق والبلادة والغفلة عن كل شيء إلا عن شيخه وأذكاره، وهو الهدف الحقيقي من تلك الفكرة.
ومن الشروط التي يقطعونها للمريد على أنفسهم - حسب زعمهم - أن يصبح من أهل الكشف، وأن يترقى في ذلك إلى أن يتعلم ما وراء العقل ويصبح من أهل التجلي، بحيث تدرك ذات المريد ذات الله في كل وقت.
أن يفنى المريد عن كل شيء غير الله تعالى، فلا يحس بأي وجود غير وجود ربه وشيخه، وبذا يصبح الشخص من أهل الحلول والاتحاد ووحدة الوجود؛ لأن الله قد ظهر في كل شيء حسب تعاليمهم بعد فناء المريد عن كل شيء وتصوره أن الله أمامه في كل مكان.
أن يطلب المريد علم الباطن الذي هو بمنزلة اللب، وأن يتعمق في العلم الباطني حسب ما يمليه عليه الشيخ، وإذا تطور في ذلك فإنه يصل إلى حد اليقين فتسقط عنه التكاليف كما يفترون ويصبح ولياً من الأولياء.
وهذه القواعد والشروط الصوفية يتمرن عليها الشخص أو الأشخاص الذين يريدون الداخل في متاهات الصوفية، حتى يتقبلها الدخول بقبول حسن، فيموت فكره وذوقه ويصبح في الحقيقة عبداً ذليلاً لمشائخ الصوفية، فيسلكون به طرقاً ملتوية وتعاليم معقدة حتى تثبت في ذهن الداخل أمور عظام أقلها أن لا حلال ولا حرام، ولا علم ولا عمل إلا ما جاء عن شيخ طريقته(3/972)
وإذنه به، وما يتلقاه عن قلبه عن ربه وما يمليه عليه ذوقه أيضاً.
وإذا أراد القارئ التوسع في هذا ومعرفة كيفية الدخول في الطريق الصوفي فعليه بالرجوع إلى عوارف المعارف للسهروردي وإلى ما كتبه الجيلاني في كتابه الغنية (1) .
قال المنوفي في بيان بعض المسالك الصوفية ومنزلة الشيخ فيها: "وإذن فهناك طريق الله، وسالك يسلك ذلك الطريق، ومرشد يدل على مفاوز الطريق ... وذلك الطريق الذي كان أول مرشد له الرسول صلى الله عليه وسلم بعد أن تحلى بدقائق الإيمان ... وبعبارة أخرى هو طريق التصوف الذي كان أول خطوة فيه أن بايع الرسول صلى الله عليه وسلم العشرة أهل بيعة الرضوان ... فمن بدأ السير فيه فهو مريد التصوف، ومن توسط فهو سالك متعرف، ومن انتهى إلى مقام التحقيق فهو المرشد المحقق (2) .
وقد أوصل المنوفي الدرجات إلى سبعين درجة (3) ، يكاشف العبد في آخرها إذا ترقى فيها مقاماً مقاماً، ولا طائل من وراء سرد كل ما قرره أقطاب التصوف كالسهروردي والمنوفي والغزالي والقشيري.
فإنه يكفي أن يقال في الجواب عنها: أنها بناء في الهواء وأفكار لم يرشد إليها كتاب ولا سنة ولا أقوال علماء الأمة الإسلامية أصحاب العقول النيرة الذين أعرضوا عن تكليف ما ليس لهم به علم من الأمور الغيبية التي لا يصح
_________
(1) الغنية 2/ 163 - 169.
(2) جمهرة الأولياء 1/ 144.
(3) المصدر السابق ص 147.(3/973)
فيها الحكم إلا لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم.
* * * * * * * * * * * * * *(3/974)
الفصل الحادي عشر
أصول الصوفية
يزعم المتصوفة: كما هو شأن كل الطوائف المفارقة للمنهج الرباني أنهم على حق وأن ما يدينون به من أفكار وخرافات إنما هي نابعة من تمسكهم بالكتاب والسنة وفهم حقائق الإسلام، وهذه الدعوى ينتحلها زعماء الطوائف بغرض ترويج مبادئهم وإظهارها بمظهر الحق مهما كانت بعيدة عنه.
وذلك أن دعوى التمسك بالكتاب والسنة سهلة على اللسان ولكن التطبيق هو الذي يصدق ذلك أو يكذبه.
وقد ذكر أحد أعلامهم وهو السيد محمود أبو الفيض المنوفي بعض مستنداتهم فقال: "والتصوف الإسلامي نبعه القرآن أولاً وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم ثانياً والفقه في الدين فروعاً وأصولاً ثالثاً ولهم - أي المتصوفة - فوق ذلك قواعد وقوانين صوفية استمدوها من حقائق اليقين وخفي معاني القرآن، ومن دقائق السنة عملية معملية، ومتابعة رسول الله صلى الله عليه وسلم في أقواله وأفعاله وأحواله، وهذا في الواقع مستمد علم التصوف الإسلامي (1) .
أي أنهم يرجعون في جملة مستنداتهم إلى تلك الدعوى العريضة وهي أخذهم الأحكام من حقائق اليقين وخفي معاني القرآن، وفي الحقيقة إنما يرجعون إلى الهوى، وإلى تفسير القرآن باطنياً غير مستندين إلى
_________
(1) انظر كتاب جمهرة الأولياء وأعلام أهل التصوف 1/ 154.(3/975)
المعاني التي ذكرها العلماء من أهل الحق لمعاني تلك النصوص.
ثم يذكر المنوفي مستنداً آخر لهم بقوله:
"ومستمد الصوفية هم أهل الصفة، وإن كان تعريف الاسم يناسب لبس الصوف من حيث الاشتقاق. وهذا صحيح؛ لأن أهل الصفة وغيرهم من الروحيين في الإسلام وقبل الإسلام، ومن قديم الزمان كانوا يلبسون الصوف لخشونة فيه وهم متخوشنون، أو قل لسبب لونه الأبيض الذي يرمز إلى الطهارة والصفاء، وكان أيضاً لباس الحواريين" (1) .
ويذكر الغزالي أن مستندات الصوفية وأصولهم مشاهدة الملائكة وأرواح الأنبياء، والخضر بخصوصه ومخاطبتهم فهو يقول:
ومن أول الطريقة تبتدئ المكاشفات والمشاهدات حتى أنهم في يقظتهم يشاهدون الملائكة وأرواح الأنبياء، ويسمعون منهم أصواتاً ويقتبسون منهم فوائد، ثم تترقى الحال من مشاهدة الصور والأمثال إلى درجات يضيق عنها النطاق، ولا يحاول معبر أن يعبر عنها إلا اشتمل لفظة خطأ صريح لا يمكن الاحتراز عنه إلا لمن رسخ فيه ونهل منه منهله" (2) .
وبطلان هذا الكلام واضح، وربما أن الذين يشاهدونهم بزعم أنهم الملائكة أو أرواح الأنبياء وسماع الأصوات إنما هي شياطينهم تتلاعب بهم وتتراءى لهم ليضلونهم، وما أكثر خدع الشياطين لإغواء الناس.
وكذلك من مزاعمهم وأصولهم في مستندهم إلى الطريق إلى الله علم
_________
(1) انظر: جمهرة الأولياء 1/ 154.
(2) جمهرة الأولياء 1/ 155. نقلاً عن الغزالي.(3/976)
الباطن الذي أفضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى علي رضي الله عنه، وعلي أفضى به إلى الأئمة المذكورين في كتبهم، وذلك فيما يزعمون أن جبريل عليه السلام نزل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أولا بالشريعة فلما تقررت الشريعة واستقرت نزل إليه بالحقيقة (1) المقصودة والحكمة المرجوة من أعمال الشريعة وهي الأيمان والإحسان، ثم خص الرسول صلى الله عليه وسلم بتعليم باطن الشريعة بعض أصحابه كعلي ثم الحسن دون بعض.
وحاشا رسول الله صلى الله عليه وسلم من كذب هؤلاء، وقد سرد المنوفي أسماء السلسلة التي تداولتها الصوفية ابتداءً بالإمام علي إلى أحمد بن عطا الله السكندري (2) ، صاحب لطائف المنن، أورد بعض النصوص المرفوعة كذباً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر فيها أن كل آية لها ظاهر وباطن وظاهر الآية ما ظهر من معانيها، وباطنها ما تضمنته من أسرار إلهية لا يطلع عليها إلا أهل المعرفة بالله ممن سرد أسماءهم من أوليائه الذين يعلمون علم الباطن في زعمه.
ولقد نفى عليّ رضي الله عنه أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم قد خصهم بعلم دون سائر البشر، وقد سبق إبطال الباطنية في دعواهم أن النصوص لها ظاهر وباطن.
ويقول المنوفي أيضاً في دعواهم الالتصاق بأهل الصفة:
"وكان عظماء أهل الصفة بل جلهم من أوائل الصوفية وأهل طريق الله،
_________
(1) يزعم الصوفية أن الشريعة هي ما أوحاه الله إلى رسوله، وأما الحقيقة فهي عندهم المعرفة العقلية التي وصلوا إليها بذوقهم وصارت من الدين بغض النظر عن موافقتها للشريعة أو مخالفتها، ويجب التنبيه إلى أن وسيلة المعرفة عند الصوفية هي الذوق؛ ولهذا اختلفت أفكارهم لاختلاف أذواقهم.
(2) أنظر: جمهرة الأولياء 1/ 159 - 160.(3/977)
وحسبنا في ذلك أن نزل فيهم قرآن عند قوله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَّ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ} (1) " (2) .
ويقول الشعراني في مستند القوم:
"مقدمة في بيان أن طريق القوم مشيدة بالكتاب والسنة، وأنها مبنية على سلوك أخلاق الأنبياء والأصفياء، وبيان أنها تكون مذمومة إلا إن خالفت صريح القرآن أو السنة أو الإجماع لا غير" (3) .
لكنه أضاف بعدما تقدم قوله عن مستند جديد:
"ثم اعلم يا أخي رحمك الله أن علم التصوف عبارة عن علم انقدح في قلوب الأولياء"، إلى أن قال: " فمن جعل علم التصوف علماً مستقلاً صدق ومن جعله من عين أحكام الشريعة صدق" (4) .
ومستند آخر أيضاً يذكره بقوله:
"ثم إن العبد إذا دخل طريق القوم وتبحر فيها أعطاه الله هناك قوة الاستنباط نظير الأحكام الظاهرة على حد سواء، فيستنبط في الطريق واجبات ومندوبات، وآداباً ومحرمات، ومكروهات وخلاف الأولى، نظير ما فعله المجتهدون" (5) .
_________
(1) سورة الكهف: 28
(2) جمهرة الأولياء 1/ 162.
(3) طبقات الشعراني المسمى الطبقات الكبرى المسماة بلواقح الأنوار في طبقات الأخيار 1/ 4.
(4) المصدر السابق.
(5) المصدر السابق.(3/978)
ومن هنا نجد أن الصوفية ينفرون أشد النفور من العلم عن طريق التعلم، ويفضلون ما يسمونه علم الكشف بلا واسطة وهو ما عبر عنه محي الدين بن العربي حينما كتب إلى الرازي كتاباً جاء فيه:
" إن الرجل لا يكمل عندنا في مقام العلم حتى يكون علمه عن الله عز وجل بلا واسطة من نقل أو شيخ، فإن كان علمه مستفاداً من نقل أو شيخ فما برح عن الأخذ عن المحدثات، وذلك معلوم عند أهل الله عز وجل"، إلى أن يقول: "فلا علم إلا ما كان عن كشف وشهود لا عن نظر وفكر وظن وتخمين" (1) .
ويقول الشعراني في هذا المعنى ناقلاً عن شيخه البسطامي، موضحاً مصادر التشريع في ذوقهم: "وكان الشيخ كامل أبو اليزيد البسطامي رضي الله عنه يقول لعلماء عصره: أخذتم علمكم من علماء الرسوم ميتاً عن ميت وأخذنا علمنا من الحي الذي لا يموت" (2) .
وبعد هذا الكلام لا يلام من احتار في أمر الصوفية ومصادرهم، فبينما هم يحضون على التمسك بكتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وعدم الخروج عنهما إذا بهم يفصحون بالحقيقة في النهاية وهي أن مصادرهم في التشريع إنما هو الكشف والإلهام وهو فعلاً ما سلكوه في كل سلوكهم وتشريعاتهم.
وعلى نفس المعنى السابق يقول الفوتي: "إن الولي المفتوح عليه لا يتقيد
_________
(1) الطبقات الكبرى 1/ 5.
(2) المصدر السابق.(3/979)
بمذهب معين من مذاهب المجتهدين بل يدور مع الحق عند الله تعالى أينما درا" (1) ، أي حسب تجدد الكشف له والإلهام الرباني المتكرر عليه، وهو كذلك يشير إلى قول أحمد بن المبارك في الإبريز حيث قال:
"إن الولي المفتوح عليه يعرف الحق والصواب ولا يتقيد بمذهب من المذاهب، ولو تعطلت المذاهب بأسره لقدر على إحياء الشريعة، وكيف لا وهو الذي لا يغيب عنه النبي صلى الله عليه وسلم طرفة عين ولا يخرج عن مشاهدة الحق جل جلالة لحظة" (2) .
والواقع أن كل منصف له أدنى إلمام بالشريعة الإسلامية لو حكم في دعاوى الصوفية وفي زعمهم شرعيه شطحاتهم، ومستنداتهم في ذلك كله لا تضح له بما لا خفاء به أن المتصوفة قد جانبوا الصواب في كثير من أمور الدين، وأنه لا مستند لهم إلا هواهم الذي يسمونه الكشف والإلهام الصريح، دلك أن قولهم: أن التصوف نبعه القرآن والسنة والفقه في الدين، وفوق ذلك أن له قواعد وقوانين استمدوها من حقائق اليقين دعاوى غير ثابتة.
فليس في القرآن آية واحدة في شريعة غلو التصوف، وليس في السنة النبوية عبارة واحدة جاءت دليلاً يسند شطحات الصوفية وأورادهم وترنيماتهم وحلقات رقصهم، وليس في علوم الفقه الإسلامي وأصوله شيء من هذا القبيل، ثم هم لا يذكروا أيضاً أدلة من القرآن تدل فعلاً على ما يذهبون إليه.
وقد تلمسوا بعض الأدلة من السنة أساءوا الفهم فيها؛ ولهذا جعلوا
_________
(1) رماح حزب الرحيم 1/ 96.
(2) المصدر السابق ص 96 نقلاً عن الإبريز.(3/980)
القواعد والقوانين الصوفية فوق المصادر الثلاثة: القرآن، والسنة، والفقه الإسلامي، كما قال المنوفي:
"ولهم فوق ذلك قواعد وقوانين صوفية استمدوها من حقائق اليقين"؛ ولهذا تجد السلسلة عندهم حدثني قلبي عن ربي: "وهذه الحقائق اليقينية التي ذكرها المنوفي في الحقيقة من جنس الهوى والاضطراب الفكري، ثم حرفوا معاني القرآن إلى ما يوافق أهوائهم كما فعلت الباطنية تماماً.
إن ما زعمه القطب الصوفي صاحب كتاب جمهرة الأولياء من أن مستمد الصوفية هم أهل الصفة إنما هو دليل على خواء علمي بالكتاب والسنة وسيرة الصحابة الكرام، فهل كان لأهل الصفة تشريع خاص بهم، وهل كان لهم شرف يحبون الحفاظ عليه والانتساب إليه غير شرف الانتساب إلى الإسلام وطاعة الله وطاعة نبيه صلى الله عليه وسلم.
وأهل الصفة الذين ذكرهم المنوفي هم خيار الصحابة كأبي هريرة وخباب بن الأرت وبلال وسلمان الفارسي وأبي سعيد الخدري وأبى برزة الأسلمي وصهيب بن سنان وعمار بن ياسر وعبد الله بن مسعود وسعد بن أبي وقاص وعقبة بن عامر وأبو فكيهة ووابصة بن معبد الجهني وأنس بن مالك" (1) .
فهل هؤلاء الأعلام الأبرار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هم أهل الصوفية وهل كان هؤلاء على الزعم الصوفي هم سلف الحلاج وابن عربي وابن الفارض وابن سبعين، وغيرهم من عتاة الصوفية الذين يأخذ أحدهم السكر بالله كما يزعمون إلى حد أن يقول لا إله إلا أنا - أو ما في الجبة إلا الله - أو قولهم - العبد رب والرب عبد، يا ليت شعري من المكلف هل يمكن أن يكون أساس
_________
(1) جمهرة الأولياء 1/ 134، 135.(3/981)
هؤلاء هم أولئك الأخيار.
بل إن المنوفي زعم أن الله عز وجل أمر نبيه أن يكون صوفياً فقال: "وأيضاً قد أمر الله رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم بعد أن رباه وكمل خلقه وأتم عليه نعمته بأن يتصوف ويندمج في الصوفية بقوله: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَّ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} (1) .
ومع بعد هذا الاستدلال عن ما يهدف إليه المنوفي فإنه يواصل ما يعتبره أدلة على أن الرسول صلى الله عليه وسلم هو أول من مشى على الطريق الصوفي فقال: "وأن الله عز وجل قبل أن يرسل محمداً برسالته الكبرى، والملة العظمى أمره بدخول الخلوة (غار حراء) " إلى أن يقول: "فلما دخل الرسول الخلوة وتعبد وتحنث في غار حراء، وفيه قد أكثر من الذكر والاستغفار والاعتكاف ... وما نعتبر هذا النمط من العبادة الخاصة إلا أن نعده تصوفاً إسلامياً رفيعاً.
وأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد بدأ متدرجاً في الكمال كمريد ثم تهيأ لحمل الرسالة؛ ولذا وصفه الله في كتابه بقوله: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍْ عَظِيمٍ} (2) ، وحتى بعد أن حمل الرسالة وأصبح سيد المرسلين أمره الله بأن يصاحب أهل الصفة، وذلك واضح في قوله": {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَّ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} أي يا محمد" (3) .
لقد قالب المنوفي الأمور وحاول جاهداً أن يقيم الأدلة على أن نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم كان صوفياً قولاً وفعلاً قبل إن تأتيه الرسالة وبعد ما جاءته أيضاً، وأنه ابتدأ
_________
(1) سورة الكهف: 28
(2) سورة القلم: 28
(3) جمهرة الأولياء 1/ 267، 268.(3/982)
كأي صوفي "مريداً" ثم تدرج في الكمال.
وإذا أمعنا النظر في هذا التصوف الذي سار عليه الرسول صلى الله عليه وسلم قبل الرسالة حسب رأي المنوفي فلا نجد للمنوفي مستنداً إلا إلى منشأ التصوف الذي كان قبل الإسلام متمثلاً في شتى الديانات المنحرفة على حد قوله الآتي: " ... وإن تعرجت تعاليم التصوف وتلونت بعض فروعه ألواناً عدة، واتجهت تلك الفروع اتجاهات مختلفة بسبب المذاهب الموروثة للداخلين المحدثين في الإسلام من هنود وفرس وإسرائيليين ومسيحيين، الذي شجع عليه المأمون ومن بعده من الخلفاء العباسيين.
فترجم المسلون كتباً كثيرة من التصوف الهندي واليوناني والفارسي، وطمعت بعض فروع التصوف الإسلامي الخالص بما دخل عليها من النزعات الأفلاطونية الحديثة أو القديمة، وبعض المذاهب الهندية والفارسية في التصوف كنظرية الحلول والاتحاد والتقمص والتناسخ وما إلى ذلك" (1) .
وبلا ريب فإن هذه الشهادة منه على ما في التصوف من خلط واضطراب وتعاليم خارجة عن الإسلام لا تحتاج إلى تعليق أحد عليها فكيف تتفق بعد هذا مفاهيم التصوف مع المفاهيم الإسلامية المنزلة على محمد صلى الله عليه وسلم، ويبقى أن ما قرره المنوفي من أن الرسول صلى الله عليه وسلم هو أول من سن قواعد التصوف حينما كان يخلو بنفسه ويتعبد في غار حراء وهو منتهى الجهل وأشنع القياس.
ولاحظ تناقض المنوفي في كتابه جمهرة الأولياء حينما لم يستطيع أن يخفي حقيقة التصوف حيث باح بأن الصوفية قد تأثرت إلى حد كبير بعقائد الداخلين في الإسلام من هنود وفرس وإسرائيليين ومسيحيين، ولا سيما في
_________
(1) جمهرة الأولياء 1/ 266.(3/983)
عصر الترجمة لفلسفة هؤلاء؛ حيث أخذ التصوف منها جوانب لم ينكرها المنوفي وهو في كل كتاباته عنهم يكيل المدح للصوفية، وأن أول متصوف في الإسلام هو الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن الله أمره بذلك ليسنّ الطرق الصوفية ابتداء بالخلوة في غار حراء ثم الزهد.
وإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم هو أول المتصوفة فكان ينبغي عليهم أن يقدروا هذا الموقف فيقبلون سنته لا أن يردوها ويعيبون أهل الظاهر كما يسمونهم ممن يخالفهم من أهل الحق حين يقولون لهم: أنتم تأخذون الحديث بسند ميت عن ميت، حدثني فلان وقد مات عن فلان وقد مات، على نحو ما قاله البسطامي ناعياً على علماء الشريعة ومفاخراً لهم حين قال لهم:
"أخذتم علمكم ميتاً عن ميت وأخذنا علمنا عن الحي الذي لا يموت؛ ويقول أمثالنا: حدثني قلبي عن ربي، وأنتم تقولون: حدثني فلان وأين هو؟ قولوا: مات، عن فلان وأين هو؟ قالوا: مات".
وهذا القول إنما يدل على جهل وبغض للسنة النبوية ولأهلها وللطريقة التي يتداولها أهل الحق في تلقي دينهم من مصدره الفياض.
كما أنه من غير الإنصاف أن يقصروا ذلك المسلك عليهم فقط؛ لأنه في استطاعة كل شخص من الناس أن يقول حدثني قلبي عن ربي، وأن يدعي من الزهد والقرب من الله مثل ما يدعون، ثم أنه يلزم على قولهم الأسانيد الثابتة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن أصحابها قد ماتوا فيقال لهم: والنبي صلى الله عليه وسلم نفسه قد مات أيضاً.(3/984)
وينبغي على قولهم هذا أن نأخذ بالأحاديث التي يرونها عن قلوبهم عن ربهم مباشرةً، وهذا القول منهم وإن كان يبدوا ساذجاً تافهاً إلا أنه يحمل في طياته أخطاراً جسيمة بالنسبة للإسلام وللمسلمين لو تحقق لهم ما يهدفون إليه من التفاف الناس حولهم، والأخذ بمبادئهم وتشريعاتهم وإلهائهم بها عن كتاب الله عز وجل وعن سنة نبيه العظيم صلى الله عليه وسلم.
* * * * * * * * * * * * * *(3/985)
الفصل الثاني عشر
إيضاحات لبعض الآراء الاعتقادية للصوفية
1- عقيدة المتصوفة في الإله عز وجل:
الله عز وجل هو الواحد الأحد الفرد الصمد، خلق المخلوقات وأوجدها، وأمر الثقلين والجن والأنس بأوامر، ونهاهم عن نواه، من قام بامتثال أمره فيها دخل في طاعته، ومن أبى صار من أعدائه، وهو غني عن الخلق وعبادتهم، وجعل لكلا الفريقين جزاء عادلاً إما الثواب وإما العقاب.
وقد وصف الله نفسه في كتابه الكريم ووصفه نبيه بالصفات الثابتة له عز وجل فهو رب كل شيء ومالكه، {إِن كلُّ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً - لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا - وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً} (1) .
ولقد استقر في أذهان العقلاء مباينة الله لخلقه وقربه منهم بعلمه وإحاطته وأنه متفرد بالأسماء الحسنى والصفات العليا ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، وأمرنا عز وجل أن نصفه بما وصف به نفسه في كتابه الكريم وبما وصفه به نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم غير معطلين ولا محرفين ولا مكيفين، ذاته لا تشبه ذوات خلقه، وصفاته لا تشبه صفات خلقه حتى وإن اتفقت التسمية فإنها لا تتفق في الحقيقة وتبقى المباينة بين الحقائق مما لا يخفى إلا على من لم يفهم الحق.
هذا هو الاعتقاد الذي أمر الله العباد به فما هو موقف الصوفية منه. إن المتتبع لعقائد زعماء الصوفية يجد أنهم يعتقدون بوجود معبود لا حقيقة له
_________
(1) سورة مريم: 93: 95.(3/986)
قائمة بذاته، معبود لهم يذكر في الشريعة الإسلامية ولم تدل عليه العقول ولا الفطر السليمة إنه معبود غير رب العالمين تعالى وتقدس.
يظهر في صورة الصوفي العابد الذي وصل إلى مرتبة النيابة عن الله قي تصريف أمور هذا الكون والتحكم فيه بحكم نيابته عن الله وعلمه بكل المغيبات ورؤيته لله في كل وقت لارتفاع الإنية بينه وبين الله عز وجل الذي يظهر أحياناً في صورة شاب وأحياناً في صورة الآكل والشارب، وأحياناً في صورة شخص كأنه محجور عليه تعالى بعد أن فوض الكون وما فيه إلى أقطاب الصوفية يتصرفون فيه بما يشاءون، كما تفيد أقوالهم وتبجحهم بذلك.
2 - الحلول:
لقد أصبح الحلول من لوازم الصوفية الغلاة ومن المبادئ الأساسية عندهم، وكتبهم مملوءة بذلك نثراً ونظماً، وقد اختلف العلماء في تعريف الحلول:
فمنهم من قال: هو اتحاد جسمين بحيث تكون الإشارة إلى أحدهما إشارة إلى الآخر كحلول ماء الورد في الورد.
ومنهم من قال: هو اختصاص شيء بشيء، بحيث تكون الإشارة إلى أحدهما عين الإشارة إلى الآخر.
واستعمل بعض المتصوفة لفظ الحلول ليشيروا به إلى صلة الرب والعبد واللاهوت والناسوت، بمعنى أن الله تعالى يحل في بعض الأجساد الخاصة، وهو مبدأ نصراني وأول من أعلنه من الصوفية الحسين بن منصور الحلاج، حين عبر عن ذلك في أبياته الشعرية التي يقرر فيها أن الله تعالى حال(3/987)
في كل شيء، وأنه لا فارق بين الخالق والمخلوق.
أنا من أهوى ومن أهوى أنا ... نحن روحان حللنا بدنا
فإذا أبصرتني أبصرته ... وإذا أبصرته أبصرتني (1)
والقائلون بالحلول منهم من قصر الحلول وخصه ببعض الناس، كقول النصارى بالحلول في عيسى عليه السلام، وكقول بعض غلاة الشيعة كالخطابية الذين اعتقدوا أن الله حل في جعفر الصادق، والسبئية الذين قالوا بحلول الله في عليّ، ومثله قول النصيرية فيه، وقول الدروز بحلوله عز وجل في شخص الحاكم.
وفريق آخر قال بالحلول العام، وأن الله حال في كل شيء، وأنه في كل مكان، وهؤلاء تأثروا بالفلسفة الطبيعية عند اليونان - وهم الجهمية ومن قال بقولهم.
ويمثل الحلول العام البسطامي في قوله: "رفعني مرة فأقامني بين يديه وقال لي: يا أبا يزيد إن خلقي يحبون أن يروك، فقلت: زينني بوحدانيتك وألبسني أنانيتك وارفعني إلى أحديتك حتى إذا رآني خلقك قالوا رأيناك، فتكون أنت ذلك ولا أكون أنا هناك". {كَبُرَتْ كَلمَةَ تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُن إِلاَ كَذِباً} (2) .
وهذا الطلب الغريب العجيب يريد به أبو يزيد البسطامي كما تقدم أن يحتال على الله عز وجل ليصبغ عليه الوحدانية ويرفع ما بينه وبين البسطامي
_________
(1) عوارف المعارف ص 353.
(2) سورة الكهف: 5.(3/988)
من الإنية بحيث إذا قال الله عز وجل "أنا" وقال البسطامي "أنا" انعدم الفرق بينهما، وحينئذ يمثل البسطامي الله عز وجل تمام المماثلة، فإذا شوهد البسطامي شوهد عند ذلك الخلاق العظيم - سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً.
وليس هذا فقط، بل أحياناً يختلط الحابل بالنابل فيحصل بين الرب والعبد مدّ وجزر حسب ما يتصوره ابن عربي في قوله:
ففي حال أقربه ... وفي الأحيان أجحده
فيعرفني وأنكره ... وأعرفه فأشهده
فإني بالغني وأنا ... أساعده وأسعده
فيحمدني وأحمده ... ويعبدني واعبده (1)
ولعله بعد هذه المراوغة استقر الأمر على أن الله هو نفسه كل موجود على ظهر الأرض؛ فهو العاشق والمعشوق، والرجل والمرأة، فالأجسام صور عنه، وذلك في قوله:
فمن ليلى ومن لبنى ... ومن هند ومن بثينه
ومن قيس ومن بشر ... أليسوا كلهم عينه (2)
وفي قوله أيضاً:
فعين الخلق عين الحق فيه ... فلا تنكر فإن الكون عينه
_________
(1) الفتوحات المكية 3/ 498.
(2) المصدر السابق 521.(3/989)
فإن فرقت فالعرفان باد ... وإن لم فاعتبر فالبين بينه (1)
وقد ملأ كتابه الذي سماه بالفتوحات المكية أشعاراً وشروحاً لها حول هذا الاتحاد والحلول.
ويقول ابن الفارض عن الذات الإلهية كما يتصور:
ففي النشأة الأولي تراءت لآدم ... بمظهر حوا قبل حكم النبوة
وتظهر للعشاق في كل مظهر ... من اللبس في أشكال حسن بديعة
ففي مرة لبنى وأخرى بثينة ... وآونة تدعى بعزة عزت (2)
ومن هنا نشأ عند ابن الفارض الفوضى الفكرية في تداخل جميع الأديان الحق منها والباطل، حتى صارت بجميع أشكالها شكلاً واحداً، فكأنه أراد أن يجمع بين الليل والنهار، والحار والبارد، والحق والباطل، فتصور أن الملل كلها سواء كانت شركية وثنية أو مجوسية أو نصرانية أو يهودية، الكل عنده يرجع إلى مصدر واحد وحقيقة واحدة هي الله.
وتائيته المشهورة مليئة بتأكيد هذا الخلط والاضطراب، فهو بعد أن قرر أن جميع العبادات وجميع الأفعال التي تصدر عن الناس هي نفسها أفعال الله قال عن المجوس:
وإن عبد النار المجوس وما انطفت ... كما جاء في الأخبار في ألف حجة
فما عبدوا غيري وان كان قصدهم ... سواي وإن لم يعقدوا عقد نيتي
رأوا ضوء ناري مرة فتوهموه ... ناراً فضلوا في الهدى بالأشعة (3)
_________
(1) الفتوحات المكية.
(2) تائية ابن الفارض.
(3) تائية ابن الفارض.(3/990)
وكثير من مثل هذا الهذيان في أشعارهم هو وسائر غلاة الصوفية ممكن هم على شاكلته أنهم يتصورون معبودهم يتجلى في صورة امرأة؛ ولهذا نجد أن الصوفية يلهجون بذكر النساء، ويرونهم أكمل وأتم وأجمل لتعينات الذات الإلهية التي يعتقدونها فيهن، وهذا واضح جداً في تلك العناية التي لقيتها المرأة في الأدب الصوفي من التذلل لها والتشبث بها والتفتن في وصفها.
ومما قاله ابن عربي في تقريره حول الله تعالى عن كلامه في المرأة أن الأمر بالغسل؛ لأن الحق غيور على عبده أن يعتقد أن يلتذ بغيره، فلهذا أحب النبي صلى الله عليه وسلم النساء لكمال شهود الحق فيهن، إذ لا نشاهد الحق مجرداً عن المراد، فشهود الحق في النساء أعظم شهود وأكمله، وأعظم الوصلة والنكاح ... قال: فمن جاء لامرأته أو لأنثى بمجرد الالتذاذ ولكن لا يدري بمن كما قال:
صح عند الناس أني عاشق ... غير أنهم لا يعرفوا عشقي لمن
كذلك هذا أحب الالتذاذ فأحب المحل الذي يكون فيه، - هو المرأة -، ولكن غاب عنه روح المسألة فلو علمها لعلم بمن التذ؟ ومن التذ؟ وكان كاملاً قال من شاهد الحق في المرأة كان شهوده في منفعل وهو أعظم الشهود ويكون حباً إلهياً" (1) .
ومن هذا المفهوم الباطل تجرأ على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأساء الأدب في حقه وافترى عليه بما لا يقدم عليه مسلم يعرف ولو شيئاً يسيراً عن الإسلام وعن نبيه العظيم الذي اعترف له كل من عرفه أو سمع عنه بأنه خير منقذ للبشرية، عابداً لربه حق عبادته، متواضعاً، بالمؤمنين رءوف رحيم، لكن ابن عربي يقرر
_________
(1) كتاب ابن عربي الصوفي ص 270 نقلا عن العلم الشامخ ص 550.(3/991)
حسب مذهبه الرديء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان يحب النساء لكمال شهود الحق فيهن، وحاشا رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا البهتان.
بل قرر زعماء الإباحية والزنادقة العتاة ابن عربي وابن الفارض وغيرهما أن الله تعالى يتجلى في كل صورة حسنة في صورة الرجل أو المرأة فيكون فاعلاً ومفتعلاً - تعلى الله عن كفرهم وإلحادهم علواً كبيراً، وأن الله تجلى في صور العاشقات والمعشوقات (1) ، ويطول النقل عنهم ولو أردنا ذلك مما يأباه الدين وتشمئز منه النفوس وتمجه الفطر السليمة ويأباه الذوق.
"وفي تفسير الحديث: "فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به" (2) ، "يذكر السهروردي أن المحب يعود بفوائد اكتساب الصفات من المحبوب، أي بحيث تشترك الصفات بين المحب والمحبوب فلا يحصل بينهما أي فارق، ثم استشهد على هذا في الاتحاد والحلول بمبدأ الحلاج:
أنا من أهوى ومن أهوى أنا ... الخ.
ويقول ابن عطا السكندري في بيان حقيقة الولي:
"ولقد سمعت شيخنا أبا العباس رضي الله عنه يقول: لو كشف عن حقيقة الولي لعُبِد؛ لأن أوصافه من أوصافه ونعوته من نعوته" (3) وقال أيضاً في وجود الله تعالى أنه لا خفاء به ولا حجاب عليه:
_________
(1) ترجمان الأشواق لابن عربي، وفصوص الحكم له، وانظر ما ينقله عنهم د. صابر طعيمة في الصفحات من 165 - 183.
(2) يقول العلماء في معنى الحديث ما حاصله أن العبد قد يصل في طاعة الله تعالى إلى حد ألا يستعمل أي جارحة من جوارح جسمه إلا في ما يرضي الله تعالى. وهو جزء من حديث أخرجه.
(3) لطائف المنن ص 95.(3/992)
"كيف يتصور أن يحجبه شيء وهو الذي ظهر بكل شيء" (1) .
وفي الشطحات الصوفية وجرأتهم على قول كل ما يريدون ما لا يخفى على طلاب العلم.
ومما يذكر في سيرة ابن عربي أنه شغف حين كان بمكة بحب امرأة هي ابنة رجل يسمى الشيخ مكين الدين أبي شجاع زاهر بن رستم بن أبي الرجاء الأصفهاني، ووصفها بأوصاف من الغزل بجمالها ما لا يحتمل المقام ذكره هنا ضمنه كتابة ترجمان الأشواق"، ثم شرحه بطلب من رجلين من خاصته فشرحهُ في كتاب سماه "ذخائر الأعلاق".
حاول جاهداً أن يغطي ما قاله في تلك المرأة من العشق والغرام ليحوله علي أنه قاله في الحب الإلهي، ولكن لم يتم ذلك؛ حيث غلب الطبع على التطبع، وليست هذه معشوقته الوحيدة، بل هناك أخرى عشقها وهو يطوف حول البيت، وقال فيها أشعاراً غزلية ماجنةً، ولم يستشعر مقدار جرمه في الحرم الذي يعاقب الله فيه على مجرد النية، ثم وصف تلك الأشعار بعد ذلك بالحب الإلهي تمويهاً وتغطية لمجون هذا الشيخ الصوفي الكبير، فأين الحب الإلهي في مثل قوله:
ليت شعري هل دروا ... أي قلب ملكوا
وفؤادي لو درى ... أي شعب سلكوا
أتراهم سلموا ... أم تراهم هلكوا
_________
(1) لطائف المنن ص 103(3/993)
حار أرباب الهوى ... في الهوى وارتبكوا (1)
3 - وحدة الوجود:
وحدة الوجود عقيدة إلحادية تأتي بعد التشبع بفكرة الحلول في بعض الموجودات، ومفادها لا شيء إلا الله وكل ما في الوجود يمثل الله عز وجل لا انفصال بين الخالق والمخلوق، وأن وجود الكائنات هو عين وجود الله تعالى ليس وجودها غيره ولا شيء سواه البتة، وهي فكرة هندية بوذية مجوسية.
وهذا هو المبدأ الذي قام عليه مذهب ابن عربي الذي قال: سبحان من خلق الأشياء وهو عينها، وتجرأ على تفسير كتاب الله بغير علم فاستدل بآيات من القرآن الكريم زعماً أن الله أطلق اسم الوجود على نفسه كما في قوله تعالى: {وَوَجَدَ اللهَ عِندَهُ} (2) ، {لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَّحِيماً} (3) ، {يّجِدِ اللهَ غَفُوراً} (4) ، واستدل بأحاديث موضوعة مثل حديث: "من عرف نفسه فقد عرف ربه".
وهذا الاستدلال من أغرب وأنكر ما تلفظ به قائل.
إذ كيف يتأتى لهم القول أن القرآن والسنة يدعون إلى الإلحاد والكفر بالله؟ ولا شك أن هذه العقائد الإلحادية قديمة جداً في العبادات الهندية والديانات البوذية. وقد انقسم أصحاب هذه المبادئ الإلحادية إلى فريقين:
1 - الفريق الأول: يرى الله سبحانه وتعالى روحاً وأن العالم جسماً
_________
(1) انظر التصوف المنشأ والمصادر ص 269 - 271.
(2) سورة النور: 39.
(3) سورة النساء: 64.
(4) سورة النساء: 110.(3/994)
لذلك الروح، فإذا سما الإنسان وتطهر التصق بالروح أي الله.
2 - الفريق الثاني: هؤلاء يزعمون أن جميع الموجودات لا حقيقة لوجودها غير وجود الله، فكل شيء في زعمهم هو الله تجلى فيه (1) .
والإسلام بريء من هذه الأفكار المنحرفة الخرافية كلها {هُوَ الأول وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالبَاطِنُ} (2) ، وهؤلاء يقولون أن الله ما دام هو أصل وجود هذه الممكنات المشاهدة فكأن الموجودات في حكم العدل، والوجود الحقيقي هو الله الذي تجلى في أفعاله ومخلوقاته، وبالتالي فإن العقائد كلها حقائق والناس لا خلاف بينهم حقيقة، والديانات كلها ترجع إلى حقيقة واحدة، هذا ولا شك أنه خلط وانحراف شنيع أدى بمن أعتنقه إلى خذلان المسلمين وترك أمر الجهاد.
ولهذا نجد أن المستشرقين اهتموا كثيراً بدراسة ظاهرة التصوف؛ لأنها تحقق أهدافهم في إلهاء المسلمين وتفرق كلمتهم، وبالتالي فإنهم وجدوا فيها معيناً لهم على نشر الإلحاد وإنكار النبوات ونبذ التكاليف الشرعية والدعوة إلى القول بوحدة الأديان وتصويبها جميعاً مهما كانت، حتى وإن كانت عبادة الحجر والشجر.
والواقع أنه ما من مسلم يشك في كفر أو ارتداد من قال بوحدة الوجود، وعلماء الإسلام حين حكموا بكفر غلاة المتصوفة من القائلين بوحدة الوجود والحلول والاتحاد حكموا أيضاً بكفر من لم ير تكفيرهم.
_________
(1) الصوفية معتقداً ومسلكاً ص 206 - 207، نقلاً من التصوف الإسلامي والإمام الشعراني للأستاذ طه عبد الباقي سرور: 1/89.
(2) سورة الحديد: 3.(3/995)
ولقد قال شيخ الإسلام عن هؤلاء: "إن كفر هؤلاء أعظم من كفر اليهود والنصارى ومشركي العرب".
ولقد وصل الهوس والجنون بابن الفارض - بناء على عقيدته أن الله هو عين كل شيء - وصل به الحال إلى أن يعتقد أنه هو الله حقيقة؛ لأن الله حسب خرافاته هو عين كل شيء فهو على هذا يمثل الله - تعالى عن قولهم.
وابن عربي من أساطين القائلين بوحدة الوجود والحلول والاتحاد وصحة الأديان كلها، مهما كانت في الكفر إذ المرجع والمآل واحد، ومن هنا فهو يقول:
عقد الخلائق في الإله عقائداً ... وأنا اعتقدت جميع ما اعتقدوه
ويقول:
العبد رب والرب عبد ... يا ليت شعري من المكلف
إن قلت عبد فذاك رب ... أو قلت رب فأنى يكلف
ولابن عربي في كتابه "فصوص الحكم"، وكتابه الآخر "الفتوحات المكية" من الأقوال في وحدة الوجود ونفي الفرق بين الخالق والمخلوق وثبوت اتحادهما تماماً أقوال لا تكاد تحصر نثراً ونظماً.
وأما ابن الفارض فإذا أراد الشخص أن يعرف عقيدته تمام المعرفة فليقرأ تائيته التي باح فيها بكل صراحة وتحد أن الله متحد بكل موجود، وأن ابن الفارض نفسه هو المثل الكبير لله تعالى في صفاته وأفعاله؛ ولهذا فهو يفسر كل ما في الوجود بأنه يصح أن يقال فيه: إن الله أوجده أو كل موجود هو أيضاً ذلك الموجد.(3/996)
وأن كل عبادة تقام فإنها توجه له أو لله لا فارق بينهما إلا في ذكر الاثنينية التي هي أيضاً لا وجود لها عند استجلاء الحقيقة حيث تتلاشى الاثنينية ويصبح الوجود واحداً ممثلاً في كل شيء.
وإذا أردت تفصيل كل تلك الحقائق عنه فاقرأ تائيته أو الأبيات الآتية، وانظر شرحها عند الشيخ عبد الرحمن الوكيل (1) .
ويقول ابن الفارض عن الذات الإلهية وتجليها له:
جلت في تجليها الوجود لناظري ... ففي كل مرئى أراها برؤية
ففي الصحو بعد المحو لم أك غيرها ... وذاتي بذاتي إذا تحلت تجلت
فوصفي إذا لم تدع باثنين وصفها ... وهيئتها إذ واحد نحن هيئتي
فإن دعيت (2) كنت المجيب وإن أكن ... منادى أجابت من دعاني ولبت
فقد رفعت تاء المخاطب بيننا ... وفي رفعها عن فرقة الفرق رفعتي
وكل الجهات الست نحوي توجهت ... بما تم من نسك وحج وعمرة
لها صلواتي في المقام أقيمها ... وأشهد فيها أنها لها صلت
كلانا مصل واحد ساجد إلى ... حقيقته بالجمع في كل سجدة
وما كان لي صلى سواي ولم تكن ... صلاتي لغيري في أداء كل سجدة (3)
ويقول عن معنى سجود الملائكة لآدم، وأ ون الملائكة إنما هم صفة من صفاته لا خلق مستقل:
وفيَّ شهدت الساجدين لمظهري ... فحققت أني كنت آدم سجدتي
شرحه الصوفي القاشاني بقوله:
_________
(1) هذه هي الصوفية 248.
(2) أي الذات الإلهية.
(3) تائية ابن الفارض.(3/997)
"أي عاينت في نفسي الملائكة الساجدين لمظهري فعلمت حقيقة أني كنت في سجدتي آدم تلك السجدة وأن الملائكة يسجدون لي والملائكة صفة من صفاتي، فللساجد صفى مني تسجد لذاتي" (1) .
ومن عتاة دعاة وحدة الوجود الجيلي صاحب كتاب "الإنسان الكامل" وقد ترجم له الشعراني وأطال في ترجمته، ابتدأها بقوله:
"ومنهم أبو صالح سيدي عبد القادر الجيلي رضي الله عنه" (2) . ثم جاء في أخباره بما لا يصدقه عاقل.
ومما يدل على تعمق الجليلي في القول بوحدة الوجود وأنه لم يعد بينه وبين الله أي فارق، ولا بينه وبين كل المخلوقات في هذا الكون أي فارق أيضاً ما أورده في كتابه الإنسان الكامل (3) :
لي الملك في الدارين لم أر فيهما ... سواي فأرجو فضله أو فأخشاه
وقد حزت أنواع الكمال ... جمال جلال الكل ما أنا إلا هو
لي الملك والملكوت نسجي وصنعي ... لي الغيب والجبروت مني منشاه
_________
(1) كشف الوجوه الغر على هامش شرح الديوان 2/ 89 نقلاً عن هذه هي الصوفية ص33.
(2) انظر طبقات الشعراني من ص 126 - 132.
(3) يقول الكشخانلي في شرح وحقيقة الإنسان الكامل: "الإنسان الكامل المتحقق بحقيقة البرزخية الكبرى عين الله وعين العالم" جامع الأصول في الأولياء ص 111 نقلاً عن هذه هي الصوفية ص 44.(3/998)
فمهما ترى من معدن ونباته ... حيوانه مع أنسه وسجاياه
ومهما ترى من أبحر وقفاره ... ومن شجر أو شاهق طال أعلاه
ومهما ترى من صور معنوية ... من مشهد للعين طاب محياه
ومهما ترى من هيئة ملكية ... ومن منظر إبليس قد كان معناه
ومهما ترى من شهوة بشرية ... طبع وإيثار لحق تعاطاه
ومهما ترى من عرشه ومحيطه ... كرسيه أو رفرف عز مجلاه
فإني ذاك الكل والكل مشهدي ... نا المتجلي في حقيقته لا هو
وإني رب للأنام وسيد ... جميع الورى اسم وذاتي مسماه (1)
فالجيلي هو كل شيء والله هو أيضاً كل شيء، من خير أو شر، من فسق أو فجور، الكل هو الله على حسب هذه العقيدة المجوسية.
ومن القائلين بوحدة الوجود ووحدة الشهود هو أبو حامد الغزالي، ولقد تأثر الناس به كثيراً؛ لأنه كان في وقته يداري كل طائفة ويتودد إليها بالموافقة، وخفي أمره على كثير من الناس فلم يفطنوا إلى تعلقه بوحدة الوجود، وإن كان قد صرح بها كثيراً في كتبه، وخصوصاً إحياء علوم الدين، وفي هذا يقول عنه عبد الرحمن الوكيل:
"لا تعجب حين ترى الغزالي يجنح في دهاء إلى السلفية في بعض ما كتب فللغزالي وجوه عدة كان يرائي بها صنوف الناس في عصره، فهو
_________
(1) هذه هي الصوفية ص 56، 57.(3/999)
أشعري؛ لأن نظام الملك صاحب المدرسة النظامية أراده على ذلك، وهو عدو للفلسفة؛ لأن الجماهير على تلك العداوة، وهو متكلم ولكنه يتراءى بعداوته للكلاميين اتقاء غضب الحنابلة.
وأما بالنسبة لرجوعه عن غلوه في التصوف، وأو عدم رجوعه فقد قرر بعض العلماء أن الغزالي رجع عن تلك الاقوال الصوفية، إلا أن بعضهم شكك في رجوعه وتوبته، ومن هنا يقول عبد الرحمن الوكيل:
"يحاول السبكي في كتابه طبقات الشفاعية تبرئة ساحة الغزالي بزعمه أنه اشتغل في أخريات أيامه بالكتاب والسنة ونحن نسأل الله أن يكون ذلك حقاً، ولكن لا بد من تحذير المسلمين جميعاً من تراث الغزالي، فكل ما له من كتب في أيديهم تراث صوفي ولم يترك لنا في أخريات أيامه كتاباً يدل على أنه اشتغل بالكتاب وبالسنة" (1) .
ومن أقوال الغزالي في وحدة الوجود كما جاءت في كتابه إحياء علوم الدين قوله في ثنايا بيانه لما سماه مراتب التوحيد
"والثانية: أن يصدق بمعنى اللفظ قلبه كما صدق عموم المسلمين، وهو
_________
(1) هذه هي الصوفية ص 52.(3/1000)
اعتقاد العوام.
والثالثة: أن يشاهد ذلك بطريق الكشف بواسطة نور الحق، وهو مقام المقربين، وذلك بأن يرى أشياء كثيرة ولكن يراها على كثرتها صادرة عن الواحد القهار.
والرابعة: ألا يرى في الوجود إلا واحداً، وهي مشاهدة الصديقين وتسمية الصوفية الفناء في التوحيد؛ لأنه من حيث لا يرى إلا وحداً فلا يرى نفسه أيضاً، وإذا لم ير نفسه لكونه مستغرقاً بالتوحيد كان فانياً عن نفسه في توحيده بمعنى أنه فنى عن رؤية نفسه والحق" (1) .
وفي هذا التعبير أمور تدل على وحدة الوجود، وذلك فيما يلي:
وصفه لعموم المسلمين بأنهم عوام في الاعتقاد، ويقصد به العقيدة السهلة الواضحة التي جاء بها الإسلام.
في تقريره أن الذي يشاهد تلك الأمور عن طريق الكشف يراها كلها صادرة عن فاعل واحد هو الله تعالى، وأنها عبارة عنه على ما فيها من خير وشر.
قوله: لا يرى في الوجود إلا واحداً، هذا هو عين القول بوحدة الوجود.
وعندما أورد استشكالاً قد يرد في الذهن، وهو قوله:
"فإن قلت كيف يتصور ألا يشاهد إلا واحداً، وهو يشاهد السماء
_________
(1) إحياء علوم الدين ص 4/ 245 - 246.(3/1001)
والأرض وسائر الأجسام المحسوسة وهي كثيرة فكيف يكون الكثير واحداً؟
ولا شك أن هذا الاستشكال وارد، وهو استشكال قوي جداً ويحتاج إلى جواب شاف، فبماذا أجاب الغزالي عن هذا؟ أجاب عن إيراد هذا السؤال بقوله:
"فاعلم أن هذه غاية علوم المكاشفات وأسرار هذا العلم، لا يجوز أن تسطر في كتاب، فقد قال العارفون: إفشاء الربوبية كفر".
وهذا الجواب فيه اتهام لله بالتقصير في بيان أمر التوحيد؛ حيث لم يبينه الله تمام البيان، ولا بينه الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا يعرفه أحد إلا أرباب الكشف الصوفي الذين يعرفون كل تفاصيل التوحيد إلا أنهم لا يحبون إفشاء سر الربوبية؛ لأنه يؤدي إلى الكفر حسب هذا الزعم، والواقع أنه قد صدق، فإن هذا التوحيد الذي لا يعرفه إلا أصحاب الكشف هو نفسه التوحيد الذي لا يفرق بين الخالق والمخلوق وهو أمر لا يقر به أحد من المسلمين.
أما الجواب الثاني فهو مثل ضربه يفيد أنه قد يحصل تعدد أشياء في شيء واحد دون فارق بينهما؛ وذلك كالإنسان وأعضائه فهو إنسان واحد ولكن له أعضاء كثيرة؛ روحه وجسده وأطرافه وعروقه وعظامه وأحشاؤه، وهو باعتبار آخر ومشاهدة أخرى واحد أي إنسان.
وهذا الجواب أردأ من الذي قبله، يريد أن يثبت لنا القول بوحدة الوجود قياساً على الوحدة المتكاملة بين الإنسان وأعضائه، وأراد من هذا أيضاً جعله هذه الأوصاف هي نفسها الفناء في التوحيد حسب ما أورده عن موقف جرى بين الحلاج والخواص.
حيث رأى الخواص يدور في الأسفار فقال: في ماذا أنت؟ فقال: أدور(3/1002)
في الأسفار لأصحح حالتي في التوكل، فقال الحسين - الحلاج-: قد أفنيت عمرك في عمران باطنك فأين الفناء في التوحيد؟ فكأن الخواص كان في تصحيح المقام الثالث فطالبه بالمقام الرابع.
أي أن الحلاج كان في المقام الثالث أو الرتبة الثالثة في التوحيد، وهي أنه يرى الأشياء هي نفسها "الله"، ولكن بطريق الواسطة والكشف فطالبه الخواص - والغزالي لإقراره كلام الخواص - بأن يرتقي إلى الدرجة الرابعة (1) في تحقيق التوحيد، وهي أن لا يرى في الوجود إلا واحداً وهي (الفناء في التوحيد) بدون واسطة ولا كشف وبها يتحقق التوحيد.
وفي كتابة مشكاة الأنوار للغزالي تصريح بوحدة الوجود في أكثر من موضع (2) ، وقد فندها الشيخ عبد الرحمن الوكيل وأظهر عوارها (3) .
ومن كبار القائلين بوحدة الوجود عامر بن عامر أبو الفضل عز الدين حيث قال محاكياً الفارض في تائيته وفي معتقده أيضاً:
تجلى لي المحبوب من كل وجهة ... فشاهدته في كل معنى وصورة
وخاطبني مني بكشف سرائر ... تعالت عن الأغيار لطفاً وجلت (4)
فقال أتدري من أنا قلت أنت أنا ... منادى أنا إذ كنت أنت حقيقتي
_________
(1) انظر: إحياء علوم الدين 4/212، وانظر تعليقات الشيخ عبد الرحمن الوكيل في كتابه هذه هي الصوفية من ص 47-56.
(2) انظر: ص122-125.
(3) انظر: ص54-56.
(4) أي تعالى الله عن أن يكون له غير إذ هو عين كل شيء، والمسلم يقول: تعالى الله عن الشريك والمثيل؛ لأنه العظيم. انظر: هذه هي الصوفية ص 57.(3/1003)
نظرت فلم أبصر محض وحدة ... بغير شريك قد تغطت بكثرة
تكثرت الأشياء والكل واحد ... صفات وذات ضمناً في هوية
فأنت أنا لا بل أنا أنت وحدة ... منزهة عن كل غير وشركة (1)
وقد اختار نقل هذه الأبيات من تائية ابن عامر الشيخ عبد الرحمن الوكيل وهي صريحة لا لبس فيها على ما يذهب إليه أهل وحدة الوجود الذين يرون أنه لا يكتمل إيمان العبد ولا يصل إلى الله إلا إذا تلاشت "أنا" من نفسه فأصبح في لجة جمع الجمع ورفع الاثنينية.
وقد سلك هذا المسلك في الاعتقاد بوحدة الوجود جماعة أخرى من الصوفية يمكن إحالة القارئ للاطلاع على كلامهم إلى كتاب الشيخ عبد الرحمن الوكيل، حيث ذكر نصوصاً كثيرة عنهم نثراً ونظماً، ومن أولئك محمد بن إسحاق المشهور بالقونوى (2) ، وعبد الغني بن إسماعيل المشهور بالنابلسي (3) ، وعبد السلام بن بشيش أو مشيش وهو من كبار شيوخ الشاذلية، ومحمد الدمرداش المحمدي (4) ، وأحمد بن عجيبة الإدريسي (5) ، وحسن رضوان (6) .
وكل واحد من هؤلاء قد أدلى بدلوه وخاض فيما ليس له بحق وحاول تثبيت عقيدة وحدة الوجود بكل ما أمكنه من الكلام نثراً ونظماً مما قد يطول
_________
(1) تائية ابن عامر.
(2) له كتاب "مراتب الوجود" مخطوط بالظاهرية بدمشق رقم 5895.
(3) رسالة اسمها "حكم شطح الولي" مخطوط بالظاهرية بدمشق رقم 4008.
(4) له كتاب القول الفريد.
(5) له كتاب إيقاظ الهمم في شرح الحكم.
(6) له كتاب روض القلوب المستطاب.(3/1004)
نقله وتثقل قراءته، إذ إنهم لا يختلفون إلا في الألفاظ فقط والمورد واحد.
4- وحدة الشهود أو الفناء وبيان العلاقة بين وحدة الشهود ووحدة الوجود:
وحدة الشهود هو ما يسمونه في بدء أمره مطالعة الحقائق من وراء ستر رقيق، أي لا يصل إلى درجة الحلول ولاتحاد في أول الأمر إلا بعد أن يترقى درجات ثم يصبح كما يقول على حرازم ناقلاً جواب شيخه التجاني: "اعلم أن سيدنا رضي الله عنه سئل عن حقيقة الشيخ الواصل ما هو؟ فأجاب رضي الله عنه بقوله: أما حقيقة الشيخ الواصل فهو الذي رفعت له جميع الحجب عن كمال النظر إلى الحضرة الإلهية نظراً عينياً وتحقيقاً يقينياً" (1) .
وهذه نهاية الفناء في الله ووحدة الشهود فيه.
وأما العلاقة بين وحدة الوجود ووحدة الشهود:
فإنه يرى بعض العلماء أن بين وحدة الوجود ووحدة الشهود فارقاً بعيداً، وذلك أن وحدة الوجود هي الحلول والاتحاد وعدم التفرقة بين الله وبين غيره من الموجودات، بينما وحدة الشهود عند بعضهم هي بمعنى شدة مراقبة الله تعالى بحيث يعبده كأنه يراه.
ومن هنا ظن هذا البعض أن وحدة الشهود لا غبار على من يقول بها، ومنهم من يؤكد على أن وحدة الشهود هي الدرجة الأولى إلى وحدة الوجود، والواقع أن التفريق بين وحدة الشهود ووحدة الوجود ليس له أساس ثابت بل هو قائم على غير دليل إلا دليلاً واحداً هو الذوق الصوفي، وذلك أن
_________
(1) جواهر المعاني1/135.(3/1005)
خير البشر لم يستعمل هذه الحالة ولا نطق باسمها في عبادته لربه، ولا كان أصحابه أيضاً يقولون بها.
فكان شأنهم أنهم يعبدون الله وهم على أشد ما يكونون من الوجل والخوف أن ترد عليهم أعمالهم مع وجود أشد الطمع في نفوسهم لعفو ربهم وتجاوزه عنهم يعبدونه بالخوف والرجاء، ووحدة الشهود ووحدة الوجود لم تعرف إلا بين الفئات الذين امتلأت نفوسهم إعجاباً وتيهاً بأعمالهم وقلت هيبة الله تعالى في نفوسهم.
يقول الشيخ عبد الرحمن الوكيل في أثناء رده على الغزالي وبيان خطر أفكاره على الإسلام والمسلمين، ومدى تعلق الغزالي بوحدة الوجود أو الشهود:
"أرأيت إلى من صنمَّته (1) الصوفية باللقب الفخم (2) لتفتن به المسلمين عن هدى الله تعالى؟ أرأيت إلى الغزالي يدين بوحدة الوجود أو الشهود - سمها بما شئت، فعند الكفر تلتقي الأسطورتان لا تقل إن وحدة الوجود أنشودة من البداية ووحدة الشهود أغرودة عند النهاية فكلتاهما بدعة صوفية، بيد أنها غايرت الاسمين وخالفت بين اللونين ولكن البصر البصير لا يخدعه اسم الشهد سمي به السم الناقع كلتاهما زعاف الرقطاء، غير أن واحدة منهما في كأس من زجاج والأخرى في كأس من ذهب" (3) .
_________
(1) أي جعلته صنماَ.
(2) أي لقبه حجة الإسلام.
(3) هذه هي الصوفية ص 50.(3/1006)
فينبغي أن نبتعد عن هذه الكلمة - وحدة - أشد البعد فإن الله تعالى هو الواحد القهار لم يشرك أحد في خلقه {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ - وَلَمْ يَكُن لَهُ كُفُوَاً أَحَدْ} (1) ، ولنا في العبارات الطيبة التي تربطنا بربنا مجال واسع كالإسلام والإيمان والإحسان كما جاء في حديث جبريل؛ حيث سأله عن تلك الأمور ولم يسأله عن وحدة الوجود أو وحدة الشهود ولا وحدة الوجود ولا الحلول ولا الكشف، ولا غير هذا مما هو اختراع الصوفية تبعاً لأفكار ضالة ليس بينها وبين الإسلام أي صلة أو تقارب.
إن وحدة الشهود تؤدي في النهاية إلى القول بالحلول رغم ما زخرفوه من الكلام والتدليس.
وقد وضح علي حرازم الأمر وجلاه في بيانه لأقسام مراتب المحبة التي هي محبة الإيمان، ومحبة الآلاء والنعماء، ومحبة الصفات، ومحبة الذات، ثم بين هذه المراتب إلى أن قال عن القسم الرابع من المحبة:
"ومتى وصل إلى محبة الذات أعني أنه يشم رائحة منها فقط انتقل إلى الفناء مرتبة بعد مرتبة، فيكون أمره أولاً ذهولاً عن الأكوان ثم سكراً ثم عينية وفناءً مع شعوره بالفناء، ثم إلى فناء الفناء وهو لم يحس بشيء شعوراً وتهمماً وحساً واعتباراً، وغاب عقله ووهمه وانسحق عدده وكمه فلم يبق إلا الحق بالحق للحق في الحق، وهو مقام الفتح والبداية يعني بداية المعرفة، وصاحبه إذا أفاق من سكرته يأخذ في الترقي والصعود في المقامات إلى أبد الأبد بلا نهاية" (2) .
_________
(1) سورة الإخلاص: 3، 4.
(2) جواهر المعاني1/165.(3/1007)
وقوله: إنه لا نهاية لترقية لا يتفق مع ما قدمه مما يدل على نهاية الترقي، وهو الوصول إلى وحدة الوجود كما في قوله:
"إلى أن ينتقل إلى المشاهدة وهي الاستهلاك في التوحيد وغاية المشاهدة ينمحق الغير والغيرية، فليس إلا الحق بالحق للحق عن الحق فلا علم ولا رسم ولا عقل ولا وهم ولا خيال ولا كيفية ولا كمية ولا نسبه انتفت الغيرية كلها" (1) .
إلى أن قال عن دخول الحضرة الإلهية:
"فإن من دخلها غاب عن الوجود كله فلم يبقى إلا الألوهية المحضة حتى نفسه تغيب عنه، ففي هذه الحال لا نطق للعبد ولا عقل ولا هم ولا حركة ولا سكون ولا رسم ولا كيف ولا أين ولا محدود ولا علم، فلو نطق العبد في هذا الحال لقال: لا إله إلا أنا سبحاني ما أعظم شأني؛ لأنه مترجم عن الله عز وجل" (2) .
وهذا هو الحلول والاتحاد، مع هذا سماه علي حرازم"غاية الصفاء" ونسي أو تناسى أو جهل - وهو الصحيح - أن الرسول صلى الله عليه وسلم ولا أحد من صحابته قد قال: سبحاني ما أعظم شأني أو قال: لا إله إلا أنا؛ لأن قائل هذه الألفاظ لا دين له إلا دين المجوسية، ومن هنا استشهد علي حرازم بعد الكلام السابق على صحة هذا الصحو في الله بقول الحلاج: سبحاني ما أعظم شأني. ومن حسن الحظ لم يستدل بقول أحد من المسلمين.
وتتضح صورة القول بوحدة الوجود عند التجانية كما هي عند سائر
_________
(1) جواهر المعاني ص 13.
(2) جواهر المعاني ص 17.(3/1008)
أقطاب الغلاة في قول علي حرازم في صراحة تامة زفي مواضع كثيرة في كتابه جواهر المعاني نأخذ منها قوله في أثناء بيانه لمنزلة الخلق من الحق تبارك وتعالى وأنهم صور تنبئ عن الله تماماً فقال في ذلك: "ولا يكون هذا إلا لمن عرف وحدة الوجود فيشاهد فيها الوصل والفصل فإن الوجود عين واحدة ولا تجرؤ فيها على كثرة أجناسها وأنواعها، ووحدتها لا تخرجها عن افتراق أشخاصها بأحكام الخواص وهي المعبر عنها عند العارفين أن كثرة عين الوحدة والوحدة عين الكثرة" (1) .
ومن العجيب أنهم يستدلون على هذا المسلك بقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "إن الله قال: من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب ... " إلى أخر الحديث (2) ، والحديث حسب مفهومهم معناه أن العبد إذا لازم العبادة الظاهرة والباطنة حتى يصفى من الكدورات، أنه يصير في معنى الحق - تعالى الله عن ذلك - وأنه يفنى عن نفسه جمله حتى يشهد أن الله هو الذاكر لنفسه الموحد لنفسه المحب لنفسه، وأن هذه الأسباب والرسوم تصير عدما صرفاً في شهوده وإن لم تعدم في الخارج (3) ، وينسى العبد نفسه في الله وأن الله يحل بجوارحهم، فهو في سمعهم وأبصارهم وأيديهم وأرجلهم قد اتحدت ذاته بذواتهم.
فهل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقصد ما ذهب إليه زعماء الصوفية؟ والجواب سيكون بالنفي قطعاً. وقد أجاب العلماء عن معنى هذا الحديث بعدة أجوبة ذكرها كلها ابن حجر رحمه الله، ومنها أن معناه أن العبد يحب طاعة الله ويؤثر خدمته ومحبته، وأنه لا يستعمل هذه الجوارح إلا وفق ما شرعه الله له فلا
_________
(1) جواهر المعاني 2/ 73.
(2) صحيح البخاري بشرحه فتح الباري 11/ 341.
(3) فتح الباري 11/ 344.(3/1009)
يستعملها إلا في ما أحبه الله ويبعدها عن كل ما يغضب الله تعالى (1) ، لا أن الله يحل في تلك الجوارح، والرسول صلى الله عليه وسلم لعظم وأجل من أن يتصور ربه على هذه الصفات.
وتلك المعاني الباطلة لمعنى الحديث موضحة في جمهرة الأولياء للمنوفي فيه مقال تحت عنوان "دور الكمال" ذكر فيه أن الصوفية قد تطورت فشاركت في أبحاث كثيرة فقهية وفلسفية إلى أن قال: "وقد خطى الجنيد في هذا السبيل الخطوات الأولى الفاصلة فانتقل من حال الفناء التي قال بها البسطامي إلى فكرة الاتحاد، وذهب إلى أن المتصوف قد يصل إلى درجة يتحد فيها الروح اتحاداً تاماً بخالقها عن طريق الشهود" (2) .
ثم ذكر بعد ذلك أنه ليس المراد من هذا الاتحاد ما هو معروف في البوذية والمسيحية، وإنما هو بمعنى أنه مجرد ملاحظة روحية، ولكن يبقى عليه أن الملاحظة الروحية لا يقال فيها بالاتحاد، وإنما هي زيادة تعلق القلب بخالقها فقط، ومن قال إن ملاحظاته جعلته متحداً مع الله فلا شك في خروجه عن الحق مهما حاول بعد ذلك تغطية معتقده بزخرف القول.
لقد أصبحت وحدة الشهود عند المتصوفة هي أخص مظهر من مظاهر الحياة الصوفية وهي الحال التي يسمونها بالفناء وعين التوحيد وحال الجمع، وهي الاتصال بين العبد وبين ربه عن طريق الشهود الصريح فيما يزعمون. ويصل الإنسان إليها - بزعمهم - بكثرة الذكر حتى يقع الشهود القلبي ثم يستغني عن الذكر بمشاهدة المذكور - حسب تخيلاتهم السقيمة الإلحادية - فاتضح مما سبق أن الفوارق لا تكاد تعرف بين تلك التسميات، فهي داخلة في النهاية كلها في دائرة واحدة هي القول بالحلول مهما تعددت صوره (3) .
_________
(1) فتح الباري 11/ 344.
(2) انظر: 1/ 275.
(3) انظر: ما كتبه د. صابر طعيمة في كتابه الصوفية معتقداً ومسلكاً ص 257.(3/1010)
وأما اعتقادهم في الرسول صلى الله عليه وسلم، فهو ضرب من الخيال والإلحاد، فهم يزعمون:
1- أن الله كان في عماء دون تعيين فأراد أن يتعين في صورة فتعين في صورة محمد صلى الله عليه وسلم، أي أنهم يعتقدون أن محمداً صلى الله عليه وسلم هو الله سبحانه وتعالى ذاتاً وصفةً حيث تعينت فيه الذات الإلهية في صورة مادة كما قرر الكشخانلي ومحمد الدمرداش - والجيلي والبيطار والقاشاني والفوتي وعلي حرازم والشعراني (1) .
2- وأن الذي هاجر من مكة إلى المدينة هو الذات الإلهية متجلية في صورة هو محمد صلى الله عليه وسلم كما قرر ابن عربي ذلك في قوله: "اللهم أفض صلة صلواتك وسلامة تسليماتك على أول التعيينات المفاضة من العماء الرباني وأخر التنزلات المضافة إلى النوع الإنساني المهاجر من مكة كان الله ولم يكن معه شيء ثان إلى المدينة ... الجمع بين العبودية والربوبية الشامل للإمكانية والوجودية" (2) .
3- أن الرسول محمد صلى الله عليه وسلم يحضر كل مجلس أو مكان أراد بجسده وروحه، وأنه يتصرف ويسير حيث يشاء في أقطار الأرض إلى اليوم لم يتبدل بعد وفاته.
4- كل هذه الموجودات إنما وجدت من نور محمد صلى الله عليه وسلم ثم تفرقت في
_________
(1) انظر: النصوص عن هؤلاء في كتاب "هذه هي الصوفية" من ص 73 - 92.
(2) فتح الباري 11/ 344.(3/1011)
الكون (1) ، وهكذا فقد أصبح من الأمور المسلمة عند الصوفية أن هذا الكون وكل ما يحصل فيه من خير وفيض، إنما يتم عن طريق الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، وفيما قدمنا من النقل عن جواهر المعاني ورماح الفوتي ما يغني عن إعادته هنا، وهذا المعتقد مقرر في كتب الصوفية كلهم من التجانية أو من غيرهم؛ ولهذا يقول المنوفي في بيان تلك القضية:
لله در القائل:
ما أرسل الرحمن أو يرسل ... من رحمة تصعد أو تنزل
في ملكوت الله وملكه ... من كل ما يختص أو يشمل
إلا وطه المصطفى عبده ... نبيه المختار المرسل
واسطة فيها واصل لها ... بعلم هذا كل من يعقل (2)
أي أن كل من يعقل ـ ولو قال كل من يجهل لكان أصوب- يعرف تمام المعرفة أن هذا الكون وما فيه إنما هو مستمد لبقائه ووجوده من محمد صلى الله عليه وسلم الذي هو الرب تعالى في تعيينه الثاني.
ويقرر ابن عطاء الله السكندري ذلك بقوله: "جميع الأنبياء خلقوا من الرحمة ونبينا صلى الله عليه وسلم عين الرحمة" (3)
ومما لا يجهله أي مسلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم عبد بشر مثل سائر البشر كرمه الله
_________
(1) هنا مربط الفرس في العقيدة الصوفية فقلما يخلو كتاب من كتبهم عن تقرير هذه العقيدة.
(2) جمهرة الأولياء 2/ 10.
(3) لطائف المنن ص 55(3/1012)
تفضلاً ومنة بالرسالة مثل سائر الأنبياء والرسل.
وهو عليه الصلاة والسلام غني عن مبالغات الصوفية وأكاذيبهم الحمقاء، فكل ما قرره أقطاب الصوفية من أولهم إلى آخرهم حول الحقيقة المحمدية ونشوء الخلق عنها فإنه كلام خارج عن عقيدة المسلمين من دان فلا حظ له في الإسلام بل هو مجوسي وثني.
يعتقدون كما قرره ابن عربي أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يعرف القرآن قبل نزوله بل إنه على حسب زعمهم هو الذي يعلم جبريل الذي بدوره يوحيه إلى محمد صلى الله عليه وسلم ثانية (1) .
ومن الصوفية مثل أبي يزيد البسطامي من يزعم أن الرسل كانوا أقل من مرتبتهم حيث قال: "خضنا بحراً وقف الأنبياء بساحله" (2) وهذه الافتراءات كلها إلحاد وزندقة وشبهات مظلمة وإبطالها مما لا يشق على مسلم عرف شيئاً عن تعاليم الإسلام، فإن القرآن منزل من عند الله تعالى على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم بواسطة جبريل عليه السلام وهذه هي عقيدة كل مسلم، من لم يؤمن بها أو شك فيها فلا حظ له من الإسلام ولا صلة بينه وبين المسلمين.
6 - الولاية وبيان بعض المصطلحات الصوفية:
تطلق كلمة ولاية في اللغة العربية (3) ، على عدة معان منها التابع، المحب والصديق والناصر.
أما معناها في مفهوم الصوفية فهي تنتهي أخيراً في مصب وحدة الوجود،
_________
(1) هذه هي الصوفية ص 89، ينقله عن كتاب الكبريت الأحمر للشعراني ص 6.
(2) انظر: شطحات الصوفية ص31.
(3) انظر: مادة ولي تهذيب اللغة الأزهري 15/447، ونزهة الأعين النواظر ص 614، والمختار من الصحاح ص583، وغير ذلك من كتب اللغة.(3/1013)
فقد عرفها المنوفي (1) تحت عنوان "أولياء الله"بقوله: "اعلم أن الولاية عبارة عن تولي الحق سبحانه وتعالى عبده بظهور أسمائه وصفاته عليه علماً وعيناً وحالاً وأثر لذة وتصرفاً"، ثم زاد الأمر وضوحاً حينما بين التجليات الإلهية والفيوضات التي تقع على السالك وأفعاله وأفعال كل المخلوقات ثم "لا يرى في نظره غير فعل الفاعل الحقيقي وهو الله".
وعرفها الجرجاني بقوله:
الولي: هو العارف بالله وصفاته بحسب ما يمكن، المواظب على الطاعات المجتنب عن المعاصي المعرض عن الانهماك في اللذات والشهوات.
وقال أيضاً: الولاية: هي قيام العبد بالحق عند الفناء عن نفسه (2) .
وقد ذكر السهروردي الولاية وقسمها إلى أقسام باعتبارات مختلفة ثم ذكر بعض الكرامات للأولياء التي لا يخلو من ذكرها كتاب صوفي، وأكثر تلك الكرامات التي يروونها محض خرافات وقصص باطلة. ثم خلص السهروردي إلى أن الصالحين الذين يتولاهم الله ويتولونه ليس المراد بهم: "الذي يقصده أهل الطريق عند تفصيل المراتب ويقولون: فلان صالح وشهيد وولي، بل الصلاح هنا المراد به: الذين صلحوا لحضرته بتحقيق الفناء عن خليقته" (3) .
وأما القطب الكبير عند الصوفية وهو القشيري فقد ذكر تعريفات كثيرة للولاية، ونقل عن أكابر مشائخهم آراءهم في الولاية وأهميتها وعلاماتها
_________
(1) جمهرة الأولياء 1/98، 99.
(2) كتاب التعريفات ص 254.
(3) عوارف المعارف ص84.(3/1014)
وكيفية الحصول عليها ومسائل أخرى (1) ، وهكذا فإن نظرة الصوفية إلى الولي والولاية ليست هي تلك المنزلة الطيبة في مفهوم الإسلام، لأن الولي الصوفي لا حد لصلاحياته في هذا الكون.
وقد جاءت الولاية في القرآن الكريم مراداً بها المدح، وأحياناً مراداً بها الذم، فهي تستعمل في الخير وفي الشر حسب إطلاقها، لأن صاحبها إما أن يكون ولياً لله تعالى أو ولياً للشيطان، وبين الولايتين من البعد والانفصال ما يعرفه كل مسلم سليم الفطرة صافي العقيدة.
وجاءت في السنة النبوية مراداً بها وصف من ساروا على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم والتزموا طريق الخير ونصروا الدين ووالوه.
ثم توسع الصوفية والشيعة في إطلاقها وخرجوا بها عن حقيقتها ومدلولها الصحيح، فأطلقت على الرجل المتصوف أو من ينتسب إلى آل البيت، ثم أسبغوا على أئمتهم وكبار دعاتهم هذه الكلمة وأنواعاً أخرى من التهويلات لمطامع اجتماعية وسياسية.
ثم أخذها الصوفيين بعد ذلك وأخرجوها في مذاهب الحلول والاتحاد وحدة الوجود، وهناك صفة ثانية أضيفت إلى مفهوم الولاية عند الشيعة والصوفي، وهي صفة العلم اللدني الذي أخذه علي بن أبي طالب عن الرسول صلى الله عليه وسلم كما زعموا، ثم ورثة إياهم ببركة تلك الولاية، وبلغ الغلو بالصوفية في أوليائهم إلى أن اتخذوهم بين الله وبين خلقه وسطاء على طريقة النصارى واليهود والمشركين تماماً.
_________
(1) الرسالة القشيرية2/520.(3/1015)
فكما اتخذ هؤلاء المسيح وعزيراً والملائكة أرباباً لهم من دون الله، اتخذ الصوفية وسطاء إلى الله عز وجل أسموهم القطب والغوث والولي ونسبوا إليهم النفع والضر، لأن الله بزعمهم جذبهم إليه واختصهم ثم ساووهم مع الله تعالى في كل صفاته، بل أصبح من شرط الولي أن يكون متصفاً بصفات الله-كما يزعمون- ومن هنا نشأ تنطعهم وتنقصهم للأنبياء على حد ما ورد عن أبي يزيد البسطامي في قوله: "خضنا بحراً وقف الأنبياء بساحله".
ثم اخترعوا مفهوماً كاذباً للولاية، فهي عندهم مجرد هبة من الله عز وجل لبعض خلقه دون أن يكون لها سبب، بل وبغض النظر عن صلاح الشخص أو فجوره، واستدلوا بقول الله عز وجل: {يختص برحمته من يشاء} (1) ، أي دون سبب حسب مفهومهم.
ومعنى هذا أنهم يجعلون مفهوم للولاية كمفهوم النبوة، الكل بلا سبب ظاهر، وهذا خلاف ما قرره الإسلام بالنسبة لولاية التي تنتج عن طاعة الله تعالى والمتابعة لنبيه صلى الله عليه وسلم.
وقد قسموا الولاية والأولياء إلى أقسام يطول شرحها بدون فائدة فيها (2) .
إلا ما نستثنيه مما ذكره المنوفي حين قسمهم إلى:
1- الملامتية:
وهم الذين لا يظهرون للخلق أعمالاً وأسراراً، بل يخفون أسرارهم لكمال ذوقهم وقوة شهودهم لربهم.
2- الغوث الأكبر:
وهو أكبر الأولياء والأقطاب، وهو ذات الحق باعتبار تجريدها من الاسم
_________
(1) سورة آل عمران: 74.
(2) انظر: ما كتبه الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق في كتاب الفكر الصوفي ص219، وانظر: الصوفية معتقداً ومسلكاً.(3/1016)
والصفة".
3- الأوتاد الأربعة:
وهم حفظة العلم كل واحد منهم في ركن من أركان العالم، وهم على قدم بدل من الأبدال، أي أقل رتبة من الأبدال، لأن الأبدال يكونون على قدم قطب من الأقطاب.
4- الأقطاب السبعة:
لحفظ القارات السبع، والقطب هو الواحد الذي هو موضع نظر الله من العالم في كل زمان. والقطبانية الكبرى هي مرتبة قطب الأقطاب، وهو باطن النبوة للرسول صلى الله عليه وسلم، والأبدال زعموا أنهم أربعون وهم مكلفون بحفظ العالم والكون، وقد عّرفهم المنوفي بأنهم: "أبدال الأقطاب من الأولياء، فإن مات قطب أحل الله محله بدلاً منه، ومنهم الخلفاء الأربعة".
5- النجباء:
وهم الأربعون القائمون بإصلاح شئون السالكين.
6- الأفراد:
وهم المفردون والغرباء لتفردهم عن الخلق بشهود الحق، وغربتهم في أهل زمانهم، وهم غير منحصرين في رتبة أو منزلة، ولهم كشف خاص وعلوم إلهية غريبة على الناس.. وهم على قدم النبي صلى الله عليه وسلم (1) .
وأخيراً وصلوا بالولاية إلى أنها مثل النبوة تماماً فلها ختم كما للنبوة
_________
(1) انظر: جمهرة الأولياء1/121، 306، 311.(3/1017)
ختم، فختم الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم وخاتم الأولياء عند الصوفية مجموعة من الكذابين مختلفون فيما بينهم على ادعائها.
وأول من ادعى ختم الولاية به هو محمد بن علي بن الحسين، ويسمونه "الحكيم الترمذي"، وقد ظهر في القرن الثالث الهجري- في آخره- وهو غير الترمذي صاحب السنن.
وحين صنف الحكيم الترمذي كتابه"ختم الولاية" مضاهياً بذلك القول بختم النبوة شهدوا عليه الكفر ثم نفي من ترمذ.
ثم جاء ابن عربي المتوفي سنة 638 هـ فادعى أنه خاتم الأولياء، ثم جاء محمد بن عثمان الميرغني السوداني المتوفي سنة 1268 هـ فادعى أنه هو خاتم الأولياء، ثم جاء أحمد التجاني من فاس بالمغرب المتوفي سنة 1230 هـ فادعى أنه هو خاتم الأولياء، وأن من سبقه أو يلحقه ممن يدعي ختم الولاية فإنه كاذب مفتر.
وكل واحد ممن يدعيها له مزاعم وادعاءات وكرامات ومزايا لا يصدقها شخص له أدنى معرفة بالدين الإسلامي.
وكلما جاء رجل منهم ادعى أنه هو خاتم الأولياء وأن غيره كاذب والكل-والله يشهد- كاذبون، ثم بلغ بهم الغلو أن فضلوا خاتم الأولياء المزعوم على خاتم النبيين لأمور لا فائدة من التطويل بذكرها، فإنهم مهما تفننوا في الاستدلال على ذلك ومهما زخرفوا القول فيه فهو مردود جملةً وتفصيلاً.
* * * * * * * * * * * * * *(3/1018)
الفصل الثالث عشر
الكشف الصوفي
من أصول الدين الإسلامي وقواعد الإيمان في الشريعة الإسلامية أن الله تعالى وحده هو علام الغيوب، وأن الخلق مهما كانت منزلة أحدهم لا يصل إلى معرفة الغيب، إلا من شاء الله أن يطلعه على ما أراد من ذلك، سواء كان ملكاً مقرباً أو نبياً مرسلاً.
ولقد تعدى المتصوفة على هذه الصفة لله عز وجل فأقاموا أمراً سموه "الكشف الصوفى"، ويعنى عندهم رفع الحجب من أمام قلب الصوفي وبصره ليعلم بعد ذلك كل ما يجرى في هذا الكون.
وبالغوا في هذا الإدعاء بما لا يجرؤ على القول به إلا عتاة الزنادقة، كما هو مسطر في كتبهم بأقلامهم، وكما تبين ذلك من خلال ما قدمنا من الإشارات الكثيرة إلى حقيقة الكشف من خلال نظرتهم إلى أقطابهم في حالة رفع الحجب عنهم واتحادهم بالله ورفع الأنية بينهم وبين الله، ويبدوا أنهم ترقوا في هذه الدعوى على النحو التالى:
1- ادعوا أن الصوفي يكشف له عن معان جديدة في القرآن والسنة والآثار والرسوم لا يعلمها علماء الشريعة، الذين سموهم علماء الظاهر والقراطيس؛ لأنهم أي علماء الشريعة إنما يعتمدون في نقل تلك المعاني من القرآن والسنة على موتى، وأما هم فإنهم يأخذونها عن الله تعالى مباشرة.(3/1019)
ومن هنا تجد أقطاب التصوف حين يشرحون بعض الآيات والأحاديث يأتون فيها بمعان من نسج أخيلتهم ويزعمون فيها مزاعم هي عين الأكاذيب التي لا يسندها أي دليل لا من الشرع، بل ولا من العقل في أكثر ما جاءوا به في شروحاتهم.
2- ثم ترقوا فقالوا: إن لهم علوماً لا توجد في الكتاب ولا في السنة يأخذونها جديدة عن الخضر الذي هو على شريعة الباطن حسب زعمهم.
وهذه الفرية هي التي استباحوا بموجبها كثيراً من الفواحش والمحرمات إذ أن النصوص التي يفيد ظاهرها التحريم قد يفيد باطنها الإباحة، والخضر يؤكد لهم ذلك، فإذا بتلك النصوص ظاهرها في واد وباطنها في واد آخر لا صلة بينها إلا تلك الروايات التي صدرت عن الخضر، أو بعض المنامات التي حدثت لأقطابهم الكبار الذين استباحوا كل محرم من الفواحش.
3- وهناك فرية أيضاً اقترفوها، وهي قولهم: أنهم يتلقون علومهم عن ملك الإلهام كما تلقى رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم علومه من ملك الوحي مباشرة.
4- وآخرون منهم يزعمون أنهم يتلقون علومهم عن الله رأساً وبلا واسطة؛ حيث تنطبع هذه العلوم في نفوسهم، وبموجبها يأتون ما يأتون من أمور.
5- وآخرون منهم يدَّعون أن الرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي يخبرهم بأذكارهم وعبادتهم يقظة لا مناماً.(3/1020)
6- ثم زعموا أنهم يعلمون أسرار الحروف المقطعة من القرآن وقصص الأنبياء على حقيقتها، وأنهم يجتمعون بالأنبياء ويسألونهم عن تفاصيل قصصهم، وخرافات كثيرة ذكرها الجيلي في كتابه "الإنسان الكامل" يمجها السمع وينفر عنها الذوق.
وكذا الغزالي حين دخل التصوف ولم يستطع الخروج منه رغم أنه كان من علماء الشريعة، فقد ذكر أشياء كثيرة عن الكشف الصوفي وخرافاتهم فيه مؤيداً له.
وعتاة هذه الدعوى ابن عربي وعبد العزيز الدباغ والبسطامي والتجاني والمرسي وغيرهم (1) ، لقد كانت دعوى الكشف هي المقدمة الأولى في نظري إلى الادعاء بوحدة الوجود والحلول، فإن دعوى الكشف مبالغة فاحشة، ولكنها تعتبر من باب التمهيد لما هو أفحش منها، وهو ادعاء الاتصاف بالله والأخذ عنه مباشرة.
ولذلك ترى كثيراً من المؤلفين من علماء التصوف زعموا أنهم لم يأتوا بما ذكروه في كتبهم إلا عن طريق الكشف الصريح يتلقونه عن الله مباشرة، رغم ما يحمل من كفر وفجور وزندقة وإباحية.
كما زعم ابن عربي في فصوصه، والجيلي في كتابه "الإنسان الكامل" الذي يقصد به الرسول صلى الله عليه وسلم الذي اتصف حسب تقرير الجيلي بصفات الله تعالى، وبصفات أقطاب التصوف أحياناً؛ حيث يظهر في صورة أى شيخ منهم كالشبلي والجبرتي وغيرهما في زمنهم وفي غير زمنهم.
وكتاب الجيلي "الإنسان الكامل" مملوء بالعبارات التي تؤدي إلى إحياء الخرافات والزندقة، فقراءة عابرة له تجعلك لا تتوقف في هذا الحكم عليه ولا
_________
(1) انظر: الفكر الصوفي ص 143 الفصل التاسع.(3/1021)
فيما كتبه عتاة التصوف كالدباغ وتلميذه أحمد بن مبارك والشعراني وعلي حرازم، وغيرهم ممن لا يلتزم بالعقيدة الإسلامية الصحيحة.
ثم دخلوا على عوام المسلمين عن طريق الكشف الإلهي والوصول إلى الحقيقة وصفاء القلب والولاية، وغير ذلك من أنواع الشبكات الصوفية التي يصطادون بها الناس عن طريق دعوى الكشف والتظاهر بالزهد، وإكرام الله لهم بمعرفة ما لم يعرفه غيرهم، وفى كل ذلك تساعدهم الشياطين، وأكثر هؤلاء الذين يخبرون بالمغيبات عن طريق الكشف إنما يستعينون بالسحر والطلاسم.
* * * * * * * * * * * * * *(3/1022)
الفصل الرابع عشر
الشطحات الصوفية
لقد وصل الصوفية في شطحاتهم إلى حد لا يقدم عليه إلا من تزندق وألحد وخرج عن الدين، ولقد فاضت كتبهم بذلك وتواتر النقل عنهم، وهو أمر لا يدع مجالاً للشك في إلحاد من يعمل ذلك منهم، وفي إعراضه عن الخلق الفاضل والعقل السليم، فضلاً عن الدين.
ومما يلحظه القارئ أنهم بعد أن أوردوا أنفسهم تلك الموارد الوخيمة أرادوا أن يجدوا مخرجاً منها، فلم يجدوا لهم مخرجاً فادعوا أنهم إنما قالوا تلك الكلمات الكفرية في حال سكرهم بالله تعالى وغيبوبة عقولهم عن الإحساس بأى شيء غير الله، وما أقبح هذا العذر وأسمجه فهل هم أحب لله من الأنبياء ومن كثير من أتباعهم الذين لا يقاس بهم غيرهم، ولم يعثر عن أحد منهم أن تلفظ بما تلفظ به هؤلاء الذين امتلأت نفوسهم زندقة وحقداً على الإسلام والمسلمين.
ومما يدركه طالب العلم أن الشطحات الصوفية كثيرة جداً، لا يمكن حصرها إلا بدراسة وافية (1) ، غير أننا سنعرض هنا بعض الامثلة لتكون نموذجاً
_________
(1) انظر: ما كتبه الدكتور عبد الرحمن بدوي في كتابه "شطحات الصوفية" الجزء الأول "أبو يزيد البسطامي"؛ حيث نقل أقوالاً كثيرة في شطحات الصوفية.(3/1023)
لبقية شطحهم وغلوهم ومقدار جرأتهم على اقتحام الامور العظيمة في الإلحاد.
ونبدأ ببعض ما ذكر عن أبي يزيد البسطامي: طيفور بن عيسى.
1- قال أبو يزيد عن الله تعالى: "رفعني مرة فأقامني بين يديه وقال لي: يا أبا يزيد إن خلقي يحبون أن يروك فقلت: زيني بوحدانيتك وألبسني أنانيتك وارفعنى إلى أحديتك حتى إذا رآني خلقك قالوا: رأيناك، فتكون أنت ذاك ولا أكون أنا هنا".
ومعناه أنه يطلب أن يصوره الله على صورته عز وجل تماماً، فإذا شاهده الناس قالوا: شاهدنا الله.
والرواية عنه هي كما تقدم إلا أني أرى أن هذه العبارة: "إن خلقي يحبون أن يروك" ليست هكذا - ولم أر أحد بين هذا - ولكن لعل الصواب فيها "إن خلقي يحبون أن يروني"، ولهذا بين أبو يزيد كيفية الطريقة التي يمكن أن يرى الخلق فيها ربهم، وذلك بأن يرقى البسطامي إلى حد النيابة التامة عن الله تعالى صفة وشكلاً - تعالى الله.
2- وقال مرة: "سبحاني سبحاني".
وقال: ضربت خيمتي بإزاء العرش أو عند العرش.
3- واجتاز بمقبرة لليهود فقال: "معذورون" ومر بمقبرة للمسلمين فقال: "مغرورون".
4- وقال: يخاطب الله: كنت لي مرآة فصرت أنا المرآة.
5- وقال: لأن تراني مرة خير لك من أن ترى ربك ألف مرة.(3/1024)
6- وقال: إلهي أن كان في سابق علمك أنك تعذب أحداً من خلقك بالنار فعظم خلقي فيه - أى النار - حتى لا يسع معي غيري.
7- وقال: ما النار؟ لاستندن إليها غداً وأقول: اجعلنى لأهلها فداء أو لأبلعنها. ما الجنة؟ لعبة صبيان.
8- تلك بعض شطحات البسطامي، وهناك الكثير يوردها علماء الصوفية عنه بين مستحسن لها وبين مراوغ في معانيها (1) .
أما الشبلي فهو الأخر له من الشطحات ما نذكر بعضه فيما يلي:
1- أخذ من يد إنسان كسرة خبز فأكلها فقال: "إن نفسي هذه تطلب مني كسرة خبز، ولو التفت سري إلى العرش والكرسي لاحترق".
2- وقال لو خطر ببالي أن الجحيم نيرانها وسعيرها تحرق مني شعرة لكنت مشتركاً.
3- وقال: أيش أعمل بلظى وسقر؟ عندي أن لظى وسقر فيها تسكن يعني في القطيعة والإعراض - لأنه من عذبه الله بالقطيعة فهو أشد عذاباً ممن عذبه بلظى وسقر.
4- وسمع قارئاً يقرأ هذه الآية: (قال اخسئوا فيها ولا تكلمون) (2) ، فقال الشبلي: ليتني كنت واحداً منهم.
_________
(1) انظر: لتلك الشطحات وغيرها كتاب: شطحات الصوفية ص 28 - 32 نقلاً عن اللمع السرَاج ص 380 - 394، وعن ماسنيون في مجموع نصوص ابتداء من ص 27، وحلية الأولياء 1/41.
(2) سورة المؤمنون: 108.(3/1025)
5- وقال: إن لله عباداً لو بزقوا على جهنم لأطفؤها فصعب ذلك على جماعة ممن كان يسمع ذلك.
6- وقيل له: لم تقول: "الله"، ولا تقول "لا إله إلا الله"؟ فقال: استحى أن أواجه إثباتاً بعد نفي.. أخشى أن أؤخذ في كلمة الجحود ولا أصل إلى كلمة الإقرار (1) .
وقال أبو الحسن النوري وقد سمع المؤذن طعنه وشم الموت وسمع نباح كلب فقال: لبيك وسعديك.
وسمع أبو حمزة الصوفي شاة مرغياً فقال: "لبيك يا سيدي".
وقيل للتلمسانى وقد أشاروا له إلى كلب أجرب ميت: هو ذات الله أيضاً؟ فقال: "وهل ثم شيء خارج عنها" (2) .
وهذه العبارات إنما هي أمثلة قليلة وهناك آلاف الشطحات في حال سكرهم بالله كما يزعمون، والحقيقة أنها صادرة عن أناس يدعون الحلول والاتحاد وهم في كامل وعيهم وشيطنتهم، وعندهم تمام الجرأة على الكذب على الله لجهلهم به عز وجل وهوانهم عليه.
وإذا رجع القارئ إلى كتاب الطبقات الكبرى للشعراني فسيرى العجائب والغرائب مما ينقله الشعراني عن أسياده الذين ترجم لهم مبتدئاً بقوله: "فقال سيدى.. رضي الله عنه - ثم ملأ كتابه بأخبار هؤلاء في شطحاتهم وفي تصرفاتهم بما يستحي الإنسان أن يقرأه أو ينظر فيه، شطحات تصل إلى عمق
_________
(1) انظر: المصادر السابقة.
(2) إلى التصوف يا عباد الله ص 35.(3/1026)
الكفر، وتصرفات من أولئك الأقطاب تصرخ بالعار والفجور، وقد ترجم لعدد كثير، فارجع إليه إن أحببت أن ترى مهازل الصوفية وسقطاتهم التي لا تقال".
وقد ترجم الشعراني لعدد كثير منهم، وزعم أنهم كلهم أقطاب التصوف، ولكن ينبغي الانتباه إلى أنه حشر خيرة الصحابة رضوان الله عليهم بل جعل الخليفة الأول للمسلمين أبا بكر رضي الله عنه هو أول هؤلاء الأقطاب ثم عمر، إلى أن ذكر أيضاً كثيراً من خيار التابعين وعلماء الأمة الذين لا صلة لهم بخرافات الصوفية وخزعبلاتها، بل إن حشره لهؤلاء مع الحلاج والبسطامي والشاذلي والمرسي وغيرهم من عتاة التصوف يعتبر إهانة لهم.
وقد سار على نفس المنهج كثير من مؤلفي الصوفية، كما فعل نفس المسلك الذي سلكه الشعراني، المنوفي في جمهرة الأولياء، وقبلهم القشيري، وكل من جاء بعد هؤلاء سلك نفس ذلك المسلك الخاطئ.
* * * * * * * * * * * * * *(3/1027)
الفصل الخامس عشر
التكاليف في نظر الصوفية
يعتقد غلاة الصوفية أن الصلاة والصوم والحج والزكاة هي عبادات العوام، وأما هم فيسمون أنفسهم الخاصة أو خاصة الخاصة، ولذلك فإن لهم عبادات خاصة، ومناهج وطرق خاصة، ومفاهيم تختلف تماماً عن مفاهيم العامة، خصوصاً بعد وصول أحدهم درجة اليقين - كما يزعمون - وقد شرع كل قوم منهم شرائع خاصة بهم، في الذكر والخلوة والملابس المخصوصة والحلقات الخاصة.
وقد يتفقون في بعضها وقد يختلفون، إلا أن كل صاحب طريقة يجعل على أتباعه أغلالاً وحواجز شديدة، بحيث لا يستطيع أحدهم أن يغير طريقته بطريقة أخرى، وحتى مجرد الذكر إلا بإذن الشيخ وكل ذلك إنما يفعلونه كما يزعمون من أجل ربط القلب بالله للتلقي عنه مباشرة، ولاستمداد العلوم والمعارف عن الله رأساً على يد شيخ خوله الله ومنحه القدرة على ذلك.
وأما بالنسبة للتحريم والتحليل فأهل وحده الوجود منهم لا شيء يحرم عندهم؛ لأن الكل عين واحدة وفعل الخير وفعل الشر والقبيح والحسن إنما هي أفعال لا فروق بينها لاحتواء الذات لها كلها، ولذلك فقد حصل من بعض كبارهم وأئمتهم ما يستقبح الشخص مجرد ذكره؛ إذ كان منهم الزناة واللوطية والملاحدة، ثم لا يحق لأي شخص أن يعترض؛ لأن الشيخ لا يفعل شيئاً إلا لحكمة.
وأيضاً لا يفعل هذه الأمور التي يعتبرها الناس فواحش بجسمه وروحه بل بجسمه فقط، وأما روحه فهي أجل من أن تتدنى إلى فعل هذه الأمور(3/1028)
الجسيمة، وقد وجدوا من الناس الذين هم أضل من البهائم من يصدقهم في كل ما يصدر عنهم، فصدقوهم في التفرقة بين ما يفعلونه بأجسامهم لحكمة وبين ما في أرواحهم من السمو والتعالي عن ما يفعله سائر الناس، والعقل من أجل نعم الله على الإنسان.
ثم اخترعوا مفهوماً ضالاً وهو أنه قد يصل الأمر أحياناً إلى حد أن للولي شريعته الخاصة، وللنبي محمد صلى الله عليه وسلم تلقي شريعته الخاصة فلا يمنع أن يحصل الخلاف بينهما ويكون الجميع على الصواب، فالولي يتلقى شريعته عن الله مباشرة وهي شريعة للخاصة، ومحمد صلى الله عليه وسلم تلقى شريعته عن الله مباشرة وهي شريعة للعوام.
ولذلك تجد في حلقات هؤلاء الصوفية الغلاة من الفواحش والخروج عن تعاليم الإسلام ما لا يمت إلى الإسلام بصلة؛ لأن هذه الأفعال من الاختلاط والحشيش وأنواع الفساد قد تكون مباحة في شريعة الولي مع حرمتها في شريعة النبي، ولكل شريعته.
وما دام الشيخ الصوفي قد وصل إلى حد التلقي عن الله مباشرة واطلعه على كثير من أسرار هذا الكون وعرف الكثير من المغيبات فإنه والحال هذه ليس عنده طمع في جنة ولا خوف من النار، ومن هنا تنشأ الاستهانة التامة بجميع التكاليف الشرعية.
وقد تبجح الكثير منهم بأنه لا يعبد الله طمعاً في الجنة ولا خوفاً من النار؛ لأن هذه العبادة معاوضة والصوفي قد اتحد بالله وفني فيه لأجله لا لغرض آخر، والخوف من النار أيضاً طبع العبيد لا طبع الأحرار كما تبجح البسطامي بقوله السابق: "ما النار؟ لاستندن إليها غداً وأقول اجعلني لأهلها فداء أو(3/1029)
لأبلعنها، ما الجنة؟ لعبة صبيان"، وقول الشبلي: "إن لله عباداً لو بزقوا على جهنم لأطفئوها".
فهم يزعمون أنهم يعبدون الله حباً في الله لا كما يعبده الخائفون من النار الطامعون في الجنة فإن عبادتهم إنما هي على سبيل العوض لا حباً في الله - وعلى هذا فإن من سبقهم من صالحي المؤمنين والأولياء من الصحابة وغيرهم بل والأنبياء كانت همتهم قاصرة عن إدراك هذا المعنى الذي اهتدى إليه هؤلاء!!
ومما يدل على تقدم ما نذكره فيما يلي من كلام الصوفية، حيث قسم المنوفي الناس بالنسبة لمراتبهم وقربهم وبعدهم عن الله تعالى ثلاثة أقسام تحت عنوان "حقيقة الطريق" فقال:
"إن هذا الطريق وهو السيرة المختصة بالسالكين إلى الله تعالى عند قطع المنازل والترقي في المقامات ينقسم بحسب اختلاف أحوالهم إلى ثلاثة أقسام لكل قسم منها طريقة:
فالقسم الأول ذوو الامزجة الكثيفة والأفهام الضعيفة الذين يعسر عليهم محاولة التعلم من طريق التعليم , فطريقهم يستقيم بالعبادة والتنسك والزهادة والصلاة والصوم وتلاوة القرآن والحج والجهاد وغيرها من الأعمال الظاهرة، لأن هذه الطائفة لصلابة أبدانها وقوة أركانها تتحمل مشاق العبادة ... والسالكون بهذا الطريق لا يزالون على هذه المناهج حتى يرقوا لأرفع المعارج ويقربون من مواطن تنزلات المعارف - وإذا وصلوا إلى هذا الحد -"، فحينئذ يكشف لهم عن سبحات المحبوب ويرون عجائب الغيوب ويتلقون عرائس الأسرار، وهذه الطرق صعبة جداً والواصل بها على خطر عظيم.(3/1030)
أما الثانية وهى طريقة أهل الخصوص وهم من ذوى الأفهام اللوذعية والأخلاق الرحبة والهياكل النورانية والنفوس الأبي، أولئك الذين قد لا يملكون نفوسهم في حال النزوات فطريقهم المجاهدات.. والسالكون بها لا يزالون يرتاضون في قلع ما انطبع في نفوسهم من الأخلاق الذميمة إلى أن تذهب تلك الطباع المكتسبة وترجع إلى فطرتها السليمة.
والقسم الثالث هم ذوو النفوس الرضية والعقول الزكية والفطرة الصديقية التي أبدان أصحابها في نهاية الاعتدال واللطافة، وطريقهم طريق المطلوبين إلى الله والطائرين إليه، وهي طريق المحبوبين المخطوبين من رب العالمين، وملاك السير بها صفاء القلب، وصدق الحب، والتحقق ظاهراً وباطناً جهراً وسراً بشعائر التصديق، فيخرج عن حوله وقوته وعقله وفطنته إلى حول الله وقوته" (1) .
وقال أيضاً: "وبما أن التصوف هو زبدة الديانات ولبها وليس مجرد تقاليد وطقوس وقواعد ظاهرية كان لكل ديانة تصوفها" (2) . وهذا الكلام فيه التصريح بأن التصوف لم يكن نبعه الإسلام فقط، وإنما هو زبدة الديانات أي أنه ملفق من ديانات شتى، وفيه أيضاً التصريح بأنه ليس مجرد تقاليد وطقوس وقواعد ظاهرية.
والإسلام كما هو معلوم فيه بيان شامل لكل ما يحتاجه المسلم وهو نظام كامل، ولا يجوز تسميته مجرد تقاليد وطقوس، على أن القواعد الظاهرية
_________
(1) انظر: جمهرة الأولياء 1/157، 158.
(2) ص 155.(3/1031)
نسبة إلى الظاهر يقصد بها قواعد الشريعة الذين يسميهم الصوفيون أهل الظاهر.
وقد فرق أيضاً بين الزاهد والصوفى:
بأن الزاهد هو الذي ينصرف عن الملاذ الدنيوية وينكر على نفسه جميع شهواته وإن أحلها الشرع، ويتحمل مرارة الجوع والعطش بصفة مستمرة وصوم دائم.. لا يفعل كل ذلك إلا طمعاً في ربح الآخرة والمكافأة بجنات النعيم.
وأما الصوفي فلا يرجو من ذلك شيئاً وإنما همة الوقت الحاضر وهدفه أن زهد وأن عبد معرفة الله والاتصال برضوانه" (1) .
ومعنى هذا أن الجنة والنار لا قيمة لها في نظر الصوفي:
"لم يبلغ الأبدال ما بلغوا بصوم ولا صلاة، ولكن بالسخاء والشجاعة وذمهم أنفسهم عند أنفسهم" (2) ، وهذا الكلام فيه الاستهانة بشرائع الإسلام حيث فضل السخاء والشجاعة وذم النفس على الصوم والصلاة.
وقال أيضاً: "إن الله يفتح للعارف وهو على فراشه ما لا يفتح لغيره وهو قائم يصلي" (3) ، وهذه دعوى صريحة إلى التكاسل في الطاعات وتعريض بقلة فضل الصلاة.
_________
(1) ص 156.
(2) جمهرة الأولياء 2/175.
(3) الرسالة القشيرية 2/606.(3/1032)
وتتضح منزلة التكاليف عند بعض أولياء الصوفية عند الشعراني في تراجمه لكثير من أعلامهم بما لا يدع مجالاً للشك في إلحاد وزندقة هؤلاء الذين يسميهم أولياء ويترضى عنهم أيضاً.
وكمثال على ذلك ما أورده في ترجمته للشريف المجذوب حيث قال:
"وكان أصله جمالاً عند بعض الأمراء ثم حصل له الجذب ... وكان له كشف ومثاقلات للناس الذين ينكرون عليه، وكان رضي الله عنه يأكل في نهار رمضان ويقول: أنا معتوق أعتقنى ربي، وكان كل من أنكر عليه يعطبه في الحال، وكان رضي الله عنه يتظاهر ببلع الحشيش فوجدوها حلاوة، وكان قد أعطاه الله تعالى التمييز بين الأشقياء والسعداء في هذه الدار" (1) .
ومن أولئك الأولياء أيضاً بركات الخياط رضى الله عنه، كان رضي الله عنه من الملامتية ... وأخبرني الشيخ عبد الواحد رضي الله عنه أحد جماعة سيدي أبي السعود الجارحي رضي الله عنه، قال: مدحته للشيخ جمال الدين الصائغ مفتى الجامع الأزهر وجماعة فقالوا: امضو بنا نزوره وكان يوم جمعة فسلم المؤذن على المنارة , فقالوا له: نصلي الجمعة فقال: مالي عادة بذلك.
فأنكروا عليه فقال: نصلى اليوم لأجلكم، فخرج إلى جامع المارداني فوجد في الطريق مسقاة كلاب فتطهر منها، ثم وقع في مشخة حمير ففارقوه وصاروا يوبخون الشيخ الذي جاء بهم إلى هذا الرجل، وصار الشيخ بركات يوبخ عبد الواحد ويقول أيش هؤلاء الحجارة الذين أتيت بهم لا يعود لك
_________
(1) الطبقات الكبرى بتقديم بعض العبارات - انظر 2/150.(3/1033)
بالعادة أبداً ... وله وقائع مشهورة رضي الله عنه" (1) .
وأمثلة أخرى كثيرة يوردها الشعراني تدل على مدى استهتار هؤلاء الأولياء - حسب زعمه - بالأخلاق والدين والتكاليف، فقد ذكر عن علي وحيش ما يخجل القلم من كتابته ويتلعثم اللسان من النطق به (2) ؛ من الأعمال الفاحشة والزنا وفعله بالبهائم وصاحبها قائم أمامه، وإن لم يرض تسمر في مكانه كما يذكر الشعراني.
ويبدو أن للكشف الصوفي علاقة قوية بترك التكاليف على حد ما أورده عنهم الشيخ سعيد حوى في قوله:
"يربط بعض الصوفية بين الكشف وترك التكاليف، فيرون أن الإنسان متى كشف له شيء من أمر الغيب - وما أكثر ما يتوهون في هذا الشأن - سقط عنه التكليف، فلا صلاة ولا صيام ولا غير ذلك، ويستشهدون على ذلك بقوله تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَى يَأتِيَكَ الْيَقِنُ} (3) " (4) .
* * * * * * * * * * * * * *
_________
(1) الطبقات الكبرى 2/144.
(2) المصدر السابق 2/149.
(3) سورة الحجر: 99.
(4) تربيتنا الروحية ص 200.(3/1034)
الفصل السادس عشر
الأذكار الصوفية
أم الأذكار الصوفية فحدث ولا حرج عن خرافتهم فيها، وقد قدمنا من الأمثلة ما يوضح حال هؤلاء ومدى ما وصلوا إليه من الجهل بربهم والبعد عن هدى خير الأنام، هذا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً.
لقد اخترعوا أذكاراً وشرعوا أوراداً ما أنزل الله بها من سلطان، بل اشتملت على الكفر والزندقة في كثير منها والكذب على الله وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم، كما اشتملت على كلمات سريانية غير معروفة المعنى وعلى رموز وحروف مقطعة لا يعرف المراد منها.
وكل صاحب طريقة له أذكار هي أفضل من كل ذكر، وأجرها أعظم من كل أجر، وما عداه باطل حسب تخرصاتهم في كل ذلك، ينطبق عليهم قول الله تعالى: {وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيءٍ} (1) ، فهم متفرقون قد لا يجمعهم إلا الاتفاق على الرقص وادعاء الوصول إلى الله ومكالمته ورفع الغير والغيرية بينة وبينهم.
مع أن كل صاحب طريقة يدعى أنه يأخذ تلك الأذكار مباشرة عن الله عز وجل أو عن نبيه صلى الله عليه وسلم، وأحياناً يقظة لا مناماً كما يزعمون، وفضلوها تفضيلاً عالياً ليرفعوا شأنها في نفوس أتباعهم ومريديهم على القرآن والسنة والأدعية
_________
(1) سورة البقرة:113.(3/1035)
المأثورة، ويطول البحث لو أردنا ذكر نماذج من تلك الطرق المختلفة والأذكار المتباينة فيما بينها.
فمنها الأذكار التجانية التي سبق ذكرها، ومنها أذكار البسطامي والرفاعي والجيلاني والشبلي وأبو العباس المرسي وآخرين كثيرين، ومنها أذكار الطريقة الشاذلية التي زعم أصحابها أن الرسول محمد صلى الله عليه وسلم والخضر هما اللذان علما الشيخ أحمد الإدريسي، حيث ذكر تلميذه صالح محمد الجعفري ذلك في كتابه مفاتيح كنوز السموات والأرض المخزونة التي أعطاها الرسول صلى الله عليه وسلم لشيخ الطريقة الإدريسية المصونة (1) .
وهي أذكار في غاية الركاكة والكذب على الله وعلى الرسول والاعتداء في الدعاء على حق الله ورسوله، ولم يكتف هؤلاء بادعائهم أنهم يأخذون أذكارهم عن الله ورسوله فقط، بل هناك كما يذكرون بعض الأولياء الذين قد ماتوا هم أيضاً يلتقون ببعض المشائخ الأحياء ويعلمونهم أدعية وأوراداً لا حد لأجر من يقولها.
ولو كان الذكر كلاماً لا معنى له في أي لغة من اللغات المعروفة من مثال ما ذكروه عن الدسوقي أنه علمهم هذا الدعاء: "بسم الله الخالق يلجمه بلجام قدرته أحمى حميثاً أطمي طميثاً وكان الله قوياً عزيزاً حم عسق حمايتنا كهيعص كفايتنا ... " (2) إلى آخر الذكر الذي يدل على مدى ضحالة معرفتهم بالله ورسوله وعدم التفاهم إلى ما شرع الله ورسوله صلى الله عليه وسلم من الدعاء الواضح المثمر في قلب العبد إذا دعا ربه بإخلاص وتوجه.
وقد ذكروا من الأجر لقائل أذكارهم الجوفاء ما لا يحد ولا يعد ولا
_________
(1) انظر: الفكر الصوفي ص284.
(2) المصدر السابق: ص290. نقلاً عن الإبريز للدباغ(3/1036)
يتصور في الذهن، وقد يبدو على تلك الأدعية حرارة الإيمان وصدق الالتجاء إلى الله تعالى، ولكنه في الحقيقة ليس موجهاً إلى الله فقط بل إلى أوليائهم الأحياء أو الأموات أيضاً.
ومدار أذكارهم على الإثبات كما يزعمون، فهم يقتصرون على لفظة "الله" بدلا عن لا إله إلا الله يعللون لهذا المسلك بما لا مقنع فيه حتى للجهال العامة فضلاً عن أهل العلم، حيث يقولون: إن اقتصارهم على لفظة "الله" وتكرارها خوفاً أن يموت الشخص عند ذلك النفي في قول "لا إله".
ولا ندري كيف يقرءونها في القرآن {فاعلم أنه لا إله إلا الله} ، وماذا يفعل المؤذن، وماذا يفعل الداخل في الإسلام عندما ينطق الشهادتين، وأمور أخرى لا يستطيع العقل أن يتصور مدى التخبط الذي حل بهؤلاء.
ومن غريب أمر الصوفية في أذكارهم أنهم رتبوها على طريقة شيطانية من وحي شياطينهم، حيث جعلوا لكل اسم من أسماء الله تعالى ذكراً خاصاً به، ولطبقة خاصة به، فمن ذلك زعمهم أن اسم الله العفو يليق بأذكار العوام، لأنه يصلحهم وليس من شأن السالكين إلى الله ذكره.
أما اسمه تعالى الباعث فإنه يذكره أهل الغفلة ولا يذكره أهل طلب الفناء، وأما اسمه الغافر فيلقن لعوام التلاميذ وهم الخائفون من عقوبة الذنب، وأما من يصلح للحضرة الإلهية فذكره مغفرة الذنب عندهم يورث الوحشة، وأما اسمه تعالى المتين فإن ذكره يضر أرباب الخلوة وينفع أهل الاستهزاء بالدين.
وهكذا استمر السكندري في وصف أسماء الله وخواصها، وكأنما هو طبيب يصف العلاج ومنافعه، وقد تقدم ذكر الطريقة التجانية، ونضيف هنا ما استخلصه الشيخ عبد الرحمن الوكيل في بيانه لكيفيات الذكر الصوفي(3/1037)
ومراحله، فنوجز ذلك فيما يلي (بتصرف) :
إذا جاء وقت المولد - الأعياد الوثنية - يجتمع الرجال والنساء أو الدراويش والدرويشات كما يحبون تسميتهم بذلك.
بعد أن يتخموا بطونهم بأنواع المأكولات التي تقدم في هذه المناسبة يقوم الشيخ الكبير ويصفق بيديه اللامعتين من "دسم الحرام" إيذاناً ببدأ الذكر.
يخرج من شفتيه ومنخريه اسم الله ملحداً في حروفه وفي النطق به.
يقوم المتغزلون بإنشاد قصائد غزلية تلهب المشاعر، ويصاحبهم المطبلون وأصحاب الآلات المطربة.
ثم يهب الشيخ ويهب معه المريدون يتمايلون يمنة ويسرة في حركات مثيرة صاخبة كل ينوح على ليلاه _ والآهات والزفرات والقبل، كما رأيتهم بعيني (1) - هي الشعار العام لهم، وكل واحد من الحاضرين يبذل أقصى جهده في إظهار أقوى الحركات والحماس ليلفت الأنظار إليه.
على الحاضرين أن يستحضر كل واحد منهم صورة شيخه أمامه إن لم يكن موجوداً، أو يستمد منه العون في بدء قيامه بهذا الذكر قائلاً: مددك يا أستاذي، ثم يستأذن أصحاب الطريق والقدم فيقول: دستور
_________
(1) حينما ذهبت في رحلة علمية إلى دولة عربية سنة 1397هـ.(3/1038)
يا أصحاب الطريق والقدم.
ينبغي على كل واحد أن يلتزم بطريقة الذكر، وهي كما يلي:
أن يهتز من فوق رأسه إلى أصل قدميه.
أن يبدأ بـ (لا) يميناً ويرجع بـ (إله) فيتوسط، ثم يختم (إلا الله) يساراً قبلة القلب.
إذا ذكر اسماً مفرداً مثل الله، أو هو، أو حيّ لابد أن يضرب بذقنه على صدره.
في كل ذلك يجب أن ينتع الكلمة من سرته إلى قلبه ثم يستمر هكذا في هذه الصور البهلوانية التي هي أقرب إلى الجنون والعربدة منها إلى أقل التفات إلى الله تعالى أو ثوابه وعقابه.
يجب ملاحظة أن المريد لا يدعو بأي اسم لله إذا سمح له به الشيخ وإلا حصل عليه ضرر شديد.
ثبت أن تلك الطريقة الصوفية في الدعاء أخذت بتمامها عن اليهود، حيث جاء ذلك في المزمور التاسع والأربعين بعد المائة في العهد القديم وهو:
"ليبتهج بنو صهيون بملكهم ليسبحوا اسمه برقص، بدف وعود ليرنموا، هللوا يا، سبحوا الله في قدسه، سبحوه برباب وعود، سبحوه بدف ورقص، سبحوه بأوتار ومزمار، سبحوه بصنوع الهتاف" (1)
_________
(1) انظر: ما كتبه الشيخ عبد الرحمن الوكيل عفا الله عنه ص141-145.
وانظر العهد القديم المزامير ص641.(3/1039)
ولقد ذكر ابن عطاء الله السكندري أدعية عن مشائخه وأسياده في الطريقة طويلة مملة ممجوجة، مملوءة بالتنطع والتعدي في الدعاء والإشعار بكبريائهم وعتوهم وطلبهم الحلول والاتحاد به، منه دعاء الشيخ أبو الحسن الشاذلي، وفيه:
"يا عزيز يا رحيم ... وأسقط البين بيني وبينك حتى لا يكون شيء أقرب إلي منك ... اللهم هب لي النور الذي أرى به رسولك صلى الله عليه وسلم ما كان ويكون، اللهم ارزقني من كنز لا حول ولا قوة إلا بالله فإنها كنز من كنوز الجنة، واضربني بها ضرباً تمحق بها من قلبي كل قوة. باسم المهيمن العزيز القادر أجل كل شيء وهو ناصري ق. ج ن ص انصرني" (1) .
ونفس الدعاء السابق أيضاً كان يدعو به القطب الكبير أبو العباس أحمد المرسي، بل وزاد عليه أشياء أخرى ومنه:
"اللهم اهدني لنورك ... وهب لي علماً يوافق علمك ... وارفع الحجاب فيما بيني وبينك، وأسقط البين عني حتى لا يكون شيء بيني وبينك، واكشف لي عن الحقيقة الأمر.."، إلى أن قال: "كيف يكون ذنبي عظيماً مع عظمتك أم كيف تجيب من لم يسألك وتترك من سألك؟
إلهي جذبك لي أطمعني فيك ... قاف جيم سران مع سرك هب لي من نورك ما أتحقق به حقائق ذاتك" (2) الخ.
_________
(1) لطائف المنن ص342.
(2) لطائف المنن ص 343-354.(3/1040)
ثم أورد السكندري دعاء حزب شيخه الشاذلي، وفيه:
"لا إله إلا الله نور عرش الله، لا إله إلا الله نور لوح الله، لا إله إلا الله نور قلم الله، لا إله إلا الله نور رسول الله"، ثم كرر الدعاء على الصفة إلى أن قال:
"وتالله لئن لم ترعني بعينيك وتحفظني بقدرتك لأهلكن نفسي ولأهلكن أمة من خلقك.. يا من به ومنه وإليه يعود كل شيء أسألك بحرمة الأستاذ، بل بحرمة النبي الهادي، بل بحرمة السبعين والثمانية.. اللهم صلني باسمك العظيم الذي لا يضر معه شيء في الأرض ولا في السماء، وهب لي من سراً لا تضر منه الذنوب شيئاً.. واجعلني خزانة الأربعين" (1) .
إلى آخر ما ورد من أذكار لا تسمن ولا تغني من جوع، بل هي سراب يحسبه الظمآن ماءً.
ومنهم من يدعو بهذا الدعاء بدلاً عن سبحان الله وبحمده، لا إله إلا الله، بدلاً عن ذلك يدعو بهذا الذي تقشعر منه الجلود وتشمئز منه النفوس وهو من أدعية الطريقة الشاذلية.
"سقفاطيس، سقاطيم آمون قاف آدم حم هأ آمين كد كد كردد ده بها بهيا بهيا بهيهات لمقفنجل يا أرض خذيهم" (2) ، نعم يا أرض خذيهم إنها مأساة حقيقية حين توجد تلك الأذكار الجوفاء ثم يتبعها الوجد والرقص والطبول والزغاريد كما نبينه فيما يلي:
* * * * * * * * * * * * * *
_________
(1) المصدر السابق ص355-365.
(2) انظر: الفكر الصوفي ص292، نقلاً عن أبى الحسن الشاذلي لعبد الحليم محمود ص210.(3/1041)
الفصل السابع عشر
الوجد والرقص عند الصوفية
لقد كان للغرام العارم والرقص والتمايل عند الصوفية مكانه ثابتة بل هذا النوع صار من أقوى الشبكات التي يصطادون بها من قلت معرفتهم بالدين الإسلامي الحنيف، وحقاً إنه نوع من الخلل في السلوك والاضطراب الذهني حين يعبدون الله بالرقص والحركات التي لا تمت إلى عبادة الله بأية صلة إلا كما تمت إليها عبادة اليهود من قبل حين حثتهم التوراة _ المحرفة _ العهد القديم _ المزامير على وجوب التسبيح لله بالدف والمزمار والعود والربابة.
وعند الصوفية في أوقاتهم الخاصة مجالس يجتمعون فيها على الرقص والغناء والتصفيق والصياح بأصوات منكرة يمزقون فيها ثيابهم ويتمايلون حين يأخذ منهم الطرب مأخذه في حركات بهلوانية لا يفهم منها أي إشارة إلى الخوف من النار أو الرغبة في الجنة.
وقد أصبح الرقص الصوفي الحديث عند معظم الطرق الصوفية في مناسبات الاحتفال بمولد بعض كبارهم أو في أية مناسبة من مناسباتهم الكثيرة، يحضر عازفون وموسيقيون ويختلط بعضهم ببعض رجالاً ونساءً كباراً وصغاراً، ويجلس في هذه المناسبة كبار الأتباع يتناولون ألواناً من شرب الدخان، وكبار أئمتهم يقرءون عليهم بعض الخرافات المنسوبة لمقبوريهم (1) .
_________
(1) انظر: الصوفية معتقداً ومسلكاً ص230(3/1042)
والغناء الذي يترنمون به يشتعل حباً وعشقاً وغراماً وقصائد وجد وحزن، فإذا سئلوا عن ذلك زعموا أنها من الطرق التي توصلهم إلى ربهم، أو هو الحب الإلهي كما يسمونه لترغيب الناس فيه. وهذه الصور البهلوانية الرعناء هي صورة الذكر.
فهل كان الرسول صلى الله عليه وسلم أو أحد من الصحابة يفعلون مثل هذا التنطع المذموم، وهل مثل تلك الحركات تشير إلى الخشوع لله تعالى والسكينة في العبادة من قريب أو من بعيد، وهل ذلك الاختلاط والتمايل يمكن أن يكون بعيداً عن الشيطان. إنها مهازل وسخرية بدينهم ومع ذلك فهم يتلمسون لهم الأدلة التي يجادلون بها مهما كان سقوطها.
أدلتهم على جواز ذلك والرد عليها:
وهكذا لم يكتف هؤلاء بتلك المسالك التي غلوا فيها إلى أن أخرجوا بعض عباداتهم في صور غنائية ورقص، بل حاولوا كذلك أن يجدوا لتلك الأفعال أدلة لمشروعيتها، ومن ذلك:
زعمهم أن سلمان رضي الله عنه حين نزل قوله تعالى: (وإن جهنم لموعدهم أجمعين) (1) صاح سلمان الفارسي صيحة ووقع على رأسه ثم خرج هارباً ثلاثة أيام.
ومن ذلك أيضاً احتجاجهم بقول الله تعالى لأيوب عليه السلام: (اركض برجلك) (2) .
_________
(1) سورة الحجر: 43.
(2) سورة ص: 42.(3/1043)
ومنها قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - لعلي: "أنت مني وأنا منك" فحجل، وقال لجعفر: "أشبهت خلقي وخلقي" فحجل، وقال لزيد: "أنت أخونا ومولانا" فحجل.
ومنها احتجاجهم لسماع الرسول - صلى الله عليه وسلم - جاريتين تغنيان بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم وهو مسجى بثوبه، فجاء أبو بكر فانتهرهم، فنهاه الرسول - صلى الله عليه وسلم - وقال: "دعهما فإنها أيام عيد".
ومنها أن الحبشة زفنت والنبي - صلى الله عليه وسلم - ينظر إليهم.
واحتج أبو عبد الرحمن السلمي على جواز الرقص بما روي عن الشافعي أن سعيد بن المسيب مر في بعض أزقة مكة فسمع الأخضر الحداء يتغنى في دار العاص بن وائل بهذين البيتين:
تضوع مسكاً بطن نعمان أن مشت به زينب في نسوة عطرات
فلما رأت ركب النميري أعرضت وهن من أن يلقينه حذرات
قال فضرب برجله الأرض زماناً وقال: هذا مما يلذ سماعه.
ومنها أن عمر رضي الله عنه كان ربما مر بآية في وردة فتخنقه العبرة ويسقط ويلزم البيت اليوم واليومين حتى يعاد ويحسب مريضاً.
ومنها أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال في حق أبى موسى: " لقد أوتي مزماراً من مزامير آل داود " ومنها استحسان الرسول شعر النابغة حتى قال له: "لا يفضض الله فاك"، ووضعه أيضاً المنبر لحسان يقول عليه الشعر في هجاء المخالفين(3/1044)
للرسول - صلى الله عليه وسلم -.
ومنها أن بعض الصالحين رأى الخضر وسأله عن السماع الصوفي فقال له: ذلك هو الصفاء الزلال.
ورأى أحدهم الرسول صلى الله عليه وسلم في المنام فسأله عن سماع الصوفية فقال له الرسول: ما أنكره، ولكن قل لهم يفتتحون قبله بقراءة القرآن ويختتمون بعده بالقرآن..
ومنها أن الخضر تواجد حتى سقط على جبهته وصار الدم يقطر منها ولا يقع على الأرض، حين سمع أبياتاً من الشعر قالها شخص بحضرته، ذكرها السهروردي.
ومن أدلتهم أن بعض الصالحين رأى النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وهو يقول له كلاماً والنبي صلى الله عليه وسلم قد وضع يده على صدره كالمتواجد بذلك.
ثم أورد السهروردي أدلة كثيرة عن بعض الصوفيين في حال تواجدهم؛ بعضهم مشى على الماء، وبعضهم لم يحترق بالنار، وبعضهم يرتفع أذرعاً عن الأرض، إلى أن، ختم السهروردي أدلته - وهى كثيرة بزعمه - بهذه القصة، وهي أن أعرابياً أنشد رسول الله صلى الله عليه وسلم:
لقد لسعت حية الهوى كبدى فلا طيب لها ولا راقي
إلا الحبيب الذي شغفت به فعنده رقيتي وترياقي
فتواجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وتواجد الأصحاب معه حتى سقط رداؤه عن(3/1045)
منكبيه، ثم قسم رداءه بينهم، حيث مزقه إلى أربعمائة قطعة (1) .
تلك أهم الحجج التي يتمسك بها الصوفيون في مشروعية لهوهم وتواجدهم، فما مدى صحة استدلالهم، وهل ما ذكروه من تلك الروايات كلها صحيحة، أو هل كان فهمهم لها فهماً صحيحاً؟
والجواب عن هذه الاحتجاجات يحتاج إلى دراسة ووقت، ولكن أكتفى هنا بإيجاز الرد عليهم في دفع حججهم وأدلتهم بأنها احتجاجات واهية وتلفيق غير مقبول ومزاعم لا صحة لها:
*فأما ما رووه عن سلمان فإنه كذب، ومحال كذلك، فقد رويت هذه القصة بلا سند. ثم إن الآية نزلت بمكة بالاتفاق كما قال القرطبي، وسلمان إنما أسلم بالمدينة كما هو معلوم.
ثم أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان ينهي أشد النهي عن مثل هذه الأمور المنافية للوقار والخشوع، فإنه كان صلى الله عليه وسلم يبغض الصياح أو إظهار التخشع عند سماع القرآن أو المواعظ إلا في الحدود المشروعة، ومن ذلك ما رواه أنس قال: "وعظ رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً فإذا برجل قد صعق فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "من ذا الملبس علينا ديننا إن كان صادقاً فقد شهر نفسه وإن كان كاذباً فمحقه الله" (2) .
وقد عرف عن الصحابة رضوان الله عليهم أنهم كانوا يخشعون تمام الخشوع، فتذرف عيونهم وتخاف قلوبهم، ولم يصعق أحد منهم وهم أعرف
_________
(1) انظر عوارف المعارف ص 124-147، وانظر: كتاب حزب الرحيم 1/179 (هامش جواهر المعاني) ، وانظر: الصوفية معتقداً ومسلكاً ص 230. وانظر: الرسالة القشيرية 1/246 - 252.
(2) تلبيس إبليس ص252.(3/1046)
بالله من غيرهم وأتقى له وأكثر انقياداً وقبولاً للحق تمسكاً به، ولو كان ذلك الوجد والهيام والصعق خير لما سبقهم أحد إليه.
*واما احتجاجهم بقول الله تعالى لأيوب: (اركض برجلك) (1) فهذا احتجاج يدل على جهل صاحبه بحقيقة حال أيوب المبتلى بما لا يصبر عليه أحد إلا من أعانه الله وقوى يقينه، فإنه يقال لهذا المحتج: إن الله لم يأمر أيوباً بضرب رجله فرحاً وطرباً.
وإنما أمر بضرب رجله من باب فعل الأسباب إكراماً من الله تعالى له، ثم إنه لم يركض برجله ابتداء وإنما تنفيذاً للأمر، وكذلك لإشعاره بتغير الحال، ولحكم أخرى لا يعلمها إلا الله تعالى ليس منها جواز الرقص، ولم يك حاله يستدعي أن يضرب برجله الأرض تواجداً وطرباً إلا عند الجفاة.
*وأما احتجاجهم بحجل على وجعفر وزيد، فإن الحجل هو نوع من المشي يفعل عند الفرح وارتياح النفس أحياناً ليعبر الشخص به عن فرحه دون قصد الرقص والتمايل، والصحابة هؤلاء لم يكن منهم رقص ولا تمايل ولا إنشاد قصائد الغزل المهيجة، فليس فيه دلالة على ما يريد المتصوفة، وما فعله هؤلاء الصحابة إنما كانت حالة عارضة لا قصد لهم فيها لإظهار الطرب والتواجد.
*وأما احتجاجهم بزفن الحبشة فإن الزفن أيضاً نوع من المشي مع الرقص ويشير كذلك إلى الاعتداد بالنفس، وأكثر ما يفعل عند اللقاء في الحرب إظهاراً للشجاعة وعدم المبالاة بالعدو، وليس المقصود منه الرقص والطرب
_________
(1) سورة ص:42(3/1047)
كما يرى الصوفية.
*وأما ما ذكروه عن سعيد بن المسيب - رحمه الله - فإنه مكذوب عليه، وليس هذا شعره، وهو أوقر من أن يصل إلى هذا الحد.
*وهذه الأبيات فيما يذكره الأدباء قالها محمد بن عبد الله بن نمير الشاعر الثقفي، يتغزل فيها بزينب بنت يوسف الثقفي أخت الحجاج. وقد هرب بعد ذلك إلى عبد الملك خوفاً من الحجاج، فسأله عبد الملك بن مروان عن الركب ماذا كان؟ فقال له: كانت أحمرة عجافاً حملت عليها قطراناً من الطائف، فضحك عبد الملك وأمر الحجاج أن لا يؤذيه.
ثم لو قدرنا أن ابن المسيب ضرب برجله الأرض فليس في ذلك حجة على جواز الرقص، ولا أنه ضرب بها وهو يريد الرقص، فإن الإنسان قد يضرب برجله الأرض أو يدقها لشيء يسمعه ولا يسمى ذلك رقصاً منه، بل إن الإنسان قد يضرب برجله الأرض إما فرحاً وإما غضباً وإما غيظاً (1) .
*وأما احتجاجهم بسماع الرسول للجاريتين فهو استدلال غريب منهم على جواز الرقص والتمايل والتواجد؛ ذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان مسجي بثوبه، وهم حينما يتواجدون لا يتدثرون بثيابهم، بل تعلو همتهم ويشتد عراكهم ويمزقون ثيابهم، فأين فعلهم من فعل الرسول صلى الله عليه وسلم؟.
*كذلك فإن الجاريتين كانتا تنشدان كلاماً ليس فيه غزل أو تشبيب أو خروج عن حد الوقار والأدب، وكان الحال يستدعي الترويح عن النفس، خصوصاً وأنه يوم عيد وعائشة رضي الله عنها كانت جارية شابة.
_________
(1) انظر: الصوفية معتقداً ومسلكاً ص231.(3/1048)
*وأما استدلالهم بما ينسبونه إلى عمر رضي الله عنه من أنه كان يلزم البيت اليوم واليومين حينما يسمع بعض الآيات في ورده؛ فإنه لم يعرف أن الصحابة كانت لهم أوراد يرددونها على طريقة الصوفية، بل ولم يعرف عنه أنه يمرض اليوم واليومين بسبب ما يسمعه من بعض الآيات، لا هو ولا غيره من الصحابة.
*وأما استدلالهم بحسن صوت أبى موسى فليس فيه دليل على الوجد الصوفي، وإنما هو إخبار من الرسول صلى الله عليه وسلم بتلك النعمة التي أعطيها أبو موسى، فهل كان الصحابة يرقصون على سماع قراءته أو يصعقون أو يمزقون ثيابهم؟ كلا.
*وكذلك استحسان الرسول صلى الله عليه وسلم لبعض الكلام أو الشعر ليس فيه دلالة للصوفية، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يستحسن أشياء ويستقبح أشياء، وهذا أمر طبيعي في النفوس.
*وأما ما يحشده أقطاب التصوف من الأدلة بالرؤى المنامية أو بمقابلتهم للخضر، فإنها أدلة باطلة، حتى ولو كان الرائي ثقة، فإنه لا يتعبد برؤياه فما بالك وتلك الرؤى الصوفية عن مجهولين، إضافة إلى التكليف الظاهر في رواياتهم.
*وزعمهم أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يطرب ويتواجد ويضرب بيده على صدره ويمزق ثيابه ويعطيها لأصحابه كله كلام يدل على عدم احترامهم للرسول صلى الله عليه وسلم وعدم معرفة قدرة العظيم. فهل كان يصل به التواجد إلى حد أن يسقط رداءه عن منكبيه من سماع تلك الأبيات الفارغة: قد لسعت حية الهوى(3/1049)
كبدي ... ؟
*وما ذكره السهروردي من أن بعض أقطاب التصوف يكاد أن يطير أو يرتفع من الأرض أذرعاً أو يدخل الشمعة في عينه أو يطأ النار ولا يحس بها أو يمشي على الماء أو غير ذلك من الحركات البهلوانية العشوائية التي يفعلها هؤلاء، فلا ريب أنها من أقوى الدلائل على تلاعب الشياطين بهم وإخراجهم عن حد الاعتدال الذي أقل ما يوصف به أنه ينافي الخوف من الله تعالى والرغبة في المغفرة.
* * * * * * * * * * * * * *(3/1050)
الفصل الثامن عشر
الكرامات وخوارق العادات عند الصوفية
للأولياء الحقيقيين كرامات لا تنكر، وقد كان للصحابة رضي الله عنهم من الكرامات ما هو جدير بهم، وكان لغيرهم من الأولياء والعلماء كرامات كثيرة، وهدفنا هنا من ذكر الكرامات وخوارق العادات هو بيان تلك الكرامات والخوارق التي تتم على أيدي أناس ليسوا من أولياء الله، وليس لهم صلاح يؤهلهم لذلك.
وبيان أن ذلك من مكائد الشيطان وتلبيسه على الناس بأن يظهر لبعضهم أموراً غيبية تبدو كأنها كرامات من الله للشخص فيتخيل أنه بلغ منزلة عالية فاق فيها غيره من الناس، وأنه أصبح يماثل الأنبياء في كراماتهم وقربه من الله. وهذه الحال كثيرة الوقوع لمن يدعون أنهم أولياء لله، وأكثرهم في الحقيقة أعداء له وموالين لشياطينهم.
ومن تلاعب الشياطين بهؤلاء: أن يسمع أحدهم صوتاً من حجر أو شجر أو صنم يأمره وينهاه بأمور في بعضها الشرك بالله فيظن المغرور أن الله خاطبه أو , الملائكة على سبيل الكرامة، ومعلوم أن الله لا يأمر بالفحشاء، والملائكة لا تأمر بالشرك بالله وإنما أولئك هم الشياطين يلبسون عليهم أمورهم كما كانوا يفعلون ذلك قبل الإسلام أيضاً.
وقد يظن هؤلاء أن ذلك وحى من الله عليهم كما حصل لكثير من الذين قلت معرفتهم بالله كالمختار بن أبى عبيد الذي أخبر عنه الرسول صلى الله عليه وسلم أنه كذاب ثقيف وغيره ممن استهوتهم الشياطين.
ومنها: أن الشياطين قد تتمثل بصورة المستغاث به من الناس فيظن المشرك(3/1051)
بالله أن هذه الصورة هي الشيخ الفلاني أو الولي الفلاني، أو أن ملكاً جاء على صورته، وإنما هو في الحقيقة شيطان تمثل له ليضله.
ومنها: أن تخاطب الشياطين بعض العبَّاد الجهال، ويوهمونه أنه المهدي المنتظر وصاحب الزمان الذي بشر به الرسول صلى الله عليه وسلم، ويغرونه بزخرف القول وشتى الوساوس حتى يصدق نفسه فيدعي المهدية وغير ذلك.
بل يبلغ الحال ببعضهم أن يرى الكعبة تطوف به، ويرى عرشاً عظيماً وعليه صورة عظيمة وأنواراً وأشخاصاً تصعد وتنزل فيظنها الملائكة بين يدي الله تعالى وأن الله كشف له النظر إليه.
وهذا يتطلب من المؤمن العاقل التنبه لمثل المكائد الشيطانية بلجوئه إلى الله والاهتداء بهدية، وسوء الظن بنفسه الأمارة بالسوء، وأن ينظر إلى نفسه من باب الذل والاحتقار والحاجة إلى ربه، ويزن أعماله بامتثاله أوامر الله واجتنابه نواهيه، فيحكم على نفسه عند ذلك بالتقصير أو القرب من الله تعالى.
ويكبح جماح نفسه الأمارة بالسوء، وأن لا يصدق ما يتراءى له من كرامات تنافي الإسلام، مثل أنواع الكرامات التي تبجح بها بعض غلاة الصوفية لأنفسهم كما ذكرها المناوي، وهي:
إحياء الموتى. وقد مثل بأبي عبيد اليسري الذي أحيا دابته بعد ما ماتت، ومفرج الدماميني الذي أحيا الفراخ المشوية، والكيلانى وأبو يوسف الدهمانى الذي أحيا لتلميذه ولده بعد ما مات.
ومن الكرامات التي يزعمونها أن الأولياء من الصوفية لهم القدرة على المشي على الماء وكلام البهائم وطي الأرض وظهور الشيء في غير موضعه والمشي على السحاب وتحويل التراب إلى خبز وإبراء الأكمه(3/1052)
والأبرص.
ويذكر علي حرازم منهم أن الولي يملك كلمة التكوين فإذا أراد شيئاً فإنه يقول له كن فيكون. وقد ذكر أمثلة كثيرة في كتابه جواهر المعاني لمثل هذا الخلط والكذب على الله وعلى الناس.
ومن المعجزات والكرامات التي يملكها الأولياء من الصوفية - حسب زعمهم - سماع نطق الجمادات، كما يزعم ابن عربي الذي ملأ كتبه بأنواع الأكاذيب حول تلك المعجزات والكرامات الصوفية.
ضمانة الجنة لمن أطعم صوفياً أو قضى له حاجة؛ كما ضمن ذلك التجاني لكل من أحبه أو أطعمه أو أحسن إليه بأي شيء كما يذكر التجانيون في كتبهم افتخاراً بكرامات سيدهم التي منها هذه الكرامة التي أكدها علي حرازم والفوتي نقلاً عن التجاني.
وكل تلك الكرامات أشبه ما تكون بأحلام الصبيان أو صراعات المجانين، وتكذيبها والسخرية بها لا تحتاج إلى ضياع الوقت في الاشتغال بالردود عليها وبيان سخافتها ودجل من يدعيها ممن جرؤ على الكذب على الله وعلى الناس وضللوا أتباعهم وأخرجوهم عن الإسلام من حيث لا يشعر أولئك الأتباع، لأنهم أصبحوا كما قال الله تعالى: (أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون) (1) .
وفيما يلي نذكر بعض الأمثلة من كلام أقطاب التصوف في الكرامات التي يزعمونها لأنفسهم أو لأوليائهم لترى مدى بعد تلك العقول عن الحق
_________
(1) سورة الأعراف: 179.(3/1053)
والأفكار الرديئة التي انطوت عليها الزعامات الصوفية.
يقول عبد الكريم القشيري عن كرامات أبى الحسين النوري أنه قال: "كان في نفسي شيء من هذه الكرامات، فأخذت قصبة من الصبيان وقمت بين زورقين ثم قلت: وعزتك إن لم تخرج لي سمكة فيها ثلاثة أرطال لأغرقن نفسي، قال فخرج لي سمكة فيها ثلاثة أرطال" (1) .
فهذا جاهل بحق ربه وأراد أن يقتل نفسه: وقد صادف ما قدره الله له - أو كان بفعل الشيطان ليغويه - أن خرجت له تلك السمكة، ومهما كان فإن هذا المسلك لم يكن من مسلك الأولياء على هذا النحو، وقال عنه:
"وحكي عن النوري أنه خرج ليلة إلى شط دجلة فوجدها وقد التزق الشطان فانصرف وقال: وعزتك لا أجوزها إلا في زورق".
وقد فسر ذلك العروسي فقال: "أي التقى له الشطان بحيث لو مد رجله كان على الشط الآخر، فانصرف وقال تأدباً واعترافاً بتوالي نعم الله عليه في كل خارق: وعزتك لا أجوزها إلا في زورق كسائر الناس" (2) .
فكيف يكون الأدب مع الله أن ترد مكرمته إلا عند القشيري والنوري، وقال أبو الحارث الأولاشي: "مكثت ثلاثين سنة ما يسمع - أي ينطق - لساني إلا من سري ثم تغيرت الحال فمكثت ثلاثين سنة لا يسمع سري إلا من ربي". (3)
"وكان يحيى بن سعيد يتعبد في غرفة ليس إليها سلم ولا درج، فكان إذا
_________
(1) الرسالة القشيرية 2/676.
(2) ص678.
(3) ص682.(3/1054)
أراد أن يتطهر يجيء إلى باب الغرفة ويقول: لا حول ولا قوة إلا بالله ويمر في الهواء كأنه طير ثم يتطهر فإذا فرغ يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله ويعود إلى غرفته" (1) .
وقال أبو يعقوب السوسي: "جاءني مريد بمكة فقال: يا أستاذ أنا غداً أموت وقت الظهر فخذ هذا الدينار فاحفر لي بنصفه وكفِّنِّي بنصفه الآخر، ثم لما كان الغد وطاف بالبيت ثم تباعد ومات، فغسلته وكفنته ووضعته في اللحد، ففتح عينيه فقلت أحياة بعد موت؟ فقال أنا حي وكل محب لله حي" (2) .
وأما بالنسبة للخضر فحدث ولا حرج لقد ملأ الصوفيون كتبهم بحكايات عن الخضر لا حد لها ولا حصر إذ لا يخلو كتاب من كتبهم من نسج القصص والأساطير عليه، ومفادها أن الخضر يجيب كل من يستغيث به في أي بلد كان.
ويذكر القشيري أنه حدث ابن أبى عبيد اليسري عن أبيه أنه غزا سنة من السنين فخرج في السرية فمات المهر الذي كان تحته وهو في السرية فقال: يا رب أعرناه حتى نرجع إلى بسرى يعنى قريته فإذا المهر قائم ... إلى آخر القصة.
ومثل هذه القصة قصة أخرى وقعت لأحد الأولياء ذكرها أبو سبرة النخعي (3) ، وذكر السكندري أنواعاً من الكرامات التي تحصل للولي فقال:
"ثم إن هذه الكرامات قد تكون طياً للأرض ومشياً على الماء وطيراناً في
_________
(1) ص685.
(2) ص700.
(3) انظر: الرسالة القشيرية ص712.(3/1055)
الهواء واطلاعاً على كوائن كانت وكائن بعد لم تكن من غير طريق العادة وتكثير الطعام أو الشراب أو إتياناً بثمرة في غير إبانها، وإنباعاً ماء من غير حفر أو تسخير حيوانات عادية، أو إجابة دعوة بإتيان مطر في غير وقته، أو صبر عن الغذاء مدة تخرج عن طور العادة، أو إثمار لشجرة يابسة ما ليس عادتها أن تكون مثمرة له" (1) .
ونقل عن المرسي قوله: "وقال الشيخ أبو العباس رضي الله عنه: جلت في ملكوت الله فرأيت أبا مدين متعلقاً بساق العرش وهو رجل أشقر أزرق العينين.. الخ" (2) .
وذكر السكندري عن الصوفي القرشي أنه جاءه الخضر بزيتونه من نجد وكان به مرض الجذام فقال له: كل هذه الزيتونة ففيها شفاؤك، فقال له: اذهب أنت وزيتونتك لا حاجة لي بها (3) .
ثم شرع السكندري كغيره من علماء الصوفية في ذكر فضائل الخضر وأفعاله مع الأولياء الصوفية وأورد قصصاً في ذلك كثيرة ورد على الذين ينكرون وجوده بدليل أن إبليس موجود الآن فلا ينبغي جحد وجود الخضر وهذا الدليل من أبعد ما يكون عن الصواب، لأن وجود إبليس بنص القرآن والسنة، وجود الخضر إلى الآن لا دليل عليه لا عقلاً ولا نقلاً.
وكرامات كثيرة يذكرها السكندري لمشائخه لا يصدقها عاقل نترك ذكرها هنا، ومن أراد الإطلاع عليها فليرجع إلى كتاب السكندري "لطائف المنن"؛
_________
(1) لطائف المنن ص123.
(2) ص146.
(3) ص153.(3/1056)
حيث ملأه بكرامات وبشطحات أولئك المشائخ بما لا يجرؤ أي مسلم يخاف الله أن يتطاول على الله وعلى رسله ولو بأقل من تلك الشطحات الخرقاء من دعوى علم الغيب بكل شيء في هذا الكون مهما كان حقيراً في ليل أو نهار، ومن دعوى الاتحاد بالله ومجالسته، ومن دعوى مصاحبة النبي محمد صلى الله عليه وسلم في كل وقت، ومن دعوى مشاهدة الجنة دائماً، وأشياء أخرى حين يقرأها المسلم يقول: ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا.
ومثل ما خاض فيه السكندري خاض فيه أيضاً الشعراني، ولا أرى أن المقام يسمح بذكر نماذج من تلك الكرامات الخيالية التي زعمها الشعراني لأقطاب التصوف الذين ترجم لكل واحد منهم وجاء في تراجمهم بما لا يقوله إنسان سليم الفترة سليم العقل عنده أدنى معرفة بالدين الإسلامي.
إنها جرائم حشدها الشعراني في طبقاته على أنها كرامات لأولئك الذين زعم كذباً أنهم أولياء أقل ما فيها الاستهانة بجرائم اللواط والزنا والشذوذ الجنسي _ كما يسمى في عصرنا _ ومن غريب أمره أنه يذكر الشخص منهم ثم يأتي في ترجمته وكراماته بما ينكس الرأس حياء ثم يختمها بقوله عنه _ رضي الله عنه _.
ولو أن هؤلاء الصوفية من أمثال ابن عربي والمنوفي والسهروردي والشعراني والسكندري وعلي حرازم والفوتي ذكروا كرامات قليلة وفيها نوع من التعقل لكنت نقلتها هنا ولكن لا حيلة في ذلك وكتبهم كلها مملوءة بكرامات كل واحدة تعلن أختها (1) ، ومن هنا أعرضت عن ذكر ذلك وكنت
_________
(1) انظر: الفتوحات المكية أربع أجزاء، جمهرة الأولياء جزئين، عوارف المعارف مجلد، طبقات الشعراني جزئين، لطائف المنن مجلد، جواهر المعاني جزئين، رماح حزب الرحيم جزئين، هامش جواهر المعاني، وغيرها من كتب الصوفية الذين غلوا في دينهم.(3/1057)
مثل خراش الذي قال فيه الشاعر:
تكاسرت الضباء على خراش ... فما يدري خراش ما يصيد
على أن بعض تلك الكرامات لا تستحق أن تذكر لأحد؛ إذ فيها الاستهانة بالأخلاق والآداب العامة، وفيها التشجيع على اللهو والفسق.
* * * * * * * * * * * * * *(3/1058)
الفصل التاسع عشر
تراجم زعماء الصوفية
للصوفية زعماء كثيرون ليس من السهل حصرهم وذكر تراجمهم غير أننا نحيل من أراد التوسع في تراجمهم إلى كتب الصوفية أنفسهم.
وقبل إيراد بعض تلك الكتب أحب التنبيه إلى أن بعض علماء الصوفية حينما كتبوا تراجم لمشاهيرهم وأسلافهم ارتكبوا جرماً في حق الصحابة رضوان الله عليهم وفي حق غيرهم من خيار المسلمين وعلمائهم، حيث حشروهم في سلسلة واحدة مع كبار غلاة وفساق الصوفية الذين وصل بهم الاستهتار بأخلاق وبأمور الدين الشرعية وبالآداب الإسلامية، بل والعرفية إلى حد يستحي الإنسان من ذكرها، وأعمال لا يتصور وقوعها من جهال المسلمين، فما الظن بطلاب العلم، بل وما الظن بأولياء الله؟
وكنت قد جمعت عدة أوراق في تراجم أقطاب التصوف، ولكني رأيتها أليق بكتب التاريخ وتطول بها هذه الدراسة فاكتفيت بذكر بعض المراجع التي اهتمت بدراسة شخصيات علماء التصوف ونقل أخبارهم وشطحاتهم وكشوفاتهم ومنزلتهم عند الله وعند الناس، وما آل إليه أمر كل واحد منهم، ومن أهم تلك الكتب:
الرسالة القشيرية: لأبي القاسم عبد الكريم بن هوازن بن عبد الملك بن طلحة القشيري النيسابوري الشافعي 471-465هـ، وهي مجلدان، خصص(3/1059)
المجلد الأول من ص61 إلى آخره لتراجم مشائخ التصوف، ابتدأه بهذا العنوان: "فصل في ذكر مشائخ هذه الطريقة وما يدل من سيرهم وأقوالهم على تعظيم الشريعة" (1) ، ثم ذكر تراجم لثلاثة وثمانين شخصاً من كبار زعماء التصوف.
الطبقات الكبرى المسماة بلواقح الأنوار في طبقات الأخيار تأليف عبد الوهاب ابن أحمد بن علي الأنصاري الشافعي المصري المعروف بالشعراني. ظهر في القرن العاشر الهجري.
والطبقات مجلدان خصصهما لتراجم كبار علماء الصوفية من رجال ونساء،
وقد ترجم لأربعمائة وأربعة وعشرين شخصاً، بإضافة مشائخه وعددهم 87 شخصاً، وقد بدأ تراجم هؤلاء بأبي بكر الصديق رضي الله عنه وختمهم بعلي بن شهاب جده الأدنى، ثم ابتدأ بمحمد المغربي الشاذلي وختمهم بالشيخ علي العياشي.
جمهرة الأولياء أعلام أهل التصوف، تأليف محمود أبو الفيض المنوفي الحسيني. مجلدين، خصص الجزء الثاني لترجمة كثير من الأعلام، أعلام الصحابة وأهل الصفة، ثم ترجم لعدد من أعلام التصوف تحت عنوان: "طبقة التابعين وتابعيهم ذكر التابعين من الأولياء" (2) .
ثم ترجم لسبعة وثمانين شخصاً، حشر بعض الفضلاء من أعلام الإسلام
_________
(1) الرسالة القشيرية 1/61
(2) 1/80(3/1060)
مع كبار الغلاة من الصوفية دون تمييز.
كتاب عوارف المعارف لأبي حفص عمر بن محمد بن عبد الله بن محمد عموية الصديقي القرشي التميمي اليكري الشافعي الملقب بشهاب الدين السهروردي 539-632هـ، ولم يبرز التراجم لرجال الصوفية في هذا الكتاب إلا أنه ذكر كثير من أعلام التصوف في ثنايا أبواب الكتاب.
لطائف المنن لابن عطاء الله السكندري، وطريقته مثل طريقة السهروردي.
جواهر المعاني وبلوغ الأماني في فيض سيدي أبي العباس التجاني- تأليف/علي حرزام ابن العربي برادة المغربي.
كتاب رماح حزب الرحيم على نحور حزب الرجيم-تأليف/عمر بن سعيد الفوتي الطوري الكدوي.
و"جواهر المعاني" مجلدان، وكذا"الرماح" مجلدان بهامش كتاب جواهر المعاني، اهتم المؤلفان ببيان الطريقة التجانية، وذكر التجاني وكبار أتباعه بتوسع تام.
وقد ألف بعض العلماء مؤلفات خاصة عن شخصيات الصوفية مثل ابن عربي والبسطامي والتجاني والنقشبندي وابن سبعين والغزالي وابن الفارض والحلاج والجيلاني.
* * * * * * * * * * * * * *(3/1061)
بعض المراجع عن الصوفية
كتب الصوفية
1- الرسالة القشيرية-للقشيري.
2- عوارف المعارف. للسهروردي.
3- لطائف المنن. للسكندري.
4- جمهرة الأولياء. للمنوفي.
5- جواهر المعاني. علي حرازم.
6- رماح حزب الرحيم. الفوتي.
7- الطبقات الكبرى. الشعراني.
8- الفتوحات الربانية. ابن العربي.
9- فصوص الحكم. ابن العربي.
10- تائية ابن الفارض. ابن الفارض.
11- تخريج الأربعين السلمية في التصوف. للسخاوي، تحقيق علي حسن.
12- الهداية الربانية في فقه الطريقة التجانية. محمد السيد التجاني.
13- الغنية لطالبي طريق الحق. عبد القادر الجيلاني.(3/1062)
14- رفع الشبهات عما في القادرية والتجانية من الشطحات. لجنة جماعة الصوفية في ألورن.
* * * * * * * * * * * * * *(3/1063)
ومن الكتب التي ألفها علماء الإسلام من غير الصوفيين
1- الصوفية والفقراء. شيخ الإسلام ابن تيمية.
2- الجزء11 من مجموع فتاوى شيخ الإسلام.
3- هذه هي الصوفية. عبد الرحمن الوكيل.
4- الفكر الصوفي. عبد الرحمن عبد الخالق.
5- التصوف معتقداً ومسلكاً. صابر طعيمة.
6- التصوف المنشأ والمصدر. إحسان إلهي ظهير.
7- التصوف والاتجاه السلفي في العصر الحديث. مصطفى حلمي.
8- إلى التصوف يا عباد الله. الجزائري.
9- التجانية. علي بن محمد الدخيل الله.
10- رسائل وفتاوى في ذم ابن العربي الصوفي. جمع وتحقيق موسى الدويش.
11- النقشبندية عرض وتحليل. عبد الرحمن دمشقية.
12- كتاب ابن عربي الصوفي في ميزان البحث والتحقيق. عبد القادر حبيب الله السندي.(3/1064)
13- الهداية الهادية إلى الطائفة التجانية. محمد تقي الدين الهلالي.
14- الصوفية نشأتها ونطورها. محمد العبدة، طارق عبد الحليم.
15- نظرات في معتقد ابن عربي. كمال محمد عيسى.
16- الرفاعية. عبد الرحمن دمشقية.
17- نظرية الاتصال عند الصوفية في ضوء الإسلام. سارة عبد المحسن السعود.
* * * * * * * * * * * * * *(3/1065)
تتمة المنهج
لقد استحسن بعض أعضاء العقيدة إضافة بعض الجوانب عن المرجئة، وبعض المسائل عن الفرق الإسلامية كان لها دور بارز في قيام مفاهيم جديدة على العقيدة الإسلامية التي عليها أهل السنة والجماعة.
ومما أحب التنبيه عليه أن تلك الفرق التي سنأخذ بعض الفقرات عنها تعتبر من الفرق الأساسية في تقسيم الأمة الإسلامية وتفرقهم، وقد حظيت تلك الفرق بالدراسة الواسعة من قبل علماء الفرق ومؤلفي العقائد الإسلامية، وقد ألفت فيها مؤلفات لا تكاد تحصر، كما أنها قد مرت دراستها بصفة عامة على طلاب هذه المرحلة من الدراسة، ولا يزالون أيضاً يدرسونها في مادة التوحيد.
ومن هنا فإنني سأكتفي بذكر الفقرات المستحسن إضافتها إلى المنهج تاركاً ماعدا ذلك من أخبار تلك الفرق سواء تاريخية منها أو عقدية، فهي كما تقدم تحتاج إلى مؤلفات لدراستها وبيان ما قاله علماء الإسلام عنهم، ولعل ما أكتبه هنا يصح أن يوصف بأنه من باب التذكير بالمعلومات السابقة، أسأل الله أن ينفعني وإخواني طلاب العلم بما نقرأ ونسمع، وأن يرزقنا حسن النية والرغبة في خدمة الإسلام والمسلمين فهو القادر على ذلك، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
* * * * * * * * * * * * * *(3/1066)
الباب الحادي عشر
دراسة المرجئة
أولاً: تمهيد:
المرجئة من أوائل الفرق التي تنسب إلى الإسلام في الظهور، وقد احتلت مكاناً واسعاً في أذهان الناس وفي اهتمام العلماء بأخبارهم وبيان معتقداتهم بين مدافع عنهم ومحاج لهم، وبين معجب بأدلتهم وبين داحض لها، ومن هنا نجد أن المقصود بالإرجاء بالذات لم يتفق علماء الفرق والمقالات على تعيينه دون اختلاف، كما أن قضية الإرجاء قد جرّت كثير من علماء الأمة الإسلامية المشهورين إلى الركون إليها على تفاوت في المواقف والمفاهيم حيالها، ووجد بعض علماء السلف طريقاً إلى انتقاد مسالك آخرين، ووجد لهؤلاء مدافعين عنهم ومؤيدين لفكرتهم دفاعاً قد يصل إلى درجة التعصب وليّ أعناق النصوص لتوافق ما يذهبون إليه، كما وجد قسم من المدافعين حاولوا جهدهم لتقريب وجهات النظر بين القائلين بالإرجاء وبين مخاليفهم فيه.
ولقد أخذت تلك الخصومات أشكال من العنف واللين، كما التهمت كثيراً من الأوقات والجهود التي لو كانت قد بذلت في خدمة ودراسة العقيدة الصحيحة الثابتة بالكتاب والسنة ومعتقد السلف لكان لها من النفع والخير ما لا يعلمه إلا الله تعالى.
ولكنها ذهبت حول تقرير حقيقة الإرجاء والرد عليه وجمع أدلته(3/1069)
والوقف عندها، واستنتاج مفاهيمها ومقارنة بعضها بالبعض الآخر، وكان يكفي للانتهاء عن الخوض في هذه القضية وقفة واحدة متأنية، ومواجهة الحقيقة التي طالما أغفلها هؤلاء وأولئك ألا وهي الإرجاء الذي هو بمعنى ترك الأعمال وعدم الاهتمام بها لا مكان له في الواقع إلا عند المتأخرين الذين يريدون التحايل والانفلات بأي وسيلة، ذلك أن الذين قرروا الإرجاء في بدء أمرهم عند التحقيق من أكثر الناس عبادة وعملاً، بدليل أنك تجد الشخص منهم يحث على الإرجاء بكلام قد ألفه وحفظه، ولكن إذا جاء إلى ميدان العمل تجده من المحرضين على اغتنام الفرص، والتقرب إلى الله بالأعمال الصالحة، فلم يبق للإرجاء عنده إلا ذلك الجزء من الكلام المردد في إيقاظ الخصومة (1) .
ومن هنا نجد أن شيخ الإسلام رحمة الله - وقد قدم دراسة وافية للمرجئة- يذكر أن السلف كانوا يصلون خلفهم ويترحمون عليهم، وإنما يشنعون عليهم مسلكهم الخاطئ في تأخير العمل عن الحقيقة الإيمان، وهؤلاء هم مرجئة الفقهاء بخلاف مرجئة الجهمية الغلاة.
وقبل البدء بتفاصيل فكر المرجئة وبيان نشأته وما آل إليه، قبل أن نذكر على سبيل الإيجاز التعريف بالمرجئة لغة واصطلاحاً.
* * * * * * * * * * * * * *
_________
(1) انظر: ظاهرة الإرجاء في الفكر الإسلامي، وانظر كلام عمر بن ذر الهمداني، حلية الأولياء 5/108(3/1070)
الفصل الأول
التعريف بالإرجاء لغة واصطلاحاً
وبيان أقوال العلماء في ذلك
الإرجاء في اللغة:
يطلق على عدة معاني منها: الأمل والخوف والتأخير وإعطاء الرجاء، وقد يهمز وقد لا يهمز. قال تعالى: {وترجون من الله ما لا يرجون} (1) ، أي لكم أمل في الله لا يوجد عندهم، وقال تعالى: {ما لكم ترجون لله وقاراً} (2) ، أي ما لكم لا تخافون من عذاب الله تعالى؟
أما الإرجاء بمعنى التأخير فمثل قول الله تعالى: {قالوا أرجه وأخاه} (3) ، قرئ أرجه وأرجئه أي أخره، وقال تعالى: {وآخرون مرجون لأمر الله} (4) .
ويذكر الأزهري حال استعمال الجاء بمعنى الخوف بقوله: إنما يستعمل الرجاء في موضع الخوف إذا كان معه حرف نفي، ومنه قوله تعالى: {ما لكم لا ترجون لله وقاراً} المعنى مالكم لا تخافون لله عظمة. قال الفراء: وقد قال بعض المفسرين في قول الله: {وترجون من الله ما لا يرجون} : إن معناه
_________
(1) سورة النساء: 104، وانظر التفسير ابن الكثير 1/550.
(2) سورة نوح: 13.
(3) سورة الأعراف: 111، والشعراء36.
(4) سورة التوبة: 106.(3/1071)
تخافون (1) والإرجاء يهمز ولا يهمز، قال ابن السكيت: يقال: أرجأت الأمر وأرجيته إذا أخرته، قال الله عز وجل {وآخرون مرجون لأمر الله} وقرئ مرجئون، وقرئ أرجه وأخاه، وقرئ أرجئه وأخاه. قال: ويقال هذا رجل مرجئ، وهم المرجئة، وإن شئت قلت: مرج وهم المرجية ... وقال غيره: إنما قيل لهذه العصابة مرجئة، لأنهم قدموا القول وأرجوا العمل، أي أخروه" (2) .
تعريف الإرجاء في الاصطلاح:
اختلفت كلمة العلماء في المفهوم الحقيقي للإرجاء، مفاد ذلك نوجزه فيما يلي:
1- أن الأرجاء في الاصطلاح مأخوذ من معناه اللغوي؛ أي بمعنى التأخير والإمهال - وهو إرجاء العمل عن درجة الإيمان، وجعله في منزلة ثانية بالنسبة للإيمان لا أنه جزء منه، وأن الإيمان يتناول الاعمال على سبيل المجاز، بينما هو حقيقة في مجرد التصديق، كما أنه قد يطلق على أولئك الذين كانوا يقولون: لا تضر مع الإيمان معصية كما لا تنفع مع الكفر طاعة.
كما أنه يشمل أيضاً جميع من أخر العمل عن النية والتصديق.
2- وذهب آخرون إلى أن الأرجاء يراد به تأخير حكم صاحب الكبيرة إلى
_________
(1) قال ابن الكثير في معنى الآية: "أي أنتم وإياهم سواء فيما يصيبكم وإياهم من الجراح والآلام، ولكن أنتم ترجون من الله المثوبة والنصر والتأييد كما وعدكم إياه في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم وهو وعد حق وخبر صدق، وهم لا يرجون شيئاً من ذلك، فأنتم أولى بالجهاد منهم وأشد رغبة فيه وفي إقامة كلمة الله وإعلائها"1/550.
(2) انظر: تهذيب اللغة11/181، 183، وانظر معاجم اللغة مادة"رجا".(3/1072)
يوم القيامة، فلا يقضى عليه في الدنيا حكم ما (1) .
وبعضهم ربط الإرجاء بما جرى في شأن علي رضي الله عنه من تأخيره في المفاضلة بين الصحابة إلى الدرجة الرابعة (2) ، أو إرجاء أمره هو وعثمان إلى الله ولا يشهدون عليهما بإيمان ولا كفر، وخلص بعضهم من هذا المفهوم إلى وصف الصحابة الذين اعتزلوا الخوض في الفتن التي وقعت بين الصحابة وخصوصاً ما جرى بين علي ومعاوية من فتن ومعارك طاحنة، خلصوا إلى زعم أن هؤلاء هم نواة الإرجاء، حيث توقفوا عن الخوض فيها واعتصموا بالسكوت، وهذا خطأ من قائليه؛ فإن توقف بعض الصحابة إنما كان بغرض ريثما تتجلى الأمور، واستندوا إلى مفهوم قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "إنها ستكون فتن، ألا ثم تكون فتنة، القاعد فيها خير من الماشي فيها، والماشي فيها خير من الساعي إليها، ألا فإذا نزلت - أو وقعت - فمن كان له إبل فليلحق بإبله، ومن كانت له غنم فليلحق بغنمه، ومن كانت له أرض فليلحق بأرضه"، قال: فقال رجل: يا رسول الله، أرأيت من لم يكن له إبل ولا غنم ولا أرض؟ قال: "يعمد إلى سيفه فيدق على حده بحجر ثم لينج إن استطاع النجاة" (3) .
ومن هؤلاء الصحابة الذين امتنعوا عن الخوض في تلك الأحداث المؤسفة: سعد بن أبى وقاص، وأبو بكرة راوي الحديث السابق، وعبد الله بن عمر، وعمران بن الحصين؛ حيث توقفوا ثم أرجئوا الحكم في تلك الفتن وفوضوا أمر المختلفين فيها إلى الله سبحانه وتعالى فلم يحكموا بتخطئة أحد أو
_________
(1) انظر: مقالات الأشعري تعليق 1/213.
(2) هذا هو الصواب فإن ترتيب الخلفاء في الفضل مثل ترتيبهم في الخلافة ويبدو الأثر الشيعي في هذا القول واضحاً.
(3) أخرجه البخاري 13/30، ومسلم 1/2213، واللفظ له.(3/1073)
تصويبه مع اعترافهم بفضل الجميع، فكيف يعتبر هؤلاء هم أساس الإرجاء، فإن موقفهم لا يعد التوقف عن الدخول عن نصرة أحد بالسيف، وهم في توقفهم كانوا يستندون إلى النصوص الكثيرة في الكتاب والسنة، والتي تحذر من الدخول في الفتن، فقد كان هؤلاء يودون لو أن الأمور تمت معالجتها بالصبر والصلح بين المتقاتلين، بدلاً عن التسرع في القتال ابتداء قبل بذل أسباب الوفاق.
وهذا الموقف منهم هو عين الصواب؛ فإن السلامة من قتل المسلم خير من التعيير بالتريث لعدم قتاله.
وليس إرجاء حكم هؤلاء الصحابة في علي ومعاوية هو أساس الإرجاء البدعي، فالواقع أن إطلاق اسم الإرجاء على كل من يقول عن الإيمان: إنه قول أو تصديق بلا عمل، أو القول بأنه لا يضر مع الإيمان ذنب كما لا تنفع مع الكفر طاعة - هو الأغلب في عرف العلماء حينما يطلقون حكم الإرجاء على أحد؛ بل هو المقصود بالإرجاء.
وفي كل ما تقدم يقول الشهرستاني: "الإرجاء على معنيين: أحدهما بمعنى التأخير كما في قوله تعالى: (قالوا أرجه وأخاه) " أي أمهله وأخره. والثاني: إعطاء الرجاء.
أما إطلاق اسم المرجئة على الجماعة بالمعنى الأول فصحيح؛ لأنهم كانوا يؤخرون العمل عن النية والعقد. وأما بالمعنى الثاني فظاهر× فإنهم كانوا يقولون: لا تضر مع الإيمان معصية كما لا تنفع مع الكفر طاعة، وقيل: الإرجاء تأخير حكم صاحب الكبيرة إلى يوم القيامة، فلا يقضى عليه بحكم ما(3/1074)
في الدنيا من كونه من أهل الجنة أو من أهل النار (1) ، إلى أن قال: وقيل: الإرجاء تأخير علي رضي الله عنه عن الدرجة الأولى إلى الرابعة (2) .
***
_________
(1) مذهب السلف أنه لا يجوز الحكم على معين بالجنة أو بالنار إلا ما جاء التنصيص عليه عن الشارع.
(2) الملل والمحل 1/139.(3/1075)
الفصل الثاني
الأساس الذي قام عليه مذهب المرجئة
الأساس الذي قام عليه مذهب الإرجاء هو الخلاف في حقيقة الإيمان ومم يتألف، وتحديد معناه، وما يتبع ذلك من أبحاث. وهل الإيمان فعل القلب فقط أو هو فعل القلب واللسان معاً؟ أي والعمل غير داخل في حقيقته، وبالتالي لا يزيد الإيمان ولا ينقص؛ إذا التصديق واحد لا يختلف أهله فيه، هذه أهم ميزات بحوث هذه الطوائف المرجئة، وإلى كل قسم من تلك الأقسام ذهب فريق من المرجئة.
إلا أن أكثر فرق المرجئة على أن الإيمان هو مجرد ما في القلب ولا يضر مع ذلك أن يظهر من عمله ما ظهر، حتى وإن كان كفراً وزندقة، وهذا مذهب الجهم بن صفوان، ولا عبرة عنده بالإقرار باللسان ولا الأعمال أيضاً؛ لأنها ليست جزءاً من حقيقة الإيمان.
وذهبت الكرامية إلى أن الإيمان هو القول باللسان، ولا يضر مع ذلك أن يبطن أي معتقد حتى وإن كان الكفر. وذهب أبو حنيفة رحمة الله إلى أن الإيمان هو التصديق بالقلب والإقرار باللسان، لا يغنى إحداهما عن الآخر؛ أي فمن صدق بقلبه وأعلن التكذيب بلسانه لا يسمى مؤمناً. وعلى هذا قام مذهب الحنفية وهو أقرب مذاهب المرجئة إلى أهل السنة لموافقتهم أهل السنة في أن العاصي تحت المشيئة، وأنه لا يخرج عن الإيمان. وخالفوهم في عدم(3/1076)
إدخال العمل في الإيمان يزيد وينقص، فلم يقولوا بذلك. هذا هو المشهور عن أهل الفقه والعبادة من المرجئة، وهو ما ذهب إليه أبو حنيفة ومن قال بقوله من فقهاء الكوفة الذين أخروا العمل عن حقيقة الإيمان وماهيته.
على أن في نسبة الإرجاء إلى أبى حنيفة من الخلاف الكثير بين العلماء ما لا يخفى، هل كان أبو حنيفة من المرجئة كما وصفه كتاب المقالات والفرق، أم كان ضد الإرجاء كما يصفه المدافعون عنه؛ لأن الإرجاء يتميز بالتساهل في الأعمال وتأخيرها من منزلة الإيمان، وأبو حنيفة رحمة الله تعالى بلغ حداً كبيراً في الاهتمام بالفروع، مما يدل على أنه يهتم بالعمل، وهذا عكس الإرجاء، فكيف يوصف بالإرجاء حسب هذا الدفاع عنه!!
وأما ماجاء في الكتاب المنسوب إليه الفقه الأكبر، من عبارات تدل دلالة واضحة على إرجائه - فقد شكك هؤلاء المدافعون عنه في صحة نسبة هذا الكتاب إليه، بل كذبوا نسبته إليه.
ودافع عنه الشهرستاني وذهب إلى أن نسبة الإرجاء إلى أبي حنيفة إنما كان سببه في رأيه-المعتزلة والقدرية- عن سوء فهم منهم لرأي أبي حنيفة الذي يرى بأن الإيمان هو التصديق بالقلب، وأنه لا يزيد ولا ينقص، فظنوا أنه يؤخر العمل عن الإيمان، إضافة إلى أن المعتزلة-كما يرى الشهرستاني- كانوا يسمون كل من خالفهم مرجئاً (1) .
والواقع أن النقول بإرجاء أبي حنيفة كثيرة، وعلماء الفرق أغلبهم يقر
_________
(1) الملل والنحل 1/141.(3/1077)
نسبة الإرجاء إليه بالمعنى الذي قدمنا ذكره. وهذا هو الثابت، ولا يقال: إن أبا حنيفة كان من غلاة المرجئة بالجهمية مثلاً، وذلك لموافقته أهل السنة والاعتقاد السليم في جوانب كثيرة في باب الإيمان وإن خالفهم فيما ذكر.
ولقد بذل كثير من علماء الأحناف جهدهم ليجعلوا الخلاف بينهم وبين أهل السنة في حقيقة الإيمان لفظياً، فلم يتم لهم ذلك مع أنهم يستندون إلى جعل الخلاف لفظياً على الاتفاق الحاصل فعلاً بينهم وبين أهل السنة في مرتكب الكبيرة عند الله؛ إذ لا يسمى كافراً ولا يحكم له بالخلود في النار يوم القيامة، بل هو تحت المشيئة إن شاء الله عفى عنه بفضله وإن شاء عاقبه بعدله.
وكذلك اتفاقهم على أن الأعمال لا بد منها، وأن العبد لو صدق بقلبه وأقر بلسانه ولكن امتنع عن العمل فلم يقم به-أنه يستحق اللوم والعقوبة، وأنه من العصاة. إلا أن كل هذه الحجج لا تجعل الخلاف لفظياً؛ وذلك أن أهل السنه لايخرجون الأعمال عن مسمى الإيمان، فالتفرقة بين الأعمال والإيمان لا يقول بها السلف.
كما أن السلف لا يرون أن الناس على درجة واحدة في الإيمان والتوحيد، كذلك حكم الأحناف للعصاة بالإيمان الكامل لم يوافقهم فيه السلف، كما أن السلف لا يوافقونهم في القول بعدم زيادة الإيمان ونقصانه.
والحاصل: أن المرجئة أقسام كثيرة وأنهم يختلفون في بعض أسس الإرجاء، كما سيتضح ذلك إن شاء الله.
* * * * * * * * * * * * * *(3/1078)
الفصل الثالث
كيف نشأ الإرجاء وكيف تطور إلى مذهب
عرفنا مما سبق في التعريف بالمرجئة أن الإرجاء في بدء الأمر كان يراد به في بعض اطلاقاته أولئك الذين أحبو السلامة والبعد عن الخلافات وترك المنازعات في الأمور السياسية والدينية، وخصوصاً ما يتعلق بالأحكام الأخروية من إيمان وكفر وجنة ونار، وما يتعلق كذلك بأمر علي وعثمان وطلحة والزبير وأم المؤمنين عائشة وغيرهم.
وما جرى بين علي ومعاوية من أحداث- كما مثله الحسن بن محمد بن الحنفية ومن جاء على طريقته- إلا أنه من الملاحظ أنه بعد قتل عثمان رضي الله عنه وبعد ظهور الخوارج والشيعة أخذ الإرجاء يتطور تدريجياً.
فظهر الخلاف في حكم مرتكب الكبيرة ومنزلة العمل من الإيمان، ثم ظهر جماعة دفعوا بالإرجاء إلى الحد المذموم والغلو، فبدأ الإرجاء يتكون على صفة مذهب، فقرر هؤلاء أن مرتكب الكبيرة كامل الأيمان وأنه لا تضر مع الإيمان معصية، ولاتنفع مع الكفر طاعة، وأن الإيمان في القلب. فلا يضر الشخص أي شيء بعد ذلك ولو تلفظ بالكفر والإلحاد، فإنه يبقى إيمانه كاملاً لايتزعزع. وهذا بلا شك غلو وتطرف مذموم.
وأهل هذه المرحلة ممقوتون ومذهبهم يفضي إلى درجة الإباحية والتكاسل والتعويل على عفو الله وحده دون العمل لذلك. وهو أمر تأباه الشريعة(3/1079)
الإسلامية.
ولقد احتدم النزاع بين أهل السنة والخوارج والمعتزلة من جانب، وبين المرجئة من جانب آخر في دخول الأعمال في مسمى الإيمان، ويظهر أثر ذلك في مرتكب الكبيرة هل هو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته وأمره في الآخرة إلى الله وإلى مشيئته- كما يقول السلف- أم هو كافر في الدنيا ومخلد في الآخرة في النار- كما تقول الخوارج- لأنه أخل بالعمل فكفر؟ أم هو في منزلة بين المنزلتين في الدنيا لا مؤمن ولا كافر، وفي الآخرة هو مخلد في النار- كما تقول المعتزلة-؟
أم هو مؤمن كامل الإيمان لم يتأثر إيمانه بالكبيرة مطلقاً- كما تقول المرجئة- لأنه مصدق بقلبه فلا مجال لأن يتأثر إيمانه؛ لأن الإيمان عندهم- على هذا المفهوم- لا يزيد ولا ينقص بل يبقى إيمانه كاملاً إذا كان التصديق موجوداً في قلبه. وفي الحقيقة أن مذهب المرجئة تطور على هذا المفهوم حتى صار من أوسع المذاهب وأكثرها تساهلاً.
فبينما الخوارج يرون أن مرتكب الذنب كافرا مخلد في النار، والمعتزلة تراه في منزلة بين المنزلتين في الدنيا، وفي الآخرة مصيره النار، ثم تزعم هاتان الطائفتان أن الناس كلهم كفار إلا من كان خارجياً، وتزعم المعتزلة أن الناس كلهم كفار إلا من كان معتزلياً، فضاقت نظرتهم إلى غيرهم، فإذا بالمرجئة توسع المجال، فزعمت أن كل طائفة تنسب نفسها إلى الإسلام، وتصدق به تعد من المؤمنين الخلّص بغض النظر عن عملها بعد ذلك، بالخوارج والشيعة والمعتزلة وسائر الطوائف في نظر المرجئة هم من أهل الإيمان الكامل.
* * * * * * * * * * * * * *(3/1080)
الفصل الرابع
بيان أول من قال بالإرجاء وبيان أهم زعماء المرجئة
تطورت فكرة الإرجاء حتى وصلت في دورها المتأخر إلى الحد الذي يصدق عليها أنها ظاهرة بدعية خطيرة بعد أن تضاربت الأفكار، وتعصب كل فريق لفكره ولرأيه من خوارج وشيعه ومعتزلة وجهمية وأشعرية وغيرهم كما تقدم، ولكن من الذي بدأ بهذه الفكرة التي تطورت بعد ذلك إلى أن وصلت على ما هي عليه اليوم.
يذكر العلماء أن الحسن بن محمد بن الحنفية هو أول من ذكر الإرجاء في المدينة بخصوص علىّ وعثمان وطلحة والزبير، حينما خاض الناس فيهم وهو ساكت ثم قال: قد سمعت مقالتكم ولم أر شيئاً أمثل من أن يرجأ علي وعثمان وطلحة والزبير، فلا يتولوا ولا يتبرأ منهم (1) . ولكنه ندم بعد ذلك على هذا الكلام وتمنى أنه مات قبل أن يقوله، فصار كلامه بعد ذلك طريقاً لنشأة القول بالإرجاء، وقد بلغ أباه محمد بن الحنفية كلامُ الحسن فضربه بعصا فشجه، وقال: لاتتولى أباك عليّا؟ ولم يلتفت الذين تبنوا القول بالإرجاء إلى ندم الحسن بعد ذلك، فإن كتابه عن الإرجاء انتشر بين الناس وصادف هوى في نفوس كثيرة فاعتنقوه (2) .
_________
(1) انظر: ظاهرة الإرجاء في الفكر الإسلامي ص 244.
(2) لم يكن ما كتبه الحسن كتاباً حسب ما يتبادر إلى الذهن، وإنما كان بمنزلة منشور.(3/1081)
ولكن ينبغى معرفة أن إرجاء الحسن إنما هو في الحكم بالصواب أو الخطأ على من ذكرهم، ولم يتعلق إرجاؤه بالإيمان أم عدمه كما هو حال مذهب المرجئة أخيراً.
فأصبح هذا الموقف يناقض ما عليه الخوارج من تكفيرهما والبراءة منهما، وما عليه الشيعة من الغلو في عليّ والحط من شأن عثمان وتكفيره، ويخالف أيضاً موقف أهل السنة والجماعة منهما من وجوب موالاتهما والترضي عنهما والشهادة لهما بالجنة، كما هو مذهب السلف فيهما إلا أنه يعتبر كالخطوة الأولى إلى مذهب الخوارج والتمهيد له.
وقيل: إن أول من قال بالإرجاء على طريقة الغلو فيه هو رجل يسمى ذر بن عبد الله الهمداني وهو تابعي، وقد ذمه علماء عصره من أهل السنة، بل كان بعضهم- مثل إبراهيم النخعي- لايرد عليه إذا سلم، وكذلك سعيد بن جبير.
والجمع بين هذا القول والذي قبله يتضح باختلاف حقيقة الإرجاء عند الحسن وعند ذر بن عبد الله؛ إذ الإرجاء عند الحسن ترك الحكم على أولئك الأشخاص. وأما الإرجاء عند ذر فهو إخراج العمل عن مسمى الإيمان.
وهناك أقوال أخرى في أول من دعا إلى الإرجاء فقيل: إن أول من أحدثه رجل بالعراق اسمه قيس بن عمرو الماضري.
وقيل: إن أول من أحدثه حماد بن أبي سليمان وهو شيخ أبي حنيفة وتلميذ إبراهيم النخعى، ثم انتشر في أهل الكوفة، وقد عاصر حماد بن ذر بن عبد الله. ويذكر شيخ الإسلام عن نشأة الإرجاء بالكوفة أن أول من قال فيهم(3/1082)
حماد بن أبي سليمان (1) .
وقيل: إن أول من قال به رجل اسمه سالم الأفطس، ويطلق على إرجاء هؤلاء أنه إرجاء الفقهاء، ويظهر أن تلك الأقوال لاتباعد بينها؛ لأن هؤلاء كانوا في عصر واحد، وكانوا أيضاً على اتفاق في إرجائهم.
ولقد نسب الإرجاء إلى علماء مشاهير، وقد عد الشهرستاني جماعة من هؤلاء ومنهم: الحسن بن محمد بن علي بن أبي طالب، وذكر أنه أول من قال بالإرجاء، ولكنه لم يجزم بذلك فيما يبدو من تعبيره، حيث ذكر ذلك بصيغة التمريض"قيل"، ثم ذكر أنه كان يكتب فيه الكتب إلى الأمصار ثم قال: "إلا إنه ما أخر العمل عن الإيمان كما قالت المرجئة اليونسية والعبيدية، لكنه حكم بأن صاحب الكبيرة لا يكفر؛ إذ الطاعات وترك المعاصي ليست من أصل الإيمان حتى يزول الإيمان بزوالها".
كما عدّ منهم سعيد بن جبير (2) ، وطلق بن حبيب وعمر بن مرة ومحارب ابن زياد ومقاتل بن سليمان وذر، وعمرو بن ذر، وحماد بن أبي سليمان وأبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد بن الحسن وقديد بن جعفر، ثم قال: "وهؤلاء كلهم أئمة الحديث لم يكفروا أصحاب الكبائر بالكبيرة، ولم يحكموا بتخليدهم في النار؛ خلافاً للخوارج والقدرية".
إلا أنه ذكر عن مقاتل قوله: "ويحكى عن مقاتل بن سليمان: أن المعصية لا تضر صاحب التوحيد والإيمان، وأنه لا يدخل النار مؤمن" ثم قال:
_________
(1) انظر: مجموع الفتاوى7/297، 311.
(2) هكذا ذكر عن سعيد بن جبير أنه من رجال المرجئة، وسيأتي أن سعيد بن جبير ممن كان يذم الإرجاء ويمقته.(3/1083)
" والصحيح من النقل عنه أن المؤمن العاصي ربه يعذب يوم القيامة على الصراط وهو على متن جهنم يصيبه لفح النار وحرها ولهيبها فيتألم بذلك على قدر معصيته ثم يدخل الجنة، ومثل ذلك بالحبة على المقلاة المؤججة بالنار" (1) .
ومن كبار المرجئة ومشاهيرهم: الجهم بن صفوان، وأبو الحسين الصالحى، ويونس السمري، وأبو ثوبان، والحسين بن محمد النجار، وغيلان، ومحمد بن شبيب، وأبو معاذ التومني، وبشر المريسي، ومحمد بن كرام، ومقاتل ابن سليمان المشبه لله عز وجل بخلقه ومثله الجواربي وهما من غلاة المشبهة (2) .
* * * * * * * * * * * * * *
_________
(1) انظر: الملل والنحل 1/139، 146.
(2) انظر: مقالات الإسلاميين 1/213.(3/1084)
الفصل الخامس
أصول المرجئة
تكاد فرق المرجئة تتفق في أصولها على مسائل هامة هي:
تعريف الإيمان بأنه التصديق بالقول أو المعرفة أو الإقرار.
وأن العمل ليس داخلاً في حقيقة الإيمان، ولا هو جزء منه، مع أنهم لا يغفلون منزلة العمل من الإيمان تماماً إلا عند الجهم ومن تبعه في غلوه.
وأن الإيمان لا يزيد ولا ينقص؛ لأن التصديق بالشيء والجزم به لا يدخله زيادة ولا نقصان.
وأن أصحاب المعاصي مؤمنون كاملوا الإيمان بكمال تصديقهم وأنهم حتماً لا يدخلون النار في الآخرة.
ولهم اعتقادات أخرى: كالقول بأن الإنسان يخلق فعله، وأن الله لا يرى في الآخرة، وقد تأثروا في هذه الآراء بالمعتزلة، وكذا رأيهم في أن الإمامة ليست واجبة، فإن كان ولا بد فمن أي جنس كان ولو كان غير قرشي، وقد تأثروا بهذا الرأي من الخوارج الذين كانوا ينادون به ولم يطبقوه.
ومن عقائد المرجئة الجهمية أن الكفر بالله هو الجهل به- وهو قول جهم -، وأن الإيمان هو المعرفة بالله فقط وأنه لا يتبعض، ومنها أن الجنة والنار تفنيان وتبيدان ويفنى أهلهما ولا خلود لأحد فيهما.(3/1085)
وبعضهم ذهب إلى أن كل معصية فهي كبيرة، وبعضهم يذهب إلى أن غفران الله الذنوب بالتوبة تفضل من الله، وبعضهم إلى أنه باستحقاق، وبعضهم جوز على الأنبياء فعل الكبائر، وبعضهم ذهب في إثبات التوحيد إلى قول المعتزلة، وبعضهم إلى قول المشبهة، ومنهم من أثبت رؤية الله تعالى في الآخرة، ومنهم من نفاها كالمعتزلة، واختلفوا في القول بخلق القرآن، فمنهم من قال: إنه مخلوق. ومنهم من قال: غير مخلوق. ومنهم من توقف.
واختلفوا في القول بالقدر فبعضهم نفى القدر وقال بأقوال المعتزلة، وبعضهم أثبته، واختلفوا في أسماء الله وصفاته، فبعضهم قال بأقوال عبد الله ابن كلاب، ومنهم من قال بأقوال المعتزلة (1) .
وفيما يلي تفصيل واضح لأقسام اتجاهات الناس في حقيقة الإيمان كما رتبها الدكتور/ سفر الحوالي:
أن الإيمان يكون بالقلب واللسان والجوارح:
1- أهل السنة 2- الخوارج 3- المعتزلة
أنه بالقلب واللسان فقط:
مرجئة الفقهاء الحنفية.
ابن كلاب، وكان على عقيدة المرجئة الفقهاء، وقد انقرض مذهبه.
أنه باللسان والجوارح فقط:
الغسانية.
فرقة مجهولة لم يصرح العلماء بتسميتها، ولعلها الغسانية.
_________
(1) انظر: مقالات الإسلاميين 1/213/234.(3/1086)
أنه بالقلب فقط:
1- الجهمية 2- المريسية 3- الصالحية
4- الأشعرية 5- الماتريدية.
أنه باللسان فقط:
الكرّامية: وقد انقرضوا، وقد ذكر عنهم شيخ الإسلام أنهم يقولون:
المنافق مؤمن وهو مخلد في النار؛ لأنه آمن ظاهراً لا باطناً ويدخل الجنة من آمن ظاهراً وباطناً.
أ- الذين قالوا: إنه بالقلب واللسان والجوارح:
1- الذين قالوا: الإيمان فعل كل واجب وترك كل محرم، ويذهب الإيمان كله بترك الواجب أو فعل الكبيرة:
1-الخوارج؛ مرتكب الكبيرة عندهم كافر.
2-المعتزلة؛ مرتكب الكبيرة عندهم في منزلة بين المنزلتين؛ يعني في الدنيا، وأما في الآخرة فقد وافقوا الخوارج في الحكم.
2- الذين قالوا: الإيمان قول وعمل - أي عمل القلب والجوارح - وكل طاعة هي شعبة من الإيمان أو جزء منه.
والإيمان يكمل باستكمال شعبه وينقص بنقصانها، لكن منها ما يذهب الإيمان كله بذهابه؛ ومنها ما ينقص بذهابه.
فمن شعب الإيمان أصول لا يتحقق إلا بها، ولا يستحق مدعيه مطلق الاسم بدونها، ومنها واجبات لا يستحق الاسم المطلق بدونها، ومنها كمالات يرتقي صاحبها إلى أعلى درجاته. "وتفصيل هذا كله(3/1087)
بحسب النصوص". كما هو مذهب أهل السنة والجماعة.
ب- الذين قالوا: إنه يكون بالقلب واللسان فقط:
الذين يدخلون أعمال القلب - يعنى في حقيقة الإيمان - وهم بعض قدماء المرجئة الفقهاء، وبعض محدثي الحنفية المتأخرين.
الذين لا يدخلون أعمال القلب، وقد تطور بهم الأمر إلى إخراج قول اللسان أيضاً من الإيمان وجعلوه علامة فقط، وهم عامة الحنفية "الماتريدية".
ج- الذين قالوا: إنه يكون بالقلب فقط:
الذين يدخلون فيه أعمال القلب جميعاً، وهم سائر فرق المرجئة: كاليونسية والشمرية والتومنية.
الذين يقولون: هو عمل قلبي واحد - المعرفة - الجهم بن صفوان.
الذين يقولون: هو عمل قلبي واحد - التصديق - الأشعرية والماتريدية
* * * * * * * * * * * * * *(3/1088)
الفصل السادس
أقسام المرجئة
انقسمت المرجئة في اعتقاداتها إلى أقسام كثيرة وفرق كثيرة وفرق يطول ذكرها، ويمكن الإشارة هنا إلى رؤوس تلك الفرق، وهى كما يذكرها علماء الفرق:
مرجئة السنة: وهم الأحناف: أبو حنيفة وشيخه حماد بن أبى سليمان ومن أتبعهما من مرجئة الكوفة وغيرهم، وهؤلاء أخروا العمل عن حقيقة الإيمان.
مرجئة الجبرية: وهم الجهمية أتباع جهم بن صفوان، وهم الذين اكتفوا بالمعرفة القلبية وأن المعاصي لا أثر لها في الإيمان، وأن الإقرار والعمل ليس من الإيمان.
مرجئة القدرية: الذين تزعمهم غيلان الدمشقي، وهم الغيلانية.
مرجئة خالصة: وهم فرق اختلف العلماء في عدهم لها.
مرجئة الكرامية: أصحاب محمد بن كرام، وهم الذين يزعمون أن الإيمان هو الإقرار والتصديق باللسان دون القلب.
مرجئة الخوارج: الشبيبية وبعض فرق الصفرية الذين توقفوا في حكم مرتكب الكبيرة.(3/1089)
وعدّ الأشعري في مقالاته المرجئة وأوصالهم في اثنتي عشر فرقة (1) .
ولهم فروع كثيرة، وبين العلماء اختلافات كثيرة أيضاً في عدّهم لأقسام وطوائف المرجئة، وفي أي الفرق أصلية وأيها فرعية، وأيها يصدق عليه الإرجاء وأيها لا يصدق عليه.
ولا ضرورة تدعوا إلى تفصيل الكلام هنا في كل طائفة من هذه الفرق الفرعية وذلك لاتحادهم العام في مذهبهم وقيامه على الإرجاء.
ولما حصل أيضاً من رجوع بعض فرقهم إلى الفرق الأخرى واندماجهم بعد ذلك في فرقة واحدة، ولدقة الخلاف في بعض المسائل الفرعية، وموضع استقصاء ذلك كله الكتب المطولة في التاريخ والفرق.
_________
(1) في كتابه مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين من ص 213 إلى ص 234، أول فرقهم الجهمية وآخرهم الكرامية-الفرقة الثانية عشر منهم- كما ذكر الأشعري، وذكر البغدادي أنهم ثلاثة أصناف قائلون بالجبر والقدر، ومن خرج عن القول بهما صاروا خمس فرق. انظر: الفرق بين الفرق ص 302، والشهر ستاني في الملل والنحل 1/139، ذكر أنهم أربعة أصناف ثم ذكر مقالات المرجئة الخالصة وعدّهم ست فرق.(3/1090)
الفصل السابع
أدلة المرجئة لمذهبهم والرد عليها
تلمس المرجئة في الاستدلال لمذهبهم نصوصاً وشبهات، أوّلوا النصوص ونصروا الشبهات بتكلفات غير صحيحة، وخرجوا بنتيجة، هي أن العمل ليس من حقيقة الإيمان، وأخّروا جميع أعمال الجوارح عن الإيمان، وقالوا: يكفي في دخول الإيمان والفوز برضى الله أن يحتوي القلب على المعرفة والتصديق كما سبق، وفتحوا بذلك باباً واسعاً لأهل البطالة والكسل والمغرمين بالأماني دون العمل، والذين يحبون التفلت عن ما تقضيه النصوص الشرعية، ولهذا تجد المرجئة الغلاة منهم أكسل الناس في العبادة وأضعفهم في الالتزام، وقد تلمسوا لما يذهبون إليه بعض الأدلة من القرآن الكريم ومن السنة النبوية وزعموا أنها تدل على مذهبهم.
فمن القرآن الكريم: استدلوا بقول الله تعالى:
{إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} (1) .
{قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقطنوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً إنه هو الغفور الرحيم} (2) .
كما اهتمت الجهمية بجمع النصوص التي تجعل الإيمان أو الكفر محله
_________
(1) سورة النساء: 48.
(2) سورة الزمر: 53.(3/1091)
القلب. كما في قول الله تعالى: {أولئك كتب في قلوبهم الإيمان} (1) .
{إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان} (2) .
{ختم الله على قلوبهم} (3) .
إلى غير ذلك من الآيات التي يوحي ظاهرها بهذا المفهوم المتكلف للمرجئة.
أما من السنة النبوية: فقد استدلوا بما يلي:
بعض الأحاديث والآثار التي يدل ظاهرها على الاكتفاء بالبعد عن الشرك ووجود الإيمان في القلب للفوز برضى الله، مثل:
قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "من مات يشرك بالله شيئاً دخل النار". قال ابن مسعود: "وقلت أنا من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة" (4) .
وقوله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه أنه قال: "يا ابن آدم إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة" (5) .
وقوله صلى الله عليه وسلم: "اللهم ثبت قلبي على دينك" (6) .
_________
(1) سورة المجادلة: 7.
(2) سورة النحل: 106.
(3) سورة البقرة: 7.
(4) أخرجه البخاري3/110، ومسلم1/94 في الايمان.
(5) أخرجه مسلم4/2068 بلفظ: "ومن لقيني بقراب الأرض خطيئة لا يشرك بي شيئاً لقيته بمثلها مغفرة"واللفظ السابق للترمذي وحسنه.
(6) أخرجه أحمد 2/454.(3/1092)
وكذا حديث الجارية التي سألها الرسول عليه الصلاة والسلام بقوله: "أين الله؟ فقالت: في السماء. فقال لمولاها: اعتقها فإنها مؤمنة" (1) .
وقوله صلى الله عليه وسلم: "التقوى ها هنا، ويشير إلى صدره ثلاث مرات" (2) .
ومن أدلتهم كذلك ما جاء في أحاديث شفاعة المصطفى صلى الله عليه وسلم في أقوام فيخرجهم الله من النار حتى لا يبقى من في قلبه ذرة أو برة أو شعيرة من الإيمان، وفيه: "فيقول الله عز وجل: شفعت الملائكة وشفع النبيون وشفع المؤمنون ولم يبق إلا أرحم الراحمين، فيقبض قبضة من النار فيخرج منها قوماً لم يعملوا خيراً قط، قد عادوا حمماً، فيلقيهم في نهر في أفواه الجنة يقال له نهر الحياة فيخرجون كما تخرج الحبة في حميل السيل إلى أن قال: فيخرجون كاللؤلؤ في رقابهم الخواتم يعرفهم أهل الجنة، هؤلاء عتقاء الله الذين أدخلهم الله الجنة بغير عمل عملوه ولا خير قدموه" (3) .
وقد استدل بهذا الحديث لإرجائهم من العبارات السابقة:
لم يعملوا خيراً قط.
هؤلاء عتقاء الله الذين أدخلهم الجنة بغير عمل عملوه.
فقالوا: إذا لم يكن لهم عمل خير قط فما الذي بقي معهم؟ والجواب -كما يزعمون- أنه بقي معهم التصديق فقط ونفعهم دون النظر في العمل، لأن حقيقة الإيمان -كما يزعمون- لم تتوقف على العمل.
_________
(1) أخرجه مسلم1/382 رقم 537، وأحمد في المسند 5/447.
(2) أخرجه مسلم 4/1986 رقم 2564.
(3) أخرجه مسلم 1/170.(3/1093)
ومن الشبهات التي تعلق بها المرجئة أيضاً على أن العمل ليس من الإيمان قولهم:
إن الكفر ضد الإيمان فحيثما ثبت الكفر نفي الإيمان، والعكس.
ومنها ما جاء في نصوص كثيرة فيها عطف العمل على الإيمان.
ومن أدلة الأحناف على أن الإيمان قول واعتقاد فقط، وأن الأعمال ليست داخلة فيه وإنما هي شرائع الإسلام فإذا عمل معصية نقص من شرائع الإسلام وليس من التصديق بالإسلام - من أدلتهم على ذلك قولهم:
إن الإيمان في اللغة المقصود به التصديق فقط، والعمل بالجوارح لا يسمى تصديقاً فليس من الإيمان.
لو كانت الأعمال من الإيمان والتوحيد لو جب الحكم بعدم الإيمان لمن ضيع شيئاً من الأعمال، وفي ذلك يقول أبو حنيفة في كتابه الوصية: ثم العمل غير الإيمان، والإيمان غير العمل، بدليل أن كثيراً من الأوقات يرتفع العمل من المؤمن ولا يجوز أن يقال يرتفع عنه الإيمان، فإن الحائض ترتفع عنها الصلاة، ولا يجوز أن يقال: ارتفع عنها الإيمان، إلى غير ذلك من النصوص التي استدل بها المرجئة عموماً والأحناف بخصوصهم، والتي فهموا منها ما يدل على صحة مذهبهم، ثم نتج عن صنيعهم هذا تضارب الأدلة في مدلولاتها-أمامهم- لعدم وقوفهم على ما تقتضيه من الفهم السليم الذي هدى الله إليه أهل السنة، بل ذهبت كل طائفة من طوائف المرجئة الكثيرة إلى الاستدلال لما تزعمه بنصوص قد لا تستدل بها الطوائف الأخرى.(3/1094)
قال ابن أبي العز الحنفي: "فمن أدلة الأصحاب لأبي حنيفة رحمة الله: أن الإيمان في اللغة عبارة عن التصديق، قال تعالى مخبراً عن إخوة يوسف: {وما أنت بمؤمن لنا} (1) أي بمصدق لنا، ومنهم من أدعى إجماع أهل اللغة على ذلك، ثم هذا المعنى اللغوي- وهو التصديق بالقلب-هو الواجب على العبد حقاً لله، وهو أن يصدق الرسول صلى الله عليه وسلم فيما جاء به من عند الله، فمن صدق الرسول فيما جاء به من عند الله فهو مؤمن فيما بينه وبين الله تعالى. والإقرار شرط إجراء أحكام الإسلام في الدنيا، هذا على أحد القولين كما تقدم.
ولأنه ضد الكفر وهو التكذيب والجحود، وهما يكونان بالقلب فكذا ما يضادهما، وقوله: {إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان} (2) يدل على أن القلب هو موضع الإيمان لا اللسان، ولأنه لو كان مركب من قول وعمل لزال كله بزوال جزئه، ولأن العمل قد عطف على الإيمان والعطف يقتضي المغايرة، قال الله تعالى: {آمنوا وعملوا الصالحات} (3) ، وغيرها في مواضع من القرآن" (4) .
الرد على أدلة المرجئة:
والواقع أن تلك النصوص التي تقدمت في استدلال المرجئة على إخراج العمل عن حقيقة الإيمان لا يسلم لهم فهمهم لها من أنها على إخراج الأعمال الظاهرة عن أعمال القلب، فإن إيمان القلب وإن كان الأساس وعليه الاعتماد الأول ولكن لا ينفي هذا أثر إيمان القلب يظهر على الجوارح
_________
(1) سورة يوسف: 17
(2) سورة النحل: 106
(3) سورة البقرة: 25.
(4) شرح الطحاوية ص 319.(3/1095)
بل هو الحق، والنصوص كما هو الواضح منها لا تدل على تصديق القلب وحده، وإنما تدل على أن الإيمان له دلالات لا تتضح إلا بالأعمال الظاهرة، والذين أحجموا عن إدخال الأعمال الظاهرة في حقيقة الإيمان نتج عن ذلك تساهل عندهم في الحكم حتى على الفجار الذي لا شك في ظهور فجورهم.
فتجد منهم من لا يكفر بالأعمال الظاهرة حتى وإن كانت توحي بكفر صاحبها علانية، فهم لا يجرءون على تكفيره حتى يتأكدوا من مصداقية قلبه بالإيمان، لأنه لو صدق بشعائر الإسلام فلا يكفر مهما عمل إلا إذا ارتفع التصديق عن قلبه فهنا يجرءون على تكفيره.
وهذه نتيجة طبيعية بالنسبة لهم بعد أن أغفلوا ارتباط الأعمال بإيمان القلب.
والحق أن الفعل المكفر يكفر به صاحبه إذا كان الفعل نفسه يوحي الشرع في الكتاب أو السنة أو إجماع علماء الأمة بكفر فاعله، إذ لو لم يكفر قلبه أولاً لما كفرت جوارحه، فمن سبّ الله أو رسوله أو فضل القوانين الوضعية على الشرعية الإسلامية وقدمها عليها أو غير ذلك من الأمور المعلومة من دين الإسلام بالضرورة-فإنه لا يحتاج لتكفيره إلى مساءلته هل هو مصدق بالإيمان أم لا، لأن فعله شاهد عليه بعدم التصديق، أو أن تصديقه مثل تصديق إبليس بربه وباليوم الآخر، فهل نفعه ذلك؟ فكذلك هؤلاء، إلا أن يأتي أحدهم بمخرج له في ذلك معتقداً صحته.
قال شيخ الإسلام -رحمة الله- عنهم: "فهؤلاء القائلون بقول جهم والصالحي، قد صرحوا بأن سب الله ورسوله والتكلم بالتثليث وكل كلمة من كلام الكفر- ليس هو كفر في الباطن، ولكنه دليل في الظاهر على كفره،(3/1096)
ويجوز مع هذا أن يكون هذا الساب الشاتم في الباطن عارفاً بالله موحداً له مؤمناً به، فإذا أقيمت عليه الحجة بنص أو إجماع أن هذا كافر باطناً وظاهراً قالوا: هذا يقتضي أن ذلك مستلزم للتكذيب الباطني، وأن الإيمان يستلزم عدم ذلك" (1) .
ومن استند منهم إلى إخراج الأعمال عن حقيقة الإيمان بما استنبطه مما جاء في القرآن الكريم من إسناد الإيمان إلى القلب فقط، كقول الله تعالى: {ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب} (2) .
وقوله تعالى: {من خشي الرحمن بالغيب وجاء بقلب منيب} (3) .
وقوله تعالى: {ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله} (4) .
وقوله تعالى: {في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا} (5) .
إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة التي تبين منزلة الإيمان وضده من القلب، من استند منهم إلى ذلك فقد أخطأ الفهم، فليس المراد منها إخراج العمل وإغفاله عن إيمان القلب، فإن من أنكر تلازم الأعمال الظاهرة بأعمال القلوب وقال: إن الإيمان هو المعرفة فقط فهو جهمي، وكذا من قال: إنه التصديق فقط مثل الأشاعرة فقد تجهم، إذ لا فرق بين دعوى المعرفة ودعوى التصديق فقط-وكلاهما من دون عمل، وما ذكره بعض الأشاعرة من التفريق بينهما فإنه
_________
(1) انظر مجموع الفتاوي7/557.
(2) سورة الحج: 32.
(3) سورة ق: 33.
(4) سورة الحديد: 16.
(5) سورة البقرة: 10.(3/1097)
نصرة لمذهبهم فإن كلتا الطائفتين تلتقي على إخراج الأعمال عن حقيقة الإيمان، فيبقى النزاع في التفرقة بين المعرفة والتصديق المجرد عن العمل غير واضح، فإن المعرفة والتصديق موضعهما القلب، والعمل الظاهر دليل ذلك ولازم له.
وقد كفر أئمة العلم من قال بقول جهم: إن الإيمان هو التصديق فقط.
فظهر أن تلك الآيات لا تدل على نفي دخول الأعمال في حقيقة الإيمان، بل غاية ما فيها التركيز على أهمية الإيمان القلبي الذي بدوره يثمر الإيمان بالقيام بأعمال الشرع الظاهرة، أو أنها أسندت إلى القلوب باعتبار أنها هي المضغة التي إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله.
وأما ما استدل به المرجئة من النصوص التي تدل على أن من اجتنب الشرك دخل الجنة-سواء كانت تلك النصوص من القرآن الكريم أو من السنة النبوية فإن الجواب على ذلك:
"إن هذه النصوص تفيد أن من لم يقع في الشرك مع التوبة والقيام بأمر الله والانتهاء عن نهيه-أن الله يغفر له الذنوب التي هي دون الشرك، فإذا مات على بعض الذنوب يرجى له المغفرة ابتداء، أو يعاقبه الله بذنبه ثم يدخله الجنة، كما هو مذهب السلف في أهل الذنوب حسب ما تفيده النصوص من الكتاب والسنة.
كما أنه لا يقع من شخص عرف التوحيد وأخلص لربه أنه لا يأتي بالأعمال الأخرى التي أوجبها الإسلام، بحيث يكتفي بابتعاده عن الشرك ثم يركن إلى ذلك لدخوله الجنة، فاتضح أن هذه الآيات لا تدل عن إغفال العمل والاقتصار على المعرفة أو التصديق بالقلب أن هذه الآيات لا تدل على إغفال العمل والاقتصار على المعرفة أو القلب كما يرى المرجئة، بل هي واردة في حكم من مات تائباً أو لم تكن عليه معاص، أو كانت عليه معاص(3/1098)
ومات على التوحيد، بحيث كان آخر كلامه في الدنيا: لا إله إلا الله".
وما فهموه من قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "التقوى ها هنا" بأن الإيمان والكفر محلهما القلب، ولا عبرة بعمل جارح- فهو فهم غير سديد من جهة نفي دخول الأعمال الظاهرة إذا لم تثمر القيام بأعمال الإيمان الظاهرة فهي ليست تقوى صحيحة. وهل كان الرسول صلى الله عليه وسلم يريد أن الإيمان هو مجرد التصديق والإقرار بالقلب فقط دون أن يرى أثر ذلك في الأعمال كلها.
وقد جرهم إلى هذا الفهم أمر لم يتقبلوه وهو أن الرسول صلى الله عليه وسلم مرة يعبر عن الإيمان بأعمال القلب ومرة بأعمال الجوارح ومرة بكليهما، فمن وقف على جانب دون آخر من هذه المراتب فقد قصر ولم يلتزم الحق واختلط الأمر عليه، وأما حديث الجارية الذي استدل به المرجئة على مذهبهم أن ترك العمل لا ينافي الإيمان، فإن المراد من شهادة الرسول صلى الله عليه وسلم لها بالإيمان-أي الإيمان الظاهر- الذي تجري بموجبة الأحكام الدنيوية لا الإيمان الحقيقي الكامل.
فإن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يعلم أن إيمان هذه الجارية ليس مثل إيمان كبار الصحابة كأبي بكر وعمر وغيرهما من الصحابة السابقين، وإنما أراد الإيمان الظاهر الذي يميز المسلم عن الكافر ابتداءً في المعاملات الدنيوية، ولو أن الرسول صلى الله عليه وسلم اكتفى بسؤالها عن الإيمان فقط بأن قال لها: هل أنت مؤمنة وسكت لكان فيه نظر للمرجئة، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم سألها عن أشياء أخرى فقد قال لها: "أتشهدين أن لا إله إلا الله. قالت: نعم. قال: أتشهدين أن محمداً رسول الله؟ قالت: نعم. قال: أتوقنين بالبعث بعد الموت؟ قالت: نعم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أعتقها" (1) .
_________
(1) الموطأ ص 666.(3/1099)
وهذه كلها من أعمال الإيمان الباطنة والظاهرة أيضاً. قال شيخ الإسلام عن تمسك المرجئة بهذا الحديث: "وهذا لا حجة فيه، لأن الإيمان الظاهر الذي تجري عليه الأحكام في الدنيا لا يستلزم الإيمان في الباطن الذي يكون صاحبه من أهل السعادة في الآخرة" (1) . فظهر أن هذه الأسئلة يريد الرسول صلى الله عليه وسلم من ورائها معرفة منزلة هذه الجارية من أحكام الإسلام، وهل تستحق أن يطلق عليها اسم الإيمان أم لا. وليس المقصود أنها بلغت في إيمانها إلى حد إيمانه أو إيمان كبار أصحابه.
وعلى الفرض أن الجارية قالت للرسول صلى الله عليه وسلم أنا مؤمنة بكل شرائع الإسلام بمعنى مصدقة بها، ولكني لا أرى فرضية الصلاة والزكاة والصوم وغير ذلك من شرائع الإسلام. أي لا أرى لزوم عملها بالجوارح على أنها حقيقة الإيمان، بل تطلق عليه مجازاً، فهل كان صدر الرسول صلى الله عليه وسلم سينشرح منها ويأمر مولاها بعتقها ويشهد لها بالإيمان (2) .
وأما حديث شفاعة المصطفى صلى الله عليه وسلم في أولئك فالجواب عنه: أنه لابد من النظر إلى الأحاديث الكثيرة التي صرحت بأنها من أهل الإيمان وعليهم أثر السجود الذي هو عبارة عن عمل الصلاة وأن الجهنميين يعرفون بذلك.
وفي بعض الروايات أن المؤمنين يشفعون فيمن عرفوه بأنه من أهل الإيمان والعمل في الدنيا، وهذا لا يمنع أن فيه جماعة من الناس لهم أعمال لا يعلم بها إلا الله أخرجهم الله بسببها من النار، حيث ظهرت عليهم علامات إيمانهم وأعمالهم التي قدموها.
_________
(1) انظر: مجموع الفتاوي7/209-416.
(2) انظر لمزيد التفصيل: ظاهرة الإرجاء في الفكر الإسلامي ص519، 526.(3/1100)
وقوله: "لم يعملوا خيراً قط" لا ينفي العمل مطلقاً بل قد يكون لهم عمل وإن كان قليلاً إلى جانب إيمانهم وحسناتهم الأخرى فينفعهم ذلك، وهذا مثل أن تقول لشخص: أنت ما عملت شيئاً بعد إتمامه للعمل الذي هو فيه، فإنك لا تنفي وجود عمل ما، ولكن حيث كان العمل غير كامل ولا دقيق ولا يعتبر به-ولو من وجهة نظرك- اعتبرته في عداد من لم يعمل شيئاً وهو أسلوب من أساليب العرب في كلامهم.
ثم إن هؤلاء معهم إيمان وعمل، ولولا ذلك لكانوا كسائر الكفار والمشركين يخلدون في النار، فلا مزية لخروجهم منها إلا ذلك، وربما أن الله أخرجهم أو أدخلهم الجنة لعزمهم على العمل ومباشرتهم الدخول فيه كما حصل لبعضهم حين أسلم صادقاً مخلصاً ثم دخل المعركة فقتل فشهد الرسول صلى الله عليه وسلم له بالجنة، مع أنه لم يظهر منه إلا حسن قبوله للإسلام ودخوله المعركة، ولكن الله اطلع على إيمانه القوي وأوله بذله نفسه للقتل مع المسلمين في سبيل نصرة الإسلام، ولقصر وقته عن أداء الواجبات الأخرى فغفر الله له.
وكقصة الرجل الذي قتل مائة نفس ثم تداركته رحمة الله فدخل الجنة، ومثله ما وقع للرجل الذي أوصى أن يحرق بعد موته فغفر الله له، فمثل هؤلاء في عزمهم وقوة إيمانهم كمثل الذي عمل، وفرق بين من له رغبة وعزم على العمل وبين من تركه اتكالاً وتكاسلاً.
وأما احتجاجهم بقولهم: إن الكفر ضد الإيمان فحينما ثبت الكفر انتفى الإيمان والعكس.
فإنه يقال لهم: إطلاق القول بأن كل كفر هو ضد الإيمان ويخرج من الملة مطلقاً ليس صحيحاً على إطلاقه هكذا إلا عند الخوارج في حكمهم(3/1101)
على أصحاب المعاصي بالكفر المخرج من الملة، فإن الإيمان درجات، وهو اسم مشترك يقع على معان كثيرة، منها ما يكون الكفر ضداً له، كأن يعتقد الكفر ويعمل به ويدعو إليه فكفره اعتقادي وهو ضد الإيمان ولا نزاع في هذا.
ومنها ما يكون الفسق ضداً له لا الكفر، كترك بعض الأعمال المفروضة مع الاعتراف بوجوبها. ومنها ما يكون الترك ضداً له لا الكفر ولا الفسق، كترك بعض الأعمال التي هي تطوع إذ لا يصح تسمية التارك لها كافراً ولا فاسقاً وإنما يسمى تاركاً ومفرطاً في حق نفسه لعدم قيامه بتلك الأعمال التي تزيد في إيمانه (1) .
وقد يطلق السلف التسمية بالكفر على بعض من يعمل أعملاً جاء الشرع بإطلاق الكفر عليها ولكنهم يسمونه كفراً عملياً لا اعتقادياً حتى تقام الحجة على صاحبه، كالذنوب التي وردت النصوص بإطلاق الكفر على أهلها، كالزنا والسرقة وشرب الخمر في حق من لم يجحد النصوص الواردة في تحريمها قبل إقامة الحجة عليه ببيانها، فإن السلف يطلقون عليه الكفر تمشياً مع النصوص، ثم يفصلون بعد ذلك فإذا استحلها ولم يعترف بوجوبها وردَّ النصوص فهو كافر كفراً اعتقادياً ظاهراً وباطناً.
وأما ما استدلوا به من ورود نصوص كثيرة فيها عطف العمل على الإيمان، وأن المعطوف والمعطوف عليه بينهما مغايرة وفرق وإلا لما عطف عليه، فالواقع أن النصوص كما يتضح منها، أحياناً يرد فيها ذكر الإيمان في حالة العطف بمعنى الدين وذلك في حال إطلاق الإيمان وحده، فإنه يدخل فيه الأعمال، فإذا أطلق لفظ الإيمان فقط تبادر إلى الذهن أن المقصود بذلك الإيمان
_________
(1) انظر: الفصل لابن حزم3/212.(3/1102)
القلبي وعمل الجوارح والنطق باللسان ولا يفهم منه التصديق فقط أو الإقرار فقط إلا عند المرجئة، حيث تكلفوا دعوى وقوع ذلك.
وأما في حال ذكر الإيمان والعمل معاً فلا مغايرة بينهما في الحكم الذي ذكر لهم، بل يكون ذلك من جنس عطف الخاص على العام مثل قوله تعالى: {حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى} (1) . فإن الصلاة الوسطى من ضمن بقية الصلوات وإنما أفردت بالذكر الخاص بعد الذكر العام لمزيد العناية والاهتمام بها، وأحياناً إذا ذكر العمل الصالح والإيمان معاً يكون المقصود بذلك إظهار وتوكيد حقيقة الإيمان بالعمل الصالح، إذ لا يكون العمل صالحاً مقبولاً إلا بعد إيمان صاحبه، فذكر الإيمان والعمل معاً من باب التوكيد أو عطف الخاص على العام. والحاصل أن الإيمان المطلق يستلزم الأعمال كما جاء في القرآن الكريم والسنة النبوية (2) .
وأما ما استدل به الأحناف من أن الإيمان في اللغة المقصود به التصديق، والعمل لا يسمى تصديقاً فيقال لهم: إنه لم يسم التصديق بالقلب دون التصديق باللسان والعمل إيماناً في اللغة، ولم يعرف عن العرب أنهم يحكمون للشخص بالتصديق والإيمان بشيء صدقه بقلبه ثم أعلن التكذيب به بلسانه، كذلك لم يعرف في اللغة أن التصديق باللسان فقط دون التصديق بالقلب يعتبر إيماناً.
إذاً فلا يسمى مؤمناً بالشيء إلا إذا توافق التصديق بالقلب واللسان معاً ونتج عنهما حصول أثر ذلك وهو العمل.
_________
(1) سورة البقرة: 238
(2) انظر: مجموع الفتاوى 7/160-161(3/1103)
ويرد على من ذهب مذهب الإمام أبى حنيفة في إخراج العمل عن الإيمان، واستدل باللغة على أن الإيمان هو التصديق - يرد عليهم بما ذهبوا إليه هم أيضاً من عدم جواز إطلاق الإيمان على الشخص إلا إذا صدق بالله عز وجل وبرسوله، وبكل ما جاء به القرآن والبعث والجنة والنار والصلاة والزكاة، وغير ذلك.
ومعلوم أن هذا الإيمان قد اشتمل على أعمال، فكيف يحق لهم بعد ذلك عدم اعتبار الأعمال من الإيمان، وهم يشترطون لثبوت إيمان الشخص ما ذكر.
ويقال لهم أيضاً: لو كان ما تقولون صحيحاً من أن الإيمان هو التصديق فقط - لوجب أن يطلق اسم الإيمان على كل من صدق بشيء ثم كذب بلوازمه، فقد أخبر الله بأن قوماً يؤمنون ببعض الرسل ويكفرون ببعض الرسل ومع ذلك سماهم الله كفاراً مع تصديقهم بالله. قال تعالى: {إن الذين يكفرون بالله ورسوله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسوله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلاً * أولئك هم الكافرون حقاً واعتدنا للكافرين عذاباً مهيناً} (1) .
فهؤلاء مصدقون بالله وبرسوله، لولا أنهم يريدون أن يأخذوا من كل ديانة ما يوافق هواهم.
نعم إن أصل الإيمان في اللغة هو التصديق بالقلب واللسان معاً بأي شيء كان إلا أن الله عز وجل وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم أوقع لفظة الإيمان على العقد بالقلب لأشياء محدودة مخصوصة معروفة لا على العقد لكل شيء.
_________
(1) سورة النساء: 150، 151(3/1104)
وأوقعها أيضاً سبحانه على الإقرار باللسان بتلك الأشياء خاصة لا بما سواها.
وأوقعها أيضاً على أعمال الجوارح لكل ما هو طاعة له تعالى فقط. والله عز وجل هو خالق اللغة وأهلها، فلا يجوز لأحد مخالفة الله عز وجل فيما أنزله وحكم به والتعلل باللغة في دفع الحق.
وقد أنزل في القرآن أن الأعمال من الإيمان قال تعالى: {هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم} (1) .
ومعلوم أن التصديق بالشيء حقيقة لا يقع إلا إذا وجد التصديق الكامل بذلك الشيء وازداد فيه رغبة وعملا. فالمصدق بالله تعالى وبأنبيائه وبما جاء عن الله تعالي هو الذي صدق بذلك ظاهرا وباطنا فصح وصفه بالتصديق.
والآية فيها الأخبار بزيادة الإيمان لا بالتصديق فإنه قد حصل في قلوب المؤمنين، والزيادة هنا هي ما يحصل من الزيادة بالأعمال والتقرب بها إلى الله تعالى.
فإن أساس التصديق لا يتبعض في الشيئ الواحد وإن كان الناس يتفاضلون فيه؛ لأنه لو تبعض لكان صاحبه شاكاً.
فلو أن شخصاً صدق بالقرآن كله إلا آية واحدة لما كان مؤمناً بالقرآن ولكان تصديقه مشابهاً لتصديق بعض أهل الكتاب بالنبي صلى الله عليه وسلم في كتبهم وكفرهم بذلك، كالموشكانية والعيسوية من يهود أصفهان الذين صدقوا بأن الرسول صلى الله عليه وسلم هو نبي الله حقاً ولكنه إلى العرب خاصة لا إليهم، ولكان أيضاً مشابهاً لتصديق إبليس بربه، وهو مع ذلك كافراً بلا خلاف مخلد في النار لم
_________
(1) سورة الفتح: 4(3/1105)
ينفعه تصديقه ومعرفته بربه دون الإذعان الكامل لما أمر الله واجتناب ما نهي عنه قولاً وعملاً واعتقاداً.
ولشيخ الإسلام ردود مطولة في إبطال تعلق المرجئة بقوله تعالى: {وما أنت بمؤمن لنا} أي بمصدق - على أن الإيمان هو التصديق، والعمل خارج عن التصديق، وفي أن الإيمان هو التصديق في اللغة وفي الشرع أيضاً (1) ، ثم إن إطلاق الإيمان على الأعمال أو الأعمال على الإيمان أمر مقرر عند السلف وثابت لا يمارون في صحته لورود ذلك في نصوص كثيرة.
فالجهاد والصوم والصلاة وغيرها من الإيمان، كما أنهم يسمون الإيمان عملاً لما جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم سُئل: أي العمل أفضل؟ فقال: "إيمان بالله ورسوله. قيل: ثم ماذا؟ قال: الجهاد في سبيل الله. قيل: ثم ماذا؟ قال: حج مبرور" (2) .
وقال الأوزاعي: "لا يستقيم الإيمان إلا بالقول، ولا يستقيل الإيمان والقول إلا بالعمل، ولا يستقيل الإيمان والقول والعمل إلا بنية موافقة للسنة. وكان من مضى من سلفنا لا يفرقون بين الإيمان والعمل، العمل من الإيمان والإيمان من العمل" (3) .
فالصلاة مثلاً من أعمال الجوارح، وقد قال تعالى: {وما كان الله ليضيع إيمانكم} (4) أي صلاتكم إلى بيت المقدس، لا كما ذهب إليه المرجئة من أن
_________
(1) انظر: 7/289-297 من مجموع الفتاوى.
(2) أخرجه البخاري 1/77.
(3) انظر: مجموع الفتاوى 7/296.
(4) سورة البقرة: 143.(3/1106)
المعنى أي تصديقكم بالنبي صلى الله عليه وسلم والدين.
قال شيخ الإسلام: وحقيقة الأمر أن اسم الإيمان يستعمل تارة هكذا وتارة هكذا ... فإذا قرن اسم الإيمان بالإسلام أو, العمل كان دالاً على الباطن فقط.
وإن أُفرد اسم الإيمان فقد يتناول الباطن والظاهر، وبهذا تأتلف النصوص.
وأما إذا قُرن اسم الإسلام والإيمان كما في قوله تعالى: {قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا} (1) وقوله تعالى {فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين * فما وجدنا فيها غير بيتٍ من المسلمين} (2) فقد يراد بالإسلام الأعمال الظاهرة (3) ، أي والإيمان الأعمال الباطنة، وهذا هو مذهب السلف أما الإيمان أخص من الإسلام.
وأما استدلالهم بقولهم: لو كان العمل يسمى إيماناً لكان من ضيع منه شيئاً فقد الإيمان كله، فلا يكون مؤمناً أو لا يقال له مؤمن.
يقال لهم: إن هذا الاستدلال تحكم وخروج عن ما يقتضيه الحق، فلا يجوز أن نسمى الشخص مؤمناً ولا كافراً إلا بنص واضح عن الله أو عن رسوله، فمن سماه الله مؤمناً نسميه مؤمناً، ومن سماه كافراً نسميه كافراً، بل نقول: أن من ضيع شيئاً من ما أمر بالإيمان به فقد ضيع بعض الإيمان ولم يضيع الكل، فلا يخرج عن الإيمان إلا بجحود ما أدخله فيه بالكلية (4) .
_________
(1) سورة الحجرات: 14.
(2) سورة الذاريات: 35، 36.
(3) انظر: مجموع الفتاوى 7/575، 576 بتصرف.
(4) انظر: الفصل لابن حزم 3/191.(3/1107)
وأما بالنسبة لارتفاع العمل عن الحائض وعدم ارتفاع الإيمان عنها فإن هذا الاستدلال غير صواب، ذلك أنها في حالة ارتفاع العمل عنها لم يكن من قبلها، وإنما ذلك من قبل خالقه، وهي في تلك الحال في حكم العامل؛ ولهذا لا يتوجه إليها الذنب بترك الصلاة والصوم في تلك الحال وهى لا زالت على الإيمان والعمل لم تخرج بتركهما في تلك الحال عن الإيمان ولا عن مواصلة العمل فإن تلك الفترة الطارئة لا تجعلها في عداد من خرج عن الإيمان وضيع العمل لكي يصدق عليها ترك الإيمان بسبب ترك العمل كما استدل هؤلاء.
وأما ما ذهب إليه المرجئة من أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، كما أن التصديق لا يزيد ولا ينقص، فهو قول من أبطل الأقوال وهو قياس على أمر غير مسلم، فالتصديق لا يصح لهم ما زعموه فيه من أنه لا يتفاضل الناس فيه، بل يتفاضلون تفاضلاً ظاهراً في التصديق بقضاياً تمر بالناس يومياً في حياتهم، فضلاً عن تصديق بقضايا المغيبات من أخبار اليوم الآخر والجنة والنار وأسماء الله وصفاته، فمن زعم أن تصديق أقل الناس إيماناً بالله مثل تصديق أكمل الناس إيماناً به بتلك الأمور المغيبة - فلا شك في بطلان قوله بما لا يحتاج إلى سرد الأدلة عليهم.
وأما زيادة الإيمان ونقصانه فيكفي في ثبوته إخبار الله عز وجل بذلك في كتابه الكريم وإخبار نبيه محمد صلى الله عليه وسلم في سنته الشريفة بما لا يخفى على طلاب العلم معرفته، فإن أدلته واضحة تمام الوضوح، ومعتقد السلف فيه من أوضح الأمور، وهو الاعتقاد الجازم أن الإيمان يزيد وينقص في قلب كل شخص.
وكل إنسان يلمس هذا من نفسه ولا ينكره إلا مكابر، على أنه بعد ثبوت ذلك في كتاب الله وفي سنة نبيه وفي إجماع علماء السلف - بعد ثبوت هذا كله(3/1108)
لا يحق لمسلم أن يتشكك في ذلك، بل يجب الإيمان والجزم به.
وينبغي التنبيه إلى أمر هام، وهو وجود عدة أحاديث كلها موضوعة يذكر فيها أن الإيمان في القلب فقط، وأنه لا يزيد ولا ينقص، ونضيف هنا ما ذكره العلماء من أنه كلما عثرت على حديث من هذا النوع فهو مكذوب على النبي صلى الله عليه وسلم ومن هذا يقول ابن القيم رحمه الله:
"وكل حديث فيه أن الإيمام لا يزيد ولا ينقص فكذب مختلق" (1) ومن تلك الأحاديث:
حديث: "من قال: الإيمان يزيد وينقص فقد خرج من أمر الله، ومن قال: أنا مؤمن إن شاء الله، فليس له في الإسلام نصيب"، قال الشوكاني: رواه محمد بن تميم، وهو واضعه (2) .
ومنها الحديث المروي عن أبي سعيد الخدري مرفوعاً: "من زعم أن الإيمان يزيد وينقص فزيادته نفاق ونقصانه كفر، فإن تابوا وإلا فاضربوا أعناقهم بالسيف أولئك أعداء الرحمن فارقوا دين الله تعالى واستحلوا الكفر وخاصموا الله، طهر الله الأرض منهم ألا فلا صلاة لهم ألا فلا زكاة لهم ألا فلا صوم لهم ألا فلا حج لهم ألا فلا دين لهم، هم براء من رسول الله صلى الله عليه وسلم ورسول الله صلى الله عليه وسلم بريء منهم"، وقال السيوطي: موضوع، آفته الطالقاني كذاب خبيث من المرجئة كان يضع الحديث لمذهبه (3) .
ومثله أيضاً الحديث المروى عن أبى هريرة رضي الله عنه أن وفد ثقيف
_________
(1) المنار المنيف ص 119.
(2) الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة ص453.
(3) اللالئ المصنوعة 1/40.(3/1109)
جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسألوه عن الإيمان هل يزيد وينقص فقال: "لا، زيادته كفر ونقصانه شرك" وهو حديث موضوع وضعه أبو مطيع الحكم بن عبد الله البلخي وهو من رؤساء المرجئة.
قال السيوطي نقلاً عن الحاكم: "اسناده فيه مظلمات، والحديث باطل والذي تولى كبره أبو مطيع" (1) .
وكأن الذين وضعوا أمثال هذه الأحاديث كانوا يجهلون أو يتجاهلون أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يقرأ قول الله تعالى: {فأما الذين آمنوا فزادتهم إيماناً وهم يستبشرون} (2) ، وآيات أخرى كثيرة تثبت زيادة الإيمان، فكيف ينفي الرسول صلى الله عليه وسلم ما أثبته الله في القرآن. لأن ما قبل الزيادة - كما هو معروف - قبل النقصان، وقول المرجئة بعدم زيادته ونقصانه إنما حملهم على ذلك زعمهم أن التصديق شيء واحد، وبالتالي فهو لا يختلف حسب مفهومهم ولا يتفاضل الناس فيه.
* * * * * * * * * * * * * *
_________
(1) المصدر السابق 1/38. وانظر كلام ابن أبي العز على هذا الحديث في شرح الطحاوية ص 325.
(2) سورة التوبة: 124.(3/1110)
الفصل الثامن
مذهب أهل السنة في تعريف الإيمان
مذهب أهل السنة المتمسكين بكتاب الله عز وجل وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم السائرين علي وفق ما كان عليه المصطفي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضوان الله عليهم في أسماء الله وصفاته، وفي مجانبة البدع وأهلها - مذهبهم في الإيمان أنه قول باللسان واعتقاد بالقلب وعمل بالجوارح، يزيد بالطاعات وينقص بالمعاصي".
هذا هو منهجهم واعتقادهم في الإيمان. أن العمل داخل في حقيقة الإيمان وأنه لا إيمان بدون عمل، وأن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية حسب ما حل بالقلب من ذلك.
وهذا هو الواضح من النصوص الكثيرة في القرآن الكريم وفي السنة النبوية، إلا أنه قد تختلف تعبيرات أهل السنة عن حقيقة الإيمان فيعرفونه بصيغ مختلفة (1) ، ولكن القصد واحد، وهو إدخال العمل في حقيقة الإيمان كما يدل عليه كلام الله تعالي وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومنه قوله تعالي في بيان جملة من صفات المتقين أهل الإيمان: {ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر
_________
(1) مثل قولهم: هو عمل وقول ونية، أو هو قول وعمل واتباع السنة، أو هو قول باللسان واعتقاد بالقلب وعمل بالجوارح، أو هو إقرار وعمل، أو تصديق وعمل. أنظر: مجموع الفتاوى 7/ 170.(3/1111)
والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال علي حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون} (1) .
وقال تعالي مبيناً الخصال التي يكون بها الشخص مؤمناً إذا طبقها على نفسه وعمل بما دلت عليه: {قد أفلح المؤمنون (1) الذين هم في صلاتهم خاشعون (2) والذين هم عن اللغو معرضون (3) والذين هم للزكاة فاعلون (4) والذين هم لفروجهم حافظون (5) إلا علي أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين (6) فمن ابتغي وراء ذلك فأولئك هم العادون (7) والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون (8) والذين هم علي صلواتهم يحافظون (9) أولئك هم الوارثون (10) الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون} (2) ، وقال تعالي: {إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون} (3) .
وهذه الآيات واضحة الدلالة علي مذهب أهل السنة في حقيقة الإيمان المكون من القول والعمل والاعتقاد. وهي حجة على من فرق في الإيمان بين الاعتقاد والعمل، أو غالط في بعض تعريفات السلف للإيمان.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمة الله - في بيان أقوال السلف حقيقة الإيمان: "ومن هذا الباب أقوال السلف وأئمة السنة في تفسير الإيمان، فتارة
_________
(1) سورة البقرة: 177.
(2) سورة المؤمنون: 1-11.
(3) سورة الحجرات: 15.(3/1112)
يقولون: هو قول وعمل، وتارة يقولون: هو قول وعمل ونية: وتارة يقولون: قول وعمل ونية واتباع السنة، وتارة يقولون: قول باللسان واعتقاد بالقلب وعمل بالجوارح. وكل هذا صحيح فإذا قالوا: قول وعمل؛ فإنه يدخل في القول قول القلب واللسان جميعاً، وهذا هو المفهوم من لفظ القول والكلام" (1) .
وقال أيضاً: "والمقصود هنا أن من قال من السلف: الإيمان قول وعمل أراد قول القلب واللسان وعمل الجوارح والقلب، ومن أراد الاعتقاد رأى أن لفظ القول لا يفهم منه إلا القول الظاهر، أو خاف ذلك فزاد الاعتقاد بالقلب، ومن قال: قول وعمل ونية. قال: القول يتناول الاعتقاد وقول اللسان، وأما العمل فقد لا يفهم منه النية فزاد ذلك، ومن زاد اتباع فلان كله لا يكون محبوباً لله إلا باتباع السنة ".
وأولئك لم يريدوا كل قول وعمل وإنما أرادوا ما كان مشروعاً من الأقوال والأعمال ولكن كان مقصودههم الرد علي المرجئة الذين جعلوه قولا فقط. فقالوا: بل هو قول وعمل والذين جعلوه أربعة أقسام فسروا مرادهم كما سئل سهل بن عبد الله التستري عن الإيمان ما هو؟ فقال: قول وعمل ونية وسنة؛ لأن الإيمان إذا كان قولاً بلا عمل فهو كفر، وإذا كان قولاً وعملاً بلا نية فهو نفاق، وإذا كان قولاً وعملاً ونية بلا سنة فهو بدعة" (2) .
واستدل أهل السنة على ما يذهبون إليه من دخول العمل في مسمى الإيمان بأحاديث كثيرة منها:
قوله صلى الله عليه وسلم: " الإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة، فأفضلها قول لا إله إلا
_________
(1) مجموع الفتاوى 7/170.
(2) مجموع الفتاوى 7/ 170(3/1113)
الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان" (1)
وقوله صلى الله عليه وسلم لوفد عبد القيس: " آمركم بأربع وأنهاكم عن أربع، آمركم بالإيمان، أتدرون ما الإيمان؟ شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وأن تعطوا الخمس من المغنم" (2) .
وقوله صلى الله عليه وسلم: "أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً وخيارهم خيارهم لنسائهم" (3)
وأحاديث أخرى كثيرة جعل فيها العمل من الإيمان.
وعلى هذا مضى السلف الصالح من الصحابة فمن بعدهم.
وعليه أيضاً مضى علماء الإسلام، ومنهم الأئمة مالك والشافعي وأحمد، حيث فسروا الإيمان بأنه التصديق والقول والعمل، وأنه يقبل الزيادة ويقبل النقص، وأن أهله يتفاوتون فيه.
ومما ينبغي فهمه أن السلف حينما يعرفون الإيمان بأنه قول وعمل؛ لا يقصدون أن الإيمان قول باللسان وعمل بالجوارح دون النظر إلي إيمان القلب وتصديقه وعمله، فإن السلف ما كانوا يريدون ألفاظ اللسان وحركات الجوارح مجردة عن عمل القلب وتصديقه الجازم بالله وملائكته وكتبه ورسله وجميع شرائع الإسلام.
فإن السلف يعتبرون إيمان القلب أمراً أساسياً في الإيمان وصلاح العمل، وإنما لم يصرحوا به لظهوره، إذ إنهم لم يتصوروا أن تلك الثلاثة الأمور في التعريف بالإيمان منفصلة عن بعضها. وحينما يعرف السلف الإيمان بأنه
_________
(1) أخرجه البخاري 1/ 51، ومسلم واللفظ له 1 / 210
(2) أخرجه البخاري 1/ 129 في مواضع من صحيحه، ومسلم 1 / 154
(3) الإمام أحمد في المسند 2 /250(3/1114)
الإقرار والتصديق أو تصديق وعمل، لا يريدون من التصديق مجرد التصديق بالخبر فقط دون الالتفات إلي ثمرة التصديق وهو الإذعان والامتثال للأمر، الذي يتبعه العمل حتماً بل يريدون التصديق الذي يتبعه العمل كأثر للتصديق، وإلا فلا فائدة من التصديق إن لم يثمر العمل.
وهذا التفسير هو ما دل عليه الكتاب والسنة واللغة قال تعالي: {وناديناه أن يا إبراهيم (140) قد صدقت الرءيا} (1) أي قد امتثلت الأمر وحققته فعلاًُ لولا أن الله فدى ولدك بذبح غيره، وليس المقصود إنك صدقت الرؤيا كما تصدق سائر الأخبار أو تكذب، بل صدقتها وجزمت بالعمل القلبي الذي يتبعه العمل الظاهر وهو إرادتك ذبح ابنك، ولو كان المقصود بذلك مجرد المدح على تصديق الرؤيا لما كان له فضيلة فيها.
ومن السنة قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "إن الله كتب علي ابن آدم حظه من الزنا أدرك ذلك لا محالة، فزنا العين النظر، وزنا اللسان المنطق، والنفس تتمنى وتشتهى، والفرج يصدف ذلك كله ويكذبه" (2) .
وتصديق الفرج وتكذيبه كناية عن الفعل نفسه أو عدمه، وعلي هذا فالتصديق الذي يريده السلف هو ما يتبعه العمل، وبهذا يتبين خطأ من ذهب إلى أن مراد السلف هو التصديق المجرد بالقلب دون الالتفات إلى عمل القلب وإذعانه.
كما أن السلف يفسرون الإقرار هنا بمعنى حصول الالتزام والإذعان لا مجرد الإقرار بمعنى الاعتراف أو التصديق بالشيء، قال تعالى: {وإذ أخذ
_________
(1) سورة الصافات: 105
(2) أخرجه البخاري 11/ 26(3/1115)
الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلك إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين} (1) .
والإقرار هنا ليس مجرد الاعتراف بل لابد من الإقرار المستلزم للعمل إذ الإقرار وحده لا يكفي.
أما مذهب المرجئة؛ فإن مجرد التصديق بالشيء يعتبر إيماناً به ظاهراً وباطناً، بغض النظر عن العمل - على حسب منهجهم-، فإذا تلفظ الشخص عندهم بكلمة الإخلاص - لا إله إلا الله -أصبح بمجرد تلفظه، إضافة إلي تصديقه مؤمناً كامل الإيمان ظاهراً وباطناً.
فإذا امتنع عن قولها فحكمه عندهم أنه كافر في الظاهر، وقد يكون مؤمناً في باطنه كما يزعمون، والسلف يحكمون بكفره ظاهراً وباطناً إذا امتنع عن قولها مع القدرة، مع أن مجرد التصديق قد لا يكون به الشخص مؤمناً، فإن بعض اليهود كان مصدقاً برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وأن ما جاء به من عند الله، ولكنهم لم يدخلوا الإسلام إما حسداً وإما خوفاً وإما استكباراً.
وبعضهم يزعم أنه رسول الله حقاً ولكن إلى العرب بخصوصهم (2) ، فلم ينفعهم هذا التصديق في الحكم لهم بالإيمان مع جمعهم بين الإقرار والتصديق كالموشكانية والعيسوية من يهود أصفهان - كما قدمنا.
وإن الإنسان ليعجب حقاً ممن تجاهل منزلة العمل من الإيمان وهو يقرأ كتاب الله وسنة نبيه، ويسمع الأحاديث التي تجعل الإيمان والعمل قرينين لا
_________
(1) سورة آل عمران: 81
(2) انظر: الملل والنحل للشهر ستاني 1 /217(3/1116)
يغني أحدهم عن الآخر، فقد قرن الله تعالى العمل بالإيمان في مواضع عديدة من كتابه الكريم، وفي سنة الرسول صلى الله عليه وسلم كذلك أحاديث كثيرة.
قال تعالى: ( {وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات تجري من تحتها الأنهار} (1) .
وقال تعالي: {والعصر (1) أن الإنسان لفي خسر (2) إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر} (2) ، ومرة يذكر الله في القرآن الكريم العمل ثم يذكر بعده الإيمان.
ومما يدل علي أنه لا فرق بين العمل والإيمان أو الإيمان والعمل في إطلاق كل منها علي الآخر أيضاً قوله تعالي: {ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلماً ولا هضماً} (3) .
فمن فرق بين الإيمان والعمل بالجوارح فلا شك في مخالفته الصريحة للقرآن والسنة، وأنه ينبغي عليه التوبة والرجوع فلا شك في مخالفته الصريحة للقرآن والسنة، وأنه ينبغي عليه التوبة والرجوع إلي هدي القرآن الكريم، وأن يترك الفلسفيات التي أنتجت هذه الخلافات العقيمة في قضية الإيمان التي كانت في تمام الوضوح عند الصحابة ومن بعدهم، حتى نبغت هذه الفئام من الناس ليشرحوا الإيمان بأغمض مما يتصور العقل كما هي عادة أولئك.
فإنهم يشرحون المسألة الواضحة حتى يجعلوها ألغازاً وطلاسم لا يعرف منها أحياناً إلا الحروف التي كتبت بها فتجد شروحات وكلاماً كثيراً لا فائدة من ورائه، وصدق ابن العز في قوله عن كثرة كلام المتأخرين وقلة كلام
_________
(1) سورة البقرة: 25
(2) سورة العصر: 1-3
(3) سورة طه: 112(3/1117)
المتقدمين قال: "كلما ابتدع شخص بدعة اتسعوا في جوابها، فلذلك صار كلام المتأخرين كثيراً قليل البركة بخلاف كلام المتقدمين فإنه قليل كثير البركة" (1) ، فهل يوجد أوضح من قول الرسول صلى الله عليه وسلم في حقيقة الإيمان حين قال لجبريل في سؤاله عن الإيمان: "أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره" (2) ؟
وقوله صلى الله عليه وسلم: "الإيمان بضع وسبعون شعبة، أعلاها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق" (3) .
والأحاديث كثيرة في هذا المعنى الذي يوضح حقيقة الإيمان في أنه مركب من أعمال القلوب وأعمال الجوارح، فمن زعم أنه مؤمن ومصدق بقلبه ولكن لا يؤمن بعمل تلك الأمور الظاهرة للإيمان فقد رد الحديث مهما ادعى من تعليلات، كما أن مجرد الإقرار لا يكفي للدخول في الإسلام عند السلف، فإذا أقر الشخص لكنه رفض العمل متعمداً فهو دليل علي كذبه في إقراره.
فمن أقر بالإسلام ثم امتنع عن الصلاة والزكاة والحج والصيام وغير ذلك من شعائر الإسلام وأصر على الامتناع، فإن المرجئة لا يتجاسرون على الحكم عليه بالكفر لجواز أن يكون قلبه مطمئناً بالإيمان، وفاتهم أن الذي يطمئن قلبه بالإيمان تكون شعائر الإسلام أحب إليه من كل فعل، وأن قرة عينه تكون دائماً في القيام بتلك الأعمال والاستزادة منها متقرباً بعملها إلي ربه.
_________
(1) شرح العقدية الطحاوية ص13
(2) أخرجه البخاري 1 /114، ومسلم 1 /126
(3) أخرجه البخاري 1 /51 بلفظ: "بضع وستون" ومسلم 1 /202 بلفظ: " بضع وسبعون " وأخرجه علي الشك: "بضع وسبعون أو بضع وستون".(3/1118)
هذا ويدل علي بعد فكر المرجئة عن الحق، فلو أن شخصاً صدق بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم لكنه أبى أن يعمل بجوارحه ما أمر به كالصلاة مثلاً، وأصر على إبائه حتى قدم لضرب عنقه وهو مصر على إبائه، فإنهم يزعمون بأنه قد يكون مؤمناً في الباطن، ونحن لا ندري حتى وإن كان ظاهره الكفر الصريح.
وهذا افتراض كاذب لا وجود له إلا في الذهن؛ إذ لو كان مصدقاً بقلبه لما فضل أن تضرب عنقه على الامتثال لأمر ربه، وهو يعلم أن الأحكام في الدنيا إنما تجري على حسب ما يظهر من أفعال الإنسان، ثم رضي أن يموت كافراً في نظر المسلمين وراضياً بالأحكام التي سيعامله بها المسلمون بعد موته من عدم الصلاة عليه، وعدم دفنه في مقابر المسلمين، وأنه لا يورث إلى غير ذلك (1) .
يقول شيخ الإسلام رحمة الله: "ومن هنا يظهر خطأ جهم بن صفوان ومن اتبعه؛ حيث ظنوا أن الإيمان، مجرد تصديق القلب وعمله، ولم يجعلوا أعمال القلب من الإيمان، وظنوا أنه قد يكون الإنسان مؤمناً كامل الإيمان بقلبه وهو مع هذا يسب الله ورسوله، ويعادي أولياء الله ويوالي أعداء الله، ويقتل الأنبياء، ويهدم المساجد، ويهين المصاحف، ويكرم الكفار غاية الكرامة، ويهين المؤمنين غاية الإهانة.
قالوا: وهذه كلها معاصي لا ينافي الإيمان الذي في قلبه، بل يفعل هذا وهو في الباطن عند الله مؤمن، قالوا: وإنما يثبت له في الدنيا أحكام الكفار؛ لأن هذه الأقوال أمارة على الكفر ليحكم بالظاهر. كما يحكم بالإقرار والشهود وإن كان في الباطن قد يكون بخلاف ما أقر به وبخلاف ما شهد به الشهود" (2)
* * * * * * * * * * * * * *
_________
(1) انظر كتاب الإيمان لشيخ الإسلام ابن تيمية ص218-219
(2) انظر مجموع الفتاوى 7/ 188(3/1119)
الفصل التاسع
منزلة مذهب المرجئة عند السلف
مذهب المرجئة المتأخرين منهم مذهب رديء وخطير، يهون المعصية، ويدعو إلي الكسل والخمول، ولذا تجد السلف يحذرون منه كثيراً ويذمونه لما اشتمل عليه من فساد وإخمال لشعلة الإيمان في القلوب، وتمييع لمنزلة العمل في النفوس. وهذا المذهب ومذهب القدرية من المذاهب الرديئة.
ويذكر بعض العلماء روايات في ذمهم والتنفير من معتقداتهم، ومن تلك الروايات.
1-"صنفان من أمتي ليس لهما في الإسلام نصيب؛ المرجئة والقدرية" (1) .
2-"صنفان من هذه الأمة لا تنالها شفاعتي؛ المرجئة والقدرية" (2) .
3-"ألا وإن الله لعن القدرية والمرجئة على لسان سبعين نبياً " (3) .
4-"صنفان من أمتي لا يردان على الحوض ولا يدخلان الجنة؛ القدرية والمرجئة" (4) .
_________
(1) رواه الطبراني في الأوسط، وفيه قرير بن سهل وهو كذاب. انظر: مجمع الزوائد 7 /206
(2) رواه الطبراني في الأوسط وفيه محمد بن محصن وهو متروك انظر مجمع الزوائد 7/206
(3) رواه الطبراني في الأوسط، وفيه بقية بن الوليد وهو لين. قال الهيثمي: مجمع الزوائد 7/204، قال: ويزيد حصين لم أعرفه.
(4) قال الهيثمي، مجمع الزوائد 7 /207، وراه الطبراني في الأوسط ورجاله رجال الصحيح غير هارون بن موسى الغروي وهو ثقة.(3/1120)
5-"لكل أمة مجوس ولكل أمة نصارى ولكل أمة يهود، وإن مجوس أمتي القدرية، ونصاراهم الحشوية، ويهودهم المرجئة" (1) .
6- وفي رواية عن أنس بن مالك مرفوعة: "القدرية والمرجئة مجوس هذه الأمة، فإن مرضوا فلا تعودوهم، وإن ماتوا فلا تشهدوهم" (2)
وهذه الروايات ظاهرة في ذم المرجئة والقدرية لو كانت صحيحة بالرغم من تعدد طرقها، وبالرغم من كثرة احتجاج العلماء بها على القدرية والمرجئة.
وهناك من ضعفها لضعف أسانيدها، وإن ذكرها فمن باب تنوع الردود علي ذم القدرية والمرجئة، ويتلخص من كلام العلماء أنها دائرة بين الصحة والضعف والحسن، وفيها أن القول بالقدر والإرجاء لم يختص به هذه الأمة، بل إنها نزعة شريرة في الأمم السابقة، فالشيطان هو الذي يمليها لأتباعه في كل أمة وفي كل عصر ومع دعوة كل نبي.
ومهما كان فإن علماء السلف قد أدوا ما عليهم من النصح بوقوفهم في وجه هذه الطائفة، وتبيين ضلالها والخطر الذي يكمن في دعوتهم، ونصحوا للمسلمين بالابتعاد عن أقوالهم، ومن ذلك:
قال الإمام أحمد رحمة الله حين قيل له: من المرجئ؟ قال: المرجئ الذي يقول: الإيمان قول. وقيل له: المرجئة من هم؟ قال: من زعم أن الإيمان قول. وسئل عن من يقول: إنما الإيمان قول؛ فأجاب: هذا قول أهل الإرجاء قول
_________
(1) رواه الطبراني في الأوسط، وفيه يحيي بن سابق وهو ضعيف.
(2) رواه الطبراني في الأوسط، ورجاله رجال الصحيح غير هارون بن موسى الغروي وهو ثقة. مجمع الزوائد 7 / 205(3/1121)
محدث لم يكن عليه سلفنا ومن يقتدى به، وقال أيضاً: لا يصلي خلف مرجئ.
وذكر سعيد بن جبير المرجئة فقال: إنهم يهود أهل القبلة، أو صابئة هذه الأمة، ولعله لمشابهتهم اليهود حينما قالوا: لن تمسنا النار إلا أياماً معدودات، أو قد يكون قال هذا عنهم لا تكالهم على غفران ذنوبهم دون النظر إلي أهمية العمل.
وقال فضيل بن عياض: "يقول أهل الإرجاء: الإيمان قول لا عمل. ويقول الجهمية: الإيمان المعرفة لا قول ولا عمل. ويقول أهل السنة: الإيمان المعرفة والقول والعمل. فمن قال: الإيمان قول وعمل فقد أخذ بالتونقة، ومن قال: الإيمان قول بلا عمل فقد خاطر لأنه لا يدري أيقبل إقراره أو يرد عليه بذنوبه.
وقال منصور بن المعتمر في شئ: لا أقول كما قالت المرجئة الضالة.
وقال شريك، وذكر المرجئة فقال: هم أخبث قوم، وحسبك بالرافضة خبثاً، ولكن المرجئة يكذبون علي الله.
وقال سفيان الثوري: تركت المرجئة الإسلام أرق من ثوب سابري.
وقال إبراهيم النخعي: الإرجاء بدعة؛ وقال أيضاً: لفتنتهم عندي أخوف علي هذه الأمة من فتنة الأزارقة.
وقال الزهري: ما ابتدعت في الإسلام بدعة هي أضر على أهله من الإرجاء.
وقال الأوزاعي: كان يحيى بن أبي كثير وقتادة يقولان: ليس شيء من الأهواء أخوف عندهم على الأمة من الإرجاء.(3/1122)
وسئل ميمون بن مهران عن كلام المرجئة فقال: أنا أكبر من ذلك.
وقال سعيد بن جبير لذر الهمداني: ألا تستحي من رأي أنت أكبر منه.
وقال أيوب السختياني: أنا أكبر من دين المرجئة (1) .
ونكتفي بما تقدم ذكره عن هذه الطائفة التي ازداد شرها وانتشارها في عصرنا الحاضر لموافقة هذه الأفكار لما في نفوس كثير من الناس الذين يريدون التفلت عن القيام به، فوجدوا في مذاهب المرجئة سنداً قوياُ وعذراً واضحاً في ذلك، وهم يغالطون أنفسهم، على معرفة تامة بأن منهجهم هذا لم يتحروا فيه النهج الذي بينه الله لعباده، والسيرة التي كان عليها الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
وما من ناصح لهم عن تفريطهم إلا وأجابوه بأن الإيمان في القلب لا في المظاهر التي هي أقرب إلي الرياء بزعمهم. وهي حجة شيطانية كاذبة، إذ لو صحت لقلنا لكل من يعمل عملاً صالحاً: أنت مراء، وبذلك أفسدوا قلوب كثير من عامة المسلمين الذين يتأثرون بمثل هذه الأفكار الخبيثة التي ينفرون بها الناس عن مجالس العلم وسماع طريق الخير من أهل الصلاح والتقوى.
ولذلك تجرأ هؤلاء- وأكثرهم ممن لا يحسن فاتحة القرآن- علي ذم العلماء والمصلحين الذين يدعونهم إلي العمل الصالح وإلي الالتزام بمنهج الله وتطبيقه قولاً وفعلاً واعتقاداً، زاعمين أن إيمانهم يعدل إيمان هؤلاء الذين إيمانهم في هذه المظاهر كما يسمونها، بل ويجزم بعضهم أنهم أقرب إلي الله من هؤلاء الكادحين في رضى ربهم وطلب مغفرته وعفوه.
_________
(1) انظر لتلك النصوص: مجموع الفتاوي 7/ 394، 395(3/1123)
نكتفي بهذا الموجز عن الإرجاء ومن أراد التوسع فعليه بكتب الفرق والمقالات؛ إذ لا يخلو كتاب من ذكر هذه الطائفة، ويرجع كذلك إلي ما كتبه الأخ سفر الحوالي في كتابه طوائف المرجئة وموقف أهل السنة منهم، وقبل ذلك كله ما كتبه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمة الله عنهم كما تجد ذلك في كتابه الإيمان الذي أصبح ضمن الجزء السابع من مجموع فتاوى شيخ الإسلام رحمة الله. وغير ذلك من كتب علماء السلف الذين عنوا بدراسة هذه الطائفة.
* * * * * * * * * * * * * *(3/1124)
أهم المراجع لهذه الفرقة
1- مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين / لأبي الحسن الأشعري.
2- الملل والنحل / للشهر ستاني.
3- الفرق بين الفرق/ للبغدادي.
4- الفصل في الملل والأهواء والنحل / لابن حزم.
5- مواضع متفرقة من كلام شيخ الإسلام في مجموع الفتاوي في الجزء (7) منها، وفي كتابه "الإيمان".
6- ظاهرة الإرجاء قي الفكر الإسلامي / د. سفر الحوالي.
7- طوائف المرجئة وموقف أهل السنة منهم / د. هادي طالبي.
8- شرح العقيدة الطحاوية / لابن أبي العز.
* * * * * * * * * * * * * *(3/1125)
الباب الثاني عشر
الجهمية
هل توجد آراء الجهمية في وقتنا الحاضر؟
تمهيد:
لقد كان لهذه الطائفة التي قامت على مبدأ التعطيل والجبر صولة وجولة في تاريخ الأمة الإسلامية، ولقد تمكنوا وعلا شأنهم وقتاً من الزمن، واهتم علماء الفرق وأصحاب التاريخ والعقائد بأخبارهم وبيان عقائدهم وذكر أشهر رجالاتهم.
وآراء هذه الطائفة لا تزال في بعض المجتمعات، ولا يزال الخصام بينهم وبين أهل الحق قائماً على أشده، كما كان سابقاً في الزمن القديم حتى وإن اختلفت في بعض الأحيان المسميات، خصوصاً بعد ظهور العصريين الجدد بمفاهيمهم الباطلة، الذين لم يقفوا عند حد في إثارة كل ما يمت إلي هواهم ولو بأدنى صلة، فهم جادون في إحياء تلك المفاهيم الجهمية الباطلة باسم التجديد حيناً والتطور أحياناً أخرى.
فمثلاً الاكتفاء بمعرفة وجود الله عن العمل، أو الاعتقاد بعدم وجود الجنة الآن، وكذا النار، أو قولهم أو زعم أن الله لا يوصف بوصف، أو ليس في جهة. وغير ذلك من الآراء التي يعتقدها بعض الناس اليوم هي نفسها آراء الجهمية قديماً.(3/1129)
وإذا كان المثال للانفلات من الالتزام بالعقيدة الصحيحة والسير لهدمها تحت شعارات براقة في دعوى التجديد والتطوير، وأحياناً في صورة تمجيد للعقل والعلم أو التراث مما اهتم به كثير من الكتاب والكاتبات قديماً وحديثاً؛ فإنه يتوجب على كل طالب علم أن يحذر هؤلاء ويحذر منهم، وألا يركن إلي كتاباتهم، بل ولا ينبغي الاهتمام بقراءة كتبهم قبل أن يطلع على ما عندهم من الباطل؛ فإن تلك الكتب مملوءة بالدس والانحراف تحت زخرف من القول.
* * * * * * * * * * * * * *(3/1130)
الفصل الأول
التعريف بالجهمية وبمؤسسها
الجهمية إحدى الفرق الكلامية التي تنتسب إلي الإسلام، وهي ذات مفاهيم وآراء عقدية كانت لها آراء خاطئة في مفهوم الإيمان وفي صفات الله تعالي وأسمائه.
وترجع في نسبتها إلي مؤسسها الجهم بن صفوان الترمذي، الذي كان له ولأتباعه في فترة من الفترات شأن وقوة في الدولة الإسلامية حيناً من الدهر، وقد عتوا واستكبروا واضهدوا المخالفين لهم حينما تمكنوا منهم، ثم أدال الله عليهم فلقوا نفس المصير الذي حل بغيرهم على أيديهم. سنة الله في خلقه ولن تجد لسنته تبديلاً.
لقد كان هؤلاء الجهمية العقبة الكئود في طريق العقيدة السلفية النقية وانتشارها؛ حيث صرفوا علماء السلف عن نشرها بما وضعوا أمامهم من عراقيل شغلتهم وأخذت الحيز الأكبر من أوقاتهم في رد شبهات الجهمية ومجادلاتهم لهم وخصامهم معهم، وكانت العاقبة الحسنة - ولا تزال - لأهل السنة والجماعة ولله الحمد.
من هو الجهم بن صفوان:
هذ1 الرجل هو حامل لواء الجهمية، واسمه الجهم بن صفوان، وهو من أهل خراسان، ظهر في المائة الثانية من الهجرة سنة 2هـ، ويكني بأبي محرز،(3/1131)
وهو من الجبرية الخالصة، وأول من ابتدع القول بخلق القرآن وتعطيل الله عن صفاته.
وكان مولى لبني راسب إحدى قبائل الأزد، وكان من أخلص أصدقاء الحارث بن سريج إلي أن قتلاً سنة 128 هـ، وقيل: إن الجهم قتل سنة 130، وقيل سنة 132هـ. وتاريخه طويل، وكتبت فيه مؤلفات عديدة ورسائل جامعية.
كان الجهم كثير الجدال والخصومات والمناظرات، وإلا أنه لم يكن له بصر بعلم الحديث ولم يكن من المهتمين به، إذ شغله علم الكلام عن تلك، وقد نبذ علماء السلف أفكار جهم وشنعوا عليه ومقتوه أشد مقت مع ما كان يتظاهر به من إقامة الحق، قال عنه الأشعري بعد أن ذكر جملة من آرائه الاعتقادية التي تفرد بها، قال: "وكان جهم ينتحل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" (1) .
إلا أن الشيخ جمال الدين القاسمي ذهب إلي أن جهماً كان من أحرص الناس على إقامة كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن قتله إنما كان لأمر سياسي، وذلك لخروجه في وجه بني أمية، ولم يكن قتله لأمر ديني يوجب ذلك فيما يرى القاسمي" (2) . وهو بهذا قد خالف ما ذكره جمهور العلماء من أن قتله إنما كان لأمر ديني، وقد أقر الناس قتله في وقته لضلاله.
وأما الإمام أحمد بن حنبل فقد قال عنه: "وكذلك الجهم وشيعته دعو
_________
(1) مقالات الإسلاميين 1 / 238
(2) اقرأ كتابه: تاريخ الجهمية والمعتزلة ص14-18(3/1132)
الناس إلي المتشابه من القرآن والحديث فضلوا وأضلوا بكلامهم بشراً كثيراً، فكان مما بلغنا من أمر الجهم عدوا الله أنه كان من أهل خراسان من أهل ترمذ، وكان صاحب خصومات وكلام" (1) .
* * * * * * * * * * * * * *
_________
(1) الرد على الزنادقة والجهمية ص 23(3/1133)
الفصل الثاني
نشأة الجهمية
نشأة الجهمية:
قامت أفكار الجهم بن صفوان على البدع الكلامية والآراء المخالفة لحقيقة العقيدة السلفية متأثراً بشتى الاتجاهات الفكرية الباطلة.
وكانت نقطة الانتشار لهذه الطائفة بلدة ترمذ التي ينتسب إليها الجهم، ومنها انتشرت في بقية خراسان، ثم تطورت فيما بعد وانتشرت بين العامة والخاصة، ووجد لها رجال يدافعون عنها، وظهرت لها مؤلفات وتغلغلت إلي عقول كثير من الناس على مختلف الطبقات. وقد ذكر شيخ الإسلام درجات الجهمية ومدى تأثر الناس بهم، وقسمهم إلي ثلاث درجات:
الدرجة الأولي: وهم الجهمية الغالية النافون لأسماء الله وصفاته، وإن سموه بشيء من الأسماء الحسنى قالوا: هو مجاز.
الدرجة الثانية من الجهمية: وهم المعتزلة ونحوهم، الذين يقرون بأسماء الله الحسنى في الجملة لكن ينفون صفاته.
الدرجة الثالثة: وهم قسم من الصفاتية المثبتون المخالفون للجهمية، ولكن فيهم نوع من التجهم، وهم الذين يقرون بأسماء الله وصفاته في الجملة ولكنهم يريدون طائفة من الأسماء، والصفات الخبرية وغير الخبرية ويؤولونها.(3/1134)
ومنهم من يقر بصفاته الخبرية الواردة في القرآن دون الحديث كما عليه كثير من أهل الكلام والفقه، وطائفة من أهل الحديث. ومنهم من يقر بالصفات الواردة في الأخبار أيضاً في الجملة، لكن مع نفي وتعطيل لبعض ما ثبت بالنصوص وبالمعقول، وذلك كأبي محمد بن كلاب ومن اتبعه.
وفي هذا القسم يدخل أبو الحسن الأشعري وطوائف من أهل الفقه والكلام والحديث والتصوف، وهؤلاء إلي السنة المحضة أقرب منهم إلي الجهمية والرافضة والخوارج والقدرية، لكن انتسب إليهم طائف هم إلي الجهمية أقرب منهم إلي أهل السنة المحضة" (1)
* * * * * * * * * * * * * *
_________
(1) انظر: التسعينية لشيخ الإسلام ابن تيمية ضمن مجموع الفتاوي.(3/1135)
الفصل الثالث
بيان مصدر مقالة الجهمية
يذكر شيخ الإسلام أصل مقالة التعطيل وأنها ترجع في نهايتها إلى اليهود والصابئين والمشركين والفلاسفة الضالين، يذكر ذلك في قوله: "ثم أصل هذه المقالة - التعطيل للصفات - وإنما هو مأخوذ من تلامذة اليهود والمشركين وضلال الصابئين، فإن أول من حفظ عنه أنه قال هذه المقالة في الإسلام - أعني أن الله سبحانه وتعالي ليس على العرش حقيقة وإنما استوى بمعني استولى ونحو ذلك ...
أول ما ظهرت هذه المقالة من جعد بن درهم، وأخذها عنه الجهم بن صفوان وأظهرها فنسبت مقالة الجهمية إليه، وقد قيل: إن الجعد أخذ مقالته عن أبان بن سمعان وأخذها أبان من طالوت ابن أخت لبيد بن الأعصم، وأخذها طالوت من لبيد بن الأعصم اليهودي الساحر الذي سحر النبي صلى الله عليه وسلم " (1) .
ولهذا كان التجسيم والتشبيه هو أظهر سمات الديانة اليهودية المحرفة التي ملئت بها التوراة من وصف الله تعالي بصفات البشر من الندم والحزن وعدم العلم بالمغيبات، وغير ذلك من المعتقدات الباطلة.
* * * * * * * * * * * * * *
_________
(1) الفتوى الحموية الكبرى ص24.(3/1136)
الفصل الرابع
ذكر أهم عقائد الجهمية إجمالاً
للجهمية آراء وعقائد كثيرة تحتاج في دراستها إلي غير هذه العجالة. ومن أهم تلك الآراء للجهم ما نوجزه فيما يلي:
1 - مذهبهم في التوحيد؛ هو إنكار جميع الأسماء والصفات لله عز وجل ويجعلون أسماء الله من باب المجاز.
2 - القول بالجبر والإرجاء.
3 - إنكار كثير من أمور اليوم الآخر مثل:
1- الصراط.
2- الميزان.
3- رؤية الله تعالي.
4- عذاب القبر.
5- القول بفناء الجنة والنار.
4- ومنها نفي أن يكون الله متكلماً بكلام يليق بجلاله، والقول بأن القرآن مخلوق.
5- وأن الإيمان هو المعرفة بالله.(3/1137)
6- ونفي أن يكون الله تعالي في جهة العلو.
7- والقول بأن الله قريب بذاته، وأن الله مع كل أحد بذاته عز وجل، وهذا هو المذهب الذي بنى عليه أهل الاتحاد والحلول أفكارهم.
وقد ذكر أبو الحسن الأشعري آراء جهم التي تفرد بها فقال:
"الذي تفرد به جهم القول بأن الجنة والنار تبيدان وتفنيان، وأن الإيمان هو المعرفة بالله فقط، والكفر هو الجهل بالله فقط، وأنه لا فعل لأحد في الحقيقة إلا لله وحده وأنه هو الفاعل، وأن الناس إنما تنسب إليهم أفعالهم على المجاز كما يقال: تحركت الشجرة ودار الفلك وزالت الشمس، وإنما فعل ذلك بالشجرة والفلك والشمس الله سبحانه، إلا أنه خلق للإنسان قوة كان بها الفعل، وخلق له إرادة للفعل واختياراً له منفرداً بذلك، كما خلق له طولاً كان به طويلاً ولوناً كان به متلوناً
ويحكي عنه أنه كان يقول: لا أقول: إن الله سبحانه شيء؛ لأن ذلك تشبيه له بالأشياء (1) ، وكان يقول: إن علم الله سبحانه محدث - فيما يحكى عنه، ويقول بخلق القرآن، وأنه لا يقال: إن الله لم يزل عالماً بالأشياء قبل أن تكون" (2) . إلي غير ذلك من آراء الجهمية الكثيرة.
وقد استفاض النقل عن العلماء في ردودهم على آراء جهم وأتباعه وفندوها وبينوا مصادرها، وعلى حسب ما قيل قديماً: "ما لا يدرك كله لا
_________
(1) وقد رد عليهم الإمام أحمد في الرد على الزنادقة ص25 بقوله: وقلنا: هو شئ فقالوا هو شئ لا كالأشياء فقلنا إن الشئ الذي لا كالأشياء قد عرف أهل العقل أنه لا شئ فعند ذلك تبين للناس أنهم لا يؤمنون بشئ ولكن يدفعون عن أنفسهم الشنعة بما يقرون في العلانية.
(2) (المقالات 1 /238.(3/1138)
يترك كله"، ولهذا فإنني سأقتصر على إيضاح أهم الجوانب الاعتقادية لهذه الطائفة، وأبرز سماتها فيما يلي:
1- إنكار جميع الأسماء والصفات.
2- القول بالجبر والإرجاء.
3- إنكار الصراط.
4- إنكار الميزان.
5- القول بفناء الجنة والنار
1 - إنكار الجهمية لجميع الأسماء والصفات:
تنكر الجهمية جميع الأسماء التي سمى الله بها نفسه وجميع الصفات التي وصف بها نفسه بحجج واهية وتأويلات باطلة، وقد عرفنا فيما سبق مصدر هذه الأفكار التي يعتنقها الجهمية القدماء والجدد.
وهذه المسألة كتب عنها العلماء كتابات مستفيضة ومؤلفات عديدة، دحضوا فيها كل ما يتعلق به الجهمية في نفي الأسماء والصفات، وقلما يخلو كتاب من كتب شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم وسائر علماء الفرق من رد وخصام وجدال مع هؤلاء.
شبهات الجهمية في نفي الصفات:
لقد أقدم الجهمية علي نفي الأسماء والصفات بمزاعم من أهمها:
1-أن إثبات الصفات يقتضي أن يكون الله جسماً؛ لأن الصفات لا تقوم إلا بالأجسام، لأنها أعراض والأعراض لا تقوم بنفسها.(3/1139)
2-إرادة تنزيه الله تعالى.
3-أن وصف الله تعالي بتلك الصفات التي ذكرت في كتابه الكريم أو في سنة نبيه العظيم يقتضي مشابهة الله بخلقه، فينبغي نفي كل صفة نسبت إلي الله تعالى وتوجد كذلك في المخلوقات لئلا يؤدي إلى تشبيه الله - بزعمهم - بمخلوقاته التي تحمل اسم تلك الصفات.
الرد عليهم:
مما يدركه طلاب العلم أن الله عز وجل وصف نفسه في كتابه الكريم ووصفه به نبيه صلى الله عليه وسلم بصفات تعرف معانيها ولا تدرك كيفياتها، وهي معروفة في القرآن والحديث.
وقد وقف السلف من الصحابة الكرام إلي وقتنا الحاضر إزاء هذه الصفات موقفاً واضحاً جلياً لا لبس فيه، يتلخص في كلمات يسيرة ومعان واضحة، ألا وهو الإيمان التام بكل ما وصف الله به نفسه ووصفه به نبيه صلى الله عليه وسلم، كما جاءت به النصوص من غير تحريف ولا تعطيل ولا تمثيل ولا تكييف.
يقولون عن كل صفة: الصفة معلومة والكيف مجهول والسؤال عنها بدعه، ولم يتنطعوا تنطع المشبهة ولم يسلكوا مسالك المعطلة؛ لأنهم على معرفة تامة أن الكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات، فلا يصفون ذاتاً غير مدركة الماهية بصفات تكيفها؛ لأن هذا هو القول على الله بغير علم.
إذ كيف تكيف ذاتاً لم تدركها ولم توصف لك أكثر من صفات مجملة قابلة للاشتراك في الأسماء متباينة الحقائق، ومن هنا نجد أنه لم يعرف عن أي شخص من الصحابة أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن كيفية أي صفة من الصفات التي أخبر الله بها في القرآن الكريم أو أخبرهم بها نبيهم صلى الله عليه وسلم.(3/1140)
وهذه دلالة على قوة ذكائهم وصفاء عقولهم لأنهم يعرفون بداهة أن الاشتراك في التسمية لا يوجب الاشتراك والمماثلة في الذات، إذ يقال: رأس الرجل ورأس الجمل ورأس الذرة ورأس الجبل، وبين ذوات هذه الأشياء من الفروق ما لا يخفى على عاقل.
وكذلك بقية الصفات، ولهذا فإن عقلاء الناس حينما آمنوا بصفات الله عز وجل لم يتصورا فيها أي تشبيه، بل كانوا يعتبرون مجرد التفكير في المشابهة من وسواس الشيطان فيذكرون الله تعالي. كما أن إيمانهم بالصفات كان يجري كله على هذا المفهوم، فما كانوا يفرقون بين أن تكون الصفة ذاتية أو فعلية، ولم يحصل بينهم أي نزاع أو جدال في مسائل الأسماء والصفات، كما حصل عند من اتبع هواه ممن عطل أولاً ثم شبه ثانياً ثم زعم أنه ينزه الله تعالي.
ومن العجائب أن يثبت الله لنفسه الصفة وهم ينفونها عنه، ومثلهم في هذا كمثل شخص سأل آخر عن اسمه وهو لا يعرفه فأخبره فقال له: لا، إن اسمك ليس هذا، ذلك أن الله تعالى قال: {الرحمن علي العرش استوى} ، وهم يقولن: لا يجوز إثبات هذه الصفة بل يجب نفيها مطلقاً، أو تأويلها بمعني استولى أو قصد، أو غير ذلك من تأويلاتهم الباطلة.
وحينما قال تعالى عن نفسه: {وهو السميع البصير} ، قالوا: يجب نفي مدلول هذا نفياً تاماً أو تأويله؛ إما أن يكون بمعنى سميع بلا سمع بصير بلا بصر، أو أنه سميع بذاته بصير بذاته، إلي آخر مواقفهم الخاطئة تجاه كل الصفات والأسماء.
لقد عارض الجهمية ومن سار على طريقتهم كتاب الله وسنة نبيه، وقدموا آراءهم وما تراه عقولهم على نصوص الكتاب والسنة فلم يقفوا عند حدود فهم العقل ومدى قدرته، بل تجاوزوا ذلك وظنوا أنهم علي شيء، وزخرفوا(3/1141)
القول في ذلك، وتحذلقوا وتنطعوا فخرجوا من نور العلم إلي ظلمات الجهل، ومن اليقين إلي الشكوك عقاباً من الله لهم لعدم تلقي النصوص ومدلولاتها بالطمأنينة والتسليم، وترك التكلف في البحث عن أمور هي من المغيبات ولم يخبرنا الله بتفاصيلها ولا رسوله صلى الله عليه وسلم فقد أراد الله أن تكون كيفياتها سراً مكتوماً عن العباد وهم يريدون الاطلاع عليها بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير.
إن تنزيه الله عز وجل لا يمكن أن يكون بسلب صفاته وما تدل عليه من العظمة والكمال، إنه من الإجرام أن ينزه الله عن ما تمدح به: {قل أأنتم أعلم أم الله} (1) .
إن التنزيه الصحيح إنما يكون في إثبات الصفة في أعلى كمالها؛ لأن الكمال المطلق لا يوصف به أحد غير الله تعالي.
وأي تنزيه في أن تقول: إن الله ليس فوق ولا تحت ولا عن يمين ولا عن يسار ولا يحس ولا يشم ولا يري أبداً ولا يكلم أحداً، وإنه في كل مكان بذاته، وإنه لا سمع ولا بصر له، ولا يوصف بالرحمة ولا بالغضب ولا بالمجيء، إلي آخر تلك الأوصاف التي لا تقال إلا للمعدوم.
إنها صفات سلبية نتيجتها أن لا معبود إلا العدم، فليس هناك رب بائن من خلقه مستو على عرشه له كل صفات الكمال والجلال.
ومن هنا وجد الملاحدة ضالتهم المنشودة في تقوية إلحادهم واحتجاجهم على ذلك بما زعموا أنه من كلام المسلمين السابق، وهم يعلمون تمام العلم أن كلام الجهمية السابق ليس له بالإسلام أية صلة، وأنه ليس من كلام المسلمين، وإنما هو من أفكار ملاحدة الفلاسفة.
_________
(1) سورة البقرة 140(3/1142)
إن الجسمية التي يزعمونها حينما يثبتون الصفات لله تعالى، إنما هو من باب تغطية إلحادهم ومروقهم عن الدين، وهم أقل وأذل من أن يجدوا كلاماً ما، لعلماء المسلمين فضلاً عن الصحابة فضلاً عن الكتاب والسنة، يشير إلي هذا المفهوم الذي تنبهوا له بزعمهم ونفوا بموجبه صفات الله وأسمائه.
إن كلمة الجسمية لله تعالي نفياً أو إثباتاً هي من الألفاظ المخترعة التي لم ترد في الشرع لا في الكتاب ولا في السنة، وهي تخفي وراءها هدفا ما، ولو وقف هؤلاء الذين يطلقون على الله إلا ما ثبت له من الأسماء والصفات، وترك ذلك التنطع المذموم؛ لأن لفظ الجسم لفظ عام يحتاج إلي بيان وتوضيح ممن يقول به؛ لأنه لم يرد في الشرع لا بالنفي ولا بالإثبات، ولهذا كان في إطلاقه حق وباطل ويجب على القائل به تفصيل ما يريد.
فهناك من ينفي لفظ الجسم من الجهمية والمعتزلة ليخفي ما يهدف إليه من نفي ما أثبته الله لنفسه من الأسماء والصفات، وهناك من يثبت الجسم من المشبهة ليخفي ما يهدف إليه من إثبات ما نفاه الله عن نفسه؛ وقد أجاب العلامة ابن القيم رحمة الله عن هذه المسألة وفصلها تفصيلاً شافياً كافياً فقال:
"واعلم أن لفظ الجسم لم ينطق به الوحي إثباتاً فيكون له الإثبات، ولا نفياً فيكون له النفي. فمن أطلقه نفياً أو إثباتاً سئل عما أراد به، فإن قال: أردت بالجسم معناه في لغة العرب وهو البدن الكثيف الذي لا يسمي في اللغة جسم سواه، فلا يقال للهوى: جسم لغة، ولا للنار ولا للماء. فهذه اللغة وكتبها بين أظهرنا، فهذا المعنى منفي عن الله عقلاً وسمعاً، وإن أردتم به المركب من المادة والصورة والمركب من الجواهر الفردة فهذا منفي عن الله قطعاً.(3/1143)
والصواب نفيه عن الممكنات أيضاً، فليس الجسم المخلوق مركباً من هذا ولا من هذا، وإن أردتم بالجسم ما يوصف بالصفات ويري بالأبصار ويتكلم ويكلم ويسمع ويبصر ويرضى ويغضب، فهذه المعاني ثابتة لله تعالي وهو موصوف بها فلا ننفيها عنه بتسميتكم للموصوف بها جسماً، كما أنا لا نسب الصحابة لأجل تسمية الروافض لمن يحبهم ويواليهم نواصباً، ولا ننفي قدر الرب ونكذب به لأجل تسمية القدرية لمن أثبته جبرياً، ولا نرد ما أخبر به الصادق عن الله وأسمائه وصفاته وأفعاله لتسمية أعداء الحديث لنا حشوية، ولا نجحد صفات خالقنا وعلوه على خلقه واستوائه على عرشه لتسمية الفرعونية المعطلة لمن أثبت ذلك مجسماً مشبهاً".
إلي أن قال: "وإن أردتم بالجسم ما يشار إليه إشارة حسية فقد أشار أعرف الخلق به بإصبعه رافعاً بها إلي السماء بمشهد الجمع الأعظم مشهداً له لا للقبلة، وإن أردتم بالجسم ما يقال أين هو؟ فقد سأل أعلم الخلق به بأين، منبهاً على علوه على عرشه وسمع السؤال بأين وأجاب عنه، ولم يقل: هذا السؤال إنما يكون عن الجسم.
وإن أردتم بالجسم ما يلحقه (من وإلى) (1) . فقد نزل جبريل من عنده وعرج برسوله إليه، وإليه يصعد الكلم الطيب، وعبده المسيح رفع إليه، وإن أردتم بالجسم ما يتميز منه أمر غير أمر فهو سبحانه موصوف بصفات الكمال جميعها من السمع والبصر والعلم والقدرة والحياة، وهذه صفات متميزة متغايرة ... " إلى أن قال:
"وإن أردتم بالجسم ما له وجه ويدان وسمع وبصر فنحن نؤمن بوجه ربنا
_________
(1) هكذا النص في الأصل، وهي عبارة غامضة، ولعل المراد بها ما يمكن أن يقال: (منه وإليه) أي من عنده وإليه، كما يفيده الكلام الذي جاء بعده. والله أعلم.(3/1144)
الأعلى وبيديه وبسمعه وبصره وغير ذلك من صفاته التي أطلقها على نفسه. وإن أردتم بالجسم ما يكون فوق غيره ومستوياً على غيره فهو سبحانه فوق عباده مستو على عرشه" (1) .
فينبغي للعاقل أن يتفطن لكلام أهل الزيغ ونبزهم لعلماء السنة تنفيراً للعامة عنهم، كما أنه يجب على المؤمن ألا ينساق وراء مغالطات أصحاب البدع، فهم من دأبهم قلب الحقائق والتلبيس على الناس لتقوية ما اقتنعوا به من أفكار الملاحدة وفلاسفة اليونان.
2- قول الجهمية بالإرجاء والجبر:
لقد كان الجهم بن صفوان مؤسساً حقيقياً لكثير من الشبهات في الدين، ومؤججاً لكثير من الفتن بين المسلمين بفعل من جاء بعده ممن راقت في نظره آراء جهم، ويظهر الإرجاء عند الجهمية في تلك الآراء التي نادى بها الجهم، ومن أهمها عدم اعتبار العلم من الإيمان، فإن الإيمان وحقيقته في نظرهم إنما هو مجرد الإقرار بالقلب ولا قيمة للعمل في الإيمان؛ ولهذا سارع أصحاب الفسق والاستهتار بالقيم إلى التمسك بهذا المذهب؛ لأنه يساير رغباتهم ويثبت لهم الإيمان بغض النظر عن جميع المعاصي التي يرتكبونها، فهم مؤمنون كاملو الإيمان بالمفهوم الجبري والإرجائي، فهم لا يمكن أن يطلقوا الكفر على أحد بسبب ترك الأعمال التي أمر الله بها، بل لا يتجاسرون على إطلاق الكفر إلا إذا لم يقر بقلبه حسب زعمهم.
قال ابن أبي العز رحمة الله:
"والجبرية أصل قولهم من جهم بن صفوان كما تقدم، وأن فعل العبد
_________
(1) انظر: مختصرة الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة ص175، 177 اختصار الموصلي.(3/1145)
بمنزلة طوله ولونه، وهم عكس القدرية نفاة القدر فإن القدرية إنما نسبوا إلي القدر لنفيهم إياه، كما سميت المرجئة لنفيهم الإرجاء، وأنه لا أحد مرجأ لأمر الله، إما يعذبهم وإما يتوب عليهم، وقد تسمي الجبرية قدرية؛ لأنهم غلوا في إثبات القدر وكما يسمى الذين لا يجزمون بشيء من الوعد والوعيد، بل يغلون في إرجاء كل أمر حتى الأنواع، فلا يجزمون بثواب من تاب كما لا يجزمون بعقوبة من لم يتب وكما لا يجزم لمعين" (1) .
وقد قام أساس إرجاء الجهمية على موقفهم من حقيقة الإيمان وفي مبحث المرجئة دراسة حول المرجئة وموقفهم من الإيمان، وأنه المعرفة فقط وأنه كذلك لا يزيد ولا ينقص، ومن العمل وأنه لا صله له بالإيمان، ومن مرتكب الكبيرة،، وأن الذنوب لا تعلق لا بالإعتقاد وإنما هي تابعة للأعمال، وبالتالي فلا أثر لها على الإيمان الذي في القلب فهونوا المعاصي وشجعوا علي الركون إلي الكسل والخمول في العبادات.
ومع ذلك فهم يزعمون أن إيمان أي واحد منهم هو مثل إيمان جبريل ومحمد عليهما الصلاة والسلام، لا تفاقهم في المعرفة بالله التي بنى الجهميون عقيدتهم في الإيمان عليها، وهم أجهل الناس بمعرفته عز وجل إذ نفوا أسماءه الحسنى وصفاته العلا، إضافة إلي ما أحدثوه من الآراء والبدع الفاسدة.
وأما الجبر- بفتح الجيم وسكون الباء- فمعناه إسناد ما يفعله الشخص من أعمال إلي الله عز وجل، وأن العبد لا قدرة له البتة على الفعل، وإنما هو مجبور على فعله، وحركته في الفعل بمثابة حركة النباتات والجمادات، ومن
_________
(1) شرح الطحاوية ص592(3/1146)
هنا فإنه لا يضر مع الإيمان ذنب كما لا ينفع مع الكفر طاعة؛ لأن العبد مجبور على فعله لا حول له ولا قوة.
قال الإمام ابن القيم عنهم:
والعبد عندهم فليس بفاعل ... بل فعله كتحرك الرجفان
وهبوب ريح أو تحرك نائم ... وتحرك الأشجار للميلان
والله يصليه على ما لم ليس من ... أفعاله حر الحميم الآن
لكن يعاقبه على أفعاله ... فيه تعالى الله ذو الإحسان
والظلم عندهم المحال لذاته ... أنى ينزه عنه ذو السلطان
ويكون مدحاً ذلك التنزيه ما ... هذا بمقبول لدى الأذهان
والمقصود بهذا بيان مذهب الجهم الذي قرر فيه أن العبد مسلوب الإرادة والاختيار لأفعاله، مثله مثل حركة المرتعد وهبوب الرياح وحركة النائم وحركة الأشجار وتمايلها بفعل الرياح، ثم زعموا ما لا يعقله أحد إلا هم ومن قال بقولهم؛ وهو أن الله عز وجل مع أنه هو الذي جبر الإنسان على فعله ورغماً عنه، ومع ذلك فإن الله يعذبه بنار جهنم مع أن الفعل هو نفسه فعل الله فيه.
وقالوا: إن هذا ليس بظلم، لأن الإنسان ملك الله؛ لأن الظلم في مفهومهم هو المحال لذاته غير المتصور وقوعه (1) ، وهذا تكذيب لقول الله: {ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون} (2) ، وقوله تعالي: {ومن جاء بالسيئة
_________
(1) لأن الظلم عندهم عبارة عن الممتنع الذي لا يدخل تحت القدرة، والظلم كذلك لا يكون إلا من مأمور من غيره منهي وإلا ليس كذلك" شرح
الطحاوية ص449
أي أن الظلم عندهم هو نفي الله ما لا يقدر عليه ولا يمكن منه، أما ما كان تحت قدرة الله تعالي فليس بظلم وأفعال ناتجة عن جبر الله تعالي لهم، وهذا الاعتقاد باطل وليس هو المراد من نفي الظلم عن الله تعالي.
(2) سورة البقرة: 281(3/1147)
فلا يجزى إلا مثلها وهم لا يظلمون} (1) ، إلي غير ذلك من الآيات الكثيرة في هذا المعنى الذي يفيد أن الله تعالى حرم الظلم على نفسه، وقد مدح بذلك لبيان كمال عدله، فأين هذا المفهوم من مفهوم الجهمية حينما يقررون أن الإنسان مجبور على فعله، لا لوم عليه فيما يأتيه من الأفعال القبيحة والمنكرات؛ لأن موجدها إنما الله تعالى، ثم كلفه بامتثال أمره ونهيه فكيف يتصور هذا؟ يكلفه الله بالامتثال ثم يوجد فيه قوة العصيان، هذا تناقض وتكليف بما لا يطاق.
وقد أخبر الله تعالي بأن الحق هو عكس هذا المفهوم، فقال عز وجل: {لا يكلف الله نفساً إلا وسعها} (2) ، وجبر العبد على فعله لا يتفق مع مضمون هذه الآية وغيرها من الآيات والأحاديث، ويصح على مفهوم هؤلاء الجهمية ألا يقال للزاني: إنه زان، ولا للسارق: إنه سارق، ولا للمصلي: إنه مصل ... الخ؛ لأن هذه الأفعال هي أفعال الله فيهم، وإنما هم منفذون لها. لقد أعظموا على الله الفرية وقفوا ما ليس لهم بحق!!
3- إنكار الجهمية الصراط:
الصراط من الأمور الغيبية التي أعدها الله في يوم القيامة، وقد ثبت في الشرع بأحاديث صحيحة إضافة إلي قول الله عز وجل: {وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما ًمقضياً} (3)
وفي الصراط تفاصيل طويلة وأخبار كثيرة، وقد حاولت حصر أكثر ما تيسر من أخباره في "الحياة الآخرة ما بين البعث إلي دخول الجنة أو النار" (4) .
ونكتفي بإيجاز ما يهمنا ذكره هنا من أخبار هذا الأمر.
_________
(1) سورة الأنعام: 160
(2) سورة البقرة: 286
(3) سورة مريم: 71
(4) قدمتها لمرحلة الدكتوراه. انظر الباب العاشر منها من ص1211 إلي ص1317، ط 1، 1417هـ - 1997م.(3/1148)
الصراط المراد به: ما ثبت في السنة النبوية أنه جسر ممدود على متن جهنم أدق من الشعرة وأحد من السيف، يعبره الخلائق بقدر أعمالها إلي الجنة فمنهم من يجتازه ومنهم من يقع فيه.
وقد ورد في القرآن الكريم لفظة الصراط في تسعة وأربعين موضعاً-علي معان مختلفة لكنها متقاربة في المعنى- مراداً بها الطريق أو طريق الهداية والرشاد. هذا في اللغة، ولكن السلف ما كانوا يغفلون حقيقته الشرعية من أنه جسر ممدود على متن جهنم، ولم يأت التصريح بذكره في القرآن الكريم.
غير أن هناك آيات بعض العلماء جعلها في ذكر الصراط وبعضهم يجعلها إشارة إليه، ومن ذلك:
قول الله تعالى: {فاهدوهم إلي صراط الجحيم} (1) ، وهذه الآية ليس فيها التصريح التام بذكر الصراط في اصطلاح الشرع، إلا أن يقال: إن طريق الجحيم هو أخذهم إلي الصراط ومنه إلي النار.
ومنه قوله تعالى: ( {فلا اقتحم العقبة} (2) ، ورد في تفسير العقبة أقوال كثيرة منها أن العقبة هنا هي الصراط.
وكذا قوله تعالي: {وإن منكم إلا واردها ... } الآية؛ أي بالمرور على الصراط.
أما في السنة النبوية فقد ورد ذكره ووصفه وكيفية المرور عليه في عدة أحاديث في الصحاح والسنن والمسانيد، منها قوله صلى الله عليه وسلم: ((ويضرب جسر
_________
(1) سورة الصافات: 23.
(2) سورة البلد: 11(3/1149)
جهنم)) . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فأكون أول من يجيز، ودعاء الرسل يومئذ: اللهم سلم، وبه كلابيب مثل شوك السعدان غير أنه لا يعلم قدر عظمها إلا الله فتخطف الناس بأعمالهم منهم الموبق ومنهم المخردل ثم ينجو" (1) إلى آخر الحديث.
وللصراط أوصاف كثيرة؛ فهو أحد من السيف وأدق من الشعرة، عليه كلاليب تخطف الناس بأعمالهم ولا ينجو عليه إلا من كتبت له السعادة، ولا صحة لأقوال المتأولين له فإنها في مقابلة النصوص، وفي مرورهم عليه يعطون أنواراً كل شخص نوره على قدر عمله.
ثم يقال لهم: امضوا على قدر نوركم، فمنهم من يمر كانقضاض الكواكب، ومنهم من يمر كالريح، ومنهم من يمر كالطرف، ومنهم من يمر كشد الرجل يرمل رملاً0 وقد نصبه الله لحكمة فلو شاء لاجتاز الخلق بغير نصبه، وقد تلمس بعض العلماء حكماً كثيرة لذلك إلا أنه ينبغي الإيمان التام بأن لله حكمة قد تظهر وقد لا تظهر حقيقتها لأحد، ولسنا مكلفين باستخراج الحكمة وقد كلفنا بالإيمان بكل ما صح ثبوته.
كما أنه ورد في تحديد مسافة الصراط أقوال كثيرة تفتقر إلى دليل من الشرع، فهي من اجتهادات العلماء واستنباطاتهم، وينبغي معرفة أن المسافة وطولها أو قصرها تعود إلى العمل، فالاجتياز عليه إنما هو بقدر العمل كما ثبت ذلك في عدة نصوص.
وإنكار الجهمية وغيرهم للصراط ليس لهم ما يتمسكون به إلا شبهات
_________
(1) أخرجه البخاري 11/45، الفتح، وقد بوب البخاري بقوله: باب الصراط جسر جهنم.(3/1150)
باطلة واستبعاد له، ظانين أن استبعاده في عقولهم يصح أن يكون دليلاً على إنكاره، وبغض النظر عن سرد تلك الشبهات فإن النتيجة واحدة وهي إنكار الصراط، ويكفي في الرد عليهم أن يقال لهم: إنكم تردون أقوال نبيكم صلى الله عليه وسلم بمحض الهوى والشبهات، وليس لكم أي دليل، ومن رد أقوال النبي صلى الله عليه وسلم بعد صحة ثبوتها، فلا ريب في خسرانه ومفارقته طريق المؤمنين0
وإذا أردت أيها القارئ الكريم تفاصيل الصراط كاملة فارجع إلى ما سبق ذكره في المراجع التي ترشدك إلى أماكن أقوال العلماء وخلاصة آرائهم..
4- إنكار الجهميه للميزان:
الميزان من أمور الآخرة الغيبية التي يجب الإيمان بها وقد أنكرته الجهمية، والمراد به في الاصطلاح الشرعي: الميزان الذي أخبر الله تعالى عنه في الأحاديث الشريفة في أكثر من مناسبة تنويهاً بعظم شأنه وخطورة أمره.
وهو ميزان حقيقي له لسان وكفتان توزن به أعمال العباد خيرها وشرها، وقد أخبر الله عنه في القرآن الكريم إخباراً مجملاً من غير تفصيل لحقيقته، وجاءت السنة النبوية فبينته. يظهره الله في يوم القيامة لإظهار مقادير أعمال الخلق، وقد أجمع المسلمون على القول به واعتقاده.
وجاء ذكره في القرآن الكريم في أكثر من آية تنويهاً بعظمه وأهميته، قال تعالى: {ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئاً وإن كان مثقال حبةٍ من خردلٍ أتينا بها وكفى بنا حاسبين} (1) ، وآيات أخرى كثيرة لا
_________
(1) سورة الأنبياء: 47.(3/1151)
تخفى على طلاب العلم، ودلالتها على إثبات الميزان أمر ظاهر، وقد وصف الله فيها الموازين عدل وأن من ثقل ميزانه، فقد أفلح وعاش عيشة راضية، ومن خف ميزانه فقد خسر وهوى إلي جهنم.
كما وردت في السنة النبوية أحاديث كثيرة فيها بيان ثبوت الميزان وصفاته وما الذي يوزن فيه، هل هو العامل فقط أو العمل فقط أو العامل والعمل، أو صحف الأعمال، وما الذي يثقله وما الذي يخففه ومن تلك الأحاديث وهي كثيرة:
قوله صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "كلمتان حبيبتان إلى الرحمن خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان: سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم" (1) .
وأنه رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة، اقرءوا: {فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا} (2) " (3) .
وثبت أن العمل يوزن ويوزن أيضاً العامل، وتوزن صحائف الأعمال، وروي أن أشد ما يكون الناس خوفاً في يوم القيامة عندما يأتي دور الوزن.
وقد تلقى المسلمون أخباره بالقبول والتصديق لثبوته بالكتاب والسنة والإجماع (4) ، ولم يخالف في ثبوته أي شخص من السلف.
_________
(1) صحيح البخاري 13/ 537، ومسلم 5 /548
(2) سورة الكهف: 105.
(3) أخرجه مسلم 5 /655.
(4) انظر: لوامع الأنوار 2 /184(3/1152)
وقد ذهبت الجهمية وغيرهم من أهل البدع إلى إنكاره بلا دليل، لأنه في زعمهم - يستحيل وزن الأعراض، كما أنكروا أن يكون هناك ميزان حقيقي له كفتان ولسان، معرضين عن النصوص الثابتة بذلك كما قدمنا بعضها.
وإذا أراد القارئ المزيد من أخبار الميزان والإطلاع على المناقشات الموسعة فيه فليقرأ - إن أحب - "الحياة الآخرة ما بين البعث إلى دخول الجنة أو النار ". فسوف يجد فيه إن شاء الله كل ما يطلبه من تفصيل لأخبار الميزان ومواقف علماء السنة وعلماء البدع منه، وما الذي يوزن؟ وهل توزن أعمال الجن؟ وهل هو ميزان واحد أو موازين متعددة؟ إلى غير ذلك من الأمور التي تتعلق بهذا الأمر.
5- قول الجهمية بفناء الجنة والنار:
اقتضت حكمة الله تعالى أن يوجد الجنة وأن تكون دار أوليائه إلى الأبد، وأن يوجد النار وتكون دار أعدائه إلى الأبد، خلقهما الله وكتب لهما البقاء الأبدي بإبقاء الله تعالى لهما وهذا هو الثابت في الشريعة الإسلامية.
وخالفت الجهمية وجاءوا بأفكار ومعتقدات ما أنزل الله بها من سلطان، قال شمس الدين ابن القيم:
"والجهم أفناها وأفنى أهلها تبا لذاك الجاهل الفتان " (1)
ولم يكن لهم ما يستدلون به على إنكارهم ذلك إلا مجرد الظن، وإن الظن لا يغني من الحق شيئا، وصاروا يشنعون على السلف أهل الحق ما يعتقدونه في وجود الجنة والنار الآن ودوامهما في المستقبل.
_________
(1) النونية 2/ 393.(3/1153)
قال ابن أبي العز رحمه الله (1) : " وقال بفناء الجنة والنار الجهم بن صفوان إمام المعطلة، وليس له سلف قط لا من الصحابة ولا من التابعين لهم بإحسان، ولا من أئمة المسلمين ولا من أهل السنة، وأنكره عليه عامة أهل السنة وكفروه به وصاحوا به وباتباعه من أقطار الأرض، وهذا قاله لأصلة الفاسد الذي اعتقده وهو امتناع وجود مالا يتناهى من الحوادث، وهو عمدة أهل الكلام المذموم التي استدلوا بها على حدوث الأجسام وحدوث ما لم يخل من الحوادث، وجعلوا ذلك عمدتهم في حدوث العالم، فرأى جهم أن ما يمنع من حوادث لا أول لها في الماضي يمنعه في المستقبل، فداوم الفعل عنده على الرب في المستقبل ممتنع كما هو ممتنع عنده عليه في الماضي ".
لقد زعم الجهم وأتباعه أن الجنة والنار ستفنى بحجة أن ما لا نهاية له من الأمور الحادثة المتجددة بعد أن لم تكن يستحيل - حسب زعمه - أنها تبقى إلى ما لا نهاية، ولم يتصور أن بعض الأشياء التي شاء الله البقاء أنه يمتنع فناؤها.
ولا يوجد له من الأدلة إلا ما قاله أهل الكلام حينما أرادوا الاستدلال حسب عقولهم على حدوث الأجسام حين قالوا: كل جسم حادث لا بقاء له، فالأجسام حادثة وكل ما قبل الحدوث فهو حادث، والعالم قبل الحدوث فهو حادث.
ثم زعم جهم أن الرب يمتنع عليه إيجاد حوادث لا أول لها، مخافة تعدد الآلهة إذا قلنا بوجودها، ثم قاس هذا على نهاية الحوادث، فكما أنه يستحيل عنده وجود حوادث لا أول لها، فكذلك يمتنع القول بوجود حوادث لا أخر
_________
(1) شرح الطحاوية ص 420.(3/1154)
لها لأن الله وحده هو الأول والآخر.
وقد ظن أن هذا من تنزيه الله تعالى، وهو في الواقع إساءة ظن بقدرة الله تعالى، ولم يعلم أن ما أرا د الله البقاء فإنه يمتنع عليه الانتهاء، فإن الجنة أراد الله لها البقاء والنار كذلك فيستحيل أن تفنيا، وإلا كان فناؤهما تكذيبا لكتاب الله وسنة نبيه، فإن القرآن الكريم مملوء بالأخبار عن بقائهما إلى الأبد.
قال تعالى: (وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ} (1) أي غير منقطع إلا إذا شاء الله أن يقطعه، فقوته فوق ذلك، ولكن أخبر عز وجل أنه لم يشأ أن ينقطع أبدا فيجب تصديق ذلك: (ومن أصدق من الله قيلا} .
وقال تعالى: (وما هم منها بمخرجين} (2) ، " لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى " (3) ، إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة في إثبات هذا المفهوم.
وقد جاءت السنة بتأكيد ثبوت وجود الجنة والنار الآن ودوامهما في المستقبل في أحاديث كثيرة كقوله صلى الله عليه وسلم: (من يدخل الجنة ينعم ولا يبأس} (4) ، وقوله صلى الله عليه وسلم: (ينادي مناديا يا أهل الجنة! إن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبدا وأن تشبوا فلا تهرموا أبدا وأن تحيوا فلا تموتوا أبدا} (5) .
وورد عن ذبح الموت بين الجنة والنار ثم يقال: (يا أهل الجنة! خلود فلا
_________
(1) سورة هود: 108.
(2) سورة الحجر: 48.
(3) سورة الدخان: 56.
(4) رواه مسلم 4/ 2181.
(5) أخرجه مسلم 4/ 1282.(3/1155)
موت، ويا أهل النار خلود فلا موت} (1) ، والمذبوح هنا ليس هو ملك الموت كما يظن البعض حاشاه من ذلك، وإنما المذبوح هو الموت نفسه على صورة كبش أملح، لأن الموت مخلوق والحياة مخلوقة كما أخبر الله تعالى.
وعن دوام النار يقول الله تعالى: " فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون " (2) ، وقال تعالى: {خالدين فيها أبدا} (3) ، (وما هم بخارجين من النار} (4) ، (لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها} (5)
فهذه النصوص تثبت بجلاء دوام الجنة والنار، وأن المنكرين ذلك ليس لهم أي جليل أي دليل إلا مجرد الاستبعاد وهو ليس بدليل، وإلا ما قاسوه بأخيلتهم الضعيفة، ولئن نازع هؤلاء في دوامهما فقد نازعوا في وجودهما الآن، حيث نفوا ذلك وأصروا على عدم وجودهما الآن بدليل أن الجنة لو كانت موجودة الآن لما ذكر في الأحاديث أن الأعمال الصالحة يغرس لصاحبها شجر في الجنة، ونسوا أن البيت الجميل المتكامل البناء والحسن، لا يمنع أن يزداد فيه من أنواع التحسينات والنقوش والزخرفة ما يزيده جمالاً وحسناً.
وقد ذكر الله عز وجل في القرآن الكريم أدلة على وجودهما الآن بما لا يخفي إلا على أهل البدع، فقد قال تعالى عن الجنة: (أعدت للمتقين} (6) .
_________
(1) أخرجه البخاري 8/ 428، ومسلم أيضا.
(2) سورة البقرة: 81.
(3) سورة البينة: 8.
(4) سورة البقرة: 167.
(5) سورة فاطر: 36.
(6) سورة آل عمران: 133.(3/1156)
وقال عن النار كذلك: (أعدت للكافرين} (1) ، لقد أعدهما الله تعالى قبل نزول أهلهما فيهما.
وقد جاء في السنة النبوية ما يؤكد وجودهما الآن كما جاء ما يؤكد بقاءهما أبدا - كما تقدم.
ومن الأحاديث التي تؤكد وجودهما الآن ما جاء في حديث الإسراء والمعراج قوله صلى الله عليه وسلم: " ثم انطلق بي جبريل حتى أتى سدرة المنتهى. فغشيها ألوان لا أدري ما هي قال: ثم دخلت الجنة فإذا هي جنابذ اللؤلؤ وإذا ترا بها المسك " (2) .
وقوله صلى الله عليه وسلم: " إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعدة بالغداة والعشي، إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار، يقال: هذا مقعدك حتى يبعثك الله يوم القيامة " (3) .
وقد أخبر صلى الله عليه وسلم بأنه: رأى الجنة وتناول منها عنقودا، وقال لهم " ولو أخذته لأكلتم منه ما بقيت الدنيا" (4) .
إلى غير ذلك من الأحاديث الصحيحة التي تؤكد وجودهما الآن، إضافة إلى ما جاء في القرآن الكريم، ولكن أهل البدع لا ينظرون إلى الحق إلا من زاوية هواهم، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.
* * * * * * * * * * * * * *
_________
(1) سورة آل عمران: 131.
(2) صحيح البخاري 4 / 107.
(3) المصدر السابق 4/85.
(4) صحيح مسلم 3/ 34.(3/1157)
الفصل الخامس
الحكم على الجهمية
يتورع السلف كثيرا عن إكفار أي جماعة أو شخص، ويرهبون إطلاق التكفير، فلا يتسرعوا فيه كما تفعل الفرق المبطلة في تكفير الناس أو في تكفير بعضهم بعضا أيضا، إلا أن السلف لا يتورعون عن إطلاق كلمة الكفر على من جاءت النصوص بتكفيرهم أو بتسميتهم كفارا، عملا بالنصوص ووقوفا عند مفهومها الصحيح. ومن هنا تجد أن السلف حينما يطلقون الكفر على فرد أو جماعة لهم ضوابط قوية ودرجات في التكفير، من لا يفطن لها وقع - ولابد - في الخطأ سواء أكان خطأ شرعيا أم خطأ في مفهومه للتكفير عند السلف.
ولهذا نجد أن كثير من العلماء يقعون في الخطأ حينما يحكون مذاهب السلف وهم على غير دراية كافية بمفاهيمهم ومصطلحاتهم.
أما بالنسبة لتكفير الجهمية بخصوصهم، فإنك ستجد أيها القارئ الكريم أن كلام الناس مختلف في إطلاق الكفر على الجهمية، فهناك من يهاجمهم ويحكم بكفرهم ويسوق المبررات لذلك، وهناك من يدافع عنهم ويأتي أيضا بمبررات.
ولقد ذهب كثير من علماء السلف إلى تكفير الجهمية وإخراجهم من أهل القبلة، ومن هؤلاء الإمام الدارمي أبو سعيد عثمان بن سعيد الدارمي، فقد(3/1158)
جعل في كتابه - " كتاب الرد على الجهمية " (1) - بابا سماه باب الاحتجاج في إكفار الجهمية "، وبابا أخر سماه " بابا قتل الزنادقة والجهمية واستتابتهم من كفرهم ".
وأورد تحت هذين البابين أدلة كثيرة من الكتاب الكريم ومن السنة النبوية، ومن الآثار وأقوال العلماء ما يطول ذكره، وحاصلة أن الجهمية كفار للأمور الآتية:
بدلالة القرآن الكريم، حيث أخبر عن قريش قالوا عن القرآن: (إن هذا إلا قول البشر} (2) أي مخلوق، وهو نفسه قول الجهم بخلقه، ثم أورد كثيرا من الآيات في هذا.
ومن الأثر ما ورد عن علي وابن عباس في قتلهم الزنادقة، لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: " من بدل دينه فاقتلوه " (3) ، والجهمية أفحش زندقة وأظهر كفرا منهم.
قال الدارمي: " ونكفرهم أيضا بكفر مشهور "، ثم ذكر من ذلك قولهم بخلق القرآن، وتكذيبهم لما أخبر الله تعالى أنه يتكلم متى شاء وكلم موسى تكليما، وهؤلاء ينفون عنه صفة الكلام فيجعلونه بمنزله الأصنام التي لا تتكلم، ثم بكفرهم في عدم إثباتهم لله تعالي ما أثبته لنفسه من الصفات: كالوجه والسمع والبصر والعلم والكلام. وبكفرهم في أنهم لا يدرون أين الله
_________
(1) أنظر كتاب الرد على الجهمية ص 106 / 117.
(2) . وقال الترمذي: حديث (2) سورة المدثر: 25.
(3) أخرجه البخاري 6/ 149، وأبو داود 4/ 520، والترمذي 4/59، والنسائي 7/ 104، وابن ماجة 2 / 848. وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.(3/1159)
تعالى ولا يصفونه بإين ولا يثبتون له مطلق الفوقية الثابتة بالنصوص الصريحة في كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ".
كما أورد الدارمي جملة من أسماء الذين حكموا بكفر الجهمية صراحة، ومنهم: سلام بن أبي مطيع، وحماد بن زيد، ويزيد بن هارون، وابن المبارك، ووكيع، وحماد بن أبي سليمان، ويحي بن يحيى، وأبو توبة الربيع ابن نافع، ومالك بن أنس.
* * * * * * * * * * * * * *(3/1160)
الباب الثالث عشر
المعتزلة
الفصل الأول
نشأتهم
المعتزلة أسم يطلق على فرقة ظهرت في الإسلام في القرن الثاني الهجري ما بين سنة 105 وسنة 110هـ، بزعامة رجل يسمي واصل بن عطاء الغزال. نشأت هذه الطائفة متأثرة بشتى الاتجاهات الموجودة في ذلك العصر، وقد أصبحت المعتزلة فرقة كبيرة تفرعت عن الجهمية في معظم الآراء، ثم انتشرت في أكثر بلدان المسلمين انتشارا واسعا، وعن كثرتهم وانتشارهم يقول الشيخ جمال الدين القاسمي:
" هذه الفرقة من أعظم الفرق رجالا وأكثرها تابعا، فإن شيعة العراق على الإطلاق معتزلة، وكذلك شيعة الأقطار الهندية والشامية والبلاد الفارسية، ومثلهم الزيدية في اليمن، فإنهم على مذهب المعتزلة في الأصول كما قاله العلامة المقبلي في " العلم الشامخ "، وهؤلاء يعدون في المسلمين بالملايين. بهذا يعلم أن الجهمية المعتزلة ليسوا في قلة، فضلا عن أن يظن أنهم انقرضوا وأن لا فائدة في المناظرة معهم، وقائل ذلك جاهل بعلم تقويم البلدان ومذاهب أهلها " (1) .
وهناك روايات يذكرها الباحثون في كيفية نشأة المعتزلة:
_________
(1) تاريخ الجهمية ص 56.(3/1163)
إذ يرى بعض العلماء أن أصل بدء الاعتزال كان في زمن الخليفة الراشد علي رضى الله عنه، حينما اعتزل جماعة من الصحابة كانوا معه السياسة، وتركوا الخوض في تلك الخلافات التي نجمت بين علي ومعاوية رضى الله عنهما، وهذا القول باطل لا صحة له، وقد أيده الشيخ محمد الطاهر النيفر (1) .
ويرى أكثر العلماء أن أصل بدء الاعتزال هو ما وقع بين الحسن البصري وواصل بن عطاء من خلاف في حكم أهل الذنوب.
وقد ظهر قرن الاعتزال بمبادئه المعروفة من البصرة التي كانت مسكنا للحسن البصري ثم انتشر في الكوفة وبغداد، ومنها إلى شتى الأقطار والآفاق.
ومما يذكر للمعتزلة أنهم كانوا شوكة قوية في صد مبادئ الزندقة، وقاموا بجهود كثيفة لنشر الإسلام، إلا أنهم لم يحسنوا التصرف إزاء القول بخلق القرآن وغيره من المبادئ التي عجلت باضطهادهم بعد قوتهم وشدة جانبهم.
وقد تفرقت المعتزلة فرقا كثيرة، واختلفوا في المبادئ والتعاليم، ووصلوا إلى اثنين وعشرين فرقة، نترك ذكر تفاصيلها هنا، ونحيل من أراد التوسع في ذلك إلى كتب الفرق (2) .
إلا أنه يجمعهم إطار عام وهو الاعتقاد بالأصول الخمسة:
التوحيد على طريقة الجهمية والعدل على طريقة القدرية، والوعد
_________
(1) أنظر: كتابه أهم الفرق الإسلامية ص 33.
(2) أنظر: مقالات الشعري، الملل والنحل للشهر ستاني، الفرق بين الفرق للبغدادي، التنبيه والرد للمطلبي، التبصير في أمور الدين للإسفراييني، الفصل لابن حزم.(3/1164)
والوعيد، والمنزلة بين المنزلتين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على طريقة الخوارج.
* * * * * * * * * * * * * *(3/1165)
الفصل الثاني
أسماء المعتزلة وسبب تلك التسميات
يجد الباحث عن أسماء المعتزلة أن العلماء لم يتفقوا على تسمية واحدة للمعتزلة، ولم يقتصر كذلك المعتزلة على تسمية واحدة لهم.
ومن أقوال العلماء في تسميتهم:
1. المعتزلة: ويرجع سبب التسمية إلى اعتزال أول زعيم لهم وهو واصل ابن عطاء الغزالي إلى حلقة الحسن البصري حينما ألقي رجل سؤالا عن مرتكبي الذنوب فبادر واصل إلى الجواب قبل أن يجيب الحسن (1) ، ومن هنا تطور الأمر إلى اعتزال واصل ومن معه حلقة الحسن البصري فسموا معتزلة على سبيل الذم من قبل المخالفين لهم، على أن هذا التعليل لتسميتهم ليس أمرا متفقا عليه بل هناك عدة تعليلات واعتراضات وأجوبة أخرى (2) .
وقد أخذت المعتزلة مبادئ كثيرة عن الجهمية، فقد أخذت القول بنفي رؤية الله تعالى ونفي الصفات والقول بخلق القرآن.
2. تسمية المعتزلة جهمية: ولهذا الاتفاق بين المعتزلة والجهمية في تلك المسائل العقدية، ولسبق الجهمية في الظهور، أطلق العلماء اسم الجهمية على المعتزلة، وذلك لأن المعتزلة هم الذين احيوا آراء الجهمية في مبدأ ظهورهم،
_________
(1) حيث أجاب بأنهم في منزله بين المنزلتين لا مؤمنون ولا كافرون، وفى الأخرى هم مخلدون في النار، مخالفا بذلك مذهب السلف القائم على الحق الموافق للكتاب والسنة في أنهم تحت المشيئة.
(2) أنظر: المعتزلة وأصولهم الخمسة وموقف أهل السنة منهم ص 14-21.(3/1166)
حيث جاء المعتزلة ونفخوا في رمادهم وصيروها جمرا من جديد، ومن هنا استحق المعتزلة أن يطلق عليهم جهمية. فالجهمية أعم من المعتزلة فكل معتزلي جهمي، وليس كل جهمي معتزليا (1) .
3. تسميتهم بالقدرية: بسبب موافقتهم القدرية في إنكار القدر وإسنادهم أفعال العباد إلى قدرتهم، وهم لا يرضون بهذا الاسم ويرون أنه ينبغي أن يطلق على الذين يقولون بالقدر خيره وشره من الله تعالى لا عليهم، لأنهم لا يقولون بذلك، بل يقولون بان الناس هم الذين يقدرون أعمالهم. ولكن ابن قتيبة يرد عليهم ويرى أن نفي المعتزلة للقدر من الله تعالي وإضافته إلى أنفسهم يوجب أن يسموا قدرية، لأن مدعي الشيئ لنفسه أحق أن ينسب إليه (2) ، وكان أول المتكلمين في القدر والمقررين له معبد الجهني وغيلان الدمشقي.
4. ومن أسمائهم الثنوية والمجوسية: وهم ينفرون من هذا الاسم، والذي حمل المخالفين لهم على تسميتهم به هو مذهب المعتزلة نفسه، الذي يقرر أن الخير من الله والشر من العبد، وهو يشبه مذهب الثنوية والمجوس الذي يقرر وجود إلهين: أحدهما للخير والآخر للشر.
5. الوعيدية: وهو ما اشتهروا به من قولهم بإنفاذ الوعد والوعيد لا محالة، وأن الله تعالى لا خلف في وعده ووعيده، فلابد من عقاب المذنب إلا أن يتوب قبل الموت.
_________
(1) أنظر: منهاج السنة 1/344.
(2) أنظر: تأويل مختلف الحديث ص 98.(3/1167)
6. المعطلة: وهو اسم للجهمية أيضا ثم أطلق على المعتزلة لموافقتهم الجهمية في نفي الصفات وتعطيلها وتأويل ما لا يتوافق مع مذهبهم من نصوص الكتاب والسنة ,
وإذا كانت تلك الأسماء لم يرتاحوا إليها ولا يحبون التسمية بها, فإن هناك أسماء أخر اختاروها لأنفسهم وأخذوا يدللون على الأفضل.
وتلك الأسماء هي:
1. المعتزلة: وقد سبق أنه اسم ذم وهو كذلك إلا أن المعتزلة حينما رأوا ولع الناس بتسميتهم به أخذوا يدللون على أنه اسم مدح بمعنى الاعتزال عن الشرور والمحدثات واعتزال الفتن والمبتدعين على حد قوله تعالى: {واهجرهم هجرا جميلا} (1) .
2. أهل العدل والتوحيد أو "العدلية ": والعدل عندهم يعنى نفي القدر عن الله تعالى، أو أن تضاف إليه أفعال العباد القبيحة، والتوحيد عندهم يعنى نفى الصفات عن الله تعالى، وتسميتهم بالعدلية اسم مدح اخترعوه لأنفسهم.
3. أهل الحق: لأنهم يعتبرون أنفسهم على الحق ومن عداهم على الباطل.
4. الفرقة الناجية: لينطبق عليهم ما ورد في فضائل هذه الفرقة.
5. المنزهون الله: لزعمهم حين نفوا الصفات أنهم ينزهون الله، وأطلقوا على من عداهم وخصوصا أهل السنة أسماء جائرة كاذبة مثل: القدرية - المجيزة - المشبه - الحشوية - النابتة.
_________
(1) سورة المزمل: 10.(3/1168)
سلطان المعتزلة:
ومهما كان، فلقد عظم أمر المعتزلة - الجهمية - واشتدت شوكتهم وقوى ساعدهم حينما استطاعوا اختطاف الخليفة العباسي المأمون إلى جانبهم، وحجبوا عنه كل فكر يخالف فكرهم، ووقع - رغم حبة للعلم والإطلاع - في يد أحمد بن ابي دؤاد، ومن ثم ناصر المعتزلة بكل ما لديه من قوة، بلا وأراد حمل كافة الناس على اعتناق المذهب المعتزلي، ورغب الناس فيه ورهبهم من تركه.
ولقي المسلمون عنتا شديدا منه، وفتن كثير من الناس، وأوذي الكثير من العلماء الأجلاء وعلى رأسهم الإمام أحمد رحمه الله. " وتسمى هذه الفترة بمحنة خلق القرآن، وقد بلغوا الذروة ثم أخذوا ينحدرون عنها، فلما جاء المتوكل وجد نارا تتقد في كل مكان وامتحانات وضربا وتشريدا ونفيا، كل ذلك جلب السخط العام على رجال الدولة، فأبطل المتوكل القول بخلق القرآن وأبطل المحاكمات ليكتسب تأييد الرأى العام، وبذلك نصر المحدثين نصرا مؤزرا، فأصبح القول بالاعتزال يتحدث به سرا بعد أن كان جهرا " (1) .
الاتفاق بين المعتزلة والقدرية:
ومن الجدير بالذكر أنه قد اتفقت مفاهيم المعتزلة مع القدرية في مسألة من أهم مسائل العقيدة، ألا وهى القدر وموقف الإنسان حياله، فذهبت المعتزلة والقدرية إلى القول بأن الله تعالى غير خالق لأفعال الناس، بل الناس هم الذين يخلقون أفعالهم بأنفسهم، وليس لله تعالى أي صنع في ذلك ولا قدرة
_________
(1) أنظر: أهم الفرق الإسلامية للنيفرص 34.(3/1169)
ولا مشيئة ولا قضاء. وهذا تكذيب لله تعالى ورسله عليهم الصلاة والسلام.
وقد حملهم على ذلك قلة علمهم وعدم تصورهم أن يكون الله تعالى يأمر أو ينهى عن شيء وهو يعلم عاقبة ما سيئول إليه ذلك الشيء، فإن إثبات علم الله السابق ينافي أمره بالامتثال، وعلمه بالعصاة ينافى خلقه لهم وأمرهم بالطاعة كما يرى هؤلاء.
وكل هذا باطل، فإن الله تعالى يقول: (والله خلقكم وما تعملون} (1) ، ويقول سبحانه وتعالى في نفاذ مشيئته: (وما تشاءون إلا أن يشاء الله} (2) ، فمشيئة الإنسان ليست مستقلة عن مشيئة الله تعالى، والعبد مأمور بالامتثال ومنهي عن العصيان، وهو غير مسئول عن معرفة ما في القدر والأمور المغيبة، وإثبات علم الله تعالى لا ينافى الأمر بالامتثال، وعلمه بالعصاة لا ينافى خلقه لهم وأمرهم بطاعته، فقد علم الله كل ما سيفعله إبليس، ولكنه أمره بطاعته وبالسجود لآدم، وعلم أن الناس سيكون منهم الطائع والعاصي ولكنه أمر الجميع بطاعته، والعباد أعجز من أن يخلقوا أفعالهم بأنفسهم دون قدرة الله ومشيئة وقضائه.
* * * * * * * * * * * * * * * * **
_________
(1) سورة الصافات: 96.
(2) سورة التكوير: 29.(3/1170)
الفصل الثالث
مشاهير المعتزلة القدرية الجهمية
ظهر في المعتزلة الجهمية رجال كان لهم أثر بارز في انتشار أفكارهم وذيوعها بين الخاصة والعامة، فكان منهم المناظرون الخصمون والمؤلفون، بل ووصلوا إلى أخذ السلطة، واستجلاب الخلفاء إلى مبادئهم، كما سبق. ومن رجالهم المشاهير.
1- بشر بن السري ... 2- ثور بن زيد المدني
3- ثور بن يزيد الحمصي ... 4- حسان بن عطية المحاربي
5- الحسن بن ذكوان ... 6- داود بن الحصين
7- زكريا بن إسحاق ... 8- سالم بن عجلان
9- سلام بن عجلان ... 10- سلام بن مسكين
11- سيف بن سليمان المكي ... 12- شبل بن عاد.
13- شريك بن أبي نمير ... 14- صالح بن كيسان
15- عبد الله بن عمرو ... 16- عبد الله بن أبي لبيد
17- عبد الله بن أبي نجيح ... 18- عبد الأعلى بن عبد الأعلى
19- عبد الرحمن بن إسحاق المدني ... 20- عبد الوارث بن سعيد الثوري(3/1171)
21- عطاء بن أبي ميمونة ... 22- العلاء بن الحا رث
23- عمرو بن أبي زائدة ... 24- عمران بن مسلم القصير
25- عمير بن هانيء ... 26- عوف الأعرابي
27- كهمس بن المنهال ... 28- محمد بن سواء البصري
29- هارون بن موسى الأعور النحوي ... 30- هشام الدستوائي
31- وهب بن منبه ... 32- يحيى بن حمزة الحضرمي
قال السيوطي: "هؤلاء رموا بالقدر وكلهم ممن روى له الشيخان أو أحدهما " (1)
وإضافة إلى ما ذكره السيوطي رحمه الله هنا، فإنه لم يقتصر خطأ المعتزلة الفاحش في مسألة القدر، إنما كان لهم خبط واضطراب في أهم قضية على
_________
(1) انظر: تاريخ الجهمية والمعتزلة ص 76 - 77.
من الواضح أن البخاري ومسلمًا رحمهما الله وغيرهما من علماء الحديث كانوا يروون عن أناس عرفوا بميلهم عن مذهب السلف، وذلك لأمور كثيرة من أهمها:
1- ثقة أولئك وصدقهم في روايتهم.
2- يروون عنهم ما لا يقوي بدعتهم.
3- يروون عنهم حرصا على حفظ العلم وتدوينه.
4- يروون عنهم بسبب أن المسائل التي خالفوا فيها مما يتسامح في الخلاف فيه إلى حد ما، لغموضها ولقوة الشبهة التي دفعتهم إلى ذلك.. إلى غير ذلك من الأمور.
كذلك فإن الأشخاص الذين روى لهم البخاري ومسلم لم يكونوا ممن يتهمون بمحاربة الإسلام والكيد له، وإنما كانت لهم أخطاء ظنا منهم أنهم فيها على صواب، فقد اجتهدوا كغيرهم من طالبي الحق ولكن ليس كل من اجتهد في طلب شئ أصاب الحق فيه وأخذ العلماء عن هؤلاء إنما هو دليل قوى على ذم التعصب والتسرع في تكفير المخالفين وإخراجهم من الملة، ودليل أخر على وجوب الإنصاف، وأن الحق ضالة المؤمن أينما وجده أخذه بغض النظر عن حامله.(3/1172)
الإطلاق ألا وهى توحيد الله عز وجل، في مذهبهم أن التوحيد هو نفى جميع الصفات التي وصف الله بها نفسه المقدسة، واستبدلوها بصفات يتنزه الله عن الاتصاف بها، وزعموا أنها هي الحق.
وقد أورد الأشعري جملة اعتقاد المعتزلة في التوحيد وسرد عنهم عدة جمل يصفون بها الله عز وجل، زعموا أن ذلك هو توحيد الله تعالي وهو في الحقيقة إلحاد يؤدي إلى إنكار وجود الله تعالي، فقد وصفوة بصفات مبنية كلها على النفي المجرد، مملوءة بالتناقض والمستحيلات التي لا يمكن أن يوجد لها محل خارج الذهن لا تمت إلى توحيد الله بأى صلة، بل هي خيالات محضة وكذب على الله بغير دليل ولا أثاره من علم، ويمكن للقارئ أن يقف عليها في كلام الأشعري الآتي:
" أجمعت المعتزلة على أن الله واحد ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، وليس بجسم ولا شبح، ولا جثة ولا صورة، ولا لحم ولا دم ولا شخص، ولا جوهر ولا عرض، ولا بذي لون ولا طعم ولا رائحة ولا مجسة، ولا بذي حرارة ولا رطوبة ولا يبوسة، ولا طول ولا عرض ولا عمق ولا اجتماع ولا افتراق، ولا يتحرك ولا يسكن، ولا يتبعض، وليس بذي أبعاض وأجزاء وجوارح وأعضاء، وليس بذي جهات، ولا بذي يمين وشمال، وأمام وخلف، وفوق وتحت، ولا يحيط به مكان، ولا يجري عليه زمان، ولا تجوز عليه المماسسة ولا العزلة، ولا الحلول في الأماكن " (1) .
إلى أخر تلك الأوصاف التي ملئوا بها كتبهم وحشوا بها أذهان الناس، والتي لا يخرج القارئ منها بثمرة ولا يستفيد السامع فائدة تنفعه في دينه أو في
_________
(1) المقالات 1/ 235.(3/1173)
دنياه لأنها جهل وخبط واضطراب فكري أدى إليه علم الكلام الذي جر على المسلمين الفتن وأنواع الشرور.
* * * * * * * * * * * * * * * * **(3/1174)
الفصل الرابع
ذكر أهم عقائد المعتزلة إجمالا
وللمعتزلة - كغيرهم من الفرق الكلامية - آراء وأفكار ومعتقدات كثيرة تحتاج دراستها إلى مجلدات، غير أنه يمكن عرض أهم آرائهم بإيجاز في المسائل الآتية:
1 - اختلفوا في المكان لله تعالي:
1- فذهب بعضهم - وهم جمهورهم - إلى أن الله تعالى في كل مكان بتدبيره، وهذا قول أبي الهذيل والجعفرين، والإسكافي، ومحمد بن عبد الوهاب الجبائي.
2- وذهب آخرون إلى أن الله تعالى لا في مكان، بل هو على ما لم يزل عليه، وهذا هشام الفوطي وعباد بن سليمان وأبي زفر
2- ذهبوا إلى أن الاستواء هو بمعنى الاستيلاء في قول الله تعالي: (الرحمن على العرش استوى} (1) .
3- اجمعوا على أن الله لا يرى بالأبصار.
4- اختلفوا في صفة الكلام لله تعالى:
1- فذهب بعضهم إلى إثبات الكلام لله تعالي.
_________
(1) سورة طه: 5.(3/1175)
2- وذهب بعضهم إلى إنكار ذلك.
ولهم اختلافات كثيرة في مسائل دقيقة من مسائل الصفات والعقائد (1) ، لا يستدعي المقام الدخول في تفاصيلها ,
وأهم ما أود التنبيه عليه هو أن أبرز سمات هذه الطائفة في باب الأسماء والصفات تظهر في:
إنكارهم الصفات وتعطيلها.
أنهم بنوا آراءهم ومعتقداتهم في أصول خمسة، لا يسمي الشخص معتزلياً إلا إذا حققها واعتقد صحتها، وسوف نبين هذه الأصول مع الرد عليها، حسب ما يقتضيه المقام من الإيجاز المفيد إن شاء الله تعالى.
وقبل بيان تلك الأصول أجدني على يقين من أن إنكار الصفات وتعطيلها في مفهوم الفكر المعتزلي أمر لا يجهله طلاب العلم، فقد استفاضت كتب الفرق والمقالات وكتب التاريخ والعقائد في بيان هذا الموقف الخاطئ للمعتزلة، وسموه مع ذلك توحيد الله تعالي، وتنزيها له.
لقد لبس الشيطان عليهم " حتى رأوا حسنا ما ليس بالحسن"، لانسياقهم في فلك أهل الكلام المذموم والفلسفة الدخيلة الممقوتة، فسموا ذمهم لله تعالى بإنكارهم لصفاته تعالى باسم ظاهره فيه الرحمة وباطنة من قبله العذاب، أي أن ظاهرة التنزيه ولكن باطنه تمام التشبيه والتعطيل، ولكن التسمية لا تغير الحقيقة عند عقلاء بني أدم في المسائل الاعتقادية التي يتوجب بسببها الطاعة
_________
(1) أنظر: المقالات: جـ1، والفرق بين الفرق للبغدادي، والملل والنحل للشهر ستاني الجزء الأول.(3/1176)
والمعصية والحق والباطل. وكل هذه المواقف إنما جرتها كتب اليونان الفلسفية، التي وصفها أحد علماء اليونان بأنها ما دخلت بلدا إلا وأفسدت أهله.
لقد أساء المأمون الخليفة العباسي إلى الإسلام والمسلمين حين شجع ترجمة تلك الكتب ونشرها في ديار المسلمين، وحينما تضلع منها المعتزلة بدأت أفكارهم في الاضطراب، ولا أدل على هذا من إقدامهم على إنكار صفات الله تعالى الذي نتج عن جمعهم بين التشبيه والتعطيل ثم نفي تلك الصفات وسنذكر مزيدا من الرد عليهم إن شاء الله تعالي في دراسة أصول المعتزلة في الأصل الأول.
* * * * * * * * * * * * * * * * **(3/1177)
الفصل الخامس
الأصول الخمسة للمعتزلة بيانها، والرد عليها
الأصول الخمسة هي إجمالا:
1- التوحيد.
2- العدل.
3- الوعد والوعيد.
4- القول بالمنزلة بين المنزلتين.
5- الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر.
ويذكر العلماء أنه لا يسمى الشخص معتزلياً حتى يقول بهذه الأصول الخمسة.
أ - أما الأصل الأول وهو التوحيد: فإنهم يقصدون به البحث حول صفات الله عز وجل وما يجب لله تعالي وما لا يجب في حقه.
وقد حرص المعتزلة على إنكار صفات لله تعالى بحجة أن إثباتها يستلزم تعدد القدماء وهو شرك على حد زعمهم، لأن إثبات الصفات يوحي بجعل كل صفة إلها، والمخرج من ذلك هو نفى الصفات وإرجاعها إلى ذات الباري تعالي فيقال: عالم بذاته قادر بذاته.. الخ، وبذلك يتحقق التوحيد في نظرهم.(3/1178)
الرد عليهم
إن الرد على المعتزلة في نفى صفات الله عز وجل مما لا يجهله أي طالب علم، كما أن مذهب السلف في تقرير صفات الله عز وجل في أتم وضوح وأجلى حقيقة، فإن السلف رحمهم الله يثبتون صفات الله عز وجل كما جاءت في الكتاب والسنة دون تحريف أو تأويل، مع معرفتهم بمعانيها وتوقفهم في بيان كيفياتها، لأنهم يؤمنون بأن الكلام في صفة كل شيء فرع عن تصور ذاته، والله عز وجل له ذات لا تشبه الذات ولا يعلم أحد كيفيتها، وصفاته كذلك ثابتة على ما يليق بذاته جل وعلا.
وهكذا ينبغي أن يكون معتقد المسلم، يصف الله بما وصف به نفسه في كتابه الكريم، وبما وصفه به رسوله الأمين نفيا وإثباتا. ولا يقف ما ليس له به علم، وقد علم أن طريقة السلف تتلخص في إثبات أسماء الله وصفاته على وجه لا يوحي بأي نوع من المماثلة والمشابهة على ضوء قول الله عز وجل: (ليس كمثله شيء وهو السميع البصير} (1) المتضمن رد التشبيه والتمثيل ورد الإلحاد والتعطيل.
ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم مخاطبا أصحابه حينما كانوا يرفعون أصواتهم بالتكبير والتهليل: " أربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبا، تدعون سميعا بصيرا قريبا " (2) .
وروى أبو هريرة رضي الله عنه أنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها -
_________
(1) سورة الشورى: 11.
(2) فتح الباري 13 / 372. باب: وكان الله سميعا بصيرا.(3/1179)
يعني قوله تعالى: (سميعا بصيرا} (1) ويضع أصبعيه، قال أبو يونس: وضع أبو هريرة إبهامه على أذنه والتي تليها على عينية (2) ،
وهذا زيادة تأكيد في إثبات صفات الله تعالي، قال البيهقي " وأراد بهذه الإشارة تحقيق إثبات السمع والبصر لله بيان محلهما من الإنسان " (3)
وصفاته عز وجل قديمة قائمة بذاته زائدة على الذات (4) ، على التفضيل الصحيح عند السلف، لا كما ترى الفرق المخالفة للحق بأنها ذاته وليست بزائدة على الذات، لكي يتم لهم نفي الصفات مطلقا بزعم نفي التجزؤ أو التركيب أو تعدد القدماء وهو زعم باطل.
2- الأصل الثاني للمعتزلة: العدل:
يقول القاضي عبد الجبار في بيانه لمعنى العدل ودلالاته، وفى سبب تأخيره الكلام عليه بعد إيراد بحث التوحيد - يقول:
" وأما الأصل الثاني من الأصول الخمسة وهو الكلام في العدل. وهو كلام يرجع إلى أفعال القديم جل وعز وما يجوز عليه وما لا يجوز، فذلك
_________
(1) سورة النساء: 58.
(2) أخرجه أبو داود 2/534، أنظر: فتح الباري 13 /373، قال ابن حجر عن سند الحديث: إنه قوى على شرط مسلم من رواية أبي يونس عن أبي هريرة.
(3) فتح الباري 13 / 373.
(4) هذا من الألفاظ المجملة عند السلف، فلا يطلقون على الصفات أنها غير الله تعالى ولا أنها ليست غير الله تعالى. فإن أريد أن هناك ذاتا بلا صفات فهو غير صحيح، وإن أريد به أن الصفات زائدة على الذات التي يفهم من معناها غير ما يفهم من معنى الصفة فهذا حق، ولكن ليس في الخارج ذات مجردة عن الصفات، فهو محال إلا في التصور الذهني. والله تعالى بصفاته حقيقة واحدة لا تجزؤ فيها. أنظر: شرح الطحاوية ص 71.(3/1180)
أو جبنا تأخير الكلام في العدل عن الكلام في التوحيد " (1) .
والذي يهمنا هنا هو بيات المراد بالعدل عندهم، حيث اتضح أنهم يريدون بالعدل ما يتعلق بأفعال الله عز وجل التي يصفونها كلها بالحسن ونفي القبح عنها - بما فيه نفي أعمال العباد القبيحة عن الله عز وجل رضاء وخلقا، لأن ذلك يوجب نسبة الفعل القبيح إلى الله تعالى وهو منزه عن ذلك لأن الله تعالى يقول: (والله لا يحب الفساد} (2) ، {وما الله يريد ظلما للعباد} (3) ،
ويقول تعالى: (إن تكفروا فإن الله غني عنكم ولا يرضي لعباده الكفر وإن تشكروا يرضه لكم..} (4) الآية.
وفى هذا الفهم الخاطئ يقول القاضي عبد الجبار في شرح الأصول الخمسة: " أفعال العباد غير مخلوقة فيهم، وأنهم هم المحدثون لها " (5) .
وقال في كتابه " المغني في أبواب العدل والتوحيد " تحت عنوان " الكلام في المخلوق ": " اتفق كل أهل العدل على أن أفعال العباد من تصرفهم وقيامهم وقعودهم حادثة من جهتهم، وأن الله عز وجل أقدرهم على ذلك ولا فاعل لها ولا محدث سواهم. وأن من قال: إن سبحانه خالقها ومحدثها فقد عظم خطؤه (6) .
_________
(1) أنظر: شرح الأصول الخمسة ص 301.
(2) سورة البقرة: 205.
(3) سورة غافر: 31.
(4) سورة الزمر: 7.
(5) شرح الأصول الخمسة ص 323.
(6) المغنى في أبواب التوحيد والعدل 8/3 الكلام في المخلوق - ذكر اختلاف الناس في أفعال العباد ".(3/1181)
فاتفق المعتزلة على أن الله تعالى غير خالق لأفعال العباد وأن العباد هم الخالقون لأفعالهم، مع أنهم يؤمنون بأن الله تعالي عالم بكل ما يعمله العباد وأن الله تعالي هو الذي أعطاهم القدرة على الفعل أو الترك.
ولهم في هذا الباب شبه كثيرة وجدال عقلي.
ومن تلك الشبه:
أن إثبات خلق الله تعالي لأفعال العباد فيه نسبة الظلم والجور إليه تعالى والله منزه عن ذلك.
ومنها آيات كثيرة في القرآن الكريم يستدلون بها، منها قول الله تعالي:
(ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت} (1) ، ومأخذهم من هذه الآية كلمة "تفاوت"، وقد أخطأوا المراد منها حيث فسرها القاضي عبد الجبار بقوله:
" نفى الله التفاوت عن خلقه، فلا يخلو: إما أن المراد بالتفاوت من جهة الخلقة أو من جهة الحكمة، ولا يجوز أن يكون المراد به التفاوت من جهة الخلقة، لأن في خلقه المخلوقات من التفاوت ما لا يخفي، فليس إلا أن المراد به التفاوت من جهة الحكمة على ما قلناه. إذا ثبت هذا لم يصح في أفعال العباد أن تكون من جهة الله تعالي، لاشتمالها على التفاوت وغيره " (2) .
الرد عليهم:
مما لا شك فيه أن أفعال الله كلها حسنة لا قبيح فيها، إلا أن المعتزلة ارتكبوا مغالطات واضحة في فهم النصوص.
_________
(1) سورة الملك: 3.
(2) شرح الأصول الخمسة ص 355.(3/1182)
ذلك أن الظلم الذي نفاه الله عن نفسه هو وضع الشيء في غير موضعه أو وضع سيئات شخص على أخر، أو أن ينقص من حسنات المحسن، وهذا ظلم بلا شك والله منزه عنه.
والخلاف إنما هو في حقيقته في خلق كل الأشياء وكل الأفعال، وأنها لا تخرج عن خلق الله وإرادته لها، قال تعالي: (والله خالق كل شيء} (1) ، وقال تعالى: (والله خلقكم وما تعملون} (2) ، وهؤلاء يقولون: الإنسان هو الذي يخلق فعله فرارا - بزعمهم - من نسبة خلق الأفعال إلى الله تعالي وإرادتها بزعمهم.
ولم ينظروا إلى أن الله عز وجل هو الخالق للعباد وأعمالهم، ولا يوجب ذلك أن يكون الله تعالي هو الفاعل لأعمالهم، فخلق الظلم والكذب والطاعة والمعصية، فمن فعل الظلم بأن غش الناس أو غصبهم أموالهم يقال له: غاش ومغتصب ومنتهب وسارق وفاجر.. إلى أخر الصفات، ولا ينسب إلى الله تعالى إلا باعتبار أقدار الله تعالي للعبد وشمول مشيئة لها لا أن الله هو الفاعل الحقيقي لتلك الجرائم، ولذلك حين جئ بسارق إلى عمر رضى الله قال له: لم سرقت؟ فقال السارق: قدر الله علي، فقال عمر: وأنا قدر الله على أن أقطع يدك " (3) .
" ذلك أننا لسنا مطالبين بالوقوف على ما عند الله من الأقدار، إنما نحن مطالبون بالقيام بالأعمال التي يريدها الله والاجتناب عن مالا يريده،
_________
(1) سورة الرعد: 16.
(2) سورة الصافات 96.
(3) انظر: شرح الطحاوية ص 94.(3/1183)
ورتب الله الحدود ومصالح الناس على هذا القدر ".
فالله تعالى خلق ظلما من اتصف به من الناس كان ظالما، وخلق كذبا من اتصف به كان كاذبا، وخلق طاعة من اتصف بها كان مطيعا، وقد ورد في الحديث: إن الله تعالى لو عذب أهل سمواته وأرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم " (1) .
وأما بالنسبة لاستدلالهم بالآية الكريمة: (ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت} (2) .
فقد فسروا التفاوت هنا بالحكمة، بينما الصحيح أن التفاوت المنفي هنا هو التفاوت في الخلقة، أي لا يوجد في خلق السموات والأرض من تفاوت، أي من عيب أو خلل، لقلة استوائهما بل هما في أدق تناسب وإتقان، فالمقصود بنفي التفاوت في الخلقة وليس في الحكمة كما فسروه.
وهناك آيات أخرى استدلوا بها ذكرها القاضي عبد الجبار في كتابه شرح الأصول الخمسة (3) .
ويلتحق بمسألة العدل مسائل من أهمها:
الصلاح والصلح، واللطف من الله تعالى، وإرسال الرسل عليهم الصلاة والسلام.
والصلح: كلمة محببة إلى النفوس، لأنها ضد الفساد.
_________
(1) أخرجه أبو داود 5 / 75، وابن ماجة 1/30، وأحمد 5/185.
(2) سورة الملك: 3.
(3) انظر: شرح الأصول الخمسة ص 354، 362 تحت عنوان جانبي " آيات من القرآن تدل على أن الله لا يخلق أفعال العباد ".(3/1184)
والأصلح: كلمة توحي بأعمق من الصلاح، وقوة القرب من الخير والنفع.
والمعتزلة تؤكد أن الله تعالي لا يفعل بعبادة إلا الصلاح وما فيه نفعهم وجوبا عليه جلا وعلا، لأنه إذا لم يفعل ذلك كان ظلما لهم ونقصا مما فيه صلاحهم، بل وخلاف الحكمة في إيجاده لهم إذا لم يعنهم على ما كلفهم به، حسب ما يرى المعتزلة من الواجبات التي افترضوها على الله تعالى.
الرد عليهم:
أمر الله وأرشد عبادة إلى أن يفعلوا كل ما فيه صلاحهم، وأن مرد ذلك يعود إليهم هم، وأن الله تعالى لا تضره معصية العاصي ولا تنفعه طاعة المطيع، وقد كتب الله على نفسه الرحمة تفضلا منه، وحرم الظلم عدلا منه.
والله تعالى يفعل بعباده الأصلح لهم، ولكن لا يجوز القول بالوجوب عليه جل وعلا على سبيل المعاوضة كما هو الحال بين المخلوقين.
فإن العباد لا يوجبون عليه شيئا وإنما هو الذي أوجب على نفسه تفضلا منه وكرما، لا أنه يجب عليه فعل الصلاح والأصلح بمفهوم المعتزلة الذي فيه إقامة الحجة عليه إن لم يفعل بهم ذلك، فإنه حسب معتقد هؤلاء يحق للكافر أن يقول: يا رب أنت خلقتني وزقتني ومكنتني من الكفر حتى مت كافرا، فلم أقدرتني على ذلك، ولم تعاملني بالأصلح كغيري من الناس الذين ماتوا على الإسلام؟
ويحق كذلك لمن كانتا درجته نازلة في الجنة أن يقول: لما لم تمكني من الأعمال التي توصلني إلى ما وصل إليه غيري من الدرجات العلى؟
ومذهب أهل السنة هو الحق، فلا إيجاب على الله إلا ما أوجبه على نفسه(3/1185)
تفضلا منه وكرما، لأن العباد يستحقون عليه شيئا بإيجاب أحد من خلقه عليه.
وكذلك مسألة اللطف من الله تعالى هي من الأمور الثابتة، لكن ليس على سبيل الإيجاب على الله تعالى كما ترى المعتزلة.
بل اللطف من الله بمحض تفضله جل وعلا وكرمه ومنه عليه بالتوفيق إلى فعل الخيرات وترك المحذورات، ولا يجوز القول بوجوب فعل اللطف على الله تعالى.
قال تعالي: (ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا} (1)
فقد لطف الله بعباده إذ لم يتبعوا الشيطان جملة، حيث بصرهم بعواقب طاعة الشياطين وبين لهم أضرار ذلك، ثم لطف بهم وقوى عزيمتهم على عصيان الشيطان تفضلا منه تعالي وليس بإيجاب أحد عليه.
وأما إرسال الرسل فإنه من جملة ما توجيه المعتزلة على الله تعالى، لأنه إذا لم يفعل ذلك كان مخلا بما هو واجب عليه، لأن صلاح العباد يتعلق بإرسال الرسل لتعريف الناس، وما دام صلاح العباد يتوقف على إرسالهم فإن إرسالهم يكون واجبا عليه، لأن إرسالهم هو مقتضى العدل الذي يتم به صلاح الخلق.
الرد عليهم:
قد عرفنا فيما سبق أنه لا يجوز لأحد أن يوجب على الله تعالي شيئا، فهو
_________
(1) سورة النساء: 83.(3/1186)
رب العباد وخالقهم ومالكهم يتصرف فيهم كما يشاء فلا موجب عليه إلا ما أوجبه هو على نفسه تفضلا وكرما.
وقد اقتضت حكمته تعالى أن يرسل الرسل وأن يعذر إلى الخلق فلا يعذب أحدا إلا على مخالفته لرسله قال تعالى: (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا} (1) ، وقال تعالى: (ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم وأهلها غافلون} (2) ، وهذا من تفضله وكرمه على عباده ولطفه بهم، لا أن أحدا أوجبه عليه كما ترى المعتزلة.
3- الأصل الثالث: الوعد والوعيد:
1 - الوعد:
الوعد في مفهوم المعتزلة عرفه القاضي عبد الجبار بقوله:
"أما الوعد فهو كل خبر يتضمن إيصال نفع إلى الغير أو دفع ضرر عنه في المستقبل، ولا فرق بين أن يكون حسنا مستحقا وبين ألا يكون كذلك، ألا ترى أنه كما يقال: أنه تعالى وعد المطيعين بالثواب، فقد يقال: وعدهم ... بالتفضل مع أنه غير مستحق، وكذلك يقال: فلان وعد فلانا بضيافة في وقت يتضيق عليه الصلاة مع أنه يكون قبيحا " (3)
قال: " ولابد من استقبال الحال في الحدين (4) جميعا، لأنه إن نفعه في الحال أو ضره مع القول لم يكن واعدا ولا متوعدا " (5) .. إلى أن قال في بيان
_________
(1) سورة الإسراء: 15.
(2) سورة الأنعام: 131.
(3) شرح الأصول الخمسة ص 134.
(4) الحدين يقصد بهما الوعد والوعيد.
(5) المصدر السابق ص 135.(3/1187)
علوم الوعد والوعيد في مفهومهم: " وأما علوم الوعد والوعيد فهو أنه يعلم أن الله وعد المطيعين بالثواب وتوعد العصاة بالعقاب وأنه يفعل ما وعد به وتوعد عليه لا محالة، ولا يجوز عليه الخلف والكذب " (1) .
هذا هو مذهب المعتزلة، يوجبون على ربهم أن ينفذ وعده وأن يعطي العبد أجر ما كلفه به من طاعات استحقاقا منه على الله مقابل وعد الله له إذا التزم العبد بجميع التكاليف التي اختارها الله وكلف بها عباده.
وقد أورد المعتزلة لتأييد مذهبهم هذا بعض النصوص التي فهموا منها وجوب إنفاذ الله وعده، وهى آيات من القرآن الكريم وبعض الشبه العقلية، منها قول الله عز وجل: (ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله وكان الله غفورا رحيما} (2) .
وموضع الشاهد من الآية هو قوله تعالى: {فقد وقع أجره على الله} ، حيث فسروا هذا الوقوع بمعني الوجوب، أي فقد وجب ثوابه على الله استحقاقا، لأن العمل في رأيهم من موجبات الثواب.
واستدلوا أيضا على ذلك من العقل بأن الله مادام قد كلف عباده بالأعمال الشاقة فلابد أن يكون لها مقابل من الأجر، وإلا لكان ذلك ظلما، والله منزه عن الظلم، فلا يجوز على الله تعالي - في نظرهم - أن يوجب العمل ولا يوجب له جزاء.
والواقع أن ما استدلوا به من الآية والشبهة العقلية إنما بنوه على مسألة
_________
(1) المصدر السابق ص 135 - 136.
(2) سورة النساء: 100.(3/1188)
وجوب دخول الجنة بالعمل وهى من المسائل الهامة، وقد أورد الحافظ ابن حجر فيها عدة معاني للعلماء حول مفهوم الحديث الذي روته عائشة رضى الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " سددوا وقاربوا وابشروا، فإنه لا يدخل أحدا الجنة عمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله بمغفرة ورحمة " (1) .
وحول مفهوم الآيات التي تفيد أن دخول الجنة لا يكون إلا بالعمل لقوله تعالى: (يقولون سلام عليكم أدخلوا الجنة بما كنتم تعملون} (2) .
وبين الآيات التي تفيد أن دخولها إنما هو تفضل من الله تعالى لقوله عز وجل في إخباره عن كلام أهل الجنة وغبطتهم بما هم فيه: (الذي أحلنا دار المقامة من فضله} (3) .
فهل يكون دخول الجنة استحقاقا بالعمل كما ترى المعتزلة، أم إن دخولها إنما هو بفضل الله مضافا إليه العمل؟
والحق أن دخول الجنة إنما هو بفضل الله أولا وأخيرا، وليس للعبد على ربه أي استحقاقا غير أن الله تعالي أوجب على نفسه أنه لا يظلم عمل عامل من ذكر أو أنثي، فجعل العمل من الأسباب دخول الجنة، والسباب نفسها إنما هي تفضيل من الله تعالى.
فاتضح أن استدلال المعتزلة بالآية السابقة وغيرها في وجوب الثواب - بمعني أن الله تعالى يجب عليه شيء لم يوجبه هو على نفسه - استدلال خاطئ، فإن الله تعالي لا يستطيع أحد من خلقه أن يوجب عليه شيئا لم يوجبه هو على
_________
(1) أخرجه البخاري، انظر: فتح الباري: 11 / 294 - 300.
(2) سورة النحل: 32.
(3) سورة فاطر: 35.(3/1189)
نفسه.
فالخلق عبيده وله عليهم من النعم ما لا يقومون بشكر أقلها، ومع ذلك فإن الله تعالى لا يخلف وعده، فإنه يعطي العبد ما وعده به من الخير بحكم وعده وكرمه، وفرق بين وقوع ذلك على هذه الصفة وبين وقوعه استحقاقا.
هذا الجواب يدفع كذلك شبهتهم العقلية التي بنوها على المعارضة بينهم وبين الله عز وجل وقد علمت خطأ هذا التصور (1) ، وأن نعمة واحدة لا تفي بها أعمال العبد مهما كثرت، ولكن الله تعالي جعل العمل مع رحمة الله تعالى من أسباب دخول الجنة.
2 - الوعيد:
والوعيد في مفهوم المعتزلة سبق بيانه في كلام القاضي عبد الجبار من أن الله يفعل ما وعد به توعد عليه لا محالة، ولا يجوز عليه الخلف والكذب ".
والمقصود بالوعيد هنا هو ما يتعلق بأحكام المذنبين من عصاه المؤمنين إذا ماتوا من غير توبة، وقد أوضح المعتزلة رأيهم في هذا وهو أن أصحاب الكبائر إذا ماتوا من غير توبة فإنهم يستحقون بمقتضى الوعيد من الله النار خالدين فيها إلا أن عقابهم يكون أخف من عقاب الكفار (2)
شبههم:
للمعتزلة شبهات في تأييدهم لمذهبهم بإنفاذ الوعيد لا محالة، وقد استدلوا من القرآن الكريم بكل آية يذكر فيها عقاب العصاة بالنار والخلود فيها،
_________
(1) أنظر لمزيد التفضيل: المعتزلة وأصولهم الخمسة وموقف أهل السنة منها ص 213 - 217.
(2) أنظر: الملل والنحل للشهرستاني: 1/45.(3/1190)
وهى آيات كثيرة مثل قوله عز وجل: (إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم يصلونها يوم الدين وما هم عنها بغائبين} (1) .
وقوله تعالى: (بلي من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} (2) .
وآيات أخرى كثيرة يدل ظاهرها على هذا المفهوم.
والواقع: أن مسألة تخليد أصحاب الذنوب في النار من المسائل التي بحثها المعتزلة وأهل السنة، وأطالوا فيها الكلام وكثر فيها الخصام، وأود إيجاز النتيجة في ما يلي:
إن استدلال المعتزلة لما يذهبون إليه من إنفاذ الوعيد لا محالة، وأن أصحاب الكبائر والذنوب من المؤمنين مخلدون في النار حتما قول غير مسلم، وهو خطأ في فهم النصوص وحمل لها على غير معانيها الصحيحة، فإن الآيات لا تدل على خلود أصحاب المعاصي من المؤمنين خلودا أبديا حتميا، ذلك أن الله عز وجل قد يعفو عنهم ابتداء وقد يعذبهم بقدر ذنوبهم ثم يخرجهم الله بتوحيدهم وإيمانهم، لأنه لا يخلد في النار إلا من مات على الشرك الذي أخبر عز وجل أنه لا يغفر لصاحبه، وأما ما عدا الشرك فإن الله تعالي يغفره.
ومن ناحية أخرى، فإن خلف الوعيد من فعل الكرام وهى صفة مدح،
_________
(1) سورة الانفطار: 13 - 16.
(2) سورة البقرة: 81.(3/1191)
بخلاف خلف الوعد فإنها صفة ذم، والله عز وجل يتنزه عنها، بخلاف الوعيد فإنه يعتبر من باب التفضل والتكرم وإسقاط حق نفسه، وهذا هو مذهب السلف أهل السنة والجماعة. وما ذهب إليه المعتزلة من منع إخلاف الوعيد وزعمهم أنه من الكذب فهو إلى سوء الظن أقرب، وهو تحكم على الله عز وجل، والله تعالى يفعل ما يشاء.
وقد أجمل الطحاوي مذهب أهل السنة في كلامه الآتي: " وأهل الكبائر من أمة محمد صلى الله عليه وسلم في النار لا يخلدون إذا ماتوا وهم موحدون، وإن لم يكونوا تائبين بعد أن لقوا الله عارفين (1) وهم في مشيئته وحكمه إن شاء غفر لهم وعفا عنهم بفضله، كما ذكر عز وجل في كتابه: (ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} (2) ، وإن شاء عذبهم في النار بعدله، ثم يخرجهم منها برحمته وشفاعة الشافعين من أهل طاعته، ثم يبعثهم إلى جنته، وذلك بأن الله تعالي تولى أهل معرفته ولم يجعلهم في الدارين كأهل نكرته، الذين خابوا من هدايته ولم ينالوا من ولايته (3) .
وهذه الشفاعة التي أشار إليها الطحاوي رحمه الله للمعتزلة فيها موقف مخالف لموقف أهل الحق.
وذلك أن المعتزلة لا ترى الشفاعة لأحد في الآخرة إلا للمؤمنين فقط دون الفساق من أهل القبلة، فلا شفاعة لأهل الكبائر، لأن إثبات ذلك يؤدي إلى
_________
(1) قال شارح الطحاوية ابن أبي العز الحنفي معقبا على قول الطحاوي: " بعد أن لقوا الله عارفين " - قال: " لو قال "مؤمنين" بدل قوله: "عارفين" كان أولى، لأن من عرف الله ولم يؤمن به فهو كافر، وإنما اكتفى بالمعرفة وحدها الجهم وقوله مردود باطل " ص359.
(2) سورة النساء: 48، 116.
(3) أنظر: شرح الطحاوية ص 356 - 357.(3/1192)
خلف وعيد الله، وخلف الوعيد عندهم يعتبر كذبا والله يتنزه عن الكذب.
ثم استدلوا بالآيات الواردة في نفي الشفاعة عن غير المؤمنين الفائزين كقوله تعالى: (واتقوا يوما لا تجرى نفس شيئا ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل ولا هم ينصرون} (1) .
وكذا قوله تعالي: (ولا يشفعون إلا لمن ارتضي} (2) ، أي والفساق غير راضي عنهم فلا تصح الشفاعة فيهم.
وقوله تعالى: (ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع} (3) .. إلى غير ذلك من الآيات الواردة بهذا المعنى.
ولا ريب أن المعتزلة جانبوا الصواب في الحكم بنفي الشفاعة في العصاة، فإن القول بإثبات هذه الشفاعة مما هو ثابت متواتر عن السلف، لثبوت الأحاديث المتواترة بذلك وإجماع علماء الإسلام عدا المعتزلة.
والذي جر المعتزلة لهذا الخطأ خطأ أخر، وهو أن من عقائدهم أن السيئات يذهبن الحسنات, فلو أتى الشخص بحسنات كالجبال , ثم جاء بعدها بسيئة , فإن تلك الحسنات تحبط بمجرد صدور المعصية.
ومذهب السلف أنه لا شيء يبطل جميع الحسنات إلا الردة عن الإسلام والرجوع إلى الكفر، كما أن تكفير جميع السيئات عن المذنب لا يكون إلا بالتوبة.
_________
(1) سورة البقرة: 48.
(2) سورة الأنبياء: 28.
(3) سورة غافر: 18.(3/1193)
وفى هذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
" والتحقيق أن يقال: إن الكتاب والسنة مشتمل على نصوص الوعد والوعيد، كما أن ذلك مشتمل على نصوص الأمر والنهي، وكل من النصوص يفسر الآخر ويبينه، فكما أن نصوص الوعد على الأعمال الصالحة مشروطة بعدم الكفر المحبط، لأن القرآن قد دل على أن من ارتد فقد حبط عمله، فكذلك نصوص الوعد للكفار والفساق مشروطة بعدم التوبة، لأن القرآن قد دل على أن الله يغفر الذنوب جميعا لمن تاب وهذا متفق عليه بين المسلمين، فإن الله قد بين بنصوص معروفة أن الحسنات يذهبن السيئات وأن من يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره، إلى أن قال: " فجعل للسيئات ما يوجب رفع عقابها كما جعل للحسنات ما قد يبطل ثوابها لكن ليس شيء يبطل جميع السيئات إلا التوبة كما أنه ليس شيء يبطل جميع الحسنات إلا الردة " (1) .
4 - الأصل الرابع: المنزلة بين المنزلتين
تدور هذه المسألة حول الحكم على مرتكب الكبيرة، حينما طلب إلى الحسن البصري أن يبين الحكم في صاحب الكبيرة، وما تلا ذلك من جواب واصل بن عطاء، ثم اشتداد الخلاف بعد ذلك واعتزال واصل وجماعته حلقة الحسن البصري.
وقد قدمنا أن قضية مرتكبي الذنوب كانت هي الحصيلة الحتمية عند المعتزلة لمواقف الفرق الأخرى من خوارج ومرجئة وأهل السنة أيضا، بسبب ما
_________
(1) مجموع الفتاوى 12 / 483.(3/1194)
استجد بين المسلمين من أحداث خطيرة سياسية، ابتداء من قتل عثمان رضي الله عنه وانتهاء بأصحاب المعاصي أيا كان عصيانهم.
وقد أجمعت المعتزلة على قضية المنزلة بين المنزلتين واعتبروها أصلا من الأصول الثابتة.
وتلقب هذه المسألة حسب ما يذكره القاضي عبد الجبار " بمسألة الأسماء والأحكام " (1) .
وقد بين اصطلاح المتكلمين في معنى المنزلة بين المنزلتين بقوله:
" والأصل في ذلك أن هذه العبارة إنما تستعمل في شيء بين شيئين ينجذب إلى كل واحد منهما بشبه. هذا في أصل اللغة، وأما في اصطلاح المتكلمين فهو العلم بأن لصاحب الكبيرة اسما بين الاسمين وحكما بين الحكمين على ما يجئ من بعد " (2) .
وما أحال إليه هنا في قوله: " على ما يجئ من بعد " قد شرحه تحت عنوان: " الأصل الرابع: وهو الكلام في المنزلة بين المنزلتين "، قال فيه: " أعلم أن هذا الفصل كلام في الأسماء والأحكام ويلقب بالنزلة بين المنزلتين، ومعنى قولنا: إنه كلام في أسماء الأحكام، هو أنه كلام في أن صاحب الكبيرة له اسم بين الاسمين وحكم بين الحكمين، لا يكون اسمه اسم الكافر ولا اسمه اسم المؤمن وإنما يسمى فاسقا وكذلك فلا يكون حكمه حكم الكافر ولا حكم المؤمن، بل يفرد له حكم ثالث، وهذا الحكم الذي ذكرناه هو سبب تلقيب المسألة بالمنزلة بين المنزلتين، فإن صاحب الكبيرة له منزلة تتجاذبها هاتان
_________
(1) شرح الأصول الخمسة ص 137.
(2) شرح الأصول الخمسة ص 697.(3/1195)
المنزلتان، فليست منزلة الكافر ولا منزلة المؤمن، بل له منزلة بينهما " (1) .
والمقصود أن المعتزلة يريدون بالمنزلة بين المنزلتين المؤمن صاحب المعاصي، فهو عندهم ليس بمؤمن ولا كافر بل يفرد له حكم ثالث وهو تسميته " فاسقا" في الدنيا، والحكم بخلوده في النار في الآخرة، فاختلف اسمه وحكمه في الدنيا فاستحق أن يكون في منزلة بين المنزلتين.
والذي حيرهم في أمر الفاسق هو أنه من جهة ليس بمؤمن، لأن حكم المؤمن لا ينطبق عليه في الواقع لمجيئه بأعمال غير المؤمنين في بعض أموره، وهو كذلك ليس بكافر تماما لمجيئه بأعمال المؤمنين في بعض أموره، إذا فهو فاسق، والفسق اسم ذم، وما ثبت له اسم الذم انتقى عنه اسم المدح، وقد توعد الله الفساق بالنار فحكمه في الآخرة الخلود فيها.
ويرد عليهم: ببيان حكم مرتكب الكبيرة في الشرع، هل حكم بكفره وإخراجه من الملة أو حكم بإيمانه الإيمان الكامل، أو هو مؤمن بإيمانه، فاسق بكبيرته.
الواقع: أن العاصي غير خارج من الملة بفسقه بل هو مؤمن ناقص الإيمان، أو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته، ولم تخرجه النصوص عن الإيمان لا في كتاب الله ولا في سنة نبيه، ولا في إجماع الأمة، وفى هذا يقول الطحاوي: "ولا نكفر أحدا من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله " (2) .
وقد أجاب الشارح ابن أبي العز الحنفي حول ما ورد من تسمية الشارع
_________
(1) المصدر السابق.
(2) شرح العقيدة الطحاوية ص 295.(3/1196)
لبعض الذنوب كفرا مثل قول الله تعالى: (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون} (1) وقول النبي صلى الله عليه وسلم: " سباب المسلم فسوق وقتاله كفر" (2) .
وأمثلة أخرى كثيرة يفيد ظاهرها إطلاق كلمة الكفر على من اقترف ذنبا من تلك الذنوب.
ثم أجاب عن ذلك كله فقال:
" والجوانب: أن أهل السنة متفقون كلهم على أن مرتكب الكبيرة لا يكفر كفرا ينقل عن الملة بالكلية - كما قالت الخوارج - إذ لو كفر كفرا ينقل عن الملة لكان مرتدا يقتل على كل حال، ولا يقبل عفو ولا القصاص ولا تجري الحدود في الزنا والسرقة وشرب الخمر، وهذا القول معلوم بطلانه وفساده بالضرورة من دين الإسلام، ومتفقون على أنه لا يخرج من الإيمان والإسلام ولا يدخل في الكفر، ولا يستحق الخلود مع الكافرين - كما قالت المعتزلة - فإن قولهم باطل أيضا، إذ قد جعل الله مرتكب الكبيرة من المؤمنين، قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى} (3) إلى أن قال: (فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف} ، فلم يخرج القاتل من الذين آمنوا وجعله أخا لولي القصاص، والمراد أخوة الدين بلا ريب، وقال تعالى: (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما} إلى أن قال: (إنما المؤمنون أخوة فأصلحوا بين أخويكم} (4)
ونصوص الكتاب والسنة والإجماع تدل على أن الزاني والسارق
_________
(1) سورة المائدة: 44.
(2) متفق عليه: البخاري 1/110، ومسلم 2/241.
(3) سورة البقرة: 178.
(4) سورة الحجرات: 9-10.(3/1197)
والقاذف لا يقتل بل يقام عليه الحد، فدل على أنه ليس بمرتد، وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من كانت عنده لأخيه اليوم مظلمة من عرض أو شيء فليتحلله منه اليوم قبل ألا يكون درهم ولا دينار، إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فطرحت عليه ثم ألقي في النار " (1) فثبت أن الظالم يكون له حسنات يستوفي المظلوم منها حقه "، ثم أورد حديث المفلس (2) وقول الله تعالى: (إن الحسنات يذهبن السيئات} (3) ، ثم قال: " فدل ذلك على أنه في حال إساءته يعمل حسنات تمحو سيئاته " (4) .
وهذا جواب نفيس جامع لفوائد عظيمة وفيه بيان جلي لمذهب السلف في هذه القضية التي أخطأ فيها المعتزلة وجعلوا العصاة في منزلة بين المنزلتين في الدنيا، وحكموا بخلودهم في النار في الآخرة، ولم يلتفتوا إلى مشيئة الله تعالى في أولئك وهو الفعال لما يريد جل وعلا - فقطعوا عنه المشيئة، ثم زادوا الخطأ بآخر حينما حكموا بخلوده في النار مع من مات على الشرك ولم يسجد لله سجدة، ولا شك أن العقل يأبى هذا الحكم مع أنهم ممن يقدر العقل ويقدمه على النقل، ولكن الهوى يغطي على العقل والفهم إلا من وفقه الله تعالي.
5- الأصل الخامس: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
هذا هو الأصل الأخير من أصول المعتزلة الخمسة.
وقد بين القاضي عبد الجبار حقيقة الأمر، والنهي، والمعروف، والمنكر،
_________
(1) رواه البخاري في الرقاق 11/395، وفى المظالم أيضا 5 / 101.
(2) هو حديث رواه مسلم 8 / 18.
(3) سورة هود: 114.
(4) أنظر: شرح الطحاوية ص 301 - 30 2.(3/1198)
فقال: " أما الأمر: فهو قول القائل لمن دونه في الرتبة: أفعل، والنهي هو قول القائل لمن دونه: ولا تفعل.
وأما المعروف: فهو كل فعل عرف فاعله حسنه أو دل عليه، ولهذا لا يقال في أفعال القديم تعالى: معروف، لم يعرف حسنها ولا دل عليها.
وأما المنكر: فهو كل فعل عرف فاعله قبحه أو دل عليه، ولو وقع من الله تعالي القبيح لا يقال: أنه منكر، لما لم يعرف قبحه ولا دل عليه " (1) .
ومعنى التعريف أن المعروف والمنكر لابد أن يتضح أمرهما عند الشخص بأن يرى حسن المعروف ويدلل عليه، ويرى قبح المنكر ويستطيع أن يدلل عليه، وهذا بخلاف ما لو وقع من الله - افتراضا - فعل القبيح فإنه لا يستطيع أن يدلل عليه، ولذا فلا يوصف بالمنكر.
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يعتبران من فروض الكفايات عند المعتزلة إذا قام بهما من يكفي سقط عن الباقين، وحكمها عموما الوجوب الكفائي.
وقد استدل المعتزلة على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بأدلة كثيرة من القرآن الكريم ومن السنة النبوية والإجماع.
فمن القرآن الكريم قوله تعالى: (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر} (2) ، قال عبد الجبار: " فالله تعالى مدحنا على
_________
(1) شرح الأصول الخمسة ص 141.
(2) سورة آل عمران: 110.(3/1199)
ذلك فلولا أنها من الحسنات الواجبات وإلا لم يفعل ذلك " (1) .
قال عبد الجبار: " وأما من السنة فهو قول النبي: " ليس لعين ترى الله يعصى فتطرف حتى تغير أو تنتقل" (2) .
قال: " وأما الإجماع فلا إشكال فيه، لأنهم اتفقوا على ذلك " (3) ، وقد توافق أهل السنة والمعتزلة في حكم القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في كونه من الواجبات على الكفاية، وهو ما قرره الله تعالي في كتابه الكريم حيث قال: (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون} (4) ، وإلا أنه وقع خلاف بين أهل السنة والمعتزلة فيما يلي:
1- طريقة تغيير المنكر.
2- أوجبوا الخروج على السلطان الجائر.
3- حمل السلاح في وجوه المخالفين لهم سواء كانوا من الكفار أو من أصحاب المعاصي من أهل القبلة.
فأما طريقة تغيير المنكر: فقد ساروا فيها عكس الحديث الذي بين فيه الرسول صلى الله عليه وسلم موقف المسلم إزاء تغيير المنكرات.
عن أبي سعيد الخدري رضى الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف
_________
(1) شرح الأصول الخمسة ص 142.
(2) رواه ابن ماجه وأحمد في المسند.
(3) شرح الأصول الخمسة ص 142.
(4) سورة آل عمران: 104.(3/1200)
الإيمان "
إذ إن تغيير المنكر عندهم يبدأ بالحسنى ثم باللسان ثم باليد ثم بالسيف، بينما الحديث يرشد إلى العكس، وهو ما يذهب إليه أهل الحق، من أن تغيير المنكر يبدأ بالفعل باليد إذا لم يترتب عليه مفاسد، والتغيير باليد هنا لا يكون بالسيف، وإنما هو إزالة المنكر بدون قتال ولا فتح باب فتنة أكبر من المنكر المراد إزالته.
فإن لم يتمكن الشخص من التغيير باليد انتقل إلى التغيير باللسان، فإن وصل الحال إلى عدم الاستطاعة من التغيير باللسان بأن كان الشر هو الغالب على الخير، فليكتف بالتغيير بالقلب من كراهة المنكر وتمنى زواله وبغضه وبغض أهله، ومع هذا فلا مكان للسيف هنا، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يرشد إليه، ولما فيه كذلك من جر الأمة إلى ما هو أكبر من تغيير ذلك المنكر، بخلاف المعتزلة فإنهم لا يرون حرجا في حمل السلاح لتغيير المنكر.
وأما الخروج على السلطان الجائر فقد أوجبه المعتزلة، والواقع أن جور السلطان وارتكابه المعاصي لا يوجب الخروج عليه لما يترتب على ذلك من المفاسد ومن سفك الدماء وتفريق كلمة الأمة، فإن الإسلام لا يبيح الخروج عليه إلا عندما يظهر الكفر منه صراحة.
وأما حمل السلاح في وجوه المخالفين لهم من أهل القبلة فلا دليل لهم على ذلك، ولا يجوز أن يستحيل دم المسلم إلا بما حدده الشرع، وصاحب الكبيرة ليس بكافر، فلا يجوز قتاله واستحلال دمه ولم يأمر الشرع بذلك، فيجب على المسلم الالتزام وترك تنطع الخوارج والمعتزلة.
* * * * * * * * * * * * * * * * **(3/1201)
الباب الرابع عشر
" الأشاعرة أو السبعية " (1)
وفيه المطالب الآتية:
1- ظهور الأشاعرة:
ظهرت الأشعرية بعد أن تنفس الناس الصعداء من سيطرة المعتزلة في القرن الثالث الهجري.
وهى في الأصل نسبة إلى أبي الحسن الأشعري، ظهر بالبصرة وكان أول أمره على مذهب المعتزلة ثم تركه واستقل عنهم، ولقد أصبح الانتساب إلى الأشعري هو ما عليه أكثر الناس في البلدان الإسلامية.
بعضهم على معرفة بمذهبه الصحيح وآرائه التي استقر عليها أخيرا، وبعضهم على جهل تام بذلك وبعضهم يتجاهل ويصر على مخالفته مع انتسابه إليه.
وانتساب الأشاعرة إليه إنما هو بعد تركه للاعتزال وانتسابه إلى ابن كلاب، وهى المرحلة الثانية من المراحل التي مر بها الأشعرية، ولم يدم فيها إذ رجع إلى مذهب السلف، ولكن بعض الأشاعرة ينتسبون إليه ولكن في مرحلته الثانية، ومن انتسب إليه في مرحلته الثالثة فقد وافق السلف، ونذكر
_________
(1) (*) بعض العلماء يطلق عليهم السبعية بسبب أنهم يثبتون لله تعالى سبع صفات فقط ويؤولون فيما عداها.(3/1205)
فيما يلي نبذة موجزة عنه.
2 - أبو الحسن الأشعري:
هو علي بن إسماعيل الأشعري ينتسب إلى أبي موسى الأشعرية، وهو أحد علماء القرن الثالث، تنتسب إليه الأشعري، ولد في البصرة سنة 250 هـ وقيل: سنة 270 هـ وتوفى سنة 330 هـ على أحد الأقوال.
تعمق أولا في مذهب المعتزلة وتتلمذ على أبي علي الجبائي محمد بن عبد الوهاب أحد مشاهير المعتزلة، إلا أن الله أراد له الخروج عن مذهبهم والدخول في مذهب أهل السنة والجماعة، وتوج ذلك بما سجله في كتاب " الإبانة عن أصول الديانة ".
ومما يذكر عن سيرته أنه كان دائما يتململ من اختلاف الفرق في وقته وينظر فيها بعقل ثاقب، فهداه الله إلى الحق واقتنع بما عليه السلف من اعتقاد مطابق لما جاء في القرآن والسنة النبوية فكان له موقف حاسم في ذلك.
ومما يدل على ذكائه وطلبه للحق وإفحامه لخصمه في المحاجة أنه سأل أستاذه (1) أبا علي الجبائي عن ثلاثة أخوة كان أحدهم مؤمنا برا تقيا. والثاني كان كافراً فاسقاً شقياً، والثالث كان صغيرا، فماتوا فكيف حالهم؟ فقال الجبائي: أما الزاهد ففي الدرجات، وأما الكافر ففي الدركات وأما الصغير فمن أهل السلامة. فقال الأشعري: إن أراد الصغير أن يذهب إلى درجات الزاهد هل يؤذن له؟ فقال الجبائي: لا لأنه يقال له: أخوك إنما وصل إلى هذه الدرجات بطاعاته الكثيرة وليس لك تلك الطاعات، فقال الأشعري: فإن
_________
(1) على حسب مذهب المعتزلة.(3/1206)
قال: ذلك التقصير ليس مني فإنك ما أبقيتني على الطاعة، فقال الجبائي: يقول البارئ جل وعلا: كنت أعلم لو بقيت لعصيت وصرت مستحقا للعذاب الأليم، فراعيت مصلحتك، فقال الأشعري: فلو قال الأخ الأكبر يا إله العالمين كما علمت حاله فقد علمت حالي فلم راعيت مصلحته دوني؟ فانقطع الجبائي.
لقد كان الأشعري إماما فذا كثير التأليف واسع الإطلاع محببا إلى الناس، ولهذا تجد أن كل طائفة تدعي نسبته إليها " فالمالكي يدعي أنه مالكي، والشافعي يزعم أنه شافعي، والحنفي كذلك " (1) .
3 - عقيدة الأشعري:
علمنا فيما مضى أن الأشعري كان على مذهب المعتزلة ومن العارفين به، وأنه أقام عليه مدة أربعين سنة ومما يذكره العلماء عن سيرته ورجوعه عن الاعتزال ومذهب ابن كلاب إلى المذهب الحق، أنه مكث في بيته خمسة عشر يوما لا يخرج إلى الناس وفى نهايتها خرج في يوم جمعة، وبعد أن انتهى من الصلاة صعد المنبر وقال مخاطبا من أمامه من جموع الناس:
" أيها الناس، من عرفني فقد عرفني ومن لم يعرفني فأنا أعرفه بنفسي أنا فلان بن فلان، كنت أقول بخلق القرآن وأن الله تعالى لا يرى بالأبصار، وأن أفعال الشر أنا أفعلها، وأنا تائب مقلع متصد للرد على المعتزلة مخرج لفضائحهم.
معاشر الناس إنما تغيبت عنكم هذه المدة، لأني نظرت فتكافأت عندي
_________
(1) أنظر: كتاب " أبو الحسن الأشعري " ص 8.(3/1207)
الأدلة ولم يترجح عندي شيء على شيء فاستهديت الله تعالى فهداني إلى اعتقاد ما أودعته كتبي هذه، وانخلعت من جميع ما كنت أعتقد كما انخلعت من ثوبي هذا "، وانخلع من ثوب كان عليه. ودفع الناس ما كتبه على طريقة الجماعة من الفقهاء والمحدثين (1) .
وحينما أنضم إلى أهل السنة والجماعة، فرحوا به فرحا شديدا، واحترموه وعرفوا قدرة وإخلاصه وتوجهه إلى الحق بيقين ثابت، وصارت أقواله حجة وآراؤه متبعة، بينما ثار عليه أهل الاعتزال وذموه بأنواع الذم غيظا عليه، لوقوفه في وجوههم وإبطال آرائهم المخالفة للحق وتركه لمذهبهم، خصوصا وأنه كان من المتعمقين في مذهبهم والعارفين بعواره.
ومما ينبغي ملاحظته أن ينتبه طالب العلم إلى تمويه المغرضين ممن يزعم أن الأشعري لم يتب عن الاعتزال، وأن الإبانة مدسوسة عليه، وهو كذب ليس له ما يسنده، بل الصحيح الذي عليه عامة علماء السلف أن الأشعري رجع إلى مذهب أهل السنة والجماعة وتاب من كل ما يخالفه، كما صرح بذلك في كتبه كالإبانة وغيرها من مؤلفاته النافعة (2) .
وعلى هذا فإن الأشعري مر بثلاثة أحوال في عقيدته:
الحال الأول: حال الاعتزال.
الحال الثاني: إثبات الصفات العقلية السبع: وهى الحياة - والعلم -
_________
(1) أنظر: تاريخ المذاهب الإسلامية 1/181.
(2) في رسالة للشيخ حماد الأنصاري تسمى " أبو الحسن الشعري " نقول كثيرة عن علماء الإسلام في إثباتهم الإبانة لأبي الحسن، أنظرها إن شئت، وهى خلاصة عقيدته، أما اللمع فهي تمثل المرحلة الثانية: عقيدته الكلابية.(3/1208)
والقدرة - والإرادة - والسمع - والبصر - والكلام. وتأويل الصفات الخبرية كالوجه واليدين والقدم والساق ونحو ذلك.
الحال الثالث: إثبات ذلك كله من غير تكييف ولا تشبيه جريا على منوال السلف كما في الإبانة التي نوه بها أحد معاصري الأشعري فقال بمدحه:
لو لم يصنف عمره ... غير الإبانة واللمع
لكفي فكيف عمره ... تفنن في العلوم بما جمع
مجموعة تربي على المئين ... مما قد صنع
لم يأل في تصنيفها ... أخذا بأحسن ما استمع
فهدى بها المسترشد ... ين ومن تصفحها انتفع
تتلى معاني كتبه ... فوق المنابر في الجمع
ويخاف من إفحامه ... أهل الكنائس والبيع
فهو الشجا في حلق من ... ترك المحجة وابتدع (1)
وفى كتابه الإبانة توضيح تام لعقيدته السلفية ومتابعته لإمام أهل السنة أحمد بن حنبل، فارجع أيها القارئ الكريم إلى هذا الكتاب واقرأة، وخصوصا الباب الذي عنوانه " باب في إبانة قول أهل الحق والسنة " تجد فيه العقيدة السلفية واضحة وضوح الشمس في رابعة النهار.
وأرى أنه من باب تيسير الإطلاع على ما في هذا الباب أن أنقله بطولة لعظيم نفعه وعموم فائدته، في كلام عذب وعبارات جميلة لا يمل القارئ من
_________
(1) تبيين كذب المفتري فيما نسب إلى أبي الحسن الأشعري: ص 152 أنظر: " أبو الحسن الأشعري ": ص 214.(3/1209)
قراءته، فإليك مضمون ما فيه بحروفه، أسأل الله النفع للجميع.
عقيدته كما بينها في كتابه "الإبانة":
قال رحمه الله تعالى:
باب في إبانة قول أهل الحق والسنة
فإن قال لنا قائل: قد أنكرتم قول المعتزلة والقدرية والجهمية والحرورية والرافضة والمرجئة، فعرفونا قولكم الذي به تقولون وديانتكم التي بها تدينون. قبل له: قولنا الذي نقول به وديانتنا التي ندين بها: التمسك بكتاب ربنا عز وجل وبسنة نبينا صلى الله عليه وسلم وما روى عن الصحابة والتابعين وأئمة الحديث، ونحن بذلك معتصمون. وبما كان يقول به أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل - نضر الله وجهه ورفع درجته وأجزل مثوبته - قائلون ولمن خالف قوله مجانبون، لأنه الإمام الفاضل والرئيس الكامل، الذي أبان الله به الحق ورفع به الضلال وأوضح به المنهاج، وقمع به بدع المبتدعين وزيغ الزائغين وشك الشاكين، فرحمة الله عليه من إمام مقدم وخليل معظم مفخم وعلى جميع أئمة المسلمين.
وجملة قولنا: أنا نقر بالله وملائكته وكتبه ورسوله وما جاء من عند الله وما رواه الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا نرد من ذلك شيئا، وأن الله عز وجل إله واحد لا إله إلا هو، فرد صمد لم يتخذ صاحبه ولا ولدا وأن محمدا عبده ورسوله أرسله بالهدى ودين الحق، وأن الجنة حق والنار حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور وأن الله استوى على عرشه كما قال: (الرحمن على العرش استوى} (1) ، وأن له وجها كما قال: (ويبقى
_________
(1) سورة طه: 5.(3/1210)
وجه ربك ذو الجلال والإكرام} (1) ، وأن له يدين بلا كيف كما قال: (خلقت بيدي} (2) ، وكما قال: (بل يداه مبسوطتان} (3) ، وأن له عينا بلا كيف كما قال: (تجري بأعيننا} (4) ، وأن من زعم أن أسماء الله غيره كان ضالا، وأن لله علما كما قال: (أنزله بعلمه} (5) ، وكما قال: (وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه} (6) .
ونثبت له السمع والبصر ولا ننفي ذلك كما نفته المعتزلة والجهمية والخوارج، ونثبت أن لله قوة كما قال: (أو لم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة} (7) ، ونقول: إن كلام الله غير مخلوق وإنه لم يخلق شيئا إلا وقد قال له: كن فيكون كما قال: (إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون} (8) وإنه لا يكون في الأرض شيء من خير وشر إلا ما شاء الله، وإن الأشياء تكون بمشيئة الله عز وجل وإن أحدا لا يستطيع أن يفعل شيئا قبل أن يفعله الله ولا نستغني عن الله ولا نقدر على الخروج من علم الله عز وجل، وإنه لا خالق إلا الله، وإن أعمال العبد مخلوقة لله مقدورة كما قال: (خلقكم وما تعملون} (9) وإن العباد ولا يقدرون أن يخلقوا شيئا وهم يخلقون كما قال:
_________
(1) سورة الرحمن: 27.
(2) سورة ص: 75.
(3) سورة المائدة: 64.
(4) سورة القمر: 14.
(5) سورة النساء: 166.
(6) سورة فاطر: 11.
(7) سورة فصلت: 15.
(8) سورة يس: 82.
(9) سورة الصافات: 96.(3/1211)
(هل من خالق غير الله} (1) ، وكما قال: (لا يخلقون شيئا وهم يخلقون} (2) ، وكما قال: (أفمن يخلق كمن لا يخلق} (3) ، وكما قال: (أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون} (4) ، وهذا في كتاب الله كثير.
وإن الله وفق المؤمنين لطاعته ولطف بهم ونظر إليهم وأصلحهم وهداهم، وأضل الكافرين ولم يهدهم ولم يلطف بهم بالإيمان كما زعم أهل الزيغ والطغيان، ولو لطف بهم وأصلحهم لكانوا صالحين، ولو هداهم لكانوا مهتدين كما قال تبارك وتعالى: (من يهد الله فهو المهتدي ومن يضلل فأولئك هم الخاسرون} (5) ، وإن الله يقدر أن يصلح الكافرين ويلطف بهم حتى يكونوا مؤمنين ولكنه أراد أن يكونوا كافرين كما علم، وإنه خذلهم وطبع على قلوبهم، وإن الخير والشر بقضاء الله وقدره وإنا نؤمن بقضاء الله وقدره خيره وشره حلوه ومره ونعلم أن ما أخطأنا لم يكن ليصيبنا وأن ما أصابنا لم يكن ليخطئنا، وأن العباد لا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا إلا ما شاء الله، وأنا نلجئ أمورنا إلى الله ونبث الحاجة والفقر في كل وقت إليه، ونقول: إن القرآن كلام الله غير مخلوق وإن من قال بخلق القرآن فهو كافر.
وندين بأن الله تعالى يرى في الآخرة بالأبصار كما يرى القمر ليلة البدر، يراه المؤمنون كما جاءت الروايات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونقول: إن الكافرين محجوبون عنه إذا رآه المؤمنون في الجنة، كما قال الله عز وجل: (كلا إنهم
_________
(1) سورة فاطر: 3.
(2) سورة النحل: 20.
(3) سورة النحل 17.
(4) سورة الطور: 35.
(5) سورة الأعراف: 178.(3/1212)
عن ربهم يومئذ لمحجوبون} (1) ، وإن موسى عليه السلام سأل الله عز وجل الرؤية في الدنيا، وإن الله سبحانه وتعالي تجلى للجبل فجعله دكا فأعلم بذلك موسى أنه لا يراه في الدنيا، ونرى بألا نكفر أحدا من أهل القبلة بذنب يرتكبه كالزنا والسرقة وشرب الخمور، كما دانت بذلك الخوارج وزعمت أنهم كافرون. ونقول: إن من عمل كبيرة من هذه الكبائر مثل الزنا والسرقة وما أشبههما مستحلا لها غير معتقد لتحريمها كان كافرا.
ونقول: إن الإسلام أوسع من الإيمان وليس كل إسلام إيمان، وندين بأنه يقلب القلوب وأن القلوب بين أصبعين من أصابع الله عز وجل (2) ، وأنه عز وجل يضع السموات على أصبع والأرضين على أصبع (3) كما جاءت الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وندين بألا ننزل أحدا من أهل التوحيد والمتمسكين بالإيمان جنة ولا نارا إلا من شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة، ونرجو الجنة للمذنبين ونخاف عليهم أن يكونوا بالنار معذبين.
ونقول: عن الله عز وجل يخرج قوما من النار بعد أن امتحشوا بشفاعة محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم تصديقا لما جاءت به الروايات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ونؤمن بعذاب القبر وبالحوض، وأن الميزان حق والصراط حق، والبعث بعد الموت حق، وأن الله عز وجل يوقف العباد في الموقف ويحاسب المؤمنين.
_________
(1) سورة المطففين: 15.
(2) أخرجه مسلم 16/155، والترمذي 5/538، وابن ماجة 1/72، وأحمد 6/315.
(3) البخاري 8/550، ومسلم 18/272.(3/1213)
وأن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص، ونسلم الروايات الصحيحية في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم التي رواها الثقات عدل عن عدل حتى تنتهي إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وندين (1) بحب السلف الذين اختارهم الله عز وجل لصحبه نبيه صلى الله عليه وآله وسلم، ونثني عليهم بما أثني الله به عليهم ونتولاهم أجمعين.
ونقول: إن الإمام الفاضل بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر الصديق رضوان الله عليه، وأن الله أعز به الدين وأظهره على المرتدين وقدمه المسلمون للإمامة كما قدمه رسول الله صلى الله عليه وسلم للصلاة، وسموه بأجمعهم خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم عمر ابن الخطاب رضي الله عنه، ثم عثمان بن عفان رضى الله عنه وأن الذين قاتلوه قاتلوه ظلما وعدوانا، ثم علي بن أبي طالب رضى الله عنه، فهؤلاء الأئمة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلافتهم خلافة النبوة، ونشهد بالجنة للعشرة الذين شهد لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بها، ونتولى سائر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ونكف عما شجر بينهم. وندين لله بأن الأئمة الأربعة خلفاء راشدون مهديون فضلاء لا يوازيهم في الفضل غيرهم.
ونصدق بجميع الروايات التي يثبتها أهل النقل من النزول إلى السماء الدنيا وأن الرب عز وجل يقول: هل من سائل؟ هل من مستغفر؟ وسائر ما نقلوه واثبتوه خلافا لما قاله أهل الزيغ والتضليل، ونعول فيما اختلفنا فيه على
_________
(1) منها قوله - صلى الله عليه وسلم -: "يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله وفى فلبه وزن شعيرة من خير، ويخرج من النار من قال: لا إله إلا الله وفى قلبه وزن ذرة من خير، ويخرج من النار وفى قلبه وزن ذرة من خير" وفى رواية: "من إيمان" بدل "من خير". البخاري 1/127 في " بابا زيادة الإيمان ونقصانه".(3/1214)
كتاب ربنا وسنة نبينا صلى الله عليه وآله وسلم وإجماع المسلمين وما كان في معناه، ولا نبتدع في دين الله بدعة لم يأذن الله بها، ولا نقول على الله ما لا نعلم ونقول: إن الله عز وجل يجئ يوم القيامة كما قال: (وجاء ربك والملك صفا صفا} (1) ، وإن الله عز وجل يقرب من عباده كيف شاء كما قال: {ونحن أقرب إليه من حبل الوريد} (2) ، وكما قال: (ثم دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى} (3) ، ومن ديننا أن نصلي الجمعة والأعياد وسائر الصلوات والجماعات خلف كل بر وغيره، كما روى عن عبد الله بن عمر أنه كان يصلي خلف الحجاج.
وإن المسح على الخفين سنة في الحضر والسفر خلافا لقول من أنكر ذلك، ونرى الدعاء لأئمة المسلمين بالصلاح ولإقرار بإمامتهم، وتضليل من رأى الخروج عليهم إذا ظهر منهم ترك الاستقامة.
وندين بترك الخروج عليهم بالسيف وترك القتال في الفتنة، ونقر بخروج الدجال كما جاءت به الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونؤمن بعذاب القبر ومنكر ونكير ومسائلتهما المدفونين في قبورهم (4) ، ونصدق بحديث المعراج ونصحح كثيرا من الرؤيا في المنام ونقر أن لذلك تفسيرا، ونرى الصدقة عن موتي المسلمين والدعاء لهم ونؤمن بأن الله ينفعهم بذلك، ونصدق بأن في الدنيا سحره وسحرا وأن السحر كائن موجود في الدنيا، وندين بالصلاة على من
_________
(1) سورة الفجر: 22.
(2) سورة ق: 16.
(3) سورة النجم: 8، 9.
(4) المساءلة تتم حتى ولو لم يقبر الشخص على صورة يعلمها الله تعالى.(3/1215)
مات من أهل القبلة برهم وفاجرهم وتوارثهم.
ونقر أن الجنة والنار مخلوقتان، وأن من مات أو قتل فبأجله مات أو قتل وأن الأرزاق من قبل الله عز وجل يرزقها عبادة حالا وحراما، وأن الشيطان يوسوس للإنسان ويشككه ويتخبطه خلافا لقول المعتزلة والجهمية، كما قال الله عز وجل: (الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس} (1) ، وكما قال: (من شر الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس من الجنة والناس} (2) ، ونقول: إن الصالحين يجوز أن يخصهم الله عز وجل بآيات يظهرها عليهم.
وقولنا في أطفال المشركين: إن الله يؤجج لهم في الآخرة نارا ثم يقول لهم: اقتحموها كما جاءت بذلك الرواية، وندين لله عز وجل بأنه يعلم ما العباد عاملون وإلى ما هم صائرون، وما كان يكون وما لا يكون أن لو كان كيف كان يكون، وبطاعة الأئمة ونصيحة المسلمين، ونرى مفارقة كل داعية إلى بدعة ومجانبة أهل الأهواء، وسنحتج لما ذكرناه من قولنا وما بقى منه مما لم نذكره بابا بابا وشيئاً شيئاً إن شاء الله تعالى (3) .
4 - أشهر زعماء الأشعرية الذين ينتسبون إلى أبي الحسن الأشعري:
لقد انتسب إلى الأشعري جماعة من المشاهير كان لهم الباع الطويل في تحرر المذهب الذي ينتسبون إليه. إلا إنهم لم يكونوا على طريقة أبي الحسن
_________
(1) سورة البقرة: 285.
(2) سورة الناس: 4-6.
(3) الإبانة.(3/1216)
الأشعري والمتقدمين من أصحابه في إثبات الصفات.
ومن كبار أولئك الرجال:
أبو بكر الباقلاني المتوفي سنة 403 هـ.
البيضاوي المتوفي سنة 701 هـ.
الشريف الجرجاني المتوفي سنة 816 هـ.
وكذا الإمام الجويني (الأب) ، وهو أبو محمد عبد الله بن يوسف الجويني والد إمام الحرمين المتوفى سنة 438 هـ.
وكذا ابنه إمام الحرمين أبو المعالي عبد الملك بن عبد الله بن يوسف المتوفى سنة 478 هـ. والجويني نسبة إلى بلدة في فارس تسمى " جوين" وقد سمى إمام الحرمين، لأنه مكث أربع سنوات ثم عرج على المدينة المنورة وكان يدرس فيهما ويناظر.
ومن أولئك أيضا: الغزالي - أبو حامد محمد بن محمد بن محمد بن أحمد الغزالي الطوسي الملقب حجة الإسلام، توفى سنة 505 هـ وهو ينسب إلى طوس.
ومنهم: أبو الفتح محمد بن أبي القاسم عبد الكريم الشهرستاني ولد سنة 467 هـ وتوفى سنة 548 هـ.
ومنهم: أبو عبد الله محمد بن عمر بن الحسين الطبرستاني، الرازي المولد، الملقب فخر الدين، المعروف بابن الخطيب، الفقيه الشافعي.
وأما قدماء الأشاعرة الذين كانوا على مذهب أبي الحسن الأشعري في إثبات صفات الله تعالي فمنهم: الباقلاني: أبو بكر محمد بن الطيب،(3/1217)
والطبري: أبو الحسن الطبري، والباهلي: أبو عبد الله بن مجاهد، وهؤلاء مشوا على الطريقة السلفية في باب الصفات (1) ، ولكن من جاء بعدهم ممن ينتسب إلى الأشعري تركوا طريقتهم وأولوا الصفات تأويلات باطلة، ومنهم من رجع أخيرا إلى مذهب السلف وذموا ما كانوا عليه من الانحراف وهم بعض من قدمنا أسماءهم فيما يذكر عنهم عند وفاتهم.
5 - موقف الأشاعرة من صفات الله تعالى
وقف الأشاعرة بالنسبة للإيمان بصفات الله تعالى موقفا مضطربا مملوءا بالتناقض، ولم يتمكنوا من الدخول في المذهب السلفي كاملا، إذ وافقوا السلف في جانب وخالفوهم في جانب آخر، ونفس المسلك هذا أيضا تم مع مذهب المعتزلة، فقد وافقوهم في جانب وخالفوهم في آخر.
ومن هنا وقفوا بين خصمين، فألزمهم السلف بإلزامات كثيرة تنقض ما ذهبوا إليه بالنسبة للإيمان بصفات الله تعالى، كما ألزمهم المعتزلة أيضا وشنعوا عليهم، ولو رضوا بمذهب الأشعري وساروا في طريقة تماما لما وجد أحد طريقا إلى ذمهم في باب صفات الله تعالى كما هو حالهم اليوم.
وموقف الأشاعرة في باب الصفات حاصله ما يلي:
ذهب الأشاعرة إلى تقسيم الصفات الإلهية إلى: صفات نفسية راجعة إلى الذات أي إلى وجود الله تعالى ذاته، وإلى صفات سلبية، واختاروا لها خمسة أقسام:
وحدانية الله تعالى، والبقاء، والقدم، ومخالفته عز وجل للحوادث، وقيامه عز وجل بنفسه. وسموها سلبية، لأن كل صفة منها تسلب في إثباتها
_________
(1) أنظر الصفات الخير بين الإثبات والتأويل ص 257 والمصادر السلفية التي أسند إليها.(3/1218)
كل ما يضادها أو كل ما لا يليق بالله تعالى.
كما يقسمون الصفات كذلك إلى سبعة أقسام يسمونها " صفات المعاني " وهى: الحياة، والعلم، والقدرة، والإرادة، والكلام، والسمع، والبصر، وهذه الصفات يثبتونها لله تعالى صفات ذاتية لا تنفك عن الذات يؤمنون بها كما يليق بالله تعالى. ويسمونها أحيانا الصفات الذاتية والوجودية.
وقد يجمع الأشاعرة تبعا للكلابية بين المتناقضات في صفات الله تعالى، فهم يقرون أنه لا يقال: إن صفات الله تعالى عين ذاته، ولا يقال: أنها غير ذاته، والذي حيرهم فيها هو أن الصفة للشيء ليست هي ذاته وليست هي غيره، لأنها لا تنفك.
وأقسام الصفات الثابتة لله تعالى هي كما يلي:
صفات ذاتية: وهى التي لا تنفك عن ذات الله تعالى، كالعلم والحياة والقدرة والسمع والبصر.. الخ.
وصفات فعلية: وهى التي تتعلق بمشيئته وقدرته بمعنى إن شاء فعلها وإن شاء لم يفعلها، كالاستواء على العرش والنزول والمجيء: إلى أخره.
وبعض الصفات تجمع الأمرين، فتكون ذاتية باعتبار، وفعلية باعتبار آخر، مثل صفة الكلام فهي ذاتية باعتبار أن الله تعالي لم يزل ولا يزال يتكلم لا تنفك عن ذاته هذه الصفة، وهى فعلية باعتبار أن الله يتكلم حسب مشيئته.
ومن جهة أخرى تنقسم الصفات الثابتة لله تعالى إلى:
صفات عقلية: ثبتت بالنص وبالعقل أيضا، كالعلم، والكلام، والسمع، والبصر، والإرادة، والبقاء، والحياة، والقدرة، والوجود، والوحدانية.(3/1219)
صفات خبرية: وهى التي ثبتت بالخبر - السمع - دون النظر إلى ثبوتها بالعقل، كالاستواء، والنزول، والوجه، واليدين.
وهذه الصفات تشمل: الصفات الفعلية الاختيارية، المتعلقة بمشيئة الله تعالى، كالنزول، والاستواء، والرضى، والغضب، والإتيان، والمجيء، والفرح والسخط.
وهذه الصفات يقال لها: قديمة النوع، باعتبار أن الله تعالى لم يزل متصفا بها، حادثة الآحاد، باعتبار تجدد وقوعها.
وقد ذهبت الكلابية وتبعهم الأشعرية إلى نفي الصفات الفعلية عن الله تعالى ويؤولون ما ورد منها بزعم أنها لا تليق بالله تعالى، لإشعارها بالأعراض التي لا تقوم إلا بالجسم، ومع هذا فهم يثبتون له تعالى الصفات الذاتية اللازمة له. وأنكروا قيام الصفات الفعلية الاختيارية به، وأوهموا الناس أن الحامل لهم على هذا هو تنزيه الله تعالى عن قيام الحوادث به.
بخلاف قدماء الأشاعرة كالباقلاني: أبو بكر محمد بن الطيب، والطبري: أبو الحسن الطبري، والباهلي: أبو عبد الله بن مجاهد الذين كانوا يثبتون الصفات الخبرية على ظاهرها ويؤولونها، تبعا لأبي الحسن الأشعري وعلى طريقة الإمام أحمد بن حنبل وغيره من أهل الحديث.
وفى ترجمة العلماء لأبي الحسن الأشعري وبيان رجوعه إلى مذهب أهل السنة والجماعة من النصوص التي تثبت ذلك ما لا يخفي على طلاب العلم.
ولكن المتأخرين من الأشاعرة كالغزالي، والجويني، والرازي، والتفتازاني،(3/1220)
والجرجاني - كانوا يذهبون إلى تأويل الصفات الخبرية ونفي معانيها الحقيقية وأنها مجازات، فالاستواء بمعنى الاستيلاء، واليد: القدرة أو النعمة، والنزول: نزول الملائكة، والوجه: الذات والعين والحفظ، وزعموا أن إثبات هذه الصفات على ظاهرها يؤدي إلى التشبيه والتجسيم، وتركوا ما قرره الأشعري في وجوب إثبات هذه الصفات كما يليق بجلال الله وعظمته. وهو أمر ينافي انتسابهم إليه وإلى أصحابه المتقدمين كالباقلاني وابن مجاهد والطبري الذين ساروا على طريقة شيخهم السلفي.
وينبغي الحذر مما درج عليه بعض الكتاب من زعم أن الأشعري قد ترك المذهب السلفي ورجع عنه، وكون مذهبا وسطا ليس هو على طريقة المعتزلة ولا هو على طريقة أهل السنة أصحاب الحديث، وأن كتابه الإبانة كان على طريقة هؤلاء بينما اللمع هو آخر ما كتبه، وقد استقر عليه كما يزعم هؤلاء. تجد هذا القول عند الدكتور حمودة غرابة في كتابه " أبو الحسن الأشعري " وفى مقدمته لكتاب اللمع، كما تجده أيضا عند الدكتور عبد العزيز سيف نصر في رسالته " العقيدة الإسلامية بين التأويل والتفويض ". ولعلهما تأثرا بما قرره قبلهما زاهد الكوثري.
وقد رد عليهما الشيخ عثمان بن عبد الله آدم (1) ودفع تصورهما وأنهما أخطآ الحقيقة، ولم يطلعا على ما قرره علماء الاسم والحقائق التي أوردوها على رجوع الأشعري، وعلى أن كتابه الإبانة هو آخر ما كتب وآخر ما استقر عليه.
وحينما يذهب الأشاعرة إلى إثبات السبع الصفات، وهى: الحياة،
_________
(1) أنظر: الصفات الخبرية بين الإثبات والتأويل ص 281.(3/1221)
والعلم، والقدرة، والسمع، والبصر، والكلام، والإرادة - حينما يثبتون هذه الصفات كما يليق بالله تعالى من أنه حي بحياة وعليم بعلم وقدير بقدرة.. الخ، ثم يردون بقية الصفات الأخرى ويؤولونها تأويلات بعيدة عن حقيقتها إنما يسلكون مسلكا متناقضا لا مبرر له، إذ يقال لهم:
يلزمكم من إثبات الصفات السبع على ما يليق بالله أن تقولوا كذلك في بقية الصفات الخبرية، من الرحمة، والغضب، والفرح، والضحك، والمجيء، والنزول.. الخ، إنها ثابتة لله تعالى كما جاء في كتابه الكريم على ما يليق بالله تعالي دون أن يلحظ فيها المشابهة بخلقه، لا في علمه ولا في رحمته، فإن الذي يلحظ في إثبات صفة الفرح أو الرحمة بخلقه، يلزمه أن يلحظ المماثلة بخلقه في إثبات السمع والبصر والحياة أيضا، وإلا كان تفريقا بلا دليل، فيجب أن يثبتوا كل الصفات السمعية على حد سواء، وأن ينزهوا بعد ذلك في كل صفة.
وأما إجابتهم لمن نازعهم وألزمهم بالإلزام السابق بأن تلك الصفات السبع دل عليها العقل بخلاف ما عداها فهو قول غير صحيح وحجة غير مقبولة، وهو قول في مقابلة النصوص، وتقديم العقل على النقل ليس بتسليم للنصوص ورضى بها وإذعانا لله تعالى فيها.
وإثبات الأشعرية لسبع صفات ونفي ما عداها بالتأويلات، جعلهم بين المعتزلة وأهل السنة " فلا للسلف اتبعوا ولا مع الجهمية بقوا " (1) ، وقال شيخ الإسلام عن طرق الأشعرية:
" ولهذا لا يوجد لنفاة بعض الصفات دون بعض، الذين يوجبون فيما نفوه
_________
(1) أنظر: التحفة المهدية شرح التدمرية ص 80.(3/1222)
إما التفويض، وإما التأويل المخالف لمقتضى اللفظ - قانون مستقيم، فإذا قيل لهم: لم تأولتم هذا وأقررتم هذا والسؤال فيهما واحد؟ لم يكن لهم جواب صحيح " (1) بل جوابهم إما أن يلجؤوا إلى التأويل الباطل، وإما أن يدعوا عدم العلم بمعانيها وتفويض ذلك، وكلاهما جواب باطل فإن التأويل الباطل مرفوض والتفويض في المعاني ليس من مذهب السلف.
كما أنهم وقعوا في التناقض حينما ينفقون بعض الصفات على أساس أن إثباتها يستلزم مشابهة الله بخلقه، لأن المخلوق هو الذي يوصف بتلك الصفات، ولكنهم لا يجعلون هذه قاعدة عامة، إذ ينقضونها بإثبات السبع الصفات على ما يليق بالله، حتى وإن وجد مفهوم الاشتراك فيها بين الله وبين خلقه فإن هذا الاشتراك لا يوجب المماثلة.
وقولهم: إن الاشتراك في تلك الصفات لا يوجب المماثلة كلام صحيح، لكنهم لا يجرونه في كل الصفات، فلزمهم التناقض والتفريق بين المتماثلات، من هنا ألزمهم المعتزلة أن ينفوا الصفات كلها، لأنها تدل على التشبيه فأجابهم الأشاعرة بأن إثبات تلك الصفات السبع إنما هو على وجه لا يستلزم المشابهة، فألزمهم أهل السنة أن يقولوا هذا القول في كل الصفات وهو ما يدل عليه العقل والشرع.
وقد هدى الله السلف فآمنوا بكل ما جاء عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم، فنفوا عنه كل ما نفاه وأثبتوا له كل ما أثبته، بلا تنطع ولا تأويلات باطلة، وقد علموا أن كل ما أخبر الله به فليس فيه نقص بأي وجه من الوجوه فهو أعلم بنفسه،
_________
(1) الرسالة التدميرية ص 106.(3/1223)
وما جرى عليه السلف الصالح من الصحابة فمن بعدهم، من أن كل صفة وردت في القرآن لله تعالي فهي صفة كمال، وقولهم في كل صفة الجواب المأثور عن السلف: " هذه الصفة معلومة وكيفيتها مجهولة والسؤال عنها بدعة " توفيق ظاهر من الله تعالي لهم، فمن لم يرضى بما رضيه الله لنفسه فقد نازع الله تعالى وقال عليه بلا علم وسلك سبيل غير المؤمنين.
* * * * * * * * * * * * * * * * **(3/1224)
الباب الخامس عشر
الماتريدية
وفيه المطالب الآتية:
1 - التعريف بمؤسس الماتريدية:
تنتسب هذه الطائفة إلى أحد علماء القرن الثالث الهجري وهو محمد بن محمد بن محمود المعروف بأي منصور الماتريدي، ولد في ما تريد وهى من بلدان سمرقند فيما وراء النهر، ولا يعرف على وجه اليقين سنة مولده، وقد توفى سنة 333 هـ على أرجح القوال (1) .
تلقى علوم الفقه الحنفي والكلام على أحد كبار علماء ذلك العصر وهو نصر بن يحيى البلخي المتوفى سنة 368 هـ، وغيره من كبار علماء الأحناف، كأبي نصر العياض وأبي بكر أحمد الجوزجاني وأبي سليمان الجوزجاني، حتى أصبح من كبار علماء الأحناف وقد تتلمذ عليه بعض المشاهير في علم الكلام.
لقد كان لأبي منصور مناظرات ومجادلات عديدة مع المعتزلة في الأمور التي خالفهم فيها، وقد اتحد في الهدف مع الأشعري في محاربة المعتزلة وكان معاصرا له، وأما في العقائد فكان على اتفاق مع ما قرره أبو حنيفة في الجملة، مع مخالفته في أمور وله مؤلفات كثيرة في مختلف الفنون، منها: بيان وهم المعتزلة تأويلات أهل السنة - الدرر في أصول الدين - الرد على تهذيب الكعبي في الجدل - عقيدة الماتريدية - كتاب التوحيد وإثبات الصفات - كتاب الجدل - مأخذ الشرائع في
_________
(1) أنظر الماتريدية للشمس الأفغاني جـ1 ص 214.(3/1227)
أصول الفقه - المقالات.
وكان يلقب فيما وراء النهر بإمام السنة وبإمام الهدى (1) ، وقد وقف في وجه المعتزلة الذين كانوا فيما وراء النهر إلا أنه كان قريبا منهم في النظر إلى العقل، ولم يغل فيه غلوهم، بل اعتبره مصدرا أخر إضافة إلى المصدر الأساسي وهو النقل، مع تقدم النقل على العقل عند الخلاف بينهما (2) إلا أنه يعتبر معرفة الله واجبة بالعقل قبل ورود السمع وإن الله يعاقبه على عدم هذه المعرفة.
وقد أوجز الشيخ أحمد عصام الكاتب عقيدة الماتريدي، من خلال كتاب الماتريدي في التوحيد المسمى "كتاب التوحيد " الذي حققه الدكتور فتح الله خلف عن نسخة مخطوطة يتيمة في مكتبة جامعة كمبردج بإنجلترا، وقد عرضه الدكتور المذكور في مجلة تراث الإنسانية المجلد 9 العدد 2، كما أن تحققه لكتاب التوحيد نشر في بيروت سنة 1970م.
ثم قال أحمد عصام عن كتاب التوحيد للماتريدي بتحقيق الدكتور فتح الله خلف: " وسنعتمد عليه في كلامنا على عقائد الماتريدية، لأنه أفضل مصدر لهذه العقائد وأصدقها وأقربها، ولا عبرة بما فعله المتأخرون منهم ومن خطط الحابل بالنابل ".
وأنا بدوري سوف أختصر أيضا ما ذكره الشيخ أحمد عصام بقصد الاختصار والإشارة إلى عقيدة الماتريدي، ومن أراد التوسع في هذا فليرجع إلى كتاب التوحيد المذكور أو لمجلة تراث الإنسانية.
2 - أهم آراء الماتريدي إجمالاً:
1- لا يرى الماتريدي مسوغا للتقليد، بل ذمة وأورد الأدلة العقلية والشرعية
_________
(1) انظر: تاريخ المذاهب الإسلامية 1/197 بل هو إمام من أئمة الكلام والتأويل.
(2) هذا من باب الإخبار عن مذهب الماتريدي، وإلا فإن العقل السليم لا يعارض النقل الصحيح.(3/1228)
على فساده وعلى وجوب النظر والاستدلال.
2- يذهب في نظرية المعرفة إلى لزوم النظر والاستدلال، وأنه لا سبيل إلى العلم إلا بالنظر، وهو قريب من آراء المعتزلة والفلاسفة في هذا، ثم يذكر أدلة كثيرة على وجود الله، مستخدما أدلة المعتزلة والفلاسفة في حدوث الأجسام وأنها دليل على وجود الله.
3- يوافق في الاعتقاد في أسماء الله السلف، ويرى أن أسماء الله توقيفية، فلا نطلق على الله أي اسم إلا ما جاء به السمع، إلا أنه يؤخذ على الماتريدية أنهم لم يفرقوا بين باب الإخبار عن الله وبين باب التسمية فأدخلوا في أسمائه ما ليس منها كالصانع والقديم والشيء، والسلف يخالفونهم في هذا وقد عطل الماتريدية كثير من أسماء الله تعالى وأولوها.
4- يرى أن المؤمنين يرون ربهم والكفار لا يرونه، ويخالف الأشعري هنا في أن الماتريدي يرى أن الأدلة على إمكان رؤية الله تعالى عقلا غير ممكنة، بينما يستدل عليها أبو الحسن الأشعري بالعقل، إلا أنهم خالفوا السلف فنفوا المقابلة والجهة مطلقا، وذلك بسبب نفيهم عن الله علو الذات كما أن إثباتهم للرؤية ونفى الجهة والمقابلة فيه تناقض فإن الله تعالى يرى في جهة العلو.
5- هو أقرب ما يكون إلى السلف في سائر الصفات، فهو يثبت الاستواء على العرش وبقية الصفات دون تأويل لها ولا تشبيه، أي في الصفات التي تثبت عند الماتريدية بالعقل لكنهم يؤولون ما عداها، كما أنهم يعتقدون أن صفات الله لا هي هو ولا غيره وهو تناقض منهم.
6- في القضاء والقدر هو وسط بين الجبر والاختيار، فالإنسان فاعل(3/1229)
مختار على الحقيقة لما يفعله ومكتسب له وهو خلق لله، حيث يخلق للإنسان عندما يريد الفعل قدرة يتم بها، ومن هنا يستحق الإنسان المدح أو الذم على هذا القصد، وهذه القدرة يقسمها إلى قسمين:
قدرة ممكنة: وهى ما يسميها: لسلامة الآلات وصحة الأسباب.
وقدرة ميسرة، زائدة على القدرة الممكنة: وهى التي يقدر الإنسان بها على الفعل المكلف به مع يسر، تفضلا من الله تعالى.
يقول الماتريدي بخلق أفعال العباد، وهو يفرق بين تقدير المعاصي والشرور والقضاء بها وبين فعل المعاصي، فالأول من الله والثاني من العبد بقدرته واختياره وقصده. ويمنع أبو منصور من إضافة الشر إلى الله فلا يقال: رب في الأوراث والخبائث ولو أنه خالق كل شيء، وهذا الشق الأخير معروف عن السلف، أما تقسيمه القدرة وجعل العبد فاعلا باختياره وقصده وقدرته من وجه، ولو كان الله هو الفاعل من وجه آخر، فيه حيد عن مذهب السلف في ذلك، ونسبة الماتريدية الفعل إلى العبد يقصدون به أن الله لا يخلق فعل العبد إلا بعبد أن يريده العبد ويختاره فيصبح ذلك العمل كسبا له يجازي به حسب اختياره له وإرادته المستقلة له.
فى مسائل الإيمان: لا يقول بالمنزلة بين المنزلتين، ولا يقول بخروج مرتكب الكبيرة عن الإسلام. ويرى أن الإيمان هو التصديق بالقلب، دون الإقرار باللسان، ومن هنا يفترق الماتريدي عن السلف. وعنده لا يجوز الاستثناء في الإيمان، لأن الاستثناء يستعمل في موضع الشكوك والظنون. وهو كفر، وأهل السنة قالوا بجواز الاستثناء في الإيمان لأنه يقع على الأعمال لا على أصل الإيمان أو الشك في وجود الإيمان.(3/1230)
وبين الماتريدي والأشعري مسائل كثيرة اتفقوا فيها وأخرى اختلفوا فيها، فمما اختلفوا فيه (1) :
مسألة القضاء والقدر: فقال الماتريدية: إن القدر هو تحديد الله أزلا كل شيء بحده الذي سيوجد به من نفع، وما يحيط به من زمان ومكان، والقضاء: الفعل عند التنفيذ.
وقال الأشاعرة: إن القضاء هو الإرادة الأزلية المقتضية لنظام الموجودات على ترتيب خاص، والقدر: تعلق تلك الإرادة بالأشياء في أوقاتها المخصوصة أي أن الأشاعرة يرون أن المحبة والرضى والإرادة بمعني واحد، بينما يرى الماتريدية أن الإرادة لا تستلزم الرضى والمحبة.
واختلفوا في أصل الإيمان، فذهب الماتريدية إلى أنه يجب على الناس معرفة ربهم، ولو لم يبعث فيهم رسولا بينما ذهب الأشعرية إلى أن هذه المعرفة واجبة بالشرع لا بالفعل كما تعتقد الماتريدية.
وذهب الأشاعرة إلى عدم وجوب الإيمان وعدم تحريم الكفر قبل بعثه الرسل.
اختلفوا في صفة الكلام، فترى الماتريدية أن كلام الله لا يسمع وإنما يسمع ما هو عبارة عنه بينما يرى الأشاعرة جواز سماع كلام الله تعالى.
كما اختلفوا في زيادة الإيمان ونقصانه وشرطه.. الخ.
واختلفوا في المتشابهات كما أسلفنا.
_________
(1) لم يكن بين الماتريدي والأشعري أى تقارب بل وحتى مجرد المعرفة، وقد أرجع بعض الباحثين تقارب المذهب الأشعري مع الماتريدي إلى أخذ الجميع عن ابن كلاب لأن الأشعري كان كلابياً قبل أن يدخل مذهب السلف.(3/1231)
كما اختلفوا في النبوة هل يشترط فيها الذكورة؟ فجعلها الماتريدية شرطا، ونفى ذلك الأشاعرة عنها، واحتج هذا الفريق بقوله تعالي: (وأوحينا إلى أم موسى} (1) ، ورد الفريق الأول بأن الإيحاء هنا بمعناه الواسع وهو الإلهام.
وهذه المسألة الأخيرة وهى نبوة النساء وعدمها مما وقع فيه الخلاف بين العلماء إلا أن الحق أن النبوة مختصة بالرجال، وليس هنا موضع بحث هذه القضية بالتفضيل، وأرجو أن يتم الله ما قمت به من دراسة حول المتنبئين وبيان خطرهم في الفكر والمجتمع، حيث بينت فيما يتعلق بنبوة النساء وعدمها أقوال العلماء والراجح منها.
اختلفوا في التكليف بما لا يطاق، فمنعه الماتريدية وجوزه الأشاعرة.
اختلفوا في الحكمة والتعليل في أفعال الله تعالي فأثبتتها الماتريدية ونفتها الأشاعرة.
اختلفوا في التحسين والتقبيح، فقال به الماتريدية وأن العقل يدركهما، ومنع الأشاعرة ذلك، قالوا: إنما يتم التحسين والتقبيح بالشرع لا بالعقل.
اختلفوا في إيمان المقلد، فجوزته الماتريدية بينما منعه الأشاعرة واشترطوا أن يعرف المكلف كل مسألة بدليل قطعي عقلي (2) .
اختلفوا في معنى كسب العباد لأفعالهم، بعد اتفاقهم جميعا على أن أفعال العباد كلها مخلوقة لله تعالى، فعند الماتريدية يجب التفريق بين المؤثر في
_________
(1) سورة القصص: 7
(2) أنظر: عقيدة التوحيد في فتح الباري شرح صحيح البخاري ص 98، 101، وانظر " الماتريدية دراسة وتقويما " ص 498 - 501.(3/1232)
أصل الفعل والمؤثر في صفة الفعل فا لمؤثر في صفة الفعل قدرة الله تعالى والمؤثر في صفة الفعل قدرة العبد وهو كسبه واختياره.
وعند الأشاعرة: إن أفعال العبد الاختيارية واقعة بقدرة الله وحدها وليس للعبد تأثير فيها، بل أن الله يوجد في العبد قدرة واختيارا يفعل بهما إذا لم يوجد مانع فالفعل مخلوق لله والعبد مكتسب له.
وأما الاختلاف بين الماتريدية والمعتزلة فهو:
اختلفوا في مصدر التلقي هل هو العقل أو النقل؟ فذهب المعتزل إلى أنه العقل، وتوسط الماتريدية فقالوا بالعقل فيما يتعلق بالإلهيات والنبوات وأما فيما يتعلق باليوم الآخر فمصدره السمع، كذا سموا هذه المسائل ونحوها بالسمعيات.
الأسماء: أسماء الله عند المعتزلة ثابتة، ولكن بلا دلالة على الصفات، فقالوا: سميع بلا سمع، بصير بلا بصر.. إلى آخره.
وعند الماتريدية هي ثابتة بدلالاتها على الصفات الثابتة عندهم إلا اسم "الله" فليس له دلالة على شيء من الصفات. وقولهم باطل لا معنى له.
الصفات: نفي المعتزلة جميع الصفات القائمة بذات الله تعالي.
بينما أثبت الماتريدية ثمان صفات: العلم والقدرة والإرادة والسمع والبصر والكلام والتكوين.
القرآن: يعتقد المعتزلة أنه كلام الله محدث مخلوق. ويعتقد الماتريدية أنه كلام الله النفسي وأنه قديم أزلي غير مخلوق.
أفعال العباد. نفت المعتزلة خلق الله لها وإرادته لها، وإنما هي من(3/1233)
العباد، وأثبتت الماتريدية أنها خلق لله تعالى. وكسب من العباد لها.
الاستطاعة: نفي المعتزلة أن تكون مع الفعل بل هي قبلة، بينما أثبتتها الماتريدية قبل الفعل ومع الفعل.
الرؤية: نفتها المعتزلة وأثبتتها الماتريدية.
الجنة والنار: غير مخلوقتين ولا موجودتين الآن عند المعتزلة، بل تنشأ في يوم القيامة، وقالت الماتريدية بخلقهما الآن.
ينفي المعتزلة نعيم القبر وعذابه والميزان والصراط والحوض والشفاعة لأهل الكبائر. وأثبتت الماتريدية كل ذلك لورود السمع به.
نفت المعتزلة كرامات الأولياء وأثبتتها الماتريدية.
الإيمان عند المعتزلة قول واعتقاد وعمل، وعند الماتريدية هو التصديق بالقلب، ومنهم من زاد الإقرار باللسان.
مرتكب الكبيرة في منزله بين المنزلتين عند المعتزلة في الدنيا، وأما في الآخرة فهو في النار , وعند الماتريدية هو مؤمن كامل الإيمان مع أنه فاسق بمعاصية , وفي الآخر هو تحت المشيئة.
لا يصح إيمان المقلد عند المعتزلة، وذهب الماتريدية إلى صحته مع الإثم على ترك الاستدلال.
عند المعتزلة الإيمان يزيد وينقص، لإدخالهم الأعمال في مسمى الإيمان، وأما المسائل التي وافقت فيها الماتريدية المعتزلة فهى كما يلي:
القول بوجوب معرفة الله تعالى بالعقل.(3/1234)
الاستدلال على وجود الله بدليل الأعراض وحدوث الأجسام.
الاستدلال على وحدانية الله تعالى بدليل التمانع.
القول بعدم حجية خبر الآحاد في العقائد.
نفي الصفات الخبرية والاختيارية.
القول بعدم إمكان سماع كلام الله.
القول بالحكمة والتعليل في أفعال الله تعالي.
القول بالتحسين والتقبيح العقليين.
عدم جواز التكليف بما لا يطاق.
منع الاستثناء في الإيمان.
القول بأن معنى الإيمان والإسلام واحد (1)
وفيما سبق يتضح أن فرقة الماتريدية لم تنهج منهج السلف فيما يتعلق بالأمور الاعتقادية، وأن من وصفهم بأهل السنة أو العقدية السلفية فقد بالغ في ذلك وجانب الحكم الصحيح.
ولكى تتضح المقارنة بين عقيدة الماتريدية وبين العقيدة السلفية أحب أن تطلع أخي القارئ على هذا الملخص المفيد الذي تتضح به الفوارق بين عقيدة الماتريدية وبين عقيدة السلف بإيجاز، أكتفى به عن إطالة الردود لإيفائه بالغرض لموافقته القصد من تقديم هذه العجالة عن الماتريدية.
_________
(1) أنظر: " الماتريدية دراسة وتقويما " ص 503 - 508، ولمزيد من التفصيل عن الماتريدية أنظر كتاب " عداء الماتريدية للعقيدة السلفية " تأليف الشمس الأفغاني.(3/1235)
وقبل إيراد هذا الملخص إليك بيان الأسس والقواعد التي قام عليها مذهب الماتريدية:
مصدرهم في التلقي في الإلهيات والنبوات هو العقل.
معرفة الله واجبة بالعقل قبل ورود السمع.
القول بالتحسين والتقبيح العقليين.
القول بالمجاز في اللغة والقرآن والحديث.
التأويل والتفويض.
القول بعدم حجية أحاديث الآحاد في العقائد.
وأما بالنسبة لآرائهم التي خالفوا فيها السلف فمن أهمها ما يلي:
خلاف الماتريدية في مفهوم توحيد الألوهية، إذ هو عندهم بمعنى أن الله واحد في ذاته لا قسم له ولا جزء له، واحد في صفاته لا شبيه له، وواحد في أفعاله لا شريك له. وأهل السنة يخالفونهم في هذا المفهوم لتوحيد الألوهية.
اعتمدت الماتريدية في إثبات وجود الله تعالي على دليل حدوث الأعراض والأجسام، وهى طريقة باطلة لا اعتبار لها عند السلف، وإنما هي طريقة غلاة الفلاسفة وأهل الكلام المذموم.
يستدل الماتريدية على وحدانية الله تعالى بقوله عز وجل: (لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا فسبحان الله رب العرش عما يصفون} (1) وهو ما يسميه البعض بدليل التمانع، وقد خطأهم السلف في هذا المفهوم، مع إقرار
_________
(1) سورة الأنبياء: 22.(3/1236)
السلف بأن دليل التمانع صحيح في دلالته على امتناع صدور العالم عن إلهين، لكن ليس هذا هو المقصود من الآية الكريمة.
تثبت الماتريدية جميع الأسماء الحسنى لدلالة السمع عليها، إلا أنهم غلوا في الإثبات ومدلول السماء لعدم تفريقهم بين ما جاء في باب التسمية وبين ما جاء في باب الإخبار عن الله، فمدلول الاسم عندهم هو الذات وهذا خاص في اسم "الله" فقط، وأما ما عداه فمدلوله يؤخذ عندهم من الصفات التي أثبتوها فلم يقفوا على ما ثبت بالسمع فقط.
وقف الماتريديون في باب الصفات على إثبات بعض الصفات دون غيرها، فأثبتوا من الصفات: القدرة، العلم، الحياة، الإرادة، السمع، البصر، الكلام، التكوين، وذلك لدلالة العقل عليها عندهم، وهم تحكم باطل، وقد ألزمهم السلف بإثبات ما نفوه بنفس الدليل الذي أثبتوا به تلك الصفات الثمانية.
نفت الماتريدية جميع الصفات الخبرية الثابتة بالكتاب والسنة، لأن في إثباتها - بزعمهم - مخالفة للعقل الذي يرى في إثباتها ما يدعو إلى وصف الله تعالي بالتشبيه والتجسيم.
ولقد دحض السلف هذا المفهوم الباطل والاعتقاد الخاطئ، وكذلك نفوا ثبوت الصفات الاختيارية لله تعالى التي هي صفات الفعل اللازمة لله تعالي، لأنها كذلك تؤدي إلى التشبيه والتجسيم، وقد أبطل السلف هذا المفهوم وفندوا شبههم.
يعتقد الماتريديون أن كلام الله تعالي معنى واحد قديم أزلي، ليس له تعلق بمشيئة الله تعالي وقدرته، وأنه ليس بحرف ولا صوت، بل هو كلام(3/1237)
نفسي لا يسمع، بل المسموع منه إنما هو عبارة عنه، وهو اعتقاد باطل مخالف للكتاب والسنة ولما عليه السلف.
حصر الماتريديون الدليل على صدق الأنبياء في ظهور المعجزات على أيديهم، لأنها تفيد العلم اليقيني وحدها بزعمهم.
والسلف لا يختلفون في أن المعجزات دليل صحيح معتبر لصدق الأنبياء، ولكنهم يخالفونهم في حصر أدلة صدق الأنبياء في المعجزات فقط دون النظر إلى الأدلة الأخرى.
يرى الماتريديون أن كل المسائل المتعلقة باليوم الآخر لا تعلم إلا بالسمع، والسلف يخالفونهم في هذا، ويقولون: إن تلك المسائل علمت بالسمع ودل عليها العقل أيضا.
أثبت الماتريديون رؤية الله تعالي، ولكنهم نفوا الجهة والمقابلة، وخالفهم السلف واعتبروا قول الماتريدية تناقضاً واضطراباً في مفهومهم للرؤية، ويؤدي إلى إثبات ما لا يمكن رؤيته، وإلى نفي جهة العلو المطلق الثابت لله تعالي.
اعتبر السلف ما ذهب إليه الماتريديون في خلق أفعال العباد اعتقادا خاطئا لما فيه من إثبات إرادة للعباد مستقلة - عن مشيئة الله تعالى، وأن خلق الله لأفعالهم إنما هو تبع لإرادتهم غير المخلوقة، والسلف يعتقدون أن لله تعالى وحده المشيئة وأن للعباد مشيئة لا تخرج عن مشيئة الله تعالى.
ذهبت الماتريدية إلى أن الإيمان هو التصديق بالقلب فقط، وقال بعضهم: إنه التصديق بالقلب والإقرار باللسان ومنعوا زيادته ونقصانه(3/1238)
وحرموا الاستثناء فيه ومنعوا التفريق بين مفهوم الإيمان والإسلام.
وخالفهم السلف في كل ذلك فإن الإيمان عندهم هو الإقرار باللسان والتصديق بالجنان والعمل بالأركان وأنه يزيد وينقص ويجوز الاستثناء فيه لعدم جواز تزكية النفس. وأما الإسلام والإيمان فإنهما متلازمان، إذا اجتمعا افترقا وإذا افترقا اجتمعا كما هو الحال في مفهوم الفقير والمسكين ونحو ذلك.
13- يرى الماتريديون أن الفاسق مؤمن كامل الإيمان، بينما يرى السلف أنه مؤمن بإيمان فاسق بكبيرته، فلا يسلبون منه الإيمان ولا يثبتون له الكمال فيه. (1)
* * * * * * * * * * * * * * * * **
_________
(1) لقد اهتمت كتب العقيدة ببيان تفاصيل كل تلك المسائل، وهى مسائل طويلة تحتاج إلى دراسة مطولة وما أثبته هنا يكفي إذ الغرض هو الإشارة والإيجاز.
أنظر: " الماتريدية دراسة وتقويما" ص 514 - 517 وتفصيل ذلك في هذا الكتاب الذي تخصص في دراسة الماتريدية بالإضافة إلى المراجع التي ذكرناها سابقا.(3/1239)
الباب السادس عشر
دراسة أهم المسائل التي اتفق عليها أهل الكلام
من الأشعرية والماتريدية والمعتزلة والجهمية
1 - تقديم العقل على النقل:
من المساوئ التي ابتلى بها بعض المنتسبين إلى الإسلام تقديس العقل واعتماده مصدراً أعلى من كلام خالق العقل. وقد لبس عليهم إبليس فرأوا أنهم على صواب، وقويت في نفوسهم شبه الملاحدة أعداء الدين، فارتكبوا هذا الجرم الشنيع، ورأوا أنه إذا تعارض النقل والعقل في شيء فإن العقل هو المقدم، وذلك عند الجمهية والمعتزلة وجمهور الأشعارة المتأخرين، ظانين أنه يوجد بالفعل تعارض بين العقل السليم والنص الصحيح - حسب زعمهم - ولهم حجج في تقديم العقل على النقل وهى شبه لا تسلم لهم، ومنها:
أن العقل هو الأصل والأساس للنقل وإلا لم يرد النقل.
أن الدلالة العقلية قطعية بينما الدلالة النقلية ظنية.
أن معرفة الله تعالى لا تنال إلا بحجة العقل وهى أصل وما عداها فرع، وهذا الأصل إنما قام على العقل، فلو قدمنا النقل لكان من باب تقديم الفرع على الأصل فالعقل هو الأساس، فلو حكم باستحالة الشيء وحكم السمع(3/1243)
بخلافه فيجب تأويل السمع، ليتوافق مع العقل، فإن هو الذي شهد بصدق الشرع ولم يعرف الشرع إلا بالعقل، فمن كذب العقل فقد كذب الشرع والعقل معاً سواء كان في الصفات أو في غيرها من الأخبار، وما ورد من آيات الصفات في القرآن الكريم ينبغي عرضها على العقل، فإذا عارضها وجب تأويلها لتوافق العقل أو تفويض عملها إلى الله.
إن صدق الأنبياء في إخبارهم عن الله لا يتوقف على النقل بل يتوقف على العقل، لأن النقل لا يقبل إلا أن يكون عن الأنبياء فلو توقف صدق الأنبياء على النقل للزم الدور.
ما ثبت بالتواتر وخالفه العقل إما أن يؤول أو يفوض، وما ثبت بأخبار الآحاد فإنه لا يقبل بأي حال في العقائد
الرد عليهم:
مهما حاول دعاة تقديم العقل على النقل من سرد المبررات لقبول ذلك، فإن تلك المحاولات والاحتجاجات والجداول والخصومة، غير مقبولة عند من وفقه الله لمعرفة دينة، وابتعد عن الوساوس التي جاء بها علم الكلام، وهذه المسألة على بساطة الرد عليها قد أخذت حيزاً واسعاً من الجدال والخصومة بين المثبتين والنافين، إلا أنه يمكن إيجاز الرد عليهم فيما يلى:
هل يوجد بالفعل تعارض بين العقل السليم والنقل الصحيح؟
الجواب: لا يوجد تعارض بين العقل والنقل، فإن النقل وهى النصوص الشرعية إذا صحت من كتاب الله عز وجل أو من سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، لا يمكن أن(3/1244)
يعارضها العقل السليم الخالي عن الشهوات والبدع، فإنه لا يمكن أن يحصل التعارض بين دليل عقلي قطعي وآخر نقلى قطعي، أما إذا كان الدليلان ظنيين فإنه يقدم الراجح منهما سواء كان عقلياً أو نقلياً، إن كان أحدهما ظنياً والآخر قطعياً، فإنه يقدم الدليل القطعي بغض النظر عن كونه نقلياً أو عقلياً، إذا القطعي هو الذي يمكن الاعتماد علية حتى وإن كان عقلياً، فالمزية إنما هي لكونه قطعياً لا لأجل لأنه عقلي.
وأما ما ذهبوا إليه من إسقاطهم أخبار الآحاد في العقد، فهو من المساوئ التي وقع فيها هؤلاء، كما زعموا أن المتواتر حتى وإن كان قطعي السند فهو غير قطعي الدلالة، وذلك لأن الدلالة اللفظية لا تفيد اليقين حسب مفهومهم (1) .
وأخبار الآحاد - حسب زعمهم - لا تفيد العلم وهو من جملة أقوالهم البدعية العارية عن الأدلة الشرعية، لا من الكتاب ولا من السنة ولا من أقوال علماء الأمة الذين يعتبر كلامهم في هذه القضية، ذلك أن الحق هو قبول خبر الآحاد في باب الاعتقاد وفى غيره مادام ثابتاً (2) .
قال تعالى:) يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا} (3) .
ولولا أن خبر الواحد مقبول، لما توجه الأمر بالتثبت فيما يخبر به مما يحتاج إلى تثبيت خصوصاً إذا جاء من فاسق، ومعناه أنه إذا كان غير فاسق فإن خبره يقبل.
ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يكتفي بخبر الواحد ويأمر بالاكتفاء به، حيث كان(3/1245)
يرسل الشخص الواحد إلى مجموعة من الناس ويأمره بتبليغ ما يأمره به، ويطلب إلى الناس قبول ما يأمرهم به والانتهاء عما ينهاهم عنه.
وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم أرسل معاذاً إلى اليمن وأمره بتعليمهم الدين وسائر شعائر الإسلام، وكان يرسل من أصحابه الواحد والاثنين أو الثلاثة أو أكثر - حسب ما يتيسر له - بغض النظر عن قضية خبر الآحاد التي ابتدعها أهل الكلام، وقد حصل ذلك منه في وقائع كثيرة، وعلى قبول خبر الآحاد جميع الأمة خلفاً وأعرض عن النصوص الشرعية من الجهمية والمعتزلة والرافضة والخوارج ومن سار عليهم طريقتهم.
وكان السلف من الصحابة فمن بعدهم، لا يشترطون لقبول رواية الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والعمل به، سوى عدالة الراوي وثقته وتقواه، وكانوا إذا روى الثقة حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم تلقوه بالقبول والعمل، ولم يخطر في أذهانهم
أنه خبر آحاد، وأن أخبار الآحاد غير مقبولة كما هي حجة من أراد رد النصوص وتعطيلها والتشويش على عقول عامة المسلمين.
وهنا أمر جدير بالذكر، وهو أن السلف حينما يقدمون النقل على العقل، ليس مقصودهم احتقار العقل وأنه لا يستفاد به المعرفة، بل يقدرون دور العقل في المعرفة والاهتداء به إلى الحق، ولكنهم لا يوصلونه إلى درجة التقديس التام وتقديمه على كلام الله عز وجل وكلام نبيه صلى الله عليه وسلم.
فكل ما في القرآن الكريم وكل ما صح في السنة النبوية، لا يستجيز مسلم يؤمن بالله رباً، وبحمد صلى الله عليه وسلم نبياً، وبالإسلام ديناً، أن يعارضه بعقلة أو باجتهادات العلماء، وهو يعلم ثبوت النص، اللهم إلا أن يكون من باب(3/1246)
الاجتهاد وتنوع المفاهيم في معاني النصوص وتوجيهها، فإن الشخص حينئذ إن اجتهد فأصاب له أجران وإن اجتهد فأخطأ فله أجر اجتهاده ونيته.
أما إذا قدم عقله فلاسفة اليونان، فعلية حينئذ إثمه وإثم من عمل بقوله، وحسن رد ما جاءت به الأنبياء واستبدال مفاهيم الفلاسفة السقيمة بها، التي يسميها بالأدلة والبراهين اليقينية، تهويلاً لأمرها ورفعاً لشأنها، ليتم له ما يريد من رد النصوص الشعرية وتأويلها - فعلية حينئذ إثمه وإثم من عمل بقوله.
إن الهداية لم تأتنا إلا عن طريق الوحي وعلى أيدي رسل الله الكرام، فبأي مسوغ نترك طريق الهداية ونرجع إلى تقديم العقل، فلو كان العقل يكفى للوصول إلى الحق مجرداً عن النقل، لما عاش هؤلاء المعرضون عن الله في متاهات الكفر والضلال، ولما احتجنا إلى الأنبياء، فمن الإجرام أن نترك طريق الهداية واضحاً مشرقاً، ثم نتعلل بتقديس العقل في مقابل نصوص الكتاب والسنة، فالعقل حد إذا تجاوزه صاحبه انقلب إلى الجهل والخزعبلات.
فمثلاً المشبهة حينما أبوة الوقف عند حدود الشرع، بحثوا وتعمقوا في الصفات إلى أن وصلوا دإلى تشبيه الله بخلقة تماماً، ووصفوه إنساناً واقفاً أمامهم، وظنوا أن عقولهم أوصلتهم إلى علم غزير، فهل ذلك صحيح؟ كلا.
وقابل هؤلاء نفاة الصفات فقد أوصلتهم عقولهم حينما تجاوزت الوقوف عند النصوص الشرعية إلى حد أن وصفوا ربهم بصفات، نتيجتها أن الله لا وجود له حتى وإن لم يصرحوا بنفي وجود الله لكن تلك الأوصاف السلبية لا نتيجة لها إلا هذه النتيجة، وظنوا أنهم اهتدوا بعقولهم إلى الوصول إلى(3/1247)
الحق وزين لهم الشيطان ذلك.
فقارن بين مواقف هؤلاء ومواقف أهل الحق أهل السنة والجماعة، الذين يسيرون وراء النصوص مستعملين عقولهم إلى الحد الذي تنتهي عنده، وبالتالي فالقائد هو النص إلى أن يصلوا إلى غاية ما يريدون أو يطلب منهم.
فأمنوا العثار واهتدوا إلى سواء السبيل، ورضوا بما جاء به كتاب ربهم وسنة نبيهم، وما كان علية سلفهم الكرام من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، وعلموا أن العقل الصحيح لا يعارض النقل الصحيح، فأراحوا أنفسهم عناء التأويلات والتكلفات التي ابتلى بها غيرهم، حين بحثوا كثيراً وأتبعوا أنفسهم طويلاً وخرجوا عن الحق الذي طلبوه بتلك التأويلات والتكلفات وهم لا يشعرون.
لأن السلف يعلمون أن النقل حينما جاء مخاطباً للعقل ومبيناً له الطريق الصحيح يعلمون أن بينهما توافقاً تاماً، فالخطاب إنما جاء لأهل العقول لا للمجانين ولا للحيوانات البهيمية، فكيف يتصور بعد ذلك أن العقل أعلى من النقل بحجة أن العقل هو الأصل وإلا لم يرد النص، فالنقل هو الموجه لمحل قابل للتوجيه وهو العقل، ولم تأت العقول لتوجه النقول في أي زمن من عمر البشر.
وزعمهم أن الدلالة النقلية ظنية بينما الدلالة العقلية قطعية (1) ، هذا كلام اخترعوه وأرادوا أن يؤصلوه، وإلا فإن السلف من الصحابة فمن بعدهم لا يعرفون هذه المسالك، بل كانوا يعتبرونها من وساوس الشيطان ومن نقص الإيمان وزعمهم هذا هو مثل زعمهم أن صدق الأنبياء إنما يتوقف على العقل، ولو كان هذا صحيحاً لآمن قوم نوح وسائر أمم الأنبياء، إذا إن لهم عقولاً، ولما احتاجوا إلى سماع النقل منهم عن الله تعالى(3/1248)
والواقع خلاف ذلك فإن كلام الأنبياء وإخبارهم عن الله تعالى هو في حد ذاته الطريق إلى الإيمان بالأنبياء، فكل رسول كان يأتي لقومه ويقول لهم:
{إني رسول الله إليكم} (2) ، ثم يخبرهم عن الله تعالى ويقول لهم في أنفسهم قولاً بليغاً، دون التركيز على الأدلة العقلية، فهي تأتى عرضاً ويستفاد منها كثيراً، لكن ليست هي الدليل الوحيد على صدق الأنبياء، فدلائل صدقهم كثيرة جداً.
2- التأويل في مفاهيم الفرق المخالفة لأهل السنة والجماعة:
لقد جرت التأويلات الفاسدة فتناً عظيمة على الإسلام والمسلمين، وأخرجت الكثير منهم عن عقيدتهم السليمة إلى عقائد ما أنزل الله بها من سلطان، ولقد عبر عن بعض مضار التأويلات الفاسدة العلامة ابن أبى العز، في معرض رده على الذين يؤولون رؤية الله تعالى في قوله عز وجل:) وجوه يومئذ ناضرة (22) إلى ربها ناظرة} (1)
فقال: ((وهى من أظهر الأدلة، وأما من أبى تحريفها بما يسميه تأويلاً، فتأويل نصوص المعاد والجنة والنار والحساب أسهل من تأويلها على أرباب التأويل، ولا يشاء مبطل أن يتأول النصوص ويحرفها عن مواضعها إلا وجد إلى ذلك من السبيل ما وجده متأول هذه النصوص.
وهذا الذي أفسد الدنيا والدين، وهكذا فعلت اليهود والنصارى في نصوص التوراة والإنجيل، وحذرنا الله أن نفعل مثلهم، وأبى المبطلون إلا سلوك سبيلهم، وكم جنى التأويل الفاسد على الدين وأهله من جناية! فهل
_________
(1) سورة القيامة: 22 - 23.(3/1249)
قتل عثمان رضي الله عنه إلا بالتأويل الفاسد؟، وكذا ما جرى في يوم الجمل وصفين ومقتل الحسين والحرة. وهل خرجت الخوارج، واعتزلت المعتزلة، ورفضت الروافض، وافترقت الأمة على ثلاث وسبعين فرقة إلا بالتأويل الفاسد)) (2)
لقد كثر الجدال والخصام بين أهل السنة من جانب، وبين المخالفين لهم ممن تأثر بعلم الكلام والفلسفات من جانب آخر في قضية التأويل.
فما هو التأويل، وما المراد به عند هؤلاء الفرق من الأشعرية والماتريدية والمعتزلة وغيرهم ممن اقتحم التأويلات الفاسدة
حقيقة التأويل في أساس إطلاقه يشمل أمرين:
الأمر الأول: تطلق كلمة التأويل ويراد بها ما تؤول إليه حقيقة ذلك الشيء ومصيره وعاقبته.
الأمر الثاني: تطلق هذه الكلمة ويراد بها معرفة ذلك الشيء ومفهم تفسيره وبيانه، سواء وافق ظاهره الصواب أو خالفه، وكثير من المفسرين يستعمل كلمة التأويل بمعنى التفسير فيقول: تأويل هذه الآية كذا أي تفسيرها، فإن وافق الحق فهو مقبول وصحيح، وإن خالفه فهو باطل.
وقد ورد ذكر كلمة التأويل في القرآن الكريم في عدة آيات، قال تعالى:
(ذلك خير وأحسن تأويلا} (3) أي عاقبة التحاكم إلى الله ورسوله عند التنازع هو أحسن مآلاً وعاقبة، ومنه قوله تعالى: (هل ينظرون إلا تأويله} (4) ، أي(3/1250)
عاقبة تأويله، وجميع ما ورد في القرآن الكريم من معاني التأويل فهي تطلق بهذا المعنى.
وورد في السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم هذا المعنى (5) حيث روى سعد بن أبى وقاص رضى الله عنه قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية:) قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم من تحت أرجلكم} (6) ، فقال:
((أما إنها كائنة ولم يأت تأويلها بعد)) ، أي لم يأت وقت ظهور حقيقة العذاب ومصير المخاطبين وما تؤول إليه عاقبتهم.
وورد في السنة النبوية أيضاً استعمال التأويل بمعنى التفسير والمعرفة كما في دعائه صلى الله عليه وسلم لابن عباس بقولة: ((اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل)) (7) ، أي فهمه معرفة الدين.
وهذه المعاني للتأويل هي التي كانت معروفة عند السلف قبل ظهور أهل الكلام والفلسفات العقيمة، وقبل ظهور الخصام والجدال في معاني التأويل.
قال ابن القيم:
((وأما المعتزلة والجهمية وغيرهم من فرق المتكلمين فمرادهم بالتأويل:
صرف اللفظ عن ظاهره وحقيقته إلى مجازه وما يخالف ظاهره، وهذا هو الشائع في عرف المتأخرين من أهل الأصول والفقه، ولهذا يقولون: التأويل على خلاف الأصل والتأويل. وهذا التأويل هو الذي صنف(3/1251)
في تسويغه وإبطاله من الجانبين، فصنف جماعة في تأويل آيات الصفات وأخبارها، كأبي بكر بن فورك وابن مهدى الطبري وغيرهما، وعارضهم آخرون فصنفوا في إبطال ذلك التأويل، كالقاضي أبى يعلى والشيخ موفق الدين بن قدامة، وهو الذي حكى عن غير واحد، إجماع السلف على عدم القول به)) (1)
وقد بين ابن القيم رحمه الله انقسام التأويل إلى صحيح وباطل وأنه ينحصر في هذين القسمين فقال: ((وعلى هذا يبنى الكلام في الفصل الثاني، وهو انقسام التأويل إلى صحيح وباطل.
وذكر أن كل ما ورد من الروايات عن الصحابة وفيها ذكر التأويل، أن المراد به حقيقة المعنى وما يئول إليه في الخارج أو المراد به التفسير، وذكر أمثلة كثيرة على هذا، وأن تأويلهم من جنس التأويل الذي يوافق الكتاب والسنة أو أن لهم وجهة نظر قوية لا تخرج عن الحق (1)
وأما التأويل الباطل فقد ذكر له عدة أنواع منها:
أحدها: ما لم يحتمله اللفظ بوضعه، كتأويل قوله صلى الله عليه وسلم: ((حتى يضع رب العزة عليها رجله)) (2) بأن الرجل جماعة من الناس، فإن هذا لا يعرف في شيء من لغة العرب ألبته.
الثاني: ما لم يحتمله اللفظ ببنيته الخاصة من تثنية أو جمع، وإن احتمله(3/1252)
مفرداً كتأويل قول
{لما خلقت بيدي} (3) بالقدرة.
الثالث: ما لم يحتمله سياقه وتركيبة وإن احتمله في غير ذلك السياق، كتأويل قوله:) هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك أو يأتي بعض آيات ربك} (4) بأن إتيان بعض آياته التي هي أمره، وهذا يأباه السياق كل الإباء.
الرابع: ما لم يؤلف استعماله في ذلك المعنى في لغة المخاطب وإن ألف في الاصطلاح الحادث، وذكر أن هذا النوع لم يؤلف استعماله في لغة العرب وإن كان معهوداًَ في اصطلاح المتأخرين، ومثل لهذا بتأويل الجهمية والفلاسفة والمعتزلة لقول الله تعالى:) ثم استوى على العرش} (5) بأن المعنى أقبل على خلق العرش، فإن هذا لا يعرف في لغة العرب، بل ولا غيرها من الأمم، أن من أقبل على الشيء يقال: قد استوى عليه، فلا يقال لمن أقبل على الرجل: قد استوى عليه ولا لمن أقبل على الأكل: قد استوى على الطعام.
الخامس: ما ألف استعماله في ذلك المعنى لكن في غير التركيب الذي ورد به النص، فيحمله المتأول في هذا التركيب الذي لا يحتمله على مجيئه في تركيب آخر يحتمله، وهذا من أقبح الغلط والتلبيس، ومثل لهذا بتأويل اليد بالنعمة، والنظر إلى الله بانتظار الثواب.
السادس: كل تأويل يعود على أصل النص بالإبطال فهو باطل، كتأويل(3/1253)
قوله صلى الله عليه وسلم: ((أيما امرأة نكحت نفسها بغير إذن وليها فنكاحها باطل)) (1) ، بحمله على الأمة، فإن هذا التأويل مع شدة مخالفته لظاهر اللفظ يرجع على أصل النص بالإبطال وهو قولة: ((فإن دخل بها فلها المهر بما استحل من فرجها)) ومهر الأمة إنما هو للسيد، فقالوا: نحمله على المكاتبة، وهذا يرجع على أصل النص بالإبطال من وجه آخر، فإنه أتى بأي الشرطية التي هي من أدوات العموم، وأكدها بما المقتضية تأكيد العموم، وأتى بالنكرة في سياق الشرط وهى تقتضي العموم، وعلق بطلان النكاح بالوصف المناسب له المقتضى لوجود الحكم بوجوده وهو نكاحها نفسها، ونبه على العلة المقتضية للبطلان وهي افتياتها على وليها، وأكد الحكم بالبطلان مرة بعد مرة ثلاث مرات، فحمله على صورة لا تقع في العالم إلا نادراً يرجع على مقصود النص بالإبطال (2) إلى آخر الأوجه التي ذكرها للتأويل الباطل.
وكان السلف يدركون الفرق بين التأويل بمعنى التفسير وفهم المراد من الكلام الذي هو باستطاعة الإنسان الوصول إليه - وهذا هو التأويل المقبول عند السلف - وبين التأويل بمعنى معرفة ما يؤول إليه المراد من الكلام سواء كان في الدنيا أو في الآخرة من الأمور الغيبية، الذي ليس باستطاعة الشخص معرفته إلا بعد ظهوره ووضوح حقيقته.
وأمثلة هذا النوع كثيرة يمثلها الإخبار بالمغيبات التي ستحدث في الدنيا أو في الآخرة، ويمثلها كذلك معرفة صفات الله عز وجل حقيقتها وكيفياتها.(3/1254)
وأهل السنة لا يتعدون هذه المفاهيم الواضحة المشرقة البعيدة عن التكليفات والتأويلات الباطلة.
ولو وقف الخلف عند المكان الذي وقف فيه السلف لكان خيراً لهم وأشد تثبيتاً ولكنهم تجاوزوا النصوص وقدموا عليها عقولهم ومفاهيمهم القاصرة وتأويلاتهم الباطلة، فجاءت خليطاً مشوهاً.
والتأويل في عرف هؤلاء المتأخرين يراد به: ((صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح لدليل يقترن بذلك، فلا يكون معنى اللفظ الموافق لدلالة ظاهرة تأويلاً على اصطلاح هؤلاء، وظنوا أن مراد الله تعالى بلفظ التأويل ذلك، وأن للنصوص تأويلاً يخالف مدلولها لا يعلمه إلا الله ولا يعلمه المتأولون)) (3) .
فالمتأخرون يريدون بالتأويل عدم إجراء النص على ظاهره والإتيان له بمعنى يحتمله، ليتوافق مع تأويلهم الذي حرفوه عن معناه الصحيح، وهذا هو التأويل الباطل.
وقد رفض السلف تأويل الخلف بالمعنى الذي قرره هؤلاء، لأنه تحريف للنصوص وإبعاد للمراد منها، خصوصاً وأن تلك النصوص ظاهرة الدلالة لا خفاء فيها ولا احتمال، فإن كل ما جاء في القرآن والسنة من الوضوح وتحديد المراد ما لا يحتمل التلاعب به ولا بمعاينة، لأنه نزل على قوم أدركوا المراد به وآمنوا به وأطمأنت قلوبهم، ولم يحتاجوا إلى التأويلات التي اخترعها زعماء التعطيل.
فإنه على حسب مفهومهم ما من نص إلا وهو يحتمل التأويل، وبالتالي(3/1255)
فلا تتم الثقة بأي نص على ظاهره، فإذا ورد النص بقول:) وجاء ربك} (1)
قالوا: جاء أمره، وإذا ورد النص) إن الله سميع بصير} (2) ، قالوا: سميع بلا سمع، بصير بلا بصر بل بذاته ورحمة الله إرادة الثواب، واليد النعمة.. إلى غير ذلك من تلك التأويلات التي ملئوا بها كتبهم، استناداً إلى أن العقل
هو الفاصل والمقدم على النقل، فلا حرج بعد ذلك أن تؤول نصوص الكتاب والسنة وأقوال السلف الذين يقتدي بهم
على حسب ما تراه العقول، فصار هؤلاء المؤولة أشر من المعطلة، قال ابن القيم رحمة الله: ((فصل في بيان أن التأويل شر من التعطيل)) .
وتحت هذا العنوان قال عن التأويل: ((فإنه يتضمن التشبيه والتعطيل والتلاعب بالنصوص وإساءة الظن بها، فإن المعطل والمؤول قد اشتركا في نفى حقائق الأسماء والصفات، وامتاز المؤول بتلاعبه بالنصوص وإساءة الظن بها، ونسبة قائلها إلى التكلم بما ظاهرة الضلال والإضلال)) (3) .
وقال ابن أبى العز:
((فإنه قد صار اصطلاح المتأخرين في معنى التأويل أنه صرف اللفظ عن ظاهرة، وبهذا تسلط المحرفون على النصوص وقالوا: نحن نتأول ما يخالف قولنا فسموا التحريف تأويلاً، تزييناً له وزخرفة ليقبل)) إلى أن قال:
((فمن التأويلات الفاسدة تأويل أدله الرؤية وأدلة العلو، وأنه لم يكلم(3/1256)
موسى تكليماً ولم يتخذ إبراهيم خليلاً)) (4) .
وما زعمه المؤولة من أن نصوص الصفات في القرآن والسنة لا تعرف إلا بالتأويل زعم مردود، إذا أريد أن معاني تلك الصفات معروفة، أما إذا أريد بأنها لا تعرف بمعنى أننا لا نعرف كيفيتها فهذا حق، ولكنهم لا يريدونه.
وعموما ً فكل تأويل يوافق دلالة الكتاب والسنة فهو مقبول وصحيح، وكل تأويل يخالفهما فهو تأويل فاسد فاتح لباب الزندقة، مهيئ للتفلت من قبول الشرع، ومسبب للحيرة والاضطراب، ويمثل علماء السلف للتأويل الصحيح بمسألة شفعة الجار في حديث ((الجار أحق بسقبه)) (5) ، أي من حق الجار أن يشفع حق جاره ويكون أحق بشرائه من غيره، ولفظ الجار يشمل الجار الملاصق ويشمل أيضاً الشريك المقاسم على احتمال مرجوح.
لكن هذا الاحتمال المرجوح هو الصحيح المقبول، وذلك لموافقة السنة النبوية في الحديث الثابت وهو قوله صلى الله عليه وسلم:
((فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة)) (6) فثبت من الحديث أن المعنى المرجوع هو المراد، لنسخة ظاهر المعنى الراجح وهو الجار عموماً، وهذا ليس من التأويل المذموم في شيء بل هو من باب الجمع والترجيح.
ومما ينبغى ملاحظته أن التأويل المذموم وإنما وجد حين ظهرت الفرق من خوارج ومعتزلة وشيعة وجهمية وباطنية وصوفية، حيث أراد هؤلاء أن يوجدوا لأفكارهم غطاء مقبولاً، فلم يجدوا أفضل من التستر بالتأويل،(3/1257)
وإظهار أنه علم غزير توصلوا إليه، وهو في حقيقته نقلة إلى القول بأن للنصوص ظاهراً وباطناً وأن الظاهر غير مراد وأن الباطن هو المراد وهو بمنزلة اللب وتشويش مفاهيمهم بما أدخلوه من تلك المصطلحات الجوفاء، التي نرجو من الله عز وجل أن يبطلها ويعيد ذلك الصفاء الذي كان عليه سلف هذه الأمة الإسلامية فإنه لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها
وإذا رجع القارئ إلى ما كتبة الإمام ابن القيم في موضوع التأويل في كتابه الصواعق المنزلة على الطائفة الجهمية والمعطلة، فسيجد فيه من أنواع الجدال لأصحاب التأويلات الفاسدة ومن الفوائد ما لا يتسع البحث هنا لذكره.
فليرجع من أحب التوسع في دراسة قضية التأويل إلى هذا الكتاب والمكون من جزئين بعد تحقيقه (1) فلقد أزاح كل الشبهات التي يتعلق بها دعاة التأويل، وبين المضار التي جلبها على الإسلام والمسلمين، مع سعة المناقشة وعمقها وإفحام الخصوم ودخص كل ما يتعلقون به.
3 - جهل أهل الكلام من الجهمية والمعتزلة والأشعرية والماتريدية بمعنى توحيد الألوهية:
التوحيد ينقسم إلى ثلاثة أقسام: توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية، وتوحيد الأسماء والصفات.
هذا هو تقسيم - أهل السنة والجماعة - لأنواع التوحيد، وهذه الأنواع(3/1258)
كانت معروفة بالبداهة عند السلف الصالح من الصحابة ومن تبعهم بإحسان حتى ولو لم يفصلوا هذا التفصيل في وقتهم.
فإنهم كانوا يعلمون أن توحيد الألوهية يتعلق بإفراد الله عز وجل بالعبادة والخضوع والإنابة وحده جل وعلا، والابتعاد عن الاشتراك مع الله آلهة أخرى.
وأما توحيد الربوبية فهم يعلمون أن الله هو رب كل شيء وملكية، وهو خالق الخلق ورازقهم ومدبر أمورهم كلها، وان هذا النوع من التوحيد داخل في مضمون توحيد الألوهية إلا عند الخلف من المتكلمين الذين عكسوا الحقائق.
وأما توحيد الأسماء والصفات فلقد كانوا على معرفة بأن الله عز وجل من الصفات ما أخبر به عز وجل في كتابه الكريم وما أخبر به نبيه العظيم، يؤمنون أن الله تعالى له ذات لا تشبه الذوات وله صفات الخلق إلا مجرد الاشتراك في التسمية.
ودراسة هذه الأقسام وتفصيلها تفصيلاً كاملاً يحتاج إلى مجلدات، بل هو الحاصل بالفعل، فإن كتب علماء السنة تبلغ المئات في بيان هذه الأنواع والواجب على الناس تجاهها، وكيفية الإيمان بها، وغير ذلك مما لا يكاد يحصر إلا بالكلفة وليس الغرض هنا هو الخوض في ذكر كل تلك التفاصيل، وإنما الغرض هو بيان خطأ أهل الكلام في مفاهيمهم لتوحيد الألوهية الذي كان أكثر النزاع بين الأنبياء وأممهم فيه، بل وبين علماء السنة وغيرهم من علماء الطوائف الضالة.(3/1259)
فمن حقق توحيد الألوهية قولاً واعتقاداً فاز، ومن حاد عن الحق الواجب فيه كان ذلك أكبر دليل على خسارته وضلاله.
والمتكلمون حينما يقررون الكلام في التوحيد يقسمونه إلى ثلاثة أقسام، فيقولون: ((هو واحد في ذاته لا قسيم له، وواحد في صفاته لا شبيه له، وواحد في أفعاله لا شريك له)) ، وأشهر الأنواع الثلاثة عندهم هو الثالث وهو توحيد الفعال وهو أن خالق العالم واحد، وهم يحتجون على ذلك بما يذكرونه من دلالة التمانع وغيرها، ويظنون أن هذا هو معنى قولنا: لا إله إلا الله، حتى يجعلوا معنى الإلهية القدرة على الاختراع)) (2) .
هكذا يقرر المتكلمون أنواع التوحيد، فيجعلون توحيد الربوبية - الذي لم يوجد فيه نزاع بين الأنبياء وأممهم - هو أهم أقسام التوحيد وأوجبها معرفة، مع أن الله تعالى أخبر في كتابة الكريم أن كفار قريش وغيرهم عند بعثة المصطفى صلى الله عليه وسلم، كانوا يعرفون توحيد الربوبية ويعتقدون أن الله هو الخالق لكل شيء، فإذا وجه لأحدهم سؤال: من خلق السموات والأرض؟ فإنه على الفور يجيب: الله هو الذي خلقهما. وكانوا يعرفون أن معنى لا إله إلا الله نفى ألوهية أي كائن كان، لا أصنامهم ولا غيرها مع الله تعالى، ولهذا وقفوا في وجوه رسلهم شعارهم:
{أجعل الآلهة إلها واحداً} (1) ، فكانوا في فهمهم وهم على شركهم أحسن من فهم علماء الكلام - وهم يدعون الإسلام - حينما قرروا أن معنى لا إله إلا الله: لا قادر على الاختراع والخلق والإيجاد إلا الله، وهو معنى باطل يرده كتاب الله(3/1260)
وما جاء في سنة رسول الله عليه عامة أهل الحق، فإن معنى لا إله إلا الله أي لا معبود بحق إلا الله وحده.
وهذه هي دعوة الرسل كلهم من أولهم إلى آخرهم كما قال تعالى:
) وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم} (2) وقال تعالى حاكياً عن دعوة الرسل لأممهم:
) وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون} (3) .
فالإله هو الذي يستحق العبادة والخضوع له وهذا هو التفسير الحق، وأما تفسير الإله بأنه القادر على الخلق فهو باطل، وأول ما يدل على بطلانه: أنه لو حقق شخص مفهوم هذا التوحيد، فأقر بأن الله هوالخالق الرازق المدبر لكي يشهد الشهادتين، معترفاً بأن الله هو الإله المستحق للعبادة لا يشرك به أحداً.
والبشر كلهم يقرون بأن الله هو الرب الخالق، حتى الذين عاندوا وجحدوا الربوبية يعترفون في قرارة أنفسهم بانفراد الرب بخلق كل شيء، وما تقوله نفاة الصفاة، من أن الله واحد لا قسيم له، يريدون من وراء هذه العبارة إثبات ذات مجردة عن كل الصفات، التي يسمونها انقساماً للبارئ وتركيباً في ذاته، وبالتالي يلزم من ذلك - حسب أكاذيبهم - تعدد الآلهة، فتكون العين والسمع واليد وغير ذلك من الصفات آلهة معه وحينما تصوروا وقوع هذا المفهوم وشبهوا الله تعالى، ثم عطلوه عن صفاته بتلك الحجة الباطلة.(3/1261)
وحينما جعلوا توحيد الألوهية نفس توحيد الربوبية استدلوا على ذلك بدليل التمانع فقالوا في تقريره: لو كان للعالم صانعان فعند اختلافهما مثل أن يريد أحدهما تحريك جسم وآخر يريد سكونه، أو كان أحدهما يريد أن يكون ذلك الجسم حياً والآخر يريد أن يكون ميتاً، أو غير ذلك من الأمور المتضادة، فإنه حينئذ إما أن تتحقق إرادتهما معاً، وهو مستحيل، إذ لا يمكن الجمع بين النقيضين لأمر واحد.
أو يتحقق إرادة واحد منهما ويمتنع تحقيق إرادة الآخر، فيكون هذا الآخر عاجزاً ليس بإله.
أو لا يمكن أن تتحقق إرادتهما معاً لعجز كل واحد عن قهر الآخر، فتسقط ألوهيتهما معاً.
وبهذا التقرير نتج عندهم أن الله هو وحده الخالق لكل شيء، وأنه رب كل شيء.
وهذا وإن كان حقاً أن الله هو رب كل شيء وخالقه، لكنه ليس هو مضمون توحيد الألوهية الذي هو بمعنى إفراد الله بالألوهية وحده لا شريك له، وإفراده أيضاً بالعبودية التي هي معنى الألوهية.
وليس هو مضمون جحد أسماء الله وصفاته كما يزعمون حين يؤكدون نفيها وتعطيلها عن الله، ويسمون ذلك توحيدا، ويزعمون أن من أثبت لله الأسماء والصفات الواردة في كتاب الله وفى سنة نبيه صلى الله عليه وسلم أنه مشبه ومجسم، وهم على حد قول القائل: ((رمتنى بدائها وانسلت)) ، فهم أهل التشبيه والتجسيم، كما هي سمة أهل التعطيل والإلحاد، وهم يسترون باطلهم بأوصاف لله تعالى مجملة، مثل قولهم: إن الله واحد في ذاته لا قسيم له، ولا جزء له، ولا بعض له ... إلخ.(3/1262)
فهو يحتمل معنى صواباً إذا كانوا يقصدون به أن الله واحد لا يجوز علية الانقسام ولا التجزؤ ولا التبعض، مع أنها ألفاظ مخترعة لم ترد في أي نص شرعي ويحتمل معنى باطلاً وهو نفى صفات الله تعالى تحت هذه الأوصاف وقد اتضح من إنكارهم وتعطيلهم لأسماء الله وصفاته، أنههم لا يريدون إلا هذا المعنى الموافق لتأويلاتهم التي يسمونها توحيداً، ويسمون من يردها مشبها ً ومجسماً وحشوياً.. الخ لأنه لم يقر بأن توحيد الربوبية هو غاية التوحيد ويستدل المؤولون من الخلف على دليل التمانع من القرآن الكريم بقول الله عز وجل: لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا} (1)
على اعتقادهم أن معنى الآية: لو كان في السموات والأرض إله يخلق غير الله عز وجل لفسدتا، فثبت أنه لا خالق إلا الله، وأن هذا هو توحيد الربوبية الذي بينه القرآن الكريم ودعا إلى تحقيقه وأنه هو دعوة الرسل. فهل أصابوا في هذا الفهم؟ الجواب: لا، وقد بينه ابن أبى العز رحمة الله فقال:
((وكثير من أهل النظر يزعمون أن دليل التمانع هو معنى قوله تعالى:) لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا}
لاعتقادهم أن توحيد الربوبية الذي قرروه هو توحيد الإلهية الذي بينه القرآن ودعت إليه الرسل عليهم السلام وليس الأمر كذلك، بل التوحيد الذي دعت إليه الرسل ونزلت به الكتب هو توحيد الإلهية المتضمن توحيد الربوبية، وهو عبادة الله وحده لا شريك له (2) ثم قال: "فعلم أن التوحيد المطلوب هو توحيد الإلهية الذي يتضمن(3/1263)
توحيد الربوبية)) (1)
فدليل التمانع قائم على أن الله هو خالق الخلق لا رب سواه، والخطأ إنما هو المتكلمين الذين جعلوه هو التوحيد الخالص، وقدموه على توحيد الألوهية استغناء به، مع إغفال توحيد الألوهية الذي خلق الله الجن والإنس لتحقيقه، وجعله احب شيء إليه، ة وبه يثيب وبه يعاقب.
يقول الشيخ سليمان بن عبد الله عن هذا التوحيد:
((وهذا التوحيد هو أول الدين وآخره وباطنه وظاهره، وهو أول دعوة الرسل وآخرها، وهو معنى قول: لا إله إلا الله، فإن الإله هو المألوه المعبود بالمحبة والخشية والتعظيم وجميع أنواع العبادة، ولآجل هذا التوحيد خلقت الخليقة وأرسلت وأنزلت الكتب، وبه افترق الناس إلى مؤمنين وكفار وسعداء أهل الجنة وأشقياء أهل النار..)) إلى أن قال: ((وهذا التوحيد هو أول واجب على المكلف لا النظر، ولا القصد إلى النظر، ولا الشك في الله، كما هو أقوال من لم يدر ما بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم من معاني الكتاب والحكمة)) (4) .
ثم أورد السؤال الآتي وأجاب عنه وهو قوله: ((0 فإن قيل: قد بين معنى الإله والإلهية (5) فما الجواب عن قول من
قال بأن معنى الإله: القادر على الاختراع، ونحو هذه العبارة؟
_________
(1) سورة ص: 21.(3/1264)
قيل: الجواب من وجهين:
أحدهما: أن هذا قول مبتدع لا يعرف أحد قاله من العلماء ولا من أئمة اللغة وكلام العلماء وأئمة اللغة هو معنى ما ذكرنا كما تقدم فيكون هذا باطلاً)) .
وإشارته إلى ما تقدم، يريد ما ذكره من تفسير العلماء لمعنى الإله بالمعبود الذي يجب له وحده العبودية والذل والخضوع، ثم قال:
((وهذا كثير جداً في كلام العلماء، وهو إجماع منهم أن الإله هو المعبود خلافاً لما يعتقده عباد القبور وأشباههم في معنى الإله، أنه الخالق أو القادر على الاختراع أو نحو هذه العبارات..)) ، إلى أن قال: ((ولو كان معناها ما زعمه هؤلاء الجهال لم يكن بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبينهم نزاع، بل كانوا يبادرون إلى إجابته ويلبون دعوته، إذا يقول لهم: قولوا لا إله إلا الله بمعنى أنه لا قادر على الاختراع إلا الله فكانوا يقولون: سمعنا وأطعنا، قال الله تعالى:) ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله} (1)) ) (2) .
الثاني: على تقدير تسليمه فهو تفسير باللازم للإله الحق، فإن اللازم له أن يكون خالقاً قادراً على الاختراع، ومتى لم يكن كذلك فليس بإله حق وإن سمى إلها، وليس مراده أن من عرف أن الإله هو القادر على الاختراع فقد دخل في الإسلام، وأتى بتحقيق المرام من مفتاح دار السلام، فإن هذا لا يقوله أحد، لأنه يستلزم أن يكون كفار العرب مسلمين (3) .
ويقول الشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ في رده على المفهوم(3/1265)
الخاطئ لأهل تجاه المراد بالتوحيد: ((وليس المراد بالتوحيد مجرد توحيد الربوبية وهو اعتقاد أن الله وحده خلق العالم، كما يظن ذلك من يظنه من أهل الكلام والتصوف، ويظن هؤلاء أنهم إذا اثبتوا ذلك فقد أثبتوا غاية التوحيد، وأنهم إذا شهدوا هذا وفنوا فيه فقد فنوا في غاية التوحيد..))
إلى أن قال:
((فإذا فسر المفسر (الإله) بمعنى القادر على الاختراع، واعتقد أن هذا المعنى هو أخص وصف الإله، وجعل إثبات هذا هو الغاية في التوحيد - ما يفعل ذلك من يفعله من متكلمة الصفاتية - وهو الذي يقولونه عن أبى الحسن وأتباعه
لم يعرفوا حقيقة التوحيد الذي بعث الله به رسوله الله صلى الله عليه وسلم، فإن مشركي العرب كانوا مقرين بأن الله وحده خالق كل شيء، وكانوا مع ذلك مشركين)) (4)
4 - تعطيل النصوص عن مدلولاتها:
من الأمور الواضحة بعد عرض ما تقدم، أن كل الطوائف المخالفة لأهل السنة والجماعة لم يلتزموا بالمفاهيم الواضحة للنصوص، وإنما كان حالهم فيها مثل حال من يفسر الواضح حتى يجعله غامضاً، فهؤلاء تعمقوا - كما يظنون - في استخراج الحق الكامن خلف النصوص ثم خرجوا بعلم غزير لم يهتد إليه أحد قبلهم، لا الصحابة ولا من جاء بعدهم، بل لم يهتد إليه حتى الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه، وهم وإن لم يصرحوا بذلك، لكن عباراتهم ومواقفهم تدل على هذا دلالة لا تخفى على من عرف ألغازهم في كلامهم، والمصطلحات التي تستروا بها، لدس أفكارهم الضالة حيال التلاعب بالنصوص، وإظهارها بالمظهر الذي يريدونه.(3/1266)
وقد كانوا بحق أذكياء جدا في عرض شبهاتهم وتأويلاتهم، حيث جاءوا بزخرف من القول والدعاية، واختيار الأسماء المنفرة لما لا يريدونه، وإلقاء الأسماء التي ظاهرها يخدمهم ولها رونق وبريق، فانخدع بذلك كثير من عوام المسلمين، بل من طلاب العلم، وسموا أنفسهم بأحسن الأسماء، مثل: أهل التوحيد، أهل العدل، أهل الاستقامة، الفرقة الناجية، أهل السنة، محققين، حكماء. إلى غير ذلك من الألقاب التي اصبغوها على أنفسهم واتباعهم.
وبالتالي أطلقوا أسماء أخرى على أهل السنة والجماعة تنفر السمع عنهم وتجعله يمتلئ غيظا عليهم، كارها لمذهبهم وعقيدتهم الحنيفية، فأطلقوا عليهم ظلما وعدوانا: أهل التشبيه والتجسيم، الحشوية، خوارج، نوابت، وفى هذا يقول ابن القيم رحمه الله في نونيته، حكاية عن معطل يحذر أصحابه من مذهب أهل السنة:
قالوا مشبهة مجسمة فلا قال أيضا ... تسمع مقال مجسم حيوان
وقال أيضاً:
ومن العجائب أنهم قالوا لمن ... قد دان بالآثار والقرآن
أنتم بذا مثل الخوارج إنهم ... أخذوا الظواهر ما اهتدوا لمعان
وقال أيضا في تسميتهم لأهل السنة حشوية، أي من حشو الناس وسقطهم:
ومن العجائب قولهم لمن اقتدى ... بالوحي نمن اثر ومن قرآن
حشوية يعنون حشوا في الوجود ... وفضلة في أمة الإنسان
ويظن جاهلهم بأنهم حشوا ... رب العباد بداخل الأكوان(3/1267)
إذ قولهم فوق العباد وفى السماء ... الرب ذو الملكوت والسلطان
ظن الحمير بأن في للظرف والر ... حمن محوي بظرف مكان
أي ظن هؤلاء أن أهل السنة يقولون: إن الله في السماء، أي هي ظرف له وتحويه، وهو كلام باطل لا يقوله أهل السنة
وهناك اسم أخر يسمون به أهل السنة وهو: " النوابت "، أي نبتوا في الإسلام بأقوال بدعية بعد اختلاطهم بالأعاجم، بل وسموا أهل السنة: عابدي أوثان، لأنهم يقولون: إن ربهم في السماء وفوق العرش بذاته، والروافض أيضا يسمون أهل السنة - كذباً - " نواصب"، ومن الغرائب أنهم يسبون أهل السنة بما ينطبق عليهم هم، وفيهم يقول ابن القيم رحمه الله:
فرموهم بغيا بما الرامي به ... أولى ليدفع عنه فعل الجاني
يرمي البرئ بما جناه مباهتا ... ولذاك عند الغر يشتبهان
سموهم حشوية ونوابتا ... ومجسمين وعابدي أو ثان
وكذاك أعداء الرسول وصحبه ... وهم الروافض أخبث الحيوان
نصبوا العداوة للصحابة ثم ... سموا بالنواصب شيعة الرحمن (1)
وكذا المعطل شبه الرحمن ... بالمعدوم فاجتمعت له الوصفان
وكذا شبه قوله بكلامنا ... حتى نفاه وذان تشبيهان
وأتي إلى وصف الرسول لربه ... سماه تشبيها فيا إخوان
_________
(1) وقد تقدم في درس الشيعة أنهم يسمون أهل السنة نواصب، وذكرنا الأدلة على هذا من كتبهم ومن كلام علمائهم، خلفهم عن سلفهم.(3/1268)
وبالله من أولى بهذا الاسم من ... هذا الخبيث المخبث الشيطان
فمن المشبه بالحقيقة أنتم ... أم مثبت الأوصاف للرحمن
والله عز وجل يعلم أن أهل السنة براء من تلك الألقاب الظالمة، فإن الذي يثبت لله ما أثبته لنفسه لا يجوز أن يسمي مشبها أو مجسما، والذي يقول: الله في السماء، أي في جهة العلو المطلق، وأن السماء ليست ظرفا له عز وجل، وإنما المقصود جهة العلو بغير تحديد مكان - لا يصح أن يسمى حشويا.
والذي يأخذ بظواهر النصوص ويفهم معانيها فهما جيدا ويقول عن الكيفية: لا علم بها، لأن الله لم يخبرنا بذلك، لا يصح أن يسمي خارجيا يقف على ظواهر النصوص دون فهم لمعانيها.
والذي نبت على معرفة الحق وما جاء في كتاب الله وسنة نبيه لا يصح أن يسمي نابتا جديدا خارجا عن الحق.
والذى يحترم أهل البيت وينزلهم المنزلة التي تليق بهم فلا يرفعهم إلى مرتبة العصمة أو الألوهية، ولا ينزلهم عن قدرهم فيذم بعضهم ويمدح البعض الآخر، كالرافضة، لا يصح أن يسمى رافضيا.
إن تلك الأسماء كلها في إطلاقها على أهل الحق ظلم وكذب وزور، فهي في الحقيقة أسماء لأهل الباطل، لكن الجاني يسمى نفسه بريئا ويسمي البريء مجرما، والله عز وجل يفصل بين عباده فيما كانوا فيه يختلفون.
إن تسلط علماء الخلف على النصوص وتحريفها عن معانيها الصحيحة لتوافق ما جاءوا به من عقائد ما أنزل الله بها من سلطان - أمر معلوم لطلاب العلم.(3/1269)
فإن هؤلاء لم يصلوا إلى ما وصلوا إليه من تخبطات في فهم النصوص وبناء عقائدهم، إلا على لي أعناق النصوص وزخرف الأقاويل في تأويلها، وإيراد الشبهات الكثيرة تحت اسم الأدلة القاطعة والبراهين الواضحة، وهى أسماء تخفي وراءها خداعهم لمن يعرف ما يهدفون إليه، إحياء أفكار أساطين الملاحدة والفلاسفة من اليونانيين وغيرهم.
وقد ذكرنا من خلال ما تقدم دراسته - بيان مذاهب الفرق الباطلة وأقوالهم المخالفة لكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ابتداء بالخوارج وانتهاء بهذه الفرق الكلامية أتباع الفلاسفة.
ومجمل الاعتقاد فيما تقدم في باب الأسماء والصفات، هو أن نثبت لله ما أثبته لنفسه أو أثبته رسوله صلى الله عليه وسلم له، وأن ننفي عن الله ما نفاه عن نفسه أو نفاه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم على حسب ما يأتي:
نثبت لله تعالى كل الأسماء الحسنى كما قال عز وجل: (ولله الأسماء الحسنى فادعوه وذروا الذين يلحدون في أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون} (1)
نثبت له كل الصفات الواردة في القرآن الكريم.
نثبت أن لله في كل صفة المثل الأعلى والأكمل.
الإيمان بكل ما جاء من صفات الله تعالي إلى التفصيل الذي ورد في القرآن الكريم والسنة النبوية.
_________
(1) سورة الأعراف: 180.(3/1270)
أن نثبت معاني كل أسماء الله وصفاته، ونتوقف عن الخوض في كيفياتها، لأن الله لم يخبرنا بذلك. وأن نردد في كل صفة عبارة السلف: " الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والسؤال عنه بدعة ".
* * * * * * * * * * * * * * * * **(3/1271)
5- جدول مختصر لبيان صفات الله تعالى
وتأويل الخلف لها (وما من صفة من الصفات إلا وللسلف
دليل على ثبوتها لله تعالى) كما في الجدول الآتي
تعطيل الخلف لها ... دليل ثبوتها ... الصفحة
زعموا أن الله لا يصح وصفه بذلك، وإنما أضاف النفس إليه مثل إضافة سائر الخلق إليه، وهو تعطيل لتلك النصوص وغيرها مما لم نورده هنا. ... (كتب ربكم على نفسه الرحمة} (1) . ... نفس الله
(ويحذركم الله نفسه} (2) .
وقال صلى الله عليه وسلم: " يقول تعالى: أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي فإن ذكرني في ملأ خير منهم " إلى آخر الحديث (3) . فلله تعالى نفس لا تعرف كيفيتها، وليست كسائر النفس المركبة في أبدان المخلوقات.
لا يؤمنون بصفة العلم على أنها من صفات ذاته عز وجل مضافة إليه، ومن الغريب أنهم يقولون: إن الله هو العالم وينكرون أن لله علماً مضافاً إليه من صفات الذات " يعني أنهم يثبتون الاسم وينكرون الصفة التي يدل عليها، وهو تناقض، فإنه لا يعقل عالم بلا علم ". ... (يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها
_________
(1) سورة الأنعام: 54.
(2) سورة آل عمران: 28.
(3) أخرجه البخاري 13 / 384، ومسلم في الذكر 5/542.(3/1272)
وما ينزل من السماء وما يعرج فيها} (1) . ... علم الله
(ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير} (2) .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " مفاتح الغيب خمس: (إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب إذا وما تدري نفس بأي أرض تموت} (3) .
نفوا أن يتصف الله بالوجه وأولوه بمعنى نفس الذات. أي ويبقي ذات ربك أو يبقى ثوابه أو هو بمعنى القبلة، أو هو كما تقول العرب: وجه الدار ووجه الكلام، وهذا تكذيب لله ورسوله وتأويل باطل لا مبرر له، وهو من تلاعب الشياطين بهؤلاء المعطلة النفاة، والسلف يؤمنون بأن لله تعالى وجهاً من غير تشبيه وجه يليق به، وهذا هو الحق الموافق لكتاب الله وسنة نبيه. ... (ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام} (4) . ... الوجه لله تعالى: صفة ذاتية لله تعالى
(كل شيء هالك إلا وجهه} (5) ، ولله وجه
_________
(1) سورة سبأ: 2.
(2) سورة الملك: 14.
(3) سورة لقمان 34، والحديث أخرجه البخاري: 8/291.
(4) سورة الرحمن: 27.
(5) سورة القصص: 88.(3/1273)
لا تعلم كيفيته، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من ابتغى وجه الله وأطاع الإمام وأنفق الكريمة وياسر الشريك واجتنب الفساد فإن نومه ونبهه أجر (1) . كله " الحديث. والسلف رحمهم الله يثبتون الوجه لله تعالى حقيقة مع تنزيهه عن مشابهة خلقه، ولا يلزم من المشاركة في التسمية الاتحاد في الذات فالله أعلى وأجل من ذلك.
لا يثبتون هذه الصفة ويؤولونها بحجة أنها مرة جاءت بلفظ الإفراد ومرة بلفظ التثنية متجاهلين أنها أسلوب من أساليب العرب في لغتهم. والسلف يثبتونها صفة ذاتية لله تعالى ولا يكيفونها، والخلف أولوها بمعنى حفظ الله أو العلم، وان الحديث فيه تنزيه الله عز وجل عن أن يكون له صفة تشبه صفات خلقه وهذا تأويل. ... {واصنع الفلك بأعيننا ووحينا} . ... عين الله
{ولتصنع على عيني} ، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم عن الدجال "إنه أعور وإن الله ليس بأعور"
_________
(1) سنن أبي داود 2/13، والنسائي 6/49 وأحمد 5: 234.(3/1274)
وفى رواية أخرى ((أعور العين اليمنى كأنها عنبة طافية (1) .
ينفون إثبات السمع والبصر على أنهما صفتان على حقيقيتان لله تعالى ويزعمون أن اثباتهما يقتضى تشبيه الله بخلقه، لأنه على حسب زعمهم لا يوجد خارج من يتصف بالسمع والبصر إلا المخلوقات، والسلف يثبتونهما صفتان حقيقيتان لله عز وجل من غير تكييف لهما تمشياً مع الأدلة. ... (لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء} (2) . ... السمع والبصر
(إننى معكما أسمع وأرى} (3) .
_________
(1) أخرجه البخاري 13 / 90 - 91.
(2) سورة آل عمران: 181.
(3) سورة طه: 46.(3/1275)
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه حينما رفعوا أصواتهم بالتكبير: ((يا أيها الناس أربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصم ولا غائباً إنه سميع قريب)) (1) .
وفى رواية: ((إن الذي تدعون هو أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته)) (2) .
نفوها وقالوا: إن اليد من صفات المخلوقين، وزعموا المخلوقين، وزعموا أن اليد النعمة واليدين النعمتان أو القوة. ... (ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي} (3) . ... اليدان
والسلف يثبتونها صفة حقيقية ذاتية لله عز وجل لا تشبه أيادي ذاتا لا تشبه الذوات، فكذلك له صفات لا تشبه الصفات المخلوقة. ... (بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء} (4) .
(يد الله فوق أيديهم} (5) ، والآيات والأحاديث في إثبات اليد واليدين لله عز وجل كثيرة جداً، من ذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب ولا يقبل إلا الطيب. فإن الله يتقبلها بيمينه ثم يربيها لصاحبه كما يربى أحدكم قلوه
_________
(1) روى بعدة طرق، انظر: صحيح البخاري 6 / 135.
(2) مسلم 5 / 556.
(3) سورة ص: 75.
(4) سورة المائدة: 64.
(5) سورة الفتح: 10.(3/1276)
حتى تكون مثل الجبل)) (1) . وفى رواية أبى هريرة رضي الله عنه: ((إلا أخذها الله بيمينه فيربيها كما يربى أحدكم فلوه أو قلوصه حتى مثل الجبل أو أعظم)) (2) .
وعن أبى موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله عز وجل يبسط يده بالليل ليتوب مسيء الليل الليل حتى تطلع الشمس من مغربها)) (3) .
ذهب بعضهم إلى نفى ما جاء من النصوص في ما جاء من النصوص في إثبات الأصابع، وزعموا أن إثباتها إنما هو من أكاذيب اليهود، لأنهم من غلاة المشبهة وأن ضحك النبي صلى الله عليه وسلم إنما كان كراهة وبغضاً لذلك، وهذا رد سافر للنص، وكذب على الرسول صلى الله عليه وسلم أنه يضحك عندما توجه ألفاظ الإهانة إلى الله تعالى. ... عن عبد الله قال: جاء حبر من أحبار اليهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا محمد إنا نجد أن الله يجعل السموات على أصبع والأرضين على أصبع والشجر على أصبع والماء والثرى على أصبع، وسائر الخلائق على أصبع فيقول أنا الملك قال: فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى
_________
(1) البخاري: 3 / 278.
(2) أخرجه مسلم 3 / 50، 51.
(3) أخرجه مسلم 5 / 603.(3/1277)
بدت نواجذه تصديقاً لقول الحبر ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} (1) (2) . ... الأصبع
وبعض هؤلاء لم يجد بداً من تصحيح الحديث، فذهب يؤول الأصابع إلى أنها بمعنى شيء يخلقه الله يحمل السماوات وكل ما ذكر في الحديث كما تحمل الأصابع الشيء الثقيل، إلى غير ذلك من التأويلات الباطلة التي يردها فعل الرسول صلى الله عليه وسلم وقوله، ومنهم الصحابة رواة الحديث ... وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن قلوب بني آدم كلها بين إصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفه حيث شاء" (3) .
_________
(1) سورة الزمر: 67.
(2) أخرجه البخاري 8 / 550، 551 ومسلم 5/654.
(3) أخرجه مسلم 5 / 509.(3/1278)
أهل السنة يثبتون أن لله قدماً لصريح الحديث في إثبات الرجل والقدم لله عز وجل، ولا يعلم مقدار عظمة ذلك إلا هو سبحانه وتعالى، وتكلف القول في بيان كيفيتها أو الإقدام على نفيها من الباطل المنهي عنه. ... عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تزال جهنم يلقى فيها وتقول: هل من مزيد حتى يضع رب العزة فيها قدمه فينزوي بعضها إلى بعض وتقول قط قط بعزتك وكرمك، ولا يزال في الجنة فضل حتى ينشئ الله لها خلقاً فيسكنهم فضل الجنة" (1) . وفي رواية: "فيضع فيها رجله" (2) . ... الرجل والقدم
وقد أول المعطلة ما ورد من إثبات القدم لله تعالى في الحديث بمعنى أن النار حين يضع فيها الجبار المتعالي على الله؛ تقول: قط قط، وهو تأويل بعيد لا تدل عليه النصوص ولا اللغة، وأول المعطلة الرجل إلى معنى الجماعة من الناس.
للسلف وغيرهم مفاهيم مختلفة حول ثبوت صفة الساق لله، فيروى أن الساق هو الشدة، وقيل: الساق هو النور العظيم، وقيل: هو ما يقع للمؤمنين من لطف الله. فمن أثبته صفة لله تعالى فمستنده حديث أبي سعيد الخدري ومن نفاه عن الله ذهب إلى تلك التأويلات. ...
_________
(1) أخرجه مسلم 5/704-705.
(2) أخرجه مسلم 5/704-705.(3/1279)
قال تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ} (1) . ورد لفظ الساق هنا منكراً، ومن هنا وقع خلاف بين علماء السلف هل الساق صفة ذاتية لله أم لها معنى آخر على قولين إلا أنه قد جاء حديث صحيح يفصل هذا النزاع وهو حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه وفيه: "فيكشف عن ساقه فيسجد له كل مؤمن ويبقى من كان يسجد لله رياء وسمعة، فيذهب كيما يسجد فيعود ظهره طبقاً واحداً، ثم يؤتى بالجسر فيجعل بين ظهراني جهنم" الحديث (2) . ...
والحق هو إثبات الساق صفة لله تعالى بدون تكييف ولا تأويل؛ لثبوت ذلك في حديث أبي سعيد الخدري. وفي قول الله تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ}
نفوا الاستواء وزعموا أن معنى النصوص الواردة باستوائه أي بمعنى استيلائه على العرش، أو بمعنى الإقبال على خلق العرش وغيره، وهي تأويلات باطلة خلاف ما جاءت به النصوص الواضحة من كتاب الله وسنة نبيه، بل وخلاف ما عرف في اللغة العربية من أن الاستواء هو غير الاستيلاء، وأن الاستواء معلوم والكيف مجهول والسؤال عنه بدعة. ...
_________
(1) سورة القلم: 42.
(2) صحيح البخاري 13/421، ورواه مسلم 1/436.(3/1280)
استواء الله على عرشه كثرت أدلته من القرآن والسنة، قال تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (1) ، وفي الحديث الصحيح أن زينب رضي الله عنها كانت تفخر على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم تقول: "زوجكن أهاليكن وزوجني الله تعالى من فوق سبع سموات" (2) . ...
الاستواء
وعن أبي هريرة رضي الله عنه: "إن الله لما قضى الخلق كتب عنده فوق عرشه أن رحمتي سبقت غضبي" (3) .
لا يؤمنون بالنزول ولا المجيء ويؤولون ذلك إلى معنى نزول أمره أو نزول الملائكة أو نزول رحمته. ...
_________
(1) سورة طه: 5.
(2) البخاري 13/403.
(3) المصدر السابق 13/404، ومسلم 5/595..(3/1281)
1- النزول والمجيء والإتيان في يوم القيامة: قال تعالى: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلآئِكَةُ} (1) وقال تعالى: {وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} (2) . ...
النزول والإتيان والمجيء
وهو تأويل باطل وتعطيل ظاهر للنصوص , والسلف يؤمنون بنزول الله عز وجل , وهو من الصفات العلية , ينزل ربنا تعالى نزولاً يليق به. ... ومن السنة: ما جاء في أحاديث القيامة وفصل القضاء بين العباد, وهي أحاديث كثيرة , منها قوله صلى الله عليه وسلم قال: "فيأتيهم الجبار في صورة غير صورته التي رأوه فيها أول مرة فيقول: أنا ربكم , فيقولون: هل بينكم وبينه آية تعرفونه , فيقولون: الساق , فيكشف عن ساقه فيسجد له كل مؤمن , ويبقى من كان يسجد لله رياء وسمعة.." الحديث (3) . ...
1- يوم القيامة
كل هذه الصفات الاختيارية لا يؤمن بها الخلف فلا يثبتون ما دل عليه كل نص. ...
2- في الدنيا: ينزل ربنا كل ليلة كما يرويه
_________
(1) سورة البقرة: 21..
(2) سورة الفجر: 22.
(3) أخرجه البخاري 13/421، ومسلم 1/ 434-435.(3/1282)
أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول: من يدعوني فأستجب له من يسألني فأعطيه من يستغفرني فأغفر له" (1) . ...
2- كل ليلة
بل جاءوا لها بمعان مختلفة عطلوا بها معاني تلك النصوص فالرضى عندهم إرادة الثواب أو العطاء أو الإنعام , والغضب إرادة الانتقام , والضحك إرادة الثواب أو الرضى , والفرح قبول التوبة وإرادة الثواب , ومحبة الله للعبد بمعنى إحسانه إليه وإنعامه , والرحمة إرادة الله الخير والنعم لعبده. ... هذه الصفات يؤمن بها السلف كما جاءت بها النصوص من كتاب الله تعالى ومن سنة نبيه على ما يليق بجلال الله وعظمته , وأدلتها على الترتيب: قال تعالى: {رضي الله عنهم ورضوا عنه} (2) وقال تعالى: {ألم تر إلى الذين تولوا قوماً غضب الله عليهم} (3) وفي الصحيح أن آخر رجل يدخل الجنة يتوسل إلى الله كلما قدمه درجة طلب أخرى , قال عنه الرسول صلى الله عليه وسلم: "فلا يزال
_________
(1) أخرجه البخاري جـ 2 ص 66 ومسلم جـ 2/407 وأخرجه أبو داود ص 303 جـ 1 والترمذي 2/307.
(2) سورة البينة: 21.
(3) سورة المجادلة: 14.(3/1283)
يدعو حتى يضحك الله منه فإذا ضحك منه قال له: أدخل الجنة " (1) . ... الرضى,
وكل تلك التأويلات باطلة ومخالفة للحق الذي قررته الشريعة الإسلامية , ولا يلزم من إثباتها أي محذور , وليس فيه أي تشبيه لله بخلقه , خصوصاً وقد مدح الله نفسه بها , ولا يتصور التشبيه إلا من لم يعرف الحق ولم يطلع على مذهب السلف , ذلك أنها صفات تليق بالله عز وجل وكما ل نعرف ذاته فكذلك لا نعرف كيفية صفاته. ... وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: "لله أشد فرحاً بتوبة عبده من رجل أضل راحلته بأرض دوية مهلكة عليها طعامه وشرابه , فطلبها فلم يجدها , فنام تحت شجرة ينتظر الموت , فلما استيقظ إذا هو بدابته عليها طعامه وشرابه , فالله أشد فرحاً بتوبة عبده من هذا براحلته" (2) . ... الغضب,
وقال تعالى: {ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه} (3) وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: " عجب الله من قوم يدخلون الجنة في السلاسل" (4)
_________
(1) صحيح البخاري 13/420.
(2) البخاري كتاب الدعوات 11/102. ومسلم 5/589 وقد روي بألفاظ مختلفة.
(3) سورة محمد: 28.
(4) متفق عليه، والمراد بهم الكفار حين يؤسرون ويؤتى بهم في السلاسل فيسلمون فيدخلون الجنة، انظر: فتح الباري 6/145 باب الأسارى في السلاسل.(3/1284)
... الضحك.
وقال تعالى: {فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه} (1) . ... الفرح,
وقال تعالى: {ولكن كره الله انبعاثهم} (2) وقال تعالى: {ورحمتي وسعت كل شيء} (3) . ... السخط,
التعجب,
المحبة,
الكراهة,
الرحمة.
لا يؤمنون بأن الله تعالى يتكلم متى يتكلم متى شاء ولا يثبتونها صفة لله تعالى , وأولوا النصوص الواردة بإثباتها وعطلوها عن مدلولاتها , ومن هنا زعموا أن القرآن الكريم مخلوق لم يتكلم به الله , وأن نسبة الكلام إلى الله مجاز , وهو قول الجهمية. أو هو معنى قائم بذات الله خلقه في غيره , وهو قول الماتريدية , أو أنه ألفاظ ومعان , فلألفاظ مخلوقة والمعاني قديمة قائمة بالنفس , وهو معنى واحد يختلف حسب التعبير به إن عبر عنه بالعربية صار قرآناً وإن عبر عنه بالعربية صار توراة وإن عبر عنه بالسريانية كان إنجيلاً. ... قال تعالى: {فأجره حتى يسمع كلام الله} (4) , عن ابن مسعود: "إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السماء للسماء صلصلة كجر السلسلة على الصفا فيصعقون فلا يزالون كذلك حتى يأتيهم جبريل حتى إذا جاءهم جبريل فزع عن قلوبهم" الحديث (5) . ... الكلام صفة ذات وفعل
ولا تعلق له بالمشيئة الإلهية وهذا قول الكلابية ومن تبعهم من الأشاعرة الذين لا سثبتون لله تعالى إلا كلاماً نفسياً لله قائماً بذاته من غير حرف ولا صوت. ... وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
أو أن القرآن متعلق بالمشيئة والقدرة , وأنه قائم بذات الرب إلا أنه حدث بعد أن لم يكن , وهذا قول الكرامية. ...
_________
(1) سورة المائدة: 54.
(2) سورة التوبة: 46.
(3) سورة الأعراف: 156.
(4) سورة التوبة: 6.
(5) البخاري 8/180، والترمذي 5/362، وابن ماجه 1/69، وسنن أبي داود 5/106.(3/1285)
" إذا أحب الله العبد نادى جبريل إن الله يحب فلاناً فأحبه فيحبه جبريل فينادي جبريل في أهل السماء أن الله يحب فلاناً فأحبوه فيحبه أهل السماء ثم يوضع له القبول في الأرض" (1) .
أو أن كل كلام طيباً أو خبيثاً هو كلام الله , وهذا قول الاتحادية , إلى غير ذلك من الأقوال الباطلة.
ومذهب السلف أن الله يتكلم متى شاء بما شاء على وجه لا نعرف كيفيته , وأن نوع الكلام قديم وآحاده حادثة.
ينفي المخالفون رؤية الله في الدار الآخرة , ويزعمون أنها تؤدي إلى القول بأن الله مثل الحوادث وأنه متحيز في مكان , وزعموا أن قول الله: {وجوه يومئذ ناضرة} أي منتظرة لفضله ونعمه , وأن "لن" في قول الله تعالى لموسى: {لن تراني} على التأبيد , وهو كذب على اللغة وعلى الحق. ...
_________
(1) أخرجه البخاري 6/303.(3/1286)
لا يختلف السلف في أن الله يرى بالأبصار في يوم القيامة , قال تعالى: {وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة} (1) . ...
الرؤية الرؤية ليست من صفات الله تعالى , والغرض هو بيان تعطيل الخلف للنصوص
وأهل السنة يثبتون رؤية الله في الدار الآخرة يرونه بأبصارهم رؤية لا تعرف كيفيتها , بعيدة عن التشبيه وعن ما يتوهمه أهل التعطيل , وفي رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه في الدنيا خلاف مشهور بين الصحابة ومن جاء بعدهم. ...
_________
(1) سورة القيامة: 22-23.(3/1287)
وفي السنة: عن جرير بن عبد الله قال: كنا جلوساً عند النبي صلى الله عليه وسلم إذا نظر إلى القمر ليلة البدر فقال: " إنكم سترون ربكم عز وجل كما ترون هذا القمر لا تضمون في رؤيته, فإن استطعتم ألا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وصلاة قبل غروب الشمس فافعلوا " (1) .
ينكر المعطلة صفة العلو , ويزعمون أن الله في كل مكان بذاته , وأولوا الفوقية أنها بمعنى فوقية القدر والعظمة , وهو تعطيل للنصوص ورد لها وجحد للحق الثابت ...
_________
(1) رواه البخاري 13/419.(3/1288)
علو الله أمر معلوم من الدين بالضرورة قال تعالى: {بل رفعه الله إليه} (1) . وقال تعالى: {أأمنتم من في السماء} (2) . عند أهل السنة كلمة السماء المراد بها مطلق العلو , وتكون "في" بمعنى "على"قال تعالى: {يخافون ربهم من فوقهم} (3) . ...
العلو
وقال الرسول صلى الله عليه وسلم للجارية: "أين الله؟ قالت: في السماء " (4) .
_________
(1) سورة النساء: 158.
(2) سورة الملك: 16.
(3) سورة النحل: 50.
(4) أخرجه مسلم 2/174.(3/1289)
هذا وأسأل الله عز وجل أن يكون فيما تقدم ما ينفع وأن يجزل لي الأجر , فإنه يجزي على العمل الحقير الأجر الكثير , وكل ما أطمع فيه هو عفو الله وثوابه في جمع تلك المعلومات وكتابتها , وجمع شتات ما تفرق في كتب العلماء حول الطوائف المخالفة للحق الذي جاء به نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
وإنني مدين في نهاية هذا البحث بالشكر العظيم لله عز وجل أولاً , ثم لأصدقائي من مشائخ فضلاء وطلاب علم , وموظفين في مكتبات الجامعة الإسلامية وغيرها من تيسير كثير من المراجع التي لم تتوفر لدي واحتسابهم ذلك عند الله تعالى , ولم يرغبوا في ذكر أسمائهم أو الإشادة بهم ولهم في قلبي أعمق الود والإجلال.
أسأل الله لي ولهم ولكل طالب علم ولكل المسلمين عموماً الهداية والتوفيق.
وهو حسبنا ونعم الوكيل..
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين.
* * * * * * * * * * * * * * * * **(3/1290)
ومن المراجع المفيدة في دراسة أقوال علماء أهل الكلام
والرد عليهم
- فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية.
- القصيدة النونية للإمام ابن القيم مع شرحها للهراس.
- الصواعق المنزلة لابن القيم مع تحقيقها للدكتور أحمد عطية الغامدي، والدكتور علي بن ناصر فقيهي.
- بيان تلبيس الجهمية لشيخ الإسلام ابن تيمية.
- كتاب التوحيد وإثبات صفات الرب عز وجل لابن خزيمة.
- شرح الأصول الخمسة للقاضي عبد الجبار.
- مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة لابن القيم.
- اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية لابن القيم.
- رد الإمام الدارمي على بشر المريسي لعثمان بن سعيد الدارمي.
- شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز.
- مقالات الإسلاميين واختلاف المصليين لأبي الحسن الأشعري.
- الفرق بين الفرق للبغدادي.
- الملل والنحل للشهر ستاني.(3/1291)
- الفصل في الملل والأهواء والنحل لابن حزم.
- الإبانة لأبي الحسن الأشعري.
- كتاب الإيمان لابن منده تحقيق الدكتور علي بن ناصر.
- المعتزلة عواد بن عبد الله المعتق.
- تاريخ المذاهب الإسلامية لأبي زهرة.
- فتح المجيد للشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ.
- تيسير العزيز الحميد للشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب.
- الصفات الإلهية للدكتور محمد أمان الجامي.
- أبو الحسن الأشعري للشيخ حماد الأنصاري.
- عقيدة التوحيد في فتح الباري شرح صحيح البخاري للشيخ أحمد عصام الكاتب.
- تاريخ الجهمية والمعتزلة للشيخ جمال الدين القاسمي.
- العصريون معتزلة اليوم يوسف كمال.
- المعتزلة بين الفكر والعمل علي الشابي / أبو لبابة حسين / عبد المجيد النجار.
- خلق أفعال العباد للإمام البخاري محمد بن إسماعيل.
- المواقف للعضد الإيجي.(3/1292)
- الفتوى الحموية الكبرى لشيخ الإسلام ابن تيمية.
- التحفة المهدية شرح الرسالة التدمرية للشيخ فالح بن مهدي آل مهدي.
- درء تعارض العقل والنقل لشيخ الإسلام ابن تيمية.
- الصفات الخبرية بين الإثبات والتأويل للشيخ عثمان بن عبد الله آدم.
ومئات المراجع التي كتبها العلماء في دراستهم لهذه الفرق مما لا يخفي على طلاب العلم، وقد ذكرت فيما تقدم مراجع قديمة ومراجع عصرية.
وأرغب في نهاية دراسة هذه الفرق أن أتقدم بنصيحة إلى كل محب من طلاب العلم ألا يزهد عن كتابة المتأخرين، فإن فيها صفوة كثير من المعلومات لإطلاع هؤلاء على ما كتبه السابقون واستخلاص زبدة أفكارهم ثم تدوينها في كتاباتهم.
وليس من الإنصاف الإعراض عنها بحجة أنهم عالة على ما كتبه القدامى فهذا خطأ يفوتك فوائد قد تجتنيها بدون عناء مع أنه لا يبعد عن الصدق في أن علماء هذا العصر عالة في كثير من الأمور على ما كتبه القدامى لمعايشتهم الأحداث وصفاء عقولهم وإخلاصهم في نفع الناس.
ولكن هذا لا يمنع أن توجد فوائد قد لا نجدها في بعض كتابات القدامى، ومن قال بخطأ هذا فقد زعم انحصار فضل الله عز وجل على عباده، فإن الله تعالى هو الوهاب وهو الفتاح العليم. غفر الله لعلمائنا من تقدم منهم ومن تأخر، ونسأله عز وجل أن يلحقنا بهم صالحين غير خزايا ولا مفتونين.(3/1293)
(ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم} (1) .
* * * * * * * * * * * * * * * * **
_________
(1) سورة الحشر: 10.(3/1294)