«دخانًا، فسأله عما خبأ له؟ فقال: دخ. فقال: "اخسأ؛ فلن تعدو قدرك". فلما ولى؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما قال؟ ". قال بعضهم: وخ، وقال بعضهم: بل قال: دخ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "قد اختلفتم وأنا بين أظهركم، فأنتم بعدي أشد اختلافًا» .
رواه عبد الرزاق في "مصنفه"، وإسناده صحيح على شرط الشيخين.
ورواه الطبراني بإسنادين، قال الهيثمي: "ورجال أحدهما رجال الصحيح". وقد أشار إليه الترمذي في "جامعه"، وتقدم ذكره.
وعن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه؛ قال: «ما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الدجال أكثر مما سألته، فقال: "ما تصنع به؟ ليس بضارك". قلت: ألا أقتل ابن صياد؟ قال: "ما تصنع بقتله؟ إن كان هو الدجال؛ فلن تخلص إلى قتله، وإن لم يكن الدجال؛ فما تصنع به» .
رواه الطبراني. قال الهيثمي: "ورجاله رجال الصحيح؛ غير جهور بن منصور، وهو ثقة".
«وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه؛ "قال: صحبت ابن صائد إلى مكة، فقال لي: أما قد لقيت من الناس، يزعمون أني الدجال، ألست سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إنه لا يولد له. قال: قلت: بلى. قال: فقد ولد لي. أوليس سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا يدخل المدينة ولا مكة؟ قلت: بلى. قال: فقد ولدت بالمدينة، وهذا أنا أريد مكة. قال: ثم قال لي في آخر قوله: أما والله إني لأعلم مولده ومكانه وأين هو. قال: فلبسني"» .
رواه مسلم من حديث داود (وهو ابن أبي هند) عن أبي نضرة عن أبي سعيد رضي الله عنه.
ورواه أيضًا من حديث معتمر عن أبيه عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه؛ (قال: «قال لي ابن صائد - وأخذتني منه ذمامة -: هذا»(2/351)
«عذرت الناس، ما لي ولكم يا أصحاب محمد؟ ألم يقل نبي الله صلى الله عليه وسلم: إنه يهودي، وقد أسلمت. قال: ولا يولد له، وقد ولد لي. وقال: إن الله قد حرم عليه مكة، وقد حججت. قال: فما زال حتى كاد أن يأخذ في قوله. قال: فقال له: أما والله إني لأعلم الآن حيث هو، وأعرف أباه وأمه. قال: وقيل له: أيسرك أنك ذاك الرجل؟ قال: فقال: لو عرض علي ما كرهت» .
ورواه أيضًا من حديث الجريري عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه؛ "قال: «خرجنا حجاجًا أو عمارًا ومعنا ابن صائد. قال: فنزلنا منزلًا، فتفرق الناس، وبقيت أنا وهو، فاستوحشت منه وحشة شديدة مما يقال عليه. قال: وجاء بمتاعه، فوضعه مع متاعي، فقلت: إن الحر شديد، فلو وضعته تحت تلك الشجرة. قال: ففعل. قال: فرفعت لنا غنم، فانطلق، فجاء بعس، فقال: اشرب أبا سعيد! فقلت: إن الحر شديد، واللبن حار، ما بي إلا أني أكره أن أشرب عن يده (أو قال: آخذ عن يده) . فقال: أبا سعيد! لقد هممت أن آخذ حبلًا، فأعلقه بشجرة، ثم أختنق مما يقول لي الناس يا أبا سعيد! من خفي عليه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ما خفي عليكم معشر الأنصار، ألست من أعلم الناس بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أليس قد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هو كافر، وأنا مسلم؟ أوليس قد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هو عقيم لا يولد له، وقد تركت ولدي بالمدينة؟ أوليس قد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يدخل المدينة ولا مكة، وقد أقبلت من المدينة، وأنا أريد مكة؟. قال أبو سعيد الخدري رضي الله عنه: حتى كدت أن أعذره. ثم قال: أما والله إني لأعرفه وأعرف مولده وأين هو الآن. قال: قلت له: تبًا لك سائر اليوم» .
وقد رواه الترمذي من حديث الجريري عن أبي نضرة عن أبي سعيد رضي الله عنه، فذكره بنحوه، وقال في آخره: "فوالله ما زال يجيء بهذا حتى قلت: فلعله مكذوب عليه. ثم قال: يا أبا سعيد! والله لأخبرتك خبرًا حقًا، والله إني(2/352)
لأعرفه وأعرف والده وأين هو الساعة من الأرض. فقلت: تبًا لك سائر اليوم".
ثم قال الترمذي: "هذا حديث حسن".
ورواه الإمام أحمد من حديث التيمي عن أبي نضرة «عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه؛ "قال: لقيني ابن صائد، فقال: عد الناس يقولون (أو: أحسب الناس يقولون) وأنتم يا أصحاب محمد! أليس سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (أو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم) : هو يهودي، وأنا مسلم، وإنه أعور، وأنا صحيح، ولا يأتي مكة ولا المدينة، وقد حججت، وأنا معك الآن بالمدينة، ولا يولد له، وقد ولد لي، ثم قال: مع ذلك إني لأعلم أين ولد ومتى يخرج وأين هو. قال: فلبس علي» .
إسناده صحيح على شرط مسلم.
ورواه أيضًا من حديث عوف الأعرابي عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه؛ "قال: «أقبلنا في جيش من المدينة قبل هذا المشرق. قال: فكان في الجيش عبد الله بن صياد، وكان لا يسايره أحد، ولا يرافقه، ولا يؤاكله، ولا يشاربه، ويسمونه الدجال، فبينا أنا ذات يوم نازل في منزل لي، إذ رآني عبد الله بن صياد جالسًا، فجاء حتى جلس إلي، فقال: يا أبا سعيد! ألا ترى إلى ما يصنع الناس، لا يسايرني أحد، ولا يرافقني أحد، ولا يشاربني أحد، ولا يؤاكلني أحد، ويدعوني الدجال، وقد علمت أنت يا أبا سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن الدجال لا يدخل المدينة، وإني ولدت بالمدينة، وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الدجال لا يولد له، وقد ولد لي، فوالله؛ لقد هممت مما يصنع بي هؤلاء الناس أن آخذ حبلًا، فأخلو، فأجعله في عنقي، فأختنق، فأستريح من هؤلاء الناس، والله؛ ما أنا بالدجال، ولكن والله لو شئت؛»(2/353)
«لأخبرتك باسمه واسم أبيه واسم أمه واسم القرية التي يخرج منها» .
إسناده صحيح على شرط مسلم.
ورواه أيضًا من حديث الجريري عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه؛ "قال: «حججنا، فنزلنا تحت شجرة، وجاء ابن صائد، فنزل في ناحيتها، فقلت: إنا لله؛ ما صب هذا علي؟ قال: فقال: يا أبا سعيد! ما ألقى من الناس وما يقولون لي؛ يقولون: إني الدجال. أما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: الدجال لا يولد له، ولا يدخل المدينة ولا مكة؟ قال: قلت: بلى. قال: قد ولد لي، وقد خرجت من المدينة، وأنا أريد مكة. قال أبو سعيد: فكأني رققت له، فقال: والله إن أعلم الناس بمكانه لأنا. قال: قلت: تبًا لك سائر اليوم» .
وعن أيوب عن نافع؛ قال: «لقي ابن عمر رضي الله عنهما ابن صائد في بعض طرق المدينة، فقال له قولًا أغضبه، فانتفخ حتى ملأ السكة، فدخل ابن عمر رضي الله عنهما على حفصة رضي الله عنها وقد بلغها، فقالت له: رحمك الله! ما أردت من ابن صائد؟ أما علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنما يخرج من غضبة يغضبها» ؟.
رواه مسلم.
وقد رواه الإمام أحمد من حديث أيوب وعبيد الله عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما: «أنه رأى ابن صائد في سكة من سكك المدينة، فسبه ابن عمر ووقع فيه، فانتفخ حتى سد الطريق، فضربه ابن عمر رضي الله عنهما بعصا كانت معه حتى كسرها عليه، فقالت له حفصة: ما شأنك وشأنه؟ ما يولعك به؟ أما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إنما يخرج الدجال من غضبة يغضبها» ؟ .
ورواه: الإمام أحمد، ومسلم أيضًا؛ من حديث ابن عون عن نافع عن(2/354)
ابن عمر رضي الله عنهما؛ قال: «لقيت ابن صائد مرتين، فأما مرة؛ فلقيته ومعه بعض أصحابه، فقلت لبعضهم: نشدتكم بالله، إن سألتكم عن شيء؛ لتصدقني؟ قالوا: نعم. قال: قلت: أتحدثوني أنه هو؟ قالوا: لا. قلت: كذبتم والله؛ لقد حدثني بعضكم وهو يومئذ أقلكم مالًا وولدًا: أنه لا يموت حتى يكون أكثركم مالًا وولدًا، وهو اليوم كذلك. قال: فحدثنا، ثم فارقته، ثم لقيته مرة أخرى وقد تغيرت عينه، فقلت: متى فعلت عينك ما أرى؟ قال: لا أدري. قلت: ما تدري وهي في رأسك؟ ! فقال: ما تريد مني يا ابن عمر؟ إن شاء الله تعالى أن يخلقه من عصاك هذه خلقه، ونخر كأشد نخير حمار سمعته قط، فزعم بعض أصحابي أني ضربته بعصا كانت معي حتى تكسرت، وأما أنا؛ فوالله ما شعرت. قال: فدخل على أخته حفصة، فأخبرها، فقالت: ما تريد منه؟ أما علمت أنه قال (تعني النبي صلى الله عليه وسلم) : "إن أول خروجه على الناس من غضبة يغضبها» ؟ .
هذا لفظ أحمد.
وفي رواية مسلم: "قال: «فلقيته لقية أخرى وقد نفرت عينه. قال: فقلت: متى فعلت عينك ما أرى؟ قال: لا أدري. قال: قلت: لا تدري وهي في رأسك؟ ! قال: إن شاء الله خلقها في عصاك هذه» ..... (وذكر بقيته بنحوه".
وذكر رزين رواية «عن ابن عمر رضي الله عنهما؛ قال فيها: "لقيت ابن صياد يومًا ومعه رجل من اليهود، فإذا عينه قد طفئت، وكانت عينه خارجة كعين الحمار، فقلت: يا ابن صياد! أنشدك الله؛ متى فقدت عينك؟ فمسها بيده، فقال: لا أدري والرحمن. فقلت: كذبت، لا تدري وهي في رأسك! فنخر ثلاثًا، ففجأني ما لم أكن أحببت، وزعم اليهودي أني ضربت رأسه بالعصا حتى تكسرت، ولا أعلمني فعلت ذلك. فقلت له: اخسأ؛ فلن تعدو قدرك. قال:»(2/355)
«أجل لعمري ولا أعدو قدري. وكأنما كان في سقاء فنش، فذكرت ذلك لحفصة، فقالت لي: اجتنب هذا الرجل؛ فإنا كنا نتحدث أنما للدجال غضبة يغضبها» .
وقد رواه عبد الرزاق في "مصنفه" عن معمر عن الزهري عن سالم عن ابن عمر رضي الله عنهما؛ قال: "لقيت ابن صياد يومًا ومعه رجل من اليهود، فإذا عينه قد كفيت وهي خارجة مثل عين الجمل، فلما رأيتها؛ قلت: يا ابن صياد! أنشدك الله؛ متى طفيت عينك؟ قال: لا أدري والرحمن. فقلت: كذبت، لا تدري وهي في رأسك! قال: فمسحها، ونخر ثلاثًا، فزعم اليهودي أني ضربت بيدي على صدره. قال: ولا أعلمني فعلت ذلك. وقلت له: اخسأ؛ فلن تعدو قدرك. قال: أجل لعمري ولا أعدو قدري. قال: فذكرت ذلك لحفصة، فقالت لي: اجتنب هذا الرجل؛ فإنا نتحدث أن الدجال يخرج عند غضبة يغضبها".
وعن ابن عمر رضي الله عنهما؛ قال: "لقيت ابن صياد في طريق من طرق المدينة، فانتفخ حتى ملأ الطريق، فقلت: اخسأ؛ فإنك لن تعدو قدرك، فانضم بعضه إلى بعض ومررت".
رواه ابن أبي شيبة.
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل ابن صائد عن تربة الجنة، فقال: درمكة بيضاء، مسك خالص. قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صدق» .
رواه: الإمام أحمد، ومسلم، وهذا لفظ أحمد.
وفي رواية لمسلم عن أبي سعيد رضي الله عنه: «أن ابن صياد سأل النبي»(2/356)
«صلى الله عليه وسلم عن تربة الجنة، فقال: " درمكة بيضاء، مسك خالص» .
وعنه رضي الله عنه؛ قال: «"ذكر ابن صياد عند النبي صلى الله عليه وسلم، فقال عمر رضي الله عنه: إنه يزعم أنه لا يمر بشيء إلا كلمه» .
رواه الإمام أحمد. قال الهيثمي: "وفيه مجالد بن سعيد، وهو ضعيف وقد وثق، وبقية رجاله ثقات".
وعن محمد بن المنكدر؛ قال: «رأيت جابر بن عبد الله رضي الله عنهما يحلف بالله إن ابن صائد الدجال، فقلت: أتحلف بالله؟ ! قال إني سمعت عمر يحلف على ذلك عند النبي صلى الله عليه وسلم فلا ينكره النبي صلى الله عليه وسلم» .
رواه: الشيخان، وأبو داود.
وقد تقدم ما رواه أبو داود من طريق الوليد بن عبد الله بن جميع عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن جابر رضي الله عنه في ذكر الجساسة والدجال، وفيه: "فقال لي ابن أبي سلمة: إن في هذا الحديث شيئًا ما حفظته. قال: شهد جابر أنه ابن صياد. قلت: فإنه قد مات. قال: وإن مات. قلت: فإنه أسلم. قال: وإن أسلم. قلت: فإنه دخل المدينة. قال: وإن دخل المدينة".
وتقدم أيضًا ما رواه الإمام أحمد وابن أبي شيبة والبزار والطبراني عن زيد بن وهب؛ قال: قال أبو ذر رضي الله عنه: "لأن أحلف عشر مرار أن ابن صائد هو الدجال أحب إلي من أن أحلف مرة واحدة أنه ليس به".
إسناد أحمد صحيح. وقد تقدم التنبيه على ذلك.
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: أنه قال: "لأن أحلف بالله تسعًا أن ابن صياد هو الدجال أحب إلي من أن أحلف واحدة أنه ليس به".
رواه: الطبراني وأبو يعلى بنحوه. قال الهيثمي: "ورجال أبي يعلى رجال(2/357)
الصحيح".
وعن نافع؛ قال: كان ابن عمر رضي الله عنهما يقول: "والله؛ ما أشك أن المسيح الدجال ابن صياد ".
رواه أبو داود بإسناد صحيح.
وعن سالم (وهو ابن أبي الجعد) عن جابر (وهو ابن عبد الله رضي الله عنهما) ؛ قال: فقدنا ابن صياد يوم الحرة.
رواه أبو داود بإسناد صحيح، ورواه ابن أبي شيبة بمثله.
فصل
قال النووي في "شرح مسلم " في ذكر ابن صياد: "قال العلماء: قصته مشكلة، وأمره مشتبه في أنه هل هو المسيح الدجال المشهور أم غيره؟ ولا شك في أنه دجال من الدجاجلة. قال العلماء: وظاهر الأحاديث أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يوح إليه بأنه المسيح الدجال ولا غيره، وإنما أوحي إليه بصفات الدجال، وكان في ابن صياد قرائن محتملة؛ فلذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يقطع بأنه الدجال ولا غيره، ولهذا قال لعمر رضي الله عنه: «إن يكن هو؛ فلن تستطيع قتله» .
وأما احتجاجه هو بأنه مسلم والدجال كافر، وبأنه لا يولد للدجال وقد ولد له هو، وأنه لا يدخل مكة والمدينة وأن ابن الصياد دخل المدينة وهو متوجه إلى مكة؛ فلا دلالة له فيه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أخبر عن صفاته وقت فتنته وخروجه في الأرض.
ومن اشتباه قصته وكون أحد الدجاجلة الكذابين قوله للنبي صلى الله عليه وسلم: أتشهد أني رسول الله؟ ودعواه أنه يأتيه صادق وكاذب، وأنه يرى عرشًا فوق الماء، وأنه(2/358)
لا يكره أن يكون هو الدجال، وأنه يعرف موضعه، وقوله: إني لأعرفه وأعرف مولده وأين هو الآن، وانتفاخه حتى ملأ السكة، وأما إظهاره الإسلام وحجه وجهاده وإقلاعه عما كان عليه؛ فليس بصريح في أنه غير الدجال.
قال الخطابي: واختلف السلف في أمره بعد كبره، فروي عنه أنه تاب من ذلك القول ومات بالمدينة، وأنهم لما أرادوا الصلاة عليه؛ كشفوا عن وجهه، حتى رآه الناس، وقيل لهم: اشهدوا. قال: كان ابن عمر وجابر فيما روي عنهما يحلفان أن ابن صياد هو الدجال؛ لا يشكان فيه، فقيل لجابر: إنه أسلم. فقال: وإن أسلم! فقيل: إنه دخل مكة وكان في المدينة. فقال: وإن دخل.
وروى أبو داود في "سننه" بإسناد صحيح عن جابر؛ قال: "فقدنا ابن صياد يوم الحرة".
وهذا يعطل رواية من روى أنه مات بالمدينة وصلي عليه.
وقد روى مسلم في هذه الأحاديث أن جابر بن عبد الله حلف بالله تعالى إن ابن صياد هو الدجال، وإنه سمع عمر رضي الله عنه يحلف على ذلك عند النبي صلى الله عليه وسلم فلم ينكره النبي صلى الله عليه وسلم.
وروى أبو داود بإسناد صحيح عن ابن عمر: أنه كان يقول: "والله؛ ما أشك أن ابن صياد هو المسيح الدجال ".
قال البيهقي في كتاب "البعث والنشور": اختلف الناس في أمر ابن صياد اختلافًا كثيرًا؛ هل هو الدجال؟ قال: ومن ذهب إلى أنه غيره؛ احتج بحديث تميم الداري في قصة الجساسة الذي ذكره مسلم.
قال: ويجوز أن توافق صفة ابن صياد صفة الدجال؛ كما ثبت في الصحيح أن أشبه الناس بالدجال عبد العزى بن قطن. وكان أمر ابن صياد فتنة(2/359)
ابتلى الله تعالى بها عباده، فعصم الله تعالى منها المسلمين، ووقاهم شرها.
قال: وليس في حديث جابر أكثر من سكوت النبي صلى الله عليه وسلم لقول عمر، فيحتمل أنه صلى الله عليه وسلم كان كالمتوقف في أمره، ثم جاءه البيان أنه غيره؛ كما صرح به في حديث تميم.
هذا كلام البيهقي، وقد اختار أنه غيره.
وقد قدمنا أنه صح عن عمر وعن ابن عمر وجابر رضي الله عنهم أنه الدجال، والله أعلم". انتهى كلام النووي.
وما اختاره البيهقي هو الأرجح المختار، وقد جزم به ابن كثير، وذكره عن بعض العلماء.
قال في كتاب "النهاية": "قال بعض العلماء إن ابن صياد كان بعض الصحابة يظنه الدجال الأكبر، وليس به، إنما كان دجالًا صغيرًا ... ".
إلى أن قال: "والمقصود أن ابن صياد ليس بالدجال الذي يخرج في آخر الزمان قطعًا؛ لحديث فاطمة بنت قيس الفهرية؛ فإنه فيصل في هذا المقام ".
وقال ابن كثير أيضًا: "والأحاديث الواردة في ابن صياد كثيرة، وفي بعضها توقف في أمره؛ هل هو الدجال؟ ويحتمل أن يكون هذا قبل أن يوحى إلى النبي صلى الله عليه وسلم في أمر الدجال وتعيينه، وقد تقدم حديث تميم الداري في ذلك، وهو فاصل في هذا المقام".
وقال ابن كثير أيضًا: "وقد قدمنا أن الصحيح أن الدجال غير ابن صياد، وأن ابن صياد كان دجالًا من الدجاجلة، ثم تيب عليه بعد ذلك، فأظهر الإسلام، والله أعلم بضميره وسريرته، وأما الدجال الأكبر؛ فهو المذكور في حديث فاطمة بنت قيس الذي روته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تميم الداري، وفيه(2/360)
قصة الجساسة، ثم يؤذن له في الخروج في آخر الزمان ". انتهى المقصود من كلامه رحمه الله تعالى.
وقد ذكر نعيم بن حماد في كتاب "الفتن" أحاديث تتعلق بالدجال وخروجه:
منها ما أخرجه من طريق جبير بن نفير وشريح بن عبيد وعمرو بن الأسود وكثير بن مرة؛ قالوا جميعًا: «الدجال ليس هو إنسانًا، وإنما هو شيطان، موثق بسبعين حلقة، في بعض جزائر اليمن، لا يعلم من أوثقه سليمان النبي أو غيره، فإذا آن ظهوره؛ فك الله عنه كل عام حلقة، فإذا برز؛ أتته أتان عرض ما بين أذنيها أربعون ذراعًا، فيضع على ظهرها منبرًا من نحاس، ويقعد عليه، ويتبعه قبائل الجن؛ يخرجون له خزائن الأرض» .
قال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" بعد إيراده لهذا الأثر: "وهذا لا يمكن معه كون ابن صياد هو الدجال، ولعل هؤلاء مع كونهم ثقات تلقوا ذلك من بعض كتب أهل الكتاب".
قلت: قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم «أن الدجال له حمار يركبه عرض ما بين أذنيه أربعون ذراعًا» .
رواه: الإمام أحمد، والحاكم بإسناد صحيح على شرط مسلم من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، وسيأتي ذكره إن شاء الله تعالى.
وروى الحاكم أيضًا بإسناد صحيح عن حذيفة بن أسيد رضي الله عنه: أنه قال في الدجال: «ولا يسخر له من المطايا إلا الحمار، فهو رجس على رجس» .
ففي هذين الحديثين شاهد لما في الأثر الذي رواه نعيم بن حماد من كون(2/361)
الدجال يركب على أتان عرض ما بين أذنيها أربعون ذراعًا.
وأما قولهم: "إن الدجال ليس هو إنسانًا وإنما هو شيطان "؛ فهو مردود بما في حديث تميم الداري رضي الله عنه: أنه قال: «فانطلقنا سراعًا، حتى دخلنا الدير، فإذا فيه أعظم إنسان رأيناه قط خلقًا» ... " الحديث.
رواه: مسلم، وأبو داود، وتقدم ذكره.
قال الحافظ ابن حجر: "وذكر ابن وصيف المؤرخ أن الدجال من ولد شق الكاهن المشهور. قال: وقيل: بل هو شق نفسه، أنظره الله، وكانت أمه جنية، عشقت أباه، فأولدها، وكان الشيطان يعمل له العجائب، فأخذه سليمان، فحبسه في جزيرة من جزائر البحر".
قال الحافظ: "وهذا في غاية الوهي".
قلت: لم يقم دليل يدل على أن الدجال هو شق الكاهن، ولا أنه من ولده؛ فلا ينبغي الالتفات إلى هذا الخبر الواهي.
ومما يدل على بطلانه ما ذكره المؤرخون عن ربيعة بن نصر - أحد ملوك التبابعة - أنه رأى رؤيا هالته، فسأل سطيحًا وشقًا عنها، فأخبراه عن تأويلها بأن الحبشة يملكون اليمن بعد حين أكثر من ستين أو سبعين سنة وأن سلطانهم ينقطع عن اليمن لبضع وسبعين سنة، وذلك حين يخرجهم سيف بن ذي يزن الحميري، وكان ظهور سيف بن ذي يزن على الحبشة بعد مولد النبي صلى الله عليه وسلم بسنتين، فيؤخذ من هذا أن شقًا كان في الفترة التي بين عيسى ومحمد صلى الله عليهما وسلم، وذلك بعد زمان سليمان عليه الصلاة والسلام بمدة طويلة.
قال الحافظ ابن حجر: "وقد أخرج أبو نعيم الأصبهاني في "تاريخ أصبهان" ما يؤيد كون ابن صياد هو الدجال، فساق من طريق شبيل - بمعجمة(2/362)
وموحدة مصغرًا آخره لام - ابن عزرة - بمهملة بوزن ضربة - عن حسان بن عبد الرحمن عن أبيه؛ قال: لما افتتحنا أصبهان؛ كان بين عسكرنا وبين اليهودية فرسخ، فكنا نأتيها فنمتار منها، فأتيتها يومًا؛ فإذا اليهود يزفنون ويضربون، فسألت صديقًا لي منهم، فقال: ملكنا الذي نستفتح به على العرب يدخل، فبت عنده على سطح، فصليت الغداة فلما طلعت الشمس؛ إذا الرهج من قبل العسكر، فنظرت؛ فإذا رجل عليه قبة من ريحان واليهود يزفنون ويضربون، فنظرت؛ فإذا هو ابن صياد، فدخل المدينة، فلم يعد حتى الساعة".
قال الحافظ ابن حجر: " وحسان بن عبد الرحمن ما عرفته والباقون ثقات. وقد أخرج أبو داود بسند صحيح عن جابر رضي الله عنه؛ قال: فقدنا ابن صياد يوم الحرة".
قال الحافظ: "وهذا يضعف ما تقدم أنه مات بالمدينة، وأنهم صلوا عليه وكشفوا عن وجهه، ولا يلتئم خبر جابر هذا مع خبر حسان بن عبد الرحمن؛ لأن فتح أصبهان كان في خلافة عمر رضي الله عنه؛ كما أخرجه أبو نعيم في "تاريخها"، وبين قتل عمر ووقعة الحرة نحو أربعين سنة، ويمكن الحمل على أن القصة إنما شاهدها والد حسان بعد فتح أصبهان بهذه المدة، ويكون جواب (لما) في قوله: "لما افتتحنا أصبهان" محذوفًا، تقديره: صرت أتعاهدها وأتردد إليها فجرت قصة ابن صياد، فلا يتحد زمان فتحها وزمان دخولها ابن صياد ".
قلت: في هذا الحمل والتوجيه نظر لا يخفى، والأولى أن يقال: إن الخبر الذي رواه أبو نعيم في "تاريخه" لا يعتمد عليه؛ لأن في إسناده من لا يعرف.
ثم قال الحافظ: "وأقرب ما يجمع به بين ما تضمنه حديث تميم وكون ابن صياد هو الدجال: أن الدجال بعينه هو الذي شاهده تميم موثقًا، وأن ابن صياد شيطان تبدى في صورة الدجال في تلك المدة إلى أن توجه إلى أصبهان،(2/363)
فاستتر مع قرينه إلى أن تجيء المدة التي قدر الله تعالى خروجه فيها".
قلت: وفي هذا الجمع نظر لا يخفى؛ فإن ابن صياد قد ولد في المدينة وكان أبوه وأمه من اليهود، وكان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد قارب الحلم، ثم أسلم بعد ذلك، وولد له ابنان من خيار التابعين، ومن كانت هذه حاله؛ فليس بشيطان تبدى في صورة الدجال، وإنما هو آدمي قطعًا.
والأحسن في هذا أن يقال: إن ابن صياد دجال من الدجاجلة، وليس بالدجال الأكبر الذي يخرج في آخر الزمان؛ كما قرر ذلك الحافظ ابن كثير وغيره من المحققين. والله أعلم.
فصل
وقد قدح أبو عبية في حديث جابر الذي تقدم ذكره في أول الباب، وقرر عدم صحته بغير حجة يستند إليها، بل بمجرد رأيه وما تميل نفسه إليه من القدح في الأحاديث الصحيحة والغض من شأنها، ثم زعم في عنوان وضعه في (ص104) أن الأحاديث الواردة في ابن صياد مرويات مرفوضة لا تصدق عقلًا، وليس بمعقول صدورها عن الرسول عليه السلام، وقال في حاشية (ص104) : "إن ابن صياد خرافة على بعض العقول فعاشت قصتها في بعض الكتب منسوبة إلى الرسول ... " إلى آخر كلامه.
والجواب أن يقال: قد ورد في شأن ابن صياد أحاديث كثيرة، منها ما هو في "الصحيحين"، ومنها ما هو في أحدهما، ومنها ما رواه الإمام أحمد وغيره من الأئمة بأسانيد جيدة، وقد ذكرت من ذلك ما فيه كفاية في رد ما توهمه أبو عبية ومن على شاكلته من المخرفين الذين لا يعبؤون بالأحاديث الصحيحة ولا يقيمون لها وزنًا، ولا يرفض الأحاديث الواردة في ابن صياد وينفي صدورها عن(2/364)
النبي صلى الله عليه وسلم إلا أصحاب القلوب السقيمة والعقول التي ليست بمستقيمة، فأما أصحاب القلوب السليمة والعقول المستقيمة؛ فإنهم يصدقون بها وبكل ما صحت أسانيده إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يعترضون على شيء منها بمجرد الآراء والتخرصات.
باب
لا يخرج الدجال حتى يذهل الناس عن ذكره
عن راشد بن سعد؛ قال: لما فتحت إصطخر؛ نادى مناد: ألا إن الدجال قد خرج. قال: فلقيهم الصعب بن جثامة رضي الله عنه، فقال: لولا ما تقولون لأخبرتكم أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يخرج الدجال حتى يذهل النسا عن ذكره، وحتى تترك الأئمة ذكره على المنابر» .
رواه عبد الله ابن الإمام أحمد من رواية بقية عن صفوان بن عمرو. قال الهيثمي: "وهي صحيحة كما قال ابن معين، وبقية رجاله ثقات". وقد رواه ابن السكن وقال: "إسناده صالح"، ذكر ذلك الحافظ ابن حجر في "الإصابة" في ترجمة الصعب بن جثامة، وقال في "تهذيب التهذيب": "إنما أشار بقوله: "صالح الإسناد": إلى ثقة رجاله، لكن راشدًا لم يدرك زمن الصعب". انتهى.
باب
ما جاء في تمني الدجال
عن حذيفة رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يأتي على الناس زمان يتمنون فيه الدجال ". قلت: يا رسول الله! بأبي وأمي مم ذاك؟ قال: "مما يلقون من العناء» .(2/365)
رواه الطبراني في "الأوسط". قال الهيثمي: "ورجاله ثقات". ورواه البزار بنحوه. قال الهيثمي: "ورجاله ثقات". ورواه نعيم بن حماد في "الفتن" بنحوه، وقال في آخره: «مما يلقون في الدنيا من الزلازل والفتن» .
وعن صلة بن زفر: أنه سمع حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما، وقال له رجل: خرج الدجال، فقال حذيفة رضي الله عنه: "أما ما كان فيكم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم؛ فلا والله، لا يخرج حتى يتمنى قوم خروجه، ولا يخرج حتى يكون خروجه أحب إلى أقوام من شرب الماء البارد في اليوم الحار".
رواه نعيم بن حماد في "الفتن".
وعن ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعًا: «لا يخرج الدجال حتى لا يكون شيء أحب إلى المؤمن من خروج نفسه» .
رواه أبو نعيم في "الحلية".
باب
في علامات خروج الدجال
قد تقدم في ذلك عدة أحاديث:
منها حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما؛ قال: «كنا قعودًا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر الفتن، فأكثر في ذكرها..... الحديث، وفيه: "ثم فتنة الدهيماء، لا تدع أحدًا من هذه الأمة؛ إلا لطمته لطمة، فإذا قيل: انقضت؛ تمادت، يصبح الرجل فيها مؤمنًا ويمسي كافرًا، حتى يصير الناس إلى فسطاطين: فسطاط إيمان لا نفاق فيه، وفسطاط نفاق لا إيمان فيه، فإذا كان ذلكم؛ فانتظروا الدجال من يومه أو غده» .(2/366)
رواه: الإمام أحمد، وأبو داود، والحاكم في "مستدركه"، وأبو نعيم في "الحلية". وقال الحاكم: "صحيح الإسناد ولم يخرجاه". ووافقه الذهبي في "تلخيصه". وقد تقدم بتمامه في أول الكتاب في (باب ما جاء في الفتن الكبار) .
ومنها حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «"عمران بيت المقدس خراب يثرب، وخراب يثرب خروج الملحمة، وخروج الملحمة فتح القسطنطينية، وفتح القسطنطينية خروج الدجال (ثم ضرب بيده على فخذ الذي حدثه أو منكبه، ثم قال:) إن هذا الحق كما أنك هاهنا (أو: كما أنك قاعد) (يعني: معاذًا) » .
رواه: الإمام أحمد، وأبو داود، وقد تقدم في (باب علامة فتح القسطنطينية) .
ومنها حديث معاذ أيضًا رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الملحمة الكبرى، وفتح القسطنطينية، وخروج الدجال في سبعة أشهر» .
رواه: الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه، والحاكم في "مستدركه". وقال الترمذي: "هذا حديث حسن". وقد تقدم هذا الحديث في (باب تواتر الملاحم في آخر الزمان) .
ومنها حديث عبد الله بن بسر رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «بين الملحمة وفتح المدينة ست سنين، ويخرج المسيح الدجال في السابعة» .
رواه: الإمام أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، وقد تقدم في (باب تواتر الملاحم في آخر الزمان) .
ومنها حديثه أيضًا: أنه قال: «"يا ابن أخي! لعلك تدرك فتح القسطنطينية؛ فإياك إن أدركت فتحها أن تترك غنيمتك منها؛ فإن بين فتحها وبين خروج الدجال»(2/367)
«سبع سنين» .
رواه نعيم بن حماد في "الفتن"، وقد تقدم في (باب تواتر الملاحم في آخر الزمان) .
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما؛ قال: "للدجال آيات معلومات: إذا غارت العيون، ونزفت الأنهار، واصفر الريحان، وانتقلت مذحج وهمدان من العراق فنزلت قنسرين؛ فانتظروا الدجال غاديًا أو رائحًا".
رواه الحاكم في "مستدركه"، وقال "صحيح الإسناد ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي في "تلخيصه".
وعن أبي ظبيان؛ قال: "ذكرنا الدجال، فسألنا عليًا رضي الله عنه: متى خروجه؟ قال: لا يخفى على مؤمن، عينه اليمنى مطموسة، مكتوب بين عينيه كافر؛ يتهجاها لنا علي رضي الله عنه. قلنا: ومتى يكون ذلك؟ قال: حين يفخر الجار على جاره، ويأكل الشديد الضعيف، وتقطع الأرحام، ويختلفوا اختلاف أصابعي هؤلاء (وشبكها ورفعها) ، فقال له رجل من القوم: كيف تأمر عند ذلك يا أمير المؤمنين؟ قال: إنك لن تدرك ذلك. فطابت أنفسنا".
رواه ابن أبي شيبة.
وعن علي أيضًا رضي الله عنه: "أنه خطب الناس، فحمد الله وأثنى عليه وصلى على نبيه، ثم قال: معاشر الناس! سلوني قبل أن تفقدوني (يقولها ثلاث مرات) . فقام إليه صعصعة بن صوحان العبدي، فقال: يا أمير المؤمنين! متى يخرج الدجال؟ فقال: مه يا صعصعة! قد علم الله مقامك وسمع كلامك، ما المسؤول بأعلم بذلك من السائل، ولكن لخروجه علامات وأسباب وهنات يتلو بعضهن بعضًا حذو النعل بالنعل، ثم إن شئت أنبأتك بعلامته. فقال: عن ذلك(2/368)
سألتك يا أمير المؤمنين. قال: فاعقد بيدك واحفظ ما أقول لك: إذا أمات الناس الصلوات، وأضاعوا الأمانات، وكان الحكم ضعفًا، والظلم فخرًا، وأمراؤهم فجرة، ووزراؤهم خونة، وأعوانهم ظلمة، وقراؤهم فسقة، وظهر الجور، وفشا الزنى، وظهر الربا، وقطعت الأرحام، واتخذت القينات، وشربت الخمور، ونقضت العهود، وضيعت العتمات، وتوانى الناس في صلاة الجماعات، وزخرفوا المساجد، وطولوا المنابر، وحلوا المصاحف، وأخذوا الرشى، وأكلوا الربا، واستعملوا السفهاء، واستخفوا بالدماء، وباعوا الدين بالدنيا، واتجرت المرأة مع زوجها حرصًا على الدنيا، وركب النساء على المياثر وتشبهن بالرجال، وتشبه الرجال بالنساء، وكان السلام بينهم على المعرفة، وشهد شاهدهم من غير أن يستشهد، وحلف من قبل أن يستحلف، ولبسوا جلود الضأن على قلوب الذئاب، وكانت قلوبهم أمر من الصبر، وألسنتهم أحلى من العسل، وسرائرهم أنتن من الجيف، والتمس الفقه لغير الدين، وأنكر المعروف، وعرف المنكر، فالنجا النجا، والوحا الوحا ... " الحديث.
رواه ابن المنادي. قال في "كنز العمال": "وفيه حماد بن عمرو: متروك، عن السري بن خالد: قال في "الميزان": لا يعرف. وقال الأزدي: لا يحتج به ".
قلت: وله شواهد كثيرة مما تقدم في أول أشراط الساعة.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أنه قال في الدجال: "تكون آية خروجه تركهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتهاون بالدماء، وضيعوا الحكم، وأكلوا الربا، وشيدوا البناء، وشربوا الخمور، واتخذوا القيان، ولبسوا الحرير، وأظهروا بزة آل فرعون، ونقضوا العهد، وتفقهوا لغير الدين، وزينوا المساجد، وخربوا القلوب، وقطعوا الأرحام، وكثرت القراء، وقلت الفقهاء، وعطلت(2/369)
الحدود، وتشبه الرجال بالنساء والنساء بالرجال، وتكافأت الرجال بالرجال، والنساء بالنساء، بعث الله عليهم الدجال، فسلط عليهم حتى ينتقم منه، وينحاز المؤمنون إلى بيت المقدس ... " الحديث.
رواه: إسحاق بن بشر، وابن عساكر.
باب
ما جاء في السنوات التي بين يدي الدجال
عن أنس بن مالك رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «"إن أمام الدجال سنين خداعة؛ يكذب فيها الصادق، ويصدق فيها الكاذب، ويخون فيها الأمين، ويؤتمن فيها الخائن، ويتكلم فيها الرويبضة". قيل: وما الرويبضة؟ قال: "الفويسق يتكلم في أمر العامة» .
رواه الإمام أحمد، وفي إسناده محمد بن إسحاق وهو مدلس، وبقية رجاله ثقات.
وعن عوف بن مالك رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «"يكون أمام الدجال سنون خوادع؛ يكثر فيها المطر، ويقل فيها النبت، ويكذب فيها الصادق، ويصدق فيها الكاذب، ويؤتمن فيهال الخائن، ويخون فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة ". قيل: يا رسول الله! وما الرويبضة؟ قال: "من لا يؤبه له» .
رواه الطبراني بأسانيد. قال الهيثمي: "وفي أحسنها ابن إسحاق وهو مدلس، وبقية رجاله ثقات".
ورواه: أبو يعلى، والبزار، وعنده: «قيل: يا رسول الله! وما الرويبضة؟»(2/370)
«قال: "المرء التافه يتكلم في أمر العامة» . قال البوصيري: "رواه أبو يعلى والبزار بسند واحد رواته ثقات".
قال الجوهري: " (الرويبضة) : التافه الحقير". وقال ابن الأثير: "التافه الحقير الخسيس".
وعن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ قال: «"تكون قبل خروج المسيح الدجال سنوات خداعة؛ يكذب فيها الصادق، ويصدق فيها الكاذب، ويؤتمن فيها الخائن، ويخون فيها الأمين، ويتكلم الرويبضة". قيل: وما الرويبضة؟ قال: "الوضيع من الناس» .
رواه نعيم بن حماد في "الفتن".
باب
ما جاء في حبس المطر والنبات عند خروج الدجال
«عن أسماء بنت يزيد الأنصارية رضي الله عنها؛ قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي، فذكر الدجال، فقال: "إن بين يديه ثلاث سنين: سنة تمسك السماء ثلث قطرها والأرض ثلث نباتها، والثانية تمسك السماء ثلثي قطرها والأرض ثلثي نباتها، والثالثة تمسك السماء قطرها كله والأرض نباتها كله، فلا يبقى ذات ضرس ولا ذات ظلف من البهائم إلا هلكت ... " الحديث.
وفيه: قالت أسماء: يا رسول الله! إنا والله لنعجن عجينتنا فما نختبزها حتى نجوع؛ فكيف بالمؤمنين يومئذ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يجزيهم ما يجزي أهل السماء من التسبيح والتقديس» .
رواه: عبد الرزاق في "مصنفه"، والإمام أحمد، وأبو داود الطيالسي،(2/371)
والطبراني. قال الهيثمي: "وفيه شهر بن حوشب وفيه ضعف وقد وثق".
قلت: قد روى له مسلم في "صحيحه"، ووثقه أحمد وابن معين ويعقوب بن سفيان، وقال أبو زرعة: "لا بأس به"، وعلى هذا؛ فأقل الأحوال في حديثه أن يكون من قبيل الحسن.
وقد قال ابن كثير في "النهاية" بعدما أورد حديثه هذا من رواية الإمام أحمد: "إسناده لا بأس به".
وفي رواية لأحمد: «يكفي المؤمنين عن الطعام والشراب يومئذ التكبير والتسبيح والتحميد» .
وقد رواه عبد الله ابن الإمام أحمد في كتاب "السنة" من حديث شهر بن حوشب عن أسماء بنت يزيد رضي الله عنها؛ قالت: «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يحذر أصحابه الدجال، فقال: "أحذركم المسيح الدجال، وإن كل نبي قد أنذر قومه، وإنه فيكم أيتها الأمة، وسأجلي لكم من نعته ما لم تجلي الأنبياء قبلي لقومهم: يكون قبل خروجه سنون جدب، حتى يهلك كل ذي حافر". فناداه رجل، فقال: يا رسول الله! بم يعيش المؤمنون؟ فقال: "بما يعيش به الملائكة.....» الحديث.
وسيأتي بتمامه في (باب اتباع الدجال) إن شاء الله تعالى.
وعن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه؛ قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان أكثر خطبته حديثًا حدثناه عن الدجال وحذرناه.... فذكر الحديث بطوله، وفي آخره: «"وإن قبل خروج الدجال ثلاث سنوات شداد، يصيب الناس فيها جوع شديد، يأمر الله السماء في السنة الأولى أن تحبس ثلث مطرها ويأمر الأرض أن تحبس ثلث نباتها، ثم يأمر السماء في السنة الثانية فتحبس ثلثي مطرها ويأمر الأرض فتحبس ثلثي نباتها، ثم يأمر السماء في السنة الثالثة فتحبس مطرها كله»(2/372)
«فلا تقطر قطرة، ويأمر الأرض فتحبس نباتها كله فلا تنبت خضراء، فلا تبقى ذات ظلف إلا هلكت، إلا ما شاء الله ". فقيل: ما يعيش الناس في ذلك الزمان؟ قال: "التهليل والتكبير والتسبيح والتحميد، ويجري ذلك عليهم مجرى الطعام» .
رواه: ابن ماجه، وابن خزيمة، والضياء المقدسي.
باب
ما جاء في الجوع الذي يكون عند خروج الدجال وفي أيامه وما يكون طعام المؤمنين يومئذ
فيه حديث أسماء بنت يزيد وحديث أبي أمامة رضي الله عنهما، وقد تقدم ذكرهما في الباب قبله.
«وعن عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر جهدًا شديدًا يكون بين يدي الدجال، فقلت: يا رسول الله! فأين العرب يومئذ؟ قال: "يا عائشة! العرب يومئذ قليل ". فقلت: ما يجزئ المؤمنين يومئذ من الطعام؟ قال: "ما يجزئ الملائكة: التسبيح والتكبير والتحميد والتهليل". قلت: فأي المال يومئذ خير؟ قال: "غلام شديد يسقي أهله من الماء، وأما الطعام؛ فلا طعام» .
رواه: الإمام أحمد، وأبو يعلى. قال الهيثمي: "ورجاله رجال الصحيح". وقال ابن كثير: "تفرد به أحمد، وإسناده صحيح، وفيه غرابة".
«وعن أسماء بنت عميس رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها لبعض حاجته، ثم خرج، فشكت إليه الحاجة، فقال: "كيف بكم إذا ابتليتم بعبد قد سخرت له أنهار الأرض وثمارها، فمن اتبعه؛ أطعمه وأكفره، ومن عصاه؛ حرمه»(2/373)
«ومنعه". قلت: يا رسول الله! إن الجارية لتجلس عند التنور ساعة لخبزها فأكاد أفتتن في صلاتي؛ فكيف بنا إذا كان ذلك؟ قال: "إن الله يعصم المؤمنين يومئذ بما عصم به الملائكة من التسبيح"» .
رواه الطبراني. قال الهيثمي: "وفيه راو لم يسم، وبقية رجاله رجال الصحيح".
وعن ابن عمر رضي الله عنهما: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن طعام المؤمنين في زمن الدجال؟ قال: "طعام الملائكة". قالوا: وما طعام الملائكة؟ قال: "طعامهم منطقهم بالتسبيح والتقديس، فمن كان منطقه يومئذ التسبيح والتقديس؛ أذهب الله عنه الجوع؛ فلم يخش جوعًا» .
رواه الحاكم في "مستدركه" من طريق سعيد بن سنان، وقال "صحيح الإسناد ولم يخرجاه"، وتعقبه الذهبي فقال: " سعيد متهم تالف".
قلت: ولهذا الحديث شواهد مما تقدم.
فصل
وقد أنكر أبو عبية ما جاء في أحاديث هذا الباب والباب قبله من كون التسبيح والتكبير والتحميد يقوم للمؤمنين مقام الطعام عند عدمه في آخر الزمان، فقال في (ص115) في الكلام على قوله صلى الله عليه وسلم في آخر حديث أبي أمامة الطويل في ذكر الدجال: «وإن قبل خروج الدجال ثلاث سنوات شداد، يصيب الناس فيها جوع شديد ... إلى أن قال: فقيل: ما يعيش الناس في ذلك الزمان؟ قال: "التهليل والتكبير والتسبيح والتحميد، ويجري ذلك عليهم مجرى الطعام» ؛ قال أبو عبية:
"هذا يتنافى وطبيعة الأحياء، وهو الأمر الذي يجعلنا ننفي نسبة الحديث(2/374)
للرسول عليه السلام، وإلا؛ فكيف يعيش الناس بدون طعام ولا شراب؟ ! ".
وقال أيضًا في عنوان وضعه في (ص134) : "التسبيح والتهليل والتكبير لا تطعم الأجساد".
وقال أيضًا في حاشية (ص135) ما نصه: "سبقت الإشارة إلى أن حياة الناس في دنيانا بدون طعام ولا شراب أمر غير ممكن، ولذا فنحن نطمئن إلى نفي هذا الحديث عن الرسول الكريم ".
وقال أيضًا في حاشية (ص136) تعليقًا على قول ابن كثير في حديث عائشة رضي الله عنها الذي تقدم ذكره في الباب: "تفرد به أحمد، وإسناده صحيح، وفيه غرابة".
قال أبو عبية: "متنه أشد غرابة، ونفيه عن الرسول حق من الحق".
والجواب عن هذا من وجهين:
أحدهما: أن يقال: قد صح حديث أبي أمامة وحديث عائشة رضي الله عنهما في ذلك، وإذا صح الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ فالإيمان به واجب، ومن رده ولم يؤمن به؛ فقد رد على الله أمره، ورد على الرسول صلى الله عليه وسلم خبره الصادق، وقد تقدم كلام الإمام أحمد وغيره في ذلك في أول الكتاب؛ فليراجع.
الوجه الثاني: أن اجتزاء المؤمنين بالتهليل والتكبير والتسبيح والتحميد عن الطعام عند خروج الدجال وفي أيامه أمر خارق للعادة وكرامة من كرامات الأولياء.
ونظير ذلك فتحهم للقسطنطينية ورومية بالتسبيح والتهليل والتكبير؛ كما تقدم ذكر الأحاديث في ذلك في (باب ما جاء في الملحمة الكبرى وفتح القسطنطينية ورومية) .(2/375)
ونظير ذلك أيضًا ما تقدم في (باب قتال اليهود) أن الحجر والشجر يقول: "يا مسلم! يا عبد الله! هذا يهودي خلفي، فتعال فاقتله".
ونظيره أيضًا ما رواه الحاكم والبيهقي في "دلائل النبوة" إجازة عن الحاكم عن هشام بن العاص الأموي؛ قال: "بعثت أنا ورجل آخر إلى هرقل صاحب الروم ندعوه إلى الإسلام (فذكر الحديث إلى أن قال:) ، حتى انتهينا إلى غرفة له، فأنخنا في أصلها وهو ينظر إلينا، فقلنا: لا إله إلا الله والله أكبر؛ فالله يعلم؛ لقد انتفضت الغرفة حتى صارت كأنها عذق تصفقه الرياح (فذكر الحديث في دخولهم عليه إلى أن قال:) قال: فما أعظم كلامكم؟ قلنا: لا إله إلا الله والله أكبر. فلما تكلمنا بها، والله يعلم؛ لقد انتفضت الغرفة حتى رفع رأسه إليها؛ قال: فهذه الكلمة التي قلتموها حيث انتفضت الغرفة، كلما قلتموها في بيوتكم تنفضت عليكم غرفكم؟ قلنا: لا؛ ما رأيناها فعلت هذا قط إلا عندك. قال: لوددت أنكم كلما قلتم تنفض كل شيء عليكم وأني قد خرجت من نصف ملكي. قلنا: لم؟ قال: لأنه كان أيسر لشأنها وأجدر أن لا تكون من أمر النبوة وأنها تكون من حيل الناس ... (وذكر تمام الحديث) "، وقد نقله ابن كثير في تفسير سورة الأعراف عند قوله تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ} الآية. قال ابن كثير: "وإسناده لا بأس به".
ونظيره أيضًا أن الصحابة رضي الله عنهم في بعض قتالهم للفرس عبروا دجلة على خيولهم، وخرجوا منها، لم تبتل سرجهم، ولم يفقدوا شيئًا من متاعهم.(2/376)
وأمثال هذا من كرامات الأولياء وخوارق العادات كثير جدًا.
ومن أصول أهل السنة والجماعة التصديق بكرامات الأولياء وما يجري الله على أيديهم من خوارق العادات، فمن لم يصدق بذلك؛ فقد خالف ما عليه أهل السنة والجماعة، واتبع طريق أهل البدع والضلالة.
باب
ما جاء في صفة أبوي الدجال
فيه حديث أبي بكرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في صفة أبوي الدجال، وقد تقدم في أول الأحاديث المتعلقة بابن صياد؛ فليراجع.
باب
ما جاء أن الدجال يولد في القبر
عن أبي هريرة رضي الله عنه؛ قال: «ذكر الدجال عند النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: "تلده أمه وهي منبوذة في قبرها، فإذا ولدته؛ حملت النساء بالخطائين» .
رواه الطبراني في "الأوسط". قال الهيثمي: "وفيه عثمان بن عبد الرحمن الجمحي؛ قال البخاري: مجهول".
قلت: وظاهر هذا الحديث أن الدجال لا يولد إلا في آخر الزمان؛ لقوله: «فإذا ولدته؛ حملت النساء بالخطائين» . وهذا مخالف لما تقدم في حديثي عمران بن حصين ومعقل بن يسار رضي الله عنهما أن الدجال قد أكل الطعام ومشى في الأسواق، ومخالف أيضًا لما تقدم من حديث فاطمة بنت قيس وجابر رضي الله عنهما في خبر الجساسة والدجال؛ فإن فيه أن الدجال كان موجودًا في(2/377)
زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه كان موثقًا بالحديد في بعض جزائر البحر، والعمدة على ما تقدم لا على هذا الحديث الضعيف، والله أعلم.
باب
ما جاء في صفة الدجال
عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إني قد حدثتكم عن الدجال حتى خشيت أن لا تعقلوا، إن مسيح الدجال رجل قصير، أفحج، جعد، أعور، مطموس العين، ليس بناتئة ولا جحراء، فإن ألبس عليكم؛ فاعلموا أن ربكم تبارك وتعالى ليس بأعور، وأنكم لن تروا ربكم حتى تموتوا» .
رواه: الإمام أحمد، وأبو داود، والنسائي، وأبو بكر الآجري؛ بأسانيد جيدة، وفيها بقية بن الوليد. قال المنذري في "تهذيب السنن": "وفيه مقال".
قلت: قد قال النسائي: "إذا قال: حدثنا وأخبرنا؛ فهو ثقة". وقال ابن عدي: "إذا حدث عن أهل الشام؛ فهو ثبت". وقال الجوزجاني: "إذا حدث عن الثقات؛ فلا بأس به". وهذا الحديث قد صرح فيه بالتحديث عن يحيى بن سعيد، وهو حمصي ثقة، فصار بقية في هذا الحديث ثقة ثبتًا، وبقية رواته كلهم ثقات.
قال ابن الأثير: " (الفحج) : تباعد ما بين الفخذين".
وقال ابن منظور في "لسان العرب": " الفحج) : تباعد ما بين أوساط الساقين في الإنسان والدابة، وقيل: تباعد ما بين الفخذين، وقيل: تباعد ما بين الرجلين، والأفحج الذي في رجليه اعوجاج، ورجل أفحج بين الفحج، وهو(2/378)
الذي تتدانى صدور قدميه وتتباعد عقباه وتتفحج ساقاه".
وقال الخطابي: " (الأفحج) : الذي إذا مشى باعد بين رجليه". قال: " (والجحراء) : التي قد انخسفت فبقي مكانها غائرًا كالجحر، يقول: إن عينه سادة لمكانها، مطموسة؛ أي: ممسوحة، ليست بناتئة ولا منخسفة". انتهى.
وعن جبير بن نفير عن أبيه رضي الله عنه: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر الدجال، فقال: "إن يخرج وأنا فيكم؛ فأنا حجيجه، وإن يخرج ولست فيكم؛ فكل امرئ حجيج نفسه، والله خليفتي على كل مسلم، ألا وإنه مطموس العين كأنها عين عبد العزى بن قطن الخزاعي، ألا وإنه مكتوب بين عينيه كافر، يقرؤه كل مسلم ... » الحديث.
رواه الحاكم في "مستدركه"، وقال: "صحيح الإسناد ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي في "تلخيصه".
ورواه الطبراني بنحوه. قال الهيثمي: "وفيه عبد الله بن صالح، وقد وثق، وضعفه جماعة، وبقية رجاله ثقات".
ورواية الحاكم تشهد لرواية الطبراني بالصحة.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قال في الدجال: «أعور، هجان، أزهر، كأن رأسه أصلة، أشبه الناس بعبد العزى بن قطن، فإما هلك الهلك؛ فإن ربكم تبارك وتعالى ليس بأعور» .
رواه: الإمام أحمد، والطبراني.
وفي رواية عنده عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ قال: «رأيت الدجال هجانًا، ضخمًا، فيلمانيًا، كأن شعره أغصان شجرة، أعور كأن عينيه كوكب الصبح، أشبه بعبد العزى بن قطن (رجل من خزاعة) » .(2/379)
قال الهيثمي: "ورجال الجميع رجال الصحيح، وقد روى الرواية الأولى عبد الله ابن الإمام أحمد في "كتاب السنة" من طريق أبيه ومن طريق أخرى، وأبو داود الطيالسي في "مسنده"، وابن خزيمة في "كتاب التوحيد"، وابن حبان في "صحيحه" بنحوه، ورجال أبي داود وابن خزيمة رجال الصحيح".
قال ابن الأثير وابن منظور في "لسان العرب": " (الهجان) : الأبيض، و (الأزهر) : الأبيض المستنير، والزهر والزهرة: البياض النير، وهو أحسن الألوان".
قال ابن منظور: "والزاهر والأزهر: الحسن الأبيض من الرجال، وقيل: هو الأبيض فيه حمرة، ورجل أزهر؛ أي: أبيض مشرق الوجه، و (الفيلم) : العظيم الضخم الجثة من الرجال، والفيلماني: منسوب إليه بزيادة الألف والنون للمبالغة، و (الأصلة) ؛ بفتح الهمزة والصاد: الأفعى، وقيل: هي الحية العظيمة الضخمة القصيرة، والعرب تشبه الرأس الصغير الكثير الحركة برأس الحية". قال ابن منظور: "شبه رسول الله صلى الله عليه وسلم رأس الدجال بها لعظمه واستدارته، وفي الأصلة مع عظمها استدارة".
وعنه رضي الله عنه؛ قال: «أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس، ثم جاء من ليلته، فحدثهم بمسيره وبعلامة بيت المقدس وبعيرهم، فقال ناس: نحن نصدق محمدًا بما يقول، فارتدوا كفارا، فضرب الله أعناقهم مع أبي جهل، وقال أبو جهل: يخوفنا محمد بشجرة الزقوم! هاتوا تمرًا وزبدًا فتزقموا. ورأى الدجال في صورته رؤيا عين ليس رؤيا منام، وعيسى وموسى وإبراهيم صلوات الله عليهم، فسئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الدجال، فقال: رأيته فيلمانيًا، أقمر، هجانًا، إحدى عينيه قائمة كأنها كوكب دري، كأن شعر رأسه أغصان شجرة، ورأيت عيسى شابًا أبيض جعد الرأس حديد البصر مبطن الخلق، ورأيت موسى»(2/380)
«أسحم آدم كثير الشعر شديد الخلق، ونظرت إلى إبراهيم؛ فلا أنظر إلى إرب من آرابه إلا نظرت إليه مني، كأنه صاحبكم، فقال جبريل عليه السلام: سلم على مالك، فسلمت عليه» .
رواه: الإمام أحمد، والنسائي، وأبو يعلى؛ بأسانيد صحيحة.
قال ابن قتيبة وغيره من أهل اللغة: " (الأقمر) : الأبيض الشديد البياض، والأنثى قمراء".
وتقدم بيان معنى الفيلماني والهجان، و (المبطن) : هو الضامر البطن.
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أراني الليلة في المنام عند الكعبة، فإذا رجل آدم كأحسن ما ترى من أدم الرجال، تضرب لمته بين منكبيه، رجل الشعر، يقطر رأسه ماء، واضعًا يديه على منكبي رجلين، وهو بينهما يطوف بالبيت، فقلت: من هذا؟ فقالوا: المسيح ابن مريم، ورأيت وراءه رجلًا جعدًا، قططًا، أعور عين اليمنى، كأشبه من رأيت من الناس بابن قطن، واضعًا يديه على منكبي رجلين، يطوف بالبيت، فقلت: من هذا؟ قالوا: هذا المسيح الدجال» .
رواه: مالك، وأحمد، وأبو داود الطيالسي، والشيخان.
وفي رواية لأحمد: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «"رأيت عند الكعبة مما يلي وجهها (وفي رواية له أخرى: رأيت عند الكعبة مما يلي المقام) رجلًا آدم، سبط الرأس، واضعًا يده على رجلين، يسكب رأسه (أو: يقطر) ، فسألت: من هذا؟ فقيل: عيسى ابن مريم أو المسيح ابن مريم (لا أدري ذلك قال) ، ثم رأيت وراءه رجلًا أحمر، جعد الرأس، أعور عين اليمنى، أشبه من رأيت به ابن قطن، فسألت: من هذا؟ فقيل: المسيح الدجال» .
وفي رواية لأحمد والشيخين: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «"بينا أنا نائم؛»(2/381)
«رأيتني أطوف بالكعبة؛ فإذا رجل آدم، سبط الشعر، يهادى بين رجلين، ينطف رأسه أو يهراق، فقلت: من هذا؟ قالوا: هذا ابن مريم ". قال: "فذهبت ألتفت؛ فإذا رجل أحمر، جسيم، جعد الرأس، أعور العين اليمنى، كأن عينه عنبة طافية؛ قلت: من هذا؟ قالوا: هذا الدجال، أقرب من رأيت به شبهًا ابن قطن» .
زاد البخاري: " وابن قطن رجل من بني المصطلق من خزاعة". وفي رواية: "قال الزهري: رجل من خزاعة هلك في الجاهلية ". وفي رواية لأحمد: "قال ابن شهاب: رجل من خزاعة من بني المصطلق مات في الجاهلية ".
قوله: "رجل الشعر"؛ أي: بين الجعودة والسبوطة، و (الجعد) من الشعر: ضد السبط، و (القطط) : الشديد الجعودة. قاله ابن الأثير. قال: "وقيل: الحسن الجعودة، والأول أكثر". وقال ابن منظور في "لسان العرب": " (القطط) : شعر الزنجي". قال: "وجعد قطط؛ أي: شديد الجعودة".
وقوله في هذا الحديث: "فإذا رجل أحمر": المراد به الأبيض؛ فلا منافاة بين ما هنا وبين ما تقدم في حديث ابن عباس رضي الله عنهما أنه هجان أزهر، وفي الرواية الأخرى أنه أقمر، وقد تقدم تفسير ذلك بأنه الأبيض.
وقد نقل ابن منظور في "لسان العرب" عن المبرد أنه قال: "يقال لولد العربي من غير العربية: هجين؛ لأن الغالب على ألوان العرب الأدمة، وكانت العرب تسمي العجم الحمراء؛ لغلبة البياض على ألوانهم، ويقولون لمن علا لونه البياض: أحمر، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة: «يا حميراء!» ؛ لغلبة البياض على لونها. وقال صلى الله عليه وسلم: «بعثت إلى الأحمر والأسود» ؛ فأسودهم العرب، وأحمرهم العجم، وقالت العرب لأولادها من العجميات اللاتي يغلب على ألوانهن البياض: هجن وهجناء؛ لغلبة البياض على ألوانهم وإشباههم أمهاتهم " انتهى.(2/382)
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: «أعور العين اليمنى كأنها عنبة طافية» ؛ فقال النووي في "شرح مسلم ": "روي بالهمز وبغير همز، فمن همز: معناه: ذهب ضوؤها، ومن لم يهمز: معناه: ناتئة بارزة، ثم إنه جاء هنا أنه «أعور العين اليمنى» ، وجاء في رواية أخرى: «أعور العين اليسرى» ، وقد ذكرهما مسلم في آخر الكتاب، وكلاهما صحيح.
قال القاضي عياض رحمه الله: روينا هذا الحرف عن أكثر شيوخنا بغير همز، وهو الذي صححه أكثرهم. قال: وهو الذي ذهب إليه الأخفش، ومعناه: ناتئة كنتوء حبة العنب من بين صواحبها. قال: وضبطه بعض شيوخنا بالهمز، وأنكره بعضهم، ولا وجه لإنكاره، وقد وصف في الحديث بأنه ممسوح العين، وأنها ليست جحراء ولا ناتئة، بل مطموسة، وهذه صفة حبة العنب إذا سال ماؤها، وهذا يصحح رواية الهمز، وأما ما جاء في الأحاديث الأخر: «جاحظ العين وكأنها كوكب» ، وفي رواية له: «حدقة، جاحظة، كأنها نخاعة في حائط» ؛ فتصحح رواية ترك الهمزة، ولكن يجمع بين الأحاديث وتصحح الروايات جميعا بأن تكون المطموسة والممسوحة والتي ليست بجحراء ولا ناتئة هي العوراء الطافئة بالهمز، وهي العين اليمنى كما جاء هنا، وتكون الجاحظة والتي كأنها كوكب وكأنها نخاعة هي الطافية بغير همز، وهي العين اليسرى كما جاء في الرواية الأخرى، وهذا جمع بين الأحاديث والروايات في الطافئة بالهمز وبتركه، وأعور العين اليمنى واليسرى؛ لأن كل واحدة منهما عوراء؛ فإن الأعور من كل شيء المعيب، لا سيما ما يختص بالعين، وكلا عيني الدجال معيبة عوراء: إحداهما بذهابها، والأخرى بعيبها.
هذا آخر كلام القاضي، وهو في نهاية من الحسن ". انتهى.
وعن النواس بن سمعان الكلابي رضي الله عنه؛ قال: «ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الدجال ذات غداة ... فذكر الحديث بطوله، وفيه: "إنه شاب جعد، قطط،»(2/383)
«عينه طافية» .
رواه: الإمام أحمد، ومسلم، والترمذي، وابن ماجه، وهذا لفظ أحمد، وإسناده إسناد مسلم، ولفظ مسلم: «إنه شاب قطط عينه طافئة كأني أشبهه بعبد العزى بن قطن» .
ولفظ الترمذي وابن ماجه مثله؛ إلا أنهما قالا: عينه قائمة. وقال الترمذي: "هذا حديث غريب حسن صحيح".
وعن الفلتان بن عاصم رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رأيت ليلة القدر ثم أنسيتها، ورأيت مسيح الضلالة؛ فإذا رجلان في أندر فلان يتلاحيان، فحجزت بينهما، فأنسيتها؛ فاطلبوها في العشر الأواخر، وأما مسيح الضلالة؛ فرجل أجلى الجبهة، ممسوح العين اليسرى، عريض النحر، كأنه عبد العزى بن قطن» .
رواه البزار. قال الهيثمي: "ورجاله ثقات".
وقد رواه البغوي وابن السكن وابن شاهين من طريق عاصم بن كليب عن أبيه عن «خاله الفلتان بن عاصم؛ قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فيمن أتاه من الأعراب، فجلسنا ننتظره، فخرج وفي وجهه الغضب، فجلس طويلًا لا يتكلم، ثم قال: "إني خرجت إليكم وقد بينت لي ليلة القدر ومسيح الضلالة، فخرجت لأبينهما لكم، فلقيت بسدة المسجد رجلين متلاحيين معهما الشيطان، فحجزت بينهما، فأنسيتها، واختلست مني، وسأشدو لكم شدوًا: أما ليلة القدر؛ فالتمسوها في العشر الأواخر وترًا، وأما مسيح الضلالة؛ فإنه رجل أجلى الجبهة، ممسوح العين، عريض النحر، فيه دفاء، كأنه فلان ابن عبد العزى» .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «"خرجت إليكم وقد بينت لي ليلة القدر ومسيح الضلالة، فكان تلاح بين رجلين بسدة المسجد،»(2/384)
«فأتيتهما لأحجز بينهما، فأنسيتهما، وسأشدو لكم منهما شدوًا، أما ليلة القدر؛ فالتمسوها في العشر الأواخر وترًا، وأما مسيح الضلالة؛ فإنه أعور العين، أجلى الجبهة، عريض النحر، فيه دفأ، كأنه قطن بن عبد العزى ". قال: يا رسول الله! هل يضرني شبهه؟ قال: "لا، أنت امرؤ مسلم، وهو امرؤ كافر» .
رواه الإمام أحمد. قال الهيثمي: "وفيه المسعودي وقد اختلط". وقد رواه أبو داود الطيالسي من طريق المسعودي أيضًا.
قوله: "وسأشدو لكم منهما شدوًا"؛ معناه: أذكر لكم طرفًا مما يدل عليهما.
قال ابن منظور في "لسان العرب": " (الشدو) : كل شيء قليل من كثير، شدا من العلم والغناء وغيرهما شدوًا: أحسن منه طرفًا. قال: والشدا أيضًا: الشيء القليل". انتهى.
وأما (الأجلى) ؛ فهو الذي انحسر الشعر عن مقدم رأسه: قال الجوهري: "الجلاء: انحسار الشعر عن مقدم الرأس". وقال ابن الأثير وابن منظور في "لسان العرب": "الأجلى: الخفيف شعر ما بين النزعتين من الصدغين، والذي انحسر الشعر عن جبهته ".
و (الدفا) مقصور: الانحناء، يقال: رجل أدفى. قال ابن الأثير: "هكذا ذكره الجوهري في المعتل، وجاء به الهروي في المهموز، فقال: أدفأ وامرأة دفآء".
وقوله: "كأنه قطن بن عبد العزى ... " إلى آخره، هذا مما أخطأ فيه المسعودي، واختلط عليه حديث بحديث.
قال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري": "وهذه الزيادة ضعيفة؛ فإن في(2/385)
سنده المسعودي، وقد اختلط، والمحفوظ أنه عبد العزى بن قطن، وأنه هلك في الجاهلية؛ كما قال الزهيري ".
قلت: وقد تقدم ذلك في حديثي ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم.
قال الحافظ: "والذي قال: هل يضرني شبهه هو أكثم بن أبي الجون، وإنما قاله في حق عمرو بن لحي؛ كما أخرجه أحمد، والحاكم من طريق محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة رفعه: «"عرضت علي النار، فرأيت فيها عمرو بن لحي ... " الحديث. وفيه: "وأشبه من رأيت به أكثم بن أبي الجون " فقال أكثم: يا رسول الله! أيضرني شبهه؟ قال: "لا، إنك مسلم وهو كافر» . فأما الدجال؛ فشبهه بعبد العزى بن قطن، وشبه عينه الممسوحة بعين أبي تحي الأنصاري ". انتهى.
وعن أبي قلابة عن هشام بن عامر رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن رأس الدجال من ورائه حبك حبك، وإنه سيقول: أنا ربكم، فمن قال: أنت ربي؛ افتتن، ومن قال: كذبت، ربي الله، وعليه توكلت، وإليه أنيب؛ فلا يضره (أو قال: فلا فتنة عليه) » .
رواه: عبد الرزاق في "مصنفه" واللفظ له، والإمام أحمد، وإسناد كل منهما صحيح على شرط الشيخين. ورواه الطبراني والحاكم بمثله، وقال الحاكم: "صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه "، ووافقه الذهبي في "تلخيصه".
«وعن أبي قلابة قال: رأيت رجلًا بالمدينة وقد طاف الناس به وهو يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإذا رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. قال: فسمعته وهو يقول: إن من بعدكم الكذاب المضل، وإن رأسه من بعده حبك حبك (ثلاث مرات) ، وإنه سيقول: أنا ربكم، فمن قال: لست»(2/386)
«ربنا، لكن ربنا الله، عليه توكلنا، وإليه أنبنا، نعوذ بالله من شرك؛ لم يكن له عليه سلطان» .
رواه الإمام أحمد، وإسناده صحيح على شرط الشيخين.
وفي رواية له عن أبي قلابة عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن من بعدكم (أو إن من ورائكم) الكذاب المضل، وإن رأسه من ورائه حبك حبك، وإنه سيقول: أنا ربكم، فمن قال: كذبت؛ لست ربنا، ولكن الله ربنا، وعليه توكلنا، وإليه أنبنا، ونعوذ بالله منك؛ فلا سبيل له عليه» .
إسناده صحيح على شرط الشيخين. وقد رواه أبو قلابة عن هشام بن عامر رضي الله عنه كما تقدم ذكره، ورواه عن هذا الصحابي الذي لم يسم؛ فلعله هشام بن عامر، والله أعلم.
قال ابن الأثير: "ومنه الحديث في صفة الدجال رأسه حبك؛ أي: شعر رأسه متكسر من الجعودة مثل الماء الساكن أو الرمل إذا هبت عليهما الريح فيتجعدان ويصيران طرائق، وفي رواية أخرى: محبك الشعر؛ بمعناه".
وكذا قال ابن منظور في "لسان العرب".
وعن حذيفة رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الدجال أعور العين اليسرى، جفال الشعر، معه جنة ونار؛ فناره جنة وجنته نار» .
رواه: الإمام أحمد، ومسلم، وابن ماجه.
قال ابن الأثير: "وفي صفة الدجال أنه (جفال الشعر) ؛ أي: كثيره". قال: "والجافل القائم الشعر المنتفشه ".
وقال ابن منظور في "لسان العرب": "الجفال من الشعر: المجتمع الكثير". قال: "ولا يوصف بالجفال إلا في كثرة، وفي صفة الدجال أنه جفال(2/387)
الشعر؛ أي: كثيره، وشعر جفال؛ أي: منتفش".
وعنه رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الدجال ممسوح العين اليسرى، عليها ظفرة غليظة، مكتوب بين عينيه: كافر، يقرؤه كل مؤمن كاتب وغير كاتب» .
رواه: الإمام أحمد، ومسلم، وهذا لفظ أحمد.
وعنه رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنا أعلم بما مع الدجال منه ... (الحديث وفيه:) واعلموا أنه مكتوب بين عينيه: كافر، يقرؤه من يكتب ومن لا يكتب، وإن إحدى عينيه ممسوحة عليها ظفرة» .
رواه الحاكم في "مستدركه"، وقال "صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه"، وأقره الذهبي في "تلخيصه".
قال ابن الأثير وابن منظور في "لسان العرب": "وفي صفة الدجال: "وعلى عينه ظفرة غليظة": هي بفتح الظاء والفاء؛ لحمة تنبت عند المآقي، وقد تمتد إلى السواد فتغشيه".
وعن عبد الله بن مغفل رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أهبط الله تعالى إلى الأرض منذ خلق آدم إلى أن تقوم الساعة فتنة أعظم من فتنة الدجال، وقد قلت فيه قولًا لم يقله أحد قبلي، إنه آدم، جعد، ممسوح عين اليسار، على عينه ظفرة غليظة ... » الحديث.
رواه الطبراني في "الكبير" و "الأوسط". قال الهيثمي: "ورجاله ثقات، وفي بعضهم ضعف لا يضر".
وسيأتي الحديث بتمامه في (باب فتنة الدجال) إن شاء الله تعالى.
وعن سمرة بن جندب رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الدجال»(2/388)
«خارج، وهو أعور عين الشمال، عليها ظفرة غليظة ... » الحديث.
رواه: الإمام أحمد، وإسناده صحيح على شرط الشيخين، والطبراني.
قال الهيثمي: "ورجاله رجال الصحيح".
وسيأتي بتمامه في (باب فتنة الدجال) إن شاء الله تعالى.
وعن سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «ألا إنه لم يكن نبي قبلي إلا قد حذر أمته الدجال، هو أعور عينه اليسرى، بعينه اليمنى ظفرة غليظة، مكتوب بين عينيه كافر ... » الحديث.
رواه: الإمام أحمد، وأبو داود الطيالسي، والطبراني. قال الهيثمي: "ورجاله ثقات، وفي بعضهم كلام لا يضر".
وسيأتي بتمامه في (باب فتنة الدجال) إن شاء الله تعالى.
وعن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ قال: «إن الدجال أعور العين الشمال، عليها ظفرة غليظة، مكتوب بين عينيه كافر» ، قال: "وكفر".
رواه الإمام أحمد، وإسناده ثلاثي على شرط الشيخين.
وفي رواية قال: «إن الدجال ممسوح العين اليسرى، عليها ظفرة، مكتوب بين عينيه كافر» . وقد رواه أبو بكر الآجري في "كتاب الشريعة"، ولفظه: قال: «الدجال ممسوح العين، عليها ظفرة غليظة، مكتوب بين عينيه: كافر» .
وعن سمرة بن جندب رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «وإنه والله لا تقوم الساعة حتى يخرج ثلاثون كذابًا، آخرهم الأعور الدجال، ممسوح العين اليسرى، كأنها عين أبي تحي (لشيخ حينئذ من الأنصار بينه وبين حجرة عائشة رضي الله عنها) ... » الحديث.
رواه: الإمام أحمد، والبزار، والطبراني في "الكبير"، وابن حبان في(2/389)
"صحيحه"، والحاكم في "مستدركه"، وقال "صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي في "تلخيصه".
قوله: "أبي تحي"؛ قال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري ": "هو بكسر المثناة الفوقانية، ضبطه ابن ماكولا عن جعفر المستغفري، ولا يعرف إلا من هذا الحديث ". انتهى.
وعن جنادة بن أبي أمية؛ قال: أتينا رجلًا من الأنصار من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدخلنا عليه، فقلنا: حدثنا ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تحدثنا ما سمعت من الناس، فشددنا عليه، فقال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فينا، فقال: «أنذرتكم المسيح، وهو ممسوح العين (قال: أحسبه قال:) اليسرى ... » . الحديث.
رواه الإمام أحمد بأسانيد صحيحه، وفي رواية له قال: «وإنه آدم جعد أعور عينه اليسرى» .
وعن جنادة بن أبي أمية أيضًا: أن قومًا دخلوا على معاذ بن جبل رضي الله عنه وهو مريض، فقالوا له: حدثنا حديثًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يشتبه عليك، فأخذ بعض القوم بيده، فجلس، فقال: لا أحدثكم إلا حديثًا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: «ما من نبي إلا وقد حذر أمته الدجال، وأنا أحذركم الدجال؛ إنه أعور، مكتوب بين عينيه: كافر، يقرؤه الكاتب وغير الكاتب، معه جنة ونار، فناره جنة وجنته نار» .
رواه: البزار، والطبراني. قال الهيثمي: "وفيه خنيس بن عامر، ولم أعرفه، وبقية رجاله وثقوا، وقد رواه يعقوب بن سفيان الفسوي في "مسنده"، فقال: حدثنا يحيى بن بكير: حدثني خنيس بن عامر بن يحيى المعافري عن أبي قبيل عن جنادة بن أبي أمية عن معاذ بن جبل رضي الله عنه.(2/390)
وعن أبي بكرة رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الدجال أعور بعين الشمال، بين عينيه مكتوب كافر، يقرؤه الأمي والكاتب» .
رواه الإمام أحمد. قال الهيثمي: "ورجاله ثقات".
وعن أبي بن كعب رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر الدجال، فقال: «إحدى عينيه كأنها زجاجة خضراء، وتعوذوا بالله تبارك وتعالى من عذاب القبر» .
رواه: أبو داود الطيالسي، والإمام أحمد؛ من طريقهم ومن طريق محمد بن جعفر وروح، ورواته كلهم ثقات، وابن حبان في "صحيحه".
وعن أبي الوداك؛ قال: قال لي أبو سعيد: هل يقر الخوارج بالدجال؟ فقلت: لا. فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني خاتم ألف نبي وأكثر، ما بعث نبي يتبع؛ إلا وقد حذر أمته الدجال، وإني قد بين لي من أمره ما لم يبين لأحد، وإنه أعور، وإن ربكم ليس بأعور، وعينه اليمنى عوراء جاحظة ولا تخفى، كأنها نخامة في حائط مجصص، وعينه اليسرى كأنها كوكب دري، معه من كل لسان، ومعه صورة الجنة خضراء يجري فيها الماء، وصورة النار سوداء تدخن» .
رواه الإمام أحمد. قال الهيثمي: "فيه مجالد بن سعيد وثقه النسائي في رواية، وقال في أخرى: ليس بالقوي، وضعفه جماعة".
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ قال: «إنه لم يكن نبي؛ إلا قد أنذر الدجال قومه، وإني أنذركموه؛ إنه أعور، ذو حدقة جاحظة ولا تخفى، كأنها كوكب دري ... » الحديث.
رواه: أبو يعلى، والبزار. قال الهيثمي: "وفيه الحجاج بن أرطاة وهو مدلس، وعطية ضعيف وقد وثق".
وقد رواه الحاكم في "مستدركه"، ولفظه: «ألا كل نبي قد أنذر أمته»(2/391)
«الدجال، وإنه يومه هذا قد أكل الطعام، وإنى عاهد عهدًا لم يعهده نبي لأمته قبلي، ألا إن عينه اليمنى ممسوحة الحدقة جاحظة، فلا تخفى، كأنها نخاعة في جنب حائط، ألا وإن عينه اليسرى كأنها كوكب دري ... » الحديث.
وفيه عطية العوفي وهو ضعيف.
(جحوظ العين) : نتوؤها.
وعن حذيفة رضي الله عنه؛ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يخرج الدجال من يهودية أصبهان، عينه اليمنى ممسوحة، والأخرى كأنها زهرة تشق الشمس شقًا» .
رواه الحاكم في "مستدركه" بإسناد ضعيف.
«وعن أسماء بنت يزيد رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جلس مجلسًا مرة يحدثهم عن الأعور الدجال، وقال فيه: "فمن حضر مجلسي وسمع قولي؛ فليبلغ الشاهد منكم الغائب، واعلموا أن الله عز وجل صحيح ليس بأعور، وأن الدجال أعور ممسوح العين، بين عينيه مكتوب: كافر، يقرؤه كل مؤمن كاتب وغير كاتب» .
رواه: الإمام أحمد، والطبراني. قال الهيثمي: "وفيه شهر بن حوشب، وفيه ضعف، وقد وثق ".
«وعنها رضي الله عنها: أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بين ظهراني أصحابه يقول: "أحذركم المسيح وأنذركموه، وكل نبي قد حذره قومه، وهو فيكم أيتها الأمة، وسأجلي لكم من نعته ما لم تجلي الأنبياء قبلي لقومهم ... (فذكر الحديث وفيه:) وهو أعور، وليس الله بأعور، بين عينيه كافر، يقرؤه كل مؤمن كاتب وغير كاتب ... » الحديث.(2/392)
رواه الطبراني، وفيه شهر بن حوشب، وفيه ضعف، وقد وثق. قال الهيثمي: "وبقية رجاله ثقات، وقد رواه عبد الله بن الإمام أحمد في كتاب "السنة" بنحوه، وإسناده حسن".
وعن الزهري عن سالم بن عبد الله: أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما؛ قال: «قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس، فأثنى على الله بما هو أهله، ثم ذكر الدجال، فقال: "إني لأنذركموه، وما من نبي إلا وقد أنذره قومه، ولكني سأقول لكم فيه قولًا لم يقله نبي لقومه: إنه أعور، وإن الله ليس بأعور» .
رواه: الإمام أحمد، والشيخان، وأبو داود، والترمذي.
زاد مسلم والترمذي: قال ابن شهاب: «وأخبرني عمر بن ثابت الأنصاري أنه أخبره بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم حذر الناس الدجال: "إنه مكتوب بين عينيه كافر، يقرؤه من كره عمله (أو: يقرؤه كل مؤمن) "، وقال: "تعلموا أنه لن يرى أحد منكم ربه عز وجل حتى يموت» .
قال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح".
وقد رواه الإمام أحمد عن عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن عمر بن ثابت الأنصاري، فذكره بنحوه، وإسناده صحيح على شرط مسلم.
ورواه الإمام أحمد أيضًا من حديث محمد بن زيد؛ قال: قال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: «كنا نحدث بحجة الوداع ولا ندري أنه الوداع من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما كان في حجة الوداع؛ خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر المسيح الدجال، فأطنب في ذكره، ثم قال: "ما بعث الله من نبي إلا وقد أنذره أمته، لقد أنذره نوح أمته والنبيون من بعده، ألا ما خفي عليكم من شأنه فلا يخفين عليكم أن ربكم ليس بأعور، ألا ما خفي عليكم من شأنه فلا يخفين عليكم أن ربكم ليس بأعور» .(2/393)
إسناده صحيح على شرط الشيخين.
وعن نافع عن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر الدجال بين ظهراني الناس، فقال: «إن الله تعالى ليس بأعور، ألا وإن المسيح الدجال أعور العين اليمنى، كأن عينه عنبة طافئة» .
رواه: الإمام أحمد، والشيخان، والترمذي، وقال: "هذا حديث حسن صحيح غريب من حديث عبد الله بن عمر ". قال: "وفي الباب عن سعد وحذيفة وأبي هريرة وأسماء وجابر بن عبد الله وأبي بكرة وعائشة وأنس وابن عباس والفلتان بن عاصم رضي الله عنهم".
قلت: وقد تقدم ذكر بعض هذه الأحاديث، ويأتي ذكر بقيتها إن شاء الله تعالى.
وفي رواية لأحمد: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنه لم يكن نبي قبلي إلا وصفه لأمته؛ ولأصفنه صفة لم يصفها من كان قبلي: إنه أعور والله تبارك وتعالى ليس بأعور، عينه اليمنى كأنها عنبة طافية» .
إسناده حسن.
وفي رواية له أخرى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الدجال أعور عين اليمنى، وعينه الأخرى كأنها عنبة طافية» .
إسناده صحيح على شرط مسلم.
وعن وهب بن كيسان عن ابن عمر رضي الله عنهما؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من نبي إلا وقد أنذر أمته الدجال، وإني سأبين لكم شيئًا، تعلمون أنه أعور، وإن ربكم ليس بأعور، وإنه بين عينيه مكتوب كافر، يقرؤه كل مؤمن كاتب وغير كاتب» .(2/394)
رواه ابن حبان في "صحيحه".
وعن قتادة؛ قال: سمعت أنس بن مالك رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من نبي إلا وقد أنذر أمته الأعور الكذاب، ألا إنه أعور، وإن الله تبارك وتعالى ليس بأعور، مكتوب بين عينيه كافر، يقرؤه كل مؤمن» .
رواه: الإمام أحمد، وأبو داود الطيالسي واللفظ له، والشيخان، وأبو داود السجستاني، والترمذي وقال: "هذا حديث صحيح".
وفي رواية لمسلم: قال: «مكتوب بين عينيه ك ف ر» . ورواه الإمام أحمد وأبو داود بهذا اللفظ أيضًا.
وفي رواية لأحمد ومسلم: أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: «الدجال مكتوب بين عينيه ك ف ر؛ أي: كافر» . زاد أحمد: «يقرؤها المؤمن أمي وكاتب» .
وفي رواية لأحمد: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لم يبعث نبي قبلي إلا حذر قومه الدجال الكذاب، فاحذروه؛ فإنه أعور، ألا وإن ربكم ليس بأعور» .
وقد رواه: الإمام أحمد، ومسلم، وأبو داود أيضًا؛ من حديث شعيب بن الحبحاب عن أنس بن مالك رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الدجال ممسوح العين، مكتوب بين عينيه كافر (ثم تهجاها) ك ف ر؛ يقرؤه كل مسلم» .
ورواه ابن خزيمة في كتاب التوحيد من حديث شعيب عن أنس رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنذركم الدجال، أما إنه أعور عين اليمني، وإن ربكم ليس بأعور، مكتوب بين عينيه ك ف ر، يقرؤه كل مؤمن يقرأ وكل مؤمن لا يقرأ» .
ورواه الإمام أحمد أيضًا بإسناد صحيح من حديث حميد وشعيب بن الحبحاب عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الدجال»(2/395)
«أعور، وإن ربكم ليس بأعور، مكتوب بين عينيه كافر، يقرؤه كل مؤمن كاتب وغير كاتب» .
ورواه عبد الله ابن الإمام أحمد في "كتاب السنة" من هذا الطريق بهذا اللفظ، وإسناده صحيح.
وفي رواية لأحمد؛ قال: «إن الدجال أعور، وإن ربكم عز وجل ليس بأعور، بين عينيه ك ف ر، يقرؤه كل مؤمن قارئ وغير قارئ» .
قال النووي في "شرح مسلم ": "وأما قوله صلى الله عليه وسلم: «إن الله تعالى ليس بأعور والدجال أعور» : فبيان لعلامة بينة تدل على كذب الدجال دلالة قطعية بديهية يدركها كل أحد. وقوله صلى الله عليه وسلم: «مكتوب بين عينيه كافر (ثم تهجاها فقال:) ك ف ر، يقرؤه كل مسلم» . وفي رواية: «يقرؤه كل مؤمن كاتب وغير كاتب» : الصحيح الذي عليه المحققون أن هذه الكتابة على ظاهرها، وأنها كتابة حقيقة، جعلها الله آية وعلامة من جملة العلامات القاطعة بكفره وكذبه وإبطاله، ويظهرها الله تعالى لكل مسلم كاتب وغير كاتب، ويخفيها عمن أراد شقاوته وفتنته، ولا امتناع في ذلك، وذكر القاضي فيه خلافًا، منهم من قال: هي كتابة حقيقة كما ذكرنا، ومنهم من قال: هي مجاز وإشارة إلى سمات الحدوث عليه، واحتج بقوله: "يقرؤه كل مؤمن كاتب وغير كاتب"، وهذا مذهب ضعيف ". انتهى.
وقال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري": "ولا يلزم من قوله: «يقرؤه كل مؤمن كاتب وغير كاتب» : أن لا تكون الكتابة حقيقة، بل يقدر الله على غير الكاتب علم الإدراك، فيقرأ ذلك، وإن لم يكن سبق له معرفة الكتابة".
وقال الحافظ أيضًا في الكلام على قوله: «يقرؤه كل مؤمن كاتب وغير كاتب» : "إخبار بالحقيقة، وذلك أن الإدراك في البصر يخلقه الله للعبد كيف شاء ومتى شاء، فهذا يراه المؤمن بعين بصره وإن كان لا يعرف الكتابة، ولا يراه(2/396)
الكافر ولو كان يعرف الكتابة، كما يرى المؤمن الأدلة بعين بصيرته ولا يراها الكافر، فيخلق الله للمؤمن الإدراك دون تعلم؛ لأن ذلك الزمان تنخرق فيه العادات في ذلك. ويحتمل قوله: "يقرؤه من كره عمله": أن يراد به المؤمنون عمومًا، ويحتمل أن يختص ببعضهم ممن قوي إيمانه". انتهى.
قلت: والاحتمال الأول أقوى؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «يقرؤه كل مؤمن» ؛ فهذا يدل على أن المؤمنين عمومًا يقرؤون الكتابة التي بين عيني الدجال. والله أعلم.
وقد ذهب أبو عبية في تعليقه على "النهاية" لابن كثير في (ص91) في تأويل الكتابة التي بين عيني الدجال مذهبًا باطلًا يدور فيه على إنكار وجود الدجال؛ كما صرح بذلك في تقديمه لـ "النهاية"، وفي عدة تعاليق له عليها، زعم فيها أن الدجال رمز لاستشراء الفتنة واستعلاء الضلال فترة من الزمان، وهذا قول باطل مردود؛ فلا يغتر به.
وعن جابر رضي الله عنهما؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يخرج الدجال في خفقة من الدين وإدبار من العلم.... (فذكر الحديث، وفيه) فيقول للناس: أنا ربكم، وهو أعور، وإن ربكم ليس بأعور، مكتوب بين عينيه كافر، ك ف ر مهجاة، يقرؤه كل مؤمن كاتب وغير كاتب ... » الحديث.
رواه الإمام أحمد وإسناده صحيح على شرط الشيخين، ورواه الحاكم في "مستدركه"، وقال "صحيح الإسناد ولم يخرجاه"، وقال الذهبي في "تلخيصه": "على شرط مسلم "، ورواه ابن خزيمة في "كتاب التوحيد" مختصرًا وإسناده على شرط الشيخين.
وعنه رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ قال: «ما كانت فتنة ولا تكون حتى تقوم الساعة أكبر من فتنة الدجال، ولا من نبي إلا وقد حذر أمته،»(2/397)
«ولأخبرنكم بشيء ما أخبره نبي أمته قبلي (ثم وضع يده على عينه، ثم قال) : أشهد أن الله عز وجل ليس بأعور» .
رواه الإمام أحمد، وإسناده صحيح على شرط الشيخين.
وعنه رضي الله عنه؛ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنه مكتوب بين عيني الدجال كافر، يقرؤه كل مؤمن» .
رواه الإمام أحمد، وإسناده صحيح على شرط مسلم.
وعنه رضي الله عنه؛ قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «الدجال أعور، وهو أشد الكذابين» .
رواه الإمام أحمد، وإسناده صحيح على شرط الشيخين.
وعنه رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني لخاتم ألف نبي أو أكثر، وإنه ليس منهم نبي إلا قد أنذره قومه، وإنه قد تبين لي ما لم يتبين لأحد منهم؛ إنه أعور، وإن ربكم ليس بأعور» .
رواه البزار. قال الهيثمي: "وفيه مجالد بن سعيد، وقد ضعفه الجمهور، وفيه توثيق. وقد رواه عبد الله ابن الإمام أحمد في كتاب "السنة" مختصرًا، وفي إسناده مجالد، وبقية رجاله رجال الصحيح ".
وعنه رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يذكر المسيح الدجال: «إني سأقول لكم فيه كلمة ما قالها نبي قبلي: إنه أعور، وإن الله ليس بأعور، بين عينيه كتاب كافر» . قال جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم: «يقرؤه كل مؤمن كاتب وغير كاتب ... » الحديث.
رواه الطبراني في "الأوسط". قال الهيثمي: "وفيه زمعة بن صالح، وهو ضعيف".(2/398)
وعنه رضي الله عنه: «أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حجة الوداع: "استنصت الناس"، فحمد الله وأثنى عليه، ثم ذكر المسيح الدجال، فأطنب في ذكره، وقال: "ما بعث الله من نبي إلا أنذره أمته، أنذره نوح أمته والنبيون من بعده، وإنه يخرج فيكم، فما خفي عليكم من شأنه فليس يخفى عليكم أن ربكم ليس بأعور (ثلاثا) ، وإنه أعور اليمنى، كأن عينه عنبة طافية"» .
رواه رزين.
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه؛ قال: «ذكر الدجال عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "إن الله لا يخفى عليكم، إن الله ليس بأعور (وأشار بيده إلى عينه» .
رواه رزين.
وعن حذيفة رضي الله عنه؛ قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر الدجال، فقال: «لفتنة بعضكم أخوف عندي من فتنة الدجال، إنها ليست من فتنة صغيرة ولا كبيرة إلا تتضع لفتنة الدجال، فمن نجا من فتنة ما قبلها؛ نجا منها، وإنه لا يضر مسلمًا، مكتوب بين عينيه كافر، بهجاوة ك ف ر» .
رواه ابن حبان في "صحيحه".
«وعن أسماء بنت عميس رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها لبعض حاجته ثم خرج، فشكت إليه الحاجة، فقال: "كيف بكم إذا ابتليتم بعبد قد سخرت له أنهار الأرض وثمارها ... (الحديث وفيه:) إن بين عينيه كافر، يقرؤه كل مؤمن كاتب وغير كاتب» .
رواه الطبراني. قال الهيثمي: "وفيه راو لم يسم، وبقية رجاله رجال الصحيح".(2/399)
وسيأتي بتمامه في (باب فتنة الدجال) إن شاء الله تعالى.
وعن عروة بن الزبير؛ قال: «قالت أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم: ذكرت المسيح الدجال ليلة، فلم يأتني النوم، فلما أصبحت؛ دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبرته، فقال: "لا تفعلي؛ فإنه إن يخرج وأنا حي؛ يكفيكموه الله بي، وإن يخرج بعد أن أموت؛ يكفيكموه الله بالصالحين"، ثم قال: "ما من نبي إلا وقد حذر أمته الدجال، وإني أحذركموه، إنه أعور، وإن الله ليس بأعور، إنه يمشي في الأرض، وإن الأرض والسماء لله، ألا إن المسيح عينه اليمنى كأنها عنبة طافية» .
رواه ابن خزيمة في "كتاب التوحيد"، وإسناده صحيح على شرط مسلم، ورواه الطبراني بنحوه باختصار يسير. قال الهيثمي: "ورجاله ثقات؛ إلا أن شيخ الطبراني أحمد بن محمد بن نافع الطحان لم أعرفه".
قلت: ورواية ابن خزيمة تشهد لروايته بالصحة.
«وعن عائشة رضي الله عنها؛ قالت: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أبكي، فقال: "ما يبكيك؟ ". فقلت: يا رسول الله! ذكرت الدجال. قال: "فلا تبكين، فإن يخرج وأنا حي؛ أكفيكموه، وإن مت؛ فإن ربكم ليس بأعور.....» الحديث.
رواه: الإمام أحمد، وابنه عبد الله في كتاب "السنة"، وابن حبان في "صحيحه" وإسناد أحمد وابنه رجالهما رجال الصحيح؛ غير الحضرمي بن لاحق، وهو ثقة، وقد رواه ابن حبان من طريقه.
«وعنها رضي الله عنها؛ قالت: جاءت يهودية؛ فاستطعمت على بابي فقالت: أطعموني أعاذكم الله من فتنة الدجال ومن فتنة عذاب القبر. قالت:»(2/400)
«فلم أزل أحبسها حتى جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله! ما تقول هذه اليهودية؟ قال: "وما تقول؟ ". قلت: تقول: أعاذكم الله من فتنة الدجال ومن فتنة عذاب القبر. قالت عائشة: فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرفع يديه مدًا يستعيذ بالله من فتنة الدجال ومن فتنة عذاب القبر، ثم قال: "أما فتنة الدجال؛ فإنه لم يكن نبي إلا وقد حذر أمته، وسأحذركموه تحذيرًا لم يحذره نبي أمته، إنه أعور والله عز وجل ليس بأعور، مكتوب بين عينيه كافر، يقرؤه كل مؤمن.....» الحديث.
رواه الإمام أحمد، وإسناده صحيح على شرط الشيخين.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا أحدثكم حديثًا عن الدجال ما حدث به نبي قومه؟ إنه أعور، وإنه يجيء معه بمثال الجنة والنار؛ فالتي يقول: إنها الجنة: هي النار، وإني أنذركم به كما أنذر به نوح قومه» .
متفق عليه.
وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنه لم يكن نبي إلا وصف الدجال لأمته، ولأصفنه صفة لم يصفها أحد كان قبلي: إنه أعور وإن الله عز وجل ليس بأعور» .
رواه: الإمام أحمد بإسناد حسن، وأبو يعلى، والبزار، وعبد الله ابن الإمام أحمد في كتاب "السنة" من طريق أبيه.
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ قال في الدجال: «ما شبه عليكم منه؛ فإن الله عز وجل ليس بأعور ... » الحديث.
رواه الطبراني. قال الهيثمي: "وفيه من لم أعرفهم".
وسيأتي بتمامه في ذكر الرجل المؤمن الذي يقتله الدجال إن شاء الله.(2/401)
وعن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه؛ قال: «خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان أكثر خطبته حديثًا حدثناه عن الدجال وحذرناه ... فذكر الحديث بطوله، وفيه: "وإنه أعور، وإن ربكم ليس بأعور، وإنه مكتوب بين عينيه كافر، يقرؤه كل مؤمن كاتب أو غير كاتب ... » الحديث.
رواه: ابن ماجه، وعبد الله ابن الإمام أحمد في كتاب "السنة" مختصرًا، وابن خزيمة، والحاكم في "مستدركه"، والحافظ الضياء المقدسي، وقال الحاكم: "صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي في "تلخيصه".
وعن الشعبي عن فاطمة بنت قيس رضي الله عنها: «أن النبي صلى الله عليه وسلم صعد المنبر ... فذكر حديث الجساسة، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: "وإنه خارج فيكم، فما شبه عليكم؛ فاعلموا أن ربكم ليس بأعور» .
رواه عبد الله ابن الإمام أحمد في كتاب "السنة" بإسناد ضعيف، وله شواهد مما تقدم.
«وعن أبي الطفيل رضي الله عنه؛ قال: مررت على حذيفة بن أسيد رضي الله عنه، فقلت: ما يقعدك وقد خرج الدجال؟ قال: اقعد ... فذكر الحديث؛ قال: "وفيه ثلاث علامات: هو أعور وربكم ليس بأعور، ومكتوب بين عينيه كافر، يقرؤه كل مؤمن كاتب أو غير كاتب» .
رواه عبد الله ابن الإمام أحمد في كتاب "السنة"؛ وإسناده صحيح على شرط الشيخين، ورواه الحاكم في "مستدركه"، وقال "صحيح الإسناد"، ووافقه الذهبي في "تلخيصه": "على شرط البخاري ومسلم ".
وعن عبيد - يعني ابن عمير - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الدجال أعور، وإن الله ليس بأعور، مكتوب بين عينيه كافر، يقرؤه كل مؤمن كاتب وغير»(2/402)
«كاتب» .
رواه عبد الله ابن الإمام أحمد في كتاب "السنة"، وهو مرسل صحيح الإسناد على شرط الشيخين.
باب
ما جاء في عظم خلق الدجال
عن هشام بن عامر رضي الله عنه؛ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما بين خلق آدم إلى قيام الساعة خلق أكبر من الدجال» .
رواه مسلم. وفي رواية له نحوه؛ إلا أنه قال: «أمر أكبر من الدجال» .
ورواه الإمام أحمد بهذا اللفظ، وبلفظ آخر يأتي في (باب ما جاء أن فتنة الدجال أعظم الفتن) إن شاء الله تعالى.
باب
في صفة الزمان الذي يخرج فيه الدجال
عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يخرج الدجال في خفقة من الدين وإدبار من العلم ... » الحديث.
رواه: الإمام أحمد، وابن خزيمة في "كتاب التوحيد " وإسناد كل منهم صحيح على شرط الشيخين. ورواه الحاكم في "مستدركه" وقال "صحيح الإسناد ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي في "تلخيصه": "على شرط مسلم ".
وسيأتي بتمامه في (باب ما جاء في فتنة الدجال) إن شاء الله تعالى.(2/403)
باب
من أين يخرج الدجال
قد تقدم «حديث فاطمة بنت قيس رضي الله عنها في خبر الجساسة والدجال، وفي آخره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ألا إنه في بحر الشام أو بحر اليمن، لا بل من قبل المشرق ما هو، من قبل المشرق ما هو، من قبل المشرق ما هو (وأومأ بيده إلى المشرق) . قالت: فحفظت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم» .
رواه: مسلم، وأبو داود، والطبراني في "الكبير"، وهذا لفظ مسلم.
«وعن فاطمة بنت قيس أيضًا رضي الله عنها؛ قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم نادى الصلاة جامعة، فخرجت في نسوة من الأنصار، حتى أتينا المسجد، فصلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الظهر، ثم صعد المنبر. قالت فاطمة: فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم رافعًا يديه، حتى رأيت بياض إبطيه، ثم قال: "ألا أخبركم أنه في بحر الشام"، ثم أغمي عليه ساعة، ثم أريح، ثم سري عنه، ثم قال: "بل هو في بحر العراق، بل هو في بحر العراق، يخرج حين يخرج من بلدة يقال لها: أصبهان، من قرية من قراها يقال لها: رستقاباد، يخرج حين يخرج على مقدمته سبعون ألفا عليهم السيجان، معه نهران: نهر من ماء، ونهر من نار، فمن أدرك منكم ذلك، فقيل له: ادخل الماء؛ فلا يدخل فإنه نار، وإذا قيل له: ادخل النار؛ فليدخلها؛ فإنها ماء» .
رواه الطبراني في "الكبير" و "الأوسط"، في حديثها الطويل. قال الهيثمي: "وفيه سيف بن مسكين، وهو ضعيف جدًا".
(السيجان) : جمع ساج. قال الجوهري: " (الساج) : الطيلسان الأخضر، والجمع سيجان". وقال ابن منظور في "لسان العرب": " (الساج) :(2/404)
الطيلسان الضخم الغليظ، وقيل: هو الطيلسان المقور، ينسج كذلك، وقيل: هو طيلسان أخضر". وقال ابن الأعرابي: " (السيجان) : الطيالسة السود، واحدها ساج". انتهى.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يخرج الدجال من هاهنا (وأشار نحو المشرق) » .
رواه: ابن حبان في "صحيحه"، والحاكم في "مستدركه"، وهذا لفظ ابن حبان.
ولفظ الحاكم؛ قال: «يخرج الدجال من هاهنا أو هاهنا أو من هاهنا، بل يخرج هاهنا (يعني: المشرق) » . قال الحاكم "صحيح الإسناد ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي في "تلخيصه".
وعنه رضي الله عنه؛ قال: «سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الدجال؛ قال: أحسبه قال: "يخرج من نحو المشرق"» .
رواه البزار. قال الهيثمي: "وفيه مجالد بن سعيد، وهو ضعيف، وقد وثق".
وعنه رضي الله عنه؛ قال: سمعت أبا القاسم الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم يقول: «يخرج أعور الدجال مسيح الضلالة قبل المشرق في زمن اختلاف من الناس وفرقة، فيبلغ ما شاء الله أن يبلغ من الأرض في أربعين يومًا، والله أعلم ما مقدارها، الله أعلم ما مقدارها (مرتين) ... » الحديث.
رواه: ابن حبان في "صحيحه"، والبزار. قال الهيثمي: "ورجاله رجال الصحيح، غير علي بن المنذر، وهو ثقة". وقال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري": "أخرجه البزار بسند جيد".(2/405)
وسيأتي هذا الحديث بتمامه في ذكر نزول عيسى عليه الصلاة والسلام إن شاء الله تعالى.
وعنه رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يأتي المسيح الدجال من قبل المشرق، وهمته المدينة، حتى ينزل دبر أحد، ثم تصرف الملائكة وجهه قبل الشام، وهنالك يهلك» .
رواه: الإمام أحمد، ومسلم، والترمذي وقال: "هذا حديث صحيح".
وعنه رضي الله عنه؛ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لينزلن الدجال خوز وكرمان في سبعين ألفًا، وجوههم كالمجان المطرقة» .
رواه الإمام أحمد، وإسناده حسن.
وعن أبي بكر الصديق رضي الله عنه؛ قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أن الدجال يخرج من أرض بالمشرق، يقال لها: خراسان، يتبعه أقوام كأن وجوههم المجان المطرقة» .
رواه: الإمام أحمد، والترمذي، وابن ماجه، والحاكم في "مستدركه"، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب". وقال الحاكم "صحيح الإسناد ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي في "تلخيصه". قال الترمذي: "وفي الباب عن أبي هريرة وعائشة رضي الله عنهما".
قلت: وقد تقدم حديث أبي هريرة، ويأتي حديث عائشة رضي الله عنها إن شاء الله تعالى.
وعن سعيد بن المسيب؛ قال: قال أبو بكر رضي الله عنه: "هل بالعراق أرض يقال لها: خراسان؟ قالوا: نعم. قال: فإن الدجال يخرج منها".
رواه ابن أبي شيبة.(2/406)
«وعن أبي بكر الصديق أيضًا رضي الله عنه: أنه قال: "يخرج الدجال من مرو من يهوديتها ".»
رواه نعيم بن حماد في "الفتن".
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يخرج الدجال من يهودية أصبهان معه سبعون ألفًا من اليهود عليهم السيجان» .
رواه: الإمام أحمد، وأبو يعلى؛ من حديث محمد بن مصعب القرقساني عن الأوزاعي. قال الهيثمي: "وروايته عنه جيدة، وقد وثقه أحمد وغيره، وضعفه جماعة، وبقية رجالهما رجال الصحيح، ورواه الطبراني في "الأوسط" كذلك ".
وعن عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن يخرج الدجال وأنا حي؛ كفيتكموه، وإن يخرج الدجال بعدي؛ فإن ربكم عز وجل ليس بأعور، إنه يخرج في يهودية أصبهان، حتى يأتي المدينة، فينزل ناحيتها ... » الحديث.
رواه: الإمام أحمد، وابن حبان في "صحيحه"، ورجال أحمد رجال الصحيح؛ غير الحضرمي بن لاحق، وهو ثقة.
وسيأتي هذا الحديث بتمامه في ذكر نزول عيسى عليه الصلاة والسلام إن شاء الله تعالى.
وعن عمران بن حصين رضي الله عنهما؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يخرج الدجال من قبل أصبهان» .
رواه الطبراني في "الأوسط" عن محمد بن محمويه الجوهري. قال الهيثمي: "ولم أعرفه".(2/407)
قلت: ولحديثه شواهد كثيرة مما تقدم.
وفي رواية: «يخرج الدجال من قبل أصبهان المشرق، وهم قوم وجوههم كالمجان» .
وعن حذيفة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يخرج الأعور الدجال من يهودية أصبهان، عينه اليمنى ممسوحة، والأخرى كأنها زهرة» .
رواه الحاكم في "مستدركه"، وإسناده ضعيف.
وعن العريان بن الهيثم؛ قال: دخلت على يزيد بن معاوية، فبينا نحن عنده جلوس؛ إذ أتاه رجل، فأخذ مرفقته، فاتكأ عليها. قلنا: ما هذا؟ قال بعضهم: هذا عبد الله بن عمرو. قال بعضنا: يا عبد الله بن عمرو! إنا لنحدث عنك أحاديث. قال: إنكم معاشر أهل العراق تأخذون الأحاديث من أسافلها ولا تأخذونها من أعاليها. وذكروا الدجال، فقال: بأرضكم أرض يقال لها: كوفا ذات سباخ ونخل؟ قلنا: نعم. قال: فإنه يخرج منها.
رواه الطبراني. قال الهيثمي: "ورجاله ثقات".
ورواه عبد الرزاق في "مصنفه" عن معمر عن محمد بن شبيب عن العريان ابن الهيثم؛ قال: "وفدت على معاوية، فبينا أنا عنده؛ إذ دخل رجل عليه طمران، فرحب به معاوية، وأجلسه على السرير، فقلت: من هذا يا أمير المؤمنين؟ فقال: أما تعرف هذا؟ هذا عبد الله بن عمرو بن العاص. قلت: أهذا الذي يقول: لا يعيش الناس بعد مائة سنة؟ فأقبل علي وقال: أوقلت ذلك؟ إنا نجدهم يعيشون بعد مائة سنة دهرًا طويلًا، ولكن هذه الأمة أجلت ثلاثين ومائة سنة. قال: ثم قال لي: ممن أنت؟ قال: قلت: من أهل العراق (أو قال: من أهل الكوفة) . قال: تعرف كوثا؟ قال: قلت: نعم. قال: منها يخرج الدجال ".(2/408)
رجاله كلهم ثقات.
وعن عبد الله بن عمرو أيضًا رضي الله عنه: أنه قال: "يخرج الدجال من كوثى، أرض بالعراق، ثم قال: إن للأشرار بعد الأخيار عشرين ومائة سنة، لا يدري أحد من الناس متى يدخل أولها".
رواه ابن أبي شيبة.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه: أنه قال: "يخرج الدجال من كوثى".
رواه ابن أبي شيبة.
وهذان الأثران عن عبد الله بن عمرو وابن مسعود رضي الله عنهما يخالفان ما تقدم من الأحاديث الدالة على أن الدجال يخرج من خراسان من يهودية أصبهان، وما في الأحاديث المرفوعة هو المعتمد، ويحتمل أن يكون مراد ابن مسعود وعبد الله بن عمرو رضي الله عنهم أن الدجال يكون طريقه في خروجه على أرض العرب من جهة كوثى؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: «إنه خارج خلة بين الشام والعراق» ، وسيأتي هذا الحديث في ذكر فتنة الدجال إن شاء الله تعالى.
وروى ابن أبي شيبة عن أبي صادق؛ قال: قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "إنى لأعلم أول أهل أبيات يفزعهم الدجال، أنتم أهل الكوفة".
فهذا الأثر يوضح ما تقدم عن ابن مسعود رضي الله عنه، وأنه إنما أراد أن الدجال يكون طريقه في خروجه على أرض العرب من جهة كوثى، لا أن ابتداء خروجه يكون منها، وإنما هو من يهودية أصبهان؛ كما جاء ذلك في الأحاديث التي تقدم ذكرها. والله أعلم.(2/409)
باب
في سبب خروج الدجال
عن نافع: أن حفصة رضي الله عنها قالت لأخيها عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنما يخرج الدجال من غضبة يغضبها» ؟ .
رواه: الإمام أحمد، ومسلم.
باب
التحذير من الدجال
قد تقدم ذلك أحاديث كثيرة:
منها حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، وقد تقدم في (باب ما جاء أن الدجال كان موجودًا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم) .
ومنها حديث أسماء بنت يزيد رضي الله عنها، وقد تقدم في (باب ما جاء في حبس المطر والنبات عند خروج الدجال) .
ومنها أحاديث صفة الدجال؛ فكلها مشتملة على التحذير منه، وقد جاء ذلك صريحًا في أكثر من عشرين حديثًا منها؛ فلتراجع.
وعن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن ربكم أنذركم ثلاثًا: الدخان يأخذ المؤمن كالزكمة ويأخذ الكافر فينتفخ حتى يخرج من كل مسمع منه، والثانية الدابة، والثالثة الدجال» .
رواه: ابن جرير، والطبراني. قال ابن كثير في "تفسيره": "وإسناده(2/410)
جيد".
وعن عبد الله بن مغفل رضي الله عنه؛ قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنه لم يكن نبي إلا حذر أمته الدجال، وإني أنذركموه، وإنه كائن فيكم» .
رواه ابن حبان في "صحيحه".
وعن أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه؛ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنه لم يكن نبي بعد نوح إلا وقد أنذر الدجال قومه، وإني أنذركموه ... » .
الحديث.
رواه: الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن حبان في "صحيحه"، والحاكم في "مستدركه"، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب".
وسيأتي بتمامه في (باب ما جاء في قوة قلوب المؤمنين في زمن الدجال) إن شاء الله تعالى.
باب
الاستعاذة من فتنة الدجال
عن محمد بن أبي عائشة: أنه سمع أبا هريرة رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا فرغ أحدكم من التشهد الآخر؛ فليتعوذ بالله من أربع: من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن شر المسيح الدجال» .
رواه: الإمام أحمد، ومسلم، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه، والدارمي، وأبو بكر الآجري في "كتاب الشريعة".
ورواه مسلم أيضًا من حديث محمد بن أبي عائشة وأبي سلمة عن أبي(2/411)
هريرة رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا تشهد أحدكم؛ فليستعذ بالله من أربع، يقول: اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن شر فتنة المسيح الدجال» .
ورواه البخاري ومسلم وأبو داود الطيالسي والنسائي وأبو بكر الآجري من حديث أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه كان يقول: «اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من عذاب النار، وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات، وأعوذ بك من شر فتنة المسيح الدجال» .
هذا لفظ النسائي.
وفي رواية له عن أبي سلمة؛ قال: حدثني أبو هريرة رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تعوذوا بالله من عذاب النار، وعذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن شر المسيح الدجال» .
ورواه مسلم أيضًا من حديث طاووس؛ قال: سمعت أبا هريرة رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عوذوا بالله من عذاب الله، عوذوا بالله من عذاب القبر، عوذوا بالله من فتنة المسيح الدجال، عوذوا بالله من فتنة المحيا والممات» .
ورواه النسائي أيضًا من حديث أبي علقمة الهاشمي عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ من خمس؛ يقول: «عوذوا بالله من عذاب القبر، ومن عذاب جهنم، ومن فتنة المحيا والممات، ومن شر المسيح الدجال» .
وفي رواية: «استعيذوا بالله من خمس: من عذاب جهنم، وعذاب القبر، وفتنة المحيا والممات، وفتنة المسيح الدجال» .(2/412)
ورواه النسائي أيضًا من حديث سليمان بن سنان المزني: أنه سمع أبا هريرة رضي الله عنه يقول: سمعت أبا القاسم صلى الله عليه وسلم يقول في صلاته: «اللهم إني أعوذ بك من فتنة القبر، ومن فتنة الدجال، ومن فتنة المحيا والممات، ومن حر جهنم» .
ورواه الإمام أحمد ومسلم والنسائي أيضًا وأبو بكر الآجري من حديث عبد الله بن شقيق عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أنه كان يتعوذ من عذاب القبر، وعذاب جهنم، وفتنة الدجال» .
ورواه الإمام أحمد ومسلم والنسائي أيضًا من حديث الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول في دعائه: «اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم، وأعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال، وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات» .
هذا لفظ إحدى روايات النسائي.
وفي رواية له أخرى: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «عوذوا بالله من عذاب الله، عوذوا بالله من عذاب القبر، عوذوا بالله من فتنة المحيا والممات، عوذوا بالله من فتنة المسيح الدجال» .
وفي رواية لأحمد: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعلمهم هذا الدعاء كما يعلمهم السورة من القرآن: "اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم، وأعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من شر المسيح الدجال، وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات» .
وعن طاووس عن أبي عباس رضي الله عنهما: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعلمهم هذا الدعاء كما يعلمهم السورة من القرآن؛ يقول: "قولوا: اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم، وأعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال، وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات» .(2/413)
رواه مالك في "موطئه".
ورواه: أحمد، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وأبو بكر الآجري في كتاب "الشريعة"؛ كلهم من طريق مالك، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح غريب".
ورواه ابن ماجه من حديث كريب عن ابن عباس رضي الله عنهما؛ قال في "الزوائد": "وإسناده حسن".
وعن أبي نضرة؛ قال: كان ابن عباس رضي الله عنهما على منبر أهل البصرة، فسمعته يقول: «إن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ في دبر صلاته من أربع؛ يقول: أعوذ بالله من عذاب القبر، وأعوذ بالله من عذاب النار، وأعوذ بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأعوذ بالله من فتنة الأعور الكذاب» .
رواه الإمام أحمد.
وعن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن زيد بن ثابت رضي الله عنه - قال أبو سعيد: ولم أشهده من النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن حدثنيه زيد بن ثابت - قال: «بينما النبي صلى الله عليه وسلم في حائط لبني النجار على بغلة له ونحن معه؛ إذ حادت به، فكادت تلقيه، وإذا أقبر ستة أو خمسة أو أربعة، فقال: "من يعرف أصحاب هذه الأقبر؟ ". فقال رجل: أنا. قال: "فمتى مات هؤلاء؟ ". فقال: ماتوا في الإشراك. فقال: "إن هذه الأمة تبتلى في قبورها، فلولا أن لا تدافنوا؛ لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر الذي أسمع منه". ثم أقبل علينا بوجهه، فقال: "تعوذوا بالله من عذاب النار". قالوا: نعوذ بالله من عذاب النار. فقال: "تعوذوا بالله من عذاب القبر". قالوا: نعوذ بالله من عذاب القبر. قال: "تعوذوا بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن". قالوا: نعوذ بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن. قال: "تعوذوا بالله من فتنة الدجال ". قالوا: نعوذ بالله من»(2/414)
«فتنة الدجال» .
رواه مسلم.
ورواه الإمام أحمد، وقال فيه: ثم قال لنا: «"تعوذوا بالله من عذاب جهنم". قلنا: نعوذ بالله من عذاب جهنم. ثم قال: "تعوذوا بالله من فتنة المسيح الدجال ". فقلنا: نعوذ بالله من فتنة المسيح الدجال. ثم قال: "تعوذوا بالله من عذاب القبر". فقلنا: نعوذ بالله من عذاب القبر. ثم قال: "تعوذوا بالله من فتنة المحيا والممات". قلنا: نعوذ بالله من فتنة المحيا والممات» .
وعن عائشة رضي الله عنها: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كان يدعو في الصلاة: اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال، وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات، اللهم إني أعوذ بك من المآثم والمغرم ... » الحديث.
رواه: الإمام أحمد، والشيخان، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه. وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح".
وعنها رضي الله عنها؛ قالت: «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يستعيذ في صلاته من فتنة الدجال» .
متفق عليه.
وعنها رضي الله عنها؛ قالت: «جاءت يهودية، فاستطعمت على بابي، فقالت: أطعموني أعاذكم الله من فتنة الدجال ومن فتنة عذاب القبر. قالت: فلم أزل أحبسها حتى جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله! ما تقول هذه اليهودية؟ قال: "وما تقول؟ ". قلت: تقول: أعاذكم الله من فتنة الدجال ومن فتنة عذاب القبر. قالت عائشة رضي الله عنها: فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرفع يديه»(2/415)
«مدًا يستعيذ بالله من فتنة الدجال ومن فتنة عذاب القبر ... » الحديث.
رواه الإمام أحمد، وإسناده صحيح على شرط الشيخين.
وعن مصعب - وهو ابن سعد بن أبي وقاص - قال: «كان سعد رضي الله عنه يأمر بخمس ويذكرهن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يأمر بهن: "اللهم إني أعوذ بك من البخل، وأعوذ بك من الجبن، وأعوذ بك أن أرد إلى أرذل العمر، وأعوذ بك من فتنة الدنيا - يعني: فتنة الدجال - وأعوذ بك من عذاب القبر» .
رواه البخاري.
وعن أنس رضي الله عنه؛ قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعوذ بهؤلاء الكلمات؛ يقول: "الله إني أعوذ بك من الكسل، والهرم، والجبن، والبخل، وسوء الكبر، وفتنة الدجال، وعذاب القبر» .
رواه النسائي بأسانيد صحيحة.
وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنه؛ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «اللهم إني أعوذ بك من الكسل، والهرم، والمغرم، والمأثم، وأعوذ بك من شر المسيح الدجال، وأعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من عذاب النار» .
رواه: الإمام أحمد والنسائي بأسانيد صحيحة.
وعن أبي سعيد رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو بهؤلاء الكلمات: «اللهم إني أعوذ بك من عذاب النار، وعذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال» .
رواه أبو بكر الآجري في "كتاب الشريعة".(2/416)
باب
الأمر بالمبادرة بالأعمال قبل خروج الدجال
عن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «بادروا بالأعمال ستًا: طلوع الشمس من مغربها، أو الدخان، أو الدجال، أو الدابة، أو خاصة أحدكم، أو أمر العامة» .
رواه مسلم.
وقد رواه الإمام أحمد، ولفظه: قال: «بادروا بالأعمال ستًا: طلوع الشمس من مغربها، والدجال، والدخان، والدابة، وخاصة أحدكم، وأمر العامة» .
ورواه الإمام أحمد ومسلم أيضًا من حديث زياد بن رياح عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «بادروا بالأعمال ستًا:، الدجال، والدخان، ودابة الأرض، وطلوع الشمس من مغربها، وأمر العامة، وخويصة أحدكم» .
وقد رواه الحاكم في "مستدركه" من حيدث عبد الله بن رباح عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، فذكره بنحوه، ثم قال: "صحيح الإسناد"، ووافقه الذهبي في "تلخيصه".
وعن عبد الرحمن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «بادروا بالأعمال سبعًا: هل تنظرون إلا إلى فقر منس، أو غنى مطغ، أو مرض مفسد، أو هرم مفند، أو موت مجهز، أو الدجال؛ فشر غائب ينتظر، أو الساعة؛ فالساعة أدهى وأمر» .
رواه الترمذي وقال: "هذا حديث غريب حسن، لا نعرفه من حديث(2/417)
الأعرج عن أبي هريرة إلا من حديث محرز بن هارون. وروى معمر هذا الحديث عمن سمع سعيدًا المقبري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو هذا ". انتهى.
وقد رواه الحاكم في "مستدركه" من حديث معمر عن سعيد المقبري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ قال: «ما ينتظر أحدكم إلا غنى مطغيًا، أو فقرًا منسيًا، أو مرضًا مفسدًا، أو هرمًا مفندًا، أو موتًا مجهزًا، أو الدجال والدجال شر غائب ينتظر، أو الساعة والساعة أدهى وأمر» .
قال الحاكم: "إن كان معمر بن راشد سمع من المقبري؛ فالحديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه "، ووافقه الذهبي في "تلخيصه".
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ قال: «بادروا بالأعمال ستًا: طلوع الشمس من مغربها، والدخان، ودابة الأرض، والدجال، وخويصة أحدكم، وأمر العامة» .
رواه ابن ماجه. قال في "الزوائد": "إسناده حسن".
قال النووي في "شرح مسلم ": "قال هشام: خاصة أحدكم: الموت، وخويصة: تصغير خاصة. وقال قتادة: أمر العامة: القيامة، كذا ذكره عنهما عبد ابن حميد ". انتهى.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاث إذا خرجن لا ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرًا: طلوع الشمس من مغربها، والدجال، ودابة الأرض» .
رواه: مسلم، والترمذي، وابن جرير، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وقد رواه الإمام أحمد، وقال فيه: "والدخان "؛ بدل: " الدجال ".(2/418)
وسيأتي إن شاء الله تعالى ما يدل على أن التوبة لا تزال مقبولة ما لم تطلع الشمس من مغربها، وطلوع الشمس من مغربها إنما يكون بعد خروج الدجال ونزول عيسى وخروج يأجوج ومأجوج. والله أعلم.
باب
الأمر بالبعد من الدجال
عن عمران بن حصين رضي الله عنهما؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من سمع بالدجال؛ فلينأ عنه، فوالله؛ إن الرجل ليأتيه وهو يحسب أنه مؤمن فيتبعه مما يبعث به من الشبهات (أو: لما يبعث به من الشبهات) » .
رواه: الإمام أحمد، وأبو داود، والحاكم، وقال: "صحيح الإسناد على شرط مسلم ولم يخرجاه"، وأقره الذهبي في "تلخيصه".
وفي رواية لأحمد والحاكم: «من سمع بالدجال؛ فلينأ عنه (ثلاثًا يقولها) فإن الرجل يأتيه يتبعه وهو يحسب أنه صادق بما بعث به من الشبهات» .
باب
ما جاء في فرار الناس من الدجال
عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما؛ قال: «أخبرتني أم شريك رضي الله عنها: أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ليفرن الناس من الدجال في الجبال". قالت أم شريك: يا رسول الله! فأين العرب يومئذ؟ قال: "هم قليل» .
رواه: الإمام أحمد، ومسلم، والترمذي، وقال: "هذا حديث حسن صحيح غريب".(2/419)
باب
فيما يعصم من الدجال
عن أبي الدرداء رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ قال: «من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف؛ عصم من الدجال» .
رواه: الإمام أحمد، ومسلم، وأبو داود، والنسائي، والترمذي، ولفظه: «من قرأ ثلاث آيات من أول الكهف؛ عصم من فتنة الدجال» ، ثم قال: "هذا حديث حسن صحيح".
ولفظ أبي داود والنسائي وإحدى الروايات عند أحمد: «من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف؛ عصم من فتنة الدجال» .
وفي رواية لأحمد: «من قرأ عشر آيات من آخر الكهف؛ عصم من فتنة الدجال» .
وفي لفظ: «من قرأ العشر الأواخر من سورة الكهف» .
ورواه: مسلم، وأبو داود، والنسائي؛ بنحوه.
وفي رواية للنسائي: «من قرأ عشر آيات من الكهف؛ عصم من فتنة الدجال» .
ورواه الإمام أحمد، ولفظه: قال: «من حفظ عشر آيات من سورة الكهف» .
وعن ثوبان رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال: «من قرأ العشر الأواخر من سورة الكهف؛ فإنه عصمة له من الدجال» .
رواه النسائي في "اليوم والليلة"، ورواته رواة الصحيح.(2/420)
وعن علي بن الحسين عن أبيه عن علي رضي الله عنه مرفوعًا: «من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة؛ فهو معصوم إلى ثمانية أيام من كل فتنة، وإن خرج الدجال؛ عصم منه» .
رواه الحافظ الضياء المقدسي في "المختارة".
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة الكهف؛ كانت له نورًا يوم القيامة من مقامه إلى مكة، ومن قرأ عشر آيات من آخرها، ثم خرج الدجال؛ لم يضره ... » الحديث.
رواه: النسائي في "اليوم والليلة"، والطبراني في "الأوسط". قال الهيثمي: "ورجاله رجال الصحيح؛ إلا أن النسائي قال بعد تخريجه في "اليوم والليلة": هذا خطأ والصواب موقوفًا".
وقد رواه الحاكم في "مستدركه" مرفوعًا وموقوفًا، ولفظ المرفوع: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة الكهف كما أنزلت؛ كانت له نورًا يوم القيامة من مقامه إلى مكة، ومن قرأ عشر آيات من آخرها، ثم خرج الدجال؛ لم يسلط عليه» .
قال الحاكم: "صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي في "تلخيصه".
ولفظ الموقوف: عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه؛ قال: «من قرأ سورة الكهف كما أنزلت، ثم خرج الدجال؛ لم يسلط عليه (أو: لم يكن له عليه سبيل) » .
قال الحاكم: "صحيح الإسناد ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي في "تلخيصه".
وعن النواس بن سمعان الكلابي رضي الله عنه؛ قال: «ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم»(2/421)
«الدجال، فقال: "إن يخرج وأنا فيكم؛ فأنا حجيجه دونكم، وإن يخرج ولست فيكم؛ فامرؤ حجيج نفسه، والله خليفتي على كل مسلم، فمن أدركه منكم؛ فليقرأ فواتح سورة الكهف؛ فإنها جواركم من فتنته ... » الحديث.
رواه: الإمام أحمد، ومسلم، وأهل السنن، وهذا لفظ أبي داود، وقال الترمذي: "هذا حديث غريب حسن صحيح ".
وعن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه؛ قال: «خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا، فكان أكثر خطبته ذكر الدجال، يحدثنا عنه، حتى فرغ من خطبته ... فذكر الحديث، وفيه: "فمن لقيه منكم؛ فليتفل في وجهه، وليقرأ فواتح سورة الكهف....» . الحديث.
رواه: الطبراني، والحاكم، وقال: "صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي في "تلخيصه".
وعن جبير بن نفير عن أبيه رضي الله عنه: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر الدجال ... فذكر الحديث، وفيه: "فمن لقيه منكم؛ فليقرأ بفاتحة الكهف ... » الحديث.
رواه: الطبراني، والحاكم، وابن عساكر وقال الحاكم: "صحيح الإسناد ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي في "تلخيصه".
قال الحافظ ابن كثير في "النهاية" ما ملخصه:
"ذكر ما يعصم من الدجال:
فمن ذلك الاستعاذة من فتنته؛ فقد ثبت في الأحاديث الصحاح من غير وجه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ من فتنة الدجال في الصلاة، وأنه أمر أمته بذلك أيضًا.(2/422)
قال شيخنا الحافظ أبو عبد الله الذهبي: والاستعاذة من الدجال متواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ".
قلت: وقد تقدمت الأحاديث بذلك قريبًا في (باب الاستعاذة من فتنة الدجال) .
قال ابن كثير: "ومن ذلك حفظ عشر آيات من سورة الكهف.
ومن ذلك الابتعاد منه؛ كما تقدم في حديث عمران بن حصين: «من سمع بالدجال؛ فلينأ عنه» .
ومما يعصم من فتنة الدجال سكنى المدينة النبوية ومكة شرفهما الله تعالى"، ثم ذكر بعض الأحاديث في حراسة مكة والمدينة من الدجال، وسيأتي ذكرها في موضعها إن شاء الله تعالى.
باب
ما جاء في قوة قلوب المؤمنين في زمن الدجال
عن أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أنه ذكر الدجال، فحلاه بحلية لا أحفظها؛ قالوا: يا رسول الله! قلوبنا يومئذ كاليوم؟ قال: "أو خير» .
رواه: الإمام أحمد، والحاكم في "مستدركه"، وقال "صحيح الإسناد ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي في "تلخيصه".
ورواه الإمام أحمد أيضًا وأبو داود والترمذي وابن حبان في "صحيحه" والحاكم في "مستدركه"؛ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «"إنه لم يكن نبي بعد نوح إلا وقد أنذر الدجال قومه، وإني أنذركموه". قال: فوصفه لنا رسول الله»(2/423)
«صلى الله عليه وسلم؛ قال: "ولعله يدركه بعض من رآني أو سمع كلامي". قالوا: يا رسول الله! كيف قلوبنا يومئذ؟ أمثلها اليوم؟ قال: "أو خير» .
قال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب". قال: "وفي الباب عن عبد الله بن بسر وعبد الله بن مغفل وأبي هريرة رضي الله عنهم".
قوله: "ولعله يدركه بعض من رآني أو سمع كلامي ": هذا مشكل مع الأحاديث التي فيها أنه لا يبقى بعد مائة سنة عين تطرف، ويمكن الجمع بينها بأن يقال: لعل المراد به عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام؛ فقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم لقيه ليلة الإسراء.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: «أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس ... (الحديث وفيه:) ورأى الدجال في صورته رؤيا عين ليس رؤيا منام، وعيسى وموسى وإبراهيم صلوات الله عليهم» .
رواه: الإمام أحمد، والنسائي، وأبو يعلى؛ بأسانيد صحيحة، وتقدم في (باب ما جاء في صفة الدجال) .
وروى الإمام أحمد أيضًا وعبد الرزاق والبخاري في "صحيحه" عن ابن عباس رضي الله عنهما: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ} ؛ قال: "هي رؤيا عين أريها رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به".
وعن جبير بن نفير مرسلًا: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ليدركن الدجال قومًا مثلكم أو خيرًا منكم ... » الحديث.
رواه: ابن أبي شيبة، والحاكم في "مستدركه"، وقال "صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه".(2/424)
باب
في أشد الناس على الدجال
«عن أبي هريرة رضي الله عنه: أنه قال: لا أزال أحب بني تميم من ثلاث سمعتهن من رسول الله صلى الله عليه وسلم: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "هم أشد أمتي على الدجال ". قال: وجاءت صدقاتهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "هذه صدقات قومنا" قال: وكانت سبية منهم عند عائشة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أعتقيها؛ فإنها من ولد إسماعيل» .
متفق عليه.
وقد رواه الإمام أحمد مختصرًا، وقال فيه: "وهم أشد الناس على الدجال (يعني: بني تميم) ".
وعن عكرمة بن خالد؛ قال: حدثني فلان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؛ قال: «نال رجل من بني تميم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا، فقال: "لا تقل لبني تميم إلا خيرًا؛ فإنهم أطول الناس رماحًا على الدجال» .
رواه الإمام أحمد، وإسناده صحيح على شرط مسلم.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه؛ قال: «ذكرت القبائل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسألوه عن بني عامر، فقال: "جمل أزهر يأكل من أطراف الشجر". وسألوه عن هوازن، فقال: "زهرة تنبع ماء". وسألوه عن بني تميم فقال: "ثبت الأقدام، رجح الأحلام، عظماء الهام، أشد الناس على الدجال في آخر الزمان، هضبة حمراء لا يضرها من ناوأها» .
رواه الطبراني في "الأوسط". قال الهيثمي: "وفيه سلام بن صبيح، وثقه ابن حبان، وبقية رجاله رجال الصحيح". وقد رواه الرامهرمزي في "الأمثال".(2/425)
قال في " كنز العمال ": "ورجاله ثقات".
وعنه رضي الله عنه؛ قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر بني تميم فقال: "هم ضخام الهام، ثبت الأقدام، نصار الحق في آخر الزمان، أشد قومًا على الدجال» .
رواه البزار من طريق سلام عن منصور بن زاذان، وقال: "سلام هذا أحسبه المدائني، وهو لين الحديث". قاله الهيثمي.
وهذا آخر الجزء الثاني من كتاب
"إتحاف الجماعة بما جاء في الفتن والملاحم وأشراط الساعة"
ويليه الجزء الثالث وأوله:
"باب ما جاء في شيعة الدجال وأتباعه"(2/426)
باب
ما جاء في شيعة الدجال وأتباعه
قد تقدم قريبا حديث أبي هريرة رضي الله عنه؛ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لينزلن الدجال خوز وكرمان في سبعين ألفا وجوههم كالمجان المطرقة» .
رواه الإمام أحمد وإسناده حسن.
وتقدم أيضا حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه؛ قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«أن الدجال يخرج من أرض بالمشرق، يقال لها: خراسان، يتبعه أقوام كأن وجوههم المجان المطرقة» .
رواه: الإمام أحمد، والترمذي، وابن ماجه، والحاكم في "مستدركه"، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب". وقال الحاكم: "صحيح الإسناد ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي في "تلخيصه".
وتقدم أيضا حديث أنس بن مالك رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يخرج الدجال من يهودية أصبهان، معه سبعون ألفا من اليهود، عليهم»(3/5)
«السيجان» .
رواه: الإمام أحمد، وأبو يعلى؛ من حديث محمد بن مصعب القرقساني عن الأوزاعي. قال الهيثمي: "وروايته عنه جيدة، وقد وثقه أحمد وغيره، وضعفه جماعة، وبقية رجالهما رجال الصحيح". ورواه الطبراني في "الأوسط" كذلك.
وعنه رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يتبع الدجال من يهود أصبهان سبعون ألفا عليهم الطيالسة» .
رواه مسلم.
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يتبع الدجال سبعون ألفا عليهم السيجان» .
رواه البغوي في "شرح السنة"، ورواه عبد الرزاق في "مصنفه"، ولفظه: قال النبى صلى الله عليه وسلم: «يتبع الدجال من أمتي سبعون ألفا عليهم السيجان» ، في إسناده أبو هارون العبدي وهو ضعيف.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما؛ قال: «الدجال أول من يتبعه سبعون ألفا من اليهود عليهم السيجان، وهي الأكيسة من الصوف أخضر؛ يعني به: الطيالسة» .
رواه: إسحاق بن بشر، وابن عساكر في "تاريخه".
وعن عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه؛ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " «يكون للمسلمين ثلاثة أمصار: مصر بملتقى البحرين، ومصر بالحيرة، ومصر بالشام، فيفزع الناس ثلاث فزعات، فيخرج الدجال في أعراض الناس، فيهزم مَنْ قِبَل المشرق ... (فذكر الحديث وفيه:) ومع الدجال سبعون ألفا عليهم السيجان، وأكثر تبعه اليهود والنساء» ... الحديث.(3/6)
رواه: الإمام أحمد، والطبراني. قال الهيثمي: "وفيه علي بن زيد. وفيه ضعف وقد وثق، وبقية رجالهما رجال الصحيح ". رواه الحاكم في "مستدركه" بنحوه.
وسيأتي بتمامه في ذكر نزول عيسى عليه الصلاة والسلام إن شاء الله تعالى.
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما؛ قال: أشرف رسول الله صلى الله عليه وسلم على فلق من أفلاق الحرة ونحن معه، فقال: «نعمت الأرض المدينة إذا خرج الدجال، على كل نقب من أنقابها ملك، لا يدخلها، فإذا كان كذلك؛ رجفت المدينة بأهلها ثلاث رجفات، لا يبقى منافق ولا منافقة إلا خرج إليه، وأكثر من يخرج إليه النساء، وذلك يوم التخليص، وذلك يوم تنفي المدينة الخبث كما ينفي الكير خبث الحديد، يكون معه سبعون ألفا من اليهود، على كل رجل منهم ساج وسيف محلى، فيضرب رواقه بهذا الضرب الذي عند مجتمع السيول» ... الحديث.
رواه الإمام أحمد، وإسناده صحيح على شرط الشيخين.
ورواه الطبراني في "الأوسط"، ولفظه: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أهل المدينة! اذكروا يوم الخلاص. قالوا: وما يوم الخلاص؟ قال: يقبل الدجال حتى ينزل بذباب، فلا يبقى في المدينة مشرك ولا مشركة، ولا كافر ولا كافرة، ولا منافق ولا منافقة، ولا فاسق ولا فاسقة؛ إلا خرج إليه، ويخلص المؤمنون؛ فذلك يوم الخلاص» .
قال الهيثمي: "رجاله رجال الصحيح".
وعن عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في الدجال: «وإنه»(3/7)
«يخرج معه اليهود، فيسير حتى ينزل بناحية المدينة» ... الحديث.
رواه ابن حبان في "صحيحه".
وسيأتي بتمامه في (باب نزول عيسى ابن مريم) إن شاء الله تعالى.
وعن أسماء بنت يزيد رضي الله عنها: أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بين ظهراني أصحابه يقول: «أحذركم المسيح وأنذركموه ... (الحديث وفيه:) أكثر من يتبعه اليهود والنساء والأعراب، يرون السماء تمطر وهي لا تمطر، والأرض تنبت وهي لا تنبت» ... الحديث.
رواه الطبراني، وفيه شهر بن حوشب، وفيه ضعف، وقد وثق. قال الهيثمي: "وبقية رجاله ثقات". وقد رواه عبد الله ابن الإمام أحمد في كتاب "السنة" بنحوه، وإسناده حسن.
وسيأتي بتمامه في (باب ما جاء في فتنة الدجال) إن شاء الله تعالى.
وعن سليمان بن شهاب العبسي؛ قال: نزل علي عبد الله بن مغنم، وكان من أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم، فحدثني عن النبى صلى الله عليه وسلم: أنه قال: " «الدجال ليس به خفاء ... (فذكر الحديث وفيه) : ويكون أصحابه وجنوده المجوس واليهود والنصارى، وهذه الأعاجم من المشركين» ....." الحديث.
رواه: البخاري في "تاريخه"، وابن السكن، والحسن بن سفيان والطبراني. قال البخاري: "له صحبة ولم يصح إسناده". وقال الهيثمي: "رواه الطبراني، وفيه سعيد بن محمد الوراق، وهو متروك".
وعن ابن عمر رضي الله عنهما؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ينزل الدجال في هذه السبخة بمر قناة، فيكون أكثر من يخرج إليه النساء، حتى إن الرجل ليرجع إلى حميمه وإلى أمه وابنته وأخته وعمته، فيوثقها رباطا؛ مخافة أن تخرج»(3/8)
«إليه» ... الحديث.
رواه: الإمام أحمد، والطبراني في "الأوسط". قال الهيثمي: "وفيه ابن إسحاق وهو مدلس".
وسيأتي هذا الحديث بتمامه في (باب قتل الدجال) إن شاء الله تعالى.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا ينزل الدجال المدينة، ولكنه بين الخندق، وعلى كل نقب منها ملائكة يحرسونها، فأول من يتبعه النساء، فيؤذونه، فيرجع غضبان حتى ينزل الخندق، فعند ذلك ينزل عيسى ابن مريم» .
رواه الطبراني في "الأوسط". قال الهيثمي: "ورجاله رجال الصحيح غير عقبة بن مكرم الضبي، وهو ثقة".
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يجيء الدجال، فيطأ الأرض؛ إلا مكة والمدينة، فيأتي المدينة، فيجد بكل نقب من نقابها صفوفا من الملائكة، فيأتي سبخة الجرف، فيضرب رواقه، فترجف المدنية ثلاث رجفات، فيخرج إليه كل منافق ومنافقة» .
رواه: الإمام أحمد، ومسلم، وهذا لفظ أحمد، وإسناده صحيح على شرط مسلم. ورواه الشيخان بنحوه، وقالا فيه: «يخرج إليه منها كل كافر ومنافق» .
وعنه رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يجيء الدجال حتى ينزل في ناحية المدينة، ثم ترجف المدينة ثلاث رجفات، فيخرج إليه كل كافر ومنافق» .
رواه: الإمام أحمد، والبخاري، وإسناد أحمد صحيح على شرط(3/9)
البخاري.
وعن محجن بن الأدرع رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب الناس، فقال: «يوم الخلاص وما يوم الخلاص؟! يوم الخلاص وما يوم الخلاص؟! يوم الخلاص وما يوم الخلاص؟! (ثلاثا) ". فقيل له: وما يوم الخلاص؟ قال: "يجيء الدجال، فيصعد أحدا، فينظر المدينة، فيقول لأصحابه: أترون هذا القصر الأبيض؟ هذا مسجد أحمد، ثم يأتي المدينة، فيجد بكل نقب منها ملكا مصلتا، فيأتي سبخة الجرف، فيضرب رواقه، ثم ترجف المدينة ثلاث رجفات، فلا يبقى منافق ولا منافقة ولا فاسق ولا فاسقة إلا خرج إليه؛ فذلك يوم الخلاص» .
رواه: الإمام أحمد بإسناد صحيح، والحاكم، وقال "صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي في "تلخيصه".
وعن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه في حديثه الطويل في ذكر الدجال، وفيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «وإنه لا يبقى شيء من الأرض إلا وطئه وظهر عليه؛ إلا مكة والمدينة، لا يأتيهما من نقب من أنقابهما؛ إلا لقيته الملائكة بالسيوف صلتة، حتى ينزل عند الضريب الأحمر عند منقطع السبخة، فترجف المدينة بأهلها ثلاث رجفات، فلا يبقى منافق إلا خرج إليه، فتنفي الخبث منها كما ينفي الكير خبث الحديد، ويدعى ذلك اليوم يوم الخلاص» .
رواه: ابن ماجه، وابن خزيمة، والحافظ الضياء المقدسي.
وعن أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في الخوارج: «يخرج من قبل المشرق رجال يقرؤون القرآن، لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، ثم لا يرجعون فيه، سيماهم التحليق، لا يزالون يخرجون حتى يخرج آخرهم مع الدجال، فإذا لقيتموهم؛»(3/10)
«فاقتلوهم، هم شر الخلق والخليقة» .
رواه: الإمام أحمد، وأبو داود الطيالسي، والنسائي؛ بأسانيد حسنة.
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما؛ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «سيخرج أناس من أمتي من قبل المشرق، يقرؤون القرآن، لا يجاوز تراقيهم، كلما خرج منهم قرن؛ قطع، كلما خرج منهم قرن؛ قطع، حتى عدها زيادة على عشر مرات كلما خرج منهم قرن قطع، حتى يخرج الدجال في بقيتهم» .
رواه الإمام أحمد، وفي إسناده شهر بن حوشب؛ قال الهيثمي: "وفيه كلام لا يضر، وبقية رجاله رجال الصحيح".
وقد رواه: أبو داود الطيالسي في "مسنده"، والحاكم في "مستدركه"، وأبو نعيم في "الحلية"؛ بنحوه. وقال الحاكم: "صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي في "تلخيصه".
وعن ابن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ينشأ نشء يقرؤون القرآن، لا يجاوز تراقيهم، كلما خرج قرن؛ قطع (قال ابن عمر رضي الله عنهما: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "كلما خرج قرن قطع " أكثر من عشرين مرة) ، حتى يخرج في عراضهم الدجال» .
رواه ابن ماجه، وإسناده صحيح على شرط البخاري.
وعن عمر مولى غفرة عن رجل من الأنصار عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لكل أمة مجوس، ومجوس هذه الأمة الذين يقولون لا قدر، من مات منهم؛ فلا تشهدوا جنازته، ومن مرض منهم؛ فلا تعودوهم، وهم شيعة الدجال، وحق على الله أن يلحقهم بالدجال» .
رواه: الإمام أحمد، وأبو داود الطيالسي، وأبو داود السجستاني، وعبد(3/11)
الله ابن الإمام أحمد في كتاب "السنة". قال المنذري: " عمر مولى غُفْرَةَ لا يحتج بحديثه، ورجل من الأنصار مجهول، وقد روي من طريق آخر عن حذيفة، ولا يثبت ". انتهى.
وعن حذيفة أيضا رضي الله عنه: أنه قال: «أول ما تفقدون من دينكم الخشوع، وآخر ما تفقدون من دينكم الصلاة، ولتنقضن عرى الإسلام عروة عروة، وليصلين النساء وهن حيض، ولتسلكن طرق من كان قبلكم حذو القذة بالقذة وحذو النعل بالنعل، لا تخطئون طريقهم ولا تخطئكم، حتى تبقى فرقتان من فرق كثيرة، فتقول إحداهما: ما بال الصلوات الخمس؟! لقد ضل من كان قبلنا، إنما قال الله تبارك وتعالى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ} ، لا تصلوا إلا ثلاثا. وتقول الأخرى: إيمان المؤمنين بالله كإيمان الملائكة، ما فينا كافر ولا منافق. حق على الله أن يحشرهما مع الدجال» .
رواه الحاكم في "مستدركه"، وقال "صحيح الإسناد ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي في "تلخيصه".
وله حكم المرفوع؛ لأنه لا دخل للرأي في مثل هذا، وإنما يقال عن توقيف.
باب
ما جاء في مركوب الدجال
عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يخرج الدجال في خفقة من الدين وإدبار من العلم، وله أربعون ليلة يسيحها في الأرض، اليوم منها كالسنة، واليوم منها كالشهر، واليوم منها كالجمعة، ثم سائر أيامه كأيامكم هذه، وله حمار يركبه، عرض ما بين أذنيه أربعون ذراعا» ....(3/12)
الحديث.
رواه: الإمام أحمد وإسناده صحيح على شرط الشيخين. ورواه الحاكم في "مستدركه"، وقال "صحيح الإسناد ولم يخرجاه"، وقال الذهبي في "تلخيصه": "على شرط مسلم ".
وقد علق أبو عبية على صفة حمار الدجال في (ص105) من "النهاية" لابن كثير، فقال ما نصه: "هذا كلام لا يقوله رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس للمسلمين أن يصدقوا صحة نسبته إليه....." إلى أن قال: "وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إذ يدل على أحسن طريق وأسلم نهج حيث يقول: «استفت قلبك وإن أفتاك الناس وأفتوك» .
والجواب عن هذا من وجوه:
أحدها: أن يقال: حديث جابر رضي الله عنه صحيح الإسناد لا مطعن في أحد من رواته، وكل حديث صح إسناده؛ فنسبته إلى النبى صلى الله عليه وسلم صحيحة، وعلى المسلمين أن يصدقوا بذلك، ويقروا بما جاء فيه.
قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى: "كلما جاء عن النبى صلى الله عليه وسلم إسناد جيد؛ أقررنا به، وإذا لم نقر بما جاء به الرسول ودفعناه ورددناه؛ رددنا على الله أمره، قال الله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} .
وقال الموفق أبو محمد المقدسي في كتابه "لمعة الاعتقاد": "ويجب الإيمان بكل ما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم وصح به النقل عنه فيما شهدناه أو غاب عنا، نعلم أنه حق وصدق، وسواء في ذلك ما عقلناه وجهلناه ولم نطلع على حقيقة معناه". انتهى.
الوجه الثاني: أن يقال: من أكبر الخطأ إنكار ما صح إسناده وعدم(3/13)
التصديق بصحة نسبته إلى النبى صلى الله عليه وسلم، بل هذا من المكابرة في رد الحق الواضح.
الوجه الثالث: أن يقال: إن الدجال يأتي بأمور هائلة من خوارق العادات، فيكون معه جنة ونار، ويقتل رجلا ويحييه، ويأمر السماء فتمطر، ويأمر الأرض فتنبت، ويمر بالخربة فيقول لها: أَخرجي كنوزك، فتتبعه كنوزها كيعاسيب النحل، وتكون ثلاثة أيام من أيامه طوالا جدا: الأول منها كسنة، والثاني كشهر، والثالث كجمعة؛ أي: أسبوع، ومن كانت معه هذه الخوارق العظيمة؛ فغير مستنكر أن يجعل الله له حمارا عرض ما بين أذنيه أربعون ذراعا، والله على كل شيء قدير.
الوجه الرابع: أن الحديث الذي فيه: «استفت قلبك وإن أفتاك الناس وأفتوك» ؛ ليس معناه أن المرء يعرض ما جاء عن النبى صلى الله عليه وسلم من الأخبار عن المغيبات على قلبه، فما وافق قلبه منها؛ قبله، وما لم يوافقه؛ لم يقبله، وإنما معناه التورع عن الشبهات، وترك ما حاك في النفس.
وقد جاء ذلك واضحا في حديث وابصة بن معبد الأسدي رضي الله عنه؛ قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أريد أن لا أدع من البر والإثم شيئا إلا سألته عنه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «جئت تسأل عن البر والإثم؟ ". قال: قلت: نعم. قال: فجمع أصابعه، فضرب بها صدره، وقال: "استفت قلبك، استفت قلبك يا وابصة (ثلاثا) : البر ما اطمأنت إليه النفس واطمأن إليه القلب، والإثم ما حاك في النفس وتردد في الصدر، وإن أفتاك الناس وأفتوك» .
رواه: الإمام أحمد، والدارمي، والطبراني. قال الهيثمي: "ورجال أحد إسنادي الطبراني ثقات".
وقد جاء في هذا المعنى أحاديث صحيحة عن النعمان بن بشير والحسن(3/14)
ابن علي والنواس بن سمعان رضي الله عنهم.
وأما تفسير الحديث بما ذهب إليه أبو عبية؛ فهو من تحريف الكلم عن مواضعه، وحمل الحديث على غير ما أريد به.
الوجه الخامس: أن أبا عبية زعم في تعليق له في (ص159) أن ما جاء في حديث جابر في صفة حمار الدجال؛ فهو من أقاصيص الوضاعين.
والجواب أن يقال: {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} ؛ فليس في إسناد حديث جابر رضي الله عنه أحد من الضعفاء، فضلا عن الوضاعين.
وقد رواه الإمام أحمد عن محمد بن سابق عن إبراهيم بن طهمان عن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، وهذا إسناد صحيح على شرط الشيخين، وقد صححه الحاكم والذهبي كما تقدم ذكره، ورواه ابن خزيمة في "كتاب التوحيد" مختصرا، وإسناده صحيح على شرط الشيخين.
وإذا علم هذا؛ فمن ضعف الدين وقلة الورع والتهجم على هذا الحديث الصحيح وعلى غيره من الأحاديث الصحيحة بغير مستند، ورمي الثقات الأثبات بوضع الأحاديث، وتسميتهم الوضاعين، وهم مبرؤون من هذا البهتان العظيم والإثم المبين.
وعن أبي الطفيل رضي الله عنه عن حذيفة بن أسيد رضي الله عنه: أنه قال: " الدجال يخرج في بغض من الناس، وخفة من الدين، وسوء ذات بين، فيرد كل منهل، فتطوى له الأرض طي فروة الكبش ... (الحديث وفيه:) ولا يسخر له من المطايا إلا الحمار؛ فهو رجس على رجس".
رواه الحاكم في "مستدركه"، وقال: "صحيح الإسناد ولم يخرجاه"، وقال الذهبي في "تلخيصه": "على شرط البخاري ومسلم ".(3/15)
وقد رواه عبد الله ابن الإمام أحمد في كتاب "السنة" بنحوه، وقال فيه: "ولا يسخر له من الدواب إلا حمار، رجس على رجس". وإسناده صحيح على شرط الشيخين.
ورواه عبد الرزاق في "مصنفه" عن معمر عن قتادة؛ قال: قال حذيفة - يعني ابن أسيد رضي الله عنه -: فذكره بنحوه.
وعن أبي الطفيل أيضا؛ قال: سمعت من بعض أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم حديثا في الدجال ما سمعت فيه حديثا أشرف منه: "إنه يجيء على حمار، يأتي الرجل على صورة من أهل بيته، فيقول: أبا فلان! إني أدعوك إلى الحق، إن أمري حق".
رواه مسدد. قال البوصيري: "ورواته ثقات".
وقد تقدم في ذكر ابن صياد ما أخرجه نعيم بن حماد من طريق جبير بن نفير وشريح بن عبيد وعمرو بن الأسود وكثير بن مرة؛ قالوا جميعا: " الدجال ليس هو إنسانا، وإنما هو شيطان موثق بسبعين حلقة في بعض جزائر اليمن، لا يعلم من أوثقه، سليمان النبي أو غيره، فإذا آن ظهوره؛ فك الله عنه كل عام حلقة، فإذا برز؛ أتته أتان، عرض ما بين أذنيها أربعون ذراعا، فيضع على ظهرها منبرا من نحاس، ويقعد عليه، ويتبعه قبائل الجن، يخرجون له خزائن الأرض".
ذكره الحافظ ابن حجر في "فتح الباري".
وقد زعم بعض المتكلفين من العصريين أن الدجال إنما يركب على طائرة كبيرة، عرض ما بين جناحيها أربعون ذراعا، وأنها هي الحمار المذكور في حديث جابر وغيره من الأحاديث التي ذكرنا، وأن جناحي الطائرة هما أذنا الحمار المذكور!
وهذا من التكلف المذموم، ومن تأويل الحديث الصحيح على غير(3/16)
تأويله، وصرفه عن ظاهره بغير دليل.
ويرد هذا التأويل الفاسد قوله في حديث حذيفة بن أسيد رضي الله عنه: "ولا يسخر له من الدواب إلا الحمار؛ فهو رجس على رجس". فدل على أن الدجال إنما يركب على دابة من الدواب، لا على طائرة مصنوعة، وكذلك قوله: "رجس على رجس" يدل على أنه إنما يركب على حمار نجس لا على طائرة؛ لأنه لا يصح أن يطلق عليها أنها رجس، والله أعلم.
وركوب الدجال على الحمار الذي عرض ما بين أذنيه أربعون ذراعا أبلغ في الافتتان به من ركوبه على الطائرات والسيارات وغيرها مما قد عرفه الناس واعتادوا ركوبه.
وكذلك سيره على الحمار العظيم الجسم قد يكون أسرع من سير الطائرات بكثير.
والذي يظهر من الأحاديث أن مركوب الدجال وما يجريه الله على يديه إنما يكون من خوارق العادات لا من الأمور العادية التي يعرفها الناس ويستعملونها، وذلك أعظم لفتنته، ولهذا كانت فتنته أعظم فتنة تكون في الدنيا من أولها إلى آخرها؛ كما سيأتي بيان ذلك في الأحاديث الصحيحة إن شاء الله تعالى.
باب
ما جاء في الطريق التي يخرج منها الدجال إلى أرض العرب
عن النواس بن سمعان الكلابي رضي الله عنه؛ قال: ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الدجال ذات غداة ... فذكر الحديث بطوله، وفيه: «إنه خارج خَلَّة بين الشام والعراق، فعاث يمينا وعاث شمالا، يا عباد الله فاثبتوا» ... الحديث.(3/17)
رواه: الإمام أحمد، ومسلم، وابن ماجه.
وعن جبير بن نفير عن أبيه رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر الدجال ... الحديث وفيه: «ألا وإني رأيته يخرج من خلة بين الشام والعراق، فعاث يمينا وشمالا، يا عباد الله اثبتوا (ثلاثا) » ... الحديث.
رواه: الطبراني، والحاكم في "مستدركه"، وقال: "صحيح الإسناد ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي في "تلخيصه".
باب
ما جاء في أول مصر يرده الدجال
عن عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه؛ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يكون للمسلمين ثلاثة أمصار: مصر بملتقى البحرين، ومصر بالحيرة، ومصر بالشام، فيفزع الناس ثلاث فزعات، فيخرج الدجال في أعراض الناس، فيهزم من قبل المشرق، فأول مصر يرده المصر الذي بملتقى البحرين، فيصير أهله ثلاث فرق: فرقة تقول: نشامه ننظر ما هو، وفرقة تلحق بالأعراب، وفرقة تلحق بالمصر الذي يليهم، ومع الدجال سبعون ألفا عليهم السيجان، وأكثر تبعه اليهود والنساء، ثم يأتي المصر الذي يليه، فيصير أهله ثلاث فرق: فرقة تقول نشامه وننظر ما هو، وفرقة تلحق بالأعراب، وفرقة تلحق بالمصر الذي يليهم بغربي الشام، وينحاز المسلمون إلى عقبة أفيق» ... الحديث.
رواه: الإمام أحمد، والطبراني. قال الهيثمي: "وفيه علي بن زيد، وفيه ضعف، وقد وثق، وبقية رجالهما رجال الصحيح".
ورواه الحاكم في "مستدركه" بنحوه، وسيأتي بتمامه في ذكر نزول عيسى عليه الصلاة والسلام إن شاء الله تعالى.(3/18)
باب
في أول من يفزعهم الدجال
عن أبي صادق؛ قال: قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "إني لأعلم أول أهل أبيات يفزعهم الدجال، أنتم أهل الكوفة".
رواه: ابن أبي شيبة والطبراني. قال الهيثمي: "ورجاله ثقات؛ إلا أن أبا صادق لم يدرك ابن مسعود ".
باب
في أول ماء من مياه العرب يرده الدجال
قال ابن الأثير في "النهاية": "وفي حديث كعب قال لأبي عثمان النهدي: إلى جانبكم جبل مشرف على البصرة يقال له سنام؟ قال: نعم. قال: فهل إلى جانبه ماء كثير السافي؟ قال: نعم. قال: فإنه أول ماء يرده الدجال من مياه العرب ".
قال ابن الأثير: " (السافي) : الريح التي تسفي التراب، وقيل للتراب الذي تسفيه الريح أيضا: سافي؛ أي: مسفي؛ كماء دافق. والماء السافي الذي ذكره هو سفوان، وهو على مرحلة من باب المربد بالبصرة". انتهى.
قلت: وهو معروف بهذا الاسم إلى الآن.
باب
ما جاء في الذين ينذرون بالدجال
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ألا كل نبي قد أنذر أمته الدجال.... (فذكر الحديث وفيه) : ألا وإن بين يديه»(3/19)
«رجلين ينذران أهل القرى، كلما دخلا قرية؛ أنذرا أهلها، فإذا خرجا منها؛ دخلها أول أصحاب الدجال» .
رواه: عبد بن حميد، وأبو يعلى، والحاكم في "مستدركه"، وابن عساكر في "تاريخه"، وفيه عطية العوفي وهو ضعيف. وسيأتي هذا الحديث مطولا في ذكر المؤمن الذي يقتله الدجال.
وعنه رضي الله عنه؛ قال: "مع الدجال امرأة يقال لها: لثيبة، لا يؤم قرية؛ إلا سبقته، فتقول: هذا الرجل داخل عليكم؛ فاحذروه".
رواه نعيم بن حماد في "الفتن".
باب
أن الدجال يطأ البلاد كلها غير مكة والمدينة
تقدم حديث فاطمة بنت قيس رضي الله عنها في خبر الجساسة والدجال، وفيه أن الدجال قال للذين دخلوا عليه: «وإني مخبركم عني، إني أنا المسيح، وإني أوشك أن يؤذن لي في الخروج فأخرج، فأسير في الأرض، فلا أدع قرية إلا هبطتها في أربعين ليلة، غير مكة وطيبة، فهما محرمتان علي كلتاهما، كلما أردت أن أدخل واحدة منهما؛ استقبلني ملك بيده السيف صلتا يصدني عنها، وإن على كل نقب منها ملائكة يحرسونها". قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وطعن بمخصرته في المنبر: "هذه طيبة، هذه طيبة، هذه طيبة (يعني: المدينة) ، ألا هل كنت حدثتكم ذلك؟! ". فقال الناس: نعم» .
رواه: مسلم، وأبو داود، والطبراني.
وفي رواية لمسلم قال: «أما إنه لو قد أذن لي في الخروج قد وطئت البلاد»(3/20)
«كلها غير طيبة» .
ورواه الإمام أحمد من حديث مجالد عن عامر الشعبي عن فاطمة بنت قيس رضي الله عنها، وفيه «أن الدجال حلف: لو خرجت من مكاني هذا ما تركت أرضا من أرض الله إلا وطئتها؛ غير طيبة، ليس لي عليها سلطان. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن هذه طيبة، إن الله حرم حرمي على الدجال أن يدخلها"، ثم حلف رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والذي لا إله إلا هو ما لها طريق ضيق ولا واسع في سهل ولا جبل إلا عليه ملك شاهر بالسيف إلى يوم القيامة، ما يستطيع الدجال أن يدخلها على أهلها ".» قال عامر: فلقيت المحرر بن أبي هريرة، فحدثته حديث فاطمة بنت قيس، فقال: أشهد على أبي أنه حدثني كما حدثتك فاطمة؛ غير أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنه نحو المشرق» . قال: ثم لقيت القاسم بن محمد، فذكرت له حديث فاطمة، فقال: أشهد على عائشة أنها حدثتني كما حدثتك فاطمة؛ غير أنها قالت: «الحرمان عليه حرام مكة والمدينة» .
ورواه: ابن ماجه، وأبو بكر الآجري بنحوه؛ إلا أنهما لم يذكرا رواية المحرر عن أبيه ورواية القاسم عن عائشة.
ورواه الإمام أحمد أيضا، وفيه أن الدجال قال: أما إني سأطأ الأرض كلها؛ غير مكة وطيبة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أبشروا معشر المسلمين؛ فإن هذه طيبة لا يدخلها الدجال» .
ورواه الترمذي، وقال فيه: «وإنه يدخل الأمصار كلها إلا طيبة، وطيبة المدينة» . قال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح غريب".
وتقدم أيضا حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استوى على المنبر، فقال: حدثني تميم، فرأى تميما في ناحية المسجد، فقال: يا تميم! حدث الناس ما حدثتني ... فذكر الحديث، وفيه أن الدجال قال: لأطأن(3/21)
الأرض بقدمي هاتين؛ إلا بلدة إبراهيم وطابا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «طابا هي المدينة» .
رواه أبو يعلى. قال ابن كثير: "وهذا حديث غريب جدا".
وتقدم أيضا في (باب ما جاء في شيعة الدجال) حديث أنس بن مالك رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يجيء الدجال، فيطأ الأرض؛ إلا مكة والمدينة» ... الحديث.
رواه: الإمام أحمد، ومسلم.
ورواه البخاري ومسلم أيضا، ولفظه عند مسلم: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليس من بلد إلا سيطؤه الدجال؛ إلا مكة والمدينة، وليس نقب من أنقابها إلا عليه الملائكة صافين، تحرسها، فينزل بالسبخة، فترجف المدينة ثلاث رجفات، يخرج إليه منها كل كافر ومنافق» .
وعن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه في حديثه الطويل في ذكر الدجال، وفيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «وإنه لا يبقى شيء من الأرض إلا وطئه وظهر عليه إلا مكة والمدينة، لا يأتيهما من نقب من أنقابهما؛ إلا لقيته الملائكة بالسيوف صلتة» .... الحديث.
رواه: ابن ماجه، وابن خزيمة، والحافظ الضياء المقدسي.
وعن جابر رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يذكر المسيح الدجال: «إني سأقول لكم فيه كلمة ما قالها نبي قبلي: إنه أعور، وإن الله ليس بأعور، بين عينيه كتاب كافر". قال جابر عن النبى صلى الله عليه وسلم: "يقرؤه كل مؤمن كاتب وغير كاتب، يسيح الأرض أربعين يوما، يرد كل بلد؛ غير هاتين المدينتين: المدينة ومكة، حرمهما الله عليه» ..... الحديث.(3/22)
رواه الطبراني في "الأوسط". قال الهيثمي: "وفيه زمعة بن صالح، وهو ضعيف".
وعن سمرة بن جندب رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في الدجال: «وإنه سيظهر (أو قال: سوف يظهر) على الأرض كلها؛ إلا الحرم وبيت المقدس» ..... الحديث.
رواه: الإمام أحمد، والبزار، والطبراني في "الكبير"، وابن حبان في "صحيحه" والحاكم في "مستدركه"، وقال: "صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي في "تلخيصه".
باب
ما جاء في حراسة مكة والمدينة من الدجال
تقدم في (باب ما جاء في شيعة الدجال) عدة أحاديث في ذلك عن جابر بن عبد الله وابن عمر وأبي هريرة وأنس بن مالك ومحجن بن الأدرع وأبي أمامة الباهلي رضي الله عنهم؛ فلتراجع.
وتقدم أيضا في الباب الذي قبل هذا الباب حديث فاطمة بنت قيس رضي الله عنها في ذلك، وما رواه أبو هريرة وعائشة رضي الله عنهما بنحو ما روته فاطمة بنت قيس.
وتقدم فيه أيضا عن أبي هريرة وأنس بن مالك وأبي أمامة الباهلي وجابر وسمرة بن جندب رضي الله عنهم؛ فليراجع الجميع.
وعن أبي عبد الله القراظ أنه سمع سعد بن مالك وأبا هريرة رضي الله عنهما يقولان: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن المدينة مشتبكة بالملائكة، على كل»(3/23)
«نقب منها ملكان يحرسانها، لا يدخلها الطاعون ولا الدجال، فمن أرادها بسوء؛ أذابه الله كما يذوب الملح في الماء» .
رواه: الإمام أحمد بإسناد صحيح، والحاكم، وقال: "صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي في "تلخيصه".
وعن أبي هريرة أيضا رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يأتي المسيح الدجال من قبل المشرق، وهمته المدينة، حتى ينزل دبر أحد، ثم تصرف الملائكة وجهه قبل الشام، وهنالك يهلك» .
رواه: الإمام أحمد، ومسلم، والترمذي وقال: "هذا حديث حسن صحيح".
وفي رواية لأحمد؛ قال: «يأتي المسيح من قبل المشرق، وهمته المدينة، حتى إذا جاء دبر أحد؛ تلقته الملائكة، فضربت وجهه قبل الشام، هنالك يهلك، هنالك يهلك» .
إسناده صحيح على شرط مسلم.
وعنه رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «على أنقاب المدينة ملائكة، لا يدخلها الطاعون ولا الدجال» .
رواه: مالك، وأحمد، والشيخان؛ كلهم من طريق مالك.
ورواه الإمام أحمد أيضا من حديث الدراوردي عن سهيل عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه: فذكره بمثله.
وإسناده صحيح على شرط مسلم.
ورواه الإمام أحمد أيضا من حديث عمر بن العلاء الثقفي عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المدينة ومكة محفوفتان بالملائكة، على كل نقب منها ملك، لا يدخلها الدجال ولا الطاعون» .(3/24)
قال الهيثمي: "رجاله ثقات".
وعنه رضي الله عنه؛ قال ركب رسول الله إلى مجمع السيول، فقال: «ألا أنبئكم بمنزل الدجال من المدينة، هذا منزله» .
رواه أبو يعلى. قال الهيثمي: "وفيه أبو معشر وهو ضعيف".
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبى صلى الله عليه وسلم؛ قال: «المدينة يأتيها الدجال، فيجد الملائكة يحرسونها، فلا يقربها الدجال ولا الطاعون إن شاء تعالى» .
رواه: الإمام أحمد، والبخاري، والترمذي وقال: "هذا حديث صحيح"، قال: "وفي الباب عن أبي هريرة وفاطمة بنت قيس ومحجن وأسامة بن زيد وسمرة بن جندب رضي الله عنهم".
وعنه رضي الله عنه: أن قائلا من الناس قال: يا نبي الله! أما يرد الدجال المدينة؟ قال: «أما إنه ليعمد إليها، ولكنه يجد الملائكة صافة بنقابها وأبوابها يحرسونها من الدجال» .
رواه الإمام أحمد بأسانيد صحيحة على شرط الشيخين.
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهم؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يخرج الدجال في خفقة من الدين وإدبار من العلم.... (فذكر الحديث، وفيه:) يرد كل ماء ومنهل؛ إلا المدينة ومكة، حرمهما الله عليه، وقامت الملائكة بأبوابهما» .... " الحديث.
رواه: الإمام أحمد، وابن خزيمة في "كتاب التوحيد"، وإسناد كل منهم على شرط الشيخين. ورواه الحاكم في "مستدركه"، وقال: "صحيح الإسناد ولم يخرجاه"، وقال الذهبي في "تلخيصه". "على شرط مسلم ".(3/25)
وعنه رضي الله عنه: أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «مثل المدينة كالكير، وحرم إبراهيم مكة، وأنا أحرم المدينة وهي كمكة حرام ما بين حرتيها وحماها كلها، لا يقطع منها شجرة إلا أن يعلف رجل منها، ولا يقربها إن شاء الله الطاعون ولا الدجال، والملائكة يحرسونها على أنقابها وأبوابها» .
رواه الإمام أحمد بإسناد حسن.
وعنه رضي الله عنه؛ قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم على المنبر، فقال: «يا أيها الناس! إني لم أجمعكم لخبر جاء من السماء (فذكر حديث الجساسة، وزاد فيه:) وهو المسيح، تطوى له الأرض في أربعين يوما؛ إلا ما كان من طيبة ". قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وطيبة المدينة، ما من باب من أبوابها إلا عليه ملك مصلت سيفه يمنعه، وبمكة مثل ذلك» .
رواه أبو يعلى بإسنادين. قال الهيثمي: "رجال أحدهما رجال الصحيح".
وعنه رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يذكر المسيح الدجال: «إني سأقول لكم فيه كلمة ما قالها نبي قبلي: إنه أعور، وإن الله ليس بأعور، بين عينيه كتاب كافر". قال جابر عن النبى صلى الله عليه وسلم: "يقرؤه كل مؤمن كاتب وغير كاتب، يسيح الأرض أربعين يوما، يرد كل بلد؛ غير هاتين المدينتين: المدينة ومكة، حرمهما الله عليه، يوم من أيامه كالسنة، ويوم كالشهر، ويوم كالجمعة، وبقية أيامه كأيامكم هذه، لا يبقى إلا أربعين يوما» .
رواه الطبراني في "الأوسط". قال الهيثمي: "وفيه زمعة بن صالح، وهو ضعيف".
وعن أبي بكرة رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يدخل المدينة رعب المسيح الدجال، لها يومئذ سبعة أبواب، على كل باب منها ملكان» .(3/26)
رواه: الإمام أحمد، والبخاري.
وعنه رضي الله عنه؛ قال: أكثر الناس في شأن مسيلمة الكذاب قبل أن يقول فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا، ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس، فأثنى على الله تبارك وتعالى بما هو أهله، ثم قال: «أما بعد؛ ففي شأن هذا الرجل الذي قد أكثرتم في شأنه؛ فإنه كذاب من ثلاثين كذابا يخرجون قبل الدجال، وإنه ليس بلد إلا يدخله رعب المسيح؛ إلا المدينة، على كل نقب من نقابها يومئذ ملكان يذبان عنها رعب المسيح» .
رواه عبد الرزاق في "مصنفه"، وإسناده صحيح على شرط البخاري، ورواه الإمام أحمد والطبراني والحاكم في "مستدركه". قال الهيثمي: "وأحد أسانيد أحمد والطبراني رجاله رجال الصحيح". وقال الحاكم: "صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ". وأقره الذهبي في "تلخيصه".
وعن عبد الله بن شقيق عن رجاء بن أبي رجاء الباهلي؛ قال: «كان بريدة على باب المسجد، فمر محجن عليه وسَكَبَة يصلي، فقال بريدة - وكان فيه مزاح - لمحجن: ألا تصلي كما يصلي هذا؟! فقال محجن: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ بيدي، فصعد على أحد، فأشرف على المدينة، فقال: "ويل أمها! قرية يدعها أهلها خير ما تكون (أو: كأخير ما تكون) ، فيأتيها الدجال، فيجد على كل باب من أبوابها ملكا مصلتا جناحيه، فلا يدخلها ". قال: ثم نزل وهو آخذ بيدي، فدخل المسجد، وإذا هو برجل يصلي، فقال لي: من هذا؟ فأتيت عليه، فأثنيت عليه خيرا، فقال: "اسكت؛ لا تسمعه فتهلكه". قال: ثم أتى حجرة امرأة من نسائه، فنفض يده من يدي، قال: "إن خير دينكم أيسره، إن خير دينكم أيسره ".»
رواه: الإمام أحمد، وأبو داود الطيالسي، والبخاري في "الأدب المفرد"،(3/27)
وأسانيدهم كلها صحيحة، رجالها رجال الصحيح؛ سوى رجاء بن أبي رجاء، وهو ثقة، وثقة العجلي، وذكره ابن حبان في "الثقات".
وعن محجن بن الأدرع أيضا رضي الله عنه؛ قال: «بعثني نبي الله صلى الله عليه وسلم في حاجة، ثم عرض لي وأنا خارج من طريق من طرق المدينة. قال: فانطلقت معه، حتى صعدنا أحدا، فأقبل على المدينة، فقال: "ويل أمها! قرية يوم يدعها أهلها كأينع ما تكون". قال: قلت: يا نبي الله! من يأكل ثمرتها؟ قال: "عافية الطير والسباع ". قال: "ولا يدخلها الدجال، كلما أراد أن يدخلها؛ تلقاه بكل نقب منها ملك مصلتا". قال: ثم أقبلنا، حتى إذا كنا بباب المسجد؛ إذا رجل يصلي؛ قال: أتقوله صادقا؟ قال: قلت: يا نبي الله! هذا فلان، وهذا من أحسن أهل المدينة (أو قال: أكثر أهل المدينة صلاة) . قال: "لا تسمعه فتهلكه (مرتين أو ثلاثا) ، إنكم أمة أريد بكم اليسر» .
رواه: الإمام أحمد، وأبو داود الطيالسي، والطبراني في "الأوسط"، والحاكم في "مستدركه" مختصرا، ورجال أحمد رجال الصحيح. قال الهيثمي: "ورجال الطبراني رجال الصحيح". وقال الحاكم: "صحيح الإسناد ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي في "تلخيصه".
وعن عبد الله بن شقيق؛ قال: إني لأمشي مع عمران بن حصين، فانتهينا إلى مسجد البصرة؛ فإذا بريدة جالس وسَكَبَة - رجل من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم من أسلم - قائم يصلي الضحى، فقال بريدة: يا عمران! ما تستطيع أن تصلي كما يصلي سكبة، وإنما يقول ذلك كأنه يعنيه به. قال: فسكت عمران ومضيا، فقال عمران: «إني لأمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إذ استقبلنا أحد، فصعدنا عليه، فأشرف على المدينة، فقال: "ويل أمها! قرية يتركها أهلها أحسن ما كانت، يأتيها الدجال فلا يستطيع أن يدخلها، يجد على كل فج منها ملكا مصلتا»(3/28)
«بالسيف ". ثم نزلنا، فأتينا المسجد؛ فإذا رجل يصلي، فقال: من هذا؟ قلت: فلان، ومن أمره (فجعلت أثني عليه) . فقال: "لا تسمعه فتقطع ظهره". ثم رفع يدي، فقال: "خير دينكم أيسره» .
رواه الطبراني في "الكبير". قال الهيثمي: "ورجاله رجال الصحيح".
قلت: قد تقدم في رواية الإمام أحمد عن عبد الله بن شقيق عن رجاء بن أبي رجاء أن الذي ذهب مع النبى صلى الله عليه وسلم إلى أحد ورجع معه وأثنى على الرجل الذي رآه يصلي في المسجد هو محجن بن الأدرع رضي الله عنه، فلعلهما واقعتان، أو أن ما في هذه الرواية غلط. والله أعلم.
وعن عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن يخرج الدجال وأنا حي؛ كفيتكموه، وإن يخرج الدجال بعدي؛ فإن ربكم عز وجل ليس بأعور، إنه يخرج في يهودية أصبهان، حتى يأتي المدينة، فينزل ناحيتها، ولها يومئذ سبعة أبواب، على كل نقب منها ملكان، فيخرج إليه شرار أهلها» ....". الحديث.
رواه الإمام أحمد، وابن حبان في "صحيحه"، ورجال أحمد رجال الصحيح؛ غير الحضرمي بن لاحق، وهو ثقة.
وعنها رضي الله عنه: أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: «لا يدخل الدجال مكة ولا المدينة» .
رواه الإمام أحمد بإسناد صحيح على شرط مسلم.
وعن تميم الداري رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن طيبة المدينة، وما من نقب من نقابها؛ إلا عليه ملك شاهر سيفه، لا يدخلها الدجال أبدا» .(3/29)
رواه: الطبراني في "الكبير" من رواية عمر بن يزيد عن جده. قال الهيثمي: "ولم أعرفهما".
وعن أبي الطفيل؛ قال: كنت بالكوفة، فقيل: خرج الدجال. قال: فأتينا على حذيفة بن أسيد وهو يحدث، فقلت: هذا الدجال قد خرج. فقال: اجلس. فجلست، فأتى علي العريف، فقال: هذا الدجال قد خرج، وأهل الكوفة يطاعنونه. قال: اجلس، فنودي: إنها كذبة صباغ. قال: فقلنا: يا أبا سريحة! ما أجلستنا إلا لأمر؛ فحدثنا. قال: إن الدجال لو خرج في زمانكم؛ لرمته الصبيان بالخذف، ولكن الدجال يخرج في بغض من الناس، وخفة من الدين، وسوء ذات بين، فيرد كل منهل، فتطوى له الأرض طي فروة الكبش، حتى يأتي المدينة، فيغلب على خارجها، ويمنع داخلها.... الحديث.
رواه الحاكم في "مستدركه"، وقال: "صحيح الإسناد ولم يخرجاه". وقال الذهبي في "تلخيصه": "على شرط البخاري ومسلم ". وسيأتي بأطول من هذا في (باب قتال الدجال) إن شاء الله تعالى.
وعن سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم رضي الله عنه؛ قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «ألا إنه لم يكن نبي قبلي إلا قد حذر الدجال أمته (فذكر الحديث، وفيه:) ، ثم يسير حتى يأتي المدينة، فلا يؤذن له فيها، فيقول: هذه قرية ذلك الرجل، ثم يسير حتى يأتي الشام، فيهلكه الله عز وجل عند عقبة أفيق» .
رواه: الإمام أحمد، وأبو داود الطيالسي، والطبراني. قال الهيثمي: "ورجاله ثقات، وفي بعضهم كلام لا يضر".
وستأتي جملة من الأحاديث في حراسة المدينة من الدجال في قصة المؤمن مع الدجال وفي ذكر فتنة الدجال إن شاء الله تعالى.(3/30)
باب
الترغيب في سكنى المدينة إذا خرج الدجال
عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما؛ قال: أشرف رسول الله صلى الله عليه وسلم على فلق من أفلاق الحرة ونحن معه، فقال: «نعمت الأرض المدينة إذا خرج الدجال» .... الحديث.
رواه: الإمام أحمد في "المسند"، وابنه عبد الله في كتاب "السنة" من طريقه، وإسناده صحيح على شرط الشيخين.
باب
في دعاوى الدجال
عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه؛ قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان أكثر خطبته ما يحذرنا الدجال؛ قال: «إنه يبدأ فيقول: أنا نبي ولا نبي بعدي، ثم يثني فيقول: أنا ربكم، ولن تروا ربكم حتى تموتوا» ... الحديث.
رواه: ابن ماجه، وابن خزيمة، وعبد الله ابن الإمام أحمد في كتاب "السنة"، والحاكم في "المستدرك"، والحافظ الضياء المقدسي، وقال الحاكم: "صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي في "تلخيصه".
باب
أن الدجال آخر الكذابين وأعظمهم فتنة
عن سمرة بن جندب رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «وإنه والله؛ لا تقوم الساعة حتى يخرج ثلاثون كذابا، آخرهم الأعور الدجال» .(3/31)
رواه: الإمام أحمد، والطبراني في "الكبير"، والحاكم في "مستدركه"، وقال: "صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي في "تلخيصه".
وعن جابر رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «بين يدي الساعة كذابون، منهم صاحب اليمامة، ومنهم صاحب صنعاء العنسي، ومنهم صاحب حِمْيَر، ومنهم الدجال، وهو أعظمهم فتنة» .
رواه: الإمام أحمد، والبزار، وابن حبان في "صحيحه". قال الهيثمي: "وفي إسناد البزار عبد الرحمن بن مغراء، وثقه جماعة، وفيه ضعف، وبقية رجاله رجال الصحيح، وفي إسناد أحمد ابن لهيعة، وهو لين".
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما؛ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ليكونن قبل يوم القيامة المسيح الدجال وكذابون ثلاثون أو أكثر» .
رواه: الإمام أحمد، وأبو يعلى.
وفي رواية: «ليكونن قبل المسيح الدجال كذابون ثلاثون أو أكثر» .
ورواه الطبراني ولفظه: قال: «بين يدي الساعة الدجال، وبين يدي الدجال كذابون ثلاثون أو أكثر ". قلنا: ما آيتهم؟ قال: "أن يأتوكم بسنة لم تكونوا عليها يغيرون بها سنتكم ودينكم، فإذا رأيتموهم؛ فاجتنبوهم وعادوهم» .
باب
الأمر بالتفل في وجه الدجال
عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه؛ قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان أكثر خطبته ما يحذرنا الدجال؛ قال: «إنه يبدأ فيقول: أنا نبي، ثم يثني فيقول:»(3/32)
«أنا ربكم، ولن تروا ربكم حتى تموتوا، وإنه أعور، وإن ربكم ليس بأعور، من لقيه؛ فليتفل في وجهه» .
رواه عبد الله ابن الإمام أحمد في "كتاب السنة"، ورواته ثقات، ورواه الطبراني والحاكم في "مستدركه"، وقالا فيه: «فمن لقيه منكم؛ فليتفل في وجهه، وليقرأ فواتح سورة أصحاب الكهف» ... الحديث.
قال الحاكم: "صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي في "تلخيصه".
باب
في قصة المؤمن مع الدجال
عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود: أن أبا سعيد الخدري رضي الله عنه؛ قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما حديثا طويلا عن الدجال، فكان فيما حدثنا: قال: «يأتي الدجال وهو محرم عليه أن يدخل نقاب المدينة، فينتهي إلى بعض السباخ التي تلي المدينة، فيخرج إليه يومئذ رجل هو خير الناس (أو: من خير الناس) ، فيقول له: أشهد أنك الدجال الذي حدثنا رسول الله حديثه، فيقول الدجال: أرأيتم إن قتلت هذا ثم أحييته؛ أتشكون في الأمر؟ فيقولون: لا. قال: فيقتله، ثم يحييه، فيقول حين يحييه: والله؛ ما كنت فيك قط أشد بصيرة مني الآن. قال: فيريد الدجال أن يقتله؛ فلا يسلط عليه» .
رواه: عبد الرزاق في "مصنفه"، والإمام أحمد، والشيخان. زاد عبد الرزاق: "قال معمر: وبلغني أنه يجعل على حلقه صفيحة من نحاس، وبلغني أنه الخضر الذي يقتله الدجال ثم يحييه".(3/33)
ورواه مسلم أيضا من حديث أبي الوداك عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يخرج الدجال، فيتوجه قبله رجل من المؤمنين، فتلقاه المسالح؛ مسالح الدجال، فيقولون له: أين تعمد؟ فيقول: أعمد إلى هذا الذي خرج". قال: "فيقولون له: أو ما تؤمن بربنا؟ فيقول: ما بربنا خفاء. فيقولون: اقتلوه. فيقول بعضهم لبعض: أليس قد نهاكم ربكم أن تقتلوا أحدا دونه". قال: "فينطلقون به إلى الدجال، فإذا رآه المؤمن؛ قال: يا أيها الناس! هذا الدجال الذي ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم ". قال: "فيأمر الدجال به، فيشبح، فيقول: خذوه وشجوه. فيوسع ظهره وبطنه ضربا". قال: "فيقول: أوما تؤمن بي؟ ". قال: "فيقول: أنت المسيح الكذاب ". قال: "فيؤمر به، فيؤشر بالمئشار من مفرقه حتى يفرق بين رجليه". قال: "ثم يمشي الدجال بين القطعتين، ثم يقول له: قم؛ فيستوي قائما". قال: "ثم يقول له: أتؤمن بي؟ فيقول: ما ازددت فيك إلا بصيرة ". قال: "ثم يقول: يا أيها الناس! إنه لا يفعل بعدي بأحد من الناس". قال: "فيأخذه الدجال ليذبحه، فيجعل ما بين رقبته إلى تَرْقُوَتِه نحاسا، فلا يستطيع إليه سبيلا". قال: "فيأخذ بيديه ورجليه، فيقذف به، فيحسب الناس أنما قذفه إلى النار، وإنما ألقي في الجنة". فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هذا أعظم الناس شهادة عند رب العالمين» .
قال الحافظ ابن حجر العسقلاني في مقدمة "فتح الباري": "حديث أبي سعيد في قصة الدجال: "فيخرج إليه رجل هو خير الناس يومئذ ": ذكر إبراهيم ابن سفيان الراوي عن مسلم أنه يقال: إنه الخضر، وكذا حكاه معمر وجماعة، وهذا إنما يتم على رأي من يدعي بقاء الخضر، والذي جزم به البخاري وإبراهيم الحربي وآخرون من محققي الحديث خلاف ذلك ". انتهى.(3/34)
ورواه: عبد بن حميد، وأبو يعلى، والبزار؛ من حديث عطية العوفي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنه لم يكن نبي إلا قد أنذر الدجال قومه، وإني أنذركموه: إنه أعور، ذو حدقة جاحظة لا تخفى، كأنها نخاعة في جنب جدار، وعينه اليسرى كأنها كوكب دري، ومعه مثل الجنة ومثل النار، فجنته غبراء ذات دخان، وناره روضة خضراء، وبين يديه رجلان ينذران أهل القرى، كلما خرجا من قرية؛ دخل أوائلهم، ويسلط على رجل لا يسلط على غيره، فيذبحه، ثم يضربه بعصاه، ثم يقول: قم. فيقوم، فيقول لأصحابه: كيف ترون؟ ألست بربكم؟ فيشهدون له بالشرك، فيقول الرجل المذبوح: يا أيها الناس! إن هذا المسيح الدجال الذي أنذرناه رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله؛ ما زادني هذا فيك إلا بصيرة. فيعود أيضا، فيذبحه، ثم يضربه بعصاه، فيقول له: قم. فيقوم، فيقول لأصحابه: كيف ترون؟ ألست بربكم؟ فيشهدون له بالشرك. فيقول المذبوح: يا أيها الناس! إن هذا المسيح الدجال الذي أنذرناه رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله؛ ما زادني قتله هذا إلا بصيرة. فيعود فيذبحه الثالثة، فيضربه بعصا معه، فيقول: قم. فيقوم، فيقول لأصحابه: كيف ترون؟ ألست بربكم؟ فيشهدون له بالشرك، فيقول المذبوح: يا أيها الناس! إن هذا المسيح الدجال الذي أنذرناه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما زادني هذا فيك إلا بصيرة. فيعود ليذبحه الرابعة، فيضرب الله على حلقه بصفيحة نحاس؛ فلا يستطيع ذبحه» .
قال أبو سعيد: كنا نرى ذلك الرجل عمر بن الخطاب؛ لما نعلم من قوته وجلده.
قال الهيثمي: "فيه الحجاج بن أرطاة، وهو مدلس، وعطية ضعيف وقد وثق".
وقد رواه الحاكم في "مستدركه" من حديث عطية، وفيه زيادات كثيرة، ومغايرة في بعض الألفاظ، ولفظه: عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ألا كل نبي قد أنذر أمته الدجال، وإنه يومه هذا قد»(3/35)
«أكل الطعام، وإني عاهد عهدا لم يعهده نبي لأمته قبلي، ألا إن عينه اليمنى ممسوحة الحدقة جاحظة فلا تخفى، كأنها نخاعة في جنب حائط، ألا وإن عينه اليسرى كأنها كوكب دري، معه مثل الجنة ومثل النار، فالنار روضة خضراء، والجنة غبراء ذات دخان، ألا وإن بين يديه رجلين ينذران أهل القرى، كلما دخلا قرية؛ أنذرا أهلها، فإذا خرجا منها؛ دخلها أول أصحاب الدجال، ويدخل القرى كلها؛ غير مكة والمدينة حرما عليه، والمؤمنون متفرقون في الأرض، فيجمعهم الله له، فيقول رجل من المؤمنين لأصحابه: لأنطلقن إلى هذا الرجل؛ فلأنظرن أهو الذي أنذرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أم لا؟ ثم ولى، فقال له أصحابه: والله؛ لا ندعك تأتيه، ولو أنا نعلم أنه يقتلك إذا أتيته؛ خلينا سبيلك، ولكنا نخاف أن يفتنك. فأبى عليهم الرجل المؤمن إلا أن يأتيه، فانطلق يمشي، حتى أتى مسلحة من مسالحه، فأخذوه، فسألوه: ما شأنك وما تريد؟ قال لهم: أريد الدجال الكذاب. قالوا: إنك تقول ذلك؟ قال: نعم. فأرسلوا إلى الدجال: إنا قد أخذنا من يقول كذا وكذا فنقتله أو نرسله إليك؟ قال: أرسلوه إلي. فانطلق به، حتى أتي به الدجال، فلما رآه؛ عرفه لنعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له الدجال: ما شأنك؟ فقال العبد المؤمن: أنت الدجال الكذاب الذي أنذرناك رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال له الدجال: أنت تقول هذا؟ قال: نعم. قال له الدجال: لتطيعني فيما أمرتك وإلا شققتك شقتين. فنادى العبد المؤمن، فقال: أيها الناس! هذا المسيح الكذاب، فمن عصاه؛ فهو في الجنة، ومن أطاعه؛ فهو في النار. فقال له الدجال: والذي أحلف به؛ لتطيعني أو لأشقنك شقتين. فنادى العبد المؤمن، فقال: أيها الناس! هذا المسيح الكذاب، فمن عصاه؛ فهو في الجنة، ومن أطاعه؛ فهو في النار. قال: فمد برجله، فوضع حديدته على عجب ذنبه، فشقه شقتين. فلما فعل به ذلك؛ قال الدجال لأوليائه: أرأيتم إن أحييت هذا لكم؛ ألستم تعلمون أني ربكم؟ قالوا: بلى". قال عطية:»(3/36)
«فحدثني أبو سعيد الخدري أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: "فضرب أحد شقيه أو الصعيد عنده، فاستوى قائما، فلما رآه أولياؤه؛ صدقوه وأيقنوا أنه ربهم، وأجابوه، واتبعوه. قال الدجال للعبد المؤمن: ألا تؤمن بي؟ قال له المؤمن: لأنا الآن أشد فيك بصيرة من قبل. ثم نادى في الناس: ألا إن هذا المسيح الكذاب، فمن أطاعه؛ فهو في النار، ومن عصاه؛ فهو في الجنة. فقال الدجال: والذي أحلف به؛ لتطيعني، أو لأذبحنك، أو لألقينك في النار. فقال له المؤمن: والله؛ لا أطيعك أبدا. فأمر به، فأضجع". قال: فقال لي أبو سعيد: إن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: "ثم جعل صفيحتين من نحاس بين تراقيه ورقبته". قال: وقال أبو سعيد: ما كنت أدري ما النحاس قبل يومئذ. "فذهب ليذبحه، فلم يستطع، ولم يسلط عليه بعد قتله إياه". قال: فإن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: "فأخذ بيديه ورجليه، فألقاه في الجنة، وهي غبراء ذات دخان، يحسبها النار؛ فذلك الرجل أقرب أمتي مني درجة". قال: فقال أبو سعيد: ما كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يحسبون ذلك الرجل إلا عمر بن الخطاب رضي الله عنه، حتى سلك عمر سبيله. قال: ثم قلت له: فكيف يهلك؟ قال: الله أعلم. قال: فقلت: أخبرت أن عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام هو يهلكه. فقال: الله أعلم؛ غير أنه يهلكه الله ومن اتبعه. قال: قلت: فماذا يكون بعده؟ قال: حدثني نبي الله صلى الله عليه وسلم أنهم يغرسون بعده الغروس، ويتخذون من بعده الأموال. قال: قلت: سبحان الله! أبعد الدجال يغرسون الغروس ويتخذون من بعده الأموال؟! قال: نعم، حدثني بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم» .
قال الحاكم: "هذا أعجب حديث في ذكر الدجال، تفرد به عطية بن سعد عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، ولم يحتج الشيخان بعطية". قال الذهبي في "تلخيصه": "عطية ضعيف".(3/37)
وقد زعم أبو عبية في عنوان وضعه في (ص116) من "النهاية" لابن كثير مترجما به على حديث أبي سعيد المتفق على صحته - وهو المذكور في أول الباب -: أنه يجب صرفه عن ظاهره إلى التأويل.
وهذا ظاهر في تكذيبه لقصة المؤمن مع الدجال، مع ثبوتها في "الصحيحين"، بل إنه ينكر خروج الدجال بالكلية؛ كما سيأتي ذكر ذلك عنه بعد الأحاديث الواردة في قتل الدجال إن شاء الله تعالى.
ثم تكلم أبو عبية على حديث أبي الوداك عن أبي سعيد رضي الله عنه في حاشية (ص118) ، وتكلم أيضا في (ص134) على حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما المذكور بعد روايات حديث أبي سعيد وبعد حديث أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه بما يقتضي إنكار ما جاء في الحديثين من قتل الدجال للرجل المؤمن ثم إحيائه.
ومن بلغ به الأمر إلى إنكار ما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم أو الشك فيه؛ فهو بلا شك لم يحقق شهادة أن محمدا رسول الله؛ لأن من لازم تحقيقها تصديقه صلى الله عليه وسلم فيما أخبر به من الغيوب الماضية والآتية.
قال تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} .
وعن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه؛ قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان أكثر خطبته حديثا حدثناه عن الدجال وحذرناه.... فذكر الحديث، وفيه: «وإن من فتنته أن يسلط على نفس واحدة، فيقتلها، وينشرها بالمنشار، حتى يلقى شقتين، ثم يقول: انظروا إلى عبدي هذا؛ فإني أبعثه الآن، ثم يزعم أن له ربا غيري، فيبعثه الله، ويقول له الخبيث: من ربك؟ فيقول: ربي الله وأنت عدو الله، أنت الدجال، والله، ما كنت قط أشد بصيرة بك مني اليوم» .
رواه: ابن ماجه، وابن خزيمة، والحافظ الضياء المقدسي.(3/38)
زاد ابن ماجه: قال أبو الحسن الطنافسي: فحدثنا المحاربي: حدثنا عبيد الله بن الوليد الوصافي عن عطية عن أبي سعيد رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ذلك الرجل أرفع أمتي درجة في الجنة» . قال: قال أبو سعيد: ما كنا نرى ذلك الرجل إلا عمر بن الخطاب حتى مضى لسبيله.
وقد رواه الحاكم في "مستدركه"، وقال فيه: "وإنه يسلط على نفس من بني آدم، فيقتلها ثم يحييها، وإنه لا يعدو ذلك، ولا يسلط على نفس غيرها".
قال الحاكم: "صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي في "تلخيصه".
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال في الدجال: «ما شبه عليكم منه؛ فإن الله عز وجل ليس بأعور، يخرج، فيكون في الأرض أربعين صباحا، يرد منها كل منهل؛ إلا الكعبة وبيت المقدس والمدينة، الشهر كالجمعة، والجمعة كاليوم، ومعه جنة ونار، فناره جنة وجنته نار، معه جبل من خبز ونهر من ماء، يدعو رجلا، فلا يسلطه الله إلا عليه، فيقول: ما تقول في؟ فيقول: أنت عدو الله، وأنت الدجال الكذاب. فيدعو بمنشار، فيضعه حذو رأسه، فيشقه حتى يقع على الأرض، ثم يحييه، فيقول: ما تقول؟ فيقول: والله؛ ما كنت أشد بصيرة مني فيك الآن، أنت عدو الله الدجال الذي أخبرنا عنك رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فيهوي إليه بسيفه، فلا يستطيعه، فيقول: أخروه عني» .
رواه الطبراني. قال الهيثمي: "وفيه من لم أعرفهم".
وعن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه؛ قال: «أقبلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من العقيق، حتى إذا كنا على الثنية التي يقال لها: ثنية الحوض، التي بالعقيق؛ أومأ بيده قبل المشرق، فقال: "إني لأنظر إلى مواقع عدو الله المسيح، إنه يقبل»(3/39)
«حتى ينزل من كذا، حتى يخرج إليه غوغاء الناس، ما من نقب من أنقاب المدينة؛ إلا عليه ملك أو ملكان يحرسانه، معه صورتان: صورة الجنة وصورة النار، معه شياطين يشبهون بالأموات، يقولون للحي: تعرفني؟ أنا أخوك أو أبوك أو ذو قرابة منه، ألست قد مت؟ هذا ربنا فاتبعه، فيقضي الله ما يشاء منه، ويبعث الله رجلا من المسلمين، فيسكته، ويبكته، ويقول: أيها الناس! لا يغرنكم؛ فإنه كذاب، ويقول باطلا، وليس ربكم بأعور. فيقول: هل أنت متبعي؟ فيأبى، فيشقه شقتين، ويعطى ذلك، ويقول: أعيده لكم. فيبعثه الله عز وجل أشد ما كان له تكذيبا وأشده شتما، فيقول: أيها الناس! إن ما رأيتم بلاء ابتليتم به وفتنة افتتنتم بها، إن كان صادقا؛ فليعدني مرة أخرى، وإلا؛ هو كذاب. فيأمر به إلى هذه النار، وهي صورة الجنة، فيخرج قبل الشام» .
رواه الطبراني. قال الهيثمي: "وفيه موسى بن عبيدة الربذي، وهو ضعيف جدا".
وعن النواس بن سمعان الكلابي رضي الله عنه؛ قال: ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الدجال ذات غداة..... فذكر الحديث، وفيه: «ثم يدعو رجلا ممتلئا شبابا فيضربه بالسيف، فيقطعه جزلتين رمية الغرض، ثم يدعوه، فيقبل، ويتهلل وجهه يضحك» ..... الحديث.
رواه: الإمام أحمد، ومسلم، والترمذي، وابن ماجه، وقال الترمذي: "هذا حديث غريب حسن صحيح".
وعن جنادة بن أبي أمية؛ قال: أتيت رجلا من أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم، فقلت له: حدثني حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدجال، ولا تحدثني عن غيرك، وإن كان عندك مصدقا. فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «أنذرتكم فتنة الدجال، فليس من نبي إلا أنذره قومه أو أمته، وإنه آدم، جعد، أعور عينه»(3/40)
«اليسرى، وإنه يمطر المطر، ولا ينبت الشجر، وإنه يسلط على نفس فيقتلها ثم يحييها، ولا يسلط على غيرها، وإنه معه جنة ونار، ونهر ماء وجبل خبز، وإن جنته نار وناره جنة، وإنه يلبث فيكم أربعين صباحا، يرد فيها كل منهل؛ إلا أربع مساجد: مسجد الحرام، ومسجد المدينة، والطور، ومسجد الأقصى، وإن شكل عليكم أوش به؛ فإن الله عز وجل ليس بأعور» .
رواه الإمام أحمد بأسانيد صحيحة على شرط الشيخين.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه: أنه قال: "يسلط الدجال على رجل من المسلمين، فيقتله، ثم يحييه، ثم يقول: ألست بربكم؟ ألا ترون أني أحيي وأميت؟ والرجل ينادي: يا أهل الإسلام! بل هو عدو الله الكافر الخبيث، إنه والله لا يسلط على أحد بعدي".
رواه ابن أبي شيبة.
وعنه رضي الله عنه: أنه قال: "إن الدجال إذا خرج؛ يخرج من نحو المشرق، فيكثر جنوده ومسالحه، فلا يخلص إليه إلا من قال: أنا وافد، فيجيء رجل، فيقول: أنا وافد، فإذا رآه الدجال؛ قال: ابن آدم! ألست تعلم أني ربك؟ قال: لا؛ أنت عدو الله الدجال. قال: فإني قاتلك. قال: وإن قتلتني. قال: فيأخذ المنشار، فيضعه بين ثنته، فيشقه شقتين، ثم يقول لمن حوله: كيف إذا أنا أحييته؟ قالوا: فذاك حين نتيقن أنك ربنا". قال: "فيحييه". قال: "فيقول له: ابن آدم! زعمت أني لست ربك؟ قال: ما كنت قط أشد بصيرة مني فيك الآن. قال: إني ذابحك. قال: وإن ذبحتني ". قال: "فيريد ذبحه، فلا يستطيع ذبحه، فيقول من يحييه: إن كنت صادقا؛ فلتذبحني. فعند ذلك يرتاب فيه(3/41)
جنوده، وينزل عيسى ابن مريم، فإذا رآه، ووجد ريحه؛ ذاب كما يذوب الرصاص ".
رواه مسدد موقوفا. قال البوصيري: "ورواته ثقات".
وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أنه قال في الدجال: "هو أعور ممسوح العين اليمنى، يسلطه الله على رجل من هذه الأمة، فيقتله، ثم يضربه فيحييه، ثم لا يصل إلى قتله، ولا يسلط على غيره".
رواه: إسحاق بن بشر، وابن عساكر في "تاريخه".
باب
ما جاء في فتنة الدجال
تقدم في (باب صفة الدجال) عدة أحاديث في ذلك:
منها: حديث أبي قلابة عن هشام بن عامر رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن رأس الدجال من ورائه حُبُك حُبُك، فمن قال: أنت ربي؛ افتتن، ومن قال: كذبت؛ ربي الله، عليه توكلت؛ فلا يضره (أو قال: فلا فتنة عليه) » .
رواه: الإمام أحمد، والطبراني، والحاكم، وقال: "صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي في "تلخيصه".
ومنها حديث أبي قلابة أيضا عن رجل من أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم بنحو حديث هشام بن عامر رضي الله عنه.
رواه الإمام بإسنادين، كل منهما صحيح على شرط الشيخين.
ومنها حديث حذيفة رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الدجال»(3/42)
«أعور العين اليسرى، جفال الشعر، معه جنة ونار، فناره جنة وجنته نار» .
رواه: الإمام أحمد، ومسلم، وابن ماجه.
ومنها حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه: أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما من نبي إلا وقد حذر أمته الدجال، وأنا أحذركم الدجال: إنه أعور، مكتوب بين عينيه كافر، يقرؤه الكاتب وغير الكاتب، معه جنة ونار؛ فناره جنة وجنته نار» .
رواه: البزار، والطبراني. قال الهيثمي: "وفيه خنيس بن عامر ولم أعرفه، وبقية رجاله وثقوا".
وقد رواه يعقوب بن سفيان الفسوي في "مسنده" عن يحيى بن بكير عن خنيس بن عامر عن أبي قبيل عن جنادة بن أبي أمية عن معاذ بن جبل رضي الله عنه عن النبى صلى الله عليه وسلم: فذكره بنحوه.
قال ابن كثير في "النهاية": "قال شيخنا الحافظ الذهبي: تفرد به خنيس، وما علمنا به جرحا، وإسناده صحيح ".
قلت: قد ذكر البخاري وابن أبي حاتم خنيس بن عامر، ولم يذكرا فيه جرحا ولا تعديلا، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقالوا جميعا: "هو المعافري "، زاد ابن حبان: "من أهل مصر"، وذكروا جميعا أنه يروي عن أبي قبيل، وروى عنه يحيى بن بكير، وعلى هذا؛ فإسناده حسن إن شاء الله، وقد يقال: إنه صحيح؛ كما قاله الذهبي رحمه الله.
ومنها حديث أبي الوداك؛ قال: قال لي أبو سعيد: هل يقر الخوارج بالدجال؟ فقلت: لا. فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني خاتم ألف نبي وأكثر، ما بعث نبي يتبع؛ إلا قد حذر أمته الدجال، وإني قد بين لي من أمره ما لم يبين لأحد، وإنه أعور، وإن ربكم ليس بأعور، وعينه اليمنى عوراء جاحظة ولا تخفى، كأنها نخامة في حائط مجصص، وعينه اليسرى كأنها كوكب دري، معه»(3/43)
«من كل لسان، ومعه صورة الجنة خضراء يجري فيها الماء، وصورة النار سوداء تدخن» .
رواه الإمام أحمد. قال الهيثمي: "فيه مجالد بن سعيد، وثقه النسائي في رواية، وقال في أخرى: ليس بالقوي، وضعفه جماعة".
وقد علق أبو عبية على هذا الحديث في (ص121) من "النهاية" لابن كثير، فزعم أنه ليس مع الدجال جنة ولا نار على الحقيقة، وإنما ذلك إشارة إلى ما يتوفر للدجاجلة دعاة الباطل ونصراء الهوى من القوى المادية التي تفتن ضعاف النفوس.
والجواب أن يقال: قد تضافرت الأحاديث الدالة على أن الدجال يكون معه جنة ونار.
وفي "الصحيحين" وغيرهما أن معه ماء ونارا؛ فناره ماء وماؤه نار.
وفي "الصحيحين" أيضا أنه يجيء معه بمثال الجنة والنار.
وفي "صحيح مسلم" وغيره أنه يكون معه جنة ونار؛ فناره جنة وجنته نار.
وهذا مما يثبته أهل السنة والجماعة، ويرده أهل البدع والضلالة وأتباعهم.
وأما قول أبي عبية: إن ذلك إشارة إلى ما يتوفر لدعاة الباطل من القوى المادية التي تفتن ضعاف النفوس؛ فهو من التأويل الباطل وتحريف الكلم عن مواضعه.
وتقدم أيضا حديث فاطمة بنت قيس رضي الله عنها عن النبى صلى الله عليه وسلم: أنه قال في الدجال: «يخرج حين يخرج من بلدة يقال لها: أصبهان، من قرية من قراها يقال لها: رستقاباد، يخرج حين يخرج على مقدمته سبعون ألفا عليهم السيجان، معه نهران: نهر من ماء ونهر من نار، فمن أدرك منكم ذلك، فقيل»(3/44)
«له: ادخل الماء؛ فلا يدخل؛ فإنه نار، وإذا قيل له: ادخل النار فليدخلها؛ فإنها ماء» .
رواه الطبراني في "الكبير" و"الأوسط" في حديثها الطويل. قال الهيثمي: "وفيه سيف بن مسكين، وهو ضعيف جدا".
وتقدم أيضا في (باب قصة المؤمن مع الدجال) حديث عطية العوفي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في الدجال: «ومعه مثل الجنة ومثل النار، فجنته غبراء ذات دخان، وناره روضة خضراء» .... الحديث.
رواه: عبد حميد، وأبو يعلى، والبزار، والحاكم.
وتقدم فيه أيضا حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال في الدجال: «ومعه جنة ونار؛ فناره جنة، وجنته نار، معه جبل من خبز ونهر من ماء» ......".
رواه الطبراني. قال الهيثمي: "وفيه من لم أعرفهم ".
وتقدم فيه أيضا حديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في الدجال: «معه صورتان: صورة الجنة وصورة النار، معه شياطين يشبهون بالأموات، يقولون للحي: تعرفني؟ أنا أخوك أو أبوك أو ذو قرابة منه، ألست قد مت؟ هذا ربنا فاتبعه، فيقضي الله ما شاء» .... " الحديث.
رواه الطبراني. قال الهيثمي: "وفيه موسى بن عبيدة الربذي، وهو ضعيف جدا".
وتقدم أيضا حديث جنادة بن أبي أمية عن رجل من أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم؛ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «أنذرتكم فتنة الدجال، فليس من نبي إلا أنذره قومه أو أمته، وإنه آدم، جعد، أعور عينه اليسرى، وإنه يمطر المطر»(3/45)
«ولا ينبت الشجر، وإنه يسلط على نفس فيقتلها ثم يحييها، ولا يسلط على غيرها، وإن معه جنة ونار ونهر ماء وجبل خبز، وإن جنته نار وناره جنة» .
الحديث رواه الإمام بأسانيد صحيحة على شرط الشيخين، وفي رواية: «تسير معه جبال الخبز وأنهار الماء» .
وتقدم فيه أيضا حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أنه قال: «يسلط الدجال على رجل من المسلمين، فيقتله، ثم يحييه، ثم يقول: ألست بربكم؟ ألا ترون أني أحيي وأميت» .... الحديث.
رواه ابن أبي شيبة.
وعن ربعي بن حِراش عن حذيفة رضي الله عنه عن النبى صلى الله عليه وسلم: أنه قال في الدجال: «إن معه ماء ونارا؛ فناره ماء بارد، وماؤه نار؛ فلا تهلكوا» .
قال أبو مسعود: وأنا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
رواه: الإمام أحمد، والشيخان.
وفي رواية لهم عن ربعي بن حراش عن عقبة بن عمرو أبي مسعود الأنصاري؛ قال: انطلقت معه إلى حذيفة بن اليمان، فقال له عقبة: حدثني ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدجال. قال: «إن الدجال يخرج، وإن معه ماء ونارا، فأما الذي يراه الناس ماء؛ فنار تحرق، وأما الذي يراه الناس نارا؛ فماء بارد عذب، فمن أدرك ذلك منكم؛ فليقع في الذي يراه نارا؛ فإنه ماء عذب طيب» . فقال عقبة: وأنا قد سمعته؛ تصديقا لحذيفة.
وفي رواية لأحمد ومسلم عن ربعي بن حراش عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لأنا أعلم بما مع الدجال من الدجال: معه نهران يجريان: أحدهما رأي العين ماء أبيض، والآخر رأي العين نار تأجج،»(3/46)
«فإما أدركن أحدا منكم؛ فليأت النهر الذي يراه نارا، وليغمض، ثم ليطأطئ رأسه؛ فليشرب؛ فإنه ماء بارد، وإن الدجال ممسوح العين اليسرى، عليها ظفرة غليظة، مكتوب بين عينيه: كافر، يقرؤه كل مؤمن كاتب وغير كاتب» .
وقد رواه الحاكم في "مستدركه" بزيادة، ولفظه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنا أعلم بما مع الدجال منه، نهران: أحدهما نار تأجج في عين من رآه، والآخر ماء أبيض، فإن أدركه منكم أحد؛ فليغمض، وليشرب من الذي يراه نارا؛ فإنه ماء بارد، وإياكم والآخر؛ فإنه الفتنة، واعلموا أنه مكتوب بين عينيه كافر، يقرؤه من يكتب ومن لا يكتب، وأن إحدى عينيه ممسوحة عليها ظفرة» ..... الحديث، وسيأتي بتمامه في ذكر نزول عيسى عليه الصلاة والسلام إن شاء الله تعالى.
قال الحاكم: "صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه"، وأقره الذهبي في "تلخيصه". ورواه: ابن عساكر في "تاريخه"، وابن منده في "كتاب الإيمان"؛ بنحوه. قال ابن كثير بعد إيراده في "النهاية": "قال شيخنا الحافظ أبو عبد الله الذهبي: هذا إسناد صالح" انتهى.
وفي رواية لأحمد: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لأنا أعلم بما مع الدجال منه: إن معه نارا تحرق، ونهر ماء بارد، فمن أدركه منكم؛ فلا يهلكن به، ليغمض عينيه وليقع في التي يراها نارا؛ فإنها ماء بارد» .
وفي رواية لمسلم وأبي داود عن ربعي بن حراش؛ قال: "اجتمع حذيفة وأبو مسعود رضي الله عنهما، فقال حذيفة: «لأنا بما مع الدجال أعلم منه: إن معه نهرا من ماء ونهرا من نار، فأما الذي ترون أنه نار؛ ماء، وأما الذي ترون أنه ماء؛ نار، فمن أدرك ذلك منكم، فأراد الماء؛ فليشرب من الذي يراه أنه نار؛ فإنه سيجده ماء» . قال أبو مسعود: هكذا سمعت النبى صلى الله عليه وسلم يقول.
قال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" في الكلام على قوله: "فناره ماء(3/47)
بارد وماؤه نار": "هذا كله يرجع إلى اختلاف المرئي بالنسبة إلى الرائي، فإما أن يكون الدجال ساحرا، فيخيل الشيء بصورة عكسه، وإما أن يجعل الله باطن الجنة التي يسخرها الدجال نارا، وباطن النار جنة، وهذا الراجح، وإما أن يكون ذلك كناية عن النعمة والرحمة بالجنة وعن المحنة والنقمة بالنار، فمن أطاعه، فأنعم عليه بجنته؛ يؤول أمره إلى دخول نار الآخرة، وبالعكس، ويحتمل أن يكون ذلك من جملة المحنة والفتنة، فيرى الناظر إلى ذلك من دهشته النار، فيظنها جنة، وبالعكس". انتهى.
وأرجح هذه الاحتمالات ما رجحه الحافظ، والله أعلم.
وعن سبيع - وهو ابن خالد - عن حذيفة رضي الله عنه؛ قال: كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير وأسأله عن الشر (فذكر الحديث، وفيه:) قال: «ثم يخرج الدجال ". قال: قلت: فبم يجيء به معه؟ قال: "بنهر (أو قال: ماء ونار) ، فمن دخل نهره؛ حط أجره ووجب وزره، ومن دخل ناره؛ وجب أجره وحط وزره". قال: قلت: ثم ماذا؟ قال: "لو أنتجت فرسا؛ لم تركب فلوها حتى تقوم الساعة» .
رواه الإمام أحمد، وإسناده جيد. وقد رواه أبو داود الطيالسي، وأبو داود السجستاني، والحاكم بنحوه، وقال الحاكم: "صحيح الإسناد ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي في "تلخيصه".
وعن أبي هريرة رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا أحدثكم حديثا عن الدجال ما حدث به نبي قومه؛ إنه أعور، وإنه يجيء معه بمثال الجنة والنار؛ فالتي يقول إنها الجنة هي النار، وإني أنذركم به كما أنذر به نوح قومه» .
متفق عليه.
وعن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه؛ قال: «ما سأل أحد النبى صلى الله عليه وسلم عن»(3/48)
«الدجال أكثر مما سألته. قال: وما سؤالك؟ قال: قلت: إنهم يقولون: معه جبال من خبز ولحم ونهر من ماء. قال: "هو أهون على الله من ذلك» .
رواه: الإمام أحمد، والشيخان، وابن ماجه، واللفظ لمسلم.
قال القاضي عياض: "معناه: هو أهون من أن يجعل ما يخلقه على يديه مضلا للمؤمنين ومشككا لقلوب الموقنين، بل ليزداد الذين آمنوا إيمانا، ويرتاب الذين في قلوبهم مرض؛ فهو مثل قول الذي يقتله: "ما كنت أشد بصيرة مني فيك"، لا أن قوله: " هو أهون على الله من ذلك ": أنه ليس شيء من ذلك معه، بل المراد: أهون من أن يجعل شيئا من ذلك آية على صدقه، ولا سيما وقد جعل فيه آية ظاهرة في كذبه وكفره، يقرؤها من قرأ ومن لا يقرأ، زائدة على شواهد كذبه من حدثه ونقصه". انتهى.
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما؛ قال: كنت في الحطيم مع حذيفة رضي الله عنه، فذكر حديثا، ثم قال: «لتنقضن عرى الإسلام عروة عروة، وليكونن أئمة مضلون، وليخرجن على إثر ذلك الدجالون الثلاثة» . قلت: يا أبا عبد الله! قد سمعت هذا الذي تقول من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم؛ سمعته، وسمعته يقول: «يخرج الدجال من يهودية أصبهان، عينه اليمنى ممسوحة، والأخرى كأنها زهرة تشق الشمس شقا، ويتناول الطير من الجو، له ثلاث صيحات يسمعهن أهل المشرق وأهل المغرب، ومعه جبلان: جبل من دخان ونار، وجبل من شجر وأنهار، ويقول: هذه الجنة، وهذه النار» .
رواه الحاكم وصححه، وتعقبه الذهبي، فقال: "منكر"، وذكر من تكلم فيه من رجاله.
وعن سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم رضي الله عنه؛ قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «ألا إنه لم يكن نبي قبلي إلا قد حذر الدجال أمته، هو أعور عينه»(3/49)
«اليسرى، بعينه اليمنى ظفرة غليظة، مكتوب بين عينيه: كافر، يخرج معه واديان: أحدهما جنة، والآخر نار؛ فناره جنة، وجنته نار، معه ملكان من الملائكة يشبهان نبيين من الأنبياء، لو شئت سميتهما بأسمائهما وأسماء آبائهما، واحد منهما عن يمينه والآخر عن شماله، وذلك فتنة، فيقول الدجال: ألست بربكم؟ ألست أحيي وأميت؟ فيقول له أحد الملكين: كذبت. ما يسمعه أحد من الناس إلا صاحبه، فيقول له: صدقت. فيسمعه الناس، فيظنون أنما يصدق الدجال، وذلك فتنة، ثم يسير حتى يأتي المدينة، فلا يؤذن له فيها، فيقول: هذه قرية ذلك الرجل، ثم يسير حتى يأتي الشام، فيهلكه الله عز وجل عند عقبة أفيق» .
رواه: الإمام أحمد، وأبو داود الطيالسي، والطبراني. قال الهيثمي: "ورجاله ثقات وفي بعضهم كلام لا يضر".
قال ياقوت الحموي في "معجم البلدان": (أفيق) ؛ بالفتح ثم الكسر وياء ساكنة وقاف: قرية من حوران في طريق الغور في أول العقبة المعروفة بعقبة أفيق، والعامة تقول: فيق، ينزل في هذه العقبة إلى الغور، وهو الأردن، وهي عقبة طويلة ميلين". قال: "ومنها يشرف على طبرية وبحيرتها". انتهى.
وسيأتي في عدة أحاديث صحيحة أن عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام يقتل الدجال عند باب اللد، والعمدة على ما جاء في الأحاديث الصحيحة لا على ما جاء في هذا الحديث. والله أعلم.
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يخرج الدجال في خفقة من الدين وإدبار من العلم، وله أربعون ليلة يسيحها في الأرض؛ اليوم منها كالسنة، واليوم منها كالشهر، واليوم منها كالجمعة، ثم سائر أيامه كأيامكم، وله حمار يركبه، عرض ما بين أذنيه أربعون ذراعا،»(3/50)
«فيقول للناس: أنا ربكم، وهو أعور، وإن ربكم ليس بأعور، مكتوب بين عينيه: كافر، ك ف ر مهجاة، يقرؤه كل مؤمن كاتب وغير كاتب، يرد كل ماء ومنهل؛ إلا المدينة ومكة حرمهما الله عليه وقامت الملائكة بأبوابهما، ومعه جبال من خبز، والناس في جهد إلا من تبعه، ومعه نهران، أنا أعلم بهما منه، نهر يقول الجنة، ونهر يقول النار، فمن أدخل الذي يسميه الجنة؛ فهو في النار، ومن أدخل الذي يسميه النار؛ فهو في الجنة، ويبعث الله معه شياطين تكلم الناس، ومعه فتنة عظيمة؛ يأمر السماء فتمطر فيما يرى الناس، ويقتل نفسا ثم يحييها فيما يرى الناس، لا يسلط على غيرها من الناس، ويقول: أيها الناس! هل يفعل مثل هذا إلا الرب عز وجل؟ قال: فيفر المسلمون إلى جبل الدخان بالشام، فيأتيهم، فيحاصرهم، فيشتد حصارهم، ويجهدهم جهدا شديدا، ثم ينزل عيسى ابن مريم، فينادي من السحر، فيقول: يا أيها الناس! ما يمنعكم أن تخرجوا إلى الكذاب الخبيث؟ فيقولون: هذا رجل جني! فينطلقون؛ فإذا هم بعيسى ابن مريم صلى الله عليه وسلم، فتقام الصلاة، فيقال له: تقدم يا روح الله! فيقول: ليتقدم إمامكم فيصل بكم؛ فإذا صلى صلاة الصبح؛ خرجوا إليه. قال: فحين يراه الكذاب؛ ينماث كما ينماث الملح في الماء، فيمشي إليه، فيقتله، حتى إن الشجرة والحجر ينادي: يا روح الله! هذا يهودي؛ فلا يترك ممن كان يتبعه أحدا إلا قتله» .
رواه الإمام أحمد، وإسناده صحيح على شرط الشيخين. وروى ابن خزيمة في "كتاب التوحيد" طرفا منه، وإسناده صحيح على شرط الشيخين. ورواه الحاكم في "مستدركه" مختصرا، وقال: "صحيح الإسناد ولم يخرجاه"، وقال الذهبي في "تلخيصه": "على شرط مسلم ".
وعن النواس بن سمعان رضي الله عنه؛ قال: «ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الدجال ذات غداة؛ فخفض فيه ورفع، حتى ظنناه في طائفة النخل، فلما رحنا إليه؛»(3/51)
«عرف ذلك فينا، فقال: "ما شأنكم؟ ". قلنا: يا رسول الله! ذكرت الدجال غداة، فخفضت فيه ورفعت، حتى ظنناه في طائفة النخل، فقال: "غير الدجال أخوفني عليكم، إن يخرج وأنا فيكم؛ فأنا حجيجه دونكم، وإن يخرج ولست فيكم؛ فامرؤ حجيج نفسه، والله خليفتي على كل مسلم؛ إنه شاب قطط، عينه طافئة، كأني أشبهه بعبد العزى بن قطن، فمن أدركه منكم؛ فليقرأ عليه فواتح سورة الكهف؛ إنه يخرج خلة بين الشام والعراق، فعاث يمينا وعاث شمالا: يا عباد الله! فاثبتوا. قلنا: يا رسول الله! وما لبثه في الأرض؟ قال: أربعون يوما: يوم كسنة ويوم كشهر، ويم كجمعة، وسائر أيامه كأيامكم. قلنا: يا رسول الله! فذلك اليوم الذي كسنة؛ أتكفينا فيه صلاة يوم؟ قال: لا اقدروا له قدره. قلنا: يا رسول الله! وما إسراعه في الأرض؟ قال: كالغيث استدبرته الريح، فيأتي على القوم، فيدعوهم، فيؤمنون به، ويستجيبون له، فيأمر السماء فتمطر، والأرض فتنبت، فتروح عليهم سارحتهم أطول ما كانت ذرا وأسبغه ضروعا وأمده خواصر، ثم يأتي القوم، فيدعوهم، فيردون عليه قوله، فينصرف عنهم، فيصبحون ممحلين، ليس بأيديهم شيء من أموالهم، ويمر بالخربة، فيقول لها: أخرجي كنوزك! فتتبعه كنوزها كيعاسيب النحل، ثم يدعو رجلا ممتلئا شبابا، فيضربه بالسيف، فيقطعه جزلتين رمية الغرض، ثم يدعوه، فيقبل ويتهلل وجهه يضحك، فبينما هو كذلك؛ إذ بعث الله المسيح ابن مريم، فينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق، بين مهرودتين، واضعا كفيه على أجنحة ملكين، إذا طأطأ رأسه؛ قطر، وإذا رفعه؛ تحدر منه جمان كاللؤلؤ، فلا يحل لكافر يجد ريح نفسه؛ إلا مات، ونفسه ينتهي حيث طرفه، فيطلبه حتى يدركه بباب لد؛ فيقتله، ثم يأتي عيسى ابن مريم قوم قد عصمهم الله منه، فيمسح عن وجوههم، ويحدثهم بدرجاتهم في الجنة؛ فبينما هو كذلك؛ إذا أوحى الله إلى عيسى: إني قد أخرجت عبادا لي لا يدان لأحد بقتالهم، فحرز عبادي إلى الطور، ويبعث»(3/52)
«الله يأجوج ومأجوج، وهم من كل حدب ينسلون، فيمر أوائلهم على بحيرة طبرية، فيشربون ما فيها، ويمر آخرهم، فيقولون: لقد كان بهذه مرة ماء، ويحصر نبي الله عيسى وأصحابه، حتى يكون رأس الثور لأحدهم خيرا من مائة دينار لأحدكم اليوم، فيرغب نبي الله عيسى وأصحابه إلى الله، فيرسل الله عليهم النغف في رقابهم، فيصبحون فرسى كموت نفس واحدة، ثم يهبط نبي الله عيسى وأصحابه إلى الأرض؛ فلا يجدون في الأرض موضع شبر؛ إلا ملأه زهمهم ونتنهم، فيرغب نبي الله عيسى وأصحابه إلى الله، فيرسل الله طيرا كأعناق البخت، فتحملهم، فتطرحهم حيث شاء الله، ثم يرسل الله مطرا لا يكن منه بيت مدر ولا وبر، فيغسل الأرض حتى يتركها كالزلفة، ثم يقال للأرض: أنبتي ثمرتك وردي بركتك؛ فيومئذ تأكل العصابة من الرمانة، ويستظلون بقحفها، ويبارك في الرسل، حتى إن اللقحة من الإبل لتكفي الفئام من الناس، واللقحة من البقر لتكفي القبيلة من الناس، واللقحة من الغنم لتكفي الفخذ من الناس، فبينما هم كذلك؛ إذ بعث الله ريحا طيبة، فتأخذهم تحت آباطهم، فتقبض روح كل مؤمن وكل مسلم، ويبقى شرار الناس، يتهارجون فيها تهارج الحمر، فعليهم تقوم الساعة» .
رواه: الإمام أحمد، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه، ورواية أبي داود مختصرة، وقال الترمذي: "هذا حديث غريب حسن صحيح".
وفي روايته ورواية ابن ماجه: «إنه شاب قطط عينه قائمة» .
وزاد الترمذي في روايته ومسلم في رواية له بعد قوله: "لقد كان بهذه مرة ماء": «ثم يسيرون، حتى ينتهوا إلى جبل الخمر، وهو جبل بيت المقدس، فيقولون: لقد قتلنا من في الأرض، هلم فلنقتل من في السماء، فيرمون بنشابهم»(3/53)
«إلى السماء، فيرد الله عليهم نشابهم مخضوبة دما» .
وزاد أحمد بعد قوله: «فتطرحهم حيث شاء الله عز وجل» : "قال ابن جابر: فحدثني عطاء بن يزيد السكسكي عن كعب أو غيره؛ قال: فتطرحهم بالمهبل. قال ابن جابر: فقلت: يا أبا يزيد! وأين المهبل؟ قال: مطلع الشمس".
وفي رواية الترمذي: «فتحملهم فتطرحهم بالمهبل، ويستوقد المسلمون من قسيهم ونشابهم وجعابهم سبع سنين» .
وروى ابن ماجه هذه الزيادة في حديث مفرد سيأتي في ذكر يأجوج ومأجوج إن شاء الله تعالى.
قال ابن الأثير: " (الزلفة) ؛ بالتحريك، وجمعها زلف: مصانع الماء، أراد أن المطر يغدر في الأرض، فتصير كأنها مصنعة من مصانع الماء. وقيل: الزلفة: المرآة، شبهها بها لاستوائها ونظافتها. وقيل: الزلفة: الروضة. ويقال بالقاف أيضا". انتهى.
وقال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري": "والمراد أن الماء يعم جميع الأرض، فينظفها، حتى تصير بحيث يرى الرائي وجهه فيها". انتهى.
وعن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه؛ قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان أكثر خطبته حديثا حدثناه عن الدجال وحذرناه، فكان من قوله أن قال:
«إنه لم تكن فتنة في الأرض منذ ذرأ الله ذرية آدم أعظم من فتنة الدجال، وإن الله لم يبعث نبيا إلا حذر أمته الدجال، وأنا آخر الأنبياء، وأنتم آخر الأمم، وهو خارج فيكم لا محالة، وإن يخرج وأنا بين ظهرانيكم؛ فأنا حجيج لكل مسلم، وإن يخرج من بعدي؛ فكل امرئ حجيج نفسه والله خليفتي على كل»(3/54)
«مسلم، وإنه يخرج من خلة بين الشام والعراق، فيعيث يمينا ويعيث شمالا، يا عباد الله! فاثبتوا؛ فإني سأصفه لكم صفة لم يصفها إياه نبي قبلي، إنه يبدأ فيقول: أنا نبي! ولا نبي بعدي، ثم يثني فيقول: أنا ربكم! ولا ترون ربكم حتى تموتوا، وإنه أعور، وإن ربكم ليس بأعور، وإنه مكتوب بين عينيه: كافر؛ يقرؤه كل مؤمن كاتب أو غير كاتب. وإن من فتنته أن معه جنة ونارا؛ فناره جنة وجنته نار، فمن ابتلي بناره؛ فليستغث بالله، وليقرأ فواتح الكهف، فتكون عليه بردا وسلاما كما كانت النار على إبراهيم. وإن فتنته أن يقول لأعرابي: أرأيت إن بعثت لك أباك وأمك؛ أتشهد أني ربك؟ فيقول: نعم. فيتمثل له شيطانان في صورة أبيه وأمه، فيقولان: يا بني! اتبعه؛ فإنه ربك. وإن من فتنته أن يسلط على نفس واحدة، فيقتلها، وينشرها بالمنشار، حتى يلقى شقتين، ثم يقول: انظروا إلى عبدي هذا؛ فإني أبعثه الآن، ثم يزعم أن له ربا غيري، فيبعثه الله، ويقول له الخبيث: من ربك؟ فيقول: ربي الله، وأنت عدو الله، أنت الدجال، والله؛ ما كنت بعد أشد بصيرة بك مني اليوم» .
قال أبو الحسن الطنافسي: فحدثنا المحاربي: حدثنا عبيد الله بن الوليد الوصافي عن عطية عن أبي سعيد رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ذلك الرجل أرفع أمتي درجة في الجنة» .
قال: قال أبو سعيد: والله؛ ما كنا نرى ذلك الرجل إلا عمر بن الخطاب حتى مضى لسبيله.
قال المحاربي: ثم رجعنا إلى حديث أبي رافع؛ قال: «وإن من فتنته أن يأمر السماء أن تمطر فتمطر، ويأمر الأرض أن تنبت فتنبت. وإن من فتنته أن يمر بالحي، فيكذبونه، فلا تبقى لهم سائمة إلا هلكت. وإن من فتنته أن يمر بالحي، فيصدقونه، فيأمر السماء أن تمطر فتمطر، ويأمر الأرض أن تنبت»(3/55)
«فتنبت، حتى تروح مواشيهم من يومهم ذلك أسمن ما كانت وأعظمه وأمده خواصر وأدره ضروعا. وأنه لا يبقى شيء من الأرض إلا وطئه وظهر عليه إلا مكة والمدينة، لا يأتيهما من نقب من نقابهما؛ إلا لقيته الملائكة بالسيوف صلتة، حتى ينزل عند الضريب الأحمر، عند منقطع السبخة، فترجف المدينة بأهلها ثلاث رجفات، فلا يبقى منافق ولا منافقة إلا خرج إليه، فتنفي الخبث منها كما ينفي الكير خبث الحديد، ويدعى ذلك اليوم يوم الخلاص". فقالت أم شريك بنت أبي العكر: يا رسول الله! فأين العرب يومئذ؟ قال: "هم يومئذ قليل، وجلهم ببيت المقدس، وإمامهم رجل صالح، فبينما إمامهم قد تقدم يصلي بهم الصبح؛ إذ نزل عليهم عيسى ابن مريم الصبح، فرجع ذلك الإمام ينكص؛ يمشي القهقرى ليتقدم عيسى ليصلي بالناس، فيضع عيسى يده بين كتفيه، ثم يقول له: تقدم فصل؛ فإنها لك أقيمت، فيصلي بهم إمامهم، فإذا انصرف؛ قال عيسى عليه السلام: افتحوا الباب، فيفتح، ووراءه الدجال، معه سبعون ألف يهودي، كلهم ذو سيف محلى وساج، فإذا نظر إليه الدجال؛ ذاب كما يذوب الملح في الماء، وينطلق هاربا، ويقول عيسى عليه السلام: إن لي فيك ضربة لن تسبقني بها، فيدركه عند باب اللد الشرقي، فيقتله، فيهزم الله اليهود، فلا يبقى شيء مما خلق الله يتوارى به يهودي؛ إلا أنطق الله ذلك الشيء، لا حجر ولا شجر ولا حائط ولا دابة؛ إلا الغرقدة؛ فإنها من شجرهم لا تنطق؛ إلا قال: يا عبد الله المسلم! هذا يهودي؛ فتعال اقتله". قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وإن أيامه أربعون سنة؛ السنة كنصف السنة، والسنة كالشهر، والشهر كالجمعة، وآخر أيامه كالشررة، يصبح أحدكم على باب المدينة؛ فلا يبلغ بابها الآخر حتى يمسي. فقيل له: يا رسول الله! كيف نصلي في تلك الأيام القصار؟ قال: تقدرون فيها الصلاة كما تقدرونها في هذه الأيام الطوال، ثم صلوا". قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فيكون عيسى ابن مريم عليه السلام في أمتي حكما عدلا وإماما»(3/56)
«مقسطا؛ يدق الصليب، ويذبح الخنزير، ويضع الجزية، ويترك الصدقة، فلا يسعى على شاة ولا بعير، وترفع الشحناء والتباغض، وتنزع حمة كل ذات حمة، حتى يدخل الوليد يده في الحية؛ فلا تضره، وتفر الوليدة الأسد؛ فلا يضرها، ويكون الذئب في الغنم كأنه كلبها، وتملأ الأرض من السلم كما يملأ الإناء من الماء، وتكون الكلمة واحدة؛ فلا يعبد إلا الله، وتضع الحرب أوزارها، وتسلب قريش ملكها، وتكون الأرض كفاثور الفضة؛ تنبت نباتها بعهد آدم، حتى يجتمع النفر على القطف من العنب فيشبعهم، ويجتمع النفر على الرمانة فتشبعهم، ويكون الثور بكذا وكذا من المال، وتكون الفرس بالدريهمات ". قالوا: يا رسول الله! وما يرخص الفرس؟ قال: "لا تركب لحرب أبدا". قيل له: فما يغلي الثور؟ قال: "تحرث الأرض كلها. وإن قبل خروج الدجال ثلاث سنوات شداد، يصيب الناس فيها جوع شديد، يأمر الله السماء في السنة الأولى أن تحبس ثلث مطرها ويأمر الأرض فتحبس ثلث نباتها، ثم يأمر السماء في الثانية فتحبس ثلثي مطرها ويأمر الأرض فتحبس ثلثي نباتها، ثم يأمر الله السماء في السنة الثالثة فتحبس مطرها كله؛ فلا تقطر قطرة، ويأمر الأرض فتحبس نباتها كله؛ فلا تنبت خضراء؛ فلا تبقى ذات ظلف إلا هلكت؛ إلا ما شاء الله". قيل: فما يعيش الناس في ذلك الزمان؟ قال: "التهليل، والتكبير، والتسبيح، والتحميد، ويجري ذلك عليهم مجرى الطعام» .
رواه: ابن ماجه، وابن خزيمة، والحافظ الضياء المقدسي في "المختارة"، واللفظ لابن ماجه. وروى عبد الله ابن الإمام أحمد في كتاب "السنة" طرفا من أوله، ورواته ثقات. وساق أبو داود إسناده، وأحال بلفظه على حديث النواس بن سمعان، ورجاله ثقات.
وروى الطبراني والحاكم بعضه، وقالا فيه: "وإن أيامه أربعون يوما؛ يوم(3/57)
كسنة، ويوم كشهر، ويوم كجمعة، يوم كالأيام، وآخر أيامه كالسراب؛ يصبح الرجل عند باب المدينة، فيمسي قبل أن يبلغ بابها الآخر". قالوا: وكيف نصلي في تلك الأيام القصار؟ قال: "تقدرون فيها كما تقدرون في الأيام الطوال".
قال الحاكم: "صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي في "تلخيصه".
قال أبو عبد الله - وهو ابن ماجه -: سمعت أبا الحسن الطنافسي يقول: سمعت عبد الرحمن المحاربي يقول: ينبغي أن يدفع هذا الحديث إلى المؤدب حتى يعلمه الصبيان في الكتاب.
وقد تكلم أبو عبية في حديث أبي أمامة رضي الله عنه كعادته السيئة في التهجم على الأحاديث الثابتة بغير دليل، فقال في حاشية (ص115) من "النهاية" لابن كثير ما نصه: "كيف يعلم صبيان المسلمين مثل هذا القول الذي لا يمكن تصديقه وهو منسوب زورا إلى الرسول عليه السلام؟! ".
والجواب أن يقال: حديث أبي أمامة رضي الله عنه حديث صحيح كما تقدم بيان ذلك، وعلى هذا؛ فالزور في الحقيقة هو كلام أبي عبية فيه بغير حق، وإذا كان أبو عبية مستهينا بالأحاديث الثابتة لا يعبأ بها ولا يرى باطراحها بأسا؛ فأهل السنة والجماعة على خلاف ما هو عليه؛ يتلقونها بالقبول والتسليم، ويعظمون شأنها، ويؤمنون بما جاء فيها، ويعلمون أنه حق وصدق. وقد تقدم كلام الإمام أحمد وغيره في ذلك في أول الكتاب؛ فليراجع.
والإيمان بما جاء في الأحاديث الصحيحة عنوان على تحقيق شهادة أن محمدا رسول الله، كما أن اطراحها وعدم الإيمان بما جاء فيها عنوان على عدم تحقيق الشهادة بالرسالة.
قوله: "وتنزع حمة كل ذات حمة": قال أهل اللغة: " (الحمة) ؛(3/58)
بالتخفيف: السم ". قال ابن الأثير: "وقد تشدد، وأنكره الأزهري، ويطلق على إبرة العقرب للمجاورة؛ لأن السم منها يخرج". قال: "ومنه حديث الدجال: "وتنزع حمة كل دابة"؛ أي: سمها". انتهى.
وقد صحف أبو عبية (الحمة) ، وسيأتي التعقيب عليه في (باب نزول عيسى إلى الأرض) إن شاء الله تعالى.
قوله: "وتفر الوليدة الأسد فلا يضرها": قال ابن الأثير: "هو من فررت الدابة أفرها فرا: إذا كشفت شفتها لتعرف سنها". انتهى.
قوله: "وتكون الأرض كفاثور الفضة": قال الجوهري: " (الفاثور) : الخوان يتخذ من الرخام ونحوه". وقال ابن الأثير: " (الفاثور) : الخوان، وقيل: هو طست أو جام من فضة أو ذهب، ومنه قيل لقرص الشمس: فاثورها". وقال ابن منظور في "لسان العرب": " (الفاثور) : عند العامة: الطست أو الخوان، يتخذ من رخام أو فضة أو ذهب ". انتهى.
والمعنى في الحديث أن الأرض تكون نظيفة مما يصيبها من المطر العظيم الذي لا يكن منه بيت مدر ولا وبر، وأنها تشبه في نظافتها الطست أو الخوان من الفضة.
وقد تقدم في حديث النواس بن سمعان رضي الله عنه أن المطر يغسل الأرض حتى يتركها كالزلفة، وتقدم تفسير الزلفة بأنها مصنعة الماء، وقيل: المرآة، وقيل: الروضة، والمعنى في الحديثين متقارب، والله أعلم.
وقد صحف أبو عبية (الفاثور) بـ: (العاثور) ، فقال في حاشية (ص114) من "النهاية" لابن كثير ما نصه: " (العاثور) : المهلكة من الأرض، ولعل المراد أن الأرض تتشابه وتخفى صواها ومعالمها فلا يهتدي بها السائر فيها". انتهى كلامه، وهو خطأ ظاهر وتصحيف عجيب؛ فلا يغتر به.(3/59)
وعن جبير بن نفير عن أبيه رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر الدجال فقال: «إن يخرج وأنا فيكم؛ فأنا حجيجه، وإن يخرج ولست فيكم؛ فكل امرئ حجيج نفسه والله خليفتي على كل مسلم، ألا وإنه مطموس العين، كأنها عين عبد العزى بن قطن الخزاعي، ألا وإنه مكتوب بين عينيه: كافر، يقرؤه كل مسلم، فمن لقيه منكم؛ فليقرأ بفاتحة الكهف، يخرج من بين الشام والعراق، فعاث يمينا وعاث شمالا: يا عباد الله! اثبتوا (ثلاثا) ". فقيل: يا رسول الله! فما مكثه في الأرض؟ قال: "أربعون يوما: يوم كالسنة، يوم كالشهر، ويوم كالجمعة، وسائر أيامه كأيامكم". قالوا: يا رسول الله! فكيف نصنع بالصلاة يومئذ صلاة يوم أو نقدر؟ قال: "بل تقدرون» .
رواه: الطبراني، والحاكم، وابن عساكر، وهذا لفظ الحاكم، وقال: "صحيح الإسناد ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي في "تلخيصه".
وزاد الطبراني في روايته: قيل: يا رسول الله! فما سرعته في الأرض؟ قال: "كالسحاب استدبرته الريح". قال الهيثمي: "رواه الطبراني، وفيه عبد الله بن صالح، وقد وثق، وضعفه جماعة، وبقية رجاله ثقات".
وقد روى البزار طرفا من أوله. قال الهيثمي: "وفيه عبد الله بن صالح كاتب الليث، وقد وثق، وضعفه جماعة، وبقية رجاله رجال الصحيح ".
وعن الحسن عن سمرة بن جندب رضي الله عنه: أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: «إن الدجال خارج، وهو أعور عين الشمال، عليها ظفرة غليظة، وإنه يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى ويقول للناس: أنا ربكم! فمن قال: أنت ربي؛ فقد فتن، ومن قال: ربي الله حي لا يموت؛ فقد عصم من فتنته، ولا فتنة بعده عليه ولا عذاب، فيلبث في الأرض ما شاء الله، ثم يجيء عيسى ابن مريم عليهما السلام من قبل المغرب، مصدقا بمحمد صلى الله عليه وسلم، وعلى ملته، فيقتل»(3/60)
«الدجال، ثم إنما هو قيام الساعة» .
رواه: الإمام أحمد، وإسناده صحيح على شرط الشيخين، والطبراني.
قال الهيثمي: "ورجاله رجال الصحيح".
وعن ثعلبة بن عباد العبدي من أهل البصرة؛ قال: شهدت يوما خطبة لسمرة بن جندب، فذكر في خطبته حديثا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «بينا أنا وغلام من الأنصار نرمي في غرضين لنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إذا كانت الشمس قيد رمحين أو ثلاثة في عين الناظر؛ اسودت حتى آضت كأنها تنومة. قال: فقال أحدنا لصاحبه: انطلق بنا إلى المسجد؛ فوالله؛ ليحدثن شأن هذه الشمس لرسول الله صلى الله عليه وسلم في أمته حدثا. قال: فدفعنا إلى المسجد؛ فإذا هو بارز. قال: ووافقنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خرج إلى الناس، فاستقدم، فقام بنا كأطول ما قام بنا في صلاة قط لا نسمع له صوتا، ثم ركع كأطول ما ركع بنا في صلاة قط لا نسمع له صوتا، ثم فعل في الركعة الثانية مثل ذلك، فوافق تجلي الشمس جلوسه في الركعة الثانية، فسلم، فحمد الله وأثنى عليه وشهد أنه عبد الله ورسوله، ثم قال: " أيها الناس! أنشدكم بالله إن كنتم تعلمون أني قصرت عن شيء من تبليغ رسالات ربي عز وجل لما أخبرتموني ذاك، فبلغت رسالات ربي كما ينبغي لها أن تبلغ، وإن كنتم تعلمون أني بلغت رسالات ربي؛ لما أخبرتموني ذاك". قال: فقام رجال، فقالوا: نشهد أنك قد بلغت رسالات ربك، ونصحت لأمتك، وقضيت الذي عليك. ثم سكتوا، ثم قال: "أما بعد؛ فإن رجالا يزعمون أن كسوف هذه الشمس وكسوف هذا القمر وزوال هذه النجوم عن مطالعها لموت رجال عظماء من أهل الأرض، وإنهم قد كذبوا، ولكنها آيات من آيات الله تبارك وتعالى، يعتبر بها عباده، فينظر من يحدث له منهم توبة، وايم الله؛ لقد رأيت منذ قمت أصلي ما أنتم لاقون في أمر دنياكم وآخرتكم، وإنه والله؛ لا تقوم الساعة حتى يخرج ثلاثون كذابا، آخرهم الأعور الدجال، ممسوح»(3/61)
«العين اليسرى، كأنها عين أبي تحي (لشيخ حينئذ من الأنصار بينه وبين حجرة عائشة رضي الله عنها) ، وإنه متى يخرج؛ فإنه سوف يزعم أنه الله، فمن آمن به وصدقه واتبعه؛ لم ينفعه صالح من عمله سلف، ومن كفر به وكذبه؛ لم يعاقب بشيء من عمله (وقال حسن الأشيب: بسيئ من عمله سلف) ، وإنه سيظهر (أو قال: سوف يظهر) على الأرض كلها؛ إلا الحرم وبيت المقدس، وإنه يحصر المؤمنين في بيت المقدس، فيزلزلون زلزالا شديدا، ثم يهلكه الله تبارك وتعالى وجنوده، حتى إن جذم الحائط (أو قال: أصل الحائط. وقال حسن الأشيب: وأصل الشجرة) لينادي (أو قال: يقول) : يا مؤمن (أو قال: يا مسلم) ! هذا يهودي (أو قال: هذا كافر) ، تعالى فاقتله". قال: "ولن يكون ذلك كذلك حتى تروا أمورا يتفاقم شأنها في أنفسكم، وتساءلون بينكم: هل كان نبيكم ذكر لكم منها ذكرا؟ وحتى تزول جبال عن مراتبها، ثم على إثر ذلك القبض» . قال: ثم شهدت خطبة لسمرة ذكر فيها هذا الحديث، فما قدم كلمة ولا أخرها عن موضعها.
رواه: الإمام أحمد واللفظ له، وأبو يعلى، وابن خزيمة، والطبراني في "الكبير"، وابن حبان في "صحيحه"، والحاكم في "مستدركه"، وقال: "صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي في "تلخيصه". وقال الهيثمي: "رجاله رجال الصحيح؛ غير ثعلبة بن عباد، وثقه ابن حبان ".
قال: "ورواه البزار ببعضه، وقال فيه: "فمن اعتصم بالله، فقال: ربي الله حي لا يموت؛ فلا عذاب عليه، ومن قال: أنت ربي؛ فقد فتن ". وفي رواية ابن حبان: "ولن يكون ذلك كذلك حتى تروا أمورا عظاما، يتفاقم شأنها في أنفسكم، وتساءلون بينكم: هل كان نبيكم ذكر لكم منها ذكرا". وفي رواية الحاكم: "وحتى تزول جبال عن مراسيها".
وقد علق أبو عبية في (ص125) من "النهاية" لابن كثير على قوله في(3/62)
هذا الحديث: "وإنه متى يخرج؛ فإنه سوف يزعم أنه الله، فمن آمن به وصدقه واتبعه؛ لم ينفعه صالح من عمله سلف، ومن كفر به وكذبه؛ لم يعاقب بشيء من عمله".
قال أبو عبية: "من مبادئ الإسلام المقررة أن من يعمل مثقال ذرة خيرا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره، ورد دعوة مدعي الألوهية أمر بدهي، لا يقتضي محو كل الذنوب وستر كل العيوب".
والجواب عن هذا من وجهين:
أحدهما: أن يقال: إن كلام أبي عبية هذا ظاهر في رد قول النبى صلى الله عليه وسلم ومعارضته بالشبهة التي رآها بعقله، ومن سلك هذا المسلك الذميم؛ فهو ممن يشك في تحقيقه لشهادة أن محمدا رسول الله؛ لأن معناها طاعته فيما أمر، وتصديقه فيما أخبر، واجتناب ما عنه نهى وزجر، وأن لا يعبد الله إلا بما شرع، وقد أخبر النبى صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الصحيح أن من آمن بالدجال وصدقه لم ينفعه صالح من عمله سلف، ومن كفر به وكذبه لم يعاقب بشيء من عمله، والنبى صلى الله عليه وسلم لا يقول إلا الحق، فوجب الإيمان بقوله، وترك الاعتراض عليه بمجرد الآراء والتخرصات والظنون الكاذبة.
الوجه الثاني: أن فتنة الدجال هي أعظم فتنة تكون في الدنيا؛ كما سيأتي ذلك منصوصا عليه في عدة أحاديث صحيحة.
وروى الإمام أحمد، وأبو داود، والحاكم في "مستدركه"؛ عن عمران بن حصين رضي الله عنهما؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من سمع بالدجال؛ فلينأ عنه، فوالله؛ إن الرجل ليأتيه وهو يحسب أنه مؤمن، فيتبعه مما يبعث به من الشبهات» .(3/63)
قال الحاكم: "صحيح الإسناد على شرط مسلم "، وأقره الذهبي في "تلخيصه".
وإذا كان الدجال بهذه الصفة المخوفة؛ فلا شك أن الكفر به وتكذيبه لا يصدر إلا من مؤمن قوي الإيمان، ومن كان كذلك؛ فغير مستنكر أن تكفر أعماله السيئة كلها، ولا يعاقب بشيء منها.
وأما الإيمان به وتصديقه؛ فهو كفر، ومن كفر بعد الإيمان؛ حبط عمله، ولم ينفعه صالح من عمله سلف.
قال الله تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} والآيات في هذا المعنى كثيرة.
وعن أسماء بنت يزيد الأنصارية رضي الله عنها؛ قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي، فذكر الدجال؛ فقال: «إن بين يديه ثلاث سنين: سنة تمسك السماء ثلث قطرها والأرض ثلث نباتها، والثانية تمسك السماء ثلثي قطرها والأرض ثلثي نباتها، والثالثة تمسك السماء قطرها كله والأرض نباتها كله، فلا يبقى ذات ضرس ولا ذات ظلف من البهائم إلا هلكت، وإن أشد فتنته أن يأتي الأعرابي، فيقول: أرأيت إن أحييت لك إبلك؛ ألست تعلم أني ربك؟ قال: فيقول: بلى. فتمثل الشياطين له نحو إبله كأحسن ما تكون ضروعا وأعظمه أسنمة". قال: "ويأتي الرجل قد مات أخوه ومات أبوه، فيقول: أرأيت إن أحييت لك أباك وأحييت لك أخاك؛ ألست تعلم أني ربك؟ فيقول: بلى. فتمثل له الشياطين نحو أبيه ونحو أخيه". قالت: ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم لحاجة، ثم رجع. قالت: والقوم في اهتمام وغم مما حدثهم به. قالت: فأخذ بلحمتي الباب، وقال: مهيم أسماء؟ قالت: قلت: يا رسول الله! لقد خلعت أفئدتنا بذكر الدجال. قال: "إن يخرج وأنا حي؛ فأنا حجيجه، وإلا؛ فإن ربي خليفتي»(3/64)
«على كل مؤمن ". قالت أسماء: يا رسول الله! إنا والله لنعجن عجينتنا فما نختبزها حتى نجوع؛ فكيف بالمؤمنين يومئذ؟ قال: "يجزيهم ما يجزي أهل السماء من التسبيح والتقديس» .
رواه: عبد الرزاق في "مصنفه"، والإمام أحمد من طريقه. وإسناده حسن.
وفي رواية لأحمد؛ قال: «يكفي المؤمنين عن الطعام والشراب يومئذ التكبير والتسبيح والتحميد» ، وإسناده حسن أيضا.
وعنها رضي الله عنها: أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بين ظهراني أصحابه يقول: «أحذركم المسيح وأنذركموه، وكل نبي قد حذره قومه، وهو فيكم أيتها الأمة، وسأجلي لكم من نعته ما لم تجلي الأنبياء قبلي لقومهم، يكون قبل خروجه سنون خمس جدب، حتى يهلك كل ذي حافر". فناداه رجل، فقال: يا رسول الله! فبم يعيش المؤمنون؟ قال: "بما تعيش به الملائكة. وهو أعور، وليس الله بأعور، بين عينيه: كافر، يقرؤه كل مؤمن كاتب وغير كاتب، أكثر من يتبعه اليهود والنساء والأعراب، يرون السماء تمطر وهي لا تمطر، والأرض تنبت وهي لا تنبت، ويقول للأعراب: ما تبغون مني؟ ألم أرسل السماء عليكم مدرارا، وأحيي لكم أنعامكم شاخصة ذراها، خارجة خواصرها، دارة ألبانها؟ وتبعث معه الشياطين على صورة من مات من الآباء والإخوان والمعارف، فيأتي أحدهم إلى أبيه وأخيه وذي رحمه، فيقول: ألست فلانا؟ ألست تعرفني؟ هو ربك؛ فاتبعه، يعمر أربعين سنة: السنة كالشهر، والشهر كالجمعة، والجمعة كاليوم، واليوم كالساعة، والساعة كاحتراق السعفة في النار، يرد كل منهل؛ إلا المسجدين". ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ، فسمع بكاء الناس وشهيقهم، فرجع، فقام بين أظهرهم، فقال: "أبشروا؛ فإن يخرج وأنا»(3/65)
«فيكم؛ فالله كافيكم ورسوله، وإن يخرج بعدي؛ فالله خليفتي على كل مسلم» .
رواه الطبراني. قال الهيثمي: "وفيه شهر بن حوشب، ولا يحتمل مخالفته للأحاديث الصحيحة: أنه يلبث في الأرض أربعين يوما، وفي هذا أربعين سنة، وبقية رجاله ثقات". وقد رواه عبد الله بن الإمام أحمد في "كتاب السنة" بنحوه مختصرا، وإسناده صحيح.
وعن أسماء بنت عميس رضي الله عنها: أن النبى صلى الله عليه وسلم دخل عليها لبعض حاجته، ثم خرج، فشكت إليه الحاجة، فقال: «كيف بكم إذا ابتليتم بعبد قد سخرت له أنهار الأرض وثمارها، فمن اتبعه؛ أطعمه وأكفره، ومن عصاه؛ حرمه ومنعه". قلت: يا رسول الله! إن الجارية لتجلس عند التنور ساعة لخبزها فأكاد أفتتن في صلاتي؛ فكيف بنا إذا كان ذلك؟ قال: "إن الله يعصم المؤمنين يومئذ بما عصم به الملائكة من التسبيح، إن بين عينيه كافر، يقرؤه كل مؤمن كاتب وغير كاتب» .
رواه الطبراني. قال الهيثمي: "وفيه راو لم يسم، وبقية رجاله رجال الصحيح".
وعن عبد الله بن مغفل رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أهبط الله تعالى إلى الأرض منذ خلق آدم إلى أن تقوم الساعة فتنة أعظم من فتنة الدجال، وقد قلت فيه قولا لم يقله أحد قبلي: إنه آدم، جعد، ممسوح عين اليسار، على عينه ظفرة غليظة، وإنه يبرئ الأكمه والأبرص، ويقول: أنا ربكم، فمن قال: ربي الله؛ فلا فتنة عليه، ومن قال: أنت ربي؛ فقد افتتن، يلبث فيكم ما شاء الله، ثم ينزل عيسى ابن مريم مصدقا بمحمد صلى الله عليه وسلم على ملته، إماما مهديا، وحكما عدلا، فيقتل الدجال» . فكان الحسن يقول: ونرى أن ذلك عند الساعة.(3/66)
رواه الطبراني في "الكبير" و"الأوسط". قال الهيثمي: "ورجاله ثقات، وفي بعضهم ضعف لا يضر".
وعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يخرج الدجال عدو الله ومعه جنود من اليهود وأصناف الناس، معه جنة ونار ورجال يقتلهم ثم يحييهم، معه جبل من ثريد ونهر من ماء، وإني سأنعت لكم نعته: إنه يخرج ممسوح العين، في جبهته مكتوب كافر، يقرؤه كل من كان يحسن الكتاب ومن لا يحسن، فجنته نار وناره جنة، وهو المسيح الكذاب، ويتبعه من نساء اليهود ثلاثة عشر ألف امرأة، فرحم الله رجلا منع سفيهه أن يتبعه، والقوة عليه يومئذ القرآن؛ فإن شأنه بلاء شديد، يبعث الله الشياطين من مشارق الأرض ومغاربها، فيقولون له: استعن بنا على ما شئت. فيقول: نعم؛ انطلقوا فأخبروا الناس أني ربهم، وأني قد جئتهم بجنتي وناري، فينطلق الشياطين، فيدخل على الرجل أكثر من مائة شيطان، فيتمثلون له بصورة والده وولده، وإخوته ومواليه ورفيقه، فيقولون: يا فلان! أتعرفنا؟ فيقول لهم الرجل: نعم، هذا أبي وهذه أمي وهذه أختي وهذا أخي، فيقول الرجل: ما نبؤكم؟ فيقولون: بل أنت فأخبرنا ما نبؤك؟ فيقول الرجل: إنا قد أخبرنا أن عدو الله الدجال قد خرج. فتقول له الشياطين: مهلا؛ لا تقل هذا؛ فإنه ربكم يريد القضاء فيكم، هذه جنة قد جاء بها ونار، ومعه الأنهار والطعام؛ فلا طعام إلا ما كان قبله إلا ما شاء الله، فيقول الرجل: كذبتم؛ ما أنتم إلا شياطين، وهو الكذاب، وقد بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد حدث حديثكم، وحذرناه وأبناءنا به؛ فلا مرحبا بكم، أنتم الشياطين وهو عدو الله، وليسوقن عيسى ابن مريم حتى يقتله، فيخسؤوا فينقلبوا خاسئين". ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما أحدثكم هذا لتعقلوه وتفقهوه وتفهموه وتعوه، فاعملوا عليه وحدثوا به من خلفكم، وليحدث الآخر الآخر؛ فإن فتنته أشد الفتن» .(3/67)
رواه نعيم بن حماد في "كنز العمال"، وفيه سويد بن عبد العزيز متروك.
قلت: لم يتفق على تركه، بل قال دحيم: "ثقة، وكانت له أحاديث يغلط فيها". وقال نعيم بن حماد وعلي بن حجر: " (كان هشيم يحسن أمره ويثني عليه خيرا". وحديثه هذا فيه نكارة، ولبعضه شواهد مما تقدم.
باب
أن فتنة الدجال أعظم الفتن في الدنيا
قد تقدم في الباب قبله ثلاثة أحاديث في ذلك:
أولها: حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يخرج الدجال في خفقة من الدين وإدبار من العلم ... (الحديث، وفيه:) ومعه فتنة عظيمة» .
رواه: الإمام أحمد بإسناد صحيح، وابن خزيمة، والحاكم وصححه، وقال الذهبي: "على شرط مسلم ".
ثانيها: حديث أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه: عن النبى صلى الله عليه وسلم: أنه قال: «إنه لم تكن فتنة في الأرض منذ ذرأ الله ذرية آدم أعظم من فتنة الدجال» ..... الحديث.
رواه: ابن ماجه، وابن خزيمة، والحاكم، والحافظ الضياء المقدسي، وقال الحاكم: "صحيح على شرط مسلم "، ووافقه الذهبي في "تلخيصه".
ثالثا: حديث عبد الله بن مغفل رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أهبط الله تعالى إلى الأرض منذ خلق آدم إلى أن تقوم الساعة فتنة أعظم من فتنة الدجال» ...... الحديث.(3/68)
رواه الطبراني في "الكبير" و"الأوسط". قال الهيثمي: "ورجاله ثقات، وفي بعضهم ضعف لا يضر".
وعن هشام بن عامر رضي الله عنه؛ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما بين خلق آدم إلى قيام الساعة أمر أكبر من الدجال» .
رواه: الإمام أحمد، ومسلم.
وفي رواية لأحمد؛ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «والله؛ ما بين خلق آدم إلى قيام الساعة أمر أعظم من الدجال» .
وفي رواية له أخرى؛ قال: سمعت النبى صلى الله عليه وسلم يقول: «ما بين خلق آدم إلى أن تقوم الساعة فتنة أكبر من فتنة الدجال» .
ورواه الحاكم، ولفظه: «ما بين خلق آدم إلى قيام الساعة فتنة أكبر عند الله من الدجال» .
قال الحاكم: "صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه"، وأقره الذهبي في "تلخيصه".
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما كانت فتنة ولا تكون حتى تقوم الساعة أكبر من فتنة الدجال» ..... الحديث.
رواه: الإمام أحمد في "المسند"، وابنه عبد الله في "كتاب السنة" من طريقه، وإسناده صحيح على شرط الشيخين.
وعن حذيفة رضي الله عنه؛ قال: ذكر الدجال عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «لأنا لفتنة بعضكم أخوف عندي من فتنة الدجال، ولن ينجو أحد مما قبلها؛ إلا نجا منها، وما صنعت فتنة منذ كانت الدنيا صغيرة ولا كبيرة إلا لفتنة الدجال» .(3/69)
رواه الإمام أحمد، والبزار. قال الهيثمي: "ورجاله رجال الصحيح".
ورواه ابن حبان في "صحيحه"، ولفظه: قال: كنا عند النبى صلى الله عليه وسلم، فذكر الدجال، فقال: «لفتنة بعضكم أخوف عندي من فتنة الدجال، إنها ليست من فتنة صغيرة ولا كبيرة إلا تتضع لفتنة الدجال، فمن نجا من فتنة ما قبلها؛ نجا منها، وإنه لا يضر مسلما، مكتوب بين عينيه كافر؛ بهجاوة: ك ف ر» .
وعن عبد الله بن حوالة الأزدي رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من نجا من ثلاث؛ فقد نجا (ثلاث مرات) : موتي، والدجال، وقتل خليفة مصطبر بالحق يعطيه» .
رواه: الإمام أحمد، والطبراني، والحاكم في "مستدركه". قال الهيثمي: "ورجال أحمد رجال الصحيح؛ غير ربيعة بن لقيط، وهو ثقة". وقال الحاكم: "صحيح الإسناد ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي في "تلخيصه".
وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاث من نجا منها؛ فقد نجا: من نجا عند موتي؛ فقد نجا، ومن نجا عند قتل خليفة يقتل مظلوما وهو مصطبر يعطي الحق من نفسه؛ فقد نجا، ومن نجا من فتنة الدجال؛ فقد نجا» .
رواه الطبراني. قال الهيثمي: "وفيه إبراهيم بن يزيد المصري، ولم أعرفه، وبقية رجاله ثقات".
وعن حسان بن عطية أحد ثقات التابعين: أنه قال: "لا ينجو من فتنة الدجال إلا اثنا عشر ألف رجل وسبعة آلاف امرأة".
رواه أبو نعيم في "الحلية" في ترجمة حسان المذكور. قال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري": "وسنده حسن صحيح إليه". قال: "وهذا لا يقال من(3/70)
قبل الرأي، فيحتمل أن يكون مرفوعا أرسله، ويحتمل أن يكون أخذه عن بعض أهل الكتاب ". انتهى.
باب
أن فتنة الدجال آخر الفتن
عن حذيفة رضي الله عنه: أنه قال: "أول الفتن قتل عثمان، وآخر الفتن خروج الدجال، والذي نفسي بيده؛ لا يموت رجل وفي قلبه مثقال حبة من حب قتل عثمان؛ إلا تبع الدجال إن أدركه، وإن لم يدركه؛ آمن به في قبره".
ذكره ابن كثير في "تاريخه" عن الأعمش عن زيد بن وهب عن حذيفة.
ورواه: ابن أبي شيبة مختصرا، وابن عساكر في تاريخه مطولا؛ بنحو ما ذكرنا.
باب
ما جاء في أيام الدجال
قد تقدم في (باب فتنة الدجال) أحاديث في ذلك:
منها حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يخرج الدجال في خفقة من الدين وإدبار من العلم، وله أربعون ليلة يسيحها في الأرض: اليوم منها كالسنة، واليوم منها كالشهر، واليوم منها كالجمعة، ثم سائر أيامه كأيامكم هذه» .
رواه الإمام أحمد بإسناد صحيح. وروى ابن خزيمة طرفا منه في "كتاب التوحيد "، وإسناده صحيح. ورواه الحاكم مختصرا وصححه، وقال الذهبي في "تلخيصه": "على شرط مسلم".(3/71)
ومنها حديث النواس بن سمعان الكلابي رضي الله عنه؛ قال: «ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الدجال ذات غداة..... الحديث، وفيه: قلنا: يا رسول الله! وما لبثه في الأرض؟ قال: "أربعون يوما؛ يوم كسنة، ويوم كشهر، ويوم كجمعة، وسائر أيامه كأيامكم". قلنا: يا رسول الله! فذلك اليوم الذي كسنة أتكفينا فيه صلاة يوم؟ قال: "لا، اقدروا له قدره» .
رواه: الإمام أحمد، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه. وقال الترمذي: "هذا حديث غريب حسن صحيح".
ومنها حديث جبير بن نفير عن أبيه رضي الله عنه؛ «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر الدجال.... الحديث، وفيه: فقيل: يا رسول الله! فما مكثه في الأرض؟ قال: "أربعون يوما؛ يوم كالسنة، ويوم كالشهر، ويوم كالجمعة، وسائر أيامه كأيامكم". قالوا: يا رسول الله! فكيف نصنع بالصلاة يومئذ صلاة يوم أو نقدر؟ قال: "بل تقدروا» .
رواه: الطبراني، والحاكم، وابن عساكر، وقال الحاكم: "صحيح الإسناد"، ووافقه الذهبي على ذلك.
ومنها حديث أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه؛ قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما، فكان أكثر خطبته ذكر الدجال؛ يحدثنا عنه.... الحديث، وفيه: «وإن أيامه أربعون يوما: يوم كسنة، ويوم كشهر، ويوم كجمعة، ويوم كالأيام وآخر أيامه كالسراب، يصبح الرجل عند باب المدينة فيمسي قبل أن يبلغ بابها الآخر ". قالوا: وكيف نصلي يا رسول الله في تلك الأيام القصار؟ قال: "تقدرون فيها كما تقدرون في الأيام الطوال» .
رواه: الطبراني، والحاكم؛ بهذا اللفظ. وقال الحاكم: "صحيح على(3/72)
شرط مسلم ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي في "تلخيصه".
ورواه ابن ماجه، وقال فيه: «وإن أيامه أربعون: السنة كنصف السنة، والسنة كالشهر، والشهر كالجمعة، وآخر أيامه كالشررة؛ يصبح أحدكم على باب المدينة فلا يبلغ بابها الآخر حتى يمسي". فقيل له: يا رسول الله! كيف نصلي في تلك الأيام القصار؟ قال: "تقدرون فيها الصلاة كما تقدرونها في هذه الأيام الطوال، ثم صلوا» .
وقد تقدم في (باب قصة المؤمن مع الدجال) حديث جنادة بن أبي أمية عن رجل من أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم؛ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «أنذرتكم فتنة الدجال ... (الحديث، وفيه:) وإنه يلبث فيكم أربعين صباحا» .
وفي رواية: «وإنه يمكث في الأرض أربعين صباحا، يبلغ فيها كل منهل، ولا يقرب أربعة مساجد: مسجد الحرام، ومسجد المدينة، ومسجد الطور، ومسجد الأقصى» .
رواه الإمام أحمد بأسانيد صحيحة على شرط الشيخين.
وتقدم فيه أيضا حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال في الدجال: «يخرج، فيكون في الأرض أربعين صباحا: الشهر كالجمعة، والجمعة كاليوم» .
رواه الطبراني. قال الهيثمي: "وفيه من لم أعرفهم".
وتقدم في (باب حراسة مكة والمدينة من الدجال) حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما؛ قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم على المنبر.... فذكر حديث الجساسة، وزاد فيه: "هو المسيح، تطوى له الأرض في أربعين يوما".
رواه أبو يعلى بإسنادين. قال الهيثمي: "رجال أحدهما رجال الصحيح".(3/73)
وعنه رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يذكر المسيح الدجال: «إني سأقول لكم فيه كلمة.... (الحديث، وفيه:) يسيح الأرض أربعين يوما، يرد كل بلد؛ غير هاتين المدينتين، المدينة ومكة، حرمهما الله عليه، يوم من أيامه كالسنة، ويوم كالشهر، ويوم كالجمعة، وبقية أيامه كأيامكم هذه، لا يبقى إلا أربعين يوما» .
رواه الطبراني في "الأوسط". قال الهيثمي: "وفيه زمعة بن صالح، وهو ضعيف".
وتقدم بتمامه في (باب حراسة مكة والمدينة من الدجال) .
وتقدم في (باب من أين يخرج الدجال) حديث أبي هريرة رضي الله عنه؛ قال: سمعت أبا القاسم الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم يقول: «يخرج أعور الدجال مسيح الضلالة قبل المشرق في زمن اختلاف من الناس وفرقة، فيبلغ ما شاء الله أن يبلغ من الأرض في أربعين يوما، الله أعلم ما مقدارها، الله أعلم ما مقدارها (مرتين) ، فيلقى المؤمنون منه شدة شديدة» ..... الحديث.
رواه: ابن حبان في "صحيحه"، والبزار. قال الهيثمي: "ورجاله رجال الصحيح؛ غير علي بن المنذر، وهو ثقة". وقال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري": "أخرجه البزار بسند جيد".
وسيأتي هذا الحديث بتمامه في ذكر نزول عيسى عليه الصلاة والسلام إن شاء الله تعالى.
وعن أسماء بنت يزيد رضي الله عنها؛ قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يمكث الدجال في الأرض أربعين سنة: السنة كالشهر، والشهر كالجمعة، والجمعة كاليوم، واليوم كاضطرام السعفة في النار» .(3/74)
رواه: عبد الرزاق في "مصنفه"، والإمام أحمد من طريقه هكذا مختصرا، ورواه الطبراني في حديث طويل تقدم في (باب فتنة الدجال) . قال الهيثمي: "وفيه شهر بن حوشب، ولا يحتمل مخالفته للأحاديث الصحيحة أنه يلبث في الأرض أربعين يوما وفي هذا أربعين سنة، وبقية رجاله ثقات ".
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يخرج الدجال في أمتي، فيمكث أربعين، لا أدري: أربعين يوما، أو أربعين شهرا، أو أربعين عاما» .... الحديث.
رواه: الإمام أحمد، ومسلم، والنسائي.
وسيأتي بتمامه في ذكر نزول عيسى عليه الصلاة والسلام إن شاء الله تعالى.
وقد اختلفت أحاديث هذا الباب في مدة مكث الدجال في الأرض؛ ففي أكثرها والصحيح منها أنه يمكث في الأرض أربعين يوما: يوم كسنة، ويوم كشهر، ويوم كجمعة، وسائر أيامه كأيامنا هذه. وفي حديث أسماء بنت يزيد رضي الله عنها: أنه يمكث في الأرض أربعين سنة: السنة كالشهر، والشهر كالجمعة، والجمعة كاليوم، واليوم كاضطرام السعفة في النار. ونحوه ما في رواية ابن ماجه عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه. وفي حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عدم الجزم في الأربعين بأنها أيام أو أشهر أو أعوام، ولعل هذا قبل أن يتبين له صلى الله عليه وسلم أنها أربعون يوما.
والعمدة في هذا على ما في حديث النواس بن سمعان وما وافقه من الأحاديث الصحيحة: أنها أربعون يوما: يوم كسنة، ويوم كشهر، ويوم كجمعة، وسائر أيامه كسائر الأيام قبله وبعده. والله أعلم.(3/75)
باب
ما جاء في قتال الدجال
قدم تقدم في (باب ما جاء في الملحمة الكبرى) حديثان في ذلك:
أولهما: حديث بن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما في قتال المسلمين للروم، وفي آخره: قال: "وبقيتهم يقاتل الدجال".
رواه عبد الرزاق في "مصنفه".
ثانيهما: حديث ابن مسعود رضي الله عنه في قتال المسلمين للروم، وفيه: «فبينما هم كذلك؛ إذ سمعوا ببأس هو أكبر من ذلك، فجاءهم الصريخ أن الدجال قد خلفهم في ذراريهم، فيرفضون ما في أيديهم ويقبلون، فيبعثون عشرة فوارس طليعة". قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إني لأعرف أسماءهم وأسماء آبائهم وألوان خيولهم، هم خير فوارس على ظهر الأرض يومئذ (زاد عبد الرزاق في روايته:) فيقاتلهم الدجال، فيستشهدون» .
وتقدم في (باب أشد الناس على الدجال) أربعة أحاديث في ذلك.
أولها: حديث أبي هريرة: أنه قال: لا أزال أحب بني تميم من ثلاث سمعتهن من رسول الله صلى الله عليه وسلم: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «هم أشد أمتي على الدجال» ..... الحديث.
رواه: الإمام أحمد، والشيخان.
ثانيها: حديث عكرمة بن خالد؛ قال: حدثني فلان من أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم؛ قال: «نال رجل من بني تميم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما، فقال: " لا تقل لبني تميم إلا خيرا؛ فإنهم أطول الناس رماحا على الدجال» .(3/76)
رواه الإمام أحمد، وإسناده صحيح على شرط مسلم.
ثالثها: حديث أبي هريرة رضي الله عنه؛ قال: «ذكرت القبائل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسألوه عن بني تميم، فقال: "ثبت الأقدام، رجح الأحلام، عظماء الهام، أشد الناس على الدجال في آخر الزمان» .
رواه الطبراني وغيره.
رابعها: حديث أبي هريرة أيضا رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «وذكر بني تميم، فقال: "هم ضخام الهام، ثبت الأقدام، نصار الحق في آخر الزمان، أشد قوما على الدجال» .
رواه البزار.
وتقدم في (باب فتنة الدجال) حديثان في ذلك:
أولهما: حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يخرج الدجال في خفقة من الدين وإدبار من العلم ... (الحديث، وفيه قال:) فيفر المسلمون إلى جبل الدخان بالشام، فيأتيهم، فيحاصرهم، فيشتد حصارهم، ويجهدهم جهدا شديدا» ... الحديث.
رواه: الإمام أحمد بإسناد صحيح، والحاكم وصححه، وقال الذهبي: "على شرط مسلم ".
ثانيهما: حديث سمرة بن جندب رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في الدجال: «وإنه يحصر المؤمنين في بيت المقدس، فيزلزلون زلزالا شديدا، ثم يهلكه الله تبارك وتعالى وجنوده» ..... الحديث.
رواه: الإمام أحمد، وأبو يعلى، وابن خزيمة، والطبراني في "الكبير"، وابن حبان في "صحيحه"، والحاكم في "مستدركه"، وقال: "صحيح على شرط(3/77)
الشيخين"، ووافقه الذهبي في "تلخيصه".
وعن نهيك بن صريم السكوني رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لتقاتلن المشركين حتى يقاتل بقيتكم الدجال على نهر الأردن: أنتم شرقيه وهو غربيه» . قال: وما أدري يومئذ أين الأردن من الأرض.
رواه: الطبراني، والبزار. قال الهيثمي: "ورجاله البزار ثقات".
وعن عمران بن حصين رضي الله عنهما؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين على من ناوأهم حتى يقاتل آخرهم المسيح الدجال» .
رواه: الإمام أحمد، وأبو داود، والحاكم، وقال: "صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي في "تلخيصه".
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الجهاد ماض منذ بعثني الله إلى أن يقاتل آخر أمتي الدجال، لا يبطله جور جائر ولا عدل عادل» .
رواه أبو داود.
وعنه رضي الله عنه: أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: «سيدرك رجال من أمتي عيسى ابن مريم، ويشهدون قتال الدجال» .
رواه: الترمذي في "كتاب العلل"، وابن خزيمة، والحاكم في "مستدركه"، والطبراني في "الأوسط". قال الهيثمي: "وفيه معاوية بن واهب، ولم أعرفه".
وعن جابر بن سمرة رضي الله عنهما عن نافع بن عتبة بن أبي وقاص رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «تغزون جزيرة العرب فيفتحها الله، ثم تغزون»(3/78)
«فارس فيفتحها الله، ثم تغزون الروم فيفتحها الله، ثم تغزون الدجال؛ فيفتحه الله» . قال: فقال نافع: يا جابر! لا نرى الدجال يخرج حتى تفتح الروم.
رواه: الإمام أحمد، ومسلم، وابن ماجه، والبخاري في "تاريخه".
وقد رواه: ابن جرير، وابن عبد البر من طريقه، والحاكم في "مستدركه"؛ من حديث جابر بن سمرة رضي الله عنهما عن هاشم بن عتبة بن أبي وقاص رضي الله عنه؛ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يظهر المسلمون على جزيرة العرب، ويظهر المسلمون على فارس، ويظهر المسلمون على الروم، ويظهر المسلمون على الأعور الدجال» .
قال البغوي: "الصواب عن نافع بن عتبة ". وقال ابن السكن: "الحديث لنافع بن عتبة؛ إلا أن يكون نافع وهاشم سمعاه جميعا".
وعن أبي هريرة رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " «إنكم ستفتحون مدينة هرقل (أو قيصر) ، وتقتسمون أموالها بالأترسة، ويسمعهم الصريخ أن الدجال قد خلفهم في أهاليهم، فيلقون ما معهم ويخرجون فيقاتلونه» .
رواه الطبراني في "الأوسط". قال الهيثمي: "ورجاله ثقات". وقد رواه: ابن أبي شيبة، ونعيم بن حماد في "الفتن"؛ بنحوه.
وعن عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه؛ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يكون للمسلمين ثلاثة أمصار: مصر بملتقى البحرين، ومصر بالحيرة ومصر بالشام، فيفزع الناس ثلاث فزعات، فيخرج الدجال في أعراض الناس، فيهزم من قبل المشرق، فأول مصر يرده المصر الذي بملتقى البحرين، فيصير أهله ثلاث فرق: فرقة تقول: نشامه ننظر ما هو، وفرقة تلحق بالأعراب، وفرقة تلحق بالمصر الذي يليهم، ومع الدجال سبعون ألفا عليهم السيجان، وأكثر تبعه»(3/79)
«اليهود والنساء، ثم يأتي المصر الذي يليه، فيصير أهله ثلاث فرق: فرقة تقول: نشامه وننظر ما هو، وفرقة تلحق بالأعراب، وفرقة تلحق بالمصر الذي يليهم بغربي الشام، وينحاز المسلمون إلى عقبة أفيق، فيبعثون سرحا لهم، فيصاب سرحهم، فيشتد ذلك عليهم، وتصيبهم مجاعة شديدة وجهد شديد» ......." الحديث.
رواه: الإمام أحمد، والطبراني، والحاكم، وسيأتي بتمامه في ذكر نزول عيسى عليه الصلاة والسلام إن شاء الله تعالى.
وعن حذيفة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في الدجال: «إنه يطلع من آخر أمره على بطن الأردن، على ثنية أفيق، وكل واحد يؤمن بالله واليوم الآخر ببطن الأردن، وإنه يقتل من المسلمين ثلثا، ويهزم ثلثا، ويبقى ثلث، فيحجز بينهم الليل، فيقول بعض المؤمنين لبعض: ما تنتظرون أن تلحقوا بإخوانكم في مرضاة ربكم» ....." الحديث.
رواه: الحاكم، وابن منده في كتاب "الإيمان"، وابن عساكر. وقال الحاكم: "صحيح على شرط مسلم "، وأقره الذهبي. وقال ابن كثير: "قال شيخنا الحافظ أبو عبد الله الذهبي في إسناد ابن منده: هذا إسناد صالح".
وسيأتي بتمامه في ذكر نزول عيسى عليه الصلاة والسلام إن شاء الله تعالى.
وعن أبي الزعراء؛ قال: كنا عند عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، فذكر عنده الدجال، فقال عبد الله بن مسعود: "تفترقون" أيها الناس لخروجه على ثلاث فرق: فرقة تتبعه، وفرقة تلحق بأرض آبائها بمنابت الشيح، وفرقة تأخذ شط الفرات؛ يقاتلهم ويقاتلونه، حتى يجتمع المؤمنون بقرى الشام، فيبعثون إليهم طليعة فيهم فارس على فرس أشقر وأبلق ". قال: "فيقتتلون فلا يرجع منهم(3/80)
بشر". قال عبد الله: "ويزعم أهل الكتاب أن المسيح عليه السلام ينزل فيقتله ".
رواه الحاكم في "مستدركه"، وقال: "صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي في موضع من "تلخيصه"، وقال في موضع آخر: "ما احتجا بأبي الزعراء".
وعن حذيفة بن أسيد رضي الله عنه: أنه قال: "الدجال يخرج في بغض من الناس وخفة من الدين وسوء ذات بين، فيرد كل منهل، فتطوى له الأرض طي فروة الكبش، حتى يأتي المدينة، فيغلب على خارجها ويمنع داخلها، ثم جبل إيلياء، فيحاصر عصابة من المسلمين، فيقول لهم الذي عليهم: ما تنتظرون بهذا الطاغية أن تقاتلوه حتى تلحقوا بالله أو يفتح لكم، فيأتمرون أن يقاتلوه إذا أصبحوا، فيصبحون ومعهم عيسى ابن مريم، فيقتل الدجال، ويهزم أصحابه، حتى إن الشجر والحجر والمدر يقول: يا مؤمن! هذا يهودي عندي؛ فاقتله".
رواه الحاكم في "مستدركه"، وقال: "صحيح الإسناد ولم يخرجاه"، وقال الذهبي في "تلخيصه": "على شرط البخاري ومسلم ".
قلت: وله حكم المرفوع؛ لأن مثله لا يقال من قبل الرأي، وإنما يقال عن توقيف.
باب
ما جاء في قتل الدجال وأتباعه
في حديث حذيفة بن أسيد رضي الله عنه المذكور آنفا: أن عيسى عليه الصلاة والسلام يقتل الدجال.(3/81)
وقد تقدم في (باب فتنة الدجال) عدة أحاديث في ذلك:
منها حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما الذي رواه الإمام أحمد وابن خزيمة والحاكم، وفيه أن عيسى عليه الصلاة والسلام يمشي إلى الدجال فيقتله، حتى إن الشجر والحجر ينادي: يا روح الله! هذا يهودي؛ فلا يترك ممن كان يتبعه أحدا إلا قتله.
ومنها حديث النواس بن سمعان رضي الله عنه، وفيه أن المسيح ابن مريم يطلب الدجال، حتى يدركه بباب لد، فيقتله.
ومنها حديث أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه، وفيه أن الدجال إذا نظر إلى عيسى عليه السلام؛ ذاب كما يذوب الملح في الماء، وينطلق هاربا، ويقول عيسى عليه السلام: إن لي فيك ضربة لن تسبقني بها، فيدركه عند باب اللد الشرقي، فيقتله، فيهزم الله اليهود، فلا يبقى شيء مما خلق الله يتوارى به يهودي إلا أنطق الله ذلك الشيء، لا حجر ولا شجر ولا حائط ولا دابة؛ إلا الغرقدة؛ فإنها من شجرهم لا تنطق؛ إلا قال: يا عبد الله المسلم! هذا يهودي؛ فتعال اقتله.
ومنها حديث سمرة بن جندب رضي الله عنه، وفيه أن عيسى عليه السلام يقتل الدجال.
ومنها حديث عبد الله بن مغفل رضي الله عنه، وفيه أن عيسى عليه السلام يقتل الدجال.
ومنها حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما، وفيه أن عيسى عليه السلام يقتل الدجال.
وتقدم في ذكر ابن صياد حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، وفيه(3/82)
«أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ قال: ائذن لي فأقتله يا رسول الله! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن يكن هو؛ فلست صاحبه، إنما صاحبه عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام» ... الحديث.
رواه الإمام أحمد بإسناد صحيح على شرط الشيخين.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لم يسلط على قتل الدجال إلا عيسى ابن مريم عليه السلام» .
رواه أبو داود الطيالسي بإسناد ضعيف. ويشهد له ما تقدم وما يأتي من الأحاديث الصحيحة.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ينزل الدجال في هذه السبخة بمر قناة، فيكون أكثر من يخرج إليه النساء، حتى إن الرجل ليرجع إلى حميمه وإلى أمه وابنته وأخته فيوثقها رباطا مخافة أن تخرج إليه، ثم يسلط الله المسلمين، فيقتلونه ويقتلون شيعته، حتى إن اليهودي ليختبئ تحت الشجرة والحجر، فيقول الحجر أو الشجرة للمسلم: هذا يهودي تحتي؛ فاقتله» .
رواه: الإمام أحمد، والطبراني في "الأوسط". قال الهيثمي: "وفيه ابن إسحاق وهو مدلس".
قلت: وحديثه حسن.
وعن مجمع بن جارية الأنصاري رضي الله عنه؛ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يقتل ابن مريم الدجال بباب لد» .
رواه: الإمام أحمد، وأبو داود الطيالسي، وابن أبي شيبة، والترمذي، وابن حبان في "صحيحه". وقال الترمذي: "هذا حديث صحيح". وفي رواية(3/83)
لأحمد: «ليقتلن ابن مريم الدجال بباب لد (أو: إلى جانب لد) » . ورواه عبد الرزاق في "مصنفه" بمثله. ورواه ابن عساكر، ولفظه: "يقتل ابن مريم الدجال دون باب لد سبع عشرة ذراعا". قال الترمذي: "وفي الباب عن عمران بن حصين ونافع بن عتبة وأبي برزة وحذيفة بن أسيد وأبي هريرة وكيسان وعثمان بن أبي العاص وجابر وأبي أمامة وابن مسعود وعبد الله بن عمرو وسمرة بن جندب والنواس بن سمعان وعمرو بن عوف وحذيفة بن اليمان رضي الله عنهم".
قلت: وقد تقدم ذكر بعض هذه الأحاديث في هذا الباب والباب قبله، ويأتي ذكر باقيها في ذكر نزول عيسى عليه الصلاة والسلام إن شاء الله تعالى.
وعن سالم عن أبيه: "أن عمر رضي الله عنه سأل يهوديا عن الدجال، فقال: وإله يهود؛ ليقتلنه ابن مريم بفناء لد".
رواه ابن أبي شيبة، وإسناده صحيح على شرط الشيخين.
وقد رواه عبد الرزاق في "مصنفه" عن معمر عن الزهري عن سالم عن أبيه: "أن عمر رضي الله عنه سأل رجلا من اليهود عن شيء، فحدثه، فصدقه عمر، فقال له عمر: قد بلوت صدقك؛ فأخبرني عن الدجال. قال: وإله اليهود؛ ليقتلنه ابن مريم بفناء لد".
إسناده صحيح على شرط الشيخين.
وقد علق أبو عبية على قوله صلى الله عليه وسلم في حديث مجمع بن جارية الأنصاري رضي الله عنه: "يقتل ابن مريم الدجال بباب لد" تعليقا ضل فيه عن الحق والصواب، فقال في (ص158) من "النهاية" لابن كثير ما نصه:
"على الرأي الذي تطمئن إليه النفس تكون إشارة الحديث إلى ما سيكون(3/84)
بإذن الله من محق الباطل الذي يمثله الدجالون الكذابون بصولة الحق الذي يمثله عيسى عليه السلام، ولعل في تحديد مكان انتصار الحق على الباطل بباب لد في فلسطين ما يبشر القلوب المؤمنة بالله الواثقة من عدالة قضيتها - قضية الإسلام والعروبة - بإذن الله عز وجل ناصر العرب والمسلمين، وخاذل اليهود المعتدين الذين يمثلون الدجال بمعناه الأوسع في تزوير الحقائق ونشر البهتان والعدوان على الناس، ويجسدون الرغبة المجنونة في سلب مقدراتهم وبلبلة أفكارهم وعقائدهم" انتهى كلامه.
والجواب عن هذا من وجهين:
أحدهما: أن يقال: قد تواترت الأحاديث عن النبى صلى الله عليه وسلم بخروج الدجال ونزول عيسى عليه الصلاة والسلام، ولا دخل للرأي فيما جاءت به الأحاديث الصحيحة، ومن عارض ما جاءت به الأحاديث الصحيحة برأيه أو برأي غيره؛ فهو على شفا هلكة.
الوجه الثاني: أن كلام أبي عبية كلام باطل، وهو من تحريف الكلم عن مواضعه كما لا يخفى على من له أدنى علم ومعرفة، والحامل لأبي عبية على هذا التحريف إنكاره لما تواترت به الأحاديث من خروج الدجال ونزول عيسى عليه الصلاة والسلام في آخر الزمان، وقد تلقى رأيه هذا عن الذين أنكروا خروج الدجال ونزول عيسى عليه الصلاة والسلام من الخوارج والجهمية وبعض المعتزلة؛ كما تقدم ذكر ذلك قريبا، وكما سيأتي إن شاء الله تعالى بعد ذكر الأحاديث المتعلقة بنزول عيسى عليه الصلاة والسلام، وتلقاه أيضا عن بعض المشايخ المنحرفين عن الحق في زماننا وقبله بقليل، وهو رأي مخالف لما عليه أهل السنة والجماعة؛ كما تقدم بيان ذلك، وكما سيأتي أيضا إن شاء الله تعالى، فيجب اطراح هذا الرأي ورده على قائله.(3/85)
باب
في تعيين الموضع الذي يقتل فيه الدجال
قد تقدم النص على ذلك في ثلاثة أحاديث عن النبى صلى الله عليه وسلم:
منها حديث النواس بن سمعان رضي الله عنه، وفيه أن المسيح ابن مريم يطلب الدجال حتى يدركه بباب لد فيقتله.
ومنها حديث أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه، وفيه أن عيسى عليه السلام يدرك الدجال عند باب اللد الشرقي فيقتله.
ومنها حديث مجمع بن جارية الأنصاري رضي الله عنه؛ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يقتل ابن مريم الدجال بباب لد» ، وفي رواية: «دون باب لد سبع عشرة ذراعا» .
وتقدم أيضا حديث عمر رضي الله عنه: "أنه سأل يهوديا عن الدجال، فقال: وإله يهود؛ ليقتلنه ابن مريم بفناء لد".
فصل
وقد اشتملت الأبواب التي في ذكر الدجال على أكثر من مائة وتسعين حديثا من الصحاح والحسان، سوى ما فيها من الأحاديث الضعيفة، وسيأتي مزيد لها في ذكر نزول عيسى عليه الصلاة والسلام إن شاء الله تعالى.
وقد تواترت هذه الأحاديث من وجوه متعددة، فتواترت في التحذير من الدجال وبيان صفته، وتواترت في ذكر فتنته والاستعاذة منه، وتواترت في حراسة المدينة منه، وتواترت في ذكر نزول عيسى وقتله الدجال.
ومع ما ذكرته فيه من الأحاديث الكثيرة التي لم تجتمع في شيء سواه؛(3/86)
فقد أنكر بعض أهل الأهواء والبدع خروجه، وتبعهم على ذلك كثير من المنتسبين إلى العلم في زماننا، ومنهم أبو عبية في تقديمه لكتاب "النهاية" لابن كثير وفي عدة تعاليق له على "النهاية"؛ فقد زعم في المقدمة أن الدجال رمز لاستشراء الفتنة واستعلاء الضلال فترة من الزمان، وقال نحو ذلك في تعليقه على (ص71) ، وفي عنوان له في (ص75) ، وفي تعليقه في (ص118 وص148 وص152 وص 158) .
والأحاديث الصحيحة مما ذكرته تضرب في نحور المنكرين لخروج الدجال، وتنادي على كثافة جهلهم، بل تنادي على عدم تحقيقهم لشهادة أن محمدا رسول الله؛ لأن من لازم تحقيقها تصديقه صلى الله عليه وسلم فيما أخبر به من الغيوب الماضية والآتية.
قال الله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} .
ولو لم يكن إلا الأمر بالاستعاذة من فتنة الدجال في آخر كل صلاة؛ لكان ذلك كافيا في إثبات خروجه والرد على من أنكر ذلك.
وقد روى عبد الرزاق في "مصنفه" عن ابن عباس رضي الله عنهما؛ قال: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو يقول: "إنه سيخرج بعدكم قوم يكذبون بالرجم، ويكذبون بالدجال، ويكذبون بالحوض، ويكذبون بعذاب القبر، ويكذبون بقوم يخرجون من النار".
في إسناده علي بن زيد بن جدعان، روى له مسلم مقرونا بآخر، وحسن الترمذي حديثه، وقال يعقوب بن شيبة: "ثقة"، وقال أحمد وأبو زرعة: "ليس بالقوي"، وبقية رجاله ثقات.
وهذا الأثر له حكم المرفوع؛ لأن فيه إخبارا عن أمر غيبي، وذلك لا يقال من قبل الرأي، وإنما يقال عن توقيف.(3/87)
قال النووي في "شرح مسلم": "قال القاضي عياض: هذه الأحاديث التي ذكرها مسلم وغيره في قصة الدجال حجة لمذهب أهل الحق في صحة وجوده، وأنه شخص بعينه، ابتلى الله به عباده، وأقدره على أشياء من مقدورات الله تعالى؛ من إحياء الميت الذي يقتله، ومن ظهور زهرة الدنيا والخصب معه، وجنته وناره ونهريه، واتباع كنوز الأرض له، وأمره السماء أن تمطر فتمطر، والأرض أن تنبت فتنبت، فيقع كل ذلك بقدرة الله تعالى ومشيئته، ثم يعجزه الله تعالى بعد ذلك؛ فلا يقدر على قتل ذلك الرجل ولا غيره، ويبطل أمره، ويقتله عيسى صلى الله عليه وسلم، ويثبت الله الذين آمنوا.
هذا مذهب أهل السنة وجميع المحدثين والفقهاء والنظار؛ خلافا لمن أنكره وأبطل أمره من الخوارج والجهمية وبعض المعتزلة، وخلافا للجبائي المعتزلي وموافقيه من الجمهية وغيرهم، في أنه صحيح الوجود، ولكن الذي يدعي مخارق وخيالات لا حقائق لها، وزعموا أنه لو كان حقا؛ لم يوثق بمعجزات الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، وهذا غلط من جميعهم؛ لأنه لم يدع النبوة، فيكون ما معه كالتصديق له، وإنما يدعي الإلهية، وهو في نفس دعواه مكذب لها بصورة حاله، ووجود دلائل الحدوث فيه، ونقص صورته، وعجزه عن إزالة العور الذي في عينيه، وعن إزالة الشاهد بكفره المكتوب بين عينيه، ولهذه الدلائل وغيرها لا يغتر به إلا رعاع من الناس؛ لسد الحاجة والفاقة؛ رغبة في سد الرمق، أو تقية وخوفا من أذاه؛ لأن فتنته عظيمة جدا، تدهش العقول، وتحير الألباب، مع سرعة مروره في الأرض؛ فلا يمكث بحيث يتأمل الضعفاء حاله ودلائل الحدوث فيه والنقص، فيصدقه من صدقه في هذه الحالة.
ولهذا؛ حذرت الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين من فتنته، ونبهوا على نقصه ودلائل إبطاله، وأما أهل التوفيق؛ فلا يغترون به، ولا يخدعون(3/88)
لما معه؛ لما ذكرناه من الدلائل المكذبة له، مع ما سبق لهم من العلم بحاله، ولهذا يقول له الذي يقتله ثم يحييه: ما ازددت فيك إلا بصيرة" انتهى.
وقال ابن كثير في "النهاية": "قد تقدم في حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما وغيره أن ماءه نار وناره ماء بارد، وإنما ذلك في نظر العين، وقد تمسك بهذا الحديث طائفة من العلماء؛ كابن حزم والطحاوي وغيرهما، في أن الدجال ممخرق مموه، لا حقيقة لما يبدي للناس من الأمور التي تشاهد في زمانه، بل كلها خيالات عند هؤلاء.
قال الشيخ أبو علي الجبائي شيخ المعتزلة: لا يجوز أن يكون كذلك حقيقة؛ لئلا يشبه خارق الساحر بخارق النبي.
وقد أجابه القاضي عياض وغيره بأن الدجال إنما يدعي الألوهية، وذلك مناف لبشريته؛ فلا يمتنع إجراء الخارق على يديه والحالة هذه.
وقد أنكرت طوائف كثيرة من الخوارج والجهمية وبعض المعتزلة خروج الدجال بالكلية، وردوا الأحاديث الواردة فيه، فلم يصنعوا شيئا، وخرجوا بذلك عن حيز العلماء؛ لردهم ما تواترت به الأخبار الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما تقدم.
والذي يظهر من الأحاديث المتقدمة أن الدجال يمتحن الله به عباده بما يخلقه معه من الخوارق المشاهدة في زمانه، كما تقدم أن من استحباب له؛ يأمر السماء فتمطر والأرض فتنبت لهم زرعا تأكل منه أنعامهم وأنفسهم وترجع إليهم مواشيهم سمانا لبنا، ومن لا يستجيب له ويرد عليه أمره؛ تصيبهم السنة والجدب والقحط والقلة وموت الأنعام ونقص الأموال والأنفس والثمرات، وأنه تتبعه كنوز الأرض كيعاسيب النحل، ويقتل ذلك الشاب ثم يحييه، وهذا كله ليس بمخرقة، بل حقيقة امتحن الله بها عباده في آخر الزمان، فيضل به كثيرا ويهدي(3/89)
به كثيرا، يكفر المرتابون، ويزداد الذين آمنوا إيمانا.
وقد حمل القاضي عياض وغيره على هذا المعنى معنى الحديث: "هو أهون على الله من ذلك"؛ أي: هو أقل من أن يكون معه ما يضل به عبادة المؤمنين، وما ذاك إلا لأنه ناقص ظاهر النقص والفجور والظلم، وإن كان معه ما معه من الخوارق، فبين عينيه مكتوب كافر كتابة ظاهرة، وقد حقق ذلك الشارع في خبره بقوله: " ك ف ر"، فقيل ذلك على أنه كتابة حسية لا معنوية كما يقول بعض الناس، وعينه الواحدة عوراء شنيعة المنظر ناتئة، وهو معنى قوله: "كأنها عنبة طافية"، وفي الآخر: "كأنها نخاعة على حائط مجصص"؛ أي: بشعة الشكل". انتهى المقصود من كلامه رحمه الله تعالى.
وقال ابن العربي: "الذي يظهر على يد الدجال من الآيات من إنزال المطر والخصب على من يصدقه والجدب على من يكذبه، واتباع كنوز الأرض له، وما معه من جنة ونار ومياه تجري؛ كل ذلك محنة من الله واختبار؛ ليهلك المرتاب، وينجو المتيقن، وذلك كله أمر مخوف، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «لا فتنة أعظم من فتنة الدجال» ، وكان يستعيذ منها في صلاته؛ تشريعا لأمته، وأما قوله في الحديث الآخر عند مسلم: «غير الدجال أخوف لي عليكم» ؛ فإنما قال ذلك للصحابة؛ لأن الذي خافه عليهم أقرب إليهم من الدجال؛ فالقريب المتيقن وقوعه لمن يخاف عليه أشد خوفا من البعيد، وإن كان أشد". انتهى.
فصل
وقد أجمع أهل السنة والجماعة على خروج الدجال في آخر الزمان، وذكروا ذلك في العقائد السلفية، وسيأتي ذكر طرف مما ذكروه في عقائدهم في الرد على شلتوت بعد ذكر الأحاديث الواردة في نزول عيسى عليه الصلاة والسلام(3/90)
إن شاء الله تعالى.
وبذلك يعلم أن من أنكر خروجه؛ فقد خالف ما عليه أهل السنة والجماعة، مع مخالفته للأحاديث الصحيحة، وكفى بذلك جهلا وضلالا عن الحق.
أبواب
ما جاء في المسيح عيسى ابن مريم عليهما الصلاة والسلام
قال ابن الأثير في "النهاية": "قد تكرر ذكر المسيح عليه السلام وذكر المسيح الدجال، أما عيسى؛ فسمي به؛ لأنه كان لا يمسح بيده ذا عاهة إلا برئ، وقيل: لأنه كان أمسح الرجل لا أخمص له، وقيل: لأنه خرج من بطن أمه ممسوحا بالدهن، وقيل: لأنه كان يمسح الأرض - أي: يقطعها -، وقيل: المسيح الصديق، وقيل: هو بالعبرانية مشيحا فعرب. وأما الدجال؛ فسمي به؛ لأن عينه الواحدة ممسوحة، ويقال: رجل ممسوح الوجه ومسيح، وهو أن لا يبقى على أحد شقي وجهه عين ولا حاجب إلا استوى، وقيل: لأنه يمسح الأرض؛ أي: يقطعها. وقال أبو الهيثم: إنه المسيح؛ بوزن سكيت، وإنه الذي مسح خلقه؛ أي: شوه، وليس بشيء" انتهى.
وقال ابن منظور في "لسان العرب": "المسيح: الصديق، وبه سمي عيسى عليه السلام. قال الأزهري: وروي عن أبي الهيثم أن المسيح الصديق.
قال أبو بكر: واللغويون لا يعرفون هذا. قال: ولعل هذا كان يستعمل في بعض الأزمان، فدرس فيما درس من الكلام. قال: وقال الكسائي: قد درس من كلام العرب كثير. قال ابن سيده: والمسيح: عيسى ابن مريم صلى الله على نبينا وعليهما؛ قيل: سمي بذلك لصدقه، وقيل: سمي به لأنه كان سائحا في الأرض(3/91)
لا يستقر، وقيل: سمي بذلك لأنه كان يمسح بيده على العليل والأكمه والأبرص فيبرئه بإذن الله. قال الأزهري: أعرب اسم المسيح في القرآن على مسيح، وهو في التوراة مشيحا، فعرب وغير؛ كما قيل: موسى، وأصله: موشى، وأنشد:
إذا المسيح يقتل المسيحا
يعني: عيسى ابن مريم يقتل الدجال بنيزكه. وقال شمر: سمي عيسى المسيح لأنه مسح بالبركة. وقال أبو العباس: سمي مسيحا لأنه كان يمسح الأرض؛ أي: يقطعها. وروي عن ابن عباس أنه كان لا يمسح بيده ذا عاهة إلا برئ. وقيل: سمي مسيحا لأنه كان أمسح الرجل، ليس لرجله أخمص. وقيل: سمي مسيحا لأنه خرج من بطن أمه ممسوحا بالدهن، والمسيح الكذاب الدجال، وسمي الدجال مسيحا؛ لأن عينه ممسوحة عن أن يبصر بها، وسمي عيسى مسيحا اسم خصه الله به ولمسح زكريا إياه. وروي عن أبي الهيثم أنه قال: المسيح ابن مريم الصديق، وضد الصديق المسيح الدجال؛ أي: الضليل الكذاب، خلق الله المسيحَيْنِ، أحدهما ضد الآخر، فكان المسيح ابن مريم يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن الله، وكذلك الدجال يحيي الميت ويميت الحي وينشئ السحاب وينبت النبات بإذن الله؛ فهما مسيحان: مسيح الهدى، ومسيح الضلالة. قال المنذري: فقلت له: بلغني أن عيسى إنما سمي مسيحا؛ لأنه مسح بالبركة، وسمي الدجال مسيحا؛ لأنه ممسوح العين. فأنكره وقال: إنما المسيح ضد المسيح؛ يقال: مسحه الله؛ أي: خلقه خلقا مباركا حسنا، ومسحه الله؛ أي: خلقه خلقا قبيحا ملعونا. وفي الحديث: أما مسيح الضلالة؛ فكذا. فدل هذا الحديث على أن عيسى مسيح الهدى، وأن الدجال مسيح الضلالة. وروى بعض المحدثين المسيح؛ بكسر الميم والتشديد في الدجال؛ بوزن سكيت. قال ابن الأثير: قال أبو الهيثم: إنه الذي مسح خلقه؛ أي: شوه. قال: وليس بشيء". انتهى.(3/92)
باب
ما جاء في نزول عيسى إلى الأرض
وقد أخبر الله بذلك في آيتين من القرآن، وأشار إليه في آية ثالثة:
أما الآية الأولى؛ فهي قول الله تعالى: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} ؛ أي: قبل موت عيسى عليه الصلاة والسلام على القول الصحيح، اختاره ابن جرير وابن كثير رحمهما الله تعالى، وهو قول أبي هريرة، ورواية سعيد بن جبير والعوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما، وبه قال أبو مالك والحسين وقتادة وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وغيرهم.
وروى ابن جرير بإسناد صحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} ؛ قال: "قبل موت عيسى ابن مريم ".
وروى الحاكم في "مستدركه" عن ابن عباس رضي الله عنهما: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} ؛ قال: "خروج عيسى ابن مريم صلوات الله عليه".
قال الحاكم: "صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي في "تلخيصه".
وروى أبو بكر الآجري في "كتاب الشريعة" عن ابن عباس رضي الله عنهما في قول الله عز وجل: " {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} ؛ يعني: أنه سيدركه أناس من أهل الكتاب حين يبعث عيسى ابن مريم عليه السلام فيؤمنوا به {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا} ".
وسيأتي حديث أبو هريرة رضي الله عنه مرفوعا: "يوشك أن ينزل فيكم ابن مريم حكما عدلا.... الحديث، وفيه: قال أبو هريرة: اقرؤوا إن شئتم:(3/93)
{وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} : موت عيسى ابن مريم، ثم يعيدها أبو هريرة ثلاث مرات.
رواه ابن مردويه.
وروى ابن جرير من طريق أبي رجاء عن الحسن: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} ؛ قال: "قبل موت عيسى، والله إنه لحي الآن عند الله، ولكن إذا نزل؛ آمنوا به أجمعون".
وروى أبو بكر الآجري في "كتاب الشريعة" عن أبي مالك في قول الله عز وجل: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} ؛ قال: "ذلك عند نزول عيسى ابن مريم عليه السلام، لا يبقى أحد من أهل الكتاب إلا آمن به".
وروى ابن أبي حاتم من طريق جويرية بن بشير؛ قال: "سمعت رجلا قال للحسن: يا أبا سعيد! قول الله عز وجل {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} ؛ قال: قبل موت عيسى، إن الله رفع إليه عيسى، وهو باعثه قبل يوم القيامة مقاما يؤمن به البر والفاجر".
وفي معنى هذه الآية ما سيأتي في حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله قال مخبرا عن المسيح: «ويهلك الله في زمانه الملل كلها إلا الإسلام» ، وقوله في الحديث الآخر: «وحتى تكون السجدة واحدة لله رب العالمين» ، وقوله في حديث أبي أمامة رضي الله عنه: «وتكون الكلمة واحدة فلا يعبد إلا الله» ، رواه ابن ماجه وغيره، وتقدم في (باب ما جاء في فتنة الدجال) ؛ فهذه الأحاديث تؤيد القول الصحيح أن المراد قبل موت عيسى. والله أعلم.
وأما الآية الثانية؛ فهي قول الله تعالى: {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ} ، وقرأ ابن عباس وأبو هريرة وقتادة والأعمش: (وإنه لَعَلَمٌ للساعة) ؛ بفتح اللام والعين؛(3/94)
أي: أمارة وعلامة على اقتراب الساعة.
قال مجاهد: "أي: آية للساعة خروج عيسى ابن مريم عليه السلام قبل يوم القيامة".
وروى: الإمام أحمد، وسعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن أبي حاتم، والطبراني، والحاكم في "مستدركه"؛ عن ابن عباس رضي الله عنهما: {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ} ؛ قال: "هو خروج عيسى ابن مريم عليه السلام قبل يوم القيامة".
قال الحاكم: "صحيح الإسناد ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي في "تلخيصه"، وقد روي مرفوعا كما سأذكر إن شاء الله تعالى.
وروى ابن جرير من طرق عن ابن عباس رضي الله عنهما: {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ} ؛ قال: "نزول عيسى ".
وروى عبد بن حميد عن أبي هريرة رضي الله عنه: {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ} ؛ قال: "خروج عيسى، يمكث في الأرض أربعين سنة، تكون تلك الأربعون كأربع سنين؛ يحج ويعتمر".
وروى عبد بن حميد أيضا وابن جرير عن مجاهد: {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ} : خروج عيسى ابن مريم قبل يوم القيامة.
وروى عبد بن حميد وابن جرير أيضا عن الحسين: {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ} ؛ قال: "نزول عيسى ".
وروى عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير عن قتادة: {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ} ؛ قال: "نزول عيسى علم للساعة".
وهكذا روي عن أبي العالية وأبي مالك وعكرمة والضحاك وغيرهم.(3/95)
وأما الآية الثالثة؛ فهي قول الله تعالى: {فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} .
قال مجاهد: "حتى ينزل عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام".
ذكره ابن كثير في "تفسيره"؛ قال: "وكأنه أخذه من قوله صلى الله عليه وسلم: «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق حتى يقاتل آخرهم الدجال» .
قلت: هذا الحديث رواه: الإمام أحمد، وأبو داود، والحاكم؛ عن عمران بن حصين رضي الله عنهما، وتقدم ذكره في (باب فتنة الدجال) .
وقال البغوي: "معنى الآية: أثخنوا المشركين بالقتل والأسر، حتى يدخل أهل الملل كلها في الإسلام، ويكون الدين كله لله، فلا يكون بعده جهاد ولا قتال، وذلك عند نزول عيسى ابن مريم عليهما السلام".
وجاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: «الجهاد ماض منذ بعثني الله إلى أن يقاتل آخر أمتي الدجال» .
قلت: هذا الحديث رواه أبو داود من حديث أنس رضي الله عنه، وتقدم ذكره في (باب قتال الدجال) .
وروى الفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والبيهقي في "سننه" عن مجاهد في قوله: {حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} ؛ قال: "حتى يخرج عيسى ابن مريم عليه السلام، فيسلم كل يهودي ونصراني وصاحب ملة، وتأمن الشاة من الذئب، ولا تقرض فأرة جرابا، وتذهب العداوة من الناس كلها، ذلك ظهور الإسلام على الدين كله، وينعم الرجل المسلم حتى تقطر رجله دما إذا وضعها".(3/96)
وروى عبد بن حميد أيضا عن سعيد بن جبير: {حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} ؛ قال: "خروج عيسى ابن مريم عليه السلام".
وروى: الإمام أحمد بإسناد صحيح، وعبد بن حميد، وابن أبي حاتم، والطبراني، وابن مردويه؛ عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ قال: «يوشك من عاش منكم أن يلقى عيسى ابن مريم إماما مهديا وحكما عدلا، فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، وتضع الحرب أوزارها» .
وقد تقدم حديث أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه في خروج الدجال ونزول عيسى عليه الصلاة والسلام، وفيه: "وتضع الحرب أوزارها".
رواه: ابن ماجه، وابن خزيمة، والحافظ الضياء المقدسي.
فصل
وقد تواترت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أخبر بنزول عيسى عليه الصلاة والسلام في آخر الزمان، وقد تقدم في (باب ما جاء في الآيات الكبار) حديثان في ذلك:
أحدهما: حديث حذيفة بن أسيد الغفاري رضي الله عنه؛ قال: «اطلع النبي صلى الله عليه وسلم علينا ونحن نتذاكر، فقال: "ما تذاكرون؟ ". قالوا: نذكر الساعة. قال: "إنها لن تقوم حتى تروا قبلها عشر آيات: (فذكر) الدخان، والدجال، والدابة، وطلوع الشمس من مغربها، ونزول عيسى ابن مريم صلى الله عليه وسلم، ويأجوج ومأجوج، وثلاثة خسوف: خسف بالمشرق، وخسف بالمغرب، وخسف بجزيرة العرب، وآخر ذلك نار تخرج من اليمن تطرد الناس إلى محشرهم» .
رواه: الإمام أحمد، وأبو داود الطيالسي، ومسلم واللفظ له، وأهل(3/97)
السنن. وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح".
الثاني: حديث وائلة بن الأسقع رضي الله عنه؛ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: فذكر نحو حديث حذيفة بن أسيد رضي الله عنه.
رواه: الطبراني، وابن مردويه، والحاكم وصححه ووافقه الذهبي على ذلك.
وتقدم في ذكر ابن صياد حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، وفيه «أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: ائذن لي فأقتله يا رسول الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن يكن هو؛ فلست صاحبه، إنما صاحبه عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام» .... الحديث.
رواه الإمام أحمد بإسناد صحيح على شرط الشيخين.
وتقدم في (باب قصة المؤمن مع الدجال) حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وفيه: "وينزل عيسى ابن مريم، فإذا رآه - يعنى الدجال - ووجد ريحه؛ ذاب كما يذوب الرصاص".
رواه مسدد موقوفا. قال البوصيري: "ورواته ثقات".
وتقدم في (باب ما جاء في فتنة الدجال) خمسة أحاديث في ذلك:
أولها: حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يخرج الدجال في خفقة من الدين وإدبار من العلم (فذكر الحديث، وفيه:) ثم ينزل عيسى ابن مريم، فينادي من السحر، فيقول: يا أيها الناس! ما يمنعكم أن تخرجوا إلى الكذاب الخبيث؟ فيقولون: هذا رجل جني. فينطلقون؛ فإذا هم بعيسى ابن مريم صلى الله عليه وسلم، فتقام الصلاة، فيقال له: تقدم يا روح الله. فيقول: ليتقدم إمامكم فليصل بكم. فإذا صلى صلاة الصبح؛ خرجوا»(3/98)
«إليه". قال: "فحين يراه الكذاب؛ ينماث كما ينماث الملح في الماء، فيمشي إليه، فيقتله، حتى إن الشجر والحجر ينادي: يا روح الله! هذا يهودي. فلا يترك ممن كان يتبعه أحدا إلا قتله» .
رواه الإمام أحمد، وإسناده صحيح على شرط الشيخين، وروى ابن خزيمة طرفا منه في "كتاب التوحيد"، وإسناده صحيح على شرط الشيخين، ورواه الحاكم مختصرا وصححه، وقال الذهبي: "على شرط مسلم ".
ثانيها: حديث النواس بن سمعان الكلابي رضي الله عنه؛ قال: «ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الدجال ذات غداة.... فذكر الحديث بطوله، وفيه: "فبينما هو كذلك؛ إذ بعث الله المسيح ابن مريم، فينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق بين مهرودتين، واضعا كفيه على أجنحة ملكين، إذا طأطأ رأسه؛ قطر، وإذا رفعه؛ تحدر منه جمان كاللؤلؤ، فلا يحل لكافر يجد ريح نفسه؛ إلا مات، ونفسه ينتهي حيث ينتهي طرفه، فيطلبه حتى يدركه بباب لد فيقتله، ثم يأتي عيسى ابن مريم قوم قد عصمهم الله منه، فيمسح عن وجوههم، ويحدثهم بدرجاتهم في الجنة (ثم ذكر خروج يأجوج ومأجوج وهلاكهم بسبب دعاء عيسى وأصحابه عليهم ... إلى أن قال:) ثم يرسل الله مطرا لا يكن منه بيت مدر ولا وبر، فيغسل الأرض، حتى يتركها كالزلفة، ثم يقال للأرض: أنبتي ثمرتك وردي بركتك. فيومئذ تأكل العصابة من الرمانة، ويستظلون بقحفها، ويبارك في الرسل، حتى إن اللقحة من الإبل لتكفي الفئام من الناس، واللقحة من البقر لتكفي القبيلة من الناس، واللقحة من الغنم لتكفي الفخذ من الناس» ... الحديث.
رواه: الإمام أحمد، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه، وقال الترمذي: "هذا حديث غريب حسن صحيح".(3/99)
ثالثها: حديث أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه؛ قال: «خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان أكثر خطبته حديثا حدثناه عن الدجال وحذرناه.... فذكر الحديث بطوله، وفيه: فقالت أم شريك بنت أبي العكر: يا رسول الله! فأين العرب يومئذ؟ قال: "هم يومئذ قليل، وجلهم ببيت المقدس، وإمامهم رجل صالح، فبينما إمامهم قد تقدم يصلي بهم الصبح؛ إذ نزل عليهم عيسى ابن مريم الصبح، فرجع ذلك الإمام ينكص يمشي القهقرى ليتقدم عيسى يصلي بالناس، فيضع عيسى يده بين كتفيه، ثم يقول له: تقدم فصل؛ فإنها لك أقيمت. فيصلي بهم إمامهم، فإذا انصرف؛ قال عيسى عليه السلام: افتحوا الباب. فيفتح، ووراءه الدجال، معه سبعون ألف يهودي، كلهم ذو سيف محلى وساج، فإذا نظر إليه الدجال؛ ذاب كما يذوب الملح في الماء، وينطلق هاربا، ويقول عيسى عليه السلام: إن لي فيك ضربة لن تسبقني بها، فيدركه عند باب اللد الشرقي، فيقتله، فيهزم الله اليهود، فلا يبقى شيء مما خلق الله يتوارى به يهودي؛ إلا أنطق الله ذلك الشيء لا حجر ولا شجر ولا حائط ولا دابة إلا الغرقدة فإنها من شجرهم لا تنطق؛ إلا قال: يا عبد الله المسلم! هذا يهودي فتعال اقتله". قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فيكون عيسى ابن مريم عليه السلام في أمتي حكما عجلا وإماما مقسطا؛ يدق الصليب، ويذبح الخنزير، ويضع الجزية، ويترك الصدقة، فلا يسعى على شاة ولا بعير، وترفع الشحناء والتباغض، وتنزع حمة كل ذات حمة، حتى يدخل الوليد يده في الحية فلا تضره، وتفر الوليدة الأسد فلا يضرها، ويكون الذئب في الغنم كأنه كلبها، وتملأ الأرض من السلم كما يملأ الإناء من الماء، وتكون الكلمة واحدة؛ فلا يعبد إلا الله، وتضع الحرب أوزارها، وتسلب قريش ملكها، وتكون الأرض كفاثور الفضة، تنبت نباتها بعهد آدم، حتى يجتمع النفر على القطف من العنب فيشبعهم، ويجتمع النفر على الرمانة فتشبعهم، ويكون الثور بكذا وكذا من المال، وتكون الفرس»(3/100)
«بالدريهمات". قالوا: يا رسول الله! وما يرخص الفرس؟ قال: "لا تركب لحرب أبدا". قيل له: فما يغلي الثور؟ قال: "تحرث الأرض كلها» ..... الحديث.
رواه: ابن ماجه، وابن خزيمة، والحافظ الضياء المقدسي.
رابعها: حديث سمرة بن جندب رضي الله عنه: أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: «إن الدجال خارج.... (الحديث، وفيه:) فيلبث في الأرض ما شاء الله، ثم يجيء عيسى ابن مريم عليهما السلام من قبل المغرب مصدقا بمحمد صلى الله عليه وسلم وعلى ملته، فيقتل الدجال، ثم إنما هو قيام الساعة» .
رواه الإمام أحمد، وإسناده صحيح على شرط الشيخين، والطبراني. قال الهيثمي: "رجاله رجال الصحيح".
قوله: "من قبل المغرب"؛ أي: مغرب أهل المدينة، وهو الشام، والله أعلم.
خامسها: حديث عبد الله بن مغفل رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أهبط الله تعالى إلى الأرض منذ خلق آدم إلى أن تقوم الساعة فتنة أعظم من فتنة الدجال ... (الحديث، وفيه:) ثم ينزل عيسى ابن مريم مصدقا بمحمد صلى الله عليه وسلم على ملته إماما مهديا وحكما عدلا، فيقتل الدجال» .
رواه الطبراني في "الكبير" و"الأوسط". قال الهيثمي: "ورجاله ثقات، وفي بعضهم ضعف لا يضر".
وتقدم في (باب قتال الدجال) حديثان في ذلك:
أحدهما: حديث أنس بن مالك رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «سيدرك رجل من أمتي عيسى ابن مريم ويشهدون قتال الدجال» .
رواه: الترمذي في كتاب "العلل"، وابن خزيمة، والحاكم، والطبراني.(3/101)
الثاني: حديث حذيفة بن أسيد رضي الله عنه: أنه قال: «الدجال يخرج في بغض من الناس وخفة من الدين وسوء ذات بين، فيرد كل منهل، فتطوى له الأرض طي فروة الكبش، حتى يأتي المدينة، فيغلب على خارجها، ويمنع داخلها، ثم جبل إيلياء، فيحاصر عصابة من المسلمين، فيقول لهم الذي عليهم: ما تنتظرون بهذا الطاغية أن تقاتلوه حتى تلحقوا بالله أو يفتح لكم، فيأتمرون أن يقاتلوه إذا أصبحوا، فيصبحون ومعهم عيسى ابن مريم، فيقتل الدجال، ويهزم أصحابه، حتى إن الشجر والحجر والمدر يقول: يا مؤمن! هذا يهودي عندي؛ فاقتله» .
رواه الحاكم في "مستدركه"، وقال "صحيح الإسناد ولم يخرجاه"، وقال الذهبي في "تلخيصه": "على شرط البخاري ومسلم ".
قلت: وله حكم المرفوع؛ لأن مثله لا يقال من قبل الرأي، وإنما يقال عن توقيف.
وتقدم في (باب قتال الدجال) حديثان في ذلك:
أحدهما: حديث أبي هريرة رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لم يسلط على قتل الدجال إلا عيسى ابن مريم عليه السلام» .
رواه أبو داود الطيالسي في "مسنده".
الثاني: حديث مجمع بن جارية الأنصاري رضي الله عنه؛ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يقتل ابن مريم الدجال بباب لد» .
رواه: الإمام أحمد، وأبو داود الطيالسي، والترمذي، وابن حبان في "صحيحه". وقال الترمذي: "هذا حديث صحيح". قال: "وفي الباب عن عمران بن حصين ونافع بن عتبة وأبي برزة وحذيفة بن أسيد وأبي هريرة وكيسان(3/102)
وعثمان بن أبي العاص وجابر وأبي أمامة وابن مسعود وعبد الله بن عمرو وسمرة بن جندب والنواس بن سمعان وعمرو بن عوف وحذيفة بن اليمان رضي الله عنهم".
وعن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده؛ ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكما عدلا، فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويفيض المال حتى لا يقبله أحد، حتى تكون السجدة الواحدة خيرا من الدنيا وما فيها» . ثم يقول أبو هريرة: واقرؤوا إن شئتم: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا} .
رواه الشيخان. وقد رواه: الإمام أحمد، وأبو داود الطيالسي، والترمذي، وابن ماجه مختصرا. وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح".
ورواه ابن مردويه ولفظه: «"يوشك أن ينزل فيكم ابن مريم حكما عدلا؛ يقتل الدجال، ويقتل الخنزير، ويكسر الصليب، ويضع الجزية، ويفيض المال، وتكون السجدة واحدة لله رب العالمين".» قال أبو هريرة: اقرؤوا إن شئتم: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} ؛ موت عيسى ابن مريم. ثم يعيدها أبو هريرة ثلاث مرات.
وعن عطاء بن ميناء عن أبي هريرة رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والله لينزلن ابن مريم حكما عادلا، فليكسرن الصليب، وليقتلن الخنزير، وليضعن الجزية، ولتتركن القلاص فلا يسعى عليها، ولتذهبن الشحناء والتباغض والتحاسد، وليدعون إلى المال؛ فلا يقبله أحد» .
رواه: الإمام أحمد، ومسلم، وأبو بكر الآجري في "كتاب الشريعة".
وعن محمد بن سيرين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ قال:(3/103)
«يوشك من عاش منكم أن يلقى عيسى ابن مريم إماما مهديا وحكما عدلا، فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، وتضع الحرب أوزارها» .
رواه: الإمام أحمد بإسناد صحيح، وعبد بن حميد، وابن أبي حاتم، والطبراني، وابن مردويه.
وعن عبد الرحمن بن آدم عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الأنبياء إخوة لعلات، أمهاتهم شتى ودينهم واحد، وإني أولى الناس بعيسى ابن مريم؛ لأنه لم يكن نبي بيني وبينه، وإنه نازل؛ فإذا رأيتموه؛ فاعرفوه، رجل مربوع إلى الحمرة والبياض، عليه ثوبان ممصران، كأن رأسه يقطر وإن لم يصبه بلل، فيدق الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويدعو الناس إلى الإسلام، ويهلك الله في زمانه الملل كلها إلا الإسلام، ويهلك الله في زمانه المسيح الدجال، ثم تقع الأمانة على الأرض، حتى ترتع الأسود مع الإبل، والنمار مع البقر، والذئاب مع الغنم، ويلعب الصبيان بالحيات لا تضرهم، فيمكث أربعين سنة، ثم يتوفى ويصلي عليه المسلمون» .
رواه: الإمام أحمد وهذا لفظه، وأبو داود الطيالسي، وأبو داود السجستاني، وابن جرير، وابن حبان في "صحيحه"، والحاكم في "مستدركه"، وأبو بكر الآجري في "كتاب الشريعة". وقال الحاكم: "صحيح الإسناد ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي في "تلخيصه".
وفي رواية أبي داود السجستاني وابن جرير والآجري: "ويقاتل الناس على الإسلام". وعند الآجري: "ويهلك الله في إمارته"؛ بدل: "زمانه"؛ في الموضعين كليهما. وعند الحاكم في أوله: "إن روح الله عيسى ابن مريم نازل فيكم، فإذا رأيتموه؛ فاعرفوه". وعند أحمد في رواية أخرى وأبي داود الطيالسي: "ثم يتوفى، فيصلي عليه المسلمون ويدفنونه".(3/104)
وعن زياد بن سعد عن أبي هريرة رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ينزل عيسى ابن مريم إماما عادلا وحكما مقسطا، فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويرجع السلم، وتتخذ السيوف مناجل، وتذهب حمة كل ذات حمة، وتنزل السماء رزقها، وتخرج الأرض بركتها، حتى يلعب الصبي بالثعبان فلا يضره، ويراعي الغنم الذئب فلا يضرها، ويراعي الأسد البقر فلا يضرها» .
رواه الإمام أحمد، ورجاله رجال الصحيح.
(المناجل) : جمع منجل، وهو الآلة التي يقطع بها الحشيش ويحصد بها الزرع. قال ابن الأثير: "ومنه الحديث: "وتتخذ السيوف مناجل": أراد أن الناس يتركون الجهاد ويشتغلون بالحرث والزراعة". وكذا قال ابن منظور في "لسان العرب"؛ قال: "ومنه قيل للحديدة ذات الأسنان: منجل، والمنجل ما يحصد به". انتهى.
وقوله: "وتذهب حمة كل ذات حمة": (الحمة) ؛ بالتخفيف: السم؛ أي: ينزع سم كل دابة ذات سم، وقد تقدم تفسيره في حديث أبي أمامة الطويل في ذكر خروج الدجال.
وقد صحف أبو عبية هذا الحرف تصحيفا عجيبا، فقال في تعليقه على "النهاية" لابن كثير في (ص 169) ما نصه: " (الجمة) : الشعر المجموع في مقدم الرأس، ولعل المراد بإذهاب جمة كل ذات جمة: هو تخليص المجتمع من تصفيفات الشعر المختلفة التي تربط بالفتيات العيون الرغيبة والنفوس الشهوانية ... (إلى أن قال:) وشمل الحديث رؤوس أولئك الفتيان المتأنثين المتخنثين المتخنفسين...." إلى آخر كلامه في هذا المعنى البعيد كل البعد عما ذكر في هذا الحديث.
وغفل أبو عبية عن قوله في هذا الحديث: "حتى يلعب الصبي بالثعبان(3/105)
فلا يضره"، وغفل أيضا عما في حديث أبي أمامة الطويل، وهو في النسخة التي علق عليها من (ص 111) إلى (ص 115) ، وفيه: "وتنزع حمة كل ذات حمة، حت يدخل الوليد يده في في الحية؛ فلا تضره".
وعن أبي هريرة أيضا رضي الله عنه مرفوعا: «"طوبى لعيش بعد المسيح، يؤذن للسماء في القطر، ويؤذن للأرض في النبات، حتى لو بذرت حبك في الصفا؛ لنبت، وحتى يمر الرجل على الأسد؛ فلا يضره، ويطأ على الحية؛ فلا تضره، ولا تشاح، ولا تحاسد، ولا تباغض".»
رواه: أبو نعيم، وأبو سعيد النقاش في "فوائد العراقيين".
«وعن عائشة رضي الله عنها؛ قالت: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أبكي، فقال لي: "ما يبكيك؟ ". قلت: يا رسول الله! ذكرت الدجال فبكيت. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن يخرج الدجال وأنا حي؛ كفيتكموه، وإن يخرج الدجال بعدي؛ فإن ربكم عز وجل ليس بأعور، إنه يخرج في يهودية أصبهان، حتى يأتي المدينة، فينزل ناحيتها، ولها يؤمئذ سبعة أبواب، على كل نقب منها ملكان، فيخرج إليه شرار أهلها، حتى يأتي فلسطين باب لد، فينزل عيسى عليه السلام، فيقتله، ثم يمكث عيسى عليه السلام في الأرض أربعين سنة إماما عدلا وحكما مقسطا ".
» رواه: الإمام أحمد بإسناد جيد، وابن حبان في "صحيحه".
وعن عاصم بن كليب عن أبيه؛ قال: سمعت أبا هريرة رضي الله عنه يقول: أحدثكم ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم الصادق المصدوق: «إن الأعور الدجال مسيح الضلالة يخرج من قبل المشرق في زمان اختلاف من الناس وفرقة، فيبلغ ما شاء الله أن يبلغ من الأرض في أربعين يوما، الله أعلم ما مقدارها، الله أعلم ما مقدارها (مرتين) ، وينزل عيسى ابن مريم، فيؤمهم، فإذا»(3/106)
«رفع رأسه من الركعة؛ قال: سمع الله لمن حمده؛ قتل الله الدجال، وأظهر المؤمنين» .
رواه ابن حبان في "صحيحه".
ورواه البزار بنحوه، وزاد بعد قوله: "الله أعلم ما مقدارها": "فيلقى المؤمنون شدة شديدة، ثم ينزل عيسى ابن مريم صلى الله عليه وسلم من السماء، فيؤم الناس، فإذا رفع رأسه من ركعته؛ قال: سمع الله لمن حمده؛ قتل الله المسيح الدجال، وظهر المؤمنون"، فأحلف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا القاسم الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم قال: (إنه لحق، وأما أنه قريب، فكل ما هو آت قريب".
قال الهيثمي: "رجاله رجال الصحيح غير علي بن المنذر وهو ثقة". وقال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري": "أخرجه البزار بسند جيد".
وعن سهيل عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تقوم الساعة حتى ينزل الروم بالأعماق أو بدابق، فيخرج إليهم جيش من المدينة من خيار أهل الأرض يومئذ، فإذا تصافوا؛ قالت الروم: خلوا بيننا وبين الذين سبوا منا نقاتلهم، فيقول المسلمون: لا والله؛ لا نخلي بينكم وبين إخواننا. فيقاتلونهم، فيهزم ثلث لا يتوب الله عليهم أبدا، ويقتل ثلثهم أفضل الشهداء عند الله، ويفتح الثلث لا يفتنون أبدا، فيفتتحون قسطنطينية، فبينما هم يقتسمون الغنائم قد علقوا سيوفهم بالزيتون؛ إذ صاح فيهم الشيطان: إن المسيح قد خلفكم في أهليكم! فيخرجون، وذلك باطل، فإذا جاؤوا الشام؛ خرج، فبينما هم يعدون للقتال يسوون الصفوف؛ إذ أقيمت الصلاة، فينزل عيسى ابن مريم صلى الله عليه وسلم، فأمهم، فإذا رآه عدو الله؛ ذاب كما يذوب الملح في الماء، فلو تركه؛ لانذاب حتى يهلك، ولكن يقتله الله بيده، فيريهم دمه في حربته» .(3/107)
رواه مسلم.
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما؛ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة". قال: "فينزل عيسى ابن مريم، فيقول أميرهم: تعال صل بنا، فيقول: لا؛ إن بعضكم على بعض أمراء؛ تكرمة الله هذه الأمة» .
رواه: الإمام أحمد، ومسلم.
وعن عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه؛ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يكون للمسلمين ثلاثة أمصار: مصر بملتقى البحرين، ومصر بالحيرة، ومصر بالشام، فيفزع الناس ثلاث فزعات، فيخرج الدجال في أعراض الناس، فيهزم من قبل المشرق، فأول مصر يرده المصر الذي بملتقى البحرين، فيصير أهله ثلاث فرق: فرقة تقول: نشامه ننظر ما هو، وفرقة تلحق بالأعراب، وفرقة تلحق بالمصر الذي يليهم، ومع الدجال سبعون ألفا عليهم السيجان، وأكثر تبعه اليهود والنساء، ثم يأتي المصر الذي يليه، فيصير أهله ثلاث فرق: فرقة تقول: نشامه وننظر ما هو، وفرقة تلحق بالأعراب، وفرقة تلحق بالمصر الذي يليهم بغربي الشام، وينحاز المسلمون إلى عقبة أفيق، فيبعثون سرحا لهم، فيصاب سرحهم، فيشتد ذلك عليهم، وتصيبهم مجاعة شديدة وجهد شديد، حتى إن أحدهم ليحرق وتر قوسه فيأكله، فبينما هم كذلك؛ إذ نادى مناد من السحر: يا أيها الناس! أتاكم الغوث؛ ثلاثا، فيقول بعضهم لبعض: إن هذا لصوت رجل شبعان، وينزل عيسى ابن مريم عليه السلام عند صلاة الفجر، فيقول له أميرهم: يا روح الله! تقدم صل. فيقول: هذه الأمة أمراء بعضهم على بعض، فيتقدم أميرهم فيصلي، فإذا قضى صلاته؛ أخذ عيسى حربته، فيذهب نحو الدجال؛ فإذا رآه الدجال؛ ذاب كما يذوب الرصاص، فيضع حربته بين ثندوته، فيقتله،»(3/108)
«وينهزم أصحابه؛ فليس يومئذ شيء يواري منهم أحدا، حتى إن الشجرة لتقول: يا مؤمن! هذا كافر، ويقول الحجر: يا مؤمن! هذا كافر» .
رواه: الإمام أحمد، والطبراني. قال الهيثمي: "وفيه علي بن زيد، وفيه ضعف، وقد وثق، وبقية رجالهما رجال الصحيح". وقد رواه الحاكم في "مستدركه" بنحوه.
وعن أبي حازم الأشجعي عن ربعي بن حراش عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنا أعلم بما مع الدجال منه، معه نهران: أحدهما نار تأجج في عين من رآه، والآخر ماء أبيض، فإن أدركه منكم أحد؛ فليغمض وليشرب من الذي يراه نارا؛ فإنه ماء بارد، وإياكم والآخر؛ فإنه فتنة، واعلموا أنه مكتوب بين عينيه كافر، يقرؤه من يكتب ومن لا يكتب، وأن إحدى عينيه ممسوحة عليها ظفرة، وأنه يطلع من آخر أمره على بطن الأردن على ثنية أفيق، وكل واحد يؤمن بالله واليوم الآخر ببطن الأردن، وأنه يقتل من المسلمين ثلثا، ويهزم ثلثا، ويبقى ثلث، فيحجز بينهم الليل، فيقول بعض المؤمنين لبعض: ما تنتظرون أن تلحقوا بإخوانكم في مرضاة ربكم؟! من كان عنده فضل طعام؛ فليعد به على أخيه، وصلوا حين ينفجر الفجر، وعجلوا الصلاة، ثم أقبلوا على عدوكم، فلما قاموا يصلون؛ نزل عيسى ابن مريم صلوات الله عليه وإمامهم يصلي بهم، فلما انصرف؛ قال: هكذا أفرجوا بيني وبين عدو الله (قال أبو حازم: قال أبو هريرة رضي الله عنه: فيذوب كما تذوب الإهالة في الشمس. وقال عبد الله بن عمرو: كما يذوب الملح في الماء) ، وسلط الله عليهم المسلمين، فيقتلونهم، حتى إن الشجر والحجر لينادي: يا عبد الله! يا عبد الرحمن! يا مسلم! هذا يهودي فاقتله، فيفنيهم الله، ويظهر المسلمون، فيكسرون الصليب، ويقتلون الخنزير، ويضعون الجزية، فبينما»(3/109)
«هم كذلك؛ إذ أخرج الله يأجوج ومأجوج، فيشرب أولهم البحيرة ويجيء آخرهم وقد أنشفوها فما يدعون فيها قطرة، فيقولون: ظهرنا على أعدائنا، قد كان هاهنا أثر ماء، فيجيء نبي الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وراءه حتى يدخلوا مدينة من مدائن فلسطين يقال لها: لد، فيقولون: ظهرنا على من في الأرض، فتعالوا نقاتل من في السماء. فيدعو الله نبيه صلى الله عليه وسلم عند ذلك، فيبعث الله عليهم قرحة في حلوقهم، فلا يبقى منهم بشر، فيؤذي ريحهم المسلمين، فيدعو عيسى صلوات الله عليه عليهم، فيرسل الله عليهم ريحا، فتقذفهم في البحر أجمعين» .
رواه: الحاكم، وابن منده في "كتاب الإيمان"، وابن عساكر، وقال الحاكم: "صحيح على شرط مسلم "، وأقره الذهبي.
وقال ابن كثير في "النهاية": "قال شيخنا الحافظ أبو عبد الله الذهبي في إسناد ابن منده: هذا إسناد صالح". قال ابن كثير: "وفيه سياق غريب وأشياء منكرة".
وقد زعم أبو عبية أن هذا حديث خرافة؛ قال: "ولو صح الإسناد عند الذهبي؛ فإن المتن غير صالح بمبناه ولا بمعناه، ورضي الله عن الإمام ابن كثير حيث رفضه".
والجواب أن يقال: قد صحح هذا الحديث الحاكم، وأقره الذهبي، وهو من حفاظ الحديث ونقاده، ولبعضه شواهد مما تقدم من الأحاديث الصحيحة. وعلى هذا؛ فقدح أبي عبية فيه مردود؛ لأنه قدح بغير حجة.
وقد أخطأ أيضا في زعمه أن ابن كثير رحمه الله تعالى قد رفض هذا الحديث؛ لأن ابن كثير لم يقل ما يدل على رفضه، وإنما قال: فيه سياق غريب وأشياء منكرة، وهذا لا يدل على أنه مرفوض عنده، ولا على أنه قد استنكر كل ما جاء فيه.(3/110)
وعن سمرة بن جندب رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنه والله لا تقوم الساعة حتى يخرج ثلاثون كذابا آخرهم الأعور الدجال، ممسوح العين اليسرى، كأنها عين أبي تحي - لشيخ من الأنصار -، وإنه متى خرج؛ فإنه يزعم أنه الله، فمن آمن به وصدقه واتبعه؛ فليس ينفعه صالح من عمل سلف، ومن كفر به وكذبه؛ فليس يعاقب بشيء من عمله سلف، وإنه سيظهر على الأرض كلها؛ إلا الحرم المقدس، وإنه يحصر المؤمنين في بيت المقدس، فيزلزلون زلزالا شديدا، فيصبح فيهم عيسى ابن مريم، فيهزمه الله وجنوده، حتى إن جذم الحائط وأصل الشجرة لينادي: يا مؤمن! هذا كافر يستتر بي؛ فتعال اقتله". قال: "ولن يكون ذلك حتى تروا أمورا يتفاقم شأنها في أنفسكم وتساءلون بينكم: هل كان نبيكم صلى الله عليه وسلم ذكر لكم منها ذكرا، وحتى تزول جبال عن مراسيها، ثم على إثر ذلك القبض» .
رواه: الإمام أحمد، وأبو يعلى، وابن خزيمة، وابن حبان، والطبراني، والحاكم وهذا لفظه، وقال: "صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي في "تلخيصه".
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ قال: «لقيت ليلة أسري بي إبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام، فتذاكروا أمر الساعة، فردوا أمرهم إلى إبراهيم، فقال: لا علم لي بها، فردوا أمرهم إلى موسى، فقال: لا علم لي بها، فردوا أمرهم إلى عيسى، فقال: أما وجبتها؛ فلا يعلم بها أحد إلا الله، وفيما عهد إلي ربي عز وجل أن الدجال خارج ومعي قضيبان، فإذا رآني؛ ذاب كما يذوب الرصاص. قال: فيهلكه الله إذا رآني، حتى إن الشجر والحجر يقول: يا مسلم! إن تحتي كافرا؛ فتعال فاقتله. قال: فيهلكهم الله، ثم يرجع الناس إلى بلادهم وأوطانهم؛ فعند ذلك يخرج يأجوج ومأجوج، هم من كل حدب ينسلون، فيطؤون بلادهم، فلا يأتون على شيء؛ إلا أهلكوه،»(3/111)
«ولا يمرون على ماء؛ إلا شربوه. قال: ثم يرجع الناس يشكونهم، فأدعو الله عليهم، فيهلكهم ويميتهم حتى تجوى الأرض من نتن ريحهم، وينزل الله المطر فيجترف أجسادهم حتى يقذقهم في البحر؛ ففيما عهد إلي ربي عز وجل أن ذلك إذا كان كذلك: أن الساعة كالحامل المتم، لا يدري أهلها متى تفاجئهم بولادها ليلا أو نهارا» .
رواه: الإمام أحمد، وابن ماجه، وابن جرير، والحاكم، وقال: "صحيح الإسناد ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي في "تلخيصه".
وقال معمر في "جامعه" عن الزهري: أخبرني عمرو بن أبي سفيان الثقفي: أخبرني رجل من الأنصار عن بعض أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم؛ قال: «ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الدجال، فقال: " يأتي سباخ المدينة، وهو محرم عليه أن يدخل نقابها، فتنتفض المدينة بأهلها نفضة أو نفضتين، وهي الزلزلة، فيخرج إليه منها كل منافق ومنافقة، ثم يولي الدجال قبل الشام، حتى يأتي بعض جبال الشام، فيحاصرهم، وبقية المسلمين يومئذ معتصمون بذروة جبل من جبال الشام، فيحاصرهم الدجال، نازلا بأصله، حتى إذا طال عليهم البلاء؛ قال رجل من المسلمين: يا معشر المسلمين! حتى متى أنتم هكذا وعدو الله نازل بأصل جبلكم؟! هل أنتم إلا بين إحدى الحسنيين: بين أن يستشهدكم الله، أو يظهركم، فيتبايعون على الموت بيعة يعلم الله أنها الصدق من أنفسهم، ثم تأخذهم ظلمة لا يبصر امرؤ فيها كفه. قال: فينزل ابن مريم، فيحسر عن أبصارهم وبين أظهرهم رجل عليه لأمته، فيقولون: من أنت يا عبد الله؟ فيقول: أنا عبد الله ورسوله وروحه وكلمته عيسى ابن مريم، اختاروا بين إحدى ثلاث: بين أن يبعث الله على الدجال وجنوده عذابا من السماء، أو يخسف بهم الأرض، أو يسلط عليهم سلاحكم ويكف سلاحهم عنكم. فيقولون: هذه يا رسول الله أشفى لصدورنا ولأنفسنا؛ فيومئذ ترى اليهودي العظيم الطويل»(3/112)
«الأكول الشروب لا تقل يده سيفه من الرعدة، فينزلون إليهم، فيسلطون عليهم: ويذوب الدجال حين يرى ابن مريم كما يذوب الرصاص، حتى يأتيه (أو: يدركه) عيسى فيقتله» .
قال الحافظ ابن كثير بعد إيراده في "النهاية": "قال شيخنا الحافظ الذهبي: هذا حديث قوي الإسناد". انتهى.
قلت: وقد رواه عبد الرزاق في "مصنفه" عن معمر، وهذا لفظ عبد الرزاق.
وعن النعمان بن سالم؛ قال: سمعت يعقوب بن عاصم بن عروة بن مسعود الثقفي؛ قال: سمعت عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما وجاءه رجل فقال: ما هذا الحديث الذي تحدث به؛ تقول إن الساعة تقوم إلى كذا وكذا؟ فقال: سبحان الله (أو: لا إله إلا الله، أو كلمة نحوها) ! لقد هممت أن لا أحدث أحدا شيا أبدا، إنما قلت: إنكم سترون بعد قليل أمرا عظيما يحرق البيت ويكون ويكون، ثم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يخرج الدجال في أمتي، فيمكث أربعين، لا أدري أربعين يوما أو أربعين شهرا أو أربعين عاما، فيبعث الله عيسى ابن مريم كأنه عروة بن مسعود، فيطلبه، فيهلكه، ثم يمكث الناس سبع سنين، ليس بين اثنين عداوة، ثم يرسل الله ريحا باردة من قبل الشام، فلا يبقى على وجه الأرض أحد في قلبه مثقال ذرة من خير أو إيمان إلا قبضته، حتى لو أن أحدكم دخل في كبد جبل؛ لدخلته عليه حتى تقبضه". قال: سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "فيبقى شرار الناس في خفة الطير وأحلام السباع، لا يعرفون معروفا ولا ينكرون منكرا، فيتمثل لهم الشيطان، فيقول: ألا تستجيبون؟ فيقولون: فما تأمرنا؟ فيأمرهم بعبادة الأوثان، وهم في ذلك دارٌّ رزقهم، حسن عيشهم، ثم ينفخ في الصور، فلا يسمعه أحد إلا أصغى ليتا ورفع ليتا". قال: "وأول من يسمعه رجل يلوط حوض إبله". قال: "فيصعق ويصعق الناس، ثم»(3/113)
«يرسل الله (أو قال: ينزل الله) مطرا كأنه الطل (أو الظل؛ نعمان الشاك) ، فتنبت منه أجساد الناس، ثم ينفخ فيه أخرى؛ فإذا هم قيام ينظرون، ثم يقال: يا أيها الناس! هلم إلى ربكم، {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ} . قال: ثم يقال: أخرجوا بعث النار. فيقال: من كل ألف تسع مائة وتسعة وتسعين. قال: فذاك يوم يجعل الولدان شيبا، وذلك يوم يكشف عن ساق» .
رواه: الإمام أحمد، ومسلم، والنسائي.
وعن عبد الله بن عمرو أيضا رضي الله عنه: "أن رجلا قال له: أنت الذي تزعم أن الساعة تقوم إلى مائة سنة؟ قال: سبحان الله! وأنا أقول ذلك؟! ومن يعلم قيام الساعة إلا الله؟! إنما قلت: ما كانت رأس مائة للخلق منذ خلقت الدنيا؛ إلا كان عند رأس المائة أمر. ثم قال: يوشك أن يخرج ابن حمل الضأن. قيل: وما ابن حمل الضأن؟ قال: رومي أحد أبويه شيطان، يسير إلى المسلمين في خمس مائة ألف برا، وخمس مائة ألف بحرا، حتى ينزل بين عكا وصور، ثم يقول: يا أهل السفن! اخرجوا منها. ثم أمر بها فأحرقت، ثم يقول لهم: لا قسطنطينية لكم ولا رومية حتى يفصل بيننا وبين العرب. قال: فيستمد أهل الإسلام بعضهم بعضا، حتى تمدهم عدن أبين على قلصاتهم، فيجتمعون، فيقتتلون، فتكاتبهم النصارى الذين بالشام، ويخبرونهم بعورات المسلمين، فيقول المسلمون: الحقوا؛ فكلكم لنا عدو حتى يقضي الله بيننا وبينكم. فيقتتلون شهرا، لا يكل لهم سلاح ولا لكم، ويقذف الصبر عليكم وعليهم.
قال: وبلغنا أنه إذا كان رأس الشهر؛ قال ربكم: اليوم أسل سيفي فأنتقم من أعدائي وأنصر أوليائي. فيقتتلون مقتلة ما رئي مثلها قط، حتى ما تسير الخيل إلا على الخيل، وما يسير الرجل إلا على الرجل، وما يجدون خلقا يحول بينهم وبين القسطنطينية ولا رومية، فيقول أميرهم: لا غلول اليوم، من أخذ اليوم(3/114)
شيئا؛ فهو له. قال: فيأخذون ما يخف عليهم، ويدعون ما ثقل عليهم، فبينما هم كذلك؛ إذ جاءهم أن الدجال قد خلفكم في ذراريكم، فيرفضون ما في أيديهم، ويقبلون، ويصيب الناس مجاعة شديدة، حتى إن الرجل ليحرق وتر قوسه فيأكله، وحتى إن الرجل ليحرق جحفته فيأكلها، حتى إن الرجل ليكلم أخاه، فما يسمعه الصوت من الجهد، فبينما هم كذلك؛ إذ سمعوا صوتا من السماء: أبشروا؛ فقد أتاكم الغوث. فيقولون: نزل عيسى ابن مريم. فيستبشرون، ويستبشر بهم، ويقولون: صل يا روح الله! فيقول: إن الله أكرم هذه الأمة؛ فلا ينبغي لأحد أن يؤمهم إلا منهم، فيصلي أمير المؤمنين بالناس.
قيل: وأمير الناس يومئذ معاوية بن أبي سفيان؟ قال: لا. ويصلي عيسى خلفه؛ فإذا انصرف عيسى؛ دعا بحربته، فأتى الدجال، فقال: رويدك يا دجال يا كذاب! فإذا رأى عيسى وعرف صوته؛ ذاب كما يذوب الرصاص إذا أصابته النار، وكما تذوب الألية إذا أصابتها الشمس، ولولا أنه يقول رويدا؛ لذاب حتى لا يبقى منه شيء، فيحمل عليه عيسى، فيطعن بحربته بين ثدييه، فيقتله، ويتفرق جنده تحت الحجارة والشجر، وعامة جنده اليهود والمنافقون، فينادي الحجر: يا روح الله! هذا تحتي كافر؛ فاقتله. فيأمر عيسى بالصليب فيكسر، والخنزير فيقتل، وتضع الحرب أوزارها، حتى إن الذئب ليربض إلى جنب الغنم ما يغمزها، وحتى إن الصبيان ليلعبون بالحيات ما تنهشهم، وتملأ الأرض عدلا، فبينما هم كذلك؛ إذ سمعوا صوتا قال: فتحت يأجوج ومأجوج، وهو كما قال تعالى: {وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ} ، فيفسدون الأرض كلها، حتى إن أوائلهم ليأتي النهر العجاج، فيشربونه كله، وإن آخرهم ليقول: قد كان هاهنا نهر. ويحاصرون عيسى ومن معه ببيت المقدس، ويقولون: ما نعلم في الأرض أحدا إلا ذبحناه، هلموا نرمي من في السماء، فيرمون، حتى ترجع إليهم سهامهم في نصولها الدم قليلا، فيقولون: ما بقي في الأرض ولا في السماء.(3/115)
فيقول المؤمنون: يا روح الله! ادع عليهم بالفناء. فيدعو الله عليهم، فيبعث النغف في آذانهم، فيقتلهم في ليلة واحدة، فتنتن الأرض كلها من جيفهم، فيقولون: يا روح الله! نموت من النتن. فيدعو الله، فيبعث وابلا من المطر، فجعله سيلا، فيقذفهم كلهم في البحر، ثم يسمعون صوتا، فيقال: مه! قيل: غزي البيت الحصين. فيبعثون جيشا، فيجدون أوائل ذلك الجيش، ويقبض عيسى ابن مريم، ووليه المسلمون وغسلوه وحنطوه وكفنوه وصلوا عليه وحفروا له ودفنوه، فيرجع أوائل الجيش والمسلمون ينفضون أيديهم من تراب قبره، فلا يلبثون بعد ذلك إلا يسيرا حتى يبعث الله الريح اليمانية. قيل: وما الريح اليمانية؟ قال: ريح من قبل اليمن، ليس على الأرض مؤمن يجد نسيمها إلا قبضت روحه. قال: ويسرى على القرآن في ليلة واحدة، ولا يترك في صدور بني آدم ولا في بيوتهم منه شيء إلا رفعه الله، فيبقى الناس ليس فيهم نبي وليس فيهم قرآن وليس فيهم مؤمن. قال عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: فعند ذلك أخفي علينا قيام الساعة، فلا ندري كم يتركون، كذلك تكون الصيحة. وقال: لم تكن صيحة قط إلا بغضب من الله على أهل الأرض. قال: وقال تعالى: {وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ} . قال: فلا أدري كم يتركون كذلك؟ "
رواه ابن عساكر، ونقله عنه صاحب "كنز العمال"، ولبعضه شواهد كثيرة من وجوه متعددة.
وعن عمران بن حصين رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تزال طائفة من أمتي على الحق، ظاهرين على من ناوأهم، حتى يأتي أمر الله تبارك وتعالى، وينزل عيسى ابن مريم عليه السلام» .
رواه الإمام أحمد، وإسناده صحيح على شرط مسلم.(3/116)
وعن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تزال عصابة من أمتي يقاتلون، على الحق ظاهرين، حتى ينزل عيسى ابن مريم» .
رواه ابن عساكر في "تاريخه".
وعنه رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا ينزل الدجال المدينة، ولكنه بين الخندق، وعلى كل نقب منها ملائكة يحرسونها، فأول من يتبعه النساء، فيؤذونه، فيرجع غضبان حتى ينزل الخندق؛ فعند ذلك ينزل عيسى ابن مريم» .
رواه الطبراني في "الأوسط". قال الهيثمي: "ورجاله رجال الصحيح؛ غير عقبة بن مكرم بن عقبة الضبي، وهو ثقة".
وعن أوس بن أوس الثقفي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ قال: «ينزل عيسى ابن مريم عند المنارة البيضاء شرقي دمشق» .
رواه الطبراني. قال الهيثمي: "ورجاله ثقات".
وقال البخاري في "التاريخ الكبير": قال هشام بن خالد: أخبرنا الوليد بن مسلم؛ قال: حدثني ربيعة بن ربيعة؛ قال: حدثني نافع بن كيسان عن أبيه؛ قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «ينزل عيسى ابن مريم بشرقي دمشق عند المنارة البيضاء» .
وذكر الحافظ ابن حجر في "الإصابة" أن ابن السكن والطبراني وابن منده أخرجوه من طريق ربيعة بن ربيعة عن نافع بن كيسان عن أبيه: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «ينزل عيسى ابن مريم عند المنارة البيضاء شرقي دمشق» ، وكذا أخرجه الربعي في "فضائل الشام"، وتمام في "فوائده"؛ من طريق هشام بن خالد عن الوليد بن مسلم عن ربيعة، ورجاله ثقات. انتهى.(3/117)
قلت: وقد ذكر أبو عمر بن عبد البر هذا الحديث في "الاستيعاب"، وذكر أن إسناده صالح.
وروى تمام وابن عساكر عن عبد الرحمن بن أيوب بن نافع بن كيسان عن أبيه عن جده رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ينزل عيسى ابن مريم عند باب دمشق عند المنارة البيضاء لست ساعات من النهار في ثوبين ممشقين كأنما ينحدر من رأسه اللؤلؤ» .
(الثوب الممشق) : هو الثوب المصبوغ بالمغرة.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم في «قوله: {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ} . قال: "نزول عيسى ابن مريم قبل يوم القيامة» .
رواه: ابن حبان في "صحيحه"، والحاكم في "مستدركه"، وقال:"صحيح الإسناد ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي في "تلخيصه". وقد روي موقوفا وتقدم ذكره.
وعن حذيفة رضي الله عنه؛ قال: «إن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يسألون عن الخير وكنت أسأل عن الشر مخافة أن أدركه.... فذكر الحديث، وفيه: قلت: يا رسول الله! فما بعد دعاة الضلالة؟ قال: "خروج الدجال". قلت: يا رسول الله! وما يجيء الدجال؟ قال: "يجيء بنار ونهر، فمن وقع في ناره؛ وجب أجره وحط وزره". قلت: يا رسول الله! فما بعد الدجال؟ قال: " عيسى ابن مريم ". قلت: فما بعد عيسى ابن مريم؟ قال: "لو أن رجلا أنتج فرسا؛ لم يركب مهرها حتى تقوم الساعة» .
رواه: ابن أبي شيبة، وابن عساكر في "تاريخه".
وعنه رضي الله عنه؛ قال: قلت: يا رسول الله! الدجال قبل أو عيسى ابن(3/118)
مريم؟ قال: «الدجال، ثم عيسى ابن مريم، ثم لو أن رجلا أنتج فرسا؛ لم يركب مهرها حتى تقوم الساعة» .
رواه نعيم بن حماد في "الفتن".
وعن أبي هريرة رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكر الهند: «يغزو الهند منكم جيش، يفتح الله عليهم حتى يأتوا بملوكهم مغللين بالسلاسل، يغفر الله ذنوبهم، فينصرفون حين ينصرفون، فيجدون ابن مريم بالشام» .
رواه نعيم بن حماد.
وعن ثوبان رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «عصابتان من أمتي أحرزهما الله من النار: عصابة تغزو الهند، وعصابة تكون مع عيسى ابن مريم عليه السلام» .
رواه: الإمام أحمد، والنسائي، والطبراني، والحافظ الضياء المقدسي.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لن تهلك أمة أنا في أولها، وعيسى ابن مريم في آخرها، والمهدي في وسطها» .
رواه النسائي وغيره.
وعن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كيف تهلك أمة أنا أولها، والمهدي وسطها، وعيسى ابن مريم آخرها؟ ولكن بين ذلك نهج أعوج ليسوا مني ولا أنا منهم» .
رواه رزين وهو مرسل.
وعن جبير بن نفير مرسلا: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ليدركن الدجال قوما مثلكم»(3/119)
«أو خيرا منكم، ولن يخزي الله أمة أنا أولها وعيسى ابن مريم آخرها» .
رواه: ابن أبي شيبة، والحاكم في "مستدركه"، وقال: "صحيح على شرط الشيخين".
وعن أبي الدرداء رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «خير أمتي أولها وآخرها، وفي وسطها الكدر، ولن يخزي الله أمة أنا أولها والمسيح آخرها» .
رواه الحكيم الترمذي.
وعن عروة بن رويم مرسلا: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «خير هذه الأمة أولها وآخرها: أولها فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وآخرها فيهم عيسى ابن مريم، وبين ذلك ثبج أعوج، ليس منك ولست منهم» .
رواه أبو نعيم في "الحلية".
وقد قال ابن القيم رحمه الله تعالى في "الكافية الشافية".
ولقد أتى أثر بأن الفضل في ال ... طرفين أعني أولا والثاني
والوسط ذو ثبج فأعوج هكذا ... جاء الحديث وليس ذا نكران
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما؛ قال: "ينزل عيسى ابن مريم؛ فإذا رآه الدجال؛ ذاب كما تذوب الشحمة، فيقتل الدجال، ويتفرق اليهود، فيقتلون، حتى إن الحجر يقول: يا عبد الله المسلم! هذا يهودي؛ فتعال فاقتله".
رواه ابن أبي شيبة.
وروى عبد الرزاق في "مصنفه" عن معمر عن أيوب أو غيره عن ابن سيرين؛ قال: "ينزل ابن مريم عليه لأمته وممصرتان بين الأذان والإقامة، فيقولون له: تقدم. فيقول: بل يصلي بكم إمامكم، أنتم أمراء بعضكم على(3/120)
بعض".
وروى عبد الرزاق أيضا عن معمر؛ قال "كان ابن سيرين يرى أنه المهدي الذي يصلي وراءه عيسى ".
وروى عبد الرزاق أيضا عن معمر عن ابن طاوس عن أبيه يرويه؛ قال: "ينزل عيسى ابن مريم إماما هاديا ومقسطا عادلا، فإذا نزل؛ كسر الصليب، وقتل الخنزير، ووضع الجزية، وتكون الملة واحدة، ويوضع الأمن في الأرض، حتى إن الأسد ليكون مع البقر تحسبه ثورها، ويكون الذئب مع الغنم تحسبه كلبها، وترفع حمة كل ذات حمة، حتى يضع الرجل يده على رأس الحنش فلا يضره، وحتى تفر الجارية الأسد كما يفر ولد الكلب الصغير، ويقوم الفرس العربي بعشرين درهما، ويقوم الثور بكذا وكذا، وتعود الأرض كهيئتها على عهد آدم، ويكون القطف (يعني: العنقاد) يأكل منه النفر ذو العدد، وتكون الرمانة يأكل منها النفر ذو العدد".
وروى عبد الرزاق أيضا عن معمر عن زيد بن أسلم عن رجل عن أبي هريرة رضي الله عنه؛ قال: "لا تقوم الساعة حتى ينزل عيسى ابن مريم إماما مقسطا، وتسلب قريش الإمارة، ويقتل الخنزير، ويكسر الصليب، وتوضع الجزية، وتكون السجدة واحدة لرب العالمين، وتضع الحرب أوزارها، وتملأ الأرض من الإسلام كما تملأ الآبار من الماء، وتكون الأرض كفاثور الورق - يعني: المائدة -، وترفع الشحناء والعداوة، ويكون الذئب في الغنم كأنه كلبها، ويكون الأسد في الإبل كأنه فحلها".
وهذه الآثار لها حكم الرفع؛ لأنها لا تقال من قبل الرأي، وإنما تقال عن توقيف، ولها شواهد كثيرة مما تقدم من الأحاديث الصحيحة وما سيأتي إن شاء الله تعالى.(3/121)
باب
أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإقراء السلام على المسيح
عن أبي هريرة رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يوشك المسيح عيسى ابن مريم أن ينزل حكما مقسطا وإماما عدلا، فيقتل الخنزير، ويكسر الصليب، وتكون الدعوة واحدة، فأقرئوه (أو: أقرئه) السلام من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحدثه فيصدقني"، فلما حضرته الوفاة؛ قال: "أقرئوه مني السلام» .
رواه الإمام أحمد. قال الهيثمي: "وفيه كثير بن زيد، وثقه أحمد وجماعة، وضعفه النسائي وغيره، وبقية رجاله ثقات".
وعنه رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قال: «إني لأرجو إن طال بي عمر أن ألقى عيسى ابن مريم عليه السلام، فإن عجل بي موت؛ فمن لقيه منكم؛ فليقرئه مني السلام» .
رواه الإمام أحمد مرفوعا وموقوفا، ورجال كل منهما رجال الصحيح.
وعنه رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا إن عيسى ابن مريم ليس بيني وبينه نبي ولا رسول، ألا إنه خليفتي في أمتي من بعدي، ألا إنه يقتل الدجال ويكسر الصليب ويضع الجزية وتضع الحرب أوزارها، ألا فمن أدركه منكم؛ فليقرأ عليه السلام» .
رواه الطبراني. قال الهيثمي: "وفيه محمد بن عقبة السدوسي، وثقه ابن حبان وضعفه أبو حاتم ".
وعن أنس رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أدرك منكم عيسى ابن مريم؛ فليقرئه مني السلام» .
رواه: البخاري في "تاريخه"، والحاكم في "مستدركه".(3/122)
باب
أن المسيح يحكم بالشريعة المحمدية
قد تقدم حديث سمرة بن جندب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه: «ثم يجيء عيسى ابن مريم عليهما السلام من قبل المغرب مصدقا بمحمد صلى الله عليه وسلم وعلى ملته» ... ".
رواه: الإمام أحمد، وإسناده صحيح على شرط الشيخين، والطبراني.
قال الهيثمي: "ورجاله رجال الصحيح".
وتقدم أيضا حديث عبد الله بن مغفل رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أهبط الله تعالى إلى الأرض منذ خلق آدم إلى أن تقوم الساعة فتنة أعظم من فتنة الدجال ... (الحديث، وفيه:) ثم ينزل عيسى ابن مريم مصدقا بمحمد صلى الله عليه وسلم على ملته» .
رواه الطبراني في "الكبير" و"الأوسط". قال الهيثمي: "ورجاله ثقات" وفي بعضهم ضعف لا يضر".
وعن نافع مولى أبي قتادة الأنصاري عن أبي هريرة رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كيف أنتم إذا نزل عيسى ابن مريم فيكم وإمامكم منكم» .
رواه: الإمام أحمد، والشيخان.
ورواه عبد الرزاق في "مصنفه"، ولفظه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كيف بكم إذا نزل فيكم ابن مريم حكما، فأمكم (أو قال: إمامكم) منكم» .
وفي رواية لمسلم: «كيف أنتم إذا نزل ابن مريم فيكم وأمكم» .
وفي أخرى له: «كيف أنتم إذا نزل فيكم ابن مريم فأمكم منكم» .(3/123)
قال الوليد بن مسلم: فقلت لابن أبي ذئب: إن الأوزاعي حدثنا عن الزهري عن نافع عن أبي هريرة: "وإمامكم منكم". قال ابن أبي ذئب: تدري ما "أمكم منكم"؟ قلت: تخبرني؟ قال: فأمكم بكتاب ربكم تبارك وتعالى وسنة نبيكم صلى الله عليه وسلم.
وقال أبو ذر الهروي: حدثنا الجوزقي عن بعض المتقدمين؛ قال: "معنى: "وإمامكم منكم"؛ يعني: أنه يحكم بالقرآن لا بالإنجيل".
وقال ابن التين: "معنى قوله: وإمامكم منكم": أن الشريعة المحمدية متصلة إلى يوم القيامة، وأن في كل قرن طائفة من أهل العلم".
باب
ما جاء في حج المسيح وعمرته
قد تقدم ما رواه عبد بن حميد عن أبي هريرة رضي الله عنه: {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ} ؛ قال: "خروج عيسى، يمكث في الأرض أربعين سنة، تكون تلك الأربعون كأربع سنين يحج ويعتمر".
وهذا الأثر له حكم المرفوع؛ لأن مثله لا يقال من قبل الرأي، وإنما يقال عن توقيف.
وعن حنظلة بن علي الأسلمي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «والذي نفسي بيده؛ ليهلن ابن مريم بفج الروحاء حاجا أو معتمرا أو ليثنينهما» .
رواه: الإمام أحمد، ومسلم.
ورواه عبد الرزاق في "مصنفه" ولفظه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والذي»(3/124)
«نفسي بيده؛ ليهلن ابن مريم من فج الروحاء بالحج أو بالعمرة أو ليثنينهما» .
وفي رواية لأحمد وابن أبي حاتم: «ينزل عيسى ابن مريم، فيقتل الخنزير، ويمحو الصليب، وتجمع له الصلاة، ويعطي المال حتى لا يقبل، ويضع الخراج، وينزل الروحاء فيحج منها أو يعتمر أو يجمعهما» . قال: وتلا أبو هريرة: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} ... الآية، فزعم حنظلة أن أبا هريرة رضي الله عنه قال: يؤمن به قبل موت عيسى. فلا أدري هذا كله حديث النبي صلى الله عليه وسلم أو شيء قاله أبو هريرة رضي الله عنه.
وعن عمرو بن عوف المزني رضي الله عنه؛ قال: غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إذا كنا بالروحاء؛ نزل بعرق الظبية وصلى، ثم قال: «صلى قبلي في هذا المسجد سبعون نبيا، ولقد قدمها موسى عليه عباءتان قطوانيتان على ناقة ورقاء في سبعين ألفا من بني إسرائيل، ولا تقوم الساعة حتى يمر بها عيسى ابن مريم عبد الله ورسوله حاجا، أو معتمرا، أو يجمع الله ذلك له» .
رواه أبو نعيم في "الحلية".
وعن أبي هريرة رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليهبطن عيسى ابن مريم حكما عدلا وإماما مقسطا، وليسلكن فجا حاجا أو معتمرا أو بنيتهما، وليأتين قبري حتى يسلم علي، ولأردن عليه» . قال أبو هريرة رضي الله عنه: أي بني أخي! إن رأيتموه؛ فقولوا: أبو هريرة يقرئك السلام.
رواه الحاكم في "مستدركه"، وقال "صحيح الإسناد ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي في "تلخيصه".
وعن أبي الأشعث الصنعاني؛ قال: سمعت أبا هريرة رضي الله عنه يقول: "يهبط عيسى، فيصلي الصلوات، ويجمع الجمع، ويزيد في الحلال،(3/125)
كأني به تُجِد به رواحله ببطن الروحاء حاجا أو معتمرا".
رواه ابن عساكر في "تاريخه".
وعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما؛ قال: «ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الدابة. قلت: يا رسول الله! من أين تخرج؟ قال: تخرج من أعظم المساجد حرمة على الله، بينما عيسى يطوف بالبيت ومعه المسلمون؛ إذ تضطرب الأرض تحتهم، وتنشق الصفا مما يلي المشعر، وتخرج الدابة من الصفا» ... الحديث.
رواه ابن جرير.
باب
ما جاء في مدة لبث المسيح في الأرض
قد تقدم في حديث عبد الرحمن بن آدم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قال في عيسى: «فيمكث أربعين سنة، ثم يتوفى ويصلي عليه المسلمون» .
رواه: الإمام أحمد، وأبو داود الطيالسي، وأبو داود السجستاني، وابن جرير، وابن حبان في "صحيحه" والحاكم في "مستدركه"، وأبو بكر الآجري في "كتاب الشريعة". وقال الحاكم: "صحيح الإسناد ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي في "تلخيصه".
وقد رواه أبو داود الطيالسي والطبراني في "الأوسط" مختصرا، ولفظ أبي داود: عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يمكث عيسى في الأرض بعدما ينزل أربعين سنة، ثم يموت ويصلي عليه المسلمون ويدفنونه» ، ولفظ الطبراني: قال: "ينزل عيسى ابن مريم، فيمكث في الناس أربعين سنة".(3/126)
قال الهيثمي: "رجاله ثقات".
وقد تقدم ما رواه عبد بن حميد عن أبي هريرة رضي الله عنه: {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ} ؛ قال: "خروج عيسى، يمكث في الأرض أربعين سنة، تكون تلك الأربعون كأربع سنين؛ يحج ويعتمر".
باب
ما جاء في قبر المسيح
وعن عبد الله بن سلام رضي الله عنه؛ قال: "يدفن عيسى ابن مريم عليه السلام مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما، فيكون قبره رابعا".
رواه الطبراني. قال الهيثمي: "وفيه عثمان بن الضحاك، وثقه ابن حبان، وضعفه أبو داود ".
وروى الترمذي في كتاب المناقب من "جامعه" من طريق أبي مودود المدني: حدثنا عثمان بن الضحاك عن محمد بن يوسف بن عبد الله بن سلام عن أبيه عن جده رضي الله عنه؛ قال: "مكتوب في التوراة صفة محمد، وعيسى ابن مريم يدفن معه".
قال أبو مودود: قد بقي في البيت موضع قبر.
قال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب. هكذا قال: عثمان بن الضحاك، والمعروف: الضحاك بن عثمان المديني ". انتهى كلام الترمذي.
وقد رواه أبو بكر الآجري في "كتاب الشريعة" من طريق عبد الله بن نافع الصائغ عن الضحاك بن عثمان عن يوسف بن عبد الله بن سلام عن أبيه رضي الله عنه؛ قال: "الأقبر المنارية: قبر النبي صلى الله عليه وسلم، وقبر أبي بكر رضي الله عنه، وقبر عمر رضي الله عنه، وقبر رابع يدفن فيه عيسى ابن مريم صلى الله عليه وسلم".(3/127)
فصل
وقد اشتملت الأبواب التي في ذكر نزول عيسى عليه الصلاة والسلام على خمسة وخمسين حديثا مرفوعا، أكثرها صحيح، والباقي غالبه من الحسان، وجاء في ذلك آثار كثيرة عن بعض الصحابة والتابعين، ذكرتها في أول الأبواب وفي أثنائها، ومع هذا؛ فقد أنكر بعض أهل الأهواء والبدع نزوله، وزعموا أنه قد مات، وقد تبعهم على ذلك بعض المشايخ العصريين، والجميع مقلدون لليهود والنصارى الذين يزعمون أن عيسى قد قتل وصلب.
وقد رأيت جوابا لشلتوت أنكر فيه حياة المسيح عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام، وزعم أنه قد مات موتة عادية، وأنكر أن يكون مرفوعا بجسمه إلى السماء، وأنه فيها حي إلى الآن، وأنكر نزوله إلى الأرض في آخر الزمان حكما عدلا، فخالف ما جاء به القرآن وتواترت به الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأجمع عليه سلف الأمة وأئمتها.
وقد تقدم ذكر الأدلة من القرآن والسنة على نزول عيسى عليه الصلاة والسلام في آخر الزمان، وسيأتي ذكر الإجماع على ذلك إن شاء الله تعالى.
ثم إن شلتوتا لم يكتف بمخالفة الأدلة من الكتاب والسنة والإجماع على نزول عيسى عليه السلام في آخر الزمان، بل ضم إلى ذلك الطعن في الأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، فقال: "إنها روايات مضطربة، مختلفة في ألفاظها ومعانيها اختلافا لا مجال معه للجمع بينها"!
كذا قال! وكل من له أدنى علم ومعرفة بالحديث يعلم يقينا أن الأحاديث الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم في نزول عيسى عليه الصلاة والسلام متفقة متعاضدة لا اضطراب فيها ولا اختلاف بينها بحمد الله تعالى.(3/128)
ثم إنه أردف ذلك بخطأ آخر، فقال: "وقد نص على ذلك علماء الحديث".
والجواب أن يقال: هذا غير صحيح؛ فإن علماء الحديث قد تلقوا الأحاديث الواردة في نزول عيسى عليه الصلاة والسلام بالقبول، ودونوها في كتب الصحاح والسنن والمسانيد، وذكروا مضمونها في كتب العقائد السلفية.
قال إمام أهل السنة أحمد بن محمد بن حنبل رحمه الله تعالى في "عقيدة أهل السنة والجماعة" التي رواها عنه عبدوس بن مالك العطار: "والإيمان أن المسيح الدجال خارج، مكتوب بين عينيه كافر، والأحاديث التي جاءت فيه، والإيمان بأن ذلك كله كائن، وأن عيسى ابن مريم ينزل، فيقتله بباب لد ... ".
انتهى.
وقال الإمام أبو محمد البربهاري رحمه الله تعالى في "شرح السنة": "والإيمان بنزول عيسى ابن مريم صلى الله عليه وسلم؛ ينزل، فيقتل الدجال، ويتزوج، ويصلي خلف القائم من آل محمد صلى الله عليه وسلم، ويموت، ويدفنه المسلمون" انتهى.
وقال الطحاوي رحمه الله تعالى في "العقيدة" المشهورة: "ونؤمن بأشراط الساعة؛ من خروج الدجال، ونزول عيسى ابن مريم عليه السلام من السماء...." انتهى.
وقال الشيخ أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري رحمه الله تعالى في كتابه "مقالات الإسلاميين": "جملة ما عليه أهل الحديث والسنة الإقرار بالله وملائكته وكتبه ورسله وما جاء من عند الله وما رواه الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا يردون من ذلك شيئا (إلى أن قال:) ويصدقون بخروج الدجال، وأن عيسى ابن مريم يقتله". انتهى.
وهذا حكاية إجماع من أهل الحديث والسنة على نزول عيسى عليه(3/129)
الصلاة والسلام. والعبرة بهم، ولا عبرة بمن خالفهم؛ كما قال ابن القيم رحمه الله تعالى في "الكافية الشافية".
لا عبرة بمخالف لهم ولو ... كانوا عديد الشاء والبعران
وقال الإمام أبو محمد عبد الله بن أبي زيد القيرواني المالكي رحمه الله تعالى في رسالته المشهورة: "والإيمان بما ثبت من خروج الدجال ونزول عيسى عليه الصلاة والسلام حكما عدلا يقتل الدجال...." انتهى.
وقال الإمام أبو أحمد بن الحسين الشافعي المعروف بابن الحداد في عقيدة له: "وأن الآيات التي تظهر عند قرب الساعة؛ من الدجال، ونزول عيسى عليه الصلاة والسلام، والدخان، والدابة، وطلوع الشمس من مغربها، وغيرها من الآيات التي وردت بها الأخبار الصحاح حق....". انتهى.
وقال الإمام الموفق أبو محمد عبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسي رحمه الله تعالى في عقيدته المشهورة: "ويجب الإيمان بكل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم وصح به النقل عنه فيما شاهدناه أو غاب عنا، نعلم أنه صدق وحق ... (إلى أن قال:) ومن ذلك أشراط الساعة؛ مثل: خروج الدجال، ونزول عيسى ابن مريم عليه السلام فيقتله، وخروج يأجوج ومأجوج، وطلوع الشمس من مغربها، وخروج الدابة.... وأشباه ذلك مما صح به النقل". انتهى.
وقال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى: "مسألة: عيسى ابن مريم صلى الله عليه وسلم حي رفعه الله تعالى إليه بروحه وبدنه، وقوله تعالى: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ} ؛ أي: قابضك، وكذلك ثبت أنه ينزل على المنارة البيضاء شرقي دمشق، فيقتل الدجال، ويكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية؛ حكما عدلا مقسطا، ويراد بالتوفي: الاستيفاء، ويراد به الموت ويرتد به النوم، ويدل على كل واحد القرينة التي معه". انتهى.(3/130)
وقال القاضي عياض رحمه الله تعالى في "شرح مسلم": "نزول عيسى عليه السلام وقتله الدجال حق وصحيح عند أهل السنة؛ للأحاديث الصحيحة في ذلك، وليس في العقل ولا في الشرع ما يبطله، فوجب إثباته، وأنكر ذلك بعض المعتزلة والجهمية ومن وافقهم، وزعموا أن هذه الأحاديث مردودة بقوله تعالى: {وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} ، وبقوله: صلى الله عليه وسلم: «لا نبي بعدي» ، وبإجماع المسلمين أنه لا نبي بعد نبينا صلى الله عليه وسلم، وأن شريعته مؤبدة إلى يوم القيامة لا تنسخ. وهذا استدلال فاسد؛ لأنه ليس المراد بنزول عيسى عليه السلام أنه ينزل نبيا بشرع ينسخ شرعنا، ولا في هذه الأحاديث ولا في غيرها شيء من هذا، بل صحت هذه الأحاديث هنا وما سبق في كتاب الإيمان وغيرها أنه ينزل حكما مقسطا؛ يحكم بشرعنا، ويحيي من أمور شرعنا ما هجره الناس". انتهى كلامه، وقد نقله النووي في "شرح مسلم" وأقره.
وقال القاضي عياض أيضا في الكلام على أحاديث الدجال: "هذه الأحاديث التي ذكرها مسلم وغيره في قصة الدجال حجة لمذهب أهل الحق في صحة وجوده، وأنه شخص بعينه، ابتلى الله به عباده، وأقدره على أشياء من مقدورات الله تعالى؛ من إحياء الميت الذي يقتله، ومن ظهور زهرة الدنيا والخصب معه، وجنته وناره، ونهريه، واتباع كنوز الأرض له، وأمره السماء أن تمطر فتمطر، والأرض أن تنبت فتنبت، فيقع كل ذلك بقدرة الله تعالى ومشيئته، ثم يعجزه الله تعالى بعد ذلك، فلا يقدر على قتل ذلك الرجل ولا غيره، ويبطل أمره، ويقتله عيسى صلى الله عليه وسلم، ويثبت الله الذين آمنوا. هذا مذهب أهل السنة وجميع المحدثين والفقهاء والنظار؛ خلافا لمن أنكره وأبطل أمره من الخوارج والجهمية وبعض المعتزلة". انتهى المقصود من كلامه، وقد نقله النووي في "شرح مسلم" وأقره.
وقال المناوي في "شرح الجامع الصغير": "أجمعوا على نزول عيسى(3/131)
عليه الصلاة والسلام نبيا لكنه بشريعة نبينا صلى الله عليه وسلم".
وقال المناوي أيضا في موضع آخر من "شرح الجامع الصغير": "حُكي في المطامح إجماع الأمة على نزوله، ولم يخالف أحد من أهل الشريعة في ذلك، وإنما أنكره الفلاسفة والملاحدة". انتهى.
وقال السفاريني في "شرح عقيدته": "نزول المسيح عيسى ابن مريم ثابت بالكتاب والسنة وإجماع الأمة ... (ثم ذكر دليل ذلك من الكتاب والسنة، إلى أن قال:) وأما الإجماع؛ فقد أجمعت الأمة على نزوله، ولم يخالف فيه أحد من أهل الشريعة، وإنما أنكر ذلك الفلاسفة والملاحدة ممن لا يعتد بخلافه، وقد انعقد إجماع الأمة على أنه ينزل ويحكم بهذه الشريعة المحمدية". انتهى.
ولو ذهبت أنقل ما ذكره غير هؤلاء؛ لطال الكلام، وفيما ذكرته كفاية لبيان خطأ شلتوت فيما ذهب إليه وما حاوله من قلب الحقيقة.
ثم إنه أردف ذلك بخطأ ثالث، فقال: "وهي فوق ذلك من روايات وهب بن منبه وكعب الأحبار، وهما من أهل الكتاب الذين اعتنقوا الإسلام، وقد عرفت درجتهم في الحديث عند علماء الجرح والتعديل".
والجواب أن يقال: هذا من نمط ما قبله من القول بغير علم؛ فإن الأحاديث التي ذكرنا في نزول المسيح ليس فيها شيء من روايات كعب الأحبار ووهب بن منبه، وإنما أراد شلتوت أن يوهم الجهال أنه ليس في نزول عيسى إلا أخبار أهل الكتاب؛ ليكون لقوله الباطل موقع وقبول عند الأغبياء، ويروج لديهم قوله الباطل في موت المسيح، ومسلكه الفاسد في تكذيب الأحاديث الصحيحة الدالة على نزوله في آخر الزمان.
وإذا كان قد روي عن كعب الأحبار ووهب بن منبه بعض الآثار في رفع المسيح؛ فلا يكون ذلك قادحا في الأحاديث الصحيحة الدالة على نزوله في(3/132)
آخر الزمان، ولا موجبا لردها، ولا ينبغي القطع بتكذيب ما روي عنهما في رفع المسيح من غير دليل يدل على ذلك.
وأما قدحه في كعب الأحبار ووهب بن منبه بمجرد الهوى؛ فالجواب عنه أن يقال: ليس شلتوت ممن يعرف الرجال حتى يقبل قوله في الجرح والتعديل.
فأما كعب الأحبار؛ فقد روى عنه: ابن عمر، وأبو هريرة، وابن عباس، وابن الزبير، ومعاوية؛ رضي الله عنهم، وجماعة من كبار التابعين، وأخرج له البخاري ومسلم في "صحيحيهما" وأبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم من الأئمة، ولو كان الأمر فيه كما يقول المبطلون؛ لبين هؤلاء الأئمة حاله، ولم يخرجوا عنه.
ويكفي في تعديله ما رواه مالك في "الموطأ" عن يحيى بن سعيد: أن رجلا جاء إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فسأله عن جرادات قتلها وهو محرم، فقال عمر رضي الله عنه لكعب: "تعالى حتى نحكم ... " وذكر تمام الحديث، فلولا أنه عدل عند عمر رضي الله عنه؛ لما أمره أن يحكم معه في جزاء الصيد، وقد قال الله تعالى: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} .
وقال محمد بن سعد في "الطبقات": "أخبرت عن معاوية بن صالح الحضرمي عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير؛ قال: قال معاوية رضي الله عنه: ألا إن كعب الأحبار أحد العلماء، إن كان عنده لعلم كالثمار، وإن كنا فيه لمفرطين".
وقد ذكره الحافظ ابن حجر في "تقريب التهذيب"، وقال: "ثقة من الثانية".
وأما وهب بن منبه؛ فقد اتفق البخاري ومسلم على إخراج حديثه، وأخرج له أبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم من الأئمة، وهذا كاف في تعديله ورد ما(3/133)
يبهته به جهلة العصريين.
وقد ذكره الذهبي في "الميزان"، وقال: "كان ثقة صادقا. قال العجلي: ثقة تابعي كان على قضاء صنعاء. وقال مثنى بن الصباح: لبث وهب عشرين سنة لم يجعل بين العشاء والصبح وضوءا".
وذكره الحافظ ابن حجر في "تقريب التهذيب"، وقال: "ثقة من الثالثة".
وذكره الخزرجي في "الخلاصة"، وقال: "وثقة النسائي. قال مسلم بن خالد: لبث وهب أربعين سنة لم يرقد على فراشه".
وهذا كاف في الثناء عليه ورد ما زعمه شلتوت فيه.
ثم إن شلتوتا أتى بخطأ رابع، فقال عن المفسرين: "إنهم يعتمدون على حديث فردي عن أبي هريرة اقتصر فيه على الإخبار بنزول عيسى، وإذا صح الحديث؛ فهو حديث آحاد".
والجواب أن يقال: قد ذكرنا من الأحاديث الكثيرة المتواترة ما يشهد بخطئه في هذه الدعوى.
وقد قال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسير سورة الزخرف: "تواترت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أخبر بنزول عيسى عليه السلام قبل يوم القيامة إماما عادلا وحكما مقسطا". انتهى.
وساق جملة منها في تفسير سورة النساء، ثم قال: "فهذه أحاديث متواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من رواية أبي هريرة وابن مسعود وعثمان بن أبي العاص وأبي أمامة والنواس بن سمعان وعبد الله بن عمرو بن العاص ومجمع بن جارية وأبي سريحة حذيفة بن أسيد رضي الله عنهم". انتهى.
وقد ذكرت فيما تقدم من الأحاديث الصحيحة والحسنة في نزول عيسى(3/134)
عليه الصلاة والسلام أضعاف أضعاف ما ذكره ابن كثير هاهنا؛ فلتراجع؛ ففيها أبلغ رد على ما زعمه شلتوت عن المفسرين أنهم كانوا يعتمدون في نزول عيسى على حديث فردي عن أبي هريرة رضي الله عنه.
وقد تقدم في ذكر المهدي قول الشوكاني: "إن الأحاديث الواردة في المهدي المنتظر متواترة، والأحاديث الواردة في الدجال متواترة، والأحاديث الواردة في نزول عيسى ابن مريم متواترة". انتهى.
ثم إن ظاهر كلام شلتوت يدل على أنه لا يرى صحة حديث أبي هريرة رضي الله عنه الذي فيه الإخبار بنزول عيسى عليه الصلاة والسلام، ولذلك أتى بـ (إذا) الشرطية المقتضية لتعليق ما دخلت عليه بجملة قبلها محذوفة معناها إنكار صحة الحديث أو التوقف في ثبوت صحته، وصنيعه هذا يدل على أحد شيئين:
إما إرادة التمويه والتلبيس على الجهلة الأغبياء بأنه لم يصح في نزول عيسى شيء من الأحاديث المروية في نزوله. وهذا هو الأظهر.
وإما كثافة الجهل؛ بحيث لا يفرق بين ما اتفق البخاري ومسلم على إخراجه في "صحيحيهما" وبين ما يرويه المتساهلون بنقل الأحاديث الضعيفة والموضوعة، ومن بلغ به الجهل إلى التوقف في صحة حديث اتفق البخاري ومسلم على إخراجه في "صحيحيهما"؛ فليس من أهل العلم، ولا ينبغي أن يعتمد عليه في شيء من أمور الدين.
ثم إن شلتوتا أتى بخطأ خامس، فقال: "وقد أجمع العلماء على أن أحاديث الآحاد لا تفيد عقيدة ولا يصح عليها في شأن المغيبات".
والجواب أن يقال: من هؤلاء العلماء الذي أجمعوا على هذا القول الباطل؟! أهم علماء السنة من الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان؟! أم هم(3/135)
أئمة الضلال ورؤوس أهل البدع من الجهمية والمعتزلة ونحوهم؟!
فإن كان مراده هذا الفريق الأخير؛ فنعم، هو من أقوالهم التي ابتدعوها، ما أنزل الله بها من سلطان، وكفى بالرجل جهلا أن يجعل أقوال أهل البدع ميزانا للسنة المطهرة، وأن يحكيها إجماعا يعتمد عليه!!
وإن كان مراده الفريق الأول؛ فحاشا وكلا؛ فإنه لا يعرف عن أحد من الصحابة ولا من بعدهم من التابعين وتابعيهم بإحسان أنهم قالوا بهذا القول المبتدع، بل المعروف عنهم أنهم كانوا يتلقون أخبار الثقات بالقبول والتسليم؛ عملا بها، وتصديقا لها، سواء تواترت أو كانت أخبار آحاد، ولا يعرف بينهم نزاع في ذلك، والروايات عنهم بقبول أخبار الآحاد كثيرة، وليس هذا موضع ذكرها، وقد ذكرت جملة منها مع الأدلة من الكتاب والسنة على قبول أخبار الآحاد في أول الكتاب، وذكرت أيضا ما ذكره ابن القيم رحمه الله عن إسحاق بن راهويه وجماعة من أصحاب أحمد وغيرهم: أنهم ذهبوا إلى تكفير من يجحد ما ثبت بخبر الواحد العدل؛ فليراجع ذلك في أول الكتاب.
فصل
وقد خبط أبو عبية في تعاليقه على "النهاية" لابن كثير في نزول عيسى عليه الصلاة والسلام كما خبط قبل ذلك في خروج الدجال وفي غيره مما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه سيكون في آخر الزمان، وقد نبهت على بعض أباطيله فيما تقدم، ونبهت على ما قاله في خروج الدجال في (باب قتل الدجال) وما بعده؛ فليراجع.
وقد قال في (ص71) معلقا على حديث حذيفة بن أسيد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قال: «إن الساعة لن تقوم حتى تروا عشر آيات ... (فذكرها،»(3/136)
«ومنها:) نزول عيسى ابن مريم» .
قال أبو عبية ما نصه: "هل بقي عيسى عليه السلام حتى الآن حيا وسينزل إلى الأرض ليجدد الدعوة إلى دين الله بنفسه، أم أن المراد بنزول عيسى هو انتصار دين الحق وانتشاره من جديد على أيد مخلصة تتجه إلى الله وتعمل على تخليص المجتمع الإنساني من الشرور والآثام؟ رأيان، ذهب إلى كل منهما فريق من العلماء.
وهذا هو ما يقال بالنسبة إلى الدجال: هل هو شخص من لحم ودم ينشر الفساد ويهدد العباد ويملك وسائل الترغيب والترهيب والإفساد دون رادع من دين أو وازع من خلق حتى يقيض له عيسى فيقتله، أم أنه رمز لانتشار الشر وشيوع الفتنة وضعف نوازع الفضيلة، تهب عليه ريح الخير المرموز إليها بعيسى عليه السلام، فتذهبه، وتقضى عليه، وتأخذ بيد الناس إلى محجة الخير ومنهج العدل والتدين؟!
وما دمنا بصدد بيان الرأي في الدجال وظهوره وعيسى عليه السلام ونزوله؛ فإنه من المناسب أن نشير إلى أن النار المشار إليها في حديث الرسول عليه الصلاة والسلام أنها تسوق الناس إلى محشرهم؛ تبيت معهم حيث باتوا، وتقيل معهم حيث قالوا، وتأكل من يتخلف منهم؛ فإن من المناسب أن نشير إلى أن هذه النار يمكن حملها على نار الفتنة التي يمتحن بها الدين وتتعرض لها العقيدة، والتي تترصد الناس لتصدهم عن الله، وتردهم عن الحق والخير، وأن من هرب منها؛ نجا، أما من تلكأ عن أخذ الحيطة وآثر الكسل أو عدم المبالاة؛ فإنها تحرقه حين تحرق دينه، وتأكله إذ تأكل يقينه، وتقذف به إلى عذاب أليم من الحيرة والقلق ثم غضب الله ونقمته".
وقال أبو عبية أيضا في (ص166) من "النهاية" لابن كثير تعليقا على قول(3/137)
ابن عباس رضي الله عنهما في قول الله تعالى: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} ؛ قال: "قبل موت عيسى ابن مريم "، رواه ابن جرير بإسناد صحيح.
قال أبو عبية ما نصه: " ... امتداد حياة عيسى عليه السلام حتى الآن ليس موضع اتفاق بين علماء المسلمين، ولم يرد نص قاطع في هذا الأمر، ولهذا؛ فالقول بموت عيسى أو بحياته ليس داخلا في نطاق ما يكلف المسلم الإيمان به، فللمسلم أن يختار ما تطمئن إليه نفسه، وليس للمسلمين أن يجعلوا من موت عيسى أو حياته موضوع خلاف أو موضع جدل، إنما الذي يجب الإيمان به بقطع ويقين أنه عليه السلام لم يقتل ولم يصلب: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} ، وعلينا أن نلاحظ حقيقة قرآنية واضحة، وهي أن القرآن الكريم لم يستعمل مادة (رفع) في غير الرفع المعنوي، رفع القدر والقيمة والمنزلة، اللهم إلا في موضع واحد لا غيره، وذلك قوله تعالى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ} ، ولهذا فنحن نؤثر أن يكون عيسى عليه السلام قد رفع مكانة لا مكانا؛ لما في هذا الفهم من زيادة التكريم والتعظيم لذلك النبي الكريم، حتى لا يكون هو وحده بدعا بين أنبياء الله ورسله؛ إذ تحدث كتاب الله عن رفعهم معنويا لا حسيا، وشتان بين الرفعين".
والجواب أن يقال: إن كلام أبي عبية في هذه المواضع التي ذكرنا كله باطل وتحريف للكلم عن مواضعه وتشكيك للمسلمين فيما تواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم من خروج الدجال ونزول عيسى عليه الصلاة والسلام في آخر الزمان، وفيما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من خروج النار التي تسوق الناس إلى المحشر في آخر الزمان.(3/138)
ويلزم على قول أبي عبية أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد أخبر الناس بأشياء لا حقيقة لها في نفس الأمر، ولا يخفى أن القول بهذا يقتضي القدح في النبي صلى الله عليه وسلم ورميه بالكذب، وقد نقل القاضي عياض في كتاب "الشفاء" وابن حجر الهيتمي في كتاب "الزواجر" الإجماع على تكفير من نسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم ما لا يليق بمنصبه.
فليتق الله أبو عبية، ولا يأمن أن يكون من الذين أجمع العلماء على تكفيرهم.
فأما قوله: "هل بقي عيسى عليه السلام حتى الآن حيا، وسينزل إلى الأرض؛ ليجدد الدعوة إلى دين الله بنفسه؟! ".
فجوابه أن يقال: قد تواترت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أخبر بنزول عيسى عليه الصلاة والسلام في آخر الزمان حكما عدلا، وهي أدلة قاطعة على بقاء حياته إلى آخر الزمان.
وقد تقدم عن الحسن البصري أنه قال: "والله؛ إنه لحي الآن عند الله".
رواه بن جرير.
وتقدم في حديث عبد الرحمن بن آدم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قال مخبرا عن عيسى عليه الصلاة والسلام: «أنه يدعو الناس إلى الإسلام، ويهلك الله في زمانه (وفي رواية: في إمارته) الملل كلها؛ إلا الإسلام» وفي رواية: ويقاتل الناس على الإسلام"".
فهذا واضح في أن عيسى عليه الصلاة والسلام يجدد الدعوة إلى دين الله بنفسه.
وأما قوله: "أم أن المراد بنزول عيسى هو انتصار دين الحق وانتشاره من(3/139)
جديد على أيد مخلصة تتجه إلى الله وتعمل على تخليص المجتمع الإنساني من الشرور والآثام؟! ".
فجوابه أن يقال: تأويل نزول عيسى عليه الصلاة والسلام بانتصار الحق وانتشاره من جديد على أيد مخلصة تأويل باطل وتحريف للكلم عن مواضعه، وهو من جنس تأويلات القرامطة والباطنية، ويلزم على هذا التأويل الباطل تكذيب ما تواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم من الإخبار بنزول عيسى عليه الصلاة والسلام في آخر الزمان حكما عدلا، ومن كذب بشيء مما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ فهو ممن يشك في إسلامه؛ لأنه لم يحقق الشهادة بأن محمدا رسول الله.
وقد قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى: "كل ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم إسناد جيد؛ أقررنا به، وإذا لم نقر بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ودفعناه ورددناه؛ رددنا على الله أمره، قال الله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} ".
وأما قوله: "رأيان ذهب إلى كل منهما فريق من العلماء".
فجوابه أن يقال: أما علماء أهل السنة والجماعة، وهم العلماء في الحقيقة؛ فهم متفقون على الإيمان بنزول عيسى عليه الصلاة والسلام، وقد تقدم ذكر طرف من أقوالهم في ذلك قريبا، وإنما أنكر ذلك الفلاسفة والملاحدة ومن تبعهم من أهل البدع، ولا عبرة بخلافهم.
وإذا علم هذا؛ فليعلم أيضا أن أهل السنة والجماعة لم يعتمدوا في نزول عيسى عليه الصلاة والسلام على الرأي كما زعم ذلك أبو عبية، وإنما اعتمدوا على الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأما الفلاسفة والملاحدة ومن تبعهم من أهل البدع؛ فهم الذين يعتمدون على آرائهم الباطلة، وهي آراء مردودة؛ لمخالفتها للحق الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وأما قوله: "وهذا هو ما يقال بالنسبة إلى الدجال؛ هل هو شخص من(3/140)
لحم ودم ينشر الفساد ... " إلى آخره.
فجوابه أن يقال: قد تقدمت الأحاديث في صفة الدجال، وفيها أنه رجل قصير، أفحج، جعد، أعور، مطموس العين، ليست بناتئة ولا جحراء، وأنه مكتوب بين عينيه كافر، وأنه هجان، أزهر، كأن رأسه أصلة. وفي رواية أنه «هجان، ضخم، فيلماني، كأن شعره أغصان شجرة، كأن عينيه كوكب الصبح» .
وفي رواية: «إحدى عينيه قائمة كأنها كوكب دري» . و (الهجان) : الأبيض، و (الأزهر) : الأبيض المستنير. وفي رواية: «أنه رجل أحمر، جسيم، جعد الرأس، أعور العين اليمنى، أقرب شبها بابن قطن، وابن قطن رجل من خزاعة» .... إلى غير ذلك مما تقدم في أحاديث الدجال، وفيها أوضح دليل على أنه شخص من لحم ودم.
وفي حديث عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قال: «ينزل عيسى عند صلاة الفجر، فإذا قضى صلاته؛ أخذ عيسى حربته، فيذهب نحو الدجال، فإذا رآه الدجال؛ ذاب كما يذوب الرصاص، فيضع حربته بين ثندوته، فيقتله» .
وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه الذي رواه مسلم في "صحيحه" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " «ولكن يقتله الله بيده - أي: يد عيسى عليه الصلاة والسلام -، فيريهم دمه في حربته» .
وفي هذه الأحاديث أبلغ رد على أبي عبية فيما حاوله من إنكار خروج الدجال.
وأما قوله: "أم أنه رمز لانتشار الشر وشيوع الفتنة وضعف نوازع الفضيلة، تهب عليه ريح الخير المرموز إليها بعيسى عليه السلام، فتذهبه، وتقضي عليه، وتأخذ بيد الناس إلى محجة الخير ومنهج العدل والتدين".(3/141)
فجوابه أن يقال: هذا تأويل باطل مردود، وهو من تحريف الكلم عن مواضعه، وهو موافق لقول الذين ينكرون خروج الدجال ونزول عيسى عليه السلام من الفلاسفة والمعتزلة والجهمية ومن نحا نحوهم من أهل البدع، ويلزم على هذا التأويل الباطل تكذيب ما تواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم من الإخبار بخروج الدجال، والتكذيب بما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم لا يصدر إلا من جاهل أو من رجل ينتسب إلى الإسلام وهو عنه بمعزل.
وأما قوله: "إنه من المناسب أن نشير إلى أن النار المشار إليها في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: «أنها» «تسوق الناس إلى محشرهم؛ تبيت معهم حيث باتوا، وتقيل معهم حيث قالوا، وتأكل من يتخلف منهم؛» فإن من المناسب أن نشير إلى أن هذه النار يمكن حملها على نار الفتنة التي يمتحن بها الدين وتتعرض لها العقيدة ... " إلى آخر كلامه.
فجوابه أن يقال: هذا تأويل باطل مردود، وهو من تحريف الكلم عن مواضعه، والحق أن النار التي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بخروجها في آخر الزمان في عدة أحاديث صحيحة؛ أنها نار على الحقيقة، وهي من أشراط الساعة، ومن أنكر خروجها أو شك في ذلك؛ فهو ممن لم يحقق الشهادة بأن محمدا رسول الله.
وأما قوله: "إن امتداد حياة عيسى عليه السلام حتى الآن ليس موضع اتفاق بين علماء المسلمين".
فجوابه أن يقال: بل هو موضع اتفاق بين علماء أهل السنة والجماعة، وقد ذكرت بعض أقوالهم في ذلك وما حكاه بعضهم من إجماع أهل السنة والجماعة على ذلك قريبا؛ فليراجع. وقد خالفهم الفلاسفة وبعض الخوارج والمعتزلة والجهمية ومن نحا نحوهم من أهل البدع، ومنهم أبو عبية وأشباهه من العصريين، ولا عبرة بخلافهم.(3/142)
وأما قوله: "ولم يرد نص قاطع في هذا الأمر".
فجوابه أن يقال: بل قد تواترت النصوص الدالة على نزول عيسى عليه الصلاة والسلام في آخر الزمان حكما عدلا، وهي أدلة قاطعة على امتداد حياته حتى الآن.
وأما قوله: "ولهذا؛ فالقول بموت عيسى أو بحياته ليس داخلا في نطاق ما يكلف المسلم الإيمان به، فللمسلم أن يختار ما تطمئن إليه نفسه".
فجوابه أن يقال: بل المسلم مكلف بالإيمان بكل ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأوامر والنواهي وأخبار الغيوب الماضية والآتية، والدليل على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ويؤمنوا بي وبما جئت به، فإذا فعلوا ذلك؛ عصموا مني دماءهم وأموالهم؛ إلا بحقها، وحسابهم على الله» .
رواه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
وقد تواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أخبر بنزول عيسى عليه الصلاة والسلام في آخر الزمان، وفيها دليل قاطع على بقاء حياته إلى آخر الزمان، وهذا مما يجب الإيمان به، وليس للمسلم أن يختار لنفسه ما يخالف الإيمان بما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم.
قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} ، وإذا لم تطمئن نفس المرء للإيمان بما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ فليس بمسلم في الحقيقة.
وأما قوله: "وليس للمسلمين أن يجعلوا من موت عيسى أو حياته موضوع خلاف أو موضع جدل".(3/143)
فجوابه أن يقال: قد اتفق أهل السنة والجماعة على القول ببقاء حياة عيسى عليه الصلاة والسلام ونزوله في آخر الزمان حكما عدلا، وليس بينهم خلاف ولا جدل في ذلك، وقد تقدم ذكر أقوالهم في ذلك قريبا، والذين جعلوا من حياة عيسى موضوع خلاف وجدل هم الفلاسفة وبعض أهل البدع من الخوارج والمعتزلة والجهمية ومن اقتفى آثارهم من أهل البدع، وهم كثيرون في زماننا، ولا عبرة بخلافهم.
وأما قوله: "إنما الذي يجب الإيمان به بقطع ويقين أنه عليه السلام لم يقتل ولم يصلب {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} .
فجوابه أن يقال: ويجب أيضا الإيمان بقطع ويقين أن عيسى عليه الصلاة والسلام ينزل في آخر الزمان حكما عدلا يحكم بالشريعة المحمدية، وأنه يكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويقتل الدجال، ويقاتل الناس على الإسلام، ويهلك الله في زمانه الملل كلها إلا الإسلام، وأنه يحج ويعتمر، وأنه يمكث في الأرض أربعين سنة، ثم يتوفى، ويصلي عليه المسلمون، ويدفنونه؛ فهذا كله مما يجب الإيمان به بقطع ويقين؛ لثبوته عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد قال الله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} ، وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ألا إني أوتيت الكتاب مثله ومثله معه» . وعلى هذا؛ فمن أنكر شيئا مما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في شأن عيسى عليه الصلاة والسلام أو شك فيه؛ فهو لم يحقق الشهادة بأن محمدا رسول الله.
وأما قوله: "وعلينا أن نلاحظ حقيقة قرآنية واضحة، وهي أن القرآن الكريم لم يستعمل مادة (رفع) في غير الرفع المعنوي؛ رفع القدر والقيمة والمنزلة،(3/144)
اللهم إلا في موضع واحد لا غيره، وذلك قوله تعالى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ} .
فجوابه أن يقال: قد جاء ذكر الرفع الحسي في القرآن في عدة مواضع:
أحدها: رفع السماء على الأرض.
قال الله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} .
وقال تعالى: {وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ} .
وقال تعالى: {وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ} .
وقال تعالى: {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا} .
الموضع الثاني: رفع الطور على بني إسرائيل:
قال الله تعالى: {وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ} .
وقال تعالى: {وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ} .
الموضع الثالث: رفع إدريس عليه الصلاة والسلام إلى السماء.
قال الله تعالى: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا} .
الموضع الرابع: رفع عيسى عليه الصلاة والسلام إلى السماء.
قال الله تعالى: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} .
وقال تعالى: {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} .
وفي قوله: إليه: أوضح دليل على أنه قد رفع إلى السماء؛ كقوله تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} .
الموضع الخامس: رفع إبراهيم وإسماعيل لقواعد البيت.(3/145)
قال الله تعالى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ} .
الموضع السادس: بناء المساجد.
قال الله تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} .
الموضع السابع: قوله تعالى: {فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ} .
ففي هذه المواضع كلها استعمال مادة (رفع) في الرفع الحسي لا المعنوي، وفيها أبلغ رد على أبي عبية.
وأما قوله: "ولهذا فنحن نؤثر أن يكون عيسى عليه السلام قد رفع مكانة لا مكانا؛ لما في هذا الفهم من زيادة التكريم والتعظيم لذلك النبي الكريم، حتى لا يكون هو وحده بدعا بين أنبياء الله ورسله؛ إذ تحدث كتاب الله عن رفعهم معنويا لا حسيا، وشتان بين الرفعين".
فجوابه أن يقال: إن الله تعالى قد رفع عيسى عليه الصلاة والسلام مكانة كسائر المسلمين، ورفعه مكانا؛ كما دل على ذلك قول الله تعالى: {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} ، وقوله تعالى: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} ، وما تواترت به الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم وأجمع عليه أهل السنة والجماعة من نزوله في آخر الزمان.
وقد جاء في الحديث الصحيح عن النواس بن سمعان رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «فبينما هو كذلك؛ إذ بعث الله المسيح ابن مريم، فينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق بين مهرودتين، واضعا كفيه على أجنحة ملكين» .
وهذا ظاهر في نزوله من السماء.
وقد جاء النص على نزوله من السماء فيما رواه البزار بإسناد جيد من(3/146)
حديث عاصم بن كليب عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد تقدم في (باب نزول عيسى إلى الأرض) ؛ فليراجع.
وفي رفع عيسى عليه الصلاة والسلام إلى السماء زيادة تكريم وتعظيم ورفع لمكانه ومكانته.
وأما قوله: "حتى لا يكون هو وحده بدعا بين أنبياء الله ورسله".
فجوابه أن يقال: إن الله تعالى قد خص بعض الأنبياء بخصائص ليست لغيرهم، فخص إبراهيم ومحمدا صلى الله عليهما وسلم بالخلة، وخص آدم وموسى ومحمدا عليهم الصلاة والسلام بالتكليم، وخص موسى عليه الصلاة والسلام بالمناجاة، وخص داود عليه الصلاة والسلام بالصوت الحسن، وخص سليمان عليه الصلاة والسلام بتسخير الريح والشياطين، وخص عيسى عليه الصلاة والسلام بإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى بإذن الله، وخص إدريس وعيسى عليهما الصلاة والسلام بالرفع إلى السماء، وخص عيسى أيضا ببقائه حيا إلى الزمان؛ حيث ينزل إلى الأرض، فيقتل الدجال، ويجدد الشريعة المحمدية، ويبقى في الأرض أربعين سنة، ثم يتوفى، ويصلي عليه المسلمون، ويدفنونه، وخص محمدا صلى الله عليه وسلم بخصائص كثيرة لم تكن لغيره من الأنبياء، ومنها: العروج به إلى ما فوق السماوات السبع، وفرض الصلوات الخمس عليه وعلى أمته مباشرة بدون واسطة، وهذا من أعظم التكريم والتعظيم ورفع المكانة والمكان.
وأما قوله: "إذ تحدث كتاب الله عن رفعهم معنويا لا حسيا".
فجوابه أن يقال:
قد جاء في القرآن ذكر رفع بعضهم معنويا؛ كما قال تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ} .(3/147)
وجاء فيه أيضا ذكر رفع بعضهم حسيا؛ كما قال تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا} .
وقال تعالى: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} .
وقال تعالى: {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} .
وقال تعالى: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} .
وفي هذه الآيات أبلغ رد على أبي عبية.
وأما قوله: "وشتان بين الرفعين".
فجوابه أن يقال: إن الرفع الحسي - وهو رفع المكان - يستلزم الرفع المعنوي - وهو رفع المكانة -، فمن رفعه الله إليه؛ فقد زاد في مكانته وتكريمه؛ فلا منافاة بين الرفعين. والله أعلم.
أبواب
ما جاء في يأجوج ومأجوج
قال الله تعالى: {ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا قَالُوا يَاذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا}(3/148)
{فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا} .
باب
ما جاء في خروج يأجوج ومأجوج
قال الله تعالى: {حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ} .... الآية.
قال السدي في قول الله تعالى: {وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ} ؛ قال: "ذاك حين يخرجون على الناس".
قال ابن كثير: "وهذا كله قبل يوم القيامة وبعد الدجال ". انتهى.
وقد جاء ذكر خروج يأجوج ومأجوج في عدة أحاديث تقدم ذكرها.
منها حديث حذيفة بن أسيد الغفاري رضي الله عنه؛ قال: «اطلع النبي صلى الله عليه وسلم علينا ونحن نتذاكر، فقال: "ما تذاكرون؟ " قالوا: نذكر الساعة. قال: "إنها لن تقوم حتى تروا قبلها عشر آيات (فذكر) : الدخان، والدجال، والدابة، وطلوع الشمس من مغربها، ونزول عيسى ابن مريم صلى الله عليه وسلم، ويأجوج ومأجوج، وثلاثة خسوف: خسف بالمشرق، وخسف بالمغرب، وخسف بجزيرة العرب، وآخر ذلك نار تخرج من اليمن تطرد الناس إلى محشرهم» .
رواه: الإمام أحمد، وأبو داود الطيالسي، ومسلم واللفظ له، وأهل السنن. وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح".
ومنها حديث واثلة بن الأسقع رضي الله عنه؛ قال: سمعت رسول الله(3/149)
صلى الله عليه وسلم يقول: " «لا تقوم الساعة حتى تكون عشر آيات: خسف بالمشرق، وخسف بالمغرب، وخسف بجزيرة العرب، والدجال، والدخان، ونزول عيسى بن مريم، ويأجوج ومأجوج، والدابة، وطلوع الشمس من مغربها، ونار تخرج من قعر عدن تسوق الناس إلى المحشر تحشر الذر والنمل» .
رواه: الطبراني، وابن مردويه، والحاكم في "مستدركه"، وقال "صحيح الإسناد ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي في "تلخيصه".
ومنها حديث النواس بن سمعان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذكر خروج الدجال ونزول عيسى عليه الصلاة والسلام، وفيه: «فبينما هو كذلك؛ إذ أوحى الله إلى عيسى: إني قد أخرجت عبادا لي لا يدان لأحد بقتالهم، فحرز عبادي إلى الطور. ويبعث الله يأجوج ومأجوج، وهم من كل حدب ينسلون، فيمر أوائلهم على بحيرة طبرية، فيشربون ما فيها، ويمر آخرهم، فيقولون: لقد كان بهذه مرة ماء، ويحصر نبي الله عيسى وأصحابه، حتى يكون رأس الثور لأحدهم خيرا من مائة دينار لأحدكم اليوم، فيرغب نبي الله عيسى وأصحابه إلى الله، فيرسل الله عليهم النغف في رقابهم، فيصبحون فرسى كموت نفس واحدة، ثم يهبط نبي الله عيسى وأصحابه إلى الأرض، فلا يجدون في الأرض موضع شبر إلا ملأه زهمهم ونتنهم، فيرغب نبي الله عيسى وأصحابه إلى الله، فيرسل الله طيرا كأعناق البخت، فتحملهم، فتطرحهم حيث شاء الله» ..... الحديث.
رواه: الإمام أحمد، ومسلم، والترمذي، وابن ماجه. وقال الترمذي: "هذا حديث غريب حسن صحيح".
وزاد الترمذي في روايته ومسلم في رواية له بعد قوله: «لقد كان بهذا مرة ماء» : «ثم يسيرون، حتى ينتهوا إلى جبل الخمر، وهو جبل بيت المقدس،»(3/150)
«فيقولون: لقد قتلنا من في الأرض، هلم فلنقتل من في السماء، فيرمون بنشابهم إلى السماء، فيرد الله عليهم نشابهم مخضوبة دما» .
وزاد أحمد بعد قوله: «فتطرحهم حيث شاء الله عز وجل» : "قال ابن جابر: فحدثني عطاء بن يزيد السكسكي عن كعب أو غيره؛ قال: فتطرحهم بالمهبل. قال ابن جابر: فقلت: يا أبا يزيد! أين المهبل؟ قال: مطلع الشمس".
وفي رواية الترمذي: " «فتحملهم، فتطرحهم بالمهبل، ويستوقد المسلمون من قسيهم ونشابهم وجعابهم سبع سنين» .
وقد روى ابن ماجه هذه الزيادة مفردة، ولفظه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سيوقد المسلمون من قسي يأجوج ومأجوج ونشابهم وأترستهم سبع سنين» .
وقد روى ابن عساكر في "تاريخه" حديث النواس مختصرا، وقال فيه بعد ذكر نزول عيسى وقتل الدجال: «فبينما هم فرحون لما هم فيه؛ خرجت يأجوج ومأجوج، فيوحى إلى المسيح: إني قد أخرجت عبادا لي لا يستطيع قتلهم إلا أنا، فأحرز عبادي إلى الطور. فيمر صدر يأجوج ومأجوج على بحيرة الطبرية، فيشربونها، ثم يقبل آخرهم، فيركزون رماحهم، فيقولون: لقد كان هاهنا مرة ماء، حتى إذا كانوا حيال بيت المقدس؛ قالوا: قد قتلنا من في الأرض، فهلموا نقتل من في السماء، فيرمون نبلهم إلى السماء، فيردها الله مخضوبة بالدم، فيقولون: قد قتلنا من في السماء، ويتحصن ابن مريم وأصحابه، حتى يكون رأس الثور خيرا من مائة دينار اليوم» .
ومنها حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذكر الدجال ونزول عيسى عليه الصلاة والسلام، وفيه: «فبينما هم كذلك؛ إذ أخرج الله يأجوج ومأجوج، فيشرب أولهم البحيرة، ويجيء آخرهم وقد أنشفوه، فما»(3/151)
«يدعون فيه قطرة، فيقولون: ظهرنا على أعدائنا، قد كان هاهنا أثر ماء. فيجيء نبي الله عيسى صلى الله عليه وسلم وأصحابه وراءه، حتى يدخلوا مدينة من مدائن فلسطين يقال لها: لد، فيقولون: ظهرنا على من في الأرض، فتعالوا نقاتل من في السماء.
فيدعو الله نبيه صلى الله عليه وسلم عند ذلك، فيبعث الله عليهم قرحة في حلوقهم، فلا يبقى منهم بشر، فيؤذي ريحهم المسلمين، فيدعو عيسى صلوات الله عليه وعليهم، فيرسل الله عليهم ريحا، فتقذفهم في البحر أجمعين» .
رواه: الحاكم، وابن منده في "كتاب الإيمان"، وابن عساكر. وقال الحاكم: " صحيح على شرط مسلم "، وأقره الذهبي. وقال ابن كثير في "النهاية": "قال شيخنا الحافظ أبو عبد الله الذهبي في إسناد ابن منده: هذا إسناد صالح". قال ابن كثير: "وفيه سياق غريب وأشياء منكرة".
ومنها حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ قال: «لقيت ليلة أسري بي إبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام، فتذاكروا أمر الساعة، فردوا أمرهم إلى إبراهيم، فقال: لا علم لي بها. فردوا أمرهم إلى موسى، فقال: لا علم لي بها. فردوا أمرهم إلى عيسى، فقال: أما وجبتها فلا يعلم بها أحد إلا الله، وفيما عهد إلي ربي عز وجل أن الدجال خارج ومعي قضيبان، فإذا رآني؛ ذاب كما يذوب الرصاص. قال: فيهلكه الله إذا رآني، حتى إن الشجر والحجر يقول: يا مسلم! إن تحتي كافرا؛ فتعال فاقتله.
قال: فيهلكهم الله، ثم يرجع الناس إلى بلادهم وأوطانهم؛ فعند ذلك يخرج يأجوج ومأجوج، وهم من كل حدب ينسلون، فيطؤون بلادهم، فلا يأتون على شيء إلا أهلكوه، ولا يمرون على ماء إلا شربوه.
قال: ثم يرجع الناس يشكونهم، فأدعو الله عليهم، فيهلكهم ويميتهم، حتى تجوى الأرض من نتن ريحهم، وينزل الله المطر، فيجترف أجسادهم، حتى يقذفهم في البحر، ففيما عهد إلي ربي عز وجل أن ذلك إذا كان كذلك: أن الساعة كالحامل المتم، لا»(3/152)
«يدري أهلها متى تفاجئهم بولادها ليلا أو نهارا» .
رواه: الإمام أحمد، وابن ماجه، وابن جرير، والحاكم وقال: "صحيح الإسناد ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي في "تلخيصه". وزاد ابن ماجه والحاكم فيه: "قال العوام - وهو ابن حوشب أحد رواته -: فوجدت تصديق ذلك في كتاب الله عز وجل، ثم قرأ: {حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ} .
ومنها حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما موقوفا في ذكر الملحمة الكبرى بين المسلمين والروم وخروج الدجال على إثر ذلك ونزول عيسى عليه الصلاة والسلام، وفيه: "فبينما هم كذلك؛ إذ سمعوا صوتا قال: فتحت يأجوج ومأجوج، وهو كما قال الله تعالى: {وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ} ، فيفسدون الأرض كلها، حتى إن أوائلهم ليأتي النهر العجاج، فيشربونه كله، وإن آخرهم ليقول: قد كان هاهنا نهر، ويحاصرون عيسى ومن معه ببيت المقدس، ويقولون: ما نعلم في الأرض أحدا إلا ذبحناه، هلموا نرمي من في السماء. فيرمون، حتى ترجع إليهم سهامهم في نصولها الدم قليلا، فيقولون: ما بقي في الأرض ولا في السماء. فيقول المؤمنون: يا روح الله! ادع عليهم بالفناء، فيدعو الله عليهم، فيبعث النغف في آذانهم فيقتلهم في ليلة واحدة، فتنتن الأرض كلها من جيفهم، فيقولون: يا روح الله! نموت من النتن. فيدعو الله، فيبعث وابلا من المطر، فجعله سيلا، فيقذفهم كلهم في البحر....." الحديث.
رواه ابن عساكر في "تاريخه".
وعن أم حبيبة بنت أبي سفيان رضي الله عنهما عن زينب بنت جحش رضي الله عنها؛ قالت: «خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فزعا محمرا وجهه يقول: " لا إله إلا الله، ويل للعرب من شر قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج»(3/153)
«ومأجوج مثل هذه -وحلق بأصبعيه الإبهام والتي تليها-". قالت: فقلت: يا رسول الله! أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: "نعم؛ إذا كثر الخبث» .
رواه: الإمام أحمد، والشيخان، والترمذي، وابن ماجه. وفي رواية لأحمد: قالت: «دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عاقد بأصبعيه السبابة بالإبهام، وهو يقول: " ويل للعرب من شر قد اقترب؛ فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل موضع الدرهم". قالت: فقلت: يا رسول الله! أنهلك وفينا الصالحون؟ قال صلى الله عليه وسلم: "نعم؛ إذا كثر الخبث» .
قال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري": " (الخبث) ؛ بفتح المعجمة والموحدة ثم مثلثة: فسروه بالزنى وبأولاد الزنى، وبالفسوق والفجور، وهو أولى؛ لأنه قابله بالصلاح.
قال ابن العربي: فيه البيان بأن الخير يهلك بهلاك الشرير إذا لم يغير عليه خبثه، وكذلك إذا غير عليه، لكن حيث لا يجدي ذلك، ويصر الشرير على عمله السيئ، ويفشو ذلك ويكثر، حتى يعم الفساد، فيهلك حينئذ القليل والكثير، ثم يحشر كل أحد على نيته، وكأنها فهمت من فتح القدر المذكور من الردم أن الأمر إن تمادى على ذلك؛ اتسع الخرق؛ بحيث يخرجون، وكان عندها علم أن في خروجهم على الناس إهلاكا عاما لهم". انتهى.
وعن أم حبيبة رضي الله عنها؛ قالت: «استيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: " لا إله إلا الله، ويل للعرب من شر قد اقترب، فتح من ردم يأجوج ومأجوج -وحلق بيده عشرا-". قالت: قلت: يا رسول الله! أنهلك وفينا وفينا الصالحون؟ قال: "نعم؛ إذا كثر الخبث» .
رواه ابن حبان في "صحيحه". وقد رواه: الإمام أحمد، والشيخان، والترمذي، وابن ماجه؛ من حديث أم حبيبة عن زينب بنت جحش رضي الله(3/154)
عنها؛ كما تقدم ذكره، فلعل ذكر زينب سقط من طريق ابن حبان. والله أعلم.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ قال: «فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه "وعقد وهيب بيده تسعين"» .
متفق عليه، وهذا لفظ مسلم.
ووهيب المذكور هو وهيب بن خالد الباهلي، أحد رواة هذا الحديث.
وعن عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ويل للعرب من شر قد اقترب؛ فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه "وعقد عشرة"". قيل: أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: "نعم؛ إذا كثر الخبث» .
رواه الطبراني.
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه؛ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يفتح يأجوج ومأجوج، فيخرجون على الناس؛ كما قال الله عز وجل: {وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ} ، فيعيثون في الأرض، وينحاز المسلمون عنهم إلى مدائنهم وحصونهم، ويضمون إليهم مواشيهم، ويشربون مياه الأرض، حتى إن بعضهم ليمر بالنهر، فيشربون ما فيه، حتى يتركوه يابسا، حتى إن من بعدهم ليمر بذلك النهر، فيقول: لقد كان هاهنا ماء مرة، حتى إذا لم يبق من الناس أحد إلا أحد في حصن أو مدينة؛ قال قائلهم: هؤلاء أهل الأرض قد فرغنا منهم، بقي أهل السماء". قال: "ثم يهز أحدهم حربته، ثم يرمي بها إلى السماء، فترجع مختضبة دما للبلاء والفتنة، فبينما هم على ذلك؛ إذ بعث الله دودا في أعناقهم كنغف الجراد الذي يخرج في أعناقهم، فيصبحون موتى لا يسمع لهم حس، فيقول المسلمون: ألا رجل يشري لنا نفسه فينظر ما فعل هذا العدو؟ ". قال: "فيتجرد رجل منهم لذلك محتسبا بنفسه قد وطنها على أنه مقتول، فينزل، فيجدهم موتى بعضهم على بعض، فينادي: يا معشر»(3/155)
«المسلمين! ألا أبشروا؛ فإن الله قد كفاكم عدوكم، فيخرجون من مدائنهم وحصونهم، ويسرحون مواشيهم، فما يكون لها رعي إلا لحومهم، فتشكر عنه كأحسن ما شكرت عن شيء من النبات أصابته قط» .
رواه: الإمام أحمد، وابن ماجه، وابن حبان في "صحيحه"، والحاكم في "مستدركه"، وقال "صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي في "تلخيصه".
قال ابن الأثير: " (تشكر) ؛ أي: تسمن وتمتلئ شحما، يقال: شكرت الشاة؛ بالكسر، تشكر شكرا؛ بالتحريك: إذا سمنت وامتلأ ضرعها لبنا". انتهى.
وعن عطية العوفي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ألا كل نبي قد أنذر أمته الدجال» ... الحديث، وقد تقدم إيراده بطوله من رواية الحاكم في (باب قصة المؤمن مع الدجال) ، وقد رواه أحمد بن منيع بنحو رواية الحاكم، وزاد بعد هلاك الدجال: قال: «فيمكثون في الأرض ما شاء الله أن يمكثوا، ثم يفتح يأجوج ومأجوج، فيهلكون من في الأرض؛ إلا من تعلق بحصن، فلما فرغوا من أهل الأرض؛ أقبل بعضهم على بعض، فقالوا: إنما بقي من في الحصون ومن في السماء، فيرمون بسهامهم، فخرت منغمرة دما، فقالوا: قد استرحتم ممن في السماء وبقي من في الحصون، فحاصروهم حتى اشتد عليهم الحصر والبلاء، فبينما هم كذلك؛ إذ أرسل الله عليهم نغفا في أعناقهم، فقصمت أعناقهم، فمال بعضهم على بعض موتى، فقال رجل منهم: قتلهم الله رب الكعبة. قالوا: إنما يفعلون هذا مخادعة، فنخرج إليهم، فيهلكونا كما أهلكوا إخواننا. فقال: افتحوا لي الباب. فقال أصحابه: لا نفتح. فقال: دلوني بحبل. فلما نزل؛ وجدهم موتى، فخرج»(3/156)
«الناس من حصونهم". فحدثني أبو سعيد أن مواشيهم جعلها الله لهم حياة يقضمونها ما يجدون غيرها. قال: وحدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أن الناس يغرسون بعدهم الغروس ويتخذون الأموال". قال: فقلت: سبحان الله! أبعد يأجوج ومأجوج؟! قال: " نعم» .
عطية العوفي ضعيف، ولكن لحديثه هذا شاهد مما قبله وما بعده.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن يأجوج ومأجوج ليحفرون السد كل يوم، حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس؛ قال الذي عليهم: ارجعوا فستحفرونه غدا. فيعودون إليه كأشد ما كان، حتى إذا بلغت مدتهم، وأراد الله عز وجل أن يبعثهم إلى الناس؛ حفروا، حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس؛ قال الذي عليهم: ارجعوا، فستحفرونه غدا إن شاء الله. ويستثني، فيعودون إليه وهو كهيئته حين تركوه، فيحفرونه، ويخرجون على الناس، فينشفون المياه، ويتحصن الناس منهم في حصونهم، فيرمون بسهامهم إلى السماء، فترجع وعليها كهيئة الدم، فيقولون: قهرنا أهل الأرض، وعلونا أهل السماء، فيبعث الله عليهم نغفا في أقفائهم، فيقتلهم بها". فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفس محمد بيده؛ إن دواب الأرض لتسمن وتشكر شكرا من لحومهم ودمائهم» .
رواه: الإمام أحمد، والترمذي، وابن ماجه، وابن حبان في "صحيحه" مختصرا، والحاكم في "مستدركه"، وقال "صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي في "تلخيصه".
وفي رواية الترمذي قال: «فوالذي نفس محمد بيده؛ إن دواب الأرض تسمن وتبطر وتشكر شكرا من لحومهم» . وفي رواية الحاكم قال: «والذي نفس محمد بيده؛ إن دواب الأرض لتسمن وتبطر وتشكر شكرا وتسكر سكرا من»(3/157)
«لحومهم» .
قال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" في الكلام على هذا الحديث: فيه أن فيهم أهل صناعة وأهل ولاية وسلاطة ورعية تطيع من فوقها، وأن فيهم من يعرف الله ويقر بقدرته ومشيئته، ويحتمل أن تكون تلك الكلمة تجري على لسان ذلك الوالي من غير أن يعرف معناها، فيحصل المقصود ببركتها.
وقد أخرج عبد بن حميد من طريق كعب الأحبار نحو حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وقال فيه: "فإذا بلغ الأمر؛ ألقى الله على بعض ألسنتهم: نأتي إن شاء الله غدا، فنفرغ منه".
وأخرج ابن مردويه من حديث حذيفة رضي الله عنه نحو حديث أبي هريرة، وفيه: "فيصبحون وهو أقوى منه بالأمس، حتى يسلم رجل منهم حين يريد الله أن يبلغ أمره، فيقول المؤمن: غدا نفتحه إن شاء الله، فيصبحون، ثم يغدون عليه فيفتح...." الحديث، وسنده ضعيف جدا. انتهى.
وعن أبي الزعراء؛ قال: كنا عند عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، فذكر عنده الدجال، فقال عبد الله بن مسعود: "تفترقون أيها الناس لخروجه ثلاث فرق: فرقة تتبعه، وفرقة تلحق بأرض آبائها بمنابت الشيح، وفرقة تأخذ شط الفرات؛ يقاتلهم ويقاتلونه، حتى يجتمع المؤمنون بقرى الشام". قال عبد الله: "ويزعم أهل الكتاب أن المسيح ينزل فيقتله، ثم يخرج يأجوج ومأجوج، فيمرحون في الأرض، فيفسدون فيها (ثم قرأ عبد الله {وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ} ؛ قال:) ثم يبعث الله عليهم دابة مثل هذا النغف، فتلج في أسماعهم ومناخرهم، فيموتون منها، فتنتن الأرض منهم، فيجأرون إلى الله، فيرسل ماء يطهر الأرض منهم......" الحديث.
رواه الحاكم في "مستدركه"، وقال: "صحيح على شرط الشيخين ولم(3/158)
يخرجاه"، ووافقه الذهبي في موضع من "تلخيصه"، وقال في موضع آخر: "ما احتجا بأبي الزعراء ".
باب
أن يأجوج ومأجوج من سلالة آدم
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه؛ قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «يقول الله عز وجل يوم القيامة: يا آدم! يقول: لبيك ربنا وسعديك. فينادى بصوت: إن الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثا إلى النار. قال: يا رب! وما بعث النار؟ قال: من كل ألف (أراه قال:) تسعمائة وتسعة وتسعين. فحينئذ تضع الحامل حملها، ويشيب الوليد، وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد". فشق ذلك على الناس حتى تغيرت وجوههم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "من يأجوج ومأجوج تسع مائة وتسعة وتسعين، ومنكم واحد» ..... الحديث.
متفق عليه، وهذا لفظ البخاري.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «قرأ: {يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا} ؛ قال: "ذلك يوم القيامة، وذلك يوم يقول الله عز وجل لآدم: قم فابعث من ذريتك بعثا إلى النار. فقال: من كم يا رب؟ قال: من ألف تسع مائة وتسعة وتسعون وينجو واحد". فشق ذلك على المسلمين، وعرف ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أبصر ذلك في وجوههم: "إن بني آدم كثير، ويأجوج ومأجوج من ولد آدم، وإنه لا يموت منهم رجل حتى يرثه لصلبه ألف رجل؛ ففيهم وفي أشباههم جنة لكم» .
رواه الطبراني. قال الهيثمي: "وفيه عثمان بن عطاء الخراساني، وهو متروك، وضعفه الجمهور، واستحسن أبو حاتم حديثه".(3/159)
قلت: وحديث أبي سعيد يشهد لهذا الحديث ويقويه.
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ قال: «إن يأجوج ومأجوج من ولد آدم، وإنهم لو أرسلوا على الناس؛ لأفسدوا عليهم معايشهم، ولن يموت منهم أحد؛ إلا ترك من ذريته ألفا فصاعدا، وإن من ورائهم ثلاث أمم: تاويل، وتاريس، ومنسك» .
رواه: أبو داود الطيالسي، والطبراني في "الكبير" و"الأوسط" من طريقه. قال الهيثمي: "ورجاله ثقات". ورواه أيضا عبد بن حميد وابن المنذر وابن مردويه والبيهقي في "البعث". قال ابن كثير: "هذا حديث غريب، وقد يكون من كلام عبد الله بن عمرو من الزاملتين".
قلت: وسيأتي بعضه موقوفا على عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، وذلك يقوي ما قاله ابن كثير رحمه الله تعالى.
ويؤيد رفعه ما رواه ابن حبان في "صحيحه" عن ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعا، وسيأتي في الباب الذي بعد هذا الباب إن شاء الله تعالى.
ويأتي فيه أيضا عدة أحاديث تدل على أن يأجوج ومأجوج من ذرية آدم، وفي آخرها أثر عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما صريح في ذلك. والله أعلم.
قال ابن كثير في "البداية والنهاية" في ذكر يأجوج ومأجوج: "هم ذرية آدم بلا خلاف نعلمه، ثم استدل على ذلك بحديث أبي سعيد الذي ذكرنا". قال: "ثم هم من ذرية نوح؛ لأن الله تعالى أخبر أنه استجاب لعبده نوح في دعائه على أهل الأرض بقوله: {رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} ، وقال تعالى: {فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ} ، وقال تعالى: {وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ}(3/160)
ومن زعم أن يأجوج ومأجوج خلقوا من نطفة آدم حين احتلم، فاختلطت بالتراب، فخلقوا من ذلك، وأنهم ليسوا من حواء؛ فهو قول حكاه الشيخ أبو زكريا النواوي في "شرح مسلم " وغيره، وضعفوه، وهو جدير بذلك؛ إذ لا دليل عليه، بل هو مخالف لما ذكرناه من أن جميع الناس اليوم من ذرية نوح بنص القرآن، وهكذا من زعم أنهم على أشكال مختلفة وأطوال متباينة جدا؛ فمنهم من هو كالنخلة السحوق، ومنهم من هو في غاية القصر، ومنهم من يفترش أذنا من أذنيه ويتغطى بالأخرى؛ فكل هذه أقوال بلا دليل ورجم بالغيب بغير برهان".
قلت: وقد ورد في ذلك حديث ضعيف سيأتي في باب كثرة يأجوج ومأجوج إن شاء الله تعالى.
قال ابن كثير: "والصحيح أنهم من بني آدم، وعلى أشكالهم وصفاتهم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله خلق آدم وطوله ستون ذراعا، ثم لم يزل الخلق ينقص حتى الآن» ، وهذا فيصل في هذا الباب وغيره". انتهى.
وقد روى الحاكم في "مستدركه" عن سعيد بن المسيب: أنه قال: "ولد نوح عليه الصلاة والسلام ثلاثة: سام وحام ويافث، فولد سام العرب وفارس والروم، وفي كل هؤلاء خير، وولد حام السودان والبربر والقبط، وولد يافث الترك والصقالبة ويأجوج ومأجوج".
ورواه البزار في "مسنده" من حديث سعيد بن المسيب عن أبي هريرة رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ولد لنوح سام وحام ويافث، فولد لسام العرب وفارس والروم والخير فيهم، وولد ليافث يأجوج ومأجوج والترك والسقالبة ولا خير فيهم، وولد لحام القبط والبربر والسودان» .
في إسناده محمد بن يزيد بن سنان الرهاوي عن أبيه، وكلاهما ضعيف.(3/161)
قال ابن كثير: "والمحفوظ عن سعيد من قوله، وهكذا روي عن وهب بن منبه مثله". انتهى.
باب
ما جاء في كثرة يأجوج ومأجوج
قد تقدم في الباب قبله ثلاثة أحاديث تدل على عظم كثرتهم.
وعن عمران بن حصين رضي الله عنهما؛ قال: «كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر، فتفاوت بين أصحابه السير، فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم صوته بهاتين الآيتين: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} ... إلى قوله: {وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} ، فلما سمع ذلك أصحابه؛ حثوا المطي، وعرفوا أنه عند قول يقوله، فقال: "هل تدرون أي يوم ذلك؟ ". قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: "ذلك يوم ينادي الله فيه آدم، فيناديه ربه، فيقول: يا آدم! ابعث بعث النار. فيقول: أي رب! وما بعث النار؟ فيقول: من كل ألف تسع مائة وتسعة وتسعون إلى النار وواحد إلى الجنة". فيئس القوم حتى ما أبدوا بضاحكة، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي بأصحابه؛ قال: "اعملوا وأبشروا؛ فوالذي نفس محمد بيده؛ إنكم لمع خليقتين ما كانتا مع شيء إلا كثرتاه؛ يأجوج ومأجوج، ومن مات من بني آدم وبني إبليس". قال: فسري عن القوم بعض الذي يجدون. قال: "اعملوا وأَبشروا؛ فوالذي نفس محمد بيده؛ ما أنتم في الناس إلا كالشامة في جنب البعير، أو كالرقمة في ذراع الدابة» .
رواه: الإمام أحمد، وأبو داود الطيالسي، والترمذي، والنسائي، والحاكم في "مستدركه"، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وقال الحاكم: "صحيح الإسناد ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي في "تلخيصه".(3/162)
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه؛ قال: «نزلت {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في مسير له، فرفع بها صوته، حتى ثاب إليه أصحابه، ثم قال: "أتدرون أي يوم هذا؟ يوم يقول الله جل وعلا: يا آدم! قم فابعث بعث النار، من كل ألف تسع مائة وتسعة وتسعين". فكبر ذلك على المسلمين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "سددوا وقاربوا وأبشروا، فوالذي نفسي بيده؛ ما أنتم في الناس إلا كالشامة في جنب البعير، أو كالرقمة في ذراع الدابة، وإن معكم لخليقتين ما كانتا في شيء قط إلا كثرتاه: يأجوج ومأجوج، ومن هلك من كفرة الإنس والجن» .
رواه: ابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن حبان في "صحيحه".
وعن ابن عباس رضي الله عنهما؛ قال: «تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية وأصحابه عنده: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} ... إلى آخر الآية، فقال: "هل تدرون أي يوم ذلك؟ ". قالوا: الله ورسوله أعلم؟ قال: "ذلك يوم يقول الله عز وجل: يا آدم! قم فابعث بعثا إلى النار. فيقول: وما بعث النار؟ فيقول: من كل ألف تسع مائة وتسعة وتسعون إلى النار وواحد إلى الجنة". فشق ذلك على القوم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني لأرجو أن تكونوا شطر أهل الجنة". ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اعملوا وأبشروا؛ فإنكم بين خليقتين لم يكونا مع أحد إلا كثرتاه؛ يأجوج ومأجوج، وإنما أنتم في الأمم كالشامة في جنب البعير، أو كالرقمة في ذراع الدابة، أمتي جزء من ألف جزء» .
رواه: ابن أبي حاتم، والبزار. قال الهيثمي: " ورجاله رجال الصحيح؛ غير هلال بن خباب، وهو ثقة".
وعن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ قال: «إن يأجوج ومأجوج أقل ما يترك أحدهم لصلبه ألفا من الذرية، وإن من ورائهم أمما ثلاثا: منسك»(3/163)
«وتاويل وتاريس، لا يعلم عددهم إلا الله» .
رواه ابن حبان في "صحيحه".
وعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما؛ قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن يأجوج ومأجوج، فقال: «يأجوج أمة ومأجوج أمة، كل أمة أربع مائة ألف أمة، لا يموت الرجل حتى ينظر إلى ألف ذكر بين يديه من صلبه، كل قد حمل السلاح". قلت: يا رسول الله! صفهم لنا. قال: "هم ثلاثة أصناف؛ فصنف منهم أمثال الأرز". قلت: وما الأرز؟ قال: "شجرة بالشام، طول الشجرة عشرون ومائة ذراع في السماء". قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هؤلاء الذين لا يقوم لهم حيل ولا حديد، وصنف منهم يفترش بأذنه ويلتحف بالأخرى، لا يمرون بفيل ولا وحش ولا جمل ولا خنزير إلا أكلوه، ومن مات منهم؛ أكلوه، مقدمتهم بالشام، وساقتهم بخراسان، يشربون أنهار المشرق وبحيرة طبرية» .
رواه الطبراني في "الأوسط". قال الهيثمي: "وفيه يحيى بن سعيد العطار، وهو ضعيف".
وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني في "فتح الباري": "أخرجه ابن عدي، وابن أبي حاتم، والطبراني في "الأوسط"، وابن مردويه، وهو من رواية يحيى بن سعيد العطار عن محمد بن إسحاق عن الأعمش، والعطار ضعيف جدا، ومحمد بن إسحاق: قال ابن عدي: ليس هو صاحب المغازي، بل هو العكاشي. قال: والحديث موضوع. وقال ابن أبي حاتم: منكر".
قال الحافظ ابن حجر: "لكن لبعضه شاهد صحيح، أخرجه ابن حبان من حديث ابن مسعود، ثم ذكر حديث ابن مسعود رضي الله عنه الذي تقدم ذكره قبل حديث حذيفة رضي الله عنه، وهو شاهد لما ذكر في حديث حذيفة رضي الله عنه من كثرة يأجوج ومأجوج، وأما ما ذكر فيه من اختلاف أشكالهم(3/164)
وصفاتهم؛ فليس له شاهد صحيح؛ فلا يعول عليه، والصحيح ما قاله ابن كثير رحمه الله تعالى: أنهم من بني آدم، وأنهم على أشكالهم وصفاتهم. والله أعلم".
وسيأتي النص على صفاتهم التي هي من صفات بني آدم في حديث ابن حرملة عن خالته في الباب الذي بعد هذا الباب إن شاء الله تعالى.
وعن حذيفة أيضا رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أول الآيات: الدجال، ونزول عيسى، ونار تخرج من قعر عدن أبين تسوق الناس إلى المحشر تقيل معهم إذا قالوا، والدخان، والدابة، ويأجوج ومأجوج". قيل: يا رسول الله! وما يأجوج ومأجوج؟ قال: "يأجوج ومأجوج أمم، كل أمة أربع مائة ألف أمة، لا يموت الرجل منهم حتى يرى ألف عين تطرف بين يديه من صلبه، وهم من ولد آدم، فيسيرون إلى خراب الدنيا، وتكون مقدمتهم بالشام وساقتهم بالعراق، فيمرون بأنهار الدنيا، فيشربون الفرات ودجلة وبحيرة الطبرية، حتى يأتوا بيت المقدس، فيقولون: قد قتلنا أهل الدنيا، فقاتلوا من في السماء، فيرمون بالنشاب إلى السماء، فترجع نشابهم مخضبة بالدم، فيقولون: قد قتلنا من في السماء، وعيسى والمسلمون بجبل طور سينين، فيوحي الله إلى عيسى أن أحرز عبادي بالطور وما يلي أيلة، ثم إن عيسى يرفع يديه إلى السماء، ويؤمن المسلمون، فيبعث الله عليهم دابة؛ يقال لها: النغف، تدخل في مناخرهم، فيصبحون موتى من حاق الشام إلى حاق العراق، حتى تنتن الأرض من جيفهم، ويأمر السماء فتمطر كأفواه القرب، فيغسل الأرض من جيفهم ونتنهم، فعند ذلك طلوع الشمس من مغربها» .
رواه ابن جرير.
وعن أوس بن أوس رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن يأجوج»(3/165)
«ومأجوج لهم نساء يجامعون ما شاؤوا، وشجر يلقحون ما شاؤوا، ولا يموت منهم رجل إلا ترك من ذريته ألفا فصاعدا» .
رواه النسائي.
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما؛ قال: "يأجوج ومأجوج يمر أولهم بنهر مثل دجلة، ويمر آخرهم، فيقول: قد كان في هذا النهر مرة ماء، ولا يموت رجل؛ إلا ترك ألفا من ذريته فصاعدا، ومن بعدهم ثلاث أمم: تاويس، وتاويل، وناسك "أو منسك"".
رواه الحاكم في "مستدركه"، وقال "صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي في "تلخيصه".
وعنه رضي الله عنه أنه ذكر يأجوج ومأجوج؛ قال: "وما يموت الرجل منهم حتى يولد له من صلبه ألف، وإن من ورائهم لثلاث أمم ما يعلم عدتهم إلا الله عز وجل: منسك، وتاويل، وتاويس".
رواه: عبد الرزاق في "مصنفه"، والحاكم في "مستدركه"، وقال "صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي في "تلخيصه".
وعنه رضي الله عنه: أنه قال: "إن الله عز وجل جزأ الخلق عشرة أجزاء، فجعل تسعة أجزاء الملائكة وجزءا سائر الخلق، وجزأ الملائكة عشرة أجزاء، فجعل تسعة أجزاء يسبحون الليل والنهار لا يفترون وجزءا لرسالته، وجزأ الخلق عشرة أجزاء فجعل تسعة أجزاء الجن وجزءا بني آدم، وجزأ بني آدم عشرة أجزاء فجعل تسعة أجزاء يأجوج ومأجوج وجزءا سائر الناس".
رواه الحاكم في "مستدركه"، وقال "صحيح الإسناد ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي في "تلخيصه".(3/166)
وعن عبد الله بن سلام رضي الله عنه نحو الرواية الأولى عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
رواه عبد بن حميد. قال الحافظ ابن حجر: "وسنده صحيح".
باب
ما جاء في قتال يأجوج ومأجوج
«عن ابن حرملة عن خالته رضي الله عنها؛ قالت: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عاصب إصبعه من لدغة عقرب، فقال: " إنكم تقولون: لا عدو، وإنكم لا تزالون تقاتلون عدوا حتى يخرج يأجوج ومأجوج؛ عراض الوجوه، صغار العيون، صهب الشعاف، من كل حدب ينسلون، كأن وجوههم المجان المطرقة» .
رواه: الإمام أحمد، والطبراني. قال الهيثمي: "ورجالهما رجال الصحيح".
(الشعاف) : الشعور.
باب
أن الحرب لا تضع أوزارها حتى يخرج يأجوج ومأجوج
«عن سلمة بن نفيل الكندي رضي الله عنه؛ قال بينما أنا جالس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إذا جاءه رجل، فقال: يا رسول الله! إن الخيل قد سيبت، ووضع السلاح، وزعم أقوام أن لا قتال، وأن قد وضعت الحرب أوزارها! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كذبوا؛ فالآن جاء القتال، ولا تزال طائفة من أمتي يقاتلون في سبيل الله؛ لا يضرهم من خالفهم، يزيغ الله قلوب قوم ليرزقهم منهم، ويقاتلون»(3/167)
«حتى تقوم الساعة، ولا تضع الحرب أوزارها حتى يخرج يأجوج ومأجوج» .
رواه: الإمام أحمد، وابن سعد، والبخاري في "تاريخه"، والنسائي، والطبراني، وابن مردويه.
باب
ما جاء في بقاء الحج بعد خروج يأجوج ومأجوج
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ قال: «ليحجن البيت وليعتمرن بعد خروج يأجوج ومأجوج» .
رواه: الإمام أحمد، والبخاري. ورواه عبد بن حميد بزيادة، ولفظه: «إن الناس ليحجون ويعتمرون ويغرسون النخل بعد خروج يأجوج ومأجوج» .
فصل
وقد اختلفت أقوال العصريين في يأجوج ومأجوج
:
فبعضهم ينكرون وجودهم بالكلية، وينكرون وجود السد الذي جعله ذو القرنين بينهم وبين الناس!
ومستندهم في ذلك ما يزعمه بعض الدول في هذه الأزمان أن السائحين منهم قد اكتشفوا الأرض كلها، فلم يروا يأجوج ومأجوج، ولم يروا سد ذي القرنين.
وهذا في الحقيقة تكذيب بما أخبر الله به في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم عن السد ويأجوج ومأجوج، والتكذيب بما أخبر الله به في كتابه كفر وظلم، والدليل على ذلك:(3/168)
قول الله تعالى: {وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ} .
وقوله تعالى: {وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ} .
والتكذيب بما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الصحيحة كفر أيضا؛ لأن تكذيبه فيما أخبر به ينافي الشهادة بأنه رسول الله، ويلزم عليه تكذيب قول الله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} .
قال القاضي عياض في كتابه "الشفاء": "اعلم أن من استخف بالقرآن أو المصحف أو بشيء منه أو سبهما أو جحده أو حرفا منه أو آية أو كذب به أو بشيء مما صرح به فيه من حكم أو خبر أو أثبت ما نفاه أو نفى ما أثبته على علم منه بذلك أو شك في شيء من ذلك؛ فهو كافر عند أهل العلم بإجماع.
قال الله تعالى: {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} ". انتهى.
وقال الشيخ محمد بن يوسف الكافي التونسي في كتابه "المسائل الكافية في بيان وجوب صدق خبر رب البرية" ما نصه: "السد حق ثابت، ولا ينفتح ليأجوج ومأجوج إلا قرب الساعة، فمن قال بعدم وجود سد على وجه الأرض، ومستنده في ذلك قول الكشافين من النصارى، وأنهم لم يعثرون عليه؛ يكفر، وقد وقع للشيخ عبد الرحمن قاضي المرج مع متصرف بني غازي؛ فإنه قال في جمع عظيم: إنه لا سد في الأرض موجود؛ لإخبار السائحين في الأرض من النصارى. فقام الشيخ عبد الرحمن إليه أمام الحاضرين، وقال: كفرت؛ تصدق الكشافين وتكذب رب العالمين! ثم تدارك المتصرف نفسه، وقال: إنما قلت ذلك على طريق الحكاية عنهم، ولست معتقدا ذلك".
قال الكافي: "ولا يكون قول الكشافين شبهة تنفي عنه الكفر؛ لأنه لو كان إيمانه ثابتا؛ لما ترك قول الله تعالى وقول رسوله صلى الله عليه وسلم المستحيل عليهما الكذب(3/169)
وتبع قول من لا دين له". انتهى.
وبعض العصريين يزعمون أن يأجوج ومأجوج هم جميع دول الكفر المتفوقين في الصناعات الحديثة، وقد رأيت هذا القول الباطل في بعض مؤلفات المتكلفين من العصريين، وهذا القول قريب من القول الأول، وقد صرح الشيخ محمد بن يوسف الكافي بتكفير من قال به؛ كما سيأتي في كلامه قريبا إن شاء الله تعالى.
ووجه القول بتكفير من قال به أنه يلزم عليه تكذيب ما أخبر الله به في كتابه عن السد، وأنه قد حال بين يأجوج ومأجوج وبين الخروج على الناس، وأن يأجوج ومأجوج ما استطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقبا، وأنه إذا جاء وعد الرب تبارك وتعالى - أي: في آخر الزمان، إذا دنا قيام الساعة -؛ جعله دكاء، فخرجوا على الناس، وذلك بعدما ينزل عيسى ابن مريم عليهما الصلاة والسلام إلى الأرض، ويقتل الدجال، وقد جاء ذلك صريحا في عدة أحاديث صحيحة تقدم ذكرها.
وقد قال الله تعالى: {حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَاوَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ} .
وفي هاتين الآيتين أبلغ رد على زعم أن يأجوج ومأجوج هم دول الإفرنج أو غيرهم من دول المشرق والمغرب الذين لم يزالوا مختلطين بغيرهم من الناس، ولم يجعل بينهم وبين الناس سد منيع يحول بينهم وبين الخروج على الناس.
وقد قال الشيخ محمد بن يوسف الكافي التونسي في كتابه "المسائل الكافية في بيان وجوب صدق خبر رب البرية" ما نصه: "المسألة الثانية والثلاثون: يأجوج ومأجوج هم أناس بالغون في الكثرة عددا لا يعلمه إلا الله(3/170)
تعالى، ولا يستطيع أحد مقاومتهم عند خروجهم من السد لكثرتهم، وهم مفسدون في الأرض كما أخبر الله تعالى عنهم، وهم الآن محازون عن غيرهم بالسد الذي بناه ذو القرنين، وخروجهم علامة على قيام الساعة، فمن قال واعتقد أن يأجوج ومأجوج هم أوربا؛ يكفر؛ لتكذيبه الله تعالى في خبره: {حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَاوَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ} .
قال حبر هذه الأمة عبد الله بن عباس رضي الله عنهما في تفسير قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ} : فحينئذ يخرجون، وهم؛ يعني: يأجوج ومأجوج، {مِنْ كُلِّ حَدَبٍ} : من كل أكمة ومكان مرتفع، ينسلون: يخرجون، {وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ} : دنا قيام الساعة عند خروجهم من السد.
وأخرج ابن جرير عن حذيفة رضي الله عنه؛ قال: "لو أن رجلا اقتنى فلوا بعد خروج يأجوج ومأجوج؛ لم يركبه حتى تقوم الساعة". انتهى.
وقد تقدم حديث الحسن عن سمرة بن جندب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في خروج الدجال، وفيه: «ثم يجيء عيسى ابن مريم عليهما السلام من قبل المغرب مصدقا بمحمد صلى الله عليه وسلم وعلى ملته، فيقتل الدجال، ثم إنما هو قيام الساعة» .
رواه: الإمام أحمد بإسناد صحيح على شرط الشيخين، والطبراني. قال الهيثمي: "ورجاله رجال الصحيح".
وتقدم أيضا حديث حذيفة رضي الله عنه، وفيه: «قلت: يا رسول الله! فما بعد الدجال؟ قال: " عيسى ابن مريم ". قلت: فما بعد عيسى ابن مريم؟»(3/171)
«قال: "لو أن رجلا أنتج فرسا؛ لم يركب مهرها حتى تقوم الساعة» .
رواه ابن أبي شيبة.
وتقدم أيضا حديث النواس بن سمعان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه «أن يأجوج ومأجوج يخرجون بعد نزول عيسى عليه الصلاة والسلام وقتل الدجال، وأن عيسى وأصحابه يدعون عليهم، فيهلكهم الله تعالى» .
رواه: الإمام أحمد، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه.
وتقدم أيضا «حديث ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه أن عيسى عليه الصلاة والسلام يدعو على يأجوج ومأجوج، فيهلكهم الله» .
رواه: الإمام أحمد، وابن ماجه، وابن جرير، والحاكم، وصححه هو والذهبي.
وتقدم أيضا حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه «أن عيسى عليه الصلاة والسلام يدعو على يأجوج ومأجوج فيهلكهم الله تعالى» .
رواه: الحاكم، وابن منده، وابن عساكر، وقال الحاكم: "صحيح على شرط مسلم "، وأقره الذهبي.
وفي هذه الأحاديث دليل على أن خروج يأجوج ومأجوج يكون قريبا من قيام الساعة؛ كما هو منصوص عليه في قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ} ، ومن قال بخلاف هذا؛ فقوله باطل مردود.
ومن أغرب أقوال العصريين ما زعمه طنطاوي جوهري في "تفسيره" أن يأجوج ومأجوج هم التتار الذين خرجوا على المسلمين في أثناء القرن السابع من الهجرة وما بعده، ولو كان الأمر على ما زعمه هذا المتخرص المتأول لكتاب الله(3/172)
تعالى على غير تأويله؛ لكان الدجال قد خرج في أول القرن السابع من الهجرة قبل خروج التتار على المسلمين، ولكان عيسى ابن مريم عليهما الصلاة والسلام قد نزل من السماء وقتل الدجال قبل خروج التتار، ولكان سد ذي القرنين قد دك في ذلك الزمان، ولكان أوائل التتار قد شربوا بحيرة طبرية وآخرهم لم يجدوا فيها ماء، ولكانوا قد حصروا نبي الله عيسى وأصحابه حتى دعا عليهم فأرسل الله عليهم النغف في رقابهم فأصبحوا فرسى كموت نفس واحدة، ولكانت الساعة قد قامت منذ سبعة قرون؛ لما تقدم في حديث الحسن عن سمرة بن جندب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قال: «ثم يجيء عيسى ابن مريم، فيقتل الدجال، ثم إنما هو قيام الساعة» ، وتقدم في حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال: «لقيت ليلة أسري بي إبراهيم وموسى وعيسى، فتذاكروا أمر الساعة ... (فذكر الحديث في خروج الدجال وقتله وخروج يأجوج ومأجوج ودعاء عيسى عليهم فيهلكهم الله، ثم ذكر عن عيسى عليه الصلاة والسلام أنه قال:) ففيما عهد إلي ربي عز وجل أن ذلك إذا كان كذلك أن الساعة كالحامل المتم لا يدري أهلها متى تفاجئهم بولادها ليلا أو نهارا» ... ، وتقدم في «حديث حذيفة رضي الله عنه: أنه قال: قلت: يا رسول الله! فما بعد الدجال؟ قال: " عيسى ابن مريم ". قلت: فما بعد عيسى ابن مريم؟ قال: "لو أن رجلا أنتج فرسا؛ لم يركب مهرها حتى تقوم الساعة» .
وإذ لم يقع شيء من الأمور العظام التي ذكرنا؛ فمن أبطل الباطل وأقبح الجهل والتخرص واتباع الظن ما جزم به طنطاوي جوهري في قوله: "إن يأجوج ومأجوج هم التتار الذين خرجوا على المسلمين في أثناء القرن السابع وما بعده".
وقد تبعه على باطله وجهله صاحب "دليل المستفيد على كل مستحدث جديد" فزعم أن التتار هم أوائل يأجوج ومأجوج، وزعم في موضع آخر من كتابه أن يأجوج ومأجوج قد تفرقوا في الأرض وصاروا دولا في آسيا وأوربا وأمريكا.(3/173)
وقد تقدم عن الشيخ محمد بن يوسف الكافي التونسي أنه صرح بتكفير من قال بهذا القول.
ومن المعلوم أن دول آسيا وأوربا وأمريكا لم تزل في أماكنها منذ زمان طويل، وأنه ليس بينهم وبين غيرهم سد من حديد يمنعهم من الخروج والاختلاط بغيرهم من الناس! فصفة يأجوج ومأجوج لا تنطبق على شيء من الدول المعروفة الآن.
وقد تقدم في عدة أحاديث صحيحة أن يأجوج ومأجوج إنما يخرجون بعد نزول عيسى عليه الصلاة والسلام وقتل الدجال، وأنهم لا يمكثون بعد خروجهم على الناس إلا مدة يسيرة، ثم يدعو عليهم نبي الله عيسى، فيهلكهم الله جميعا كموت نفس واحدة؛ فهم بلا شك أمة عظيمة، قد حيل بينهم وبين الخروج على الناس بالسد الذي بناه ذو القرنين، وهذا السد لا يندك إلا إذا دنا قيام الساعة؛ كما أخبر الله بذلك في كتابه العزيز.
وأما كون السائحين في الأرض لم يروا يأجوج ومأجوج ولا سد ذي القرنين؛ فلا يلزم منه عدم السد ويأجوج ومأجوج؛ فقد يصرف الله السائحين عن رؤيتهم ورؤية السد، وقد يجعل الله بينهم وبين الناس بحرا لا يطاق اجتيازه، أو غير ذلك من الموانع التي تمنع من رؤيتهم ورؤية السد، والله على كل شيء قدير.
والواجب على المسلم الإيمان بما أخبر الله به في كتابه عن السد ويأجوج ومأجوج وما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، ولا يجوز للمسلم أن يتكلف ما لا علم له به، ولا يقول بشيء من أقوال المتكلفين المتخرصين، بل ينبذها وراء ظهره، ولا يعبأ بشيء منها.(3/174)
باب
ما جاء في خروج الدابة من الأرض
قال الله تعالى: {وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ} .
وعن ابن عمر رضي الله عنهما في قوله عز وجل: {وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ} ؛ قال: "إذا لم يأمروا بالمعروف ولم ينهوا عن المنكر".
رواه الحاكم في "مستدركه"، ولم يتكلم عليه، وكذلك الذهبي، وفي إسناده عطية العوفي، وهو ضعيف، وبقية رجاله ثقات.
قال ابن كثير في "تفسيره" ما ملخصه: "هذه الدابة تخرج في آخر الزمان؛ عند فساد الناس، وتركهم أوامر الله، وتبديلهم الدين الحق، يخرج الله لهم دابة من الأرض؛ قيل: من مكة، وقيل: من غيرها، فتكلم الناس. قال ابن عباس رضي الله عنهما والحسن وقتادة ويروى عن علي رضي الله عنه: "تكلمهم كلاما"؛ أي: تخاطبهم مخاطبة. وقال ابن عباس رضي الله عنهما في رواية: "تجرحهم". وعنه رواية: "كُلا تفعل"؛ يعني: هذا وهذا، وهو قول حسن، ولا منافاة".
وقال ابن كثير أيضا في "النهاية": "قال ابن عباس والحسن وقتادة: تكلمهم؛ أي: تخاطبهم مخاطبة. وعن ابن عباس: تكلمهم: تجرحهم؛ بمعنى: تكتب على جبين الكافر كافر، وعلى جبين المؤمن مؤمن.
وعنه: تخاطبهم وتجرحهم. وهذا القول ينتظم المذهبين، وهو قوي حسن جامع لهما، والله أعلم" انتهى باختصار.(3/175)
وقال البغوي في "تفسيره": "اختلفوا في كلامها، فقال السدي: تكلمهم ببطلان الأديان سوى دين الإسلام. وقال بعضهم: كلامها أن تقول لواحد: هذا مؤمن، وتقول لآخر: هذا كافر. وقال مقاتل: تكلمهم بالعربية. وقرأ سعيد بن جبير وعاصم الجحدري وأبو رجاء العطاردي: تكلم بفتح التاء وتخفيف اللام من الكلم، وهو الجرح. قال أبو الجوزاء: سألت ابن عباس رضي الله عنهما عن هذه الآية: تُكَلِّمهم أو تَكْلِمهم؟ قال: كل ذلك تفعل؛ تُكَلِّم المؤمن، وتَكْلِم الكافر". انتهى باختصار.
وعن حذيفة بن أسيد الغفاري رضي الله عنه؛ قال: «اطلع النبي صلى الله عليه وسلم علينا ونحن نتذاكر، فقال: "ما تذاكرون؟ ". قالوا: نذكر الساعة. قال: " إنها لن تقوم حتى تروا قبلها عشر آيات ... (وذكر منها الدابة) » .
رواه: الإمام أحمد، وأبو داود الطيالسي، ومسلم، وأهل السنن. وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح". وقد تقدم بتمامه في (باب ما جاء في الآيات الكبار) .
وعن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه؛ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا تقوم الساعة حتى تكون عشر آيات..... (وذكر منها الدابة) » .
رواه: الطبراني، وابن ماجه، وابن مردويه، والحاكم، وصححه هو والذهبي. وقد تقدم بتمامه في (باب ما جاء في الآيات الكبار) .
وعن أبي زرعة ابن عمرو بن جرير؛ قال: جلس ثلاثة نفر من المسلمين إلى مروان بالمدينة، فسمعوه وهو يحدث في الآيات: أن أولها خروج الدجال. قال: فانصرف النفر إلى عبد الله بن عمرو، فحدثوه بالذي سمعوه من مروان في الآيات، فقال عبد الله: لم يقل مروان شيئا، قد حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم في مثل ذلك حديثا لم أنسه بعد، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن أول الآيات»(3/176)
«خروجا: طلوع الشمس من مغربها، وخروج الدابة ضحى، فأيتهما ما كانت قبل صاحبتها؛ فالأخرى على أثرها قريبا» .
رواه: الإمام أحمد، وأبو داود الطيالسي، ومسلم، وأبو داود السجستاني، وابن ماجه، والبزار، والطبراني في "الكبير". قال الهيثمي: "ورجاله رجال الصحيح".
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ قال: " «تخرج الدابة ومعها عصا موسى وخاتم سليمان، فتخطم أنف الكافر بالخاتم، وتجلو وجه المؤمن بالعصا، حتى إن أهل الخوان ليجتمعون على خوانهم، فيقول هذا: يا مؤمن! ويقول هذا: يا كافر!» .
رواه: الإمام أحمد، والترمذي، وابن جرير، والبغوي، والحاكم في "مستدركه"، ولم يتكلم عليه الحاكم ولا الذهبي، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن، وقد روي هذا الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير هذا الوجه في دابة الأرض، وفي الباب عن أبي أمامة ". انتهى كلام الترمذي.
وفي رواية لأحمد: «وتختم أنف الكافر بالخاتم» .
وقد رواه ابن ماجه، ولفظه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «تخرج الدابة ومعها خاتم سليمان بن داود وعصا موسى بن عمران عليهما السلام، فتجلوا وجه المؤمن بالعصا، وتخطم أنف الكافر بالخاتم، حتى إن أهل الحِوَاء ليجتمعون، فيقول هذا: يا مؤمن! ويقول هذا: يا كافر!» .
ورواه أبو داود الطيالسي في "مسنده"، ولفظه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تخرج دابة الأرض معها عصا موسى وخاتم سليمان، تخطم أنف الكافر بالعصا، وتجلي وجه المؤمن بالخاتم، حتى يجتمع الناس على الخوان، يعرف»(3/177)
«المؤمن من الكافر» .
وعن أبي أمامة رضي الله عنه يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ قال: «تخرج الدابة، فتسم الناس على خراطيمهم، ثم يعمرون فيكم، حتى يشتري الرجل البعير، فيقول: ممن اشتريته؟ فيقول: اشتريته من أحد المخطمين» .
رواه الإمام أحمد. قال الهيثمي: "ورجاله رجال الصحيح؛ غير عمر بن عبد الرحمن بن عطية، وهو ثقة".
«وعن ابن عمر رضي الله عنهما: أنه قال: ألا أريكم المكان الذي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أرى أن الدابة تخرج منه"؟ فضرب بعصاه الشق الذي في الصفا، وقال: "إنها ذات ريش وزغب، وإنه يخرج ثلثها حضر الفرس الجواد ثلاثة أيام وثلاث ليال، وإنها لتمر عليهم أيام ليفرون منها إلى المساجد، فتقول لهم: أترون المساجد تنجيكم مني؟! فتخطمهم، يساقون في الأسواق، ويقول: يا كافر! يا مؤمن! ".»
رواه أبو يعلى. قال الهيثمي: "وفيه ليث بن أبي سليم، وهو مدلس، وبقية رجاله ثقات".
وعن عطية؛ قال: قال عبد الله: "تخرج الدابة من صدع من الصفا كجري الفرس ثلاثة أيام، لا يخرج ثلثها".
رواه ابن أبي حاتم.
وعن حذيفة بن أسيد أراه رفعه؛ قال: «تخرج الدابة من أعظم المساجد، فبينما هم كذلك؛ إذ تصدعت» .
قال ابن عيينة: "تخرج حين يسير الإمام إلى جمع".
رواه الطبراني في "الأوسط". قال الهيثمي: "ورجاله ثقات".(3/178)
وعن أبي الطفيل؛ قال: كنا جلوسا عند حذيفة، فذكرت الدابة، فقال حذيفة رضي الله عنه: "إنها تخرج ثلاث خرجات في بعض البوادي، ثم تكمن، ثم تخرج في بعض القرى حتى يذعروا، حتى تهريق فيها الأمراء الدماء، ثم تكمن". قال: "فبينما الناس عند أعظم المساجد وأفضلها وأشرفها - حتى قلنا: المسجد الحرام، وما سماه -؛ إذ ارتفعت الأرض، ويهرب الناس، ويبقى عامة من المسلمين؛ يقولون: إنه لن ينجينا من أمر الله شيء، فتخرج، فتجلو وجوههم حتى تجعلها كالكواكب الدرية، وتتبع الناس".
رواه الحاكم في "مستدركه"، وقال: "صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي في "تلخيصه".
ورواه أبو داود الطيالسي في "مسنده" عن طلحة بن عمرو وجرير بن حازم: فأما طلحة؛ فقال: أخبرني عبد الله بن عبيد بن عمير الليثي أن أبا الطفيل حدثه عن حذيفة بن أسيد الغفاري أبي سَرِيحة. وأما جرير؛ فقال: عن عبد الله بن عبيد عن رجل من آل عبد الله بن مسعود.
وحديث طلحة أتمهما وأحسن؛ قال: «ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الدابة، فقال: لها ثلاث خرجات من الدهر، فتخرج في أقصى البادية ولا يدخل ذكرها القرية (يعني: مكة) ، ثم تكمن زمانا طويلا، ثم تخرج خرجة أخرى دون ذلك، فيعلو ذكرها في أهل البادية، ويدخل ذكرها القرية (يعني: مكة) . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثم بينما الناس في أعظم المساجد على الله حرمة؛ خيرها وأكرمها المسجد الحرام؛ لم يرعهم إلا وهي ترغو بين الركن والمقام، تنفض عن رأسها التراب، فارفض الناس عنها شتى ومعا، وثبتت عصابة المؤمنين، وعرفوا أنهم لن يعجزوا الله، فبدأت بهم، فجلت وجوههم، حتى تجعلها كأنها الكوكب الدري، وولت في الأرض لا يدركها طالب ولا ينجو منها هارب، حتى إن الرجل ليتعوذ منها»(3/179)
«بالصلاة، فتأتيه من خلفه، فتقول: يا فلان! الآن تصلي؟ فيقبل عليها، فتسمه في وجهه، ثم تنطلق، ويشترك الناس في الأموال، ويصطحبون في الأمصار؛ يعرف المؤمن من الكافر، حتى إن المؤمن يقول: يا كافر! اقضني حقي، وحتى إن الكافر يقول: يا مؤمن! اقضني حقي» .
قال ابن كثير في كتاب "النهاية" بعدما ساق هذا الحديث: "هكذا رواه مرفوعا من هذا الوجه بهذا السياق، وفيه غرابة. ورواه ابن جرير من طريقين عن حذيفة بن أسيد موقوفا". انتهى.
ورواه الطبراني مرفوعا. قال الهيثمي: "وفيه طلحة بن عمرو، وهو متروك". ورواه الحاكم في "مستدركه"، وقال: "صحيح الإسناد، وهو أبين حديث في ذكر دابة الأرض، ولم يخرجاه"، وتعقبه الذهبي، فقال " طلحة - يعني: ابن عمرو الحضرمي - ضعفوه، وتركه أحمد ".
وعن سلمان رضي الله عنه مرفوعا: «مثل أمتي ومثل الدابة حين تخرج كمثل حيز بني، ورفعت حيطانه، وسدت أبوابه، وطرح فيه من الوحش كلها، ثم جيء بالأسد، فطرح وسطها، فارتعدت وأقبلت إلى النفق يلحسنه من كل جانب، كذلك أمتي عند خروج الدابة؛ لا يفر منها أحد؛ إلا مثلث بين عينيه، ولها سلطان من ربنا عظيم» .
ذكره صاحب "كنز العمال"، وقال: "رواه: أبو نعيم، والديلمي ".
وعن ابن عمر رضي الله عنهما؛ قال "يبيت الناس يسيرون إلى جمع، وتبيت دابة الأرض تسري إليهم، فيصبحون وقد جعلتهم بين رأسها وذنبها؛ فما مؤمن؛ إلا تمسحه، ولا منافق ولا كافر؛ إلا تخطمه، وإن التوبة لمفتوحة، ثم يخرج الدخان، فيأخذ المؤمن منه كهيئة الزكمة، ويدخل في مسامع الكافر والمنافق، حتى يكون كالشيء الحنيذ، وإن التوبة لمفتوحة، ثم تطلع الشمس(3/180)
من مغربها".
رواه الحاكم في "مستدركه" من طريق الوليد بن جميع عن عبد الملك بن المغيرة عن عبد الرحمن بن البيلماني عن ابن عمر، وقال: "صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه"، وتعقبه الذهبي فقال: " ابن البيلماني ضعيف، وكذا الوليد ".
وعن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " «إن ربكم أنذركم ثلاثا: الدخان يأخذ المؤمن كالزكمة ويأخذ الكافر فينتفخ حتى يخرج من كل مسمع منه، والثانية الدابة، والثالثة الدجال» .
رواه: ابن جرير، والطبراني. قال ابن كثير في "تفسيره": "وإسناده جيد".
باب
الأمر بالمبادرة بالأعمال قبل خروج الدابة
عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «بادروا بالأعمال ستا: طلوع الشمس من مغربها، والدجال، والدخان، والدابة، وخاصة أحدكم، وأمر العامة» .
رواه: الإمام أحمد، ومسلم. وزاد أحمد في رواية له: "وكان قتادة يقول: إذا قال: وأمر العامة؛ قال: أي: أمر الساعة".
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ قال: «بادروا بالأعمال ستا: طلوع الشمس من مغربها، والدخان، ودابة الأرض، والدجال، وخويصة أحدكم، وأمر العامة» .(3/181)
رواه ابن ماجه. قال في "الزوائد": "إسناده حسن".
قال النووي: "قال هشام: خاصة أحدكم: الموت، وخويصة: تصغير خاصة. وقال قتادة: أمر العامة: القيامة. كذا ذكره عنهما عبد بن حميد ". انتهى.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاث إذا خرجن لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا: طلوع الشمس من مغربها، والدجال، ودابة الأرض» .
رواه: مسلم، والترمذي، وابن جرير، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح".
وقد رواه الإمام أحمد، وقال فيه: "والدخان"؛ بدل: " الدجال ".
فصل
وقد أنكر أبو عبية ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من خروج الدابة في آخر الزمان، وتأول الدابة بتأويل باطل كعادته فيما لا يحتمله عقله مما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم من أشراط الساعة؛ مثل: خروج الدجال، ونزول عيسى عليه الصلاة والسلام، وخروج النار التي تحشر الناس من المشرق إلى المغرب ... وغير ذلك مما تقدم التنبيه عليه في مواضعه.
قال في حاشية (ص190) من "النهاية" لابن كثير تعليقا على قول الله تعالى: {وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ} ... الآية؛ ما نصه:
"لماذا لا يكون تكليم الدابة للإنسان بلسان الحال لا بلسان المقال؟! وإن من معاني التكليم التجريح؛ يقال: كلمه كلما إذا جرحه، وكلمه تكليما إذا أكثر الجراحات فيه؛ فلماذا لا تفهم الآية على هذا الوجه؟! ليس ما يمنع من(3/182)
هذا ولا ذلك.
ولعل المراد بالدابة هي تلك الجراثيم الخطيرة التي تفتك بالإنسان وجسمه وصحته وبأمواله زروعا وثمارا ومواشي؛ جزاء له على بعض ما تجني يداه من إثم ونكر، وقصاصا على بعض تعديه لحدود الله وما شرع لعباده، والجراثيم الضارة الشديدة الخطورة منتشرة في كل مكان، تكاد تغطي مساحة الأرض وتملأ طبقات الجو، وهي تجرح وتقتل، ومن تجريحها وأذاها كلمات واعظة للناس لو كانت لهم قلوب ترجع بهم إلى الله ودينه، وتلزمهم المحجة التي ضلوا عنها وتركوها وراءهم ظهريا، ولسان الحال أبلغ من لسان المقال، وحمل صحاح الأحاديث النبوية وتفسير الآيات القرآنية الكريمة بما يناسب الواقع ويواكب المنطق ويتسق وفطرة الحياة أولى من السبح في أجواء من الخيال".
والجواب أن يقال: قد تقدم عن ابن عباس رضي الله عنهما والحسن وقتادة: أنهم قالوا في الدابة: إنها تكلم الناس كلاما؛ أي: تخاطبهم مخاطبة.
وقال مقاتل: تكلمهم بالعربية. وهذا يرد قول أبي عبية أن تكليم الدابة للإنسان يكون بلسان الحال لا بلسان المقال.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما في رواية: "تكلمهم: تجرحهم؛ بمعنى: تكتب على جبين الكافر كافر، وعلى جبين المؤمن مؤمن". وعنه: "تخاطبهم وتجرحهم". قال ابن كثير: "وهذا القول ينتظم المذهبين، وهو قوي حسن جامع لهما". انتهى.
وأما قوله: "ولعل المراد بالدابة تلك الجراثيم الخطيرة التي تفتك بالإنسان وجسمه وصحته وأمواله ... إلى آخره".
فالجواب عنه من وجوه:
أحدها: أن يقال: إن تأويل الدابة التي تخرج من الأرض في آخر الزمان(3/183)
بالجراثيم التي تفتك بالإنسان وجسمه وأمواله تأويل باطل مردود، وهو من جنس تأويلات القرامطة والباطنية، ويلزم على هذا التأويل الباطل تكذيب ما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأحاديث التي تقدم ذكرها، وتكذيب النبي صلى الله عليه وسلم ينافي الإسلام.
الوجه الثاني: أن الجراثيم التي تفتك بالإنسان وصحته وأمواله قد كانت موجودة من أول الدنيا ومنتشرة في جميع أرجاء الأرض، وأما دابة الأرض؛ فإنما تخرج في آخر الزمان عند اقتراب الساعة. وعلى هذا؛ فتأويل الدابة بالجراثيم من أبطل التأويل وأبعده من المنقول والمعقول.
الوجه الثالث: أن الجراثيم أنواع لا تحصى، وأما دابة الأرض؛ فإنما هي دابة واحدة؛ كما يدل على ذلك ظاهر القرآن والأحاديث الصحيحة. وعلى هذا؛ فتأويل الدابة بالجراثيم يخالف القرآن والأحاديث الصحيحة، وما خالف القرآن والأحاديث الصحيحة؛ فإنه يجب اطراحه ورده على قائله.
الوجه الرابع: أن دابة الأرض التي أخبر الله بخروجها ليست من الدواب التي يعرفها الناس، ولا من الجراثيم، وإنما هي خلق عظيم هائل، من خوارق العادات؛ كما جاء بيان ذلك في بعض الأحاديث، ولهذا تزعج الناس وتفزعهم، وقد تقدم في بعض الأحاديث أنه يكون معها عصا موسى وخاتم سليمان، فتخطم أنف الكافر بالخاتم، وتجلو وجه المؤمن بالعصا، وقد أخبر الله عنها أنها تكلم الناس، وورد الإنذار بها في حديث أبي مالك الأشعري الذي تقدم ذكره.
وإذا كانت بهذه الصفة العظيمة؛ فمن أقبح الجهل قول أبي عبية: إنها هي الجراثيم التي تفتك بالإنسان وصحته وأمواله..... لأن الجراثيم لا ترى إلا بالمكبرات، فضلا عن أن تكون مما يكلم الناس ويخاطبهم، ويحمل عصا موسى وخاتم سليمان، ويجلو وجه المؤمن ويخطم أنف الكافر.(3/184)
وعلى هذا؛ فتأويل دابة الأرض بالجراثيم في غاية البعد والبطلان، بل هو نوع من الهذيان.
وأما قوله: "وحمل صحاح الأحاديث النبوية وتفسير الآيات القرآنية الكريمة بما يناسب الواقع ويواكب المنطق ويتسق وفطرة الحياة أولى من السبح في أجواء من الخيال".
فجوابه من وجهين:
أحدهما: أن يقال: إن الواجب على المسلم أن يؤمن بما جاء في كتاب الله تعالى، وبما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أخبار الغيوب الماضية والآتية، ولا يجوز لأحد أن يرد ما خفي عليه منها، وما لا يحتمله عقله، ولا أن يحمل الآيات والأحاديث على غير ظاهرها من غير دليل من الكتاب أو السنة يدل على ذلك.
وإذا علم هذا؛ فحمل الأحاديث الواردة في الدابة على الجراثيم، وتفسير الآية الكريمة بذلك، وزعم أبي عبية أن ذلك يناسب الواقع ويواكب المنطق ويتسق وفطرة الحياة؛ لا شك أنه من تحريف الكلم عن مواضعه، وتحريف الكلم عن مواضعه لا يصدر من مؤمن.
الوجه الثاني: أن يقال: ما أخبر الله به عن الدابة أنها تكلم الناس، وما جاء في بعض الأحاديث من عظم خلقها، وأنه يكون معها عصا موسى وخاتم سليمان، وأنها تجلو وجه المؤمن وتخطم أنف الكافر؛ فكل ذلك حق على حقيقته، وليس من الخيال؛ كما قد توهم ذلك أبو عبية، ومن زعم أن ذلك من الخيال؛ فقد أخطأ خطأ كبيرا، وضل ضلالا بعيدا.
ولأبي عبية أيضا عدة تعاليق في (ص 193 و194 و195) من "النهاية" لابن كثير، تصدى فيها لإنكار بعض الآثار الواردة في صفة الدابة، وكل كلامه(3/185)
في هذه المواضع باطل؛ فلا يغتر به.
وقال في حاشية (ص199) ما ملخصه: "سبق أن أشرنا إلى مفهوم الدابة بما يتفق والعقل والمنطق وسنة الدين الإسلامي، كما سبق أن أشرنا إلى أنها ظهرت وكثرت وانتشرت؛ فالدابة اسم جنس لكل ما يدب، وليست حيوانا مشخصا معينا يحوي العجائب والغرائب ويمثل على الحقيقة ما يعجز الخيال".
والجواب عن هذا من وجوه:
أحدها: أن يقال: ما أشار إليه أبو عبية من مفهوم الدابة عنده بما يتفق مع عقله ومنطقه ودينه؛ فإنه مخالف لما عليه أهل السنة والجماعة؛ فلا يتفق مع عقولهم ولا مع منطقهم ودينهم؛ لأنهم يؤمنون بما جاء في كتاب الله تعالى وما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أخبار الغيوب الماضية والآتية، ولا يحكمون عقولهم في شيء منها كما يفعله بعض أهل البدع، ولا يتأولون الآيات والأحاديث على غير تأويلها كما فعل ذلك أبو عبية ومن على شاكلته في كثير من أشراط الساعة، وقد قال الله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى} ... الآية.
الوجه الثاني: أن خروج الدابة من أشراط الساعة؛ كما دل على ذلك القرآن والأحاديث الصحيحة، وإذا خرجت الدابة؛ لم ينفع أحدا إيمانه إذا لم يكن مؤمنا قبل ذلك؛ كما في الحديث الذي رواه الإمام أحمد ومسلم والترمذي وابن جرير عن أبي هريرة رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاث إذا خرجن لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا: طلوع الشمس من مغربها، والدجال، ودابة الأرض» ؛ فلو كانت الدابة قد ظهرت كما زعم ذلك أبو عبية؛ لما كان الإيمان نافعا لمن آمن بعد خروجها، ويلزم على قول أبي عبية نفي الإيمان عن كل المؤمنين على وجه الأرض،(3/186)
وهذا معلوم البطلان بالضرورة.
الوجه الثالث: أن يقال: إن الدابة التي تخرج من الأرض في آخر الزمان ليست بأنواع متعددة، وليست اسم جنس لكل ما يدب على الأرض؛ كما زعم ذلك أبو عبية، وإنما هي حيوان واحد؛ كما يدل على ذلك ظاهر القرآن والأحاديث الصحيحة، ولا عبرة بما يخالف ذلك من آراء الناس وتخرصاتهم.
الوجه الرابع: أن دابة الأرض من خوارق العادات؛ كما يدل على ذلك قول الله تعالى: {وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ} ، وكما تدل على ذلك الأحاديث التي تقدم ذكرها، وما كان كذلك؛ فهو مما يعجز عنه الخيال، وأنى للخيال أن يتصور ما لم يشاهد الناس له نظيرا من الدواب؟!
فصل
وقد سلك بعض العصريين في إنكار خروج الدابة في آخر الزمان مسلكا غير مسلك أبي عبية، ورد عليه الشيخ محمد بن يوسف الكافي التونسي، فأجاد وأفاد.
قال في كتابه "المسائل الكافية في بيان وجوب صدق خبر رب البرية" ما نصه:
"المسألة الثالثة والمائة: قال (أي: المردود عليه) : الدابة: كل حيوان يدب؛ أي: يمشي، ومنه قوله تعالى: {وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ} ، والمعنى: إذا قامت القيامة؛ بعث الله نوعا مخصوصا من دواب هذه الأرض كما يبعث غيره من الدواب الأخرى، وينطقه، فيوبخ الإنسان على كفره؛ كما ينطق أعضاءه في ذلك اليوم أيضا؛ فليس المراد من(3/187)
قوله: دابة الفرد، بل النوع".
قال الشيخ محمد بن يوسف: "أقول: قوله فيه صدق وكذب، بل كفر صريح؛ فالصدق قوله: الدابة كل حيوان يدب. والآية صدق. والاستدلال بها على ما ذكره من أن المراد بالدابة النوع لا الفرد كذب وكفر صريح؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بذلك. وكون المراد: أخرجنا لهم ... إلى آخره؛ أي: بعثنا بعد الموت؛ افتراء على الله تعالى وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم، المخبر بخلاف ما أخبر به هذا الدجال الضال، بل الإخراج قبل يوم القيامة؛ لكون الدابة المخرجة من الأمارات التي تدل على قرب يوم القيامة، وهي فرد لا نوع كما يدعيه هذا الدجال.
أخرج ابن مردويه عن أبي هريرة رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن بين يدي الساعة: الدجال، والدابة، ويأجوج ومأجوج، والدخان، وطلوع الشمس من مغربها» .
وهذا معلوم من الدين عند المسلمين بالضرورة". انتهى كلام الكافي.
وذكره أيضا في كتابه "الأجوبة الكافية عن الأسئلة الشامية" باختصار يسير، وقد صرح فيه بتكفير من قال: إن المراد بالدابة النوع لا الفرد.
باب
ما جاء في الدخان
قال الله تعالى: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} .
قال ابن كثير في "النهاية": "وقد نقل البخاري عن ابن مسعود رضي الله(3/188)
عنه: أنه فسر ذلك بما كان يحصل لقريش من شدة الجوع بسبب القحط الذي دعا عليهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان أحدهم يرى فيما بينه وبين السماء دخانا من شدة الجوع، وهذا تفسير غريب جدا، لم ينقل مثله عن أحد من الصحابة غيره، وقد حاول بعض العلماء المتأخرين رد ذلك ومعارضته؛ لما ثبت في حديث أبي سريحة حذيفة بن أسيد رضي الله عنه: «لا تقوم الساعة حتى تروا عشر آيات (فذكر فيهن الدجال والدخان والدابة) » ، وكذلك في حديث أبي هريرة: «بادروا بالأعمال ستا» (فذكر منهن هذه الثلاث") ، والحديثان في "صحيح مسلم " مرفوعان، والمرفوع مقدم على كل موقوف.
وفي ظاهر القرآن ما يدل على وجود دخان من السماء يغشى الناس، وهذا أمر محقق عام، وليس كما روي عن ابن مسعود: أنه خيال في أعين قريش من شدة الجوع.
وقال الله تعالى: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} ؛ أي: ظاهر واضح جلي، ليس خيالا من شدة الجوع، {رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ} ؛ أي: ينادي أهل ذلك الزمان ربهم بهذا الدعاء، يسألون كشف هذه الشدة عنهم؛ فإنهم قد آمنوا وأيقنوا ما وعدوا به من الأمور الغيبية الكائنة بعد ذلك يوم القيامة، وهذا دليل على أنه يكون قبل يوم القيامة، حيث يمكن رفعه، ويمكن استدراك التوبة والإنابة، والله أعلم". انتهى.
وعن حذيفة بن أسيد الغفاري رضي الله عنه؛ قال: «اطلع النبي صلى الله عليه وسلم علينا ونحن نتذاكر، فقال: "ما تذاكرون؟ ". قالوا: نذكر الساعة. قال: "إنها لن تقوم حتى تروا قبلها عشر آيات.... (فذكر الدخان، والدجال، والدابة، وطلوع الشمس من مغربها) » الحديث.
رواه: الإمام أحمد، وأبو داود الطيالسي، ومسلم، وأهل السنن. وقال(3/189)
الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح". وقد تقدم بتمامه في (باب ما جاء الآيات الكبار) .
وعن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه؛ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا تقوم الساعة حتى تكون عشر آيات (وذكر منها الدخان) » .
رواه: الطبراني، وابن مردويه، والحاكم وصححه هو والذهبي، وقد تقدم بتمامه في (باب ما جاء في الآيات الكبار) .
وعن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن ربكم أنذركم ثلاثا: الدخان؛ يأخذ المؤمن كالزكمة، ويأخذ الكافر فينتفخ حتى يخرج من كل مسمع منه، والثانية الدابة، والثالثة الدجال» .
رواه: ابن جرير، والطبراني. قال ابن كثير في "تفسيره": "وإسناده جيد".
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يهيج الدخان بالناس، فأما المؤمن؛ فيأخذه كالزكمة، وأما الكافر؛ فينفخه حتى يخرج من كل مسمع منه» .
رواه ابن أبي حاتم.
وعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أول الآيات الدجال، ونزول عيسى ابن مريم، ونار تخرج من قعر عدن أبين تسوق الناس إلى المحشر؛ تقيل معهم إذا قالوا، والدخان". قال حذيفة: يا رسول الله! وما الدخان؟ فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} ، يملأ ما بين المشرق والمغرب، يمكث أربعين يوما وليلة، أما المؤمن؛ فيصيبه منه كهيئة الزكمة، وأما الكافر؛»(3/190)
«فيكون بمنزلة السكران؛ يخرج من منخريه وأذنيه ودبره» .
رواه: ابن جرير، والبغوي؛ بإسناد ضعيف، وله شاهد مما تقدم عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه.
وعن علي رضي الله عنه؛ قال: "لم تمض آية الدخان بعد؛ يأخذ المؤمن كهيئة الزكام، وينفخ الكافر حتى ينفذ".
رواه ابن أبي حاتم.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما؛ قال: "يبيت الناس يسيرون إلى جمع، وتبيت دابة الأرض؛ تسري إليهم، فيصبحون وقد جعلتهم بين رأسها وذنبها؛ فما مؤمن إلا تمسحه، ولا منافق ولا كافر إلا تخطمه، وإن التوبة لمفتوحة، ثم يخرج الدخان، فيأخذ المؤمن منه كهيئة الزكمة، ويدخل في مسامع الكافر والمنافق، حتى يكون كالشيء الحنيذ، وإن التوبة لمفتوحة، ثم تطلع الشمس من مغربها".
رواه الحاكم في "مستدركه" وصححه، وإسناده ضعيف، وقد تقدم في ذكر الدابة.
وقد رواه ابن جرير مختصرا، ولفظه: قال: "يخرج الدخان، فيأخذ المؤمن كهيئة الزكام؛ ويدخل مسامع الكافر والمنافق، حتى يكون كالرأس الحنيذ".
وعن عبد الله بن أبي مليكة؛ قال: "غدوت على ابن عباس رضي الله عنهما ذات يوم، فقال: ما نمت الليلة حتى أصبحت. قلت: لم؟ قال: قالوا: طلع الكوكب ذو الذنب؛ فخشيت أن يكون الدخان قد طرق، فما نمت حتى أصبحت".(3/191)
رواه: ابن جرير، وابن أبي خاتم. قال ابن كثير في "تفسيره": "إسناده صحيح إلى ابن عباس رضي الله عنهما".
باب
الأمر بالمبادرة بالأعمال قبل ظهور الدخان
عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «بادروا بالأعمال ستا (فذكرها، ومنها الدخان) » .
رواه: الإمام أحمد، ومسلم، وتقدم بتمامه في ذكر الدجال والدابة.
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ قال: «بادروا بالأعمال ستا (فذكرها، ومنها الدخان) » .
رواه ابن ماجه بإسناد حسن، وتقدم بتمامه في ذكر الدجال والدابة.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاث إذا خرجن؛ لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا: طلوع الشمس من مغربها، والدخان، ودابة الأرض» .
رواه الإمام أحمد.
باب
ما جاء في طلوع الشمس من مغربها
عن حذيفة بن أسيد الغفاري رضي الله عنه؛ قال: «اطلع النبي صلى الله عليه وسلم علينا ونحن نتذاكر، فقال: "ما تذاكرون؟ ". قالوا: نذكر الساعة. قال: "إنها لن تقوم حتى تروا قبلها عشر آيات (وذكر منها طلوع الشمس من مغربها) » .(3/192)
رواه: الإمام أحمد، وأبو داود الطيالسي، ومسلم، وأهل السنن. وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح". وقد تقدم بتمامه في (باب ما جاء في الآيات الكبار) .
وعن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه؛ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا تقوم الساعة حتى تكون عشر آيات (وذكر منها: طلوع الشمس من مغربها) » .
رواه: الطبراني، وابن مردويه، والحاكم، وصححه الذهبي. وقد تقدم بتمامه في (باب ما جاء في الآيات الكبار) .
وعن أبي أمامة رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أول الآيات طلوع الشمس من مغربها» .
رواه الطبراني في "الأوسط". قال الهيثمي: "وفيه فضالة بن جبير، وهو ضعيف، وأنكر هذا الحديث".
باب
الأمر بالمبادرة بالأعمال قبل طلوع الشمس من مغربها
عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «بادروا بالأعمال ستا: طلوع الشمس من مغربها، والدجال، والدخان، والدابة، وخاصة أحدكم، وأمر العامة» .
رواه: الإمام أحمد، ومسلم. وزاد أحمد في رواية له: "وكان قتادة يقول إذا قال: وأمر العامة: قال: أي: أمر الساعة".
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ قال: «بادروا»(3/193)
«بالأعمال ستا: طلوع الشمس من مغربها، والدخان، ودابة الأرض، والدجال، وخويصة أحدكم، وأمر العامة» .
رواه ابن ماجه. قال في الزوائد: "إسناده حسن".
قال النووي: "قال هشام: خاصة أحدكم: الموت، وخويصة: تصغير خاصة. وقال قتادة: أمر العامة: القيامة. كذا ذكره عنهما عبد بن حميد ".
انتهى.
باب
أن التوبة لا تقبل بعد طلوع الشمس من مغربها
قال الله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ} .
قال البغوي في قوله: {أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} : "يعني: طلوع الشمس من مغربها، وعليه أكثر المفسرين. ورواه أبو سعيد الخدري مرفوعا: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ} ؛ أي: لا ينفعهم الإيمان عند ظهور الآية التي تضطرهم إلى الإيمان. {أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} ؛ يريد: لا يقبل إيمان كافر ولا توبة فاسق". انتهى.
وقال ابن كثير في قوله تعالى: {لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ} : "أي: إذا أنشأ الكافر إيمانا يومئذ؛ لا يقبل منه، فأما من كان مؤمنا قبل ذلك؛ فإن كان مصلحا في عمله؛ فهو بخير عظيم، وإن لم يكن مصلحا؛ فأحدث توبة حينئذ؛ لم يقبل منه توبته؛ كما دلت عليه الأحاديث الكثيرة، وعليه يحمل قوله تعالى: {أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} ؛ أي: ولا يقبل منها كسب(3/194)
عمل صالح إذا لم يكن عاملا به قبل ذلك". انتهى.
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في «قوله: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا} ؛ قال: "طلوع الشمس من مغربها» .
رواه: الإمام أحمد، والترمذي، وقال: "هذا حديث حسن غريب". قال: "ورواه بعضهم ولم يرفعه".
وعن أبي سريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في «قوله: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} ؛ قال: "طلوع الشمس من مغربها» .
رواه الطبراني في "الأوسط". قال الهيثمي: "ورجاله ثقات".
هكذا في "مجمع الزوائد": " أبو سريرة "! والظاهر أنه تصحيف، وأن صوابه أبو سعيد رضي الله عنه؛ لأنه قد روي من حديثه كما تقدم، ويحتمل أن يكون عن أبي هريرة رضي الله عنه، ويحتمل أن يكون عن أبي سريحة - وهو حذيفة بن أسيد الغفاري رضي الله عنه -؛ فأما أبو سريرة؛ فلم أر في تراجم الصحابة رضي الله عنهم من يكنى بذلك. والله أعلم.
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه في قوله عز وجل: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ} ؛ قال: "طلوع الشمس من مغربها" (ثم قرأ هذه الآية: {وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ} ".
قال الحاكم: "صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي في "تلخيصه".
وعن أبي هريرة رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها، فإذا طلعت، ورآها الناس؛ آمن من عليها؛»(3/195)
«فذلك حين لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل» .
رواه: الإمام أحمد، والشيخان، وأهل السنن؛ إلا الترمذي.
وهذا لفظ إحدى روايات أحمد والبخاري، ولفظ مسلم. قال: «لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها، فإذا طلعت من مغربها؛ آمن الناس كلهم أجمعون؛ فيومئذ لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا» .
ورواه: الإمام أحمد. والبخاري أيضا؛ بهذا اللفظ.
وعن أبي هريرة أيضا رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاث إذا خرجن؛ لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا: طلوع الشمس من مغربها، والدجال، ودابة الأرض» .
رواه: مسلم، والترمذي، وابن جرير، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح".
وقد رواه الإمام أحمد، وقال فيه: "والدخان"؛ بدل: " الدجال ".
وعن أبي زرعة بن عمرو بن جرير؛ قال: «جلس ثلاثة نفر من المسلمين إلى مروان بالمدينة، فسمعوه وهو يحدث في الآيات أن أولها خروج الدجال. قال: فانصرف النفر إلى عبد الله بن عمرو، فحدثوه بالذي سمعوه من مروان في الآيات، فقال عبد الله: لم يقل مروان شيئا، قد حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم في مثل ذلك حديثا لم أنسه بعد، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إن أول الآيات خروجا: طلوع الشمس من مغربها، وخروج الدابة ضحى، فأيتهما ما كانت قبل صاحبتها؛ فالأخرى على إثرها ". ثم قال عبد الله - وكان يقرأ الكتب -: وأظن أولاها خروجا طلوع الشمس من مغربها، وذلك أنها كلما غربت؛ أتت تحت العرش، فسجدت، واستأذنت في الرجوع، فأذن لها في الرجوع، حتى إذا بدا لله أن تطلع من مغربها؛ فعلت كما كانت تفعل؛ أتت تحت العرش،»(3/196)
«فسجدت، فاستأذنت في الرجوع، فلم يرد عليها شيء، ثم تستأذن في الرجوع؛ فلا يرد عليها شيء، ثم تستأذن؛ فلا يرد عليها شيء، حتى إذا ذهب من الليل ما شاء الله أن يذهب، وعرفت أنه إن أذن لها في الرجوع؛ لم تدرك المشرق؛ قالت: رب! ما أبعد المشرق! من لي بالناس؟ حتى إذا صار الأفق كأنه طوق؛ استأذنت في الرجوع، فيقال لها: من مكانك فاطلعي. فطلعت على الناس من مغربها. ثم تلا عبد الله هذه الآية: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} » .
رواه: الإمام أحمد وهذا لفظه، والبزار، والطبراني في "الكبير". قال الهيثمي: "ورجاله رجال الصحيح". وقد رواه: الإمام أحمد أيضا، ومسلم، وأبو داود الطيالسي، وأبو داود السجستاني، وابن ماجه؛ مختصرا. وفي رواية مسلم وأبي داود الطيالسي: "فأيهما ما كانت قبل صاحبتها؛ فالأخرى على إثرها قريبا". وفي رواية أحمد وابن ماجه نحوه. وقد رواه الحاكم في "مستدركه" مطولا بنحو رواية الإمام أحمد، ثم قال: "صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه". وقد رواه مسلم مختصرا كما تقدم ذكره.
وعن وهب بن جابر الخَيْواني؛ قال: كنت عند عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما ... فذكر الحديث، وفيه: قال: ثم أنشأ يحدثنا؛ قال: "إن الشمس إذا غربت؛ سلمت وسجدت واستأذنت". قال: "فيؤذن لها، حتى إذا كان يوما غربت فسلمت وسجدت واستأذنت؛ فلا يؤذن لها، فتقول: أي رب! إن المسير بعيد، وإني إن لا يؤذن لي لا أبلغ". قال: "فتحبس ما شاء الله، ثم يقال لها: اطلعي من حيث غربت". قال: "فمن يومئذ إلى يوم القيامة لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل".
رواه: عبد الرزاق في "مصنفه"، والحاكم في "مستدركه" من طريقه،(3/197)
وقال: "صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي في "تلخيصه".
وعن أبي ذر رضي الله عنه؛ قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي ذر حين غربت الشمس: "تدري أين تذهب؟ ". قلت: الله ورسوله أعلم. قال: "فإنها تذهب حتى تسجد تحت العرش، فتستأذن، فيؤذن لها، ويوشك أن تسجد فلا يقبل منها، وتستأذن فلا يؤذن لها، يقال لها: ارجعي من حيث جئت، فتطلع من مغربها؛ فذلك قوله تعالى: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} » .
متفق عليه، واللفظ للبخاري. ورواه: الإمام أحمد، وأبو داود الطيالسي، والترمذي؛ بنحوه، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح".
قال: "وفي الباب عن صفوان بن عسال وحذيفة بن أسيد وأنس وأبي موسى ". انتهى.
وفي رواية لمسلم: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوما: " أتدرون أين تذهب هذه الشمس؟ ". قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: "إن هذه تجري، حتى تنتهي إلى مستقرها تحت العرش، فتخر ساجدة، فلا تزال كذلك، حتى يقال لها: ارتفعي، ارجعي من حيث جئت، فترجع، فتصبح طالعة من مطلعها، ثم تجري حتى تنتهي إلى مستقرها تحت العرش، فتخر ساجدة، فلا تزال كذلك؛ حتى يقال: ارتفعي، ارجعي من حيث جئت، فترجع، فتصبح طالعة من مطلعها، ثم تجري لا يستنكر الناس منها شيئا، حتى تنتهي إلى مستقرها ذاك تحت العرش، فيقال لها: ارجعي، ارتفعي، أصبحي طالعة من مغربك، فتصبح طالعة من مغربها". فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أتدرون متى ذاكم؟ ذاك حين لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا» .(3/198)
وفي رواية لأحمد: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «تغيب الشمس تحت العرش، فيؤذن لها، فترجع، فإذا كانت تلك الليلة التي تطلع صبيحتها من المغرب؛ لم يؤذن لها، فإذا أصبحت؛ قيل لها: اطلعي من مكانك (ثم قرأ: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} » .
وفي رواية له أخرى «عن أبي ذر رضي الله عنه؛ قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم على حمار، وعليه برذعة أو قطيفة، قال: فذاك عند غروب الشمس، فقال لي: " يا أبا ذر! هل تدري أين تغيب هذه؟ ". قال: قلت: الله ورسوله أعلم. قال: "فإنها تغرب في عين حامئة، تنطلق حتى تخر لربها عز وجل ساجدة تحت العرش، فإذا حان خروجها؛ أذن الله، فتخرج، فتطلع، فإذا أراد أن يطلعها من حيث تغرب؛ حبسها، فتقول: يا رب! إن مسيري بعيد. فيقول لها: اطلعي من حيث غبت. فذلك حين لا ينفع نفسا إيمانها» .
قال ابن العربي المالكي: "أنكر قوم سجود الشمس، وهو صحيح ممكن".
قلت: إنما ينكر ذلك من يرتاب في صدق النبي صلى الله عليه وسلم، فأما من لا يشك في صدقه، ويعتقد أنه مبلغ عن ربه كما أخبر الله عنه في قوله: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} ؛ فلا ينكر ذلك ولا يرتاب فيه.
فإن قيل: إن الشمس لا تزال طالعة على الأرض، ولكنها تطلع على جهة منها، وتغرب عن الجهة الأخرى؛ فأين يكون مستقرها الذي إذا انتهت إليه سجدت واستأذنت في الرجوع من المشرق؟!
فالجواب أن يقال: حسب المسلم أن يؤمن بما جاء في الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ويعتقد أنه هو الحق، ولا يتكلف ما لا علم له به من تعيين الموضع الذي تسجد فيه الشمس، بل يكل علم ذلك إلى الله تعالى.(3/199)
وقد روى: الإمام أحمد، والشيخان؛ «عن أبي ذر رضي الله عنه؛ قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قول الله تعالى: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} ؛ قال: "مستقرها تحت العرش» .
فهذا المستقر الذي أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إذا انتهت إليه الشمس؛ سجدت، واستأذنت في الرجوع من المشرق، فيؤذن لها، فإذا كان في آخر الزمان؛ سجدت كما كانت تسجد، فلم يقبل منها، واستأذنت في الرجوع من المشرق؛ فلم يؤذن لها؛ يقال لها: ارجعي من حيث جئت. فتطلع من مغربها.
وقد قال ابن كثير رحمه الله تعالى في "البداية والنهاية" في الكلام على حديث أبي ذر رضي الله عنه وما جاء فيه من سجود الشمس ما ملخصه:
"لا يدل على أنها - أي الشمس - تصعد إلى فوق السماوات من جهتنا حتى تسجد تحت العرش، بل هي تغرب عن أعيننا وهي مستمرة في فلكها الذي هي فيه، فإذا ذهبت فيه حتى تتوسطه، وهو وقت نصف الليل؛ فإنها تكون أبعد ما تكون من العرش؛ لأنه مقبب من جهة وجه العالم، وهذا محل سجودها كما يناسبها، كما أنه أقرب ما تكون من العرش وقت الزوال من جهتنا، فإذا كانت في محل سجودها؛ استأذنت الرب جل جلاله في طلوعها من المشرق، فيؤذن لها، فتبدو من المشرق، وهي مع ذلك كارهة لعصاة بني آدم أن تطلع عليهم، فإذا كان الوقت الذي يريد الله طلوعها من جهة مغربها؛ تسجد على عادتها، وتستأذن في الطلوع من عادتها فلا يؤذن لها، فجاء أنها تسجد أيضا ثم تستأذن فلا يؤذن لها، ثم تسجد فلا يؤذن لها، وتطول تلك الليلة، فتقول: يا رب! إن الفجر قد اقترب، وإن المدى بعيد. فيقال لها: ارجعي من حيث جئت. فتطلع من مغربها، فإذا رآها الناس؛ آمنوا جميعا، وذلك حين لا ينفع نفسا إيمانها لم(3/200)
تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا، وفسروا بذلك قوله تعالى: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} . قيل: لوقتها الذي تؤمر فيه أن تطلع من مغربها. وقيل: مستقرها موضعها الذي تسجد فيه تحت العرش. وقيل: منتهى سيرها، وهو آخر الدنيا".
قلت: والقول الثاني أظهر، ويؤيده ما تقدم من رواية مسلم عن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قال: «أتدرون أين تذهب هذه الشمس؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: إن هذه تجري حتى تنتهي إلى مستقرها تحت العرش، فتخر ساجدة» ... الحديث.
قال ابن كثير: "وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أنه قرأ: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} ؛ أي: ليست مستقرة؛ فعلى هذا تسجد وهي سائرة". انتهى.
وقد علق أبو عبية على حديث أبي ذر رضي الله عنه في (ص198) من "النهاية" لابن كثير، فقال ما نصه:
"سجود الشمس تحت عرش الله عز وجل كناية عن تمام انقيادها لأمره واستجابتها له سبحانه، فما من شيء إلا يسبح بحمده جلت قدرته". انتهى.
والجواب عن هذا من وجوه:
أحدها: أن يقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قد نص على أن الشمس تسجد لربها نصا لا يحتمل التأويل، وهذا النص يدل على أنها تسجد سجودا حقيقيا لا مجازيا، ومن زعم أن سجودها كناية عن تمام انقيادها لأمر الله واستجابتها له؛ فقد صرف النص عن ظاهره، ولا شك أن هذا من تحريف الكلم عن مواضعه.(3/201)
الوجه الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم نص على أن الشمس تجري حتى تنتهي إلى مستقرها تحت العرش، فتخر ساجدة، وهذا النص يدل على أنها إنما تسجد في موضع مخصوص، وهو مستقرها تحت العرش، ولو كان سجود الشمس كناية عن تمام انقيادها لأمر الله واستجابتها له؛ لكانت ساجدة على الدوام، ولا يخفى ما في هذا القول من المخالفة لنص الحديث، وما خالف النص؛ فهو قول باطل مردود، وكفى بالنص حجة على كل مبطل.
الوجه الثالث: أنه يلزم على قول أبي عبية إلغاء فائدة النص على سجود الشمس إذا انتهت إلى مستقرها تحت العرش، وما لزم عليه إلغاء النص؛ فهو قول سوء يجب اطراحه.
الوجه الرابع: أن كلام أبي عبية ظاهر في إنكار ما ثبت في الحديث صحيح من سجود الشمس لربها كلما انتهت إلى مستقرها تحت العرش، ولذلك صرف النص عن الحقيقة إلى الكناية التي تخالف مدلول الحديث، ولا شك أن هذا من الاستهانة بالأحاديث الصحيحة، وعدم احترامها، ومن سلك هذا المسلك؛ فهو على شفا هلكة.
وعن صفوان بن عسال المرادي رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم: «ذكرنا بابا من قبل المغرب، مسيرة عرضه (أو: يسير الراكب في عرضه) أربعين (أو: سبعين) عاما، خلقه الله يوم خلق السماوات والأرض مفتوحا (يعني: للتوبة) ، لا يغلق حتى تطلع الشمس منه» .
رواه: الإمام أحمد، والترمذي، وقال: "هذا حديث حسن صحيح".
وفي رواية لهما؛ قال: «إن الله عز وجل جعل بالمغرب بابا عرضه مسيرة سبعين عاما للتوبة، لا يغلق حتى تطلع الشمس من قبله، وذلك قول الله تبارك وتعالى: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا} ... الآية» .(3/202)
قال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح".
وقد رواه ابن ماجه في "سننه" بإسناد صحيح، ولفظه: «إن من قبل مغرب الشمس بابا مفتوحا، عرضه سبعون سنة، فلا يزال ذلك الباب مفتوحا للتوبة؛ حتى تطلع الشمس من نحوه، فإذا طلعت من نحوه؛ لم ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا» .
وعن ابن السعدي رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تنقطع الهجرة ما دام العدو يقاتل» . فقال معاوية وعبد الرحمن بن عوف وعبد الله بن عمرو ابن العاص رضي الله عنهم: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الهجرة خصلتان: إحداهما أن تهجر السيئات، والأخرى أن تهاجر إلى ورسوله، ولا تنقطع الهجرة ما تقبلت التوبة، ولا تزال التوبة مقبولة حتى تطلع الشمس من المغرب، فإذا طلعت؛ طبع على كل قلب بما فيه، وكفي الناس العمل» .
رواه الإمام أحمد. قال ابن كثير في "النهاية": "وإسناده جيد قوي". وقال الهيثمي: "رواه أحمد والطبراني في "الأوسط" و"الصغير" من غير ذكر حديث ابن السعدي، والبزار من حديث عبد الرحمن بن عوف وابن السعدي فقط، ورجال أحمد ثقات". قال: "وروى أبو داود والنسائي بعض حديث معاوية ". انتهى.
وقد وقع في (ص202) من "النهاية" لابن كثير في النسخة التي تولى أبو عبية الإشراف عليها والتعليق عليها ما نصه: "عن ابن السعدي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تنفع الهجرة ما دام العدو يقاتل» .
وهذا تحريف قبيح جدا، وقد زاد أبو عبية الطين بلة، فقال في عنوان وضعه لهذا الحديث ما نصه: "لا تقبل هجرة المهاجرين والعدو يقاتلهم".
وفي هذا العنوان أوضح دليل على كثافة جهل واضعه وشدة بعده عن(3/203)
معرفة الأحاديث النبوية، وقد قلب في هذا العنوان فائدة الحديث رأسا على عقب، حيث زعم أن الهجرة غير مقبولة حين قتال المهاجرين لعدوهم، ولا شك أن هذا من تحريف الكلم عن مواضعه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نص على أن الهجرة لا تنقطع ما دام العدو يقاتل؛ أي: إلى آخر الزمان، حين تطلع الشمس من مغربها، وينقطع قتال العدو؛ فحينئذ تنقطع الهجرة. والله أعلم.
وعن معاوية رضي الله عنه؛ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها» .
رواه: الإمام أحمد، وأبو داود، والبخاري في "الكنى".
وعن أبي هريرة رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من تاب قبل أن تطلع الشمس من مغربها؛ تاب الله عليه» .
رواه: الإمام أحمد، ومسلم، وابن جرير.
وعن أبي موسى رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله تعالى يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، حتى تطلع الشمس من مغربها» .
رواه: الإمام أحمد، ومسلم.
«وعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما؛ قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله! ما آية طلوع الشمس من مغربها؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "تطول تلك الليلة حتى تكون قدر ليلتين، فينتبه الذين كانوا يصلون فيها، فيعملون كما كانوا يعملون قبلها، والنجوم لا ترى، قد غابت مكانها، ثم يرقدون، ثم يقومون فيصلون، ثم يرقدون، ثم يقومون؛ تبطل عليهم جنوبهم، حتى يتطاول عليهم الليل، فيفزع الناس ولا يصبحون؛ فبينما هم ينتظرون طلوع الشمس من»(3/204)
«مشرقها؛ إذا طلعت من مغربها؛ فإذا رآها الناس آمنوا فلم ينفعهم إيمانهم» .
رواه ابن مردويه.
وعن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه؛ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ليأتين على الناس ليلة تعدل ثلاث ليال من لياليكم هذه، فإذا كان ذلك؛ يعرفها المتنفلون، يقوم أحدهم فيقرأ حزبه ثم ينام، ثم يقوم فيقرأ حزبه ثم ينام، فبينما هم كذلك؛ إذ صاح الناس بعضهم في بعض، فقالوا: ما هذا؟! فيفزعون إلى المساجد؛ فإذا هم بالشمس قد طلعت، حتى إذا صارت في وسط السماء؛ رجعت، فطلعت من مطلعها". قال: "فحينئذ لا ينفع نفسا إيمانها» .
رواه ابن مردويه.
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "أنه قال ذات يوم لجلسائه: أرأيتم قول الله تعالى: {تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ} ؛ ماذا يعني بها؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: إنها إذا غربت سجدت له وسبحته وعظمته، ثم كانت تحت العرش، فإذا حضر طلوعها؛ سجدت له، وسبحته، وعظمته، ثم استأذنته، فيقال لها: اثبتي! فتجلس مقدار ليلتين. قال: ويفزع المتهجدون، وينادي الرجل تلك الليلة جاره: يا فلان! ما شأننا الليلة؟ لقد نمت حتى شبعت، وصليت حتى أعييت. ثم يقال لها: اطلعي من حديث غربت؛ فذلك يوم لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا".
رواه البيهقي في "البعث والنشور".
وقال عوف الأعرابي عن محمد بن سيرين: حدثني أبو عبيدة عن ابن مسعود رضي الله عنه: أنه كان يقول: "الآية التي تختم بها الأعمال طلوع الشمس من مغربها، ألم تر أن الله يقول: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} ... الآية كلها؛ يعني: طلوع الشمس من مغربها".(3/205)
وذكره ابن كثير في "تفسيره" بأطول من هذا، ولم يذكر من خرجه من أصحاب الكتب.
وقد رواه الحاكم في "مستدركه" من طريق عوف عن أنس بن سيرين عن أبي عبيدة عن عبد الله رضي الله عنه، فذكره بنحوه، ثم قال: "صحيح الإسناد ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي في "تلخيصه".
وقد ساق ابن كثير رحمه الله تعالى في كتابه "النهاية" جملة من الأحاديث التي جاءت في طلوع الشمس من مغربها، وذكر قبلها قول الله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ} .
ثم قال: "فهذه الأحاديث المتواترة مع الآية الكريمة دليل على أن من أحدث إيمانا وتوبة بعد طلوع الشمس من مغربها لا يقبل منه، وإنما كان كذلك - والله أعلم - لأن ذلك من أشراط الساعة وعلاماتها الدالة على اقترابها ودنوها؛ فعومل ذلك الوقت معاملة يوم القيامة.
كما قال تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا} .
وقال تعالى: {فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ} .
وقال تعالى: {فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ} انتهى.(3/206)
باب
فضل العبادة في آخر الزمان
عن أبي هريرة رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: «لا تقوم الساعة حتى تكون السجدة الواحدة خيرا من الدنيا وما فيها» .
رواه ابن حبان في "صحيحه".
وقد تقدم في ذكر نزول عيسى عليه الصلاة والسلام حديث أبي هريرة رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده؛ ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكما عدلا، فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويفيض المال حتى لا يقبله أحد، حتى تكون السجدة الواحدة خيرا من الدنيا وما فيها» .
رواه: الإمام أحمد، وأبو داود الطيالسي، والشيخان.
ورواه: الترمذي، وابن ماجه؛ مختصرا.
وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح".
باب
ما جاء في صدق رؤيا المؤمن في آخر الزمان
عن أبي هريرة رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا اقترب الزمان؛ لم تكد رؤيا المؤمن تكذب، وأصدقكم رؤيا أصدقكم حديثا، ورؤيا المسلم جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة» .
رواه: الشيخان، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح".
. ورواه الإمام أحمد، ولفظه: قال: «في آخر الزمان لا تكاد رؤيا»(3/207)
«المؤمن تكذب» ، والباقي بمثله.
ورواه الحاكم في "مستدركه" بهذا اللفظ.
قال ابن الأثير في "جامع الأصول": "اقتراب الزمان هو عند اعتدال الليل والنهار في فصلي الربيع والخريف. وقيل: أراد باقتراب الزمان قرب الساعة ودنو القيامة في آخر الزمان".
قلت: وهذا القول الأخير هو الصحيح؛ كما تدل على ذلك رواية الإمام أحمد والحاكم.
باب
ما جاء في رفع رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم في المنام
قال الأزرقي في "تاريخ مكة": حدثني جدي عن سعيد بن سالم عن عثمان بن ساج؛ قال: بلغني عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قال: «أول ما يرفع الركن والقرآن ورؤيا النبي صلى الله عليه وسلم في المنام» .
باب
ما جاء في ترك تعظيم الكعبة
عن عياش بن أبي ربيعة رضي الله عنه؛ قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «لا تزال هذه الأمة بخير ما عظموا هذه الحرمة حق تعظيمها، فإذا تركوها وضيعوها؛ هلكوا» .
رواه الإمام أحمد، ورواته ثقات.(3/208)
باب
ما جاء في ترك الحج
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تقوم الساعة حتى لا يحج البيت» .
رواه: أبو يعلى، والبزار، وابن حبان في "صحيحه"، والحاكم في "مستدركه"، وقال: " صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي في "تلخيصه".
باب
ما جاء في رفع الحجر الأسود
عن عائشة رضي الله عنها؛ قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أكثروا استلام هذا الحجر؛ فإنكم توشكون أن تفقدوه، بينما الناس يطوفون به ذات ليلة؛ إذ أصبحوا وقد فقدوه، إن الله عز وجل لا يترك شيئا من الجنة في الأرض؛ إلا أعاده فيها قبل يوم القيامة» .
رواه الأزرقي في "تاريخ مكة".
وعن يوسف بن ماهك؛ قال: "إن الله تعالى جعل الركن عيدا لأهل هذه القبلة كما كانت المائدة عيدا لبني إسرائيل، وإنكم لن تزالوا بخير ما دام بين ظهرانيكم، وإن جبريل وضعه في مكانه، وإنه يأتيه فيأخذه من مكانه".
رواه الأزرقي في "تاريخ مكة".
ثم قال الأزرقي: قال عثمان (يعني: ابن ساج) : وحدثت عن مجاهد:(3/209)
أنه قال: كيف بكم إذا أسري بالقرآن ورفع من صدوركم ونسخ من قلوبكم ورفع الركن؟! قال عثمان: وبلغني عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قال: «أول ما يرفع: الركن، والقرآن، ورؤيا النبي صلى الله عليه وسلم في المنام» .
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما؛ قال: «إن الله تعالى يرفع القرآن من صدور الرجال والحجر الأسود قبل يوم القيامة» .
رواه الأزرقي في "تاريخ مكة".
باب
ما جاء في استحلال البيت الحرام
عن سعيد بن سمعان؛ قال: سمعت أبا هريرة رضي الله عنه يحدث أبا قتادة وهو يطوف بالبيت، فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يبايع لرجل بين الركن والمقام، وأول من يستحل هذا البيت أهله، فإذا استحلوه؛ فلا تسأل عن هلكه العرب» ... الحديث.
رواه: الإمام أحمد، وأبو داود الطيالسي، وابن حبان في "صحيحه"، والحاكم في "مستدركه".
باب
ما جاء في هدم الكعبة
عن سعيد بن سمعان؛ قال: سمعت أبا هريرة رضي الله عنه يحدث أبا قتادة رضي الله عنه وهو يطوف بالبيت، فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يبايع لرجل بين الركن والمقام، وأول من يستحل هذا البيت أهله، فإذا استحلوه؛ فلا تسأل»(3/210)
«عن هلكة العرب، ثم تجيء الحبشة، فيخربونه خرابا لا يعمر بعده أبدا، وهم الذين يستخرجون كنزه» . رواه الإمام أحمد وأبو داود الطيالسي وابن حبان في صحيحه والحاكم في "مستدركه".
وعن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يخرب الكعبة ذو السويقتين من الحبشة» .
رواه: الشيخان، والنسائي. وفي رواية قال: «ذو السويقتين من الحبشة يخرب بيت الله عز وجل» . ورواه الإمام أحمد بهذا اللفظ، وفي رواية له: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «في آخر الزمان يظهر ذو السويقتين على الكعبة (قال: حسبت أنه قال:) فيهدمها» . إسناده صحيح على شرط الشيخين.
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما؛ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يخرب الكعبة ذو السويقتين من الحبشة، ويسلبها حليتها، ويجردها من كسوتها، ولكأني أنظر إليه أصيلع أفيدع يضرب عليها بمسحاته ومعوله» .
رواه: الإمام أحمد، والطبراني في "الكبير". قال الهيثمي: "وفيه ابن إسحاق، وهو ثقة، ولكنه مدلس". وقال ابن كثير في "النهاية": "انفرد به أحمد، وإسناده جيد قوي".
وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما؛ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «كأني به أسود أفحج، يقلعها حجرا حجرا (يعني: الكعبة) » .
رواه البخاري. ورواه الإمام أحمد، ولفظه: قال: " «كأني أنظر إليه أسود أفج، ينقضها حجرا حجرا (يعني: الكعبة) » .
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ قال: «اتركوا الحبشة ما تركوكم؛ فإنه لا يستخرج كنز الكعبة إلا ذو السويقتين من الحبشة» .
رواه: عبد الرزاق في "مصنفه"، وأبو داود، والحاكم، وقال: "صحيح(3/211)
الإسناد ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي في "تلخيصه".
وعن أبي أمامة بن سهل بن حنيف؛ قال: سمعت رجلا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «اتركوا الحبشة ما تركوكم؛ فإنه لا يستخرج كنز الكعبة إلا ذو السويقتين من الحبشة» .
رواه الإمام أحمد، ورجاله رجال الصحيح؛ غير موسى بن جبير، وهو ثقة.
وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: أنه قال: "استكثروا من الطواف بهذا البيت قبل أن يحال بينكم وبينه، فكأني أنظر إليه حبشيا أصيلع أصيمع قائما عليها يهدمها بمسحاته".
رواه: عبد الرزاق في "مصنفه"، والأزرقي في "تاريخ مكة"، واللفظ له، وإسناد كل منهما صحيح على شرط البخاري.
وذكر الحافظ ابن حجر العسقلاني في "فتح الباري" أن أبا عبيد رواه في "غريب الحديث" من طريق أبي العالية عن علي رضي الله عنه؛ قال: "استكثروا من الطواف بهذا البيت قبل أن يحال بينكم وبينه؛ فكأني برجل من الحبشة أصلع (أو قال: أصمع) ، حمش الساقين، قاعد عليها وهي تهدم". ورواه الفاكهاني من هذا الوجه. ورواه يحيى الحماني في "مسنده" من وجه آخر عن علي مرفوعا. انتهى.
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنه قال: "اخرجوا يا أهل مكة قبل إحدى الصيلمين. قيل: وما الصيلمان؟ قال: ريح سوداء تحشر الذرة والجعل. قيل: فما الأخرى؟ قال: يجيش البحر بمن فيه من السودان، ثم يسيلون سيل النمل، حتى ينتهوا إلى الكعبة، فيخربونها، والذي نفس عبد الله بيده؛ إني لأنظر إلى صفته في كتاب الله: أفيحج، أصيع، قائما يهدمها(3/212)
بمسحاته. قيل له: فأي المنازل يومئذ أمثل؟ قال: الشعف (يعني: رؤوس الجبال) ".
رواه الأزرقي في "تاريخ مكة"، ورجاله رجال الصحيح.
قال ابن الأثير في "النهاية": " (الصيلم) : الداهية، والياء زائدة، ومنه حديث ابن عمرو: اخرجوا يا أهل مكة قبل الصيلم؛ كأني به أفيحج أفيدع يهدم الكعبة". انتهى.
وعن مجاهد عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: أنه كان يقول: "كأني به أصيلع أفيدع قائما عليها يهدمها بمسحاته". قال مجاهد: فلما هدم ابن الزبير الكعبة؛ جئت أنظر هل أرى الصفة التي قال عبد الله بن عمرو، فلم أرها.
رواه: عبد الرزاق في "مصنفه"، والأزرقي في "تاريخ مكة"، وإسناد كل منهم صحيح على شرط البخاري.
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أيضا: أنه قال: "إن من آخر أمر الكعبة أن الحبش يغزون البيت، فيتوجه المسملون نحوهم، فيبعث الله عليهم ريحا إثرها شرقية، فلا يدع الله عبدا في قلبه مثقال ذرة من تقى إلا قبضته، حتى إذا فرغوا من خيارهم؛ بقي عجاج من الناس؛ لا يأمرون بمعروف، ولا ينهون عن منكر، وعمد كل حي إلى ما كان يعبد آباؤهم من الأوثان، فيعبده، حتى يتسافدوا في الطرق كما تتسافد البهائم، فتقوم عليهم الساعة؛ فمن أنبأك عن شيء بعد هذا؛ فلا علم له".
رواه الحاكم في "مستدركه"، وقال "صحيح الإسناد على شرطهما موقوف"، ووافقه الذهبي في "تلخيصه".(3/213)
باب
ما جاء في رفع البيت
عن ابن عمر رضي الله عنهما؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «استمتعوا من هذا البيت؛ فإنه قد هدم مرتين، ويرفع في الثالثة» .
رواه: ابن حبان في "صحيحه"، والحاكم في "مستدركه"، وقال "صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي في "تلخيصه".
وقال معمر: "بلغني عن بعضهم أن الكعبة تهدم ثلاث مرات، ثم ترفع في الثالثة أو الرابعة؛ فاستمتعوا منها".
ذكره عبد الرزاق في "مصنفه".
وعن كعب: أنه قال في الكعبة: "تهدمونها أيتها الأمة ثلاث مرات، ثم ترفع في الرابعة؛ فاستمتعوا منها".
رواه عبد الرزاق في "مصنفه"، وإسناده صحيح على شرط الشيخين.
باب
ما جاء في رفع القرآن
قد تقدم قريبا ما رواه الأزرقي في "تاريخ مكة" عن عثمان بن ساج؛ قال: بلغني عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قال: «أول ما يرفع الركن والقرآن ورؤيا النبي صلى الله عليه وسلم في المنام» .
وعن حذيفة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يسرى على كتاب الله عز وجل في ليلة؛ فلا يبقى في الأرض منه آية» .... الحديث.(3/214)
رواه: ابن ماجه في "سننه" بإسناد صحيح، والحاكم في "مستدركه"، وقال: "صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي في "تلخيصه".
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ قال: «يسرى على كتاب الله، فيرفع إلى السماء، فلا يبقى في الأرض منه آية» ..... الحديث.
رواه ابن حبان في "صحيحه".
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: "إن هذا القرآن الذي بين أظهركم يوشك أن يرفع. قالوا: وكيف يرفع وقد أثبته الله في قلوبنا وأثبتناه في مصاحفنا؟! قال يسرى عليه في ليلة، فيذهب ما في قلوبكم وما في مصاحفكم، ثم قرأ: {وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} ".
رواه الحاكم في "مستدركه"، وقال "صحيح الإسناد ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي في "تلخيصه".
وقد رواه الطبراني، ولفظه: "قال: لينزعن القرآن من بين أظهركم. قالوا: يا أبا عبد الرحمن! ألسنا نقرأ القرآن وقد أثبتناه في مصاحفنا؟! قال: يسرى على القرآن ليلا، فيذهب من أجواف الرجال، فلا يبقى في الأرض منه شيء". وفي رواية قال: "يسرى على القرآن ليلا، فلا يبقى في قلب عبد ولا في مصحفه منه شيء، ويصبح الناس فقراء كالبهائم، ثم قرأ عبد الله: {وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا} ".
قال الهيثمي: "رجاله رجال الصحيح؛ غير شداد بن معقل، وهو ثقة".
وعنه رضي الله عنه: أنه قال: "ليسرين على القرآن في ليلة، فلا تترك آية في مصحف أحد؛ إلا رفعت".
ذكره صاحب "كنز العمال"، وقال: "رواه ابن أبي داود ".(3/215)
وعن أبي هريرة رضي الله عنه: أنه قال: "يسرى على كتاب الله، فيرفع إلى السماء، فلا يصبح في الأرض آية من القرآن ولا من التوراة والإنجيل ولا الزبور، وينتزع من قلوب الرجال، فيصبحون ولا يدرون ما هو".
رواه الحاكم في "مستدركه"، وقال "صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي في "تلخيصه".
وهذه الآثار لها حكم المرفوعه؛ لأن مثلها لا يقال من قبل الرأي، وإنما يقال عن توقيف.
وعن حذيفة وأبي هريرة رضي الله عنهما: "يسرى على كتاب الله تعالى ليلا، فيصبح الناس ليس منه آية ولا حرف في جوف مسلم إلا نسخت".
ذكره صاحب "كنز العمال"، وقال: "رواه الديلمي ".
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: "لا تقوم الساعة حتى يرفع القرآن من حيث جاء، فيكون له دوي حول العرش كدوي النحل، فيقول الرب عز وجل: ما لك؟ فيقول: منك خرجت وإليك أعود، أتلى فلا يعمل بي؛ فعند ذلك يرفع القرآن".
ذكره صاحب "كنز العمال"، وقال: "رواه الديلمي ".
باب
ما جاء في دروس الإسلام
عن أبي مالك الأشجعي عن ربعي بن حراش عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يدرس الإسلام كما يدرس وشي الثوب،»(3/216)
«حتى لا يدرى ما صيام ولا صلاة ولا نسك ولا صدقة، وليسرى على كتاب الله عز وجل في ليلة، فلا يبقى في الأرض منه آية، ويبقى طوائف من الناس: الشيخ الكبير، والعجوز الكبيرة؛ يقولون: أدركنا آباءنا على هذه الكلمة: لا إله إلا الله؛ فنحن نقولها» . قال صلة بن زفر لحذيفة رضي الله عنه: فما تغني عنهم لا إله إلا الله وهم لا يدرون ما صلاة ولا صيام ولا نسك ولا صدقة؟! فأعرض عنه حذيفة، فرددها عليه ثلاثا، كل ذلك يعرض عنه حذيفة، ثم أقبل عليه في الثالثة، فقال: يا صلة! تنجيهم من النار.
رواه: ابن ماجه بإسناد صحيح، والحاكم في "مستدركه"، والبيهقي، والحافظ الضياء المقدسي، وقال الحاكم: "صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي في "تلخيصه".
قال ابن كثير في "النهاية" في الكلام على هذا الحديث: "هذا دال على أن العلم قد يرفع من الناس في آخر الزمان، حتى القرآن يسرى عليه من المصاحف والصدور، ويبقى الناس بلا علم، وإنما الشيخ الكبير والعجوز المسنة يخبرون أنهم أدركوا الناس وهم يقولون: لا إله إلا الله؛ فهم يقولونها على وجه التقرب إلى الله تعالى؛ فهي نافعة لهم، وإن لم يكن عندهم من العمل الصالح والعلم النافع غيرها.
وقوله: "تنجيهم من النار": يحتمل أن يكون المراد أن تدفع عنهم دخول النار بالكلية، ويكون فرضهم القول المجرد؛ لعدم تكليفهم بالأفعال التي لم يخاطبوا بها، ويحتمل أن يكون المعنى أنها تنجيهم من النار بعد دخولها، وعلى هذا؛ فيحتمل أن يكونوا من المراد بقوله في الحديث: «وعزتي وجلالي لأخرجن من النار من قال يوما من الدهر: لا إله إلا الله» ، ويحتمل أن يكون أولئك قوما آخرين". انتهى.(3/217)
باب
ما جاء في هبوب الريح الطيبة
قد تقدم في ذلك حديثان عن النبي صلى الله عليه وسلم:
الأول منهما: حديث النواس بن سمعان رضي الله عنه في ذكر الدجال ونزول عيسى عليه الصلاة والسلام، وفي آخره: «فبينما هم كذلك؛ إذ بعث الله ريحا طيبة، فتأخذهم تحت آباطهم، فتقبض روح كل مؤمن وكل مسلم، ويبقى شرار الناس؛ يتهارجون فيها تهارج الحمر؛ فعليهم تقوم الساعة» .
رواه: الإمام أحمد، ومسلم، والترمذي، وابن ماجه، وقال الترمذي: "هذا حديث غريب حسن صحيح".
الثاني؛ حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما في ذكر الدجال ونزول عيسى عليه الصلاة والسلام، وفيه: «ثم يرسل الله ريحا باردة من قبل الشام، فلا يبقى على وجه الأرض أحد في قلبه مثقال ذرة من خير أو إيمان إلا قبضته، حتى لو أن أحدكم دخل في كبد جبل؛ لدخلت عليه حتى تقبضه» ..... الحديث.
رواه: الإمام أحمد، ومسلم، والنسائي.
وتقدم أيضا حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما في ذكر الملحمة الكبرى والدجال ونزول عيسى عليه الصلاة والسلام، وفيه بعد ذكر موت عيسى ودفنه: "فلا يلبثون بعد ذلك إلا يسيرا، حتى يبعث الله الريح اليمانية". قيل: وما الريح اليمانية؟ قال: "ريح من قبل اليمن، ليس على الأرض مؤمن يجد نسيمها؛ إلا قبضت روحه".
ذكره صاحب "كنز العمال"، وقال: "رواه ابن عساكر ".(3/218)
وعن أبي هريرة رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله يبعث ريحا من اليمن، ألين من الحرير، فلا تدع أحدا في قلبه مثقال حبة (وفي رواية: مثقال ذرة) من إيمان؛ إلا قبضته» .
رواه مسلم.
وعن عبد الرحمن بن شماسة المهري؛ قال: كنت عند مسلمة بن مخلد وعنده عبد الله بن عمرو بن العاص، فقال عبد الله: «لا تقوم الساعة إلا على شرار الخلق، هم شر من أهل الجاهلية، لا يدعون الله بشيء؛ إلا رده عليهم". فبينما هم على ذلك؛ أقبل عقبة بن عامر، فقال له مسلمة: يا عقبة! اسمع ما يقول عبد الله. فقال عقبة: هو أعلم، وأما أنا؛ فسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " لا تزال عصابة من أمتي يقاتلون على أمر الله، قاهرين لعدوهم، لا يضرهم من خالفهم، حتى تأتيهم الساعة وهم على ذلك". فقال عبد الله: أجل: "ثم يبعث الله ريحا كريح المسك، مسها مس الحرير؛ فلا تترك نفسا في قلبه مثقال حبة من الإيمان إلا قبضته، ثم يبقى شرار الناس، عليهم تقوم الساعة» .
رواه مسلم.
وعن عائشة رضي الله عنها؛ قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يذهب الليل والنهار حتى تعبد اللات والعزى". فقلت: يا رسول الله! إن كنت لأظن حين أنزل الله: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} : أن ذلك تاما. قال: "إنه سيكون من ذلك ما شاء الله، ثم يبعث الله ريحا طيبة، فَتَوَفَّى كل من في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان، فيبقى من لا خير فيه، فيرجعون إلى دين آبائهم» .
رواه مسلم.
وعن نافع عن عياش بن أبي ربيعة رضي الله عنه؛ قال: سمعت النبي(3/219)
صلى الله عليه وسلم يقول: «تجيء ريح بين يدي الساعة تقبض فيها أرواح كل مؤمن» .
رواه: الإمام أحمد بهذا اللفظ، والبزار والحاكم، وقالا: "تقبض فيها روح كل مؤمن". قال الهيثمي: "رجاله رجال الصحيح؛ إلا نافعا لم يسمع من عياش ". وقال الحاكم: "صحيح". وتعقبه الذهبي، فقال: "فيه انقطاع".
وقال الحاكم في موضع آخر: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي في "تلخيصه".
وعن بريدة رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن لله ريحا يبعثها على رأس مائة سنة تقبض روح كل مؤمن» .
رواه: أبو يعلى، والحاكم في "مستدركه"، والحافظ الضياء المقدسي، وقال الحاكم: "صحيح الإسناد ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي في "تلخيصه".
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ قال: «لا تقوم الساعة حتى تبعث ريح حمراء من قبل اليمن، فيكفت بها الله كل نفس مؤمن بالله واليوم الآخر، وما ينكرها الناس من قلة من يموت فيها، مات شيخ من بني فلان، وماتت عجوز من بني فلان» .
رواه ابن حبان في "صحيحه".
وعنه رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله يبعث ريحا من اليمن، ألين من الحرير، فلا تدع أحدا في قلبه مثقال حبة من إيمان؛ إلا قبضته» .
رواه الحاكم في "مستدركه"، وقال: "صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وله شاهد موقوف على عبد الله بن عمرو "، ووافقه الذهبي على تصحيحه.
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما؛ قال: "إن من آخر أمر الكعبة(3/220)
أن الحبش يغزون البيت، فيتوجه المسلمون نحوهم، فيبعث الله عليهم ريحا إثرها شرقية، فلا يدع الله عبدا في قلبه مثقال ذرة من تقى؛ إلا قبضته، حتى إذا فرغوا من خيارهم؛ بقي عجاج من الناس؛ لا يأمرون بمعروف، ولا ينهون عن منكر، وعمد كل حي إلى ما كان يعبد آباؤهم من الأوثان، فيعبده، حتى يتسافدوا في الطرق كما تتسافد البهائم، فتقوم عليهم الساعة، فمن أنبأك عن شيء بعد هذا؛ فلا علم له".
رواه الحاكم في "مستدركه"، وقال "صحيح الإسناد على شرطهما موقوف"، ووافقه الذهبي في "تلخيصه".
وعنه رضي الله عنه؛ قال: "لا تقوم الساعة حتى يبعث الله ريحا، لا تدع أحدا في قلبه مثقال ذرة من تقى أو نهى؛ إلا قبضته، ويلحق كل قوم بما كان يعبد آباؤهم في الجاهلية".
رواه الحاكم في "مستدركه"، وصححه، وأقره الذهبي في "تلخيصه".
وعنه رضي الله عنه؛ قال: "يبعث الله ريحا غبراء قبل يوم القيامة، فتقبض روح كل مؤمن، فيقال: فلان قبض روحه وهو في المسجد، وفلان قبض روحه وهو في سوقه".
رواه نعيم بن حماد في "الفتن".
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه؛ قال: "يبعث الله عز وجل ريحا فيها زمهرير بارد، لا تدع على وجه الأرض مؤمنا؛ إلا مات بتلك الريح، ثم تقوم الساعة على شرار الناس".
رواه الحاكم في "مستدركه"، وقال: "صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي في "تلخيصه". قال الحاكم: "وكذلك روي بإسناد(3/221)
صحيح عن عبد الله بن عمرو ".
قلت: وقد تقدم حديثه قبل حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
باب
ما جاء في تكليم السباع والجمادات للإنس
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده؛ لا تقوم الساعة حتى تكلم السباع الإنس، وحتى تكلم الرجل عذبة سوطه وشراك نعله وتخبره فخذه بما أحدث أهله من بعده» .
رواه: الإمام أحمد، والترمذي، والحاكم في "مستدركه". وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح غريب".قال: "وفي الباب عن أبي هريرة ". وقال الحاكم: "صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي في "تلخيصه"
ورواه ابن حبان في "صحيحه"، ولفظه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا إن من أشراط الساعة كلام السباع للإنس، والذي نفسي بيده؛ لا تقوم الساعة حتى تكلم السباع الإنس، ويكلم الرجل نعله وعذبة سوطه، ويخبره فخذه بحدث أهله بعده» .
وفي رواية لأحمد: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «آيات تكون قبل الساعة، والذي نفسي بيده؛ لا تقوم الساعة حتى يخرج أحدكم من أهله، فيخبره نعله أو سوطه أو عصاه بما أحدث أهله بعده» .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه؛ قال: «جاء ذئب إلى راعي الغنم، فأخذ منها شاة، فطلبه الراعي، حتى انتزعها منه. قال: فصعد الذئب على تل،»(3/222)
«فأقعى واستذفر، فقال: عمدت إلى رزق رزقنيه الله عز وجل انتزعته مني! فقال الرجل: تالله؛ إن رأيت كاليوم ذئبا يتكلم! قال الذئب: أعجب من هذا رجل في النخلات بين الحرتين يخبركم بما مضى وبما هو كائن بعدكم! وكان الرجل يهوديا، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأسلم، وأخبره، فصدقه النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: " إنها أمارة من أمارات بين يدي الساعة، قد أوشك الرجل أن يخرج فلا يرجع حتى تحدثه نعلاه وسوطه ما أحدث أهله بعده» .
رواه الإمام أحمد. قال الهيثمي: "ورجاله ثقات".
وقد علق أبو عبية في (ص212) من "النهاية" لابن كثير على قوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي سعيد رضي الله عنه: «لا تقوم الساعة حتى يخرج أحدكم من أهله، فيخبره نعله أو سوطه أو عصاه بما أحدث أهله بعده"، فقال ما نصه: "كناية عن انكشاف الأسرار ورصد القريب والبعيد لها لإذاعتها» .
والجواب أن يقال: هذا تأويل باطل، والحق الذي لا شك فيه أن السباع تكلم الإنس في آخر الزمان كلاما حقيقيا، وكذلك الفخذ وعذبة السوط وشراك النعل؛ فكلها تكلم الناس في آخر الزمان كلاما حقيقيا، ومن أنكر ذلك أو شك فيه؛ فهو ممن يشك في إسلامه؛ لأنه لم يحقق الشهادة بأن محمدا رسول الله، ومن تحقيقها تصديق النبي صلى الله عليه وسلم فيما أخبر به من الغيوب الماضية والغيوب الآتية.
قال الله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، ويؤمنوا بي وبما جئت به، فإذا فعلوا ذلك؛ عصموا مني دماءهم وأموالهم؛ إلا بحقها، وحسابهم على الله» .
رواه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.(3/223)
وتكليم السباع للإنس فيه خرق للعادة، وكذلك تكليم الفخذ وعذبة السوط وشراك النعل؛ فكل ذلك خارق للعادة، ومستغرب جدا، ولهذا يكون وجود ذلك دليلا على اقتراب الساعة ودنوها.
فصل
وقد سلك أحمد بن محمد بن الصديق الغماري في كتابه "مطابقة الاختراعات العصرية لما أخبر به سيد البرية" مسلكا آخر في تأويل كلام السباع للإنس في آخر الزمان على السيرك الذي تستخدم فيه الأسود والنمور والفيلة وغيرها من السباع في الألعاب العجيبة والحركات الغريبة، وأنها تخاطب فتفهم وتؤمر وتنهى فتأتمر وتنتهي حسب إرادة اللاعب بها، وتأول ذلك أيضا على الكلاب التي تتخذ لاستكشاف أصحاب الجرائم، وتأول الكلام من الفخذ وعذبة السوط وشراك النعل بالفونغراف وآلة التسجيل.
وهو تأويل باطل، والجواب عنه هو ما تقدم في الرد على أبي عبية، وقد رددت عليه ردا أطول من ذلك في كتابي "إيضاح المحجة في الرد على صاحب طنجة"؛ فليراجع هناك.
باب
لا تقوم الساعة حتى لا تنطح ذات قرن جماء
عن أبي هريرة رضي الله عنه؛ قال: سمعت خليلي أبا القاسم صلى الله عليه وسلم يقول: «لا تقوم الساعة حتى لا تنطح ذات قرن جماء» .
رواه الإمام أحمد. قال ابن كثير في "النهاية": "ولا بأس بإسناده".(3/224)
باب
ما جاء في كثرة المطر وقلة النبات
عن عوف بن مالك رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يكون أمام الدجال سنون خوادع، يكثر فيها المطر، ويقل فيها النبت» ... الحديث.
رواه الطبراني بأسانيد. قال الهيثمي: "وفي أحسنها ابن إسحاق، وهو مدلس، وبقية رجاله ثقات".
وعن أنس رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " «لا تقوم الساعة حتى تمطر السماء مطرا عاما ولا تنبت الأرض شيئا» .
رواه: الإمام أحمد، والبزار، وأبو يعلى، فقال: عن أنس؛ قال: كنا نتحدث أنه: «لا تقوم الساعة حتى تمطر السماء ولا تنبت الأرض» .... الحديث. وقال: ذكره حماد هكذا، وقد ذكره حماد أيضا عن ثابت عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما أحسب. قال الهيثمي: "ورجال الصحيح ثقات".
وعنه رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض: الله! الله! وحتى تمطر السماء ولا تنبت الأرض» ..... الحديث.
رواه البزار. قال الهيثمي: "ورجاله رجال الصحيح". ورواه الحاكم في "مستدركه"، وقال "صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه"، وأقره الذهبي في "تلخيصه".
وعنه رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يأتي على الناس زمان تمطر السماء مطرا ولا تنبت الأرض» .(3/225)
رواه الحاكم في "مستدركه"، وقال "صحيح الإسناد ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي في "تلخيصه".
باب
ما جاء في المطر الذي لا تكن منه بيوت المدر
عن أبي هريرة رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تقوم الساعة حتى يمطر الناس مطرا؛ لا تكن منه بيوت المدر، ولا تكن منه إلا بيوت الشعر» .
رواه الإمام أحمد، وإسناده صحيح على شرط مسلم.
باب
ما جاء في قله الرجال وكثرة النساء
عن قتادة عن أنس رضي الله عنه؛ قال: لأحدثنكم حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحدثكم به أحد غيري: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن من أشراط الساعة أن يرفع العلم، ويكثر الجهل، ويكثر الزنى، ويكثر شرب الخمر، ويقل الرجال، ويكثر النساء، حتى يكون لخمسين امرأة القيم الواحد» .
رواه: الإمام أحمد، وأبو داود الطيالسي، والشيخان، والترمذي، وابن ماجه، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح".
ولفظ مسلم وابن ماجه وأحمد في بعض الروايات عنده: «إن من أشراط الساعة أن يرفع العلم، ويظهر الجهل، ويفشو الزنى، ويشرب الخمر، ويذهب الرجال، وتبقى النساء، حتى يكون لخمسين امرأة قيم واحد» .
وعن أبي موسى رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ قال: «ليأتين على الناس»(3/226)
«زمان يطوف الرجل فيه بالصدقة من الذهب، ثم لا يجد أحدا يأخذها منه، ويرى الرجل الواحد يتبعه أربعون امرأة يلذن به من قلة الرجال وكثرة النساء» .
رواه الشيخان.
وعن كعب بن عجرة رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تقوم الساعة حتى يدبر الرجل أمر خمسين امرأة» .
رواه الطبراني. قال الهيثمي: "وفيه محمد بن عيسى الرملي، ولم أعرفه، وبقية رجاله ثقات".
وعن أنس رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض: الله! الله! وحتى تمر المرأة بقطعة النعل، فتقول: قد كان لهذه رجل مرة، وحتى يكون الرجل قيم خمسين امرأة، وحتى تمطر السماء ولا تنبت الأرض» .
رواه الحاكم في "مستدركه"، وقال: "صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه"، وأقره الذهبي في "تلخيصه". وقد رواه البزار بنحوه. قال الهيثمي: "ورجاله رجال الصحيح".
وقال الإمام أحمد في "مسنده": حدثنا عفان: حدثنا حماد عن ثابت عن أنس رضي الله عنه؛ قال: كنا نتحدث: أنه «لا تقوم الساعة حتى تمطر السماء ولا تنبت الأرض، وحتى يكون لخمسين امرأة القيم الواحد، وحتى إن المرأة لتمر بالنعل، فتنظر إليها، فتقول: لقد كان لهذه مرة رجل» . ذكره حماد مرة هكذا. وقد ذكره عن ثابت عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم لا يشك فيه. وقد قال أيضا: عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يحسب.
إسناده صحيح على شرط الشيخين. وقد رواه البزار وأبو يعلى. قال الهيثمي: "ورجال الجميع ثقات".(3/227)
باب
ما جاء في كثرة الروم في آخر الزمان
عن المستورد الفهري رضي الله عنه: أنه قال لعمرو بن العاص رضي الله عنه: " «تقوم الساعة والروم أكثر الناس ". فقال له عمرو بن العاص: أبصر ما تقول. قال: أقول لك ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال له عمرو بن العاص: إن تكن قلت ذاك؛ إن فيهم لخصالا أربعا: إنهم لأسرع الناس كرة بعد فرة، وإنهم لخير الناس لمسكين وفقير وضعيف، وإنهم لأحلم الناس عند فتنة، والرابعة حسنة جميلة، وإنهم لأمنع الناس من ظلم الملوك.»
رواه الإمام أحمد، وإسناده صحيح على شرط مسلم.
وقد رواه مسلم في "صحيحه" بزيادة، ولفظه: قال المستورد القرشي عند عمرو بن العاص: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «تقوم الساعة والروم أكثر الناس ". فقال له عمرو: أبصر ما تقول. قال: أقول ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: لئن قلت ذلك؛ إن فيهم لخصالا أربعا: إنهم لأحلم الناس عند فتنة، وأسرعهم إفاقة بعد مصيبة، وأوشكهم كرة بعد فرة، وخيرهم لمسكين ويتيم وضعيف، وخامسة حسنة جميلة: وأمنعهم من ظلم الملوك.»
وفي رواية لمسلم نحوه، وقال فيه: فقال عمرو: لئن قلت ذلك؛ إنهم لأحلم الناس عند فتنة، وأجبر الناس عند مصيبة، وخير الناس لمساكينهم وضعفائهم.
وعن عبد الرحمن بن جبير: «أن المستورد رضي الله عنه؛ قال: بينا أنا عند عمرو بن العاص، فقلت له: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أشد الناس عليكم الروم، وإنما هلكتهم مع الساعة". فقال له عمرو: ألم أزجرك عن مثل هذا؟»(3/228)
رواه الإمام أحمد، وفي إسناده ابن لهيعة، وقد حسن الترمذي حديثه، وروى له مسلم مقرونا بغيره، وبقية رجاله ثقات.
وقد تقدم في أول كتاب الملاحم حديث ابن محيريز؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فارس نطحة أو نطحتان ثم لا فارس بعد هذا أبدا، والروم ذات القرون؛ كلما هلك قرن؛ خلفه قرن؛ أهل صخر، وأهل بحر، هيهات إلى آخر الدهر، هم أصحابكم ما دام في العيش خير» .
رواه: ابن أبي شيبة، والحارث بن أبي أسامة مرسلا.
والواقع يشهد له بالصحة.
قال ابن الأثير في "النهاية": "فيه: "فارس نطحة أو نطحتين ثم لا فارس بعدها أبدا"؛ معناه: أن فارس تقاتل المسلمين مرة أو مرتين، ثم يبطل ملكها ويزول". انتهى.
باب
ما جاء في تأخير هذه الأمة خمس مائة عام
عن أبي ثعلبة الخشني صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم رضي الله عنه: أنه قال وهو بالفسطاط في خلافة معاوية رضي الله عنه، وكان معاوية أغزى الناس القسطنطينية، فقال: "والله؛ لا تعجز هذه الأمة من نصف يوم، إذا رأيت الشام مائدة رجل واحد وأهل بيته؛ فعند ذلك فتح القسطنطينية".
رواه الإمام أحمد موقوفا، وإسناده صحيح على شرط مسلم.
وقد رواه أبو داود في "سننه"، والحاكم في "مستدركه"؛ عن أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه؛ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " «لن يعجز الله هذه»(3/229)
«الأمة من نصف يوم» .
قال الحاكم: "صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي في "تلخيصه".
وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إني لأرجو أن لا تعجز أمتي عند ربها أن يؤخرهم نصف يوم ". قيل لسعد: وكم نصف ذلك اليوم؟ قال: خمس مائة سنة» .
رواه: الإمام أحمد، وأبو داود، والحاكم في "مستدركه"، ورجال أبي داود كلهم ثقات.
باب
ما جاء في أول الأرض خرابا
عن جرير رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أسرع الأرض خرابا يسراها ثم يمناها» .
رواه الطبراني في "الأوسط". قال الهيثمي: "وفيه حفص بن عمر بن صباح الرقي، وثقه ابن حبان، وبقية رجاله رجال الصحيح".
وعن قتادة؛ قال: لقي النبي صلى الله عليه وسلم أبا ذر رضي الله عنه، فذكر الحديث، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي ذر: «واعلم أن أسرع أرض العرب خرابا الجناحان؛ مصر والعراق» .
رواه عبد الرزاق في "مصنفه"، ورجاله رجال الصحيح؛ إلا أن فيه انقطاعا بين أبي ذر وقتادة.
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما؛ قال: "أول الأرض خرابا(3/230)
الشام".
رواه ابن أبي شيبة.
وقد جاء ما يخالف هذا الأثر، فروى ابن عساكر عن عوف بن مالك رضي الله عنه: "تخرب الأرض قبل الشام بأربعين سنة".
ذكره في "كنز العمال".
وحديث أبي هريرة رضي الله عنه الذي في الباب بعده يعارضه.
باب
ما جاء في آخر القرى خرابا
عن أبي هريرة رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «آخر قرية من قرى الإسلام خرابا المدينة» .
رواه: الترمذي، وابن حبان في "صحيحه"، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب".
وعن عوف بن مالك رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أما والله يا أهل المدينة؛ لتدعنها مذللة أربعين عاما للعوافي". قلنا: الله ورسوله أعلم. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أتدرون ما العوافي؟ ". قالوا: لا. قال: "الطير والسباع» .
رواه: الإمام أحمد، والحاكم، وقال: "صحيح الإسناد ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي في "تلخيصه".
ورواه عمر بن شبة بإسناد صحيح، ولفظه: قال: «دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد، ثم نظر إلينا، فقال: " أما والله؛ ليدعنها أهلها مذللة أربعين عاما»(3/231)
«للعوافي، أتدرون ما العوافي؟ الطير والسباع» .
وعن عوف أيضا رضي الله عنه: "تخرب المدينة قبل يوم القيامة بأربعين سنة".
ذكره صاحب "كنز العمال"، وقال: "رواه الديلمي في "مسند الفردوس"".
باب
ما جاء في أول الأمم هلاكا
عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما؛ قال: قل الجراد في سنة من سني عمر رضي الله عنه التي ولي فيها، فسأل عنه، فلم يخبر بشيء، فاغتم لذلك، فأرسل راكبا إلى اليمن وآخر إلى الشام وآخر إلى العراق يسأل: هل رئي من الجراد شيء أم لا؟ قال: فأتاه الراكب الذي من قبل اليمن بقبضة من جراد، فألقاها بين يديه، فلما رآها؛ كبر ثلاثا، ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «خلق الله عز وجل ألف أمة: ست مائة في البحر، وأربع مائة في البر، فأول شيء يهلك من هذه الأمم الجراد، فإذا هلكت؛ تتابعت مثل النظام إذا قطع سلكه» .
رواه أبو يعلى. قال الهيثمي: "وفيه عبيد بن واقد القيسي، وهو ضعيف".
باب
ما جاء في أول الناس هلاكا
عن أبي هريرة رضي الله عنه؛ قال: «أقبل سعد رضي الله عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فلما رآه؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن في وجه سعد لخبرا". قال: قتل كسرى. قال: يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لعن الله كسرى، وإن أول الناس هلاكا»(3/232)
«العرب، ثم أهل فارس» .
رواه: الإمام أحمد، والبزار. قال الهيثمي: "وفيه داود بن يزيد الأودي، وهو ضعيف".
باب
ما جاء في هلاك العرب
عن طلحة بن مالك رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من اقتراب الساعة هلاك العرب» .
رواه: ابن أبي شيبة، والترمذي في "جامعه"، والبخاري في "التاريخ"، والحارس بن أبي أسامة، والطبراني، وابن عبد البر، وغيرهم. وقال الترمذي: "هذا حديث غريب".
باب
ما جاء في أول العرب هلاكا
عن ابن عباس رضي الله عنهما؛ قال: "أول العرب هلاكا قريش وربيعة". قالوا: وكيف؟ قال: "أما قريش؛ فيهلكها الملك، وأما ربيعة؛ فتهلكها الحمية".
رواه ابن أبي شيبة.
وعن عمرو بن العاص رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أول الناس هلاكا قريش، وأول قريش هلاكا أهل بيتي» .
رواه الطبراني.(3/233)
وعن أبي ذر رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أول الناس هلاكا قريش، وأول قريش هلاكا أهل بيتي» .
ذكره صاحب "كنز العمال" وقال: "رواه ابن عساكر ".
وعن عائشة رضي الله عنها؛ قالت: «دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: " يا عائشة! قومك أسرع أمتي بي لحاقا". قالت: فلما جلس؛ قلت: يا رسول الله! جعلني الله فداءك، لقد دخلت وأنت تقول كلاما ذعرني. فقال: "وما هو؟ ". قالت: تزعم أن قومي أسرع أمتك بك لحاقا! قال: "نعم". قالت: وعم ذاك؟ قال: "تستحليهم المنايا، وتنفس عليهم أمتهم". قالت: فقلت: فكيف الناس بعد ذلك أو عند ذلك؟ قال: "دبى يأكل شداده ضعافه حتى تقوم عليهم الساعة» .
رواه الإمام أحمد بإسناد صحيح على شرط الشيخين.
قال أبو عبد الرحمن - هو عبد الله ابن الإمام أحمد - في تفسير الدبى: "فسره رجل هو الجنادب التي لم تنبت أجنحتها".
وفي رواية: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «يا عائشة! إن أول من يهلك من الناس قومك". قالت: قلت: جعلني الله فداءك؛ أبني تيم؟ قال: " لا، ولكن هذا الحي من قريش؛ تستحليهم المنايا، وتنفس عنهم، أول الناس هلاكا". قلت: فما بقاء الناس بعدهم؟ قال: "هم صلب الناس، فإذا هلكوا؛ هلك الناس» .
فيه عبد الله بن المؤمل، وهو ضعيف، وبقية رجاله رجال الصحيح.
وعنها رضي الله عنها؛ قالت: «قلت: يا رسول الله! كيف هذا الأمر بعدك؟ قال: "في قومك ما كان فيهم خير". قلت: فأي العرب أسرع فناء؟ قال: "قومك". قلت: وكيف ذلك؟ قال: "يستحليهم الموت ويفنيهم الناس» .(3/234)
رواه نعيم بن حماد في "الفتن".
وعن أبي هريرة رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أسرع قبائل العرب فناء قريش، ويوشك أن تمر المرأة بالنعل، فتقول: إن هذا نعل قرشي» .
رواه: الإمام أحمد، وأبو يعلى، والبزار ببعضه، والطبراني في "الأوسط"، وقال: "هذه"؛ بدل: "هذا". قال الهيثمي: "ورجال أحمد وأبي يعلى رجال الصحيح".
وقد رواه ابن حبان في "صحيحه" موقوفا، ولفظه: قال أبو هريرة رضي الله عنه: "أول قبائل العرب فناء قريش، والذي نفسي بيده؛ أوشك الرجل أن يمر على النعل وهي ملقاة في الكناسة، فيأخذها بيده، ثم يقول: كانت هذه من نعال قريش في الناس".
وعن عبد الرحمن بن شبل رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يذهب الليل والنهار حتى توجد النعل بالقمامة، فيقال: كأنها نعل قرشي» .
رواه الطبراني. قال الهيثمي: "وفيه من لم يسم ومن ضعفه الجمهور".
قلت: وما قبله من الأحاديث الصحيحة يشهد له ويقويه.
باب
ما جاء في شر الليالي والأيام والشهور والأزمنة
عن ابن مسعود رضي الله عنه؛ قال: "إن شر الليالي والأيام والشهور والأزمنة أقربها إلى الساعة".
ذكره في "كنز العمال".(3/235)
ويشهد له ما رواه: الإمام أحمد، والبخاري، والترمذي؛ عن أنس رضي الله عنه: أنه قال: «لا يأتي عليكم زمان؛ إلا الذي بعده شر منه، حتى تلقوا ربكم» ، سمعته من نبيكم صلى الله عليه وسلم.
قال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح".
وعن ابن مسعود رضي الله عنه: أنه قال: "أمس خير من اليوم، واليوم خير من غد، وكذلك حتى تقوم الساعة".
رواه الطبراني. قال الهيثمي: "ورجاله رجال الصحيح".
باب
ما جاء أنه يكون قبل الساعة مائة سنة لا يعبد الله فيها
عن بريدة رضي الله عنه مرفوعا: «لا تقوم الساعة حتى لا يعبد الله في الأرض قبل ذلك بمائة سنة» .
ذكره صاحب "كنز العمال"، وقال: "رواه: ابن جرير، والحاكم في "تاريخه".
باب
ما جاء في بقاء الأشرار بعد الأخيار
عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما؛ قال: "إن للأشرار بعد الأخيار عشرين ومائة سنة، لا يدري أحد من الناس متى يدخل أولها".
رواه ابن أبي شيبة.(3/236)
باب
فيمن تقوم عليهم الساعة
عن عبد الله - وهو ابن مسعود رضي الله عنه -؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " «لا تقوم الساعة إلا على شرار الناس» .
رواه: الإمام أحمد، وأبو داود الطيالسي، ومسلم.
وعنه رضي الله عنه؛ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء، ومن يتخذ القبور مساجد» .
رواه الإمام أحمد. وروى البخاري منه قوله: «من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء» .
وعن علي رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء، والذين يتخذون القبور مساجد» .
رواه البزار. قال الهيثمي: "وفيه الحارث بن عبد الله الأعور، وهو ضعيف جدا، ووثقه ابن معين ".
قلت: والحديث قبله يشهد له ويقويه.
وعن معاوية رضي الله عنه؛ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " «لا يزداد الأمر إلا شدة، ولا يزداد الناس إلا شحا، ولا تقوم الساعة إلا على شرار الناس» .
رواه الطبراني. قال الهيثمي: "ورجاله رجال الصحيح".
وعن أبي أمامة رضي الله عنه؛ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يزداد الأمر إلا شدة، ولا يزداد المال إلا إفاضة، ولا يزداد الناس إلا شحا، ولا تقوم الساعة إلا على شرار الناس» .(3/237)
رواه الطبراني. قال الهيثمي: "ورجاله وثقوا، وفيهم ضعف".
وقد رواه الحاكم في "مستدركه" مختصرا، وقال: "صحيح الإسناد ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي في "تلخيصه".
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يزداد الأمر إلا شدة، ولا الدنيا إلا إدبارا، ولا الناس إلا شحا، ولا تقوم الساعة إلا على شرار الناس» .
رواه: ابن ماجه، والحاكم في "مستدركه"، وقال: "ولا الدين إلا إدبارا"، وإسناد كل منهما ضعيف، وما قبله عن معاوية وأبي أمامة رضي الله عنهما يشهد له ويقويه.
وعن عبد الرحمن بن شماسة المهري؛ قال: كنت عند مسلمة بن مخلد وعنده عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، «فقال عبد الله: "لا تقوم الساعة إلا على شرار الخلق، هم شر من أهل الجاهلية، لا يدعون الله بشيء؛ إلا رده عليهم"، فبينما هم على ذلك؛ أقبل عقبة بن عامر رضي الله عنه، فقال له مسلمة: يا عقبة! اسمع ما يقول عبد الله. فقال عقبة: هو أعلم، وأما أنا؛ فسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تزال عصابة من أمتي؛ يقاتلون على أمر الله، قاهرين لعدوهم، لا يضرهم من خالفهم؛ حتى تأتيهم الساعة وهم على ذلك". فقال عبد الله: أجل؛ "ثم يبعث الله ريحا كريح المسك، مسها مس الحرير؛ فلا تترك نفسا في قلبه مثقال حبة من الإيمان؛ إلا قبضته، ثم يبقى شرار الناس، عليهم تقوم الساعة» .
رواه مسلم.
وعن النواس بن سمعان رضي الله عنه؛ قال: ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الدجال ذات غداة..... الحديث، وفي آخره: «فبينما هم كذلك؛ إذ بعث الله ريحا»(3/238)
«طيبة، فتأخذهم تحت آباطهم، فتقبض روح كل مؤمن وكل مسلم، ويبقى شرار الناس، يتهارجون فيها تهارج الحمر؛ فعليهم تقوم الساعة» .
رواه: الإمام أحمد، ومسلم، والترمذي، وابن ماجه، وقال الترمذي: "هذا حديث غريب حسن صحيح".
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه؛ قال: "يبعث الله عز وجل ريحا فيها زمهرير بارد؛ لا تدع على وجه الأرض مؤمنا؛ إلا مات بتلك الريح، ثم تقوم الساعة على شرار الناس".
رواه الحاكم في "مستدركه"، وقال: "صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي في "تلخيصه". قال الحاكم: "وكذلك روي بإسناد صحيح عن عبد الله بن عمرو ".
وعن علباء السلمي رضي الله عنه؛ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا تقوم الساعة إلا على حثالة من الناس» .
رواه: الإمام أحمد، وأبو يعلى، والطبراني. قال الهيثمي: "ورجاله ثقات". ورواه الحاكم في "مستدركه"، وقال: "صحيح الإسناد ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي في "تلخيصه".
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تقوم الساعة حتى يأخذ الله شريطته من أهل الأرض، فيبقى فيها عجاجة لا يعرفون معروفا ولا ينكرون منكرا» .
رواه الإمام أحمد مرفوعا وموقوفا، ورجالهما رجال الصحيح. ورواه الحاكم في "مستدركه"، وقال: "فيبقى فيها عجاج"، وقال: "صحيح على شرط الشيخين إن كان الحسن سمعه من عبد الله بن عمرو "، ووافقه الذهبي في "تلخيصه".(3/239)
وعنه رضي الله عنه؛ قال: "لا تقوم الساعة حتى يبعث الله ريحا لا تدع أحدا في قلبه مثقال ذرة من تقى أو نهى إلا قبضته، ويلحق كل قوم بما كان يعبد آباؤهم في الجاهلية، ويبقى عجاج من الناس؛ لا يأمرون بمعروف، ولا ينهون عن منكر، يتناكحون في الطرق كما تتناكح البهائم، فإذا كان ذلك؛ اشتد غضب الله على أهل الأرض، فأقام الساعة".
رواه الحاكم في "مستدركه"، ولم يتكلم عليه، ولم يتكلم عليه الذهبي.
وعنه رضي الله عنه؛ قال: "إن من آخر أمر الكعبة أن الحبش يغزون البيت، فيتوجه المسلمون نحوهم، فيبعث الله عليهم ريحا إثرها شرقية، فلا يدع الله عبدا في قلبه مثقال ذرة من تقى؛ إلا قبضته، حتى إذا فرغوا من خيارهم؛ بقي عجاج من الناس؛ لا يأمرون بمعروف، ولا ينهون عن منكر، وعمد كل حي إلى ما كان يعبد آباؤهم من الأوثان، فيعبده، حتى يتسافدوا في الطرق كما تتسافد البهائم، فتقوم عليهم الساعة، فمن أنبأك عن شيء بعد هذا؛ فلا علم له".
رواه الحاكم في "مستدركه"، وقال: "صحيح الإسناد على شرطهما موقوف"، ووافقه الذهبي في "تلخيصه".
باب
ما جاء أن الساعة تقوم على أولاد الزنى
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ قال: «خروج الدابة بعد طلوع الشمس من مغربها، فإذا خرجت؛ لطمت إبليس وهو ساجد، ويتمتع المؤمنون في الأرض بعد ذلك أربعين سنة؛ لا يتمنون شيئا؛ إلا أعطوه ووجدوه، ولا جور، ولا ظلم، وقد أسلم الأشياء لرب العالمين طوعا وكرها، حتى إن السبع»(3/240)
«لا يؤذي دابة ولا طيرا، ويلد المؤمن فلا يموت، حتى يتم الأربعين سنة بعد خروج دابة الأرض، ثم يعود فيهم الموت، فيمكثون كذلك ما شاء الله، ثم يسرع الموت في المؤمنين؛ فلا يبقى مؤمن، فيقول الكافر: قد كنا مرعوبين من المؤمنين، فلم يبق منهم أحد، وليس تقبل منهم توبة، فيتهارجون في الطرق تهارج البهائم، يقوم أحدهم بأمه وأخته وابنته، فينكحها وسط الطريق، يقوم عنها واحد وينزو عليها آخر، لا ينكر ولا يغير، فأفضلهم يومئذ من يقول: لو تنحيتم عن الطريق؛ كان أحسن، فيكونون كذلك، حتى لا يبقى أحد من أولاد النكاح، ويكون أهل الأرض أولاد السفاح، فيمكثون كذلك ما شاء الله، ثم يعقر الله أرحام النساء ثلاثين سنة؛ لا تلد امرأة، ولا يكون في الأرض طفل، ويكونون كلهم أولاد الزنى، شرار الناس، وعليهم تقوم الساعة» .
رواه الحاكم في "مستدركه". قال الذهبي: "وهو موضوع".
قلت: ولبعضه شواهد، ولا سيما ما ذكر فيه من التناكح في الطريق.
باب
لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض: الله، الله
عن أنس رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض: الله، الله!» .
رواه: الإمام أحمد، ومسلم، والترمذي، وقال: "هذا حديث حسن".
وفي رواية لأحمد ومسلم: «لا تقوم الساعة على أحد يقول: الله! الله!» .
وفي رواية لأحمد: «لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض: لا إله إلا الله» .(3/241)
ورواه: ابن حبان في "صحيحه"، والحاكم في "مستدركه"؛ بهذا اللفظ، وقال الحاكم: "صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي في "تلخيصه".
وعن عبد الله - وهو ابن مسعود رضي الله عنه -؛ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض: لا إله إلا الله» .
رواه الحاكم في "مستدركه"، وقال: "صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي في "تلخيصه".
قال ابن كثير رحمه الله تعالى في "النهاية": "وفي معنى قوله صلى الله عليه وسلم: «حتى لا يقال في الأرض: الله، الله!» قولان:
أحدهما: أن معناه أن أحدا لا ينكر منكرا، ولا يزجر أحد أحدا إذا رآه قد تعاطى منكرا وغيره، فعبر عن ذلك بقوله: «"حتى لا يقال: الله! الله!» ؛ كما تقدم في حديث عبد الله بن عمرو: "فيبقى فيها عجاجة؛ لا يعرفون معروفا، ولا ينكرون منكرا".
والقول الثاني: حتى لا يذكر الله في الأرض، ولا يعرف اسمه فيها، وذلك عند فساد الزمان، ودمار نوع الإنسان، وكثرة الكفر والفسوق والعصيان، وهذا كما في الحديث الآخر: «لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض: لا إله إلا الله» ، وكما تقدم في الحديث الآخر: أن الشيخ الكبير يقول: أدركت الناس وهم يقولون: لا إله إلا الله، ثم يتفاقم الأمر ويتزايد الحال، حتى يترك ذكر الله في الأرض، وينسى بالكلية؛ فلا يعرف فيها، وأولئك الأشرار شر الناس وعليهم تقوم الساعة". انتهى.
والقول الثاني هو الصواب، وهو يتضمن القول الأول أيضا؛ لأنه إذا ترك(3/242)
ذكر الله في الأرض، ونسي بالكلية، فلم يعرف؛ فمن لازم ذلك ترك إنكار المنكرات، وترك الزجر لمن يتعاطى شيئا منها. والله أعلم.
باب
ما جاء في سوق الناس إلى المحشر
عن حذيفة بن أسيد الغفاري رضي الله عنه؛ قال: أشرف علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم من غرفة ونحن نتذاكر الساعة، فقال: «لا تقوم الساعة حتى تروا عشر آيات ... (فذكر الحديث، وفيه:) ونار تخرج من قعر عدن، تسوق (أو: تحشر) الناس؛ تبيت معهم حيث باتوا، وتقيل معهم حيث قالوا» .
رواه: الإمام أحمد، وأبو داود الطيالسي، ومسلم، وأهل السنن إلا النسائي. وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح".
وفي رواية لمسلم: «وآخر ذلك نار تخرج من اليمن، تطرد الناس إلى محشرهم» . وفي رواية أبي داود: «وآخر ذلك تخرج نار من اليمن من قعر عدن، تسوق الناس إلى المحشر» .
وقد تقدم هذا الحديث بتمامه في (باب ما جاء في الآيات الكبار) .
قال ابن كثير في "النهاية": "وهذه النار تسوق الموجودين في آخر الزمان من سائر أقطار الأرض إلى أرض الشام منها، وهي بقعة المحشر والمنشر". انتهى.
وعن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه؛ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا تقوم الساعة حتى تكون عشر آيات (فذكر الحديث وفيه ... ) : ونار تخرج من قعر عدن، تسوق الناس إلى المحشر، تحشر الذر والنمل» .(3/243)
رواه: الطبراني، والحاكم في "مستدركه"، وقال: "صحيح الإسناد ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي في "تلخيصه".
وعن عمر رضي الله عنه: أنه قال: "تخرج من أودية بني علي نار تقبل من قبل اليمن؛ تحشر الناس، تسير إذا ساروا، وتقيم إذا أقاموا، حتى إنها لتحشر الجعلان، حتى تنتهي إلى بصرى، وحتى إن الرجل ليقع فتقف حتى تأخذه".
رواه ابن أبي شيبة.
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ستخرج نار من حضرموت (أو: من نحو بحر حضرموت) قبل يوم القيامة تحشر الناس". قالوا: يا رسول الله! فما تأمرنا؟ قال: "عليكم بالشام» .
رواه: الإمام أحمد، والترمذي، وابن حبان في "صحيحه". وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح غريب من حديث ابن عمر رضي الله عنهما". قال: "وفي الباب عن حذيفة بن أسيد وأنس وأبي هريرة وأبي ذر رضي الله عنهم".
وقد علق أبو عبية في (ص257) من "النهاية" على قول ابن كثير: "وإن أرض الشام هي بقعة المحشر والمنشر"، فقال ما نصه:
"هذا الكلام الذي يحدد أرض المحشر لا دليل عليه من كتاب أو سنة أو إجماع، بل إن في القرآن الكريم ما ينقضه، قال الله تعالى: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ} ؛ فأين أرض الشام إذا؟! ".
والجواب أن يقال: قد دل القرآن والسنة على أن أرض الشام هي أرض المحشر:(3/244)
فأما الدليل من القرآن؛ فقد قال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ} ... الآية، وأهل الكتاب هم بنو النضير، أجلاهم النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى أذرعات من أرض الشام.
«قال ابن عباس رضي الله عنهما: "من شك أن أرض المحشر هاهنا (يعني: الشام) ؛ فليقرأ هذه الآية: {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ} . قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اخرجوا". قالوا: إلى أين؟ قال: "إلى أرض المحشر» .
رواه ابن أبي حاتم.
وعن الحسن؛ قال: لما «أجلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بني النضير؛ قال: "هذا أول الحشر، وإنا على الأثر» .
رواه: ابن جرير، وابن أبي حاتم.
وقال الكلبي: "إنما قال: {لِأَوَّلِ الْحَشْرِ} ؛ لأنهم كانوا أول من أجلي من أهل الكتاب من جزيرة العرب، ثم أجلى آخرهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه".
قال مرة الهمداني: "كان أول الحشر من المدينة، والحشر الثاني من خيبر وجميع جزيرة العرب إلى أذرعات وأريحا من الشام في أيام عمر ".
وقال قتادة: "كان هذا أول الحشر، والحشر الثاني نار تحشرهم من المشرق إلى المغرب؛ تبيت معهم حيث باتوا، وتقيل معهم حيث قالوا".
وأما الدليل من السنة؛ فعن سمرة بن جندب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول لنا: «إنكم تحشرون إلى بيت المقدس، ثم تجتمعون يوم»(3/245)
«القيامة» .
رواه: البزار، والطبراني. قال الهيثمي: "وإسناد الطبراني حسن".
وقد تقدم في حديث عمر رضي الله عنه: أن النار التي تحشر الناس تنتهي إلى بصرى، وبصرى من أرض الشام.
وفي حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما في ذكر الحشر بالنار: أنهم قالوا: يا رسول الله! فما تأمرنا؟ قال: "عليكم بالشام". فهذا يدل على أن الشام هي أرض المحشر.
وأما قول أبي عبية: "إن في القرآن ما ينقضه؛ قال الله تعالى: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ} ؛ فأين أرض الشام إذا؟! ".
فجوابه أن يقال: إن الحشر إلى الشام يكون قبل يوم القيامة؛ تحشرهم النار من المشرق حتى تنتهي إلى أرض بصرى؛ كما تقدم في حديث عمر رضي الله عنه، وأرض الشام لا تزال باقية على حالها إلى يوم القيامة، فأما تبديل الأرض؛ فإنما يكون يوم القيامة، والناس إذا ذاك على الصراط؛ كما ثبت ذلك في "صحيح مسلم " من حديث عائشة رضي الله عنها، وفي حديث ثوبان رضي الله عنه: أنهم في الظلمة دون الجسر. رواه مسلم. وفي "الصحيحين" من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء عفراء كقرصة النقي، ليس فيها علم لأحد» . وهذا لا ينفي أن تكون أرض الشام بهذه الصفة يوم القيامة، حين تسير الجبال وتنسف عن وجه الأرض.
والمقصود هاهنا أن اعتراض أبي عبية على ابن كثير لا وجه له، وهو مردود بما ذكرته من الآية والأحاديث. والله أعلم.(3/246)
باب
ما جاء في نداء المنادي بين يدي الصيحة
عن أبي سعيد رضي الله عنه: "ينادي مناد بين يدي الصيحة: يا أيها الناس! أتتكم الساعة. فيسمعها الأحياء والأموات، وينزل الله إلى السماء الدنيا، ثم ينادي مناد: لمن الملك اليوم؟ لله الواحد القهار".
ذكره صاحب "كنز العمال"، وقال: "رواه الديلمي ".
وعن ابن عباس رضي الله عنهما؛ قال: "يوشك الملطع أن يطلع". قيل له: وما المطلع؟ قال: "مناد ينادي الساعة، فما من حي ولا ميت إلا كأنما ينادي عند أذنه".
ذكره صاحب "كنز العمال"، وقال: رواه الخطيب في "المتقن".
وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تطلع عليكم قبل الساعة سحابة سوداء من قبل المغرب مثل الترس، فما تزال ترتفع في السماء حتى تملأ السماء، ثم ينادي مناد: أيها الناس! فيقبل الناس بعضهم على بعض؛ هل سمعتم؟ فمنهم من يقول: نعم، ومنهم من يشك، ثم ينادي الثانية: يا أيها الناس! فيقول الناس: هل سمعتم؟ فيقولون: نعم. ثم ينادي: أيها الناس! أتى أمر الله فلا تستعجلوه". قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فوالذي نفسي بيده؛ إن الرجلين لينشران الثوب فما يطويانه أو يتبايعانه أبدا، وإن الرجل ليمدر حوضه فما يسقي فيه شيئا، وإن الرجل ليحلب ناقته فما يشربه أبدا، ويشتغل الناس» .
رواه الحاكم في "مستدركه"، وقال: "صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي في "تلخيصه". وقد رواه الطبراني بنحوه. قال(3/247)
الهيثمي: "ورجاله رجال الصحيح؛ غير محمد بن عبد الله مولى المغيرة، وهو ثقة". وقال المنذري: رواه الطبراني بإسناد جيد رواته ثقات مشهورون".
قوله: "يمدر حوضه": قال المنذري: "أي: يطينه؛ لئلا يتسرب منه الماء". انتهى.
باب
ما جاء أن الساعة تقوم نهارا
عن أبي هريرة رضي الله عنه: "لا تقوم الساعة إلا نهارا".
ذكره صاحب "كنز العمال" ونسبه لأبي نعيم في "الحلية"، ونسبه في موضع آخر للحاكم، ولم أره في "المستدرك".
والأحاديث الصحيحة في الباب بعده تشهد له وتقويه.
باب
ما جاء أن الساعة تقوم يوم الجمعة
عن أبي هريرة رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه أدخل الجنة، وفيه أخرج منها، ولا تقوم الساعة إلا في يوم الجمعة» .
رواه: الإمام أحمد، ومسلم، والترمذي، وقال: " حديث حسن صحيح". قال: "وفي الباب عن أبي لبابة وسلمان وأبي ذر وسعد بن عبادة وأوس بن أوس ".
وعنه رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خير يوم طلعت عليه»(3/248)
«الشمس يوم الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه أهبط، وفيه تيب عليه، وفيه مات، وفيه تقوم الساعة، وما من دابة إلا وهي مصيخة يوم الجمعة من حين تصبح حتى تطلع الشمس شفقا من الساعة إلا الجن والإنس، وفيه ساعة لا يوافقها عبد مسلم وهو يصلي يسأل الله شيئا إلا أعطاه إياه» .
رواه: مالك، وأحمد، وأبو داود، والنسائي، والحاكم في "مستدركه"، وقال: "صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي في "تلخيصه".
وعن أوس بن أبي أوس الثقفي رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أفضل أيامكم يوم الجمعة؛ فيه خلق آدم `، وفيه قبض، وفيه النفخة، وفيه الصعقة، فأكثروا علي من الصلاة فيه؛ فإن صلاتكم معروضة علي". فقالوا: يا رسول الله! وكيف تعرض عليك صلاتنا وقد أَرِمْتَ (يعني: وقد بليت) ؟! قال: "إن الله عز وجل حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء» .
رواه: الإمام أحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه، والدارمي، وابن حبان في "صحيحه"، والحاكم في "مستدركه"، وقال: "صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي في "تلخيصه".
وعن سعد بن عبادة رضي الله عنه: «أن رجلا من الأنصار أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: أخبرنا عن يوم الجمعة ماذا فيه من الخير؟ قال: " فيه خمس خلال: فيه خلق آدم، وفيه أهبط آدم، وفيه توفي آدم، وفيه ساعة لا يسأل الله عبد فيها شيئا إلا آتاه الله إياه؛ ما لم يسأل مأثما أو قطيعة رحم، وفيه تقوم الساعة، ما من ملك مقرب ولا سماء ولا أرض ولا جبال ولا حجر إلا وهو يشفق من يوم الجمعة» .
رواه: الإمام أحمد، والبزار، والطبراني في "الكبير". قال الهيثمي: "وفيه عبد الله بن محمد بن عقيل، وفيه كلام، وقد وثق، وبقية رجاله ثقات".(3/249)
وعن أبي لبابة بن عبد المنذر رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «سيد الأيام يوم الجمعة وأعظمها عنده، وأعظم عند الله عز وجل من يوم الفطر ويوم الأضحى، وفيه خمس خلال: خلق الله فيه آدم، وأهبط الله فيه آدم إلى الأرض، وفيه توفى الله آدم، وفيه ساعة لا يسأل العبد فيها شيئا إلا آتاه الله تبارك وتعالى إياه؛ ما لم يسأل حراما، وفيه تقوم الساعة، ما من ملك مقرب ولا سماء ولا أرض ولا رياح ولا جبال ولا بحر إلا هن يشفقن من يوم الجمعة» .
رواه: الإمام أحمد، وابن ماجه، وفيه عبد الله بن محمد بن عقيل، وقد تقدم كلام الهيثمي فيه، وبقية رجالهما رجال الصحيح.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سيد الأيام عند الله يوم الجمعة، فيه خلق آدم أبوكم، وفيه دخل الجنة، وفيه خرج، وفيه تقوم الساعة» .
رواه الطبراني في "الكبير". قال الهيثمي: "وفيه إبراهيم بن يزيد الجوزي، وهو ضعيف، وروي عن عبد الله بن سلام نحوه في حيدث طويل". انتهى.
قلت: وما قبله من الأحاديث يشهد له ويقويه.
وعنه رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " «ما هلك قوم لوط؛ إلا في الأذان، ولا تقوم الساعة؛ إلا في الأذان» .
رواه الطبراني. قال الهيثمي: "ورجاله رجال الصحيح؛ غير آدم بن علي، وهو ثقة". قال الطبراني: "معناه عندي - والله أعلم -: في وقت أذان الفجر، وهو وقت الاستغفار والدعاء". ذكره الهيثمي عنه في "مجمع الزوائد".
وقد روى الطبراني عن ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعا: «إن الساعة تقوم وقت الأذان للفجر من يوم الجمعة للنصف من شهر رمضان» .(3/250)
قال ابن كثير في "النهاية": "وهذا غريب يحتاج إلى دليل".
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه؛ قال: «أتى جبريل بمرآة بيضاء فيها نكتة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما هذه؟ ". قال: هذه الجمعة، فضلت بها أنت وأمتك، فالناس لكم فيها تبع؛ اليهود والنصارى، ولكم فيها خير، وفيها ساعة لا يوافقها عبد مؤمن يدعو الله بخير إلا استجاب له، وهو عندنا يوم المزيد ... (فذكر الحديث، وفي آخره:) وهو اليوم الذي استوى فيه ربكم على العرش، وفيه خلق آدم، وفيه تقوم الساعة» .
رواه الإمام الشافعي في "مسنده"، وفي إسناده ضعف، ولبعضه شواهد مما تقدم من الأحاديث الصحيحة.
وعن أبي سلمة؛ قال: كان أبو هريرة رضي الله عنه يحدثنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال: " إن في الجمعة ساعة (فذكر الحديث") . قلت: والله؛ لو جئت أبا سعيد! فسألته؟ فذكر الحديث، ثم خرجت من عنده، فدخلت على عبد الله بن سلام، فسألت عنها؟ فقال: «خلق الله آدم يوم الجمعة، وأهبط إلى الأرض يوم الجمعة، وقبضه يوم الجمعة، وفيه تقوم الساعة؛ فهي آخر ساعة» ....". الحديث.
رواه: الإمام أحمد، والبزار. قال الهيثمي: "ورجالهما رجال الصحيح".
باب
أن الساعة تأتي بغتة
قال الله تعالى: {فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ} .(3/251)
وقال تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} .
وقال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً} .
وقال تعالى: {بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ} .
وقال تعالى: {أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} .
باب
ما جاء في قيام الساعة
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} .
وقال تعالى: {يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ يَقُولُونَ أَئِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ} .
وقال تعالى: {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا} .
وقال تعالى: {إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً} .(3/252)
وقال تعالى: {الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ} .
وقال تعالى: {الْقَارِعَةُ مَا الْقَارِعَةُ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ} .
وقد تقدم قريبا حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه، وفيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «فوالذي نفسي بيده؛ إن الرجلين لينشران الثوب فما يطويانه أو يتبايعانه أبدا، وإن الرجل ليمدر حوضه فما يسقي فيه شيئا، وإن الرجل ليحلب ناقته فما يشربه أبدا، ويشتغل الناس» .
رواه الحاكم في "مستدركه"، وقال: "صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي في "تلخيصه". وقد رواه الطبراني بنحوه. قال الهيثمي: "ورجاله رجال الصحيح؛ غير محمد بن عبد الله مولى المغيرة، وهو ثقة". وقال المنذري: "رواه الطبراني بإسناد جيد رواته ثقات مشهورون".
وعن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ولتقومن الساعة وقد نشر الرجلان ثوبهما بينهما فلا يتبايعانه ولا يطويانه، ولتقومن الساعة وقد انصرف الرجل بلبن لقحته فلا يطعمه، ولتقومن الساعة وهو يليط حوضه فلا يسقي فيه، ولتقومن الساعة وقد رفع أكلته إلى فيه فلا يطعمها» .
رواه: الإمام أحمد، والشيخان، وابن حبان في "صحيحه". وهذا لفظ البخاري.
ولفظ مسلم: قال: «تقوم الساعة والرجل يحلب اللقحة فما يصل الإناء إلى فيه حتى تقوم، والرجلان يتبايعان الثوب فما يتبايعانه حتى تقوم، والرجل يلط في حوضه فما يصدر حتى تقوم» .
قوله: "يليط حوضه"؛ أي: يطينه.(3/253)
باب
النفخ في الصور
قال الله تعالى: {وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ} .
وقال تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ} .
وقال تعالى: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ قَالُوا يَاوَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} .
وقال تعالى: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} .
وقال تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا} .
وقال تعالى: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً}(3/254)
{فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} .
وقال تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} .
وقال تعالى: {قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} .
وقال تعالى: {إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا} .
وقال تعالى: {يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا} .
وقال تعالى: {وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ} .
وقال تعالى: {فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ} .
قال ابن عباس رضي الله عنهما: " (الناقور) : الصور".
ذكره البخاري في صحيحه. ورواه: ابن جرير، وابن المنذر، وابن مردويه. وهكذا قال: مجاهد، والشعبي، وزيد بن أسلم، والحسن، وقتادة، والضحاك، والربيع بن أنس، والسدي، وابن زيد.
وقال تعالى: {يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ} .
قال ابن عباس رضي الله عنهما: "الراجفة: النفخة الأولى، والرادفة:(3/255)
النفخة الثانية".
ذكره البخاري في "صحيحه". ورواه: ابن جرير. وابن أبي حاتم، وابن المنذر. وهكذا قال: مجاهد، والحسن، وقتادة، والضحاك، وغير واحد.
وقال تعالى: {فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} .
قال ابن جرير في قوله تعالى: {فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ} : "لعله اسم للنفخة في الصور".
وقال البغوي في قوله: {فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ} : "يعني: صيحة القيامة، سميت بذلك لأنها تصخ الأسماع؛ أي: تبالغ في إسماعها حتى تكاد تصمها". انتهى.
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يخرج الدجال في أمتي، فيمكث أربعين؛ لا أدري أربعين يوما أو أربعين شهرا أو أربعين عاما، فيبعث الله عيسى ابن مريم، كأنه عروة بن مسعود، فيطلبه، فيهلكه، ثم يمكث الناس سبع سنين، ليس بين اثنين عداوة، ثم يرسل الله ريحا باردة من قبل الشام، فلا يبقى على وجه الأرض أحد في قلبه مثقال ذرة من خير أو إيمان؛ إلا قبضته، حتى لو أن أحدكم دخل في كبد جبل؛ لدخلته عليه حتى تقبضه". قال: سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ قال: "فيبقي شرار الناس، في خفة الطير وأحلام السباع؛ لا يعرفون معروفا، ولا ينكرون منكرا، فيتمثل لهم الشيطان، فيقول: ألا تستجيبون؟ فيقولون: فما تأمرونا؟ فيأمرهم بعبادة الأوثان، وهم في ذلك؛ دارٌّ رزقهم، حسن عيشهم، ثم ينفخ في الصور، فلا يسمعه أحد إلا أصغى ليتا ورفع ليتا". قال: "وأول من يسمعه رجل يلوط حوض إبله". قال: "فيصعق، ويصعق الناس، ثم يرسل الله (أو قال: ينزل الله) مطرا كأنه الطل»(3/256)
« (أو: الظل) ، فتنبت منه أجساد الناس، ثم ينفخ فيه أخرى؛ فإذا هم قيام ينظرون، ثم يقال: يا أيها الناس! هلم إلى ربكم، {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ} ". قال: "ثم يقال: أخرجوا بعث النار. فيقال: من كم؟ فيقال: من كل ألف تسع مائة وتسعة وتسعين. قال: فذاك يوم يجعل الولدان شيبا، وذلك يوم يكشف عن ساق» .
رواه: الإمام أحمد، ومسلم، والنسائي.
قال الجوهري: " (الليت) ؛ بالكسر: صفحة العنق، وهما ليتان". وقال ابن منظور في "لسان العرب": "وفي الحديث: «ينفخ في الصور فلا يسمعه أحد إلا أصغى ليتا» ؛ أي: أمال صفحة عنقه". انتهى.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه؛ قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في طائفة من أصحابه، فقال: «إن الله لما فرغ من خلق السماوات والأرض؛ خلق الصور، فأعطاه إسرافيل؛ فهو واضعه على فيه، شاخصا ببصره إلى العرش، ينتظر متى يؤمر". قلت: يا رسول الله! وما الصور؟ قال: "قرن". قلت: كيف هو؟ قال: "عظيم، والذي بعثني بالحق؛ إن عظم دارة فيه كعرض السماوات والأرض؛ ينفخ فيه ثلاث نفخات: النفخة الأولى نفخة الفزع، والثانية نفخة الصعق، والثالثة نفخة القيام لرب العالمين؛ يأمر الله تعالى إسرافيل بالنفخة الأولى، فيقول: انفخ! فينفخ نفخة الفزع، فيفزع أهل السماوات والأرض إلا من شاء الله، ويأمره فيمدها ويطيلها ولا يفتر، وهي التي يقول الله: {وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ} ... (الحديث بطوله، وفيه:) ثم يأمر الله إسرافيل بنفخة الصعق، فيصعق أهل السماوات والأرض إلا من شاء الله» .
رواه: ابن جرير، وأبو يعلى، والطبراني، والبيهقي، وغيرهم.
وهو معروف بحديث الصور، وسيأتي الكلام فيه بعد ذكر كلام أبي عبية(3/257)
فيه إن شاء الله تعالى.
وعن أبي هريرة أيضا رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن طرف صاحب الصور مذ وكل به مستعد ينظر نحو العرش مخافة أن يؤمر قبل أن يرتد إليه طرفه كأن عينيه كوكبان دريان» .
رواه الحاكم في "مستدركه"، وقال: "صحيح الإسناد ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي في "تلخيصه": "على شرط مسلم ".
وعن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: {فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ} ؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كيف أنعم وصاحب القرن قد التقم القرن وحنى جبهته ينتظر متى يؤمر فينفخ؟! ". فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف نقول؟ قال: "قولوا: حسبنا الله ونعم الوكيل، على الله توكلنا» .
رواه: الإمام أحمد، وابن جرير، وابن أبي حاتم، والطبراني. قال ابن كثير: "هو حديث جيد". وقال الهيثمي: "فيه عطية العوفي، وهو ضعيف، وفيه توثيق لين".
قلت: قد حسن الترمذي حديثه كما سيأتي.
وقد رواه الحاكم في "مستدركه" من حديث عطية عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله عز وجل: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ} ؛ قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كيف أنعم وصاحب الصور قد التقم القرن وحنى جبهته وأصغى بسمعه متى يؤمر؟! ". قال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف نقول يا رسول الله؟ قال: "قولوا: حسبنا الله ونعم الوكيل، على الله توكلنا» .
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كيف أنعم وصاحب الصور قد التقم القرن وحنى جبهته ينتظر متى يؤمر أن»(3/258)
«ينفخ؟! ". قال: قلنا: يا رسول الله! فما نقول يومئذ؟ قال: "قولوا: حسبنا الله ونعم الوكيل، على الله توكلنا» .
رواه ابن حبان في "صحيحه" من حيدث الأعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد. ورواه: الإمام أحمد، والترمذي؛ من حديث عطية العوفي عن أبي سعيد. وقال الترمذي: "هذا حديث حسن". قال: "وقد روي من غير وجه هذا الحديث عن عطية عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه". وقد رواه الحاكم في "مستدركه" من حديث أبي صالح عن أبي سعيد، ولكن في إسناده أبو يحيى التيمي؛ قال الذهبي: "واهٍ".
وعن زيد بن أرقم رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كيف أنعم وصاحب القرن قد التقم القرن وحنى جبهته وأصغى السمع متى يؤمر؟! ". قال: فسمع ذلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فشق عليهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قولوا: حسبنا الله ونعم الوكيل» .
رواه: الإمام أحمد، والطبراني. قال الهيثمي: "رجاله وثقوا على ضعف فيهم".
وعن أبي مرية عن النبي صلى الله عليه وسلم (أو عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم) ؛ قال: «النفاخان في السماء الثانية، رأس أحدهما بالمشرق ورجلاه بالمغرب (أو قال: رأس أحدهما بالمغرب ورجلاه بالمشرق) ، ينتظران متى يؤمران ينفخان في الصور فينفخان» .
رواه الإمام أحمد. قال الهيثمي: "رواه أحمد على شك: فإن كان عن أبي مرية؛ فهو مرسل، ورجاله ثقات، وإن كان عن عبد الله بن عمرو؛ فهو متصل مسند، ورجاله ثقات". وقال المنذري: "رواه أحمد بإسناد جيد هكذا على الشك في إرساله أو اتصاله".(3/259)
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ملكان موكلان بالصور ينتظران متى يؤمران فينفخان» .
رواه: ابن ماجه، والبزار، والحاكم، وفي إسناد ابن ماجه حجاج بن أرطاة وعطية العوفي، وكلاهما ضعيف، وفي إسناد البزار والحاكم خارجة بن مصعب الخراساني، وهو ضعيف".
وعن عبد الله بن الحارث؛ قال: «كنت عند عائشة رضي الله عنها وعندها كعب الحبر، فذكر إسرافيل، فقالت عائشة رضي الله عنها: يا كعب! أخبرني عن إسرافيل؟ فقال كعب: عندكم العلم. قالت: أجل. قالت: فأخبرني؟ قال: له أربعة أجنحة؛ جناحان في الهواء، وجناح قد تسربل به، وجناح على كاهله، والقلم على أذنه، فإذا نزل الوحي؛ كتب القلم، ثم درست الملائكة، وملك الصور جاث على إحدى ركبتيه، وقد نصب الأخرى، فالتقم الصور، محني ظهره، وقد أمر إذا رأى إسرافيل قد ضم جناحه أن ينفخ في الصور. فقالت عائشة رضي الله عنها: هكذا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول» .
رواه الطبراني في "الأوسط". قال المنذري والهيثمي: "إسناده حسن".
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه؛ قال: "يقوم ملك بالصور بين السماء والأرض، فينفخ فيه، والصور قرن، فلا يبقى خلق في السماوات والأرض إلا مات؛ إلا من شاء ربك، ثم يكون بين النفختين ما شاء الله أن يكون، فليس من بني آدم أحد إلا في الأرض منه شيء". قال: "فيرسل الله ماء من تحت العرش كمني الرجال، فتنبت لحمانهم وجثمانهم من ذلك الماء كما تنبت الأرض من الثرى"، ثم قرأ عبد الله: {وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ} .
قال: "ثم يقوم ملك بالصور بين السماء والأرض، فينفخ فيه، فتنطلق كل نفس إلى(3/260)
جسدها، حتى تدخل فيه، ثم يقومون، فيحيون حياة رجل واحد قياما لرب العالمين......" الحديث.
رواه: الطبراني، والحاكم في "مستدركه"، وقال: "صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي في "تلخيصه".
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما؛ قال: «قال أعرابي: يا رسول الله! ما الصور؟ قال: "قرن ينفخ فيه» .
رواه: الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذي، والحاكم. وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح". وقال الحاكم: "صحيح الإسناد ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي في "تلخيصه".
وقد رواه ابن حبان في "صحيحه"، فقال: "عن عبد الله "، ولم يقل: " ابن عمرو ".
وعن مجاهد: أنه قال: "الصور كهيئة البوق".
ذكره البخاري في "صحيحه". ورواه عبد بن حميد بإسناده عن مجاهد: أنه قال: "الصور شيء كهيئة البوق".
وعن أوس بن أبي أوس رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة؛ فيه خلق آدم، وفيه قبض، وفيه نفخة الصور، وفيه الصعقة؛ فأكثروا علي من الصلاة فيه؛ فإن صلاتكم معروضة علي". قالوا: وكيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت؟! فقال: "إن الله تعالى حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء» .
رواه: الإمام أحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه، والدارمي، وابن حبان في "صحيحه"، والحاكم في "مستدركه"، وهذا لفظه، وقال: "صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي في "تلخيصه".(3/261)
فصل
وقد أنكر أبو عبية النفخ في الصور، فقال في تعليقه على "النهاية" لابن كثير في (ص243) ما نصه:
"القرن والصور والناقور معناها واحد، وهو البوق، والنفخ في الصور كناية عن إعلان البعث إلى الحياة الثانية، وليس ثمة نقر ولا نفخ، وإنما أريد من ذكر الصور والناقور تمثيل المعنى وتقريبه إلى الأذهان حتى يستقر فيها ولا يغيب عنها؛ لأن إعلان الناس بالحرب يكون عادة بالبوق، ولكون الحروب مملوءة بالأهوال، ولكون يوم القيامة مملوءا بأشد الشدائد وأثقلها؛ ناسب أن تصور الدعوة إلى البعث بالدعوة إلى الحرب، وهذا رأي فريق من علماء المسلمين".
وقال أبو عبية أيضا في (ص244) تعليقا على أحاديث النفخ في الصور: "هذه الكلمات ليس عليها رواء النبوة ولا نورها، ولهذا؛ فهي مردودة".
والجواب أن يقال: قد تظاهرت النصوص من الكتاب والسنة على إثبات النفخ في الصور، وقد تقدم ذكرها في هذا الباب، ومنها النص في سورة النمل على نفخة الفزع، والنص في سورة الزمر على نفخة الصعق ونفخة القيام من القبور، والنص في سورة المدثر على النقر في الناقور، ونص النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما الذي رواه مسلم وغيره على نفخة الصعق ونفخة القيام من القبور، وهذا مما يجب الإيمان به، ومن أنكر شيئا من ذلك أو شك فيه؛ فليس بمؤمن.
وقد ذكر الفقهاء في (باب المرتد) أن من جحد آية من كتاب الله تعالى؛ فهو مرتد.
وقال القرطبي: "والقرآن الذي جمعه عثمان رضي الله عنه بموافقة(3/262)
الصحابة له لو أنكر بعضه منكر؛ كان كافرا، حكمه حكم المرتد؛ يستتاب، فإن تاب، وإلا؛ ضربت عنقه". انتهى.
وقال القاضي عياض في كتابه "الشفاء": "اعلم أن من استخف بالقرآن أو المصحف أو بشيء منه أو سبهما أو جحده أو حرفا أو آية أو كذب به أو بشيء مما صرح به فيه من حكم أو خبر أو أثبت ما نفاه أو نفى ما أثبته على علم منه بذلك أو شك في شيء من ذلك؛ فهو كافر عند أهل العلم بإجماع، قال الله تعالى: {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} ". انتهى.
ولا يخفى على من له أدنى علم ومعرفة أن أبا عبية داخل في حكم الإجماع الذي ذكره القاضي عياض؛ لأنه قد صرح بنفي ما أثبته الله تعالى في كتابه من النقر في الناقور والنفخ في الصور، فينبغي له أن يبادر إلى الخروج من المأزق الذي أدخل نفسه فيه.
وأما قوله: "وهذا رأي فريق من علماء المسلمين".
فجوابه أن يقال: حاشا وكلا؛ فلا يظن بأحد من علماء المسلمين أن يقول بهذا القول الباطل المعارض لنصوص القرآن والسنة، ومن قال بهذا القول الباطل؛ فليس من علماء المسلمين، وإنما هو من علماء أهل الزيغ والضلال، ومن أتباع الفريق الذين قال الله تعالى فيهم: {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} .
وأما قوله في أحاديث النفخ في الصور: "إن هذه الكلمات ليس عليها رواء النبوة ولا نورها، ولهذا؛ فهي مردودة".
فحوابه أن يقال: إن أحاديث النفخ في الصور أكثرها صحيح، ورواء النبوة ونورها ظاهر عليها كما لا يخفى على من نور الله قلبه بنور العلم والإيمان،(3/263)
وقليل منها في أسانيدها ضعف، وهي تتقوى بالأحاديث الصحيحة، وكلها توافقها نصوص القرآن على إثبات النفخ في الصور، وفيها مع نصوص القرآن أبلغ رد على من نفى النفخ في الصور؛ كأبي عبية ومن نحا نحوه في معارضة النصوص وردها بغير حجة.
فصل
وقد قدح أبو عبية في حديث الصور الطويل الذي تقدم ذكر جملة من أوله.
فقال في (ص252) من "النهاية" لابن كثير ما نصه: "هذا الحديث بطوله وتفصيله وأسلوبه بعيد أن يصدر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبخاصة أنه تضمن مقاطع من القول أسقطناها؛ لبعدها عن أدب الدين وخلق الرسول عليه السلام، وليس يشفع له ولا يغري بقبوله كثرة رواته ولا تعدد طرقه".
وقال في (ص253) : "على رغم ثبوت أسانيد مفرقاته (يعني: حديث الصور) ؛ فإن بعض هذه المفرقات تنفي نفسها عن أن تكون صحيحة النسبة إلى لسان رسول الله عليه أفضل الصلوات.
والجواب عن هذا من وجوه:
أحدها: أن يقال: من تأمل كلام أبي عبية على "النهاية"؛ عرف أنه من أبعد الناس عن معرفة الأحاديث، وأنه إنما يعلق عليها بما يوافق عقله ورأيه، ومن كان هكذا، وكان كلامه في الأحاديث بغير علم؛ فكلامه مردود عليه، ولا يلتفت إلى شيء منه.
يوضح ذلك الوجه الثاني: وهو أن أبا عبية قد تصرف في حديث الصور، فحذف جملة منه، زاعما أنها بعيدة عن أدب الدين وخلق الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد(3/264)
أخطأ خطأ كبيرا في تصرفه في الحديث وحذفه منه ما لا يوافق عقله ورأيه، والجملة التي حذفها وقال عنها ما قال هي قوله في الحديث مخبرا عن الحوراء وزوجها: "لا يأتيها من مرة إلا وجدها عذراء؛ ما يفتر ذكره، ولا تشتكي قبلها؛ إلا أنه لا مني ولا منية"، وليس في هذه الجملة ما يخالف أدب الدين وخلق الرسول صلى الله عليه وسلم كما قد توهم ذلك من قل نصيبه من العلم النافع.
وقد قال الله تعالى: {فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ} .
قال ابن جرير: "يقول: لم يمسهن إنس قبل هؤلاء الذي وصف جل ثناؤه صفتهم، وهم الذين قال فيهم: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} ، ولا جان؛ يقال منه: ما طمث هذا البعير حبل قط؛ أي: ما مسه حبل. وكان بعض أهل العلم بكلام العرب من الكوفيين يقول: الطمث هو النكاح بالتدمية، ويقول: الطمث هو الدم، ويقول: طمثها: إذا دماها بالنكاح، وإنما عنى في هذا الموضع أنه لم يجامعهن إنس قبلهم ولا جان. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل". ثم روى عن ابن عباس رضي الله عنهما قوله: {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ} ؛ يقول: "لم يدمهن إنس ولا جان"، وعن عكرمة؛ قال: "الطمث: هو الجماع". وعن ابن زيد؛ قال: "لم يمسهن شيء إنس ولا غيره".
وعن مجاهد؛ قال: "لم يمسهن". انتهى.
وقال السيوطي في "الدر المنثور": "أخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر عن سعيد بن جبير: {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ} ؛ قال: "لم يطأهن". وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر عن عكرمة: {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ} ؛ قال: "لم يجامعهن".
وقال البغوي: {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ} : لم يجامعهن، ولم يفترعهن، وأصله من الدم؛ قيل للحائض: طامث؛ كأنه قال: لم يدمهن بالجماع". انتهى.(3/265)
وقال الراغب الأصفهاني: " (الطمث) : دم الحيض والافتضاض والطامث: الحائض، وطمث المرأة إذا افتضها، قال: {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ} ، ومنه استعير: ما طمث هذه الروضة أحد قبلنا؛ أي: ما افتضها، وما طمث الناقة جمل". انتهى.
وقال ابن الأثير في "النهاية": "يقال: طمثت المرأة تطمث طمثا إذا حاضت فهي طامث، وطمثت إذا دميت بالافتضاض، والطمث الدم والنكاح". انتهى.
وهذه الآية من سورة الرحمن توافق الجملة التي حذفها أبو عبية من حديث الصور، وفيها أبلغ رد عليه.
وقال الله تعالى: {إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ} .
قال ابن كثير في "تفسيره": "قال عبد الله بن مسعود وابن عباس رضي الله عنهما وسعيد بن المسيب وعكرمة والحسن وقتادة والأعمش وسليمان التيمي والأوزاعي في قوله تبارك وتعالى: {إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ} ؛ قالوا: شغلهم افتضاض الأبكار". انتهى.
وقال ابن جرير في "تفسيره": "حدثنا يعقوب عن حفص بن حميد عن شمر بن عطية عن شقيق بن سلمة عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه في قوله: {إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ} ؛ قال: شغلهم افتضاض العذارة. إسناده حسن".
وقال أيضا: "حدثنا ابن عبد الأعلى؛ قال: حدثنا المعتمر عن أبيه عن أبي عمرو عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما: {إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ} ؛ قال: افتضاض الأبكار. إسناده صحيح".(3/266)
وقال أيضا: "حدثنا عبيد بن أسباط بن محمد؛ قال: حدثنا أبي عن أبيه عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما: {إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ} ؛ قال: افتضاض الأبكار. إسناده جيد".
وقال أيضا: "حدثنا الحسين بن علي الصدائي؛ قال: حدثنا أبو النضر عن الأشجعي عن وائل بن داود عن سعيد بن المسيب في قوله: {إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ} ؛ قال: في افتضاض العذارى. إسناده جيد".
وقال السيوطي في "الدر المنثور": "أخرج ابن أبي شيبة وابن أبي الدنيا وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه من طرق عن ابن عباس رضي الله عنهما: {فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ} ؛ قال: في افتضاض الأبكار. وأخرج عبد بن حميد وابن أبي الدنيا وعبد الله بن أحمد في "زوائد الزهد" وابن جرير وابن المنذر عن ابن مسعود رضي الله عنه في قوله: {إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ} ؛ قال: شغلهم افتضاض العذارى. وأخرج عبد بن حميد عن عكرمة وقتادة مثله. وأخرج عبد الله بن أحمد في "زوائد الزهد" عن ابن عمر رضي الله عنهما؛ قال: إن المؤمن كلما أراد زوجة؛ وجدها عذراء. وأخرج البزار والطبراني في "الصغير" وأبو الشيخ في "العظمة" عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أهل الجنة إذا جامعوا نساءهم؛ عادوا أبكارا» . قال الهيثمي في "مجمع الزوائد": فيه معلى بن عبد الرحمن الواسطي وهو كذاب".
قلت: وسيأتي حديث أبي هريرة الذي رواه ابن حبان في "صحيحه"، وهو يشهد لهذا الحديث ويقويه.
وهذه الآية من سورة يس مع تفسير ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهما وغيرهما من أكابر السلف توافق الجملة التي حذفها أبو عبية من حديث(3/267)
الصور، وفيها مع أقوال المفسرين أبلغ رد عليه.
وقد جاء ذكر جماع أهل الجنة لنسائهم في عدة أحاديث.
منها حديث أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ قال: «يعطى المؤمن في الجنة قوة كذا وكذا من الجماع". قيل: يا رسول الله! أويطيق ذلك؟ قال: "يعطى قوة مائة» .
رواه: أبو داود الطيالسي، والترمذي من طريقه، وابن حبان في "صحيحه"، وقال الترمذي: "هذا حديث صحيح غريب". قال: "وفي الباب عن زيد بن أرقم ". وترجم عليه الترمذي بقوله: "باب ما جاء في صفة جماع أهل الجنة".
ومنها حديث زيد بن أرقم رضي الله عنه؛ قال «جاء رجل من اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا أبا القاسم! تزعم أن أهل الجنة يأكلون فيها ويشربون؟ قال: "نعم؛ والذي نفسي بيده؛ إن الرجل ليعطى قوة مائة رجل في الأكل والشرب والجماع» .
رواه: الإمام أحمد، والدارمي، والبزار، والطبراني. قال الهيثمي: "ورجال أحمد والبزار رجال الصحيح؛ غير ثمامة بن عقبة، وهو ثقة".
ومنها حديث أبي هريرة رضي الله عنه؛ قال: «قيل: يا رسول الله! هل نصل (وفي رواية: هل نفضي إلى نسائنا) ؟ فقال: " والذي نفسي بيده؛ إن الرجل ليفضي في الغداة الواحدة إلى مائة عذراء» .
رواه الطبراني. قال الحافظ الضياء المقدسي: "وهذا عندي على شرط الصحيح"، نقله عنه الحافظ ابن كثير في "النهاية".
ومنها حيدث ابن عباس رضي الله عنهما؛ قال: «قيل: يا رسول الله!»(3/268)
«أنفضي إلى نسائنا في الجنة كما نفضي إليهن في الدنيا؟ قال: "والذي نفسي محمد بيده؛ إن الرجل ليفضي بالغداة الواحدة إلى مائة عذراء» .
رواه: أبو يعلى. قال الهيثمي: "وفيه زيد بن أبي الحواري، وقد وثق على ضعف، وبقية رجاله ثقات".
ومنها حديث أبي هريرة رضي الله عنه؛ قال: «سئل النبي صلى الله عليه وسلم: هل يمس أهل الجنة أزواجهم؟ قال: "نعم؛ بذكر لا يمل، وفرج لا يحفى، وشهوة لا تنقطع» .
رواه البزار.
وفي رواية عنده وعند الطبراني في "الأوسط" و"الصغير"؛ قال: «قيل: يا رسول الله! أنفضي إلى نسائنا في الجنة؟ فقال: "إي والذي نفسي بيده؛ إن الرجل ليفضي في اليوم الواحد إلى مائة عذراء» .
قال الهيثمي: "ورجال هذه الرواية الثانية رجال الصحيح؛ غير محمد بن ثواب، وهو ثقة، وفي الرواية الأولى عبد الرحمن بن زياد بن أنعم، وهو ضعيف بغير كذب، وبقية رجالها ثقات".
ومنها حديث أبي هريرة أيضا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنه قيل له: أنطأ في الجنة؟ قال: "نعم؛ والذي نفسي بيده؛ دحما دحما، فإذا قام عنها؛ رجعت مطهرة بكرا» .
رواه ابن حبان في "صحيحه".
ومنها حديث أبي أمامة رضي الله عنه؛ قال: «سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أيجامع أهل الجنة؟ قال: "نعم؛ دحما دحما، ولكن لا مني ولا منية» .
رواه الطبراني.(3/269)
وفي رواية: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أيتناكح أهل الجنة؟ قال: "نعم؛ بذكر لا يمل، وشهوة لا تنقطع؛ دحما دحما» .
وفي رواية: «هل ينكح أهل الجنة؟ قال: "نعم، ويأكلون ويشربون» .
قال الهيثمي: "رواها كلها الطبراني بأسانيد، ورجال بعضها وثقوا على ضعف في بعضهم".
قوله: (دحما) : قال ابن الأثير: "هو النكاح والوطء بدفع وإزعاج". انتهى.
ومنها حديث أبي رزين لقيط بن عامر العقيلي رضي الله عنه؛ قال: «قلت: يا رسول الله! علام نطلع من الجنة؟ قال: "على أنهار من عسل مصفى، وأنهار من كأس ما بها من صداع ولا ندامة، وأنهار من لبن لم يتغير طعمه، وماء غير آسن، وفاكهة لعمر إلهك ما تعلمون، وخير من مثله معه، وأزواج مطهرة". قال: قلت: يا رسول الله! أولنا فيها أزواج أو منهن مصلحات؟ قال: "الصالحات للصالحين، تلذونهن مثل لذاتكم في الدنيا، ويلذونكم؛ غير أن لا توالد» .
رواه: عبد الله ابن الإمام أحمد في "زوائد المسند" وفي كتاب "السنة"، والطبراني، والحاكم، وغيرهم.
وهذه الأحاديث توافق الجملة التي حذفها أبو عبية من حديث الصور، وفيها أبلغ رد عليه.
الوجه الثالث: أنه ليس في رواة حديث الصور كذاب ولا وضاع ولا من أجمع العلماء على ضعفه، وحيث لم يكن في رواته أحد من هؤلاء؛ فمن أكبر الخطأ قول أبي عبية فيه: إنه بعيد أن يصدر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم!(3/270)
الوجه الرابع: أن جماعة من أكابر المحدثين رووا هذا الحديث كما سيأتي ذكره في كلام ابن كثير، ولم يقل أحد منهم: إنه بعيد أن يصدر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو كان فيه ما يقتضي الرد لردوه.
الوجه الخامس: أن أكثر ما قيل في هذا الحديث أنه غريب جدا، وأن في بعض ألفاظه نكارة، وأن في إسناده من تكلم فيه، وهذا لا يقتضي رده بالكلية، ولا أن يقال فيه: إنه بعيد أن يصدر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الوجه السادس: قال الحافظ ابن كثير بعد أن ساق حديث الصور في "تفسيره" من رواية الطبراني: "هذا حديث مشهور، وهو غريب جدا، ولبعضه شواهد في الأحاديث المتفرقة، وفي بعض ألفاظه نكارة".
وساقة أيضا في "النهاية" من رواية أبي يعلى الموصلي، ثم قال: "هذا حديث مشهور، رواه جماعة من الأئمة في كتبهم؛ كابن جرير في "تفسيره"، والطبراني في "المطولات"، وغيرها، والحافظ البيهقي في "كتاب البعث والنشور"، والحافظ أبى موسى المديني في "المطولات" أيضا من طرق متعددة عن إسماعيل بن رافع قاص أهل المدينة، وقد تكلم فيه بسببه، وفي بعض سياقاته نكارة واختلاف".
قال: " وإسماعيل بن رافع المدني ليس من الوضاعين، وكأنه جمع هذا الحديث من طرق وأماكن متفرقة، فجمعه وساقه سياقة واحدة، فكان يقص به على أهل المدينة، وقد حضره جماعة من أعيان الناس في عصره، ورواه عنه جماعة من الكبار؛ كأبي عاصم النبيل، والوليد بن مسلم، ومكي بن إبراهيم، ومحمد بن شعيب بن شابور، وعبدة بن سليمان، وغيرهم".
قال: "وقال شيخنا الحافظ المزي: وقد رواه عن إسماعيل بن رافع الوليد بن سليمان، وله عليه مصنف بين شواهده من الأحاديث الصحيحة. وقال(3/271)
الحافظ أبو موسى المديني بعد إيراده له بتمامه: وهذا الحديث وإن كان فيه نكارة وفي إسناده من تكلم فيه؛ فعامة ما فيه يروى مفرقا من أسانيد ثابتة". انتهى. باختصار.
وأما قوله: "وعلى رغم ثبوت أسانيد مفرقاته (يعني: حديث الصور) ؛ فإن بعض هذه المفرقات تنفي نفسها عن أن تكون صحيحة النسبة إلى لسان رسول الله عليه أفضل الصلوات".
فجوابه أن يقال: لا يخفى ما في كلام أبي عبية من المكابرة والجراءة على رد الأحاديث الثابتة التي تشهد لحديث الصور وتقويه، وفي مكابرته وجراءته على ردها دليل على استهانته بالأحاديث الثابتة وقلة مبالاته بها، ومن كان هكذا؛ فهو على شفا هلكة.
ويقال أيضا: كل حديث ثبت إسناده؛ فنسبته إلى النبي صلى الله عليه وسلم صحيحة، ويجب على كل مسلم قبوله: لقول الله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} ، ولا يجوز رده؛ لقول الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} .
قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى: "كل ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم إسناد جيد؛ أقررنا به، وإذا لم نقر بما جاء به الرسول ودفعناه ورددناه؛ رددنا على الله أمره، قال الله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} ".
وقال الموفق أبو محمد المقدسي في كتابه "لمعة الاعتقاد": "ويجب الإيمان بكل ما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم وصح به النقل عنه فيما شهدناه أو غاب عنا؛ نعلم أنه حق وصدق، وسواء في ذلك ما عقلناه وجهلناه ولم نطلع على حقيقة معناه؛ مثل حديث الإسراء والمعراج، ومن ذلك أشراط الساعة؛ مثل:(3/272)
خروج الدجال ونزول عيسى ابن مريم عليه السلام، فيقتله، وخروج يأجوج ومأجوج، وخروج الدابة، وطلوع الشمس من مغربها ... وأشباه ذلك مما صح به النقل". انتهى.
فصل
وقد اختلفت أقوال العصريين في قيام الساعة؛ فبعضهم صرح بإنكار النفخ في الصور؛ كما تقدم عن أبي عبية، وهذا القول كفر لا شك فيه؛ لما فيه من تكذيب ما أخبر الله به في آيات كثيرة من كتابه، وتكذيب ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك.
وقد تقدم ذكر النصوص من القرآن والسنة على أن قيام الساعة إنما يكون بالنفخ في الصور وهي حجة على كل مبطل.
فصل
وسلك محمد عبده ومن وافقه مسلكا في قيام الساعة، فزعم أن قيامها يكون بتصادم كوكبين في حال سيرهما.
قال في تفسيره لسورة الانشقاق: "وانشقاق السماء مثل انفطارها، وهو فساد تركيبها واختلال نظامها عندما يريد الله خراب هذا العالم الذي نحن فيه، وهو يكون بحادثة من الحوادث التي قد ينجر إليها سير العالم؛ كأن يمر كوكب في سيره بالقرب من آخر فيتجاذبا فيتصادما، فيضطرب نظام الشمس بأسره، ويحدث من ذلك غمام، وأي غمام، يظهر في مواضع متفرقة من الجو والفضاء الواسع، فتكون السماء قد تشققت بالغمام واختل نظامها حال ظهوره" انتهى كلامه.(3/273)
والجواب أن يقال: هذا من القول في كتاب الله بغير علم، ومن تفسير القرآن بالرأي الفاسد، وهو من جنس ما تقدم عن أبي عبية؛ لأنه يتضمن إنكار النفخ في الصور.
وقد قال الشيخ محمد بن يوسف الكافي التونسي في كتابه "المسائل الكافية في بيان وجوب صدق خبر رب البرية) في الرد على محمد عبده: "واستفدنا من كلامه أن هلاك هذا الكون وانفطار السماء وانشقاقها وظهور الغمام يكون بتصادم كوكبين في حال سيرهما وغير ذلك من المعاني المخترعة التي لم يسبق إليها أحد من المسلمين غيره؛ فهو لا يؤمن بما آمن به المؤمنون من أن اختلال العالم وهلاكه يكون بنفخ إسرافيل في الصور الذي أخبر الله به في كتابه العزيز وأخبر به أيضا رسول الله صلى الله عليه وسلم في صحيح الأحاديث واجتمعت الأمة على ذلك؛ فهو من المعلوم من الدين بالضرورة؛ فمنكره يكفر". انتهى.
فصل
وسلك أحمد بن محمد بن الصديق الغماري في كتابه "مطابقة الاختراعات العصرية لما أخبر به سيد البرية" مسلكا آخر في قيام الساعة، فزعم أن قيامها يكون بسبب القنابل الذرية والهيدروجينية.
قال في كتابه المذكور: "ومن تلك القنابل التي تلقيها الطائرات للعذاب ما ظهر حديثا من القنابل الذرية والهيدروجينية القوية المفعول، ولها آية تخصها من بين أنواع القنابل الأخرى، وقال تعالى في أشراط الساعة: {حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ} ؛ فإن أهل الدنيا - وهم الكفار -، وإن ظنوا بما تيسر لهم من المخترعات أنهم قادرون عليها إصلاحا وعمارة وتزيينا وهدما وتخريبا؛ لم يقو عندهم هذا الظن حتى حصل عندهم القطع أو كاد بأنهم(3/274)
قادرون عليها إلا بعد حصولهم على القنابل الذرية والطاقة الذرية كما هو معلوم، وبهذا يعلم أن الساعة قريبة جدا، وأن ظهور أشراطها الكبرى كالمهدي وعيسى عليهما السلام منتظر من يوم لآخر.
وقد يكون المراد من قوله: {أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا} : أنه سيسلط أصحاب هذه القنابل بعضهم على بعض، فيتحاربون بها، ويكون ذلك سببا في خراب الدنيا، وجعلها حصيدا كما قال الله تعالى، وكما يصفه الواصفون لمفعول هذه القنابل التي يبدون منها تخوفهم العظيم على الدنيا بأسرها، ولكن لا تقع هذه الحروب المؤدية إلى ما قال الله تعالى إلا بعد خروج المهدي، ونزول عيسى لقتل الدجال، وطلوع الشمس من مغربها، وخروج الدابة.... وغير ذلك مما صحت به الأخبار، ومما هو واقع لا محالة". انتهى كلامه.
والجواب عن هذا من وجوه:
أحدها: أن يقال: إن كلامه على الآية من سورة يونس وتطبيقها على القنابل الذرية والهيدروجينية لم يسبقه إليه أحد، وهو من القول في كتاب الله بغير علم وذلك من أعظم المحرمات ومن كبائر الإثم.
الوجه الثاني: أن الآية من سورة يونس ليست واردة في أشراط الساعة كما زعمه الغماري، وليس فيها دلالة على وجود القنابل الذرية والهيدروجينية بوجه من الوجوه، وإنما هي مثل ضربه الله تعالى لسرعة زوال الدنيا وانقضائها، ولا خلاف بين المفسرين في هذا.
الوجه الثالث: أن خراب الدنيا بأسرها وقيام الساعة لا يكون على أيدي بني آدم بتفجير القنابل القوية المفعول كما قد توهمه الغماري، وكما يظنه كثير من أهل زماننا ممن قل نصيبهم من العلم النافع، وإنما يكون ذلك بالنفخ في الصور كما أخبر الله تعالى بذلك في آيات كثيرة من القرآن وأخبر به رسول الله(3/275)
صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الصحيحة، وقد ذكرت الآيات والأحاديث في ذلك في أول الباب، ومنها يعلم أن خراب الدنيا وقيام الساعة إنما يكون بالنفخ في الصور وهو أمر سماوي لا صنع للبشر فيه، ويعلم أيضا بطلان ما يتخرصه المتخرصون أن خراب الدنيا وقيام الساعة يكون بفعل بني آدم أو بتصادم بعض الكواكب.
الوجه الرابع: أن يقال: إن الله تعالى قال: {وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} ، وقال تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} ، وإذا كان أهل السماوات يفزعون من النفخ في الصور ويصعقون؛ فهل يقول عاقل: إن مفعول القنابل الذرية والهيدروجينية يصل إلى السماوات السبع، فيفزع أهلها ويصعقون؟! وهل يقول عاقل: إن أهل السماوات يفزعون ويصعقون بسبب تصادم كوكبين؟! كلا؛ لا يقول ذلك من له أدنى مسكة من عقل، وإنما يقوله المعتوهون الذين يتكلمون في أمور الكون من غير شعور.
الوجه الخامس: أن يقال: إن الكفار ليسوا أهل الدنيا دون المؤمنين كما قد زعمه الغماري، وليس في الآية من سورة يونس ما يدل على ما ذهب إليه الغماري، وإنما أهل الدنيا جميع أهل الأرض من مؤمن وكافر، وأما تخصيص الكفار بأنهم أهل الدنيا دون المؤمنين فلا شك أنه من القول في كتاب الله بغير علم.
باب
ما جاء في صفة يوم القيامة
عن ابن عمر رضي الله عنهما؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من سره أن ينظر إلى يوم القيامة كأنه رأي عين؛ فليقرأ: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} ،»(3/276)
« {إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ} ، و {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} » .
رواه: الإمام أحمد، والترمذي، والحاكم، وقال: "صحيح الإسناد ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي في "تلخيصه".
فصل
وقد أسقط أبو عبية حديث أبي رزين لقيط بن عامر بن المنتفق العقيلي من "النهاية" لابن كثير، وقال في (ص273) ما نصه: "بين الحديث المذكور: "ما من أمتي أو من الأمة عبد...." إلخ، وبين قول المؤلف: "قال الوليد بن مسلم " كلام كثير أسقطناه لعدم صحة محتواه، ولظهور كذبه في صياغته ودلالته".
والجواب أن يقال: مراده بالكلام الكثير الذي أسقطه وقال عنه ما قال: هو الحديث الطويل عن أبي رزين العقيلي رضي الله عنه في ذكر قيام الساعة وذكر البعث والنشور.
وقد ذكرت قريبا أن أبا عبية كان جريئا على رد الأحاديث التي تخالف عقله ورأيه، ولقد أخطأ خطأ كبيرا في إسقاطه حديث أبي رزين العقيلي وقدحه فيه بغير حجة، وأنا أذكر هاهنا حديث أبي رزين رضي الله عنه، وأذكر بعده كلام الحفاظ فيه، وأبين صحة محتواه وما يشهد له من الآيات والأحاديث إن شاء الله تعالى.
قال عبد الله ابن الإمام أحمد بن محمد بن حنبل في "زوائد المسند": "كتب إلي إبراهيم بن حمزة بن محمد بن حمزة بن مصعب بن الزبير: كتبت إليك بهذا الحديث، وقد عرضته وسمعته على ما كتبت به إليك؛ فحدث بذلك(3/277)
عني؛ قال: حدثني عبد الرحمن بن المغيرة الحزامي؛ قال: حدثني عبد الرحمن بن عياش السمعي الأنصاري القبائي من بني عمرو بن عوف عن دَلْهَم بن الأسود بن عبد الله بن حاجب بن عامر بن المنتفق العقيلي عن أبيه عن عمه لقيط بن عامر. قال دلهم: وحدثنيه أبي الأسود عن عاصم بن لقيط: «أن لقيطا خرج وافدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه صاحب له يقال له نهيك بن عاصم بن مالك بن المنتفق. قال لقيط: فخرجت أنا وصاحبي حتى قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوافيناه حين انصرف من صلاة الغداة، فقام في الناس خطيبا، فقال: " أيها الناس! ألا إني قد خبأت لكم صوتي منذ أربعة أيام ألا لأسمعكم، ألا فهل من امرئ بعثه قومه، فقالوا: اعلم لنا ما يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ألا ثم لعله أن يلهيه حديث نفسه أو حديث صاحبه أو يلهيه الضلال، ألا إني مسؤول: هل بلغت؟ ألا اسمعوا تعيشوا، ألا اجلسوا، ألا اجلسوا".
قال: فجلس الناس، وقمت أنا وصاحبي، حتى إذا فرغ لنا فؤاده وبصره؛ قلت: يا رسول الله! ما عندك من علم الغيب؟ فضحك لعمر الله وهز رأسه وعلم أني أبتغي لسقطه. فقال: "ضن ربك عز وجل بمفاتيح خمس من الغيب لا يعلمها إلا الله (وأشار بيده") . قلت: وما هي؟ قال: "علم المنية؛ قد علم منية أحدكم ولا تعلمونه، وعلم المني حين يكون في الرحم؛ قد علمه ولا تعلمون، وعلم ما في غد وما أنت طاعم غدا ولا تعلمه، وعلم يوم الغيث يشرف عليكم أزلين مشفقين، فيظل يضحك، قد علم أن غِيَرَكم إلى قريب". قال لقيط: لن نعدم من رب يضحك خيرا. "وعلم يوم الساعة".
قلت: يا رسول الله! علمنا مما تعلم الناس وما تعلم؛ فإنا من قبيل لا يصدقون تصديقنا أحد من مذحج التي تربو علينا، وخثعم التي توالينا، وعشيرتنا التي نحن منها. قال: "تلبثون ما لبثتم، ثم يتوفى نبيكم صلى الله عليه وسلم، ثم تلبثون ما لبثتم، ثم تبعث الصائحة، لعمر إلهك ما تدع على ظهرها من شيء إلا مات والملائكة الذين مع ربك عز وجل، فأصبح ربك عز وجل يطيف في الأرض،»(3/278)
«وخلت عليه البلاد، فأرسل ربك عز وجل السماء تهضب من عند العرش، فلعمر إلهك؛ ما تدع على ظهرها من مصرع قتيل ولا مدفن ميت إلا شقت القبر عنه حتى تخلفه من عند رأسه، فيستوي جالسا، فيقول ربك: مهيم؟ لما كان فيه. يقول: يا رب! أمس، اليوم. ولعهده بالحياة يحسبه حديثا بأهله".
فقلت: يا رسول الله! كيف يجمعنا بعدما تمزقنا الرياح والبلى والسباع؟! قال: "أنبئك بمثل ذلك في آلاء الله؛ الأرض أشرفت عليها وهي مَدَرَة بالية، فقلت: لا تحيا أبدا، ثم أرسل ربك عز وجل عليها السماء، فلم تلبث عليك إلا أياما حتى أشرفت عليها وهي شربة واحدة، ولعمر إلهك؛ لهو أقدر على أن يجمعكم من الماء على أن يجمع نبات الأرض، فتخرجون من الأصواء ومن مصارعكم، فتنظرون إليه وينظر إليكم".
قال: قلت: يا رسول الله! وكيف نحن ملء الأرض وهو شخص واحد ننظر إليه وينظر إلينا؟! قال: "أنبئك بمثل ذلك في آلاء الله عز وجل، الشمس والقمر آية منه صغيرة، ترونهما ويريانكم ساعة واحدة، لا تضارون في رؤيتهما، ولعمر إلهك؛ لهو أقدر على أن يراكم وترونه من أن ترونهما ويريانكم، لا تضارون في رؤيتهما".
قلت: يا رسول الله! فما يفعل بنا ربنا عز وجل إذا لقيناه؟ قال: "تعرضون عليه بادية له صفحاتكم، لا تخفى عليه منكم خافية، فيأخذ ربك عز وجل بيده غرفة من الماء، فينضح قبلكم بها، فلعمر إلهك؛ ما تخطئ وجه أحدكم منها قطرة، فأما المسلم؛ فتدع وجهه مثل الريطة البيضاء، وأما الكافر؛ فتخطمه بمثل الحمم الأسود، ألا ثم ينصرف نبيكم صلى الله عليه وسلم ويفرق على أثره الصالحون، فيسلكون جسرا من النار، فيطأ أحدكم الجمر، فيقول: حس! يقول ربك عز وجل أو أنه ألا فتطلعون على حوض الرسول على أظمأ ناهلة قط رأيتها؛ فلعمر إلهك؛ ما يبسط أحد منكم يده؛ إلا وقع عليها قدح يطهره من الطوف والبول والأذى، وتحبس الشمس والقمر فلا ترون منهما واحدا".
قال: قلت: يا رسول الله! فبم نبصر؟ قال:»(3/279)
«"بمثل بصرك ساعتك هذه، وذلك مع طلوع الشمس في يوم أشرقته الأرض وواجهته الجبال".
قال: قلت: يا رسول الله! فبم نجزى من سيئاتنا وحسناتنا؟ قال: "الحسنة بعشر أمثالها، والسيئة بمثلها؛ إلا أن يعفو".
قال: قلت: يا رسول الله! فما الجنة وما النار؟ قال: "لعمر إلهك؛ إن للنار لسبعة أبواب، ما منهن بابان إلا يسير الراكب بينهما سبعين عاما، وإن للجنة لثمانية أبواب، ما منهن بابان إلا يسير الراكب بينهما سبعين عاما".
قلت: يا رسول الله! فعلام نطلع من الجنة؟ قال: "على أنهار من عسل مصفى، وأنهار من كأس ما بها من صداع ولا ندامة، وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وماء غير آسن، وبفاكهة لعمر إلهك ما تعلمون، وخير من مثله معه، وأزواج مطهرة".
قلت: يا رسول الله! أولنا فيها أزواج؟ أو منهن مصلحات؟ قال: "الصالحات للصالحين، تلذونهن مثل لذاتكم في الدنيا، ويلذذن بكم؛ غير أن لا توالد". قال لقيط: فقلت: أقصى ما نحن بالغون ومنتهون إليه؟ فلم يجبه النبي صلى الله عليه وسلم.
قلت: يا رسول الله! علام أبايعك؟ قال: فبسط النبي صلى الله عليه وسلم يده، وقال: "على إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وزيال المشرك، وأن لا تشرك بالله إلها غيره". قلت: وأن لنا ما بين المشرق والمغرب. فقبض النبي صلى الله عليه وسلم يده، وظن أني مشترط شيئا لا يعطينيه. قال: قلت: نحل منها حيث شئنا، ولا يجني امرؤ إلا على نفسه. فبسط يده، وقال: "ذلك لك، تحل حيث شئت، ولا يجني عليك إلا نفسك".
قال: فانصرفنا عنه، ثم قال: "إن هذين لعمر إلهك من أتقى الناس في الأولى والآخرة". فقال له كعب بن الخدرية أحد بني بكر بن كلاب: من هم يا رسول الله؟ قال: "بنو المنتفق أهل ذلك". قال: فانصرفنا، وأقبلت عليه، فقلت: يا رسول الله! هل لأحد ممن مضى من خير في جاهليتهم؟ قال: قال رجل من عرض قريش: والله؛ إن أباك المنتفق لفي النار. قال: فلكأنه وقع حر بين جلد وجهي ولحمه مما قال لأبي على رؤوس الناس، فهممت أن أقول: وأبوك يا»(3/280)
«رسول الله! ثم إذا الأخرى أجمل، فقلت: يا رسول الله! وأهلك؟ قال: "وأهلي، لعمر الله؛ ما أتيت عليه من قبر عامري أو قرشي من مشرك؛ فقل: أرسلني إليك محمد؛ فأبشر بما يسؤوك؛ تجر على وجهك وبطنك في النار".
قال: قلت: يا رسول الله! ما فعل بهم ذلك وقد كانوا على عمل لا يحسنون إلا إياه وكانوا يحسبون أنهم مصلحون؟ قال: "ذلك لأن الله عز وجل بعث في آخر كل سبع أمم (يعني: نبيا) فمن عصى نبيه؛ كان من الضالين، ومن أطاع نبيه؛ كان من المهتدين» .
وقد رواه عبد الله أيضا في "كتاب السنة" والطبراني بنحوه. قال الهيثمي: "وأحد طريقي عبد الله إسنادها متصل ورجالها ثقات، والإسناد الآخر وإسناد الطبراني مرسل عن عاصم بن لقيط أن لقيطا ". انتهى كلام الهيثمي.
وقد رواه الحاكم في "مستدركه" من طريق يعقوب بن عيسى عن عبد الرحمن بن المغيرة، فذكره بنحوه، ثم قال: "هذا حديث جامع في الباب صحيح الإسناد، كلهم مدنيون، ولم يخرجاه". وتعقبه الذهبي في "تلخيصه"، فقال: " يعقوب بن محمد بن عيسى الزهري ضعيف". انتهى.
ولم يتكلم الذهبي في أحد من رواته سوى يعقوب بن عيسى، وهو في إسناد الحاكم وحده، وقد وافقه إبراهيم بن حمزة الزبيري على رواية الحديث عن عبد الرحمن بن المغيرة، وإبراهيم ثقة؛ كما سيأتي بيان ذلك في كلام ابن القيم رحمه الله تعالى؛ فروايته للحديث تؤيد رواية يعقوب بن عيسى وتشهد لها بالصحة. والله أعلم.
وقد روى البخاري في "تاريخه الكبير" طرفا من أوله تعليقا بصيغة الجزم، فقال في ترجمة دلهم بن الأسود بن عبد الله بن حاجب بن عامر بن المنتفق العقيلي ما نصه: "قال ابن حمزة: حدثنا عبد الرحمن بن المغيرة بن عبد(3/281)
الرحمن؛ قال: حدثنا عبد الرحمن بن القاسم السمعي الأنصاري عن دلهم بن الأسود عن أبيه عن عمه لقيط بن عامر؛ قال دلهم: وحدثني أبي عن عاصم: «أن لقيطا خرج وافدا إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ قال: قلت: يا رسول الله! ما عندك من علم الغيب؟ فقال: "ضن ربك بمفاتيح خمس من الغيب لا يعلمها إلا الله» .
قوله: " عبد الرحمن بن القاسم السمعي "؛ صوابه: عبد الرحمن بن عياش السمعي، وقد ذكره البخاري على الصواب في ترجمة عبد الرحمن، فقال ما نصه: " عبد الرحمن بن عياش الأنصاري، يعد في أهل المدينة، عن دلهم بن الأسود، سمع منه عبد الرحمن بن المغيرة ". وقال في ترجمة الأسود ما نصه: " الأسود بن عبد الله بن حاجب بن عامر بن المنتفق عن عمه لقيط، روى عنه ابنه دلهم، يعد في أهل الحجاز". انتهى.
وقد أشار البخاري إلى حديث أبي رزين رضي الله عنه فيما ذكره الترمذي في "جامعه" في (باب ما جاء ما لأدنى أهل الجنة من الكرامة) ؛ فقد روى فيه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المؤمن إذا اشتهى الولد في الجنة؛ كان حمله ووضعه وسنه في ساعة ما يشتهي» .
قال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب، وقد اختلف أهل العلم في هذا، فقال بعضهم: في الجنة جماع ولا يكون ولد، هكذا يروى عن طاوس ومجاهد وإبراهيم النخعي، وقال محمد: قال إسحاق بن إبراهيم في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا اشتهى المؤمن الولد في الجنة؛ كان في ساعة كما يشتهي» . ولكن لا يشتهي. قال محمد: وقد روي عن أبي رزين العقيلي عن النبي صلى الله عليه وسلم «أن أهل الجنة لا يكون لهم فيها ولد» . انتهى كلام الترمذي.
وقال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه "زاد المعاد" في الكلام على حديث أبي رزين رضي الله عنه: "هذا حديث كبير جليل، تنادي جلالته(3/282)
وفخامته وعظمته على أنه قد خرج من مشكاة النبوة، لا يعرف إلا من حديث عبد الرحمن بن المغيرة بن عبد الرحمن المدني، رواه عنه إبراهيم بن حمزة الزبيري، وهما من كبار علماء المدينة، ثقتان محتج بهما في الصحيح، احتج بهما إمام أهل الحديث محمد بن إسماعيل البخاري، ورواه أئمة أهل السنة في كتبهم، وتلقوه بالقبول، وقابلوه بالتسليم والانقياد، ولم يطعن أحد منهم فيه، ولا في أحد من رواته، فممن رواه: الإمام ابن الإمام أبو عبد الرحمن عبد الله بن أحمد بن حنبل في "مسند أبيه" وفي "كتاب السنة"، ومنهم الحافظ الجليل أبو بكر أحمد بن عمرو بن أبي عاصم النبيل في "كتاب السنة" له، ومنهم الحافظ أبو أحمد محمد بن أحمد بن إبراهيم بن سليمان العسال في "كتاب المعرفة"، ومنهم حافظ زمانه ومحدث أوانه أبو القاسم سليمان بن أحمد بن أيوب الطبراني في كثير من كتبه، ومنهم الحافظ أبو محمد عبد الله بن محمد بن حيان أبو الشيخ الأصبهاني في "كتاب السنة"، ومنهم الحافظ ابن الحافظ أبو عبد الله محمد بن إسحاق بن محمد بن يحيى بن منده حافظ أصبهان، ومنهم الحافظ أبو بكر أحمد بن موسى بن مردويه، ومنهم حافظ عصره أبو نعيم أحمد بن عبد الله بن إسحاق الأصبهاني وجماعة من الحفاظ سواهم يطول ذكرهم.
وقال ابن منده: "روى هذا الحديث محمد بن إسحاق الصنعاني وعبد الله بن أحمد بن حنبل وغيرهما، وقد رواه بالعراق بمجمع العلماء وأهل الدين جماعة من الأئمة؛ منهم: أبو زرعة الرازي، وأبو حاتم، وأبو عبد الله محمد بن إسماعيل، ولم ينكره أحد، ولم يتكلم في إسناده، بل رووه على سبيل القبول والتسليم، ولا ينكر هذا الحديث إلا جاحد أو جاهل أو مخالف للكتاب والسنة. هذا كلام أبي عبد الله بن منده ". انتهى كلام ابن القيم رحمه الله تعالى.
وقال أيضا في كتابه "حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح": "وأما حديث أبي(3/283)
رزين الذي أشار إليه البخاري؛ فهو حديثه الطويل، ونحن نسوقه بطوله، نجمل به كتابنا؛ فعليه من الجلالة والمهابة ونور النبوة ما ينادي على صحته".
ثم ساقه ابن القيم، وقال بعد سياقه: "هذا حديث كبير مشهور".
ثم ذكر من رواه من الأئمة على سبيل القبول والتسليم بنحوه ما ذكره في "أعلام الموقعين"؛ قال: "وقال الحافظ أبو عبد الله بن منده: روى هذا الحديث محمد بن إسحاق الصنعاني وعبد الله بن أحمد بن حنبل وغيرهما، وقرؤوه بالعراق بمجمع العلماء وأهل الدين، فلم ينكره أحد منهم، ولم يتكلم في إسناده، وكذلك أبو زرعة وأبو حاتم على سبيل القبول. وقال أبو الخير بن حمدان: هذا حديث كبير ثابت مشهور. وسألت شيخنا أبا الحجاج المزي عنه، فقال: عليه جلالة النبوة". انتهى.
وإذا علم هذا؛ فقد قال ابن كثير في كتابه "البداية والنهاية" بعد أن ساق حديث أبي رزين رضي الله عنه: "هذا حديث غريب جدا، وألفاظه في بعضها نكارة". انتهى.
وقوله هذا يخالفه فيه كثير من أكابر العلماء الذين تقدم ذكرهم في كلام ابن القيم، ولا سيما أبو عبد الله بن منده وأبو الخير بن حمدان وأبو الحجاج المزي وكذلك ابن القيم.
فأما قوله: "إنه حديث غريب": فإن أراد بذلك غرابة سنده؛ لكونه لم يرو إلا من حديث عبد الرحمن بن المغيرة الحزامي عن عبد الرحمن بن عياش السمعي عن دلهم بن الأسود عن أبيه؛ فغرابة سنده لا تؤثر فيه، وكم من حديث غريب الإسناد وهو مع ذلك أصل من أصول الدين؛ مثل حديث: «إنما الأعمال بالنيات» وغيره من الأحاديث التي لم ترو إلا من طريق واحد وهي مما يعتمد عليه في أصول الدين أو في فروعه.(3/284)
وإن أراد أنه غريب المتن؛ ففي ذلك نظر، وسأذكر ما يشهد له من الآيات والأحاديث الصحيحة إن شاء الله تعالى.
وأما قوله: "وألفاظه في بعضها نكارة"؛ ففيه نظر أيضا، وقد تقدم قول ابن منده: إنه "رواه محمد بن إسحاق الصنعاني وعبد الله بن أحمد بن حنبل وقرؤوه بالعراق بمجمع العلماء وأهل الدين فلم ينكره أحد منهم ولم يتكلم في إسناده، وكذلك أبو زرعة وأبو حاتم على سبيل القبول"، وكذلك أبو عبد الله محمد بن إسماعيل، وهؤلاء الأكابر من أعلم الناس بعلل الأحاديث، ولو كان في حديث أبي رزين نكارة؛ لبينوها، ولم يسكتوا عنها ويقروها، والله أعلم.
وقد ساقه ابن كثير في "النهاية"، ولم يتكلم فيه بشيء، وقال في ذكر أبواب الجنة في "النهاية": "فأما حديث لقيط بن عامر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن للنار سبعة أبواب؛ ما فيها بابان إلا يسير الراكب بينهما سبعين عاما» ؛ فإنه حديث مشهور". انتهى.
فصل
في شرح ما في حديث أبي رزين من الغريب
قوله: "يشرف عليكم أزلين": قال ابن الأثير: " (الأزل) : الشدة والضيق، وقد أزل الرجل يأزل أزلا؛ أي: صار في ضيق وجدب ". وقال ابن القيم رحمه الله تعالى في الكلام على حديث أبي رزين رضي الله عنه: " (الأزل) ؛ بسكون الزاي: الشدة، والأزل على وزن كتف: هو الذي قد أصابه الأزل واشتد به حتى كاد يقنط ". انتهى.
وقوله: "وقد علم أن غيركم إلى قريب": (الغير) ؛ بكسر الغين وفتح(3/285)
الياء: تغير الحال وانتقالها من القحط والجدب إلى نزول الغيث وخروج النبات من الأرض.
وقوله: "ثم تبعث الصائحة"؛ أي: النفخ في الصور؛ كما قال تعالى: {وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ} ، وقال تعالى: {مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ} .
وقال ابن القيم رحمه الله تعالى: " (ثم تبعث الصائحة) : هي صيحة البعث ونفخته ".
قلت: وفي هذا نظر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ثم تبعث الصائحة، لعمر إلهك؛ ما تدع على ظهرها من شيء إلا مات» . وهذا صريح في أن الصيحة صيحة الصعق لا صيحة البعث. والله أعلم.
وقوله: "تهضب": قال ابن الأثير: "أي: تمطر، ويجمع على أهضاب ثم أهاضيب؛ كقول وأقوال وأقاويل".
وقوله: "حتى تخلفه من عند رأسه": قال ابن القيم رحمه الله تعالى: "هو من أخلف الزرع إذا نبت بعد حصاده، شبه النشأة الأخرى بعد الموت بإخلاف الزرع بعدما حصد، وتلك الخلفة من عند رأسه كما ينبت الزرع". انتهى.
ويقال: أخلف الأراك والسلم إذا أخرج الخلفة، وهو ورق يخرج بعد الورق الأول في الصيف، وأخلف الخزامى؛ أي: طلعت خلفته من أصوله بالمطر.
وقوله: "فيستوي جالسا": قال ابن القيم رحمه الله تعالى: "هذا عند تمام خلقته وكمال حياته، ثم يقوم بعد جلوسه قائما، ثم يساق إلى موقف القيامة إما راكبا وإما ماشيا". انتهى.
وقوله: "فيقول ربك مَهْيَم"؛ أي: ما الأمر والشأن؟ قال ابن الأثير: "وهي(3/286)
كلمة يمانية، ومنه حديث لقيط: فيستوي جالسا، فيقول: رب مهيم".
وقوله: "في آلاء الله": قال ابن الأثير: " (الآلاء) : النعم". وقال ابن القيم رحمه الله تعالى: " (آلاؤه) : نعمه وآياته التي تعرف بها إلى عباده". انتهى.
وقوله: "وهي مدرة بالية"؛ أي: تراب يابس.
وقوله: "شربة واحدة": قال ابن الأثير: " (الشربة) ؛ بفتح الراء: حوض يكون في أصل النخلة وحولها، يملأ ماء لتشربه، ومنه حديث لقيط: ثم أشرفت عليها وهي شربة واحدة". وقال ابن القيم رحمه الله تعالى: " (الشربة) ؛ بفتح الراء: الحوض الذي يجتمع فيه الماء، وبالسكون: الحنطة؛ يريد أن الماء قد كثر، فمن حيث شئت تشرب، وعلى رواية السكون يكون قد شبه الأرض في خضرتها بالنبات بخضرة الحنطة واستوائها". انتهى.
وقوله: "فتخرجون من الأصواء": قال ابن الأثير: " (الأصواء) : القبور، وأصلها من الصوى: الأعلام، فشبه القبور بها".
وقوله: "لا تضارون في رؤيتهما": قال ابن الأثير: "يروى بالتشديد والتخفيف؛ فالتشديد بمعنى: لا تتخالفون ولا تتجادلون في صحة النظر إليه لوضوحه وظهوره، يقال: ضاره يضاره؛ مثل: ضره يضره". وقال الجوهري: "يقال: أضرني فلان: إذا دنا مني دنوا شديدا، فأراد بالمضارة: الاجتماع والازدحام عند النظر إليه، وأما التخفيف؛ فهو من الضير لغة في الضر، والمعنى فيه كالأول".
وقوله: "مثل الرَّيْطة البيضاء": قال ابن الأثير: " (الريطة) : كل ملاءة ليست بلفقين، وقيل: كل ثوب رقيق لين، والجمع ريط ورياط".(3/287)
وقوله: " بمثل الحمم الأسود": قال ابن الأثير: " (الحممة) : الفحمة، وجمعها حمم".
وقوله: "ثم ينصرف نبيكم": قال ابن القيم رحمه الله تعالى: "هذا انصراف من موقف القيامة إلى الجنة".
وقوله: "ويفرق على أثره الصالحون". قال ابن القيم: "أي: يفزعون ويمضون على أثره". انتهى.
وقوله: "فيسلكون جسرا من النار". (الجسر) : هو الصراط المنصوب على متن جهنم.
وقوله: "فيقول: حس": قال ابن الأثير: "هي بكسر السين والتشديد، كلمة يقولها الإنسان إذا أصابه ما مضه وأحرقه غفلة؛ كالجمرة، والضربة، ونحوهما". انتهى. قال الأصمعي: "وهي مثل أوّه".
وقوله: "يقول ربك عز وجل: أو أنه": قال ابن القيم رحمه الله تعالى: "قال ابن قتيبة: فيه قولان: أحدهما أن يكون (أنه) بمعنى نعم، والآخر أن يكون الخبر محذوفا، كأنه قال: أنتم كذلك، أو أنه على ما تقول". انتهى.
وقوله: "على أظمأ ناهلة قط" قال ابن القيم رحمه الله تعالى: " (الناهلة) : العطاش الواردون الماء؛ أي: يردونه أظمأ ما هم عليه، وهذا يناسب أن يكون بعد الصراط؛ فإنه جسر النار، وقد وردوها كلهم، فلما قطعوه؛ اشتد ظمؤهم إلى الماء، فوردوا حوضه صلى الله عليه وسلم كما وردوه في موقف القيامة" انتهى.
وقوله: "يطهره من الطوف": قال ابن الأثير: " (الطوف) : الحدث من الطعام، والمعنى: أن من شرب تلك الشربة طهر من الحدث والأذى". وقال ابن القيم رحمه الله تعالى: " (الطوف) : الغائط، وفي الحديث: «لا يصلي»(3/288)
«أحدكم وهو يدافع الطوف والبول» . انتهى.
وقوله: "وتحبس الشمس والقمر"، وفي بعض الروايات: "وتخنس الشمس والقمر". قال ابن القيم رحمه الله تعالى: "أي: يختفيان ويحبسان ولا يريان، والانخناس: التواري والاختفاء، ومنه قول أبي هريرة: "فانخنست منه"". انتهى.
وقوله: "وزيال المشرك": قال ابن القيم رحمه الله تعالى: "أي: مفارقته ومعاداته، فلا يجاوره ولا يواليه؛ كما جاء في الحديث الذي في "السنن": "لا تراءى ناراهما"؛ يعني: المسلمين والمشركين". انتهى.
فصل
وإذا علم أن حديث أبي رزين لا مطعن فيه بوجه من الوجوه؛ فليعلم أيضا أنه قد اشتمل على ثلاث وأربعين فائدة مهمة، منها ما يشهد له القرآن والأحاديث الصحيحة، ومنها ما يشهد له القرآن فقط، ومنها ما تشهد له الأحاديث الصحيحة فقط:
الفائدة الأولى: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مسؤول يوم القيامة عن تبليغ الرسالة، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم في حديث أبي رزين رضي الله عنه: «ألا إني مسؤول هل بلغت؟» .
ويشهد لهذا قول الله تعالى: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} .
قال البغوي في "تفسيره": {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ} ؛ يعني: الأمم عن إجابتهم الرسل، وهذا سؤال توبيخ لا سؤال استعلام؛ يعني: نسألهم(3/289)
عما عملوا فيما بلغتهم الرسل، {وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} عن الإبلاغ". انتهى.
وقال ابن كثير في "تفسيره": "يسأل الله الأمم يوم القيامة عما أجابوا رسله فيما أرسلهم به، ويسأل الرسل أيضا عن إبلاغ رسالاته، ولهذا قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير هذه الآية: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} ؛ قال: عما بلغوا". انتهى.
وروى ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما؛ قال: "يسأل الله الناس عما أجابوا المرسلين، ويسأل المرسلين عما بلغوا".
وروى أيضا عن مجاهد والسدي نحوه.
الفائدة الثانية: ذكر مفاتيح الغيب الخمس التي استأثر الله بعلمها.
ويشهد لهذا قول الله تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} .
وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} .
وفي "مسند الإمام أحمد " من حديث عبد الله بن دينار عن ابن عمر رضي الله عنهما؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مفاتيح الغيب خمس لا يعلمهن إلا الله، {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} » .
ورواه البخاري في "صحيحه"، ولفظه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مفتاح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله: لا يعلم أحد ما يكون في غد، ولا يعلم أحد ما يكون في الأرحام، ولا تعلم نفس ماذا تكسب غدا، وما تدري نفس بأي أرض تموت، وما يدري أحد متى يجيء المطر» .(3/290)
ورواه ابن حبان في "صحيحه"، ولفظه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مفاتيح الغيب خمس: لا يعلم ما تضع الأرحام أحد إلا الله، ولا يعلم ما في غد إلا الله، ولا يعلم متى يأتي المطر إلا الله، وما تدري نفس بأي أرض تموت، ولا يعلم متى تقوم الساعة إلا الله» .
ورواه الإمام أحمد أيضا من حديث عمر بن محمد بن زيد: أنه سمع أباه محمدا يحدث عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ قال: «أوتيت مفاتيح كل شيء إلا الخمس؛ {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} » .
ورواه البخاري مختصرا، ولفظه: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «مفاتيح الغيب خمس، (ثم قرأ: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} ) » .
ورواه الإمام أحمد أيضا من حديث سالم بن عبد الله عن عبد الله رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال: «مفاتيح الغيب خمس: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} » .
ورواه أبو داود الطيالسي بنحوه مختصرا.
وفي "مسند الإمام أحمد " أيضا من حديث عمرو بن مرة؛ قال: سمعت عبد الله بن سلمة يقول: سمعت عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يقول: «أوتي نبيكم صلى الله عليه وسلم مفاتيح كل شيء غير الخمس: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} .»
قال: قلت له: أنت سمعته من عبد الله؟ قال: نعم؛ أكثر من خمسين مرة.(3/291)
وقال ابن كثير في "تفسيره": "إسناده حسن على شرط السنن ولم يخرجوه"، وقال الهيثمي: "رواه أحمد وأبو يعلى، ورجالهما رجال الصحيح". بلبلبللل
وفي "الصحيحين" و"مسند الإمام أحمد " و"سنن ابن ماجه " عن أبي هريرة رضي الله عنه: «أن جبريل قال للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله! متى الساعة؟ قال: "ما المسؤول عنها بأعلم من السائل؟! ولكن سأحدثك عن أشراطها: إذا ولدت الأمة ربها؛ فذاك من أشراطها، وإذا كانت العراة الحفاة رؤوس الناس؛ فذاك من أشراطها؛ وإذا تطاول رعاء البهم في البنيان، فذاك من أشراطها؛ في خمس لا يعلمهن إلا الله (ثم تلا صلى الله عليه وسلم: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} » .
وفي "سنن النسائي " عن أبي هريرة وأبي ذر رضي الله عنهما: «أن جبريل قال للنبي صلى الله عليه وسلم: يا محمد! أخبرني متى الساعة؟ قال: فنكس فلم يجبه شيئا، ثم أعاد، فلم يجبه شيئا، ثم أعاد، فلم يجبه شيئا، ورفع رأسه فقال: "ما المسؤول عنها بأعلم من السائل، ولكن لها علامات تعرف بها: إذا رأيت الرعاء البهم يتطاولون في البنيان، ورأيت الحفاة العراة ملوك الأرض، ورأيت المرأة تلد ربها؛ خمس لا يعلمها إلا الله: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} إلى قوله {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} » .
وفي "مسند الإمام أحمد " عن ابن عباس رضي الله عنهما: «أن جبريل قال للنبي صلى الله عليه وسلم: حدثني متى الساعة؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سبحان الله! في خمس من الغيب لا يعلمهن إلا هو: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} » .(3/292)
في إسناده شهر بن حوشب، وهو ثقة، وفيه كلام، وبقية رجاله ثقات.
وفي "مسند الإمام أحمد " أيضا عن عامر أو أبي عامر أو أبي مالك رضي الله عنه: «أن جبريل قال للنبي صلى الله عليه وسلم: متى الساعة يا رسول الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سبحان الله! خمس من الغيب لا يعلمها إلا الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} » .
في إسناده شهر بن حوشب، وقد تقدم الكلام فيه، وبقية رجاله ثقات.
وفي "المسند" أيضا عن بريدة رضي الله عنه؛ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «خمس لا يعلمهن إلا الله: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} » .
قال الهيثمي: "رجاله رجال الصحيح".
وفي "المسند" أيضا «عن رجل من بني عامر: أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: هل بقي من العلم شيء لا تعلمه؟ قال: "قد علمني الله عز وجل خيرا، وإن من العلم ما لا يعلمه إلا الله عز وجل: الخمس: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ} ... » (الآية) ".
قال ابن كثير في "تفسيره": "إسناده صحيح".
الفائدة الثالثة: الرد على الذين يدعون علم المغيبات في المستقبل، وربما ادعى بعضهم علم ما يكون بعد ملايين السنين، فيصدقه الجهال، وينشرون كذبه وجهله في جرائدهم ومجلاتهم.
ومن هذا الباب ما يذاع في كثير من الإذاعات من الإخبار عما سيكون في(3/293)
المستقبل من الغيوم والأمطار والرياح أو عدم ذلك، ويسمون هذه الأخبار النشرات الجوية، وهي من تعاطي علم الغيب الذي استأثر الله بعلمه.
وقد قال الله تعالى: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} ، وقال تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} ... الآية.
وقد تقدم ذكر الآيات والأحاديث في مفاتيح الغيب التي لا يعلمها إلا الله تبارك وتعالى، فمن ادعى علم شيء منها؛ فقد نازع الله فيما استأثر بعلمه، ومن نازع الله فيما استأثر به؛ فقد تعرض للوعيد الشديد.
كما في الحديث الذي رواه الإمام أحمد وأبو داود الطيالسي وأبو داود السجستاني وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يقول الله سبحانه: الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري؛ فمن نازعني واحدا منهما؛ ألقيته في جهنم» .
ورواه مسلم في "صحيحه" عن أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما؛ قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «العز إزاره، والكبرياء رداؤه، فمن ينازعني؛ عذبته» .
وروى ابن ماجه وابن حبان في "صحيحه" عن ابن عباس رضي الله عنهما؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يقول الله سبحانه: الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري، فمن نازعني واحدا منهما؛ ألقيته في النار» .
فليحذر المتعاطون لعلم المغيبات التي استأثر الله بعلمها من هذا الوعيد الشديد.
الفائدة الرابعة: إثبات صفة الضحك لله تعالى، والذي عليه أهل السنة والجماعة إثبات صفة الضحك لله تعالى كما يليق بجلاله، وبذلك جاءت السنة(3/294)
المطهرة.
ففي "الصحيحين" وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه: «أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! أصابني الجهد. فأرسل إلى نسائه، فلم يجد عندهن شيئا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا رجل يضيفه الليلة يرحمه الله؟ ". فقام رجل من الأنصار، فقال: أنا يا رسول الله! فذهب إلى أهله، فقال لامرأته: ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تدخريه شيئا. فقالت: والله ما عندي إلا قوت الصبية. قال: فإذا أراد الصبية العشاء؛ فنوميهم، وتعالي، فأطفئي السراج، ونطوي بطوننا الليلة. ففعلت، ثم غدا الرجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "ضحك الله الليلة (أو: عجب) من فعالكما» .
وروى ابن أبي الدنيا عن أنس رضي الله عنه نحوه، وفيه ذكر الضحك بغير شك.
وفي "الصحيحين" أيضا واللفظ لمسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «آخر من يدخل الجنة رجل يمشي مرة ويكبو مرة وتسفعه النار مرة...." الحديث. وفي آخره أن الله تعالى يقول له: "يا ابن آدم! أيرضيك أن أعطيك الدنيا ومثلها معها؟ قال: يا رب! أتستهزئ مني وأنت رب العالمين؟ ". فضحك ابن مسعود، فقال: ألا تسألوني مم أضحك؟ فقالوا: مم ضحكت؟ قال: هكذا ضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقالوا: مم تضحك يا رسول الله؟ قال: "من ضحك رب العالمين حين قال: أتستهزئ مني وأنت رب العالمين؟ فيقول: إني لا أستهزئ منك، ولكني على ما أشاء قادر» .
وفي "الصحيحين" أيضا من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فذكر الحديث بطوله في رؤية الرب، وذكر الحشر والقضاء بين العباد، وفي آخره ذكر آخر أهل الجنة دخولا الجنة، وفيه أنه «لا يزال يدعو الله»(3/295)
«حتى يضحك الله منه، فإذا ضحك الله منه؛ قال: ادخل الجنة» .
وفي "الصحيحين" أيضا واللفظ لمسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يضحك الله إلى رجلين يقتل أحدهما الآخر، كلاهما يدخل الجنة". قالوا: كيف يا رسول الله؟! قال: "يقتل هذا فيلج الجنة، ثم يتوب الله على الآخر، فيهديه إلى الإسلام، ثم يجاهد في سبيل الله، فيستشهد» .
وروى: الإمام أحمد، وأبو داود الطيالسي، وابن ماجه، وعبد الله ابن الإمام أحمد في "كتاب السنة"، وأبو بكر الآجري في "كتاب الشريعة"؛ عن أبي رزين العقيلي رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ضحك ربنا من قنوط عباده وقرب غِيَره". قال: قلت: يا رسول الله! أو يضحك الرب؟! قال: "نعم". قلت: لن نعدم من رب يضحك خيرا» .
وروى: الإمام أحمد أيضا، ومسلم في "صحيحه"، وعبد الله ابن الإمام أحمد في "كتاب السنة"؛ من حديث أبي الزبير: أنه سمع جابر بن عبد الله رضي الله عنهما يسأل عن الورود؛ قال: «نحن يوم القيامة على كذا فوق الناس، فتدعى الأمم بأوثانها وما كانت تعبد الأول فالأول، ثم يأتينا ربنا بعد ذلك، فيقول: من تنظرون؟ فيقولون: ننظر ربنا. فيقول: أنا ربكم. فيقولون: حتى ننظر إليك. فيتجلى لهم يضحك» ... الحديث.
وروى: الإمام أحمد، وابنه عبد الله في "كتاب السنة"، وأبو بكر الآجري في "كتاب الشريعة"؛ عن أبي موسى رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يتجلى لنا ربنا يوم القيامة ضاحكا» .
إلى غير ذلك من الأحاديث في إثبات صفة الضحك لله تعالى، وفيها أبلغ رد على الجهمية ومن نحا نحوهم من أهل البدع.(3/296)
وقد قال ابن القيم رحمه الله تعالى في الكلام على حديث أبي رزين رضي الله عنه: "وقوله: "فيظل يضحك": هو من صفات أفعاله سبحانه وتعالى التي لا يشبهه فيها شيء من مخلوقاته كصفات ذاته، وقد وردت هذه الصفة في أحاديث كثيرة لا سبيل إلى ردها، كما لا سبيل إلا تشبيهها وتحريفها. وكذلك: "فأصبح ربك يطوف في الأرض": هو من صفات فعله؛ كقوله: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ} ، و {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ} ، «وينزل ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا» ، و «يدنو عشية عرفة فيباهي بأهل الموقف الملائكة» ، والكلام في الجميع صراط مستقيم إثبات بلا تمثيل وتنزيه بلا تحريف ولا تعطيل". انتهى.
الفائدة الخامسة: ذكر الصائحة، وهي النفخ في الصور، وقد تقدم ذكر الأدلة على ذلك من الكتاب والسنة في (باب النفخ في الصور) ؛ فلتراجع هناك.
الفائدة السادسة: جواز الإقسام بصفات الله تعالى، وانعقاد اليمين بها.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: "وقوله: "فلعمر إلهك": هو قسم بحياة الرب جل جلاله، وفيه دليل على جواز الإقسام بصفاته، وانعقاد اليمين بها، وأنها قديمة، وأنه يطلق عليه منها أسماء المصادر ويوصف بها، وذلك قدر زائد على مجرد الأسماء، وأن الأسماء الحسنى مشتقة من هذه المصادر دالة عليها". انتهى.
الفائدة السابعة: ذكر موت الخلق إذا نفخ في الصور، وموت الملائكة أيضا، ويشهد لهذا:
قول الله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} .
وقوله تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} .(3/297)
وقوله تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} .
قال ابن القيم رحمه الله تعالى في "زاد المعاد" في الكلام على حديث أبي رزين العقيلي رضي الله عنه: "لا أعلم موت الملائكة جاء في حديث صريح إلا هذا وحديث إسماعيل بن رافع الطويل وهو حديث الصور، وقد يستدل عليه بقوله تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} . انتهى.
وقد تقدم حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه؛ قال: «يقوم ملك بالصور بين السماء والأرض، فينفخ فيه، فلا يبقى خلق في السماوات والأرض إلا مات؛ إلا من شاء ربك» ...... الحديث.
رواه: الطبراني، والحاكم، وقال: "صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي في "تلخيصه". وله حكم المرفوع؛ لأن مثله لا يقال من قبل الرأي، وإنما يقال عن توقيف.
وهذا الحديث يؤيد ما جاء في حديث أبي رزين وحديث إسماعيل بن رافع من النص على موت الملائكة إذا نفخ في الصور، والله أعلم.
الفائدة الثامنة: إثبات انفراد الله تعالى بالبقاء بعد موت الخلق، ويشهد لهذا:
قول الله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} .
وقوله تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} .
الفائدة التاسعة: ذكر إرسال المطر من عند العرش لينبت منه الخلق.(3/298)
ويشهد لهذا قوله صلى الله عليه وسلم في حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما الذي تقدم في (باب النفخ في الصور) : «ثم ينفخ في الصور؛ فلا يسمعه أحد إلا أصغى ليتا ورقع ليتا". قال: "وأول من يسمعه رجل يلوط حوض إبله". قال: "فيصعق ويصعق الناس، ثم يرسل الله (أو قال: ينزل الله) مطرا كأنه الطل (أو: الظل) ، فتنبت منه أجساد الناس» ... الحديث.
رواه: الإمام أحمد، ومسلم، والنسائي.
وفي "الصحيحين" واللفظ لمسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما بين النفختين أربعون ". قالوا: يا أبا هريرة! أربعون يوما؟ قال: أبيت. قالوا: أربعون شهرا؟ قال: أبيت. قالوا: أربعون سنة؟ قال: أبيت، "ثم ينزل الله من السماء ماء، فينبتون كما ينبت البقل". قال: "وليس من الإنسان شيء إلا يبلى، إلا عظما واحدا، وهو عَجْب الذنب، ومنه يركب الخلق القيامة» .
وروى الطبراني والحاكم في "مستدركه" عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه؛ قال: «يقوم ملك بالصور بين السماء والأرض، فينفخ فيه، والصور قرن؛ فلا يبقى خلق في السماوات والأرض إلا مات، إلا من شاء ربك، ثم يكون بين النفختين ما شاء الله أن يكون، فليس من بني آدم أحد إلا في الأرض منه شيء". قال: "فيرسل الله ماء من تحت العرش كمني الرجال، فتنبت لحمانهم وجثمانهم من ذلك الماء كما تنبت الأرض من الثرى (ثم قرأ عبد الله: {وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ} ". قال: "ثم يقوم ملك بالصور بين السماء والأرض، فينفخ فيه، فتنطلق كل نفس إلى جسدها، حتى تدخل فيه، ثم يقومون، فيحيون حياة رجل واحد قياما لرب العالمين» ... الحديث.(3/299)
قال الحاكم: "صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه"، وافقه الذهبي في "تلخيصه".
وروى: ابن جرير، وأبو يعلى، والطبراني، والبيهقي، وغيرهم؛ عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث الصور الطويل، وفيه: «ثم يأمر الله إسرافيل بنفخة الصعق، فينفخ الصعق، فيصعق أهل السماوات والأرض إلا من شاء الله، فإذا هم قد خمدوا ... (الحديث وفيه:) ثم ينزل الله عليهم ماء من تحت العرش، ثم يأمر الله السماء أن تمطر، فتمطر أربعين يوما، حتى يكون المطر فوقهم اثني عشر ذراعا، ثم يأمر الله الأجساد أن تنبت، فتنبت كنبات الطراثيث (أو: كنبات البقل) » ... الحديث.
الفائدة العاشرة: إثبات البعث بعد الموت، والأدلة على ذلك في الكتاب والسنة كثيرة جدا، وقد أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقسم على وقوع المعاد في ثلاث آيات من القرآن:
إحداهن: قوله تعالى في سورة يونس: {وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} .
والثانية: قوله تعالى في سورة سبأ: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} .
والثالثة: قوله تعالى في سورة التغابن: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} .
الفائدة الحادية عشرة: ظن الميت إذا بعث أنه لم يلبث إلا يسيرا، ويشهد لهذا:(3/300)
قول الله تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ} .
وقوله تعالى: {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ} .
وقوله تعالى: {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا} .
وقوله تعالى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} .
وقوله تعالى: {يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا} .
قال ابن القيم رحمه الله تعالى في الكلام على حديث أبي رزين رضي الله عنه: "وقوله: "يقول: يا رب! أمس اليوم": استقلال لمدة لبثه في الأرض، وكأنه لبث فيها يوما، فقال: أمس، أو بعض يوم، فقال: اليوم؛ يحسب أنه حديث عهد بأهله، وأنه إنما فارقهم أمس أو اليوم". انتهى.
الفائدة الثانية عشرة: أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يخوضون في دقائق المسائل، ويسألون النبي صلى الله عليه وسلم عما أشكل عليهم.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى في الكلام على حديث أبي رزين رضي الله عنه: "وقوله: كيف يجمعنا بعدما تمزقنا الرياح والبلى والسباع؟! "، وإقرار رسول الله صلى الله عليه وسلم له على هذا السؤال؛ رد على من زعم أن القوم لم يكونوا يخوضون في دقائق المسائل ولم يكونوا يفهمون حقائق الإيمان بل كانوا مشغولين بالعمليات، وأن أفراخ الصابئة والمجوس من الجهمية والمعتزلة والقدرية أعرف(3/301)
منهم بالعمليات، وفيه دليل على أنهم كانوا يوردون على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يشكل عليهم من الأسئلة والشبهات، فيجيبهم عنها بما يثلج صدورهم، وقد أورد عليه صلى الله عليه وسلم الأسئلة أعداؤه وأصحابه: أعداؤه للتعنت والمغالبة، وأصحابه للفهم والبيان وزيادة الإيمان، وهو يجيب كلا عن سؤاله؛ إلا ما لا جواب عنه؛ كسؤالهم له عن وقت الساعة. وفي هذا السؤال دليل على أنه سبحانه يجمع أجزاء العبد بعدما فرقها. وينشئها نشأة أخرى، ويخلقه خلقا جديدا؛ كما سماه في كتابه كذلك في موضعين: {ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ} ، و {يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ} ".
قلت: وكذلك في قوله تعالى: {وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى} .
الفائدة الثالثة عشرة: ذكر الدليل على إحياء الموتى وجمعهم بعد التفرق، وضرب المثل لذلك بإحياء الأرض بعد موتها، والأدلة على ذلك في الكتاب والسنة كثيرة جدا.
الفائدة الرابعة عشرة والخامسة عشرة: إثبات القياس في أدلة التوحيد والمعاد، وأن حكم الشيء حكم نظيره.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى في الكلام على حديث أبي رزين العقيلي: "وقوله: "أنبئك بمثل ذلك في آلاء الله": فيه إثبات القياس في أدلة التوحيد والمعاد، والقرآن مملوء منه، وفيه أن حكم الشيء حكم نظيره، وأنه سبحانه إذا كان قادرا على شيء؛ فكيف تعجز قدرته عن نظيره ومثله؟! فقد قرر الله سبحانه أدلة المعاد في كتابه أحسن تقرير وأبينه وأبلغه وأوصله إلى العقول والفطر، فأبى أعداؤه الجاحدون إلا تكذيبا له وتعجيزا له وطعنا في حكمه، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا". انتهى.
الفائدة السادسة عشرة: إثبات رؤية الله تعالى في الدار الآخرة، وقد دل على ذلك الكتاب والسنة والإجماع:(3/302)
أما الكتاب:
فقول الله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} .
وقوله تعالى في حق الكفار: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} .
قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: "وفي هذه الآية دليل على أن المؤمنين يرونه عز وجل يومئذ".
قال ابن كثير: "وهذا الذي قاله الشافعي رحمه الله تعالى في غاية الحسن، وهو استدلال بمفهوم هذه الآية، كما دل عليه منطوق قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} ، وكما دلت على ذلك الأحاديث الصحاح المتواترة في رؤية المؤمنين ربهم عز وجل في الدار الآخرة رؤية بالأبصار في عرصات القيامة وفي روضات الجنان الفاخرة". انتهى.
وقد روي عن الإمام مالك والإمام أحمد رحمهما الله تعالى نحو قول الشافعي:
فأما الإمام مالك؛ فقال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري": "أخرج أبو العباس السراج في "تاريخه" عن الحسن بن عبد العزيز الجروي - وهو من شيوخ البخاري -: سمعت عمرو بن أبي سلمة يقول: سمعت مالك بن أنس، وقيل له: يا أبا عبد الله! قول الله تعالى: {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} ؛ يقول قوم: إلى ثوابه. فقال: كذبوا؛ فأين هم عن قوله تعالى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} ؟! ". انتهى.
وأما الإمام أحمد؛ فقال أبو بكر الآجري في "كتاب الشريعة": "حدثنا أبو الفضل جعفر بن محمد الصندلي؛ قال: حدثنا الفضل بن زياد؛ قال: سمعت أبا عبد الله أحمد بن حنبل، وبلغه عن رجل أنه قال: إن الله عز وجل(3/303)
لا يرى في الآخرة، فغضب غضبا شديدا، ثم قال: من قال إن الله عز وجل لا يرى في الآخرة؛ فقد كفر، عليه لعنة الله من كان من الناس، أليس الله جل ذكره قال: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} ، وقال عز وجل: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} ؟! وهذا دليل على أن المؤمنين يرون الله عز وجل".
وقال الآجري أيضا: "حدثنا أبو القاسم عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي؛ قال: حدثنا حنبل بن إسحاق بن حنبل؛ قال: سمعت أبا عبد الله يقول: قالت الجهمية: إن الله عز وجل لا يرى في الآخرة، قال الله عز وجل: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} ، فلا يكون هذا إلا أن الله عز وجل يرى، وقال عز وجل: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} ؛ فهذا النظر إلى الله عز وجل، والأحاديث التي رويت عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إنكم ترون ربكم» بروايات صحيحة وأسانيد غير مدفوعة، والقرآن شاهد أن الله عز وجل يرى في الآخرة". انتهى.
وروى ابن جرير عن الحسن في قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} ؛ قال: "يكشف الحجاب، فينظر إليه المؤمنون والكافرون، ثم يحجب عنه الكافرون، وينظر إليه المؤمنون كل يوم غدوة وعشية".
وقال تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} .
قال البغوي في قوله: وزيادة: "وهي النظر إلى وجه الله الكريم، هذا قول جماعة؛ منهم: أبو بكر الصديق، وحذيفة، وأبو موسى، وعبادة بن الصامت رضي الله عنهم، وهو قول الحسن وعكرمة وعطاء ومقاتل والضحاك والسدي ". انتهى.
وقال ابن كثير: "وقد روي تفسير الزيادة بالنظر إلى وجهه الكريم عن أبي(3/304)
بكر الصديق وحذيفة بن اليمان وعبد الله بن عباس رضي الله عنهم، وسعيد بن المسيب وعبد الرحمن بن أبي ليلى وعبد الرحمن بن سابط ومجاهد وعكرمة وعامر بن سعد وعطاء والضحاك والحسن وقتادة والسدي ومحمد بن إسحاق وغيرهم من السلف والخلف". انتهى.
وقال تعالى: {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} .
قال البغوي في "تفسيره": "قال جابر وأنس رضي الله عنهما: هو النظر إلى وجه الله الكريم".
وقال ابن كثير في "تفسيره": "وقوله تعالى: {وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} كقوله عز وجل: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} ، وقد تقدم في "صحيح مسلم " عن صهيب بن سنان الرومي أنها النظر إلى وجه الله الكريم، وروى البزار وابن أبي حاتم من حديث شريك القاضي عن عثمان بن عمير أبي اليقظان عن أنس بن مالك رضي الله عنه في قوله عز وجل: {وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} ؛ قال: يظهر لهم الرب عز وجل في كل جمعة" انتهى.
وقال تعالى: {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا} .
قال أبو بكر الآجري في "كتاب الشريعة": "اعلم رحمك الله أن عند أهل العلم باللغة أن اللقي هاهنا لا يكون إلا معاينة؛ يراهم الله عز وجل ويرونه، ويسلم عليهم ويكلمهم ويكلمونه" انتهى.
وأما السنة:
ففي "الصحيحين" وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه: «أن الناس قالوا: يا رسول الله! هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هل تضارون في القمر ليلة البدر؟ ". قالوا: لا يا رسول الله! قال: "فهل تضارون»(3/305)
«في الشمس ليس دونها سحاب؟ ". قالوا: لا يا رسول الله! قال: "فإنكم ترونه كذلك» .... الحديث.
وفي "الصحيحين" وغيرهما عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه؛ قال: «قلنا: يا رسول الله! هل نرى ربنا يوم القيامة؟ قال: "هل تضارون في رؤية الشمس والقمر إذا كانت صحوا؟ قلنا: لا. قال: فإنكم لا تضارون في رؤية ربكم يومئذ إلا كما تضارون في رؤيتهما» ... الحديث.
وفي "الصحيحين" وغيرهما عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه؛ قال: «كنا جلوسا عند النبي صلى الله عليه وسلم، فنظر إلى القمر ليلة البدر، وقال: " إنكم سترون ربكم عيانا كما ترون هذا القمر، لا تضامون في رؤيته، فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وصلاة قبل غروب الشمس؛ فافعلوا» .
وروى: الإمام أحمد، وأبو داود الطيالسي، وأبو داود السجستاني، وابن ماجه، وابن حبان في "صحيحه"؛ «عن أبي رزين العقيلي رضي الله عنه؛ قال: قلت: يا رسول الله! أكلنا يرى ربه مخليا به يوم القيامة؟ قال: "نعم". قلت: وما آية ذلك في خلقه؟ قال: "يا أبا رزين! أليس كلكم يرى القمر ليلة البدر مخليا به؟ ". قلت: بلى. قال: "فالله أعظم، إنما هو خلق من خلق الله (يعني: القمر) ؛ فالله أجل وأعظم» .
وروى: الإمام أحمد، ومسلم، والترمذي، وابن ماجه، وغيرهم؛ «عن صهيب رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآية: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} ، وقال: "إذا دخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار؛ نادى مناد: يا أهل الجنة! إن لكم عند الله موعدا يريد أن ينجزكموه. فيقولون: وما هو؟ ألم يثقل موازيننا؟ ألم يبيض وجوهنا ويدخلنا الجنة ويجرنا من النار؟ ". قال: "فيكشف لهم الحجاب، فينظرون إليه، فوالله ما أعطاهم الله شيئا أحب»(3/306)
«إليهم من النظر إليه ولا أقر لأعينهم» .
وروى: ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ قال: «إن الله يبعث يوم القيامة مناديا ينادي: يا أهل الجنة (بصوت يسمع أولهم وآخرهم) ! إن الله وعدكم الحسنى وزيادة؛ فالحسنى الجنة، والزيادة النظر إلى وجه الرحمن عز وجل»
وروى: ابن جرير أيضا، وعبد الله ابن الإمام أحمد في "كتاب السنة"؛ عن كعب بن عجرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في «قوله: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} قال: " النظر إلى وجه الرحمن عز وجل»
وروى: ابن جرير أيضا، وابن أبي حاتم، «عن أبي بن كعب رضي الله عنه، أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قول الله عز وجل {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} قال: " الحسنى الجنة، والزيادة النظر إلى وجه الله عز وجل»
وقد تقدم قريبا حديث أبي الزبير: أنه سمع جابر بن عبد الله رضي الله عنهما يسأل عن الورود؛ قال: «نحن يوم القيامة على كذا فوق الناس، فتدعى الأمم بأوثانها وما كانت تعبد؛ الأول فالأول، ثم يأتينا ربنا بعد ذلك، فيقول: من تنظرون؟ فيقولون: ننظر ربنا. فيقول: أنا ربكم. فيقولون: حتى ننظر إليك. فيتجلى لهم يضحك» ... الحديث.
رواه: الإمام أحمد، ومسلم، وعبد الله ابن الإمام أحمد في "كتاب السنة".
وفي الصحيحين واللفظ للبخاري عن عدي بن حاتم رضي الله عنه؛ قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان ولا حجاب يحجبه» .(3/307)
وفي "الصحيحين" وغيرهما عن أبي موسى رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «جنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما، وجنتان من فضة آنيتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن» .
وروى: الإمام أحمد، وعبد بن حميد، والترمذي، وابن جرير، وعبد الله ابن الإمام أحمد في كتاب "السنة"، وأبو بكر الآجري في كتاب "الشريعة"؛ عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ قال: «إن أدنى أهل الجنة منزلة لمن ينظر إلى جنانه وزوجاته ونعيمه وخدمه وسرره مسيرة ألف سنة، وأكرمهم على الله من ينظر إلى وجهه غدوة وعشية (ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} ) » .
وقد رواه الحاكم في "مستدركه"، ولفظه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أدنى أهل الجنة منزلة لرجل ينظر في ملكه ألفي سنة، يرى أقصاه كما يرى أدناه، ينظر في أزواجه وخدمه وسرره، وإن أفضل أهل الجنة منزلة لمن ينظر في وجه الله تعالى كل يوم مرتين» .
ورواه أيضا بنحوه، وزاد: "ثم تلا: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} ؛ قال: البياض والصفاء. {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} ؛ قال: ينظر كل يوم في وجه الله عز وجل".
قال الحاكم: "هذا حديث مفسر في الرد على المبتدعة". انتهى.
قال أبو بكر الآجري في "كتاب الشريعة": "تواترت الأخبار الصحاح عن النبي صلى الله عليه وسلم بالنظر إلى وجه الله عز وجل، فقبلها أهل العلم أحسن قبول". انتهى.
وقال ابن كثير في تفسير سورة القيامة: "وقد ثبتت رؤية المؤمنين لله عز وجل في الدار الآخرة في الأحاديث الصحاح من طرق متواترة عند أئمة الحديث، لا يمكن دفعها ولا منعها".(3/308)
وقال أيضا: "قد تواترت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بما دل عليه سياق الآية الكريمة، وهي قوله تعالى: {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} ". انتهى.
وأما الإجماع؛ فقال ابن كثير في تفسير سورة القيامة بعدما ساق بعض الأحاديث في رؤية المؤمنين لربهم في الدار الآخرة؛ قال: "وهذا بحمد الله مجمع عليه بين الصحابة والتابعين وسلف هذه الأمة كما هو متفق عليه بين أئمة الإسلام وهداة الأنام". انتهى.
الفائدة السابعة عشرة: إثبات صفة النظر لله عز وجل، وقد قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} .
وروى: الإمام أحمد، ومسلم، وابن ماجه، وعبد الله ابن الإمام أحمد في كتاب "السنة"؛ عن أبي هريرة رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله عز وجل لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم» .
وجاء في عدة أحاديث: أن الله لا ينظر إلى من جر ثوبة خيلاء، وأنه لا ينظر إلى المسبل والمنان والمنفق سلعته بالحلف الكاذب، وأنه لا ينظر إلى من منع ابن السبيل فضل الماء، ولا إلى رجل حلف على سلعة بعد العصر كاذبا، ولا إلى رجل بايع إماما فإن أعطاه وفي له وإن لم يعطه لم يف له، ولا إلى متبرئ من والديه راغب عنهما، ولا إلى متبرئ من ولده، ولا إلى رجل أنعم عليه قوم فكفر نعمتهم وتبرأ منهم، ولا إلى شيخ زان وملك كذاب وعائل مستكبر، ولا إلى العاق لوالديه، ولا إلى المرأة المترجلة، ولا إلى الديوث.
فدلت الآية الكريمة والأحاديث الصحيحة على أن الله تعالى ينظر إلى(3/309)
من لم يتصف بشيء مما ذكر في الآية والأحاديث التي أشرنا إليها.
وقد روى: ابن ماجه، وابن أبي حاتم، والبغوي؛ عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بينا أهل الجنة في نعيمهم؛ إذ طلع عليهم نور، فرفعوا رؤوسهم؛ فإذا الرب عز وجل قد أشرف عليهم من فوقهم، فقال: السلام عليكم يا أهل الجنة؛ فذلك قوله تعالى: {سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} ؛ قال: فينظر إليهم وينظرون إليه؛ فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم ما داموا ينطرون إليه حتى يحتجب عنهم، ويبقى نوره وبركته عليهم في ديارهم» .
الفائدة الثامنة عشرة: إطلاق الشخص على الله تعالى.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى في الكلام على حديث أبي رزين رضي الله عنه: "وقوله: "كيف ونحن ملء الأرض وهو شخص واحد؟! "؛ قد جاء هذا في هذا الحديث وفي قوله في حديث آخر: "لا شخص أغير من الله"، والمخاطبون بهذا؛ قوم عرب يعلمون المراد منه، ولا يقع في قلوبهم تشبيهه سبحانه بالأشخاص، بل هم أشرف عقولا وأصح أذهانا وأسلم قلوبا من ذلك، وحقق صلى الله عليه وسلم وقوع الرؤية عيانا برؤية الشمس والقمر تحقيقا لها ونفيا لتوهم المجاز الذي يظنه المعطلون". انتهى.
وقد قال البخاري في (كتاب التوحيد) من "صحيحه": "باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا شخص أغير من الله» ، وقال عبيد الله بن عمرو عن عبد الملك: لا شخص أغير من الله".
وهذا الذي علقه البخاري قد رواه مسلم في "صحيحه"، فقال: حدثني عبيد الله بن عمر القواريري وأبو كامل فضيل بن حسين الجحدري واللفظ لأبي كامل؛ قالا: حدثنا أبو عوانة عن عبد الملك بن عمير عن وراد كاتب المغيرة عن(3/310)
المغيرة بن شعبة رضي الله عنه؛ قال: «قال سعد بن عبادة رضي الله عنه: لو رأيت رجلا مع امرأتي؛ لضربته بالسيف؛ غير مصفح عنه، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أتعجبون من غيرة سعد؛ فوالله؛ لأنا أغير منه، والله أغير مني، من أجل غيرة الله حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ولا شخص أغير من الله، ولا شخص أحب إليه العذر من الله، من أجل ذلك؛ بعث الله المرسلين مبشرين ومنذرين، ولا شخص أحب إليه المدحة من الله، من أجل ذلك؛ وعد الله الجنة» .
ثم قال مسلم: وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة: حدثنا حسين بن علي عن زائدة عن عبد الملك بن عمير بهذا الإسناد مثله، وقال: "غير مصفح"، ولم يقل: "عنه".
وقد رواه عبد الله ابن الإمام أحمد في كتاب "السنة" عن عبيد الله بن عمر القواريري ومحمد بن أبي بكر المقدمي: أخبرنا أبو عوانة (فذكره) .
وإسناده عن عبيد الله بن عمر أحد أسانيد مسلم، والآخر على شرط الشيخين.
ورواه أيضا عن أبي بكر بن أبي شيبة: حدثنا حسين بن علي الجعفي عن زائدة عن عبد الملك: (فذكره) .
وإسناده إسناد مسلم.
ورواه الإمام أحمد في "مسنده"، فقال: حدثنا هشام بن عبد الملك أبو الوليد: حدثنا أبو عوانة عن عبد الملك: (فذكره) .
وإسناده صحيح على شرط الشيخين.
ورواه الدارمي في "سننه"، فقال: حدثنا ابن أبي عدي: حدثنا عبيد الله(3/311)
ابن عمرو عن عبد الملك بن عمير: (فذكره بنحوه) .
وإسناده صحيح على شرط الشيخين.
وهذا الحديث الصحيح من الأحاديث التي تتلقى بالقبول وتمر كما جاءت، وهو أبلغ لما جاء في حديث أبي رزين رضي الله عنه من إطلاق الشخص على الله تعالى.
وقد قال عبد الله ابن الإمام أحمد في "مسند" أبيه: قال عبيد الله القواريري: "ليس حديث أشد على الجهمية من هذا الحديث: قوله: «لا شخص أحب إليه مدحة من الله عز وجل» .
الفائدة التاسعة عشرة: أن الشمس والقمر آيتان من آيات الله تعالى، ويشهد لهذا.
قول الله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} .
وقوله تعالى: {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} .
وقد تواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قال: «إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله» .
رواه: مالك، وأحمد، والشيخان، وأهل السنن؛ من حديث عائشة رضي الله عنها. ورواه مسلم، وأبو داود، والنسائي؛ من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما. ورواه: مالك، وأحمد، والشيخان، وأهل السنن؛ من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. ورواه: الشيخان، والنسائي؛ من حديث أبي(3/312)
مسعود البدري رضي الله عنه. ورواه: الشيخان، والنسائي؛ من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. ورواه الشيخان من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه. ورواه النسائي من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما. ورواه: البخاري، والنسائي؛ من حديث أبي بكرة رضي الله عنه. ورواه النسائي من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما. ورواه النسائي من حديث قبيصة بن مخارق الهلالي رضي الله عنه. ورواه النسائي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
الفائدة العشرون: إثبات العرض على الله يوم القيامة، ويشهد لهذا:
قوله الله تعالى: {وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} .
وقوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} .
وقوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا} ... الآية.
وروى: الإمام أحمد، والشيخان، وأهل السنن إلا ابن ماجه؛ عن عائشة رضي الله عنها؛ قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من نوقش الحساب عذب ". قالت: فقلت: أفليس قال الله تعالى: {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} ؟! قال: "ليس ذلك بالحساب، ولكن ذلك العرض، من نوقش الحساب يوم القيامة؛ عذب» .
وروى الإمام أحمد عن وكيع عن علي بن علي بن رفاعة عن الحسن عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يعرض الناس يوم القيامة ثلاث عرضات: فأما عرضتان فجدال ومعاذير، وأما الثالثة فعندها»(3/313)
«تطير الصحف في الأيدي، فآخذ بيمينه وآخذ بشماله» .
وقد رواه ابن ماجه عن أبي بكر - وهو ابن أبي شيبة - عن وكيع: (فذكره بمثله) .
ورواه ابن أبي الدنيا عن أبي نصر التمار: حدثنا عقبة الأصم عن الحسن؛ قال: سمعت أبا موسى الأشعري رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فذكره بنحوه) .
ورواه الترمذي عن أبي كريب عن وكيع عن علي بن علي عن الحسن عن أبي هريرة رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يعرض الناس يوم القيامة ثلاث عرضات: فأما عرضتان؛ فجدال ومعاذير، وأما العرضة الثالثة؛ فعند ذلك تطير الصحف في الأيدي، فآخذ بيمينه، وآخذ بشماله» .
قال الترمذي: "ولا يصح هذا الحديث من قبل أن الحسن لم يسمع من أبي هريرة ".
وقد رواه بعضهم عن علي بن علي - وهو الرفاعي - عن الحسن عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم.
قال ابن كثير في "النهاية": "وقد وقع في "مسند أحمد " التصريح بسماعه منه، وقد يكون الحديث عنده عن أبي موسى وأبي هريرة، والله أعلم".
قال: "وأما الحافظ البيهقي؛ فرواه من طريق مروان الأصفر عن أبي وائل عن عبد الله بن مسعود من قوله مثله سواء". انتهى.
وقال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" بعدما نقل كلام الترمذي الذي تقدم ذكره: "وأخرجه البيهقي في "البعث" بسند حسن عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه موقوفا". انتهى.(3/314)
الفائدة الحادية والعشرون: إثبات صفة اليد لله تعالى.
والذي عليه أهل السنة والجماعة إثبات صفة اليد لله تعالى؛ إثباتا بلا تمثيل، وتنزيها بلا تحريف ولا تعطيل، والأدلة على ذلك كثيرة في الكتاب والسنة:
أما الكتاب:
فقول الله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} .
وقوله تعالى: {قَالَ يَاإِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَأَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ} .
وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} .
وقوله تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} .
وقوله تعالى: {قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} .
وقوله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} .
وأما السنة:
فروى: الإمام أحمد، ومسلم، والنسائي؛ عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن المقسطين عند الله»(3/315)
«يوم القيامة على منابر من نور عن يمين الرحمن عز وجل، وكلتا يديه يمين، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا» .
وروى الإمام أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ قال: «لما خلق الله الخلق؛ كتب بيده على نفسه: إن رحمتي تغلب غضبي» .
وعن ابن مسعود رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا كان ثلث الليل الباقي؛ يهبط الله عز وجل إلى السماء الدنيا، ثم تفتح أبواب السماء، ثم يبسط يده، فيقول: هل من سائل يعطى سؤله؟ فلا يزال كذلك حتى يطلع الفجر» .
رواه: الإمام أحمد، وأبو يعلى. قال الهيثمي: "ورجالهما رجال الصحيح".
وروى: مالك، وأحمد، والشيخان، وأهل السنن إلا النسائي؛ عن أبي هريرة رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «احتج آدم وموسى عليهما السلام، فقال موسى: يا آدم! أنت أبونا خيبتنا وأخرجتنا من الجنة. فقال له آدم: يا موسى! أنت اصطفاك الله بكلامه (وقال مرة: برسالته) ، وخط لك بيده؛ أتلومني على أمر قدره الله علي قبل أن يخلقني بأربعين سنة؟ ". قال: "حج آدم موسى حج آدم موسى» .
هذا لفظ إحدى روايات أحمد، ونحوه للبخاري.
وفي رواية لأحمد: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لقي آدم موسى، فقال: أنت آدم الذي خلقك الله بيده» ..... الحديث.
ورواه عبد الله ابن الإمام أحمد في كتاب "السنة" من طريق أبيه.
وروى ابن حبان في "صحيحه «عن أبي ذر رضي الله عنه؛ قال: قلت:»(3/316)
«يا رسول الله! كم الرسل؟ قال: "ثلاث مائة وثلاثة عشر جما غفيرا". قلت: يا رسول الله! من كان أولهم؟ قال: " آدم عليه السلام". قلت: يا رسول الله! أنبي مرسل؟ قال: "نعم؛ خلقه الله بيده، ونفخ فيه من روحه، وكلمه قبلا» .
وروى ابن حبان أيضا عن أبي هريرة رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لما خلق الله آدم، ونفخ فيه الروح؛ عطس، فقال: الحمد لله ... (الحديث، وفيه:) وقال الله جل وعلا ويداه مقبوضتان: اختر أيهما شئت. فقال: اخترت يمين ربي، وكلتا يدي ربي يمين مباركة، ثم بسطها؛ فإذا فيها آدم وذريته» .... الحديث.
وروى مالك في "الموطأ" عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله خلق آدم، ثم مسح ظهره بيمينه، فاستخرج منه ذرية» ....... الحديث.
ورواه: الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن حبان في "صحيحه"؛ من طريق مالك، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن".
وفي "الصحيحين" و"سنن" أبي داود وابن ماجه عن ابن عمر رضي الله عنهما؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يطوي الله عز وجل السماوات يوم القيامة، ثم يأخذهن بيده اليمنى، ثم يقول: أنا الملك؛ أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ ثم يطوي الأرضين بشماله، ثم يقول: أنا الملك؛ أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟» .
هذا لفظ إحدى روايات مسلم.
وفي رواية له «عن عبيد الله بن مقسم: أنه نظر إلى عبد الله بن عمر رضي»(3/317)
«الله عنهما كيف يحكي رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: " يأذخ الله عز وجل سماواته وأرضيه بيديه، ويقول: أنا الله، ويقبض أصابعه ويبسطها، ويقول: أنا الملك "، حتى نظرت إلى المنبر يتحرك من أسفل شيء منه، حتى إني أقول: أساقط هو برسول الله صلى الله عليه وسلم؟» !
وروى: البخاري، وابن ماجه أيضا؛ عن أبي هريرة رضي الله عنه؛ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يقبض الله الأرض يوم القيامة، ويطوي السماء بيمينه، ثم يقول: أنا الملك؛ أين ملوك الأرض» .
وفي "صحيح البخاري " أيضا، و"مسند الإمام أحمد "، و"سنن ابن ماجه "؛ عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يد الله ملأى، لا يغيضها نفقة، سحاء الليل والنهار". وقال: "أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماوات والأرض؟ فإنه لم يغض ما في يده". وقال: "عرشه على الماء، وبيده الأخرى الميزان؛ يخفض ويرفع» .
هذا لفظ البخاري. ورواه الإمام أحمد أيضا ومسلم مختصرا.
وروى عبد الله ابن الإمام أحمد في كتاب "السنة" عن النواس بن سمعان رضي الله عنه: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «الميزان بيد الرحمن؛ يرفع أقواما ويخفض آخرين إلى يوم القيامة، وقلب ابن آدم بين أصابع الرحمن: إذا شاء أقامه، وإذا شاء أزاغه". وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "يا مقلب القلوب! ثبت قلبي على دينك» .
وقد رواه ابن ماجه بنحوه. قال في "الزوائد": "وإسناده صحيح".
وروى: الإمام أحمد، والشيخان، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه؛ عن أبي هريرة رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن العبد إذا تصدق»(3/318)
«من طيب؛ تقبلها الله منه، وأخذها بيمينه، ورباها كما يربي أحدكم مهره أو فصيله، وإن الرجل ليتصدق باللقمة، فتربو في يد الله (أو قال: في كف الله) حتى تكون مثل الجبل؛ فتصدقوا» .
هذا لفظ إحدى روايات أحمد.
والأحاديث في إثبات صفة اليد لله تعالى كثيرة جدا، وفيما ذكرته هاهنا كفاية إن شاء الله تعالى.
الفائدة الثانية والعشرون: إثبات صفة الفعل لله تعالى.
والقرآن مملوء من الأدلة على إثبات صفات الأفعال لله تعالى، وكذلك السنة، والذي عليه أهل السنة والجماعة إثبات صفات الأفعال لله تعالى إثباتا بلا تمثيل وتنزيها بلا تحريف ولا تعطيل.
الفائدة الثالثة والعشرون: تبييض وجوه المسلمين يوم القيامة وتسويد وجوه الكافرين.
ويشهد لهذا قول الله تعالى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} .
قال ابن عباس رضي الله عنهما: "تبيض وجوه أهل السنة، وتسود وجوه أهل البدعة".
وروى الترمذي، وابن حبان في "صحيحه"، والبزار من حديث السدي؛ عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في «قوله تعالى: {يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ} ؛ قال: "يدعي أحدهم، فيعطى كتابه بيمينه، ويمد له في جسمه ستون ذراعا، ويبيض وجهه، ويجعل على رأسه تاج من لؤلؤ يتلألأ".
»(3/319)
«قال: "فينطلق إلى أصحابه، فيرونه من بعيد، فيقولون: اللهم ائتنا بهذا وبارك لنا في هذا، حتي يأتيهم، فيقول لهم: أبشروا؛ فإن لكل رجل منكم مثل هذا، وأما الكافر؛ فيعطى كتابه بشماله، مسودا وجهه، ويمد له في جسمه ستون ذراعا على صورة آدم، ويلبس تاجا من نار، فيراه أصحابه، فيقولون: نعوذ بالله من شر هذا، اللهم لا تأتنا بهذا". قال: "فيأتيهم، فيقولون: اللهم أخزه، فيقول: أبعدكم الله؛ فإن لكل رجل منكم مثل هذا» .
قال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب".
الفائدة الرابعة والعشرون: إثبات الصراط ومرور الخلق عليه.
ويشهد لهذا قول الله تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا} .
وقد روى الإمام أحمد عن أبي سمية؛ قال: اختلفنا هاهنا في الورود، فقال بعضنا: لا يدخلها مؤمن، وقال بعضنا: يدخلونها جميعا، ثم ينجي الله الذي اتقوا، فلقيت جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، فقلت: إنا اختلفنا في ذلك الورود، فقال بعضنا: لا يدخلها مؤمن، وقال بعضنا: يدخلونها جميعا. فأهوى بأصبعيه إلى أذنيه، وقال: صمتا؛ إن لم أكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «الورود الدخول، لا يبقى بر ولا فاجر إلا دخلها، فتكون على المؤمن بردا وسلاما كما كانت على إبراهيم، حت إن للنار (أو قال: لجهنم) ضجيجا من بردهم، ثم ينجي الله الذين اتقوا ويذر الظالمين فيها جثيا» .
قال الهيثمي: "رجاله ثقات". وقد رواه الحاكم في "مستدركه"، وقال "صحيح الإسناد ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي في "تلخيصه".
وروى الحاكم أيضا عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يرد الناس النار، ثم يصدرون عنها بأعمالهم، فأولهم كلمح البرق،»(3/320)
«ثم كالريح، ثم كحضر الفرس، ثم كالراكب في رحلة، ثم كشد الرجل، ثم كمشيه» .
قال الحاكم: "صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي في "تلخيصه".
وروى: الإمام أحمد، والشيخان، والترمذي؛ عن أبي هريرة رضي الله عنه: «أن الناس قالوا: يا رسول الله! هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فذكر الحديث بطوله، وفيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ويضرب الصراط بين ظهراني جهنم؛ فأكون أول من يجوز من الرسل بأمته، ولا يتكلم يومئذ أحد إلا الرسل، وكلام الرسل يومئذ: اللهم سلم سلم، وفي جهنم كلاليب مثل شوك السعدان، هل رأيتم شوك السعدان؟ ". قالوا: نعم. قال: "فإنها مثل شوك السعدان؛ غير أنه لا يعلم قدر عظمها إلا الله تعالى، تخطف الناس بأعمالهم؛ فمنهم من يوبق بعمله، ومنهم المخردل ثم ينجو» ...... الحديث.
وروى: الإمام أحمد، والشيخان أيضا؛ عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه؛ قال: «قلنا: يا رسول الله! هل نرى ربنا يوم القيامة؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نعم.... (فذكر الحديث بطوله، وفيه:) ثم يضرب الجسر على جهنم، وتحل الشفاعة، ويقولون: اللهم سلم سلم". قيل: يا رسول الله! وما الجسر؟ قال: "دحض مزلة، فيه خطاطيف وكلاليب وحسكة تكون بنجد فيها شويكة يقال لها: السعدان، فيمر المؤمنون كطرف العين وكالبرق والريح وكالطير وكأجاويد الخيل والركاب؛ فناج مسلم، ومخدوش مرسل، ومكدوس في نار جهنم» ...... الحديث.
وروى مسلم أيضا عن أبي هريرة وحذيفة رضي الله عنهما؛ قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يجمع الله تبارك وتعالى الناس ... (الحديث، وفيه:) وترسل»(3/321)
«الأمانة والرحم، فتقومان جنبتي الصراط يمينا وشمالا، فيمر أولكم كالبرق، ثم كمر الريح، ثم كمر الطير، وشد الرجال؛ تجري بهم أعمالهم، ونبيكم قائم على الصراط؛ يقول: رب سلم سلم، حتى تعجز أعمال العباد، حتى يجيء الرجل؛ فلا يستطيع السير إلا زحفا". قال: "وفي حافتي الصراط كلاليب معلقة مأمورة بأخذ من أمرت به؛ فمخدوش ناج، ومكدوس في النار» .
وروى: الإمام أحمد، ومسلم، وعبد الله ابن الإمام أحمد؛ عن أبي الزبير: أنه سمع جابر بن عبد الله رضي الله عنهما يسأل عن الورود، فقال: «نجيء نحن يوم القيامة على كذا فوق الناس، فتدعى الأمم بأوثانها وما كانت تعبد: الأول فالأول، ثم يأتينا ربنا بعد ذلك، فيقول: من تنظرون؟ فيقولون: ننظر ربنا. فيقول: أنا ربكم. فيقولون: حتى ننظر إليك. فيتجلى لهم يضحك". قال: "فينطلق بهم ويتبعونه، ويعطى كل إنسان منهم منافق أو مؤمن نورا، ثم يتبعونه، وعلى جسر جهنم كلاليب وحسك، تأخذ من شاء الله، ثم يطفأ نور المنافقين، ثم ينجو المؤمنون» ...... الحديث.
وروى الإمام أحمد أيضا عن عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ولجهنم جسر أرق من الشعرة، وأحد من السيف، عليه كلاليب وحسك يأخذان من شاء الله، والناس عليه كالطرف وكالبرق وكالريح وكأجاويد الخيل والركاب، والملائكة يقولون: رب سلم سلم، فناج مسلم، ومخدوش، ومكور في النار على وجهه» .
قال الهيثمي: "فيه ابن لهيعة، وهو ضعيف وقد وثق، وبقية رجاله رجال الصحيح".
وروى الإمام أحمد أيضا عن أبي بكرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ قال: «يحمل الناس على الصراط يوم القيامة، فتتقادع بهم جنبتا الصراط تقادع»(3/322)
«الفراش في النار، فينجي الله تعالى برحمته من يشاء» .
قال الهيثمي: "رجاله رجال الصحيح". قال: "رواه الطبراني في "الصغير" و"الكبير" بنحوه، ورواه البزار أيضا، ورجاله رجال الصحيح".
وروى الطبراني عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه؛ قال: «يوضع الصراط على سواء جهنم مثل حد السيف المرهف مدحضة مزلة عليه كلاليب من نار تخطف بها؛ فممسك يهوي فيها ومصروع، ومنهم من يمر كالبرق فلا ينشب ذلك أن ينجو، ثم كالريح فلا ينشب ذلك أن ينجو، ثم كجري الفرس، ثم كسعي الرجل، ثم كرمل الرجل، ثم كمشي الرجل» ... الحديث.
قال الهيثمي: "رجاله رجال الصحيح؛ غير عاصم، وقد وثق ".
وروى الحاكم في "مستدركه" عن أبي الزعراء عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه حديثا طويلا قال فيه: «ثم يؤمر بالصراط، فيضرب على جهنم، فيمر الناس كقدر أعمالهم زمرا كلمح البرق، ثم كمر الريح، ثم كمر الطير، ثم كأسرع البهائم، ثم كذلك، حتى يمر الرجل سعيا، ثم مشيا، ثم يكون آخرهم رجلا يتلبط على بطنه". قال: "فيقول: أي رب! لماذا أبطأت بي؟ فيقول: لم أبطئ بك، إنما أبطأ بك عملك» .... الحديث.
قال الحاكم: "صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي في موضع من "تلخيصه"، وقال في موضع آخر: "ما احتجا بأبي الزعراء ".
قلت: ولحديثه هذا شواهد كثيرة من الأحاديث الصحيحة التي تقدم ذكرها.
وقد جاء في ذكر الصراط أحاديث كثيرة سوى ما ذكرته هاهنا، وفيما ذكرته كفاية إن شاء الله تعالى.(3/323)
الفائدة الخامسة والعشرون: إثبات كلام الرب تبارك وتعالى لمن شاء في الدار الآخرة.
وقد جاء ذكره في حديث أبي رزين رضي الله عنه في موضعين.
الأول: قوله: "فيقول ربك: مهيم".
والثاني: قوله: "يقول ربك عز وجل: أو أنه".
وقد ثبت أيضا تكليم الرب تبارك وتعالى لبعض الرسل في الدنيا وتكليمه لبعض الشهداء في البرزخ.
فأما تكليمه لبعض الرسل في الدنيا:
فقد قال تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ} .
وقال تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} .
وقال تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} .
وقال تعالى: {قَالَ يَامُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي} .
وقال تعالى: {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا} .
إلى غير ذلك من الآيات في نداء الرب تبارك وتعالى لموسى عليه الصلاة والسلام.
وقد كلم الله تبارك وتعالى رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء، وفرض عليه الصلوات الخمس بدون واسطة بينه وبينه، والأحاديث بذلك مذكورة في "الصحيحين" وغيرهما من وجوه كثيرة.(3/324)
وروى الإمام أحمد «عن أبي ذر رضي الله عنه؛ قال: قلت: يا رسول الله! أي الأنبياء كان أول؟ قال: " آدم ". قلت: يا رسول الله! ونبي كان؟ قال: "نعم؛ نبي مكلم» .
وروى الحاكم في "مستدركه «عن أبي أمامة رضي الله عنه: أن رجلا قال: يا رسول الله! أنبي كان آدم؟ قال: "نعم؛ معلم مكلم» .
قال الحاكم: "صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي في "تلخيصه".
وروى ابن حبان في "صحيحه «عن أبي ذر رضي الله عنه؛ قال: "قلت: يا رسول الله! كم الرسل؟ قال: "ثلاث مائة وثلاثة عشر جما غفيرا". قلت: يا رسول الله! من كان أولهم؟ قال: "آدم عليه السلام". قلت: يا رسول الله! أنبي مرسل؟ قال: "نعم؛ خلقه الله بيده، ونفخ فيه من روحه، وكلمه قبلا» .
قوله: "قبلا": قال ابن الأثير في "النهاية". "أي: عيانا ومقابلة، لا من وراء حجاب، ومن غير أن يولي أمره أو كلامه أحدا من ملائكته". انتهى.
وروى: ابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن خزيمة؛ عن النواس بن سمعان رضي الله عنه؛ قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أراد الله تبارك وتعالى أن يوحي بأمره؛ تكلم بالوحي، فإذا تكلم بالوحي؛ أخذت السماوات منه رجفة (أو قال: رعدة شديدة) من خوف الله تعالى، فإذا سمع بذلك أهل السماوات؛ صعقوا وخروا لله سجدا، فيكون أول من يرفع رأسه جبريل عليه السلام، فيكلمه الله من وحيه بما أراد، فيمضي به جبريل على الملائكة، كلما مر بسماء؛ سأله ملائكتها: ماذا قال ربنا يا جبريل؟ فيقول: قال الحق وهو العلي الكبير. فيقولون كلهم مثل ما قال جبريل، فينتهي جبريل بالوحي إلى حيث أمره الله تعالى من السماء والأرض» .(3/325)
وأما تكليم الرب لبعض الشهداء:
ففي "صحيح مسلم " عن مسروق؛ قال: سألنا عبد الله (يعني: ابن مسعود رضي الله عنه) عن هذه الآية: « {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} ، فقال: أما إنا قد سألنا عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "أرواحهم في جوف طير خضر، لها قناديل معلقة بالعرش، تسرح من الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى تلك القناديل، فاطلع عليهم ربهم اطلاعة، فقال: هل تشتهون شيئا؟ فقالوا: أي شيء نشتهي ونحن نسرح من الجنة حيث شئنا؟! ففعل بهم ذلك ثلاث مرات، فلما رأوا أنهم لن يتركوا من أن يسألوا. قالوا: يا رب! نريد أن ترد أرواحنا في أجسادنا، حتى نقتل في سبيلك مرة أخرى. فلما رأى أن ليس لهم حاجة؛ تركوا» .
وروى: ابن مردويه، والبيهقي في "دلائل النبوة"؛ عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما؛ قال: «نظر إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم، فقال: "يا جابر! ما لي أراك مهتما؟ ". قال: قلت: يا رسول الله! استشهد أبي وترك دينا وعيالا. قال: فقال: "ألا أخبرك؟ ما كلم الله أحدا قط إلا من وراء حجاب، وإنه كلم أباك كفاحا (قال علي - وهو ابن المديني أحد رواته -: والكفاح: المواجهة) قال: سلني أعطك. قال: أسألك أن أرد إلى الدنيا، فأقتل فيك ثانية. فقال الرب عز وجل: إنه قد سبق مني القول أنهم إليها لا يرجعون. قال: أي رب! فأبلغ من ورائي. فأنزل الله: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا} . الآية.»
وقد رواه: الترمذي، وابن ماجه؛ بنحوه. وقال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب".
وأما تكليم الرب تبارك وتعالى لمن شاء في الدار الآخرة؛ فقد ثبت أنه(3/326)
ينادي العباد عامة ويكلمهم، وثبت أنه يكلم الرسل، وجاء أنه يكلم العلماء، وثبت أنه يكلم المذنبين، وثبت أنه يكلم عموم المؤمنين في الجنة، وثبت أنه ينادي الكفار يوم القيامة ويكلمهم على سبيل التوبيخ والتقريع.
فأما نداؤه العباد عامة وتكليمه لهم:
ففي "مسند الإمام أحمد " عن عبد الله بن أنيس رضي الله عنه؛ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يحشر الناس يوم القيامة (أو قال: العباد) عراة غرلا بهما". قال: قلنا: وما بهما؟ قال: "ليس معهم شيء، ثم يناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب: أنا الملك! أنا الديان! لا ينبغي لأحد من أهل النار أن يدخل النار وله عند أحد من أهل الجنة حق حتى أقصه منه، ولا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة ولأحد من أهل النار عنده حق حتى أقصه منه، حتى اللطمة". قال: قلنا: كيف؛ وإنما نأتي الله عز وجل عراة غرلا بهما. قال: "بالحسنات والسيئات» .
قال الهيثمي: "رجاله وثقوا، ورواه الطبراني في "الأوسط" بنحوه". وقال الهيثمي أيضا في موضع آخر: "هو عند أحمد والطبراني في "الأوسط" بإسناد حسن". وقال المنذري: "رواه أحمد بإسناد حسن".
وقد رواه الحاكم في "مستدركه"، ولفظه: قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يحشر الله العباد (أو قال: الناس) عراة غرلا بهما". قال: قلنا: ما بهما؟ قال: "ليس معهم شيء، ثم يناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب: أنا الملك! أنا الديان! لا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة ولا ينبغي لأحد من أهل النار أن يدخل النار وعنده مظلمة حتى أقصه منه حتى اللطمة". قال: قلنا: كيف ذا وإنما نأتي الله غرلا بهما؟! قال: "بالحسنات والسيئات". قال: وتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم:»(3/327)
« {الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ} » .
قال الحاكم: "صحيح الإسناد ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي في "تلخيصه".
وفي "الصحيحين" واللفظ للبخاري عن عدي بن حاتم رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان ولا حجاب يحجبه» .
وأما تكليم الرب تبارك وتعالى للرسل:
فقد قال تعالى: {يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ إِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} .
وقال تعالى: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ} ... الآية.
وروى: الإمام أحمد، والبخاري؛ عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أول من يدعى يوم القيامة آدم، فتراءى ذريته، فيقال: هذا أبوكم آدم، فيقول: لبيك وسعديك، فيقول: أخرج بعث جهنم من ذريتك، فيقول: يا رب! كم أخرج؟ فيقول: أخرج من كل مائة تسعة وتسعين» ....." الحديث.(3/328)
وروى: الإمام أحمد، والشيخان واللفظ للبخاري؛ عن أبي سعيد رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يقول الله تعالى يوم القيامة: يا آدم! فيقول لبيك ربنا وسعديك. فينادى بصوت: إن الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثا إلى النار. قال: يا رب! وما بعث النار؟ قال: من كل ألف أراه قال: تسع مائة وتسعه وتسعين» ....... الحديث.
وأما تكليم الرب تبارك وتعالى للعلماء:
فيروى الطبراني عن ثعلبة بن الحكم؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يقول الله تعالى للعلماء إذا جلس على كرسيه لفصل القضاء: إني لم أجعل علمي وحكمتي فيكم إلا وأنا أريد أن أغفر لكم على ما كان منكم ولا أبالي» .
وأما تكليم ربك تبارك وتعالى للمذنبين:
فروى: الإمام أحمد، والشيخان، وغيرهم؛ عن ابن عمر رضي الله عنهما؛ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله عز وجل يدني المؤمن، فيضع عليه كنفه، ويستره من الناس، ويقرره بذنوبه، ويقول له: أتعرف ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟ حتى إذا قرره بذنوبه، ورأى في نفسه أنه قد هلك؛ قال: فإني قد سترتها عليك في الدنيا، وإني أغفرها لك اليوم، ثم يعطى كتاب حسناته، وأما الكفار والمنافقون؛ فيقول الأشهاد: هؤلاء الذين كذبوا على ربهم، ألا لعنة الله على الظالمين» .
وأما تكليم الرب تبارم وتعالى لعموم المؤمنين في الجنة:
فقد روى: أبو داود الطيالسي، والطبراني؛ عن معاذ بن جبل رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن شئتم أنبأتكم بأول ما يقول الله عز وجل للمؤمنين يوم القيامة وبأول ما يقولون". قالوا: نعم يا رسول الله! قال: "إن الله»(3/329)
«عز وجل يقول للمؤمنين: هل أحببتم لقائي؟ فيقولون: نعم يا ربنا! فيقول: لم؟ فيقولون: رجونا عفوك ورحمتك. فيقول: فإني قد أوجبت لكم رحمتي» .
قال الهيثمي: " رواه الطبراني بسندين أحدهما حسن".
وتقدم قريبا حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بينا أهل الجنة في نعيمهم؛ إذ سطع عليهم نور، فرفعوا رؤوسهم؛ فإذ الرب عز وجل قد أشرف عليهم من فوقهم، فقال: السلام عليكم يا أهل الجنة! فذلك قوله تعالى: {سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} ". قال: "فينظر إليهم وينظرون إليه؛ فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم ما داموا ينظرون إليه، حتى يحتجب عنهم، ويبقى نوره وبركته عليهم في ديارهم» .
رواه: ابن ماجه، وابن أبي حاتم، والبغوي.
وفي "الصحيحين" وغيرهما عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة! فيقولون: لبيك ربنا وسعديك، والخير في يديك. فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى يا رب وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك؟! فيقول: ألا أعطيكم أفضل من ذلك؟ فيقولون: يا رب! وأي شيء أفضل من ذلك؟ فيقول: أحل عليكم رضواني؛ فلا أسخط عليكم بعده أبدا» .
والأحاديث في تكليم الرب تبارك وتعالى لأهل الجنة كثيرة.
وأما نداء الرب تبارك وتعالى للكفار يوم القيامة ومخاطبته لهم على سبيل التقريع والتوبيخ:
فقد قال تعالى: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} .(3/330)
وقال تعالى: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ} .
وروى الترمذي عن أبي هريرة وأبي سعيد رضي الله عنهما؛ قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يؤتى بالعبد يوم القيامة، فيقول له: ألم أجعل لك سمعا وبصرا ومالا وولدا وسخرت لك الأنعام والحرث وتركتك ترأس وتربع فكنت تظن أنك ملاقي يومك هذا؟! فيقول: لا. فيقول له: اليوم أنساك كما نسيتني» .
قال الترمذي: "هذا حديث صحيح غريب. ومعنى قوله: "اليوم أنساك كما نسيتني": اليوم أتركك في العذاب. وكذا فسر بعض أهل العلم هذه الآية: {فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ} ؛ قالوا: معناه: اليوم نتركهم في العذاب". انتهى كلام الترمذي.
وقال ابن كثير في "النهاية": "هذا فيه صراحة عظيمة في تكليم الله تعالى ومخاطبته لعبده الكافر". انتهى.
وفي "صحيح مسلم " عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يلقى العبد ربه، فيقول: أي فل! ألم أكرمك وأسودك وأزوجك وأسخر لك الخيل والإبل وأذرك ترأس وتربع؟! فيقول: بلى يا رب! فيقول: أظننت أنك ملاقي؟ فيقول: لا. فيقول: فإني أنساك كما نسيتني. ثم يلقى الثاني، فيقول: أي فل! ألم أكرمك وأسودك وأزوجك وأسخر لك الخيل والإبل وأذرك ترأس وتربع؟! فيقول: بلى يا رب! فيقول: أظننت أنك ملاقي؟ فيقول: لا. فيقول: فإني أنساك كما نسيتني. ثم يلقى الثالث، فيقول: أي فل! ألم أكرمك وأسودك وأزوجك وأسخر لك الخيل والإبل وأذرك ترأس وتربع؟! فيقول: بلى يا رب! فيقول: أظننت أنك ملاقي؟ فيقول: أي رب! آمنت بك وبكتابك وبرسلك، وصليت وصمت وتصدقت، ويثني بخير ما استطاع. فيقول: هاهنا إذا، ثم»(3/331)
«يقول: الآن نبعث شاهدا عليك. فيتفكر في نفسه: من ذا الذي يشهد عليه؟ فيختم الله على فيه، ويقال لفخذه: انطقي. فتنطق فخذه ولحمه وعظمه بعمله، وذلك ليعذر من نفسه، وذلك المنافق الذي يسخط الله عليه» .
قوله: "أي فل! "؛ أي: يا فلان. قال المنذري: "حذفت منه الألف والنون لغير ترخيم؛ إذ لو كان ترخيما؛ لما حذفت الألف". وقال ابن الأثير في "النهاية": "معناه: يا فلان! وليس ترخيما له؛ لأنه لا يقال إلا بسكون اللام، ولو كان ترخيما؛ لفتحوها أو ضموها". قال سيبويه: "ليست ترخيما، وإنما هي صيغة ارتجلت في باب النداء، وقد جاء في غير النداء؛ قال:
في لجة أمسك فلانا عن فل
فكسر اللام للقافية". وقال الأزهري: "ليس بترخيم فلان، ولكنها كلمة على حدة، فبنو أسد يوقعونها على الواحد والاثنين والجمع والمؤنث بلفظ واحد، وغيرهم يثني ويجمع ويؤنث، وفلان وفلانة كناية عن الذكر والأنثى من الناس، فإن كنيت بهما عن غير الناس؛ قلت: الفلان والفلانة، وقال قوم: إنه ترخيم فلان، فحذفت النون للترخيم، والألف لسكونها، وتفتح اللام وتضم على مذهبي الترخيم". انتهى.
وقوله: "أسودك"؛ بتشديد الواو وكسرها؛ أي: أجعلك سيدا في قومك.
وقوله: "ترأس"؛ بفتح التاء وإسكان الراء وفتح الهمزة؛ أي: تصير رئيسا. قال ابن الأثير في "النهاية": "رأس القوم يترأسهم رئاسة إذا صار رئيسهم ومقدمهم".
وقوله: "وتربع"؛ بفتح التاء والباء الموحدة. قال ابن الأثير: "أي: تأخذ ربع الغنيمة؛ يقال: ربعت القوم أربعهم: إذا أخذت ربع أموالهم؛ مثل: عشرتهم أعشرهم؛ يريد: ألم أجعلك رئيسا مطاعا؛ لأن الملك كان يأخذ الربع(3/332)
من الغنيمة في الجاهلية دون أصحابه، ويسمى ذلك الربع: المرباع". انتهى.
الفائدة السادسة والعشرون: إثبات حوض النبي صلى الله عليه وسلم في الدار الآخرة وقد تواترت الأحاديث بذلك.
قال ابن كثير في "النهاية": "ذكر ما ورد في الحوض النبوي المحمدي من الأحاديث المتواترة المتعددة من الطرق الكثيرة المتظاهرة، وإن رغمت أنوف كثيرة من المبتدعة المعاندة المكابرة القائلين بجحوده المنكرين لوجوده، وأخلق بهم أن يحال بينهم وبين وروده، كما قال بعض السلف: من كذب بكرامة لم ينلها. ولو اطلع المنكر للحوض على ما سنورده من الأحاديث قبل مقالته؛ لم يقلها.
روي ذلك عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم؛ منهم: أبي بن كعب، وأنس بن مالك، والحسن بن علي، وحمزة بن عبد المطلب، والبراء بن عازب، وبريدة بن الحصيب، وثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجابر بن سمرة، وجابر بن عبد الله، وجندب بن عبد الله البجلي، وحارثة بن وهب، وحذيفة بن أسيد، وحذيفة بن اليمان، وزيد بن أرقم، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر، وعبد لله بن عمرو بن العاص، وعبد الله بن مسعود، وعتبة بن عبد السلمي، وعثمان بن مظعون، والمستورد، وعقبة بن عامر الجهني، والنواس بن سمعان، وأبو أمامة الباهلي، وأبو برزة الأسلمي، وأبو بكرة، وأبو ذر الغفاري، وأبو سعيد الخدري، وخولة بنت قيس، وأبو هريرة الدوسي، وأسماء بنت أبي بكر، وعائشة، وأم سلمة؛ رضي الله عنهم أجمعين، وامرأة حمزة عم الرسول صلى الله عليه وسلم وهي من بني النجار ".
وقد ساق ابن كثير هذه الأحاديث مستوفاة من جميع طرقها سوى روايتي البراء بن عازب وخولة بنت قيس رضي الله عنها؛ فإنه لم يذكرهما، وقد أشار(3/333)
إلى رواية البراء بن عازب في بعض الروايات عن عبد الله بن عمرو بن العاص، وزاد على ما تقدم ذكره خمسة أحاديث عن عمر بن الخطاب وسلمان الفارسي وسمرة بن جندب وسهل بن سعد وعبد الله بن زيد بن عاصم المازني رضي الله عنهم، فمن أراد الوقوف على هذه الأحاديث؛ فليراجعها في كتاب "النهاية" لابن كثير.
وقد ذكر الهيثمي حديث خولة بنت قيس في "مجمع الزوائد"، وذكر أنها هي زوجة حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه، وذكر أيضا حديث البراء بن عازب رضي الله عنهما، وساق جملة من الأحاديث التي ذكرها ابن كثير، وزاد معها أربعة أحاديث لم يذكرها ابن كثير، وهي عن أبي الدرداء وأبي مسعود والعرباض بن سارية وخولة بنت حكيم رضي الله عنهم.
فهؤلاء مع ما ذكره ابن كثير اثنان وأربعون صحابيا رووا أحاديث الحوض عن النبي صلى الله عليه وسلم.
الفائدة السابعة والعشرون: تطهير أهل الجنة من الطوف - وهو الغائط - ومن البول والأذى.
ويشهد لهذا ما رواه: الإمام أحمد، والشيخان، والترمذي، وابن ماجه؛ عن أبي هريرة رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أول زمرة تدخل الجنة على صورة القمر ليلة البدر، ثم الذين يلونهم على أشد ضوء كوكب دري في السماء إضاءة؛ لا يبولون، ولا يتغوطون، ولا يتفلون، ولا يمتخطون؛ أمشاطهم الذهب، ورشحهم المسك، ومجاهرهم الألوة، وأزواجهم الحور العين، أخلاقهم على خلق رجل واحد، على صورة أبيهم آدم، في طول ستين ذراعا» .
وروى: الإمام أحمد، ومسلم أيضا، وأبو داود؛ عن جابر بن عبد الله(3/334)
رضي الله عنهما؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أهل الجنة يأكلون فيها ويشربون ولا يتغوطون ولا يبولون ولا يمتخطون ولا يبزقون، طعامهم جشاء ورشح كرشح المسك» .
وروى: الإمام أحمد أيضا، والنسائي، وابن حبان في "صحيحه"؛ عن زيد بن أرقم رضي الله عنه؛ قال: «أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل من اليهود، فقال: يا أبا القاسم! ألست تزعم أن أهل الجنة يأكلون فيها ويشربون؟ وقال لأصحابه: إن أقر لي بهذه خصمته. قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بلى، والذي نفسي بيده؛ إن أحدهم ليعطى قوة مائة رجل في المطعم والمشرب والشهوة والجماع". قال اليهودي: إن الذي يأكل ويشرب تكون له الحاجة. قال: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "حاجة أحدهم عرق يفيض من جلودهم مثل ريح المسك، فإذا البطن قد ضمر» .
ورواه الطبراني والبزار أيضا. قال الهيثمي: "ورجال أحمد والبزار رجال الصحيح؛ غير ثمامة بن عقبة، وهو ثقة".
الفائدة الثامنة والعشرون: حبس الشمس والقمر يوم القيامة.
ويشهد لهذا ما رواه البخاري في "صحيحه" عن عبد الله الداناج؛ قال: حدثني أبو سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ قال: «الشمس والقمر مكوران يوم القيامة» .
ورواه البزار بإسناد صحيح على شرط مسلم، ولفظه: عن عبد الله الداناج؛ قال: سمعت أبا سلمة بن عبد الرحمن زمن خالد بن عبد الله القسري في هذا المسجد مسجد الكوفة، وجاء الحسن، فجلس إليه، فحدث؛ قال: حدثنا أبو هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الشمس والقمر ثوران في النار عقيران يوم القيامة ". فقال الحسن: وما ذنبهما؟ فقال: أحدثك»(3/335)
«عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقول: وما ذنبهما؟!»
الفائدة التاسعة والعشرون: إثبات الجزاء بالحسنات والسيئات. والقرآن والسنة مملوآن من الأدلة على ذلك.
الفائدة الثلاثون: إثبات وجود الجنة والنار. والقرآن والسنة مملوآن من الأدلة على ذلك.
قال ابن كثير في "النهاية": "والجنة والنار موجودتان الآن؛ فالجنة معدة للمتقين، والنار معدة للكافرين؛ كما نطق بذلك القرآن العظيم، وتواترت بذلك الأخبار عن رسول رب العالمين. وهذا اعتقاد أهل السنة والجماعة المتمسكين بالعروة الوثقى، وهي السنة، إلى قيام الساعة؛ خلافا لمن زعم أن الجنة والنار لم تخلقا بعد، وإنما تخلقان يوم القيامة. وهذا القول صدر ممن لم يطلع على الأحاديث المتفق على إخراجها في "الصحيحين" وغيرهما من كتب الإسلام المعتمدة المشهورة بالأسانيد الصحيحة والحسنة مما لا يمكن دفعه ولا رده لتواتره واشتهاره". انتهى.
الفائدة الحادية والثلاثون: ذكر أبواب الجنة وأبواب النار وما بين كل بابين من بعد المسافة.
ويشهد لهذا قول الله تعالى: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} .
وقوله تعالى: {جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ} .(3/336)
وقوله تعالى: {وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} .
وقوله تعالى: {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ} .
وروى: مالك، وأحمد، والشيخان، والترمذي، والنسائي؛ عن أبي هريرة رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أنفق زوجين من ماله في سبيل الله؛ دعي من أبواب الجنة، وللجنة أبواب، فمن كان من أهل الصلاة؛ دعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الصدقة؛ دعي من باب الصدقة، ومن كان من أهل الجهاد؛ دعي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصيام؛ دعي من باب الريان". فقال أبو بكر رضي الله عنه: والله يا رسول الله؛ ما على أحد من ضرورة من أيها دعي؛ فهل يدعى منها كلها أحد يا رسول الله؟ قال: "نعم؛ وإني أرجو أن تكون منهم» .
وفي "الصحيحين" وغيرهما عن سهل بن سعد رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن في الجنة ثمانية أبواب، باب منها يسمى الريان، لا يدخله إلا الصائمون» .
وفي "صحيح مسلم " عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما منكم من أحد يتوضأ، فيبلغ (أو: فيسبغ) الوضوء، ثم يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله؛ إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية؛ يدخل من أيها شاء» .
ورواه: الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذي بنحوه. قال الترمذي: "وفي الباب عن أنس وعقبة بن عامر ".
قلت: وحديث عقبة بن عامر رضي الله عنه الذي أشار إليه الترمذي قد(3/337)
رواه الإمام أحمد في "مسنده".
وروى الإمام أحمد أيضا عن عمر رضي الله عنه: أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من مات يؤمن بالله واليوم الآخر؛ قيل له: ادخل الجنة من أي أبواب الجنة الثمانية شئت» .
والأحاديث في ذكر أبواب الجنة وأنها ثمانية كثيرة.
وأما أبواب النار؛ فقد تقدم ذكر النص من القرآن على أنها سبعة.
وروى: الإمام أحمد، والترمذي؛ عن ابن عمر رضي الله عنهما: أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «لجهنم سبعة أبواب، باب منها لمن سل سيفه على أمتي (أو قال: أمة محمد) » .
قال الترمذي: "حديث غريب".
وقد جاء في ذكر المسافة بين أبواب الجنة أحاديث مختلفة في ألفاظها، وقد جمع ابن القيم رحمه الله تعالى بين بعضها بجمع حسن؛ قال في الكلام على حديث أبي رزين العقيلي رضي الله عنه.
"وقوله: "ما بين البابين مسيرة سبعين عاما": يحتمل أن يريد به أن بين الباب والباب هذا المقدار، ويحتمل أن يريد بالبابين المصراعين، ولا يناقض هذا ما جاء من تقديره بأربعين عاما؛ لوجهين:
أحدهما: أنه لم يصرح فيه راويه بالرفع، بل قال: "ولقد ذكر لنا أن ما بين المصراعين مسيرة أربعين عاما".
والثاني: أن المسافة تختلف باختلاف سرعة السير فيها وبطئه، والله أعلم".(3/338)
الفائدة الثانية والثلاثون: إثبات نعيم الجنة. والأدلة على ذلك من القرآن والسنة كثيرة جدا يشق حصرها.
الفائدة الثالثة والثلاثون: إثبات الجماع في الجنة، وقد تقدم إيراد الأدلة على ذلك من الكتاب والسنة في الفصل الثاني من الفصول التي في آخر (باب النفخ في الصور) ؛ فلتراجع هناك.
الفائدة الرابعة والثلاثون: أنه ليس في الجنة توالد.
وفي هذه المسألة خلاف بين العلماء؛ قال ابن القيم رحمه الله تعالى في الكلام على حديث أبي رزين رضي الله عنه: "وقوله في نساء الجنة: "غير أن لا توالد": قد اختلف الناس؛ هل تلد نساء أهل الجنة على قولين، فقالت طائفة: لا يكون فيها حبل ولا ولادة، واحتجت هذه الطائفة بهذا الحديث وبحديث آخر - أظنه في "المسند" - وفيه: (غير أن لا مني ولا منية".
قلت: هذا الحديث رواه الطبراني في "الكبير" من حديث أبي أمامة رضي الله عنه، وتقدم في الفصل الثاني بعد (باب النفخ في الصور) .
"وأثبتت طائفة من السلف الولادة في الجنة، واحتجت بما رواه الترمذي في "جامعه" من حديث أبي الصديق الناجي عن أبي سعيد رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المؤمن إذا اشتهى الولد في الجنة؛ كان حمله ووضعه وسنه في ساعة كما يشتهي» . قال الترمذي: "حسن غريب، ورواه ابن ماجه ".
قالت الطائفة الأولى: هذا لا يدل على وقوع الولادة في الجنة؛ فإنه علقه بالشرط، فقال: "إذا اشتهى"، وحكمه لا يشتهى. وهذا تأويل إسحاق بن راهويه، حكاه البخاري عنه.(3/339)
قالوا: والجنة دار خلود؛ لا موت فيها، فلو توالد فيها أهلها على الدوام والأبد؛ لما وسعتهم، وإنما وسعتهم الدنيا بالموت.
وأجابت الطائفة الأخرى عن ذلك كله، وقالت: أداة (إذا) إنما تكون لمحقق الوقوع لا المشكوك فيه، وقد صح أن الله سبحانه وتعالى ينشئ للجنة خلقا يسكنهم إياها بلا عمل منهم. قالوا: وأطفال المسلمين أيضا فيها بغير عمل، وأما حديث سعتها؛ فلو رزق كل واحد عشرة آلاف من الولد؛ لوسعتهم؛ فإن أدناهم من ينظر في ملكه مسيرة ألفي عام. انتهى.
وقد ذكر ابن كثير في "النهاية" رواية الحاكم عن أبي سعيد رضي الله عنه؛ قال: «قيل: يا رسول الله! أيولد لأهل الجنة؟ فإن الولد من تمام السرور؟ فقال: "نعم؛ والذي نفسي بيده؛ ما هو إلا كقدر ما يتمنى أحدكم، فيكون حمله ورضاعه وشبابه» .
قال ابن كثير: "وهذا السياق يدل على أن هذا أمر يقع؛ خلافا لما حكاه البخاري والترمذي عن إسحاق بن راهويه أن ذلك محمول على أنه لو أراد ذلك ولكن لا يريده، ونقل عن جماعة من التابعين كطاوس ومجاهد وإبراهيم وغيرهم أن الجنة لا يولد فيها، وهذا صحيح، وذلك أن جماعهم لا يقتضي ولدا كما هو الواقع في الدنيا، فإن الدنيا دار يراد منها بقاء النسل لتعمر، وأما الجنة فالمراد منها بقاء اللذة، ولهذا؛ لا يكون في جماعهم مني يقطع لذة جماعهم، ولكن إذا أحب أحدهم الولد؛ وقع ذلك كما يريد، قال الله تعالى: {لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ} ". انتهى.
الفائدة الخامسة والثلاثون: ترك الجواب لمن سأل عن الغيب الذي لا يعلمه إلا الله تعالى. ويشهد لهذا:
قول الله تعالى: {يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ} .(3/340)
وقوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ} ... الآية.
وقوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا} .
ولما «قال جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم: أخبرني عن الساعة؛ قال صلى الله عليه وسلم: " ما المسؤول عنها بأعلم من السائل» .
قال ابن القيم رحمه الله تعالى في الكلام على حديث أبي رزين رضي الله عنه: "وقوله: "يا رسول الله! ما أقصى ما نحن بالغون ومنتهون إليه؟ ": لا جواب لهذه المسألة؛ لأنه إن أراد أقصى مدة الدنيا وانتهائها؛ فلا يعلمه إلا الله، وإن أراد أقصى ما نحن منتهون إليه بعد دخول الجنة والنار؛ فلا تعلم نفس أقصى ما ينتهى إليه من ذلك، وإن كان الانتهاء إلى نعيم وجحيم، ولهذا لم يجبه النبي صلى الله عليه وسلم". انتهى.
الفائدة السادسة والثلاثون: المبايعة على التوحيد وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ومفارقة المشركين، ويشهد لهذا:
قول الله تعالى: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} .
وقوله تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} .
وفي "الصحيحين" وغيرهما عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول»(3/341)
«الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك؛ عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله» .
وروى: الإمام أحمد، والبخاري في "تاريخه"، وابن ماجه، والدارقطني، والحاكم؛ عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه.
وروى: الإمام أحمد، وابن ماجه، والدارقطني أيضا؛ عن معاذ بن جبل رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه أيضا.
وروى: النسائي، والدارقطني، والحاكم؛ عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو ذلك أيضا.
إلى غير ذلك من الأحاديث في مبايعة المشركين على التوحيد وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة.
وأما مفارقة المشركين؛ فهي واجبة مع القدرة.
قال الشيخ الموفق في كتاب "المغني": "الناس في الهجرة على ثلاثة أضرب:
أحدها: من تجب عليه، وهو من يقدر عليها ولا يمكنه إظهار دينه ولا تمكنه إقامة واجبات دينه مع المقام بين الكفار؛ فهذا تجب عليه الهجرة؛ لقول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} .
وهذا وعيد شديد يدل على الوجوب، ولأن القيام بواجب دينه واجب على من قدر عليه، والهجرة من ضروب الواجب وتتمته، وما لا يتم الواجب إلا به؛ فهو واجب.
الثاني: من لا هجرة عليه، وهو من يعجز عنها: إما لمرض، أو إكراه على(3/342)
الإقامة، أو ضعف من النساء والولدان وشبههم؛ فهذا لا هجرة عليه؛ لقول الله تعالى: {إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا} ، ولا توصف باستحباب؛ لأنها غير مقدور عليها.
والثالث: من تستحب له ولا تجب عليه، وهو من يقدر عليها، لكنه يتمكن من إظهار دينه وإقامته في دار الكفر، فتستحب له؛ ليتمكن من جهادهم وتكثير المسلمين ومعونتهم، ويتخلص من تكثير الكفار ومخالطتهم ورؤية المنكر بينهم، ولا تجب عليه؛ لإمكان إقامة واجب دينه بدون الهجرة". انتهى.
قال في "الفروع": "وذكر ابن الجوزي أنها تجب عليه؛ أي: على هذا الضرب الأخير". قال: "وأطلق ذلك". انتهى.
وهذا الذي ذكره ابن الجوزي جيد قوي يدل عليه ظاهر القرآن والأحاديث التي سيأتي ذكرها إن شاء الله تعالى.
أما القرآن؛ فإن الله تعالى لم يعذر عن الهجرة إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا، ولو كان للقوي القادر على إظهار دينه في دار الكفر عذر؛ لعذره الله تعالى كما عذر المستضعفين، وقد قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا} ؛ فقطع الموالاة بين من هاجر ومن لم يهاجر، فدل على أنه لا عذر لأحد في ترك الهجرة؛ إلا للمستضعفين الذين نص الله عليهم في سورة النساء.
وأما الأحاديث:
فمنها ما رواه أبو داود عن سمرة بن جندب رضي الله عنه؛ قال: أما بعد، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من جامع المشرك وسكن معه؛ فإنه مثله» .(3/343)
ورواه الترمذي معلقا بصيغة الجزم، فقال: وروى سمرة بن جندب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ قال: «لا تساكنوا المشركين ولا تجامعوهم، فمن ساكنهم أو جامعهم؛ فهو مثلهم» .
ورواه الحاكم في "مستدركه" موصولا من حديث الحسن عن سمرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ قال: «لا تساكنوا المشركين ولا تجامعوهم، فمن ساكنهم أو جامعهم؛ فليس منا» .
قال الحاكم: "صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه"، وقال الذهبي في "تلخيصه": "على شرط البخاري ومسلم ".
وظاهر هذا الحديث العموم لكل من جامع المشركين وساكنهم اختيارا منه لذلك لا اضطرارا وعجزا.
ومنها ما رواه: أبو داود، والترمذي؛ عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين". قالوا: يا رسول الله! لم؟ قال: "لا تراءى ناراهما» .
ورواه الطبراني في "الكبير"، والبيهقي، ولفظهما: قال: «من أقام مع المشركين؛ فقد برئت منه الذمة» .
وفي هذا الحديث والحديث قبله وعيد شديد لمن جامع المشركين وساكنهم اختيارا.
قال الفضل بن زياد: "سمعت أحمد رحمه الله تعالى يسأل عن معنى: «لا تراءى ناراهما» . فقال: لا تنزل من المشركين في موضع إذا أوقدت رأوا فيه نارك، وإذا أوقدوا رأيت فيه نارهم، ولكن تباعد عنهم".
ومنها ما رواه: الإمام أحمد، والبخاري في "تاريخه"، والنسائي، وأبو(3/344)
يعلى؛ عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قال: «لا تستضيئوا بنار المشركين» .
قال بعض العلماء: "معناه: لا تقاربوهم في المنازل بحيث تكونون معهم في بلادهم، بل تباعدوا منهم، وهاجروا من بلادهم".
وقال ابن الأثير: "معناه: لا تستشيروهم، ولا تأخذوا بآرائهم، جعل الضوء مثلا للرأي عند الحيرة".
قلت: وهذا القول مروي عن الحسن البصري.
وعنه أيضا: أنه قال: «نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يستعان بالمشركين على شيء» .
والظاهر أن النهي يشمل الأمرين كليهما؛ فلا يجوز للمسلم مساكنة المشركين اختيارا ولا مشاورتهم والأخذ بآرائهم، والقول الأول أظهر، والدليل على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تراءى ناراهما» ، وقوله في حديث الزهري الذي سيأتي ذكره: "وأنك لا ترى نار مشرك إلا وأنت له حرب". والله أعلم.
ومنها ما رواه: الإمام أحمد، والنسائي، والحاكم؛ عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يقبل الله من مشرك بعدما أسلم عملا أو يفارق المشركين إلى المسلمين» .
قال الحاكم: "صحيح الإسناد ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي في "تلخيصه".
ومنها ما رواه: الإمام أحمد، والنسائي؛ عن يزيد بن الشخير؛ قال: «بينا أنا مع مطرف بالمربد؛ إذ دخل رجل معه قطعة أدم؛ قال: كتب لي هذه رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فهل أحد منكم يقرأ؟ قال: قلت: أنا أقرأ. فإذا فيها: " من محمد النبي لبني زهير بن أقيش أنهم إن شهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وفارقوا»(3/345)
«المشركين وأقروا بالخمس في غنائمهم وسهم النبي وصفيه؛ أنهم آمنون بأمان الله ورسوله» .
ومنها ما رواه النسائي عن جرير رضي الله عنه؛ قال: «بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على: إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والنصح لكل مسلم، وعلى فراق المشركين» .
وفي رواية: «قال جرير رضي الله عنه: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبايع، فقلت: يا رسول الله! ابسط يدك حتى أبايعك واشترط علي فأنت أعلم. قال: "أبايعك على أن تعبد الله، وتقيم الصلاة، وتؤدي الزكاة، وتناصح المسلمين، وتفارق المشركين» .
ومنها ما رواه الحاكم في "مستدركه «عن أبي اليسر كعب بن عمرو رضي الله عنه، قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبايع الناس، فقلت: يا رسول الله! ابسط يدك حتى أبايعك واشترط علي؛ فأنت أعلم بالشرط. قال: "أبايعك على أن تعبد الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتناصح المسلم، وتفارق المشرك» .
ومنها ما رواه ابن جرير عن الزهري مرسلا: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ على رجل دخل في الإسلام، فقال: "تقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتحج البيت، وتصوم رمضان، وأنك لا ترى نار مشرك إلا وأنت له حرب» .
الفائدة السابعة والثلاثون: أنه لا يجني جان إلا على نفسه. ويشهد لهذا:
قول الله تعالى: {وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} .
وقوله تعالى: {أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى}(3/346)
{أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} .
وروى الإمام أحمد «عن أبي رِمْثَة رضي الله عنه؛ قال: جئت مع أبي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: "ابنك هذا؟ ". قلت: نعم. قال: "أتحبه؟ ". قلت: نعم. قال: "أما إنه لا يجني عليك ولا تجني عليه» . وزاد في بعض الروايات: قال: وقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} .
وقد رواه: أبو داود، والنسائي، وابن حبان في "صحيحه"؛ بنحوه.
وروى الإمام أحمد أيضا، وابن ماجه؛ «عن الخشخاش العنبري رضي الله عنه؛ قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم ومعي ابن لي؛ قال: فقال: "ابنك هذا؟ ". قال: قلت: نعم. قال: "لا يجني عليك ولا تجني عليه» .
وروى: الإمام أحمد، وابن ماجه أيضا؛ عن سليمان بن عمرو بن الأحوص عن أبيه رضي الله عنه؛ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في حجة الوداع: «ألا لا يجني جان إلا على نفسه؛ لا يجني والد على ولده ولا مولود على والده» .
وروى ابن ماجه أيضا عن أسامة بن شريك؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تجني نفس على أخرى» .
قال في "الزوائد": "إسناده صحيح".
وروى النسائي عن طارق المحاربي رضي الله عنه: «أن رجلا قال: يا رسول الله! هؤلاء بنو ثعلبة الذين قتلوا فلانا في الجاهلية؛ فخذ لنا بثأرنا، فرفع يديه، حتى رأيت بياض إبطيه، وهو يقول: "لا تجني أم على ولد (مرتين) » .
ورواه ابن ماجه مختصرا، قال في "الزوائد": "إسناده صحيح ورجاله ثقات".(3/347)
وروى النسائي أيضا عن ثعلبة بن زهدم؛ قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب، فجاء ناس من الأنصار، فقالوا: يا رسول الله! هؤلاء بنو ثعلبة بن يربوع قتلوا فلانا في الجاهلية، فقال النبي صلى الله عليه وسلم وهتف بصوته: " ألا لا تجني نفس على الأخرى» .
وروى الإمام أحمد عن أبي رمثة رضي الله عنه؛ قال: «قال رجل: يا رسول الله! هؤلاء بنو يربوع، قتله فلان. قال: " ألا لا تجني نفس على الأخرى» .
وروى الإمام أحمد أيضا عن سليم بن أسود عن رجل من بني يربوع؛ قال: «أتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له رجل: يا رسول الله! هؤلاء بنو ثعلبة بن يربوع الذين أصابوا فلانا. قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ألا لا تجني نفس على الأخرى» .
قال الهيثمي: "رجاله رجال الصحيح".
وروى البزار عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ قال: " «لا يؤخذ الرجل بجريرة أبيه ولا بجريرة أخيه» .
قال الهيثمي: "رجاله رجال الصحيح".
الفائدة الثامنة والثلاثون: الثناء على من يستحق الثناء.
وقد أثنى الله تبارك وتعالى في كتابه على كثير من الأنبياء والصالحين من الأمم السالفة، وأثنى على رسوله صلى الله عليه وسلم وعلى المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، وأثنى رسول الله صلى الله عليه وسلم على كثير ممن يستحق الثناء، ومنهم أبو رزين العقيلي وصاحبه.
الفائدة التاسعة والثلاثون: فيه فضيلة لأبي رزين وصاحبه؛ حيث حلف النبي صلى الله عليه وسلم أنهما من أتقى الناس في الأولى والآخرة.(3/348)
ومن فضائل أبي رزين أيضا ما رواه أبو داود الطيالسي في "مسنده" عن وكيع بن عدس عن أبي رزين رضي الله عنه؛ قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يكره أن يسأل، فإذا سأله أبو رزين؛ أعجبه» .
وإنما كان يعجبه سؤال أبي رزين لأنه كان رجلا عاقلا.
وقد روى: الإمام أحمد بإسناد صحيح، ومسلم، والترمذي؛ عن أنس بن مالك رضي الله عنه؛ قال: «كنا نهينا أن نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء، فكان يعجبنا أن يجيء الرجل من أهل البادية العاقل فيسأله ونحن نسمع» .
وأسئلة أبي رزين للنبي صلى الله عليه وسلم في حديثه الطويل وفي غيره من الأحاديث المروية عنه تدل على كبر عقله.
الفائدة الأربعون: حسن الأدب مع الأكابر، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال لأبي رزين رضي الله عنه: "إن أباك المنتفق لفي النار". قال أبو رزين: فهممت أن أقول: وأبوك يا رسول الله؟ ثم إذا الأخرى أجمل، فقلت: يا رسول الله! وأهلك؟! وهذا من حسن أدب أبي رزين رضي الله عنه مع النبي صلى الله عليه وسلم؛ حيث أتى في سؤاله بكلمة عامة، ولم يواجه النبي صلى الله عليه وسلم بصريح اسم أبيه.
الفائدة الحادية والأربعون: القطع لكل مشرك بالنار، ويدل على ذلك:
قول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} .
وقوله تعالى: {وَقَالَ الْمَسِيحُ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} .
وقوله تعالى: {وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ} .(3/349)
والآيات في هذا المعنى كثيرة جدا.
وروى: الإمام أحمد، والشيخان؛ عن أبي هريرة رضي الله عنه: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بلالا فنادى في الناس: "إنه لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة» .
وفي "صحيح البخاري " أيضا عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يلقى إبراهيم أباه، فيقول: يا رب! إنك وعدتني أن لا تخزني يوم يبعثون، فيقول الله تعالى: إني حرمت الجنة على الكافرين» .
وفي "مستدرك الحاكم " عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ليأخذن رجل بيد أبيه يوم القيامة، فلتقطعنه النار؛ يريد أن يدخله الجنة". قال: "فينادى: إن الجنة لا يدخلها مشرك، ألا إن الله قد حرم الجنة على كل مشرك» .... الحديث.
قال الحاكم: "صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي في "تلخيصه".
والأحاديث في هذا المعنى كثيرة جدا.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى في الكلام على حديث أبي رزين رضي الله عنه: "فيه دليل على أن من مات مشركا؛ فهو في النار، وإن مات قبل البعثة؛ لأن المشركين قد غيروا الحنيفية دين إبراهيم، واستبدلوا بها الشرك وارتكبوه، وليس معهم حجة من الله به، وقبحه والوعيد عليه بالنار لم يزل معلوما من دين الرسل كلهم من أولهم إلى آخرهم، وأخبار عقوبات الله لأهله متداولة بين الأمم قرنا بعد قرن؛ فلله الحجة البالغة على المشركين في كل وقت، ولو لم يكن إلا ما فطر الله عباده عليه من توحيد ربوبيته المستلزم لتوحيد إلهيته، وأنه يستحيل في كل فطرة وعقل أن يكون معه إله آخر، وإن كان سبحانه لا يعذب(3/350)
بمقتضى هذه الفطرة وحدها، فلم تزل دعوة الرسل إلى التوحيد في الأرض معلومة لأهلها؛ فالمشرك يستحق العذاب لمخالفته دعوة الرسل، والله أعلم" انتهى.
الفائدة الثانية والأربعون: سماع أهل القبور كلام الأحياء، ويستفاد ذلك من قول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي رزين رضي الله عنه: «حيثما أتيت عليه من قبر عامري أو قرشي أو دوسي من مشرك؛ فقل: أرسلني إليك محمد، فأبشرك بما يسؤوك؛ تجر على وجهك وبطنك في النار» ، ولو كان الأموات لا يسمعون كلام الأحياء؛ لما كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر أبا رزين رضي الله عنه أن يبشر من يمر عليه من أموات المشركين بالنار، فدل أمره صلى الله عليه وسلم لأبي رزين على أن الأموات يسمعون كلام الأحياء.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى في الكلام على حديث أبي رزين رضي الله عنه: "وقوله: "حيثما مررت بقبر كافر فقل: أرسلني إليك محمد ". هذا إرسال تقريع وتوبيخ لا تبليغ أمر ونهي، وفيه دليل على سماع أهل القبور كلام الأحياء وخطابهم لهم". انتهى.
ويشهد لما جاء في حديث أبي رزين رضي الله عنه ما رواه: الإمام أحمد، والشيخان، والنسائي؛ عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: «وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على القليب يوم بدر، فقال: "يا فلان! يا فلان! هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا؟ أما والله إنهم الآن ليسمعون كلامي» ..... الحديث.
وروى: الإمام أحمد، والشيخان، وأهل السنن إلا ابن ماجه؛ عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن أبي طلحة رضي الله عنه: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر يوم بدر بأربعة وعشرين رجلا من صناديد قريش، فقذفوا في طوي من أطواء بدر خبيث مخبث، وكان إذا ظهر على قوم؛ أقام بالعرصة ثلاث ليال، فلما كان ببدر»(3/351)
«اليوم الثالث؛ أمر براحلته، فشد عليها رحلها، ثم مشى واتبعه أصحابه، وقالوا: ما نرى ينطلق إلا لبعض حاجته، حتى قام على شفة الركي، فجعل يناديهم بأسمائهم وأسماء آبائهم: "يا فلان ابن فلان! ويا فلان ابن فلان! أيسركم أنكم أطعتم الله ورسوله؛ فإنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا، فهل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا؟ ". قال: فقال عمر رضي الله عنه: يا رسول الله! ما تكلم من أجساد لا أرواح لها؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفس محمد بيده؛ ما أنتم بأسمع لما أقول منهم» .
وروى الإمام أحمد أيضا عن أنس رضي الله عنه؛ قال: «كنا مع عمر رضي الله عنه بين مكة والمدينة، فتراءينا الهلال، وكنت حديد البصر، فرأيته، فجعلت أقول لعمر: أما تراه؟ قال: سأراه وأنا مستلق على فراشي. ثم أخذ يحدثنا عن أهل بدر؛ قال: إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليرينا مصارعهم بالأمس؛ يقول: هذا مصرع فلان غدا إن شاء الله تعالى، وهذا مصرع فلان غدا إن شاء الله تعالى. قال: فجعلوا يصرعون عليها. قال: قلت: والذي بعثك بالحق؛ ما أخطؤوا تيك، كانوا يصرعون عليها، ثم أمر بهم، فطرحوا في بئر، فانطلق إليهم، فقال: (يا فلان! يا فلان! هل وجدتم ما وعدكم الله حقا؛ فإني وجدت ما وعدني الله حقا". قال عمر: يا رسول الله! أتكلم قوما قد جيفوا؟ قال: "ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، ولكن؛ لا يستطيعون أن يجيبوا» .
إسناده صحيح على شرط الشيخين.
وروى: الإمام أحمد أيضا، ومسلم؛ عن أنس رضي الله عنه: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك قتلى بدر ثلاثة أيام حتى جيفوا، ثم أتاهم، فقام عليهم، فقال: "يا أمية بن خلف! يا أبا جهل بن هشام! يا عتبة بن ربيعة! يا شيبة بن ربيعة! هل وجدتم ما وعد ربكم حقا؛ فإني قد وجدت ما وعدني ربي حقا". قال: فسمع عمر صوته، فقال: يا رسول الله! أتناديهم بعد ثلاث؟! وهل يسمعون؟! يقول»(3/352)
«الله تعالى: {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} . فقال: "والذي نفسي بيده؛ ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، ولكن لا يستطيعون أن يجيبوا» .
الفائدة الثالثة والأربعون: أن طاعة الأنبياء هداية ومعصيتهم ضلالة، وهذا معلوم من الدين بالضرورة.
وقد قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} .
وقال تعالى: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} .
وقال تعالى بعد ذكره لبعض المرسلين: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} .
وقال تعالى: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ} .
وقال تعالى: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} .
وقال تعالى: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} .
والآيات في هذا المعنى كثيرة.
وهذه الفوائد المهمة هي التى احتوى عليها حديث أبي رزين رضي الله عنه، وزعم أبو عبية عدم صحتها وظهور الكذب في صياغة الحديث ودلالته، وهذا من أقبح المكابرة والمجادلة بالباطل لإدحاض الحق، نعوذ بالله من زيغ القلوب وانتكاسها.
فصل
وقال أبو عبية في (ص295) على قول الله تعالى: {رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ} ؛ قال: "أي: رافع درجات من يطيعونه ويستجيبون لأمره".(3/353)
والجواب أن يقال: هذا القول، وإن قال به بعض المفسرين؛ فهو موافق لقول المعطلة الذين ينفون علو الرب على خلقه واستواءه على عرشه، والصواب ما قاله ابن كثير في تفسيره هذه الآية؛ قال:
"يقول الله تعالى مخبرا عن عظمته وكبريائه وارتفاع عرشه العظيم العالي على جميع مخلوقاته كالسقف لها؛ كما قال تعالى: {مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} . انتهى.
فالآية من أدلة علو الله على خلقه، لا من أدلة رفع الدرجات لأوليائه وأهل طاعته.
فصل
وقال أبو عبية في (ص328) من "النهاية" لابن كثير ما نصه: " مجيء الله سبحانه وتعالى يوم القيامة هو مجاز عن مجيء أمره سبحانه وتعالى بالفصل بين العباد يوم الدين، وهو مجاز مرسل".
وقال مثل ذلك في (ص331 و373) .
والجواب أن يقال: هذا القول خلاف الصواب، والصحيح أن الرب تبارك وتعالى يجيء يوم القيامة لفصل القضاء بين خلقه:
كما قال تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} .
وقال تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} .
وقال تعالى: {كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} .(3/354)
قال ابن كثير في "تفسيره": " {وَجَاءَ رَبُّكَ} ؛ يعني: لفصل القضاء بين خلقه، وذلك بعدما يستشفعون إليه بسيد ولد آدم على الإطلاق محمد صلوات الله وسلامه عليه، بعدما يسألون أولي العزم من الرسل واحدا بعد واحد، فكلهم يقول: لست بصاحب ذاكم، حتى تنتهي النوبة إلى محمد صلى الله عليه وسلم، فيقول: «أنا لها أنا لها» ، فيذهب عند الله تعالى في أن يأتي لفصل القضاء، فيشفعه الله تعالى في ذلك، وهي أول الشفاعات، وهي المقام المحمود؛ كما تقدم بيانه في سورة سبحان، فيجيء الرب تبارك وتعالى لفصل القضاء كما يشاء، والملائكة يجيئون بين يديه صفوفا صفوفا" انتهى.
وقال ابن كثير أيضا في تفسير قول الله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ} ؛ قال: "وذلك كائن يوم القيامة" انتهى.
وقال البغوي على قوله: {أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ} : "بلا كيف، لفصل القضاء بين خلقه في موقف القيامة" انتهى.
وقال ابن كثير في تفسير قوله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ} : "يعني: يوم القيامة؛ لفصل القضاء بين الأولين والآخرين، فيجزي كل عامل بعمله، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر" انتهى.
وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن أنيس رضي الله عنه؛ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يحشر الناس يوم القيامة (أو قال: العباد) عراة غرلا بهما". قال: قلنا: وما بهما؟ قال: "ليس معهم شيء، ثم يناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب: أنا الملك! أنا الديان! لا ينبغي لأحد من أهل النار أن يدخل النار وله عند أحد من أهل الجنة حق حتى أقصه منه، ولا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة ولأحد من أهل النار عنده حق حتى»(3/355)
«أقصه منه، حتى اللطمة". قال: قلنا: كيف وإنما نأتي الله عز وجل عراة غرلا بهما؟ قال: "بالحسنات والسيئات» .
قال الهيثمي: "رجاله وثقوا، ورواه الطبراني في "الأوسط" بنحوه".
وقال الهيثمي أيضا في موضع آخر: "هو عند أحمد والطبراني في "الأوسط" بإسناد حسن".
فصل
وقد روى: الإمام أحمد، ومسلم؛ عن ثوبان رضي الله عنه: أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: «إني لبعقر حوضي أذود الناس لأهل اليمن أضرب بعصاي حتى يرفض عليهم» ...... الحديث.
وقد صحف أبو عبية هذا الحديث، فقال في (ص343) ما نصه: «أذود عنه الناس لأهل اليمن» ، ثم قال أبو عبية: «هذا تمثيل للحيلولة بين من ليسوا من أهل اليمن وبين مقام الإكرام والرحمة يوم القيامة» .
والجواب عن هذا من وجهين:
أحدهما: أن يقال: إن تصحيفه للحديث وكلامه عليه على وفق تصحيفه هو بلا شك من تحريف الكلم عن مواضعه، والأولى لأبي عبية أن لا يتكلم في معنى الأحاديث؛ لأنه أجنبي عنها، لا يعرفها، ولا يعرف معانيها، وإنما يتكلم عليها بما يوافق عقله ورأيه.
وقد قال النووي في "شرح مسلم ": "قوله صلى الله عليه وسلم: «أذود الناس لأهل اليمن، أضرب بعصاي حتى يرفض عليهم» ؛ معناه: أطرد الناس عنه؛ غير أهل اليمن؛ ليرفض على أهل اليمن، وهذه كرامة لأهل اليمن في تقديمهم في الشرب منه؛(3/356)
مجازاة لهم بحسن صنيعهم وتقدمهم في الإسلام، والأنصار من اليمن، فيدفع غيرهم حتى يشربوا؛ كما دفعوا في الدنيا عن النبي صلى الله عليه وسلم أعداءه والمكروهات، ومعنى (يرفض عليهم) ؛ أي: يسيل عليهم" انتهى.
و (عقر الحوض) ؛ بضم العين وإسكان القاف؛ قال النووي: "هو موقف الإبل من الحوض إذا وردته، وقيل: مؤخره" انتهى.
وقد أثنى رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهل اليمن، فقال: «أتاكم أهل اليمن: أرق أفئدة، وألين قلوبا؛ الإيمان يمان، والحكمة يمانية» .
رواه: الإمام أحمد، والشيخان، والترمذي؛ من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
وقد جاء من اليمن أمداد كثيرة في خلافه أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وذهب كثير منهم على الثغور يجاهدون في سبيل الله تعالى، وسكن كثير منهم في الأمصار مع الصحابة يتعلمون منه العلم ويعلمونه، وكان فيهم كثير من أكابر الفقهاء والمحدثين، وفيهم حكماء وعباد كثيرون، ولما كانوا متصفين بالصفات الحميدة؛ ناسب أن يقدموا في الشرب من حوض النبي صلى الله عليه وسلم، وأن يذاد عنهم من ليس مثلهم. والله أعلم.
الوجه الثاني: أن الظاهر من كلام أبي عبية أنه لا يؤمن بحوض النبي صلى الله عليه وسلم في الدار الآخرة، ولهذا زعم أن ذود النبي صلى الله عليه وسلم عن الحوض لأهل اليمن تمثيل للحيلولة بين من ليسوا من أهل اليمن وبين مقام الإكرام والرحمة يوم القيامة؛ يعني: وليس بذود عن الحوض على الحقيقة!
وهذا خلاف ما عليه أهل السنة والجماعة؛ فإنهم يثبتون للنبي صلى الله عليه وسلم حوضا في الدار الآخرة يرد عليه المؤمنون من هذه الأمة، ويمنع منه من ليس بمؤمن.(3/357)
وقد تواترت الأحاديث بإثبات الحوض النبوي، وتقدم بيان ذلك في الفائدة السادسة والعشرين من فوائد حديث أبي رزين العقيلي رضي الله عنه، وقد أنكر الحوض كثير من أهل البدع، ولا عبرة بخلافهم، وقد جاء الإخبار عن المنكرين للحوض في الحديث الذي رواه عبد الرزاق في "مصنفه" بإسناد حسن عن ابن عباس رضي الله عنهما؛ قال: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو يقول: «إنه سيخرج بعدكم قوم يكذبون بالرجم، ويكذبون بالدجال، ويكذبون بالحوض، ويكذبون بعذاب القبر، ويكذبون بقوم يخرجون من النار» .
وهذا الأثر له حكم المرفوع؛ لأن فيه إخبارا عن أمر غيبي، وذلك لا يقال من قبل الرأي، وإنما يقال عن توقيف.
تنبيه
ما في هذا الفصل هو آخر ما وقفت عليه من أباطيل أبي عبية التي علقها على الجزء الأول من "النهاية" لابن كثير، ولم أقف على الجزء الثاني، ولا يبعد أن يكون فيه كثير من التعاليق الباطلة كما كان في الجزء الأول؛ فليحذر طلبة العلم خاصة وغيرهم عامة من النظر في تعاليقه؛ فإنها مشحونة بالأباطيل، وجدير بها أن تؤثر على الناظر بما يضره في علمه وعقيدته.
خاتمة
في ذكر مآل الخلق بعد قيام الساعة
قال الله تعالى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ} .(3/358)
وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} .
وقال تعالى: {إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ. لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ وَحُورٌ عِينٌ كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ وَظِلٍّ مَمْدُودٍ وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا عُرُبًا أَتْرَابًا لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ} .
وقال تعالى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ}(3/359)
{لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ} .
وقال تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} .
والآيات في ذكر مآل السعداء إلى الجنة ومآل الأشقياء إلى النار كثيرة جدا.
وقد قال الله تعالى: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا} .
قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "لا ينتصف النهار من يوم القيامة حتى يقيل هؤلاء وهؤلاء (ثم قرأ: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا} ، وقرأ: ثم إن مقيلهم لإلى الجحيم ".(3/360)
رواه: ابن المبارك في "الزهد"، وعبد بن حميد، وابن أبي حاتم، والحاكم، وقال: "صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي في "تلخيصه".
وقال أسباط عن السدي في قوله: {ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ} ؛ قال: "في قراءة عبد الله: (ثم إن منقلبهم لإلى الجحيم) ، وكان عبد الله يقول: والذي نفسي بيده؛ لا ينتصف النهار يوم القيامة حتى يقيل أهل الجنة في الجنة وأهل الناء في النار (ثم قرأ: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا} .
رواه ابن جرير.
وقال الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما: "إنما هي ضحوة، فيقيل أولياء الله على الأسرة مع الحور العين، ويقيل أعداء الله مع الشياطين مقرنين".
رواه ابن أبي حاتم.
وقال سعيد بن جبير: "يفرغ الله من الحساب نصف النهار، فيقيل أهل الجنة في الجنة، وأهل النار في النار، قال الله تعالى: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا} .
رواه ابن أبي حاتم.
وقال عكرمة: "إني لأعرف الساعة التي يدخل فيها أهل الجنة الجنة وأهل النار النار، وهي الساعة التي تكون في الدنيا عند ارتفاع الضحى الأكبر، إذا انقلب الناس إلى أهليهم للقيلولة، فينصرف أهل النار إلى النار، وأما أهل الجنة؛ فينطلق بهم إلى الجنة، فكانت قيلولتهم في الجنة، وذلك قوله: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا} .(3/361)
رواه ابن أبي حاتم.
وقال إبراهيم النخعي: "كانوا يرون أنه يفرغ من حساب الناس يوم القيامة نصف النهار، فيقيل أهل الجنة في الجنة، وأهل النار في النار؛ فذلك قوله: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا} .
رواه: ابن المبارك، وسعيد بن منصور، وابن جرير، وابن المنذر، وأبو نعيم في "الحلية".
فصل
في ذكر أهل الجنة وأهل النار
قال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} .
وعن حارثة بن وهب الخزاعي رضي الله عنه: أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ألا أخبركم بأهل الجنة؟ ". قالوا: بلى. قال صلى الله عليه وسلم: "كل ضعيف متضعف، لو أقسم على الله؛ لأبره". ثم قال: "ألا أخبركم بأهل النار؟ ". قالوا: بلى. قال: "كل عتل جواظ مستكبر» .
رواه: الإمام أحمد، وأبو داود الطيالسي، والشيخان، والترمذي، وابن ماجه، وهذا لفظ مسلم. وفي رواية له: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا أخبركم بأهل»(3/362)
«الجنة؟ كل ضعيف متضعف، لو أقسم على الله لأبره، ألا أخبركم بأهل النار؟ كل جواظ زنيم متكبر» . وفي رواية لأحمد نحوه، وقال: «ألا أخبركم بأهل النار؟ كل جواظ جعظري مستكبر» .
ورواه أبو داود السجستاني، ولفظه: «لا يدخل الجنة الجواظ ولا الجعظري» ؛ قال: "والجواظ الغليظ الفظ".
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ قال: «ألا أخبركم بأهل النار وأهل الجنة؟ أما أهل الجنة؛ فكل ضعيف متضعف، أشعث ذي طمرين، لو أقسم على الله؛ لأبره، وأما أهل النار؛ فكل جعظري جواظ جماع مناع ذي تبع» .
رواه الإمام أحمد، وفي إسناده ابن لهيعة، وهو حسن الحديث، وفيه كلام، وبقية رجاله رجال الصحيح.
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ قال: «إن أهل النار كل جعظري جواظ مستكبر جماع مناع، وأهل الجنة الضعفاء المغلوبون» .
رواه الإمام أحمد. قال الهيثمي: "ورجاله رجال الصحيح". ورواه الحاكم في "مستدركه"، وقال: "صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي في "تلخيصه".
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ قال: «ألا أخبركم بأهل الجنة؟ ". قالوا: بلى يا رسول الله! قال: "هم الضعفاء المظلومون، ألا أخبركم بأهل النار؟ ". قالوا: بلى يا رسول الله! قال: "كل شديد جعظري، هم الذين لا يألمون رؤوسهم» .
رواه أبو داود الطيالسي.(3/363)
وقد رواه الإمام أحمد مختصرا، ولفظه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا أنبئكم بأهل النار؟ كل سفيه جعظري» .
قال الهيثمي: "وفيه البراء بن عبد الله وهو ضعيف".
قلت: وما قبله يشهد له ويقويه.
وعن ابن غنم رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يدخل الجنة الجواظ والجعظري والعتل الزنيم» .
رواه الإمام أحمد. قال الهيثمي: "وإسناده حسن؛ إلا أن ابن غنم لم يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم".
وعن علي بن رباح؛ قال: بلغني عن سراقة بن مالك بن جعشم المدلجي رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: «يا سراقة! ألا أخبرك بأهل الجنة وأهل النار؟ ". قال: بلى يا رسول الله! قال: "أما أهل النار؛ فكل جعظري جواظ مستكبر، وأهل الجنة؛ فالضعفاء المغلوبون» .
رواه الإمام أحمد. قال الهيثمي: "ورجاله رجال الصحيح؛ إلا أن فيه راويا لم يسم". وقال المنذري: "رواه الطبراني في "الكبير" و"الأوسط" بإسناد حسن، والحاكم، وقال: صحيح على شرط مسلم ".
قال المنذري: " (العتل) ؛ بضم العين والتاء وتشديد اللام: هو الغليظ الجافي، و (الجواظ) ؛ بفتح الجيم وتشديد الواو وبالظاء المعجمة: هو الجموع المنوع، وقيل: الضخم المختال في مشيته، وقيل: القصير البطين" انتهى.
وقال ابن الأثير في "جامع الأصول": " (العتل) : الغليظ الجافي الذي لا ينقاد على الخير، و (الزنيم) : الدعي الملصق بالقوم وليس منهم، وقيل: هو اللئيم".(3/364)
وقال في: "النهاية": " (العتل) : هو الشديد الجافي والفظ الغليظ من الناس، و (الزنيم) : هو الدعي في النسب الملحق بالقوم وليس منهم؛ تشبيها له بالزنمة، وهو شيء يقطع من أذن الشاة، ويترك معلقا بها، وهي أيضا هنة مدلاة في حلق الشاة كالملحقة بها، و (الجواظ) : الجموع المنوع، وقيل: الكثير اللحم المختال في مشيته، وقيل: القصير البطين، و (الجعظري) : الفظ الغليظ المتكبر، وقيل: هو الذي ينتفج بما ليس عنده، وفيه قصر" انتهى.
و (المتنفج) : هو المفتخر بما ليس عنده.
وعن عياض بن حمار المجاشعي رضي الله عنه: أن رسول الله قال ذات يوم في خطبته: " (فذكر الحديث، وفيه قال:) «وأهل الجنة ثلاثة: ذو سلطان مقسط متصدق موفق، ورجل رحيم رقيق القلب لكل ذي قربى ومسلم، وعفيف متعفف ذو عيال". قال: "وأهل النار خمسة: الضعيف الذي لا زَبْر له الذين هم فيكم تبعا لا يبتغون أهلا ولا مالا، والخائن الذي لا يخفى له طمع وإن دق إلا خانه، ورجل لا يصبح ولا يمسي إلا وهو يخادعك عن أهلك ومالك (وذكر البخل أو الكذب) ، والشنظير الفحاش» .
رواه: الإمام أحمد، وأبو داود الطيالسي، ومسلم، وهذا لفظه.
قوله: «لا زبر له» . قال ابن الأثير في "النهاية": "أي: لا عقل له يزبره وينهاه عن الإقدام على ما لا ينبغي، و (الشنظير الفحاش) : هو السيئ الخلق". انتهى.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تحاجت الجنة والنار، فقالت النار: أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين، وقالت الجنة: فما لي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم وعجزهم. فقال الله عز وجل للجنة: أنت رحمتي؛ أرحم بك من أشاء من عبادي. وقال للنار: إنما أنت عذابي؛ أعذب»(3/365)
«بك من أشاء من عبادي، ولكل واحدة منكما ملؤها، فأما النار؛ فلا تمتلئ حتى يضع الله تبارك وتعالى رجله، فتقول: قط، قط، قط؛ فهنالك تمتلئ ويزوى بعضها إلى بعض، وأما الجنة؛ فإن الله ينشئ لها خلقا» .
رواه: الإمام أحمد، والشيخان، والترمذي.
قوله: "وسقطهم": قال ابن الأثير في "جامع الأصول": " (السقط) في الأصل: المزدرى به، ومنه السقط لرديء المتاع". وقال في "النهاية": " (سقطهم) ؛ أي: أرذالهم وأدوانهم".
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «احتجت الجنة والنار، فقالت النار: في الجبارون والمتكبرون، وقالت الجنة: في ضعفاء الناس ومساكينهم، فقضى بينهما: إنك الجنة رحمتي؛ أرحم بك من أشاء، وإنك النار عذابي؛ أعذب بك من أشاء، ولكليكما علي ملؤها» .
رواه: الإمام أحمد، ومسلم، وهذا لفظ أحمد.
وفي رواية له: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «افتخرت الجنة والنار، فقالت النار: أي رب! يدخلني الجبابرة والملوك والعظماء والأشراف. وقالت الجنة: أي رب! يدخلني الفقراء والضعفاء والمساكين. فقال تبارك وتعالى للنار: أنت عذابي؛ أصيب بك من أشاء، وقال للجنة: أنت رحمتي؛ وسعت كل شيء، ولكل واحدة منكما ملؤها. فأما النار؛ فيلقى فيها أهلها، وتقول: هل من مزيد؟ حتى يأتيها تبارك وتعالى، فيضع قدمه عليها، فتزوى، وتقول: قدني، قدني. وأما الجنة؛ فتبقى ما شاء الله أن تبقى، ثم ينشئ الله لها خلقا بما يشاء» .
وعن عمران بن حصين وابن عباس رضي الله عنهم؛ قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اطلعت في الجنة، فرأيت أكثر أهلها الفقراء، واطلعت في النار، فرأيت أكثر أهلها النساء» .(3/366)
رواه البخاري في (باب فضل الفقر) من "كتاب الرقاق" عن عمران وابن عباس معا. وكذا رواه: أبو داود الطيالسي، والترمذي، وقال: "هذا حديث حسن صحيح". ورواه البخاري أيضا في مواضع أخر عن عمران بن حصين رضي الله عنهما وحده. ورواه: أبو داود الطيالسي أيضا، ومسلم؛ من حديث ابن عباس رضي الله عنهما وحده. ورواه الإمام أحمد من حديث ابن عباس رضي الله عنهما في مسند ابن عباس ومن حديث عمران بن حصين رضي الله عنهما في مسند عمران.
ورواه الطبراني في "الأوسط" عن عمران بن حصين رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ قال: «اطلعت في الجنة، فرأيت أكثر أهلها الضعفاء والفقراء، واطلعت في النار، فرأيت أكثر أهلها النساء» .
قال الهيثمي: "رجاله رجال الصحيح، غير الضحاك بن يسار، وقد وثقه ابن حبان ".
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اطلعت في الجنة، فرأيت أكثر أهلها الفقراء، واطلعت في النار، فرأيت أكثر أهلها الأغنياء والنساء» .
رواه: الإمام أحمد، وابنه عبد الله في "المسند". قال المنذري والهيثمي: "وإسناده جيد، ورواه ابن حبان في "صحيحه".
وعن أبي هريرة رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اطلعت في النار فوجدت أكثر أهلها النساء، واطلعت في الجنة فرأيت أكثر أهلها الفقراء» .
رواه الإمام أحمد، وإسناده على شرط الشيخين.
وعن أسامة بن زيد رضي الله عنهما؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قمت على باب الجنة؛ فإذا عامة من دخلها المساكين، وإذا أصحاب الجد محبوسون»(3/367)
«إلا أصحاب النار؛ فقد أمر بهم إلى النار، وقمت على باب النار؛ فإذا عامة من دخلها النساء» .
رواه: الإمام أحمد، والشيخان.
(الجد) ؛ بفتح الجيم: الحظ والغنى.
وعن عمران بن حصين رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن أقل ساكني الجنة النساء» .
رواه: الإمام أحمد، ومسلم.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبته حين كسفت الشمس: «ورأيت النار، فلم أر كاليوم منظرا قط أفظع، ورأيت أكثر أهلها النساء". قالوا: بم يا رسول الله! قال: "بكفرهن" قيل: أيكفرن بالله؟ قال: "يكفرن العشير، ويكفرن الإحسان، لو أحسنت إلى إحداهن الدهر كله، ثم رأت منك شيئا؛ لقالت: ما رأيت منك خيرا قط» .
رواه: مالك، وأحمد، والشيخان.
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما؛ قال: «شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة يوم العيد، فبدأ بالصلاة قبل الخطبة بغير أذان ولا إقامة، ثم قام متوكئا على بلال، فأمر بتقوى الله، وحث على طاعته، ووعظ الناس، وذكرهم، ثم مضى، حتى أتى النساء، فوعظهن وذكرهن، فقال: " تصدقن فإن أكثركن حطب جهنم". فقامت امرأة من سطة النساء سفعاء الخدين، فقالت: لم يا رسول الله؟ قال: "لأنكن تكثرن الشكاة، وتكفرن العشير» ... الحديث.
رواه: مسلم، والنسائي.
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا»(3/368)
«معشر النساء! تصدقن ولو من حليتكن، فإنكن أكثر أهل جهنم". فقالت امرأة ليست من علية النساء: وبم يا رسول الله نحن أكثر أهل جهنم؟ قال: "لأنكن تكثرن اللعن، وتكفرن العشير» ... الحديث.
رواه: الإمام أحمد، والحاكم، وقال: "صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي في "تلخيصه".
وعن ابن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يا معشر النساء! تصدقن وأكثرن الاستغفار؛ فإني رأيتكن أكثر أهل النار ". فقالت امرأة منهن جزلة: وما لنا يا رسول الله؟ قال: "تكثرن اللعن، وتكفرن العشير» ... الحديث.
رواه: الإمام أحمد، ومسلم، وأبو داود، وابن ماجه.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه؛ قال: «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب الناس فوعظهم، ثم قال: " يا معشر النساء! تصدقن؛ فإنكن أكثر أهل النار". فقالت امرأة منهن: ولم ذلك يا رسول الله؟ قال: "لكثرة لعنكن؛ يعني: وكفركن العشير» ......" الحديث.
وعن أبي سعيد رضي الله عنه؛ قال: «خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في أضحى أو فطر إلى المصلى، فمر على النساء، فقال: " يا معشر النساء! تصدقن؛ فإني أريتكن أكثر أهل النار". فقلن: وبم يا رسول الله؟ قال: "تكثرن اللعن، وتكفرن العشير» ... الحديث.
رواه: البخاري، ومسلم.(3/369)
وعن حكيم بن حزام رضي الله عنه؛ قال: «أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم النساء بالصدقة، وحثهن عليها، وقال: " تصدقن؛ فإنكن أكثر أهل النار". فقالت امرأة منهن: لم ذاك يا رسول الله؟ قال: "لأنكن تكثرن اللعن، وتسوفن الخير، وتكفرن العشير» .
رواه الطبراني في "الأوسط". قال الهيثمي: "ورجاله ثقات".
وعن زينب امرأة عبد الله بن مسعود رضي الله عنهما؛ قالت: «خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: " يا معشر النساء! تصدقن ولو من حليكن؛ فإنكن أكثر أهل جهنم يوم القيامة» .
رواه: الإمام أحمد، والحاكم من طريقه، وقال: "صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه بهذه السياقة، وتفرد مسلم بإخراجه مختصرا"، ووافقه الذهبي في "تلخيصه"، وقد رواه البخاري والنسائي مختصرا.
وعن أبي راشد الحبراني؛ قال: قال عبد الرحمن بن شبل رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الفساق هم أهل النار". قيل: يا رسول الله! ومن الفساق؟ قال: "النساء". قال رجل: يا رسول الله! أولسن أمهاتنا وأخواتنا وأزواجنا؟ قال: "بلى، ولكنهن إذا أعطين لم يشكرن، وإذا ابتلين لم يصبرن» .
رواه: الإمام أحمد، والحاكم في "مستدركه"، وقال: "صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي في "تلخيصه"، وقال الهيثمي: "رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح غير أبي راشد الحبراني وهو ثقة". انتهى.
وقد رواه الإمام أحمد من حديث زيد بن سلام عن جده؛ قال: كتب معاوية رضي الله عنه إلى عبد الرحمن بن شبل رضي الله عنه: أن علم الناس ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " (فذكر الحديث، وفيه: ثم قال:) «إن الفساق هم أهل النار". قالوا: يا رسول الله! ومن»(3/370)
«الفساق؟ قال: "النساء". قالوا: يا رسول الله! ألسن أمهاتنا وبناتنا وأخواتنا؟ قال: "بلى، ولكنهن إذا أعطين لم يشكرن، وإذا ابتلين لم يصبرن» .
رجاله رجال الصحيح.
وعن أبي بن كعب رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " «عرضت علي النار، وأكثر من رأيت فيها النساء؛ إن ائتمن أفشين، وإن سألن ألحفن، وإن سئلن بخلن، وإن أعطين لم يشكرن» .
رواه: الإمام أحمد، والحاكم، وقال: "صحيح الإسناد ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي في "تلخيصه".
وروى الإمام أحمد أيضا عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه.
فصل
في ذكر الأعمال التي تقرب من الجنة
والأعمال التي تقرب من النار
قال الله تعالى: {بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} .
والآيات في هذا المعنى كثيرة جدا.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ قال: «لما خلق الله الجنة والنار؛ أرسل جبرئيل إلى الجنة، فقال: انظر إليها وإلى ما أعددت لأهلها فيها". قال: "فجاءها، فنظر إليها وإلى ما أعد الله لأهلها فيها". قال: "فرجع»(3/371)
«إليه؛ قال: فوعزتك؛ لا يسمع بها أحد إلا دخلها، فأمر بها فحفت بالمكاره، فقال: ارجع إليها؛ فانظر إلى ما أعددت لأهلها فيها". قال: "فرجع إليها؛ فإذا هي قد حفت بالمكاره، فرجع إليه، فقال: وعزتك؛ لقد خفت أن لا يدخلها أحد. قال: اذهب إلى النار؛ فانظر إليها وإلى ما أعددت لأهلها فيها. فإذا هي يركب بعضها بعضا، فرجع إليه، فقال: وعزتك؛ لا يسمع بها أحد فيدخلها. فأمر بها، فحفت بالشهوات، فقال: ارجع إليها؛ فرجع إليها، فقال: وعزتك؛ لقد خشيت أن لا ينجو منها أحد إلا دخلها» .
رواه: الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وهذا لفظ الترمذي، وقال: "هذا حديث حسن صحيح".
وعنه رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «حجبت النار بالشهوات، وحجبت الجنة بالمكاره» .
رواه: الإمام أحمد، والشيخان، وهذا لفظ البخاري. ولفظ أحمد: «حفت النار بالشهوات وحفت الجنة بالمكاره» .
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات» .
رواه: الإمام أحمد، ومسلم، والترمذي، وقال: "هذا حديث حسن غريب صحيح".
قوله: "حفت":
قال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري": "بالمهملة والفاء، من الحفاف، وهو ما يحيط بالشيء حتى لا يتوصل إليه إلا بتخطيه؛ فالجنة لا يتوصل إليها إلا بقطع مفاوز المكاره، والنار لا ينجى منها إلا بترك الشهوات". قال: "وهو من(3/372)
جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم وبديع بلاغته في ذم الشهوات، وإن مالت إليها النفوس. والحظ على الطاعات، وإن كرهتها النفوس وشق عليها". انتهى.
وقال النووي في "شرح مسلم ": "قال العلماء: هذا من بديع الكلام وفصيحه وجوامعه التي أوتيها صلى الله عليه وسلم من التمثيل الحسن، ومعناه: لا توصل الجنة إلا بارتكاب المكاره والنار بالشهوات، وكذلك هما محجوبتان بهما، فمن هتك الحجاب؛ وصل إلى المحجوب، فهتك حجاب الجنة باقتحام المكاره، وهتك حجاب النار بارتكاب الشهوات، فأما المكاره؛ فيدخل فيها الاجتهاد في العبادات، والمواظبة عليها، والصبر على مشاقها، وكظم الغيظ، والعفو، والحلم، والصدقة، والإحسان إلى المسيء، والصبر عن الشهوات ... ونحو ذلك، وأما الشهوات التي النار محفوفة بها؛ فالظاهر أنها الشهوات المحرمة؛ كالخمر، والزنى، والنظر إلى الأجنبية، والغيبة، واستعمال الملاهي ... ونحو ذلك، وأما الشهوات المباحة؛ فلا تدخل في هذه، لكن؛ يكره الإكثار منها؛ مخافة أن يجر إلى المحرمة، أو يقسي القلب، أو يشغل عن الطاعات، أو يحوج إلى الاعتناء بتحصيل الدنيا للصرف فيها ونحو ذلك". انتهى.
وقال ابن كثير في "النهاية": " (المكاره": هي الأعمال الشاقة من فعل الواجبات وترك المحرمات". انتهى.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه؛ قال: «سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكثر ما يدخل الناس الجنة؟ قال: "تقوى الله وحسن الخلق". وسئل عن أكثر ما يدخل الناس النار؛ قال: "الأجوفان: الفم والفرج» .
رواه: الإمام أحمد، والترمذي، وابن ماجه، وابن حبان في "صحيحه"، والحاكم في "مستدركه"، وقال الترمذي: "هذا حديث صحيح غريب"، وقال الحاكم: "صحيح الإسناد ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي في "تلخيصه".(3/373)
فصل
في صفة الجنة والترغيب فيها وصفة أهلها
قال الله تعالى: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} .
وقال تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} .
وقال تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ذَوَاتَا أَفْنَانٍ فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ مُدْهَامَّتَانِ فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}(3/374)
{مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} .
وقال تعالى: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ} .
وقال تعالى: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ} .
وقال تعالى: {يَاعِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ} .
وقال تعالى: {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} .
وقال تعالى: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} .
وقال تعالى: {لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ} ؟
والآيات في ذكر الجنة والترغيب فيها كثيرة جدا، وفيما ذكرته هاهنا كفاية إن شاء الله تعالى.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " «قال الله عز»(3/375)
«وجل: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، واقرؤوا إن شئتم: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} » .
رواه: الإمام أحمد، والشيخان، والترمذي، وابن ماجه.
وعن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه؛ قال: «شهدت من رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلسا وصف فيه الجنة حتى انتهى، ثم قال صلى الله عليه وسلم في آخر حديثه: " فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر (ثم اقترأ هذه الآية: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} » ) ".
رواه: الإمام أحمد، ومسلم.
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه؛ قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «في الجنة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر» .
قال المنذري: "رواه الطبراني والبزار بإسناد صحيح".
وعن ابن عباس رضي الله عنهما؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لما خلق الله جنة عدن؛ خلق ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، ثم قال: تكلمي، فقالت: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} » .
وفي رواية: «خلق الله جنة عدن بيده، ودلى فيها ثمارها، وشق فيها أنهارها، ثم نظر إليها، فقال لها: تكلمي، فقالت: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} ، فقال: وعزتي وجلالي؛ لا يجاورني فيك بخيل» .
رواه الطبراني في "الكبير" و"الأوسط". قال الهيثمي: "وإسناد الطبراني في "الأوسط" جيد". وقال المنذري: "رواه الطبراني بإسنادين أحدهما جيد".(3/376)
وعن أنس رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خلق الله جنة عدن بيده؛ لبنة من درة بيضاء، ولبنة من ياقوتة حمراء، ولبنة من زبرجدة خضراء، وملاطها مسك، وحشيشها الزعفران، وحصباؤها اللؤلؤ، وترابها العنبر، ثم قال لها: انطقي. قالت: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} ، فقال الله عز وجل: وعزتي وجلالي؛ لا يجاورني فيك بخيل (ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} ) » .
رواه ابن أبي الدنيا. وقد رواه الحاكم في "مستدركه" مختصرا، وقال: "صحيح الإسناد"، وتعقبه الذهبي في "تلخيصه" فقال: "بل ضعيف".
وعن أبي سعيد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ قال: «خلق الله تبارك وتعالى الجنة؛ لبنة من ذهب، ولبنة من فضة، وملاطها المسك، وقال لها: تكلمي، فقالت: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} فقالت الملائكة: طوباك منزل الملوك» .
رواه: البزار مرفوعا وموقوفا، والطبراني في "الأوسط"؛ إلا أنه قال عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله خلق جنة عدن بيده؛ لبنة من ذهب، ولبنة من فضة» (والباقي بنحوه") . قال الهيثمي: "ورجال الموقوف رجال الصحيح، وأبو سعيد لا يقول هذا إلا بتوقيف".
وعن أبي هريرة رضي الله عنه؛ قال: «قلنا: يا رسول الله! حدثنا عن الجنة ما بناؤها؟ قال: "لبنة ذهب، ولبنة فضة، وملاطها المسك الأذفر، وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت، وترابها الزعفران، من يدخلها؛ ينعم ولا يبأس، ويخلد ولا يموت؛ لا تبلى ثيابه، ولا يفنى شبابه» .
رواه: الإمام أحمد، وأبو داود الطيالسي، والدارمي، والترمذي، وابن حبان في "صحيحه". وقد رواه: البزار، والطبراني في "الأوسط" مختصرا. قال(3/377)
الهيثمي: "ورجاله رجال الصحيح".
وروى مسلم طرفا من آخره، ولفظه: عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ قال: «من يدخل الجنة؛ ينعم لا يبأس، لا تبلى ثيابه، ولا يفنى شبابه» .
ورواه الإمام أحمد، وزاد: «في الجنة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر» .
قال ابن الأثير في "النهاية": " (مسك أذفر) ؛ أي: طيب الريح، و (الذفر) ؛ بالتحريك: يقع على الطيب والكريه، ويفرق بينهما بما يضاف إليه ويوصف به" انتهى.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما؛ قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الجنة، فقال: «من يدخل الجنة؛ يحيا فيها لا يموت، وينعم فيها لا يبأس، لا تبلى ثيابه، ولا يفنى شبابه". قيل: يا رسول الله! ما بناؤها؟ قال: "لبنة من ذهب ولبنة من فضة، وملاطها المسك، وترابها الزعفران، وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت» .
رواه: ابن أبي الدنيا، والطبراني. قال المنذري: "وإسناده حسن بما قبله". وقال الهيثمي: "رواه الطبراني بإسناد حسن الترمذي رجاله".
وعن أسامة بن زيد رضي الله عنهما؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم لأصحابه: «ألا مشمر للجنة؛ فإن الجنة لا خطر لها، هي رب الكعبة؛ نور يتلألأ، وريحانة تهتز، وقصر مشيد، ونهر مطرد، وفاكهة كثيرة نضيجة، وزوجة حسناء جميلة، وحلل كثيرة في مقام أبدي في حبرة ونضرة في دور عالية سليمة بهية". قالوا: نحن المشمرون لها يا رسول الله؟ قال: "قولوا: إن شاء الله".
فقال القوم: إن شاء الله.»(3/378)
رواه: ابن ماجه، وابن أبي الدنيا، والبزار، وابن حبان في "صحيحه"، والبيهقي.
قوله: "لا خطر لها": قال ابن الأثير في "النهاية": "أي: لا عوض لها ولا مثل، و (الخطر) ؛ بالتحريك في الأصل: الرهن وما يخاطر عليه، ومثل الشيء وعدله، ولا يقال إلا في الشيء الذي له قدر ومزية، و (الحبرة) ؛ بالفتح: النعمة وسعة العيش". انتهى.
وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «وجنتان من فضة آنيتهما وما فيهما، وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن» .
رواه: الإمام أحمد، وأبو داود الطيالسي، والشيخان، والترمذي.
وعن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن في الجنة غرفة يرى ظاهرها من باطنها وباطنها من ظاهرها، أعدها الله لمن أطعم الطعام، وألان الكلام، وتابع الصيام، وصلى والناس نيام» .
رواه الإمام أحمد. قال الهيثمي: "ورجاله رجال الصحيح، غير عبد الله بن معانق، ووثقه ابن حبان ". انتهى.
وقد رواه ابن حبان في "صحيحه"، ولفظه: قال: «إن في الجنة غرفا يرى ظاهرها من باطنها وباطنها من ظاهرها، أعدها الله لمن أطعم الطعام وأفشى السلام وصلى بالليل والناس نيام» .
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن في الجنة غرفة يرى ظاهرها من باطنها وباطنها من ظاهرها". فقال أبو موسى الأشعري: لمن هي يا رسول الله؟ قال: "لمن ألان الكلام، وأطعم الطعام،»(3/379)
«وبات لله قائما والناس نيام» .
رواه الإمام أحمد. قال الهيثمي: "ورجاله وثقوا على ضعف في بعضهم".
وذكره الهيثمي أيضا في موضع آخر، وفيه: أن الذي سأل النبي صلى الله عليه وسلم هو أبو مالك الأشعري، ثم قال الهيثمي: "رواه أحمد والطبراني في "الكبير"، وإسناده حسن، واللفظ له، وفي رواية أحمد: "فقال أبو موسى الأشعري "". انتهى.
وقد رواه الحاكم في "مستدركه"، ولفظه: قال: " «إن في الجنة غرفا يرى ظاهرها من باطنها، وباطنها من ظاهرها". فقال أبو مالك الأشعري: لمن هي يا رسول الله؟ قال: "لمن أطاب الكلام وأطعم الطعام وبات قائما والناس نيام» .
قال الحاكم: "صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي في "تلخيصه".
وعن علي رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن في الجنة لغرفا يرى ظهورها من بطونها وبطونها من ظهورها". فقام إليه أعرابي، فقال: لمن هي يا نبي الله؟ قال: "هي لمن أطاب الكلام، وأطعم الطعام، وأدام الصيام، وصلى لله بالليل والناس نيام» .
رواه الترمذي، وقال: "هذا حديث حسن غريب".
وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «في الجنة خيمة من لؤلؤة مجوفة، عرضها ستون ميلا، في كل زاوية منها أهل ما يرون الآخرين، يطوف عليهم المؤمن» .
رواه: الإمام أحمد، والشيخان، والترمذي.
وفي رواية لمسلم: قال: «إن للمؤمن في الجنة لخيمة من لؤلؤة واحدة»(3/380)
«مجوفة، طولها ستون ميلا، للمؤمن فيها أهلون يطوف عليهم المؤمن فلا يرى بعضهم بعضا» .
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قال: «لروحة في سبيل الله أو غدوة خير من الدنيا وما فيها، ولقاب قوس أحدكم من الجنة أو موضع قيد (يعني: سوطه) خير من الدنيا وما فيها، ولو أن امرأة من أهل الجنة اطلعت على أهل الأرض؛ لأضاءت ما بينهما ولملأته ريحا، ولنصيفها على رأسها خير من الدنيا وما فيها» .
رواه: الإمام أحمد، والبخاري، والترمذي، وقال: "هذا حديث حسن صحيح".
وفي رواية للبخاري: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ولقاب قوس أحدكم أو موضع قدم من الجنة خير من الدنيا وما فيها، ولو أن امرأة من نساء أهل الجنة اطلعت إلى الأرض؛ لأضاءت ما بينهما، ولملأت ما بينهما ريحا، ولنصيفها (يعني: الخمار) خير من الدنيا وما فيها» .
قال ابن الأثير: " (القاب) : القدر؛ يعني: لقدر قوسه وسوطه من الجنة خير من الدنيا وما فيها" انتهى. وقال المنذري: "قال أبو معمر: (قاب القوس) : من مقبضه إلى رأسه".
وعنه رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «موضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها» .
رواه البزار. قال المنذري والهيثمي: "وإسناده حسن".
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ قال: «لقاب قوس في الجنة خير مما تطلع عليه الشمس وتغرب» .(3/381)
رواه: الإمام أحمد، والبخاري وهذا لفظه.
وفي رواية أحمد: "لقاب قوس (أو: سوط) في الجنة"، والباقي مثله.
وفي رواية لأحمد أيضا: «وموضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها (وقرأ: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} ) » .
وقد رواه الترمذي والحاكم بنحوه، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وقال الحاكم: "صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي في "تلخيصه".
وفي رواية لأحمد عن أبي أيوب مولى عثمان بن عفان عن أبي هريرة رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قيد سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا ومثلها معها، ولقاب قوس أحدكم من الجنة خير من الدنيا ومثلها معها، ولنصيف امرأة من الجنة خير من الدنيا ومثلها معها ". قال: قلت: يا أبا هريرة! ما النصيف؟ قال: الخمار» .
وقد ذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" مختصرا، وقال: "رواه أحمد، ورجاله ثقات".
وعنه رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لموضع سوط في الجنة خير مما بين السماء والأرض» .
رواه الطبراني في "الأوسط". قال الهيثمي: "ورجاله رجال الصحيح".
وعن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «موضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها» .
رواه: الإمام أحمد، والبخاري، والترمذي، وابن ماجه، وقال الترمذي:(3/382)
"هذا حديث حسن صحيح".
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ قال: «لشبر في الجنة خير من الأرض وما فيها» .
رواه ابن ماجه.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أنه قال: "ليس في الجنة شيء مما في الدنيا إلا الأسماء".
رواه البيهقي. قال المنذري: "وإسناده جيد".
وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ قال: «لو أن ما يقل ظفر مما في الجنة بدا؛ لتزخرفت له ما بين خوافق السماوات والأرض، ولو أن رجلا من أهل الجنة اطلع، فبدا سواره؛ لطمس ضوؤه ضوء الشمس كما تطمس الشمس ضوء النجوم» .
رواه: الإمام أحمد، والترمذي، وقال: "هذا حديث غريب".
وعن سهل بن سعد رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن أهل الجنة ليتراءون الغرف في الجنة كما تتراءون الكوكب في السماء» .
رواه: الإمام أحمد، والشيخان.
وقد رواه ابن حبان في "صحيحه"، ولفظه: قال: «إن أهل الجنة يرون أهل الغرف كما يرون الكوكب الدري الغابر في الأفق من المشرق والمغرب لتفاضل ما بينهما". قالوا: يا رسول الله! تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم؟ قال: "بلى، والذي نفسي بيده؛ رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين» .
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن أهل»(3/383)
«الجنة ليتراءون أهل الغرف من فوقهم كما تتراءون الكوكب الدري الغابر من الأفق من المشرق أو المغرب لتفاضل ما بينهم". قالوا: يا رسول الله! تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم؟ قال: "بلى؛ والذي نفسي بيده؛ رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين» .
رواه: البخاري، ومسلم.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ قال: «إن أهل الجنة ليتراءون في الغرفة كما تتراءون الكوكب الشرقي أو الكوكب الغربي الغارب في الأفق أو الطالع في تفاضل الدرجات". فقالوا: يا رسول الله! أولئك النبيون؟ قال: "بلى، والذي نفسي بيده؛ وأقوام آمنوا بالله ورسوله وصدقوا المرسلين» .
رواه: الإمام أحمد، والترمذي، وقال: "هذا حديث حسن صحيح".
وعنه رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أول زمرة يدخلون الجنة على صورة القمر ليلة البدر، والذين يلونهم على أشد كوكب دري في السماء إضاءة؛ لا يبولون، ولا يتغوطون، ولا يمتخطون، ولا يتفلون، أمشاطهم الذهب، ورشحهم المسك، ومجامرهم الألوة، وأزواجهم الحور العين، أخلاقهم على خلق رجل واحد، على صورة أبيهم آدم، ستون ذراعا في السماء» .
رواه: الإمام أحمد، والشيخان، والترمذي، وابن ماجه.
وفي رواية في "الصحيحين": قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أول زمرة تلج الجنة صورتهم على صورة القمر ليلة البدر؛ لا يبصقون فيها،، ولا يمتخطون، ولا يتغوطون؛ آنيتهم فيها الذهب، وأمشاطهم من الذهب والفضة، ومجامرهم الألوة، ورشحهم المسك، ولكل واحد منهم زوجتان يرى مخ سوقهما من وراء اللحم من الحسن، لا اختلاف بينهم ولا تباغض، قلوبهم قلب واحد، يسبحون»(3/384)
«الله بكرة وعشيا» .
وفي رواية للبخاري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أول زمرة تدخل الجنة على صورة القمر ليلة البدر، والذين على إثرهم كأشد كوكب إضاءة، قلوبهم على قلب رجل واحد، لا اختلاف بينهم ولا تباغض، لكل امرئ منهم زوجتان، كل واحدة منهما يرى مخ ساقها من وراء لحمها من الحسن، يسبحون الله بكرة وعشيا؛ لا يسقمون، ولا يمتخطون، ولا يبصقون، آنيتهم الذهب والفضة، وأمشاطهم الذهب، وقود مجامرهم الألوة (قال أبو اليمان: يعني: العود) ، ورشحهم المسك» .
وفي رواية للبخاري أيضا: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أول زمرة تدخل الجنة على صورة القمر ليلة البدر، والذين على آثارهم كأحسن كوكب دري في السماء إضاءة، قلوبهم على قلب رجل واحد، لا تباغض بينهم ولا تحاسد، لكل امرئ منهم زوجتان من الحور العين، يرى مخ سوقهن من وراء العظم واللحم» .
وفي رواية لأحمد ومسلم: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أول زمرة تدخل الجنة من أمتي على صورة القمر ليلة البدر، ثم الذين يلونهم على أشد نجم في السماء إضاءة، ثم هم بعد ذلك منازل؛ لا يتغوطون، ولا يبولون، ولا يتمخطون، ولا يبزقون، أمشاطهم الذهب، ورشحهم المسك، ومجامرهم الألوة، أخلاقهم على خلق رجل واحد على طول أبيهم آدم ستون ذراعا» .
وفي رواية لأحمد ومسلم أيضا عن محمد - وهو ابن سيرين -؛ قال: إما تفاخروا وإما تذاكروا الرجال في الجنة أكثر أم النساء، فقال أبو هريرة رضي الله عنه: أولم يقل أبو القاسم صلى الله عليه وسلم: «إن أول زمرة تدخل الجنة على صورة القمر ليلة البدر، والتي تليها على أضواء كوكب دري في السماء، لكل امرئ منهم زوجتان»(3/385)
«اثنتان؛ يرى مخ سوقهما من وراء اللحم، وما في الجنة أعزب» . هذا لفظ مسلم.
وفي رواية له عن ابن سيرين؛ قال: اختصم الرجال والنساء أيهم في الجنة أكثر، فسألوا أبا هريرة رضي الله عنه؟ فقال: قال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم: بمثل حديث ابن علية.
قلت: وهو ما تقدم في الرواية قبله.
وفي رواية لأحمد عن محمد «عن أبي هريرة رضي الله عنه؛ قال: كنا عنده، فإما تفاخروا وإما تذاكروا الرجال في الجنة أكثر أم النساء؟ فقال أبو هريرة رضي الله عنه: أولم يقل أبو القاسم صلى الله عليه وسلم: " إن أول زمرة تدخل الجنة على صورة القمر ليلة البدر، والزمرة الثانية على أضوأ كوكب دري في السماء، لكل رجل منهم زوجتان من الحور العين، يرى مخ سوقهما من وراء الحلل، والذي نفس محمد بيده؛ ما فيها من أعزب» .
قوله: "ومجامرهم الألوة": قال ابن الأثير: " (المجامر) : جمع مِجْمَر ومُجْمَر، فالمجمر؛ بكسر الجيم: هو الذي يوضع فيه النار للبخور، والمجمر؛ بالضم: الذي يتبخر به وأعد له الجمر، وهو المراد في هذا الحديث؛ أي: إن بخورهم بالألوة وهو العود". وقال ابن الأثير أيضا: " (الألوة) : هو العود الذي يتبخر به وتفتح همزته وتضم وهمزتها أصلية، وقيل: زائدة" انتهى. وقال المنذري: " (الألوة) ؛ بفتح الهمزة وضمها وبضم اللام وتشديد الواو وفتحها: من أسماء العود الذي يتبخر به". قال الأصمعي: "أراها كلمة فارسية عربت". انتهى.
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أول زمرة تدخل الجنة يوم القيامة صورة وجوههم على مثل صورة القمر ليلة»(3/386)
«البدر، والزمرة الثانية على لون أحسن كوكب دري في السماء، لكل رجل منهم زوجتان، على كل زوجة سبعون حلة، يبدو مخ ساقها من وراء لحومها ودمها وحللها» .
رواه: الإمام أحمد، والترمذي، وقال: "هذا حديث حسن صحيح".
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أول زمرة يدخلون الجنة يوم القيامة وجوههم على صورة القمر ليلة البدر، والذين يلونهم كأحسن كوكب دري في السماء، لكل واحد منهم زوجتان من الحور العين، على كل زوجة سبعون حلة، يرى مخ سوقها من رواء لحومهما وحللهما كما يرى الشراب الأحمر في الزجاجة البيضاء» .
رواه الطبراني. قال المنذري والهيثمي: "وإسناده صحيح". قال المنذري: "ورواه البيهقي بإسناد حسن".
وعن جابر رضي الله عنه؛ قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «إن أهل الجنة يأكلون فيها ويشربون ولا يتفلون ولا يبولون ولا يتغوطون ولا يمتخطون". قالوا: فما بال الطعام؟ قال: "جشاء ورشح كرشح المسك، يلهمون التسبيح والتحميد كما تلهمون النفس» .
رواه مسلم.
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ قال: «إن الرجل ليتكئ في الجنة سبعين سنة قبل أن يتحول، ثم تأتيه امرأته، فتضرب على منكبيه، فينظر وجهه في خدها أصفى من المرأة، وإن أدنى لؤلؤة عليها تضيء ما بين المشرق والمغرب، فتسلم عليه". قال: "فيرد السلام، ويسألها: من أنت؟ فتقول: أنا من المزيد. وإنه ليكون عليها سبعون ثوبا أدناها مثل النعمان من طوبى، فينفذها بصره، حتى يرى مخ ساقها من وراء ذلك، وإن»(3/387)
«عليها من التيجان أن أدنى لؤلؤة عليها لتضيء ما بين المشرق والمغرب» .
رواه: الإمام أحمد، وأبو يعلى. قال الهيثمي: "وإسنادهما حسن".
ورواه أيضا: ابن حبان في "صحيحه"، والبيهقي؛ بإسناد حسن.
وقد رواه الحاكم في "مستدركه" مختصرا، ولفظه: عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في «قوله عز وجل: {كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ} ؛ قال: " ينظر إلى وجهه في خدها أصفى من المرآة، وإن أدنى لؤلؤة عليها لتضيء ما بين المشرق والمغرب، وإنه يكون عليها سبعون ثوبا ينفذها بصره، حتى يرى مخ ساقها من وراء ذلك» .
قال الحاكم: "صحيح الإسناد ولم يخرجاه".
وعن الشعبي؛ قال: سمعت المغيرة بن شعبة رضي الله عنه على المنبر يرفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «سأل موسى ربه: ما أدنى أهل الجنة منزلة؟ قال: هو رجل يجيء بعدما أدخل أهل الجنة الجنة، فيقال له: ادخل الجنة. فيقول: أي رب! كيف وقد نزل الناس منازلهم وأخذوا أخذاتهم؟ فيقال له: أترضى أن يكون لك مثل ملك ملك من ملوك الدنيا؟ فيقول: رضيت رب. فيقول: لك ذلك ومثله ومثله ومثله ومثله. فقال في الخامسة: رضيت رب. فيقول: هذا لك وعشرة أمثاله، ولك ما اشتهت نفسك ولذت عينك. فيقول: رضيت رب. قال: رب! فأعلاهم منزلة؟ قال: أولئك الذين أردت، غرست كرامتهم بيدي، وختمت عليها، فلم تر عين ولم تسمع أذن ولم يخطر على قلب بشر. قال: ومصداقه في كتاب الله عز وجل: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} ... الآية» .
رواه مسلم.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ قال: «إن أدنى مقعد أحدكم من الجنة أن يقول له: تمن. فيتمنى ويتمنى، فيقول له: هل تمنيت؟»(3/388)
«فيقول: نعم. فيقول له: فإن لك ما تمنيت ومثله معه» .
رواه مسلم.
وقد رواه الإمام أحمد مطولا، ولفظه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أدنى أهل الجنة منزلة من يتمنى من الله عز وجل، فيقال: لك ذلك ومثله معه؛ إلا أنه يلقن، فيقال له: كذا وكذا. فيقال: لك ذلك ومثله معه". فقال أبو سعيد الخدري رضي الله عنه؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فيقال: لك ذلك وعشرة أمثاله» .
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أدنى أهل الجنة منزلة له ثمانون ألف خادم واثنتان وسبعون زوجة، وينصب له قبة من لؤلؤ وزبرجد وياقوت كما بين الجابية إلى صنعاء» .
رواه: الإمام أحمد، والترمذي، وابن حبان في "صحيحه".
وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ قال: " «إن أدنى أهل الجنة منزلة لمن ينظر إلى جنانه وزوجاته ونعيمه وخدمه وسرره مسيرة ألف سنة، وأكرمهم على الله من ينظر إلى وجهه غدوة وعشية (ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} » .
رواه: الإمام أحمد، وعبد بن حميد، والترمذي، وابن جرير، وعبد الله ابن الإمام أحمد في "كتاب السنة"، وأبو بكر الآجري في "كتاب الشريعة".
وقد رواه الحاكم في "مستدركه"، ولفظه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أدنى أهل الجنة منزلة لرجل ينظر في ملكه ألفي سنة، يرى أقصاه كما يرى أدناه، ينظر في أزواجه وخدمه وسرره، وإن أفضل أهل الجنة منزلة لمن ينظر في وجه الله تعالى كل يوم مرتين» .
ورواه أيضا بنحوه، وزاد: "ثم تلا: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} ؛ قال: البياض(3/389)
والصفاء، {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} ؛ قال: ينظر كل يوم في وجه الله عز وجل".
قال الحاكم: "هذا حديث مفسر في الرد على المبتدعة". انتهى.
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أسفل أهل الجنة أجمعين درجة لمن يقوم على رأسه عشرة آلاف خادم، بيد كل واحد صحفتان؛ واحدة من ذهب والأخرى من فضة، في كل واحدة لون ليس في الأخرى مثله، يأكل من آخرها مثل ما يأكل من أولها، يجد لآخرها من الطيب واللذة مثل الذي يجد لأولها، ثم يكون ذلك ريح المسك الأذفر، لا يبولون ولا يتغوطون ولا يمتخطون، إخوانا على سرر متقابلين» .
رواه الطبراني في "الأوسط". قال المنذري والهيثمي: "ورواته ثقات".
وعن أبي هريرة رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما في الجنة شجرة إلا وساقها من ذهب» .
رواه: الترمذي، وابن أبي الدنيا، وابن حبان في "صحيحه". قال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب".
وعن ابن عباس رضي الله عنهما؛ قال: "نخل الجنة جذوعها من زمرد أخضر، وكربها ذهب أحمر، وسعفها كسوة لأهل الجنة، منها مقطعاتهم وحللهم، وثمرها أمثال القلال أو الدلاء، أشد بياضا من اللبن، وأحلى من العسل، وألين من الزبد، وليس فيها عجم".
رواه ابن أبي الدنيا موقوفا. قال المنذري: "وإسناده جيد". ورواه الحاكم، وقال: "صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي في "تلخيصه".
قلت: وله حكم المرفوع؛ لأنه لا يقال من قبل الرأي، وإنما يقال عن(3/390)
توقيف.
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنه قال له رجل: يا رسول الله! ما طوبى؟ قال: "شجرة مسيرة مائة سنة، ثياب أهل الجنة تخرج من أكمامها» .
رواه ابن حبان في "صحيحه".
وعن البراء بن عازب رضي الله عنهما في قوله عز وجل: {وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا} ؛ قال: "ذللت لهم فيتناولون منها كيف شاؤوا".
رواه الحاكم في "مستدركه"، وقال: "صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه"، وأقره الذهبي في "تلخيصه".
وقد رواه البيهقي ولفظه: عن البراء بن عازب رضي الله عنهما في قوله {وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا} ؛ قال: "إن أهل الجنة يأكلون من ثمار الجنة قياما وقعودا ومضطجعين ".
قال المنذري: "إسناده حسن".
قلت: وله حكم المرفوع؛ لأنه لا يقال من قبل الرأي، وإنما يقال عن توقيف.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنهار الجنة تخرج من تحت تلال أو من تحت جبال المسك» .
رواه ابن حبان في "صحيحه".
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ قال: «من مات من أهل الجنة من صغير أو كبير يردون بني ثلاثين في الجنة، لا يزيدون عليها»(3/391)
«أبدا، وكذلك أهل النار» .
رواه الترمذي، وقال: "هذا حديث غريب".
وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يدخل أهل الجنة الجنة جردا مردا مكحلين أبناء ثلاثين أو ثلاث وثلاثين سنة» .
رواه: الإمام أحمد، والترمذي، وقال: "هذا حديث حسن غريب".
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ قال: «يدخل أهل الجنة الجنة جردا مردا بيضا جعادا مكحلين أبناء ثلاث وثلاثين على خلق آدم ستون ذراعا في عرض سبعة أذرع» .
رواه الإمام أحمد، وفي إسناده علي بن زيد بن جدعان، وفيه كلام، وقد حسن له الترمذي وغيره، وبقية رجاله رجال الصحيح. وقد رواه: ابن أبي الدنيا، والطبراني، والبيهقي؛ كلهم من طريق علي بن زيد بن جدعان. وقال الهيثمي: "رواه الطبراني في "الصغير" و"الأوسط"، وإسناده حسن".
وعنه رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أهل الجنة جرد مرد كحلى لا يفنى شبابهم ولا تبلى ثيابهم» .
رواه الترمذي، وقال: "هذا حديث غريب".
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يدخل أهل الجنة الجنة جردا مردا مكحلين» .
رواه الطبراني في "الأوسط". قال الهيثمي: "وإسناده جيد".
(الجرد) : جمع أجرد، وهو الذي ليس على بدنه شعر. و (المرد) : جمع أمرد، وهو الذي لا شعر في وجهه. و (الجعاد) : جمع جعد، وهو هنا القوي(3/392)
الجسم الشديد الأسر. و (كحلى) : جمع كحيل، مثل قتلى وقتيل. قال ابن الأثير في النهاية": " (الكحل) ؛ بفتحتين: سواد في أجفان العين خلقة، والرجل أكحل وكحيل". وقال في "جامع الأصول": " (الكحيل) : الذي تبين أجفانه كأنها مكحولة من غير كحل". انتهى.
وعن المقدام رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما من أحد يموت سقطا ولا هرما، وإنما الناس فيما بين ذلك؛ إلا بعث ابن ثلاث وثلاثين سنة، فإن كان من أهل الجنة كان على مسحة آدم وصورة يوسف وقلب أيوب، ومن كان من أهل النار عظموا وفخموا كالجبال» .
رواه البيهقي. قال المنذري: "وإسناده حسن".
وعن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ قال: «ينادي مناد: إن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبدا، وإن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبدا، وإن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبدا، وإن لكم أن تنعموا فلا تبتئسوا أبدا؛ فذلك قول الله عز وجل: {وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} » .
رواه: الإمام أحمد، ومسلم، والترمذي.
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة! فيقولون: لبيك ربنا وسعديك والخير في يديك. فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى يا رب وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك؟! فيقول: ألا أعطيكم أفضل من ذلك؟ فيقولون: يا رب! وأي شيء أفضل من ذلك؟ فيقول: أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدا» .(3/393)
رواه: الإمام أحمد، والشيخان، والترمذي.
وعن صهيب رضي الله عنه: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآية: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} ، وقال: "إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار؛ نادى مناد: يا أهل الجنة! إن لكم عند الله موعدا يريد أن ينجزكموه. فيقولون: وما هو؟ ألم يثقل موازيننا؟ ألم يبيض وجوهنا ويدخلنا الجنة ويجرنا من النار؟ قال: فيكشف لهم الحجاب، فينظرون إليه، فوالله؛ ما أعطاهم الله شيئا أحب إليهم من النظر إليه ولا أقر لأعينهم» .
رواه: الإمام أحمد، ومسلم، والترمذي، وابن ماجه.
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بينا أهل الجنة في نعيمهم؛ إذ سطع عليهم نور، فرفعوا رؤوسهم؛ فإذا الرب عز وجل قد أشرف عليهم من فوقهم، فقال: السلام عليكم يا أهل الجنة! فذلك قوله تعالى: {سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} ". قال: "فينظر إليهم وينظرون إليه، فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم ما داموا ينظرون إليه، حتى يحتجب عنهم، ويبقى نوره وبركته عليهم في ديارهم» .
رواه: ابن ماجه، وابن أبي حاتم، والبغوي.
وعنه رضي الله عنه؛ قال: «سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقيل: يا رسول الله! أينام أهل الجنة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " النوم أخو الموت، وأهل الجنة لا ينامون» .
رواه: الطبراني في "الأوسط"، والبزار. قال الهيثمي: "ورجال البزار رجال الصحيح".(3/394)
فصل
في صفة النار والترهيب منها وصفة أهلها
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} .
وقال تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} .
وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا} .
وقال تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} .
وقال تعالى: {وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ} .
وقال تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ} .
وقال تعالى: {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا} .
وقال تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَا} .(3/395)
وقال تعالى: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} .
وقال تعالى: {وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ} .
وقال تعالى: {بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا} .
وقال تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} .
وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَالَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَ وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَ رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا} .
وقال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} .(3/396)
وقال تعالى: {وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَابَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} .
وقال تعالى: {هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لَا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُوا النَّارِ قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لَا مَرْحَبًا بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ قَالُوا رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ أَأَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ} .
وقال تعالى: {قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَاعِبَادِ فَاتَّقُونِ} .
وقال تعالى: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} .
وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ}(3/397)
{ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} .
وقال تعالى: {وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ} .
وقال تعالى: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ وَنَادَوْا يَامَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} .
وقال تعالى: {إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعَامُ الْأَثِيمِ كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ كَغَلْيِ الْحَمِيمِ خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ إِنَّ هَذَا مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ} .
وقال تعالى: {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} .
وقال تعالى: {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ}(3/398)
{أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} .
وقال تعالى: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ} .
وقال تعالى: {وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ} .
وقال تعالى: {وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ} .
وقال تعالى: {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَالَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ} .(3/399)
وقال تعالى: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا وَبَنِينَ شُهُودًا وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ نَظَرَ ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ سَأُصْلِيهِ سَقَرَ وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} .
وقال تعالى: {إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا} .
وقال تعالى: {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا} .
وقال تعالى: {إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا لِلطَّاغِينَ مَآبًا لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا جَزَاءً وِفَاقًا إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا} .
وقال تعالى: {فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى فَأَمَّا مَنْ طَغَى وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى} .
وقال تعالى: {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَا} .
وقال تعالى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ} .(3/400)
وقال تعالى: {كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى يَقُولُ يَالَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ} .
وقال تعالى: {فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى} .
وقال تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ نَارٌ حَامِيَةٌ} .
وقال تعالى: {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ} .
والآيات في ذكر النار والترهيب منها كثيرة جدا، وفيما ذكرته هاهنا كفاية إن شاء الله تعالى.
وروى: الإمام أحمد، وأبو داود الطيالسي، وابن حبان في "صحيحه"، والحاكم في "مستدركه"؛ عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما؛ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب يقول: «أنذرتكم النار، أنذرتكم النار، أنذرتكم النار "، حتى لو أن رجلا كان بالسوق لسمعه من مقامي هذا. قال: حتى وقعت خميصة كانت على عاتقه عند رجليه» .
وفي رواية لأحمد: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنذرتكم النار، أنذرتكم النار» ، حتى لو كان رجل في أقصى السوق سمعه وسمع أهل السوق صوته وهو على المنبر.
قال الحاكم: "صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي في(3/401)
"تلخيصه".
قلت: وكذا أسانيد أحمد والطيالسي؛ فكلها صحيحة على شرط مسلم.
وعن عدي بن حاتم رضي الله عنه؛ قال: «ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم النار، فتعوذ منها، وأشاح بوجهه، ثم ذكر النار، فتعوذ منها، وأشاح بوجهه، ثم ذكر النار فتعوذ منها، وأشاح بوجهه، فقال: " اتقوا النار ولو بشق تمرة، فإن لم تجدوا فبكلمة طيبة» .
رواه: الإمام أحمد، وأبو داود الطيالسي، والشيخان، والنسائي.
قوله: «أشاح بوجهه» : قال ابن الأثير في "جامع الأصول": "أعرض، وقيل: حذر، وقيل: أقبل بوجهه". وقال في "النهاية": "المشيح: الحذر، والجاد في الأمر، وقيل: المقبل إليك المانع لما وراء ظهره، فيجوز أن يكون أشاح أحد هذه المعاني؛ أي: حذر النار كأنه ينظر إليها، أو جد على الإيصاء باتقائها، أو أقبل إليك في خطابه". انتهى.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ قال: «ناركم هذه التي يوقد ابن آدم جزء من سبعين جزءا من حر جهنم". قالوا: والله؛ إن كانت لكافية يا رسول الله. قال: "فإنها فضلت عليها بتسعة وستين جزءا كلهن مثل حرها» .
رواه: مالك، وأحمد، والشيخان، والترمذي، وقال: "هذا حديث حسن صحيح".
وقد رواه الإمام أحمد أيضا بإسناد صحيح، ولفظه: قال: «إن ناركم هذه جزء من سبعين جزءا من نار جهنم، وضربت بالبحر مرتين، ولولا ذلك؛ ما جعل الله فيها منفعة لأحد» .
ورواه ابن حبان في "صحيحه"، والبيهقي بنحوه، وفي رواية للبيهقي: أن(3/402)
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «تحسبون أن نار جهنم مثل ناركم هذه؟ هي أشد سوادا من القار، وهي جزء من بضعة وستين جزءا منها» (أو: نيف وأربعين. شك أبو سهيل أحد رواة هذا الحديث") .
وعنه رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «هذه النار جزء من مائة جزء من جهنم» .
رواه الإمام أحمد. قال المنذري والهيثمي: "ورجاله رجال الصحيح".
وقال ابن كثير: "وإسناده على شرط مسلم وفي لفظه غرابة، وأكثر الروايات عن أبي هريرة: «جزء من سبعين جزءا» . انتهى.
وعنه رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أتدرون ما مثل ناركم هذه من نار جهنم؟ لهي أشد دخانا من دخان ناركم هذه سبعين ضعفا» .
رواه الطبراني في "الأوسط". قال الهيثمي: "ورجاله رجال الصحيح".
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ قال: «ناركم هذه جزء من سبعين جزءا من نار جهنم، لكل جزء منها حرها» .
رواه الترمذي، وقال: "هذا حديث حسن غريب من حديث أبي سعيد رضي الله عنه".
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن ناركم هذه جزء من سبعين جزءا من نار جهنم، ولولا أنها أطفئت بالماء مرتين؛ ما انتفعتم بها، وإنها لتدعو الله عز وجل أن لا يعيدها فيها» .
رواه: ابن ماجه، والحاكم وصححه، وتعقبه الذهبي بأن في إسناده واهيا ومن ليس بثقة.
قلت: ورواية أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه تشهد له وتقويه.(3/403)
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ قال: «أوقد على النار ألف سنة حتى احمرت، ثم أوقد عليها ألف سنة حتى ابيضت، ثم أوقد عليها ألف سنة حتى اسودت؛ فهي سوداء مظلمة» .
رواه: الترمذي بهذا اللفظ، وابن ماجه بنحوه، وفي روايته: «فهي سوداء كالليل المظلم» . قال الترمذي: "وحديث أبي هريرة في هذا موقوف أصح".
وقد رواه مالك والبيهقي في "شعب الإيمان" مختصرا مرفوعا؛ قال: «أترونها حمراء كناركم هذه؟ لهي أشد سوادا من القار» .
والقار: الزفت.
وزاد رزين: «ولو أن أهل النار أصابوا ناركم هذه؛ لناموا فيها (أو قال: لقالوا فيها» ) .
وروي عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو حديث أبي هريرة رضي الله عنه، رواه البزار والبيهقي.
وعن سلمان رضي الله عنه؛ قال: «النار سوداء لا يضيء لهبها ولا جمرها (ثم قرأ الآية: {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا} » .
رواه الحاكم في "مستدركه"، وقال: "صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي في "تلخيصه".
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يؤتى بجهنم يومئذ لها سبعون ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك؛ يجرونها» .
رواه: مسلم، والترمذي. ورواه الطبراني بنحوه. قال الهيثمي: "ورجاله رجال الصحيح؛ غير حفص بن عمر بن الصباح، وقد وثقه ابن حبان ".
وروى آدم بن أبي إياس في "تفسيره" عن ابن عباس رضي الله عنهما في(3/404)
قوله تعالى: {إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} ، من مسيرة مائة عام، وذلك إذا أتي بجهنم تقاد بسبعين ألف زمام، يشد بكل زمام سبعون ألف ملك، لو تركت؛ لأتت على كل بر وفاجر. {سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا} ، تزفر زفرة ولا تبقى قطرة من دمع إلا ندرت، ثم تزفر الثانية فتقطع القلوب من أماكنها وتبلغ اللهوات والحناجر".
وعن ابن مسعود رضي الله عنه في قوله تعالى: {إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ} ؛ قال: "أما إني لست أقول كالشجر ولكن كالحصون والمدائن".
رواه البيهقي. قال المنذري: "وإسناده لا بأس به، وفيه حديج بن معاوية، وقد وثقه أبو حاتم ".
وعن أنس رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو أن غربا من جهنم جعل في وسط الأرض؛ لآذى نتن ريحه وشدة حره ما بين المشرق والمغرب، ولو أن شررة من شرر جهنم بالمشرق؛ لوجد حرها من بالمغرب» .
رواه الطبراني في "الأوسط". قال المنذري: "وفي إسناده احتمال للتحسين". وقال الهيثمي: "فيه تمام بن نجيح وهو ضعيف وقد وثق، وبقية رجاله أحسن حالا من تمام".
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ قال: «لو كان في هذا المسجد مائة ألف أو يزيدون، وفيهم رجل من أهل النار، فتنفس، فأصابهم نفسه؛ لاحترق المسجد ومن فيه» .
رواه أبو يعلى. قال المنذري: "وإسناده حسن وفي متنه نكارة".
وقال الهيثمي: "رواه أبو يعلى عن شيخه إسحاق، ولم ينسبه، فإن كان ابن راهويه؛ فرجاله رجال الصحيح، وإن كان غيره؛ فلم أعرفه".(3/405)
وقد رواه البزار، ولفظه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو كان في المسجد مائة ألف أو يزيدون، ثم تنفس رجل من أهل النار؛ لأحرقهم» .
قال الهيثمي: "فيه عبد الرحيم بن هارون، وهو ضعيف، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال يعتبر حديثه إذا حدث من كتابه، فإن في حديثه من حفظه بعض مناكير، وبقية رجاله رجال الصحيح".
وعن ابن عباس رضي الله عنهما؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} ، ولو أن قطرة من الزقوم قطرت في الأرض؛ لأمرت على أهل الدنيا معيشتهم؛ فكيف بمن هو طعامه وليس له طعام غيره» .
رواه: الإمام أحمد، وأبو داود الطيالسي، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وابن حبان في "صحيحه"، والحاكم في "مستدركه"، وقال: "صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي في "تلخيصه".
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لو أن دلوا من غساق يهراق في الدنيا؛ لأنتن أهل الدنيا» .
رواه: الإمام أحمد، والترمذي، والحاكم، وقال: "صحيح الإسناد ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي في "تلخيصه".
قال الراغب الأصفهاني: " (الغساق) : ما يقطر من جلود أهل النار". وقال ابن الأثير: "هو ما يسيل من صديد أهل النار وغسالتهم، وقيل: ما يسيل من دموعهم، وقيل: هو الزمهرير". وقال المنذري: " (الغساق) : هو المذكور في القرآن في قوله تعالى: {فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ} ، وقوله: {لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا} ، وقد اختلف في معناه، فقيل: هو ما يسيل من بين جلد الكافر ولحمه؛ قاله ابن عباس. وقيل: هو صديد أهل النار؛ قاله(3/406)
إبراهيم وقتادة وعطية وعكرمة. وقال كعب: هو عين في جهنم تسيل إليها حمة كل ذات حمة من حية أو عقرب أو غير ذلك، فيستنقع، فيؤتى بالآدمي، فيغمس فيها غمسة واحدة، فيخرج وقد سقط جلده ولحمه عن العظام، ويتعلق جلده ولحمه في عقبيه وكعبيه، فيجر لحمه كما يجر الرجل ثوبه. وقال عبد الله بن عمرو: (الغساق) : القيح الغليظ، لو أن قطرة منه تهراق في المغرب؛ لأنتنت أهل المشرق، ولو تهراق في المشرق؛ لأنتنت أهل المغرب. وقيل غير ذلك" انتهى.
وعن أبي سعيد الخدري أيضا رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ماء كالمهل؛ قال: "كعكر الزيت، فإذا قربه إلى وجهه؛ سقطت فروة وجهه فيه» .
رواه: الإمام أحمد، والترمذي، وابن حبان في "صحيحه"، والحاكم في "مستدركه"، وقال: "صحيح الإسناد ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي في "تلخيصه".
قال الجوهري في "الصحاح": " (العكر) : دردي الزيت وغيره". قال: "ودردي الزيت وغيره: ما بقي في أسفله". وقال ابن منظور في "لسان العرب": "والعكر: دردي كل شيء، وعكر الشراب والماء والدهن: آخره وخائره". قال: "ودردي الزيت وغيره: ما يبقى في أسفله".
وعن أبي أمامة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في «قوله: {وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ يَتَجَرَّعُهُ} ؛ قال: "يقرب إليه فيتكرهه، فإذا أدني منه؛ شوى وجهه ووقعت فروة رأسه، فإذا شربه؛ قطع أمعاءه حتى تخرج من دبره، يقول الله تبارك وتعالى: {وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ} ، ويقول الله عز وجل: {وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا} » .(3/407)
رواه: الإمام أحمد، والترمذي، والحاكم. وقال الترمذي: "هذا حديث غريب". وقال الحاكم: "صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي في "تلخيصه".
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ قال: «إن الحميم ليصب على رؤوسهم، فينفذ الجمجمة، حتى يخلص إلى جوفه، فيسلت ما في جوفه حتى يمرق من قدميه» .
رواه: الإمام أحمد، والترمذي، والحاكم في "مستدركه". وزاد الترمذي والحاكم بعد قوله: «حتى يمرق من قدميه» : "وهو الصهر، ثم يعاد كما كان".
قال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب صحيح". وقال الحاكم: "صحيح الإسناد ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي في "تلخيصه".
وعن أبي الدرداء رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يلقى على أهل النار الجوع، فيعدل ما هم فيه من العذاب، فيستغيثون، فيغاثون بطعام من ضريع، لا يسمن ولا يغني من جوع، فيستغيثون بالطعام، فيغاثون بطعام ذي غصة، فيذكرون أنهم كانوا يجيزون الغصص في الدنيا بالشراب، فيستغيثون بالشراب، فيدفع إليهم الحميم بكلاليب الحديد؛ فإذا دنت من وجوههم؛ شوت وجوههم، فإذا دخلت بطونهم؛ قطعت ما في بطونهم، فيقولون: ادعوا خزنة جهنم، فيقولون: {لَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ} ". قال: "فيقولون: ادعوا مالكا، فيقولون: {يَامَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} . قال: فيجيبهم: {إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} ". قال الأعمش: نبئت أن بين دعائهم وبين إجابة مالك إياهم ألف عام. قال: "فيقولون: ادعوا ربكم؛ فلا أحد خير من ربكم. فيقولون: {رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ} ".»(3/408)
«قال: "فيجيبهم: {اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ} ". قال: "فعند ذلك يئسوا من كل خير، وعند ذلك يأخذون في الزفير والحسرة والويل» .
رواه الترمذي عن عبد الله بن عبد الرحمن - وهو الدارمي - عن عاصم بن يوسف عن قطبة بن عبد العزيز عن الأعمش عن شمر بن عطية عن شهر بن حوشب عن أم الدرداء عن أبي الدرداء رضي الله عنه، وقال الترمذي بعد إيراده: "قال عبد الله بن عبد الرحمن: والناس لا يرفعون هذا الحديث". قال: "وإنما روي هذا الحديث عن الأعمش عن شمر بن عطية عن شهر بن حوشب عن أم الدرداء عن أبي الدرداء قوله، وليس بمرفوع، وقطبة بن عبد العزيز هو ثقة عند أهل الحديث". انتهى.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما: {وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ} ؛ قال: "شوكا يأخذ بالحلق لا يدخل ولا يخرج".
رواه الحاكم، وصححه، وتعقبه الذهبي بتضعيف أحد رواته.
وعن عبد الله - وهو ابن مسعود - رضي الله عنه - في قوله عز وجل: {فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} ؛ قال: "نهر في جهنم بعيد القعر خبيث الطعم".
رواه الحاكم في "مستدركه"، وقال: "صحيح الإسناد ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي في "تلخيصه".
وعن أبي سعيد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ قال: « (ويل) : واد في جهنم، يهوي فيه الكافر أربعين خريفا قبل أن يبلغ قعره، و (الصعود) : جبل من نار يتصعد فيه سبعين خريفا ثم يهوي فيه كذلك أبدا» .
رواه: الإمام أحمد، والحاكم، وقال: "صحيح الإسناد ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي في "تلخيصه". وقد رواه الترمذي مفرقا في موضعين، وقال:(3/409)
"هذا حديث غريب". ورواه ابن حبان في "صحيحه" مختصرا.
وعنه رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في «قوله: {سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا} ؛ قال: "هو جبل في النار من نار يكلف أن يصعده، فإذا وضع يده عليه؛ ذابت، وإذا رفعها؛ عادت، وإذا وضع رجله عليه؛ ذابت، وإذا رفعها؛ عادت» .
رواه: البزار، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن مردويه.
وعن علي رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تعوذوا بالله من جب الحزن أو وادي الحزن". قيل: يا رسول الله! وما جب الحزن أو وادي الحزن؟ قال: "واد في جهنم تتعوذ منه جهنم كل يوم سبعين مرة، أعده الله للقراء المرائين» .
رواه البيهقي. قال المنذري: "وإسناده حسن".
وعن أبي موسى رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال: «في جهنم واد، في الوادي بئر يقال له: هبهب، حق على الله أن يسكنها كل جبار» .
رواه الحاكم في "مستدركه"، وقال: "صحيح الإسناد ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي في "تلخيصه".
وعن خالد بن عمير؛ قال: خطب عتبة بن غزوان رضي الله عنه، فقال: "إنه ذكر لنا أن الحجر يلقى من شفير جهنم فيهوي فيها سبعين عاما ما يدرك لها قعرا، والله؛ لتملأنه! أفعجبتم؟! ".
رواه مسلم.
وقد رواه الترمذي من طريق هشام بن حسان عن الحسن؛ قال: قال عتبة بن غزوان على منبرنا هذا منبر البصرة: عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ قال: «إن الصخرة»(3/410)
«العظيمة لتلقى من شفير جهنم، فتهوي فيها سبعين عاما ما تفضي إلى قرارها» .
قال: وكان عمر رضي الله عنه يقول: أكثروا ذكر النار؛ فإن حرها شديد، وإن قعرها بعيد، وإن مقامعها حديد.
قال الترمذي: "لا نعرف للحسن سماعا عن عتبة بن غزوان، وإنما قدم عتبة بن غزوان البصرة في زمن عمر، وولد الحسن لسنتين بقيتا من خلافة عمر " انتهى.
وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو أن حجرا يقذف به في جهنم؛ هوى سبعين خريفا قبل أن يبلغ قعرها» .
رواه: البزار، وأبو يعلى، وابن حبان في "صحيحه".
وعن أبي هريرة رضي الله عنه؛ قال: «كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إذ سمع وجبة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "تدرون ما هذا؟ ". قال: قلنا: الله ورسوله أعلم. قال: "هذا حجر رمي به في النار منذ سبعين خريفا؛ فهو يهوي في النار الآن حتى انتهى إلى قعرها» .
رواه مسلم.
وعنه رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ قال: «لو أخذ سبع خلفات بشحومهن، فألقين من شفير جهنم؛ ما انتهين إلى آخرها سبعين عاما» .
رواه الحاكم في "مستدركه"، ولم يتكلم عليه، وقال الذهبي في "تلخيصه": "سنده صالح". وفي رواية: قال أبو هريرة رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «والذي نفس محمد بيده؛ إن قدر ما بين شفير النار وقعرها كصخرة زنتها سبع خلفات بشحومهن ولحومهن وأولادهن، تهوي فيما بين شفير النار وقعرها، إلى أن تقع قعرها سبعين خريفا» .(3/411)
قال الحاكم: "صحيح الإسناد ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي في "تلخيصه".
وعن أبي أمامة رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو أن صخرة وزنت عشر خلفات قذف بها من شفير جهنم؛ ما بلغت قعرها سبعين خريفا حتى تنتهي إلى غي وأثام". قيل: وما غي وأثام؟ قال: "بئران في جهنم، يسيل فيهما صديد أهل النار، وهما اللتان ذكرهما الله في كتابه: {أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} ، وقوله: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا} » .
رواه: الطبراني، والبيهقي مرفوعا. قال المنذري: "ورواه غيرهما موقوفا على أبي أمامة، وهو أصح".
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو أن رصاصة مثل هذه (وأشار إلى مثل الجمجمة) أرسلت من السماء إلى الأرض، وهي مسيرة خمس مائة سنة؛ لبلغت الأرض قبل الليل، ولو أنها أرسلت من رأس السلسلة؛ لسارت أربعين خريفا الليل والنهار قبل أن تبلغ أصلها أو قعرها» .
رواه: الإمام أحمد، والترمذي، وقال: "هذا حديث إسناده حسن صحيح".
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ قال: «لو أن مقمعا من حديد جهنم وضع في الأرض، فاجتمع له الثقلان؛ ما أقلوه من الأرض» .
رواه: الإمام أحمد، وأبو يعلى، والحاكم، وقال: "صحيح الإسناد ولم يخرجاه"، وأقره الذهبي.
وعنه رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لو ضرب مقمع من حديد جهنم»(3/412)
«الجبل؛ لتفتت؛ كما يضرب به أهل النار، فصار رمادا» .
رواه: الإمام أحمد، والحاكم واللفظ له، وقال:"صحيح الإسناد ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي في "تلخيصه".
وعن عبد الله بن الحارث بن جزء الزبيدي رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن في النار حيات كأمثال أعناق البخت، تلسع إحداهن اللسعة، فيجد حموتها أربعين خريفا، وإن في النار عقارب كأمثال البغال الموكفة، تلسع إحداهن اللسعة، فيجد حموتها أربعين سنة» .
رواه: الإمام أحمد، والطبراني. وقد رواه ابن حبان في "صحيحه"، والحاكم في "مستدركه" مختصرا، وقال: "صحيح الإسناد ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي في "تلخيصه".
وعن يزيد بن شجرة؛ قال: "إن لجهنم لجبابا، في كل جب ساحل كساحل البحر، فيه هوام وحيات كالبخاتي وعقارب كالبغال الدلم، فإذا سأل أهل النار التخفيف؛ قيل: اخرجوا إلى الساحل، فتأخذهم تلك الهوام بشفاههم وجنوبهم وبما شاء الله من ذلك، فتكشطها، فيرجعون، فيبادرون إلى معظم النار، ويسلط عليهم الجرب، حتى إن أحدهم ليحك جلده، حتى يبدو العظم، فيقال: يا فلان! هل يؤذيك هذا؟ فيقول: نعم. فيقال له: ذلك بما كنت تؤذي المؤمنين".
رواه ابن أبي الدنيا. قال المنذري: " ويزيد بن شجرة الرهاوي مختلف في صحبته".
وعن عبد الله - وهو ابن مسعود - رضي الله عنه في قول الله عز وجل: {زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ} ؛ قال: "زيدوا عقارب أنيابها كالنخل الطوال".(3/413)
رواه: أبو يعلى، والطبراني، والحاكم، وقال: "صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي في "تلخيصه". وقال الهيثمي: "رواه الطبراني، ورجاله رجال الصحيح".
وعن البراء بن عازب رضي الله عنهما: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن قول الله تعالى: {زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ} ؛ قال: (عقارب أمثال النخل الطوال تنهشهم في جهنم» .
رواه الطبراني.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أنه قال في قول الله تعالى: {زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ} ؛ قال: "هي خمسة أنهار تحت العرش؛ يعذبون ببعضها بالليل، وببعضها بالنهار".
رواه أبو يعلى. قال الهيثمي: "ورجاله رجال الصحيح".
وعن أبي الدرداء رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في «قوله تعالى: {تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ} ؛ قال: "تلفحهم لفحة فتسيل لحومهم على أعقابهم» .
رواه ابن مردويه.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ قال: «إن جهنم لما سيق إليها أهلها؛ تلقتهم، فلفحتهم لفحة، فلم تدع لحما على عظم إلا ألقته على العرقوب» .
رواه: الطبراني في "الأوسط"، والبيهقي مرفوعا. قال المنذري: "ورواه غيرهما موقوفا عليه، وهو أصح".
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: « {تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ} ؛ قال: "تشويه النار، فتقلص شفته العليا»(3/414)
«حتى تبلغ وسط رأسه، وتسترخي شفته السفلى حتى تضرب سرته» .
رواه: الإمام أحمد، والترمذي، والحاكم، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح غريب"، وقال الحاكم: "صحيح الإسناد ولم يخرجاه".
وعن ابن مسعود رضي الله عنه في قوله عز وجل: {وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ} قال: "كلوح الرأس النضيج".
رواه الحاكم في "مستدركه"، وقال: "صحيح الإسناد ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي في "تلخيصه".
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما؛ قال: "لو أن رجلا من أهل النار أخرج إلى الدنيا؛ لمات أهل الدنيا من وحشة منظره ونتن ريحه (ثم بكى عبد الله بكاءً شديدا".
رواه ابن أبي الدنيا.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ قال: «يعظم أهل النار في النار، حتى إن بين شحمة أذن أحدهم إلى عاتقه مسيرة سبع مائة عام، وإن غلظ جلده سبعون ذراعا، وإن ضرسه مثل أحد» .
رواه: الإمام أحمد، والطبراني في "الكبير" و"الأوسط". قال الهيثمي: "وفي أسانيدهم أبو يحيى القتات، وهو ضعيف، وفيه خلاف، وبقية رجاله أوثق منه". وقال المنذري: "إسناده قريب من الحسن".
وقد تقدم حديث المقدام رضي الله عنه مرفوعا، وفيه: «ومن كان من أهل النار عظموا وفخموا كالجبال» .
رواه البيهقي. قال المنذري: "وإسناده حسن".
وعن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما بين منكبي»(3/415)
«الكافر مسيرة ثلاثة أيام للراكب المسرع» .
رواه: البخاري، ومسلم.
ورواه الحسن بن سفيان، ولفظه: قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما بين منكبي الكافر مسيرة خمسة أيام للراكب المسرع» .
وعنه رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ضرس الكافر (أو: ناب الكافر) مثل أحد، وغلظ جلده مسيرة ثلاث» .
رواه مسلم، وقد رواه الترمذي مختصرا، ولفظه: قال: «ضرس الكافر مثل أحد» . ثم قال الترمذي: "هذا حديث حسن".
وعنه رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ضرس الكافر مثل أحد، وفخذه مثل ورقان، وغلظ جلده أربعون عاما» .
رواه البزار.
قال ابن الأثير في "النهاية": " (ورقان) ؛ بوزن قطران: جبل أسود بين العرج والرويثة على يمين المار من المدينة على مكة" انتهى.
وعنه رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ضرس الكافر يوم القيامة مثل أحد، وعرض جلده سبعون ذراعا، وفخذه مثل ورقان، ومقعده في النار مثل ما بيني وبين الربذة» .
رواه الإمام أحمد. قال المنذري: "وإسناده جيد". وقال الهيثمي: "رجاله رجال الصحيح؛ غير ربعي بن إبراهيم، وهو ثقة".
وقد رواه الحاكم في "مستدركه"، والبيهقي، وزادا فيه: «وعضده مثل البيضاء» . قال الحاكم: "صحيح الإسناد ولم يخرجاه بهذه السياقة، إنما اتفقا على ذكر ضرس الكافر فقط"، وافقه الذهبي على تصحيحه.(3/416)
ورواه الترمذي، ولفظه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ضرس الكافر يوم القيامة مثل أحد، وفخذه مثل البيضاء، ومقعده من النار مسيرة ثلاث مثل الربذة» .
قال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب". قال: "وقوله: «مثل الربذة» ؛ يعني به: كما بين المدينة والربذة، والبيضاء جبل" انتهى.
وقد رواه الحاكم أيضا من حديث أبي هريرة رضي الله عنه موقوفا؛ قال: «إن ضرس الكافر يوم القيامة مثل أحد، ورأسه مثل البيضاء، وفخذه مثل ورقان، وغلظ جلده سبعون ذراعا، وإن مجلسه في النار كما بين المدينة والربذة» . قال أبو هريرة: "وكان يقال: بطنه مثل إضم".
قال الحاكم: "صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي في "تلخيصه".
قال ابن الأثير في "النهاية": " (الربذة) ؛ بالتحريك: قرية معروفة قرب المدينة". وقال أيضا: " (إضم) ؛ بكسر الهمزة وفتح الضاد: اسم جبل، وقيل: موضع" انتهى.
وعنه رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ضرس الكافر مثل أحد وفخذه مثل البيضاء، ومقعده من النار كما بين قديد ومكة، وكثافة جلده اثنان وأربعون ذراعا بذراع الجبار» .
رواه الإمام أحمد.
وقد رواه الترمذي من طريق الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ قال: «إن غلظ جلد الكافر اثنان وأربعون ذراعا، وإن ضرسه مثل أحد، وإن مجلسه من جهنم ما بين مكة والمدينة» .
قال الترمذي: "هذا حيدث حسن صحيح غريب من حديث الأعمش ".(3/417)
ورواه ابن حبان في "صحيحه"، والحاكم في "مستدركه"؛ من طريق الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ قال: «إن غلظ جلد الكافر اثنان وأربعون ذراعا بذراع الجبار، وضرسه مثل أحد» .
قال الحاكم: "صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي في "تلخيصه".
قال ابن حبان: " (الجبار) : ملك باليمن، يقال له: الجبار". وقال الحاكم: "قال الشيخ أبو بكر (يعني: أبا بكر بن إسحاق شيخ الحاكم) : معنى قوله: "بذراع الجبار"؛ أي: جبار من جبابرة الآدميين ممن كان في القرون الأولى ممن كان أعظم خلقا وأطول أعضاء وذراعا من الناس" انتهى. وقال ابن الأثير في "النهاية": "ومنه الحديث الآخر: "كثافة جلد الكافر أربعون ذراعا بذراع الجبار": أراد به هاهنا الطويل، وقيل: الملك؛ كما يقال: بذراع الملك. قال القتيبي: وأحسبه ملكا من ملوك الأعاجم كان تام الذارع" انتهى.
وهذه الأقوال لا دليل على شيء منها، والأولى إمرار الحديث كما جاء، وترك التكلف في بيان معنى ذراع الجبار، والله أعلم بمراد رسوله صلى الله عليه وسلم.
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ قال: «مقعد الكافر في النار مسيرة ثلاثة أيام، وكل ضرس مثل أحد، وفخذه مثل ورقان، وجلده سوى لحمه وعظامه أربعون ذراعا» .
رواه: الإمام أحمد، وأبو يعلى. قال الهيثمي: "وفيه ابن لهيعة، وقد وثق على ضعفه" انتهى.
وقد رواه الحاكم في "مستدركه" من طريق عمرو بن الحارث عن دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد رضي الله عنه، وقال: "صحيح الإسناد ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي في "تلخيصه".(3/418)
ورواه ابن ماجه من طريق محمد بن أبي ليلى عن عطية العوفي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ قال: «إن الكافر ليعظم حتى إن ضرسه لأعظم من أحد، وفضيلة جسده على ضرسه كفضيلة جسد أحدكم على ضرسه» .
عطية العوفي والراوي عنه ضعيفان، ولكن له شاهد مما تقدم عن أبي هريرة رضي الله عنه.
وعن ثوبان رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ضرس الكافر مثل أحد، وغلظ جلده أربعون ذراعا بذراع الجبار» .
رواه البزار. قال الهيثمي: "وفيه عباد بن منصور، وهو ضعيف، وقد وثق، وبقية رجاله ثقات".
وعن يزيد بن حيان التيمي؛ قال: انطلقت أنا وحسين بن سبرة وعمر بن مسلم إلى زيد بن أرقم رضي الله عنه ... (فذكر الحديث وفيه) : وحدثنا زيد في مجلسه؛ قال: "إن الرجل من أهل النار ليعظم للنار حتى يكون الضرس من أضراسه كأحد".
رواه الإمام أحمد. قال الهيثمي: "ورجاله رجال الصحيح، غير عنبسة بن سعيد، وهو ثقة".
وعن مجاهد؛ قال: "قال لي ابن عباس رضي الله عنهما: أتدري ما سعة جهنم؟ قلت: لا. قال: أجل، والله ما تدري أن بين شحمة أذن أحدهم وبين عاتقه مسيرة سبعين خريفا؛ أودية القيح والدم. قلت: له أنهار؟! قال: لا؛ بل أودية. ثم قال: أتدري ما سعة جهنم؟ قلت: لا. قال: أجل، والله ما تدري، حدثتني عائشة رضي الله عنها: أنها «سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قول الله عز وجل: {وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} . قلت:»(3/419)
«فأين الناس يومئذ يا رسول الله؟ قال: "على جسر جهنم» .
رواه الحاكم في "مستدركه"، وقال: "صحيح الإسناد ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي في "تلخيصه".
وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو النضر: حدثنا أبو عقيل - يعني: عبد الله بن عقيل - عن الفضل بن يزيد الثمالي: حدثني أبو العجلان: سمعت ابن عمر رضي الله عنهما يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الكافر ليجر لسانه يوم القيامة وراءه قدر فرسخين يتوطؤه الناس» .
إسناده جيد.
وقد رواه الترمذي عن هناد عن علي بن مسهر عن الفضل بن يزيد عن أبي المخارق عن ابن عمر رضي الله عنهما؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الكافر ليسحب لسانه الفرسخ والفرسخين يتوطؤه الناس» .
قال الترمذي: "هذا حديث غريب، إنما نعرفه من هذا الوجه، والفضل بن يزيد كوفي قد روى عنه غير واحد من الأئمة، وأبو المخارق ليس بمعروف" انتهى كلام الترمذي. وقد تقدم أن الإمام أحمد رواه من طريق الفضل بن يزيد عن أبي العجلان عن ابن عمر رضي الله عنهما، وكذا رواه البيهقي وغيره. قال المنذري: "وهو الصواب".
وقول الترمذي: " أبو المخارق ليس بمعروف": وهم، إنما هو أبو العجلان المحاربي، ذكره البخاري في "الكنى".
قلت: وقد وهم المنذري، فجعل هذا الحديث عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، وإنما هو من حديث عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما.(3/420)
فإن قيل: فما الجمع بين هذه الأحاديث الواردة في تعظيم أجسام الكفار في النار وبين ما رواه الإمام أحمد والترمذي وغيرهما من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر في صور الناس، يعلوهم كل شيء من الصغار، حتى يدخلوا سجنا في جهنم يقال له: بولس، فتلعنهم نار الأنيار، يسقون من طينة الخبال، عصارة أهل النار» . هذا لفظ أحمد، ولفظ الترمذي: قال: «يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر في صور الرجال، يغشاهم الذل من كل مكان، يساقون إلى سجن في جهنم يسمى بولس، تعلوهم نار الأنيار، يسقون من عصارة أهل النار طينة الخبال» . قال الترمذي: "هذا حديث حسن"؟.
فالجواب ما قاله ابن كثير في "النهاية": "أن المراد أنهم يحشرون يوم القيامة في العرصات كذلك، فإذا سيقوا إلى النار؛ دخلوها وقد عظم خلقهم؛ كما دلت عليه الأحاديث التي أوردناها؛ ليكون ذلك أنكى في تعذيبهم وأعظم لتعبهم ولهبهم" انتهى.
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لسرادق النار أربعة جدر، كثف كل جدار منها مسيرة أربعين سنة» .
رواه: الإمام أحمد، والترمذي، والحاكم، وقال: "صحيح الإسناد ولم يخرجاه".
وعن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ} ؛ قال: "يجمع بين رأسه ورجليه ثم يقصف كما يقصف الحطب".
رواه البيهقي.
وعن سمرة بن جندب رضي الله عنه: أنه سمع نبي الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن منهم من تأخذه النار إلى كعبيه، ومنهم من تأخذه النار إلى ركبتيه، ومنهم من»(3/421)
«تأخذه إلى حجرته، ومنهم من تأخذه النار إلى ترقوته» .
رواه: الإمام أحمد، ومسلم. وفي رواية لمسلم: «ومنهم من تأخذه إلى عنقه» .
وعن النعمان بن بشير رضي الله عنهما؛ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن أهون أهل النار عذابا يوم القيامة لرجل يوضع في أخمص قدميه جمرتان يغلي منهما دماغه» .
رواه: الإمام أحمد، وأبو داود الطيالسي، والشيخان، والترمذي، وقال: "هذا حديث حسن صحيح"، قال: "وفي الباب عن أبي هريرة وعباس بن عبد المطلب وأبي سعيد ".
وفي رواية للبخاري: «إن أهون أهل النار عذابا يوم القيامة رجل على أخمص قدميه جمرتان يغلي منهما دماغه كما يغلي المرجل والقمقم» .
وفي رواية لمسلم: «إن أهون أهل النار عذابا من له نعلان وشراكان من نار يغلي منهما دماغه كما يغلي المرجل، ما يرى أن أحدا أشد منه عذابا، وإنه لأهونهم عذابا» .
قال ابن الأثير في "النهاية": " (المرجل) ؛ بالكسر: الإناء الذي يغلى فيه الماء، وسواء كان من حديد أو صفر أو حجارة أو خزف". وقال أيضا: " (القمقم) : ما يسخن فيه الماء من نحاس وغيره، ويكون ضيق الرأس" انتهى.
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن أدنى أهل النار عذابا ينتعل بنعلين من نار يغلي دماغه من حرارة نعليه» .
رواه: الإمام أحمد، ومسلم.
وعنه رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أهون أهل النار عذابا»(3/422)
«رجل منتعل بنعلين من نار؛ يغلي منهما دماغه، مع أجزاء العذاب، ومنهم من في النار إلى كعبيه مع أجزاء العذاب، ومنهم من في النار إلى ركبتيه مع أجزاء العذاب، ومنهم من في النار إلى أرنبته مع أجزاء العذاب، ومنهم من في النار إلى صدره مع أجزاء العذاب قد اغتمر» .
رواه الإمام أحمد بإسناد صحيح على شرط مسلم، ورواه البزار بنحوه إلا أنه قال: " «ومنهم من في النار إلى ترقوته مع أجزاء العذاب، ومنهم من قد انغمس فيها» .
قال الهيثمي: "ورجاله رجال الصحيح". ورواه الحاكم بنحوه، وقال: "صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه"، وقال الذهبي في "تلخيصه": "على شرط البخاري ومسلم ".
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ قال: «إن أدنى أهل النار عذابا الذي يجعل له نعلان من نار يغلي منهما دماغه» .
رواه: الإمام أحمد، والطبراني في "الأوسط". قال الهيثمي: "ورجاله رجال الصحيح، غير يزيد بن خالد بن موهب، وهو ثقة". ورواه أيضا ابن حبان في "صحيحه"، والحاكم في "مستدركه"، وقال: "صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي في "تلخيصه". قال الحاكم: "وله شواهد عن عبد الله بن عباس والنعمان بن بشير وأبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بألفاظ مختلفة".
وعن عبيد بن عمير؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أدنى أهل النار عذابا لرجل عليه نعلان يغلي منهما دماغه كأنه مرجل؛ مسامعه جمر، وأضراسه جمر، وأشفاره لهب النار، وتخرج أحشاء النار جنبيه من قدميه، وسائرهم كالحب القليل في الماء الكثير؛ فهو يفور» .(3/423)
رواه البزار مرسلا. قال المنذري: "وإسناده صحيح".
وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أهون أهل النار عذابا أبو طالب، وهو منتعل بنعلين من نار يغلي منهما دماغه» .
رواه: الإمام أحمد، ومسلم.
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أنه «سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر عنده عمه أبو طالب، فقال: "لعله أن تنفعه شفاعتي يوم القيامة، فيجعل في ضحضاح من النار يبلغ كعبيه يغلي منه دماغه» .
رواه: الإمام أحمد، والشيخان.
«عن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه: أنه قال: يا رسول الله! هل نفعت أبا طالب بشيء؛ فإنه كان يحوطك ويغضب لك؟ قال: "نعم؛ هو في ضحضاح من نار، ولولا أنا؛ لكان في الدرك الأسفل من النار» .
رواه: الإمام أحمد، والشيخان.
وعن جابر رضي الله عنه؛ قال: «سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيل له: هل نفعت أبا طالب بشيء؟ قال: "أخرجته من النار إلى ضحضاح منها» .
رواه البزار. قال الهيثمي: "وفيه من لم أعرفه".
قلت: وما تقدم عن العباس وابنه وأبي سعيد رضي الله عنهم يشهد له ويقويه.
وفي هذه الأحاديث الأربعة رد على الروافض الذين يزعمون أن أبا طالب قد أسلم.
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يرسل»(3/424)
«البكاء على أهل النار، فيبكون حتى تنقطع الدموع، ثم يبكون الدم حتى يصير في وجوههم كهيئة الأخدود، لو أرسلت فيه السفن؛ لجرت» .
رواه ابن ماجه، وفيه يزيد الرقاشي وهو ضعيف. وقد رواه أبو يعلى، ولفظه: قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يا أيها الناس! ابكوا، فإن لم تبكوا؛ فتباكوا؛ فإن أهل النار يبكون في النار حتى تسيل دموعهم في وجوههم كأنها جداول حتى تنقطع الدموع، فتسيل الدماء، فتقرح العيون، ولو أن سفنا أرسلت فيها؛ لجرت» .
قال الهيثمي: "وأضعف من فيه يزيد الرقاشي، وقد وثق على ضعفه".
وعن عبد الله بن قيس - وهو أبو موسى الأشعري رضي الله عنه -: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن أهل النار ليبكون، حتى لو أجريت السفن في دموعهم؛ لجرت، وإنهم ليبكون الدم (يعني: مكان الدمع) » .
رواه الحاكم في "مستدركه"، وقال: "صحيح الإسناد ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي في "تلخيصه".
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما؛ قال: "إن أهل النار يدعون مالكا، فلا يجيبهم أربعين عاما، ثم يقول: إنكم ماكثون، ثم يدعون ربهم، فيقولون: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ} ؛ فلا يجيبهم مثل الدنيا، ثم يقول: {اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ} ، ثم ييأس القوم، فما هو إلا الزفير والشهيق، تشبه أصواتهم الحمير، أولها شهيق، وآخرها زفير".
رواه الطبراني. قال الهيثمي: "ورجاله رجال الصحيح". وقال المنذري: "رواته محتج بهم في "الصحيح"".
وقد رواه الحاكم في "مستدركه" مختصرا، ولفظه: قال: "إن أهل النار(3/425)
يدعون مالكا، فلا يجيبهم أربعين يوما، ثم يرد عليهم: إنكم ماكثون". قال: "هانت دعوتهم والله على مالك ورب مالك؛ {قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ} ، {قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ} ".
قال الحاكم: "صحيح الإسناد ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي في "تلخيصه".
وعن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله عز وجل: {وَنَادَوْا يَامَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} ؛ قال: "مكث عنهم ألف سنة، ثم قال: إنكم ماكثون".
رواه الحاكم في "مستدركه"، وقال: "صحيح الإسناد ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي في "تلخيصه".
فصل
في خلود أهل الجنة وأهل النار وذبح الموت
قال تعالى: {بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} .
وقال تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من تردى من جبل، فقتل نفسه؛ فهو في نار جهنم يتردى فيها خالدا مخلدا فيها أبدا، ومن»(3/426)
«تحسى سما، فقتل نفسه، فسمه في يده، يتحساه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا، ومن قتل نفسه بحديدة؛ فحديدته في يده، يتوجأ بها في بطنه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا» .
رواه: الإمام أحمد، وأبو داود الطيالسي، والشيخان، والترمذي، والنسائي.
وروى أبو داود السجستاني وابن ماجه طرفا منه وهو قوله: «من شرب سما، فقتل نفسه؛ فهو يتحساه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا» .
وعنه رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الذي يخنق نفسه يخنقها في النار، والذي يطعن نفسه يطعنها في النار» .
رواه البخاري.
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يدخل الله أهل الجنة الجنة، ويدخل أهل النار النار، ثم يقوم مؤذن بينهم، فيقول: يا أهل الجنة! لا موت، ويا أهل النار! لا موت، كل خالد فيما هو فيه» .
رواه: الإمام أحمد، والشيخان.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه؛ قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «يقال لأهل الجنة: خلود لا موت، ولأهل النار: يا أهل النار! خلود لا موت» .
رواه البخاري.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا صار أهل الجنة إلى الجنة وأهل النار إلى النار؛ جيء بالموت، حتى يجعل بين الجنة والنار، ثم يذبح، ثم ينادي مناد: يا أهل الجنة! لا موت، ويا أهل النار! لا موت، فيزداد أهل الجنة فرحا إلى فرحهم، ويزداد أهل النار حزنا إلى حزنهم» .(3/427)
رواه: الإمام أحمد، والشيخان.
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يؤتى بالموت كهيئة كبش أملح، فينادي مناد: يا أهل الجنة! فيشرئبون وينظرون، فيقول: هل تعرفون هذا؟ فيقولون: نعم، هذا الموت. وكلهم قد رآه، ثم ينادي: يا أهل النار! فيشرئبون وينظرون، فيقول: هل تعرفون هذا؟ فيقولون: نعم، هذا الموت. وكلهم قد رآه، فيذبح، ثم يقول: يا أهل الجنة! خلود فلا موت، ويا أهل النار! خلود فلا موت (ثم قرأ: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ} ، وهؤلاء في غفلة أهل الدنيا، {وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} » .
رواه: الإمام أحمد، والشيخان، واللفظ للبخاري.
وقد رواه الترمذي، ولفظه: عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه؛ قال: «قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ} ؛ قال: "يؤتى بالموت كأنه كبش أملح، حتى يوقف على السور بين الجنة والنار، فيقال: يا أهل الجنة! فيشرئبون، ويقال: يا أهل النار! فيشرئبون، فيقال: هل تعرفون هذا؟ فيقولون: نعم، هذا الموت. فيضجع، فيذبح، فلولا أن الله قضى لأهل الجنة الحياة والبقاء؛ لماتوا فرحا، ولولا أن الله قضى لأهل النار الحياة فيها والبقاء؛ لماتوا ترحا» .
قال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح".
وفي رواية للترمذي؛ قال: «إذا كان يوم القيامة؛ أتي بالموت كالكبش الأملح، فيوقف بين الجنة النار، فيذبح وهم ينظرون، فلو أن أحدا مات فرحا؛ لمات أهل الجنة، ولو أن أحدا مات حزنا؛ لمات أهل النار» .
قال الترمذي: "هذا حديث حسن".(3/428)
قوله: " فيشرئبون ": قال المنذري: "بشين معجم ساكنة ثم راء ثم همزة مكسورة ثم باء موحدة مشددة؛ أي: يمدون أعناقهم لينظروا". وقال ابن الأثير في "جامع الأصول": " (اشرأب إلى الشيء) : إذا تطلع ينظر إليه، ومالت نحوه نفسه". وقال في "النهاية": " (فيشرئبون) ؛ أي: يرفعون رؤوسهم لينظروا إليه، وكل رافع رأسه مشرئب". وقال أيضا: "الترح ضد الفرح، وهو الهلاك والانقطاع أيضا". انتهى.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يؤتى بالموت يوم القيامة، فيوقف على الصراط، فيقال: يا أهل الجنة! فيطلعون خائفين وجلين أن يخرجوا من مكانهم الذي هم فيه، فيقال: هل تعرفون هذا؟ قالوا: نعم ربنا! هذا الموت. ثم يقال: يا أهل النار! فيطلعون فرحين مستبشرين أن يخرجوا من مكانهم الذي هم فيه، فيقال: هل تعرفون هذا؟ قالوا: نعم؛ هذا الموت. فيؤمر به، فيذبح على الصراط، ثم يقال للفريقين كلاهما: خلود فيما تجدون؛ لا موت فيه أبدا» .
رواه: الإمام أحمد، وابن ماجه، ورجالهما رجال الصحيح، وابن حبان في "صحيحه".
وفي رواية لأحمد: «يؤتى بالموت يوم القيامة كبشا أملح» ، والباقي بنحوه.
وعنه رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يجمع الله الناس يوم القيامة في صعيد واحد (فذكر الحديث وفيه": فإذا أدخل الله تعالى أهل الجنة الجنة وأهل النار النار؛ أتي بالموت ملببا، فيوقف على السور الذي بين أهل الجنة وأهل النار، ثم يقال: يا أهل الجنة! فيطلعون خائفين، ثم يقال: يا أهل النار! فيطلعون مستبشرين يرجون الشفاعة، فيقال لأهل الجنة ولأهل النار: هل تعرفون هذا؟ فيقولون هؤلاء وهؤلاء: قد عرفناه؛ هو الموت الذي وكل بنا.»(3/429)
«فيضجع، فيذبح ذبحا على السور، ثم يقال يا أهل الجنة! خلود لا موت، ويا أهل النار! خلود لا موت» .
رواه: الإمام أحمد، والترمذي، وقال: "هذا حديث حسن صحيح".
قوله: " ملببا ": قال ابن الأثير في "النهاية": "يقال: لببت الرجل ولببته إذا جعلت في عنقه ثوبا أو غيره وجررته به، وأخذت بتلبيب فلان: إذا جمعت عليه ثوبه الذي هو لابسه وقبضت عليه تجره، والتلبيب مجمع ما في موضع اللبب من ثياب الرجل". انتهى.
وعن أنس رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يؤتى بالموت يوم القيامة كأنه كبش أملح، فيوقف بين الجنة والنار، ثم ينادي مناد: يا أهل الجنة! فيقولون: لبيك ربنا! قال: فيقال: هل تعرفون هذا؟ فيقولون: نعم ربنا! هذا الموت. ثم ينادي مناد: يا أهل النار! فيقولون: لبيك ربنا! قال: فيقال لهم: هل تعرفون هذا؟ فيقولون: نعم ربنا! هذا الموت. فيذبح كما تذبح الشاة، فيأمن هؤلاء وينقطع رجاء هؤلاء» .
رواه: أبو يعلى، والطبراني في "الأوسط" بنحوه، والبزار. قال المنذري: "وأسانيدهم صحاح". وقال الهيثمي: "رجالهم رجال الصحيح غير نافع بن خالد الطاحي، وهو ثقة".
قال الترمذي رحمه الله تعالى بعد سياق حديث أبي سعيد رضي الله عنه الذي تقدم ذكره قريبا في ذبح الموت بين الجنة والنار ما نصه: "وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم روايات كثيرة مثل هذا ما يذكر فيه أمر الرؤية: أن الناس يرون ربهم، وذكر القدم، وما أشبه هذه الأشياء. والمذهب في هذا عند أهل العلم من الأئمة؛ مثل: سفيان الثوري، ومالك بن أنس، وسفيان بن عيينة، وابن المبارك، ووكيع، وغيرهم: أنهم رووا هذه الأشياء، وقالوا: تروى هذه(3/430)
الأحاديث، ونؤمن بها، ولا يقال: كيف، وهذا الذي اختاره أهل الحديث: أن يرووا هذه الأشياء كما جاءت، ويؤمن بها، ولا تفسر، ولا يتوهم، ولا يقال: كيف، وهذا أمر أهل العلم الذي اختاروه وذهبوا إليه". انتهى كلامه رحمه الله تعالى، وقد أجاد وأفاد.
وهذا آخر ما تيسر إيراده، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
وقد كان الفراغ من تسويد هذا الجزء في يوم السبت 13\3\1396 هـ على يد كاتبه الفقير إلى الله تعالى حمود بن عبد الله بن حمود التويجري غفر الله له ولوالديه ولجميع المسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.(3/431)