جامعة القدس
الدراسات العليا ـ قسم الدراسات الإسلامية
التأويل
بين ضوابط الأصوليين وقراءات المعاصرين
دراسة أصولية فكرية معاصرة
رسالة ماجستير
مقدمة من الطالب
ابراهيم محمد طه بويداين
اشراف الأستاذ الدكتور
حسام الدين عفانه
أعضاء لجنة المناقشة
1. الدكتور حسام الدين عفانة رئيساً ومشرفاً
2. الدكتور حسين الترتوري منافشاً خارجياً
3. الدكتور محمد عساف مناقشاً داخلياً
قدمت هذه الرسالة استكمالاً لمتطلبات الحصول على درجة الماجستير في الدراسات الاسلامية ـ جامعة القدس .
نوقشت وأجيزت في آب 2001
تصدير
قال تعالى:" إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ"( فصلت- 40).
قال تعالى:" وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمْ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ" ( النحل –116).
قال - صلى الله عليه وسلم - :"يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين"(1).
قال الضحاك بن مزاحم "إن هذا العلم دين، فانظروا عمن تأخذونه" (2).
__________
(1) البغدادي أحمد بن علي بن ثابت : شرف أصحاب الحديث، ص51، تحقيق عمر عبد المنعم سليم، وقال المحقق اسناده رجاله ثقات.
(2) انظر: القاضي الرامهرمزي حسن بن عبد الرحمن: المحدث الفاصل بين الراوي والواعي ص415.(1/1)
قال إمام الحرمين "وأعلم هديت لرشدك، أن هذه الفنون من الكلام ما كانت لتجري في عصور العلماء الأولين، وإنما أقدم عليها المتأخرون لأمرين: أحدهما: التعري عن مأخذ الكلام، والثاني: الاستجراء على دين الله تعالى، والتعرض لخرق حجاب الهيبة، نعوذ بالله منه"(1).
قال شيخ الاسلام ابن تيمية "وقد تبين بذلك أن من فسر القرآن أو الحديث وتأوله على غير التفسير المعروف عن الصحابة والتابعين فهو مفتر على الله ملحد في آيات الله محرف للكلم عن مواضعه، وهذا فتح لباب الزندقة والإلحاد وهو معلوم البطلان بالإضطرار من دين الإسلام "(2).
قال شيخ الاسلام مصطفى صبري "ثم إني ما قسوت في القول إلا على الذين قست أقوالهم على أساس من أسس الدين، أو علم من علومه، أو طائفة من علمائه" (3).
الإهداء
إلى والدتي التي قضت يرحمها الله ولم تر ثمرة غرسها.
وإلى والدي الذي له بعد الله الفضل الجميل.
وإلى العدول من حملة العلم الذين ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين.
وإلى الذين دأبوا على معرفة الرجال بالحق، لا معرفة الحق بالرجال.
وإلى حراس العقيدة، وحماة الشريعة، وأنصار السنة، من أهل العلم والدعاة وشباب الصحوة المباركة.
وإلى بعض " العقلانيين" من معتزلة ومرجئة هذا الزمان …. أن انظروا إلى مصير أسلافكم ...
__________
(1) الجويني عبد الملك بن عبد الله بن يوسف : البرهان في علم أصول الفقه (1/346).
(2) ابن تيمية تقي الدين ابو العباس احمد بن عبد الحليم :مجموع الفتاوى الكبرى 13/244.
(3) الشيخ مصطفى صبري: موقف العقل والعلم والعالم من رب العالمين وعباده المرسلين 1/46، وهو آخر شيوخ الإسلام في الدولة العثمانية ووقف مجاهدا دون هدمها. وانشغل دهرا من عمره في الرد على الانحرافات الدينية التي ظهرت في القرن السابق - بموجب الإطلاع على كتابه المذكور.(1/2)
لكل هؤلاء وأولئك أهدي هذا الجهد المتواضع راجيا من الله العلي العظيم أن ينفع به، ويجعله في ميزان حسناتي يوم لا ينفع مال ولا بنون.
شكر وتقدير
" وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ" (لقمان/12).
لا يسعني بعد إتمام هذا البحث إلا أن أزجي جزيل الشكر والعرفان لفضيلة الأستاذ الدكتور حسام الدين عفانة، لتفضله بالإشراف على هذه الرسالة، ولما أسداه من نصائح وتوجيهات كان لها الفضل - بعد توفيق الله تعالى - في تصويب الأخطاء وتقويم الاعوجاج الذي اعترى هذا البحث.
كما وأتقدم بالشكر والثناء للأساتذة الأفاضل الذين تكرموا بقبول مناقشة الرسالة وهم:
- فضيلة الأستاذ الدكتورحسين الترتوري
- فضيلة الأستاذ الدكتور محمد عساف
ولا أنسى أن أتوجه بالشكر إلى الأخوين: أبي مصعب محمد جمعة زيغان لتكرمه بالترجمة لملخص البحث، والأخ الأستاذ أبي سالم أبو ريدة لجهده الكبير في تدقيقها لغويا.
كما وأخص بالشكر كذلك الأخ الفاضل أيمن السلايمة على ما بذله من جهد ووقت في إخراج هذا البحث بصورة لائقة. كما أتوجه بالشكر إلى الأخوة العاملين في مكتبة بلدية الخليل على ما تفضلوا به من تسهيلات وخدمات مشكورة.
ولكل من ساهم وقدم يد العون والمساعدة خالص الشكر والوفاء
ملخص البحث
تكمن أهمية البحث في انه يعالج أهم قضية في تاريخ الفكر الإسلامي قديما وحديثا، ألا وهي العلاقة بين العقل والنقل، ودور العقل في فهم النص الشرعي، وهي القضية التي لا تزال مطروحة للسجال والمناقشة منذ صدر الإسلام إلى يومنا هذا.
ويمثل التأويل أخطر وأهم السبل في التعاطي مع النص الشرعي، إذ ضل بسبب الإفراط فيه خلق كثير وفرق يصعب حصرها. بدءً من الخوارج والمعتزلة والشيعة والمرجئة والباطنية وصولا إلى مدارس الحداثة والمعاصرة في العصر الحاضر.(1/3)
والتأويل هو صرف اللفظ عن ظاهره الراجح إلى معنى مرجوح لوجود دليل مقتض لذلك، فهو خلاف الأصل، إذ الأصل الأخذ بظاهر اللفظ " النص" حسبما يدل عليه لسان العرب.
ويكون إما تخصيصا للعام أو تقييدا للمطلق، أو صرفا للفظ من الحقيقة إلى المجاز وللأمر من الوجوب إلى الندب أو الإرشاد، وللنهي من الحرمة إلى الكراهة... الخ.
وكل نوع منها قد يكون قريبا أو بعيدا بحسب قوة دليل التأويل وضعفه. وبينت فيه أن التأويل – بإجماع أهل العلم لا بد له من شروط حتى يكون سائغا مقبولا أهمها: أن يكون اللفظ – النص – المراد تأويله قابلا للتأويل أصلا، بان يكون محتملا لعدة معان، فإن كان اللفظ غير محتمل للتأويل، بأن كان له معنى واحد محتم، لم يجز حمله على غيره، فإن حمل كان تأويلا باطلا مردودا.
ومن شرطه أن يكون المعنى المرجوح الذي يراد حمل اللفظ – النص – عليه مقبولا شرعا، بان لا يعارض نصا آخر مثله في القوة، أو يزيد عليه، ثبوتا أو دلالة.
فإن كان هذا المعنى يعارض نصا، أو حكما شرعيا مثله، أو أقوى منه كان أيضا تأويلا باطلا مردودا. فما الظن إذا كان يعارض نصوصا قطعية لا تحصر، أو أحكاما شرعية ثابتة مبرمة مجمعا عليها؟.
وهذا الشرط يستتبع شرطا آخر، وهو أن يقترن التأويل بدليل يقوي ويعضد هذا المعنى المرجوح على دلالة الظاهر، فإن عدم الدليل أو كان مساويا لدلالة ذلك الظاهر، أو لم يكن حجة كان تأويلا باطلا مردودا أيضا.
وهذا الدليل إما أن يكون نصا من القرآن، أو السنة، أو إجماعاً، أو قياساً، علتْه منصوصة، أو قاعدة شرعية ثبتت بأدلة شرعية، أو بحكمة تشريع ظاهرة منضبطة.
فإن كان تأويلا بغير دليل شرعي معتبر – شبهات وأوهام وأحاديث ضعيفة أو مقاصد وكليات متخيلة مدعاة كما هو حال معظم التأويلات المعاصرة - كان تأويلا فاسدا مردودا.(1/4)
ثم لا بد للمؤول أن يكون مجتهدا امتلك ناصية الاجتهاد والترجيح لأن هذا هو حقيقة التأويل، فإن عالجه من لم يحصل آلة الاجتهاد اللازمة كان باطلا أيضا، لأنه صادر من غير ذي صفة.
كما وبينت أن كل الموضوعات التي ركز المعاصرون جهود التأويل، والتي عالجتها قراءة وتحليلا وردا وتفنيدا، داخلة في نطاق ما لا يجوز الاختلاف فيه أو تأويله بحال من الأحوال. أي في دائرة القطعيات المحكمات، بل المعلومة من الدين بالضرورة. ككفر اليهود والنصارى، وحجية السنة في شؤون الحياة وأمور المعاملات، وحجية الإجماع، وحرمة الردة، وبطلان مفهوم المواطنة كما هو في الوعي المعاصر، وبطلان شرعية أي نظام سياسي لا يحكم الشريعة الإسلامية في كل شؤون الحياة، وحرمة الربا بكل أصنافه، ربا الفضل، وربا الديون...الخ.
كما وبينت أن الأدلة المستخدمة من قبل المؤولين لا تعدو أن تكون شبهات وأوهاما وخيالات، وأن المؤولين في غالبهم ليسوا من اهل العلم العلم الشرعي، والنظر الفقهي، فلا يجوز لهم الاجتهاد أو التأويل، وبينت أن المعاني التي استنبطوها باطلة لمناقضتها للقطعيات المحكمات.
وبينت أن الحامل على التأويل لدى أولئك المؤولين هو رغبتهم الجامحة في التوفيق بين مفاهيم الإسلام، وأحكامه، وعقائده الثابتة بوحي الله، وبين ما استحدثه الفكر الغربي من مبادئ وقيم، ومفاهيم بعد الثورة الصناعية التي قامت عليها الحضارة الغربية.
وبينت أن ذلك يعبر عن الانهزام النفسي والفكري الذي يربأ عنه من يعتز بعقيدته ويفاخر بشريعة ربه.وبينت أن الحامل لهم على التأويل لم يكن تحقق التعارض الأصولي الذي يستدعي الترجيح أو التأويل تخصيصا، أو تقييدا، وهو المسوغ الشرعي الوحيد للتأويل. بل كان ما ذكرت تأثراً بالثقافة الغربية وسعيا إلى تأصيل مفاهيمها أو ما يدعونه بـ" أسلمة المعرفة ".(1/5)
وبينت أخيرا أن تأويل قواطع الإسلام، ومحكمات نصوصه التي أجمعت عليها الأمة هو إبطال للشرع ونسخ له، وأن ذلك لا يجوز بحال، بل هو كفر بواح.
والله الهادي والموفق للسداد والصواب
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة البحث
الحمد لله ناصر الحق ومتبعه، وقامع الباطل ومبتدعه، الذي بحمده يستفتح كل أمر ذي بال، الذي أنزل القرآن العظيم فقال" ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنْ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الذِينَ لا يَعْلَمُونَ" ( الجاثية18).
والصلاة والسلام على نبي الرحمة، وكاشف الغمة الذي نسخت شريعته كل شريعة والذي أوتي القرآن ومثله معه فبين مبهمه وفسر غوامضه ومجمله، حتى لم يبق لأحد حجة دون حجته، ولا استقام لعاقل اتباع شريعة غير شريعته، فلا يسمع بعد وضعها خلاف مخالف ولا قول مختلف، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين اهتدوا بشمسه المنيرة، وفرقوا بصوارم أيديهم، وألسنتهم بين كل نفس فاجرة ومبرورة، وبين كل حجة بالغة وحجة مَبيرة، وعلى التابعين لهم على ذلك السبيل، والمنتمين إلى ذلك القبيل وسلم تسليما كثيرا.(1) وبعد:
__________
(1) الشاطبي أبو اسحاق ابراهيم بن موسى اللخمي: الاعتصام 1/17 .(1/6)
ففي أعقاب نمو الصحوة الإسلامية في العقدين الأخيرين، وإقبال الناس من مختلف الفئات والطبقات على دين الله إيمانا، والتزاما، وسلوكا تصاعدت قوة الإسلام وأهله، وصار الكل يخطب ودهم، ويتحاشى الاصطدام معهم عقائديا وفكريا، فتغير شكل الصراع، وخططه، فبدلا من الهجوم السافر على الإسلام عقيدة وشريعة بالطعن الصريح، والوصف القبيح بالرجعية، والجمود، والظلامية، والتخلف، هذا الهجوم الذي استمر عقودا، ولم يؤت أكله، ولم يثبت جدواه في صد الناس وتنفيرهم كلية من دينهم. لجأ بعض المؤولين إلى أسلوب آخر أشد فتكا ولكن أقل إثارة لمشاعر المسلمين، وذلك بانتهاج سياسة الهدم من الداخل وتقويض المفاهيم والمسلمات الدينية، والتشكيك في الأسس التي قام عليها الإسلام وشريعته.
وهذه المرة ليسوا بصفتهم أعداء ينقدون، و يطعنون من خندق مواجه، بل تزيّوْا بزي الإسلام، واستخدموا أسلحته، ورفعوا شعاراته، فنادوا بضرورة تجديد الدين وعصرنته، وضرورة نقد التراث وغربلته، وإعادة بناء الثقافة وفق أسس عصرية، مستلهمين التراث الإسلامي والإرث الحضاري لهذه الأمة ... الخ الصياغات الضبابية الباطنية التي تختفي تحت عباءة التجديد والعصرنة والقراءة المعاصرة للتراث.
كل ذلك بعد أن أفنى كثير منهم أعمارهم في أحضان الماركسية، والقومية، والعلمانية. ينظِّرون لها، وينافحون عنها ويطعنون على مخالفها، وفجأة تحولوا بمؤامرة مدبرة(1) إلى دعاة للإسلام، ولكنه إسلام عصري متنور منفتح (!) على الثقافات والحضارات الأخرى يستوعبها ويحتويها. هذه هي قصة وحركة التأويل المعاصرة وخلفيتها.
أسباب اختيار الموضوع
__________
(1) راجع: جمال سلطان: تجديد الفكر الإسلامي ص33، 37، حيث عقد المؤتمر التأسيسي الأول لجبهة العلمانية في عام 1974م، برعاية جامعة الكويت تحت عنوان" أزمة التطور الحضاري في الوطن العربي".(1/7)
إن الناظر بعين بصيرته إلى التاريخ الإسلامي يتبين بوضوح أن التأويل المتعسف الفاسد كان ملاذ الفرق الضالة وملجأهم، وأن اعتمادهم على التأويل إنما كان بحثا عن شرعية لأفكار ومقررات مسبقة لديهم نابعة من الفلسفات البشرية، أو هوى شخصي، فأحبوا أن يضفوا عليها الصبغة الشرعية بإسنادها بنصوص قرآنية أو حديثية، ظنوا أنها تؤيد دعواهم، وفي سبيل ذلك ردوا الأحكام القاطعات والآيات المحكمات التي تعارض أوهامهم وخيالاتهم بالتأويل الباطل لأنهم لا يستطيعون رد النصوص بشكل سافر وصريح.
كذلك فعل الخوارج ومن بعدهم الشيعة، والمعتزلة، والباطنية، والمتصوفة، والزنادقة وكل فرق الضلال على مدى التاريخ الإسلامي. فالتأويل الفاسد هو باب الشر المفتوح على الأمة ودينها، الذي يلج منه كل دعي وباغ للهدم والتخريب، والتلبيس، والتدليس في الدين.
وقد أصبحت موضوعات التأويل وما يلحقه من "الاجتهاد" و"التجديد" و"فهم النصوص" و"القراءات المعاصرة للنصوص الدينية" حديث الساعة بين المثقفين المعاصرين، وأصبحت تشكل منتهى الطريق الذي وصل إليه العقل المعاصر في جدله، حول "العلاقة بين العقل والنقل" أو بين "العقل والنص" كما هي عبارتهم.
يدل على ذلك أنها تحظى بمساحة واسعة في كتابات المفكرين المعاصرين على اختلاف انتماءاتهم سواء أكانوا من حملة المشروع النهضوي الإسلامي، أم من دعاة المشاريع التغريبية اللادينية. ويكفي للتأكد من صحة ذلك النظر إلى حجم النتاج الثقافي المتمثل في الكم الهائل من الكتب، والأبحاث، والمقالات الصادرة في الأعوام الأخيرة.(1/8)
ولقد كانت الدعوة المتكررة إلى فتح باب الاجتهاد والتجديد سببا لأن يلج هذا المضمار من يحسنه، ومن لا يحسنه، مما أدى في أحيان كثيرة إلى تجاوز مسلمات شرعية والتشكيك فيها، وإثارة التساؤلات حولها، والمطالبة بإعادة النظر فيها، وهي من قواطع الإسلام التي انعقد عليها الإجماع عصرا بعد عصر. سواء أكان ذلك التشكيك والتجاوز بالقول بتاريخية النص القرآني، أو بيئية النص النبوي، وعدم حجيته في شؤون الدنيا، أو بتفعيل فقه المقاصد والمصالح والكليات، وتوظيفه بشكل سيء للغاية أدى إلى هدر النصوص الجزئية، والأحكام التفصيلية الثابتة وذلك خروجاً عن قواعد وضوابط هذا العلم كما أقرها العلماء، وهو ما وقع فيه كثير من الكتاب الإسلاميين.
وقد استند المؤولون في كثير من تأويلاتهم على اجتهادات لعمر بن الخطاب –رضي الله عنه – ظنوها تسند آراءهم، وسأتكلم على توجيهها وأبين حقيقة اجتهاد عمر وأنه ليس فيه مستند لما فهموه منه.
ويمكنني القول:
إن الباعث الرئيس على التأويل عند المعاصرين هو الضيق ذرعا بالمناداة بتطبيق الشريعة، والرغبة الجامحة للتوفيق بين مفاهيم الإسلام وشريعته من جهة ومبادئ الثقافة الغربية الوافدة مع اعتبار الأخير ثابتا مطلقا، والأول هو المتغير والنسبي الذي يتحتم عليه الانسجام مع معطيات العصر ذات الصبغة الغربية.
لهذه الأسباب رأيت أن من واجب الباحث المسلم الغيور على دينه وثقافته أن يتصدى لهذه الموجة التغريبية العلمانية باسم الإسلام، وذلك بوضع قواعد أصولية شرعية يتميز بها التأويل الفاسد الباطل عن التأويل الجائز المبني على ضوابطه الصحيحة.(1/9)
وهي قواعد وضوابط لم أقم بابتداعها وابتكارها من جديد- وأنى لمثلي ذلك – بل هي بحمد الله موجودة متناثرة في بطون مصنفات أصول الفقه على الأخص، وكذلك كتب التفسير، والحديث، والعقيدة، والفقه، وضعها علماؤنا وقعدوها أثناء الرد على الخصوم، إلا أنها لم تفرد لغاية الآن – فيما أعلم – بكتاب مستقل، فرأيت بعد الاستعانة بالله أن ألم شتاتها، وأجمع متناثرها مع الترتيب والتبويب والتصنيف والتهذيب والتحليل، وهو الجزء الأصولي من الدراسة.
وقد احتوى البحث على دراسة تطبيقية لأهم تأويلات المعاصرين واجتهاداتهم، حاكمت فيها تلك الاجتهادات وفقا للقواعد والضوابط المستخلصة التي وضعها علماؤنا الأوائل- وهو الشق المعاصر من الرسالة.
ولعل أهم الصعوبات التي اعترضتني أثناء إعدادي لهذا البحث، هي اتساع الموضوع، وتفرق مباحثه بين كتب الأصول، والعقيدة، وعلوم القرآن والحديث، والفقه وكتابات المعاصرين.
واضطرني ذلك إلى التطويل لاستيعاب الرد على تأويلات القوم في كل هذه الموضوعات، ولو استقبلت من أمري فيه ما استدبرت لقصرت البحث على تأويلات كاتب واحد من أعمدة هذا التيار، أو لاخترت التأويلات المتعلقة بموضوع واحد فقط نحو: التأويل في العقيدة أو الأصول أو السنة.
منهج البحث:
1. اخترت في هذا البحث اتباع المنهج الوصفي الذي يقوم على التحليل، حيث قمت باستعراض أهم قواعد وضوابط التأويل كما دلت عليها نصوص الكتاب والسنة، واتفقت عليها كلمة علماء الأمة. وقمت بتصنيفها حسب أركان التأويل ومباحثه، مبوبا ومستدلا لها، كما قمت بعرض طروحات المعاصرين، وتحليلها، ومناقشتها.
2. رجعت في استقاء هذه القواعد والضوابط إلى كتب الأصول، ومصادره الأصلية باعتبار التأويل مبحثا من مباحث الأصول ابتداء.
3. التزمت الاستدلال بالقرآن الكريم، والأدلة الصحيحة من السنة، ولم ألجأ إلى الاستدلال بالأحاديث الضعيفة إلا تبعا، وأما الآثار فالتزمت بذكر مصدرها دون الحكم عليها.(1/10)
4. اعتمدت في تفسير الشواهد من الآيات على أمهات كتب التفسير المعتمدة. وكذلك كتب شروح الحديث.
5. عنيت بتحقيق وبيان مراد العلماء الصحيح من كثير من القواعد، والضوابط، والمفاهيم التي جرى تحريف مدلولاتها ومعانيها عند الكتاب المعاصرين كقاعدة "تغير الأحكام بتغير الأزمان"، وقول ابن القيم: أينما تكون المصلحة، فثم شرع الله، ومفهوم فقه المقاصد والكليات.
6. كما قمت بتحقيق بعض الآراء التي تنسب إلى أئمة أثبات، خطأ أو فهما مغلوطاً، مثلما نسب إلى القرافي من عدم احتجاجه بالسنة الصادرة من الرسول - صلى الله عليه وسلم - بوصفه إماما أو قائدا عسكريا. ومثلما نسب إلى أبن القيم والسرخسي وسفيان الثوري و إبراهيم النخعي من إبطال لحد الردة.
7. عند الرد على المؤولين حرصت على نقل أقوالهم وأفكارهم بشكل واف لا يخل بالمعنى حتى لا أُتهم باجتزاء العبارات من سياقاتها، وذلك لخطورة ما قالوه، ولأن كثيرا منهم يحظى بالاحترام والثقة بين قطاعات واسعة من " الإسلاميين". معتمدا في ذلك على مصادرهم الأصلية إلا إذا تعذر الوصول إليها، مع توخي الدقة، والموضوعية، والأمانة العلمية في النقل، وهذا الحرص على استيفاء الفكرة أدى إلى الإطالة في ذكر النقول، وبالتالي الإسهاب في الرد.
8. قمت بإعداد فهارس تحليلية في نهاية البحث للشواهد من الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية، والآثار، والمصادر، والمراجع.
9. في توثيق الهوامش السفلية كنت أذكر اسم صاحب المصدر كاملا في أول مرة يرد فيها فقط ثم أذكر اسم الكتاب كاملا كذلك، فإذا ذكرته للمرة الثانية اقتصرت على ذكر اسم الكتاب مختصرا دون ذكر اسم مؤلفه، إلا اذا خشي وقوع لبس في معرفته لاشتراكه مع غيره من المصادر في الاسم فكنت اذكر اسم صاحبه أيضا كالاحكام للآمدي والاحكام لابن حزم.
10. أما في فهرس المراجع فكنت أذكر المؤلف باسم شهرته مثل ابن قدامة ثم اذكر اسمه الكامل ثم اسم مؤلَّفه.(1/11)
الدراسات السابقة في الموضوع:
من خلال هذا البحث وقفت على كثير من المصادر التي تناولت موضوع التأويل، ولكن غالبها اقتصر على معالجة جانب واحد أو عدة جوانب، كالتأويل في العقيدة وأسماء الله وصفاته، أو التأويل في الحديث لإزالة التعارض الظاهر، وبالإجمال فما كتب فيه من قبل أعطاه بعدا عقديا أو أصوليا أو فقهيا بحتا، ولم أقف على من كتب في التأويل، ليعالج به الطروحات الفكرية المعاصرة بهذا المنحى، وهو ما حاولت فعله في هذا البحث، مع أني لا أنكر وجود أبحاث أو مقالات لبعض العلماء المعاصرين أو العلماء القدامى في هذا المضمار،ومنها :
رسالة الاكليل في المتشابه والتأويل لابن تيمية في مجموع الفتاوى .
المرجعية العليا للقرآن والسنة للشيخ يوسف القرضاوي .
المناهج الأصولية في الاجتهاد بالرأي في التشريع الإسلامي للدكتور فتحي الدريني .
حقيقة القراءة المعاصرة ، مجرد تنجيم لسليم الجابي .
القرآن وأوهام القراءة المعاصرة لجواد عفانة .
جناية التأويل الفاسد على العقيدة الإسلامية لمحمد أحمد لوح .
التأويل - دراسة موضوعية في الأحاديث النبوية لمحمد رأفت سعيد .
قضية التأويل في القرآن الكريم بين الغلاة والمعتدلين لإبراهيم حسن سالم .
القرآن والفرقان للشيخ عبد الرحمن العك .وغيرها من الكتب التي أدرجت في قائمة المراجع .
خطة البحث
جاء البحث مقسما على النحو التالي:
الباب الأول: معنى التأويل ومشروعيته وضوابطه، ويشتمل على فصلين.
الفصل الأول: التأويل معناه ومشروعيته، ويشتمل على ثلاثة مباحث.
المبحث الأول:معناه لغة واصطلاحاعند أهل العلم والفرق المختلفة.(ويشتمل على ستة مطالب)
- المطلب الأول: معناه لغة.
- المطلب الثاني: التأويل عند الاصوليين.
- المطلب الثالث: التأويل في القرآن والسنة وعند السلف
- المطلب الرابع: الصحابة والتأويل
- المطلب الخامس: التأويل عند المتكلمين.
- المطلب السادس: التأويل عند الصوفية الباطنية.(1/12)
المبحث الثاني: توجيه اجتهادات عمر بن الخطاب رضي الله عنه. ويشتمل على تسعة مطالب:
- المطلب الأول: عمر وذم الرأي.
- المطلب الثاني: وقف عمر لأرض السواد.
- المطلب الثالث: عدم قطع السارق عام الرمادة.
- المطلب الرابع: منعه سهم المؤلفة قلوبهم.
- المطلب الخامس: منعه بعض الصحابة من الزواج بالكتابيات.
- المطلب السادس: إسقاطه اسم الجزية عن نصارى بني تغلب.
- المطلب السابع: إيقاعه الطلاق بلفظ الثلاث ثلاثا لا واحدة.
- المطلب الثامن: الحامل على التأويل عند عمر والصحابة والعلماء.
- المطلب التاسع: معارضة النصوص بالأقيسة العقلية.
المبحث الثالث: أنواع التأويل.
الفصل الثاني: أركان التأويل وشروطه: ويشتمل على أربعة مباحث.
المبحث الأول: الركن الأول: النص محل التأويل، ويشتمل على أربعة مطالب:
- المطلب الأول: جهود الأصوليين في تحديد مجال التأويل
- المطلب الثاني: أقسام الألفاظ عند الحنفية.
أ ) واضح الدلالة:
الظاهر: تعريفه – حكمه – مثاله – محل الاجتهاد فيه.
النص: تعريفه – مثاله – حكمه- محل الاجتهاد فيه- الفرق بينه وبين الظاهر.
المفسر: تعريفه- أنواعه – أمثلته – حكمه – محل الاجتهاد فيها.
المحكم: تعريفه – أنواعه –أمثلته – حكمه – محل الاجتهاد فيه.
ب) الألفاظ غير واضحة الدلالة:
الخفي: تعريفه – مثاله – محكمه محل الاجتهاد فيه.
المشكل: تعريفه – مثاله – حكمه – محل الاجتهاد فيه.
المجمل: تعريفه – أنواعه – أمثلته – مصادر تفسيره – حكمه – محل الاجتهاد فيه.
المتشابه: تعريفه – مثاله – حكمه.
- المطلب الثالث: أقسام الألفاظ عند الجمهور
أ ) الألفاظ واضحة الدلالة.
النص: تعريفه – مثاله – حكمه.
الظاهر: تعريفه – مثاله – حكمه.
ب) الألفاظ غير واضحة الدلالة.
المجمل: تعريفه- أنواعه- أمثلته- الإجمال في الأفعال.
المتشابه: تعريفه- أمثلته- حكمه وحكم المجمل.
- المطلب الرابع: مقارنة بين منهجي الجمهور والحنفية في تقسيم الألفاظ.(1/13)
أ ) في واضح الدلالة.
ب) في غير واضح الدلالة.
المبحث الثاني: الركن الثاني "المؤول" وشروطه.
المبحث الثالث: الركن الثالث: أدلة التأويل.
لا يصح التأويل بدون دليل راجح على الظاهر:
- الدليل الأول: النص.
- الدليل الثاني: الإجماع.
- الدليل الثالث: القياس.
- الدليل الرابع: حكمة التشريع.
- الدليل الخامس: العقل والحس.
- الدليل السادس: مذهب الصحابي الراوي.
- الدليل السابع: المفهوم.
- الدليل الثامن: القواعد الفقهية.
- الدليل التاسع: العرف.
- الدليل العاشر: المصالح – المقاصد – الكليات.
المبحث الرابع: الركن الرابع: المعنى المستنبط بدليل التأويل.
الباب الثاني: تأويل النصوص والمفاهيم الشرعية في قراءات المعاصرين.(ويشتمل على)
الفصل الأول: قراءات المؤولين المعاصرين: ويشتمل على سبعة مباحث:
المبحث الأول: التأويل في العقيدة ( الإيمان- الإسلام – العمل الصالح).
المبحث الثاني: تأويلهم مفهوم القرآن وعلومه.
المبحث الثالث: تأويلهم مفهوم السنة.
المبحث الرابع: التأويل في أصول الفقه( الإجماع – القياس- المصالح- المقاصد – العرف – الكليات).
المبحث الخامس: التأويل في النظام الاجتماعي الإسلامي، ويشتمل على ثلاثة مطالب:
- المطلب الأول: حرية الاعتقاد والرأي والفكر والتعبير – والتعددية.
- المطلب الثاني: المواطنة ( أحكام أهل الذمة).
- المطلب الثالث: حكم الحجاب الشرعي والاختلاط.
المبحث السادس: التأويل في النظام السياسي الإسلامي ( شرعية القوانين- شرعية السلطة والنظام السياسي – الخروج ( الجهاد) ضد الأنظمة السياسية).
المبحث السابع: التأويل في النظام الاقتصادي ( مفهوم الربا وحكمه).
الفصل الثاني: قراءة في قراءات المؤولين: (ويشتمل على ثمانية مباحث)
المبحث الأول: الدوافع والأهداف.
المبحث الثاني: أدلة المؤولين
المبحث الثالث: أوجه الاتفاق والافتراق بين المؤولين المعاصرين والفرق الضالة القديمة.
- المعتزلة.………- المرجئة.(1/14)
- الشيعة.………- الخوارج.
- الباطنية.
المبحث الرابع: هل المؤولون المعاصرون توفرت فيهم أهلية الاجتهاد؟
المبحث الخامس: المعاني المستنبطة بدليل التأويل عند المعاصرين.
المبحث السادس: انقسامهم إلى مدرستين.
المبحث السابع: ملامح وأساليب التأويل المعاصر.
المبحث الثامن: حكم المؤول من غير دليل معتبر.
المتأول المعذور بخطئه.
هل يمكن أن يكفر المتأول بتأويله؟
الخلاصة في حكم المتأول المخطئ.
الخاتمة.
التوصيات.
الملخص بالإنجليزية.
فهرس المصادر والمراجع
فهرس الآيات.
فهرس الأحاديث والآثار.
فهرس الموضوعات.
وفي الختام لا أقول إني قد عصمت من الزلل، ولكني أجهدت نفسي على قدر طاقتي لعلي أوفق للصواب، فما كان فيه من صواب فمن الله، وما كان فيه من خطأ فمني، واستغفر الله. فهو خير مسؤول وأكرم مأمول.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
كتبه
إبراهيم محمد بويداين
الظاهرية
الباب الأول
ضوابط التأويل عند الأصوليين
ويحتوي على الفصول والمباحث التالية:
الفصل الأول: التأويل معناه ومشروعيته.
- المبحث الأول: معناه لغة واصطلاحاً عند أهل العلم والفرق المختلفة.
- المبحث الثاني: توجيه اجتهادات عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
- المبحث الثالث: أنواع التأويل
الفصل الثاني: أركان التأويل وشروطه:
- المبحث الأول: الركن الأول: النص محل التأويل
- المبحث الثاني: الركن الثاني: "المؤول" شروطه.
- المبحث الثالث: الركن الثالث: أدلة التأويل
- المبحث الرابع: الركن الرابع: المعنى المستنبط بدليل التأويل.
الفصل الأول
التأويل معناه ومشروعيته
ويحتوي على المباحث والمطالب التالية:
المبحث الأول: معناه لغة واصطلاحا. عند أهل العلم والفرق المختلفة.
- المطلب الأول: معناه لغة.
- المطلب الثاني: التأويل عند الاصوليين ( معناه اصطلاحا).
- المطلب الثالث: التأويل في القرآن والسنة وعند السلف رضوان الله عليهم.
- المطلب الرابع: الصحابة والتأويل(1/15)
- المطلب الخامس: التأويل عند المتكلمين.
- المطلب السادس: التأويل عند الصوفية الباطنية.
المبحث الثاني: توجيه اجتهادات عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
- المطلب الأول: عمر وذم الرأي.
- المطلب الثاني: وقف عمر لأرض السواد.
- المطلب الثالث: عدم قطع السارق عام الرمادة.
- المطلب الرابع: منعه سهم المؤلفة قلوبهم.
- المطلب الخامس: منعه بعض الصحابة من الزواج بالكتابيات.
- المطلب السادس: إسقاطه اسم الجزية عن نصارى بني تغلب.
- المطلب السابع: إيقاعه الطلاق بلفظ الثلاث ثلاثا لا واحدة.
- المطلب الثامن: الحامل على التأويل عند عمر والصحابة والعلماء.
- المطلب التاسع: معارضة النصوص بالأقيسة العقلية.
المبحث الثالث: أنواع التأويل.
المبحث الأول
معنى التأويل لغة واصطلاحا عند أهل العلم والفرق المختلفة
المطلب الأول: معناه لغة
قال ابن فارس: "الهمزة والواو واللام أصلان: ابتداء الأمر وانتهاؤه، أما الأَوّلُ فالأَوَْلُ وهو مبتدأ الشيء، والأصل الثاني قال الخليل " الأَّيلُ الذكر من الوعول والجمع أيائل وإنما سمي أيلاً لأنه يؤول إلى الجبل يتحصن.
وقولهم آل اللبن، وأل يؤول: أي رجع، قال يعقوب: "يقال: أول الحكم إلى أهله أي أرجعه ورده إليهم، والأَيالة السياسة من هذا الباب لأن مرجع الرعية إلى راعيها، ومن هذا الباب تأويل
الكلام وهو عاقبته، وما يؤول إليه، وذلك قوله تعالى: { هَلْ يَنظُرُونَ إِلا تَأْوِيلَهُ } ( الأعراف –53).
يقول ما يؤول إليه وقت بعثهم ونشورهم "(1).
وقال ابن منظور: " والأول الرجوع: آل الشيء يؤول أولاً ومآلاً رجع، وأول إليه الشيء رجعه، وآلت عن الشيء: ارتددت، ويقال: طبخت النبيذ حتى آل إلى الثلث أو الربع أي رجع، وأوّلَ
__________
(1) ابن فارس أبو الحسين أحمد : معجم المقاييس في اللغة ص98-100.(1/16)
الكلام وتُأوَّلَهُ: دبره وقدره، وأوله وتأوله: نشره: وقوله عز وجل { وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ } ( يونس-39)، أي لم يكن معهم علم تأويله، والتأويل عبارة الرؤيا وفي التنزيل { هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَاي مِنْ قَبْلُ } (يوسف/100)، "وآل مآله يؤوله إياله إذا أصلحه وساسه".
والإئتيال: الإصلاح والسياسة، والآل: السراب(1).
وقال الراغب: التأويل من الأول أي الرجوع إلى الأصل، ومن الموئل الموضع الذي يرجع إليه، وذلك هو رد الشيء إلى الغاية المرادة منه علماً كان أو فعلاً ففي العلم نحو: { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ } ( آل عمران– 7). وفي الفعل كقوله تعالى { هَلْ يَنظُرُونَ إِلا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ } (الأعراف –53) أي الذي هو غايته المقصودة منه، وقوله تعالى { خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا } ( النساء –59) قيل أحسن معنى وترجمة، وقيل أحسن ثواباً في الآخرة (2).
مما سبق من أقوال أئمة اللغة يتبين أن التأويل مبنى يحمل في طياته معاني الرد، والصرف، والتحول، والرجوع، والعاقبة، ومن الميسور إيجاد الخيط الذي ينتظمها جميعا والذي له أثر ملحوظ في تحديد معنى التأويل الاصطلاحي عند الأصوليين.
فالأيل من الوعول إنما سمي أيلا لأنه يؤول إلى الجبل أي يتحصن ويتحول، وهو إذ يفعل ذلك فانه يعود إلى مقره ومبدئه، ويرجع إلى بيته الذي يأوي إليه فهو مأواه وعاقبته ومصيره.
وقول ابن فارس: أول الحكم إلى أهله أي رجعه ورده يتضمن صرفه وتحويله إلى أهل شانه، ومعنى الصرف والرد واضح في كل هذه المعاني.
__________
(1) ابن منظور أبو الفضل جمال الدين محمد بن مكرم المصري: لسان العرب 11/32.
(2) الراغب الأصفهاني أبو القاسم الحسين بن محمد: المفردات في غريب القرآن ص30.(1/17)
وقول ابن منظور في معنى تأويل الكلام: تدبيره وتقديره وتفسيره لا يخرج عن اصل ابن فارس الذي وضعه لمعنى التأويل، وهو ابتداء الأمر وانتهاؤه لان من أراد أن يؤول الكلام قلّب رأيه فيه ورد وجوهه واحتمالاته، أولها على آخرها وآخرها على أولها حتى يتبين له وجه الصواب فيه.
ومعنى الرد والصرف هنا بيِّنٌ إذ أن من أُشكل عليه أمر صرّف وجوه النظر فيه، ونظر إلى نهايته وعاقبته.و أما الراغب الأصفهاني فقد أغنانا عن الاجتهاد في استخراج معنى الرد والصرف إذ عرفه بأنه رد الشيء إلى الغاية المرادة منه علما كان أو فعلا.
من هنا تتكشف لنا صلة المعنى اللغوي بالمعنى الاصطلاحي للتأويل عند الأصوليين كما سيأتي، والقائم أساسا على معنى الرد والصرف والإرجاع أي صرف المعنى الظاهري، ورده، وتحويله إلى غير مدلوله الظاهر بدليل، وذلك من اجل بيان عاقبته ونهايته المقصودة منه حقيقة.
المطلب الثاني: التأويل عند الأصوليين
و للتأويل عند علماء الأصول تعريفات متقاربة لا يخلو كثير منها من إيرادات بنقص أو زيادة، وإليك بعض ما قاله الأصوليون في ذلك.
وعرفه السرخسي الحنفي بأنه: " تبيين بعض ما يحتمل المشترك بغالب الرأي والاجتهاد، أو هو ما تصير إليه عاقبة المراد بالمشترك بواسطة الرأي" (1).
قال إمام الحرمين الجويني: "التأويل رد الظاهر إلى ما إليه مآله في دعوى المؤول" (2).
وعرفه الغزالي بقوله:"احتمال يعضده دليل، يصير به أغلبَ على الظن من المعنى الذي يدل على الظاهر" (3).
__________
(1) السرخسي أبو بكر محمد بن أحمد بن أبي سهل: أصول السرخسي: 1/128.
(2) إمام الحرمين الجويني أبو المعالي عبد الملك بن عبد الله بن يوسف: البرهان في أصول الفقه 1/336.
(3) الإمام أبو حامد الغزالي محمد بن محمد: المستصفى من علم الأصول 1/387.(1/18)
وقال الآمدي: "هو حمل اللفظ على غير مدلوله الظاهر مع احتماله له بدليل يعضده" (1).
وقال الطوفي: "هو صرف اللفظ عن ظاهره لدليل يصير به المرجوح راجحاً" (2).
وعرفه شيخ الإسلام ابن تيميه بأنه: "صرف اللفظ من المعنى الراجح إلى المعنى المرجوح لدليل يقترن به" (3).
ومن المعاصرين نجد الدكتور فتحي الدريني اختار في تعريفه بأنه:" تبيين إرادة الشارع من اللفظ بصرفه عن ظاهر معناه المتبادر إليه إلى معنى آخر يحتمله بدليل أقوى يرجح هذا المعنى المراد" (4).
ويتبين من هذه التعريفات اشتراكها جميعاً في اعتبار التأويل خلاف الأصل لأنه اخذ بالاحتمال المرجوح حسب عبارة بعضهم، وبغير الظاهر حسب عبارة الآخرين، وأنه لذلك لا بد ان يسنده دليل تكون دلالته أقوى من دلالة الظاهر، أوجب صرفه عنه إلى غير مدلوله، وأن قوة الدليل تكون بغلبة الظن عند المجتهد وهي متحصلة بالقرائن.
__________
(1) الآمدي سيف الدين ابو الحسن علي بن أبي علي بن محمد: الإحكام في أصول الأحكام 3/74.
(2) الطوفي نجم الدين أبو الربيع سليمان بن عبد القوي بن عبد الكريم بن سعيد: شرح مختصر الروضة 1/558.
(3) ابن تيمية أبو العباس تقي الدين أحمد بن عبد الحليم: مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية : جمع وترتيب: عبد الرحمن بن محمد بن قاسم، رسالة: الأكاليل في المتشابه والتأويل: 13/288.
(4) د. فتحي الدريني: المناهج الأصولية في الاجتهاد بالرأي في التشريع الإسلامي ص189.(1/19)
ويلاحظ على تعريف الإمام الجويني أنه حد لمطلق التأويل، أو للتأويل المجرد بصرف النظر عن كونه صحيحاً أو فاسداً، لخلوه من قيد هام، وهو الدليل الذي بدونه يصبح صرف الألفاظ عن ظواهرها لمجرد الاحتمال لعبا وتحكما، كما قال صاحب جمع الجوامع(1)، إلا أن المتتبع لردود الجويني على بعض التأويلات الفاسدة يجد عدم إغفاله لضرورة وجود دليل للتأويل حتى يكون مقبولاً، مع أنه لم يشترطه ضمن تعريفه وهذا ما يؤيد ما قلته من أنه رحمه الله أراد تعريف مطلق التأويل لا التأويل الصحيح.
فإذا ما جئنا إلى تعريف الإمام الغزالي وجدنا أن الآمدي نقده وأورد عليه بعض الملاحظات منها أن التأويل ليس هو الاحتمال الذي حمل اللفظ عليه بل هو نفس حمل اللفظ عليه وفرق بين الأمرين، وأنه غير جامع لأنه يخرج منه التأويل بالدليل القاطع غير الظني(2)، مما يوجب علماً لا غلبة ظن كما قال الغزالي.
وأما الإمام السرخسي فقد جعل تعيين أحد المحتملين في المشترك تأويلاً وهو ليس كذلك كما قال أهل الأصول(3) إذ ليس أحد المعنيين في المشترك أولى بالرجحان من الآخر لتساويهما في الدلالة عليهما، والتأويل إسناد للمرجوح بدليل.
وتعريف الأستاذ فتحي الدريني لا يخلو أيضاً من الملاحظة لأن فيه تكراراً زائداً إذ لا حاجة لذكر قوله " تبيين إرادة الشارع من اللفظ "،لأن الأخذ بالمعنى المرجوح بعد ترجيحه بالدليل يجعل إرادة الشارع بينةً من اللفظ، كما لا حاجة لذكر قوله " المتبادر منه " لأن ظهور المعنى لا يكون إلا بتبادره إلى الذهن والله – تعالى- أعلم.
__________
(1) انظر: السبكي تاج الدين :جمع الجوامع بشرح المحلي – 2/88.
(2) الإحكام في أصول الأحكام للآمدي 3/74.
(3) الشوكاني محمد بن علي: إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول ص176.(1/20)
بقي أن نقول أن تعريفيْ الإمام الطوفي وابن تيميه لم يذكرا ما إذا كان الاحتمال المرجوح يحتمله ظاهر اللفظ أم لا، لذلك أرى والله أعلم أن تعريف الإمام الآمدي هو أصوبها وأدقها وأبعدها عن الإيراد والنقد إذ هو جامع لما يلزم من قيود مانع لدخول ما لا حاجة إليه من الألفاظ ولذا اختاره على غيره.
شرح التعريف المختار:
عرف الإمام الآمدي التأويل بقوله: "<هو حمل اللفظ على غير مدلوله الظاهر منه مع احتماله له بدليل يعضده" ثم قال في تخريج التعريف.
" وإنما قلنا حمل اللفظ على غير مدلوله احترازاً من حمله على نفس مدلوله، وقولنا" الظاهر منه" احترازاً عن صرف اللفظ المشترك من أحد مدلوليه إلى الآخر، فإنه لا يسمى تأويلاً، وقولنا " مع احتماله له " احترازاً عما إذا صرف اللفظ عن مدلوله الظاهر إلى مالا يحتمله أصلاً، فإنه لا يكون تأويلاً صحيحاً أيضاً.
وقولنا "بدليل" يعم القاطع والظني وعلى هذا فالتأويل لا يتطرق إلى النص ولا إلى المجمل وإنما يتطرق إلى ما كان ظاهراً لا غير"(1).
المطلب الثالث:
التأويل في القرآن والسنة وعند السلف رضوان الله عليهم
__________
(1) الإحكام في أصول الأحكام للآمدي 3/73.(1/21)
إن الناظر في استخدامات القرآن الكريم لكلمة التأويل و اشتقاقاتها يجد أنها لا تعدو معنيين اثنين لا ثالث لهما وهما: الأول تفسير الكلام وبيان معناه سواء وافق ظاهر الكلام او خالفه، ويكون التأويل والتفسير عندها بمعنى متقارب او مترادف، والثاني : هو نفس المراد بالكلام أي ان كان الكلام طلبا لفعل فتأويله وقوع الفعل، كما كان - صلى الله عليه وسلم - يقول في ركوعه وسجوده: سبحانك اللهم وبحمدك اللهم اغفر لي يتأول بذلك قوله تعالى { فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا } ( النصر –3) كما أخبرت عنه عائشة – رضي الله عنها - ، وإن كان الكلام خبرا كان تأويله وقوع نفس المخبر به على الكيفية التي يعلمها الله عز وجل والتي لا ندركها نحن على حقيقتها مثل المطعومات والملبوسات والمنكوحات (1).
__________
(1) انظر: مجموع الفتاوى الكبرى 13/270، وانظر الحديث في صحيح البخاري بشرح العسقلاني 8/733.(1/22)
والإمام الطبري وإن اشتهر عنه القول بترادف معنى التفسير والتأويل إلا أن المتتبع لتفسيره لبعض الآيات يتيقن أنه يريد بذلك أحد معنيي التأويل والذي يعني التفسير والبيان، وأنه لا ينفي ولا يستبعد، ولا ينكر وجود التأويل بمعنىً مغاير لمعنى التفسير " أي وقوع المخبر به أو المأمور حسبما تقدم "، فنراه بعد ذكر أقوال أهل التفسير في قوله تعالى " ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله " يرجح أن المقصود به معرفة الوقت الذي هو جاءٍ قبل مجيئه، المحجوب علمه عنهم وعن غيرهم بمتشابه آي القرآن، ومعرفة الوقت هو من تفاصيل وكنه التأويل الذي لا يعلمه إلا الله كما سبق وأوضحناه، وعند تفسيره لقوله تعالى " ما يعلم تأويله إلا الله " نجده يقول: أي وما يعلم وقت قيام الساعة، وانقضاء محمد وأمته، وما هو كائن إلا الله دون سواه من البشر الذين أملوا إدراك علم ذلك من قبل الحساب والتنجيم والكهانة(1)
وواضح من هذه الأقوال وترجيحه لها أنها تدخل ضمن التأويل بالمعنى الثاني أي بمعنى وقوع المأمور والمخبر به ومعرفة تفاصيل الأمر والخبر وكنهه وقدره ونوعه وصفته، وهي بالتأكيد مغايرة للتأويل بمعناه الأول أي بمعنى التفسير والبيان.
وقال ابن الجوزي " وفي التأويل وجهان أحدهما: التفسير والثاني العاقبة المنتظرة "(2).
وقال القرطبي: " والتأويل يكون بمعنى التفسير كقولك: تأويل هذه الكلمة على كذا ويكون بمعنى ما يؤول الأمر إليه ونقل عن الزجّاج في معنى التأويل الوجهين(3).
__________
(1) الطبري أبو جعفر محمد بن جرير: جامع البيان عن تأويل آي القرآن 3/182.
(2) ابن الجوزي أبو الفرج جمال الدين عبد الرحمن بن علي بن محمد: زاد المسير في علم التفسير 1/354.
(3) القرطبي أبو عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري: الجامع لأحكام القرآن 7/271.(1/23)
وقد وقع خلاف بين العلماء والقرّاء في محل الوقف في قوله تعالى: { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ } (آل عمران-7)هل الوقف على لفظ الجلالة أم على العلم، والتحقيق كما ذكره ابن
كثير(1) وغيره من المفسرين إنه إن أريد بالتأويل المعنى الثاني وهو حقيقة الشيء وما يؤول إليه أمره ومعرفة تفاصيل المخبر به أو المأمور به عند وقوعه فالوقوف على لفظ الجلالة، لأن حقائق الأمور وكنهها لا يعلمها إلا الله عز وجل، وإن أريد به المعنى الآخر وهو التفسير والبيان فالوقف على "الراسخون في العلم" لأنهم يعلمون ويفهمون ما خوطبوا به بهذا الاعتبار، وإن لم يحيطوا علماً بحقائق الأشياء على كنه ما هي عليه.
ومن التأويل بالمعنى الثاني قوله تعالى على لسان يوسف عليه الصلاة والسلام { هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَاي مِنْ قَبْلُ } ( يوسف-100)، وقوله تعالى على لسان يعقوب عليه الصلاة والسلام مخاطباً ابنه يوسف { وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ } ( يوسف-6) وقوله تعالى في سورة النساء { ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا } ( النساء-59).
وقوله على لسان العبد الصالح { سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا } ( الكهف-78). من هنا
يتبين لنا أن غالب ألفاظ التأويل التي جاءت في القرآن يراد بها هذا المعنى الثاني وهو حقيقة المخبر به أو المأمور به، سوى آية آل عمران، والتي جاء فيها التأويل بمعنى التفسير والبيان مرة وبمعنى التفسير المحرف الذي يوافق أهواء الزائغين ومذاهبهم الفاسدة مرة أخرى وذلك في قوله تعالى:
{ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ } ( آل عمران-7).
__________
(1) ابن كثير عماد الدين أبو الفداء إسماعيل القرشي الدمشقي: تفسير القرآن العظيم 2/9.(1/24)
ويتضح من أقوال أئمة التفسير السابقة أن التأويل عندهم لا يخرج عن المعنيين اللذيْن ساقهما شيخ الإسلام ابن تيميه فهو يأتي إما بمعنى التفسير مطلقاً، بصرف النظر عن كونه صحيحاً أو فاسداً كما في قوله تعالى " ابتغاء تأويله " إذ فسره غير واحد بأنه تحريفه، وبغض النظر عما إذا كان موافقاً للظاهر أو مخالفاً له، فإن كان موافقا للظاهر فهو بيِّن، وان كان مخالفا للظاهر انطبق على تعريف الأصوليين السابق ووجه كونه تفسيراً حينئذٍ أنه يكون هو حقيقة المراد لا ظاهر اللفظ.
وبيان حقيقة المراد من اللفظ وإن خالف الظاهر هو عين التفسير، وهو الذي عناه الراغب الأصفهاني بقوله " هو رد الشيء إلى الحقيقة المرادة منه علماً كان أو فعلاً، وليس يشترط أن تكون الحقيقة المرادة مستفادة من ظاهر اللفظ، بل قد يدل عليها معنى محتمل للفظ يعضد بدليل خارجي.
وقد ذهب الدكتور صلاح الخالدي في كتابه التفسير والتأويل إلى جعل تأويل الرؤيا معنى ثالثا من معاني التأويل إلا أنه عاد وأدخله تحت المعنى الثاني، الذي هو بيان الصورة الحسية الواقعية، والناظر في أقوال المفسرين يجد أنهم أدخلوا تفسير الرؤيا تحت المعنى الأول الذي هو التفسير والبيان.(1)
الفرق بين التأويل والتفسير:
وجدير بالبيان هنا أن أوضح الفرق بين التأويل والتفسير عند علماء التفسير، ولأهل العلم سبعة أقوال في ذلك:
الأول: أنهما بمعنى واحد فهما مترادفان، وهذا هو الشائع عند المتقدمين من علماء التفسير وعلى رأسهم الإمام الطبري.(2)
__________
(1) صلاح عبد الفتاح الخالدي: التفسير والتأويل في القرآن الكريم ص137.
(2) قد بينا أن الطبري لا ينفي ولا ينكر وقوع التأويل ومجيئه بالمعنى الآخر، وانظر في بيان هذه الفروق علوم القرآن للزركشي 2/149 والإتقان في علوم القرآن للسيوطي 2/173 ومناهل العرفان للزرقاني 1/482.(1/25)
الثاني: إن التفسير أعم من التأويل، فالتأويل أخص، فكثير ما يستعمل التفسير في الألفاظ كبيان البحيرة والسائبة والوصيلة و الحام أو في تبيين المراد وتفسير المجمل، نحو الأمر بإقامة الصلاة و إيتاء الزكاة، وإما في كلام مضمن بقصة لا يمكن تصوره إلا بمعرفتها نحو
{ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا } ( البقرة -189).
وأما التأويل فإنه يستعمل مرة عاماً ومرة خاصاً نحو الكفر المستعمل تارة في الجحود المطلق وتارة في جحود الباري خاصة، والإيمان المستعمل في التصديق المطلق تارة وفي تصديق دين الحق تارة، و إما في لفظ مشترك بين معاني مختلفة نحو لفظ الوجد المستعمل في الجد والوجد والوجود.
الثالث: التفسير القطع على أن المراد من اللفظ هذا، والشهادة على الله أنه عنى باللفظ هذا، فإن قام دليل مقطوع به فصحيح وإلا فتفسير بالرأي وهو المنهي عنه.
الرابع: أن التفسير بيان وضع اللفظ، إما حقيقة أو مجازاً، كتفسير الصراط بالطريق، و الصيب بالمطر والتأويل تفسير لباطن اللفظ، فالتأويل إخبار عن حقيقة المراد، والتفسير إخبار عن دليل المراد، لأن اللفظ يكشف عن المراد، والكاشف دليل، ومثاله قوله تعالى في سورة
الفجر { إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ } ( الفجر –14) تفسيره أنه من الرصد، ويقال رصدته، رقبته،
والمرصاد: مفعال منه وتأويله التحذير من التهاون بأمر الله، وقواطع الأدلة تقتضي بيان المراد منه على خلاف وضع اللفظ في اللغة.
الخامس: أن التأويل هو صرف الآية إلى معنى محتمل يوافق ما قبلها وما بعدها، غير مخالف للكتاب والسنة من طريق الاستنباط، والتفسير هو الكلام في أسباب نزول الآية وشأنها وقصتها.
السادس: التفسير ما يتعلق بالرواية، والتأويل ما يتعلق بالدراية.(1/26)
السابع: التفسير هو بيان المعاني التي تستفاد من وضع العبارة، والتأويل هو بيان المعاني التي تستفاد بطريق الإشارة(1).
ويترجح لدي أن أقرب هذه الأقوال إلى الصواب هو قول الإمام الطبري رحمه الله، وذلك إذا ما أخرجنا المعنى الثاني للتأويل عند شيخ الإسلام ابن تيميه. أي وقوع المخبر به أو المأمور به. فعند إخراجه فإن التأويل والتفسير يصبحان بمعنىً واحد، ذلك أن التأويل هو بيان المعنى المرجوح بدليل ثم الأخذ به، وهذا المعنى المرجوح يصبح بعد الترجيح هو المراد من اللفظ حقيقة لا ظاهره الراجح بالأصل ويكون بيانه حينئذٍ هو تفسيره الحقيقي.
فالإمام الطبري حين قال أن التأويل بمعنى التفسير إنما عنى به المعنى الأول الذي بينه ابن تيميه ولم يرد به المعنى الثاني الذي هو وقوع المخبر به أو المأمور به والعلم به على ما هو عليه، والدليل على ذلك أن الإمام الطبري على الرغم من قوله بترادف معنى التفسير والتأويل فإن ذلك لم يمنعه من تفسير التأويل بمعنى العلم بوقوع المخبر به أو المأمور به، كما ذكرته.
التأويل في الحديث :
وما يصدق على معاني التأويل في القرآن يصدق على معانيه التي جاءت في الحديث والأثر:
ومن ذلك حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه - قال لما نزلت هذه الآية : { الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ } ( الأنعام –83) شقّ ذلك على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وقالوا: أيُّنا لم يظلم نفسه ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ليس كما تظنون إنما هو كما قال لقمان { يَابُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } ( لقمان-11)(2).
__________
(1) الذهبي محمد حسين: التفسير والمفسرون 1/19 - 22.
(2) صحيح البخاري بشرح العسقلاني 12/303.(1/27)
وحقيقة ما حصل للصحابة هنا هو أنهم فهموا الآية على ظاهرها وعمومها وفسروها بما يقتضي هذا الظاهر العام، فظنوا أن المقصود هنا مطلق الظلم ولكن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أول لهم هذا الظاهر العام " الظلم" وبين أن هذا العموم غير مراد، بل أن المراد هو معنى خاص من الظلم وهو" الشرك"، وبعبارة الأصوليين صرف هذا اللفظ الظاهر عن عمومه إلى معنى آخر خاص ومرجوح وهو " الشرك " بدليل قوي وهو آية لقمان، فحقيقة التأويل هنا هي تخصيص العموم، ولا يعكر على هذا أن قول الرسول عليه الصلاة والسلام بحد ذاته يعد دليلاً شرعياً، فهو تأويل من جهة أنه صرف ظاهر إلى غير مدلوله بدليل، وهو تفسير من جهة أنه المعنى الصحيح المقصود من الآية.
ومن هذا الباب ما جاء من الأحاديث عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - في تأويل الرؤيا وتفسيرها وأذكر منها عل سبيل التمثيل لا الحصر ما رواه مسلم من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : رأيت ذات ليلة فيما يرى النائم كأنا في دار عقبة بن رافع فأتينا برطب من رطب ابن طاب فأولت الرفعة لنا في الدنيا والعافية في الآخرة وأن ديننا قد طاب"(1).
ومعنى تأويله - صلى الله عليه وسلم - هنا للرؤيا أي تفسيره لها، وهذا ما حصل في الدنيا وتحقق تأويل الرسول - صلى الله عليه وسلم - لهذه الرؤيا فقد طاب الإسلام وكمل واستقر ونال المسلمون الرفعة في الدنيا.
ومما جاء من الأحاديث في التأويل بمعناه الثاني وهو وقوع المخبر به أو المأمور به، ما رواه البخاري في تفسير سورة النصر عن عائشة رضي الله عنها قالت: " كان رسول الله عليه الصلاة السلام يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي يتأول القرآن"(2).
__________
(1) الإمام مسلم أبو الحسين بن الحجاج بن مسلم القشيري النيسابوري: صحيح مسلم بشرح النووي 15/31.
(2) سبق تخريجه.(1/28)
قال الإمام ابن حجر في شرحه للحديث: ومعنى قوله " يتأول القرآن: يجعل ما أمر به من التسبيح والتحميد والاستغفار في أشرف الأوقات والأحوال "(1).
المطلب الرابع: الصحابة والتأويل
سبق القول أن بيان مراد الشارع من الكلام أو تفسيره قد يكون بما يدل عليه ظاهر اللفظ وقد يكون بما يخالف الظاهر، وهنا لا بد من دليل يوجب الصرف وهو التأويل، وهو لا يخرج عن كونه تفسيراً ما دام أنه يوصل إلى مراد الشارع وبيان مقصوده الصحيح من الخطاب الكريم.
ولا يحتاج إثبات مشروعية التأويل ووجوده في عصر الصحابة إلى كبير عناء وتفتيش، فالأمر أظهر وأوضح من أن يحتاج إلى جهد عسير حتى تكتشف أنه كان سائداً شائعاً في عصر الصحابة الكرام.
وإن الناظر في الموسوعات الفقهية في الفروع، ليجد أن كل خلاف في أي مسألة، وما أكثره!! ناتجٌ عن نوعِ تأويلٍ من أحد الطرفين المختلفين لآيةٍ قرآنيةٍ غيرِ قطعيةِ الدلالةِ، أو قولٍ أو فعلٍ للرسول - صلى الله عليه وسلم -، وهذا الخلاف الفقهي بين الصحابة كان موجوداً حتى في عصر الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ومن أمثلة ذلك حادثة اختلافهم في صلاة العصر يوم بني قريظة(2).أو اختلاف عمر وعمار في كيفية طهارة الجنب بالتيمم وغير ذلك(3).
__________
(1) ابن حجر العسقلاني أحمد بن علي : فتح الباري بشرح صحيح البخاري 8/734.
(2) صحيح البخاري بشرح العسقلاني 7/407، وذلك أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - نهاهم عن الصلاة الا في بني قريظة فبعضهم صلاها في الطريق وبعضهم لم يصلها الا في بني قريظة فلم يعنف أحدا من الفريقين.
(3) نفس المصدر 1/443.(1/29)
فأصل الخلاف الفقهي لا يتأتى لو أخذ الناس كلهم بدلالة ظاهر اللفظ فقط، وهذا غير ممكن لأنه لا يكون إلا في القطعيات، ويتضح هذا أكثر إذا رجعنا إلى كتب أسباب الخلاف الفقهي، وهو نابع من طبيعة اللغة العربية واحتمال ألفاظها للمعاني المتعددة، فأحدهم يأخذ بعموم اللفظ، وآخر يقول بتخصيصه، والتخصيص كما سنعلم نوع من أنواع التأويل، بل هو أكثرها شيوعاً.وبعضهم يقول بإطلاق اللفظ ويذهب المخالف إلى القول بالتقييد، وذلك نوع تأويل، وثالث يحمل اللفظ على الحقيقة، وصاحبه يحمله على المجاز، ورابع يفهم الأمر – سواء من الكتاب او السنة - على أنه للندب، وآخر يفهمه على أنه للوجوب. ومنهم من يفهم النهي – سواء من الكتاب او السنة - للحرمة، وآخر يظنه للكراهة.
ولو نظرت إلى أسباب اختلاف الصحابة في الفروع ومن بعدهم التابعين ثم مجتهدي المذاهب لرأيت أن عامة اختلافهم يؤول إلى أحد أنواع التأويل التي ذكرت، وخصوصاً النوع الأول وهو الخلاف في العموم والخصوص.
مشروعية التأويل:
فمما جاء في ذلك عن الصحابة بالمعنى الأول للتأويل، وهو التفسير والبيان للفظ سواء وافق ظاهره أو خالفه ما يلي:
ما أخرجه الإمام الترمذي عن أسلم أبي عمران التجيبي " قال كنا بمدينة الروم فأخرجوا إلينا صفاً عظيماً من الروم،فخرج إليهم من المسلمين مثلهم أو أكثر، وعلى أهل مصر عقبة بن عامر وعلى الجماعة فضالة بن عبيد، فحمل رجل من المسلمين على صف الروم حتى دخل فيهم، فصاح الناس وقالوا: سبحان الله يلقي بيده إلى التهلكة، فقام أبو أيوب فقال: يا أيها الناس إنكم تتأولون هذه الآية هذا التأويل، وإنما أنزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار، لما أعز الله الإسلام وكثر ناصروه، قال بعضنا لبعض سراً دون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إن أموالنا قد ضاعت، وإن الله قد أعز الإسلام وكثر ناصروه، فلو أقمنا في أموالنا، فأصلحنا ما ضاع منها، فأنزل الله تعالى على نبيه – عليه الصلاة(1/30)
والسلام – يرد علينا ما قلنا { وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ } (البقرة-195)، فكانت
التهلكة الإقامة على الأموال و إصلاحها وتركنا الغزو، فما زال أبو أيوب شاخصاً في سبيل الله حتى دفن في أرض الروم " (1).
فحقيقة الفهم الخاطئ هنا أنهم حملوا النهى عن الإلقاء باليد إلى التهلكة على أنه نهي مطلق يقتضي حرمة كل ما يؤدي إلى هلاك النفس وإفنائها ولو كان في سبيل الله، وذلك فهم خاطئ مردود، والصحيح أن الإلقاء باليد إلى التهلكة، وتقحم ما من شأنه تعريض النفس للخطر محرم إلا في الجهاد في سبيل الله، واستثناء الجهاد هنا ونفي الإطلاق، مفهوم من الوقوف على سبب النزول الذي بينه لهم الصحابي الجليل أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه، فمعنى قوله لهم "تتأولون" أي تفسرونها تفسيراً خاطئاً، تماماً كما أخطأوا في تفسير معنى الظلم في آية الأنعام وقد مرت.
وهم معذورون في ذلك الفهم لأن ظاهر الآية وإطلاقها يفيد ما ذهبوا إليه، ولكن هذا الظاهر الذي يفيد إطلاق النهي المفيد للتحريم متروك بدليل جواز المخاطرة بالنفس في سبيل الله بل قد يكون واجباً، وبدليل سبب النزول الذي بينه أبو أيوب.
وبعبارة الأصوليين فإن أبا أيوب صرف اللفظ عن معناه الظاهر الراجح المفيد لإطلاق تحريم المخاطرة إلى معنى كان مرجوحاً، وهو جواز المخاطرة في سبيل الله لدليل هو وقوفه على سبب النزول، وحقيقة التأويل هنا هي تقييد المطلق.
فهم أطلقوا ما حقه التقييد، وهو غير جائز بالاتفاق لأن الأدلة قد قامت على بطلانه ممن عايشوا التنزيل ووقفوا على أسباب النزول.
__________
(1) الترمذي أبو عيسى محمد بن عيسى بن سورة: الجامع الصحيح وهو سنن الترمذي 5/212.وقال حسن غريب صحيح0(1/31)
وأما ما جاء من التأويل في أقوال الصحابة بمعناه الثاني أي وقوع المخبر به أو المأمور به، فكثير نذكر منه: ما أخبر به الطبري في تفسير قوله تعالى { وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ } (لبقرة-115)، عن ابن عمر أنه كان يصلي حيث توجهت به راحلته، ويذكر أن رسول الله عليه الصلاة والسلام كان يفعل ذلك ويتأول هذه الآية { فأينما تولوا فثم وجه الله } (1).
المطلب الخامس: التأويل عند المتكلمين
والتأويل عند المتكلمين اختص، وانحصر في العقيدة والمتشابه من آيات صفات الله عز وجل، وأفعاله، وأخبار المعاد، فأولوها بما ظنوا أنه يتفق وتنزيه الله عز وجل، قال الزرقاني:
" التأويل عند المتكلمين ما ذهب إليه الخلف من صرف نصوص ما تشابه من الكتاب والسنة عن ظاهره إلى معان تتفق وتنزيه الله- تعالى -عن المشابهة والمماثلة، بخلاف ما ذهب إليه السلف من التفويض والإمساك عن تعيين معنىً خاص "(2)
وقال البغدادي: " والمتكلمون أولوا صفات الله تعالى مثل العين واليد والوجه وأفعاله كالنزول، والصعود، والمجيء، والغضب، والكلام "(3).
فتأويلات المتكلمين واقعة في آيات العقيدة فقط، لا في النصوص التي تتناول الأحكام العملية، وعليه فإنها خارج إطار هذه الدراسة، من حيث موضوعاتها القديمة.
إلا أنه داخل في معنى التأويل عند الأصوليين من حيث هو صرف لظاهر اللفظ إلى معنى مرجوح قد يسنده دليل من اللغة أو الشرع.
المطلب السادس: التأويل عند الصوفية الباطنية
__________
(1) جامع البيان 1/503.
(2) الزرقاني محمد بن عبد العظيم: مناهل العرفان في علوم القرآن 1/473، والصحيح ان السلف يفوضون الكنه والكيفية ولا يفوضون حقيقة المعنى بل يعينون المعنى الظاهر.
(3) البغدادي أبو منصور عبد القاهر بن طاهر التميمي: أصول الدين ص110.(1/32)
عرف الصوفية بالتفسير الإشاري هو تأويل القرآن بغير ظاهره لإشارة خفية تظهر لأرباب السلوك والتصوف، ويمكن الجمع بينه وبين الظاهر المراد أيضاً(1).
ومن هنا يعلم الفرق بين تفسير الصوفية المسمى بالتفسير الإشاري وبين تفسير الباطنية الملاحدة " باطنية الصوفية أصحاب التفسير النظري الفلسفي".
فالصوفية لا يمنعون إرادة الظاهر، ويقولون: لا بد منه أولاً، إذ من ادعى فهم أسرار القرآن، ولم يحكم الظاهر كمن ادعى بلوغ سطح البيت قبل أن يجاوز الباب، وأما باطنية الصوفية فإنهم يقولون " إن الظاهر غير مرادٍ أصلاً، وإنما المراد الباطن، وقصدهم نفي الشريعة "(2).
نماذج من التأويل " التفسير الإشاري" المقبول :
فمنها ما جاء عن سهل بن عبد الله التستري في قوله تعالى { فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ }
(البقرة-22)، قال { فلا تجعلوا لله أنداداً } أي أضدادا، فأكبر الأضداد النفس الأمارة بالسوء المتطلعة إلى حظوظها ومناها بغير هدىً من الله.
" فهذا القول من سهل يشير إلى أن النفس الأمارة داخلة في عموم الأنداد، حتى لو فصل لكان المعنى فلا تجعلوا لله أنداداً: لا صنماً ولا شيطاناً ولا النفس ولا كذا ولا كذا...الخ. فيمكن أن يكون لهذا التفسير وجه صحيح، وبيان ذلك أن الناظر في القرآن الكريم قد يأخذ من معنى الآية معنىً من باب الاعتبار فيجريه فيما لم تنزل فيه الآية، لأنه يجامعه في القصد أو ما يقاربه(3).
__________
(1) مناهل العرفان 1/546.
(2) الذهبي محمد حسين: التفسير والمفسرون 2/356.
(3) نفس المصدر 2/359.(1/33)
ويستند هذا اللون من التفسير لما روى عن ابن عباس من تأويله سورة النصر بمحضر من الصحابة الكرام بأنه أجل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو خلاف الظاهر، قال ابن حجر في ذكر فوائد هذا الحديث " وفيه جواز تفسير القرآن بما يفهم من الإشارات وإنما يتمكن من ذلك من رسخت قدمه في العلم "(1).
ومن التأويلات الإشارية الباطنية:
ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيميه في مجموع فتاويه قال:"وأما باطنية الصوفية فيقولون في قوله تعالى { اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ } ( النازعات-17)، إنه القلب وقوله { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً } (البقرة-67).
أنها النفس، ويفسرون هم والفلاسفة تكليم موسى بما يفيض من العقل الفعال، ويجعلون خلع النعلين ترك الدنيا والآخرة(2).
فهذا وأمثاله من التأويلات البعيدة المردودة. وكيف ينسب ذلك إلى أنه مراد الله –تعالى- في خطاب العرب الأمية التي لا تعرف شيئا من ذلك، وهذه كلها دعاوى يدعونها على القرآن، وهي مستندة إلى الكشف والإطلاع ودعوى الكشف والإطلاع لا تصلح دليلاً شرعياً بحال من الأحوال(3).
__________
(1) فتح الباري بشرح صحيح البخاري 8/608 ، والحديث في صحيح البخاري بشرح العسقلاني 8/734.
(2) مجوع الفتاوى الكبرى 13/238.
(3) التفسير والمفسرون 2/362-365.(1/34)
وهذا وأمثاله من كلام الصوفية لو قلنا أنهم أرادوا به تفسير الآيات القرآنية ببيان معانيها التي عليها لا غير، لكان هو بعينه مذهب الباطنية، وذلك لأن المعاني التي حملوا عليها الألفاظ في الآيات السابقة لا تعرفها العرب مدلولات لهذه الألفاظ لا بالوضع الحقيقي ولا بالوضع المجازي المناسب، وليس في سياق الآيات ما يدل على هذه المعاني المذكورة، ومعلوم أن القرآن عربي ومخاطب به العرب الذين يفهمون ألفاظه وتراكيبه، فهذه الآيات المذكورة آنفاً لا يفهم منها العربي أكثر من المعاني المتبادرة إلى فهمه، وأيضاً لم ينقل لنا عن السلف الصالح من الصحابة والتابعين تفسير للقرآن يماثل هذا التفسير أو يقاربه، ولو كان معروفاً عندهم لنقل، لأنهم أدرى بمعاني القرآن ظاهرها وباطنها باتفاق الأمة، وغير معقول أن يأتي آخر هذه الأمة بأهدى مما كان عليه أولها، ولا هم أعرف بالشريعة منهم، ولا أدرى بلغة القرآن من قومه الذين نزل بلسانهم وعلى لغتهم(1).
وقال ابن الصلاح في فتاويه: وجدت من الإمام أبي الحسن الواحدي المفسر أنه قال: صنف أبو عبد الرحمن السلمي "حقائق التفسير" فإن كان قد اعتقد أن ذلك تفسيراً، فقد كفر.
قال ابن الصلاح: وأنا أقول الظن بمن يوثق به منهم إذا قال شيئاً من ذلك أنه لم يذكره تفسيراً ولا ذهب به مذهب الشرح للكلمة، فإنه لو كان كذلك كانوا قد سلكوا مسلك الباطنية، وإنما ذلك منهم تنظير لما ورد به القرآن، فإن النظير يذكر بالنظير ومع ذلك فياليتهم لم يتساهلوا بمثل ذلك لما فيه من الإبهام والالتباس(2).
__________
(1) نفس المصدر 2/366.
(2) فتاوى ومسائل ابن الصلاح في التفسير والحديث والأصول والفقه 1/196.(1/35)
وقال الزرقاني نقلا عن النسفي: النصوص على ظواهرها والعدول عنها إلى معان يدعيها أهل الباطل الحاد، قال التفتازاني في شرحه للعبارة: سميت الملاحدة باطنية لادعائهم أن النصوص ليست على ظاهرها بل لها معان لا يعرفها إلا المعلِّم، وقصدهم بذلك نفي الشريعة بالكلية، وأما ما يذهب إليه بعض المحققين من أن النصوص على ظواهرها ومع ذلك ففيها إشارات خفية إلى دقائق تنكشف لأرباب السلوك يمكن التوفيق بينها وبين الظواهر المرادة، فهو من كمال الإيمان ومحض العرفان(1).
ويفهم من كلام الغزالي في هذا الجانب أنه ينكر من هذه التفسيرات والتأويلات ما كان منها مفضياً إلى إسقاط التكاليف الشرعية والأعمال الظاهرة فحسب، وجعل قتلَ من نطق بشيء منه أفضل من إحياء عشرة(2).
وقد ذهب شيخ الإسلام ابن تيميه(3) إلى أن إشارات الصوفية وتأويلاتهم منها صحيح وباطل، فإن أريد بها أنها معان مرادة ومدلولات للألفاظ، فهو افتراء على الله، وإن أريد أنها من باب الاعتبار والقياس لا من باب دلالة اللفظ فهذا نوع من القياس، وهو الذي يسميه العلماء قياساً، وتسميه الصوفية إشارة، وهو ينقسم إلى صحيح وباطل كانقسام القياس إلى ذلك، فمن سمع قول الله
تعالى { لا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ } (الواقعة-79) وقال: إنه اللوح المحفوظ أو المصحف: فقال كما أن اللوح
المحفوظ الذي كتب فيه حروف القرآن لا يمسه إلا بدن طاهر فمعاني القرآن لا يذوقها إلا القلوب الطاهرة وهي قلوب المتقين كان هذا معنى صحيحاً، ولهذا يروى هذا عن طائفة من السلف، قال تعالى عن القرآن { هُدًى لِلْمتَّقِينَ } ( البقرة-2).
المبحث الثاني
توجيه اجتهادات عمر بن الخطاب رضي الله عنه
__________
(1) مناهل العرفان 1/546-557.
(2) أبو حامد الغزالي محمد بن محمد: إحياء علوم الدين 1/53.
(3) مجموع الفتاوى الكبرى 13/241 بتصرف.(1/36)
في خضم الدعوات المتعالية إلى التجديد وإعادة قراءة النصوص من منظور عصري، يستوقف الباحث ذلك التركيز الشديد على بعض الاجتهادات لخليفة المسلمين الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه في بعض النصوص القرآنية والأحاديث النبوية الشريفة حيث تعاد قراءتها وفق رؤى واقعية عصرية من قبل المتصدين للشأن الثقافي العام من الكتّاب والصحفيين، وتعاد صياغتها في قوالب فكرية ويستخلص منها قواعد واستنتاجات، ظن أصحابها أنهم فاقوا فيها الأوائل في فهم فلسفة التشريع الإسلامي وإدراك معاني النصوص ودلالاتها ومقاصدها، حيث يخرجون عادة بعد تحليل هذه الاجتهادات بقاعدة باطلة مفادها:
أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قد اجتهد في نصوص صريحة واضحة قطعية الثبوت والدلالة فأوّلها أو عطلّها، وخصّصها أو قيّدها، أو أوقف العمل بها مؤقتاً، تارة باسم المصلحة العامة وتارة باسم الفهم العميق لمقاصد الشريعة، ولا يفوتهم أثناء ذلك استشعار الحاجة الى كيل حزمة من المديح لعمر والثناء على حسن فهمه وعبقريته وغوصه على بواطن النصوص حتى وصل به الحال - كذا يدعون - إلى مخالفة النصوص ذاتها، فهو مجتهد عبقري لم تعرف الأمة له مثيلاً، وعلى خطاه يجب أن يسير" المجتهدون" "والعلماء " "والمفكرون " والقادة في هذه الأيام "(1).
__________
(1) انظر: - علي حسب الله : أصول التشريع الإسلامي ص101،183.
- وأحمد أمين: فجر الإسلام ص238.
- و محمد هشام الأيوبي: الاجتهاد ومقتضيات العصر ص212،222.
- ود. محمد عمارة: معالم المنهج الإسلامي ص103 –113.
وله أيضاً: النص الإسلامي بين الاجتهاد والجمود والتاريخية ص48- 69.(1/37)
كل ذلك وصولاً إلى الهدف من وراء هذه القراءات وتلك الاجتهادات والتأويلات ألا وهي انتزاع اعتراف بصحة وشرعية قاعدتهم المستنبطة وهي: أن الاجتهاد غير مقتصر على النصوص الظنية ثبوتاً أو دلالة وأنه لا صحة للقاعدة الأصولية الشائعة " لا اجتهاد في مورد النص" فقد تكرر اجتهاد عمر في نصوص قطعية ثبوتاً ودلالة، كاجتهاده في قسمة أرض السواد وتضعيف الجزية على نصارى بني تغلب باسم الصدقة وتعطيل حد السرقة ومنع إعطاء المؤلفة قلوبهم …الخ(1).
والذي يعني هؤلاء القوم اليوم، ليس الاجتهاد في حكم الغنائم ولا الجزية، فما عاد هناك غنائم، وصارت الجزية تؤخذ على رقاب المسلمين لا رقاب أهل الذمة، وإنما مرادهم التسليم لهم بالقاعدة " الاجتهاد سائغ حتى في مورد النصوص القطعية "، فإن سلّم لهم بذلك راحوا يجتهدون في شكل نظام الحكم في الإسلام ومتى يكون شرعياً ومتى يعتبر باطلاً، فيخرجون بجواز أن يكون الحكم ديمقراطياً، وان شرعيته مستمدة من تأييد غالبية "الشعب "، ثم اجتهدوا في حجاب المرأة، فخرجوا بجواز كشفها شعرها ونحرها وساعديها وساقيها كيف لا وهو رأي بعض الأئمة ؟!، فإن سلم لهم بهذا - وأنّى يظفروا به - تابعوه بالقول بجواز الاختلاط، أوَ ليس بجائز أن تبيع المرأة وتشتري ؟! أما يجوز لها أن تشهد الجمعة والجماعات وصلاة العيدين ومهمات المسلمين ؟ثم أجازوا ربا البنوك وأحلوها، أو ليس مفهوم الربا ذاته فيه خلاف عن ابن عباس ؟ أو لم تكن حرمته مقيدة بكونه مضاعفاً مرة أو تكون قرضاً استهلاكياً لا إنتاجيا ؟.
__________
(1) وهو ما صرح به د. محمد عمارة وكشف عن نيته فيه في كتابيه السابقين وغيرهما.(1/38)
وهؤلاء الكتاّب وإن لم يجرؤ بعضهم على التصريح بهذا، إلا أن قصدهم هذا ظاهر من إلحاحهم الشديد على مفهوم الاجتهاد، وإعادة قراءة النصوص وفق مناهج ورؤى غربية أو شرقية، بعضها قديم وبعضها معاصر، وظاهر من تركيزهم الشديد على تحطيم مرجعية النص الشرعي وقدسيته، من خلال القول بتاريخيته وبيئته، وأقول "البعض منهم " لأن كثير منهم ما عاد يخشى إبداء أهدافه ودعواته ولا عاد يختبئ تحت عباءة عمر، التي لا تغطي الخارجين على القرآن والسنة، نجد ذلك واضحاً عند الجابري و أركون ونصر حامد أبي زيد ومحمد عمارة وبعض رموز التيار الإسلامي كالترابي و الغنوشي(1)، وغيرهم
وهذا بعض ما حملني على الحديث في هذه الاجتهادات الواردة عن عمر رضي الله عنه وتوضيحها وتوجيهها، وبيان أنها لم تكن في الموارد القطعية، كما توهم هؤلاء الناس، وأن الفاروق الملهم لم يعطل حداً، ولم يخالف حكماً وأولى لهؤلاء أن لا يتعلقوا بخيوط يظنونها من الحديد وما هي إلا من خيوط العنكبوت. وأبدؤها بما يظنه بعضهم أوضح وأصرح مخالفة لعمر رضي الله عنه للقرآن الكريم.
المطلب الأول : عمر وذم الرأي
لكن قبل الشروع في تفنيد تلك التوهمات، أتحف القارئ بنزر يسير من أقوال الفاروق رضي الله عنه، في إنكاره القول بالرأي المحض في الدين، ولعله من نافلة القول أن أذكر أن عمر في ذلك لم يكن بدعا من الصحابة، بل ومن أجيال المسلمين المتلاحقة، الذين تطامنوا على جعل النصوص الشرعية هي الحكم والمرجع والفيصل في كل ما يعرض من اختلافات ومشاكل لا إلى الأهواء.
ولكن تزايد الطعون من أعداء الوحي والسنة خاصة واشتداد الجلبة من محترفي الضوضاء الفكرية ألزمتنا بذكر هذه النقول، وهذه بعضها:
__________
(1) سنوضح تلك الدعوات ومواضعها وقائليها في فصل " دعاوى التجديد " في الباب الثاني، إن شاء الله تعالى.(1/39)
1. قال وهب بن منبه:" ثنا يونس بن يزيد عن ابن شهاب أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال وهو على المنبر: يا أيها الناس إن الرأي إنما كان من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مصيباً، أن الله كان يريه و إنما هو منا الظن والتكلف.
قال ابن القيم بعد ذكر هذا الأثر: مراد ابن عمر رضي الله عنه قوله تعالى { إِنا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ } ( النساء-105 ) فلم يكن له رأي غير ما أراه الله إياه، وأما ما رأى غيره فظن وتكلف.
2. وروى ابن وهب عن محمد بن إبراهيم التيمي: أن عمر بن الخطاب قال: اصبح أهل الرأي أعداء السنن، أعيتهم أن يعوها، و تفلتت منهم أن يرووها فاستبقوها بالرأي.
3. وذكر ابن الهادي عن محمد بن إبراهيم التيمي قال: قال عمر بن الخطاب: إياكم والرأي فان أصحاب الرأي أعداء السنن، أعيتهم الأحاديث أن يعوها، وتفلتت منهم أن يحفظوها، فقالوا في الدين برأيهم، وزاد الشعبي في رواية: فقالوا بالرأي فضلوا و أضلوا.
قال ابن القيم بعد أن ذكر هذه الآثار وغيرها الكثير الكثير عن عمر وأبي بكر وعثمان وعلي وابن مسعود وغيرهم من اجلة الصحابة: وأسانيد هذه الآثار عن عمر في غاية الصحة(1).
__________
(1) ابن قيم الجوزية محمد بن أبي بكر بن مسعد الزرعي : إعلام الموقعين عن رب العالمين 1/57.(1/40)
فما جاء عن بعض الصحابة في قولهم بالرأي، فإنما كان يعني الرأي المحمود ؟، وهو الرأي الذي يفسر النصوص، ويبين وجه الدلالة فيها،ولا يستوي رأي من أثنى الله عز وجل عليهم في القران والتوراة والإنجيل، وسبق لهم على لسان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الفضل ما ليس لأحد بعدهم، وشاهدوا التنزيل فعلموا ما أراد الله عز وجل ورسوله عاما وخاصا وعزما و إرشادا،وهم فوقنا في كل علم واجتهاد وورع …، أقول لا يستوي هؤلاء الربانيون بمن علم حالهم وتقصيرهم واستغراق أوقاتهم و أعمارهم في الدنيا وملذاتها على احسن الأحوال العيال.
والرأي كما هو معروف عند جمهور العلماء منه ما هو محمود بلا ريب كالذي ذكرت، ومنه ما هو باطل بلا ريب، كالرأي المخالف للنصوص أو الكلام في الدين بالخرص والظن، والقول في أحكام الشرائع بالاستحسان والهوى، مع التفريط والتقصير في معرفة النصوص وفهمها واستنباط الأحكام منها، أو الرأي الذي تُحدث به البدع وتُغير به السنن، ومن كان له مسكة من عقل، يعلم ان فساد العالم وخرابه إنما نشا من تقديم الرأي على الوحي، والهوى على العقل، وما استحكم هذان الأصلان الفاسدان في قلب إلا استحكم هلاكه، وفي أمة إلا فسد أمرها أتم فساد، فلا اله إلا الله كم نفي بهذه الآراء من حق وأثبت بها من باطل ؟ وأُميت بها من هدى وأُحييَ بها من ضلالة ؟ وكم هُدم بها من معقل للإيمان أو عُمِّر بها من دين للشيطان؟.(1)
فحاشا أصحاب رسول الله أن يكونوا من زمرة أولئك القوم وحاشا مُلْهَم الأمة أن يكون مشجبا يُعلق عليه تحريف كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -.
المطلب الثاني: وقف عمر لأرض السواد
__________
(1) المصدر السابق 1/57.(1/41)
وحجة من يقول بأن عمر قد خالف نصاً صريحاً قطعي الثبوت والدلالة في أمر الغنائم، هو أن الله قال في بيان مصارف الغنائم { وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ } . (الأنفال-41).
فبينت الآية أن خمساً يوزع على الأصناف المذكورة في الآية، لكل صنف منهم سهم، والأربعة الأخماس الباقية تقسم على الغانمين، وهو ما بينته سنة رسول الله عليه الصلاة والسلام وفعله، حيث قسم خيبر بين المقاتلين بعد فتحها عنوة، فكان فعل الرسول صلى الله عليه وسلم دليلاً على وجوب قسمة الغنيمة، أربع أخماسها على الغانمين، ولما فُتح على المسلمين أرض العراق ومصر، طلب الفاتحون من عمر قسمة أراضي السواد وأراضي مصر عليهم، أسوة بما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم في أرض خيبر، طالبه بذلك بعض الصحابة، منهم بلال و الزبير إلا أن عمر بن الخطاب رأى أنه ليس من "مصلحة" الدولة الإسلامية آنذاك توزيع هذه الأراضي الخصبة، والتي تشكل سلة الغذاء للدولة الإسلامية الفتية على المقاتلين، فتكون من بعدهم لورثتهم، فتلهيهم عن الجهاد أولاً، ولا يتبقى لذراري المسلمين الذين يأتون من بعدهم ما ينفقون منه و يعتاشون عليه ثانياً، ولذلك قال عمر لمن ابتغى القسمة " لولا آخر الناس ما فتح الله علي قرية إلا قسمتها كما قسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خيبر "(1).
__________
(1) صحيح البخاري بشرح العسقلاني 6/224.(1/42)
فرأى أهل التأويل المعاصر أن عمر لم يأل جهداً في الاجتهاد برأيه ولو خالف ذلك النصوص الصريحة القطعية ثبوتاً ودلالة فخصّص عمر عموم الآية بدليل المصلحة العامة أو فهمه العميق لمقاصد الشريعة(1) وذلك من أجل أن يُفتح لهم الباب كما أسلفنا، لإعادة النظر في النصوص المتعلقة بنظام الحكم وشرعيته وحكم الربا والجهاد والعقوبات ….الخ.
هذه حجتهم وتلك غايتهم، وأنا وإن كنت سأنحي البحث في النوايا، إلا أننا نقطع بالبراهين أن اجتهادهم هذا وتأويلهم لن يحفل بالشرعية، ولا بالصحة، ولن يكتب له الخروج من دائرة التأويل الفاسد.
وردنا عليهم سيتمحور في إثبات عدم قطعية الآية في وجوب قسمة الأربعة الأخماس على الغانمين، وعدم قطعية دلالة الحديث على ذلك، والتأكيد على أن دلالة الآية هي ظنية في غير المنقول من الغنائم كالأراضي والعقارات، فإن تم لنا هذا فحسبك به برهاناً في نسف اجتهادهم ونزع الشرعية عن قاعدتهم " جواز الاجتهاد في النصوص القطعية الثبوت والدلالة " وإليك البيان:
1. إن القرآن الكريم لم ينص على وجوب توزيع الغنائم الحربية منقولة أو غير منقولة على المجاهدين، وإنما نصت آية الأنفال المذكورة على مصارف معينة لخمس الغنائم، وأما توزيع الأربعة الأخماس الباقية على المقاتلين فإنما جاءت به السنة في تقسيم الرسول صلى الله عليه وسلم لأراضي خيبر(2).
__________
(1) انظر: معالم المنهج الإسلامي ص105.
(2) الزرقا مصطفى أحمد: المدخل الفقهي العام 1/176.(1/43)
هذا ما قاله الشيخ مصطفى الزرقا -رحمه الله- وهو سديد، ويمكن أن يضاف إليه أن الآية دلت بالألتزام على مصرف الأربعة الأخماس الباقية، كدلالة قوله تعالى { فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ } (النساء-11)، على نصيب الأب من تركة ولده إن لم يكن له أولاد، فجعل لأمه الثلث فعرف ضمناً أن نصيب الأب الثلثان (1).
والفائدة هنا أن هذه الدلالة ليست قطعية بذاتها، بل هي ظنية، وكما هو معلوم عند أهل الأصول ليست دلالة النص المجمل في قوة النص الصريح وليست دلالة المفهوم في قوة دلالة المنطوق وليست دلالة إشارة النص في قوة دلالة عبارته … الخ(2)، فإن قيل إن نصيب الأب وهو الثلثان في الحالة المذكورة مستفاد بالقطع قلت إنما أوصله إلى القطع الإجماع لا دلالة الآية وحدها. والله تعالى أعلم.
__________
(1) الشنقيطي محمد الامين بن محمد بن المختار الجكني: أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن 2/256.
(2) انظر: الإمام البخاري علاء الدين عبد العزيز بن أحمد: كشف الأسرار عن أصول فخر الإسلام البزدوي 2/394.(1/44)
2. وأما بالنسبة إلى استدلالهم بفعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - وقسمته أرض خيبر فليس فيه دليل على وجوب قسمة الأراضي المفتوحة عنوة على المقاتلين لأن فعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - ذلك أقصى ما يفيده هو الاستحباب وفعله متردد بين الإباحة والجواز والاستحباب فمن أين جاء أولئك بالوجوب؟ ثم ليس القول بالاستحباب أولى من القول بالجواز، لأن الفعل متردد بين الأمرين، وترجيح أحدهما على الآخر ترجيح بدون مرجح، وفي ذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية بعد أن ذكر مذاهب العلماء في حكم الأرض المفتوحة عنوة " الثالث: وهو مذهب الأكثرية أبي حنيفة وأصحابه والثوري وأبي عبيد: إن الإمام يفعل فيها ما هو أصلح للمسلمين، من قسمها أو حبسها، فإن رأى قسمَها كما قسم النبي صلى الله عليه وسلم خيبر فعل، وإن رأى أن يدعها فيئاً للمسلمين فعل كما فعل عمر.
وكما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل بنصف خيبر، وأنه قسم نصفها وحبس نصفها لنوائبه وأنه فتح مكة عنوة ولم يقسمها بين الغانمين، فعلم أن أرض العنوه يجوز قسمها ويجوز ترك قسمها"(1) فابن تيميه لا يرى أن فعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - يدل على الوجوب بل على الجواز. وهو كذلك.
ونص على هذا المعنى ابن الوزير الصنعاني فقال: " غير خاف عمن له أنس بقواعد العلماء أن أفعال النبي - صلى الله عليه وسلم - عند المحققين، لا تدل بنفسها على الوجوب بل ولا على الندب، وإنما تدل على الإباحة، وذلك لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان يفعل المباح والمندوب والواجب ".. إلا إذا دلت قرائن على أنه فعله للوجوب أو الندب. والله تعالى أعلم(2).
__________
(1) مجموع الفتاوى الكبرى 28/581،582.
(2) ابن الوزير اليماني أبو عبد الله محمد بن إبراهيم : الروض الباسم في الذب عن سنة أبي القاسم ص206.(1/45)
وهو ما فهمه عمر بن الخطاب قطعاً وفعله، وما كان له ليخالف فعلاً علم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قام به على سبيل الوجوب.
3. أن منشأ الخطأ في الاستدلال والاستنتاج الذي انتهى إليه أولئك المؤولون كان التسوية في الحكم بين الغنائم المنقولة وغير المنقولة وتعميم حكم وجوب القسمة - إن سلمنا به - على الأراضي وهي غير منقولة وجعلها هي والغنائم المنقولة كالذهب والفضة والمتاع واحداً، وكأن الإجماع قد انعقد على عدم التفريق بينهما مما جعل فعل عمر في نظر هؤلاء مخالفة صريحة لنص قطعي انعقد الإجماع على وجوبه.
وليس الأمر كما توهموا، فقد فرق علماء المذاهب بين حكم الغنائم المنقولة من الذهب والفضة والمتاع والسبي وبين الغنائم غير المنقولة من الأراضي والمساكن.
أ- فقد ذكر العلماء إجماع أهل العلم على وجوب قسمة الغنائم المنقولة بين الغانمين، قال القرطبي" فالمنقول من الذهب والفضة والأمتعة أربعة أخماس للغانمين لا خلاف في ذلك بين الأمة وحكى الإجماع على ذلك غير واحد"(1).
ب - هذا بينما ورد في قسمة الغنائم غير المنقولة "الأراضي من السواد وأرض مصر …" الخلاف المعروف بين الصحابة ومن بعدهم، وفي ذلك يقول ابن حزم "وأما الأرض فإن الصحابة اختلفوا فروينا أن ابن الزبير وبلالاً وغيرهما دعوا إلى قسمة الأرض وأن عمر وعلياً ومعاذاً وأبا عبيدة رأوا إبقاءها "(2).
__________
(1) الجامع لأحكام القرآن 8/3، وانظر : أضواء البيان 2/56.
(2) ابن حزم أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد: المحلى بالآثار 6/342.(1/46)
وذكر أبو يوسف في الخراج أن عمر استشار الناس في تلك القسمة، المهاجرين الأولين فاختلفوا فبعث إلى خمسة من سادات الأوس وأشرافهم ومثلهم من الخزرج فقال لهم " والله لا يفتح بعدي بلد فيكون فيه كبير نيل بل عسى أن يكون كلاً على المسلمين فإذا قسمت أرض العراق بعلوجها وأرض الشام بعلوجها فما يسد به الثغور؟ وما يكون للذرية والأرامل بهذا البلد وبغيره من أرض الشام والعراق؟ " فقالوا جميعاً: الرأي رأيك فنعم ما قلت وما رأيت، إن لم تشحن هذه الثغور وهذه المدن بالرجال وتجري عليهم ما يتقوون به رجع أهل الكفر إلى مدنهم: فقال قد بان لي الأمر"(1).
وذكر أبو عبيد أن عمر استشار الناس فكان رأي عامتهم قسمتها إلا علياً وطلحة ومعاذ بن جبل فكان رأيهم كرأي عمر، وقال له معاذ: انك إن قسمتها صار الريع العظيم في أيدي هؤلاء القوم يبيدون فيصير ذلك إلى الرجل الواحد أو المرأة، ثم يأتي من بعدهم قوم يسدون من الإسلام مسداً، وهم لا يجدون شيئاً، فانظر أمراً يسع أولهم وآخرهم"(2)، "وبعد أخذ ورد قال عمر: وجدت الحجة عليهم بآخر سورة الحشر يريد قوله تعالى
{ مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ } ثم قال تعالى { لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ } إلى أن قال { وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالاِيمَانَ } يعني الأنصار ثم قال { وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ } ( الحشر-7-10)، يريد كل المسلمين إلى آخر الدهر، ما أرى هذه الآية إلا قد
__________
(1) القاضي أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم : الخراج، 25،265.
(2) ابن سلام أبو عبيد القاسم: الأموال، ص75.(1/47)
عمت الخلق كلهم حتى الراعي بكداء ( موضع قرب مكة ) وأنه قال لهم: تريدون أن يأتي آخر الناس ليس لهم شيء ؟ فما لمن بعدكم ؟ ولولا آخر الناس ما فتحت قرية إلا قسمتها كما قسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خيبر(1).
والنقول في هذا كثيرة تفيد قطعاً وقوع الخلاف بين الصحابة في قسمة الأراضي فإذا ثبت هذا وهو ثابت، فقد بطل قول المؤولة المعاصرة أن الآية أعني آية الأنفال - قاطعة الدلالة على وجوب قسمة غير المنقول كالمنقول.
ولا يستساغ الخلاف من الصحابة الكرام في آية علموا أنها قطعية الدلالة في وجوب قسمة الأراضي، ومن قال بتسويغه فهو متهم لجملة الصحابة الكرام ولأجلّهم وهم عمر وعلي ومعاذ و أبو عبيد وطلحة، متهم لهم إما بالجهل وإما بتعمد مخالفة صريح الكتاب، لا مفر بين الأمرين، والقول بأحدهما ذهاب إلى قول الرافضة والزنادقة وهو أمر وخيم على صاحبه.
فلا مفر من الإقرار بأن دلالة الخلاف بين الصحابة هي أنهم علموا أن حكم الغنائم غير المنقولة " كالأراضي" غير داخل تحت عموم آية الأنفال، وأن فعل رسول الله عليه الصلاة والسلام في خيبر ليس للوجوب وإنما غاية ما يدل عليه هو الجواز أو الاستحباب على أكثر تقدير.
وهذا المسلك الذي سلكناه في التفريق بين نوعي الغنائم هو ما نص عليه العلماء صراحة وبلغوا فيه إلى ادعاء عدم الخلاف، يقول القرطبي "المسألة الثالثة": لم يختلف العلماء أن قوله تعالى
{ وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ } (الأنفال –41)، ليس على عمومه وإنه يدخله الخصوص، فما خصصوه بإجماع أن قالوا: ومما خص به أيضا الأرض.
__________
(1) أبو عبد القاسم بن سلام: مصدر سابق 74 ، 273.(1/48)
والمعنى: ما غنمتم من ذهب وفضة وسائر الأمتعة والسبي، وأما الأرض فغير داخله في عموم هذه الآية لما روي البخاري عن عمر بن الخطاب أنه قال "لولا آخر الناس ما فتحت قرية إلا قسمتها كما قسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خيبر"(1). وإنما القصد إثبات أن هذه المسألة من موارد الخلاف وإنها ليست مما أُجمع عليه لا في عهد الصحابة ولا التابعين ولا من بعدهم من علماء المذاهب بل وقع فيها خلاف شديد كما بينته، ونتيجة ذلك، بطلان القول بأن عمر اجتهد وأوّل نصاً قطعياً في ثبوته ودلالته بل أزيد وأقول أن عمر أخذ بالدليل الراجح والأقوى والأصح في المسألة، وهو أن حكم الغنائم غير المنقولة هو تخيير الإمام فيها بين قسمتها وعدمه، وهو الذي رجحه المحققون من الأئمة والعلماء، قال أبو عبيد: "إن الإمام يتخير في العنوة بالنظر للمسلمين والحيطة عليهم بين أن يجعلها غنيمة أو فيئاً قال: وكلا الحكمين فيه قدوة ومتبع من الغنيمة والفيء، إلا أن الذي اختاره من ذلك يكون النظر فيه إلى الإمام "(2).
وقال الجصاص الحنفي " لو كانت آية الحشر التي استدل بها عمر منسوخة لأخبره الصحابة بذلك فتقرر إفادتها تخيير الإمام بين القسمة أخذاً بآية الأنفال أو الوقف أخذاً بآية الحشر"(3)
وقال القرطبي في ذلك " قال شيخنا أبو العباس - رضي الله عنه، وكأن هذا جمع بين الدليلين ووسط بين المذهبين وهو الذي فهمه عمر -رضي الله عنه- قطعاً(4).
وقال الشنقيطي بعد أن ساق المذاهب المختلفة في المسألة بأدلتها وناقشها " وأظهر الأقوال دليلاً أن الإمام مخير ويدل عليه كلام عمر في الأثر المار آنفاً ولولا آخر الناس … وبه تنتظم الأدلة ولم يكن بينها تعارض والجمع واجب ما أمكن"(5).
__________
(1) الجامع لأحكام القرآن 8/4، والحديث سبق تخريجه.
(2) الأموال ص76.
(3) الإمام الجصاص أبو بكر أحمد بن علي الرازي: أحكام القرآن، 3/430.
(4) الجامع لأحكام القرآن 8/5.
(5) أضواء البيان 2/70.(1/49)
و يقول الشيخ الزرقا " ومن الواضح أن هذا الاتجاه الحكيم من عمر في التمييز بين الغنائم الحربية المنقولة وبين الأراضي إنما كان تمسكاً بدلائل النصوص، وجمعاً بينها وإعمالاً لكل منها بتنزيله على منزله الذي يرشد إليه النظر الجامع السديد، لا كما يوهمه كلام بعض المتوهمين اليوم من أن عمر خالف في هذه القضية نصوص الشريعة، ويعدون هذه المخالفة بزعمهم عبقرية لأنه كان على رأيه كبار فقهاء الصحابة كعلي ومعاذ وخيار الصحابة كأبي عبيدة وطلحة(1).
وعلى تقدير أن الآية قطعية الدلالة في وجوب قسمة الغنائم المنقولة وغير المنقولة فلا يستفاد من فعل عمر جواز مخالفة النصوص القطعية، ويجاب عن فعل عمر حينئذ بأنه استطاب نفوس أهلها - أهل الغنيمة - وطابت بذلك فوقفها، والأموال من الحقوق التي تقبل الإسقاط فما ظنك بالاستبدال، وهو رأي متجه وقوي قال به ابن حزم، واستدل له بما رواه جرير بن عبد الله البجلي: لما قدم على عمر في قومه يريد الشام وجهه عمر إلى الكوفة بعد مقتل أبي عبيد، وقال له هل لك في الكوفة وانفلك الثلث بعد الخمس من كل أرض أو شيء ؟ قال نعم: فبعثه، وكانت بجيلة ربع الناس يوم القادسية، فجعل لهم عمر ربعَ السواد، فأخذوه سنتين أو ثلاثاً فوفد عمار بن ياسر إلى عمر ومعه جرير بن عبد الله البجلي فقال عمر لجرير: لولا أني قاسم مسؤول لكنتم على ما جعل لكم، وأرى الناس قد كثروا فأرى أن ترده عليهم، ففعل جرير ذلك فأجازه عمر بثمانين ديناراً، وقالت أم كرز البجيلية: يا أمير المؤمنين إن أبي هلك وسهمه ثابت في السواد وأني لن أسلّم، فقال لها عمر: يا أم كرز إن قومك قد صنعوا ما قد علمت. فقالت: إن كانوا صنعوا ما صنعوا – أي سلّموا – أراضيهم – فأني لست أسلّم حتى تحملني على ناقة ذلول عليها قطيفة حمراء وتملأ كفي ذهباً ففعل عمر.
__________
(1) المدخل الفقهي العام، حاشية 1/175.(1/50)
فكان الذهب الذي أعطاها نحواً من ثمانين ديناراً قال ابن حزم فهذا أصح ما جاء عن عمر في ذلك، وهو قولنا فإنه لم يوقف حتى استطاب نفوس الغانمين وورثة من مات منهم وهذا الذي لا يجوز أن يظن بعمر غيره!(1)
المطلب الثالث: عدم قطع السارق عام الرمادة
ومما يستدل به المؤولون المعاصرون على ادعائهم بجواز تعطيل أو إيقاف العمل بالنصوص القطعية بالاجتهاد، ادعاؤهم أن عمر -رضي الله عنه- قد عطل العمل بحد السرقة باجتهاده ورأيه المحض، وبدون دليل، قالوا: إن حد السرقة قد وجب على كل سارق بنص القرآن
{ وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالا مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } ( المائدة – 38)
وهو نص قطعي في ثبوته قطعي في دلالته، وقطع الرسول - صلى الله عليه وسلم - به ولم يعلم له ناسخ، فلما عطل عمر حد السرقة عام الرمادة، ولم يقطع أيدي السارقين علم أنه يجوز الاجتهاد في نظائره من النصوص واستنباط وجهات نظر جديدة قد تخالف ما استقرت عليه أنظار الفقهاء على مر القرون وذلك رعاية للمصلحة العامة التي يراها الإمام(2).
ودحض هذه الشبهة وتفنيدها، ليس بالأمر العسير إن شاء الله، لمن عرف ظروف الحادثة ووقف على رواياتها وملابساتها ويتلخص الرد في النقاط الآتية:
1. أن الحادثة التي يعتمدون عليها قد رواها غير واحد من المحدثين فقد أخرج عبد الرزاق في مصنفه والبهيقي في سننه الكبرى والرواية للبهيقي:
"أن رقيقاً لحاطب بن أبي بلتعة سرقوا ناقة لرجل من مزينة فانتحروها، فرفع ذلك إلى عمر، فأمر عمر كثير بن الصلت أن يقطع أيديهم ولكنه لم يلبث أن عدل عمر عن ذلك وقال: لولا أني أظن وفي رواية أخرى "أعلم " أنك تجيعهم حتى أن أحدهم لو أتى ما حرم الله، لقطعت
__________
(1) المحلى 6/344.
(2) معالم المنهج الإسلامي ص104، النص الإسلامي ص51، وانظر: أصول التشريع الإسلامي ص10، 183، الإجتهاد ومقتضيات العصر ص222.(1/51)
أيديهم ولكن والله لئن تركتهم – والخطاب لسيدهم - لأغرمنك غرامة توجعك وغرمه ضعف ثمن الناقة(1).
وفي رواية أن عمر -رضي الله عنه- امتنع عن إقامة حد السرقة في عام المجاعة وقال: إنا لا نقطع في عام سنة(2).
فقد تبين من هاتين الروايتين وغيرهما، أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- ما عطل حد السرقة وإنما هو أعمل نصاً آخر قيد وجوب إقامة الحد في غير حالة الضرورة - ضرورة الجوع - وقد قال الله تعالى بعد ذكر حرمة أكل الميتة والدم ولحم الخنزير وسائر المحرمات
{ فَمَنْ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لاِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } ( المائدة –3). فهذا النص استثنى من
المحرمات حالة الضرورة، وعمر حيث لم يقم الحد اعتبر ضرورة الجوع إكراهاً ضمنياً، وشرط اقامة الحد ان يكون السارق مختاراً، والجوع الشديد يتنافي والاختيار، فهو شبهة مسقطة للحد والرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول "ادرؤوا الحدود بالشبهات " (3).
وعمر كان خير من أدرك ذلك إذ جاء عنه أنه قال " لأن أعطل الحدود بالشبهات أحب إلي من أن أقيمها بالشبهات"(4). وقال: وإني لأن أخطئ في العفو أحب إلي من أن أخطئ في العقوبة "(5).
__________
(1) انظر: الإمام البيهقي أبو بكر أحمد بن الحسين بن علي: السنن الكبرى 8/483، والحافظ الكبير الصنعاني أبو بكر عبد الرزاق بن همام: المصنف 10/239.
(2) المحلى 11/343.
(3) سنن الترمذي ح 1424، والصحيح أنه موقوف عن ابن مسعود وعمر ولا يصح مرفوعاً ولا مرسلاً ( المحلى 8/253).
(4) الحافظ ابن أبي شيبة عبد الله بن محمد الكوفي العبسي: المصنف في الأحاديث والآثار 2/129.
(5) السنن الكبرى 8/414.(1/52)
ثم قد تبين من الرواية أن عمر كان عازماً على القطع حتى في عام المجاعة، ولم يمنعه من ذلك إلا علمه، ولا أقول ظنه وهو ما صرحت به الرواية الأخرى - بأنهم ما لجأوا إلى السرقة - ونقولها تجوزاً - إلا مضطرين بسبب الجوع الشديد " لولا أني أعلم أنك تجيعهم حتي أن أحدهم لو أتى ما حرم الله لقطعت أيديهم، وفي الرواية الأخرى علل عدم القطع بصراحة بقوله: فإنا لا نقطع في عام سنة. فذاك الدليل الذي اعتمدوا عليه في دعواهم يحمل ما ينقضها من أساسها.
2. لقد نص القرآن الكريم صراحة على أن الجوع الشديد مبيح لأكل المحرمات وشربها من الميتة والدم ولحم الخنزير فاقتضى ذلك وجود الإباحة بوجود الضرورة في كل حال، فكما أن الجوع الشديد مبيح لأكل الميتة والدم ولحم الخنزير فمال المسلم أولى وقد ذكر القرطبي أنه لا يحل ولا يجوز للمسلم أن يأكل من الميتة وهو يجد مال المسلم لا يخاف فيه قطعاً (1).
وقد أطلق الله الإباحة بوجود الضرورة من غير شرط أو صفة في قوله تعالى { وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ } ( الأنعام –119). فاقتضى ذلك وجود الإباحة بوجود الضرورة في كل حال وجدت فيها(2)، والاضطرار لا يخلو أن يكون بإكراه من ظالم أو جوع في مخمصة(3).
__________
(1) الجامع لأحكام القرآن 2/225.
(2) انظر: أحكام القرآن للجصاص 1/126.
(3) الجامع لأحكام القرآن 2/225.(1/53)
ويرى ابن العربي أن الفقر سبب آخر مبيح للحرمة(1). وذكر ابن جزيء أن من شروط إسقاط الحد عن السارق أن يضطر إلى سرقة من جوع(2). فإذا لم يجد المضطر شيئاً حلالاً يتغذى به جاز له استعمال المحرمات في حال الإضرار ولا خلاف في ذلك(3).
وعلى ذلك جرى جماهير علماء المسلمين إذ اعتبروا أن من شروط إقامة الحد على السارق إضافة للعقل والبلوغ، الاختيار وعدم الإضرار، وأن لا يكون للسارق فيه حق الأخذ كمال الحربي، ولا تأويل الأخذ كالمصحف، وأن لا يكون للسارق فيه ملك ولا شبهة كبيت المال(4).
وإذ قد تقرر أن حفظ نفس المسلم فرض كفاية على المسلمين، وهي من ضروريات الإسلام الخمس، وتضييع النفس حرام من الكبائر، فإذا تعارض حكم الإبقاء على النفس المسلمة وهو فرض مع حرمة أكل فضل مال امرئ مسلم فما من شك أن الإبقاء على النفس ولو بالسرقة مقدم، وهو ما عمل به -عمر رضي الله- عنه بل ولا يليق بذي عقل أن يقول بغير ذلك.
وقد صحح ابن القيم مذهب من يقول بوجوب بذل الطعام للجائع مجاناً لا بثمن لوجوب المساواة وإحياء النفوس مع القدرة على ذلك، والإيثار بالفضل مع ضرورة المحتاج، وهذه شبهة قوية تدرأ القطع عن المحتاج (5).
__________
(1) أحكام القرآن لابن العربي 1/55.
(2) ابن جزيء أبو القاسم محمد بن أحمد الكلبي الغرناطي المعروف: القوانين الفقهية ص116.
(3) الإمام ابن رشد أبو الوليد محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد القرطبي: بداية المجتهد ونهاية المقتصد 1/476.
(4) انظر: شروط إقامة حد السرقة، الإمام الشيرازي أبو إسحاق إبراهيم بن علي بن يوسف الفيروزابادي: المهذب في فقه الإمام الشافعي 2/295 ، وابن عابدين محمد أمين الشهير: رد المحتار على الدر المختار شرح تنوير ال.أبصار ( حاشية ابن عابدين ) – تحقيق وتعليق الشيخ عادل أحمد عبد الموجود ، الشيخ علي محمد معوض 6/159.
(5) إعلام الموقعين 3/15.(1/54)
3. وكيف يصح عن عمر تعطيل حد السرقة وقد ورد عنه أنه كان يشدد في وجوب تنفيذه حيث كان يقول: اشتدوا على السراق فاقطعوهم يداً يداً ورجلاً رجلاً تنفيذاً لقول الله تعالى
{ وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالا مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } ( المائدة – 38)
وقد سرق رجل للمرة الثالثة في عهد أبي بكر بعد أن قطعت يده ورجله فأراد أبو بكر أن يقطع رجله ويدع يده يستطيب بها ويتطهر بها وينتفع بها، فقال عمر: لا والذي نفسي بيده لتقطعن يده الأخرى، فأمر أبو بكر فقطعت يده وفي رواية أنه قال: السنة اليد(1).
وكان يرى وجوب إقامة الحد على المريض الذي لا يرجى برؤه ولو أدى ذلك إلى هلاكه كما في جلده لقدامة بن مظعون وهو مريض، وروي عنه أنه قال " لا عفو عن شيء من الحدود بعد أن يبلغ الإمام(2).
4. وكيف يتهاون عمر في حد السرقة ويسقطه بالهوى والتشهي وهو يعلم ما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأسامة في المرأة المخزومية التي سرقت، فتشفع لها أسامة إذ ظل يقول له: أتشفع في حد من حدود الله يا أسامة ؟ ثم قام فاختطب فقال:" أيها الناس إنما ضل الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، و أيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها"(3).
5. وقد جاء عن عمر أنه أسقط حد الزنا أيضاً، بسبب ضرورة الجوع والعطش، فقد أتيَ عمر بامرأة لقيها راعٍ بفلاة من الأرض، وهي عطشى فاستقته فأبى أن يسقيها إلا أن تتركه يقع عليها، فناشدته بالله فأبى، فلما بلغت جهدها أمكنته من نفسها، فدرأ عنها الحد بالضرورة(4).
__________
(1) السنن الكبرى 8/475، المحلى 11/355
(2) انظر هذه الآثار: مصنف عبد الرزاق 9/241، المحلى 11/288.
(3) الحديث: أخرجه البخاري 8/199
(4) المصنف لعبد الرزاق 7/407.(1/55)
وما قيل في توجيه فعله في حد السرقة يقال في توجيه إسقاطه لحد الزنا عن هذه المرأة.
المطلب الرابع: منعه سهم المؤلفة قلوبهم
ومما قاله المؤولون المعاصرون ومما ظنوه مستنداً لجواز تعطيل نصوص الكتاب والسنة بمحض الرأي والمصالح المتوهمة والمقاصد المتخيلة، ما ادعوه من تعطيل عمر -رضي الله عنه- لسهم المؤلفة قلوبهم ورفضه إعطاءهم من الزكاة على الرغم من نص القرآن صراحة على أن لهم سهماً ومصرفاً من مصارف الزكاة الثمانية، إذ رأى أنه ليس من مصلحة الإسلام أن يعطوا بعد أن أعز الله الإسلام وأظهره على الباطل واشتد عوده، فكان فعله -رضي الله عنه- اجتهاداً في مورد النص القطعي ثبوتاً ودلالة فعلّله وعطّله بالمصلحة وما جاز لعمر يجوز لمن بعده(1)، والقصد أن الاجتهاد مسوغ حتى في المسلمات و القطعيات ونحن لسنا أشد حرصاً وورعاً من عمر، بل بلغ الحال ببعض هؤلاء أن يقول: أن عمر لم يتأخر في مخالفة النصوص باسم السياسة الشرعية والمصلحة، وجاوزه آخر مدعياً أن فعل عمر دليل على جواز نسخ القرآن بالاجتهاد(2).
وهو تحليل واه ودعوى باطلة والرد عليها يتلخص في الآتي:
1. أن الناظر في الروايات التي جاءت بفعل عمر هذا وما قاله للمؤلفة قلوبهم لا يفهم منه تعطيلاً ولا تعدياً على النص ولا إرادة إلغائه ولا نسخه، وكل ما في الأمر أن عمر فهم أن الله عز وجل علّق الإعطاء على وصف التأليف، فإن كان ثمة من يحتاج إلى تأليفة كقوم يخشى شرهم ويرجى خيرهم ومنفعتهم فالسهم قائم وللإمام أن يتألفهم بما يرى، وإن لم تكن هناك في ظرف من الظروف -مكاناً أو زماناً أو حالاً - حاجة إلى تأليف قوم لعدم وجود من تلك صفتهم فالسهم منتفٍ ومعدوم وكيف يعطي معدوم لا وجود له ؟!.
__________
(1) معالم المنهج الإسلامي ص103، النص الإسلامي ص48، أصول التشريع الإسلامي 101، 183، الإجتهاد ومقتضيات العصر ص212.
(2) نقله عنهم الشيخ يوسف القرضاوي في كتابه السياسة الشرعية ص172.(1/56)
ووصف التأليف ليس لازماً لفئة من الناس بأشخاصهم وأعيانهم يسمون "مؤلفة قلوبهم" يعطون أبد الدهر بل هو وصف متغير متبدل تماماً كوصف الفقر والمسكنة، وأي عاقل يقول أن رجلاً أو قوماً بأعيانهم كانوا فقراء أو مساكين يوماً من الأيام فأعطوا من الزكاة لوصفهم ذاك يجب أن يعطوا منها حتى وفاتهم؟ ومن افتقر اليوم فقد يغتني غداً وأي اجتهاد يجيز إعطاءه من سهم الفقراء بعد غناه؟ وهذا سهم وهذا سهم، وهو ما أجاب به الشيخ محمد المدني من كبار علماء الأزهر(1).
"فالزكاة تعطى لمن يوجد من الأصناف الثمانية التي جعلهم الله –تعالى- أهلها، فإذا لم يوجد صنف منهم سقط سهمه ولم يجز أن يقال: أن ذلك تعطيل لكتاب الله ونسخ له، فإذا لم يوجد سهم العاملين عليها لعدم قيام حكومة إسلامية توظف من يقوم بجمع الزكاة وتوزيعها على مستحقيها فقد سقط سهم العاملين عليها، وإذا لم يوجد صنف " وفي الرقاب " كما هو الحال في عصرنا الذي ألغى الرق الفردي فقد سقط هذا السهم ولا يقال في سقوط هذا السهم أو ذاك أنه نسخ للقرآن أو تعطيل للنص"(2).
وهو ما رد به ابن قدامه على الحنفية الذين قالوا بنسخ هذا السهم قال: على أن ما ذكروه من المعنى لا يوجب رفع حكمهم، وإنما يمنع عطيتهم حال الغنى، فمتى دعت الحاجة إلى إعطائهم أعطوا، فكذلك جميع الأصناف إذا انعدم منهم صنف في بعض الأزمان سقط حكمه في ذلك الزمن خاصة وإذا وجد عاد وكذا هنا(3).
__________
(1) نفس المصدر ص175.
(2) يوسف القرضاوي: السياسة الشرعية، مصدر سابق، ص182.
(3) ابن قدامة موفق الدين المقدسي: المغني 2/527.(1/57)
2. ثم إن تحديد الحاجة إلى التأليف من عدمها أمر مرجعه إلى إمام المسلمين فهو المطلع والناظر لأمور المسلمين، ويحسن تقدير وجود الحاجة من عدمها، و لا يصح لفرادى المسلمين أن يتألفوا لعدم اطلاعهم وإشرافهم على الأمور جيداً، وهذا ما فعله عمر(1).
3. أن النص معلل لا مطلق فعمر -رضي الله عنه- نظر إلى علة النص لا إلى ظاهره، ووجد أن علة إعطائهم تأليفهم لاتقاء شرهم عندما كان الإسلام ضعيفاً فلما قويت شوكة الإسلام زالت علة إلى إعطائهم والقرآن لم يوجب إعطاء أشخاص بأعيانهم وأسمائهم من هذا السهم(2).
ويدل على أن عمر ما منع المؤلفة قلوبهم إلا لفهمه بأن ذلك خاص بحال ضعف الإسلام ما قاله لعيينة بن حصن الفزاري والأقرع بن حابس بعدما أرياه كتابا من أبي بكر لهما باقتطاعه لهما أرضاً دون الناس فبصق عمر في الكتاب فمحاه وقال له: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يتألفكما والإسلام يومئذ ذليل وإن الله قد أعز الإسلام فاذهبا واجهدا أنفسكما(3).
وقد وافق عمرَ جمهورُ الصحابة، حتى أن الحنفية قد حكوا إجماع الصحابة على موافقة عمر، ونحن وإن سلمنا بإقرار الصحابة لفعل عمر فهو إجماع لا على نسخ الحكم ولكنه إجماع على صحة فعل عمر وتعليله وفهمه للنص وسداد رأيه فيه، والقاضي بعدم إعطائهم لانعدام وجودهم أصلاً أو لأن الحاجة إلى التأليف قد انتهت بانتشار الإسلام وظهوره.
وقد روي ما يفيد أن هؤلاء الذين كانوا مؤلفة قد جاءوا إلى أبي بكر رضي الله عنه، وقالوا له:أنت الخليفة أم عمر؟ فقال: هو إن شاء، ولم ينكر أبو بكر قوله وفعله وبلغ ذلك عامة الصحابة فلم ينكروا عليه فيكون ذلك إجماعا(4).
__________
(1) الشوكاني محمد بن علي: السيل الجرار المتدفق على حدائق الأزهار 2/52، الأموال لأبي عبيد ص247.
(2) المدخل الفقهي العام 1/153-171.
(3) السنن الكبرى 7/32، وجامع البيان 10/162.
(4) أحكام القرآن للجصاص 3/124، والجامع لأحكام القرآن 8/181.(1/58)
وهذا التوجيه هو اللائق بأعلام الصحابة ودينهم وورعهم، فإنهم عاصروا الوحي، وشاهدوا التنزيل الذي نزل بلغتهم، وهم أرفع ما يكونون بلاغة وفصاحة وحسن بديهه وفطنة، ففعل عمر وقوله ورضا الصحابة بمن فيهم الصديق رضي الله عنه، وعدم إنكار أحد منهم ذلك مع وجود الداعي للإنكار لو وجد، وانتفاء الموانع ووفرة الصحابة، لهو أبلغ دليل على صحة تعليل عمر، وفهمه على أن الحكم معلق على وجود الحاجة إلى التأليف، فإن وجدت كان ثمة مؤلفة، وإن لم توجد فليس هناك مؤلفة، ولا سهم للمؤلفة، ولا ريب أنه تعليل في مكانه سدّد إليه عمر ووافقه كبار الصحابة والفقهاء من بعدهم.
هذا التوجيه والاستدلال لرأي الصحابة، و النقول عن الأئمة الأعلام تؤكد أن الحاجة للتأليف لم تنقطع، وهذه الحاجة باقية ما بقي الإسلام فلا صحة للقول إذن أن فعل عمر هو نسخ للحكم وهو ما قال به الحنفية، وإن لم يرتبوا عليه ما استنتجه المؤولون المعاصرون، بل اقطع أن فرية المعاصرين لم تخطر على بال فقهاء الحنفية، بل كان اجتهاداً منهم دعموه بإجماع الصحابة السكوتي على فعل عمر، فاعتبروه رافعاً للحكم وإسقاطا لسهم المؤلفة للأبد.
ودعوى النسخ هذه باطلة لوجوه:
أ - أن فعل عمر وقوله ليس فيه دليل على النسخ، وأنه لا يعدو فهماً لعلة النص أي أن الإعطاء معلق بوجود التأليف والحاجة إليه كما سبق بيانه.
ب - أن الجمهور قد خالف الحنفية في اجتهادهم، ولم يلغوا سهم المؤلفة قلوبهم.
ج - أن الحنفية وهم من قال بالنسخ قد اختلفوا في تعيين الناسخ الذي نسخ حكم المؤلفة قلوبهم، وهو ثابت بالنص القرآني القاطع، فبعضهم ادعى أنه الإجماع، وعلى فرض حصول الإجماع فلا يصح نسخ الحكم الثابت بالنص بالإجماع، قال ابن عابدين: "وإنما لم يجعل الإجماع ناسخاً لأنه خلاف الصحيح، لأن النسخ لا يكون إلا في حياته - صلى الله عليه وسلم - والإجماع لا يكون إلا بعده"(1)
__________
(1) رد المحتار 3/288.(1/59)
وقال الشوكاني " أما النص فلا ينسخ بالإجماع لأن الإجماع لا ينعقد أصلاً على خلاف النص " واشترط في الناسخ أن يكون مثل المنسوخ في القوة أو أقوى منه أما إذا كان دونه، فلا يصلح ناسخاً لأن الضعيف لا يزيل القوي(1).
وقال عبد العزيز البخاري " لا يقع النسخ إلا في حال حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ أن النسخ لا يكون إلا من طريق الشرع، والشرع لا يعرف إلا بالوحي، والوحي في حال حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - أما بعد وفاته فلا نسخ لشيء من الأحكام إذ لا وحي ولا شرع "(2).
وقال الشاطبي" أن الأحكام إذا ثبتت على المكلف فادعاء النسخ فيها لا يكون إلا بأمر محقق، لان ثبوتها على المكلف أولاً محقق، فرفعها بعد العلم بثبوتها لا يكون إلا بمعلوم محقق، ولذلك أجمع المحققون على أن خبر الواحد لا ينسخ القرآن ولا الخبر المتواتر لأنه رفع للمقطوع بالمظنون"(3).
وقال ابن حزم " من استجاز نسخ شيء من القرآن والسنة الثابتة بيقين بالظنون، فقد أوجب ألا يطاع الله في أمره وأسقط لزوم اتباع رسله وذلك يؤول إلى إبطال الشريعة كلها، لأنه لا فرق بين دعواه النسخ في آية ما أو حديث ما، وبين دعوى غيره في آية أخرى وحديث آخر، فعلى هذا لا يصح شيء من القرآن والسنة وهذا خروج عن الإسلام "(4).
وقال ابن قدامة ": ولا يجوز ترك كتاب الله وسنة رسوله إلا بنسخ، والنسخ لا يثبت بالإجماع.
ثم إن النسخ إنما يكون في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم -، لأن النسخ إنما يكون بالنص ولا يكون النص بعد موت النبي عليه الصلاة والسلام وانقراض زمن الوحي، ثم أن القرآن لا ينسخ إلا بالقرآن وليس في القرآن نسخ لذلك ولا في السنة "(5).
المطلب الخامس:
__________
(1) إرشاد الفحول ص192.
(2) كشف الأسرار 3/334.
(3) الشاطبي أبو اسحاق إبراهيم بن موسى اللخمي: الموافقات في أصول الشريعة 3/105.
(4) الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم 1/591.
(5) المغني 2/527.(1/60)
منعه بعض الصحابة من الزواج من الكتابيات
ومما يستند إليه المؤولون المعاصرون في دعواهم جواز تعطيل النصوص ومخالفتها بالاجتهاد الشخصي، ما روي عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- من أمره لعدد من الصحابة بتطليق نسائهم الكتابيات مع نص القرآن الصريح على جواز نكاحهن، فاستدلوا منه على أن للمجتهد أن يوقف العمل بالنص، ويجمده حتى لو كان قطعي الثبوت والدلالة، إن رأى أنه يخالف المصلحة.(1) وبيان ذلك أن الله عز وجل قال
… { الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمْ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } (المائدة –5).
قال القاسمي: "ظاهر الآية جواز نكاح الكتابية، وهذا مذهب أكثر الفقهاء والمفسرين " ورواية عن زيد والصادق والباقر واختاره الإمام يحيى وقال إنه إجماع الصحابة "(2).
وقال ابن كثير: " وقد تزوج جماعة من الصحابة من نساء النصارى ولم يروا بذلك بأساً أخذاً بهذه الآية الكريمة، فجعلوا هذه الآية مخصصة للتي في سورة البقرة { وَلا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ } ( البقرة – 222) إن قيل بدخول الكتابيات في عمومها، وإلا فلا معارضة بينها وبينها لأن أهل الكتاب قد انفصلوا في ذكرهم عن المشركين في غير موضع كقوله تعالى { لَمْ يَكُنْ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمْ الْبَيِّنَةُ } (3)(البينة –1).
__________
(1) انظر: أصول التشريع الإسلامي ص101-183، ومعالم المنهج الإسلامي ص109، النص الإسلامي ص62.
(2) القاسمي محمد جمال الدين: محاسن التأويل 6/1871.
(3) تفسير القرآن العظيم 2/504.(1/61)
قالوا: وبعد إباحة الزواج من الكتابيات وانعقاد والإجماع عليه جاءت الأخبار عن عمر رضي الله عنه تفيد تحريمه الزواج منهن على الصحابة ومنعه وإنكاره عليهم ذلك، وأمره لهم بتطليقهن، ومنها:ما روي " أن حذيفة قد تزوج يهودية زمن عمر فقال له عمر: طلقها فإنها جمرة، قال حذيفة: أحرام ؟ قال: لا: فلم يطلقها حذيفة لقوله، حتى إذا كان بعد ذلك طلقها(1)، وفي رواية أنه قيل له – أي حذيفة - : ألا طلقتها حين أمرك عمر ؟ قال: كرهت أن يرى الناس أني ركبت أمراً لا ينبغي لي(2).
وفي بعض الروايات أن عمر قال له معللاَ طلبه طلاقها: إني أخشى أن تدعوا المسلمات وتنكحوا المومسات(3).
وفي رواية أخرى أن حذيفة قال له حين أمره بتطليقها: لم ؟ أحرام هي ؟ فقال له عمر لا، ولكنك سيد المسلمين ففارِقْها(4)، وفي رواية أخرى أن عمر كتب له وهو بالكوفة ونكح امرأة من أهل الكتاب: أن فارقها فإنك بأرض المجوس، فإني أخشى أن يقول الجاهل، قد تزوج صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كافرة ويحلل الرخصة التي كانت من الله عز وجل فيتزوجوا نساء المجوس ففارَقَها(5).وقال الطبري:" وقد نكح طلحة بن عبد الله يهودية، ونكح حذيفة بن اليمان نصرانية فغضب عمر بن الخطاب رضي الله عنه غضباً شديداً حتى همَّ بأن يسطو عليهما، فقالا نحن نطلق يا أمير المؤمنين ولا تغضب، وقال: لئن حل طلاقهن لقد حل نكاحهن، ولكن انتزعهن صغرة قماء "(6)
هذه طرق الخبر وكل منها يحمل برهاناً على سقوط دعوى المؤولين وتهافتهم وبيان ذلك:
__________
(1) مصنف عبد الرزاق 7/176.
(2) السنن الكبرى 7/280.
(3) نفس المصدر 7/280.
(4) سنن سعيد بن منصور 3/1/193.
(5) محاسن التأويل 6/1871، ولم أجده في مظانه من كتب الآثار.
(6) جامع البيان 2/378، والأثر عند عبد الرزاق 7/178، والبيهقي في السنن الكبرى 7/280.(1/62)
1. قد تبين في بحث المؤلفة السابق أن النص القطعي لا ينسخ إلا بشرع، وسورة المائدة من آخر ما نزل، وليس يعلم لهذا النص ناسخ، وتقرر فيه أيضاً عدم جواز النسخ بالإجماع، وعدم إمكانه شرعاً.
2. أن الآية لم توجب زواج المسلم من الكتابية حتى يكون فعل عمر تعطيلاً للعمل بحكم واجب، بل غاية ما تفيده الآية هو الجواز والإباحة المقتضية للاختيار، وذلك غير موجب إثماً لأحد، وعليه فإن تصرف عمر ومنعه كان في دائرة المباح، والإمام له حق أن يمنع من أراد من الرعية أن يتصرف في المباحات، إذا كان تصرفه يؤدي في اجتهاد الإمام إلى إلحاق مضرة بالرعية، وقد اتفق أهل الأصول على أن للإمام أن يقيد العمل بالمباح لمصلحة يراها(1).
وليس ذلك بمحض التشهي والتحكم والاستبداد، وليس في ذلك مخالفة للنص ولا تعطيل له، بل إن قواعد الشريعة دلت على أن المصلحة العامة الحقيقية مقدمة على المصلحة الخاصة لبعض الناس، وهو أمر معلوم بفطرة العقل، وليس مختصاً بملة الإسلام.
3. أن هؤلاء المؤولة أغفلوا التدقيق في النص، ولو أنهم انصفوا لعلموا أن عمر عمل بما يقتضيه لا بما يخالفه، فإن النص القرآني ذاته اشترط في إباحة الزواج من الكتابية أن تكون عفيفة
بقوله تعالى { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ } (المائدة-5) والمحصنات هن العفيفات،
فنقل الطبري عن مجاهد والشعبي والسدي وسفيان أن المحصنات هن العفيفات، وهي التي لا تزني وتغتسل من الجنابة(2).
وقال الطبري: "والتحصن التمنع ومنه الحصن، لأنه يمتنع فيه ويراد ذوات الأزواج
ومنه قوله تعالى { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ النِّسَاءِ } ( النساء –24) أو العفيفات ومنه قوله تعالى
__________
(1) انظر:د. فتحي الدريني: الحق ومدى سلطان الدولة في تقييده ص38.
(2) جامع البيان 4/108.(1/63)
{ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ } ومُحْصنة وحَصان أي عفيفة ممتنعة من الفسق(1)".
وقال ابن كثير: والظاهر من الآية أن المراد بالمحصنات العفيفات عن الزنا كما قال تعالى في الآية الأخرى { مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ } (2) ( النساء-25).
وهو ما فهمه عمر رضي الله عنه، وحمله على أن ينهى الصحابة عن الزواج من الكتابيات بقوله في غير رواية: أخشى أن تواقعوا المومسات منهن.
4. إن الروايات التي استدلوا بها على تعطيل عمر للنص ومخالفته له لا تحمل أي معنى يفيد أن عمر يعتقد التحريم، بل العكس هو الصحيح، فما جاء من عبارات وألفاظ سواء من عمر أو من
الصحابة يقطع بأن عمر لم يحرم بل كان يرى جواز نكاح الكتابيات، وأنه ما عطل نصاً، ولا شرّع من دون الله بل مارس حقه كإمام مسؤول عن المسلمين.
وإذا لم يكن للإمام أن يتصرف في المباحات أمراً ونهياً ففيم إمامته ؟ ومتى تجب طاعته؟ أفي تحريم الحلال أو تحليل الحرام؟ وفرق كبير بين القول بتحريم أمر هو حلال، وبين المنع منه في مكان ما أو زمان ما أو حال ما أو لشخص ما مع اعتقاد جوازه وهو ما فعله عمر، والروايات في ذلك صريحة، فلما سأله حذيفة: أحرام هي ؟ قال لا: وفي رواية: لئن حل طلاقهن لقد حل نكاحهن، وفي رواية للطبري لا أزعم أنهن حرام(3).
__________
(1) الجامع لأحكام القرآن 5/122.
(2) تفسير القرآن العظيم 2/504.
(3) جامع البيان 2/378.(1/64)
وسؤال حذيفة الاستنكاري له: أحرام هي ؟ ثم إبقاؤها تحته مدة بعد أمر عمر له بطلاقها ثم تعليله – حذيفة – ذلك بقوله: كرهت أن يرى الناس أني ركبت أمراً لا ينبغي لي، كل ذلك دليل على أن حذيفة ومثله طلحة –رضي الله عنهما- فهما قول عمر على محمل السياسة الشرعية من إمام لرعيته، أي بمعنى المنع سياسةً لا التحريم الشرعي، وما كان لمثل هؤلاء أن يسكتوا لو لمحوا أنه يريد بالمنع التحريم الشرعي.
ومن الأدلة على أن عمر كان يرى إباحة الزواج من الكتابيات وأن المنع كان سياسة لأسباب عارضة، أنه علل أمره مرة بأنها " جمرة " ومن الخطر الفادح أن يضمها بيت مسلم لاحتمال إشاعة الحريق فيه، وذلك بان يتأثر الأولاد بدين أمهم ويميلون إلى عقيدتها، وعادة الأطفال شدة الولع والتعلق بالأمهات، وتقليدهن خصوصاً البنات.
وقد ذكر الطبري أن من شروط جواز نكاح الكتابية أن تكون بموضع لا يخاف الناكح على ولده أن يجبر على الكفر(1).
وعلله مرة أخرى بالخوف من أن يقلدهم عامة المسلمين في نكاح الكتابيات لجمالهن فتكسد سوق المسلمات وفي ذلك فتنة وأي فتنة، ونساء المسلمين أحق بالستر والإعفاف من الكافرات، خصوصاً وان حذيفة وطلحة من وجوه الناس وأشرافهم الذين يقتدى بهم، وعلله مرة ثالثة بالخوف من مواقعة العاهرات، وقد تقدم إفادة الآية اشتراط العفة والإحصان في المنكوحة.
وعلله مرة رابعة بكونهم في أرض المجوس وبين قوم حديثي عهد بالكفر ولم ينضج علمهم بعد بالدين وأحكامه وشرائعه، فخشي عمر - وحق له أن يخشى - أن يظن هؤلاء الداخلون في الإسلام حديثاً جواز نكاح المجوسيات قياساً على الكتابيات بجامع أنهن كلهن كافرات وخصوصاً أن
__________
(1) نفس المصدر 4/108.(1/65)
الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال في المجوس " سنوا بهم سنة أهل الكتاب "(1). وهي كما ترى تعليلات وجيهة من إمام يحتاط لرعيته.
ونقل البهيقي عن عمر أنه قال "ينكح المسلم نصرانية ولا ينكح النصراني مسلمة "(2). وعرف ذلك عن سائر الصحابة فروى عبد الرزاق عن جابر بن عبد الله أنه كان يقول "نساء أهل الكتاب لنا حل ونساؤنا عليهم حرام"(3)، ونقل عن عثمان بن عفان أنه تزوج نائلة بنت الفرافصة على نسائه وهي نصرانية(4).
فهذا كله يؤكد أن عمر وسائر الصحابة كانوا يرون حل نكاحهن ولم يأولوا أو يعطلوا حكم الآية الكريمة.
المطلب السادس:
إسقاطه اسم الجزية عن نصارى بني تغلب
ومما تعلق به المؤولون المعاصرون في استدلالهم على جواز الاجتهاد في النصوص القطعية إلى حد مخالفتها باسم المصلحة(5) ما روي عن عمر بن الخطاب أنه أسقط اسم الجزية عن نصارى بني تغلب لرفضهم دفعها بهذا الاسم، أنفة منهم لكونهم عرباً، وتضعيفه عليهم الصدقة بدلاً
منها مع أن فرض الجزية جاء به صريح القرآن { حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } (التوبة–29).
والحق انه ليس في فعل عمر ذلك أدنى مستند لما تعلقوا به من جواز الاجتهاد في النصوص القطعية ومخالفتها، للأدلة التالية:
1. قد ذهب جمهور الفقهاء إلى أن ما أخذ من بني تغلب كان في الحقيقة جزية وأن عمر رضي الله عنه لم يسقط هذا الاسم من جهته فهو يأخذها على أنها جزية، وهم يعطونها على أنها صدقة. قال ابن قدامة " وذهب الشافعي إلى أن هذا جزية باسم الصدقة.
__________
(1) أخرجه الإمام مالك بن أنس - رضي الله عنه - في الموطأ ص264، والحديث مرسل انظر: نصب الراية 2/448.
(2) السنن الكبرى 7/280،المحلى 7/313.
(3) مصنف عبد الرزق 7/176.
(4) السنن الكبرى 7/279.
(5) انظر: معالم المنهج الإسلامي ص112، النص الإسلامي ص68.(1/66)
وقد روي عن عمر أنه قال: هؤلاء حمقى رضوا بالمعنى وأبوا الاسم(1) "وذكر أن النعمان بن زرعة قال لعمر "خذ منهم الجزية باسم الصدقة، ويدل هذا على أنها جزية لا صدقة أن عمر لم يوجبها ولم يأخذها من النساء والصبيان والزمنى ولو كانت صدقة لأخذها منهم(2).
وقال الجصاص: "والمأخوذ من بني تغلب هو عندنا جزية ليست بصدقة وتوضع مواضع الفيء لأنه لا صدقة لهم، إذ كان سبيل الصدقة وقوعها على وجه القربة ولا قربة لهم وقد قال بنو تغلب: نؤدي الصدقة مضاعفة ولا نقبل أداء الجزية فقال عمر هو عندنا جزية وسموها أنتم ما شئتم فأخبر عمر أنها جزية وإن كانت حقا مأخوذة من مواشيهم وزروعهم "(3).
2. قد ذكر أهل الأخبار والفقهاء أن إجماع الصحابة قد وقع على قبول فعل عمر وتجويزه، قال ابن قدامة " واستقر قول عمر على ذلك ولم يخالفه أحد من الصحابة فصار إجماعاً وقال به الفقهاء بعد الصحابة منهم ابن أبي ليلى والحسن بن صالح وأبو حنيفة وأبو يوسف والشافعي"(4) ولا ينعقد إجماع الصحابة على جواز أمر جاءت النصوص بتحريمه، ولو كان فعل عمر مخالفاً للنصوص لما سكتوا عن الإنكار عليه مع عدم المانع لهم.
3. أن الضرورة الشرعية المعتبرة هي التي ألجأت عمر إلى التنازل عن فرض الجزية - إن سلمنا بهذا التوصيف - واستبداله بصدقة مضاعفة، فقد ثبت في الروايات التي ساقت ذلك الخبر أن بني تغلب قد انحازوا ولحقوا بالروم وكانوا ذوي عدد وبأس مما يشكل خطرا عسكرياً على المسلمين، وكانوا قوماً لا مال لهم ولهم في العدو نكاية فنُصح عمر رضي الله عنه بأن لا يعين عدوه على نفسه بهم، وعلم عمر أنه لا ضرر على المسلمين من إسقاط ذلك الاسم عنهم مع استيفاء ما يجب عليهم من الجزية(5).
__________
(1) السنن الكبرى 9/362.
(2) المغني 10/591.
(3) أحكام القرآن للجصاص 3/94.
(4) المغني 10/591.
(5) الأموال ص36،651.(1/67)
وقد قامت الأدلة القطعية من الكتاب والسنة والإجماع على اعتبار الضرورة الشرعية سبباً لإباحة المحرم أو رفع الإثم عن فاعله مما يبيح للإمام في ظروف معينة الأخذ بأحكام ما كان له أن يأخذ بها في الأحوال العادية الطبيعية.وإمام المسلمين هنا لا يعتبر مخالفاً للنصوص حقيقة بل هو متبع للنصوص الأخرى القطعية القاضية بأن الضرورات تبيح المحظورات، فالضرورة قيد يرد على كل المنهيات وقد بينا ذلك في بحث إيقافه لحد السرقة عام المجاعة.
فإن كان ما فعله عمر ووافقه عليه الصحابة من إسقاطه لاسم شرعي يعد محرماً أو تنازلاً فقد فعله للضرورة الشرعية المعتبرة، وأضيف هنا بأنه له فيه سابقة إذ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عرض على بعض قادة الأحزاب يوم الخندق ثلث ثمار المدينة على أن يرجعوا أو يخذلوا بين الأحزاب وعلل ذلك للأنصار بأن العرب قد رمتهم عن قوس واحدة وكالبوهم من كل جانب فأراد - صلى الله عليه وسلم - أن يكسر عنهم شوكتهم(1).
وهذا الفعل - الإعطاء للمشركين غير جائز في الأصل لما فيه من الذل والصغار للإسلام وأهله، ورسول الله أولى من يعلم ذلك، ولكنه فعله للضرورة الحربية، فدل ذلك على أنه يجوز لإمام المسلمين - عند الضرورة أو الحاجة- النزول عند شروط الكفار سواء ببذل المال لهم كما فعل - صلى الله عليه وسلم - أو بإسقاط اسم الجزية كما فعل عمر، وهو ما صرح به فقهاء المذاهب إذ جوزوا بذل المال للكفار إن لم يمكن دفعهم إلا به واقتضت حاجة المسلمين ذلك(2).
المطلب السابع:
إيقاعه الطلاق بلفظ الثلاث ثلاثا لا واحدة
__________
(1) انظر: سيرة ابن هشام 2/706.
(2) انظر المغني 10 /519.(1/68)
قال أهل التأويل والتعطيل المعاصرون: كان الطلاق على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة، فقال عمر بن الخطاب: أن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة فلو أمضيناه عليهم"(1).
قالوا: فهو بيِّنٌ في جواز تأويل ومخالفة حكم الرسول - صلى الله عليه وسلم - بمجرد الاجتهاد(2).
وقد أجاب العلماء عن قول عمر وفعله بأجوبة كثيرة لا يسلم أحد منها من طعن وإيراد(3).
__________
(1) صحيح مسلم بشرح النووي 15/65.
(2) انظر: أصول التشريع الإسلامي ص101،183، معالم المنهج الإسلامي ص110، النص الإسلامي ص65.
(5) انظر: بحثا بعنوان :حكم الطلاق الثلاث بلفظ واحد – هيئة كبار العلماء -مجلة البحوث الإسلامية : إصدار الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء بالمملكة العربية السعودية ، العدد الثالث، رجب، سنة 1397هـ (3/26).(1/69)
وأصح وأوجه ما جاء في جوابه قول شيخ الإسلام ابن تيميه وتلميذه ابن القيم، إذ ذهبا إلى أن فعل عمر ليس مخالفة لحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما هو من قبيل العقوبة التعزيرية، إذ أن عمر لم يغير الحكم باجتهاده ولم ينسخه بل الحكم باق على أصله من وقوع الطلاق الثلاث واحدة كما كان على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر وكل ما فعله عمر، هو إيقاعه ثلاثاً عقوبة لمن استهان بأمر الطلاق وأوقعه على غير ما شرع الله عز وجل، إذ أن الله عز وجل شرعه مفرقاً وفي طهر لا في حيض ولا نفاس ومن غير جماع فيه، وذلك لحِكَمٍ ليس هنا مجال ذكرها، وحرمه على غير تلك الوجوه، فلما خالفوا أمر الله عز وجل واستهانوا بحكمته رأى عمر ووافقه على ذلك الصحابة ولم يخالفه أو ينكر عليه أحد، رأى أن يعاقبهم بإيقاعه ثلاثاً ردعاً وزجراً لهم على الاستهانة والاستخفاف برباط الزوجية وعظةً لغيرهم، وذلك لأن المطلق كانت له فسحة في التفريق فرغب عما فسحه الله تعالى له إلى الشدة والتغليط.
فقال ابن تيميه في سياق كلامه على عقوبة التعزير:
"ومن ذلك إلزامه للمطلق ثلاثاً بكلمة واحدة بالطلاق – فأمضاه عليهم ليقلوا منه، فإنهم إذا علموا أن أحدهم إذا أوقع الثلاث جملة وقعت وأنه لا سبيل له إلى المرأة أمسك عن ذلك، فكان الإلزام به عقوبةً منه لمصلحة رآها ولم يكن يخفى عليه أن الثلاث كانت في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر تجعل واحدة بل مضى على ذلك صدر من خلافته حتى أكثر الناس من ذلك، وهو اتخاذ لآيات الله هزواً"(1).
__________
(1) أنظر: مجموع الفتاوى الكبرى (33/5-43)، وانظر: الرد المفصل لابن القيم: في كتابيه: إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان 2/324-360، والطرق الحكمية في السياسة الشرعية ص15،266، في أثناء كلامه على العقوبات التعزيرية.(1/70)
وأضيف إلى ما سبق جملة من الأحكام تدخل في سياق بيان اجتهاد عمر في هذه المسألة ونظائرها مما تمسك به أهل التأويل والتعطيل المعاصرون وهي:
1. أن غالب ما يؤخذ على عمر من اجتهادات ظاهرها مخالفة أحكام شرعية مستقرة على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر إنما هي اجتهادات جاءت من باب التعزير والسياسة الشرعية كاتخاذ السجن والزيادة في حد الخمر.
2. ومن المعلوم أن مقادير التعزيرات وأجناسها وصفاتها تتنوع وتختلف حسب ما يرى الإمام من المصلحة زماناً ومكاناً وحالاً وأشخاصاً، وهي ليست ثابتة كالمحرمات المعروفة والحدود المقدرة(1).
3. والتعزير هو تأديب على ذنوب لم تشرع فيها الحدود، وقد نصت الشريعة الإسلامية على أن كل معصية لا حد فيها ولا كفارة أن فيها التعزير كتقبيل الأجنبية والخلوة بها(2).
4. وأنه -التعزير- موكول إلى رأي الإمام واجتهاده يفعل ما يرى فيه مصلحة للناس وإقامة لهم على الحق(3)، وأنها تتراوح بين الوعظ والتهديد والجلد والضرب أو التوبيخ والحبس وبين القتل والصلب(4).
__________
(1) إغاثة اللهفان 2/ 346.
(2) انظر: المهذب للشيرازي 2/306.
(3) الكاساني علاء الدين أبو بكر مسعود الحنفي : بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع 7/63.
(4) عبد القادر عودة: التشريع الجنائي في الإسلام مقارناً بالقانون الوضعي 1/145.(1/71)
5. وأنه مما يجب أن يعلم أن أصل السياسة الشرعية ليس من ابتداع عمر، بل هو من فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقوله الذي دلت عليه سنته الصحيحة، ثم فعله خلفاؤه كلهم مع إجماع من كافة الصحابة، فإذا عرف هذا وثبت، تيسَّر توجيه عشرات من المسائل التي ظن أهل التأويل والتعطيل المعاصرون أن عمر وبعض الصحابة خالفوا فيها ما هو مقرر في الكتاب والسنة الصحيحة ليتخذوه بعد ذلك تكأة لهم في ضلالهم، وقد نقل ابن القيم عن أبي الوفاء ابن عقيل قوله "جرى في جواز العمل في السلطنة بالسياسة الشرعية وأنه هو الحزم ولا يخلو من القول به إمام" وأن من قال لا سياسة إلا ما وافق الشرع: إن عني به ما لم يخالف ما نطق به الشرع فصحيح، وإن أراد لا سياسة إلا ما نطق به الشرع فغلط وتغليط للصحابة، فقد جرى من الخلفاء الراشدين من القتل والتمثيل ما لا يجحده عالم بالسنن ولو لم يكن إلا تحريق عثمان المصاحف فإنه كان رأياً اعتمدوا فيه على مصلحة الأمة وتحريق علي رضي الله عنه للزنادقة في الأخاديد… الخ "(1).
__________
(1) ابن قيم الجوزية: الطرق الحكمية في السياسة الشرعية ص14.(1/72)
ثم قال ابن القيم تعقيباً على الكلام السابق "… فلا يقال: أن السياسة العادلة مخالفة لما نطق به الشرع بل هي موافقة لما جاء به، بل هي جزء من أجزائه، ونحن نسميها سياسة تبعاً لمصطلحكم، وإنما هي عدل الله ورسوله، فقد أمر - صلى الله عليه وسلم - عبد الله بن عمر بأن يحرق الثوبين المعصفرين (1)وأمر يوم خيبر بكسر القدور التي طبخ فيها لحم الحمر الإنسية ثم استأذنوه في غسلها فأذن لهم(2)، فدل على جواز الأمرين لأن العقوبة لم تكن واجبة بالكسر وهدم مسجد الضرار لذلك(3)(4).
المطلب الثامن:
الحامل على التأويل عند عمر والصحابة والعلماء
من خلال تعريف التأويل الذي استقر عليه الأصوليون تبين لنا أن الباعث على التأويل هو وجود دليل آخر يعارض ظاهرياً النص المراد تفسيره وهذا بيِّن من خلال تعريف الطوفي وابن تيميه إذ نص تعريفاهما على أن علة التأويل وجود دليل خارجي فالأول يقول في معنى التأويل "هو صرف اللفظ عن ظاهره لدليل يصير به المرجوح راجحاً " والثاني يعرفه بأنه " صرف اللفظ عن المعنى الراجح إلى المعنى المرجوح لدليل يقترن به "(5).
فاللام في قولهما " لدليل " مشعرة بالعلية والسببية، وهو الحق، إذ لا يخطر على بال الفقيه صرف اللفظ عن ظاهره وحمله على معنى مرجوح إلا لوجود ما يستدعي ذلك،أي " التعارض" بين الأدلة. فإذا ما تعارض النص الشرعي " الدليل " مع دليل شرعي آخر حاولنا الجمع بينهما بالتأويل أي بحمل كل منهما على وجه.
__________
(1) صحيح مسلم بشرح النووي 8/55.
(2) نفس المصدر 13/93.
(3) سيرة ابن هشام 2/985.
(4) الطرق الحكمية في السياسة الشرعية ص266، وفيه ذكر لعشرات الأمثلة من العقوبات التعزيرية فعلها الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وأوقعها على بعض العصاة، وأخرى أوقعها أبو بكر وعمر وعثمان وعلي من غير نكير من أحد من الصحابة، وعمر كان أكثرهم ممارسة لها لطول ولايته وخلافته والله أعلم.
(5) انظر: ص19 من هذا البحث.(1/73)
وقد سبق القول أن كل اختلاف في الفروع مبعثه تمسك المختلفين كل منهم بدليل يخالف دليل الآخر مما يحمله على تأويل وتوجيه دليل الخصم.
ففي تأويل عمر لقسمة السواد رأينا تعارض الأمر بقسمة أربعة أخماس الغنيمة المقاتلين والمستفاد من فعل رسول الله عليه الصلاة والسلام في أرض خيبر "عند من يقول بإفادته الوجوب "رأينا تعارضه مع مصلحة الأمة الحقيقية، أو تعارض مصلحة فئة خاصة وهم المقاتلون مع مصلحة سائر الأمة فرأى عمر تقديم المصلحة العامة الحقيقية للأمة على مصلحة فئة خاصة تبعاً للقاعدة الشرعية الثابتة بالاستقراء "يتحمل الضرر الخاص من أجل الضرر العام".
وكذلك رأينا تعارض الأمر بقطع يد السارق مع النصوص القاضية بإباحة مال الغير للمضطر، فخص عموم الأمر بالقطع بغير حالة الاضطرار و هو نوع تأويل.وسيأتي إن شاء الله تفصيل الأدلة الموجبة للتأويل وشروطها وضوابطها مع التمثيل لكل منها بمثال في مبحث دليل التأويل.
وخلاصة القول:
أن دافع التأويل عند الصحابة وغيرهم هو وجود التعارض بين أدلة شرعية معتبرة، والتعارض "هو تقابل الحجتين المتساويتين على وجه يوجب كل واحدة منهما ضد ما توجبه الأخرى كالحل والحرمة والنفي والإثبات"(1)، والتعارض واقع في حقنا وعلمنا لجهلنا بالتاريخ أي تاريخ ورود الدليلين المتعارضين وليس تعارضا في حكم الله.
ولتحقق التعارض الموجب للتأويل لا بد من وجود شروط نذكرها بإيجاز شديد(2).
1. أن يكون كل من الأدلة المتعارضة حجة يصح التمسك به، فلا يوجد تعارض عند فوات وصف الحجية بين الطرفين المتخالفين.
__________
(1) أصول السرخسي 2/12.
(2) انظر: البزرنجي عبد اللطيف عبد الله عزيز: التعارض والترجيح بين الأدلة الشرعية 2/332.(1/74)
2. التساوي بين الدليلين في القوة ثبوتاً أو دلالة لأن التدافع لا يتحقق بين القوي والضعيف، فلا تعارض بين قطعي وظني، أو بين آية وخبر آحاد أو بين النص والظاهر، ولا بين الخاص والعام، إلا أن عدم التساوي بين الدليلين لا ينفي الحاجة إلى التأويل، فيجب العمل بالدليل الراجح القوي ثم نؤول الدليل الآخر للتوفيق بينهما.
بعبارة أخرى إن تحقق التعارض بأركانه وشروطه ليس شرطاً لجواز التأويل، فنحن بحاجة إلى تأويل الدليل المرجوح وحمله على وجه مقبول بعد الأخذ بالدليل الراجح، فوجوب العمل بالدليل الراجح لا ينفي الحاجة إلى حمل الدليل المرجوح وتأويله على محمل صحيح مقبول، وذلك أولى من إهماله وإبطاله، "والمساواة بين المتعارضين ليست بشرط في جواز الجمع بينهما بعد أن بلغ كل من الطرفين المتخالفين درجة الحجة، واتفاق المتنازعين على صحته واتصاله بالشارع"(1)
3. أن لا يعلم المتقدم منهما من المتأخر، فإن علم كان الأول منسوخاً والمتأخر ناسخاً ولا يحكم بالتعارض ولا يحتاج إلى تأويل حينئذ.
المطلب التاسع:
معارضة النصوص بالأقيسه العقلية
قد تبين من الشروط التي وضعها العلماء لتحقق المعارضة لنص أو دليل شرعي أن يكون المعارض المقابل حجة شرعية أولاً وقبل كل شيء، فلا تعارض عند فوات وصف الحجية في أحد الطرفين، ولأنه عند عدم تحقق ذلك بأن كان المتعارض غير معتبر كدليل شرعي كأن يكون توهمات أو تحليلات أو نظريات فلسفية مادية كالتي يعارض بها الآن أهل التأويل والتعطيل المعاصرون النصوص الشرعية الثابتة الصحيحة قطعية كانت أم ظنية، فعندئذ يعتبر الدليل الشرعي الثابت "سالماً عن المعارضة والعمل به يكون متعيناً فلا داعي لمحاولة الجمع أو التأويل أصلاً بل يكون هذا الجمع والتأويل جمعاً بين الدليل وغيره"(2).
__________
(1) نفس المصدر 2/332.
(2) المصدر السابق 1/153.(1/75)
وإذا علمنا أنه لا بد من التساوي في القوة بين الأدلة حتى يتحقق التعارض وليس ثبوت وصف الحجية فقط، حتى أنه لا يصح جريان التعارض بين قطعي وظني ولا بين نص أو إجماع لأن الأضعف ينتفي بالأقوى والظن ينتفي بالقطع والإجماع مقدم على القياس(1).
أقول إذا علمنا ذلك فماذا يتبقى من قيمة فكرية أو ثقافية أو شرعية لاجتهادات وتأويلات كثير من أدعياء الثقافة والتجديد في الفكر الإسلامي، وكل أو غالب اجتهاداتهم تلك ما هي إلا توهمات وتحليلات وأقيسة عقلية أوحى بها إليهم شياطين الإنس من المستشرقين الغربيين ليراغموا بها ما قاله الله وقاله رسوله - صلى الله عليه وسلم - وأجمعت عليه الأمة خلفاً بعد سلف ؟!.
وكيف يصح مخالفة النصوص والأدلة الشرعية بالأقيسة والظنون وقد تقرر بداهة في ديننا، أن مصدر الأحكام والشرائع هو الله سبحانه وتعالى وليس أهواء البشر.
قال الآمدي " أعلم أنه لا حاكم سوى الله تعالى ولا حكم إلا ما حكم به "(2).
وبعد ما تقرر من وجوب رد المتنازع فيه من الأحكام إلى كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - جليلاً كان أو صغيراً (3)، ولو جاز مخالفة النصوص الربانية بتوهمات العقول و آرائها لكان إرسال الرسل و إنزال الكتب عبثاً وحاشا لله، ولترك الله للناس تدبير أمورهم بأنفسهم، ولما توعد في عشرات الآيات ومئات الأحاديث من لم يطع الله ورسوله بالعذاب الأليم، والأقوال التي جاءت عن الصحابة والعلماء في تحريم القول على الله بغير علم ومعارضة القرآن بالرأي أشهر من أن تحصر وأكثر من أن تذكر(4).
__________
(1) إرشاد الفحول ص275.
(2) الإحكام للآمدي 1/113.
(3) إعلام الموقعين 1/52.
(4) للوقوف على كثير منها انظر: إعلام الموقعين 1/49-91.(1/76)
وقال شيخ الإسلام ابن تيميه " فكان من الأصول المتفق عليها بين الصحابة والتابعين لهم بإحسان أنه لا يقبل من أحد قط أن يعارض القرآن لا برأيه ولا ذوقه ولا معقوله ولا قياسه ولا وجده، فإنهم ثبت عنهم بالبراهين القطعيات والآيات البينات أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جاء بالهدى ودين الحق وأن القرآن يهدي للتي هي أقوم… ولهذا لا يوجد في كلام أحد من السلف أنه عارض القرآن بعقل ولا برأي ولا قياس، ولا قال قط قد تعارض في هذا العقل والنقل، فضلاً عن أن يقول فيجب تقديم العقل. ولم يكن السلف يقبلون معارضة الآية إلا بآية أخرى تفسرها أوتنسخها، أو بسنة الرسول - صلى الله عليه وسلم - تفسرها "(1).
"وقد تبين بذلك أن من فسر القرآن أو الحديث وتأوله على غير التفسير المعروف عن الصحابة والتابعين فهو مفتر على الله ملحد في آيات الله محرف للكلم عن مواضعه، وهذا فتح لباب الزندقة والإلحاد وهو معلوم البطلان بالإضطرار من دين الإسلام "(2).
"وهؤلاء - أهل التأويل الفاسد - من أهل الكلام هم النابذون للمنقولات اتباعاً للرأي وقد أداهم ذلك إلى تحريف كلام الله بما لا يشهد للفظه عربي ولا لمعناه برهان "(3).
المبحث الثالث
أنواع التأويل
والتأويل إما أن يكون تخصيصاً للعام، أو تقييداً للمطلق، أو صرفاً للفظ من الحقيقة إلى المجاز أو للأمر من الوجوب إلى الندب أو الإباحة، أو للنهي من التحريم إلى الكراهية، وكل صرف للفظ عن ظاهره الذي وضع له بحسب اللسان العربي هو نوع تأويل وقد تقدم أن التأويل لا يجوز إلا بدليل.
فظاهر العام استغراقه لجميع أفراده ولا يجوز صرفه عن ظاهره بتخصيصه وقصره على بعض أفراده دون دليل راجح(4).
__________
(1) مجموع الفتاوى الكبرى 13/28.
(2) نفس المصدر 13/244.
(3) الموافقات 3/393.
(4) الرازي فخر الدين محمد بن عمر بن الحسين: المحصول من علم الأصول 2/307، الإحكام للآمدي 2/286.(1/77)
وظاهر الخاص دلالته على معنى واحد على سبيل الانفراد، كالأعلام والأعداد ولا يجوز صرفه عن ظاهره بتعميمه(1).
وظاهر المطلق دلالته على فرد شائع في جنسه، فلا يجوز صرفه عن هذا الظاهر بتقييده وحصر دلالته على مدلول معين بدون دليل(2).
وظاهر الأمر الوجوب أي وجوب فعل المأمور به، ولا يجوز صرف هذا الظاهر عن الوجوب إلى الندب أو الإباحة إلا بدليل(3).
وظاهر النهي التحريم أي تحريم فعل المنهي عنه ولا يجوز صرف هذا الظاهر عن التحريم إلى غيره من دلالات النهي والأخرى كالكراهة إلا بدليل(4).
والأصل في الألفاظ أنها على الحقيقية، أي إرادة ما وضع اللفظ له في الأصل، ولا يصار إلى المجاز إلا بقرينة، لأن المجاز بدل عن الحقيقة ولا يجوز العدول عن الأصل إلى بدله إلا بقرينة صارفة(5).
ثم إن كل نوع من أنواع التأويل هذه قد يكون قريبا مقبولا أو بعيدا مردودا، ويعتمد ذلك على قرب الاحتمال المرجوح أو بعده، فإن كان الاحتمال قريبا كفى في إثباته دليل قريب وان لم يكن بالغا في القوة، وان كان الاحتمال بعيدا احتاج إلى دليل قوي ليجبر بعده، وذلك حتى يكون الأخذ بذلك الاحتمال المرجوح أغلب على الظن من مخالفة ظاهر الدليل(6).
وقال الشوكاني في أقسامه أنها ثلاثة:
- قريب: فيترجح بأدنى مرجح.
- أو بعيد: فلا يترجح إلا بمرجح أقوى منه -أي من ظاهر الدليل- ولا يترجح بما ليس بقوي.
- ومتعذر: لا يحتمله اللفظ أصلاً وحكمه أنه مردود لا يقبل(7)
ومن أمثلة التأويل القريب:
__________
(1) الإحكام للآمدي 2/286.
(2) المحصول 3/141، الإحكام للآمدي 3/2.
(3) المحصول 2/44، الإحكام للآمدي 2/207.
(4) المحصول 2/281، الإحكام للآمدي 2/284.
(5) المحصول 1/354، الإحكام للآمدي 2/408.
(6) المستصفى 1/387.
(7) إرشاد الفحول ص177،وانظر: جمع الجوامع بشرح المحلي 2/88.(1/78)
صرف "القيام " في قوله تعالى { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ } ( المائدة –6) الآية إلى العزم على القيام إلى أدائها، ووجه قرب هذا التأويل هو أن تقييد الوضوء بالقيام إلى الصلاة غير مراد قطعاً فيرجع حمله على العزم(1)، ولأن الوضوء يكون عند العزم على القيام إلى الصلاة عادة وليس بعد القيام إليها.
ونحوه تأويل القراءة في قوله تعالى { فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ } (النحل98) بالعزم على الشروع فيها بدليل أن الاستعاذة لا تكون بعد الفراغ من القراءة بل عند همَّ الشروع فيها.
فهذه أمثلة على التأويل القريب المقبول وهي صرف للفظ من الحقيقة إلى المجاز.
والتأويل البعيد أمثلته كثيرة جداً منها:
تأويل الإمساك في قوله - صلى الله عليه وسلم - لغيلان الثقفي وقد أسلم على عشرة نسوة " أمسك أربعاً وفارق سائرهن "(2)، بابتداء النكاح وتجديده، وهو تأويل الحنفية، كأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال له: ابتدأ نكاحهن وأعقد عليهن من جديد، وهو تأويل بعيد، لأن الظاهر من لفظ الإمساك هو استدامة واستصحاب الزواج، ولأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يذكر لغيلان شروط النكاح مع أن الحاجة تدعو إلى معرفة ذلك لقرب عهده بالإسلام إلى غير ذلك من القرائن الدافعة لهذا الاحتمال والتأويل البعيد(3)
__________
(1) جمع الجوامع بشرح المحلي 2/88.
(2) سنن الترمذي 3/426.
(3) الإحكام للآمدي 3/76.(1/79)
ومنها: تأويل المرأة في قوله - صلى الله عليه وسلم - " أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل فنكاحها باطل فنكاحها باطل، فإن دخل بها فلها المهر بما استحل من فرجها فإن اشتجروا فالسلطان ولى من لا ولي له "(1)، بالمرأة الصغيرة، أو أنها وإن كانت كبيرة فالمراد بها المكاتبة، أو أنه أراد ببطلان النكاح مصيره إلى البطلان غالباً، بتقدير اعتراض أحد الأولياء عليها إذا زوجت نفسها من غير كفؤ.
قال الآمدي " وهذه تأويلات مما لا يمكن المصير إليها في صرف هذا العموم المقارب للقطع عن ظاهره وذلك لأنه صدر الكلام " بأي وما " في معرض الشرط والجزاء وذلك من أبلغ أدوات العموم، وأكده بالبطلان مرة بعد مرة ثلاث مرات وهو من أبلغ ما يدل به الفصيح أو المصقع على التعميم والبطلان. ومن جهة أخرى فإن الصغيرة لا يقال لها في عرف اللسان امرأة.
وأما حمله على الأمة فيدرأه قوله " فإن دخل بها فلها المهر بما استحل من فرجها " ومهر الأمة ليس لها بل لسيدها.
وأما حمله على المكاتبة فبعيد أيضاً من جهة أنها بالنسبة إلى جنس النساء نادرة واللفظ المذكور من أقوى مراتب العموم وليس من الكلام العربي إطلاق ما هذا شأنه، وارادة ما في غاية الشذوذ، ولهذا فإنه لو قال السيد لعبده "أيما امرأة لقيتها اليوم فأعطها درهماً " وقال إنما أردت" امرأة مكاتبة كان منسوباً إلى الإلغاز في القول وهجر الكلام.
وأما حمل بطلان النكاح على مصيره إلى البطلان فبعيد من وجهين:
الأول: أن مصير العقد إلى البطلان من أندر ما يقع، والتعبير باسم الشيء عما يؤول إليه إنما يصح فيما إذا كان المآل إليه قطعاً كما في قوله تعالى { إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ } ( الزمر-30)، أو غالباً كما في تسمية العصير خمراً في قوله تعالى { أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا } (يوسف-36)
__________
(1) سنن الترمذي 3/399 ، وقال حديث حسن.(1/80)
الثاني: قوله " فإن دخل بها فلها المهر بما استحل من فرجها " ولو كان العقد واقعاً صحيحاً لكان المهر لها بالعقد لا بالاستحلال"(1).
الفصل الثاني
أركان التأويل الصحيح وشروطه
ويحتوي على:
المبحث الأول: الركن الأول: وهو النص محل التأويل
- المطلب الأول: جهود الأصوليين في تحديد مجال التأويل.
- المطلب الثاني: أقسام الألفاظ عند الحنفية.
- المطلب الثالث: أقسام الألفاظ عند الجمهور.
- المطلب الرابع: مقارنة بين منهجي الجمهور والحنفية في تقسيم الألفاظ.
المبحث الثاني: الركن الثاني: "المؤول" شروطه.
المبحث الثالث: الركن الثالث: أدلة التأويل.
المبحث الرابع: الركن الرابع: المعنى المستنبط بدليل التأويل.
المبحث الأول
الركن الأول: النص محل التأويل
المطلب الأول: جهود الأصوليين في تحديد مجال التأويل
قد وقع الاجتهاد في عصر الصحابة ومن بعدهم في النصوص ذاتها قرآنا وسنة ولم يكن اجتهادهم منحصراً فيما لا نص فيه كما يتوهم بعضهم(2) وحقيقة اجتهادهم ذلك كان في استخراج الدليل من الكتاب والسنة كما نبه عليه الشوكاني(3) وكان اجتهاداً في فهم النصوص و إنزالها على الوقائع المختلفة كما في اجتهادات عمر التي ذكرت، وفي حمل العام منها على الخاص أو المطلق على المقيد أو قياس الأحكام المتشابهة بعضها على بعض… الخ.
والتأويل اجتهاد في نطاق النص، والنص المراد هنا ليس معناه الاصطلاحي عند الأصوليين وهو المقابل للظاهر، بل المراد به محل التأويل من آية أو حديث.
__________
(1) الإحكام للآمدي 3/81، وإنما ذكرته بطوله لجودة المثال في تمييز التأويل الصحيح من الفاسد، وانظر مزيدا من هذه الأمثلة في المستصفى 1/390، جمع الجوامع 3/88.
(2) المناهج الأصولية ص7، واستفدت هذا التقسيم من الدكتور محمد أديب الصالح في كتابه "تفسير النصوص" ، و د. الدريني في كتابه" المناهج الأصولية
(3) إرشاد الفحول ص202.(1/81)
ومن أجل تحديد النصوص الشرعية التي يجوز أن يتطرق إليها التأويل وتمييزها عن غيرها من النصوص التي لا مجال لتأويلها من قريب أو بعيد، فقد عمد الأصوليون إلى تصنيف النصوص حسب دلالتها على معانيها، وضوحاً وخفاء، فهنالك النصوص الواضحة الدلالة، وأخرى غير واضحة الدلالة، وكل من القسمين مصنف إلى مراتب حسب قوة الوضوح وخفائها فالنصوص الواضحة الدلالة تنقسم إلى أربعة مراتب عند الحنفية هي:
1. الظاهر……2. النص
3. المفسر……4. المحكم
وأعلاها رتبة في الوضوح: المحكم يليه في ذلك المفسر ثم النص ثم الظاهر.
وكذلك قسموا النصوص غير واضحة الدلالة إلى أربعة مراتب متفاوتة في الخفاء، وهي:
1. الخفي……2. المشكل
3. المجمل……4. المتشابه
وأشدها خفاءً المتشابه ثم المجمل ثم المشكل ثم الخفي(1) هذا تقسيم الحنفية، وأما جمهور أهل الأصول من المتكلمين فقد قسموا اللفظ باعتبار وضوح دلالته على المعنى إلى قسمين وهما:
1. النص.
2. الظاهر.
والنص أوضح عندهم من الظاهر في الدلالة على معناه.
وأما النصوص غير واضحة الدلالة فهي تنقسم عندهم إلى قسمين:
1. المجمل
2. المتشابه
والمتشابه أشد خفاءً في دلالته على معناه من المجمل عندهم(2) وهذه التقسيمات ليست مقصودة لذاتها، بل جاءت نتيجة جهود مضنية من علماء الأمة، لترسم مناهج الاجتهاد بالرأي في نطاق النصوص وتضع له القواعد اللازمة، للمحافظة على التشريع الإسلامي من الانحراف والتلاعب والأهواء.
وتتجلى فائدة هذا التصنيف والترتيب في ثلاث فوائد:
__________
(1) انظر: أصول السرخسي 1/163.
(2) انظر: ابن عبد الشكور محب الدين: فواتح الرحموت بشرح مسلم الثبوت في أصول الفقه بذيل المستصفى 2/19.(1/82)
1. إزالة الإبهام الناشئ عن التعارض الظاهري في حكم مسألة معينة، فإن حكم ما هو أقوى وضوحاً يقدم على ما هو دون ذلك عند التعارض. فالنص مقدم على الظاهر عند التعارض، والمفسر مقدم عليهما عند التعارض، والمحكم مقدم على كل أولئك عند التعارض.
2. تحديد مجال التأويل: فكلما ازداد النص وضوحاً كان أبعد عن التأويل حتى إذا كان مفسراً ومبيناً لإرادة الشارع تبييناً كاملا أصبح هذا النص ممثلا لإرادة الشارع ومفسرا لها تفسيرا قاطعا لكل وجوه التأويل.
3. تحديد نطاق النظام العام وبيان عناصره مما لا مجال فيه للتأويل.
فمنشأ التفاوت بين النصوص الواضحة في قوة الوضوح هو احتمال بعضها للتأويل أو عدم احتمالها له(1)
المطلب الثاني:
أقسام الألفاظ عند الحنفية
أ- واضح الدلالة
أولاً: الظاهر
تعريفة:
عرفه السرخسي بقوله: "وهو ما يعرف المراد منه بنفس السماع من غير تأمل، وهو الذي يسبق إلى العقول والأوهام لظهوره موضوعاً فيما هو المراد"(2).
ويمكن تبسيط تعريفة بالقول: بأنه اللفظ الذي يتبادر معناه اللغوي إلى السامع بمجرد سماعه، من غير اعتماد على دليل خارجي عنه، وهو مع هذا ليس المقصود الأصلي من النص بل مقصود تبعاً، ولكن دلالته على المراد، لا ترتقي إلى القطع واليقين، لذلك كان مما يدخله الاحتمال والتأويل(3)
مثاله:
قوله تعالى { الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ المَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا } ( البقرة-275).
__________
(1) المناهج الأصولية ص39-41.
(2) أصول السرخسي 1/164.
(3) انظر: محمد أديب صالح: تفسير النصوص في الفقه الإسلامي 1/142، والمناهج الأصولية ص43.(1/83)
فإن الآية ظاهرة الدلالة في حل البيع وحرمة الربا، وهذا المعنى هو المتبادر إلى العقل بمجرد سماعها، ولكنها لم تُسق لبيان هذا المعنى في الأصل، بل سيقت لنفي المماثلة المزعومة بين البيع والربا، رداً على من قال من اليهود: أن البيع مثل الربا(1) وكون النص مسوقاً لبيان معنى معين أصالة أو تبعاً، مما يتكفل ببيانه سياق النص ذاته، أو سبب نزول الآية الكريمة، أو سبب ورود الحديث الشريف.
حكمه:
1. إن ظاهر النصوص الشرعية المتبادر إلى الأفهام والعقول حجة يجب العمل بها قال السرخسي"
وحكمه - الظاهر - لزوم موجبه قطعاً، عاماً كان أو خاصاً(2)، وقوله "قطعاً" أي أن وجوب العمل به متفق عليه لا خلاف فيه، لأنه وإن كان الظاهر يفيد ظناً ولكنه ظن راجح والعمل بالظن الراجح واجب لأن غالب أحكام الإسلام ثبتت به.
2. وبما أنه يفيد ظناً راجحاً، فلا يجوز صرفه عن ظاهره وتطريق الاحتمالات إليه لتعطيله وتأويله بمجرد الرأي والعقل، لأن في هذا إلغاءً لإرادة الشارع، واستبدالاً لإرادة المجتهد بها، وهو غير جائز، سواء كان هذا الظاهر العموم الذي يفيد الاستغراق، أو الإطلاق الذي يفيد الشمول، أو الحقيقة أو الأمر الذي يفيد الوجوب، أو النهي الذي يفيد التحريم.
3. ولكن يجوز تأويل هذا الظاهر بصرف العام إلى الخصوص والإطلاق إلى التقييد والحقيقة إلى المجاز والأمر من الوجوب إلى الندب أو الإباحة، والنهي من التحريم إلى الكراهة، إن قام دليل شرعي آخر يوجب هذا الصرف والتأويل إلى معنى آخر يحتمله اللفظ.
4. والظاهر يحتمل النسخ في عصر الرسالة(3)
محل الاجتهاد في الظاهر:
ومحل الاجتهاد في الظاهر هو في إصابة احتمالٍ ناشئ عن دليل معارض وبيان رجحان ذلك الدليل.
__________
(1) أصول السرخسي 1/164.
(2) أصول السرخسي 1/164.
(3) انظر: تفسير النصوص 1/146.(1/84)
فإذا أصاب المجتهد دليلاً قوياً يحيل المعنى الظاهر عن ظاهره، ويعارضه، كان عليه أن يبين وجوه قوة ذلك الدليل ورجحانه على الظاهر، بوجه من وجوه الترجيح المعروفة في علم الأصول، وذلك لأن المعنى الذي يراد حمل الظاهر عليه هو معنى مرجوح.
ولكنه مضطر قبل ذلك لإثبات أن هذا المعنى الذي أفاده الظاهر ليس مقصوداً أصالة من النص، بل تبعاً، ويعرف -كما سبق- من سياق النص أو سبب النزول للآية أو سبب ورود الحديث الشريف(1)
مثال تأويل الظاهر:
لفظ البيع في قوله تعالى { وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ } ( البقرة-275) فالبيع لفظ عام، وظاهر عمومه حل جميع أنواع البيوع، لأن ذلك هو المتبادر إلى عقل السامع، ولكن هذا الظاهر العام – مؤول
ومخصص بالأحاديث التي جاءت تنهى عن بعض أنواع البيوع التي كانت معروفة في الجاهلية مثل بيع الغرر وبيع الثمر قبل بدو صلاحه.
ومثال آخر:
قوله تعالى { فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ } (النساء –3) فإن ظاهر هذا
الإطلاق هو حل جميع أنواع الأنكحة، ولكن هذا الإطلاق مؤول ومقيد بالأحاديث التي جاءت تنهى عن صور معينة من الأنكحة كنكاح الشغار ونكاح المتعة ونكاح المحلل.
وبعد:
فإنه سيتبين في الباب الثاني عند الكلام على تأويلات المعاصرين للنصوص - ما كان منها ظاهراً - أنها تأويلات باطلة مردودة لأن غالبيتها العظمى هي ترجيح لمعان بعيدة بدون مرجح أي بدون دليل معتبر. وأنها - اجتهاداتهم - دعوة إلى إهمال دلالة ظاهر الألفاظ التي دل عليها اللسان العربي، وهي عودة إلى الباطنية القديمة في ثوب جديد.
ثانيا: النص
__________
(1) انظر: المناهج الأصولية ص47.(1/85)
وهو ما يزداد وضوحاً بقرينة تقترن باللفظ من المتكلم، ليس في اللفظ ما يوجب ذلك ظاهراً بدون تلك القرينة(1) أو هو اللفظ الذي يدل على معناه المقصود أصالة من سوقه مع احتمال التأويل(2) فهو من جهة أكثر وضوحاً من الظاهر، وهذا الوضوح ليس مرده إلى صيغة الخطاب، إنما مرده إلى قرينة المتكلم، وبعبارة السرخسي " يكون النص ظاهراً باعتبار صيغة الخطاب، " نصاً" باعتبار القرينة التي كان السياق لأجلها "(3).
مثاله:
وقد مثل له العلماء بقوله تعالى { قَالُوا إِنَّمَا الْبيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا } ( البقرة-275).
فالآية ظاهرة في الدلالة على حل البيع وحرمة الربا لأن هذا ما يفهم من صيغة الخطاب، ولكن دلت قرينة على أن الآية لم تسق في الأصل لبيان هذا المعنى إنما سيقت لأجل نفي التماثل في الحكم بين البيع والربا رداً على من قال به من اليهود، وهذا المعنى - التفرقة في الحكم بين البيع
والربا - لم يفهم من ذات الصيغة، فالصيغة والخطاب واحد، ولكنه فهم من قرينة سيقت الآية لأجلها وهو ما وضحه سبب النزول من أنها جاءت رداً على دعوى اليهود بتساوي وتماثل البيع والربا، وكان نفي التماثل هو المقصود الأصلي من خطاب الشارع.
حكمه:
1. وحكم النص كحكم الظاهر - وجوب العمل بما دل عليه، حتى يقوم دليل على تأويله وتخصيصه، ووجوب العمل بما يدل عليه الظاهر والنص هو على سبيل القطع واليقين، وقال في كشف الأسرار " حكم الظاهر ثبوت ما انتظمه يقيناً وكذلك النص، إلا أن هذا عند التعارض أولى منه"(4)
2. أنه يحتمل التأويل، ولكن هذا الاحتمال لا يقدح في قوة دلالة النص الراجحة على معناه المقصود أصالة للمشرع ما دام ذلك الاحتمال غير ناشئ عن دليل.
__________
(1) أصول السرخسي 1/164، وانظر: أمير بادشاة محمد أمين : تيسير التحرير 1/137.
(2) المناهج الأصولية ص51.
(3) أصول السرخسي 1/164.
(4) أصول السرخسي 1/127.(1/86)
3. احتمال النص للتأويل أبعد من احتمال الظاهر.
4. عند التعارض بين الظاهر والنص يقدم العمل بالنص لأن دلالته أقوى.
5. إنه يقبل النسخ في عهد الرسالة(1).
محل الاجتهاد بالرأي في "النص":
1. ينصب الاجتهاد بالرأي في " النص " على معرفة المعنى المقصود أصالة من الصيغة ويعرف ذلك من القرائن التي ذكرت.
2. وكذلك رفع التعارض بين حكم الظاهر وحكم النص في مسألة معينة.
ومثال ذلك:
قوله تعالى بعد ذكر المحرمات من النساء { وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ } (النساء-24)، فهذه الآية
يدل ظاهرها على إباحة الزواج بمن عدا المحرمات اللواتي ذكرن في صدر الآية، وهي بظاهر عمومها تدل على إباحة الزواج بأكثر من أربع نساء جملة.
ولكن جاء قوله تعالى { فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ } (النساء –3) نص في
قصر الإباحة على أربع نساء، وحرمة الجمع بين أكثر من ذلك، فيتعارض هذا النص مع الظاهر فيقدم النص في العمل، لأن الآية الأولى لم يقصد من تشريعها أصالة تحديد عدد من يجوز الجمع بينهن، بل كان المقصود من الآية الثانية أصالة، لذلك قدم ما هو مقصود أصالة " النص " على ما هو مقصود تبعاً وهو "الظاهر"(2)
الوفق والفرق بين الظاهر والنص:
1. يدلان على معانيهما دلالة واضحة دون اعتماد على قرينة خارجية.
2. كل منهما يحتمل التأويل.
3. يجب العمل بالحكم المستفاد من كل منهما على سبيل القطع واليقين.
4. ما سبق يتفقان فيه، وأما ما يفترقان فيه فهو أن المعنى المستفاد من النص قد قصده الشارع أصالة من سوق الكلام فازداد قوة ووضوحا، و أما المعنى المستفاد من الظاهر فليس مقصوداً أصالة من النص بل تبعاً(3)
__________
(1) انظر: المرجع السابق 1/48، وتيسير التحرير 1/137، وأصول السرخسي1/165، وتفسير النصوص 1/154 والمناهج الأصولية ص53.
(2) المناهج الأصولية ص53.
(3) نفس المصدر ص54.
(3) كشف الأسرار 1/131، وانظر: أصول السرخسي 1/165، تيسير التحرير 1/137(1/87)
.
ثالثاً: المفسر
وأما المفسر: " فما ازداد وضوحاً على النص سواء أكان معنى في النص أم بغيره بأن كان مجملاً فلحقه بيان قاطع فانسد به باب التأويل، أو كان عاماً فلحقه ما انسد به باب التخصيص(3) ويتضح المعنى من هذا التعريف أكثر بذكر أنواع المفسر وأمثلته.
أنواع المفسر:
المفسر نوعان: وهو ما يفهم من التعريف المذكور وهما:
الأول: المفسر الذي جاءت زيادة الوضوح فيه من نفس الصيغة، ومثاله قوله تعالى
{ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ } ( التوبة-36).
فلفظ " المشركين " لفظ عام، والعام يلحقه التخصيص، أي التأويل، فيجوز أن يحتمل أن المراد بهم طائفة مخصوصة، إلا أن مجيء لفظ "كافة " يدفع هذا الاحتمال وغيره، فيبقى النص سالماً من احتمال التأويل والتخصيص. وهو ما عناه صاحب كشف الأسرار آنفاً بقوله "أو كان عاماً فلحقه ما انسد به باب التخصيص"، فيكون الحكم المستفاد من الآية إذن هو وجوب قتال المشركين كافة دون استثناء.
الثاني: "وهو المفسر بمعنى من خارج الصيغة " أي بخطاب آخر من الشارع " وهذا النوع يشمل كل لفظ يحتمل التأويل " من الواضح الدلالة " أو ما كان خفيَّ الدلالة على معناه فالتحق به ما فسره تفسيراً قاطعاً.
وعلى هذا فإن الظاهر والنص، وهما يحتملان التأويل - كما مر - إذا التحق بهما ما يفسرهما تفسيراً قاطعاً بأن رفع احتمال التأويل، أصبح كل منهما مفسراً بغيره، وكذلك المجمل والخفي والمشكل أي من كل لفظ خفي الدلالة على معناه، إذا التحق به ما يفسره بقطعي كان مفسراً بغيره قاطعاً لكل احتمال للتأويل، وإن بقي محتملاً للنسخ في عهد الرسالة "(1).
__________
(1) المناهج الأصولية ص56،وانظر: تفسير النصوص 1/169.(1/88)
وذلك كألفاظ الصلاة والصيام والزكاة والحج التي جاء الأمر في القرآن بفعلها، فهي ألفاظ مجملة لها معان لغوية محددة معروفة وهي الدعاء والإمساك والطهارة والقصد - على الترتيب - ولكن هذه المعاني اللغوية غير مرادة بخطاب الشارع، وإنما عني بها مدلولات ومعان شرعية خاصة، لم يفصلها القرآن، وإنما فصلتها وبينت المراد بها سنة الرسول - صلى الله عليه وسلم - القولية والفعلية، فنحن علمنا كيفية الصلاة وأركانها وشروطها ومبطلاتها من سنة الرسول عليه الصلاة والسلام القولية والفعلية لقوله " صلوا كما رأيتموني أصلي"(1).
وعلمنا أركان الصيام وشروط صحته ومبطلاته من السنة وكذلك نصاب الزكاة في الأموال المختلفة ومقادير الوجوب في كل منها علمناه من السنة وكيفية الحج من فعله - صلى الله عليه وسلم - وقوله " خذوا عني مناسككم "(2)، وغير ذلك من الأمور التي أجملها القرآن وأتت السنة عليها بالبيان والتفصيل(3).
بقي القول أن التفسير قد يكون كلياً أو شاملاً بحيث يتضح النص المفسر وتتبين تفاصيله كلياً بما لا مزيد عليه كالأمثلة السابقة، وقد يكون التفسير جزئياً بأن يبين الشارع بعض أجزاء المجمل ويترك البعض الآخر على إجماله.
فإذا كان التفسير شاملاً لم يكن ثمة مجال للاجتهاد بالرأي في مثل هذا النوع من المفسر، بل يحرم حمله على غير معناه، وأما إذا لم يفسر الشارع اللفظ المجمل تفسيراً شاملاً فيكون هناك مجال للاجتهاد في القدر الذي لم يتناوله التفسير.
ومثال ذلك أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد نص على تحريم التفاضل في الأصناف الربوية الستة وهي الذهب والفضة والقمح والشعير والتمر والملح(4). فحرم بيعها نسيئة وتفاضلاً على تفصيل معروف في كتب الفقه.
__________
(1) صحيح البخاري بشرح العسقلاني 2/111.
(2) صحيح مسلم بشرح النووي 9/44
(3) انظر: المناهج الأصولية ص57، تفسير النصوص 1/169.
(4) صحيح البخاري بشرح العسقلاني 4/377-379.(1/89)
وذلك منه - صلى الله عليه وسلم - تفسير للفظ " الربا " الوارد في القرآن – عند من يقول أنه مجمل – إلا أنه ترك سائر الأصناف من مثل العدس والأرز والذرة مجملاً لم ينص على تحريمه أو بيانه.
فكان هذا التفسير جزئياً أي غير شامل ولذلك اجتهد العلماء فيما عدا تلك الأصناف الستة، فمنهم من قصر التحريم على الأصناف المذكورة وأجاز التفاضل والنسيئة في بيع ما عداها، ومنهم من ألحقها بها في الحكم فحرم بيعها بالتفاضل والنسيئة بجامع الكيل أو الوزن أو الادخار(1)
حكم المفسر:
1. يجب العمل بموجبه - أي بما دل عليه من معنى - وجوباً قطعياً حتى يقوم الدليل على نسخه.
2. أنه لا يحتمل التأويل فلا مجال لأن يصرف عن ظاهره ويراد منه معنى لآخر.
3. أنه لا مجال فيه للاجتهاد بالرأي إذا كان التفسير شاملاً، وإلا فللاجتهاد مجال فقط في القدر الذي لم يتناوله التفسير فيبقى خفياً أو مشكلاً في ذلك القدر.
4. أنه يحتمل النسخ في عهد الرسالة.
5. أنه مقدم على " النص " عند التعارض، لأن النص يحتمل التأويل والمفسر لا يحتمله، وهو مقدم على الظاهر من باب أولى ولذلك يحملان عليه عند التعارض(2)
6. كل حكم مفسر يعتبر من النظام العام في الشريعة فلا يجوز تأويله أو الاتفاق على خلافه.(4)
__________
(1) المناهج الأصولية 60-61.
(2) انظر: أصول السرخسي 1/165، تيسير التحرير 1/137، تفسير النصوص 1/169، المناهج الأصولية ص61.
(4) المناهج الأصولية ص61.(1/90)
وسيتبين إن شاء الله في الباب الثاني عند الكلام على تأويلات المعاصرين واجتهاداتهم أن كثيراً منها يقع ضمن دائرة المفسر بل المحكم لأن النصوص باتت كلها محكمة بعد وفاة الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام، وانقطاع الوحي. وذلك كالاجتهاد في حكم قتال المشركين وأهل الكتاب، والقول بتوجه الصلح بدلا منه، وكالاجتهاد في مدلول الإيمان حتى أدخلوا فيه اليهود والنصارى، وكالاجتهاد في حكم الحجاب، خصه بعضهم بأزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - وكالاجتهاد في الحكم بالشرائع الوضعية بدعوى أنها من أمور الدنيا ومصالح المعاش التي قال فيها الرسول - صلى الله عليه وسلم - " أنتم أعلم بأمور دنياكم "(1)
رابعاً: المحكم
"وهو المفسر إلا أنه يزيد عليه بكونه لا يحتمل النسخ ولا التبديل "(2) أو هو اللفظ الذي دل على معناه دلالة واضحة قطعية لا تحتمل تأويلاً ولا تخصيصاً ولا نسخاً حتى في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا بعد وفاته بالأولى(3)".
والمحكم نوعان:
الأول: المحكم لذاته، ومن أمثلته:
1. أن يكون الحكم الذي دل عليه اللفظ من قواعد الدين وأساسياته كأركان الإيمان.
2. أن يكون الحكم الذي دل عليه اللفظ من أمهات الفضائل والأخلاق كالعدل والإحسان والبر وصلة الأرحام وتحريم اضدادها من الظلم والبغي وقطيعة الرحم والخيانة وعقوق الوالدين.
__________
(1) سيأتي تخريجه في مبحث السنة – إن شاء الله.
(2) أصول السرخسي 1/165، كشف الأسرار 1/135.
(3) تفسير النصوص 1/135.(1/91)
3. النصوص التي اقترن بها ما يفيد التأبيد والدوام كقوله - صلى الله عليه وسلم - " الجهاد ماضٍ مذ بعثني الله إلى أن يقاتل آخر أمتي الدجال"(1) "فالنص دال بصيغته على تأبيد فريضة الجهاد فكانت من الأحكام التي لا يلحقها تأويل ولا نسخ حتى في عهد الرسالة، ومثله قوله تعالى في حكم
القذف المحصنات { وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا } ( النور-4) "(2).
الثاني: المحكم لغيره وهو ما يشمل كل النصوص الشرعية من الكتاب والسنة بعد وفاة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، لأنها بعد وفاته - صلى الله عليه وسلم - أصبحت كلها محكمة غير قابلة للنسخ لا لذاتها، بل لانقطاع الوحي، ويدخل في هذا الظاهر والنص والمفسر والمحكم إذ كلها صارت محكمة لانقطاع النسخ بانقطاع الوحي(3).
حكم المحكم:
1. أنه لا يحتمل التاويل ولا النسخ حتى في عهد الرسالة.
2. أنه يقدم عند التعارض على المفسر، والنص والظاهر من باب أولى، لأن دلالته على الحكم أوضح وأقوى من جميع الأنواع السابقة.
3. أنه يجب العمل بما دل عليه قطعاً، فلا يحتمل صرفه عن ظاهره إلى أي معنى آخر(4).
مجال الاجتهاد في المحكم:
1. البحث فيه عن أمارة تفيد التأبيد والدوام إن كان من الأحكام الجزئية وليس من قواعد الدين وأمهات الفضائل.
2. رفع التعارض إن وجد بينه وبين النصوص الأخرى كالمفسر والنص والظاهر(5)
ب- الألفاظ غير واضحة الدلالة
أولاً: الخفي
تعريفه:
__________
(1) أخرجه الإمام الحافظ أبو داود سليمان بن الأشعث السجستاني الأزدي: سنن أبي داود 3/40، قال المنذري في سنده يزيد بن أبي نشبة وهو في معنى المجهول، نصب الراية 3/377.
(2) انظر: تيسير التحرير 1/140، تفسير النصوص 1/173.
(3) انظر: المناهج الأصولية ص78.
(4) أصول السرخسي 1/166.
(5) تفسير النصوص 1/193.(1/92)
"هو اسم لما اشتبه معناه، وخفي المراد منه بعارض في الصيغة يمنع نيل المراد بها إلا بالطلب"(1)، فهو اللفظ الدال على معناه دلالة واضحة، ولكن عرض لبعض أفراده أو وقائعه اسم خاص، أو وصف نشأ عنه شبهة أو غموض في دلالة اللفظ او شموله أو تطبيقه عليه، لا يزول إلا بالاجتهاد.
فهو بيِّن في ذاته، واضح في دلالته على المراد، ومنشأ الغموض إنما كان من قيام اسم خاص لبعض أفراده أو قيام صفة زائدة أو ناقصة بذلك الاسم مما يحول دون انطباق اللفظ على ذلك الاسم الخاص مباشرة بل يحتاج تطبيقه عليه للاجتهاد والنظر.
فالغموض ليس ناشئاً من ذات الصيغة إنما من ذلك العارض الخارج، وإزالة هذا الغموض تكون بالاجتهاد في تكييف واقع ذلك الاسم الخاص أو الوصف الزائد أو الناقص، وقياس مدى تطابقه مع اللفظ الظاهر، وهذا هو مجال الاجتهاد في الخفي(2).
مثال الخفي:
ومثال الخفي هو لفظ "الطرار" وهو النشال، وهو الذي يأخذ المال من الناس بحذقٍ ومهارة في يقظتهم لغفلة تعتريهم، فهل يعتبر سارقاً تقطع يده أخذاً بعموم الأمر في آية السرقة وهي
قوله تعالى { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالا مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } (المائدة-38)،
أم أن له حكماً آخر غير القطع بما أنه لا يسمى في عرف الاستعمال عند الناس سارقاً؟
فالخفاء هنا ليس ناشئاً من ذات الصيغة - خطاب الشارع - فلفظ السارق واضح في الدلالة على المراد، والسرقة معروفة الأركان والشروط: وهي "أخذ مال متقوم مملوك للغير خفية من حرز مثله "، وإنما جاء الخفاء لعارض خارج وهو قيام اسم خاص أو وصف خاص لنوع من أنواع السرقة، وهو " النشل "، فاللفظ ظاهر واضح في السارق خفي في انطباقه على " النشال ".
__________
(1) أصول السرخسي 1/167.
(2) انظر: المناهج الأصولية 71، وتفسير النصوص 1/231.(1/93)
وعمل المجتهد ينصب هنا على تكييف واقعة النشل هل هي سرقة حقيقية أم لا ؟ وهل تتوفر فيها أركان السرقة وشروطها وزيادة أم لا ؟ فإذا انتهى المجتهد إلى أنها سرقة فينسحب عليها حكم السرقة ويجب قطع يد السارق حينئذ، وإلا وجب عليه التعزير، لأنه لم يأت حداً.
وقد اتفق الفقهاء على أن الطرار - النشال - إنما هو سارق وزيادة، لأن السارق إن كان يأخذ مال الناس خفية عنهم ويجب قطعه مع ذلك، فالطرار أولى بالقطع، لأنه يأخذ مال الناس مثل السارق، ويزيد عليه أنه يأخذه منهم، وهم في حال يقظة بخفة ومهارة، وتعدية الحدود بمثله مستقيم في الحدود لأنه إثبات حكم النص بطريق الأولى، بمنزلة حرمة الشتم والضرب بالنص المحرم للتأفيف(1). ذلك لأنه أخطر من السارق وأكثر ضرراً منه عل أموال الناس، وقصد الشارع هو الحفاظ على أموال الناس وكف يد التعدي عنها.
ما سبق هو مثال على الخفاء الناشئ عن وصف زائد في الاسم الخاص. وأما الوصف الناقص في الاسم الخاص فقد مثلوا له " بالنباش " وهو الذي يسرق الأكفان من القبور، وقد ترجح لبعض الفقهاء أنه لا يلحق بالنشال، لنقص معنى السرقة في فعله، فالمال المأخوذ وهو الكفن - غير مرغوب فيه بل هو مما تنفر منه النفوس، ولا تميل إليه، والمأخوذ ليس مملوكاً لأحد، لا الميت لأنه
ليس أهلاً للتملك، ولا الورثة، إضافة إلى أن النباش ليس سارقاً من حرز المثل، لأن القبر لم يعهد مكاناً لحفظ الأموال، وإنما أعد لدفن الموتى، وهو قول أبي حنيفة ومحمد بن الحسن وابن عباس والثوري والأوزاعي ومكحول والزهري(2).
حكم الخفي:
1. وجوب النظر والتأمل من المجتهد من أجل الوصول إلى تكييف صحيح للاسم الخاص، وليعلم هل الغموض ناشئ عن وصف زائد عن المعنى الذي دل عليه ظاهر اللفظ، أم لنقصٍ في ذلك الوصف.
__________
(1) انظر: تيسير التحرير 1/157، أصول السرخسي 1/167.
(2) أحكام القرآن لابن العربي 1/611.(1/94)
2. فإن كان الغموض ناشئاً عن وصف زائد في الاسم عن المعنى الظاهر الذي دل عليه اللفظ "كالنشال" أُلحق هذا الاسم باللفظ الظاهر "السارق" وانطبق عليه حكمه من باب أولى و قُطِعَ.
3. وإن كان الغموض ناشئاً عن وصف ناقص في الاسم عن المعنى الظاهر الذي دل عليه اللفظ "كالنباش" لم يلحق هذا الاسم باللفظ الظاهر "السارق" وحكم المجتهد بأنه لا ينطبق عليه حكمه، وعزر، ولم يقطع(1).
ثانياً: المشكل
هو اسم لما يشتبه المراد منه بدخوله في أشكاله على وجه لا يعرف المراد منه إلا بدليل يتميز به من بين سائر الأشكال(2).
ومعنى هذا، أن المشكل كلام يدل على عدد من المعاني دلالة متساوية أو متقاربة، ويكون المراد منها واحدا فقط، لكنه دخل في أشكاله وأمثاله من تلك المعاني المتعددة، حتى خفي بسبب هذا الدخول على السامع وصار تعيينه يحتاج إلى بحث واجتهاد وتأمل وقرائن.
وهو يفارق الخفي في أن غموضه ناشئ من ذات اللفظ أو الصيغة، والخفي واضح في دلالته على معناه ولكن خفاءه جاء من عارض خارجي كما تقدم.
وهو لذلك أشد خفاء من الخفي، ولذلك يحتاج في الوصول إلى المعنى الذي يدل عليه من الاجتهاد والبحث والتأمل ما لا يحتاج في الخفي(3).
مثاله:
الإشكال بسبب الاشتراك في اللفظ، والمشترك هو: لفظ وضع لمعنيين أو عدة معان وضعاً متعدداً على سبيل الحقيقة(4)، ومثاله لفظ " القرء " في قوله تعالى
{ وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ } ، (البقرة-228)
وهو يصدق على الحيض والطهر بسواء، ولكن المراد منه في حكم الله واحد فقط، وتعيين أحد المعنيين بأنه هو المراد لله عز وجل يتطلب مزيداً من النظر والتأمل والأدلة.
فمن العلماء من ذهب إلى أن المراد من القرء هو الحيض ولذا فإن عدة المطلقة ثلاثُ
__________
(1) المناهج الأصولية ص85، تفسير النصوص 1/249.
(2) أصول السرخسي 1/168، تيسير التحرير 1/158.
(3) تفسير النصوص 1/274.
(4) أصول السرخسي 1/126.(1/95)
حيضات، وأيدوا قولهم هذا بقرائن منها:
- أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أمر المستحاضة أن تدع الصلاة أيام أقرائها(1)، أي أيام حيضها.
- أن المقصود من العدة معرفة براءة الرحم وذلك يكون بالحيض لا بالطهر.
- أن الشارع قد دل على أن الحيض هو الأصل في الاعتداد، لأنه جَعل عدة الآيسة بالأشهر عند تعذر الاعتداد بالحيض.
- أن عرف الاستعمال الشرعي قد خص القرء بالحيض، وكثر استعماله فيه، والعرف الشرعي مقدم على المعنى اللغوي عند التعارض(2).
وذهب فريق آخر من العلماء إلى أن المراد بالقرء هو الطهر لا الحيض واستدلوا على ذلك بأمور منها:
-أن الله قد شرع طلاق النساء عند مبدأ العدة واستقبالها فقال تعالى { يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } (الطلاق-1)، ومعلوم أن ذلك هو الطهر وهو الذي دلت عليه أحاديث
كثيرة منها حديث ابن عمر لما طلق امرأته في الحيض فأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - بإمساكها لينتظر بها الطهر ثم يطلقها إن شاء من غير جماع(3)
-استدلوا أيضاً بدليل لغوي وهو مخالفة العدد للمعدود في لفظ "ثلاثة قروء" ولو كان المقصود بالقرء الحيض لكان "ثلاث" بدون تاء التأنيث كما تقرر في النحو، وغير ذلك من القرائن.
والمقصود أن تعيين أحد المعاني في المشترك والحكم بأنه هو المراد من اللفظ يحتاج إلى اجتهاد واستدلال بقرائن، وهذه القرائن قد تكون آية أو حديثاً أو مقررات اللغة والنحو والعرف الاستعمالي أو حكمة التشريع(4)، كما سيتبين في أدلة التأويل إن شاء الله.
حكم المشكل:
__________
(1) سنن أبي داود 1/187
(2) انظر: أصول السرخسي 1/126.
(3) صحيح البخاري بشرح العسقلاني 8/653.
(4) انظر: المناهج الأصولية ص90.(1/96)
1. النظر أولاً في المعاني التي يحتملها اللفظ وضبطها، ثم الاجتهاد في البحث عن القرائن التي يمكن بواسطتها معرفة المعنى المراد من بين تلك المعاني وبعبارة السرخسي "اعتقاد الحقية فيما هو المراد ثم الإقبال على الطلب والتأمل فيه إلى أن يتبين المراد، فيعمل به"(1).
2. وإلى أن يتعين أو يترجح أحد تلك المعاني بعد زيادة التأمل والنظر فإن النص المشكل لا ينفذ ولا يطبق ولا يعمل بمقتضاه، إلا أنه ليس هناك مشترك في نصوص الشريعة قد انسد فيه باب الترجيح مما يدعو إلى وقف العمل به.
3. يحتاج إلى الاجتهاد والتأمل والبحث ما لا يحتاجه الخفي لأنه أكثر منه خفاء.
4. تعيين أحد المعاني في المشترك لا يكون إلا بقرائن وأدلة شرعية معتبرة من كتاب أو سنة أو عرف شرعي لا بمجرد التحكم والتشهي(2).
5. وقد مر معنا عند تعريف التأويل اصطلاحا: إن تعيين أحد المعاني في المشترك بدليل لا يسمى تأويلا على الأرجح، لأن التأويل إسناد للمرجوح بدليل، وهنا لا راجحا ولا مرجوحا بل المعاني متساوية.
ثالثاً: المجمل
تعريفه:
هو لفظ لا يفهم منه إلا باستفسار من المُجْمِل وبيان من جهته يعرف به المراد(3)، أو هو اللفظ الذي خفيت دلالته على المراد منه خفاء ناشئاً من ذاته ولا يمكن إدراك المعنى منه إلا ببيان من الشارع أولاً ثم الاجتهاد بالرأي إذا اقتضى شمول البيان ذلك(4)
أنواعه:
ينقسم المجمل إلى ثلاثة أنواع، وذلك بحسب السبب الموجب للإجمال:
الأول: الإجمال الناشئ عن غرابة اللفظ في المعنى الذي استعمل فيه، وذلك كلفظ " الهلوع " في قوله تعالى { إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا } (المعارج-19)
ثم فسر الله مراده من هذا اللفظ بقوله { إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا } { وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا } (المعارج-20،21).
__________
(1) أصول السرخسي 1/168.
(2) المناهج الأصولية 1/104.
(3) أصول السرخسي 1/168.
(4) تيسير التحرير 1/159، المناهج الأصولية 1/105.(1/97)
وكلفظ "القارعة" و"الحاقة" فهي ألفاظ مجملة لأنها غريبة، ولكن الإجمال زال عنها ببيانه تعالى وتفسيره لمراده منها بعدها مباشرة.
الثاني: الإجمال الناشئ عن تعدد المعاني للفظ الواحد مع عدم وجود قرائن تعين المجتهد على ترجيح أحدها، وذلك كما لو أوصى إنسان بثلث ماله لمواليه، ولم يبين المراد بلفظ الموالي، هل هم الذين اعتقوه ؟ أم الذين أعتقهم هو؟ وهو يَرِدُ في المعنيين، كان لفظ الموالي مجملاً والوصية باطلة لا تنفذ لتعذر العمل بعموم اللفظ، وعدم قيام قرينة ترجح أحد المعنيين، فيجب التوقف حتى يزول الغموض والخفاء، وهذا النوع لا يقع في الشريعة ونصوصها، وإن كان يقع في عقود الناس وتصرفاتهم كالمثال السابق، فلا مجال للقول بوجود مشترك في نصوص الشريعة قد انسد باب الترجيح فيه مما يدعو إلى وقف العمل به.
الثالث: الإجمال الناشئ عن نقل اللفظ من معناه اللغوي الظاهر إلى معنى شرعي خاص، أراده الشارع، ووضعه له، وذلك كنقله ألفاظ الصلاة والزكاة والصيام والحج من معانيها اللغوية إلى معاني شرعية خاصة بينها الرسول - صلى الله عليه وسلم - بسنته، ووضع معناها، فبين كيفية أداء الصلاة وأركانها وشروطها ومبطلاتها، وكذلك الصيام والزكاة والحج، فهذه الألفاظ هي في الحقيقة "اصطلاحات" نصبها الشارع على معان غير معانيها اللغوية الأصلية.
وهذا النوع من المجمل هو أكثر أنواع المجمل شيوعاً وهو الذي يقع به التكليف والذي ورد في الشريعة.
ويترتب على هذا أن الأصل في تفسير المجمل هو المعنى الشرعي لا المعنى اللغوي ولا يصار إلى المعنى اللغوي إلا بقرينة وذلك كالإبقاء على المعنى اللغوي من الصلاة في قوله تعالى
{ إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } (الأحزاب-56)،
وذلك لتعذر الصلاة بمعناها الشرعي الخاص من الله تعالى(1)
__________
(1) تفسير النصوص 1/294، وما بعدها.(1/98)
مصادر تفسيره:
إما القرآن وذلك كما في بيانه وتفسيره للمراد من النصيب في قوله تعالى { لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا } (النساء-7).
حيث تولى القرآن بيان الأنصبة ومقدارها ومستحقيها في ذات السورة.
وإما من السنة: حيث عهد الله إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - بيان القرآن وتفسيره فقال تعالى { وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } (النحل-44).
فمصادر التفسير للمجمل هو المُشرِّع نفسه، لأنه لا يمكن إدراك المعنى المراد، أو تفسيره أو تفصيله إلا ببيان المشرع نفسه، إذ لا قرينة تبين المراد منه ولذلك كان الوحيان: القرآن والسنة هما المصدران الوحيدان في تفسير المجمل ما دام لا يدرك معناه إلا من المشرع نفسه(1)
وهذا فيما إذا كان المشرع قد فسر المجمل تفسيراً قاطعاً شاملاً. إذ أن الإجمال في الأمثلة السابقة قد لحقه من الشارع بيان تفسيري وتفصيلي شامل بدليل قاطع الثبوت والدلالة، ولذا أصبح "مفسراً " لا يحتمل التأويل والاجتهاد، إذ ثبت معنى الصلاة والمراد بها، وكذلك الصيام والزكاة والحج(2)، بأحاديث متواترة، وهذا النوع مما يمكن أن يسمى " المجمل المفسر".
والنوع الثاني من الإجمال: هو المجمل المؤول وهو ينقسم إلى قسمين:
1. المجمل الذي لحقه بيان تفصيلي شامل، ولكن الدليل الذي نهض بذلك ظني غير قاطع، وذلك كالدليل الذي بين مقدار مسح الرأس، الذي ورد وجوبه مجملاً، في قوله تعالى { وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ } (المائدة-6)، دون بيان لمقدار ما يجب مسحه.
__________
(1) المناهج الأصولية ص106،114.
(2) المرجع السابق ص120.
(3) سنن الترمذي.(1/99)
وجاء الحديث لتفسير هذا الإجمال، لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - توضأ ومسح على ناصيته، وهو خبر آحاد يفيد الظن، ولذلك كان المجمل هنا مؤولاً يحتمل الإجتهاد والتأويل، ولهذا يرى بعض العلماء أن " الباء في قوله تعالى {وامسحوا برؤوسكم} زائدة، وتقدير الكلام { وامسحوا رؤوسكم } فأوجب مسح الرأس كله".
ولو كان الدليل الذي فسر الإجمال في الآية قاطعاً ثبوتاً ودلالة لكان المجمل مفسراً لا يجوز الاجتهاد فيه ولا التأويل، وذلك يكون لو أن الحديث في المسح كان متواتراً يفيد العلم واليقين.
2. المجمل الذي لحقه بيان، ولكنه لم يفصل تفصيلاً كاملاً، ولم يكن الدليل قاطعاً لاحتمال التأويل فإن المجمل عندئذ يبقى مؤولاً لا مفسراً وذلك كما في مسألة تفسير السنة ربا البيوع المحرمة(1).
ومن الجدير ذكره أن الاستقراء التام، وهو حجة قد دل على أنه ما من مجمل في القرآن يتعلق بالأحكام التكليفية إلا وقد جاء بيانه وتفسيره في نص آخر من القرآن، أو الحديث، حيث أن
الرسول - صلى الله عليه وسلم - توفي وما في القرآن مجمل، ومن هنا كان لزاماً على من أراد النظر في القرآن أن يرجع إلى السنة ليقف على تفسيره وبيانه(2)1)
حكم المجمل:
1. قال السرخسي:- " وموجبة - أي حكمه - اعتقاد الحقية فيما هو المراد والتوقف فيه إلى أن يتبين ببيان المُجْمَل ثم استفساره ليبينه(3)، وهذا التوقف كان ممكناً في عهد الرسالة، أما وقد انقطع الوحي وحصل البيان فليس هناك في القرآن والسنة إجمال على الإطلاق فلا توقف.
__________
(1) المناهج الأصولية ص121-123، وقد أطلق الدريني هنا القول بجواز تأويل المجمل إذا فسر بخبر آحاد، والصحيح أن ذلك مقيد بما إذا لم يكن قطعي الدلالة، فإن كان قطعي الدلالة، لم يجز تأويله أيضا، وسنذكره عن الجويني في الكلام على معنى النص عند الجمهور.
(2) تفسير النصوص 1/289.
(3) أصول السرخسي 1/168.(1/100)
2 . أنه يدرك ببيان من المشرع نفسه أو بالتأمل والاجتهاد والنظر وذلك حسب نوعه.
3. أنه أشد خِفاءً من المشكل، لأن المراد في المجمل غير قائم ولا يعرف إلا بدليل آخر من المشرع ذاته، بخلاف المشكل فإن كل ما تحتاجه هو: تمييزه من أشكاله، إذ أن المعنى المراد قائم في ذات الصيغة.
4. إن كان تفسيراً شاملاً وجب العمل به قطعاً، ولا يجوز الاجتهاد فيه أو تأويله أو الاتفاق على خلافة، لأن إرادة المشرع واضحة فيه كل الوضوح فأصبح من النظام الشرعي العام.
5. وإن كان تفسيره غير شامل وغير قطعي فإنه يجب العمل بالقدر الذي تم تفسيره، وما لم يتناوله التفسير كان محلاً للاجتهاد في تبيين مراد الشارع(1)3)
رابعاً: المتشابه
تعريفه:
هو اسم لما انقطع رجاء معرفة المراد منه لمن اشتبه فيه عليه(2). أو هو " اللفظ الذي خفي معناه المراد خفاءً من نفسه ولم يفسر بكتاب أو سنة، فلا ترجى معرفته في الدنيا لأحد من الأمة أو لا ترجى معرفته إلا للراسخين في العلم "(3).
ويفهم من التعريف أن المتشابه مجاله النصوص التي تتناول العقيدة كصفات الله تعالى مثل اليد والعين، وأفعاله تعالى كالمجيء والنزول والضحك والعجب والكلام وغيرها، لأنها هي التي لا يعلم أحد تأويلها أي حقيقتها وكيفيتها وإن كان يعقل معناها إجمالا.
وفي ذلك يقول السرخسي " فأهل السنة أثبتوا ما هو الأصل المعلوم بالنص وتوقفوا فيما هو المتشابه وهو الكيفية "(4).
ويدخل في المتشابه الحروف المقطعة في أوائل السور، وعليه، فإن المتشابه لم يقع في النصوص التي تتناول الأحكام التكليفية، فلا مجال للمتشابه في الفقه،ولذا، كان قد أدخل في مباحث العقيدة وعلم الكلام منه في مباحث أصول الفقه وقد أشرنا إليه عند الكلام على التأويل عند المتكلمين.
حكم المتشابه:
__________
(1) المناهج الأصولية ص143، بتصرف يسير.
(2) أصول السرخسي 1/169.
(3) تفسير النصوص 1/312.
(4) أصول السرخسي 1/170.(1/101)
قال السرخسي " والحكم فيه - المتشابه - اعتقاد الحقية والتسليم بترك الطلب والاشتغال بالوقوف على المراد منه(1)
فيجب اعتقاد " أن المراد به حق، والإيمان به واجب، وأنه من عند الله، ثم الإقرار بالعجز عن إمكان إدراك حقيقة المراد به، والتسليم والتفويض إلى الله تعالى، والتوقف عن طلب المراد منه في الدنيا "(2)
المطلب الثالث: أقسام الألفاظ عند الجمهور
وكما هو الحال عند الحنفية، قسم جمهور الأصوليين الألفاظ إلى قسمين:
- الألفاظ الواضحة الدلالة.
- والألفاظ غير واضحة الدلالة.
وكل منها ينقسم إلى عدة أقسام، فالألفاظ الواضحة الدلالة تنقسم عندهم إلى قسمين.
1. النص.
2. الظاهر.
وأما الألفاظ غير واضحة الدلالة فقد جعلوها قسمين أيضا وهما:
1. المجمل
2. المتشابه
وسأتناول كل واحد منهما بشيء من التفصيل، أذكر فيه التعريف والمثال والحكم، ومجال الاجتهاد في كل واحد منها.
أ - الألفاظ الواضحة:
أولاً: النص
تعريفه:
قال الجويني "… فالنص ما لا يتطرق إلى فحواه إمكان التأويل "(3)، وبنحوه عرفه الغزالي فقال " هو ما لا يتطرق إليه احتمال أصلاً لا على قرب ولا على بعد، كالخمسة مثلاً فإنه نص في معناه لا يحتمل الستة أو الأربعة، وكذلك لفظة " الفرس" لا يحتمل الحمار ولا البعير ولا غيره"(4).
__________
(1) أصول السرخسي 1/169، وانظر: تيسير التحرير 1/163.
(2) المناهج الأصولية ص153.
(3) البرهان في أصول الفقه 1/336.
(4) المستصفى 1/384-386.(1/102)
وقال صاحب جمع الجوامع " ما أفاد معنى لا يحتمل غيره "(1) وينقسم إلى ما ثبت أصله قطعاً كنص الكتاب والخبر المستفيض وإلى ما لم يثبت أصله قطعاً كالذي ينقله الآحاد، ولا مجال للتأويل في النوعين، وإنما يتعلق الكلام فيهما بتقديم المراتب عند فرض المعارضات "(2)
"والمقصود بالاحتمال هو ما يعضده دليل، أما الاحتمال الذي لا يعضده دليل، فلا يخرج اللفظ عن كونه نصاً "(3)
مثال النص:
ومثاله من القرآن قوله تعالى { وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلا } (الإسراء-32)، فهي نص في تحريم الزنا ولا تحتمل معنى سواه.
وقوله تعالى { وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ } (الأنعام-151) وهي نص في تحريم قتل النفس بغير حق ولا تحتمل أي معنى غير هذا.
ومثاله من السنة قوله - صلى الله عليه وسلم -" وليس فيما دون خمس ذود من الإبل صدقة "(4)
حكم النص:
والنص عند الجمهور يقابل المفسر عند الحنفية، أي لا مجال فيه للاجتهاد ولا التأويل لأنه لا احتمال فيه. فيجب العمل بمدلوله ولا يعدل عنه إلا بنسخ(5)، ولذلك فإن ما قيل في حكم المفسر يقال في حكم النص تماماً.
شبهة ورد:
وهناك شبهة قديمة حديثة ذكرها الإمام الجويني في البرهان(6)، ومن أتى بعده وردوها، وملخصها أن النصوص بهذا المعنى - إفادة القطع - نادرة الوجود في كتاب الله عز وجل وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام،وذكر أنه مذهب لبعض العلماء.
__________
(1) جمع الجوامع بشرح المحلي 1/309.
(2) البرهان في أصول الفقه 1/336، وهو ينقض كلام الدريني المتقدم والمتضمن جواز تأويل المجمل إذا فسر بحديث آحاد ولو كان قطعي الدلالة.
(3) المستصفى 1/386.
(4) صحيح البخاري بشرح العسقلاني 1/147.
(5) المناهج الأصولية ص156.
(6) انظر: البرهان في أصول الفقه 1/414 وما بعدها، وسيأتي في الباب الثاني تعلُّل بعض المؤولين المعاصرين بها وتوظفيها بشكل سيئ.(1/103)
فرد عليه بالقول بأنه مذهب باطل لأن اللفظ قد لا يكون قطعياً بذاته ويكون محتملاً لعدد من المعاني، ولكنه تحتفي به من القرائن والأدلة ما ينفي عنه تلك الاحتمالات، فيرتقي إلى مرتبة القطعية، وكم هي النصوص التي هذا شأنها ! والقرينة إما أن تكون إجماعا أو اقتضاء عقل أو غير ذلك مما يرى مبثوثاً في نصوص الكتاب والسنة(1)،
وهو ما أسماه الشاطبي بالتواتر المعنوي وسيأتي في مبحث التأويل بدليل القواعد الفقهية إن شاء الله تعالى.
وهو ما أكده أيضا شيخ الإسلام ابن تيميه حيث بينّ أن غالب ما يحتاج إليه الناس من الأحكام إنما ثبت بأدلة قطعية فقال:
"جمهور مسائل الفقه التي يحتاج إليها الناس، ويفتون بها هي ثابتة بالنص أو بالإجماع، وإنما يقع الظن والنزاع في قليل مما يحتاج إليه الناس، وهذا موجود في سائر العلوم، وكثير من مسائل الخلاف هي في أمور قليلة الوقوع ومقدرة، وأما ما لا بد للناس منه من العلم مما يجب عليهم، ويحرم، ويباح، فهو معلوم مقطوع به.
وما يعلم من الدين ضرورة جزء من الفقه، و إخراجه من الفقه قول لم يعلم أحد من المتقدمين قاله… وجميع الفقهاء يذكرون في كتب الفقه وجوب الصلاة والزكاة والحج واستقبال القبلة ووجوب الوضوء والغسل من الجنابة وتحريم الخمر والفواحش وغير ذلك مما يعلم من الدين ضرورة(2)".
ثانياً:الظاهر
تعريفه:
وعرفه الإمام الجويني في البرهان"بما يتطرق إمكان التأويل إليه "(3) وزاد الآمدي في التفصيل فقال " اللفظ الظاهر ما دل على معنى بالوضع الأصلي أو العرفي ويحتمل غيره احتمالاً مرجوحاً "(4) فالظاهر هو اللفظ الذي يدل على معناه دلالة ظنية راجحة، ويحتمل غيره احتمالاً مرجوحاً.
ومن أمثلته:
__________
(1) المرجع السابق: 1/415.
(2) مجموع الفتاوى الكبرى 13/118.
(3) البرهان في أصول الفقه 1/337.
(4) الإحكام للآمدي 3/72، وانظر: شرح مختصر الروضة 1/558.(1/104)
مطلق صيغة الأمر فظاهرها الوجوب وحملها على الندب أو الإباحة هو صرف لها عن الظاهر فهو تأويل، وذلك كالأمر بكتابة الدين والإشهاد على البيع، ظاهره الوجوب ولكن جمهور
العلماء حملوه على الندب بدليل الآية اللاحقة وهي قوله تعالى { فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ } (البقرة-283)، حيث ذكرت بعد قوله تعالى { إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ…..وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ….. } ( البقرة-282).
ومثال الظاهر أيضاً مطلق صيغة النهي، فيدل على التحريم وحملها على الكراهة هو صرف لها عن ظاهرها، وهو تأويل، وذلك كالنهي عن الصلاة في معاطن الإبل(1)، حيث حمله الجمهور على الكراهة لا التحريم.
ومنها مطلق صيغة العموم فظاهرها يفيد استغراق جميع أفراده وحمله على الخصوص تأويل؛ لأنه صرف له عن ظاهره.
وكذلك المطلق ظاهره شموله وشيوعه في أفراد جنسه فتقييده وتقليل شيوعه هو صرف له عن هذا الظاهر فهو تأويل.
وكذلك اللفظ الخاص وهو اللفظ الذي وضع وضعا واحدا للدلالة على معنى واحد معلوم على سبيل الانفراد، أو الدلالة على كثير محصور سواء أكان لشخص معين كأسماء الأعلام كزيد وعلي أم كان موضوعا للنوع كرجل و امرأة، أم للجنس مثل لفظ " إنسان "فهي ألفاظ خاصة وان كان يندرج تحتها أشخاص كثيرون(2).
فاللفظ الخاص يدل على معناه الذي وضع له دلالة حقيقية وهو ظاهره، وحمله على المعنى المجازي هو تأويل له.
__________
(1) الحديث أخرجه ابن خزيمة في صحيحه 2/8، وقال المحقق محمد مصطفى الأعظمي إسناده صحيح.
(2) أصول السرخسي 1/128.(1/105)
فالأصل في الألفاظ الحقيقة - أي تدل على ما وضعت له في اللغة أصلا - والقول بالمجاز هو تأويل،إلا أن هناك بعض المجازات صارت هي الأصل والحقيقة، ولا يفهم عند إطلاقها وسماعها إلا معناها المجازي لا ما دلت عليه في اصل الوضع، وذلك لشهرتها واستفاضتها وكثرة استعمالها، والظاهر هو ما يتبادر إلى فهم السامع فيفيد ظنا راجحا.
ومثلها الألفاظ الشرعية التي نقلت من معانيها اللغوية إلى معان شرعية اشتهرت بها، كلفظ الصلاة فهي قد أصبحت ظاهرة راجحة في المعنى الشرعي الذي نقلت إليه وهي الهيئة المعروفة للصلاة بأركانها وشروطها وسننها، مجازية مؤولة في المعنى اللغوي الذي نقلت إليه منه وهو مجرد الدعاء.
ورجحان المعنى الاصطلاحي للصلاة أمارة تبادر هذا المعنى إلى العقل بمجرد إطلاق هذا اللفظ، و التبادر إمارته الحقيقة، والحقيقة لا شك راجحة، واصبح المعنى اللغوي مجرد احتمال عقلي مجازي مرجوح لا حجة فيه ما لم يتأيد بدليل.
وحيث تكون الدلالة على بعض المعاني ارجح من بعض: سمي اللفظ بالنسبة إلى المعنى الراجح ظاهرا، وسمي بالنسبة إلى المرجوح مؤوَّلا، لكونه يؤول إلى الظهور عند اقترانه بالدليل.
فمثلا الاسم المنقول لعلاقة ولم يشتهر كالأسد دلالته على بعض المعنى الأول وهو السبع المفترس من قبيل الظاهر، ودلالته على المعنى الثاني وهو الرجل الشجاع من قبيل المؤول(1).
الظهور في الأسماء، والأفعال والحروف:
مثال ذلك لفظ "الصعيد" فإنه ظاهر في التراب،مؤول إن حمل على غير هذا المعنى من الحصى والرمل.
وحرف "إلى" ظاهر في دلالته على التحديد والغاية، مؤول إن حمل على معنى الجمع(2).
وقد جرت عادة جمهور الأصوليين على مقابلة الظاهر بالمؤول وهم يعنون به اللفظ الذي اقترن به الدليل الصارف لمعناه الحقيقي إلى معنى مرجوح يحتمله ومع اقترانه بالدليل يصبح راجحاً ظاهراً فهو مما يندرج تحت الظاهر.
__________
(1) تفسير النصوص 1/216.
(2) نفس المصدر ونفس الصفحة.(1/106)
كذلك جرى استعمالهم " للمحكم " للفظ الذي يدل على معناه دلالة واضحة وظاهرة فهو يشمل الظاهر والنص عند الحنفية(1).
حكم الظاهر:
1. يجب أن يصار إلى معناه الظاهر ويجب العمل به قطعاً، وفي ذلك يقول الجويني " أن الظاهر حيث لا يطلب العلم - القطع - معمول به، والمكلف محمول على الجريان على ظاهره في عمله …. فالمعتمد فيه والأصل التمسك بإجماع علماء السلف والصحابة ومن بعدهم، فإنا نعلم على قطع أنهم كانوا يتعلقون في تفاصيل الشرائع بظواهر الكتاب والسنة، وما كانوا يقصرون استدلالهم على النصوص، ومن استراب في تعلقهم بالقياس، لم يسترب في استدلالهم بالظواهر، ولم يُؤْثر منع التعلق بالظواهر عمن بخلافه ووفاقه مبالاة، وإن ظهر خلاف فاستدلالنا قاطع بالمسلك الذي دكرناه، ومستنده الإجماع، وسبيل نقل الإجماع التواتر، والظاهر بنفسه لا يثبت علماً بوجوب العمل - لأن الظاهر غايته أن يفيد الظن - وإنما المفيد للعلم الإجماع فهو يقتضي العلم بوجوب العمل - أي العمل بالظاهر - وليس يتطرق إليه ظن(2).
2. "ولا يعدل عنه إلا بتأويل وذلك لأن ترك الاحتمال الظاهر الراجح إلى الاحتمال الخفي المرجوح كترك النص إلى غيره، وإن كان الثاني أقبح وأفحش، إلا أنهما مشتركان في قدر من القبح والفحش والتحريم وهذا كمن يقول أن قوله سبحانه وتعالى في الخمر والميسر والأنصاب
والأزلام "رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ" ( المائدة-91)، هذا الأمر للندب.
وقوله سبحانه وتعالى بعد ذلك " فهل أنتم منتهون " هو صيغة استفهام لا يفيد الأمر، فيكون الخمر على هذا مكروهاً لا حراماً، فإن هذا مراغمة لخطاب الشارع إذ الأمر باجتناب ذلك ظاهر في الإيجاب. وصيغة "هل أنتم منتهون"هي في عرف استعمال العرب بمعنى: انتهوا.
__________
(1) المناهج الأصولية ص157.
(2) البرهان في أصول الفقه 1/337-338.(1/107)
ومن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم " هل أنتم تاركوا لي صاحبي " يعني الصديق رضي الله عنه، أي: اتركوه ولا تؤذوه"(1).
وقد نص العلماء على أن اتباع الظن الراجح واجب لأنه عمل بالعلم، وليس عملاً بالظن الذي جاء ذمه في القرآن في مثل قوله تعالى { إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنْ الْحَقِّ شَيْئًا } (النجم-28)، فالظن المذموم اتباعه هنا، هو الظن المرجوح لا مطلق الظن(2).
وفي وجوب اتباع الظاهر يقول علماء الأصول " ولا يجوز أن يرد في الكتاب والسنة ما يعني به غير الظاهر إلا بدليل"(3).
وقال الرازي في كتابه المحصول " أن الظنيْن إذا تعارضا ثم ترجح أحدهما على الآخر كان العمل بالراجح متعيناً عرفاً فيجب شرعاً، وقد أجمع الصحابة على العمل بالراجح، ولأنه لو لم يعمل بالراجح لزم العمل بالمرجوح، وترجيح المرجوح على الراجح ممتنع في بدائه العقول"(4).
ب - الألفاظ غير الواضحة
أولاً: المجمل
تعريفه:
هو المبهم، والمبهم هو الذي لا يعقل معناه، ولا يدرك منه مقصود اللافظ و مبتغاه، من قولهم: أبهمت البئر. إذا سددته وردمته(5).
وعرفه الآمدي بقوله " المجمل: هو ماله دلالة على أحد أمرين لا مزية لأحدهما على الآخر بالنسبة إليه "(6).
فالمجمل عندهم ما دل على معنى، ولكن هذه الدلالة ليست كافية وغير واضحة، غير أن تعريف الآمدي يشعر بقصْر الإجمال على المشترك، وهو أحد أنواعه ولكن غير محصور فيه.
أنواع المجمل وأمثلته.
والمجمل أقسام بحسب الباعث على الإجمال:
1. فقد يكون الإجمال في لفظ مفرد مشترك كالقرء يأتي بمعنى الحيض والطهر.
__________
(1) شرح مختصر الروضة 1/560، وانظر: الحديث في صحيح البخاري بشرح العسقلاني 4/6.
(2) انظر مجموع الفتاوى الكبرى 13/115-125.
(3) جمع الجوامع بشرح المحلي 1/303.
(4) المحصول 5/398.
(5) البرهان في أصول الفقه 1/419.
(6) الإحكام للآمدي 3/11.(1/108)
2. وقد يكون في لفظ مركب كقوله تعالى { أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ } ( البقرة-237) فإن هذه مترددة بين الزوج والولي.
3. وقد يكون بسبب تخصيص العموم بصفة مجهولة كقوله تعالى:
{ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ } ( النساء-24)
فإن تقييد الحل بالإحصان، مع الجهل بما هو الإحصان، يوجب الإجمال فيما أحل.
4. وقد يكون بسبب تخصيص العموم باستثناء مجهول نحو
{ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ } (المائدة-1)
فإن المستثنى منه مجمل لأن المستثنى { إلا ما يتلى عليكم } مجهول ومجمل فلزم منه الإجمال في بهيمة الأنعام المحللة.
5. أو بسبب إخراج اللفظ في عرف الشرع عما وضع له في اللغة كقوله تعالى { وأقيموا الصلاة آتوا الزكاة }فإنه مجمل قبل أن تبينه السنة(1)
الإجمال في الأفعال:
والإجمال كما يكون في دلالة الأقوال - الألفاظ - يكون في دلالة الأفعال وقد رد الآمدي تعريف الغزالي وغيره من الأصوليين الذين خصوا الإجمال بالألفاظ لأنه تعريف غير جامع.
ومن الأمثلة على ذلك:
__________
(1) نفس المصدر 3/11.(1/109)
1. أن يفعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - فعلاً يحتمل وجهين بنفس الدرجة مثل ما روى أنه - صلى الله عليه وسلم - جمع في السفر(1)، فإنه مجمل لأنه يجوز أن يكون في سفر طويل أو في سفر قصير فلا يجوز حمله على أحدهما دون الآخر إلا بدليل. ومثله قسمة الرسول - صلى الله عليه وسلم - أراضي خيبر على المقاتلين فإنه يحتمل الوجوب ويحتمل الإباحة ولا يجوز حمل فعله - صلى الله عليه وسلم - على أحدهما إلا بدليل كما مر(2).
ثانياً: المتشابه
تعريفه:
وقال إمام الحرمين الجويني " والمختار عندنا أن المحكم كل ما علم معناه وأدرك فحواه، والمتشابه هو المجمل"(3).
فالمتشابه عندهم هو ما لم يتضح معناه وهو ذات المجمل كما صرح به الجويني، ولذلك كان حكم المجمل والمتشابه عندهم واحداً.
فتحصل من ذلك أن المبهم عند الجمهور هو ما لم يتضح معناه ويسمونه مرة مجملاً ومرة متشابهاً، إذ يوردون أحدهما مكان الآخر فهما مترادفان عندهم، وهو لا يعدو كونه معنى لغوياً لما لم يتضح معناه(4) وقد يطلقون مكانهما لفظ " المشكل " ويقصدون به ما لم يتضح معناه.
حكم المجمل أو المتشابه:
1. وحكمه التوقف على البيان الخارجي، أي على الدليل المبين للمراد به، خارجاً عن لفظه.
__________
(1) انظر: صحيح البخاري بشرح العسقلاني 2/58.
(2) وانظر في دلالة الفعل النبوي على الأحكام كتاب " أفعال الرسول - صلى الله عليه وسلم - ودلالتها على الأحكام الشرعية "، رسالة دكتوراة، د. محمد سليمان الأشقر، الفعل المجرد عن القرائن 1/321.
(3) البرهان في أصول الفقه 1/424.
(4) انظر: تفسير النصوص 1/341، والمناهج الأصولية 159.(1/110)
2. وإلى أن يوقف على الدليل الذي يبين المراد من المجمل، فلا يجب العمل به بل يحرم،وذلك لأن الله –تعالى- لم يكلفنا العمل بما لا دليل عليه، والمجمل لا دليل على المراد به، فلا نكلف بالعمل به. وإنما كان العمل بالمجمل قبل البيان غير جائز، لأن في العمل به تعرضاً بالخطأ في حكم الشرع، لأننا إذا أقدمنا على العمل قبل البيان، احتمل أن نوافق مراد الشرع فنصيب حكمه، واحتمل أن نخالفه فنخطيء حكمه، وفي ذلك إهمال و قلة احتفال ومبالاة لحكم الشرع الذي يجب تعظيمه(1)، وهذا الحكم يبقى حكماً نظرياً لأن الأصوليين قد اتفقوا على أنه لا إجمال في نصوص الشريعة التكليفية بعد انقطاع الوحي(2).
3. ومن خلال أمثلة المجمل السابقة يتضح أن الجمهور يرون أن بيان المجمل غالباً لا بد وأن يكون من المشرع نفسه، وقد يدرك أحياناً بالنظر والاجتهاد ودلالات اللغة كما إذا كان الإجمال بسبب الاشتراك في لفظ مفرد.
المطلب الرابع:
مقارنة بين منهجي الجمهور والحنفية في تقسيم الألفاظ
أولاً: مقارنة بين المنهجين في تقسيم الألفاظ واضحة الدلالة
1. الظاهر عند الجمهور يشمل الظاهر والنص عند الحنفية لأن كل أولئك يحتمل التأويل.
2. " النص" عند الجمهور يقابل " المفسر " عند الحنفية وهما لا يحتملان التأويل.
والنتيجة:
أن ما عده الحنفية من المفسر الذي لا يجوز الاجتهاد فيه ولا تأويله هو ذاته الذي عده الجمهور نصاً لا يجوز الاجتهاد فيه ولا تأويله كذلك.
فكلاهما - الجمهور والحنفية - متفق على أن هناك نصوصا قطعية في دلالتها وثبوتها ولا يجوز الاجتهاد فيها أو تأويلها وهي ذاتها عند الفريقين، وكل ما هنالك أن الجمهور يسميها نصا
__________
(1) شرح مختصر الروضة 2/655 بتصرف.
(2) البرهان في أصول الفقه 1/425.(1/111)
بينما يسميها الحنفية " مفسرة ". ولا فرق بينهما، اللهم إلا كون اللفظ سيق أصالة للمعنى المتبادر، أو تبعاً مما له اثر في الترجيح عند التعارض بين الظاهر والنص فحسب، ولا أثر له من حيث جواز التأويل أو عدمه.
3. والمحكم عند الجمهور أعم من الظاهر والنص، إذ هو عندهم ما دل على معناه دلالة واضحة، سواء أكان نصاً أو ظاهراً، فهو يشمل الأقسام الأربعة المذكورة عند الحنفية، بينما هو عند الحنفية - كما علم - لفظ دال على معناه المسوق له أصالة دلالة قطعية لا احتمال فيها للتأويل ولا للنسخ حتى في عهد الرسالة. فلا تداخل في الأقسام عند الحنفية خلافاً للجمهور.
4. هذا ومنهج الحنفية في تقسيم الواضح إلى مراتب، من حيث قوة الوضوح، وتفسيرهم لقوة الوضوح ومنشئها، من شأنه أن يضبط الاجتهاد بالرأي في كل منها، ويحدد مجال التأويل ويوضح قواعد رفع التعارض في كل منها بدقة متناهية. في حين أن تقسيم الجمهور، فيه تداخل وتباين، مما يجعل حدود الاجتهاد بالرأي ومجال التأويل أكثر عمومية.
5. على أن مزايا أخرى لتقسيم الحنفية جعلت العلماء والباحثين المعاصرين يفضلونه على مذهب الجمهور في تقسيمهم للألفاظ ومنها:
أ - انه اكثر استيعابا للمعاني الحاصلة من تنوع الأدلة.
ب - انه اكثر وضوحا في الحدود والفوارق بين الأقسام، مما يبين تدرجها في الوضوح ومراتب هذا الوضوح.
ج - ولقد نتج عن ذلك يسر الدلالة على المراد، من اجل تحديد معالم النص المطلوب تفسيره ومعرفة الحكم الذي يدل عليه(1).
ثانيا: مقارنة بين المنهجين في تقسيم الألفاظ غير واضحة الدلالة
1. قسم الجمهور المبهم ( ما لم يتضح معناه ) إلى قسمين وهما المجمل والمتشابه، وهما في الحقيقة اسمان لمعنى واحد عندهم، وهو لا يعدو كونه معنى لغويا لما لا يتضح معناه، وهو لذلك يشمل أقسام اللفظ الخفي الثلاثة عند الحنفية ( الخفي - المشكل - المجمل ).
__________
(1) انظر: المناهج الأصولية ص159.(1/112)
2. ولذا كان كل مجمل عند الحنفية مجملا عند الجمهور ولا عكس.
3. "وكان من ثمرات الاختلاف في المصطلح أن الجمهور يرى أن المجمل يمكن أن يبين معناه بالاجتهاد والنظر، بينما يرى الحنفية انه لا يمكن أن يدرك معناه إلا من قبل المُجْمِل نفسه.
على أن هذا لا يعني أن كل أنواع المجمل يمكن بيانه بالاجتهاد والنظر، إذ أن هناك نوعا من المجمل عند الجمهور هو ذاته المجمل عند الحنفية - لا يمكن إدراك معناه إلا من المجمل نفسه كما هو الأمر عند الحنفية سواء"(1)
والنتيجة:
إن الجمهور والحنفية متفقون على أن هناك مجملا لا يدرك معناه إلا من المشرع الذي أجمله. و أما ما يجعله الجمهور يدرك بالاجتهاد والنظر، فهو خارج عن معنى المجمل عند الحنفية، وبذلك لا يخالفهم الحنفية في إمكان إدراكه بالاجتهاد، وهو عندهم الخفي أو المشكل، ومثال ذلك قوله تعالى { الذي بيده عقدة النكاح } .
فبينما يعده الجمهور من المجمل الذي يدرك بالنظر والاجتهاد يعده الحنفية من المشكل الذي يدرك أيضا بالنظر والاجتهاد، فهم وان اختلفوا في الاصطلاحات ومراتبها، فان ذلك لا ينعكس على نصوص بعينها فتكون عند بعضهم قابلة للاجتهاد والتأويل، بينما تكون هي بذاتها غير قابلة للاجتهاد والتأويل عند الآخرين.
ولهذا فان اختلاف الفريقين في تقسيمات غير واضحة الدلالة، ومنها المجمل لا يؤثر في الحكم على نصوص معينة بالإجمال وعدمه، فتكون مجملة عند بعضهم مفسرة عند الآخرين.
4. وعلى كل حال، فكيفما اتفق أو افترق المذهبان -الحنفية والجمهور- فانهم متفقون على أن الاستقراء التام قد دل على انه لا إجمال في النصوص التكليفية الشرعية بعد انقطاع الوحي، وان الإجمال إن كان له ثمة مجال ففي عقود الناس ومعاملاتهم كما في وصية الرجل لأحد مواليه،إذ لفظ المولى يصدق على المعتِق والمعتقَ(2)،وليس في نصوص الشارع شيء من ذلك.
المبحث الثاني
__________
(1) تفسير النصوص 1/342.
(2) البرهان في أصول الفقه 1/425.(1/113)
الركن الثاني: المؤول وشروطه
التأويل بما انه صرف المعنى الظاهر الراجح إلى المعنى المرجوح لوجود دليل يقتضي ذلك، فهو لذلك من صلب الاجتهاد في نطاق النصوص الشرعية ذاتها.
والتأويل كما سبق: هو إما تخصيص للعام، أو تقييد للمطلق، أو صرف للفظ من الحقيقة إلى المجاز، أو الأمر من الوجوب إلى الندب أو الإباحة، أو النهي من التحريم إلى الكراهة.
ويلجا إليه لدرء التعارض بين الأدلة الشرعية المختلفة، بالجمع والتوفيق بينها، وذلك بالتأويل أي حمل أحد الدليلين على أحد الوجوه السابقة.
وهو لذلك يأتي في مكان الذروة من الاجتهاد الفقهي والنظر العقلي؛ لان معرفة قواعد تفسير النصوص، والإحاطة بالنصوص الشرعية، عامها وخاصها، مطلقها ومقيدها، وادراك وجوه المجاز، وكيفية رفع التعارض والترجيح بوجوه الترجيح المختلفة أمر لا يتسنى للكثيرين الإمساك بزمامه وإتقانه؛ لأنه يتطلب معرفة عميقة باللغة العربية وأسرارها وعادات العرب في استعمالهم للألفاظ والأساليب، يضاف اليه ضرورة الإحاطة الفقهية بالنصوص من الكتاب والسنة، ولذلك كله لا بد للمؤول أن يكون مجتهدا.
وحتى لا يكون الاجتهاد ساحة يجول فيها كل دعي، فقد اتفق علماء المسلمين على اختلاف مذاهبهم و أزمانهم و أمكنتهم على شروط ألزموا توافرها في كل من تصدى لاستنباط الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية، استنبطوها من الكتاب والسنة، ودلت عليها نصوصها مثل حرمة القول على الله بغير علم … الخ.(1/114)
وهم وإن اختلفوا في بعض التفاصيل المتعلقة بمقدار الإحاطة، إلا انهم متفقون على وجوب توفر حد أدنى من العلم، لعله لا يتوفر إلا في الندرة النادرة من علماء هذا العصر، ومع ذلك نرى من لا ناقة له في هذا الميدان ولا بعير، ولا تربطهم بالشريعة ومصادرها ونصوصها أدنى صلة، يتصدرون واجهة الإفتاء والتوجيه في الندوات التلفزيونية والصحف، وجلهم كتاب وصحفيون ومحامون أفنوْا أعمارهم بعيدا عن العلوم الشرعية ومصادرها ومصنفاتها.
ولذلك رأيت أن اذكر الشروط التي وضعها علماؤنا لصحة الاجتهاد وارتضتها الأمة خلفا بعد سلف، ودلت عليها قبل ذلك نصوص الكتاب والسنة.
وقبل ذلك أرى أن اذكر معنى الاجتهاد قال الامدي في تعريفه "هو استفراغ الوسع في طلب الظن بشيء من الأحكام الشرعية على وجه يحس من النفس العجز عن المزيد فيه "(1).
ويفهم منه أن المجتهد إذا لم يستفرغ الوسع وقصّر في اجتهاده مع إمكان الزيادة والبحث كان اجتهاده قاصرا لا يفيد حكما وهو كعدمه(2). فالمجتهد من اتصف بصفة الاجتهاد وحصل أهليته(3).
وهذه شروط المؤول أو المجتهد(4):
1. الإحاطة بمدارك الأحكام وطرقها التي تدرك منها ويتوصل بها إليها: وهي الكتاب والسنة والإجماع والقياس والاستدلال والأصول المختلف فيها، لأن ذلك كله آلة للمجتهد في استخراج الحكم فوجب اشتراطه كالقلم للكاتب.
2. المعرفة بالقرآن: ويجب عليه أن يعرف منه ما يتعلق بالأحكام، والصحيح أن أحكام الشرع، كما تستنبط من الأوامر والنواهي كذلك تستنبط من القصص والمواعظ ونحوها. فقل أن يوجد في القرآن الكريم آية إلا ويستنبط منها شيء من الأحكام.
__________
(1) الإحكام للآمدي 4/218.
(2) نفس المصدر 4/219.
(3) شرح مختصر الروضة 3/577.
(4) نفس المصدر 1/75،588، بتصرف، وانظر في شروط الاجتهاد المحصول 6/21، والمستصفى 2/350، والموافقات 4/105، والإحكام للآمدي 4/165.(1/115)
3. المعرفة بالسنة: ويشترط أن يعرف من السنة الأحاديث التي تتعلق بالأحكام، ومقدار ما يجب من ذلك غير محصور بعدد، لأن استنباط الأحكام لا يتعين له بعض السنة دون بعض، بل قل حديث يخلو عن الدلالة على حكم شرعي، ويشترط له معرفة صحة الحديث، إما بالاجتهاد فيه، بأن يكون له من الأهلية والقوة في علم الحديث ما يعرف به صحة مخرج الحديث – أي طريقه الذي ثبت به، ومن رواية أي البلاد هو، أو أي التراجم، ويعلم عدالة رواته وضبطهم، وبالجملة يعلم من حاله وجود شروط قبوله وانتفاء موانعه، وموجبات رده. وإما بطريق التقليد: بأن ينقله من كتاب صحيح ارتضى الأئمة رواته كالصحيحين وسنن أبي داود ونحوها.
4. المعرفة بالناسخ والمنسوخ: ويشترط أن يعرف الناسخ والمنسوخ من الكتاب والسنة، لأن المنسوخ بطل حكمه، وصار العمل بالناسخ، فإن لم يعرف الناسخ من المنسوخ، أفضى إلى
إثبات المنفي ونفي المثبت، وقد اشتدت وصية السلف واهتمامهم بمعرفة الناسخ والمنسوخ، حتى روي عن علي –رضي الله عنه- أنه رأى قاصا يقص في مسجد الكوفة، وهو يخلط الأمر بالنهي والإباحة بالحظر، فقال له:
"أتعرف الناسخ من المنسوخ؟ قال: لا، قال هلكت وأهلكت، ثم قال: أبو من أنت ؟ قال: أبو يحيى، قال: أنت أبو اعرفوني، ثم أخذ أذنه ففتلها وقال: لا تقص في مسجدنا"(1).
ويكفيه من معرفة الناسخ والمنسوخ، أن يعرف أن دليل هذا الحكم غير منسوخ.
__________
(1) الأثر رواه النحاس في الناسخ والمنسوخ ص4، وابن الجوزي في نواسخ القرآن ص115،. عن هامش رسوخ الأحبار في منسوخ الأخبار للجعبري ص75.(1/116)
5. المعرفة بالإجماع: ويشترط للمجتهد أن يعرف من الإجماع مسائله و مباحثه مثل حجية الإجماع، وان المعتبر فيه اتفاق المجتهدين، وانه لا يختص بالصحابة، وهل ينعقد الإجماع بقول الأكثر أم لا، والإجماع السكوتي ودلالته، وهل يجوز إحداث قول ثالث إذا اختلف أهل العصر على قولين أم لا، وإجماع أهل المدينة وحجيته، ومستند الإجماع وأقسامه، ومنكر حكم الإجماع... الخ.
6. المعرفة باللغة والنحو: ويشترط للمجتهد أن يعرف من النحو والصرف واللغة ما يمكنه من التمييز بين النص والظاهر والمجمل، والحقيقة والمجاز، والعام والخاص والمطلق والمقيد، ودليل الخطاب ومفهومه لأن بعض الأحكام يتعلق بذلك، ويتوقف عليه توقفا ضروريا، ولأن قسما هاما من أصول الفقه الذي به يعرف كيف تستنبط الأحكام من أدلتها هو قواعد لغوية.
وعلم تتعلق به الأحكام هذا التعلق – أي اللغة العربية – جدير أن يكون معتبرا في الاجتهاد، ويلحق بالعربية التصريف لما يتوقف عليه من معرفة أبنية الكلم والفرق بينها.
7. تقرير الأدلة: ويشترط للمجتهد أن يعرف تقرير الأدلة وما يقوم ويتحقق به كيفية نصب الدليل ووجه دلالته على المطلوب.
8. أن يكون عالما بوجود الرب تعالى وبما يجوز عليه وما لا يجوز عليه من الصفات وغيرها، مصدقا بالرسول - صلى الله عليه وسلم - وبما جاء به من الشرع المنقول: كل بدليله من جهة الجملة لا من جهة التفصيل. والقدر والواجب من ذلك، اعتقاد جازم، إذ به يصير مسلما، والإسلام شرط المفتي لا محالة.
9. وقد جعل الشاطبي من شروط الاجتهاد اللازمة فهم مقاصد الشريعة على كمالها ليعرف كيف يربط الجزئيات بالكليات، وكذلك معرفة عادات الناس وأعرافهم في ألفاظهم ومعاملاتهم (1).
__________
(1) انظر: الموافقات 4/105.(1/117)
10. الاستعداد الفطري والملكة الفقهية: وقد أضاف بعض العلماء إلى كل ما سبق، ضرورة امتلاك المجتهد استعدادا فطريا وملكة فقهية، وذلك بان تكون له عقلية فقهية مع لطافة إدراك وصفاء ذهن ونفاذ بصيرة، فقد يمتلك الإنسان آلة الاجتهاد، وإذا عرضت له مسألة لم يستطع أن يجتهد فيها، كما إذا عرف اللغة وأوزان الشعر، ولم يتيسر له نظمه(1).
فمن ملك هذه الأدوات وتشربت بها قريحته، كان مجتهدا لأنه قد صار عنده قدرة على استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية.
ولذلك جاء تعريف بعض الأصوليين للاجتهاد بأنه:
استفراغ الفقيه.. الخ. ومعلوم أنه قيد يخرج غير الفقيه ممن يفتي من الحفظ أو التلقين أو أخذا من الكتب وأفواه المشايخ فهو مقلد لا مجتهد قال الشوكاني:.. وهو قيد " لا بد منه، فإن بذل غير الفقيه وسعه لا يسمى اجتهادا اصطلاحا(2).
وهذه هي شروط المؤول التي لا بد منها قال الآمدي:
"وشروطه – التأويل – أن يكون المتأول أهلا لذلك "(3).
المبحث الثالث
الركن الثالث: أدلة التأويل
والتأويل بما أنه صرف للفظ الظاهر الراجح إلى معنى مرجوح في الأساس، كان لا بد له من دليل يوجبه كما تقدم ذلك مرارا، وهذا أمر متفق عليه، نص عليه وأبانه كل من تكلم في التأويل(4)، وأبرزهم الإمام الجويني إذ أفرد بابا كاملا في كتابه البرهان للكلام على التأويل وشروطه وأدلته، ونصب أمثلة كثيرة على ذلك، ليبين كيف يسند المعنى المرجوح بالدليل القوي الراجح، وبين كثيرا من التأويلات الفاسدة لضعف أدلتها ومرجوحيتها.
__________
(1) عبد الكريم زيدان: الوجيز في أصول الفقه، ص405.
(2) إرشاد الفحول، ص250.
(3) الإحكام للآمدي 3/75.
(4) انظر: الإحكام للآمدي 3/74.(1/118)
وفي معرض بيانه -رحمه الله- لضرورة وجود دليل التأويل يقول" ثم إذا ثبت جواز التأويل، فلا يسوغ التحكم به اقتصاراً عليه، من غير عضد له بشيء، إذ لو ساغ ذلك، لبطل التمسك بالظواهر، واكتفى المستدَل عليه، بذكر تطرق الإمكان إلى الظاهر، وهذا إن قيل به يسقط أصل الاستدلال، ويلحق مجال الإجمال بما يطلب فيه العلم المحض"(1).
وهو يريد أن مجرد تطريق الاحتمالات إلى ظواهر الألفاظ، من غير وجود أدلة تلزم بذلك، غير مقبول، لأن كثيرا من الالفاظ يحتمل أكثر من معنى ولو جاز لنا ذلك لما استقام لنا استدلال بنص، و من هنا نفهم القاعدة التي تقول" إن الدليل إذا تطرق إليه الاحتمال سقط به الاستدلال"، أن المقصود به ليس مطلق الاحتمال بل الاحتمال الناشئ عن دليل، وهو الاحتمال الراجح أو المساوي على الأقل.
ولقد قطع الجويني بأن اشتراط اقتران التأويلات بأدلتها، مما لا خلاف فيه، وعلل ذلك بأن الظن الحاصل من ظاهر اللفظ الذي جاء به الوحي، ونصبه دليلا على مراده أرجح وأقوى من الظن الناتج عن الاحتمال الذي يقدره المؤول ويقيسه بظنه قال:
"ولا خلاف بين العالِمين بالظواهر أن تأويلاتها لا تقبل غير مقترنة بأدلة، وغاية المتمسك بهذا المسلك – التأويل – أن يأتي بقياس مظنون، ومعنى الظن فيه أنه يحسبه أنه منصوب الشارع ظنا منه وتقديرا، وقد غلب على الظن مقصود الشارع في لفظه، فما يغلب متصلا بلفظه على
الظن، أولى مما يغلب على الظن كونه منصوبا للشارع في فنون الأقيسة، وهذا يقع من الظن بعيدا بدرجات، عن الظن المختص بلفظ المصطفى صلى الله عليه وسلم"(2).
وهو ما أشار إليه الشاطبي من أن التأويل لا يُسلَّط على الدليل أساسا إلا لوجود معارض أقوى منه(3)، أي وجود دليل أوجب هذا التأويل.
__________
(1) البرهان في أصول الفقه 1/338.
(2) المصدر السابق 1/348.
(3) الموافقات 3/100.(1/119)
وصرّح به ابن تيميه حين قال" فإذا قال أحدهم: هذا الحديث أو النص مؤول أو محمول على كذا وكذا، قال الآخر: هذا نوع تأويل والتأويل يحتاج إلى دليل"(1) وفي موضع آخر اعتبر أن رد المعاني المفهومة من الكتاب والسنة بالشبهات – لا الأدلة – هو من باب تحريف الكلم عن مواضعه، والإعراض عنها هو من باب الذين إذا ذكروا بآيات ربهم خروا عليها صما وعميانا(2).
ونجد الآمدي يتفق مع الجويني في اشتراطه كون دليل التأويل راجحا على ظاهر اللفظ المؤول، فهو يقول في صفة الدليل" … وأن يكون الدليل الصارف للفظ عن مدلوله الظاهر، راجحا على ظهور اللفظ في مدلوله، ليتحقق صرفه عنه إلى غيره، وإلا فبتقدير أن يكون مرجوحا لا يكون صارفا ولا معمولا به اتفاقا،
وان كان مساويا لظهور اللفظ في الدلالة من غير ترجيح، فغايته إيجاب التردد بين الاحتمالين على السوية، ولا يكون ذلك تأويلا، غير أنه يكتفي بذلك من المعترض إذا كان قصده إيقاف دلالة المستدل، ولا يكتفي به من المستدل دون ظهوره، وعلى حسب قوة الوضوح وضعفه وتوسطه يجب أن يكون التأويل"(3).
والحق فيها ( الفروع ) أن يطلب الأرجح فالأرجح، (ولاشك أن الدليل الضعيف قد يقوى بغيره حتى يصبح أقوى مما كان راجحا) وذلك أمر كما هو مشاهد في المحسوسات فهو متحقق في دلالات الألفاظ، فالمدلول المرجوح إذا عضد بدليل من الخارج فترجحا معا على الظاهر كان ذلك مقبولا بلا خلاف(4).
والاحتمال المرجوح المقابل للظاهر إذا كان بعيدا عن الإرادة، فيحتاج في حمل اللفظ عليه إلى دليل قوي، لتجبر قوة الدليل ضعف الاحتمال، والاحتمال القريب يكفيه دون ما يكفي الاحتمال البعيد، ولكن وبكل حال يجب أن يكون الدليل مقبولا بحيث يؤثر في ترجيح الاحتمال إياه على
__________
(1) مجموع الفتاوى الكبرى 13/288.
(2) نفس المصدر 13/305.
(3) الأحكام للآمدي 3/76.
(4) شرح مختصر الروضة 1/562.(1/120)
ظاهر اللفظ، وأما إذا كان الاحتمال وسطا بين القوة والضعف احتاج إلى دليل وسط. والأمر في هذا المقام كالميزان.
والغرض من دليل التأويل على الجملة، أن يكون بحيث إذا انضم إلى اللفظ المؤول رجُحِّا على ظاهر اللفظ وقدما عليه(1).
وستتضح هذه المعاني أكثر - بإذن الله - في الصفحات التالية عند الكلام على أدلة التأويل واحداً واحداً. ومهما اختلف العلماء في كون هذا الدليل قويا أو ضعيفا فإنه من المقطوع به أنهم متفقون على أن التأويل بدون دليل أو بدليل مساو، فضلا عن أن يكون مرجوحا، هو إما تأويل فاسد، أو لعب حسب عبارة صاحب جمع الجوامع(2).
وهو الأمر الذي لا بد من التأكيد عليه هنا – وهو الغرض – من البحث أساسا – ولا بد من اصطحاب هذه الحقيقة واستحضارها لدى محاكمة اجتهادات المعاصرين في الفصل الثاني إن شاء الله تعالى.
الدليل الأول: التأويل بدليل النص
والتأويل بدليل النص تكلم عليه الأصوليون في " المخصصات " أو مباحث " التخصيص" إذ أن تخصيص العام وتقييد المطلق كما سبق مراراً هو تأويل لذلك العام والمطلق.
والنص المخصِّص – المؤول – قد يكون دليلاً من القرآن أو من السنة، ثم السنة قد تكون قوليه أو فعلية أو تقريرية، وقد يكون تخصيص القرآن بالقرآن أو بالسنة وقد تكون السنة متواترة أو خبر آحاد … الخ. تلك المباحث.
وليس القصد هنا الشرح والتفصيل، و إنما مجرد التمثيل لدليل التأويل، إن كان نصا ليقاس عليه غيره.
" فأما تخصيص القرآن بالقرآن فمتفق عليه بين العلماء إلا من شذ، والدليل على جوازه هو وقوعه، ومثاله قوله تعالى { وَلا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ } (البقرة-221) دل بعمومه على حرمة
__________
(1) المرجع السابق: 1/562،564.
(2) جمع الجوامع 2/88، والتيسير والتحرير 1/143، والشنقيطي سيدي عبد الله بن إبراهيم العلوي: نشر البنود على مراقي السعود 1/264.(1/121)
نكاح المشركات بمن فيهن الكتابيات، ثم جاء قوله تعالى " وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ" (المائدة5) مخصصا للآية الأولى ودالا على استثناء الكتابيات العفيفات من التحريم"(1).
والذي أوجب هنا حمل العام على الخاص – وهو نوع تأويل – هو التعارض الظاهري بين النصين، أحدهما عام والآخر خاص، فإذا تعذر الجمع بين حكميهما، فإما أن يعمل بالعام أو الخاص: فان عمل بالعام لزم منه إبطال الدليل الخاص مطلقا، ولو عمل بالخاص لا يلزم منه إبطال العام مطلقا، لإمكان العمل فيما خرج عنه، فكان العمل بالخاص أولى لأنه عمل بالدليلين، ولأن الخاص أقوى في دلالته، وأغلب على الظن، لبعده عن احتمال التخصيص، بخلاف العام فكان أولى بالعمل"(2).
وكذلك يجوز أن يؤول القرآن، ويخصص عمومه بالسنة إذا كانت متواترة بلا خلاف، وأما إذا كانت السنة من أخبار الآحاد فالراجح جوازه(3).
ومثاله قوله تعالى { يُوصِيكُمْ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ } ( النساء- 11) فهوعام
في استحقاق كل الأولاد، إلا أنه خُصَّ بمن عدا القاتل بدليل الحديث ( القاتل لا يرث )(4).
ومثال تخصيص القرآن بالسنة الفعلية قوله تعالى { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ } (النور-2) فهو عام في وجوب الجلد على كل زان، إلا انه قد خص بالزاني البكر دون المحصن، بدليل ما تواتر عنه - صلى الله عليه وسلم - من رجم المحصن(5).
__________
(1) انظر: الأحكام للآمدي 2/413.
(2) المصدر السابق 2/413.
(3) نفس المصدر 2/416.
(4) انظر: المحصول 3/85 والحديث أخرجه بهذا اللفظ عن أبي هريرة الترمذي في سننه 4/425، وقال عنه بأنه لا يصح أي بهذا اللفظ وقال: وعليه أهل العلم.
(5) انظر: الأحكام للآمدي 2/420-422، المحصول 3/85.(1/122)
"وكذلك أجازوا تخصيص عموم القرآن بالسنة التقريرية فقالوا: تقرير النبي - صلى الله عليه وسلم - لما يفعله الواحد من أمته بين يديه مخالفا للعموم، وعدم إنكاره عليه، مع علمه به وعدم الغفلة والذهول عنه، مخصص لذلك العام عند الأكثرين، خلافا لطائفة شاذة.
ودليل ذلك أن تقريره له عليه، دليل على جواز ذلك الفعل له، وإلا كان فعله منكرا، ولو كان كذلك لاستحال من النبي - صلى الله عليه وسلم - السكوت عنه وعدم النكير عليه.
هذا مع أن "التقرير لا صيغة له، غير أنه حجة قاطعة في جواز الفعل، نفيا للخطأ عن النبي- صلى الله عليه وسلم -، بخلاف العام، فإنه ظني محتمل للتخصيص، فكان موجبا لتخصيصه"(1).
"وقد يأتي نص ما مطلقا، فيأتي نص آخر يقيده، والسبب واحد كما سبق ذلك في مبحث أنواع التأويل، لأن المطلق جزء من المقيد والآتي بالكل – وهو المقيد – آت بالجزء لا محالة فهو
عمل بالدليلين ولا عكس، ولكنهم اختلفوا في الحكمين المتماثلين إذا أطلق أحدهما وقيد الآخر، وسببهما مختلف ومثاله: تقييد الرقبة في كفارة القتل الخطأ بالإيمان، وإطلاقها في كفارة الظهار، والقول المعتدل – وهو مذهب المحققين منا – والكلام للرازي – أنه يجوز تقييد المطلق بالقياس على ذلك المقيد"(2).
وقد يأتي نص يدل ظاهره – حقيقته – على معنى، فيدل دليل آخر على وجوب أو ترجح حملانه على المجاز ومثاله الحديث ( الجار أحق بسقبه )(3)، فالجار في هذا الحديث يحمل على الشريك مجازا.
__________
(1) الأحكام للآمدي 2/420-421.
(2) انظر المحصول 3/142-145.
(3) صحيح البخاري بشرح العسقلاني 4/437.(1/123)
لأن " الجار" لفظ يحتمل معنى الشريك في لغة العرب، إلا انه احتمال ضعيف بعيد فلما ورد حديث صحيح قوي صريح يؤيد هذا المعنى الضعيف رجح هذا الاحتمال على الظاهر وهو المعنى الحقيقي للجار وهو الحديث ( إذا وضعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة )(1)، وبهذا يتبين مدى أهمية اشتراط القوة في دليل التأويل، وذلك احترازا من اللعب بالنصوص، و إسقاط دلالاتها بالاحتمالات المجردة فهي لا شيء.
وقد يكون دليل التأويل قرينة متصلة بالنص ذاته ومثاله الحديث ( العائد في هبته كالكلب يعود في قيئه) إذ استدل به الشافعي على جواز الرجوع في الهبة، لأن الكلب يجوز له الرجوع في قيئه ولا يحرم عليه، فلما ناقشه في ذلك الإمام أحمد- وكان رأيه التحريم.
استدل على حرمته بالقرينة في صدر الحديث وهي ( ليس لنا مثل السوء، الفائد في هبته كالكلب يعود في قيئه ) فأفاد لغة وعرفا أن الرجوع في الهبة مثل سوء نفاه صاحب الشرع فقدم على قياس الشافعي(2).
الدليل الثاني: التأويل بدليل الإجماع
ولا خلاف بين العلماء في أن تخصيص الكتاب والسنة حتى المتواترة منها بإجماع جائز، ودليل الجواز هو الوقوع نقلا والمعقول أيضا. فقد ثبت إجماع الأمة على تخصيص آية القذف بتنصيف الجلد في العبد كالأمة(3).
أي أن قوله تعالى { والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا باربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة…. } (النور-4) يفيد
__________
(1) صحيح البخاري بشرح العسقلاني 4/436
(2) انظر شرح مختصر الروضة 1/556،564،566، والحديث بهذا اللفظ أخرجه البخاري انظر: صحيح البخاري بشرح العسقلاني 5/235.
(3) انظر المحصول 3/81، الإحكام للآمدي 4/419.(1/124)
بعمومه إيجاب الجلد ثمانين جلدة على الحر والعبد، ولكن وقع الإجماع على أن القاذف إذا كان عبدا فعليه نصف الحد وهو أربعون جلدة، فهنا صرف العموم إلى الخصوص حيث خص لفظ (الذين) وهو من صيغ العموم إلى الأحرار دون العبيد، وقصر الحكم من ثمانين جلدة إلى أربعين على العبد إذا قذف، وهو تأويل سوغه الإجماع.
وهو الأمر الذي أيده المعقول أيضا لأن الإجماع دليل قاطع، والعام غير قاطع، فإذا نقل الإجماع المخالف للعموم في بعض الصور، علمنا أنهم – أهل الإجماع – ما عدلوا عن عموم النص إلا لاطلاعهم على دليل مخصص وان لم يبينوه لنا، وإلا كان إجماعا منهم على الخطأ، وهو مخالفة النص، وهو ممتنع.
وذلك كما لو اجمعوا على ترك العمل بنص خاص فإنه لا بد أن يكون لاطلاعهم على ناسخ فيكون الإجماع معرِّفا للناسخ لا انه هو الناسخ.
وكذلك الحال هنا فإن المخصص ليس هو الإجماع ذاته بل أنه كاشف عن مخصِّص ومعرِّف له، لا انه هو المخصص بذاته(1).
وأما الإجماع الثابت المنقول فلا يجوز تأويله وتخصيصه لا بالقرآن ولا بالسنة ولا معارضته بهما، لأنه يستحيل انعقاد الإجماع أساسا على خلاف النص، حتى لو كان خبر آحاد.
قال الرازي" وأما تخصيص الإجماع بالكتاب والسنة المتواترة فإنه غير جائز، للإجماع، ولأن إجماعهم على الحكم العام – مع ما سبق المخصص– خطأ، والإجماع على الخطأ لا يجوز(2).
وستظهر ثمرة هذا المعنى المقرر" وهو عدم جواز معارضة الإجماع بالنصوص " عندما ترى في الباب الثاني اجتهادات نصب أصحابها – أو حاولوا – أدلة من القرآن والسنة على معان وأحكام استنبطوها، هي على خلاف الإجماع الثابت المنقول.
__________
(1) الأحكام للآمدي 4/419، وآل تيمية: المسودة في أصول الفقه ص126.
(2) المحصول 3/81، وانظر في التخصيص بالإجماع، شرح مختصر الروضة 2/555.(1/125)
ولما علم أولئك المحرفون أن أكبر عقبة أمامهم للعبث بثوابت الشريعة و أحكامها الأساسية هو الإجماع، لأن تلك الأحكام ثبتت بالإضافة إلى النصوص – بالإجماع. راحوا يشككون بالإجماع ذاته ويثيرون حوله الشبه، من مثل أن فيه خلافا في معناه: هل هو إجماع صحابة أو إجماع المجتهدين. وفي إمكان حصوله، ومدى حجيته. وهل يفيد القطع أم لا ؟ وهل يجوز إحداث إجماع مخالف له في عصر لاحق أم لا ؟ … الخ.كل ذلك ليتسنى لهم هدم أركان الدين و أساساته. ولكن أنى لهم ذلك، وقد ثبتت تلك الأحكام والأسس بأدلة متواترة، فكانت قطعية الثبوت قطعية الدلالة.
الدليل الثالث: التأويل بدليل القياس
ومما يخص به عموم الكتاب والسنة ويؤول به، هو قياس النص الخاص، فيقدم على عموم نص آخر ويخص به.
قال الطوفي" والدليل – دليل التأويل – قرينة أو ظاهر آخر أو قياس …"(1)، ويكون ذلك كما في غيره عند تعارض النص العام مع قياس نص خاص، وقد مثل له الطوفي بإيجاب الإطعام في كفارة القتل قياسا على إيجابها في كفارة الظهار والصيام..
وذلك لأن الكفارات حقوق لله تعالى، وحكم الأمثال واحد، فثبوت الإطعام في تلك الكفارات تنبيه على ثبوته في كفارة القتل.
وقياس النص الخاص هذا يقدم على عموم النص العام، الذي لم يدل صراحة على وجود الإطعام، ولكنه يحتمل أن يكون واجبا مسكوتا عنه يستنبطه المجتهدون – ولكونه احتمالا ضعيفا، ولكن عضده وقواه هذا القياس القوي، فكان القول بإيجاب الإطعام قويا متجها(2).
ومثاله أيضا، تحريم الربا في الأرز، قياسا على تحريمه في البر والشعير، الذي ورد به نص خاص بجامع أن كلا منهما مكيل، مع أن القول بجريان الربا في بيع الأرز يعارض عموم جواز البيع الذي تحث عليه الآية:
{ وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا } (البقرة-275).
__________
(1) شرح مختصر الروضة 3/564.
(2) نفس المصدر 3/566-567.(1/126)
والدليل على جواز تخصيص النص العام بقياس النص الخاص، هو أن حكم القياس حكم أصله. فكما أن النص الخاص يخص العموم، فكذا قياسه، فكما أن النص على تحريم الربا في البر، خص عموم حل البيع، فكذا قياس البر في الأرز(1).
وهنا يثور تساؤل مشروع، وهو أليس في هذا تقديم للقياس على النص وهو من المحاذير التي طالما حذر منها القرآن والسنة وجماهير السلف باعتبار ذلك تقديما للعقل على النقل(2).
وقد أجاب العلماء عن ذلك، وأزالوا اللبس بما يجلي التخرصات والشبهات ولا يبقي في أيدي المحرفين والمؤولين شبهة يتمسكون بها من كلام الأئمة الأعلام.
وبيان ذلك أن الممتنع، إنما هو تقديم الفرع على أصله، والقياس المقدم على النص ها هنا، ليس فرعاً للنص العام،بل فرع للنص الخاص الذي هو أقوى من النص العام دلالة.
وغير ممتنع، أن يكون فرع الأصل القوي، أقوى من الأصل الضعيف والمسلّم، أن النص الخاص هو المقدم على القياس لأنه يفيد ظناً أقوى منه، أما أن يكون النص العام يفيد ظناً أغلب وأقوى من القياس مطلقاً، فذلك غير مسلم.
نعم قد يصح ذلك في القياس الذي علته مستنبطة، أما القياس الذي علته منصوص عليها فلا، فإنه يقدم على النص العام، لأن العلة المنصوصة هي بمنزلة النص الخاص، ومن المقرر أن النص الخاص يقدم على النص العام(3).
وهو ما صرح به الرازي فقال " لأن القياس المخصص للنص يكون فرعاً لنص آخر"(4). ونجد الشاطبي يرجح هذا الاتجاه ويتفق مع الرازي في هذا التحليل والتحقيق، فقد قال بعد ذكر الخلاف في تخصيص العموم بالقياس: " والمختار أنه إذا كانت العلة الجامعة ثابتة بالتأثير، أي بنص أو إجماع، جاز تخصيص العموم به وإلا فلا، وذلك لأن العلة المؤثرة نازلة منزلة النص الخاص، فكانت مخصصة للعموم كتخصيصه بالنص(5).
__________
(1) نفس المصدر 3/571،573.
(2) راجع ص 60 من البحث.
(3) شرح مختصر الروضة 3/573.
(4) المحصول 3/101.
(5) الموافقات 3/426-427.(1/127)
ولقائل أن يقول أن حاصل المسألة يرجع إلى تخصيص النص العام بالنص الخاص أو بالإجماع ما دام أنه يشترط للقياس المخصص أن تكون علته منصوصاً عليها أو مجمعا عليها. وهو القول الراجح في المسألة، والذي لا يجوز القول بغيره والله تعالى أعلم.
وذلك لأن إطلاق القول بجواز تخصيص عموم الكتاب والسنة بالقياس، يسلَم إلى تقديم الأقيسة على ما فيها من احتمالات ضعف كثيرة على نصوص الكتاب والسنة.
وتجويز معارضتها بها " مع أن العمومات ظاهرة في كل صورة من آحاد الصور الداخلة تحتها، وجهة ضعفها أقل من جهات ضعف الأقيسة"(1).
ولعله قد يبدو مستغرباً أن الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ نقل عنه ما يفيد ضمناً تقديم القياس على النص العام، وهو ما استنبطه ابن تيميه، وجعله يقول في المسودة بجواز تخصيص عمومات الكتاب والسنة بالقياس(2).
ولا أظن محقّقاً كابن تيميه يعني بذلك غير ما عناه الشاطبي من التخصيص بالعلة المنصوصة لا مطلقاً.
واستدل ابن تيميه لذلك بمسألة الفار من الولد بالملاعنة بعد الطلاق الثلاث، قياساً على الفار من الميراث بعد الطلاق الثلاث، فكما يثبت الميراث للمطلقة ثلاثاً في مرض الموت مع أنها ليست زوجة، كذلك يثبت نسب الولد، مع أن الملاعنة يشترط فيها وجود " الزوجية " بنص الآية وظاهرها
{ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلا أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنْ الصَّادِقِينَ }
(النور-6)، والمطلقة ثلاثاً ليست زوجة،
فقيل للإمام أحمد: أليس الله يقول: { والذين يرمون أزواجهم } وهذه ليست زوجة له، فاحتج بأن الرجل يطلق ثلاثاً وهو مريض، فترثه، لأنه فار من الميراث، وهذا فار من الولد. قال ابن تيمية تعليقاً على هذه المسألة: " فقد عارض الظاهر بضرب من القياس "(3).
__________
(1) المصدر السابق 3/427.
(2) المسودة ص119.
(3) نفس المصدر ص121.(1/128)
وإنما قلت بأنه مستغرب، لأنه من المعروف في أصول الحنابلة تقديم النص مطلقاً على القياس حتى لو كان حديثاً ضعيفاً، كما وضح ذلك ابن القيم(1).
وما اختاره الشاطبي من اشتراط كون العلة ثابتة بالنص أو الإجماع حتى تصلح لتخصيص النص العام وتأويله، هو رأي الحنفية أو قريب منه.
إذ أجازوا تخصيص النص بالقياس بشرط ان يكون سبق تخصيصه بمخصص آخر، فتصبح دلالته على ما تبقى ظنية، لأنه يصبح مجازاً، فيجوز حينئذ تخصيصه بالقياس(2).
وقد رد الشيخ محمد أبو زهرة على من يطلقون القول بجواز تخصيص العام بالقياس، لأنه توهين للأدلة الشرعية، وإضعاف لعمل النصوص من غير باعث، ولأن دلالة الألفاظ يجب أن
يكون لها عمومها، حتى يقوم الدليل من النصوص على خلافه، ولأن من المقررات الشرعية أن لا يصار إلى القياس إلا إذا أعوز المجتهد النص(3)، وعلى كلّ، فالراجح ما اختاره الشاطبي والرازي والله تعالى أعلم.
الدليل الرابع: التأويل بدليل حكمة التشريع
تعريف حكمة التشريع:
هي علة العلة، ( وهي الأمر الخفي الذي شرع الحكم لأجله ) (4). وعرفها الدريني بقريب من هذا فقال: "هي الغرض أو المصلحة الاجتماعية أو الاقتصادية أو السياسية أو الخلقية التي من أجلها شرع حكم النص، فحيثما تحققت هذه الحكمة وجب تطبيق الحكم غالبا "(5).
ومن أمثلة التأويل بها تأويل لفظ "الشاة " في الحديث { في كل أربعين شاة شاه } بالقيمة.
__________
(1) إعلام الموقعين 1/29،34.
(2) محمد أبو زهرة: أصول الفقه ص 201.
(3) نفس المصدر ص201.
(4) موسوعة القواعد الفقهية 2/193.
(5) المناهج الأصولية ص180.(1/129)
إذ أن الحديث نص صحيح صريح في وجوب إخراج شاة عن كل أربعين شاة زكاة. إلا أن فقهاء الحنفية أجازوا إخراج القيمة المالية للشاة، وعللوا ذلك بأن حكمة تشريع الزكاة سد خلة الفقراء، والقيمة المالية قد تكون أكثر فائدة من الشاة بعينها، وخالفهم في ذلك الجمهور تمسكا بظاهر النص، لأنه لفظ خاص دلالته قطعية، فلا يجوز تأويله، فصار معنى الحديث عند الحنفية " في كل أربعين شاة شاة أو قيمتها ".
فقد استنبط الحنفية حكمة التشريع من النص وأولوا - صرفوا - الحكم من وجوب إخراج الشاة إلى التخيير بينها وبين القيمة.
مثال آخر: ومثال آخر على التأويل بحكمة التشريع، وهي مسألة التسعير الجبري فهي تصلح عند الدريني كدليل في هذا الموضوع.
وتوجيه المسألة هنا: أن التسعير حرام في الأصل لأن فيه إلزاما للتجار بالبيع بسعر لا يريدونه، - وهو ظلم والظلم حرام.
هذا إذا كان الغلاء طبعياً، أما إذا كان بسبب احتكارهم أو اتفاقهم على رفع الأسعار فانهم يلزمون بالبيع بسعر المثل، رفعا للظلم والضرر عن الناس، فالظلم والضرر يجب رفعهما متى وجدا، وبأي وسيلة كانت، وهي حكمة التشريع التي نص عليها الحديث.
فقد أولنا الحكم هنا من حرمة التسعير إلى جوازه والدليل هو حكمة التشريع الواضحة المنضبطة وهي رفع الضرر عن الناس.
آراء العلماء في التأويل بحكمة التشريع:
يجب أن يعلم أولا أن القول بجواز التأويل بدليل حكمة التشريع أو عدمه ينبني على القول بجواز التعليل بها أو عدم الجواز.
فان جاز اعتبارها علة شرعية فقد جاز التأويل بها كالتأويل بعلة القياس الخاص، وإن لم يجز ذلك لم يجز التأويل بها، وقد اتفق كل الأصوليين على جواز تعليل حكم الأصل بالأوصاف الجلية المنضبطة العرية عن الاضطراب (1).
__________
(1) الإحكام للآمدي 3/288.(1/130)
وأما بالنسبة إلى التعليل بالحكمة فقد اختلف الأصوليون في ذلك: فمنهم من ذهب إلى القول بامتناع تعليل الحكم بالحكمة مطلقا وهو رأي الأكثرين ورده الآمدي، ومنهم من جوزه مطلقا وهو مردود أيضا والصحيح ما اختاره الآمدي وهو جواز التعليل بها بشروط.
وان هناك فرقا بين الحكمة الظاهرة المنضبطة بنفسها والحكمة الخفية المضطربة، فجوز التعليل بالأولى دون الثانية(1) وإنما جاز التعليل بالحكمة الظاهرة المنضبطة غير المضطربة لأمور منها:
1. " لأنا أجمعنا على أن الحكم إذا اقترن بوصف ظاهر منضبط مشتمل على حكمة غير منضبطة بنفسها انه يصح التعليل به، وإن لم يكن هو المقصود من شرع الحكم بل ما اشتمل عليه من الحكمة الخفية. فإذا كانت الحكمة وهي المقصود من شرع الحكم مساوية للوصف في الظهور والانضباط كانت أولى بالتعليل بها، ولأن حكمة التشريع غير المنضبطة ليست حجة فلا يجوز أن تؤول بها الأدلة الشرعية "(2).
2. لأن الذي يدقق النظر في حجج القائلين بعدم اعتبار حكمة التشريع يتبين له أنهم يريدون حكمة التشريع المجردة، أي المدعاة بالعقل دون أن تكون ظاهرة أو منضبطة، فإذا كانت ظاهرة أو منضبطة فمفهوم كلامهم اعتبارها، لأنها حينئذ تكون مساوية للعلة التي هي وصف ظاهر منضبط. وهنا ترد القاعدة الأصولية الفقهية التي تقول: الأصل أنه يفرق بين علة الحكم وحكمته، فان علته موجبة، وحكمته غير موجبة "، فمرادهم الحكمة المجردة غير المنضبطة.
ومثال الحكمة المجردة شرب الخمر فهو علة لوجوب الحد على شاربه، والسكر هو الحكمة وهو علة العلة في وجوب إقامة الحد على شارب الخمر، وحفظ العقل هو الحكمة من وراء التحريم.
لكن لما كان السكر أمرا غير منضبط لكونه يختلف باختلاف الأشخاص ونوع الخمر. لذا أقيمت العلة - الشرب - مقام الحكمة المجردة الخفية في ترتب الحكم ووجوبه(3).
__________
(1) نفس المصدر 3/290-295.
(2) المرجع السابق، نفس الصفحات.
(3) المرجع السابق: 2/193.(1/131)
فتقدير الحكمة هنا يختلف من شخص لآخر، و لذلك فلا يجوز اعتبارها، وهي ليست بحجة، ولا يجوز تعليل الأحكام بها ولا تأويلها إلا إذا ورد بها نص، فتكون كالعلة المنصوصة.
3. لأن في تعليل الأدلة وأحكامها بالحكمة المجردة إلغاء للألفاظ والنصوص، وذلك لا يجوز لأن الألفاظ قوالب المعاني.
4. ولان حكمة التشريع ما دامت لم تثبت بدليل شرعي فكيف يجوز إزالة الثابت بها والقاعدة الشرعية تقول: أن غير الثابت لا يثبت بالاحتمال والثابت لا يزول بالاحتمال.
وتدل هذه القاعدة على أن إثبات شيء أو زواله لا يتم إلا بدليل وحجة واضحة، ولا يجوز إثبات شيء غير ثابت بمجرد الاحتمال والشبهة، كما أنه لا يجوز إزالة حكم ثابت يقينا أو بدليل باحتمال ضعيف لا يستند إلى دليل مرجح(1).
فلا ينبغي لطالب العلم أن يبالغ في التنقير عن علل تشريع الأحكام بغير ما ورد به الشرع أو باستنباط عقلي لا يقوم على دليل صحيح، لا سيما ما ظاهره البعد، إذ لا يؤمن فيه من ارتكاب الخطأ والوقوع في الخطل - وحسب الفقيه من ذلك ما كان منصوصا أو ظاهرا أو قريبا من الظهور(2).
الخلاصة في التأويل بحكمة التشريع:
1. التعليل بحكمة التشريع الثابتة بدليل شرعي إذا كانت ظاهرة منضبطة يجوز التأويل بها على الأرجح لأنها صارت حجة شرعية، إذ هي والعلة سواء بل هي أولى لكونها مقصودة من الحكم الشرعي.
وهذه الحكمة التي يجوز التأويل بها يشترط فيها أن تبلغ من الوضوح حدا يترجح معه أن تكون علة(3)، ولذلك يشترط الشوكاني في التأويل بالقياس أن يكون جليا لا خفيا(4).
__________
(1) نفس المصدر 2/293.
(2) نفس المصدر 3/208 – بتصرف يسير -.
(3) المناهج الأصولية ص173.
(4) إرشاد الفحول ص177.(1/132)
ووضوح العلة هو الذي رجح جواز تأويل الشاه بالقيمة، إذ قوى هذا التأويل ما روي عن أنس في الحديث الذي يبين فيه صدقة الإبل … من بلغت عنده من الإبل صدقة الجذعة، وليست عنده وعنده حقه فإنها تقبل الحقه ويجعل معها شاتين إن استيسرتا أو عشرين درهما"(1).
فرجع التأويل هنا إلى التأويل بالقياس - وكانت حكمة التشريع منصوصة ولم تكن تعليلا بالعقل المجرد، لان تعليل النصوص بالعقل المجرد يقود إلى إهدار النصوص وقيمتها التشريعية. وكذلك القول بجواز التسعير فان التأويل فيه اعتمد على حكمة التشريع الواضحة الجلية المنصوصة، فكانت بمنزلة العلة، لان الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال في تعليله لرفض التسعير { إني لأرجو أن ألقى الله وليس لأحد عندي مظلمة } فبين - صلى الله عليه وسلم - العلة والحكمة من عدم التسعير وهي خوف الظلم، فإذا انتفى الظلم وتحقق العدل، فقد وجب التسعير، ولم يعد جائزا فحسب. والحكم يدور مع العلة وجودا وعدما كما بيناه قبل.
وهكذا يتبين أن التأويل بحكمة التشريع -الواضحة المنضبطة الثابتة- هو تأويل بدليل القياس الذي تثبت علته بدليل شرعي.
2. الأمر الآخر الذي يجب التنويه إليه أن حكمة التشريع لا يجوز أن تكون ذريعة إلى إبطال النص المعلل. لأن (استنباط العلة من الحكم إذا كانت موجبة لرفعه كانت باطلة) كما قال الآمدي(2).
وذكر في موسوعة القواعد الفقهية القاعدة الأصولية التي تقول (إذا استنبط معنى من اصل فأبطله فهو باطل).
وذكر عن الغزالي قوله (الاستنباط من النص بما ينعكس عليه بالتغيير مردود). وذكر عن الحنفية قولهم: (الشيء يعتبر ما لم يعد على موضوعه بالإبطال والنقض ).
ومعنى هذه القواعد:
__________
(1) صحيح البخاري بشرح العسقلاني 3/371
(2) الإحكام للآمدي 3/79.(1/133)
أن القاعدة المستقرة في الشرع أن الفرع لا يخالف أصله ولا يعود عليه بالإبطال، أما إذا استنبط معنى من أصل فأدى ذلك الاستنباط إلى إبطال الأصل فالاستنباط باطل والفرع باطل لأن الأصل يكذبه(1).
الدليل الخامس: التأويل بدليل العقل، ودليل الحس
ذهب جمهور العلماء إلى جواز تخصيص عمومات الكتاب والسنة بالدليل العقلي، وخالف في ذلك فريق من المتكلمين.
والذين أجازوا التخصيص بالعقل، مثلوا له بعدة أمثلة منها قوله تعالى { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا } ( آل عمران-97) فإن لفظ " الناس " يشمل الصبي والمجنون، إلا أن العقل
يقطع بعدم دخولهما في الخطاب لغياب مناط التكليف وهو العقل، وهذا هو مراد من قال باعتبار العقل دليلا مخصصا للعموم.
وأفرد الرازي في المحصول فصلا في "تخصيص العموم بالعقل". وفي بيانه وتحريره لقول من نازع في تخصيص العموم بالعقل، اعتبره نزاعا على اللفظ لا على المعنى، وهو يوضح ذلك بقوله " ذلك أنا إن أردنا بالمخصص الأمر الذي يؤثر في اختصاص اللفظ العام ببعض مسمياته، فالعقل غير مخصص، لأن المقتضي لذلك الاختصاص هو الإرادة القائمة بالمتكلم، والعقل يكون دليلا على تحقق تلك الإرادة، فالعقل يكون دليل المخصص لا نفس المخصص"(2).
ومعنى كلامه هو أن العقل بذاته ليس مخصصا للنصوص، وإنما المخصص هو قيام الدلائل العقلية على أن المتكلم بالنص ـ وهو الشارع جل وعلا ـ لم يرد تلك المعاني الخارجة عن عموم اللفظ، بناء على فهم المخاطب، وان العموم ينزل على ما يفهم عادة من تلك الألفاظ.
وما يقال عن التخصيص بالعقل يصدق في توجيه الرأي القائل بجواز تخصيص العمومات بالحس، والكلام فيهما متقارب وجعلهما بعضهم تحت باب واحد، ومثل لهما بنفس الأمثلة كقوله
__________
(1) موسوعة القواعد الفقهية 2/252.
(2) المحصول 3/73-74، وانظر في التخصيص بالعقل والحس المسوّدة (118) وشرح مختصر الروضة 2/553 وما بعدها.(1/134)
تعالى { تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ } ( الأحقاف/25) عن الريح التي أرسلت على قوم عاد، مع العلم بخروج السماوات والأرض عن ذلك التدمير حسا.
وكقوله تعالى فيها { مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ } (الذاريات/42) مع أنها أتت على
الأرض والجبال، ولم تجعلها رميما بدلالة الحس، فكان الحس هو الدال على أن عموم اللفظ لم يكن مرادا للمتكلم، فكان مخصصا "(1).
والحق الذي يجب المصير إليه في مسألة تخصيص العمومات من القرآن والسنة بالعقل والحس هو ما ذهب إليه الشاطبي والآمدي والرازي، وهو أنه ليس من قبيل التخصيص، لأن ألفاظ العموم الواردة في الكتاب والسنة إنما تأتي بحسب الاستعمال الشرعي، فتعم ما قصده الشارع منها فحسب، ولا تعم ما يقع تحتها بحسب وضع الإنسان"(2).
فحين أوجب –تعالى- الحج على الناس، فمراده –تعالى- الناس الذين هم مناط التكليف ومحله لا مطلق الناس، والمجنون والصبي غير مراديْن من الخطاب أصلا، وهو الذي يفهمه العربي العادي الذي أنزل القرآن بلغته، وكذا حين أخبر أن الريح تدمر كل شيء، فمفهوم أن مراده تعالى، ما يُدمَّر بالريح الشديدة عادة، والجبال لا تدمر عادة بالرياح، فضلا عن الأرض ذاتها والسماوات.
وإذا لم تكن تلك المعاني والأشياء داخلة أصلا في عموم اللفظ، ولم تكن مرادة للمتكلم، وليس ذلك مما تقضي به لغة العرب، فكيف تصح دعوى التخصيص وهي معاني خارجة عن العموم أساسا ؟؟ وهذا معنى قول من قال بأنه لا تخصيص بالعقل والحس.
ومراد من قال بالتخصيص بها، أنها كانت داخلة تحت عموم اللفظ بحسب وضع اللسان العربي فخرجت بدلالة العقل والحس، وهو كما قال الرازي والآمدي خلاف شكلي لفظي، لا على المعنى والفحوى.
__________
(1) الإحكام للآمدي 2/410.
(2) الموافقات 3/270، 3/275-277.(1/135)
يقول الآمدي " دلالات الألفاظ على المعاني ليست لذاتها، وإلا كانت دالة عليها قبل المواضعة، وإنما دلالاتها تابعة لقصد المتكلم وإرادته، ونحن نعلم بالضرورة أن المتكلم لا يريد الدلالة على ما هو مخالف لصريح العقل، فلا يكون دالا عليه لغة، ومع عدم الدلالة اللغوية على الصورة المخرجة لا يكون تخصيصا"(1).
وبناء على ما تقدم، فلا يصح أن يوظِّف الكتاب أو المفكرون المعاصرون أقوال ونصوص أهل الأصول في جواز تخصيص النصوص بالعقل في غير محلها، فيستنتجوا منها جواز معارضة النصوص مطلقا بالعقل والحس، لما تبين أن جعلها من المخصصات إنما هو من قبيل الاصطلاح وليس من التخصيص الفعلي الحقيقي.
الدليل السادس: التأويل بدليل مذهب الصحابي الراوي
إذا روى أحد من الصحابة حديثا، ثم ثبت عنه من فعله ما يخالف ظاهر الحديث، ولم يكن هناك مجال لتفسير فعله، غير المخالفة الصريحة، فهل يجوز والحال هذه، القول بأن فعل الصحابي الراوي مخصص للحديث ؟، أو أن يعتمد عليه لتجويز مخالفة عموم النصوص؟.
ذهب الرازي والمحققون من أهل الأصول إلى عدم اعتباره مخصصا، وعزا هذا القول للشافعي، وتكلم عليه تحت فصل بعنوان...فيما ظُن أنه من مخصصات العموم مع أنه ليس كذلك...
قال " المسألة الثانية: الحق أنه لا يجوز تخصيص العموم بمذهب الراوي.
وهو قول الشافعي -رضي الله عنه- لأنه قال: إن كان الراوي حمل الخبر على أحد محمليْه صرت إلى قوله، وإن ترك الظاهر لم أصر إلى قوله …. وذلك لأنه ـ الراوي ـ خالفه بدليل ظنه أقوى منه: إما خبر محتمل أو قياس. وذلك الظن يحتمل أن يكون خطأ، ويحتمل أن يكون صوابا.
__________
(1) الإحكام للآمدي 2/411.(1/136)
وإذا تعارضت الاحتمالات في مخالفة الراوي، وجب تساقطها والرجوع إلى العموم "(1). أي أن الحديث المروي، إن كان يحتمل معنيين كأن يكون مشتركا لفظيا، فحمله الراوي على أحدهما، فحمله مقبول لأنه من قبيل التفسير، والصحابي الذي عاصر التنزيل والوحي أعلم وأدرى من غيره بمرامي الكلام ومعانيه. ولأنه على فرض تساوي الدلالتين فإن إحداهما تترجح بعمل الصحابي.
وأما إن كان فعل الصحابي مخالفا للعموم، فانه يكون اجتهادا ظنيا مرجوحا في مقابل دلالة العموم الراجحة، فلا يترك الظاهر لظن مرجوح، وبعبارة الرازي فإن اجتهاده يحتمل الخطأ والصواب، ولا دليل أو مرجحة لأحدهما، فيتساقط، ويبقى العموم على عمومه.
وهو ما رجحه الشاطبي بدليل أن ظاهر العموم حجة شرعية يجب العمل بها باتفاق القائلين بالعموم، ومذهب الصحابي ليس حجة شرعية على التحقيق، فلا يجوز ترك العموم به. ونسبه للشافعي في الجديد ولأكثر الفقهاء والأصوليين(2).
ويضاف إلى ما سبق أنه يجب اعتقاد العموم في قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأنه حجة على من يخالفه ولا يلزمنا التحري عن قول المخالف من أين أخذه، وما سبب مخالفته، حتى ولو كان صحابيا.
"وخلاف من ليس بمعصوم عن الخطأ لا يقابل قول من هو معصوم عن الخطأ "وعلى ذلك ترد فتوى ابن عباس " أن المرتدة لا تقتل " ولا يجوز تخصيص عموم الحديث الثابت في وجوب قتل المرتد مطلقا، رجلا كان أو امرأة وهو { من بدل دينه فاقتلوه } (3).
الدليل السابع: التأويل بدليل " المفهوم "
لا خلاف بين العلماء القائلين باعتبار العموم والمفهوم حجة شرعية، في جواز تخصيص العموم وتأويله بدليل المفهوم.
__________
(1) المحصول 3/128.
(2) الموافقات 3/270
(3) انظر: السمعاني أبو بكر محمد بن منصور : قواطع الأدلة ص309، والحديث أخرجه البخاري انظر: صحيح البخاري بشرح العسقلاني 6/149.(1/137)
وذكروا له مثالا وهو ورود نص يوجب الزكاة في الأغنام مطلقا وهو قوله - صلى الله عليه وسلم - { في أربعين شاة شاة } (1) فإنه يدل بظاهره و عمومه على وجوب الزكاة في كل الأغنام معلوفة، كانت أم سائمة، ثم جاء عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ما يفيد أن الزكاة هي في الغنم السائمة(2)
فيدل بمفهومه على أن الغنم المعلوفة لا تجب فيها الزكاة، وهذا الحكم وهو" عدم وجوب الزكاة في الأغنام المعلوفة " فيه تأويل وتخصيص للحكم المستفاد من الحديث الأول الذي يوجب الزكاة في كل الأغنام.
وهذا الاستدلال قوي ومتجه، لأن من المتفق عليه أن الخاص يقدم على العام، والمفهوم دليل خاص في مورده، فوجب أن يكون مخصصا للعموم، لأن دلالته راجحة على دلالة العموم(3).
الدليل الثامن: التأويل بدليل " القواعد الفقهية"
وللقواعد الفقهية تعريفات كثيرة، أوضحها وأجمعها ما اختاره المرحوم الشيخ مصطفى الزرقا وهي:
"أصول فقهية كلية في نصوص موجزة دستورية تتضمن أحكاما تشريعية عامة في الحوادث التي تدخل تحت موضوعها "(4).
والقواعد الفقهية من حيث الشيوع نوعان:
- منها ما يطّرد، ويضبط الفروع الفقهية في جميع أبواب الفقه، ولا يختص بباب دون باب.
- منها ما يقتصر ضبطه واستعماله على باب واحد، وهو المصطلح عليه عند الفقهاء بالضابط الفقهي.
__________
(1) أخرجه بهذا اللفظ الترمذي في سننه 3/8، وهو حديث صحيح، انظر: نصب الراية 2/355.
(2) انظر: صحيح البخاري بشرح العسقلاني 3/317.
(3) الإحكام للآمدي 4/419-420.
(4) المدخل الفقهي العام 2/941، وانظر: شرح مختصر الروضة 1/120.(1/138)
وأما من حيث اعتبارها وقبولها: فغالبها متفق على مضمونه عند الفقهاء، كالقواعد الكلية الست الكبرى وهي: قاعدة: إنما الأعمال بالنيات أو الأمور بمقاصدها، وقاعدة: اليقين لا يزول بالشك، وقاعدة: المشقة تجلب التيسير، وقاعدة: لا ضرر ولا ضرار أو الضرر يزال، وقاعدة: العادة محكمة، وقاعدة: إعمال الكلام أولى من إهماله. وأكثر القواعد الأخرى متفق عليها بين أكثرهم.
وهذه القواعد الكبرى يتفرع منها، ويندرج تحتها كثير من القواعد الأخرى، كقاعدة " لا ينكر تغير الأحكام الاجتهادية بتغير الأزمان " فهي مندرجة تحت قاعدة " العادة محكمة "(1).
حجية القواعد الفقهية
والتأويل بدليل " القواعد الفقهية"، ينبني على القول بأنها أدلة شرعية، وقد وقع خلاف بين الأصوليين هل هي أدلة شرعية مستقلة بنفسها وحينها فيجوز الاستدلال بها؟ أم أنها راجعة إلى المصادر الشرعية الأربعة المعتبرة ؟
والحق أن الخلاف فيها ليس حقيقيا، لأنه حتى الفقهاء الذين لم يجعلوها أدلة مستقلة استدلوا بها في فروعهم الفقهية(2).
ويتضح وجه الصواب فيها إذا علمنا مصادر هذه القواعد وأدلة حجيتها وما ثبتت به. والصحيح أن غالب هذه القواعد ثبتت بالكتاب أو السنة أو الإجماع، وما لم يثبت بهذه الطرق ثبت بالاستقراء التام أو الناقص وكلاهما حجة على ما سأبينه.
ومثال ما ثبت بالقرآن " وجوب الوفاء بكل عقد مشروع واحترام ما يلتزم به الإنسان مع الناس " أخذت من قوله تعالى { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ } (المائدة-1).
__________
(1) محمد صدقي بن أحمد البورنو أبو الحارث الغزي: موسوعة القواعد الفقهية 1/32-35.
(2) المحصول 6/161.(1/139)
ومثال ما ثبت بالسنة قاعدة " لا ضرر ولا ضرار"(1) وهي بذاتها نص حديث يحرم الضرر بكل أشكاله ويوجب إزالته، ومثلها أيضا قاعدة " كل مسكر حرام "(2)
وهو أيضاً نص حديث يجعل الإسكار علة مطردة يحرم بها كل مسكر من عنب أو غيره مائع أو جامد نباتي أو حيواني أو مصنوع "(3).
ومثال ما ثبت بالإجماع قاعدة " لا اجتهاد في مورد النص "وهي تفيد تحريم الاجتهاد في حكم مسألة، ورد فيها نص من الكتاب أو السنة، أو انعقد عليه الإجماع.
وإذا كان ذلك كذلك، فكيف لا يجوز اعتبارها دليلا شرعيا يستدل به على الأحكام والمسائل؟،" فإذا كانت القاعدة نصا قرآنيا أو حديثا نبويا فهي قبل أن تكون قاعدة أو تجري مجرى القواعد، فهي دليل شرعي بالاتفاق، فهل إذا جرى النص القرآني مجرى القاعدة خرج عن كونه دليلا شرعيا معمولا به"(4)؟.
فلا خلاف إذن، أن القواعد الفقهية التي ثبت أن مصدرها الكتاب أو السنة أو الإجماع أنها حجة، وإذا تقرر ذلك جاز تأويل النص العام بها وتخصيصه بها، لأنه في الحقيقة من قبيل تخصيص النصوص ببعضها، لأن الأدلة الشرعية التي هي مصدر هذه القواعد هي المخصصة في الحقيقة.
ويبقى النظر في القواعد التي ثبتت عن طريق الاستقراء بقسميه التام أو الناقص، وهو مبني على حجية الاستقراء. وقبل بيان حجية الاستقراء لا بد من تعريفه وبيان معناه باختصار، قال الشنقيطي في نشر البنود " والاستقراء: هو أن يستدل بإثبات الحكم للجزئيات ـ الحاصل تتبع حالها ـ على ثبوته للكلي بتلك الجزئيات، و بواسطة ثبوته للكلي بهذا الطريق، يثبت للصورة المخصوصة المتنازع فيها"(5).
__________
(1) رواه أحمد (1/313) وغيره، وصححه الألباني، انظر: السلسلة الصحيحة 1/2/498.
(2) صحيح مسلم بشرح النووي 14/170.
(3) موسوعة القواعد الفقهية 1/38.
(4) نفس المصدر 1/46.
(5) نشر البنود 2/251.(1/140)
أي هو تتبع جزئيات ومسائل فقهية عديدة لاستنباط معنى معين منها تواردت عليه عموماتها وظواهرها، فإذا ثبت تواردها على ذلك النحو، صار ذلك المعنى قاعدة أو ضابطا يصح أن يستدل به على مسألة محل خلاف.
وأما حجية هذا الاستقراء فالمستخلص من أقوال الأصوليين أنه حجة قطعية في إثبات الحكم في صورة النزاع عند الأكثر(1).
والرازي في المحصول، وان صرح بأنه لا يفيد اليقين، ولا يفيد الظن إلا بدليل منفصل إلا أن فروع الشافعية -كما ذكر بنفسه- تطبق على أنهم يعتبرونه حجة، ويستدلون به على مسائلهم(2).
وقد قطع القرافي في تنقيح الفصول -على ما ذكره عنه صاحب نشر البنود- بأن الاستقراء يفيد الظن، وأن هذا الظن حجة عند المالكية وعند سائر الفقهاء(3).
وقد بنى الأصوليون الذين قالوا بإفادته للظن دون اليقين، بنوا رأيهم على أن الاستقراء ناقص، وأنه لا يكون كاملا ولا أغلبيا.
والصحيح هو ما حققه الإمام الشاطبي رحمه الله، وهو أنه حتى، ولو كانت هذه القواعد أكثرية لا كلية، بمعنى أنه يمكن أن يتخلف عن مقتضاها بعض الجزئيات، فإن هذا الاستثناء غير قادح في كلية أو عموم تلك القواعد، وبالتالي غير قادح في قطعيتها. "وذلك انه لما كان مقصد الشارع ضبط الخلق إلى القواعد العامة، وكانت القواعد التي جرت بها سنة الله أكثرية لا عامة، وكانت الشريعة موضوعة على مقتضى ذلك الوضع، كان الأمر الملتفت إليه إجراء القواعد على العموم العادي، لا العموم الكلي العام الذي لا يتخلف عنه جزئي ما "(4).
__________
(1) نفس المصدر 2/251.
(2) المحصول 6/161.
(3) نشر البنود 2/252.
(4) الموافقات 3/265.(1/141)
هذا إضافة إلى أن الأمور بغالبها، والغالب الأكثري معتبر في الشريعة اعتبار القطعي، فالكليات الاستقرائية صحيحة، وإن تخلف عن مقتضاها بعض الجزئيات كما يقول الشاطبي(1). ومضامين هذه القواعد ثبتت بالتواتر المعنوي، حيث تواردت ظواهر نصوص جزئية كثيرة على معانيها فرفعتها – لمجموعها – من الظن إلى القطع.
ويشرح ذلك الشاطبي فيقول "العمومات إذا اتحد معناها، وانتشرت في أبواب الشريعة أو تكررت في مواطن بحسب الحاجة من غير تخصيص، فهي مجراة على عمومها على كل حال …" ومثل لذلك بقاعدة " لا ضرر ولا ضرار " وقال " فهو جار على عمومه"(2).
ثم أكد أن كل أصل تكرر تقريره، وتأكد أمره، وفهم ذلك من مجاري الكلام فهو مأخوذ على حسب عمومه. لأن ما حصل فيه التكرار والتأكيد والانتشار في أبواب الفقه، صار ظاهره، باحتفاف القرائن به إلى منزلة النص القاطع الذي لا احتمال فيه، بخلاف ما لم يكن كذلك، فانه معرض لاحتمالات، فيجب التوقف في القطع بمقتضاه حتى يعرض على غيره ويبحث عن وجود معارض فيه(3). وفي موضع آخر بين أن القواعد هي عامة مطلقة مقطوع بها وغير محتملة(4). وعليه فإنه يجوز تأويل النصوص بها- وهو كتأويل النصوص ببعضها البعض.
الدليل التاسع: التأويل بدليل العرف
العرف: هو عادة الجماعة، أو هو: عادة جمهور قوم في قول أو فعل.
ويستفاد من التعريف أن العرف نوع من العادة، وأنه قد اعتاده أكثر القوم في مكان جريانه، وانه ينقسم إلى عرف لفظي وعرف عملي، هذا من جهة.
ومن جهة أخرى ينقسم العرف باعتبار شيوعه إلى:
- عرف عام: وهو الذي يكون فاشيا في جميع البلاد بين جميع الناس أو غالبهم في أمر من الأمور، مثل جريان عادة غالب الناس في تأجيل جانب من مهور النساء في البلاد الإسلامية.
__________
(1) نفس المصدر 2/53.
(2) الموافقات 3/306، بتصرف يسير.
(3) نفس المصدر 3/306-307.
(4) نفس المصدر 3/261.(1/142)
- عرف خاص: وهو الذي يكون مخصوصا ببلد أو مكان دون آخر، أو بين فئة من الناس دون أخرى، كعرف التجار في بعض البلاد أن يكون ثمن البضائع المبيعة بالجملة مقسطا إلى عدد معلوم من الأقساط(1).
وباعتبار زمني، يقسم إلى:
- عرف مقارن لعصر التشريع.
- عرف حادث بعد عصر التشريع والوحي.
والقصد من البحث هنا، معرفة مدى سلطان العرف بأقسامه المختلفة في تأويل النصوص الشرعية وصرف حكمها الذي أفادته عن ظاهره تخصيصا أو تقييدا … الخ.
وبتتبع أقوال الفقهاء وأمثلتهم التي ساقوها كدليل على اعتبار العرف وتخصيص النصوص به، يتبين أن النصوص والألفاظ التي يخصصونها بالعرف نوعان:
- نصوص الشارع الحكيم من القرآن والسنة، وهي التي تُنشئ الأحكام الشرعية ابتداء، وتأويلها بالعرف له قواعد وشروط سيأتي تفصيلها بإذن الله.
- "ونصوص " أخرى هي ألفاظ المكلفين التي ينشئون بها التزامات شرعية ومدنية، ما كانت لازمة لهم أصلا، كاليمين والنذر، والطلاق والعتاق والوصية والوقف والإقرار.
وهذه لها قواعد وشروط غير تلك، فتلك نصوص وحي ثابتة انقضى وقت تنزلها فلا يلحقها نسخ ولا تبديل، و إنما يحمل معناها على العرف اللغوي السائد في عصر تنزلها فحسب.
وهذه ألفاظ " ونصوص " مكلفين، حادثة بعد عصر التشريع، ومتغيرة بتغير لغات المكلفين وأعرافهم وبيئاتهم وعاداتهم. ومن الطبيعي أن تحمل ألفاظهم ونصوصهم على ما يريدونه وما يعنونه حسب عادتهم في التخاطب والكلام. فهو من باب تحقيق المناط وإنزال النصوص على محلها الصحيح لا من قبيل تأويل النصوص الشرعية بالأعراف وتخصيصها بها.
__________
(1) انظر: المدخل الفقهي العام 2/831-846، نشر العرف فيما بني من الأحكام على العرف، لابن عابدين ضمن مجموعة رسائله 2/112-130، ابن نجيم زين الدين بن إبراهيم بن محمد الحنفي : الأشباه والنظائر ص93.(1/143)
ومن هنا يتبين القدر الهائل من الخلط ـ بقصد أو لقلة التحقيق الذي وقع ويقع فيه كثير من الكاتبين والمفكرين الذين يكتبون في موضوعات تجديد الفكر الإسلامي وتجديد التراث ليكون ملائما للعصر الحاضر ومتطلباته.
وهذا الخلط آت من إسقاطهم للقواعد التي تحكم ارتباط نصوص المكلفين بالعرف المتغير -وهي غالب ما ذكره الفقهاء من قواعد ومقولات وأمثلة في العرف- إسقاطها على نصوص الشرع -قرآنا وسنة- فخرجوا بنتائج عجيبة حاصلها أن الأحكام الشرعية متغيرة تبعا لعرف المكلفين وعادتهم، وأن الفتوى تتغير بتغير الزمان والمكان، وهي كلمة حق أريد بها في هذا الزمان كثير من الباطل، وما علم أولئك " المجتهدون " معناها الصحيح ولا مكانها، ولو راموا الحق واجهدوا أنفسهم قليلا، لعلموا أنها قاعدة تحكم ألفاظ المكلفين ونصوصهم حيث ينشئون التزاماتهم، وأنه لم يقل أحد، والحمد لله، أنها تسري على ألفاظ الوحي الذي مضى، وانقضى، ولا يلحقه نسخ ولا تبديل.
يُعرف ذلك بأدنى ـ تأمل للأمثلة التي ساقها الفقهاء في هذا الباب وكلها تأتي في مسائل الأيمان والنذور والطلاق والعتاق والوصايا والوقف والإقرار(1).
وهي التزامات ينشئها المكلف.
وهذا النوع: أعني تأويل " نصوص"المكلفين وألفاظهم بالعرف، ليس هو المقصود بالبحث إلا أن إفاضة البيان فيه ضرورية لإزالة اللبس ونفي الخلط، ولأجل التمييز بين القواعد التي تحكم كلا النوعين من النصوص.
وبعد هذه المقدمة الضرورية آتي على تفصيل ما أجملت.
فكما سبق وقلت بأن العرف ينقسم باعتبار حقيقته إلى عرف لفظي وعرف عملي، فأما العرف اللفظي: فهو أن يشيع بين الناس استعمال بعض الألفاظ أو التراكيب في معنى معين، بحيث يصبح ذلك المعنى هو المفهوم المتبادر منها إلى أذهانهم عند الإطلاق" بلا قرينة " أي يصبح " ظاهرا " حسب اصطلاح الأصوليين.
__________
(1) انظر: نشر العرف 2/114، من مجموعة رسائل ابن عابدين.(1/144)
"وذلك كاستعمال الدراهم بمعنى النقود الرائجة في البلد، مهما كان نوعها وقيمتها، حتى الورق النقدي اليوم، مع أن الدراهم في الأصل نقد فضي مسكوك بوزن معين وقيمة محددة"(1).
وأما العرف العملي. فهو: كاعتبار الناس على شيء من الأفعال العادية كتعطيلهم بعض أيام الأسبوع، كاعتبارهم أكل نوع خاص من اللحوم كالضأن أو المعز أو البقر، أو من المعاملات المدنية: كاعتبارهم في بعض الأشياء الثقيلة مثل الحطب والفحم والقمح أن تكون حمولتها إلى بيت المشتري على البائع(2).
سلطان العرف اللفظي والعملي المقارن لألفاظ المكلفين وعقودهم والتزاماتهم:
"النظر الفقهي في حكم هذا العرف اللفظي ومدى سلطانه أن كل متكلم يحمل كلامه على لغته وعرفه، فينصرف إلى المعاني المقصودة بالعرف حين التكلم، وان خالفت المعاني الحقيقية التي وضع لها اللفظ في أصل اللغة "(3).
ومثال العرف اللفظي: بيع الثمار على أشجارها بلفظ " التضمين والضمان " في البلاد الشامية في العصر الحاضر لأنه العرف اللفظي السائد اليوم بين أهل البساتين فيقول البائع: ضمنتك. ويقول المشتري: ضمنت. مع أن التضمين والضمان في لسان الشرع معناهما الإلزام والالتزام بقيمة المتلفات ونحوها. إلا أن العرف الطارئ قد نقل هذه اللفظة إلى معان أخرى، صارت هي الحقيقة العرفية المقصودة باللفظ مقابل الحقيقة اللغوية.
فلو صرف الكلام إلى حقيقته اللغوية دون العرفية التي هي معناه في عرف المتكلم، لترتب عليه إلزام المتكلم في عقوده وإقراره وحلفه وطلاقه وسائر تصرفاته القولية، بما لا يعنيه هو ولا يفهمه الناس من كلامه.
__________
(1) المدخل الفقهي العام 2/842-843، نشر العرف 2/113.
(2) انظر: المدخل الفقهي العام 2/844-845، نشر العرف 2/112، ولابد من التنويه أني استفدت هذا التقسيم لمبحث العرف من مدخل الزرقا – رحمه الله.
(3) المدخل الفقهي العام 2/849، نشر العرف 2/131،136.(1/145)
ومن هنا جاءت القاعدة " يحمل كلام الحالف والناذر والموصي والواقف وكل عاقد على لغته وعرفه، وإن خالف كلام العرب وكلام الشارع "(1). وذلك لأن حمل لفظه ونصه على أصله اللغوي ومعناه الشرعي وهو لم يرده ولم يعنيه بل لم يخطر على باله إلزام له بما لا يلزمه ولم يلتزمه. وعلى ضوء هذا تفهم القاعدة السابقة.
ومن خلال تحليل المثال السابق أصوليا يتبين لنا أن الحكم الشرعي للضمان باق لم يتغير بتغير العرف، وهو وجوب ضمان المتلف أو قيمته، بغض النظر عن الزمان والمكان والأحوال والعوائد، فهو حكم مطلق غير مقيد بشيء من هذه المتغيرات.
وإنما الذي تغير هو الدلالة اللغوية للفظة الضمان، فتوسع استخدامها لتعني بيع الثمار. مع بقاء معناها اللغوي والشرعي الأصلي. وبعبارة أخرى أن الذي تغير هو مناط الحكم ومحله، فأصبح حكم الضمان المعلوم شرعا لا ينطبق على ما صار يسمى " ضمانا " في العرف الحاضر، لأن حقيقة كل منهما تختلف عن الأخرى، فالأول هو بدل المتلف، والثاني بمعنى البيع أو الكراء.
على أن تغير مناط الحكم لم ينسخ أو يبدل أو يغيِّر الحكم الأصلي الشرعي للضمان، وكل ما في الأمر أن " التضمين" المعاصر أصبح يدخل تحت مسمى آخر هو البيع، لا تحت الضمان الشرعي الذي تكلم عنه الفقهاء في مصنفاتهم.
فهل يصح أو يعقل أن يقال بعد هذا أن حكم الضمان قد تغير بتغير الزمان ؟ وهذا التحليل يسري على عشرات الأمثلة التي يذكرها الفقهاء في البناء على العرف. وهي كلها تظهر أن العرف هو مناط الأحكام ومحلها لا مصدرها، وكيف يكون محل الحكم مصدرا له؟
فالعبرة دائما هي للمعنى العرفي حين التكلم، وحسب ما يعنيه اللفظ عند المخاطبين تثبت الأحكام والالتزامات الشرعية وفقه وعلى ومقتضاه(2).
__________
(1) انظر: المدخل الفقهي العام 2/849، نشر العرف 2/133،144، الأشباه والنظائر لابن نجيم ص101.
(2) انظر: نشر العرف 2/131، الأشباه والنظائر لابن نجيم 2/131.(1/146)
ومن هنا تتبين جناية بعض "أدعياء الاجتهاد" الجدد، حين يحملون كلام الشارع الذي خاطب به العرب قبل أربعة عشر قرنا ـ وكان للمفردات والتراكيب اللغوية إذ ذاك معان تعارفوا عليها حسب لسان العرب ـ حين يحملونها على ما استحدثوا من اصطلاحات لفظية.
ثم راحوا يستنبطون من هذا المثال وأضرابه قواعد حاصلها أن الأحكام الشرعية تتغير وفق العرف والعادة.
ولأجل إيضاح هذا المعنى يقول ابن عابدين في رسالته نشر العرف في ابتناء بعض الأحكام على العرف " لغة هذا الزمان الملحونة صارت لغة أخرى لا يقصدون غيرها، فحمل كلامهم على غير لغتهم صرف له إلى غير معناه، ولا يجب مراعاة الألفاظ اللغوية والقواعد العربية إلا في القرآن والحديث "(1).
ومعنى كلامه أنه حين يقول مزارع لآخر في بعض البلاد الشامية مثلا: ضمنتك أرضي فيقول الآخر قبلت. إنه يجب حمل معنى الضمان على لغتهم ومرادهم وإن خالفت اللغة ومدلولاتها،
فمراد المزارع هنا أكريتك الأرض مزارعة، وليس مراده ألزمتك بدل إتلافها. كما هو المفهوم الشرعي للضمان. فهل هذا تغيير لحكم الضمان لتغير العرف ؟
ثم إنه نبه إلى أن الألفاظ اللغوية والقواعد العربية يجب مراعاتها عند تفسير القرآن والحديث. فمعنى اعتبار الحقيقة العرفية وتقديمها على الحقيقة اللغوية والحقيقة الشرعية ـ كما في مثال التضمين السابق ـ لا يفهم منه إطلاقا تقديم أحكام العرف السائد اجتماعية كانت أم سياسية أم اقتصادية على أحكام الشرع.
فالمسألة كما قال ابن تيمية ليست في جوهرها إلا مسألة لغوية(2)، وهي من باب تحقيق المناط، أي الكشف عن مراد المتكلم من كلامه، وتنزيل الحكم الشرعي ـ كما هو ـ على ما أراده ذلك المتكلم والتزم به(3).
__________
(1) نفس المصدر 2/137.
(2) انظر: المسودة ص123.
(3) وتحقيق المناط هو: إثبات الحكم بمدركه الشرعي، ولكن يبقى النظر في تعيين محله، الموافقات 4/89.(1/147)
وليس في ذلك ما يخالف الشريعة في شيء، ولا هو من قبيل تخصيص اللفظ العام بالعرف القولي، فلا ينبني عليه القول بجواز تخصيص نصوص الكتاب والسنة بأعراف الناس القولية، ذلك لأن اللفظ العربي الذي جاء به الكتاب والسنة باق على معناه الأصلي حين النزول، و إنما يطَّبق وينزَّل على مسألة أو واقع إذا عناه المكلف وقصده بكلامه، وهذا في الالتزامات الناشئة عن ألفاظه.
وهذا ما نبه إليه الشاطبي حين أكد أن اختلاف الأحكام لاختلاف العوائد ليس اختلافا في أصل الخطاب(1)، وابنُ عابدين حين جعله اختلاف عصر ومكان لا اختلاف حجة وبرهان"(2).
والآن فقد بات واضحا من عبارات الفقهاء وأمثلتهم التي ساقوها في أثر العرف أن كلامهم لا يدور عن نصوص الكتاب والسنة، كلا بل عن تعبيرات المكلفين وألفاظهم في إنشاء بعض العقود والالتزامات كالحلف والإقرار والوصية… يدل على ذلك قول ابن عابدين في العرف اللفظي هو حمل كلام " الناس " في عقودهم والتزاماتهم عليها أي على اللغة الجديدة، وقوله" يحمل كلام الحالف والناذر والموصي والواقف وكل عاقد على لغته وعرفه"، وقوله" الواجب حمل كلام كل عاقد على عادته، وإن خالفت لغة العرب والشارع، وإلا صرف لفظه إلى معنى لم يخطر بباله "(3).
فمن العدل والعقل أن يحمل كلام المكلف في مكان ما وزمان ما على ما يعنيه ذلك المكلف بكلامه. أما حمل كلامه وألفاظه على معان لم يعنيها ولم تخطر بباله، فذلك إلزام له بما لا يلزمه وهو تكليف بالمحال. تماما كما يحمل كلام المتكلم بلغة أعجمية على ما يعنيه الكلام بلغته هو، ولا يقال إن في ذلك تخصيصا لكلام الشارع وتأويلا له بالعرف القولي. لأن الكلام هنا يدور عن عبارات المكلفين وألفاظهم لا نصوص الشارع.
__________
(1) نفس المصدر 2/285.
(2) نشر العرف 2/124.
(3) نفس المصدر 2/145.(1/148)
وبما أن أعراف الناس القولية واصطلاحاتهم متغايرة حسب المكان والزمان والبيئة، ذهب الفقهاء إلى تغير الفتوى بحسب تلك المتغيرات، وليس هو تغير للأحكام إنما هو مطابقة الحكم لواقعه الصحيح.
وهو الذي عناه ابن القيم بـ"تغير الفتوى واختلافها بتغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والعوائد "(1).
ومثله ابن عابدين في رسالته نشر العرف كما اتضح من عباراته، ومثلهما القرافي أيضا في الفروق حين قال " بأن العوائد عندنا مخصصة للعموم، وبأن العرف القولي يقضي به على الألفاظ ويخصصها "(2).
أي أن العرف اللفظي يخصص عموم الألفاظ التي قيلت في عهده وإبانه، لأنها اصطلاح خاص نشأ في ذلك العرف، فلا يخصص العرف اللفظي الحادث نصوص الكتاب والسنة لأنها جاءت قبله.
وتحت هذا المعنى ـ نصوص وألفاظ المكلفين مقيدة بعرفها ـ تدخل أغلب القواعد الفقهية التي نصت على اعتبار العرف مثل: الإقرار يحمل على العرف لا على دقائق العربية "(3)3).
وألفاظ الواقفين تبنى على عرفهم "(4) و " الأيمان تبنى على العرف "(5) و " الايمان تبنى على العرف في كل موضع "(6) و " والعادة محكمة "(7) و "التعيين بالعرف كالتعيين بالنص "(8)….الخ.
وغني عن البيان أن الإقرار والأيمان والوقف التزامات مكلفين. والمعنى في القاعدة الأخيرة أن المكلف إذا أنشأ التزاما من الالتزامات المذكورة بلفظ عام رجع في بيان معناه إلى عرفه هو لا العرف السابق ولا اللاحق هذا كله في العرف اللفظي.
أما العرف العملي:
__________
(1) إعلام الموقعين 3/1.
(2) الفروق للقرافي 1/171.
(3) موسوعة القواعد الفقهية 2/245.
(4) نفس المصدر 2/263.
(5) نفس المصدر 2/312،341.
(6) نفس المصدر 1/410.
(7) نفس المصدر 3/236.
(8) نفس المصدر 2/344.(1/149)
فمثاله " ما لو كانت عادة قوم أن يأكلوا لحم الغنم، فحلف أحدهم: أن لا يأكل لحما " فإن يمينه تنصرف إلى اللحم المعتاد أكله بينهم دون سواه، فإذا أكل لحم البقر أو الإبل أو السمك فإنه لا يحنث فلا تلزمه كفارة يمينه، وان كان ذلك يسمى لحما في لغة الحالف"(1).
ذلك لأن العرف العملي يقيد إطلاق اللفظ، ويصرف اليمين إلى المعتاد كالعرف اللفظي، وما يصدق على العرف اللفظي يصدق هنا، وما قيل هناك يقال هنا، فنحن إن ألزمناه بالحنث نكون قد ألزمناه بما لم يلتزم، ولم يخطر على باله، ولو كانت عادتهم أن يأكلوا لحم الإبل لانصرف اليمين إليه، ولم يحنث حينئذ بأكل غيره. وهذا معنى تغير الفتوى لتغير الحال. ومثله سائر المتغيرات من الزمان والمكان.
فالحكم الشرعي هو واحد لم يتغير وهو: أن الحالف يحنث إذا لم يف أو يبر بما عناه وقصده، و إنما الذي تغير هو مناط الحكم ومحله، وهو الذي يؤثر في تغير الفتوى وليس الحكم(2).
فالعرف العملي ـ على الراجح من أقوال أهل الأصول ـ له اعتباره، تماما كالعرف اللفظي، خلافا لما ذهب إليه الإمام القرافي. وله سلطان في تخصيص الألفاظ، ومن ثم تقييد آثار العقود والالتزامات الناشئة عنها، وفق شروط ستأتي، أبرزها أن لا يصادم نصا شرعيا(3).
__________
(1) انظر: نشر العرف 2/112، المدخل الفقهي العام 2/855.
(2) انظر:المسودة 124، الإحكام للآمدي 2/411، المحصول 3/131-132، وانظر فصلاً فريداً عقده الشاطبي في الموافقات في حمل الكلام على المعنى المعتاد وهو ما يسميه بالعموم العادي 3/268-392.
(3) المدخل الفقهي العام 2/854.(1/150)
ومثال آخر على اعتبار سلطان العرف العملي، وبيان أنه لا يعدو ما يسميه الأصوليون تحقيق المناط، ما لو استأجر شخص دابة للحمل، فانه له تحميلها النوع والقدر المعتاد مما لا ضرر منه عليها، فليس له أن يحملها أكثر من طاقتها المعتادة مطلقا، ولا أن يحملها الأشياء الثقيلة كالحديد والأحجار، إلا أن يأذن المؤجر، وعندئذ يتقيد من حيث المقدار أيضا بطاقتها المعتادة، وإلا كان ضامنا للدابة إذا تلفت، إذ يعتبر متعديا(1).
فالحكم الشرعي في الانتفاع بالعين المستأجرة على الوجه المعتاد، هو واحد وباق لم يتغير حسب الزمان والمكان ـ وهو الجواز. أما كون ذلك المستأجر. ينتفع بها على الوجه المعتاد أم يتعدى، فهذا يحتاج إلى تحقيق مناط لمعرفة قدر ونوعية " الوجه المعتاد " وغني عن البيان أن هذا يختلف أحيانا بحسب الزمان والمكان بل والدابة ذاتها.
فلا يقال إن هذا الاختلاف هو دليل على اختلاف الأحكام باختلاف المكان والزمان. والمعنى الذي ذكرته هو مراد الفقهاء من قولهم " لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان "وهو لا علاقة له قطعيا بنصوص الوحي من كتاب وسنة.
شروط اعتبار العرف ( المخصِّص لألفاظ المكلفين )
لا بد للعرف حتى يكون معتبرا وله سلطان في تقييد الألفاظ وتخصيصها من شروط، أوجزها المرحوم الشيخ مصطفى الزرقا(2) في أربعة شروط، استقاها من أقوال الفقهاء والأصوليين وهي:
الأول: أن يكون العرف مطردا
أي أن يكون ساريا في جميع الحوادث بلا تخلف، أو على الأقل في غالبها، ومقتضاه أنه لا عبرة للعرف النادر أي غير الشائع.
الثاني: أن يكون العرف المراد تحكيمه في التصرفات قائما عند إنشائها.
__________
(1) نفس المصدر 2/856.
(2) انظر: المدخل الفقهي العام 2/869-879، الأشباه والنظائر لابن نجيم 1/94.(1/151)
فالعرف إنما يعمل فيما يوجد بعده، لا فيما مضى قبله. والعرف الحاكم في أمر من الأمور بين الناس، يجب أن يكون موجودا عند هذا الأمر، ليصح حمله عليه، وهذا احتراز عن العرف الحادث فإنه لا عبرة له بالنسبة إلى الماضي، ولا يحكم فيه.
يقول العلامة ابن نجيم الحنفي " العرف الذي تحمل عليه الألفاظ إنما هو المقارن السابق دون المتأخر، ولذلك قالوا لا عبرة بالعرف الطارئ "(1).
ومثل ذلك يقال في نصوص الشارع أيضا، فالنصوص التشريعية يجب أن تفهم بحسب مدلولاتها اللغوية والعرفية في عصر صدور النص، لأنها هي مراد الشارع، ولا عبرة لتبدل مفاهيم الألفاظ في الأعراف الزمنية المتأخرة، وإلا لم يستقر للنص التشريعي معنى.
فلفظ " في سبيل الله " من آية مصارف الزكاة كان له معنى عرفي عند نزول النص وهو مصالح الجهاد الشرعي ـ أو سبل الخيرات مطلقا على خلاف بين العلماء في ذلك.
ومثله لفظ "وَاِبْنِ السَّبِيلِ" ( سورة التوبة-61) من الآية نفسها كان له معنى عرفي إذ ذاك وهو الذي انقطعت به السبل في السفر، ولم يستطع العودة إلى أهله.
فإذا تبدل عرف الناس في شيء من هذه التعابير، فأصبح معنى " في سبيل الله " تعني طلب العلم خاصة، وأصبح معنى ـ ابن السبيل ـ " الطفل اللقيط الذي لا يعرف له أهل، فان النص التشريعي يظل محمولا على معناه العرفي الأول عند صدوره، ومعمولا به بعد ورود النص مطلقا(2).
ويقول الإمام القرافي " دلالة العرف مقدمة على دلالة اللغة، لأن العرف ناسخ للغة، والناسخ يقدم على المنسوخ، فكما أن عقد البيع يحمل فيه الثمن على النقود المعتادة ولا عبرة في هذا البيع لتبدل العادات بعده في النقود، كذلك نصوص الشريعة لا يؤثر فيها إلا ما قارنها من العادات "(3).
__________
(1) الأشباه والنظائر لابن نجيم1/101.
(2) انظر: المدخل الفقهي العام 2/873.
(3) الفروق 1/173، والأشباه والنظائر لابن نجيم 1/97.(1/152)
وفي العرف العملي أيضا إنما يعتبر في كل تصرف من الأعراف المؤثرة فيه ما كان موجودا عند ذلك التصرف دون الحادث بعده. وهذا الشرط قد زدته بيانا وجلاءً في الصفحات السابقة.
الثالث: أن لا يعارض العرف تصريح بخلافه
فإذا سكت العاقدان عن الأمر المتعارف، ولم يشترطاه، اعتبر واقعا منهما، اعتمادا على العرف الجاري.
وهذا معنى القاعدة التي تقول " المعروف عرفا كالمشروط شرطا ". إلا إذا صرحا في العقد بخلافه فإن العرف يلغى، فالعرف يكون حجة إذا لم يكن مخالفا لنص أو شرط أحد العاقدين(1).
فلو استعار شخص دابة للركوب أو للتحميل يعتبر مأذونا بركوبها أو بتحميلها القدر المعتاد في أمثالها عرفا، ولكن لو نهاه المعير صراحة عن ركوبها أكثر من مدة أو عن تحميلها أكثر من مقدار وحددها له، فلا يجوز للمستعير أن يزيد عليه، فان زاد كان متعديا في حكم الغاصب.
وإذا كان من شرط اعتبار العرف المقارن لألفاظ المكلفين وعقودهم أن لا ينص المكلفون على إلغائه. فإن نصوا على إلغائه ألغى، كانت الأعراف المقارنة لعصر التشريع أولى بالإلغاء إذا نصت على إلغائها النصوص الشرعية من القرآن والسنة، وأولى منهما بالإلغاء والسقوط وعدم الاعتبار الأعراف الحادثة اللاحقة بعد انقضاء عصر التشريع إذا كانت مخالفة للنصوص الشرعية.
ومن هنا جاءت القواعد الفقهية معبرة عن هذه الحقيقة " العادة معتبرة عند عدم النص بخلافها " والقاعدة: " إنما تعتبر دلالة الحال إذا لم يوجد التنصيص بخلافها " و القاعدة: "إنما يعتبر العرف إذا لم يوجد التصريح بخلافه "(2).
الرابع: أن لا يكون في اعتبار العرف تعطيل لنص ثابت أو لأصل قطعي في الشريعة.
__________
(1) انظر: الأشباه والنظائر لابن نجيم1/99.
(2) موسوعة القواعد الفقهية 2/215، 319، 325.(1/153)
فإذا كان العرف مخالفا لبعض الأدلة الشرعية من نصوص الشريعة أو من قواعدها وأصولها، فالمبدأ العام الذي يستخلص من أقوال الفقهاء الباحثين إجمالا هو انه: إذا ترتب على العمل بالعرف تعطيل لنص شرعي أو أصل قطعي في الشريعة لم يكن عندئذ للعرف اعتبار لأن نص الشارع مقدم على العرف، ولأن التعامل بالعرف حينئذ يكون بخلاف النص " والتعامل بخلاف النص لا يعتبر "(1).
قال ابن عابدين نقلا عن ابن الهمام " لا اعتبار للعرف المخالف للنص، لأن العرف قد يكون على باطل بخلاف النص "(2) ونص على أن العرف إذا خالف النص من كل وجه لا يخصصه ولو كان عاما"(3).
وأما إذا لم يترتب على الأخذ بالعرف هذا تعطيل بل كان العرف مما يمكن تنزيل النص الشرعي عليه أو التوفيق بينهما فالعرف حينئذ معتبر.
وهذا يقودنا إلى الكلام على تعارض العرف والنص، وهو المقصود من هذا المبحث.
تعارض العرف والنص الشرعي (من قرآن وسنة)
"النص الذي يمكن أن يعارضه العرف إما نص خاص وإما عام، ولكل واحد منهما حكمه.
أولا: تعارض العرف والنص الخاص
"إذا تعارف الناس على عمل من الأعمال العادية أو المدنية، وكان الأمر الذي تعارفوه منهيا عنه، وممنوعا بنص خاص -أي بنص وارد من الشارع لمنع هذا الأمر بخصوصه كما كان الجاهليون متعارفين على "التبني" مثلا وإجراء حكم البنوة الحقيقية فيه، فنهى عنه القرآن بخصوصه- فإن هذا العرف عندئذ لا اعتبار له ولا قيمة، فهو عرف مرفوض وباطل، ويجب
تغييره لا إقراره ولا يجوز القضاء به بحال، سواء أكان العرف خاصا أو عاما، وسواء أكان حادثا بعد ورود النص أو قائما من قبل.
وذلك انه لما صادم العرفُ إرادة الشارع الخاصة، في موضوع ما، أصبح الفقيه المكلف بتطبيق الشرع بين أمرين اثنين:
__________
(1) نشر العرف 2/113.
(2) نفس المصدر 2/133.
(3) نفس المصدر 2/114، و انظر: الاشباه والنظائر لابن نجيم 1/96.(1/154)
- إما أن يعمل بالعرف، وهذا إهمال تام لنص الشارع، وذلك لا يسوغ إلا في أحوال الاضطرار الطارئ، لأن الشارع نفسه قد شرع الإهمال المؤقت في الأحوال الاضطرارية.
- وإما أن يعمل بالنص ويهمل العرف، وهذا الذي يجب المصير إليه.
فمن البدهي أن الشريعة إلزامية، ولم تشرع إلا لتنفذ نصوصها وتحترم، فلا يجوز تعطيلها بالتعامل على خلافها، وإلا لم يبق للتشريع معنى "(1). والأعراف منها الحسن ومنها القبيح، والمرجع في تمييز الحسن من القبيح فيها إنما هو أمر الشارع ونهيه، لأنه يزن الأمور من جميع نواحيها.
ولذلك " فما نهى عنه بخصوصه يجب أن يعتبر مضرا بالمجتمع، ولو أنه نافع لفئات أو مئات، ولهذا جاءت الشريعة الإسلامية بالنهي عن كثير من الأعمال والعقود التي كانت متعارفة في الجاهلية بلا نكير.
فحرمت الغزو الداخلي، واستباحة الناس الأموالَ والأعراض به "، كذلك نهى النبي عليه الصلاة والسلام عن عقود كانت متعارفة عند العرب، لانتفاء التراضي الحر ولما فيها من غرر ومشكلات: من ذلك نهيه عن البيع بالمنابذة، والملامسة، و إلقاء الحجر وبيع الملاقيح والمضامين وبيع ضربة القانص والغائص(2).
وكان كل ذلك معروفا، فنهى عنه النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأصبح في الإسلام ممنوعا باطلا، فلو عاود أهل بلد شيئا منه و تعارفوه فلا عبرة لعرفهم.
__________
(1) المدخل الفقهي العام 2/880.
(2) - بيع المنابذة: طرح الرجل ثوبه بالبيع إلى رجل قبل أن ينظر إليه ويقلبه
- بيع الملامسة: لمس الثوب لاينظر إليه.
- بيع المضامين: بيع ما في أصلاب الذكور، والملاقيح ما في بطون الإناث،
- وضربة القانص: أن يقول البائع بعتك ما يخرج من إلقاء هذه الشبكة مرة بكذا.
- وضربة الغائص: أن يقول: أغوص غوصة فما أخرجته من اللآلئ فهو لك بكذا.
- انظر: وهبة الزحيلي : الفقه الإسلامي وأدلته، 4/438-439.(1/155)
"وعلى هذا إذا تعارف الناس في زمان أو مكان تجارة الخمر التي حرمها الإسلام، أو الربا الذي منعه الشرع بنص القرآن الخاص، فلا عبرة لعرفهم، ولا تصح عقودهم فيه بنظر الشرع
الإسلامي، والتعامل اليوم بالخمر والربا، وقضاء المحاكم به في كثير من البلاد الإسلامية إنما يستند إلى القوانين الحديثة(1).
"فالعرف إنما يعمل في حدود الحرية التي تركها الشرع للمكلفين في ميادين الأعمال والالتزامات دون الحالات التي تولى فيها الشارع بنفسه تحديد الأحكام على سبيل الإلزام، وإلا لأمكن أن تقلب الأعراف على الزمن أسس التشريع كلها رأسا على عقب، فتنقرض الشريعة بتاتا، وتصبح أثرا بعد عين.
"فالنص الخاص الآمر هو المعتبر المحترم "ولو صادمه عرف عام، فلا يعتبر أي عرف أو اتفاق على خلافه "(2). ولذلك قال ابن عابدين في رسالته "إن العرف إذا صادم النص من كل وجه فانه لا يخصص النص ولو كان عاما "(3).
استثناء النص العرفي:
ويستثنى من القاعدة السابقة، ما إذا كان النص نفسه حين صدوره عن الشارع مبنيا على عرف قائم، ومعللا به، فان النص عندئذ يكون عرفيا، فيدور حكمه مع العرف، ويتبدل بتبدله.
ومثال ذلك أنه قد ورد النص عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في ستة أصناف من الأموال الربوية، ومنها القمح أنه يجب التساوي في بعضها بالوزن وفي بعضها بالكيل، فذهب جمهور الفقهاء ومنهم أبو حنيفة إلى انه يعتبر في خصوص هذه الأشياء المقياس الذي ورد النص به أبدا، ولا عبرة لتبدل العرف فيه، ففي مبادلة القمح مثلا بالقمح يجب التساوي كيلا لا وزنا، ولو تعارف الناس بيعه بالوزن كما في زماننا اليوم، لأن هذا نص خاص بالمقياس الربوي في هذه الأصناف، فلا يعتبر العرف على خلافه.
__________
(1) انظر: المدخل الفقهي العام 2/881-882.
(2) نفس المصدر 2/513.
(3) نشر العرف 2/114.(1/156)
ولكن ذهب أبو يوسف صاحب أبي حنيفة إلى أن المقياس المعتبر حتى في تلك الأشياء هو المقياس العرفي، وانه يتبدل بتبدل العرف، كما في سائر الأموال الربوية الأخرى التي لم يرد نص خاص بشأن مقياسها.
ويقول: إن النص في مقياس تلك الأصناف الستة معلل بالعرف،( فإنما ورد النص بلزوم التساوي فيها كيلا أو وزنا، لأن هذا مقياسها المتعارف عليه في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلو كان العرف فيها على مقياس آخر لورد النص معتبرا فيها ذلك المقياس الآخر(1).
وهذا في الحقيقة لا يعد تخصيصا للنص بالعرف الحادث، بل كل ما في الأمر أن النص معلل بعلة تغيرت، والعلة هنا هي: العرف العملي الجاري، فإذا تغيرت العلة التي بني عليها الحكم، فان الحكم يتغير، لأن الحكم كما هو مقرر يدور مع علته وجودا وعدما.
ويشرح ذلك الإمام القرافي فيقول:"ذلك لأن الأحكام المترتبة على العوائد تدور معها كيفما دارت، وتبطل معها إذا بطلت كالنقود في المعاملات، فلو تغيرت العادة في النقد والسكة إلى سكة أخرى، لحمل الثمن في البيع عند الإطلاق على السكة التي تجددت العادة بها دون ما قبلها، …
وبهذا القانون تعتبر جميع الأحكام المرتبة على العوائد، وهو تحقيق مجمع عليه بين العلماء… وعلى هذا القانون تراعى الفتاوى على طول الأيام.
فمهما تجدد في العرف اعتبرْه، ومهما سقط أسقطْه، ولا تجمد على المسطور في الكتب طول عمرك، بل إذا جاءك رجل من غير أهل إقليمك يستفتيك فلا تجريه على عرف بلدك، واسأله عن عرف بلده، وأجره عليه، وأفته به دون عرف بلدك، والمقرر في كتبك، فهذا هو الحق الواضح، و الجمود على المنقولات أبدا، ضلال في الدين. وجهل بمقاصد علماء المسلمين والسلف الماضين"(2).
__________
(1) انظر: المدخل الفقهي العام 2/884-886.
(2) الفروق 1/176-177.(1/157)
من هذا السياق نفهم عبارات القرافي هذه، وأشباها، التي طالما رفعها واحتفى بها رواد التجديد ودعاته، ومن سياقها يتبين مدى التزوير والتزييف والتأويل لأقوال الأئمة حين توضع في غير موضعها ليأخذ منها حكم عام بأن الأحكام ـ هكذا مطلقا ـ تتغير بتغير الزمان والمكان والأحوال والعوائد والأشخاص.
وهم يعلمون قبل غيرهم أن مراد الفقهاء ـ كما هو بين من السياق ـ من تغير الأحكام إنما هي الأحكام المبنية والمرتبة على عرف خاص تغير، فتُنزّل عليه الأحكام المناسبة وهي بالطبع غير الأحكام التي نُزّلت على عرف مختلف سابق. وهو كما تبين مرارا من باب تحقيق المناط لا غير.
وعلق ابن عابدين في رسالته نشر العرف على قول أبي يوسف السابق بقوله:"فإن قيل يلزم من قول أبي يوسف ترك النص للعرف الجاري فيلزم منه إباحة الربا ونحوه للعرف الجاري وإن خالف النص قلت ـ والقائل ابن عابدين ـ: حاشا لله أن يكون مراد أبي يوسف ذلك، وإنما أراد تعليل النص بالعادة، بمعنى أنه إنما نص على البر والشعير والتمر والملح بأنها مكيلة وعلى الذهب والفضة بأنها موزونة، لكونهما كانا في ذلك الوقت كذلك.
فالنص في ذلك الوقت إنما كان لعادة، حتى لو كانت العادة في ذلك الوقت وزن البر وكيل الذهب لورد النص على وفقها، فحين كانت العلة للنص على الكيل في بعضها والوزن في بعضها
الآخر هي العادة، تكون العادة هي المنظور إليها، فإذا تغير الحكم، فليس في اعتبار العادة المتغيرة الحادثة مخالفة للنص بل فيه اتباع للنص"(1).
وقال في موضع آخر "اعلم أن المسائل الفقهية إما أن تكون ثابتة بصريح النص، وهي الفصل الأول، وإما أن تكون ثابتة بضرب اجتهاد ورأي، وكثير منها ما يبنيه المجتهد على ما كان في عرف.
__________
(1) نشر العرف 2/116، بتصرف بسيط.(1/158)
بحيث لو كان في زمان العرف الحادث لقال بخلاف ما قاله أولا، ولهذا قالوا في شروط الاجتهاد أنه لابد فيه من معرفة عادات الناس، فكثير من الأحكام تختلف باختلاف الزمان لتغير عرف أهله، أو لحدوث ضرورة أو فساد أهل الزمان، بحيث لو بقي الحكم على ما كان عليه للزم منه المشقة والضرر بالناس، ولخالف قواعد الشريعة المبنية على التخفيف والتيسير ودفع الضرر والفساد لبقاء العالم على أتم نظام وأحسن أحكام، ولهذا نرى مشايخ المذهب خالفوا ما نص عليه المجتهد في مواضع كثيرة بناها على ما كان في زمنه، لعلمهم بأنه لو كان في زمنهم لقال بما قالوا به أخذا من قواعد مذهبه، كإفتائهم بجواز الاستئجار على تعليم القرآن ونحوه لانقطاع عطايا المعلمين خلافا لما اتفق عليه أبو حنيفة والصاحبان "(1).
على أن فتح باب تعليل النصوص بالأعراف والعادات والأحوال بدون قيود وضوابط يفضي في النهاية إلى تبديل الشريعة ونسخها، لأن أهل الأهواء والبدع لن يتورعوا عن تعليل النصوص الخاصة القطعية بالعرف ليتوصلوا بذلك إلى إسقاط الواجبات واستحلال المحرمات(2)، ولذلك كان لا بد من ثبوت العلة بطريق معتبر.
وبناء عليه فان العادات المنكرة بمقتضى النصوص الشرعية، والتي اعتادها بعض الناس وتعارفوها في المناسبات والمواسم والمآتم، من حداد فوق حد الشرع، أو تكشف أو سفور واختلاط ورقص الرجال مع النساء في الأفراح، ومعاقرة الخمور، والتعامل بالربا، فكل ذلك يعد فسقا ومنكرا تجب محاربته ومنعه، لأنها منكرات منعتها الشريعة لما فيها من مفاسد ومساوئ تفسد الأسرة والمجتمع.
__________
(1) نفس المصدر 2/123.
(2) وهو ما يفعله الآن كثير من الكتاب المعاصرين باسم تاريخية النصوص وبيئيتها، وسيأتي في الباب الثاني إن شاء الله تعالى.(1/159)
فاعتياد الناس لهذه المنكرات لا يزيل تحريمها، لأن تحريمها لم يكن مستندا إلى عدم اعتيادها، بل إلى خبث نتائجها وهذا يعم ويزداد باعتيادها ولا يقل"(1).
وقال ابن عابدين: إن العرف إذا خالف النص من كل وجه، ولزم من العمل بالعرف ترك النص، فلا شك في رد العرف، كتعارف الناس كثيرا من المحرمات الممنوعة بنصوص خاصة بها "كالربا وشرب الخمر ولبس الحرير والذهب(2).
ثانيا: تعارض العرف مع نص تشريعي عام(3)
إذا عارض العرف نصا تشريعيا عاما، شاملا بعمومه الأمر المتعارف، ففي سلطان العرف عندئذ تفصيل بحسب كون العرف مقارنا لورود النص أو حادثا بعده.
العرف المقارن لورود النص العام المعارض له:
والعرف القائم عند ورود النص التشريعي العام إما أن يكون عرفا لفظيا أو عمليا:
1. فإذا كان لفظيا، فلا خلاف بين الفقهاء في اعتباره، فينزل النص التشريعي العام على حدود معناه العرفي عند الخلو من القرائن.
ولو كانت دلالة اللفظ الذي استعمله الشارع هي في أصل اللغة أوسع من دلالته العرفية، لأن العرف اللفظي هو لغة التخاطب، فتوجه الألفاظ إلى معانيها في حدودها المألوفة، ما لم توجد قرينة دالة على أن الشارع أراد بلفظه حدودا أوسع".
وهو الذي دعاه الشاطبي كما سبق، وبينت في مبحث التأويل بالعقل والحس بالعموم العادي وعبر عنه بقوله:
"ألفاظ العموم الواردة في الكتاب والسنة إنما تأتي بحسب الاستعمال، فتعم ما قصده الشارع، ولا تعم ما يقع تحتها بحسب وضع اللسان "(4).
فألفاظ البيع والشراء والإجارة والصيام والصلاة والحج وعدة النساء والوفاة، كل ذلك ونحوه في النصوص، يحمل على معانيه العرفية عند ورود النص بها، وإن اختلفت عن المعاني الوضعية في أصل اللغة.
__________
(1) المدخل الفقهي العام 2/906-907.
(2) نشر العرف 2/114.
(3) المدخل الفقهي العام 2/888-899.
(4) الموافقات 3/278.(1/160)
2. وأما إذا كان العرف القائم عند ورود النص المخالف له عرفا عمليا فقد اختلفت الاجتهادات في كونه صالحا لتخصيص النص العام أو غير صالح.
ولدى من يعتبره صالحا يوجد تفصيل بين أن يكون العرف عاما أو خاصا، وهذا ملخص آرائهم:
- العرف العملي المقارن العام:
فإذا كان العرف العملي القائم عند ورود النص العام المعارض له عرفا عاما، فانه في الاجتهاد الحنفي يكون مخصصا للنص، فيعتبر النص عندئذ مقصور الشمول على ما سوى الأمر المتعارف، إذ يكون ذلك العرف قرينة قائمة دالة على أن الشارع لم يرد شمول ذلك الأمر المتعارف بعموم نصه المعارض له في الظاهر.
والنظر الفقهي في ذلك أن النص إذا كان عاما، فان العمل بالعرف في موضوعه لا يكون تعطيلا للنص، كما في حالة خصوص النص، بل يبقى النص عاملا في مشمولاته الأخرى التي يتناولها عمومه، فليس في تخصيص النص بالعرف عندئذ إهمال للنص بل هو إعمال للعرف والنص معا.
ومن الأمثلة التي يذكرها الفقهاء على ذلك عقد الاستصناع وعقد السلم، فقد جاء النص العام بمنع بيع ما ليس عند الإنسان،وكان التعامل بعقد الإستصناع وعقد السلم عرفاً عاماً جارياً فاقره الرسول - صلى الله عليه وسلم -، مع أنه بيع معدوم، فاعتبر المنع شاملا لما عدا هذين العقدين، و بعبارة أخرى خُصّ هذان العقدان من المنع، فكأن العرف العام العملي خصص النص العام المقارن. والقول الصحيح هنا أنه ليس من باب التخصيص بالعرف، بل هو من باب تخصيص النص العام بالسنة التقريرية، كما رجحه الرازي في المحصول(1)، إذ أن استمرار الناس في التعامل وفق عرف ما مع وجود نص عام يشمله بالمنع وإقرار الرسول - صلى الله عليه وسلم - للناس على التعامل بذلك العرف هو سنة تقريرية.
__________
(1) انظر: المحصول 3/131-133.(1/161)
هذا إن عدم دليل من خارج للإجابة على المثال المذكور، إلا أنه قد وجد وهو أن عقد السلم وعقد الاستصناع قد ثبتا بدليل شرعي، أما السلم فبالنص: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع ما ليس عند الإنسان، ورخص في السلم(1). وأما الاستصناع فبالإجماع على جوازه، فيكون من باب تأويل النصوص ببعضها وبالإجماع وليس من باب تأويل النصوص بالعرف. والله أعلم.
- العرف العملي المقارن الخاص
وأما إذا كان العرف العملي المقارن لورود النص العام عرفا خاصا لفئة من الناس كالتجار مثلا أو خاصا ببلد ما، فإنه لا يصلح لمعارضة أو تخصيص النص التشريعي العام لأن التخصيص
بيان، ولأن تلك الخصوصية لا تصلح دليلا على أن الشارع لم يرد من نصه العام عموم معناه " هذا مذهب الحنفية(2).
وقال ابن عابدين: "العرف العام يثبت به الحكم العام، والعرف الخاص يثبت به الحكم الخاص، وحاصله، أن حكم العرف يثبت على أهله عاما أو خاصا، فالعرف العام في سائر البلاد يثبت حكمه على أهل سائر البلاد، والخاص في بلدة يثبت حكمه على تلك البلدة فقط "(3)
وقال: "وكيف يصلح أن يقال: لا يعتبر مطلقا العرف الخاص في مكان مع أن كل متكلم إنما يقصد ما يتعارفه"(4)، فهو يذهب إلى التخصيص به. خلافا للحنفية.
أما مذهب المالكية فرأوا أن العرف العملي المقارن ـ عاما كان أو خاصا ـ فإنه يخصص النص التشريعي العام، وخالفهم القرافي في ذلك فقصر جواز التخصيص على العرف اللفظي دون العرف العملي(5).
__________
(1) الحديث:" لا تبع ما ليس عندك " أخرجه الترمذي 3/17، وصححه الألباني في الإرواء 5/132، ح1292، وحديث السلم أخرجه البخاري انظر: صحيح البخاري بشرح العسقلاني 4/ 428، ويصدق على الاستصناع ما يصدق على السلم.
(2) انظر: الأشباه والنظائر لابن نجيم 1/102-104، نشر العرف 2/116.
(3) نشر العرف 2/130.
(4) نفس المصدر 2/131، 136.
(5) الفروق 1/173.(1/162)
ومثل له المالكية في تخصيص عموم الأمر بالإرضاع في قوله تعالى { وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ } (البقرة-233) بمن عدا ذوات المكانة الشريفة، إذ أنهن لم يعتدن ـ عند ورود النص ـ إرضاع أولادهن بل كن يستأجرن لهم المرضعات.
ويبدو أن الخلاف حول اعتبار العرف الخاص وعدم اعتباره في تخصيص النصوص، ناشئ عن الخلط بين سلطانه في تخصيص ألفاظ المكلفين، وبين سلطانه في تخصيص نصوص الشرع من قرآن وسنة.
لأن بحثنا هنا يتركز في تخصيص العرف الخاص لنص قرآني أو حديث نبوي، وليس الكلام عن ألفاظ المكلفين وعقودهم.
وكلام ابن عابدين الذي يعجب فيه من رأي الحنفية، يدور عن العرف الخاص الذي يخصص ألفاظ المكلفين وعقودهم لا نصوص الشرع من قرآن وسنة، والحنفية حين نفوا جواز التخصيص به إنما مرادهم نصوص الشرع من قرآن وسنة.
فلا خلاف ـ فيما أرى ـ على جوهر الأمر لأن كلا من الطرفين إنما يثبت وينفي غير ما يثبته الآخر وينفيه.
وكل العلماء يرون حمل كلام المكلف على معهوده في خطابه، وكلهم متفق على حمل
ألفاظ الشارع على معناها الذي كانت تعنيه وقت نزول الوحي لا المعاني الحادثة فيما بعد.
وقضية تخصيص ألفاظ المكلفين وعقودهم بالعرف الخاص تكلمنا عليها في بداية هذا الدليل فلا حاجة لتكرار القول هنا إلا بقدر الحاجة.
والذي يدل على ما قلت: قول ابن عابدين السابق بظاهره، فما معنى قوله: حكم العرف الخاص يثبت على أهله؟ والخاص في بلدة يثبت حكمه على تلك البلدة، وتعجبه من عدم اعتبار العرف مطلقا مع أن كل متكلم إنما يقصد ما يتعارفه، فهو عرف معين لأهل بلدة معينة، وعرف متكلم ما في زمن ومكان ما.(1/163)
وهذا لا ينطبق على تخصيص نصوص الشرع، لأن المتكلم بها هو الله عز وجل، أو رسوله - صلى الله عليه وسلم - فليس لها إلا زمان واحد هو عصر التشريع والوحي، وليس لها إلا مكان واحد هو المحيط الذي خاطب فيه القرآن العرب وهو جزيرة العرب. وبالتالي فلا تخصصها الأعراف الخاصة لأنها غير متصورة أصلا، إلا أن تكون أعرافا حادثة، وليس مقارنة.
فمادام الكلام يدور عن تخصيص ألفاظ القرآن والسنة بأعراف خاصة، فإنه ليس هناك أعراف خاصة مقارنة للنصوص الشرعية إلا ما كان في عهده - صلى الله عليه وسلم -، فلمَ إقحام الأعراف الخاصة بقوم معينين، أو أهل بلدة أو أهل مكان. مع أن ذلك غير متصور تاريخيا إلا في عصور لاحقة.
وهو ما سنبحثه في البند الآتي:
- العرف الحادث المعارض للنص التشريعي العام:
وقد اتفقت كلمة الفقهاء على أن العرف المعارض للنص التشريعي العام إذا كان حادثا بعد ورود ذلك النص، فان هذا العرف ـ لفظيا كان أم عمليا خاصا أم عاما ـ فإنه لا يصلح ولا يجوز أن يخصص به النص التشريعي، بل تبقى النصوص وألفاظها على معانيها ومدلولاتها يوم ورود النص، ولأن معنى تخصيصها أو تبديل معناها تبعا للعرف الطارئ، هو نسخ للأحكام الشرعية بالأعراف المستحدثة، وهو مفض إلى تبديل الشريعة بالكامل، وهو باطل بالإجماع ولم يقل به أحد والحمد لله.
ومثال ذلك أن يمين اللغو المعفو عنها هي اليمين الشرعية، أي كان الحلف فيها بالله، فلا يجوز حملها على اليمين المستحدثة بالطلاق ونحوه فلا عفو في لغوها.(1/164)
وإذا تقرر هذا المعنى، فإنه تبطل عشرات الدعاوى التي تنادي وتزعم أن الأحكام الشرعية تتغير بتغير الأزمان والأمكنة، وتبطل عشرات الاجتهادات المعاصرة التي حملت فيها النصوص ودلالاتها كُرْهاً على العرف المستحدث اللفظي منه والعملي، تزويرا منهم على كلام الأئمة الأعلام وخصوصا المالكية في مثال الرضاعة وغيره، فانه على الرغم من عدم ثبوته عن الإمام مالك فإنه في العرف المقارن لا العرف الحادث.(1)
وهو ما قرره الإمام الشوكاني بقوله " والعجب من تخصيص كلام الكتاب والسنة بعادة حادثة بعد انقراض زمن النبوة، تواطأ عليها قوم وتعارفوا بها، ولم تكن كذلك في العصر الذي تكلم فيه الشارع فإن هذا من الخطأ البين والغلط الفاحش"(2).
أهم القواعد المستخلصة في تأويل النصوص بالعرف :
- إنه قد تبين أن عبارات الفقهاء وأمثلتهم وقواعدهم التي ساقوها كدليل على اعتبار العرف، وتخصيصه للألفاظ والنصوص، وتغير الأحكام تبعا له، أن حديثهم يدور عن ألفاظ ونصوص المكلفين وعقودهم التي ينشئون بها التزامات معينة كالوصية والإقرار واليمين والنذر والطلاق...الخ.
وأنه من الطبعي أن تنزل ألفاظهم على ما يعنونه وما يقصدونه حسب عرفهم العملي الجاري وحسب لغاتهم ولهجاتهم وعادتهم في الخطاب. وبالتالي يختلف الحكم المترتب على اللفظ حسب اختلاف مدلول اللفظ ومعناه زمانا ومكانا. وذلك هو بالضبط ما يعرف عند الأصوليين بتحقيق المناط. فهو تنزيل للفظ المكلف على واقعه الصحيح، وليس هو من باب التخصيص ولا التأويل.
__________
(1) راجع: البوطي محمد سعيد رمضان: ضوابط المصلحة في الشريعة الإسلامية ص335، حيث حقق المسألة وأثبت أن الإمام مالكاً لم يقل بها أبداً.
(2) إرشاد الفحول 162.(1/165)
- أما نصوص الشرع من القرآن والسنة فإنها تُنزل على الواقع ـ العرف القولي والعملي ـ الذي قارنها وقت نزولها، فتفهم وتفسر حسب العرف اللغوي والعملي الذي كان سائدا إبان تنزل الشرائع أي حسب أساليب العرب ومعهودهم في كلامهم وخطابهم، وحسب الاستعمال الشرعي الخاص لبعض الألفاظ كالصلاة والصيام والحج، التي أصبح لها معان شرعية.
- لم يقل أحد من الأصوليين أو الفقهاء أن نصوص القرآن والسنة تحمل على الأعراف المتجددة بعد انقضاء عصر النبوة أو تفسر بحسبها.
بل أن عباراتهم وأمثلتهم شاهدة على أن الألفاظ والنصوص التي تحمل على الأعراف الحادثة المتجددة وتأول بها هي ألفاظ المكلفين وعقودهم، وأن حقيقة ذلك هو تحقيق مناط، وتسمية ذلك الحمل تخصيصا وتأويلا هو من باب التجوز.
- وهذا يبين سبب الخلط والتحريف والاجتهاد الفاسد الذي وقع فيه كثير من الكتاب وأدعياء الاجتهاد، حين حملوا كلام العلماء المتضمن اعتبار العرف وحمل الألفاظ عليه وتغير الفتاوى بحسبه على النصوص الشرعية الثابتة من القرآن والسنة التي تحمل فقط على عرف العرب وعادتهم في الخطاب وقت نزول التشريع.
- ومع ذلك فقد اشترط العلماء للعرف حتى يصلح لتأويل أو تخصيص ألفاظ المكلفين وحتى يصح حملها عليه أربعة شروط:
1. أن يكون العرف مطردا أو غالبا.
2. أن يكون قائما عند إنشاء تلك التصرفات (الألفاظ والعقود) (أي عرفا مقارنا).
3. وأن لا يعارض العرفَ تصريح بخلافه.
4. أن لا يكون في اعتبار العرف تعطيل لنص ثابت أو لأصل قطعي في الشريعة.
فإذا تخلف أحد هذه الشروط بطل اعتبار العرف، ولم يجز حمل ألفاظ المكلفين وتصرفاتهم عليه.
- وكذلك إذا كان النص الشرعي من قرآن وسنة خاصا فإنه لا يعارض ولا يؤول بالعرف سواء كان العرف خاصا أو عاما مقارنا أو حادثا.(1/166)
- ويستثنى من ذلك ما إذا كان النص نفسه حين صدوره عن الشارع مبنيا على عرف قائم، ومعللا به، فان النص عندئذ يكون عرفيا فيدور حكمه مع العرف ويتبدل بتبدله.
- وهذا في الحقيقة لا يعد تخصيصا للنص بالعرف الحادث، بل كل ما في الأمر أن النص الشرعي معلل بعلة تغيرت، والعلة هنا هي العرف الجاري، فإذا تغيرت العلة التي بني عليها الحكم فإن الحكم يتغير، لأن الحكم كما هو مقرر يدور مع علته وجودا وعدما.
- ولكن لا بد أن تكون العلة هنا منصوصة- ثابتة بالنص- وإلا آل الأمر إلى نسخ الشريعة وتبديلها بتعليل أحكامها بالعقل المجرد. وقد فصلنا ذلك في التعليل بالقياس.
- وعليه: فان المنكرات التي جاء النهي عنها بنصوص خاصة مثل: أكل الربا ومعاقرة الخمر وبيعه والاتجار به، والتكشف والسفور والاختلاط، وحرمة الردة، والدعوة إلى الكفر وإظهار المعاصي والتشبه باليهود والنصارى، والولاء لهم أو مودتهم، والتشريع بما يضاد حكم الله أو الرضا به، كل هذه المنكرات وغيرها منعتها الشريعة بنصوص خاصة وهي مطلقة غير معللة بعرف، لأن تحريمها لم يكن مستندا إلى عدم اعتيادها بل إلى خبث نتائجها، وهذا يعم ويزداد باعتيادها ولا يقل.
رسم بياني يبين أقسام العرف ومدى سلطانه إذا عارض نصا شرعياًو
تعارض العرف والنص الشرعي
الدليل العاشر: التأويل بدليل المصالح والمقاصد
بما أن التأويل لا يلجأ إليه إلا عند التعارض، فهل تصح معارضة النصوص الشرعية بالمصالح؟؟
وبعبارة أخرى:
- هل يصح تخصيص وتأويل النص الشرعي - قرآناً أو حديثاً - بالمصلحة؟
- وما هي تلك المصالح التي يجوز التأويل بها؟ أهي المصالح العامة أم الفردية؟
- وهل هناك مصالح مرسلة؟ أم أن المصالح في الحقيقة قسمان لا ثالث لهما: معتبرة وملغاة؟ ثم المصالح من يحددها؟ وما هي ضوابطها؟ وكيف تدرك: بالعقل المجرد أم بدلالة النصوص؟
بالإجابة على هذه الأسئلة سوف تتضح حقيقة التأويل بدليل المصلحة.
أقسام المصالح:(1/167)
قسم الغزالي المصالح إلى ثلاثة أقسام:
- قسم شهد الشرع لاعتبارها.
- وقسم شهد لبطلانها
- وقسم لم يشهد الشرع لا لبطلانها ولا لاعتبارها.
أما ما شهد الشرع لاعتبارها:
فهي حجة ويرجع حاصلها إلى القياس. ومثاله: حكمنا أن كل مسكر من مشروب أو مأكول فيحرم قياسا على الخمر، لأنها حرمت لحفظ العقل الذي هو مناط التكليف، فتحريم الخمر دليل على ملاحظة هذه المصلحة.
وأما ما شهد الشرع لبطلانه:
فمثاله (الخمر: إذ لو ادعى قوم أن فيها منافع ينبغي إباحتها لأجلها، كأرباح التجارة فيها، والانتعاش والسرور وتقوية القلب وتشجيع الجبان، لكان هذا مردودا بأن الشرع أهدر هذه المصالح ولم يعتبرها، ولم يجر الحكم على مقتضاها بل حكم بتحريم الخمر مع إقراره بأن فيها منافع، وكذا الميسر، فما فيهما من منافع شهد الشرع لبطلانه، وأجرى الحكم على خلافه).
وأما ما لم يشهد له من الشرع بالبطلان ولا بالاعتبار نص معين: فهذا محل نظر "(1).
"وهذا القسم هو الذي تعارف الأصوليون على تسميته " بالمصالح المرسلة " أي المطلقة من الدليل. فلا دليل على اعتبارها ولا إلغائها. ويسمى أيضا " المناسب المرسل " أي أنه بحسب العقل مناسب لوضع الحكم على وفقه، ولكنه مرسل من الدليل لم يشهد له أصل معتبر شرعا يقاس عليه، ولا يثبت إلغاؤه شرعا"(2).
محل الإشكال:
وقد بين الغزالي -رحمه الله- بأن معنى المصلحة في الأصل هو جلب منفعة أو دفع مضرة، وأن ذلك هو مقصود الخلق وبه صلاحهم، ولا إشكال في هذا، وليس هو موضع بحث الأصوليين.
__________
(1) المستصفى بتحقيق د. محمد سليمان الأشقر 1/416، بتصرف بسيط، وما بين القوسين من كلام المحقق،حاشية 1/415.
(2) نفس المصدر – حاشية المحقق 1/416.(1/168)
فلا أحد يقول بعدم جواز وضع التدابير المختلفة التي تحقق مصالح الناس، وتدفع عنهم المفاسد والضرر، من أمور الحياة المختلفة، من العمل والكسب، والتداوي واتخاذ الملابس والمراكب المستحدثة. لأن هذا من السياسات العامة التي لا حرج في انتهاجها حتى ولو لم تكن معهودة زمن النبي - صلى الله عليه وسلم -(1).
فليس هذا موضع بحث الأصوليين، لأن اتخاذ مثل هذه التدابير والسياسات، هي من "المصالح المرسلة" التي لا تعارض نصا شرعيا، فهي إذن من المباحات.
وإنما البحث والإشكال فيما عارض من المصالح نصا أو قاعدة شرعية، ولو من بعض الوجوه. فإذا تعارضت المصالح والأدلة الشرعية، فهنا تأتي مهمة التأويل وإشكاله، فهل نقدم المصلحة على النص، فيكون تخصيصا وتأويلا لعموم النص بالمصلحة، أم نقدم النص ونلغي المصلحة؟
وحتى نزيد هذا الكلام المجرد وضوحا، لا بد من ذكر بعض الأمثلة على تعارض المصالح مع النصوص الشرعية، وتحليلها أصوليا، ومن ثم الخروج برأي سديد في هذا الأمر.
وقد أبدع الغزالي في هذا الأمر، إذ حلل بعض المسائل " الأمثلة "على التعارض بين المصالح والنصوص وخرج بنتيجة مفادها أن ما يسمى " مصالح مرسلة " هو في الحقيقة مصالح معتبرة أو ملغاة دل على اعتبارها أو إلغائها ليس نصا جزئيا واحدا بل قواعد كثيرة وأصول عديدة
فكان ذلك التعارض تعارضا بين أصول شرعية عامة ثابتة بدلالة نصوص غير محصورة، وبين نصوص جزئية.
أمثلة ونماذج تطبيقية على تعارض المصالح مع النصوص الشرعية
المثال الأول:
قال الغزالي:" الكفار إذا تترسوا بجماعة من أسارى المسلمين: فلو كففنا عنهم لصدمونا، وغلبوا على دار الإسلام، وقتلوا كافة المسلمين.
__________
(1) نفس المصدر 1/417.(1/169)
ولو رمينا الترس لقتلنا مسلما معصوما لم يذنب ذنبا، وهذا لا عهد به في الشرع، ولو كففنا لسلطنا الكفار على جميع المسلمين فيقتلونهم ثم يقتلون الأسارى أيضا، فيجوز أن يقول قائل " هذا الأسير مقتول بكل حال، فحفظ جميع المسلمين أقرب إلى مقصود الشارع"(1).
فهنا تعارضت المصلحة، وهي حفظ دار الإسلام وحفظ أرواح المسلمين عامة مع النصوص القاضية بعصمة دم المسلم وحرمة إراقته - الأسارى - مع انعدام دليل شرعي في هذه المسألة بالخصوص.
ولنا أن نقول:
تعارضت المصلحة، وهي حفظ دار الإسلام بما فيها، مع مفسدة وهي قتل جماعة من المسلمين الأبرياء - الأسارى-، أو تعارضت مفسدتان وهما ترك الكفار يستبيحون دار الإسلام قتلا ونهباً وإفسادا، أو قتل عدد من المسلمين الأبرياء.
فلا شك في جواز بل وجوب ترجيح المصلحة العامة العليا، وهي حفظ دار الإسلام بمن فيها، على قتل جماعة وعدد محدود منهم، مع أن قتل مسلم بريء لا عهد به في الشرع، وليس من دليل خاص يجيزه، ولكنه جار على قواعد الشرع وأصوله العامة للأسباب السابقة،والقواعد الفقهية تؤيده مثل " الضرر الأشد يزال بالضرر الأخف " و " يختار أهون الشرين " و " إذا تعارض مفسدتان روعي أعظمهما ضررا بارتكاب أخفهما " و " ويتحمل الضرر الخاص لدفع ضرر عام"(2). فكان هذا تأويلا وتخصيصا لعموم النصوص المحرِّمة لقتل المسلم، وهي قطعية، بالمصلحة.
ولكن دعنا نتساءل: هل المصالح التي هي من هذا القبيل، هي حقا مصالح " مرسلة " لا دليل من الشرع على اعتبارها أو إلغائها؟ وهل تحديد كونها مصلحة عامة رجع فيه إلى العقل المجرد والرأي المحض؟ ولا دخل للشرع فيه بحال؟
أقول:
__________
(1) نفس المصدر 1/420.
(2) المدخل الفقهي العام 2/977-978.(1/170)
أيا من ذلك لم يكن، فكون حفظ دار الإسلام، وصون أرواح عامة المسلمين مصلحة عامة، عرف بطريق الشرع لا بطريق العقل، وهو ما صرح به الغزالي نفسه، وبنى عليه ترجيح هذه المصلحة على النصوص المحرمة لقتل الأسارى، حين قال في تحليله للمثال المذكور " لأن حفظ جميع المسلمين أقرب إلى مقصود الشرع، لأنا نعلم قطعا أن مقصود الشرع تقليل القتل، كما يقصد حسم سبيله عند الإمكان، فإن لم نقدر على الحسم قدرنا على التقليل، وكان هذا التفاتا إلى مصلحة علم بالضرورة كونها مقصود الشارع، لا بدليل واحد وأصل معين، بل بأدلة خارجة عن الحصر، لكن تحصيل المقصود بهذا الطريق: وهو قتل من لم يذنب: غريب لم يشهد له أصل معين، فهذا مثال مصلحة مأخوذة بطريق القياس على أصل معين، وانقدح اعتبارها، باعتبار ثلاثة أوصاف: أنها ضرورية، قطعية، كلية "(1)1).
فتحصل لدينا، ان هذه المصلحة قد عرفت بمقصود الشرع، وأن مقصود الشرع، قد أدركناه لا بدليل واحد وأصل معين، بل بأدلة خارجة عن الحصر، أي أدلة عامة لا خاصة بهذه المسألة، فإذا سلمنا بذلك - وهو مسلم - كان هذا رجع القول إلى تخصيص النصوص ببعضها لا فرق. اللهم أن هذا تخصيص لنص معين بدلالة نصوص كثيرة غير معينة.
والغزالي يشترط لجواز تخصيص عمومات النصوص بالمصالح، أن تكون هذه المصالح ضرورية، قطعية، كلية، وهو ما عبر عنه في موضع آخر بقوله "التخصيص بالمصلحة جائز إذا كانت كلية، قطعية - أو ظنية قريبة من القطع - وشهدت لها أصول الشرع "(2).
ومقتضاه أنه لا يرى جواز التخصيص بالمصالح إن كانت حاجية أو ظنية، إذ أنه قد قسم المصالح إلى ضرورية ثم حاجية ثم تحسينية، حسب درجة الحاجة، مع أن كل واحده من هذه المراتب تتفاوت في نفسها.
__________
(1) المستصفى بتحقيق الأشقر 1/420.
(2) نفس المصدر 1/421، 422، 424.(1/171)
ومسألة التترس هذه تصلح كمثال على تأويل النصوص بالقواعد الفقهية، كما أنها تصلح كمثال على تأويل النصوص بدليل النظر في مآل الفعل: إذ أن جواز قتل الأسارى المسلمين الأبرياء، جاز باعتبار أن عدم قتالهم مآله إلى غلبة الكفار على دار الإسلام واستئصال شأفة المسلمين.
ومن هنا نستنتج أن شرط التأويل بدليل النظر في مآل الفعل – عند من يعتبره دليلاً -، أن تكون المصلحة المتوخاة من وراء تخصيص النص وتأويله ضرورية أو قطعية - أو ظنية قريبة من القطع - وكلية، لا تعارض مقصود الشرع، وراجحة على المصلحة المتحققة من الفعل ذاته.
المثال الثاني:
مسألة " التسعير الجبري " أو قيام ولي الأمر بتحديد الأسعار.
وهي مسألة يكثر الاستناد إليها والاستشهاد بها في الاستدلال على جواز تأويل النصوص الشرعية بالمصالح " المرسلة " العامة، ومعارضتها بها(1).
وقد قال به بعض العلماء، وذلك في السلع التي تمس إليها حاجة الناس، رفعا للضرر عنهم ومراعاة للمصلحة العامة، لئلا يغالي التجار ويطمعوا في زيادة الأرباح، وذلك معارضة وتأويل لنص الحديث الصريح بالتحريم - كذا زعموا - وهو قوله - صلى الله عليه وسلم - لما طلبوا منه أن يسعر لهم " إن الله هو المسعر القابض الباسط الرزاق، وإني لأرجو أن ألقى ربي وليس أحد منكم يطلبني بمظلمة في دم ولا مال "(2).
__________
(1) انظر: معالم المنهج الإسلامي ص113، النص الإسلامي ص69.
(2) أخرجه الترمذي في سننه 3/597، وقال حديث حسن صحيح.(1/172)
والصحيح أن يقال أن التسعير لم يأت تحريمه مطلقا، وليس في الحديث ما يدل على ذلك، بل جاء عدم التسعير معللا بعلة منصوصة وهي " خوف الظلم " فإنما رفض الرسول - صلى الله عليه وسلم - التسعير الجبري آنذاك، لأنه كان مظلمة والظلم حرام، وإنما كان مظلمة لأن الغلاء كان طبعياً، إما لكثرة الناس أو قلة السلع، وفي التسعير عند ذلك إلزام التجار بالبيع بسعر لا يريدونه ولا يرضونه فينتفي الرضا في عقد البيع، وفيه ظلم.
فرفضه - صلى الله عليه وسلم - التسعير لم يكن مطلقا، حتى يكون قول بعض العلماء بجوازه تأويلا منهم للنص المطلق بالمصلحة المرسلة، بل كان رفضه - صلى الله عليه وسلم - للتسعير معللا بخشية الوقوع في الظلم كما هو ظاهر الحديث وتلك علة منصوصة، وذلك صحيح.
أما إذا صار عدم التسعير هو الذي فيه إلحاق الظلم، لا بشريحة التجار فحسب، بل بالشريحة الواسعة من الناس - وذلك بسبب الاحتكار أو التلاعب بالأسعار، ولم يعد الغلاء طبعياً نتيجة العرض والطلب - فقد انعكس الأمر، وما كان حراما فقد أصبح واجبا لا جائزا فحسب.
فالنص معلل لا بالعقل، ولا بالهوى المجرد، أو الدعوى الفارغة من الدليل بل بعلة منصوصة دل عليها ظاهر الحديث، والحكم كما هو معلوم يدور مع العلة وجودا وعدما، وما بني من الأحكام على علة فإنه ينتفي بانتفاء تلك العلة، فمن ذهب من العلماء إلى جواز التسعير إذا رآه ولي الأمر، فإنما بنى رأيه على انتفاء علة التحريم، وهي خوف ظلم التجار وتحقق علة الإيجاب -إيجاب التسعير- وهي خوف ظلم الناس.
أضف إلى ذلك أنه من باب تقديم المصلحة العامة - عامة الناس - على مصلحة فئة خاصة وهم التجار، وترجيح المصلحة العامة على المصلحة الخاصة عند التعارض واجب كما بينت فيما سبق.(1/173)
ولأن عدم التسعير والحالة تلك -من احتكار لأقوات الناس الضرورية وتلاعب بالأسعار- مآله إلى إلحاق الظلم والضرر بعامة المسلمين والضرر مرفوع والنظر في المآلات معتبر(1).
وهذه المسألة حسب التحليل السابق - تصلح كمثال أيضا على التأويل بالقواعد الفقهية (تقديم المصلحة العامة على المصلحة الخاصة - رفع الضرر ) وبمآلات الأفعال.
والأمثلة التي يمكن سوقها في هذا المضمار كثيرة جدا: أذكر بعضها على سبيل الإيجاز:
- أن المصلحة العامة خصصت حق المالك في التصرف بملكه، بعدم الإضرار بالآخرين مع انه يمكن أن يقال أن دليل التخصيص هو حديث ( لا ضرار ولا ضرار ).
- فعل عمر رضي الله عنه في أرض السواد وفيه خصص حكم " وجوب " تقسيم الغنائم على المقاتلين بالمصلحة العامة وهي خوف انشغالهم بالزراعة وقعودهم عن الجهاد إذ أن فعل عمر هو من باب تقديم المصلحة العامة للإسلام والمسلمين على مصلحة فئة خاصة وهم المقاتلون، هذا على فرض التسليم بان حكمه الوجوب وإلا فانه غير مسلم على الصحيح، وهو أيضا يصلح كمثال على التأويل بدليل النظر إلى مآل الفعل، إذ لو قسمها على المقاتلين لكان لذلك أثر سلبي على مصالح الدولة و أمنها(2).
- المنع من تلقي السلع والركبان مراعاة للمصلحة العامة على مصلحة فئة خاصة، وهم التجار لأن من شأن ذلك أن يؤدي إلى احتكار السلع ورفع الأسعار -مع أن البيع والشراء في الأصل جائزان، وهذا التحليل يصح على تقدير عدم وجود دليل خاص ينهى عن تلقي السلع والركبان،
وعلى هذا التقدير يمكن اعتبار دليل التأويل هو النظر في مآل الفعل ورفع الضرر وتقديم المصلحة العامة.
- ومنه القول بجواز توظيف الإمام الخراج على الأغنياء سياسة لمصلحة الجند إذا لم يكن في أيديهم مال يكفيهم.
__________
(1) وانظر تفصيل المسألة في الطرق الحكمية ص244-260، المناهج الأصولية ص162.
(2) المناهج الأصولية ص153-154.(1/174)
وكانوا إذا اشتغلوا بالكسب تفرقوا، أو خيف دخول الكفار بلاد الإسلام، أو ثوران فتنة الغوغاء، مع أن الأصل عدم وجوبه في أعناق الأغنياء، فيكون دليل التأويل هو قاعدة المصلحة العامة أو قاعدة رفع أشد الضررين وأعظم الشرين بارتكاب أخفهما وذلك مقصود الشارع(1).
بماذا تدرك المصالح والمقاصد الشرعية؟ وكيف؟
إذا قلنا إن النصوص الشرعية يجوز تأويلها وتخصيصها بالمصالح العامة وهي التي تمثل مقاصد الشرع. فما هو سبيل إدراك المصالح والمقاصد؟ وكيف؟ ألا يكون ذلك ذريعة إلى ادعاء وافتعال وتوهم "مصالح عامة" لتعارض بها أدلة الكتاب والسنة؟ وخصوصا في هذا العصر الذي فشا فيه التحلل من قيود النصوص ولو بالتمحلات البعيدة والتأويلات السقيمة؟
إن إدراك المصالح العامة أو الفردية أو مقاصد الشريعة وأصولها لم يترك للظنون والخيالات المريضة، اللاهثة خلف كل وهم، للقفز عن نصوص الكتاب والسنة نحو ما تظنه اجتهادا وتجديدا وعصرنة للفقه الإسلامي.
إن الذي يرسم " المصلحة العامة " لأي مجتمع ويحددها هو عقيدة ذلك المجتمع التي ينبثق منها نظامه وسياساته، ويؤمن بها أفراده.
فإذا كنا نتحدث عن مجتمع إسلامي تسوده الشريعة الإسلامية، وتكوَّن - وحدها - نظامه وقوانينه، فإن مصلحة هذا المجتمع حتما ستكون متوافقة ونابعة من الشريعة الإسلامية ذاتها، ولا يمكن تصور مجتمع إسلامي يدين أهله بالإسلام تكون مصلحته على النقيض من عقيدة ذلك المجتمع ونظامه.
وبهذه الصورة لا يكون هناك تناقض بين القول باعتبار المصالح العامة للمجتمع الإسلامي، وبين كون المرجعية الشرعية للمجتمع هي المصادر الشرعية المعتبرة الأربعة ولا يمكن تصور مجتمع إسلامي يتطلب ويستدعي "مصالح عليا " تناقض نظامه لأن هذا تناقض.
__________
(1) المستصفى بتحقيق الأشقر 1/426.(1/175)
وعلى الذين يطلقون لعقولهم العنان في تخيل " مصالح " غير منسجمة مع طبيعة المجتمع الإسلامي وعقيدته ونظامه أن يعوا هذه الحقيقة جيدا، فالمصالح المدعاة إذا ناقضت عقيدة المجتمع وعقيدة أهله ونظامهم فهي ليست مصالح حقيقية بل هي مصالح موهومة.
ومثلهم أولئك الذين يختلقون من عند أنفسهم " مقاصد للشريعة " و " أصولا " عامة - كما يزعمون - لضرب نصوص الكتاب والسنة الخاصة عرض الحائط، فلا تكاد تعثر لديهم من دليل على أهوائهم وتأويلاتهم لنصوص الوحي غير قولهم " هذا دلت عليه أصول الشريعة ومقاصدها " ناسين أو متناسين أنهم يتكلمون عن أصول " الشريعة " وعن مقاصد " الشريعة "(1)، وما هي أصول الشريعة ومقاصدها؟ وهل يمكن لعاقل أن يقول بإدراك أصول الشريعة ومقاصدها إلا من فروعها وجزئياتها؟
وقد تقدم قول الغزالي في مسألة تترس الكفار بأسارى المسلمين أن المصلحة العامة التي سوغت التأويل هناك، علم بالضرورة كونها مقصود الشارع، لا بدليل واحد وأصل معين بل بأدلة خارجة عن الحصر، وأن الذي سوغ اعتبارها هو كونها: ضرورية، قطعية، كلية.
وهذا بيت القصيد: إن"المصالح العامة" و"أصول الشريعة"ومقاصدها لها طرق ومسالك تدرك بها مثلما تدرك العلة بمسالك معروفة، أي ليس بمجرد الدعوى والهوى.
وإذا وصلنا بالبرهان إلى هذا الحد، بان أنه لم يعد هناك معنى لتقييد هذه المصالح"بالمرسلة" فإنها أصبحت من المصالح المعتبرة أو الملغاة لا المرسلة، ولعل هذا هو فحوى مذهب بعض العلماء الذين نفوا حجية المصالح المرسلة لأن المصالح آلت في الحقيقة إلى قسمين:
- مصالح معتبرة شهد لها الشرع بالاعتبار إما بنصوص جزئية أو مقاصد كلية، وأصول عامة.
- ومصالح ملغاة شهد الشرع على بطلانها إما بنصوص جزئية أو مقاصد كلية وأصول عامة.
__________
(1) سيأتي أمثلة لما قالوه ولما استدلوا عليه في الباب الثاني في مبحث تأويل مفاهيم الأصول – إن شاء الله تعالى.(1/176)
وهذا ما انتهى إليه الدكتور أحمد الريسوني في كتابه"نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي"فقال: ليس هناك مصالح مرسلة بالمعنى المطلق للإرسال، وأن ما يسمى بالمصالح المرسلة، هي في الحقيقة مصالح معتبرة شرعا.
وكل ما في الأمر، أنها لم يرد في تسميتها وحفظها نصوص خاصة، بل يدخل حفظها فيما علم - قطعا - من قصد الشريعة إلى حفظ المصالح، ويدخل في نصوص عامة تأمر بالخير والصلاح، وإذا ظهر المقصود فلا مشاحة في الاصطلاح(1).
وممن يكثر الاتكاء على مقولاتهم والاستناد إلى عباراتهم، ومن ثم تحريفها عن مواضعها، وتقويلها ما لم تقل، علماء أثبات لهم باعهم ومنزلتهم في الفقه والاجتهاد مثل الغزالي والشاطبي والعز بن عبد السلام ومن المحدثين الطاهر بن عاشور.
و أنا ناقل عن كل منهم بعض النقول التي تدحض مزاعم المؤولين المحرفين لكلام العلماء، الذين يتخذون من بعض أقوالهم في المصالح تكأة لنبذ نصوص الشرع الشريف من الكتاب والسنة، ويوهمون الناس أن هؤلاء العلماء يقولون بإدراك المصالح بالعقل المجرد وانهم لا يعبأون بالنصوص الجزئية التفصيلية:
- إدراك المصالح عند العز بن عبد السلام:
فهذا العز بن عبد السلام يصرح بأن حصول الاعتقاد لدى المجتهد بان هذه مصلحة لا يجوز إهمالها أو مفسدة لا يجوز قربانها يكون بتتبع مقاصد الشرع في جلب المصالح ودرء المفاسد، وان إدراك تلك المصالح والمقاصد ناتج عن فهم نفس الشرع وإن لم يرد فيها دليل جزئي من إجماع أو نص أو قياس خاص(2).
ويقول: "أما مصالح الدارين - الدنيا والآخرة - وأسبابها ومفاسدها فلا تعرف إلا بالشرع فإن خفي منها شيء طلب من أدلة الشرع: هي الكتاب والسنة والإجماع والقياس المعتبر والاستدلال الصحيح "(3).
__________
(1) د. أحمد الريسوني: نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي ص291.
(2) العز بن عبد السلام عبد العزيز السلمي : قواعد الأحكام في مصالح الأنام 2/189.
(3) نفس المصدر 1/8.(1/177)
وهذا على الرغم من تأكيده في غير موضع على أن الشريعة كلها مصالح: إما تدرأ مفاسد أو تجلب مصالح، إلا أنه لا يقصد من هذه العبارة أن تلك المصالح تدرك بالعقل.
فهو يقول بعدها: فإذا سمعت الله يقول { يا أيها الذين آمنوا } فتأمل وصيته بعد ندائه فلا تجد إلا خيرا يحثك عليه أو شرا يزجرك عنه أو جمعا بين الحث والزجر"(1)
وقال: فكل مأمور به فيه مصلحة الدارين أو إحداهما، وكل منهي عنه ففيه مفسدة أو في إحداهما"(2).
وتمسك العز بمرجعية الكتاب والسنة من البدهيات التي لا تحتاج إلى مزيد من التأكيد لولا ما يثيره أهل الشغب الفكري من تزوير لأقوال العلماء.
- إدراك المصالح والمقاصد عند الغزالي:
ولم تكن قضية " إدراك المصالح " لتغيب عن بال الإمام الغزالي إذ فطن - في خضم نفيه لكون المصالح المرسلة مصدرا مستقلا للتشريع – فطن إلى توهم الخصم بان اعتبار المصالح - كما في مسألة التترس - فيه تسليم باستقلال المصالح كمنبع ومصدر للتشريع، فرد هذا التوهم، لأن اعتبار المصالح العامة " المرسلة " ثابت بدلالة مقاصد الشريعة التي تبيناها بدلالة نصوص الكتاب والسنة، ولنفاسة كلامه وحسن عرضه رأيت إثباته كاملا.
قال بعد أن ذكر جملة من المسائل التي تشهد باعتبار المصالح:
" فإن قيل فقد مِلتم في أكثر هذه المسائل إلى القول بالمصالح، ثم أوردتم هذا الأصل في جملة الأصول الموهومة، فليلتحق هذا بالأصول الصحيحة ليصير أصلا خامسا بعد الكتاب والسنة والإجماع والعقل.
قلنا:
__________
(1) نفس المصدر 1/9.
(2) نفس المصدر 1/7.(1/178)
هذا من الأصول الموهومة، إذ من ظن أنه أصل خامس فقد أخطأ، لأنا رددنا المصلحة إلى حفظ مقاصد الشرع، ومقاصد الشرع تعرف بالكتاب والسنة والإجماع، فكل مصلحة لا ترجع إلى حفظ مقصودٍ، فُهِم من الكتاب والسنة والإجماع، وكانت من المصالح الغريبة التي لا تلائم تصرفات الشرع، فهي باطلة مطرحة، ومن صار إليها فقد شرع، كما أن من استحسن فقد شرع، وكل مصلحة رجعت إلى حفظ مقصود شرعي علم كونه مقصودا بالكتاب والسنة والإجماع، فليس خارجا من هذه الأصول، لكنه لا يسمى قياسا بل مصلحة مرسلة، إذا القياس أصل معين، وكون هذه المعاني مقصودة عرف لا بدليل واحد، بل بأدلة كثيرة لا حصر لها من الكتاب والسنة وقرائن الأحوال وتفاريق الأمارات، فسمي لذلك مصلحة مرسلة.
وإذا فسرنا المصلحة بالمحافظة على مقصود الشرع فلا وجه للخلاف في اتباعها، بل يجب القطع بكونها حجة.
وحيث ذكرنا خلافا فذلك عند تعارض مصلحتين ومقصودين، وعند ذلك يجب ترجيح الأقوى، ولذلك قطعنا بكون الإكراه مبيحا لكلمة الردة، وشرب الخمر، وأكل مال الغير، وترك الصوم، والصلاة، لأن الحذر من سفك الدم أشد من هذه الأمور، ولا يباح به الزنا والقتل لأنه مثل محذور الإكراه.
فإذن، منشأ الخلاف في مسألة التترس الترجيح - إلى أن قال-: " قلنا: عرفنا ذلك (جواز قتل الأسارى) لا بنص واحد معين، بل بتفاريق أحكام واقتران دلالات لم يبق معها شك في أن حفظ(1/179)
خطة الإسلام ورقاب المسلمين أهم في مقاصد الشرع من حفظ شخص معين في ساعة أو نهار، وسيعود الكفار عليه بالقتل، فهذا مما لا يشك فيه، كما أبحنا مال الغير بالإكراه لعلمنا بان المال حقير في ميزان الشرع بالإضافة إلى الدم، وعرف ذلك بأدلة كثيرة … وترجيح الكل معلوم: إما على القطع وإما بظن قريب من القطع يجب اتباع مثله في الشرع … فبهذه الشروط التي ذكرناها يجوز اتباع المصالح، وتبين أن الاستصلاح ليس أصلا برأسه بل من استصلح فقد شرع(1).
وهذه الشروط كون المصالح ضرورية، قطعية، كلية، لا تخالف مقصود الشرع، وترجيح الأقوى عند تعارض مصلحتين ومقصودين(2) أمر واجب.
وهذا المذهب المحرر في مسألة المصالح الذي سلكه الغزالي هو الصحيح الوسط بين من نفى اعتبار الشرع للمصالح مطلقا حتى أنه ليضيق ذرعا من مجرد ذكرها ولو لغة، وبين من جعل معيار الحلال والحرام هو نظر العقل للمصالح وتقديره لها، فاستبعد نصوص الشريعة من الكتاب والسنة وجعل المصالح - المقدرة بالعقل - حكما وقاضيا على النصوص.
فمما لا شك فيه أن الشرع قد اعتبر المصالح، ودل على بعضها صراحة بنصوص خاصة، ومنها ما دل عليها ضمنا، وفهم ذلك من النظر في أدلة الشرع وعلل نصوصه، وليس بمجرد العقل الحر والتفكير المنفلت من قيود الشرع، وهذه يرجع اعتبارها إلى نصوص الشرع العامة.
فتخصيص أو تأويل النصوص بها راجع إلى تخصيص النصوص ببعضها، وإن كان كل من المصلحتين المتعارضتين - ظاهرا - قطعية، فهو من باب تعارض القطعيات كما مر في مسألة التترس وهو تعارض ظاهري وهمي، وليس بحقيقي، فيجب أن يجري فيه الترجيح.
__________
(1) المستصفى بتحقيق الأشقر 1/429-431، بتصرف بسيط.
(2) نفس المصدر 1/431، من حاشية المحقق.(1/180)
وأما المصالح الملغاة، والتي دل الشرع على إلغائها فلا يجوز تخصيص وتأويل النصوص بها بحال، وان حصل فهو باطل، لأن فيه تحليلا للحرام، أو تحريما للحلال، وفتح هذا الباب كما قال الغزالي يؤدي إلى تغيير جميع حدود الشرائع ونصوصها بسبب تغير الأحوال والمصالح(1) وتقديرها.
- الشاطبي ومقاصد الشريعة:
ومن الضروري أن نعرف رأي الشاطبي في إدراك المقاصد والمصالح لأن كل الذين ينحون إلى تعطيل النصوص بمعارضتها بالمصالح والمقاصد يتكئون بشكل خاص على بعض العبارات للشاطبي، متغافلين أن الشاطبي على الرغم من إقراره أن الشرع جاء لمصالح العباد في العاجل
والآجل معا وأن ذلك من المسلمات القطعية التي عرفت بالاستقراء فانه أثار التساؤل المحوري والمفصلي في ختام كلامه على المقاصد(2): وهو كيف وبماذا يعرف مقصود الشارع مما ليس بمقصود، فهذه مسألة غير تلك، فكون الشرع قد جاء لمصالح العباد وخيرهم في الدنيا والآخرة مما لا خلاف فيه، وليس هو محل الإشكال، إنما المعضلة التي وقع فيها النزاع هي: بماذا تدرك مقاصد الشريعة؟
فيرى الشاطبي أن مقاصد الشريعة لها مسالك تدرك بها، لا يجوز، ولا يمكن إثباتها أو ادعاؤها بغيرها وهي:-
1ـ فهم القرآن وحديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - وفق اللسان العربي وأساليب العرب في البيان، ذلك لأن الشريعة عربية لا مدخل فيها للألسن الأعجمية، والقرآن عربي، فطلب فهمه يكون من هذا الطريق خاصة، فمن أراد تفهمه فمن جهة لسان العرب يفهم، ولا سبيل لتطلب فهمه من غير هذه الجهة(3)، لأن لسان العرب هو المترجم عن مقاصد الشرع (4)، وكلما كان المجتهد أمكن في العربية كان أقدر على إدراك مقاصد الشريعة إدراكا سليما.
__________
(1) انظر: نفس المصدر 1/416.
(2) انظر: الموافقات 2/391.
(3) انظر: الموافقات 2/65-66.
(4) نفس المصدر 4/324.(1/181)
وقد رد الشاطبي أسباب الانحراف والابتداع في الدين إلى الجهل بالأدوات التي تفهم بها المقاصد والى تحسين الظن بالعقل.
وقرر أخيرا أن على المجتهد الذي يريد استخراج العلل والمقاصد من القرآن والسنة، أن يسلك مسلك العرب في تقرير معانيها ومنازعها في أنواع خطاباتها، فإن كثيرا من الناس يأخذون أدلة القرآن بحسب ما يعطيه العقل فيها، لا بحسب ما يفهم من طريق الوضع، وفي ذلك فساد كبير وخروج عن مقصود الشرع(1)
2ـ أن يعرف الشارع إذا أمر أمرا فهو قاصد إلى تحقيق الفعل المأمور. وإذا نهى عن أمر فهو قاصد إلى منع حصول الفعل المنهي عنه أو " الأوامر تدل على القصد إلى حصول المأمورات، والنواهي تدل على القصد إلى منع حصول المنهيات(2).
وهذا في الواقع فرع لقاعدة وجوب حمل الألفاظ على ظواهرها، فالأمر يفيد الوجوب، والنهي يفيد التحريم، على أن هذا لا يعني بحال عدم النظر إلى علل النصوص واتباعها في تحديد المقاصد والمصالح المرسلة لا سيما إذا كانت العلة معلومة منصوصة(3).
معرفة المقاصد الأصلية والمقاصد التبعية:
ومضمون هذا التقسيم أن للأحكام الشرعية مقاصد أساسية تعتبر الغاية الأولى والعليا للحكم، ولها مقاصد ثانوية تابعة للأولى وحكمة لها، ومثال ذلك النكاح فإنه مشروع للتناسل على القصد الأول، ويليه طلب السكن والاستمتاع بالحلال والتجمل بمال المرأة … الخ على القصد الثاني.
فما نُص عليه من هذه المقاصد التوابع هو مثبت للمقصد الأصلي ومقو لحكمته، فاستدللنا بذلك على أن كل ما لم ينص عليه مما شأنه ذلك مقصود للشارع أيضا(4).
سكوت الشارع عن إعطاء حكم في مسألة ما زائدا عما كان في زمن التشريع مع وجود المقتضي لذلك فهو كالنص على أن قصد الشارع أن لا يزاد فيه ولا ينقص فيه(5).
__________
(1) نفس المصدر 1/44.
(2) نفس المصدر 2/393.
(3) نفس المصدر 3/394، و انظر: نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي ص299.
(4) الموافقات 2/396.
(5) نفس المصدر 2/410.(1/182)
استقراء أحكام جزئية يظهر فيها أن الشارع قرر فيها معنى معينا ينتظمها فتوارد أدلة كثيرة على معنى معين دليل على انه مقصود للشارع والاستقراء عنده مفيد للقطع(1)، وهذا مع انه لم يذكره صراحة ضمن الأدلة التي تعرف بها مقاصد الشريعة وإنما عرف ذلك من تتبع ما كتبه في الاستقراء(2). وقد بسطت القول في الاستقراء ومعناه وحجيته فيما مضى.
فمع أن الشاطبي يرى اعتبار المصلحة واستحضارها عند فهم النص أو إجراء القياس فانه يؤكد أن هذه المصلحة أساسا قد عرفت من مقصود الشارع، فلا يجوز أن تخرج منه ولا تناقض أصلا من أصوله(3). فإذا جاء نص شرعي بإلغاء مصلحة ما فلا أحد يقول باعتبارها ولا حتى أكثر المتحمسين لها، فأخذهم بالمصالح واعتبارهم لها يكون إذا لائمت مقاصد الشارع، ودلت عليها أصوله وقواعده العامة(4).
ونظرة إلى كتابه "الموافقات" تعطيك انطباعا أن الرجل أحرص ما يكون على تتبع النصوص ومناهج السلف في الاستدلال،وأنه أبعد ما يكون عن الصورة التي يرسمها له الكتاب
المعاصرون بصفته نموذجا للخروج عن النص بحجة فقه المقاصد، وإماما في جعل المصلحة المقدمة بالعقل منبعا ومصدرا للتشريع.
__________
(1) نفس المصدر 1/29.
(2) نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي ص308، و انظر: الموافقات 1/37-39، و2/51، و 3/148، والإعتصام 2/131-135.
(3) نفس المصدر 83.
(4) نفس المصدر 88.(1/183)
فنجده يقرر من غير مواربة إبطال العمل بالهوى ويذم متبعه(1)، ويعتبر أن الشريعة هي المرجع في أحكام الباطن كما أنها هي المرجع في أحكام الظاهر(2)، ويبين أن المطلوب من المكلف أن يكون قصده موافقا لقصد الشارع لا يخالفه(3)، وان كل عمل قصد به غير ما قصد الشارع فهو باطل(4)، ولذلك فصل القول في بيان الجهات التي تعرف بها مقاصد الشريعة كما مر آنفا، كما انه يعتبر أن من الخطأ اعتبار كليات الشريعة - مقاصدها - دون جزئياتها وبالعكس أيضا(5)، ويبين أن الأدلة الشرعية لا تنافي قضايا العقول(6)، وان العقل تابع للنقل(7)، ويؤكد أن جعل الحكم تابعا للدليل هو عمل الراسخين وان عكس ذلك أي بجعله تابعا للرأي والهوى هو عمل الزائغين(8)، ويفصل القول في ذم القول بالرأي في القرآن الكريم(9).
ويقرر في غير موضع وجوب طاعته - صلى الله عليه وسلم - والتأسي به وبصحابته الكرام، وقرر أن كل معنى لا يستقيم مع الأصول الشرعية لا يعتمد عليه(10)0).
وفي موضوع المصالح يبين أن الأسباب المشروعة لا تؤدي بذاتها إلى مفسدة وان الأسباب الممنوعة لا تؤدي إلى مصلحة(11).
__________
(1) الموافقات 2/173-176.
(2) نفس المصدر 2/275.
(3) نفس المصدر 2/331.
(4) نفس المصدر 2/333.
(5) نفس المصدر 3/5.
(6) نفس المصدر 1/90.
(7) نفس المصدر 3/27.
(8) نفس المصدر 3/77.
(9) نفس المصدر 3/421.
(10) 10) نفس المصدر 4/3، 25، 58، 66، 74.
(11) 11) نفس المصدر 1/273.(1/184)
ويقعد القاعدة الأساس في موضوع المصالح وهي أن المراد بالمصالح والمفاسد ما كان كذلك في نظر الشرع لا ما كان ملائما أو منافرا للطبع(1)2)، وبين أن المقاصد لا تعتبر إذا عادت على الأصل بالإبطال(2)3)، وأن المصالح والمفاسد ليست تابعة لأهواء النفوس(3)4)، ويبطل ما قيل عن أن مصالح الدنيا تدرك بالعقل(4)5)، ويؤكد أن الشريعة مصونة من الضياع والتبديل(5)6).
فإذا جئنا إلى كتابه "الاعتصام" علمنا أنه ما صنفه أساسا إلا في ذم الابتداع في الدين، وذم المبتدعين، وجعله دعوة صارخة للاعتصام بالكتاب والسنة، نجد ذلك واضحا في كل سطر، وفي كل فقرة بدءا من اسمه الذي يدل على مضمونه "الاعتصام"، مرورا بمقدمته التي شرح فيها الداعي إلى تصنيفه، وانه صار كالغريب بين علماء عصره لاعتصامه بنصوص الكتاب والسنة في الفتوى والاجتهاد، وبموضوعاته المختلفة التي شن فيها حملة على الابتداع في الدين وذم المبتدعة من الفرق، معززا مواقفه تلك بنصوص الكتاب والأحاديث الشريفة والآثار عن الصحابة والتابعين ونقول العلماء الأثبات … الخ.
__________
(1) 12) نفس المصدر 1/43.
(2) 13) نفس المصدر 2/13.
(3) 14) نفس المصدر 2/37.
(4) 15) نفس المصدر 2/48.
(5) 16) نفس المصدر 2/58.(1/185)
كل ذلك لا يدع مجالا لشك أن الرجل نصي لا يقيم وزنا للأهواء والآراء مقابل النصوص، ويؤكد أن ما ذكره وما أثر عنه من عبارات في اعتبار المصالح يعني اعتبار الشرع لها بأدلة كلية وأصول عامة كما بينت سابقا، لا أن سبيل إدراك المصالح هو الرأي والعقل المجرد، فذلك ما أنكره الشاطبي أشد الإنكار يقول: "أنه قد علم بالتجارب والخبرة السارية في العالم من أول الدنيا إلى اليوم، أن العقول غير مستقلة بمصالحها، استجلابا لها، أو مفاسدها استدفاعا لها دنيوية كانت أم أخروية … فلولا أن منَّ الله على الخلق ببعثة الأنبياء لم تستقم لهم حياة، ولا جرت أحوالهم على كمال مصالحهم، وهذا معلوم بالنظر في أخبار الأولين والآخرين " إلى أن قال " فعلى الجملة، العقول لا تستقل بإدراك مصالحها دون الوحي حتى لو قلنا أن الشرائع قد جاءت لمصالح العباد " أي بالتعليل " وأما على الفرض الآخر " أنها تعبدية محضة " فأولى في البعد "(1).
وأكد أن الشريعة جاءت كاملة لا تحتمل الزيادة ولا النقصان، وأن الشارع قد عين لمطالب العبد طرقا خاصة على وجوه خاصة، وأن من رام غير ذلك فهو مبتدع، ومحصول قوله بلسان حاله أو مقاله أن الشريعة لم تتم، وأنه بقي منها أشياء يجب أو يستحب استدراكها، كما قرر أن المبتدع معاند للشرع مشاق له وهو راد لحقيقة أن الشريعة مكتملة. ويزعم أن ثمَّ طرقا أخر، وأن ما حصره الشارع ليس بمحصور وما عينه ليس بمتعين، كأن الشارع يعلم ونحن أيضا نعلم، بل ربما يفهم من استدراكه الطرق على الشرع أنه علم ما لم يعلمه الشارع، وهذا إن كان مقصودا للمبتدع، فهو كفر بالشريعة والشارع، وان كان غير مقصود فهو ضلال مبين(2).
ونقل عن ابن الماجشون أنه قال " سمعت مالكا يقول: من ابتدع في الإسلام بدعة يراها
__________
(1) انظر: الاعتصام 1/46-48.
(2) نفس المصدر 1/49.(1/186)
حسنة فقد زعم أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - خان الرسالة لأن الله تعالى يقول: { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } (المائدة3)،
فما لم يكن يومئذ دينا فلا يكون دينا أبدا "(1).
وبين أن الشارع قد وضع الشرائع وألزم الخلق الجري على سننها، وان من رام غير ذلك فهو مبتدع قد نزل منزلة المضاهي للشارع، وإلا فلو كان التشريع من مدركات الخلق لم تنزل الشرائع ولم يبق الخلاف بين الناس، ولا احتيج إلى بعث الرسل عليهم السلام(2).
وقد أكد الشاطبي غير مرة أن العقل إذا لم يكن متبعا للشرع لم يبق له إلا الهوى والشهوة، واستدل على ذلك بقوله تعالى { يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعْ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ } ( ص-26)
فاستنبط منها أن الله جعل الأمر محصورا بين أمرين: اتباع الذكر واتباع الهوى وأكد هذا المعنى قوله تعالى { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنْ اللَّهِ } (القصص-5) إلى أن قال: "وإذا ثبت هذا
وأن الأمر دائر بين الشرع والهوى تزلزلت قاعدة حكم العقل المجرد، فكأنه ليس للعقل في هذا الميدان مجال إلا من تحت نظر الهوى فهو إذا اتباع الهوى بعينه في تشريع الأحكام "(3).
فليس في نصوص الشاطبي وعباراته وتقريراته وتأكيداته على الإطلاق أي متمسك "لأدعياء الاجتهاد المعاصر الذين يبغون تغليب " فقه المقاصد "، "والمصالح"، "والكليات " كما يزعمون على فقه النصوص والجزئيات، وكأن إدراك هذه المقاصد والمصالح والكليات يأتي من العقل المجرد والهوى، و لا يأتي بدلالة الجزئيات.
- إدراك المقاصد عند الطاهر بن عاشور:
__________
(1) المرجع السابق: 1/49.
(2) نفس المصدر 1/50.
(3) نفس المصدر 1/51، 52.(1/187)
ولنعرج على ما كتبه بعض العلماء المحدثين في فقه المقاصد و الذي يتخذه أدعياء الإجتهاد تكأة يدعم بها خروجه على الاجتهاد الصحيح، ذلكم هو الطاهر بن عاشور وكتابه المقاصد العامة في الشريعة الإسلامية.
ولن نطيل في استعراض عناوين الكتاب وفقراته ولسنا بصدد تحليل علمي لأصوله وقواعده، وحسبنا الإشارة إلى حقيقة ما سطره في كتابه المذكور، مما يتطابق فيه تماما مع ما سبق نقله عن الإمام الشاطبي، كيف لا وحقيقة كتابه هو اختصار وتعليق على الموافقات.
فهو يقر بأن المصالح تدرك بالتدبر في التشريعات التي سنها رب العالمين ولو كان يبدو في ظاهرها حرج وضرر(1).
ومع أنه يبين أن المقصود العام من التشريع هو حفظ النظام بجلب المصلحة ودرأ المفسدة فإنه قرر أن معرفة المصالح يتبع أحكام الشريعة ودراسة عللها واستكشاف أسرارها(2)، وأكد - مطابقا لما ذهب إليه الغزالي - أن المصلحة المرسلة حاصلها راجع إلى القياس فهي تعني عنده: قياس مصلحة كلية حادثة في الأمة لا يعرف لها حكم على محلية ثابت اعتبارها في الشريعة باستقراء أدلة الشريعة الذي هو قطعي أو ظني قريب من القطع.
وهو أولى وأجدر من القياس الذي هو إلحاق جزئي حادث لا يعرف له حكم في الشرع بجزئي ثابت حكمه في الشريعة للمماثلة بينهما في العلة المستنبطة وهي مصلحة جزئية ظنية غالبا لقلة صور العلة المنصوصة(3).
ونجده يتكلم عن طرق إثبات المقاصد الشرعية ولم يخرج عما قرره الشاطبي، إذ حصرها في استقراء الشريعة في تصرفاتها، وفي فهم أدلة القرآن والسنة المتواترة بحسب الاستعمال العربي على تفصيل له في ذلك(4).
__________
(1) ابن عاشور الطاهر: المقاصد العامة في الشريعة الإسلامية ص13.
(2) نفس المصدر ص65-78.
(3) نفس المصدر ص83.
(4) نفس المصدر ص19-21.(1/188)
وفي بيانه لمعنى مقاصد التشريع العامة يؤكد ما قاله الشاطبي من أنها معان وحكم ملحوظة للشارع في جميع أحوال التشريع أو معظمها(1)، أي أن سبيل إدراك المصالح والمقاصد هو استقراء نصوص الشريعة واستنباط تلك المقاصد منها.
وقد اشترط لصحة اعتبار تلك المعاني المستنبطة بطريق الاستقراء مقاصد شرعية أربعة ضوابط وهي:- الثبوت والظهور والانضباط والاطراد. وهو يريد بالثبوت أن تكون تلك المعاني مجزوما بتحققها أو مظنونا ظنا قريبا من الجزم.
وأما الظهور فهو يعني الاتضاح، بحيث لا يختلف الفقهاء في تشخيص المعنى ولا يلتبس على معظمهم بمشابهة، مثل حفظ النسب الذي هو المقصد من مشروعية النكاح، هو معنى ظاهر ولا يلتبس بحفظه الذي يحصل بالمخادنة أو بالإلاطة- وهي إلصاق المرأة البغي الحمل الذي تعلقه برجل معين ممن ضاجعها.
والمراد بالانضباط أن يكون للمعنى حد معتبر لا يتجاوزه ولا يقصر عنه، مثل حفظ العقل
فهو منضبط إلى القدر الذي يخرج به العاقل عن تصرفات العقلاء وهو - حفظ العقل، المقصود من مشروعية التعزير بالضرب عند الإسكار.
والمراد بالاطراد أن لا يكون المعنى مختلفا باختلاف أحوال الأقطار والقبائل والأعصار، مثل وصف الإسلام والقدرة على الإنفاق، فهو مقصد مطرد كشرط في الكفاءة والزواج، وإذا اختل وصف الاطراد بان كان المعنى صلاحا تارة وفسادا أخرى، فهذا لا يصلح لاعتباره مقصدا شرعيا على الإطلاق، ولا لعدم اعتباره على الإطلاق، بل يوكل تعيين الوصف الجدير بالاعتبار في أحد الأحوال دون غيره إلى نظر علماء الأمة وولاة أمورها، الأمناء على مصالحها من أهل الحل والعقد(2).
__________
(1) نفس المصدر ص51.
(2) المرجع السابق: ص52، بتصرف بسيط.(1/189)
هذه هي مقاصد التشريع عند الطاهر بن عاشور، وهذه هي ضوابطها وشروطها، فقد حدها بمدركات العقول السليمة، لا مدركات العقول الشاذة، والأمثلة التي ساقها هي من النوع الذي لا يختلف عليه اثنان، فهي من البدهيات التي يدركها الإنسان بمجرد فطرته. وأكد هذا المعنى عند ما قرر أن مقاصد الشريعة الإسلامية إنما بنيت على وصف الشريعة الأعظم وهو الفطرة وهي الحالة التي خلق الله عليها النوع الإنساني سالما من الاختلاط بالدعوات والعادات الفاسدة(1).
وإذا أمعنا النظر في الضوابط والشروط التي وضعها وشرطها للمعاني حتى تصلح أن تسمى أو تكون مقاصد شرعية، فإننا نجدها تنطبق على أوصاف العلة الشرعية في القياس الأصولي المعروف. فهو يشترط ثبوت ذلك المعنى جزما أو بظن قريب من الجزم، وهو شرط زائد على شروط العلة إذ يكفي أن تثبت بدليل آحاد صحيح، فأين تلك المعاني التي يخترعها أدعياء الاجتهاد، ويجعلونها مقاصد للتشريع، هل ثبتت بدليل آحاد فضلا عن التواتر؟ وكيف تثبت بدليل متواتر وفي الشريعة نصوص متضافرة تناقضها وتبطلها(2)؟
__________
(1) نفس المصدر ص58.
(2) مثل اعتبارهم حرية الاعتقاد وحق المواطنة من مقاصد الشريعة كما سيأتي في الباب الثاني.(1/190)
وهو يشترط للمعنى الذي يصلح أن يعتبر مقصدا للتشريع أن يتفق الفقهاء عليه وان لا يلتبس بغيره من المعاني، فأين المعاني التي اخترعوها وابتدعوها من الصحة، بله من اتفاق الفقهاء من مثل "حقوق الإنسان" و "والحريات العامة" و "والتعددية " بفروعها السياسية والثقافية والحزبية" أين هذه المعاني بإطلاقها كما ترد في كتابات أدعياء الاجتهاد؟ من الصحة فضلا عن اتفاق الفقهاء؟ وأين بعدها عن الالتباس والمشابهة؟ ألا تلتبس هذه المفاهيم المثقلة بدلالات التاريخ الغربي ومضامينه وثقافته؟ فكيف تكون مقاصد عامة للتشريع الإسلامي وهي على هذا النحو من ضعف الثبوت وشدة الالتباس والمشابهة بالأفكار والمفاهيم السائدة المحادة للمفاهيم الإسلامية؟
وحتى يصلح المعنى لأن يكون مقصدا عاما للتشريع، فان ابن عاشور يشترط له الانضباط، وهو يعني أن يكون له معالم توضحه وتحدده وتميزه عن غيره، فأين " المقاصد " المدعاة من هذا الضبط.
إنك لا تكاد تجد أحدا من مصمميها قادرا أن يحدها أو يوضحها أو يجيب على إشكالاتها الشرعية، وعلى سبيل المثال أنهم يطلقون القول بأن الإسلام أرسى التعددية السياسية والحزبية واحترام آراء الآخرين، ثم لا يحيرون جوابا إذا كان مؤدى كلامهم إباحة الكفر وإظهار الردة وإباحة الاستقطاب الحزبي على أساس لا ديني، وجواز الطعن في الإسلام بذريعة حرية الرأي.
ولا بد للمعنى حتى يصلح أن يكون مقصدا عاما للتشريع أن يكون مطردا لا يختص بحال دون حال، ولا قطر دون قطر ولا زمن دون زمن - أي أن يكون من المعاني الثابتة التي حرص الإسلام على مراعاتها في كل زمان ومكان وحال. فهي ترتقي إلى مرتبة الضروريات.
وإذا اختل الاطراد، وتحقق المعنى في حال دون حال لم يعد صالحا لاعتباره مقصدا تشريعيا عاما ولا خاصا.(1/191)
فأين هذه " المقاصد " المبتدعة من هذه المعالم والضوابط؟ فقد أصبح شائعا أن يبتدع كل شخص ما يروق له من المعاني ويخلع عليها حلة " المقاصد الشرعية " ليسوم بها النصوص الشرعية عسف التأويل والتفسير مما لا يخطر على بال.
ولهذه الأسباب ضبط الأصوليون ومنهم الطاهر بن عاشور المقاصد الشرعية بضرورة كونها ثابتة بالجزم أو بظن قريب من الجزم وبالظهور أي اتفاق الفقهاء على المعنى وعدم التباسه عليهم، وبكونها منضبطة متميزة عن غيرها، وأخيرا بكونها مطردة في كل زمان ومكان حتى لا يخلع من شاء على أوهامه وتخيلاته ثوب المعاني والمقاصد الشرعية.
قال بعد ذكر تلك الضوابط "… فبمثل هذه المعاني بشروطها يحصل اليقين بأنها مقاصد شرعية(1)" " أما الأوهام والتخيلات التي يخترعها الوهم أو قوة الخيال فليس بصالح أن تعد مقصدا شرعيا "(2).
- إدراك المصالح المقاصد عند الإمام الجويني:
وها أنذا أختم هذا المبحث بكلام نفيس لإمام الحرمين - الجويني - في كيفية إدراك مقاصد الشارع، ومعرفتها جاء به في سياق كلامه على التأويلات الفاسدة.
فقد نص الجويني على أن مقصود الشارع يتبين من لفظه، لا مما يظنه المتأول أنه مراد الشارع وقصده، وهو يريد أن قصد الشارع يعرف من ظاهر اللفظ قرانا أو سنة، لا بالتشبيهات والأقيسة المعارضة له(3).
يقول في بيان ذلك وتوضيحه " ذلك أنا علمنا أن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانوا يعرفون قصد رسول - صلى الله عليه وسلم - من ظاهر لفظه، ويكتفون به، ولا يميلون إلى غيره، ويرون من ركن إلى القياس لإزالة ظاهر اللفظ في حكم الراد لخبره - صلى الله عليه وسلم -، والجحد في هذا المقام الآن البديهة، ومداراة الضرورة"(4).
__________
(1) المرجع السابق ص53.
(2) نفس المصدر ص54.
(3) البرهان في أصول الفقه 1/532.
(4) نفس المصدر 1/534.(1/192)
ثم قال " فما ظهر فيه قصد الشارع لم يجُزْ مخالفة ظاهر قصده بقياس، فلهذا لم يشتغل الأوائل المتقدمون بما أنشأه ناشئة الزمان من التأويلات، ولم يكن ذلك لغفلتهم عن أمثالها، فلفظ الرسول - صلى الله عليه وسلم - محمول على ما الشرع عليه الآن ومن قدر أمرا على مخالفة ما يصادفه الآن، فدعواه من غير حجة مردودة عليه وهذا متفق عليه "(1)، ثم قال " فمن رام مخالفة قصده - الذي عرف من ظاهر لفظه - لم يقبل منه، وان عضده بقياس، فمستنده ظن المستنبط أنه مراد الشارع، وليس له في ألفاظه ذكر، فما يظهر من لفظة الرسول - صلى الله عليه وسلم - كيف يترك بما يظنه القايس على بعد من لفظ الرسول - صلى الله عليه وسلم - (2).
أهم القواعد المستخلصة في التأويل بدليل "المصالح والمقاصد والكليات"
1. أن المصالح في الأصل ثلاثة أنواع: معتبرة - ملغاة - مرسلة.
2. أن المصالح المرسلة عند الأصوليين هي ما لم يشهد له من الشرع دليل معين بالاعتبار ولا بالبطلان.
3. أن المصالح بمعنى اتخاذ السياسات والتدابير المختلفة لجلب المنافع للناس ودفع المضار عنهم: مثل العمل والكسب والتداوي و اتخاذ الملابس والمراكب المستحدثة … أنها من المباحات وليس هو محل الإشكال لأنه لا يعارض النصوص بحال، ولم يخالف في اعتباره أحد من الفقهاء أو الأصوليين.
4. أن البحث والإشكال هو فيما عارض من المصالح نصا معينا أو قاعدة شرعية ولو من بعض الوجوه، فهل تؤول النصوص الشرعية بالمصالح عند التعارض؟
__________
(1) نفس المصدر 1/536-537.
(2) نفس المصدر 1/540، وقد تقدم في مبحث الظاهر عند الجمهور.(1/193)
5. يستخلص من تحليل المسائل والأمثلة التي ذكرها الغزالي وغيره من أئمة الأصول أنه ليس هناك مصالح مرسلة بالمعنى المطلق للإرسال، وأن ما يسمى " بالمصالح المرسلة " هي في الحقيقة مصالح معتبرة وليست مرسلة، لكن الذي دل على اعتبارها ليس نصا جزئيا واحدا بل نصوص كثيرة غير محصورة. فكان ذلك التعارض في الحقيقة تعارضا بين نصوص شرعية جزئية وبين أصول " مصالح " ثابتة لا بدلالة نص واحد بل بدلالة نصوص غير محصورة، وهو ما انتهى إليه الغزالي وكل من حقق وحرر هذه المسألة من المعاصرين.
6. إن معنى عملية تأويل النصوص بالمصالح هي من باب الترجيح الأصولي لقضية كلية على قضية جزئية ويشترط في هذه المصلحة أن تكون: ضرورية قطعية، كلية لا تعارض مقصود الشرع وراجحة على المصلحة المتحققة من تطبيق النص ذاته.
7. إن مفاهيم "المصالح العامة" و "ومقاصد الشريعة " و"أصول الشريعة " و"كليات الشريعة" و"القواعد الشرعية" كلها مصطلحات تحمل ذات المضامين وما هي إلا عبارات مختلفة لشيء واحد، وهي المعاني التي دلت عليها نصوص جزئية عديدة وتواردت عليها حتى رفعتها إلى درجة التواتر المعنوي فاكتسبت وصف القطعية ولذلك كان التأويل بدليل القواعد الفقهية هو تأويل بدليل المصالح ذاتها لأن القواعد الفقهية تمثل مصالح عامة.
8. إن سبيل إدراك هذه المعاني " المصالح - المقاصد - الأصول - القواعد " ليس هو العقل المجرد إنما هو النظر في نصوص الشريعة الجزئية من قرآن وسنة فإذا تواردت على تأكيد معنى معين كان ذلك المعنى مصلحة عامة ومقصدا للشريعة وأصلا لها وقاعدة من قواعدها.
9. وعليه فإن طرق إثبات مقاصد الشريعة هي:
- استقراء الشريعة في تصرفاتها.
- فهم أدلة القرآن والسنة وفق اللسان العربي.
- معرفة المقاصد الأصلية والتبعية.
10. أما ضوابط المقاصد المستنبطة فهي:
- أن تكون ثابتة بالقطع أو بظن قريب من القطع.(1/194)
- أن تكون ظاهرة واضحة يتفق عليها العلماء، ولا تلتبس بغيرها من المعاني.
- أن تكون منضبطة المعالم بحيث تكون معلومة بحدود لا تتجاوزها ولا تقصر عنها.
- أن تكون مضطردة بحيث لا تختلف باختلاف الأمكنة والأزمنة والأحوال الشخصية.
وأنه إذا اختل أحد هذه الضوابط والأوصاف لم يعد ذلك المعنى - في نظر الأصوليين صالحا لاعتباره مقصدا من مقاصد الشريعة.
11. أن مقصود الشارع يتبين من لفظه لا مما يظنه المتأول أنه مراد الشارع وقصده، لأن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانوا يعرفون قصده من ظاهر لفظه، ويكتفون به، ولا يميلون إلى غيره، ولم يكن ذلك لغفلتهم عن مثلها.
12. وأن من رام مخالفة قصد الشارع بإزالة ظاهر اللفظ بقياس، فهو بحكم الراد للنص كما قال الإمام الجويني.
13. أن من الخطأ الفاحش اعتبار كليات الشريعة - مقاصدها دون جزئياتها وبالعكس كما نص عليه الشاطبي.
14. أن المراد بالمصالح والمفاسد، ما كان كذلك في نظر الشرع لا ما كان ملائما أو منافرا للطبع.
15. إدراك مقاصد الشرع ناتج عن فهم نفس الشرع(1).
16. أن الأسباب المشروعة لا تؤدي بذاتها إلى مفسدة وأن الأسباب الممنوعة لا تؤدي إلى مصلحة.
17. أن المقاصد لا تعتبر إذا عادت على الأصل بالإبطال.
18. إن القول باستقلال العقل بإدراك المصالح يلزم منه القول باستقلاله بالتشريع وهو مضاهاة للشارع، ولو كان التشريع من مدركات الخلق وعقولهم لم تنزل الشرائع أصلا، ولما احتيج إلى بعث الرسل عليهم الصلاة والسلام، وان العقل إذا لم يكن متبعا للشرع لم يبق له إلا الهوى والشهوة.
__________
(1) قواعد الأحكام 2/189.(1/195)
19. أنه قد تبين أنه ليس في نصوص العلماء كالشاطبي والعز بن عبد السلام وغيرهم أي متمسك لأدعياء الاجتهاد المعاصر الذين يبغون تغليب " فقه "المصالح والمقاصد والكليات" كما يزعمون على فقه النصوص والظواهر والجزئيات، وكأن إدراك هذه المعاني يكون بالعقل المجرد والهوى ولا يأتي بدلالة النصوص ذاتها.
20. وعليه فإن اجتزاء بعض عبارات هؤلاء الأئمة في المصالح والمقاصد وقطعها من سياقها هو عين التحريف والتزوير مما ينافي الأمانة العلمية ويخلع عن صاحبها وصف الاجتهاد.
21. إن قول العلماء بان الشريعة قد جاءت لمصالح العباد متفق عليه لا يجادل فيه أحد، إلا أن هذا شيء وسبيل إدراك تلك المصالح ومعرفتها مسألة أخرى، وأنه لا يلزم من القول بان الشريعة جاءت لمصالح العباد أن يكون سبيل معرفتها هو العقل، فذلك ما لم يقل به أحد، ولله الحمد.
22. إن حقيقة النظر في مآلات الأفعال هي نظر إلى المصالح أو المفاسد المترتبة على تلك الأفعال، ولذلك كان التأويل بدليل المصالح هو تأويل بدليل النظر في مآلات الأفعال.
المبحث الرابع
الركن الرابع: المعنى المستنبط بدليل التأويل
(أثر التأويل)
إذا توفرت أركان التأويل وشروطه السابقة كان المعنى (الحكم) المستنبط بالتأويل صحيحا مقبولا. فالمعنى أو الحكم يكون صحيحا في الحالات التالية:
1. أن يكون النص ذاته قابلا للتأويل بأن يكون ظاهرا أو نصا….الخ وقد أفضت في بيان معناها ومجال الاجتهاد في كل منها.
فإذا تخلف هذا الشرط كان الحكم المستنبط باطلا بالضرورة، لأن النص حينئذ هو إما مفسر أو محكم، وكلاهما قطعي الدلالة على المراد لا يقبل التأويل.(1/196)
ذلك أنه إذا لم تجز معارضة الظاهر بالاحتمالات المرجوحة، لأن دلالته راجحة وظنية، فمن باب أولى أن لا تجوز معارضة المحكم - المفسر لأن دلالتهما على المراد قطعية. ولأن أقصى ما يفيده هذا الحكم المستنبط بالتأويل هو الظن، وهو لا يصلح للوقوف في وجه الأحكام، والمعاني التي ثبتت بأدلة قطعية، وعليه فان الأحكام والشرائع والعقائد التي ثبتت بدليل قطعي لا يجوز معارضتها بأحكام ثبتت بأي ضرب من ضروب التأويل لأن الظني لا يترجح على القطعي. ونص الطوفي على أن المتأول عليه أن يُبين الاحتمال المرجوح - المعنى أو الحكم المستنبط، وان يبين دليله الذي يعضدة ويقويه(1). وكل من تكلم في التأويل كالجويني والغزالي والآمدي، ساقوا عشرات الأمثلة على التأويل الفاسد، وبينوا سبب فسادها، وقد مر بعضها والذي يرجع أحيانا إلى عدم احتمال اللفظ المؤول لذلك الاحتمال لغة حسب عرف الاستعمال وعادتهم في الخطاب.
2. أن يكون المؤول أهلاً للاجتهاد والتأويل، وان تتحقق فيه شروطها التي بيناها في موضعها. فإذا لم يتحقق الشروط فتأويله باطل، لأنه صادر عن غير ذي صفة، وهو كالقائل في القرآن برأيه فهو مخطئ، وان أصاب بخبط عشواء،وذلك حال كتابنا وصحافيينا الذين يتقمحون أبواب الاجتهاد في الأحكام الثابتة، كما سنرى ذلك في الباب الثاني.
3. أن يكون هذا الحكم المستنبط بالتأويل نابعا ومسندا بدليل قوي معتبر يرجحه على دلالة الظاهر الراجحة في الأصل. فان كان هذا الحكم مستندا إلى دعوى مجردة أو احتمال موهوم ولا يدل عليه دليل أو دل عليه دليل ضعيف أو مساو لا يقوى ولا يترجح على الظاهر، فهو تأويل باطل مردود. وقد فصلنا هذا المعنى مرارا.
يقول ابن تيمية في بيان وجوه التأويل الباطل وأسبابه:
__________
(1) انظر: شرح مختصر الروضة 1/570.(1/197)
أن يكون المعنى المذكور باطلا: لكونه مخالفا لما علم. فهذا هو في نفسه باطل فلا يكون الدليل عليه إلا باطلا. لأن الباطل لا يكون عليه دليل يقتضي انه حق. ما كان في نفسه حقا: لكن يستدلون عليه من القرآن والحديث بألفاظ لم يرد بها ذلك ( أي أن اللفظ لا يحتمله )(1).
وإذا رجعنا إلى تعريف الآمدي الذي اخترناه ورجحناه لمعنى التأويل، نجده اشترط في المعنى المستنبط بدليل التأويل أن يكون مما يحتمله اللفظ أصلا، فان كان اللفظ لا يحتمله لم يصح حمله عليه وصرفه إليه(2).
ويقول الدريني مبينا سبب فساد التأويل:
" فساد التأويل يتأتى من كونه لا موجب له - عدم وجود دليل يوجب ذلك المعنى أو الحكم - أو لكونه مناقضا لوحده منطق التشريع في قواعده العامة المحكمة، أو للأحكام المعلومة من الدين بالضرورة من النصوص القطعية، أو لكونه مناقضا للمنطق اللغوي بالكلية بأن يكون تأويلا بعيدا مستكرها لا يحتمله اللفظ بوجه من وجوه الدلالة(3).
يقول ابن تيمية:
فإذا علم أن الصلوات الخمس واجبة على كل أحد ما دام عقله حاضرا علم أن من تأول نصا على سقوط ذلك عن بعضهم فقد افترى. ومن علم أن الخمر والفواحش محرمة على كل أحد ما دام عقله حاضرا علم أن من تأول نصاً يقتضي تحليل ذلك لبعض الناس انه مفتر(4).
وأقول:
من علم أن الله حكم بكفر اليهود والنصارى وجعلهم من أهل النار وأحبط أعمالهم علم أن من تأول نصا يقتضي أنهم مؤمنون وأن فعلهم لبعض الخير هو عمل صالح فهو مفتر مبطل.
ومن علم أن الله -عز وجل- قد أوجب الحدود الشرعية زجرا وجبرا، وأوجب الحجاب على البالغة وحرم الاختلاط والردة وأوجب الجزية على أهل الذمة علم أن من تأول نصا يسقط واحداً من تلك الواجبات أو تحليل تلك المحرمات فهو مفتر مبطل.
__________
(1) انظر: مجموع الفتاوى الكبرى 13/240.
(2) انظر صفحة 20 من هذا البحث.
(3) المناهج الأصولية 173.
(4) مجموع الفتاوى الكبرى 13/141.(1/198)
الباب الثاني
تأويل النصوص
والمفاهيم الشرعية في قراءات المعاصرين
ويحتوي على الفصول التالية:
الفصل الأول: قراءات المؤولين المعاصرين.
الفصل الثاني: قراءة في قراءات المؤولين.
الفصل الأول
قراءات المؤولين المعاصرين
ويحتوي على المباحث والمطالب التالية:
- المبحث الأول: التأويل في مجال العقيدة.
- المبحث الثاني: تأويلهم في مفهوم القرآن وعلومه .
- المبحث الثالث: التأويل في مفهوم السنة الشريفة .
- المبحث الرابع: التأويل في أصول الفقه .
- المبحث الخامس: التأويل في النظام الاجتماعي الإسلامي:
المطلب الأول : التاويل في حرية الاعتقاد والراي والفكر 0
المطلب الثاني: التاويل في مفهوم المواطنة (أحكام أهل الذمة).
المطلب الثالث: تاويل النصوص الموجبة للحجاب الشرعي والمحرمة للاختلاط والسفور0
- المبحث السادس: التأويل في النظام السياسي الإسلامي.( شرعية القوانين والسلطة)
- المبحث السابع: التأويل في النظام الاقتصادي (مفهوم الربا وحكمه ).
المبحث الأول
التأويل في مجال العقيدة
مجال التجديد في العقيدة:
حين قلت في بداية البحث إنني لن أتطرق إلى التأويل المعاصر في مجال العقيدة فقد انصرف ذهني إلى صفات الله عز وجل، وأسمائه وأفعاله، والتي خاض فيها المتكلمون الأولون وأكثروا، حتى أنهم لم يدعوا قولا لقائل يأتي بعدهم ويزيد في هذا المضمار.
أضف إلى ذلك أن الكلام والبحث في صفات الله عز وجل وأسمائه وأفعاله قد كفانا الله شره في هذه الأزمنة ولم يعد يشكل محورا للفكر الإسلامي المعاصر، أعني لم يعد هو محور السجالات والمطارحات الفكرية بين العلماء والمفكرين.(2/1)
ولكن جريا على سنة الله –تعالى- أن يكون لكل زمان قضاياه وإشكالياته الفكرية والاجتماعية، فقد نبتت نابتة في هذا الزمان أخذت على عاتقها إعادة قراءة وتفسير النصوص الشرعية من القرآن والسنة حسب ما تمليه عليها عقولها وأهواؤها، دون تقيد بالضوابط والقيود والشروط التي اجتمعت عليها الأمة وعلماؤها، وارتضوها خلفا بعد سلف، بل تفلتوا حتى من عقال اللغة ودلالاتها ومنطقها الذي تواتر عن العرب قبل الإسلام. مما يجعل الباحث حائرا بل ساخرا من الاجتهادات والتأويلات الفجة التي خرج بها هؤلاء القوم.
"إن من أخطر القضايا التي تطرح نفسها على الدعاة والمفكرين المسلمين بحق هذه الأيام هي محاولة خصوم الفكر الإسلامي التشكيك في المسلمات، وبذل الجهد في تحويل ( اليقينيات ) إلى ( ظنيات ) و ( القطعيات ) إلى ( محتملات ) قابلة للأخذ والرد والجذب والشد، والقيل والقال.
وحسبهم الوصول إلى هذه النتيجة ( زحزحة الثوابت ) أو مناطحتها بغية ( تذويبها ) حتى لا تقف سدا منيعا أمام الذين يريدون أن يهدموا حصون الأمة أو على الأقل: يخترقوا أسوارها"(1).
هذا وإن الانحراف في فهم العقيدة يعد أكثر خطرا من غيره، ولقد كان هذا الانحراف أساس كل الانحرافات الفكرية التي تلت في حياة المسلمين. ولا أكون مبالغا إذا قلت إن ما يعانيه المسلمون من ضعف عام في كل جوانب الحياة إنما يرجع إلى سوء فهم للعقيدة.
ولقد حذرنا الله تبارك وتعالى من الاختلاف في أصل الدين لأنه يقود صاحبه إلى الكفر الصريح { …… وَلا تَكُونُوا مِنْ الْمُشْرِكِينَ (*) مِنْ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ }
__________
(1) د. يوسف القرضاوي: موقف الإسلام العقدي من كفر اليهود والنصارى ص5.(2/2)
(الروم/31-32)، وحذرنا من هذه الفرقة والاختلاف رسولنا - صلى الله عليه وسلم - بقوله { والذي نفس محمد بيده لتفترقن أمتي على ثلاث وسبعين فرقة فواحدة في الجنة، واثنتان وسبعون في النار } (1) وما ذلك إلا لخطورة الاختلاف في أصل الدين.
وما يقوم به كثير ممن ينتسبون إلى عالم الفكر والثقافة هذه الأيام من إعادة صياغة لمفاهيم الدين والعقيدة هو عين التبديد لا التجديد وهو جوهر الابتداع لا الإبداع.
ذلك أن التجديد في العقيدة يقتصر على التنقية والتصفية، أي تنقية العقيدة وتصفيتها مما شابها وداخلها من أوهام الناس وأباطيلهم وبدعهم وخرافاتهم وتأويلاتهم، كما تعني تصحيح فهم المسلمين لها كما فهمها سلفهم الأول، وإبراز دور التوحيد وأثره في إشعال جذوة النفوس بالإخلاص والمراقبة وحثها على الجهاد والنهوض بدورها.
ولا يعني تجديد العقيدة بحال، إضافة مفاهيم جديدة أو تغيير مفاهيمها الأصلية لأن العقيدة لا تقبل جديدا بهذا المعنى، وليست هي محل اجتهاد ونظر(2).
تأويل النصوص القاضية بتكفير اليهود والنصارى:
وآتي الآن إلى موضوع البحث المقصود هنا ألا وهو تأويلهم وتحريفهم لمفهوم الإيمان والإسلام والعمل الصالح الذي تكون به النجاة يوم القيامة.
فقد خرج علينا نفر جديد من الكتاب والمفكرين بمفهوم جديد للإيمان والإسلام والعمل الصالح، ومضمون تلك الدعاوى أن لا تفاضل بين الناس مهما اختلفت أديانهم ومعتقداتهم، فلا أفضلية ولا تميز للمسلم على اليهودي أو النصراني أو المجوسي أو المشرك أو الصابئ لمجرد كونه مسلما. فهذا الإسلام " مجرد لافتة " لا تنفعه ولا تكفيه و إنما التمييز هو بالعمل الصالح أولا وأخيرا!.
__________
(1) رواه أحمد 2/332 وصححه الألباني، انظر: صحيح الجامع الصغير وزيادته رقم (1082).
(2) انظر: عباس حسني محمد: الفقه الإسلامي آفاقه وتطوره ص86، الشيخ خالد العك: الفرقان والقرآن ص751.(2/3)
والطريق إلى السماء ليس حكرا على نفر من الناس، والجنة ليست وقفا على من يسمون أنفسهم بالمسلمين، ولا يعقل أن يحابي الله من يسمي نفسه مسلما ويفضله على من يسميه يهوديا أو نصرانيا بمجرد " اللقب " لأن الجميع أمام الله سواء، ومن يؤمن من تلك الطوائف بالله واليوم الآخر فله أجره عند ربه ولا خوف عليه ولا حزن، وأنساب الشعوب وما تدين به من دين وما تتخذه من كل ذلك لا أثر له في رضا الله ولا غضبه، و الناس في منطقة الشرق الأوسط. كلهم موحدون بطريقة أو بأخرى، لأنه حتى الأقانيم الثلاثة في الفكر المسيحي تختم باله واحد، حتى الفراعنة في مصر القديمة كانوا موحدين لأن الآلهة وإن كانت متعددة ظاهرا كان لها إله كبير.
وأصحاب هذه الدعاوى والأقوال هم الكاتب الصحفي فهمي هويدي ، ومنهم المنسوب للمشيخة محمود أبو رية صاحب الهجوم المعروف على السنة ومصنفاتها، والشيخ عبد العزيز جاويش من رواد الإصلاح والدكتور عبد العزيز كامل، والدكتور محمد عمارة الذي ينعت دوما " بالمفكر الإسلامي الكبير"، والمستشار محمد سعيد عشماوي، وروجيه جارودي وسيأتي تفصيل قوله، والدكتور مصطفى محمود الطبيب المعروف(1).
__________
(1) انظر:
- فهمي هويدي: القرآن والسلطان ص192 وما بعدها، يوسف كمال: العصريون معتزلة اليوم ص108-112.
- عبد السلام بسيوني: العقلانية هداية أم غواية ص46-48،129، روجيه جارودي: الإسلام الحي ص16-18.
- جارودي: الإسلام في الغرب ص8.
- د. عبد العزيز كامل: الإسلام والعصر ص57-69.
- د. مصطفى محمود: محاولة لفهم عصري للقرآن ص134-137.
- د. محمد عمارة: الإسلام والوحدة الوطنية ص113-114،دار الهلال – مصر عدد 338 – ربيع أول 1399هـ- فبراير 1979م.(2/4)
وأما الدليل على إسلام تلك الطوائف ودخولها في مسمى " المسلمين " عند هؤلاء، وان ما تقوم به من أعمال وهي على عقائدها هو من العمل الصالح فقوله تعالى { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ }
( البقرة / 41 ) حيث وعد الله بالأجر والمثوبة كل من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا ولو بقي
على يهوديته أو نصرانيته.
كما يدل له عموم قوله تعالى { وَمَنْ يَعْمَلْ مِنْ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا } ( النساء/124) وعموم قوله تعالى { فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره،ومن
يعمل مثقال ذرة شرا يره } بدون تفصيل ما إذا كان على ملة محمد - صلى الله عليه وسلم - أم على ملة أخرى.
ودليل آخر يضاف – بزعمهم- إلى الأدلة السابقة قوله تعالى { وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ } ( آل عمران /85).
فقالوا المراد بالإسلام أصل التسليم والانقياد الذي كان عليه الأنبياء جميعهم من لدن نوح حتى محمد صلى الله عليهم ومنهم بالطبع موسى وعيسى فأتباعهم مسلمون أيضا(1).
ويتساءل أبو رية متعجبا - في مناظرة مع بعض المشايخ - كيف يعقل أن يدخل أديسون مخترع الكهرباء النار بعد أن أضاء العالم كله حتى مساجدنا وبيوتنا(2).
__________
(1) المراجع السابقة بأرقامها المثبتة.
(2) العصريون معتزلة اليوم ص112.(2/5)
وعلى منواله يتهكم فهمي هويدي ويتعجب كيف يدعو أحد الخطباء على اليهود والنصارى بالتدمير وتفريق الشمل وسجاد المسجد مصنوع في ألمانيا و المكيفات في أمريكا ومكبرات الصوت في هولندا... الخ(1)، هذه الترهات.
وسيذكر الرد على هذه التأويلات الباطلة في النقاط التالية:
أولا:- اليهود والنصارى كفار بنصوص لا تحصر
وهذه الدعاوى وان كانت من التهافت بدرك لا تحتاج معه إلى نقد و نقض، إذ أن كفر اليهود والنصارى وكل من لا يدين بالإسلام المنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم - من الأمور البدهية المعلومة من الدين بالضرورة، ومع ذلك فلا أرى بأسا في ردها لشيوعها بين فئة من الكاتبين.
فمعلوم أن لفظ " الإسلام " إذا أطلق فإنما يراد به ما أنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم -، وأن لفظ :مسلم" إذا أطلق انصرف إلى من اتبع ملة محمد - صلى الله عليه وسلم - دون سائر الأديان والملل.
وخير من عرّف الإسلام والإيمان هو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما سأله جبريل فأخبره بأن الإسلام هو أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وأن تقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا، والإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسوله واليوم الآخر والقدر خيره وشره، والحديث معروف(2).
__________
(1) نفس المصدر السابق: ص110.
(2) انظر: صحيح مسلم بشرح النووي 1/157.(2/6)
أما الآية التي استدلوا بها وهي قوله تعالى { إن الذين آمنوا والذين هادوا } … فقال ابن كثير في تفسيرها " … نبه تعالى على أن من أحسن من الأمم السالفة وأطاع، فان له جزاء الحسنى، ولا خوف عليهم فيما يستقبلونه ولا هم يحزنون على ما يتركونه ويخلفونه … إلى ان قال: نزلت في أصحاب سلمان الفارسي بينما هو يحدث النبي- صلى الله عليه وسلم - إذ ذكر أصحابه فأخبره خبرهم فقال: كانوا يصلون ويصومون ويؤمنون بك ويشهدون أنك ستبعث نبيا، فلما فرغ سلمان من ثنائه عليهم قال له نبي الله - صلى الله عليه وسلم -: يا سلمان هم من أهل النار " فاشتد ذلك على سلمان فأنزل الله هذه الآية. فكان إيمان اليهود: أنه من تمسك بالتوراة وأخذ بسنة موسى عليه السلام حتى جاء عيسى، فلما جاء عيسى كان من تمسك بالتوراة وأخذ بسنة موسى فلم يدعها ولم يتبع عيسى كان هالكا، و إيمان النصارى أن من تمسك بالإنجيل منهم وشرائع عيسى كان مؤمنا مقبولا منه حتى جاء محمد - صلى الله عليه وسلم -،فمن لم يتبع محمدا - صلى الله عليه وسلم - منهم ويدع ما كان عليه من سنة عيسى والإنجيل كان هالكا.
ثم قال ابن كثير: وهذا لا ينافي ما روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في هذه الآية قال: فأنزل الله بعد ذلك { ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين } - أي أنها منسوخة - فان هذا الذي قاله ابن عباس إخبار عن انه لا يقبل من أحد طريقة ولا عملا إلا ما كان موافقا لشريعة محمد - صلى الله عليه وسلم - بعد أن بعثه الله بما بعثه به، فأما قبل ذلك فكل من اتبع الرسول في زمانه فهو على هدى وسبيل ونجاة "(1).
__________
(1) تفسير القرآن العظيم 1/179-180، بتصرف، وانظر: جامع البيان 1/252-257، الجامع لأحكام القرآن 1/432-436، الشوكاني : فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير 1/93-94، روح المعاني 1/253-252.(2/7)
فالآية محكمة لا منسوخة، ومعناها أن عمل هؤلاء الأقوام يعتبر صالحا ومقبولا بشروط قبل بعثة محمد - صلى الله عليه وسلم -، فأما بعد بعثته - صلى الله عليه وسلم - فلا يقبل عمل ولا يكون صالحا إلا أن يكون خالصا صوابا، أما إخلاصه فبأن يقصد به وجه الله وحده لا شريك له، وأما صوابه فبأن يوافق شريعة محمد - صلى الله عليه وسلم -.
وقال في موضع آخر في تفسير الآية التي تشبهها في سورة المائدة وهي قوله تعالى { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ } ( المائدة /69 )، قال: والمقصود أن كل فرقة آمنت بالله واليوم الآخر وهو الميعاد والجزاء
ويوم الدين وعملت عملا صالحا، ولا يكون ذلك كذلك حتى يكون موافقا للشريعة المحمدية بعد إرسال صاحبها إلى جميع الثقلين، فمن اتصف بذلك فلا خوف عليهم فيما يستقبلونه، ولا على ما تركوا وراء ظهورهم ولا هم يحزنون(1).
ومن الآيات الصريحة في كفر اليهود والنصارى قوله تعالى { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ }
(البقرة /91 ) وهذا نص على أن إيمانهم بما أنزل الله من قبل كان إيمانا مزعوما لا صحة له، وهو نص أيضا على تكفير من لم يؤمن منهم بما أنزل الله بعد ذلك على محمد - صلى الله عليه وسلم -(2).
__________
(1) تفسير القرآن العظيم 1/614، وانظر: جامع البيان 4/6/311.
(2) وميض العمري : فقه الإيمان، 219.(2/8)
وقال تعالى { قُلْ يَاأهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ(*) قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } (آل عمران/98-99). وهو نص في الحكم على أهل الكتاب بأنهم كافرون.
وإن الذي أوقع هويدي وأمثاله في هذا الفهم الخاطئ هو القراءة التجزيئية للقرآن الكريم، أو ما دعاه بعضهم "بالقراءة العضينية" التي تلتفت إلى بعض النصوص، وتهمل بعضها الآخر تماما كما كان يفعل أهل الكتاب، الذين عاب الله عليهم هذا المسلك، الذي يفتقر إلى العلمية والموضوعية
التي يحرص هؤلاء على التزيي بها { أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } ( البقرة / 85). وقد
حكم الله على أصحاب هذا النهج بأنهم هم الكافرون حقا { وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا (*) أُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا } (النساء/150-151) وكان
الواجب عليهم رد المجمل إلى المفسر، والاستعانة بسبب النزول في فهمها وتفسيرها، والاسترشاد بأقوال المفسرين. قبل طردها على عمومها وكأنه لم ينزل في اليهود والنصارى إلا تلك الآيات التي استشهدوا بها.
ولقد بين القرآن الكريم أن المؤمنين الذين يعملون الصالحات ويتبعون الحق هم من آمنوا بما أنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم -، وأما من لم يؤمن بما نزل عليه - صلى الله عليه وسلم - فهو من الكافرين، ومن أهل الباطل(2/9)
وعمله ليس عملا صالحا، بل هباءً منثوراً، وفي ضلال مبين، قال تعالى: { الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ(*) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ } ( محمد / 1-3 ).
كما بين –تعالى- أن فلاح أهل الكتاب من اليهود والنصارى لا يكون إلا باتباع الرسول - صلى الله عليه وسلم - { الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ } (الأعراف/157).(2/10)
فكيف يستحل هويدي لنفسه بعد كل هذه الآيات البينات أن يقول " أن الله لا يحابي من يسمي نفسه مسلما ويفضله على من يسميها يهوديا أو نصرانيا بمجرد اللقب.وأي عمل صالح يبقى لأهل الكتاب - وقد ثبت كفرهم - بعد قول الله تعالى { وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ } ( النور/39) وبعد قوله تعالى { مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ } (إبراهيم/18)، وبعد قوله تعالى عن أعمال الكفار { وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا } (الفرقان/23).
لا يصح هذا في الأفهام إلا إذا كان الإيمان والإسلام والاعتقاد مجرد ألقاب ولافتات وشعارات كما قال.
وأما المؤمنون من أهل الكتاب فهم الذين آمنوا بمحمد - صلى الله عليه وسلم - وبما أنزل عليه { ذَلِكَ بأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ(*) وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنْ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنْ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ } ( المائدة /82 - 83) وقال تعالى { لَكِنْ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أُوْلَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا } ( النساء /162).(2/11)
وكيف يكونون مسلمين مؤمنين، والله يخاطبهم بأن يؤمنوا بما أنزل على محمد حتى يكونوا من المؤمنين { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا } ( النساء /47).
وكيف يوصفون بالإيمان والإسلام وقد نص القرآن على تحريفهم كلام الله من بعد مواضعه، وبعد قول اليهود عزير بن الله وبعد قول النصارى المسيح ابن الله وأنه - تعالى الله عما يقولون - ثالث ثلاثة وأنه هو المسيح ابن مريم، وأنهم أبناء الله وأحباؤه، وأن الله فقير وهم أغنياء، وأن يد الله مغلولة، وبعد أن شهد عليهم القرآن بقتل الأنبياء؟
أفبعد هذا الكفر المركب يكونون من أهل الجنة لأنهم اخترعوا الكهرباء وصنعوا لنا السجاد والمكيفات؟!.
لو أن هؤلاء " المجتهدين " قد قالوها صراحة من البداية: لا نؤمن بمرجعية القرآن والسنة. والبشر كلهم أخوة في الإنسانية لأراحوا واستراحوا – على الأقل في الدنيا –أما أن ينكروا الشمس في رابعة النهار، فذلك ما يخرجهم ليس من دائرة المسلمين فحسب بل من دائرة العقلاء الأسوياء.
وقد صح في الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قوله { والذي نفسي بيده لا يسمع بي رجل من هذه الأمة ولا يهودي ولا نصراني ثم لم يؤمن بي إلا كان من أهل النار } .
قال الألباني: " والحديث نص في أن من سمع بالنبي- صلى الله عليه وسلم - وما أرسل به، وبلغه على الوجه الذي أنزله الله عليه، ثم لم يؤمن به - صلى الله عليه وسلم -، أن مصيره إلى النار ولا فرق في ذلك بين يهودي أو نصراني أو مجوسي أو لا ديني "(1)
وقد يقول قائل أن هذه القضية - كفر اليهود والنصارى وكونهم من أهل النار - هي من أبين البينات وأوضح الواضحات، ولا تحتاج إلى حشد الأدلة والبراهين.
فأقول:
__________
(1) الشيخ الألباني محمد ناصر الدين: سلسلة الأحاديث الصحيحة م1/ق1/ص291-292، رقم (157).(2/12)
كونها من اليقينيات والقطعيات يجعل محاولة المساس بها أو التشكيك بقطعيتها أمرا خطيرا جدا لا يُحتمل. ولو لم تكن من الخطورة بمكان في هذا الزمان لما كلف شيخ جليل كيوسف الشيخ يوسف القرضاوي نفسه عناء تأليف كتاب فيه رداٌ على كاتبة تدعى "سراب الحافظ" نشرت مقالا مطولا في إحدى صحف الخليج ذهبت فيه إلى أن اليهود والنصارى "مؤمنون "بصفتهم أهل كتاب" وسماه "موقف الإسلام العقدي من كفر اليهود والنصارى" والذي حذر فيه - كما سبق وبينت- من محاولة خصوم الفكر الإسلامي التشكيك في المسلمات وبذل الجهد في تحويل ( اليقينيات ) و (القطعيات ) إلي ( محتملات ).
ومما قاله فيه " فان كفر اليهود والنصارى من أوضح الواضحات بالنسبة لأي مسلم عنده ذرة من علم الإسلام، ومما أجمعت عليه الأمة على اختلاف مذاهبها وطوائفها، طوال العصور، لم يخالف في ذلك سني ولا شيعي ولا معتزلي ولا خارجي.
وكل طوائف الأمة الموجودة اليوم من أهل السنة والزيدية والجعفرية والإباضية، لا يشكون في كفر اليهود والنصارى، وكل من لا يؤمن برسالة محمد عليه الصلاة والسلام، فهذا من المسلمات الدينية المتفق عليها نظرا وعملا بل هي من ( من المعلوم من الدين من الضرورة) أي مما يتفق على معرفته الخاص والعام، ولا يحتاج إلى إقامة دليل جزئي للبرهنة على صحته.
وسر ذلك: أن كفر اليهود والنصارى لا يدل عليه آية أو آيتان، بل عشرات الآيات من كتاب الله تعالى، وعشرات الأحاديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -"(1).
ثانيا: الإيمان الإبراهيمي، والحوار بين الأديان، وخطورة الدعوة إليهما.
__________
(1) موقف المسلمين العقدي من كفر اليهود والنصارى ص6-7.(2/13)
وقد نشطت هذه الدعوة - إيمان اليهود والنصارى - في الآونة الأخيرة تحت لافتات وشعارات مختلفة منها: شعار الحوار بين الأديان و"الأديان التوحيدية الثلاث" أو "الديانة الإبراهيمية" ومقولة أبناء إبراهيم" وممن حملوا لواء هذه الدعوة - كما ذكرت - المفكر "المسلم"(1) الفرنسي الأصل روجيه جارودي.
وملخص هذه الفكرة أن الإسلام هو دين إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وإبراهيم هو أبو الأنبياء: محمد وموسى وعيسى، ولذلك فالديانات السماوية الثلاثة لها جذر واحد وأصل مشترك يجمعها وهو توحيد الله عز وجل، فعلى أصحاب هذه الديانات أن يتعايشوا معا بسلام، لكونهم ينحدرون من أصل واحد نسبا ودينا.
أي أنه تجب الدعوة إلى إيجاد صيغة توفيقية لإنهاء الصراع بين المسلمين واليهود على أرض فلسطين وهذه الدعوى - أبناء إبراهيم - التي طالما دعا إليها كثير من الملوك والزعماء.
وفي كتابه " الإسلام الحي " فقد دعا إلى ضرورة بلورة مفهوم جديد للإسلام لا يقف عند حدود الإسلام " المعروف " وضوابطه، و إنما إسلام عصري، إسلام القرن العشرين، إسلام ينفتح على الديانات كلها حتى البوذية والهندوسية " ويستوعبها " و" يحتويها "، وليس هذا فحسب بل ينفتح حتى على المذاهب الوضعية من الشيوعية والعلمانية وغيرها.
__________
(1) واسلامه مجرد دعوى سوقها على المسلمين وانطلت عليهم ليسهل عليه دس السم في الدسم، وقد صدر بيان في حكم مقالاته المناقضة لأسس العقيدة لعبد العزيز بن باز – رحمه الله – وحكم بكفره فيها وإلحاده.
- وانظر: ابن باز عبد العزيز: مجموع فتاوى ومقالات متنوعة 9/193،
- وانظر د. مصطفى حلمي: اسلام جارودي بين الحقيقة والافتراء ص45.(2/14)
وقد ذكرت في بداية هذا المبحث ما ذهب إليه من أن الله أرسل النبي محمدا - صلى الله عليه وسلم - "ليؤكد" الرسالات السابقة عليه وليتممها ويطهرها من التشوهات التي لحقت بها عبر التاريخ، وان إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- هو أبو "جميع المؤمنين" ومن أن الرسالة الأساسية والكونية للإسلام تقوم على سمو الله ووحدانيته وعلى وحدة جميع البشر، وأن محتوى سورة الإخلاص يتطابق تماما مع محتوى مقولة النصارى في التثليث(1)، ومن دعوته للحوار بين الأديان الأخرى انطلاقا من القواعد "المشتركة" التي هي أصل الرسالات "المقدسة" وهي توحيد الله وذلك من أجل انتشار جديد للإسلام(2). فهذا هو الإسلام المنفتح، والذي كان موجودا ومزدهرا في الأندلس، والذي استوعب اليهود والنصارى في بوتقته، هذا الإسلام دمره الفقهاء الذين استنجدوا بالقوى الأجنبية -المرابطين- لمقاومة النصارى، والفقهاء أساءوا إلى الرسالة الكونية للقرآن- والتي تستوعب أهل الأديان والملل -وقلدوا " قسما "من أقسام الأمة الإسلامية- يقصد العرب.
والإسلام " المعروف " هو مجرد تقاليد وفلكلور للعرب -قسم من أقسام الأمة الإسلامية- ولا يمثل الرسالة القرآنية.
ويدعو إلى العثور على نقطة "التقاء" التقاليد الروحية الثلاثة للإيمان الإبراهيمي: اليهودية، المسيحية، الإسلام(3).
ومما قاله المترجم د. محمد مهدي الصدر في تلخيصه لمحتوى كتاب جارودي (الإسلام في الغرب) أنه يقوم على أمور منها:
__________
(1) الإسلام الحي ص16-18.
(2) نفس المصدر ص71.
(3) انظر: روجيه جارودي : الإسلام في الغرب – قرطبة عاصمة الروح والفكر ص249-252.(2/15)
1. وحدة الأديان السماوية والثقافات "الحقة": أي أن كل الأديان السماوية هي وحدة متكاملة، لا تنفصم عراها ولا تتناقض لأنها رسالات منبعها واحد، وكل الأنبياء والمرسلين بدءا بإبراهيم ومرورا بعيسى وموسى وانتهاء بمحمد -صلوات الله عليهم- هم رسل الله الواحد. وقد جاء محمد " ليؤكد " الرسالة السماوية وينفي عنها التحريفات التاريخية وليتمها، وقد أنجبت هذه الأديان ثقافات خالدة تندرج في هذا الخط الرسالي ذاته. ويمكن اعتبارها -هي الأخرى- ثقافات مترابطة يكمل بعضها بعضا من حيث أنها جميعا تصدر عن التصور ذاته للعالم والإنسان.
2. إن الله سبحانه وتعالى واحد أحد، لم يلد، ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد. والديانات الإبراهيمية الثلاث: الإسلام والمسيحية واليهودية، هي أديان سماوية موحِّدة"(1).
هذه هي دعاوى وطروحات دعاة "الدين الملفق" بلسان كبيرهم جارودي وقد خالفت هذه الدعوات قطعيات الإسلام في الأمور التالية:
- دعوته إلى بلورة مفهوم جديد للإسلام يحتوي الأديان والمذاهب كلها.
- رفضه " للإسلام المعروف واعتباره إياه تقاليد وفلكلورا خاصا بالعرب.
- وصفه لرسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - بأنها "مؤكدة " و "ومتممة" للرسالات السابقة وفي هذا إنكار لهيمنتها ونسخها للشرائع السابقة.
- اعتباره اليهود والنصارى "مؤمنين".
- إن محتوى سورة الإخلاص يطابق مفهوم التثليث.
- إن الرسالة الإسلامية تقوم على وحدة جميع البشر، وفي هذا مساواة للكافرين بالمسلمين وإلغاء للفروق العقائدية.
- اعتباره الرسالات السماوية "مقدسة" على ما هي عليه - وموحدة.
- انطلاقه من مفهوم قطري قومي للإسلام حين جعل المسلمين خارج حدود الأندلس قوى
أجنبية.
__________
(1) نفس المصدر ص7،8.(2/16)
إن فكرة الحوار بين الأديان التي يروج لها اليوم هي فكرة غربية خبيثة دخيلة لا أصل لها في الإسلام، لأنها تدعو إلى إيجاد قواسم مشتركة بين الأديان، بل تدعو إلى إيجاد دين جديد ملفق، يعتنقه المسلمون بدلا من الإسلام، لأن أصحاب الفكرة والداعين لها هم من الكفار الغربيين(1).
وكان من أهم توصيات المؤتمرات التي عقدت باسم الحوار بين الديان والحضارات وبين الإسلام وأوروبا ما يلي:
- إيجاد معان وأبعاد جديدة لكلمات الكفر والإلحاد والشرك، والإيمان والإسلام والاعتدال والتطرف، والأصولية، بحيث لا تكون تلك الكلمات عامل تفرقة بين أصحاب الأديان.
- إيجاد جوامع مشتركة بين الأديان الثلاثة، تشمل العقيدة والأخلاق والثقافة، والتأكيد على المشترك الإيجابي بين الأديان والحضارات، لأن جميع أهل الكتاب مؤمنون، يعبدون الله.
وهم في ذلك يهدفون إلى صبغ العالم بصبغة الحضارة الرأسمالية، ومحو الثقافة الإسلامية الأصيلة، وتجريد الإسلام من أهم خصائصه التي تميزه عن سائر الأديان. كما يهدفون من وراء ذلك إلى صياغة شخصية المسلم صياغة جديدة، وإفساد ذوقه وزرع معايير جديدة للأفكار والأشياء.
وباختصار، أن هذا الحوار الذي يرعاه الكفار وبعض المضبوعين من علماء المسلمين القصد منه إيجاد دين جديد للمسلمين مبني على عقيدة فصل الدين عن الحياة، فيه التشريع للبشر بدل أن يكون لله –تعالى- خالق البشر(2).
__________
(1) للإطلاع على تاريخ نشأة الفكرة والمؤتمرات التي عقدت من أجلها، انظر: مفاهيم خطرة لضرب الإسلام وتركيز الحضارة الغربية ص18 وما بعدها، من منشورات حزب التحرير.
(2) نفس المصدر ص20-28.(2/17)
ولم يذهب بعض الباحثين بعيدا حين أكد أن خلفية هذه الدعوات ماسونية، تهدف إلى تغيير عقيدة المسلمين في اليهود والنصارى وكتبهم، من اجل الاعتراف بهم كاتباع أديان سماوية، وتهدف إلى تذويب المسلمين في غيرهم، كما بينوا، أنها دعوة نشأت في أحضان التبشير والاستعمار(1). وما قيل في إبطال دعوى إسلام اليهود والنصارى يقال في إبطال الدعوة إلى "وحدة الأديان". وقد صدر في هذه الدعوة فتوى من اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بالمملكة العربية السعودية رأيت أن اجعلها كخلاصة لهذا المبحث:
أولا: أن من أصول الاعتقاد في الإسلام المعلومة من الدين بالضرورة، والتي أجمع عليها المسلمون، أنه لا يوجد على وجه الأرض دين حق سوى دين الإسلام، وانه خاتمة الأديان وناسخ لجميع ما قبله من الأديان والملل والشرائع.
ثانيا: ومن أصول الاعتقاد في الإسلام أن كتاب الله تعالى ( القرآن الكريم ) هو آخر كتب الله نزولا وعهدا برب العالمين، وانه ناسخ لكل كتاب أنزل من قبل من التوراة والإنجيل وغيرها،
ومهيمن عليها قال تعالى { وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنْ الْحَقِّ } ( المائدة/48 ).
ثالثا: يجب الإيمان بان ( التوراة والإنجيل ) قد نسخا بالقرآن الكريم، وانه قد لحقها التحريف والتبديل بالزيادة والنقصان، كما جاء بيان ذلك في آيات من كتاب الله الكريم منها قوله تعالى
{ فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ } ( المائدة /13). ولهذا
__________
(1) انظر: محمد عبد الرحمن عوض : الإسلام والأديان 35-41.(2/18)
فما كان منها صحيحا فهو منسوخ بالإسلام، وما سوى ذلك فهو محرف ومبدل، وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - انه غضب حين رأى مع عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- صحيفة منها شيء من التوراة، وقال عليه الصلاة والسلام { أفي شك أنت يا ابن الخطاب؟ ألم آت بها بيضاء نقية؟ ولو كان أخي موسى حيا ما وسعه إلا اتباعي } (1).
رابعا: ومن أصول الاعتقاد في الإسلام أن نبينا ورسولنا محمدا - صلى الله عليه وسلم - هو خاتم الأنبياء والمرسلين، كما قال تعالى { مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا } ( الأحزاب /40) ونبي الله عيسى إذا نزل في آخر الزمان يكون تابعا لمحمد - صلى الله عليه وسلم -، كما أن من أصول الاعتقاد أن بعثة محمد - صلى الله عليه وسلم - عامة للناس أجمعين قال تعالى { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ } ( سبأ / 28).
خامسا: ومن أصول الإسلام أنه يجب اعتقاد كفر كل من لم يدخل في الإسلام من اليهود والنصارى وغيرهم و تسميته كافرا، وأنه عدو لله ورسوله والمؤمنين، وأنه من أهل النار كما قال تعالى { لَمْ يَكُنْ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمْ الْبَيِّنَةُ } (البينة/1) وقال جل وعلا { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ } ( البينة/6)
وغيرها من الآيات – ولهذا فمن لم يكفر اليهود والنصارى فهو كافر طردا للقاعدة الشرعية "من لم يكفر الكافر فهو كافر".
__________
(1) .مصنف ابن أبي شيبة 5/312(2/19)
سادسا: وأمام هذه الأصول الاعتقادية والحقائق الشرعية فان الدعوة إلى "وحدة الأديان" والتقارب بينها، وصهرها في قالب واحد دعوة خبيثة ماكرة، والغرض منها خلط الحق بالباطل وهدم
الإسلام وتقويض دعائمه وجر أهله إلى ردة شاملة، ومصداق ذلك في قوله تعالى { وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنْ اسْتَطَاعُوا } ( البقرة/217) وقوله: -جل وعلا- { وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً } ( النساء/89).
سابعا: وإن من آثار هذه الدعوة الآثمة إلغاء الفوارق بين الإسلام والكفر، والحق والباطل، والمعروف والمنكر، وكسر حاجز النفرة بين المسلمين والكافرين، فلا ولاء ولا براء، ولا جهاد ولا قتال لإعلاء كلمة الله في الأرض.
ثامنا: إن الدعوة إلى وحدة الأديان " إن صدرت من مسلم تعتبر ردة صريحة عن دين الإسلام، لأنها تصطدم مع أصول الاعتقاد، فترضى بالكفر بالله عز وجل، وتبطل صدق القرآن، ونسخه لجميع ما قبله من الشرائع والأديان، وبناء على ذلك فهي فكرة مرفوضة شرعا محرمة قطعا بجميع أدلة التشريع في الإسلام من قرآن وسنة وإجماع.
ومما يجب أن يعلم أن دعوة الكفار بعامة، وأهل الكتاب بخاصة إلى الإسلام واجبة على المسلمين بالنصوص الصريحة من الكتاب والسنة، ولكن لا يكون إلا بطريق البيان والمجادلة بالتي
هي أحسن، وعدم التنازل عن شيء من شرائع الإسلام:
{ قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ } (آل عمران/64).(2/20)
أما مجادلتهم واللقاء معهم ومحاورتهم لأجل النزول عند رغباتهم وتحقيق أهدافهم ونقض عرى الإسلام ومعاقد الإيمان فهذا باطل يأباه الله ورسوله والمؤمنون { وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ } ( المائدة/ 49)(1).
ويضاف إلى ما سبق أن مقولة " أبناء إبراهيم " دعوة إلى الرابطة القومية القائمة على النسب والعرق، وهي غير إنسانية لأنها لا تصلح لربط الإنسان بالإنسان إذا اختلفا في النسب.
وهي رابطة قد عفى عليها الزمن، فلم تعد موجودة في واقع الحياة، لأن الذين ينتسبون إلى إبراهيم وذريته، قد اختلطوا بغيرهم من الأقوام الأخرى، بسبب المصاهرة والمخالطة والهجرة والحروب فيصعب، بل يستحيل الآن فرزهم عن بقية الناس، ولأن اتباع الأديان الثلاثة من جميع شعوب وقبائل العالم، قد تم الامتزاج بينهم على أساس ديني لا على أساس عرقي فيكون إطلاق: (أبناء إبراهيم ) على المسلمين واليهود والنصارى، وعلى الذين يعيشون حول المسجد الأقصى أو على غيرهم إطلاقا عشوائيا غير صحيح، المقصود منه محاربة الإسلام وتبرير عمليات السلام المزعوم والتطبيع مع اليهود وكيانهم القائم على اغتصاب أرض المسلمين.
وهي رابطة مرفوضة شرعا لأن الله نهى عن اتخاذ الآباء والأبناء أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان، وابن نوح في مقياس الشرع ليس من أهله، والظالمون من ذرية إبراهيم مستثنون من عهد الله بالإمامة(2).
المبحث الثاني
تأويلهم في مفهوم القرآن وعلومه
__________
(1) نشرة رقم (92): ( ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه)، اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، نشر دار الوطن: الرياض.
(2) انظر: مفاهيم خطرة ص33-35.(2/21)
لم يقتصر الكتاب المعاصرون على تأويل الآيات والأحاديث بصفتها أدلة جزئية، وتحريفها عن معانيها الأصلية التي دلت عليها وفق لسان العرب ومقررات الشرع، لأن ذلك يكلفهم جهدا ليس بالقليل في تكلف التأويلات لرد كل نص بعينه في الموضوعات المختلفة العقائدية والتشريعية.
فرأوا أن يتجاوزوا ذلك إلى جنس النص القرآني فيؤولوا القرآن جملة وفق نظريات تجعله فاقدا لإطلاقيته وهيمنته على الحياة وسلوك الإنسان. بحيث يغدو " القرآن الكريم " ليس هو المعروف المعهود عند المسلمين من حيث ماهيته ووظيفته.
وجل هذه التأويلات قائم أساسا على محاولة إثبات أن النص القرآني المكتوب هو نص بشري من حيث الصياغة وليس إلهيا، فهو نص لغوي أدبي كسائر النصوص الأدبية وذلك ليتسنى لهم إسقاط القداسة عنه، وبالتالي نقده دون ضوابط ودون مراعاة لخصائصه التي انفرد بها عن سائر النصوص.
وإذا كان الكلام عن تأويل النصوص من حيث هو صرف لظاهر الألفاظ إلى معان مرجوحة تحتملها تلك الألفاظ بدليل، نجد أن مسلك المؤولين في هذا الموضوع قد تجاوز كل الضوابط التي تعارف عليها العقلاء، ناهيك بالضوابط اللغوية أو الشرعية، إذ أنهم لا يناقشون هنا نصا معينا أو قضية بعينها أشكلت عليهم، أو لم ترق لبعضهم، فحاولوا رد النص الذي يحملها، ولا يحاولون مناقشة معنى مرجوحا يحتمله اللفظ ليقووه بدليل من المعقول أو المنقول.
إنما يبتدعون مذهبا جديدا بتحويل القرآن كنص الهي أزلي مقدس معجز إلى نص بشري تاريخي عادي يعتوره ما يعتور أي نص بشري مماثل من السهو والغفلة والزيادة والنقص. والنسيان وقلة الإحكام وتأثير البيئة والثقافة والزمان والمكان…. الخ تلك المؤثرات.
وسنعرض لأهم أقوال من تكلموا في هذا الموضوع من المعاصرين - وهم كثر - ثم نأتي على نظرياتهم واقتراحاتهم بالتفنييذ والإبطال.(2/22)
أولا: مفهوم النص عند نصر حامد أبي زيد (1)
يدعو أبو زيد إلى البحث عن البعد المفقود في التراث، وهو البحث عن مفهوم " للنص" عن طريق التأويل المفتوح غير المنضبط، وذلك لتحقيق وعي علمي بالتراث حسبما يدعي، ويصف الفكر الإسلامي المستنبط وفق أصول الاستنباط والتفسير المعروفة بالفكر الرجعي، ومنهجه في البحث عن مفهوم للنص يتم عن طريق تناول القرآن وتفسيره باعتباره كتاب العربية الأكبر وأثرها الأدبي الخالد.
وهذا - في رأيه - هو المقصد الأول، والغرض الأبعد من إنزاله، أي اعتبار القرآن كتابا أدبيا لا غير " ثم لكل ذي غرض أو صاحب مقصد بعد الوفاء بهذا الدرس الأدبي أن يعمد إلى ذلك الكتاب، فيأخذ منه ما يشاء، ويقتبس منه ما يريد ويرجع إليه فيما احب من تشريع أو اعتقاد أو أخلاق "(2).
ويزول العجب إذا عرفنا الهدف الذي يسعى إليه أصحاب هذه المدرسة - ومنهم أبو زيد بالطبع - من وراء دعوتهم لبلورة مفهوم جديد للنص، وهو لم يتركنا في حيرة، بل قالها صراحة أن هدفه هو استبعاد تطبيق الشريعة الإسلامية، يقول:"إن المطالبة بتطبيق أحكام الشريعة الإسلامية وثب على الواقع وتجاهل له"(3).
ويسمى هذا الحل حلا سلفيا، يتنكر لمقاصد الوحي و أهداف الشريعة، وهو فكر رجعي اختلقته الثقافة المسيطرة، تيار الثقافة الرسمية. ولذلك كله فهو يشدد النكير على من يقول أن خلاصنا الحقيقي يتمثل في العودة إلى الإسلام بتطبيق أحكامه وتحكيمه في حياتنا(4).
__________
(1) هو كاتب مصري و أستاذ علوم اللغة في الجامعات المصرية، يقول بان القرآن منتج ثقافي وقد حكمت عليه محكمة الاستئناف المصرية بالكفر والردة؛ لآرائه في القرآن وقضت بالتفريق بينه وبين زوجته فترك مصر، وهو يقيم الآن في هولندا، ويعد من أبرز الداعين لإعادة تحديد مفهوم ووظيفة القرآن الكريم.
(2) انظر: أبو زيد نصر حامد: مفهوم النص – دراسة في علوم القرآن ص11-12.
(3) نفس المصدر ص17.
(4) نفس المصدر ص16،18.(2/23)
ولنأت إلى مفهومه للنص الذي حاول بلورته بجدل وحجاج على مدار "260 " صفحة هو مجموع صفحات كتابه مفهوم النص.
مفهومه للنص:
يقول:"إن النص في حقيقته وجوهره منتج ثقافي والمقصود بذلك انه تشكل في الواقع والثقافة خلال فترة تزيد على العشرين عاما". وهو ينكر وجود القرآن في اللوح المحفوظ قبل إنزاله لأن من شأن ذلك -حسب زعمه- طمس إمكانية فهمه كمنتج ثقافي.
ويقول:"إن الإيمان بالمصدر الإلهي للنص أمرُ لا يتعارض مع تحليل النص من خلال فهم الثقافة التي ينتمي إليها، إن الله حين أوحى إلى رسوله - صلى الله عليه وسلم - بالقرآن اختار النظام اللغوي الخاص بالمستقبل الأول.
وعلى ذلك لا يمكن أن نتحدث عن نص مفارق للثقافة والواقع، إن ألوهية مصدر النص لا تنفي واقعية محتواه، ولا تنفي من ثم انتماءه إلى ثقافة البشر، إن القول بأن النص منتج ثقافي يكون في هذه الحالة قضية بدهية لا تحتاج إلى إثبات"(1).
أي انه يدعي أن القرآن ينتمي إلى ثقافة البشر، لأن الله أنزله بلغة البشر، وهو محمد - صلى الله عليه وسلم -.
ولتأكيد أن النص القرآني نص بشري قابل للنقد كسائر النصوص البشرية، يقول بأن:" الله أوحى بالقرآن إلى محمد - صلى الله عليه وسلم - بمعناه فقط، وليس بلفظه ومعناه كما هو شائع عند كل المسلمين، ومحمد- صلى الله عليه وسلم - قام بترجمة هذه المعاني إلى لغة قومه بما يفهمونه، فهو في النهاية نص بشري.
وذهب إلى أن ادعاء وجود نص خطي سابق في اللوح المحفوظ فيه إهدار لجدلية العلاقة بين النص والواقع، وهو يرفض هذا الادعاء لئلا يقع في محذورين - كما يزعم-:
1- المبالغة في تقديس النص.
2- تحوله من نص لغوي دال قابل للفهم إلى أن يكون نصا تصويريا".
__________
(1) المرجع السابق: ص27-28.(2/24)
فالصياغة اللغوية للوحي كانت مهمة جبريل مرة ومهمة محمد - صلى الله عليه وسلم - مرة أخرى ويصرح بان جبريل نزل على النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمعاني الخاصة وانه - صلى الله عليه وسلم - تملك المعاني وعبر عنها بلغة العرب.
وهو يؤكد انتساب القرآن إلى الثقافة التي تشكل من خلالها، إلا انه حاول التميز عنها بإطلاقه على نفسه هذا الاسم غير المألوف.
ويتمنى لو أن العلماء القد ماء لم يحرصوا هذا الحرص الشديد على التفريق بين النص القرآني والنصوص الأخرى، وإذا لأمكنهم أن يفسروا الحروف المقطعة بربطها بالسياق الثقافي للنص(1).
ويذهب إلى أن مفهوم النسخ ينفي أن تكون الآيات المنسوخة في اللوح المحفوظ لأنه يبطل
كونها قرآنا(2).
ودرس قضية الإعجاز لينفي التمايز بين النص القرآني والنصوص الأخرى(3).
وادعى أن العرب المعاصرين لتشكيل النص لم يكونوا قادرين على استيعاب التغاير والمخالفة بين النص والنصوص التي لديهم ولذلك وصفوه مرة بالشاعر وأخرى بالكاهن.
ولذلك فهو يدعو إلى فتح باب التأويل على مصراعيه، وينفي أن يؤدي ذلك إلى الشقاق والخلافات بين الأمة. ويقول أن بالإمكان اكتشاف دلالات جديدة للنص بتطور أدوات التحليل وطرائقه في كل عصر. ويرى أن العلوم النقلية والعقلية قديمة أو حديثة مجرد أدوات للتأويل، وهي وان كانت لا بد منها إلا أن عقل القارئ أو المؤول ذو دور أساسي في حركة التأويل. ويرى أن تحديد المعنى المرجوح من المعنى الراجح مرهون بأفق القارئ وعقله.
"فإنتاج دلالة النص فعل مشترك بين النص والقارئ، ويكون من ثم فعلا متجددا بتعدد القرّاء من جهة، ومتجددا باختلاف ظروف القراءة من جهة أخرى". "فالثقافة تعيد تشكيل دلالة النصوص، ولا تعيد تشكيل معطياته اللغوية "(4).
__________
(1) المرجع السابق ص36-38،42،46،48،49،50،60،92.
(2) المرجع السابق: ص131.
(3) المرجع السابق: ص137.
(4) المرجع السابق: ص239، 240، 241، 182، 178.(2/25)
ويقاربه في الطرح روجيه جارودي حين يرفض مدلولات النصوص وفق ما يدل عليه لسان العرب - يقول " يجب استبعاد كل قراءة حرفية – وفرض البحث عن المعنى الداخلي خارج حدود اللغات التي ليست إلا زمنية والكلمات التي ليست إلا رموزا "(1).
ثانيا: مفهوم النص عند علي حرب (2).
يدعو علي حرب إلى إعادة النظر في كل شيء والسعي إلى قلب كل المفهومات(3). وضمن هذه الرؤية فان الخضوع للنصوص التراثية هو سبب أزمتنا الفكرية التي نعانيها فالنصوص تسجننا في زنزانتها، وهو يرى أننا أسرى قراءات ومفاهيم ونماذج أو صور تحتاج إلى إعادة نظر ويدعو للتخلي عن قراءة التراث قراءة جوهرية ثبوتية ميتة، والتحول إلى قراءة عصرية حية تقوم على تفكيك بنى الثقافة العربية واستكشاف أصولها ومكوناتها من اجل إعادة تركيبها وتحديثها.
كل ذلك من اجل التحرر من كل وصاية ومن أي وجهة تأتي سواء كانت وصاية الفلسفة وأهلها أم وصاية الشريعة وأئمتها(4). ويبلغ به الشطط حدا يصف فيه متبعي النصوص بعباد الأوثان، ويدعو للتمرد والتحرر من سلطة هذه النصوص. ... بل هو ما نتحرر به من سلطة النصوص، ونكف عن التعامل معها كأوثان تعبد"، ويسمى المتصدين لسفسطاته من العلماء " أهل الرمز والحجب الناطقين باسم الغائب وحراس النصوص".
__________
(1) الإسلام الحي، مرجع سابق ص43.
(2) كاتب لبناني، له عدد من المؤلفات، منها:- التأويل والحقيقة، مداخلات، الحب والفناء، لعبة المعنى، نقد الحقيقة، نقد النص، أسئلة الحقيقة ورهانات الفكر، الممنوع والممتنع، نقد الذات المفكرة، وله عدة ترجمات منها:- أصل العنف والدولة لمراسيل غوشية وبيار كراستر، ومنطق العالم الحي لفرانسوا جاكوب، مختص بالفلسفة – تفكيره يقرب من المدرسة السفسطائية - يظهر ذلك مما ذكرته عنه ومن عناوين كتبه.
- انظر: علي حرب: سلسلة النص والحقيقة (1)، نقد النص - 286.
(3) نقد النص: ص29.
(4) المرجع السابق: ص43،44.(2/26)
ويضيق ذرعا بالنص الذي يحاول أن يفرض نفسه عليه ولذلك فهو يعالجه ويسعى" للتحرر من وطأته". ولأنه يريد أن يتخلص من قيود النصوص فإنه يريد أن يقرأ النص بوصفه " فضاء للتأويل الحر المفتوح سعيا إلى التحرر من النص به وله " حسب زعمه(1).
لذلك فهو يصف مناهج التفسير المعهودة عند أهل الأصول وعلماء التفسير بالقراءة الميتة، لأنهم يقرؤونه بوصفه مجموعة أحكام مبرمة، أو جملة قواعد مقررة، أو يقرؤونه بوصفه معرضا للمعلومات الجاهزة والحقائق النهائية الثابتة، وهو يكبر حسن حنفي لجرأته على نقد المقدسات ودعواه " بانسحاب الآلهة والأنبياء من مسرح الحياة " وحيلولة الإنسان مكانهم بعقله وإرادته، ذلك لأن النبوة انتهت، وسلم الزمام إلى العقل الذي يقدر بذاته على بلوغ اليقين، وعلى تحقيق رسالة الإنسان دونما تدخل من إرادةٍ خارجية(2).
ولا يخفي على حرب امتعاضه من الذين يشغلون أنفسهم بنقد العقل، ويدعوهم إلى نقد النص ذاته والكشف عن آليات الخطاب وقواعده.
وحين يتكلم عن النص هكذا بإطلاق، فانه يعني به النص القرآني لا غير، ويسميه "النص النبوي" غمزا بقدسيته وإلهيته وتلميحاً إلى بشريته: "هنا يمكن الجمع بين النص الفلسفي والنص النبوي"(3)
أما عن رؤيته لماهية النص وكيفية تفسيره، فانه يعتمد على قراءة عصرية تقوم على النظريات البنيوية الحديثة في نقد النصوص، والبنى الثقافية وتفكيك مكوناتها من اجل إعادة تركيبها.وهذه النظرية تقوم على معاملة النص أي نص بوصفه نصا لغويا صرفا، ولذلك فهم لا يفرقون بين النصوص، ويسوون القرآن بالنصوص الإبداعية البشرية من شعر ونثر "قصارى القول في نقد النص، تستوي النصوص بصرف النظر عن الثقافات واللغات والمجالات".
__________
(1) نفس المصدر ص24،25،23،12-13،25.
(2) نفس المصدر ص24، 28، 29.
(3) نفس المصدر ص11.(2/27)
ويقول: "لا يهم اختلاف النصوص وتباعدها ما دامت المسألة تتعلق بالاشتغال على النص بغية العلم به " ويقصد بالاشتغال على النص نقده وتفكيكه.
"فلا يهم هنا الفرق بين نص وآخره من حيث المضامين والمحتويات، ولذلك فهو يعامل النص القرآني كأي نص بشري ويحلله كما يحلل أي نص إبداعي بشري لكاتب من الكتاب، اعتمادا منه على المنهجية الحديثة في النقد التي تنظر إلى النص على أنه كائن منفصل عن قائله، وان القراءة الإبداعية للنص هي إبداع ثان للنص حيث يمكن منها استنباط وقراءة نصوص أخرى لم تأت في صلب النص الأصلي(1).
فقراءة النصوص لا تتم وفق مقتضيات ودلالات اللغة التي كتبت بها "القارئ حر أن يفهم ما يريد من النص حتى لو لم يرده القائل، ولم يخطر له" لأنه - حسب زعمهم- القراءة للنص تنتج نصا جديدا " فالنص يحتاج إلى عين ترى فيه ما لم يره المؤلف، وما لم يخطر له".
ولا عجب في ذلك ما دام يعتبر أن النص كائن منفصل ومستقل عن قائله "ونقد المؤلف يبين إن الأثر يستقل عن مؤلفه، كما يستقل المخلوق عن خالقه"(2) وكأنه يلمح أن القرآن مخلوق.
والنص عنده ممثل يحجب ما يمثله ويتلاعب به " هو لاعب في النهاية ولهذا لا ينبغي الوثوق بالكلام ثقة مفرطة فالخطاب حجاب".
والنص عنده كلام مخادع مخاتل، وهو عمل متشابه مراوغ يقع أبدا بين الوضوح والغموض أو بين الجد واللعب ولذلك "فلا ينبغي التعامل مع النصوص بما تقوله وتنص عليه أو بما تعلنه وتصرح به، بل بما تسكت عنه ولا تقوله وبما تخفيه وتستبعده".
والنص لا ينص بطبيعته على المراد، والدال لا يدل مباشرة على المدلول، وهذا سر النص أن له صحته وفراغاته وزلاته وأعراضه وليس هو خادما للمعنى، ومن هنا يتصف بالخداع والمخاتلة ويمارس آلياته في الحجب والمحو.
__________
(1) المرجع السابق: ص43،12،11.
(2) نفس المصدر.ص22.(2/28)
وباختصار للنص ألاعيبه السرية وإجراءاته الخفية وهي ما يمكن تسميته باستراتيجية الحجب(1).
ويعتبر النص المحكم ذا البعد الواحد والمعنى الواحد إمبريالي التصور وهو عمل لا يستدعي القراءة بل يحتاج إلى قارئ سلبي يعمله أو يحكم عليه سيطرته، فإفحامه وإسكاته(2).
وتبلغ به السفسطة حدا يستحي منه العقلاء حين يدعو إلى "نقد الحقيقة واليقين" ويرفض الإيمان والوثوق بهما لأنهما مغلقتان، والإيمان بهما يولد التعصب والعنف والإرهاب ومن يدعي حسب زعمه انه يعلم بعض الأمور علم اليقين فهو يمارس سفسطة مغلقة(3).
ثالثا: مفهوم القرآن عند محمد شحرور: (4)
__________
(1) نفس المصدر ص10-11،15(بتصرف يسير).
(2) المرجع السابق: ص20
(3) .نفس المصدر ص23.
(4) واسمه محمد بن ديب شحرور، سوري ويحمل دكتوراه في الهندسة المدنية، وقد جاءت دعاواه في كتابه الذي سماه " الكتاب والقرآن قراءة معاصرة " والذي طبع في دمشق عام 1990، وقد أحدث قلقا عميقا لدى عامة المثقفين وخاصة العلماء والباحثين ولم يظهر له من يؤيده، وظهرت ردود عديدة عليه منها مقالات وأبحاث، ومنها كتب مطولة أفردت للرد عليه وكشف أباطيله، أبرزها: كتاب "تهافت القراءة المعاصرة " للدكتور محامي منير محمد طاهر الشواف بين فيه الأصول الماركسية لفكر الكاتب، و" الفرقان والقرآن " للشيخ خالد عبد الرحمن العك، و " القراءة المعاصرة: مجرد تنجيم " لسليم الجابي، و" القرآن وأوهام القراءة المعاصرة " للمهندس جواد عفانة، أحصى فيه ما يزيد على ستمائة خطأ فاحش عقدي وفقهي، و" بيضة الديك " ليوسف الصيداوي وهو نقد لغوي بين فيه أخطاءه اللغوية وكان قصده إثبات عدم أهليته للاجتهاد والتفسير لجهله الفاضح باللغة نحوها وصرفها. انظر: مقدمات الكتب المذكورة.
وانظر: د.محمد شحرور: الكتاب والقرآن – قراءة معاصرة، الصفحات:{55-58،68،72-75،86-87،95-96،112،113،131}، تهافت القراءة المعاصرة ص17-19 باختصار.(2/29)
وقد أتى محمد شحرور بمفهوم وتقسيم جديد للقرآن لم يسبق إليه، فقد قسم الكتاب "المصحف" إلى كتب كما يقول حسب تعريفه للكتاب:
1. القرآن والسبع المثاني و تفصيل الكتاب:
واعتبر أن ما أسماه القرآن والسبع المثاني - وهي حسب تعريفه سبع فواتح للسور، وتفصيل الكتاب هي قصص الأنبياء والرسل، وهي الآيات التي وقع فيها الإعجاز القرآني فقط.
ووصف آيات القرآن والسبع المثاني بالمتشابهات، وآيات تفصيل الكتاب بالآيات التي ليست محكمة ولا متشابهة، ولكنها من النبوة حيث تحتوي على معلومات، إلا أنها جميعها معجزة. وحصر نبوة سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - بهذه الآيات فقط، وعرف التشابه بأنه ثبات النص وحركة المحتوى.
2. الرسالة: وهي آيات التشريع، وهي الآيات المحكمات، وهي أيضا أم الكتاب، أي هي الآيات التي تعالج مشاكل الناس وتعطي الحلول لأعمال العباد وسلوكهم اليومي حسب الحاجة والظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.
3. قرر الكاتب أن آيات ما أسماه بالقرآن: هي آيات قوانين الوجود وظواهر الطبيعة وأحداث التاريخ وهي موجودة خارج الوعي الإنساني فهي قوانين حتمية، ولذلك عبر عنها بالقدر.
4. أما القضاء: فهو حركة إنسانية واعية بين النفي والإثبات ضمن هذا الوجود وهو من أم الكتاب (التشريع ) وهي مواعظ وأحكام ووصايا ونصائح، خُيّر الإنسان بالقيام بها أو بعدم القيام بها ولذلك فهي مناط القضاء الإنساني وتدخل ضمن الحرية الإنسانية، ولذلك فان قضاء الله غير أزلي ويمكن أن يتغير بتغير أحوال الناس، لذا جاء الأنبياء والمرسلون منذرين للناس، وان قضاء الله النافذ في الإنسان هو قضاء مشروط بموقف الإنسان، ولو كان قضاء الله أزليا مبرما لأصبحت الرسالات والنبوات والدعاء ضربا من ضروب العبث.(2/30)
ونظرا لأن القضاء هو من آيات أم الكتاب – "التشريع"، وان آيات أم الكتاب ليست من القرآن فتكون آيات أم الكتاب والتشريع - ليست مطلقة وتخضع للتبديل والاجتهاد وهي قابلة للتزوير وقابلة للتقليد، ولا يوجد فيها أي إعجاز.
5. قرر بأن النواميس العامة التي تحكم الوجود تشكل ما في اللوح المحفوظ وفي الكتاب المكنون:
ففي الكتاب المكنون يوجد البرنامج العام للكون، وفي اللوح المحفوظ يوجد هذا البرنامج، وهو يعمل، أما الإمام المبين فيوجد فيه قوانين الطبيعة الجزئية التي يتم التصرف من خلالها، وأحداث التاريخ بعد وقوعها، وبناء على ذلك يقرر أن القرآن - حسب تعريفه - هو فقط المخزن في اللوح المحفوظ وفي إمام مبين.
أما الكتاب الذي يحتوي على الحدود ومنها العبادات والمواعظ والوصايا والتعليمات وتفصيل الكتاب فليس لها علاقة باللوح المحفوظ أو إمام مبين، أي ليست من القرآن وإنما من الكتاب.
ويستدل على ذلك بأنه لو كان صوم رمضان مخزنا في إمام مبين لأصبح من ظواهر الطبيعة ولصام رمضان الناس شاؤوا أم أبوا، وكذلك مواضيع الكتاب المتعلقة بالتشريع(1).
6. يرى الكاتب أن الفرقان هو القاسم المشترك بين اليهودية والتقاليد المسيحية والتعاليم الإسلامية.
ويميز الكاتب بين نوعين من الفرقان هما:
- الفرقان العام: وهو الحد الأدنى من التعاليم الأخلاقية الملزمة لكل الناس، وهو القاسم المشترك بين الأديان، ومنها تتحقق التقوى الاجتماعية - ومن يلتزم بها (من النصارى أو اليهود أو المسلمين ) يصبح من المتقين.
- والفرقان الخاص: وهو جاء لمحمد - صلى الله عليه وسلم - وهو فقط للذين حققوا التقوى الاجتماعية بحدها الأدنى (أي الفرقان العام ) ويريدون زيادة في ذلك ليصبحوا "أئمة المتقين فيلتزموا بالفرقان الخاص، إضافة إلى التزامهم بالفرقان العام.
__________
(1) تهافت القراءة المعاصرة 17-19.(2/31)
أما أئمة المتقين في زمانه - صلى الله عليه وسلم - فهم أئمة العلم المادي، وليس منهم فقهاء المسلمين لأنهم حرموا كثيرا مما أحل، وابقوْا الامة في حالة تأخر وجمود(1).
رابعا: مفهوم النص عند محمد أركون(2).
إذا كان نصر حامد أبو زيد يرى في النص القرآني نصا بشريا من حيث الصياغة، وكان علي حرب يرى فيه نصا أدبيا منفصلا عن قائله، فان محمد أركون كسابقيه يقع في تناقض مع نفسه، فبينما نجده يعترف مرة أن القرآن كلام الله (3) نجده في مكان آخر يحاول أن يختلق تقسيما جديدا للقرآن، ليتسنى له التشكيك في ثبوت النص القرآني، ويمكن تلخيص موقف أركون من القرآن الكريم في النقاط التالية:-
1. أن القرآن الكريم مر بأربعة مراحل أو مستويات
- مرحلة وجوده في اللوح المحفوظ.
- مرحلة تحول هذا النص المكتوب في اللوح المحفوظ إلى خطاب قرآني شفهي عبر جبريل ومن ثم محمد - صلى الله عليه وسلم -.
__________
(1) المرجع السابق: ص26-27.
(2) محمد أركون: جزائري من مواليد عام 1928 حاصل على الدكتوراه من جامعة السوربون بباريس عام 1969 حول الأنسية العربية في القرن الرابع الهجري وحاضر بالعديد من الجامعات الفرنسية والعربية.
معظم مؤلفاته بالفرنسية وترجمت إلى العربية - يصح وصفه بشيخ العلمانيين العرب - ينكر قداسة القرآن ويكثر من شتم الفقهاء والصحابة، ويفسر القرآن وفق مناهج لقيطة خليطة لغوية وتاريخية، متفنن في اجتراح مصطلحات الإرهاب الفكري - ينكر العديد من الأمور المعلومة من الدين بالضرورة باسم الاجتهاد كما سيتبين.
وانظر: العقلانية هداية أم غواية - 126.
(3) محمد أركون: الفكر الإسلامي-نقد واجتهاد ص194.(2/32)
- مرحلة إعادة هذا " الخطاب القرآني الشفهي "إلى نص مكتوب أي تدوين القرآن في عهد عثمان رضي الله عنه، وهي ما يسميه المسلمون " المصحف " وما يسميها هو "المدونة النصية الرسمية الناجزة والمغلقة." (إذ أنه ينكر ويتجاهل جمع القرآن في عهده - صلى الله عليه وسلم -).
- مرحلة تحول النص المكتوب إلى مجموعات التفسير الكلاسيكي(1).
2. وهو يفرق بين القيم والميزات والدلالات التي يحتويها كل مستوى من هذه المستويات:
ويدعي أن "الإسلام التقليدي" حشر كل هذه القيم والميزات فيما سماه "المصحف" فصار المصحف مادة للتلاعب اللامحدود(2)، وصار أداة من أدوات السلطة تستعيض به على تثبيت شرعيتها".
أي أنه يفرق بين الخطاب القرآني والنص القرآني من حيث أن الأول هو الخطاب المسموع والثاني هو نص مكتوب، بمعنى آخر يفرق بين دلالة القرآن المتلو والقران المقروء، اعتمادا على منهجية المدارس النقدية والألسنية الحديثة في التفريق بين المادة المسموعة والمقروءة(3) وضمن هذه الرؤية فهو يحاول إعادة تأويل لمفهوم الوحي عن طريق التمييز الحاصل في اللغة العربية بين أم الكتاب وبين القرآن، وهو يعني بأم الكتاب اللوح المحفوظ(4).
وهو يعيب على المفكرين المسلمين فهم القرآن وقراءته حسب ما يعنيه مباشرة أو حسب أصول القراءة التي تواضع عليها علماء القرآن. والأصح في رأيه أن يقرأ ضمن مناهج الألسنيات الحديثة، التي تكشف وتعري آليات القراءة التقليدية، التي تقوم على فصل النص التأسيسي عن العملية الاجتماعية، وذلك لإنجاز عدد من النصوص الأخرى(5).
3. أما حجته في هذا التفريق المزعوم:
__________
(1) نفس المصدر ص88، الفكر الإسلامي– قراءة علمية ص269، له أيضاً.
(2) الفكر الإسلامي – نقد واجتهاد ص88.
(3) نفس المصدر ص77،89.
(4) نفس المصدر 80.
(5) انظر: الفكر الإسلامي قراءة علمية ، تحت عنوان: حساب ختامي للدراسات القرآنية وآفاقها ص 245.(2/33)
أنه قد حصل مرور من الحالة الشفهية (المرحلة الثانية) إلى حالة النص المكتوب. وحالة المرور هذه استغرقت وقتا طويلا نسبيا، حيث أن كتابه القرآن وتدوينه لم تحصل إلا في عهد عثمان رضي الله عنه، وهي فترة متأخرة نسبيا حيث " جمعوا كلية الوحي في المدونة النصية " وثبتوا النص بشكل لا يتغير أبدا " في المدونة النصية الرسمية المغلقة والناجزة".
ويناقض نفسه حين يعلن أن جمع القرآن ابتدأ أثر موت النبي - صلى الله عليه وسلم - في عام (632م) "بل ويبدو أنهم قد دونوا في حياته بعض الآيات". ويشكك في دقة التدوين وصحة التوثيق للنص القرآني فيعلن أن هذا الجمع والتدوين " تم في مناخ سياسي شديد الهيجان". ويؤكد قصده هذا قوله "وهكذا تشكلت نسخ جزئية مدونة على أشياء غير كافية أو مرضية كالرَّق والعظام المسطحة"(1).
ولعدم دقة وصحة توثيق النص القرآني بسبب الظروف السياسية والمواد التي نسخ عليها فهو يدعو ويلح على وجوب النقد والضبط والتحقق من النص وظروف جمعه "حصل تثبيت بوساطة الكتابة للرسالة التي تم جمعها ضمن ظروف تاريخية، ينبغي أن تتعرض للنقد التاريخي، والضبط التاريخي والتحقق التاريخي"(2).
وضرورة هذا النقد تكمن في البحث: هل نقل النص القرآني بحذافيره وبأمانة؟ يتساءل مستبعدا ذلك، والسبب حسب رأيه أن النص المكتوب يغفلُ حيثيات الخطاب ودوافعه ومناسباته "أسباب النزول"، وهي في رأيه جزء من النص(3).
لهذا "من الصعب تحديد مضمون القرآن ومحتواه" بسبب الظروف التي مر بها والمراحل التي انتقل فيها من مرحلة اللوح المحفوظ - أم الكتاب-، إلى حالة المصحف أو المدونة النصية.
ويعزز هذه الشكوك بأن " ترتيب السور والآيات غير عقلاني وغير منطقي ولا يخضع لأي ترتيب زمني حقيقي فهو ترتيب فوضوي"(4).
__________
(1) الفكر الإسلامي-نقد واجتهاد ص81،85،86.
(2) المرجع السابق: ص81.
(3) نفس المصدر 89.
(4) نفس المصدر 90– 92.(2/34)
ويدعي بأن ابن مجاهد هو المسؤول عن الإصلاح النهائي للمصحف الذي حصل عام 324هـ، وأنه صنع ذلك ليضع حدا لتنافس الفقهاء في القراءات القرآنية، وان السيوطي في كتابه الإتقان تجاهل حلقات الصراع التي أدت إلى هذا الإصلاح الذي أدى إلى تثبيت النص القرآني، ولو عمل ذلك لساعد في حل مشكلة تاريخية الخطاب، الذي أصبح نصا رسميا مولدا للتعالي، هذه المشكلة التي عمل الفكر الإسلامي على رميها في ساحة اللامفكر فيه.
من هنا اكتسب القرآن صفة المقدس والمطلق المحترم، وما جعله يحمل هذه الصفات طباعته في القاهرة عام 1924م، فدخل منذئذ في الحياة اليومية للناس(1).
4. وهو يطالب المفكرين بنقل التراث كله -بما فيه القرآن وصحيح السنة- من ساحة اللامفكر فيه إلى ساحة المفكر فيه:
أي من ساحة المسلمات إلى ساحة المشكوك فيه القابل للنقد، ولذلك فلا يصح اعتبار الإسلام ولا النظر إليه كنموذج حقيقي مكتمل، لأن التراث بنظره مفتوح وغير محدد بشكل نهائي مغلق، فهو قابل للزيادة خاضع للتغير المستمر الذي يفرضه التاريخ(2).
فالإسلام عنده لا يكتمل أبدا بل ينبغي إعادة تجديده وتعريفه داخل كل سياق تاريخي اجتماعي ثقافي معين. لأن الإسلام عملية صيرورة تاريخية، شَكلت مع جملة صيرورات أخرى تراثا موصوفا بأنه إسلامي، وهذا يعد جزءا من عملية النقد والتفكيك للخطاب القرآني والفكر الإسلامي(3).
وإذا كان القرآن والسنة تراثا تاريخيا، فكل الأعمال الاجتهادية التي فهمت من القرآن بما فيها الفقه وفهم الصحابة والتابعين تاريخية من باب أولى(4).
__________
(1) الفكر الإسلامي– قراءة علمية ص257-258.
(2) الفكر الإسلامي– نقد واجتهاد ص18.
(3) محمد رشيد أحمد ريان : الحداثة والنص القرآني رسالة ماجستير غير منشورة ص123.
(4) نفس المصدر ص121.(2/35)
ويستمر في دعواه إلى نقد الثوابت والمسلمات، فيدعو إلى عقلنه جميع مستويات الفكر العربي، ابتداء من كلام الوحي المقدس، وتفاسير هذا الوحي والتطبيق العملي له على أرض الواقع.
وهذا يعني أن يصبح القرآن موضوعا للتساؤلات النقدية والتحريات الجديدة المتعلقة بمكانته اللغوية والتاريخية، مثل المكانة المعرفية للوحي والشروط التي تمت فيها عملية نقله، ثم الشروط التي تمت فيها عملية تأويله، بما يشكل أساسا لإعادة التفكير في الإسلام ذاته، والوصول إلى ممارسة اجتهادية جذرية على مستوى الحداثة العقلية السائدة حاليا في العالم المعاصر(1).
5. وفي محاولة منه لهدم أصول القراءة الصحيحة التي أصلها علماء الإسلام في أصول التفسير وعلوم القرآن:
يقوم بدراسة حول كتاب الإتقان للسيوطي ويوجه له انتقادات ليصل إلى نتيجة مفادها "أن كتب علوم القرآن أدبيات إما بالية وإما غير مطابقة (غير صحيحة) وإما غير كافية". ويقول هذه المعارف "علوم القرآن" هي التي خلقت النظرة التقديسية (الأرثوذكسية) للقرآن. وكأن القرآن لم يكن مقدسا قبل نشوء هذه المعارف.
والسيوطي في رأيه "صاحب عقل ديني أرثوذكسي، وهو دغمائي مهلوس، وانهزامي ويستشهد بالأحاديث المزورة"(2).
وكأن أركون يقبل الأحاديث الصحيحة، وهو الذي رد نصوص القرآن الصحيحة الصريحة.
6. وفي طعن صريح وتشكيك واضح في صحة النص القرآني:
__________
(1) الفكر الإسلامي– قراءة علمية ص246 وما بعده، الحداثة والنص القرآني ص115،128،142.
(2) الفكر الإسلامي– قراءة علمية ص246-262.(2/36)
يلح على المقارنة بين جمع القرآن الكريم وتوثيقه، وبين جمع التوراة والإنجيل، بجامع أن كلا منهما جمع في عهد متأخر بعد موت الرسول المبلغ. وذلك ليرسخ في وعي القارئ أن القرآن الكريم شابه نقص وزيادة مثلما حدث مع التوراة والأناجيل يقول" وهكذا تشكلت النصوص الكبرى: التوراة، الإنجيل، والمصحف … ثم رسخت على هيئة مدونات نصية مغلقة(1).
ويستطرد في مغالطاته بإمكانية تسرب بعض الإسرائيليات إلى القرآن ذاته، حين يصرح بان القرآن استعار آية { وعلم آدم الأسماء كلها } من التوراة(2).
7. وترتيبا على هذه الحقائق -كما يظنها- فانه يجب النظر " للكتابات المقدسة " من الزاوية التاريخية والاجتماعية والأنثروبولوجية:
لزعزعة التركيبات التقديسية والمتعالية للعقل اللاهوتي التقليدي "(3). فالنص القرآني لا يحمل تقديسا ذاتيا -ليس مقدسا بذاته - والقدسية إنما أضفاها عليه "الإيمان الأرثوذكسي"، ولذلك فان "نزع الرؤى الأسطورية عن الكتابات المقدسة أمر حتمي لا مفر منه "(4).
ولأنه لا يعترف بقدسية القرآن فقد سمى الفقهاء الذين كانوا يستنبطون الأحكام من القرآن والسنة "مديري شؤون التقديس"، أي أن القداسة خلعة خلعها الفقهاء على القرآن، وليس هو مقدس لذاته. ولا يخفي أسفه أن الرأي العام الإسلامي لا يزال يرفض هذا النقد "من المؤسف أن النقد الفللوجي اللغوي التاريخي للنصوص المقدسة لا يزال مرفوضا من قبل الرأي العام الإسلامي"(5).
8. ولأن القرآن قد شابه الزيادة والنقصان -حسب زعمه-
بسبب ظروف الجمع وتحوله من نص شفهي إلى نص مقروء، فانه لا يؤمن ولا يعتقد أن المصحف الذي بين أيدينا هو كلام الله بالذات لذلك فهو ينعى على المسلمين اعتقادهم اليقيني بان ما بين دفتي المصحف هو كلام الله بالذات(6).
__________
(1) الفكر الإسلامي نقد واجتهاد ص78،81.
(2) نفس المصدر ص80.
(3) نفس المصدر ص87.
(4) نفس المصدر ص88.
(5) نفس المصدر ص88.
(6) نفس المصدر ص86.(2/37)
9. والمصحف عنده لم يكن مقدسا ولا منتشرا:
وأنه بتحوله من النص الشفهي إلى النص المكتوب، قد صار جزءا من التاريخ الأرضي، مما يخلع عنه صفة التعالي والقداسة" إن التوسع الثقافي للكتاب المقدس وانتشاره بسبب الطباعة في كل الأوساط يؤدي إلى انخراطه في التاريخ الأرضي وبالتالي اقتلاعه تدريجيا من ذروة تعاليه "(1).
10. ويرفض التصور الإسلامي للوحي الذي يعني التنزيل:
ويرى أن " كل قراءة للنص القرآني تنتج نصوصا ثانوية أو تفاسير "(2)، وهو هنا يتطابق مع علي حرب وأبي زيد. وهذه القراءات والفهوم هي وحي كذلك" يمكننا القول بوجود وحي في كل مرة تظهر فيها لغة جديدة … إن الوحي يعني حدوث معنى جديد في الفضاء الداخلي للإنسان (القلب بمفهوم القرآن)"(3)3).
بل إنه توسع في مفهوم الوحي حتى ادخل فيه تعاليم اليهود والنصارى والحكماء الأفارقة وتعاليم بوذا وكنفوشيوس، وحتى آراء وأهواء المذاهب الوضعية الأرضية " وتحديدنا الخاص الذي نقدمه عن الوحي يمتاز بحقيقة فريدة هو انه: يستوعب بوذا وكنفوشيوس والحكماء الأفارقة.
وكل الأصوات الكبرى التي جسدت التجربة الجماعية لفئة بشرية ما، من أجل إدخالها في قدر تاريخي جديد و إغناء التجربة البشرية عن الإلهي انه يستوعب كل ذلك، ولا يقتصر فقط على أديان الوحي التوحيدي، وعلى هذا النحو يمكننا أن نسير باتجاه فكر ديني آخر غير السائد: أقصد باتجاه فكر ديني يتجاوز كل التجارب المعروفة للتقديس " أو للحرام باللغة الإسلامية الكلاسيكية "(4).
11. وعندما وُوجه في إحدى المقابلات عن كيفية التعامل مع بعض النصوص الصريحة القاطعة التي لا تحتمل التأويل بحال كقوله تعالى { لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ } ( النساء –11) قال:" بالعقل.
__________
(1) المرجع السابق: ص82.
(2) نفس المصدر ص92.
(3) نفس المصدر ص83.
(4) نفس المصدر ص84.(2/38)
ففي هذه الحالة لا يمكن فعل أي شيء إلا إعادة طرح مسألة التفسير القرآني: لا يمكننا أن نستمر في قبول ألا يكون للمرأة قسمة عادلة، فعندما يستحيل تكييف النص مع العالم الحالي، عندما يكون منبثقا عن وضع اجتماعي لا يتناسب في شيء مع عالمنا الحاضر، ينبغي العمل على تغييره.
إن التفسير يبقى دائما جائزا بشرط أن يعاد التفكير في مسألة التنزيل على ضوء التاريخانية"(1).
خامسا: مفهوم النص عند محمد أحمد خلف الله(1)
محمد احمد خلف الله لا يفهم القرآن على انه كتاب دين كما يفهمه الناس، بل يفهمه على أنه كتاب نزل من السماء ليحرر العقل البشري من قيود سلطات الآلهة، وسلطات الأنبياء والمرسلين، وسلطات رجال الدين(2).
وتحرير العقل من سلطات الآلهة يعني عنده أن تكون أعمال الإنسان غير مرتبطة بمشيئة الآلهة ورغباتها ورضاها(3).
وأما تحريره من سلطات الأنبياء والمرسلين، فبالقضاء على الهالة التي يراها الناس قدسية ويحيطون بها الأنبياء والمرسلين، وبردهم إلى مكانهم الطبعي وهو انهم مجرد بشر لا أكثر ولا أقل(4). وإذا كان القرآن أعطى العقل البشري سلطة في مناقشة سلطة السماء فكيف يمنعه من الحق في مناقشة سلطة الأرض(5).
__________
(1) العقلانية هداية أم غواية ص128.
(*) محمد أحمد خلف الله، مصري من أركان الفكر القومي المتطرف الذي يعتبر المعايير الماركسية أسسا وضوابط له - طعن في قداسة القرآن وقطعية ثبوته - وذهب إلى أن قصصه خيال وأساطير - وان الإسلام دين للعرب خاصة - وأجاز تزوج المسلمة من الكافر.
انظر: العقلانية هداية أم غواية ص134.
(2) انظر: مجموعة من الكتاب: القرآن نظرة عصرية جديدة، ص7
(3) نفسه: ص11
(4) نفسه: ص17،18
(5) نفسه: ص17(2/39)
فالقرآن نزل لينهي ما سمي على مر الزمن بمؤسسة الآلهة والنبوة ورجال الدين ينهيها مرة واحدة والى الأبد، أو بعبارة أخرى يحيلها على التقاعد - بعد أن يسلم زمام الحياة وإدارة شؤون الناس للعقل الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه - وهي ذات الدعوة التي حمل لواءها حسن حنفي وما زال.
فهو لا ينكر وجود " مؤسسة الآلهة والنبوة ورجال الدين " ولكنه لا يعترف بدورها ووظيفتها، فالعقل البشري وصل سن النضج، ولم يعد بحاجة إلى هداية وإرشاد من الآلهة والماورائيات لننظر إليه وهو يقول: " الموقف الحقيقي للقرآن، إنما يتمثل في إعلان القرآن بانتهاء هذا
نظام النبوة والرسالة…. والقرآن الكريم ينهي وصاية السماء على الأرض بإنهاء النبوة والرسالة(1)".
ويقول: "وذلك ليتحمل العقل المسؤولية، ويمضي قدما في إدراك كنه الحياة، ووضع النظم والقوانين التي تمارس بها الحياة " بشرع مكان الله - أن معنى هذه الوثيقة - يقصد القرآن - أن الإنسانية قد بلغت سن الرشد ومرحلة تحمل الأعباء، وليست في حاجة بعد اليوم إلى وحي السماء"(2).
انه بهذه الصراحة قد كفانا مؤنة التحليل للكشف عن خلفيات وأهداف نظرته العصرية للقرآن - إنه " التشريع "، إقصاء الشريعة وقوانينها وأحكامها عن إدارة شؤون الحياة إنها الحساسية الشديدة، بل العداوة المفرطة من هاجس الدعوة إلى تطبيق الشريعة وأحكامها والضيق ذرعا بالنظام الإسلامي.
"نظام النبوة انتهى ليعطي للعقل دوره في التشريع وسن القوانين "!!! أرأيت إلى "المنهجية العلمية" التي يصمون بها آذاننا، يضع أحدهم لنفسه هدفا ثم يروح ينقب عن أدلة كخيوط العنكبوت وفي طريقه إلى ذلك يتعسف في طمس حقائق ساطعة كالشمس.
والقرآن عنده أول وآخر كتاب سماوي يعمل على القضاء على الدولة الدينية وإحلال الدولة المدنية الديمقراطية محلها(3).
__________
(1) المرجع السابق: ص24.
(2) نفس المصدر: ص20.
(3) نفس المصدر ص7.(2/40)
ولأن نظام التوجيه الإلهي أسلم زمامه إلى العقل البشري، و أحيلت الأحكام الشرعية وتعاليم الرسول - صلى الله عليه وسلم - على التقاعد، لذا فان العقل يرى ترك المعتقدات وأمر العبادات للاجتهادات الشخصية التي يقوم بها الإنسان بنفسه لنفسه.
فالدين عنده هو العبادات، الحلال والحرام والمعتقدات، وحتى هذه الأمور أمور شخصية بين العبد وخالقه وهو الذي يحددها، والعقيدة وكون الإنسان مؤمنا أم كافرا أمر ذاتي نفساني لا يدركه إلا هو وخالقه.
أما أمور الحياة من القضاء والسياسة والحرب وسائر شؤون الدنيا فهي من المسائل الدنيوية المفوضة إلى أولي الأمر و اجتهاد الجماعة(1).
سادسا: محمد عمارة والنص القرآني(2)
في بحث له بعنوان ( المعتزلة والقرآن: منهج عقلي جريء في فهم القرآن ) تكلم عن المعتزلة ومنهجهم في البحث في تفسير القران، ووصفه بأنه منهج عقلاني جريء، وتكلم على قولهم في خلق القرآن، ووصفه بأنه قدم نظرة معاصرة ومتقدمة لكتاب الله، ودافع عن قولهم في خلق القرآن، واعتبر أن حجتهم فيها أقوى من حجة خصومهم - أي أنه يقول بخلق القرآن(3).
__________
(1) نفس المصدر ص22-23.
(2) محمد عمارة: مصري من مواليد عام 1931 - تخرج من كلية دار العلوم - جامعة القاهرة، ونال منها الماجستير والدكتوراه.
له جهود حثيثة لتأصيل المفاهيم العلمانية والشعوبية والقومية - وإبراز الحركات الباطنية والمنحرفة بثوبي الثورية والعقلانية، له العشرات من المؤلفات الفكرية والمئات من الإنحراقات العقائدية والفقهية والفكرية، وقد مر بعضها وسيأتي المزيد منها.
انظر: العقلانية هداية أم غواية / 129. وإعادة النظر في كتابات العصريين، أنور الجندي ص294.
(3) ضمن كتاب: القرآن نظرة عصرية جديدة، ص 87-89.(2/41)
وملخص هذه النظرة "أن القرآن من حيث هو كلمات وحروف وأصوات ومداد مكتوب في الصحائف هو محدث مخلوق، بل هو بهذه الصفات فعل الإنسان المتكلم به والقارئ له والكاتب لآياته، وعليه فالقرآن كما "نحكيه " نحن الآن ليس هو ذات " المحكي " من الله سبحانه، وان "الحكاية " في " المحكي " والذي " نحكيه " نحن: كلام وأصوات وحروف ومداد، أما " المحكي " عن الله سبحانه فهو المعنى، ولقد عبر الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن هذا المعنى بلغة العرب التي جاء بها القرآن الكريم(1).
وهو يعتبر القول بخلق القرآن ذا علاقة وثيقة بالنظرة العصرية للقرآن، ذلك أنها تعني، في مقدمة ما تعنيه "القول ببشرية هذا الكتاب من حيث اللغة والأصوات والحروف واللهجات".
وبما أن الأشياء هي ثمرة جهد بشري أثمر قواعد اتفق عليها الناس، ووضعوا لها القواعد والأصول … فان ذلك "يجعل للعقل الإنساني مجالا أكبر في النظر إلى هذا الكتاب بالتفسير والتأويل"(2).
فالله عز وجل - عنده - أوحى إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - القرآن بالمعنى وأما اللغة والصياغة - نظم القرآن - فهي فعل للإنسان تحكي ذلك المعنى(3).
هذه هي النتيجة التي انتهى إليها عمارة بعد توظيفه الخاطئ لمقولة المعتزلة السيئة أساسا وهي خلق القرآن.
وما الفرق يا ترى بين هذه النتيجة التي تجعل القرآن نصا بشريا من حيث النظم والصياغة وبين قول أبي زيد السابق بأنه منتج ثقافي وينتمي إلى ثقافة البشر:!!! وقول علي حرب أنه نص نبوي وقول "أركون" أنه نص تشكل في الواقع السياسي والاجتماعي والسياق التاريخي؟!!!
سابعا: قراءات أخرى
وهناك قراءات أخرى للنص القرآني متعددة ومتنوعة بتعدد أهل الأهواء والبدع الفكرية المعاصرة، ومتنوعة تنوع ثقافات هؤلاء وخلفياتهم الفكرية.
__________
(1) نفس المصدر 88.
(2) نفس المصدر 90.
(3) نفس المصدر 91.(2/42)
وهذه القراءات منها ما يتركز على تقديم مفهوم جديد للنص القرآني كما مر -وهي الأخطر- ومنها ما يحاول تقديم تفاسير جديدة لبعض النصوص القرآنية التي تصطدم بها آراؤهم المسبقة في بعض القضايا.
وتختلف هذه الدراسات في مناهجها، وأساليبها وعمقها وخطورتها وجراءتها من واحدة لأخرى. إلا أنها تجتمع على شيء واحد هو محاولة التخلص من بعض أحكام الشريعة أو كلها بتأويلها وتحريفها.
ومن هذه القراءات:
1. قراءات الطبيب مصطفى محمود:
قدم بعضا منها في كتابه (القرآن: محاولة لفهم عصري للقرآن) حاول فيها أن يطابق بين بعض الآيات من جهة وبين الاكتشافات العلمية والمخترعات العصرية من جهة أخرى، كما حاول أن يقدم توصيفا جديدا لبعض الأحكام الشرعية والمفاهيم الدينية التي ظنها لا تتفق مع روح العصر المصبوغة بالصبغة الغربية.
ومن طاماته في محاولاته تلك:
- قوله بجواز النظر إلى عورة النساء -الصدور والنحر والشعر- باعتباره تأملا في الجمال الذي خلقه الله، ولأن الحرمة في نظرة مقيدة بالضرر الذي يحدث في قلب الناظر وعقله(1).
- قال بنظرية التطور في خلق آدم مما ينفي خلقه بكلمة ومن تراب(2).
- أول مفهوم الجن بالقوى الخفية الموجودة في الكواكب الأخرى(3).
- أول مفهوم الملائكة بالقوانين الفيزيقية(4).
- وصف الله تعالى بما لا يليق، حيث وصفه بما لم يصف به نفسه، فوصفه بالمعماري العظيم والمهندس الأعظم وسائق قطار الحياة - والفنان المبدع(5).
- وصف القرآن بما لا يليق حيث سماه المعمار القرآني - سمفونية سورة الفاتحة(6).
- ويظهر من كتابه انه يقول بأن اليهود والنصارى مؤمنون(7).
إلى غير ذلك من التأويلات والتحريفات.
__________
(1) د. مصطفى محمود: محاولة لفهم عصري للقرآن ص95.
(2) نفس المصدر ص42،46،240.
(3) المرجع السابق: ص116 وما بعده.
(4) نفس المصدر 146-147.
(5) نفس المصدر 48.
(6) نفس المصدر 9، 22.
(7) نفس المصدر ص134-137.(2/43)
وقد ردت منهجه في القراءة وفندت أقاويله بنت الشاطئ في كتابها (القرآن والتفسير العصري) لأنه دعوة إلى تفسير عصري للقرآن غير الذي بينه الإسلام، ووصفت الدعوة إلى تفسير عصري للقرآن بأنها نغمة جديدة خلابة، وسبيل لتحريف القرآن وتأويله بعد أن عرفوا أنه لا سبيل إلى تحريف نصه الثابت وتبديل كلماته الموثقة(1).
وتكلم على هذا المنهج في التفسير كثير من المعاصرين غيرها. ومنهم الأستاذ العقاد، حيث رفض حمل نصوص القرآن على النظريات العلمية، كلما ظهرت منها نظرية بعد نظريه حسبها العلماء ثابتة مقررة، وهي بعد قليل عرضة للنقض والتعديل، فقال تحت عنوان ( تفسير القرآن في العصر الحديث) "لا نعلق إيماننا بتفسير النظريات العلمية وهي لا تستقر عصرا واحدا على تفسير غير قابل للنقض أو التعديل أو التحويل"(2).
2. القراءة التاريخية:
وتعني تفسير النص القرآني والنص النبوي وتحليله وفق معطيات التاريخ و الواقع الذي كان سائدا عند نزوله. فيحلل النص ويبين دوافعه وحكمته ودلالاته بدراسة الواقع والبيئة والعادات والتقاليد التي كانت سائدة. ومن ثم قصر دلالة النص وتطبيقه على ذلك الواقع ومعطياته، وعدم تعديتها إلى المراحل التاريخية اللاحقة، وبذلك يفقد النص ديمومته وإطلاقيته.ويصبح قاصرا على مكان معين وأشخاص معينين. مما يفقد النص إلزاميته أيضا ويكون موقفنا منه الاستئناس والاستهداء الاختياري لا التسليم والتنفيذ الإجباري.
وممن يحمل لواء هذه الدعوة من المعاصرين -وهم كثر- أركون كما تبين مما أوردناه من نقول من كتبه، والدكتور محمد عابد الجابري وهو من أشد المتحمسين لها والدكتور محمد عمارة، وروجيه جارودي وغيرهم، ونأتي الآن الى الرد على دعاواهم حول القرآن الكريم.
الرد على تأويلهم في مفهوم القرآن:
__________
(1) انظر: عائشة عبد الرحمن: القرآن والتفسير العصري ص5-8.
(2) موسوعة أعمال عباس محمود العقاد 6/547.(2/44)
تاريخ إثارة المطاعن والشبهات على القرآن الكريم قديم جدا، ومتنوع جدا أيضا(1)، والجديد في هذه المطاعن أنها تقوم على محاولة نفي القدسية والأزلية عن القرآن الكريم، واثبات أنه نص بشري أو منتج ثقافي حسب عبارة نصر حامد أبي زيد، أو على الفصل بين النص القرآني وقائله -حسب مفهوم علي حرب- وعلى عدم وثاقة نصه، والفرق بين المتلو والمقروء أو بين المسموع والمكتوب كما هو عند أركون، أو على الفرق بين الكتاب والقرآن كما يرى شحرور، أو على تاريخيته كما يرى الجابري و جارودي ومحمد عمارة وأركون، أو على أنه محكي بالمعنى كما يرى أبو زيد ومحمد عمارة، أو على انتهاء دوره كما يرى خلف الله وحسن حنفي، أو على جاهزيته للانطباق على النظريات العلمية الحديثة كما يرى مصطفى محمود … الخ.
وكل واحدة من هذه الشبهات كما يبدو جليا، هي مجرد دعاوى، لا دليل على أي منها ولا برهان - وتخالف صراحة نصوص القرآن الكريم الصريحة والقطعية - وهم على كل حال يسلمون- ولو ظاهريا بأنه الهي المصدر، وان تخبطوا في تفسير حقيقة هذه المصدرية، وبالتالي فلا حرج من إلزامهم بنصوص القرآن نفسه في بيان ماهية هذا النص الإلهي، وإليك الرد على شبههم واحدة تلو الأخرى.
عقيدة المسلمين في القرآن الكريم:
1. يعتقد المسلمون أن القرآن الكريم هو "كلام الله المعجز المنزل على النبي - صلى الله عليه وسلم - المكتوب في المصاحف المنقول عنه بالتواتر، المتعبد بتلاوته".
وتعريف القرآن على هذا الوجه متفق عليه بين الأصوليين والفقهاء وعلماء العربية "(2).
__________
(1) انظر في تفنيد بعض هذه المطاعن د. عبد الرحمن بدوي: "دفاع عن القرآن ضد منتقديه".
(2) الإتقان في علوم القرآن ص21.(2/45)
والقرآن الكريم: "كلام الله، منه بدأ بلا كيفية قولا، وأنزله على رسوله وحيا" وصدقه المؤمنون على ذلك حقا، وأيقنوا أنه كلام الله –تعالى- بالحقيقة، ليس بمخلوق ككلام البرية، فمن سمعه فزعم انه كلام البشر، فقد كفر، وقد ذمه الله وعابه وأوعده بسقر حيث قال تعالى { سَأُصْلِيهِ سَقَرَ } (المدثر/26 ) فلما أوعد الله بسقر لمن قال { إِنْ هَذَا إِلا قَوْلُ الْبَشَرِ } (المدثر/25) علمنا وأيقنا أنه قول خالق البشر، ولا يشبه قول البشر"(1).
وما دعوى من يقول بأن القرآن الهي المصدر من حيث المعنى، بشري من حيث العبارة إلا إعادة إنتاج وتطوير لمقولات المعتزلة والفلاسفة، الذين قالوا بخلق القرآن الكريم خلقا منفصلا عن ذات الله كما هو قول المعتزلة، أو بأنه فيض المعاني على النفوس مثلما هو قول الفلاسفة(2).
هذا مع الفارق أن المعتزلة حين قالوا بخلق القرآن أرادوا أن يفروا من مشكلة تعدد القدماء ومن مشكلة التشبيه والتجسيم، أما المعاصرون فقالوا بخلقه لكي يجر ذلك إلى التسليم بكونه بشريا مما يسهل نقده وتفسيره كأي نص بشري.
ونحن نؤمن أن الله -عز وجل- يتكلم كما يليق بجلاله كما قال تعالى { الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } (يس/65) فنحن نؤمن أنها تتكلم ولا نعلم كيف تتكلم.
ومما يدل على فساد وبطلان قول محمد عمارة وأبي زيد بأن القرآن هو ترجمة النبي - صلى الله عليه وسلم - للمعاني التي فهمها عن الله قوله تعالى { وَإِنْ أَحَدٌ منْ المُشرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ }
__________
(1) ابن أبي العز الدمشقي علي بن علي: شرح العقيدة الطحاوية 1/172، تحقيق وتعليق د. عبد الله بن عبد المحسن التركي وشعيب الأرناؤوط.
(2) نفس المصدر 1/173.(2/46)
(التوبة /6) وهو لا يسمع كلام الله من الله وإنما يسمعه من مبلغه عن الله، مما يقطع بان الرسول - صلى الله عليه وسلم - بلغ عين كلام الله لا ترجمته، لأن الله لم يقل: حتى يسمع ما هو عبارة عن كلام الله والأصل الحقيقة ولا يجوز صرفها إلى المجاز إلا بدليل معتبر، قال في شرح الطحاوية " ومن قال: إن المكتوب في المصاحف عبارة عن كلام الله أو حكاية كلام الله: فقد خالف الكتاب والسنة وسلف الأمة وكفى بذلك ضلالا"(1).
وقال تعالى { تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنْ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ } (الزمر /1) وقال { وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ } ( السجدة/13).
وقد رد شارح الطحاوية على من قال بان صياغة القرآن كانت من الرسول - صلى الله عليه وسلم - أو من جبريل كما يقول عمارة وأبو زيد، قال: "فان قيل: فقد قال الله تعالى ((إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ)) (الحاقة/40) ( التكوير /19) وهذا يدل على أن الرسول أحدثه إما جبريل أو محمد - صلى الله عليه وسلم -.
قيل: ذكر الرسول معرَّف انه مبلغ عن مرسله، لأنه لم يقل: أنه قول ملك أو نبي، فعُلِمَ أنه بلغه عمن أرسله به، لا أنه أنشأه من جهة نفسه"(2).
وأيضا فالرسول في إحدى الآيتين جبريل وفي الأخرى محمد، فإضافته إلى كل منهما، تبين أن الإضافة للتبليغ إذْ لو أحدثه أحدهما امتنع أن يحدثه الآخر.
وأيضا فوصف الرسول بأنه أمين { مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ } ( التكوير /21) دليل على أنه لا يزيد في الكلام الذي أرسل بتبليغه، ولا ينقص منه، بل هو أمين على ما أرسل به يبلغه عن مرسله.
__________
(1) نفس المصدر 1/194.
(2) المرجع السابق: 1/183.(2/47)
وأيضا فإن الله قد كفر من جعله قول البشر ومحمد - صلى الله عليه وسلم - بشر، فمن جعله قول محمد بمعنى انه أنشأه فقد كفر، ولا فرق بين أن يقول أنه قول البشر أو جني أو ملك، والكلام كلام من قاله مبتدئا لا من قاله مبلغا، ومن سمع قائلا يقول: "قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل" قال هذا شعر امرئ القيس ومن سمعه يقول { إنما الأعمال بالنيات } قال هذا كلام الرسول ومن سمعه يقول { الحمد لله رب العالمين - الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، إياك نعبد وإياك نستعين } قال هذا كلام الله....
وبالجملة فأهل السنة كلهم من أهل المذاهب الأربعة وغيرهم من السلف والخلف متفقون على أن القرآن كلام الله غير مخلوق(1)، وأيضا فان القرآن لما كان مقصودا منه مع العمل بمضمونه شيء آخر وهو التحدي بأسلوبه والتعبد بتلاوته احتيج لإنزال لفظه، و إنما إنزال المضمون كان شأن الحديث القدسي، الذي كان معناه ووحيه من عند الله، ولفظه من عند الرسول- صلى الله عليه وسلم -. وصدره - صلى الله عليه وسلم - بقوله قال الله تعالى.
ولا يصح وصف القرآن بالبشرية، لأن لفظنا به مخلوق، أو لأنه مكتوب بمداد مخلوق، أو مكتوب بخط بشر، فكل معنى من هذه المعاني لا ينافي كون القرآن كلام الله، المحفوظ في الصدور المقروء بالألسنة، المكتوب في المصاحف، ففرق بين القراءة التي هي فعل القارئ والمقروء الذي هو صفة الباري.
ولو أن إنسانا وجد في ورقة مكتوبا: ألا كل شيء ما خلا الله باطل، من خط كاتب معروف، لقال هذا من كلام لبيد حقيقة، وهذا خط فلان حقيقة، وهذا حبر حقيقة، ولا تشتبه هذه الحقيقة بالأخرى، والمعنى أن كون هذه الأمور مخلوقة حقيقية لا يدل على أن القرآن مخلوق.
. والقرآن في الأصل مصدر:
__________
(1) نفس المصدر 1/183-185 باختصار، والبيت مطلع معلقته في ديوانه ص8، والحديث أخرجه البخاري 1/9.(2/48)
فتارة يذكر ويراد به القراءة، قال تعالى { وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا } (الإسراء/78)(1). وتارة يذكر ويراد به المقروء قال تعالى { فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ } ( النحل/98) وقال تعالى { وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } ( الأعراف /204).
والكتاب تارة يذكر ويراد به محل الكتابة، وتارة يذكر ويراد به الكلام المكتوب.. وحقيقة كلام الله –تعالى- هي ما يسمع منه، أو من المبلغ عنه فإذا سمعه السامع، علمه وحفظه، فكلام الله مسموع له معلوم محفوظ، فإذا قاله السامع فهو مقروء له متلو، فإن كتبه فهو مكتوب له مرسوم، فهو حقيقة في هذه الوجوه كلها لا يصح نفيه(2).
وهذا الكلام وإن ساقه شارح الطحاوية للرد على من جعل القرآن مخلوقا لأنه مكتوب بمواد مخلوق ومقروء من بشر مخلوقين، فانه يصلح للرد على من جعل القرآن بشريا أو منتجا ثقافيا وأنه من صياغة الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
كما انه رد على دعوى محمد أركون القائمة أساسا على التفريق بين المقروء والمكتوب أو بين ( الخطاب القرآني ) و ( والنص القرآني ) إذ أنه تفريق قائم على غير برهان ولا تعضده أدلة اللغة إذ أن القرآن يطلق على ما هو مقروء وما هو مكتوب بحسب الاعتبارات السابقة.
__________
(1) المرجع السابق: ص190-191، والبيت للبيد بن ربيعة وتمامه ( وكل نعيم لا محالة زائل )، انظر ديوانه ص254.
(2) نفس المصدر ص192-194، بتصرف وانظر: د. محمد عبد الله دراز، النبأ العظيم ص12.(2/49)
كما انه يؤكد بطلان دعوى شحرور، والقائمة على التفريق بين الكتاب والقرآن ومما يؤكد بطلان هذه الدعوى أيضا قوله تعالى { وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنْ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ(*) قَالُوا يَاقَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ } (الأحقاف/29 - 30 )
فالقرآن في الآية الأولى هو نفس الكتاب في الآية الثانية والمتحدث عنه هو كلام الله في الآيتين، فالقرآن هو كتاب أنزل من بعد موسى(1).
وبإثبات هذه البديهة - ويا للعجب من بديهيات تحتاج إلى إثبات - وهي أن الكتاب هو القرآن وهو ذاته الفرقان - تنهار نظرية شحرور وتنهار كل استنتاجاته التي رتبها على التفريق بين القرآن والكتاب.
ومما يزيد هذا تأكيدا وتوضيحا قوله تعالى { قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنْ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا(*) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا } (الجن/1 -2) فالمتكلمون هم نفر من الجن
بعينهم وقد أنصتوا وسمعوا الشيء نفسه وسموه في آية الأحقاف ( الكتاب ) وهنا بـ ( القرآن)(2).
__________
(1) جواد عفانة: القرآن وأوهام القراءة المعاصرة ص29-30.
(2) المرجع السابق: ص30.(2/50)
وأما الفرقان فهو من أسماء القرآن، وتفيد مادته معنى التفرقة، كأن في التسمية إشعارا بتفرقة هذا الكتاب بين الحق والباطل، فليس الفرقان قسما أو كتابا آخر غير القرآن المعروف وإلا للزم أن يكون معنى الفرقان في قوله تعالى { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ } ( الأنفال /29).
إن تتقوا الله يجعل لكم قسما من كتاب الله وهذه الآية كتمها شحرور حين بنى دعواه على أن كلمة ( فرقان لم تأت إلا في ستة مواضع معرفة، وكتم هذا الموضع، لأن معنى فرقانا هنا هو التفريق حصرا - أي المصدرية ولا سبيل إلى غير ذلك، أي لا سبيل إلى تفسير كلمة فرقانا في الآية بأنها قسم من كتاب الله مغاير لقسمه الآخر(1).
ودعوى أركون اختلاف دلالة القرآن من حيث هو نص مكتوب عن دلالته من حيث هو خطاب مسموع هي دعوى سفسطائية لا معنى لها.
ومن يقول بذلك نقول له أوجدنا فرقا في الدلالة والمضمون بين أن يقرأ الرسول - صلى الله عليه وسلم - مثلا قوله تعالى { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالا مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } ( المائدة-38 ) وبين أن يقرأها أحد كتاب الوحي بعد كتابتها في أحد الرقاع؟.
نحن لا ننكر أن الملابسات والحوادث والقرائن التي احتفت بنزول آيات معينة تعين على فهم تلك الآيات وتجليها، بل أن بعض الآيات لا يتضح معناها دون الوقوف على سبب نزولها، ولم يُغفل العلماء أهمية سبب النزول في تجلية معنى الآية، وقد ذكر الواحدي أنه يمتنع معرفة تفسير بعض الآيات دون الوقوف على قصتها وبيان نزولها(2).
__________
(1) نفس المصدر ص63 وانظر: الدكتور صبحي الصالح: مباحث في علوم القرآن ص20.
(2) انظر: الواحدي أبو الحسن علي بن أحمد النيسابوري: أسباب النزول ص3.(2/51)
وكان المفسرون دوما يذكرون أسباب نزول الآيات عند تفسيرهم لها، وأفرد بعضهم كتبا في أسباب النزول كالسيوطي والواحدي، بل التزم بعض العلماء ببيان المناسبات بين الآيات المتتابعة وبيان التناسب بين السور مثلما فعل برهان الدين البقاعي الدمشقي في كتابه نظم الدرر في تناسب الآيات والسور.
لكن ما من أحد قال بان الواقع الذي احتف بنزول الآية هو جزء من الآية، فضلا أن يرتب على ذلك أن القرآن لم ينقل بدقة وأمانة أو انه ناقص لأنه لم يذكر الواقع والملابسات التي صاحبت أو كانت سببا في نزوله كما افترى أركون.
ونحن نعلم أن غالب آيات القرآن نزلت بدون حادث أو سبب أو سؤال، و إنما نزلت تقرر عقائد وتشريعات … الخ، على أن ما احتفظت به كتب الحديث والسير وما كتبه علماؤنا في بيان المناسبات، وما احتفظ به تراثنا من كتب الأدب فيه كفاية في بيان صورة الواقع وعادات العرب وتقاليدهم مما يعين على فهم القرآن.
ومع ذلك فهذا الواقع وأحداثه وأشخاصه ليسوا جزءا من القرآن، وقبل هذا و ذاك فان الله -عز وجل- أنزل هذا القرآن وتعهد بحفظه من التغيير والتبديل فقال تعالى { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } ( الحجر/9).
وهؤلاء جميعا يصدرون عن هاجس تشكيكي واحد، والدليل على ذلك أنه بينما يحاول أبو زيد إثبات عدم أزلية القرآن وعدم وجوده في اللوح المحفوظ وانه نزل وفق أحداث طارئة هي التي شكلته ولولا حدوثها لكان القرآن مختلفا، نجد أن محمد أركون يعبر عن هذا المعنى بالقول أن الواقع والملابسات هي جزء من النص، والهدف واحد في الحالتين وهو إثبات نسبية القرآن وبيئيته وبالتالي تغيره، وعدم إطلاقيته.
وهو المحور الذي بنى عليه أبو زيد دراسته عن مفهوم النص، والتقط له كل شاردة وواردة حتى جعل وجود الفاصلة التي تشبه السجع من جملة براهينه.(2/52)
ولو تفطن إلى حقيقة بسيطة لما أرهق نفسه وعناها هذا العناء، وهي أن علم الله عز وجل بالوقائع والأحوال والأحداث كائن في الأزل، والله عالم بطباع الناس وقدراتهم وأنه سينزل آيات وينسخها تدريجيا، وتيسيرا في التشريع، وهو مقارن لكلامه تعالى بالقرآن، وكلاهما العلم والكلام صفتان لله سبحانه وتعالى، ولم يكن كلامه تعالى حادثا بسبب تلك الوقائع والحوادث والأوضاع، حتى يكون ذكره لها وتنزله بحسبها دليلا على تشكيلها له وتشكله بها، وإلا لكان القرآن حادثا مخلوقا وهو من أبطل الباطل.
وأما توسيع أركون لمفهوم الوحي ليشمل نصوص التوراة والإنجيل بما هي عليه الآن وكتب بوذا وكونفوسيوش وأفكار الفلاسفة فهو من عجائب هذا الفكر المخرَّف.
لأننا نعلم أولا أن الوحي الذي أُمِرنا باتباعه، والذي هو ملزم لنا وحجة علينا هو ما أنزله الله عز وجل على محمد - صلى الله عليه وسلم - دون غيره، مع إقرارنا بأن أصل التوراة والإنجيل هما وحي من عند
الله، قال تعالى { وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلا اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي } (الأعراف /203) وقال تعالى { إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ } (النساء /163 ) وقال تعالى { وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى(*)إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى } ( النجم-3 ).
ومفهوم أركون هذا للوحي متأثر بما جاء في قاموس الكتاب المقدس في تعريف الوحي: "بأنه حلول روح الله في روح الكتّاب الملهمين، لاطلاعهم على الحقائق الروحية والأخبار الغيبية من غير أن يفقد هؤلاء الكتاب بالوحي شيئا من شخصياتهم، فلكل منهم نمطه في التأليف وأسلوبه في التعبير" وهو أبعد ما يكون عن المعنى المصطلح عليه لمفهوم الوحي، وأقرب ما يكون لمفهوم الكشف المعروف عند الشعراء والمتصوفين(1).
__________
(1) مباحث في علوم القرآن ص25.(2/53)
وإذا كان ما قاله بوذا وكونفوسيتوش وكل رجل دين، أو فيلسوف وحيا وكانوا بذلك أنبياء، فلم أرسل الله الرسل وأنزل الكتب"؟ وإذا كان كلام البشر مساويا لكلام الله سبحانه وتعالى، فما حاجة البشر إلى وحي الله؟ فهل هذا ما أراد أركون أن يصل إليه؟
واعتقد أن حملته على الشريعة وأئمتها وتبرمه بها وبأحكامها، وبالمناداة بتطبيقها هو وأبو زيد وعلي حرب وأشباههم؟ إضافة إلى إشادته بالنموذج الأتاتوركي يقدم الإجابة الوافية القاطعة.
3. أما نفي حامد أبي زيد لإعجاز القرآن الكريم بنفي التمايز بينه وبين النصوص الأخرى ودعواه بان العرب لم يكونوا قادرين على استيعاب التغاير بينهما:
فهي دعوى باطلة وغير علمية ومن ينكر تحيَّر العرب ومحاولتهم الإتيان بمثله وعجزهم عن ذلك؟ ومن ينكر قول الوليد بن المغيرة في القرآن بل من ينكر الآيات التي نصت صراحة على تحدي العرب ولو كان بمستطاعهم ذلك لفعلوا ووفروا على أنفسهم حروبا وأرواحا أزهقت في سبيل إبطال دعوة محمد - صلى الله عليه وسلم -.
وهذه حقائق تاريخية، ومن ينكرها فلن يشفع له تمسحه الكاذب بالعلمية، ولن يصدقه أحد في دعوته لوعي علمي بالتراث.
إن الله عز وجل قد تحدى العرب أولا أن يأتوا بمثل كامل القرآن فقال تعالى { أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَل لا يُؤْمِنُونَ(*) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ } (الطور /33 - 34).
ثم تنازل لهم عن التحدي بجميع القرآن الصادق، الذي لا يخالف الواقع في شيء إلى التحدي بعشر سور مثله، ولو كانت مفتريات لا أصل لها ولا سند، فقال تعالى { أم يقولون افتراه، قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين } (هود/13).(2/54)
فلما عجزوا عن السور العشر المفتريات تنازل إلى تحديهم بسورة من مثله فقال تعالى { وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ (*) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ } (البقرة /23 - 24).
حتى إذا عجزوا عن معارضة سورة واحدة من سوره وهم أمة الفصاحة والبلاغة - جلجل صوته في الآفاق، وتحدى أمم العالم قائلا في ثقة ويقين:
{ قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا } (الإسراء/88)(1).
وإذ قد ثبت لدينا إعجاز القرآن بجملته وفي كل سورة من سوره - وآية من آياته بطلت دعوة أبي زيد السابقة ودعوى شحرور التي نفت الإعجاز عن آيات التشريع ليتوصل بنفيه ذلك إلى أنها متغيرة متبدلة.
4. ونأتي الآن إلى دعوى أركون حول جمع القرآن وعدم وثاقة النص القرآني، لأنه جمع على مواد غير مرضية، وان ابن مجاهد ادخل عليه اصلاحات نهائية:
فمن المعلوم أن جبريل عليه السلام كان يعلّم الرسول - صلى الله عليه وسلم - القرآن في بدء نزوله، وكان الرسول - صلى الله عليه وسلم - بدوره يعلمه ويقرئه للمسلمين، ويقومون هم بتعليم بعضهم بعض، بأمر من الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ولقد وجدت جماعات من الصحابة عرفوا بتعهدهم القرآن الكريم وتلاوته وحفظه.
__________
(1) المرجع السابق: ص46-47، وانظر: مقدمة الأستاذ محمود شاكر لكتاب الظاهرة القرآنية لمالك بن نبي ص17.(2/55)
ويعد الذهبي في كتابه ( معرفة القراء ) سبعة ممن حفظوا القرآن في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - وهم أبي كعب وعبد الله بن مسعود، وأبو الدرداء عويمر بن زيد، وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، وأبو موسى الأشعري، وزيد بن ثابت.
وعقَّب بقوله: "فهؤلاء الذين بلغنا أنهم حفظوا القرآن في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأخذ عنهم عرضا وعليهم دارت أسانيد قراءة الأئمة العشرة"(1).
والصحيح أن حفظ القرآن في الصدور تيسر لغير هؤلاء من الصحابة، فضلا عن أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - سيد الحفاظ وأول الجماع، حيث كان جبريل عليه السلام يعارضه بالقرآن في كل عام مرة وفي العام الذي توفي فيه عارضه به مرتين(2). والجمع في الصدور هو أحد معنيي الجمع.
والمعنى الثاني للجمع هو الكتابة: فمن المعلوم أن القرآن كله كتب في عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - غير مجموع في مصحف واحد، بل كان مفرقا في الصحائف، وقد اتخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - كتابا للوحي فيهم الخلفاء الأربعة ومعاوية وزيد بن ثابت وأبي بن كعب وخالد بن الوليد وثابت بن قيس، وكان يأمرهم بكتابة كل ما ينزل من القرآن، حتى تُظاهِرِ الكتابة جمع القرآن في الصدور، وكانت إذا نزلت آية قال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ضعوا هذه الآية في موضع كذا من سورة كذا، وثبت عن زيد بن ثابت أنه قال: كنا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نؤلف القرآن من الرقاع " و الرقاع جمع رقعة وقد تكون من جلد أو ورق أو كاغد، ومعنى تأليف الرقاع ترتيب السور والآيات وفق إشارة النبي - صلى الله عليه وسلم - وتوقيفه.
__________
(1) الذهبي شمس الدين: معرفة القراء الكبار على الطبقات والأعصار 1/31.
(2) الإتقان في علوم القرآن 1/70-71.(2/56)
فكانوا يكتبون الآيات في اللخاف والعسب والأكتاف والأقتاب، واللخاف جمع لخفة وهي الحجارة الدقاق أو صفائح الحجارة، والعسب جمع عسيب وهو جريد النخل، والأكتاف جمع كتف وهو عظم البعير أو الشاة يكتبون عليه بعد أن يجف، والاقتاب جمع قتب وهو الخشب الذي يوضع على ظهر البعير ليركب عليه، وقطع الأديم هي الجلد(1).
فقد توفي الرسول - صلى الله عليه وسلم - والقرآن كله محفوظ في الصدور مكتوب على مواد متفرقة، وهذا ينقض ما ذهب إليه أركون من أنه لم يكتب في عهده - صلى الله عليه وسلم - إلا بضع آيات وانه لم يجمع كاملا إلا في عهد عثمان رضي الله عنه. ودعواه بعدم كفاية المواد مما قد يعرض القرآن للزيادة والنقص منقوضة بحفظ الصحابة له في الصدور وروايتهم له بالتواتر مما يجعل الخطأ غير وارد أساسا.
وأما جمع القرآن في عهد أبي بكر الصديق فلم يزد على أن نسخها من مكان إلى مكان مجتمعا وكان ذلك بمثابة أوراق وجدت في بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيها القرآن منتشرا فجمعها جامع وربطها بخيط حتى لا يضيع منها شيء(2).
وكان زيد حين كلفه أبو بكر بجمع القرآن يشفع الكتابة بحفظ الصدور، ولا يثبت آية إلا بعد إثباتها بالجهتين، إلا آخر آية من سورة التوبة حيث لم يجدها مكتوبة إلا مع أبي خزيمة ولكن الصحابة كانوا يحفظونها، فكان لا بد لقبول آية أو آيات من شاهدين هما الحفظ والكتابة(3).
__________
(1) انظر: الإمام الزركشي بدر الدين محمد بن عبد الله: البرهان في علوم القرآن 1/235-237، والإتقان في علوم القرآن 1/57 ومباحث في علوم القرآن ص70.
(2) انظر: البرهان 1/238 والإتقان 1/57.
(3) انظر: الإتقان 1/58 ومباحث في علوم القرآن ص75–76.(2/57)
وأما جمعه في عهد عثمان فلم يَعْدُ أن أخذ المصحف الذي جمعه أبو بكر، والذي كان عند حفصة بنت عمر أم المؤمنين فنسخه سبع نسخ، وأرسلت إلى الأمصار وبعث مع كل مصحف مقرئا خاصا لكل مصر من الأمصار التي بعث إليها المصحف، وتوخى أن يكون مع كل مصحف قارئ توافق قراءته أهل ذلك المصر في الأكثر الأغلب، ومن هنا كانت قراءة كل أهل قطر تابعة لرسم مصحفهم(1).
فهذا كان دور أبي بكر ودور عثمان، جمع للمتفرق ونسخ للمجموع، فليس هناك صحة على الإطلاق للدعوى المتهافتة التي ابتدعها أركون من مثل " المدونة النصية الناجزة والمغلقة " فالقرآن كان مدونا على عهده - صلى الله عليه وسلم -، وليس هناك نص رسمي وآخر غير رسمي، كما يوحي مصطلحه، والقرآن كان تاما مكتملا وليس عثمان هو الذي أنجزه وأغلقه، والنص كان ثابتا من أساسه وليس الصحابة هم الذين ثبتوه، والقرآن كان محفوظا في الصدور ولا يضره أن كانت المواد المكتوب عليها بدائية.
إذن فليس من الصعب معرفة محتوى القرآن كما يدعي أركون، ثم إنه لا يصح المقارنة بين ظروف جمع القرآن والظروف التي جمعت فيها التوراة والإنجيل لأن الأخيرْين لم يكتبا إلا بعد عهود متطاولة من وفاة موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام.
وتأسيسا على ما سبق، فان كل عاقل منصف يقطع بأن ما بين دفتي المصحف هو كلام الله بالذات. وإنما لم يجمع القرآن الكريم في مصحف واحد في عهده - صلى الله عليه وسلم - لأنه كان يترقب نزول الوحي عليه، وإمكان ناسخ لبعض أحكامه فكان معرضا للإضافة والنسخ(2).
__________
(1) انظر: الدكتور عبد الهادي الفضلي: القراءآت القرآنية تاريخ وتعريف ص22-23.
(2) انظر البرهان 1/235،261.(2/58)
والمحصلة النهائية أنهم يريدون أن يرفعوا القداسة عن القرآن، وإثبات أن فيه كلاما بشريا، وان بعضه قد سقط عند الجمع، شانه في ذلك شان الكتب السماوية السابقة. وهو الأمر المرفوض حتى من اكثر الناس تعصبا ضد الإسلام(1).
5. وأما عن دعوى أركون بأن ابن مجاهد هو الذي أدخل الإصلاح النهائي على القرآن الكريم:
فانه يشير بأن من القرآن تعرض لإصلاحات عدة كان آخرها ما قام به ابن مجاهد. وهذه دعوى باطلة ما سبقه بها من أحد من العالمين.
لقد بين مكي بن أبي طالب أن دور ابن مجاهد في القرآن الكريم لم يزد على تسبيع السبعة، أي انه اختار سبع قراءات من القراءات الكثيرة والمتعددة، والتي توافق رسم المصحف لسبعة من القراء، اختارهم حسب الأمصار، وكانوا معروفين مشهورين بالثقة والأمانة وحسن الدين وكمال العلم، قد طالت أعمارهم واجمع أهل العصر على إمامتهم فيما نقلوا، وثقتِهم فيما قرأوا و رووا، وعلمهم بما يقرأون، فهم كانوا ناقلين راويين للقراءات ولم تخرج قراءتهم عن خط المصحف، وكان هدفه الاقتصار من القراءات التي توافق رسم المصحف على ما يسهل حفظه وتنضبط القراءة به(2).
وذكر الطبرسي في سياق بيانه لسبب اجتماع الناس على قراءات سبعة قراء، أنهم تجردوا لقراءة القرآن أكثر من غيرهم من العلماء، الذين كانوا يغلب عليهم الاشتغال بالفقه والحديث. وسبب آخر " أن قراءتهم وجدت مسندة لفظا وسماعا، حرفا حرفا من أول القرآن إلى آخره مع ما عرف من فضائلهم وكثرة علمهم بوجوه القرآن"(3).
__________
(1) انظر هذا الأمر مفصلاً: الشيخ خالد عبد الرحمن العك: تاريخ توثيق النص القرآني.
(2) انظر: القراءآت القرآنية تاريخ وتعريف ص33.
(3) الشيخ الطبرسي أبو علي الفضل بن الحسن: مجمع البيان في تفسير القرآن 1/11.(2/59)
فقراءاتهم وجدت مسندة لفظا وسماعا حرفا حرفا من أول القرآن إلى آخره ولم يكن عمل ابن مجاهد سوى جمع تلك القراءات المسندة المحفوظة لأئمة تجردوا طول عمرهم لقراءة القرآن وإقرائه وتعليمه.
وقد ذكر ابن مجاهد نفسه السبب الذي دعاه لاختيار قراءات الأئمة المذكورين، وبين أن الأمر الهام الذي دفعه إلى تسبيع السبعة هو الحفاظ على منهج القراءات القرآنية، لئلا تخرج عن طريق النقل الموثوق به إلى النقل المشكوك فيه أو عن طريق الرواية والنقل عن الرسول الأعظم - صلى الله عليه وسلم - إلى طريق الاجتهادات الشخصية(1).
ومن المعروف أن من شرط القراءة حتى تكون مقبولة متفقا عليها:
- أن توافق رسم المصحف.
- أن توافق اللغة.
- أن تكون متواترة صحيحة السند إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
فإذا لم توافق رسم المصحف، أو لم تكن متواترة نقلا، فلا تصح ولو وافقت العربية(2).
والحقيقة أن أركون وغيره ممن يثيرون مسألة القراءات في سياق بحثهم لتوثيق النص القرآني إنما يحاكون المستشرقين الأوربيين ويقلدونهم تقليدا أعمى. حيث أن المستشرقين ينظرون إلى القراءات كنسخ متعددة للنص الواحد.
والصحيح أن هناك فرقا كبيرا بين القراءات والنُسَخ - ولعل هذا الاتجاه الاستشراقي هو الذي دفعهم أن يعدوا القرآن نصا قديما قابلا للدراسة والبحث على نحو ما أشار إليه جفري ومن نقل عنهم(3).
6. منهجية قراءة النصوص وتفسيرها عند أبي زيد وعلي حرب وأركون:
يقوم هؤلاء وغيرهم من الكتاب المعاصرين بمحاولة تفسير وتحليل للنصوص القرآنية وفق أحدث النظريات اللغوية والنقدية الغربية كالبنيوية واللسانية.
__________
(1) القراءات القرآنية ص36.
(2) نفس المصدر ص38-39.
(3) السيد أحمد خليل: دراسات في القرآن ص12.(2/60)
وتقوم هذه المنهجية على قراءة النصوص ودراستها دراسة لغوية صرفة، أي أن التحليل اللغوي هو المنهج الوحيد المعتمد للتعامل مع النصوص، لاستخلاص معطيات ونتائج صحيحة. وانه ينبغي لذلك تفكيك النصوص تفكيكا تحليليا إلى وحدات بنائية، ثم العمل على غربلتها وإعادة بنائها وتشكيلها من جديد.
وهذه المنهجية: تعطي للنص كينونته الخاصة به واستقلاله التام عن مؤلفه، وقطع كل علاقة بين النص وقائله، وانتزاع النص عن واقعه المحيط به ليتحول النص بهذا "الاستقلال" إلى حقيقة لها وجودها الخاص. وينبغي التعامل معها على هذا الأساس. أي أساس أنها حقيقة مستقلة عن الحقائق الأخرى ( تجريد النص من كل العلائق والظروف المحيطة به قبل قراءته ).
وهذه المنهجية لا تفرق بين نص وآخر، فلا فرق عندها بين نص أدبي ونص فلسفي أو نص علمي ونص ديني - فكل النصوص مهما اختلفت مستوياتها وتباينت موضوعاتها نصوص لغوية ينبغي التعامل معها ضمن مناهج التحليل اللغوية نفسها، حتى القرآن الكريم والسنة النبوية يدخلان ضمن هذا الإطار(1).
وهذه المنهجية في تحليل النصوص وقراءتها لا يجوز اعتمادها في تحليل وقراءة النصوص الدينية عامة والنص القرآني خاصة وبيان ذلك:
- أن تناول النصوص كلها بنفس المنهجية ليس سليما، ولا علميا فلكل نص خصائصه وسماته التي يجب مراعاتها عند تحليله.
- لا يمكن تفسير القرآن والسنة بوصفها نصوصا لغوية وحسب، ولا يمكن بحال المساواة بين النص القرآني والنصوص الأخرى في التفسير والتحليل.
فقائل النص القرآني هو الله عز وجل العليم الحكيم والنصوص الأخرى -مهما- أوتي صاحبها من العلم فهي في النهاية نصوص بشرية. ويترتب على هذه الخصِّيصة أن النص القرآني لا يشوبه ولا يعتريه ما يعتري النصوص الأخرى من أثر الجهل أو العلم النسبي أو الغفلة أو السهو أو النسيان أو عدم الإحاطة بالموضوع.
__________
(1) الحداثة والنص القرآني ص71-72.(2/61)
وبما أن قائل النص هو العليم الحكيم فالنص مطلق من الزمان والمكان، لأن المكان والزمان ليس لهما اعتبار بالنسبة إلى الله تعالى، لأن الله مطلع وكاشف على كل الزمان وكل المكان، فلا ماضي ولا حاضر ولا مستقبل ولا قريب ولا بعيد بالنسبة إليه سبحانه. أما النصوص البشرية فصاحبها محدود التفكير بالزمان والمكان والبيئة والمؤثرات الأخرى.
- وعليه فلا يمكن فهم النص-أي نص- بمعزل عن مؤلفه أو قائله فهما سليما -حسب ما يروج أصحاب هذه النظرية- بل لا بد لحسن الفهم من دراسة ظروف نشأة النص ومعرفة صفات قائله وغرضه من قوله، فكل نص له ارتباط وثيق بصاحبه وهو مقياس صاحبه ومعياره لأنه به يتمثل وبه ينطق(1).
- هذه المنهجية تفسح للقارئ قراءة متعسفة للنص، فيسقط عليه ما يريده وما يتخيله من الظنون والآراء ويقوله ما لم يقل. وهو جناية على إرادة صاحبه(2).
- النص القرآني مع انه نص لغوي وكتاب العربية الأكبر وأثرها الأدبي الخالد إلا أن أهميته تكمن في بعده الديني، حيث أسس شريعة ونظاما قامت عليها حضارة عظيمة - وهو ما لم يتوفر لنص آخر بشهادة أبي زيد نفسه(3). إلا أن أبا زيد أراد من وراء هذه الدعوة إسقاط قدسية القرآن الإلهية لأن الأثر الأدبي قابل للنقاش والتداول والتمحيص، أي أنه بكل بساطة -تدعو إلى حد الفجور- يرى أن الأمر متروك للأهواء لتأخذ من هذا الأثر الأدبي "ما تريد وتترك ما تريد"(4).
- النص القرآني نص مقدس معجز وبالتالي فلا يتأتى نقده، إذ النقد هو إبراز العيوب، والنص القرآني صفة لقائله المنزه عن العيوب والنقائص، وكيف للعقل المحدود أن ينقد المطلق واللامحدود.
__________
(1) المرجع السابق: ص73.
(2) من مناقشة د. مصطفى المشني للرسالة المذكورة.
(3) الحداثة والنص القرآني ص75.
(4) د. عمر عبد الله كامل: العواصم من قواصم العلمانية ص23.(2/62)
- إن النص القرآني يمثل الإطار المرجعي والمعيار النهائي والمصدر المعرفي الأول والأخير الذي سلمت وخضعت له أجيال على مر قرون متطاولة ويخضع له الآن ما يزيد على مليار مسلم وهو ما لم يتحصل لنص آخر.
- تصور إمكانية الفصل بين النص القرآني وقائله سفسطة فارغة، لا تحتاج إلى كدح عقلي "لتفنيدها"، بل لا يتقبلها عقل سوي، وان غُلفت - من باب الإرهاب الفكري بمنظومة من المصطلحات والنظريات التي توصف بالعلمية.
- النص البشري يعتري صاحبه ويؤثر فيه المكان والزمان والبيئة - وهو متأثر برموز ومعان وانفعالات وعواطف ومشاعر من غضب ورضا وخوف ورهبة وحب وكره وآلام وآمال، والنص القرآني برئ من هذه المؤثرات(1)، لأن الوحي منزه عن هذه الآفات بما فيه النص النبوي الصحيح، لأنه - صلى الله عليه وسلم - وان كان بشرا فانه كما صح عنه لا ينطق ولا يقول إلا حقا.
- لا يمكن التسليم بحال بمقولة علي حرب وأركون بأن قراءة النص تنتج نصا ثانيا، أو بأنه بالإمكان أن تقرأ من النص وتفهم منه ما سكت عنه، أو ما لم يخطر على بال صاحبه فضلا عن أن تفهم منه ما نفاه.
لأن النص القرآني " نص عربي يُفسَّر وفق قواعد اللغة ولا يصرف عن ظاهره بالتخمين.."(2) كما قال العقاد، ويفهم حسب أساليب العرب و معهودهم في الكلام وهذه القاعدة تشكل ألف باء التعاطي والتناول للنص القرآني كما سبق وبيناه.
__________
(1) الحداثة والنص القرآني ص88.
(2) موسوعة أعمال عباس محمود العقاد 6/533.(2/63)
ولغة العرب قائمة أساسا على فهم المعنى المتبادر من اللفظ، والذي يحدد أن هذا المعنى متبادر أم لا هو عادة الناس في الخطاب وقرائن الأحوال. أما أن تفهم من النص ما نفاه صاحبه وعكس ما رمى إليه فهذه باطنية جديدة. تهدف إلى إبطال الظواهر ومن ثم إبطال التفاهم بين الناس، وتفسير النص القرآني كما يحلو لهم (1).
- وإذا كان يمكن أن يفهم من النصوص القرآنية والحديثية العربية ما لا تجيزه أساليب العرب وعاداتهم في الخطاب، فلم يخاطبوننا بلغة عربية، وكيف يطلبون منا فهم تحليلاتهم ونظرياتهم؟ ولِمَ يخاطبوننا وهم يعلمون أننا يمكن أن نفهم من نصوصهم ما لم يخطر على بالهم بل ما نفوه ورفضوه؟ وهل يريدون إلا إرجاع الناس إلى لغة الحيوانات والرموز. مادامت اللغة لا تدل على مدلولاتها؟.
إن شخصا لا يسلم بالدلالات والمعاني التي يدل عليها نص واضح، والتي يفهمها منه الأغلبية المطلقة من الناس خاصتهم وعامتهم لا يمكن أن تجد معه وسيلة للحوار.
وكيف تحاوره وهو لا يسلم بظاهر الكلام ومعناه الذي يفهمه أي عاقل؟ وهل الناس حين يتخاطبون فيما بينهم – بأية لغة- يوغلون في الرمزية والمجاز حتى لا يفهمه إلا النادر من الناس؟ إذن لتعقدت الحياة ولا نشغل الناس بفك حجب الكلام وحل رموزه.
وعليه فإني أرى من العبث أن يجادل هؤلاء إذا ما رَدُّوا دلالة آية أو حديث على أمر واجب أو محرم. فمن يُقارَع بحجج الشرع وبراهين اللغة هو من يسلم باللغة أساسا، فذلك يمكن أن تقارعه إذا ما انفلت في الاستدلال، بأنه خرج عن ضوابط وقواعد التفسير أو التأويل الذي تسوغه لغة العرب التي نزل بها القرآن. وكيف يمكن أن تحتج عليهم بآية أو حديث والحال كذلك، فضلا عن أن تحتج عليهم بإجماع العلماء وسلف الأمة؟
__________
(1) للتوسع في معرفة خصائص القرآن: انظر: السيد خليل: دراسات في القرآن ص17وما بعده، والحداثة والنص القرآني ص76.(2/64)
وضمن هذه المعطيات فلا غرابة لما يدعو إليه علي حرب من إعادة النظر في كل المفهومات ومن دعواته لنقد الحقيقة واليقين!! ودعواه المساواة بين النصوص إلهية أو بشرية، أو دعواه أن النص كائن منفصل عن ذاته، أو سفسطته بان الخطاب حجاب ومخادع ومخاتل، ومن تسميته للمسلِّمين للنصوص بعباد الأوثان وأهل الرمز والحجب، ودعوته لسيادة العقل مطلقا، ولانسحاب الإلهة والأنبياء من على مسرح الحياة.
ولا غرابة فيما يدعو إليه هو وأركون وأبو زيد من أن قراءة النص تنتج نصا آخر وأن النص هو فضاء للتأويل الحر المفتوح، أو أن دلالات النص متطورة حسب تطور أدوات التحليل، أو أن عقل القارئ له دور أساسي في حركة التأويل، أو أن التراث مفتوح وغير محدد ويخضع للتفسير المستمر عبر التاريخ.. الخ تلك الأباطيل.
والحقيقة أنني لا أجد ما أصف به هذه الدعوات سوى ما قاله العقاد من أن: معاندة الحقائق، والمغالطة المتعمدة تدل على الغباوة والمرض النفساني والهوى الدفين(1).وما قاله صاحب "النبأ العظيم" في أشباههم: هكذا ضاقت بهم دائرة الجد، فما وسعهم إلا فضاء الهزل، وهكذا أمعنوا في هزلهم حتى خرجوا عن وقار العقل(2).
- أن التأويل فرع التصحيح والتسليم: بمعنى أن من يلجأ للتأويل يفهم منه بالضرورة أنه مسلم بنص له سلطة لا يملك لها دفعا ولا ردا، ولذلك يلجأ لتأويله أو تحريفه أما من يسقط القداسة عن النص القرآني ويعامله كنص بشري فمثله لا ينتظر منه أن يعبأ بقواعد التفسير أو التأويل
الصحيح. ولا عجب أن يبتدع قواعد لتفسير النصوص الشرعية العربية بطريقة لم يعهدها فصحاء العرب. ومثل هذا لا يفزعن من قريب ولا من بعيد، أن يخرج باجتهادات وأحكام لم يسبقه إليها سلف، ولا تخطر على بال خلف.
فبأي معيار يمكن أن يسمى هذا اجتهادا و إبداعا، اللهم إلا بمعيار العبثية والباطنية المعاصرة.
__________
(1) موسوعة أعمال العقاد 6/506.
(2) د. دراز محمد عبد الله: النبأ العظيم ص64.(2/65)
- إن محمد أركون في الوقت الذي يدعي فيه أن النص القرآني يحتم عليه اختيار منهج ملائم لتفسيره القرآن، فإن الواقع الذي تحفل به كتبه يدل على أنه يطبق منهجا ملفقا من عدة مناهج لتفسير القرآن، بل اعترف هو نفسه بأنه يتعسف في تطبيق هذا المنهج الخليط(1).
- إن هذه المنهجية تفتح النص على دلالات ومعان -خصوصا في اللغة العربية- لا يترجح أحدها على الآخر،مما يؤدي إلى اختلاط النتائج وتمييع الأحكام والنتائج لوقوعها في دائرة الاحتمالات.
- إن هذه المنهجية تقوم على نظريات حديثة غربية في التحليل اللغوي، وهذه النظريات لم تنضج، ولم تكتمل حتى الآن، وهي بين القبول والرفض في بلاد منشئها(2).
وتفسير النص القرآني وفقا لهذه النظريات حينئذ، هو بمنزلة حمله على النظريات العلمية التجريبية التي لم تصل إلى درجة الحقائق وهو أمر مرفوض.
- يلاحظ أن هذه المنهجية في قراءة النصوص كان أول من دعا إليها، وقعد قواعدها، ووضع أصولها، شلاير ماشر المستشرق الألماني، حيث دعا إلى كسر احتكار رجال الدين لتفسير نصوص الكتاب المقدس، والى ضرورة دراسة شخصية صاحب النص وبيئته التي عاش فيها، والتيارات الفكرية السائدة في عصره - كما دعا إلى تفسير النص الديني على هدي من دراسة اللغة وتاريخ نشأتها وتطور دلالاتها وعلاقاتها باللغات ذات العلاقة مع الكتاب المقدس، والى تبين الوحدة الأدبية للنص، والترابط بين وحداته المختلفة(3).
__________
(1) الفكر الاسلامي قراءة علمية ص230، انظر: الحداثة والنص القرآني ص114.
(2) انظر: بحث السيميائية في البحث اللساني العربي الحديث – النشأة والمفهوم والمصطلح، عبد الله بو خلخال، جامعة قسنطينة، ضمن كتاب: قطوف دانية مهداة إلى ناصر الدين الأسد تحرير د. عبد القادر الرباعي 1/800.
(3) السيد خليل: دراسات في القرآن ص135–141.(2/66)
وهو يريد أن يضيف من وراء هذه الدعوة شيئا آخر، هو نقد النص نفسه وبيان وثاقته، والإبانة عما قد اعتراه أحيانا من تزيد أو نقص، نتيجة اختلاف العصور عليه، ولمس الأيدي الكثيرة له، وعمل العقول المختلفة فيه، وفكرة الوحدة الأدبية من آثار ما دعا إليه العالم الألماني وولف.
كما نبه شلاير إلى فكرة النقل والاقتباس من النصوص الأخرى السابقة، وهل يتم ذلك النقل بدقة أم وقع خطأ وسهوا أو تزويرا.. مما يشوب حالات النقل. كما نبه إلى قضية توثيق النص وتحريره، وأهمية التأكد من ذلك لما يشوب عمليات النسخ من غفلة وأغلاط.
وقد ظهر إلحاح أركون الشديد على هذه القواعد والأسس إلى حد التطابق، فلا يعدو دوره دور المقلد الناقل لهذه الأسس ومحاولة تطبيقها على النص القرآني، دون أن يشير من قريب أو بعيد لواضعها لا هو ولا نصر حامد أبو زيد.
ومما يجدر التنبيه إليه أن أمين الخولي رائد الدعوة إلى التفسير اللغوي الأدبي للقرآن والذي قلده أبو زيد قد قلد هو الآخر شلاير ماشر دون أن يشير إليه أو يذكره(1).
وقد سبقهما في التقليد محمد عبده وتلميذه محمد رشيد رضا حيث دعوْا وقادا حركة تجديد في التفسير القرآني - لم تكن غير نوع من التقليد لحركات إصلاحية في أوروبا، دعت إلى تفسير النص الديني عندهم بعيدا عن رجال الدين، باعتبار أن هذا النص نزل بلغة، وانه ينبغي أن يفهم على هدي من أسرار اللغة وطرائقها في البيان، كذلك دعت هذه الحركات إلى إحياء دراسة اللغات القديمة التي بينها وبين لغة النص وشائج من قرابة أو جوار أو اتصال(2).
__________
(1) المرجع السابق: ص13.
(2) نفس المصدر ص12.(2/67)
أما دعاوى محمد أحمد خلف الله و طروحاته فلن نطيل في الرد عليها لإسرافها في التهافت، ويكفي في الرد عليها تذكر ما قلته من نزول القرآن كخاتم للكتب السماوية، ومن كون الشريعة الإسلامية خاتمة للشرائع السابقة، وما ذكرته من وجوب اتباعه - صلى الله عليه وسلم - واتباع شريعته، مما ينسف دعواه بانتهاء دور القرآن والنبوة في التوجيه والإلزام ودعواه بسيادة العقل المطلقة في التشريع وإدارة شؤون الحياة.
أما تقسيمه للأحكام الشرعية إلى دينية ودنيوية فهي نغمة بتنا نسمعها ممن يوصفون برواد الفكر الإسلامي المعاصر - وعلى رأسهم محمد عمارة وسنتعرض لها بالرد والتفنيد عند الكلام على التأويل في الأصول وكذلك الدعوى العريضة بتاريخية النصوص الشرعية التي يقول بها الجابري وأركون ومحمد عمارة وجارودي وغيرهم.
وأكتفي هنا بالقول:
إن النصوص الشرعية قرآنا وسنة هي نصوص مطلقة عامة دائمة شاملة، تشمل كل الزمان والمكان، ولا علاقة لها -من حيث قوة الإلزام بالبيئة ولا بالأشخاص ولا بالأحوال-وإنما تنزل على واقعها المناسب حسب مناهج الاستنباط الصحيح وهو ما يعرفه الأصوليون بتحقيق المناط.
والقول بتاريخيتها يفقدها الإطلاق والعموم والشمول، ويجعلها قاصرة على الزمان والمكان والبيئة التي نزلت فيها، ويجعل المسلمين الآن في حل من الالتزام بأحكامها.
وهو قول يتفق في نتيجته مع قول خلف الله وغيره بانتهاء دور ونظام النبوة والرسالة، ويتفق مع قولهم بسيادة العقل مطلقا وهو من أبطل الباطل.
وأما دعوى خلف الله بان القرآن نزل ليقضي على الدولة الدينية، فسوف نتبين بطلان هذه الدعوى وفسادها عند الكلام على شرعية السلطة، وعندها سنعلم أن القرآن أول كتاب وآخر كتاب نزل ليؤسس الدولة القائمة على الدين، وليسحب هذه الشرعية عن كل دولة مدنية ديمقراطية بالمفهوم المعاصر.(2/68)
وأما جعله الأحكام الشرعية في أمور القضاء والسياسية والحرب من أمور الدنيا البحتة التي مرجعها إلى العقل ولا علاقة لها بالشريعة فهي دعوى متهافتة.
ويكفي هنا أن نعلم أن الشريعة جاءت أحكامها عامة شاملة لأمور العقيدة والعبادات والمعاملات، وما هذا التقسيم إلا أمر مستحدث جعل لتسهيل الدرس الفقهي، ولا يعني بحال أن المرجعية في أمور الدنيا لغير الشرع، ولو كان الأمر كذلك لكان للعقل والهوى، ولما كان هناك معنى أن تزدحم مصنفات الحديث بكتب وأبواب في الجهاد والقضاء والبيوع والإجارة وسائر المعاملات ومثلها كتب الفقه.
وأما دعوى أركون بان كتب علوم القرآن هي كتب بالية لا تتيح معرفة صحيحة للقرآن، فحسبنا هذا الكم الهائل من المعارف والموسوعات التفسيرية الثرية والغنية والمتنوعة، والتي كانت نتاجا طيبا لأصول التفسير التي احتوت عليها كتب علوم القرآن "كالبرهان" "والإتقان".
هذه التفاسير التي ضمت خلاصة الفكر البشري وعصارة أفضل العقول في فهم كتاب الله، كل ذلك بتوجيه وضبط من أصول التفسير التي احتوت عليها كتب علوم القرآن.
ونظرة إلى أنواع الفنون وأقسام العلوم التي اشتملت عليها كتب علوم القرآن تترك انطباعا بان علماءنا لم يدعوا شاردة ولا واردة مما يعين على فهم كتاب الله وإيضاح مراده –تعالى- إلا وتكلموا عليه بإسهاب، مثل أسباب النزول، والمناسبات بين الآيات، والمناسبات بين السور، ومعرفة المكي والمدني، والناسخ والمنسوخ، والحقيقة والمجاز، وإنزال القرآن وجمعه، وتوجيه قراءاته ورسمه وأحكامه.. الخ(1).
المبحث الثالث
التأويل في السنة الشريفة
__________
(1) انظر: مقدمة البرهان لتقف على أنواع تلك العلوم التي جعلها (47) نوعاً، والتي أوصلها السيوطي في الإتقان إلى (80) نوعاً.(2/69)
منذ الصدر الأول للإسلام تعرضت السنة الشريفة إلى طعون الفرق المختلفة، بدءا بالخوارج الذين كفروا الصحابة و استحلوا دماءهم و استحيوْا نساءهم، ورفضوا بالتالي قبول رواياتهم، وتذرعوا في ذلك بتأويلات واهية من آيات قرآنية.ومرورا بالشيعة الذين دأبوا دأبهم فكفروا الصحابة ورفضوا تحديثهم عن الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وردوا مصنفات أهل السنة الحديثية كالبخاري ومسلم، وصنفوا لأنفسهم جوامع ومسانيد حديثية من مرويات أهل البيت" كما يزعمون".
وصولا إلى المعتزلة، الذين تساهلوا في رد الأحاديث الصحيحة لأدنى شبهة، زاعمين تعارضها مع العقل، بناء على أصلهم الفاسد: إذا تعارض العقل والنقل قدم العقل مطلقا.
وتولى الرد على تلك الفرق كلها وخاصة المعتزلة جهابذة أهل العلم والحديث مثل الإمام ابن قتيبة، وابن فورك وغيرهما(1).
وبقيت السنة الشريفة كما أرادها الله الوحي غير المتلو، المبين لوحي الله المتلو (القرآن) المفسرة لمجمله الموضحة لغامضه، المؤكدة لأحكامه، المستقلة بتشريعات لم يأت بها القرآن.
__________
(1) ومن هذه الكتب: تأويل مختلف الحديث لابن قتيبة، ومشكل الآثار وبيانه للحافظ أبي بكر بن فورك، والعواصم والقواصم ومختصره: الروض الباسم في الذب عن سنة أبي القاسم لمحمد بن إبراهيم الوزير اليماني.
ومن الكتب الحديثة: دفاع عن السنة ورد شبه المستشرقين والمعاصرين وبيان الشبه الواردة عن السنة قديماً وحديثاً للشيخ محمد أبو شهبة، والرد على من ينكر حجية السنة للشيخ عبد الغني عبد الخالق، و السنة المفترى عليها للمستشار سالم علي البهنساوي.(2/70)
وقد لجأ بعض المحدثين والمعاصرين إلى التأويل في السنة الشريفة، بعد أن أعادوا إنتاج مقولات الخوارج والشيعة والمعتزلة وغيرهم من فرق الضلال والمعاندة. وألبسوها حللاً جديدة وصبغوها بمفاهيم غربية تدعو إلى سيادة العقل والتعالي عما سموه " الغيبيات ". وشمّر حماة السنة وسدنة الحديث عن سواعدهم - وردوا السهام إلى نحور المبتدعين.
ولست الآن في معرض ذكر تلك الشبهات والمقولات والرد عليها كلها فذلك ما تكفلت به الكتب المخصوصة التي ألفت لهذا الغرض.
ولكنني سأتكلم على قضية لم تحظ بالاهتمام الكافي والرد الوافي من قبل المتصدين للدفاع عن السنة، وهي وإن كانت من التهافت والوهاء بحيث لا تنطلي حتى على العوام من المسلمين. إلا أنها تبدو في عقول أصحابها البراهين التي لا تدفع، فصارت تلقى رواجا، وتكرارا في كتابات المعاصرين حتى انزلق إليها بعض أهل العلم. أما تلك القضية فهي تقسيم السنة إلى قسمين:
1. سنة تشريعية: أي أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قالها أو فعلها أو أقرها على سبيل التشريع والإلزام، وهي محصورة فيما يتعلق بالثوابت الدينية، والثوابت الدينية عندهم محصورة فيما يتعلق بالعقائد (الغيبيات) كالإيمان بالله واليوم الآخر والجنة والنار والملائكة والجن.. الخ، وبالعبادات، كالصلاة والصوم والزكاة والحج. فما ورد في هذين الجانبين من أحاديث، هو سنة تشريعية ملزمة لأنها تشكِّل ثوابت الدين وأسسه، وهي لا تتغير ولا تتبدل ولا تُعدَّل إلى أن تقوم الساعة. فعلى المسلمين أن يلتزموا بهذه العقائد ويؤدوا تلك العبادات والشعائر كما جاءت.(2/71)
2. سنة غير تشريعية: أي أن الرسول- صلى الله عليه وسلم - قالها أو فعلها أو أقرها ليس على سبيل التشريع والإلزام بل بمقتضى طبيعته البشرية وجبلته الفطرية، وفي حدود معرفته وخبرته البشرية في ذلك الوقت، وفي تلك البيئة. أو قالها ليس بصفته نبيا رسولا مبلغا عن الله رسالته، بل قالها أو فعلها بصفته إماما وقائدا سياسيا أو عسكريا، أو حَكَم بها بصفته قاضيا، حسبما توفر له من أدلة وبيانات، وحسبما أحاط بتلك الأقضية من ملابسات.
قالوا: وما كان هذا شأنه فليس ملزما للمسلمين من بعد، لأنه متعلق بما سموه "المتغيرات الدنيوية" و "والشؤون الحياتية" أو ما يسميه الفقهاء بالمعاملات، والتي من طبعها التغير والتبدل حسب الزمان والمكان والبيئة والأعراف. فما يختص بشؤون السياسية والاقتصاد والحرب وتنظيم المجتمع والعلاقة مع الآخرين دولا وأفرادا هو من هذا الباب، ولا علاقة له بالدين، ولا يجوز أن يزج الدين فيه!
ويستدلون على ذلك بقوله - صلى الله عليه وسلم - للمسلمين في قضية قصة تأبير النخل { أنتم أعلم بأمور دنياكم } وبقوله تعالى { قل إنما أنا بشر مثلكم } حيث بينت هذه الآية طبيعة ووظيفة الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
كما يستدلون بنص للإمام القرافي فرق فيه بين ما قاله الرسول - صلى الله عليه وسلم - بصفته مبلغا،وما قاله بصفته إماما،وما قاله بصفته قاضيا.وهو الذي يكثر د.محمد عمارة من الدندنة عليه وحوله،في معظم كتبه فيعيد ويزيد(1). ومن الجدير ذكره أن تقسيم السنة الى تشريعية وغير تشريعية أمر مسلم من حيث المبدأ وتكلم عليه أهل العلم وليس هو الأمر المحدث، وإنما المحدث في هذه القضية هو التوظيف غير المقبول لهذا التقسيم حيث رتبوا عليه نتائج خاطئة مفادها أن السنة في الأمور الدنيوية ليست دينتا ولا شرعا.
__________
(1) سيأتي ذكر نص القرافي في الصفحات التالية وانظر الحديث في صحيح مسلم بشرح النووي 15/118.(2/72)
ومن هذه المقولات المنادية بإسقاط السنة بهذه الذريعة:
1. أن الإسلام لم يعطنا تصورا قياسيا لمجتمع يمكن أن نقيمه خارج حدود الزمان والمكان، فنحن كما قال رسول - صلى الله عليه وسلم - { أعلم بأمور دنيانا } ، ونحن مع الذين سبقونا بمنزلة الإمام أبي حنيفة من الذين قال عنهم هم رجال ونحن رجال، وأمور الدنيا التي نحن أعلم بها أوسع وأعقد وأجل شأنا من تأبير النخل، أو اختيار موقع نزول الجيش في موقعه، وهي الحالات التي حاول البعض أن يوهمنا أنها حدود علمنا بدنيانا.
إن أمور دنيانا تتسع لتشمل كل ما يلي العقائد الدينية والعبادات الدينية والحلال والحرام الدينيين وهي تكاد تشمل كل ما بوب في الفقه تحت باب التسمية العامة: المعاملات"(1).
2. إن ما ورد عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليس كله تشريعا لازما للأمة في كل حين.. يغلب على الظن أن أغلب المروي عنه في شؤون الدنيا خارج نطاق العبادات والمقدرات المحرمات - ليس من الشرع"(2).
3. فلأي شيء حمل المتأخرون جميع أوامره عليه الصلاة والسلام فيما يرجع إلى المعاملات الدنيوية على الباب الثاني ( تعبد ) دون الأول الناظر إلى المصالح الدنيوية.
__________
(1) مجلة المسلم المعاصر: د. محمد رضا محرم، عدد 15 - رمضان /1399هـ- عن العصريون: معتزلة اليوم ص12.
(2) السنة التشريعية والسنة غير التشريعية: د.أحمد سليم العوا، مجلة المسلم المعاصر، العدد الافتتاحي، عن العصريون معتزلة اليوم ص54.(2/73)
ولأي شيء لم يحملوا أوامره ونواهيه المتعلقة بالأوامر الدنيوية كالبيع والإجارة والشركة والسلف والقرض و الزراعة ونحوها على أنها أوامر إرشادية سياسية من حيث إمامته العظمى، الناظرة للمصالح الدنيوية مرتبة على مصالح حربية أو مدنية أو سياسية، بحسب ما يقتضيه مقام كل أمر أو نهي بحسب مقتضيات الأحوال فيما لم يظهر فيه نص ولا إجماع على التعبد، فتكون أحكاما مصلحية من حيث ما له من الإمامة والأخلاق مربوطة بمصالح تتغير بتغيرها (1)3).
4. ومنها قول د. عبد الحميد متولي الذي يخرج الأحكام الدستورية - أحكام الإمامة والقضاء- من السنة التشريعية يقول: ما يعد تشريعيا وقتيا أو زمنيا ما صدر عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - باعتبار ما له من الإمامة والرياسة العامة لجماعة المسلمين،.. مثل بعث الجيوش وتوليه القضاة.. ولا ريبأن الأحكام الدستورية تعد كذلك"(2). ويبني على ذلك أن المناداة بوضع دستور إسلامي مصادره
القرآن والسنة هو بعيد كل البعد عن الصواب(3). وسيأتي معنا إنكاره لحد الردة مع ثبوته في السنة الصحيحة باعتباره من الأحكام الدستورية.
5. ومنها قول د. كمال أبو المجد " … والوحي إليه - صلى الله عليه وسلم - هو جميع القرآن وبعض ما صدر عنه - صلى الله عليه وسلم - من قول أو فعل أو تقرير… وليس كل ما صدر عنه من هذه الأحوال الثلاثة وحيا، فهذا باطل بالعقل وباطل بالنقل " ويستدل بالحديث { أنتم أعلم بأمور دنياكم } (4)
__________
(1) مجلة البنوك الإسلامية، العدد التاسع ص 45، مقال: الاقتصاد الإسلامي أصوله ومناهجه، د. حسن عبد القادر، عن العصريون: معتزلة اليوم ص56-57.
(2) مبادئ نظام الحكم في الإسلام مع المقارنة بالمبادئ الدستورية الحديثة ص40-41.
(3) المرجع السابق: ص43.
(4) مجلة العربي أغسطس سنة 1977: د.كمال أبو المجد، عن العصريون معتزلة اليوم ص 58، وانظر مقولات أخرى لغير هؤلاء في "العصريون معتزلة اليوم" ص53-72.(2/74)
6. أما د. محمد عمارة فيستدل على هذا التفريق الفاسد بنقل عن الإمام القرافي في كتابه الإحكام، يفرق فيه بين السنة التي صدرت عنه - صلى الله عليه وسلم - بوصفه نبيا ورسولا ومبلغا عن الله، وبين ما صدر عنه بوصفه قاضيا أو إماما.
هذا التفريق الذي تكلم عنه القرافي ليس من حيث أنه تشريع ملزم أو أنه تشريع غير ملزم، بل من حيث أن الفرد المكلف يباشر الأول بنفسه دون وساطة، والثاني لا يتحمله إلا بعد أمر الإمام أو حكم الحاكم.
إلا أن د. محمد عمارة فهم كلام القرافي واستنتج منه استنتاجات خاطئة، ولطول النص نأخذ مواضع الشاهد منه ثم نذكر ما فهمه منه د. محمد عمارة.
يقول القرافي: " إن تصرف الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالفتيا هو إخباره عن الله تعالى بما يجده في الأدلة من حكم الله تبارك وتعالى … وتصرفه - صلى الله عليه وسلم - بالتبليغ هو مقتضى الرسالة، والرسالة هي أمر الله له بذلك التبليغ … فهو في هذا المقام مبلغ وناقل عن الله تعالى.
وأما تصرفه - صلى الله عليه وسلم - بالحكم، فهو مغاير للرسالة والفتيا، لأن الفتيا والرسالة تبليغ محض واتباع صرف، والحكم إنشاء وإلزام من قبله - صلى الله عليه وسلم - بحسب ما يسنح من الأسباب والحجاج... فهو - صلى الله عليه وسلم - في هذا المقام منشئ، وفي الفتيا والرسالة متبع مبلغ، وهو في الحكم أيضا متبع لأمر الله تعالى له بان ينشئ الأحكام على وفق الحجاج والأسباب...(2/75)
و أما تصرفه - صلى الله عليه وسلم - بالإمامة، فهو وصف زائد على النبوة والرسالة والفتيا والقضاء، لأن الإمام هو الذي فوضت إليه السياسة العامة في الخلائق، وضبط معاقد المصالح ودرء المفاسد، وقمع الجناة وقتل الطغاة... فما فعله عليه السلام بطريق الإمامة، كقسمه الغنائم وتفريق أموال بيت المال على المصالح وإقامة الحدود، وترتيب الجيوش، وقتال البغاة، وتوزيع الإقطاعات في القرى والمدن، ونحو ذلك. فلا يجوز لأحد الإقدام عليه إلا بإذن إمام الوقت الحاضر، لأنه - صلى الله عليه وسلم - إنما فعله بطريق الإمامة وما استبيح إلا بإذنه، فكان ذلك شرعا مقررا لقوله تعالى { وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } (الأعراف –158).
وما فعله عليه الصلاة والسلام بطريق الحكم كالتمليك بالشفعة وفسوخ الأنكحة والعقود، والتطليق بالإعسار عند تعذر الإنفاق، والإيلاء والفيئة ونحو ذلك: فلا يجوز لأحد أن يقدم عليه إلا بحكم الحاكم في الوقت الحاضر، اقتداء به - صلى الله عليه وسلم - لأنه لم يقرر تلك الأمور إلا بالحكم فتكون أمته بعده- صلى الله عليه وسلم - كذلك. وأما تصرفه عليه الصلاة والسلام بالفتيا والرسالة والتبليغ، فذلك شرع يتقرر على الخلائق إلى يوم الدين.
يلزمنا أن نتبع كل حكم، فما بلغه إلينا عن ربه بسببه من غير اعتبار حكم حاكم، ولا إذن إمام (.. كالصلوات و الزكوات وأنواع العبادات، ثم تحصيل الأملاك بالعقود من البياعات والهبات وغير ذلك من أنواع التصرفات). لكل أحد أن يباشره ويحصل سببه، ويترتب له حكمه من غير احتياج إلى حاكم ينشئ حكما أو إمام يجدد إذنا"(1).
__________
(1) القرافي: الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام وتصرفات القاضي والإمام ص99-109 ، بحذف وتصرف.(2/76)
ويفهم د. محمد عمارة من النص السابق أن القرافي قسم السنة إلى قسمين " تشريعية (أي من الشرع ) تتعلق بالغيب وما لا يستقل العقل بإدراك علته.. وبالثوابت الدنيوية ولم يضرب لها مثلا وهذه أحكامها دائمة، لا يجوز معها اجتهاد ولا تغير، وهي شاملة لكل تصرفات الرسول- صلى الله عليه وسلم - بالرسالة أي بحكم كونه رسولا يبلغ رسالة ربه وللفتاوى النبوية. أي أنها شاملة للوضع الإلهي في السنة، الخارج عن إطار اجتهاد الرسول - صلى الله عليه وسلم - في فروع المتغيرات الدنيوية.
وسنة غير تشريعية ( أي ليست من الشرع ).. تتعلق باجتهادات الرسول - صلى الله عليه وسلم - في فروع المتغيرات الدنيوية. سواء في السياسة أو الحرب أو المال، وكل ما يتعلق " بإمامته " للدولة الإسلامية. أو بقضائه في المنازعات الذي هو اجتهاد مؤسس على حجج أطراف النزاع، وليس وحيا معصوما، … وفيها ومعها يجوز الاجتهاد الذي يأتي بجديد الأحكام "(1).
فالأول ملزم دون توقف على مصدر جديد، وسلطة جديدة لاجتهاد جديد، والثاني لا إلزام فيه إلا إذا عرض على إمام الوقت، والدولة القائمة فأجازته لموافقته للحال وتحقيقه للمصلحة،.. وكذلك الأمر مع قضائه - صلى الله عليه وسلم - في المنازعات.. فموقوف على إجازة القضاء المعاصر(2).
فهي إذن ( السنة غير التشريعية ) اجتهاد، لا تبليغ رسالة ولا فتيا في الرسالة، تستأنف من جديد، ويتوقف مضاؤها على تحقيق المقاصد التي استهدفتها"(3).
ولقد كان خطؤه أكثر وضوحا في كتابه الإسلام والسلطة الدينية. ولم يتوخ الحذر هناك، كما فعله في كتابه هذا معالم المنهج الإسلامي المجاز من قبل الأزهر والمعهد العالمي للفكر الإسلامي. يقول في كتابه ( الإسلام والسلطة الدينية ).
__________
(1) معالم المنهج الإسلامي ص115.
(2) نفس المصدر ص115-116.
(3) المرجع السابق: ص116.(2/77)
" … العصمة فقط في أمور التبليغ، وان الرسول - صلى الله عليه وسلم - غير معصوم في أمور الدنيا، وضيق بذلك من السنن التي يؤخذ بها في أمور المعاملات، حتى وصل بعضهم إلى تركها جملة…. فما اندرج من السنة النبوية تحت باب التبليغ عن السماء والأداء لأمانة الوحي، أو التفسير له، والتفصيل لمجمله، أو الفتيا في أصول الدين وعقائده، كان دينا يتلقاه المؤمن بالتسليم…أما ما اندرج من السنة النبوية تحت أمور السياسية جميعا، وشؤون الدنيا كلها، فهو ليس دينا، ومن ثم فإنه قد كان وحتى على العهد النبوي موضوعا للشورى والرأي والاجتهاد والأخذ والعطاء والقبول والرفض والإضافة والتعديل"(1).
" فليس الحكم والقضاء، وليست السياسة وشؤون المجتمع السياسية دينا وشرعا وبلاغا يجب فيها التأسي والاهتداء بما في السنة من وقائع و أوامر ونواهٍ وتطبيقات، لأنها أمور تقررت بناء على بينات قد نرى غيرها، وعالجت مصالح هي بالضرورة متطورة ومتغيرة"(2).
وسيأتي معنا في مبحث " الاجتهاد" تفريق د. محمد عمارة حتى بين النصوص القرآنية القطعية، فبعضها - عنده -متعلق بالثوابت الدينية من عقائد وعبادات وهي غير خاضعة للاجتهاد. ( نصوص عالم الغيب - نصوص تعبدية ).
ونصوص متعلقة بالمتغيرات الدنيوية – نصوص دنيوية -نصوص مصلحية- نصوص عالم الشهادة، وهي تدور مع حكمتها وعلتها ومع مصالح العباد المقدرة بالعقل المجرد طبعا).
__________
(1) د. محمد عمارة : الإسلام والسلطة الدينية ص104، عن العصريون معتزلة اليوم ص61-62.
(2) نفس المصدر ص120.(2/78)
واستدل بتوزيع عمر لأراضي السواد، وعدم قسمتها، كما قسم - صلى الله عليه وسلم - خيبر، على أنه "رفض الالتزام بحرفية "سنة توزيع أرض خيبر" لأنها سنة موضوعها فروع المتغيرات الدنيوية، لا الثوابت الدينية أو ثوابت المعاملات، ولأن للعقل في تحديد علة حكمها مدخلا، فليست من الأمور الغيبية أو التعبدية "(1). فالسبب في رفض عمر التوزيع هو كون موضوع السنة من لمتغيرات الدنيوية المدركة بالعقل. كما يفهم د. محمد عمارة.
7. واعتبر أن حد الخمر أربعون، وأنه ثابت بالسنة العملية، وأنه قام عليها إجماع على عهده - صلى الله عليه وسلم -؟ وعهد الصديق، وأن عمر حدَّ الشارب في عهده ثمانين، وما ذلك إلا لأنه رأى المصلحة في ذلك، وهو من المتغيرات الدنيوية. فالمصلحة تجيز تغيير الأحكام المتعلقة بالمتغيرات الدنيوية حتى لو كانت حدودا ثابتة بالنص، وقام عليها الإجماع؟.
وذلك لا يلغي النص السابق، بل يجعله فقط مع وقف التنفيذ. وانه اجتهاد جديد دعت إليه مصلحة استجدت.. ومن الممكن أن تدعو مصلحة مستجدة إلى العودة إلى الحكم السابق.. أو إلى حكم متميز عن كلا الحكمين ( جلد أربعين – أو ثمانين ) فالمعيار هو العلة والحكمة التي يدور معها الحكم وجودا وعدما ).(2)
وجرى على هذا المنوال في اجتهادات عمر كلها، وقد تكلمت عليها مطولا في الباب الأول.
وعلى الرغم من أنه تكلم على ثوابت في المعاملات، إلا أنه لم يذكر لنا مثلا واحدا من احكام الدنيا يعتبره ثابتا لا يتغير.
فما دامت الحدود الشرعية المقدرة هي عنده من المتغيرات الدنيوية، التي تخضع للتعليل والمصالح فما بالك بغيرها؟.
الرد على تأويلهم في السنة
أولا: السنة كلها تشريع بالكتاب والسنة والإجماع
__________
(1) معالم المنهج الإسلامي ص106.
(2) نفس المصدر ص112.(2/79)
السنة بيان للقرآن، وشرح لأحكامه، وبسط لأصوله، وتمام لتشريعاته، والسنة متى تثبت عن المعصوم - صلى الله عليه وسلم -،فهي تشريع وهداية وواجبة الاتباع لا محالة.
والسنة بعضها بوحي جلي عن طريق أمين الوحي جبريل عليه السلام، وبعضها بالإلهام والقذف في القلب، وبعضها بالاجتهاد على حسب ما علم النبي - صلى الله عليه وسلم - من علوم القرآن، وقواعد الشريعة، وما امتلأ به قلبه من فيوضات الوحي …
ومتى اجتهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وسكت الوحي عن اجتهاده، اعتبر هذا إقرارا من الله سبحانه وتعالى له، واكتسب صفة ما أوحى إليه به. وبهذا المعنى يعتبر كل ما صدر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وحيا كما قال تعالى: { وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى - مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى - وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى - إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحى } (1) (النجم/1-4).
ولذلك كانت حجية السنة كلِّها من الضرورات الدينية، التي لا يجادل فيها مسلم، قال الإمام الشوكاني "أن ثبوت حجية السنة المطهرة، واستقلالها بتشريع الأحكام ضرورة دينية، ولا يخالف في ذلك إلا من لا حظ له في الإسلام"(2).
وقد استفاض القرآن والسنة الصحيحة الثابتة بحجية كل ما ثبت عن الرسول- صلى الله عليه وسلم - ومنها:
1. قوله تعالى { إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ } ( آل عمران –31) فجعل الاتباع دليل المحبة، وأطلقه، ولم يخصه بالعبادات أو العقائد.
2. قوله تعالى { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا } (النساء –59).
__________
(1) د. محمد محمد أبو شهبة: دفاع عن السنة ص5-6.
(2) إرشاد الفحول ص33.(2/80)
فأوجب الله -جل وعلا- طاعة رسوله باستقلال، ولم يقيدها بجانب من جوانب الدين أو بنوع من الأوامر دون غيره. وأوجب الرد إليه عند التنازع في شيء، وشيء نكرة في سياق الشرط، فتعم كل أمور الدين دون فرق أو تميز، وجعل ذلك الرد شرطا للإيمان.
3. قوله تعالى { فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } ( النساء /65).
فنفى الإيمان عمن لا يحتكم إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - في حياته أو إلى سنته بعد وفاته في كل ما شجر بينهم، " وما " عامة لا تخص العبادات ولا العقائد، بل الغالب الشجار على أمور الدنيا وفي نطاق " المعاملات " كما هو الواقع المشاهد، وليس في مسائل فقهية تخص العبادات.
4. والآيات التي توجب طاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - واتباع سنته وتحذر من مخالفة أمره يصعب حصرها ومنها { مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ } ( النساء/80). وقوله تعالى { فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } (النور/63) وقوله تعالى { وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا } ( الحشر /7).
وهي نصوص عامة، تقضي بوجوب اتباع سنته - صلى الله عليه وسلم - كلها دون تميز.
ومن الأحاديث التي توجب اتباع سنته - صلى الله عليه وسلم - بشكل مطلق دون تمييز بين العبادات والمعاملات قوله - صلى الله عليه وسلم -
5. قوله - صلى الله عليه وسلم - { عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ } (1).
__________
(1) الترمذي في سننه 5/44، وقال حديث حسن صحيح.(2/81)
6. وقد أجمع الصحابة والتابعون والعلماء في كل عصر على الاحتجاج بسنة المصطفى- صلى الله عليه وسلم - كلها(1)، دون فرق بين نص يتعلق بشؤون العبادات والعقائد، أو نص يتعلق بشؤون الدنيا، بل لم يعرف لديهم هذا التفريق أصلا.
قال ابن تيميه:
"السنة هي ما قام الدليل الشرعي عليه، بأنه طاعة لله ورسوله، سواء فعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أو ُفعِلَ على زمانه، أو لم يفعله، ولم يُفْعل على زمانه لعدم المقتضى حينئذ لفعله أو وجود المانع منه "(2).
ويقول: "كل ما قاله عليه الصلاة والسلام بعد النبوة، وأقر عليه، ولم ينسخ، فهو تشريع.. والمقصود" أن جميع أقواله يستفاد منها شرع، وهو - صلى الله عليه وسلم - لما رآهم يلقحون النخل قال لهم { أنتم أعلم بأمور دنياكم.. } وهو لم ينههم عن التلقيح لكنهم غلطوا في ظنهم أنه نهاهم"(3).
ويقول محمد فاروق النبهان:"من الأمور المتفق عليها أن السنة تعتبر مصدرا رئيسا من مصادر التشريع سواء كان هذا التشريع عاديا أو دستوريا، لا فرق بين حكم وحكم.. ولم يخالف في ذلك أحد ما عدا فئة قليلة ظهرت في القرن الثاني الهجري، وشككت في إمكانية الاعتماد على السنة، غير أن هذه الفئة اختفت فيما بعد أمام الأدلة الدامغة التي ووجهت بها "(4).
ثانيا: الفهم الخاطئ لكلام الإمام القرافي
فالإمام القرافي فرّق بين ما جاء عنه - صلى الله عليه وسلم - بوصفه مبلغا وإماما وقاضيا، من اجل أن يبين ما يجوز للمسلم تحمله والقيام به بنفسه، دون توقف على إذن من قاض أو إمام، وبين ما لا يجوز له تحمله ولا مباشرته بنفسه، بل بإذن من قاض أو إمام.
__________
(1) دفاع عن السنة ص16.
(2) مجموع الفتاوى الكبرى 21 / 317 – 318.
(3) نفس المصدر 21/12.
(4) محمد فاروق النبهان: نظام الحكم في الإسلام ص317.(2/82)
فأحكام العبادات والعقائد مما يتوجه خطاب الشارع بها إلى المكلف مباشرة، ليتحملها ويقوم بتنفيذها بنفسه. وكذلك بعض أمور المعاملات كالبيع والشراء والتوكيل وغيره.
وهناك كثير من الأحكام لا يتوجه الشارع بالخطاب فيها إلى الفرد المكلف مباشرة للقيام بها وتنفيذها. بل بوساطة. وهذه الوساطة إما الإمام أو القاضي.
ومثّل القرافي لذلك ببعث الجيوش لقتال الكفار، ومن تعين قتاله، وقسمة الغنائم ونصب الولاة والقضاء وإقامة الحدود وعقد العهود مع الكفار ذمة، أو صلحا. فهذه الأحوال وأشباهها مما لا يجوز للفرد مباشرتها بنفسه، ولم يتوجه خطاب الشارع إليه فردا لإقامتها. بل توجه خطاب الشارع بها إلى الإمام والقاضي، وهو الذي يأمر الفرد بإقامتها.
فهذا ما أراده الإمام القرافي من تفريقه بين تصرفه - صلى الله عليه وسلم - بصفته مبلغا ورسولا ومفتيا، وبين تصرفه قاضيا أو إماما.
ولم يخطر على بال القرافي ويستحيل عليه ذلك، أن يكون مراده ما فهمه أو أراد أن يفهمه قسرا د.محمد عمارة من كلامه. وهو إخراج ما جاء عنه - صلى الله عليه وسلم - فيما عدا العقائد والعبادات –من دائرة التشريع والحجية. بل لم يتكلم القرافي على إقامة السنة من حيث إفادتها للتشريع من عدمه ولم يكن هذا همه ولم يتطرق إليه. كما أراد أن يصل إليه د. محمد عمارة.(2/83)
ويتبين قصد القرافي هذا. إذا رجعنا إلى عرضه لهذه المسألة في كتابه الفروق يقول " غالب تصرفه - صلى الله عليه وسلم - بالتبليغ، لأن وصف الرسالة غالب عليه، ثم تقع تصرفاته- صلى الله عليه وسلم - منها ما يكون بالتبليغ والفتوى إجماعا، ومنها ما يجمع الناس على أنه بالقضاء، ومنها ما يجمع الناس على انه بالإمامة، ومنها ما يختلف العلماء فيه لتردده بين رتبتين فصاعدا.. فكل ما قاله - صلى الله عليه وسلم - أو فعله على سبيل التبليغ كان ذلك حكما عاما على الثقلين إلى يوم القيامة، فإن كان مأمورا به أقدم عليه كل أحد بنفسه وكذلك المباح وإن كان منهيا عنه اجتنبه كل أحد بنفسه. وكل ما تصرف فيه عليه السلام بوصف الإمامة لا يجوز لأحد أن يقدم عليه إلا بحكم حاكم اقتداء به - صلى الله عليه وسلم - ولأن السبب الذي لأجله تصرف فيه - صلى الله عليه وسلم - بوصف القضاء يقتضي ذلك هذه هي الفروق بين هذه القواعد الثلاث"(1).فعند د. محمد عمارة أن السنة التي جاءت عنه- صلى الله عليه وسلم - في العقائد والعبادات والغيبيات هي السنة التشريعية التي قالها - صلى الله عليه وسلم - بوصفه مبلغا ورسولا ومفتيا، وهي تمثل الثوابت الدينية التي لا تتغير.
وما سوى ( العقائد والعبادات ) فهو من السنة غير التشريعية لأنه - صلى الله عليه وسلم - قالها بوصفه إماما وقاضيا، وهي من المتغيرات الدنيوية الخاضعة للاجتهاد. ويجوز الخروج فيها باجتهاد قد يوافق قضاءه- صلى الله عليه وسلم - وأمره، وقد يخالفه.
وهذا ليس تأليا منا على الرجل فهو قد صرح في غير موضع أن أمور السياسة والحرب والقضاء والمال هي من القسم الثاني أي من السنة غير التشريعية.
__________
(1) الفروق 1/205-207.(2/84)
بل إنه قد اعتبر الحدود الشرعية المقدرة هي من السنة غير التشريعية ومن المتغيرات الدنيوية الخاضعة للاجتهاد، والتي يجوز الخروج فيها بحكم مغاير تماما لما سنه - صلى الله عليه وسلم -، واجمع عليه الصحابة، بحجة مراعاة المصلحة. كما مثّل لذلك في حدِّ عمر شاربَ الخمرِ ثمانين جلدة بعدما حده- صلى الله عليه وسلم - أربعين.
ثالثا: السنة تشريع في السياسة والاقتصاد والقضاء
و يحق لنا أن نسأل د. عمارة وغيره من حملة هذه الدعوى هل أحكام الولاية العامة مثل وجوب نصب إمام مسلم للمسلمين، ووجوب تطبيقه للشريعة، وحرمة موالاته للكفار وعدم جواز نصب إمامين، ووجوب قيامه على رعاية المسلمين. هل ذلك من السنة غير التشريعية وغير الملزمة، وهل هي من المتغيرات الدنيوية الخاضعة للاجتهاد؟ وهل يجوز فيها الخروج برأي جديد بذريعة مراعاة المصلحة وحكمة التشريع؟.
وفي أمور الحرب ( الجهاد ): هل كون الجهاد فريضة شرعية، وأنه ماض إلى يوم القيامة، وخاصة إذا اعتدي على ديار المسلمين، وعند النفير العام، وتخميس الغنائم.. ووجوب كونه لإعلاء كلمة الله وفك الأسرى: هل ذلك هو من السنة غير التشريعية، وغير الملزمة، ومن المتغيرات الدنيوية الخاضعة للاجتهاد والتبديل حسب المصلحة؟.
وفي أمور المال: هل حرمة الغش والاحتكار وحرمة الربا بكل أنواعه ربا الفضل وربا النسيئة ( الديون ) وحرمة الاستغلال.
هل ذلك كله من السنة غير التشريعية وغير الملزمة؟ وهل هو من المتغيرات الدنيوية الخاضعة للاجتهاد والتبديل حسب النظريات الاقتصادية الغربية؟ وفي أمور القضاء: هل وجوب كون القاضي رجلا ومسلما، ووجوب حكمه بالشريعة لا بالقانون الوضعي في الدماء والأموال والأعراض، هل هو من السنة غير التشريعية وغير الملزمة؟ وهل هو من المتغيرات الدنيوية الخاضعة للاجتهاد؟.(2/85)
قد قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الجنايات بنظام الديات المعروف، وكذلك في الجنايات على الأعضاء وفيها ديات مقدرة، فهل هي سنة غير تشريعية وغير ملزمة؟ وهل هي من المتغيرات الدنيوية؟.
وقضى - صلى الله عليه وسلم - بقطع يد السارق وجلد الزاني البكر ورجم المحصن وجلد شارب الخمر والقاذف للمحصنات، بالحدود المعروفة. فهل هذه الأقضية والتي فعلها - صلى الله عليه وسلم - بوصفه إماماً وقاضياً، هل هي من السنة غير التشريعية وغير الملزمة؟ وهل هي من المتغيرات الدنيوية الخاضعة للاجتهاد والتبديل إذا دعت المصلحة التي نقدرها بعقولنا؟.
وأحكام البيوع والوقف والكفالة والوكالة والرهن والحوالة والحجر والنكاح والطلاق والنفقات والميراث. هي قطعا ليست من العقائد ولا من العبادات ( بالمعنى الاصطلاحي ) فهل هي من السنة غير التشريعية وغير الملزمة؟ وهل هي من المتغيرات الدنيوية الخاضعة للاجتهاد والتبديل؟
رابعا: هذا التفريق بدعة جديدة لتأصيل العلمانية (فصل الدين عن الحياة)
إن بعض المؤولين قد رأوا، وآمنوا بعقيدة فصل الدين عن الحياة. فصل العقائد والعبادات (علاقة العبد بربه) عن المعاملات (علاقة الفرد بالعباد)، وهي جوهر العلمانية ومضمونها. فذهبوا يلتمسون لها تأصيلا. وكان سرورهم عظيما أن عثروا على نص لفقيه مسلم له وزنه واعتباره. يفرق بين ما يجب على الفرد المسلم القيام به بنفسه بدون وساطة ولا أمر من إمام أو قاض (وهو ما قاله - صلى الله عليه وسلم - في أمور العقائد والعبادات وبعض المعاملات كالبيع).
وبين ما لا يجوز له مباشرته بنفسه بل بوساطة أمر من إمام أو قاض ( وهو ما قاله - صلى الله عليه وسلم - وفعله بوصفه إماما أو قاضيا ).
فلما عثروا على هذا النص راحوا يؤولونه، ويحرفونه، ويزورنه، ويقولونه، ما لم يقل، ويرتبون عليه نتائج لم تخطر على بال القرافي ولا من بعده.(2/86)
وكيف تخطر على باله فكرة لم تنشأ إلا حديثا بعد الثورة الصناعية، وما نتج عنها من ثورة على الدين والكنيسة؟.
ثم لماذا نسي د. عمارة عن قول القرافي في الفروق: إن غالب تصرفه - صلى الله عليه وسلم - كان بالتبليغ، لأن وصف الرسالة غالب عليه؟
خامسا: هذا التفريق فيه إبطال للقرآن وليس للسنة فحسب
إذا كان المعيار في تميز ما هو تشريع، وما هو غير تشريع، هو كون هذا من أمور العقائد والعبادات وكون ذاك في أمور المعاملات. فماذا يصنع د. عمارة بأحكام الولاية العامة و أحكام الجهاد والحدود والقصاص والنفقات والطلاق والنكاح التي جاءت في القرآن.
فهل هي من الثوابت الدينية التي لا تنسخ، ولا تتبدل، ولا تتغير. أم هي من المتغيرات الدنيوية، ومن القرآن غير التشريعي ( وغير الملزم )..
إنه ما دام قد جعل المعيار بين ما هو تشريعي وغير تشريعي، هو الفرق بين العبادات والمعاملات، فإنه لا يستطيع أن يتوقف به عند حدود السنة، بل هو يصدق على القرآن، ولا مناص له من ذلك.
وهذا الذي فهم من كلامه بدلالة اللزوم على وجل نجده، قد نطق، وصرح به حين قسّم النصوص القطعية ثبوتا ودلالة قرآنا وسنة، إلى ما هو متعلق بأمور العبادات والعقائد (نصوص تعبدية تتعلق بعالم الغيب)، أو ثوابت المعاملات، وهي غير خاضعة للاجتهاد.
ونصوص متعلقة بالمتغيرات الدنيوية، وهي معللة بالمصالح، وتدور معها وجودا وعدما، ويجوز الاجتهاد فيها حتى لو أدى إلى تغيرها وجعلها مع وقف التنفيذ(1). وسيأتي مزيد تفصيل لهذا في المبحث التالي. إن شاء الله تعالى.
__________
(1) وهذا الطرح لا يمكن قبوله لأنه يهدف كما هو واضح من كتابه إلى إلغاء الثوابت الدينية في الشؤون الحياتية وجعلها معللة بالمصالح العقلية المجردة مما قد يقلب الحلال حراماً ويجعل الربا استثماراً مثلاً، والذي يؤكد هذا التوجه لديه اعتباره حتى الحدود المقدرة معللة بالمصالح وعدم ذكره ولو مثالاً واحداً لما دعاه بثوابت المعاملات.(2/87)
سادسا: حجية تصرفه- صلى الله عليه وسلم - بالإمامة والقضاء
إن تصرف الرسول - صلى الله عليه وسلم - بوصفه قاضيا أو إماما لا يعني بحال أن تصرفاته تلك ليست حجة أو لا يستفاد منها تشريع.
بل كل ما في الأمر أنه لا يجوز لأحد أن يتصرف إلا بإذن القاضي أو الإمام فهي أحكام منوطة بالقاضي والإمام، وليس بالمسلم بصفته فردا.فمثلا قضى - صلى الله عليه وسلم - بالشفعة في كل ما لم يقسم، فهذا لا يعني أن الشفعة هي سنة غير تشريعية وغير ملزمة، و أنها من المتغيرات الدنيوية، وانه كذلك يجوز إلغاء حكم الشفعة أو تبديله.
بل كل ما في الأمر أن الشريك إذا باع حصته دون علم شريكه، فإن هذا الأخير ( الشفيع ) لا يبطل البيع بنفسه، بل يرفعه إلى القاضي، فحكم الشفعة باق، ولكن المكلف لا يباشره بنفسه، بل بإذن القاضي وحكمه.
وقضى - صلى الله عليه وسلم - بإقامة حد الرجم على الزاني المحصن فليس معناه ان رجم الزاني هو سنة غير تشريعية وغير ملزمة لأن الرسول- صلى الله عليه وسلم - فعله بوصفه إماما وقاضيا، وأنه لذلك يجوز الاجتهاد فيه والخروج بحكم مغاير.
بل كل ما في الأمر أن إقامة الحد غير موكول إلى أي فرد يباشره بنفسه إذا شاء، بل لا بد فيه من حكم الحاكم - القاضي، وهذا مراد القرافي، وقس على ذلك كل ما ذكره من بعث الجيوش وقسمة الغنائم ونصب الولاة والقضاة.
ولو كان كل حكم شرعي أنيط فعله بالقاضي أو الإمام تشريعا غير ملزم، أو كان من المتغيرات الدنيوية التي يجوز الخروج فيها باجتهاد جديد، لعفت هذه الشريعة، واندرست أحكامها منذ أمد بعيد، ولما وصلت إلينا أحكامها غضة كما أنزلت.
إن د.مجمد عمارة كان يعلم أن كلام القرافي لا يحتمل ولا يسوغ النتائج التي رتبها عليه وحمله إياها. ولذلك نجده يستشعر أن البعض " سيماري فيه وفي نتائجه".(1)
أقول:
__________
(1) معالم المنهج الإسلامي ص116.(2/88)
- أما فيه فلا أماري، لأنه ليس فيه مطعن، أما في نتائجه التي رتبها عليه. فمراء ظاهر لا أستفتي فيه أحدا.
- إن د. محمد عمارة وغيره لا يرى في تصرفه- صلى الله عليه وسلم - بوصفه قاضيا ( حاكما ) سنة تشريعية، - والسؤال: هل كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقضي بشهوته وهواه حتى لا يكون قضاؤه تشريعا؟.
إن الله عز وجل قد خاطب رسوله - صلى الله عليه وسلم - وأمره أن يحكم بينهم ( بما أراه الله ) وفي آية أخرى ( بما انزل الله ) ويقول رب العالمين " وان احكم بينهم بما أنزل الله و احذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك " فهي صريحة في انه - صلى الله عليه وسلم -،كان يحكم، ويقضي بينهم بما أنزل الله ولا يتبع أهواءهم؟ فهل ( ما أنزل الله ) تشريع أم لا؟
- وهل ( ما انزل الله ) تنتفي عنه صفة التشريع فجأة لأنه تحول إلى فعل له- صلى الله عليه وسلم - أي سنة؟
إن تصرفه - صلى الله عليه وسلم - بوصفه إماما وقاضيا يغطي مساحة كبيرة من التشريع الإسلامي (المعاملات) ومن حياته - صلى الله عليه وسلم -، فإذا كان ما جاء عنه - صلى الله عليه وسلم - في أبواب المعاملات ليس تشريعا فلم حفل الصحابة والتابعون وكل المسلمين بعدهم باحاديث المعاملات في البيع، والشراء والجهاد ورعاية المسلمين والربا؟ ولِمَ غصت بها مصنفات الحديث حتى أنها لتغطي الغالبية العظمى منها؟
- وإذا لم تكن تشريعا فكيف غفل علماء الأمة قاطبة فلم يتفطن لها إلا بعض الدخلاء على العلم في هذا الزمن؟
سابعا: السنة غير التشريعية عند أهل العلم(2/89)
إن السنة غير التشريعية التي يعلمها طالب العلم المبتدئ، والتي نبه عليها علماؤنا هي ما صدر عنه - صلى الله عليه وسلم - بمقتضى الطبيعة البشرية كالأكل والشرب والقيام والقعود، فهذا لا يكون تشريعا للأمة، لأن هذه الأمور تصدر عن الإنسان بمقتضى طبيعته البشرية، ولكن كيفية أكله وشربه وقيامه وقعوده ونومه تدخل في دائرة الأفعال المستحبة، فتستحب للمسلم متابعة النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذه الكيفيات، ولا شيء عليه إن لم يتابعه فيها.
وكذلك ما صدر عنه بمقتضى خبرته وتجاربه في الأمور الدنيوية مثل تنظيم الجيوش وتدبير الحرب والتجارة ونحو ذلك، فهذا لا يعد تشريعا. ولهذا أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - الجيش في موقعة بدر بالتحول إلى مكان معين أشار به أحد الصحابة بعد أن أراد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن ينزل في مكان غيره.
وكذلك ما كان خاصا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - مثل وصاله في الصوم، والتزوج بأكثر من أربع زوجات ووجوب التهجد بالليل وقبوله شهادة خزيمة وحده"(1).
إن السبب في تلك الاستنتاجات يعود إلى عدم تفريق هؤلاء المعاصرين بين ما يعتبر أمرا تنفيذيا وأسلوبا إجرائيا – نحو استخدام وسيلة مادية معينة كالسيف للقتال أو الخيل للكر والفر أو رسم خطة معركة ما أو موضع تأبير النخيل بهدف لقاح الثمر ونحو ذلك مما ذكر علماء الأصول عدم اعتباره تشريعا لوجود القرينة على أنها أفعال دنيوية محضة وأساليب ووسائل لا يقصد بها التشريع. وبين الأحكام الشرعية الجزئية والتفصيلية التي تبين الأحكام التنظيمية للدولة.
__________
(1) د. عبد الكريم زيدان: المدخل لدراسة الشريعة الإسلامية ص193.(2/90)
وذلك الخلط والتشويش ناشئ عن عدم معرفة عميقة بالفقه الإسلامي وواقع التشريع الإسلامي من ناحية. والى سيطرة أحكام الأنظمة الغربية التي تجعل من الصعوبة بمكان تصور حكم إسلامي مشتق من مصادره الأصلية(1).
ثامنا: دلالة حديث تأبير النخل
أما حديث تأبير النخل الذي اتخذه العلمانيون تكأة لإنكار الشريعة، فنصه:
"….... عن سماك أنه سمع موسى بن طلحة يحدث عن أبيه قال: "مررت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في نخل المدينة، فرأى أقواما في رؤوس النخل يلقحون النخل، فقال: ما يصنع هؤلاء؟ قال: يأخذون من الذكر فيحطون في الأنثى يلقحون به، فقال: ما أظن ذلك يغني شيئا، فبلغهم فتركوه ونزلوا عنها، فلم تحمل تلك السنة شيئا، فبلغ ذلك النبي- صلى الله عليه وسلم - فقال: إنما هو ظن ظننته، إن كان يغني شيئا فاصنعوا، فإنما أنا بشر مثلكم، والظن يخطئ ويصيب، ولكن ما قلت لكم قال الله عز وجل فلن أكذب على الله } (2).
وفي رواية أخرى { فإني إنما ظننت ظنا، فلا تؤاخذوني بالظن } (3).
وفي رواية أخرى عن أنس { أنتم أعلم بأمور دنياكم } (4).
قال الشيخ أحمد شاكر في تعقيبه على هذا الحديث:
__________
(1) انظر: د. محمد أحمد المفتي، و د. سامي صالح الوكيل: التشريع وسن القوانين في الدولة الإسلامية – دراسة تحليلية ص80-81.
(2) مسند الإمام أحمد بشرح وتحقيق الشيخ أحمد شاكر 2/366، وانظر : صحيح مسلم بشرح النووي 15/116.
(3) نفس المصدر 2/364 ح 1395. وصحح الشيخ شاكر إسنادها.
(4) صحيح مسلم بشرح النووي 15/118.(2/91)
"وهذا الحديث مما طنطن به ملحدو مصر، وصنائع أوروبا فيها من عبيد المستشرقين وتلامذة المبشرين، فجعلوه أصلا يحجون به أهل السنة وأنصارها، وخدام الشريعة وحماتها، إذا أرادوا أن ينفوا شيئا من السنة، وأن ينكروا شريعة من شرائع الإسلام في المعاملات وشؤون الاجتماع وغيرها، يزعمون أن هذه من شؤون الدنيا يتمسكون برواية أنس { أنتم أعلم بأمور دنياكم } ، والله يعلم أنهم لا يؤمنون بأصل الدين، ولا بالألوهية ولا بالرسالة، ولا يصدقون القرآن في قرارة أنفسهم، ومن آمن منهم فإنما يؤمن لسانه ظاهرا، ويؤمن قلبه فيما يخيل إليه، لا عن ثقة وطمأنينة ولكن تقليدا وخشية، فإذا ما جد الجد، وتعارضت الشريعة، الكتاب والسنة مع ما درسوا في مصر أو في أوروبة، لم يترددوا في المفاضلة، ولم يحجموا عن الاختيار فَضّلوا ما أخذوه عن سادتهم، واختاروا ما أشربته قلوبهم، ثم ينسبون نفوسهم بعد ذلك أو ينسبهم الناس إلى الإسلام، والحديث واضح صريح لا يعارض نصا، ولا يدل على عدم الاحتجاج بالسنة في كل شأن لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا ينطق عن الهوى، فكل ما جاء عنه فهو شرع وتشريع، { و إن تطيعوه تهتدوا } وإنما كان في قصة تلقيح النخيل أن قال لهم " ما أظن ذلك شيئا " فهو لم يأمر ولم ينه، ولم يخبر عن الله، ولم يسن في ذلك سنة، حتى يتوسع في هذا المعنى إلى ما يهدم به أصل التشريع، بل ظن، ثم اعتذر عن ظنه، قال { فلا تؤاخذوني بالظن } فأين هذا مما يرمي إليه أولئك؟ هدانا الله وإياهم سواء السبيل" (1)
وأضيف إلى ما قاله الشيخ أحمد شاكر:
__________
(1) مسند أحمد بشرح شاكر 2/364-365.(2/92)
انه - صلى الله عليه وسلم - صرح وبين أنه قال ذلك وظن الظن بصفته البشرية { فإنما أنا بشر مثلكم } . ثم إن مسارعة الصحابة الذين كانوا يؤبرون النخل إلى ترك التأبير بمجرد ما سمعوا قوله- صلى الله عليه وسلم - - وهو غير صريح ولا ظاهر ولا يفهم منه تحريم - مسارعتهم تلك، دليل على أن الأصل عندهم فيما يقوله - صلى الله عليه وسلم - هو للتشريع، وأنه وحي، وإلا لما سارعوا إلى تركه. فهو دليل لا يسعف المؤولين في دعواهم، بل على العكس فهو ينقضها من أساسها، ويدل على انه كان مترسخا لديهم أن كل ما قاله - صلى الله عليه وسلم - فهو تشريع ملزم، حتى أخبرهم - صلى الله عليه وسلم - أنه إنما قال ذلك من قبل ظنه وحسب تجربته البشرية، وليس إخبارا وتشريعا عن الله.
المبحث الرابع
التأويل في أصول الفقه
أصول الفقه بين التجديد والتبديد:
كان لأصول الفقه ومسائله و مباحثه نصيب وافر من محاولات التأويل والتحريف تحت دعاوى التجديد والعصرنة وإعادة فتح باب الاجتهاد، والتبرم من الجمود وعصور الانحطاط الفقهي إلى آخر المعزوفة التي ملت منها الآذان وسئمت منها القلوب.
وإذا عرف السبب بطل العجب، فكل محاولات الهدم والتخريب في الفقه ( الأحكام الشرعية) لم ولن يكتب لها النجاح إلا إذا دخلت من باب الأصول، بصفته الأساس الذي بنيت عليه تلك الأحكام، وإذا تسنى هدم الأسس إنهار البناء من تلقاء نفسه.
أيضا، فإنه إذا ألبس التحريف حلة التأصيل كان أبهج، وإذا عضد بنقول لأئمة أعلام في الأصول كالعز بن عبد السلام وابن تيمية وابن قيم الجوزية والشاطبي والقرافي كان أخلب للنظر وأذهب للب، وأسهل لابتلاع الطعم المسموم.
ولذلك فإن كل من حاول " التجديد " في الأصول يتكئ على كلام لهؤلاء الأعلام ببتره من سياقه الذي يعطيه معناه الصحيح ليقوي به مزاعمه.(2/93)
"فالأحكام تتغير بتغير المكان والزمان والنية والحال"، "وأينما تكون المصلحة فثم شرع الله" وليس العكس، "والنظر في المآلات معتبر" و "الشريعة إنما جاءت بكليات ومقاصد هي ثوابت، وما سوى ذلك فجزئيات متغيرة، وتطرح إذا عارضت الكليات "... "والإجماع المعهود هو أمر نظري خيالي لا يتصور وقوعه أصلا " والقياس عقده الفقهاء بالضوابط والشروط، والسنة غالبها ليس حجة، بل هي سنة غير تشريعية قالها الرسول - صلى الله عليه وسلم - بصفته قاضيا وإماما وليس بصفته مبلغا ورسولا، والقرآن ذاته حمال أوجه ودلالاته القطعية نادرة … الخ ما هنالك.
ودعاة " تجديد الأصول "ليسوا سواء، لا من حيث الدوافع، ولا من حيث الأهداف، وهم أصحاب مشارب مختلفة ومتفاوتة. ولا يمكن وضعهم تحت خانة واحدة، ولذلك رأيت من العجب أن يسلك في هذا المضمار "بعض أهل العلم" ومفكرون إسلاميون وقوميون، بل حتى ماركسيون ومرتدون".ويدخل تحت هذه القائمة جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده والشيخ عبد العزيز جاويش الذين أعلوا من شأن النظر العقلاني وجعلوه مقدما على ظاهر الشرع حتى سماهم أنور الجندي "معتزلة العصر الحديث"(1).
وفي هذا الإطار نطالع بحثا للأستاذ الدكتور محمد الدسوقي -أستاذ ورئيس قسم الفقه والأصول في جامعة قطر- بعنوان "نحو منهج جديد لدراسة علم أصول الفقه"، فبعد أن بين أهمية علم الأصول، وانه يمثل الميزان الذي يضبط البحث الفقهي، ويعرف طريقه الاجتهاد الصحيح من الاجتهاد الباطل، عاد ليحمل عليه، ويتهمه بالجمود، وأنه لم يقدم شيئا يذكر بعد القرن السادس، سوى ما كتبه الشاطبي، ذاهبا إلى ضرورة التركيز على فقه المقاصد، وان كتب الأصول لم تتعرض لها إلا عرضا مطالبا - وهذا أخطر ما في الأمر - بتطوير مفاهيم بعض الأدلة.
__________
(1) انظر: د. فهد بن عبد الرحمن الرومي: اتجاهات التفسير في القرن الرابع عشر الهجري 2/731.(2/94)
فالإجماع: وضع له علماء الأصول شروطا جعل حديثهم عنه حديثا مثاليا لا يعبر تعبيرا صحيحا عن الإجماع الذي تؤيده النصوص والتطبيقات العملية التي عرفتها خير القرون.
والقياس: حصره هؤلاء العلماء في دائرة ضيقة، وهي دائرة تعدية حكم الأصل إلى الفرع بجامع العلة المنضبطة.
إن الإجماع كما يدرس في علم الأصول ينبغي أن يعاد النظر فيه، والتوسع في مفهوم القياس ضرورة منهجية تقود إلى فقه المصالح العامة، والأمة في أمس الحاجة إلى هذا اللون من الفقه في العصر الحاضر.
ويصل في النهاية إلى أن الاجتهاد في علم الأصول ضرورة دينية وعلمية، وأن الأمة في حاجة إلى منهج أصولي جديد، يقوم على تناول الأدلة تناولا يوضح كيفية دلالتها على الأحكام مع دراسة المقاصد والقواعد(1).
ورأيت وان لم يكن بنفس الدرجة في الوضوح والحدة على التراث –فقها وأصولا وأئمة- بحثا بعنوان "نحو منهجية اجتهادية في فقه الإقلاع والتجاوز الحضاري"، "فقه السياسة الشرعية بين الضروريات والمجالات والضوابط" لكل من د. علي جمعة ود. عبد الخبير عطا، والأستاذ حازم سالم، يراد منه التأصيل في فقه السياسة الشرعية، استجابة للضرورات الذاتية، باحياء الاجتهاد الفقهي تنزيلا للشريعة على الواقع المبتلى، واستجابة للتحديات الخارجية المفروضة على المجتمع الإسلامي والأمة المسلمة في سياق عالمية النموذج العلماني الغربي(2).
وبحثا آخر بعنوان "نحو منهجية أصولية للدراسات الاجتماعية " للدكتور لؤي صافي من الجامعة الإسلامية العالمية في ماليزيا هدفه -كما يقول- تطوير منهجية أصولية للدراسات الاجتماعية، تمكن الباحث من اعتماد التنزيل مصدرا معرفيا(3).
__________
(1) انظر كتاب: مؤتمر علوم الشريعة في الجامعات، تحرير د. فتحي حسن ملكاوي و د. عبد الكريم أبو سل ص161-164.
(2) نفس المصدر ص107.
(3) المرجع السابق: ص137.(2/95)
وبحثا آخر قريبا من الباب ذاته بعنوان "نحو منهجية منضبطة في تفسير القرآن الكريم" للدكتور زياد الدغامين - من الجامعة العالمية في ماليزيا يدعي كاتبه أن المفسرين -هكذا بإطلاق- أخلّوا بمنهج التعامل مع القرآن، وقصروا في معالجة واقع الأمة من خلال التفسير بسبب المنهج التجزيئيي في فهم النصوص، ويسعى إلى إثبات أن تفسير القرآن الكريم ما كان ينبغي له أن ينفصل عن الواقع الحياتي للأمة ليصل في النهاية إلى أن المنهج الأمثل في التفسير هو التفسير الموضوعي(1).
هذا ومن دعاواهم في أصول الفقه:
أولاً : الاجتهاد سهل المنال مباح للعالمين
يرى دعاة التجديد والعصرنة أن الاجتهاد في علوم الشريعة كان مطلقا دون قيد في عصر الصحابة لا يحده إلا المصلحة، وإن تخطى النص، ويستدلون لذلك باجتهادات عمر التي تكلمت على بعضها في أول البحث.
ويحملون على الشافعي -رضي الله عنه- تقييده هذا الاجتهاد الحر الطليق بما وضعه له من أصول وشروط وضوابط.
ولهذا فانهم يلحون بشدة على تطوير أصول الفقه، فيرفضون الإجماع والقياس والفقه والتراث(2).
وكان من أوائل الذين نادوا بجعل الاجتهاد الشرعي مباحا للجميع، الشيخ محمد عبده، حيث كان يرى أن الاجتهاد حق لكل إنسان مسلم، وأنه لا صحة للشروط التي وضعت له، وأنه سهل المنال على الجمهور الأعظم من المتدينين، لا تختص به طبقة من الطبقات، ولا يحتكر مزيته وقت من الأوقات وأن الناس في ذلك سواء.
ولأنه في رأيه سهل المنال فان تلميذه السيد محمد رشيد رضا عدَّ ما اشترطه العلماء من علوم لأجل بلوغ درجة الاجتهاد افتياتا على الله، ونسخا لكتاب الله، وشرعا لم يأذن به الله(3).
__________
(1) نفس المصدر ص152-154.
(2) العصريون معتزلة اليوم ص8-9.
(3) محمد رشيد رضا: تفسير القرآن الحكيم المسمى (المنار) 1/114، واتجاهات التفسير في القرن الرابع عشر الهجري 2/738-739.(2/96)
ولذا فانك ترى الحرص الشديد لدى رجال المدرسة العقلانية الاجتماعية الحديثة على ذم التقليد والتشنيع على المقلدين(1).
بل وصل بعض أصحاب هذا الاتجاه إلى حد إحلال العقل مطلقا محل الشرع. فمحمد عبده عدّ أصل الإسلام الأول هو النظر العقلاني والأصل الثاني تقديم النظر العقلاني على ظاهر الشرع. وعبد العزيز جاويش يرى استقلال العقل بالتشريع، حيث ذهب إلى أنه: بإمكان العقل بالبحث والتجارب والتنقيب إدراك ما تصبوا إليه النفس الإنسانية، من مراتب الكمال في الأحكام والتصورات، والنظم الاجتماعية والمسائل العملية والآداب الخلقية(2).…
وهذا د. عثمان أمين يفتي بحق الاجتهاد في تفسير القرآن لأي عصري، دون دراسة أو تأهيل، بل أنه بارك كل خطأ يحتمل أن يتورط فيه مثل هذا المفسر، لأن القرآن لم ينزل في رأيه (للمتخصصين) وإنما نزل " للعالمين" وأن ابن عباس لم يدرس في معاهد، ولم يكن له من المؤهلات إلا الفطرة السليمة(3).
ثانيا: الصادق المهدي والأصول
ولم يفرد لموقفه بحثا خاصا إلا أنه يمكن أن يتبين موقفه من بعض تلك القضايا من خلال نظرة عاجلة إلى كتابه " العقوبات الشرعية وموقفها من النظام الاجتماعي الإسلامي" فهو يرى أن:
- نصوص الشريعة ومقاصدها ثابتة، ولكن الفقه، وهو فهم الناس لتلك النصوص والمقاصد وتفسيرهم لها متحرك ومتغير(4) ( تفريق مطلق بين الشريعة والفقه )، ونصوص الآيات لم تؤخذ كما هي مجردة، بل فهمت في إطار مقاصد الشارع، واختلفوا في ماهية تلك المقاصد(5) ( إبطال لظواهر النصوص باسم المقاصد).
__________
(1) المرجع السابق: 2/739.
(2) عبد العزيز جاويش : الإسلام دين الفطرة والحرية ص127-137، وانظر: اتجاهات التفسير للرومي 2/731 – 732.
(3) عائشة عبد الرحمن: القرآن والتفسير العصري ص67-69.
(4) السيد الصادق المهدي: العقوبات الشرعية وموقفها من النظام الاجتماعي الإسلامي ص119.
(5) نفس المصدر ص120.(2/97)
- ويحاول إثبات الخلاف في كل الأدلة الشرعية ومقرراتها، ويحرص على إبراز الخلاف حتى ممن لا يعتد بخلافهم من الأباضية والشيعة والمعتزلة، كذريعة للتحلل من وجوب التزام ما هو متفق عليه بين الفقهاء، فيميل إلى عدم حجية الإجماع، والى استحالة وقوعه، مستدلا برأي الشيعة في ذلك، ويذهب أن ما يمكن الإجماع عليه هو الأمور
البدهية، وهي قليلة(1) غافلا عن أن الشيعة يطعنون في مفهوم الإجماع عند أهل السنة، لتثبيت إجماعٍ آخر هو إجماع العترة.
- ويميل إلى رفض القياس المعهود مستندا إلى دعوى بعض الفقهاء الذين لم يسمهم، وأظنهم الظاهرية- باستحالة معرفة العلة وإن عرفت فهي ظنية(2).
(وكأن الظني لا يوجب العمل باتفاق الفقهاء )!
- ويطلق القول باعتبار العرف مصدرا من مصادر التشريع، ويصف المصلحة باعتبارها مصدرا أساسيا للأحكام، ويستدل بفعل عمر -رضي الله عنه- في وقفه أرض السواد على مراعاة المصالح والمقاصد، ويدعي أن اجتهادات الفقهاء كانت متأثرة بالبيئة(3). وهي كلمة أراد بها التفلت من اجتهاداتهم واعتبارها تاريخية غير ملزمة.
- وتحت عنوان " الحاجة إلى اجتهاد جديد " يذهب إلى أن الأحكام التي " اتفق عليها جمهور الفقهاء " في كثير من القضايا لا تلائم عصرنا مما يوجب اجتهادا جديدا، لأن تلك الاجتهادات كانت مناسبة لزمانها وظروفها، وأما الآن فيجب إعادة النظر فيها.
ويمثل لهذا الأحكام " المتفق عليها " والتي يتوجب إعادة النظر فيها في زعمه بعدة قضايا:
1. الأحكام الخاصة بغير المسلمين: والتي تجعل غير المسلمين أقل درجة
{يعني المساواة والمواطنة التامة وإسقاط الجزية}.
2. الأحكام الخاصة بالمرأة: مثل عدم ولايتها القضاء ومنع شهادتها في الحدود والقصاص.
3. أحكام الرق: ويقول بأنها طارئة.
__________
(1) المرجع السابق: ص125.
(2) نفس المصدر ص126-127.
(3) نفس المصدر ص128-132.(2/98)
4. الأحكام المتعلقة بولاية الأمر: ويطعن على الفقهاء لقولهم بقرشية الخليفة وتأصيلهم لولاية العهد وولاية المتغلب { لتأصيل الديمقراطية}.
5. أحكام الردة والمرتدين: حيث ينتهي إلى أنه لا قتل بسبب الردة، لعدم وجود نص قطعي، وأن الأحاديث الواردة في ذلك ظنية { لتأصيل حرية الرأي و الاعتقاد كما يقرها الغربيون}.
6. تطبيق الأحكام على رعايا الدول الأخرى المقيمين في الدولة الإسلامية كالمستأمنين:
{حتى لا تطبق الحدود الشرعية مثلا على الأجانب}.
فكل هذه الأحكام تجوز مخالفتها باستنباط من الشريعة نفسها فهذه أحكام فقهية {تراث تاريخي} مناسب لزمانه فحسب، ولكن الفقهاء هم الذين أضفوا عليه القداسة حتى صار هو الشريعة "المذاهب صارت هي الشريعة" بينما الشريعة أوسع من الفقه الذي نما في أحضانها قديما مراعيا لظروفه.(1)
ويخلص في النهاية إلى أن " تطبيق الشريعة " ليس تطبيقا للفقه المعروف، ونحن بحاجة إلى هيئة تشريعية يكون لها صلاحية سن القوانين " والمطلوب ثورة فكرية ثقافية تحترم الفقه القديم وتتجاوزه "(2)2).
وفي رسالة له إلى إحدى الصحف السودانية يطالب فيها بإقامة فقه جديد بإعادة النظر في أربع قضايا رئيسة من أجل التوافق مع القوانين والأعراف والمواثيق الدولية، وهي قضية نظام الحكم، وقضية الاقتصاد، والعلاقات الدولية والجهاد، والمواطنة، حتى لا تقع الحركات الإسلامية في مشاكل بين متطلبات المرجعيات الدينية وحقائق الواقع(3).
ثالثاً: د. حسن الترابي والفقه الشعبي
__________
(1) المرجع السابق: ص137-149.
(2) نفس المصدر ص151.
(3) من مقال بعنوان: الصادق المهدي يدعو إلى ابتداع فقه جديد في المعاملات " مجلة الوعي " العدد (155) ص19، السنة الرابعة عشرة، ذو الحجة 1420ه- آذار 2000م.(2/99)
وهو من أشد المتحمسين لدعوى "تجديد أصول الفقه" وأكثرهم إلحاحا عليه، حتى أنه ليسهل عليه رمي الأمة في كل تاريخها بفقهائها ومفسريها وكل علمائها بالجمود والإهمال للأصول الصحيحة التي تقوم عليها الحياة، يدرك ذلك بل يصدم به من تأمل كتابه "تجديد الفكر الإسلامي" والذي قرر فيه أن الاجتهاد في أمور الدين هو حق لكل الناس حتى جهالهم.
وأن الإجماع إنما هو ما يعرف الآن "بالاستفتاء الشعبي" و "رأي الأكثرية" أو "الأغلبية البرلمانية"، وأن الفقهاء عقّدوا القياس حين وضعوا له أركانا وشروطا وضوابط، وأن الصحيح -في نظره هو- هو القياس الفطري الحر، فإذا رأيت شيئا يشبه شيئا فقس عليه، ودعك من المقيس عليه ومن العلة ومسالك العلة... الخ.
دعواه أن الاجتهاد حق للعوام أيضا:
فعنده أن أصول الفقه الجديد -الصحيح- ينبغي أن يقوم على النظر في نصوص القرآن ثم أصل المصالح العامة وقاعدة الاستصحاب والبراءة الأصلية، ثم السنة، لأنها زادت النصوص بيانا.
فتحت عنوان "أصول ضوابط للفقه الاجتهادي - الشورى والسلطان- "كتب يقول:إن الاجتهاد عملية مركبة لأن على المجتهد أن ينظر إلى مآل تطبيق النص، وأنه قد يؤدي إلى حرج عظيم أو تفويت مصلحة أخرى مقدرة في الدين"
فلا بد من النظر في الأسباب والعواقب والمصالح لا سيما في مجال الأحكام العامة حيث لا يغني المنهج التفسيري وحده وحيث التطبيق وما يؤدي إليه تصور أكمل للمصالح والمقاصد أمر لازم(1).
__________
(1) د. حسن الترابي: تجديد الفكر الإسلامي 85-86.(2/100)
راح ينقد التراث بأن أصوله المقترحة الآنفة عطلت في الفقه الإسلامي التقليدي، وجوانبُ الحياة العملية أهُملت من قبل الفقهاء، ولذلك ينبغي إحياء هذه الأصول ولْتكن أصولا فقهية واسعة جدا فلا بأس(1) " في السعي نحو تجديد التدين، لا بد أن نواجه صور وأوضاع الحياة الإسلامية الموروثة التي أضفى عليها التراث طابع القداسة" و "نظام الإسلام التقليدي المتمكن في كثير من البلاد الإسلامية يشكل أوضاعا أشبه بوضع الكنيسة في المجتمع النصراني"(2).
ولإحياء هذه الأصول فإنه يدعو إلى فتح باب الاجتهاد على مصراعيه، وهو لا يريد لهذا الاجتهاد أن يكون مجرد تخريج على فروع الأقدمين، بل لا بأس أن يخرج المجتهد برأي لم يقل به أحد من قبل مطلقا من السلف أو غيرهم، ولأنه يستشعر أنه بهذا مجانب للحق والصواب، فانه برأيه يتطلب الجرأة في الرأي وقوة الصبر على ضغوط المحافظين، لا سيما وأن الاجتهاد لن يكون محدودا بل واسعا، ويشكل ثورة تطال الأصول ولا تقف عند الفروع(3).
بل هو يدعو صراحة إلى تخطي الحدود في الاجتهاد، وان لا يشغل المرء نفسه بالاعتدال في الاجتهاد، لأن الحس الإسلامي العفوي - برأيه - سيتكفل بتعديل الميزان في هذه الفوضى الاجتهادية، كما أكد ذلك التاريخ(4).
__________
(1) نفس المصدر ص87،97.
(2) نفس المصدر ص99.
(3) نفس المصدر ص93-94.
(4) نفس المصدر ص96.(2/101)
وإطار الاجتهاد هذا يتسع لكل فرد في الأمة، فله أن يشارك - بالاجتهاد - في تطوير رأي الجماعة بنصيبه من العلم، وعليه أن يحصل لنفسه علما خاصا بقدر ما يمكنه من تمييز ما هو معروض في سوق العلم(1). ولعلمه أن دعوته هذه إلى "الاجتهاد الحر والخلاف الواسع"(2)، ستؤدي إلى تباين في الآراء والمذاهب والأحكام بشدة { فوضى فقهية اجتهادية } فانه يقترح التصويت أو الاستفتاء سبيلا للخروج من هذه التعددية أو الفوضوية على الأصح … " تسوية الخلاف في هذا التباين بالشورى والنقاش حتى يتبلور رأي عام أو إقرار يجمع عليه المسلمون أو يرجحه جمهورهم وسوادهم الأعظم "، وأما إن كانت مسألة فرعية فتفوض إلى السلطان(3).
وتحت عنوان " أهلية الاجتهاد وإطاره"، وبعد ما قرر أن الاجتهاد حق لكل فرد في الأمة ليشارك في تطوير رأي الجماعة، راح ينتقد الشروط التي وضعها العلماء لأهلية الاجتهاد:
فهو يقول: "إذا عنينا بدرجة الاجتهاد مرتبة لها شرائط منضبطة، فما من شيء في دنيا العلم من هذا القبيل، وإنما أهلية الاجتهاد جملة مرنة من معايير العلم والالتزام، تشيع بين المسلمين، ليستعملوها في تقويم قادتهم "فالمجتمع" هو الذي ينظم ويتخذ لنفسه مقاييس في تقويم المفكرين والمجتهدين والترجيح بين آرائهم كالشهادات العلمية مثلا".
ويحمل على "الكتاب" الذين يتنطعون، ويتحفظون في ضبط شروط الاجتهاد إلى درجة تميز المجتهدين من عامة الفقهاء في حين أن أهلية الاجتهاد مسألة نسبية وإضافية.
وجمهور المسلمين هو الحكم، وهم أصحاب الشأن في تمييز الأعلم و الأقوم، وليس في الدين كنيسة أو سلطة رسمية تحتكر الفتوى أو تعتبر صاحبة الرأي الفصل(4).
__________
(1) نفس المصدر ص89.
(2) المرجع السابق: ص99.
(3) نفس المصدر ص87.
(4) نفس المصدر ص88-89.(2/102)
ويرى أن تلك الشروط التي وضعها المتنطعون هي شروط تعجيزية " فما ينبغي الإحاطة به من علوم التراث والعصر أصبح معجزا للفذ من العلماء "وانه لحد عسير على" مجتهد أو مفكر واحد أن يلم بكل هذه العلوم من تلقاء كسبه الخاص".
فمن لم يعرف علم الإحصاء لا يستطيع ترجيح رأي في الطلاق على رأي آخر، لأنه لا بد من معرفة مدى النتائج الاجتماعية المترتبة على فتواه.
ويستشهد على ذلك بفعل عمر في الطلاق بلفظ الثلاث حيث أمضى حكما غير معهود لما رأى ما يترتب عليه من آثار اجتماعية(1).
الإجماع هو الاستفتاء الشعبي وليس اتفاق المجتهدين
فالكلمة للمسلمين -لا لمجتهديهم- و الإجماع إجماعهم، والإجماع المعروف طرأ عليه انحراف في مفهومه، فالإجماع الصحيح هو معنى الشورى بالضبط، فالإجماع هو "سبيل المؤمنين" أي مجموعهم، وهو ذات الأمر الذي دلت عليه آية الشورى التي جعلت الشورى بين المسلمين، فكما أن الشورى هي لعامة المسلمين فكذلك الإجماع(2).
وقد "بدأ الإجماع فقهيا تتداول فيه الاجتهادات حتى تستقر على وجه غالب ثم غدا من بعد رصدا تقليديا لنقول من السلف، إذا تواترت لا يجوز الخروج عليها باجتهاد جديد"(3).
وفكرة الإجماع هذه يمكن أن نعبر عنها بفكرة الاستفتاء الحديث أو الإجماع غير المباشر، وهي نظام النيابة الحديث، مجلس برلماني ينتخبه المسلمون انتخابا حرا يكون هو الخطة الإجماعية عند المسلمين(4). فهو يرفض الشرط الذي وضعه الأصوليون لاعتبار الإجماع، وهو أن يكون الاتفاق واقعا من "المجتهدين".
__________
(1) نفس المصدر ص90.
(2) المرجع السابق: ص27 وما بعده.
(3) نفس المصدر ص50.
(4) نفس المصدر ص27.(2/103)
ويعلل رفضه هذا بأن من شأن ذلك أن يقسم الناس إلى طبقات فقهاء وعامة، والأصل عنده -أن يكون الاجتهاد حقا لجميع الناس لا يختص بطبقة دون أخرى. ويتهم الأصوليين بأنهم قننوا هذا السلب- سلب حق الاجتهاد من الناس-(1).
وقال "إن الإجماع الذي تكلم عليه الأصوليون مستحيل الوقوع، وغير ممكن لتشعب فرق المسلمين فضلا عن عدم وجود دليل ينص عليه. ولذلك لا بد من إيجاد صيغة أخرى للإجماع في العصر الحاضر للإفادة منه في الوصول إلى الحق.
وهذه الصيغة هي ما يسميه بإجماع الشورى، أو الأغلبية أو السواد الأعظم، وذلك بان يختار كل تجمع نائبا لهم ووكيلا يمثلهم - لم يشترط فيه العلم - فإذا اتفق هؤلاء النواب والوكلاء على أمر، فهو حكم الله تعالى، لأنه حكم الإجماع، أي البرلمان الإسلامي هو الذي يقرر لنا الإجماع
فلو قال لنا البرلمان المنتخب حكما من الأحكام فهو حكم الله المراد، ولو كان يخالف الكتاب والسنة "فرأي الجمهور هو الحكم"(2). ويتخبط في مدى حجية هذا الإجماع، حين يرى أنه ملزم وفي ذات الوقت لا يرقى لدرجة الحاكمية والخلود التي يختص بها نص الوحي أو بيانه بالسنة المعصومة(3).
__________
(1) انظر: عمر بن محمود أبو عمر: الجهاد والاجتهاد – تأملات في المنهج ص262، نقلا عن وثيقة حسن الترابي إلى المؤتمر الشعبي في السودان.
(2) انظر: الترابي : تجديد الفكر الإسلامي له ص27-29، والعصريون معتزلة اليوم ص25-27 نقلاً عن رسالة له في أصول التشريع الإسلامي وزعها الاتجاه الإسلامي بجامعة الخرطوم، الجهاد والاجتهاد ص262، الخواض الشيخ العقاد: الاجتهاد والتجديد في الشريعة الإسلامية بين تأكيد الحقائق وتفنيد المزاعم ص245.
(3) الترابي : تجديد الفكر الإسلامي ص149.(2/104)
هذا، وان كتابه مليء بنقد تراث الأمة وعلمائها في مختلف الفنون، وهو كثير الكلام كغيره على إهمال الجزئيات لصالح فقه المقاصد والكليات، وكثير الحديث عن أثر العرف في تغير الأحكام، وعن ندرة النصوص في أمور الدنيا أو المعاملات وتراكمها في العبادات والغيبيات، وعن إهمال الفقهاء لأمور السياسة الشرعية وانكبابهم على فقه العبادات... الخ تلك المعزوفة(1).
القياس الفطري الحر من الشرائط المعقدة التي وضعها الفقهاء:
فقد بدأ القياس في رأي الترابي في عهد الصحابة والتابعين قياسا حرا، كلما رأوا شبها بين حادث وقع في عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - وحكم منه، وحادث وقع من بعده كانوا يعدون ذلك الحكم إلى هذه الحادثة، ولكن خشية من أن يضل الهوى بهذا القياس غير المنتظم، عطل الناس ذلك القياس الفطري، واستعملوا المنطق الصوري التحليلي الدقيق حتى جمدوا القياس في معادلات دقيقة عقيمة لا تكاد تولد فقها جديدا(2).
ويقترح أصولا واسعة للفقه الاجتهادي، ويرى أن القياس التقليدي أغلبه لا يستوعب حاجاتنا" لأن فقهاءنا عقدوه بالشروط التي استقوها من المنطق الإغريقي، تأثرا منهم بالغزو الفكري في عهود الترجمة.
ولأن النصوص نادرة والقياس التقليدي لا يسعفنا فلا بد من "القياس الواسع" الاعتبار العفوي بالسابقة، ولأن هذا القياس المحدود ربما يصلح في تبين أحكام النكاح والآداب والشعائر، أما المجالات الواسعة من الدين فلا يكاد يجدي فيها إلا القياس الفطري الحر من تلك الشرائط المعقدة،
التي وضعها له مناطقه الإغريق واقتبسها الفقهاء، الذين عاشوا مرحلة ولع الفقه بالتعقيد الفني وولع الفقهاء بالضبط في الأحكام حرصا على الاستقرار والأمن في عهود كثر فيها الاختلاف والفتن(3).
__________
(1) انظر: الاجتهاد والتجديد في الشريعة الإسلامية ص240-248.
(2) تجديد الفكر الإسلامي ص50-51.
(3) المرجع السابق: ص82.(2/105)
وتحت عنوان " القياس الواسع" يقترح التوسع في القياس على الجزئيات، لتعتبر طائفة من النصوص، وتستنبط من جملتها مقصدا معينا من مقاصد الدين، أو مصلحة معينة من مصالحه، ثم
نتوخى ذلك المقصد حيثما كان في الظروف والحادثات الجديدة، وهذا يقربنا من فقه عمر الذي كان فقه مصالح عامة واسعة لا فقه واقعات جزئية.
وكليات الشريعة نجد فيها هداية واسعة للمصالح، وتحكيم مقاصد وقواعد العدل والظلم والعرف والقسط حسبما تستشعرها الفطرة السليمة، والوجدان مع "تصويبات" من الدين المنزل(1).
ثالثاً: محمد عمارة والاجتهاد حتى في القطعيات
يرى محمد عمارة أن الأحكام المستفادة من النصوص القطعية الثبوت والدلالة هي إما ثابتة وإما متغيرة.
فالثابت منها ما يتعلق بالأمور التعبدية والشعائرية وبعض أصول المعاملات الدنيوية، وهذه الأحكام لا يمكن إدراك العلة أو الحكمة أو المصلحة التي شرعت لأجلها ولذلك فهي أحكام ثابتة لا تتغير ولا تتبدل ويكون الاجتهاد في هذه النصوص فقط بالفهم والاستنباط وربط الفروع بالأصول وترجيح الأحكام.
ومنها -أي من الأحكام التي دلت عليها نصوص قطعية الثبوت والدلالة- ما هو متغير، وهو ما تعلق بالمعاملات الدنيوية المتغيرة، والتي يمكن إدراك العلة والحكمة والمصلحة من وراء تشريعها.
فهذه النصوص التي حملت هذه الأحكام ليست مراده لذاتها، بل لما اشتملت عليه من مصالح و مقاصد شرعية.
__________
(1) نفس المصدر ص83. وانظر: العصريون معتزلة اليوم ص22-23.
(2) وسيأتي معنا في مبحث الربا، إباحتهم للربا بحجة أنه إنما حرم بسبب الظلم ، وأنا الإقراض بفائدة الآن فلا ظلم فيه فتتوجب اباحته رعاية للمصلحة والاحكام تدور مع عللها وجوداً وعدماً(2/106)
ولذلك فالاجتهاد في هذه الأحكام -التي ارتبطت بعلة تغيرت أو بعادة تبدلت أو بعرف تطور– قائم، ولو كانت هذه الأحكام تستند إلى نص قطعي الثبوت والدلالة من القرآن أو السنة، وتم عليها إجماع الأمة في العصر الذي سبق تغير العلة وتبدل العادة(2).
وهذا الاجتهاد لا يرفع وجود النص بل يرفع حكمه فقط -، ولا يرفعه دائما، بل رفعا مؤقتا، فهو اجتهاد لا يتجاوز النص فيلغيه، وإنما يتجاوز الحكم المستنبط منه تجاوزا مؤقتا بما يحقق المصلحة والمقصد، كل ذلك والنص قائم نتلوه ونتعبد به … فالنص قائم أبدا و الحكم متراوح بين التنفيذ ووقف التنفيذ دون تجاوز دائم أو إلغاء(1). كل ذلك ليصل إلى هدم القاعدة المتفق عليها: لا اجتهاد في مورد النص فهذه قاعدة لا صحة لها في رأيه" فوجود النص لا يلغي الاجتهاد بل لا يكون الاجتهاد إلا مع وجود النص"(2).
ثم راح يستدل لفهمه ذلك باجتهادات عمر في المؤلفة قلوبهم، وحد السرقة، وأرض السواد، والزواج من الكتابية، والطلاق بلفظ الثلاث، وإسقاط اسم الجزية عن نصارى بني تغلب، - وإباحة التسعير … وغيرها(3).
واستنتج من تلك الاجتهادات أن عمر -رضي الله عنه- اجتهد في تلك النصوص على الرغم من كونها قطعية الثبوت والدلالة، وانه - حاشاه - تجاوزها (!!) تحقيقا للمصالح والمقاصد الشرعية (التي يتوهمها هو )، ودورانا مع العلة الغائية في هذه النصوص وجودا وعدما، على الرغم من انعقاد الإجماع على خلاف فعله رضي الله عنه، ووجود السنة العملية في توزيع أرض خيبر، ووجود السنة القولية في تحريم التسعير.
__________
(1) د. محمد عمارة: معالم المنهج الإسلامي ص100-102، النص الإسلامي بين الاجتهاد والجمود والتاريخية ص33-48.
(2) معالم المنهج الإسلامي ص99 والنص الإسلامي ص38.
(3) معالم المنهج الإسلامي ص103-114، النص الإسلامي ص48-73.(2/107)
معللا إقدام عمر على ذلك التجاوز بان تلك النصوص موضوعها فروع المتغيرات الدنيوية وليس الثوابت الدينية ولا أصول المعاملات الدنيوية، وبأن للعقل مدخلا في تحديد علة حكمها وحكمتها لأنها ليست من الأمور التعبدية(1).
ونجد هذا الاتجاه -إلغاء أثر الإجماع والتعليل العقلاني المجرد بالمصالح- يتردد صداه عند كثيرين، منهم د. عبد العزيز كامل، حيث يرى جواز إلغاء وإنهاء أثر الإجماع الأول، المبني على المصلحة بإجماع ثان بسبب اختلاف الظروف والأحوال وإذا وجدت المصلحة، فثم شرع الله"(2).
وما قاله في كتابه معالم المنهج الإسلامي. كرره، وأفرده بكتابه المذكور "النص الإسلامي بين الاجتهاد والجمود والتاريخية " من سلسلته في نقد العقل المعاصر - أراد فيه الرد على جهتي الغلو - كما يقول - في موقفهما من النص الإسلامي. وهما: النصوصيون الحرفيون السلفيون الذين يقفون عند ظواهر النص، وينكرون النظر العقلاني في النصوص الدينية.
والجهة الأخرى: الباطنية الغنوصية التي لا ترى في النصوص إلا رموزا، وتبطل المعاني والأحكام الثابتة، والتي يمثلها حديثا دعاة تاريخية النص الديني الذين يرون في الأحكام الشرعية أنها مؤقتة ومحلية، جاءت مناسبة وملبية لحاجات زمان محدد ومكان محدد وبيئة محددة ووعي معين، وبالتالي لا إطلاقية لها(3).ورغم أنه كتبه ليكون موقفا وسطا بين النزعتين فإذا هو ينجذب نحو المدرسة الثانية حين يقرر تجاوز وتخطي النصوص حتى القطعية الثبوت والدلالة، والمتعلقة بالمتغيرات الدنيوية، وجعلَها نصوصا مع وقف التنفيذ، حتى الحدود المقدرة حتى والتي هي بإجماع العلماء ليست محل اجتهاد يرى إمكان تجاوزها باسم فقه المصالح والمقاصد والكليات والنظر العقلي.
__________
(1) نفس المصدرا، نفس الصفحات.
(2) الإسلام والعصر د. عبد العزيز كامل 167.
(3) انظر: نفس المصدر ص15 وما بعدها.(2/108)
هذا إضافة إلى توظيفه السيئ لنصوص القرافي في وجود سنة غير تشريعية كما سبق وبينته في موضعه.
وقد اكثر في كتابه معالم المنهج " والنص الإسلامي " السابق ذكره من اصطلاحات لها مدلولات سلبية جدا ما أنزل الله بها من سلطان، بل لا أكون مبالغا إذا قلت أنها إعادة إنتاج لجوهر العلمانية وثنائياتها و إلباسها ثوبا إسلاميا، وإلا فما معنى هذه الثنائيات، ومن جاء بهذا التقابل؟
نصوص تتعلق بعالم الغيب ونصوص تتعلق بعالم الشهادة، ونصوص تتعلق بالأمور التعبدية ونصوص تتعلق بالأمور المعاشية ونصوص تتعلق بأمور الآخرة ونصوص تتعلق بأمور الدنيا.
وليس هذا تقسيما مدرسيا للتعليم والتمييز مثلما قسم العلماء الفقه إلى فقه عبادات ومعاملات، بل هو تقسيم يقصد به فرز الأحكام الثابتة من المتغيرة، فالأحكام المتعلقة بأمور الغيب والعبادات والآخرة هي الثابتة التي لا تتغير والثانية متبدلة متغيرة بحسب العلل والمصالح والمقاصد التي اشتملت عليها، ويجوز تجاوزها وتغييرها حتى، ولو كانت ثابتة بأدلة قطعية (1).
ومع انه تكلم في الأحكام الثابتة التي لا تتغير عن حقوق وواجبات وأصول المعاملات الدنيوية إلا انه لم يذكر مثلا واحدا للثابت من الأحكام الدنيوية، ومن المعلوم بداهة من دين الإسلام أنه دين ودنيا، ويتفق المسلمون وحتى أعداؤهم على أن الإسلام تضمن تنظيما لشئون الدنيا في المعاملات المالية والتجارية والحياة المدنية.
رابعاً: محمد شحرور والخروج على البديهيات
__________
(1) انظر: النص الإسلامي ص92-93.(2/109)
محمد شحرور، وكما ذكرت في موقفه من النص القرآني الذي جعله نصا بشريا، وأنكر بعضه، وقسمه تقسيما غربيا عجيبا، لا ينتظر منه هنا أن يلتزم بالمعايير العلمية لأصول الفقه، فهو لا يعبأ بأقدس المقدسات وهو القرآن فما بالك بغيره. ولذلك نجده قد اخترع مفهوما جديدا للأوامر الإلهية فقسمها إلى حدود وتعليمات.أما التعليمات فيجوز الفعل بخلافها، لأنها مجرد إرشادات ونصائح غير ملزمة، وأما الحدود -وليس المراد بها الحدود الشرعية الستة المعروفة فقط - فليس معناها كما فهمه الفقهاء، وهو عدم جواز تعديها ومخالفتها، بل تعني عنده أن بعض الأوامر لها حدود عليا لا يمكن تجاوزها وحدود دنيا لا يمكن النزول عنها، والمسلم مخير في الحركة بين الحدين فيطبق ما يراه مناسبا.
فقطع يد السارق مثلا هو الحد الأقصى لعقوبة السرقة وليس الحد الواجب التنفيذ دون غيره ولذلك يجوز الحبس والغرامة ويجوز العفو في بعض الأحيان وقس على ذلك كل العقوبات بل كل الواجبات(1)، وهو لا يلوم فقهاء السلف على عدم فهمهم للحدود، هذا الفهم المعاصر على اعتبار أنه مفهوم رياضي معاصر لم يظهر إلا على يد إسحاق نيوتن(2).
وقد قام بتطبيق نظريته الحدية هذه للأوامر الإلهية على فقه المرأة فخرج باجتهادات مضحكة منها جواز كشف المرأة كل جسدها أمام الأجانب ما خلا السوأتين، أما أمام المحارم فيجوز أن تجلس عارية كما خلقت(3)!
أما عن رأيه في الإجماع: فهو يرى أن مفهوم الإجماع الموروث وهو ما أجمع عليه السلف أو جمهور الفقهاء هو مفهوم وهمي، فقد أجمع هؤلاء العلماء على أمور كانت تخص الناس وتناسبهم في مكان محدد وزمان محدد وبيئات وأعراف معينة ولا علاقة لنا بها.
__________
(1) الكتاب والقرآن ص581-591.
(2) نفس المصدر ص579.
(3) نفس المصدر ص551،606،607، وانظر: تهافت القراءة المعاصرة ص24-26.(2/110)
أما الإجماع الحقيقي: فهو إجماع أكثرية الناس على قبول التشريع المقترح بشأنهم … لذا المجالس التشريعية المنتخبة والمنابر التشريعية الحرة،وحرية التعبير عن الرأي هي جزء لا يتجرأ من النظام السياسي في الإسلام وذلك حتى يتحقق مفهوم الإجماع(1).
وإذا كان التشريع بالرأي والتصويت، فلا تعجب أن وضع أساسا وشروطا للتشريع الإسلامي المعاصر لم يُبق فيها على شي من الأصول، فنفى مبادئ الشريعة وأصولها وفروعها، ونفى القياس وسد الذرائع، والمذاهب الفقهية، وجعل أساس التشريع هو الحرية والإباحة والعقل وعلم الإحصاء والعلوم التجريبية كالطب والفيزياء(2) … الخ.
وهذا ليس غريبا على من جعل التشريع ذاته متطورا متغيرا بالمطلق. بحسب الزمان والمكان(3).
خامساً: وعلى ذات الدرب ... نصر حامد
من رفض المفاهيم البدهية مثل مفهوم القرآن، ورآه منتجا ثقافيا ونصا بشريا ليس بالكثير عليه أن يخترع هو الآخر مفهوما للإجماع تحت ذرائع شتى.
فهو يرى أن المؤول - الفقيه - يجب أن يبني اجتهاده على مصالح الأمة، والتي تمثل مصالح الأغلبية كما كان يفعل الفقهاء قديما (!!) لا كما يفعل الفقهاء الآن، حيث يدورون في فلك الحكام، ويبنون الفقه على مبدأ رعاية مصالح الطبقات المستغلة المسيطرة!!
ومن أجل تحقيق هذا الهدف فانه من المحتم إعادة النظر في مفهوم الإجماع، فلا يكون إجماع" أهل الحل والعقد " هو الإجماع الذي يعمل به، ذلك أن أهل الحل والعقد في عصر سيطرة وسائل الإعلام هم من يملكون هذه الوسائل بحكم سيطرتهم على مقدرات المجتمع، وعلى ذلك يكون الفقهاء الممثلون لهم معبرين عن مصالحهم.
__________
(1) نفس المصدر ص582.
(2) المرجع السابق: ص582.
(3) نفس المصدر ص585.(2/111)
إن الإجماع الذي يجب أن يعتد به في تأويل النصوص الدينية، يجب أن يستند إلى مناخ ديمقراطي شعبي حقيقي، بحيث يكون معيار " الإجماع " هو الأغلبية المعبرة عن القوى المختلفة، ويكون معيار " مصالح الأمة " هو معيار مصلحة الأغلبية "(1).
سادساً: هويدي وفقه المصالح والمقاصد والكليات
يعرف عن الكاتب الصحفي فهمي هويدي أنه يتكلم في كل ميادين المعرفة، ويجلس نفسه منها مجلس المتصدر والمعلم والموجه والمنتقد والمرجح … الخ.
فقد أفتى بإسلام اليهود والنصارى وأهل الأديان حتى المجوس، ويرى أنهم من أهل الأعمال الصالحة، وأنهم من أصحاب جنات النعيم، لأن الله ليس منحازا لأحد.
وهنا يقحم نفسه في علم الأصول، مفندا رأي هذا، ومرجحا رأي ذاك، ورادا لنصوص الكتاب والسنة، مسفها الفقهاء، محتقرا للفقه، متعصبا لبعض نقول، حرفها واجتزأها من سياقها، ليؤسس نظرية خاصة في فقه المقاصد والكليات.
فتحت عنوان " وثنيون أيضا: عبدة النصوص والطقوس " يسمي متبعي النصوص من القرآن والسنة وكلام أئمة الفقه بعباد النصوص والوثنيين الجدد، فاتباع النصوص عنده وثنية يجب التبرؤ منها، ويعود بعد طول جلد وقذف، ليحفظ خط الرجعة على نفسه ليقرر أن النصوص يجب احترامها إلا أنه لا يجوز تقديسها إلى المدى الذي قد يوقعنا في "محظور" عبادة هذه النصوص، ومحاولة تعطيل عقولنا أمامها(2)
__________
(1) نصر حامد أبو زيد: مفهوم النص – دراسة في علوم القرآن ص241.
(2) انظر: القرآن والسلطان 35-41، وهو يتطابق تماماً مع د. علي حرب في تسمية النصوص أوثاناً وجعله اتباعها وثنية كما مر ه في بحث مفهوم القرآن عند علي حرب، ولا أظنه يُسعد " المفكر الاسلامي الكبير " هويدي أن يتقاطع مع من يجعل القرآن نصاً نبوياً بشرياً.
(2) يريد الحديث " ستبلغكم عني أحاديث، فاعرضوها على القرآن، فما وافق القرآن فالزموه، وما خالف القرآن فارفضوه" ، قال الألباني : ضعيف جداً، انظر: سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة وأثرها السيء على الأمة 3/210، وقال الشافعي: هو من وضع الزنادقة، انظر: د. عبد العظيم المطعني : الشبهات الثلاثون المثارة لإنكار السنة ص153.(2/112)
.
وهو لا يرى النصوص ذات أهمية إنما " المهم هو المحافظة على مقاصد الشريعة، ويتساءل: ما العمل إذا لم تحقق النصوص المصلحة تحت أي ظرف؟فيقدم الإجابة مشفوعة بكلام الفقهاء الذين يسفههم في العادة: الثابت عند أغلب الفقهاء أن المصلحة تقدم على النص - ويستشهد على ذلك شأنه شأن الكثيرين من الصحفيين والكتاب باجتهادات عمر في المؤلفة قلوبهم وحد السرقة، ويستنتج أن المصلحة تقتضي أن يؤجل العمل بالنص القرآني.
ويتكلم على قاعدة تغير الأحكام بتغير الأزمان، وينقل عن الدواليبي مستشهدا ومؤيدا أنها تعني أن يجري العمل بنفس النص الثابت، ولكن بحكم جديد مبني على دليل مستوحى من ظروف النص تبعا للمصلحة، فإذا تغيرت المصلحة تغير الحكم معها من غير حاجة لتغيير النص ويكمل: وهذا يحتاج لحس مرهف وذوق حقوقي ممتاز ..
كل هذا ليخرج بالنتيجة "القاعدة" التي قررها سلفا " أن اجتهاد عمر في حد السرقة والمؤلفة قلوبهم، فيه تغيير لحكم السرقة الثابت بنص القرآن عملا بتغير الظروف التي أحاطت بالسرقة".
ويتساءل عما إذا تعارضت النصوص الجزئية التي بأيدينا مع الكليات والقواعد الفقهية؟ فيرى رد تلك النصوص حتى لو كانت صحيحة، ويستشهد بما ظنه حديثا " إذا روى لكم حديث فاعرضوه على كتاب الله فان وافق كتاب الله، فاقبلوه، وإلا فردوه "(2) وعنده " أن الباب مفتوح على مصراعيه للاجتهاد " بالقياس والمصالح المرسلة – وهي في نظره – مسألة تقديرية يترك حسابها للمجتهد " والمشرع". وبالاستحسان حيث يجوز للمجتهد أن يعدل عن حكم إلى حكم آخر رأى فيه ترجيحا على ما علم من قصد الشارع في الجملة كما قال الشاطبي، ويستدل بقول ابن القيم أينما تكون المصلحة، فثم شرع الله، ويستدرك على نفسه فيقرر أنه لا يجوز مخالفة القطعيات… ثم إنه يجوز تأجيلها وفرق بين التأجيل والإلغاء.(2/113)
والشريعة ما هي إلا مبادئ عامة وقواعد كلية، وأما النصوص المحددة لأحكام بعينها فنادرة، ولذلك فان الفرعيات والجزئيات معظمها مبني على اجتهاد الفقهاء في الإجماع (!!) والقياس وغيرهما.وقد ملأت - في رأيه - هذه الفرعيات والجزئيات مجلدات ضخمة من كتب الفقه، وطغت أحيانا على المبادئ العامة واتخذت مع التقليد التاريخي طابعا شكليا جامدا بعيدا عن الجوهر الأصلي، وهكذا طغى الفرع على الأصل وحجب الشكل الجوهر(1).
وفي بحث له حول مفهوم المواطنة قرر فيه المساواة المطلقة بين رعايا الدولة الإسلامية مسلمين ويهودا ونصارى ومجوسا وغيرهم، و نراه ( يهدر) النصوص والأحكام الشرعية الثابتة التي قررت التفريق بين حقوق وواجبات المواطنين في الدولة الإسلامية على أساس العقيدة.
وحجته في ذلك أن تلك النصوص والأحكام مخالفة لمقاصد الشريعة وكلياتها التي قررت كرامة الإنسان من حيث هو إنسان.
ويرى أن أحكام أهل الذمة التي قررها العلماء أمثال ابن القيم في كتابه الخاص بهم استوجبتها ظروف بيئية وتاريخية متمثلة في الحروب الصليبية، وليست أحكاما شرعية مبرمة.
فهي من الفقه، وليست من الشريعة، ويجب أن نفرق بين ما هو فقه، وما هو شريعة، فالأول ملزم والثاني هو اجتهاد بشري لا يلزمنا في شيء(2).
وهكذا فليكن الاجتهاد في الأصول، وهكذا فلتقرر الأدلة ولتهدر النصوص والأحكام باسم فقه المقاصد والكليات والمصالح، ولتهدم بمعول " التاريخية " الذي صنعه قبلهم أركون وعشماوي وأبو زيد والجابري وأخيرا هويدي والبقية تأتي.
__________
(1) المرجع السابق.
(2) انظر: ندوة الصحوة الإسلامية – رؤية نقدية من الداخل ص131-134.(2/114)
وتسري حمى هدر النصوص لتصل حتى العقيدة، حين يقرر د. عبد المجيد النجار أن حرية العقيدة والفكر والرأي ترتقي إلى اعتبارها مقصدا من مقاصد الشريعة(1) وبالتالي تؤول كل الأحكام والنصوص التي تخالف ذلك المقصد كحد الردة والنصوص التي تضمنته.
وممن نحا هذا المنحى في رفع شعار ندرة النصوص العينية وعدم كفايتها وضرورة التركيز على فقه الكليات والمقاصد وتجاوز المنهج التقليدي في الاستنباط راشد الغنوشي وغيره.
وسنرى أن اجتهادات المعاصرين كلها تدور حول هذه المبادئ التي يطرحونها بصيغ عامة وغامضة وضبابية دون أن يحققوا مراد العلماء بها. كل ذلك نتيجة لعدم الجدية والأمانة وبذل الوسع الكافي في البحث، أو تعبير عن فقرهم المدقع وضحالة (مداهم في) "الشرعيات" حتى لو حازوا على أعلى الشهادات، وجادت عليهم دور النشر ووسائل الإعلام بأسمى الألقاب.
المناقشة والرد
علم أصول الفقه هو علم خص الله-تعالى- أمة الإسلام به من سائر أمم الأرض، وهو " أم العلوم الشرعية " والأصل فيها، وهو العاصم من كل انحراف في الفهم والتفكير، وهو الضابط لجميع الحقائق واستدلالاتها، وهو الآلة في بيان المعاني وإظهار المقاصد، وتوضيح الدلالات، وإن كل محاولة يقصد بها النيل من هذا العلم الشامخ الواسع السامي الأصيل مآلها الخيبة والفشل الذريع والعاقبة الوخيمة والضلال المشين(2).
هذا وإن علم الأصول بشهادة المبرزين من أهله علم قد استوت أركانه واكتمل بناؤه ولم يعد هناك ما يضاف إليه، حتى وإن قيل بأن مسائله ليست كلها قطعية.
__________
(1) انظر: د. عبد المجيد النجار : دور حرية الرأي في الوحدة الفكرية بين المسلمين ص45، والذي قدم له د. طه جابر العلواني وآقره على أغلب ما قاله والله المستعان، وسيأتي مفصلاً ذكر آراء الغنوشي في المبحث التالي إن شاء الله.
(2) الفرقان والقرآن ص68.(2/115)
والتجديد في علم الأصول لا يكون الآن بتبديد الأصول التي دلت عليها نصوص الكتاب والسنة، وتلقتها الأمة على طول تاريخها المديد بالقبول، فذلك لا يجدي علينا لا نهضة ولا تقدما ولا إقلاعا حضاريا ولا غيره من تلك الشعارات.
نفي وإهدار حجية ما لا يروق لنا من السنة بدعوى أنها سنة غير تشريعية لا يسمى تجديدا، وتطوير مفاهيم الأدلة ليصبح إجماع المجتهدين هو رأي الغالبية من العوام، والقياس المضبوط الصحيح هو القياس الفطري والاعتبار العفوي هذا هدم للدين وتبديد له. والإزراء على العلماء والفقهاء وتفسيرهم دعوات لا يجرؤ عليها مسلم. ورد النصوص المحكمة بتعليلها بالمصلحة العقلية المجردة تحكيم للعقل واتباع للهوى ودعوة علمانية، تتستر بثوب الاجتهاد والتجديد.
وإنما يكون الاجتهاد في الأصول الآن بتمحيص بعض المسائل وتحريرها، والترجيح بين أقوال العلماء، أو بالتقريب والتوضيح والتوطئة والتيسير كما قرر ذلك الشيخ الخواض العقاد(1).
وها نحن نأتي على أهم ما اشتملت عليه دعاواهم من الخطأ بالدحض والتفنيد:
أولاً: الاحتجاج بندرة النصوص عموما أو بندرتها في أبواب المعاملات
رفع لواءها حسن الترابي وفهمي هويدي والصادق المهدي وقبلهم كثيرون، فهي دعوى باطلة وقد ذكرت عند بحث مفهوم النص عند الجمهور رد الإمام الجويني على تلك الدعوى،
__________
(1) انظر : مؤتمر علوم الشريعة في الجامعات ص224-231.(2/116)
وملخصه أن القطعيات لا تثبت فقط بالنص بمعناه الأصولي، وإنما تثبت بالتواتر المعنوي وبقرائن الأدلة والأحوال، فهناك من المعاني الشرعية ما لم يثبت بنص معين قطعي الثبوت قطعي الدلالة، ولكن تتوارد على تقريره وتأكيده عدد من الأدلة ترفعه إلى مرتبة القطعي، وهو ما أسماه الشاطبي، بالتواتر المعنوي، وأكد ابن تيميه أن غالب ما يحتاج إلية الناس من الأحكام، إنما ثبت بأدلة قطعية، وإنما يقع النزاع في قليل مما يحتاج الناس إليه(1).
هذا إضافة إلى أن " النص " بالمعنى الأصولي، ليس شرطا أن يكون قطعيا من حيث الثبوت ، فخبر الآحاد إذا لم يحتمل إلا معنى واحدا، فهو نص لا يجوز تأويله، كما نص عليه الجويني وغيره، وأما أن النصوص بمعناها العام نادرة في أبواب المعاملات، فهذه دعوى تدل على أن صاحبها إما جاهل وإما متجاهل، فالقرآن الكريم فصل في أحكام البيوع والشهادات والزواج والطلاق والحدود والجهاد ما لم يفصله في أحكام الصلاة والزكاة والحج.
وإطلاعة يسيرة على مصنفات الحديث، ترينا ذلك الكم الهائل الزاخر من نصوص الحديث الصحيح والحسن في شتى أبواب المعاملات الدنيوية من البيوع والإجارات والشركات والغصب والكفالة والرهن … الخ.
ومصنفات الفقهاء زاخرة هي الأخرى بالتفصيل في هذه الأمور، وهو أمر معلوم حتى لطالب علم مبتدئ، فكيف خفي على هؤلاء المفكرين الجهابذة!!
والحقيقة أن هذه دعوى يراد من ورائها إطلاق العنان للعقل، ليشرع على هواه في أمور الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية بدعوى أن الدين لم يأت فيها بنصوص تفصيلية كثيرة، بل أتى فقط بمبادئ عامة وقواعد كلية وترك للعقل الميدان، ليصول، ويجول، كما يحلو له من غير قيد ولا ضبط.
__________
(1) راجع مبحث النص عند الجمهور من هذا البحث.(2/117)
وهو ما يستشف من تأكيد كثير من الكتاب على مقولة أن الشريعة جاءت في أمور الحياة والمعاملات بكليات وقواعد عامة فحسب، فيقبلون على الاستدلال بالكليات والمقاصد معرضين عن الأدلة الجزئية التفصيلية لا يلتفتون إليها إلا عندما تسند آراءهم.
وهو ما ذكرته عن الصادق المهدي وفهمي هويدي، وما سنراه في كتابات الغنوشي في بحث المواطنة.
ولن استرسل هنا في إبطال هذه المقولة، فقد صنعت ذلك عند الكلام على التأويل بدليل القواعد الفقهية، وهي الكليات التي يتكلمون عنها، وعرفنا أنها إنما ثبتت عن طريق استقراء الجزئيات أصلا.
وتكلمت على ذلك في التأويل بدليل المصالح والمقاصد وهي كليات أيضا، وعرفنا أنها لا تثبت أصلا إلا عن طريق الأدلة الجزئية التفصيلية.
ولا بأس هنا بإيراد نقل للإمام الشاطبي في وجوب اعتبار جزئيات الشريعة وكلياتها معا وحرمة إهدار النصوص الجزئية قال رحمه الله.
"… وكما أن مَنْ أخذ بالجزئي معرضا عن كليه فهو مخطئ، كذلك من أخذ بالكلي معرضا عن جزئيه. وبيان ذلك أن تلقي العلم إنما هو من عرض الجزئيات واستقرائها، فالكلي - من حيث هو كلي - غير معلوم لنا قبل العلم بالجزئيات، ولأنه ليس بموجود في الخارج، وإنما هو مضمَّن في الجزئيات، حسبما تقرر في المعقولات.
فإذا الوقوف مع الكلي مع الإعراض عن الجزئي وقوف مع شيء لم يتقرر العلم به بعد دون العلم بالجزئي، والجزئي هو مظهر العلم به.
وأيضا فان الجزئي لم يوضع جزئيا إلا لكون الكلي فيه على التمام وبه قوامه، فالإعراض عن الجزئي من حيث هو جزئي إعراض عن الكلي نفسه في الحقيقة. وذلك تناقض".
إلى أن قرر أنه " لا بد من الرجوع إلى الجزئي في معرفة الكلي، ودل ذلك على أن الكلي لا يعتبر بإطلاقه دون اعتبار الجزئي …. فلا بد من اعتبارهما معا في كل مسألة(1).
__________
(1) الموافقات 3/8-9.(2/118)
فإذا ثبت بالاستقراء قاعدة كلية ثم أتى النص على جزئي يخالف القاعدة بوجه من وجوه المخالفة، فلا بد من الجمع في النظر بينهما، لأن الشارع لم ينص على ذلك الجزئي إلا مع الحفظ على تلك القواعد(1).
إلى أن قال "فلو أعرض عن الجزئيات بإطلاق، لدخلت مفاسد ولفاتت مصالح، وهو مناقض لمقصود الشارع " و" الحاصل أنه لا بد من اعتبار خصوص الجزئيات مع اعتبار كلياتها وبالعكس، وهو منتهى نظر المجتهدين بإطلاق، و إليه ينتهي طَلَقهم في مرامي الاجتهاد"(2).
من هنا يتبين لنا المغالطة الفاحشة التي يكررها هؤلاء من إقبالهم على الاستدلال بالكليات مع طرح الأدلة الجزئية التفصيلية من نصوص القرآن والحديث.
مع أن الاستدلال بالكليات لا يقوم له إلا من وقف على الجزئيات وأحاط بها علما وفهما ونظرا. وكيف لهؤلاء الذين أفنوا ماضيهم في دراسة الصحافة والقانون وشتى العلوم واستغرقوا حاضرهم في ملاحقة الواقع وتداعياته أن يرتقوا إلى هذه المنزلة. ما مثل هؤلاء إلا كمن يفني عمره في معمل للكيمياء ثم يأتي آخر عمره لينصب نفسه معلما وأستاذا وشارحا لدستور البلاد قواعده ودقائقه.
ثانياً: الاجتهاد قصر على أهله من العلماء وليس مباحا للعالمين
فالاجتهاد كما سبق: هو بذل الفقيه وسعه.. وليس يقبل الاجتهاد في الدين من أي شخص بل من الفقيه حصرا. والأصل أن هذا الأمر لا يحتاج إلى بيان لما علم أن المفتي والمتكلم في أحكام الدين لا يعطي رأيه الخاص ولا وجهة نظره الشخصية، ولا يسأل عن مزاجه أو هواه، وإنما هو يسأل عن حكم الله أو حكم رسوله - صلى الله عليه وسلم - في هذه المسألة أو في تلك الواقعة.
لذلك عبر الإمام القرافي - وهو من فقهاء المالكية وكبار الأصوليين عن المفتي بأنه ترجمان عن الله تبارك وتعالى، كأنه مترجم للنص الشرعي(3).
__________
(1) نفس المصدر 3/9.
(2) نفس المصدر 3/13.
(3) الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام ص29.(2/119)
ولعل ابن القيم كان أكثر تسديدا حين وسم كتابه الشهير ب-" إعلام الموقعين عن رب العالمين " فاعتبر أن المفتي والمتكلم في مسائل الشرع كأنه موقع عن رب العالمين.
ومن هذا المنطلق قال: إذا كان منصب التوقيع عن الملوك بالمحل الذي لا ينكر فضله، ولا يجهل قدره، وهو من أعلى المراتب السنيات، فكيف بمعنى التوقيع عن رب الأرض والسماوات(1).
إذن فالمفتي والمتكلم في مسائل الدين موقع عن رب العالمين، ومخبر عما يعتقد أنه حكم الله ورسوله في مسألة معينة أو نازلة أو موضوع. وكيف يتسنى ذلك لغير العالم المتضلع من علوم القرآن والحديث والأصول واللغة؟
وقد ذكرت شروط الاجتهاد وأهميتها وضرورتها للمجتهد، والتي هي بمنزلة الآلة له، وبغيرها يستحيل عليه أن يتمكن من الاجتهاد والفتيا في أي مسألة.
وهل تحصيل اليسير من تلك العلوم يجزيء للاجتهاد، " حتى وإن قيل بتجزؤه، وكم من الجهد والسنين يحتاج طالب العلم حتى يحكم الحد الأدنى من علوم القرآن وتفسيره وناسخه ومنسوخه ومطلقه ومقيده وحقيقته ومجازه ومكيه ومدنيه " ….. الخ تلك المباحث، وقل مثلها في نصوص الحديث وعلوم اللغة والأصول ومواضع إجماع العلماء؟
وإذا كان حملة الشهادات العليا في الشريعة لا يجرؤ غالبهم على دعوى الاجتهاد، فكيف يجيز الترابي وغيره للعامي أن يتقحم هذه المهالك؟.وكم هي الآيات والأحاديث وآثار السلف التي نهت عن القول على الله بغير علم، وعن الجرأة على الفتيا، لا كما يدعو الترابي أن هذا الاجتهاد يحتاج إلى الجرأة في الرأي في وجه المتزمتين.
ألم يأمرنا الله بطاعة أولي الأمر منا وهم العلماء على أحد التفسيرين؟ فماذا تعني طاعة العلماء إذا كان الناس كلهم علماء.
__________
(1) إعلام الموقعين 1/10 طبعة دار الجيل بيروت.(2/120)
وما معنى قوله تعالى { وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ } (النساء-83) ما معناه إلا أن الناس درجات في العلم والفهم وهذا من أوضح الواضحات.
وكان ابن تيميه - رحمه الله - شديد الإنكار على الذين يتسرعون في الكلام والفتيا بغير علم، فسأله أحدهم يوما منكرا عليه فعله: أجُعلت محتسبا على الفتوى؟ فأجابه رحمه: يكون على الخبازين والطباخين محتسب ولا يكون على الفتوى محتسب؟(1).
وهل يقبل قضاة المحاكم النظامية أن يفسر ويشرح قانونهم الوضعي عابر طريق؟ فكيف بكلام رب العالمين؟
ولم يطالب أهل كل فن باحترام اختصاصهم والرجوع إليهم في دقائقه إلا الشرع، فيطالبون بفتحة على مصراعيه لكل من هب ودب، كما ينادي هويدي والترابي؟
بهذا يتبين تهافت دعوى محمد عبده والترابي وهويدي بأن الاجتهاد حق لكل مسلم حتى لو لم يكن أهلا له، وبأن الاجتهاد سهل المنال على جمهور المتدينين، وأن بابه مفتوح على مصراعيه وتنهار دعوة الترابي إلى الاجتهاد الحر.
أما قول الترابي بأن الإسلام ليس كنيسة تحتكر الفتوى فكلمة حق يراد بها باطل، فالفتوى من حق كل مسلم ملك أدواتها، وليست كلأ مباحا لكل عابر طريق، فالاجتهاد كما قال الشيخ محمد الغزالي "خاص بالعلماء وطبائع العوام لا تطيقه، بل ليس يقبل منها إذا هي عالجته"(2).
واستغربت بنت الشاطئ - وحق لها - كيف ساغ للدكتور عثمان أمين - ومثله كثر - أن يخلط بين التفسير ونزول القرآن للعالمين، فنزوله للعالمين لا يعني أن تفسيره مباح للعالمين.
__________
(1) المرجع السابق: 4/217.
(2) الشيخ محمد الغزالي: هذا ديننا ص205، وانظر بحثاً نافعاً للشيخ سلمان بن فهد العودة بعنوان : من يملك حق الأجتهاد.(2/121)
وتساءلت هل كان الاجتهاد مباحا أيام السلف لعامة الناس في تفسير القرآن والفتيا في أحكام الشريعة، ونقلت عن السيوطي قوله "كل لفظ احتمل معنيين فصاعدا فهو الذي لا يجوز لغير العلماء الاجتهاد فيه وعليهم اعتماد الشواهد والدلائل دون مجرد الرأي"(1).
ثالثاً: شروط الاجتهاد ليست تعجيزية
شروط الاجتهاد التي فصلناها في بحث "شروط المؤوِّل" ليست افتياتا على الله ولا شرعا لم يأذن به الله، كما يقول الشيخ محمد رشيد رضا. وليست تعجيزية ولا وضعها العلماء انفعالا منهم بالمنطق الأغريقي كما يقول الترابي بل هي شروط دلت عليها نصوص الكتاب والسنة وعمل السلف، وفيما فصلناه في موضعه، وما سقناه قبل قليل دليل كاف على ذلك(2).
ومن نفى الشروط اللازمة أجاز الاجتهاد للعامي، وقد تبين بطلان ذلك، ولو كانت تعجيزية لما وجدت هذه القوافل المباركة المتعاقبة من المجتهدين على تاريخ أمتنا المديد، صحيح أنها ليست سهلة المنال، ولكنها ليست مستحيلة، وإلا لجاز أن يخلو الزمان من قائم لله بالحجة على الخلق، وهذا من أبطل الباطل.
والترابي ينكر أن يكون في دنيا العلم شرائط منضبطة للاجتهاد، ويراها معايير مرنة تشيع بين الناس، أو ينظمها المجتمع، يُقيمون بها علماءهم، وهذا غير صحيح لما علمنا أن شروط الاجتهاد هي أحكام استنبطها العلماء من الكتاب والسنة تماما، كما استنبطوا شروط الإمام أو الخليفة، وكما استنبطوا شروط صحة الصلاة. سواء بسواء، فهي معايير منضبطة، وإن لم تكن حدية، والعلماء كانوا أهل دربة يعلمون من بلغ تلك المنزلة ممن لم يبلغها، وكم قالوا لتلاميذهم: زببت قبل أن تحصرم.
__________
(1) انظر: القرآن والتفسير العصري ص67-69.
(2) انظر: الاجتهاد والتجديد، للخواض العقاد ص69-71، د. صبحي الصالح : معالم الشريعة الإسلامية ص33.(2/122)
فليست هي أعرافا اجتماعية ينظمها المجتمع، فالأعراف تختلف من مجتمع لآخر، ومن زمان إلى آخر، ومن شخص إلى آخر، وما علمنا يوما أن لكل بلد شروطا للاجتهاد خاصة به(1).
وأخيرا فان القيود التي قيد بها الاجتهاد، أحاطته بهالة من الجلال، ولكنها لم تكن في ذاتها كافية للحكم بفقده أو استحالته "(2).
رابعاً: لا اجتهاد في مورد نص مفسر
كان هدف محمد عمارة كما بيناه - أن يقرر أن الاجتهاد جائز وقائم حتى في النص بمعناه الأصولي، أي الذي لا يحتمل إلا معنى واحدا، ولو كان قطعي الثبوت والدلالة، بحجة أنها من فروع المتغيرات الدنيوية، وأنها معللة بالمصالح والأعراف والمقاصد دوما.
وقد بينا عند كلامنا على النص في أقسام الألفاظ الواضحة، أن النص إذا كان مفسرا فانه لا يجوز الاجتهاد فيه، بل يجب الوقوف عنده، وعدم تجاوزه وإلغائه، لأنه يمثل بأوضح صورة إرادة المشرع جل وعلا، ولأنه في هذه الحالة يعبر عن مبادئ كلية ونظام عام.
ولذلك فلا صحة على الإطلاق لقول محمد عمارة أن النصوص القطعية قد تفيد أحكاما متغيرة.
وقد بينا باستفاضة أن من أركان التأويل أن لا يكون المعنى المستنبط بدليل التأويل مناقضا لنص قطعي الثبوت والدلالة، لأن التأويل طريق اجتهادي ظني، والظني لا يقوى على معارضة القطعي(3).
ومن هذا الذي يحق له أن يجعل النصوص مع " وقف التنفيذ؟ أليس في هذا جرأة بالغة على الله ورسوله؟ وتعطيل النص ووقفه هو نسخ، ولكنه مؤقت ومن يملك نسخ النصوص بعد انقضاء الوحي؟ وإذا كانت النصوص لا تنسخ حتى بالإجماع، كما بينا ذلك في موضعه، فكيف تنسخ باجتهاد، وغاية ما يفيده هو الظن ليس إلا.
__________
(1) انظر على سبيل المثال من يكثرون الاستشهاد بمقولة الطاهر بن عاشور في المقاصد العامة للشريعة الإسلامية ص141.
(2) معالم الشريعة الإسلامية ص37.
(3) انظر: المناهج الاصولية ص190.(2/123)
وكيف يترجح التأويل وأقصى ما يفيده الظن على النصوص القطعية والإجماع وهو حجة قطعية؟ وإذا كان من شرط دليل التأويل كما هو اتفاق الأصوليين أن يترجح على النص المؤول، فأي دليل يترجح على النصوص القطعية وعلى الإجماع؟.
…وعلى كل فسقوط الاجتهاد مع وجود النص " أمر متفق عليه ولا نزاع فيه بين العلماء"(1).
خامساً: الإجماع اتفاق المجتهدين ولا عبرة بموافقة العوام أو مخالفتهم
ذلك واضح من تعريف الإجماع والذي هو عند أكثرهم: اتفاق جميع مجتهدي أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - بعد وفاته على حكم شرعي عملي في عصر من العصور(2).
فالإجماع هو اتفاق المجتهدين ولا عبرة بموافقة أو مخالفة من سواهم.
قال الخطيب البغدادي:
"ويعتبر في صحة الإجماع اتفاق كل من كان من أهل الاجتهاد سواء كان مدرسا مشهورا أو خاملا مستورا "(3).
وأكد هذا المعنى الغزالي، وأفاض فيه فقال: "فما أجمع عليه الخواص - أي المجتهدون، فالعوام متفقون على أن الحق فيه ما أجمع عليه أهل الحل والعقد، لا يضمرون فيه خلافا أصلا، فهم موافقون أيضا فيه، ويحسن تسمية ذلك إجماع الأمة قاطبة، كما أن الجند إذا حكَّموا جماعة من أهل الرأي والتدبير في مصالحة أهل قلعة، فصالحوهم على شيء يقال: هذا باتفاق جميع الجند.
فإذن كل مجمع عليه من المجتهدين فهو مجمع عليه من جهة العوام، وبه يتم إجماع الأمة. وعدم اعتبار قول العامي بموافقة أو مخالفة، لأن العامي ليس أهلا لطلب الصواب - يعني في الأحكام التي يختص بدركها العلماء - إذ ليس له آلة هذا الشأن، فهو كالصبي والمجنون في نقصان الآلة، ولا يفهم من عصمة الأمة من الخطأ إلا عصمة من يتصور منه الإصابة والأهلية.
__________
(1) انظر: الخطيب البغدادي : الفقيه والمتفقه، 1/206.
(2) انظر: كشف الأسرار 3/226، والمستصفى بتحقيق محمد سليمان الأشقر 1/324.
(3) الخطيب البغدادي : الفقيه والمتفقه، 1/170.(2/124)
والسبب الثاني في عدم اعتبار قول العامي وهو الأقوى - أن العصر الأول من الصحابة قد أجمعوا على انه لا عبرة بالعوام في هذا الباب، ولأن العامي إذا قال قولا عُلم أنه يقول عن جهل، وأنه ليس يدري ما يقول، وأنه ليس أهلا للوفاق والخلاف فيه، ولا يتصور صدور هذا - اعتبار قول العامي في الإجماع - من عامي عاقل(1)، لأن العاقل يفوض ما لا يدري إلى من يدري فهذه صورة فرضت، ولا وقوع لها أصلا(2).
ويدل لهذا الأمر أيضا - والكلام لا يزال للغزالي - أن العامي يعصي بمخالفته العلماء، ويحرم عليه ذلك، وهو مأمور بوجوب اتباعهم، وقد علم أن الله رد الناس عند التنازع إلى أهل الاستنباط { لعلمه الذين يستنبطونه منهم } .
وكما انه لا يعتبر قول العامي فإنه لا يعتبر قول علماء الفنون الأخرى من غير الفقهاء والأصوليين كالنحويين والمتكلمين والمفسرين والمحدثين إن لم يكونوا يملكون آلية الاجتهاد في إدراك الأحكام.
ولا عبرة كذلك بقول المبتدع الذي بدعته مكفرة، فلا عبرة بوفاقه أو خلافه، وان كان يصلي إلى القبلة، ويعتقد نفسه مسلما، لأن الأمة ليست عبارة عن المصلين إلى القبلة بل عن المؤمنين، وهو كافر وإن كان لا يدري أنه كافر(3).
وهذه الأدلة الشرعية والعقلية التي ساقها العلماء، تجعل دعاوى الترابي وأبي زيد وشحرور، وكل من قال بأن الإجماع يعبر عنه حديثا بالاستفتاء الشعبي أو البرلمان التشريعي "الإسلامي" تجعلها هباء منثورا.
وتبطل دعوى الترابي الساذجة أن اشتراط المجتهدين في اعتبار الإجماع يقسم الناس إلى طبقات علماء وعوام، وكأن الله خلقهم سواء، ولم يجعلهم درجات في كل شيء في العلم والجسم والرزق، والآيات في ذلك وافرة لا تحصر.
__________
(1) وما علم الغزالي – رحمه الله – أنه سيقول بهذا القول مفكرون ودعاة بل وممن ينتسبون للعلم فلا حول ولا قوة إلا بالله.
(2) المستصفى بتحقيق محمد سليمان الأشقر، بتصرف يسير 1/342
(3) انظر: نفس المصدر 1/342-344.(2/125)
وأي عاقل - كما قال الغزالي - يجعل الإجماع هو رأي الأغلبية ممن ينتخبهم الناس في البرلمان؟ وهل هو تصويت على حكم شرعي وعلى "دين "؟ أم على تعبيد شارع وإقامة مستشفى؟ ومتى كانت الأحكام الشرعية تقرر بالتصويت؟ تصويت العلماء فضلا عن الغوغاء والدهماء؟ وهل ما اقترحه من تشريع للأحكام برأي الأغلبية البرلمانية، هل هو إلا تشريع لم يأذن به الله؟.
وقد فصل بعض المفكرين المعاصرين في رأي الأكثرية ومتى يجوز الأخذ به ومتى لا يجوز، "وخلاصة الأمر أن الدين الإسلامي بنصوصه ووقائعه لا يدل على احترام رأي الأكثرية إذا لم يكن متفقا مع الشرع"(1).
ولا ندري هل يستثنى الترابي وغيره غير المسلمين في برلمانه الإسلامي من التصويت على الأحكام الشرعية أم أن الإجماع هو "إجماع وطني" بغض النظر عن العقيدة والجنس والعرق؟ وهل يستثنى من التصويت الشيوعيين والعلمانيين أم لا؟ لا سيما وهو كما نعلم من أشد المتحمسين للتعددية السياسية؟.
وسؤال يطرح نفسه: ما سر هذا التوافق إلى حد التطابق بين رأي الصادق المهدي الذي يقترح هيئة تشريعية لسن القوانين، ورأي الترابي الداعي إلى إجماع الشورى { والذي فسره بالاستفتاء الشعبي أو البرلمان الإسلامي، ورأي محمد شحرور القاضي بأن الإجماع هو المجالس التشريعية المنتخبة ورأي المرتد نصر حامد أبي زيد القاضي بأن الإجماع هو رأي الأغلبية، وكلها كما ترى تعبر عن مضمون واحد وفحوى واحدة؟!
ما الذي أداهم جميعا إلى نفس النتيجة والتشابه في الهجوم على الفقه والفقهاء والتراث والأصول إن كانوا حقا ينتمون إلى مرجعيات متباينة ومنظومات ثقافية متباعدة؟
الحقيقة أني لا أجد تفسيرا لهذا إلا أنهم جميعا يصدرون عن مورد ثقافي واحد وهو الفكر الغربي ومنظومته الثقافية.
__________
(1) انظر: سميح عاطف الزين: الإسلام وأيديولوجية الإنسان ص86.(2/126)
وإني لأتساءل عن مراد الترابي بقوله عن الإجماع أنه غدا من بعد العصر الأول رصدا لنقول السلف إذا تواترت لا يجوز الخروج عليها؟ فهل معنى هذا ان الترابي يرى جواز الخروج عن النقل المتواتر لحكم شرعي؟ بعدما استهانوا بالأدلة الظنية؟
سادساً: الإجماع ممكن الوقوع وليس مستحيلا
ومن الشبه التي أوردت على الإجماع لنفي حجيته، القول باستحالته وعدم إمكانه بسبب عدم إمكانية الوقوف على آراء جميع العلماء في العصر الواحد.
وهذه شبهة قديمة تكلم عليها الأصوليون، إلا أن القدماء الذين قالوا باستحالة اتفاق الجميع، قالوا بحجية إجماع الكثرة أو الأغلبية، لا أغلبية العوام كما يقول محمد عبده وأشياعه من تلاميذه ولكن أغلبية العلماء المجتهدين.
فأصبح الإجماع هو اتفاق الكثرة من العلماء، أو عدم العلم بالمخالف، وهو ما ذهب إليه الشيخ شلتوت ود. صبحي الصالح من المعاصرين(1).
وتلقف هذه المقولة - الاستحالة - بعض المفكرين المعاصرين ليطوروها ويزيدوا عليها بأن الإجماع مستحيل أصلا وبالتالي نفي حجيته، والاستهانة به وعدم التحرج من التشكيك فيه والخروج عليه.
فهذا الدكتور محمد الدسوقي يتهم العلماء بتعقيد شروطه حتى جعلوه مستحيلا، وعلى منواله الصادق المهدي الذي شكك في حجية كل الأدلة ومنها الإجماع، ولم تسلم منه حتى السنة، ولم يتورع عن المطالبة بإعادة النظر في جملة من الأحكام " اتفق عليها العلماء "باعترافه، بحجة عدم ملائمتها لعصرنا - هكذا - ومثله الترابي الذي نفى حجيته ونفى وجوده أصلا على عهد السلف.
__________
(1) انظر: الشيخ محمود شلتوت: الاسلام عقيدة وشريعة ص566-567، ومعالم الشريعة الاسلامية ص21.(2/127)
وقد رد الغزالي على شبهة استحالة الإجماع، وقال بأن الإجماع ممكن التصور وممكن التحقق، ودليل تصوره وجوده، لأنا وجدنا الأمة مجتمعة على أمور كثيرة كوجوب الصلوات الخمس، وأن صوم رمضان واجب ". وكيف يمتنع تصوره والأمة كلهم متعبدون باتباع النصوص والأدلة القاطعة ومعرضون للعقاب بمخالفتها؟
ورد قول من قال باستحالة وقوع الإجماع بحجة كثرة الأمة وعدم اتفاق آرائها، بان الكثرة إنما تؤثر عند تعارض الأشباه والدواعي والصوارف، ومستند الإجماع في الأكثر نصوص متواترة، وأمور معلومة ضرورة بقرائن الأحوال، والعقلاء كلهم فيه على منهج واحد.
ويؤكد وقوعه أيضا أننا عرفنا أن مذهب جميع أصحاب الشافعي - على سبيل المثال- منع قتل المسلم بالذمي وبطلان النكاح بلا ولي، ومذهب النصارى التثليث، ومذهب المجوس التثنية(1).
ولو كان الإجماع مستحيلا لما وجد ابن المنذر ( 765) مسألة أجمع عليها العلماء وأفردها بكتاب خاص بها، وهو فقط في العبادات والمعاملات،وزاد عليها ابن حزم المسائل المجمع عليها في باب الاعتقادات فكان جميعها عنده ( 1067) مسألة مجمعا عليها في الدين.
وقد أوصلها أبو إسحاق الإسفراييني إلى عشرين ألف مسألة، وأوردت موسوعة الإجماع في الفقه الإسلامي الحديثة ( 9588 ) مسألة مجمعا عليها(2).
مما يدل على أن ابن المنذر لم يستوعب المسائل المجمع عليها، وكم يصادف القارئ لكتب الفقه مسائل مجمعا عليها.
__________
(1) المستصفى بتحقيق محمد سليمان الأشقر 1/326، ومن الملاحظ أن الغزالي لا يتكلم هنا عن إجماع الكثرة فذلك مسلم عنده، بل هو يدافع عن إمكان الإجماع من جميع المجتهدين.
(2) من مقدمة الدكتور فؤاد عبد المنعم أحمد في تحقيقه لكتاب الإجماع لابن المنذر حاشية ص16-18.(2/128)
وإذا أضفنا إلى ذلك ما قاله الجويني أن القطعيات ليست ما دلت عليها نصوص قطعية بعينها بل يعرف ذلك بالأدلة المتواردة على معنى معين وبقرائن الأحوال، وهو ما أكده الشاطبي – إذا عرفنا ذلك سلمت لنا مسائل وأصول لا تحصى من مهمات الدين، مما يجعل العبث به وتغييره غير متاح لأحد. وهذا سر خلود الإسلام.
يقول الشيخ محمد الغزالي: " هناك حقائق مسلمة في الشريعة لم يثر الخلاف في فهمها ولا في العمل بها طوال القرون التي خلت، ولا مكان للرأي في زيادتها أو نقصها، ومحاولة نقض هذه المسلمات أو الشغب عليها فتنة كبيرة وشر مستطير، وذلك معنى الإجماع وسر الشناعة في الخروج عليه"(1).
ويضيف:" ومن الخير بعد تجميد هذه الأشياء المجمع عليها، لفت الأنظار إلى طبيعة الاستقرار في أوضاعها حتى ينقطع هزل بعض الناس، فلا يحاولون الخوض فيها"(2).
والشيخ يوسف القرضاوي يرى أن هذه المواضع الإجماعية في فقهها هي التي تجسد الوحدة الفكرية والسلوكية للأمة، وتحفظها من عوامل التشتت والفرقة(3).
وهو ما أكده قبلهم صاحب كشف الأسرار إذ قال: من أنكر الإجماع - حجيته - فقد أبطل دينه، لأن مدار أصول الدين على الإجماع(4).
وإذا كانت بعض الاعتراضات على إجماع العلماء لها وجاهة عند البعض مثل صعوبة الوقوف على جميع آراء العلماء لتفرقهم. فان هذه الاعتراضات تبدو هشة ومردودة إذا كان الكلام يدور عن إجماع الصحابة.ومن المعلوم أن أصول الدين وأمهات مسائله ومهماته التي يحاول بعض المعاصرين الشغب عليها والتشكيك فيها، قد ثبتت كلها بإجماع الصحابة، وليس بإجماع العلماء فحسب.
وهذا يغلق في وجوههم تلك المحاولات إغلاقا محكما، وهنا أرى من اللازم بيان الأحكام المترتبة على ثبوت الإجماع.
__________
(1) هذا ديننا ص206.
(2) نفس المصدر ص208.
(3) د. يوسف القرضاوي: الاجتهاد في الشريعة الإسلامية ص36.
(4) كشف الأسرار 4/486.(2/129)
سابعاً: الأحكام المترتبة على ثبوت الإجماع(1)!
إذا صح الإجماع ترتبت عليه جملة من الأحكام، وهذا بيان أهمها:
أ ) وجوب اتباعه وحرمة مخالفته:
وهذا معنى كونه حجة، قال شيخ الإسلام ابن تيميه " وإذا ثبت إجماع الأمة على حكم من الأحكام لم يكن لأحد أن يخرج عن إجماعهم "(2)، ويترتب على هذا الحكم أنه لا يجوز للمجمعين مخالفة ما أجمعوا عليه، وأنه لا يجوز لمن بعدهم أن يخالفهم.
ب) إن هذا الإجماع حق وصواب، ولا يكون خطأ:
ويترتب على هذا الحكم أنه لا يمكن أن يقع إجماع على خلاف نص أبدا لأن مخالفة النص
ضلالة، والأمة لا تجتمع على ضلالة(3). وانه لا يمكن أن يقع إجماع خلاف إجماع سابق فمن ادعى ذلك فلا بد أن يكون أحد الإجماعيين باطلا لأن ذلك يستلزم تعارض دليلين قطعيين وهو ممتنع.
كما ويترتب على ثبوته حرمة الاجتهاد: فمتى ثبت الإجماع وجب اتباعه، لأنه لا بد أن يستند إلى نص ووجود النص وحده مسقط للاجتهاد، فإذا انضم إلى النص الإجماع سقط الاجتهاد من باب أولى.
ج) حكم منكر الحكم المجمع عليه:
__________
(1) انظر: الخضيري محمد بن عبد العزيز بن أحمد: الإجماع في التفسير، ص82-85.
(2) مجموع الفتاوى الكبرى 20/10.
(3) نفس المصدر : 19/267.(2/130)
إن كان الإجماع على أمر معلوم من الدين بالضرورة فان مخالفه يكفر بلا شك، قال المحلي "جاحد المجمع عليه المعلوم من الدين بالضرورة، كوجوب الصلاة والصوم وحرمة الزنا والخمر كافر قطعا لأن جحده يستلزم تكذيب النبي- صلى الله عليه وسلم - "(1)، وأما إن كان الإجماع على غير ذلك فقد أختلف العلماء في حكم جاحده أو خارقه؟ والصحيح أنه لا يكفر.قال شيخ الإسلام ابن تيميه: والتحقيق أن الإجماع المعلوم يكفر مخالفه كما يكفر مخالف النص بتركه..، وأما غير المعلوم فيمتنع تكفيره(2).وهو ما رجحه الخطيب البغدادي حيث جعل من رد إجماع العامة كافرا يستتاب وإلا قتل، أما إجماع الخاصة – ما يدركه العلماء فقط – فلا يكفر إلا بعد تعريفه(3).
وفَصّل الجويني بين من أنكر وجود الإجماع في مسألة، وبين من أقر بوجوده، ثم أنكره، فالأول لا يكفر،والثاني يكفر،لأن هذا التكذيب آيل إلى الشارع -عليه الصلاة السلام- ومن كذب الشارع كفر(4).وأما إن أنكر أصل الإجماع، أي أنكر كونه حجة فقد كفر، قال في كشف الأسرار: حكمه في الأصل - أي الإجماع - أن يثبت المراد به حكما شرعيا على سبيل اليقين، ومن أهل الهوى من لم يجعل الإجماع حجة قاطعة.. وهذا خلاف الكتاب والسنة والمعقول(5).
وقال في موضع آخر: … فصار الإجماع كآية من الكتاب أو حديث متواتر في وجوب العمل والعلم به، فيكفر جاحده في الأصل قال الشارح " أي يحكم بكفر من أنكر أصل الإجماع بان قال الإجماع ليس بحجة(6).
ثامناً: الإجماع على حكم شرعي حجة قطعية لا يؤول ولا ينسخ ولا يتغير
__________
(1) شرح المحلي على جمع الجوامع 2/238.
(2) مجموع الفتاوى الكبرى 19/270.
(3) الفقيه والمتفقه 1/172.
(4) البرهان في أصول الفقه 1/724.
(5) كشف الأسرار 3/464.
(6) نفس المصدر 3/479.(2/131)
أما عدم نسخه، فقد تكلمت عليه عند التأويل بدليل الإجماع، وأما أنه نفسه لا يؤول، فلأن غاية ما يفيده التأويل هو الظن الغالب أو الراجح، والإجماع بالاتفاق حجة قطعية، والظني لا يترجح على القطعي مطلقا. وأما أنه لا يتغير، فلما قدمنا أن القطعيات هي من النظام الشرعي العام، والتي تشكل أصول الدين، وما كان سبيله ذلك، فلا سبيل إلى تغييره.
وأما تحليل د. محمد عمارة لاجتهادات عمر وتفسيرها على أنها تجاوز وتغيير للحكم الشرعي، على الرغم من وجود النص القطعي والإجماع والسنة العملية والقولية، بحجة أن تلك النصوص والإجماع كان معللا بالمصلحة ومبنيا عليها، والحكم يدور مع العلة وجوداً وعدماً(1)، فهو قول ينقض أوله آخره.لأن أحدا من العلماء لا يجادل في أن النص حتى لو كان قطعيا - إذا كان معللا فان حكمه يتوقف على وجود تلك العلة، فقصر الصلاة مثلا حكم شرعي، ولكنه معلل ومبني على السفر، فان وجد السفر جاز القصر، وإن لم يوجد السفر، وجب إتمام الصلاة وحرم القصر، ولا يقال حينئذ أن الحكم الشرعي في القصر قد تغير أو تبدل.
والعلماء الذين يكثر محمد عمارة من السخرية والاستهزاء بهم و يسميهم بـ" عوام الفكر الإسلامي والحشوية و النصوصيين الحرفيين الجامدين السلفيين"(2) هؤلاء هم من بينوا هذه القاعدة – دوران الأحكام مع عللها- قبل أن يظن محمد عمارة وأمثاله أنهم ابتكروها، وأتوا بما لم تأت به الأوائل. وليس الجدل في تقرير هذه القاعدة، ولكن المشكلة كما أسلفنا في بحث المصالح والمقاصد(3) هي:
- كيف تدرك علل الأحكام ومقاصدها والمصالح التي اشتملت عليها؟
- هل تدرك بمجرد التوهم والدعوى؟ هل تدرك بالنظر العقلي الصرف والهوى الدفين؟
__________
(1) انظر: معالم المنهج الإسلامي ص103-113.
(2) انظر: معالم المنهج الإسلامي ص99،102، النص الإسلامي ص15.
(3) انظر: ص148 من هذا البحث.(2/132)
أم أن العلماء قد وضعوا للعلل والمقاصد والمصالح سبلا ومسالك بها تعرف، وعن طريقها تدرك، سدا لباب دعوى الأدعياء على النصوص الشرعية ومراد الله تبارك وتعالى.
ولو كان تقدير المصالح من الأمور النسبية المتروكة للعقل الإنساني كما يقول محمد عمارة وهويدي والترابي وأشياعهم - لعلَّل النصوصَ الشرعية من شاء بما شاء، وما دامت الأمور متروكة للعقل، فلا عقل يلزم عقلا آخر بتعليله.
والعقل - كما قال الشاطبي - لا يحسن ولا يقبح ولا يجاوز الشرع وليس هذا قولا بقول الظاهرية ولا هو إبطال للقياس(1).
ثم إننا نعلم أن قول القائل: أن هذا النص أو هذا الإجماع بني على مصلحة تغيرت أو عادة تبدلت أو عرف تطور، مبني على النظر العقلاني المجرد، والذي لا يفيد إلا ظنا.
فكيف يؤول به وتزال به دلالة النص الظاهر الراجح، فضلا عن النص القطعي والإجماع الذي هو حجة قطعية أيضا؟ وقول القائل أن هذا النص معلل بكذا، هو مجرد دعوى تحتاج إلى دليل يثبت هذه العلة.
وقد ذكرنا قول الشاطبي والرازي وغيرهم من العلماء في تأويل النص بدليل القياس الخاص، حين لم يجيزوا التأويل بالقياس إلا إذا كانت العلة منصوصة، أي جاء بها نص.
فإذن رجع الأمر إلى تأويل النصوص ببعضها وهو الصحيح. والذي أجاز قصر الصلاة في السفر هو كون العلة - السفر - قد جاء بها نص، ولو لم تكن منصوص عليها، لما جاز أن ترفع دلالة النصوص الموجبة لإتمام الصلاة، بعلة عقلية مظنونة(2).
__________
(1) الموافقات 1/88.
(2) انظر: دلالة الظاهر، والتأويل بدليل القياس الخاص من هذا البحث.(2/133)
ومما يدل على تصور محمد عمارة الفاسد لتعليل الأحكام وإدراك المقاصد فضلا عما سبق، أنه يرى أن عمر زاد في حد الخمر أربعين جلدة على الرغم من وجود السنة العملية بجلده أربعين وقيام الإجماع على عهده - صلى الله عليه وسلم - -كذا(1)- وعهد أبي بكر على ذلك.
لأنه اجتهاد جديد دعت إليه مصلحة مستجدة، ومن الممكن أن تدعو مصلحة مستجدة إلى العودة إلى الحكم السابق أو إلى حكم متميز عن كلا الحكمين (!!) فالمعيار هو المصلحة والمقصد والحكمة التي يدور معها الحكم وجودا وعدما(2).
لم يحدد محمد عمارة هنا، ولا في أي موضع من كتابه المذكور، ولا غيرُه ممن يكثر اللهج بالمصالح والمقاصد وحكمة التشريع، كيف تدرك المصلحة والحكمة والمقصد التي يتجاوز بها النص، أو يلغي، أو يجعل مع وقف التنفيذ مما يعني أنها تدرك عنده بالنظر العقلاني المجرد.
ويرى أن المصلحة المستجدة المقدرة بالعقل المجرد يمكن أن تلغي حدا من حدود الله تعالى، وتجعل حكمه مع وقف التنفيذ، بل وأن تأتي بحكم مغاير تماما لحكم الله تعالى.
فإذا كانت الحدود المقدرة شرعا في رأي عمارة هي من متغيرات الفروع الدنيوية، والتي يمكن الزيادة فيها والنقص منها بل وتغييرها كليا؟ فما بقاء أحكام الشريعة الأخرى بعد الحدود؟.
وقد ذكرنا فيما سبق قول الآمدي أن العلة إذا عادت على أصلها بالإبطال فهي باطلة(3) وقول الشاطبي أن كل قصد ناقض قصد الشارع، فهو باطل مردود(4)، وقصد الشارع ظاهر راجح في لفظه لا كما هو في ظن الناس، كما قال الجويني(5).
__________
(1) ومن المعلوم بداهة أن الإجماع لا يكون في عهده - صلى الله عليه وسلم - لعدم الحاجة إليه لوجود الوحي، وذلك واضح من تعريف الإجماع.
(2) انظر: معالم المنهج الإسلامي ص111-112.
(3) انظر ص 113 من هذا البحث.
(4) انظر ص155 من هذا البحث.
(5) انظر ص161 من هذا البحث.(2/134)
وقد بدرت من هويدي كلمة لا أظنها زلة قلم، وهي افتراضه أن النصوص قد لا تحقق المصلحة بأي حال؟ فما العمل؟
ثم يجيب مزورا على العلماء أن الثابت عند أغلبهم أن المصلحة تقدم على النص؟ وهذا فوق أنه تزوير لم يقل به أحد من العلماء إلا ما نسب إلى الطوفي، افتراض باطل من أساسه، إذ أنه
يجيز أن يكون كلام الله-تعالى- عبثا لا يحقق مصلحة بأي حال، وإذا فلم خاطبنا الله أساسا إذا كان تعالى سيكلنا إلى عقولنا نقدر بها المصالح والمقاصد والمفاسد؟
وإذا علمنا أن النصوص القطعية لا يجوز تأويلها وأن الإجماع لا يجوز تأويله أيضا لأنه حجة قطعية، بل وحتى النصوص الظنية لا يجوز تأويلها إلا بدليل أرجح منها علمنا أن كل استنتاجات محمد عمارة باطلة من أساسها، وقد تقدم أن المعنى المستنبط بدليل التأويل لا يجوز أن يعارض القطعيات بحال.
وإذا علمنا حقيقة الاحتجاج بالمصالح والمقاصد والحكمة وأن ذلك متوقف على طريق ثبوتها عن الشرع بنص صحيح معتبر، إذا علمنا ذلك أدركنا بطلان وتهافت مقولات المعاصرين التي تملأ الكتب والصحف والمجالات والفضائيات والقاضية بجعل المصالح والحكم والمقاصد المقدرة بل المخترعة عقلا حجة برأسها.
من مثل قول هويدي أن العمل بالنص تابع للمصلحة، وتغير الأحكام بتغير الأعراف والمصالح -هكذا باطلاق- واستدلاله المحرِّف لكلام ابن القيم: "أينما تكون المصلحة فثم شرع الله". وتزويره على العلماء أن أغلبهم يقول بتقديم المصلحة على النص أو أن المصلحة تؤجل النص كما يقول عمارة.
ونعلم بطلان آراء عمارة بتحكيم المصالح في النصوص وتأجيلها لها وجعلها مع وقف التنفيذ. ونعلم أيضا بطلان قول الصادق المهدي أن العرف والمصلحة مصدر أساسي للأحكام الشرعية.(2/135)
ونعلم بطلان قول الترابي بأن الإجماع ملزم ولكنه لا يرقى لدرجة الحاكمية والخلود كالنص وهو تلاعب غير مقبول بالألفاظ، لما علمنا أن الإجماع دليل شرعي معتبر دل على حجيته الكتاب والسنة، وأنه باق لا ينسخ ولا يؤول لا بالمصالح ولا غيرها.
وأنه صار كآية من كتاب أو حديث متواتر في وجوب العلم والعمل به كما قال صاحب كشف الأسرار، وعدم خلود الإجماع الذي قال به الترابي تعبير آخر عما صرح به محمد شحرور بأن الإجماع تاريخي، وأن الفقهاء أجمعوا على أمور تناسب زمانهم، وكأنهم لم يجمعوا على أحكام شرعية تشكل أصول ديننا، لا يلحقها تبديل ولا تغيير.
ونعلم أيضا بطلان قول نصر حامد أبي زيد بأن الفقهاء بنوا الفقه على مصالح الأمة، وهو يريد من هذا أن المصالح المتوهمة عنده، هي التي يجب أن توجه الفقه المعاصر.
تاسعاً: اجتهادات عمر قائمة على استدلال صحيح، وليست تعطيلا للنصوص باسم المصالح
أما احتجاجهم باجتهادات عمر رضي الله عنه، فقد تكلمت عليها بالتفصيل فيما سبق، وبيت هناك أنها كانت قائمة على أدلة شرعية صحيحة، ترجحت في قوتها على دلالة النصوص التي ظنها الكثيرون ومنهم محمد عمارة قطعية محكمة، وأجبت هناك بأن عمر لم يخالف نصاً قطعيا ولا إجماعا، وأن أفعاله منها ما أسنده بالإجماع، ومنها ما أسنده بنصوص أخرى، ومنها ما كان تعزيرا، ومنها ما كان تقييدا للمباح مما هو من حق الإمام، ومنها ما كان من باب الضرورات الشرعية التي دلت عليها نصوص صحيحة معتبرة من الكتاب والسنة(1).
عاشراً: القياس الحر تشريع من دون الله
وذلك، لأن الأحكام تدور مع عللها وجودا وعدما، فإذا أعطينا أنفسنا صلاحية تعليل الأحكام بالنظر العقلاني المجرد، فإننا نكون قد أعطينا أنفسنا حتما صلاحية إمضاء الأحكام أو جعلها مع وقف التنفيذ كما قال محمد عمارة.
__________
(1) راجع ص32 من هذا البحث.(2/136)
وهذه الاندفاعة الشديدة في تعليل النصوص والأحكام بالمصالح العقلانية الموهومة، هي التي تفسر الهجمة الشديدة على أصول الفقه عامة وعلى الإجماع والقياس بصفة خاصة.
وهذا واضح في دعوة الدكتور محمد الدسوقي في تطوير مفهوم القياس والتوسع فيه بما يقود إلى فقه المصالح العامة.
وواضح في دعوة الصادق المهدي إلى رفض مفهوم القياس والتشكيك فيه، بحجة استحالة معرفة العلة أو ظنيتها - اعتمادا منه على مذهب الظاهرية.
وكان د. حسن الترابي أشد صراحة وأشرس هجمة حين اتهم العلماء بأنهم عقدوه بالشروط المنطقية الإغريقية حتى صار القياس عقيما لا يولد فقها، وحين صرح بأن القياس التقليدي لا يستوعب حاجاتنا المعاصرة، و إنما يصلح في أحكام النكاح والشعائر فقط. وحين دعا إلى القياس العفوي والحر.
وإذا ألغينا أهم ركن في القياس وهو العلة، فكيف نميز القياس الصحيح من القياس الفاسد؟ وكيف نعدي حكما إلى حادثة أو نازلة بدون بيان العلة؟ وهل يتعدى الحكم إلى الحوادث إلا بعلة توجب ذلك؟ إن ما يفهم من " القياس الفطري الحر والعفوي " هو العبثية والتلقائية، فإذا ظننت بعقلك أن هذا الحكم أو هذه الحادثة تشبه تلك، فقس عليها بلا جهد ولا نصب ولا تفكير، وإلا فما دلالة الفطرية والعفوية؟
إن هذه الفطرية والعفوية – يمكن أن يقوم بها أي شخص، وأصدق ترجمة لهذا القياس الفطري الحر العفوي ما نسمعه ونشاهده من قياس الصلح مع اليهود على صلح الحديبية، وعلى صلح صلاح الدين للصليبين فيما عرف بصلح الرملة.(2/137)
وما نشهده من قياس ساذج للشورى على الديمقراطية، وطاعة حكام هذا الزمان على طاعة ولاة الأمر العدول، ومن مشاركة في الحكم في الأنظمة الكافرة غير الشرعية على تولي النبي يوسف عليه الصلاة والسلام أمر خزائن العزيز، ومن قياس للتعددية السياسية على حرية الاعتقاد التي منحها الإسلام لأهل الذمة دون المسلمين، وهلم جرا ….. وهذه ثمرة القياس المنفلت من الضوابط والشروط الصحيحة، فإنه يثمر تخبطا واضطرابا وتلفيقا وتوفيقا للأحكام مع شرائع الغرب وقيمهم ومفاهيمهم.
وإلا فما معنى هذا الإصرار على إعادة النظر في أحكام الجهاد والحريات والربا وشرعية الحكم وأهل الذمة دون غيرها!!؟
حادي عشر: التفريق بين الفقه و الشريعة
كثر الحديث عند أهل التأويل المعاصر على التفريق بين الفقه والشريعة فهم يقولون نسلم بالشريعة (نصوص القرآن والسنة) ونحترمها ونعتقد أنها ملزمة، وذلك منهم مداراة ونفاقا للمسلمين.
أما الفقه عندهم فهو اجتهادات فقهاء متأثرة بالظروف التي عاشوها، ومناسبة لبيئاتهم وزمانهم، فالفقه تراث تاريخي وليس من المنطق والعقل أن يكون حجة على زماننا ولا ملزما لنا.
نرى هذا واضحا فيما ذكرته من قول الصادق المهدي " أن نصوص الشريعة ثابتة أما الفقه فمتحرك ومتغير، وقوله أن اجتهادات الفقهاء متأثرة بالبيئة، وأن الفقه مناسب لزمانه فحسب، وأن الفقهاء هم الذين أضفوا عليه طابع القداسة، وان الفقه يجب احترامه وتجاوزه.
ونراه واضحا في تركيز الترابي على ضرورة التفريق بين الفقه والتراث التاريخي والذي هو: خلاف منقول الشريعة الأصل " وهو كسب ديني بشري … متطور مع الأزمان تبعا لاختلاف البيئات الثقافية والاجتماعية والمادية …فهو تاريخ … ومحاولات اجتهادية …. وهي للاستئناس فقط..… يأخذ منها ويترك، ولا تمثل حجة لملتزم.(2/138)
وبين ما هو شرعي ينتسب إلى سنة الله ورسوله والمؤمنين لعهد تنزيل القرآن فهو نموذج قياس لازم، لأنه وحي معصوم(1).
كما نلاحظ هذا جليا في إلحاح د. محمد عمارة على مفهومه في بقاء النص قائما نتلوه ونتعبد به مع تغير حكمه حسب المصالح.
وفي موضع آخر كان أكثر صراحة حين قال أن الفقه الإسلامي هو من عمل الفقهاء صنعوه كما صنع فقهاء الرومان وقضاتهم القانون الروماني، فهم بشر يمارسون سن القوانين بالاجتهاد والحكم بموجبها والقيام على تنفيذها مع ادعائهم أنهم وكلاء عن الله في السلطة والحكم(2).
وتكلم بوضوح أكثر فهمي هويدي، حيث اعتبر أن الشريعة ما هي إلا كليات ومبادئ عامة، وما سوى ذلك، فهو فرعيات واجتهادات فقهاء تاريخية، متغيرة وغير ملزمة. قال ذلك لتسويغ إلغاء أحكام أهل الذمة وتقرير مفهوم المواطنة، وسنرى عند بحث مفهوم المواطنة من يتفقون مع هذا الرأي ومنهم راشد الغنوشي وطه جابر العلواني.
وهذه الدعوى " تاريخية الفقه " يتفقون فيها مع محمد شحرور الذي قال بتاريخية الإجماع، وأن الفقهاء إنما اجمعوا على أمور تناسب زمانهم، وان التشريع متطور أبدا.
ويتفقون في هذا مع أشهر حاملي لواء هذه الدعوة، وهم محمد أركون ومحمد عابد الجابري وعبد الهادي عبد الرحمن ومحمد سعيد العشماوي والدكتور نصر حامد أبو زيد وجارودي ومحمد إقبال وغيرهم.
أما أركون فقد صرح بذلك فيما ذكرته عنه في مفهومه للقرآن واعتباره له نصا تاريخيا وتراثيا وإدخاله إياه تحت مسمى الفكر، ويدل عليه كتابه " تاريخية الفكر العربي".
وأما الدكتور نصر حامد أبو زيد فاعتبر النص منتجا ثقافيا صاغته وشكلته الثقافة البشرية والعقل العربي.
__________
(1) انظر: الترابي : تجديد الفكر الإسلامي 137، 136، 108.
(2) د. محمد عمارة: الإسلام والسلطة الدينية 39-79، عن العصريون معتزلة اليوم 10.(2/139)
وأما الجابري فقد مثّل لتاريخية الأحكام الفقهية بآية الميراث التي أعطت الذكر مثل حظ الانثيين فيرى أن ذلك راجع إلى العقلية العربية التي كانت سائدة آنذاك، والتي ترفض المساواة الكاملة، فجاء القرآن بحل وسط " وهو إعطاؤها نصف الذكر".
وأما الآن فيجب إعطاؤها مثل الذكر تطبيقا للمساواة التامة، لأن العقل المعاصر يستوعب هذه المساواة(1).ومثَّل له أيضا بمدة العدة للمتوفى عنها زوجها، والتي جعلها القرآن أربعة أشهر وعشرة أيام، فيرى أن هذا التحديد بهذه المدة راجع إلى عدم وجود وسيلة أخرى للتأكد من براءة الرحم في ذلك الزمان، وما دمنا الآن نستطيع ذلك في فترة مبكرة جدا فيجب أن تتغير مدة العدة(2).
وأكد هذه التاريخية عبد الهادي عبد الرحمن حيث قال " إن الاجتهاد بمفهومه الديني لا بد أن يكون توظيفا للنص الديني أو توظيفا للموقف الديني لمقتضيات ودواعي اللحظة التاريخية"(3).
وضرب مثلا لهذه التاريخية بتعدد الزوجات، حيث ذهب إلى أن إباحة الإسلام للتعدد راجعة إلى عادة سبي النساء في الغزو، والصراعات القبلية مما يحتم ذلك التعدد، وهذا سبب لم يعد موجودا الآن(3).
وأما الدكتور محمد سعيد عشماوي، فذهب إلى وقتية أحكام القرآن الكريم لأنها جاءت ملبية لحوادث تاريخية محددة " أسباب النزول "ولذلك يرفض القاعدة الأصولية" العبرة بعموم اللفظ لا
بخصوص السبب " ليؤسس على هذا الزعم دعواه في تاريخية أحكام وتشريعات القرآن فيقول:"... فأحكام التشريع في القرآن ليست مطلقة، ولم تكن مجرد تشريع مطلق فكل آية تتعلق بحادثة بذاتها، فهي مخصَّصة بسبب التنزيل، وليست مطلقة
__________
(1) محمد عابد الجابري: التراث والحداثة – دراسات ومناقشات ص54.
(2) عبد الهادي عبد الرحمن: سلطة النص – قراءات في توظيف النص الديني ص232.
(3) نفس المصدر 237، 238.
(3) نفس المصدر 238.(2/140)
وكل آيات القرآن نزلت على الأسباب -أي لأسباب تقتضيها- سواء تضمنت حكما شرعيا أم قاعدة أصولية أم نظما أخلاقية، إنها أحكام مؤقتة تنطبق في وقت محدد وفي مكان بعينه، وبوفاة الرسول - صلى الله عليه وسلم - انتهى التنزيل وانعدم الوحي ووقف الحديث الصحيح وسكتت بذلك السلطة التشريعية الإلهية. فاكتمال الوحي والتشريع عنده " انعدام "(1).
أما جارودي فيرى - تبعاً لمحمد إقبال - تاريخية كل أحكام الشريعة ويضرب مثلا بأحكام الحدود والقصاص فيرى أنها جاءت خاصة بشعب وهم العرب، حيث كانت عادة الثأر تشكل قاعدة اجتماعية، فجاء القرآن ملائما لهذه العادة.
"وبما أن تطبيق هذه الأحكام ليس هدفا بحد ذاته، فلا يمكننا فرضها بحذافيرها على الأجيال القادمة"(2).
كما وتبين هذا الإلحاح الشديد على التفريق بين الفقه والشريعة في طروحات الحركات النسائية في العالم العربي عامة، وفي فلسطين خاصة، كسبيل للتخلص من الأحكام الشرعية في مجال الأحوال الشخصية.
حيث ترى د. فريدة بناني - وهي مغربية أستاذة في القانون في جامعة مراكش جاءت في دورة تدريبية بدعوة من الحركة النسائية الفلسطينية - أن القراءة المعاصرة للفقه الإسلامي يجب أن تفرق بين النص القرآني بصفته مقدسا وثابتا وبين ما يتعرض له النص من شرح وتفسير، فيتحول المفهوم منه مباشرة ورأسا إلى فعل إنساني بشري متحرك ونسبي ومتغير، فيفقد صفة الإلزام بل يستأنس به فحسب. فالفقه هو نتاج بشري وضعي نسبي ومتغير(3).
__________
(1) معالم الإسلام ص64،165، ط القاهرة 1989م، والخلافة الإسلامية ص149، ط القاهرة 1990م، والإسلام السياسي ص43،44،131،132، ط القاهرة 1989م، وجوهر الإسلام ص148، ط القاهرة 1992م، نقلاً عن النص الإسلامي، محمد عمارة ص17-19، بتصرف.
(2) انظر: الإسلام الحي 51، 56.
(3) راجع: صحيفة الحياة الجديدة التي تصدر في رام الله - عدد 1801 - تاريخ 23/8/2000 ص8.(2/141)
وحتى الشيوعيون لهم رأي واجتهاد في الشريعة، فهذا خليل عبد الكريم وبعد أن صنف عدة كتب في الطعن في الرسول - صلى الله عليه وسلم - وصحابته يضيف كتابا آخر يسميه الجذور التاريخية للشريعة الإسلامية "(1) ذهب فيه إلى تاريخية النصوص والأحكام كلها بدون استثناء.
وهكذا نرى هذا التوافق والتطابق الغريب بين دعاة التأويل وان اختلفت مدارسهم ومشاربهم وتوجهاتهم، توافقا على إقصاء ونفي وتحريف ما لا يتوافق مع مفاهيم الغرب وحضارة الغرب، توافقا على نفي ما لا يحبون وما لا يشتهون، ولا يعوزهم في ذلك توظيف كل المعارف البشرية من علم التاريخ والاجتماع واللغة وعلم الأديان المقارن لإسناد هواهم وإخراجه بثوب علمي خادع وبراق.
وقد يظن القارئ لأول وهلة فرقا شاسعا بين من يقول بتاريخية النص ذاته، وبين من يقول بتاريخية أحكامه، فيحسب أن هذا الأخير يؤمن بإلهية النص وقدسيته ولكن يقول بتاريخية أحكامه فقط، بعكس الأول الذي يرى النص ذاته نصا تاريخيا مثل أركون وأبي زيد وعلي حرب.
والتحقيق أن النتيجة التي يؤدي إليها كلا القولين واحدة، وهي أنه لا مجال للانقياد لتشريعات القرآن والسنة، لأنها تراث تاريخي ليس أكثر.
وقد حمل الدكتور محمد عمارة على هؤلاء في مقدمة كتابه (النص الإسلامي ) وفي ذات الوقت يقع فيما وقعوا فيه من حيث يدري أو لا يدري.
وذلك حين جعل من صلاحية البشر تعليل الأحكام بالمصالح المجردة، مما يجعل الحكم مع وقف التنفيذ إلى إشعار آخر.
ونأتي الآن الى الرد على هذه الفرية المستحدثة:
- الفقه من الشريعة وليس تراثا تاريخيا:
أما أن النص بذاته تاريخي، فقد أجبنا عليه عند كلامنا على تأويل مفهوم القرآن، وأما أن الأحكام الفقهية تاريخية فذلك يحتاج الى بيان العلاقة بين الفقه والشريعة.
__________
(1) طبع دار سينا للنشر، بدون ذكر مكان النشر، وبدون ذكر سنة النشر كذلك.(2/142)
فالشريعة في الاصطلاح الشرعي هي " ما شرع الله لعباده من الدين، أي من الأحكام المختلفة " (1).
وسميت هذه الأحكام شريعة لاستقامتها، لأن الشريعة في اللغة، الطريقة المستقيمة(2).
والشريعة " نصوص الوحيين القرآن والسنة" من عند الله، ولذلك فهي تتصف بالعموم والبقاء والشمول وهذا لا جدال فيه، قال الآمدي " الأمر لا اختصاص له بزمان دون زمان، فليس حمله على بعض أولى من بعض فوجب التعميم "(3).
وأما الفقه فهو يطلق على جميع الأحكام الشرعية العملية الثابتة لأفعال المكلفين، سواء أكانت تلك الأحكام معروفة من الدين بالضرورة، ولا تحتاج إلى نظر واجتهاد كوجوب الصلاة وحرمة الزنا، أم كانت تلك الأحكام مستفادة عن طريق النظر والاجتهاد في الأدلة، أم كانت تلك الأحكام مستفادة عن طريق التقليد للفقهاء(4).
والفقه - وهو معرفة الأحكام الشرعية العملية، يعتمد على نصوص الشريعة أي على القرآن والسنة النبوية، كما يعتمد على المصادر التي شهدت لها الشريعة بالصحة والاعتبار كالإجماع والقياس.
والشريعة - وهي الأحكام المنزلة من الله تعالى على نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - في القرآن والسنة تقوم على الوحي الإلهي، فهي تشريع إلهي لا مجال فيه لرأي الإنسان، وتحرم مخالفته.
أما الفقه الإسلامي فليس كله كذلك، وبيان هذا أن الأحكام الفقهية نوعان:
- النوع الأول:
ما يضعف فيه جانب الرأي والاجتهاد أو ينعدم، كمعرفة الأحكام المعروفة من الدين بالضرورة، والتي لا يجهلها أحد كوجوب الصلاة وحرمة الزنا وحرمة نكاح الأمهات وكل ما يستفاد من النص رأسا بلا أي كلفة أو بحث أو اجتهاد لظهوره ووضوحه، فهذه الأحكام الفقهية هي جزء من الشريعة الإسلامية أي تعتبر تشريعا إلهيا، ومن ثم لا تجوز مخالفته.
__________
(1) الجامع لأحكام القرآن 16/163.
(2) نفس المصدر 16/10.
(3) الإحكام للآمدي 2/400.
(4) د. عبد الكريم زيدان: المدخل لدراسة الشريعة الإسلامية ص64-65.(2/143)
- النوع الثاني:
وهو ما يغلب عليه جانب الرأي والاجتهاد، وهذا النوع من الأحكام لا يعتبر جزءا من الشريعة الإسلامية بمعناها الاصطلاحي ( المراد بها هنا نصوص الوحيين ) ، أي لا يعتبر من قبيل التشريع الإلهي الذي لا تجوز مخالفته، بل تسوغ هذه المخالفة ما دامت مستندة إلى دليل أقوى من دليل الرأي الفقهي المتروك، لأن المخالفة المجردة من ذلك تعتبر من قبيل اتباع الهوى فلا يجوز أن يكون مستندا للأحكام، وهذا النوع من الأحكام أكثر من النوع الأول لكثرة الوقائع
وتجددها، ومع هذا فإن الفقه الإسلامي بمجموعة يبقى مصبوغا بالصبغة الدينية لأنه قائم على الشريعة الإسلامية(1).
وهكذا نرى أن الفقه منه أحكام معلومة من الدين بالضرورة تشكل أساس الدين وأصوله لا يسع مسلما مخالفتها، أو القول بتاريخيتها لأن ذلك يشكل إلغاء ونسخا وإبطالا للدين.
وهذه الأحكام كما أكدنا ذلك مرارا هي ما ثبت بدليل قطعي، أو بالإجماع، أو بالتواتر المعنوي، وهي ليست بالقليلة، وهي منتشرة في كل أبواب الفقه، وقد ذكرنا أن بعضهم أوصلها إلى ما يزيد على تسعة آلاف مسألة.
فأحكام أهل الذمة ومنها وجوب الجزية على الأخص ليست أحكاما تاريخية بطل زمانها كما يقول هويدي والغنوشي وطه جابر العلواني وغيرهم.
وحد الردة، ومدة العدة، وإباحة تعدد الزوجات، وحكم الميراث، ووجوب الجهاد في أحوال معلومة، وحرمة الربا أبدا. وكذلك ولاية المرأة الولاية العامة، وأن الطلاق حق خاص بالرجل، وأنه لا يشترط وقوعه أمام القاضي، وأن المرأة لا تناصف زوجها ماله عند الطلاق، كل هذه ليست تراثا تاريخيا وأحكاما فقهية مضى زمانها وانقضى، بل هي أحكام معلومة من الدين بالضرورة.
وليست هي أحكاما اجتهادية بشرية غير ملزمة كما تقول بذلك الحركات النسائية ودعاة التأويل.
__________
(1) المرجع السابق: 65-66 بتصرف يسير.(2/144)
أما ما سوى ذلك من الأحكام الاجتهادية فمنها ما هو ظاهر راجح فلا يجوز مخالفته أيضا وإن لم يكن قطعيا إلا إذا توفر لدى المجتهد - وليس المتشربين بثقافة غربية بحتة - دليل يرجح حكما آخر، فهذا لا بأس به وهو حقيقة التأويل الصحيح.
وبهذا يتبين لنا أن الفقه ليس كله متحركا كما يقولون، وأن منه ما هو مقدس بذاته، وليس لأن الفقهاء أضفوا عليه طابع القداسة، وان الفقه يجب احترامه كله، ولا يجوز تجاوزه مطلقا، إلا ما كان ظنيا غير قطعي فيجوز بدليل أقوى.
وإنني لأعجب أيضا في هذا التوافق الغريب في إطلاق العبارات ذاتها " إضفاء طابع القداسة - النص ثابت والفقه متحرك - بيئية الأحكام وتاريخيتها " فقد سبق إطلاق هذه العبارات من قبل على لسان محمد أركون وعلي حرب ونصر حامد أبي زيد والآن نجدها على لسان من يحملون شارة المفكر والقيادي الإسلامي الكبير كالترابي والغنوشي وهويدي والعلواني والمهدي وغيرهم.
وملاحظة أخرى تلفت الانتباه وتثير العجب في ذات الوقت، وهي ترك هؤلاء لأدلة قطعية من الكتاب والسنة وترك الإجماع ورأي جمهور العلماء، والتنقيب عن كل قول شاذ أو مذهب ضال بائد.
سبق ذلك في تعويلهم على رأي الشيعة في استحالة الإجماع، واستناد الجابري إلى رأي إخوان الصفا في مسألة الميراث. وسنراه في تعويل الشيخ يوسف القرضاوي على رأي غير صحيح لإبراهيم النخعي في نفي حد الردة.
وسنراه في استناد الغنوشي إلى رأي الشيعة والإباضية في تجويزهم صرف الزكاة إلى اليهود والنصارى من أهل الذمة.
المبحث الخامس
التأويل في النظام الاجتماعي الإسلامي
المطلب الأول: التأويل في مفهوم حرية الاعتقاد وحرية الرأي والفكر
تعريف حرية الاعتقاد والرأي:
مدلول " حرية الرأي " يشمل عنصرين مهمين في رأي د.عبد المجيد النجار وهما:(2/145)
- حرية الإنسان في طرق النظر العقلاني وأساليبه، دون أن تفرض عليه من الآخرين معطيات وأدوات من شأنها أن تؤدي إلى الخطأ، أو يلزم بسلوك طرائق معينة من شانها أن توصله إلى نتيجة مبتغاة سلفا، حقا كانت أم باطلا، فإذا كان شيء من ذلك فإنه يعتبر وجها من وجوه السلب لحرية الرأي، لما فيه من توجيه مسبق من الآخرين إلى رأي معين قد لا يصل الناظر إليه لو ترك حرا في النظر، بل قد يصل إلى ضده، هذا العنصر الأول لمدلول " حرية الرأي ".
- حرية الإنسان في الإعلان عن الرأي الذي توصل إليه بالنظر والبحث، وإشاعته بين الناس والمنافحة عنه والإقناع به، ولعل هذا هو الوجه الأهم في حرية الرأي وهو المعني أكثر من غيره في الاستعمال الشائع.. أن يكون طريقه سالكا بانعدام كل المعيقات التي تعيق التعبير عنه من قبل صاحبه، أو صيرورته إلى الآخرين، أو وسائل دعمه والإقناع به، وان وقع شيء من ذلك فهو يعتبر تقييدا لحرية الرأي(1).
هذا هو معنى حرية العقيدة وحرية الرأي حين تطلق وتستعمل على ألسنة المتحدثين والكاتبين في واقعنا المعاصر. وهو بالضبط المفهوم الغربي لهذا الاصطلاح الشائع: أن يعيش الناس أحرارا في عقائدهم، يفكرون كما يحلو لهم ويعتقدون ما توحيه إليهم شهواتهم وأهواؤهم، بدون عائق من أحد، وسواء عبد هذا الفرد إلها أو أنكر وجوده أو عبد غيره فالأمر سيان لديهم(2).
وأن يعيشوا أحرارا في آرائهم يعبرون عما يعتقدون سواء كان حقا أو باطلا، يدعون إليه وينافحون عنه ويقنعون به الناس، وينشئون على أساسه الأحزاب، وينشئون الصحف الداعية إليه، ويستقطبون الناس حوله وعليه.
__________
(1) دور حرية الرأي في الوحدة الفكرية بين المسلمين ص43-44.
(2) انظر: الإسلام وأيديولوجية الإنسان ص12-13.(2/146)
وتكلم على تعريفها كل من الطاهر بن عاشور ود. عبد الكريم زيدان ود. أحمد رشاد طاحون وان لم يكن بهذا التفصيل(1).
أين وجه الإشكال؟
لا شك أن الإسلام قرر حرية العقيدة لغير المسلمين بقوله تعالى { لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ } ( البقرة/ 256) فلا يكرهون على الدخول في الإسلام، إلا مشركي جزيرة العرب جعلهم أمام خيارين: الإسلام أو السيف { تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ } ( الفتح-16).
كما أوجب الإسلام على المسلم قول الحق، وأن لا يخاف في الله لومة لائم، وأن يأمر بالمعروف وأن ينهى عن المنكر، ويديم النصيحة لأئمة المسلمين وعامتهم، لا يدخر وسعا في ذلك.
بهذا يتبين أن "حرية الرأي" مكفولة في الإسلام بل واجبة في أحيان كثيرة، إذا فأين وجه الإشكال؟.
وجه الإشكال الأول:
في أن " حرية الرأي " في مفهومها الغربي كما يتضح من التعريف، تجعل المسلم في حلَّ من الالتزام بالمسلّمات الدينية، والأحكام الشرعية التي تثبت بطريق شرعي صحيح. وتجعله حرا في أن يعتنق ما يشاء من الأحكام والأديان والمذاهب، حتى لو كانت مناقضة لما هو معلوم من دين الإسلام بالضرورة.
والإشكال الآخر:
أنها لا تكتفي بإعطاء المسلم الحرية في اعتناق ما يشاء، بل تعطيه الحق في أن يعلن هذه العقيدة بين المسلمين وأن يشيعها بينهم بأي وسيلة يرتأيها: بالتلفاز، بالصحف، بالمجلات، بل يدعو إليها المسلمين ويؤسس عليها أحزابا ويستقطب عليها من أبناء المسلمين، وسواء كان هذا الداعي من غير المسلمين أساسا أو كان مسلما ثم ارتد عن الإسلام.
__________
(1) انظر في ذلك: المقاصد العامة في الشريعة الإسلامية ص133-134، د. عبد الكريم زيدان: المفصل في أحكام المرأة والبيت المسلم في الشريعة الإسلامية ص224 وما بعدها، د. أحمد رشاد طاحون: حرية العقيدة في الشريعة الإسلامية ص92-93.(2/147)
أي باختصار شديد: تجيز الردة، واعتناق أفكار الكفر والدعوة إليها، وتنظيم أحزاب للدعوة إليها ( دعوة المسلمين إلى الكفر).
ولهذا نرى كل الذين تكلموا عن حرية العقيدة والرأي، وأرادوا أن يؤصلوا لها شرعا، وجدوا أنفسهم أمام تحريم الإسلام القاطع للردة بجميع أشكالها الاعتقادية والقولية والعملية، وتجريمه لكل دعوة تخالف أحكام الشرع الحنيف.
ولذلك لم يكن أمامهم بد من أن يسوموا النصوص المتعلقة بحد الردة عسف تأويلهم الفج والساذج، والذي يتنافى كما سنرى مع أبجديات النزاهة والمنهجية العلمية الصحيحة، التي طالما دعوا إليها وتغنوا بها، فضلا عن منافاته للمعلوم من الدين بالضرورة الذي يدركه تلاميذ المدارس بل عجائز البوادي لعمر الله.
ومن هؤلاء القائلين بحرية العقيدة والرأي بمفهومها الغربي السابق:
1. راشد الغنوشي رئيس حركة النهضة الإسلامية التونسي:
ويعد من أكثر المتحمسين لها، وأكثر المنظرين لها بين أوساط "الإسلاميين". حيث عدّ حرية الاعتقاد أسبق الحريات العامة، لأنها بمنزلة القاعدة والأساس، وهي أول حقوق الإنسان ويقرر حرية التعبير مطلقا لكل فرد في الدولة الإسلامية مسلما أو غير مسلم، بمن فيهم أهل الإلحاد، وتشمل هذه الحرية الدفاع عن عقيدتهم أو الدعوة إليها أو التبشير بها، والاستقطاب إليها أو نقدا لغيرها ولو كان الإسلام ذاته. لأنه إذا كان من حق بل من واجب المسلم أن يعرض دعوته على مواطنه غير المسلم، فإن لهذا الأخير الحق نفسه.
كما يقرر أن لكل فرد -مطلقا- أن يختار عقيدته بعيدا عن كل إكراه، و أن كتب التفسير والفقه تكاد تجمع على أن آية { لا إكراه في الدين } تمثل قاعدة من قواعد الإسلام وركنا من أركان سماحته.(2/148)
وأنه بلغ من تأكيد الإسلاميين المعاصرين على أن الحرية هي الأصل والأساس للاعتقاد، إلى حد الذهاب بأنها نسخت كل آيات القتال من اجل عدم إكراه أحد على الدخول في الإسلام(1).
ويستدل لتلك الحرية بمناظرات إبراهيم عليه السلام لأبيه وقومه، وأنه سمح لهم بالتعبير عن آرائهم، ويستدل بمناظرات العلماء للزنادقة في بلاطات الملوك وفي المساجد(2).
وهو يقر ويرجح جواز تشكيل أحزاب غير إسلامية في الدولة الإسلامية، حتى ولو كانت غير دينية -وثنية أو الحادية أو شيوعية أو علمانية- وان لها الحق في أن تطرح آراءها، وأن تدافع
عنها، وان تدعوا إليها كل أفراد المجتمع حتى المسلمين منهم، ولو جر ذلك إلى ردة بعضهم عن الإسلام(3).
وبخصوص جريمة الردة فانه يرى أنها جريمة لا علاقة لها بحرية العقيدة التي أقرها الإسلام، وأنها مسألة سياسية قصد بها حياطة المسلمين وحياطة تنظيمات الدولة الإسلامية من نيل أعدائها، وأن ما صدر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في شأن الردة إنما هو باعتبار ولايته السياسية على المسلمين(2). وبذلك تكون عقوبة المرتد تعزيرا لا حدا، وان قتال أبي بكر للمرتدين إنما كان بسبب خروجهم المسلح ضد الدولة، وليس لارتدادهم عن الدين.
وأنه لو كان خروجهم عن الدين هو الذي استوجب قتالهم لم يتردد الصحابة في ذلك من أول الأمر، وان الرسول - صلى الله عليه وسلم - قبل شفاعة عثمان بن عفان -رضي الله عنه- في عبد الله بن أبي السرح الذي جاء النبي - صلى الله عليه وسلم - مسلما بعد أن ارتد، وأنه لو كان حد الردة حدا مقدرا لما سقط بالشفاعة لأن الحدود لا تقبل فيها الشفاعة(4).
__________
(1) انظر: راشد الغنوشي: الحريات العامة في الدولة الإسلامية ص44-47.
(2) نفس المصدر ص47.
(3) نفس المصدر 293
(4) وهذا كما هو واضح توظيف سيء للتقسيم الباطل للسنة إلى سنة تشريعية وغير تشريعية كما وضحناه.
(3) نفس المصدر ص49-50.(2/149)
ويأتي بنقول للشيخ أبي الأعلى المودودي وللأستاذ سيد قطب موهما لقارئ أنهما يقولان بحرية الاعتقاد والرأي، مع أن كلامهما إنما يدور عن حرية غير المسلم في عقيدته، وأنه لا يكره على الإسلام(1). وفي إنكاره لحد الردة يزوِّر على الإمام السرخسي وابن القيم ومحمد أبي زهرة في أن عقوبة الردة تعزيرية وليست حدية.
وذكر عددا من المفكرين المعاصرين الذين هم على هذا المذهب وعد منهم: محمد عبده وعبد المتعال الصعيدي وعبد الوهاب خلاف وعبد العزيز جاويش. ومن رجال القانون الدستوري فتحي عثمان وعبد الحميد متولي وعبد الحكيم حسن العيلي وحسن الترابي ومحمد سليم غزوري(2).
2. محمد سليم العوا:
حيث ذهب إلى أن عقوبة الردة تعزيرية مفوضة إلى السلطة تفعل ما تراه مناسبا حتى لو وصل الأمر إلى الإعدام، مستندا إلى مذهب إبراهيم النخعي وسفيان الثوري القائل - حسب زعمه- باستتابة المرتد وعدم قتله(3).
3. د. عبد المجيد النجار:
وقد أفرد حرية الرأي بالكتاب الذي ذكرته، وحاول فيه عبثا أن يؤصل لحرية الرأي باستدلالات واهية. وأن يثبت أن حرية الرأي تكفل وحدة الفكر ووحدة الأمة.
فهو يرى أن التعاليم الإسلامية جاءت لتشرع لحرية الرأي، وتجعلها أمرا واجبا شرعا لا مجرد حق فحسب، وانه لكثرة ما جاء فيها من طلب مشدد! فيمكن اعتبار أنها " ترتقي في سلم المقاصد الشرعية إلى درجة الضرورة، فهي مقصد ضروري من مقاصد الشريعة!"
واستدل لذلك بأدلة منها:
- قوله تعالى { أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (*) عَبْدًا إِذَا صَلَّى (*) أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى (*) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى }
(العلق9-12). ففيه توبيخ على من عطل حرية الاعتقاد والعبادة والهداية بالمعتقد الجديد.
__________
(1) نفس المصدر ص44-45،48.
(2) نفس المصدر ص49-50.
(3) انظر: د. محمد سليم العوا: في أصول النظام الجنائي في الإسلام ص151-166، عن "العصريون معتزلة اليوم" ص45.(2/150)
- إن التعاليم الإسلامية قررت أن حرية الرأي هي المدخل المعتبر إلى الإيمان الحق.
- إن الله أوجب الهجرة على المستضعفين فرارا من الظروف التي تمنعهم من حرية الرأي والتعبير في قوله تعالى { إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا } (النساء /97).
- أن الله جعل حرية الرأي، بمعنى الصدع به وإفشائه بين الناس، أساسا من أسس الاجتماع بين الأمة وتمكين وحدتها في قوله تعالى { وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ } ( آل عمران /104) " والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو صميم الرأي في تبليغه والاحتجاج به "(1).
هذا أهم ما استدل به على تقولاته، ولم يلتفت كغيره إلى مخالفة حرية الرأي بالمعنى الذي عرضها لقواطع الإسلام ومنها تحريم الردة، كمن يتجاهل شعاع الشمس في رابعة النهار.
4. الشيخ يوسف القرضاوي:
وألف كتاباً سماه "جريمة الردة وعقوبة المرتد في ضوء القرآن والسنة " كإجابة منه على حصر حرية الاعتقاد والرأي في الإسلام على غير المسلم، وذلك بتحريم الردة واعتناق ما يخالف الإسلام على المسلم.
وهو يرى أن العلماء أجمعوا على أن المرتد يجب أن يعاقب إلا أنهم اختلفوا في تحديد العقوبة وأن جمهورهم على أنها القتل، وهو رأي المذاهب الأربعة بل الثمانية(2).
__________
(1) انظر: دور حرية الرأي في الوحدة الفكرية بين المسلمين ص45-48.
(2) د. يوسف القرضاوي: جريمة الردة وعقوبة المرتد في ضوء القرآن والسنة ص46.(2/151)
وبعد أن أفاض في أدلة القائلين بوجوب القتل حدا، ذهب إلى أن المرتد يجوز أن يعاقب بالحبس وليس بالقتل، واستند في ذلك على رواية عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه حيث لم يقتل جماعة ارتدوا عن الإسلام من بني بكر بن وائل وأنه أودعهم السجن(1).
وعلق على هذا الأثر في الحاشية قائلا: إن معنى هذا الأثر أن عمر لم ير عقوبة القتل لازمة للمرتد في كل حال، وأنها يمكن أن تسقط أو تؤجل إذا قامت ضرورة لإسقاطها أو تأجيلها، وأن الضرورة التي اقتضت ذلك في هذه الرواية كما يتبين من سياقها حالة الحرب وخوف لحوقهم بالمشركين، وان ذلك من عمر جاء قياسا على ما جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعدم قطع الأيدي في الغزو، خشية منه أن تدرك السارق الحمية فيلحق بالمشركين. أو أن عمر رأى أن حديث { من بدل دينه فاقتلوه } قاله - صلى الله عليه وسلم - بوصفه إماما للأمة ورئيسا للدولة. أي أن هذا قرار من قرارات السلطة التنفيذية وعمل من أعمال السياسة الشرعية، وليس فتوى وتبليغا عن الله تلزم به الأمة في كل زمان ومكان وحال(2) وادعى أن سجن المرتد هو مذهب الإمام إبراهيم النخعي وسفيان الثوري(3).
ويرى أنه " لا يعاقب الإسلام بالقتل المرتد الذي لا يجاهر بردته، ولا يدعو إليها غيره، ويدع عقابه إلى الآخرة إذا مات على كفره، وأنه قد يعاقب عقوبة تعزيرية مناسبة، إنما يعاقب المرتد المجاهر وبخاصة الداعية للردة(4).
__________
(1) نفس المصدر ص50.
(2) نفس المصدر ص51 وهذا من الشيخ زلة وانزلاق الى دعاوى محمد عمارة وغيره القاضية بعدم حجية سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التي جاءت عنه بصفته إماما وقائدا كما عرضنا في مبحث السنة.
(3) نفس المصدر ص52، 65.
(4) نفس المصدر ص55-56.(2/152)
ومع تفريقه هذا، الذي لا أساس له في حد الردة، بين الداعي وغير الداعي فانه فرق أيضا بين ما أسماه الردة الغليظة كردة سلمان رشدي وبين الردة الخفيفة، ولم يذكر مثلا لهذه الردة الخفيفة ولا من قال بها من العلماء(1).
5. د.عبد الحميد متولي:
وهو ممن أنكر قتل المرتد حدا تقريرا منه لحرية الاعتقاد و الرأي التي كفلها الإسلام، واستدل على ذلك بعدم وجود نص قرآني يوجب القتل على المرتد.ورفض الاحتجاج بالأحاديث الواردة في قتل المرتد، لأنها أحاديث آحاد تفيد الظن لا اليقين، آتيا بفرية لم يسبق إليها، وهي أن أحاديث الآحاد ليست حجة في المسائل الدستورية، معتبرا قتل المرتد تشريعا جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - بوصفه إماما ورئيسا وليس باعتباره مبلغا ورسولا(2).
6. الصادق المهدي:
واستدل في نفيه لحد المرتد تقريرا لحرية الاعتقاد والرأي، بنحو ما استدل به عبد الحميد متولي، وأضاف إليها تعميم قوله تعالى { لا إكراه في الدين } لتشمل المرتد من المسلمين، وأنه لا صحة لتخصيصها بأهل الكتاب. وذكر أنه يجب إيجاد عقوبة تعزيرية للمرتد على أن يوفق بينها وبين حرية الاعتقاد، أما ما اتفق عليه العلماء من قتل المرتد، فإنه لا يتناسب مع التسامح المطلوب في هذا الزمان، بل إنه يتنافى مع مصلحة الإسلام حسبما زعم(3).
7. د. طه جابر العلواني:
__________
(1) نفس المصدر ص52.
(2) د. عبد الحميد متولي: مبادئ نظام الحكم في الإسلام مع المقارنة بالمبادئ الدستورية الحديثة ص 304 –311، وانظر: كايد يوسف محمد قرعوش: طرق انتهاء ولاية الحكام في الشريعة الإسلامية والنظم الدستورية ص274-277.
(3) انظر: الصادق المهدي: العقوبات الشرعية ص145-147.(2/153)
و قد قرر حرية الاعتقاد والرأي في تقديمه للعديد من الكتب التي يصدرها المعهد العالمي للفكر الإسلامي - وهو رئيسه - ومنها كتاب د. عبد المجيد النجار السابق ذكره، حيث وافقه وأقره وأثنى عليه وعلى كل ما جاء فيه دون تحفظ على أي أمر. بل واستدل بأدلته التي ذكرتها، ومنها جعله الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومشاورات الصحابة للرسول - صلى الله عليه وسلم - ومراجعاتهم له دليلا على حرية الاعتقاد والرأي(1). ولم يفته - وللأسف الشديد - أن ينال مما سماه " التراث الفكري والثقافي الذي يؤصل لمصادرة حرية الرأي " ووصفه بأنه مبعث خزي لا افتخار(2).
ولا ندري ماذا يعني الأستاذ الدكتور - وهو المتمرس في علم الأصول - بالتراث الفكري الثقافي؟ هل يدخل فيه إجماع الصحابة ثم إجماع العلماء على وجوب قتل المرتد؟ هل يعني به الحديث الصحيح الثابت في البخاري { من بدل دينه فاقتلوه } أم عشرات الأحاديث الأخرى والآثار الصحيحة والحسنة في وجوب قتل المرتد، وحرمة مخالفة الأدلة الراجحة بالرأي المجرد؟ وهل هذا التراث مبعث خزي لا افتخار؟ نسأل الله العافية.إن كان هذا مراده بالتراث الفكري الذي هو مبعث الخزي فلا يلام نصر حامد أبو زيد ولا علي حرب ولا أركون، ولم يعد ثمة فرق بين الفيلسوف والفقيه، إذا التقى المؤولون جميعا على طريق قد رسم..
وقد عد " التحرر والحرية بأنواعها المختلفة من المفاهيم الإسلامية الأساسية " والتحرير جوهر رسالة الإسلام ومحور عقائده وشعائره " و" حرية الرأي والتعبير عنده دعامة راسخة من دعائم الفكر والممارسة في حياة المسلمين " وعد حرية الرأي شرطا موضوعيا لما سماه " بالإقلاع الحضاري"(3).
8. فهمي هويدي:
__________
(1) انظر: مقدمة د. طه جابر العلواني لكتاب: دور حرية الرأي في الوحدة الفكرية بين المسلمين ص11،13.
(2) نفس المصدر : ص13.
(3) المصدر السابق ص13،9،21.(2/154)
ومن حشر نفسه في قضايا العمق في الشريعة والأصول، فإنه لن يستنكف عما يعتبره قضية العصر " الحرية والديمقراطية "، وهما من اكثر المفاهيم ترددا وتكرارا في كتبه ومقالاته، وهو دائم التنظير لهما ولا يضع عليهما أي نوع من القيود أو الضوابط، بل يطلق القول باعتبارهما الرسالة العظمى للإسلام وانهما " الحرية والديمقراطية " المعيار الأوحد الذي يقاس به تقدم أي مجتمع وانحطاطه(1).
ويرى أن توفر الحرية العقلية شرط لوجود اجتهاد ذي قيمة وقراءة واعية وعصرية للنصوص ومراجعة مفيدة للتراث الذي يخاطب زمانا غير زماننا(2).
ولأن تثبيت حرية الاعتقاد والرأي - يستلزم بالضرورة نفي حد الردة، فإنه كغيره لم يأل جهدا في تناول النصوص والأحكام الخاصة بالردة بالتأويل المتعسف.
فعلى أثر تداعيات الحكم بالردة الذي أصدرته إحدى المحاكم في القاهرة بحق د. نصر حامد أبي زيد وجدها هويدي وغيره مناسبة ساخنة للاجتهاد والتجديد وتقييم التراث، فكتب تحت عنوان صارخ يقول " لنغلق ملف الردة " دعا فيه إلى إعادة النظر في مفهوم " الردة " برمته، وعده من الأمور الثانوية التي تلهي الرأي العام وتشغله عن قضاياه الوطنية والمصيرية الهامة كحل مشكلة البطالة.
__________
(1) القرآن والسلطان ص22.
(2) نفس المصدر ص25-26.(2/155)
واستدل على ذلك بما استدل به الشيخ يوسف القرضاوي من انه تدبير سياسي وليس حكما شرعيا وأن ذلك هو مذهب علماء لهم وزنهم كإبراهيم النخعي وسفيان الثوري(1).وهو موقف ليس بجديد عليه، إذ قد قال نفس الكلام عام 1978 حين كتب مقالا في مجلة العربي عدد أكتوبر عام 1978 دعا فيه إلى إعادة النظر في جريمة الردة، وتسليط الأضواء في مدلولها وفي دلالة النصوص الخاصة بالتحريم والعقاب، وهل هي مجرد جريمة رأي يكفي لقيامها اعتناق صاحبها لهذا الموقف السلبي من الإسلام بعد أن كان من معتنقيه، أم أن جريمة الردة تستلزم إيجابية اكثر بحيث يخرج السلوك المجرم من القول إلى فعل يخل بأمن المجتمع وسلامة الدولة(2).
أي أنه يرى تقييد حكم الردة بالخروج المسلح على الدولة. وهو تكرار لموقف راشد الغنوشي.
9. د. محمد عمارة:
وهو ممن اشترط الخروج المسلح وجعله قيدا على وجوب قتل المرتد، حيث رأى أن حروب الردة لم تكن دينية - ليست لإقامة حكم شرعي - وإنما كانت في سبيل الأمر والسلطان والتوسع(3).
وفي كتابه " المعتزلة ومشكلة الحرية الإنسانية " أكد على وجود النزعة للحرية والاختيار في الفكر "العربي" وأنها شهادة للإنسان العربي وتراثه بالأصالة في هذا الباب.
وقد حاول جاهدا كما هو بين، أن يؤصل لمفهوم الحريات العامة " ويخَرِّجه على مفهوم الحرية عند المعتزلة(4).
ولأن باب تعليل النصوص بالعقل المجرد - وإن شئت قلت بالهوى - فُتح على مصراعيه، يرى بعضهم كالغنوشي والصادق المهدي أن آيات الجهاد منسوخة لأن فيها فرضا للإسلام على الآخرين وهو أمر مناف لمقاصد الشريعة (!!) ومنها حرية العقيدة.
__________
(1) انظر: فهمي هويدي: مصر تريد حلاً ص196.
(2) العصريون معتزلة اليوم ص41.
(3) المعتزلة وأصول الحكم ص348، عن العقلانية هداية أم غواية ص129
(4) انظر: د. محمد عمارة: المعتزلة ومشكلة الحرية الإنسانية ص205-216.(2/156)
وعلى النقيض تماما من هذا التفسير يرى آخرون ومنهم د. عبد الحميد أحمد أبو سليمان أن الجهاد إنما فرض لأجل تحقيق وترسيخ حرية العقيدة للناس، بل ذهب إلى أن حرية العقيدة مفهوم إسلامي أساس في تكوين العقلية والمنهجية الإسلامية الحضارية(1). فهؤلاء عدوه منافيا لحرية العقيدة ولذلك نسخوه (!!) وهذا رأى فيه دليل على حرية العقيدة وسبيل مهم من سبلها؟.
أرأيت كيف يقود تحكيم العقل في النصوص إلى التناقض والاضطراب في الحكم الواحد بشكل فاضح. فبأي رأي نأخذ. وأي تعليل يترجح على الآخر؟ إذا كان الملجأ هو العقل لا العلل المنصوصة المضبوطة؟
10. د. محمود محمد طه:
وهو وقدممن تطرف بشكل فاضح في المناداة بالحرية المطلقة بمختلف أشكالها وأنواعها، فذهب تحت عنوان "الحرية الفردية المطلقة" إلى أن الإسلام يرى أن الأصل في الحرية -الإطلاق- بصرف النظر عن ملة الفرد وعنصره، وان الفرد له أن يفكر كما يريد، وان يقول كما يفكر، ويعمل كما يقول شرط أن لا يتعدى على حريات الآخرين(2). وأن " الشريعة في خدمة الحرية الفردية المطلقة "(3).
11. محمد أحمد خلف الله:
رأى في مبحث التأويل في القرآن أن القرآن إنما أنزل ليحرر العقل البشري من سلطات الآلهة والأنبياء والمرسلين ورجال الدين جميعا.
12. د. فتحي عثمان:
__________
(1) انظر: د. عبد الحميد أحمد أبو سليمان: أزمة العقل المسلم ص143.
(2) انظر: محمود محمد طه: الرسالة الثانية من الإسلام، ص38،39،41.
(3) نفس المصدر ص42.(2/157)
حيث قرر "حقوق الإنسان" بشكلها الذي جاء في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عن الأمم المتحدة عام 1948، والمتضمن حرية الاعتقاد والحرية الفكرية والسياسية والشخصية...الخ(1) بدون قيود ولا ضوابط، ولا تحفظات تستوجبها خصائص الأمة الإسلامية العقائدية والشرعية مع انه يتكلم عن حقوق الإنسان في ضوء الشريعة الإسلامية.
وقد أحسن د. إبراهيم المرزوقي إذ تجنب الزلل، فعلى الرغم من أنه حرص على الموائمة بين مواثيق حقوق الإنسان والشريعة الإسلامية إلا أنه يحسب له أنه لم يفعل ذلك على حساب الأحكام الثابتة، فأوجب حد الردة وسائر الحدود، واعتبر جريمة الردة ضد النظام العام وضد مصلحة المجتمع(2).
13. الأستاذ عبد المتعال الصعيدي:
وهو ممن قالوا بحرية العقيدة والرأي بإطلاق ويعد من اكثر المتحمسين -وقد باتوا لا يحصون- لهذه القضية، ولم يتوقف به حماسه إلى حد إنكار حد الردة، بل وصل إلى نفي تجريم المرتد، بحجة
أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يقتل المنافقين وانه بسط لهم التوبة، وأما حديث { من بدل دينه فاقتلوه } فهو خاص بوقت الحرب، خشية ان يلحق المرتد بالكفار ويقاتل المسلمين، وانه لا يقاس عليه من يرتد في حال السلم(3).
14. الأستاذ جمال البنا:
على هذا المنوال درج في كتابه حرية الاعتقاد في الإسلام حين ذهب إلى أن قتل المرتد أو حتى مجرد استتابته إنما هو إكراه في الدين(4).
__________
(1) انظر: د. محمد فتحي عثمان: أصول الفكر السياسي الإسلامي – دراسة لحقوق الإنسان ولوضع رئاسة الدولة ( الإمامة ) في ضوء شريعة الإسلام وتراثه التاريخي والفقهي ص200 وما بعدها.
(2) انظر: د. إبراهيم عبد الله المرزوقي: حقوق الإنسان في الإسلام ص447.
(3) انظر: عبد المتعال الصعيدي: الحرية الدينية في الإسلام ص158-172، وحرية الفكر في الاسلام ص61-78.
(4) انظر : جمال البنا: حرية الاعتقاد في الإسلام ص52-71.(2/158)
ومن هؤلاء من لم ينكر حد الردة صراحة بل أنكره ضمنا حيث جعل الحدود خمسة مستثنيا حد الردة مثل د. أحمد فتحي بهنسي في كتابه العقوبة في الفقه الإسلامي(1).
ويرى موافقة مجلس الدولة المصري عام 1977 على مشروع قانون بإقامة حد الردة، ردة تشريعية حقيقية في مواجهة ردة إسلامية وهمية ويعتبرها فضيحة في تاريخ البلاد وتاريخ التشريع ( نفسه ص76).
كما يؤخذ على بعض العلماء إطلاقهم القول بحرية العقيدة والرأي دون أن ينصوا على استثناء المسلمين في المسائل القطعية، مثل الشيخ محمد أبو زهرة (2) والشيخ محمد الغزالي حيث اعتبر (حرية الرأي) حقيقة لا تحتمل لغطاً ولا جدلا، وإن كنا نحسن الظن بهم أنهم إنما يتكلمون عن الكفار الأصليين أو أهل الكتاب(3).
هذا غيض من فيض من آراء مفكرين وكتاب وعلماء لم أستوعبهم وأنى لي بذلك. وقد انتشرت هذه البدعة حتى صارت رأيا عاما بين المسلمين عامتهم وخاصتهم عالمهم وجاهلهم. والله المستعان.
__________
(1) انظر: د. أحمد فتحي بهنسي: العقوبة في الفقه الإسلامي ص124.
(2) محمد أبو زهرة: تنظيم الاسلام للمجتمع ص 182، محمد أبو زهرة: المجتمع الانساني في ظل الاسلام ص193،199.
(3) محمد الغزالي : هذا ديننا ص60.(2/159)
وكم تعقد لها الندوات والحلقات في التلفزيونات الفضائية والأرضية، وتقام لها المؤتمرات، وتسن لها القوانين حتى لم يعد يجرؤ - فيما أرى وأشاهد - على التبريء من هذه البدعة علانية لا أصحاب الأقلام ولا أصحاب العمائم إلا بقية لا يسمع لها صوت ممن عصم الله.هذا وان الاستبداد السياسي وكبت أهل الدين ومنعهم من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يبرر ولا يسوغ المطالبة المطلقة بحرية العقيدة والرأي، لأنه يدخل فيها تجويز الردة للمسلمين وإباحة الخروج عن الإسلام ونقده، للمسلم وغير المسلم، وهذا محذور محظور يكفي لاعتبارها دعوة باطلة من أساسها، وعليه، فان كل ما يشاهد من تصريحات ومواقف بعض الجماعات و الحركات الإسلامية وقياداتها المطالبة بإشاعة حرية الرأي بإطلاق والسماح بالتعددية السياسية بما تعنيه من حرية إنشاء أحزاب على أساس كافر غير إسلامي، وبما تعنيه من استقطاب للمسلمين على أساس فكري وعقدي كافر، كل هذه التصريحات والمواقف فيها مخالفة صريحة لأصول الإسلام وقطعياته.
وهذا مناقض لما علم من دين الإسلام بالضرورة، من تحريم الردة، وتحريم إشاعة الكفر وتحسينه، وحرمة إعطاء المسلم ولاءه لجهة عقيدتها غير الإسلام.
وعلى سبيل التمثيل فقط أذكر قول عمر التلمساني – رحمه الله - الذي كان مرشدا عاما للإخوان المسلمين:
" أننا نقف من الأحزاب كلها موقف الاحترام الحر لرأي الآخرين، وإذا كنت حريصا على أن يأخذ الناس برأيي فلماذا أحرم على الناس ما أبيحه لنفسي، وهل من الحرية أن أحول بين الناس وبين الاعتداد بآرائهم بعد أن يمنحهم أحكم الحاكمين هذا الحق في وضوح لا
لبس فيه { فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ } (1)(الكهف /29)".
__________
(1) د. أيمن ظواهري: الحصاد المر – الإخوان المسلمون في ستين عاماً ص149.(2/160)
وقد سبق ذكر مناداة حسن الترابي رئيس الجبهة القومية الإسلامية بالسودان بالتصويت حتى على الأحكام الشرعية، وكذلك موقف راشد الغنوشي رئيس حركة النهضة التونسية، وأضرابهم في الأردن والمغرب والكويت وقيادات العمل الإسلامي في أوروبا وأمريكا تطالب كلها وتنادي بإطلاق الحريات دون قيد أو شرط، وهي لا تحتاج إلى تقييد واستدلال.
وذهب الشيخ رمضان شلح – وهو الآن الأمين العام لحركة الجهاد الإسلامي - ذهب في مقال بعنوان "حول حق إبداء الرأي" إلى أن الأغلبية الساحقة من قيادات العمل الإسلامي وعلمائه ومفكريه أكدوا حرية الرأي والعقيدة وأصّلوها بأدلة لا تدحض – حسبما قال - بالقرآن والسنة وسيرة الصحابة، وهي حقوق بدهية(1).
هكذا بكل ثقة واطمئنان ( أدلة لا تدحض – حقوق بديهية )، وهكذا ينقلب جواز الكفر ونقد القرآن، وتجريح الأنبياء والصحابة إلى بدهيات لدى دعاة الإسلام والمجاهدين لرفع رايته!
فإن قلتم إنما نعني أن لها حدودا وقيودا وضوابط قيل لكم فأين هي؟ ولم لم تنصوا عليها أو تلفتوا النظر إليها.
وهذا حسن ظن بهم، وإلا فإن سياق كلامهم يدل على انهم لا يضعون على حرية الرأي لا قيودا ولا ضوابط مثل قول شلح " إن الإسلاميين ردوا على الاعترافات لبعض المشايخ ردودا مؤصلة ومعمقة؟
فما تراها هذه الاعتراضات سوى ما ذكرته من حرمة مخالفة القطعيات وحرمة الردة؟ فهذه في نظره مجرد "اعتراضات".
وسنرى الآن إن كانت أدلتهم مؤصلة معمقة لا تدحض من القرآن والسنة وسيرة الصحابة، أم أنها مجرد خيالات وأوهام.
1. مفهوم الحرية في الإسلام
الحرية في الإسلام لها مفهوم مغاير من حيث الجوهر والتفاصيل عن مفهوم الحرية الغربية التي دعا إليها هؤلاء المفكرون.
__________
(1) انظر: مجلة الإنسان ص70 وما بعدها، دار أمان للصحافة والنشر – باريس، العدد الثامن، السنة الثانية، صفر 1413ه- آب/1992م.(2/161)
فالحرية في النظام الإسلامي منبثقة من العبودية الكاملة لله عز وجل، على حين أن الحرية في النظام الديمقراطي منبثقة من اللاعبودية لله سبحانه وتعالى.
فالإنسان في الإسلام عبد لله ومخلوق له، ومن يعتنق عقيدة الإسلام، فقد ارتضى لنفسه أن يكون عبدا لله وان يكون أساس حياته قائما على التقيد بأوامر الله ونواهيه، فالأصل عند المسلم هو التقيد بالأحكام الشرعية، وسلوكه في الحياة مرتبط بخطاب الشارع له من أوامر ونواه.
وأساس …الحرية في النظام الديمقراطي هي أن الإنسان هو سيد هذا الكون وهو بالتالي (خالق) نظمه الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والسلوكية، وبالتالي فلا دور للدين ولا لأحكامه في حياته، فالدين مفصول عن الحياة، وهو مجرد علاقة وجدانية بين الإنسان والإله.وإذا كان الأساس الذي انبثقت عنه الحرية متباينا بهذه الحدية فلا عجب أن يختلفا في التفاصيل. وإذا كانت الحرية الغربية مطلقة إلا من القوانين والأنظمة والتشريعات التي يتواضع عليها البشر فان الحرية في الإسلام مقيدة بالأحكام الشرعية من أوامر ونواه إلهية.
فالحرية المطلقة من كل قيد هي كذبة كبرى لا وجود لها في عالم الواقع. فأي مجتمع لا ينفك عن وجود قوانين وأنظمة وتشريعات يلزم بها أفراده ويعاقب الخارج عنها(1)، والفرق بين المجتمع الإسلامي وغيره أن دستوره وقوانينه مستمدة من الله وقوانين هؤلاء هي أهواؤهم وشهواتهم التي تواطأوا عليها.
فمن يطالب بعد هذا بالحرية المطلقة أو بالحرية بمفهومها الغربي، فانه يحاول إلباس الإسلام ثوبا ليس من صنعه ولا من مقاسه، وهي محاولة تهجين فاشلة لأنها تناقض منطق الأشياء، فالعقيدة الإسلامية لا تفرز ما يناقضها ولا ما ينفيها.
2. حدود حرية العقيدة وحرية الرأي
__________
(1) انظر: الفقه الإسلامي آفاقه وتطوره ص190، الإسلام وأيديولوجية الإنسان ص120، تهافت القراءة المعاصرة ص612-614.(2/162)
إذا كان الإسلام منح غير المسلمين حرية العقيدة فلم يكرههم على الدخول في الإسلام، فان لهذه الحرية التي يتمتع بها غير المسلم في المجتمع الإسلامي حدودا لا ينبغي له أن يتجاوزها، وأولها: انه لا يجوز له إظهار ما فيه طعن بالإسلام أو بنبي الإسلام أو بكتابه أو ما فيه تسفيه لعقيدة الإسلام وتعاليمه، وان كان هذا جائزا في اعتقاده. كما أنه لا يجوز لغير المسلم تحريض المسلم أو إغراؤه أو دعوته إلى دينه أو عقيدته شفاها أو كتابة أو بإلقاء محاضرات، لأن استجابة المسلم لهذه الدعوات و الإغراءات والتحريض يعني الوقوع في الردة عن الإسلام، وهي جريمة عقوبتها القتل في الإسلام، والتحريض على ارتكاب الجريمة محظور في شرع الإسلام وفي جميع القوانين الوضعية(1).
__________
(1) انظر: د. عبد الكريم زيدان: المفصل في أحكام المرأة والبيت المسلم في الشريعة الإسلامية 4/225-226.(2/163)
ومن هنا يتبين بطلان مفهوم التعددية الحزبية والسياسية التي ينادي بها هؤلاء الكتاب، لأنها تسمح بإقامة أحزاب غير إسلامية تدعوا إلى الكفر، وتحرض المسلمين عليه، وتستقطبهم إليه مما يوقعهم في جريمة الردة. فلا يجوز تجاوز الحدود الشرعية في التعبير عن الرأي لا للمسلم ولا لغير المسلم، لأن من حق الآخرين - مجموعة المسلمين - عدم الإضرار بهم أو إيذائهم، ومن حق الشرع عدم التطاول والتجاوز عليه لأن الدار دار إسلام، ودار الإسلام يحكمها الإسلام، ومن أحكامه منع إظهار الكفر فيها، ومن الكفر الطعن في الدين وتسفيه أحكامه.ولأن المسلم بإسلامه التزم أن لا يخرج على الإسلام وأحكامه، ووفاء الشخص بالتزامه لازم له وواجب عليه فلا يشفع له ادعاؤه التشبث بحقه في حرية الرأي للطعن في الدين(1). فتصرفات العباد محدودة بقيود الشريعة، ومتى تجاوز المرء حريته، أوقف عند الحد الشرعي(2).
3. ثبوت حد الردة بالدليل القطعي
القول بحرية العقيدة والرأي يستلزم نفي حد الردة أو حتى نفي تجريم المرتد. بالضرورة. ومعظم حجج القائلين بالحرية تلك تتمحور حول هذه القضية، وانه لم يثبت فيها دليل قطعي يوجب تحريمها وأن ما ثبت فيها لا يتعدى كونه أحاديث آحاد تفيد الظن، ولا تصلح لإقامة عقوبة كالإعدام، وان الأحاديث الثابتة في ذلك إنما هي من قبيل التدبير السياسي، وليس من قبيل الحكم الشرعي، وان عدم قتل المرتد هو مذهب بعض أئمة العلم كسفيان الثوري وإبراهيم النخعي، وكاستدلالهم بقوله تعالى { لا إكراه في الدين.. } الخ.
ويكفي لإبطال هذه الحجج الداحضة أن نثبت وجوب قتل المرتد بالسنة الصحيحة والإجماع الصريح، وهما حجتان ليس بعدهما قول قائل ولا نزاع منازع.
__________
(1) نفس المصدر 4/220.
(2) انظر: الطاهر بن عاشور: المقاصد العامة للشريعة الإسلامية، ص130-134، عبد السلام بسيوني: هل في الإسلام حرية للرأي؟ ص24-29،37،83.(2/164)
- أخرج البخاري في صحيحه عن عكرمة قال: أُتُيَ عليٌ رضي الله عنه بزنادقة فأحرقهم فبلغ ذلك ابن عباس فقال: لو كنت أنا لم أحرقهم، لنهي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. لا تعذبوا بعذاب الله، ولقتلتهم لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - { من بدل دينه فاقتلوه } (1).
- وأخرج بسنده عن أبي موسى الأشعري حديثا آخر - وفيه أنه - صلى الله عليه وسلم - بعثه عاملا إلى اليمن ثم اتبعه معاذ بن جبل، فلما قدم عليه ألقى له وسادة قال: انزل، فإذا رجل عنده موثق قال: ما هذا:قال: كان يهوديا فأسلم ثم تهود: قال: أجلس قال: لا أجلس حتى يقتل قضاء الله ورسوله ( ثلاث مرات ) فأمر به فقتل... الحديث(2).
- وعن عثمان رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال { لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث، رجل كفر بعد إسلامه، أو زنى بعد إحصانه، أو قَتْلِ نفسٍ بغير نفس } (3). قال ابن رجب:.. والقتل بكل واحدة من هذه الخصال الثلاث متفق عليه بين المسلمين"(4).
- وقد وقع في حديث معاذ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما أرسله إلى اليمن قال له { أيما رجل ارتد عن الإسلام فادعه فان عاد وإلا فاضرب عنقه، وأيما امرأة ارتدت عن الإسلام فادعها فان عادت وإلا فاضرب عنقها } قال ابن حجر وسنده حسن، وهو نص في موضع النزاع - يعني النزاع في قتل المرأة المرتدة - فيجب المصير اليه، ويؤيده اشتراك الرجال والنساء في الحدود كلها الزنا والسرقة وشرب الخمر والقذف(5).
- وقتل أبو بكر في خلافته امرأة ارتدت والصحابة متوافرون فلم ينكر عليه أحد(6).
__________
(1) صحيح البخاري بشرح العسقلاني 12/279.
(2) نفس المصدر 12/280.
(3) نفس المصدر 12/209.
(4) ابن رجب زين الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن شهاب الدين البغدادي : جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثا من جوامع الكلم، ص150.
(5) فتح الباري 12/284.
(6) نفس المصدر 12/284.(2/165)
- وقال ابن قدامة: وأجمع أهل العلم على وجوب قتل المرتد، وروي ذلك عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي ومعاذ وأبي موسى وابن عباس وخالد وغيرهم، ولم ينكر ذلك أحد فكان إجماعا "(1).
- ولما تحدث ابن القيم عن الأصول التي تدور عليها العقوبات، عَدَّ منها عقوبة القتل ومثل لها بالجناية على الدين بالطعن فيه والارتداد عنه قال: وهذه الجناية أولى بالقتل(2).
- قال السرخسي في باب المرتدين " وإذا ارتد المسلم، عُرض عليه الإسلام، فان أسلم وإلا قُتل مكانه إلا أن يطلب أن يؤجل، فإذا طلب ذلك أُجّل ثلاثة أيام … فكما لا يقبل من مشركي العرب إلا السيف أو الإسلام فكذلك من المرتدين، إلا أنه إذا طلب التأجيل أُجل ثلاثة أيام لأن الظاهر أنه دخل عليه شبه ارتد لأجلها فعلينا إزالة تلك الشبهة "(3).
- قال الشوكاني في السيل الجرار " قتل المرتد عن الإسلام متفق عليه في الجملة، وإن اختلفوا في تفاصيله، والأحاديث الدالة عليه أكثر من أن تحصر، لو لم يكن منها إلا حديث { من بدل دينه فاقتلوه } وهو في الصحيح وحديث { لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث } وهو كذلك في الصحيح لكفى، ولا فرق بين المرتدين من الرجال والنساء، وما ورد في النهي عن قتل النساء فذلك في نساء الكفر الباقيات على الكفر، وأما النساء المسلمات إذا وقعت منهن الردة فقد فعلن بالخروج من الإسلام سببا من أسباب القتل، فبين الكافرة الأصلية والمرأة المسلمة المرتدة عن الإسلام في الكفر فرق أوضح من كل واضح، فلا يحتاج إلى الكلام على تعارض الأدلة الواردة في قتل المرتدين على العموم، والأدلة الواردة في قتل النساء الكافرات على العموم بل يقر كل في موضعه"(4).
__________
(1) المغني والشرح الكبير 10/74، دار الكتاب العربي.
(2) إعلام الموقعين 2/83 دار الكتب الحديثة.
(3) شمس الدين السرخسي: المبسوط 5/10.
(4) السيل الجرار 4/372.(2/166)
وقال: "الأدلة التي قد دلت على أن الردة سبب من أسباب القتل، وان هذا السبب مستقل بالسببية، كما في حديث { من بدل دينه فاقتلوه } ونحوه ولم يصح في الاستتابة به أياما شيء من المرفوع، ولا تقوم الحجة بغيره، فالواجب علينا عند ارتداد المرتد أن نأمره بالرجوع إلى الإسلام والسيف على رأسه، فإن أبى ضربنا عنقه حكم الله ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون وهذا القول هو بمنزلة تقديم الدعوة لأهل الكفر إلى الإسلام، فإن ذلك يحصل بمجرد قول المسلمين لهم أسلموا أو أعطوا الجزية فإن أبو عند جواب هذه الكلمة فالسيف هو الحكم العدل والفعل الفصل "(1).
ولا يقال إن هذا من الشوكاني تشدد بل هو منه اتباع للأدلة الصحيحة وهو دأبه دائما إذ رد على صاحب المتن إيجابه القتل على الديوث لأنه " لم يرد في ذلك شيء يصلح للاستدلال به، ودماء المسلمين معصومة بعصمة الإسلام لا ينقل عن هذه العصمة إلا ناقل صحيح وليس - قتل الديوث- ناقل صحيح ولا حسن"(2).
- وقال ابن عابدين عن المرتد: فان اسلم وإلا قتل لحديث { من بدل دينه فاقتلوه } وهذا بالإجماع لإطلاق الأدلة(3).
- ومعلوم بالإجماع أن مستحل الحرام يقتل، وقتله بسبب ردته والدليل هو أن قدامة بن عبد الله شرب الخمر بعد تحريمها هو وطائفة، وتأولوا قوله تعالى { لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ }
( المائدة- 93)
__________
(1) نفس المصدر 4/372.
(2) نفس المصدر 4/374، والمتن هو حدائق الأزهار، وصاحبه هو أحمد بن يحيى الملقب بالمهدي.
(3) رد المحتار على الدر المختار شرح تنوير الأبصار 6/361، تحقيق محمد بكر إسماعيل.(2/167)
فلما ذكروا ذلك لعمر بن الخطاب - رضي الله عنه - اتفق هو وعلي بن أبي طالب وسائر الصحابة على انهم إن اعترفوا بالتحريم جلدوا، وان أصروا على استحلالها قتلوا "(1).- والناظر في كتب أهل العلم لا يعثر البتة على وقوع خلاف بينهم في وجوب قتل المرتد، وانما يجد خلافهم محصورا في عدد من المسائل منها: قتل المرأة المسلمة إذا ارتدت، والاستتابة، هل هي واجبة أو مستحبة؟ ومدتها ساعة أو يومً أو ثلاثة أيام؟ وعدد المرات التي يستتاب فيها؟ هل يستتاب إذا ارتد للمرة الثانية أو الثالثة؟(2).
هذه هي المسائل التي وقع فيها خلاف بين أهل العلم - وليس لنا غرض في بيان الأرجح منها، مع أنه بين مما قاله الشوكاني آنفا، إلا أن غرضنا مُنصبٌ على تأكيد عدم وقوع الخلاف إطلاقا في أن الردة جريمة لها عقوبة حدية لا تعزيرية، وهي القتل بالإجماع.
وابن حجر مثلا فرق بين الداعي إلى البدعة وغير الداعي إليها في قبول التوبة وعدم قبولها لا في وجوب قتله، كما قال الشيخ يوسف القرضاوي(3).
وما نقلته من أحاديث صحيحة وإجماع الصحابة ثم إجماع العلماء والأمة بعدهم - إلى أن ظهرت هذه البدعة - يكفي لدحض شبهات المؤولين وجعلها هباء منثورا.
إلا أنني سأذكرها وأرد عليها بإيجاز
1. استدلالهم بقوله تعالى { لا إكراه في الدين }
والذي استدل به الغنوشي وجعله ناسخاً لآيات القتال، وكذلك استدل به الصادق المهدي. وهو باتفاق أهل التفسير خاص بغير المسلمين من أهل الكتاب، ويدل لذلك سبب نزولها حيث كانت المرأة من الأنصار تكون مقلاتا - لا يعيش لها ولد - فتجعل على نفسها إن عاش لها ولد أن تهوده، فلما أجليت بنو النضير كان فيهم من أبناء الأنصار - الذين هُوِّدوا – فقالوا لا ندع
__________
(1) شرح العقيدة الطحاوية ص324، بتحريج الألباني ، بيروت – المكتب الاسلامي.
(2) انظر: أبو يوسف: الخراج 179-181.
(3) انظر: فتح الباري 12/281،285.(2/168)
أبناءنا، فأنزل الله تعالى ذكره { لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ } الآية(1) (البقرة –256) فالأنصار أرادوا أن يجبروا
أبناءهم المتهودين في الجاهلية على الإسلام لما أجليت بنو النضير فنهاهم الله عن ذلك.
وهكذا ترى المؤولين يعممون الخاص ويطلقون المقيد، بل لم يكتفوا بذلك حتى جعلوا آيات القتال منسوخة لأجل حرية العقيدة، ويكفي لرد هذه الفرية أن نعلم أن سورة براءة - وهي من آخر ما نزل من القرآن - غاصة بالآيات التي توجب قتال المشركين كافة وقتال أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون.ويبدوا أن الغنوشي استسهل دعوى النسخ لآية واحدة بل لعشرات الآيات الموجبة للقتال دون أن يبين المتقدم منها والمتأخر.
ولا أدري كيف يفسر الغنوشي وغيره حركة الفتوح الإسلامية وكيف يصنع بحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - { الجهاد ماض إلى يوم القيامة لا يبطله عدل عادل ولا جور جائر } (1)
وقد تقدم أنه من صيغ النصوص المحكمة التي لا تقبل النسخ حتى في عهد النبوة لأنه اقترن بالتأبيد.
وحتى لو كانت آية { لا إكراه... } محتملة، فإن الأحاديث السابقة وإجماع العلماء دفع هذا الاحتمال، وعين للآية معنى واحدا لا تحتمل غيره وهو حرية العقيدة لغير المسلمين فحسب.
2. أما الاستدلال بقوله تعالى { وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر }
فهو إما يدل على جهل صاحبه - وإما على تحريف متعمد - لأن تكملة الآية تدل على معناها الصحيح، وهو التهديد لا الإباحة { إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا } (الكهف/29).
__________
(1) الوادعي مقبل بن هادي: الصحيح المسند من أسباب النزول ص21.(2/169)
روى الطبري في تفسير هذه الآية عن ابن عباس " … وليس هذا بإطلاق من الله الكفر لمن شاء، والإيمان لمن أراد، وإنما هو تهديد ووعيد(1).
فأما قول التلمساني لا أحرم على غيري ما أبيحه لنفسي فهو قول خاطئ لأن الانسان ليس له من أمر التحليل والتحريم شيء، فالله هو الذي حد حدود الحلال والحرام، وانه لا يسمح في دار الإسلام لمسلم ولا لغيره بالطعن في دينه ولا غمز شريعته – حسبما تقتضي حرية الاعتقاد -.
3. أما الاستدلال بأن إبراهيم عليه الصلاة والسلام ناظر قومه فدل على أنه سمح لهم بحرية التعبير عن آرائهم:
فهو أوهى من سابقه، لأن هذا حصل مع كل الأنبياء لما دعوا قومهم إلى الإسلام وليس خاصا بإبراهيم عليه الصلاة والسلام، وما من قوم دعوا إلى الإسلام إلا ونطقوا بالكفر وأصروا عليه، وهو أمر لا يحتاج إلى إيراد الشواهد.ثم إن إبراهيم عليه الصلاة والسلام كان وحيدا مستضعفا ولم يكن حاكما ولا خليفة يستطيع إقامة الحد على المرتدين. ثم إن قومه كانوا مشركين عبدة أوثان أي أنهم كانوا كفارا أصليين، ولم يسبق لهم أن اسلموا ثم ارتدوا، والفرق بين الفريقين أوضح من كل واضح كما قال الشوكاني.
فكيف يصح قياس ردة المسلم على كفر قوم إبراهيم؟ فهذا قياس ليس مع فارق واحد بل عدد من الفروق. إلا إذا كان قياسا فطريا عفويا حرا كما أراده الترابي من قبل.
4. واستدلال د. عبد المجيد النجار بقوله تعالى { أرأيت الذي ينهى عبدا إذا صلى } بأن فيه توبيخا لمن صد عن حرية العبادة والعقيدة الجديدة.
فهذا استدلال معكوس مقلوب فالله وبخ من صد عن عبادته وحده لا شريك له كما هو واضح من الآية، والمعتقد الجديد هو الإسلام وليس الكفر.
__________
(1) سبق تخريجه.
(2) جامع البيان 15/238.(2/170)
ثم انه ليس في الإسلام منع لأهل الكتاب من ممارسة عبادتهم في بيعهم وكنائسهم أصلا لتكون هذه الآية مبيحة له، وليس في الآية دليل على جواز ردة المسلم باسم حرية العقيدة ولا طعن الشريعة باسم حرية التعبير. فهو تحميل للآية ما لا تحتمله ولو بوجه ضعيف.
5. أما قوله أن الله أوجب الهجرة على المستضعفين فرارا من الظروف التي تمنعهم من حرية الرأي والتعبير. فاستدلال باطل.
فالآية أوجبت الهجرة على المسلمين المستضعفين الذين لا يستطيعون أن يقيموا شعائر الإسلام الأساسية كالصلاة والصيام وكانوا يكثِّرون سواد المشركين ويقاتلون معهم المسلمين فأوجبت عليهم الهجرة إلى دار الإسلام نصرة لأخوانهم المسلمين وتكثيرا لسوادهم وحماية لعقيدتهم قبل كل شيء(1). فالآية أوجبت الهجرة على المسلمين حماية لعقيدتهم الإسلامية، فكيف يستفاد منها جواز طعن هذه العقيدة والردة عنها؟ والله إن هذا لشيء عجاب.
6. ومثله قول النجار والعلواني وغيرهم أن وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دليل على حرية الرأي والتعبير:
متغاضين عن أن الذي أوجبه الله هو الأمر بالمعروف والمعروف هو الإسلام وليس أي رأي، وان الذي أوجبه الله هو النهي عن المنكر والمنكر هو ما خالف الإسلام فكيف ينقلب وجوب الأمر بالإسلام والدعوة إليه إلى جواز الطعن فيه وغمز شريعته باسم حرية الرأي والتعبير؟وكيف ينقلب في ذهن عالم الأصول – وجوب النهي عن كل ما خالف الإسلام من أفكار الكفر إلى جواز إشهارها وإعلانها والدعوة إليها والتنظير لها والاستقطاب إليها وعليها؟! وهل الدعوة إلى العلمانية والإلحاد والطعن في الشريعة وأحكامها هو معنى { يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر } ؟
7. أما استدلالهم بمشاورات النبي - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه:
__________
(1) انظر: الصحيح المسند من أسباب النزول ص51.(2/171)
فما علم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شاورهم وأخذ رأيهم وسمح لهم بالتعبير عن آرائهم في حكم أوجبه الله ورسوله أو حكم حرمه الله ورسوله.
قال الله تعالى { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا مُبِينًا } ( الأحزاب /36)، وحرية التعبير بما يخالف الإسلام هي عصيان لله ورسوله وهي ضلال مبين.
وما علم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شاورهم إلا في أمور إدارية ليس لها علاقة بالحلال والحرام كمشورة الحباب عليه يوم بدر في المكان الذي ينزل فيه، ومشورته إياهم يوم أحد في الإقامة في المدينة أو الخروج منها لقتال المشركين خارجها، ولم يقبل مشورتهم يوم الحديبية لما كان مأمورا من الله بالتحلل والعودة.
8. وأما استدلالهم بأن رسول - صلى الله عليه وسلم - لم يقتل المنافقين وهم كفرة على الحقيقة، وبأن الزنادقة كانوا يجادلون العلماء في بلاطات الملوك والمساجد ومع ذلك فلم يقتلوهم مما يدل على حرية العقيدة والرأي:
فاستدلال في غير محله، ذلك أن المنافقين ببساطة كانوا يظهرون الإسلام ويخفون الكفر، وليس العكس، والرسول- صلى الله عليه وسلم - والمسلمون من بعده لهم الظاهر والله يتولى السرائر، فمن أظهر لنا الإسلام سالمناه ومن أظهر الكفر بعد إسلامه أقيم عليه حد الردة وهو القتل.
وما قيل في المنافقين يقال في الزنادقة، فالزنديق هو الذي يظهر الإسلام ويسر الكفر، ولا يظهره إلا مع خاصته.(2/172)
ومن العلماء من ذهب إلى عدم قبول توبة الزنديق وأنه يقتل حتما لعدم إمكان التأكد من صدقه إذا عرض على السيف، ولكن إذا أظهر كفره قتل كما قال شيخ الإسلام ابن تيميه في قوله تعالى { لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلا قَلِيلا(*) مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلا } ( الأحزاب/60،61).
قال قتادة " ذكر لنا أن المنافقين كانوا يظهرون ما في أنفسهم من النفاق فأوعدهم الله بهذه الآية فلما أوعدهم بهذه الآية أسروا ذلك وكتموا وبهذا يجيب من لم يقتل الزنادقة(1) - فالزنادقة أسروا كفرهم. ولم يظهروه فضلا عن أن يدعوا إليه.
وقد مر معنا تحريق علي للزنادقة واعتراض ابن عباس عليه وبيانه له أن الواجب كان قتلهم حدا لا إحراقهم وهو في البخاري. وإنما أحرقهم لأنهم أظهروا كفرهم وادعوا أنه إلههم(2). ولو ظلوا مسرين ذلك لما فعل ذلك بهم.
فما يقال عن الزنادقة أنهم كانوا يظهرون كفرهم وآراؤهم في بلاط الملوك ومساجد المسلمين في نقاشهم العلماء غير صحيح.
فقد قال ابن حجر عن الزنادقة:.. ثم كثروا في دولة المنصور واظهر له بعضهم معتقده فأبادهم بالقتل ثم ابنه المهدي فأكثر من تتبعهم وقتلهم "(3). وهذا منا تنزل في الحجاج وإلا فإن أفعال الخلفاء ليست حجة ولا دليلا شرعيا لازم القبول والتسليم.
9. أما استدلالهم بتقييد وجوب قتل المرتد بحالة الحرب أو بحالة الخروج المسلح:
__________
(1) انظر: مجموع الفتاوى الكبرى 13/21.
(2) انظر: فتح الباري 12/283.
(3) نفس المصدر 12/283.(2/173)
فقد قال الغنوشي وهويدي ومحمد عمارة وعبد المتعال الصعيدي والشيخ يوسف القرضاوي أنه تقييد من غير دليل مقيد وهو من أنواع التأويل الباطل فالحديث { من بدل دينه فاقتلوه } عام ومطلق، "ومن " هي من صيغ العموم جاءت في سياق الشرط فكانت من أبلغ صيغ العموم، فلا يجوز تخصيصه بالرجل، ولا تقييده بحالة الخروج المسلح.
والزنادقة الذين حرقهم علي لم يكونوا محاربين ولم يحملوا السلاح، واليهودي الذي أسلم ثم تهود وأبى معاذ أن يجلس حتى يقتل لم يرفع سلاحا بل كان جالسا موثقا كما نص الحديث، وقوله - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ لما بعثه إلى اليمن: أيما رجل ارتد عن الإسلام فادعه فان عاد فاضرب عنقه، لم يقيده بحالة الحرب ولا حَمل السلاح ولا بكون ردته غليظة ولا خفيفة كما قيده بها الشيخ يوسف القرضاوي، ومعاذ حين أصر على قتل اليهودي لم يسأل عما إذا كانت ردته غليظة أو خفيفة - ولو كان هناك فرق لوجب السؤال، لا سيما وفيه إنقاذ لنفس آدمية معاهدة.
وأبو بكر حين قتل المرأة المرتدة بحضرة من الصحابة لم تكن مقاتلة ولا حملت السلاح ولم يؤثر أن أحدا من الصحابة اعترض بأن ردتها خفيفة أو غير مضرة بمصالح الدولة وأمنها واستقرارها كما يؤول المعاصرون.
وهذه هي عادة المؤولين يعممون الخاص ويطلقون المقيد كما فعلوا في آية { لا إكراه في الدين } فعمموها على المسلمين وهي خاصة بأهل الكتاب. ويخصصون العام ويقيدون المطلق كما فعلوا هنا في الحديث. كل ذلك اتباعا للهوى وليس عن دليل.
10. أما الحجة الأكثر شهرة ورواجا وبريقا فهي اعتبارهم ما صدر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في شأن الردة من باب السياسة الشرعية أو الأمر السياسي
الذي يقول عنه الغنوشي ليس له علاقة بحرية العقيدة، وانه قرار تنفيذي سياسي، وليس حكما شرعيا كما يقول الشيخ يوسف القرضاوي وتبعه هويدي وغيره.(2/174)
وهو نموذج ومثال تطبيقي حي لمبدأ التفريق بين السنة التشريعية وغير التشريعية الذي تكلمت عليه، مما يدل على خطورة الاستغلال السيئ لهذا المبدأ، و استبعاد ما لا تهواه الأنفس من الأحكام الشرعية بذريعة أنه من السنة غير التشريعية التي قالها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو فعلها بصفته إماما وقائدا لا مبلغا ورسولا.
والأخطر أن يُنسب هذا الفهم لعمر بن الخطاب رضي الله عنه - وهو الذي ثبت عنه وجوب قتل المرتد.
أما أنه فهم سقيم فلما قدمنا من أن الأحاديث عامة مطلقة لا يجوز تأويلها بتخصيص أو تقييد إلا بدليل صحيح، ولا دليل، بل في الأدلة ما يدل على عكس ذلك.
فحين أبى معاذ أن يجلس حتى يقتل اليهودي الذي تهود بعد إسلامه قال: قضاء الله ورسوله وكررها ثلاث مرات، فهل قضى الله هذا الحكم بصفته إماما وقائدا - تعالى الله عما يقولون.
ثم قوله - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ حين بعثه إلى اليمن أيما رجل ارتد عن الإسلام فادعه فان أبى فاضرب عنقه، وأيما امرأة ….
فهذا الحديث جاء بلفظ نكرة " رجل " وصُدر بأي وما ثم أكد مرة ثانية بالنسبة للمرأة وهذا من أبلغ صيغ العموم كما قال الآمدي على حديث { أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها….. } الحديث(1).
ثم إذا كان الحديث قاله - صلى الله عليه وسلم - بصفته إماما، فلم قتل علي الزنادقة، ولم قتل أبو بكر المرأة دون نكير من أحد، وهل جهل الصحابة رضوان الله عليهم ومن بعدهم خير القرون هذه الحجة الواهية، ليتفطن لها أولئك المجددون؟!.
وهل يكون الصحابة ومن بعدهم الأمةُ على مدى أربعة عشر قرنا على ضلالة حين أجمعوا على وجوب قتل المرتد، ليأتي أولئك المجددون ويكتشفوا تلك الضلالة؟
__________
(1) سبق تخريجه.(2/175)
وقد قدمنا في مبحث السنة قول شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره من أن كل ما قاله عليه الصلاة والسلام بعد النبوة، وأقر عليه، ولم ينسخ، فهو تشريع، وبان السنة هي ما قام الدليل الشرعي عليه بأنه طاعة لله ورسوله سواء فعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو فعل على زمانه، أو لم يفعله، ولم يفعل على زمانه لعدم المقتضى لفعله أو وجود المانع منه(1).
فوجوب قتل المرتد هو حكم شرعي ثابت لا يتغير ولا يتبدل، وليس قرار تنفيذيا ولا سياسيا فليس هو إذن عقوبة تعزيرية كما يحلو لبعضهم وصفه، ولو كان قتل المرتد عقوبة تعزيرية لوجد من أئمة المسلمين الراشدين من قضى فيها بعقوبة مختلفة، ولما وقع الإجماع على وجوب القتل حدا.
وانظر إلى الهوى الواضح في استدلال هؤلاء، حيث جعل الحكم الشرعي الثابت بأحاديث صحيحة صريحة لا تقبل التأويل وبإجماع الصحابة ثم إجماع العلماء، جعلوه من السنة غير التشريعية والقرارات السياسية التنفيذية غير الملزمة.
وفي المقابل جاءوا إلى مشاورات الرسول - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه في بدر وأحد - وهي بحق قرارات سياسية وعسكرية تنفيذية غير تشريعية فجعلوها أحكاما تشريعية ثابتة محكمة، وهي تحتمل ما لا يحصى من التأويلات. فانظر إلى الهاوية والتناقض الذي يقود إليه الهوى والاعتقاد الفاسد.
11. احتجاجهم بأن الأحاديث في حد الردة هي أحاديث آحاد ظنية:
الشيخ يوسف القرضاوي استدل على القول بحبس المرتد بدلا من بسجن عمر لجماعة من بني بكر بن وائل- وتكلم عن قيام الضرورة الشرعية (خوف لحوقهم بالمشركين).
والمقام ليس مقام الكلام عن الضرورة، لأن أحدا لا يجادل في جواز تأجيل إقامة الحدود الشرعية إذا قامت الضرورة المعتبرة. وهو ما تكلمت عليه في اجتهاد عمر بإيقاف قطع يد السارق عام المجاعة.
__________
(1) مجموع الفتاوى الكبرى 21/317-318.(2/176)
وإنما يدور الكلام عن قتل المرتد من حيث المبدأ، وفي الأحوال العادية لا الاضطرارية. وأنها لذلك لا تصلح حجة في الأحكام الدستورية، كما ذهب إليه عبد الحميد متولي، وأنها لا تكفي لإيقاع عقوبة خطيرة كقتل المرتد.
فهذه بدعة أخرى تضاف إلى بدعة القول بعدم حجية خبر الآحاد في العقيدة، فأضاف إليها المعاصرون عدم حجيتها في الأحكام الدستورية، ولا ندري غدا هل يخرجونها من دائرة الحجية في العبادات أم لا؟ وعدم الاحتجاج بالأحاديث الظنية في الأحكام الدستورية قول مبتدع لم يقل به أحد من العلماء إطلاقا، وهو قول واه لا يستوي على ساق ولا قدم.
ومعلوم عند المبتدئين من طلاب العلم أن حديث الآحاد هو حجة توجب العمل عند كافة أهل العلم، وان كان وقع خلاف بينهم في إيجاب العلم والعمل معا. ووجوب قتل المرتد هو حكم شرعي عملي وليس مما اصطلح عليه بعلوم العقيدة والقول بعدم حجية أحاديث الآحاد في الأحكام الشرعية العملية يفضي إلى هدم الدين كله إذ غالب الأحكام الشرعية التفصيلية. ثبت بأدلة آحاد.
ثم إن فريقا من العلماء ذهب إلى أن أحاديث الآحاد تفيد اليقين والعلم فهي قطعية وليست ظنية، وخاصة إذا تلقتها الأمة بالرضى والقبول كما هو حال صحيحي البخاري ومسلم.
وقد قطع ابن الصلاح في مقدمته بأن ما اتفق عليه البخاري ومسلم، بل ما انفرد به كل واحد منهما " مندرج في قبيل ما يقطع بصحته لتلقي الأمة كل واحد من كتابيهما بالقبول، ويقول في القسم المتفق عليه " وهذا القسم جميعه مقطوع بصحته، والعلم اليقيني النظري واقع به خلافا لقول من نفى ذلك محتجا بأنه لا يفيد في أصله إلا الظن …… قال: لأن ظن من هو معصوم من الخطأ
-الأمة – لا يخطيء.
والأمة في إجماعها معصومة من الخطأ، ولهذا كان الإجماع المبني على الاجتهاد حجة مقطوعا بها وأكثر إجماعات العلماء كذلك(1).
__________
(1) انظر: الإمام ابن الصلاح أبو عمرو عثمان بن عبد الرحمن الشهرزوري: علوم الحديث ص27،28.(2/177)
وهذه " الظنية " عند من يقول بها لا تقتصر على أحاديث الآحاد بل تنسحب على دلالة كثير من آيات القرآن الكريم… فمن المعلوم أن آيات القرآن الكريم كلها قطعية من حيث الثبوت، أما من حيث الدلالة فمنها ما هو قطعي ومنها - وهو الغالب - ما هو ظني الدلالة.
ومن يرفض حجية أحاديث الآحاد لكونها عنده ظنية، يلزمه رفض حجية الآيات ظنية الدلالة أيضا - ولا مفر. ما دامت العلة واحدة. فهل هذا ما أراده المهدي وغيرهم، وماذا تبقى من الدين وشرائعه إن أقرت هذه البدع.
وقبل هذا وذاك فإن حد الردة قد ثبت بالإضافة إلى السنة بإجماع الصحابة ثم إجماع العلماء عصرا بعد عصر. والإجماع حجة قطعية لا ظنية.
12. ونأتي الآن إلى أحد أركان استدلالهم على نفي حد الردة " القتل " وهو فهمهم الخاطئ لرأي الإمام إبراهيم النخعي والإمام سفيان الثوري. بل وراي عمر بن الخطاب القاضي أنهم لا يقولون بوجوب قتل المرتد.
ونبدأ بعمر رضي الله عنه.
- عمر بن الخطاب يقول بوجوب قتل المرتد مطلقا:
فقد ذكرنا أن أبا بكر قتل في خلافته امرأة ارتدت مع توافر الصحابة دون أن ينكر منهم أحد. وكان عمر في مقدمة هؤلاء ولا بد. إذ هو جليسه ووزيره.
ونقلت قول ابن قدامة وقوع إجماع أهل العلم على قتل المرتد وأن ذلك مروي عن جملة من الصحابة، ومنهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه مع التصريح باسمه.
وهو ما ذهب إليه الشيخ يوسف القرضاوي بأن عمر ربما ظن أن قوله - صلى الله عليه وسلم - ليس للتشريع أو أنه فهم منه التعزير لا الوجوب، وأنه لذلك حبس من حبس من المرتدين من بكر بن وائل.
مما يدل أن عمر حبسهم للاستتابة لأيام، وانه لم ير استبدال الحبس بحد القتل، ونقلت اتفاق عمر وعلى وسائر الصحابة على جلد قدامة بن عبد الله إن اعترف بتحريم الخمر واتفاقهم على قتله إن أصر على استحلالها، وذلك لأنه ردة عن الإسلام.(2/178)
ومما يؤكد ما قلته أن عمر أراد من حبس هؤلاء مجرد الاستتابة لأيام وليس الحبس كعقوبة بدل القتل، انه قد روي عنه أن المرتد يستتاب ثلاثا، فإن تاب ترك، وان أبى قتل(1).
ومثله ما روي عن ابن عباس، أنه قال في الرجل يرتدعن الإسلام: من ارتد منهم فأبى - أي العودة إلى الإسلام بعد الدعوة إليه - فلا يقبل منه دون دمه(2).
فكيف يجوز أن يترك الإجماع المنقول والثابت عن عمر، وهذه الروايات المفسرة لقوله وفعله
– إن صح عنه – ويتعلق بفعله المجمل - نفترض ذلك جدلاً - ، هذا مع تركه للأحاديث الصحيحة التي قدمناها وإجماع الصحابة، ومن بعده إجماع العلماء (1)
- إبراهيم النخعي يقول بوجوب قتل المرتد حداً لا بحبسه مطلقا:
المرتد إذا ارتد للمرة الأولى، وجبت أو استحبت استتابته - على خلاف بين العلماء - ولكن إذا ارتد للمرة الثانية والثالثة، فهل يدعى إلى التوبة؟ أم يقتل من فوره؟ في ذلك خلاف بين العلماء أيضا. وإبراهيم النخعي يرى انه يستتاب أبداً، أي كلما ارتد دعي إلى التوبة حتى لو كان ارتداده عن الإسلام للمرة الثانية والثالثة والرابعة.
وقد نقل ابن حجر ما روى عن إبراهيم النخعي من أن المرتد يستتاب أبدا ثم قال -أي ابن حجر-: كذا نقل عنه مطلقا، والتحقيق أنه فيمن تكررت منه الردة(3)
__________
(1) انظر: د. قلعجي محمد رواس: موسوعة فقه عمر بن الخطاب – عصره وحياته، ص430.
(2) انظر: د. قلعجي: موسوعة فقه عبد الله بن عباس ص346-347.
(3) مع أن الشيخ يوسف القرضاوي شنع في غير كتاب له على الذين يردون الأحاديث الصحيحة بالشبهات والاوهام أو لأنها تخالف ذوق العصر ، انظر كتابه: المرجعية العليا للقرآن والسنة – ضوابط ومحاذير في الفهم والتفسير ص131.
(2) انظر: فتح الباري 12/282.(2/179)
، فهذا معنى ما نقل عن إبراهيم النخعي من أن المرتد يستتاب أبدا، وهذا مراده، وليس مراده أنه يودع في السجن أبداً حتى يتوب، ما يعني استبدال الحبس بحد القتل. وتفسير قوله هذا ليس ظنا ولا توهما، بل دلت عليه آثار عنه مصرحة بقتل المرتد ومنها: ما ذكره البخاري في صحيحه من كتاب استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم - باب حكم المرتد والمرتدة واستتابتهم، وقال ابن عمر والزهري وإبراهيم تقتل المرتدة. وإبراهيم هو النخعي كما قال ابن حجر في الشرح(1)، وهو ما رواه عنه عبد الرزاق وابن أبي شيبة عن المرأة ترتد قال: تستتاب فإن تابت وإلا قتلت (2)".
فإذا كان إبراهيم النخعي يرى قتل المرأة المرتدة - وهي قد وقع الخلاف في قتلها - فهل يعقل أنه لا يرى قتل الرجل إذا ارتد عن الإسلام؟وذكر ابن قدامة إبراهيم النخعي فيمن يقول " لا يقتل المرتد حتى يستتاب ثلاثا "(3). وذكر ابن حجر أثرا أخرجه سعيد بن منصور عن إبراهيم النخعي قال: إذا ارتد الرجل أو المرأة عن الإسلام استتيب فإن تابا تركا، وإن أبيا قتلا(4).
فكيف يجوز لبعض اهل العلم أن يتابع كتابا و صحفيين وسياسيين على قولهم أن إبراهيم النخعي يرى حبس المرتد بدلا من وجوب قتله؟.
وكيف يجوز لهم تخطي الأحاديث الصحيحة القاضية بوجوب قتل المرتد وتخطي إجماع الصحابة و إجماعات العلماء جيلا بعد جيل، والروايات الصحيحة المفسرة عن إبراهيم النخعي بوجه خاص، والاتكاء على قول مجمل، هو رواية ضعيفة عنه كما حققه ابن حجر(5)؟!.
وأية منهجية أصولية هذه التي تهدر أحاديث الصحاح الصريحة وإجماعات الصحابة والعلماء ثم تتكئ على قول شاذ ورواية ضعيفة؟ وأي قيمة لمنهجية تصيد الأقوال الشاذة والآراء الضعيفة هذه؟.
__________
(1) انظر: فتح الباري 12/279،280.
(2) انظر: المصنف لعبد الرزاق 10/176، و مصنف ابن أبي شيبة 7/602.
(3) المغني والشرح الكبير 10/74.
(4) فتح الباري 12/281.
(5) المرجع السابق: 12/281.(2/180)
وهل هذه القراءة العصرية للنصوص وللتراث التي تطرح منه، ما ليس مناسبا حسب شعار هويدي والصادق المهدي؟ ومن الذي يحدد أن هذا حكم مناسب وذلك حكم غير مناسب؟ هل هي قرارات الأمم المتحدة ومواثيق منظمات حقوق الإنسان؟.
نعم هذا ما صرح به الصادق المهدي وفهمي هويدي وغيرهم، مما يكشف عن مرجعياتهم في النظر الاجتهادي وهو تلك القرارات والمواثيق الكافرة، وليس استشهادهم بآيات وأحاديث من هنا، وهناك إلا تمسحا وتمويها على القارئ، وتشبها بأهل العلم في الاجتهاد.
وأما تزوير الغنوشي على السرخسي وابن القيم، فأكتفي بما ذكرته صريحا عنهما في قطعهما بوجوب قتل المرتد إجماعا.
- سفيان الثوري يقول بوجوب قتل المرتد:
قد ذكرت ثبوت إجماع العلماء والمسلمين على وجوب قتل المرتد، ولو خالف فيه الثوري لما انعقد الإجماع عليه ولما صح نقله بهذا التواتر. ثم إن ابن قدامة قد صرح بأن الثوري يقول بوجوب قتل المرتد بعد استتابته ثلاثا(1). ونقل عبد الرازق عن سفيان الثوري قوله: إذا قتل المرتد قبل أن يرفعه إلى الإمام فليس على قاتله شيء(2)، وهذا يعني أنه يرى أن دمه هدر.
وهذه النقول المصرحة برأيه في وجوب قتل المرتد تفسر ما ذكره عنه من أن المرتد يستتاب أبدا(3). أي إن تكررت منه الردة، كما أجبنا على ذات المقولة لإبراهيم النخعي.وبهذا الإيضاح والرد يثبت أن الردة جريمة وأن عقوبتها القتل حدا لا تعزيرا، وأن ذلك ثابت بالسنة والإجماع، وأنه حكم محكم لا مجال لتأويله أبدا.
ويثبت أن حرية الاعتقاد والرأي بالمفهوم الغربي الذي وضحناه تجر إلى الكفر البواح، وأنه لا يحل القول بها ولا الترويج لها.
ويثبت أن كل ما يسيء إلى الإسلام عقيدته وشريعته يجب منعه، ومنع الدعوة إليه ولو صدر ممن يعتقد حله كذمي.
__________
(1) المغني والشرح الكبير 10/76.
(2) المصنف لعبد الرزاق 9/418.
(3) نفس المصدر 10/166.(2/181)
كما ويثبت أن ما يسمى بالتعددية الحزبية والسياسية ليست من الإسلام في شيء، لأنها دعوة إلى استقطاب الناس على الكفر.
المطلب الثاني: التأويل في مفهوم المواطنة
في سياق موجة التجديد والقراءات العصرية للشريعة الإسلامية والفقه الإسلامي التي تغص بها ساحة الفكر الإسلامي الحديث، لم يَفُتْ فرقَ التجديد والعصرنة إعادة قراءة الأحكام الخاصة بغير المسلمين في المجتمع الإسلامي والمعروفة بين أهل العلم بأحكام أهل الذمة؛ لأن مفاهيم المواطنة التامة والمساواة وحقوق الإنسان ذات المنبت الغربي جاءت منافية لما قررته نصوص القرآن والسنة وفقه سلف هذه الأمة.
فشمروا ساعد الجد في تأويل تلك النصوص وتحريفها بتقييدها تارة، وتخصيصها تارة أخرى ونسخها طورا ثالثا وادعاء تعارضها مع القواعد الكلية والمقاصد العامة للشريعة الإسلامية طورا رابعا. أو بادعاء تاريخية تلك الأحكام، وأنها جاءت كإفراز طبعي لحالة الحروب التي سادت في فترة الحروب الصليبية والغزو التتري لبلاد المسلمين، مما يجعلها خاصة مقيدة بتلك الفترة وأشباهها. غير صالحة في زمن المساواة بين المواطنين وفي زمن العلاقات الدولية الودية!
وسأستعرض أهم الآراء التي رأيت أنها انحرفت عن مدلولات النصوص الصريحة والصحيحة من القرآن والسنة، وخالفت إجماع العلماء وسلف الأمة، ولن أتعرض لكل المسائل المتعلقة بأحكام أهل الذمة ولا إلى ما كان فيه متسع للخلاف بين العلماء.
وقبل ذلك أرى ضرورة إيضاح مفهوم المواطنة ونشأته وأبعاد القول به، كما ينظِّر له دعاته من "المفكرين الإسلاميين".
تعريف المواطنة ونشأته:(2/182)
إن كلمة "مواطن" تعبير لم يظهر ولم يجر تداوله إلا بعد الثورة الفرنسية سنة 1789م. أما قبلها فالناس ملل وشعوب وقبائل لا يعتبر التراب - إلا تبعا لشيء من ذلك- وسيلة من وسائل الارتباط(1).
فالمواطنة أساس الانتماء الذي أكد على الوطنية هوية للدولة الحديثة، والمواطنة انتماء إلى تراب تحده حدود جغرافية، فكل من ينتمون إلى ذلك التراب مواطنون يستحقون ما يترتب على هذه
المواطنة من الحقوق والواجبات التي تنظم بينهم بمقتضى هذه النسبة –العلاقة- لا بمقتضى شيء آخر من سائر العلاقات فالرابطة بينهم رابطة علمانية دنيوية(2).
فالمواطنة بمفهومها المذكور لا تتحقق عند أهلها إلا في ظل العلمانية الدنيوية وفي إطار سيادة مفاهيمها ونظامها ومنهجها في الحياة.
فهناك نوع من التلازم بين المواطنة وبين العلمانية، أي الدنيوية لتكون العلمانية الدنيوية مضمونها الفكري(3). والعلمانية الدنيوية استهدفت إذابة الفوارق بين الناس(4).
فتبني مفهوم المواطنة هذا يذيب الفوارق بين الناس في المجتمع الإسلامي ويفرض المساواة التامة بينهم بصرف النظر عن العقيدة والدين.
فيساوي بين كل "المواطنين" في جميع الحقوق وفي جميع الواجبات، مما يعني بالنسبة لنا نحن المسلمين تجويز تولي كل الوظائف العامة بما فيها القضاء ورئاسة الوزراء وقيادة الجيش وحتى الإمامة العظمى لغير المسلمين من اليهود أو النصارى أو الدروز أو أية ملة أخرى في المجتمع الإسلامي.
__________
(1) من مقدمة د. طه جابر العلواني لكتاب " حقوق المواطنة – حقوق غير المسلمين في المجتمع الإسلامي" ص12، راشد الغنوشي،.
(2) المرجع السابق: ص10.
(3) نفس المصدر ص10.
(4) نفس المصدر ص12.(2/183)
كما يعني إسقاط الأحكام الخاصة بهم والمتعلقة بحرمة إقامة معابد وكنائس وحرمة إظهار شعائرهم الدينية. إلا أن القضية التي احتلت مركز الاهتمام لدى المؤولين هي "الجزية" بسبب ورود نص صريح قطعي في القرآن بشأنها. فحاولوا التخلص من هذه "الضريبة المذلة المهينة" حسب عبارتهم -بشتى الوسائل.
هذا ويعد راشد الغنوشي وفهمي هويدي من أكثر المتحمسين لمفهوم المواطنة هذا. حيث أفرده الأول بكتابه المذكور، وأفرده الثاني بكتاب له سماه "مواطنون لا ذميون" وهذا العنوان الصارخ يختزل المواقف العلمانية الإحلالية، حيث يثبت مفهوم المواطنة بكل أبعاده ومضامينه الثقافية في ذات الوقت الذي يقصي ويستبعد مفهوم "أهل الذمة" بما يحمله من أحكام شرعية ثبتت بنصوص الوحي بعضها قطعي الثبوت والدلالة.
وتعد منظمات حقوق الإنسان برموزها العلمانية حاملة للواء هذه الدعوى، وصار مفهوم المواطنة منذ زمن ليس بالقريب يلقى رواجا بين طائفة من "أهل العلم" والدعاة والمفكرين وقيادات العمل الإسلامي، حيث أصبحوا بفضل الانهزامية النفسية والفكرية من أشد المتحمسين والمنادين بهذا الشعار المضلّل.
ومن هؤلاء د.طه جابر العلواني وهو من علماء الأصول المعروفين، والدكتور حسن الترابي، والصادق المهدي، ود.عبد المنعم نمر، ود.توفيق الشاوي، ود.يوسف القرضاوي الى حد ما.
وأهم المحاور التي تتركز عليها مقولاتهم في موضوع "المواطنة" هي:
1. إعادة النظر في أحكام أهل الذمة واعتبارها أحكاما تاريخية:
حيث يرى هؤلاء المؤولون أن "أحكام أهل الذمة" المعروفة في كتب العلماء أفرزتها ظروف تاريخية غير طبعية، ظروف تخللتها الحروب والصراعات الدينية والسياسية؛ ولذلك جاءت تلك الأحكام ملبية ومناسبة لظلال تلك الحروب.
ويضرب هويدي مثلا على ذلك بكتاب "أحكام أهل الذمة" لابن قيم الجوزية حيث ألفه في ظلال الحروب الصليبية وزحف التتار.(2/184)
ولذلك فإن موضوع أهل الذمة عنده يحتاج إلى معالجة أوسع وأكثر عصرية، هذه المعالجة التي تتمثل في تنقية التراث من الشوائب التي تعتريه في هذا الصدد، وفي مراجعة بعض الاجتهادات الفقهية.
ومع أنه أكد على ضرورة التفريق بين ما هو شريعة ملزمة، وبين ما هو فقه غير ملزم، إلا أنه لا يرى في أحكام أهل الذمة شيئا ملزما بدليل إنكاره لحكم الجزية على الرغم من ورود نص صريح به(1).
وبثقة مفرطة بأوهام، هي أوهى من خيوط العنكبوت يقرر محمد جلال كشك أنه "لم تعد هناك قضية ذميين أو أهل ذمة فتلك قضية تاريخية مصاحبة للفتح وللدولة التي قامت على أساس الفتح الإسلامي، ولا وجود لها اليوم، فكل الأوطان العربية يسكنها مواطنون شركاء في الوطن والتاريخ والحقوق والواجبات".(2)
أما الدكتور محمد عمارة فزعم أن الجزية إنما فرضت على طائفة خاصة من أهل الكتاب لا تدين بالتوحيد ولا تؤمن بالله واليوم الآخر، ويبين سبب اعتقاده هذا بان جمهور المتحدثين باسم الدين يدعون إلى تطبيق الشريعة الإسلامية، وغير معقول -في نظره- تطبيق الشريعة الإسلامية
على غير أهلها، والجزية عنده من الأمور الدنيوية التي لا يحكمها دين، ويوحدها الوطن، وهو محور ولاء الجميع(3).
ويؤيدهم في هذه المسالك راشد الغنوشي، حيث ذهب إلى أنه ليس في الإسلام ما يفرض استعمال مصطلح "أهل الذمة". ولذلك فلا حاجة للإبقاء عليه بعد أن استقرت العلاقة داخل المجتمع الإسلامي على أساس المواطنة وخارجه على أساس التعاهد، وعزاه إلى د.محمد سليم العوا وفهمي هويدي.
__________
(1) انظر: الصحوة الإسلامية وهموم الوطن العربي ص207-208.
(2) محمد جلال كشك: خواطر مسلم ( الجهاد – الاقليات – الاناجيل ) ص80.
(3) مجلة الهلال، عدد مارس سنة 1939، شهر محرم ص64،84، نقلا عن: السنة المفترى عليها ص189،251.(2/185)
ولذلك فهو يرى كسابقيه أنها أحكام ظرفية – تاريخية- اقتضتها ظروف الحروب ناسبا هذا القول للدكتور محمد عمارة(1) أيضا.
ومع أن د.طه جابر العلواني يعي مثلهم أبعاد هذه المقولات، ويعلم أن هناك تلازما بين المواطنية وبين العلمانية الدنيوية، ويعلم أن المواطنة ذات مضمون فكري علماني، وأنها لا يمكن أن تتحقق إلا في ظل العلمانية الدنيوية، وفي إطار سيادة مفاهيمها ونظامها ومنهجها في الحياة.
كما أكد ذلك بنفسه فيما سبق، ومع انه عارض استعارة المفاهيم ذات النسق الحضاري المختلف وذات الجذور والأصول الوثنية والقواعد المغايرة، لأنها تكون مشحونة في العادة بجملة من الأفكار متصلة بكثير من القواعد، ومؤدية إلى كثير من الآثار في مختلف جوانب الحياة.
مع ذلك كله نجده -ويا للعجب- يمتدح راشد الغنوشي، ويثني على "اجتهاداته" التي خرج بها في موضوع "المواطنة" لأنه برأيه أعلن عن اتساع الإسلام لقبول مفهوم المواطنة كما هو في "الوعي المعاصر" ولأنه دلل لهذا القبول، وعلل له، وأصّل له، ليكون اجتهادا معتبرا شرعا تستجيب له القلوب المسلمة، وتقبله العقول(2). ولذلك يدعو العلواني إلى إعادة النظر في أحكام أهل الذمة، لأنها تعرضت في الحاضر لسخط العلمانية الدنيوية بكل فصائلها وتوجهاتها(3).وهو يأسف أن هؤلاء العلمانيين، لم يقابلوا ما قدمه الإسلاميون من "مواقع اجتهادية تأويلية متقدمة"؛ لم يقابلوه بما يستحق.
وأنهم بدلا من ذلك احتلوا مواقع الماضويين، واحترسوا بذات النصوص التي يحترس بها الماضويون، والتي تنفي إمكان المساواة التامة بين كل المواطنين(4).
__________
(1) حقوق المواطنة – مرجع سابق ص57،29.
(2) من تقديمه لكتاب راشد الغنوشي – حقوق المواطنة ص12.
(3) نفس المصدر ص14.
(4) نفس المصدر ص19.(2/186)
ويؤكد أن الإسلاميين يؤصلون ما يطرحه العلمانيون من إشكالات كالديمقراطية والتعددية ومفهوم الحريات والمواطنة، وأعلنوا بها وبقبولها، وأصلوا لها دون تحفظ، وشاركوا فيها. إلا أن العلمانيين للأسف، ما زالوا يرفضون الاستماع إليهم أو تصديقهم(1).
وبمثل هذه النظرة الازدرائية للتراث والفقه الإسلامي، وبمثل هذه العقلية الاستجدائية لرضا الغرب والعلمانيين والنصارى، وبمثل هذه التأويلات المتخلفة عن هدي القرآن والسنة لا المتقدمة وبمثل هذه المنهجية المعرفية الفوضوية لا العلمية، تنادي طائفة عريضة من مدرسة تعطيل النصوص المحكمة وتأويلها من المفكرين والدعاة و"أهل العلم"، وهم كثرة لا يكادون يحصون، منهم على سبيل المثال د.توفيق الشاوي حيث قدم لكتاب الغنوشي المذكور، وأثنى عليه وعلى اجتهاداته فيه(2)، والصادق المهدي، وحسن الترابي، وأمين شقير وغيرهم(3).
2- إلغاء الجزية كحكم شرعي:
حيث يرى الغنوشي إسقاط الجزية عن أهل الذمة، إذا ساهموا مع المسلمين في حماية الوطن؛ لأنهم يدفعونها مقابل حماية المسلمين لهم، وليس بسبب الكفر.
ولذلك يقترح إنشاء جيش وطني تفرض فيه الخدمة على كل المواطنين بقطع النظر عن ديانتهم. كبديل لفرض الجزية على غير المسلمين، ثم توحيد الضرائب اسما ومقدارا على كل مواطني الدولة الإسلامية طالما أمكن فرض الخدمة العسكرية الإجبارية على الجميع(4).
__________
(1) نفس المصدر ص11.
(2) انظر: تقديمه للكتاب ص25،26،27.
(3) انظر: الصحوة الإسلامية وهموم الوطن العربي ص222-240، الصادق المهدي: العقوبات الشرعية ص137.
(4) انظر: حقوق المواطنة – راشد الغنوشي ص136.(2/187)
ويتفق معه تماما في هذا الطرح عبد المنعم نمر معللا ذلك بأن الجزية ناتجة عن قتال دفاعي، يضطر فيه المسلمون إلى قتال النصارى، من غير أن يبدؤوهم به(1).ومما خطر على بال محمد جلال كشك أنه "لا مجال للحديث عن الجزية، فهي قد شرعت من نص الآية على المحاربين الذين ينهزمون ويرفضون الدخول في الإسلام، ونحن لا نحارب مواطنينا المسيحيين، ولا نعرض عليهم لا الإسلام ولا السيف"(2).
وهكذا بكل جراءة يلغى نص آية محكمة بخاطرة تخطر على بال مسلم؟! وفي استعراض فهمي هويدي لمواقف تيارات الصحوة الإسلامية، يلاحِظ أن دستور الجبهة القومية الإسلامية التي يرأسها حسن الترابي لا تتضمن أية إشارة إلى عقد الذمة أو إلى مسألة الجزية(3).
وفي تعقيبه على بعض آراء العلماء المسلمين المعاصرين، الذين أصروا على بقاء أحكام أهل الذمة، ومنها وجوب الجزية.
ويصف تلك الأقوال بأنها معالجة حادة وغير ودية، متهما إياهم بأنهم إنما يقبلون بغير المسلمين على مضض، وبأنهم يتعاملون معهم بنظرة فوقية محكومة برؤية الغالب للمغلوب، الأمر الذي يصادر أي حديث عن المساواة بين الطرفين(4).
__________
(1) انظر: د. عبد المنعم عز: شبابنا وقضايا دينهم ص71-74.
(2) محمد جلال كشك: خواطر مسلم ص80.
(3) انظر: الصحوة الإسلامية وهموم الوطن العربي ص202: اعمال ندوة عقدها منتدى الفكر العربي بالتعاون مع مؤسسة آل البيت لبحوث الحضارة الإسلامية بتاريخ 14-16/3/1987م، تحرير وتقديم د. سعد الدين إبراهيم – الناشر منتدى الفكر العربي.
(4) نفس المصدر 196-198.(2/188)
وفي الندوة المخصصة لهذا الموضوع، أكد معظم المتداخلين على وجوب المساواة التامة بين المسلمين والنصارى وسائر الطوائف. كما أكدوا جميعا على رفض حكم الجزية بوصفها ضريبة مهينة، وقال أحدهم وهو نصراني: لا نريد إسقاط الجزية مقابل الخدمة العسكرية لأنها ساقطة أصلا … إننا مواطنون لا ذميون، وإن هذا وطننا جميعا، ولا أسميه ديار المسلمين(1).
ومع أن هويدي لم ينكر حكم الجزية صراحة إلا أن وصفه لقول القائلين بوجوبه بالمعالجة الحادة وغير الودية، يفهم منه أنه لا يميل إليه، ولا يؤيده.
ويتفق الشيخ يوسف القرضاوي مع القول بإسقاط الجزية مقابل الخدمة العسكرية، وفي حالة تَوَجِّبِ دفعها، فلا يلتزم أن تسمى جزية، بل تسمى ضريبة، ما داموا يأنفون من ذلك أسوة بعمر حين أخذ الجزية من نصارى بني تغلب باسم الصدقة تألفا لهم واعتبارا بالمسميات لا الأسماء.
كما يرى الشيخ يوسف القرضاوي أن "الصغار" في آية الجزية هو التسليم وإلقاء السلاح والخضوع لحكم الدولة الإسلامية وليس المهانة والذلة(2).
وفي كتابه "الجهاد في الإسلام: كيف نفهمه وكيف نمارسه" تعرض الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي لأحكام أهل الذمة ومنها الجزية، حيث نسب هذه التسمية إلى الفقهاء(3).
كما ذهب إلى جواز تسميتها بأي اسم آخر استدلالا بفعل عمر مع نصارى بني تغلب(4)2)، وقرر أن الصغار في الآية جزاء رتبه الله على الحرابة "ومعاذ الله أن يكون مرتبا على كفر أو انتساب إلى كتاب"(5).
__________
(1) نفس المصدر ص238، والقائل هذا هو د. فهد الفانك، كاتب أردني نصراني معروف.
(2) د. يوسف القرضاوي: غير المسلمين في المجتمع الإسلامي ص56، 23، 32، 34.
(3) د. البوطي محمد سعيد رمضان: الجهاد في الإسلام كيف نفهمه وكيف نمارسه ص123.
(4) نفس المصدر ص135.
(5) نفس المصدر 131.(2/189)
هذا ملخص ما قيل ويقال في موضوع الجزية أنها ضريبة مالية بدل الخدمة العسكرية، وليست مرتبة على الكفر، وأن الصغار قصد به الخضوع للأحكام لا الذلة والمهانة، وأنه يجوز أخذ الصدقة مكانها أسوة بفعل عمر مع نصارى بني تغلب، وعند بعضهم أنها حكم تاريخي واجتهاد فقهي عفا عليه الزمن، وهو يتناقض مع سماحة الإسلام ومقاصد الشريعة وقواعدها القاضية بالمساواة بين الناس، إضافة إلى عدم تناسبه مع مفاهيم حقوق الإنسان والأعراف الدولية الحاضرة.
ولذلك تجب إعادة النظر في أحكام أهل الذمة عامة والجزية على وجه الخصوص(1).
فما حقيقة هذه الدعوى؟ وما هو رصيدها من المصداقية في ضوء نصوص القرآن والسنة وفهم سلف الأمة من الصحابة والتابعين والأئمة الأثبات؟ ذلك ما سنراه في الرد إن شاء الله.
3. المساواة التامة بين "المواطنين" في الحقوق والواجبات:وعندهم أن هذه نتيجة بدهية تلقائية لمفهوم المواطنة القائم على أساس الرابطة الجغرافية المحددة بحدود الوطن.
فما دامت الرابطة هي التراب، وليس العقيدة والدين، فما الذي يمنع من المساواة التامة بين المواطنين؟ وما الفرق حينئذ بين مسلم ونصراني ويهودي ودرزي ومجوسي؟
وعليه نادوا بالمساواة في كل شيء مثل حق إظهار آرائهم وأفكارهم وعقائدهم وشعائرهم والإعلان عنها والترويج لها بشتى الوسائل الممكنة.
كما نادوا بحقهم في تولي كل الوظائف العامة بدون استثناء مثل القضاء وقيادة الجيش وحتى الرئاسة العظمى(الإمامة).
بل وطالب بعضهم -تطبيقا لهذه المساواة وتحقيقا لمفهوم المواطنة- إباحة زواج المسلمة من أي مواطن كتابيا كان أو وثنيا.وممن أطلق العنان لعقله في تأصيل هذه الدعاوى وتدعيمها -باستثناء زواج المسلمة من الكتابي- بما يظنه أدلة شرعية من ذكرتهم من المفكرين والدعاة و"أهل العلم".
__________
(1) انظر: الصادق المهدي: العقوبات الشرعية ص137.(2/190)
حيث يرى الغنوشي أن المجتمع الإسلامي يقوم على الاشتراك في المواطنة على أساس المساواة في الحقوق والواجبات والمشاركة في الشؤون العامة على أساس الكفاءة والأمانة، وأنه يجب تقرير حق المساواة ( المطلقة ) في كل شيء ومنها حريتهم -أهل الذمة- في إظهار عقائدهم
ونشرها بشتى الوسائل، وأن لهم الحق في تولي كل الوظائف العامة في الدولة الإسلامية بما فيها رئاسة الوزراء والوزير الأول ما عدا وظيفتي الإمامة وقيادة الجيش.
مؤكدا على وجوب إلغاء ما يتعارض مع أساس "العدل" كما يفهمه - من الأحكام الفقهية الفرعية(1). وهو ما وافقه عليه في مقدمة كتابه الشاوي حيث أكد على ضرورة استبعاد الأحكام المخلة بمبدأ المساواة(2).
وتطبيقا لهذه المساواة أجاز قيامهم بانتخاب رئيس الدولة، مع أنه ذكر أن الفقهاء اشترطوا في من ينتخب الإمام ما اشترطوه في الإمام نفسه، وأجاز إعطاءهم من الزكاة معتمدا على رأي نسبه للقرضاوي ود. عبد الكريم زيدان وبعض المذاهب المنحرفة كالأباضية والزيدية، مع أنه ذكر أن ابن المنذر نص على انعقاد الإجماع على عدم جواز ذلك.
وفي المقابل أجاز أخذ الزكاة منهم بوصفها ضريبة، إذا رأى أولو الأمر ذلك لتفادي التفرقة بين المواطنين في الدولة الواحدة(3)، وقال بقتل المسلم بالذمي اتباعا لرأي الحنفية وميلا عن الحديث الصحيح (لا يقتل مسلم بكافر)، واقترح توحيد الضرائب اسما ومقدارا على كل المواطنين، وغير ذلك(4).
__________
(1) انظر: حقوق المواطنة ص48، 66، 68، 79، 35.
(2) نفس المصدر، المقدمة ص26.
(3) نفس المصدر ص84، 90، 102.
(4) نفس المصدر ص108، 136، والحديث سيأتي تخريجه.(2/191)
هذا ولا تكاد تجد أحدا من هؤلاء "المفكرين والكتاب" تعرض لموضوع غير المسلمين في المجتمع الإسلامي، إلا وتراه يؤكد على عبارة اشتهرت "لهم ما لنا وعليهم ما علينا" حتى اعتبرها بعضهم لفرط جهله أنها الأساس الدستوري الإسلامي في كفالة المساواة الدائمة، وأنه لا يجوز لأحد أن ينقح الحكم الشرعي فيجعله "لهم بعض ما لنا وعليهم بعض ما علينا"(1).
وانظر مثيلها عند عبد المنعم نمر(2).وأما الترابي فيرى أنهم في السودان عالجوا _ "قضية" الدين في إطار من الديمقراطية، فأسسوها في جانب على الحرية والمساواة والبحث عن المشترك في الأديان، حتى يكون هناك معان تشترك فيها مع المسيحي ويكون المتدين المسيحي أقرب إليك من كثير من المسلمين أصحاب البطاقة غير المتدينين"(3)؟!
ومع أن فهمي هويدي كثير الإلحاح على المساواة التامة، إلا انه خرج برأي خاص في مفهومه للمواطنة حيث رأى أنها يجب أن تقوم على مبدأ العدالة لا مبدأ المساواة، لأن مقتضى العدالة أن يعطى كل ذي حق حقه بالنظر إلى الظروف الموضوعية المحيطة، بينما تقتضي "المساواة" التماثل بين جميع الأطراف في الشكل والموضوع، مع أنه عمليا ليس من العدالة فرض المساواة بين الأكثرية والأقلية مضيفا أن دعوة المساواة التامة، قد تقود إلى عدم التمييز بين المسلمين والنصارى في الوظائف ذات الصبغة الدينية أو إلى الدعوة إلى زواج الكتابي من المسلمة، ولهذا كله فهو يرى أن الدعوة إلى المساواة التامة تصبح شعارا براقا ومعيارا مغلوطا، ويظل العدل هو المعيار الأكثر موضوعية وإنصافا(4).
__________
(1) محمد جلال كشك : خواطر مسلم ص80.
(2) شبابنا وقضايا دينهم ص74.
(3) الصحوة الإسلامية وهموم الوطن العربي ص240، ولعل هذا الاعتقاد هو الذي دفعه للتحالف مع الجيش الشعبي لتحرير السودان بقيادة صنيعة الصليبية العالمية جون قرنق ضد إخوانه المسلمين كما فعل مؤخراً.
(4) المرجع السابق: ص206-207.(2/192)
هذه المحاور التي تركزت عليها طروحات دعاة المواطنة التامة، وسآتي عليها بالرد والتفنيد في النقاط التالية:
أولا: مفهوم المواطنة يستلزم إقصاء الشريعة وسيادة العلمانية:
الآن وقد تبين لنا مفهوم المواطنة ونشأته وأبعاد المناداة به، فما هو رصيده في واقع الإسلام؟ وهل يحل لمسلم يعلم أن الإسلام جعل العقيدة معيارا في كل شيء، أن يستبدل هذا المعيار والمقياس بمعيار آخر هو الطين والتراب؟
المواطنة تصنف الناس على أساس قطري وعرقي وهي كما قدمنا رابطة وضيعة عنصرية، أما الإسلام فيصنفهم على أساس عقائدي فكري: مسلم وكتابي ومشرك، يصنفهم على أساس موقفهم من توحيد الله خالقهم ورازقهم. فكيف يجوِّز هؤلاء المؤولون استبدال هذا المعيار، واستيراد معيار عنصري قومي؟
أي علمية وأية منهجية معرفية تجيز تفصيل أحكام شرعية تنتهي إلى دين رباني على مقياس مفاهيم بشرية مستحدثة، لم تظهر إلا حديثا؟!المواطنة كما أقر العلواني نفسه، رابطة دنيوية علمانية وذات مضمون فكري علماني، ولا تتحقق إلا في ظل العلمانية وسيادة مفاهيمها ونظامها ومنهجها في الحياة. فهل يفهم من هذا أن العلواني والغنوشي وهويدي وكل هؤلاء يدعون إلى تحقيق العلمانية وسيادة مفاهيمها ونظامها في الحياة؟ وإلا فكيف يمكن تفسير إدراكهم لذلك المضمون وفي ذات الوقت مناداتهم به وتحمسهم الشديد له إلى درجة تجاوز النصوص القرآنية والنبوية الصريحة والصحيحة وإجماع العلماء؟
فهذا هو مفهوم المواطنة في "الوعي المعاصر" والعلواني يعلن بدون تحفظ أن "الإسلاميين" يقبلون مفهوم المواطنة، كما هو في الوعي المعاصر؟ فأي ضلال بعد هذا؟
والعجب من قول الترابي أنهم في السودان عالجوا قضية الدين في إطار من الديمقراطية؟ فالدين عنده ليس أكثر من قضية من القضايا التي سمحت بها الديمقراطية، فالديمقراطية هي الأساس، وهي نظام الحياة الذي تكفل بعلاج كل القضايا ومنها الدين.(2/193)
وقد نطق هو بأكبر محذور من المحاذير التي يتمخض عنها مفهوم المواطنة، وهو أنه يلغي الرابط العقائدي ويقيم مكانه رابطا ترابيا عاطفيا؟
فهل يمكن بحال من الأحوال أن يكون النصراني أقرب إلى المسلم من أخيه المسلم غير المتدين؟ كما يقول الترابي؟ إذا فلا قيمة عنده لكلمة التوحيد والشهادتين اللتين ترجحان بكل شيء وتنجيان المسلم يوم الحساب، وعليهما مدار الإسلام والكفر، ومن أجلهما بعث الأنبياء وقاتل المجاهدون واستشهد جند الإسلام من الصحابة الكرام إلى يومنا هذا؟! إنه من العبث المساواة بين المسلم الموحد الكريم على الله وبين من لعنهم الله ورسوله، وكبتهم، وحقرهم، وضرب عليهم الذلة والمسكنة والصغار.
وهل هذا التفريق الواضح في نصوص القرآن والسنة حتى في الفاتحة نفسها التي يقرأها هؤلاء وحتى في وعي الأميّ من المسلمين وغيرهم من أهل الملل، هل يمكن إخفاؤه وتغطيته بعبارات منمقة تعطى، وتُمنح شهادة "بالاجتهاد الشرعي المعتبر"؟
ثانيا: عبارة، "لهم ما لنا وعليهم ما علينا خاصة بمن أسلم من أهل الذمة"
إن العبارة التي يكثرون من تردادها والتي جعلها بعضهم حكما شرعيا لا يجوز تنقيحه وتعديله وهي "لهم ما لنا وعليهم ما علينا" هذه العبارة ليست في أهل الذمة إطلاقا إنما هي في الذين أسلموا من هؤلاء، فصاروا من جملة المسلمين لهم ما لهم وعليهم ما عليهم، لا كما يحلو لأهل التأويل والتحريف أن يزوروا.جاء في الحديث الصحيح "من أسلم من أهل الكتاب فله أجره مرتين وله مثل الذي لنا، وعليه مثل الذي علينا، ومن أسلم من المشركين؛ فله أجره، وله مثل الذي لنا، وعليه مثل الذي علينا"(1).
__________
(1) الألباني: السلسلة الصحيحة م1 ق2 ص613. والحديث في مجمع الزوائد 1/93(2/194)
وقال - صلى الله عليه وسلم -: { أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، وأن يستقبلوا قبلتنا ويأكلوا ذبيحتنا، وأن يصلوا صلاتنا، فإن فعلوا ذلك فقد حرمت علينا دماؤهم وأموالهم إلا بحقها، لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين } . وهو حديث صحيح أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم(1).
قال الألباني رحمه الله عقبه: "وفيه دليل على بطلان الحديث الشائع على ألسنة الخطباء والكتاب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في أهل الذمة: "لهم ما لنا وعليهم ما علينا" وهذا مما لا أصل له عنه - صلى الله عليه وسلم -، بل هذا الحديث الصحيح يبطله، لأنه صريح في أنه - صلى الله عليه وسلم - قال ذلك في من أسلم من المشركين وأهل الكتاب وعمدة هؤلاء الخطباء على بعض الفقهاء الذين لا علم عندهم بالحديث الشريف"(2).
وتكلم على بطلانه في سلسلته الضعيفة قال:(لهم ما لنا وعليهم ما علينا، يعني أهل الذمة) حديث باطل لا أصل له. وأورد غير ذلك من الآثار الصحيحة عن السلف من الصحابة والتابعين تفيد ما ذكرته(3). فأحكام الجزية التي جاء بها نص قرآني، وانعقد على وجوبها الإجماع، لا بأس عند المؤولين بتغييرها وتعديلها بل وإلغائها، أما أوهامهم وخيالاتهم فهي أحكام شرعية واجتهاد معتبر، لا يجوز تنقيحها ولا تعديلها.
وبكل ثقة واطمئنان يمكن أن نقرر أن الإسلام فرق في أحكام كثيرة بين المسلمين وغيرهم، وجعل لأهل الكتاب أحكاما خاصة بهم أفردها العلماء في مصنفاتهم الفقهية بأبواب مطولة وبعضهم بكتب خاصة كالإمام ابن القيم في كتابه "أحكام أهل الذمة" وهي كثيرة جدا، ولسنا في معرض ذكرها ولا بيانها.
__________
(1) نفس المصدر ص612.
(2) نفس المصدر ص613.
(3) سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة 3/222-225.(2/195)
بل كل ما نريد قوله أن الإسلام لم يساو بين المسلمين وغيرهم في حال من الأحوال لا في حرب ولا في سلم لا في الدنيا ولا في الآخرة، وآيات القرآن في ذلك صريحة { أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ } (ص- 28)، { أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ(*) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ } (القلم/ 35-36 ).بل إن الإسلام لم يساو بين مسلم طائع ومسلم عاص فكيف يساوي بين مسلم وكافر. وهذا معنى أوضح من الواضح وإن حاول المؤولون طمسه بشتى الشبهات.
ثالثا: أحكام أهل الذمة محكمة ثابتة إلى يوم القيامة، لا يلحقها نسخ ولا تأويل ولا تعديل وليست تاريخية ولا مؤقتة ولا خاصة بوقت الحروب.
وأول هذه الأحكام التي خص الله بها أهل الذمة هو.
أ - الجزية والصغار:
يقول الله تعالى:( قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ)(التوبة/29).
وأخرج مسلم في صحيحه حديثا فيه وصية الرسول - صلى الله عليه وسلم - لقادة جيوشه وفيه:(…انطلقوا باسم الله قاتلوا من كفر بالله …وإذا لقيت عدوك من المشركين، فادعهم إلى ثلاث خصال فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم، وكف عنهم، ادعهم إلى الإسلام فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم… فإن هم أبوا فادعهم إلى إعطاء الجزية، فإن أجابوك، فاقبل منهم، وكف عنهم، فإن أبوا، فاستعن بالله وقاتلهم)(1).
__________
(1) صحيح مسلم بشرح النووي 12/37.(2/196)
وثبت في صحيح البخاري أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أخذ الجزية من مجوس هجر ومجوس البحرين(1)، وفي قول المغيرة بن شعبة لقائد الفرس: "… فأمرنا نبينا رسول ربنا - صلى الله عليه وسلم - أن نقاتلكم حتى تعبدوا الله وحده، أو تؤدوا الجزية"(2). وذكر ابن المنذر وابن القيم إجماع الفقهاء على أن الجزية تؤخذ من أهل الكتاب ومن المجوس(3).
فهل بعد نص القرآن ونصوص الحديث وإجماع الفقهاء، هل يبقى قول لقائل؟ وهل هذا الحكم هو من الشوائب التي يجب تنقية التراث منها كما يقول هويدي؟ وهل هذا الحكم يجوز إلغاؤه لأنه يتعارض مع مفهوم "العدل بين المواطنين" كما يراه الغنوشي؟ وهل كان الله ظالما أم عادلا حين قرر هذا الحكم؟ وهل رسوله - صلى الله عليه وسلم - وصحابته وخيار الأمة كانوا جهلاء ظالمين حين طبقوه وفرضوا الجزية على مجوس هجر والبحرين وفارس والروم وكل الدنيا؟ ومن هو الذي له الحق في تحديد أن هذا عدل وهذا ظلم؟ وهل العدل والمساواة ترك أمر تحديدهما إلى عقول المفكرين و"المجتهدين" من البشر؟ إذاً فلِمَ أنزل الله الرسل والشرائع!
وهنا أعود لأذكر بما قلته في الكلام على المقاصد والمصالح من سوء استخدام مصالح الشريعة وقواعدها ككاسحة تلغى وتهدم بها نصوص الشريعة في الأحكام الجزئية.
وهل بعد ثبوت لفظ "الجزية" في القرآن والسنة يليق بالبوطي أن ينسب هذه التسمية للفقهاء، ليسهل عليه من ثم إلغاؤها والتخلص منها؟
__________
(1) صحيح البخاري بشرح العسقلاني 6/257.
(2) نفس المصدر 6/258.
(3) الإجماع لابن المنذر ص59، أحكام أهل الذمة لابن القيم 1/18.(2/197)
وهل يجوز وصف "فرض الجزية" الذي أمر به الله ورسوله معالجة حادة غير ودية كما وصفها هويدي، أو ليس هذا نقدا واعتراضا على حكم الله ورسوله؟ وإذا كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمر قادة جيوشه بأن يعرضوا الإسلام على المشركين وأهل الكتاب ثم الجزية ثم السيف؟ فكيف يتبجح محمد جلال كشك بقوله أن "المسيحيين" مواطنون لا نعرض عليهم لا الإسلام ولا السيف ولا الجزية؟
وأين تلك الموضوعية والعلمية في اعتبار كل أحكام أهل الذمة أحكاما تاريخية اقتضتها ظروف الحروب؟
إن هذا القول يجر إلى قول أبي زيد وعلي حرب وآركون بأن نصوص القرآن والسنة هي نصوص تاريخية إذ ما الفرق بين أن تجعل النص ذاته تاريخيا وبين أن تجعل مضمونه تاريخيا؟ النتيجة واحدة هي إلغاء حكمه وبالتالي إحالة النص على التقاعد أو وقف التنفيذ كما سماه محمد عمارة. ولو أن هؤلاء أعلنوها كالعلمانيين صراحة في أن الشريعة وأحكامها باتت عائقا أمام إقامة المجتمع المدني ذي الطابع الغربي، الذي ترنوا إليه أبصارهم، وتهواه أفئدتهم وتشرئب إليه أعناقهم لكفونا مؤنة الرد، وأراحونا.
أما أن يتأولوا نصوصا قطعية وإجماعا قطعيا ثابتا على مراداتهم وخيالاتهم وعقائدهم الفاسدة فهذا غير جائز.
وإن الذي حمل هؤلاء على تأويل آية الجزية هذه استشعارهم ما فيها من ذلة ومهانة للمشركين ومنهم أهل الكتاب، فحاولوا نفي هذا الصغار بحجج واهية كالقول أن سبب فرض الجزية هو الحرابة لا مجرد كونهم كفارا وهي مقولة البوطي وكشك والغنوشي، وإن الصغار يراد به الخضوع لحكم الإسلام لا الذلة والمهانة.(2/198)
يقول عبد الملك البراك في رد هذه الشبهة "وما المانع في أن يكون (الصغار) الوارد في الآية مرتبا على الكفر؟! ألم يضرب الله الذلة والمسكنة واللعنة على الكفار، سواء كفار أهل كتاب أم غيرهم؟(1).
قال الله تعالى عن أهل الكتاب: { وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمْ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنْ اللَّهِ } (البقرة-61)، وقال في آية أخرى عنهم: { ضُرِبَتْ عَلَيْهِمْ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلا بِحَبْلٍ مِنْ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنْ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنْ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمْ الْمَسْكَنَةُ } (آل عمران-112)، وقال: { لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ } (المائدة-78).
وما ترى هؤلاء يقولون في حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي قال فيه: { بعثت بالسيف بين يدي الساعة حتى يعبد الله ولا يشرك به، وجعل الذل والصغار على من خالف أمري، ومن تشبه بقوم فهو منهم } (2). والذي ينظر في معنى "الصغار" كما ورد في القرآن الكريم لا يجده يتعدى الذل والمهانة.
قال الراغب في المفردات: " "يقال صَغُرَ صَغُراً في ضد الكبير، وصَغِرَ صُغْرَاً وصَغَاراً في الذلة، والصاغر الراضي بالمنزلة الدنيّة: حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون"(3).
وفسره الطبري بأشد الذل في قوله تعالى: { سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ } (الأنعام-124)(4).
__________
(1) عبد الملك البراك: ردود على أباطيل وشبهات حول الجهاد ص230، وهو رد على كتاب البوطي "الجهاد كيف نفهمه وكيف نمارسه ")
(2) صححه الألباني، انظر: الإرواء 5/109، وعزاه لأحمد 2/50،92..
(3) المفردات ص282.
(4) انظر: جامع البيان 8/26.(2/199)
وقال الإمام البخاري: (وهم صاغرون) يعني أذلاء(1).
ونقل ابن حجر عن أبي عبيد قوله في تفسيرها "الصاغر: الذليل الحقير".
وأما القول بأن المراد بالصغار هو الخضوع لحكم الإسلام وهو الذي يقول به الشيخ يوسف القرضاوي وغيره فهو قول الشافعي، فليس المراد به نفي الذلة التي تلحقهم لأن ابن حجر علق عليه بقوله: وهو يرجع إلى التفسير اللغوي، لأن الحكم على الشخص بما لا يحتمله، ويضطره إلى احتماله يستلزم الذل(2).
وقال ابن كثير: صاغرون: ذليلون مهانون فلا يجوز إعزاز أهل الذمة ولا رفعهم على المسلمين، بل هم أذلاء صغرة أشقياء، كما جاء في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: { لا تبدءوا اليهود والنصارى بالسلام، وإذا لقيتم أحدهم في الطريق
فاضطروه إلى أضيقه"(3). ولهذا اشترط عليهم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب تلك الشروط المعروفة في إذلالهم وتحقيرهم } (4).
وقال ابن القيم: "فالجزية هي الخراج المضروب على رؤوس الكفار إذلالا وصغارا"…أما قوله تعالى: ((عن يد …)) أي يعطوها أذلاء مقهورين. هذا هو الصحيح في الآية(5).
فنفي الصغار والذلة عن أهل الكتاب مما يأباه سياق الآية ومنطوقها ولو أخذناها وحدها بمعزل عن النصوص الأخرى، فكيف إذا أضيف إليها ما ذكرته من نصوص وأقوال لأهل العلم. فليس هناك داع للتحرج والخجل ونفي هذا الحكم بعد أن فرضه الله عقوبة لهم على كفرهم وحملا لهم على الدخول في الإسلام بدون إكراه مادي مباشر. ومن الناس من يجر إلى الجنة بالسلاسل.
قال ابن حجر: الحكمة في وضع الجزية أن الذل الذي يلحقهم يحملهم على الدخول في الإسلام مع ما في مخالطة المسلمين من الاطلاع على محاسن الإسلام(6).
__________
(1) فتح الباري 6/257.
(2) نفس المصدر 6/299.
(3) صحيح مسلم بشرح النووي 14/148.
(4) تفسير القرآن العظيم 3/383.
(5) أحكام أهل الذمة 1/34.
(6) فتح الباري 6/299.(2/200)
ب) لزوم الصغار يوجب تميزهم عن المسلمين في ملبوسهم ومركوبهم ويحرم عليهم إظهار دينهم وعقائدهم.
ما ينتقده المعاصرون من أحكام تفصيلية نص عليها الفقهاء لأهل الذمة نحو: منعهم من التشبه بالمسلمين في ملبوسهم وبيوتهم ومركوبهم ونحو ذلك واعتبارهم إياه تاريخا غير ملزم هو في الحقيقة تفسير وتطبيق لمفهوم الصغار الذي أوجبه الله عليهم.
قال الشوكاني في السيل الجرار: "حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون" فهذه الجملة الحالية قد أفادت أنه ينزل بهم ما فيه صغار في ملبوسهم وبيوتهم ومركوبهم ونحو ذلك من شؤونهم، ويمنعون مما يخالف الصغار وهو التشبه بالمسلمين في ملبوسهم وبيوتهم ومركوبهم ونحو ذلك، وقد أخذ عليهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه عهدا ذكر فيه ما يعتمدون عليه في حالهم ومالهم وكنائسهم، ومن جملته أنهم لا يتشبهون بالمسلمين في ملبوساتهم في قلنسوة ولا عمامة ولا نعلين ولا فرق شعر،وفيه أنهم يجزون مقاديم رؤوسهم وأن يشدوا الزنانير على أوساطهم ولا يظهرون صليبا ولا شيئا من كتبهم في طريق المسلمين، وفيه أنهم لا يضربون ناقوسا إلا ضربا خفيفا، ولا يرفعون أصواتهم بالقراءة في شيء من حضرة المسلمين.
وهذا العهد العمري أخرجه ابن حزم(1) عن عبد الرحمن بن غنم قال: "كتبت لعمر حين صالح نصارى الشام، وشرط عليهم أن لا يحدثوا في مدينتهم ولا حولها ديرا ولا كنيسة، وفيه أنهم لا يجددون ما خرب منها".
والحاصل أن إلزامهم بما ذكره المصنف(2)، وما ذكره غيره من الفقهاء، قد دلت عليه الآية القرآنية المتقدمة وكفى بها"(3).
هذا هو وضع غير المسلم في المجتمع الإسلامي الذي نص عليه القرآن وبينته سنة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - وفهمه وطبقه من عاصروا التنزيل وفهموا عن الله حق مراده ومنهم من أمرنا باتباع سنته عمر بن الخطاب رضي الله عنه؟
__________
(1) المحلى 7/346.
(2) هو صاحب متن الأزهار الذي شرحه الشوكاني في السيل الجرار.
(3) السيل الجرار 4/571-572.(2/201)
فكيف يحاول هؤلاء الضرب على كل هذا بتأويلات مختلقة تجعل الذمي على قدم المساواة مع المسلم، في كل الحقوق والواجبات بل إن بعضهم جعل الإسلام، ميز الذمي، وكرمه على المسلم؟(1).
وكيف يجوز في نظر بعضهم للذمي أن يظهر عقائده وشعائره، وأن يبني المعابد، وأن يروج لأفكاره ودينه، ويدعو إليه، كما يدعو المسلم إلى دينه. وهل كان عمر بن الخطاب ضالا حين منعهم من ذلك، وشدد عليهم؟
ج) لزوم الصغار يحرم عليهم تولي مناصب ذات شأن:
إذا كان أهل الذمة قد حرم عليهم التشبه بالمسلمين في ملبوسهم وبيوتهم ومركوبهم صغارا لهم وإذلالا؛ فكيف يستقيم أن يكونوا ولاة على المسلمين وحكاما عليهم؟ وأيهما أدعى للعزة والسؤدد التشبه بالمسلم في لباسه؟ أم حكمه والسيادة عليه وتصريف شؤونه؟ مما ذكرته من معنى الصغار ومقتضاه، كما فهمه أهل العلم الأثبات لا المنهزمون المعاصرون، أنه يحرم على المسلمين تمكين أهل الذمة من تولي أي وظيفة عامة يكون لهم فيها حكم وسيادة على مسلم، أو تقتضي مخالفة الصغار الذي ضربه الله عليهم جزاء كفرهم وشركهم بالله.
وهنا نرى هؤلاء المؤولين يقعون في تناقض عجيب غريب يفسر منهجيتهم الانتقائية المضطربة. فبعد أن دمغوا أحكام أهل الذمة كلها بالتاريخية غير الملزمة لأنها غير مشرفة في نظرهم. نراهم ينعطفون ثانية إلى هذا التاريخ الذي تولى فيه بعض أهل الذمة بعض المناصب ليتخذوه حجة شرعية على جواز تولي أهل الذمة للوظائف العامة بما فيها رئاسة الوزراء.
فالتاريخ وأعمال الخلفاء والسلاطين في عهود الدولة الإسلامية المختلفة ليس حجة شرعية في المقام الأول.
__________
(1) حقوق المواطنة ص13.(2/202)
وثانيا أن من يراجع أعمال ومواقف الخلفاء الأمويين والعباسيين يرى أنهم أنزلوا أهل الذمة منازلهم التي يستحقونها بموجب الصغار الذي فرضه الله عليهم، وذلك بعد شكاية عامة المسلمين إلى العلماء من ظلم ولاة النصارى واليهود وعمالهم واغتصابهم لديارهم وأموالهم ما دعا العلماء لرفع الشكاوى إلى الخلفاء والسلاطين بذلك، فاستغفروا ربهم، ورجعوا عن توليتهم تلك المناصب(1).
وقد عقد ابن القيم فصلا في عدم استخدام اليهود والنصارى في شيء من ولايات المسلمين وأمورهم. ومما ذكره فيه أن الإمام أحمد سئل: أيستعمل اليهودي والنصراني في أعمال المسلمين مثل الخراج؟ قال: لا يستعان بهم في شيء.
وأن أبا موسى الأشعري قال لعمر _ رضي الله عنه: إني لي كاتبا نصرانيا فقال عمر: ما لك؟ قاتلك الله! أما سمعت الله تعالى يقول: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } (المائدة-51 )؟ ألا اتخذت حنيفا؟
قال:قلت: يا أمير المؤمنين: لي كتابته وله دينه، قال: لا أُكْرِمُهم بعد إذ أهانهم الله، ولا أُعِزهم بعد إذ أذلهم الله، ولا أُدْنِيهم بعد إذ أقصاهم الله.
وكتب إلى عماله ومنهم معاوية وأبي هريرة: … ولا تستعن في أمر من أمور المسلمين بمشرك، وساعد على مصالح المسلمين بنفسك(2).
ومضت سنة الخلفاء الراشدين بذلك، وذلك على الرغم من احتياج المسلمين إليهم، حيث لم يكن يحسن الكتابة والجباية والحساب وتدبير الأموال منهم إلا قليل كما تدل عليه الروايات.
__________
(1) أحكام أهل الذمة ص167-183.
(2) نفس المصدر ص164-166.(2/203)
والمسلمون الآن في غنى تام عن هؤلاء. وهذا عمر بن عبد العزيز الخليفة الراشد الخامس يكتب إلى عماله مهددا متوعدا آمرا لهم ألا يستعينوا بأحد من أهل الذمة في عمل. ومما جاء في كتابه: … فلا أعلمن أن أحدا من العمال أبقى في عماله رجلا متصرفا على غير دين الإسلام إلا نكلت به، فإن محو أعمالهم كمحو دينهم، وأنزلوهم منزلتهم التي خصهم الله بها من الذل والصغار،وآمر بمنع اليهود والنصارى من الركوب على السروج إلا على الأكف، وليكتب كل منكم بما فعله في عمله(1). وذكر مثل ذلك عن أبي جعفر المنصور والمهدي وهارون الرشيد والمأمون والمتوكل والمقتدر بالله والراضي وغيرهم(2).
ونقل ابن القيم عن أبي يعلى الفراء بعد أن فسر الصغار: … وفي هذا دلالة على أن هؤلاء النصارى الذين يتولون أعمال السلطان، ويظهر منهم الظلم والاستعلاء على المسلمين وأخذ الضرائب لا ذمة لهم وأن دماءهم مباحة، لأن الله وصفهم بإعطاء الجزية على وجه الصغار والذل.
قال ابن القيم: وهذا الذي استنبطه القاضي من أصح الاستنباط(3).
وقال النووي: قال القاضي عياض: "أجمع العلماء على أن الإمامة لا تنعقد لكافر، وعلى أنه لو طرأ عليه الكفر انعزل"(4).
فلا ولاية لكافر ولا لذمي على مسلم، لا ولاية صغيرة ولا كبيرة وهو معنى قوله تعالى { وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلا } (النساء-41) وهو خبر يراد منه الإنشاء والطلب، والمعنى: أن الله حرم على المؤمنين أن يجعلوا للكافرين عليهم سبيلا(5).
__________
(1) المرجع السابق: ص166.
(2) نفس المصدر ص167-183.
(3) نفس المصدر ص35.
(4) صحيح مسلم بشرح النووي 12/229 ، و انظر: فتح الباري 13/132، وسيأتي مزيد تفصيل في مبحث شرعية السلطة.
(5) انظر: الجامع لأحكام القرآن 5/420.(2/204)
فحتى لو حدث وتولى بعض أهل الذمة في بعض عصور الدولة الإسلامية، فهذا كما قلت ليس بدليل شرعي كما قال الإمام القرطبي: في تفسير قوله تعالى { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانة مِنْ دُونِكُمْ } ( آل عمران- 118) "…. فلا يجوز استكتاب أهل الذمة، ولا غير ذلك من
تصرفاتهم في البيع والشراء والاستنابة إليهم. قلت: وقد انقلبت الأحوال في هذه الأزمان باتخاذ أهل الكتاب كتبة وأمناء، وتسودوا بذلك عند الجهلة والأغبياء من الولاة والأمراء…"(1). فهذه نصوص قرآنية وأحاديث نبوية وإجماع العلماء وهدي الخلفاء الراشدين، كلها تؤكد على عدم المساواة بين أهل الذمة والمسلمين، وتوجب عليهم الجزية صغارا وإذلالا عقوبة على كفرهم لعلهم يرجعون إلى عقولهم وفطرتهم القاضية بتوحيد الله حقا، وتحرم عليهم كل ما من شأنه رفعتهم وإعزازهم.
وهي أدلة قاطعة وبراهين ساطعة على أن ما تأوله المتأولون المعاصرون في مساواتهم بالمسلمين غير صحيح إطلاقاً.
مثل اقتراح الغنوشي توحيد الضرائب اسما ومقدارا؟ مما يعني ضمنا أنه أجاز أخذ الضريبة بمفهومها وتقسيماتها الحديثة من المسلمين مع أنه من المتفق عليه بين جماهير العلماء أن الضريبة لا يجوز أخذها من المسلمين إلا في حالة الضرورة.
أم أن الغنوشي يعني بذلك التوحيد فرض الجزية على المسلم أيضا حتى يتساوى مع الذمي؟ وهذا غير مستبعد على من أجاز أخذ "الزكاة" من أهل الذمة لتفادي التفرقة، مع أنه يعلم أن الزكاة عبادة يشترط لأدائها الإسلام كالصلاة، وأنها فرضت طهارة للمسلم وتزكية لماله
{ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا } (التوبة-103 ).
ونفس الكافر ليست موضعا للطهارة ولا للتزكية كما يعلم، وإجماع الصحابة والعلماء والأمة على "أنه ليس على أهل الذمة صدقات" بتعبير ابن المنذر في الإجماع(2).
__________
(1) نفس المصدر 4/179.
(2) الاجماع لابن المنذر ص59.(2/205)
واستمر الغنوشي في حتى أجاز إعطاء الذمي من الزكاة مع أنه يعلم أن الله ما ترك بيان مصارفها لملك مقرب ولا لنبي مرسل، وأنها لا تحل لكل المسلمين بل إن الله عز وجل جعلها في أصناف ثمانية محددة معلومة؟!
فأي اجتهاد وأي تجديد هذا الذي يقفز عن هذه الأحكام الواضحة الراجحة؟
ويستمر الغنوشي، ومعه العلواني، وكل من أقر بقبول "المواطنة" كما هي في "الوعي المعاصر" في تأويلهم حتى أجازوا قتل المسلم بالذمي مع أن النص صحيح صريح وواضح "لا يقتل مسلم بكافر"(1).
وقد ذكر البخاري قبل هذا الحديث قوله - صلى الله عليه وسلم - { من قتل معاهدا لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عاما } . إلا أن البخاري رحمه الله لعظيم فقهه عقبه بالحديث { لا يقتل مسلم بكافر } لئلا يظن أنه يلزم من الوعيد الشديد على قتل الذمي أن يقتص من المسلم إذا قتله عمدا.
فإذا كان سهلا عليهم تخطي هذه الأحكام الجلية فهم لما عداها أكثر تجاوزا وأكثر استخفافا.
أما استدلالهم بجواز إسقاط اسم الجزية واستبداله بتضعيف الصدقة أسوة بفعل عمر مع نصارى بني تغلب فقد فصلنا فيه الرد في تأويلات عمر فيما سبق وخلاصته أنه كان لضرورات شرعية معتبرة وهو خوف التحاقهم بالروم وكانوا ذوي شوكة، وإن عمر اشترط عليهم في مقابل ذلك أن لا ينصروا أولادهم، وأن إسقاط اسم الجزية لم يكن عند عمر بل بالنسبة إليهم، فهو يعتبرها جزية ويسمونها هم صدقة أو بما شاءوا. وأنه لا يصح قياس غير بني تغلب عليهم(2).
أضف إليه أن عمر بن عبد العزيز أبى عليهم فيما بعد إلا الجزية: وقال: لا ولله إلا الجزية وإلا فقد آذنتم بالحرب"(3).
رابعا: الفرق بين وجوب الوفاء بذمة أهل الذمة وبرهم، وبين وجوب البراء منهم وحرمة مودتهم.
__________
(1) صحيح البخاري بشرح العسقلاني 12/260.
(2) راجع ص53 من هذا البحث.
(3) أحكام أهل الذمة 1/74.(2/206)
وقد يستشكل بعضهم هذه الأحكام مع ما جاء من نص على بر أهل الكتاب وحسن معاملتهم والوفاء بذمتهم، فيرون تناقضا حادا بين برهم والقسط إليهم مع وجوب التزامهم الصغار والذلة وعدم مودتهم ومحبتهم.
ومع أن البحث هنا مقصور على رد التأويلات الباطلة المخالفة للنصوص الصحيحة وإجماعات العلماء، ولم نقصد منه بيان فلسفة أحكام أهل الذمة، ومنها الجزية ولا تفصيل الحكمة من ورائها، ولا محلها من التصور الإسلامي العام للنظام السياسي والاجتماعي في الدولة الإسلامية.
إلا أنه يبدو هنا من اللازم إيضاح الفرق بين وجوب الوفاء بذمة أهل الذمة والبر والقسط إليهم، وبين عدم مودتهم ومحبتهم ووجوب البراء منهم ومفاصلتهم، وهو الأمر الذي يشكل على المثقفين وبعض الدعاة من الإسلاميين، فيضطرون بسببه إلى التأويل ورد النصوص.
وهو ما جعل هويدي يصف موقف سيد قطب الداعي إلى مفاصلتهم ودفعهم الجزية بالمعالجة الحادة وغير الودية(1).وأكثر من جلّى هذا الأمر الإمام القرافي في فروقه إذ قال: انه يتعين علينا أن نبرهم -أهل الذمة- بكل أمر لا يكون ظاهره يدل على مودات القلوب ولا تعظيم شعائر الكفر، فمتى أدى إلى أحد هذين امتنع، وصار من قبل ما نهى الله عنه في قوله تعالى:
{ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ… } (الممتحنة-1) وغيرها من الآيات.
ثم شرح هذه المحذورات المحظورات، فإخلاء المجالس لهم عند قدومهم علينا، والقيام لهم، ونداؤهم بالأسماء العظيمة الموجبة لرفع شأن المنادى بها، وتمكينهم من الولايات والتصرف في الأمور الموجبة لقهر من هي عليه، فكل ذلك ممنوع وحرام.
__________
(1) الصحوة الإسلامية وهموم الوطن العربي ص196-197.(2/207)
وأما ما أمرنا به من برهم من غير مودة باطنة: فالرفق بضعيفهم وسد خلة فقيرهم، وإطعام جائعهم، وإكساء عاريهم، ولين القول لهم على سبيل اللطف لهم والرحمة، لا على سبيل الخوف والذلة، والدعاء لهم بالهداية، ونصيحتهم في جميع أمورهم في دينهم ودنياهم، وكل خير يحسن من الأعلى مع الأسفل أن يفعله، ومن العدو أن يفعله مع عدوه.
وينبغي أن نستحضر دائما ما جبلوا عليه من بغضنا وتكذيب نبينا، وأنهم لو قدروا علينا لاستأصلوا شأفتنا، واستولوا على دمائنا وأموالنا، وأنهم من أشد العصاة لربنا ومالكنا -عز وجل- ونعاملهم بما تقدم ذكره امتثالا لأمر ربنا، وأمر نبينا - صلى الله عليه وسلم - لا محبة فيهم، ولا تعظيما لهم"(1).
وهذا هو الفرق الذي خفي على هؤلاء المؤولين، فردوا أحكام الشريعة لأجله، ولو أنهم تبينوا، وتثبتوا لهداهم الله إلى ما هدى إليه القرافي.
خامسا: اليهود والنصارى في هذا الزمان لا ذمة لهم
بقي أن نقول أن هذه السماحة والبر والقسط هي لأهل الذمة، وهم من عقد معهم إمام المسلمين عقد ذمة يدفعون بموجبها الجزية، ويخضعون لأحكام الإسلام حسب أحكام أهل الذمة المعروفة.
__________
(1) بتصرف عن الفروق 3/14،15،16.(2/208)
وأما هؤلاء النصارى الذين يعيشون بين ظهراني المسلمين، ويستطيلون على دينهم وشريعتهم بالغمز والطعن، ويعلنون صراحة أنهم مواطنون لا ذميون، وأن هذا وطنهم، وليس ديار المسلمين، ويرفضون تطبيق الشريعة، فلا ذمة لهم ولا عهد على ما تقدم من كلام أبي يعلى الفراء وغيره من العلماء.قال في السيل الجرار: ثبوت الذمة لهم مشروط بتسليم الجزية، والتزام ما ألزمهم به المسلمون من الشروط، فإذا لم يحصل الوفاء بما شُرط عليهم، عادوا إلى ما كانوا عليه من إباحة الدماء والأموال، قال:وهذا معلوم ليس فيه خلاف وفي آخر العهد العمري: فإن خالفوا شيئا مما شرطوه فلا ذمة لهم، وقد حل للمسلمين منهم ما يحل من أهل العناد والشقاق……كأن يطعن في الإسلام أو بسب نبينا - صلى الله عليه وسلم - (1).
وكم من كاتب منهم أو مسرحي أو سينمائي أو سياسي أو حتى رجل دين سخر من الإسلام وأحكامه، وهو أمر ظاهر لا يحتاج إلى تمثيل واستدلال.
وعليه فإن بعض الدعاة والإسلاميين يخطئون خطأ فاحشا حين يسحبون أحكام أهل الذمة التي تكلم عليها الفقهاء مع ما فيها من البر بأهل الكتاب والقسط إليهم والوفاء بذمتهم على اليهود والنصارى المعاصرين مع ما فيهم من عناد وشقاق ومحادة لله ورسوله والمسلمين.
فأهل الذمة ليسوا كما عرفهم البوطي، أنهم أناس من الكفار، قد ترك لهم حرية البقاء على دينهم وممتلكاتهم وأوطانهم وذلك بعد وثوق المسلمين بصدق تعاونهم وحسن جوارهم وعدم صدور حرابة منهم…
الأمر الذي أدى إلى ضرورة التعايش السلمي بين الطرفين بدافع العقيدة والانتماء الوطني والتاريخي والوجود الحضاري، ومن ثم فإن لأهل الذمة هؤلاء وجودهم الاجتماعي والديني الخاص بهم على قدم المساواة(2). كلا، فهذه نظرة تغلب رابطة الطين والتراب على رابطة العقيدة والتوحيد.
__________
(1) السيل الجرار 4/574-575.
(2) انظر : الجهاد في الاسلام كيف نفهمه وكيف نمارسه ص118-146.(2/209)
بقراءة سطحية قد يبدو أن أحكام أهل الذمة التي عرضنا لبعضها قاسية غير مبررة في زمن مواثيق حقوق الإنسان.
ولكن الموقف الحقيقي من أهل الكتاب يستفاد أولا من تقريرات الله سبحانه وتعالى والمسوغات التي جاءت بها النصوص، فهم قوم لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق، ويقولون عزير والمسيح ابنان لله، ويأكلون أموال الناس بالباطل.
وهم يحددون موقفهم النهائي من المسلمين بالإصرار على أن يرتدوا يهودا أو نصارى ولا يرضون عنهم ولا يسالمونهم إلا أن يتحقق هذا الهدف فيترك المسلمون عقيدتهم نهائيا، وهم يشهدون للمشركين الوثنيين، أنهم أهدى سبيلا من المسلمين.وإذا راجعنا التقريرات الربانية عن المشركين، وجدنا الأهداف النهائية لهم تجاه الإسلام والمسلمين هي بعينها -وتكاد تكون بألفاظها- هي الأهداف النهائية لأهل الكتاب تجاه الإسلام والمسلمين كذلك…مما يجعل طبيعة موقفهم من الإسلام والمسلمين هي طبيعة موقف المشركين.
فالأخيرون لا يزالون يقاتلوننا حتى يردونا عن ديننا إن استطاعوا، ولا يرقبون فينا إلا ولا ذمة، وودوا لو نغفل عن أسلحتنا، فيميلون علينا ميلة واحدة.
فإذا تجاوزنا الحقائق الموضوعية، وجئنا إلى الواقع التاريخي، وجدنا تاريخا من العداء العنيد والكيد الناصب والحرب الدائبة، التي لم تفتر على مدار التاريخ(1).
لا نريد أن نذهب إلى الماضي البعيد، لننكأ جراح الأندلس والحروب الصليبية والمغولية، ولكن يكفينا أن التاريخ المعاصر يمدنا بمئات الأدلة والبراهين على حقيقة موقف الكفار -أهل كتاب وملحدين ووثنيين- من المسلمين.
__________
(1) انظر لمزيد من هذا التحليل: سيد قطب: " في ظلال القرآن" 3/1625-1633.(2/210)
في كل بقاع الأرض من الصين إلى الفلبين إلى بورما إلى تايلندا إلى كشمير إلى مذابح الشيشان والبوسنة والهرسك وكوسوفو وفلسطين والتمييز العنصري والاضطهاد الاجتماعي في دول أوروبا الغربية كفرنسا وبريطانيا وأمريكا(1).
فهل أنصفت حضارة "حقوق الإنسان" "وحقوق المواطنة" المسلم في بلادها؟ وهل قدمت نموذجا يحتذى لما تؤمن به من مفاهيم؟
وإذا كانت الدول والشعوب التي اخترعت هذا الوهم " المواطنة" لا تؤمن به ولا تطبقه وهي أولى الناس به، فكيف يطلب تطبيقه واستيعابه ممن لا يؤمن به؟
وإذا كانت الفتاة المسلمة لا تستطيع ارتداء الحجاب في فرنسا على قدم المساواة مع الراهبات، وكان المسلمون لا يستطيعون افتتاح مدرسة إسلامية لتعليم أبنائهم في فرنسا وغيرها مهد الحرية والعلمانية، فأين المساواة والمواطنة التامة؟
ألا نظر هؤلاء المؤولون الى الواقع المأساوي المزري للجاليات الإسلامية في دول الغرب ابتداء من الممارسات العنصرية في المطارات ونقاط العبور وانتهاءً بقوانين الجنسية والأحوال الشخصية، فأين تلك المواطنة والمساواة التامة؟.
إذاً فلم العيب على الإسلام في عدم احتوائه لمفاهيم وهمية غير حقيقية وغير واقعية ولا يؤمن بها أساسا؟ لأن عنده ما هو خير منها؟
إن على هؤلاء المؤولين أن يصبوا جهودهم في حث الغربيين على تطبيق ما يؤمنون به من مفاهيم ليرفعوا الذبح والقتل عن المسلمين. لا أن يضيعوا أعمارهم في التنقيب عن تخريجات لاسترضاء حفنة من النصارى تعيش أسيادا على المسلمين في ديار المسلمين.
أما قول محمد عمارة أنها نزلت في فئة غير الموحدين من أهل الكتاب، فهو قول يثير العجب؛ فمتى كان هناك موحدون من أهل الكتاب، وهذه قضية تكلمت على بطلانها في مبحث "التأويل في العقيدة".
__________
(1) د. صالح بن غانم السدلان: أسباب الحكم بغير ما أنزل الله ونتائجه ص 55-56.(2/211)
والسبب الذي زعمه هو محض دعوى لم ترد في أي حديث، بل لم يدعيه أحد من المنافقين أو الكفار، ومعلوم أن المسلمين أخذوا الجزية من أهل مصر والشام ومن غيرهم من أهل الكتاب من دون تفريق بين طائفة وأخرى، ولو كان وجود فئة غير مسلمة في المجتمع الإسلامي مسوغا لتعطيل الشريعة لما طبقت الشريعة أبدا حتى في عهده - صلى الله عليه وسلم -، فدعوته متهافتة لا تستحق مزيد نقاش.
المطلب الثالث:
التأويل في حكم النصوص الموجبة
للحجاب الشرعي وحرمة الاختلاط و السفور
لن نتعرض في هذا المبحث لدعوات الحركات النسائية، ودعاة تحرير المرأة، وهي كثيرة متجددة كلما أفلت منها حجة برزوا بأخرى، فمن الدعوة إلى المساواة المطلقة بين الرجال والنساء في كل الحقوق والواجبات حتى فيما ورد به نص قطعي كالميراث، إلى الدعوة إلى إلغاء القوامة ومفهوم بيت الطاعة، ومفهوم النشوز، إلى دعوتهم إلى تقييد حق الرجل في الطلاق، وعدم إيقاعه واعتباره، إلا إذا وقع أمام القاضي، إلى دعوتهم إلى منح المرأة حق السفر بدون محرم، والعمل بدون إذن الزوج، إلى دعوتهم إلى منع تعدد الزوجات وتجريمه كالسفاح.. الخ الدعوات.
لن أتعرض لرد تلك الدعوات وتأويلهم النصوص لإسناد دعواتهم العلمانية، فذلك ما تكفلت به كتب مطولة أفردت لهذا الشأن(1).
إنما المراد هنا الرد على تأويل من أنكر وجوب الحجاب الشرعي والزي الإسلامي الذي يعلمه جميع المسلمين خاصهم وعامهم، ودلت على وجوبه نصوص الكتاب والسنة، وأجمعت على وجوبه الأمة وعلماؤها من لدن الصدر الأول للإسلام إلى يومنا هذا، حتى غدا أمرا معلوما من الدين بالضرورة، يكفر جاحده ومنكره.
وهو وجوب ستر المرأة المسلمة البالغة لجميع بدنها ما عدا الوجه والكفين، وحرمة خلوها واختلاطها بالرجال الأجانب من غير محارمها المؤبدين إلا لحاجة معتبرة شرعا.
__________
(1) وهي كثيرة من أفضلها (عودة الحجاب ) د. محمد بن إسماعيل المقدم، من ثلاثة أجزاء.(2/212)
وأضربنا صفحا عن الكلام على حكم ستر الوجه والكفين لأن الأمر فيه خلاف ومتسع، وإن كان الراجح وجوبه على أقوال المحققين من أهل العلم(1).
وقد تراوحت دعوات المناوئين للحجاب الشرعي بين من اعتبره تقليدا عربيا محليا سابقا على الإسلام، وليس هو من أحكام الإسلام، وبين من يسلم بوجوبه مبدئيا إلا أن شكله ومواصفاته -حسب زعمه- تركت لأعراف الناس وأذواقهم حسب الزمان والمكان، وبين من يعتبره قشرة وشكلا وأمرا ثانويا، مدعيا أن المهم هو اللب والجوهر، وهو العفة والشرف (!) وأن تحجب المرأة لا يلزم منه عفافها ولا حشمتها، وبين مدع أنه لا يوجد نص في القرآن والسنة يوجب على المرأة زيا معينا، وبعضهم يجعله ما جاء فيه من نصوص خاصا بأزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -.
واضطرهم ذلك إما إلى تأويل النصوص الثابتة في وجوبه تأويلا ممجوجا، وإما إلى تجاهلها عن قصد وسبق إصرار، ومن ثم التبجح بعدم وجود نص موجب للحجاب.
وفريق آخر لم يكلف نفسه عناء معالجة تلك النصوص والإجماع، ولم ير حرجا في وصف الحجاب بالرجعية والتخلف بل والردة، وأنه ككفن الموتى، ويصف اللواتي يرتدينه بالعفاريت.
وتطرف فريق ثالث حتى فقد عقله بعد أن فقد دينه، فلم ير بأسا أن تظهر المرأة المسلمة البالغة عارية ـ كما خلقت ـ أمام محارمها، أما غيرهم من الأجانب غير المحارم فلا يجب عليها سوى ستر السوءتين المغلظتين وكفى!!.
__________
(1) ومن هؤلاء: أبو جعفر الطبري وأبو بكر الرازي والجصاص الحنفي والكيا الهرّاس وعماد الدين الطبري والإمام البغوي وابن العربي وابن الجوزي والإمام القرطبي والبيضاوي والنسفي وأبو حيان وابن كثير والشوكاني والآلوسي والقاسمي والسعدي والشنقيطي والمودودي وأبو بكر الجزائري والشيخ ابن باز وغيرهم.
- انظر: محمد بن أحمد بن إسماعيل المقدم: عودة الحجاب 3/181
- وانظر: أبو محمد هانئ بن صالح بن عبد الغني: النقاب واجب ص 25-57.(2/213)
ويرى فريق رابع محسوب على "الإسلاميين" أو من صلبهم، أن الأصل في علاقة الرجل بالمرأة في الإسلام هو الاختلاط والمشاركة في الحياة العامة بكل مناحيها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وأنه لا نص "قطعي" يحرم تلك "المشاركة"في عملية البناء الاجتماعي أو الدعوة إلى الله.
وهذه بعض مقولاتهم:
1) روجيه جارودي:
حيث يرى في الحجاب تقليدا محليا سابقا على الإسلام، وأن المهم الذي عنت به رسالة الإسلام في هذا الجانب، هو عدم إغراء الرجل وإشغاله عن القيام بواجباته، وهذه الحشمة لا تفرض على المرأة زيا محددا(1).
2) الطاهر الحداد:
وهو تونسي أصدر كتابا سماه " امرأتنا في الشريعة الإسلامية " ملأه بالتحريفات والتأويلات الباطلة، ومما جاء فيه بشأن الحجاب ـ تفسيره " ما ظهر منها " في قوله تعالى
{ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا } ( النور /31) بان القرآن أبهم "ما ظهر منها" وما أبهمه القرآن
فيترك تحديده إلى أعراف الناس وأذواقهم حسب الزمان والمكان، وهي متغيرة متطورة بتطور الحياة(2).
3) أمينة السعيد:
فتصف الحجاب في مقال لها، بأنه كفن ككفن الموتى، وتتساءل: هل من الإسلام أن ترتدي البنات في الجامعة ملابس تغطيهن تماما وتجعلهن كالعفاريت، وهل لا بد من تكفين البنات بالملابس، وهن على قيد الحياة، حتى لا يرى منها شيء، وهي تسير في الشارع؟. وتتهم هؤلاء الفتيات بأنهن لجأن للحجاب كحل لمشكلة الفقر عندهن حيث لا يستطعن مجاراة سائر الفتيات ومتابعة الموضة باهظة الثمن.
وهي لا تجد ما يعطيها مبررا منطقيا معقولا لالتجاء فتيات على قدر مذكور من التعليم إلى لف أجسادهن من الرأس إلى القدمين بزي هو والكفن سواء.
ثم تنتحل لنفسها مكانة العالمة، فترد على العلماء دعوتهم لإلزام الطالبات بالزي الإسلامي فتقول:
__________
(1) انظر: الإسلام الحي ص143.
(2) انظر: اتجاهات التفسير في القرن الرابع عشر الهجري 3 / 1074.(2/214)
"نحن نعرف جميعا استنادا إلى ما ورد في القرآن الكريم وهو دستورنا الديني الأول (!) أن الإسلام لم يحدد على الإطلاق زيا للمرأة المسلمة، ولم يقدم رسما كامل الأوصاف لا من حيث الشكل أو النوع أو اللون … فالمهم الوقار والاحتشام، وبعد ذلك فليكن مستوردا من الشرق أو الغرب"!
وتخلص إلى أن الزي " الإسلامي " السائد"، الإسلام منه براء، وهو تقليد لزي الراهبات المسيحيات، ولا رهبانية في الإسلام، وأن إيجاب الحجاب هدم للإسلام من أساسه، فاللهم ارحمنا وارحم ديننا من شر أنفسنا إنه السميع المجيب(1).
4) نوال السعداوي:
فتحت عنوان " ليس هناك نص أتحدى " ذهبت تقول أن الحجاب اختزال لانسانية المرأة، وتلبس ثوب العلماء الحريصين على نفي الشوائب التي تلصق بالدين، فتقول أنها ضد الحجاب وخصوصا حين يكون باسم الدين، وتتعالم على العلماء بقولها: إن الذين ينادون بالحجاب لم يدرسوا أحاديث الرسول ولم يقرأوا القرآن قراءة صحيحة ـ تقصد لم يفهموا ـ ولم يطلعوا على التاريخ، بل أخذوا أشياء دخيلة على الإسلام من اليهودية.
وتدعي أنها مضى عليها أكثر من ربع قرن وهي تدرس الدين الإسلامي وتقارن (!) ولا توجد آية قرآنية واحدة تنص على تحجب المرأة (!) حتى زوجات الرسول- صلى الله عليه وسلم - لم يكن محجبات، ولم يعرض عليهن - صلى الله عليه وسلم - الحجاب(2). 5) د. زكي نجيب محمود:
أما هذا فقد حاول تغيير المفاهيم وقلب الموازين، فعنده أن المرأة المسلمة المتحجبة مرتدة ناكصة على عقبيها منتكسة رجعية تعيش مأساة.
وذلك لأنها كفرت بموضات التغريب، ولأنها كفرت بهدى شعراوي وصفية زغلول وأمينة السعيد.
ويصف عودة المرأة المسلمة إلى الحجاب بأنها عودة من ضوء النهار إلى غسق الظلام، ويدعو إلى إلقاء الحجاب في البحر، كما ألقته هدى شعراوي من قبل.
__________
(1) عودة الحجاب 1 /126 – 129.
(2) نفس المصدر 1/280.(2/215)
وكغيره ينتحل لنفسه مرتبة الاجتهاد المطلق بادعائه أن ليس في القرآن ولا في السنة آية تدل على الحجاب، وأنه يفهم القرآن كما يفهمه العلماء وليس أقل منهم فالقرآن كتابهم وكتابي... ولو كان القرآن يحتم الحجاب، ويوجبه لكنت أول الداعين إليه "(1).
6) فهمي هويدي:
فيزعم أنه ليس صحيحا أن الأصل هو الفصل بين الرجال والنساء، ويدعو إلى مشاركة المرأة وانخراطها في كل مجالات الحياة العامة السياسية والاجتماعية والاقتصادية، ولا مانع لديه من توليها القضاء وحتى الإمامة العظمى، وبرأيه أنه ليس هناك نص قطعي يحرم تلك المشاركة، وأن كل ما هنالك تأويلات واجتهادات، وحديث "يلوكه" معارضو المشاركة " هو قوله - صلى الله عليه وسلم - { لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة } (2) وهو وصف لحالة وليس حكما عاما لأنه- صلى الله عليه وسلم - قاله تعليقا على تولي ابنة ملك فارس للحكم.ويستدل على جواز تلك المشاركة بمشاركة الصحابيات مع رسول - صلى الله عليه وسلم - في البيعة والحرب والهجرة.
ويصف أصحاب المذهب المحرم لهذه المشاركة " الاختلاط " بأصحاب التيار السلفي المتشدد المتسمين بالغلو، والمتأثرين ببيئة الجزيرة العربية وتقاليدها التي وأدت البنات، وان فكرة الوأد ما زالت متأصلة في عمق التيار السلفي.. الوأد الاجتماعي والمعنوي. وجاء كلامه المذكور في مقال صحفي تعقيبا على تصويت النواب " الإسلاميين " على منع المرأة من المشاركة في الترشيح والانتخاب في الكويت، ولكنه مد الكلام إلى محاولة تأصيل المشاركة " الاختلاط " شرعيا، دون أن يذكر أي شرط لها أو أن يتحفظ على أي وضع أو سلوك من شانه أن ينشأ عن تلك المشاركة(3).
7) د. حسن الترابي:
__________
(1) المرجع السابق: 1 / 239، 240، 246، 262، 263.
(2) صحيح البخاري بشرح العسقلاني 8/126.
(3) صحيفة الحياة الجديدة – رام الله – عدد 8/12/1999م ص5، من مقال له بعنوان: " ربحت الديمقراطية وخسر الإسلاميون".(2/216)
ففي رسالة له حول " المرأة " أراد فيها أن يبين مكانة المرأة ودورها في الإسلام إلا أنه ترخص في بناء هذه المكانة، محاولا إلغاء الفروق بينها وبين الرجل، ومستدلا بشهودها للصلوات والحج والجهاد، ليصل إلى أن الحياة العامة ليست مسرحا للرجال وحدهم ولا عزل بين الرجال والنساء في مجال جامع " (1).
وتكلم عن تضرر المرأة من جراء حبسها في البيت وعزلها عن المجتمع، وتسمية اختلاطها بالرجال حراما … " الخ(2)
8) محمود محمد طه:
فالأصل عنده هو سفور المرأة واختلاطها بشكل مطلق يقول " الأصل في الإسلام السفور لأن مراد الإسلام العفة، وهو يريدها عفة، تقوم في صدور النساء والرجال، لا عفة مضروبة بالباب المقفول والثوب المسدول ".
والحجاب عنده ما هو إلا فترة انتقالية للوصول إلى العفة، ولذلك شرع مؤقتا كطريق للتربية والتقويم، وصولا إلى تلك العفة " فالأصل ما كان عليه آدم وحواء قبل أن يزلا " أي العري ".
"والسفور في الإسلام أصل لأنه حرية.. فالمرأة حرة إلى أن تسيء التصرف.. فإذا توفرت الأدلة على اعوجاج سلوكها بما لا يرقى إلى الحد، تصادر حريتها بحرمانها من حقها في السفور "! فالحجاب عقوبة حكيمة على سوء التصرف في حرية السفور"(3).
وما يقال عن السفور يقال عن الاختلاط، فان الأصل في الإسلام المجتمع المختلط بين الرجال والنساء، ثم هو مجتمع سليم من عيوب السلوك التي إيفت بها المجتمعات المختلفة الحاضرة "(4).
9) محمد شحرور:
هذا الموقف المتطرف المغالي في الدعوة إلى السفور والاختلاط والعري يجسده بصورة أوضح صاحب " الكتاب والقرآن " الذي سبق ذكره، والذي ذهب فيه إلى أن لباس المرأة
__________
(1) الخواض العقاد : الاجتهاد والتجديد - الشيخ العقاد ص249.
(2) نفس المصدر ، نفس الصفحة.
(3) محمود محمد طه : الرسالة الثانية ص131-133.
(4) نفس المصدر ص133.(2/217)
المسلمة هو لباس حسب الأعراف، ويتراوح بين اللباس الداخلي وبين تغطية الجسم ما عدا الوجه والكفين " وذلك حسب نظريته في " الحدود "(1).
وترجمة هذا " الحكم " عنده هو جواز ظهور المرأة المسلمة البالغة أمام محارمها المؤبدين عارية تماما.
" … قد يقول البعض: هذا يعني أن المرأة المؤمنة يحق لها ان تظهر عارية تماما أمام هؤلاء المذكورين ( المحارم )، أقول: نعم يجوز إن حصل ذلك عرضا، وإذا أرادوا أن يمنعوها فالمنع من باب العيب والحياء " العرف " وليس من باب الحرام والحلال"(2).
وأما غير المحارم فلا يجب عليها ستر شيء من جسدها سوى الجيوب وما هي الجيوب؟ إنها في فهمه ماله طبقتان أو طبقتان مع خرق، حسب معنى الجيب لغويا كما جاء
في قوله تعالى { وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ } ( النور/31).
فيكون الواجب عليها ستره هو فقط ما بين الثديين وما تحت الثديين وتحت الإبطين والفرج وما بين الآليتين. وما سوى ذلك فلا حرج في كشفه، فالثديان والبطن والظهر والصدر والآليتان لا حرج في كشفهما وكذلك الفخذتان والساق والشعر(3).
10) هذا غيض من فيض، ولا أريد ذكر نقول مماثلة أو أشد فحشا صدرت عن دعاة تحرير المرأة مثل رفاعة طهطاوي وقاسم أمين وطه حسين وهدى شعراوي وغيرهم(4).
وسيتمحور الرد عليهم في النقاط التالية:
أولاً: الحجاب فرض، معلوم من الدين بالضرورة
ونأتي الآن إلى إبطال ما تفوهوا به من شبهات، وسنذكر من الأدلة ما يدحض مقولة عدم وجود نص في القرآن والسنة بفرض الحجاب، وكذلك سنذكر من الأدلة ما يثبت أن الأصل في علاقة الرجال بالمرأة في الإسلام الفصل وعدم الاختلاط إلا لضرورة أو حاجة شرعية معتبرة.
مع ان هذا من البدهيات المستقرة في الوعي الجمعي الفطري لدى عامة المسلمين.
__________
(1) الكتاب والقرآن ص551.
(2) نفس المصدر ص607.
(3) نفس المصدر ص607.
(4) للإطلاع على المزيد منها، انظر: عودة الحجاب، الجزء الأول.(2/218)
إن الله -عز وجل- لم يترك أمر اللباس لعقل الإنسان يحدده كيف يشاء، لعلمه سبحانه أن فطرة الإنسان سوف تنحرف وتفسد بفعل وسوسة الشيطان وتزيينه، حتى تهوى التكشف والتعري بدل الستر. بل ولا تكتفي بهوى النفس، بل تفلسف له المقولات، وتصطنع الاستدلال والعقلانية على هواها.
ومن الأدلة على وجوب الحجاب وستر جميع البدن ما عدا الوجه والكفين، وفرضيته ما يلي:
1. قوله تعالى: { وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ } ( النور/31).
والخمار اسم لما يستتر به، ولكنه صار في التعارف اسما لما تغطي به المرأة رأسها"(1). وجيب القميص الفتحة التي تكون في أعلاه، ويدخل اللابس رأسه فيها ويبدو من هذه الفتحة شيء من الصدر، ولا تستر العنق(2).
قال الرازي: قال المفسرون إن نساء الجاهلية كن يشددن خمرهن من خلفهن، وان جيوبهن كانت من قدام، وكن يكشفن نحورهن وقلائدهن، فامرن أن تضرب خمرهن -وهي المقانع- على الجيوب لتغطي بذلك أعناقهن ونحورهن وما يحيط به من شعر وزينة من الحلي في الأذن والنحر وموضع العقدة منها، وفي لفظة "وليضربن" مبالغة في الإلقاء والباء في "بخمرهن" للإلصاق"(3).
فهذا نص على وجوب الحجاب، وهو يبطل مقولات عدم وجود نص، ويبطل قول جارودي وغيره أنه تقليد عربي محلي، لأن خمار الجاهلية كما هو واضح لم يكن ساترا للأذن والنحر والصدر وشيء من الشعر. وقال ابن حزم "أمرهن الله بالضرب بالخمار على الجيوب، وهذا نص على ستر العورة والعنق والصدر"(4).
وأخرج البخاري -رحمه الله- عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: يرحم الله المهاجرات الأول، لما أنزل الله { وليضربن بخمرهن على جيوبهن } شققن مروطهن فاختمرن
__________
(1) الراغب الاصفهاني : المفردات /159.
(2) الآلوسي : روح المعاني 18/142.
(3) مفاتيح الغيب 23/206.
(4) المحلى 3/216.(2/219)
بها "(1). وفي رواية أخرى " فأصبحن وراء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معتجرات كأن على رؤوسهن الغربان"(2).
وهذا يبطل كونه خاصا بأزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -، فهل كانت المهاجرات الأول ومنهن أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - موتى يلبسن الأكفان أو عفاريت بتعبير أمينة السعيد؟ وهل كن مرتدات رجعيات ناكصات على أعقابهن على رأي نجيب محمود؟.
وهل يحل لهؤلاء أن يدعوا بعد هذا عدم وجود نص من القرآن والسنة يدل على وجوب الحجاب؟ أو أنه لم يفرض حتى على أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -؟
2. قوله تعالى { يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا } (الأحزاب/59).
ومعنى الجلباب كما قال ابن العربي: اختلف الناس فيه على ألفاظ متقاربة عمادها انه الثوب الذي يستر به البدن "(3).
وفي ضوء هذا التعريف وغيره يستنتج أن معناه: الملاءة التي تشتمل بها المرأة فتلبسها فوق ثيابها، وتغطي بها جميع بدنها من رأسها إلى قدمها(4).
فيكون معنى الآية: أمر الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يأمر أزواجه الكريمات أمهات المؤمنين، ويأمر بناته ونساء المؤمنين كافة، إذا خرجن لقضاء حوائجهن أن يدنين عليهن من جلابيبهن أي: يرخين من جلابيبهن فيغطين أجسادهن ورؤوسهن من فوق ثيابهن(5).
فهذه الآية توجب ليس ستر الشعر والبدن فحسب، بل ستر غطاء الرأس والثياب بالملاءة أو العباءة، واستدل بها من قال بوجوب ستر جميع البدن بما فيه الوجه والكفان وهو استدلال متجه.
__________
(1) صحيح البخاري بشرح العسقلاني 8/489.
(2) نفس المصدر 8/490، وعزاه ابن حجر لابن أبي حاتم.
(3) أحكام القرآن 3/1586.
(4) المفصل في أحكام المرأة والبيت المسلم 3/322.
(5) مفاتيح الغيب 25/230، روح المعاني 22/88-90.(2/220)
وقوله تعالى { ونساء المؤمنين } يبطل اختصاص أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - بالحجاب الشرعي كما يذهب إلى ذلك المعاصرون ممن ذكرنا.
3. ومن الأدلة على وجوب الحجاب الشرعي مما بينته السنة المطهرة، ما جاء في وجوب كون الثوب فضفاضا واسعا لا يصف أعضاء الجسم لضيقه.
روى احمد ـ رحمه الله ـ عن أسامة بن زيد قال: كساني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبطية كثيفة، كانت مما أهدى له دحية الكلبي، فكسوتها امرأتي، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - { ما لك لا تلبس القبطية؟ فقلت يا رسول الله كسوتها امرأتي.
فقال: مرها أن تجعل تحتها غلالة، فإني أخاف أن تصف حجم عظامها } (1) وفي رواية أخرى { وأمر امرأتك أن تجعل تحته ثوبا لا يصفها } (2)، والقبطية ثوب ينسب إلى القبط، والغلالة، شعار يلبس تحت الثوب(3).
فبين الحديثان وجوب ستر المرأة بدنها، بثوب فضفاض لا يصف الجسم حتى ولو كان ثخيناً. وهذا الحكم استفيد من الآية السابقة أيضا من معنى الجلباب.
وقال مالك ـ رحمه الله ـ بلغني أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ـ نهى النساء عن لبس القباطي، قال وان كانت لا تشف فإنها تصف، لأن الضيق من الثياب يصف ما تحته، فيصف من المرأة أكتافها وثدييها وغير ذلك(4).
__________
(1) المسند 5/205، وحسنه الألباني، انظر: جلباب المرأة المسلمة ص131.
(2) سنن أبي داود 4/364.
(3) الشوكاني محمد بن علي: نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار من أ حاديث سيد الأخيار 2/130.
(4) الفاسي أبو عبد الله محمد بن محمد : المدخل 1/234،235.(2/221)
وأما بالنسبة إلى وجوب كون الحجاب صفيقا كثيفا لا يشف، فيستفاد مما أخرجه مسلم في صحيحه وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - { صنفان من أهل النار لم أرهما … ونساء كاسيات عاريات مميلات مائلات، رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها، وان ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا "(1).
وفي رواية أخرى للطبراني { العنوهن فإنهن ملعونات } (2).ويدل هذا الحديث دلالة ظاهرة على تحريم لبس ما يشف وما يصف لون بدن المرأة وحجمه، ولهذا كانت النساء اللواتي يلبسن مثل هذا اللباس من أهل النار(3).
وقال النووي في معنى قوله " كاسيات عاريات " أن الواحدة منهن تستر بعض بدنها وتكشف بعضهم الآخر إظهارا لجمالها ونحوه، وقال آخرون: تلبس ثوبا يصف لون بدنها"(4).
وقال ابن عبد البر: أراد - صلى الله عليه وسلم - "اللواتي يلبسن من الثياب الشيء الخفيف، الذي يصف ولا يستر، فهن كاسيات بالاسم عاريات في الحقيقة في الاسم"(5).
قال ابن تيميه " وقد فسر قوله - صلى الله عليه وسلم - " كاسيات عاريات " بان تكتسي مالا يسترها فهي كاسية، وهي في الحقيقة عارية مثل أن تكتسي الثوب الرقيق الذي يصف بشرتها، أو تلبس الثوب الضيق الذي يبدي تقاطيع خلقها، مثل عجيزتها وساعدها. وإنما كسوة المرأة ما يسترها فلا يبدي جسمها ولا حجم أعضائها لكونه كثيفا واسعا"(6).
__________
(1) صحيح مسلم بشرح النووي 14/109-110.
(2) الألباني محمد ناصر الدين: جلباب المرأة المسلمة في الكتاب والسنة ص125وقال: سنده صحيح.
(3) نيل الأوطار 2/131.
(4) مسلم بشرح النووي 14/110.
(5) جلباب المرأة المسلمة ص125.
(6) مجموع الفتاوى الكبرى 22/146.(2/222)
وفي تأكيد هذا المعنى جاء الحديث الذي أخرجه أبو دواد عن عائشة رضي الله عنها أن أسماء بنت أبي بكر دخلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعليها ثياب رقاق، فأعرض عنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقال { يا أسماء إن المرأة إذا بلغت المحيض، لم يصلح لها أن يرى منها إلا هذا وهذا، وأشار إلى وجهه وكفيه } .(1)
فهل بعد كل هذه الأدلة من الكتاب السنة وأقوال الصحابة، و الثقاة من أهل العلم يجوز أن يقال ان تحديد شكل الحجاب وأوصافه متروك لأعراف الناس المتغيرة؟ وأن الإسلام لم يحدد للمرأة زيا معينا؟.
4. ومن الأدلة أيضا على وجوب ستر المرأة لجميع بدنها ـ سوى ما اختلف فيه من الوجه والكفين استثناء المرأة من تحريم إطالة الثوب وجره:
كما جاء ذلك في حديث ابن عمر وفيه " قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - { من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة، فقالت: أم سلمة: فكيف تصنع النساء بذيولهن؟ قال: يرخين شبرا، فقالت: إذن تنكشف أقدامهن، قال: فيرخينه ذارعا لا يزدن عليه } (2).
وهذا دليل آخر يضاف على كون جميع البدن عورة بما فيه القدم، وأنه من عورة المرأة الواجب سترها بلا خلاف.
5. الإجماع:
قال الرازي عند تفسيره لقوله تعالى { يَابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ } (الأعراف/31) أجمع المفسرون على أن المراد بالزينة هنا لبس الثوب الذي يستر العورة "(3).
وهكذا ثبت وجوب الحجاب الشرعي بالكتاب والسنة والإجماع، ولم يعد لدى أحد حجة في إدعاء عدم وجود دليل يوجبه.
ثانياً: الأصل في علاقة الرجل بالمرأة الفصل إلا لحاجة شرعية معتبرة
__________
(1) سنن أبي داود 4/357، وحسنه الألباني، انظر: جلباب المرأة المسلمة ص59.
(2) المسند 6/295-296، وصححه الألباني: انظر: سلسلة الأحاديث الصحيحة 4/478.
(3) مفاتيح الغيب 2/60.(2/223)
ونأتي الآن إلى إيراد الأدلة من الكتاب والسنة وإجماع الأمة على أن الأصل في علاقة الرجال بالنساء في الإسلام هو الفصل وعدم الاختلاط، وليس ما ذهب إليه هويدي والترابي وكثير من " الإسلاميين " وجملة العلمانيين، بأن الاختلاط لا يحل إلا لضرورة أو حاجة شرعية معتبرة، وكلاهما يقدر بقدره وله ضوابط وشروط ليس هنا محل تفصيلها. وان الاختلاط ليس هو القاعدة والأساس.
و لا بد أولا من تحديد معنى الاختلاط الذي أتكلم عليه: فالاختلاط المراد هنا هو: اجتماع الرجال بالنساء غير المحارم في مكان واحد يمكنهم فيه الاتصال فيما بينهم، بالنظر أو الإشارة أو الكلام أو البدن، من غير حائل أو مانع يدفع الريبة والفساد "(1).
وأما أدلة التحريم فهي:
1. أما الدليل على أن الأصل في العلاقة بين الرجل والمرأة " الاختلاط" هو الحظر وليس الإباحة، فهو ما تقره الفطر السليمة والعقول الراجحة في أن اختلاط المرأة بالرجل الأجنبي عنها ليس كاختلاط الرجل الأجنبي بمثله، فبينهما فرق، وحيث أن الأصل في اختلاط الرجل الأجنبي بمثله هو الإباحة والمرأة ليست مثله في ذلك الاختلاط، فالأصل إذن في اختلاطها بالرجل هو الحظر وليس الإباحة(2).هذا من المعقول
أما من المنقول:
2. فقوله تعالى { وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى } ( الأحزاب / 33).
……والقرار في البيت مانع من الاختلاط في الغالب، وهو غير خاص بأزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - لأن الله علل الحكم بقوله:
{ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا } ( الأحزاب /33) وغيرهن أحوج إلى تلك الطهارة كما قال الإمام الشنقيطي(3).
__________
(1) عودة الحجاب 3/52.
(2) انظر: المفصل في أحكام المرأة والبيت المسلم 3/422.
(3) أضواء البيان 6/242.(2/224)
3. إن أحكام الإسلام جاءت بمنع كل ما من شانه أن يسبب اختلاط النساء بالرجال ما أمكن، ومن ذلك:
أ ) منع سفر المرأة وحدها وخلوة الأجنبي بها، فروى الإمام البخاري في صحيحه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال { لا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم ولا يدخل عليها رجل إلا ومعها محرم } (1) وفي رواية للإمام مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال { لا يخلون رجل بامرأة إلا ومعها ذو محرم } (2). وقد قال العلماء في معنى الحديث " وفيه منع الخلوة بالأجنبية، وهو إجماع لا خلاف فيه"(3) والخلوةُ من الاختلاط.
وواضح من هذا أن الأصل في اجتماع المرأة مع الرجل هو الحظر، بخلاف اجتماع الرجل، مع الرجل إذ أن خلوته برجل مثله مباح(4).
ب) أن الإسلام استثنى المرأة من حكم وجوب الجهاد وأخبرهن - صلى الله عليه وسلم - "أن جهادهن الحج"(5)، وقال ابن حجر في الحديث إياه، دل الحديث على أن الجهاد غير واجب على النساء، وإنما لم يكن عليهن واجبا، لما فيه من مغايرة المطلوب منهن من الستر ومجانبة الرجال(6).
ج) وكون بعض النساء ـ شاركن في بعض الغزوات، فان ذلك كان الاستثناء، وليس القاعدة، ولم يكنَّ حضرن للقتال أصلا، بل لحاجة معتبرة شرعا، وهي مداواة الجرحى والطبابة وسقي الماء، مما لا يتفرغ له المجاهدون، مع كون المقام مقام موت ولقاء لله، فهو أبعد ما يكون عن الريبة والفساد، ولا يقاس عليه بحال جواز اختلاطهن للتعليم أو في المكاتب وأماكن العمل كالمصانع أو في الحياة السياسية كالمجالس النيابية وغيرها.
__________
(1) صحيح البخاري بشرع العسقلاني 4/72،77.
(2) صحيح مسلم بشرح النووي 9/109.
(3) نيل الأوطار 4/324.
(4) المفصل في أحكام الأسرة والبيت المسلم 3/422.
(5) صحيح البخاري بشرح العسقلاني 6/75.
(6) نفس المصدر 6/76.(2/225)
يضاف إلى ذلك أن "الجهاد لم يفرض على النساء ولم يخاطبن به، بل ولا ندب في حقهن الخروج إليه. فمما لا خلاف فيه بين السلف الصالح رضوان الله عليهم في فقه هذه المسألة -هو عدم تكليف النساء بالقتال- لا وجوبا ولا استحبابا، ثم إن المرأة عندهم لم يجعل لها نصيب معلوم في غنائم الحرب، وإن قاتلت.
هذا وإننا بالنظر في أخبار الغزوات والسرايا، فإن من خرجت فيهن من النساء لم يتجاوزن العشر أوالبضع، ولم يقاتل منهن إلا اثنتان أو ثلاث، وبحكم الظروف التي أحاطت بهن من الضرورة، فأدت بهن إلى المقاتلة.
كما إذا علمنا أن الصحابة كانوا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مائة ألف ويزيدون ـ هذا هو العدد الذي شهد معه عليه الصلاة والسلام حجة الوداع وهي بالطبع لم تستوعب كل العدد الموجود آنذاك من الصحابة، ولا شك أن عدد الصحابيات من هذا العدد لا يقل عن النصف آنذاك من الصحابة إن لم يزد ـ فإذا كانت النساء اللاتي خرجن آنذاك للقتال من جملة هذا العدد عشر نساء أو نحو ذلك، ولم يقاتل منهن غير نزر يسير اثنتين او ثلاث بل قل أربع - فأين هذه المساواة في التكليف بحراسة الكيان العام للدين بالنسبة للنساء مع الرجال- والتي ذهب يقررها الأستاذ الترابي وهويدي؟.
فإن هذه النسبة الضئيلة مفيدة حتما أنَّ الأمر كان غير ذلك، وأن اللاتي وردت أسماؤهن من الصحابيات بالمشاركة في الغزو كانت حالات استثنائية ونادرة.(2/226)
ثم إن النساء اللاتي خرجن لشهود القتال مع النبي - صلى الله عليه وسلم - أو مع الصحابة من بعده، فإنهن مع قلة عددهن واختلاف المهام التي كن يؤدينها أساسا عن مهمات الرجال في هذه الحرب، فإلى جانب ذلك كان خروجهن في بوتقة عائلية وفي معية أسرية و محرمية، كإحدى أمهات المؤمنين مثلا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو إحدى زوجات الصحابة مع زوجها كأم سليم مع زوجها أبي طلحة الأنصاري، أو كأم مع ولدها مثل صفية بنت عبد المطلب مع الزبير بن العوام، أو مثل نسيبة بنت كعب المازنية مع عدة أبناء لها -رضي الله عنهم أجمعين- ولكن كن نساء سيدات متجالات ليس من بينهن فتاة ناهدة على الإطلاق، فمنهن من هي أكبر سنا من النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن بعض الصحابة من الرجال، مثل صفية ونسيبة -رضي الله عنهما- بل لم يؤثر في تاريخ المغازي الإسلامية على طول الحقب منذ صدر الإسلام الأول وحتى سقوط الخلافة التركية سنة 1924 ـ خروج فتيات نهد غير ذوات أزواج إلى القتال وسط الجند المسلمين ـ بل حتى هؤلاء النساء القلائل اللاتي خرجن مع بعض الجيوش في الصدر الأول لم يخرجن كفيالق عسكرية أو فصائل من الجيش لم يربطها به سوى هذه الصفة، وإنما هن أمهات أو زوجات لأزواج بنفس الجيش، كما تقدم ذكر ذلك من قبل.
ومن نظر في تاريخ الإسلام وأحوال المسلمين عبر القرون وقف على هذه الحقيقة. ومرجع ذلك كله إلى التزام المسلمين عبر هذه الحقب بما عليه الإجماع من عدم جواز خروج المرأة بغير محرم مسافة تقصر فيها الصلاة إلا لضرورة لا يتسع وقتها لاصطحاب المحرم(1).
__________
(1) الخواض العقاد : الإجتهاد والتجديد ص262-265، باختصار.(2/227)
د ) لم يوجب الله عليهن أداء الصلاة جماعة ولا سنها لهن، بل أخبرهن- صلى الله عليه وسلم - بأن صلاتهن في بيوتهن أفضل(1) وأثوب لهن من الصلاة في المسجد باتفاق الفقهاء، مع إذنه لهن بالصلاة لمن شاءت، ولم يوجب الله عليهن حضور صلاة الجمعة، كما أوجبها على الرجال، وما ذلك إلا تأكيدا للقاعدة الأساس وهي حرمة اختلاط النساء بالرجال.
هـ) وكذلك خصتهن السنة ببعض الأحكام في الحج، فالسنة في حقهن التباعد عن الرجال في الطواف، ولا يسن لهن استلام الحجر، ورخص لهن رمي جمرة العقبة الكبرى يوم النحر قبل الفجر، دفعا لمشقة الزحام وما فيه من اختلاط بالرجال.
ففي صحيح البخاري " كانت عائشة رضي الله عنها ـ تطوف حجرة من الرجال لا تخالطهم"(2) ومعنى حجرة: أي ناحية عن الناس معتزلة(3). ودخلت على عائشة مولاة لها فقالت لها: يا ام المؤنين طفتُ بالبيت سبعا واستلمت الركن مرتين أو ثلاثا " فقالت لها عائشة رضي الله عنها " لا آجرك الله، لا آجرك الله " تدافعين الرجال؟ ألا كبرت ومررت"(4)
قال ابن حجر رحمه الله "روى الفاكهاني من طريق زائدة عن إبراهيم النخعي قال:" نهى عمر أن يطوف الرجال مع النساء، قال: فرأى رجلا يطوف معهن فضربه بالدرة"(5). وظاهر أنه اختلاط لم تدع إليه حاجة، ولذلك نهى عنه - صلى الله عليه وسلم -.
__________
(1) سنن أبي داود 1/382، وصححه الألباني، انظر: السلسلة الصحيحة 3/386، ح 1396.
(2) صحيح البخاري بشرح العسقلاني 3/479.
(3) نفس المصدر 3/481.
(4) الشافعي محمد بن ادريس: مسند الشافعي ص127.
(5) صحيح البخاري بشرح العسقلاني 2/480.(2/228)
4. ومن الأدلة أيضا على أن الأصل في الاختلاط التحريم والمنع، فصله - صلى الله عليه وسلم - بين النساء والرجال في التعليم، فأخرج البخاري عن أبي سعيد الخدري قال: قالت النساء للنبي - صلى الله عليه وسلم -:"غلبنا عليك الرجال فاجعل لنا يوما من نفسك، فوعدهن يوما لقيهن فيه، فوعظهن وذكرهن وأمرهن…"(1).
وجاء في الحديث أن ابن عباس شهد تعليم الرسول- صلى الله عليه وسلم - لهن، وأن حضوره ما اغتفر له إلا بسبب صغره، وشهد بلال كذلك لأنه كان خادم النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكان متولي قبض الصدقة منهن، وعلق ابن حجر على قوله في الحديث إياه: … ثم أتى النساء "يشعر بأن النساء كن على حدة من الرجال غير مختلطات بهم"(2).
"فهذا الحديث يدل على أن تعليم النساء يكون على حدة، ووحدهن، دون اختلاط بالرجال، إذ لو كان الاختلاط لسماع العلم وتعلم أمور الدين سائغا، لما طلبن من النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يعين لهن يوما خاصا بهن يجتمعن فيه، ليعلمهن أمور الدين، وكذلك لو كان اختلاطهن بالرجال سائغا لتعلم أمور الدين، لما جعل لهن - صلى الله عليه وسلم - يوما وحدهن عندما طلبن ذلك منه، ويستفاد أيضا من الحديث الشريف أنه لا يسوغ أيضا الاختلاط في التعليم عن طريق جعل النساء خلف الرجال كما هو جائز في الصلاة(3). فالاختلاط لا يجوز إلا لضرورة كما لو وجدها منقطعة في طريق يخاف عليها منها، أو لحاجة كاختلاط لمباشرة أعمالها التي لا بد منها كقضاء حوائجها من بيع وشراء وزيارة والدْين، أو في وسائل النقل العامة. وعليها في كل ذلك التزام الحجاب الشرعي والزي الإسلامي والأدب الإسلامي في كلامها ونظرها وسائر تصرفاتها.
5. وقد أفرد- صلى الله عليه وسلم - في المسجد بابا خاصا لنساء يدخلن ويخرجن منه لا يخالطهن ولا يشاركن فيه الرجال.
__________
(1) نفس المصدر 2/465.
(2) نفس المصدر 2/432.
(3) المفصل في أحكام المرأة والبيت المسلم 3/432.(2/229)
فعن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال { لو تركنا هذا الباب للنساء. قال نافع:فلم يدخل منه ابن عمر حتى مات } (1). وعن نافع ابن موسى ابن عمر رضي الله عنهما قال"كان عمر بن الخطاب-رضي الله عنه- ينهى أن يدخل المسجد من باب النساء" (2) ).
6. ومن تلك الأدلة تشريعه - صلى الله عليه وسلم - للرجال، إماما ومؤتمين أن لا يخرجوا من الصلاة فور التسليم، وذلك ليتسنى للنساء الانصراف إلى بيوتهن قبلهم حتى لا يحصل الاختلاط بينهم عند الخروج أو في الطريق ولو بدون قصد.
عن أم سلمة رضي الله عنها قالت:" كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - إذا سلم قام النساء حين يقضي تسليمه، ويمكث هو في مقامه يسيرا قبل أن يقوم. قال نرى والله أعلم أن ذلك كان لكي تنصرف النساء قبل أن يدركهن أحد من الرجال، والقائل هو ابن شهاب الزهري راوي الحديث(3).
وأخرج أبو داود عن حمزة بن أسيد الأنصاري عن أبيه أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول وهو خارج من المسجد، واختلط النساء مع الرجال في الطريق، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للنساء { استأخرن فإنه ليس لكن ان تحققن الطريق، عليكن بحافات الطريق } فكانت المرأة تلصق بالجدار حتى أن ثوبها ليعلق بالجدار من لصوقها، ومعنى تحققن تركبن وسط الطريق، وتمشين بها(4).
وقال ابن القيم في تبيان واجبات ولي الأمر المسلم ".. ومن ذلك أن ولي الأمر يجب عليه أن يمنع اختلاط الرجال بالنساء في الأسواق والفرج ومجامع الرجال.
__________
(1) سنن أبي داود 1/383.
(2) سنن أبي داود 1/317
(3) صحيح البخاري بشرح العسقلاني 2/350.
(4) سنن أبي داود 5/422، وصححه الألباني: انظر السلسلة الصحيحة 2/512.(2/230)
قال مالك -رحمه الله- أرى للإمام أن يتقدم إلى الصناع في قعود النساء إليهم، وأرى ألا يترك المرأة الشابة تجلس إلى الصناع، فأما المرأة المتجالة والخادم الدون التي لا تتهم على القعود ولا يتهم من تقعد عنده فإني لا أرى بذلك بأسا.
قال ابن القيم: فالإمام مسؤول عن ذلك والفتنة به عظيمة. قال - صلى الله عليه وسلم - { ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء } (1) ".. ويجب عليه منع النساء من الخروج متزينات متجملات، ومنعهن من الثياب التي يكن بها كاسيات عاريات، كالثياب الواسعة والرقاق، ومنعهن من حديث الرجال في الطرقات ومنع الرجال من ذلك.. وقد منع أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه النساء من المشي في طريق الرجال والاختلاط بهم في الطريق.. ولا ريب أن تمكين النساء من اختلاطهن بالرجال: أصل كل بلية وشر. وهو من اعظم أسباب نزول العقوبات العامة. كما انه من أسباب فساد أمور العامة والخاصة. واختلاط الرجال بالنساء سبب لكثرة الفواحش والزنا. وهو من أسباب الموت العام والطواعين المتصلة."(2)
وبهذا يتبين لنا أن الحجاب الشرعي والزي الإسلامي هو فرض معلوم من الدين بالضرورة، دل على فرضيته وأوصافه الكتاب والسنة وإجماع الأمة. لا يحل إنكاره ولا الانتقاص منه أو ممن يرتديه، وان ذلك يكون انتقاصا واستخفافا بحكم شرعي فرضه الله، وهو موجب للكفر والعياذ بالله.
وتبين لنا أن الأصل في علاقة المرأة بالرجل هو الفصل والمنع وأنه لا يحل الاختلاط إلا لحاجة معتبرة شرعا. وبذلك تتهاوى دعاوى دعاة التحرر المنادية بالسفور والاختلاط، وتتهاوى معها دعاة التوفيق بين أحكام الإسلام وقيم الحضارة الغربية المنادية بانخراط المرأة في الحياة العامة بكل مناحيها بدون ضرورة تستوجب ذلك. مما يساعد على هدم الأسرة ونشر الفساد. والواقع اكبر برهان. والله المستعان.
__________
(1) صحيح البخاري برقم 5069.
(2) الطرق الحكمية في السياسة الشرعية ص280-281.(2/231)
المبحث السادس
التأويل في النظام السياسي الإسلامي
( شرعية القوانين والسلطة )
في مفهوم الشرعية الإسلامية:
حين يكون النظام السياسي الحاكم شرعيا يجب القبول به و الإذعان إليه والتسليم به وطاعته في المعروف، ويحرم الخروج عليه ومنابذته وخلع يد الطاعة منه.
وحين يكون غير شرعي فلا يجوز القبول به، ولا الخضوع له، ولا مهادنته ولا تقديم الولاء والطاعة له، بل يجب الخروج عليه إن توفرت الاستطاعة، ومنابذته، وخلع يد الطاعة منه.
فمفهوم الشرعية إذا هو الركن الركين في النظام السياسي الإسلامي، وهو قطب الرحى الذي تدور عليه أحكام الولاية العامة، والعلاقة بين الراعي والرعية.
فإذا حصل خلل في فهم هذا الأساس أو في الإيمان به أو في سوء التطبيق له ـ وكل ذلك واقع ـ نتج عن ذلك اضطراب في المعايير التي تقوّم بها الأنظمة السياسية الحاكمة وسياساتها.
والذي يمنح أي فعل أو قول أو تصرف " شرعية " هو الشرع، لأنه هو المصدر الوحيد للحق والشرعية، وهو معنى قول الأصوليين المتفق عليه " أن الحاكم هو الله ".
وقد تواتر واستفاض في الوعي الإسلامي الصحيح أن طاعة الولاة والحكام منوطة بطاعتهم لله ورسوله، فإن عصوا الله فلا طاعة لهم، وان الطاعة إنما تكون في المعروف، وان لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
كما تواتر عندهم واستقر في وعيهم أن المشرع هو الله تعالى، وما أذن به لرسله عليهم الصلاة والسلام، وان التشريع لا زم من لوازم ألوهية الله سبحانه وتعالى { أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ }
(الأعراف:54) وأن ما أُختلِف فيه من شيء فمرده ومرجعه إلى الله ورسوله ـ قرآنه وسنة نبيه، وأن لا حق ألبتة لأحد من المخلوقين أن يشرع حكما أو يسن قانونا فيه مخالفة لحكم الله، وان من فعل شيئا من ذلك، فقد ضاد الله في حكمه و حاده في شرعه، ونازعه في صفاته.(2/232)
إلا أننا نجد في زماننا ممن ينتسب إلى أهل الفكر والدعوة والعلم من يتفوه بعبارات أو يؤلف كتبا، أو يتخذ مواقف، أو يدلي بتصريحات، أو يؤيد سياسات تناقض أصل الشرعية هذا، ولا تنسجم معه بحال من الأحوال. وذلك إما بتأويل النصوص الصريحة القاطعة، وإما بتجاهلها والاستخفاف بها.
وهذه البلوى لم تعد قاصرة على أعداء الفكرة الإسلامية، الذين لا ضير عندهم في اعتبار الأنظمة السياسية الحاكمة في عالمنا العربي شرعية، يدان لها بالطاعة والولاء.
واعتبار القوانين التي تسنها مجالس الشعب، أو ما يسمى بمجالس الأمة، والتي تقوم عليها تلك الأنظمة قوانين شرعية كذلك.
بل أن هذه البلوى جاوزتهم إلى كثير ممن ينتسب إلى حقل الدعوة الإسلامية، أو العلم الشرعي. فلا تكاد تسمع حوارا أو تسمع ندوة أو تطالع مجلة إلا ويشيد فيها المتحاورون إسلاميين كانوا أوعلمانيين أو ماركسيين بالديمقراطية السياسية كأساس للحكم، واحترام الدستور والقوانين السائدة.
وأجازت بعض الحركات الإسلامية الاشتراك في الحكم غير الإسلامي، بل وشاركت فعلا فيه في غير بلد، حتى أصبح ذلك أمرا عاديا بل واجبا شرعيا في نظر دعاته.
وحين خرجت بعض الجماعات الإسلامية الأخرى على بعض تلك الأنظمة الحاكمة ونابذته بالسلاح معلنة كفرها، وعدم شرعيتها، انتدب كثير من الدعاة " وأهل العلم" أنفسهم للدفاع عن تلك الأنظمة السياسية الاستبدادية وغير الشرعية حتى بالمعايير الغربية نفسها(1)، مصرحين بأنها أنظمة شرعية غير كافرة وإن كان يصدق على بعضها وصف الفسق والجور.
واستلزم ذلك منهم أن يحرموا الخروج عليها، ويصفوا " المجاهدين " بالخوارج والبغاة وأهل الحرابة، فأفتوا بحل دمائهم، ووقعوا على إعدامهم.
__________
(1) انظر: الشيخ علي بلحاج أبو عبد الفتاح: فصل الكلام في مواجهة ظلم الحكام ص81-105، حيث بين عدم شرعية الأنظمة في العالم الإسلامي حتى وفق الدساتير والقوانين الغربية الديمقراطية.(2/233)
ويأتي في هذا السياق ما كتبه د. محمد سعيد رمضان البوطي في كتابه الذي سماه "الجهاد في الإسلام كيف نفهمه وكيف نمارسه"(1).
وأيضا ما كتبه محمد سالم البهنساوي في كتابه "الحكم وقضية تكفير المسلم" حيث حاول التأصيل لشرعية القوانين والأنظمة السياسية القائمة. وحجته في ذلك أن النصوص القطعية قليلة جدا، وان معظم الأحكام القضائية تعزيرية قائمة على اجتهاد القاضي، ومحورها مراعاة العدل
والمصلحة، وما دام الأمر كذلك فلا مجال لاعتبار تلك الأحكام والقوانين " كفرية "، ولا مجال إذا لتكفير المشرِّع لها ولا الحاكم بها. لأنه لم يصدر ما يفيد الجحد بالقلب، والحاكم لا يكفر إلا إذا جحد بقلبه حكم الله القطعي(2).
فمن يحكم بغير ما أنزل الله، فهو ظالم فاسق وليس بكافر، فلا يحل الخروج عليه ولا قتاله(3)، وقد يجوز في بعض الأحيان وصف التشريعات بالكافرة أما الحاكم فلا يجوز أبدا(4).
وأجاز بل أوجب الاشتراك في الحكم غير الإسلامي وتولي الوزارة فيه لأنها في الأساس أنظمة غير كافرة، لأن دستورها ينص على أن دين الدولة هو الإسلام، وان الشريعة الإسلامية هي مصدر رئيس للتشريع(5). ولأنه يجوز تولي المسلم الحكم عند الحربي في بلاده والحكم بقانونه مراعاة لمصلحة المسلمين(6).
__________
(1) انظر : البوطي : الجهاد كيف نفهمه وكيف نمارسه ص147-159.
(2) محمد سالم البهنساوي: الحكم وقضية تكفير المسلم ص339.
(3) نفس المصدر ص339، 354.
(4) نفس المصدر ص365.
(5) نفس المصدر ص338.
(6) نفس المصدر 331-333.(2/234)
وهو تخريج فرع فاسد على أصل أفسد، إذ بناه على فتوى الشيخ محمد رشيد رضا للمسلمين في الهند بجواز تولي الوزارات تحت سلطان الاستعمار الإنجليزي والقضاء بقوانينهم في رقاب المسلمين وأعراضهم وأموالهم، معتبرا أن قوانينهم هي أقرب القوانين للتشريعات الإسلامية، لأنها قائمة على مراعاة العدل والمصلحة، وكذلك الشريعة الإسلامية إذ غالبها آيل إلى التعزير، والتعزير موكول إلى اجتهاد القاضي(1).
ولا أدري كيف يوفق الشيخ بين وجوب الجهاد لطرد الإنجليز المحتلين وتطهير بلاد المسلمين منهم وبين التسليم بشرعية " حكمهم واستعمارهم " والقضاء بقوانينهم؟.
ولو طردنا هذه الفتوى لكنا في فلسطين ملزمين بتولي الوزارات تحت سلطان اليهود والتسليم باحتلالهم لجزء من ديار الإسلام، وجاز لنا كما جاز لمسلمي الهند الرضا والتسليم بقوانين يهود والحكم بها في دمائنا وأعراضنا.وهذه واحدة من المضحكات المبكيات من فتاوى فقهاء هذا الزمان.
ومن الأدلة التي ساقها البهنساوي على جواز تولي الوزارة في الحكم غير الإسلامي هو تولي يوسف عليه الصلاة والسلام الوزارة عند العزيز حسبما أفاده قوله تعالى على لسانه
{ قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ } ( يوسف /55) وهو الشبهة التي طارت في الآفاق، وسارت بها الركبان، واشتهرت على ألسنة دعاة هذا الاتجاه. وأجاز دخول المجالس النيابية لإسماع صوت الإسلام، ولأنه يمكن تعديل القوانين والدساتير بالأغلبية المطلقة(2).
__________
(1) انظر: تفسير المنار 6/406 ـ 409.
(2) نفس المصدر ص340-343.(2/235)
وبخصوص القسم الذي يقسمه رئيس الدولة والوزراء والنواب، والمتضمن القسم بالله العظيم على احترام الدستور وقوانين الدولة ـ ومنها ما هو غير إسلامي ـ فانه يقترح تعديله بإضافة عبارة " في حدود القرآن والسنة " والى أن يتم هذا التعديل، فلا بأس بحلف القسم السابق مع إضمار الإضافة في القلب والقاعدة الشرعية تقول "إنما الأعمال بالنيات"(1).
وباختصار فإن جواز الاشتراك وعدمه متروك إلى التقدير المصلحي(2).
وألف د. عمر سيلمان الأشقر كتابا سماه "حكم المشاركة في الوزارة والمجالس النيابية" حاول فيه كسابقه أن يؤصل لمشروعية تولي الحكم في الأنظمة غير الإسلامية والدخول في مجالسها النيابية، ولم يعد فيه ما قاله البهنساوي حيث استدل بذات الأدلة وتذرع بذات الحجج، وكلها تدور على مراعاة المصلحة(3).
ومر معنا في مبحث الأصول مطالبة الصادق المهدي ودعوته إلى إعادة النظر في جملة من الأحكام، ومنها ما يتعلق بالنظام السياسي الإسلامي ونظام الحكم وكونه قائما على "خلافة لأمة واحدة، حيث دعا إلى بنائه على أساس الأوطان القطرية الحديثة، مع استبعاد الأحكام التي تفرق بين المواطنين(4).
وفي لقاء مع مجلة المصور المصرية يصف الشيخ عمر التلمساني الدستور المصري بأنه كان كيسا لأنه " نادى بأن الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع، ولم يقل المصدر الوحيد "(5).
__________
(1) نفس المصدر ص345.
(2) نفس المصدر ص346.
(3) انظر: د. عمر سليمان الأشقر : حكم المشاركة في الوزارة والمجالس النيابية ص34 –65، 84، 112-116.
(4) مجلة الوعي - عدد 155 ص9، السنة الرابعة عشرة – ذو الحجة – 1420هـ، آذار – 2000م.
(5) انظر: د. أيمن ظواهري: الحصاد المر – الإخوان المسلمون في ستين عاماً ص71.(2/236)
وقد أعلن مرشدو الأخوان وعلى رأسهم الشيخ حسن البنا احترامهم للدستور، وانه ينطبق انطباقاً تاما على تعاليم الإسلام، وأنهم لا يطعنون فيه، ولا يحضون الناس على كراهيته، وان نظام الحكم القائم عليه هو أقرب نظام إلى الإسلام(1).
وقد تكررت هذه الأقوال والتصريحات عن نفس الجماعة في مصر و في بلاد إسلامية أخرى ـ والواقع المشاهد يغني عن كثرة الشواهد.
ويأتي في هذا السياق أيضا ما يروجه كثير من الكتاب حول وجوب احترام الديمقراطية والتعددية واحترام الدستور والقوانين ونبذ العنف.
ويأتي في مقدمة هؤلاء فهمي هويدي حيث تطفح كتبه ومقالاته بهذه الطروحات دون أن يرى أي غضاضة في الدعوة إليها، بل لقد جعل الديمقراطية والتعددية وسيادة الأمة - لا الشريعة - من مقاصد الشريعة الإسلامية في المجال السياسي(2).
ونقل راشد الغنوشي عن د. أحمد كمال أبو المجد قوله: إن تطبيق الشريعة يمثل خطرا على قضايا الحرية والمساواة، وما أنجزته نضالات البشرية من مكاسب وحقوق للإنسان، وأنه لا ضمان للحقوق إلا بإقرار علمانية الدولة " ونقله مستشهدا به ولم يعلق عليه بكلمة(3).
وفي بعض حواراته ينكر الغنوشي أن يكون للشريعة الإسلامية حق السيادة في الأرض المفتوحة، ويسخر من عقلية الفتح حيث يدعو المسلمَ المعاصر إلى الصحوة من " خدر القرون الخوالي حيث تأسست مجتمعاتنا التقليدية على مشروعية الفتح، فمن فتح بلدا فهو الأحق بحكمه وإنفاذ شريعته فيه بقطع النظر عن قبول الناس به"(4)!
كما ويجيز تعدد الأنظمة القانونية داخل الدولة الإسلامية حسب اتجاه الأغلبية في كل منطقة من مناطق الدولة"(5).
__________
(1) نفس المصدر ص69.
(2) انظر: فهمي هويدي: المقالات المحظورة ص232، 236، 237، وكتابه: الإسلام والديمقراطية ص95، 238.
(3) راشد الغنوشي: حقوق المواطنة ص65.
(4) ياسر الزعاترة: حوار المرحلة مع الشيخ راشد الغنوشي ص39.
(5) حقوق المواطنة ص112.(2/237)
وينادي الجابري أن تكون الديمقراطية هي المرجعية الفكرية التي يفزغ إليها في حياتنا، وانه كما ينادي الإسلاميون بان الإسلام هو الحل، فإننا ننادي بأن الديمقراطية هي الحل، مثلما ينادي أيضا الشيوعيون بأن الشيوعية هي الحل(1).
وممن يدخل في هذا الباب الشيخ أحمد حسن الباقوري حيث أوّل قوله عز وجل { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ } (المائدة /44) بأنها ليست على عمومها، وإنما هي خاصة فيمن جحد
بقلبه وأنكر بلسانه أنه حكم الله عز وجل، أما إن عرف بقلبه، أن هذا الحكم حكم الله، وأقر به بلسانه، فإنه لا يكفر، وإن لم يحكم به، بل وإن أتى بما يضاده ويخالفه.
وعلل رأيه هذا بأنه اجتهاد ينفي عن الأمة حرجا لا قبل لهم به وهو تكفير الحكام، ويعتذر لهم بأن سنهم القوانين والتشريعات التي لا صلة لها بالإسلام هي من قبيل الضرورة التي تبيح المحظور، وهذه الضرورة تتمثل في الخوف من الأعداء(2).
ومن الدعوات التي يفهم منها الإقرار بشرعية الأنظمة السياسية القائمة، الدعوة إلى نبذ العنف وإيجاد صيغة " تفاهم " بين الأنظمة السياسية في العالم الإسلامي وبين الحركات الإسلامية المناوئة لها، تحت إطار الشورى والتعددية ونبذ "العنف"، وهي الدعوة التي أطلقها كامل الشريف في مؤتمر أقيم في عمان(3).
وهذه الرؤى والطروحات " والاجتهادات " تفترض عدم وجود مانع شرعي من التسليم بشرعية هذه الأنظمة السياسية، وما تقوم عليه من قوانين.
__________
(1) برنامج ضيف وقضية – قناة الجزيرة الفضائية – الإثنين السادسة بتوقيت غرينتش، 9/5/2000م.
(2) اتجاهات التفسير في القرن الرابع عشر الهجري – مرجع سابق – 3/1065-1066.
(3) انظر: د. كامل الشريف: ورقة عمل: الصحوة الإسلامية والمشاركة السياسية، ضمن كتاب الصحوة الإسلامية وهموم الوطن العربي ص245.(2/238)
وإذا ما علمنا أن تلك الموانع الشرعية لم تغب عن أذهانهم، تكون هذه " التأويلات " تجاهلا فظا سمحا للأدلة الشرعية الصريحة والقطعية من الكتاب والسنة والإجماع، والتي تقضي بنزع الشرعية عن كل سلطة سياسية لا تحتكم إلى الشريعة الإسلامية ولا تحكم بها.
وهذا أوان بسطها وتفصيلها:
أولا: تطبيق الشريعة أساس الشرعية السياسية
أن شرعية السلطة في الإسلام مبنية على شرعية القوانين التي تطبقها، وأن القوانين لا تكون شرعية بحال إلا إذا كانت نابعة ومستمدة من الشريعة الإسلامية.
وقد ثبت بالأدلة القطعية من الكتاب والسنة والإجماع أن تحكيم الشريعة هو أهم الفروض بعد وجوب التوحيد، بل هو جزء من التوحيد، وأن من استبدل تشريعا أو قانونا بدين الله وشريعته هو كافر قطعا كفرا ناقلا عن الملة الإسلامية، بصرف النظر عما إذا كان استبداله ذاك نابعا عن اعتقاده بعدم صلاحية الشريعة الإسلامية للحكم، أو لاعتقاده بعدم وجوب تطبيقها، أو لاعتقاده جواز الحكم بغير ما انزل الله، أو تفضيله تشريعات وضعية على شريعة الله، أو مساواتها بها، أو اعتقاده جواز الحكم بها أو أي سبب آخر، والدليل على ذلك ما يلي:
1. قوله تعالى عز وجل { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ } (المائدة /44) فأخبر الله أن من لم يحكم بما أنزل الله إنه كافر، ومن من صيغ العموم، فيعم حكمها كل من يتناوله لفظها.
2. قوله تعالى { أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنْ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ } (الشورى /21) فسمى الله من يشرع أقوالا وأفعالا وأحكاما لم يأذن بها الله سماهم شركاء، فالتشريع من دون الله إشراك صريح بالله تعالى.
3. قوله تعالى { إِنْ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ } ( يوسف /40) صريحة في حصر حق الحكم والقضاء والفصل بين الخلق لله وحده.(2/239)
4. قوله تعالى { اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ } (التوبة /31) فالله سمى اتباع اليهود والنصارى لأحبارهم ورهبانهم فيما حللوا من حرام، وما حرموا من حلال، سمى ذلك اتخاذا لهم أربابا من دون الله، فطاعة المشرع من دون الله اتخاذ له ربا(1)، وهذا الاتخاذ كفر قال تعالى { وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } ( آل عمران /80).
5. قوله تعالى { إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ } (التوبة /37)، فالنسيء وهو تغيير ما شرع الله من الأشهر الحرم بتأخيرها أو تقديمها سماه الله زيادة في الكفر والزيادة في الكفر كفر(2).
6. قوله تعالى { أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنْ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ } ( المائدة/ 50) فسمى كل حكم غير حكم الله حكم جاهلية.
قال ابن كثير: "ينكر الله تعالى على من خرج عن حكم الله المشتمل على كل خير، الناهي عن كل شر، وعدل إلى ما سواه من الآراء والأهواء والاصطلاحات التي وضعها الرجال، بلا مستند من شريعة الله، كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الضلالات والجهالات، يعضدونها بآرائهم وأهوائهم، وكما يحكم به التتار من السياسات الملكية المأخوذة عن ملكهم جنكيزخان، الذي وضع لهم الياسق.
__________
(1) أضواء البيان 3/258-259.
(2) ردود على أباطيل وشبهات حول الجهاد ص243.(2/240)
وهو عبارة عن كتاب مجموع من أحكام اقتبسها من شرائع شتى من، اليهودية والنصرانية والملة الإسلامية وغيرها، وفيها كثير من الأحكام أخذها من مجرد نظره وهواه، فصارت في بنيه شرعا متبعا يقدمونه على الحكم بكتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فمن فعل ذلك منهم فهو كافر يجب قتاله حتى يرجع الى حكم الله ورسوله، فلا يحكِّم سواه في قليل ولا كثير"(1). ويعلق الشيخ أحمد شاكر على قول ابن كثير هذا بقوله: وهذا شيء بدهي معلوم من الإسلام بالضرورة لا يعذر أحد بجهله، أيا كانت منزلته من العلم أو الجهل ومن الرقي أو الانحطاط"(2). ويقول ابن كثير في موضع آخر حول وضع هذا التشريع من دون الله".. وفي هذا كله مخالفة لشرائع الله المنزلة على عباده الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فمن ترك الشرع المحكم المنزل على محمد بن عبد الله خاتم الأنبياء، وتحاكم إلى غيره من الشرائع المنسوخة كفر. فكيف بمن تحاكم إلى الياسق وقدمها عليه؟ من فعل ذلك كفر بإجماع المسلمين "(3).
فترك الحكم بالشريعة كفر في حد ذاته، والتحاكم إلى غيرها كفر، والإجماع منعقد على ذلك وهو دليل قطعي لا يؤول.
ويقول الشيخ أحمد شاكر معلقاً على قول ابن كثير المذكور في تفسيره:
__________
(1) تفسير القرآن العظيم 2/590.
(2) الشيخ أحمد محمد شاكر: كلمة الحق ص67.
(3) الحافظ ابن كثير: البداية والنهاية 13/119.(2/241)
"أفيجوز مع هذا في شرع الله أن يُحكم المسلمون في بلادهم بتشريع مقتبس عن تشريعات أوروبة الوثنية الملحدة؟ بل تشريع يدخله الأهواء والآراء الباطلة، يغيرونه، ويبدلونه كما يشاءون، لا يبالي واضعه أوافق شرعة الإسلام أم خالفها.. أفرأيتم هذا الوصف القوي من الحافظ ابن كثير ـ في القرن الثامن ـ لذلك القانون الوضعي الذي وضعه عدو الإسلام جنكيزخان؟ ألستم ترونه يصف حال المسلمين في هذا العصر في القرن الرابع عشر؟ إلا من فرق واحد أشرنا إليه آنفا، أن ذلك كان في طبقة خاصة من الحكام أتى عليها الزمن سريعا، فاندمجت في الأمة الإسلامية وزال أثر ما صنعت.. إن الأمر في هذه القوانين الوضعية واضح وضوح الشمس، هي كفر بواح لا خفاء فيه ولا مداورة ولا عذر لأحد ممن ينتسب للإسلام ـ كائنا من كان ـ في العمل بها أو الخضوع لها أو إقرارها فليحذر امرؤ لنفسه وكل امرئ حسيب نفسه "(1).
ولما أثيرت في مصر مسألة تولي المرأة منصب القضاء، واستفتي فيها بعض العلماء، فكانوا بين مجيز ومانع، دوى صوت العلامة أحمد شاكر بالرأي الفصل، وردهم الى أصل المسألة: أيجوز في شرع الله ابتداء أن يحكم المسلمون في بلادهم بتشريع لا يبالي واضعه أوافق شرعة الاسلام أم خالفها؟ سواء حكم به رجال أو نساء؟(2).
وجاء جوابه القاطع والذي تقدم بعضه: … لا يجوز لمسلم أن يعتنق هذا الدين الجديد ـ الياسق العصري ـ القوانين الأوربية ولا أن يرسل أبناءه لتعلم هذا الدين واعتناقه واعتقاده والعمل به، فهو الذي مكن لهذه القوانين من بلاد المسلمين"(3).
__________
(1) احمد محمد شاكر : عمدة التفسير 4/1174.
(2) كلمة الحق ص52.
(3) نفس المصدر ص55-56.(2/242)
إلى أن قال رحمه الله: … ما أظن رجلا مسلما يعرف دينه، ويؤمن به جملة وتفصيلا، ويؤمن بأن هذا القرآن أنزله الله على رسوله كتابا محكما لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وبأن طاعته وطاعة الرسول الذي جاء به واجبة قطعية الوجوب في كل حال ـ ما أظنه يستطيع إلا أن يفتي فتوى صريحة بأن ولاية الرجال القضاء في هذا الحال باطلة بطلانا أصليا لا يلحقه التصحيح ولا الإجازة، ثم يسقط السؤال عن ولاية المرأة هذا القضاء من تلقاء نفسه"(1).
7. قوله تعالى { وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا } ( الكهف/26).
قال الإمام الشنقيطي: "ولا يشرك الله -جل وعلا- أحدا في حكمه، بل الحكم له وحده جل وعلا لا حكم لغيره ألبتة، فالحلال ما احله الله، والحرام ما حرمه، والدين ما شرعه والقضاء ما قضاه.. وحكمه -جل وعلا- المذكور في قوله { ولا يشرك في حكمه أحدا } شامل لكل ما يقضيه جل وعلا، ويدخل في ذلك التشريع دخولا أوليا.. ويفهم من هذه الآية أن متبعي أحكام المشرعين غير ما شرعه الله أنهم مشركون بالله…. وفي حديث عدي بن حاتم الطائي لما سأل
النبي - صلى الله عليه وسلم - عن قوله تعالى { اتَّخذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ } (التوبة/31) بين له - صلى الله عليه وسلم - أنهم
أحلوا لهم ما حرم الله، وحرموا عليهم ما احل الله فاتبعوهم في ذلك، وأن ذلك هو اتخاذهم إياهم أربابا.
"وبهذه النصوص السماوية التي ذكرنا يظهر غاية الظهور: أن الذين يتبعون القوانين الوضعية التي شرعها الشيطان على ألسنة أوليائه مخالفة لما شرعه الله جل وعلا على ألسنة رسله صلى الله عليهم وسلم انه لا يشك في كفرهم وشركهم إلا من طمس الله بصيرته وأعماه عن نور الوحي مثلهم "(2).
__________
(1) نفس المصدر ص55-56.
(2) أضواء البيان 3/258-259.(2/243)
وقال:… فتحكيم هذا النوع من النظام في أنفس المجتمع وأموالهم وأعراضهم وأنسابهم وأديانهم كفر بخالق السماوات والأرض "(1).
وفي تفسيره لقوله تعالى { إِن هَذا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ } ( الإسراء/10) قال:… ومن هدي
القرآن للتي هي أقوم، بيانه أن كل من اتبع تشريعا غير التشريع الذي جاء به سيد ولد آدم محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم -، فاتباعه لذلك التشريع المخالف كفر بواح مخرج عن الملة الإسلامية.
ولما قال الكفار للنبي - صلى الله عليه وسلم -: الشاة تصبح ميتة من قتلها؟ فقال لهم: الله قتلها. فقالوا له: ما ذبحتم بأيديكم حلال، وما ذبحه الله بيده الكريمة تقولون انه حرام، فأنتم إذن أحسن من الله؟ أنزل
الله فيهم قوله { وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ } ( الأنعام /121) ……و قسم من الله جلا وعلا أقسم به على من اتبع
الشيطان في تحليل الميتة أنه مشرك وهذا الشرك مخرج عن الملة بإجماع المسلمين.. والعجب ممن يحكم غير تشريع الله ثم يدعي الإسلام كما قال الله تعالى { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالا بَعِيدًا } (2)(النساء /60).
وما ذلك إلا لأن دعواهم الإيمان مع إرادة التحاكم إلى الطاغوت بالغة من الكذب ما يحصل منه العجب"(3).
__________
(1) نفس المصدر 3/260.
(2) نفس المصدر 3/40-41.
(3) نفس المصدر 3/259.(2/244)
وقال في مذكرته على روضة الناظر لابن قدامة.. فكل من يتبع تشريعَ غيرِ الله معتقدا أن جعله عوضا عن تشريع الله جائز أو أفضل منه فهو كافر بإجماع المسلمين"(1).
وقال شيخ الإسلام بن تيميه " فمن أجاز اتباع شريعة غير شريعة الإسلام وجب خلعه، وأنحلت بيعته، وحرمت طاعته لأنه في مثل هذه الحالة يستحق وصف الكفر"(2).
وقال: محمد - صلى الله عليه وسلم - مبعوث إلى جميع الثقلين أنسهم وجنهم فمن اعتقد أنه يسوغ لأحد الخروج عن شريعته وطاعته فهو كافر يجب قتله "(3).
وحكام هذا الزمان لم يسوغوا الخروج عن الشريعة الإسلامية فحسب، بل استبدلوا بها تشريعا من عند أنفسهم، وجعلوها وراءهم ظهريا، بل وصفوا من طالب بتطبيقها بالرجعية والتطرف، بل طاردوه واضطهدوه وعذبوه وقتلوه. فوجب خلعهم وخلع يد الطاعة منهم وهم كفرة لا شرعية لحكمهم ولا سلطتهم وقضائهم.
وأوجب شيخ الإسلام ابن تيميه قتال التتار لما حكموا بالياسق وبدلوا الشريعة وكانوا مع ذلك يدعون -كحكام زماننا- أنهم مسلمون يشهدون أن لا إله إلا الله، فقال جوابا على سؤال بشأنهم:
__________
(1) الشيخ الشنقيطي محمد الأمين بن المختار: مذكرة أصول الفقه على روضة الناظر ص53.
(2) وعزاه علي بلحاج لابن تيمية في الفتاوى المصرية ص 507، انظر: فصل الكلام ص111.
(3) مجموع الفتاوى الكبرى 3/422.(2/245)
كل طائفة خرجت عن شريعة من شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة فإنه يجب قتالها باتفاق أئمة المسلمين، وإن تكلمت بالشهادتين، فإذا أقروا بالشهادتين وامتنعوا عن الصلوات الخمس وجب قتالهم حتى يصلوا، وان امتنعوا عن الزكاة وجب قتالهم حتى يؤدوا الزكاة وكذلك إن امتنعوا عن تحريم الفواحش أو الزنا أو الميسر أو الخمر أو غير ذلك من محرمات الشريعة، وكذلك إن امتنعوا عن الحكم في الدماء والأموال والأعراض والأبضاع ونحوها بحكم الكتاب والسنة، وكذلك أن امتنعوا عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وجهاد الكفار إلى أن يسلموا، ويعطوا الجزية عن يد وهم
صاغرون…. قال الله تعالى: { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ } ( الأنفال/39) فإذا كان بعض الدين لله وبعضه لغير الله وجب القتال حتى يكون كله لله"(1).
وأنظمة اليوم ممتنعة عن كل هذه الشرائع وغيرها بل ومستحلة لشرائع الكفر وأحكامه بل ومحاربة لمن يدعو إلى شريعة الله.
وأنظمة الحكم القائمة ليست مجرد ممتنعة عن بعض شرائع الإسلام، بل تركتها كلها، وشنت الحرب عليها استهزاء واستخفافا وتبديلا وتأويلا، وعلى دعاتها قتلا وتشريدا وسجنا وتعذيبا.
فهي أنظمة تفتقد الشرعية هي، وما تقوم عليه من قوانين وضعية، ولذلك لا يجادل في وجوب قتالها وخلعها إلا من طمس الله بصره وبصيرته كما قال الشنقيطي.
وقد مرت أقوال أهل العلم بالقرآن من المفسرين حيث جعلوا التشريع من دون الله والحكم بتلك التشريعات كفرا بواحا لا خفاء فيه ولا مداورة، وكلهم نقل إجماع المسلمين على ذلك. مما يجعل التشكيك في هذا الحكم أو إدعاء ظنيته أو اتساعه للخلاف والاجتهاد الفقهي ضربا من المكابرة بل والاجتراء على دين الله.
ثانيا: شبهة كفر دون كفر
__________
(1) المرجع السابق 28/510-511.(2/246)
ولا يستثنى من الحكم القطعي السابق إلا إذا حكم الحاكم في واقعه أو نازلة بعينها بغير ما انزل الله لهوى في نفسه أو اتباعا لمصلحته مع اعتقاده وجوب الحكم بما انزل الله واستشعاره الإثم.
وهذا هو المراد مما نقل عن ابن عباس في قوله تعالى { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } بأنه كفر دون كفر وأنه كفر غير مخرج من الملة.
يدل عليه ما أثبتناه من نقول عن أهل العلم الأثبات في كون الحكم بغير ما أنزل الله أو التشريع من دونه كفرا مخرجا عن الملة، بإجماع المسلمين وهم من لا يخفى عليهم قول ابن عباس.
وفصّل هذا المعنى شارح الطحاوية فقال:
".. وهنا أمر يجب أن يتفطن له، وهو أن الحكم بغير ما انزل الله قد يكون كفرا ينقل عن الملة، وقد يكون معصية كبيرة أو صغيرة، ويكون كفرا إما مجازيا وإما كفرا أصغر، وذلك بحسب حال الحاكم، فإنه إن اعتقد أن الحكم بما أنزل الله غير واجب، وأنه مخير فيه أو استهان به مع تيقنه انه حكم الله، فهذا كفر أكبر. وان اعتقد وجوب الحكم بغير ما أنزل الله وعلمه في هذه الواقعة وعدل عنه مع اعترافه بأنه مستحق للعقوبة، فهذا عاص ويسمى كافرا مجازيا أو كافرا كفرا أصغر"(1).
وحكام زماننا لم يتركوه في واقعه أو عدد من الوقائع بل تركوه جملة وتفصيلا، ولا يُلْمَح أن أحدهم يعترف أنه مذنب يستحق العقوبة، بل على العكس يعتقدون أن من يطالب بالحكم بما أنزل الله مجرم يستحق السجن والإعدام.
ويؤكد الشيخ محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف آل الشيخ أن الحكم بغير ما أنزل الله هو كفر أكبر إلا إذا كان في واقعة بعينها فيقول:
__________
(1) شرح العقيدة الطحاوية بتحقيق د. عبد الله التركي وشعيب الأرناؤوط 2/446.(2/247)
"إن من الكفر الأكبر المستبين تنزيل القانون اللعين منزلة ما نزل به الروح الأمين على قلب محمد - صلى الله عليه وسلم - ليكون من المنذرين بلسان عربي مبين في الحكم على العالمين"(1).
وعرف الكفر الأصغر بقوله: "… وذلك أن تحمله شهوته وهواه على الحكم في القضية بغير ما انزل الله مع اعتقاده أن حكم الله ورسوله هو الحق واعترافه على نفسه بالخطأ ومجانبة الهوى "(2).
ويقول الشيخ محمود محمد شاكر في تعليقه على أثرين مرويين عن أبي مجلز -أحد التابعين- حين جاءه نفر من الخوارج، وأرادوا أن يلزموه بالقول بكفر خلفاء بني أمية، فأخبرهم أنه كفر دون كفر، وتعلق بعض المعاصرين بهذين الأثرين لنفي الكفر الأكبر، المخرج من الملة عن حكام زماننا، قال رحمه الله:
"إن سؤالهم ـ أي الخوارج ـ لم يكن عن حكام استبدلوا الشريعة بالكامل ولا جحدوا شيئا من أحكامها لأن ذلك لم يحدث في زمان أبي مجلز ولا بعده، وإنما كان سؤالهم عمن حكم بغير ما أنزل الله في قضية بعينها عن هوى ومصلحة.. فمن احتج بهذين الأثرين وغيرهما في غير بابها وصرفها إلى غير معناها رغبة في نصرة السلطان، أو احتيالا على تسويغ الحكم بغير ما انزل الله وفرض على عباده، فحكمه في الشريعة حكم الجاحد لحكم من أحكام الله أن يستتاب فإن أصر وكابر وجحد حكم الله، ورضي بتبديل الأحكام، فحكم الكافر المصر على كفره معروف لأهل هذا الدين"(3).
__________
(1) الشيخ سفر بن عبد الرحمن الحوالي: شرح تحكيم القوانين ص6.
(2) شرح تحكيم القوانين ص107.
(3) فصل الكلام في مواجهة ظلم الحكام ص131، والخبر عن أبي مجلز في جامع البيان للطبري 6/252.(2/248)
فلا يجوز تبرير طاعة حكام اليوم وتسويغ حكمهم بغير ما أنزل الله ومهادنتهم والتسليم بشرعية أنظمتهم بحجة أنهم كافرون كفرا أصغر غير مخرج من الملة. كما لا يجوز سحب نصوص السنة القاضية بوجوب طاعة السلطان المتغلب أو الفاسق أو الجائر وإن أخذ المال وجلد الظهر ـ لا يجوز سحبها على حكامنا لأنها لا تنطبق عليهم.
ويؤكد هذه الحقيقة إضافة إلى ما سبق ـ د.محمد نعيم ياسين إذ يفرق بين حكام اليوم وخلفاء الدولة الإسلامية الذين كان يسود حكمهم بعض أنواع الظلم.
وهذا الفرق الجوهري يتمثل في أن الخلفاء المسلمين، وان انحرف بعضهم شيئا عن هدي القرآن والسنة إلا أنهم ما استبدلوا أبدا شرع الله بقوانين من أهوائهم، ولا خطر ذلك على بال أحد منهم بل كانوا يقربون العلماء ويستمعون لنصحهم وكانت تنفعهم الذكرى.
أما حكام اليوم فاستبدلوا دينا من عند أنفسهم بدين الله، وأقصوا العلماء وصارت قلوبهم مقفلة إلا عن الهوى وما تشتهيه أنفسهم(1).
ثالثا: المشرع من دون الله، والحاكم بغير ما أنزل الله، كافر كفرا أكبر ولو لم يجحد بقلبه أو ينكر بلسانه:
وهذا ظاهر من نصوص الآيات السابقة والتي أطلقت كفر المشرع من دون الله وسمته شريكا وربا، وأطلقت كفر الحاكم بغير ما انزل الله، ولم تقيده بشيء، فاشتراط الجحد بالقلب والإنكار باللسان لإخراجه من الملة شرط باطل وتأويل فاسد لا يقوم عليه دليل بل الأدلة تثبت عكسه.
وقد تبين أن دعوى المتحاكم إلى غير ما أنزل الله الإيمان، هي دعوى كاذبة بلغت من الكذب حد العجب كما قال الإمام الشنقيطي، ورأينا قسم الله تعالى بأن طاعة المشركين في شرعهم شرك.
وذكرت قول بعض العلماء التي أطلقت القول بكفر المشرع والحاكم بالقوانين الوضعية ونقلهم الإجماع على ذلك.
__________
(1) انظر: د. محمد نعيم ياسين: الجهاد ميادينه وأساليبه ص196-198.(2/249)
وذكرت قول شارح الطحاوية ان من اعتقد ان الحكم بما أنزل الله غير واجب، وأنه مخير فيه، أو استهان به أنه كافر كفرا اكبر، ولو تيقن أنه حكم الله.
وعلى كل حال فان اشتراط جحد القلب وإنكار اللسان لإخراج المشرع والحاكم بالقوانين الوضعية من جماعة المسلمين، يعبر عن عقيدة المرجئة الفاسدة التي ترى أن الإيمان هو مجرد التصديق بالقلب، وانه لا يضر مع ذلك التصديق شيء كما لا ينفع مع الكفر طاعة.
وهو موقف مناقض تماما لعقيدة أهل السنة والجماعة الذي يرى في الحاكم بغير ما أنزل الله كافرا ظالما فاسقا.
رابعا: انتفاء أركان الشرعية الإسلامية الأخرى:
إن انتفاء هذا الركن الركين وهو استمداد القوانين من الشريعة، والحكم بها من أي نظام سياسي، يفقده الشرعية الإسلامية تماما، وكاف وحده لوجوب جهاده وخلعه، وتنصيب إمام مسلم مكانه.
فكيف إذا أضيف إليه افتقاد هذه الأنظمة لأركان الشرعية الأخرى وهي الاختيار والمبايعة من المسلمين، ووحدة النظام. إذ من المعلوم في الإسلام، أن لا شرعية لحاكم، لم يختره المسلمون أو أهل الحل والعقد منهم، ولم يبايعوه.
كما انه لا شرعية في الإسلام إلا لحاكم واحد يحكم المسلمين جميعا تحت راية واحدة. وفي ذلك يقول - صلى الله عليه وسلم - { .. ومن بايع إماما فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فليطعه إن استطاع، فان جاء آخر ينازعه، فاضربوا عنق الآخر } (1). ويقول { - صلى الله عليه وسلم - … فوا ببيعة الأول فالأول، وأعطوهم حقهم، فإن الله سائلهم عما استرعاهم } (2). ويقول { - صلى الله عليه وسلم - إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما } (3).
خامسا: الدساتير والقوانين السائدة هي كفر بواح
__________
(1) صحيح مسلم بشرح النووي 12/233.
(2) نفس المصدر 12/231.
(3) نفس المصدر 12/242، وانظر تفصيل هذه الأركان: فصل الكلام في مواجهة ظلم الحكام ص33-52.(2/250)
مما ذكرته من أدلة تبين لنا أن الأنظمة الحاكمة هي أنظمة إما كافرة أو مرتدة، لأنها لا تحكم بشريعة الله، ولأنها استبدلت بها قوانين وضعية محلية أو مستوردة، وهي تحتوي على مواد كفرية صريحة.
ونأخذ على سبيل المثال الدستور المصري الذي صدر عام 1923 وعدل بدستور عام 1971م وهو الأساس لكل الدساتير العربية إذ منه أخذت وعلى منواله نسجت.
1. مادة (3): تنص على أن "السيادة للشعب وحده، وهو مصدر السلطات".
والسيادة في الإسلام للشرع لا للشعب، والشرع هو مصدر السلطة وما الناس والحاكم منهم إلا منفذون.
2. مادة (66): تنص على ان لا جريمة ولا عقوبة إلا بناء على قانون " فما لم ينص الدستور الوضعي أو القانون الوضعي على تجريمه من الأفعال والأقوال والتصرفات فهو مباح، ولو اجتمعت على تجريمه وتحريمه عشرات الآيات والأحاديث، ومن حق المواطن ـ أن يفعل ذلك دون عقاب كالردة وشرب الخمر ولعب الميسر والربا والزنا برضى الطرفين، بل إن من يحاول منعه من تلك الأمور يعد مجرما متعديا على حريات الآخرين بنظر الدستور والقانون(1).
3. مادة (86): وتنص على أن يتولى مجلس الشعب سلطة التشريع. وقد علمنا أن هذا كفر كالشمس في رابعة النهار.
4. مادة (112): وفيها القسم الذي يقسمه من تولى رئاسة الجمهورية أو وزارة من الوزارات أو يدخل مجلس الشعب، وينص هذا القسم على احترام الدستور والقوانين والإخلاص للوطن والحاكم(2).
فهذه مواد كفرية صريحة مخالفة لما علم من الإسلام بالضرورة، وهو أمر واضح، لا ينكره مسلم أو عاقل منصف.
وهي مخالفات لا يفلح في سترها النص في الدساتير على أن دين الدولة الإسلام، وأن الشريعة هي المصدر الرئيس للتشريع. ففوق أنها مادة روتينية لذر الرماد في العيون، ولاسترضاء
بعض المسلمين، فإن هذه الدساتير تحوي في موادها ما ينسخ المادة المذكورة وينسفها نسفا. وقد مر بعض تلك المواد.
__________
(1) الحصاد المر : ص14.
(2) نفس المصدر ص33-34.(2/251)
وفي هذا يقول الشيخ أحمد شاكر " فليس في مصر حكومة دينية والحكومة القائمة ـ اعني نظم الدولة ـ لا تطبق المبادئ الشرعية حقا وصدقا، بل لا تطبقها كذبا وزورا بل أقول أكثر من هذا: إن النص في الدستور على أن دين الدولة الإسلام لا يمثل حقيقة واقعه، إنما هو خيال ووهم، كبعض ما اقتبسنا من سخافات أوروبة في الخيال والتمثيل، والمصريون لا يعيشون في مجتمع شرعي تطبق فيه أحكام الدين الحنيف(1).
ثم انه من حيث المبدأ لا يجوز القبول بان تكون الشريعة هي المصدر الرئيس للتشريع كما نوه وأشاد به عمر التلمساني، لأن ذلك يعني ضمناً التسليم والرضا بوجود مصادر أخرى للتشريع، وهذا ما لا يجوز لمسلم أن يعتقده، فالتشريع حق الله وحده جل وعلا، والله قد خاطب رسوله - صلى الله عليه وسلم -
بقوله { وَأَنْ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ } (المائدة-49)
فحذره من ترك بعض ما أنزل الله إليه، والتسليم بوجود مصادر أخرى للتشريع فيه ترك لبعض الشريعة وهو كفر صريح يجعل المرء في عجب كيف يمكن ان يصدر عن مسلم كالتلمساني.
سادسا: مقاومة الأنظمة الراهنة جهاد في سبيل الله وليس عنفا ولا تطرفا
وبناء على ما تقدم فان العمل على خلع هذه الأنظمة غير الشرعية بمقاومتها وفضحها هو جهاد في سبيل الله، لإعلاء كلمة الله، والقائمون به مجاهدون مأجورون عند الله، وهم أولياء الله والمدافعون عن دينه.
__________
(1) كلمة الحق ص65.
(2) معلوم أنه لا يتم تنفيذ حكم الاعدام في مصر وغيرها من بلاد المسلمين إلا بتوقيع وتصديق من المفتي العام ثم رئيس الجمهورية.(2/252)
وعليه فلا يجوز متابعة أبواق الدعاية للأنظمة وسدنتها من العلمانيين والملحدين وبعض المحسوبين على الإسلام في اعتبار أن هؤلاء "المجاهدين" خوارج وبغاة وأهل حرابة وفساد في الأرض، ولا وصف أفعالهم بالتطرف والإرهاب وسفك الدماء، وغيرها من الأوصاف التي هي بخصومهم أولى وأليق، كما فعله البوطي في كتابه المذكور، وكما بتنا نسمعه دائما -في الندوات والمحاضرات ومن على شاشات الفضائيات- ممن يقود حركات توصف "بالإسلامية" ومن رجال يوصفون " بعلماء الشريعة" فنراهم يعلنون الحرب على "المجاهدين" وينعتونهم بكل وصف مقزز قبيح، بل ويتبرؤون منهم، بل وأفتوا بحل دمائهم ووقّعوا على إعدامهم(2).
وكون مقاومة الأنظمة غير الشرعية جهادا في سبيل الله دلت عليه أقوال العلماء السابقة كقول ابن كثير "… فمن فعل ذلك فهو كافر يجب قتاله حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله، وقول الشيخ أحمد شاكر "… فلا عذر لأحد ممن ينتسب للإسلام -كائنا من كان- في العمل بها أو الخضوع لها أو إقرارها. وقول شيخ الإسلام ابن تيميه " فمن أجاز اتباع شريعة غير شريعة الإسلام وجب خلعه وانحلت بيعته وحرمت طاعته.." وقوله ".. فمن اعتقد أنه يسوغ لأحد الخروج عن شريعته وطاعته فهو كافر يجب قتله".
وفتواه الصارمة في وجوب قتال التتار لما امتنعوا عن بعض أحكام الإسلام، واستبدلوا بها الياسق. وقبل هذا وذاك إجماع الصحابة على وجوب قتال مانعي الزكاة.
وصح عن عباة بن الصامت رضي الله عنه أنه قال: ( بايعنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على السمع والطاعة في منشطنا و مكرهنا وعسرنا ويسرنا وأثرة علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا كفر بواحا عندكم من الله فيه برهان )(1).
وكفرا بواحا: أي نص آية أو خبر صحيح لا يحتمل التأويل، كما قال ابن حجر(2). وما ذكرته من مواد في الدستور، هي من الكفر البواح، الذي لا يختلف فيه اثنان.
__________
(1) صحيح مسلم بشرح النووي 12/228.
(2) فتح الباري 13/8.(2/253)
وقال النووي نقلا عن القاضي عياض:
"أجمع العلماء على أن الإمامة لا تنعقد لكافر -يعني ابتداء- وعلى انه لو طرأ عليه الكفر انعزل، وكذا لو ترك إقامة الصلاة والدعاء إليها، فلو طرأ عليه الكفر وتغيير الشرع، أو بدعة خرج عن الولاية، وسقطت طاعته، ووجب على المسلمين القيام عليه وخلعه ونصب إمام عادل إن أمكنهم ذلك، فإن لم يقع إلا لطائفة وجب عليهم القيام بخلع الكافر، ولا يجب ذلك في المبتدع إلا إذا ظنوا القدرة عليه، فإن تحققوا العجز لم يجب القيام"(1).
وقال الشوكاني:
"وقد اجمع العلماء على وجوب طاعة السلطان المتغلب والجهاد معه، وان طاعته خير من الخروج عليه، لما في ذلك من حقن الدماء وتسكين الدهماء، ولم يستثنوا من ذلك إلا إذا وقع من السلطان الكفر الصريح، فلا تجوز طاعته، بل تجب مجاهدته لمن قدر عليها"(2).
وقال الشيخ ولي الله الدهلوي:
"… وبالجملة فإذا كفر الخليفة بإنكار ضروري من ضروريات الدين حل قتاله بل وجب، وإلا فلا، وذلك لأنه حينئذ فاتت مصلحة نصبه بل يخاف مفسدته على القوم، فصار قتاله من الجهاد في سبيل الله"(3).
وقال ابن حجر:
"انه -أي الحاكم- ينعزل بالكفر إجماعا فيجب على كل مسلم القيام في ذلك، فمن قوي على ذلك فله الثواب، ومن داهن فعليه الإثم ومن عجز وجبت عليه الهجرة من تلك الأرض"(4). وقال:"وإذا وقع من السلطان الكفر الصريح، فلا تجوز طاعته في ذلك، بل تجب مجاهدته لمن قدر عليها"(5).
فالخروج عليهم واجب بالإجماع، ومداهنتهم حرام، وعلى صاحبها الإثم!. فماذا يقول دعاة التفاهم مع الأنظمة غير الشرعية؟ ودعاة نبذ العنف والتطرف وسفك الدماء؟ وكيف يستحلون أن يسموا عنفا وسفكا للدم ما أسماه الله جهادا في سبيله؟
__________
(1) صحيح مسلم بشرح النووي 12/229.
(2) نيل الأوطار 7/185.
(3) ولي الله الدهلوي: حجة الله البالغة 2/739.
(4) فتح الباري 13/123.
(5) نفس المصدر 13/7.(2/254)
فأي الفريقين المعتدل والمهتدي؟ من تمسك بدين الله وجاهد أعداءه؟ أمن فرط وداهن ورضي بسيادة الكفر في ديار الإسلام؟
وقال ابن المنذر: أجمع كل من يحفظ عنه من أهل العلم أن الكافر لا ولاية له على مسلم بحال"(1). فكيف يدعوا "قياديون إسلاميون"، "وعلماء" إلى طاعتهم والتفاهم معهم وقد تبين كفرهم لكل ذي عينين؟.
سابعا: المشاركة في الأنظمة السياسية الحالية حرام قطعا
وإذا انتهينا إلى هذا الحد فكيف يجوز المشاركة في هذه الأنظمة السياسية غير الشرعية بدخول مجالسها النيابية أو تولي الوزارة فيها، وهو الأشد والأنكى؟
كيف يمكن التوفيق بين وجوب الاعتقاد بأن هذه الأنظمة أنظمة كافرة، أو مرتدة يجب خلعها، والخروج عليها، وتحرم مهادنتها، والولاء لها؟ وبين جواز تولي الوزارة فيها مع ما في ذلك
من التسليم بشرعيتها وإعطاء الولاء لها والدفاع عنها أمام الشعب؟ كيف يجوز للمسلمين ان يكونوا جزءا من نظام يجب إلغاؤه ومحوه؟
وكيف يجوز الاشتراك في بناء نظام دلت نصوص الكتاب والسنة وإجماع الأمة على وجوب هدمه؟
إن القول بجواز المشاركة في هذه الأنظمة يصادم محظورا قطعيا ثابتا لا مجال للاجتهاد فيه ولا لتأويله، وكيف يمكن تأويل أدلة قطعية بحجج واهية لم تتعد " التقدير المصلحي"؟.
إن الاشتراك في هذه الأنظمة، هو تسليم بشرعيتها، وبالتالي هو تسليم بشرعية نظام كافر مرتد، يجب إزالته، وهو رضا بالكفر، والرضا بالكفر كفر.
والأدلة على حرمة المشاركة في المجالس النيابية وتولي الوزارات في أنظمة الحكم الحاكمة أكثر من أن تذكر أو تحصر، و ما ذكرته من أدلة يكفي لنسف مقولات المجيزين وجعلها أثرا بعد عين.
ونضيف إلى ما ذكرته أن القَسَم باحترام الدستور والقوانين ـ مع ما تحتويه من مواد كفرية بينة-بينا بعضها- هو قسم بالله العظيم على احترام الكفر وشرائع الكفر، وهو كفر مخرج عن الملة.
__________
(1) ابن قيم الجوزية : أحكام أهل الذمة 2/414.(2/255)
أضف إلى ذلك القسم بالولاء للحاكم ملكا أو رئيسا والإخلاص له، بعد قيام الأدلة القطعية من الكتاب والسنة وإجماع العلماء والأمة على كفره، الذي لا ينازع فيه إلا من طمس الله بصره وبصيرته، وأعماه عن نور الوحي مثلهم كما قال الإمام الشنقيطي؟
فما حكم الولاء لمثل هذا الحاكم والإخلاص له؟(1)
أما القول بإمكان الخروج من هذا المأزق بإضمار المُقسِم عبارة " في حدود القرآن والسنة "فهو قول ينقض آخره أوله وأوله آخره؟ إذ يصبح المعنى:أقسم بالله العظيم أن احترم الكفر والقوانين الكفرية والحاكم الكافر في حدود القرآن والسنة؟ فهل يقبل هذا الخلط عاقل؟ فضلا عن مسلم؟
ثامنا: أما احتجاجهم بقصة يوسف عليه الصلاة السلام
أنه تولى ما يشبه وزارة المالية في زماننا حين قال للعزيز { قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ } ( يوسف /55) وبانه كان يطبق شريعة الملك ودينه بدليل أنه ما استطاع أخذ أخيه إلا بحيلة { مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ } ( يوسف /76).
فهو استدلال متهافت للأسباب التالية:(2)
__________
(1) راجع كتاب: الولاء والبراء لمحمد بن سعيد القحطاني.
(2) راجع في إبطال هذه الدعوى: عمر عبد الحكيم: الثورة الجهادية الإسلامية في سورية –2/47-108، و د. محمد عبد القادر أبو فارس: حكم المشاركة في الوزارة في الأنظمة الجاهلية، عبد الملك البراك: ردود على أباطيل وشبهات حول الجهاد ص253، أحمد المحمود: الدعوة إلى الإسلام - كتاب الوعي "3" ص240-264.(2/256)
1- نقول لهؤلاء المستدلين: بأي أنواع الدلالة دل النص القرآني على ما قلتم؟ بدلالة العبارة أم الإشارة أم الاقتضاء أم الايحاء؟ وهل دلالة ذلك ظنية أم قطعية؟ أما أن يكون بدلالة العبارة فلا، وهل هذا الاستدلال بدلالة الاقتضاء أو الايحاء يقاوم أو يترجح على النصوص الصحيحة الصريحة في عدم جواز الحكم بغير ما أنزل الله؟ وهي من الكثرة بحيث يضيق المكان بذكرها؟ وهل يترجح أو يقاوم الإجماعَ ودلالته قطعية كما هو معلوم؟
إن استدلالهم بالآيتين المذكورتين من أي جهة أتى لن يعدو، وأن يكون ظنيا، وهو لا يقاوم ما ذكرته من الأدلة القطعية.
2- انه من غير المسلم مطابقة شكل النظام السياسي وهيكله وصلاحياته واختصاصاته في عهد يوسف عليه الصلاة والسلام بشكله في الدولة الحديثة التي تجعل الوزير حاكما في وزارته فهو قياس معلوم على مجهول.
فمن قال إن "حفظ الغلال وتوزيعها " يشبه أو يطابق صلاحيات وزارة المالية ومهماتها في الدولة الحديثة؟ وكيف استطاع مبتدعو هذه المقولة أن يثبتوا أن يوسف –عليه الصلاة والسلام- قد التزم الحكم بشريعة العزيز وقوانينه الكافرة، ليقيسوا عليها جواز حكم المسلم بقوانين الكفر ورضاه بشرعية الحاكم الكافر؟
3- انه قد تبين أن الحكم بغير ما أنزل الله من شرائع الكفر وقوانينه كفر، فكيف يجوز لنبي من أنبياء الله أن يأتي ذنبا هو كفر؟ وقد اتفق أهل السنة على أن الأنبياء معصومون عن الكفر بل عن الكبائر بعد النبوة. أو ليس هذا طعنا في عصمة الأنبياء الذين أرسلوا لتعبيد الناس لرب العالمين؟(1).
فكيف يعبدون الله باتباع غير شريعته؟
__________
(1) راجع: فخر الدين الرازي: عصمة الأنبياء ص8، ابن حزم الأندلسي: الفصل في الملل والأهواء والنحل 3/295.(2/257)
4- أنه لم ترد حتى ولا إشارة واحدة في القرآن الكريم تدل على ان يوسف –عليه الصلاة والسلام حكم بشريعة الكفر- شريعة الملك، والحكم الوحيد الذي دل القرآن على أن يوسف حكم به هو استرقاق أخيه وكان ذلك بمقتضى شريعة أبيه نبي الله يعقوب عليه الصلاة والسلام، فهذا الحكم الوحيد حكم فيه بما أنزل الله، وليس العكس.
5- إن الذي نص عليه القرآن في قصة يوسف، هو أن الله مكَّن له في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء، وهذا يقتضي انه كان حرا وقادرا على إنفاذ شريعته هو، وليس شريعة العزيز، فلا يمكن أن يصفه الله بالممكن في الأرض، وهو لا يملك من أمره شيئا كحال وزرائنا الذين لا يملكون سوى التنفيذ لما يملى عليهم.
والذي يؤكد هذا التوجه هو عدم ذكر العزيز مرة أخرى بعد تولي يوسف، فلم يعد له أثر ولا حكم، وصار الحكم كله بيد يوسف عليه الصلاة والسلام، بل إنه قد صار هو العزيز نفسه
يدل عليه خطاب أخوته له { قَالُوا يَاأَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا } ( يوسف-78). وقولهم له { فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَاأَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ } (يوسف-88).
ويدل النص القرآني على انه كان حاكما بأمر الله لا بأمر العزيز { وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ } (يوسف-22)، وأنه أوتي الملك مكان الملك الكافر { رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنْ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ } (يوسف-101)، وأنه كان صاحب العرش { وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا } (يوسف-100).(2/258)
والذي يؤكد كل هذا أنه لم يعد هناك ذكر للعزيز أو الملك بعد توليه أمر الخزائن حتى نهاية السورة. فهو قد استلم الحكم بكامله، وكان صاحب الصلاحية في إنفاذ شريعته.
6- انه قد جاء نص القرآن على لسان يوسف عليه الصلاة والسلام على انه لا يمكن أن يحكم بغير ما انزل الله، أو يتبع ملة غير ملة آبائه.
فهو يقول لصاحبي السجن { … إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ } (يوسف—37)، والشريعة من الملة، والعزيز كان كافرا ويوسف يصرح بأنه ترك ملة الكافرين وشريعتهم ومنهم العزيز.
وهو يقول { وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ… } (يوسف-38)، وملة هؤلاء الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم هو توحيد الله والبراءة من الكافرين كما تدل عليه قصة
إبراهيم عليه السلام في سورة الممتحنة(1) وهو يقول { مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ } (يوسف-38) ، هكذا بكل إطلاق، وقد علمنا أن الحكم بغير ما انزل الله شرك وكفر. وهو يقول لصاحبيه في السجن
{ يَاصَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمْ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ } (يوسف-39)
__________
(1) وهي قوله تعالى: (قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً حتى تؤمنوا بالله وحده …) ( الممتحنة /4).
وانظر : المقدسي أبو محمد عاصم بن أحمد: ملة ابراهيم ودعوة الانبياء والمرسلين وأساليب الطغاة في تمييعها وصرف الدعاة عنها.(2/259)
فهو ينكر اتخاذ المخلوقين أربابا لأنه يعلم أن اتخاذهم أربابا كفر، كما دل عليه القرآن، وطاعته العزيز و إنفاذه قانونه اتخاذ له ربا من دون الله ومعاذ الله أن يقع فيه يوسف عليه الصلاة والسلام. بل قد صرح بنفيه.
وهو ينعى عليهم أن يعبدوا من دون الله أسماء سموها هم وآباؤهم { مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ } (يوسف-40)… واتباع أيا كان فيما يشرعه هو عبادة له.
ثم يصرح في النهاية: { إِنْ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ } (يوسف-40) وحده جل وعلا وان الحكم عبادة { أَمَرَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ } (يوسف-40)، وغير مقبول أن يصرح أحد بهذا الحصر، ويعلن حصر الحاكمية في الله، ثم يأتي من يقوّله ما لم يقل ويفتري عليه ما لم يفعل.
فيوسف عليه الصلاة والسلام يقول الحكم لله وحده { إِنْ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ أَمَرَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ }
(سورة يوسف-40). وينفي حق الحكم والتشريع ممن سوى الله نفيا مطلقا، فكيف يصح أو يقبل أن يأتي بعد ذلك من يقول إن يوسف حكم بغير ما أنزل الله من شرائع الكفر.
والمنطوق يقدم على المفهوم، لو كان هنالك مفهوم، أما أن نُطَرِّح النصوص القطعية من الكتاب والسنة وإجماع العلماء والأمة وما قاله يوسف صراحة لمجرد خيالات مختلة وشبه معتلة، فهذا هو اللعب بالدين.
7- إن استلام يوسف عليه الصلاة والسلام الحكم هو من شرع من قبلنا، وقد تعددت آراء الأصوليين في هذه المسألة على قولين:(1)
- القول الأول: إن شرع من قبلنا ليس شرعا لنا، ولهم أدلتهم، وعلى هذا القول فلا يصح الاستدلال بقضية يوسف عليه الصلاة والسلام من حيث المبدأ.
- القول الثاني: إن شرع من قبلنا هو شرع لنا إذا لم يثبت في شرعنا ما ينسخه.
فنقول لهؤلاء:
__________
(1) مذكرة أصول الفقه ص161-164، أضواء البيان، 1/160.(2/260)
هب أن الحكم بشرائع الكفر كان جائزا في شريعة يعقوب، فهل ورد في شرعنا ما ينسخ هذا الحكم أم لا؟ وهل يجوز استرقاق السارق كما في شريعة يعقوب؟
إن ما ذكرته من الآيات التي تجعل التشريع لله وحده وتحكم بالكفر على من حكم أو تحاكم الى غير ما أنزل الله وقيام الإجماع على ذلك الفهم والحكم يكفي لنسخ الجواز لو صح الاستدلال. وأقل من هذا القدر فيه غنية لدفع هذه الشبهة.
تاسعا: أنه لا يحل تبني الديمقراطية ومبادئها أو الدعوة إليها والترويج لها أو الدفاع عنها
لأنها من مبادئ الكفر وشعاراته فهي تعني حكم الشعب بالشعب وللشعب، فهي تجعل الشعب مصدر السلطة، وتعطيه حق السيادة والتشريع حسب رأي الأغلبية البرلمانية، وتمنحه الحريات الأربع بشكل مطلق: حرية الاعتقاد وحرية الرأي وحرية التملك والحرية الشخصية.
فالديمقراطية بهذا المفهوم الذي وصفه أصحابها قد حررت الشعوب وجعلت السيادة والحاكمية لها، وهي التي تصنع الدستور والقوانين.(1)
وهي بهذا التصور تصادم عقيدة الإسلام وشريعته بشكل سافر وقاطع، فلا مجال للالتقاء بينهما، فليست الديمقراطية هي حرية الأمر "بالمعروف والنهي عن المنكر"، وليست الديمقراطية هي حق الشعب في اختيار حاكمها وحقها في محاسبته وعزله إن حاد عن القانون الرئيسي للأمة، وليست هي حرمة الاعتقال التعسفي والاختفاء القسري … الخ ما يحاول أن يخادعنا به مثقفونا ويروجوه على المسلمين. فقبول الديمقراطية يستلزم بالضرورة التسليم بتشريع البشر، وسيادة تشريعات البشر والقبول بشرعية الحاكم المختار شعبيا، ولو كان كافرا.
__________
(1) انظر تهافت القراءة المعاصرة ص604.(2/261)
وإني لأعجب أشد العجب كيف يستسيغ قيادي إسلامي كالغنوشي السخرية من مبدأ سيادة الشريعة في أرضها، وكيف يعلق تطبيقها على قبول الناس ومزاجهم؟ فمتى كان تطبيق الشريعة وحكم الله ينتظر رأي الناس ومزاجهم؟ وكيف يستسيغ إقصاء الشريعة ونبذ تطبيقها لصالح الحفاظ على قيم العلمانية والديمقراطية ونضالات البشرية مثل الحرية والمساواة؟
فهل نحن متعبدون باتباع شريعة الله أم باتباع قيم العلمانية والحفاظ عليها؟ وهل صار الحفاظ على قيم العلمانية والديمقراطية مقدم على اتباع شريعة الله؟
وهذا الاعتراف الصريح بالتصادم الحاد بين الإسلام وقيم الديمقراطية والعلمانية بلسان دعاتها، يضع دعاة التوفيق والتجديد والتأصيل في موقف حرج. إذ أنه يعني صراحة انهم يتنازلون عن ثوابت الشريعة لصالح قيم العلمانية. وذلك ينفي ما يقال عن عدم المنافاة بين الديمقراطية والإسلام، وبين الإسلام ومفاهيم المواطنة وحرية الرأي والاعتقاد … الخ.
كما يستلزم بناء تصرفات الناس الفردية والجماعية على أساس الحرية، وذلك يعني ضمن ما يعنيه إباحة الردة والكفر بالله وأنبيائه ورسله وتسفيههم كما تقتضيه حرية العقيدة والرأي.
وتعني إباحة كل المحرمات من شرب الخمر والزنا والربا والتبرج وكل الفواحش، كما تقتضيه الحرية الشخصية. وتعني إباحة الغش والاحتكار والمضاربة والاستغلال واستثمار الأموال في الحرام، كما تقتضيه الحرية الاقتصادية "حرية التملك".
وكل مفردة من هذه المفردات كاف في تكفير القائل به والداعي إليه والمروج له، والمستحسن له وإخراجه من ملة الإسلام.(2/262)
وهذا الفرق الجوهري بين الإسلام والديمقراطية واضح لدى العلمانيين أكثر مما هو عند بعض الإسلاميين "الذين يحاولون عبثا إقناع العلمانيين بإمكان التعايش بين مفاهيم الإسلام ومبادئ الديمقراطية. فتراهم يحاولون التأصيل لكل مبادئ الديمقراطية مثل الحريات والمواطنة(1).
فيا ليت "الإسلاميين" يعون هذه الحقائق، ويكفّون عن منهجية التأصيل الفاسد والاستجداء المخزي والتأسف الذليل على عدم تفهم " العلمانيين لمواقفهم كما يفعل العلواني والغنوشي والترابي وهويدي(2).
المبحث السابع
التأويل في النظام الاقتصادي الإسلامي
( مفهوم الربا وحكمه)
جريا على عادتهم في تأويل النصوص والأحكام الشرعية التي تتعارض وتوجهات الحضارة الغربية والفكر الغربي، قام بعض المحدثين، وبعض المعاصرين بتأويل النصوص الخاصة القاضية بتحريم الربا بكل ألوانه وأشكاله.
وحوى هذا التيار كالعادة كتابا وقانونيين من غير أهل الاختصاص الشرعي، كما إنزلق إليه بعض أهل العلم المحدثين والمعاصرين، ومازالت السلسلة تتلاحق دون انتهاء.
__________
(1) راجع: - الشيخ عبد القديم زلوم " الديمقراطية نظام كفر يحرم أخذها أو تطبيقها أو الدعوة إليها ":.
- الشيخ علي بلحاج " الدمغة القوية لنسف عقيدة الديمقراطية ":.
- الأستاذ حافظ صالح " الديمقراطية وحكم الإسلام فيها ".
- د. محمود الخالدي " نقض الديمقراطية "، وغيرهم ممن كتب في هذا الموضوع.
(2) انظر : مقدمة العلواني لكتاب راشد الغنوشي: حقوق المواطنة ص19، وهذه انهزامية لا تليق بالعلماء والقيادات الاسلامية ويربأ عنها قواعدهم الذين هم أقل علما، وراجع: عبد الله حمد الشبانة: المسلمون وظاهرة الهزيمة النفسية، حيث بين أسباب هذه الظاهرة ومظاهرها ومجالات انتشارها وعلاجها(2/263)
وتراوحت هذه التأويلات بين القول أن الله حرم الربا، لأنه كان ظلما واستغلالا، أما وقد صار إسعافا للفقير والمحتاج ورفعا لخلته، فقد انقلب إلى حلال، بل أصبح ضرورة. وبين قائل أن الربا المحرم هو ما كان الاقتراض فيه للاستهلاك أما إذا كان للاستثمار والتنمية فلا بأس.
إلا أن المحور الذي تركزت عليه تلك التأويلات هو اشتراط كون الربا أضعافا مضاعفة حتى يكون حراما، أي ما يسمى بالفائدة المركبة بلغة العصر، أما إذا كانت نسبة الربا قليلة _ وفق المعقول _ فلا حرج في ذلك، ولا يسمى ذلك ربا بل هو خدمات للديون وأجرة استخدام لرأس المال. مستدلين على ذلك بقوله تعالى:
{ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } ( آل عمران /130).
ومن أبرز الذين نادوا بإباحة الربا القليل من المُحْدَثين الشيخ محمد عبده وتلميذه الشيخ محمد رضا، وكل من قال به بعدهم إنما نسج على منوالهم ورفع نفس حججهم وسار على خطاهم ومنهم القانوني المعروف د. عبد الرازق السنهوري، ومن المعاصرين الشيخ يوسف القرضاوي ومن غير أهل الاختصاص: روجيه جارودي ومحمد شحرور وغيرهم.
وإليك مقتطفات مما قالوه في هذا:
أولاً: الشيخ محمد رشيد رضا
وعنده أن الربا المحرم بدليل قطعي هو ربا الجاهلية، وهو ربا الأضعاف المضاعفة الذي جاء النهي عنه صريحا في قوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة } ، وصورته كما ذكرها الطبري.
"وكان أكلهم ذلك في جاهليتهم أن الرجل منهم كان يكون له على الرجل مال إلى أجل مسمى، فإذا حلَّ الأجل طلبه من صاحبه، فيقول الذي عليه المال: أخّر عني دينك، وأزيدك على مالك، فيفعلان ذلك، فذلك هو الربا أضعافا مضاعفة(1).
__________
(1) جامع البيان 4/90.(2/264)
وهكذا مع مرور الوقت، وتكرر العجز عن التسديد حتى يصل الربا إلى أضعاف مضاعفة، آو هو ما يكون بعد حلول الأجل لأجل الانساء أي التأخير وهو المسمى بربا النسيئة لا غير.
وأما الزيادة الأولى في الدين المؤجل، فليست من الربا المحرم، لأنها ليست من ربا النسيئة أبدا بل هي من ربا الفضل.
وربا الفضل لم يرد بتحريمه نص قطعي في القرآن يحرمه، بل جاءت بتحريمه السنة، وتحريم السنة مشكوك فيه، وليس قطعيا، ولا يعادل تحريم القرآن، ولهذا السبب وقع في حرمته خلاف بين الصحابة وابن عباس ممن يقول بحله وعدم حرمته.
يقول الشيخ رشيد رضا:
"واعلم بان الزيادة الأولى في الدين المؤجل هي من ربا الفضل، وإن كانت لأجل التأخير، وإنما (ربا النسيئة) المشهور هو ما يكون بعد حلول الأجل لأجل الإنساء أي التأخير"(1) اعتمادا منه على حديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - الذي رواه مسلم عن أسامة بن زيد –رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: { إنما الربا في النسيئة } (2) وفي البخاري { لا ربا إلا في النسيئة } (3).
وفي تفسيره للآية السابقة يقول: "وتعريف الربا ( في الآية ) للعهد. أي لا تأكلوا الربا الذي عهدتم في الجاهلية(4) أي إذا كان أضعافا مضاعفة فقط.
وفي تفسير قوله تعالى { فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ } (البقرة- 275) يقول:"فمن
__________
(1) عن مقال لمعروف الدواليبي نشرته جريدة الخليج في عددها (2139) الصادرة من الشارقة في22/2/1985م،نقلا عن فتاوى محمد رشيد رضا.
انظر: محمد أحمد الداعور: رد على مفتريات حول حكم الربا وفوائد البنوك، ص56، وتفسير المنار 3/96.
(2) صحيح مسلم بشرح النووي 11/25.
(3) صحيح البخاري بشرح العسقلاني 4/381
(4) تفسير المنار 3/94.(2/265)
بلغه تحريم الله تعالى للربا ونهيه عنه فترك الربا فورا بلا تراخ ولا تردد انتهاء عما نهى الله، فله ما كان أخذه فيما سلف من الربا. لا يكلف رده إلى من أخذه منهم، بل يكتفي منه بأن لا يضاعف عليهم بعد البلاغ شيئا "(1).
ويقول في تعليله لتحريم ربا الجاهلية: وسيأتي في آية أخرى تعليل تحريم الربا بكونه ظلما"(2)، ثم يقول:" وفي الآية أن الربا حرم، لأنه ظلم ولكن بعض ما يعده الفقهاء منه لا ظلم فيه، بل ربما كان فيه فائدة للآخذ والمعطي"(3).
وفي تشكيكه لما حرمته السنة من ربا النسيئة وربا الفضل يقول تحت عنوان: الربا المحرم بنص القرآن والربا المحرم بأحاديث الآحاد والقياس "التفرقة بين ما ثبت بنص القرآن من الأحكام، وما ثبت بروايات الآحاد وأقيسة الفقهاء ضرورية، فإن من جحد ما جاء في القرآن يحكم بكفره ومن يجحد غيره ينظر في عذره.. فالمراد بالربا ما كان معروفا في الجاهلية من ربا النسيئة أي ما يؤخذ من المال من اجل الإنساء أي التأخير في أجل الدين …فإذا جاء الأجل، ولم يكن للمدين مال يفي به، طلب من صاحب المال أن ينسئ له في الأجل، ويزيد في المال، وكان يتكرر ذلك حتى يكون أضعافا مضاعفة فهذا ما ورد القرآن بتحريمه، لم يحرم فيه سواه، وقد وصفه في آية آل عمران التي جاءت دون غيرها بصيغة النهي وهو قوله عز وجل { يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة } وهذه أول آية نزلت في تحريم الربا، فهو تحريم لربا مخصوص بهذا القيد وهو المشهور عندهم"(4).
__________
(1) نفس المصدر 3/97.
(2) المرجع السابق: 3/96.
(3) نفس المصدر 3/103.
(4) نفس المصدر 3/113،114.(2/266)
وأطال الشيخ في الكلام على أن الربا المحرم في القرآن هو ربا "العهد" وركز على التفريق بينه وبين الربا المحرم بالسنة إلى أن قال عن الربا المحرم بالسنة أنه من الربا المشكوك فيه لا من المنصوص عليه في القرآن(1).
ثانيا: ومن قبله قال الشيخ محمد عبده
إن الناس تحدث لهم باختلاف الزمان أمور ووقائع لم ينص عليها في هذه الكتب، فهل نوقف سير العالم لأجل كتبهم؟ هذا لا يستطاع ولذلك اضطر العوام والحكام إلى ترك الأحكام الشرعية ولجأوا إلى غيرها، إن أهل بخارى جوزوا الربا لضرورة الوقت عندهم، والمصريون قد ابتلوا بهذا فشدد الفقهاء على أغنياء البلاد، فصاروا يرون أن الدين ناقص، فاضطر الناس إلى الاستدانة من الأجانب بأرباح فاحشة استنزفت ثروة البلاد وحولتها للأجانب، والفقهاء هم المسؤولون عند الله تعالى عن هذا وعن كل ما عليه الناس من مخالفة الشريعة، لأنه كان يجب
عليهم أن يعرفوا حالة العصر والزمان، ويطبقوا عليه الأحكام بصورة يمكن للناس اتباعها (!!!) –أي كأحكام الضرورات- لا أنهم يقتصرون على المحافظة على نقوش هذه الكتب ورسومها، ويجعلونها كل شيء ويتركون لأجلها كل شيء "(2).
وظاهر من قوله أن على فقهاء اليوم أن يجيزوا الربا ( بدون تحفظ ) لأنه من ضرورات هذا العصر، ولئلا تستنزف ثروات المسلمين، وحتى يستطيع الناس اتباع أحكام الشريعة؟!.
ثالثا: عبد الرزاق السنهوري
__________
(1) نفس المصدر 3/113-116، و انظر: رد على مفتريات حول حكم الربا وفوائد البنوك ص61.
(2) تاريخ الأستاذ الإمام: محمد رشيد رضا 1/944، عن اتجاهات التفسير في القرن الرابع عشر الهجري، 2/742.(2/267)
ولم يتجاوز ما خطه الشيخ محمد رشيد رضا قبله حيث اعتبر أن الربا المحرم قطعا هو ربا الجاهلية ( لوروده ) في القرآن، وقاس عليه في العصر الحديث الربا بحساب الفوائد المركبة. أما ربا النسيئة وربا الفضل اللذين ورد بتحريمها السنة فليسا من الربا المحرم، لأن تحريم السنة أخف حدة من تحريم القرآن، وقاس على ربا النسيئة الوارد في الحديث ربا الفوائد(1).
ويزعم أن ابن عباس كان لا يرى تحريم ربا الفضل ".. ابن عباس كان لا يعتد إلا بالربا الوارد بالقرآن الكريم، وهو ربا الجاهلية فهو وحده الذي يحرمه، ولا يحرم غيره من ضروب الربا فضلا كان أو نسيئة"(2). ليتوصل بذلك إلى حل الفوائد البنكية البسيطة كما صرح به.
رابعا: الشيخ يوسف القرضاوي
ففي حلقة من برنامج الشريعة والحياة الذي تبثه قناة الجزيرة الفضائية وكانت بعنوان "الشركات المساهمة" تكلم على مشروعية إقامة هذه الشركات، وانه وقع فيه خلاف بين العلماء المعاصرين، وان الخلاف كان محصورا في الشركات التي تمارس عملا مباحا من حيث الأصل
مثل شركة أسمنت، شركة نفط، شركة اتصالات، ثم قال: هذه الشركات أصل عملها، لا حرج فيه، إنما الشبهة تأتي من أنها قد يفيض عندها بعض المال، فتودعه في البنك الربوي (…).
__________
(1) انظر: عبد الرزاق السنهوري: مصادر الحق في الفقه الإسلامي – دراسة مقارنة بالفقه الغربي، 3/217-227.
(2) نفس المصدر 3/202، ويلاحظ أن استدلالات الشيخ رشيد رضا قد بنى عليها كل من جاء بعده من المؤولين لحكم الربا مع إضافات يسيرة ومنهم الأستاذ معروف الدواليبي، و د. محمد شوقي الفنجري وهو أستاذ في الاقتصاد الإسلامي بجامعتي الأزهر والرياض و د. إبراهيم بن عبد الله الناصر وهو مستشار قانوني وأستاذ في الجامعات السعودية، انظر: رد على مفتريات حول حكم الربا وفوائد البنوك ص57،91، 93،97.(2/268)
ومعنى ذلك أنها تأخذ عليه فوائد، وقد تكون هذه الشركات أيضا تحتاج الى بعض المشروعات فتستقرض لها بالربا فعملها حلال ومباح أساسا، ولكن الربا قد يدخل عليها في الطريق، هنا الفقهاء في عصرنا مختلفون في هذه القضية، فأكثر العلماء يمنعون (…) وهناك فريق من العلماء أو الفقهاء من أباح بشروط، وأنا و د. عبد الستار أبو غدة و د. علي القرة داغي من هؤلاء.
ومن أهم هذه الشروط: ألا يكون التعامل بالربا كثيرا، والكثرة والقلة هذه عملية نسبية، البعض قال أنه لا يصل إلى 30% لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال { الثلث والثلث كثير } قال 30% يعتبر أقل من الثلث (…) أصبح كثير من الفقهاء يعتبر الثلث كثيرا في أي شيء، لأن اللفظ عام فهو كان في قضية الوصية ولكن قال { الثلث والثلث كثير } فهذا بالألف واللام يعتبر من ألفاظ العموم والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وأنا شخصيا أرى أن 30% كثيرة وأرى أنه لا بد أن نقلل أكثر مثلا، 15% معقول فهذا ضابط".ثم ذكر الضابط الثاني وهو حتى لا نتركها لغير المسلمين، ولما سأله مقدم البرنامج " إذن أنت تدعو أن يغزو المسلمون هذه المؤسسات رغم أنها تتعامل بالربا؟ أجاب: نعم، وربما نستطيع إذا كنا العنصر المتدين فيها أن نختار مجلس إدارة يقرر عدم التعامل بالربا(1).
وقد اكد الاستاذ الدكتور علي القرة داغي ما قاله الشيخ يوسف القرضاوي هنا، في حلقة حوارية في برنامج الشريعة والحياة الذي تبثه قناة الجزيرة الفضائية وكانت الحلقة عن الاقتصاد الإسلامي والتحديات التي تواجهه.
__________
(1) واللقاء مع د. القرضاوي موجود كتابةً على موقعه على الإنترنت www.qaradawi.net، فرع الشريعة والحياة، حلقة بعنوان " الشركات المساهمة " بتاريخ 6/12/1998م.
(2) قناة الجزيرة الفضائية- برنامج الشريعة والحياة – الأحد-15/4/2001م الساعة السادسة بتوقيت غرينتش.(2/269)
وقال بعد أن أكد رأيه هذا- هذا رأي وليس فتوى، ولا أدري ما الفرق بين الأمرين؟ (2).
خامسا: محمد شحرور
حسب نظريته الباطلة في الحدود فإن الربا عنده هو من حدود الله، فالله وضع للفائدة حدا أدنى وهو الصفر بقوله تعالى { فإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم } ووضع للفائدة حدا أعلى بقوله { لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة } وهو ضعف مبلغ الدين.
فالربا من حيث الأصل ليس محرما ولا ممنوعا وهو جائز بين الحدين، ولكنه لا يجوز أن يتجاوز الحد الأعلى.
فالربا إذا هو أمر غير مقطوع فيه، وقد أشكل حتى على أمير المؤمنين عمر بن الخطاب وذلك استنادا لقوله رضي الله عنه ( ثلاث وددت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان عهد إلينا فيهن عهدا ننتهي إليه، الجد والكلالة وباب من أبواب الربا)(1).
سادسا: روجيه جارودي:
في إحدى التجليات لرواسب عقليته الاشتراكية، يحاول جارودي إلغاء مفهوم الربا وحكمه إلغاء نهائيا من قاموس الإسلام.
فهو "ليس معنيا بالمعنى الدقيق للربا الذي دارت حوله نقاشات الفقهاء لأربعة عشر قرنا، لأن تفسيرات الربا التي دارت بين الفقهاء تتعلق بتفسير اقتصادي عائد للشرق القديم كله.
وهو كذلك ليس معنيا حتى "بمعناه الذي جاء في القرآن الكريم، لأن تحريم القرآن للربا أضعافا مضاعفة انعكاس تاريخي لتحريم الإمبراطور الروماني جوستنيان عام 429م للفائدة المركبة، ثم عاد هذا التحريم ليظهر في القرآن الكريم(2).
وهو يريد أن يصل إلى أن الربا ليس له تعريف محدد ومفهوم واضح يحرم تجاوزه وخرقه.
"فكل عصر وكل طبقة اجتماعية معينة، أعطاه معنى مختلفا منذ معاوية مؤسس الخلافة الأموية في القرن الأول للهجرة وابن صيارفة مكة، وحتى المنظرين الحاليين للبنوك الإسلامية في القرن العشرين".
__________
(1) الكتاب والقرآن، محمد شحرور، ص467-469.
(2) الإسلام الحي، روجيه جارودي ص98.(2/270)
فمعنى الربا لم يتحدد نهائيا.. لذلك لا يمكن تحديد المحتوى الاقتصادي لمفهوم الربا، ويعتمد على قول عمر أن آيات الربا من آخر ما نزل، ولم يبين الرسول - صلى الله عليه وسلم - لنا فيها بيانا شافيا.
ولذلك فإن الربا عنده يشمل التجارة المشبوهة والاستغلال والرشوة(1). وهو كل ثروة تتنامى بدون عمل في سبيل الله أو تتنامى على حساب الأمة أو الآخرين باستغلالهم "(2).
ولم أذكر هذين الرأيين الأخيرين باعتبارهما رأيين جديرين بالمناقشة وإنما للوقوف على مدى التهافت والاجتراء الذي وصل إليه من ينعتون بالمفكرين الإسلاميين الكبار ..
الرد والمناقشة:
أولا: حرمة الربا بكل أنواعه
1. قال الله تعالى: { الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (*) يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (*) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ(*) يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ (*) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ } (البقرة/275-279).
__________
(1) نفس المصدر ص98.
(2) نفس المصدر ص99.(2/271)
فالله عز وجل وصف حال المرابي وصفا شنيعا وذلك أنه يقوم يوم القيامة كالمصروع، وتوعده الله عز وجل بالخلود في النار، وعرض بأن آكله كفار أثيم، وتوعد آكله بالحرب من الله ورسوله ان لم يتب، وهذا من أعظم الزجر وأعظم التحريم(1).
فلا معنى لقول الشيخ رشيد رضا أن آية آل عمران هي الوحيدة التي جاءت مصرحة بالتحريم وهو خاص بربا الأضعاف المضاعفة.
فمن لا يرى في القرآن نصا يحرم الربا إلا آية آل عمران، فهو يغمض عينيه عمدا عن هذه الآيات، ويكون كمن آمن ببعض الكتاب، وكفر ببعض.
وهذه الآيات لم تقيد الربا المحرم بكونه قليلا أو كثيرا بل حرمت جنس الربا وكل أنواعه ما عهدته العرب منه وما لم يعهدوه، قديمه والمستحدث منه. ولكن آية آل عمران ذكرت نوعا معينا سائدا فهي جاءت لتصف واقعا لا لترسم قيدا للربا المحرم.
فلا يجوز حمل آية آل عمران على مفهوم المخالفة أي أنه إذا لم يكن أضعافا مضاعفة فهو حلال وذلك لأن الآية خرجت مخرج الغالب، إذ كان الغالب على حالهم أن يأكلوا الربا أضعافا مضاعفة، وشرط اعتبار المفهوم عند القائلين به أن لا يكون المذكور خرج مخرج الغالب(2).
ونظير هذه الآية قوله تعالى { وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحصُّنًا } ( النور/33)
فمفهوم الآية لو جاز حملها عليه: أنه لا مانع من إكراهن إن لم يردن التحصن، ولكن هذا المفهوم باطل وغير مراد أصلا من الآية، لأن الآية هي الأخرى خرجت مخرج الغالب إذ كان الغالب على حالهم الإكراه على الزنا ابتغاء الأجر والولد.
قال الرازي: "والكلام الوارد على سبيل الغالب لا يكون له مفهوم الخطاب"(3).
ووجه آخر لإبطال هذا المفهوم لو صح، هو ورود الدليل الصريح بمنع الربا قليله وكثيره، والمنطوق يقدم على المفهوم.
__________
(1) تفسير القرآن العظيم 1/579.
(2) روح المعاني 17/157-158.
(3) مفاتح الغيب 23/221.(2/272)
نجد انتفاء هذا المفهوم في قوله تعالى { وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنْ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا } (النساء-101) فمفهومها أنه لا يصح القصر عند الأمن،
ولكن هذا المفهوم انتفى بقوله - صلى الله عليه وسلم - لما سئل عن ذلك { صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته } (1). فحتى لو صح مفهوم " أضعافاً مضاعفة " لكان مُلغى بدلالة النصوص الأخرى من الكتاب والسنة والإجماع المصرحة بحرمة الربا بكل أنواعه.
و(أل) التعريف في قوله تعالى { وأحل الله البيع وحرم الربا } هي للجنس لا للعهد إذ هو الأصل في استعمالها، ولأن الله عز وجل لم يذكر بيعاً معيناً ولا رباً معيناً قبلها ليعود فهم البيع والربا إليهما.
فيكون المعنى أن الله أباح جنس البيع أي كل أنواعه، وهو الحكم العام في البيع الذي ينطبق على جميع أفراده، فمن ادعى بعد هذا أن نوعاً من أنواع البيع محرم فعليه الدليل.
وكذلك الربا فالله حرم جنس الربا أي كل ألوانه وأشكاله، فهذا هو الحكم العام في الربا الذي ينطبق على جميع أفراده، فمن ادعى أن نوعا من أنواع الربا خارج عن هذه الحرمة أو جائز فعليه الدليل.
وأنى له الدليل والنصوص من الكتاب والسنة وآثار الصحابة والتابعين وإجماعهم ثم إجماع العلماء بعدهم وفي كل عصر على حرمة المراباة ثابتة في القليل والكثير إلى يومنا هذا!؟!(2).
والناظر في أبواب الربا في كتب الفقه لا يجد اختلاف العلماء في حكم الربا ناشئا عن كونه ربا قليلا أو كثيرا، كلا، بل يرجع اختلافهم في بعض أنواعه إلى الاختلاف في حقيقة صورته أو مناطه.
__________
(1) انظر: الوعي: عدد 156، السنة 14، محرم1421 هـ، نيسان 2000م، ص22، والحديث: في صحيح مسلم بشرح النووي 5/196.
(2) انظر: أضواء البيان 1/161.(2/273)
وأمر آخر فإن كل ربا سواء كان قليلا أو كثيرا في بادئ أمره، فإن مآله إلى أن يصير أضعافا مضاعفة مع مرور السنين وتكرر العجز عن السداد.
فلو كانت نسبة الربا " الفائدة " بسيطة (10%) مثلا فإنها تصبح بعد عشر سنوات ضعف أصل المبلغ المدين إذا عجز المدين عن التسديد.
وهو الحاصل مع ما يسمى اليوم بديون دول العالم الثالث والتي تقف عاجزة عن تسديد ما يسمى "بخدمات الديون" فقط.
2. قوله تعالى { وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ ربًا لِيَرْبُوَا فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُضْعِفُونَ } (الروم-39).
وهي آية مكية وهي كما يظهر ليس فيها ما يشير إلى تحريم الربا، وإنما فيها إشارة إلى بغض الله للربا، وهو من التمهيد لتحريمه.
3. قوله تعالى:
{ فَبِظُلْمٍ مِنْ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا (*) وَأَخْذِهِمْ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا } (النساء/160-161).
وكان هذا تعريضاً بذم الربا وعده ظلماً وأكلاً لأموال الناس بالباطل مما يوجب تحريمه، وكان هذا تمهيداً من الله لتحريمه على المسلمين، كما حرم الخمر بالتدريج(1).
4. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول - صلى الله عليه وسلم - { اجتنبوا السبع الموبقات قالوا: وما هي يا رسول الله قال: الشرك بالله، والسحر وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق وأكل الربا … } (2) الحديث متفق عليه.
__________
(1) انظر: محمد علي الصابوني: روائع البيان تفسير آيات الأحكام 1/390.
(2) صحيح البخاري بشرح العسقلاني 5/393.(2/274)
5. وعن جابر رضي الله عنه قال: لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - { آكل الربا ومؤكله وكاتبه وشاهديه وقال هم سواء } (1).
ثانيا: الزيادة مقابل الأجل من ربا النسيئة
1. فعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - { الذهب بالذهب والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلا بمثل سواء بسواء يدا بيد فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد } (2).
2. وعن أبي المنهال: قال: باع شريك لي وَرقِا بنسيئة إلى الموسم أو إلى الحج، فجاء إليِّ فأخبرني فقلت: هذا أمر لا يصلح قال: قد بعته في السوق، فلم ينكر ذلك علي أحد، فأتيت البراء بن عازب فسألته فقال: قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة ونحن نبيع هذا البيع فقال { ما كان يدا بيد فلا بأس به، وما كان نسيئة فهو ربا } . وأت زيد بن أرقم فإنه أعظم تجارة مني، فأتيته فسألته فقال مثل ذلك(3).
3. وعن البراء بن عازب وزيد بن أرقم رضي الله عنهما أنهما سئلا عن الصرف فكل واحد منهما يقول هذا خير منى وكلاهما يقول: نهى رسول - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الذهب بالورق دينا } (4).
فربا الجاهلية من ربا النسيئة، وكذلك إذا اتحد الجنسان حرمت الزيادة والنَّساء، وإذا اختلف الجنسان حل التفاضل دون النساء "كما نصت القاعدة الفقهية المتفق عليها بين الفقهاء".
فبيع الذهب بالذهب لا تجوز فيه الزيادة ولا التأجيل وكذلك الفضة وكل الأجناس الأخرى. ولكن إذا بيع الذهب بالفضة حل التفاضل لاختلاف الجنس ولكن يحرم التأجيل لعلة الثمنية(5).
__________
(1) صحيح مسلم بشرح النووي 11/26.
(2) صحيح مسلم بشرح النووي 11/14.
(3) نفس المصدر 11/16.
(4) صحيح البخاري بشرح العسقلاني 4/382.
(5) انظر: روائع البيان 1/392.(2/275)
فلا بد في بيع الجنس بجنسه أن يكون مثلا بمثل وإلا كان ربا فضل، ولا بد أن يكون يدا بيد -تقابض في نفس المجلس- وإلا كان ربا نسيئة والأحاديث واضحة في هذا كل الوضوح.
فاستدلال الشيخ رشيد رضا الذي بناه على أن ربا النسيئة هو فقط ما يكون بعد حلول أجل الدين لأجل التأخير، وأنه لا يدخل فيه الزيادة الأولى في الدين المؤجل، واعتبارها من ربا الفضل ليتوصل بذلك إلى حل الفوائد البنكية البسيطة على القروض، هو استدلال باطل. مناقض لأدلة الشرع واللغة وأقوال الفقهاء.وذلك لأن الأحاديث المتقدمة قد صرحت بان معنى النسيئة هي مطلق التأخير، وليس التأخير بعد حلول الأجل فحسب.
ففي حديث أبي المنهال المتقدم { … ما كان يدا بيد فلا بأس وما كان نسيئة فهو ربا } فواضح ان العرب اعتبرت مجرد التأجيل نسيئة "بيع نسيئة".
وفي حديث آخر { .. ولا بأس ببيع الذهب بالفضة، والفضة أكثرهما، يدا بيد وأما نسيئة فلا } (1). فهنا أيضا استعمل لفظ النسيئة للدلالة على ضد النقد – التقابض حالا – فكان استعمال الشرع للنسيئة على هذا النحو شاهدا على أن معنى النسيئة هو مطلق التأخير، لا تأخير الأجل فحسب.
وهكذا تبين أن الشرع اعتبر بيع النسيئة ربا لمجرد تأجيل التقابض لا تأجيل الأجل. ومعنى النسيئة التي ورد بها الشرع دلت عليها اللغة أيضا:
- قال ابن منظور: النسئ التأخير يكون في العمر والدين، و النسأة: التأخير، ونسأً الشيء نسأ باعه بتأخير، والاسم نسيئة(2).
- وفي القرآن: { إنما النسيء زيادة في الكفر } إشارة إلى تأخير العرب الشهر المحرم إلى صفر(3).
- ويتبين مما سبق أن ما ذكره الشيخ رشيد رضا بان ربا النسيئة هو ما يكون بعد حلول الأجل من أجل الإنساء، وأنه هو وحده الذي جاء النهي عنه في القرآن. وأنه لا يدخل فيه الزيادة الأولى في الدين المؤجل لأنها من ربا الفضل ليس صحيحا.
__________
(1) سنن أبي داود، حديث 3/248.
(2) لسان العرب 1/166-167.
(3) نفس المصدر 1/167.(2/276)
لأن ما ذكره هو ضرب من ضروب الربا، والزيادة الأولى أيضا من ضروب الربا. وهذا لا يفوت على الشيخ، ولكنه جعله من ربا الفضل، ليقول إن ربا الفضل مما جاء به الحديث ولم يأت في القرآن، وأنه اختلف فيه، ولذلك فتحريمه محل خلاف، وليس قطعيا(1).
ثالثا: الربا محرم كثيره و قليله
وذلك لما قدمنا من أن آل التعريف في قوله تعالى ( وحرم الربا ) عائدة إلى كل أنواع الربا التي تكلم عليها القرآن والسنة، لأن الله بعث محمدا - صلى الله عليه وسلم - ليبين للناس ما نزل إليهم في القرآن { وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } (النحل-44)
والسنة وحي من عند الله مثلما أن القرآن وحي من عند الله، ولا فرق سوى كون القرآن وحيا متلوا لأن لفظه ومعناه من عند الله، بخلاف السنة فإنها وحي غير متلو لأن المعنى فيها من
عند الله فحسب، وأما اللفظ فمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقد جاءت السنة بتفصيل أحكام الربا ومنها ربا الفضل وربا النسيئة فحرمتهما قليلهما وكثيرهما ولم تقتصر على مجرد الربا المضاعف.
وقوله تعالى في سورة البقرة { وان تبتم فلكم رؤوس أموالكم } خير شاهد فقد قطع الطريق على المدعين بأن القليل من الزيادة مباح وذلك بتحديده سبيل التوبة للمرابين، وهو أن يأخذوا رؤوس أموالهم فقط، وهو أصل دينهم، وأكد هذا المعنى مرة أخرى بقوله "لا تَظْلمون ولا تْظْلَمون" أي لا تظلمون بأخذ ما يزيد عن رأس المال وهو أصل الدين ولا تُظْلَمون بأخذ ما هو أقل من رأسمالكم.
وحتى لو كانت آية آل عمران مقتصرة في تحريمها على الربا المضاعف الذي يؤول إليه الدين لجاز لنا أن نعتبر أن قوله تعالى " وان تبتم فلكم رؤوس أموالكم " قد حرم ابتداء الربا، فيكون الربا قد حرم ابتداؤه ومآله بنص القرآن الكريم(2).
__________
(1) انظر: رد على مفتريات حول حكم الربا وفوائد البنوك ص59-61.
(2) نفس المصدر ص45-46.(2/277)
وهناك نص صريح في تحريم الربا ولو بأدنى قدر وهو قوله - صلى الله عليه وسلم - { درهم ربا يأكله الرجل وهو يعلم أشد من ست وثلاثين زنية } (1).
وعليه فإن فتوى الشيخ القرضاوي بجواز اقتراض الشركات المساهمة بفوائد ربوية وتحديد ذلك بنسبة 15% أو غيره هو غير صحيح، واستدلاله بالحديث "الثلث والثلث كثير" هو أيضا غير صحيح وربط للأحكام بدون رابط أو جامع، فالحديث في الوصية، وأصل الوصية جائزة إلا إذا تعدى الثلث ففيه إضرار بالورثة حينئذ، ولذلك منع.
أما الربا فأصله محرم لا يباح منه الثلث ولا الربع ولا دون ذلك. فاستدلاله يستقيم لو كان أصل الربا جائزا، وكان الخلاف حول مقداره، أما وقد حرم الربا في الدرهم، وصاع التمر، فلا مساغ بعد ذلك للبحث في نسبته ومقداره، وهو كمن يفتي بعدم جواز الإكثار من شرب الخمر قياسا على الإكثار من شرب القهوة لمن يضره، فهو قياس مع الفارق فالقهوة أصلها مباح إلا إذا أفضى الإكثار منها الى ضرر فيمنع، والخمر تحرم القطرةمنه، ولا تتوقف حرمتها على الإكثار منها، ولعل الشيخ يوسف القرضاوي لم يرد ولم يعن ما فهمته منه ،لأنه طالما نص في كتبه ولقاءاته على حرمة الربا والتعامل به، وله في ذلك كتاب صرح فيه بان فوائد البنوك هي الربا المحرم ورد فيه على من أحلها(2).
رابعا: ابن عباس رجع عن القول بإباحة ربا الفضل
أما اعتمادهم على ما يروى عن ابن عباس من تجويزه لربا الفضل فهو تلفيق على ابن عباس، لأنه قد صح عن ابن عباس أنه رجع عن رأيه فلم يُجِز بعد ذلك الاعتماد على قول ضعيف تركه من هو أولى الناس باتباعه لو كان صحيحا.
__________
(1) المسند 5/225، وقال الهيثمي رواه الطبراني في الكبير والأوسط ورجال أحمد رجال الصحيح، انظر: الحافظ الهيثمي علي بن أ بي بكر: بغية الرائد في تحقيق مجمع الزوائد ومنبع الفوائد 4/211، تحقيق عبد الله محمد الدرويش.
(2) وهو كتاب: ( فوائد البنوك هي الربا الحرام ).(2/278)
فعن أبي الجوزاء قال:سألت ابن عباس عن الصرف يدا بيد فقال:لا بأس بذلك اثنين بواحد، أكثر من ذلك وأقل. قال: ثم حججت مرة أخرى والشيخ حي فأتيته فسألته عن الصرف: فقال: وزنا بوزن قال: فقلت:إنك قد أفتيني اثنين بواحد فلم أزل أفتى به منذ أفتيتني فقال:إن ذلك كان عن رأيي، وهذا أبو سعيد الخدري يحدث عن رسول - صلى الله عليه وسلم - فتركت رأيي إلى حديث رسول الله- صلى الله عليه وسلم -(1).
فهو صريح في أن ابن عباس حين قال بجواز ربا الفضل لم يكن قد علم بحديث رسول الله- صلى الله عليه وسلم - الذي ينهى عن بيع الذهب بالذهب.. إلا مثلا بمثل سواء بسواء يدا بيد. وصح عنه أنه رجع بعد أن راجعه في ذلك أبو سعيد الخدري(2). أما الحديث الذي كان يظنه ابن عباس مخصصا للربا في النسيئة وهو قوله- صلى الله عليه وسلم - " إنما الربا في النسيئة " وهو من رواية البراء وأسامة بن زيد.
فقد أجاب العلماء عنه بأجوبة منها(3):
1. أن مراد النبي - صلى الله عليه وسلم - بجواز الفضل ومنع النسيئة إنما هو في جنسين مختلفين، بدليل الروايات الصحيحة المصرحة بأن ذلك هو محل جواز التفاضل، وأنه في الجنس الواحد ممنوع والروايات يفسر بعضها بعضا، لا سيما وقد ورد التصريح عنهم باختلاف الجنس.
2. أن ربا الفضل كان مباحا، وان الرسول - صلى الله عليه وسلم - إنما حرمه يوم خيبر وقد بين ذلك في روايات صحيحة. أي أن إباحته منسوخة.
3. إن أحاديث تحريم ربا الفضل أرجح وأولى بالاعتبار على تقدير عدم النسخ من أحاديث إباحته.
4. وأحاديث التحريم ترجحت بكثرة رواتها، ورواية الجماعة من العدول أقوى وأثبت وأبعد عن الخطأ.
__________
(1) المسند 3/51، والحديث صحيح، انظر: ارواء الغليل 5/187.
(2) و انظر: روايات أخرى تدل على رجوعه: صحيح مسلم بشرح النووي 11/23-25، و انظر: أضواء البيان 1/169.
(3) انظر: أضواء البيان 1/161-173.(2/279)
وقد تقرر في الأصول أن كثرة الرواة من المرجحات، وكذلك كثرة الأدلة. وترجحت باشتهار أصحابها بالحفظ فإن فيهم أبا هريرة وأبا سعيد الخدري وغيرهما(1).
خامسا: حكم الربا ثابت مطرد وليس معللا
وقد عد الشيخ رشيد رضا وغيره أن علة تحريم الربا هي الظلم والاستغلال كما سبق، والمفهوم أنه إذا كانت المعاملات الربوية خالية من الظلم و الاستغلال حسبما تراه عقولنا، فإنها تنقلب إلى معاملات جائزة.
والصحيح أن: "حكم الربا ثابت غير معلل ذلك أنه لم يرد من الشارع ما يشير إلى العلة في هذا الحكم، وإنما عبر الشارع عن الربا بأنه أكل للمال بالباطل دون بيان للسبب الذي من اجله قرر هذا الحكم والمقصود هنا بالعلة العلة الشرعية والتي عرفها العلماء بأنها الشيء الذي من اجله شرع الحكم" وليس المقصود هو الحكمة، فالحكمة هي قصد الشارع من تشريع الحكم، فهي نتيجة تطبيق الحكم، وقد تختلف وقد لا تختلف، وفي غياب بيان من الشارع عن قصده تبقى الحكمة أمرا تقديريا يختلف باختلاف الناس، فقد يدرك الإنسان الحكمة في تحريم لحم الخنزير وقد لا يدركها، وأيا كان الحال لا يربط بإدراكه هذا حكم تحريم لحم الخنزير.
وكذلك قد يستقرئ الإنسان الحكمة في تحريم الربا أو جوانب منها، وقد يدرك الظلم في بعض معاملات الربا وقد لا يدركه، لكن هذا الاستقراء وهذا الإدراك لا علاقة له بحكم الربا من جهة ثبوته أو زواله. وهذا على عكس العلة فإن الحكم مربوط بها ويزول بزوالها فهي كما قال الفقهاء تدور مع المعلول وجودا وعدما. أي يثبت الحكم المعلل على الشيء بوجود العلة فيه، وينفي بانتفاء العلة منه"(2).
وتعليل تحريم الربا بالظلم باطل، لأنه يؤدي إلى تعطيل الحكم إن تخيل الإنسان انتفاء الظلم من معاملة ربوية معينة، وقد مر معنا أن العلة إذا عادت على أصلها بالإبطال كانت باطلة.
__________
(1) أضواء البيان 1/166.
(2) رد على مفتريات حول حكم الربا وفوائد البنوك ص47-48.(2/280)
وقد مرمعنا في الباب الأول أن التأويل بدليل حكمة التشريع لا يجوز إلا إذا كانت الحكمة ثابتة مطردة ظاهرة بحيث تترجح أن تكون علة شرعية، وأنها مع ذلك لا يجوز أن تعود على أصلها الذي استنبطت منه بالإبطال وهذان شرطان ضروريان لاعتبار الحكمة وهماهنا منتقيان انتفاء كاملا.
وهنا نرى خطورة الرأي الذي يلح عليه د.محمد عمارة والمتضمن أن النصوص القطعية الثبوت والدلالة تعلل بالمصالح والحكمة التشريعية دون أن يبين كيف تدرك تلك المصالح والحكمة التشريعية.
فتعليل النصوص بالعقل المجرد يؤول إلى تعطيلها، وليس كل ما رآه العقل المجرد علة كان كذلك، فمثلا الجودة لها قيمة، وكلما زادت الجودة زادت قيمتها، لكنا نرى أن الشارع أسقط اعتبار الجودة عند تبادل أصناف معينة بجنسها، واشترط المساواة دون اعتبار للجودة، بينما لا يقبل العقل ذلك، كما في بيع التمر الجيد بالتمر الرديء أو الذهب التبر بالذهب المصنع"(1).
وهكذا يتبين لنا أن القول بإباحة الربا تحت أي ذريعة كان وتحت أي حجة هو التفاف على النصوص الشرعية القطعية من الكتاب والسنة القاضية باعتباره حراما ثابتا إلى يوم الدين، غير معلل بعلة ولا محدد بنسبة ولا مقيد بقيد، وهو تأويل فاسد مردود مهما حاول أصحابه تزويقه وتسويقه بشتى الحجج، وهو خرق للإجماع المستقر الثابت، ليس إجماع الصحابة فحسب، بل إجماع العلماء في كل عصر وإجماع الأمة من ورائهم حتى غدت حرمته معلومة من الدين بالضرورة، يدركها الخاص والعام.
__________
(1) المرجع السابق: – بتصرف يسير- ص48-49.(2/281)
74
الفصل الثاني
قراءة في قراءات المؤولين
ويحتوي على:
- المبحث الأول: الدوافع والأهداف.
- المبحث الثاني: أدلة المؤولين.
- المبحث الثالث: أوجه الاتفاق والافتراق بين المؤولين المعاصرين والفرق الضالة
1. المعتزلة.
2. المرجئة.
3. الشيعة.
4. الخوارج.
5. الباطنية.
- المبحث الرابع: هل المؤولون المعاصرون توفرت فيهم أهلية الاجتهاد؟.
- المبحث الخامس: المعاني المستنبطة بدليل التأويل عند المعاصرين.
- المبحث السادس: انقسامهم إلى مدرستين.
- المبحث السابع: ملامح وأساليب التأويل المعاصر.
- المبحث الثامن: حكم المتأول من غير دليل معتبر.
ـ المتأول المعذور بخطئة.
ـ هل يمكن أن يكفر المتأول بتأويله؟
ـ الخلاصة في حكم المتأول المخطىء.
المبحث الأول
الدوافع والأهداف
عرفنا في الباب الأول أن المسوّغ للتأويل، والدافع إليه، عند الصحابة وعند الأصوليين، هو التعارض الأصولي، أي وجود دليل شرعي معتبر يعارض النص المطروح للتفسير. ولذلك يصرف معنى النص الظاهر الراجح إلى معنى كان مرجوحا، أسنده دليل شرعي معتبر جعل هذا المعنى المرجوح أقوى وأرجح من دلالة النص الأصلية التي كانت راجحة.
فهذا هو المسوغ الوحيد للتأويل، وهو الدافع إليه، من أجل التوفيق بين النصوص الشرعية، لأنها كلها وحي من عند الله، صدرت من معين واحد، لا يقع التعارض الحقيقي بينها أصلا، وإنما يقع بالنسبة إلى فهم المجتهد. فهروبا من إهمال النصوص، وإعمالا لها، وصيانة للوحي عن التناقض والعبث بالتوفيق الشرعي المقبول المستند على الأدلة الشرعية المعتبرة، تخصيصا أو تقييدا أو غير ذلك من ضروب التأويل، كان التأويل كنوع من أنواع الاجتهاد الشرعي.
فإذا ما طالعنا تأويلات المعاصرين – كما فصلناها- اتضح لنا الفرق الشاسع بين دوافع التأويل وأهدافه في معايير الشرع وبين أهدافه ودوافعه حسبما تفصح عنه قراءات المعاصرين.(3/1)
فما هو الدافع يا ترى لتأويل وتحريف النصوص التي تكفر اليهود والنصارى وتجعلهم من أهل الجحيم؟ ما هو الهدف من وراء ترويج مفاهيم " الأديان التوحيدية الثلاث " أبناء إبراهيم"؟.
إنه ببساطة محاولة لإلغاء الفارق الأساسي بين جوهر العقيدة الإسلامية القائم على توحيد الخالق –جل وعلا- لا شريك له، وبين العقائد الوثنية كاليهودية والصليبية من أجل تسهيل التعايش السلمي بين المنتسبين إلى هذه الديانات، كما كشف عنه عراب هذه الشعارات ومروجها جارودي.
وذلك من شأنه أن يلغي فريضة الجهاد من الأذهان بعد أن ألغيت، أو كادت عن أرض الواقع. والطعون التي وجهت إلى القرآن الكريم واصفة إياه مرة بأنه نص نبوي وأخرى بأنه منتج ثقافي وتارة ثالثة بأنه نص أدبي ورابعة بأنه نص تاريخي.
كلها تهدف إلى نزع القداسة عن القرآن، ونفي خصائصه التي تميز بها القرآن عن كلام البشر، ليتاح لهم من ثم تفسيره كما يفسرون أي نص بشري معرض لتأثيرات المكان والزمان والبيئة والثقافة السائدة وثقافة صاحبه. من أجل الوصول إلى تغيير بل إلغاء ما يعادونه من أحكامه الشرعية التي يطالب المسلمون بتطبيقها في طول العالم الإسلامي وعرضه. وهو ما أفصح عنه نصر حامد أبو زيد ومحمد أركون فيما ذكرناه عنهم.واستغلالهم تقسيم الأصوليين لسنة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - إلى سنة تشريعية وغير تشريعية، وتوظيف هذا التقسيم في غير محله وتوسيع إطار السنة غير التشريعية لتشمل كل ما سوى العقائد والعبادات، ومحاولة تدعيم هذا الغرض الباطل والنية غير السليمة بتزوير أقوال العلماء كالقرافي وغيره.
هذا كله، الهدف منه طرح السنة كاملة وإخراجها عن دائرة الحجية والتشريع، ليتسنى لهم إبطال الشريعة ذاتها والحيلولة دون تطبيقها.(3/2)
ليأتي العقل البشري الناضج، ويملأ هذا الفراغ التشريعي في كل ما يتعلق بشؤون الدنيا في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والقضائية… وهو كما ترى تطبيق لشعار العلمانية وجوهرها بحذافيره ... فصل الدين عن الحياة.. فالدين عقيدة في القلب بين العبد ونفسه، والعبادة علاقة بين العبد وربه، وهذا دور السنة وساحتها ليس إلا!!
وسعيا منهم لتحقيق هذا الهدف الرئيس ( عزل الشريعة، وتأصيل مفاهيم العلمانية وقيمها ) حاولوا إيجاد صيغ وقواعد جديدة لتفسير النصوص ( إيجاد أصول فقه جديد ) فحطموا في طريقهم إلى ذلك كل قواعد ومناهج الاستنباط الشرعي الصحيح التي أطبقت عليها الأمة في كل أجيالها، فألغوا الإجماع وجعلوه هو رأي الأكثرية والأغلبية بمن فيهم العوام، وهو محاولة تأصيل أخرى للديمقراطية الغربية، وجعلوا القياس فطريا لا ينضبط بشيء من القيود، وجعلوا المصلحة والمنفعة المقدرة بالعقل دليلا شرعيا برأسه، ولو عارضت القطعيات، وعللوا النصوص بدعاوى مجردة لا يعجز عنها أي مبطل، فعطلوا فاعليتها بالدليل العقلي الذي اختلقوه زاعمين أنهم لم يلغوا النص، ولم يعطلوه، وإنما توقف العمل به، لأن علته انتفت.
وحرفوا أقوال العلماء في تغير الفتاوى بتغير الأعراف والزمان والمكان والأحوال. فجعلوا تغير العرف علة بحد ذاتها تبطل النص وتعطله. وأخذوا مفاهيم العلمانية وشعاراتها، وجعلوها مقاصد شرعية وقواعد كلية تقدم بزعمهم على النصوص الجزئية من الكتاب والسنة كحرية الرأي والاعتقاد وحق المواطنة والمساواة المطلقة. ولا يحتاج هذا التحريف والتزوير والتكلف لعناء حتى ندرك الأغراض التي تدفع بهذا الاتجاه إنها الرغبة الجامحة في التخلص من كل حكم شرعي يناقض ما أشربته قلوبهم من دين الغرب وعقيدته الديمقراطية الفاسدة.(3/3)
ولما لم يكن بإمكانهم الإعراب عن هذه الأهداف جهارا، لووّا ألسنتهم بالكتاب وحشوا كتبهم بنقول عن أئمة العلم مبتسرة من سياقها، ليخرجوا على السذج بأصول استنباط ملفقة باطلة لا يقرها الشرع ولا الدين، لأنها تلغي الشرع والدين ذاته. فأحرى بها أن تسمى أصول هدم الفقه لا أصول الفقه. فإذا ما أتينا إلى محاولاتهم تأصيل حرية الاعتقاد والرأي والمواطنة فالهدف واضح مثل الشمس: إنه انهزام أمام الأفكار الغربية ومحاولة لتأصيلها ولو استلزم ذلك القول بإباحة الردة عن الإسلام فرادى وجماعات، ولو استلزم ذلك أيضا إنشاء أحزاب تدعو المسلمين إلى الكفر وتستقطبهم عليه، ولو استلزم ذلك إنشاء صحافة ومحطات بث تلفزيونية تدعوا إلى الكفر والفواحش باسم حرية العقيدة وحرية الرأي، ولو استلزم ذلك أيضا إلغاء أحكام ثبتت بنص القرآن والسنة وإجماع المسلمين كبعض أحكام أهل الذمة.
فالهدف هو التوفيق بين الإسلام والأفكار العلمانية مهما يكن الثمن، ولو كان إلغاء الإسلام كله لحساب العلمانية وسواد عيون العلمانيين والغرب. فإذا ما جئنا الى تسليمهم بشرعية القوانين والسلطات السياسية القائمة بان الدافع أيضا بأنه تأصيل للديمقراطية الغربية التي من أركانها سن القوانين برأي الأغلبية، وتداول السلطة السياسية حسب رغبة أكثرية الناس بغض النظر عن إقامتها للشريعة أم لا، وهو ما يناقض مبادئ الشرعية الإسلامية في نظام الحكم من أساسه.
وهذا التسليم بشرعية الأنظمة السياسية الكافرة سببه الجبن الفكري والمراوغة والمداهنة وإيثار فتات الدنيا والمصالح الحزبية والفردية والوجود السياسي في الحكم والبرلمانات على إقامة حكم الله وعلى السعي إلى القضاء على الفتنة في الدين التي يعاني منها كل المسلمين.(3/4)
ولأن ممارسة القوة لرفع الظلم عن المسلمين والسعي لإزالة الأنظمة والقوانين غير الشرعية تسمى عنفا وإرهابا وتطرفا في نظر الغرب، قلده عبيده من أبناء المسلمين، وأطلقوا على ما سماه القرآن والسنة وعلماء الإسلام جهادا واجبا في سبيل الله" ذات الأوصاف، وفعلوا ما لا يحل لهم من التبرؤ من هذا " الجهاد الواجب" وممن قام به وأعلنوا ولاءهم للقوانين الكافرة والحكام الكفار بنص القرآن والسنة وإجماع الأمة.
ولما شرّع الغرب الربا وسماه بغير اسمه رجع إليهم الصدى من بلاد المسلمين يقول إن الربا حلال عندنا نحن المسلمين أيضا بشرط أن لا يكون أضعافا مضاعفة وكلما كان قليلا كان أفضل؟ أو ليس هذا ما انتهت إليه أحدث نظرياتهم الاقتصادية أيضا؟
فالناظر في كل هذه الأمور يجد أن الخيط الذي ينتظمها جميعا هو الانهزام النفسي أمام الفكر الغربي، ومحاولة التوفيق بينه وبين الإسلام بكل ثمن، ومحاولة التأصيل لكل مفاهيم العلمانية والديمقراطية. و يرى فيها إعلاء لشأن العقل وتقديمه على النقل، بل دحر النقل خارج دائرة الإرشاد والتوجيه، والتشريع، كل ذلك للحيلولة دون تطبيق الشريعة الإسلامية التي صار تطبيقها مطلبا شعبيا إسلاميا. وكل ذلك يجري تحت ستار التجديد والعصرنة وأسلمة المعرفة. وإن كان الأولى أن تدعى "غربنة الإسلام".المبحث الثاني
أدلة المؤولين
1- النص:
من خلال عرضنا لتأويلات المعاصرين – تبين لنا أنهم يلجأون أحيانا للاستدلال بالنصوص، إذا صادفت بعض أهوائهم، وظنوا أنها تؤيد دعواهم وتسندها في ذلك المقام.
فمثلا: استدلوا بقوله تعالى { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ } (البقرة/62) على أن أهل هذه(3/5)
الملل مسلمون وعملهم صالح مقبول متغافلين أنها خاصة في تلك الملل قبل مبعث رسول الإسلام محمد - صلى الله عليه وسلم - الذي نسخت شريعته كل شريعة، واستدلوا بقوله - صلى الله عليه وسلم - { أنتم أعلم بأمور دنياكم } (1) لتأكيد مزاعمهم على ان التشريع في شؤون الدنيا مرده إلى العقل البشري.
واستدلوا بقوله تعالى { وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ } ( الشورى/38) لتأصيل مشروعية رأي الأغلبية في التشريع وفي كل شيء توفيقا مع الديمقراطية.
واستدلوا بقوله تعالى { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ } (الأنبياء/107) لإضفاء صفة الشرعية على إدراك المصالح بالعقل المجرد.
وبقوله تعالى { خذْ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ } (الأعراف/ 199) لإضفاء الشرعية على أعراف الناس الفاسدة المخالفة للدين.
وبقوله تعالى { لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ } ( البقرة/256) وقوله تعالى { فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ } (الكهف / 29) للتأصيل لمشروعية حرية الاعتقاد والرأي.
واستدلوا لذلك أيضا بعدم قتله - صلى الله عليه وسلم -للمنافقين، واعتبروه دليلا على السماح بالتعددية الحزبية والسياسية. وبقوله تعالى { لا إكراه في الدين } لتعطيل الجهاد. لأن فيه بزعمهم إكراها على الدين.
وبمشاركة بعض الصحابيات في الغزوات على مشروعية الاختلاط وبالحديث { لهم ما لنا وعليهم ما علينا } (1) وهو لا أصل له، على مشروعية المساواة التامة والمواطنة الكاملة لغير
المسلمين في المجتمع وبقوله تعالى { قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ } ( يوسف/ 55) على جواز تولي الحكم في أنظمة الكفر .
__________
(1) سبق تخريجه(3/6)
وبالحديث { لا ربا إلا في النسيئة } (1) على إباحة ربا الفضل. وبقوله تعالى { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } (آل عمران/130) على قصر التحريم على ربا
الجاهلية وإباحة ربا الديون.
والملاحظ على استدلالاتهم هذه – كما بينا ذلك بالتفصيل – أنها تتجاهل وتتغافل عن الأدلة الأخرى الخاصة في الموضوع. فهي قراءة عضينية تجزيئية للنصوص، حيث يأخذون منها ما يعجبهم، وما يحلو لهم في ذات الوقت الذي يتغافلون فيه عن نصوص أكثر وضوحا والتصاقا بالموضوعات التي يجري الكلام عليها.
وقراءتهم الانتقائية هذه تشبه فعل اليهود الذين قال الله فيهم { أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } (البقرة/ 85)
كما يلاحظ أنهم يضعون النصوص في غير موضعها، ويستشهدون بها في غير محلها، فهي استدلالات في غير محل النزاع. كما أنهم لا يتورعون عن الاستدلال حتى بالنصوص الضعيفة مثل الحديث الذي لا أصل له " لهم ما لنا وعليهم ما علينا" عن أهل الذمة. في ذات الوقت الذي يرفضون فيه أحاديث صحيحة بل متواترة في البخاري ومسلم مما ينزع عنهم صفة المنهجية العلمية والموضوعية اللازمة.
2- كما ورأيناهم قد استدلوا ببعض الآثار عن الصحابة والتابعين- حين ظنوا أيضا أنها تسند مقولاتهم.
__________
(1) والأحاديث الواردة في هذا المبحث سبق تخريجها.(3/7)
كاستنادهم إلى اجتهادات عمر، ويعلم الله أن أكثرهم لا يؤمن بمرجعية النص القرآن والحديث الصحيح. فضلا عن الآثار. وكاستنادهم إلى قول عمر في أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - توفي ولم يبين بعض أبواب الربا. واستنادهم إلى رأي ابن عباس في حل ربا الفضل. ومنهجهم في هذه الاستدلالات انتقائي: حيث يأخذون ما يحلو لهم فقط. فمثلا تغافلوا عن مواقف عمر وتشديده في وجوب اتباع النصوص والسنة، وتغافلوا عن رجوع ابن عباس عن قوله بإباحة ربا الفضل.
3- نراهم أيضا قد تشبثوا ببعض القواعد الأصولية ووضعوها في غير مكانها واجتزأوها من سياقها وحرفوا مراد العلماء منها.
مثل قاعدة " لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان وقاعدة "النظر في مآلات الأفعال معتبر" و"وضرورة فهم الجزئيات في ضوء الكليات" " درء المفاسد مقدم على جلب المصالح " ارتكاب أخف إلى الضررين ".. والإلحاح على فقه المقاصد والكليات …
4- ونراهم أيضا يتمسحون ببعض العلماء ويحرفون أقوالهم عن مكانها ويبترونها من سياقها الذي يعطيها معناها الصحيح.
كقول ابن القيم "أينما تكون المصلحة فثم شرع الله" وقول إبراهيم النخعي"إن المرتد يستتاب أبدا". بينما لا تراهم يعبأون بآرائهم و فتاويهم ومذاهبهم حين لا تروق لعقليتهم المشبعة بالفكر الغربي.
5- وتراهم يلجأون إلى آراء بعض المذاهب البائدة أو غير المعتبرة من وجهة نظر أهل السنة كالشيعة أو الخوارج لإسناد ما ذهبوا إليه.
والخيط الجامع الذي ينتظم كل هذه الاستدلالات هو القراءة التجزيئية للنصوص، والانتقائية والمزاجية وغياب النظر العلمي الموضوعي الصحيح. وغياب النزاهة والأمانة العلمية. وإسناد التأويلات المنحرفة بالشبهات والخيالات.
وكل ذلك مخالف لمنهج السلف من الصحابة والتابعين -رضوان الله عليهم- في الاستنباط والاستدلال. ومخالف للسان العرب ومعهودهم في الخطاب.
6- التفريق بين السنة التشريعية وغير التشريعية:(3/8)
حيث قصروا حجية السنة وإلزاميتها على الجانب العبادي والعقائدي ونفوا حجيتها وإلزاميتها في الشؤون الحياتية والدنيوية وقد تكلمنا عليه مفصلا وبينا أسبابه ودوافعه وأبعاده ومحاذيره وحكمه.
7- التفريق بين الفقه الإسلامي والشريعة:
حيث يعتبرون الفقه بإطلاق – غير ملزم، باعتباره فعلا إنسانيا وفهوما بشرية ويقصرون الحجية والإلزام على الشريعة ( النصوص) باعتبارها إلهية.
وهو تفريق خاطئ من أساسه، وقد بينا أن الفقه منه ما هو قطعي ملزم ومنه ما هو ظني راجح لا تجوز مخالفته إلا بدليل أرجح حسب ضوابط الاجتهاد الشرعي. هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى فقد رأينا عدم تسليمهم بحجية النصوص، فإن كانت من القرآن أولوها وحرفوها، وإن كانت من السنة ردوها ولو كانت في الصحيحين. وما رفعهم لهذه الدعوى ( الفرق بين الفقه والشريعة ) إلا لذر الرماد في عيون المسلمين.
8- الاستدلال بحكمة التشريع والعلل الغائية للنصوص:
وقد رأينا أن هدفهم من ورائها تعطيل دلالة النصوص، وجعلها مع وقف التنفيذ بتعليلها بحكمة التشريع والمصالح – المجردة المدركة بالعقل المجرد. وبينا أن حكمة التشريع لا يجوز التعليل بها إلا إذا كانت ظاهرة منضبطة و منصوصة، فتكون حينئذ بمعنى العلة الشرعية التي لا خلاف بين العلماء في جواز تعليل النصوص، وتأويلها بها.
9- كما ورأينا إلحاحهم على الاستدلال بفقه الكليات والمقاصد وقواعد الشريعة وأصولها:
وهدفهم من ورائه الاستدلال بالعمومات وترك الأدلة التفصيلية في المسائل والنوازل المختلفة، والاستدلال بالعمومات وحدها لا يعجز عنه أحد.
فإذا سئل أحدهم عن دليله سارع إلى الإجابة: دلت عليه مقاصد الشريعة وكلياتها وقواعد الشريعة وأصولها. وغالبهم لا يدرون الأصل ولا الفرع.(3/9)
وبينا عندها أنه لا يجوز هدر الأدلة الجزئية التفصيلية والاكتفاء بالكليات العامة. وأن الجزئيات تفهم في سياق الكليات، وأن الكليات لاتثبت أساسا إلا بدلالة الجزئيات، وغير ذلك مما فصل الشاطبي القول فيه.
10- كما ورأينا استدلالهم بتاريخية النصوص القرآنية أو تاريخية الفقه والأحكام الشرعية:
وبينا أن هدفهم من ورائها نسخ الشريعة بل نسخ الدين بالكامل باعتباره تاريخا لم يعد مناسبا، ولا ملائما لاستمداد التشريعات منه في مناحي الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والتعليمية والسلوكية. وهي إعادة إنتاج للشعارات التي تهاوت منذ عقود كالرجعية والجمود بزخرفة جديدة وثوب جديد.
وبينا أن النصوص الشرعية مطلقة عن الزمان والمكان، فهي عامة تشمل جميع الخلق في كل الأمكنة، دائمة ممتدة لتشمل جميع الأزمنة إلى قيام الساعة، باعتبار الإسلام الرسالة الخالدة الناسخة لكل الشرائع قبلها وباعتباره - صلى الله عليه وسلم - خاتما للنبيين والمرسلين.
والأدلة على بقاء الهيمنة للشريعة ونصوصها ووجوب اعتبارها المرجعية الأولى والنهائية لا تحتاج إلى ذكر ولا تذكير.
11- كما ورأينا استدلالهم بالعرف وترديدهم للقاعدة " تتغير الأحكام بتغير الزمان والمكان"
وهي تعبير آخر عن تاريخية الشريعة وأحكامها ونصوصها حيث أنها لم تعد صالحة للتطبيق في زماننا وعالمنا حسب دعواهم.
وقد فصلنا الرد عليهم، وبينا أن الأعراف القولية التي تحمل عليها نصوص الوحيين هي ما كان معهودا لدى عرب الجزيرة وقت الخطاب والنبوة، وأنه لا عبرة بالأعراف القولية الحادثة بعد ذلك، فلا يجوز حمل خطاب الوحيين عليها. وكذلك الأعراف العملية. ولا يكون الاختلاف حينئذ اختلاف في أصل الحكم بل في تحقيق مناطه وإنزاله على مكانه المناسب.
12- كما واستدلوا سوى ذلك بأقوال فلاسفة، ومناهج مستشرقين، وعلوم اجتماعية ذات جذور ومنابت غربية.(3/10)
وجملة القول أن الدليل الأوحد الذي حكّمه المؤولون المعاصرون كما القدماء – هو العقل – والعقل وحده، العقل الذي يقوده الهوى والشهوة والمصلحة الحزبية أو الشخصية، أو حب الشهرة أو حب الظهور بمظهر المجدد المبدع. أو حب لفت الأنظار وتصدر واجهات الصحف باسم المفكر أو المبدع المجرد. أو العقل الذي يدفعه الحقد الدفين والتعصب المقيت على الإسلام، لأنه ما زال يهيمن على ضمائر الناس وسلوكياتهم رغم كل المؤامرات والهدم والتخريب الذي يمارس منهجيا ضد الأمة. أو الحقد على دعاة الإسلام وأبنائه وحماته الذين أزاحوا العلمانيين والقوميين والشيوعيين عن مواقعهم فلم يعد لهم بد من النفاق والمدارة والطعن من تحت الثوب لا من خارجه.
المبحث الثالث
أوجه الاتفاق والافتراق بين
المؤولين المعاصرين والفرق الضالة القديمة
أولا: المعتزلة
1. المعتزلة يقدمون العقل على النقل، وكذا فعل المعاصرون.
2. المعتزلة أولوا القرآن حين تعارض مع معقولاتهم الفلسفية – وكذا فعل المعاصرون.
3. المعتزلة أشربت قلوبهم حب الفلسفة اليونانية والإغريقية فقدموهاعلى القرآن والحديث وجعلوها مرجعيتهم في التفكير والمعاصرون هاموا في ثقافة أوروبا ومدنيتها.
4. المعتزلة مارسوا الاستعلاء الفكري مع أهل السنة ووصموهم بالجهل والحشوية والمجسمة. والمعاصرون يصفونهم بعوام الفكر الإسلامي، والنصوصين الحرفيين الجامدين .. الخ.
5. المعتزلة مارسوا الإرهاب الفكري والجسدي على أهل السنة، كما فعلوا مع الإمام أحمد، والمعاصرون يساندون الأنظمة العربية ويحرضونها على الإسلاميين.
6. المعتزلة كانوا جماعة من " النخبة" يمثلون الفكر الوافد الدخيل، ولم يقنعوا بفكرهم السواد الأعظم من المسلمين.وكذا أفكار المعاصرين
7. لزم من قول المعتزلة بخلق القرآن أن لفظه من عند الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهو ما أكد عليه المعاصرون.
ثانيا: المرجئة(3/11)
1. أخرجوا العمل من مسمى الإيمان. وجعلوه مجرد التصديق بالقلب أو الإقرار بالله.والمعاصرون. قالوا بإسلام اليهود والنصارى لأنهم يقرون بوجود الله. قلبيا أو لسانيا، ولم يلتفتوا إلى عقائدهم الباطلة. ويرفضون تكفير الحكام على الرغم من قيام الدلائل البينات. زعما منهم انهم مقرون بأصل الإسلام، ولا يضرهم بعد ذلك ذنب.وهذا من الإرجاء.
2. ولما أهمل المرجئة أصل العمل استهانوا بأحكام الشريعة، واستخفوا ارتكاب الموبقات، والمعاصرون يعولون في كل شيء على نية القلب وسلامة الصدر، وان ارتكبوا شتى أنواع المعاصي.
3. المرجئة قرأوا النصوص قراءة " عضينية تجزيئية فاكتفوا بالاستدلال بقوله - صلى الله عليه وسلم - من قال لا إله إلا الله دخل الجنة وأغمضوا أعينهم، وتجاهلوا كل النصوص الأخرى المفيدة تأثيم عمل المعاصي.
ثالثا: الشيعة الإمامية
1. فقد شككوا في القرآن، وأنه داخله التحريف(1) وكذا فعل أركون في تشكيكه في ثبوت النص القرآني. وشحرور وغيرهما.
2. والشيعة لا يعترفون بمرويات أهل السنة في الحديث، ويطعنون في المصنفات الحديثية لأهل السنة حتى الصحيح منها كالبخاري ومسلم، والمعاصرون كتبهم طافحة بذلك. كما رأينا.
3. والشيعة يكفرون عامة الصحابة وينتقصونهم(2)، ومثلهم المعاصرون(3).
4. والشيعة يرفضون إجماع الصحابة وإجماع العلماء من أهل السنة ويلتقي معهم المعاصرون في هذا القدر إلا أن الشيعة يرون إجماع أهل العترة والمعاصرون يرون تقليد الأوروبيين باتباع رأي الأكثرية.
__________
(1) راجع: الخميني: كشف الأسرار ص 143.
(2) خليل عبد الكريم: شدو الربابة في أحوال مجتمع الصحابة.
(3) راجع كشف الأسرار ص123 – 150، حيث وصف الصحابة بالجهل والحمق ووصف عمر بالكفر والزندقة ومعاوية وعثمان بالعتاة.(3/12)
5. جعلهم العقل من مصادر التشريع: فالشيعة يرونه المصدر الرابع والمعاصرون يراه بعضهم المصدر الأول ويراه الآخرون الثالث أو الرابع إلا أنهم يجعلونه مقدما على القرآن والسنة والإجماع عند التعارض كما فعل محمد عمارة ومحمد أحمد خلف الله بل كلهم.
6. النزوع إلى الاعتزال: فالشيعة أصحاب نظر عقلي اعتزالي في العقيدة والمعاصرون مثلهم في العقيدة والفقه.
رابعا: الخوارج
1. فالخوارج قرأوا القرآن قراءة تجزيئية، فتعلقوا منه بقوله تعالى { إن الحكم إلا لله } وأنزلوها في غير محلها وطبقوها على غير أهلها. والمعاصرون قرأوا القرآن قراءة تجزيئية، فتعلقوا بآيات وتركوا أخريات ولم يحملوا المطلق على المقيد والمتشابه على المحكم، فضلوا، و أضلوا.
2. الخوارج ابتدعوا كلمة حق يراد بها باطل كما قال لهم الإمام علي رضي الله عنه، وكذلك فعل المعاصرون حيث ينزلون الآيات والأحاديث وأقوال العلماء في غير محلها: مثل قوله تعالى { اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم } والحديث { أنتم أعلم بأمور دنياكم } والقاعدة الأصولية العادة محكمة، " لا تتغير الفتاوى والأحكام بتغير المكان والزمان"..
3. الخوارج قصروا الاحتجاج على القرآن ورفضوا الاحتجاج بالسنة، وكذا يفعل المعاصرون حيث يقللون من أهمية السنة، ويوهنون من الاحتجاج بها بشتى الطعون، وإذا كان أبوهم الأول اعترض على النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال له "اعدل يا محمد " فإن خلفه ينهجون على نهجه باعتراضهم على سنة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - وادعائهم أنها تاريخية لا تحقق العدل والمصلحة.
4. إيذاء أهل الإيمان وود أهل الأوثان: حيث كان الخوارج يقتلون أهل الإيمان ويدعون أهل الأوثان والمعاصرون: كل همهم الطعن على المتمسكين بالسنة والشريعة ووصفهم بأفظع الصفات كالجمود والتزمت في ذات الوقت الذي يسلم منهم اليهود والنصارى والملحدون. بل يتأدبون بالحديث معهم، ويلينون لهم القول.(3/13)
5. إن بعض فرق الخوارج إنما حملهم على الخروج حبهم للعدل وكرههم للظلم وكانوا عبادا زهادا، فضلوا بالتأويل الفاسد وإن كانوا على قصد حسن ومثلهم بعض المعاصرين الذين ضلوا بالتأويل الفاسد ظانين أنهم إنما يدافعون عن الإسلام، ويقدموه بصورة حسنة مقبولة كما فعلوا في الدفاع عن حرية الرأي والاعتقاد.
6. أن الخوارج قال عنهم - صلى الله عليه وسلم - { يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية } (1) أي بسرعة، وبدون أن يشعروا، والمعاصرون كثير منهم خرج من الإسلام بتأويله الباطل بسرعة ودون أن يشعر. بل وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا.
7. ويفترقون عنهم أن الخوارج خرجوا على إمام عادل عقدت له بيعة بالإمامة، وكان يحكم بشريعة الله، والمعاصرون أسوأ منهم حالا حيث هادنوا، وداهنوا. ونافقوا الأئمة المضلين الذين افتقدوا شرعية الحكم ويحكمون بشرائع الكفر،فالخوارج من هذه الناحية كانوا أحسن منهم حالا.
خامسا: الباطنية
إن الباطنية بكل فرقهم قد ردوا ظواهر النصوص وأحكام الشرع، وحملوها على معان باطنية بعيدة لم يعرفها العرب في لغتهم، وعلى رموز واصطلاحات استقوها من المجوسية المزدكية أو من الفلسفة الإغريقية. وكذلك يفعل المعاصرون الذين يردون ظواهر النصوص ويحملونها على معان واصطلاحات غربية أوربية كالديمقراطية والمواطنة والحرياتفهم لا يسلمون بظاهر نص إلا إذا توافق صدفة مع بعض مقولاتهم أما إذا عارضها فسيف التأويل مصلت جاهز.
المبحث الرابع
هل المؤولون المعاصرون توفرت فيهم أهلية الاجتهاد؟
__________
(1) صحيح البخاري بشرح العسقلاني(12-303).(3/14)
علمنا فيما سبق عند بحثنا لشروط المؤول. أن المؤول مجتهد، وان التأويل اجتهاد بل أنه يمثل مرحلة متقدمة من النظر الفقهي، لأنه لا يقتصر على استنباط الحكم من النص فقط. بل هو ترك لدلالة نص ظاهر، والأخذ بمعنى مرجوح لوجود دليل معارض تقوى وترجح على دلالة الظاهر، فالتأويل داخل في باب الترجيح والتخصيص، وهو ليس بمقدور كل فقيه. فضلا عن أن يكون سهلا ومتاحا لكتاب وصحفيين ومحامين وأطباء ومهندسين ممن يتصدون لتأويل النصوص المحكمة والأحكام المبرمة في هذا الزمان.
وبالنظر إلى النصوص التي أجروا فيها سيف التأويل، والأحكام التي هدفوا إلى تأويلها والخروج فيها بحكم جديد عصري كما يدعون. ندرك مدى الجهل الفاضح والقصد السيئ والاجتراء على محكمات الدين، مما ينزع الصفة الشرعية عن اجتهاداتهم ويجعلها أقرب إلى مطاعن المستشرقين وأعداء الدين منها إلى اجتهادات معتبرة وتأويلات مسوغة. وينزع عنهم صفة الاجتهاد المعتبر المقبول.
فكفر اليهود والنصارى وأهل الملل الأخرى مما لم يختلف عليه اثنان حتى الفرق المعدودة ضمن فرق الضلال كالشيعة والمعتزلة والخوارج.
والنصوص التي تناولتهم كقوله تعالى { وَقَالَتْ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمْ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ } ( التوبة –30) { لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ } ( المائدة-17) وغيرها مما سقناه في موضعه، نصوص مفسرة محكمة لا
تحتمل نسخا ولا تأويلا لا في عهده - صلى الله عليه وسلم - ولا بعد وفاته.(3/15)
فمن يعيد النظر فيها ليخرج بحكم جديد واجتهاد عصري تأويله فاسد باطل مردود، لا يستحق النظر، وصاحبه، لا يجوز أن يدرج في عداد المجتهدين ولا المجددين بل أحرى به أن يسلك به مسلك الباطنية، فيستتاب فإن تاب وإلا قتل ردة.
ولا ينبغي أن تهولنا الأسماء ولا الألقاب العلمية التي أسبغت على هؤلاء. فتجعلنا نحجم أونتلكأ في وصفهم أو وصف اجتهاداتهم بما تستحق من مذمة وازدراء. ولا يهولنا أن كان بعضهم ويا للعجب يذكر ويلمع على انه من أقطاب الفكر الإسلامي.
فليس من أقطاب الفكر الإسلامي ولا من حواشيه من يفتي بإسلام اليهود والنصارى، وليس من المسلمين من يلغي سنة الرسول - صلى الله عليه وسلم - في شؤون الحياة، ويستبعدها ولو كان عضوا في مجمع البحوث العلمية بالأزهر(1).
وليس من المسلمين من يصف القرآن بأنه منتج ثقافي ينتمي إلي ثقافة البشر، وليس منهم من يبيح ردة المسلم عن دينه باسم حرية الاعتقاد، ويحل لهم الربا باسم خدمات الديون ..الخ.
وفي ضوء هذه المعطيات لا أجد معنى لقول د. طه جابر العلواني إن الإسلاميين ومنهم الغنوشي قد أصلوا لقيم الديمقراطية والعلمانية كمفهوم حرية الاعتقاد والمواطنة والتعددية السياسية بما يجعلها اجتهادات معتبرة شرعا.
فمن ذا الذي يملك صك "الشرعية" وختمها ليمنحها هذا، ويمنعها ذاك؟ وما الذي منحها ومنح أصحابها صفة الاجتهاد الشرعي المعتبر "والمجتهدون الشرعيون" بعد أن أصابوا مفاهيم الإسلام ومسلمات أحكامه في مقاتلها؟
__________
(1) أشير إلى د.محمد عمارة حيث أنه عضو في المجمع المذكور.(3/16)
إن جميع الاجتهادات والتأويلات الفاسدة التي يخرج بها هؤلاء القوم ما هي إلا تقول على الله بغير علم، وهي ظن وخرص وتخمين لا يحظى بالشرعية الإسلامية أبدا، لأنها صادرة أولا من غير ذي صفة – يدل على ذلك اجتهادهم في المسلمات من الدين وردهم لدلالات النصوص القطعية- ولأن الاجتهاد الشرعي الصحيح هو بذل الفقيه وسعه.. وهؤلاء ليسوا بفقهاء بل ولا طلاب فقه، كما دلت عليه اجتهاداتهم.
فلا يجوز تقليدهم في آرائهم ولا تبنيها ولا الدفاع عنها ولا ذكرها إلا على سبيل النقد والنقض. والله تعالى اعلم.
المبحث الخامس
المعاني المستنبطة بدليل التأويل عند المعاصرين
ذكرنا في الركن الرابع من أركان التأويل الصحيح أن يكون المعنى المستنبط بدليل التأويل صحيحا راجحا على المعنى أو الحكم الظاهر، مما يعني أن لا يخالف حكما قطعيا أو معلوما من الدين بالضرورة من باب أولى.
فإذا أرجعنا البصر في النصوص التي أولها المعاصرون – والأحكام التي دلت عليها وجدناها كما بيننا ذلك مرارا – أدلة قطعية لا تحتمل التأويل بحال من الأحوال.
وإذا نظرنا إلى المعاني المستنبطة بان لمن له أدنى نظر فقهي أنها معاني مردودة باطلة، وذلك لأنها ببساطة تخالف وتناقض أساسيات الإسلام وبدهياته العقدية والفقهية. وتخالف النصوص القطعية المفسرة والمحكمة، وتخالف إجماع الصحابة الثابت المنقول، وهو حجة بلا نزاع، وتخالف إجماعات العلماء عصرا بعد عصر إلى يومنا هذا.
فكفر اليهود والنصارى وكل من لا يدين لما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - لم يخالف فيه أحد من أهل القبلة حتى الفرق التي صنفت خارج صف أهل السنة كالشيعة والمعتزلة والأباضية.
وحجية السنة في أمور الحياة والمعاملات وحجية الإجماع أصلا، ووجوب كون القياس مضبوطا بالعلل الشرعية المنضبة الظاهرة، وكون أعراف الناس الفاسدة المخالفة للشريعة باطلة وكون مصالح البشر والناس تدرك بدلالة الشرع. كل ذلك من بدهيات الدين وضروراته.(3/17)
ومثل ذلك حرمة الردة عن الدين أو الطعن فيه أو الاستهزاء به أو الانتقاص منه بأي وجه فذلك معلوم من الدين بالضرورة يعلمه الخاص والعام.
ومثله كون غير المسلمين من اليهود والنصارى لهم أحكامه خاصة ولا يساوون بالمسلمين في كل شيء. وكذلك وجوب الحجاب، وحرمة الاختلاط إلا لمسوغ شرعي، ووجوب تطبيق الشريعة وكفر من ترك تطبيقها جملة، وحرمة الربا..
كل ذلك يخالف ما ذكرناه من أدلة قطعية من نصوص محكمة وإجماع ثابت وهذا ما يجعل الحكم على تلك الاجتهادات بالبطلان والفساد أمرا لا مفر منه.
المبحث السادس
انقسامهم إلى مدرستين
بقراءة متأنية للخلفيات الفكرية والدوافع والأهداف التي يسعى أهل التأويل المعاصر إلى تحقيقها، وبالنظر إلى حدة الطروحات وشدة جراءتها وصراحتها في رد المسلمات أو نقدها أو الطعن والتشكيك فيها.
وبالنظر إلى النتائج التي توخاها أهل التأويل، وصرحوا بها أحيانا، أو ظهرت من خلال فلتات ألسنتهم وزلات أقلامهم.
بالنظر إلى ذلك كله يستطيع الباحث أن يجد بعض الفروق بين المؤولين وحملة لوائه. وهذه الفروق تتسع أحيانا حتى انه ليعد من الظلم أحيانا أن ترتبهم في زمرة واحدة. وتدق في معظم الأحايين حتى تظن أنهم جميعا يصدرون عن مورد واحد، وينلهون من معين واحد.
وما ذلك إلا بسبب الاضطراب في مناهج الاستدلال والحيرة بين مناهج السلف التي أرسى قواعدها الأصوليون وبين مسالك الخلف التي تأخذ من هنا وهناك، وتجمع أو تحاول – بين طرق الاستنباط التي يقتضيها لسان العرب، وبين نظريات الاجتهاد والتحليل المستوردة من الشرق أو الغرب، والتي مرجعها إلى العقل المجرد عن نور الوحي وهداه.
ومع كل ذلك فيمكن التمييز بين فريقين منهم:
الفريق الأول:
وجدناه يقرأ النصوص والأحكام والتراث جملة، لا بعين الناقد المنصف الذي يعتز بدينه وتراثه ويحترمه، ويسعى لتجديد ما دلت القرائن على انه ليس من الإسلام كبعض العادات والتقاليد البالية فعلا.(3/18)
ولكن يقرأه بعين الحاقد الباحث عن الشبهات، أو المثالب التاريخية. ومحاولا إيجاد طريقة للتخلص من الإسلام كله باسم الإسلام ويصح أن يطلق عليهم ( المستغربون العرب ) وممن يتحتم إدراجه في هذا الفريق محمد أركون، ونصر حامد أبو زيد وعلي حرب ومحمد أحمد خلف الله وبعض من لم نتعرض لمقولاتهم بالتفصيل كسعيد عشماوي وأبي رية وروجيه جاردوي وحسن حنفي وعبد الله العلايلي وغيرهم.
حيث قالوا ببشرية النص القرآني وعدم قداسته، وأنه منتج ثقافي وشكلّه الواقع والثقافة السائدة، وساووا بين الشريعة والأثاث القديم، وأعلنوا بصراحة عدم ملائمة الشريعة بكاملها للتطبيق في هذا الزمان، بل أعلنوا سيادة العقل وحلوله محل الآله و الأنبياء والمرسلين. وقالوا بتاريخية النص القرآني.
الفريق الثاني:
وهو ذو خلفيه و مرجعية إسلامية وهذا الفريق ليس فئة واحدة فمنهم أهل علم و فضل إلا انهم انجروا أو انزلقوا من حيث يشعرون أو لا يشعرون إلى دعاوى العلمانية و منهم الشيخ يوسف القرضاوي حيث قال بحرية الاعتقاد و الرأي وأنكر وجوب قتل المرتد وهو واجب بالأدلة القطعية كما بيناه، وقال بحرية التعددية الحزبية والسياسية ومؤداها ثبتت حرمته بالأدلة القطعية، وأجاز أخذ فوائد ربوية ضئيلة في أحوال لم تصل حد الضرورة.
وكذلك الشيخ رشيد رضا حيث أجاز للمسلم تولي الحكم عند الكافر الحربي، والحكم بقانونه الكافر في رقاب المسلمين ودمائهم و أموالهم، وقال بحل ربا الديون، ود. طه جابر العلواني حيث دعا إلى تحقيق المواطنة والمساواة بين جميع المواطنين على الرغم من اعترافه وإدراكه أنها لا تتحقق إلا بسيادة مفاهيم العلمانية في الحياة.(3/19)
والفئة الأخرى مفكرون ودعاة وهم أيضا ليسوا من فئة واحدة فبعضهم كالدكتور حسن الترابي وراشد الغنوشي هم من صلب التيار الإسلامي ذاته، إلا أنهم حاولوا تبرير وتأصيل بعض المفاهيم التي تقوم عليها الحياة السياسية والاجتماعية والفكرية، وكانت في غالبها. أفكارا ومفاهيم ذات جذور ومضامين أوربية يصعب إن لم يستحيل على الإسلام كمبدأ أن يتقبلها أو يستوعبها.
وآخرون كانوا منحازين أساسا إلى الفكر القومي أو الليبرالي ثم طرأ. تغيير على بعض قناعاتهم بسبب تنامي الصحوة الإسلامية وحركة الإسلام في الحياة.
إلا أنهم لم يهن عليهم التخلي عن أفكارهم وقناعاتهم التي تخالف أصول الإسلام وقطعياته، بل رجوا أن يجدوا لها سبيلا يسندها يوفق بينها وبين الإسلام. من مذهب بائد، أو قول لفرقة ضالة، أو قول شاذ أو مجمل لبعض الفقهاء، فتمسكوا به لتستريح ضمائرهم.
على انهم ظلوا على قناعاتهم، ولم يرفضوا الإسلام في آن واحد. وهي الفئة التي يندرج تحتها كثير من الكتاب كالدكتور، محمد عمارة صاحب الاتجاه القومي أساسا ود. فهمي هويدي ذي التفكير الليبرالي ود. محمد سليم العوا وغيرهم.
المبحث السابع
ملامح وأساليب التأويل المعاصر
1. رفض التراث الإسلامي بشكل عام والفقه منه بوجه خاص والفقه الدستوري بشكل أخص (النظام السياسي).
2. رفض تفاسير المفسرين، وادعاء تاريخيتها وعدم إلزاميتها، دون التميز بين المعاني القطعية لكثير من النصوص، وبين إنزال تلك الآيات على بعض الوقائع التاريخية.
3. التشنيع والإزراء والاستخفاف بفقهاء الأمة ومفسريها وعلمائها ومصنفاتهم الفقهية والتفسيرية.
4. هجوم شرس على أصول الفقه بدعوى محاولة تجديده، وعلى مفهوم الإجماع بوجه خاص، واختلاق مفهوم جديد للاجتهاد والقياس والعرف والمصالح والمقاصد والكليات..
5. اعتماد التحسين والتقبيح العقلانيين.و تقديم النظر العقلاني على النصوص الشرعية.(3/20)
6. ترويج المفاهيم الغربية ومحاولة تأصيلها مثل "الديمقراطية" وحرية الاعتقاد والرأي" –المواطنة– التعددية الحزبية والسياسية، تداول السلطة بالانتخاب الحر.
7. ابتداع تقسيمات باطلة للأدلة الشرعية لتأصيل المنهج العلماني ( فصل الدين عن الحياة).( نص تعبدي – نص معاشي) (نص دنيوي – نص آخروي)، (نصوص عالم الغيب – نصوص عالم الشهادة).
8. الانتقائية والمزاجية في الاستدلال سواء فيما يخص النصوص أو الآثار أو أقوال العلماء أو القواعد الأصولية، أو المذاهب الإسلامية.
9. التزوير على العلماء ببتر نصوصهم من سياقاتها، وعدم النظر إليها في ضوء فقههم الكلي.
10. الطعن في السنة وأئمة الحديث ورواه الحديث حتى من الصحابة.
11. الطعن في مصنفات الحديث وخاصة البخاري ومسلم.
12. الاستغلال السيئ لقاعدة التفريق بين السنة التشريعية وغير التشريعية.
13. غياب الموضوعية والإنصاف، وافتقاد المنهج العلمي والأمانة العلمية في البحث، بتجاهل الأدلة في موضوع البحث مع كثرتها وتزاحمها.
14. السطحية والعمومية في تناول الأدلة التي ساقوها على دعاواهم.
15. التطرف والتعصب لآرائهم دون وجه حق، ودون دليل شرعي مسوغ مع كثرة شكايتهم من تطرف خصومهم وتشددهم المزعوم.
16. توزيعهم تهم الجمود والرجعية والتخلف جزافا وهم بها أولى.
17. الحكم قبل تداول الأدلة وتقديم البراهين سواء في القضايا المطروحة للبحث، أو الأشخاص والاتجاهات المخالفة.
18. الظهور بمظهر الحرص على الدين و أجيال المسلمين، حيث يدعون أن " الإسلاميين" يعسرون الدين على الناس وينفرونهم منه، وبعضهم - يعلم الله – وكما تدل عليه كتابتهم - من ألد أعدائه ومناوئيه.
19. المزاودة على الفقهاء والمفسرين القدامى والمعاصرين في فهم الدين، واستكناه مقاصده وروحه بل واتهامهم بالجهل والجمود والتحجر.
20. الإنهزام والإنبهار أمام الفكر الغربي ، ومن صوره:(3/21)
- اعتبارهم اليهود والنصارى مسلمين، واعتبار عملهم صالحا. لأنهم صنعوا السجاد والمكيفات لمساجدنا؟
- مجرد محاولتهم اعتبار اليهود والنصارى مسلمين هو انهزامية أمام الدعوات الماسونية المنادية بالمساواة بين البشر بغض النظر عن دينهم.
- تقليدهم لمناهج المستشرقين في قراءة النصوص.
- إلغاؤهم حجية السنة في الأمور الحياتية والشؤون الدنيوية انهزام أمام الفلسفة العلمانية التي تجعل للإنسان حق التشريع في شؤون الدنيا.
- اعتبارهم الإجماع الشرعي هو الاستفتاء ورأي الأغلبية هو تعبير عن الانهزامية أمام الفكر الديمقراطي الذي جوهره احترام رأي الأغلبية.
- إعطاؤهم حق الاجتهاد في الأمور الشرعية لكل فرد من أفراد المسلمين بصرف النظر عن أهليته الشرعية. تقليد لمفهوم الاجتهاد وحرية إبداء الرأي عند الغربيين.
- جعلهم العقل مناطا لإدراك المصالح يعبر عن النظرة الغربية لماهية المصالح والتي جوهرها المنفعة المادية الدنيوية بمعزل عن أبعادها المعنوية الأخروية.
- محاولة تأصيلهم للمفاهيم الديمقراطية العلمانية كحرية الاعتقاد، وحرية الرأي، هو من أبرز الشواهد على انهزاميتهم الفكرية أمام الفكر الغربي الوافد حتى لم يعد يجرؤ على الجهر بعدم وجود حرية للرأي والاعتقاد في الإسلام- بالمفهوم المعاصر- إلا النادر ممن عصم الله.
- كذلك محاولة تأصيلهم لمفهوم المواطنة ذات الجذور الأوربية، والمضامين المستلزمة لسيادة العلمانية – بشهادة العلواني وغيره- هو أبرز مثال على حالة انعدام التوازن والخجل من الثوابت الدينية الإسلامية – وعلى الانهزامية أمام شعارات الأخوة – المساواة – شعارات الماسونية العالمية.
- جعلهم الأصل في علاقة الرجل بالمرأة هي المخالطة والمشاركة في ميادين الحياة المختلفة سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وتعليميا هو انهزام أمام مفهوم الحرية الشخصية والمساواة التي ترفعها المرأة الغربية والحركات النسائية.(3/22)
- قصرهم ربا النسيئة على ربا الجاهلية ( الأضعاف المضاعفة )، وإباحتهم للربا القليل، هو انهزام أمام أفكار النظام الاقتصادي الرأسمالي القائم على الفوائد الربوية.
- سعيهم للتوفيق بين أحكام الإسلام في هذه الأمور ومفردات المفاهيم الغربية دليل على النظرة التوفيقية المترسخة في أعماقهم على حساب شرائع الإسلام.
- العتب والأسف والاستجداء الذي صرح به العلواني تجاه العلمانيين على عدم تفضلهم بقبول المواقع الاجتهادية التأويلية المتقدمة للإسلاميين.
وما كان لهذه المهازل أن تحدث لو كان هؤلاء " المؤولون " معتزين بدينهم وعقيدتهم وشريعتهم وتراث أمتهم.
21. الاستعلاء والمصادرة والتبجح على الفقهاء والمفسرين القدامى- وعلى المخالفين لهم من المتمسكين بمنهج السلف في الاستدلال والاستنباط. ومن الشواهد والنماذج على ذلك:-
- تهكم جارودي وسخريته من الفقهاء – واتهامهم بالتزلف الحقير للحكام ( الماوردي) وأن شراح الموطأ قد عطلوا وقتلوا الفكر التنويري الذي نشا في الأندلس(1).
- إكثار محمد أركون من تسمية المتمسكين بأصول الاستنباط الصحيحة " بالأرثوذكسيين الجامدين" واتهامه لكتب علوم القرآن كالإتقان بأنها بالية، وللعلماء ومنهم السيوطي بأنه متعصب ومهووس. وتسميته لهم بـ" مديري شؤون التقديس ..
- نعت محمد عمارة لكل من يقول " لا اجتهاد في مورد النص "بعوام الفكر الإسلامي" عوام المثقفين". وتسميته لهم في كتابه "النص الإسلامي" بالسلفيين النصوصيين الجامدين".
- الثقة المفرطة والاطمئنان التام الذي يلمسه من يقرأ لهم، وهم يعرضون أفكارهم بطريقة تصادر أي احتمالية للصواب عند الخصوم.
__________
(1) انظر الإسلام الحي ص33.(3/23)
- وصف هويدي لعملية تجاوز النصوص باسم إدراك العلل والمقاصد بأنها تحتاج لحس مرهف وذوق حقوقي ممتاز " يعني مما لم يتوفر إلا لمثله، ويفتقر إليه خصومه وكتسمية البوطي وغيره للذين لا يسلمون بشرعية الأنظمة السياسية القائمة بالأغرار – أحداث الأسنان بسفهاء الأحلام – الخوارج … الخ.
- قول نوال السعداوي – أنها مضى عليها ربع قرن وهي تدرس القرآن والحديث وتتحدى أن يكون هناك نص يوجب الحجاب على المرأة المسلمة.
- ادعاء زكي نجيب محمود أن له حق تفسير القرآن مثل المفسرين لأن القرآن كتابه وكتابه.
المبحث الثامن
حكم المتأول من غير دليل معتبر
المتأول المعذور بخطئه
المجتهد إذا أصاب فله أجران. وإن اجتهد وأخطأ فله أجر واحد، والمتأول مجتهد. فهل هو مأجور معذور في خطئه دائما وأبدا؟
بين أيدينا عدد من النصوص يفهم منها أن المتأول المخطئ يعذر إذا كان الحامل له على تأويله دليل مسوغ في الظاهر. وإن كان خاطئا في حقيقة الأمر.
وقد عقد البخاري بابا فيما جاء في المتأولين في كتاب " استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم". من صحيحه، وذكر فيه أربعة أحاديث تدل على الحالة التي يعذر فيها المتأول ولا يؤاخذ فيها بخطئه.
فذكر حديث إنكار عمر بن الخطاب على هشام بن حكيم قراءته سورة الفرقان على غير ما أقرأه إياها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتكذيبه له في أنه سمعها من الرسول - صلى الله عليه وسلم -(1).
وحديث تأويل الصحابة للظلم في قوله تعالى { الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ } (الأنعام-82)، على عمومه وأن ذلك شق عليهم حتى فسره لهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - بأنه الشرك كما في آية لقمان { إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } (لقمان-13). وحديثا قال فيه بعض الصحابة عن مالك بن الدخشن – وهو صحابي – ذلك منافق لا يحب الله ورسوله.(3/24)
والحديث الذي طلب فيه عمر بن الخطاب من رسول - صلى الله عليه وسلم - أن يضرب عنق حاطب بن أبي بلتعة بعد أن أرسل إلى قريش يخبرهم بمسير الرسول - صلى الله عليه وسلم - إليهم لفتح مكة، فطلب عمر ضرب عنقه قائلا " أنه قد خان الله ورسوله والمؤمنين" وفي بعض الروايات وصفه بالنفاق وفي بعضها الآخر بالكفر(1).
ووجه الشاهد في الحديث الأول أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم ينكر على عمر تكذيبه لهشام بن حكيم وقسوته عليه بجره من تلابيبه، لأن عمر كان معذورا، لظنه أن القرآن لا تتعدد وجوه قراءته.
فعمر أخذ بظاهر الحال فكان تأويله سائغا قال ابن حجر " ومناسبته للترجمة من جهة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يؤاخذ عمر بتكذيب هشام، ولا بكونه لببه بردائه، وأراد الإيقاع به، بل صدق هشاما فيما نقله، وعذر عمر في إنكاره، ولم يزد على بيان الحجة في جواز القراءتين(2).
والشاهد في الحديث الثاني هو أن الصحابة كانوا معذورين في فهمهم حين حملوا الظلم على إطلاقه وعمومه" وهو كل المعاصي " لأنه هو المعنى الظاهر المألوف في لسان العرب. فكان تأويلا سائغا وإن كان خاطئا في حقيقة الأمر. ولذلك لم ينكر عليهم - صلى الله عليه وسلم - فهمهم ذلك.
قال ابن حجر: ووجه دخوله في الترجمة من جهة أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يؤاخذ الصحابة بحملهم الظلم في الآية على عمومه حتى يتناول كل معصية، بل عذرهم لأنه ظاهر في التأويل، ثم بين لهم المراد بما رفع الأشكال(3).
والشاهد في الحديث الثالث أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يؤاخذ القائلين في حق مالك بن الدخشن بما قالوا – حيث وصفوه بالنفاق – بل بين أن إجراء أحكام الإسلام على الظاهر دون ما في الباطن(4).
__________
(1) صحيح البخاري بشرح العسقلاني 12/216.
(2) المرجع السابق 12/323.
(2) المرجع السابق: 12/318.
(3) فتح الباري 12/318.
(4) نفس المصدر 12/318.(3/25)
والشاهد في الحديث الرابع أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم ينكر ولم يؤاخذ عمر بإغلاظه القول لحاطب بسبب مكاتبته قريشا ووصفه له بالخيانة بل عذره لأن ظاهر الحال كان يدل على ذلك(1).
فإن التجسس على الجيش المسلم بما يؤدي إلى إفشال خطته بالكامل والإيقاع به لا يفعله عادة إلا منافق أو كافر خائن، فلذلك لم يوبخ الرسول - صلى الله عليه وسلم - عمر على قوله وهمه بقتله.
قال ابن حجر في بيان ضابط التأويل المردود الذي يعذر صاحبه ولا يذم " قال العلماء. كل متأول معذور بتأويله ليس بآثم إذا كان تأويله سائغا في لسان العرب، وكان له وجه في العلم"(2).
وهو ما نصت عليه اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والافتاء بالمملكة العربية السعودية بقولها إن المخطئ المعذور من اخطأ في المسائل والنظرية الاجتهادية لا من أخطأ في ما ثبت بنص صريح ولا فيما هو معلوم من الدين بالضرورة(6).
وظاهر الحال والمقال الذي يعذر به المتأول يعرف بالقرائن وبالتبادر إلى الذهن- وقد بينا ذلك عند الكلام على " الظاهر " من الألفاظ الواضحة.
المتأول غير المعذور بخطئه:
وأما إن لم يكن للمتأول حجة ظاهرة على تأويله بأن أول القطعيات التي لا يعذر بجهلها أمثاله، فإنه يأثم وقد يكفر بتأويله حسب حاله. لأنه" لا خلاف بين المسلمين أن الرجل لو أظهر إنكار الواجبات الظاهرة المتواترة، والمحرمات الظاهرة، ونحو ذلك فإنه يستتاب وإلا قتل كافرا مرتدا. خلافا للمرجئة الذين يقولون: لا يضر مع الإيمان ذنب كما لا ينفع مع الكفر طاعة(3).
__________
(1) نفس المصدر 12/322.
(2) نفس المصدر 12/318.
(6) الدويّش : أحمد بن عبد الرزاق، فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والافتاء 2/39.
(3) شرح العقيدة الطحاوية – بتحقيق الالباني - ص 316.(3/26)
قال شارح الطحاوية:.. إن الرجل يكون مؤمنا باطنا وظاهرا لكن تأوّل تأويلا أخطأ فيه، إما مجتهدا وإما مفرطا مذنبا، فلا يقال: إن إيمانه حبط لمجرد ذلك، إلا أن يدل على ذلك دليل شرعي، بل هذا من جنس قول الخوارج والمعتزلة ( أي تكفيره مطلقا) ولا نقول لا يكفر ( كالمرجئة ) بل العدل هو الوسط: وهو: أن الأقوال الباطلة المبتدعة المحرمة المتضمنة نفي ما أثبته الرسول أو إثبات ما نفاه أو الأمر بما نهى عنه أو النهي عما أمر به: يقال فيها الحق، ويثبت لها الوعيد الذي دلت عليه النصوص، ويبين أنها كفر ويقال: من قالها فهو كافر … وأما الشخص المعين إذا قيل: هل تشهدون أنه من أهل الوعيد وأنه كافر؟ فهذا لا نشهد عليه إلا بأمر تجوز معه الشهادة، فإنه من أعظم البغي أن يشهد على معين أن الله لا يغفر له، ولا يرحمه بل يخلده في النار فإن هذا حكم الكافر بعد الموت.. لكن هذا التوقف في أمر الآخرة لا يمنعنا أن نعاقبه في الدنيا لمنع بدعته وأن نستتيبه فإن تاب وإلا قتلناه .. ثم إذا كان القول في نفسه كفرا: قيل أنه كفر والقائل له يكفر بشروط وانتفاء موانع، ولا يكون ذلك إلا إذا كان منافقا زنديقا. فلا يتصور إن يكفّر أحد من أهل القبلة المظهرين للإسلام إلا من يكون منافقا زنديقا(1).
فالمتأول قد يكفر ولا يعذر بجهله أو خطأه في اجتهاده - ويحكم على قوله بالكفر ويقال: من قال به فهو كافر. إلا أنه لا يكفر ولا يحكم عليه بالخلود في النار ولكنه يستتاب فإن تاب وإلا قتل وأمره إلى الله.
وقد أورد شارح الطحاوية استتابة الصحابة لقدامة بن عبد الله لما شرب الخمر بعد تحريمها هو وطائفة، متأولين قوله تعالى { لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } ( المائدة-93).
__________
(1) نفس المصدر ص318-319.(3/27)
فاتفق عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وسائر الصحابة على انهم إن اعترفوا بالتحريم جُلدوا – حد الخمر – وإن أصروا على استحلالها قتلوا – أي ردة.
وهذا الذي اتفق عليه الصحابة هو متفق عليه بين أئمة الإسلام(1). فعمر والصحابة لم يعذروا هؤلاء في جهلهم بتحريم الخمر ولا في تأويلهم. لأن ذلك كان قد عرف واشتهر واستقر. ولم يكونوا حديثي عهد بالاسلام– فلا عبرة بما يطرأ لهم من شبهة إن أصروا على استحلالها.
فمن حمل النصوص على معان بعيدة غير مرادة للشارع وأصر عليها بعد بيان الحجة فإنه يكفر أن أدى ذلك إلى استحلال المحرمات المتواترة أو إنكار الواجبات المتواترة.
قال في نشر البنود: "قلت من اللعب حمل بعض المبتدعة آيات من كتاب الله تعالى وأحاديث من أحاديثه - صلى الله عليه وسلم - على معان بعيدة بلا دليل، وذلك كفر لأنه لعب بجانب الربوبية والرسالية الربوبية والملكية"(2).
وجاء في فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والافتاء بالمملكة العربية السعودية: "إذا خالف مسلم حكما ثابتا بنص صريح من الكتاب أو السنة لايقبل التأويل ولا مجال فيه للاجتهاد أو خالف إجماعا قطعيا ثابتا بين له الصواب في الحكم فإن قبل فالحمد لله.
وإن أبى بعد البيان وإقامة الحجة وأصر على تغيير حكم الله حكم بكفره وعومل معاملةالمرتد عن دين الإسلام. وإذا خالف حكما ثابتا بدليل مختلف في ثبوته أو قابل للتأويل بمعان مختلفة وأحكام متقابلة فخلافه في مسالة اجتهادية، فلا يكفر في ذلك من اخطأ ويؤجر على اجتهاده"(3).
هل يشترط قصد الكفر في المتأول المخطى حتى يكون كافرا؟
__________
(1) المرجع السابق ص 324-325.
(2) نشر البنود 1/264.
(3) الدويش: أحمد بن عبد الرزاق، فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والافتاء ص2/40(3/28)
إن المتأول قد يكفر إذا أخطأ وأصر على خطئه حتى ولو لم يقصد الخروج من الإسلام بتأويله، والدليل عليه هو الخوارج فكفرهم أتى من جهة تأولهم كفر علي والصحابة واستحلال دمائهم مع انهم كانوا أبغض الناس للكفر وأحرص الناس على الطاعة حتى لقد قال فيهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - تحقرون صلاتكم إلى صلاتهم وصيامكم إلى صيامهم. فقد كفروا مع انه لم يتوفر لديهم قصد الكفر.
قال ابن حجر ناقلاً عن ابن العربي - بعد أن ذكر الخلاف في كفرهم - : الصحيح أنهم كفار لقوله - صلى الله عليه وسلم - { يمرقون من الإسلام } ولقوله { لأقتلنهم قتل عاد } وفي لفظ " ثمود " وكل منهما إنما هلك بالكفر وبقوله " هم شر الخلق " ولا يوصف بذلك إلا الكفار، ولحكمهم على كل من خالف معتقدهم بالكفر والتخليد في النار، فكانوا هم أحق بالكفر منهم.
قال ابن حجر: وممن جنح إليه من أئمة المتأخرين الشيخ تقي الدين السبكي ثم قال: ولا ينجيهم اعتقاد الإسلام إجمالا والعمل بالواجبات عن الحكم بكفرهم كما لا ينجي الساجد للصنم ذلك.
ونقل عن الطبري في تهذيب الآثار قوله في كفر الخوارج: فيه الرد على قول من قال لا يخرج أحد من الإسلام من أهل القبلة بعد استحقاقه حكمه إلا بقصد الخروج منه عالما. فإنه مبطل لقوله في الحديث { يقولون الحق ويقرءون القرآن ويمرقون من الإسلام لا يتعلقون منه بشيء } ومن المعلوم أنهم لم يرتكبوا استحلال دماء المسلمين وأموالهم إلا بخطأ منهم فيما تأولوه من آي القرآن على غير المراد منه. ونقل عن القاضي عياض قوله ":.. كذا نقطع بكفر كل من قال قولا يتوصل به الى تضليل الأمة أو تكفير الصحابة. الى أن قال ابن حجر:" .. وفيه أن من المسلمين من يخرج من الدين من غير أن يقصد الخروج منه ومن غير أن يختار دينا على دين الإسلام(1).
__________
(1) فتح الباري 12/314.(3/29)
وكان ممن ارتد من العرب بعد وفاة الرسول - صلى الله عليه وسلم - صنف استمروا على الإسلام لكنهم جحدوا الزكاة وتأولوا بأنها خاصة بزمن النبي - صلى الله عليه وسلم -(1). وقد ذكر النووي في التقريب فيمن ترد روايته: من كفر ببدعته قال السيوطي في شرحه.. والمعتمدأن الذي ترد روايته هو من أنكر أمرا متواترا من الشرع معلوما من الدين بالضرورة أو اعتقد عكسه(2).
وخلاصة القول في حكم المتأول المخطئ:
1. أن تأويله إذا كان له وجه في اللغة سائغ أو دلت عليه القرائن وظاهر الحال، فإن صاحبه معذور غير آثم، وإن كان تأويله خطأ في نفس الأمر.
2. أنه آثم موزور إن تكلف التأويل بدون مسوغ من اللغة أو قرائن الحال.
3. أنه قد يكفر إذا تأول النصوص بما يؤدي إلى استحلال المحرمات المتواترة أو إنكار الواجبات المتواترة والتي لا يعذر بجهلها أمثاله.
4. أن الأقوال المبتدعة المحرمة المتضمنة إثبات ما نفاه النص أو نفي ما اثبته أو الأمر بما نهى عنه أو النهي عما أمر به يثبت لها الوعيد الثابت بالنصوص ويقال فيها: من قال بها فهو كافر مطلقا من غير تعيين.
5. وأن هذا التوقف في حكم المعين بالنسبة إلى أمر الآخرة لا يمنعنا من إجراء أحكام الدنيا عليه من استتابته، فإن تاب و إلا قتل.
6. أنه لا يشترط في المتأول المخطئ في القطعيات قصد الخروج من الإسلام بل قد يكفر ويخرج من الملة دون قصد منه، مع اعتقاده في الإسلام إجمالا.
__________
(1) نفس المصدر 12/388.
(2) السيوطي جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر: تدريب الراوي في شرح تقريب النووي 1/324.(3/30)
فإذا ما استصحبنا هذه الحقائق عند النظر في حكم المتأولين المعاصرين وجدنا أن تأويلهم لم يكن له دليل سائغ من اللغة أو قرائن الحال بل كان محض لعب كما بيناه في مواضعه، وأن تأويلهم كله أفضى إلى استحلال محرمات متواترة كالسفور والاختلاط وتحكيم القوانين الوضعية والتسليم بشرعية السلطات القائمة عليها واستحلال الربا. كما أوصلتهم إلى إنكار الواجبات المتواترة كوجوب اعتقاد أن القرآن من عند الله لفظه ومعناه، وأنه حجة دائمة إلى قيام الساعة، وكذلك وجوب حجية السنة في شؤون الدنيا والحياة ووجوب اعتقاد حجية أصل الإجماع وحرمة ردة المسلم وعدم مساواته – بأهل الذمة – ووجوب اعتقاد كفر اليهود والنصارى.
وقد نقلنا فتوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والافتاء بالمملكة العربية السعودية في كفر من اعتقد بإسلام اليهود والنصارى على ما هم عليه الآن.
ونقلنا قول صاحب كشف الأسرار بكفر من أنكر أصل الإجماع، وقول ابن تيمية والجويني قبله بكفر من استحل الأمر المجمع على تحريمه المعلوم من الدين بالضرورة وقول الشيخ محمود شاكر فيمن سوغ الحكم بغير ما أنزل الله أنه حكم الجاحد لحكم من أحكام الله أن يستتاب، فإن أصر وكابر وجحد حكم الله ورضي بتبديل الأحكام، فحكم الكافر المصر على كفره.(3/31)
وعليه فإن من تأول إسلام اليهود و النصارى أو تاريخية القرآن أو بشريته أو عدم حجية السنة في أمور الدنيا أو أنكر أصل الإجماع، أو بعض الأمور المجمع على تحريمها، أو رد النصوص بتعليلات عقلية، او ساوى مطلقا بين المسلمين وأهل الذمة، وأنكر حكم الجزية، ونفى وجوب الحجاب وحرمة السفور، أو أجاز الحكم بالقوانين الوضعية أو سلم بشرعية أي نظام سياسي يقوم عليها، أو أنكر وجوب الجهاد ضدها، أو استحلال الربا، فمقولته وتأويله كفر. وقائله كافر كائنا من كان، إلا أننا لا نشهد عليه بعينه أنه كافر. ويحكم بكفره لتأويله الأمور القطعية المعلومة من الدين بالضرورة، وإن لم يقصد الخروج من الإسلام.
والواجب على إمام المسلمين – لو وجد – أن يبين لهم شبهتهم، فإن أصروا عليها بعد البيان استتيبوا، فإن تابوا وإلا قتلوا كما فعل عمر مع قدامة بن عبد الله. وذلك لأنه لو كان مجرد وجود شبهة التأويل مانعا من الحكم بالكفر لما وجدنا سبيلا إلى الحكم بكفر الباطنية الذين أبطلوا ظواهر الشرع وحملوها على معان ورموز باطلة. بل حكم الأئمة بكفرهم، وأقاموا حد الردة عليهم كالقائلين بالحلول والاتحاد.ولم يمنع من ذلك وجود شبهة التأويل لديهم.
الخاتمة
بعد هذه الرحلة الشاقة في بطون كتب التراث، ومصنفات أهل الأصول، وبعد هذا العناء الشديد في ملاحقة دعاوى المؤولين المعاصرين قراءة وتحليلا، واستكناها وتفسيرا، تراكمت لدي قناعات كانت هي نتاج هذا البحث وخلاصته وهي:
1. أن التأويل والتفسير هما في النهاية بمعنى واحد، وهو قول الطبري – رحمه الله – لأن التأويل هو تفسير وإيضاح لمعنى النص بدليل.
2. أن التأويل بضوابطه وقواعده التي فصلناها مشروع، بل متوجب أحيانا إن وجد دليل يحتمه. وقد مارسه الصحابة الكرام في عهده - صلى الله عليه وسلم - وبعد وفاته، وكذلك التابعون.(3/32)
3. أن اجتهادات عمر رضي الله عنه لم تكن تعطيلا للنصوص، ولا توقيفا مؤقتا ولا دائما لفاعليتها، كما زعم المؤولون، بل كانت تأويلا حسنا مسوغا عبرت عن فقه دقيق اتسم به عمر والصحابة الكرام الذين أجمعوا معه على كل اجتهاد منها.
وهذا التأويل كان مستندا في كل مسألة منها إلى دليل شرعي أو جملة أدلة شرعية، إما نص من الكتاب أو السنة بالإضافة إلى إجماع الصحابة، وإما قاعدة شرعية معتبرة دلت عليها نصوص لا تحصر، وإما نظر إلى مآل فعل دلت النصوص- لا مجرد التعليل المصلحي العقلاني - على اعتباره أو إلغائه. وإما تعزير، أو تقييد للمباح، وغير ذلك مما هو من حقوق الإمام في سياسة ورعاية شؤون رعيته.
4. أن التأويل هو نوع من أنواع الاجتهاد بل يمثل ذروة الاجتهاد الفقهي، ولذلك فلا يجوز شرعا أن يتصدى له، أويمارسه إلا من امتلك ناصية الاجتهاد وكان من أهل الترجيح.
فإذا أقدم عليه من لم يتوفر على آلة الاجتهاد والترجيح، فاجتهاده باطل مردود. ولو أصاب، لأنه صادر عن غير ذي صفة.
5. بما أن التأويل خلاف الأصل، فلا يجوز إجراؤه إلا بدليل شرعي معتبر راجح على الظاهر. فإذا أجري بغير دليل كان لعبا في الدين وسعيا لإبطال الشريعة.
6. والدليل المسوغ للتأويل إما نص من القرآن أو السنة أو إجماع أو قياس علته منصوصة، أو قاعدة شرعية، أو مصلحة معتبرة دلت على اعتبارها نصوص شرعية.
7. فأما تأويل النص بالإجماع فهو تأويل بالنص الذي كشف عنه الإجماع لا بالإجماع ذاته.
8. والتأويل بالقياس لا يكون إلا إذا كانت العلة منصوصة – ثابتة بالنص – لأن ظاهر اللفظ لا يزيله إلا نص مثله، ولأن من شأن تأويل النصوص بالعلل العقلية المجردة إبطال النصوص.(3/33)
9. أن ما جاء عن الأصوليين في التأويل بالعقل والحس هو تجوز، لأن المعنى المؤول هنا غير داخل في الخطاب أصلا، حتى يكون خروجه منه بدلالة أحدهما تأويلا، ولأن اللفظ يعم ما يشمله في عرف المتخاطبين زمن الخطاب لا بحسب ما تدل عليه اللغة، وهو ما دعاه الشاطبي بالعموم العادي.
10. التأويل بدليل حكمة التشريع لا يجوز إلا إذا كانت حكمة التشريع ثابتة ظاهرة منضبطة – غير مضطربة ولا خفية – بحيث تكون هي والعلة سواء، وأن التعليل بها لا يجوز أن يكون ذريعة إلى إبطال النصوص وتعطيلها، لأن استنباط العلة أو الحكمة من الحكم إذا كان موجبا إلى رفع الحكم، فالعلة باطلة والاستنباط باطل لأن الفرع لا يعود على أصله بالإبطال.
11. التأويل بدليل القواعد الفقهية ينبني على القول بحجيتها، والصحيح انها حجة شرعية لأن طريق ثبوتها إما النص أو الإجماع أو الاستقراء، ولذلك يجوز تأويل النصوص بها.
12. إن عبارات الفقهاء وأمثلتهم وقواعدهم التي ساقوها كدليل على اعتبار العرف وتخصيصه للألفاظ والنصوص، وتغير الأحكام تبعا لتغير ذلك العرف تدور كلها عن ألفاظ ونصوص المكلفين وعقودهم كالوصية والإقرار والوقف والطلاق .. الخ.
فتحمل ألفاظ المكلفين فيها على أعرافهم، ويكون الحكم بحسب ما تعنيه تلك الألفاظ في عرف أولئك الناس وبيئتهم، وبالتالي يختلف الحكم المترتب على ألفاظهم ونصوصهم حسب اختلاف أعرافهم وأمكنتهم و أزمنتهم وبيئتهم، وهو ما يعرف عند الأصوليين بتحقيق المناط، وهو مرادهم بالقاعدة: لا ينكر تغير الأحكام بتغير الزمان والمكان والعوائد والنيات والأحوال.
13. أما نصوص الشرع من القرآن والسنة فإنها تنزل على الواقع – العرف القولي والعملي- الذي كان سائدا وقت نزولها فقط، وأنه لم يقل أحد من علماء المسلمين أن نصوص الشرع تحمل على الأعراف الحادثة المتجددة بعد انقضاء عصر النبوة، أو تفسر بحسبها.(3/34)
14. وهذا يبين سبب الخلط والتحريف والتأويل الباطل الذي يقع فيه كثير من الكتاب أدعياء الاجتهاد، حين يحملون كلام العلماء وقواعدهم في اعتبار العرف وتغير الفتاوى بحسبه على النصوص الشرعية من القرآن والسنة، والتي تحمل فقط على عرف العرب وعادتهم في الخطاب وقت نزول التشريع بلا خلاف.
15. المصالح بمعنى اتخاذ التدابير والسياسات اللازمة لحل مشاكل الناس هي من المباحات، وليست هي محل الإشكال في الجدل الدائر حول حجية المصالح كدليل شرعي.
16. وإنما الإشكال هو فيما عارض من المصالح نصا شرعيا معينا أو قاعدة شرعية أو حول تأويل النصوص الشرعية بالمصالح عند التعارض.
17. ليس هناك مصالح مرسلة بالمعنى المطلق للإرسال، وما يسمى بالمصالح المرسلة " هي في الحقيقة مصالح معتبرة، لكن الذي دل على اعتبارها ليس نصٌ جزئيٌ واحداٌ بل نصوص كثيرة غير محصورة.
18. فيكون تأويل النصوص بالمصالح إذن هو من باب الترجيح الأصولي بسبب تحقق التعارض بين قضية كلية – المصالح الثابتة بدلالة النصوص غير المحصورة – وقضية جزئية – نص معين، ويشترط في هذه المصلحة أن تكون ضرورية قطعية كلية لا تعارض مقصود الشرع، راجحة على المصلحة المتحققة من تطبيق النص الجزئي.
19. أن مفاهيم " المصالح العامة" و" مقاصد الشريعة " و " وأصول الشريعة " و" كليات الشريعة " وقواعد الشريعة"، كلها مصطلحات تحمل ذات المضامين، وما هي إلا عبارات مختلفة لشيء واحد وهو المعنى الذي دل عليه نصوص جزئية عديدة وتواردت على تأكيده أو نفيه، حتى رفعته إلى درجة التواتر المعنوي، فاكتسب وصف القطعية، ولذلك كان التأويل بدليل القواعد الفقهية هو تأويل بدليل المصالح ذاتها، لأن القواعد الفقهية تمثل مصالح عامة.(3/35)
20. إن سبيل إدراك هذه المعاني " المصالح – المقاصد – الأصول – القواعد – الكليات ) ليس هو العقل المجرد، وإنما يكون بالنظر في نصوص الشريعة الجزئية من قرآن وسنة، فإذا تواردت على تأكيد معنى معين أو نفيه كان ذلك المعنى مصلحة عامة ومقصدا من مقاصد الشريعة واصلا من أصولها وقاعدة من قواعدها.
21. وعليه فيشترط لاعتبار هذه المقاصد:
- أن تكون ثابتة بالقطع أو بظن قريب من القطع.
- أن تكون ظاهرة واضحة يتفق عليها العلماء، ولا تلتبس بغيرها من المعاني.
- أن تكون منضبطة المعالم بحيث تكون معلومة بحدود لا تتجاوزها، ولا تقصر عنها.
- أن تكون مضطردة بحيث لا تختلف باختلاف الأمكنة والأزمنة والأحوال والأشخاص.
- وأنه إذا اختل أحد هذه الأوصاف والضوابط لم يعد ذلك المعنى صالحا لاعتباره مقصدا من مقاصد الشريعة.
22. أن مقصود الشارع يتبين من لفظه،لا مما يظن المتأول أنه مراد الشارع وقصده، لأن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانوا يعرفون قصده من ظاهر لفظه، ويكتفون به، ولا يميلون إلى غيره.
23. وإن من رام مخالفة قصد الشارع بإزالة ظاهر اللفظ بقياس فهو بحكم الراد للنص كما قال الجويني.
24. أن من الخطأ الفاحش اعتبار كليات الشريعة ومقاصدها وطرح جزئياتها أو العكس، لأن الكليات لم تدرك إلا بدلالة الجزئيات.
فإطراح الجزئيات إبطال للكليات. كما نص عليه الشاطبي.
25. إن المراد بالمصالح والمفاسد ما كان كذلك في نظر الشرع لا ما كان ملائما أو منافرا للطبع.
26. إن الأسباب المشروعة لا تؤدي بذاتها إلى مفسدة، وأن الأسباب الممنوعة لا تؤدي الى مصلحة.
27. إن المقاصد – كالعلل – لا تعتبر إذا عادت على أصلها بالإبطال.(3/36)
28. إن القول باستقلال العقل بإدراك المصالح أو المقاصد يلزم منه استقلاله بالتشريع، وهو باطل، لأنه مضاهاة للشارع، لأن التشريع لو كان من مدركات الخلق وعقولهم لم تنزل الشرائع أصلا، ولكان إرسال الرسل عبثا، وأن العقل إذا لم يكن متبعا للشرع لم يبق له إلا الهوى والشهوة، كما قال الشاطبي.
29. أنه قد تبين أنه ليس في نصوص العلماء كالشاطبي والعز بن عبد السلام وغيرهم أي مستمسك لأدعياء الاجتهاد والتأويل المعاصر الذين يبغون تغليب فقه المقاصد والمصالح والكليات " كما يزعمون على فقه الظواهر والنصوص، وكأن إدراك هذه المعاني خارج عن دائرة النصوص ودلالاتها.
30. وعليه فإن اجتزاء بعض عبارات هؤلاء الأئمة في المصالح والمقاصد من سياقاتها هو عين التحريف والتزوير مما ينافي الأمانة العلمية والموضوعية التي يتبجحون بها.
31. أن قول العلماء بأن الشريعة جاءت لمصالح العباد أمر متفق عليه، ولا يجادل في صحته أحد، إلا أن هذا شيء، وسبيل إدراك تلك المصالح وتحديدها شيء آخر ومسألة أخرى، وأنه لا يلزم من القول بأن الشريعة جاءت لمصالح العباد أن يكون سبيل إدراكها وتحديدها راجع للعقل والتقدير الشخصي فذلك ما لم يقل به أحد، ولله الحمد.
32. إن حقيقة النظر في مآلات الأفعال هي نظر إلى المصالح والمفاسد المترتبة على تلك الأفعال، ولذلك كان التأويل بدليل المصالح هو تأويل بدليل النظر في مآلات الأفعال.
33. بالنظر والتدقيق في تأويلات المعاصرين تبين لنا ما يلي:-
- أن الدوافع والبواعث على التأويل لم تكن أهدافا شرعية سامية، فلم يكن سبب التأويل هو تحقق التعارض الأصولي بين النصوص المؤولة ونصوص أخرى، بل كان جل همهم التوفيق بين مفاهيم الإسلام الثابتة وبين ما عارضها بشكل حاد من مفاهيم الفكر الغربي والحضارة الغربية الوافدة على كافة الصعد: الثقافية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية.(3/37)
- أن الأدلة المستخدمة التي ساقوها لتأييد دعاواهم لم تتعد نصوصا مجتزأة من سياقاتها، أخذت بمعزل عن النصوص الأخرى ذات الصلة بالموضوع، فكان تأويلهم تجسيدا فظا للإيمان ببعض الكتاب والكفر ببعضه الآخر.
وينسحب هذا التجزيئ على ما استدلوا به من قواعد فقهية نحو: قاعدة تغير الأحكام بتغير الأزمان، أو عبارات للفقهاء نحو قول ابن القيم: أينما تكون المصلحة فثم شرع الله.
ولم تتعد استدلالاتهم كذلك أحاديث ضعيفة أو مقولات باطلة لجأوا إليها- وهم من يردُّ النصوص القطعية – حين أعوزتهم النصوص الصحيحة التي تسند مقولاتهم، كقولهم عن أهل الذمة: لهم ما لنا وعليهم ما علينا وهو حديث لا أصل له كما بيناه.
- أن المعاني – الأحكام – التي خرجوا بها بالتأويل هي أحكام ثبت بطلانها بالكتاب والسنة وإجماع الصحابة والأمة كلها: مثل إسلام اليهود والنصارى الآن، أو حرية الاعتقاد أو حل ربا النسيئة ( الديون ).
- أن النصوص التي أولوها تدخل ضمن دائرة النصوص المفسرة المحكمة التي لا تقبل التأويل بحال من الأحوال بل هي إضافة إلى ذلك قطعية الثبوت والدلالة بل من المعلومة من الدين بالضرورة.
فلا يتصور وجود دليل في الشرع صارف لها عن أصلها. وذلك كالنصوص التي أفادت كفر اليهود والنصارى، وحرمة الربا، ووجوب الحكم بما أنزل الله وكفر تاركه، وأن شرعية أي نظام سياسي مرهونة بتطبيقه للشريعة، وإلا فهو نظام غير شرعي، لا يطاع في شيء، بل يجب الخروج عليه.
- أن خوضهم في تأويل النصوص القطعية المحكمة واستخدامهم أدلة واهية وخروجهم بأحكام باطلة إضافة إلى الدوافع والبواعث المشبوهة يجعل" اجتهادهم" باطلا لاغيا، ويدل بدون شك على أنهم ليسوا من أهل النظر والاجتهاد، وأن معالجتهم لهذه المسائل هو تقحم في المهالك واجتراء على دين الله وافتراء على رسوله وافتياتا على شريعته.(3/38)
- إن اشتراك والتقاء بعض "الإسلاميين" و "العلمانيين" في أكثر هذه التأويلات والطروحات –حتى صياغة العبارات– يثير علامة استفهام كبيرة على المرجعية التي يستقي منها المؤولون جميعا معارفهم، ويؤكد أنها تتدفق من " مستنقع واحد" وهو الثقافة الغربية".
- أن المؤولين المعاصرين فاقوا في معظم الأحيان ضلالات القدماء من الفلاسفة والمعتزلة والخوارج والشيعة. وخالفوهم فيما اتفقوا عليه جميعا، كقولهم بإسلام اليهود والنصارى وجواز الردة.
- وتأسيسا على أن منكر الحكم المجمع عليه المعلوم من الدين بالضرورة كافر بالإجماع، وبناء على أن كل المواضع التي أجروا فيها التأويل هي من هذا القبيل، فإنه لا ينبغي التوقف في الحكم على هذه التأويلات بأنها كفر واضح لاخفاء فيه ولا مداورة.
وأما بالنسبة إلى قائلها فهو كافر أيضا إن أصر عليها بعد قيام الحجة عليه وإزالة الشبهة عنه، إلا أنه لا يحكم عليه أنه من أهل النار لامكان التوبة قبل الموت، وهذا بين مما سقناه وفصلناه، وهو الذي قطع به شارح الطحاوية، وقال: هو قول أهل السنة.
- تميزت تأويلات المعاصرين بمعالم وملامح مثلت قاسما مشتركا بينهم جميعا منها: الانتقائية في الاستدلال، والتزوير في الاستنتاج والسطحية في الفهم، وغياب الموضوعية والأمانة العلمية، ( والتهكم والسخرية من التراث، وعلمائه مفسرين وفقهاء ومحدثين، والانهزامية أمام الفكر الغربي وحضارته وفلاسفته، والاعتداد بالعقل وتقديمه على النقل، والحرص على الظهور بمظهر الغيور على الدين، وادعاء الاجتهاد والتجديد، والتفاني في تأصيل المفاهيم الغربية كالديمقراطية وحرية الرأي والاعتقاد والتعددية السياسية والحزبية والمواطنة ... الخ.
كما اتسمت بالاستعلاء والتبجح والتعالم ومصادرة الآخرين. وغير ذلك مما يطول تتبعه.(3/39)
34. أن حركة التأويل الفاسد، والتأصيل لمفاهيم الحضارة الغربية ستستمر ما استمر الصراع بين الحق والباطل، بين وحي الرحمن ووحي الشيطان حتى يرث الله الأرض ومن عليها، إلا أنها لن تكتب لها الغلبة بإذنه تعالى، لأنها تعبر عن فكر نخبوي مضبوع بثقافة القرب لا عقيدة السواد الأعظم من المسلمين، وستدحر موجة التأويل هذه كما اندحر فكر أسلافهم المعتزلة والباطنية من قبل بإذنه تعالى.
تم بحمد الله
التوصيات
إن كان لي من توصيات انصح بها في هذا الموضوع فإني أوجهها إلى هؤلاء:
1. الى ورثة الأنبياء، أهل العلم الغيورين على دينهم من التحريف والتبديل، أن يتصدوا لموجة التحريف والتأصيل لمفاهيم الغرب التي يحمل لواءها كتاب ومفكرون وصحافيون وغيرهم، وأن يقولوا فيها قولا فصلا لا يخافون في الله لومة لائم، فتلك وظيفتهم الأولى ولهم في علمائنا السابقين سلف صالح حين تصدوا لمقولات الضلالة.
2. الى طلاب الدراسات العليا أن يركزوا دراساتهم ورسائلهم ويصبوا جهودهم في هذا الجانب الهام في الذود عن الدين والمنافحة عن الشريعة والكشف عن زيف الدعاوى المناوئة لها.
ويكون ذلك إما باستقراء التأويلات الفاسدة في موضوع معين بأدلتها والرد عليها، وإما بتتبع آراء كاتب اشتهر بالتأويل الفاسد مثل محمد عابد الجابري ومحمد أركون ونصر حامد أبي زيد ومحمد عمارة وفهمي هويدي وراشد الغنوشي وغيرهم ممن ذكرناهم وممن لم نذكرهم وتفنيدها.
3. كما وأوصي كل طالب للحق بأن يتمسك بمنهج السلف رضوان الله عليهم في الفهم والاستنباط، والذي وضحه وبينه العلماء الثقات رحمهم الله كالشافعي والجويني والشاطبي وغيرهم. وأن يعضوا عليها بالنواجذ ولا يلتفتوا إلى البهرج الزائف من دعوات تجديد أصول الفقه، واتهامه بالتعقيد، والعجز عن توليد فقه عصري مواكب لتطورات الحياة، كائنا من كان صاحبها.(3/40)
4. كما وأوصي أن يتخلص الدعاة وأهل العلم من عقدة النقص والانهزامية والشعور بالدونية أمام مفاهيم العلمانية التي طمت وعمت حتى حالت مما يحول دون جهرهم بالكفر بها، لمناقضتها أسس العقيدة الإسلامية ومحكمات الشريعة، وأنه لا مكان لاحترامها كحرية الاعتقاد والرأي والتعبير، والمواطنة التي أصبحت أوثانا تعبد من دون الله.
وأن يدعوا الإجابات الدبلوماسية، عندما يحرجهم العلمانيون ويطلبون رأيهم الصريح فيها، حتى يكون البلاغ مبينا تقوم به الحجة على الناس كما أراد الله، ولأن عدم الصراحة والوضوح في بيان حكمها أوقع طوائف لا تحصى من المسلمين في المعصية والأثم حتى لا نقول الكفر، حين آمنوا بمفاهيم الديمقراطية وحرية الاعتقاد والتعبير، وحين سلموا بشرعية الأنظمة والقوانين السائدة وشرعية الأنظمة التي تقوم عليها - وغير ذلك.
والله يقول الحق وهو يهدي السبيل، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
Summary
This research is considered very important as it concentrates on the most important issue in the history of the Islamic ideology formerly and recently. This issue is the relation between the rational method of thinking and the textual [transmitted] method [which depends on proofs taken from the book of Allah [Qur’an] and the Sunna of his messenger]. On the other hand, the role of the mind to understand the accurate meaning of the text according to rules of Islam. Also, it is the question that has been raised for consideration from the beginning of Islam untill now.(3/41)
The interpretation represents the most important ways that deals with the Islamic rules. So many people and so many schools of thoughts went astray because of the excess in interpretation beginning from time of Alkwarij, Almu’tazilah, Ash-Shi’ah, Almurji’ah and Albatiniyyah up to new schools of thought in the present time.
I explained the meaning of the interpretation as it is the diversion of its apparent and understandable meaning - supported by strong evidences and used to be understood by people - into unclear and ambiguous meaning supported by weak evidence. It is contrary to the origin where the true and clear meanings are used according to Lisan Al’arab Dictionary.
Interpretation may specify part of the whole [the common], limit the absolute matters, change the true and clear meaning from the truth into figurative expression, change the order from Wajib [compulsory] into Mandoub [recommended], [That is: Wajib means the performer is praised and the one who abstains from it is condemned; But Mandoub means the performer is praised and rewarded and the one who abstains is not condemned], and change the order from Haram [prohibited] into Mukruh [undersirable], [That is: Haram means the performer is condemned and punished, but Mukruh means the performer is not condemned and the one who abstains is preferable]. So, each type of interpretation may be near or far to understanding. It depends on the strength and the weakness of the interpretation proof.(3/42)
I made it clear that interpretation – according to the consensus of the Islamic jurist – needs certain conditions so as to be true and identical to the laws of Islam. Some of these conditions are: First the text [meaning] which is intended to be interpreted should be interpretable. This means that it should have more than one meaning. But if it only has one meaning, interpretation isn’t permissible in any way because the true meaning of the text will be changed into another. Consequently, it would be false and rejected [inadmissible].(3/43)
Next the interpreter should be Mujtahid [a person who has full knowledge of the Arabic Language. The Holy Kur’an, the Prophetic tradition, and the Islamic divine laws; and then has the ability to deduce new laws for new situations and issues through the Islamic rule and presenting clearly the verdict of Islam concerning them. He also should fulfill the capacity of Al-Ijtihad [Doing one’s utmost best and having the ability to deduce new laws for new situations and issues from the Islamic laws; and should have the ability to give preponderance to certain issue over another [especially the weak and the strong evidences] in accordance with the Islamic laws. This is the fact of the interpretation. If it is done by a person who doesn’t have the capacity of Al-Fjtihad, it would be false and inadmissible because it is done by incapacitated person. Another condition of interpretation is that the weak and the undear meaning or evidence, which the text is intended to be interpreted upon, should be legally accepted – according to the laws of Islam – and shouldn’t contradict another meaning [text] similar or stronger than it in the stregth of evidence. But if this meaning contradicts an Islamic rule which is similar to or stronger that it in respect to the strength of the legitimate proof, The interpretation is considered false and rejected. But, what would you say if it contradicts very many definite evidences or definite Islamic divine rules ratified and agreed upon? Moreover this condition requires another condition; that is, the interpretation is associated with an evidence that(3/44)
strengthens the weak meaning and makes it stronger than the apparent meaning. But if the weak meaning lacks strength for evidence and it is equal to the proof of that strong and apparent meaning or it isn’t considered a legitimate evidence, The interpretation is also false and inadmissable. This evidence may be a text from the Holy Kur’an, the Sunna of the Messenger of Allah and Alijma’ [which is the consensus of the jurists of the Islamic nation on certain legal matters and issues that occure through the ages in different places]; or it may be a reasoning comparison [comparing a present issue with a previous one that has reasoning Islamic rule], or an Islamic rule confirmed by legal evidences, or ristricted and apparent legitimate interest promoted to the level of the reasoning legitimate evidence.
If the interpretation doesn’t have strong legal proof, it will be doubts, suspicions, illusions, weak traditions, and imagined and claimed general hints as most of the interpretations today. Accordingly, It will be slander to faith and inventions against the Islamic divine laws.(3/45)
I threw light upon all the subjects concerning with interpretation and which the contemporaneous interpreters concentrated their efforts on and I dealt with them thoroughly by giving explanations, analyzing and refuting some of them and showing their falsehood. These subjects are included in the circle of conclusively proven matters and axioms; that is, these matters are definite and not open to doubts because they have only one meaning and so there is no room for disagreement or giving interpretations, such as the disbelief of Christians and Jews, considering the Sunna of the Massenger of Allah as a legal evidence in all the life’s affairs and the rules of transactions, considering Alijtihad a legal evidence, the pohibition of unbelief and postasy [abandonment of Islam], the prohibition of common citizenship on bases other than Islam, the illegality of any political system not ristricted to the laws of Islam in all the life’s affairs and such as the prohibition of usury and all its types especially the usury of excellence [the selling of the one kind in what the usury is current in it by excellence as the selling of one measure of dates with a measure and a half of dates] and the credit usury [loan with interest].(3/46)
I showed that the evidences used by those charged with authority and officials are not more than illiusions, suspicions, doubts and imaginations. Most of them don’t practise the laws of Islam and aren’t aquatinted with them; and they also don’t fulfill the capacity of Alijtihad in a problem matter. So, they can’t practise Ijtihad or give interpretations in any way. Besides, I demonstrated that the interpretations and the rules which they deduced are false because they contradict the fundamentals of Islam [The conclusively proven matters].
I indicated that the motive to such interpretations by those in power and some Muslim philosophers is their strong desire and endeavour to reconcile between the ideology of Islam and its rules and the Western Ideology including its rules and values, especially the principles of the Industrial Revolution on which the Western Civilization was built upon.
I pointed out that these trials to reconcilement express on the ideological and psychological failure and frustration which should be disdained by those who consider their ideology a source of pride.(3/47)
I made it apparent that the aim of the interpretation was not for making fundamental contradiction among the legitimate evidences – which requires preponderance or interpretation by specifing part of the whole or limiting the absolute; and which is the only legitimate justification for interpretation. But this contradiction happened when some Muslim philosophers were affected by the western culture and endevored to establish that culture firmly and to reconcile it with Islam [In short, to baptize that culture with the Islamic baptism].
Finally, I demonstrated that the interpretation of the fundamentals of Islam and its laws [conclosively proven matters] is an abolition and obliteration of the Islamic rules. Such interpretation is not permissible in any way because it is clear disbelief. Here, the interpretor is considered apostate [the one abandons the religion of Islam to another religion]. The judgement of the apostate is to be called to the return back to Islam and he is to regain. If he returns back to Islam and repents, or else he is killed.
I ask Allah the most Gracious, The most merciful to show us the straight way. This is for me and true knowledge is with Allah. I have full trust in Him and turn to Him for true guidance.
فهرس المصادر والمراجع
( أ )
1. القرآن الكريم
2. إبراهيم: د. سعد الدين، الصحوة الإسلامية وهموم الوطن العربي- أعمال ندوة – ط2،1997، منتذى الفكر العربي- عمان.
3. أبو عمر:عمر محمود،الجهاد والاجتهاد – تأملات في المنهج ط1،1999،دار البيارق، عمان.
4. أبو يوسف: القاضي أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم، الخراج، 1976م، دار المعرفة بيروت.(3/48)
5. أحمد بن محمد بن حنبل: المسند بتصحيح وشرح الشيخ أحمد محمد شاكر، مكتبة التراث الإسلامي القاهرة، المكتب الإسلامي ط2، 1978،بيروت.
6. أركون : د. محمد،
- الفكر الإسلامي، قراءة علمية،ترجمة هاشم صالح ط2،1996مركز الإنماء القومي،بيروت.
الفكر الإسلامي نقد واجتهاد، ترجمة هاشم صالح ط3، 1998م، دار الساقي.
7. الأشقر: د. عمر سليمان، حكم المشاركة في الوزارة والمجالس النيابية،ط1/1992م، دار النفائس ، عمان.
8. الأشقر: د. محمد سليمان، أفعال الرسول - صلى الله عليه وسلم - ودلالتها على الأحكام الشرعية، ط1، 1978م، مكتبة المنار الإسلامية – الكويت.
9. الألباني: محمد ناصر الدين،
- إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل، ط2/1985، المكتب الإسلامي- بيروت، دمشق.
- جلباب المرأة المسلمة، 1413هـ، المكتبة لإسلامية – عمان.
- سلسلة الأحاديث الصحيحة وشيء من فقهها وفوائدها، ط 1995م، مكتبة المعارف، الرياض.
- سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة وأثرها السيئ في الأمة، ط5/1992، ط2،1988 – مكتبة المعارف- الرياض.
- ضعيف سنن أبي داود – ط1/1991، المكتب الإسلامي – بيروت – دمشق، عمان.
10. الآلوسي: أبو الفضل شهاب الدين السيد محمود البغدادي، روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، 1978، دار الفكر، بيروت.
11. الآمدي: سيف الدين أبو الحسن علي بن أبي علي ابن محمد، الإحكام في أصول الأحكام، 1980، دار الكتب العلمية، بيروت.
12. أمير باد شاه: محمد أمين، تيسير التحرير، دار الكتب العلمية بيروت ن ط ن ن.
13. أمين: أحمد، فجر الإسلام، مكتبة النهضة.
14. الأيوبي: محمد هشام، الاجتهاد ومقتضيات العصر، دار الفكر، عمان.
( ب )
15. ابن باز: عبد العزيز بن عبد الله، مجموع فتاوى ومقالات متنوعة، ط1،مجموع فتاوى ومقالات متنوعة، ط1، 1420هـ، دار القاسم، الرياض.(3/49)
16. البخاري: أبو عبد الله محمد بن إسماعيل، صحيح البخاري (بشرح العسقلاني)، ط2، 1988، دار الريان للتراث، القاهرة.
17. البخاري: علاء الدين عبد العزيز بن احمد، كشف الأسرار عن أصول فخر الإسلام البزدوي، ضبط وتعليق وتخريج محمد المعتصم بالله البغدادي، ط3،1997م، دار الكتاب العربي بيروت.
18. البراك: عبد الملك، ردود على أباطيل وشبهات حول الجهاد، ط1 1997م، النور للإعلام الإسلامي، الدانمارك.
19. البزرنجي: عبد اللطيف عبد الله عزيز، التعارض والترجيح بين الأدلة الشرعية ط1، 1993م دار الكتب العلمية بيروت.
20. البسيوني: عبد السلام:
- العقلانية هداية أم غواية، ط 1992م، دار الوفاء المنصورة، مصر.
- وهل في الإسلام حرية للرأي ط1، 1994م مكتبة الأقصى، الدوحة، قطر.
21. البغدادي: أبو منصور عبد القاهر بن طاهر التميمي، أصول الدين، ط2،1980م، بيروت.
22. البغدادي: الخطيب أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت،
- الفقيه والمتفقه، ط2،1980م، دار الكتب العلمية – بيروت.
- شرف أصحاب الحديث، تحقيق عمر عبد المنعم سليم، ط1، 1996م. مكتبة ابن تيمية.
23. البنا: جمال، حرية الاعتقاد في الإسلام، ط2، 1981 المكتب الإسلامي، بيروت.
24. البهنساوي: المستشار سالم،
- الحكم وقضية تكفير المسلم ط3، 1985م. دار البحوث العلمية، الكويت.
- السنة المفترى عليها، ط3، 1989م، دار الوفاء، القاهرة.
25. البورنو: محمد صدقي بن أحمد، موسوعة القواعد الفقهية، ط2، 1997، مكتبة التوبة – الرياض.
26. البوطي: محمد سعيد رمضان،
- الجهاد في الإسلام كيف نفهمه وكيف نمارسه، 1992، دار الفكر، دمشق.
- ضوابط المصلحة في الشريعة الإسلامية، ط2، 1977، مؤسسة الرسالة، بيروت.
27. البيهقي: أبو بكر أحمد بن الحسين بن علي، السنن الكبرى تحقيق محمد عبد القادر عطا، ط1،1994، دار الكتب العلمية.(3/50)
28. بدوي: د عبد الرحمن، دفاع عن القرآن ضد منتقديه، ترجمة كمال جاد الله – الدار العالمية للكتب والنشر.
29. بلحاج: أبو عبد الفتاح علي،
- الدمغة القوية لنسف عقيدة الديمقراطية.
- فصل الكلام في مواجهة ظلم الحكام، ن،ط.
30. بن نبي: مالك، الظاهرة القرآنية، ط4، 1987، دار الفكر دمشق.
31. بهنسي: د. أحمد فتحي، العقوبة في الفقه الإسلامي، ط5، 1983م، دار الشروق – بيروت.
( ت )
32. الترابي: د. حسن، تجديد الفكر الإسلامي، ط3، 1993.
33. الترمذي: أبو عيسى محمد بن عيسى بن سورة، سنن الترمذي، تحقيق وشرح أحمد شاكر، ط2، 1987م، طبعة الحلبي، مصر.
34. ابن تيميه: تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيميه،
- مجموع الفتاوى الكبرى، جمع وترتيب عبد الرحمن بن محمد بن قاسم.
_ المسودة في أصول الفقه، تحقيق وتعليق محمد محيي الدين عبد الحميد، دار الكتاب العربي بيروت.
( ج )
35. الجابري: د. محمد عابد، التراث والحداثة – دراسات ومناقشات ط2/1999م، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت.
36. جارودي: روجيه:
- الإسلام الحي، ترجمة دلال بواب ضاهر ط1 بالعربية، 1995، دار البيروني – بيروت.
- الإسلام في الغرب ( قرطبة عاصمة الروح والفكر)، ترجمة محمد مهدي الصدر، ط1/1991 دار الهادي، بيروت.
37. جاويش: عبد العزيز، الإسلام دين الفطرة والحرية، دار الهلال عدد 390/1983.
38. الجرجاني: علي بن محمد بن علي، التعريفات، 1978، مكتبة لبنان.
39. ابن جزيء: أبو القاسم محمد بن أحمد الكلبي الغرناطي، القوانين الفقهية، دار القلم، بيروت.
40. ابن الجوزي: أبو الفرج جمال الدين عبد الرحمن بن علي بن محمد ، زاد المسير في علم التفسير، ط4، 1987، المكتب الإسلامي، بيروت.
41. الجصاص: حجة الإسلام أبو بكر أحمد بن علي الرازي، أحكام القرآن، طبعة مصورة عن، طبعة الأوقاف الإسلامية في دار الخلافة العلية، 1335هـ ، دار الكتاب العربي بيروت.(3/51)
42. الجعبري: أبو إسحاق برهان الدين إبراهيم بن عمر، رسوخ الأحبار في منسوخ الأخبار تحقيق ودراسة الدكتور حسن محمد مقبولي الأهدل، مؤسسة الكتب الثقافية، بيروت.
43. الجندي: أنور، إعادة النظر في كتابات العصريين، دار الاعتصام – القاهرة.
44. الجويني: إمام الحرمين عبد الملك بن عبد الله بن يوسف، البرهان في أصول الفقه، تحقيق وتقديم د. عبد العظيم الديب، ط1، 1399هـ.
( ح )
45. ابن الحاج: أبو عبد الله محمد بن محمد بن محمد، العبدري القبيلي الفاسي، المدخل، ط1، 1960، الحلبي – القاهرة.
46. حزب التحرير: مفاهيم خطرة لضرب الإسلام وتركيز الحضارة الغربية.
47.ابن حزم: أبو محمد علي بن عبد الرحمن بن أحمد بن سعيد،
- الإحكام في أصول الأحكام،
- الفصل في الملل والأهواء والنحل، دار الجيل بيروت
- المحلى بالآثار، تحقيق وتصحيح احمد شاكر، المكتب التجاري للطباعة والنشر للتوزيع، بيروت.
48. حسب الله: علي حسب الله، أصول التشريع الإسلامي، ط5، 1976، دار المعارف، مصر.
49. الحوالي: سفر بن عبد الرحمن، شرح " تحكيم القوانين"، ن،ط.
( خ )
50. الخالدي: د. صلاح عبد الفتاح، التفسير والتأويل في القرآن الكريم، ط1، 1996، دار النفائس – عمان.
51. الخالدي: د. محمود ، نقض النظام الديمقراطي ط1،1984، دار الجيل، بيروت.
52. ابن خزيمة: أبو بكر محمد بن إسحاق السلمي، صحيح ابن خزيمة تحقيق محمد مصطفى الأعظمي، ط2،1992.المكتب الإسلامي بيروت.
53. الخضري: محمد بن عبد العزيز بن أحمد، الإجماع في التفسير. ط1/1999م، دار الوطن، الرياض.
54. خليل: السيد احمد، دراسات في القرآن.
55. خميني: كشف الأسرار، ط2، دار عمار، عمان.
( د )
56. الداعور: محمد أحمد، رد على مفتريات حول حكم الربا وفوائد البنوك، ط1/1992م، دار النهضة الإسلامية، بيروت.
57. دراز: د. محمد عبد الله، النبأ العظيم، ط3، 1988، دار القلم، الكويت.(3/52)
58. الدرويش: عبد الله محمد، بغية الرائد في تحقيق مجمع الزوائد ومنبع الفوائد للهيثمي، 1994، دار الفكر، بيروت.
59. الدريني: د. فتحي،
- الحق ومدى سلطان الدولة في تقييده ط2، 1977م،مؤسسة الرسالة بيروت.
- المناهج الأصولية في الاجتهاد بالرأي في التشريع الإسلامي، ط2،1985م، الشركة المتحدة للتوزيع، دمشق.
60. الدهلوي: ولي الله، حجة الله البالغة، تحقيق ومراجعة السيد سابق، طبعة دار الكتب الحديثة، القاهرة.
61. الدويش: أحمد بن عبد الرزاق، فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء- ط1/1412هـ، 1991م، دار عالم الكتب، الرياض.
( ذ )
62. الذهبي: د. محمد حسين،التفسير والمفسرون، ط2 1976، دار الكتب الحديثة، مصر.
63. الذهبي: شمس الدين الذهبي، معرفة القراء الكبار على الطبقات والأعصار، تحقيق محمد سيد جاد الحق، ط1، دار الكتب الحديثة، القاهرة.
( ر )
64. الرازي: فخر الدين محمد بن عمر بن الحسين،
- عصمة الأنبياء، ط1-1990م المكتبة الشرقية.
- المحصول في أصول الفقه، ط1، 1988م، دار الكتب العلمية، بيروت.
- مفاتيح الغيب ط2، دار الكتب العلمية، طهران.
65. الراغب الأصفهاني: أبو القاسم الحسين بن محمد، المفردات في غريب القرآن،تحقيق محمد سيد كيلاني، 1961، مطبعة الحلبي.
66. الرامهرمزي: حسن بن عبد الرحمن، المحدث الفاصل بين الراوي والواعي، ط1، 1971، دار الفكر، بيروت.
67. الرباعي: د.عبد القادر، قطوف دانية مهداة الى ناصر الدين الأسد، ط1، 1997م، المؤسسة العربية للدراسات والنشر- بيروت.
68.ابن رجب: زين الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن شهاب الدين البغدادي، جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثا من جوامع الكلم، تحقيق وتقديم شعيب الأرناؤوط وإبراهيم باجس ط1، مؤسسة الرسالة، بيروت.
69. ابن رشد: أبو الوليد محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن رشد القرطبي، بداية المجتهد ونهاية المقتصد، ط4،1978م، دار المعرفة بيروت.(3/53)
70. رضا: محمد رشيد، تفسير القرآن الحكيم، المسمى بتفسير المنار، ط2، دار المعرفة، بيروت.
71. الرومي: د. فهد بن عبد الرحمن الدوحي،، اتجاهات التفسير في القرآن الرابع عشر الهجري، ط3، 1997، مؤسسة الرسالة، الرياض.
72. ريان: محمد رشيد أحمد، الحداثة والنص القرآني، رسالة ماجستير غير منشورة الجامعة، الأردنية، 1997م.
73. الريسوني: د. أحمد الريسوني، نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي، ط4، 1995، المعهد العالمي للفكر الإسلامي.
( ز )
74. الزحيلي: د. وهبة، الفقه الإسلامي وأدلته، ط2-1985، دار الفكر، دمشق.
75. الزرقا: مصطفى أحمد، المدخل الفقهي العام، دار الفكر، بيروت.
76. الزرقاني: محمد بن عبد العظيم، مناهل العرفان في علوم القرآن، دار إحياء الكتب العربية.
77. الزركشي: الإمام بدر الدين محمد بن عبد الله، البرهان في علوم القرآن، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، دار المعرفة بيروت.
78. الزعاترة: ياسر: حوار المرحلة مع الشيخ راشد الغنوشي، ط1، 1996م، منشورات فلسطين المسلمة.
79. زلوم: عبد القديم،
- الأموال في دولة الخلافة، ط1- 1983، دار العلم للملايين، بيروت.
الديمقراطية نظام كفر يحرم أخذها أو تطبيقها أو الدعوة إليها.
80.أبو زهرة: محمد
- أصول الفقه، دار الفكر العربي، القاهرة.
- تنظيم الإسلام للمجتمع، 1964، دار الفكر العربي، القاهرة.
- المجتمع الإنساني في ظل الإسلام، دار الفكر العربي، القاهرة.
81. زيدان: د.عبد الكريم،
- المدخل لدراسة الشريعة الإسلامية، ط9، 1986، مؤسسة الرسالة، بيروت.
- المفصل في أحكام الأسرة والبيت المسلم في الشريعة الإسلامية، ط3-1997. مؤسسة الرسالة، بيروت.
- الوجيز في أصول الفقه، ط2، 1978، مؤسسة الرسالة، بيروت.
82. الزيلعي: جمال الدين أبو محمد عبد الله بن يوسف الحنفي، نصب الراية لأحاديث الهداية، دار الحديث، القاهرة.(3/54)
83. الزين: سميح عاطف، الإسلام وأيدلوجية الإنسان، ط2-1987، دار الكتاب اللبناني، بيروت.
( س )
84. السجستاني: أبو داود سليمان بن أشعث، سنن أبي داود، تعليق عزت عبيد دعاس، نشر وتوزيع محمد علي السيد، حمص ن،ط.
85. السدلان: د. صالح بن غانم، أسباب الحكم بغير ما أنزل الله ونتائجه، ط4، 1419هـ، دار بلنسية، الرياض.
86. السرخسي: المبسوط، ط2/1998 دار المعرفة، بيروت.
87. السرخسي: شمس الدين أبو بكر محمد بن أحمد بن أبي سهم ، أصول السرخسي، تحقيق أبو الوفاء الأفغاني، دار المعرفة، بيروت.
88.ابن سلام: أبو عبيد القاسم، الأموال، تحقيق وتعليق محمد خليل هراس، 1988، دار الفكر، بيروت.
89. أبو سليمان: د.عبد الحميد، أزمة العقل المسلم، ط3،1994م، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، أمريكا.
90. ابن السمعاني: أبو المظفر منصور بن محمد، قواطع الأدلة في الأصول، تحقيق د.محمد حسن هيتو.ط1،1996،مؤسسة الرسالة، بيروت.
91. السنهوري: د. عبد الرزاق، مصادر الحق في الفقه الإسلامي – دراسة مقارنة بالفقه الغربي، منشورات محمد الراية- بيروت.
92. السهيلي: أبو القاسم عبد الرحمن بن عبد الله بن أحمد الحنفي، الروض الأنف في تفسير السيرة النبوية لإبن هشام، تعليق مجدي بن منصور بن سيد الشوري، ط1، 1997، دار الكتب العلمية، بيروت.
93. السيوطي: جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر: الإتقان في علوم القرآن، ط،1951، طبعة الحلبي.
94. سعيد بن منصور: سنن سعيد بن منصور، تحقيق الأستاذ حبيب الرحمن الأعظمي، دار الكتب العلمية – بيروت.
95. سلطان: جمال، تجديد الفكر الإسلامي، ط1،دار الوطن، الرياض.
( ش )
96. الشاطبي: أبو إسحاق إبراهيم بن موسى اللخمي،
- الاعتصام، دار الفكر – بيروت.
- الموافقات في أصول الشريعة، تعليق محمد عبد الله دراز.
97. الشافعي: محمد بن إدريس، مسند الشافعي، دار الكتب العلمية، بيروت.(3/55)
98. شاكر: أحمد محمد، عمدة التفسير، طبعة 1377هـ، 1957م، دار المعارف، مصر.
99. شاكر: كلمة الحق، تقديم عبد السلام هارون، ط2، 1408، مكتبة السنة، القاهرة.
100. الشبانة: عبد الله بن حمد، المسلمون وظاهرة الهزيمة النفسية ط3، 1997م، دار طيبة الرياض.
101. شحرور: د. محمد، الكتاب والقرآن- قراءة معاصرة ط2، 1990م، مطبعة الأهالي، دمشق.
102. الشنقيطي: سيدي عبد الله بن إبراهيم العلوي، نشر البنود على مراقي السعود ط1 – 1988م دار الكتب العلمية، بيروت.
103. الشنقيطي: محمد الأمين بن محمد بن المختار الجكني،
- أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، 1995م، دار الفكر، بيروت.
- مذكرة أصول الفقه على روضة الناظر لابن قدامة، دار القلم، بيروت.
104. شلتوت: محمود، الإسلام عقيدة وشريعة، دار الشروق ط4، 1968م، القاهرة.
105. أبو شهبة: د. محمد محمد، دفاع عن السنة، ط1، 1989م، مكتبة السنة، القاهرة.
106. الشواف: د. محامي محمد منير، تهافت القراءة المعاصرة، ط1 ، 1993، الشواف للنشر والدراسات.
107. الشوكاني: محمد بن علي:
- إرشاد الفحول الى تحقيق الحق من علم الأصول، ط1، دار الفكر، بيروت.
- السيل الجرار المتدفق على حدائق الأزهار، تحقيق محمود إبراهيم زايد، 1985م، دار الكتب العلمية، بيروت.
- فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير، ط2، 1964م، مطبعة الحلبي.
نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار من أحاديث سيد الأخيار، طبعة الحلبي القاهرة.
108.ابن أبي شيبة: الحافظ عبد الله بن محمد بن أبي شيبة الكوفي العبسي، المصنف في الأحاديث والآثار، تعليق الأستاذ سعيد اللحام، 1994م دار الفكر، بيروت.
109. الشيرازي: أبو إسحاق إبراهيم بن علي بن يوسف الفيروز أبادي الشيرازي، المهذب في فقه الإمام الشافعي، ط الحلبي 1943هـ.
( ص )
110. الصابوني د. محمد علي، روائع البيان تفسير آيات الأحكام، ط3، 1980م، مؤسسة مناهل العرفان، بيروت.(3/56)
112. الصالح: د. صبحي،
- مباحث في علوم القرآن، ط10، 1977، دار العلم للملايين.
- معالم الشريعة الإسلامية، ط3، 1980، دار العلم للملايين، بيروت.
113. صالح: حافظ، الديمقراطية وحكم الإسلام فيها، ط2، 1988م. دار النهضة الإسلامية – بيروت.
114. صبري: مصطفى صبري، موقف العقل والعلم والعالم من رب العالمين وعباده المرسلين، 1950، مكتبة الإيمان.
115. الصعيدي: الأستاذ عبد المتعال،
- الحرية الدينية في الإسلام، ط2، دار الفكر العربي، القاهرة
حرية الفكر في الإسلام ط2، دار الفكر العربي، القاهرة،.
116.ابن الصلاح: أبو عمرو عثمان بن عبد الرحمن الشهرزوري، _ علوم الحديث
(مقدمة علوم الحديث) تحقيق وشرح نور الدين عتر،1986،دار الفكر، دمشق.
- فتاوي ومسائل بن الصلاح في التفسير والحديث والأصول والفقه،تحقيق عبد المعطي أمين القلعجي، ط1،1986م، دار المعرفة، بيروت.
117. الصنعاني: أبو عبد الله محمد ابن إبراهيم المعروف بابن الوزير، الروض الباسم في الذب عن سنة أبي القاسم، تحقيق محمد علاء الدين المصرى، ط1، 1999م، دار الكتب العلمية، بيروت.
118. الصنعاني: الحافظ أبو بكر عبد الرزاق بن همام (المصنف)، تحقيق وتعليق حبيب الرحمن الأعظمي،ط1،1970 المكتبة الإسلامية، بيروت.
( ط )
119. الطاهر بن عاشور: المقاصد العامة في الشريعة الإسلامية، ط1، 1978- الشركة التونسية للتوزيع – تونس.
120. طاحون: د. أحمد رشاد، حرية العقيدة في الشريعة الإسلامية ط1، 1998م. ايتراك للنشر والتوزيع.
121. الطبرسي:أبو علي الفضل بن الحسن، مجمع البيان في تفسير القرآن،1994،دار الفكر، بيروت.
122. الطبري: أبو جعفر محمد بن جرير، جامع البيان عن تأويل آي القرآن، 1988م، دار الفكر، بيروت.
123. الطوفي: نجم الدين أبو الربيع سليمان بن عبد القوي بن عبد الكريم بن سعيد، شرح مختصر الروضة، تحقيق د. عبد بن عبد المحسن التركي، ط1، 1978، مؤسسة الرسالة، بيروت.(3/57)
124. طه: محمود محمد، الرسالة الثانية، ط5.
( ظ )
125. ظواهري: أيمن، الحصاد المر- الأخوان المسلمون في ستين عاما.
( ع )
126. عائشة عبد الرحمن: القرآن والتفسير العصري 1970م، دار المعارف، مصر.
ابن عابدين : محمد أمين الشهير بابن عابدين،
- رد المحتار على الدر المختار شرح تنوير الأبصار ( حاشية بن عابدين)، تحقيق الشيخ عادل أحمد عبد الموجود وعلي محمد معوض، ط1، 1994 دار الكتب العلمية، بيروت.
- نشر العرف فيما بُني من الأحكام على العرف،ضمن مجموعة رسائل بن عابدين، دار إحياء التراث العربي، بيروت.
127. عباس حسني محمد: الفقه الإسلامي آفاقه وتطوره، من سلسلة دعوة الحق، السنة الثانية، عدد 10، محرم 1402هـ.
128. عبد الحكيم: عمر عبد الحكيم، الثورة الجهادية الإسلامية في سورية.
129. ابن عبد الشكور: محب الدين، فواتح الرحموت بشرح مسلم الثبوت في أصول الفقه بذيل المستصفى، ط بولاق 1322 هـ.
130. عبد الرحمن: د. عبد الهادي، سلطة النص – قراءات في توظيف النص الديني، ط2، دار ابن سينا للنشر، بيروت،
131. عبد العزيز كامل: الإسلام والعصر،ضمن مجلة اقرأ عدد 359، دار المعارف، مصر.
132. عبد الغني: أبو محمد هانئ بن صالح، النقاب واجب، ط2، 1414هـ.
133. عثمان: د. محمد فتحي: أصول الفكر السياسي الإسلامي- دراسة لحقوق الإنسان ولوضع رئاسة الدولة ( الإمامة) في ضوء الشريعة الإسلامية وتراثه التاريخي والفقهي – ط1، 1979،مؤسسة الرسالة، بيروت.
134.ابن العربي: أبو بكر محمد بن عبد الله المعروف بابن العربي، أحكام القرآن – دار الفكر، بيروت.
135. العز بن عبد السلام: محمد عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام، قواعد الأحكام في مصالح الأنام، دار الكتب العلمية، بيروت.(3/58)
136. ابن أبي العز: علي بن علي بن أبي العز الدمشقي، شرح العقيدة الطحاوية، تحقيق وتعليق د. عبد الله بن عبد المحسن التركي وشعيب الأرناؤوط، ط1، 1988م، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط9، 1988، تحقيق الألباني، المكتب الإسلامي، بيروت
137. العسقلاني: أحمد بن علي بن حجر،فتح الباري بشرح صحيح البخاري، تحقيق عبد العزيز بن باز، ترقيم، محمد فؤاد عبد الباقي، ط2، 1988م، دار الريان للتراث، القاهرة.
138. عفانة: مهندس جواد، القرآن وأوهام القراءة المعاصرة، ط1، 1994، دار البشير، عمان.
139. العقاد: الشيخ الخواض، الاجتهاد والتجديد في الشريعة الإسلامية بين تأكيد الحقائق وتفنيد المزاعم، ط1، 1998- دار الجيل، بيروت.
140. العقاد: عباس محمود العقاد، موسوعة أعمال عباس محمود العقاد، ط3، 1986م، دار الكتاب اللبناني بيروت.
141. العك: الشيخ خالد عبد الرحمن، الفرقان والقرآن، قراءة علمية معاصرة ضمن الثوابت العلمية والضوابط المنهجية، ط1،1994، دار الحكمة، دمشق .
142. علي حرب: نقد النص، ط2، 1995م، المركز الثقافي العربي، بيروت.
143. عمارة: د.محمد،
- الإسلام والوحدة الوطنية، دار الهلال، مصر، عدد 338 ربيع أول 1978م.
- معالم المنهج الإسلامي، ط2، 1991، المعهد العالمي للفكر الإسلامي أمريكا.
- المعتزلة ومشكلة الحرية الإنسانية ط1،1972م،المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت.
- النص الإسلامي بين الاجتهاد والجمود والتاريخية،ط1،1998م، دار الفكر المعاصر بيروت.
144. العمري: وميض، فقه الإيمان، ط 1988،الموصل، الزهراء.
145. العوا: د. محمد سليم، أصول النظام الجنائي في الإسلام.
146. العودة: سلمان بن فهد، من يملك حق الاجتهاد، 1412هـ، دار الوطن،الرياض.
147. عودة: عبد القادر، التشريع الجنائي في الإسلام مقارنا بالقانون الوضعي، دار الكتاب العربي، بيروت، ن،ط،ن،ن.(3/59)
148. عوض: محمد عبد الرحمن، الإسلام والأديان، ضوابط التقريب بين البشر ومحاذير التقريب في العقيدة – دار البشير – القاهرة.
( غ )
149. الغزالي: أبو حامد محمد بن محمد،
- إحياء علوم الدين، 1997، مطبعة الحلبي، القاهرة.
- المستصفى من علم الأصول ط بولاق، 1322هـ، دار صادر، بيروت،ط1، مؤسسة
الرسالة – بيروت، 1997م، بتحقيق محمد سليمان الأشقر.
- محمد، هذا ديننا، ط2، 1965م، دار السعادة، مصر.
150. الغنوشي: راشد،
- الحريات العامة في الدولة الإسلامية، 1997،مركز الدراسات الوحدة العربية بيروت.
- حقوق المواطنة- حقوق غير المسلمين في المجتمع الإسلامي، تقديم د. طه جابر العلواني،
ط2، 1993، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، أمريكا.
( ف )
151.ابن فارس: أبو الحسين أحمد بن فارس بن زكريا، معجم المقاييس في اللغة، تحقيق شهاب الدين أبو عمرو، ط1،1994،دار الفكر، بيروت.
152. أبو فارس:د.محمد عبد القادر، المشاركة في الوزارة في الأنظمة الجاهلية ط1،1991م،عمان.
153. الفضلي: د. عبد الهادي، القراءات القرآنية تاريخ وتعريف ط3،1985، دار القلم، بيروت.
( ق )
154. القاسمي: محمد جمال الدين، محاسن التأويل ط 1957م، دار إحياء الكتب العربية، مصر.
155 .ابن قدامة: موفق الدين أبو محمد عبد الله بن أحمد، المغني والشرح الكبير،1972م، دار الكتاب العربي، بيروت.
156. القرافي: شهاب الدين أبو العباس الصنهاجي
- الأحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام وتصرفات القاضي والإمام، تحقيق الشيخ عبد الفتاح أبو غدة، ط2،1995م، بيروت.
- الفروق، دار المعرفة، بيروت.
157. القرضاوي: د.يوسف
- الاجتهاد في الشريعة الإسلامية:ط1،دار القلم، الكويت.
- السياسة الشرعية في ضوء نصوص الشريعة ومقاصدها، ط1،1998، مكتبة وهبة، القاهرة.
- عقوبة المرتد: جريمة الردة في ضوء الكتاب والسنة، 1996م، دار الفرقان، عمان.
- غير المسلمين في المجتمع الإسلامي، ط2، 1983، مؤسسة الرسالة- بيروت.(3/60)
- موقف الإسلام العقدي من كفر اليهود والنصارى، ط1، 1999 مكتبة وهبة، القاهرة.
158. القرطبي: أبو عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري، الجامع لأحكام القرآن، ط3، 1967، دار الكتاب العربي، مصر.
159. قرعوش: د. كايد يوسف محمد، طرق انتهاء ولاية الحكام في الشريعة الإسلامية، ط1،1987، مؤسسة الرسالة، بيروت.
160. قطب: سيد، في ظلال القرآن، ط10، 1981، دار الشروق، بيروت.
161. قلعجي: د. محمد رواس:
- موسوعة فقه إبراهيم النخعي، ط2، 1986، دار النفائس.
- موسوعة فقه سفيان الثوري، ط2، 1977، دار النفائس.
- موسوعة فقه عبد الله بن عباس، ط2، 1996، دار النفائس، بيروت.
موسوعة فقه عمر بن الخطاب، ط4، 1989، دار النفائس.
162.ابن قيم: محمد بن أبي بكر الزرعي المعروف بابن قيم الجوزية،
- أحكام أهل الذمة، تحقيق طه عبد الرؤوف سعد، ط1/1995، دار الكتب العلمية، بيروت.
_ إعلام الموقعين عن رب العالمين، ط دار الجيل، تحقيق طه عبدالرؤوف- بيروت ، ط دار الكتب الحديثة مصر، تحقيق عبد الرحمن الوكيل.
_ إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان، تحقيق محمد سيد كيلاني، ط1966، الحلبي، القاهرة.
_ الطرق الحكمية في السياسة الشرعية ، تحقيق محمد حامد الفقي ، دار الكتب العلمية، بيروت.
( ك )
163. الكاساني: علاء الدين أبو بكر مسعود الحنفي، بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع، ط1،1996م، دار الفكر، بيروت.
164. كامل: د. عمر عبد الله، العواصم من قواصم العلمانية، ط1،1998م، مكتبة التراث الإسلامي، القاهرة.
165.ابن كثير: عماد الدين أبو الفداء إسماعيل بن كثير القرشي الدمشقي،
- البداية والنهاية، ط1، 1966م،مكتبة المعارف، بيروت.
- تفسير القرآن العظيم، ط1،1966، دار الأندلس للطباعة والنشر، بيروت
166. كشك: محمد جلال، خواطر مسلم ( الجهاد الأقليات- الأناجيل)، 1985، دار ثابت.
( م )
167. مالك بن أنس: الموطأ، ط2، 1993م، دار الآفاق الجديدة، المغرب، دار الجيل، بيروت.(3/61)
168. متولي: د. عبد الحميد، مبادئ نظام الحكم في الإسلام مع المقارنة بالمبادئ الدستورية الحديثة، 1987، منشأة المعارف، الإسكندرية، ط2، 1974.
169. مجموعة من الكتاب: الصحوة الإسلامية – رؤية نقديه من الداخل ط1، 1997م، المجمع الثقافي، أبو ظبي.
170. مجموعة من الكتاب، القرآن نظرة عصرية جديدة، ط1، 1972م، المؤسسة العربية للدراسات والنشر بيروت.
171. المحلي:جلال الدين محمد بن أحمد، جمع الجوامع بشرح المحلي،دار الكتب العلمية، بيروت.
172. المحمود: أحمد، الدعوة الى الإسلام – كتاب الوعي {3}، ط1،1995م،دار الأمة، بيروت.
173. محمد أديب صالح: تفسير النصوص في الفقه الإسلامي، ط2، المكتب الإسلامي.
174. مسلم: أبو الحسين مسلم بن الحجاج بن مسلم القشيري النيسابوري، صحيح مسلم بشرح النووي، دار الفكر، بيروت.
175. مصطفى حلمي: إسلام جارودي بين الحقيقة والافتراء، ط1، 1996م دار الدعوة، القاهرة.
176. مصطفى محمود: محاولة لفهم عصري للقرآن، ط5، 1974، دار الشروق، بيروت.
177. المفتي: د. محمد أحمد ود. سامي صالح الوكيل، التشريع وسن القوانين في الدولة الإسلامية- دراسة تحليلية، ط1، 1992، بيروت.
178. المقدسي: أبو محمد عاصم بن أحمد، ملة إبراهيم ودعوة الأنبياء والمرسلين وأساليب الطغاة في تمييعها وصرف الدعاة عنها ن،ط.
179. المقدم: د. محمد بن إسماعيل، عودة الحجاب، ط6، 1414هـ، دار الصفوة، القاهرة.
180. ملكاوي: د. فتحي حسن ود. عبد الكريم أبو سل ، مؤتمر علوم الشريعة في الجامعات، ط1، 1995، المعهد العالمي للفكر الإسلامي – أمريكا . ابن المنذر: أبو بكر محمد بن إبراهيم: الإجماع، ط31987، دار الثقافة، الدوحة.
181. ابن منظور: أبو الفضل جمال الدين محمد بن مكرم المصري، لسان العرب، دار صادر، بيروت.
182. المهدي: د. الصادق، العقوبات الشرعية وموقفها من النظام الاجتماعي الإسلامي، ط1، 1987، الزهراء للإعلام العربي.
( ن )(3/62)
183. النبهان: محمد فاروق، نظام الحكم في الإسلام، مطبوعات جامعة الكويت، الكويت.
184. النجار: د. عبد المجيد: دور حرية الرأي في الوحدة الفكرية بين المسلمين،ط1، 1992، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، أمريكا.
185.ابن نجيم: زين الدين ابن إبراهيم بن محمد الحنفي، الأشباه والنظائر، 1980، دار الكتب العلمية بيروت.
186. نصر حامد، مفهوم النص- دراسة في علوم القرآن ، ط1 1992م ، ط2، 1994م.
187. نمر: د. عبد المنعم، شبابنا وقضايا دينهم، مؤسسة مختار للنشر والتوزيع.
188. النووي: محيي الدين أبو زكريا يحيى بن شرف، شرح صحيح مسلم، دار الفكر، بيروت.
( هـ )
189. ابن هشام: محمد بن إسحاق: تحقيق سهيل زكار، ط1، 1992، دار الفكر، بيروت
190. هويدي: د. فهمي هويدي:
- الإسلام والديمقراطية، ط1، 1993م،مركز الأهرام للترجمة والنشر، القاهرة.
- القرآن والسلطان–هموم إسلامية معاصرة ط2،1982م،دار الشروق.
- مصر تريد حلا، ط1، 1998، بيروت.
- المقالات المحظورة، ط1، 1998، دار الشروق، القاهرة.
( و )
191. الواحدي: أبو الحسن علي بن احمد، أسباب النزول – عالم الكتب، بيروت.
192. الوادعي: مقبل بن هادي، الصحيح المسند من أسباب النزول،1979، مكتبة المعارف، الرياض.
( ي )
193. ياسين: د. محمد نعيم، الجهاد ميادينه وأساليبه، 1990م، مكتبة الزهراء، القاهرة.
194. يوسف كمال: العصريون معتزلة اليوم، ط1، 1986م، دار الوفاء، المنصورة، مصر.
الصحف والمجلات والفضائيات والانترنت
1. الإنترنت www.qaradawi.net ، فرع الشريعة والحياة، حلقة " الشركات المساهمة "، 6/12/1998م.
2. صحيفة الحياة الجديدة، رام الله – عدد 1801، 23/8/2000م.
3. قناة الجزيرة الفضائية،
- برنامج ضيف وقضية مع د. محمد عابد الجابري 9/5/2000م، الاثنين، 6 بتوقيت غرينتش.(3/63)
- برنامج الشريعة والحياة، مع الأستاذ الدكتور علي القرة داغي، حلقة حول الاقتصاد الإسلامي والتحديات، 15/4/2001م، 6 بتوقيت غرينتش.
- برنامج الشريعة والحياة، مع الشيخ يوسف القرضاوي، حلقة بعنوان " الشركات المساهمة" ، 6/12/1998م، 6 بتوقيت غرينتش.
4. مجلة الإنسان –باريس- دار أمان للصحافة والنشر، عدد8، السنة الثانية صفر، 1413هـ، آب، 1992م.
5. مجلة البحوث الإسلامية، الإدارة العامة للشؤون الدينية والافتاء بالممللكة العربية السعودية، العدد الثالث، رجب 1397هـ.
6. مجلة الوعي،
- عدد 155، السنة الرابعة عشرة، ذو الحجة، 1420هـ، آذار2000م، بيروت.
- مجلة الوعي، عدد 156، السنة الرابعة عشرة، محرم 1421هـ، نيسان، 2000م.
7. نشرة رقم 92، "ومن يبتغي غير الإسلام دينا فلن يقبل منه"، اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والافتاء – المملكة العربية السعودية، دار الوطن، الرياض.
فهرس الآيات
الرقم ... الآية ... رقمها ... السورة ... الصفحة
أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم ... 1 ... المائدة ... 91
إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه ... 282 ... البقرة ... 87
إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن ... 1 ... الطلاق ... 79
إذا مسه الشر كان جزوعا ... 20 ... المعارج ... 80
أرأيت الذي ينهى عبدا إذا صلى ... 9-10 ... العلق ... 281
أراني أعصر خمرا ... 36 ... يوسف ... 64
أفتؤمنون ببعض الكتاب و تكفرون بآيات ببعض ... 85 ... البقرة ... 173+389
أفحكم الجاهلية يبغون ... 50 ... المائدة ... 351
أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض ... 28 ... ص ... 315
أفنجعل المسلمين كالمجرمين ... 35 ... القلم ... 315
ألا له الخلق والأمر ... 54 ... الأعراف ... 345
ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما انزل إليك ... 60 ... النساء ... 354
أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله ... 21 ... الشورى ... 351(3/64)
أم يقولون تقوله بل لا يؤمنون ... 33 ... الطور ... 207
أم يقولون افتراه، قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات ... 13 ... هود ... 208
إن الإنسان خلق هلوعا ... 19 ... المعارج ... 80
إن الحكم إلا لله ... 40 ... يوسف ... 351
إن الذين أمنوا والذين هادوا ... 41 ... البقرة ... 170+388
إن الذين أمنوا والذين هادوا والصابئون ... 69 ... المائدة ... 182
ان الذين يلحدون في آياتنا لا يخضون علينا ... 40 ... فصلت ... 1
ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام ... 116 ... النحل ... 1
إن الذين توفاهم الملائكة ... 97 ... النساء ... 281
إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم ... 6 ... البينة ... 180
إن كنتم تحبون الله فاتبعوني ... 31 ... آل عمران ... 226
إن الله وملائكته يصلون على النبي ... 56 ... الأحزاب ... 81
إن الله يأمركم أن تذبحوا البقرة ... 67 ... البقرة ... 30
إن هذا إلا قول البشر ... 25 ... المدثر ... 202
إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ... 10 ... الإسراء ... 354
إن يتبعون إلا الظن ... 28 ... النجم ... 90
إنا أعتدنا للظالمين نارا أحاط بهم سرادقها ... 29 ... الكهف ... 295
إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده ... 63 ... النساء ... 207
إنا نحن نزلنا الذكر و إنا له لحافظون ... 9 ... الحجر ... 206
إنما الخمر و الميسر و الأنصاب و الأزلام رجس ... 91 ... المائدة ... 89
إنما النسيء زيادة في الكفر ... 37 ... التوبة ... 351
إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ... 33 ... الأحزاب ... 339
إنه لقول رسول كريم ... 40 ... الحاقة ... 203
إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله وهم بالآخرة هم كافرون ... 38 ... يوسف ... 365
ابتغاء الفتنة و ابتغاء تأويله ... 7 ... أل عمران ... 23
اتخذوا أحبارهم و رهبانهم أربابا من دون الله ... 31 ... التوبة ... 351(3/65)
اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم ... 55 ... يوسف ... 347+389
اذهب إلى فرعون ... 17 ... النازعات ... 30
الذين أمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم ... 83 ... الأنعام ... 25
الذين كفرو وصدوا عن سبيل الله أضل أعمالهم ... 1 ... محمد ... 173
الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ... 275 ... البقرة ... 68+375
الذين يتبعون الرسول النبي الأمي ... 157 ... الأعراف ... 173
الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ... 2 ... النور ... 106
اليوم أحل لكم الطيبات ... 5 ... المائدة ... 49
اليوم أكملت لكم دينكم ... 3 ... المائدة ... 156
اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم ... 65 ... يس ... 202
انك ميت و إنهم ميتون ... 30 ... الزمر ... 64
بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله ... 39 ... يونس ... 17
تدمر كل شيء ... 25 ... الأحقاف ... 114
تقاتلونهم أو يسلمون ... 16 ... الفتح ... 279
تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم ... 1 ... الزمر ... 202
ثم جعلناك على شريعة ... 18 ... الجاثية ... 7
حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ... 29 ... التوبة ... 53
خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها ... 103 ... التوبة ... 323
خذ العفو وامر بالعرف ... 199 ... الأعراف ... 388
ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا و أنهم لا يستكبرون ... 82 ... المائدة ... 174
ذلك خير واحسن تأويلا ... 59 ... النساء ... 22
سأصليه صقر ... 26 ... المدثر ... 202
سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا ... 78 ... الكهف ... 22
سيصيب الذين أجرموا صغار عند ربهم وعذاب شديد ... 124 ... الأنعام ... 318
ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا إلا بحبل من الله ... 112 ... آل عمران ... 318
فإذا قرات القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم ... 98 ... النحل ... 63+204(3/66)
فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذين أؤتمن أمانته وليتق الله ربه ... 283 ... البقرة ... 87
فإن لم يكن له و لد ... 11 ... النساء ... 36
فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع ... 3 ... النساء ... 70
فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليكم طيبات أحلت لهم ... 160 ... النساء ... 377
فسبح بحمد ربك ... 3 ... النصر ... 21
فلا تجعلوا لله أنداداً وانتم تعلمون ... 22 ... البقرة ... 29
فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك ... 65 ... النساء ... 226
فمن اضطر في مخمصة غير متجانف ... 3 ... المائدة ... 42
فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ... 29 ... الكهف ... 288+388
فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم ... 13 ... المائدة ... 179
قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ... 29 ... التوبة ... 316
قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا ... 1 ... الجن ... 205
قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ... 88 ... الإسراء ... 208
قل لا أجد فيما أوحي إليَّ محرما على طاعم يطعمه ... 145 ... الأنعام ... 107
قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ... 64 ... آل عمران ... 180
قل يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله ... 98 ... أل عمران ... 173
قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا ... 158 ... الأعراف ... 223
لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض ... 60 ... الأحزاب ... 298
لا إكراه في الدين ... 286 ... البقرة ... 279
لا يمسه إلا المطهرون ... 79 ... الواقعة ... 31
لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود ... 78 ... المائدة ... 318
لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة ... 73 ... المائدة ... 396
لكن الراسخون في العلم منهم و المؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك ... 162 ... النساء ... 174
للذكر مثل حظ الأنثيين ... 11 ... النساء ... 104(3/67)
للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون ... 7 ... النساء ... 81
لم يكن الذين كفرو من أهل الكتاب و المشركين منفكين ... 1 ... البينة ... 49+180
ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا ... 93 ... المائدة ... 407
ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى ... 7-10 ... الحشر ... 38
ما تذر من شئ أتت عليه إلا جعلته كالرميم ... 42 ... الذاريات ... 115
ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ... 40 ... الأحزاب ... 179
مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد ... 18 ... إبراهيم ... 174
محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان ... 25 ... النساء ... 51
من يطع الرسول فقد أطاع الله ... 80 ... ص ... 226
هدى للمتقين ... 2 ... البقرة ... 31
هذا تأويل رؤياي من قبل ... 100 ... يوسف ... 17
هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله ... 53 ... الأعراف ... 17
وأحل الله البيع ... 275 ... البقرة ... 68
وأحل لكم ما وراء ذلكم ... 24 ... النساء ... 71+91
وإذا قيل لهم أمنوا بما أنزل الله ... 91 ... البقرة ... 172
وأنزلنا إليك الذكر ... 44 ... النحل ... 81
واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك ... 49 ... المائدة ... 180
واعلموا أنما غنمتم من شئ فأن لله خمسه ... 41 ... الأنفال ... 35
والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة ... 29 ... النور ... 174
والذين يرمون أزواجهم ... 6 ... النور ... 109
و الذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ... 4 ... النور ... 75
والسارق و السارقة فاقطعوا أيديهما ... 38 ... المائدة ... 41+77+ 205
والمحصناات من الذين أوتو الكتاب ... 5 ... المائدة ... 51+103
والمحصنات من النساء ... 24 ... النساء ... 51
والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ... 228 ... البقرة ... 78
والوالدات يرضعن أولادهن ... 233 ... البقرة ... 137
وامسحوا برؤوسكم ... 6 ... المائدة ... 82(3/68)
وابن السبيل ... 61 ... التوبة ... 128
ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا ... 4 ... النور ... 75
ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ... 151 ... الأنعام ... 85
ولا تقربوا الزنى ... 32 ... الإسراء ... 85
ومن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ... 7 ... الزلزلة ... 170
ويعلمك من تأويل الأحاديث ... 6 ... يوسف ... 22
ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ... 150 ... النساء ... 173
وإذا صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن ... 29 ... الأحقاف ... 204
وإذا ضربتم في الأرض فليس عليهم جناح أن تقصروا من الصلاة ... 101 ... النساء ... 376
وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون ... 204 ... الأعراف ... 204
وإذا لم تأتهم بآية قالوا لولا اجتبيتها ... 7 ... الأعراف ... 207
وأمرهم شورى بينهم ... 38 ... الشورى ... 388
وإن أحد من المشركين استجارك فأجره ... 6 ... التوبة ... 202
وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم ... 279 ... البقرة ... 380
وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة ... 23 ... البقرة ... 208
وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه ... 48 ... المائدة ... 179
وأنزلنا اليك الذكر لتبين للناس ما نزل اليهم ... 44 ... النحل ... 379
وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم الى التهلكة ... 195 ... البقرة ... 27
واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب ... 39 ... يوسف ... 365
والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما ... 38 ... المائدة ... 41
وان احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم ... 49 ... المائدة ... 360
ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء ... 89 ... النساء ... 180
وضربت عليهم الذلة والمسكنة ... 61 ... البقرة ... 318
وقاتلو المشركين كافة ... 36 ... التوبة ... 72
وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ... 39 ... الأنفال ... 355
وقالت اليهود عزير بن الله وقالت النصارى المسيح بن الله ... 30 ... التوبة ... 396(3/69)
وقد فصل لكم ما حرم عليكم ... 119 ... الأنعام ... 43
وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا ... 23 ... الفرقان ... 174
وقرآن الفجر، إن قرآن الفجر كان مشهودا ... 78 ... الإسراء ... 204
وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى ... 33 ... الأحزاب ... 339
ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه ... 121 ... الأنعام ... 354
ولا تقتلوا النفس التي حرم الله الا بالحق ... 151 ... الأنعام ... 85
ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا ... 33 ... النور ... 376
ولا تكونوا من المشركين ... 31 ... الروم ... 169
ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن ... 221 ... البقرة ... 49+103
ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا ... 80 ... آل عمران ... 351
ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها ... 31 ... النور ... 330
ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا ... 217 ... البقرة ... 180
ولا يشرك في حكمه أحدا ... 26 ... الكهف ... 353
ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ... 104 ... آل عمران ... 281
ولكن حق القول مني ... 13 ... السجدة ... 202
ولله المشرق و المغرب ... 115 ... البقرة ... 28
ولله على الناس حج البيت من استطاع اليه سبيلا ... 97 ... آل عمران ... 114
ولما يأتهم تأويله ... 39 ... يونس ... 17
ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا ... 141 ... النساء ... 322
ولو ردوه الى الرسول ... 83 ... النساء ... 257
وليس البر بأن تأتواالبيوت من ظهورها ... 189 ... البقرة ... 24
وليضربن بخمرهن على جيوبهن ... 31 ... النور ... 334
وما أتاكم الرسول فخذوه ... 7 ... الحشر ... 226
وما آتيتم من ربا ليربوا في امول الناس فلا يربوا عند الله ... 39 ... الروم ... 377
وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ... 107 ... الأنبياء ... 388
وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيراً ونذيراُ ... 28 ... سبأ ... 179(3/70)
وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة ... 36 ... الأحزاب ... 297
وما يعلم تأويله إلا الله ... 7 ... آل عمران ... 17
وما ينطق عن الهوى ... 3 ... النجم ... 207
ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله ... 5 ... القصص ... 157
ومن لم يحكم بما انزل الله فأولئك هم الكافرون ... 44 ... المائدة ... 349
ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه ... 85 ... أل عمران ... 170
ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن ... 124 ... النساء ... 170
يا أيها الذين أمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم ... 62 ... المائدة ... 63
يا أيها الذين أمنوا اطيعوا الله واطيعوا الرسول ... 59 ... النساء ... 226
يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا ... 29 ... الأنفال ... 205
يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة ... 130 ... آل عمران ... 389
يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء ... 51 ... المائدة ... 321
يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء ... 1 ... الممتحنة ... 325
يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة ... 118 ... آل عمران ... 322
يا آيها الذين آوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا ... 47 ... النساء ... 174
يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ... 59 ... الأحزاب ... 336
يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد ... 31 ... الأعراف ... 338
يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم ... 13 ... لقمان ... 25
يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض ... 26 ... ص ... 157
يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين ... 11 ... النساء ... 104+195
فهرس الآحاديث والآثار
الرقم ... الحديث ... الصفحة
رضوا بالمعنى وأبوا الاسم ، عن عمر. ... 54
والذي نفسي بيده لا يسمع بي رجل من هذه الأمة ولا يهودي ... 175(3/71)
إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما … ... 358
إذا وضعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة ... 105
أفي شك أنت يا ابن الخطاب؟.. ... 179
أمرت ان أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله… ... 315
أمسك أربعا – لغيلان الثقفي وقد أسلم على عشرة نسوة ... 63
إن الله هو المسعر القابض الباسط الرزاق ... 146
إن المرأة إذا بلغت .. لأسماء بنت أبي بكر.. ... 338
أنتم أعلم بأمور دنياكم. ... 234
إنكار عمر بن الخطاب على هشام بن حكيم قراءته سورة الفرقان على ما أقرأه إياها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتكذيبه له. ... 405
إنما الأعمال بالنيات … ... 203
أيما امرأة نحكت بغير إذن وليها فنكاحها باطل ... 64+300
أيما رجل ارتد عن الإسلام فادعه، فإن عاد وإلا فاضرب عنقه… ... 299
اجتنبوا السبع الموبقات…. ... 377
ادرؤوا الحدود بالشبهات ... 42
الإسلام هو أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله … ... 171
الجهاد ماض مذ بعثني الله إلى أن يقاتل آخر أمتي الدجال ... 75
الذهب بالذهب والفضة بالفضة … ... 378
العنوهن فإنهن ملعونات ... 337
المرأة عورة فإذا خرجت استهدفها الشيطان… ... 343
انطلقوا باسم الله قاتلوا من كفر بالله … ... 316
بايعنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا … ... 361
بعثت بالسيف بين يدي الساعة حتى يعبد الله وحده .. ... 318
جهادكن الحج – لعائشة -. ... 340
خذوا عني مناسككم ... 73
درهم ربا يأكله الرجل وهو يعلم أشد من ست وثلاثين زنية . ... 380
رأيت ذات ليلة فيما يرى النائم ... 25
سنوا بهم سنة أهل الكتاب- عن المجوس- ... 53
صلوا كما رأيتموني أصلي ... 73
صنفان من أهل النار لم أرهما ... 337
غلبنا عليك الرجال فاجعل لنا يوما من نفسك… ... 342
فأمرنا نبينا رسول ربنا - صلى الله عليه وسلم - أن نقاتلكم حتى تعبدوا الله وحده، وتؤدوا الجزية … ... 316(3/72)
فلم يدخل منه ابن عمر حتى مات … ... 343
فوا ببيعة الأول فالأول وأعطوهم حقهم فإن الله سائلهم عما استرعاهم … ... 358
في الغنم السائمة زكاة ... 117
قال - صلى الله عليه وسلم - إنما الربا في النسيئة … ... 370
قال - صلى الله عليه وسلم - مالك لا تلبس القبطية؟ … ... 337
طلقها فإنها جمرة – عمر ... 50
قوله - صلى الله عليه وسلم - لأقتلنهم قتل عاد… ... 408
كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول في ركوعه وسجوده سبحانك اللهم ... 21
كان عمر بن الخطاب ينهي أن يدخل المسجد من باب النساء … ... 343
كان يهوديا فأسلم ثم تهود ... 291
كانت عائشة تطوف حجرة من الرجال لا تخالطهم … ... 342
لا تبدأوا اليهود والنصارى بالسلام … ... 319
لا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم… ... 340
لا ربا إلا في النسيئة … ... 370
لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث ... 291
لا يخلون رجل بامرأة إلا ومعها ذو محرم … ... 340
لا يقتل مسلم بكافر … ... 323
لعن - صلى الله عليه وسلم - آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه وقال : هم سواء. ... 377
لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة … ... 332
لهم مالنا وعليهم ما علينا. ... 315
ليس كما تظنون إنما هو كما قال لقمان لابنه ... 25
ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء … ... 344
ما كان يدا بيد فلا بأس به، وما كان نسيئة فهو ربا . ... 378
من أسلم من أهل الكتاب فله أجره مرتين … ... 315
من بايع إماما فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فليطعه إن استطاع … ... 358
من بدل دينه فاقتلوه ... 117+ 291
من بلغت عنده من الإبل صدقة الجذعة ... 113
من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة… ... 338
نهى - صلى الله عليه وسلم -عن بيع الذهب بالورق دينا ... 378
هل أنتم تاركو لي صاحبي ... 89
وأمر امرأتك أن تجعل تحته ثوبا لا يصفها ... 337
والذي نفس محمد بيده لتفترقن أمتي على ثلاث وسبعين فرقة … ... 169(3/73)
وليس فيما دون خمس ذود من الإبل صدقة ... 85
يرحم الله المهاجرات الأوائل … ... 335
يقولون الحق ويقرءون القرآن ويمرقون من الإسلام … ... 409
يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية. ... 395
يحمل هذا العلم من كل خلف عدو له ... 1
لولا آخر الناس ما فتح الله علي قرية إلا قسمتها - عمر ... 35
لولا أني أعلم أنك تجيعهم – عمر ... 41
أنا لا نقطع في عام سنة – عمر ... 42
لأن أعطل الحدود بالشبهات – عمر ... 42
لا عفو عن شي من الحدود ... 44
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتألفكما والاسلام يومئذ ذليل ... 46
نساء أهل الكتاب لنا حل - عن جابر ... 53
ينكح المسلم نصرانية – عن عمر ... 53
ان الناس قد استعجلوا في أمر ... 55
ان الرسول عليه السلام أمر المستحاضة أن تدع الصلاة ... 79
توضأ ومسح على ناصيته ... 82
القاتل لا يرث ... 104
الجاد أحق بسقبه ... 105
لا ضرر ولا ضرار ... 118
كل مسكر حرام ... 118
لا تبع ما ليس عندك ... 136
عليكم بسنتي ... 227
فأصبحن وراء الرسول صلى الله عليه وسلم معتجرات ... 335
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم اذا سلم قام النساء ... 343
استأخرن فإنه ليس لكن ان تحققن الطريق ... 344
فهرس الموضوعات
الموضوع ... الصفحة
تصدير ... 1
قرار لجنة المناقشة ... 2
الاهداء ... 3
شكر وتقدير ... 4
ملخص البحث ... 5
مقدمة البحث ... 7
الباب الأول: ضوابط التأويل عند الأصوليين ... 16
الفصل الأول: التأويل معناه ومشروعيته. ... 18
المبحث الأول:معناه لغة واصطلاحاعند أهل العلم والفرق المحتلفة. ... 18
- المطلب الأول: معناه لغة. ... 18
- المطلب الثاني :التاويل عند الاصوليين( معناه اصطلاحا). ... 18
- المطلب الثالث: التأويل في القرآن والسنة وعند السلف. ... 22
- المطلب الرابع: الصحابة والتأويل ... 27
- المطلب الخامس: التأويل عند المتكلمين. ... 29
- المطلب السادس: التأويل عند الصوفية الباطنية. ... 30(3/74)
المبحث الثاني: توجيه اجتهادات عمر بن الخطاب رضي الله عنه. ... 33
- المطلب الأول: عمر وذم الرأي. ... 34
- المطلب الثاني: وقف عمر لأرض السواد. ... 35
- المطلب الثالث: عدم قطع السارق عام الرمادة. ... 42
- المطلب الرابع: منعه سهم المؤلفة قلوبهم. ... 45
- المطلب الخامس: منعه بعض الصحابة من الزواج بالكتابيات. ... 50
- المطلب السادس: إسقاطه اسم الجزية عن نصارى بني تغلب. ... 53
- المطلب السابع: إيقاعه الطلاق بلفظ الثلاث ثلاثا لا واحدة. ... 56
- المطلب الثامن: الحامل على التأويل عند عمر والصحابة والعلماء. ... 59
- المطلب التاسع: معارضة النصوص بالأقيسة العقلية. ... 61
المبحث الثالث: أنواع التأويل. ... 63
الفصل الثاني: أركان التأويل وشروطه. ... 66
المبحث الأول: الركن الأول: النص محل التأويل. ... 67
- المطلب الأول: جهود الأصوليين في تحديد مجال التأويل. ... 67
- المطلب الثاني: أقسام الألفاظ عند الحنفية. ... 69
أ ) واضح الدلالة: ... 69
الظاهر. ... 69
النص. ... 71
المفسر. ... 73
المحكم. ... 76
ب) الألفاظ غير واضحة الدلالة: ... 77
الخفي. ... 77
المشكل. ... 79
المجمل. ... 81
المتشابه. ... 84
- المطلب الثالث: أقسام الألفاظ عند الجمهور ... 85
أ ) الألفاظ واضحة الدلالة. ... 85
النص. ... 86
الظاهر. ... 88
ب) الألفاظ غير واضحة الدلالة. ... 91
المجمل. ... 91
المتشابه. ... 93
- المطلب الرابع: مقارنة بين منهجي الجمهور والحنفية في تقسيم
الألفاظ. ... 95
أ ) في واضح الدلالة. ... 94
ب) في غير واضح الدلالة. ... 95
المبحث الثاني: الركن الثاني "المؤول" وشروطه. ... 97
المبحث الثالث: الركن الثالث: أدلة التأويل. ... 101
لا يصح التأويل بدون دليل راجح على الظاهر: ... 101
- الدليل الأول: النص. ... 103
- الدليل الثاني: الإجماع. ... 105
- الدليل الثالث: القياس. ... 107
- الدليل الرابع: حكمة التشريع. ... 110(3/75)
- الدليل الخامس: العقل والحس. ... 114
- الدليل السادس: مذهب الراوي الصحابي. ... 116
- الدليل السابع: المفهوم. ... 117
- الدليل الثامن: القواعد الفقهية. ... 117
- الدليل التاسع: العرف. ... 121
- الدليل العاشر: المصالح – المقاصد – الكليات. ... 142
المبحث الرابع: الركن الرابع: المعنى المستنبط بدليل التأويل. ... 165
الباب الثاني: تأويل النصوص والمفاهيم الشرعية في قراءات المعاصرين ... 166
الفصل الأول: قراءات المؤولين المعاصرين. ... 167
المبحث الأول: التأويل في العقيدة ( الإيمان- الإسلام – العمل الصالح). ... 168
المبحث الثاني: تأويلهم في مفهوم القرآن وعلومه. ... 182
المبحث الثالث: التاويل في السنة الشريفة. ... 219
المبحث الرابع: التأويل في أصول الفقه
(الإجماع – القياس- المصالح- المقاصد – العرف – الكليات). ... 236
المبحث الخامس: التأويل في النظام الاجتماعي الإسلامي. ... 277
- المطلب الأول: التأويل في مفهوم حرية الاعتقاد وحرية الرأي والفكر. ... 277
- المطلب الثاني: التأويل في مفهوم المواطنة ( أحكام أهل الذمة). ... 305
- المطلب الثالث: التأويل في حكم النصوص الموجبة للحجاب الشرعي والمحرمة للاختلاط والسفور. ... 329
المبحث السادس: التأويل في النظام السياسي الإسلامي
(شرعية القوانين- شرعية السلطة والنظام السياسي – الخروج (الجهاد)
ضد الأنظمة السياسية). ... 345
المبحث السابع: التأويل في النظام الاقتصادي ( مفهوم الربا وحكمه). ... 369
الفصل الثاني: قراءة في قراءات المؤولين ... 384
المبحث الأول: الدوافع والأهداف. ... 385
المبحث الثاني: أدلة المؤولين ... 388
المبحث الثالث: أوجه الاتفاق والافتراق بين المؤولين المعاصرين
والفرق الضالة القديمة. ... 393
- المعتزلة.……… ... 393
- المرجئة.… ... 393
- الشيعة. ... 394
- الخوارج. ... 394
- الباطنية. ... 395(3/76)
المبحث الرابع: هل المؤولون المعاصرون توفرت فيهم أهلية الاجتهاد؟ ... 396
المبحث الخامس: المعاني المستنبطة بدليل التأويل عند المعاصرين. ... 398
المبحث السادس: انقسامهم إلى مدرستين. ... 399
المبحث السابع: ملامح وأساليب التأويل المعاصر. ... 401
المبحث الثامن: حكم المتأول من غير دليل معتبر. ... 405
- المتأول المعذور بخطئه. ... 405
- المتأول غير المعذور ... 407
- الخلاصة في حكم المتأول المخطئ. ... 409
الخاتمة. ... 411
التوصيات. ... 417
الملخص بالإنجليزية. ... 418
فهرس المصادر والمراجع ... 423
فهرس الآيات. ... 439
فهرس الأحاديث والآثار. ... 449
فهرس الموضوعات. ... 453(3/77)