شروط المساجد من وجهة نظر جماعة التكفير والهجرة
بالنسبة لموضوع المساجد فإن فرقة التكفير والهجرة كما تسمى -وكانوا هم يسمون أنفسهم جماعة المسلمين- لها نظرة شاذة فيما يتعلق بموضوع المساجد نتجت من الشذوذ في قضية معرفة المسلم من الكافر، كما أشرنا من قبل إلى قوله تعالى: {وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا} [الأعراف:58].
يقول الأستاذ رجب مذكور في كتاب له يسمى: (التكفير والهجرة وجهاً لوجه)، في صفحة مائة وثلاث وتسعين: وتقوم وجهة نظرهم على أساس أن كل المساجد القائمة في الأرض منذ عدة قرون مضت وحتى الآن مساجد ضرار.
أي أن ذلك قد يكون من الدولة الأموية بعد الخلافة الراشدة، وهذا من جرأة هؤلاء الناس على الله عز وجل وعلى دين الله، وليسوا وحدهم في ذلك، بل كثيراً ما نسمع من كثير يذكرون أن هذه الأمة ما كان فيها خير، وبمجرد ما انقضت القرون الخيرية انتهى كل شيء وانهار، حتى ظهرت جماعاتهم هذه التي ظهرت قريباً وأعادت الإسلام من جديد، وكأن كل هذا التاريخ مبتور، والأمة كانت تعمى في ضلال، ولو انتقينا أسوأ واحد من خلفاء الدولة الأموية نسبياً لوجدناه بالنسبة لحكامنا اليوم كالخلفاء الراشدين؛ لأنهم كانوا يحكمون بما أنزل الله، وكانوا يقومون الليل، ويقيمون في الناس شرع الله تبارك وتعالى، مع أنه قد يكون هناك سفك لبعض الدماء في أي نوع من الأشياء التي غايتها أن تكون معاصي أو كبائر، لكن لم يمس انحرافهم أصل دين الإسلام.
فهؤلاء بالنسبة لحكامنا اليوم عباد متبتلين، وأئمة هدى على أصل الإسلام، كانوا يقيمون علم الجهاد، ويفتحون البلاد في سبيل الله إلى عهد الدولة العثمانية التي تغلغلت في أحشاء سويسرا وأخذت أجزاء من فرنسا، فهؤلاء كانوا يجاهدون في سبيل الله، وكانوا يقيمون حكم الله تبارك وتعالى، فهذه النظرة ليست صائبة، أعني اعتبار أن هذه أمة لا خير فيها، وبمجرد أن انتهت الخلافة الراشدة انتهى معها كل شيء، فهذا من الضلال المبين.
يقول الأستاذ رجب مذكور: تقوم وجهة نظرهم على أساس أن كل المساجد القائمة في الأرض منذ عدة قرون مضت وحتى الآن مساجد ضرار، باستثناء أربعة مساجد فقط: المسجد الحرام بمكة المكرمة، والمسجد الأقصى بيت المقدس، ومسجدي قباء والنبوي بالمدينة المنورة، وبناءً على وجهة نظرهم هذه فإنهم يحكمون بتحريم الصلاة في كل المساجد على الأرجح، وما زال يوجد الآن من أهل البدع والضلال في قضية التكفير من يكفرون من يصلي في معابد المشركين التي هي المساجد في زعمهم.
يكفرونك لأن تصلي في المساجد، وكأنك تذهب إلى سينما أو خمارة أو نحوهما من أماكن الفسق والفجور، ولست ذاهباً إلى بيت من بيوت الله التي يذكر فيها اسم الله عز وجل، وبناء على وجهة نظرهم هذه فإنهم يحكمون بتحريم الصلاة في كل المساجد على الأرجح، وقالوا: إنه لا يجوز من حيث التسمية ابتداءً أن نسمي أي مسجد مسجداً لله، إلا بعد أن نتحرى فيه شروطاً ثلاثة هي:(27/5)
إخلاص الدعوة لله
أولا: الدعوة التي تعلن فيه، حيث اشترطوا بتسميته مسجداً لله أن تكون الدعوة فيه خالصة لله وحده، وهل المسلمون الذين يصلون في المساجد يعبدون المسيح بن مريم، أو يقولون: إن الله ثالث ثلاثة، أو يعبدون بوذا؟! إنهم يعبدون الله وقد قال تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن:18].
فإذا وقع في بعض المساجد دعاء غير الله وعبادة غير الله -كما يحصل في المساجد المبنية على القبور التي تعبد فيها الموتى من دون الله، وتذبح لهم الذبائح، ويطاف بقبورهم، ويتمسح بأعتابهم- فهذا منكر، ونقول كما قال العلماء: إن هذه المساجد مبنية على لعنة رسول الله عليه الصلاة والسلام.
فدين الإسلام لا يجتمع فيه مسجد وقبر أبداً، والحكم يكون للسابق، فإذا كان الأصل المسجد وبني عليه قبر فإنه ينبش القبر وينقل إلى قبور المسلمين، وإن كان العكس فالعكس، هذا إذا كان مجرد قبر، فما بالك إذا كان يتخذ لعبادة غير الله؟! فهذا شيء حقيقي وواقع، فلا بأس بتطبيق هذا على مثل ذلك، أما أصل المساجد الموجودة في بلاد المسلمين فإنه -لله الحمد- لا يعبد فيها إلا الله عز وجل، ويرتفع فيها الأذان بشهادة الحق وشهادة التوحيد.
فهذا هو أول شرط عندهم، وهو أن تكون الدعوة خالصة لله وحده، وما معنى أن تكون الدعوة خالصة لله وحده؟! معناه أنها لن تكون كذلك إلا إذا كانت على دعوتهم، فهي الوحيدة التي تستحق هذا الوصف العظيم.
ودليلهم على هذا الشرط قول الله عز وجل: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن:18]، فيقولون: إن المسجد لا يصح أن نسميه مسجداً لله حتى ننظر في الدعوة التي يدعى إليها فيه، فهل هي لله خالصة أم لا؟ ونقول: إن التسمية قد لحقت بالمسجد قبل أن يدعى المسجد، فسمي مسجداً رغم أنوفهم أجمعين منذ وقفه صاحب الأرض وقال: هذه أرض لله موقوفة ليبنى عليها مسجد.
فيصير مسجداً منذ هذه اللحظة، وقبل أن يقوم أحد فيه بالدعاء لله عز وجل.
ومن زعم أن تسميته مسجداً لله لا تجوز من هذه اللحظة، وإنما يفرض إرجاء التسمية مدة من الزمن فقد ضل.
فهم يقولون: إننا لا نحكم على مثل هذا المسجد بأنه مسجد حتى تمر مدة فترة امتحان واختبار، فننظر في خطيب المسجد يوم الجمعة، ثم نقوم وندرس خطبته، وفي ضوء نتيجة هذا التقييم تكون التسمية من عدمها.
يقول: أقول: من زعم ذلك فليأتنا ببرهان ذلك من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وإلا فاشتراطه باطل، كما قال عليه الصلاة والسلام: (كل شرط ليس في كتاب الله فهو رد وإن كان مائة شرط).
يقول: وتظل تسميته مسجداً لله مصاحبة له ما بقي مخصصاً لهذا الغرض ما دام بناؤه شرعياً منذ اللحظة الأولى، أعني: لم يبن على قبر -مثلاً- لوجود نهي عن ذلك، فإذا افترضنا أن مسجداً من مساجد الله بناه رجل من المسلمين الصالحين لوجه الله، ثم اعتلى منبره خطيب جاهل أو منافق فكانت خطبته تحتوي على خلط في أحكام الله، أو تملقاً لحاكم أو كبير فإن وزر هذا الخطيب يقع على نفسه، وعلى من لم ينكر عليه بأي صورة من صور الإنكار المعروفة، ولا يمس البناء شيء تماماً، كما لو حدث أن اعتلى المنبر أحد رجال فرقة التكفير ودعا إلى هذه الافتراءات التي يفترونها على دين الله، فإننا حينئذ لن نقول له: إن هذا المسجد قد أصبح مسجد ضرار، وإنما كل الذي يمكن أن يحدث أن المصلين يقومون فيضربونه ويطردونه من المسجد، ولكن المصلين قد لا يفعلون ذلك إذا كان الخطيب يتملق لحاكم على حساب دين الله إيثاراً منهم للسلامة وخوفاً مما لا يحمد عقباه، ويكتفون -مثلاً- بالإنكار القلبي، وقد يكون بعضهم منافقاً مثل الخطيب تماماً فتتلاقى الأرواح، ويفتقد حتى الإنكار القلبي الذي هو أضعف الإيمان.
يقول: والذي أريد أن أقوله أن هذا التغيير باليد أو اللسان أو القلب، أو حتى في حالة النفاق الذي يفتقد الإنكار القلبي أيضاً، فإنه لا تكسب كل نفس إلا عليها، ولا يتحمل المسجد منه شيئاً، فإذا نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلم أن ينشد المسلم ضالته في المسجد فيقول: من يدلني على هذا الشيء الذي ضاع مني؟ فلو قام رجل أو رجال ففعلوا ذلك الأمر المنهي عنه فإن وزرهم على أنفسهم، كما أن الخطيب منهي عن أن يتملق لمنافق، وهذا لا يؤثر في المسجد بشيء تماماً، كما لا يؤثر لو أن رجلاً قام فنشد الضالة أو باع وابتاع في المسجد، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فهل معنى ذلك أن المسجد صار سوقاً؟! هل هذا يغير صفة المسجد من حيث كونه مسجداً؟! يقول: ولا يصح أن يقال: إن المسجد أصبح ضراراً لوجود هذه المخالفة أو تلك، فلقد كان المشركون يزحمون المسجد الحرام بالأصنام، فما تحول المسجد عن كونه مسجداً لله، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي فيه رغم وجود هذه الأصنام المعبودة من دون الله، وكل الذي حدث أن المسلمين قد كلفوا حين القدرة بإزالة تلك المنكرات من بيوت الله وتحطيمها بعد أن جاء الحق وزهق الباطل، إن الباطل كان زهوقاً.(27/6)
تحقق صفات عمار المسجد
واشترطوا لتسمية المسجد مسجداً لله أن يستوفي عماره الأوصاف التي ذكرها الله سبحانه وتعالى في قوله: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} [التوبة:18].
وقوله تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ} [النور:36 - 37]، وفي قوله تعالى: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} [التوبة:108].
فقالوا: إنه لا يجوز لنا أن نسمي مسجداً ما مسجداً لله حتى يستوفي عماره هذه الأوصاف المذكورة في الآيات السابقة.
يقول: وعن الشرط الثاني الذي اشترطته فرقة التكفير هو استيفاء أوصاف من يعمرون بيوت الله كما ذكرت في الآيات القرآنية، فنقول: إن الله سبحانه وتعالى قد ذكر لنا ما يجب أن يتصف به عمار بيوته من صفات قلبية وظاهرية لنتحرى هذه الصفات في ذات أنفسنا، وندعو إليها، ونذكر بها، ولكنه سبحانه وتعالى لم يذكر لنا هذه الصفات من أجل أن نتعقبها في الناس، ونؤسس عليها حكماً شرعياً بأن هذا المسجد لله أم لا.
ذلك أن بعض هذه الصفات قلبية، وذلك مثل ما ورد في قوله تعالى: {يَخَافُونَ يَوْمًا} [النور:37]، فكيف تحكم على شخص بأنه يخاف يوم القيامة أو لا يخاف؟! فهذا عمل قلبي ولا سلطان لك على قلب هذا الإنسان، بل المنافق يصلي مع المسلمين في جماعة، ويحضر معهم الجماعة.
يقول: ذلك أن بعض هذه الصفات قلبية لا يمكن استيفاؤها من أصحابها، ولم نكلف بذلك، وأيضا ًفإن المسجد قد لحقت به التسمية -كما قلنا- منذ اللحظة الأولى التي بني فيها بناءً شرعياً وخصص للصلاة، ولم نكلف أبداً أن نؤجل التسمية حتى يعمره الناس، ثم يقوم المسلم بفحص أحوالهم الظاهرة والباطنة، ثم على أساس نتيجة الفحص يطلق التسمية أو يحرمها.
إن هذا التنطع لم يعرفه السلف، ولا أقره النبي صلى الله عليه وسلم وشرعه، ولا الذين آمنوا معه، وما عرفته الأرض كلها إلا بعد أن منيت بهذه الفرقة الشاذة التي تزين هذا التنطع بزعم الغيرة على دين الله، أو بادعاء أن البشرية كلها لن تهتدي إلا على أيديهم.
وخلاصة القول أن من زعم أن الصفات التي وصف الله بها عمار بيوته هي شروط لابد من وجودها حتى يسمى المسجد مسجداً لله فليأتنا بهذا الشرط، وإلا فهو شرط باطل ومردود على أصحابه، كما قال الله عز وجل في هذه الآيات في سورة التوبة: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} [التوبة:108]، نعم أخذ بعض العلماء من هذا أن الإنسان يتحرى المسجد الذي يصلي فيه أن يكون أهله من أهل الخير والاستقامة والصلاح إرضاء لله عز وجل.
وأفضل للإنسان أن يصلي مع قوم هم أتقى لله، وأقرب إلى سنة رسول الله عليه الصلاة والسلام، لكن كلامنا هنا عن الشروط، فهم يعتبرون أن المسجد لا يسمى مسجداً إلا بذلك، فهناك فرق.(27/7)
التأسيس على التقوى
حيث اشترطوا -أيضاً- لتسمية المسجد مسجداً لله استيفاء التقوى ممن أسسه، لقوله تعالى: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ} [التوبة:108].
وشققوا في موضوع التقوى كلاماً طويلاً، وقالوا على سبيل الفلسفة إن هناك مساجد بنيت على التقوى يقيناً، وثانية بنيت على التقوى راجحاً، وثالثة على التقوى مرجوحاً، ورابعة على غير التقوى يقيناً.
إلى آخر هذا الضرب من التفلسف واصطناع الأسلوب العلمي في الكلام.
يقول الأستاذ رجب مذكور في رد هذا الشرط: أما عن الشرط الثالث -هو أننا لم نسم المسجد مسجداً لله حتى نعرف أنه قد أسس على التقوى-فإذا كانت التقوى كما قال عليه الصلاة والسلام: (التقوى هاهنا) فالتقوى في القلب، ومهما ادعاها أحد الناس فإننا نكل أمره إلى الله، ولا نجزم بوجودها فيه، ولا بانتفائها عنه؛ لأن الله وحده هو الذي يعلم ذلك، فلست أدري كيف يمكن أن نتحراها في أحد من الأحياء فضلاً عن الأموات، فضلاً عمن لا نعرفه أصلاً، إذ إن كثيراً من المساجد قد مات من بناها منذ قرون.
أي: ولابد من أن يكون المؤسس تقياً، هذا هو الشرط، فمن مات من عدة قرون كيف لنا أن نتحقق من كونه أسس المسجد على التقوى أو لم يوسسه على ذلك، ولو كان موجوداً فكيف نعرف التقوى وهي في قلبه؟! يقول: لست أدري كيف يمكن أن نتحراها في أحد من الأحياء فضلاً عن الأموات، فضلاً عمن لا نعرفه أصلاً؟! إذ إن كثيراً من المساجد قد مات من بناها منذ قرون، وفي كثير من الأحيان لا نعلم من الذي أسسها، ولم يكلفني الله إذا رأيت يافطة -ويقصد بها كلمة (لافتة) على حد تعبير فرقة التكفير والهجرة- مكتوباً عليها (مسجد الله)، لم يكلفني الله أن أسأل: من الذي أسس هذا المسجد؟ وهل أسسه من أول يوم على التقوى أم على غيرها؟! إن ذلك إعنات وحرج لا يعرفه الإسلام، وإنما يعرفه المتشنجون من أصحاب البدع والأهواء التي تلبس مسوح الدين.
أما قوله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم بعد أن نهاه عن الصلاة في مسجد بعينه يعلم الله وحده الغرض الذي أسس من أجله، ولولا إخبار الله لرسوله به لصلى فيه صلى الله عليه وسلم: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} [التوبة:108] فلا تحمل هذه الآية تكليفاً عاماً للمسلمين إذا رأوا مسجداً أن لا يعتبروه مسجداً لله حتى يعرفوا نية مؤسسه، وإنما كل ما فيها توجيه للرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمين من ورائه إلى أحقية القيام.
أي أن القيام أحق وأفضل في مسجد وصفه الله تعالى بأنه أسس على التقوى من أول يوم، حيث قد أسسه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
يقول: ولو شئت لتعقبت تفاصيلهم الباطلة فيما يقتصر بهذا الشرط، وبينت خطأهم في مسألة التقوى، والراجح والمرجوح فيها، بل إنه حسب تحليلاتهم العقلية السخيفة كان ينبغي لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يصلي في المسجد الحرام قبل تطهيره من الأصنام، لتساوي أدلة الإثبات مع أدلة النفي كما يزعمون؛ إذ إنهم يقولون: إنه مؤسس على التقوى يقيناً، ودخله الضرار يقيناً بوجود الأصنام المعبودة من دون الله فيه.
فحسب مفهومهم للتوقف يجب أن يتوقف الرسول عليه الصلاة والسلام عن الصلاة فيه، أليس كذلك؟! فانظر -هداك الله- كيف يمكن أن تذهب التحليلات البشرية بأصحابها حتى تصل بهم إلى الاستدراك على رسل الله صلوات ربي وسلامه عليهم أجمعين.(27/8)
آثار دعوة التكفير
يقول: ولكن لا يفوتني هنا أن أذكر أن إمام فرقة التكفير ومؤسسها الراحل قد جعل إشراف الشيخ محمد حسين الذهبي رحمه الله على المساجد في مصر هو أحد دليلين -بل أول دليلين- على كفر الرجل، وهو ما بنى عليه خطته الآثمة في خطف ذلك الشيخ الطاعن في السن وقتله غيلة وغدراً، فقد سئل في غرفة المداولة أثناء محاكمته: وما رأيك في المرحوم الشيخ الذهبي أمسلم هو أم كافر؟ فأجاب: هو عندي كافر.
السؤال
وما دليلك؟ قال: دليلي أنه كان يعمل في هيئة الأوقاف، وكان وزيراً لها، ومديراً للإشراف على مساجد الضرار، جريمته أنه مدير إشراف على مساجد الضرار، وقد أقسم اليمين على الحكم بغير ما أنزل الله في قسم الوزراء، وهو ما لا يمكن أن يعتبر جهلاً منه بوجوب الحكم بما أنزل الله.
فاعتبر أن قسمه على الدستور في حقه إنكار لوجوب الحكم بما أنزل الله، واعتبره -أيضاً- قسماً على الحكم بغير ما أنزل الله، أي: كأنه قال: أقسم بالله أن أحكم بغير ما أنزل الله.
يقول: وكلا الاتهامين الخطيرين كفر لا شك فيه، لكن لا يمكن إثباتهما عليه بمثل هذا التساهل والتجرؤ في استصدار الأحكام؛ لأن هناك أوجه تأول كثيرة، وأعذاراً لابد من انتفائها حتى يحكم على الشخص المعين بالكفر ليس هذا مقام تفصيلها.
يقول: وأنا أعرف أن أسلوب التكفير والهجرة هذا في استصدار الأحكام يروق للكثيرين، خاصة المتعالمين وبعض الشباب ذوي الفهم المتسر والعلم الضئيل بأصول الأحكام وضوابطها، ولكن أحكام الإسلام العتيدة ليست بأماني أحد، وإنما هي شريعة محكمة بضوابطها، ثابتة في أصولها هيهات أن تتبدل أو تتحول وفقاً لرغبة أحد أو اتجاه طائفة.
أما الإشراف على المساجد وتعميرها فهو إن ابتغي به وجه الله خالصاً فهو عمل صالح وقربة إلى الله، ولكن الموازين المختلة تجعله دليلاً على الكفر يوجب استحلال الدماء والأموال والأعراض، ثم الاستعلاء على عباد الله، والتطاول عليهم بالدعاوى العريضة والمزاعم الفارغة، أين هؤلاء جميعاً ومن يتبعهم في الدعوة إلى تخريب المساجد والعدوان بوصفها بمساجد الضرار ومعابد الجاهلية؟! أين هم من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من بنى مسجداً يبتغي به وجه الله بنى الله له بيتاً في الجنة)، وفي رواية: (بنا الله له في الجنة مثله)؟! وعن عمرو بن عبسة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من بنى لله مسجداً ليذكر الله فيه بنى الله له بيتاً في الجنة).
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من بنى مسجداً صغيراً كان أو كبيراً بنى الله له بيتاً في الجنة).(27/9)
الجمعة وموقف فرقة التكفير منها
أما بالنسبة لفريضة الجمعة فقد ذكرنا أنهم أراحوا أنفسهم، بل أتعبوها -بلا شك- حق التعب حينما أخذوا موقفاً خطيراً وجريئاً من فريضة الجمعة، فهم يسقطون فريضة الجمعة إلى الأبد؛ لأنهم يوقفون إقامتها أن إلى أن يمكنهم الله في الأرض ويقيموا دولتهم.
وهذا التمكين إنما هو حلم وهمي في رءوسهم فحسب؛ لأن الله سبحانه وتعالى إنما يمكن في الأرض الصالحين من عباده الذين آمنوا وعلموا الصالحات، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء:105].
ونريد من الإخوة دائماً أن يستحضروا خطر البدع بالنسبة للمعصية، كالوقوع في بدع العقيدة، مثل تأويل صفات الله عز وجل، ومثل هذه بدع الخوارج أو غيرها التي هي أخطر بكثير من الوقوع في معصية من المعاصي، فينبغي استحضار هذا؛ لأن من الولاء والبراء أن تعادي من يشذ عن منهج أهل السنة والجماعة من الفرق النارية التي ذمها الله وذمها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ويقول الله عز وجل: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا} [النور:55].
يقول: لما كان هذا التمكين لا وجود له مطلقاً فقد قلت: إنهم يسقطونها إلى الأبد.
ويقول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [الجمعة:9].
فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات، أو ليختمن الله على قلوبهم فليكونن من الغافلين)، رواه مسلم.
فترك صلاة الجمعة بدون عذر من الذنوب العظيمة، ومن كبائر الذنوب، والعقوبة المترتبة عليه شديدة جداً، يقول عليه الصلاة والسلام: (لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات -والودع هو الترك- أو ليختمن الله على قلوبهم فليكونن من الغافلين).
ويعاقبهم الله بأن يسلط الغفلة على قلوبهم {نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ} [الحشر:19].
وعن طارق بن شهاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الجمعة حق على كل مسلم في جماعة، إلا عبداً أو صبياً أو امرأة أو ضريراً)، وهناك خلاف في تصحيح هذا الحديث.
والمهم أنه قد يقيناً أن الجمعة فرض عين على كل مسلم، فيحرم على أحد من الناس أن يسقط وجوبها والعمل بها، ولو لخير من الزمان إلا بدليل قطعي يقيني.
وقالت فرقة الهجرة: إن فريضة الجمعة لها شروط إذا توافرت أقيمت الفريضة، وإلا توقفنا عنها حتى تستوفي شروطها، وشرط في إقامة الجمعة التمكين، فلا جمعة مع هذه الصراعات.
يقول: ويبدوا أن أئمة هذه الفرقة قد شعروا بسخافة هذا الكلام، فحاولوا أن يضيفوا إليها سنداً آخر، فطبقوا عليها قاعدة: تعارض الفرائض، وهذه من الطامات الكبرى التي ابتليت بها هذه الفرقة الضالة، زينوا لأنفسهم وأتباعهم الكثير من المعاصي بسبب هذه القاعدة المشئومة، فاستباحوا بها المحرمات بلا استثناء، بادعاء أن هذا المحرم أو ذاك يتعارض مع ما هو أهم منه، وأقرب بزعمهم، ومقياس الفريضة، والأقرب عندهم هو التكتيك الحركي للجماعة، أو -حسب تعديلهم- هو مدى قرب أو بعد هذه الفريضة بالنسبة للغاية التي يسعون إليها، فدخلت -أيضاً- قضية الحركية والتكتكة ونحو هذه الأشياء، فوصل بهم الأمر إلى أنهم ارتكبوا بعض هذه الكبائر بحجة أن هذا يتعارض مع الفريضة التي نسعى إليها، وهي التمكين، فمن أجل ذلك التمكين استباحوا كثيراً من المحرمات، ولا شك في أنه قد حصلت قصص ومآسٍ عن استحلال أو فعل المحرمات من هؤلاء المبتدعين بسبب هذه القاعدة الإبليسية، أعني قاعدة تعارض الفرائض، حيث زين لهم الشيطان ارتكاب الموبقات بحجة أن قاعدة تعارض الفرائض.
فقالوا: إن الضرورة الأمنية لحركة الجماعة تستدعي التوقف عن العمل بفريضة الجمعة.
وما أشأم هذه الضرورات الأمنية التي بها الناس يتنازلون عن دينهم، ويترخصون في ارتكاب كثير من المعاصي بسبب الضرورة الأمنية لحركة الجماعة التي تستدعي التوقف عن العمل بفريضة الجمعة.
والذي يهمنا الآن هو الدليل الشرعي لفرقة التكفير والهجرة على شرط التمكين، فاستدلوا ببعض الأحاديث على أن التمكين هو شرط إقامة الجمعة، والرد -باختصار- على ما استدلوا به من هذه الأدلة وهو أن الله عز وجل أثبت في كتابه أن اليقين لا يزول بالظن والتخرص، وأن الظن لا يغني من الحق شيئاً، فمن أراد أن يسقط فرضاً ثابتاً بيقين -كفرض الجمعة- فعليه أن يأتينا بدليل يقيني يثبت دعواه، وأما هؤلاء فعامة الآثار التي استدلوا بها حكايات وغرائب لا تثبت، فهي مردودة عليه.
يقول في نهاية البحث: وعموماً فإن كل ما بني على الباطل فهو باطل، إذ إن عدم حكمهم على غيرهم بالإسلام وتوقفهم فهيم جعلهم حتى لو أرادوا أن يقيموا هذه الفريضة فلن يجدوا المسجد الذي يصلون فيه، ولا الإمام الذي يصلون خلفه، فهي إذاً متاهة بدءوها وزينها الشيطان لهم، ولابد أن تحكمهم بالسير في دروبها، ولن يخلصوا منها إلا إذا أراد الله لهم الهداية: {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الرعد:33]، فهذا باختصار ما يتعلق بقضية المساجد، وقضية الصلاة خلف الأئمة برهم وفاجرهم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، سبحانك -اللهم ربنا- وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.(27/10)
الإيمان والكفر [28](28/1)
الأسئلة(28/2)
نشأة مصطلح أهل السنة والجماعة وأهميته في الواقع الذي نعيشه
السؤال
متى نشأ مصطلح أهل السنة والجماعة، وما هي أهميته بالنسبة للواقع الذي نعيشه؟
الجواب
هذا سؤال عن تنبؤ النبي صلى الله عليه وسلم بفرقة هذه الأمة، وما ذكره من هلاك هذه الفرق جميعاً إلا واحدة، وهي الجماعة، وهي التي اصطلحت الأمة على تسمية أهلها بأهل السنة والجماعة، فالسؤال هو عن نشأة مصطلح أهل السنة والجماعة، والمقصود به، وأهميته بالنسبة للواقع الذي نعيشه الآن.
أما بالنسبة لزمن نشأة مصطلح أهل السنة والجماعة فالأصل في التسمي بأهل السنة هو ما ورد من النصوص التي تأمر باتباع السنة ولزوم الجماعة، فمضمون التسمية مأثور في السنة وكلام السلف، فمن ثم نقول: إن بداية هذا المضمون هي في ذلك الوقت الذي هو ليلة القدر في إحدى ليالي شهر رمضان المعظم، في الليلة المباركة حينما نزل جبريل عليه السلام يأمر النبي صلى الله عليه وسلم قائلاً له: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ} [العلق:1 - 2]، هذه هي البداية التاريخية لمضمون هذه التسمية؛ فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كثيراً ما أمرنا بلزوم السنة واتباعها والحرص على العض عليها بالنواجذ، وذم الشذوذ عنها ومخالفتها.
وما أكثر النصوص التي جاءت تحث على لزوم الجماعة، فمضمون التسمية موجود منذ بداية هذه الدعوة، فالأصل في التسمي بأهل السنة والجماعة هو ما ورد من النصوص في الوحيين التي تأمر باتباع السنة ولزوم الجماعة، فهذا مأثور في السنة وفي كلام السلف.
أما ظهور التسمية مصطلحاً يدل على فئة معينة وعلى اتجاه عقدي معين فلم يظهر في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ لأن المسلمين لم يحصل بينهم فرقة في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فكانوا جميعاً يضمهم اسم الإسلام، وإن وجد -أيضاً- فيهم مضمون اتباع السنة والجماعة بكل معانيها، لكن صدق ظهور المصطلح بظهور الفُرقة حينما ظهر أهل البدع، فتميز أهل السنة بهذا اللقب.
ولم تقطع أصول التاريخ الإسلامي بتحديد السنة التي ظهر فيها هذا المصطلح، وإن كان مضمونه هو حقيقة دين الإسلام الذي تلقاه الصحابة رضي الله عنهم عن نبيهم صلى الله عليه وسلم.
فالسؤال عن توقيت أو بداية نشوء هذه التسمية للدلالة على اتجاه معين واعتقاد متميز إنما هو سؤال عن بداية التسمي بهذا الاسم والتميز به، وليس سؤلاً عن نشأة المسمى الذي هو المذهب وأهله، فمن الخطأ البين الخلط بين هذين الأمرين، وأهل السنة والجماعة ليسوا فرقة ولا طائفة طارئة كسائر الفرق المنشقة عنهم، وإنما هم الأصل، فمن العسير أن نحدد لهم بداية نقف عندها كما نفعل مع الفرق النارية التي يتيسر لنا بسهولة تحديد منشئها؛ لأنها شذت وفذت عن الأصل، وارتبط التميز باسم أهل السنة والجماعة بظهور البدع التي أعقبت وقوع الفرقة في الأمة، كما تنبأ بذلك الصادق المصدوق صلى الله عليه وآله وسلم، فلما ظهرت البدع والفرقة التي كانت تحيطها هذه البدع برز هذا اللقب الشريف، ليدل على تمسك أهله بالإسلام المحض الخالص عن الشكوك، فقبل حصول الافتراق لم يحتج المسلمون إلى هذا التمييز؛ إذ ما كان المسلمون يعرفون التمييز بين السنة والشيعة والخوارج ونحو ذلك، فقبل حصول الفرقة لم يحتج المسلمون إلى أن يتميزوا باسم أهل السنة والجماعة، فقد كان الإسلام وأهل الإسلام هم الاسم والمسمى، يقول عز وجل: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران:19].
وقال تبارك وتعالى: {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا} [الحج:78]، يعني: وفي هذا القرآن.
ولهذا لما سئل الإمام مالك بن أنس رحمه الله تعالى عن السنة أجاب: هي ما لا اسم له سوى السنة.
وتلا قوله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام:153].
وأقدم انشقاق حصل في صفوف الجماعة الأولى، وأول صدع في وحدة العقيدة هو حركة الخوارج المارقين الذين تنبأ بهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قوله: (تمرق مارقة على حين فرقة من المسلمين يقتلها أولى الطائفتين بالحق)، أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
وكان وقوع ذلك بعد مقتل أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه، ووقوع فتنة صفين، ثم تلا ذلك ظهور بدع غلاة الشيعة الذين ألَّهوا علياً رضي الله عنه، وادعوا النص عليه، وظهر السبابة الذين يسبون الشيخين رضي الله عنهما، وكذلك المفضلة الذين فضلوا علياً رضي الله عنه عليهما، وقد تصدى لهم جميعاً أمير المؤمنين علي رضي الله عنه، وعاقبهم كلاً بحسبه.
غير أن هذا الابتداع لم يؤثر في بداية الأمر في القاعدة العريضة من المسلمين الملتزمين بالسنة وأهلها، ولم يحتج المسلمون حتى ذلك الوقت إلى التميز؛ لأنهم الأصل الذي انشق عنه المخالفون، والأصل لا يحتاج إلى ما يميزه، إنما الذي يحتاج إلى التمييز الفرع المنشق، الذي سرعان ما يشتهر ببدعته حين يتنكب السبيل.
ولذلك لما سئل إمام دار الهجرة مالك بن أنس رحمه الله تعالى عن أهل السنة أجاب: أهل السنة الذين ليس لهم لقب يعرفون به، لا جهمي ولا قدري ولا رافضي، وقال محمد بن سيرين.
والمتوفى سنة عشر ومائة من الهجرة.
لم يكونوا يسألون عن الإسناد، فلما وقعت الفتنة قالوا: سموا لنا رجالكم، فينظر إلى أهل السنة فيؤخذ حديثهم.
وينظر إلى أهل البدع فلا يؤخذ حديثهم، وقال عبد الله بن مصعب للرشيد حينما سأله عمن طعنوا على عثمان رضي الله عنه: يا أمير المؤمنين! طعن عليه ناس، وكان معه ناس، فأما الذين طعنوا عليه فتفرقوا عنه، وهم أنواع الشيع وأهل البدع وأنواع الخوارج، وأما الذين كانوا معه فهم أهل الجماعة اليوم.
فأهل السنة والجماعة هم الامتداد الطبيعي للمسلمين الأوائل الذين فارقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض.
وأهل السنة بين الفرق الإسلامية كالإسلام بين الملل، كما أن الإسلام هو الدين الوسط بين اليهودية والنصرانية وغيرها من الملل، ويتميز أهل السنة والجماعة -أيضاً- بأنهم دائماً الأمة أو الفرقة الوسط بين الغلاة والجفاة، وبين المُفْرِطين والمُفرِّطين، فمذهبهم لا مع هؤلاء ولا مع هؤلاء، وتجد في كل مسائل العقيدة التي خالف فيها أهل السنة أهل البدع تجد فريقاً يذهب إلى أقصى اليمين، وفريقاً آخر يذهب إلى أقصى اليسار، وهم الأمة الوسط العدول، فأولئك المبتدعون كانوا أحق الناس بوصف التطرف؛ لأن التطرف يعني الأخذ بأقصى الأطراف والغلو يميناً أو يساراً، فهؤلاء هم المتطرفون، أما الوسط فهو ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا ينبغي أن يكون المقياس في كل شيء، انظر إلى ما جاء به الإسلام، فهذا هو الوسط فكل ما خالف الإسلام فهو تطرف، لا كما يفعل الزنادقة والملاحدة من العلمانيين وأعداء الدين بإيحاء من أعداء الإسلام حين يصفون الملتزمين بدينهم والمعظمين لسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم بالتطرف، والحقيقة أنهم هم الذين تطرفوا في موالاة الشيطان وأوليائه إلى أبعد الحدود، فصاروا حرباً على الإسلام والمسلمين، فكل من شذ عن طريق رسول الله عليه الصلاة والسلام فهو المتطرف الخبيث الهالك.
أما سنة رسول الله عليه الصلاة والسلام فهي المحجة البيضاء النقية، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك، والذي ينحرف عما جاء به رسول الله هو الهالك، وهو المتطرف المنحرف.
والمقصود أن أهل السنة متوسطون معتدلون، فمذهبهم لا مع هؤلاء الغلاة ولا مع هؤلاء الجفاة، وإنما هم مع كل منهم في ما أصابوا فيه، وفي نفس الوقت برآء من باطل كل منهم، فمذهبهم حقّ، وهذا الحق بريء من كل انحرافات الفرق الضالة.
ثم برز الذين اتبعوهم بإحسان منافحين عن السنة وكلما قرن البدعة برز له رموز وعلماء أهل السنة باسم أهل السنة والجماعة يتصدون لهؤلاء المبتدعين، فكانوا يواجهون البدعة بالدعوة إلى السنة، ويجابهون الفرقة بالدعوة إلى الالتزام بالجماعة، هكذا ظهر هذا الاسم وبرز في مقابل الانحرافات التي كانت تأخذ مجراها في التاريخ الإسلامي، خاصة أيام الاشتباك العقلي مع البدع الوافدة.
فعلى ضوء هذه المقدمة التي نقدمها لهذا السؤال -وهو: متى نشأ هذا المصطلح- لا نجد أدنى حرج في أن نرفع عقيدتنا مرددين مع أئمتنا: إن مذهب أهل السنة والجماعة مذهب قديم معروف قبل أن يخلق الله أبا حنيفة ومالكاً والشافعي وأحمد، وإنه مذهب وطريقة الصحابة رضي الله عنهم.
وهذا ينبغي أن يكون راسخاً في أذهاننا، وقد ترد على هذا الكلام شبهة، إذ إ بعض الناس يقول: لماذا يشتهر الإمام أحمد بأنه إمام أهل السنة، أو ابن تيمية أو غيرهما من علماء الأمة؟! والجواب أن اشتهار بعض الأئمة بإمامة أهل السنة -كالإمام أحمد رحمه الله تعالى- لا يرجع إلى أنه هو مؤسس المذهب؛ لأن السنة كانت موجودة معروفة قبله، ولكن يرجع إلى أنه اشتهر بالدعوة إليها، والصبر على أذى من امتحنه ليفارقها، وكان الأئمة الثلاثة وغيرهم قد ماتوا قبل المحنة، فلما ظهرت فتنة القول بخلق القرآن في حياة الإمام أحمد بعد موت الأئمة قبله رحمهم الله كان الإمام أحمد قد علم السنة رحمه الله، وأظهرها، وثبت عليها، وانتصر لها، ومن ثم صار إماماً من أئمة السنة، وعلماً من أعلامها، لا أنه أحدث مقالة أو اتبع رأياً.
حتى إن المأمون نفسه لما تكلم بحق الإمام أحمد ومن اتبعه قال: ونسبوا أنفسهم إلى السنة أهل الحق والجماعة ولذلك كان بعض العلماء إذا أراد أن يتميز بوضوح إلى أهل السنة قال: وأنا على ما كان عليه الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى.
ومن هذا المنطلق(28/3)
معنى السلفية باعتبارها منهجاً في الحق
السؤال
ما هي السلفية باعتبارها منهجاً في الحق وفي الفهم والسلوك، وهل يجوز أن تحاصر السلفية بحيث يعبر بها عن إطار حزبي معين؟
الجواب
السلفية -والله أعلم- نسبة إلى السلف الذين هم أهل السنة والجماعة، ومنهج السلفي ليس منهجاً علمياً جافاً ونظرياً مجرداً، بل هو منهج علمي وعملي في نفس الوقت، فعندما أقول: سلفية فينبغي أن ينطلق ذهننا إلى ذلك النموذج الأعلى الذي طبق في حياة السلف الصالح من الصحابة رضي الله عنهم ومن تبعهم بإحسان، من الأخذ بالقرآن والسنة بفهم السلف الصالح رضي الله تبارك وتعالى عنهم، ولا ينظر فقط إلى عقيدة السلف، ولكن ننظر -أيضاً- إلى عبادتهم وأخلاقهم وجهادهم وفهمهم للإسلام، واستقلال كلمة السلفية علماً على حزب أو جماعة محددة أو اتجاه معين هذا له سلبيات، وينبغي أن نحافظ على المنهج بعيداً عن أن تحتكره طائفة معينة؛ لأن هذا سيفقد المنهج كونه هو الميزان الذي ينبغي أن تحاكم به جميع الاتجاهات، وهو المنهج المعصوم، ولكن الذين ينتسبون إليه ليسوا معصومين، وحينئذٍ إذا احتكرت طائفة اسم السلفية أو اسم أهل السنة والجماعة -وهكذا احتكار مثل هذه الألقاب الشريفة- فإن ذلك يجعل المنهج خادماً لا مخدوماً، ولا يصلح أن يكون المنهج خادماً لأي تجمع، ولذلك ينبغي أن يبقى بعيداً عن الحزبيات، وحتى يبقى صالحاً لا بد من أن يحاكم الناس جميعاً به ويلزموا به، فالمنهج معصوم والناس غير معصومين، والمنهج حاكم والناس محكوم عليهم، والمنهج مخدوم والناس خادمون له، كما كان هذا شأنه، ولا ينبغي أن يسخر لخدمة حزب أو تجمع غير معصوم، وذلك لكي يبقى هو الميزان الأعلى الذي يوزن به الجميع بمن فيهم من ينتسبون إلى هذا المنهج.
ثم إنه يخشى من ذلك أن يغذي دائماً واقع راية حزبية، ويغذي الشعور الحزبي والعصبي بين المسلمين، وقد يتوهم بعض منهم بمرور الزمن أن السلفية أو أهل السنة جزء مبتور من كيان الأمة الإسلامية أو داخل الأمة.
وفي حالة تغنى حزب أو تجمع بهذا الاسم الشريف أو ذاك فإن أخطاء هذا التجمع أو أخطاء أفراده سوف تحمل للمنهج، وفي هذا إساءة إلى هذا المنهج، بالإضافة إلى أن التعبير عن هذا المنهج بصورة حزبية أو تكتل معين فيه تحجيم للدعوة السلفية، وحصر لها في إطار محدود، وحينئذٍ يكون في ذلك الحيلولة دون القاعدة العريضة من الأمة، ودون الانتساب إليه باعتبار أنها صفة حزبية لا أكثر، فليست صفة منهج، لكنها صفة حزب.
ونعود فنقول: إنه لا مانع من استعمال هذه الألقاب أو التسمي بها إذا كان استعمالها استعمالاً غير حزبي.
ومثله كل لقب شريف، كلقب المهاجرين والأنصار، فهما من أشرف الألقاب في الإسلام، بل مدح الله تبارك وتعالى أهلهما أعظم المدح في القرآن فقال: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة:100].
ومدحهم بالمعنى فقال: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ * وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [الحشر:8 - 9]، فمدح الله عز وجل المهاجرين والأنصار، وكذلك فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فلا يوجد أدنى حرج في أن يتسمى فلان مهاجرياً وفلان أنصارياً، لكن حدثت حادثة كسح فيها رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار، أي: ضربه على مؤخرته، فهو خطأ فردي وقع بين اثنين من المسلمين، فقال المهاجري لما ضرب: يا للمهاجرين! فدعا بدعوى الجاهلية، كما كان يتناصر الناس، فمن يظلم من قبيلة عبس يقول: يا لعبس.
وينادي بأعلى بصوته حتى يأتي إليه كل منتسب إلى قبيلته، بغض النظر عن كونه ظالماً أو مظلوماً، كما يحصل في الصراعات الطائفية عند بعض الناس الجهلة الذين لم يتأدبوا بآداب الإسلام، وتجري عصبيات جاهلية لا تمت إلى الإسلام بصلة، فيقول أحدهم: هذا من أهل بلدي، فأنا أنصره ظالماً أو مظلوماً.
وكذلك يقول الآخر.
فقال المهاجري: يا للمهاجرين! وقال الأنصاري: يا للأنصار! فأراد كل منهما أن يستعمل اللقب الشريف استعمالاً حزبياً يفرق المسلمين ويضعف كيانهم، فلما بلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم غضب غضباً شديداً وقال: (ما بال دعوى الجاهلية؟! دعوها فإنها منتنة)، فسماها دعوى الجاهلية، فدل هذا الحديث على وجوب التخلي عن هذه الأسماء إذا صارت علماً على حزبية جاهلية مفرقة للأمة، وقال عليه الصلاة والسلام في حديث آخر: (ليس منا من شق الجيوب، أو لطم الخدود، أو دعا بدعوى الجاهلية)، وقال عليه الصلاة والسلام في أعظم مشهد شهده مع أصحابه رضي الله عنه: (ألا كل شيء من أمر الجاهلية موضوع تحت قدمي)، فهذه دعوى سماها في هذه الحال دعوى الجاهلية فقال: (ما بال دعوى الجاهلية؟!)، وهذا أمر، وظاهر الأمر الوجوب، إذاً: يجب التخلي عن ذلك إذا صار الاسم علماً على حزب، حيث قال صلى الله عليه وسلم: (دعوها فإنها منتنة)، ووصفها بالنتن والخبث، وقد جاء في صفته صلى الله عليه وسلم قبل أن يأتي إلى الأرض وقبل أن يولد جاء وصفه ومدحه في التوراة والإنجيل بصفات معينة ذكرها الله تعالى في قوله: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف:157]، فقوله: (دعوها فإنها منتنة) وصف لها بالنتن، ووصفها الخبث يدل على أنها من الخبائث التي حرمها علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن يستجيز أن يتسمى بشيء من هذه الألقاب ينبغي له أن لا يحدد الفكر لهذا التجمع، لكن ينبغي أن نعلن دائماً للناس أننا خادمون للفكر، وليس هو خادماً لنا، ونحن المحكومون بالمنهج، ولسنا حاكمين عليه.
ثم ينبغي أن نحذر تربية الناس على الولاء لغاية حزبية، إنما يكون الولاء للمنهج وللأصول، وأن تكون معاملة الناس والتمييز بينهم على حسب ولائهم لله ورسوله صلى الله عليه وسلم، لا على حسب ولائهم لأشخاص أو لطائفة معينة، فلا بد من إحياء هذه المعايير بين وقت وآخر، وإلا انزلقنا إلى ما انزلق فيه غيرنا ولن نعتبر بهم.
فهذا بالنسبة لمسألة تأطير المنهج، أو الفصل بين الفهم والسلوك، فمنهج أهل السنة فهم وسلوك، وليس هو فقط قضايا محصورة، إنما هو منهج للتعامل مع كل الظروف، والله تبارك وتعالى في سورة المعارج يقول: {إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا * إِلَّا الْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ * وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ * وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ} [المعارج:19 - 26]، فالتصديق لابد له من أن ينعكس في السلوك، فليست السلفية مجرد مفاهيم تصب في عقولنا وقلوبنا، وإنما هي مفاهيم تصب في أذهاننا وتستقر، ونعقد عليها قلوبنا، ثم تنعكس على سلوكنا؛ لأن الله تبارك وتعالى قال: {وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ} [المعارج:26]، ثم أردف ذلك بقوله: {وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ} [المعارج:27]، فالجنة والنار موجودتان أبداً لا تفنيان، وهذا كلام متعلق بالفهم، لكن تستخلص منه وجود الجنة والنار، وينعكس هذا التصديق في سلوكك وامتثالك لقول الله تبارك وتعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ} [المعارج:27 - 28].(28/4)
الإيمان والكفر [29](29/1)
الأسئلة(29/2)
حكم التعبير عن السلفية بسلفية المنهج وعصرية المواجهة
السؤال
استعمل في الآونة الأخيرة في بعض المصنفات تعبير (سلفية المنحى والمنهج وعصرية المواجهة)، على أساس أن هذا التعبير فيه رد على من يحيون السلفية في بعض القضايا التاريخية التي لم تعد تمثل معترك الإسلام في واقعنا المعاصر، فما هو تعليقكم على ذلك؟
الجواب
هذه العبارة تحتاج لنوع من التوضيح؛ لأن فيها إيهاماً، فلا نقول كما تقول هذه العبارة: سلفية المنهج عصرية المواجهة، لكن نقول: سلفية المنهج سلفية المواجهة.
ومثال ذلك قول الله تبارك وتعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال:60]، فهل حينما نتلو هذه الآية في هذا الزمان نقول: وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة عصرية، أم أن فيها من العموم ما يقضي استفراغ الوسع في الأخذ بأسباب القوة؟! وهل يفهم من قولنا: سلفية المنهج سلفية المواجهة، أن الجهاد في سبيل الله في هذا الزمان يكون بالسيوف والرماح والنبال والخيول حتى نحترز فنقول: عصرية المواجهة؟! إن هذا الاحتراز لا نحتاج إليه، وإلا فسنحفظ الأمة الإسلامية في متحف من متاحف التاريخ! فسلفية المواجهة هي بطبيعتها لابد من أن تكون عصرية؛ لأن المنهج شامل لكل زمان ولكل مكان.
ثم إن مفهوم هذه الثنائية: (سلفية المنهج عصرية المواجهة)، فيه إدخال البعد الزمني في تعريف السلفية، وكأن هذا انسياق وراء المفهوم الغربي للسلفية الذي يعني الرجوع إلى الوراء، وأنها فهم متجه إلى الوراء، فعندما نقول: سلفية المنهج فإن هذا يعني فهماً متجهاً إلى الخلف، وعصرية المواجهة تعني فهماً متجهاً إلى الأمام.
ونحن نقول: المنهج السلفي لا هو متجه إلى الخلف ولا هو متجه إلى الأمام، بل هو متجه إلى أعلى، بمعنى أن السلفية ليست رجوعاً إلى الوراء، بل السلفية عملية ارتقاء وتسامٍ وصعود إلى مستوى السلف الصالح رضي الله تبارك وتعالى عنهم.
فإدخال العنصر الزمني أو البعد الزمني في تعريف المنهج على أساس أن له بعداً زمنياً يتجه إلى الوراء معناه أنه لا يصلح لمواجهة مشاكل العصر المتجه إلى الأمام، فكأن السلفية هي مجرد تراث ذكري لا يتضمن منهجاً للتعامل مع كل العصور.
وباختصار نستطيع أن نعبر عن الحقيقة في هذا الأمر أننا نريد بسلفية المنهج وسلفية المواجهة أن نعيش عصرنا، ونواجه مشكلاته بنفس الطريقة التي نتوقع أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا سيسلكونها إذا عاشوا في عصرنا.
فالسلفية لا تتجه -كما ذكرنا- إلى الوراء ولا إلى الخلف، وإنما السلفية تتجه إلى أعلى، فهي عملية ارتقاء وارتفاع إلى مستوى السلف الصالح رضي الله عنهم في عقيدتهم ومفاهيمهم وسلوكهم وأخلاقهم والتزامهم وذلك من الثوابت التي لا تتفاوت بتفاوت العصور، وارتقاء إلى مستوى العصر الذي نعيشه، فلابد من أن يكون هناك مواجهة لتحديات هذا العصر، وارتفاع إلى مستوى العصر، أخذاً بالأسباب التي أمرنا الله بها في قوله: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال:60].
فكل ما يحقق مصالح المسلمين ويوفر لهم عناصر القوة بكل أنواعها ينبغي أن نرتقي إليه، هذا هو جوهر السلفية للتعامل مع العصر، لا كما يحصل من بعض الناس ممن يستسلمون أمام البعد الحضاري الشاسع بيننا وبين الكفار في هذا الزمان، فلا يقوى أحدهم على مواجهة الواقع الذي يتحداه، لكنه يهرب منه بشتى الأحلام، فيرى أننا مسلمون وموحدون، وحينما نحارب الكفار يظن أنه ستنزل علينا معجزة من السماء، وتنزل معنا الملائكة تحارب حتى لو قاتلناهم بالرماح والسهام والسيوف، وسوف نغلبهم لأننا موحدون، كلا، فأنت بهذا الظن بالآية ولا احترمت الأسباب، حيث قال تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال:60].
وأما دفاع الله عن بيته الحرام بالطير الأبابيل فإنه كان في وقت إسلام، ولم ينزل قرآن، ولم تأت سنة، ولا قامت الأمة بعد.
فلا ينبغي أن نتوقع أن ينصر الله دينه بكلمة (كن)، وقد جرت سنة الله بأنه لا بد من الابتلاء، ولابد من الجهاد والبذل في سبيل هذا الدين، أما مجرد النوم والأماني فذلك يعني الهروب من مواجهة الحقيقة.
وهناك صورة أخرى من الهروب أمام البعد الحضاري الشاسع بيننا وبين الكفار، وهي أن بعض الناس يقول: الحل والمخرج من البعد العظيم أنه ستحصل حرب نووية تدمر فيها القوة الكافرة كلها، ويقضى على كل العالم، ويبقى المسلمون، وبعد ذلك هم الذين سيقومون من جديد بالرماح والسيوف ويجاهدون ويعيدون الإسلام من جديد.
وهذا هروب من مواجهة الحقيقة.
والحقيقة هي أن البعد الحضاري من المستطاع ملء الفجوة فيه لولا الخونة الذين أذلوا المسلمين لأعداء الله في الشرق والغرب، والذين أشركوا كل قوى الكفر في تحديد مصير المسلمين، ولم يشركوا المسلمين أنفسهم في تحديد هذا المصير، والآن يحدد مصيرنا اليهود والنصارى، ونحن لا حول لنا ولا قوة.
والمقصود أن هذا الأمر داخل في الأسباب المادية بشيء من الصبر والإصرار والهمة، وهناك قابلية لحصول نوع من التقدم بالنسبة للمسلمين يمكنهم بها مواجهة أعداء الله مهما بلغ بطشهم، لكن بالعلوم الحديثة، وبالأخذ بجميع أسباب القوة، وليس بالأماني التي نقول فيها: أماني إن تك حقاً تكن أحسن المنى وإلا فقد عشنا بها زمناً رغدا فلا بد من مواجهة المشكلة كما تواجه أي مشكلة أخرى، واستفراغ الوسع في الأسباب، ثم بعد ذلك يجيب الله المضطر إذا دعاه، بعد أن نأخذ بالأسباب لا بالأحلام وانتظار حدوث خوارق من السماء؛ لأن هذا لم يقع حتى مع أشرف خلق الله، نعم إن الله قادر على أن يقول للشيء: (كن) فيكون، فيصبح كل من في الأرض عباداً ربانيين ليس فيهم مشرك ولا مبتدع ولا ضال ولا فاسق، لكن ليس لهذا خلقت الخليقة، وهذا ينافي الحكمة التي خلق الله من أجلها الخلق ليبتليهم.
فالمنهج السلفي أو منهج أهل السنة والجماعة لا يعني ولا يشير إلى جيل ولا إلى أجيال مضت، ولكن تتسع دائرته لتشمل الحاضر والمستقبل.
ثم إنه لا يتعلق بالأزمان والعصور، ولكن يتعلق باتباع طريقة ثابتة واحدة حتى وإن قل أصحابها، فالتعبير بسلفية المنهج وعصرية المواجهة كأن فيه دمغاً للسلفية بأنها دعوة رجعية تنافي التقدم، ولذلك احتيج لهذه الثنائية فقيل سلفية المنهج وعصرية المواجهة، وهذا انسياق وراء المفهوم الغربي للسلفية، فالسلفية عند الغربيين عقدة من أسلافهم الصالحين، ويطلقون لفظ السلف عندهم على القرون الوسطى المظلمة، وعلى العهود المظلمة في أوروبا؛ لأن هؤلاء لهم حق في أن تصيبهم هذه العقدة من جراء ما عاناه أسلافهم من حرب للتقدم العلمي، والاكتشافات العلمية، وقهر الكنيسة وبطشها، والعقيدة الشركية التي قدمتها لهم، ومحاكم التفتيش، إلى غير ذلك مما حصل في أوروبا، فكان لهذا الفعل رد فعل ظهر في فصل الدين عن الحياة، والكفر بالدين، ورفع شعار: (اشنقوا آخر ملك بأمعاء آخر قسيس)، فسلفهم السيئ الظالم المشرك الوثني يسمون عصوره العصور المظلمة، فأوروبا والغرب ما رأى أهلها النور أبداً بعد تلك القرون المظلمة، حتى في هذا الزمان ما زالوا يعيشون في بربرية هي أشد من العصور المظلمة التي يعيبونها.
فالشاهد أن موقفهم من السلفية هو انعكاس لمفهوم السلفية عندهم، فيقولون: السلفية رجوع إلى الوراء حتى انساق بعض الصحفيين وراء هذا المفهوم، فيعبرون عن الرجعي بكلمة سلفي، حتى إن بعض الصحفيين في إحدى المجلات الإسلامية -مع الأسف- لما تكلم عن السلفية الناصرية، يعني الذين يريدون أن يعودوا إلى فكر عبد الناصر، فيسمونهم السلفية الناصرية، يعني أن كل شيء يشير إلى الوراء فهو سلفي، كما يفعل زكي نجيب محمود في كثير من مقالاته، حيث يقول: كيف يكون الجيل الحالي أكثر سلفية من الجيل الماضي؟! ترى البنت تمشي مع أمها وهي سلفية وأمها متبرجة في ملابسها.
هذا معنى كلامه، فيقول: كيف نجد الثورة في الشباب في كل العالم تتجه إلى الأمام، ونجد بيننا من يدعوهم إلى السلفية.
فيرى أن السلفية رجوع إلى الوراء دائماً.
وأوروبا لما تخلت عن الدين وعما كان عليه أسلافها تقدمت، أما نحن فلا يوجد مبرر أبداً لأن نتأثر بهذا المفهوم عن السلفية وننساق خلفه؛ لأن أسلافنا هم خير أمة أخرجت للناس.
وأعلى أنموذج بشري دب على هذه الأرض كان في صورة هذه الجماعة أو العصابة المؤمنة التي أخرج الله بها العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، فبالنسبة لنا الأمر عكسي، فلن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، وهو الإسلام بهذا المنهج القويم.
ومما يزيد الاشتباه في هذا التعبير المهم -وهو سلفية المنهج وعصرية المواجهة- باقي السؤال، وهو أن هذا التعبير يشيع رداً على من يحيون السلفية في بعض القضايا التاريخية التي لم تعد تمثل معترك الإسلام في واقعنا المعاصر، فهذا مما يؤكد أن ما فهمناه في محله، وأن المقصود بهذه الثنائية الإشارة إلى البعد الزمني الذي أشرنا إليه، فما المقصود بالقضايا التاريخية، وإحياء مثل هذه القضايا التاريخية؟! إن كثيراً من الناس يشير بهذا التعبير، وكل من هب ودب يشنع على السلفيين بأنهم يحيون قضايا اندثرت، كما يفعل كثير من المشايخ، وهذا فيه جناية على منهج أهل السنة والجماعة، جناية مغطاة؛ إذ إن عادة أهل السنة وعلماء أهل السنة أنهم لا يبدءون بإثارة أي شيء لم يتكلم فيه السلف الأوائل، لكن كانوا كلما ظهرت بدعة وخرج المبتدعة بصورة من صور الانحراف يتصدون لهم، فيؤلفون الكتب ويناظرون ويناقشون الدلالات من منطلق قوله تبارك وتعالى: {لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران:187]، ومن منطلق قوله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ} [المائدة:8].
فمن هذا المنطلق كانوا يضطرون إلى الرد على أهل البدع، وكانوا يدفعون دفعاً إلى التصدي لهؤلاء المبتدعة،(29/3)
الفرق بين استحلال المعاصي والإصرار عليها
السؤال
ما الفرق بين استحلال المعاصي والإصرار عليها؟
الجواب
اتفق أهل السنة على تكفير المستحل للمعاصي أو المحرمات، أما الإصرار فلا يكفر صاحبه، بل اتفق أهل السنة على تبديع من قال: إن الإصرار يكفر فاعله.
والإيمان حقيقة مركبة من جزأين: قول وعمل، والقول منقسم إلى قسمين: قول بالقلب، وقول باللسان، والعمل عمل بالقلب وعمل بالأركان، وفيها اللسان.
فقول القلب بالنسبة لأصول الدين أو أصول العقيدة هو التصديق، وقول اللسان هو النطق بكلمة الشهادة، وعمل القلب غير قول القلب، فقول القلب هو الإقرار والتصديق، أما عمل القلب فهو شيء آخر من أركان الإيمان، الذي وهو محبة هذا الشيء، والانقياد له، والتوكل على الله وحده إلى آخر هذه الأعمال القلبية.
فالإيمان حقيقة مركبة من جزأين: تصديق الخبر، والانقياد للأمر، حتى من قال من أهل السنة والجماعة: إن الإيمان هو التصديق إنما عنى بذلك التصديق المستلزم للانقياد، فإذا كان الإيمان هو التصديق بالخبر والانقياد للأمر أو الحكم فمن كذب بالخبر صار كافراً كفر تكذيب، ومن صدق الخبر ولكن رد الأمر ولم ينقد له صار كافراً كفراً الرد والإباء والامتناع، مثال ذلك: إبليس لما أمره الله تبارك وتعالى بالسجود، فقد كان مصدقاً بأن هذا الأمر صادر من الله، ومع ذلك كفره الله تعالى فقال: {وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [البقرة:34]، لأنه وقع في نوع آخر من الكفر، حيث وجد عنده التصديق، فهو يعلم ويصدق بأن الله أمره بالسجود، وما قال: أنا أشك في هذا الأمر.
ويعلم أن الآمر هو الله، إذاً: وجد التصديق، لكن لم يوجد الانقياد للأمر، لم يوجد قول القلب الذي هو قبول الخبر، وصار إبليس كافراً كفر رد وإباء وامتناع، ومثله من يقول: الشريعة الإسلامية شريعة الله، لكن لا أطبقها وأرفضها.
فيمتنع إباء أو إعراضاً أو استكباراً، وكلها غير امتناع الجحود؛ لأن الجحود كفر تكذيب.
أما الذي لا ينقاد قلبه ولا يتقبل الحكم بقلبه، بل يعرض عنه ويرفضه فهذا كافر كفر إباء وامتناع وإعراض.
ثم لا بد من أن نعلم أن الانقياد الذي يؤثر في أصل الإيمان ليس هو الامتثال العملي للأحكام؛ إذ الانقياد نوعان: الانقياد العملي، والانقياد القلبي، فالانقياد القلبي كفعل القلب، وذنوب القلب أعظم من ذنوب الجوارح، فامتناع القلب عن الانقياد الذي يؤثر ويقدح في أصل الإيمان ويرتبط به ليس هو الامتثال العملي بالجوارح في الأحكام كما تزعم الخوارج، وإنما هو قبول الأحكام والتزام الشرائع جملة كما هو مذهب أهل السنة، وحتى نوضح هذه الحقيقة ونجليها أكثر نذكر الأحوال الثلاثة: الحالة الأولى: حال رجل لا يشرب الخمر، لكنه يعتقد بقلبه أنها حلال، فهذا كافر كفر تكذيب؛ لأن الله تعالى قال: {فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة:90] فهو لا يعتقد تحريم الخمر، ويقول: هي حلال فهذا مكذب بحكم الله عز وجل، جاحد لمعلوم من الدين بالضرورة، ولا شك في كفره حقيقة عند الله عز وجل.
الحالة الثانية: رجل شرب الخمر وداوم على شربها، وعقد قلبه على عدم تركها أبداً معتقداً بقلبه أنها حلال، فهذا كافر -أيضاً- كفر تكذيب، وفاقد لأحد ركني الإيمان الذي هو تصديق الخبر.
وهذان الشخصان لا سبيل للحكم عليهما بالكفر في الظاهر إلا إذا قام دليل قطعي صريح على هذا الاستحلال القلبي، فإذا قام دليل على أن في القلب جحوداً وتكذيباً فهذا يكفر، كأن ينطق بلسانه ويقول: أنا لا أعتقد تحريم الخمر.
فهذا اللسان هو الذي يغرف مما في القلب، فترجمان القلب هو اللسان، فإذا دل دليل قطعي صريح على هذا الاستحلال القلبي كأن يصرح بلسانه بهذا الاعتقاد فإنه يكفر بذلك.
الحالة الثالثة: مؤمن بأن حكم الله عز وجل في الخمر هو تحريم شربها، لكنه لا يقبل هذا الحكم اقتداء بقلبه، فيقول: هو حكم الملك، ولكنني لا أقبله ولا ألتزمه.
ويرده ويرفضه، بل قد يعترض عليه وينتقده ويعيبه، ويعقد قلبه على عدم ترك شرب الخمر أبداً، فهذا الاستحلال يئول إلى كفر الرد والإباء وعدم القبول، فهذا القلب لم ينقد أصلاً للحكم، فهو مثل كفر إبليس؛ إذ هو عالم بأن الخمر حرمها الله، لكن لم يحصل الانقياد القلبي الذي هو كون الإيمان قولاً وعملاً، وقولاً بالقلب وقولاً باللسان.
أي أن القلب لم ينقد ولم يقبل هذا الحكم، ومثل هذا الرد حتى مع التصديق بأن هذا حكم الله يكفر به صاحبه، ومصداق ذلك في قوله عز وجل: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيدًا} [النساء:60]، إلى أن قال عز وجل: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65] فهذا عرف أنه حكم الله لكنه لم يحكم شرع الله، والله تعالى قال: {ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا} [النساء:65] وهذا وجد حرجاً، ولم يسلم تسليماً لحكم الله، فهذا نوع أكبر من الكفر.
ونحن نعلم حديث ابن مظعون لما شرب هو وطائفة الخمر وتأولوا الآية: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا} [المائدة:93] إلى آخر الآية، فأفتى الصحابة رضي الله عنهم في ذلك بمحضر ابن عمر رضي الله عنه بأنهم إن أقروا به جلدوا، وإن لم يقروا به كفروا.
وعلى أي الأحوال فهذا الشخص الذي يرد ويرفض الانقياد لحكم الله يرتكب نوعاً آخر من الكفر غير كفر التكذيب، وهو كفر الرد والإعراض والإباء، مثل اليهود الذين أتوا إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وشهدوا له بأنه رسول الله، وقالوا: نشهد أنك رسول الله.
لكن قالوا هذه العبارة على سبيل الإخبار عما في قلوبهم لا على سبيل الإنشاء المتضمن للالتزام والانقياد، فلم يصيروا مسلمين بمجرد ذلك، مع أنهم معتقدين أن الرسول حق، بل قد قال الله عز وجل عنهم: {يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} [البقرة:146]، وليس هناك أحد يخطئ في معرفة أولاده، فهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، ويؤمنون أنه رسول الله حقاً، لكن لم ينقادوا لحكمه، فكفرهم كفر عناد وإباء ورفض وعدم تحكيم.
فهذه الصور الثلاثة السابقة: صورة الشخص الذي لا يشرب الخمر، لكنه يعتقد بقلبه أنها حلال، وصورة رجل آخر يشرب الخمر ويداوم على شربها، ويعقد قلبه على عدم تركها أبداً معتقداً -أيضاً- بقلبه أنها حلال، وصورة رجل يصدق بأن حكم الله في الخمر هو تحريم شربها، لكنه يرفض بقلبه هذا الحكم ولا ينقاد له قلبياً، هذه الصور الثلاث يصدق على أصحابها ضابط الاستحلال، وهؤلاء مستحلون لما حرم الله، فهذا الاستحلال يكفرهم، وله صورتان: الأولى: عدم اعتقاد الحكم الشرعي، وهذا يرجع ويئول إلى كفر التكذيب، الثانية: عدم التزام هذا الحكم وقبوله والانقياد له بقلوبهم، فهذا يرجع إلى كفر الرد وعدم القبول.(29/4)
الفرق بين الاستحلال المكفر والإصرار غير المكفر
السؤال
كيف نفرق بين الاستحلال الذي يكفر صاحبه باتفاق أهل السنة، والإصرار الذي لا يكفر صاحبه؟
الجواب
نفترض أن رجلاً يشرب الخمر، وهو مقيم على هذه المعصية، ولم يقلع عنها ويتب منها بسبب غلبة الشهوة وضعف الإرادة، مع بقاء اعتقاده القلبي بأن الله حرمها، ومع بقاء مبدأ قبول حكم التحريم والتزامه به، أي: يعتقد أن الخمر حرام، ويصدق أن هذا حكم الله، ثم هو بقلبه قبل هذا الحكم وما رفضه، لكن غلبته شهوته، فلا يستطيع أن يفارق هذه المعصية، فمثل هذا المصر لا يكفره السلف؛ لأنهم لا يعدون تكرار الذنب ومجرد الإقامة الظاهرة عليه دليلاً على استحلال القلب، ويقولون: إن مات موحداً غير تائب من هذا الذنب فهو تحت المشيئة: إن شاء عفا الله عنه بفضله، وإن شاء عذبه بعدله، لكنه لا يخلد في النار.
ومثال هذا كثير، كالرجل الذي كان يضحك الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان يلقب حماراً، وكان يؤتى به وقد شرب الخمر، ففي مرة من المرات قال بعض الصحابة حينما أحضر ليقام عليه الحد: لعنه الله؛ ما أكثر ما يؤتى به! فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تلعنه؛ فإنه يحب الله ورسوله) قال هذا عليه الصلاة والسلام مع أن الرجل مداوم على شرب الخمر، ومع ذلك قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم ما قال، فهذا مصر لكنه غير مستحل.
وكذلك أبو محجن الثقفي، ومعروفة قصته، فقد كان مداوماً على شرب الخمر، فهو مثال للشخص الذي تغلبه شهوته، ثم تاب بعدما أبلى في الجهاد كما هو معلوم.
فالفرق بين الاستحلال الذي اتفق أهل السنة على تكفير صاحبه، وبين الإصرار على المعصية الذي اتفقوا على تبديع من يكفر به هو أن الاستحلال إما أن يكون بتكذيب حكم الله وعدم الإقرار به، فهنا يكون متعلقاً بمبدأ تصديق الخبر، وإما أن يكون برد هذا الحكم وعدم التزامه، والاعتراض عليه، والاستكبار عنه، وهو هنا يتعلق بمبدأ قبول الأحكام، فتخلف التصديق كفر تكذيب، وتخلف القبول كفر رد وإباء، وكلاهما قادح في أصل الإيمان.
أما الإصرار على المعصية فيتعلق بمبدأ الدخول في الأعمال، فهو بقلبه قد قبل الحكم، وبقي تنفيذ الحكم أو عدم تنفيذه بالجوارح، لكنه بقلبه قابلٌ حكم الله، وملتزم بحكم الله، فالإصرار يتعلق بمبدأ الدخول في الأعمال، أي: تنفيذ الأحكام أو عدم تنفيذها، وهذا قادح في كمال الإيمان لا في أصله، وينقص إيمانه بهذه المعصية، ولا يذهب بالكلية، ويضربون مثالاً لذلك بالبدن الذي فيه روح، فالبدن الذي لا روح فيه، البدن الذي فيه روح أصل الإيمان موجود فيه بشقيه: تصديق الخبر والانقياد للأمر، فيبقى الجسد حياً حتى لو بترت بعض أعضائه، فلو بترت ساقه أو أطرافه أو عينه أو غير ذلك من أعضائه يبقى كائنا حياً يستطيع أن يعيش ما زالت فيه الروح، لكن إذا خرجت الروح لم ينفعه شيء، فإذا خرج الإيمان بشقيه -تصديق الخبر والانقياد للأمر- لا يبقى فيه إيمان، بل يقضى عليه بالكلية، كالشجرة إذا اجتثت من جذورها، لكن إن كسرت واستخرج منها بعض الأغصان فإن ذلك ينقصها ولا يبقيها سليمة، وتبقى حية مع ذلك.(29/5)
حكم تحكيم القوانين الوضعية
السؤال
هل تحكيم القوانين الوضعية كفر أكبر أم كفر دون كفر؟
الجواب
هذا السؤال بعبارة أخرى هو: هل تحكيم شريعة غير شريعة الله تبارك وتعالى يدخل في الاستحلال أم في الإصرار؟ ومن ثم فهل فاعله يكون كافراً كفراً أكبر، أم يكون كافراً كفراً دون كفر؟ إن هذه الشريعة هي الدستور الأعلى، والقانون الأوحد المهيمن، لكن الحاكم بغير ما أنزل الله إذا عرض عليه قضية أو قضيتان أو عشر قضايا أو أغلب القضايا التي تعرض عليه، فحكم في قضايا عارضة جزئية بغير ما أنزل الله، لا بسبب التكذيب، ولا بسبب الرد والرفض، وإنما بسبب مجاملة لصديقه أو قريبه، أو رشوة أغري بها، أو محسوبية، أو هوى، فهذا كله كفر دون كفر، وهذا معصية، وليس كفراً يخرج من الملة، لكنه ينقص إيمانه؛ لأن هذا انحراف عارض في التطبيق وليس في المبدأ.
وبعبارة أخرى نقول: من رغب عن تطبيق الشريعة الإسلامية واستبدلها بالقوانين الوضعية فهذا الاستبدال له صور عدة: فإما أنه يكون رافضاً لها بقلبه، وحينها لم يوجد قول القلب الذي هو الانقياد والإقرار والقبول، أو يكون كارهاً لها، أو معتقداً أن القوانين الوضعية أفضل من الأحكام الإلهية، باعتبار أنها أحكام رجعية جامدة لا تناسب العصر، كما يقع من العلمانيين وخصوم الإسلام، أو يفعل ذلك عناداً ومكابرة، فيؤمن بأنه حكم الله لكن يعاند ويكابر ولا يقبله ولا ينقاد له، فهذا كافر خارج عن ملة الإسلام، ولو كان مصدقاً بها مقراًَ بأنها شريعة الله عز وجل، وكفره ككفر إبليس الذي ما شك في أن الأمر بالسجود صادر عن الله تبارك وتعالى، لكنه رد حكم الله ولم يلتزمه، ففي حق مثل هذا نستدل بقوله تبارك وتعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65]، فالمسألة هنا ليست مسألة خطأ في التطبيق أو خطأ عارض، بل هي مسألة مبدأ، فحين يحصل التخلي عن أصل تحكيم الشريعة وإبطال تحكيمها في أغلب شئون الحياة والدولة، وتنكيس راية الشريعة تماماً، ثم استبدال راية الشريعة براية القوانين الوضعية الجاهلية لتصبح هي بدل الشريعة الإسلامية مع أن الشريعة هي المظلة ذات السيادة، وهي المهيمنة على المجتمع، فإن ذلك لا يتضمن عدم الحكم بما أنزل الله بتعطيله وإبطاله فحسب، بل يتضمن جريمة أخرى هي الإباحة العامة للحكم بغير ما أنزل الله.
فما بالك لو انضم إليه الإلزام القسري، أي: إلزام الأمة جميعها بالتحاكم إلى هذه القوانين الجاهلية؟! وليس الأمر إلى هذا الحد، بل يفتن كل من تمرد على هذه القوانين أو حاول تغييرها حتى ولو كان قاضياً.
ما أكثر ما يتردد في ساحات المحاكم الوضعية من عبارات تقشعر منها الجلود وتشمئز لبشاعتها النفوس لما تتضمنه من رد الدفاع الشرعي، حينما يدافع المدافع بأدلة الشرع الإسلامي القائم على كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم يبطل القاضي الوضعي الحكم الشرعي والدفاع الشرعي، لا لشيء إلا لأنه يخالف القوانين الوضعية.
فيرد حكم رجم الزاني، أو جلد الشارب، أو قطع يد السارق؛ لأنه يخالف القوانين، وهذا فصل بين الخلق والأمر، وقد يكون هذا الشخص مؤمناً بأن هذا حكم الله، لكنه لا ينقاد إليه قلبياً، ويجعل عدم تطبيق الشرعية مبدأ عاماً، فيلزم كل الناس بتعطيل الشريعة أولاً، ثم باستباحة الحكم بغير ما أنزل الله إباحة عامة يلزم بها سائر الناس ويمتحن ويفتن من خالفها أو تمرد عليها، فالله عز وجل له الخلق والأمر، كما قال تعالى: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} [الأعراف:54]، فالذي يخلق هو الذي يأمر ويحكم، فكما أنه لا يخلق إلا الله، كذلك لا يأمر ولا يشرع إلا الله عز وجل.
ونشير بهذه المناسبة إلى عبارة (الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع)، فهذه العبارة تنافي العقيدة الإسلامية تماماً؛ إذ إنها تساوي القول بأن الله عز وجل هو الخالق الرئيس لهذا الكون.
فهل يقبل أن الله هو الخالق الرئيس؟! إن الله تعالى كما له الخلق له -أيضاً- الأمر، فكما أنه لا يصح أن تقول: الله هو الخالق الرئيس، كذلك لا يصح أن تقول: شريعة الله هي الشريعة الرئيسة للقوانين.
وقد حصل أن جنكيز خان ملك التتار استبدل أحكام القرآن وأحكام الشريعة بكتابه (الياسق) أو (اليافا)، وجعله خليطاً من الشريعة الإسلامية مع بعض القوانين الأخرى من الملل الأخرى، ووقفت الأمة منه موقفاً عظيماً خطيراً لإبائه ورده ورفضه الشريعة الإسلامية.
فأرجو أن يكون بهذا اتضح الفرق بين الإصرار وبين الاستحلال، وبعض العلماء يقولون: الحكم بالكفر الأكبر نتيجة الاستحلال له صورتان: تكذيب الخبر، أو رد الحكم وإبطاله وعدم الانقياد له والتزامه، وفي الحالة الثانية قالوا: هو كفر، لكن لا يحكم على قائله أو فاعله بالكفر حتى يتثبت من وجود أفعال أو شروط معينة، وانتفاء موانع تمنع من الحكم بالكفر على الشخص، لكن يقال: من فعل كذا فهو كافر.
ولا يجزم بأن فلاناً بعينه كافر حتى نتأكد من زوال العوارض الأهلية من إكراه أو جهل أو تأويل.(29/6)
حكم الصلاة خلف الإباضية من الخوارج
السؤال
هل تجوز الصلاة خلف الإباضية من الخوارج؟
الجواب
الخوارج من أهل البدع، والأصل أنك إذا كنت مستطيعاً أن تعزل الإمام المبتدع الفاسق ببدعته -كبدعة الخوارج مثلاً- فإنه يجب عليك أن تعزله، ولا تصل خلفه، فإن عجزت فعليك أن تصلي في مسجد آخر، فإن لم تجد جمعة ولا جماعة ولا عيداً إلا خلف هذا المبتدع ففي هذه الحالة إن كنت لا تستطيع تغييره إلا بإحداث فتنة أكبر فصل خلفه، كما بين ذلك شيخ الإسلام في الكلام الذي ذكرناه عنه في مثل هذا، فهذه هي القاعدة في شأن أهل البدع عموماً.
فالقاعدة أن من صحت صلاته لنفسه صحت لغيره، فما دام أنه لم يحكم بكفره، وما دام باقياً على أصل الإسلام حتى وإن تلبس بهذه البدعة فتصح صلاته بغيره مع الكراهة؛ لأن بعض العلماء متفقون على هذه الكراهة، والله تعالى أعلم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، سبحانك -اللهم ربنا- وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.(29/7)