الباعث على الخلاص من حوادث القصاص
تأليف
الحافظ العراقي
زين الدين أبي الفضل عبد الرحيم بن الحسين
(725 - 806 هـ)
قدم له وحققه وعلق عليه
الدكتور محمد بن لطفي الصباغ
دار الوراق
دار النيربين
الطبعة الأولى
1422 هـ - 2001 م(/)
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل وسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه.
الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، وأبطل به ما كان من أمر الجاهلية مما أحدثه المؤتفكون، وحذر أمته من الاختلاف والبدع التي تقع بعده وتكون.
1- كما روينا في الحديث الصحيح المشهور في ((سنن أبي داود)) والترمذي وابن ماجه من حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه قال:
وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم .. .. وفيه قال:(1/67)
((أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة، وإن عبدٌ حبشيٌ فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، فإياكم ومحدثات الأمور، فإنها ضلالة، فمن أدرك ذلك منكم فعليه بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي. عضوا عليها بالنواجذ)).
اللفظ للترمذي. وقال: هذا حديثٌ حسن صحيح.
وأخرجه ابن حبان في ((صحيحه))، والحاكم في ((المستدرك)) وصححه.
فكان مما أحدث بعده صلى الله عليه وسلم ما أحدثه القصاص بعده مما أنكره جماعة من الصحابة عليهم، كما سيأتي.
2- وروينا في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)).(1/68)
3- وروينا في ((سنن ابن ماجه)) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، قال: لم يكن القص في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا زمن أبي بكر ولا زمن عمر رضي الله عنهما.
وإسناده حسن.
4- وروينا في ((مسند الإمام أحمد)) و((المعجم الكبير)) للطبراني من حديث السائب بن يزيد رضي الله عنه قال:
إنه لم يكن يقص على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا زمن أبي بكر.
زاد الطبراني: ولا [زمن] عمر حتى كان أول من قص تميماً الداري، استأذن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن يقص على الناس قائماً فأذن له.(1/69)
وإسناده جيد، فيه بقية بن الوليد وقد صرح بالتحديث في رواية أحمد فزالت تهمة تدليسه.
وكان تميم استأذنه مرات، فلم يأذن له، وأشار له إلى ذم ذلك:
5- كما رويناه في ((المعجم الكبير)) للطبراني من رواية عمرو بن دينار أن تميماً الداري استأذن عمر رضي الله عنه في القصص، فأبى أن يأذن له، ثم استأذنه فأبى أن يأذن له، ثم استأذنه فقال: إن شئت. وأشار بيده -يعني الذبح- ورجال إسناده ثقات.
فانظر -رضي الله عنك- توقف عمر في إذنه في حق رجلٍ من الصحابة الذين كل واحد منهم عدلٌ مؤتمنٌ.
وأين مثل تميمٍ في التابعين ومن بعدهم؟
وهذا يدل على أنه ليس لآحاد الرعية أن يقص إلا بإذن من ولي أمور المسلمين إن كان يعلم من يصلح لذلك، [كالخلفاء الراشدين وعمر بن عبد العزيز، وإن كان متولي أمور الناس لا يعلم من يصلح(1/70)
لذلك] فيكون ذلك بإذن من أقامه لذلك من الحكام والعلماء.
وروينا في عدة أحاديث: ((لا يقص إلا أميرٌ أو مأمور)) ومن عدا هذين فهو إما مراءٍ أو مختالٌ أو متكلف كما ستراه في الأحاديث الآتية:
6- فروينا في ((سنن ابن ماجه)) من رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
((لا يقص على الناس إلا أميرٌ أو مأمور أو مراءٍ)).
وإسناده صحيح.(1/71)
وقد حكى الترمذي عن البخاري قال: رأيت أحمد بن حنبل وعلي بن المديني وإسحاق بن راهويه وأبا عبيد وعامة أصحابنا يحتجون بحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، فمن الناس بعدهم؟
7- وروينا في ((سنن أبي داود)) بإسناد جيد من حديث عوف بن مالك رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا يقص إلا أميرٌ أو مأمور أو مختال)).
وسكت عليه أبو داود، فهو عنده صالح.(1/72)
8- وروينا في ((المعجم الكبير)) للطبراني من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
((لا يقص إلا أميرٌ أو مأمورٌ أو متكلف)).
9- وروينا فيه أيضاً من حديث كعب بن عياض عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
((القصاص ثلاثةٌ: أميرٌ، أو مأمورٌ، أو مختال)).
وإسناده جيد.
10- وروينا في ((مسند أحمد)) من رواية عبد الجبار الخولاني قال: دخل [رجل] من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد فإذا كعب يقص.
قال: من هذا؟
قالوا: كعبٌ يقص.
قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
((لا يقص إلا أمير [أو مأمور] أو مختال)).(1/73)
قال: فبلغ ذلك كعباً، فما رئي يقص بعد.
11- وروينا في المجلس الخامس عشر من ((أمالي أبي عبد الله بن منده)) من رواية عمر بن ذر عن مجاهد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
((لا يقص في مسجدي هذا إلا أميرٌ أو مأمورٌ أو متكلف)).
قال ابن منده: هذا حديث غريب من حديث عمر بن ذر تفرد به خالد بن عبد الرحمن.
قلت: وخالد بن عبد الرحمن هذا هو الخراساني، وثقه يحيى بن معين وأبو حاتم الرازي.
ومما يدل على أن القصاص الذين هم أهل لذلك ليس لهم الكلام على الناس إلا بإذن ولاة الأمر قصة معاوية مع قاص مكة:
12- كما رويناه في ((المستدرك)) للحاكم أبي عبد الله النيسابوري من رواية أبي عامر عبد الله بن لحي قال:(1/74)
حججنا مع معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، فلما قدمنا مكة أخبر بقاص يقص على أهل مكة، مولى لبني فروخ، فأرسل إليه فقال: أمرت بهذا القص؟!
- قال: لا.
- قال: فما حملك على أن تقص بغير إذن؟
- قال: ننشر علماً علمناه الله عز وجل.
- فقال معاوية: لو كنت تقدمت إليك لقطعت منك طائفة.
ثم قام حين صلى الظهر بمكة فقال: قال النبي صلى الله عليه وسلم :
((إن أهل الكتاب تفرقوا في دينهم على اثنتين وسبعين ملة. وتفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين، كلها في النار إلا واحدة، وهي الجماعة، ويخرج في أمتي أقوام تتجارى بهم تلك الأهواء كما يتجارى الكلب بصاحبه، فلا يبقى منه عرقٌ ولا مفصلٌ إلا دخله)).
والله، يا معشر العرب! لئن لم تقوموا بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم لغير ذلك أحرى أن لا تقوموا به.
قال الحاكم: هذه أسانيد تقوم بها الحجة في تصحيح هذا الحديث.(1/75)
وأشار الحاكم بهذه الأسانيد إلى حديث أبي هريرة رواه بإسنادين، وإلى حديث معاوية، وكلاهما في السنن.
فحديث معاوية أخرجه أبو داود من طريقين مختصراً ومطولاً بالمرفوع فقط دون قصة معاوية مع القاص:
فالمختصر إلى آخر قوله: ((وهي الجماعة)).
والمطول إلى آخر قوله ((إلا دخله)) دون ذكر قسم معاوية في آخر الحديث.
وسكت عليه أبو داود فهو عنده صالح.
13- وحديث أبي هريرة أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه من رواية محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
((تفرقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة أو اثنتين وسبعين فرقة، والنصارى مثل ذلك، وتفترق أمتي على ثلاثٍ وسبعين فرقة)).(1/76)
لفظ الترمذي، وقال: حدث حسن صحيح.
14- وروينا في كتاب الترمذي من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
((ليأتين على أمتي ما أتى على بني إسرائيل حذو النعل بالنعل حتى إن كان منهم من أتى أمه علانية لكان في أمتي من يصنع ذلك. وإن بني إسرائيل تفرقت على اثنتين وسبعين ملة، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة، كلهم في النار إلا ملةً واحدةً)).
قالوا: من هي يا رسول الله؟
قال: ((ما أنا عليه وأصحابي)).
قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب مفسر، لا نعرفه مثل هذا إلا من هذا الوجه.
15- وروينا في ((سنن ابن ماجه)) بإسناد حسنٍ من رواية محمد بن(1/77)
عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
((لتتبعن سنة من كان قبلكم باعاً بباعٍ، وذراعاً بذراعٍ، وشبراً بشبرٍ، حتى لو دخلوا في جحر ضب لدخلتم فيه)).
قالوا: يا رسول الله اليهود والنصارى؟
قال: ((فمن إذاً؟)).
16- وروينا في ((سنن ابن ماجه)) أيضاً بإسناد صحيح من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
((إن بني إسرائيل افترقت على إحدى وسبعين فرقة، وإن أمتي ستفترق على اثنتين وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدةً وهي الجماعة)).
17- وروينا في ((سنن ابن ماجه)) أيضاً بإسناد جيدٍ من حديث عوف بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
((افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقةً، فواحدةٌ في الجنة وسبعون في النار. وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، فإحدى وسبعون فرقة في النار وواحدة في الجنة. والذي نفس محمد بيده لتفترقن أمتي(1/78)
على ثلاث وسبعين فرقة، فواحدة في الجنة واثنتان وسبعون في النار)).
قيل: يا رسول الله! من هم؟
قال: ((الجماعة)).
18- وروينا في ((المستدرك)) للحاكم من رواية كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف عن أبيه عن جده قال:
كنا قعوداً حول رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجده فقال:
((لتسلكن سنن من كان قبلكم حذو النعل بالنعل ولتأخذن بمثل أخذهم، إن شبراً فشبرٌ، وإن ذراعاً فذراعٌ، وإن باعاً فباعٌ؛ حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتم فيه. ألا إن بني إسرائيل افترقت على موسى على سبعين فرقةً، كلها ضالةً إلا فرقة واحدةً: الإسلام وجماعتهم وإنها افترقت على عيسى بن مريم على إحدى وسبعين فرقةً كلها ضالةٌ إلا فرقة(1/79)
واحدةً: الإسلام وجماعتهم. ثم إنكم تكونون على اثنتين وسبعين فرقة. كلها ضالةٌ إلا فرقةٌ واحدةً: الإسلام وجماعتهم)).
قال الحاكم: كثير بن عبد الله لا تقوم به الحجة.
قلت: وهو إن ضعفوه فقد حسن له البخاري والترمذي حديث ((التكبير في العيدين: في الأولى سبعاً .. .. ) الحديث. وحسن له الترمذي حديثه في ((ساعة الجمعة)).(1/80)
وصحح له الترمذي حديث ((الصلح جائزٌ بين المسلمين .. .. )) وإنما ذكرته استشهاداً.
وقد أشار معاوية إلى تشبيه القصاص من هذه الأمة بافتراق بني إسرائيل.
وقد ورد في حديث مرفوع أن بني إسرائيل قصوا، وكان ذلك سبب هلاكهم.
19- رويناه في ((المعجم الكبير)) للطبراني من حديث خباب بن الأرت عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
((إن بني إسرائيل لما هلكوا قصوا)).(1/81)
وقد أشار عمر إلى تميم لما سأله أن يقص بأنه الذبح، لما يخشى عليه من الترفع عليهم والإعجاب.
20- كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح لمن مدح غيره:
((قطعت عنق صاحبك)).
وقد ورد في حديث [مرفوع] أنه يخشى على القاص من المقت.
21- رويناه في ((المعجم الكبير)) للطبراني من رواية مجاهد عن العبادلة: عبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن الزبير، وعبد الله بن عمرو، قالوا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
((القاص ينتظر المقت .. .. )) الحديث.(1/82)
وهذا الحديث لا يصح، وإنما ذكرته للترهيب، فإن شيخ الطبراني فيه عبد الله بن أيوب القربي الضرير. قال الدارقطني: متروك.
وفي الأحاديث المتقدمة الصحيحة كفاية في ذلك.
وأما إنكار الصحابة لذلك فورد ذلك عن ابن مسعود، وابن عمر، وعمر بن الخطاب، ومعاوية، كما تقدم عنهما. وصلة بن الحارث وأنس بن مالك:
22- فروينا في ((المعجم الكبير)) للطبراني عن عمرو بن زرارة قال: وقف علي عبد الله وأنا أقص. فقال لي:
يا عمرو! لقد ابتدعت بدعة ضلالة أو إنك لأهدى من محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه.(1/83)
قال عمرو بن زرارة: فلقد رأيتهم تفرقوا عني حتى رأيت مكاني ما فيه أحد.
23- وروينا في ((المعجم الكبير)) للطبراني أيضاً من رواية يحيى البكاء قال: رأى ابن عمر قاصاً يقص
في المسجد الحرام، ومع ابن له.
فقال له ابنه: أي شيء يقول هذا؟
قال: هذا يقول: اعرفوني اعرفوني.
24- وروينا في ((المعجم الكبير)) له من رواية سعيد بن عبد الرحمن الغفاري أن سليم بن عتر التجيبي كان يقص على الناس وهو قائم، فقال له صلة بن الحارث الغفاري وهو من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم :(1/84)
والله ما تركنا عهد نبينا، ولا قطعنا أرحامنا حتى قمت أنت وأصحابك بين أظهرنا.
25- وروينا في ((مسند أبي يعلى الموصلي)) من رواية جعفر بن ميمون قال: حدثنا الرقاشي قال:
كان أنس مما يقول لنا إذا حدثنا هذا الحديث -يريد حديث: ((لأن أقعد مع قوم يذكرون الله.. .. )) الحديث-: إنه والله ما هو بالذي تصنع أنت وأصحابك.(1/85)
يعني: يقعد أحدكم فتجتمعون حوله فيخطب، إنما كانوا إذا صلوا الغداة قعدوا حلقاً حلقاً يقرؤون القرآن ويتعلمون الفرائض والسنن.
26- وقد روى أبو داود المرفوع منه من رواية موسى بن خلف عن قتادة عن أنس.
27- وقيل: إن أنساً قال ذلك لزياد النميري وأبان بن يزيد الرقاشي وكانا يقصان على الناس، فذكر لهما أنس أن المراد بذلك مجالس العلم.
ويدل على تفضيل مجالس العلم على مجالس الذكر والتذكير:
28- ما رويناه في ((سنن ابن ماجه)) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، قال:
خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم من بعض حجره فدخل المسجد فإذا هو بحلقتين:
إحداهما يقرؤون القرآن ويدعون الله.(1/86)
والأخرى يتعلمون ويعلمون.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم :
((كلٌ على خيرٍ. هؤلاء يقرؤون القرآن ويدعون الله، فإن شاء أعطاهم، وإن شاء منعهم.
وهؤلاء يتعلمون ويعلمون. وإنما بعثت معلماً)).
فجلس معهم.
وله طرق يقوي بعضها بعضاً رويناها في ((المعجم الكبير)) للطبراني، وفي كتاب ((رياضة المتعلمين))
لابن السني وفي كتاب ((رياضة المتعلمين)) لأبي نعيم، وفي كتاب ((العلم)) لابن عبد البر.
ولقد كان القصاص -وإن اشتهر كلٌ منهم بالزهد والصلاح- معروفين بالضعف في رواية الحديث كيزيد الرقاشي، وزياد النميري، وصالح المري، والحارث بن أسد وغيرهم.(1/87)
29- حتى روينا في مقدمة ((صحيح مسلم)) عن يحيى بن سعيد القطان قال:
ما رأيت الصالحين أكذب منهم في الحديث.
وهذا يحتمل تأويلين:
أحدهما: أنهم يحسنون ظنهم بمن يحدثهم ولا يميزون بين الصحيح والضعيف.
والثاني: أن يراد بذلك من ينسب للصلاح وليس بصالح؛ ولو كان صالحاً لتحفظ في حديثه وخالف من التحريف، كما كان يفعل جماعة من الصحابة يخافون من التحديث خوفاً أن يزل حفظ أحدهم فيقع في التحذير من الكذب عليه.
وقد روى العقيلي وابن عدي كلام يحيى بن سعيد بصيغة:
ما رأيت الكذب في أحدٍ أكثر منه فيمن ينسب إلى الخير.
وقد اعترف غير واحد ممن يظن به الصلاح بوضع الحديث ليرغب(1/88)
الناس في الخير على زعمه، ففضحهم الله.
30- كما روينا عن سفيان قال:
ما ستر الله أحداً يكذب في الحديث.
31- وقد سئل أبو زرعة الرازي عن الحارث المحاسبي وكتبه فقال للسائل:(1/89)
إياك وهذه الكتب. هذه كتب بدعٍ وضلالات، عليك بالأثر فإنك تجد فيه ما يغنيك.
قيل له: في هذه الكتب عبرة.
فقال: من لم يكن له في كتاب الله عبرة فليس له في هذه الكتب عبرةً. بلغكم أن سفيان ومالكاً والأوزاعي صنفوا هذه الكتب في الخطرات والوساوس؟؟ ما أسرع الناس إلى البدع!!
قال الذهبي في ((الميزان)):
وأين مثل الحارث؟ فكيف لو رأى أبو زرعة تصانيف المتأخرين كـ ((القوت)) لأبي طالب؟ وأين مثل ((القوت))؟
كيف لو رأى ((بهجة الأسرار)) لابن جهضم؟ و((حقائق التفسير))(1/90)
للسلمي.. .. لطار لبه.
كيف لو رأى تصانيف أبي حامد في ذلك على كثرة ما في ((الإحياء)) من الموضوعات؟ كيف لو رأى ((الغنية)) للشيخ عبد القادر؟
كيف لو رأى ((فصوص الحكم)) و((الفتوحات المكية))؟
بلى .. لما كان الحارث لسان القوم في ذاك العصر كان معاصره ألف إمام في الحديث، فيهم مثل أحمد بن حنبل وابن راهويه.
ولما صار أئمة الحديث مثل ابن الدخميسي وابن شحانة كان قطب(1/91)
العارفين كصاحب ((الفصوص)) وابن سبعين. نسأل الله العفو والمسامحة آمين. انتهى.
وليت شعري ماذا يلقون في هذه الأزمان على العوام؟ يتكلمون في كلام الله بغير علم، أم في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير معرفة بالصحيح والسقيم، أم في اختلاف العلماء: فعمن أخذوا أهل العلم؟
ويدعي أحدهم أن الله علمه ما لا يعلمه غيره، أيدعون وراثة الخضر؟ ذاك الذي نص الله على علمه بقوله: {وعلمناه من لدنا علماً} وقال هو: {وما فعلته عن أمري} ولذلك يغلب على الظن أنه نبي، وبه جزم ابن الصلاح في ((فتاويه)) فقال:(1/92)
وهو نبي فقد اختلف في رسالته.
وتبعه النووي على ذلك.
وإذا كان كذلك فالعلماء هم ورثة الأنبياء، كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم لا من يدعي دعاوى باطلة، فيفسر أحدهم كلام الله على غير تأويله كما فعلت اليهود، ويقول أحدهم على النبي صلى الله عليه وسلم ما لم يقل.
وإن اتفق أنه نقل حديثاً صحيحاً كان آثماً في ذلك، لأنه ينقل ما لا علم له به، وإن صادف الواقع كان آثماً بإقدامه على ما لا يعلم.
32- وقد قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح المتفق عليه:
((من قال علي ما لم أقل فليتبوأ مقعده من النار)).(1/93)
33- وقال في حديث ابن عباس الذي رواه الترمذي:
((من قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار)).
34- وفي رواية له:
((من قال في القرآن بغير علمٍ فليتبوأ مقعده من النار)) وقال: هذا حديث حسن صحيح.
35- وروى الترمذي من حديث جندب بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
((من قال في القرآن برأيه فأصاب، فقد أخطأ)).
قال البيهقي في ((المدخل)):
قد يكون المراد بالخبر -إن صح-: من يقول فيه برأيه من غير معرفة منه بأصول العلم وفروعه، فتكون موافقته للصواب -وإن وافقه من حيث لا يعرفه- غير محمودة. والله أعلم.(1/94)
ولو نظر أحدهم في بعض التفاسير المصنفة لا يحل له النقل منها، لأن كتب التفسير فيها الأقوال المنكرة والصحيحة، ومن لا يميز صحيحها من منكرها لا يحل له الاعتماد على الكتب.
وأيضاً فكثير من المفسرين ضعفاء النقل كمقاتل بن سليمان، والكلبي والضحاك بن مزاحم.
وكذا كثير من التفاسير عن ابن عباس لا تصح عنه لضعف رواتها.
وليت شعري! كيف يقدم من هذه حاله على تفسير كتاب الله ؟ أحسن أحواله أن لا يعرف سقيمه من صحيحه. بل يزيد أحدهم فيحدث لنفسه أقوالاً لو نقلت عن المجانين لاستقبحت منهم.
وهذا أبو بكر الصديق رضي الله عنه يقول:
أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إن قلت في القرآن برأيي؟(1/95)
فكيف يقدم من لم يعرف ما يجب عليه مما يحرم عليه أن يتجاسر على الخوض في ذلك؟!
وهذا عبد الملك الأصمعي إمام اللغة سئل عن قوله صلى الله عليه وسلم : ((الجار أحق بسقبه)) فقال:
أنا لا أفسر حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن العرب تزعم أن السقب اللزيق.
وهذا الإمام أحمد بن حنبل سئل عن حرفٍ من غريب الحديث فقالوا: سلوا أصحاب الغريب، فإني أكره أن أتكلم في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم بالظن.
فإذا كان مثل هؤلاء الأئمة يتوقف أحدهم عن الخوض في تفسير(1/96)
حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم خيفة أن يكون المراد منه غير ذلك، فكيف بمن لا يعرف له تعلم شيء من العلم عن أهله؟!
وأيضاً فلا يحل لأحد ممن هو بهذا الوصف أن ينقل حديثاً من الكتب، بل ولو من الصحيحين ما لم يعتمد على من يعلم ذلك من أهل الحديث.
وقد حكى الحافظ أبو بكر محمد بن خير بن عمر الإشبيلي -وهو خال أبي القاسم السهيلي- في ((برنامجه)) المشهور اتفقا العلماء على أنه لا يصح لمسلم أن يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا. حتى يكون عنده ذلك القول مروياً ولو على أقل وجوه الروايات لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم :(1/97)
((من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار)).
وفي بعض الروايات:
((من كذب علي .. .. )) مطلقاً دون تقييد.
وأيضاً فمن آفاتهم أن يحدثوا كثيراً من العوام بما لا تبلغه عقولهم فيقعوا في شيء من الاعتقادات السيئة.
هذا لو كان صحيحاً فكيف إذا كان باطلاً؟
36- وقد روينا في مقدمة ((صحيح مسلم)) عن عبد الله بن مسعود أنه قال:
ما أنت محدث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة.(1/98)
فلو أمسكوا عن الكلام وآفاته لكان خيراً لهم، ولو علم الناس عندهم علماً شرعياً لقصدوهم له، ولكنهم يدعون علماً بلا تعلم، وإنما العلم بالتعلم:
37- كما روينا في كتاب ((الحلية)) لأبي نعيم من رواية رجاء بن حيوة عن أبي الدرداء رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
((إنما العلم بالتعلم، والحلم بالتحلم، ومن يتحر الخير يعطه، ومن يتوق الشر يوقه)).
الحديث أورده في ترجمة رجاء بن حيوة، وقال: غريب من حديث الثوري عن عبد الملك بن عمير. تفرد به محمد بن الحسن الهمداني. انتهى.
وقد حسن الترمذي لمحمد بن الحسن هذا حديث أبي سعيد(1/99)
مرفوعاً: ((يقول الله: من شغله القرآن عن دعائي ومسألتي أعطيته أفضل ما أعطي الشاكرين)).
وقد ضعفه جماعة.
وإنما الاعتماد في هذا على الاستقراء: ما رأينا ولا أخبرنا مشايخنا ولا من قبلهم أن أحداً ظهر له علم بغير تعلم. وإنما هو:
38- كما قال علي رضي الله عنه في الحديث الصحيح، وسئل: هل خصكم رسول الله صلى الله عليه وسلم دون الناس بشيء؟
فقال: لا، إلا القرآن وما في هذه الصحيفة، إلا أن يؤتي الله عبداً فهماً في كتابه.
نعم عمل العالم بعلمه يعين على دوامه وعدم نسيانه.(1/100)
39- كما روينا عن إسماعيل بن إبراهيم بن مجمع قال:
كنا نستعين على حفظ الحديث بالعمل به.
40- وروينا عن وكيع قال:
إذا أردت أن تحفظ الحديث فاعمل به
ويدعي بعضهم أن النبي صلى الله عليه وسلم أذن له أن يتكلم على الناس ويجزم بأنه حق.
والنبي صلى الله عليه وسلم لا يأمر بما نهى هو عنه. ويعلم بهذا أن هذه الروايات ليست بحق، والرائي ليس من أهل التكليف في حال نومه.
ومثل هذا شبيهٌ بما بلغنا عن القاضي الحسين من كبار الشافعية أنه أتاه سائلٌ فقال له:(1/101)
رأيت النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الثلاثين من شعبان وقال: غداً من رمضان. ولم يكن الهلال رئي.
- فقال له القاضي الحسين: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال في اليقظة:
(( لا تصوموا حتى تروا الهلال)).
ولا نصوم حتى نراه.
وكثير من الناس يغتر بالمنامات.
41- وإنما قال النبي صلى الله عليه وسلم :
((لم يبق من مبشرات النبوة إلا الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له)).(1/102)
رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة.
فإذا كانت الرؤيا مخالفة لما أمر به أو نهى عنه، أو لما كان معهوداً في زمانه استدللنا بذلك على أن الرؤيا فيها اختلالٌ وأنها تخيل.
قال الإمام أبو عبد الله المازري:
إنه لو رآه يأمر بقتل من يحرم قتله كان هذا من الصفات المتخيلة لا المرئية. انتهى.
وأيضاً فلا بد من اشتراط كون الرائي له من أهل الدين والعدالة ليميز بين الحق والباطل.(1/103)
فلو كان غير ثقة أو مجهول الحال لم نثق بقوله، فإنه لو روى حديثاً في اليقظة من غير نوم لا يقبل قوله في هذه الحالة، فكيف يقبل مع عدم الثقة به، وانضم إلى ذلك أنه ليس من أهل التكليف في حالة نومه.
فلا يجب حينئذ عليه ما ادعى أنه أمره به، ولا يحرم عليه ما أحل له.
لكن إذا وافق ذلك شريعته المقررة فيستحب حينئذ الإتيان بما أمره به، والانتهاء عما نهاه عنه إن مكان منهياً عنه في شريعته، والاعتماد على كونه مشروعاً، ويتأكد ذلك بالرؤيا إذا كانت من أهل الصدق والأمانة والتقوى(1/104)
والخوف من الله، وإلا فقد كذب جماعة من الضعفاء عليه في أحاديث موضوعة واعترف بعضهم بوضعها، وهو أشد من الكذب عليه في المنام، لأن الكذب عليه في اليقظة مختلفٌ في الكفر به:
فذهب الشيخ أبو محمد الجويني والد إمام الحرمين [إلى] التكفير به:
42- لقوله صلى الله عليه وسلم :
((إن كذباً علي ليس ككذبٍ على أحد، فمن كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار)).
اتفق على إخراجه البخاري ومسلم.
ولو قال قائلٌ بعموم الحديث في الكذب عليه ولو في المنام لم يكن بعيداً.
وربما ظن الذي يزعم أنه رأى ذلك فيه تقوية لاعتقاد المريدين فيستحسنه، فيكون مستحلاً له فيقع في الكفر.(1/105)
وقد تعرض لذلك الإمام العلامة أبو حيان محمد بن يوسف الأندلسي في تفسيره المسمى بـ ((البحر المحيط)) في سورة الأعراف فقال:
وقد ظهر في هذا الزمان العجيب ناسٌ يتسمون بالمشايخ يلبسون ثياب شهرة عند العامة بالصلاح، ويتركون الاكتساب، ويرتبون لهم أذكاراً لم ترد في الشريعة يجهرون بها في المساجد، ويجمعون لهم خداماً يجلبون الناس إليهم لاستخدامهم ونتش أموالهم، ويذيعون عنهم كرامات ويرون لهم منامات يدونونها في أسفار، ويحضون على ترك العلم والاشتغال بالسمنة، ويرون أن الوصول إلى الله تعالى بأمور يقررونها من خلوات وأذكار لم يأت بها كتاب منزل، ولا نبي مرسل، ويتعاظمون على الناس بالانفراد على سجادة ونصب أيديهم للتقبيل، وقلة الكلام، وإطراق الرأس، وتعيين خادم يقول: [الشيخ مشغول في الخلوة. رسم الشيخ. قال الشيخ. رأى الشيخ. الشيخ نظر إليك] الشيخ كان البارحة يذكرك .. .. إلى نحو هذا اللفظ الذي يخشون به على العامة، ويخلبون به عقول الجهلة.(1/106)
هذا إن سلم الشيخ وخدامه من الاعتقاد الذي غلب الآن على متصوفة هذا الزمان من القول بالحلول أو القول بالوحدة، فإذ ذاك يكون منسلخاً عن شريعة الإسلام بالكلية.
قال:
والعجب لمثل هؤلاء: كيف ترتب لهم الرواتب؟ وتبنى لهم الربط؟ وتوقف عليهم الأوقاف؟ ويخدمهم الناس مع عروهم عن سائر الفضائل، ولكن الناس أقرب إلى أشباههم منهم إلى غير أشباههم.
قال:
وقد أطلنا في هذا رجاء أن يقف عليه مسلمٌ فينتفع به.
وقال الإمام أبو حيان في ((تفسيره)) في سورة الأنعام:(1/107)
(لقد يظهر من هؤلاء المنتسبة إلى الصوف أشياء، من ادعاء علم المغيبات، والاطلاع على علم عواقب أتباعهم، وأنهم معهم في الجنة مقطوع لهم بذلك.
يذكرون ذلك على المنابر، ولا ينكره عليهم أحد، هذا مع خلوهم عن جميع العلوم، يدعون علم الغيب.
وقد كثرت بديار مصر هذه الخرافات، وقام بها ناسٌ صبيان العقول يسمون بالشيوخ).
ثم أنشد خمسة أبيات من قصيدة له هي:
عجزوا عن مدارك العقل والنقل ... وأعياهم طلاب العلوم
فارتموا يدعون أمراً عظيماً ... لم يكن للخليل ولا الكليم
بينما المرء منهم في انسفالٍ ... أبصر اللوح ما به من رقوم
فجنى العلم منه غضاً طرياً ... ودرى ما يكون قبل الهجوم
إن عقلي لفي عقالٍ إذا ما ... أنا صدقت بافتراء عظيم
وفيما أشرنا إليه في ذلك كفاية، فقد تعاضدت الأحاديث الصحيحة عن سيد المرسلين، وأقوال الصحابة الراشدين، والتابعين وأتباع التابعين، ومن بعدهم من العلماء الراسخين، على ما ذكرنا.
فيجب على ولاة أمور المسلمين منع هؤلاء من الكلام على الناس حتى تتبين أهليتهم لذلك عند العلماء الراسخين. فذلك من النصيحة لله ولرسوله ولولاة أمور المسلمين.
والله يعصمنا من الزلل، في القول والعمل أجمعين. والحمد لله رب العالمين.(1/108)