لقاء العشر الأواخر بالمسجد الحرام (32)
الانتهاض في ختم الشفا لعياض
للحافظ
شمس الدين محمد بن عبد الرحمن السخاوي
(ت 902 هـ)
دراسة وتحقيق
عبد اللطيف بن محمد الجيلاني
دار البشائر الإسلامية
الطبعة الثانية
1425 هـ - 2004 م(/)
بسم الله الرحمن الرحيم وبه الاستعانة, يا كريم
مقدمة
الحمد لله المانح لعباده المؤمنين شفا, والمانع عن أحبائه الموحدين شقا, باعث النبيين, مبشرين ومنذرين, وميسرين غير معسرين, بالآيات الباهرات, والمعجزات الظاهرات, والبراهين الساطعات, وناعت الجميع, بالوصف البديع, والستر المنيع, والحجاب الرفيع, وجاعل نبينا أكملهم ذاتاً, وأجملهم صفاتاً, وأرفعهم قدراً, وأجمعهم فخراً, وأزكاهم كرامةً, وأوفاهم معجزة وآيةً. به ختم النبيين, وفضله على سائر الخلق أجمعين, وجعل أمته خير الأمم.
وأعطاه جوامع الكلم, وبدائع الحكم, ونسخ الشرائع بشريعته, وعم سائر الخلق ببعثته, وأعطاه المقام المحمود, والحوض المورود, والشفاعة العظمى في اليوم المشهود, واصطفاه بالمحبة والخلة, والقرب والدنو, والمعراج, والصلاة بالأنبياء, ولواء الحمد, والبشارة والنذارة, والهداية والأمانة, وإتمام النعمة.(1/29)
وأعطاه الرضى والعفو عما تقدم وتأخر, وشرح الصدر, ورجحان الفضل, ووضع الوزر, ورفع الذكر, وعز النصر, ونزول السكينة, والتأييد بالملائكة, وإيتاء الكتاب والحكمة, والسبع المثاني, والقرآن العظيم, والحكم بين الناس بما أراه الله, والقسم باسمه, وإجابة دعوته, وإحياء الموتى, وإسماع الصم, ورد الشمس, وقلب الأعيان, والإطلاع على الغيب بإذنه, وظل الغمام, وإبراء الآلام, والعصمة من الناس, وصلاة الله وملائكته عليه, وجعله رحمةً للعالمين, ووضع الإصر والأغلال عن أمته, إلى غير ذلك مما ادخره له في الآخرة من الكرامة والسعادة الوافرة.
فله الحمد على ما أنعم, وله الشكر فيما إليه ألهم, من اتباع آثار هذا النبي الكريم, وإسماع نبذٍ من مآثره وشمائله وخصائصه في الجم العميم.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, شهادة معترفٍ بالعجز والتقصير, ومغترفٍ من بحر كرمه وجوده ما يكتفى به المسير, وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله, وحبيبه وخليله, وصفيه ونجيه, سيد الخلق, والنبي الحق, أرسله {بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون}.
اللهم صل وبارك وترحم على عبدك ونبيك ورسولك النبي الأمي, سيد المرسلين, وإمام المتقين, وخاتم النبيين, إمام الخير,(1/30)
وقائد الخير, ورسول الرحمة, وعلى أزواجه أمهات المؤمنين, وذريته وأهل بيته وآله وأصهاره وأنصاره وأتباعه وأشياعه ومحبيه, كما صليت وباركت وترحمت على إبراهيم, وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميدٌ مجيدٌ.
وصل وبارك وترحم علينا معهم أفضل صلواتك وأزكى بركاتك, كلما ذكرك الذاكرون, وغفل عن ذكرك الغافلون, عدد الشفع والوتر, وعدد كلماتك التامات المباركات, وعدد خلقك, ورضى نفسك, وزنة عرشك, ومداد كلماتك, صلاةً دائمةً بدوامك.
اللهم ابعثه يوم القيامة مقاماً محموداً, يغبطه به الأولون والآخرون, وأنزله المقعد المقرب عندك يوم القيامة, وتقبل شفاعته الكبرى, وارفع درجته العليا, وأعطه سؤله في الآخرة والأولى, كما آتيت إبراهيم وموسى.
اللهم اجعل في المصطفين محبته, وفي المقربين مودته, وفي الأعلين ذكره, واجزه عنا ما هو أهله, خير ما جزيت نبياً عن أمته, واجز الأنبياء كلهم خيراً, صلوات الله وصلاة المؤمنين على محمد النبي الأمي, السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته ومغفرته ورضوانه.
اللهم أبلغه منا السلام, واردد علينا منه السلام, وأتبعه من أمته وذريته ما تقر به عينه يا رب العالمين.(1/31)
اللهم وارض عن أئمة الدين والأئمة المجتهدين, القائمين بنصر دينه القويم, والسالكين طريقه المستقيم, والدافعين جيشات المبطلين, بأمتن دليل, وأحسن إيضاحٍ وتعليلٍ, حتى رجع الملحد خائباً, وانقطع المفسد مجانباً, وعادت حجته داحضةً, لما تظاهروا بالأدلة الناهضة.
فشكر الله سعيهم, وقبل صنعهم, ونفعنا ببركاتهم, وبركات علومهم.
وقد كان منهم في المائة السادسة القاضي أبو الفضل عياض بن موسى بن عياض بن عمرون بن موسى بن عياض بن محمد بن عبد الله ابن موسى بن عياض اليحصبي, الأندلسي الأصل, السبتي, إمام(1/32)
وقته في التفسير والحديث وفنونهما, والحافظ لمذهب الإمام مالكٍ, والمتقدم في الأصول والنحو واللغة وأيام العرب وأنسابها, والبصير بالأحكام وعقد الشروط, والمجيد للشعر والخطابة والبلاغة, والمتضلع من فنون الأدب, والصبر والحلم, والموصوف بالجود والسماحة وكثرة الصدقة وجميل العشرة, والدؤوب على العمل, والصلابة في الحق.
ووصف بأنه: ((جاء على قدرٍ, وسبق إلى نيل المعالي وابتدر, فاستيقظ لها والناس نيامٌ, وورد ماءها وهم حيامٌ, وتلا من المعارف ما أشكل, وأقدم على ما أحجم عنه سواه ونكل, فتحلت به للعلوم نحورٌ, وتجلت له منها حورٌ, كأنهن الياقوت والمرجان, لم يطمثهن إنسٌ قبلهم ولا جانٌ.
قد ألحفته الأصالة رداءها, وسقته أنداءها, وألقت إليه الرياسة(1/33)
مقاليدها, وملكته طريفها وتليدها, فبذ على فتيانه الكهول سكوناً وحلماً, وسبقهم معرفةً وعلماً, وأزرت محاسنه بالبدر اللياح, وسرت فضائله مسرى الرياح, فشوفت لجلاه الأقطار, ووكفت تحكي نداه الأمطار.
وهو على اعتنائه بعلوم الشريعة, واختصاصه بهذه المرتبة الرفيعة, يعنى بإقامة أود الأدب, وينسل إليه أربابه من كل حدب)) (1) .
وكان براً بلسانه، جواداً ببنانه، كثير التخشع في صلاته، مواصلاً لصلاته، بحر علم، وهضبة دين وحلم، وهو كالثمرة كلها حلاوة، للنفس إلى عذوبة لفظه في كل ما تصرف فيه من الكلام نثراً ونظماً طلاوة.
صنف التصانيف الفائقة، في العلوم النافعة الرائقة، فمن ذلك:
__________
(1) انتهى نقل المصنف عن كتاب (قلائد العقيان) للفتح ابن خاقان(1/34)
- إكمال المعلم في شرح صحيح مسلم.
- ومشارق الأنوار على صحاح الآثار.
- والإلماع في ضبط الرواية وتقييد السماع.
- وبغية الرائد لما تضمنه حدث أم زرع من الفوائد.
- ومعجم شيوخه المسمى بالغنية.(1/35)
- والإعلام بحدود قواعد الإسلام.
- والمدارك في مناقب الإمام مالك وأصحابه.
- والتنبيهات المستنبطة في شرح كلمات مشكلة وألفاظ مغلظة على الكتب المدونة.(1/36)
وغير ذلك مما انتفع به الأئمة شرقاً وغرباً، وتنافسوا في تحصيله بعداً وقرباً.
ولو لم يكن له من التصانيف إلا كتابه الشفا بتعريف حقوق المصطفى لكفى في علو مقداره، وسمو اشتهاره، فإنه أبدع فيه كل الإبداع، وانعقد على جلالته الإجماع، وسلم له أكفاؤه [كفايته] فيه، واعتمده المحدث والفقيه، ولم ينازعه في انفراده به أحدٌ، ولا خلي عنه من مدن الإسلام بلدٌ، ولا أنكروا من يده سبقه إليه، بل تشوقوا للوقوف عليه، وأنصفوا في الاستفادة منه والرواية عنه، واعترفوا بأنه بلغ فيه الغاية القصوى، وإن كان ذلك أمراً لا يستوفى.
فنسأل الله تعالى أن يجازي مؤلفه خيراً، ويعظم له بما ألفه وانتخبه أجراً، فلقد جرى في ميدان أشرف العلوم جري السابق، ونظم في جيد الزمان سلك المعارف، ودرر الحقائق، وشفى بكتاب الشفا قلب كل مؤمن صادق، كما كبت به [قلب كل] عدوٍ منافقٍ، فإذا طالعه المؤمن استنارت في باطنه حقائق أنواره، وإذا جال في روض(1/37)
معارفه تنفست له نفحات نسيمه الأريج, وتبسمت له مباسم أزهاره.
فهو كما قال القائل تعظماً لمحله الكريم, وتشريفاً لحميد آثاره:
كتاب الشفا شفاء القلوب ... قد ائتلقت شمس برهانه
فأكرم به ثم أكرم به ... وأعظم مدى الدهر من شأنه
إذا طالع المرء مضمونه ... رسى في الهدى أصل إيمانه
وجال بروض التقى ناشقاً ... أرايج أزهار أفنانه
ونال علوماً ترقيه في ... ثريا السناء وكيوانه
فلله در أبي الفضل إذ ... سرى في الورى نيل إحسانه
فعزز قدر نبي الهدى ... وخير الأنام بتبيانه
وجازاه ربي خير الجزاء ... وجاد عليه بغفرانه
ومنا الصلاة على المجتبى ... وأصحابه ثم أعوانه(1/38)
مدى الدهر لا تنقضي دائماً ... ولا تنثني طول أزمانه
وقيل فيه أيضاً:
جزى الإله عياضاً بالشفاء غداً ... رياض فردوسه نزلاً بجنته
دواؤه قد شفى الأدواء فهو له ... ذخرٌ يقيه يقيناً لبس جنته
وقيل فيه أيضاً:
شفاء عياضٍ للنفوس الأبية ... دواء سناءٍ وهو أسنى وسيلة
به أشرق الإصباح واتضح الهدى ... برغم أنوفٍ للطغاة وذلة
له الله من بحرٍ إمامٍ وعالمٍ ... غدا فيه يهدي الحق لكن بسنة
ولما رأى الأهواء زاد امتدادها ... وجاء بنوها بالضلال وشبهة
نضا صارم الإسلام في كيد نحرهم ... وقال لهم بالله حسبي وعدة(1/39)
أبان الذي يعتاض صدقاً بحجةٍ ... أتت تجتلي كالشمس وسط الظهيرة
لها في بلاد الله نورٌ مشعشعٌ ... ومطلع ذاك النور أرجاء سبتة
ولا عجبٌ للغرب قد خص ربنا ... به الفضل, بل في الشرق مطلع فتنة
جزى الله ربي روحه الناعم الذي ... توارى غريباً خير أعضاء ميت
وآتاه مما قد أعد لمن قضى ... شهيداً من الخيرات في صدق جنة
وقيل فيه أيضاً:
شفاء عياضٍ للقلوب دواؤها ... من الجهل فاجهد أن تكون به مغرى
لقد فاز بالأجر الجزيل حقيقةً ... لدى حلبة السباق في موقف الأخرى
فطالع معانيه تفز بمعارفٍ ... ترقى معانيها وتكسبه أجراً(1/40)
وتدنيه من نهج الحقيقة واصلاً ... إلى العالم الأعلى وتوجده ذكرا
فيرقى عن الأغيار في كل وجهةٍ ... ويظفر بالحسنى ويا حبذا ذخرا
وينعم بالأحباب في حضرة البقا ... ويشهد سر الجمع جهراً إذا أسرى
وفيه أيضاً:
شفى نفس كل امرئٍ مؤمنٍ ... بنور البيان كتاب الشفا
وأبهجها ما تضمنه ... من القول في شرف المصطفى
وفي شرف الأنبياء وفي ... طهارتهم من ضروب الجفا
جزى الله واضعه جنةً ... وقرب زلفى بما ألفا
أفاد علوماً جهولاً بها ... وزحزح عنه عمىً ونفى
علومٌ تزيد القلوب هدىً ... فأفلح قلبٌ زكى وصفا
رياضٌ من العلم صنفه ... عياضٌ فأكرم بما صنفا
إذا ما تأمل أزهاره ... أريبٌ سقيم الفؤاد اشتفى(1/41)
وفيه أيضاً:
جازى الإله العياضي الإمام بما ... يجزى به كل من يحيى به الأثر
أنوار ذكر الرسول المصطفى ائتلقت ... تجلو الدياجي منها الأنجم الزهر
شمس الضحى أشرقت من نوره وذكا ... من عرف روض الربى للناشق الزهر
سلكٌ به ازدان جيد العلم وانتظمت ... فيه لجامعه الياقوت والدرر
أروت ظمأ الورى غر الغمام به ... بواكفٍ للحيا سحت به الدرر
جديده ليس يبلى الذكر منه على ... مر الجديدين يستجلى له صور
غضٌ يلذ على الأسماع يملؤها ... من السرور إذا تتلى له سور
لله در ذوي الألباب قد عمروا ... الأعمار منه بما قد بورك العمر(1/42)
يرددون على الأسماع ما قرؤوا ... منه فيا نعم ما الدنيا به عمروا
الشعر شاخ وكل الفكر حين مضى ... عصر الشباب وشاب الرأس والشعر
تمضي الحياة وأبناء الزمان به ... في غفلةٍ بانصرام العمر ما شعروا
أنى لمن بشرٍ جلت ذنوبهم ... والله يصفح عما قد جنى البشر
الفضل والكرم الجم العميم له ... جاءت به لعبيدٍ أذنبوا البشر
وهذا آخر ما قصدت إيراده.
وقد أخبرني به المشايخ الأئمة:
- شيخ الإسلام حافظ الوقت أبو الفضل أحمد بن حجر.
- وأبو عبد الله محمد بن عبد الله الرشيدي.
- والمجد أبو الفتح محمد بن محمد الحريري.(1/43)
- وجويرية ابنة أبي الفضل الحافظ.
رحمهم الله جميعاً, وآخرون.
بقراءتي على الأخيرين.
وسماعاً على الثاني لجميعه.
وعلى الأول لغالبه, وإجازة لسائره, قال: أخبرنا به محمد بن عبد الرحيم الحنفي, وببعضه أبو الطيب محمد بن علي السحولي.(1/44)
وقال الثاني: أخبرنا به أبو الحسن علي بن محمد بن السبع سماعاً عليه من لفظ والدي عبد الله الجمال لجميعه.
وقال الثالث: أخبرنا به المجد أبو الفداء إسماعيل بن إبراهيم الحنفي سماعاً.
قالوا -ما عدا السحولي-: أخبرنا به النجم أبو الفتوح(1/45)
يوسف بن محمد بن محمد الدلاصي.
وقال السحولي: أخبرنا به الزبير بن علي بن سيد الكل الأسواني, قال: أخبرنا به أبو الحسين يحيى بن أحمد بن تامتيت, عن الإمام أبي الحسين يحيى بن(1/46)
محمد بن علي بن الصائغ.
وقالت المرأة: أخبرنا به أبو الفتح ابن حاتم, أخبرنا أبو [الثور] الديوسي, عن أبي عبد الله ابن محارب(1/47)
إجازة, عن مؤلفه: القاضي أبو الفضل عياض رحمه الله ورضي عنه وأعاد علينا من بركاته.
قال: انتهى نقله من مسودة المصنف وهي بخطه رحمه الله, وقوبل عليها.
كتب الفقير إلى الله الشيخ أحمد بامزروعٍ, وقد قوبلت هذه النسخة على النسخة المنقولة من مسودة المصنف رحمه الله, والحمد لله أولاً وآخراً وظاهراً وباطناً.(1/48)