الجموع البهية للعقيدة السلفية
الَّتِي
ذكرهَا الْعَلامَة الشِّنقيطي
مُحَمَّد الْأمين بن مُحَمَّد الْمُخْتَار الجَكَنِي
فِي تَفْسِيره أضواء الْبَيَان
جمع: أبي الْمُنْذر مَحْمُود بن مُحَمَّد بن مصطفي المنياوي
غفر الله لَهُ، ولوالديه، وَلِجَمِيعِ الْمُسلمين(/)
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
إِن الْحَمد لله، نحمده، ونستعينه، وَنَسْتَغْفِرهُ، ونعوذ بِاللَّه من شرور أَنْفُسنَا، وَمن سيئات أَعمالنَا، من يهده الله فَلَا مضل لَهُ، وَمن يضلل فَلَا هادي لَهُ، وَأشْهد أَن لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأشْهد أَن مُحَمَّدًا عَبده وَرَسُوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} .
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} .
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} .
أما بعد ...
فَهَذِهِ تواليف وجموع بهية، للعقيدة السلفية، جمعتها من تَفْسِير " أضواء الْبَيَان " للعلامة الشنقيطي - رَحمَه الله -، وَقد ضممت إِلَى كَلَامه كَلَام تِلْمِيذه الشَّيْخ عَطِيَّة مُحَمَّد سَالم ... - رَحمَه الله - فِي تتمته للتفسير؛ وَذَلِكَ لما علمت من ملازمته للشَّيْخ، وَعلمه بمسلكه ومنهجه فِي التَّفْسِير، وَأَنه قد حاول فِي تتمته لهَذَا التَّفْسِير أَن يسير على نفس منوال الشَّيْخ مستفيداً بِمَا لَدَيْهِ من إملاءات دراسية للشَّيْخ - رَحمَه الله - وَالَّتِي كَانَ قد أملاها بالرياض على كثير من السُّور المتبقية. وَلم أتدخل فِي نَص كَلَامهمَا - رحمهمَا الله -.
فَلَقَد منَّ الله - تَعَالَى - عليَّ بِقِرَاءَة هَذَا التَّفْسِير، وَقد استخرجت مِنْهُ درراً كَثِيرَة، ورتبتها على صُورَة كشاف تحليلي لعدة عُلُوم مثل: العقيدة،(1/3)
وَالْفِقْه، وأصول الْفِقْه، والأساليب الْعَرَبيَّة، وقواعد فقهية، وعلوم قُرْآن، وَغير ذَلِك.
وعندما نظرت فِيمَا اجْتمع عِنْدِي من فهرس تفصيلي لمادة العقيدة، وجدت أَنَّهَا قد احتوت على دُرَر كَثِيرَة، ومادة علمية غزيرة، وَأَن الشَّيْخ - رَحمَه الله - قد عرض غَالب مسَائِل العقيدة فِي تَفْسِيره، وَأَنه قد انتصر فِيهَا - رَحمَه الله - لمنهج السّلف أيَّما انتصار، وَأَنه قد ذبَّ عَن مفاهيم أهل السّنة وَالْجَمَاعَة؛ فراودتني فكرة استلال هَذِه الْمَادَّة؛ لتَكون كتابا مُسْتقِلّا يحوي غَالب أَبْوَاب العقيدة بِعِبَارَة سهلة، وَحجَّة قَوِيَّة؛ وخاصة وَأَن الْعَلامَة الشنقيطي - رَحمَه الله - لم يكْتب فِي العقيدة كتابا مُسْتقِلّا، فاستشرت بعض أساتذتي فِي تجميع هَذِه الْمَادَّة، فشجعوني على ذَلِك؛ فاستخرت الله - عز وَجل -، فانشرح لذَلِك صَدْرِي؛ فَبَدَأت فِي تجميع مَادَّة العقيدة، وترتيبها على الْأَبْوَاب والفصول، لتَكون كتابا جَامعا فِي العقيدة لهَذَا الإِمَام بَقِيَّة السّلف، صَاحب العقيدة السلفية، وَالْحجّة القوية.
وَقمت بِوَضْع عناوين للأبواب والفصول، وَتَخْرِيج الْأَحَادِيث، وتحقيقها، وَكَذَا التَّعْلِيق عِنْد الْحَاجة.
وَالله - عز وَجل - أسأَل أَن يَجْعَل هَذَا الْعَمَل خَالِصا لوجهه الْكَرِيم، وَأَن يَجعله فِي ميزَان حسناتي، وميزان حَسَنَات كل من شَارك فِيهِ بنصح ومشورة، أَو مُرَاجعَة، وأخص بِالذكر مِنْهُم أساتذتي: الشَّيْخ: إِبْرَاهِيم بن زَكَرِيَّا، وَالشَّيْخ: مُحَمَّد بن عبد الْحَكِيم القَاضِي، وَالشَّيْخ: أشرف بن جلال - حفظهم الله -.
وَالله الْمُسْتَعَان، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيم.،
أَبُو الْمُنْذر: مَحْمُود بن مُحَمَّد بن مصطفي المنياوي.
غفر الله لَهُ، ولوالديه، وَلِجَمِيعِ الْمُسلمين. آمين.،(1/4)
تَرْجَمَة الْعَلامَة الشنقيطي - رَحمَه الله - (1)
اسْمه وَنسبه:
هُوَ الإِمَام الْعَلامَة الْمُفَسّر مُحَمَّد الْأمين (2) بن مُحَمَّدٌ الْمُخْتَارُ بْنُ عَبْدِ الْقَادِرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ نُوحِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ سَيِّدِي أَحْمد بن الْمُخْتَار الشنقيطي، وَهُوَ من قَبيلَة حمير الْعَرَبيَّة.
ولقبه: آبَّا، بِمَدِّ الْهَمْزَةِ وَتَشْدِيدِ الْبَاءِ مِنَ الْإِبَاءِ.
وِلَادَته ونشأته:
ولد رَحمَه الله ـ عَام 1325هـ وَنَشَأ يَتِيما فقد توفّي وَالِده وَهُوَ صَغِير وَترك لَهُ ثروة من الْحَيَوَان وَالْمَال.
طلبه للْعلم، وَذكر شُيُوخه:
حفظ الْقرَان وَهُوَ دون الْعَاشِرَة من عمره، ودرس خلال حفظه للقران بعض المختصرات فِي فقه الإِمَام مَالك كرجز الشَّيْخ ابْن عَاشر، ودرس خلالها الْأَدَب والنحو، والسيرة على زَوْجَة خَاله، قَالَ الشَّيْخ ـ رَحمَه الله ـ: أخذت عَنْهَا مبادئ النَّحْو ودروس وَاسِعَة فِي أَنْسَاب الْعَرَب وأيامهم ونظم الْغَزَوَات لِأَحْمَد البدوي الشنقيطي وَغَيرهَا.
_________
(1) - وَانْظُر تَرْجَمته - رَحمَه الله - فِي: " تَرْجَمَة الشَّيْخ مُحَمَّد الْأمين الشنقيطي " د. عبد الرحمن السديس، والمحاضرة الَّتِي أَلْقَاهَا الشَّيْخ عَطِيَّة مُحَمَّد سَالم -رَحمَه الله - فِي موسم ثقافات الجامعة الإسلامية بِالْمَدِينَةِ المنورة، وَالَّتِي كَانَ قد سَمعهَا من الشَّيْخ مُبَاشرَة، وَقد أثبتها - رَحمَه الله - فِي صدر تَفْسِير " أضواء الْبَيَان ".
(2) - وَهُوَ اسْم مركب من اسْمَيْنِ.(1/5)
ثمَّ درس بَقِيَّة الْعُلُوم على جمع من الْعلمَاء مِنْهُم الشَّيْخ مُحَمَّد بن صَالح الْمَشْهُور وَالشَّيْخ مُحَمَّد الأفرم، وَالشَّيْخ أَحْمد عمر، وَالشَّيْخ مُحَمَّد زَيْدَانَ، وَالشَّيْخ مُحَمَّد النعمه، وَالشَّيْخ أَحْمد بن مود، وَغَيرهم، فقد أَخذ عَنْهُم: النَّحْو وَالصرْف، وَالْأُصُول، والبلاغة، وَالتَّفْسِير، والْحَدِيث، أما الْمنطق وآداب الْبَحْث والمناظرة فَيَقُول أَنه حصله بالمطالعة.
قَالَ الشَّيْخ - رَحمَه الله ـ: لما حفظت الْقُرْآن وَأَخَذْتُ الرَّسْمَ الْعُثْمَانِيَّ وَتَفَوَّقْتُ فِيهِ عَلَى الْأَقْرَانِ عُنِيَتْ بِي وَالِدَتِي وَأَخْوَالِي أَشَدَّ عِنَايَةٍ وَعَزَمُوا عَلَى تَوْجِيهِي لِلدِّرَاسَةِ فِي بَقِيَّةِ الْفُنُونِ فَجَهَّزَتْنِي وَالِدَتِي بِجَمَلَيْنِ أَحَدُهُمَا عَلَيْهِ مَرْكَبِي وَكُتُبِي وَالْآخِرُ عَلَيْهِ نفقتي وزادي وصحبني خَادِم وَمَعَهُ بقرات وَقد هيئت لي مركبي كأحسن مَا يكون الْمركب، وَمَلَابِسَ كَأَحْسَنِ مَا تَكُونُ فَرَحًا بِي وَتَرْغِيبًا لي فِي طلب الْعلم.
تورعه عَن الْفَتْوَى:
وَكَانَ الشَّيْخ ـ رَحمَه الله ـ يتورع عَن الْفَتْوَى إِلَّا فِي شَيْء فِيهِ نَص من كتاب أَو سنة، قَالَ ابْنه الشَّيْخ عبد الله: جَاءَهُ وَفد من الكويت فِي أَوَاخِر حَيَاته فَسَأَلُوهُ فِي مسَائِل فَقَالَ أُجِيبكُم بِكِتَاب الله، ثمَّ جلس مستوفزا وَقَالَ: الله أعلم، " وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ " لَا أعلم فِيهَا عَنِ اللَّهِ، وَلَا عَنْ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم شَيْئا، وَكَلَام النَّاس لَا أَضَعهُ فِي ذِمَّتِي فَلَمَّا ألحوا عَلَيْهِ قَالَ: فلَان قَالَ كَذَا وَفُلَان قَالَ كَذَا، وَأَنا لَا أَقُول شَيْئا.
قَالَ الشَّيْخ عَطِيَّة وَسَأَلته عَن تَركه للْفَتْوَى فَقَالَ: يجب التحفظ فِيمَا لَيْسَ فِيهِ نَصٌّ قَاطِعٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ أَوْ سُنَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَيَتَمَثَّلُ بِقَوْلِ الشَّاعِرِ:
إِذَا مَا قَتَلْتَ الشَّيْءَ عِلْمًا فَقُلْ بِهِ ... وَلَا تَقُلِ الشَّيْءَ الَّذِي أَنْتَ جَاهِلُهْ
فَمَنْ كَانَ يَهْوَى أَنْ يُرَى متصدرا ... وَيكرهُ لَا أَدْرِي أُصِيبَت مقاتله(1/6)
أَعماله فِي بِلَاده:
من بَين أَعماله الَّتِي تولاها فِي بِلَاده التدريس والفتيا وَلكنه اشْتُهِرَ بِالْقَضَاءِ وَبِالْفِرَاسَةِ فِيهِ وَرَغْمَ وُجُودِ الْحَاكِمِ الْفَرَنْسِيِّ إِلَّا أَنَّ الْمُوَاطِنِينَ كَانُوا عَظِيمِي الثِّقَةِ فِيهِ فيأتونه للْقَضَاء بَينهم من أَمَاكِن بعيده. وَكَانَ يقْضِي فِي كل شَيْء إِلَّا الدِّمَاء وَالْحُدُود وَكَانَ لَهَا قَاض خَاص.
خُرُوجه من بِلَاده:
خرج من بِلَاده لأَدَاء فَرِيضَة الْحَج برا بنية العودة فقد كَانَ فِي بِلَاده يسمع عَن الوهابية وَكَانَ من فضل الله ومنته علينا وَعَلِيهِ أَن قدم الْحَج وَنزل بِدُونِ علمه بِجِوَارِ خَيْمَةِ الْأَمِيرِ خَالِدِ السّديرِيِّ دُونَ أَنْ يَعْرِفَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ وَكَانَ الْأَمِيرُ خَالِدٌ يَبْحَثُ مَعَ جُلَسَائِهِ بَيْتًا فِي الْأَدَبِ ـ وَهُوَ ذَوَّاقَةٌ أديب ـ إِلَى أَن سَأَلُوا الشَّيْخ فوجدوا بحرا لَا سَاحل لَهُ، فَكَانَت تِلْكَ الجلسة بداية منطلق لفكرة جَدِيدَة فَأَوْصَاهُ الْأَمِير إِن قدم الْمَدِينَة أَن يلتقي بالشيخ عبد الله بن زاحم وعبد العزيز بن صَالح، وَفِي الْمَدِينَة التقى بهما وتباحث مَعَهُمَا مَا سمع عَن الوهابية وَكَانَ صَرِيحًا فِيمَا عرض عَلَيْهِمَا مِمَّا سمع عَن الْبِلَاد فدارت بَينهم جلسات، وَكَانَ أكثرهما مباحثة مَعَه فَضِيلَة الشَّيْخ عبد العزيز بن صَالح، حَتَّى اقتنع الشَّيْخ بِأَن مَنْهَج المجدد الإِمَام مُحَمَّد بن عبد الوهاب مَنْهَج ذُو سلف وَأَنه مَنْهَج سليم العقيدة يعْتَمد الْكتاب وَالسّنة وَعَلِيهِ سلف الْأمة ثمَّ رغب فِي الْبَقَاء فِي الْمَسْجِد النَّبَوِيّ لتدريس التَّفْسِير. ودرس عَلَيْهِ الشَّيْخ عبد العزيز بن صَالح الصّرْف.
اختير للتدريس فِي المعهد العلمي بالرياض عِنْد افتتاحه فَكَانَ يدرس فِي الرياض وَيَقْضِي إِجَازَته فِي التدريس بِالْمَسْجِدِ النَّبَوِيّ، ثمَّ كَانَ لَهُ دور فِي تأسيس الجامعة الإسلامية فِي الْمَدِينَة، ثمَّ عين كَأحد أَعْضَاء هَيْئَة كبار(1/7)
الْعلمَاء عِنْد بداية تشكيلها وَكَانَ عضوا فِي الْمجْلس التأسيسي لرابطة الْعَالم الإسلامي.
تلاميذه:
لَا يحصيهم إِلَّا الله جلّ وَعلا حَيْثُ طَال تدريسه فِي المعهد العلمي، وَمن ثمَّ فِي كُلية الشَّرِيعَة، ثمَّ فِي الْمَسْجِد النَّبَوِيّ، وَلَكِن نذْكر أكَابِر من درس عِنْده فَمنهمْ:
1- ... سماحة الإِمَام عبد العزيز بن باز ـ رَحمَه الله ـ: درس على الشَّيْخ، شرح سلم الأخضري فِي الْمنطق، وَكَانَ يحضر حَلقَة الشَّيْخ فِي الْحرم النَّبَوِيّ.
2- ... الشَّيْخ حَمَّاد الْأنْصَارِيّ ـ رَحمَه الله ـ: سَأَلَهُ فِي مسَائِل فِي التَّفْسِير والمنطق، ولازم دروسه فِي التَّفْسِير فِي الْحرم النَّبَوِيّ.
3- الشَّيْخ صَالح اللحيدان: درس عَلَيْهِ فِي كُلية الشَّرِيعَة.
4- الشَّيْخ حمود العقلا الشعيبي ـ رَحمَه الله ـ: درس عَلَيْهِ فِي الْكُلية وَفِي الْبَيْت، كَمَا سَيَأْتِي.
5- الشَّيْخ عبد الله الغديان: درس عَلَيْهِ فِي كُلية الشَّرِيعَة.
6- الشَّيْخ الْعَلامَة مُحَمَّد الصَّالح العثيمين ـ رَحمَه الله ـ: درس عَلَيْهِ فِي كُلية الشَّرِيعَة.
7- الشَّيْخ عبد المحسن الْعباد: درس عَلَيْهِ فِي كُلية الشَّرِيعَة.
8- الشَّيْخ بكر بن عبد الله أَبُو زيد: لَازمه عشر سِنِين، وَأخذ عَنهُ الْمنطق والأنساب وَالتَّفْسِير.
9- الشَّيْخ صَالح بن فوزان الفوزان: حَدثنِي بذلك ـ وَفقه الله لكل خير ـ درس عَلَيْهِ فِي كُلية الشَّرِيعَة.
10- الشَّيْخ الْعَلامَة عبد العزيز الْقَارئ: لَازمه حوالي ثَمَان سِنِين،(1/8)
ودرس عَلَيْهِ فِي الجامعة الإسلامية.
11- الدكتور عبد الله قادري: درس عَلَيْهِ فِي كُلية الشَّرِيعَة.
12- ابْنه الْأُسْتَاذ الدكتور عبد الله.
13- ابْنه الْأُسْتَاذ الدكتور الْمُخْتَار.
14- عدد كَبِير من الشناقطة مِنْهُم الشَّيْخ أَحْمد بن أَحْمد الشنقيطي والدكتور مُحَمَّد ولد سَيِّدي الحبيب والدكتور مُحَمَّد الْخضر بن النَّاجِي بن ضيف الله.
وَغَيرهم كثير.
مؤلفاته:
1- ... نسب بني عدنان نظم يَقُول فِي مطلعه:
سَمَّيْتُهُ بِخَالِصِ الْجُمَانِ ... فِي ذِكْرِ أَنْسَابِ بَنِي عدنان
كَانَ أَلفه فِي شبابه ثمَّ دَفنه لِأَنَّهُ يَقُول: إِنَّمَا ألفته للتفوق بِهِ على الأقران فدفنته لِأَن تِلْكَ كَانَت نيتي، وَلَو اسْتقْبلت من أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرت لصححت النِّيَّة وَلم أدفنه. (1)
2- ... رجز فِي الْبيُوع على مَذْهَب الإِمَام مَالك ومطلعها:
الْحَمد لله الَّذِي قد ندبا ... لِأَن تميز الْبَيْعَ عَنْ لَبْسِ الرِّبَا
وَمَنَّ بِالْمُؤَلِّفِينَ كُتُبًا ... تَتْرُكُ أَطْوَادَ الْجَهَالَةِ هَبًّا
تَكْشِفُ عَنْ عَيْنِ الْجواد الحجبا ... إِذا حجاب دون علم ضربا
3- ... ألفيته فِي الْمنطق ومطلعها:
_________
(1) - طَبَقَات النسابين ـ بكر أَبُو زيد ـ مؤسسة الرسَالَة ـ 298 ـ برقم: 656. قَالَ الشَّيْخ بكر: كَانَ الشَّيْخ يَقُول لي: إِن هَذَا الْعلم لم يتلقه عني فِي جَزِيرَة الْعَرَب إِلَّا أَنْت.(1/9)
حَمْدًا لِمَنْ أَظْهَرَ لِلْعُقُولِ ... حَقَائِقَ الْمَنْقُولِ وَالْمَعْقُولِ
وَكَشَفَ الرَّيْنَ عَنِ الْأَذْهَانِ ... بِوَاضِحِ الدَّلِيلِ وَالْبُرْهَانِ
4- ... نظم فِي الْفَرَائِض، مطْلعهَا:
تَرِكَة الْمَيِّت بعد الْخَامِس ... مِنْ خَمْسَةٍ مَحْصُورَةٍ عَنْ سَادِسِ
وَحَصْرُهَا فِي الْخَمْسَة استقراء ... وانبذ لحصر الْعقل بالعراء
5- ... مَنْعُ جَوَازِ الْمَجَازِ فِي الْمُنَزَّلِ لِلتَّعَبُّدِ وَالْإِعْجَازِ.
6- ... دفع إِيهَام الِاضْطِرَاب عَن آي الْكتاب.
7- ... مذكرة فِي الْأُصُول على رَوْضَة النَّاظر.
8- ... آدَاب الْبَحْث والمناظرة.
9 - تَفْسِير " أضواء الْبَيَان فِي إِيضَاح الْقُرْآن بِالْقُرْآنِ " - وَهُوَ الَّذِي قد جمعت مِنْهُ مَادَّة هَذَا الْكتاب -.
10- الرحلة إِلَى أفريقيا ـ بعناية الدكتور: خَالِد السبت ـ.
مَا فرغ من الأشرطة وَجمع من غَيرهَا (1) :
1- ... العذب النمير من مجَالِس الشنقيطي فِي التَّفْسِير ـ تَحْقِيق الدكتور خَالِد السبت (2) .
2- ... آيَات الصِّفَات: وَقد أَوْضَحَ فِيهَا تَحْقِيقَ إِثْبَاتِ صِفَاتِ اللَّهِ.
3- ... حِكْمَةُ التَّشْرِيعِ: عَالَجَ فِيهَا الْعَدِيدَ مِنْ حِكْمَةِ التَّشْرِيعِ فِي كثير من أَحْكَامه.
_________
(1) - وَيجمع الشَّيْخ بكر أَبُو زيد مَجْمُوعَة من آثَار الشَّيْخ مِنْهَا فتوي فِي السَّعْي فِي الدّور الثَّانِي، وَالصَّلَاة فِي الطائرة، ومنظومة فِي الْفِقْه.
(2) - جمعه الدكتور خَالِد ـ وَفقه الله ـ من أشرطة سجلت للشَّيْخ فِي الْمَسْجِد النَّبَوِيّ، وسيخرج قَرِيبا بِإِذن الله تَعَالَى.(1/10)
4- ... الْمُثُلُ الْعُلْيَا: بَيَّنَ فِيهَا الْمِثَالِيَّةَ فِي الْعَقِيدَةِ وَالتَّشْرِيعِ وَالْأَخْلَاقِ.
5- ... الْمَصَالِحُ الْمُرْسَلَةُ: بَيَّنَ فِيهَا ضَابِطَ اسْتِعْمَالِهَا بَيْنَ الْإِفْرَاطِ وَالتَّفْرِيطِ.
6- ... حَوْلَ شُبْهَةِ الرَّقِيقِ: رَفَعَ اللَّبْسَ عَنِ ادِّعَاءِ اسْتِرْقَاقِ الْإِسْلَامِ لِلْأَحْرَارِ..
7- ... عَلَى {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} أَلْقَاهَا بِحَضْرَةِ الْمَلِكِ مُحَمَّدٍ الْخَامِسِ عِنْدَ زيارته للمدينة.
أَقْوَال الْعلمَاء فِيهِ:
قَالَ عَنهُ فَضِيلَة الشَّيْخ مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم آل الشَّيْخ: ملئ علما من رَأسه إِلَى أَخْمص قَدَمَيْهِ.
وَقَالَ عَنهُ أَيْضا: آيَة فِي الْعلم وَالْقُرْآن واللغة وأشعار الْعَرَب.
وَقَالَ عَنهُ فَضِيلَة الشَّيْخ عبد اللطيف بن إِبْرَاهِيم آل الشَّيْخ: جزى الله عَنَّا الشَّيْخ مُحَمَّد الْأَمِينَ خَيْرًا عَلَى بَيَانِهِ هَذَا فَالْجَاهِلُ عَرَفَ العقيدة والعالم عرف الطَّرِيقَة والأسلوب من خيرة الْعلمَاء علما وورعا وزهدا.
وَقَالَ عَنهُ الشَّيْخ الْعَلامَة حمود العقلا: وَكَانَ علْم الشَّيْخ الشنقيطي غزير جدا خَاصَّة فِي الْأُصُول والمنطق وَالتَّفْسِير والتأريخ واللغة وَالْأَدب وَكَانَ مُنْقَطع النظير فِي هَذِه وَيجمع لَهَا غَيرهَا.
وَقَالَ عَنهُ فَضِيلَة الشَّيْخ مُحَمَّد نَاصِر الدّين الألباني: يذكرنِي بِشدَّة حفظه واستحضاره للنصوص بشيخ الْإِسْلَام ابْن تَيْمِية.
وَقَالَ عَنهُ الشَّيْخ بكر أَبُو بكر: لَو كَانَ فِي هَذَا الزَّمَان أحد يسْتَحق أَن يُسمى شيخ الْإِسْلَام لَكَانَ الشَّيْخ مُحَمَّد الْأمين.
وَفَاته ـ رَحمَه الله ـ:
توفّي فِي ضُحَى يَوْمِ الْخَمِيسِ 17/12/1393هـ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بِمَكَّةَ(1/11)
الْمُكَرَّمَةِ مَرْجِعَهُ مِنَ الْحَجِّ وَدُفِنَ بِمَقْبَرَةِ الْمَعْلَاةِ وَصَلَّى عَلَيْهِ سَمَاحَةُ رَئِيسِ الْجَامِعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ فَضِيلَةُ الشَّيْخِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَازٍ فِي الْحَرَمِ الْمَكِّيِّ مَعَ مَنْ حَضَرَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بَعْدَ صَلَاةِ الظُّهْرِ مِنْ ذَلِكَ الْيَوْم.
قَالَ الشَّيْخ أَحْمد بن أَحْمد الشنقيطي ـ وَهُوَ غاسل الشَّيْخ ـ: (من الْغَرِيب أَن أحد أَقَاربه حَاجا مَعَه فِي سيارته فَرَأى لَيْلَة جَمَعْ أَن الرَّسُول ـ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ـ توفّي وَأَنه جَاءَهُ فَوَجَدَهُ مسجى عَلَيْهِ ثوب، فَرفع الثَّوْب، فَوجدَ أَن الْمَيِّت نَبِي وَلكنه لَيْسَ مُحَمَّدًا ـ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ـ فَقبله فِي جَبينه فَلَمَّا حكى الرُّؤْيَا على الشَّيْخ، سَأَلَهُ: وَمَا يدْريك أَنه لَيْسَ بِمُحَمد؟ قَالَ: لم تتوفر فِيهِ الصِّفَات الثَّابِتَة بِالسنةِ الَّتِي نعرفها، فتكدر وَجه الشَّيْخ. فَقَالَ الرجل: أَظُنهُ أضغاث أَحْلَام. فَقَالَ الشَّيْخ: لَا، بل هِيَ رُؤْيا، وَلَكِن يقْضِي الله خيرا، وَمَا بَقِي بعْدهَا إِلَّا قَلِيلا وَتُوفِّي) .
مراثيه:
قيل فِي الشَّيْخ مراث كَثِيرَة مِنْهَا مَا رثاه بِهِ الشَّيْخ مُحَمَّد بن مَدين الشنقيطي وفيهَا قَالَ:
الله أكبر مَاتَ الْعلم والورع ... يَا لَيْت مَا قد مضى من ذَاك يرتجع
يبكي الْكتاب كتاب الله غيبته ... كَذَا الْمدَارِس والآداب وَالْجمع
مفسرُ الذّكر الْحَكِيم وَمَا ... من الحَدِيث إِلَى الْمُخْتَار يرْتَفع
أخلاقه الشهد ممزوجا بِمَاء صفا ... وَمَا يُغير طبعا زانه طبع
فَهُوَ الإِمَام الَّذِي من غَيره تبع ... لَهُ وَهل يَسْتَوِي الْمَتْبُوع والتبع
إِلَى أَن قَالَ:
حدث بِمَا شِئْت من حلم وَمن كرم ... وانشر مآثره فالباب متَّسع(1/12)
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
بَاب قضايا الْإِيمَان وَالْكفْر
مُقَدّمَة
وجود مُسلمين قبل الْبعْثَة المحمدية (1) :
[قَوْلُهُ تَعَالَى: (قُلْ إِنِّى أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ) يَعْنِي أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ الَّتِي أُرسلت إِلَيْهَا، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ جَمِيعِ النَّاسِ كَمَا بَيَّنَهُ تَعَالَى بِآيَاتٍ كَثِيرَةٍ تَدُلُّ عَلَى وُجُودِ الْمُسْلِمِينَ قَبْلَ وُجُودِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَوُجُودِ أُمَّتِهِ كَقَوْلِهِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ: (إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) ، وَقَوْلِهِ عَنْ يُوسُفَ: (تَوَفَّنِى مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِى بِالصَّالِحِينَ) ، وَقَوْلِهِ (يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ) ، وَقَوْلِهِ عَنْ لُوطٍ وَأَهْلِهِ، (فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ الْمُسْلِمِينَ) ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ ... الْآيَاتِ] (2) .
وَقَالَ فِي تَفْسِير قَوْلُهُ تَعَالَى: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} : [وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِأَحْسَنِ الْقَوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا الله، وَبَعض من
_________
(1) - هَذِه العناوين وَضَعتهَا من عِنْدِي، لسُهُولَة التَّقْسِيم، وَقد وضعت كَلَام الْعَلامَة الشنقيطي - رَحمَه الله - بَين معكوفتين [] ، لأميز بعضه من بعض، وَأما الْعزو للشَّيْخ عَطِيَّة مُحَمَّد سَالم فأبينه بِذكر اسْمه قبله، وعلامته أَن يكون الْعزو إِلَى المجلد الثَّامِن أَو التَّاسِع من كتاب " أضواء الْبَيَان "، وَلم أتدخل فِي نَص كَلَامهمَا مُطلقًا، إِلَّا مَا يكون من حذف بعض الْجمل الْخَارِجَة عَن مَوْضُوع الْمَسْأَلَة الَّتِي أنقلها، وَأبين ذَلِك بِوَضْع نقاط مَكَان الْكَلَام الْمَحْذُوف.
(2) - 2/167 - 168، الْأَنْعَام/ 14.(1/13)
يَقُولُ بِهَذَا يَقُولُ: إِنِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِيمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ قَبْلَ بَعْثِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَزَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ الْعَدَوِيِّ، وَأَبِي ذَرٍّ الْغِفَارِيِّ، وَسَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ] (1) .
أهل الْكتاب والشرك وَهل الْكفْر مِلَّة وَاحِدَة؟
قَالَ صَاحب التَّتِمَّة - رَحمَه الله -: [أهل الْكتاب هم الْيَهُود وَالنَّصَارَى، وَالْمُشْرِكُونَ هُمْ عَبَدَةُ الْأَوْثَانِ، وَالْكُفْرَ يَجْمَعُ الْقِسْمَيْنِ. وَأَهْلُ الْكِتَابِ مُخْتَصٌّ بِالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَلَكِنَّ الْخِلَافَ هَلِ الشِّرْكُ يَجْمَعُهُمَا أَيْضًا أَمْ لَا؟
فَبَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ عُمُومٌ وَخُصُوصٌ، عُمُومٌ فِي الْكُفْرِ وَخُصُوصٌ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ لِلْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَخُصُوصٌ فِي الْمُشْرِكِينَ لِعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ. وَلَكِنْ جَاءَتْ آيَاتٌ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مُسَمَّى الشِّرْكِ يَشْمَلُ أَهْلَ الْكِتَابِ أَيْضًا كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قولهمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ. اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) فَجَعَلَ مَقَالَةَ كُلٍّ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى إِشْرَاكًا.
وَجَاءَ عَنْ عَبْدِ اللَّه بْنِ عُمَرَ مَنْعُ نِكَاحِ الْكِتَابِيَّةِ وَقَالَ: وَهَلْ أَكْبَرُ إِشْرَاكًا مِنْ قَوْلِهَا: {اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا} (2) ، فَهُوَ وَإِنْ كَانَ مُخَالِفًا لِلْجُمْهُورِ فِي مَنْعِ الزَّوَاجِ مِنَ الكتابيات، إِلَّا أَنه اعتبرهن مشركات.
_________
(1) - 7/50، الزمر/ 18.
(2) - أخرجه بِنَحْوِهِ ابْن أبي شيبَة فِي " المُصَنّف " (3/457) بِإِسْنَادَيْنِ أَحدهمَا صَحِيح، وَالْآخر حسن.(1/14)
وَلِهَذَا الْخِلَافِ وَالِاحْتِمَالِ وَقَعَ النِّزَاعُ فِي مُسَمَّى الشِّرْكِ، هَلْ يَشْمَلُ أَهْلَ الْكِتَابِ أَمْ لَا؟ مَعَ أَنَّنَا وَجَدْنَا فَرْقًا فِي الشَّرْعِ فِي مُعَامَلَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَمُعَامَلَةِ الْمُشْرِكِينَ، فَأَحَلَّ ذَبَائِحَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَمْ يُحِلَّهَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَأَحَلَّ نِكَاحَ الْكِتَابِيَّاتِ وَلَمْ يُحِلَّهُ مِنَ الْمُشْرِكَاتِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلاَ تَنْكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} .
وَقَوْلِهِ: {وَلاَ تُمْسِكُواْ بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} .
وَقَالَ: {لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} ، بَيَّنَ مَا فِي حَقِّ الْكِتَابِيَّاتِ قَالَ: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَآ آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} ، فَكَانَ بَيْنَهُمَا مُغَايَرَةٌ فِي الْحُكْمِ.
وَقَدْ جَمَعَ وَالِدُنَا الشَّيْخُ مُحَمَّدٌ الْأَمِينُ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - بَيْن تِلْكَ النُّصُوصِ فِي دفع إِيهَام الِاضْطِرَاب، ذِكْرُهَا جَمْعًا مُفَصَّلًا مَفَادُهُ أَنَّ الشِّرْكَ الْأَكْبَرَ الْمُخْرِجَ مِنَ الْمِلَّةِ أَنْوَاعٌ، وَأَهْلُ الْكِتَابِ مُتَّصِفُونَ بِبَعْضٍ دُونَ بَعْضٍ، إِلَى آخِرِ مَا أَوْرَدَهُ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ.
وَلَعَلَّ فِي نَفْسِ آيَةِ (وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ) فِيهَا إِشَارَةٌ إِلَى مَا ذَكَرَهُ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: (يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا) أَيْ يُشَابِهُونَهُمْ فِي مَقَالَتِهِمْ، وَهَذَا الْقَدْرُ اتَّصَفَ بِهِ الْمُشْرِكُونَ مِنْ أَنْوَاعِ الشِّرْكِ.
الثَّانِي: تَذْيِيلُ الْآيَةِ بِصِيغَةِ الْمُضَارع عَمَّا يشركُونَ بَين مَا وَصَفَ عَبَدَةَ الْأَوْثَانِ فِي سُورَةِ الْبَيِّنَةِ بِالِاسْمِ: (وَالْمُشْرِكِينَ) . وَمَعْلُومٌ أَنَّ صِيغَةَ الْفِعْلِ تَدُلُّ عَلَى التَّجَدُّدِ وَالْحُدُوثِ وَصِيغَةَ الِاسْمِ تَدُلُّ عَلَى الدَّوَامِ وَالثُّبُوتِ، فَمُشْرِكُو مَكَّةَ وَغَيْرُهُمْ دَائِمُونَ عَلَى الْإِشْرَاكِ وَعِبَادَةِ الْأَصْنَامِ، وَأَهْلُ الْكِتَابِ يَقَعُ مِنْهُمْ حِينًا وَحِينًا. وَقَدْ أَخَذَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الْكُفْرَ مِلَّةٌ وَاحِدَةٌ فَوَرَّثَ الْجَمِيعَ مِنْ بَعْضٍ وَمَنَعَ الْآخَرُونَ عَلَى أَسَاسِ(1/15)
الْمُغَايرَة، وَالْعلم عِنْد الله تَعَالَى] (1) .
فصل: تَعْرِيف الْإِيمَان وَالْإِسْلَام:
[مُسَمَّى الْإِيمَانِ الشَّرْعِيِّ الصَّحِيحِ، وَالْإِسْلَامِ الشَّرْعِيِّ الصَّحِيحِ هُوَ اسْتِسْلَامُ الْقَلْبِ بِالِاعْتِقَادِ وَاللِّسَانِ بِالْإِقْرَارِ، وَالْجَوَارِحِ بِالْعَمَلِ. . . وَكُلُّ انْقِيَادٍ وَاسْتِسْلَامٍ وَإِذْعَانٍ يُسَمَّى إِسْلَامًا لُغَةً. وَمِنْهُ قَوْلُ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ الْعَدَوِيِّ مُسْلِمِ الْجَاهِلِيَّةِ:
وَأَسْلَمْتُ وَجْهِي لِمَنْ أَسْلَمَتْ ... لَهُ الْأَرْضُ تَحْمِلُ صَخْرًا ثِقَالًا
دَحَاهَا فَلِمَا اسْتَوَتْ شَدَّهَا ... جَمِيعًا وَأَرْسَى عَلَيْهَا الْجِبَالَا
وَأَسْلَمْتُ وَجْهِي لِمَنْ أَسْلَمَتْ ... لَهُ الْمُزْنُ تَحْمِلُ عَذْبًا زُلَالًا
إِذَا هِيَ سِيْقَتْ (2) إِلَى بَلْدَةٍ ... أَطَاعَتْ فَصَبَّتْ عَلَيْهَا سِجَالًا
وَأَسْلَمْتُ وَجْهِي لِمَنْ أسْلَمَتْ ... لَهُ الرِّيحُ تُصْرَفُ حَالًا فَحَالَا
فَالْمُرَادُ بِالْإِسْلَامِ فِي هَذِه الأبيات: الاستسلام والانقياد] (3) .
[قَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: (مَا كُنتَ تَدْرِى مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ) . يُبَيِّنُ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا فِيهِ مِنَّتَهُ عَلَى هَذَا النَّبِيِّ الْكَرِيمِ، بِأَنَّهُ عَلَّمَهُ هَذَا الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ وَلَمْ يَكُنْ يَعْلَمُهُ قَبْلَ ذَلِكَ، وَعَلَّمَهُ تَفَاصِيلَ دِينِ الْإِسْلَامِ وَلَمْ يَكُنْ يَعْلَمُهَا قَبْلَ ذَلِكَ.
فَقَوْلُهُ: (مَا كُنتَ تَدْرِى مَا الْكِتَابُ) : أَيْ مَا كُنْتَ تَعْلَمُ مَا هُوَ هَذَا الْكِتَابُ الَّذِي هُوَ الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ، حَتَّى عَلَّمْتُكَهُ، وَمَا كنت تَدْرِي مَا الْإِيمَان
_________
(1) - 9/398: 400، الْبَيِّنَة / 1: 4.
(2) - بِالْأَصْلِ: سقيت، وَالصَّوَاب مَا أَثْبَتْنَاهُ.
(3) - 7/636 - 637، الحجرات /14.(1/16)
الَّذِي هُوَ تَفَاصِيلُ هَذَا الدِّينِ الْإِسْلَامِيِّ، حَتَّى عَلَّمْتُكَهُ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْحَقَّ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ الَّذِي هُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ أَنَّ الْإِيمَانَ شَامِلٌ لِلْقَوْلِ وَالْعَمَلِ مَعَ الِاعْتِقَادِ.
وَذَلِكَ ثَابِتٌ فِي أَحَادِيثَ صَحِيحَةٍ كَثِيرَةٍ، مِنْهَا: حَدِيثُ وَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ الْمَشْهُورُ (1) ، وَمِنْهَا حَدِيثُ: «مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا» (2) الْحَدِيثَ، فَسَمَّى فِيهِ قِيَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا، وَحَدِيثُ «الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً» (3) ، وَفِي بَعْضِ رِوَايَاتِهِ «بِضْعٌ وَسِتُّونَ شُعْبَةً أَعْلَاهَا شَهَادَةُ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ» (4) . وَالْأَحَادِيثُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ وَيَكْفِي فِي ذَلِكَ مَا أَوْرَدَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ فَهُوَ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ مَا كَانَ يَعْرِفُ تَفَاصِيلَ الصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَةِ وَأَوْقَاتَهَا وَلَا صَوْمَ رَمَضَانَ، وَمَا يَجُوزُ فِيهِ وَمَا لَا يَجُوزُ وَلَمْ يَكُنْ يَعْرِفُ تَفَاصِيلَ الزَّكَاةِ وَلَا مَا تَجِبُ فِيهِ وَلَا قَدْرَ النِّصَابِ وَقَدْرَ الْوَاجِبِ فِيهِ وَلَا تَفَاصِيلَ الْحَجِّ وَنَحْوَ ذَلِكَ، وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَلاَ الإِيمَانُ) ] (5) .
_________
(1) - رَوَاهُ البُخَارِيّ (1/29) (53) ، وَمُسلم (1/46) (17) مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَفِيه قَوْله - صلى الله عَلَيْهِ وَسلم - لَهُم: (أَتَدْرُونَ مَا الْإِيمَان بِاللَّه وَحده) . قَالُوا الله وَرَسُوله أعلم قَالَ (شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ وَصِيَام رَمَضَان وَأَن تعطوا من الْمغنم الْخمس) وَاللَّفْظ للْبُخَارِيّ.
(2) - رَوَاهُ البُخَارِيّ (1/22) (37) ، وَمُسلم (1/523) (759) مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِهِ.
(3) - رَوَاهُ مُسْلِمٍ (1/63) (57- (35)) مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِهِ.
(4) - رَوَاهُ البُخَارِيّ (1/12) (9) ، وَمُسلم (1/63) (58- (35)) مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِهِ.
(5) - 7/201، الشورى /52 وَانْظُر (9/501 - 502، الْعَصْر/3) .(1/17)
فَائِدَة: بَيَان أَن الْإِيمَان وَالْإِسْلَام اللغويين قد يجامعا الشّرك:
[قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ) . وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ إِشْكَالٌ: وَهُوَ أَنَّ الْمُقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْبَلَاغَةِ أَنَّ الْحَالَ قَيْدٌ لِعَامِلِهَا وَصْفٌ لِصَاحِبِهَا وَعَلَيْهِ؛ فَإِنَّ عَامِلَ هَذِهِ الْجُمْلَةِ الْحَالِيَّةِ الَّذِي هُوَ يُؤْمِنُ مُقَيَّدٌ بِهَا، فَيَصِيرُ الْمَعْنَى تَقْيِيدُ إِيمَانِهِمْ بِكَوْنِهِمْ مُشْرِكِينَ، وَهُوَ مُشْكِلٌ لِمَا بَيْنَ الْإِيمَانِ وَالشِّرْكِ مِنَ الْمُنَافَاةِ.
قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ -: لَمْ أَرَ مَنْ شَفَى الْغَلِيلَ فِي هَذَا الْإِشْكَالِ، وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي - وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ - أَنَّ هَذَا الْإِيمَانَ الْمُقَيَّدَ بِحَالِ الشِّرْكِ إِنَّمَا هُوَ إِيمَانٌ لُغَوِيٌّ لَا شَرْعِيٌّ؛ لِأَنَّ مَنْ يَعْبُدُ مَعَ اللَّهِ غَيْرَهُ لَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْإِيمَانِ الْبَتَّةَ شَرْعًا؛ أَمَّا الْإِيمَانُ اللُّغَوِيُّ فَهُوَ يَشْمَلُ كُلَّ تَصْدِيقٍ، فَتَصْدِيقُ الْكَافِرِ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْخَالِقُ الرَّازِقُ يَصْدُقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْإِيمَانِ لُغَةً مَعَ كُفْرِهِ بِاللَّهِ، وَلَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْإِيمَانِ شَرْعًا. وَإِذَا حَقَّقْتَ ذَلِكَ عَلِمْتَ أَنَّ الْإِيمَانَ اللُّغَوِيَّ يُجَامِعُ الشِّرْكَ فَلَا إِشْكَالَ فِي تَقْيِيدِهِ بِهِ، وَكَذَلِكَ الْإِسْلَامُ الْمَوْجُودُ دُونَ الْإِيمَانِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ وَلكن قُولُواْ أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِى قُلُوبِكُمْ) فَهُوَ الْإِسْلَامُ اللُّغَوِيُّ؛ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ الشَّرْعِيَّ لَا يُوجَدُ مِمَّنْ لَمْ يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قَلْبِهِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: «نَزَلَتْ آيَةُ (وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ) فِي قَوْلِ الْكُفَّارِ فِي تَلْبِيَتِهِمْ: لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ إِلَّا شَرِيكًا هُوَ لَكَ تَمْلِكُهُ وَمَا مَلَكَ» وَهُوَ رَاجع إِلَى مَا ذكرنَا] (1) .
_________
(1) - 3/65 - 66، يُوسُف /12.(1/18)
قَاعِدَة: الْإِيمَان وَالْإِسْلَام إِذا اجْتمعَا افْتَرقَا، وَإِذا افْتَرقَا اجْتمعَا:
[قَوْله فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ (الَّذِينَ آمَنُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ مُسْلِمِينَ) ظَاهِرُهُ الْمُغَايِرَةُ بَيْنَ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ.
وَقد دلّ بَعْضُ الْآيَاتِ عَلَى اتِّحَادِهِمَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ الْمُسْلِمِينَ) . وَلَا مُنَافَاةَ فِي ذَلِكَ، فَإِنَّ الْإِيمَانَ يُطْلَقُ تَارَةً عَلَى جَمِيعِ مَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ الْإِسْلَامُ مِنَ الِاعْتِقَادِ وَالْعَمَلِ. كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ، فِي حَدِيثِ وَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ، وَالْأَحَادِيثُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ جِدًّا، وَمِنْ أَصَرَحِهَا فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ» . وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ الثَّابِتَةِ فِي الصَّحِيحِ «وَسِتُّونَ شُعْبَةً أَعْلَاهَا شَهَادَةُ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ» . فَقَدْ سَمَّى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِمَاطَةَ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ» إِيمَانًا. وَقَدْ أَطَالَ الْبَيْهَقِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ، فِي ذِكْرِ الْأَعْمَالِ الَّتِي جَاءَ الْكتاب وَالسّنة تَسْمِيَتهَا إِيمَانًا.
فَالْإِيمَانُ الشَّرْعِيُّ التَّامُّ وَالْإِسْلَامُ الشَّرْعِيُّ التَّامُّ مَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ. وَقَدْ يُطْلَقُ الْإِيمَانُ إِطْلَاقًا آخَرُ عَلَى خُصُوصِ رُكْنِهِ الْأَكْبَرِ الَّذِي هُوَ الْإِيمَانُ بِالْقَلْبِ، كَمَا فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ الثَّابِتِ فِي الصَّحِيحِ.
وَالْقَلْبُ مُضْغَةٌ فِي الْجَسَدِ إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، فَغَيْرُهُ تَابِعٌ لَهُ؛ وَعَلَى هَذَا تَحْصُلُ الْمُغَايَرَةُ فِي الْجُمْلَةِ بَيْنَ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ؛ فَالْإِيمَانُ، عَلَى هَذَا الْإِطْلَاقِ، اعْتِقَادٌ وَالْإِسْلَامُ شَامِلٌ لِلْعَمَلِ، وَاعْلَمْ أَنَّ مُغَايَرَتَهُ تَعَالَى بَيْنَ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ وَلكن قُولُواْ أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِى قُلُوبِكُمْ) قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: الْمُرَادُ بِالْإِيمَانِ هُنَا، مَعْنَاهُ الشَّرْعِيُّ، وَالْمُرَادُ بِالْإِسْلَامِ مَعْنَاهُ اللُّغَوِيُّ. لِأَنَّ إِذْعَانَ الْجَوَارِحِ وَانْقِيَادَهَا دُونَ إِيمَانِ الْقَلْبِ إِسْلَامٌ لُغَةً لَا شَرْعًا.
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: الْمُرَادُ بِكُلٍّ مِنْهُمَا مَعْنَاهُ الشَّرْعِيُّ، وَلَكِنَّ نَفْيَ(1/19)
الْإِيمَانِ فِي قَوْلِهِ: وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ، يُرَادُ بِهِ عِنْدَ مَنْ قَالَ هَذَا، نَفْيُ كَمَالِ الْإِيمَانِ لَا نَفْيُ أَصْلِهِ، وَلَكِنْ ظَاهِرُ الْآيَةِ لَا يُسَاعِدُ عَلَى هَذَا؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: (وَلَمَّا يَدْخُلِ) فِعْلٌ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ وَهُوَ صِيغَةُ عُمُومٍ، عَلَى التَّحْقِيقِ، وَإِنْ لَمْ يُؤَكَّدْ بِمَصْدَرٍ، وَوَجْهُهُ وَاضِحٌ جِدًّا، كَمَا قَدَّمْنَاهُ مِرَارًا. وَهُوَ أَنَّ الْفِعْلَ الصِّنَاعِيَّ يَنْحَلُّ، عَنْ مَصْدَرٍ وَزَمَنٍ عِنْدَ النَّحْوِيِّينَ، وَعَنْ مَصْدَرٍ وَزَمَنٍ وَنِسْبَةٍ عِنْدَ الْبَلَاغِيِّينَ، كَمَا حَرَّرُوهُ فِي مَبْحَثِ الِاسْتِعَارَةِ التَّبَعِيَّةِ، وَهُوَ أَصْوَبُ. فَالْمَصْدَرُ كَامِنٌ فِي مَفْهُومِ الْفِعْلِ الصِّنَاعِيِّ إِجْمَاعًا، وَهُوَ نَكِرَةٌ لَمْ تَتَعَرَّفْ بِشَيْءٍ فَيُؤَوَّلُ إِلَى مَعْنَى النَّكِرَةِ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ. وَقَدْ أَشَارَ صَاحِبُ مَرَاقِي السُّعُودِ إِلَى أَنَّ الْفِعْلَ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ أَوِ الشَّرْطِ مِنْ صِيَغِ الْعُمُوم بقوله:
وَنَحْوُ لَا شَرِبْتُ أَوْ إِنْ (1) شَرِبَا ... وَاتَّفَقُوا إِنْ مَصْدَرٌ قَدْ جَلَبَا
وَوَجْهُ إِهْمَالِ لَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (لاَ خَوْفٌ) أَنَّ لَا الثَّانِيَةَ الَّتِي هِيَ (وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ) بَعْدَهَا مَعْرِفَةٌ وَهِيَ الضَّمِيرُ، وَهِيَ لَا تَعْمَلُ فِي الْمَعَارِفِ، بَلْ فِي النَّكِرَاتِ، فَلَمَّا وَجَبَ إِهْمَالُ الثَّانِيَةِ، أُهْمِلَتِ الْأُولَى لِيَنْسَجِمَ الْحَرْفَانِ بَعْضُهُمَا مَعَ بَعْضٍ فِي إِهْمَالِهِمَا مَعًا] (2) .
فَائِدَة: تَحْقِيق القَوْل فِي الْأَعْرَاب:
[قَوْلِهِ تَعَالَى: (قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ وَلكن قُولُواْ أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإيمَانُ فِى قُلُوبِكُمْ) . ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْأَعْرَابَ وَهُمْ أَهْلُ الْبَادِيَةِ مِنَ الْعَرَبِ قَالُوا آمَنَّا، وَأَنَّ اللَّهَ جلّ وَعلا أَمر نبيه
_________
(1) - بِالْأَصْلِ: "وَإِن"، وَالصَّوَاب حذف الْوَاو.
(2) - 7/278 - 280، الزخرف /69.(1/20)
أَنْ يَقُولَ لَهُمْ: (لَّمْ تُؤْمِنُواْ وَلكن قُولُواْ أَسْلَمْنَا) ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الْإِيمَانِ عَنْهُمْ وَثُبُوتِ الْإِسْلَامِ لَهُمْ. وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ أَنَّ الْإِيمَانَ أَخَصُّ مِنَ الْإِسْلَامِ لِأَنَّ نَفْيَ الْأَخَصِّ لَا يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ الْأَعَمِّ. وَقَدْ قَدَّمْنَا مِرَارًا أَنَّ مُسَمَّى الْإِيمَانِ الشَّرْعِيِّ الصَّحِيحِ، وَالْإِسْلَامِ الشَّرْعِيِّ الصَّحِيحِ هُوَ اسْتِسْلَامُ الْقَلْبِ بِالِاعْتِقَادِ وَاللِّسَانِ بِالْإِقْرَارِ، وَالْجَوَارِحِ بِالْعَمَلِ، فَمُؤَدَّاهُمَا وَاحِدٌ كَمَا يَدُلُّ لَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ الْمُسْلِمِينَ) .
وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ يُحْتَاجُ إِلَى بَيَانِ وَجْهِ الْفِرَقِ بَيْنَ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، لِأَنَّ اللَّهَ نَفَى عَنْهُمُ الْإِيمَانَ دُونَ الْإِسْلَامِ، وَلِذَلِكَ وَجْهَانِ مَعْرُوفَانِ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ أَظْهَرُهُمَا عِنْدِي أَنَّ الْإِيمَانَ الْمَنْفِيَّ عَنْهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هُوَ مُسَمَّاهُ الشَّرْعِيُّ الصَّحِيحُ، وَالْإِسْلَامُ الْمُثْبَتُ لَهُمْ فِيهَا هُوَ الْإِسْلَامُ اللُّغَوِيُّ الَّذِي هُوَ الِاسْتِسْلَامُ وَالِانْقِيَادُ بِالْجَوَارِحِ دُونَ الْقَلْبِ. وَإِنَّمَا سَاغَ إِطْلَاقُ الْحَقِيقَةِ اللُّغَوِيَّةِ هَنَا عَلَى الْإِسْلَامِ مَعَ أَنَّ الْحَقِيقَةَ الشَّرْعِيَّةَ مُقَدَّمَةٌ عَلَى اللُّغَوِيَّةِ عَلَى الصَّحِيحِ، لِأَنَّ الشَّرْعَ الْكَرِيمَ جَاءَ بِاعْتِبَار الظَّاهِر. وَأَن تُوكَلَ السَّرَائِرِ إِلَى اللَّهِ. فَانْقِيَادُ الْجَوَارِحِ فِي الظَّاهِرِ بِالْعَمَلِ وَاللِّسَانِ بِالْإِقْرَارِ يُكْتفى بِهِ شَرْعًا، وَإِنْ كَانَ الْقَلْبُ مُنْطَوِيًا عَلَى الْكُفْرِ. وَلِهَذَا سَاغَ إِرَادَةُ الْحَقِيقَةِ اللُّغَوِيَّةِ فِي قَوْلِهِ: (وَلكن قُولُواْ أَسْلَمْنَا) ، لِأَنَّ انْقِيَادَ اللِّسَانِ وَالْجَوَارِحِ فِي الظَّاهِرِ إِسْلَامٌ لُغَوِيٌّ مُكْتَفًى بِهِ شَرْعًا عَنِ التَّنْقِيبِ عَن الْقُلُوب. وَكُلُّ انْقِيَادٍ وَاسْتِسْلَامٍ وَإِذْعَانٍ يُسَمَّى إِسْلَامًا لُغَةً ... وَإِذَا حُمِلَ الْإِسْلَامُ فِي قَوْلِهِ: (وَلكن قُولُواْ أَسْلَمْنَا) انْقَدْنَا وَاسْتَسْلَمْنَا بِالْأَلْسِنَةِ وَالْجَوَارِحِ. فَلَا إِشْكَالَ فِي الْآيَةِ. وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَالْأَعْرَابُ الْمَذْكُورُونَ مُنَافِقُونَ، لِأَنَّهُمْ مُسْلِمُونَ فِي الظَّاهِرِ، وَهُمْ كُفَّارٌ فِي الْبَاطِنِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِنَفْيِ الْإِيمَانِ فِي قَوْلِهِ: (لَّمْ تُؤْمِنُواْ) نَفْيُ كَمَالِ(1/21)
الْإِيمَانِ، لَا نَفْيُهُ مِنْ أصْلِهِ. وَعَلَيْهِ فَلَا إِشْكَالَ أَيْضًا، لِأَنَّهُمْ مُسْلِمُونَ مَعَ أَنَّ إِيمَانَهُمْ غَيْرُ تَامٍّ، وَهَذَا لَا إِشْكَالَ فِيهِ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ الْإِيمَانَ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ. وَإِنَّمَا اسْتَظْهَرْنَا الْوَجْهَ الْأَوَّلَ، وَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْإِسْلَامِ مَعْنَاهُ اللُّغَوِيُّ دُونَ الشَّرْعِيِّ، وَأَنَّ الْأَعْرَابَ الْمَذْكُورِينَ كُفَّارٌ فِي الْبَاطِنِ وَإِنْ أَسْلَمُوا فِي الظَّاهِرِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ جَلَّ وَعَلَا: (وَلَمَّا يَدْخُلِ الإيمَانُ فِى قُلُوبِكُمْ) يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ دَلَالَةً كَمَا تَرَى، لِأَنَّ قَوْلَهُ: (يَدْخُلِ) فِعْلٌ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ وَهُوَ مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ كَمَا أَوْضَحْنَاهُ مِرَارًا، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِ صَاحِبِ مَرَاقِي السُّعُودِ:
وَنَحْوُ لَا شَرِبْتُ أَوْ إِنْ شَرِبَا ... وَاتَّفَقُوا إِنْ مَصْدَرٌ قَدْ جَلَبَا
فَقَوْلُهُ: (وَلَمَّا يَدْخُلِ الإيمَانُ فِى قُلُوبِكُمْ) : فِي مَعْنَى لَا دُخُولَ لِلْإِيمَانِ فِي قُلُوبِكُمْ. وَالَّذِينَ قَالُوا بِالثَّانِي قَالُوا: إِنَّ الْمُرَادَ بِنَفْيِ دُخُولِهِ نَفْيُ كَمَاله، وَالْأول أظهر كَمَا ترى] (1) .
فصل: الْإِيمَان يزِيد وَينْقص:
[قَوْلُهُ تَعَالَى: (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نبَأَهُم بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُواْ بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى) . ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ يَقُصُّ عَلَيْهِ نَبَأَ أَصْحَابِ الْكَهْفِ بِالْحَقِّ. ثُمَّ أَخْبَرَهُ مُؤَكِّدًا لَهُ أَنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ، وَأَنَّ اللَّهَ جَلَّ وَعَلَا زَادَهُمْ هُدًى. وَيُفْهَمُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ مَنْ آمَنَ بِرَبِّهِ وَأَطَاعَهُ زَادَهُ رَبُّهُ هُدًى. لِأَنَّ الطَّاعَةَ سَبَبٌ لِلْمَزِيدِ مِنَ الْهُدَى وَالْإِيمَانِ.
وَهَذَا الْمَفْهُومُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ جَاءَ مُبَيَّنًا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ. كَقَوْلِه
_________
(1) - 7/636 -639، الحجرات /14.(1/22)
تَعَالَى: (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ) ، وَقَوله: (وَالَّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا) ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (يِاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا) ، وَقَوْلِهِ: (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: (هُوَ الَّذِى أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِى قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُواْ إِيمَاناً مَّعَ إِيمَانِهِمْ) ، وَقَوله تَعَالَى: (ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَآمِنُواْ بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ) ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَهَذِهِ الْآيَاتُ الْمَذْكُورَةُ نُصُوصٌ صَرِيحَةٌ فِي أَنَّ الْإِيمَانَ يَزِيدُ - مَفْهُومٌ مِنْهَا أَنَّهُ يَنْقُصُ أَيْضًا، كَمَا اسْتَدَلَّ بِهَا الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ. وَهِيَ تَدُلُّ عَلَيْهِ دَلَالَةً صَرِيحَةً لَا شَكَّ فِيهَا، فَلَا وَجْهَ مَعَهَا لِلِاخْتِلَافِ فِي زِيَادَةِ الْإِيمَانِ وَنَقْصِهِ كَمَا تَرَى. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى] (1) .
[قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً) . فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ التَّصْرِيحُ بِزِيَادَةِ الْإِيمَانِ، وَقَدْ صَرَّحَ تَعَالَى بِذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ كَقَوْلِهِ: (وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) ، وَقَوْلِهِ: (هُوَ الَّذِى أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِى قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُواْ إِيمَاناً مَّعَ إِيمَانِهِمْ) ، وَقَوْلِهِ: (لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُواْ إِيمَاناً) وَقَوله: (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى) ، وَتَدُلُّ هَذِهِ الْآيَاتُ بِدَلَالَةِ الِالْتِزَامِ عَلَى أَنَّهُ يَنْقُصُ أَيْضًا. لِأَنَّ كُلَّ مَا يَزِيدُ يَنْقُصُ، وَجَاءَ مُصَرَّحًا بِهِ فِي أَحَادِيثِ الشَّفَاعَةِ الصَّحِيحَةِ كَقَوْلِهِ: «يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَفِي قَلْبِهِ
مِثْقَالُ حَبَّةٍ من إِيمَان» (2) وَنَحْو ذَلِك] (3) .
_________
(1) - 4/31 - 32، الْكَهْف / 13.
(2) - أخرجه البُخَارِيّ (1/24) (44) ، وَمُسلم (1/180) (193) من حَدِيث أنس - رَضِي الله عَنهُ - بِنَحْوِهِ.
(3) - 2/310، الْأَنْفَال / 2.(1/23)
وَقَالَ صَاحب التَّتِمَّة - رَحمَه الله -: [الْمُؤْمِنَ كُلَّمَا جَاءَهُ أَمْرٌ عَنِ اللَّهِ وَصَدَّقَهُ، وَلَوْ لَمْ يَعْلَمْ حَقِيقَتَهُ اكْتِفَاءً بِأَنَّهُ مِنَ اللَّهِ، ازْدَادَ بِهَذَا التَّصْدِيقِ إِيمَانًا وَهِيَ مَسْأَلَةُ ازدياد الْإِيمَان بِالطَّاعَةِ والتصديق] (1) .
فَائِدَة: الِابْتِلَاء يكون على قدر الْإِيمَان:
[وَقَدْ بيَّنت السُّنَّةُ الثَّابِتَةُ أَنَّ هَذَا الِابْتِلَاءَ الْمَذْكُورَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ يُبْتَلَى بِهِ الْمُؤْمِنُونَ عَلَى قَدْرِ مَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْإِيمَانِ؛ كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَشَدُّ النَّاسِ بَلَاءً الْأَنْبِيَاء، ثمَّ الصالحون، ثمَّ الأمثل ... فالأمثل» (2) ] (3) .
فصل: الْكفْر يزْدَاد بِالْمَعَاصِي:
قَالَ صَاحب التَّتِمَّة - رَحمَه الله -: [وَكُنْتُ سَمِعْتُ مِنْهُ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ قَوْلَهُ: (كَمَا أَنَّ الْإِيمَانَ يَزِيدُ بِالطَّاعَةِ، وَالْمُؤْمِنُ يُثَابُ عَلَى إِيمَانِهِ وَعَلَى طَاعَتِهِ، فَكَذَلِكَ الْكُفْرُ يَزْدَادُ بِالْمَعَاصِي، وَيُجَازَى الْكَافِرُ عَلَى كُفْرِهِ وَعَلَى عِصْيَانِهِ، كَمَا فِي قَوْلُهُ تَعَالَى: (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَاباً فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ) . فَعَذَابٌ عَلَى الْكُفْرِ وَعَذَابٌ عَلَى الْإِفْسَادِ، وَمِمَّا يَدُلُّ لِزِيَادَةِ الْكُفْرِ، قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ) وَقد تقدم للشَّيْخ
_________
(1) - 8/623، المدثر /31، وَانْظُر أَيْضا فِي هَذَا الْفَصْل: (7/604، الْفَتْح / 4) ، (6/574، الْأَحْزَاب / 22) ، (9/501، الْعَصْر/3) .
(2) - أخرجه التِّرْمِذِيّ (4/601) (2398) من حَدِيثِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِهِ وَقَالَ: حسن صَحِيح، وَوَافَقَهُ الشَّيْخ الألباني - رَحمَه الله -.
(3) - 6/462، العنكبوت / 1- 2.(1/24)
رَحِمَهُ اللَّهُ مَبْحَثُ زِيَادَةِ الْعَذَابِ عِنْدَ آيَةِ النَّحْل] (1) - يُشِير لقَوْله - رَحمَه الله -: [قَوْلُهُ تَعَالَى: (زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ) فَإِنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ مِنَ الْعَذَابِ لِأَجْلِ إِضْلَالِهِمْ غَيْرَهُمْ، وَالْعَذَابُ الْمَزِيدُ (2) فَوْقَهُ: هُوَ عَذَابُهُمْ عَلَى كُفْرِهِمْ فِي أَنْفُسِهِمْ. بِدَلِيلِ قَوْلِهِ فِي الْمُضِلِّينَ الَّذِينَ أَضَلُّوا غَيْرَهُمْ: (لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ) ، وَقَوله: (وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ) ... وَقَوْلِهِ (فَوْقَ الْعَذَابِ) أَيْ الَّذِي اسْتَحَقُّوهُ بِضَلَالِهِمْ وَكُفْرِهِمْ. وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ. أَنَّ هَذَا الْعَذَابَ الْمَزِيدَ: عَقَارِبُ أَنْيَابُهَا كَالنَّخْلِ الطِّوَالِ، وَحَيَّاتٌ مِثْلُ أَعْنَاقِ الْإِبِلِ، وَأَفَاعِي كَأَنَّهَا الْبَخَاتِيُّ تَضْرِبُهُمْ (3) . أَعَاذَنَا اللَّهُ وَإِخْوَانَنَا الْمُسْلِمِينَ مِنْهَا! وَالْعِلْمُ عِنْدَ ... اللَّهِ تَعَالَى] (4) .
فصل: الْكَبِيرَة، وَحكم فاعلها:
ضَابِط الْكَبِيرَة:
[قَوْله تَعَالَى: (وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ) ... وَالْفَوَاحِشُ جَمْعُ فَاحِشَةٍ. وَالتَّحْقِيقُ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ - أَنَّ الْفَوَاحِشَ مِنْ جُمْلَةِ الْكَبَائِرِ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّهَا من أشنعها، لِأَن الْفَاحِشَة فِي اللُّغَة: وَهِي الْخصْلَة المتناهية
_________
(1) - 8/446، الحاقة / 33 - 34.
(2) - بِالْأَصْلِ: المزيدة، وَالصَّوَاب مَا أَثْبَتْنَاهُ.
(3) - أخرجه مُخْتَصرا بِذكر أَوله فَقَط أَبُو يعلى (5/65) (2659) ، وَالطَّبَرَانِيّ (9/226) (9103) ، وَالْحَاكِم (2/387) (3357) ، وَصَححهُ الشَّيْخ الألباني - رَحمَه الله - فِي صَحِيح التَّرْغِيب والترهيب.
(4) - 3/305، النَّحْل /88.(1/25)
فِي الْقُبْحِ، وَكُلُّ مُتَشَدِّدٍ فِي شَيْءٍ مُبَالِغٍ فِيهِ فَهُوَ فَاحِشٌ فِيهِ. وَمِنْهُ قَوْلُ طَرَفَةَ بْنِ الْعَبْدِ فِي مُعَلَّقَتِهِ:
أَرَى الْمَوْتَ يَعْتَامُ الْكِرَامَ وَيَصْطَفِي ... عَقِيلَةَ مَالِ الْفَاحِشِ الْمُتَشَدِّدِ
فَقَوْلُهُ: الْفَاحِشُ أَيِ الْمُبَالِغُ فِي الْبُخْلِ الْمُتَنَاهِي فِيهِ ...
قَوْلِهِ (الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ) .
وَأَظْهَرُ الْأَقْوَالِ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا اللَّمَمَ، أَنَّ الْمُرَادَ بِاللَّمَمِ صَغَائِرُ الذُّنُوبِ، وَمِنْ أَوْضَحِ الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا تُنهَوْنَ عَنْهُ) . فَدَلَّتْ عَلَى أَنَّ اجْتِنَابَ الْكَبَائِرِ سَبَبٌ لِغُفْرَانِ الصَّغَائِرِ، وَخَيْرُ مَا يُفَسَّرُ بِهِ الْقُرْآنُ الْقُرْآنُ. وَيَدُلُّ لِهَذَا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ الثَّابِتُ فِي الصَّحِيحِ قَالَ: مَا رَأَيْتُ شَيْئًا أَشْبَهَ بِاللَّمَمِ مِمَّا قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ حَظَّهُ مِنَ الزِّنَا أَدْرَكَ ذَلِكَ لَا مَحَالَةَ فَزِنَا الْعَيْنِ النَّظَرُ وَزِنَا اللِّسَان النُّطْق وَالنَّفْسُ تُمَنِّي وَتَشْتَهِي وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ أَوْ يُكَذِّبُهُ» (1) . وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَالِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِهِ إِلَّا اللَّمَمَ مُنْقَطِعٌ، لِأَنَّ اللَّمَمَ الَّذِي هُوَ الصَّغَائِرُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ لَا يَدْخُلُ فِي الْكَبَائِر وَالْفَوَاحِش ... وَقَالَتْ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ: الِاسْتِثْنَاءُ مُتَّصِلٌ قَالُوا وَعَلَيْهِ، فَمَعْنَى إِلَّا اللَّمَمَ: إِلَّا أَنْ يَلُمَّ بِفَاحِشَةٍ مَرَّةً ثُمَّ يَجْتَنِبُهَا وَلَا يَعُودُ لَهَا بَعْدَ ذَلِكَ، وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِقَوْلِ الرَّاجِزِ:
إِنْ تَغْفِرِ اللَّهُمَّ تَغْفِرْ جَمًّا ... وَأَيُّ عَبْدٍ لَكَ مَا أَلَمَّا
وَرَوَى هَذَا الْبَيْتَ ابْنُ جرير وَالتِّرْمِذِيّ وَغَيرهمَا مَرْفُوعا (2) . وَفِي صِحَّته
_________
(1) - أخرجه البُخَارِيّ (5/2304) (5889) ، وَمُسلم (4/2046) (2657) .
(2) - أخرجه التِّرْمِذِيّ (5/396) (3284) وَقَالَ: حسن صَحِيح غَرِيب لَا نعرفه إِلَّا من حَدِيث زَكَرِيَّا بن إِسْحَق، والطبري فِي تَفْسِيره (11/252) أَخْرجَاهُ من طَرِيق زَكَرِيَّا بن إِسْحَق عَن عَمْرو بن دِينَار عَن عَطاء: عَن ابْن عَبَّاس مَرْفُوعا بِهِ، وَصَححهُ الشَّيْخ الألباني - رَحمَه الله -.(1/26)
مَرْفُوعا نظر. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: الْمُرَادُ بِاللَّمَمِ مَا سَلَفَ مِنْهُمْ مَنِ الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي، قَبْلَ الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ وَلَا يَخْفَى بُعْدُهُ.
وَأَظْهَرُ الْأَقْوَالِ هُوَ مَا قَدَّمَنَا لِدَلَالَةِ آيَةِ النِّسَاءِ الْمَذْكُورَةِ عَلَيْهِ، وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمُتَّفِقِ عَلَيْهِ.
... وَاعْلَمْ أَنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ اخْتَلَفُوا فِي حَدِّ الْكَبِيرَةِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هِيَ كُلُّ ذَنْبٍ اسْتَوْجَبَ حَدًّا مِنْ حُدُودِ اللَّهِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هِيَ كُلُّ ذَنْبٍ جَاءَ الْوَعِيدُ عَلَيْهِ بِنَارٍ أَوْ لَعْنَةٍ أَوْ غَضَبٍ أَوْ عَذَابٍ. وَاخْتَارَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ حَدَّ الْكَبِيرَةِ بِأَنَّهَا هِيَ كُلُّ ذَنْبٍ دَلَّ عَلَى عدم اكتراث صَاحبه بِالدّينِ ... وَالْأَظْهَرُ عِنْدِي فِي ضَابِطِ الْكَبِيرَةِ أَنَّهَا كُلُّ ذَنْبٍ اقْتَرَنَ بِمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَعْظَمُ مِنْ مُطْلَقِ الْمَعْصِيَةِ سَوَاءً كَانَ ذَلِكَ الْوَعِيدُ عَلَيْهِ بِنَارٍ أَوْ غَضَبٍ أَوْ لَعْنَةٍ أَوْ عَذَابٍ، أَوْ كَانَ وُجُوبُ الْحَدِّ فِيهِ، أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى تَغْلِيظِ التَّحْرِيمِ وَتَوْكِيدِهِ. مَعَ أَنَّ بَعْضَ أَهْلِ الْعِلْمِ قَالَ: إِنَّ كُلَّ ذَنْبٍ كَبِيرَةٌ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا تُنهَوْنَ عَنْهُ) . وَقَوْلُهُ: (إِلاَّ اللَّمَمَ) يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْمُسَاوَاةِ، وَأَنَّ بَعْضَ الْمَعَاصِي كَبَائِرُ. وَبَعْضَهَا صَغَائِرُ، وَالْمَعْرُوفُ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ: أَنَّهُ لَا صَغِيرَةَ مَعَ الْإِصْرَارِ وَلَا كَبِيرَةَ مَعَ الِاسْتِغْفَارِ (1) ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ الله تَعَالَى] (2) .
تَعْرِيف اللَّعْنَة:
[وَاللَّعْنَةُ فِي اللُّغَةِ: الطَّرْدُ وَالْإِبْعَادُ، وَالرَّجُلُ الَّذِي طرده قومه وأبعدوه
_________
(1) - رُوِيَ مَرْفُوعا من حَدِيث ابْن عَبَّاس وَأنس وَأبي هُرَيْرَة وَعَائِشَة - رَضِي الله عَنْهُم - وَجَمِيع أسانيدها واهية سَاقِطَة. وَانْظُر تفصيلها فِي: السلسة الضعيفة (رقم4810) ، وَلكنه صَحَّ من قَول ابْن عَبَّاس عِنْد الْبَيْهَقِيّ وَابْن أبي حَاتِم وَابْن جرير وَغَيرهم. وَلَكِن الْإِصْرَار يحْتَاج لضابط.
(2) - 7/195 - 200، الشورى / 37.(1/27)
لِجِنَايَاتِهِ تَقُولُ لَهُ الْعَرَبَ رَجُلٌ لَعِينٌ، وَمِنْهُ قَول الشَّاعِر:
ذَعَرْتُ بِهِ الْقَطَا وَنَفَيْتُ عَنْهُ ... مَقَامَ الذِئْبِ كَالرَجُلِ اللَّعِينِ
وَفِي اصْطِلَاحِ الشَّرْعِ: اللَّعْنَةُ: الطَّرْدُ والإبعاد عَن رَحْمَة اللَّه] (1) .
عدد الْكَبَائِر وَبَعض أمثلتها:
[وَاعْلَمْ أَنَّ كَبَائِرَ الْإِثْمِ لَيْسَتْ مَحْدُودَةً فِي عَدَدٍ مُعَيَّنٍ، وَقَدْ جَاءَ تَعْيِينُ بَعْضِهَا كَالسَّبْعِ الموبقات أَي المهكات لِعِظَمِهَا، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّهَا الْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ، وَالسِّحْرُ وَأَكْلُ الرِّبَا وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ، وَقَذَفُ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ» (2) وَقَدْ جَاءَتْ رِوَايَاتٌ كَثِيرَةٌ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَعْيِينِ بَعْضِ الْكَبَائِرِ كَعُقُوقِ الْوَالِدَيْنِ، وَاسْتِحْلَالِ حُرْمَةِ بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ، وَالرُّجُوعِ إِلَى الْبَادِيَةِ بَعْدَ الْهِجْرَةِ، وَشُرْبِ الْخَمْرِ، وَالْيَمِينِ الْغَمُوسِ، وَالسَّرِقَةِ، وَمَنْعِ فَضْلِ الْمَاءِ، وَمَنْعِ فَضْلِ الْكَلَإِ، وَشَهَادَةِ الزُّورِ، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ الثَّابِتَةِ فِي الصَّحِيحِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ «أَنَّ أَكْبَرَ الْكَبَائِرِ الْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ الَّذِي خَلَقَ الْخَلْقَ ثُمَّ قَتْلُ الرَّجُلِ وَلَدَهُ خَشْيَةَ أَنْ يَطْعَمَ مَعَهُ، ثُمَّ زِنَاهُ بِحَلِيلَةِ جَارِهِ» (3) . وَفِي بَعْضِهَا أَيْضًا «أَنَّ مِنَ الْكَبَائِرِ تَسَبُّبَ الرَّجُلِ فِي سَبِّ وَالِدَيْهِ» (4) ، وَفِي بَعْضِهَا أَيْضًا «أَنَّ سِبَابَ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ وَقِتَالَهُ كُفْرٌ» (5) وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمَا مِنَ الْكَبَائِرِ. وَفِي بعض الرِّوَايَات «أَن من
_________
(1) - 1/290، النِّسَاء /47.
(2) - أخرجه البُخَارِيّ (3/1017) (2615) ، وَمُسلم (1/92) (89) مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِهِ.
(3) - أخرجه البُخَارِيّ (4/1626) (4207) ، وَمُسلم (1/90) (86) بِنَحْوِهِ.
(4) - أخرجه البُخَارِيّ (5/2228) (5628) مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو - رَضِيَ الله عَنهُ - بِهِ.
(5) - أخرجه البُخَارِيّ (1/27) (48) ، وَمُسلم (1/81) (64) من حَدِيث ابْن مَسْعُود - رَضِي الله عَنهُ - بِهِ.(1/28)
الْكَبَائِرِ الْوُقُوعَ فِي عِرْضِ الْمُسْلِمِ، وَالسَّبَّتَيْنِ بِالسَّبَّةِ» (1) .
وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ «أَنَّ
مِنْهَا جَمْعَ الصَّلَاتَيْنِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ» (2) .
وَفِي بَعْضِهَا «أَنَّ مِنْهَا الْيَأْسَ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ، وَالْأَمْنَ مِنْ مَكْرِ اللَّهِ» (3) وَيَدُلُّ عَلَيْهِمَا قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ) . وَقَوْلُهُ (فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ) . وَفِي بَعْضِهَا «أَنَّ مِنْهَا سُوءَ الظَّنِّ بِاللَّهِ» (4) وَيَدُلُّ لَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى (وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّآنِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً) . وَفِي بَعْضِهَا «أَنَّ مِنْهَا الْإِضْرَارَ فِي الْوَصِيَّةِ» (5) . وَفِي بَعْضِهَا أَنَّ مِنْهَا
_________
(1) - أخرجه أَبُو دَاوُد (2/685) (4877) ، وَابْن أبي الدُّنْيَا فِي الصمت (1/306) (727) من طَرِيق زُهَيْر بن مُحَمَّد عَن الْعَلَاء بن عبد الرَّحْمَن عَن أَبِيه عَن أبي هُرَيْرَة بِهِ، وَرَوَاهُ ابْن مرْدَوَيْه من طَرِيق عبد الله بن الْعَلَاء بن زبر عَن أَبِيه عَن أبي هُرَيْرَة بِهِ كَمَا ذكر ابْن كثير فِي تَفْسِيره، والْحَدِيث صَححهُ لغيره الشَّيْخ الألباني - رَحمَه الله - فِي صَحِيح التَّرْغِيب والترهيب تَحت حَدِيث (2832) .
(2) - رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ (1/356) (188) من طَرِيق حَنش عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (مَنْ جَمَعَ الصَّلَاتَيْنِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ فَقَدْ أَتَى بَابًا من أَبْوَاب الْكَبَائِر) قَالَ أَبُو عِيسَى: وحَنش هَذَا هُوَ أَبُو على الرَّحبِي وَهُوَ حُسَيْن بن قيس وَهُوَ ضَعِيف عِنْد أهل الحَدِيث ضعفه أَحْمد وَغَيره. والْحَدِيث ضعفه الشَّيْخ الألباني - رَحمَه الله - فَقَالَ: ضَعِيف جدا.
(3) - لم أَقف عَلَيْهِ مَرْفُوعا وَإِنَّمَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ، وَعبد الرَّزَّاق، وَالْبَيْهَقِيّ فِي الشّعب مَوْقُوفا على ابْن مَسْعُود، وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ، وَالْبَيْهَقِيّ فِي الشّعب مَوْقُوفا على ابْن عَبَّاس.
(4) - قَالَ العجلوني فِي كشف الخفاء (1/200) : (رَوَاهُ الديلمي وَابْن مرْدَوَيْه عَن ابْن عمر بِسَنَد ضَعِيف) ، والْحَدِيث ضعفه الشَّيْخ الألباني - رَحمَه الله - فِي ضَعِيف الْجَامِع.
(5) - رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ (6/271) عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا مَرْفُوعا بِهِ، وَضَعفه الزَّيْلَعِيّ فِي نصب الرَّايَة (4/474) ، وَالشَّيْخ الألباني - رَحمَه الله - فِي ضَعِيف التَّرْغِيب والترهيب، وَقَالَ: مُنكر، وَرجح الْبَيْهَقِيّ فِيهِ الْوَقْف.(1/29)
الْغَلُولَ (1) ، وَيَدُلُّ لَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) . وَقَدَّمْنَا مَعْنَى الْغَلُولِ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ، وَذَكَرْنَا حُكْمَ الْغَالِّ. وَفِي بَعْضِهَا «أَنَّ مِنْ أَهْلِ الْكَبَائِرِ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا» (2) .
وَيَدُلُّ لَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: (أُولَئِكَ لاَ خَلَاقَ لَهُمْ فِى الآخِرَةِ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) وَلَمْ نَذْكُرْ أَسَانِيدَ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ وَنُصُوصَ مُتُونِهَا خَوْفَ الْإِطَالَةِ، وَأَسَانِيدُ بَعْضِهَا لَا تَخْلُو مِنْ نَظَرٍ لَكِنَّهَا لَا يَكَادُ يَخْلُو شَيْءٌ مِنْهَا عَنْ بَعْضِ الشَّوَاهِدِ الصَّحِيحَةِ، مِنْ كِتَابِ اللَّهِ أَوْ سُنَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ...
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ الْكَبَائِرَ أَقْرَبُ إِلَى السَّبْعِينَ مِنْهَا إِلَى السَّبْعِ. وَعَنْهُ أَيْضًا أَنَّهَا أَقْرَبُ إِلَى سَبْعِمِائَةٍ مِنْهَا إِلَى سَبْعٍ.
قَالَ مُقَيِّدُهُ- عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: التَّحْقِيقُ أَنَّهَا لَا تَنْحَصِرُ فِي سَبْعٍ، وَأَنَّ مَا دَلَّ عَلَيْهِ مِنَ الْأَحَادِيثِ عَلَى أَنَّهَا سَبْعٌ لَا يَقْتَضِي انْحِصَارَهَا فِي ذَلِكَ الْعَدَدِ، لِأَنَّهُ إِنَّمَا دَلَّ عَلَى نَفْيِ غَيْرِ السَّبْعِ بِالْمَفْهُومِ، وَهُوَ مَفْهُومُ لَقَبٍ، وَالْحَقُّ عَدَمُ اعْتِبَارِهِ. وَلَوْ قُلْنَا إِنَّهُ مَفْهُومُ عَدَدٍ لَكَانَ غَيْرَ مُعْتَبَرٍ أَيْضًا، لِأَنَّ زِيَادَةَ الْكَبَائِرِ عَلَى السَّبْعِ مَدْلُولٌ عَلَيْهَا بِالْمَنْطُوقِ. وَقَدْ جَاءَ مِنْهَا فِي الصَّحِيحِ عَدَدٌ أَكْثَرُ مِنْ سَبْعٍ، وَالْمَنْطُوقُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْمَفْهُومِ، مَعَ أَنَّ مَفْهُومَ الْعَدَدِ لَيْسَ مِنْ أقوى المفاهيم] (3) .
_________
(1) - رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ (12/252) (13023) عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا مَوْقُوفا عَلَيْهِ، وَحسن الهيثمي فِي الْمجمع (7/249) إِسْنَاده.
(2) - انْظُر التَّعْلِيق السَّابِق، وَلكنه جعل الْيَمين الْغمُوس الْفَاجِرَة هِيَ الَّتِي من الْكَبَائِر مستدلا بِالْآيَةِ الْمَذْكُورَة.
(3) - 7/197 - 199، الشورى / 37.(1/30)
فرع: حكم تَارِك الصَّلَاة:
[الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ تَارِكَ الصَّلَاةِ، الْجَاحِدَ لِوُجُوبِهَا كَافِرٌ، وَأَنَّهُ يُقْتَلُ كُفْرًا مَا لَمْ يَتُبْ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ تَرْكَ مَا لَا تصح الصَّلَاة دونه كَالْوُضُوءِ وَغُسْلِ الْجَنَابَةِ كَتَرْكِهَا. وَجَحْدَ وَجُوبِهِ كَجَحْدِ وَجُوبِهَا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي تَارِكِ صَلَاةٍ عَمْدًا تَهَاوُنًا وَتَكَاسُلًا مَعَ اعْتِرَافِهِ بِوُجُوبِهَا، هَلْ هُوَ كَافِرٌ أَوْ مُسْلِمٌ. وَهَلْ يُقْتَلُ كُفْرًا أَوْ حَدًّا أَوْ لَا يُقْتَلُ. فَذَهَبَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى أَنَّهُ كَافِرٌ مُرْتَدٌّ يُسْتَتَابُ، فَإِنْ تَابَ فَذَلِكَ. وَإِنْ لَمْ يَتُبْ قُتِلَ كُفْرًا. وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا: الْإِمَامُ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ. وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَبِهِ قَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ، وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ، وَمَنْصُورٌ الْفَقِيهُ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ. وَيُرْوَى أَيْضًا عَنْ أَبِي الطَّيِّبِ بْنِ سَلَمَةَ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ. وَهُوَ رِوَايَةٌ ضَعِيفَةٌ عَنْ مَالِكٍ.
وَاحْتَجَّ أَهْلُ هَذَا الْقَوْلِ بِأَدِلَّةٍ، مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصلاةَ وَآتَوُا الزكاةَ فَإِخْوَانُكُمْ) وَيُفْهَمُ مِنْ مَفْهُومِ الْآيَةِ: أَنَّهُمْ إِنْ لَمْ يُقِيمُوا الصَّلَاةَ لَمْ يَكُونُوا مِنْ إِخْوَانِ الْمُؤْمِنِينَ، وَمَنِ انْتَفَتْ عَنْهُمْ أُخُوَّةُ الْمُؤْمِنِينَ فَهُمْ مِنَ الْكَافِرِينَ؛ لِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) . وَمِنْهَا حَدِيثُ جَابِرٍ الثَّابِتُ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْهُ عَنِ النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ طَرِيقَيْنِ. لَفْظُ الْمَتْنِ فِي الْأُولَى مِنْهُمَا: سَمِعْتُ النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّ بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ تَرْكَ الصَّلَاةِ» . وَلَفْظُ الْمَتْنِ فِي الْأُخْرَى: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ تَرْكُ الصَّلَاةِ» (1) انْتَهَى مِنْهُ. وَهُوَ وَاضِحٌ فِي أَنَّ تَارِكَ الصَّلَاةِ كَافِرٌ، لِأَنَّ عَطْفَ الشِّرْكِ عَلَى الْكُفْرِ فِيهِ تَأْكِيدٌ قَوِيٌّ لِكَوْنِهِ كَافِرًا. وَمِنْهَا حَدِيثُ أُمِّ سَلمَة، وَحَدِيث عَوْف بن مَالك
_________
(1) - صَحِيح مُسلم (1/88) (82) .(1/31)
الْآتِيَيْنِ الدَّالَّيْنِ عَلَى قِتَالِ الْأُمَرَاءِ إِذَا لَمْ يُصَلُّوا، وَهُمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مَعَ حَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ قَالَ: بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي مَنْشَطِنَا وَمَكْرَهِنَا وَعُسْرِنَا وَيُسْرِنَا وَأَثَرَةٍ عَلَيْنَا، وَأَلَّا نُنَازِعَ الْأَمْرَ أَهْلَهُ. قَالَ: «إِلَّا أَنْ تَرَوْا كُفْرًا بَوَاحًا عِنْدَكُمْ فِيهِ مِنَ اللَّهِ بُرْهَانٌ» (1) . فَدَلَّ مَجْمُوعُ الْأَحَادِيثِ الْمَذْكُورَةِ أَنَّ تَرْكَ الصَّلَاةِ كُفْرٌ بِوَاحٌ عَلَيْهِ مِنَ اللَّهِ بُرْهَانٌ. وَقَدْ قَدَّمْنَا هَذِهِ الْأَحَادِيثَ الْمَذْكُورَةَ فِي سُورَةِ «الْبَقَرَةِ» . وَهَذَا مِنْ أَقْوَى أَدِلَّةِ أَهْلِ هَذَا الْقَوْلِ.
وَمِنْهَا حَدِيثُ بُرَيْدَةَ بْنِ الْحَصِيبِ الْأَسْلَمِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «الْعَهْدُ الَّذِي بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمُ الصَّلَاةُ، فَمَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ كَفَرَ» (2) أَخْرَجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَأَصْحَابُ السُّنَنِ، وَابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ. وَقَالَ الشَّوْكَانِيُّ فِي (نَيْلِ الْأَوْطَارِ) فِي هَذَا الْحَدِيثِ: صَحَّحَهُ النَّسَائِيُّ، وَالْعِرَاقِيُّ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ (الْمُهَذَّبِ) : رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ، قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَقَالَ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ بَعْدَ أَنْ سَاقَ هَذَا الْحَدِيثَ بِإِسْنَادِهِ: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ، لَا تُعْرَفُ لَهُ عِلَّةٌ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ. فَقَدِ احْتَجَّا جَمِيعًا بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ. وَاحْتَجَّ مُسْلِمٌ بِالْحُسَيْنِ بْنِ وَاقِدٍ، وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ بِهَذَا اللَّفْظِ. وَلِهَذَا الْحَدِيثِ شَاهِدٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِهِمَا جَمِيعًا. أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ سَهْلٍ الْفَقِيهُ بِبُخَارَى، حَدَّثَنَا قَيْسُ بْنُ أُنَيْفٍ، حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، عَنِ الْجُرَيْرِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَرَوْنَ شَيْئًا مِنَ الْأَعْمَالِ تَرْكُهُ كفر غير
_________
(1) - أخرجه البُخَارِيّ (6/2588) (6647) ، وَمُسلم (3/1469) (1709) .
(2) - أخرجه التِّرْمِذِيّ (5/13) (2621) ، وَقَالَ: حسن صَحِيح غَرِيب، وَالنَّسَائِيّ (1/321) (4063) ، وَابْن ماحه (1/342) (1079) ، وَأحمد (5/346) ، وَابْن حبَان (4/305) (1454) ، وَالْحَاكِم (1/48) (11) وَصَححهُ وَوَافَقَهُ الذَّهَبِيّ، والْحَدِيث صَححهُ الشَّيْخ الألباني - رَحمَه الله -، وقوى إِسْنَاده الأرناؤوط فِي هَامِش الْمسند.(1/32)
الصَّلَاةِ (1) .
وَأَقَرَّهُ الذَّهَبِيُّ عَلَى تَصْحِيحِهِ لِحَدِيثِ بُرَيْدَةَ الْمَذْكُور. وَقَالَ فِي
_________
(1) - أخرجه التِّرْمِذِيّ (5/14) (2622) ، وَالْحَاكِم (1/48) (12) ، بِدُونِ ذكر أبي هُرَيْرَة - رَضِي الله عَنهُ -، قَالَ شَيخنَا أَبُو الْهَيْثَم إِبْرَاهِيم بن زَكَرِيَّا - حفظه الله - مُعَلّقا على هَذَا الْأَثر: [هَذَا الْأَثر اخْتلف فِيهِ عَنهُ متْنا وثبوتاً وَدلَالَة.
1- مَدَاره كُله على الْجريرِي (سعيد بن إِيَاس) عَن عبد الله بن شَقِيق.
2- رَوَاهُ عَنهُ ثَلَاثَة: بشر بن الْمفضل، عبد الْأَعْلَى بن عبد الْأَعْلَى، وَإِسْمَاعِيل بن عُلَّية.
- لفظ بشر هُوَ الْأَشْهر، وَهُوَ مَوضِع النزاع.
- وَلَفظ عبد الْأَعْلَى: (مَا كَانُوا يَقُولُونَ لعمل تَركه كفر غير الصَّلَاة؛ فقد كَانُوا يَقُولُونَ: تَركهَا كفر) .
- وَلَفظ إِسْمَاعِيل بن علية: (مَا علمنَا شَيْئا من الْأَعْمَال قيل تَركه كفر إِلَّا الصَّلَاة) .
3- اخْتَلَط الْجريرِي فِي أَيَّام الطَّاعُون وروى عَنهُ إِسْمَاعِيل بن علية، وَعبد الْأَعْلَى قبل اخْتِلَاطه اتِّفَاقًا.
وَاخْتلف فِي رِوَايَة بشر عَنهُ فأثبتها ابْن رَجَب، وَابْن حجر قبل الإختلاط، وَلم يذكرهُ الأبناسي فِي " الْكَوْكَب" فِيمَن سمع مِنْهُ قبل الِاخْتِلَاط، وَالْبُخَارِيّ، وَمُسلم لم يرويا لبشر عَن الْجريرِي إِلَّا مَقْرُونا بِغَيْرِهِ.
4- أوثق النَّاس فِي الْجريرِي وأرواهم عَنهُ: ابْن علية؛ قَالَ أَبُو دَاوُد: (أرواهم عَن الْجريرِي: ابْن علية) ، وَقَالَ الإِمَام أَحْمد: (إِلَيْهِ الْمُنْتَهى فِي التثبت بِالْبَصْرَةِ) ، وَمَعَ ذَلِك يرويهِ بِلَفْظ: (مَا علمنَا ... ، قيل: تَركه كفر ... ) .
5- لهَذَا اخْتلف أهل الْعلم فِي ثُبُوت: ( ... أَصْحَاب النَّبِي - صلى الله عَلَيْهِ وَسلم - ... ) فصححها النَّوَوِيّ، وَابْن الْعِرَاقِيّ، والسخاوي، وَشَيخنَا الألباني - رَحمَه الله - صججه فِي " صَحِيح التَّرْغِيب" (564) ، وضعّفه فِي "الْإِيمَان" لِابْنِ أبي شيبَة (137) .
6- على فرض ثُبُوته؛ فَلم يحكه إِجْمَاعًا، أَو اتِّفَاقًا، بل وَلم ينف علمه بِالْخِلَافِ؛ بل غَايَته من أدْرك مِنْهُم، وَهُوَ لم يدْرك جلَّ الصَّحَابَة - رضوَان الله عَنْهُم -.
7- من أجلِّ المعاصرين مِمَّن يرى ثُبُوته الشَّيْخ ابْن باز - رَحمَه الله - تَارَة يحكيه إِجْمَاعًا، وَتارَة يحملهُ على قَول جُمْهُور الصَّحَابَة.
8- غَايَة مَا يفِيدهُ الْأَثر بألفاظه: اشتهار القَوْل بِكفْر تَارِك الصَّلَاة بَين السَّلف. أما الْإِجْمَاع، وَإِجْمَاع الصَّحَابَة؛ فَغير مُسلم، بل يُقال لمن ذهب إِلَى هَذَا: نَحن نرضى مِنْك أَن تحكيه عَن صحابيين أَو ثَلَاثَة فَقَط بِسَنَد صَحِيح، وَلَفظ صَرِيح.
9- مُوَافقَة الْخَوَارِج فِي تَكْفِير تَارِك الصَّلَاة كموافقة المرجئة فِي عدم تكفيره، فَلَا يَصح رمي من اجْتهد فترجَّح عِنْده تكفيره بِأَنَّهُ خارجي أَو فِيهِ خارجية وَنَحْوه من الْأَلْفَاظ، وَلَا رمي من اجْتهد فترجح عِنْده عدم تكفيره بِأَنَّهُ مرجئ، أَو فِيهِ إرجاء، حتَّى يُوَافق أصل الْخَوَارِج فِي التَّكْفِير، أَو أصل المرجئة فِي عدم التَّكْفِير.
10- الْخلاف فِيهِ قوي، ومُعتبر، قَالَ ابْن رَجَب - رَحمَه الله -: (وَأكْثر أهل الحَدِيث على أَن ترك الصَّلَاة كفر، دون غَيرهَا من الْأَركان) . ونَقَل عده كُفِرَه عَن الْجُمْهُور ابنُ عبد الْبر، والحافظ، وَغَيرهم، قَالَ ابْن قدامَة فِي "الْمُغنِي" (3/355) : ( ... وَهَذَا قَول أَكثر الْفُقَهَاء ... وَهُوَ أصوب الْقَوْلَيْنِ) بل وَحَكَاهُ عَن جُمْهُور الْحَنَابِلَة.
أما متأخري الْحَنَابِلَة فَاخْتَارُوا الرِّوَايَة الْأَشْهر عَن الإِمَام أَحْمد فِي تكفيره.
وَالْخُلَاصَة أَن الْخلاف مُعتبر بَين أهل السّنة، لكُلٍّ فِيهِ اجْتِهَاده، وَالْحق وَاحِد لَا يتعدَّد، وَلكنه قد يخفى لقُوَّة الْأَدِلَّة، واحتمالاتها؛ فيعذر الْمُخَالف، وَالله أعلم] .(1/33)
أَثَرِ ابْنِ شَقِيقٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمَذْكُورِ: لَمْ يُتَكَلَّمْ عَلَيْهِ وَإِسْنَادُهُ صَالِحٌ.
قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ -: وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَ الْحَافِظِ الذَّهَبِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ «لَمْ يُتَكَلَّمْ عَلَيْهِ» سَهْوٌ مِنْهُ، لِأَنَّهُ تَكَلَّمَ عَلَيْهِ فِي كَلَامِهِ عَلَى حَدِيثِ بُرَيْدَةَ الْمَذْكُورِ آنِفًا، حَيْثُ قَالَ: وَلِهَذَا الْحَدِيثِ شَاهِدٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِهِمَا جَمِيعًا. يَعْنِي أَثَرَ ابْنِ شَقِيقٍ الْمَذْكُورِ كَمَا تَرَى. وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ: وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ الْعُقَيْلِيِّ التَّابِعِيِّ الْمُتَّفَقِ عَلَى جَلَالَتِهِ: كَانَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَرَوْنَ شَيْئًا مِنَ الْأَعْمَالِ تَرْكُهُ كُفْرٌ غَيْرَ الصَّلَاةِ. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ بِإِسْنَاد صَحِيح اهـ مِنْهُ، وَقَدْ ذَكَرَ النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كَلَامِهِ هَذَا الِاتِّفَاقَ عَلَى جَلَالَةِ ابْنِ شَقِيقٍ الْمَذْكُورِ مَعَ أَنَّ فِيهِ نَصْبًا. وَقَالَ الْمَجْدُ فِي الْمُنْتَقَى: وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ الْعُقَيْلِيِّ كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى آخِرِهِ. ثُمَّ قَالَ: رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ اهـ، وَلَا يَخْفَى عَلَيْكَ أَنَّ رِوَايَةَ الْحَاكِمِ فِيهَا أَبُو هُرَيْرَةَ وَرِوَايَةَ التِّرْمِذِيِّ لَيْسَ فِيهَا أَبُو هُرَيْرَةَ. وَحَدِيثُ(1/34)
بُرَيْدَة بن الْحصيب، وَأثر ابْن شَقِيق الْمَذْكُور أَن فِيهِمَا الدَّلَالَةُ الْوَاضِحَةُ عَلَى أَنَّ تَرْكَ الصَّلَاةِ عَمْدًا تَهَاوُنًا كُفْرٌ وَلَوْ أَقَرَّ تَارِكُهَا بِوُجُوبِهَا. وَبِذَلِكَ يَعْتَضِدُ حَدِيثُ جَابِرٍ الْمَذْكُورُ عِنْدَ مُسْلِمٍ.
وَمِنَ الْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ تَرْكَ الصَّلَاةِ كُفْرٌ - مَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ وَالْأَوْسَطِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ عَنِ النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ ذَكَرَ الصَّلَاةَ يَوْمًا فَقَالَ: «مَنْ حَافَظَ عَلَيْهَا كَانَتْ لَهُ نُورًا وَبُرْهَانًا وَنَجَاةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَمَنْ لَمْ يُحَافِظْ عَلَيْهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ نُورٌ وَلَا بُرْهَانٌ وَلَا نَجَاةٌ، وَكَانَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَعَ قَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَأُبَيِّ بْنِ خَلَفٍ» (1) اهـ. وَهَذَا الْحَدِيثُ أَوْضَحُ دَلَالَةٍ عَلَى كُفْرِ تَارِكِ الصَّلَاةِ، لِأَنَّ انْتِفَاءَ النُّورِ وَالْبُرْهَانِ وَالنَّجَاةِ، وَالْكَيْنُونَةَ مَعَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ وَأُبَيِّ بْنِ خَلَفٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَوْضَحُ دَلِيلٍ عَلَى الْكُفْرِ كَمَا تَرَى. وَقَالَ الْهَيْثَمِيُّ فِي (مَجْمَعِ الزَّوَائِدِ) فِي هَذَا الْحَدِيثِ: رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ وَالْأَوْسَطِ، وَرِجَالُ أَحْمَدَ ثِقَاتٌ اهـ. وَفِي الْبَابِ أَحَادِيثُ غَيْرُ مَا ذَكَرْنَا، مِنْهَا مَا هُوَ
ضَعِيفٌ، وَمِنْهَا مَا هُوَ صَالِحٌ لِلِاحْتِجَاجِ، وَذَكَرَ طَرَفًا مِنْهَا الْهَيْثَمِيُّ فِي مَجْمَعِ الزَّوَائِدِ. وَفِيمَا ذَكَرْنَاهُ كِفَايَةٌ.
وَذَهَبَتْ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى أَنَّ تَارِكَ الصَّلَاةِ عَمْدًا تَهَاوُنًا وَتَكَاسُلًا إِذَا كَانَ مُعْتَرِفًا بِوُجُوبِهَا غَيْرُ كَافِرٍ، وَأَنَّهُ يُقْتَلُ حَدًّا كَالزَّانِي الْمُحْصَنِ لَا كُفْرًا. وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَجُمْهُورِ أَصْحَابِهِ، وَعَزَاهُ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ لِلْأَكْثَرِينَ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ، وَقَالَ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: ذَهَبَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَالْجَمَاهِيرُ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ إِلَى أَنَّهُ لَا يُكَفَّرُ بَلْ يفسق ويستتاب. فَإِن تَابَ وَإِلَّا قَتَلْنَاهُ
_________
(1) - أخرجه أَحْمد (2/169) ، والدارمي (2/390) (2721) ، وَحسن إِسْنَاده الأرناؤوط فِي هَامِش الْمسند.(1/35)
حدا كالزاني الْمُحصن وَلكنه يقتل بِالسَّيْفِ اهـ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ يَحْتَاجُ إِلَى الدَّلِيلِ مِنْ جِهَتَيْنِ وَهُمَا عَدَمُ كُفْرِهِ، وَأَنَّهُ يُقْتَلُ. وَهَذِهِ أَدِلَّتُهُمْ عَلَى الْأَمْرَيْنِ مَعًا. أَمَّا أَدِلَّتُهُمْ عَلَى أَنَّهُ يُقْتَلُ:
(فَمِنْهَا) قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصلاةَ وَآتَوُاْ الزكاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ) فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ اشْتَرَطَ فِي تَخْلِيَةِ سَبِيلِهِمْ إِقَامَتَهُمُ الصَّلَاةَ. وَيُفْهَمُ مِنْ مَفْهُومِ الشَّرْطِ أَنَّهُمْ إِنْ لَمْ يُقِيمُوهَا لَمْ يُخَلَّ سَبِيلُهُمْ وَهُوَ كَذَلِكَ.
(وِمِنْهَا) مَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَلَّا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ، وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ. فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّهَا» (1) اهـ. فَهَذَا الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ لَا تُعْصَمُ دِمَاؤُهُمْ وَلَا أَمْوَالُهُمْ إِلَّا بِإِقَامَةِ الصَّلَاةِ كَمَا تَرَى.
(وَمِنْهَا) مَا أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: بَعَثَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ بِالْيَمَنِ إِلَى النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بذهيبة فَقَسَّمَهَا بَيْنَ أَرْبَعَةٍ؛ فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ الله، اتَّقِ الله. فَقَالَ: «وَيلك أَو لست أَحَقَّ أَهْلِ الْأَرْضِ أَنْ يَتَّقِيَ اللَّهَ» ؟! ثُمَّ وَلَّى الرَّجُلُ، فَقَالَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلَا أَضْرِبُ عُنُقَهُ؟ فَقَالَ: «لَا، لَعَلَّهُ أَنْ يَكُونَ يُصَلِّي» فَقَالَ خَالِدٌ: وَكَمْ مِنْ مُصَلٍّ يَقُولُ بِلِسَانِهِ مَا لَيْسَ فِي قَلْبِهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنِّي لَمْ أُومَرْ أَنْ أُنَقِّبَ عَنْ قُلُوبِ النَّاسِ، وَلَا أَشُقَّ بُطُونَهُمْ» مُخْتَصَرٌ مِنْ حَدِيث مُتَّفق عَلَيْهِ (2) . فَقَوله
_________
(1) - أخرجه البُخَارِيّ (1/17) (25) ، وَمُسلم (1/53) (22) .
(2) - أخرجه البُخَارِيّ (4/1581) (4094) ، وَمُسلم (2/741) (1064) .(1/36)
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ «لَا» يَعْنِي لَا تَقْتُلْهُ. وَتَعْلِيلُهُ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ «لَعَلَّهُ أَنْ يَكُونَ يُصَلِّي» فِيهِ الدَّلَالَةُ الْوَاضِحَةُ عَلَى النَّهْيِ عَنْ قَتْلِ الْمُصَلِّينَ. وَيُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّهُ إِنْ لَمْ يُصَلِّ يُقْتَلْ، وَهُوَ كَذَلِكَ.
(وَمِنْهَا) مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنِ النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّهُ يُسْتَعْمَلُ عَلَيْكُمْ أُمَرَاءُ فَتَعْرِفُونَ وَتُنْكِرُونَ. فَمَنْ كره فقد برىء، وَمَنْ أَنْكَرَ فَقَدْ سَلِمَ، وَلَكِنْ مَنْ رَضِيَ وَتَابَعَ» قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلَا نُقَاتِلُهُمْ؟ قَالَ: «لَا مَا صَلَّوْا» (1) هَذَا لَفْظُ مُسْلِمٍ فِي صَحِيحِهِ. وَ «مَا» فِي قَوْلِهِ «مَا صَلَّوْا» مَصْدَرِيَّةٌ ظَرْفِيَّةٌ. أَيْ لَا تُقَاتِلُوهُمْ مُدَّةَ كَوْنِهِمْ يُصَلُّونَ. وَيُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّهُمْ إِنْ لَمْ يُصَلُّوا قُوتِلُوا، وَهُوَ كَذَلِكَ، مَعَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي حَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ: «إِلَّا أَنْ تَرَوْا كُفْرًا بَوَاحًا عِنْدَكُمْ مِنَ اللَّهِ فِيهِ بُرْهَانٌ» (2) . فَحَدِيث أم سَلمَة هَذَا وَنَحْوه حَدِيثِ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الْآتِي يَدُلُّ عَلَى قَتْلِ مَنْ لَمْ يُصَلِّ، وَبِضَمِيمَةِ حَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ إِلَى ذَلِكَ يَظْهَرُ الدَّلِيلُ عَلَى الْكُفْرِ بِتَرْكِ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّهُ قَالَ فِي حَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ: «إِلَّا أَنْ تَرَوْا كُفْرًا بَوَاحًا..» الْحَدِيثَ. وَأَشَارَ فِي حَدِيثٍ أُمِّ سَلَمَةَ وَعَوْفِ بْنِ مَالِكٍ: إِلَى أَنَّهُمْ إِنْ تَرَكُوا الصَّلَاةَ قُوتِلُوا. فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ تَرْكَهَا مِنَ الْكُفْرِ الْبَوَاحِ. وَهَذَا مِنْ أَقْوَى أَدِلَّةِ أَهْلِ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ. وَحَدِيثُ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الْمَذْكُورُ هُوَ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِلَفْظِ قَالَ: «خِيَارُ أَئِمَّتِكُمُ الَّذِينَ تُحِبُّونَهُمْ وَيُحِبُّونَكُمْ وَيُصَلُّونَ عَلَيْكُمْ وَتُصَلُّونَ عَلَيْهِمْ. وَشِرَارُ أَئِمَّتِكُمُ الَّذين تبغضونم وَيُبْغِضُونَكُمْ وَتَلْعَنُونَهُمْ وَيَلْعَنُونَكُمْ» قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَفَلَا نُنَابِذُهُمْ بِالسَّيْفِ؟ قَالَ: «لَا، مَا أَقَامُوا فِيكُمُ الصَّلَاةَ..» الْحَدِيثَ (3) . وَفِيهِ الدَّلَالَةُ الْوَاضِحَةُ عَلَى قِتَالهمْ إِذا لم يقيموا
_________
(1) - أخرجه مُسلم (2/1480) (1854) .
(2) - أخرجه البُخَارِيّ (6/2588) (6647) ، وَمُسلم (3/1469) (1709) .
(3) - أخرجه مُسلم (3/1481) (1855) .(1/37)
الصَّلَاةَ كَمَا تَرَى.
وَمِنْ أَدِلَّةِ أَهْلِ هَذَا الْقَوْلِ عَلَى قَتْلِ تَارِكِ الصَّلَاةِ: مَا رَوَاهُ الْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ: مَالِكٌ فِي مُوَطَّئِهِ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ فِي مُسْنَدَيْهِمَا، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ الْخِيَارِ: أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ حَدَّثَهُ أَنَّهُ أُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي مَجْلِسٍ يُسَارُّهُ يَسْتَأْذِنُهُ فِي قَتْلِ رَجُلٍ مِنَ الْمُنَافِقِينَ؛ فَجَهَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «أَلَيْسَ يَشْهَدُ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ» ؟ قَالَ الْأَنْصَارِيُّ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَلَا شَهَادَةَ لَهُ! قَالَ: «أَلَيْسَ يَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ» ؟ قَالَ: بَلَى وَلَا شَهَادَةَ لَهُ! قَالَ: «أَلَيْسَ يُصَلِّي» ؟ قَالَ: بَلَى وَلَا صَلَاةَ لَهُ. قَالَ: «أُولَئِكَ الَّذِينَ نَهَانِي اللَّهُ عَنْ قَتْلِهِمْ» (1) اهـ. وَفِي رِوَايَةٍ: عَنْهُمْ.
هَذَا هُوَ خُلَاصَةُ أَدِلَّةِ أَهْلِ هَذَا الْقَوْلِ عَلَى قَتْلِ تَارِكِ الصَّلَاةِ. وَاعْلَمْ أَنَّ جُمْهُورَ مَنْ قَالَ بِقَتْلِهِ يَقُولُونَ إِنَّهُ يُقْتَلُ بِالسَّيْفِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُضْرَبُ بِالْخَشَبِ حَتَّى يَمُوتَ. وَقَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ: يُنْخَسُ بِحَدِيدَةٍ أَوْ يُضْرَبُ بِخَشَبَةٍ، وَيُقَالُ لَهُ: صَلِّ وَإِلَّا قَتَلْنَاكَ. وَلَا يَزَالُ يُكَرَّرُ عَلَيْهِ حَتَّى يُصَلِّيَ أَوْ يَمُوتَ.
وَاخْتَلَفُوا فِي اسْتِتَابَتِهِ؛ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُسْتَتَابُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ. فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يُسْتَتَابُ؛ لِأَنَّهُ يُقْتَلُ حَدًّا وَالْحُدُودُ لَا تَسْقُطُ بِالتَّوْبَةِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنْ لَمْ يَبْقَ مِنَ الضَّرُورِيِّ إِلَّا قَدْرُ رَكْعَةٍ وَلَمْ يُصَلِّ قُتِلَ. وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: لَا يُقْتَلُ حَتَّى يَخْرُجَ وَقْتُهَا. وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ يُقْتَلُ بِتَرْكِ صَلَاةٍ وَاحِدَةٍ، وَهُوَ ظَاهِرُ الْأَدِلَّةِ. وَقِيلَ: لَا يُقْتَلُ حَتَّى يَتْرُكَ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدَةٍ. وَعَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ رِوَايَتَانِ: إِحْدَاهُمَا أَنَّهُ لَا يُقْتَلُ حَتَّى يَضِيقَ وَقْتُ الصَّلَاةِ الثَّانِيَةِ الْمَتْرُوكَةِ مَعَ الْأُولَى، وَالْأُخْرَى لَا يُقْتَلُ حَتَّى يَضِيقَ وَقْتُ
_________
(1) - أخرجه مَالك (1/171) (413) ، وَأحمد (5/432) ، وَالشَّافِعِيّ فِي "مُسْنده" (1/320) (1496) ، وَابْن حبَان (13/309) (5971) ، والْحَدِيث صحّح إِسْنَاده الأرناؤوط.(1/38)
الرَّابِعَةِ.
قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: أَظْهَرُ الْأَقْوَالِ عِنْدِي أَنَّهُ يُقْتَلُ بِالسَّيْفِ، وَأَنَّهُ يُسْتَتَابُ؛ لِلْإِجْمَاعِ عَلَى قَبُولِ تَوْبَتِهِ إِذَا تَابَ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ يُسْتَتَابُ فِي الْحَالِ، وَلَا يُمْهَلُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَهُوَ يَمْتَنِعُ مِنَ الصَّلَاةِ لِظَوَاهِرِ النُّصُوصِ الْمَذْكُورَةِ، وَأَنَّهُ لَا يُقْتَلُ حَتَّى لَا يَبْقَى مِنَ الْوَقْتِ الضَّرُورِيِّ مَا يَسَعُ رَكْعَةً بِسَجْدَتَيْهَا. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
وَأَمَّا أَدِلَّةُ أَهْلِ هَذَا الْقَوْلِ عَلَى عَدَمِ كُفْرِهِ؛ فَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ) . وَمِنْهَا حَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (1) الَّذِي رَوَاهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حِبَّانَ، عَنِ ابْنِ مُحَيْرِيزٍ: أَنَّ رَجُلًا مِنْ بَنِي كِنَانَةَ يُدْعَى الْمُخَدَّجِيَّ سَمِعَ رَجُلًا بِالشَّامِ يُكَنَّى أَبَا مُحَمَّدٍ يَقُولُ: إِنَّ الْوِتْرَ وَاجِبٌ. فَقَالَ الْمُخَدَّجِيُّ: فَرُحْتُ إِلَى عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ فَاعْتَرَضْتُ لَهُ وَهُوَ رَائِحٌ إِلَى الْمَسْجِدِ فَأَخْبَرْتُهُ بِالَّذِي قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ، فَقَالَ عبَادَة: كذب أَبُو مُحَمَّدًا سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «خَمْسُ صَلَوَاتٍ كَتَبَهُنَّ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى الْعِبَادِ فَمَنْ جَاءَ بِهِنَّ لَمْ يُضَيِّعْ مِنْهُنَّ شَيْئًا اسْتِخْفَافًا بِحَقِّهِنَّ كَانَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدٌ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ. وَمَنْ لَمْ يَأْتِ بِهِنَّ فَلَيْسَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدٌ إِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ وَإِنْ شَاءَ أَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ» اهـ مِنْهُ بِلَفْظِهِ. وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ: حَدَّثَنَا الْقَعْنَبِيُّ عَنْ مَالِكٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ حِبَّانَ، إِلَى آخِرِ الْإِسْنَادِ وَالْمَتْنُ كَلَفْظِ الْمُوَطَّأِ الَّذِي ذَكَرْنَا. وَفِي سُنَنِ النَّسَائِيِّ: أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ عَنْ مَالِكٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حبَان، إِلَى آخر الْإِسْنَاد والمتن
_________
(1) - أخرجه أَبُو دَاوُد (1/169) (425) ، وَالنَّسَائِيّ (1/320) (461) ، وَابْن مَاجَه (1/449) (1401) ، وَأحمد (5/315) ، وَمَالك (1/123) (268) ، والدارمي (1/446) (1577) ، وَصَححهُ الشَّيْخ الألباني - رَحمَه الله -، والأرناؤوط.(1/39)
كَاللَّفْظِ الْمَذْكُورِ. وَفِي سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، ثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ عَبْدِ رَبِّهِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حِبَّانَ، عَنِ ابْنِ مُحَيْرِيزٍ عَنِ الْمُخَدَّجِيِّ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «خَمْسُ صَلَوَاتٍ افْتَرَضَهُنَّ اللَّهُ عَلَى عِبَادِهِ..» إِلَى آخِرِ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ بِمَعْنَاهُ قَرِيبًا مِنْ لَفْظِهِ.
وَمَعْلُومٌ أَنَّ رِجَالَ هَذِهِ الْأَسَانِيدِ ثِقَاتٌ مَعْرُوفُونَ إِلَّا الْمُخَدَّجِيَّ الْمَذْكُورَ وَقَدْ ذَكَرَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي الثِّقَاتِ، وَبِتَوْثِيقِهِ تَعْلَمُ صِحَّةَ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ، وَلَهُ شَوَاهِدُ يَعْتَضِدُ بِهَا أَيْضًا. قَالَ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَرْبٍ الْوَاسِطِيُّ، ثَنَا يَزِيدُ يَعْنِي ابْنَ هَارُونَ، ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُطَرِّفٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ الصُّنَابِحِيِّ قَالَ: زَعَمَ أَبُو مُحَمَّدٍ: أَنَّ الْوِتْرَ وَاجِبٌ؛ فَقَالَ عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ كَذَبَ أَبُو مُحَمَّدٍ، أَشْهَدُ إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول: «خَمْسُ صَلَوَاتٍ افْتَرَضَهُنَّ اللَّهُ..» إِلَى آخِرِ الْحَدِيثِ بِمَعْنَاهُ. وَعَبْدُ اللَّهِ الصُّنَابِحِيُّ الْمَذْكُورُ قِيلَ إِنَّهُ صَحَابِيٌّ مَدَنِيٌّ. وَقِيلَ: هُوَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنِ عُسَيْلَةَ الْمُرَادِيُّ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الصُّنَابِحِيُّ، وَهُوَ ثِقَةٌ مِنْ كِبَارِ التَّابِعِينَ، قَدِمَ الْمَدِينَةَ بَعْدَ وَفَاةِ النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخَمْسَةِ أَيَّامٍ، مَاتَ فِي خِلَافَةِ عَبْدِ الْمَلِكِ. وَعَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ فَرِوَايَةُ الصُّنَابِحِيِّ الْمَذْكُورِ إِمَّا رِوَايَةُ صَحَابِيٍّ أَوْ تَابِعِيٍّ ثِقَةٍ، وَبِهَا تَعْتَضِدُ رِوَايَةُ الْمُخَدَّجِيِّ الْمَذْكُورِ. وَرِجَالُ سَنَدِ أَبِي دَاوُدَ هَذَا غَيْرُ عَبْدِ اللَّهِ الصُّنَابِحِيِّ ثِقَاتٌ، مَعْرُوفُونَ لَا مَطْعَنَ فِيهِمْ. وَبِذَلِكَ تَعْلَمُ صِحَّةَ حَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ الْمَذْكُورِ.
وَقَالَ الزُّرْقَانِيُّ (فِي شَرْحِ الْمُوَطَّأِ) : وَفِيهِ يَعْنِي حَدِيثَ عُبَادَةَ الْمَذْكُورَ أَنَّ تَارِكَ الصَّلَاةِ لَا يَكْفُرُ وَلَا يَتَحَتَّمُ عَذَابُهُ؛ بَلْ هُوَ تَحْتَ الْمَشِيئَةِ بِنَصِّ الْحَدِيثِ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ، وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ. وَجَاءَ مِنْ وَجْهٍ(1/40)
آخَرَ عَنْ عُبَادَةَ بِنَحْوِهِ فِي أَبِي دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيِّ، وَالْبَيْهَقِيِّ، وَلَهُ شَاهِدٌ عِنْدَ مُحَمَّدِ بْنِ نَصْرٍ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ (1) . اهـ مِنْهُ.
وَقَالَ الْعَلَّامَةُ الشَّوْكَانِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي (نَيْلِ الْأَوْطَارِ) : وَلِهَذَا الْحَدِيثِ شَاهِدٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ (2) ، وَمِنْ حَدِيثٍ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ عِنْدَ أَحْمَدَ (3) ، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَن الصنَابحِي اهـ مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ.
وَقَالَ النَّوَوِيُّ (فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ) بَعْدَ أَنْ سَاقَ حَدِيثَ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتَ الْمَذْكُورَ: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُ بِأَسَانِيدَ صَحِيحَةٍ. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: هُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ ثَابِتٌ، لَمْ يُخْتَلَفْ عَنْ مَالِكٍ فِيهِ. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ صَحَّحَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ مَعَ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ الْمُخَدَّجِيَّ الْمَذْكُورَ فِي سَنَدِهِ مَجْهُولٌ؟ فَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا مِنْ جِهَتَيْنِ: الْأُولَى - أَنَّ صِحَّتَهُ مِنْ قَبِيلِ الشَّوَاهِدِ الَّتِي ذَكَرْنَا، فَإِنَّهَا تُصَيِّرُهُ صَحِيحًا. وَالثَّانِيَةُ - هِيَ مَا قَدَّمْنَا مِنْ تَوْثِيقِ ابْن حبَان للمخدجي الْمَذْكُورَ. وَحَدِيثُ عُبَادَةَ الْمَذْكُورُ فِيهِ الدَّلَالَةُ الْوَاضِحَةُ عَلَى أَنَّ تَرْكَ الصَّلَاةِ لَيْسَ بِكُفْرٍ، لِأَنَّ كَونه تَحت الْمَشِيئَة الْمَذْكُور فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ الْكُفْرِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ) .
وَمِنْ أَدِلَّةِ أَهْلِ هَذَا الْقَوْلِ عَلَى أَنَّ تَارِكَ الصَّلَاة الْمقر بِوُجُوبِهَا غير كَافِر مَا
_________
(1) - يُشِير إِلَى حَدِيث: «مَنْ حَافَظَ عَلَيْهَا كَانَتْ لَهُ نُورًا وَبُرْهَانًا وَنَجَاةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَمَنْ لَمْ يُحَافِظْ عَلَيْهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ نُورٌ وَلَا بُرْهَانٌ وَلَا نَجَاةٌ، وَكَانَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَعَ قَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وهامان وَأبي بن خلف» ، وَقد سبق تَخْرِيجه، وَرَوَاهُ ابْن نصر
فِي " تَعْظِيم قدر الصَّلَاة " (1/133) (58) .
(2) - أخرجه ابْن مَاجَه (1/450) (1403) ، وَحسنه الشَّيْخ الألباني - رَحمَه الله -.
(3) - أخرجه أَحْمد (4/244) وَلَفظه: (فان ربكُم عز وَجل يَقُول من صلى الصَّلَاة لوَقْتهَا وحافظ عَلَيْهَا وَلم يضيعها اسْتِخْفَافًا بِحَقِّهَا فَلهُ عَليّ عهد أَن أدخلهُ الْجنَّة وَمن لم يصل لوَقْتهَا وَلم يحافظ عَلَيْهَا وضيعها اسْتِخْفَافًا بِحَقِّهَا فَلَا عهد لَهُ أَن شِئْت عَذبته وان شِئْت غفرت لَهُ) ، وَقَالَ الأرناؤوط: مرفوعه صَحِيح لغيره، وَهَذَا إِسْنَاد ضَعِيف لانقطاعه.(1/41)
رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّ أَوَّلَ مَا يُحَاسَبُ بِهِ الْعَبْدُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الصَّلَاةُ الْمَكْتُوبَةُ، فَإِنْ أَتَمَّهَا وَإِلَّا قِيلَ انْظُرُوا هَلْ لَهُ مِنْ تَطَوُّعٍ، فَإِنْ كَانَ لَهُ تَطَوُّعٌ أُكْمِلَتِ الْفَرِيضَةُ مِنْ تَطَوُّعِهِ. ثُمَّ يُفْعَلُ بِسَائِرِ الْأَعْمَالِ الْمَفْرُوضَةِ مِثْلُ ذَلِكَ» (1) اهـ.
وَقَالَ الشَّوْكَانِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي (نَيْلِ الْأَوْطَارِ) : الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ ثَلَاثِ طُرُقٍ: طَرِيقَيْنِ مُتَّصِلَيْنِ بِأَبِي هُرَيْرَةَ. وَالطَّرِيق الثَّالِث مُتَّصِل بِتَمِيمٍ الدَّارِيِّ. وَكُلُّهَا لَا مَطْعَنَ فِيهَا، وَلَمْ يَتَكَلَّمْ عَلَيْهِ هُوَ وَلَا الْمُنْذِرِيُّ بِمَا يُوجِبُ ضَعْفَهُ. وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقٍ إِسْنَادُهَا جَيِّدٌ وَرِجَالُهَا رِجَالُ الصَّحِيحِ كَمَا قَالَ الْعِرَاقِيُّ وَصَحَّحَهَا ابْنُ الْقَطَّانِ. وَأَخْرَجَ الْحَدِيثَ الْحَاكِمُ (فِي الْمُسْتَدْرَكِ) وَقَالَ: هَذَا صَحِيحُ الْإِسْنَادِ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ. وَفِي الْبَابِ عَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ (2) عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ وَابْنِ مَاجَهْ بِنَحْوِ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ الْعِرَاقِيُّ: وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ، وَأَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ (فِي الْمُسْتَدْرَكِ) وَقَالَ: إِسْنَاده صَحِيح على شَرط مُسلم اهـ مَحِلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ.
وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ عَلَى عَدَمِ كُفْرِ تَارِكِ الصَّلَاةِ أَنَّ نُقْصَانَ الصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَةِ وَإِتْمَامَهَا مِنَ النَّوَافِلِ يَتَنَاوَلُ بِعُمُومِهِ تَرْكَ بَعْضِهَا عَمْدًا، كَمَا يَقْتَضِيهِ ظَاهِرُ عُمُومِ اللَّفْظِ كَمَا تَرَى.
وَقَالَ الْمَجْدُ (فِي الْمُنْتَقَى) بَعْدَ أَنْ سَاقَ الْأَدِلَّةَ الَّتِي ذَكَرْنَا عَلَى عدم كفر تَارِك الصَّلَاة الْمقر بِوُجُوبِهَا عمدا مَا نَصه: ويعضد هَذَا الْمَذْهَب عمومات
_________
(1) - أخرجه النَّسَائِيّ (1/233) (466) ، وَابْن مَاجَه (1/458) (1425) ، وَأحمد (2/290) ، والْحَدِيث صَححهُ الشَّيْخ الألباني - رَحمَه الله -.
(2) - أخرجه أَبُو دَاوُد (1/291) (866) ، وَابْن مَاجَه (1/458) (1426) ، وَأحمد (4/103) ، والدارمي (1/361) (1355) ، وَالْحَاكِم (1/394) (966) ، والْحَدِيث صَححهُ الشَّيْخ الألباني - رَحمَه الله -.(1/42)
مِنْهَا مَا رُوِيَ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ شَهِدَ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَأَنَّ عِيسَى عَبْدُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ، وَالْجَنَّةَ وَالنَّارَ حَقٌّ أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ عَلَى مَا كَانَ مِنَ الْعَمَلِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (1) . وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ وَمُعَاذٌ رَدِيفُهُ عَلَى الرَّحْلِ: «يَا مُعَاذُ» ، قَالَ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ ثَلَاثًا، ثُمَّ قَالَ: «مَا مِنْ عَبْدٍ يَشْهَدُ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى النَّارِ» قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَفَلَا أُخْبِرُ بِهَا النَّاسَ فَيَسْتَبْشِرُوا؟ قَالَ: «إِذًا يَتَّكِلُوا» فَأَخْبَرَ بِهَا مُعَاذٌ عِنْدَ مَوْتِهِ تَأَثُّمًا، أَيْ خَوْفًا مِنَ الْإِثْمِ بِتَرْكِ الْخَبَرِ بِهِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (2) ، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةٌ مُسْتَجَابَةٌ فَتَعَجَّلَ كُلُّ نَبِيٍّ دَعْوَتَهُ، وَإِنِّي اخْتَبَأْتُ دَعْوَتِي شَفَاعَةً لأمتي فَهِيَ نَائِلَةٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ مَنْ مَاتَ مِنْ أُمَّتِي لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا» رَوَاهُ مُسْلِمٌ (3) . وَعَنْهُ أَيْضًا: أَنَّ النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِي مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ خَالِصًا مِنْ قلبه» رَوَاهُ البُخَارِيّ (4) اهـ مَحِلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ. وَقَالَتْ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، مِنْهُمُ الْإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَأَصْحَابُهُ، وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ، وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، وَالْمُزَنِيُّ صَاحِبُ الشَّافِعِيِّ: إِنَّ تَارِكَ الصَّلَاةِ عَمْدًا تكاسلاً وتهاناً مَعَ إِقْرَارِهِ بِوُجُوبِهَا لَا يُقْتَلُ وَلَا يُكَفَّرُ؛ بَلْ يُعَزَّرُ وَيُحْبَسُ حَتَّى يُصَلِّيَ وَاحْتَجُّوا عَلَى عَدَمِ كُفْرِهِ بِالْأَدِلَّةِ الَّتِي ذَكَرْنَا آنِفًا لِأَهْلِ الْقَوْلِ الثَّانِي.
وَاحْتَجُّوا لِعَدَمِ قَتْلِهِ بِأَدِلَّةٍ، مِنْهَا حَدِيث
_________
(1) - أخرجه البُخَارِيّ (3/1267) (32542) ، وَمُسلم (1/57) (28) .
(2) - أخرجه البُخَارِيّ (1/59) (128) ، وَمُسلم (1/61) (32) .
(3) - أخرجه مُسلم (1/189) (199) .
(4) - أخرجه البُخَارِيّ (1/49) (99) .(1/43)
ابْنِ مَسْعُودٍ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ فِي سُورَةِ «الْمَائِدَةِ» وَغَيْرِهَا: «لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ: الثَّيِّبِ الزَّانِي، وَالنَّفْسِ بِالنَّفْسِ، وَالتَّارِكِ لِدِينِهِ الْمُفَارِقِ لِلْجَمَاعَةِ» (1) قَالُوا: هَذَا حَدِيثٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، صَرَّحَ فِيهِ النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ دَمُ مُسْلِمٍ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ، وَلَمْ يَذْكُرْ مِنْهَا تَرْكَ الصَّلَاةِ؛ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مُوجِبٍ لِلْقَتْلِ. قَالُوا: وَالْأَدِلَّةُ الَّتِي ذَكَرْتُمْ عَلَى قَتْلِهِ إِنَّمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ بِمَفَاهِيمِهَا أَعْنِي مَفَاهِيمَ الْمُخَالَفَةِ كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ. وَحَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ دَلَّ عَلَى مَا ذَكَرْنَا بِمَنْطُوقِهِ وَالْمَنْطُوقُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْمَفْهُومِ. مَعَ أَنَّ الْمُقَرَّرَ فِي أُصُولِ الْإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ: أَنَّهُ لَا يَعْتَبِرُ الْمَفْهُومَ الْمَعْرُوفَ بِدَلِيلِ الْخِطَابِ الَّذِي هُوَ مَفْهُومُ الْمُخَالَفَةِ - وَعَلَيْهِ فَإِنَّهُ لَا يَعْتَرِفُ بِدَلَالَةِ الْأَحَادِيثِ الْمَذْكُورَةِ عَلَى قَتْلِهِ؛ لِأَنَّهَا إِنَّمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ بِمَفْهُومِ مُخَالَفَتِهَا، وَحَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِمَنْطُوقِهِ. وَمِنْهَا قِيَاسُهُمْ تَرْكَ الصَّلَاةِ عَلَى تَرْكِ الصَّوْمِ وَالْحَجِّ مَثَلًا؛ فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ دَعَائِمِ الْإِسْلَامِ وَلَمْ يُقْتَلْ تَارِكُهَا، فَكَذَلِكَ الصَّلَاةُ.
أَمَّا الَّذِينَ قَالُوا بِأَنَّهُ كَافِرٌ، وَأَنَّهُ يُقْتَلُ فَقَدْ أَجَابُوا عَنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ: بِأَنَّهُ عَامٌّ يُخَصَّصُ بِالْأَحَادِيثِ الدَّالَّةِ عَلَى قَتْلِ تَارِكِ الصَّلَاةِ. وَعَنْ قِيَاسِهِ عَلَى تَارِكِ الْحَجِّ وَالصَّوْمِ: بِأَنَّهُ فَاسِدُ الِاعْتِبَارِ لِمُخَالَفَتِهِ لِلْأَحَادِيثِ الْمَذْكُورَةِ الدَّالَّةِ عَلَى قَتْلِهِ. وَعَنِ الْأَحَادِيثِ الدَّالَّةِ عَلَى عَدَمِ الْكُفْرِ: بِأَنَّ مِنْهَا مَا هُوَ عَامٌّ يُخَصَّصُ بِالْأَحَادِيثِ الدَّالَّةِ عَلَى كُفْرِهِ. وَمِنْهَا مَا هُوَ لَيْسَ كَذَلِكَ كَحَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ الدَّالِّ عَلَى أَنَّهُ تَحْتَ الْمَشِيئَةِ. فَالْأَحَادِيثُ الدَّالَّةُ عَلَى كُفْرِهِ مُقَدَّمَةٌ عَلَيْهِ، لِأَنَّهَا أَصَحُّ مِنْهُ، لِأَنَّ بَعْضَهَا فِي صَحِيحٍ مُسْلِمٍ وَفِيهِ التَّصْرِيحُ بِكُفْرِهِ وَشِرْكِهِ. وَمِنْهَا حَدِيثُ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ، مَعَ حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ وَعَوْفِ بْنِ مَالِكٍ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ كَمَا تَقَدَّمَ إيضاحه.
_________
(1) - أخرجه البُخَارِيّ (6/2521) (6484) ، وَمُسلم (3/1302) (1676) .(1/44)
وَرَدَّ الْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ غَيْرُ كَافِرٍ أَدِلَّةَ مُخَالِفِيهِمْ - بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْكُفْرِ فِي الْأَحَادِيثِ الْمَذْكُورَةِ كُفْرٌ دُونَ كُفْرٍ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ الْكُفْرَ الْمُخْرِجَ عَنْ مِلَّةِ الْإِسْلَامِ. وَاحْتَجُّوا لِهَذَا بِأَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ يُصَرِّحُ فِيهَا النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْكُفْرِ، وَلَيْسَ مُرَادُهُ الْخُرُوجَ عَنْ مِلَّةِ الْإِسْلَامِ. قَالَ الْمَجْدُ (فِي الْمُنْتَقَى) : وَقَدْ حَمَلُوا أَحَادِيثَ التَّكْفِيرِ عَلَى كُفْرِ النِّعْمَةِ، أَوْ عَلَى مَعْنًى قَدْ قَارَبَ الْكُفْرَ. وَقَدْ جَاءَتْ أَحَادِيثُ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ أُرِيدَ بِهَا ذَلِكَ؛ فَرَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ وَقِتَالُهُ كُفْرٌ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (1) . وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لَيْسَ مِنْ رَجُلٍ ادَّعَى لِغَيْرِ أَبِيهِ وَهُوَ يَعْلَمُهُ إِلَّا كَفَرَ، وَمَنِ ادَّعَى مَا لَيْسَ لَهُ فَلَيْسَ مِنَّا وَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (2) . وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «اثْنَتَانِ فِي النَّاسِ هُمَا بِهِمْ كُفْرٌ: الطَّعْنُ فِي النَّسَبِ، وَالنِّيَاحَةُ عَلَى الْمَيِّتِ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ (3) . وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: كَانَ عُمَرُ يَحْلِفُ «وَأَبِي» فَنَهَاهُ النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: «مَنْ حَلَفَ بِشَيْءٍ دُونَ اللَّهِ فَقَدْ أَشْرَكَ» رَوَاهُ أَحْمَدُ (4) . وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مُدْمِنُ الْخَمْرِ إِنْ مَاتَ لَقِيَ اللَّهَ كَعَابِدِ وَثَنٍ» (5) انْتَهَى مِنْهُ بِلَفْظِهِ.
وَأَمْثَالُهُ فِي السّنة كَثِيرَة جدا. وَمن ذَلِك
_________
(1) - أخرجه البُخَارِيّ (1/27) (48) ، وَمُسلم (1/81) (64) .
(2) - أخرجه البُخَارِيّ (3/1292) (3317) ، وَمُسلم (1/79) (61) .
(3) - أخرجه مُسلم (1/82) (67) ، وَأحمد (2/496) .
(4) - أخرجه أَحْمد (1/47) ، (2/34) من طَرِيق سعد بن عُبَيْدَة عَن ابْن عمر بِهِ، وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: هَذَا مِمَّا لم يسمعهُ سعد بن عُبَيْدَة من ابْن عمر.
(5) - أخرجه أَحْمد (1/272) ، وَعبد الرَّزَّاق (9/239) (17070) ، وَابْن حبَان (12/167) (5347) ، وَالطَّبَرَانِيّ (12/45) (12428) ، وَأَبُو نعيم فِي " الْحِلْية " (9/253) ، وَفِي إِسْنَاده ضعف، وَله شَاهد عَن أبي هُرَيْرَة - رَضِي الله عَنهُ - عِنْد ابْن مَاجَه (2/1120) (3375) ، والْحَدِيث صَححهُ الشَّيْخ الألباني - رَحمَه الله - لغيره.(1/45)
الْقَبِيلِ تَسْمِيَةُ الرِّيَاءِ شِرْكًا. وَمِنْهُ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ فِي الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ أَنَّ النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «رَأَيْتُ النَّارَ فَلَمْ أَرَ مَنْظَرًا كَالْيَوْمِ أَفْظَعَ، وَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا النِّسَاءَ» قَالُوا: بِمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «بِكُفْرِهِنَّ» قِيلَ: يَكْفُرْنَ بِاللَّهِ؟ قَالَ: «يَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ، وَيَكْفُرْنَ الْإِحْسَانَ. لَوْ أَحْسَنْتَ إِلَى إِحْدَاهُنَّ الدَّهْرَ كُلَّهُ ثُمَّ رَأَتْ مِنْكَ شَيْئًا قَالَتْ مَا رَأَيْتُ مِنْكَ خَيْرًا قَطُّ» هَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ (1) فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ الَّتِي أَخْرَجَ فِيهَا الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ. وَقَدْ أَطْلَقَ فِيهِ النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْمَ الْكُفْرِ عَلَيْهِنَّ؛ فَلَمَّا اسْتَفْسَرُوهُ عَنْ ذَلِكَ تَبَيَّنَ أَنَّ مُرَادَهُ غَيْرُ الْكُفْرِ الْمُخْرِجِ عَنْ مِلَّةِ الْإِسْلَامِ.
هَذَا هُوَ حَاصِلُ كَلَامِ الْعُلَمَاءِ وَأَدِلَّتِهِمْ فِي مَسْأَلَةِ تَرْكِ الصَّلَاةِ عَمْدًا مَعَ الِاعْتِرَافِ بِوُجُوبِهَا. وَأَظْهَرُ الْأَقْوَالِ أَدِلَّةً عِنْدِي: قَوْلُ مَنْ قَالَ إِنَّهُ كَافِرٌ. وَأَجْرَى الْأَقْوَالَ عَلَى مُقْتَضَى الصِّنَاعَةِ الْأُصُولِيَّةِ وَعُلُومِ الْحَدِيثِ قَوْلُ الْجُمْهُورِ: إِنَّهُ كُفْرٌ غَيْرُ مُخْرِجٍ عَنِ الْمِلَّةِ لِوُجُوبِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأَدِلَّةِ إِذَا أَمْكَنَ. وَإِذَا حُمِلَ الْكُفْرُ وَالشِّرْكُ الْمَذْكُورَانِ فِي الْأَحَادِيثِ عَلَى الْكُفْرِ الَّذِي لَا يُخْرِجُ عَنِ الْمِلَّةِ حَصَلَ بِذَلِكَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْأَدِلَّةِ، وَالْجَمْعُ وَاجِبٌ إِذَا أمكن؛ لِأَن إِعْمَال الدَّلِيلَيْنِ أولى إِن إِلْغَاءِ أَحَدِهِمَا كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ فِي الْأُصُولِ وَعِلْمِ الْحَدِيثِ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ (فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ) بَعْدَ أَنْ سَاقَ أَدِلَّةَ مَنْ قَالُوا إِنَّهُ غَيْرُ كَافِرٍ مَا نَصُّهُ: وَلَمْ يَزَلِ الْمُسْلِمُونَ يُوَرِّثُونَ تَارِكَ الصَّلَاةِ وَيُوَرَّثُونَ عَنْهُ وَلَوْ كَانَ كَافِرًا لَمْ يُغْفَرْ لَهُ وَلَمْ يَرِثْ وَلَمْ يُورَثْ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَمَّا احْتَجَّ بِهِ مَنْ كَفَّرَهُ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ وَبُرَيْدَةَ، وَرِوَايَةِ ابْنِ شَقِيقٍ فَهُوَ أَنَّ كُلَّ ذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ شَارَكَ الْكَافِرَ فِي بَعْضِ أَحْكَامِهِ وَهُوَ
_________
(1) - أخرجه البُخَارِيّ (1/357) (1004) .(1/46)
الْقَتْلُ. وَهَذَا التَّأْوِيلُ مُتَعَيِّنٌ لِلْجَمْعِ بَيْنَ نُصُوصِ الشَّرْعِ وَقَوَاعِدِهِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا - انْتَهَى مَحِلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ] (1) .
فصل فِي بَيَان أَنَّ اجْتِنَابَ الْكَبَائِرِ يَكَفِّرُ اللَّهُ بِهِ الصَّغَائِرَ:
[وَقَدْ صَرَّحَ تَعَالَى بِأَنَّ الْمَنْهِيَّاتِ مِنْهَا كَبَائِرُ. وَيُفْهَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ مِنْهَا صَغَائِرُ. وَبَيَّنَ أَنَّ اجْتِنَابَ الْكَبَائِرِ يَكَفِّرُ اللَّهُ بِهِ الصَّغَائِرَ؛ وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: (إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ) . وَيُرْوَى عَنِ الْفُضَيْلِ بْنِ عِيَاضٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ قَالَ: ضَجُّوا مِنَ الصَّغَائِرِ قَبْلَ الْكَبَائِر] (2) .
فصل فِي بَيَان أَن كَبَائِر الذُّنُوب والمعاصي لَا تنَافِي الْإِيمَان:
[فِي هَذِه الْآيَة الْكَرِيمَة - أَي قَوْله تَعَالَى: (وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) -، دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ كَبَائِرَ الذُّنُوبِ لَا تُحْبِطُ الْعَمَلَ الصَّالِحَ، لِأَنَّ هِجْرَةَ مِسْطَحِ بْنِ أُثَاثَةَ مِنْ عَمَلِهِ الصَّالِحِ، وَقَذْفَهُ لِعَائِشَةَ مِنَ الْكَبَائِرِ وَلَمْ يُبْطِلْ هِجْرَتَهُ لِأَنَّ اللَّهَ قَالَ فِيهِ بَعْدَ قَذْفِهِ لَهَا (وَالْمُهَاجِرِينَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ) فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ هِجْرَتَهُ فِي سَبِيلِ
_________
(1) - 4/335 - 348، مَرْيَم / 59 - 60.
(2) - 4/128 - 129، الْكَهْف / 49.(1/47)
اللَّهِ، لَمْ يُحْبِطْهَا قَذْفُهُ لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا.
قَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْقَذْفَ وَإِنْ كَانَ كَبِيرًا لَا يُحْبِطُ الْأَعْمَالَ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَصَفَ مِسْطَحًا بَعْدَ قَوْلِهِ بِالْهِجْرَةِ وَالْإِيمَانِ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْكَبَائِرِ، وَلَا يُحْبِطُ الْأَعْمَالَ غَيْرُ الشِّرْكِ بِاللَّهِ، قَالَ تَعَالَى: (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) اهـ. وَمَا ذُكِرَ مِنْ أَنَّ فِي الْآيَةِ وَصْفَ مِسْطَحٍ بِالْإِيمَانِ لَمْ يَظْهَرْ مِنَ الْآيَةِ، وَإِنْ كَانَ مَعْلُوما.] (1) .
وَقَالَ صَاحب التَّتِمَّة - رَحمَه الله -: [ردّ أهل السّنة بِهَذِهِ الْآيَة - أَي قَوْلُهُ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ) - وَأَمْثَالِهَا عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ قَوْلَهُمْ: إِنَّ الْمَعْصِيَةَ تُنَافِي الْإِيمَانَ، لِأَنَّ اللَّهَ نَادَاهُمْ بِوَصْفِ الْإِيمَانِ مَعَ قَوْلِهِ: (وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ) فَلَمْ يُخْرِجْهُمْ بِضَلَالِهِمْ عَنْ عُمُومِ إِيمَانِهِمْ، وَيَشْهَدُ لِهَذَا أَنَّ الضَّلَالَ هُنَا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيل لَا مُطلق السَّبِيل] (2) .
فصل: الْكَلَام على الْوَعْد والوعيد:
[قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ) . ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ الْكُفَّارَ يَطْلُبُونَ مِنَ النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَعْجِيلَ الْعَذَابِ الَّذِي يَعِدُهُمْ بِهِ طغياناً وعناداً.
_________
(1) - 6/162 - 163، النُّور / 22.
(2) - 8/135، الممتحنة / 1.(1/48)
وَالْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ فِي الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَقَالُواْ رَبَّنَا عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ) وَقَوْلِهِ: (يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ) وَقَوْلِهِ: (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلاَ أَجَلٌ مُّسَمًّى لَّجَآءَهُمُ الْعَذَابُ) ... وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: (وَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ) الظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْوَعْدِ هُنَا: هُوَ مَا أَوْعَدَهُمْ بِهِ مِنَ الْعَذَابِ الَّذِي يَسْتَعْجِلُونَ نُزُولَهُ. وَالْمَعْنَى: هُوَ مُنْجِزٌ مَا وعدهم بِهِ من الْعَذَاب، إِذا جَاءَ الْوَقْتُ الْمُحَدَّدُ لِذَلِكَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: (وَلَوْلاَ أَجَلٌ مُّسَمًّى لَّجَآءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ) وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (أَلاَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ) وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ) وَبِهِ تَعْلَمُ أَنَّ الْوَعْدَ يُطْلَقُ فِي الْقُرْآنِ عَلَى الْوَعْدِ بِالشَّرِّ. وَمِنَ الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةِ لِذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذلكمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) فَإِنَّهُ قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فِي النَّارِ: وَعَدَهَا اللَّهُ بِصِيغَةِ الثُّلَاثِيِّ الَّذِي مَصْدَرُهُ الْوَعْدُ، وَلَمْ يَقُلْ أَوْعَدَهَا.
وَمَا ذُكِرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، مِنْ أَنَّ مَا وَعَدَ بِهِ الْكُفَّارَ مِنَ الْعَذَابِ وَاقِعٌ لَا مَحَالَةَ، وَأَنَّهُ لَا يُخْلِفُ وَعْدَهُ بِذَلِكَ، جَاءَ مُبَيَّنًا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ ق (قَالَ لاَ تَخْتَصِمُواْ لَدَىَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بِالْوَعِيدِ مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَىَّ) وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: (مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَىَّ) أَنَّ مَا أَوْعَدَ الْكُفَّارَ بِهِ مِنَ الْعَذَابِ، لَا يُبَدَّلُ لَدَيْهِ، بَلْ هُوَ وَاقِعٌ لَا مَحَالَةَ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: (كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ) أَيْ وَجَبَ وَثَبُتَ فَلَا يُمْكِنُ عَدَمُ وُقُوعِهِ بِحَالٍ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: (إِن كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ الرٌّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ) كَمَا أَوْضَحْنَاهُ فِي كِتَابِنَا: دَفْعُ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ، عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: (قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَآ إِلاَّ مَا(1/49)
شَآءَ اللَّهُ) . وأوضحنا أَنما أُوعِدُ بِهِ الْكُفَّارُ لَا يُخْلَفُ بِحَالٍ، كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآيَاتُ الْمَذْكُورَةُ. أَمَّا مَا أُوعِدَ بِهِ عُصَاةُ الْمُسْلِمِينَ، فَهُوَ الَّذِي يَجُوزُ أَلَّا يُنَفِّذَهُ وَأَنْ يَعْفُوَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: (إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ) . وَبِالتَّحْقِيقِ الَّذِي ذَكَرْنَا: تَعْلَمُ أَنَّ الْوَعْدَ يُطْلَقُ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ كَمَا بَيَّنَّا، وَإِنَّمَا شَاعَ عَلَى أَلْسِنَةِ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ التَّفْسِيرِ، مِنْ أَنَّ الْوَعْدَ لَا يُسْتَعْمَلُ إِلَّا فِي الْوَعْدِ بِخَيْرٍ وَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي لَا يُخْلِفُهُ اللَّهُ، وَأَمَّا إِنْ كَانَ الْمُتَوَعَّدُ بِهِ شَرًّا، فَإِنَّهُ وَعِيدٌ وَإِيعَادٌ. قَالُوا: إِنَّ الْعَرَبَ تَعُدُّ الرُّجُوعَ عَنِ الْوَعْدِ لُؤْمًا، وَعَنِ الْإِيعَادِ كَرَمًا، وَذَكَرُوا عَنِ الْأَصْمَعِيِّ أَنَّهُ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ أَبِي عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ، فَجَاءَهُ عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ فَقَالَ: يَا أَبَا عَمْرٍو، هَلْ يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ؟ فَقَالَ: لَا، فَذَكَرَ آيَةَ وَعِيدٍ، فَقَالَ لَهُ: أَمِنَ الْعَجَمِ أَنْتَ؟ إِنَّ الْعَرَبَ تَعُدُّ الرُّجُوعَ عَنِ الْوَعْدِ لُؤْمًا وَعَنِ الْإِيعَادِ كَرَمًا، أَمَا سَمِعْتَ قَوْلَ الشَّاعِرِ:
وَلَا يَرْهَبُ ابْنُ الْعَمِّ وَالْجَارُ سَطْوَتِي ... وَلَا انْثَنَى عَنْ سَطْوَةِ الْمُتَهَدِّدِ
فَإِنِّي وَإِنْ أَوْعَدْتُهُ أَوْ وَعَدْتُهُ ... لَمُخْلِفٌ إِيعَادِي وَمُنْجِزٌ مَوْعِدِي
فِيهِ نَظَرٌ مِنْ وَجْهَيْنِ.
الْأَوَّلُ: هُوَ مَا بَيَّنَّاهُ آنِفًا مِنْ إِطْلَاقِ الْوَعْدِ فِي الْقُرْآنِ عَلَى التَّوَعُّدِ بِالنَّارِ، وَالْعَذَابِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ) وَقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ) لِأَنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ الَّذِي لَا يَجُوزُ الْعُدُولُ عَنْهُ، وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ فِي حُلُول الْعَذَاب الَّذِي يستعجلونك بِهِ بهم، لِأَنَّهُ مُقْتَرِنٌ بِقَوْلِهِ: (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ) فَتَعَلُّقُهُ بِهِ هُوَ الظَّاهِرُ.
الثَّانِي: هُوَ مَا بَيَّنَّا أَنَّ مَا أَوْعَدَ اللَّهُ بِهِ الْكُفَّارَ لَا يَصِحُّ أَنْ يُخْلِفَهُ بِحَالٍ، لِأَنَّ ادِّعَاءَ جَوَازِ إِخْلَافِهِ، لِأَنَّهُ إِيعَادٌ وَأَنَّ الْعَرَبَ تَعُدُّ الرُّجُوعَ عَنِ الْإِيعَادِ كَرَمًا يُبْطِلُهُ أَمْرَانِ:
الْأَوَّلُ: أَنَّهُ يَلْزَمُهُ جَوَازُ أَلَّا يَدْخُلَ النَّارَ كَافِرٌ أَصْلًا، لِأَنَّ إيعادهم بإدخالهم(1/50)
النَّارَ مِمَّا زَعَمُوا أَنَّ الرُّجُوعَ عَنْهُ كَرَمٌ، وَهَذَا لَا شَكَّ فِي بُطْلَانِهِ.
الثَّانِي: مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ: عَلَى أَنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ مَا أَوْعَدَ بِهِ الْكُفَّارَ مِنَ الْعَذَابِ كَقَوْلِهِ: (قَالَ لاَ تَخْتَصِمُواْ لَدَىَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بِالْوَعِيدِ مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَىَّ) وَقَوْلِهِ تَعَالَى فِيهِمْ: (فَحَقَّ وَعِيدِ) وَقَوْلِهِ فِيهِمْ: (فَحَقَّ عِقَابِ) وَمَعْنَى حَقَّ: وَجَبَ وَثَبَتَ، فَلَا وَجْهَ لِانْتِفَائِهِ بِحَالٍ، كَمَا أَوْضَحْنَاهُ هُنَا وَفِي غير هَذَا ... الْموضع] (1) .
فصل فِي بَيَان بعض الْأَفْعَال الكفرية:
وَهَذِه جملَة من الْأَفْعَال المكفرة الَّتِي ذكرهَا الْعَلامَة الشنقيطي - رَحمَه الله - وناقشها فِي تَفْسِيره:
ادِّعَاء شُفَعَاءَ عِنْدَ اللَّه لِلْكُفَّارِ أَوْ بِغَيْرِ إِذْنِهِ:
[ادِّعَاء شُفَعَاءَ عِنْدَ اللَّه لِلْكُفَّارِ أَوْ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، مِنْ أَنْوَاعِ الْكُفْرِ بِهِ جَلَّ وَعَلَا، كَمَا صَرَّحَ بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: (وَيَقُولُونَ هَؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبّئُونَ اللَّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِى السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِى الاْرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ) .] (2) .
من لم يحجّ:
[قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِىٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ) ، بعد قَوْله: (وَللَّهِ
_________
(1) - 5/715 - 718، الْحَج / 47، وَانْظُر أَيْضا: (6/475، الرّوم / 6) ، (7/646 - 647، ق / 14) .
(2) - 1/65، الْبَقَرَة /48.(1/51)
عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ
اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ لَمْ يَحُجَّ كَافِرٌ، واللَّه غَنِيٌّ عَنْهُ.
وَفِي الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ: (وَمَن كَفَرَ) ، أَوْجُهٌ لِلْعُلَمَاءِ.
الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: (وَمَن كَفَرَ) أَيْ: وَمَنْ جَحَدَ فَرِيضَةَ الْحَجِّ فَقَدْ كَفَرَ واللَّه غَنِيٌّ عَنْهُ. وَبِهِ قَالَ: ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَغَيْرُ وَاحِدٍ قَالَهُ ابْنُ كَثِيرٍ، وَيَدُلُّ لِهَذَا الْوَجْهِ مَا رُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ وَمُجَاهِدٍ مِنْ أَنَّهُمَا قَالَا لَمَّا نَزَلَتْ: (وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ) ، قَالَتِ الْيَهُودُ: فَنَحْنُ مُسْلِمُونَ. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّه فَرَضَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ حَجَّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا، فَقَالُوا: لَمْ يُكْتَبْ عَلَيْنَا، وَأَبَوْا أَنْ يَحُجُّوا» ، قَالَ اللَّه تَعَالَى: (وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِىٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ) . (1)
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: (وَمَن كَفَرَ) ، أَيْ: وَمَنْ لَمْ يَحُجَّ عَلَى سَبِيلِ التَّغْلِيظِ الْبَالِغِ فِي الزَّجْرِ عَنْ تَرْكِ الْحَجِّ مَعَ الِاسْتِطَاعَةِ كَقَوْلِهِ لِلْمِقْدَادِ الثَّابِتِ فِي «الصَّحِيحَيْنِ» حِينَ سَأَلَهُ عَنْ قَتْلِ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ الْكُفَّارِ بَعْدَ أَنْ قَطَعَ يَدَهُ فِي الْحَرْبِ: «لَا تَقْتُلْهُ، فَإِنْ قَتَلْتَهُ فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَتِكَ قَبْلَ أَنْ تَقْتُلَهُ، وَإِنَّكَ بِمَنْزِلَتِهِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ الْكَلِمَةَ الَّتِي قَالَ» (2) .
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى ظَاهِرِهَا وَأَنَّ مَنْ لَمْ يَحُجَّ مَعَ الِاسْتِطَاعَةِ فَقَدْ كَفَرَ. وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ مَلَكَ زَادًا وَرَاحِلَةً وَلم يحجّ
_________
(1) - أخرجه الْبَيْهَقِيّ (4/324) ، وَغَيره من طرق عَن ابْن أبي نجيح عَنْهُمَا بِهِ، وَقَالَ الشَّيْخ مقبل - رَحمَه الله - فِي مُقَدّمَة كِتَابه " الصَّحِيح الْمسند من أَسبَاب النُّزُول " (ص/14) : [وَأما قَول التَّابِعِيّ نزلت فِي كَذَا فَهُوَ مُرْسل، فَإِن تعدّدت طرقه قبل، وَإِلَّا فَلَا على الرَّاجِح عِنْد الْمُحدثين] ، ومدار الطَّرِيقَيْنِ هُنَا على ابْن أبي نجيح، وَقد ذكره النَّسَائِيّ فِيمَن كَانَ يُدَلس، وَقد عنعنه، وَقَالَ ابْن حبَان أَنه روى عَن مُجَاهِد من غير سَماع، وَعَلِيهِ فَلَا يَصح هَذَا الآثر عَنْهُمَا.
(2) - أخرجه البُخَارِيّ (4/1474) (3794) ، وَمُسلم (1/95) (95) .(1/52)
بَيْتَ اللَّه فَلَا يَضُرُّهُ، مَاتَ يَهُودِيًّا، أَوْ نَصْرَانِيًّا؛ وَذَلِكَ بِأَنَّ اللَّه قَالَ: (وَللَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِىٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ) » (1) . رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُمُ ابْنُ كَثِيرٍ وَهُوَ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ ضَعَّفَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ بِأَنَّ فِي إِسْنَادِهِ هِلَالَ بْنَ عَبْدِ اللَّه مَوْلَى رَبِيعَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ مُسْلِمٍ الْبَاهِلِيِّ، وَهِلَالٌ هَذَا قَالَ التِّرْمِذِيُّ: مَجْهُولٌ، وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: مُنْكَرُ الْحَدِيثِ، وَفِي إِسْنَادِهِ أَيْضًا الْحَارِثُ الَّذِي رَوَاهُ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: إِنَّهُ يُضَعَّفُ فِي الْحَدِيثِ. وَقَالَ ابْنُ عَدِيٍّ: هَذَا الْحَدِيثُ لَيْسَ بِمَحْفُوظٍ. انْتَهَى بِالْمَعْنَى مِنِ ابْنِ كَثِيرٍ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: فِي «الْكَافِي الشَّافِ، فِي تَخْرِيجِ أَحَادِيثِ الْكَشَّافِ» : فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ رِوَايَةِ هِلَالِ بْنِ عَبْدِ اللَّه الْبَاهِلِيِّ، حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ، عَنِ الْحَارِثِ، عَنْ عَلِيٍّ رَفَعَهُ: «مَنْ مَلَكَ زَادًا وَرَاحِلَةً تُبَلِّغُهُ إِلَى بَيْتِ اللَّه وَلَمْ يَحُجَّ، فَلَا عَلَيْهِ أَنْ يَمُوتَ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا» . وَقَالَ: غَرِيبٌ وَفِي إِسْنَادِهِ مَقَالٌ، وَهِلَالُ بْنُ عَبْدِ اللَّه مَجْهُولٌ، وَالْحَارِثُ يُضَعَّفُ، وَأَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَقَالَ: لَا نَعْلَمُهُ عَنْ عَلِيٍّ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ عَدِيٍّ، وَالْعَقِيلِيُّ فِي تَرْجَمَةِ هِلَالٍ، وَنَقْلًا عَنِ الْبُخَارِيِّ أَنَّهُ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ. وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي «الشُّعَبِ» : تَفَرَّدَ بِهِ هِلَالٌ وَلَهُ شَاهِدٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ، أَخْرَجَهُ الدَّارِمِيُّ (2)
بِلَفْظِ: «مَنْ لَمْ يَمْنَعْهُ عَنِ الْحَجِّ حَاجَةٌ ظَاهِرَةٌ، أَوْ سُلْطَانٌ جَائِرٌ، أَوْ مَرَضٌ حَابِسٌ، فَمَاتَ فَلْيَمُتْ إِنْ شَاءَ يَهُودِيًّا، أَوْ إِنْ شَاءَ نَصْرَانِيًّا» ، أَخْرَجَهُ مِنْ رِوَايَةِ شَرِيكٍ، عَنْ لَيْثِ بْنِ أَبِي سُلَيْمٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَابِطٍ عَنْهُ، وَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ
_________
(1) - أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيّ (3/176) (812) ، وَقَالَ: وَفِي إِسْنَاده مقَال وهِلَال بن عبد الله مَجْهُول والْحَارِث يضعف فِي الحَدِيث. والْحَدِيث ضعفه الشَّيْخ الألباني - رَحمَه الله -.
(2) - أخرجه الدَّارمِيّ (2/45) (1785) ، وَأعله حُسَيْن أَسد بليث بن أبي سليم..(1/53)
أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي «الشُّعَبِ» ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ مُرْسَلًا لَمْ يَذْكُرْ أَبَا أُمَامَةَ وَأَوْرَدَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي «الْمَوْضُوعَاتِ» مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عَدِيٍّ، وَابْنُ عَدِيٍّ وَأَوْرَدَهُ فِي «الْكَامِلِ» فِي تَرْجَمَةِ أَبِي الْمَهْزُومِ يَزِيدَ بْنِ سُفْيَانَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا نَحْوَهُ، وَنَقَلَ عَنِ الْقَلَّاسِ أَنَّهُ كَذَّبَ أَبَا الْمَهْزُومِ، وَهَذَا مِنْ غَلَطِ ابْنِ الْجَوْزِيِّ فِي تَصَرُّفِهِ؛ لِأَنَّ الطَّرِيقَ إِلَى أَبِي أُمَامَةَ لَيْسَ فِيهَا مَنِ اتُّهِمَ بِالْكَذِبِ. وَقَدْ صَحَّ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: مَنْ أَطَاقَ الْحَجَّ فَلَمْ يَحُجَّ فَسَوَاءٌ مَاتَ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيّا (1) ، وَالْعلم عِنْد اللَّه تَعَالَى] (2) .
مَنِ اتَّبَعَ تَشْرِيعَ الشَّيْطَانِ مُؤْثِرًا لَهُ عَلَى مَا جَاءَت بِهِ الرُّسُل:
[قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَاناً مَّرِيداً) الْمُرَادُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِدُعَائِهِمُ الشَّيْطَانَ الْمَرِيدَ عِبَادَتَهُمْ لَهُ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ الشَّيطَانَ) ، وَقَوْلُهُ عَنْ خَلِيلِهِ إِبْرَاهِيمَ مُقَرِّرًا لَهُ: (يَا أَبَتِ لاَ تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ) ، وَقَوْلُهُ عَنِ الْمَلَائِكَةِ: (بَلْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ الْجِنَّ) ، وَقَوْلُهُ: (وَكَذلك زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مّنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ) ، وَلَمْ يُبَيِّنْ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ مَا وَجه عِبَادَتهم للشَّيْطَان،
_________
(1) - أخرجه أَبُو نعيم فِي " الْحِلْية " (9/252) ، وَقَالَ ابْن حجر فِي التَّلْخِيص (2/222) : وَلَهُ طَرِيقٌ صَحِيحَةٌ إِلَّا أَنَّهَا مَوْقُوفَةٌ رَوَاهَا سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخطاب قَالَ لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أَبْعَثَ رِجَالًا إِلَى هَذِه الْأَمْصَار فينظروا كل من لَهُ جِدَّةٌ وَلَمْ يَحُجَّ فَيَضْرِبُوا عَلَيْهِ الْجِزْيَةَ مَا هُمْ بِمُسْلِمِينَ مَا هُمْ بِمُسْلِمِينَ لَفْظُ سَعِيدٍ وَلَفْظُ الْبَيْهَقِيِّ أَنَّ عُمَرَ قَالَ: " لِيَمُتْ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا - يَقُولُهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ - رَجُلٌ مَاتَ وَلم يحجّ وَوجد لِذَلِكَ سَعَةً وَخُلِّيَتْ سَبِيلُهُ " قُلْتُ وَإِذَا انْضَمَّ هَذَا الْمَوْقُوف إِلَى مُرْسل بن سابط علم أَن لهَذَا الحَدِيث أصلا ... وَتَبَيَّنَ بِذَلِكَ خَطَأُ مَنِ ادَّعَى أَنَّهُ مَوْضُوعٌ وَالله أعلم.
(2) - 1/247 - 249، آل عمرَان /97.(1/54)
وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ فِي آيَاتٍ أُخر أَنَّ مَعْنَى عِبَادَتِهِمْ لِلشَّيْطَانِ إِطَاعَتُهُمْ لَهُ وَاتِّبَاعُهُمْ لِتَشْرِيعِهِ وَإِيثَارُهُ عَلَى مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ مِنْ عِنْدِ اللَّه تَعَالَى، كَقَوْلِهِ: (وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ) ، وَقَوْلِهِ: (اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ) ، فَإِنَّ عَدِيَّ بْنَ حَاتِمٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ لَمَّا قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَيْفَ اتَّخَذُوهُمْ أَرْبَابًا؟ قَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّهُمْ أَحَلُّوا لَهُمْ مَا حَرَّمَ اللَّه، وَحَرَّمُوا عَلَيْهِمْ مَا أَحَلَّ اللَّه فَاتَّبَعُوهُمْ» (1) ، وَذَلِكَ هُوَ مَعْنَى اتِّخَاذِهِمْ إِيَّاهُمْ أَرْبَابًا. وَيُفْهَمُ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ بِوُضُوحٍ لَا لَبْسَ فِيهِ أَنَّ مَنِ اتَّبَعَ تَشْرِيعَ الشَّيْطَانِ مُؤْثِرًا لَهُ عَلَى مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ، فَهُوَ كَافِرٌ باللَّه، عَابِدٌ لِلشَّيْطَانِ، مُتَّخِذٌ الشَّيْطَانَ رَبًّا، وَإِنْ سَمَّى اتِّبَاعَهُ لِلشَّيْطَانِ بِمَا شَاءَ مِنَ الْأَسْمَاءِ؛ لِأَنَّ الْحَقَائِقَ لَا تَتَغَيَّرُ بِإِطْلَاقِ الْأَلْفَاظِ عَلَيْهَا، كَمَا هُوَ مَعْلُوم] (2) .
[وَمِنْ هَدْيِ الْقُرْآنِ لِلَّتِي هِيَ أقْوَم بَيَانُهُ أَنَّهُ كُلُّ مَنِ اتَّبَعَ تَشْرِيعًا غَيْرَ التَّشْرِيعِ الَّذِي جَاءَ بِهِ سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، فَاتِّبَاعُهُ لِذَلِكَ التَّشْرِيعِ الْمُخَالِفِ كُفْرٌ بَوَاحٌ، مُخْرِجٌ عَنِ الْمِلَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ. وَلَمَّا قَالَ الْكُفَّارُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الشَّاةُ تُصْبِحُ مَيِّتَةً مَنْ قَتَلَهَا؟ فَقَالَ لَهُمْ: «اللَّهُ قَتَلَهَا» فَقَالُوا لَهُ: مَا ذَبَحْتُمْ بِأَيْدِيهِمْ حَلَالٌ، وَمَا ذَبَحَهُ الله بِيَدِهِ الْكَرِيمَة تَقولُونَ إِنَّه حَرَامًا فَأَنْتُمْ إِذَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ!؟ - أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِمْ قَوْلَهُ تَعَالَى: (وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ) (3)
_________
(1) - رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ (5/278) (3095) ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ عبد السَّلَام بن حَرْب وغطيف بن أعين لَيْسَ بِمَعْرُوف فِي الحَدِيث. والْحَدِيث حسنه الشَّيْخ الألباني - رَحمَه الله -.
(2) - 1/364 - 365، النِّسَاء /117.
(3) - رَوَاهُ أَبُو دَاوُد (2/111) (2819) بِنَحْوِهِ مَوْصُولا من حَدِيث ابْن عَبَّاس، وَصَححهُ الشَّيْخ الألباني - رَحمَه الله -، وَقد رُوِيَ من طرق أُخْرَى عَن عِكْرِمَة، سعيد بن جُبَير مُرْسلا.(1/55)
وَحَذْفُ الْفَاءِ مِنْ قَوْلِهِ (إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ) يَدُلُّ عَلَى قَسَمٍ مَحْذُوفٍ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ فِي الْخُلَاصَةِ:
وَاحْذِفْ لَدَى اجْتِمَاعِ شَرْطٍ وَقَسَمٍ ... جَواب مَا أَخَّرْتَ فَهُوَ مُلْتَزَمْ
إِذْ لَوْ كَانَتِ الْجُمْلَةُ جَوَابًا لِلشَّرْطِ لَاقْتَرَنَتْ بِالْفَاءِ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ فِي الْخُلَاصَةِ أَيْضًا:
وَاقْرِنْ بِفَا حَتْمًا جَوَابًا لَو جُعِلْ ... شَرْطًا لِأَن أَو غَيرهَا لَمْ يَنْجَعِلْ
فَهُوَ قَسَمٌ مِنَ اللَّهِ جلَّ وَعَلَا أَقْسَمَ بِهِ عَلَى أَنَّ مَنِ اتَّبَعَ الشَّيْطَانَ فِي تَحْلِيلِ الْمَيْتَةِ أَنَّهُ مُشْرِكٌ، وَهَذَا الشِّرْكُ مُخْرِجٌ عَنِ الْمِلَّةِ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ، وَسَيُوَبِّخُ اللَّهُ مُرْتَكِبَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِقَوْلِهِ: (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يابَنِى آدَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ الشَّيطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ) لِأَنَّ طَاعَتَهُ فِي تشريعه الْمُخَالف للوحي هِيَ عِبَادَته ... ] (1) .
قَطْعُ أُذُنِ الْبَحِيرَةِ وَالسَّائِبَةِ تَقَرُّبًا بِذَلِكَ لِلْأَصْنَامِ:
[وَقَوْلُهُ: (وَلاَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتّكُنَّ آذَانَ الاْنْعَامِ) ، يَدُلُّ عَلَى أَن تقيطع آذَانِ الْأَنْعَامِ لَا يَجُوزُ وَهُوَ كَذَلِكَ، أَمَّا قَطْعُ أُذُنِ الْبَحِيرَةِ وَالسَّائِبَةِ تَقَرُّبًا بِذَلِكَ لِلْأَصْنَامِ فَهُوَ كفر باللَّه إِجْمَاعًا] (2) .
_________
(1) - 3/400 - 401، بني إِسْرَائِيل / 9.
(2) - 1/369، النِّسَاء / 119.(1/56)
الِامْتِنَاع مِنَ الْحُكْمِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ؛ لِقَصْدِ مُعَارَضَتِهِ ورده، والامتناع من الْتِزَامه:
[من كَانَ امْتِنَاعُهُ مِنَ الْحُكْمِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ؛ لِقَصْدِ مُعَارَضَتِهِ وَرَدِّهِ، وَالِامْتِنَاعِ مِنِ الْتِزَامِهِ، فَهُوَ كَافِرٌ ظَالِمٌ فَاسِقٌ كُلُّهَا بِمَعْنَاهَا الْمُخْرِجِ مِنَ الْمِلَّةِ، وَمَنْ كَانَ امْتِنَاعُهُ مِنَ الْحُكْمِ لِهَوًى، وَهُوَ يَعْتَقِدُ قُبْحَ فِعْلِهِ، فَكُفْرُهُ وَظُلْمُهُ وَفِسْقُهُ غَيْرُ الْمُخْرِجِ مِنَ الْمِلَّةِ، إِلَّا إِذَا كَانَ مَا امْتَنَعَ مِنَ الْحُكْمِ بِهِ شَرْطًا فِي صِحَّةِ إِيمَانِهِ، كَالِامْتِنَاعِ مِنِ اعْتِقَادِ مَا لَا بُدَّ مِنِ اعْتِقَادِهِ، هَذَا هُوَ الظَّاهِرُ فِي الْآيَات الْمَذْكُورَة، وَالْعلم عِنْد الله تَعَالَى] (1) .
تولي الْكفَّار عمدا اخْتِيَارا، رَغْبَة فيهم:
[قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ) ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، أَنَّ مَنْ تَوَلَّى الْيَهُودَ، وَالنَّصَارَى، مِن الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّهُ يَكُونُ مِنْهُمْ بِتَوَلِّيهِ إِيَّاهُمْ. وَبَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّ تَوَلِّيَهُمْ مُوجِبٌ لِسُخْطِ اللَّهِ، وَالْخُلُودِ فِي عَذَابِهِ، وَأَنَّ مُتَوَلِّيَهُمْ لَوْ كَانَ مُؤْمِنًا مَا تَوَلَّاهُمْ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (تَرَى كَثِيراً مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِى الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالْلهِ والنَّبِىِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَآءَ وَلكن كَثِيراً مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ) . وَنَهَى فِي موضِع آخَرَ عَنْ تَوليهم مُبَيِّنًا سَبَبَ التَّنْفِيرِ مِنْهُ، وَهُوَ قَوْله: (ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَوَلَّوْاْ قوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُواْ مِنَ الآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ) ، وَبَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: أَنَّ مَحَلَّ ذَلِكَ، فِيمَا إِذَا لَمْ تَكُنِ الْمُوَالَاةُ بِسَبَبِ خَوْفٍ، وَتَقِيَّةٍ، وَإِنْ كَانَتْ بِسَبَبِ ذَلِكَ فَصَاحِبُهَا مَعْذُورٌ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَىْءٍ إِلاَ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً) فَهَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ فِيهَا بَيَانٌ لِكُلِّ الْآيَاتِ الْقَاضِيَةِ بِمَنْعِ مُوَالَاةِ الْكُفَّارِ مُطْلَقًا وَإِيضَاحٌ، لِأَنَّ مَحَلَّ ذَلِكَ فِي حَالَةِ الِاخْتِيَارِ، وَأَمَّا عِنْدَ الْخَوْف
_________
(1) - 2/97، الْمَائِدَة /47، وَانْظُر: (2/ 93، الْمَائِدَة /44) .(1/57)
وَالتَّقِيَّةِ، فَيُرَخَّصُ فِي مُوَالَاتِهِمْ، بِقَدْرِ الْمُدَارَاةِ الَّتِي يَكْتَفِي بِهَا شَرُّهُمْ، وَيُشْتَرَطُ فِي ذَلِكَ سَلَامَةُ الْبَاطِن من تِلْكَ الْمُوَالَاة.
وَمَنْ يَأْتِي الْأُمُورَ عَلَى اضْطِرَارٍ ... فَلَيْسَ كَمِثْلِ آتِيهَا اخْتِيَارًا
وَيُفْهَمُ مِنْ ظَوَاهِرِ هَذِهِ الْآيَاتِ أَنَّ مَنْ تَوَلَّى الْكُفَّارَ عَمْدًا اخْتِيَارًا، رَغْبَةً فيهم أَنه كَافِر مثلهم] (1) .
بعض الطّرق الَّتِي يُرَاد بهَا التَّوَصُّل إِلَى شئ من علم الْغَيْب غير الْوَحْي:
[لَمَّا جَاءَ الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ بِأَنَّ الْغَيْبَ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ كَانَ جَمِيعُ الطُّرُقِ الَّتِي يُرَادُ بِهَا التَّوَصُّلُ إِلَى شَيْءٍ
مِنْ عِلْمِ الْغَيْبِ غَيْرِ الْوَحْيِ مِنَ الضَّلَالِ الْمُبِينِ، وَبَعْضٌ مِنْهَا يَكُونُ كُفْرًا.
وَلِذَا ثَبَتَ عَنِ النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ أَتى عرَّافاً فَسَأَلَهُ عَنْ شيءٍ لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلَاةٌ أَرْبَعِينَ يَوْمًا» (2) ، وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي مَنْعِ الْعِيَافَةِ وَالْكِهَانَةِ وَالْعَرَافَةِ، وَالطَّرْقِ وَالزَّجْرِ، وَالنُّجُومِ وَكُلُّ ذَلِكَ يَدْخُلُ فِي الْكِهَانَةِ، لِأَنَّهَا تَشْمَلُ جَمِيعَ أَنْوَاعِ ادِّعَاءِ الِاطِّلَاعِ عَلَى علم الْغَيْب.
قد سُئِلَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الكهَّان فَقَالَ: «لَيْسُوا بِشَيْءٍ» (3) ، وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ مَا نَصُّهُ: فَمَنْ قَالَ إِنَّهُ يَنْزِلُ الْغَيْثُ غَدًا، وَجَزَمَ بِهِ فَهُوَ كَافِرٌ أَخْبَرَ عَنْهُ بِأَمَارَةٍ ادَّعَاهَا أَمْ لَا، وَكَذَلِكَ مَنْ قَالَ إِنَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي الرَّحِمِ فَإِنَّهُ كَافِرٌ، فَإِنْ لَمْ يَجْزِمْ، وَقَالَ: إِنَّ النَّوْءَ يَنْزِلُ بِهِ الْمَاءُ عَادَةً، وَإِنَّهُ سَبَبُ المَاء
_________
(1) - 2/ 98 - 99، الْمَائِدَة /51.
(2) - أخرجه مُسلم (4/1751) (2230) من حَدِيث صَفِيَّة عَنْ بَعْضِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم بِنَحْوِهِ.
(3) - أخرجه البُخَارِيّ (5/2294) (5859) ، وَمُسلم (4/1750) (2228) من حَدِيث عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا.(1/58)
عَادَةً، وَإِنَّهُ سَبَبُ الْمَاءِ عَلَى مَا قَدَّرَهُ وَسَبَقَ فِي عِلْمِهِ لَمْ يَكْفُرْ إِلَّا أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لَهُ أَلَّا يَتَكَلَّمَ بِهِ، فَإِنَّ فِيهِ تَشْبِيهًا بِكَلِمَةِ أَهْلِ الْكُفْرِ وَجَهْلًا بِلَطِيفِ حِكْمَتِهِ، لِأَنَّهُ يَنْزِلُ مَتَى شَاءَ مَرَّةً بِنَوْءِ كَذَا، وَمَرَّةً دُونَ النَّوْءِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: «أَصْبَحَ مِنْ عِبَادِي مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِرٌ بِالْكَوَاكِبِ» (1) عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ فِي الْوَاقِعَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَكَذَلِكَ قَوْلُ الطَّبِيبِ إِذَا كَانَ الثَّدْيُ الْأَيْمَنُ مُسْوَدَّ الْحَلَمَةِ، فَهُوَ ذَكَرٌ، وَإِنْ كَانَ فِي الثَّدْيِ الْأَيْسَرِ فَهُوَ أُنْثَى، وَإِنْ كَانَتِ الْمَرْأَةُ تَجِدُ الْجَنْبَ الْأَيْمَنَ أَثْقَلَ فَالْوَلَدُ أُنْثَى، وَادَّعَى ذَلِكَ عَادَةً لَا وَاجِبًا فِي الْخِلْقَةِ لَمْ يَكْفُرْ، وَلَمْ يَفْسُقْ.
وَأَمَّا مَنِ ادَّعَى الْكَسْبَ فِي مُسْتَقْبَلِ الْعُمْرِ فَهُوَ كَافِرٌ، أَوْ أَخْبَرَ عَنِ الْكَوَائِنِ الْمُجْمَلَةِ، أَوِ الْمُفَصَّلَةِ فِي أَنْ تَكُونَ قَبْلَ أَنْ تَكُونَ فَلَا رِيبَةَ فِي كُفْرِهِ أَيْضًا.
فَأَمَّا مَنْ أَخْبَرَ عَنْ كُسُوفِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ، فَقَدْ قَالَ عُلَمَاؤُنَا: يُؤَدَّبُ وَلَا يُسْجَنُ، أَمَّا عَدَمُ كُفْرِهِ فَلِأَنَّ جَمَاعَةً قَالُوا: إِنَّهُ أَمْرٌ يُدْرَكُ بِالْحِسَابِ وَتَقْدِيرِ الْمَنَازِلِ حَسْبَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ قَوْلِهِ: (وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ) .
وَأَمَّا أَدَبُهُمْ، فَلِأَنَّهُمْ يُدْخِلُونَ الشَّكَّ عَلَى الْعَامَّةِ، إِذْ لَا يَدْرُونَ الْفَرْقَ بَيْنَ هَذَا وَغَيْرِهِ فَيُشَوِّشُونَ عَقَائِدَهُمْ، وَيَتْرُكُونَ قَوَاعِدَهُمْ فِي الْيَقِينِ، فَأُدِّبُوا حَتَّى يَسْتُرُوا ذَلِكَ إِذَا عَرَفُوهُ وَلَا يُعْلِنُوا بِهِ.
قُلْتُ: وَمِنْ هَذَا الْبَابِ مَا جَاءَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ بَعْضِ أَزْوَاجِ النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ أَتَى عَرَّافًا فَسَأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلَاةٌ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً» (2) ، وَالْعَرَّافُ: هُوَ الْحَازِي وَالْمُنَجِّمُ الَّذِي يَدَّعِي عِلْمَ الْغَيْبِ، وَهِيَ الْعَرَافَةُ وَصَاحِبُهَا عَرَّافٌ، وَهُوَ الَّذِي يسْتَدلّ على الْأُمُور بِأَسْبَاب ومقدمات
_________
(1) - أخرجه البُخَارِيّ (1/290) (810) ، وَمُسلم (1/83) (71) من حَدِيث زيد بن خَالِد الْجُهَنِيّ.
(2) - سبق تَخْرِيجه آنِفا.(1/59)
يدَّعي مَعْرِفَتَهَا، وَقَدْ يَعْتَضِدُ بَعْضُ أَهْلِ هَذَا الْفَنِّ فِي ذَلِكَ بِالزَّجْرِ وَالطَّرْقِ وَالنُّجُومِ، وَأَسْبَابٍ مُعْتَادَةٍ فِي ذَلِكَ، وَهَذَا الْفَنُّ هُوَ الْعِيَافَةُ بِالْيَاءِ، وَكُلُّهَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهَا اسْمُ الْكِهَانَةِ، قَالَهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ.
وَالْكِهَانَةُ: ادِّعَاءُ عِلْمِ الْغَيْبِ.
قَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي (الْكَافِي) : مِنَ الْمَكَاسِبِ الْمُجْتَمَعِ عَلَى تَحْرِيمِهَا الرِّبَا، وَمُهُورُ الْبَغَايَا، وَالسُّحْتُ، وَالرِّشَا، وَأَخَذُ الْأُجْرَةِ عَلَى النِّيَاحَةِ، وَالْغِنَاءِ، وَعَلَى الْكِهَانَةِ، وَادِّعَاءِ الْغَيْبِ، وَأَخْبَارِ السَّمَاءِ، وَعَلَى الزَّمْرِ وَاللَّعِبِ وَالْبَاطِلُ كُلُّهُ. اهـ مِنَ الْقُرْطُبِيِّ بِلَفْظِهِ، وَقَدْ رَأَيْتُ تَعْرِيفَهُ لِلْعَرَّافِ وَالْكَاهِنِ.
وَقَالَ الْبَغَوِيُّ: الْعَرَّافُ الَّذِي يَدَّعِي مَعْرِفَةَ الْأُمُورِ بِمُقَدِّمَاتٍ يَسْتَدِلُّ بِهَا عَلَى الْمَسْرُوقِ، وَمَكَانِ الضَّالَّةِ
وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ تَيْمِيَّةَ: الْعَرَّافُ: اسْمٌ لِلْكَاهِنِ وَالْمُنَجِّمِ وَالرَّمَّالِ، وَنَحْوِهِمْ مِمَّنْ يَتَكَلَّمُ فِي
مَعْرِفَةِ الْأُمُورِ بِهَذِهِ الطُّرُقِ، وَالْمُرَادُ بِالطَّرْقِ: قِيلَ الْخَطُّ الَّذِي يَدَّعِي بِهِ الِاطِّلَاعَ عَلَى الْغَيْبِ، وَقِيلَ إِنَّهُ الضَّرْبُ بِالْحَصَى الَّذِي يَفْعَلُهُ النِّسَاءُ، وَالزَّجْرُ هُوَ الْعِيَافَةُ، وَهِيَ التَّشَاؤُمُ وَالتَّيَامُنُ بِالطَّيْرِ، وَادِّعَاءُ مَعْرِفَةِ الْأُمُورِ مِنْ كَيْفِيَّةِ طَيَرَانِهَا وَمَوَاقِعِهَا وَأَسْمَائِهَا وَأَلْوَانِهَا وَجِهَاتِهَا الَّتِي تَطِيرُ إِلَيْهَا.
وَمِنْهُ قَوْلُ عَلْقَمَةَ بْنِ عَبْدَةَ التَّمِيمِيِّ:
وَمَنْ تَعَرَّضَ لِلْغِرْبَانِ يَزْجُرُهَا ... عَلَى سَلَامَتِهِ لَا بُدَّ مَشْئُومُ
وَكَانَ أَشَدَّ الْعَرَبِ عِيَافَةً بَنُو لَهب حَتَّى قَالَ فيهم الشَّاعِر:
خَبِيرٌ بَنُو لَهَبٍ فَلَا تَكُ مُلْغِيًا ... مَقَالَةَ لَهَبِي إِذَا الطَّيْرُ مَرَّتِ
وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِ ناظم عَمُود النّسَب:(1/60)
فِي مَدْلَجِ بْنِ بَكْرٍ الْقِيَافَةُ ... كَمَا لِلَهَبٍ كَانَت العيافة
وَلَقَد صدق من قَالَ:
لَعَمْرُكَ مَا تَدْرِي الضَّوَارِبُ بِالْحَصَى ... وَلَا زَاجِرَاتُ الطَّيْرِ مَا اللَّهُ صَانِعُ
وَوَجْهُ تَكْفِيرِ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ لِمَنْ يَدَّعِي الِاطِّلَاعَ عَلَى الْغَيْبِ أَنَّهُ ادَّعَى لِنَفْسِهِ مَا اسْتَأْثَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ دُونَ خَلْقِهِ، وَكَذَّبَ الْقُرْآنَ الْوَارِدَ بِذَلِكَ كَقَوْلِه (قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِى السَّمَوَات والأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ) ، وَقَوْلِهِ هُنَا (وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَآ إِلاَّ هُوَ) وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَعَنِ الشَّيْخِ أَبِي عِمْرَانَ مِنْ عُلَمَاءِ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ حُلْوَانَ الْكَاهِنِ لَا يَحِلُّ لَهُ، وَلَا يُرَدُّ لِمَنْ أَعْطَاهُ لَهُ، بَلْ يَكُونُ لِلْمُسْلِمِينَ فِي نَظَائِرَ نَظَمَهَا، بَعْضُ عُلَمَاءِ الْمَالِكِيَّةِ بقوله:
وَأَيُّ مَالٍ حَرَّمُوا أَنْ يَنْتَفِعْ ... مَوْهُوبُهُ بِهِ وَرَدُّهُ مُنِعْ
حُلْوَانُ كَاهِنٌ وَأُجْرَةُ الْغِنَا ... وَنَائِحٌ وَرِشْوَةٌ مَهْرُ الزِّنَا
هَكَذَا قِيلَ. وَاللَّهُ تَعَالَى أعلم] (1) .
من زعم أَن الْخمر حَلَال:
[وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ الْخَمْرَ حَلَالٌ لِهَذِهِ الْآيَةِ - أَي قَوْلِهِ تَعَالَى: (قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً) الْآيَةِ - فَهُوَ كَافِرٌ بِلَا نِزَاعٍ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ] (2) .
من اعْتقد سُقُوط التكاليف إِذا بلغ العَبْد (الْيَقِين) الْمعرفَة:
[اعْلَمْ أَنَّ مَا يُفَسِّرُ بِهِ هَذِهِ الْآيَةَ الْكَرِيمَة - أَي قَوْله تَعَالَى: (وَاعْبُدْ رَبَّكَ
_________
(1) - 2/176 - 178، الْأَنْعَام / 59.
(2) - 2/221، الْأَنْعَام /145.(1/61)
حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) - بَعْضُ الزَّنَادِقَةِ الْكَفَرَةِ الْمُدَّعِينَ لِلتَّصَوُّفِ - مِنْ أَنَّ مَعْنَى الْيَقِينِ الْمَعْرِفَةَ بِاللَّهِ جَلَّ وَعَلَا، وَأَنَّ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ إِذَا وَصَلَ مِنَ الْمَعْرِفَةِ بِاللَّهِ إِلَى تِلْكَ الدَّرَجَةِ الْمُعَبَّرَ عَنْهَا بِالْيَقِينِ - أَنَّهُ تَسْقُطُ عَنْهُ الْعِبَادَاتُ وَالتَّكَالِيفُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْيَقِينَ هُوَ غَايَةُ الْأَمْرِ بِالْعِبَادَةِ.
إِنَّ تَفْسِيرَ الْآيَةِ بِهَذَا كُفْرٌ بِاللَّهِ وَزَنْدَقَةٌ، وَخُرُوجٌ عَنْ مِلَّةِ الْإِسْلَامِ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ. وَهَذَا النَّوْعُ لَا يُسَمَّى فِي الِاصْطِلَاحِ تَأْوِيلًا، بَلْ يُسمى لعباً. وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ هُمْ وَأَصْحَابُهُ هُمْ أَعْلَمُ النَّاسِ بِاللَّهِ، وَأَعْرُفُهُمْ بِحُقُوقِهِ وَصِفَاتِهِ وَمَا يَسْتَحِقُّ مِنَ التَّعْظِيمِ، وَكَانُوا مَعَ ذَلِكَ أَكْثَرَ النَّاسِ عِبَادَةً لِلَّهِ جَلَّ وَعَلَا، وَأَشَدَّهُمْ خَوْفًا مِنْهُ وَطَمَعًا فِي رَحْمَتِهِ. وَقَدْ قَالَ جَلَّ وَعَلَا: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى] (1) .
الشَّك فِي الْبَعْث:
[وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: (أَكَفَرْتَ بِالَّذِى خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ) بَعْدَ قَوْلِهِ: (وَمَآ أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً)
يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الشَّكَّ فِي الْبَعْثِ كُفْرٌ بِاللَّهِ تَعَالَى. وَقَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ «الرَّعْدِ» فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قولهمْ أَءِذَا كُنَّا تُرَابًا أَءِنَّا لَفِى خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ) ] (2) .
من ادَّعَى أَنَّهُ غَنِيٌّ فِي الْوُصُولِ إِلَى مَا يُرْضِي ربه عَن الرُّسُل فَلَا شكّ فِي زندقته:
[لَا يَخْفَى عَلَى مَنْ لَهُ إِلْمَامٌ بِمَعْرِفَةِ دِينِ الْإِسْلَام أَنه لَا طَرِيق تعرف بهَا
_________
(1) - 3/187 - 188، الْحجر /99.
(2) - 4/114، الْكَهْف / 37.(1/62)
أَوَامِرُ اللَّهِ وَنَوَاهِيهِ، وَمَا يُتَقَرَّبُ إِلَيْهِ بِهِ مِنْ فِعْلٍ وَتَرْكٍ إِلَّا عَنْ طَرِيقِ الْوَحْيِ. فَمَنِ ادَّعَى أَنَّهُ غَنِيٌّ فِي الْوُصُولِ إِلَى مَا يُرْضِي ربه عَن الرُّسُل، وَمَا جاؤوا بِهِ وَلَوْ فِي مَسْأَلَةٍ وَاحِدَةٍ فَلَا شَكَّ فِي زندقته] (1) .
ترك الصَّلَاة أَو مَا لَا تصح إِلَّا بِهِ جحُودًا:
[أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ تَارِكَ الصَّلَاةِ، الْجَاحِدَ لِوُجُوبِهَا كَافِرٌ، وَأَنَّهُ يُقْتَلُ كُفْرًا مَا لَمْ يَتُبْ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ تَرْكَ مَا لَا تَصِحُّ الصَّلَاة دونه كَالْوُضُوءِ وَغُسْلِ الْجَنَابَةِ كَتَرْكِهَا. وَجَحْدَ وَجُوبِهِ كَجَحْدِ وُجُوبهَا] (2) .
زعم أَن السَّمَاء فضاء لَا جرم مبْنى:
[هَذِهِ الْآيَاتُ الْمَذْكُورَةُ وَأَمْثَالُهَا فِي الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ: (وَيُمْسِكُ السَّمَآءَ أَن تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ) وَقَوْلِهِ: (إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَات وَالأَرْضَ أَن تَزُولاَ وَلَئِن زَالَتَآ إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ) وَقَوْلِهِ: (إِن نَّشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِّنَ السَّمَآءِ) وَقَوْلِهِ: (وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً) ، وَقَوْلِهِ: (وَالسَّمَآءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ) ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَجَعَلْنَا السَّمَآءَ سَقْفاً مَّحْفُوظاً) ، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ، يَدُلُّ دَلَالَةً وَاضِحَةً، عَلَى أَنَّ مَا يَزْعُمُهُ مَلَاحِدَةُ الْكَفَرَةِ، وَمَنْ قَلَّدَهُمْ مِنْ مَطْمُوسِي الْبَصَائِرِ مِمَّنْ يَدَّعُونَ الْإِسْلَامَ أَنَّ السَّمَاءَ فَضَاءٌ لَا جُرْمٌ مَبْنِيٌّ، أَنَّهُ كُفْرٌ وَإِلْحَادٌ وَزَنْدَقَةٌ، وَتَكْذِيبٌ لِنُصُوصِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَالْعلم عِنْد الله تَعَالَى] (3) .
_________
(1) - 4/174، الْكَهْف / 65.
(2) - 4/335، مَرْيَم /59 - 60.
(3) - 5/744، الْحَج / 65.(1/63)
قذف النَّبِي - صلى الله عَلَيْهِ وَسلم -، أَو أمه:
[ذكر غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ مَنْ قَذَفَ أُمّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ قَذَفَهُ هُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ ذَلِكَ رِدَّةٌ، وَخُرُوجٌ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ لَا يَخْفَى، وَأَنَّ حُكْمَهُ الْقَتْلُ] (1) .
التَّكْذِيب بالساعة:
[قَوْله تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ (وَأَعْتَدْنَا لِمَن كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً) يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّكْذِيبَ بالساعة
كفر مستوجب لنار جَهَنَّم] (2) .
إِسْنَاد التَّأْثِير للطبيعة:
[وَلَا شَكَّ أَنَّ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ أَبَى مِنْهُمْ إِلَّا كُفُورًا الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّ الْمَطَرَ لَمْ يُنَزِّلْهُ مُنَزِّلٌ هُوَ فَاعِلٌ مُخْتَارٌ، وَإِنَّمَا نَزَلَ بِطَبِيعَتِهِ، فَالْمُنَزِّلُ لَهُ عِنْدَهُمْ: هُوَ الطَّبِيعَةُ، وَأَنَّ طَبِيعَةَ الْمَاءِ التَّبَخُّرُ، إِذَا تَكَاثَرَتْ عَلَيْهِ دَرَجَاتُ الْحَرَارَةِ مِنَ الشَّمْسِ أَوْ الِاحْتِكَاكِ بِالرِّيحِ، وَأَنَّ ذَلِكَ الْبُخَارَ يَرْتَفِعُ بِطَبِيعَتِهِ، ثُمَّ يَجْتَمِعُ، ثُمَّ يَتَقَاطَرُ، وَأَنَّ تَقَاطُرَهُ ذَلِكَ أَمْرٌ طَبِيعِيٌّ لَا فَاعِلَ لَهُ، وَأَنَّهُ هُوَ الْمَطَرُ. فَيُنْكِرُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ فِي إِنْزَالِهِ الْمَطَرَ وَيُنْكِرُونَ دَلَالَةَ إِنْزَالِهِ عَلَى قُدْرَةِ مُنَزِّلِهِ، وَوُجُوبِ الْإِيمَانِ بِهِ وَاسْتِحْقَاقِهِ لِلْعِبَادَةِ وَحْدَهُ، فَمِثْلُ هَؤُلَاءِ دَاخِلُونَ فِي قَوْلِهِ (فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً) بَعْدَ قَوْلِهِ: (وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُواْ) . وَقَدْ صَرَّحَ فِي قَوْلِهِ: (وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ) أَنَّهُ تَعَالَى، هُوَ مُصَرِّفُ الْمَاءِ، وَمُنَزِّلُهُ حَيْثُ شَاءَ كَيْفَ شَاءَ. وَمِنْ قَبِيلِ هَذَا الْمَعْنَى: مَا ثَبَتَ فِي صَحِيح مُسلم من
_________
(1) - 6/125، النُّور / 4 - 5.
(2) - 6/285 - 286، الْفرْقَان / 11.(1/64)
حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ «صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصُّبْحَ بِالْحُدَيْبِيَةِ فِي أَثَرِ السَّمَاءِ كَانَتْ مِنَ اللَّيْلِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ فَقَالَ: هَلْ تَدْرُونَ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟ قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: قَالَ أَصْبَحَ مِنْ عِبَادِي مُؤْمِنٌ بِي، وَكَافِرٌ بِي: فَأَمَّا مَنْ قَالَ مُطِرْنَا بِفَضْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ، فَذَلِكَ مُؤْمِنٌ بِي كَافِرٌ بِالْكَوْكَبِ، وَأَمَّا مَنْ قَالَ: مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا، فَذَلِكَ كَافِرٌ بِي مُؤْمِنٌ بِالْكَوْكَبِ» هَذَا لَفْظُ مُسْلِمٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي صَحِيحِهِ (1) ، وَلَا شَكَّ أَنَّ مَنْ قَالَ: مُطِرْنَا بِبُخَارِ كَذَا مُسْنِدًا ذَلِكَ لِلطَّبِيعَةِ، أَنَّهُ كَافِرٌ بِاللَّهِ مُؤْمِنٌ بِالطَّبِيعَةِ وَالْبُخَارِ. وَالْعَرَبُ كَانُوا يَزْعُمُونَ أَنَّ بَعْضَ الْمَطَرِ أَصْلُهُ مِنَ الْبَحْرِ، إِلَّا أَنَّهُمْ يُسْنِدُونَ فِعْلَ ذَلِكَ لِلْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ جَلَّ وَعَلَا، وَمِنْ أَشْعَارِهِمْ فِي ذَلِكَ قَوْلُ طَرَفَةَ بْنِ الْعَبْدِ:
لَا تَلُمْنِي إِنَّهَا مِنْ نِسْوَةٍ ... رُقَّدِ الصَّيْفِ مَقَالِيتٍ نُزُرْ
كَبَنَاتِ الْبَحْرِ يَمْأَدْنَ إِذَا ... أَنْبَتَ الصَّيْفُ عَسَالِيجَ الْخُضَرْ
فَقَوْلُهُ: بَنَاتُ الْبَحْرِ يَعْنِي: الْمُزْنَ الَّتِي أَصْلُ مَائِهَا مِنَ الْبَحْرِ.
وَقَوْلُ أَبِي ذُؤَيْبٍ الْهُذَلِيِّ:
سَقَى أم عَمْرو كل آخر لَيْلَة ... حناتم غرماؤهن نجيج
شَرِبْنَ بِمَاءِ الْبَحْرِ ثُمَّ تَرَفَّعَتْ ... مَتَى لُجَجٌ خُضْرٌ لَهُنَّ نَئِيجُ
وَلَا شَكَّ أَنَّ خَالِقَ السَّمَوَات وَالْأَرْضِ جَلَّ وَعَلَا، هُوَ مُنَزِّلُ الْمَطَرِ عَلَى الْقَدْرِ الَّذِي يَشَاءُ كَيْفَ يَشَاءُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا] (2) .
وَقَالَ أَيْضا: [قد أوضح تَعَالَى أَن اخْتِلَاف ألوان الْآدَمِيّين وَاخْتِلَاف ألوان
_________
(1) - سبق تَخْرِيجه آنِفا.
(2) - 5/786 - 787، الْمُؤْمِنُونَ / 18، وَانْظُر: 6/ 335، 336، الْفرْقَان /60.(1/65)
الْجِبَالِ، وَالثِّمَارِ، وَالدَّوَابِّ، وَالْأَنْعَامِ، كُلُّ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِهِ الدالَّة عَلَى كَمَالِ قُدْرَتِهِ، وَاسْتِحْقَاقِهِ لِلْعِبَادَةِ وَحْدَهُ، قَالَ تَعَالَى: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أنَزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِك) ، وَاخْتِلَافُ الْأَلْوَانِ الْمَذْكُورَةِ مِنْ غَرَائِبِ صُنْعِهِ تَعَالَى وَعَجَائِبِهِ، وَمِنَ الْبَرَاهِينَ الْقَاطِعَةِ عَلَى أَنَّهُ هُوَ الْمُؤَثِّرُ جلَّ وَعَلَا، وَأَنَّ إِسْنَادَ التَّأْثِيرِ لِلطَّبِيعَةِ مِنْ أَعْظَمِ الْكُفْرِ والضلال] (1) .
الظَّن بِاللَّه مَا لَا يَلِيق:
[وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ: (فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنَ النَّارِ) يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ ظَنَّ بِاللَّهِ مَا لَا يَلِيقُ بِهِ جَلَّ وَعَلَا، فَلَهُ النَّارُ، وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّ مَنْ ظَنَّ بِاللَّهِ مَا لَا يَلِيقُ بِهِ أَرْدَاهُ وَجَعَلَهُ مِنَ الْخَاسِرِينَ، وَجَعَلَ النَّارَ مَثْوَاهُ. وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَلكن ظَنَنتُمْ أَنَّ اللَّهَ لاَ يَعْلَمُ كَثِيراً مِّمَّا تَعْمَلُونَ وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِى ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِّنَ الُخَاسِرِين َفَإِن يَصْبِرُواْ فَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ) الْآيَة] (2) .
الْخَوْف من الْأَصْنَام:
[وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْخَوْفَ مِنْ تِلْكَ الْأَصْنَامِ مَنْ أشنع أَنْوَاع الْكفْر والإشراك بِاللَّه] (3) .
قَول: الْمَوْلُود لَهُ معبود، أَو الْمَوْلُود معبود:
[لَو قُلْتَ: الْمَوْلُودُ لَهُ مَعْبُودٌ، أَوِ الْمَوْلُودُ مَعْبُودٌ. قلت الْبَاطِل الَّذِي هُوَ
_________
(1) - 6/486، الرّوم / 22.
(2) - 7/ 28، ص/27.
(3) - 7/57، الزمر / 36.(1/66)
الْكفْر البواح] (1) .
طَاعَة مَنْ كَرِهَ مَا نَزَّلَ اللَّهُ فِي مُعَاوَنَتِهِ لَهُ عَلَى كَرَاهَتِهِ وَمُؤَازَرَتِهِ لَهُ عَلَى ذَلِكَ الْبَاطِل:
[وَالْآيَة الْكَرِيمَةِ - (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لِلَّذِينَ كَرِهُواْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِى بَعْضِ الأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ) - تَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَنْ أَطَاعَ مَنْ كَرِهَ مَا نَزَّلَ اللَّهُ فِي مُعَاوَنَتِهِ لَهُ عَلَى كَرَاهَتِهِ وَمُؤَازَرَتِهِ لَهُ عَلَى ذَلِكَ الْبَاطِلِ، أَنَّهُ كَافِرٌ بِاللَّهِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى فِيمَنْ كَانَ كَذَلِكَ (فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُواْ مَآ أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُواْ رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ) ] (2) .
عَدَمَ احْتِرَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمشعر بالغض مِنْهُ أَو تنقيصه وَالِاسْتِخْفَاف بِهِ أَو الِاسْتِهْزَاء بِهِ:
[اعْلَمْ أَنَّ عَدَمَ احْتِرَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُشْعِرَ بِالْغَضِّ مِنْهُ أَوْ تَنْقِيصَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَالِاسْتِخْفَافَ بِهِ أَوِ الِاسْتِهْزَاءَ بِهِ رِدَّةٌ عَنِ الْإِسْلَامِ وَكُفْرٌ بِاللَّهِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي الَّذِينَ اسْتَهْزَءُوا بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَخِرُوا مِنْهُ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ لَمَّا ضَلَّتْ رَاحِلَتُهُ: (وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ
وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِءُونَ لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ) ] (3) .
مَسْأَلَة: هَل الْكفَّار مخاطبون بِفُرُوع الشَّرِيعَة:
[قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لاَ يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم
_________
(1) - 7/298، الزخرف /81.
(2) - 7/587، مُحَمَّد /28.
(3) - 7/617، الحجرات / 2.(1/67)
بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ) قَدِ اسْتَدَلَّ بَعْضُ عُلَمَاءِ الْأُصُولِ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، عَلَى أَنَّ الْكُفَّارَ مُخَاطَبُونَ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى صَرَّحَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، بِأَنَّهُمْ مُشْرِكُونَ، وَأَنَّهُمْ كَافِرُونَ بِالْآخِرَةِ، وَقَدْ تَوَعَّدَهُمْ بِالْوَيْلِ عَلَى شِرْكِهِمْ وَكُفْرِهِمْ بِالْآخِرَةِ، وَعَدَمِ إِيتَائِهِمُ الزَّكَاةَ، سَوَاءٌ قُلْنَا إِنَّ الزَّكَاةَ فِي الْآيَةِ هِيَ زَكَاةُ الْمَالِ الْمَعْرُوفَةُ، أَوْ زَكَاةُ الْأَبْدَانِ بِفِعْلِ الطَّاعَاتِ وَاجْتِنَابِ الْمَعَاصِي، وَرَجَّحَ بَعْضُهُمُ الْقَوْلَ الْأَخِيرَ لِأَنَّ سُورَةَ فُصِّلَتْ هَذِهِ، مِنَ الْقُرْآنِ النَّازِلِ بِمَكَّةَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ، وَزَكَاةُ الْمَالِ الْمَعْرُوفَةُ إِنَّمَا فُرِضَتْ بَعْدَ الْهِجْرَةِ سنة اثْنَتَيْنِ.
وَعَلَى كُلِّ حَالٍ، فَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى خِطَابِ الْكُفَّارِ بِفُرُوعِ الْإِسْلَامِ، أَعْنِي امْتِثَالَ أَوَامِرِهِ وَاجْتِنَابَ نَوَاهِيهِ، وَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ، مِنْ كَوْنِهِمْ مُخَاطَبِينَ بِذَلِكَ وَأَنَّهُمْ يُعَذَّبُونَ عَلَى الْكُفْرِ، وَيُعَذَّبُونَ عَلَى الْمَعَاصِي، جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ أُخَرَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى عَنْهُمْ مُقَرِّرًا لَهُ: (مَا سَلَكَكُمْ فِى سَقَرَ قَالُواْ لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الُخَآئِضِينَ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ) فَصَرَّحَ تَعَالَى عَنْهُمْ، مُقَرِّرًا لَهُ أَنَّ مِنَ الْأَسْبَابِ الَّتِي سَلَكَتْهُمْ فِي سَقَرَ، أَيْ أَدْخَلَتْهُمُ النَّارَ، عَدَمُ الصَّلَاةِ، وَعَدَمُ إِطْعَامِ الْمِسْكِينِ، وَعْدَّ ذَلِكَ مَعَ الْكُفْرِ بِسَبَبِ التَّكْذِيبِ بِيَوْمِ الدِّينِ، وَنَظِيرُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ ثُمَّ فِى سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاْسْلُكُوهُ) ثُمَّ بَيَّنَ سَبَبَ ذَلِكَ فَقَالَ: (إِنَّهُ كَانَ لاَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ وَلاَ يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ وَلاَ طَعَامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ) إِلَى غَيْرِ ذَلِك من الْآيَات] (1) .
_________
(1) - 7/114 - 115، فصلت / 6، 7، وَانْظُر: (4/129، الْكَهْف / 49) ، (5/72، الْحَج /27) ، (8/445، 446، الحاقة/33: 34) ، (8/626، 627، المدثر/42: 47) ، (8/692، المرسلات /49) . -(1/68)
فصل: الْإِيمَان شَرط فِي قبُول الْعَمَل:
[قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأولئك كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا) . ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَن (وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا) أَيْ عَمِلَ لَهَا عَمَلَهَا الَّذِي تَنَالُ بِهِ، وَهُوَ امْتِثَالُ أَمْرِ اللَّهِ، وَاجْتنَابُ نَهْيِهِ بِإِخْلَاصٍ عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ (وَهُوَ مُؤْمِنٌ) أَيْ مُوَحِّدٌ لِلَّهِ جَلَّ وَعَلَا، غَيْرُ مُشْرِكٍ بِهِ وَلَا كَافِرٍ بِهِ، فَإِنَّ اللَّهَ يَشْكُرُ سَعْيَهُ، بِأَنْ يُثِيبَهُ الثَّوَابَ الْجَزِيلَ عَنْ عَمَلِهِ الْقَلِيلِ.
وَفِي الْآيَةِ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ لَا تَنْفَعُ إِلَّا مَعَ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ، لِأَنَّ الْكُفْرَ سَيِّئَةٌ لَا تَنْفَعُ مَعَهَا
حَسَنَةٌ، لِأَنَّهُ شَرَطَ فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ (وَهُوَ مُؤْمِنٌ) ، وَقَدْ أَوْضَحَ تَعَالَى هَذَا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ: كَقَوْلِهِ (وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتَ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأولئك يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيراً) ، وَقَوْلُهُ: (مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) وَقَوْلُهُ: (مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأولئك يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ) إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ، وَمَفْهُومُ هَذِهِ الْآيَاتِ - أَنَّ غَيْرَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا أَطَاعَ اللَّهَ بِإِخْلَاصٍ لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ، لِفَقْدِ شَرْطِ الْقَبُولِ الَّذِي هُوَ الْإِيمَانُ بِاللَّهِ جَلَّ وَعَلَا.
وَقَدْ أَوْضَحَ جَلَّ وَعَلَا هَذَا الْمَفْهُومَ فِي آيَاتٍ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ فِي أَعْمَالِ غَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ: (وَقَدِمْنَآ إِلَى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً) ،(1/69)
وَقَوله: (مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ) ، وَقَوْلُهُ: (وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَآءً حَتَّى إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً) ، إِلَى غير ذَلِك من الْآيَات] (1) .
مسَائِل مُتَعَلقَة بِهَذَا الْفَصْل:
الرِّدَّة تبطل الْعَمَل مَا لم يتب مِنْهَا:
[قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِى الآخِرَةَ مِنَ الْخَاسِرِينَ) ظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ المُرتد يُحْبِطُ جَمِيعَ عَمَلِهِ بِرِدَّتِهِ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ زَائِدٍ، وَلَكِنَّهُ أَشَارَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ فِيمَا إِذَا مَاتَ عَلَى الْكُفْرِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: (وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ) ، وَمُقْتَضَى الْأُصُولِ حَمْلُ هَذَا الْمُطْلَقِ عَلَى هَذَا الْمُقَيَّدِ، فَيُقَيِّدُ إِحْبَاطَ الْعَمَلِ بِالْمَوْتِ عَلَى الْكُفْرِ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَمَنْ وَافَقَهُ، خِلَافًا لِمَالِكٍ الْقَائِلِ بِإِحْبَاطِ الرِّدَّةِ الْعَمَلَ مُطْلَقًا، وَالْعِلْمُ عِنْد الله تَعَالَى] (2) .
تَوْبَة الْمُشرك:
[قَوْله تَعَالَى: (وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَآءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِى بِهِ الرِّيحُ فِى مَكَانٍ سَحِيقٍ) . بَيَّنَ تَعَالَى فِي هَذِه الْآيَة الْكَرِيمَة: أَن من
_________
(1) - 3/448 - 449، بني إِسْرَائِيل/19، وَانْظُر (1/10-11، الْمُقدمَة) ، (2/93، الْمَائِدَة /45) ، (3/97، إِبْرَاهِيم /18) ، (3/321 - 322، النَّحْل /97) ، (4/9، 10، الْكَهْف /1: 5) ، (6/242، 243، النُّور /39) ، (7/284، الزخرف/72) ، (7/414، مُحَمَّد /1: 3) .
(2) - 2 /7، الْمَائِدَة / 5، وَانْظُر (4/211، الْكَهْف /105) .(1/70)
أَشْرَكَ بِاللَّهِ غَيْرَهُ أَيْ وَمَاتَ وَلَمْ يَتُبْ مِنْ ذَلِكَ فَقَدْ وَقَعَ فِي هَلَاكٍ، لَا خَلَاصَ مِنْهُ بِوَجْهٍ وَلَا نَجَاةَ مَعَهُ بِحَالٍ، لِأَنَّهُ شَبَّهَهُ بِالَّذِي خَرَّ: أَيْ سَقَطَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ، فَتَمَزَّقَتْ أَوْصَالُهُ، وَصَارَتِ الطَّيْرُ تَتَخَطَّفُهَا وَتَهْوِي بِهَا الرِّيحُ فَتُلْقِيهَا فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ: أَيْ مَحَلٍّ بَعِيدٍ لِشِدَّةِ هُبُوبِهَا بِأَوْصَالِهِ الْمُتَمَزِّقَةِ، وَمَنْ كَانَتْ هَذِهِ صِفَتُهُ فَإِنَّهُ لَا يُرْجَى لَهُ خَلَاصٌ وَلَا يُطْمَعُ لَهُ فِي نَجَاةٍ، فَهُوَ هَالِكٌ لَا مَحَالَةَ، لِأَنَّ مَنْ خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ لَا يَصِلُ الْأَرْضَ عَادَةً إِلَّا مُتَمَزِّقَ الْأَوْصَالِ، فَإِذَا خَطَفَتِ الطَّيْرُ أَوْصَالَهُ وَتَفَرَّقَ فِي حَوَاصِلِهَا، أَوْ أَلْقَتْهُ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ بَعِيدٍ فَهَذَا هَلَاكٌ مُحَقَّقٌ لَا مَحِيدَ عَنْهُ.
وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ هَلَاكِ مَنْ أَشْرَكَ بِاللَّهِ وَأَنَّهُ لَا يُرْجَى لَهُ خَلَاصٌ، جَاءَ مُوَضَّحًا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ كَقَوْلِهِ: (إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ) . وَكَقَوْلِهِ: (قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ) وَقَوْلُهُ: (إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ) فِي الْمَوْضِعَيْنِ مِنْ سُورَةِ النِّسَاءِ، وَالْخَطْفُ: الْأَخْذُ بِسُرْعَةٍ. وَالسَّحِيقُ: الْبَعِيدُ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَسُحْقًا لأَصْحَابِ السَّعِيرِ) أَيْ بُعْدًا لَهُمْ.
وَقَدْ دَلَّتْ آيَاتٌ أُخَرُ عَلَى أَنَّ مَحَلَّ هَذَا الْهَلَاكِ الَّذِي لَا خَلَاصَ مِنْهُ بِحَالِ الْوَاقِعِ بِمَنْ يُشْرِكُ بِاللَّهِ، إِنَّمَا هُوَ فِي حَقِّ مَنْ مَاتَ عَلَى ذَلِكَ الْإِشْرَاكِ، وَلَمْ يَتُبْ مِنْهُ قَبْلَ حُضُورِ الْمَوْتِ. أَمَّا مَنْ تَابَ مِنْ شِرْكِهِ قَبْلَ حُضُورِ الْمَوْتِ، فَإِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ لَهُ، لِأَنَّ الْإِسْلَامَ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ.
وَالْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى ذَلِكَ مُتَعَدِّدَةٌ كَقَوْلِهِ: (قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغْفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ) وَقَوْلِهِ: (وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ) إِلَى قَوْلِهِ: (إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأولئك يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ) وَقَوْلِهِ فِي الَّذِينَ (قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ(1/71)
وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) وَقَوْلِهِ: (وَإِنِّى لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحَاً) . إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَأَمَّا إِنْ كَانَتْ تَوْبَتُهُ مِنْ شِرْكِهِ عِنْدَ حُضُورِ الْمَوْتِ، فَإِنَّهَا لَا تَنْفَعُهُ، وَقَدْ دَلَّتْ عَلَى ذَلِكَ آيَاتٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ) فَقَدْ دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْمَوْتِ عَلَى الْكُفْرِ وَالتَّوْبَةِ مِنْهُ، عِنْدَ حُضُورِ الْمَوْتِ وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: (فَلَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا قَالُواْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا) وَكَقَوْلِهِ فِي فِرْعَوْنَ: (حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ المُسْلِمِينَ آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) .] (1) .
إِيمَان الْكفَّار لَا يَنْفَعهُمْ بعد مُعَاينَة الْعَذَاب:
[قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ) . التَّحْقِيقُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، فِي مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، أَنَّ الْكُفَّارَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ، يَتَذَكَّرُونَ وَيُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ، وَأَنَّ الْإِيمَانَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ لَا يَنْفَعُهُمْ لِفَوَاتِ وَقْتِهِ، فَقَوْلُهُ (ذِكْرَاهُمْ) مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ (فَأَنَّى لَهُمْ) أَيْ كَيْفَ تَنْفَعُهُمْ ذِكْرَاهُمْ وَإِيمَانُهُمْ بِاللَّهِ، وَقَدْ فَاتَ الْوَقْتُ الَّذِي يُقْبَلُ فِيهِ الْإِيمَانُ، وَالضَّمِيرُ الْمَرْفُوعُ فِي (جَاءَتْهُمْ) عَائِدٌ إِلَى السَّاعَةِ الَّتِي هِيَ الْقِيَامَةُ.
وَهَذَا الْمَعْنَى، الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ، مِنْ أَنَّ الْكُفَّارَ يَوْم الْقِيَامَة
_________
(1) - 5/690: 692، الْحَج /31.(1/72)
يُؤْمِنُونَ، وَلَا يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى (وَقَالُواْ آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِن مَّكَانِ بَعِيدٍ) ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَجِىءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى) . فَظَهَرَ أَنَّ قَوْلَهُ (فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ) عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ أَنَّى لَهُمْ نَفْعُ ذِكْرَاهُمْ.
وَالذِّكْرَى اسْمُ مَصْدَرٍ بِمَعْنَى الِاتِّعَاظِ الْحَامِل على الْإِيمَان] (1) .
[قَوْلُهُ تَعَالَى: (يَوْمَ يَأْتِى تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَآءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَآءَ فَيَشْفَعُواْ لَنَآ أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِى كُنَّا نَعْمَلُ) بَيَّنَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ الْكَفَّارَ، إِذَا عَايَنُوا الْحَقِيقَةَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُقِرُّونَ بِأَن الرُّسُل جَاءَت بِالْحَقِّ ... وَبَيَّنَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ أَنَّ اعْتِرَافَهُمْ هَذَا بِقَوْلِهِمْ: (قَدْ جَآءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ) لَا يَنْفَعُهُمْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (فَاعْتَرَفُواْ بِذَنبِهِمْ فَسُحْقًا لأَصْحَابِ السَّعِيرِ) ، وَقَوْلِهِ: (قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ) ، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ] (2) .
وَقد أحَال صَاحب التَّتِمَّة على هَذَا الْكَلَام للشَّيْخ - رَحمَه الله - ثمَّ قَالَ: [وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْأَصْلَ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ أَنَّ اعْتِرَافَهُمْ وَإِيمَانَهُمْ بَعْدَ فَوَاتِ الْأَوَانِ بِالْمُعَايَنَةِ كَمَا جَاءَ فِي حَقِّ فِرْعَوْنَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرائيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ) ، فَقِيلَ لَهُ: (آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) .
وَجَاءَ أَصْرَحَ مَا يَكُونُ فِي قَوْلِهِ: (يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْساً
_________
(1) - 7/426 - 427، مُحَمَّد/ 18.
(2) - 2/270: 272، الْأَعْرَاف / 53، وَانْظُر (6/628، سبأ / 52) ، (4/301: 303، مَرْيَم / 38) .(1/73)
إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرا) .
فَلَمَّا جَاءَ بَعْضُ آيَاتِ اللَّهِ وَظَهَرَ الْحَقُّ، لَمْ يَكُنْ لِلْإِيمَانِ مَحَلٌّ بَعْدَ الْمُعَايَنَةِ (لَا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا) أَيْ مِنْ قَبْلِ الْمُعَايَنَةِ كَحَالَةِ فِرْعَوْنَ الْمَذْكُورَةِ، لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْإِيمَانِ التَّصْدِيقُ بِالْمُغَيَّبَاتِ، فَإِذَا عَايَنَهَا لَمْ تَكُنْ حِينَذَاكَ غَيْبًا، فَيَفُوتُ وَقْتُ الْإِيمَانِ، وَالْعلم عِنْد الله، وَعَلِيهِ حَدِيث التَّوْبَة: فَلم (1) يُغَرْغر (2) ] (3) .
لَا نَسْتَغْفِر للْمُشْرِكين:
[قَوْله: (سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي) وَعْدٌ مِنْ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ بِاسْتِغْفَارِهِ لَهُ، وَقَدْ وَفَّى بِذَلِكَ الْوَعْدِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْهُ: (وَاغْفِرْ لأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ) ، وَكَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْهُ: (رَبَّنَا اغْفِرْ لِى وَلِوَالِدَىَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ) وَلَكِن الله بَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ، وَلَمْ يَسْتَغْفِرْ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: (فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ) ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: (وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَآ إِيَّاهُ) وَالْمَوْعِدَةُ الْمَذْكُورَةُ هِيَ قَوْلُهُ هُنَا (سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي) الْآيَةَ. وَلَمَّا اقْتَدَى الْمُؤْمِنُونَ بِإِبْرَاهِيمَ فَاسْتَغْفَرُوا لِمَوْتَاهُمُ الْمُشْرِكِينَ، وَاسْتَغْفَرَ النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ - أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِمْ (مَا كَانَ لِلنَّبِىِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِى قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ
_________
(1) - كَذَا بِالْأَصْلِ، وَالصَّوَاب: "مَا لم يُغَرْغر".
(2) - أخرجه التِّرْمِذِيّ (5/547) (3537) ، وَقَالَ: حسن غَرِيب، وَأحمد (2/132) ، وَحسنه الشَّيْخ الألباني - رَحمَه الله -، والأرناؤوط.
(3) - 8/398 - 399، الْملك / 11.(1/74)
أَصْحَابُ الْجَحِيمِ) . ثُمَّ قَالَ: (وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ) . وبيَّن فِي سُورَةِ «الْمُمْتَحِنَةِ» أَنَّ الِاسْتِغْفَارَ لِلْمُشْرِكِينَ مُسْتَثْنًى مِنَ الْأُسْوَةِ بِإِبْرَاهِيمَ، وَالْأُسْوَةُ: الِاقْتِدَاءُ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا) إِلَى قَوْلِهِ (إِلاَّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ) ، أَيْ فَلَا أُسْوَةَ لَكُمْ فِي إِبْرَاهِيمَ فِي ذَلِكَ.
وَلَمَّا نَدِمَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى اسْتِغْفَارِهِمْ للْمُشْرِكين حِين قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ: (مَا كَانَ لِلنَّبِىِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ) بيَّن اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُمْ مَعْذُورُونَ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُبَيِّنْ لَهُمْ مَنْعَ ذَلِكَ قَبْلَ فِعْلِهِ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ) ] (1) .
أَعمال الْكَافِر الصَّالِحَة قد يجازى بهَا فِي الدُّنْيَا:
[الْقُرْآن وَالسُّنَّةُ الصَّحِيحَةُ، قَدْ دَلَّا عَلَى أَنَّ الْكَافِرَ إِنْ عَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا مُطَابِقًا لِلشَّرْعِ، مُخْلِصًا فِيهِ لِلَّهِ، كَالْكَافِرِ الَّذِي يَبَرُّ وَالِدَيْهِ، وَيَصِلُ الرَّحِمَ وَيَقْرِي الضَّيْفَ، وَيُنَفِّسُ عَنِ الْمَكْرُوبِ، وَيُعِينُ الْمَظْلُومَ يَبْتَغِي بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ يُثَابُ بِعَمَلِهِ فِي دَارِ الدُّنْيَا خَاصَّةً بِالرِّزْقِ وَالْعَافِيَةِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ وَلَا نَصِيبَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ، فَمِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (مَن كَانَ يُرِيدُ الْحياةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِى الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِى الآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ) وَقَدْ قَيَّدَ تَعَالَى هَذَا الثَّوَابَ الدُّنْيَوِيَّ الْمَذْكُورَ فِي الْآيَاتِ بِمَشِيئَتِهِ وَإِرَادَتِهِ، فِي قَوْله تَعَالَى: (مَّن كَانَ يُرِيدُ
_________
(1) - 4/310 - 311، مَرْيَم / 47.(1/75)
الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَآءُ لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا) .
وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مُؤْمِنًا حَسَنَةً يُعْطَى بِهَا فِي الدُّنْيَا وَيُجْزَى بِهَا فِي الْآخِرَةَ، وَأَمَّا الْكَافِرُ فَيُطْعَمُ بِحَسَنَاتِهِ مَا عَمِلَ بِهَا لِلَّهِ فِي الدُّنْيَا حَتَّى إِذَا أَفْضَى إِلَى الْآخِرَةِ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَةٌ يُجْزَى بِهَا» (1) هَذَا لَفَظُ مُسْلِمٍ فِي صَحِيحِهِ.
وَفِي لَفْظٍ لَهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الْكَافِرَ إِذَا عَمِلَ حَسَنَةً أُطْعِمُ بِهَا طُعْمَةً فِي الدُّنْيَا، وَأَمَّا الْمُؤْمِنُ فَإِنَّ اللَّهَ يَدَّخِرُ لَهُ حَسَنَاتِهِ فِي الْآخِرَةِ وَيُعْقِبُهُ رِزْقًا فِي الدُّنْيَا عَلَى طَاعَتِهِ» (2) اهـ.
فَهَذَا الْحَدِيثُ الثَّابِتِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ التَّصْرِيحُ، بِأَنَّ الْكَافِرَ يُجَازَى بِحَسَنَاتِهِ فِي الدُّنْيَا فَقَطْ، وَأَنَّ الْمُؤْمِنُ يُجَازَى بِحَسَنَاتِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مَعًا، وَبِمُقْتَضَى ذَلِكَ يَتَعَيَّنُ تَعْيِينًا لَا مَحِيصَ عَنْهُ، أَنَّ الَّذِي أَذْهَبَ طَيِّبَاتِهِ فِي الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعَ بِهَا هُوَ الْكَافِرُ، لِأَنَّهُ لَا يُجْزَى بِحَسَنَاتِهِ إِلَّا فِي الدُّنْيَا خَاصَّة] (3) .
هَل ينْتَفع الْكَافِر إِذا أسلم بِعَمَلِهِ الصَّالح الَّذِي عمله حَال كفره:
قَالَ صَاحب التَّتِمَّة - رَحمَه الله -: [قد بَحَثَ الْعُلَمَاءُ مَوْضُوعَ عَمَلِ الْكَافِرِ الَّذِي عَمِلَهُ حَالَةَ كُفْرِهِ ثُمَّ أَسْلَمَ، هَلْ يَنْتَفِعُ بِهِ بَعْدَ إِسْلَامِهِ أَمْ لَا؟
وَالرَّاجِحُ: أَنَّهُ يَنْتَفِعُ بِهِ، كَمَا ذَكَرَ الْقُرْطُبِيُّ أَنَّ حَكِيمَ بْنَ حزَام بعد مَا
_________
(1) - أخرجه مُسلم (4/2162) (56 - 2808) .
(2) - الْموضع السَّابِق رقم (57 - 2808) .
(3) - 7/393 - 395، الْأَحْقَاف /20، وَانْظُر (3/449 - 450، بني إِسْرَائِيل / 19) ، (4/393، مَرْيَم / 76) ، (6/242، 243، النُّور / 39) .(1/76)
أَسْلَمَ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا كُنَّا نَتَحَنَّثُ بِأَعْمَالٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَهَلْ لَنَا مِنْهَا شئ؟ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (أَسْلَمْتَ عَلَى مَا أَسْلَفْتَ مِنَ الْخَيْرِ) (1) ، وَحَدِيثُ عَائِشَةَ قَالَتْ: (يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ ابْنَ جُدْعَانَ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَصِلُ الرَّحِمَ وَيُطْعِمُ الطَّعَامَ وَيَفُكُّ الْعَانِيَ وَيُعْتِقُ الرِّقَابَ، وَيَحْمِلُ عَلَى إِبِلِهِ لِلَّهِ، فَهَلْ يَنْفَعُهُ ذَلِكَ شَيْئًا؟ قَالَ: لَا، إِنَّهُ لَمْ يَقُلْ يَوْمًا: رَبِّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ) (2) .
وَمَفْهُومُهُ أَنَّهُ لَوْ قَالَهَا، أَيْ لَوْ أَسْلَمَ فَقَالَهَا كَانَ يَنْفَعهُ، وَالله تَعَالَى أعلم] (3) .
هَل يقْضِي الْكَافِر وَالْمُرْتَدّ مَا تركاه من الْعِبَادَات حَال كفرهما؟
[اعْلَم أَوَّلًا أَنَّ الْكَافِرَ تَارَةً يَكُونُ كَافِرًا أَصْلِيًّا لَمْ يَسْبِقْ عَلَيْهِ إِسْلَامٌ، وَتَارَةً يَكُونُ كَافِرًا بِالرِّدَّةِ عَنْ دِينِ الْإِسْلَامِ بَعْدَ أَنْ كَانَ مُسْلِمًا.
أَمَّا الْكَافِرُ الْأَصْلِيُّ فَلَا يَلْزَمُهُ قَضَاءُ مَا تَرَكَهُ مِنَ الْعِبَادَاتِ فِي حَالِ كُفْرِهِ وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: (قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغْفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ) وَقَدْ أَسْلَمَ فِي عَصْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَلْقٌ كَثِيرٌ فَلَمْ يَأْمُرْ أَحَدًا مِنْهُمْ بِقَضَاءِ شَيْءٍ فَائِتٍ فِي كُفْرِهِ.
وَأَمَّا الْمُرْتَدُّ فَفِيهِ خِلَافٌ بَيْنِ الْعُلَمَاءِ مَعْرُوفٌ. قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: لَا يَلْزَمُهُ قَضَاءُ مَا تَرَكَهُ فِي زَمَنِ رِدَّتِهِ، وَلَا فِي زَمَنِ إِسْلَامِهِ قَبْلَ رِدَّتِهِ؛ لِأَنَّ الرِّدَّةَ تُحْبِطُ جَمِيعَ عَمَلِهِ وَتَجْعَلُهُ كَالْكَافِرِ الْأَصْلِيِّ عِيَاذًا بِاللَّهِ تَعَالَى؛ وَإِن كَانَ قد
_________
(1) - أخرجه البُخَارِيّ (2/521) (1269) ، وَمُسلم (1/113) (123) .
(2) - أخرجه مُسلم (1/196) (214) .
(3) - 9/232 - 233، الْبَلَد / 17.(1/77)
حَجَّ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ أَبْطَلَتْهَا رِدَّتُهُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ؛ فَعَلَيْهِ إِعَادَتُهَا إِذَا رَجَعَ إِلَى الْإِسْلَامِ. وَتَمَسَّكَ مَنْ قَالَ بِهَذَا بِظَاهِرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) ، وَقَوْلِهِ (وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِى الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) . وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: يَلْزَمُهُ قَضَاءُ مَا تَرَكَهُ مِنَ الْعِبَادَاتِ فِي زَمَنِ رِدَّتِهِ وَزَمَنِ إِسْلَامِهِ قَبْلَ رِدَّتِهِ، وَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ إِعَادَةُ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّ الرِّدَّةَ لَمْ تُبْطِلْهَا. وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ بِهَذَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأولئك حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ) . فَجَعَلَ الْمَوْتَ عَلَى الْكُفْرِ شَرْطًا فِي حُبُوطِ الْعَمَلِ. وَبِالْأَوَّلِ قَالَ مَالِكٌ وَمَنْ وَافَقَهُ. وَبِالثَّانِي قَالَ الشَّافِعِيُّ وَمَنْ وَافَقَهُ. وَهُمَا رِوَايَتَانِ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ. وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ: أَنَّ قَوْلَ الشَّافِعِيِّ وَمَنْ وَافَقَهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَجْرَى عَلَى الْأُصُولِ؛ لِوُجُوبِ حَمْلُ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا اتَّحَدَ الحكم وَالسَّبَب كَمَا هُنَا] (1) .
_________
(1) - 4/356 - 357، مَرْيَم / 59 - 60.(1/78)
بَاب تَوْحِيد الربوبية
مُقَدّمَة فِي بَيَان أَقسَام التَّوْحِيد:
[دَلَّ اسْتِقْرَاءُ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ عَلَى أَنَّ تَوْحِيدَ اللَّهِ يَنْقَسِمُ إِلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
الْأَوَّلُ ـ تَوْحِيدُهُ فِي رُبُوبِيَّتِهِ، وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ التَّوْحِيدِ جُبِلَتْ عَلَيْهِ فِطْرُ الْعُقَلَاءِ، قَالَ تَعَالَى: (وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ) ، وَقَالَ: (قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَآءِ وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَىَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَىِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ) . وَإِنْكَارُ فِرْعَوْنَ لِهَذَا النَّوْعِ مِنَ التَّوْحِيدِ فِي قَوْلِهِ: (قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ) تَجَاهُلٌ من عَارِفٍ أَنَّهُ عَبْدٌ مَرْبُوبٌ؛ بِدَلِيلِ قَوْلُهُ تَعَالَى: (قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَآ أَنزَلَ هَؤُلَاءِ إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَآئِرَ) ، وَقَوْلِهِ: (وَجَحَدُواْ بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَآ أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً) وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ التَّوْحِيدِ لَا يَنْفَعُ إِلَّا بِإِخْلَاصِ الْعِبَادَةِ لِلَّهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: (وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ) ، وَالْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى ذَلِكَ كَثِيرَةٌ جَدًّا.
الثَّانِي ـ تَوْحِيدُهُ جلَّ وَعَلَا فِي عِبَادَتِهِ. وَضَابِطُ هَذَا النَّوْعِ مِنَ التَّوْحِيدِ هُوَ تَحْقِيقُ مَعْنَى ... «لَا إِلَهَ إلاَّ اللَّهُ» وَهِيَ مُتَرَكِّبَةٌ مِنْ نَفْيٍ وَإِثْبَاتٍ، فَمَعْنَى النَّفْيِ مِنْهَا: خَلْعُ جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْمَعْبُودَاتِ غَيْرَ اللَّهِ كَائِنَةً مَا كَانَتْ فِي جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْعِبَادَاتِ كَائِنَةً مَا كَانَتْ. وَمَعْنَى الْإِثْبَاتِ مِنْهَا: إِفْرَادُ اللَّهِ جلَّ وَعَلَا وَحْدَهُ بِجَمِيعِ أَنْوَاعِ الْعِبَادَاتِ بِإِخْلَاصٍ، عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي شَرَعَهُ عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. وَأَكْثَرُ(1/79)
آيَاتِ الْقُرْآنِ فِي هَذَا النَّوْعِ مِنَ التَّوْحِيدِ، وَهُوَ الَّذِي فِيهِ الْمَعَارِكُ بَيْنَ الرُّسُلِ وَأُمَمِهِمْ (أَجَعَلَ الآلِهَةَ الهاً وَاحِداً إِنَّ هَاذَا لَشَىْءٌ عُجَابٌ) .
وَمِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى هَذَا النَّوْعِ مِنَ التَّوْحِيدِ قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلأ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ ... ) الْآيَةَ، وَقَوْلُهُ: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِى كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ وَاجْتَنِبُواْ الْطَّاغُوتَ) ، وَقَوْلِهِ: (وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِى? إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا? إِلَهَ إِلاَّ أَنَاْ فَاعْبُدُونِ) ، وَقَوله: (وَاسْئلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَآ أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَانِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ) ، وَقَوْلِهِ: (قُلْ إِنَّمَآ يُوحَى إِلَىَّ أَنَّمَآ الهكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنتُمْ مُّسْلِمُونَ) فَقَدْ أمَر فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنْ يَقُولَ: إِنَّمَا أُوحِيَ إِلَيْهِ مَحْصُورٌ فِي هَذَا النَّوْعِ مِنَ التَّوْحِيدِ؛ لِشُمُولِ كَلِمَةِ «لَا إِلَهَ إلاَّ اللَّهُ» لِجَمِيعِ مَا جَاءَ فِي الكُتب؛ لِأَنَّهَا تَقْتَضِي طَاعَةَ اللَّهِ بِعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ. فَيَشْمَلُ ذَلِكَ جَمِيعَ الْعَقَائِدِ وَالْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي، وَمَا يتْبع ذَلِكَ مِنْ ثَوَابٍ وَعِقَابٍ، وَالْآيَاتُ فِي هَذَا النَّوْعِ مِنَ التَّوْحِيدِ كَثِيرَةٌ.
النَّوْعُ الثَّالِثُ ـ تَوْحِيدُهُ جلَّ وَعَلَا فِي أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ. وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ التَّوْحِيدِ يَنْبَنِي عَلَى أَصْلَيْنِ:
الْأَوَّلُ ـ تَنْزِيهُ اللَّهِ جلَّ وَعَلَا عَنْ مُشَابَهَةِ الْمَخْلُوقِينَ فِي صِفَاتِهِمْ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ) .
وَالثَّانِي ـ الْإِيمَان بِمَا وَصفه الله بِهِ نَفسه، أَو وَصفه بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْوَجْهِ اللَّائِقِ بِكَمَالِهِ وَجَلَالِهِ، كَمَا قَالَ بَعْدَ قَوْلِهِ: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) مَعَ قَطْعِ
الطَّمَعِ عَنْ إِدْرَاكِ كَيْفِيَّةِ الِاتِّصَافِ، قَالَ تَعَالَى: (يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا(1/80)
خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً) ] (1) .
بَيَان تلازم أَنْوَاع التَّوْحِيد:
قَالَ صَاحب التَّتِمَّة - رَحمَه الله -[قَوْلُهُ تَعَالَى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَالِمُ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ. هُوَ اللَّهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ المَلِكُ القُدُّوسُ السَّلامُ المُؤْمِنُ المُهَيْمِنُ العَزِيزُ الجَبَّارُ المُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ. هُوَ اللَّهُ الخَالِقُ البَارِئُ المُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} } . جَاءَتْ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ الثَّلَاثِ: ذِكْرُ كَلِمَةِ التَّوْحِيدِ مَرَّتَيْنِ، كَمَا ذُكِرَ فِيهَا أَيْضًا تَسْبِيحُ اللَّهِ مَرَّتَيْنِ، وَذُكِرَ مَعَهُمَا الْعَدِيدُ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ الْحُسْنَى وَصِفَاتِهِ الْعُلْيَا، فَكَانَتْ بِذَلِكَ مُشْتَمِلَةً عَلَى ثَلَاثِ قَضَايَا أَهَمِّ قَضَايَا الْأَدْيَانِ كُلِّهَا مَعَ جَمِيعِ الْأُمَمِ وَرُسُلِهِمْ، لِأَنَّ دَعْوَةَ الرُّسُلِ كُلَّهَا فِي تَوْحِيدِ اللَّهِ تَعَالَى فِي ذَاتِهِ وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَتَنْزِيهِهِ، وَالرَّدِّ عَلَى مُفْتَرَيَاتِ الْأُمَمِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى.
فَالْيَهُودُ قَالُوا: عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ.
وَالنَّصَارَى قَالُوا الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ.
وَالْمُشْرِكُونَ قَالُوا: {اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً} ، {وَجَعَلُواْ الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثاً} ، وَقَالُوا: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} .
فَكُلُّهُمُ ادَّعَى الشَّرِيكَ مَعَ اللَّهِ، وَقَالُوا: ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَغَيْرَ ذَلِكَ.
وَكَذَلِكَ فِي قَضِيَّةِ التَّنْزِيِهِ، فَالْيَهُودُ قَالُوا: {إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَآءُ} ، وَقَالُوا: {يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ} .
_________
(1) - 3/373 - 374، بني إِسْرَائِيل / 9.(1/81)
وَالْمُشْرِكُونَ قَالُوا: {وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُوراً} ، وَنَسَبُوا لِلَّهِ مَا لَا يَرْضَاهُ أَحَدُهُمْ لِنَفْسِهِ، وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا، فِي الْوَقْت الَّذِي إِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بالأُنثى ظلَّ وجهُه مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ.
وَهَذَا كَمَا تَرَاهُ أَعْظَمُ افْتِرَاءٍ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَقَدْ سَجَّلَهُ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُواْ اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًامَّا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلاَ لأبَآئِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِبًا} وَكَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَلاَ إِنَّهُم مِّنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} ، وَقَالَ مُبَيِّنًا جُرْمَ مَقَالَتِهِمْ، {وَقَالُواْ اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً وَمَا يَنبَغِى لِلرَّحْمَنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَداً} .
فَكَانَتْ تِلْكَ الْآيَاتُ الثَّلَاثُ عِلَاجًا فِي الْجُمْلَةِ لِتِلْكَ الْقَضَايَا الثَّلَاثِ، تَوْحِيدِ الْأُلُوهِيَّةِ، وَتَوْحِيدِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، وَتَنْزِيهِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مَعَ إِقَامَةِ الْأَدِلَّةِ عَلَيْهَا.
وَقَدِ اجْتَمَعَتْ مَعًا لِأَنَّهُ لَا يَتِمُّ أَحَدُهَا إِلَّا بالآخِرين، ليتم الْكَمَال لله تَعَالَى. ... ] (1) .
جمع الْكفَّار بَين تَوْحِيد الربوبية، وشرك الْعِبَادَة:
[قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ) . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنُ، وَمُجَاهِدٌ، وَعَامِرٌ الشَّعْبِيُّ، وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ، وَهُمُ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يُؤمنُونَ بِاللَّه بتوحيدهم
_________
(1) - 8/108: 110، الْحَشْر/ 22: 24.(1/82)
لَهُ فِي رُبُوبِيَّتِهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ بِهِ غَيْرَهُ فِي عِبَادَتِهِ.
فَالْمُرَادُ بِإِيمَانِهِمُ اعْتِرَافُهُمْ بِأَنَّهُ رَبهم الَّذِي هُوَ خالقهم ومدبر شؤونهم، وَالْمُرَادُ بِشِرْكِهِمْ عِبَادَتُهُمْ غَيْرَهُ مَعَهُ، وَالْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ جِدًّا، كَقَوْلِهِ: (قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَآءِ وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَىَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَىِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ) ، وَكَقَوْلِهِ: (وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ) ، وَقَوْلِهِ: (وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ) ، وَقَوْلِهِ: (وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ) ، وَقَوْلِهِ: (وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّن نَّزَّلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ مِن بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ) ، وَقَوْلِهِ: (قُل لِّمَنِ الأَرْضُ وَمَن فِيهَآ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَىْءٍ وَهُوَ يُجْيِرُ وَلاَ يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ) إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَمَعَ هَذَا فَإِنَّهُمْ قَالُوا: (أَجَعَلَ الآلِهَةَ الهاً وَاحِداً إِنَّ هَاذَا لَشَىْءٌ عُجَابٌ) .
وَهَذِهِ الْآيَاتُ الْقُرْآنِيَّةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَوْحِيدَ الرُّبُوبِيَّةِ لَا يُنْقِذُ مِنَ الْكُفْرِ إِلَّا إِذَا كَانَ مَعَهُ تَوْحِيدُ الْعِبَادَةِ، أَيْ عِبَادَةُ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَيَدُلُّ لِذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ) ، وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ إِشْكَالٌ: وَهُوَ أَنَّ الْمُقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْبَلَاغَةِ أَنَّ الْحَالَ قَيْدٌ لِعَامِلِهَا وَصْفٌ لِصَاحِبِهَا وَعَلَيْهِ؛ فَإِنَّ عَامِلَ هَذِهِ الْجُمْلَةِ الْحَالِيَّةِ الَّذِي هُوَ يُؤمن مُقَيّد(1/83)
بِهَا، فَيَصِيرُ الْمَعْنَى تَقْيِيدُ إِيمَانِهِمْ بِكَوْنِهِمْ مُشْرِكِينَ، وَهُوَ مُشْكِلٌ لِمَا بَيْنَ الْإِيمَانِ وَالشِّرْكِ مِنَ الْمُنَافَاةِ.
قَالَ مُقَيِّدُهُ ـ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: لَمْ أَرَ مَنْ شَفَى الْغَلِيلَ فِي هَذَا الْإِشْكَالِ، وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي ـ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ ـ أَنَّ هَذَا الْإِيمَانَ الْمُقَيَّدَ بِحَالِ الشِّرْكِ إِنَّمَا هُوَ إِيمَانٌ لُغَوِيٌّ لَا شَرْعِيٌّ. لِأَنَّ مَنْ يَعْبُدُ مَعَ اللَّهِ غَيْرَهُ لَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْإِيمَانِ الْبَتَّةَ شَرْعًا. أَمَّا الْإِيمَانُ اللُّغَوِيُّ فَهُوَ يَشْمَلُ كُلَّ تَصْدِيقٍ، فَتَصْدِيقُ الْكَافِرِ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْخَالِقُ الرَّازِقُ يَصْدُقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْإِيمَانِ لُغَةً مَعَ كُفْرِهِ بِاللَّهِ، وَلَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْإِيمَانِ شَرْعًا؛ وَإِذَا حَقَّقْتَ ذَلِكَ عَلِمْتَ أَنَّ الْإِيمَانَ اللُّغَوِيَّ يُجَامِعُ الشِّرْكَ فَلَا إِشْكَالَ فِي تَقْيِيدِهِ بِهِ، وَكَذَلِكَ الْإِسْلَامُ الْمَوْجُودُ دُونَ الْإِيمَانِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ وَلَاكِن قُولُو?اْ أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِى قُلُوبِكُمْ) فَهُوَ الْإِسْلَامُ اللُّغَوِيُّ؛ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ الشَّرْعِيَّ لَا يُوجَدُ مِمَّنْ لَمْ يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قَلْبِهِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: «نَزَلَتْ آيَةُ (وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ) فِي قَوْلِ الْكُفَّارِ فِي تَلْبِيَتِهِمْ: لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ إِلَّا شَرِيكًا هُوَ لَكَ تَمْلِكُهُ وَمَا
مَلَكَ» وَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى مَا ذكرنَا] (1) .
مَسْأَلَة:
[أَمَّا تَجَاهُلُ فِرْعَوْنَ لَعَنَهُ اللَّهُ لِرُبُوبِيَّتِهِ جَلَّ وَعَلَا، فِي قَوْلِهِ: (قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ) فَإِنَّهُ تَجَاهُلُ عَارِفٍ لِأَنَّهُ عَبْدٌ مَرْبُوبٌ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: (قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَآ أَنزَلَ هَؤُلَاءِ إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَآئِرَ) : وَقَوْلِهِ: (وَجَحَدُواْ بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَآ أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً) ] (2) .
_________
(1) - 3/65 - 66، يُوسُف / 106.
(2) - 2/430، يُونُس / 31.(1/84)
الِاسْتِدْلَالُ عَلَى الْكُفَّارِ بِاعْتِرَافِهِمْ بِرُبُوبِيَّتِهِ -جلَّ وَعَلَا- على وجوب توحيده فِي عِبَادَته:
[يكثر فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ الِاسْتِدْلَالُ عَلَى الْكُفَّارِ بِاعْتِرَافِهِمْ بربوبيته جلَّ وَعلا ـ على وجوب توحيده فِي عِبَادَتِهِ، وَلِذَلِكَ يُخَاطِبُهُمْ فِي تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ بِاسْتِفْهَامِ التَّقْرِيرِ. فَإِذَا أَقَرُّوا بِرُبُوبِيَّتِهِ احْتَجَّ بِهَا عَلَيْهِمْ عَلَى أَنَّهُ هُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِأَنْ يُعْبَدَ وَحْدَهُ. ووبَّخهم مُنْكِرًا عَلَيْهِمْ شِرْكَهُمْ بِهِ غَيْرَهُ، مَعَ اعْتِرَافِهِمْ بِأَنَّهُ هُوَ الرَّبُّ وَحْدَهُ، لِأَنَّ مَنِ اعْتَرَفَ بِأَنَّهُ هُوَ الرَّبُّ وَحْدَهُ لَزِمَهُ الِاعْتِرَافُ بِأَنَّهُ هُوَ الْمُسْتَحَقُّ لِأَنْ يُعْبَدَ وَحْدَهُ.
وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَآءِ وَالأَرْض أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ) إِلَى قَوْلِهِ (فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ) فلَّما أَقَرُّوا بِرُبُوبِيَّتِهِ وَبَّخَهُمْ مُنْكِرًا عَلَيْهِمْ شِرْكَهُمْ بِهِ غَيْرَهُ بِقَوْلِهِ: (فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ) ، وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: (قُل لِّمَنِ َالأَرْضُ وَمَن فِيهَآ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ) فلمَّا اعْتَرَفُوا وَبَّخَهُمْ مُنْكِرًا عَلَيْهِمْ شِرْكَهُمْ بِقَوْلِهِ: (قُلْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ) ، ثُمَّ قَالَ: (قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ) فَلَمَّا أقرُّوا وَبَّخَهُمْ مُنْكِرًا عَلَيْهِمْ شِرْكَهُمْ بِقَوْلِهِ: (قُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ) ، ثُمَّ قَالَ: (قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَىْءٍ وَهُوَ يُجْيِرُ وَلاَ يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ) فَلَمَّا أَقَرُّوا وَبَّخَهُمْ مُنْكِرًا عَلَيْهِمْ شِرْكَهُمْ بِقَوْلِهِ: (قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ) ، وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: (قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُلِ اللَّهُ) فَلَمَّا صَحَّ الِاعْتِرَافُ وَبَّخَهُمْ مُنْكِرًا عَلَيْهِمْ شِرْكَهُمْ بِقَوْلِهِ: (قُلْ أَفَاتَّخَذْتُم مِّن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ لاَ يَمْلِكُونَ لأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا) ، وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ) فَلَمَّا صَحَّ إِقْرَارُهُمْ وَبَّخَهُمْ مُنْكِرًا عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: (فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ) ، وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ) فَلَمَّا(1/85)
صَحَّ اعترافهم وبخهم مُنْكرا عَلَيْهِم شِرْكَهُمْ بِقَوْلِهِ: (فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ) ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّن نَّزَّلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ مِن بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ) فَلَمَّا صَحَّ إِقْرَارُهُمْ وَبَّخَهُمْ مُنْكِرًا عَلَيْهِمْ شِركهم بِقَوْلِهِ: (قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ
أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ) ، وَقَوله تَعَالَى: (وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ) فَلَمَّا صَحَّ اعْتِرَافُهُمْ وَبَّخَهُمْ مُنْكِرًا عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: (قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ) ، وَقَوله تَعَالَى: (آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَآئِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُواْ شَجَرَهَا) وَلَا شَكَّ أَنَّ الْجَوَابَ الَّذِي لَا جَوَابَ لَهُمُ الْبَتَّةَ غَيْرُهُ: هُوَ أَنَّ الْقَادِرَ عَلَى خَلْقِ السَّماوات وَالْأَرْضِ وَمَا ذَكَرَ مَعَهَا، خَيْرٌ مِنْ جَمَادٍ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ. فَلَمَّا تَعَيَّنَ اعْتِرَافُهُمْ وَبَّخَهُمْ مُنْكِرًا عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: (أَاله مَّعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ) ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: (أَمَّن جَعَلَ الأَرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلاَلَهَآ أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِىَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً) وَلَا شَكَّ أَنَّ الْجَوَابَ الَّذِي لَا جَوَابَ غَيْرُهُ كَمَا قَبْلَهُ. فَلَمَّا تَعَيَّنَ اعترافهم وبخهم مُنْكرا عَلَيْهِم بقوله: (أَءِلاهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ) ، ثُمَّ قَالَ جلَّ وَعَلَا: (أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّو?ءَ وَيَجْعَلُكُمْ حُلَفَآءَ الأَرْضِ) وَلَا شَكَّ أَنَّ الْجَوَابَ كَمَا قَبْلَهُ. فَلَمَّا تَعَيَّنَ إِقْرَارُهُمْ بِذَلِكَ وَبَّخَهُمْ مُنْكِرًا عَلَيْهِمْ بقوله: (أَءِلَاهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ) ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: (أَمَّن يَهْدِيكُمْ فِى ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَن يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًى بَيْنَ يَدَىْ رَحْمَتِهِ) وَلَا شَكَّ أَنَّ الْجَوَابَ كَمَا قبله.
فَلَمَّا تعين إقرارهم بذلك وبخهم مُنْكرا عَلَيْهِم بقوله: (أَءِلَاهٌ مَّعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) ، ثُمَّ قَالَ جلَّ وَعَلَا: (أَمَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعيدُهُ وَمَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَآءِ وَالأَرْضِ) وَلَا شكّ أَن الْجَواب كَمَا قبله، فَلَمَّا تعين الِاعْتِرَاف وبخهم مُنْكرا عَلَيْهِم بقوله:(1/86)
(أَءِلَاهٌ مَّعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) ، وَقَوْلُهُ: (اللَّهُ الَّذِى خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يَفْعَلُ مِن ذَلِكُمْ مِّن شَىْءٍ) وَلَا شَكَّ أَنَّ الْجَوَابَ الَّذِي لَا جَوَابَ لَهُم غَيره هُوَ: لاا أَيْ لَيْسَ مِنْ شُرَكَائِنَا مَنْ يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَفْعَلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ الْمَذْكُورِ مِنَ الْخَلْقِ وَالرِّزْقِ وَالْإِمَاتَةِ وَالْإِحْيَاءِ. فَلَمَّا تَعَيَّنَ اعْتِرَافُهُمْ وَبَّخَهُمْ مُنْكِرًا عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: (سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ) .
وَالْآيَاتُ بِنَحْوِ هَذَا كَثِيرَةٌ جَدًّا. وَلِأَجْلِ ذَلِكَ ذَكَرْنَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ: أَنَّ كُلَّ الْأَسْئِلَةِ المتعلِّقة بِتَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ اسْتِفْهَامَاتُ تَقْرِيرٍ، يُرَادُ مِنْهَا أَنَّهُمْ إِذَا أَقَرُّوا رَتَّبَ لَهُمُ التَّوْبِيخَ وَالْإِنْكَارَ عَلَى ذَلِكَ الْإِقْرَارِ. لِأَنَّ الْمُقِرَّ بِالرُّبُوبِيَّةِ يَلْزَمُهُ الْإِقْرَارُ بِالْأُلُوهِيَّةِ ضَرُورَةً؛ نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: (أَفِى اللَّهِ شَكٌّ) ، وَقَوْلِهِ: (قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِى رَبًّا) وَإِنَّ زَعَمَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَنَّ هَذَا اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ، لِأَنَّ اسْتِقْرَاءَ الْقُرْآنِ دَلَّ عَلَى أَنَّ الِاسْتِفْهَامَ المتعلِّق بِالرُّبُوبِيَّةِ اسْتِفْهَامُ تَقْرِيرٍ وَلَيْسَ اسْتِفْهَامَ إِنْكَارٍ، لِأَنَّهُمْ لَا يُنْكِرُونَ الرُّبُوبِيَّةَ، كَمَا رَأَيْتَ كَثْرَةَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَيْهِ] (1) .
فصل: بَيَان الْأَدِلَّة على وجود الرب تبَارك وَتَعَالَى:
أَدِلَّة كونية:
[قَوْلُهُ تَعَالَى: (هُوَ الَّذِى يُرِيكُمْ آيَاتِهِ) . ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، أَنَّهُ جَلَّ وَعَلَا هُوَ الَّذِي يُري خَلْقَهُ آيَاتِهِ، أَيِ الْكَوْنِيَّةَ الْقَدَرِيَّةَ لِيَجْعَلَهَا عَلَامَاتٍ لَهُمْ عَلَى ربوبيته، واستحقاقه الْعِبَادَة وَحده وَمن تِلْكَ
_________
(1) - 3/374 - 376، بني إِسْرَائِيل / 9، وَانْظُر (6/620، 621، سبأ / 24) .(1/87)
الْآيَاتِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: (وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ) .
وَمِنْهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُونَ، وَمَا فِيهِمَا وَالنُّجُومُ، وَالرِّيَاحُ وَالسَّحَابُ، وَالْبِحَارُ وَالْأَنْهَارُ، وَالْعُيُونُ وَالْجِبَالُ وَالْأَشْجَارُ وَآثَارُ قَوْمٍ هَلَكُوا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ) إِلَى قَوْلِهِ (لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) . وَقَالَ تَعَالَى: (إِنَّ فِى خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُوْلِي الأَلْبَابِ) ، وَقَالَ تَعَالَى: (إِنَّ فِى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لاّيَاتٍ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَفِى خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِن دَآبَّةٍ آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ وَاخْتِلَافِ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَآ أَنَزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَآءِ مَّن رِّزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) وَقَالَ تَعَالَى: (إِنَّ فِى اخْتِلَافِ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَّقُونَ) .
وَمَا ذَكَرَهُ جَلَّ وَعَلَا فِي آيَةِ الْمُؤْمِنِ هَذِهِ، مِنْ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي يُرِي خَلْقَهُ آيَاتِهِ، بَيَّنَهُ وَزَادَهُ إِيضَاحًا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، فَبَيَّنَ أَنَّهُ يُرِيهِمْ آيَاتِهِ فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ، وَأَنَّ مُرَادَهُ بِذَلِكَ الْبَيَانِ أَنْ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَقٌّ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِى الأَفَاقِ وَفِى? أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ) ، وَالْآفَاقُ جَمْعَ أُفُقٍ وَهُوَ النَّاحِيَةُ، وَاللَّهُ جَلَّ وَعَلَا قَدْ بَيَّنَ مِنْ غَرَائِبِ صُنْعِهِ، وَعَجَائِبِهِ، فِي نُوَاحِي سَمَاوَاتِهِ وَأَرْضِهِ، مَا يَتَبَيَّنُ بِهِ لِكُلِّ عَاقِلٍ أَنَّهُ هُوَ الرَّبُّ الْمَعْبُودُ وَحْدَهُ،
كَمَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ، مِنَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالنُّجُومِ وَالْأَشْجَارِ وَالْجِبَالِ، وَالدَّوَابِّ وَالْبِحَارِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ.
وبيَّن أَيْضًا أَنَّ مِنْ آيَاتِهِ الَّتِي يُرِيهِمْ وَلَا يُمْكِنُهُمْ أَنْ يُنْكِرُوا شَيْئًا مِنْهَا تَسْخِيرُهُ لَهُمُ الْأَنْعَامَ لِيَرْكَبُوهَا وَيَأْكُلُوا مِنْ لُحُومِهَا، وينتفعوا بألبانها،(1/88)
وَزُبْدِهَا وَسَمْنِهَا، وَأَقِطِهَا وَيَلْبَسُوا مِنْ جُلُودِهَا، وَأَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: (اللَّهُ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الأَنْعَامَ لِتَرْكَبُواْ مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُواْ عَلَيْهَا حَاجَةً فِى صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَىَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنكِرُونَ) .
وَبَيَّنَ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ، أَنَّ مِنْ آيَاتِهِ الَّتِي يُرِيهَا بَعْضَ خَلْقِهِ، مُعْجِزَاتِ رُسُلِهِ، لِأَنَّ الْمُعْجِزَاتِ آيَاتٌ، أَيْ دَلَالَاتٌ، وَعَلَامَاتٌ عَلَى صِدْقِ الرُّسُلِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي فِرْعَوْنَ (وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى) وَبَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، أَنَّ مِنْ آيَاتِهِ الَّتِي يُرِيهَا خَلْقَهُ، عُقُوبَتَهُ الْمُكَذِّبِينَ رُسُلَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي قِصَّةِ إِهْلَاكِهِ قَوْمَ لُوطٍ (وَلَقَد تَّرَكْنَا مِنْهَآ آيَةً بَيِّنَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) .
وَقَالَ فِي عُقُوبَتِهِ فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ بِالطُّوفَانِ وَالْجَرَادِ وَالْقُمَّلِ إِلَخْ: (فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مّفَصَّلاَتٍ) ] (1) .
[قَوْلُهُ تَعَالَى: (الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّن نَّبَاتٍ شَتَّى كُلُواْ وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِى ذالِكَ لآيَاتٍ لأُوْلِي النُّهَى) بَيَّنَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ أَرْبَعَ آيَاتٍ مِنْ آيَاتِهِ الْكُبْرَى الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّهُ الْمَعْبُودُ وَحْدَهُ. وَمَعَ كَوْنِهَا مِنْ آيَاتٍ عَلَى كَمَالِ قُدْرَتِهِ وَاسْتِحْقَاقِهِ الْعِبَادَةَ وَحْدَهُ دُونَ غَيْرِهِ ـ فَهِيَ مِنَ النِّعَمِ الْعُظْمَى عَلَى بَنِي آدَمَ:
الْأُولَى: فَرْشُهُ الْأَرْضَ عَلَى هَذَا النَّمَطِ الْعَجِيبِ.
الثَّانِيَةُ: جَعْلُهُ فِيهَا سُبلاً يَمُرُّ مَعَهَا بَنُو آدَمَ وَيَتَوَصَّلُونَ بِهَا مِنْ قُطْرٍ إِلَى قُطْرٍ.
_________
(1) - 7/74، 75، غَافِر / 13.(1/89)
الثَّالِثَةُ: إِنْزَالُهُ الْمَاءَ مِنَ السَّمَاءِ عَلَى هَذَا النَّمَطِ الْعَجِيبِ.
الرَّابِعَةُ: إِخْرَاجُهُ أَنْوَاعَ النَّبَاتِ مِنَ الْأَرْضِ.
أَمَّا الْأُولَى ـ الَّتِي هِيَ جَعْلُهُ الْأَرْضَ مَهْدًا ـ فَقَدْ ذَكَرَ الِامْتِنَانَ بِهَا مَعَ الِاسْتِدْلَالِ بِهَا عَلَى أَنَّهُ الْمَعْبُودُ وَحْدَهُ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مِنْ كِتَابِهِ. كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ مَهْداً) ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ مِهَاداً وَالْجِبَالَ أَوْتَاداً) ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَالأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ) ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (وَهُوَ الَّذِى مَدَّ الأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِىَ وَأَنْهَاراً) وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ جِدًّا.
وَأَمَّا الثَّانِيَةُ ـ الَّتِي هِيَ جَعْلُهُ فِيهَا سُبُلًا فَقَدْ جَاءَ الِامْتِنَانُ وَالِاسْتِدْلَالُ بِهَا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، كَقَوْلِهِ فِي «الزُّخْرُفِ» : (وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ مَهْداً وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجاً سُبُلاً لَّعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ) .
وَأَمَّا الثَّالِثَةُ وَالرَّابِعَةُ ـ وَهُمَا إِنْزَالُ الْمَاءِ مِنَ السَّمَاءِ وَإِخْرَاجُ النَّبَاتِ بِهِ مِنَ الْأَرْضِ فَقَدْ تَكَرَّرَ ذِكْرُهُمَا فِي الْقُرْآنِ عَلَى سَبِيلِ الِامْتِنَانِ وَالِاسْتِدْلَالِ مَعًا. كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (هُوَ الَّذِى? أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَآءً لَّكُم مَّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ يُنبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ) .
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: (وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجْنَا) الْتِفَاتٌ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى التَّكَلُّمِ بِصِيغَةِ التَّعْظِيمِ. وَنَظِيرُهُ فِي الْقُرْآنِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي «الْأَنْعَامِ» : (وَهُوَ الَّذِى? أَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَىْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً نُّخْرِجُ مِنْهُ حَبّاً مُّتَرَاكِباً) ، وَقَوْلُهُ فِي «فَاطِرٍ» : (أَلَمْ(1/90)
تَرَ أَنَّ اللَّهَ أنَزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا) ، وَقَوْلُهُ فِي «النَّمْل» : (أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَآئِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ) . وَهَذَا الِالْتِفَاتُ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى التَّكَلُّمِ بِصِيغَةِ التَّعْظِيمِ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ كُلِّهَا فِي إِنْبَاتِ النَّبَاتِ ـ يَدُلُّ عَلَى تَعْظِيمِ شَأْنِ إِنْبَاتِ النَّبَاتِ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَنْزِلِ الْمَاءُ وَلَمْ يَنْبُتْ شَيْئا لَهَلَكَ النَّاسُ جُوعًا وَعَطَشًا. فَهُوَ يَدُلُّ عَلَى عَظَمَتِهِ جَلَّ وَعَلَا، وَشِدَّةِ احْتِيَاجِ الْخَلْقِ إِلَيْهِ وَلُزُوم طاعتهم لَهُ جلّ وَعلا] (1) .
[قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُم أَحْسَنُ عَمَلاً وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيداً جُرُزاً) . قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: «مَا عَلَيْهَا» يَعْنِي مَا عَلَى الْأَرْضِ مِمَّا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ زِينَةً لَهَا وَلِأَهْلِهَا مِنْ زَخَارِفِ الدُّنْيَا وَمَا يُسْتَحْسَنُ مِنْهَا.
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: كُلُّ مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةٌ لَهَا مِنْ غَيْرِ تَخْصِيص. وعَلى هَذَا القَوْل ـ فَوجه
كَون الْحَيَّاتِ وَغَيْرِهَا مِمَّا يُؤْذِي زِينَةٌ لِلْأَرْضِ؛ لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى وُجُودِ خَالِقِهِ، وَاتِّصَافِهِ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ
وَالْجَلَالِ، وَوُجُودُ مَا يَحْصُلُ بِهِ هَذَا الْعِلْمُ فِي شَيْء زِينَة لَهُ] (2) .
دَلِيل عَقْلِي:
قَالَ صَاحب التَّتِمَّة - رَحمَه الله -: [وَمرَاده - أَي القَاضِي عِيَاض - بِالْعَقْلِيَّاتِ فِي الْعَقَائِدِ أَيْ إِثْبَاتُ وُجُودِ اللَّهِ وَأَنَّهُ وَاحِدٌ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَهُوَ الْمَعْرُوفُ عِنْدهم بقانون الْإِلْزَام، الَّذِي يُقَال فِيهِ إِمَّا الْمَوْجُودَ إِمَّا جَائِزُ الْوُجُودِ أَوْ وَاجِبُهُ، فَجَائِزُ الْوُجُودِ جَائِزُ الْعَدَمِ قَبْلَ وُجُودِهِ وَاسْتَوَى الْوُجُودُ وَالْبَقَاءُ فِي الْعَدَمِ قَبْلَ أَنْ يُوجَدَ، فَتَرَجَّحَ وجوده على بَقَائِهِ فِي الْعَدَم، وَهَذَا
_________
(1) - 4/455: 457، طه / 53 - 54.
(2) - 4/17 - 18، الْكَهْف / 7.(1/91)
التَّرْجِيح لابد لَهُ مِنْ مُرَجِّحٍ وَهُوَ اللَّهُ تَعَالَى، وَوَاجِبُ الْوُجُودِ لَمْ يَحْتَجْ إِلَى مُوجِدٍ، وَلَمْ يَجُزْ فِي صِفَةِ عَدَمٍ وَإِلَّا لَاحْتَاجَ مُوجِدُهُ إِلَى مُوجِدٍ، وَمُرَجِّحُ وُجُودِهِ عَلَى مَوْجُودٍ، وَهَكَذَا فَاقْتَضَى الْإِلْزَامُ الْعَقْلِيُّ وُجُوبَ وُجُودِ مُوجِدٍ وَاجِبِ الْوُجُودِ، وَهَذَا من حَيْثُ الْوُجُود فَقَط] (1)) .
فصل: الِاعْتِرَاف بربوبيته - جلّ وَعلا - لَا يَكْفِي للدخول فِي دِينِ الْإِسْلَامِ إِلَّا بِتَحْقِيقِ مَعْنَى " لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ " نَفْيًا وَإِثْبَاتًا:
[قَوْلُهُ تَعَالَى: (قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَآءِ وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَىَّ مِنَ الْمَيِّتِ) إِلَى قَوْلِهِ: (فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ) صَرَّحَ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ بِأَنَّ الْكَفَّارَ يُقِرُّونَ بِأَنَّهُ جَلَّ وَعَلَا، هُوَ رَبُّهُمُ الرَّزَّاقُ الْمُدَبِّرُ لِلْأُمُورِ الْمُتَصَرِّفُ فِي مُلْكِهِ بِمَا يَشَاءُ، وَهُوَ صَرِيحٌ فِي اعْتِرَافِهِمْ بِرُبُوبِيَّتِهِ، وَمَعَ هَذَا أَشْرَكُوا بِهِ جَلَّ وَعَلَا.
وَالْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى أَنَّ الْمُشْرِكِينَ مُقِرُّونَ بِرُبُوبِيَّتِهِ جَلَّ وَعَلَا. وَلَمْ يَنْفَعْهُمْ ذَلِكَ لِإِشْرَاكِهِمْ مَعَهُ غَيْرَهُ فِي حُقُوقِهِ جَلَّ وَعَلَا كَثِيرَةٌ، كَقَوْلِهِ: (وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ) وَقَوْلِهِ: (وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ) وَقَوْلِهِ: (قُل لِّمَنِ الأَرْضُ وَمَن فِيهَآ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ) (سَيَقُولُونَ لِلَّهِ) إِلَى قَوْلِهِ: (فَأَنَّى تُسْحَرُونَ) إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ، وَلِذَا قَالَ تَعَالَى: (وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ) ، وَالْآيَاتُ الْمَذْكُورَةُ صَرِيحَةٌ فِي أَنَّ الِاعْتِرَافَ بِرُبُوبِيَّتِهِ جَلَّ وَعَلَا لَا يَكْفِي فِي
_________
(1) - 8/247 - 248، الْجُمُعَة / 9 - 10.(1/92)
الدُّخُولِ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ إِلَّا بِتَحْقِيقِ مَعْنَى لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ نَفْيًا وَإِثْبَاتًا (1) ] (2) .
الْحُقُوق الْخَاصَّة بِاللَّه - عز وَجل - وَالَّتِي هِيَ من خَصَائِص ربوبيته:
[اعْلَمْ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى كُلِّ إِنْسَانٍ أَنْ يُمَيِّزَ بَيْنَ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى الَّتِي هِيَ مِنْ خَصَائِصَ رُبُوبِيَّتِهِ،
الَّتِي لَا يَجُوزُ صَرْفُهَا لِغَيْرِهِ، وَبَيْنَ حُقُوقِ خَلْقِهِ كَحَقِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِيَضَعَ كُلَّ شَيْءٍ فِي مَوْضِعِهِ، عَلَى ضَوْءِ مَا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ وَالسُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ.
وَإِذَا عَرَفْتَ ذَلِكَ فَاعْلَمْ: أَنَّ مِنَ الْحُقُوقِ الْخَاصَّةِ بِاللَّهِ الَّتِي هِيَ مِنْ خَصَائِصَ رُبُوبِيَّتِهِ الْتِجَاءَ عَبْدِهِ
إِلَيْهِ إِذَا دَهَمَتْهُ الْكُرُوبُ الَّتِي لَا يَقْدِرُ عَلَى كَشْفِهَا إِلَّا اللَّهُ، فَالْتِجَاءُ الْمُضْطَرِّ الَّذِي أَحَاطَتْ بِهِ الْكُرُوبُ وَدَهَمَتْهُ الدَّوَاهِي لَا يَجُوزُ إِلَّا لِلَّهِ وَحْدَهُ؛ لِأَنَّهُ مِنْ خَصَائِصِ الرُّبُوبِيَّةِ، فَصَرْفُ ذَلِكَ الْحَقِّ لِلَّهِ وَإِخْلَاصُهُ لَهُ هُوَ عَيْنُ طَاعَةِ اللَّهِ وَمَرْضَاتِهِ، وَطَاعَةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَرْضَاتِهِ وَهُوَ عَيْنُ التَّوْقِيرِ وَالتَّعْظِيمِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِأَنَّ أَعْظَمَ أَنْوَاعِ تَوْقِيرِهِ وَتَعْظِيمِهِ هُوَ اتِّبَاعُهُ وَالِاقْتِدَاءُ بِهِ فِي إِخْلَاصِ التَّوْحِيدِ وَالْعِبَادَةِ لَهُ وَحْدَهُ جَلَّ وَعَلَا، وَقَدْ بَيَّنَ جَلَّ وَعَلَا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ مِنْ كِتَابِهِ، أَنَّ الْتِجَاءَ الْمُضْطَرِّ مِنْ عِبَادِهِ إِلَيْهِ وَحْدَهُ، فِي أَوْقَاتِ الشِّدَّةِ وَالْكَرْبِ مِنْ خَصَائِصَ رُبُوبِيَّتِهِ تَعَالَى.
مِنْ أَصْرَحِ ذَلِكَ الْآيَاتُ الَّتِي فِي سُورَةِ النَّمْلِ أَعْنِي قَوْلَهُ تَعَالَى: (قُلِ
_________
(1) - علق شَيخنَا أَبُو الْهَيْثَم إِبْرَاهِيم بن زَكَرِيَّا - حفظه الله - هُنَا بقوله: [قَالَ ابْن رَجَب الْحَنْبَلِيّ: وَمن الْمَعْلُوم بِالضَّرُورَةِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يقبل من كل من جَاءَهُ يُرِيد الدُّخُول فِي الْإِسْلَام الشَّهَادَتَيْنِ فَقَط، ويعصم دَمه بذلك، ويجعله مُسلما. أهـ وَلَكِن اسْتِدَامَة الحكم لَهُ بِالْإِسْلَامِ وعصمة دَمه والإنتفاع بِهَذَا القَوْل فِي الْآخِرَة كل ذَلِك مَوْقُوف على تَحْقِيق مَعْنَى لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ نَفْيًا، وَإِثْبَاتًا] . وَانْظُر فضل الْغَنِيّ الحميد (ص/140) .
(2) - 2/429 - 430، يُونُس / 31، وَانْظُر (3/65، يُوسُف / 106) .(1/93)
الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى) إِلَى قَوْلِهِ: (قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) ، فَإِنَّهُ جَلَّ وَعَلَا قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ الْكَرِيمَاتِ الْعَظِيمَاتِ: (قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ) .
ثُمَّ بَيَّنَ خَصَائِصَ رُبُوبِيَّتِهِ الدَّالَّةَ عَلَى أَنَّهُ الْمَعْبُودُ وَحْدَهُ فَقَالَ: (أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَآئِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُواْ شَجَرَهَا أَاله مَّعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ) .
فَهَذِهِ الْمَذْكُورَاتُ الَّتِي هِيَ خلق السَّمَاوَات وَالْأَرْض، وإنزال المَاء من السَّمَاء وَإِنْبَاتُ الْحَدَائِقِ ذَاتِ الْبَهْجَةِ، الَّتِي لَا يَقْدِرُ عَلَى إِنْبَاتِ شَجَرِهَا إِلَّا اللَّهُ، مِنْ خَصَائِصَ رُبُوبِيَّةِ اللَّهِ، وَلِذَا قَالَ تَعَالَى بَعْدَهَا (أَاله مَّعَ اللَّهِ) يَقْدِرُ عَلَى خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِنْزَالِ الْمَاءِ مِنَ السَّمَاءِ وَإِنْبَاتِ الْحَدَائِقِ بِهِ، وَالْجَوَابُ لَا؛ لِأَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: (أَمَّن جَعَلَ الأَرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلاَلَهَآ أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِىَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً أَءِلاهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ) .
فَهَذِهِ الْمَذْكُورَاتُ أَيْضًا، الَّتِي هِيَ جَعْلُ الْأَرْضِ قَرَارًا، وَجَعْلُ الْأَنْهَارِ خِلَالَهَا، وَجَعْلُ الْجِبَالِ الرَّوَاسِي فِيهَا، وَجَعْلُ الْحَاجِزِ بَيْنَ الْبَحْرِينِ مِنْ خَصَائِصَ رُبُوبِيَّتِهِ جَلَّ وَعَلَا، وَلِذَا قَالَ بَعْدَ ذِكْرِهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ؟ وَالْجَوَابُ لَا.
فَالِاعْتِرَافُ لِلَّهِ جَلَّ وَعَلَا بِأَنَّ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِنْزَالَ الْمَاءِ وَإِنْبَاتَ النَّبَاتِ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا ذَكَرَ فِي الْآيَاتِ مِنْ خَصَائِصِ رُبُوبِيَّتِهِ جَلَّ وَعَلَا هُوَ الْحَقُّ، وَهُوَ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَمِنْ تَعْظِيمِ اللَّهِ وَتَعْظِيمِ(1/94)
رَسُولِهِ بِالِاقْتِدَاءِ بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَعْظِيمِ اللَّهِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى وَهُوَ مَحَلُّ الشَّاهِدِ (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ) .
فَهَذِهِ الْمَذْكُورَاتُ الَّتِي هِيَ إِجَابَةُ الْمُضْطَرِّ إِذَا دَعَا، وَكَشْفُ السُّوءِ وَجَعْلُ النَّاسِ خُلَفَاءَ فِي الْأَرْضِ مِنْ خَصَائِصَ رُبُوبِيَّتِهِ جَلَّ وَعَلَا، وَلِذَا قَالَ بَعْدَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ.
فَتَأَمَّلْ قَوْلَهَ تَعَالَى: (أَءِلاهٌ مَّعَ اللَّهِ) مَعَ قَوْلِهِ: (أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّو?ءَ) تعلم أَن إِجَابَة الْمُضْطَرين إِذا التجؤوا وَدَعَوْا وَكَشْفَ السُّوءِ عَنِ الْمَكْرُوبِينَ، لَا فَرْقَ فِي كَوْنِهِ مِنْ خَصَائِصِ الرُّبُوبِيَّةِ، بَيْنَهُ وَبَيْنَ خلق السَّمَاوَات وَالْأَرْض، وإنزال المَاء وإنبات النَّبَات، وَنَصْبِ الْجِبَالِ وَإِجْرَاءِ الْأَنْهَارِ، لِأَنَّهُ جَلَّ وَعَلَا ذَكَرَ الْجَمِيعَ بِنَسَقٍ وَاحِدٍ فِي سِيَاقٍ وَاحِدٍ، وأتبع جَمِيعه بقوله: (أَءِلَاهٌ مَّعَ اللَّهِ) .
فَمَنْ صَرَفَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ لِغَيْرِ اللَّهِ تَوَجَّهَ إِلَيْهِ الْإِنْكَارُ السَّمَاوِيُّ الَّذِي هُوَ فِي ضمن قَوْله: (أَءِلَاهٌ مَّعَ اللَّهِ) فَلَا فَرْقَ الْبَتَّةَ بَيْنَ تِلْكَ الْمَذْكُورَاتِ فِي كَوْنِهَا كُلِّهَا مِنْ خَصَائِصِ الرُّبُوبِيَّةِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: (أَمَّن يَهْدِيكُمْ فِى ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَن يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًى بَيْنَ يَدَىْ رَحْمَتِهِ أَءِلَاهٌ مَّعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) .
فَهَذِهِ الْمَذْكُورَاتُ الَّتِي هِيَ هَدْيُ النَّاسِ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، وَإِرْسَالُ الرِّيَاحِ بُشْرًا، أَيْ مُبَشِّرَاتٍ، بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ الَّتِي هِيَ الْمَطَرُ، مِنْ خَصَائِصِ رُبُوبِيَّتِهِ جَلَّ وَعَلَا.
وَلِذَا قَالَ تَعَالَى: (أَءِلَاهٌ مَّعَ اللَّهِ) ، ثُمَّ نَزَّهَ جَلَّ وَعَلَا نَفْسَهُ عَنْ أَنْ يَكُونَ مَعَهُ إِلَهٌ يَسْتَحِقُّ شَيْئًا مِمَّا
ذَكَرَ فَقَالَ جَلَّ وَعَلَا: (تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) .(1/95)
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: (أَمَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعيدُهُ وَمَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَآءِ والأَرْضِ أَءِلَاهٌ مَّعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) .
فَهَذِهِ الْمَذْكُورَاتُ الَّتِي هِيَ بَدْءُ خَلْقِ النَّاسِ وَإِعَادَتُهُ يَوْمَ الْبَعْثِ، وَرِزْقُهُ لِلنَّاسِ مِنَ السَّمَاءِ بِإِنْزَالِ الْمَطَرِ، وَمِنَ الْأَرْضِ بِإِنْبَاتِ النَّبَاتِ، من خَصَائِص ربوبيته جلّ وَعلا وَلذَا قَالَ بعْدهَا (أَءِلَاهٌ مَّعَ اللَّهِ) . ... ثُمَّ عجَّز جَلَّ وَعَلَا كُلَّ مَنْ يَدَّعِي شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ لِغَيْرِ اللَّهِ، فَقَالَ آمِرًا نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يُخَاطِبَهُمْ بِصِيغَةِ التَّعْجِيزِ: (قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) .
وَقَدِ اتَّضَحَ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ، أَنَّ إِجَابَةَ الْمُضْطَرِّينَ الدَّاعِينَ، وكشف السوء عَن المكروبين، من خَصَائِص الربوبية كَخَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِنْزَالِ الْمَاءِ، وَإِنْبَاتِ النَّبَاتِ، وَالْحَجْزِ بَيْنَ الْبَحْرِينِ إِلَى آخِرِ مَا ذَكَرَ.
وَكَوْنُ إِجَابَةِ الْمُضْطَرِّينَ وَكَشْفُ السُّوءِ عَنِ الْمَكْرُوبِينَ مِنْ خَصَائِصِ الرُّبُوبِيَّةِ، كَمَا أَوْضَحَهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَاتِ مِنْ سُورَةِ النَّمْلِ جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى مُخَاطِبًا نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ يُصَيبُ بِهِ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ) .
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدُيرٌ) ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: (مَّا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ) .
فِعْلَيْنَا مَعَاشِرَ الْمُسْلِمِينَ أَنْ نَتَأَمَّلَ هَذِهِ الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةَ وَنَعْتَقِدَ مَا تَضَمَّنَتْهُ وَنَعْمَلَ بِهِ لِنَكُونَ بِذَلِكَ مُطِيعِينَ لِلَّهِ تَعَالَى وَلِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُعَظِّمِينَ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ، لِأَنَّ أَعْظَمَ أَنْوَاعِ تَعْظِيمِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، هُوَ اتِّبَاعُهُ وَالِاقْتِدَاءُ بِهِ، فِي إِخْلَاصِ الْعِبَادَةِ لِلَّهِ جَلَّ وَعلا وَحده.(1/96)
فَإِخْلَاصُ الْعِبَادَةِ لَهُ جَلَّ وَعَلَا وَحْدَهُ، هُوَ الَّذِي كَانَ يَفْعَلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَأْمُر بِهِ وَقد قَالَ
تَعَالَى: (وَمَآ أُمِرُو?اْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) وَقَالَ تَعَالَى: (قُلْ إِنِّى? أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَّهُ الدِّينَ) إِلَى قَوْلِهِ: (قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَّهُ دِينِى فَاعْبُدُواْ مَا شِئْتُمْ مِّن دُونِهِ) .
وَاعْلَمْ أَنَّ الْكُفَّارَ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانُوا يَعْلَمُونَ عِلْمًا يَقِينًا أَنَّ مَا ذُكِرَ مِنْ إِجَابَةِ الْمُضْطَرِّ وَكَشْفَ السُّوءِ عَنِ الْمَكْرُوبِ، مِنْ خَصَائِصَ الرُّبُوبِيَّةِ وَكَانُوا إِذَا دَهَمَتْهُمُ الْكُرُوبُ، كَإِحَاطَةِ الْأَمْوَاجِ بِهِمْ فِي الْبَحْرِ، فِي وَقْتِ الْعَوَاصِفِ يُخْلِصُونَ الدُّعَاءَ لِلَّهِ وَحْدَهُ، لِعِلْمِهِمْ أَنَّ كَشْفَ ذَلِكَ مِنْ خَصَائِصِهِ فَإِذَا أَنْجَاهُمْ مِنَ الْكَرْبِ رَجَعُوا إِلَى الْإِشْرَاكِ.
وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا هَذَا فِي آيَاتٍ مِنْ كِتَابِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (هُوَ الَّذِى يُسَيِّرُكُمْ فِى الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِى الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَآءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَآءَهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّو?اْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُاْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَاذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ فَلَمَّآ أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِى الأٌَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ) .
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: (قُلْ مَن يُنَجِّيكُمْ مِّن ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَّئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَاذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِّنْهَا وَمِن كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنتُمْ تُشْرِكُونَ قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ) الْآيَةَ.
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: (قُلْ أَرَأَيْتُكُم إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمْ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِن كُنتُمْ صَادِقِين َبَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَآءَ وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ) .
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِى الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُورًا أَفَأَمِنتُمْ أَن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ وَكِيلاً أَمْ أَمِنتُمْ أَن(1/97)
يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِّنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُم بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا) .
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: (فَإِذَا رَكِبُواْ فِى الْفُلْكِ دَعَوُاْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ) .
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُاْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ) .
وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِى الْبَحْرِ ضَلَّ
مَن تَدْعُونَ إِلاَ إِيَّاهُ) أَنَّ سَبَبَ إِسْلَامِ عِكْرِمَةَ بْنِ أَبِي جَهِلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ لَمَّا فَتَحَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ ذَهَبَ فَارًّا مِنْهُ إِلَى بِلَادِ الْحَبَشَةِ فَرَكِبَ فِي الْبَحْرِ مُتَوَجِّهًا إِلَى الْحَبَشَةِ فَجَاءَتْهُمْ رِيحٌ عَاصِفٌ، فَقَالَ الْقَوْمُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ إِنَّهُ لَا يُغْنِي عَنْكُمْ إِلَّا أَنْ تَدْعُوا اللَّهَ وَحْدَهُ. فَقَالَ عِكْرِمَةُ فِي نَفْسِهِ: وَالله إِن كَانَ فَلَأَضَعَنَّ يَدِيَ فِي يَدِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم فلأجدنه رؤوفاً رحِيما، فَخَرجُوا من الْبَحْر فَخرج إِلَى لَا يَنْفَعُ فِي الْبَحْرِ غَيْرُهُ، فَإِنَّهُ لَا يَنْفَعُ فِي الْبَرِّ غَيْرُهُ. اللَّهُمَّ لَكَ عَلَيَّ عهد لَئِن أخرجتني مِنْهُ لأذهبن
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَسْلَمَ وَحَسُنَ إِسْلَامُهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (1) . انْتَهَى.
وَقَدْ قَدَّمْنَا هُنَاكَ أَنَّ بَعْضَ الْمُتَسَمِّينَ بِاسْمِ الْإِسْلَامِ أَسْوَأُ حَالًا مِنْ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ الْمَذْكُورِينَ لِأَنَّهُمْ فِي وَقت الشدائد يلجؤون لِغَيْرِ اللَّهِ طَالِبِينَ مِنْهُ مَا يَطْلُبُ الْمُؤْمِنُونَ مِنَ اللَّهِ، وَبِمَا ذُكِرَ تَعْلَمُ أَنَّ مَا انْتَشَرَ فِي أَقْطَارِ الدُّنْيَا مِنَ الِالْتِجَاءِ فِي أَوْقَاتِ الْكُرُوبِ وَالشَّدَائِدِ إِلَى غَيْرِ اللَّهِ جَلَّ وَعَلَا كَمَا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ قُرْبَ قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِنْدَ قُبُورِ مَنْ يَعْتَقِدُونَ فِيهِمُ الصَّلَاحَ زَاعِمِينَ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ دِينِ اللَّهِ وَمَحَبَّةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم وتعظيمه ومحبة الصَّالِحين كُله من
_________
(1) - أخرجه النَّسَائِيّ بِنَحْوِهِ مطولا (7/105) (4067) من حَدِيثِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، والْحَدِيث صَححهُ الشَّيْخ الألباني - رَحمَه الله -.(1/98)
أَعْظَمِ الْبَاطِلِ، وَهُوَ انْتِهَاكٌ لِحُرُمَاتِ اللَّهِ وَحُرُمَاتِ رَسُولِهِ؛ لِأَنَّ صَرْفَ الْحُقُوقِ الْخَاصَّةِ بِالْخَالِقِ الَّتِي هِيَ مِنْ خَصَائِصَ رُبُوبِيَّتِهِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ غَيْرِهِ مِمَّنْ يُعْتَقَدُ فِيهِمُ الصَّلَاحُ مُسْتَوْجِبٌ سَخَطَ اللَّهِ وَسَخَطَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَخَطَ كُلِّ مُتَّبِعٍ لَهُ بِالْحَقِّ.
وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ لَمْ يَأْمُرْ بِذَلِكَ هُوَ وَلَا أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَهُوَ مَمْنُوعٌ فِي شَرِيعَةِ كُلِّ نَبِيٍّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، وَاللَّهُ جَلَّ وَعَلَا يَقُولُ: (مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادًا لِّى مِن دُونِ اللَّهِ وَلَاكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّيْنَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ) ، بَلِ الَّذِي كَانَ يَأْمُرُ بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ مَا يَأْمُرُهُ اللَّهُ بِالْأَمر بِهِ فِي قَوْله تَعَالَى (قُلْ ياأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلِمَةٍ سَوَآءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) .
وَاعْلَمْ أَنَّ كُلَّ عَاقِلٍ إِذَا رَأَى رَجُلًا مُتَدَيِّنًا فِي زَعْمِهِ مُدَّعِيًا حُبَّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَعْظِيمَهُ وَهُوَ يُعَظِّمُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَمْدَحُهُ بِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ الْمَاءَ مِنَ السَّمَاءِ وَأَنْبَتَ بِهِ الْحَدَائِقَ ذَاتَ الْبَهْجَةِ، وَأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الَّذِي جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا إِلَى آخِرِ مَا تَضَمَّنَتْهُ الْآيَاتُ الْمُتَقَدِّمَةُ، فَإِنَّ ذَلِكَ الْعَاقِلَ لَا يَشُكُّ فِي أَنَّ ذَلِكَ الْمَادِحَ الْمُعَظِّمَ فِي زَعْمِهِ مِنْ أَعْدَاءِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ الْمُتَعَدِّينَ لِحُدُودِ اللَّهِ.
وَقَدْ عَلِمْتَ مِنَ الْآيَاتِ الْمُحْكَمَاتِ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ ذَلِكَ وَبَيْنَ إِجَابَةِ الْمُضْطَرِّينَ وَكَشْفِ السُّوءِ عَنِ الْمَكْرُوبِينَ.
فِعْلَيْنَا مَعَاشِرَ الْمُسْلِمِينَ أَنْ نَنْتَبِهَ مِنْ نَوْمَةِ الْجَهْلِ وَأَنْ نُعَظِّمَ رَبَّنَا بِامْتِثَالِ(1/99)
أمره وَاجْتنَاب نَهْيه، وإخلاص الْعِبَادَة لَهُ ...
وَاعْلَمْ أَيْضًا رَحِمَكَ اللَّهُ: أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ إِجَابَةِ الْمُضْطَرِّ وَكَشْفِ السُّوءِ عَنِ الْمَكْرُوبِ، وَبَيْنَ تَحْصِيلِ الْمَطَالِبِ الَّتِي لَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا إِلَّا اللَّهُ، كَالْحُصُولِ عَلَى الْأَوْلَادِ وَالْأَمْوَالِ وَسَائِرِ
أَنْوَاعِ الْخَيْرِ.
فَإِنَّ الْتِجَاءَ الْعَبْدِ إِلَى رَبِّهِ فِي ذَلِكَ أَيْضًا مِنْ خَصَائِصَ رُبُوبِيَّتِهِ جَلَّ وَعَلَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: (قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَآءِ وَالأَرْضِ) وَقَالَ تَعَالَى: (فَابْتَغُواْ عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُواْ لَهُ) . وَقَالَ تَعَالَى: (يَهَبُ لِمَن يَشَآءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَن يَشَآءُ الذُّكُورَ) . وَقَالَ تَعَالَى: (وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ) وَقَالَ تَعَالَى: (وَاسْأَلُواْ اللَّهَ مِن فَضْلِهِ) إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَفِي الْحَدِيثِ «إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللَّهَ» (1) .
وَقَدْ أَثْنَى اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا عَلَى نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ بِالْتِجَائِهِمْ إِلَيْهِ وَقْتَ الْكَرْبِ يَوْمَ بَدْرٍ فِي قَوْلِهِ: (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ) .
فَنَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ إِذَا أَصَابَهُمْ أَمْرٌ أَوْ كَرْبٌ التجؤوا إِلَى اللَّهِ وَأَخْلَصُوا لَهُ الدُّعَاءَ. فَعَلَيْنَا أَنْ نتبع وَلَا نبتدع] (2) .
فصل من مظَاهر الشّرك فِي هَذِه الْأمة:
[مَا انْتَشَرَ فِي أَقْطَارِ الدُّنْيَا مِنَ الِالْتِجَاءِ فِي أَوْقَات الكروب والشدائد إِلَى
_________
(1) أخرجه التِّرْمِذِيّ (4/667) (2516) ، وَقَالَ: حسن صَحِيح، وَأحمد (1/303) مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، والْحَدِيث صَححهُ الشَّيْخ الألباني - رَحمَه الله -، والأرناؤوط.
(2) - 7/618: 626، الحجرات / 2.(1/100)
غَيْرِ اللَّهِ جَلَّ وَعَلَا كَمَا
يَفْعَلُونَ ذَلِكَ قُرْبَ قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِنْدَ قُبُورِ مَنْ يَعْتَقِدُونَ فِيهِمُ الصَّلَاحَ زَاعِمِينَ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ دِينِ اللَّهِ وَمَحَبَّةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَعْظِيمِهِ وَمَحَبَّةِ الصَّالِحِينَ كُلُّهُ مِنْ أَعْظَمِ الْبَاطِلِ، وَهُوَ انْتِهَاكٌ لِحُرُمَاتِ اللَّهِ وَحُرُمَاتِ رَسُولِهِ؛ لِأَنَّ صَرْفَ الْحُقُوقِ الْخَاصَّةِ بِالْخَالِقِ الَّتِي هِيَ مِنْ خَصَائِصَ رُبُوبِيَّتِهِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ غَيْرِهِ مِمَّنْ يُعْتَقَدُ فِيهِمُ الصَّلَاحُ مُسْتَوْجِبٌ سَخَطَ اللَّهِ وَسَخَطَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَخَطَ كل مُتبع لَهُ بِالْحَقِّ] (1) .
_________
(1) - 7/623 - 624، الحجرات / 2.(1/101)
بَاب تَوْحِيد الْأَسْمَاء وَالصِّفَات
مقَال جَامع:
[قَوْلُهُ تَعَالَى: (ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِى الَّيْلَ النَّهَارَ) هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ وَأَمْثَالُهَا مِنْ آيَاتِ الصِّفَاتِ كَقَوْلِهِ (يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) وَنَحْوَ ذَلِكَ أَشْكَلَتْ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ إِشْكَالًا ضَلَّ بِسَبَبِهِ خَلْقٌ لَا يُحْصَى كَثْرَةً، فَصَارَ قَوْمٌ إِلَى التَّعْطِيلِ وَقَوْمٌ إِلَى التَّشْبِيهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عُلُوًّا كَبِيرًا عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ - وَاللَّهُ جَلَّ وَعَلَا أَوْضَحَ هَذَا غَايَةَ الْإِيضَاحِ، وَلَمْ يَتْرُكْ فِيهِ أَيَّ لَبْسٍ وَلَا إِشْكَالٍ، وَحَاصِلُ تَحْرِيرِ ذَلِكَ أَنَّهُ جَلَّ وَعَلَا بَيَّنَ أَنَّ الْحَقَّ فِي آيَاتِ الصِّفَاتِ مُتَرَكِّبٌ مِنْ أَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: تَنْزِيهُ اللَّهِ جَلَّ وَعَلَا عَنْ مُشَابَهَةِ الْحَوَادِثِ فِي صِفَاتِهِمْ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا.
وَالثَّانِي: الْإِيمَانُ بِكُلِّ مَا وَصَفَ اللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ فِي كِتَابِهِ، أَوْ وَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لِأَنَّهُ لَا يصف الله أعلم بِاللَّه من الله (ءَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ) وَلَا يَصِفُ اللَّهَ بَعْدَ اللَّهِ أَعْلَمُ بِاللَّهِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي قَالَ فِيهِ: (وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْىٌ يُوحَى) فَمِنْ نَفَى عَنِ اللَّهِ وَصْفًا أَثْبَتَهُ لِنَفْسِهِ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ، أَوْ أَثْبَتَهُ لَهُ رَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَاعِمًا أَنَّ ذَلِكَ الْوَصْفَ يَلْزَمُهُ مَا لَا يَلِيقُ بِاللَّهِ جَلَّ وَعَلَا، فَقَدْ جَعَلَ نَفْسَهُ أَعْلَمَ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ بِمَا يَلِيقُ بِاللَّهِ جَلَّ وَعَلَا، (سُبْحَانَكَ هَاذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ) .
وَمَنِ اعْتَقَدَ أَنَّ وَصْفَ اللَّهِ يُشَابِهُ صِفَاتِ الْخَلْقِ، فَهُوَ مُشَبِّهٌ مُلْحِدٌ ضَالٌّ.(1/102)
وَمَنْ أَثْبَتَ لِلَّهِ مَا أَثْبَتَهُ لِنَفْسِهِ أَوْ أَثْبَتَهُ لَهُ رَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ تَنْزِيهِهِ جَلَّ وَعَلَا عَنْ مُشَابَهَةِ الْخَلْقِ، فَهُوَ مُؤْمِنٌ جَامِعٌ بَيْنَ الْإِيمَانِ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ وَالْجَلَالِ، وَالتَّنْزِيهِ عَنْ مُشَابَهَةِ الْخَلْقِ، سَالِمٌ مِنْ وَرْطَةِ التَّشْبِيهِ وَالتَّعْطِيلِ، وَالْآيَةُ الَّتِي أَوْضَحَ اللَّهُ بهَا هَذَا هِيَ قَوْلِهِ تَعَالَى: (جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَمِنَ الأَنْعَامِ أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) فَنَفَى عَنْ نَفْسِهِ جَلَّ وَعَلَا مُمَاثَلَةَ الْحَوَادِثِ بِقَوْلِهِ: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ) وَأَثْبَتَ لِنَفْسِهِ صِفَاتِ الْكَمَالِ وَالْجَلَالِ بِقَوْلِهِ: (وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) فَصَرَّحَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ بِنَفْيِ الْمُمَاثَلَةِ مَعَ الْإِتِّصَافِ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ وَالْجَلَالِ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ السِّرَّ فِي تَعْبِيرِهِ بِقَوْلِهِ: (وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) دُونَ أَنْ يَقُولَ مَثَلًا: وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ مِنَ الصِّفَاتِ الْجَامِعَةِ، أَنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ يَتَّصِفُ بِهِمَا جَمِيعُ الْحَيَوَانَاتِ، فَبَيْنَ أَنَّ اللَّهَ مُتَّصِفٌ بِهِمَا، وَلَكِنَّ وَصْفَهُ بِهِمَا عَلَى أَسَاسِ نَفْيِ الْمُمَاثَلَةِ بَيْنَ وَصْفِهِ تَعَالَى، وَبَيْنَ صِفَاتِ خَلْقِهِ؛ وَلِذَا جَاءَ بِقَوْلِهِ: (وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) بُعْدَ قَوْلِهِ: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ) فَفِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ إِيضَاحٌ لِلْحَقِّ فِي آيَاتِ الصِّفَاتِ لَا لَبْسَ مَعَهُ وَلَا شُبْهَةَ الْبَتَّةَ، وَسَنُوضِّحُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ إِيضَاحًا تَامًّا بِحَسْبِ طَاقَتِنَا، وَبِاللَّهِ جَلَّ وَعَلَا التَّوْفِيقُ.
اعْلَمْ أَوَّلًا: أَنَّ الْمُتَكَلِّمِينَ قَسَّمُوا صِفَاتِهِ جَلَّ وَعَلَا إِلَى سِتَّةِ أَقْسَامٍ:
صِفَةٌ نَفْسِيَّةٌ، وَصِفَةٌ سَلْبِيَّةٌ، وَصِفَةُ مَعْنًى، وَصِفَةٌ مَعْنَوِيَّةٌ، وَصِفَةٌ فِعْلِيَّةٌ، وَصِفَةٌ جَامِعَةٌ، وَالصِّفَةُ الْإِضَافِيَّةُ تَتَدَاخَلُ مَعَ الْفِعْلِيَّةِ، لِأَنَّ كُلَّ صِفَةٍ فِعْلِيَّةٍ مِنْ مَادَّةٍ مُتَعَدِّيَةٍ إِلَى الْمَفْعُولِ كَالْخَلْقِ وَالْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ، فَهِيَ صِفَةٌ(1/103)
إِضَافِيَّةٌ، وَلَيْسَتْ كُلُّ صِفَةٍ إِضَافِيَّةٍ فِعْلِيَّةً فَبَيْنَهُمَا عُمُومٌ وَخُصُوصٌ مِنْ وَجْهٍ، يَجْتَمِعَانِ فِي نَحْوِ الْخَلْقِ وَالْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ، وَتَتَفَرَّدِ الْفِعْلِيَّةُ فِي نَحْوِ الِاسْتِوَاءِ، وَتَتَفَرَّدُ الْإِضَافِيَّةُ فِي نَحْوِ كَوْنِهِ تَعَالَى كَانَ مَوْجُودًا قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ، وَأَنَّهُ فَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ، لِأَنَّ الْقَبْلِيَّةَ وَالْفَوْقِيَّةَ مِنَ الصِّفَاتِ الْإِضَافِيَّةِ، وَلَيْسَتَا مِنْ صِفَاتِ الْأَفْعَالِ، وَلَا يَخْفَى عَلَى عَالِمٍ بِالْقَوَانِينِ الْكَلَامِيَّةِ وَالْمَنْطِقِيَّةِ أَنَّ إِطْلَاقَ النَّفْسِيَّةِ عَلَى شَيْءٍ مِنْ صِفَاتِهِ جَلَّ وَعَلَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ، وَأَنَّ فِيهِ مِنَ الْجَرَاءَةِ عَلَى اللَّهِ جَلَّ وَعَلَا مَا اللَّهُ عَالِمٌ بِهِ، وَإِنْ كَانَ قَصْدُهُمْ بِالنَّفْسِيَّةِ فِي حَقِّ اللَّهِ الْوُجُودَ فَقَطْ وَهُوَ صَحِيحٌ، لِأَنَّ الْإِطْلَاقَ الْمُوهِمَ لِلْمَحْذُورِ فِي حَقِّهِ تَعَالَى لَا يَجُوزُ، وَإِنْ كَانَ الْمَقْصُودُ بِهِ صَحِيحًا؛ لِأَنَّ الصِّفَةَ النَّفْسِيَّةَ فِي الِاصْطِلَاحِ لَا تَكُونُ إِلَّا جِنْسًا أَوْ فَصْلًا، فَالْجِنْسُ كَالْحَيَوَانِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْإِنْسَانِ، وَالْفَصْلُ كَالنُّطْقِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْإِنْسَانِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْجِنْسَ فِي الِاصْطِلَاحِ قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ أَفْرَادٍ مُخْتَلِفَةِ الْحَقَائِقِ كَالْحَيَوَانِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْإِنْسَانِ وَالْفَرَسِ وَالْحِمَارِ، وَأَنَّ الْفَصْلَ صِفَةٌ نَفْسِيَّةٌ لِبَعْضِ أَفْرَادِ الْجِنْسِ يَنْفَصِلُ بِهَا عَنْ غَيْرِهِ مِنَ الْأَفْرَادِ الْمُشَارِكَةِ لَهُ فِي الْجِنْسِ كَالنُّطْقِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْإِنْسَانِ، فَإِنَّهُ صِفَتُهُ النَّفْسِيَّةُ الَّتِي تَفْصِلُهُ عَنِ الْفَرَسِ مَثَلًا: الْمُشَارِكِ لَهُ فِي الْجَوْهَرِيَّةِ وَالْجِسْمِيَّةِ وَالنَّمَائِيَّةِ وَالْحَسَاسِيَّةِ، وَوَصْفُ اللَّهِ جَلَّ وَعَلَا بِشَيْءٍ يُرَادُ بِهِ اصْطِلَاحًا مَا بَيِّنًا لَكَ، مِنْ أَعْظَمِ الْجَرَاءَةِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى كَمَا تَرَى. لِأَنَّهُ جَلَّ وَعَلَا وَاحِدٌ فِي ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ، فَلَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ اشْتِرَاكٌ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَاتِهِ، وَلَا مِنْ صِفَاتِهِ، حَتَّى يُطْلَقَ عَلَيْهِ مَا يُطْلَقُ عَلَى الْجِنْسِ وَالْفَصْلِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا - لِأَنَّ الْجِنْسَ قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ حَقَائِقَ مُخْتَلِفَةٍ.
وَالْفَصْلَ: هُوَ الَّذِي يَفْصِلُ بَعْضَ تِلْكَ الْحَقَائِقِ الْمُشْتَرِكَةِ فِي الْجِنْسِ عَنْ بَعْضٍ. سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَتَعَالَى عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا.(1/104)
وَسَنُبَيِّنُ لَكَ أَنَّ جَمِيعَ الصِّفَاتِ عَلَى تَقْسِيمِهِمْ لَهَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ وَصْفُ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ بِهَا، وَهُمْ فِي بَعْضِ ذَلِكَ يُقِرُّونَ بِأَنَّ الْخَالِقَ مَوْصُوفٌ بِهَا، وَأَنَّهَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ أَيْضًا وَصْفُ الْمَخْلُوقِ بِهَا، وَلَكِنَّ وَصْفَ الْخَالِقِ مُنَافٍ لِوَصْفِ الْمَخْلُوقِ، كَمُنَافَاةِ ذَاتِ الْخَالِقِ لِذَاتِ الْمَخْلُوقِ، وَيَلْزَمُهُمْ ضَرُورَةٌ فِيمَا أَنْكَرُوا مِثْلَ مَا أَقَرُّوا بِهِ لِأَنَّ الْكُلَّ مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ، لِأَنَّ جَمِيعَ صِفَاتِ اللَّهِ جَلَّ وَعَلَا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ، لِأَنَّ الْمُتَّصِفَ بِهَا لَا يُشْبِهُهُ شَيْءٌ مِنَ الْحَوَادِثِ.
فَمِنْ ذَلِكَ: الصِّفَاتُ السَّبْعُ الْمَعْرُوفَة عِنْدهم بِصِفَات الْمعَانِي وَهِي: الْقُدْرَة، والإدارة، وَالْعِلْمُ، وَالْحَيَاةُ، وَالسَّمْعُ، وَالْبَصَرُ، وَالْكَلَامُ.
فَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي وَصْفِ نَفْسِهِ بِالْقُدْرَةِ: (وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) .
وَقَالَ فِي وَصْفِ الْحَادِثِ بِهَا: (إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ) فَأَثْبَتَ لِنَفْسِهِ قُدْرَةً حَقِيقِيَّةً لَائِقَةً بِجَلَالِهِ وَكَمَالِهِ، وَأَثْبَتَ لِبَعْضِ الْحَوَادِثِ قُدْرَةً مُنَاسِبَةً لِحَالِهِمْ مِنَ الضَّعْفِ وَالِافْتِقَارِ وَالْحُدُوثِ الْفَنَاءِ، وَبَيْنَ قُدْرَتِهِ، وَقُدْرَةِ مَخْلُوقِهِ مِنَ الْمُنَافَاةِ مَا بَيْنَ ذَاتِهِ وَذَاتِ مَخْلُوقِهِ.
وَقَالَ فِي وَصْفِ نَفْسِهِ بِالْإِرَادَةِ: (فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ) ، (إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ) ، (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) ، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَقَالَ فِي وَصْفِ الْمَخْلُوقِ بِهَا: (تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا) الْآيَةَ (إِن يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَاراً) ، (يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ اللَّهِ) ، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
فَلَهُ جَلَّ وَعَلَا إِرَادَةٌ حَقِيقِيَّةٌ لَائِقَةٌ بِكَمَالِهِ وَجَلَالِهِ، وَلِلْمَخْلُوقِ إِرَادَةٌ أَيْضًا مُنَاسِبَةٌ لِحَالِهِ، وَبَيْنَ إِرَادَةِ
الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ مِنَ الْمُنَافَاةِ مَا بَيْنَ ذَاتِ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ.(1/105)
وَقَالَ فِي وَصْفِ نَفْسِهِ بِالْعِلْمِ: (وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) ، (لَّاكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَآ أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ) (فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَآئِبِينَ) .
وَقَالَ فِي وَصْفِ الْحَادِثِ بِهِ: (قَالُواْ لاَ تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلَيمٍ) ، وَقَالَ: (وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِّمَا عَلَّمْنَاهُ) وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
فَلَهُ جَلَّ وَعَلَا عِلْمٌ حَقِيقِيٌّ لَائِقٌ بِكَمَالِهِ وَجَلَالِهِ، وَلِلْمَخْلُوقِ عِلْمٌ مُنَاسِبٌ لِحَالِهِ، وَبَيْنَ عِلْمِ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ مِنَ الْمُنَافَاةِ مَا بَيْنَ ذَاتِ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ.
وَقَالَ فِي وَصْفِ نَفْسِهِ بِالْحَيَاةِ: (اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَىُّ الْقَيُّومُ) - (هُوَ الْحَىُّ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ) الْآيَةَ. (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَىِّ الَّذِى لاَ يَمُوتُ) ، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَقَالَ فِي وَصْفِ الْمَخْلُوقِ بِهَا: (وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَياً) ، (وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَآءِ كُلَّ شَىْءٍ حَىٍّ) ، (يُخْرِجُ الْحَىَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الحَيِّ) .
فَلَهُ جَلَّ وَعَلَا حَيَاةٌ حَقِيقِيَّةٌ تَلِيقُ بِجَلَالِهِ وَكَمَالِهِ، وَلِلْمَخْلُوقِ أَيْضًا حَيَاةٌ مُنَاسِبَةٌ لِحَالِهِ؛ وَبَيْنَ حَيَاةِ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ مِنَ الْمُنَافَاةِ مَا بَيْنَ ذَاتِ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ.
وَقَالَ فِي وَصْفِ نَفْسِهِ بِالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) ، (وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَقَالَ فِي وَصْفِ الْحَادِثِ بِهِمَا: (إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً) ، (أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا) وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
فَلَهُ جَلَّ وَعَلَا سَمْعٌ وَبَصَرٌ حَقِيقِيَّانِ يَلِيقَانِ بِكَمَالِهِ وَجَلَالِهِ، وَلِلْمَخْلُوقِ(1/106)
سَمْعٌ وَبَصَرٌ مُنَاسِبَانِ لِحَالِهِ. وَبَيْنَ سَمْعِ الْخَالِقِ وَبَصَرِهِ، وَسَمْعِ الْمَخْلُوقِ وَبَصَرِهِ مِنَ الْمُنَافَاةِ مَا بَيْنَ ذَاتِ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ.
وَقَالَ فِي وَصْفِ نَفْسِهِ بِالْكَلَامِ (وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً) ، (إِنْى اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي) ، (فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ) وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَقَالَ فِي وَصْفِ الْمَخْلُوقِ بِهِ: (فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِينٌ) ، (الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَآ أَيْدِيهِمْ) (قَالُواْ كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِى الْمَهْدِ صَبِيّاً) ، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
فَلَهُ جَلَّ وَعَلَا كَلَامٌ حَقِيقِيٌّ يَلِيقُ بِكَمَالِهِ وَجَلَالِهِ؛ وَلِلْمَخْلُوقِ كَلَامٌ أَيْضًا مُنَاسِبٌ لِحَالِهِ. وَبَيْنَ كَلَامِ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ مِنَ الْمُنَافَاةِ مَا بَيْنَ ذَاتِ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ.
وَهَذِهِ الصِّفَاتُ السَّبْعُ الْمَذْكُورَةُ يُثْبِتُهَا كَثِيرٌ مِمَّنْ يَقُولُ بِنَفْيِ غَيْرِهَا مِنْ صِفَاتِ الْمَعَانِي.
وَالْمُعْتَزِلَةُ يَنْفُونَهَا وَيُثْبِتُونَ أَحْكَامَهَا فَيَقُولُونَ: هُوَ تَعَالَى حَيٌّ قَادِرٌ، مُرِيدٌ عَلِيمٌ، سَمِيعٌ بَصِيرٌ، مُتَكَلِّمٌ بِذَاتِهِ لَا بِقُدْرَةٍ قَائِمَةٍ بِذَاتِهِ، وَلَا إِرَادَةٍ قَائِمَةٍ بِذَاتِهِ هَكَذَا فِرَارًا مِنْهُمْ مِنْ تَعَدُّدِ الْقَدِيمِ.
وَمَذْهَبُهُمُ الْبَاطِلُ لَا يَخْفَى بُطْلَانُهُ وَتَنَاقُضُهُ عَلَى أَدْنَى عَاقِلٍ. لِأَنَّ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْوَصْفَ الَّذِي مِنْهُ الِاشْتِقَاقُ إِذَا عُدِمَ فَالِاشْتِقَاقُ مِنْهُ مُسْتَحِيلٌ، فَإِذَا عُدِمَ السَّوَادُ عَنْ جِرْمٍ مَثَلًا اسْتَحَالَ أَنْ تَقُولَ هُوَ أَسْوَدُ، إِذْ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ أَسْوَدَ وَلَمْ يَقُمْ بِهِ سَوَادٌ، وَكَذَلِكَ إِذَا لَمْ يَقُمِ الْعِلْمُ وَالْقُدْرَةُ بِذَاتٍ اسْتَحَالَ أَنْ تَقُولَ: هِيَ عَالِمَةٌ قَادِرَةٌ لِاسْتِحَالَةِ اتِّصَافِهَا بِذَلِكَ، وَلَمْ يَقُمْ بِهَا عِلْمٌ وَلَا قُدْرَةٌ، قَالَ فِي «مَرَاقِي السُّعُودِ» :
وَعِنْدَ فَقْدِ الْوَصْفِ لَا ... يُشْتَقُّ وَأَعْوَزَ الْمُعْتَزِلِيَّ الْحق(1/107)
وَأَمَّا الصِّفَاتُ الْمَعْنَوِيَّةُ عِنْدَهُمْ: فَهِيَ الْأَوْصَافُ الْمُشْتَقَّةُ مِنْ صِفَاتِ الْمَعَانِي السَّبْعِ الْمَذْكُورَةِ، وَهِيَ كَوْنُهُ تَعَالَى: قَادِرًا، مُرِيدًا، عَالِمًا، حَيًّا، سَمِيعًا، بَصِيرًا، مُتَكَلِّمًا.
وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهَا عِبَارَةٌ عَنْ كَيْفِيَّةِ الِاتِّصَافِ بِالْمَعَانِي، وَعَدُّ الْمُتَكَلِّمِينَ لَهَا صِفَاتٍ زَائِدَةً عَلَى صِفَاتِ الْمَعَانِي مَبْنِيٌّ عَلَى مَا يُسَمُّونَهُ الْحَالَ الْمَعْنَوِيَّةَ. زَاعِمِينَ أَنَّهَا أَمْرٌ ثُبُوتِيٌّ لَيْسَ بِمَوْجُودٍ، وَلَا مَعْدُومٍ؛ وَالتَّحْقِيقُ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ أَنَّ هَذَا الَّذِي يُسَمُّونَهُ الْحَالَ الْمَعْنَوِيَّةَ لَا أَصْلَ لَهُ، وَإِنَّمَا هُوَ مُطْلَقُ تَخْيِيلَاتٍ يَتَخَيَّلُونَهَا: لِأَنَّ الْعَقْلَ الصَّحِيحَ حَاكِمٌ حُكْمًا لَا يَتَطَرَّقُهُ شَكٌّ بِأَنَّهُ لَا وَاسِطَةَ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ الْبَتَّةَ. فَالْعُقَلَاءُ كَافَّةٌ مُطْبِقُونَ عَلَى أَنَّ النَّقِيضَيْنِ لَا يَجْتَمِعَانِ، وَلَا يَرْتَفِعَانِ، وَلَا وَاسِطَةَ بَيْنَهُمَا الْبَتَّةَ، فَكُلُّ مَا هُوَ غَيْرُ مَوْجُودٍ، فَإِنَّهُ مَعْدُومٌ قَطْعًا، وَكُلُّ مَا هُوَ غَيْرُ مَعْدُومٍ، فَإِنَّهُ مَوْجُودٌ قَطْعًا، وَهَذَا مِمَّا لَا شَكَّ فِيهِ كَمَا تَرَى.
وَقَدْ بَيَّنَّا فِي اتِّصَافِ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ بِالْمَعَانِي الْمَذْكُورَةِ مُنَافَاةَ صِفَةِ الْخَالِقِ لِلْمَخْلُوقِ، وَبِهِ تَعْلَمُ مِثْلَهُ فِي الِاتِّصَافِ بِالْمَعْنَوِيَّةِ الْمَذْكُورَةِ لَوْ فَرَضْنَا أَنَّهَا صِفَاتٌ زَائِدَةٌ عَلَى صِفَاتِ الْمَعَانِي. مَعَ أَنَّ التَّحْقِيقَ أَنَّهَا عِبَارَةٌ عَنْ كَيْفِيَّةِ الِاتِّصَافِ بِهَا.
وَأَمَّا الصِّفَاتُ السَّلْبِيَّةُ عِنْدَهُمْ: فَهِيَ خَمْسٌ، وَهِيَ عِنْدُهُمُ: الْقِدَمُ، وَالْبَقَاءُ، وَالْوَحْدَانِيَّةُ، وَالْمُخَالَفَةُ لِلْخَلْقِ، وَالْغِنَى الْمُطْلَقُ، الْمَعْرُوفُ عِنْدَهُمْ بِالْقِيَامِ بِالنَّفْسِ.
وَضَابِطُ الصِّفَةِ السَّلْبِيَّةِ عِنْدَهُمْ: هِيَ الَّتِي لَا تَدُلُّ بِدَلَالَةِ الْمُطَابَقَةِ عَلَى مَعْنًى وُجُودِيٍّ أَصْلًا، وَإِنَّمَا تَدُلُّ عَلَى سَلْبِ مَا لَا يَلِيقُ بِاللَّهِ عَنِ اللَّهِ.
أَمَّا الصِّفَةُ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى مَعْنًى وُجُودِيٍّ: فَهِيَ الْمَعْرُوفَةُ عِنْدَهُمْ بِصِفَةِ الْمَعْنَى، فَالْقِدَمُ مَثَلًا عِنْدَهُمْ لَا مَعْنَى لَهُ بِالْمُطَابَقَةِ، إِلَّا سَلْبَ الْعَدَمِ السَّابِقِ،(1/108)
فَإِنْ قِيلَ: الْقُدْرَةُ مَثَلًا تَدُلُّ عَلَى سَلْبِ الْعَجْزِ، وَالْعِلْمُ يَدُلُّ عَلَى سَلْبِ الْجَهْلِ، وَالْحَيَاةُ تَدُلُّ عَلَى سَلْبِ الْمَوْتِ، فَلِمَ لَا يُسَمُّونَ هَذِهِ الْمَعَانِيَ سَلْبِيَّةً أَيْضًا؟
فَالْجَوَابُ: أَنَّ الْقُدْرَةَ مَثَلًا تَدُلُّ بِالْمُطَابَقَةِ عَلَى مَعْنًى وُجُودِيٍّ قَائِمٍ بِالذَّاتِ، وَهُوَ الصِّفَةُ الَّتِي يَتَأَتَّى بِهَا إِيجَادُ الْمُمْكِنَاتِ وَإِعْدَامُهَا عَلَى وِفْقِ الْإِرَادَةِ، وَإِنَّمَا سَلَبَتِ الْعَجْزَ بِوَاسِطَةِ مُقَدِّمَةٍ عَقْلِيَّةٍ، وَهِيَ أَنَّ الْعَقْلَ يَحْكُمُ بِأَنَّ قِيَامَ الْمَعْنَى الْوُجُودِيِّ بِالذَّاتِ يَلْزَمُهُ نَفْيُ ضِدِّهِ عَنْهَا لِاسْتِحَالَةِ اجْتِمَاعِ الضِّدَّيْنِ عَقْلًا، وَهَكَذَا فِي بَاقِي الْمَعَانِي.
أَمَّا الْقِدَمُ عِنْدَهُمْ مَثَلًا: فَإِنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى شَيْءٍ زَائِدٍ عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْوُجُودُ، إِلَّا سَلْبُ الْعَدَمِ السَّابِقِ، وَهَكَذَا فِي بَاقِي السَّلْبِيَّاتِ، فَإِذَا عرفت ذَلِك فَاعْلَم أَن الْقدَم، والبقاء الَّذين يَصِفُ الْمُتَكَلِّمُونَ بِهِمَا اللَّهَ تَعَالَى زَاعِمِينَ، أَنَّهُ وَصَفَ بِهِمَا نَفْسَهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ) الْآيَةَ، جَاءَ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ وَصْفُ الْحَادِثِ بِهِمَا أَيْضًا، قَالَ فِي وَصْفِ الْحَادِثِ بِالْقِدَمِ: (وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالعُرجُونِ الْقَدِيمِ) ، وَقَالَ: (قَالُواْ تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِى ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ) ، وَقَالَ: (أَفَرَءَيْتُمْ مَّا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنتُمْ وَآبَآؤُكُمُ الأَقْدَمُونَ) .
وَقَالَ فِي وَصْفِ الْحَادِثِ بِالْبَقَاءِ: (وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ) ، وَقَالَ: (مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللَّهِ بَاقٍ) ، وَكَذَلِكَ وَصَفَ الْحَادِثَ بِالْأَوَّلِيَّةِ وَالْآخِرِيَّةِ الْمَذْكُورَتَيْنِ فِي الْآيَةِ. قَالَ: (أَلَمْ نُهْلِكِ الأَوَّلِينَ ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الآخِرِينَ) ، وَوَصَفَ نَفْسَهُ بِأَنَّهُ وَاحِدٌ، قَالَ: (وَالهكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ) ، وَقَالَ فِي وَصْفِ الْحَادِثِ بِذَلِكَ: (يُسْقَى بِمَآءٍ وَاحِدٍ) وَقَالَ فِي وَصْفِ نَفْسِهِ بِالْغِنَى: (وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِىُّ الْحَمِيدُ) ، (وَقَالَ مُوسَى? إِن تَكْفُرُو?اْ أَنتُمْ وَمَن فِى الأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِىٌّ حَمِيدٌ) ، وَقَالَ فِي وَصْفِ الْحَادِثِ(1/109)
بالغني: (وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ) ، (إِن يَكُونُواْ فُقَرَآءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ) ، فَهُوَ جَلَّ وَعَلَا مَوْصُوفٌ بِتِلْكَ الصِّفَاتِ حَقِيقَةً عَلَى الْوَجْهِ اللَّائِقِ بِكَمَالِهِ وَجَلَالِهِ، وَالْحَادِثُ مَوْصُوفٌ بِهَا أَيْضًا عَلَى الْوَجْهِ الْمُنَاسِبِ لِحُدُوثِهِ وَفَنَائِهِ، وَعَجْزِهِ وَافْتِقَارِهِ، وَبَيْنَ صِفَاتِ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ مِنَ الْمُنَافَاةِ مَا بَيْنَ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ، كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي صِفَاتِ الْمَعَانِي.
وَأَمَّا الصِّفَةُ النَّفْسِيَّةُ عِنْدَهُمْ: فَهِيَ وَاحِدَةٌ، وَهِيَ الْوُجُودُ، وَقَدْ عَلِمْتَ مَا فِي إِطْلَاقِهَا عَلَى اللَّهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَ الْوُجُودَ عَيْنَ الذَّاتِ فَلَمْ يَعُدَّهُ صِفَةً، كَأَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ، فَلَا يَخْفَى أَنَّ الْخَالِقَ مَوْجُودٌ، وَالْمَخْلُوقَ مَوْجُودٌ، وَوُجُودُ الْخَالِقِ يُنَافِي وُجُودَ الْمَخْلُوقِ، كَمَا بَيَّنَّا.
وَمِنْهُمْ مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْقِدَمَ وَالْبَقَاءَ صِفَتَانِ نَفْسِيَّتَانِ، زَاعِمًا أَنَّهُمَا طَرَفَا الْوُجُودِ الَّذِي هُوَ صِفَةٌ نَفْسِيَّةٌ فِي زَعْمِهِمْ.
وَأَمَّا الصِّفَاتُ الْفِعْلِيَّةُ، فَإِنَّ وَصْفَ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ بِهَا كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ فِعْلَ الْخَالِقِ مُنَافٍ لِفِعْلِ الْمَخْلُوقِ كَمُنَافَاةِ ذَاتِهِ لِذَاتِهِ، فَمِنْ ذَلِكَ وَصْفُهُ جَلَّ وَعَلَا نَفْسَهُ بِأَنَّهُ يَرْزُقُ خَلْقَهُ، قَالَ: (إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ) ، (وَمَآ أَنفَقْتُمْ مِّن شَىْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) ، وَقَالَ: (وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا) . وَقَالَ فِي وَصْفِ الْحَادِثِ بِذَلِكَ: (وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُواْ الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِّنْهُ) ، وَقَالَ: (وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ) ، وَوَصَفَ نَفْسَهُ بِالْعَمَلِ، فَقَالَ: (أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَآ أَنْعاماً) ، وَقَالَ فِي وصف الْحَادِث بِهِ: (جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) وَوصف نَفسه بتعليم خلقه فَقَالَ: (الرَّحْمَانُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ الإِنسَانَ عَلَّمَهُ البَيَانَ) .
وَقَالَ فِي وَصْفِ الْحَادِثِ بِهِ: (هُوَ الَّذِى بَعَثَ فِى الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ(1/110)
يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ) .
وَجَمَعَ الْمِثَالَيْنِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ) ، وَوصف نَفسه بِأَنَّهُ ينبىء، وَوَصَفَ الْمَخْلُوقَ بِذَلِكَ، وَجَمَعَ الْمِثَالَيْنِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَإِذَ أَسَرَّ النَّبِىُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنبَأَكَ هَاذَا قَالَ نَبَّأَنِىَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ) . وَوَصَفَ نَفْسَهُ بِالْإِيتَاءِ، فَقَالَ: (أَلَمْ تَرَ إِلَىَّ الَّذِى حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِى رِبّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ) ، وَقَالَ: (يُؤْتِى الْحِكْمَةَ مَن يَشَاء) ، وَقَالَ: (وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ) ، وَقَالَ: (ذالِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ) .
وَقَالَ فِي وَصْفِ الْحَادِثِ بِذَلِكَ: (وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً) ، (وَآتُواْ الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ) ، (وَآتُواْ النِّسَآءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً) . وَأَمْثَالُ هَذَا كَثِيرَةٌ جِدًّا فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ.
وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَا وُصِفَ بِهِ اللَّهُ مِنْ هَذِهِ الْأَفْعَالِ فَهُوَ ثَابِتٌ لَهُ حَقِيقَةً عَلَى الْوَجْهِ اللَّائِقِ بِكَمَالِهِ وَجَلَالِهِ،
وَمَا وُصِفَ بِهِ الْمَخْلُوقُ مِنْهَا فَهُوَ ثَابِتٌ لَهُ أَيْضًا، عَلَى الْوَجْهِ الْمُنَاسِبِ لِحَالِهِ، وَبَيْنَ وَصْفِ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ
مِنَ الْمُنَافَاةِ مَا بَيْنَ ذَاتِ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ.
وَأَمَّا الصِّفَاتُ الْجَامِعَةُ، كَالْعِظَمِ وَالْكِبَرِ وَالْعُلُوِّ، وَالْمُلْكِ وَالتَّكَبُّرِ وَالْجَبَرُوتِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَإِنَّهَا أَيْضًا يَكْثُرُ جَدًّا وَصْفُ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ بِهَا فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ.
وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَا وُصِفَ بِهِ الْخَالِقُ مِنْهَا مُنَافٍ لِمَا وُصِفَ بِهِ الْمَخْلُوقُ، كَمُنَافَاةِ ذَاتِ الْخَالِقِ لِذَاتِ الْمَخْلُوقِ. قَالَ فِي وَصْفِ نَفْسِهِ جلا وَعلا بالعلو والعظم وَالْكبر: (وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِىُّ الْعَظِيمُ) ، (إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً) ، (عَالِمُ(1/111)
الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ) .
وَقَالَ فِي وَصْفِ الْحَادِثِ بِالْعِظَمِ: (فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ) ، (إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيمًا) ، (وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ) ، (عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَقَالَ فِي وَصْفِ الْحَادِثِ بِالْكِبَرِ: (لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) ، وَقَالَ: (إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا) ، وَقَالَ: (إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِى الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ) ، وَقَالَ: (وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ) ، وَقَالَ: (وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ) .
وَقَالَ فِي وَصْفِ الْحَادِثِ بِالْعُلُوِّ: (وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً) ، (وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيّاً) إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَقَالَ فِي وَصْفِ نَفْسِهِ بِالْمُلْكِ: (يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ) ، (هُوَ اللَّهُ الَّذِى لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ) ، وَقَالَ: (فِى مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرِ) .
وَقَالَ فِي وَصْفِ الْحَادِثِ بِهِ: (وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّى? أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ) ، (وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِى بِهِ) ، (وَكَانَ وَرَآءَهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً) ، (أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ) ، (تُؤْتِى الْمُلْكَ مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَآءُ) إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَقَالَ فِي وَصْفِ نَفْسِهِ بِالْعِزَّةِ: (فَإِن زَلَلْتُمْ مِّن بَعْدِ مَا جَآءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُو?اْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) ، (يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) ، (أَمْ عِندَهُمْ خَزَآئِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ) .
وَقَالَ فِي وصف الْحَادِث الْعِزَّة (قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ) ، (فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِى فِى الْخِطَابِ) .(1/112)
وَقَالَ فِي وَصْفِ نَفْسِهِ جَلَّ وَعَلَا بِأَنَّهُ جَبَّارٌ مُتَكَبِّرٌ (هُوَ اللَّهُ الَّذِى لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ
الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ) .
وَقَالَ فِي وَصْفِ الْحَادِثِ بِهِمَا: (كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ) ، (أَلَيْسَ فِى جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبِّرِينَ) ، (وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ) إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَقَالَ فِي وَصْفِ نَفْسِهِ بِالْقُوَّةِ: (إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) (وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِىٌّ عَزِيزٌ) .
وَقَالَ فِي وصف الْحَادِث بهَا: (وَقَالُواْ مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ اللَّهَ الَّذِى خَلَقَهُمْ) (وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى
قُوَّتِكُمْ) (إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأجَرْتَ الْقَوِىُّ الأَمِينُ) . (اللَّهُ الَّذِى خَلَقَكُمْ مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةٍ) إِلَى
غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَأَمْثَالُ هَذَا مِنَ الصِّفَاتِ الْجَامِعَةِ كَثِيرَةٌ فِي الْقُرْآنِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ جَلَّ وَعَلَا مُتَّصِفٌ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ الْمَذْكُورَةِ حَقِيقَة على الْوَجْه اللَّائِق بِكَمَالِهِ وجلاله، وَإِنَّمَا وُصِفَ بِهِ الْمَخْلُوقُ مِنْهَا مُخَالِفٌ لِمَا وُصِفَ بِهِ الْخَالِقُ، كَمُخَالَفَةِ ذَاتِ الْخَالِقِ جَلَّ وَعَلَا لِذَوَاتِ الْحَوَادِثِ، وَلَا إِشْكَالَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ الصِّفَاتُ الَّتِي اخْتَلَفَ فِيهَا الْمُتَكَلِّمُونَ؛ هَلْ هِيَ مِنْ صِفَاتِ الْمَعَانِي أَوْ مِنْ صِفَاتِ الْأَفْعَالِ، وَإِنْ كَانَ الْحَقُّ الَّذِي لَا يَخْفَى عَلَى مَنْ أَنَارَ اللَّهُ بَصِيرَتَهُ؛ أَنَّهَا صِفَاتُ مَعَانٍ أَثْبَتَهَا اللَّهُ، جَلَّ وَعَلَا، لِنَفْسِهِ، كَالرَّأْفَةِ وَالرَّحْمَةِ.
قَالَ فِي وَصْفِهِ جَلَّ وَعَلَا بهما: (إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ) وَقَالَ فِي وَصْفِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِمَا: (لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ) وَقَالَ فِي وَصْفِ نَفْسِهِ بِالْحِلْمِ: (لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُّدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ(1/113)
حَلِيمٌ) ، وَقَالَ فِي وَصْفِ الْحَادِثِ بِهِ: (فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ) ، (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ) .
وَقَالَ فِي وَصْفِ نَفْسِهِ بِالْمَغْفِرَةِ: (إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) ، (لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ) وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَقَالَ فِي وَصْفِ الْحَادِثِ بِهَا: (وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الاٍّمُورِ) . (قُل لِّلَّذِينَ آمَنُواْ يَغْفِرُواْ لِلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ) . (قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَآ أَذًى) وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَوَصَفَ نَفْسَهُ جَلَّ وَعَلَا بِالرِّضَى وَوَصَفَ الْحَادِثَ بِهِ أَيْضًا فَقَالَ: (رَّضِىَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ) وَوَصَفَ نَفْسَهُ جَلَّ وَعَلَا بِالْمَحَبَّةِ، وَوَصَفَ الْحَادِثَ بِهَا، فَقَالَ: (فَسَوْفَ يَأْتِى اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَا?ئِمٍ) ، (قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِى يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ) .
وَوَصَفَ نَفْسَهُ بِأَنَّهُ يَغْضَبُ إِنِ انْتُهِكَتْ حُرُمَاتُهُ فَقَالَ (قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِّن ذالِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللَّهِ مَن لَّعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ) ، (وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ) .
وَقَالَ فِي وَصْفِ الْحَادِثِ بِالْغَضَبِ (وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا) وَأَمْثَالُ هَذَا كَثِيرٌ جِدًّا.
وَالْمَقْصُودُ عِنْدَنَا ذِكْرُ أَمْثِلَةٍ كَثِيرَةٍ مِنْ ذَلِكَ، مَعَ إِيضَاحِ أَنَّ كُلَّ مَا اتَّصَفَ بِهِ جَلَّ وَعَلَا مِنْ تِلْكَ الصِّفَاتِ بَالِغٌ مِنْ غَايَاتِ الْكَمَالِ وَالْعُلُوِّ وَالشَّرَفِ مَا يَقْطَعُ عَلَائِقَ جَمِيعِ أَوْهَامِ الْمُشَابَهَةِ بَيْنَ صِفَاتِهِ جَلَّ وَعَلَا، وَبَيْنَ صِفَاتِ خَلْقِهِ، سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا.
فَإِذَا حَقَّقْتَ كُلَّ ذَلِكَ عَلِمْتَ أَنَّهُ جَلَّ وَعَلَا وَصَفَ نَفْسَهُ بِالِاسْتِوَاءِ عَلَى الْعَرْشِ، وَوَصَفَ غَيْرَهُ بِالِاسْتِوَاءِ عَلَى بَعْضِ الْمَخْلُوقَاتِ، فَتَمَدَّحَ جَلَّ وَعَلَا(1/114)
فِي سَبْعِ آيَاتٍ مِنْ كِتَابِهِ بِاسْتِوَائِهِ عَلَى عَرْشِهِ، وَلَمْ يَذْكُرْ صِفَةَ الِاسْتِوَاءِ إِلَّا مَقْرُونَةً بِغَيْرِهَا مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ وَالْجَلَالِ؛ الْقَاضِيَةِ بِعَظَمَتِهِ وَجَلَالِهِ جَلَّ وَعَلَا، وَأَنَّهُ الرَّبُّ وَحْدَهُ، الْمُسْتَحِقُّ لِأَنْ يُعْبَدَ وَحْدَهُ.
الْمَوْضِعُ الْأَوَّلُ: بِحَسَبِ تَرْتِيبِ الْمُصْحَفِ الْكَرِيمِ. قَوْلُهُ هُنَا فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ (إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِى خَلَقَ السَمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِى الَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ
وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) .
الْمَوْضِعُ الثَّانِي: قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ يُونُسَ: (إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ذالِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) .
الْمَوْضِعُ الثَّالِثُ: قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الرَّعْدِ: (اللَّهُ الَّذِى رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِى لأَجَلٍ مُّسَمًّى يُدَبَّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَآءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ وَهُوَ الَّذِى مَدَّ الأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِىَ وَأَنْهَاراً وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِى الَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِى ذالِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ وَفِى الأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَآءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ إِنَّ فِى ذالِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) .
الْمَوْضِعُ الرَّابِعُ: قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ طه: (مَآ أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى إِلاَّ تَذْكِرَةً لِّمَن يَخْشَى تَنزِيلاً مِّمَّنْ خَلَق الأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى الرَّحْمَانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى) .
الْمَوْضِعُ الْخَامِسُ: قَوْلُهُ فِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَىِّ الَّذِى لاَ(1/115)
يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَانُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً) .
الْمَوْضِعُ السَّادِسُ: قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ السَّجْدَةِ (اللَّهُ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ شَفِيعٍ أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَآءِ إِلَى الأَرْضِ) .
الْمَوْضِعُ السَّابِعُ: قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْحَدِيدِ (هُوَ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِى الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَآءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ) .
وَقَالَ جَلَّ وَعَلَا فِي وَصْفِ الْحَادِثِ بِالِاسْتِوَاءِ عَلَى بَعْضِ الْمَخْلُوقَاتِ: (لِتَسْتَوُواْ عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُواْ
نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ) ، (فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنتَ وَمَن مَّعَكَ عَلَى الْفُلْكِ) ، (وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِىِّ) وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَقَدْ عَلِمْتَ مِمَّا تَقَدَّمَ أَنَّهُ لَا إِشْكَالَ فِي ذَلِكَ، وَأَنَّ لِلْخَالِقِ جَلَّ وَعَلَا اسْتِوَاءً لَائِقًا بِكَمَالِهِ وَجَلَالِهِ، وللمخلوق أَيْضا اسْتِوَاء مُنَاسِب لِحَالِهِ، وَبَيْنَ اسْتِوَاءِ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ مِنَ الْمُنَافَاةِ مَا بَيْنَ ذَاتِ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ؛ عَلَى نَحْوِ (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ.
وَيَنْبَغِي لِلنَّاظِرِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ التَّأَمُّلُ فِي أُمُورٍ:
الْأَمْرُ الْأَوَّلُ: أَنَّ جَمِيعَ الصِّفَاتِ مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ، لِأَنَّ الْمَوْصُوفَ بِهَا وَاحِدٌ، وَلَا يَجُوزُ فِي حَقِّهِ مُشَابَهَةُ
الْحَوَادِثِ فِي شَيْءٍ مِنْ صِفَاتِهِمْ، فَمَنْ أَثْبَتَ مَثَلًا أَنَّهُ: سَمِيعٌ بَصِيرٌ، وَسَمْعُهُ، وَبَصَرُهُ مُخَالِفَانِ لِأَسْمَاعِ الْحَوَادِثِ وَأَبْصَارِهِمْ، لَزِمَهُ مِثْلُ ذَلِكَ فِي(1/116)
جَمِيعِ الصِّفَاتِ؛ كَالِاسْتِوَاءِ، وَالْيَدِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ صِفَاتِهِ جَلَّ وَعَلَا وَلَا يُمْكِنُ الْفَرْقُ بَيْنَ ذَلِكَ بِحَالٍ.
الْأَمْرُ الثَّانِي: أَنَّ الذَّاتَ وَالصِّفَاتِ مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ أَيْضًا، فَكَمَا أَنَّهُ جَلَّ وَعَلَا، لَهُ ذَاتٌ مُخَالِفَةٌ لِجَمِيعِ ذَوَاتِ الْخَلْقِ، فَلَهُ تَعَالَى صِفَاتٌ مُخَالِفَةٌ لِجَمِيعِ صِفَاتِ الْخَلْقِ.
الْأَمْرُ الثَّالِثُ: فِي تَحْقِيقِ الْمَقَامِ فِي الظَّاهِرِ الْمُتَبَادِرِ السَّابِقِ إِلَى الْفَهْمِ مِنْ آيَاتِ الصِّفَاتِ؛ كَالِاسْتِوَاءِ وَالْيَدِ مَثَلًا.
اعْلَمْ أَوَّلًا: أَنَّهُ غَلِطَ فِي هَذَا خَلْقٌ لَا يُحْصَى كَثْرَةً مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ، فَزَعَمُوا أَنَّ الظَّاهِرَ الْمُتَبَادِرَ السَّابِقَ إِلَى الْفَهْمِ مِنْ مَعْنَى الِاسْتِوَاءِ وَالْيَدِ مَثَلًا: فِي الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ. هُوَ مُشَابَهَةُ صِفَاتِ الْحَوَادِثِ. وَقَالُوا: يَجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نَصْرِفَهُ عَنْ ظَاهِرِهِ إِجْمَاعًا، لِأَنَّ اعْتِقَادَ ظَاهِرِهِ كُفْرٌ. لِأَنَّ مَنْ شَبَّهَ الْخَالِقَ بِالْمَخْلُوقِ فَهُوَ كَافِرٌ، وَلَا يَخْفَى عَلَى أَدْنَى عَاقِلٍ أَنَّ حَقِيقَةَ مَعْنَى هَذَا الْقَوْلِ. أَنَّ اللَّهَ وَصَفَ نَفْسَهُ فِي كِتَابِهِ بِمَا ظَاهِرُهُ الْمُتَبَادِرُ مِنْهُ السَّابِقُ إِلَى الْفَهْمِ الْكُفْرُ بِاللَّهِ وَالْقَوْلُ فِيهِ بِمَا لَا يَلِيقُ بِهِ جَلَّ وَعَلَا.
والنَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي قِيلَ لَهُ (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) لَمْ يُبَيِّنْ حَرْفًا وَاحِدًا مِنْ ذَلِكَ مَعَ إِجْمَاعِ مَنْ يَعْتَدُّ بِهِ مِنَ الْعُلَمَاءِ، عَلَى أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا يَجُوزُ فِي حَقِّهِ تَأْخِيرُ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ، وَأَحْرَى فِي الْعَقَائِدِ وَلَا سِيَّمَا مَا ظَاهِرُهُ الْمُتَبَادِرُ مِنْهُ الْكُفْرُ وَالضَّلَالُ الْمُبِينُ. حَتَّى جَاءَ هَؤُلَاءِ الْجَهَلَةُ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ، فَزَعَمُوا أَنَّ اللَّهَ أَطْلَقَ عَلَى نَفْسِهِ الْوَصْفَ بِمَا ظَاهِرُهُ الْمُتَبَادِرُ مِنْهُ لَا يَلِيقُ، والنَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَمَ أَنَّ ذَلِكَ الظَّاهِرَ الْمُتَبَادِرَ كُفْرٌ وَضَلَالٌ يَجِبُ صَرْفُ اللَّفْظِ عَنْهُ، وَكُلُّ هَذَا مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ غَيْرِ اعْتِمَادٍ عَلَى كِتَابٍ أَوْ سنة، (سُبْحَانَكَ هَاذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ) !
وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ مِنْ أَكْبَرِ الضَّلَالِ وَمِنْ أَعْظَمِ الِافْتِرَاءِ عَلَى الله(1/117)
جَلَّ وَعَلَا، وَرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْحَقُّ الَّذِي لَا يَشُكُّ فِيهِ أَدْنَى عَاقِلٍ أَنَّ كُلَّ وَصْفٍ وَصَفَ اللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ، أَوْ وَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَظَاهِرُهُ الْمُتَبَادِرُ مِنْهُ السَّابِقُ إِلَى فَهْمِ مَنْ فِي قَلْبِهِ شَيْءٌ مِنَ الْإِيمَانِ، هُوَ التَّنْزِيهُ التَّامُّ عَنْ مُشَابَهَةِ شَيْءٍ مِنْ صِفَاتِ الْحَوَادِثِ.
فبمجرد إِضَافَة الصّفة إِلَيْهِ، جلّ وَعلا، يتَبَادَر إِلَى الْفَهم أَنه لَا مُنَاسبَة بَين تِلْكَ الصّفة الْمَوْصُوف بهَا الْخَالِق، وَبَين شَيْء من صِفَات المخلوقين، وَهل يُنكر عَاقل، أَن السَّابِق إِلَى الْفَهُم الْمُتَبَادِر لِكُلِّ عَاقِلٍ: هُوَ مُنَافَاةُ الْخَالِقِ لِلْمَخْلُوقِ فِي ذَاتِهِ، وَجَمِيعِ صِفَاتِهِ، لَا وَاللَّهِ لَا يُنْكِرُ ذَلِكَ إِلَّا مُكَابِرٌ.
وَالْجَاهِلُ الْمُفْتَرِي الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّ ظَاهِرَ آيَاتِ الصِّفَاتِ، لَا يَلِيقُ بِاللَّهِ؛ لِأَنَّهُ كُفْرٌ وَتَشْبِيهٌ، إِنَّمَا جَرَّ إِلَيْهِ ذَلِكَ تَنْجِيسُ قَلْبِهِ، بِقَدْرِ التَّشْبِيهِ بَيْنَ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ، فَأَدَّاهُ شُؤْمُ التَّشْبِيهِ إِلَى نَفْيِ صِفَاتِ اللَّهِ جَلَّ وَعَلَا، وَعَدَمِ الْإِيمَانِ بِهَا. مَعَ أَنَّهُ جَلَّ وَعَلَا، هُوَ الَّذِي وَصَفَ بِهَا نَفْسَهُ فَكَانَ هَذَا الْجَاهِلُ مُشَبِّهًا أَوَّلًا، وَمُعَطِّلًا ثَانِيًا، فَارْتَكَبَ مَا لَا يَلِيقُ بِاللَّهِ ابْتِدَاءً وَانْتِهَاءً، وَلَوْ كَانَ قَلْبُهُ عَارِفًا بِاللَّهِ كَمَا يَنْبَغِي، مُعَظِّمًا لِلَّهِ كَمَا يَنْبَغِي، طَاهِرًا مِنْ أَقْذَارِ التَّشْبِيهِ. لَكَانَ الْمُتَبَادِرُ عِنْدَهُ السَّابِقُ إِلَى فَهْمِهِ: أَنَّ وَصْفَ اللَّهِ جَلَّ وَعَلَا، بَالِغٌ مِنَ الْكَمَالِ، وَالْجَلَالِ مَا يَقْطَعُ أَوْهَامَ عَلَائِقِ الْمُشَابَهَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ، فَيَكُونُ قَلْبُهُ مُسْتَعِدًّا لِلْإِيمَانِ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ وَالْجَلَالِ الثَّابِتَةِ لِلَّهِ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ، مَعَ التَّنْزِيهِ التَّامِّ عَنْ مُشَابَهَةِ صِفَاتِ الْخَلْقِ عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) فَلَو قَالَ مُنْقَطع: بَيِّنُوا لَنَا كَيْفِيَّةَ الِاتِّصَافِ بِصِفَةِ الِاسْتِوَاءِ وَالْيَدِ، وَنَحْوَ ذَلِكَ لِنَعْقِلَهَا. قُلْنَا: أَعَرَفْتَ كَيْفِيَّةَ الذَّاتِ الْمُقَدَّسَةِ الْمُتَّصِفَةِ بِتِلْكَ الصِّفَاتِ؟ فَلَا بُدَّ أَنْ يَقُول: لَا. فَتَقول: مَعْرِفَةُ كَيْفِيَّةِ الِاتِّصَافِ بِالصِّفَاتِ مُتَوَقِّفَةٌ عَلَى مَعْرِفَةِ كَيْفِيَّةِ الذَّاتِ، فَسُبْحَانَ مَنْ لَا يَسْتَطِيعُ غَيْرُهُ أَنْ يُحْصِيَ الثَّنَاءَ عَلَيْهِ هُوَ، كَمَا(1/118)
أَثْنَى عَلَى نَفْسِهِ: (يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً) ، (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) ، (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ) ، (فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلَّهِ الأَمْثَالَ) .
فَتَحَصَّلَ مِنْ جَمِيعِ هَذَا الْبَحْثِ أَنَّ الصِّفَاتِ مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ، وَأَنَّ الْحَقَّ فِيهَا مُتَرَكِّبٌ مِنْ أَمْرَيْنِ:
الْأَوَّلُ: تَنْزِيهُ اللَّهِ جَلَّ وَعَلَا عَنْ مُشَابَهَةِ الْخَلْقِ.
وَالثَّانِي: الْإِيمَانُ بِكُلِّ مَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ، أَوْ وَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِثْبَاتًا، أَوْ نَفْيًا. وَهَذَا هُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) ، وَالسَّلَفُ الصَّالِحُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَشُكُّونَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَلَا كَانَ يَشْكُلُ عَلَيْهِمْ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِ الْفَرَزْدَقِ وَهُوَ شَاعِرٌ فَقَطْ، وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ الْعِلْمِ، فَهُوَ عَامي:
وَكَيْفَ أَخَافُ النَّاسَ وَاللَّهُ قَابِضٌ ... عَلَى النَّاسِ وَالسَّبْعَيْنِ فِي رَاحَةِ الْيَدِ
وَمُرَادُهُ بِالسَّبْعَيْنِ: سَبْعُ سَمَاوَاتٍ، وَسَبْعُ أَرْضِينَ. فَمَنْ عَلِمَ مِثْلَ هَذَا مِنْ كَوْنِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِينَ فِي يَدِهِ جَلَّ وَعَلَا أَصْغَرَ مِنْ حَبَّةِ خَرْدَلٍ، فَإِنَّهُ عَالِمٌ بِعَظَمَةِ اللَّهِ وَجَلَالِهِ لَا يَسْبِقُ إِلَى ذِهْنِهِ مُشَابَهَةُ صِفَاتِهِ لِصِفَاتِ الْخَلْقِ، وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ زَالَ عَنْهُ كَثِيرٌ مِنَ الْإِشْكَالَاتِ الَّتِي أَشْكَلَتْ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا مِنْ تَنْزِيهِ اللَّهِ جَلَّ وَعَلَا عَمَّا لَا يَلِيقُ بِهِ، وَالْإِيمَانِ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ، أَوْ وَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. هُوَ مَعْنَى قَوْلِ الْإِمَامِ مَالِكٍ ـ رَحِمَهُ اللَّهُ ـ: الِاسْتِوَاءُ غَيْرُ مَجْهُولٍ، وَالْكَيْفُ غَيْرُ مَعْقُولٍ، وَالسُّؤَالُ عَنْهُ بِدْعَةٌ. وَيُرْوَى نَحْوُ قَوْلِ مَالِكٍ هَذَا عَنْ شَيْخِهِ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَأُمِّ سَلَمَةَ(1/119)
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى -] (1) .
فصل: متفرقات وقواعد فِي الْإِيمَان بأسماء الله عز وَجل وَصِفَاته
أَسمَاء الله الْحسنى متضمنة لصفاته الْعليا:
[قَوْلُهُ تَعَالَى: (تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) . قَدْ دَلَّ اسْتِقْرَاءُ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، عَلَى أَنَّ اللَّهَ جَلَّ وَعَلَا، إِذَا ذَكَّرَ تَنْزِيلَهُ لِكِتَابِهِ، أَتْبَعَ ذَلِكَ بِبَعْضِ أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى، الْمُتَضَمِّنَةِ صِفَاته الْعليا] (2) .
أَسمَاء الله تَعَالَى أَعْلَام وأوصاف:
[قَوْله تَعَالَى: (الرَّحْمَانِ الرَّحِيمِ) : همَا وَصْفَانِ للَّه تَعَالَى، وَاسْمَانِ مِنْ أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى، مُشْتَقَّانِ مِنَ الرَّحْمَةِ عَلَى وَجْهِ الْمُبَالغَة، والرحمان أَشد مُبَالغَة من الرَّحِيم؛ لِأَن الرحمان هُوَ ذُو الرَّحْمَةِ الشَّامِلَةِ لِجَمِيعِ الْخَلَائِقِ فِي الدُّنْيَا، وَلِلْمُؤْمِنِينَ فِي الْآخِرَةِ، وَالرَّحِيمُ ذُو الرَّحْمَةِ لِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَعَلَى هَذَا أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ] (3) .
_________
(1) - 2/272: 288، الْأَعْرَاف / 54. وَانْظُر أَيْضا: محاضرة " مَنْهَج ودراسات لآيَات الْأَسْمَاء والصِّفَات: الَّتِي أَلْقَاهَا فَضِيلَة الشَّيْخ مُحَمَّد الْأمين بالجامعة الإسلامية 13 رَمَضَان سنة 1382هـ فَفِيهَا تَأْكِيد للمعاني الْوَارِدَة فِي هَذَا الْمقَال، وَأَيْضًا بعض الْفَوَائِد والزيادات.
(2) - 7/41، الزمر / 1.
(3) - 1/ 33 - 34، الْفَاتِحَة / 2.(1/120)
صِيغ الْجمع للتعظيم لَا لتَعَدد الذَّات:
[وَصِيغَة الْجمع فِي آتَيْنَا وأورثنا للتعظيم] (1) .
وَقَالَ صَاحب التَّتِمَّة - رَحمَه الله -: [وَالضَّمِيرُ الْمُتَّصِلُ فِي: (إِنَّا) ، وَنَا فِي (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ) مُسْتَعْمل للْجمع والتعظيم، وَمِثْلُهَا نَحْنُ، وَقَدِ اجْتَمَعَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ) ، وَالْمُرَادُ بِهِمَا هُنَا التَّعْظِيمُ قَطْعًا لِاسْتِحَالَةِ التَّعَدُّدِ أَوْ إِرَادَةِ مَعْنَى الْجَمْعِ. فَقَدْ صَرَّحَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ بِاللَّفْظِ الصَّرِيحِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِي) وَالْمُرَادُ بِهِ الْقُرْآنُ قَطْعًا فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِتِلْكَ الضَّمَائِرِ تَعْظِيم الله تَعَالَى ... فَسَوَاء جئ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ أَوِ الْإِفْرَادِ، فَفِيهَا كُلِّهَا تَعْظِيمٌ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى سَوَاءٌ بِنَصِّهَا، وَأَصْلِ الْوَضْعِ، أَو بِالْقَرِينَةِ فِي السِّيَاق] (2) .
الله تَعَالَى أحد فِي ذَاته وَصِفَاته:
قَالَ صَاحب التَّتِمَّة - رَحمَه الله -: [وَقد دلّت الْآيَة الْكَرِيمَة - (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) - على أَن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أحد فِي ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ لَا شَبِيهَ وَلَا شَرِيكَ، وَلَا نَظِيرَ وَلَا نِدَّ لَهُ، سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَقَدْ فَسَّرَهُ ضِمْنًا قَوْلُهُ: (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) ] (3) .
لأسماء الله تَعَالَى أحكاماً تغاير أَسمَاء الآخرين:
قَالَ صَاحب التَّتِمَّة - رَحمَه الله -: [لِأَسْمَاءِ اللَّهِ أَحْكَامًا لَا لِأَسْمَاءِ الْآخَرِينَ، وَلِأَسْمَائِهِ سُبْحَانَهُ حق
التَّسْبِيح والتنزيه وَالدُّعَاء بهَا] (4) .
_________
(1) - 7/94، غَافِر / 53.
(2) - 9/379 - 381، الْقدر / 1.
(3) - 9/316 - 319: الْإِخْلَاص / 1.
(4) - 9/174، الْأَعْلَى / 1.(1/121)
بعض الْمعَانِي
بَيَان معنى تَنْزِيه أَسمَاء الله - تَعَالَى -:
قَالَ صَاحب التَّتِمَّة - رَحمَه اللَّهُ -: [أَمَّا تَنْزِيهُ أَسْمَاءِ اللَّهِ فَهُوَ عَلَى عِدَّةِ معانٍ.
مِنْهَا: تَنْزِيهُهَا عَنْ إِطْلَاقِهَا عَلَى الْأَصْنَامِ كَاللَّاتَ وَالْعُزَّى وَاسْمِ الْآلِهَةِ.
وَمِنْهَا: تَنْزِيهُهَا عَنِ اللَّهْوِ بِهَا وَاللَّعِبِ، كَالتَّلَفُّظِ بِهَا فِي حَالَةٍ تُنَافِي الْخُشُوعَ وَالْإِجْلَالَ كَمَنْ يَعْبَثُ بِهَا وَيَلْهُو، وَنَظِيرُهُ مَنْ يَلْهُو وَيَسْهُو عَنْ صَلَاتِهِ، (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ) ، أَوْ وَضْعِهَا فِي غَيْرِ مَوَاضِعِهَا، كَنَقْشِ الثَّوْبِ أَوِ الْفِرَاشِ الْمُمْتَهَنِ.
وَمِنْهَا: تَنْزِيهُهَا عَنِ الْمَوَاطِنِ غَيْرِ الطَّاهِرَةِ، وَقَدْ كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا دَخَلَ الْخَلَاءَ نَزَعَ خَاتَمَهُ لِمَا فِيهِ مِنْ نَقْشِ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (1) .
وَمِنْهَا: صِيَانَةُ الْأَوْرَاقِ الْمَكْتُوبَةِ مِنَ الِابْتِذَالِ صَوْنًا لِاسْمِ الله] (2) .
بَيَان معنى تبَارك، وَأَنَّهَا لَا تقال لغير الله - تَعَالَى -:
[وَفِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {تَبَارَكَ} أَقْوَالٌ لِأَهْلِ الْعِلْمِ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: {تَبَارَكَ} اخْتُلِفَ فِي مَعْنَاهُ، فَقَالَ الْفَرَّاءُ: هُوَ فِي الْعَرَبِيَّةِ بِمَعْنَى: تَقَدَّسَ وَهُمَا لِلْعَظَمَةِ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: {تَبَارَكَ} : تَفَاعَلَ مِنَ الْبَرَكَةِ. قَالَ: وَمَعْنَى الْبَرَكَةِ: الْكَثْرَةُ مِنْ كُلِّ ذِي خَيْرٍ، وَقِيلَ: {تَبَارَكَ} : تَعَالَى، وَقِيلَ: تَعَالَى
_________
(1) أخرجه أَبُو دَاوُد (1/52) (19) ، وَالتِّرْمِذِيّ (4/229) (1746) ، وَقَالَ: حسن غَرِيب، وَالنَّسَائِيّ (8/178) (5213) ، وَابْن مَاجَه (1/110) (303) كلهم من حَدِيث أنس، والْحَدِيث ضعفه الشَّيْخ الألباني - رَحمَه الله -.
(2) - 9/172 - 173، الْأَعْلَى / 1.(1/122)
عَطَاؤُهُ، أَيْ: زَادَ وَكَثُرَ. وَقِيلَ الْمَعْنَى: دَامَ وَثَبَتَ إِنْعَامُهُ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذَا أَوْلَاهَا فِي اللُّغَةِ وَالِاشْتِقَاقِ مِنْ بَرَكَ الشَّيْءُ إِذَا ثَبَتَ وَمِنْهُ بَرَكَ الْجَمَلُ وَالطَّيْرُ عَلَى الْمَاءِ، أَيْ: دَامَ وَثَبَتَ، انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْ كَلَامِ الْقُرْطُبِيُّ.
وَقَالَ أَبُو حَيَّانَ فِي «الْبَحْرِ الْمُحِيطِ» : قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {تَبَارَكَ} : لَمْ يَزَلْ، وَلَا يَزُولُ. وَقَالَ الْخَلِيلُ: تَمَجَّدَ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: تَعَظَّمَ. وَحَكَى الْأَصْمَعِيُّ: تَبَارَكْتُ عَلَيْكُمْ مِنْ قَوْلِ عَرَبِيٍّ صَعِدَ رَابِيَةً، فَقَالَ ذَلِكَ لِأَصْحَابِهِ، أَيْ: تَعَالَيْتُ وَارْتَفَعْتُ. فَفِي هَذِهِ الْأَقْوَالِ تَكُونُ صِفَةَ ذَاتٍ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا، وَالْحَسَنُ، وَالنَّخَعِيُّ: هُوَ مِنَ الْبَرَكَةِ، وَهُوَ التَّزَايُدُ فِي الْخَيْرِ مِنْ قِبَلِهِ. فَالْمَعْنَى زَادَ خَيْرُهُ وَعَطَاؤُهُ وَكَثُرَ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ صِفَةَ فِعْلٍ، انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْ كَلَامِ أَبِي حَيَّانَ.
قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّه عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: الْأَظْهَرُ فِي مَعْنَى {تَبَارَكَ} بِحَسب اللُّغَة الَّتِي نزل بهَا القرءان أَنَّهُ تَفَاعَلَ مِنَ الْبَرَكَةِ، كَمَا جَزَمَ بِهِ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ، وَعَلَيْهِ فَمَعْنَى {تَبَارَكَ} : تَكَاثَرَتِ الْبَرَكَاتُ وَالْخَيْرَاتُ مِنْ قِبَلِهِ، وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ عَظَمَتَهُ وَتَقَدُّسَهُ عَنْ كُلِّ مَا لَا يَلِيقُ بِكَمَالِهِ وَجَلَالِهِ؛ لِأَنَّ مَنْ تَأْتِي مِنْ قِبَلِهِ الْبَرَكَاتُ وَالْخَيْرَاتُ وَيَدِرُّ الْأَرْزَاقَ عَلَى النَّاسِ هُوَ وَحْدَهُ الْمُتَفَرِّدُ بِالْعَظَمَةِ، وَاسْتِحْقَاقِ إِخْلَاصِ الْعِبَادَةِ لَهُ، وَالَّذِي لَا تَأْتِي مِنْ قِبَلِهِ بَرَكَةٌ وَلَا خَيْرٌ، وَلَا رِزْقٌ كَالْأَصْنَامِ، وَسَائِرِ الْمَعْبُودَاتِ مِنْ دُونِ اللَّه لَا يَصِحُّ أَنَّ يُعْبَدَ، وَعِبَادَتُهُ كُفْرٌ مُخَلِّدٌ فِي نَارِ جَهَنَّمَ، وَقَدْ أَشَارَ تَعَالَى إِلَى هَذَا فِي قَوْلِهِ: {إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لاَ يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُواْ عِندَ اللَّهِ الرّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُواْ لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مّنَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ شَيْئًا وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ} ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ} ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِنْ رّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} ، وَقَوله(1/123)
تَعَالَى: {هُوَ الَّذِى يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزّلُ لَكُم مّنَ السَّمَاء رِزْقاً وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَن يُنِيبُ فَادْعُواْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} .
تَنْبِيهٌ:
اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: {تَبَارَكَ} فِعْلٌ جَامِدٌ لَا يَتَصَرَّفُ، فَلَا يَأْتِي مِنْهُ مُضَارِعٌ، وَلَا مَصْدَرٌ، وَلَا اسْمُ فَاعِلٍ، وَلَا غَيْرُ ذَلِكَ، وَهُوَ مِمَّا يَخْتَصُّ بِهِ اللَّه تَعَالَى، فَلَا يُقَالُ لِغَيْرِهِ تَبَارَكَ خِلَافًا لِمَا تقدّم عَن الْأَصْمَعِي] (1) .
معنى الْإِلْحَاد فِي أَسْمَائِهِ وآياته تَعَالَى:
[قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِى? أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) ، هَدَّدَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ بِتَهْدِيدَيْنِ: الْأَوَّلُ: صِيغَةُ الْأَمْرِ فِي قَوْلِهِ: (وَذَرُواْ) فَإِنَّهَا لِلتَّهْدِيدِ. وَالثَّانِي: فِي قَوْلِهِ: (سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) ، وَهَدَّدَ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِهِ فِي سُورَةِ حم «السَّجْدَةِ» بِأَنَّهُمْ لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِ: (إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِى? آيَاتِنَا لاَ يَخْفَوْنَ عَلَيْنَآ) ، ثُمَّ أَتْبَعَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: (أَفَمَن يُلْقَى فِى النَّارِ) .
وَأَصْلُ الْإِلْحَادِ فِي اللُّغَةِ: الْمَيْلُ، وَمِنْهُ اللَّحْدُ فِي الْقَبْرِ، وَمَعْنَى إِلْحَادِهِمْ فِي أَسْمَائِهِ هُوَ كَاشْتِقَاقِهِمُ اسْمَ اللَّاتِ مِنِ اسْمِ اللَّهِ، وَاسْمَ الْعُزَّى مِنِ اسْمِ الْعَزِيزِ. وَاسْمَ مَنَاةَ مِنَ الْمَنَّانِ، وَنَحْوَ ذَلِكَ وَالْعَرَبُ تَقُولُ: لَحَدَ وَأَلْحَدَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَعَلَيْهِمَا الْقِرَاءَتَانِ يُلْحِدُونَ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَالْحَاءِ مِنَ الْأَوَّلِ، وَبِضَمِّهَا وَكَسْرِ الْحَاءِ مِنَ الثَّانِي] (2) .
_________
(1) - 6 / 262 - 263، الْفرْقَان / 1.
(2) - 2/303 - 304، الْأَعْرَاف / 180.(1/124)
معنى الإحصاء لأسمائه تَعَالَى:
قَالَ صَاحب التَّتِمَّة - رَحمَه الله -: [قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: سَمَّى اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَسْمَاءَهُ بِالْحُسْنَى؛ لِأَنَّهَا حَسَنَةٌ فِي الْأَسْمَاعِ وَالْقُلُوبِ، فَإِنَّهَا تَدُلُّ عَلَى تَوْحِيدِهِ وَكَرَمِهِ وَجُودِهِ وَإِفْضَالِهِ، وَمَجِيءُ قَوْلِهِ تَعَالَى: (لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى) بَعْدَ تَعْدَادِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ اسْمًا مِنْ أَسْمَائِهِ سُبْحَانَهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لَهُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، وَلَمْ يَأْتِ حَصْرُهَا وَلَا عَدُّهَا فِي آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ.
وَقَدْ جَاءَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ لله تسعا وَتِسْعِينَ اسْمًا مِائَةً إِلَّا وَاحِدًا مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ وَهُوَ وَتْرٌ يُحِبُّ الْوَتْرَ» (1) .
وَسَرَدَ ابْنُ كَثِيرٍ عَدَدَ الْمِائَةِ مَعَ اخْتِلَافٍ فِي الرِّوَايَات.
وَذكر عِنْد آيَةِ الْأَعْرَافِ أَنَّهَا لَيْسَتْ مَحْصُورَةً فِي هَذَا الْعَدَدِ لِحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا أَصَابَ أَحَدًا قَطُّ هَمٌّ وَلَا حَزَنٌ فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي عَبدك بن عَبدك بن أَمَتِكَ نَاصِيَتِي بِيَدِكَ مَاضٍ فِيَّ حُكْمُكَ عَدْلٌ فِيَّ قَضَاؤُكَ أَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَكَ سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ أَوْ أَنْزَلْتَهُ فِي كِتَابِكَ
أَوْ عَلَّمْتَهُ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ أَوِ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَكَ أَنْ تَجْعَلَ الْقُرْآنَ الْكَرِيمَ رَبِيعَ قَلْبِي وَنُورَ صَدْرِي
وَجَلَاءَ حُزْنِي وَذَهَابَ هَمِّي إِلَّا أَذْهَبَ اللَّهُ حُزْنَهُ وهمه» الحَدِيث (2) .
اهـ.
_________
(1) - أخرجه البُخَارِيّ (2/891) (2585) ، وَمُسلم (4/2062) (2677) .
(2) - أخرجه أَحْمد (1/391، 452) ، وَابْن أبي شيبَة (6/40) (29318) ، وَأَبُو يعلى (9/198) (5297) ، وَابْن حبَان (3/253) (972) ، وَالْحَاكِم (1/690) (1877) ، وَقَالَ: " هَذَا حَدِيث صَحِيح على شَرط مُسلم إِن سلم من إرْسَال عبد الرَّحْمَن بن عبد الله عَن أَبِيه فَإِنَّهُ مُخْتَلف فِي سَمَاعه عَن أَبِيه ". - كلهم - من طَرِيق أبي سَلمَة الْجُهَنِيّ عَن الْقَاسِم بن ... عبد الرَّحْمَن عَن أَبِيه عَن أبن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ بِهِ. والْحَدِيث مَعْلُول بِجَهَالَة أبي مُوسَى الْجُهَنِيّ، إِلَّا أَنه لم ينْفَرد بِهِ فقد تَابعه: عبد الرَّحْمَن بن إِسْحَاق عَن الْقَاسِم عَن أَبِيه عَن ابْن مَسْعُود بِهِ، عِنْد الْبَزَّار (5/363) (1994) ، وَرَوَاهُ أَيْضا من نفس الطَّرِيق السَّابِق الْقزْوِينِي فِي " التدوين فِي أَخْبَار قزوين " (2/337) ، والضبي فِي "الدُّعَاء" (ص/163) (6) إِلَّا أَنهم لم يذكرُوا: عَن أَبِيه. وَعبد الرَّحْمَن بن إِسْحَاق ضَعِيف.
وَلِلْحَدِيثِ شَوَاهِد عَن أبي مُوسَى رَضِي الله عَنهُ عِنْد ابْن السّني (343) ، عزاهُ الهيثمي فِي الْمجمع للطبراني، وَقَالَ: فِيهِ من لم أعرفهُ. والْحَدِيث ضعفه الأرناؤوط فِي تَحْقِيق الْمسند، وأعل هَذَا السَّنَد بالإنقطاع بَين عبد الله بن زبيد، أبي مُوسَى، وَقد ضعف حَدِيث أبي مُوسَى الْحَافِظ فِي أمالي الْأَذْكَار فِيمَا نَقله ابْن عَلان إِلَّا أَنه حسن حَدِيث ابْن مَسْعُود بِهِ، والْحَدِيث صَححهُ الشَّيْخ الألباني - رَحمَه الله - فِي الصَّحِيحَة (198) ، وَقد وقفت للْحَدِيث على شَاهد آخر من حَدِيث ابْن عمر رَضِي الله عَنهُ عِنْد ابْن عَسَاكِر فِي "تَارِيخ دمشق" (68/120) من طَرِيق عبد الرَّحْمَن بن زِيَاد بن أنعم الإفْرِيقِي عَن رجل عَن ابْن عمر نَحوه، وَهَذَا السَّنَد ضَعِيف لضعف الأفريقي، وجهالة الْوَاسِطَة بَينه وَبَين ابْن عمر. وَهَذِه الطّرق للْحَدِيث تصلح لتقويته وَالله أعلم.(1/125)
وَمَحَلُّ الشَّاهِدِ مِنْهُ ظَاهِرٌ فِي أَنَّ لِلَّهِ أَسْمَاءً أَنْزَلَهَا فِي كُتُبِهِ وَأَسْمَاءً خَصَّ بِهَا بَعْضَ خَلْقِهِ كَمَا خَصَّ الْخِضْرَ بِعِلْمٍ مِنْ لَدُنْهُ، وَأَسْمَاءً اسْتَأْثَرَ بِهَا فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَهُ، كَمَا يَدُلُّ حَدِيثُ الشَّفَاعَةِ: «فَيُلْهِمُنِي رَبِّي بِمَحَامِدَ لَمْ أَكُنْ أَعْرِفُهَا مِنْ قَبْلُ» (1) ، وَالْوَاقِعُ أَنَّهُ لَا تَعَارُضَ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ: يتَعَلَّق بِعَدَد معِين، وَبِمَا تترتب عَلَيْهِ مِنَ الْجَزَاءِ، وَالْحَدِيثُ الثَّانِي: يَتَعَلَّقُ بِبَيَانِ أَقْسَامِ أَسْمَائِهِ تَعَالَى، مِنْ حَيْثُ الْعِلْمُ بِهَا وَتَعْلِيمُهَا وَمَا أُنْزِلُ مِنْهَا.
وَقَدْ ذَكَرَ هَذَا الْجَمْعَ فِي الْفَتْحِ فِي كِتَابِ الدَّعَوَاتِ عِنْدَ بَابِ: لِلَّهِ مِائَةُ اسْمٍ غَيْرَ وَاحِدٍ.
وَقَدْ حَاوَلَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ اسْتِخْرَاجَ الْمِائَةِ اسْمٍ مِنَ الْقُرْآنِ فَزَادُوا وَنَقَصُوا لِاعْتِبَارَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَقَدْ أَطَالَ فِي الْفَتْحِ بَحْثَ هَذَا الْمَوْضُوعِ فِي أَرْبَعَ عَشْرَةَ صفحة مِمَّا لَا غِنَى عَنْهُ وَلَا يُمْكِنُ نَقْلُهُ، وَلَا يصلح تلخيصه، وَقد ذكر من
_________
(1) - أخرجه البُخَارِيّ (6/2695) (6975) ، وَمُسلم (1/180) (193) من حَدِيث أنس بِنَحْوِهِ.(1/126)
أَفْرَدَهَا بِالتَّأْلِيفِ. كَمَا أَنَّ الْقُرْطُبِيَّ ذَكَرَ أَنَّهُ أَلَّفَ فِيهَا، وَأَسَاسُ الْبَحْثِ يَدُورُ عَلَى نُقْطَتَيْنِ:
الأولى: تعْيين الْمِائَة اسْم الْوَارِدَة.
وَالثَّانِيَةُ: مَعْنَى أَحْصَاهَا، وَفِي رِوَايَةٍ حَفِظَهَا.
وَقَدْ حَضَرْتُ مَجْلِسًا لِلشَّيْخِ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ فِي بَيْتِهِ مَعَ الشَّيْخِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَازٍ وَسَأَلَهُ عَنِ الصَّحِيحِ فِي ذَلِكَ، فَكَانَ حَاصِلُ مَا ذَكَرَ فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ أَنَّ التَّعْيِينَ لَمْ يَأْتِ فِيهِ نَصٌّ صَحِيحٌ، وَأَنَّ الْإِحْصَاءَ أَوِ الْحِفْظَ لَا يَنْبَغِي حَمْلُهُ عَلَى مُجَرَّدِ الْحِفْظِ لِلْأَلْفَاظِ غَيْبًا، وَلَكِنْ يُحْمَلُ عَلَى: أَحْصَى مَعَانِيهَا، وَحَفِظَهَا مِنَ التَّحْرِيفِ فِيهَا وَالتَّبْدِيلِ وَالتَّعْطِيلِ، وَحَاوَلَ التَّخَلُّقَ بِحُسْنِ صِفَاتِهَا كَالْحِلْمِ وَالْعَفْوِ وَالرَّأْفَةِ وَالرَّحْمَةِ وَالْكَرَمِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَالْحَذَرِ مِنْ مِثْلِ الْجَبَّارِ وَالْقَهَّارِ، وَمُرَاقَبَةِ مِثْلِ: الْحَسِيبِ الرَّقِيبِ، وَكَذَلِكَ التَّعَرُّضُ لِمِثْلِ التَّوَّابِ وَالْغَفُورِ بِالتَّوْبَةِ وَطَلَبِ الْمَغْفِرَةِ، وَالْهَادِي وَالرَّزَّاقِ بِطَلَبِ الْهِدَايَةِ وَالرِّزْقِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَنَقَلَ الْقُرْطُبِيُّ عَنِ ابْنِ الْعَرَبِيِّ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: (فَادْعُوهُ بِهَا) أَيْ اطْلُبُوا مِنْهُ بِأَسْمَائِهِ؛ فَيُطْلَبُ بِكُلِّ اسْمٍ مَا يَلِيق بِهِ، تَقول: يَا رَحِيم ارْحَمْنِي، يَا رَازِق ارْزُقْنِي، يَا هَادِي اهْدِنِي، يَا تَوَّابُ تُبْ عَليّ؛ هَكَذَا رتب دعاءك تكن من المخلصين. اهـ] (1) .
معنى النسْيَان الْمَنْفِيّ والمثبت لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى:
قَالَ صَاحب التَّتِمَّة - رَحمَه الله -: [قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا) ، وَقَوْلُهُ: (فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ) ، وَقَوْلُهُ: (نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ) ، وَفِي هَذَا نِسْبَةُ النِّسْيَانِ إِلَى
_________
(1) - 8 / 117: 120، الْحَشْر / 22: 24.(1/127)
اللَّهِ تَعَالَى فَوَقَعَ الْإِشْكَالُ مَعَ قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً) ، وَقَوْلِهِ: (لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى) .
وَقَدْ أَجَابَ الشَّيْخُ - رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ - عَنْ ذَلِكَ فِي دَفْعِ إِيهَامِ الِاضْطِرَاب، بِأَن النسْيَان الْمُثبت بِمَعْنى التّرْك، وَالْمَنْفِيَّ عَنْهُ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي بِمَعْنَى السَّهْوِ، لِأَنَّهُ محَال على الله تَعَالَى.
تَنْبِيه
مِمَّا نَصَّ عَلَيْهِ الشَّيْخُ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ - فِي مُقَدِّمَةِ الْأَضْوَاءِ، أَنَّ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَيَانِ أَنْ يُوجَدَ فِي الْآيَةِ اخْتِلَافٌ لِلْعُلَمَاءِ وَتُوجَدُ فِيهَا قَرِينَةٌ دَالَّةٌ عَلَى الْمَعْنَى الْمُرَادِ، وَهُوَ مَوْجُودٌ هُنَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا) وَهَذَا الْقَوْلُ يَكُونُ يَوْمَ الْقِيَامَة، وَقد يعبر عَنِ النِّسْيَانِ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ وَهِيَ لِلْحَالِ أَوِ الِاسْتِقْبَالِ، وَلَا يَكُونُ النِّسْيَانُ الْمُخْبَرُ عَنْهُ فِي الْحَالِ إِلَّا عَنْ قَصْدٍ وَإِرَادَةٍ، وَكَذَلِكَ لَا يُخْبَرُ عَنْ نِسْيَانٍ سَيَكُونُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ إِلَّا عَن قصد وَإِرَادَة، وَهَذَا النِّسْيَانِ بِمَعْنَى التَّرْكِ عَنْ قَصْدٍ، أَمَّا الَّذِي بِمَعْنَى السَّهْوِ فَيَكُونُ بِدُونِ قَصْدٍ وَلَا إِرَادَةٍ، فَلَا يَصِحُّ التَّعْبِيرُ عَنْهُ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ وَلَا الْإِخْبَارُ بِإِيقَاعِهِ عَلَيْهِمْ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، فَصَحَّ أَنَّ كُلَّ نِسْيَانٍ نُسِبَ إِلَى اللَّهِ فَهُوَ بِمَعْنَى التَّرْكِ، وَكَانَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ... (فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُم) ، مُفَسِّرًا ومبيناً لِمَعْنى (وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ) وَلِقَوْلِهِ (إِنَّا نَسِينَاكُم) وَالْعِلْمُ عِنْدَ الله ... تَعَالَى] (1) .
أَفعَال الْمُقَابلَة:
قَالَ صَاحب التَّتِمَّة - رَحمَه الله -: [قَوْله تَعَالَى: (إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً وَأَكِيدُ
_________
(1) - 8 / 93 - 94، الْحَشْر / 18.(1/128)
كَيْداً) ، نِسْبَةُ هَذَا الْفِعْلِ لَهُ تَعَالَى قَالُوا إِنَّهُ: مِنْ بَابِ الْمُقَابَلَةِ كَقَوْلِهِ: (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّه) ، وَقَوْلِهِ: (إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُون اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِم) ، وَهُوَ فِي اللُّغَةِ، كَقَوْلِ الْقَائِلِ لَمَّا سُئِلَ عَنْ أَيِّ الطَّعَامِ يُرِيدُ، وَهُوَ عارٍ يُرِيدُ كُسْوَةً:
قَالُوا اخْتَرْ طَعَامًا نَجِدْ لَكَ طَبْخَهُ ... قُلْتُ اطْبُخُوا لِي جُبَّةً وَقَمِيصَا
وَقَدِ اتَّفَقَ السَّلَفُ، أَنَّهُ لَا يُنْسَبُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى عَلَى سَبِيلِ الْإِطْلَاقِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُشْتَقَّ لَهُ مِنْهُ اسْمٌ، وَإِنَّمَا يُطْلَقُ فِي مُقَابِلِ فِعْلِ الْعِبَادِ؛ لِأَنَّهُ فِي غَيْرِ الْمُقَابَلَةِ لَا يَلِيقُ بِاللَّهِ تَعَالَى، وَفِي مَعْرِضِ الْمُقَابَلَةِ فَهُوَ فِي غَايَةِ الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ وَالْقُدْرَةِ.
وَالْكَيْدُ أَصله المعالجة لِلشَّيْءِ بِقُوَّةٍ.
وَقَالَ ابْنُ فَارِسٍ فِي مُعْجَمِ مَقَايِيسِ اللُّغَةِ: وَالْعَرَبُ قَدْ تُطْلِقُ الْكَيْدَ عَلَى الْمَكْرِ، وَالْعَرَبُ قَدْ يُسَمُّونَ الْمَكْرَ كَيْدًا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً) ، وَعَلَيْهِ فَالْكَيْدُ هُنَا لَمْ يُبَيَّنْ، فَإِذَا كَانَ بِمَعْنَى الْمَكْرِ، فَقَدْ تَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ بَيَانُ شَيْءٍ مِنْهُ عِنْدَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّه وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) ، بِأَنَّ مَكْرَهُمْ مُحَاوَلَتُهُمْ قَتْلَ عِيسَى، وَمَكْرُ اللَّهِ إِلْقَاءُ الشَّبَهِ، أَيْ شَبَّهَ عِيسَى عَلَى غَيْرِ عِيسَى.
وَتَقَدَّمَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ) ، وَهَذَا فِي قِصَّةِ النُّمْرُودِ، فَكَانَ مَكْرُهُمْ بُنْيَانَ الصَّرْحِ لِيَصْعَدَ إِلَى السَّمَاءِ، فَكَانَ مكر الله بهم أَن تركُوا حَتَّى تَصَاعَدُوا بِالْبِنَاءِ، فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِد، فهدمه عَلَيْهِم.
وَهَذَا الْكَيْدُ هُنَا، إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ لِلْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ يُرِيدُونَ ليطفئوا نور الله بأفواههم، وَقَدْ وَقَعَ تَحْقِيقُهُ فِي بَدْرٍ، إِذْ خَرَجُوا مُحَادَّةً لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ،(1/129)
وَفِي خُيَلَائِهِمْ وَمُفَاخَرَتِهِمْ وَكَيْدُ اللَّهِ لَهُمْ أَنْ قَلَّلَ الْمُؤْمِنِينَ فِي أَعْيُنِهِمْ، حَتَّى طَمِعُوا فِي الْقِتَالِ، وَأَمْطَرَ أَرْضَ الْمَعْرَكَةِ، وَهُمْ فِي أَرْضٍ سبخَة، والمسلمون فِي أَرض رماية فَكَانَ زلفا عَلَيْهِمْ وَثَبَاتًا لِلْمُؤْمِنِينَ، ثُمَّ أَنْزَلَ مَلَائِكَتَهُ لِقِتَالِهِمْ. وَالله تَعَالَى أعلم] (1) .
لَيست من آيَات الصِّفَات
(وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ) :
[قَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ {بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ} لَيْسَ مِنْ آيَاتِ الصِّفَاتِ الْمَعْرُوفَةِ بِهَذَا الِاسْمِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ {بِأَيْدٍ} لَيْسَ جَمْعَ يَدٍ: وَإِنَّمَا الْأَيْدُ الْقُوَّةُ، فَوَزْنُ قَوْلِهِ هُنَا بِأَيْدٍ فَعْلٌ، وَوَزْنُ الْأَيْدِي أَفْعُلُ، فَالْهَمْزَةُ فِي قَوْلِهِ: {بِأَيْدٍ} فِي مَكَانِ الْفَاءِ وَالْيَاءُ فِي مَكَانِ الْعَيْنِ، وَالدَّالُ فِي مَكَانِ اللَّامِ. وَلَوْ كَانَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {بِأَيْدٍ} جَمْعَ يَدٍ لَكَانَ وَزْنُهُ أَفْعُلًا، فَتَكُونُ الْهَمْزَةُ زَائِدَةً وَالْيَاءُ فِي مَكَانِ الْفَاءِ، وَالدَّالُ فِي مَكَانِ الْعَيْنِ وَالْيَاءُ الْمَحْذُوفَةُ لِكَوْنِهِ مَنْقُوصًا هِيَ اللَّامَ.
وَالْأَيْدُ، وَالْآدُ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ بِمَعْنَى الْقُوَّةِ، وَرَجُلٌ أَيْدٌ قَوِيٌّ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى {وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ} أَيْ قَوَّيْنَاهُ بِهِ، فَمَنْ ظَنَّ أَنَّهَا جَمْعُ يَدٍ فِي هَذِه الْآيَة فقد غلط فَاحِشا، وَالْمعْنَى: وَالسَّمَاء بنيناها بِقُوَّة] (2) .
(فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا)
قَالَ صَاحب التَّتِمَّة - رَحمَه الله -: [قَوْله تَعَالَى: (فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا) أَتَى: تَأتي بعدة معَان، مِنْهَا: بِمَعْنى الْمَجِيء، وَمِنْهَا بِمَعْنى
_________
(1) - 9 / 164: 166، الطارق / 15 - 16.
(2) - 7 / 669، الذاريات / 47.(1/130)
الْإِنْذَارِ، وَمِنْهَا بِمَعْنَى الْمُدَاهَمَةِ.
وَقَدْ تَوَهَّمَ الرَّازِيُّ أَنَّهَا مِنْ بَابِ الصِّفَاتِ، فَقَالَ: الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ قَوْلُهُ: (فَأَتَاهُمُ اللَّهُ) ، لَا يُمْكِنُ إِجْرَاؤُهُ عَلَى ظَاهره بِاتِّفَاق الْعُقَلَاءِ؛ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ بَابَ التَّأْوِيلِ مَفْتُوحٌ، وَأَن صرف الْآيَات بِمُقْتَضى الدَّلَائِل الْعَقْلِيَّة جَائِز. اهـ.
وَهَذَا مِنْهُ عَلَى مَبْدَئِهِ فِي تَأْوِيلِ آيَاتِ الصِّفَاتِ، وَيَكْفِي لِرَدِّهِ أَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى مُقْتَضَى الدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْعَقْلَ لَا مَدْخَلَ لَهُ فِي بَابِ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّهَا فَوْقَ مُسْتَوَيَاتِ الْعُقُولِ (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) ، وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
أَمَّا مَعْنَى الْآيَةِ، فَإِنَّ سِيَاقَ الْقُرْآنِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مِثْلَ هَذَا السِّيَاقِ لَيْسَ مِنْ بَابِ الصِّفَاتِ كَمَا فِي قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِد) ، أَيْ هَدَمَهُ وَاقْتَلَعَهُ مِنَ قَوَاعِدِهِ، وَنَظِيرِهِ: (أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً) ، وَقَوْلِهِ: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا) ، وَقَوْلِهِ: (أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا) .
وَفِي الْحَدِيثِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي العَدْوَى: (أنَّى قلتَ أُتِيتَ) (1) أَيْ دُهِيتَ وتغيَّر عَلَيْكَ حِسّك فَتَوَهَّمْتّ مَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ صَحِيحًا.
وَيُقَالُ: أُتِيَ فُلَانٌ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ التَّاءِ إِذَا أَظَلَّ عَلَيْهِ الْعَدُّوُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: «من مأمنه يَأْتِي الْحَذِرُ» ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا) أَخَذَهُمْ وَدَهَاهُمْ وَبَاغَتَهُمْ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا مِنْ قَتْلِ كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ وَحِصَارِهِمْ، وَقَذْفِ الرُّعْبِ فِي قُلُوبِهِمْ.
وَهُنَاكَ مَوْقِفٌ آخَرُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ يُؤَيِّدُ مَا ذكرنَا هُنَا، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى:
_________
(1) - لم أَقف عَلَيْهِ.(1/131)
(وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: (فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ) وَهُوَ فِي سِيَاقِ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَهُمْ بِذَاتِهِمِ الَّذِينَ قَالَ: (فَأَتَاهُمُ اللَّهُ) فَيَكُونُ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ هُنَا هُوَ إِتْيَانُ أَمْرِهِ تَعَالَى الْمَوْعُودِ فِي بَادِئِ الْأَمْرِ عِنْد الْأَمر بِالْعَفو والصفح..... وَيَشْهَدُ لِهَذَا كُلِّهِ الْقِرَاءَةُ الثَّانِيَةُ فَآتَاهُمْ بِالْمَدِّ: بِمَعْنَى أَعْطَاهُمْ وَأَنْزَلَ بِهِمْ، وَيَكُونُ الْفِعْلُ مُتَعَدِّيًا وَالْمَفْعُول مَحْذُوف دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: (مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا) أَيْ أَنْزَلَ بِهِمْ عُقُوبَةً وَذِلَّةً وَمَهَانَةً جَاءَتْهُمْ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى] (1) .
ردود
الرَّد على الأشاعرة وَبَيَان رُجُوع بعض أَئِمَّة الْكَلَام لمَذْهَب السّلف:
[وَقَوْلُ الصَّاوِيِّ فِي كَلَامِهِ الْمَذْكُورِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ: إِنَّ الْعُلَمَاءَ قَالُوا: إِنَّ الْأَخْذَ بِظَوَاهِرِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ أَصُولُ الْكُفْرِ. قَوْلٌ بَاطِلٌ لَا يَشُكُّ فِي بُطْلَانِهِ مِنْ عِنْدِهِ أَدْنَى مَعْرِفَةٍ.
وَمَنْ هُمُ الْعُلَمَاءُ الَّذِينَ قَالُوا إِن الْأَخْذ بظواهر الْكتاب وَالسّنة من أصُول الْكُفْرِ؟
سَمُّوهُمْ لَنَا، وَبَيِّنُوا لَنَا مَنْ هُمْ؟
وَالْحَقُّ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ لَا يَقُولُهُ عَالِمٌ، وَلَا مُتَعَلِّمٌ؛ لِأَنَّ
_________
(1) - 8 / 32: 34، الْحَشْر / 2. ...(1/132)
ظَوَاهِرَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ هِيَ نُورُ اللَّهِ الَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَى رَسُولِهِ لِيُسْتَضَاءَ بِهِ فِي أَرْضِهِ وَتُقَامَ بِهِ حُدُودُهُ، وَتُنَفَّذَ بِهِ أَوَامِرُهُ، وَيُنْصَفَ بِهِ بَيْنَ عِبَادِهِ فِي أَرْضِهِ.
وَالنُّصُوصُ الْقَطْعِيَّةُ الَّتِي لَا احْتِمَالَ فِيهَا قَلِيلَةٌ جِدًّا لَا يَكَادُ يُوجَدُ مِنْهَا إِلَّا أَمْثِلَةٌ قَلِيلَةٌ جِدًّا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} .
وَالْغَالِبُ الَّذِي هُوَ الْأَكْثَرُ هُوَ كَوْنُ نُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ظَوَاهِرُ.
وَقَدْ أَجْمَعَ جَمِيعُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ الْعَمَلَ بِالظَّاهِرِ وَاجِبٌ حَتَّى يَرِدَ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ صَارِفٌ عَنْهُ، إِلَى الْمُحْتَمَلِ الْمَرْجُوحِ، وَعَلَى هَذَا كُلُّ مَنْ تَكَلَّمَ فِي الْأُصُولِ.
فَتَنْفِيرُ النَّاسِ وَإِبْعَادُهَا عَنْ كِتَابِ اللَّهِ، وَسُنَّةِ رَسُولِهِ، بِدَعْوَى أَنَّ الْأَخْذَ بِظَوَاهِرِهِمَا مِنْ أُصُولِ الْكُفْرِ هُوَ مِنْ أَشْنَعِ الْبَاطِلِ وَأَعْظَمِهِ كَمَا تَرَى.
وَأُصُولُ الْكُفْرِ يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَحْذَرَ مِنْهَا كُلَّ الْحَذَرِ، وَيَتَبَاعَدَ مِنْهَا كُلَّ التَّبَاعُدِ وَيَتَجَنَّبَ أَسْبَابَهَا كُلَّ الِاجْتِنَابِ، فَيَلْزَمُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ الْمُنْكَرِ الشَّنِيعِ وُجُوبُ التَّبَاعُدِ مِنَ الْأَخْذِ بِظَوَاهِرَ الْوَحْيِ.
وَهَذَا كَمَا تَرَى، وَبِمَا ذَكَرْنَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ مِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ الضَّلَالِ، ادِّعَاءَ أَنَّ ظَوَاهِرَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ دَالَّةٌ عَلَى مَعَانٍ قَبِيحَةٍ، لَيْسَتْ بِلَائِقَةٍ.
وَالْوَاقِعُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ بُعْدُهَا وَبَرَاءَتُهَا مِنْ ذَلِكَ.
وَسَبَبُ تِلْكَ الدَّعْوَى الشَّنِيعَةِ عَلَى ظَوَاهِرِ كِتَابِ اللَّهِ، وَسُنَّةِ رَسُولِهِ، هُوَ عَدَمُ مَعْرِفَةِ مُدَّعِيهَا.
وَلِأَجْلِ هَذِهِ الْبَلِيَّةِ الْعُظْمَى، وَالطَّامَّةِ الْكُبْرَى، زَعَمَ كَثِيرٌ مِنَ النُّظَّارِ الَّذِينَ عِنْدَهُمْ فَهْمٌ، أَنَّ ظَوَاهِرَ آيَاتِ الصِّفَاتِ وَأَحَادِيثَهَا، غَيْرُ لَائِقَةٍ بِاللَّهِ؛ لِأَنَّ ظَوَاهِرَهَا الْمُتَبَادِرَةَ مِنْهَا هُوَ تَشْبِيهُ صِفَاتِ اللَّهِ بِصِفَاتِ خلقه، وَعقد ذَلِك(1/133)
الْمقري فِي إِضَاءَتِهِ فِي قَوْلِهِ:
وَالنَّصُّ إِنْ أَوْهَمَ غَيْرَ اللَّائِقِ ... بِاللَّهِ كَالتَّشْبِيهِ بِالْخَلَائِقِ
فَاصْرِفْهُ عَنْ ظَاهِرِهِ إِجْمَاعَا ... وَاقْطَعْ عَنِ الْمُمْتَنِعِ الْأَطْمَاعَا
وَهَذِهِ الدَّعْوَى الْبَاطِلَةُ (1) ، مَنْ أَعْظَمِ الِافْتِرَاءِ عَلَى آيَاتِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَحَادِيثِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَالْوَاقِعُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ أَنَّ ظَوَاهِرَ آيَاتِ الصِّفَاتِ وَأَحَادِيثِهَا الْمُتَبَادِرَةِ مِنْهَا، لِكُلِّ مُسْلِمٍ رَاجِعَ عَقْلَهُ، هِيَ مُخَالَفَةُ صِفَاتِ اللَّهِ لِصِفَاتِ خَلْقِهِ.
وَلَا بُدَّ أَنْ نَتَسَاءَلَ هُنَا فَنَقُولُ: أَلَيْسَ الظَّاهِرُ الْمُتَبَادِرُ مُخَالَفَةَ الْخَالِقِ لِلْمَخْلُوقِ، فِي الذَّاتِ وَالصِّفَاتِ وَالْأَفْعَالِ؟
وَالْجَوَابُ الَّذِي لَا جَوَابَ غَيْرُهُ: بَلَى.
وَهَلْ تَشَابَهَتْ صِفَاتُ اللَّهِ مَعَ صِفَاتِ خَلْقِهِ حَتَّى يُقَالَ إِنَّ اللَّفْظَ الدَّالَّ عَلَى صِفَتِهِ تَعَالَى ظَاهِرُهُ الْمُتَبَادِرُ مِنْهُ تَشْبِيهُهُ بِصِفَةِ الْخَلْقِ؟
وَالْجَوَابُ الَّذِي لَا جَوَابَ غَيْرُهُ: لَا.
فَبِأَيِّ وَجْهٍ يَتَصَوَّرُ عَاقِلٌ أَنَّ لَفْظًا أَنْزَلَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ، مَثَلًا دَالًّا عَلَى صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ أَثْنَى بِهَا تَعَالَى عَلَى نَفْسِهِ، يَكُونُ ظَاهِرُهُ الْمُتَبَادِرُ مِنْهُ، مُشَابَهَتَهُ لصفة الْخلق؟ {سُبْحَانَكَ هَاذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} .
فَالْخَالِقُ وَالْمَخْلُوقُ مُتَخَالِفَانِ كُلَّ التَّخَالُفِ وصفاتهما متخالفة كل
_________
(1) - مَا قَالَهُ الشَّيْخُ أَحْمَدُ الصَّاوِيُّ، فِي حَاشِيَتِهِ عَلَى الْجَلَالَيْنِ، فِي سُورَةِ الْكَهْفِ وَآلِ عِمْرَانَ: وَلَا يَجُوزُ تَقْلِيدُ مَا عَدَا الْمَذَاهِبَ
الْأَرْبَعَةَ، وَلَوْ وَافَقَ قَوْلَ الصَّحَابَةِ وَالْحَدِيثَ الصَّحِيحَ وَالْآيَةَ، فَالْخَارِجُ عَنِ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ، ضَالٌّ مُضِلٌّ وَرُبَّمَا أَدَّاهُ ذَلِكَ لِلْكُفْرِ، لِأَنَّ الْأَخْذَ بِظَوَاهِرِ الْكِتَابِ وَالسّنة من أصُول الْكفْر، وَانْظُر أضواء الْبَيَان: 7/437: 443، مُحَمَّد / 24.(1/134)
التَّخَالُفِ. فَبِأَيِّ وَجْهٍ يُعْقَلُ دُخُولُ صِفَةِ الْمَخْلُوقِ فِي اللَّفْظِ الدَّالِّ عَلَى صِفَةِ الْخَالِقِ؟ أَوْ دُخُولُ صِفَةِ الْخَالِقِ فِي اللَّفْظِ الدَّالِّ عَلَى صِفَةِ الْمَخْلُوقِ مَعَ كَمَالِ الْمُنَافَاةِ بَيْنَ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ؟
فَكُلُّ لَفْظٍ دَلَّ عَلَى صِفَةِ الْخَالِقِ ظَاهِرُهُ الْمُتَبَادِرُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ لَائِقًا بِالْخَالِقِ مُنَزَّهًا عَنْ مُشَابَهَةِ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِ.
وَكَذَلِكَ اللَّفْظُ الدَّالُّ عَلَى صِفَةِ الْمَخْلُوقِ لَا يُعْقَلُ أَنْ تَدْخُلَ فِيهِ صِفَةُ الْخَالِقِ.
فَالظَّاهِرُ الْمُتَبَادِرُ مِنْ لَفْظِ الْيَدِ بِالنِّسْبَةِ لِلْمَخْلُوقِ، هُوَ كَوْنُهَا جَارِحَةً هِيَ عَظْمٌ وَلَحْمٌ وَدَمٌ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي يَتَبَادَرُ إِلَى الذِّهْنِ فِي نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاقْطَعُو?اْ أَيْدِيَهُمَا} .
وَالظَّاهِرُ الْمُتَبَادِرُ مِنَ الْيَدِ بِالنِّسْبَةِ لِلْخَالِقِ فِي نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَىَّ} أَنَّهَا صِفَةُ كَمَالٍ وَجَلَالٍ، لَائِقَةٌ بِاللَّهِ جَلَّ وَعَلَا ثَابِتَةٌ لَهُ عَلَى الْوَجْهِ اللَّائِقِ بِكَمَالِهِ وَجَلَالِهِ.
وَقَدْ بَيَّنَ جَلَّ وَعَلَا عِظَمَ هَذِهِ الصِّفَةِ وَمَا هِيَ عَلَيْهِ مِنَ الْكَمَالِ وَالْجَلَالِ، وَبَيَّنَ أَنَّهَا مِنْ صِفَاتِ التَّأْثِيرِ كَالْقُدْرَةِ، قَالَ تَعَالَى فِي تَعْظِيمِ شَأْنِهَا {وَمَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} .
وَبَيِّنَ أَنَّهَا صِفَةُ تَأْثِيرٍ كَالْقُدْرَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالَ ياإِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَىَّ} ، فَتَصْرِيحُهُ تَعَالَى بِأَنَّهُ خَلَقَ نَبِيَّهُ آدَمَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي هِيَ صِفَاتُ كَمَالِهِ وَجَلَالِهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا مِنْ صِفَاتِ التَّأْثِيرِ كَمَا تَرَى.
وَلَا يَصِحُّ هُنَا تَأْوِيلُ الْيَدِ بِالْقُدْرَةِ الْبَتَّةَ، لِإِجْمَاعِ أَهْلِ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، كُلِّهِمْ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَثْنِيَةُ الْقُدْرَةِ.(1/135)
وَلَا يَخْطُرُ فِي ذِهْنِ الْمُسْلِمِ الْمَرَاجِعِ عَقْلَهُ، دُخُولُ الْجَارِحَةِ الَّتِي هِيَ عَظْمٌ وَلَحْمٌ وَدَمٌ فِي مَعْنَى هَذَا اللَّفْظِ، الدَّالِّ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ الْعَظِيمَةِ، مِنْ صِفَاتِ خَالِقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ.
فَاعْلَمْ أَيُّهَا الْمُدَّعِي أَنَّ ظَاهِرَ لَفْظِ الْيَدِ فِي الْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ وَأَمْثَالَهَا، لَا يَلِيقُ بِاللَّهِ، لِأَنَّ ظَاهِرَهَا التَّشْبِيهُ بِجَارِحَةِ الْإِنْسَانِ، وَأَنَّهَا يَجِبُ صَرْفُهَا، عَنْ هَذَا الظَّاهِرِ الْخَبِيثِ، وَلَمْ تَكْتَفِ بِهَذَا حَتَّى ادَّعَيْتَ الْإِجْمَاعَ عَلَى صَرْفِهَا عَنْ ظَاهِرِهَا. أَنَّ قَوْلَكَ هَذَا كُلَّهُ افْتِرَاءٌ عَظِيمٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَعَلَى كِتَابِهِ الْعَظِيمِ، وَأَنَّكَ بسبه كُنْتَ أَعْظَمَ الْمُشَبِّهِينَ وَالْمُجَسِّمِينَ، وَقَدْ جَرَّكَ شُؤْمُ هَذَا التَّشْبِيهِ، إِلَى وَرْطَةِ التَّعْطِيلِ، فَنَفَيْتَ الْوَصْفَ الَّذِي أَثْبَتَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ لِنَفْسِهِ بِدَعْوَى أَنَّهُ لَا يَلِيقُ بِهِ، وَأَوَّلْتَهُ بِمَعْنًى آخَرَ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِكَ بِلَا مُسْتَنَدٍ مِنْ كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ وَلَا إِجْمَاعٍ، وَلَا قَوْلِ أَحَدٍ مِنَ السَّلَفِ.
وَمَاذَا عَلَيْكَ لَوْ صَدَقْتَ اللَّهَ وَآمَنْتَ بِمَا مَدَحَ بِهِ نَفْسَهُ عَلَى الْوَجْهِ اللَّائِقِ بِكَمَالِهِ وَجَلَالِهِ مِنْ غَيْرِ كَيْفٍ وَلَا تَشْبِيهٍ وَلَا تَعْطِيلٍ؟
وَبِأَيِّ مُوجِبٍ سَوَّغْتَ لِذِهْنِكَ أَنْ يَخْطُرَ فِيهِ صِفَةُ الْمَخْلُوقِ عِنْدَ ذِكْرِ صِفَةِ الْخَالِقِ؟
هَلْ تَلْتَبِسُ صِفَةُ الْخَالِقِ بِصِفَةِ الْمَخْلُوقِ عَنْ أَحَدٍ؟ حَتَّى يَفْهَمَ صِفَةَ الْمَخْلُوقِ مِنَ اللَّفْظِ الدَّالِّ عَلَى صِفَةِ
الْخَالِقِ؟
فَاخْشَ اللَّهَ يَا إِنْسَانُ، وَاحْذَرْ مِنَ التَّقَوُّلِ عَلَى اللَّهِ بِلَا عِلْمٍ، وَآمِنْ بِمَا جَاءَ فِي كِتَابِ اللَّهِ مَعَ تَنْزِيهِ اللَّهِ عَنْ مُشَابَهَةِ خَلْقِهِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ الَّذِي أَحَاطَ عِلْمُهُ بِكُلِّ شَيْءٍ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ الْفَرْقُ بَيْنَ الْوَصْفِ اللَّائِقِ بِهِ وَالْوَصْفِ غَيْرِ اللَّائِقِ بِهِ، حَتَّى يَأْتِيَ إِنْسَانٌ فَيَتَحَكَّمَ فِي ذَلِكَ فَيَقُولَ: هَذَا الَّذِي وَصَفْتَ بِهِ نَفْسَكَ غَيْرُ لَائِقٍ بِكَ، وَأَنَا أَنْفِيهِ عَنْكَ بِلَا(1/136)
مُسْتَنَدٍ مِنْكَ وَلَا مِنْ رَسُولِكَ، وَآتِيكَ بَدَلَهُ بِالْوَصْفِ اللَّائِقِ بِكَ. فَالْيَدُ مَثَلًا الَّتِي وَصَفْتَ بِهَا نَفْسَكَ لَا تَلِيقُ بِكَ لِدَلَالَتِهَا عَلَى التَّشْبِيهِ بِالْجَارِحَةِ، وَأَنَا أَنْفِيهَا عَنْكَ نَفْيًا بَاتًّا، وَأُبْدِلُهَا لَكَ بِوَصْفٍ لَائِقٍ بِكَ وَهُوَ النِّعْمَةُ أَو الْقُدْرَة مثلا أَو الْجُود. {سُبْحَانَكَ هَاذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} . {فَاتَّقُواْ اللَّهَ ياأُوْلِى الأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُواْ قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً رَّسُولاً يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِّيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} .
وَمِنَ الْغَرِيبِ أَنَّ بَعْضَ الْجَاحِدِينَ لصفات الله المؤولين لَهَا بِمَعَانٍ لَمْ تَرِدْ عَنِ اللَّهِ وَلَا عَنْ رَسُولِهِ يُؤْمِنُونَ فِيهَا بِبَعْضِ الْكِتَابِ دُونَ بَعْضٍ.
فَيُقِرُّونَ بِأَنَّ الصِّفَاتِ السَّبْعَ الَّتِي تُشْتَقُّ مِنْهَا أَوْصَافٌ ثَابِتَةٌ لِلَّهِ مَعَ التَّنْزِيهِ، وَنَعْنِي بِهَا الْقُدْرَةُ وَالْإِرَادَةُ وَالْعِلْمُ وَالْحَيَاةُ وَالسَّمْعُ وَالْبَصَرُ وَالْكَلَامُ، لِأَنَّهَا يُشْتَقُّ مِنْهَا قَادِرٌ حَيٌّ عَلِيمٌ إِلَخْ.
وَكَذَلِكَ فِي بَعْضِ الصِّفَاتِ الْجَامِعَةِ كَالْعَظَمَةِ وَالْكِبْرِيَاءِ وَالْمُلْكِ وَالْجَلَالِ مَثَلًا، لِأَنَّهَا يُشْتَقُّ مِنْهَا الْعَظِيمُ الْمُتَكَبِّرُ وَالْجَلِيلُ وَالْمَلِكُ، وَهَكَذَا يَجْحَدُونَ كُلَّ صِفَةٍ ثَبَتَتْ فِي كِتَابُ اللَّهِ وَسُنَّةُ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُشْتَقَّ مِنْهَا غَيْرُهَا كَصِفَةِ الْيَدِ وَالْوَجْهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا التَّفْرِيقَ بَيْنَ صِفَاتِ اللَّهِ الَّتِي أَثْبَتَهَا لِنَفْسِهِ أَوْ أَثْبَتَهَا لَهُ رَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا وَجْهَ لَهُ الْبَتَّةَ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ.
وَلَمْ يَرِدْ عَنِ اللَّهِ وَلَا عَنْ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْإِذْنُ فِي الْإِيمَانِ بِبَعْضِ صِفَاتِهِ وَجَحْدِ بَعْضِهَا، وَتَأْوِيلِهِ لِأَنَّهَا لَا يُشْتَقُّ مِنْهَا.
وَهَلْ يَتَصَوَّرُ عَاقِلٌ أَنْ يَكُونَ عَدَمُ الِاشْتِقَاقِ مُسَوِّغًا لَجَحْدِ مَا وَصَفَ اللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ؟
وَلَا شَكَّ عِنْدَ كُلِّ مُسْلِمٍ رَاجَعَ عَقْلَهُ، أَنَّ عَدَمَ الِاشْتِقَاقِ لَا يُرَدُّ بِهِ كَلَامُ اللَّهِ، فِيمَا أَثْنَى بِهِ عَلَى نَفْسِهِ، وَلَا كَلَامُ رَسُولِهِ فِيمَا وَصَفَ بِهِ رَبَّهُ.
وَالسَّبَبُ الْمُوجِبُ لِلْإِيمَانِ إِيجَابًا حَتْمًا كُلِّيًّا هُوَ كَوْنُهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَهَذَا(1/137)
السَّبَبُ هُوَ الَّذِي عَلِمَ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ أَنَّهُ الْمُوجِبُ لِلْإِيمَانِ بِكُلِّ مَا جَاءَ عَنِ اللَّهِ سَوَاءٌ اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِعِلْمِهِ كَالْمُتَشَابِهِ، أَوْ كَانَ مِمَّا يَعْلَمُهُ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ كَمَا قَالَ اللَّهُ عَنْهُمْ: {وَالرَاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا} .
فَلَا شَكَّ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَىَّ} مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا. وَقَوْلَهُ تَعَالَى: {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا أَيْضًا، فَيَجِبُ عَلَيْنَا الْإِيمَانُ بِالْجَمِيعِ، لِأَنَّهُ كُلَّهُ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا.
أَمَّا الَّذِي يُفَرِّقُ بَيْنَهُ، وَهُوَ عَالِمٌ بِأَنَّ كُلَّهُ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِ، بِأَنَّ هَذَا يُشْتَقُّ مِنْهُ، وَهَذَا لَا يُشْتَقُّ مِنْهُ فَقَدْ آمَنَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ دُونَ بَعْضٍ.
وَالْمَقْصُودُ أَن كلما جَاءَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهِ سَوَاءٌ كَانَ مِنَ الْمُتَشَابِهِ، أَوْ مِنْ غَيْرِ الْمُتَشَابِهِ، وَسَوَاءٌ كَانَ يُشْتَقُّ مِنْهُ أَوْ لَا.
وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَالِكًا رَحِمَهُ اللَّهُ سُئِلَ كَيْفَ اسْتَوَى، فَقَالَ الِاسْتِوَاءُ غَيْرُ مَجْهُولٍ وَالْكَيْفُ غَيْرُ مَعْقُولٍ، وَالْإِيمَانُ بِهِ وَاجِبٌ.
وَمَا يَزْعُمُهُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّ الْقُدْرَةَ وَالْإِرَادَةَ مَثَلًا وَنَحْوَهُمَا لَيْسَتْ كَالْيَدِ، وَالْوَجْهِ، بِدَعْوَى أَنَّ الْقُدْرَةَ وَالْإِرَادَةَ مَثَلًا ظَهَرَتْ آثَارُهُمَا فِي الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ وَالسُّفْلِيِّ بِخِلَافِ غَيْرِهِمَا كَصِفَةِ الْيَدِ وَنَحْوِهَا فَهُوَ مِنْ أَعْظَمِ الْبَاطِلِ.
وَمِمَّا يُوَضِّحُ ذَلِكَ أَنَّ الَّذِي يَقُولُهُ هُوَ وَأَبُوهُ وَجَدُّهُ مِنْ آثَارِ صِفَةِ الْيَدِ الَّتِي خَلَقَ اللَّهُ بِهَا نَبِيَّهُ آدَمَ.
وَنَحْنُ نَرْجُو أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ تَعَالَى لِلَّذِينِ مَاتُوا عَلَى هَذَا الِاعْتِقَادِ، لِأَنَّهُمْ لَا يَقْصِدُونَ تَشْبِيهَ اللَّهِ بِخَلْقِهِ، وَإِنَّمَا يُحَاوِلُونَ تَنْزِيهَهُ عَنْ مُشَابَهَةِ خَلْقِهِ.
فَقَصْدُهُمْ حَسَنٌ وَلَكِنَّ طَرِيقَهُمْ إِلَى ذَلِكَ الْقَصْدِ سَيِّئَةٌ.
وَإِنَّمَا نَشَأَ لَهُمْ ذَلِكَ السُّوءُ بِسَبَبِ أَنَّهُمْ ظَنُّوا لَفْظَ الصِّفَةِ الَّتِي مَدَحَ الله بهَا(1/138)
نَفْسَهُ يَدُلُّ ظَاهِرُهُ عَلَى مُشَابَهَةِ صِفَةِ الْخَلْقِ فَنَفَوُا الصِّفَةَ الَّتِي ظَنُّوا أَنَّهَا لَا تَلِيقُ قَصْدًا مِنْهُمْ لِتَنْزِيهِ اللَّهِ، وَأَوَّلُوهَا بِمَعْنًى آخَرَ يَقْتَضِي التَّنْزِيهَ فِي ظَنِّهِمْ فَهُمْ كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ:
رَامَ نَفْعًا فَضَرَّ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ ... وَمِنَ الْبِرِّ مَا يَكُونُ عُقُوقًا
وَنَحْنُ نَرْجُو أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ خَطَأَهُمْ، وَأَنْ يَكُونُوا دَاخِلِينَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَآ أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَاكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً} .
وَخَطَؤُهُمُ الْمَذْكُورُ لَا شَكَّ فِيهِ، وَلَوْ وَفَّقَهُمُ اللَّهُ لِتَطْهِيرِ قُلُوبِهِمْ مِنَ التَّشْبِيهِ أَوَّلًا، وَجَزَمُوا بِأَنَّ ظَاهِرَ صِفَةِ
الْخَالِقِ هُوَ التَّنْزِيهُ عَنْ مُشَابَهَةِ صِفَةِ الْمَخْلُوقِ، لَسَلِمُوا مِمَّا وَقَعُوا فِيهِ.
وَلَا شَكَّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَالِمٌ كُلَّ الْعِلْمِ، بِأَنَّ الظَّاهِرَ الْمُتَبَادِرَ، مِمَّا مَدَحَ اللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ، فِي
آيَاتِ الصِّفَاتِ هُوَ التَّنْزِيهُ التَّامُّ عَنْ صِفَاتِ الْخَلْقِ، وَلَوْ كَانَ يَخْطُرُ فِي ذِهْنِهِ أَنَّ ظَاهِرَهُ لَا يَلِيقُ، لِأَنَّهُ تَشْبِيهٌ بِصِفَاتِ الْخَلْقِ؛ لَبَادَرَ كُلَّ الْمُبَادَرَةِ إِلَى بَيَانِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ فِي حَقِّهِ تَأْخِيرُ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ، وَلَا سِيَّمَا فِي الْعَقَائِدِ، وَلَا سِيَّمَا فِيمَا ظَاهِرُهُ الْكُفْرُ وَالتَّشْبِيهُ.
فَسُكُوتُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيَانِ هَذَا يدل على أَن مَا زَعمه المؤلون لَا أَسَاسَ لَهُ كَمَا تَرَى.
فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ، نَزَلَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ، وَالْعَرَبُ لَا تَعْرِفُ فِي لُغَتِهَا، كَيْفِيَّةً لِلْيَدِ مَثَلًا، إِلَّا كَيْفِيَّةَ الْمَعَانِي الْمَعْرُوفَةِ عِنْدَهَا كَالْجَارِحَةِ، وَغَيْرِهَا مِنْ مَعَانِي الْيَدِ الْمَعْرُوفَةِ فِي اللُّغَةِ، فَبَيِّنُوا لَنَا كَيْفِيَّةً لِلْيَدِ مُلَائِمَةً لِمَا ذَكَرْتُمْ.
فَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ:(1/139)
الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْعَرَبَ لَا تُدْرِكُ كَيْفِيَّاتِ صِفَاتِ اللَّهِ مِنْ لُغَتِهَا، لِشِدَّةِ مُنَافَاةِ صِفَةِ اللَّهِ لِصِفَةِ الْخَلْقِ.
وَالْعَرَبُ لَا تَعْرِفُ عُقُولُهُمْ كَيْفِيَّاتٍ إِلَّا لِصِفَاتِ الْخَلْقِ، فَلَا تَعْرِفُ الْعَرَبُ كَيْفِيَّةً لِلسَّمْعِ وَالْبَصَرِ، إِلَّا هَذِهِ الْمُشَاهَدَةَ، فِي حَاسَّةِ الْأُذُنِ وَالْعَيْنِ، أَمَّا سَمْعٌ لَا يَقُومُ بِأُذُنٍ وَبَصَرٌ لَا يَقُومُ بِحَدَقَةٍ، فَهَذَا لَا يَعْرِفُونَ لَهُ كَيْفِيَّةً الْبَتَّةَ.
فَلَا فَرْقَ بَيْنَ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ، وَبَيْنَ الْيَدِ وَالِاسْتِوَاءِ، فَالَّذِي تَعْرِفُ كَيْفِيَّتَهُ الْعَرَبُ مِنْ لُغَتِهَا مِنْ جَمِيعِ ذَلِكَ، هُوَ الْمُشَاهَدُ فِي الْمَخْلُوقَاتِ.
وَأَمَّا الَّذِي اتَّصَفَ اللَّهُ بِهِ مِنْ ذَلِكَ، فَلَا تَعْرِفُ لَهُ الْعَرَبُ كَيْفِيَّةً، وَلَا حَدًّا لِمُخَالَفَةِ صِفَاتِهِ لِصِفَاتِ الْخَلْقِ، إِلَّا أَنَّهُمْ يَعْرِفُونَ مِنْ لُغَتِهِمْ أَصْلَ الْمَعْنَى، كَمَا قَالَ الْإِمَامِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ: الِاسْتِوَاءُ غَيْرُ مَجْهُولٍ، وَالْكَيْفُ غَيْرُ مَعْقُولٍ، وَالْإِيمَانُ بِهِ وَاجِبٌ، وَالسُّؤَالُ عَنْهُ بِدَعَةٌ.
كَمَا يَعْرِفُونَ من لغتهم، أَن بَين الْخَالِق والمخلوق، والرزق والمرزوق، والمحيي والمحيا، والمميت وَالْمَمَات. فوارق عظية لَا حَدَّ لَهَا، تَسْتَلْزِمُ الْمُخَالَفَةَ، التَّامَّةَ، بَيْنَ صِفَاتِ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ نَقُولَ لِمَنْ قَالَ: بَيِّنُوا لَنَا كَيْفِيَّةً لِلْيَدِ مُلَائِمَةً لِمَا ذَكَرْتُمْ، مِنْ كَوْنِهَا صِفَةَ كَمَالٍ، وَجَلَالٍ، مُنَزَّهَةً عَنْ مُشَابَهَةِ جَارِحَةِ الْمَخْلُوقِ.
هَلْ عَرَفْتَ كَيْفِيَّةَ الذَّاتِ الْمُقَدَّسَةِ الْمُتَّصِفَةِ بِالْيَدِ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَقُولَ: لَا. فَإِنْ قَالَ ذَلِكَ.
قُلْنَا: مَعْرِفَةُ كَيْفِيَّةِ الصِّفَاتِ تَتَوَقَّفُ عَلَى مَعْرِفَةِ كَيْفِيَّةِ الذَّاتِ.
فَالذَّاتُ وَالصِّفَاتُ مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ.
فَكَمَا أَنَّ ذَاتَهُ جَلَّ وَعَلَا تُخَالِفُ جَمِيعَ الذَّوَاتِ، فَإِنَّ صِفَاتِهِ تُخَالِفُ جَمِيعَ الصِّفَاتِ.(1/140)
وَمَعْلُومٌ أَنَّ الصِّفَاتِ، تَخْتَلِفُ وَتَتَبَايَنُ، بِاخْتِلَافِ مَوْصُوفَاتِهَا.
أَلَّا تَرَى مَثَلًا أَنَّ لَفْظَةَ رَأْسٍ كَلِمَةٌ وَاحِدَةٌ؟
إِنْ أَضَفْتَهَا إِلَى الْإِنْسَانِ فَقُلْتَ رَأَسُ الْإِنْسَانِ، وَإِلَى الْوَادِي فَقُلْتَ رَأَسُ الْوَادِي، وَإِلَى الْمَالِ فَقُلْتَ رَأْسُ
الْمَالِ، وَإِلَى الْجَبَلِ فَقُلْتَ رَأَسُ الْجَبَلِ.
فَإِنَّ كَلِمَةَ الرَّأْسِ اخْتَلَفَتْ مَعَانِيهَا، وَتَبَايَنَتْ تَبَايُنًا، شَدِيدًا بِحَسَبِ اخْتِلَافِ إِضَافَتِهَا مَعَ أَنَّهَا فِي مَخْلُوقَاتٍ حَقِيرَةٍ.
فَمَا بَالُكَ بِمَا أُضِيفَ مِنَ الصِّفَاتِ إِلَى اللَّهِ وَمَا أُضِيفَ مِنْهَا إِلَى خَلْقِهِ، فَإِنَّهُ يَتَبَايَنُ كَتَبَايُنِ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ، كَمَا لَا يَخْفَى.
فَاتَّضَحَ بِمَا ذُكِرَ أَن الشَّرْط فِي قَول الْمقري فِي إِضَاءَتِهِ: * وَالنَّصُّ إِنْ أَوْهَمَ غَيْرَ اللَّائِقِ *
شَرْطٌ مَفْقُودٌ قَطْعًا، لِأَنَّ نُصُوصَ الْوَحْيِ الْوَارِدَةَ فِي صِفَاتِ اللَّهِ، لَا تَدُلُّ ظَوَاهِرُهَا الْبَتَّةَ، إِلَّا عَلَى تَنْزِيهِ اللَّهِ، وَمُخَالَفَتِهِ لِخَلْقِهِ فِي الذَّاتِ وَالصِّفَاتِ وَالْأَفْعَالِ.
فَكُلُّ الْمُسْلِمِينَ، الَّذِينَ يُرَاجِعُونَ عُقُولَهُمْ، لَا يَشُكُّ أَحَدٌ مِنْهُمْ فِي أَنَّ الظَّاهِرَ الْمُتَبَادِرَ السَّابِقَ إِلَى ذِهْنِ الْمُسْلِمِ، هُوَ مُخَالَفَةُ اللَّهِ لِخَلْقِهِ، كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ} وَقَوْلِهِ {وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ} وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ، وَبِذَلِكَ تَعْلَمُ أَنَّ الْإِجْمَاعَ الَّذِي بَنَاهُ عَلَى ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: * فَاصْرِفْهُ عَنْ ظَاهِرِهِ إِجْمَاعًا *
إِجْمَاعٌ مَفْقُودٌ أَصْلًا، وَلَا وُجُودَ لَهُ الْبَتَّةَ، لِأَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى شَرْطٍ مَفْقُودٍ لَا وُجُودَ لَهُ الْبَتَّةَ.(1/141)
فَالْإِجْمَاعُ الْمَعْدُومُ الْمَزْعُومُ لَمْ يَرِدْ فِي كِتَابِ اللَّهِ، وَلَا فِي سُنَّةِ رَسُولِهِ، وَلَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ، وَلَا مِنْ تَابِعِيهِمْ وَلَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ، وَلَا مِنْ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ الْمَعْرُوفِينَ.
وَإِنَّمَا لَمْ يَقُولُوا بِذَلِكَ لِأَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ ظَوَاهِرَ نُصُوصِ الْوَحْيِ لَا تَدُلُّ إِلَّا عَلَى تَنْزِيهِ اللَّهِ عَنْ مُشَابَهَةِ خَلْقِهِ، وَهَذَا الظَّاهِرُ الَّذِي هُوَ تَنْزِيهُ اللَّهِ لَا دَاعِيَ لِصَرْفِهَا عَنْهُ كَمَا تَرَى.
وَلِأَجْلِ هَذَا كُلِّهِ قُلْنَا فِي مُقَدِّمَةِ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ، إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى مَوْصُوفٌ بِتِلْكَ الصِّفَاتِ حَقِيقَةً لَا مَجَازًا، لِأَنَّا نَعْتَقِدُ اعْتِقَادًا جَازِمًا لَا يَتَطَرَّقُ إِلَيْهِ شَكٌّ، أَنَّ ظَوَاهِرَ آيَاتِ الصِّفَاتِ وَأَحَادِيثِهَا، لَا تَدُلُّ الْبَتَّةَ إِلَّا عَلَى التَّنْزِيهِ عَنْ مُشَابَهَةِ الْخَلْقِ وَاتِّصَافِهِ تَعَالَى بِالْكَمَالِ وَالْجَلَالِ.
وَإِثْبَاتُ التَّنْزِيهِ وَالْكَمَالِ وَالْجَلَالِ لِلَّهِ حَقِيقَةً لَا مَجَازًا لَا يُنْكِرُهُ مُسْلِمٌ.
وَمِمَّا يَدْعُو إِلَى التَّصْرِيحِ بِلَفْظِ الْحَقِيقَةِ، وَنَفْيِ الْمَجَازِ، كَثْرَةُ الْجَاهِلِينَ الزَّاعِمِينَ أَنَّ تِلْكَ الصِّفَاتِ لَا حَقَائِقَ لَهَا، وَأَنَّهَا كُلَّهَا مَجَازَاتٌ، وَجَعَلُوا ذَلِكَ طَرِيقًا إِلَى نَفْيِهَا؛ لِأَنَّ الْمَجَازَ يَجُوزُ نَفْيُهُ، وَالْحَقِيقَةُ لَا يَجُوزُ نَفْيُهَا.
فَقَالُوا مَثَلًا: الْيَدُ مَجَازٌ يُرَادُ بِهِ الْقُدْرَةُ وَالنِّعْمَةُ أَوِ الْجُودُ، فَنَفَوْا صِفَةَ الْيَدِ، لِأَنَّهَا مَجَازٌ.
وَقَالُوا عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى: مَجَازٌ فَنَفَوُا الِاسْتِوَاءَ، لِأَنَّهُ مَجَازٌ.
وَقَالُوا: مَعْنَى اسْتَوَى: اسْتَوْلَى، وَشَبَّهُوا اسْتِيلَاءَهُ بِاسْتِيلَاءِ بِشْرِ بْنِ مَرْوَانَ عَلَى الْعِرَاقِ.
وَلَوْ تَدَبَّرُوا كِتَابَ اللَّهِ، لِمَنَعَهُمْ ذَلِكَ مِنْ تَبْدِيلِ الِاسْتِوَاءِ بِالِاسْتِيلَاءِ، وَتَبْدِيلِ الْيَدِ بِالْقُدْرَةِ، أَوِ النِّعْمَةِ، لِأَنَّ اللَّهَ جَلَّ وَعَلَا يَقُولُ فِي مُحْكَمِ كِتَابِهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ رِجْزًا مِّنَ السَّمَآءِ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ} . وَيَقُولُ فِي(1/142)
الْأَعْرَافِ {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِى قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِّنَ السَّمَآءِ بِمَا كَانُواْ يَظْلِمُونَ} فَالْقَوْلُ الَّذِي قَالَهُ اللَّهُ لَهُمْ، هُوَ قَوْلُهُ حِطَّةٌ، وَهِيَ فِعْلَةٌ مِنَ الْحَطِّ بِمَعْنَى الْوَضْعِ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَيْ دُعَاؤُنَا وَمَسْأَلَتُنَا لَكَ حِطَّةٌ لِذُنُوبِنَا أَيْ حَطٌّ وَوَضْعٌ لَهَا عَنَّا فَهِيَ بِمَعْنَى طَلَبِ الْمَغْفِرَةِ، وَفِي بَعْضِ رِوَايَاتِ الْحَدِيثِ فِي شَأْنِهِمْ أَنَّهُمْ بَدَّلُوا هَذَا الْقَوْلَ بِأَنْ زَادُوا نُونًا
فَقَط فَقَالُوا حِنْطَةٌ وَهِيَ الْقَمْحُ (1) .
وَأَهْلُ التَّأْوِيلِ قِيلَ لَهُمْ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى. فَزَادُوا " لَامًا" فَقَالُوا: اسْتَوْلَى.
وَهَذِهِ اللَّامُ الَّتِي زَادُوهَا أَشْبَهُ شَيْءٍ بِالنُّونِ الَّتِي زَادَهَا الْيَهُودُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {وَقُولُواْ حِطَّةٌ} . وَيَقُولُ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا فِي مَنْعِ تَبْدِيلِ الْقُرْآنِ بِغَيْرِهِ: {قُلْ مَا يَكُونُ لِى? أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَآءِ نَفْسِى? إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى? إِلَىَّ إِنِّى? أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّى عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} .
وَلَا شَكَّ أَنَّ مَنْ بَدَّلَ اسْتَوَى بِاسْتَوْلَى مَثَلًا لَمْ يَتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فِعْلَيْهِ أَنْ يَجْتَنِبَ التَّبْدِيلَ وَيَخَافَ الْعَذَابَ الْعَظِيمَ، الَّذِي خَافَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَو عَصا اللَّهَ فَبَدَّلَ قُرْآنًا بِغَيْرِهِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ {إِنِّى? أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّى عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} .
وَالْيَهُودُ لَمْ يُنْكِرُوا أَنَّ اللَّفْظَ الَّذِي قَالَهُ اللَّهُ لَهُمْ: هُوَ لَفْظُ حِطَّةٍ وَلَكِنَّهُمْ حَرَّفُوهُ بِالزِّيَادَةِ الْمَذْكُورَةِ.
وَأَهْلُ هَذِهِ الْمَقَالَةِ، لَمْ يُنْكِرُوا أَنَّ كَلِمَةَ الْقُرْآنِ هِيَ اسْتَوَى، وَلَكِنْ حَرَّفُوهَا وَقَالُوا فِي مَعْنَاهَا اسْتَوْلَى وَإِنَّمَا أَبْدَلُوهَا بهَا، لِأَنَّهَا أصلح فِي زعمهم
_________
(1) - أخرج البُخَارِيّ (3/1248) (3222) ، وَمُسلم (4/2312) (3015) ، وَأحمد (2/312) مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فِي قَوْله عز وَجل {ادخُلُوا الْبَاب سجدا} قَالَ دخلُوا زحفا وَقُولُوا {حطة} قَالَ: " بدلُوا فَقَالُوا حِنْطَة فِي شَعْرَة ". وَاللَّفْظ لِأَحْمَد.(1/143)
مِنْ لَفْظِ كَلِمَةِ الْقُرْآنِ؛ لِأَنَّ كَلِمَةَ الْقُرْآنِ تُوهِمُ غَيْرَ اللَّائِقِ، وَكَلِمَةُ اسْتَوْلَى فِي زَعْمِهِمْ هِيَ الْمُنَزِّهَةُ اللَّائِقَةُ بِاللَّهِ مَعَ أَنَّهُ لَا يُعْقَلُ تَشْبِيهٌ أَشْنَعُ مِنْ تَشْبِيهِ اسْتِيلَاءِ اللَّهِ عَلَى عَرْشِهِ الْمَزْعُومِ، بِاسْتِيلَاءِ بِشْرٍ عَلَى الْعِرَاقِ.
وَهَلْ كَانَ أَحَدٌ يُغَالِبُ اللَّهَ عَلَى عَرْشِهِ حَتَّى غَلَبَهُ عَلَى الْعَرْشِ، وَاسْتَوْلَى عَلَيْهِ؟
وَهَلْ يُوجَدُ شَيْءٌ إِلَّا وَاللَّهُ مُسْتَوْلٍ عَلَيْهِ، فَاللَّهُ مُسْتَوْلٍ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ.
وَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ تَعَالَى اسْتَوَى عَلَى كُلِّ شَيْءٍ غَيْرَ الْعَرْشِ؟ فَافْهَمْ.
وَعَلَى كُلِّ حَالٍ، فَإِنَّ المؤول، زَعَمَ أَنَّ الِاسْتِوَاءَ يُوهِمُ غَيْرَ اللَّائِقِ بِاللَّهِ لِاسْتِلْزَامِهِ مُشَابَهَةَ اسْتِوَاءِ الْخَلْقِ، وَجَاءَ بَدَلَهُ بِالِاسْتِيلَاءِ، لِأَنَّهُ هُوَ اللَّائِقُ بِهِ فِي زَعْمِهِ، وَلَمْ يَنْتَبِهْ.
لِأَنَّ تَشْبِيهَ اسْتِيلَاءِ اللَّهِ عَلَى عَرْشِهِ بِاسْتِيلَاءِ بِشْرِ بْنِ مَرْوَانَ عَلَى الْعِرَاقِ هُوَ أَفْظَعُ أَنْوَاعِ التَّشْبِيهِ، وَلَيْسَ بِلَائِقٍ قَطْعًا، إِلَّا أَنَّهُ يَقُولُ: إِنَّ الِاسْتِيلَاءَ الْمَزْعُومَ مُنَزَّهٌ، عَنْ مُشَابَهَةِ اسْتِيلَاءِ الْخَلْقِ، مَعَ أَنَّهُ ضَرَبَ لَهُ الْمَثَلَ بِاسْتِيلَاءِ بِشَرٍ عَلَى الْعِرَاقِ وَاللَّهُ يَقُولُ {فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلَّهِ الأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} .
وَنحن نقُول: أَيهَا المؤول هَذَا التَّأْوِيلَ، نَحْنُ نَسْأَلُكَ إِذَا عَلِمْتَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ تَنْزِيهِ أَحَدِ اللَّفْظَيْنِ أَعْنِي لَفْظَ {اسْتَوَى} الَّذِي أَنْزَلَ اللَّهُ بِهِ الْمَلَكَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُرْآنًا يُتْلَى، كُلُّ حَرْفٍ مِنْهُ عَشْرُ حَسَنَاتٍ
وَمَنْ أَنْكَرَ أَنَّهُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ كَفَرَ.
وَلَفْظَةُ اسْتَوْلَى الَّتِي جَاءَ بِهَا قَوْمٌ مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ غَيْرِ اسْتِنَادٍ إِلَى نَصٍّ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَلَا سُنَّةِ رَسُولِهِ وَلَا قَوْلِ أَحَدٍ مِنَ السَّلَفِ.
فَأَيُّ الْكَلِمَتَيْنِ أَحَقُّ بِالتَّنْزِيهِ فِي رَأْيِكَ. الْأَحَقُّ بِالتَّنْزِيهِ كَلِمَةُ الْقُرْآنِ، الْمُنَزَّلَةِ مِنَ اللَّهِ عَلَى رَسُولِهِ، أَمْ
كَلِمَتُكُمُ الَّتِي جِئْتُمْ بِهَا، مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِكُمْ،(1/144)
مِنْ غَيْرِ مُسْتَنَدٍ أَصْلًا؟
وَنَحْنُ لَا يَخْفَى عَلَيْنَا الْجَوَابُ الصَّحِيحُ، عَنْ هَذَا السُّؤَالِ إِنْ كنت لَا تعرفه.
وَاعْلَم أَنما ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ مَا وَصَفَ اللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ مِنَ الصِّفَاتِ، فَهُوَ مَوْصُوفٌ بِهِ حَقِيقَةً لَا مَجَازًا، عَلَى الْوَجْهِ اللَّائِقِ بِكَمَالِهِ وَجَلَالِهِ.
وَأَنَّهُ لَا فَرْقَ الْبَتَّةَ بَيْنَ صِفَةٍ يُشْتَقُّ مِنْهَا وَصْفٌ، كَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْحَيَاةِ.
وَبَيْنَ صِفَةٍ لَا يُشْتَقُّ مِنْهَا كَالْوَجْهِ وَالْيَدِ.
وَأَنَّ تَأْوِيلَ الصِّفَاتِ كَتَأْوِيلِ الِاسْتِوَاءِ بِالِاسْتِيلَاءِ لَا يَجُوزُ وَلَا يَصِحُّ.
هُوَ مُعْتَقَدُ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ. وَهُوَ مُعْتَقَدُ عَامَّةِ السَّلَفِ، وَهُوَ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ.
فَمَنِ ادَّعَى عَلَى أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ، أَنه يؤول صِفَةً مِنَ الصِّفَاتِ، كَالْوَجْهِ وَالْيَدِ وَالِاسْتِوَاءِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ فَقَدِ افْتَرَى عَلَيْهِ افْتِرَاءً عَظِيمًا.
بَلِ الْأَشْعَرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ مُصَرِّحٌ فِي كُتُبِهِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي صَنَّفَهَا بَعْدَ رُجُوعِهِ عَنِ الِاعْتِزَالِ، (كَالْمُوجَزِ) ، (وَمَقَالَاتِ الْإِسْلَامِيِّينَ وَاخْتِلَافِ الْمُصَلِّينَ) ، (وَالْإِبَانَةِ عَنْ أُصُولِ الدِّيَانَةِ) أَنَّ مُعْتَقَدَهُ الَّذِي يَدِينُ اللَّهَ بِهِ هُوَ مَا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ الصَّالِحُ مِنَ الْإِيمَانُ بِكُلِّ مَا وَصَفَ اللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ أَوْ وَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِثْبَاتُ ذَلِكَ كُلِّهِ مِنْ غَيْرٍ كَيْفٍ وَلَا تَشْبِيهٍ وَلَا تَعْطِيلٍ.
وَأَنَّ ذَلِكَ لَا يَصِحُّ تَأْوِيلُهُ وَلَا الْقَوْلُ بِالْمَجَازِ فِيهِ.
وَأَنَّ تَأْوِيلَ الِاسْتِوَاءِ بِالِاسْتِيلَاءِ هُوَ مَذْهَبُ الْمُعْتَزِلَةِ وَمَنْ ضَاهَاهُمْ.
وَهُوَ أَعْلَمُ النَّاسِ بِأَقْوَالِ الْمُعْتَزِلَةِ لِأَنَّهُ كَانَ أَعْظَمَ إِمَامٍ فِي مَذْهَبِهِمْ، قَبْلَ أَنْ يَهْدِيَهُ اللَّهُ إِلَى الْحَقِّ، وَسَنَذْكُرُ لَكَ هُنَا بَعْضَ نُصُوصِ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ لِتَعْلَمَ صِحَّةَ مَا ذَكَرْنَا عَنْهُ.(1/145)
قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ (فِي كِتَابِ الْإِبَانَةِ عَنْ أُصُولِ الدِّيَانَةِ) ، الَّذِي قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ أَنَّهُ آخِرُ كِتَابٍ صَنَّفَهُ، مَا نَصُّهُ: فَإِنْ قَالَ لَنَا قَائِلٌ: قَدْ أَنْكَرْتُمْ قَوْلَ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْقَدَرِيَّةِ وَالْجَهْمِيَّةِ وَالْحَرُورِيَّةِ وَالرَّافِضَةِ، وَالْمُرْجِئَةِ، فَعَرِّفُونَا قَوْلَكُمُ الَّذِي بِهِ تَقُولُونَ وَدِيَانَتَكُمُ الَّتِي بِهَا تَدِينُونَ قِيلَ لَهُ: قَوْلُنَا الَّذِي نَقُولُ بِهِ وَدِيَانَتُنَا الَّتِي نَدِينُ بِهَا، التَّمَسُّكُ بِكِتَابِ رَبِّنَا عَزَّ وَجَلَّ وَسُنَّةِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَا رُوِيَ عَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَأَئِمَّةِ الْحَدِيثِ.
وَنَحْنُ بِذَلِكَ مُعْتَصِمُونَ، وَبِمَا كَانَ يَقُولُ بِهِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ حَنْبَلٍ نَضَّرَ اللَّهُ وَجْهَهُ وَرَفَعَ دَرَجَتَهُ وَأَجْزَلَ مَثُوبَتَهُ قَائِلُونَ، وَلِمَنْ خَالَفَ قَوْلَهُ مُجَانِبُونَ.
لِأَنَّهُ الْإِمَامُ الْفَاضِلُ وَالرَّئِيسُ الْكَامِلُ الَّذِي أَبَانَ بِهِ الْحَقَّ وَرَفَعَ بِهِ الضَّلَالَ وَأَوْضَحَ بِهِ الْمِنْهَاجَ وَقَمَعَ بِهِ بِدَعَ الْمُبْتَدِعِينَ، وَزَيْغَ الزَّائِغِينَ وَشَكَّ الشَّاكِّينَ. فَرَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ مِنْ إِمَامٍ مُقَدَّمٍ وَخَلِيلٍ مُعَظَّمٍ مُفَخَّمٍ، وَعَلَى جَمِيعِ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ.
وَجُمْلَةُ قَوْلِنَا: أَنَّا نُقِرُّ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَمَا جَاءَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَمَا رَوَاهُ الثِّقَاتُ عَنْ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا نَرُدُّ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا.
وَأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَرْدٌ صَمَدٌ، لَمْ يَتَّخِذْ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، أَرْسَلَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ، وَأَنَّ الْجَنَّةَ حَقٌّ، وَأَنَّ النَّارَ حُقٌّ، وَالسَّاعَةُ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ.
وَأَنَّ الله اسْتَوَى على عَرْشه كَمَا قَالَ {الرَّحْمَانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} وَأَنَّ لَهُ وَجْهًا كَمَا قَالَ: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلْالِ وَالإِكْرَامِ} . وَأَنَّ لَهُ يَدَيْنِ بِلَا كَيْفٍ كَمَا قَالَ {خَلَقْتُ بِيَدَىَّ} وَكَمَا قَالَ {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} ، وَأَنَّ لَهُ عَيْنَانِ بِلَا كَيْفٍ كَمَا قَالَ: {تَجْرِى بِأَعْيُنِنَا} اهـ. مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ(1/146)
بِلَفْظِهِ.
وَبِهِ تَعْلَمُ أَنَّ مَنْ يَفْتَرِي عَلَى الْأَشْعَرِيّ أَنه من المؤولين الْمُدَّعِينَ أَنَّ ظَاهِرَ آيَاتِ الصِّفَاتِ وَأَحَادِيثِهَا لَا يَلِيق الله كَاذِبٌ عَلَيْهِ كَذِبًا شَنِيعًا.
وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ فِي كِتَابِ الْإِبَانَةِ أَيْضًا فِي إِثْبَاتِ الِاسْتِوَاءِ لِلَّهِ تَعَالَى مَا نَصُّهُ: إِنْ قَالَ قَائِلٌ مَا تَقُولُونَ فِي الِاسْتِوَاءِ؟ قِيلَ لَهُ نَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ مُسْتَوٍ على عَرْشه كَمَا قَالَ: {الرَّحْمَانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} . وَقَدْ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} وَقَدْ قَالَ: {بَل رَّفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} . قَالَ ... عَزَّ وَجَلَّ: {يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَآءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ} . وَقَالَ حِكَايَةً عَنْ فِرْعَوْنَ: {ياهَامَانُ ابْنِ لِى صَرْحاً لَّعَلِّى? أَبْلُغُ الأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّى لاّظُنُّهُ كَاذِباً} .
فَكَذَّبَ فِرْعَوْنُ نَبِيَّ اللَّهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي قَوْلِهِ: (إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فَوْقَ السَّمَاوَاتِ) . وَقَالَ ... عَزَّ وَجَلَّ: {أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاءِ أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ} . فَالسَّمَاوَاتُ فَوْقَهَا الْعَرْشُ، فَلَمَّا كَانَ الْعَرْشُ فَوْقَ السَّمَاوَاتِ: قَالَ {أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاءِ} لِأَنَّهُ مُسْتَوٍ عَلَى الْعَرْشِ الَّذِي فَوْقَ السَّمَاوَاتِ، وَكُلُّ مَا عَلَا فَهُوَ سَمَاءٌ، فَالْعَرْشُ أَعْلَى السَّمَاوَاتِ. هَذَا لَفْظُ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِ الْإِبَانَةِ الْمَذْكُورِ.
وَقَدْ أَطَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْكَلَامِ بِذِكْرِ الْأَدِلَّةِ الْقُرْآنِيَّةِ، فِي إِثْبَاتِ صِفَةِ الِاسْتِوَاءِ، وَصِفَةِ الْعُلُوِّ لِلَّهِ جَلَّ وَعَلَا.
وَمِنْ جُمْلَةِ كَلَامِهِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ مَا نَصُّهُ: وَقَدْ قَالَ قَائِلُونَ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْجَهْمِيَّةِ وَالْحَرُورِيَّةِ: إِنَّ قَوْلَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ {الرَّحْمَانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} أَنَّهُ اسْتَوْلَى وَمَلَكَ وَقَهَرَ، وَأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فِي كُلِّ مَكَانٍ. وَجَحَدُوا أَنْ يَكُونَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى عَرْشِهِ كَمَا قَالَ أَهْلُ الْحَقِّ، وَذَهَبُوا فِي الاسْتوَاء(1/147)
إِلَى الْقُدْرَةِ.
وَلَوْ كَانَ هَذَا كَمَا ذَكَرُوهُ كَانَ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْعَرْشِ وَالْأَرْضِ، فَاللَّهُ سُبْحَانَهُ قَادِرٌ عَلَيْهَا وَعَلَى الْحُشُوشِ، وَعَلَى كُلِّ مَا فِي الْعَالَمِ.
فَلَوْ كَانَ اللَّهُ مُسْتَوِيًا عَلَى الْعَرْشِ بِمَعْنَى الِاسْتِيلَاءِ وَهُوَ عَزَّ وَجَلَّ مُسْتَوْلٍ عَلَى الْأَشْيَاءِ كُلِّهَا لَكَانَ مُسْتَوِيًا عَلَى الْعَرْشِ وَعَلَى الْأَرْضِ وَعَلَى السَّمَاءِ وَعَلَى الْحُشُوشِ وَالْأَفْرَادِ، لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى الْأَشْيَاءِ مُسْتَوْلٍ عَلَيْهَا.
وَإِذَا كَانَ قَادِرًا عَلَى الْأَشْيَاءِ كُلِّهَا وَلَمْ يَجُزْ عِنْدَ أَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَقُولَ: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ مُسْتَوٍ عَلَى الْحُشُوشِ وَالْأَخْلِيَةِ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِوَاءُ عَلَى الْعَرْشِ الِاسْتِيلَاءَ الَّذِي هُوَ عَامٌّ فِي الْأَشْيَاءِ كُلِّهَا.
وَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ اسْتِوَاءً يَخْتَصُّ الْعَرْشَ دُونَ الْأَشْيَاءِ كُلِّهَا.
وَزَعَمَتِ الْمُعْتَزِلَةُ وَالْحَرُورِيَّةُ وَالْجَهْمِيَّةُ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فِي كُلِّ مَكَانٍ فَلَزِمَهُمْ أَنَّهُ فِي بَطْنِ مَرْيَمَ وَفِي الْحُشُوشِ وَالْأَخْلِيَةِ. وَهَذَا خِلَافُ الدِّينِ، تَعَالَى اللَّهُ عَنْ قَوْلِهِمْ. اهـ.
هَذَا لَفْظُ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي آخِرِ مُصَنَّفَاتِهِ. وَهُوَ كِتَابُ الْإِبَانَةِ عَنْ أُصُولِ الدِّيَانَةِ.
وَتَرَاهُ صَرَّحَ رَحِمَهُ اللَّهُ بِأَنَّ تَأْوِيلَ الِاسْتِوَاءِ بِالِاسْتِيلَاءِ هُوَ قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْجَهْمِيَّةِ وَالْحَرُورِيَّةِ لَا قَوْلُ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَأَقَامَ الْبَرَاهِينَ الْوَاضِحَةَ على بطلَان ذَلِك.
فَليعلم مؤولو الِاسْتِوَاءِ بِالِاسْتِيلَاءِ أَنَّ سَلَفَهُ فِي ذَلِكَ الْمُعْتَزِلَةُ وَالْجَهْمِيَّةُ وَالْحَرُورِيَّةُ، لَا أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَلَا أَحَدٌ مِنَ السَّلَفِ.
وَقَدْ أَوْضَحْنَا فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَهُوَ اللَّهُ فِى السَّمَاوَاتِ وَفِى الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ} . أَنَّ قَوْلَ الْجَهْمِيَّةِ وَمَنْ تَبِعَهُمْ: إِنَّ(1/148)
اللَّهَ فِي كُلِّ مَكَانٍ قَوْلٌ بَاطِلٌ.
لِأَنَّ جَمِيعَ الْأَمْكِنَةِ الْمَوْجُودَةِ، أَحْقَرُ وَأَقَلُّ وَأَصْغَرُ، مِنْ أَنْ يَسَعَ شَيْءٌ مِنْهَا خَالِقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، الَّذِي هُوَ أَعْظَمُ وَأَكْبَرُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، وَهُوَ مُحِيطٌ بِكُلِّ شَيْءٍ، وَلَا يُحِيطُ بِهِ شَيْءٌ. فَانْظُرْ إِيضَاحَ ذَلِكَ فِي الْأَنْعَامِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ مَا يَزْعُمُهُ كَثِيرٌ مِنَ الْجَهَلَةِ، مِنْ أَنَّ مَا فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، مِنْ صِفَةِ الِاسْتِوَاءِ وَالْعُلُوِّ وَالْفَوْقِيَّةِ، يَسْتَلْزِمُ الْجِهَةَ، وَأَنَّ ذَلِكَ مُحَالٌ عَلَى اللَّهِ، وَأَنَّهُ يَجِبُ نَفْيُ الِاسْتِوَاءِ وَالْعُلُوِّ وَالْفَوْقِيَّةِ، وَتَأْوِيلُهَا بِمَا لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ مِنَ الْمَعَانِي كُلُّهُ بَاطِلٌ.
وَسَبَبُهُ سُوءُ الظَّنِّ بِاللَّهِ وَبِكِتَابِهِ، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَمُدَّعِي لُزُومِ الْجِهَةِ لِظَوَاهِرِ نُصُوصِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ.
وَاسْتِلْزَامُ ذَلِكَ لِلنَّقْصِ الْمُوجِبِ لِلتَّأْوِيلِ يُقَالُ لَهُ:
مَا مُرَادُكَ بِالْجِهَةِ؟
إِنْ كُنْتَ تُرِيدُ بِالْجِهَةِ مَكَانًا مَوْجُودًا، انْحَصَرَ فِيهِ اللَّهُ، فَهَذَا لَيْسَ بِظَاهِرِ الْقُرْآنِ، وَلَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ.
وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ بِالْجِهَةِ الْعَدَمَ الْمَحْضَ.
فَالْعَدَمُ عِبَارَةٌ عَنْ لَا شَيْءٍ.
فَمَيِّزْ أَوَّلًا، بَيْنَ الشَّيْءِ الْمَوْجُودِ وَبَيْنَ لَا شَيْءٍ.
وَقَدْ قَالَ أَيْضًا أَبُو الْحسن الْأَشْعَرِيّ رَحمَه الله فِي كتاب الْإِبَانَة أَيْضًا مَا نَصُّهُ: فَإِنْ سُئِلْنَا أَتَقُولُونَ إِنَّ لِلَّهِ يَدَيْنِ؟ قِيلَ نَقُولُ ذَلِكَ، وَقَدْ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} . وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَىَّ} .
وَأَطَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ، الْكَلَامَ فِي ذِكْرِ الْأَدِلَّةِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَلَى إِثْبَاتِ صِفَةِ الْيَدَيْنِ لله.(1/149)
وَمِنْ جُمْلَةِ مَا قَالَ مَا نَصُّهُ: وَيُقَالُ لَهُمْ: لِمَ أَنْكَرْتُمْ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنَى بِقَوْلِهِ: {يَدَىِ} يَدَيْنِ لَيْسَتَا
نِعْمَتَيْنِ.
فَإِنْ قَالُوا: لِأَنَّ الْيَدَ إِذَا لَمْ تَكُنْ نِعْمَةً لَمْ تَكُنْ إِلَّا جَارِحَةً.
قِيلَ لَهُمْ: وَلِمَ قَضَيْتُمْ أَنَّ الْيَدَ إِذَا لَمْ تَكُنْ نِعْمَةً لَمْ تَكُنْ إِلَّا جَارِحَةً؟
فَإِنَّ رُجُوعَنَا إِلَى شَاهِدِنَا، وَإِلَى مَا نَجِدُهُ فِيمَا بَيْنَنَا مِنَ الْخَلْقِ؟
فَقَالُوا: الْيَدُ إِذَا لَمْ تَكُنْ نِعْمَةً فِي الشَّاهِدِ لَمْ تَكُنْ إِلَّا جَارِحَةً.
قِيلَ لَهُمْ: إِنْ عَمِلْتُمْ عَلَى الشَّاهِدِ وَقَضَيْتُمْ بِهِ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَكَذَلِكَ لَمْ نَجِدْ حَيًّا مِنَ الْخَلْقِ، إِلَّا جِسْمًا لَحْمًا وَدَمًا، فَاقْضُوا بِذَلِكَ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
وَإِلَّا فَأَنْتُمْ لِقَوْلِكُمْ مُتَأَوِّلُونَ وَلِاعْتِلَالِكُمْ نَاقِضُونَ.
وَإِنْ أَثْبَتُّمْ حَيًّا لَا كَالْأَحْيَاءِ مِنَّا.
فَلِمَ أَنْكَرْتُمْ أَنْ تَكُونَ الْيَدَانِ اللَّتَانِ أَخْبَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْهُمَا، يَدَيْنِ لَيْسَتَا نِعْمَتَيْنِ وَلَا جَارِحَتَيْنِ وَلَا كَالْأَيْدِي؟
وَكَذَلِكَ يُقَالُ لَهُمْ: لَمْ تَجِدُوا مُدَبِّرًا حَكِيمًا إِلَّا إِنْسَانًا، ثُمَّ أَثْبَتُّمْ أَنَّ لِلدُّنْيَا مُدَبِّرًا حَكِيمًا، لَيْسَ كَالْإِنْسَانِ، وَخَالَفْتُمُ الشَّاهِدَ وَنَقَضْتُمُ اعْتِلَالَكُمْ.
فَلَا تَمْنَعُوا مِنْ إِثْبَاتِ يَدَيْنِ لَيْسَتَا نِعْمَتَيْنِ وَلَا جَارِحَتَيْنِ، مِنْ أَجْلِ أَنَّ ذَلِك خلاف الشَّاهِد اهـ. مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ بِلَفْظِهِ.
وَبِهِ تَعْلَمُ أَنَّ الْأَشْعَرِيَّ رَحِمَهُ اللَّهُ، يَعْتَقِدُ أَنَّ الصِّفَاتِ الَّتِي أنكرها المؤولون كَصِفَةِ الْيَدِ، مِنْ جُمْلَةِ صِفَاتِ الْمَعَانِي كَالْحَيَاةِ وَنَحْوِهَا، وَأَنَّهُ لَا فَرْقَ الْبَتَّةَ بَيْنَ صِفَةِ الْيَدِ وَصِفَةِ الْحَيَاةِ فَمَا اتَّصَفَ اللَّهُ بِهِ مِنْ جَمِيعِ ذَلِكَ فَهُوَ مُنَزَّهٌ عَنْ مُشَابَهَةِ مَا اتَّصَفَ بِهِ الْخَلْقُ مِنْهُ.
وَاللَّازِمُ لِمَنْ شَبَّهَ فِي بَعْضِ الصِّفَاتِ وَنَزَّهَ فِي بَعْضِهَا أَنْ يُشْبِّهَ فِي جَمِيعِهَا(1/150)
أَوْ يُنَزِّهَ فِي جَمِيعِهَا، كَمَا قَالَهُ الْأَشْعَرِيُّ.
أَمَّا ادِّعَاءُ ظُهُورِ التَّشْبِيهِ فِي بَعْضِهَا دُونَ بَعْضٍ، فَلَا وَجْهَ لَهُ بِحَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ، لِأَنَّ الْمَوْصُوفَ بِهَا وَاحِدٌ، وَهُوَ مُنَزَّهٌ عَنْ مُشَابَهَةِ صِفَاتِ خَلْقِهِ.
وَمِنْ جُمْلَةِ كَلَامِ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ الْمُشَارِ إِلَيْهَا آنِفًا فِي إِثْبَاتِ الصِّفَاتِ مَا نَصُّهُ: فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: لِمَ أَنْكَرْتُمْ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَآ} وَقَوْلُهُ {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَىَّ} عَلَى الْمَجَازِ؟.
قِيلَ لَهُ: حُكْمُ كَلَامِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَكُونَ عَلَى ظَاهِرِهِ وَحَقِيقَتِهِ وَلَا يَخْرُجُ الشَّيْءُ عَنْ ظَاهِرِهِ إِلَى الْمَجَازِ إِلَّا لِحُجَّةٍ.
أَلَا تَرَوْنَ أَنَّهُ إِذَا كَانَ ظَاهِرُ الْكَلَامِ الْعُمُومَ فَإِذَا وَرَدَ بِلَفْظِ الْعُمُومِ، وَالْمُرَادُ بِهِ الْخُصُوصُ، فَلَيْسَ هُوَ عَلَى حَقِيقَةِ الظَّاهِرِ؟
وَلَيْسَ يَجُوزُ أَنْ يُعْدَلَ بِمَا ظَاهِرُهُ الْعُمُومُ عَنِ الْعُمُومِ بِغَيْرِ حُجَّةٍ؟
كَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَىَّ} عَلَى ظَاهِرِهِ وَحَقِيقَتِهِ مِنْ إِثْبَاتِ الْيَدَيْنِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعْدَلَ
بِهِ عَنْ ظَاهِرِ الْيَدَيْنِ إِلَى مَا ادَّعَاهُ خُصُومُنَا إِلَّا بِحُجَّةٍ.
وَلَوْ جَازَ ذَلِكَ لِمُدَّعٍ أَنْ يَدَّعِيَ أَنَّ مَا ظَاهِرُهُ الْعُمُومُ، فَهُوَ عَلَى الْخُصُوصِ، وَمَا ظَاهَرُهُ الْخُصُوصُ فَهُوَ
عَلَى الْعُمُومِ بِغَيْرِ حُجَّةٍ.
وَإِذَا لَمْ يَجُزْ هَذَا لِمُدَّعِيهِ بِغَيْرِ بُرْهَانٍ، لَمْ يَجُزْ لَكُمْ مَا ادَّعَيْتُمُوهُ، أَنَّهُ مَجَازٌ بِغَيْرِ حُجَّةٍ.
بَلْ وَاجِبٌ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَىَّ} إِثْبَاتُ يَدَيْنِ لِلَّهِ تَعَالَى فِي الْحَقِيقَةِ غَيْرَ نِعْمَتَيْنِ إِذَا كَانَتِ النِّعْمَتَانِ لَا يَجُوزُ عِنْدَ أَهْلِ اللِّسَانِ أَنْ يَقُولَ قَائِلُهُمْ: فَعَلْتُ بِيَدِيَّ وَهُوَ يَعْنِي النعمتين. اهـ مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ بِلَفْظِهِ.
وَفِيهِ تَصْرِيحُ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ، بِأَنَّ صِفَاتِ اللَّهِ كصفة(1/151)
الْيَدِ ثَابِتَةٌ لَهُ حَقِيقَةً لَا مَجَازًا، وَأَنَّ المدعين أَنَّهَا مجازهم خُصُومُهُ وَهُوَ خَصْمُهُمْ كَمَا تَرَى.
وَإِنَّمَا قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ: إِنَّهُ تَعَالَى مُتَّصِفٌ بِهَا حَقِيقَةً لَا مَجَازًا، لِأَنَّهُ لَا يَشُكُّ فِي أَنَّ ظَاهِرَ صِفَةِ اللَّهِ هُوَ مُخَالَفَةُ صِفَةِ الْخَلْقِ، وَتَنْزِيهُهَا عَنْ مُشَابَهَتِهَا كَمَا هُوَ شَأْنُ السَّلَفِ الصَّالِحِ كُلِّهِمْ.
فَإِثْبَاتُ الْحَقِيقَةِ وَنَفْيُ الْمَجَازِ فِي صِفَاتِ اللَّهِ هُوَ اعْتِقَادُ كُلِّ مُسْلِمٍ طَاهِرِ الْقَلْبِ مِنْ أَقْذَارِ التَّشْبِيهِ، لِأَنَّهُ لَا يَسْبِقُ إِلَى ذِهْنِهِ مِنَ اللَّفْظِ الدَّالِّ عَلَى الصِّفَةِ كَصِفَةِ الْيَدِ وَالْوَجْهِ إِلَّا أَنَّهَا صِفَةُ كَمَالٍ مُنَزَّهَةٌ عَنْ مُشَابَهَةِ صِفَاتِ الْخَلْقِ.
فَلَا يَخْطُرُ فِي ذِهْنِهِ التَّشْبِيهُ الَّذِي هُوَ سَبَبُ نَفْيِ الصِّفَةِ وَتَأْوِيلِهَا بِمَعْنًى لَا أَصْلَ لَهُ.
تَنْبِيهٌ مُهِمٌّ (1)
فَإِنْ قِيلَ دَلَّ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَإِجْمَاعُ السَّلَفِ عَلَى أَنَّ اللَّهَ وَصَفَ نَفْسَهُ بِصِفَةِ الْيَدَيْنِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَىَّ} . وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} .
وَالْأَحَادِيثُ الدَّالَّةُ عَلَى مِثْلِ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآيَاتُ الْمَذْكُورَةُ كَثِيرَةٌ، كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ، وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهُ جَلَّ وَعَلَا، لَا يَجُوزُ أَنْ يُوصَفَ بِصِفَةِ الْأَيْدِي مَعَ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَآ أَنْعاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ} فَلِمَ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى تَقْدِيمِ آيَةِ لِمَا خَلَقْتُ بيَدي على آيَة مِمَّا عملت أَيْدِينَا؟
_________
(1) - حول وصف الْمولى - عز وَجل - نَفسه بصيغ الجموع.(1/152)
فَالْجَوَابُ: أَنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنِ أَهْلِ اللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ وَلَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ صِيَغَ الْجُمُوعِ تَأْتِي لِمَعْنَيَيْنِ أَحَدُهُمَا إِرَادَةُ التَّعْظِيمِ فَقَطْ، فَلَا يَدْخُلُ فِي صِيغَةِ الْجَمْعِ تَعَدُّدٌ أَصْلًا، لِأَنَّ صِيغَةَ الْجَمْعِ الْمُرَادَ بِهَا التَّعْظِيمُ، إِنَّمَا
يُرَادُ بِهَا وَاحِدٌ.
وَالثَّانِي أَنْ يُرَادَ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ مَعْنَى الْجَمْعِ الْمَعْرُوفِ، وَإِذَا عَلِمْتَ ذَلِكَ، فَاعْلَمْ أَنَّ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ. يَكْثُرُ فِيهِ جِدًّا إِطْلَاقُ اللَّهِ جَلَّ وَعَلَا، عَلَى نَفْسِهِ صِيغَةَ الْجَمْعِ، يُرِيدُ بِذَلِكَ تَعْظِيمَ نَفْسِهِ، وَلَا يُرِيدُ بِذَلِكَ تَعَدُّدًا وَلَا أَنَّ مَعَهُ غَيْرَهُ، سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} .
فَصِيغَةُ الْجَمْعِ فِي قَوْلِهِ: {إِنَّا} وَفِي قَوْلِهِ: {نَحْنُ} وَفِي قَوْلِهِ: {نَزَّلْنَا} وَقَوْلِهِ: {لَحَافِظُونَ} لَا يُرَادُ بِهَا أَنَّ مَعَهُ مُنَزِّلًا لِلذِّكْرِ، وَحَافِظًا لَهُ غَيْرَهُ تَعَالَى.
بَلْ هُوَ وَحْدَهُ الْمُنَزِّلُ لَهُ والحافظ لَهُ، وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {أَفَرَءَيْتُمْ مَّا تُمْنُونَأَءَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَم نَحْنُ
الْخَالِقُونَ} وَقَوله {أَءَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ} . وَقَوْلُهُ: {أَءَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَآ أَمْ نَحْنُ الْمُنشِئُونَ} ، وَنَحْوُ هَذَا كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ جِدًّا، وَبِهِ تَعْلَمُ أَنَّ صِيغَةَ الْجَمْعِ فِي قَوْلِهِ: {إِنَّا} . وَفِي قَوْلِهِ: (خَلَقْنَا) وَفِي قَوْلِهِ: {عَمِلَتْ أَيْدِينَآ} إِنَّمَا يُرَادُ بِهَا التَّعْظِيمُ، وَلَا يُرَادُ بِهَا التَّعَدُّدُ أَصْلًا.
وَإِذَا كَانَ يُرَادُ بِهَا التَّعْظِيمُ، لَا التَّعَدُّدُ عُلِمَ بِذَلِكَ أَنَّهَا لَا تَصِحُّ بِهَا مُعَارِضَةُ قَوْلِهِ: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَىَّ} ، لِأَنَّهَا دَلَّتْ عَلَى صِفَةِ الْيَدَيْنِ، وَالْجَمْعُ فِي قَوْلِهِ: {أَيْدِينَآ} لِمُجَرَّدِ التَّعْظِيمِ.
وَمَا كَانَ كَذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى التَّعَدُّدِ فَيَطْلُبُ الدَّلِيلَ مِنْ غَيْرِهِ، فَإِنْ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالتَّعْظِيمِ وَاحِدٌ حُكِمَ بِذَلِكَ، كالآيات الْمُتَقَدّمَة.(1/153)
وَإِنْ دَلَّ عَلَى مَعْنًى آخَرَ حُكِمَ بِهِ.
فَقَوْلُهُ مَثَلًا: {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} قَامَ فِيهِ الْبُرْهَانُ الْقَطْعِيُّ أَنَّهُ حَافِظٌ وَاحِدٌ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {أَم نَحْنُ الْخَالِقُونَ} ، {أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ} ، {أَمْ نَحْنُ الْمُنشِئُونَ} فَإِنَّهُ قَدْ قَامَ فِي كُلِّ ذَلِكَ الْبُرْهَانُ الْقَطْعِيُّ عَلَى أَنَّهُ خَالِقٌ وَاحِدٌ، وَمُنْزِلٌ وَاحِدٌ، وَمُنْشِئٌ وَاحِدٌ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَآ} فَقَدْ دَلَّ الْبُرْهَانُ الْقَطْعِيُّ، عَلَى أَنَّ اللَّهَ مَوْصُوفٌ بِصِفَةِ الْيَدَيْنِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي قَوْلِهِ: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَىَّ} كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ قَرِيبًا.
وَقَدْ عَلِمَتْ أَنَّ صِيغَةَ الْجَمْعِ فِي قَوْلِهِ: {لَحَافِظُونَ} ، وَقَوْلِهِ: {أَم نَحْنُ الْخَالِقُونَ} وَقَوْلِهِ: {أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ} وَقَوْلِهِ: {أَمْ نَحْنُ الْمُنشِئُونَ} وَقَوْلِهِ: {خَلَقْنَا لَهُم مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَآ} لَا يُرَادُ بِشَيْءٍ مِنْهُ مَعْنَى الْجَمْعِ، وَإِنَّمَا يُرَادُ بِهِ التَّعْظِيمُ فَقَطْ.
وَقَدْ أَجَابَ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِ الْإِبَانَةِ بِمَا يَقْرُبُ مِنْ هَذَا فِي الْمَعْنَى.
وَاعْلَمْ أَنَّ لَفْظَ الْيَدَيْنِ، قَدْ يُسْتَعْمَلُ فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ اسْتِعْمَالًا خَاصًّا، بِلَفْظٍ خَاصٍّ لَا تُقْصَدُ بِهِ فِي ذَلِكَ النِّعْمَةُ وَلَا الْجَارِحَةُ وَلَا الْقُدْرَةُ، وَإِنَّمَا يُرَادُ بِهِ مَعْنَى أَمَامٍ.
وَاللَّفْظُ الْمُخْتَصُّ بِهَذَا الْمَعْنَى هُوَ لَفْظَةُ الْيَدَيْنِ الَّتِي أُضِيفَتْ إِلَيْهَا لَفْظَةُ بَيْنَ خَاصَّةً، أَعْنِي لَفْظَةَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَإِنَّ الْمُرَادَ بِهَذِهِ اللَّفْظَةِ أَمَامُهُ. وَهُوَ اسْتِعْمَالٌ عَرَبِيٌّ مَعْرُوفٌ مَشْهُورٌ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ لَا يُقْصَدُ فِيهِ مَعْنَى الْجَارِحَةِ وَلَا النِّعْمَةِ وَلَا الْقُدْرَةِ، وَلَا أَيَّ صِفَةٍ كَائِنَةٍ مَا كَانَتْ.
وَإِنَّمَا يُرَادُ بِهِ أَمَامٌ فَقَطْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَن نُّؤْمِنَ بِهَاذَا الْقُرْآنِ وَلاَ بِالَّذِى بَيْنَ يَدَيْهِ}
أَيْ وَلَا بِالَّذِي كَانَ أَمَامَهُ سَابِقًا عَلَيْهِ مِنَ(1/154)
الْكُتُبِ.
وَكَقَوْلِهِ: {وَمُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ} أَيْ مُصَدِّقًا لِمَا كَانَ أَمَامَهُ مُتَقَدِّمًا عَلَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ.
وَكَقَوْلِهِ: {فَزَيَّنُواْ لَهُم مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} ، فَالْمُرَادُ بِلَفْظِ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ مَا أَمَامَهُمْ.
وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِى يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرىً بَيْنَ يَدَىْ رَحْمَتِهِ} ، أَيْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ أَمَامَ رَحْمَتِهِ الَّتِي هِيَ الْمَطَرُ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَمِمَّا يُوَضِّحُ لَكَ ذَلِكَ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَأْوِيلُ الْيَدَيْنِ فِي ذَلِكَ بِنِعْمَتَيْنِ وَلَا قُدْرَتَيْنِ وَلَا جَارِحَتَيْنِ. وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ
مِنَ الصِّفَاتِ، فَهَذَا أُسْلُوبٌ خَاصٌّ دَالٌّ عَلَى مَعْنًى خَاصٍّ. بِلَفْظٍ خَاصٍّ مَشْهُورٍ، فِي كَلَامِ الْعَرَبِ فَلَا صِلَةَ لَهُ بِاللَّفْظِ الدَّالِّ عَلَى الْجَارِحَةِ، بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْإِنْسَانِ وَلَا بِاللَّفْظِ الدَّالِّ عَلَى صِفَةِ الْكَمَالِ وَالْجَلَالِ الثَّابِتَةِ لِلَّهِ تَعَالَى. فَافْهَمْ.
وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ: مَقَالَاتُ الْإِسْلَامِيِّينَ وَاخْتِلَافُ الْمُصَلِّينَ، الَّذِي ذَكَرَ فِيهِ أَقْوَالَ جَمِيعِ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ والبدع والمؤولين وَالنَّافِينَ لِصِفَاتِ اللَّهِ أَوْ بَعْضِهَا مَا نَصُّهُ:
جُمْلَةُ مَا عَلَيْهِ أَهْلُ الْحَدِيثِ وَالسُّنَّةِ الْإِقْرَارُ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَمَا جَاءَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا رَوَاهُ الثِّقَاتُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَا يَرُدُّونَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا.
وَأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَرْدٌ صَمَدٌ لَا إِلَهَ غَيْرُهُ لَمْ يَتَّخِذْ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَأَنَّ الْجَنَّةَ حَقٌّ وَأَنَّ النَّارَ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا، وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ، وَأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ على عَرْشه كَمَا قَالَ {الرَّحْمَانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} وَأَنَّ لَهُ يَدَيْنِ بِلَا كَيفَ(1/155)
كَمَا قَالَ: {خَلَقْتُ بِيَدَىَّ} . وَكَمَا قَالَ: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} إِلَى أَنْ قَالَ فِي كَلَامِهِ هَذَا، بَعْدَ أَنْ سَرَدَ مَذْهَبَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ. مَا نَصُّهُ: فَهَذِهِ جُمْلَةُ مَا يَأْمُرُونَ بِهِ وَيَسْتَعْمِلُونَهُ وَيَرَوْنَهُ، وَبِكُلِّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ قَوْلِهِمْ نَقُولُ وَإِلَيْهِ نَذْهَبُ، وَمَا تَوْفِيقُنَا إِلَّا بِاللَّهِ، وَهُوَ حَسَبُنَا وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، وَبِهِ نَسْتَعِينُ، وَعَلَيْهِ نَتَوَكَّلُ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ، هَذَا لَفْظُ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِ الْمَقَالَاتِ الْمَذْكُورِ.
وَبِهِ تَعْلَمُ أَنَّهُ يُؤْمِنُ بِكُلِّ مَا جَاءَ عَنِ اللَّهِ فِي كِتَابِهِ وَمَا ثَبَتَ عَنْ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَرُدُّ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا وَلَا يَنْفِيهِ بَلْ يُؤْمِنُ بِهِ وَيُثْبِتُهُ لِلَّهِ، بِلَا كَيْفٍ وَلَا تَشْبِيهٍ، كَمَا هُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ.
وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ أَيْضًا فِي كِتَابِ الْمَقَالَاتِ الْمَذْكُورِ مَا نَصُّهُ:
وَقَالَ أَهْلُ السُّنَّةِ وَأَصْحَابُ الْحَدِيثِ: لَيْسَ بِجِسْمٍ (1) وَلَا يُشْبِهُ الْأَشْيَاءَ وَإِنَّهُ على الْعَرْش كَمَا قَالَ عز وَجل: {الرَّحْمَانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} وَلَا نُقَدِّمُ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ فِي الْقَوْلِ بَلْ نَقُولُ: اسْتَوَى بِلَا كَيْفٍ، ثُمَّ أَطَالَ الْكَلَامَ رَحِمَهُ اللَّهُ، فِي إِثْبَاتِ الصِّفَاتِ كَمَا قَدَّمْنَا عَنْهُ، ثُمَّ قَالَ مَا نَصُّهُ وَقَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: إِنَّ اللَّهَ اسْتَوَى على عَرْشه بِمَعْنى استولى. اهـ. مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ بِلَفْظِهِ.
_________
(1) - قَالَ شَيخنَا أَبُو الْهَيْثَم إِبْرَاهِيم بن زَكَرِيَّا - حفظه الله -: [إِطْلَاق لفظ "الْجِسْم " على الله - عزوجل - أول من أطلقهُ هِشَام بن الحكم الرافضي، وَأول من نَفَاهُ: الجهم بن صَفْوَان، وَنحن لَا ننفي الْجِسْم، وَلَا نثبته، بل نستفصل عَن المُرَاد بِهِ] فَمَا كَانَ مُوَافقا للْكتاب، وَالسّنة قُبِلَ، وَمَا كَانَ فِيهَا من الْمعَانِي الْمُخَالفَة للْكتاب وَالسّنة رُدَّ، وَمَا قيل عَن الْجِسْم يُقَال على جَمِيع الْأَلْفَاظ المحتملة الَّتِي لم ترد فِي الْكتاب وَلَا فِي السّنة، مثل: الْجَوْهَر، وَالْعرض، والأبعاض، وَالْحُدُود، والجهات، وحلول الْحَوَادِث، وَغَيرهَا، وَانْظُر مَجْمُوع الْفَتَاوَى (12/551) ، (16/426) ، (17/306) ، وَغَيرهَا من الْمَوَاضِع، وَانْظُر تَعْلِيق ابْن سحمان على اللوامع (1/183) .(1/156)
فَتَرَاهُ صَرَّحَ فِي كِتَابِ الْمَقَالَاتِ الْمَذْكُورِ، بِأَنَّ تَأْوِيلَ الِاسْتِوَاءِ بِالِاسْتِيلَاءِ، هُوَ قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ لَا قَوْلُهُ هُوَ، وَلَا قَوْلُ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ.
وَزَادَ فِي كِتَابِ الْإِبَانَةِ مَعَ الْمُعْتَزِلَةِ الْجَهْمِيَّةَ وَالْحَرُورِيَّةَ كَمَا قَدَّمْنَا.
وَبِكُلِّ مَا ذَكَرْنَا تَعْلَمُ أَنَّ الْأَشْعَرِيَّ رَجَعَ عَنِ الِاعْتِزَالِ إِلَى مَذْهَبِ السَّلَفِ فِي آيَاتِ الصِّفَاتِ وَأَحَادِيثِهَا.
وَقَدْ قَدَّمْنَا إِيضَاحَ الْحَقِّ فِي آيَاتِ الصِّفَاتِ بِالْأَدِلَّةِ الْقُرْآنِيَّةِ بِكَثْرَةٍ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} .
وَاعْلَمْ أَنَّ أَئِمَّةَ الْقَائِلِينَ بِالتَّأْوِيلِ، رَجَعُوا قَبْلَ مَوْتِهِمْ عَنْهُ، لِأَنَّهُ مَذْهَبٌ غَيْرُ مَأْمُونِ الْعَاقِبَةِ، لِأَنَّ مَبْنَاهُ عَلَى ادِّعَاءِ أَنَّ ظَوَاهِرَ آيَاتِ الصِّفَاتِ وَأَحَادِيثَهَا، لَا تَلِيقُ بِاللَّهِ لِظُهُورِهَا وَتَبَادُرِهَا فِي مُشَابَهَةِ صِفَاتِ الْخَلْقِ.
ثُمَّ نَفْيِ تِلْكَ الصِّفَاتِ الْوَارِدَةِ فِي الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ، لِأَجْلِ تِلْكَ الدَّعْوَى الكاذبة المشؤومة، ثُمَّ تَأْوِيلِهَا
بِأَشْيَاءَ أُخَرَ، دُونَ مُسْتَنَدٍ مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ، أَوْ قَوْلِ صَحَابِيٍّ أَوْ أَحَدٍ مِنَ السَّلَفِ.
وَكُلُّ مَذْهَبٍ هَذِهِ حَالُهُ، فَإِنَّهُ جَدِيرٌ بِالْعَاقِلِ الْمُفَكِّرِ أَنْ يَرْجِعَ عَنْهُ إِلَى مَذْهَبِ السَّلَفِ.
وَقَدْ أَشَارَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ أَنَّ وَصْفَ اللَّهِ بِالِاسْتِوَاءِ صَادِرٌ عَنْ خَبِيرٍ بِاللَّهِ، وَبِصِفَاتِهِ عَالِمٌ بِمَا يَلِيقُ بِهِ، وَبِمَا لَا يَلِيقُ وَذَلِكَ فِي قَوْلُهُ تَعَالَى: {الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَانُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً} .
فَتَأَمَّلْ قَوْلَهُ: {فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً} ، بَعْدَ قَوْلِهِ: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَانُ} ، تَعْلَمُ أَنَّ مَنْ وَصَفَ الرَّحْمَنَ بِالِاسْتِوَاءِ عَلَى الْعَرْشِ خَبِيرٌ بِالرَّحْمَنِ وَبِصِفَاتِهِ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ اللَّائِقُ مِنَ الصِّفَاتِ وَغَيْرُ اللَّائِقِ.(1/157)
فَالَّذِي نَبَّأَنَا بِأَنَّهُ اسْتَوَى عَلَى عَرْشِهِ هُوَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ الَّذِي هُوَ الرَّحْمَنُ.
وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَلاَ يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} .
وَبِذَلِكَ تَعْلَمُ أَنَّ مَنْ يَدَّعِي أَنَّ الِاسْتِوَاءَ يَسْتَلْزِمُ التَّشْبِيهَ، وَأَنَّهُ غَيْرُ لَائِقٍ غَيْرُ خَبِيرٍ، نَعَمْ وَاللَّهِ هُوَ غَيْرُ خَبِيرٍ.
وَسَنَذْكُرُ هُنَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ أَنَّ أَئِمَّةَ الْمُتَكَلِّمِينَ الْمَشْهُورِينَ رَجَعُوا كُلُّهُمْ عَنْ تَأْوِيلِ الصِّفَاتِ.
أَمَّا كَبِيرُهُمُ الَّذِي هُوَ أَفْضَلُ الْمُتَكَلِّمِينَ الْمُنْتَسِبِينَ إِلَى أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ، وَهُوَ الْقَاضِي مُحَمَّدُ بْنُ الطَّيِّبُ الْمَعْرُوفُ بِأَبِي بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيِّ، فَإِنَّهُ كَانَ يُؤْمِنُ بِالصِّفَاتِ عَلَى مَذْهَبِ السَّلَفِ (1) وَيَمْنَعُ تَأْوِيلَهَا مَنْعًا بَاتًّا، وَيَقُولُ فِيهَا بِمِثْلِ مَا قَدَّمْنَا عَنِ الْأَشْعَرِيِّ. وَسَنَذْكُرُ لَكَ هُنَا بَعْضَ كَلَامِهِ.
قَالَ الْبَاقِلَّانِيُّ الْمَذْكُورُ فِي كِتَابِ التَّمْهِيدِ مَا نَصُّهُ: بَابٌ فِي أَنَّ لِلَّهِ وَجْهًا وَيَدَيْنِ، فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ. فَمَا الْحُجَّةُ فِي أَنَّ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَجْهًا وَيَدَيْنِ؟ قِيلَ لَهُ قَوْلُهُ: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلْالِ وَالإِكْرَامِ} . وَقَوْلِهِ: {مَا مَنَعَكَ أَن
_________
(1) - قَالَ شَيخنَا أَبُو الْهَيْثَم إِبْرَاهِيم بن زَكَرِيَّا - حفظه الله - محرراً عقيدة الإِمَام الباقلاني - رَحمَه الله -: [الباقلاني من مُتقدِّمي الأشاعرة، وهم أقرب للسلف من متأخريهم من أَمْثَال: الْجُوَيْنِيّ، والرازي، وَالْغَزالِيّ. ومتقدموا الأشاعرة يثبتون الصِّفَات الخبرية، وعماد مَذْهَبهم: إِثْبَات كل صفة فِي الْقُرْآن، وَأما الصِّفَات الَّتِي فِي الحَدِيث فَمنهمْ من يثبتها، وَمِنْهُم من لَا يثبتها، وَمن هَذَا الْبَاب قَول الباقلاني فِي "التَّمْهِيد" (1/47) : (بَاب فِي الرِّضَا وَالْغَضَب وأنهما من الْإِرَادَة: فَإِن قَالَ قَائِل: فَهَل تَقولُونَ أَنه تَعَالَى عضبان رَاض، وَأَنه مَوْصُوف بذلك؟ قيل لَهُ: أجل، وغضبه على من غضب عَلَيْهِ، وَرضَاهُ عَن من رَضِي عَنهُ هما إِرَادَته لإثابة المرضي عَنهُ، وعقوبة المغضوب عَلَيْهِ لَا غير ذَلِك) وَانْظُر لبَيَان عقيدته " مَجْمُوع فَتَاوَى شيخ الْإِسْلَام " (4/147) ، (12/202 - 204) ، (14/347) ، بل وبيَّن شيخ الْإِسْلَام أَنه - رَحمَه الله - سلك مَسْلَك الجهم بن صَفْوَان فِي الْقدر والوعيد، بل وسلك فِي الْإِيمَان مَسْلَك غلاة المرجئة كجهم وَأَتْبَاعه] .(1/158)
تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَىَّ} ، فَأَثْبَتَ لِنَفْسِهِ وَجْهًا وَيَدَيْنِ.
فَإِنْ قَالُوا: فَمَا أَنْكَرْتُمْ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ {خَلَقْتُ بِيَدَىَّ} أَنَّهُ خَلَقَهُ بِقُدْرَتِهِ أَوْ بِنِعْمَتِهِ، لِأَنَّ الْيَدَ فِي اللُّغَةِ قَدْ تَكُونُ بِمَعْنَى النِّعْمَةِ، وَبِمَعْنَى الْقُدْرَةِ، كَمَا يُقَالُ: لِي عِنْدَ فُلَانٍ يَدٌ بَيْضَاءُ. يُرَادُ بِهِ نِعْمَةٌ.
وَكَمَا يُقَالُ: هَذَا الشَّيْءُ فِي يَدِ فُلَانٍ وَتَحْتَ يَدِ فُلَانٍ، يُرَادُ بِهِ أَنَّهُ تَحْتَ قُدْرَتِهِ وَفِي مُلْكِهِ.
وَيُقَالُ: رَجُلٌ أيدٌ إِذَا كَانَ قَادِرًا.
وَكَمَا قَالَ تَعَالَى: {خَلَقْنَا لَهُم مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَآ أَنْعاماً} يُرِيدُ عَمِلْنَا بِقُدْرَتِنَا. وَقَالَ الشَّاعِرُ:
إِذَا مَا رَايَةٌ رُفِعَتْ لِمَجْدٍ ... تَلَقَّاهَا عَرَابَةُ بِالْيَمِينِ
فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {خَلَقْتُ بِيَدَىَّ} يَعْنِي بِقُدْرَتِي أَوْ نِعْمَتِي.
يُقَالُ لَهُمْ هَذَا بَاطِلٌ لِأَنَّ قَوْلَهُ: {بِيَدَىَّ} يَقْتَضِي إِثْبَاتَ يَدَيْنِ هُمَا صِفَةٌ لَهُ.
فَلَوْ كَانَ المُرَاد بهما الْقُدْرَة لموجب أَنْ يَكُونَ لَهُ قُدْرَتَانِ.
وَأَنْتُمْ لَا تَزْعُمُونَ أَنَّ لِلْبَارِّي سُبْحَانَهُ قُدْرَةً وَاحِدَةً، فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ تُثْبِتُوا لَهُ قُدْرَتَيْنِ؟
وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ مُثْبِتِي الصِّفَاتِ وَالنَّافِينَ لَهَا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لَهُ تَعَالَى قُدْرَتَانِ فَبَطَلَ مَا قُلْتُمْ.
وَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ تَعَالَى خَلَقَ آدَمَ بِنِعْمَتَيْنِ، لِأَنَّ نِعَمَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى آدَمَ وَعَلَى غَيْرِهِ لَا تُحْصَى.
وَلِأَنَّ الْقَائِلَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ: رَفَعْتُ الشَّيْءَ بِيَدَيَّ أَوْ وَضَعْتُهُ بِيَدَيَّ أَوْ تَوَلَّيْتُهُ بِيَدَيَّ وَهُوَ يَعْنِي نِعْمَتَهُ.(1/159)
وَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: لِي عِنْدَ فُلَانٍ يَدَانِ يَعْنِي نِعْمَتَيْنِ.
وَإِنَّمَا يُقَالُ لِي عِنْدَهُ يَدَانِ بَيْضَاوَانِ، لِأَنَّ الْقَوْلَ: يَدٌ، لَا يُسْتَعْمَلُ إِلَّا فِي الْيَدِ الَّتِي هِيَ صِفَةُ الذَّاتِ.
وَيَدُلُّ عَلَى فَسَادِ تَأْوِيلِهِمْ أَيْضًا أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا قَالُوهُ لَمْ يَغْفُلْ عَنْ ذَلِكَ إِبْلِيسُ، وَعَنْ أَنْ يَقُولَ وَأَيُّ فَضْلٍ لِآدَمَ عَلِيَّ يَقْتَضِي أَنْ أَسْجُدَ لَهُ، وَأَنَا أَيْضًا بِيَدِكَ خَلَقْتَنِي الَّتِي هِيَ قُدْرَتُكَ وَبِنِعْمَتِكَ خَلَقْتَنِي؟
وَفِي الْعِلْمِ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَضَّلَ آدَمَ عَلَيْهِ بِخَلْقِهِ بِيَدَيْهِ، دَلِيلٌ عَلَى فَسَادِ مَا قَالُوهُ.
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَمَا أَنْكَرْتُمْ أَنْ يَكُونَ وَجْهُهُ وَيَدُهُ جَارِحَةً؟ إِذْ كُنْتُمْ لَمْ تَعْقِلُوا يَدَ صِفَةٍ وَوَجْهَ صِفَةٍ لَا جَارِحَةً.
يُقَالُ لَهُ: لَا يَجِبُ ذَلِكَ كَمَا لَا يَجِبُ إِذَا لَمْ نَعْقِلْ حَيًّا عَالِمًا قَادِرًا إِلَّا جِسْمًا أَنْ نَقْضِيَ نَحْنُ وَأَنْتُمْ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى بِذَلِكَ.
وَكَمَا لَا يَجِبُ مَتَى كَانَ قَائِمًا بِذَاتِهِ أَنْ يَكُونَ جَوْهَرًا أَوْ جِسْمًا، لِأَنَّا وَإِيَّاكُمْ لَمَ نَجِدْ قَائِمًا بِنَفْسِهِ فِي شَاهِدِنَا إِلَّا كَذَلِكَ. اهـ. مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ بِلَفْظِهِ.
وَهُوَ صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ يَرَى أَنَّ صِفَةَ الْوَجْهِ وَصِفَةَ الْيَدِ وَصِفَةَ الْعِلْمِ وَالْحَيَاةِ وَالْقُدْرَةِ كُلَّهَا مِنْ صِفَاتِ الْمَعَانِي وَلَا وَجْهَ لِلْفَرْقِ بَيْنَهَا وَجَمِيعُ صِفَاتِ اللَّهِ مُخَالَفَةٌ لِجَمِيعِ صِفَاتِ خَلْقِهِ.
وَقَالَ الْبَاقِلَّانِيُّ أَيْضًا فِي كِتَابِ التَّمْهِيدِ مَا نَصُّهُ: فَإِنْ قَالُوا: فَهَلْ تَقُولُونَ: إِنَّهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ؟
قِيلَ: مَعَاذَ اللَّهِ بَلْ هُوَ مُسْتَوٍ عَلَى الْعَرْش كَمَا أخبر فِي كِتَابه، فَقَالَ: {الرَّحْمَانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} وَقَالَ تَعَالَى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ(1/160)
وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} وَقَالَ: {أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاءِ أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ} .
وَلَوْ كَانَ فِي كُلِّ مَكَانٍ، لَكَانَ فِي جَوْفِ الْإِنْسَانِ، وَفَمِهِ وَفِي الْحُشُوشِ وَالْمَوَاضِعِ الَّتِي يُرْغَبُ عَنْ ذِكْرِهَا، تَعَالَى عَنْ ذَلِكَ، وَلَوَجَبَ أَنْ يَزِيدَ بِزِيَادَةِ الْأَمَاكِنِ إِذْ خَلَقَ مِنْهَا مَا لَمْ يَكُنْ خَلَقَهُ، وَيَنْقُصَ بِنُقْصَانِهَا إِذَا بَطَلَ مِنْهَا مَا كَانَ.
وَلَصَحَّ أَنْ يُرْغَبَ إِلَيْهِ إِلَى نَحْوِ الْأَرْضِ وَإِلَى وَرَاءِ ظُهُورِنَا وَعَنْ أَيْمَانِنَا وَشَمَائِلِنَا.
وَهَذَا مَا قَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى خِلَافِهِ وَتَخْطِئَةِ قَائِلِهِ، إِلَى أَنْ قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى اسْتِوَائِهِ عَلَى الْعَرْشِ هُوَ اسْتِيلَاؤُهُ عَلَيْهِ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
قَدِ اسْتَوَى بِشْرٌ عَلَى الْعِرَاقِ ... مِنْ غَيْرِ سَيْفٍ وَدَمٍ مِهْرَاقِ
لِأَنَّ الِاسْتِيلَاءَ هُوَ الْقُدْرَةُ وَالْقَهْرُ، وَاللَّهُ تَعَالَى لَمْ يَزَلْ قَادِرًا قَاهِرًا عَزِيزًا مُقْتَدِرًا.
وَقَوْلُهُ: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} يَقْتَضِي اسْتِفْتَاحَ هَذَا الْوَصْفِ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ، فَيُبْطِلُ مَا قَالُوهُ.
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَفَصِّلُوا لِي صِفَاتَ ذَاتِهِ مِنْ صِفَاتِ أَفْعَالِهِ، لِأَعْرِفَ ذَلِكَ.
قِيلَ لَهُ: صِفَاتُ ذَاتِهِ هِيَ الَّتِي لَمْ يَزَلْ وَلَا يَزَالُ مَوْصُوفًا بِهَا.
وَهِيَ الْحَيَاةُ وَالْعِلْمُ وَالْقُدْرَةُ وَالسَّمْعُ وَالْبَصَرُ وَالْكَلَام والإرادة والبقاء وَالْوَجْه والعينان وَالْيَدَانِ. اهـ مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ بِلَفْظِهِ. وَقَدْ نَقَلْنَاهُ مِنْ نُسْخَةٍ هِيَ أَجْوَدُ نُسْخَةٍ مَوْجُودَةٍ لِكِتَابِ "التَّمْهِيدِ" لِلْبَاقِلَانِيِّ الْمَذْكُورِ.
وَتَرَى تَصْرِيحَهُ فِيهَا بِأَنَّ صِفَةَ الْوَجْهِ وَالْيَدِ مِنْ صِفَاتِ الْمَعَانِي كَالْحَيَاةِ(1/161)
وَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ، كَمَا هُوَ قَوْلُ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ الَّذِي قَدَّمْنَا إِيضَاحَهُ.
وَاعْلَمْ أَنَّ إِمَامَ الْحَرَمَيْنِ، أَبَا الْمَعَالِي الْجُوَيْنِيَّ، كَانَ فِي زَمَانِهِ مِنْ أَعْظَمِ أَئِمَّةِ الْقَائِلِينَ بِالتَّأْوِيلِ، وَقَدْ قَرَّرَ التَّأْوِيلَ وَانْتَصَرَ لَهُ فِي كِتَابِهِ "الْإِرْشَادِ".
وَلَكِنَّهُ رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ فِي رِسَالَتِهِ "الْعَقِيدَةُ النِّظَامِيَّةُ" فَإِنَّهُ قَالَ فِيهَا: اخْتَلَفَ مَسَالِكُ الْعُلَمَاءِ، فِي الظَّوَاهِرِ الَّتِي وَرَدَتْ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَامْتَنَعَ عَلَى أَهْلِ الْحَقِّ فَحْوَاهَا وَإِجْرَاؤُهَا عَلَى مُوجَبِ مَا تُبْرِزُهُ أَفْهَامُ أَرْبَابِ اللِّسَانِ مِنْهَا.
فَرَأَى بَعْضُهُمْ تَأْوِيلَهَا، وَالْتِزَامَ هَذَا الْمَنْهَجِ فِي آيِ الْكِتَابِ وَفِيمَا صَحَّ مِنْ سُنَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَذَهَبَ أَئِمَّةُ السَّلَفِ إِلَى الِانْكِفَافِ عَنِ التَّأْوِيلِ وَإِجْرَاءِ الظَّوَاهِرِ عَلَى مَوَارِدِهَا، وَتَفْوِيضِ مَعَانِيهَا إِلَى الرَّبِّ سُبْحَانَهُ (1) .
وَالَّذِي نرتضيه رَأيا وندين الله بِهِ عقدا، اتِّبَاع سلف الْأمة، فَالْأولى
_________
(1) - وَنسبَة هَذَا الْمَذْهَب إِلَى السّلف خطأ، فالسلف يفوضون فِي الكيف، لَا الْمَعْنى، فظواهر نُصُوص الصِّفَات مَعْلُومَة لنا بِاعْتِبَار الْمَعْنى، وأقوال السّلف فِي إِثْبَات مَعَاني نُصُوص الصِّفَات على سَبِيل الْإِجْمَال، أَو التَّفْصِيل متواترة، وَأما الكيف فَهُوَ ثَابت لله - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - وَلكنه مَجْهُول لنا، فَالصَّحِيح أَن مَذْهَب السّلف: تَفْوِيض فِي الكيف لَا الْمَعْنى، ولمزيد بَيَان انْظُر " دَرْء تعَارض الْعقل وَالنَّقْل " لتقي الدّين بن تَيْمِية (1/115) وَمَا بعْدهَا، وَكتاب: " موقف الْمُتَكَلِّمين من الِاسْتِدْلَال بنصوص الْكتاب وَالسّنة عرضا ونقداً " لِسُلَيْمَان بن صَالح بن عبد الْعَزِيز الْغُصْن (2/827: 915) ، وَكتاب: "مَذْهَب أهل التَّفْوِيض فِي نُصُوص الصِّفَات (عرض وَنقد) " لِأَحْمَد بن عبد الرَّحْمَن بن عُثْمَان القَاضِي، ورسالة: " تحفة الإخوان فِي صِفَات الرَّحْمَن" لمُحَمد بن مُحَمَّد بن عبد الْعَلِيم، الْفَصْل الأول، وَغَيرهَا من المراجع.(1/162)
الِاتِّبَاعُ وَتَرْكُ الِابْتِدَاعَ وَالدَّلِيلُ السَّمْعِيُّ الْقَاطِعُ فِي ذَلِكَ، أَنَّ إِجْمَاعَ الْأُمَّةِ حُجَّةٌ مُتَّبَعَةٌ، وَهُوَ مُسْتَنَدُ مُعْظَمِ الشَّرِيعَةِ.
وَقَدْ دَرَجَ صَحْبُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى تَرْكِ التَّعَرُّضِ لِمَعَانِيهَا وَدَرْكِ مَا فِيهَا وَهُمْ صَفْوَةُ الْإِسْلَامِ وَالْمُشْتَغِلُونَ بِأَعْبَاءِ الشَّرِيعَةِ.
وَكَانُوا لَا يَأْلُونَ جُهْدًا فِي ضَبْطِ قَوَاعِدَ الْمِلَّةِ وَالتَّوَاصِي بِحِفْظِهَا وَتَعْلِيمِ النَّاسِ مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ مِنْهَا.
فَلَوْ كَانَ تَأْوِيلُ هَذِهِ الظَّوَاهِرِ مُسَوِّغًا أَوْ مَحْتُومًا لَأَوْشَكَ أَنْ يَكُونَ اهْتِمَامُهُمْ بِهَا فَوْقَ اهْتِمَامِهِمْ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ.
فَإِذَا انْصَرَمَ عَصْرُهُمْ وَعَصْرُ التَّابِعِينَ عَلَى الْإِضْرَابِ عَنِ التَّأْوِيلِ كَانَ ذَلِكَ قَاطِعًا بِأَنَّهُ الْوَجْهُ الْمُتَّبَعُ بِحَقٍّ.
فَعَلَى ذِي الدِّينِ أَنْ يَعْتَقِدَ تَنَزُّهَ الرَّبِّ تَعَالَى عَنْ صِفَاتِ الْمُحْدَثَاتِ وَلَا يَخُوضُ فِي تَأْوِيلِ الْمُشْكِلَاتِ وَيَكِلُ مَعْنَاهَا إِلَى الرَّبِّ.
وَمِمَّا اسْتُحْسِنَ مِنْ إِمَامِ دَارِ الْهِجْرَةِ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ قَوْله تَعَالَى: {الرَّحْمَانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} ، فَقَالَ: الِاسْتِوَاءُ مَعْلُومٌ وَالْكَيْفُ مَجْهُولٌ وَالسُّؤَالُ عَنْهُ بِدْعَةٌ.
فَلْتُجْرِ آيَةَ الِاسْتِوَاءِ وَالْمَجِيءِ، وَقَوْلَهُ: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَىَّ} ، {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} ، وَقَوْلَهُ: {تَجْرِى بِأَعْيُنِنَا} ، وَمَا صَحَّ عَنِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَخَبَرِ النُّزُولِ وَغَيْرِهِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، فَهَذَا بَيَانُ مَا يَجِبُ لِلَّهِ تَعَالَى. اهـ. كَلَامُهُ بِلَفْظِهِ مِنَ الرِّسَالَةِ النِّظَامِيَّةِ الْمَذْكُورَةِ مَعَ أَنَّ رُجُوعَ الْجُوَيْنِيِّ فِيهَا إِلَى أَنَّ الْحَقَّ هُوَ مَذْهَبُ السَّلَفِ أَمْرٌ مَعْلُومٌ.
وَكَذَلِكَ أَبُو حَامِدِ الْغَزَالِيِّ، كَانَ فِي زَمَانِهِ مِنْ أَعْظَمِ الْقَائِلِينَ بِالتَّأْوِيلِ ثُمَّ رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ، وَبَيَّنَ أَنَّ الْحَقَّ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ هُوَ مَذْهَب السّلف.(1/163)
وَقَالَ فِي كِتَابِهِ: " إِلْجَامُ الْعَوَامِّ عَنْ عِلْمِ الْكَلَامِ ": اعْلَمْ أَنَّ الْحَقَّ الصَّرِيحَ الَّذِي لَا مِرَاءَ فِيهِ عِنْدَ أَهْلِ الْبَصَائِرِ، هُوَ مَذْهَبُ السَّلَفِ أَعْنِي الصَّحَابَةَ وَالتَّابِعَيْنِ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ الْبُرْهَانَ الْكُلِّيَّ عَلَى أَنَّ الْحَقَّ فِي مَذْهَبِ السَّلَفِ وَحْدَهُ يَنْكَشِفُ بِتَسْلِيمِ أَرْبَعَةِ أُصُولٍ مُسَلَّمَةٍ عِنْدَ كُلِّ عَاقِلٍ.
ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ الْأَوَّلَ مِنْ تِلْكَ الْأُصُولِ الْمَذْكُورَةِ إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ أَعْرَفُ الْخَلْقِ بِصَلَاحِ أَحْوَالِ الْعِبَادِ فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ.
الْأَصْلُ الثَّانِي: أَنه بلغ كلما أُوحِيَ إِلَيْهِ مِنْ صَلَاحِ الْعِبَادِ فِي مَعَادِهِمْ وَمَعَاشِهِمْ، وَلَمْ يَكْتُمْ مِنْهُ شَيْئًا.
الْأَصْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ أَعْرَفَ النَّاسِ بِمَعَانِي كَلَامِ اللَّهِ وَأَحْرَاهُمْ بِالْوُقُوفِ عَلَى أَسْرَارِهِ هُمْ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِينَ لَازَمُوهُ وَحَضَرُوا التَّنْزِيلَ وَعَرَفُوا التَّأْوِيلَ.
وَالْأَصْلُ الرَّابِعُ: أَنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي طُولِ عَصْرِهِمْ إِلَى آخِرِ أَعْمَارِهِمْ مَا دَعَوُا الْخَلْقَ إِلَى التَّأْوِيلِ، وَلَوْ كَانَ التَّأْوِيلُ مِنَ الدِّينِ أَوْ عِلْمِ الدِّينِ لَأَقْبَلُوا عَلَيْهِ لَيْلًا وَنَهَارًا وَدَعَوْا إِلَيْهِ أَوْلَادَهُمْ وَأَهْلَهُمْ.
ثُمَّ قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَبِهَذِهِ الْأُصُولِ الْأَرْبَعَةِ الْمُسَلَّمَةِ عِنْدَ كُلِّ مُسْلِمٍ نَعْلَمُ بِالْقَطْعِ أَنَّ الْحَقَّ مَا قَالُوهُ وَالصَّوَابَ مَا رَأَوْهُ. اهـ. بِاخْتِصَارٍ.
وَلَا شَكَّ أَنَّ اسْتِدْلَالَ الْغَزَالِيِّ هَذَا لِأَنَّ مَذْهَبَ السَّلَفِ هُوَ الْحَقُّ اسْتِدْلَالٌ لَا شَكَّ فِي صِحَّتِهِ، وَوُضُوحِ
وَجْهِ الدَّلِيلِ فِيهِ، وَأَنَّ التَّأْوِيلَ لَوْ كَانَ سَائِغًا أَوْ لَازِمًا لَبَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ، وَلِقَالَ بِهِ أَصْحَابُهُ وَتَابَعُوهُمْ كَمَا لَا يَخْفَى.
وَذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ عَنِ الْغَزَالِيِّ: أَنَّهُ رَجَعَ فِي آخِرِ حَيَاتِهِ إِلَى تِلَاوَةِ كِتَابِ اللَّهِ وَحِفْظِ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ وَالِاعْتِرَافِ بِأَنَّ الْحَقَّ هُوَ مَا فِي كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ. وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ مَاتَ وَعَلَى صَدْرِهِ صَحِيحُ الْبُخَارِيِّ رَحمَه الله.(1/164)
وَاعْلَمْ أَيْضًا أَنَّ الْفَخْرَ الرَّازِيَّ الَّذِي كَانَ فِي زَمَانِهِ أَعْظَمَ أَئِمَّةِ التَّأْوِيلِ رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ الْمَذْهَبِ إِلَى مَذْهَبِ السَّلَفِ مُعْتَرِفًا بِأَنَّ طَرِيقَ الْحَقِّ هِيَ اتِّبَاعُ الْقُرْآنِ فِي صِفَاتِ اللَّهِ.
وَقَدْ قَالَ فِي ذَلِكَ فِي كِتَابَهُ " أَقْسَامُ اللَّذَّاتِ ": لَقَدِ اخْتَبَرْتُ الطُّرُقَ الْكَلَامِيَّةَ، وَالْمَنَاهِجَ الْفَلْسَفِيَّةَ، فَلَمْ أَجِدْهَا تَرْوِي غَلِيلًا، وَلَا تَشْفِي عَلِيلًا، وَرَأَيْتُ أَقْرَبَ الطُّرُقِ طَرِيقَةَ الْقُرْآنِ أَقْرَأُ فِي الْإِثْبَات: {الرَّحْمَانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} ، {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} ، وَفِي النَّفْيِ: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ} ، {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} ، وَمُنْ جَرَّبَ مِثْلَ تَجْرِبَتِي عَرَفَ مِثْلَ مَعْرِفَتِي. اهـ.
وَقَدْ بَيَّنَ هَذَا الْمَعْنَى فِي أَبْيَاتِهِ الْمَشْهُورَةِ الَّتِي يَقُولُ فِيهَا:
نِهَايَةُ إِقْدَامِ الْعُقُولِ عِقَالُ ... وَغَايَةُ سَعْيِ الْعَالَمِينَ ضَلَالُ
وَأَرْوَاحُنَا فِي وَحْشَةٍ مَنْ جُسُومِنَا ... وَحَاصِلُ دُنْيَانَا أَذًى وَوَبَالُ
وَلَمْ نَسْتَفِدْ مَنْ بَحْثِنَا طُولَ عُمْرِنَا ... سِوَى أَنْ جَمَعْنَا فِيهِ قِيلٌ وَقَالُ
إِلَى آخِرِ الْأَبْيَاتِ.
وَكَذَلِكَ غَالِبُ أَكَابِرِ الَّذِينَ كَانُوا يَخُوضُونَ فِي الْفَلْسَفَةِ وَالْكَلَامِ، فَإِنَّهُ يَنْتَهِي بِهِمْ أَمْرُهُمْ إِلَى الْحَيْرَةِ وَعَدَمِ الثِّقَةِ بِمَا كَانُوا يُقَرِّرُونَ.
وَقَدْ ذُكِرَ عَنِ الْحَفِيدِ ابْنِ رُشْدٍ وَهُوَ مِنْ أَعْلَمِ النَّاسِ بِالْفَلْسَفَةِ أَنَّهُ قَالَ: وَمَنِ الَّذِي قَالَ فِي الْإِلَهِيَّاتِ شَيْئًا يُعْتَدُّ بِهِ؟
وَذَكَرُوا عَنِ الشِّهْرِسْتَانِيِّ أَنَّهُ لَمْ يَجِدْ عِنْدَ الْفَلَاسِفَةِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ إِلَّا الْحَيْرَةَ وَالنَّدَمَ، وَقَدْ قَالَ فِي ذَلِكَ:
لَعَمْرِي لَقَدْ طُفْتُ الْمَعَاهِدَ كُلَّهَا ... وَسَيَّرْتُ طَرْفِي بَيْنَ تِلْكَ الْمَعَالِمِ
فَلَمْ أَرَ إِلَّا وَاضِعًا كَفَّ حَائِرٍ ... عَلَى ذَقَنٍ أَوْ قَارَعًا سِنَّ نَادِمٍ(1/165)
وَأَمْثَالُ هَذَا كَثِيرَةٌ.
فَيَا أَيُّهَا الْمُعَاصِرُونَ الْمُتَعَصِّبُونَ لِدَعْوَى أَنَّ ظَوَاهِرَ آيَاتِ الصِّفَاتِ وَأَحَادِيثَهَا خَبِيثٌ لَا يَلِيقُ بِاللَّهِ لِاسْتِلْزَامِهِ التَّشْبِيهَ بِصِفَاتِ الْخَلْقِ، وَأَنَّهَا يَجِبُ نَفْيُهَا وَتَأْوِيلُهَا بِمَعَانٍ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ، وَلَمْ يَقُلْهَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِهِ وَلَا مِنَ التَّابِعِينَ.
فَمَنْ هُوَ سَلَفُكُمْ فِي هَذِهِ الدَّعْوَى الْبَاطِلَةِ الْمُخَالِفَةِ لِإِجْمَاعِ السَّلَفِ؟
إِنْ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ أَنَّ الْأَشْعَرِيَّ يَقُولُ مِثْلَ قَوْلِكُمْ، وَأَنَّهُ سَلَفُكُمْ فِي ذَلِكَ فَهُوَ بَرِيءٌ مِنْكُمْ وَمِنْ دَعْوَاكُمْ.
وَهُوَ مُصَرِّحٌ فِي كُتُبِهِ الَّتِي صَنَّفَهَا بَعْدَ الرُّجُوعِ عَنِ الِاعْتِزَالِ أَنَّ الْقَائِلِينَ بِالتَّأْوِيلِ هُمُ الْمُعْتَزِلَةُ، وَهُمْ خُصُومُهُ وَهُوَ خَصْمُهُمْ، كَمَا أَوْضَحْنَا كَلَامَهُ فِي الْإِبَاحَةِ وَالْمَقَالَاتِ.
وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ أَسَاطِينَ الْقَوْلِ بِالتَّأْوِيلِ قَدِ اعْتَرَفُوا بِأَنَّ التَّأْوِيلَ لَا مُسْتَنَدَ لَهُ، وَأَنَّ الْحَقَّ هُوَ اتِّبَاعُ مَذْهَبِ السَّلَفِ كَمَا أَوْضَحْنَا ذَلِكَ عَنْ أَبِي بَكْرِ الْبَاقِلَّانِيِّ، وَأَبِي الْمَعَالِي الْجُوَيْنِيِّ، وَأَبِي حَامِدٍ الْغَزَالِيِّ، وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْفَخْرِ الرَّازِيِّ، وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ ذَكَرْنَا.
فَنُوصِيكُمْ وَأَنْفُسَنَا بِتَقْوَى اللَّهِ وَأَلَّا تُجَادِلُوا فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاكُمْ، وَاللَّهُ جَلَّ وَعَلَا يَقُولُ فِي كِتَابِهِ: {إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِى? آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِن فِى صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ مَّا هُم بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} .
وَيَقُولُ تَعَالَى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِى اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلاَ هُدًى وَلاَ كِتَابٍ مُّنِيرٍ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُواْ مَآ أَنزَلَ اللَّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَآءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} .] (1) .
_________
(1) - 7/ 442: 477، مُحَمَّد / 24.(1/166)
الرَّد على الْمُعْتَزلَة النافين لصفات الْمعَانِي:
[لَهُ جَلَّ وَعَلَا كَلَامٌ حَقِيقِيٌّ يَلِيقُ بِكَمَالِهِ وَجَلَالِهِ. وَلِلْمَخْلُوقِ كَلَامٌ أَيْضًا مُنَاسِبٌ لِحَالِهِ. وَبَيْنَ كَلَامِ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ مِنَ الْمُنَافَاةِ مَا بَيْنَ ذَاتِ الْخَالِق والمخلوق.
وَهَذِه الصِّفَات السَّبع الْمَذْكُورَة - أَي: الْقُدْرَةُ، وَالْإِرَادَةُ، وَالْعِلْمُ، وَالْحَيَاةُ، وَالسَّمْعُ، وَالْبَصَرُ، وَالْكَلَامُ - يُثْبِتُهَا كَثِيرٌ مِمَّنْ يَقُولُ بِنَفْيِ غَيْرِهَا مِنْ صِفَاتِ الْمَعَانِي.
وَالْمُعْتَزِلَةُ يَنْفُونَهَا وَيُثْبِتُونَ أَحْكَامَهَا فَيَقُولُونَ: هُوَ تَعَالَى حَيٌّ قَادِرٌ، مُرِيدٌ عَلِيمٌ، سَمِيعٌ بَصِيرٌ، مُتَكَلِّمٌ بِذَاتِهِ لَا بِقُدْرَةٍ قَائِمَةٍ بِذَاتِهِ، وَلَا إِرَادَةٍ قَائِمَةٍ بِذَاتِهِ هَكَذَا فِرَارًا مِنْهُمْ مِنْ تَعَدُّدِ الْقَدِيمِ.
وَمَذْهَبُهُمُ الْبَاطِلُ لَا يَخْفَى بُطْلَانُهُ وَتَنَاقُضُهُ عَلَى أَدْنَى عَاقِلٍ؛ لِأَنَّ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْوَصْفَ الَّذِي مِنْهُ الِاشْتِقَاقُ إِذَا عُدِمَ فَالِاشْتِقَاقُ مِنْهُ مُسْتَحِيلٌ فَإِذَا عُدِمَ السَّوَادُ عَنْ جِرْمٍ مَثَلًا اسْتَحَالَ أَنْ تَقُولَ هُوَ أَسْوَدُ، إِذْ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ أَسْوَدَ وَلَمْ يَقُمْ بِهِ سَوَادٌ، وَكَذَلِكَ إِذَا لَمْ يَقُمِ الْعِلْمُ وَالْقُدْرَةُ بِذَاتٍ، اسْتَحَالَ أَنْ تَقُولَ: هِيَ عَالِمَةٌ قَادِرَةٌ لِاسْتِحَالَةِ اتِّصَافِهَا بِذَلِكَ، وَلَمْ يَقُمْ بِهَا عِلْمٌ وَلَا قُدْرَةٌ. قَالَ فِي «مراقي السُّعُود» :
وَعِنْدَ فَقْدِ الْوَصْفِ لَا يُشْتَقُّ ... وَأَعْوَزَ الْمُعْتَزِلِيَّ الْحق] (1) .
[قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَآئِبِينَ) بَيَّن تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ يَقُصُّ عَلَى عِبَادِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَهُ فِي الدُّنْيَا، وَأَخْبَرَهُمْ بِأَنَّهُ جَلَّ وَعَلَا لَمْ يَكُنْ غَائِبًا عَمَّا فَعَلُوهُ أَيَّامَ فِعْلِهِمْ لَهُ فِي دَارِ الدُّنْيَا، بَلْ هُوَ الرَّقِيبُ الشَّهِيدُ عَلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ، الْمُحِيطُ عِلْمُهُ بِكُل مَا
_________
(1) - 2/276 - 277، الْأَعْرَاف / 54.(1/167)
فَعَلُوهُ مِنْ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ، وَجَلِيلٍ وَحَقِيرٍ، وَبَيَّنَ هَذَا الْمَعْنَى فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ كَقَوْلِهِ: {مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلاَ أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُواْ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ} ، وَقَوْلِهِ: {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِى الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَآءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ} وَقَوله: {مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِى السَّمَآءِ وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذالِكَ وَلا? أَكْبَرَ إِلاَّ فِى كِتَابٍ مُّبِينٍ} .
تَنْبِيهٌ:
فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ الرَّدُّ الصَّرِيحُ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ النَّافِينَ صِفَاتِ الْمَعَانِي، الْقَائِلِينَ: إِنَّهُ تَعَالَى عَالِمٌ بِذَاتِهِ، لَا بِصِفَةٍ قَامَتْ بِذَاتِهِ، هِيَ الْعِلْمُ، وَهَكَذَا فِي قَوْلِهِمْ: قَادِرٌ مُرِيدٌ، حَيٌّ سَمِيعٌ، بَصِيرٌ مُتَكَلِّمٌ، فَإِنَّهُ هُنَا أَثْبَتَ لِنَفْسِهِ صِفَةَ الْعِلْمِ بِقَوْلِهِ: {فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ} وَنَظِيرُهُ قَوْله تَعَالَى: {أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ} . وَهِيَ أَدِلَّةٌ قُرْآنِيَّةٌ صَرِيحَةٌ فِي بُطْلَانِ مَذْهَبِهِمُ الَّذِي لَا يَشُكُّ عَاقِلٌ فِي بُطْلَانِهِ وَتَنَاقُضِهِ] (1) .
الرَّد على الْجَهْمِية الْقَائِلين بِأَن الله فِي كل مَكَان:
[وَاعْلَمْ أَنَّ مَا يَزْعُمُهُ الْجَهْمِيَّةُ «مِنْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فِي كُلِّ مَكَانٍ» مُسْتَدِلِّينَ بِهَذِهِ الْآيَة - أَي قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْض) - عَلَى أَنَّهُ فِي الْأَرْضِ ضَلَالٌ مُبِينٌ، وَجَهْلٌ بِاللَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّ جَمِيعَ الْأَمْكِنَةِ الْمَوْجُودَةِ أَحْقَرُ وَأَصْغَرُ مِنْ أَنْ يَحِلَّ فِي شَيْءٍ مِنْهَا رب السَّمَاوَات وَالْأَرْض الَّذِي هُوَ
_________
(1) - 2/260 - 261، الْأَعْرَاف / 7.(1/168)
أَعْظَمُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، وَأَعْلَى مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، مُحِيطٌ بِكُلِّ شَيْءٍ وَلَا يُحِيطُ بِهِ شَيْءٌ، فَالسَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ فِي يَدِهِ جَلَّ وَعَلَا أَصْغَرُ مِنْ حَبَّةِ خَرْدَلٍ فِي يَدِ أَحَدِنَا، وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى، فَلَوْ كَانَتْ حَبَّةُ خَرْدَلٍ فِي يَدِ رَجُلٍ فَهَلْ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ حَالٌ فِيهَا، أَوْ فِي كُلِّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَائِهَا. لَا وَكَلَّا، هِيَ أَصْغَرُ وَأَحْقَرُ مِنْ ذَلِكَ، فَإِذَا عَلِمْتَ ذَلِكَ فَاعْلَمْ أَنَّ رَبَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَأَعْظَمُ مَنْ كُلِّ شَيْءٍ، مُحِيطٌ بِكُلِّ شَيْءٍ، وَلَا يُحِيطُ بِهِ شَيْءٌ، وَلَا يَكُونُ فَوْقَهُ شَيْءٌ {لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِى السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِى الأَرْضِ وَلاَ أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرُ إِلاَّ فِى كِتَابٍ مُّبِينٍ} ، سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عُلُوًّا كَبِيرًا لَا نُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْهِ، هُوَ كَمَا أَثْنَى عَلَى نَفْسِهِ {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} ] (1) .
الرَّد على الْقَائِلين بِوُجُود مجَاز فِي الْقُرْآن:
[وَقَوله: {وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِى جُذُوعِ النَّخْلِ} وَتَعْدِيَةُ التَّصْلِيبِ بِـ «فِي» أُسْلُوبٌ عَرَبِيٌّ مَعْرُوفٌ، وَمِنْهُ قَوْلُ سُوِيدِ بْنِ أَبِي كَاهِلٍ:
هُمُ صَلَبُوا الْعَبْدِيَّ فِي جِذْعِ نَخْلَةٍ ... فَلَا عَطَسَتْ شَيْبَانُ إِلَّا بِأَجْدَعَا
وَمَعْلُومٌ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْبَلَاغَةِ: أَنَّ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْآيَة اسْتِعَارَة تَبَعِيَّة فِي معنى الْحَرْف] (2)
[وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ سُؤَالٌ مَعْرُوفٌ، هُوَ أَنْ يُقَالَ: كَيْفَ أَوْقَعَ الْإِذَاقَةَ عَلَى اللِّبَاسِ فِي قَوْلِهِ {فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ} . وَرُوِيَ أَنَّ ابْنَ الرَّاوَنْدِيِّ الزِّنْدِيقَ قَالَ لِابْنِ الْأَعرَابِي إمامِ اللُّغَة الْأَدَب: هَل يُذاق
اللبَاس؟
_________
(1) - 2/163، الْأَنْعَام / 3.
(2) - 4/514، طه/71، وَانْظُر (3/345) (النَّحْل/112) ، (7/275) (الزخرف/51) ، (7/452) (مُحَمَّد/54) .(1/169)
يُرِيدُ الطَّعْنَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ} . فَقَالَ لَهُ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: لَا بَأْسَ أَيُّهَا
النسناسا: هَبْ أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا كَانَ نَبِيًّا! أَمَا كَانَ عَرَبِيًّا؟
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ ظَاهِرٌ، وَهُوَ أَنَّهُ أَطْلَقَ اسْمَ اللِّبَاسِ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ مِنَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ؛ لِأَنَّ آثَارَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ تَظْهَرُ عَلَى أَبْدَانِهِمْ، وَتُحِيطُ بِهَا كَاللِّبَاسِ. وَمِنْ حَيْثُ وُجْدَانِهِمْ ذَلِكَ اللِّبَاسُ المعبرَّ بِهِ عَنْ آثَارِ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ، أَوْقَعَ عَلَيْهِ الْإِذَاقَةَ، فَلَا حَاجَةَ إِلَى مَا يَذْكُرُهُ الْبَيَانِيُّونَ مِنَ الِاسْتِعَارَاتِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ وَقَدْ أَوْضَحْنَا فِي رِسَالَتِنَا الَّتِي سَمَّيْنَاهَا (مَنْعَ جَوَازِ الْمَجَازِ فِي الْمَنْزِلِ لِلتَّعَبُّدِ وَالْإِعْجَازِ) : أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ إِنَّ فِي الْقُرْآنِ مَجَازًا، وَأَوْضَحْنَا ذَلِكَ بِأَدِلَّتِهِ، وَبَيَّنَّا أَنَّ مَا يُسَمِّيهِ
الْبَيَانِيُّونَ مَجَازًا أَنَّهُ أُسْلُوبٌ مِنْ أساليب اللُّغَة الْعَرَبيَّة (1) ] (2) .
_________
(1) - وَقد تتبعت كل مَا قَالَ عَنهُ الْعَلامَة الشنقيطي - رَحمَه الله - أَنه من الأساليب أَو الإطلاقات الْعَرَبيَّة فِي كِتَابه " أضواء الْبَيَان" وأفردته فِي رِسَالَة مُفْردَة؛ لتَكون تتميماً لرسالته " منع جَوَاز الْمجَاز " فَللَّه الْحَمد على توفيقه.
(2) - 3/344- 345، النَّحْل/112، وَانْظُر (4/194 - 195) (الْكَهْف/77) ، (6/385: 387) (الشُّعَرَاء/215) ، (7/62) (غَافِر/13) .(1/170)
فصل فِي بعض صِفَات الذَّات
- صفة الْيَد:
[الظَّاهِر الْمُتَبَادِرُ مِنْ لَفْظِ الْيَدِ بِالنِّسْبَةِ لِلْمَخْلُوقِ، هُوَ كَوْنُهَا جَارِحَةً هِيَ عَظْمٌ وَلَحْمٌ وَدَمٌ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي يَتَبَادَرُ إِلَى الذِّهْنِ فِي نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا} .
وَالظَّاهِرُ الْمُتَبَادِرُ مِنَ الْيَدِ بِالنِّسْبَةِ لِلْخَالِقِ فِي نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَىَّ} أَنَّهَا صِفَةُ كَمَالٍ وَجَلَالٍ، لَائِقَةٌ بِاللَّهِ جَلَّ وَعَلَا ثَابِتَةٌ لَهُ عَلَى الْوَجْهِ اللَّائِقِ بِكَمَالِهِ وَجَلَالِهِ. وَقَدْ بَيَّنَ جَلَّ وَعَلَا عِظَمَ هَذِهِ الصِّفَةِ وَمَا هِيَ عَلَيْهِ مِنَ الْكَمَالِ وَالْجَلَالِ، وَبَيَّنَ أَنَّهَا مِنْ صِفَاتِ التَّأْثِيرِ كَالْقُدْرَةِ، قَالَ تَعَالَى فِي تَعْظِيمِ شَأْنِهَا {وَمَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسموات مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} . وَبَيِّنَ أَنَّهَا صِفَةُ تَأْثِيرٍ كَالْقُدْرَةِ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَىَّ} ، فَتَصْرِيحُهُ تَعَالَى بِأَنَّهُ خَلَقَ نَبِيَّهُ آدَمَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي هِيَ صِفَاتُ كَمَالِهِ وَجَلَالِهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا مِنْ صِفَاتِ التَّأْثِيرِ كَمَا تَرَى. وَلَا يَصِحُّ هُنَا تَأْوِيلُ الْيَدِ بِالْقُدْرَةِ الْبَتَّةَ، لِإِجْمَاعِ أَهْلِ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، كُلِّهِمْ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَثْنِيَةُ الْقُدْرَةِ. وَلَا يَخْطُرُ فِي ذِهْنِ الْمُسْلِمِ الْمَرَاجِعِ عَقْلَهُ، دُخُولُ الْجَارِحَةِ الَّتِي هِيَ عَظْمٌ وَلَحْمٌ وَدَمٌ فِي مَعْنَى هَذَا اللَّفْظِ، الدَّالِّ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ الْعَظِيمَةِ، مِنْ صِفَاتِ خَالِقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ.
فَاعْلَمْ أَيُّهَا الْمُدَّعِي أَنَّ ظَاهِرَ لَفْظِ الْيَدِ فِي الْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ وَأَمْثَالَهَا، لَا يَلِيقُ بِاللَّهِ، لِأَنَّ ظَاهِرَهَا التَّشْبِيهُ بِجَارِحَةِ الْإِنْسَانِ، وَأَنَّهَا يَجِبُ صَرْفُهَا، عَنْ هَذَا الظَّاهِرِ الْخَبِيثِ، وَلَمْ تَكْتَفِ بِهَذَا حَتَّى ادَّعَيْتَ الْإِجْمَاعَ عَلَى صَرْفِهَا عَنْ(1/171)
ظَاهِرِهَا. أَنَّ قَوْلَكَ هَذَا كُلَّهُ افْتِرَاءٌ عَظِيمٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَعَلَى كِتَابِهِ الْعَظِيمِ، وَأَنَّكَ بسبه كُنْتَ أَعْظَمَ الْمُشَبِّهِينَ وَالْمُجَسِّمِينَ، وَقَدْ جَرَّكَ شُؤْمُ هَذَا التَّشْبِيه، إِلَى ورطة التعطيل ... ] (1)
[فَإِنْ قِيلَ دَلَّ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَإِجْمَاعُ السَّلَفِ عَلَى أَنَّ اللَّهَ وَصَفَ نَفْسَهُ بِصِفَةِ الْيَدَيْنِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَىَّ} . وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسموات مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} . وَالْأَحَادِيثُ الدَّالَّةُ عَلَى مِثْلِ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآيَاتُ الْمَذْكُورَةُ كَثِيرَةٌ، كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ، وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهُ جَلَّ وَعَلَا، لَا يَجُوزُ أَنْ يُوصَفَ بِصِفَةِ الْأَيْدِي مَعَ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَآ أَنْعاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ} فَلِمَ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى تَقْدِيمِ آيَةِ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ عَلَى آيَةِ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا؟
فَالْجَوَابُ: أَنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنِ أَهْلِ اللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ وَلَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ صِيَغَ الْجُمُوعِ تَأْتِي لِمَعْنَيَيْنِ أَحَدُهُمَا: إِرَادَةُ التَّعْظِيمِ فَقَطْ، فَلَا يَدْخُلُ فِي صِيغَةِ الْجَمْعِ تَعَدُّدٌ أَصْلًا؛ لِأَنَّ صِيغَةَ الْجَمْعِ الْمُرَادَ بِهَا التَّعْظِيمُ، إِنَّمَا يُرَادُ بِهَا وَاحِدٌ.
وَالثَّانِي: أَنْ يُرَادَ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ مَعْنَى الْجَمْعِ الْمَعْرُوفِ، وَإِذَا عَلِمْتَ ذَلِكَ، فَاعْلَمْ أَنَّ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ يَكْثُرُ فِيهِ جِدًّا إِطْلَاقُ اللَّهِ جَلَّ وَعَلَا، عَلَى نَفْسِهِ صِيغَةَ الْجَمْعِ، يُرِيدُ بِذَلِكَ تَعْظِيمَ نَفْسِهِ، وَلَا يُرِيدُ بِذَلِكَ تَعَدُّدًا وَلَا أَنَّ
مَعَهُ غَيْرَهُ، سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} .
_________
(1) - 7/444: 446، مُحَمَّد / 24.(1/172)
فَصِيغَةُ الْجَمْعِ فِي قَوْلِهِ: {إِنَّا} وَفِي قَوْلِهِ: {نَحْنُ} وَفِي قَوْلِهِ: {نَزَّلْنَا} وَقَوْلِهِ: {لَحَافِظُونَ} لَا يُرَادُ بِهَا أَنَّ مَعَهُ مُنَزِّلًا لِلذِّكْرِ، وَحَافِظًا لَهُ غَيْرَهُ تَعَالَى. بَلْ هُوَ وَحْدَهُ الْمُنَزِّلُ لَهُ والحافظ لَهُ، وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {أَفَرَءَيْتُمْ مَّا تُمْنُونَ أَءَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَم نَحْنُ الْخَالِقُونَ} وَقَوله {أَءَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ} . وَقَوْلُهُ: {أَءَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَآ أَمْ نَحْنُ الْمُنشِئُونَ} ، وَنَحْوُ هَذَا كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ جِدًّا، وَبِهِ تَعْلَمُ أَنَّ صِيغَةَ الْجَمْعِ فِي قَوْلِهِ: {إِنَّا} . وَفِي قَوْلِهِ: (خَلَقْنَا) وَفِي قَوْلِهِ: {عَمِلَتْ أَيْدِينَآ} إِنَّمَا يُرَادُ بِهَا التَّعْظِيمُ، وَلَا يُرَادُ بِهَا التَّعَدُّدُ أَصْلًا.
وَإِذَا كَانَ يُرَادُ بِهَا التَّعْظِيمُ، لَا التَّعَدُّدُ عُلِمَ بِذَلِكَ أَنَّهَا لَا تَصِحُّ بِهَا مُعَارِضَةُ قَوْلِهِ: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَىَّ} ؛ لِأَنَّهَا دَلَّتْ عَلَى صِفَةِ الْيَدَيْنِ، وَالْجَمْعُ فِي قَوْلِهِ: {أَيْدِينَآ} لِمُجَرَّدِ التَّعْظِيم] (1) .
- صفة الْوَجْه:
[قَوْلُهُ تَعَالَى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلْالِ وَالإِكْرَامِ} . مَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ فَنَاءِ كُلِّ مَنْ عَلَى الْأَرْضِ وَبَقَاءِ وَجْهِهِ جَلَّ وَعَلَا الْمُتَّصِفِ بِالْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ، جَاءَ مُوَضَّحًا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {كُلُّ شَىْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَىِّ الَّذِى لاَ يَمُوتُ} . وَقَوْلِهِ تَعَالَى {كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ} إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَالْوَجْهُ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ الْعَلِيِّ وَصَفَ بِهَا نَفسه، فعلينا أَن نصدق
_________
(1) - 7/463: 465، مُحَمَّد / 24. وَانْظُر (4/756) (الْأَنْبِيَاء /104) ، (7/ 449: 451، 460: 462، 465 - 466، 469 -470) (مُحَمَّد/24) ، (9/380 - 381) (الْقدر/1) .(1/173)
رَبَّنَا وَنُؤْمِنَ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ مَعَ التَّنْزِيهِ التَّامِّ عَنْ مُشَابَهَةِ صِفَاتِ الْخَلْقِ] (1) .
- صفة القَدَم:
[ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَغَيْرِهِمَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَنَّ جَهَنَّمَ لَا تَزَالُ تَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ حَتَّى يَضَعَ رَبُّ الْعِزَّةِ فِيهَا قَدَمَهُ فَيَنْزَوِي بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ وَتَقُولُ قَطْ قَطْ» (2) ، لِأَنَّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ التَّصْرِيحَ بِقَوْلِهَا قَطْ قَطْ، أَيْ كَفَانِي قَدِ امْتَلَأْتُ، وَأَنَّ قَوْلَهَا قَبْلَ ذَلِكَ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ لِطَلَبِ الزِّيَادَةِ، وَهَذَا الْحَدِيثُ الصَّحِيح من أَحَادِيث الصِّفَات] (3) .
- صفة الْعلم:
[قَالَ فِي وَصْفِ نَفْسِهِ بِالْعِلْمِ: {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} ، {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَآ أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ} {فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَآئِبِينَ} .
وَقَالَ فِي وَصْفِ الْحَادِثِ بِهِ: {قَالُواْ لاَ تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلَيمٍ} ، وَقَالَ: {وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِّمَا عَلَّمْنَاهُ} وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
فَلَهُ جَلَّ وَعَلَا عِلْمٌ حَقِيقِيٌّ لَائِقٌ بِكَمَالِهِ وَجَلَالِهِ، وَلِلْمَخْلُوقِ عِلْمٌ مُنَاسِبٌ لِحَالِهِ، وَبَيْنَ عِلْمِ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ مِنَ الْمُنَافَاةِ مَا بَيْنَ ذَاتِ الْخَالِقِ والمخلوق] (4) .
_________
(1) - 7/750، الرَّحْمَن /26 - 27، وَانْظُر (6/457) (الْقَصَص / 88) .
(2) - أخرجه البُخَارِيّ (4/1835) (4567) ، وَمُسلم (4/2187) (2848) من حَدِيث أنس رَضِي الله عَنهُ.
(3) - 7/653، ق/30.
(4) - 2/275، الْأَعْرَاف/54.(1/174)
[ {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِى كُنتَ عَلَيْهَآ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ} الْآيَةَ. ظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ قَدْ يَتَوَهَّمُ مِنْهُ الْجَاهِلُ أَنَّهُ تَعَالَى يَسْتَفِيدُ بِالِاخْتِبَارِ عِلْمًا لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُهُ، سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا بَلْ هُوَ تَعَالَى عَالِمٌ بِكُلِّ مَا سَيَكُونُ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ. وَقَدْ بَيَّنَ أَنَّهُ لَا يَسْتَفِيدُ بِالِاخْتِبَارِ عِلْمًا لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُهُ بِقَوْلِهِ جَلَّ وَعَلَا: {وَلِيَبْتَلِىَ اللَّهُ مَا فِى صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحّصَ مَا فِى قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} ، فَقَوْلُهُ: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} ، بَعْدَ قَوْلِهِ: {لِيَبْتَلِي} ، دَلِيلٌ قَاطِعٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَسْتَفِدْ بِالِاخْتِبَارِ شَيْئًا لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِهِ، سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا؛ لِأَنَّ الْعَلِيمَ بِذَاتِ الصُّدُورِ غَنِيٌّ عَنِ الِاخْتِبَارِ وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ بَيَانٌ عَظِيمٌ لِجَمِيعِ الْآيَاتِ الَّتِي يَذْكُرُ اللَّه فِيهَا اخْتِبَارَهُ لِخَلْقِهِ، وَمَعْنَى {إِلاَّ لِنَعْلَمَ} أَيْ عِلْمًا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ فَلَا يُنَافِي أَنَّهُ كَانَ عَالِمًا بِهِ قَبْلَ ذَلِكَ، وَفَائِدَةُ الِاخْتِبَارِ ظُهُورُ الْأَمْرِ لِلنَّاسِ. أَمَّا عَالِمُ السِّرِّ وَالنَّجْوَى فَهُوَ عَالِمٌ بِكُلِّ مَا سَيَكُونُ كَمَا لَا يَخْفَى] (1) .
إحاطة علمه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بالموجودات والمعدومات:
[الله جلّ وَعلا أَحَاطَ عِلْمُهُ بِكُلِّ مَوْجُودٍ وَمَعْدُومٍ، يَعْلَمُ الْمَعْدُومَ الَّذِي سَبَقَ فِي الْأَزَلِ أَنَّهُ لَا يَكُونُ لَوْ وُجِدَ كَيْفَ يَكُونُ؛ لِأَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ رَدَّ الْكُفَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَى الدُّنْيَا مَرَّةً أُخْرَى لَا يَكُونُ، وَيَعْلَمُ هَذَا الرَّدَّ الَّذِي لَا يَكُونُ لَوْ وَقَعَ كَيْفَ يَكُونُ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ بِقَوْلِهِ: {وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} ، وَهَذَا الْمَعْنَى
جَاءَ مُصَرَّحًا بِهِ فِي آيَاتٍ أُخَرَ، فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ تَعَالَى سَبَقَ فِي عِلْمِهِ أَنَّ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ تَخَلَّفُوا عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ
لَا يَخْرُجُونَ إِلَيْهَا
_________
(1) - 1/75 - 76، الْبَقَرَة /143، وَانْظُر: (2/260 - 261) (الْأَعْرَاف / 7) ، (4/26-27) (الْكَهْف/12) ، (7/591 - 592) (مُحَمَّد/31) .(1/175)
مَعَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَاللَّهُ ثَبَّطَهُمْ عَنْهَا لِحِكْمَةٍ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي قَوْلِهِ: {وَلكن كَرِهَ اللَّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُواْ مَعَ الْقَاعِدِينَ} . وَهُوَ يَعْلَمُ هَذَا الْخُرُوجَ الَّذِي لَا يَكُونُ لَوْ وَقَعَ كَيْفَ يَكُونُ. كَمَا صَرَّحَ بِهِ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ: {لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً} . وَمِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى الْمَعْنَى الْمَذْكُورِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِّن ضُرٍّ لَّلَجُّواْ فِى طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} إِلَى غَيْرِ ذَلِك من الْآيَات] (1) .
بعض مَا اخْتصَّ الله بِعِلْمِهِ:
[وَلَا شَكَّ أَنَّ فِي الْقُرْآنِ أَشْيَاءَ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا اللَّه كَحَقِيقَةِ الرُّوحِ؛ لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى يَقُول: {وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبّى} ، وَكَمَفَاتِحِ الْغَيْبِ الَّتِي نَصَّ عَلَى أَنَّهَا لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ بِقَوْلِهِ: {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ} . وَقَدْ ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهَا الْخَمْسُ الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزّلُ الْغَيْثَ} (2) . وَكَالْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ وَكَنَعِيمِ الْجَنَّةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِىَ لَهُم مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} ] (3) .
أَسمَاء لَهَا علاقَة بِصفة الْعلم:
قَالَ صَاحب التَّتِمَّة: [قَالَ الْقُرْطُبِيُّ نَقْلًا عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْإِسْفِرَائِينِيِّ: مِنْ أَسْمَاءِ صِفَاتِ الذَّاتِ مَا هُوَ لِلْعِلْمِ مِنْهَا الْعَلِيم وَمَعْنَاهَا تَعْمِيم جَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ وَمِنْهَا الْخَبِيرُ وَيَخْتَصُّ بِأَنْ يَعْلَمَ مَا يكون قبل أَن
_________
(1) - 2/168 - 169، الْأَنْعَام / 28. وَانْظُر (2/271) (الْأَعْرَاف / 53) ، (3/352) (النَّحْل/125) ، (5/808) (الْمُؤْمِنُونَ/75) ، (8/328) (المُنَافِقُونَ / 11) .
(2) - أخرجه البُخَارِيّ (4/1793) (2500) من حدث ابْن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا -.
(3) - 1/240، آل عمرَان / 7.(1/176)
يكون، وَمِنْهَا الْحَكِيم وَيخْتَص أَن يَعْلَمُ دَقَائِقَ الْأَوْصَافِ، وَمِنْهَا الشَّهِيدُ وَيَخْتَصُّ بِأَنْ يعلم الْغَائِب والحاضر وَمَعْنَاهَا أَلَّا يَغِيبَ عَنْهُ شَيْءٌ، وَمِنْهَا الْحَافِظُ وَيَخْتَصُّ بِأَنَّهُ لَا ينسى، وَمِنْهَا المحصي وَيخْتَص بِأَن لَا تَشْغَلُهُ الْكَثْرَةُ عَنِ الْعِلْمِ مِثْلَ ضَوْءِ النُّور، واشتداد الرّيح، وتساقط الأوراق؛ فَيعلم عَن ذَلِكَ أَجْزَاءَ الْحَرَكَاتِ فِي كُلِّ وَرَقَةٍ وَكَيْفَ لَا يَعْلَمُ وَهُوَ الَّذِي يَخْلُقُ! وَقَدْ قَالَ: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} ] (1) .
قَاعِدَة فِي صفة الْعلم:
لَا يجوز فِي حَقه تَعَالَى إِطْلَاق الترجي والتوقع:
[لَا يَجُوزُ فِي حَقِّهِ جَلَّ وَعَلَا إِطْلَاقُ التَّرَجِّي وَالتَّوَقُّعِ لِتَنْزِيهِهِ عَنْ ذَلِكَ، وَإِحَاطَةِ عِلْمِهِ بِمَا يَنْكَشِفُ عَنْهُ الْغَيْبُ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى لِمُوسَى وَهَارُونَ: {فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} أَيْ عَلَى رَجَائِكُمَا وَتَوَقُّعِكُمَا أَنَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى، مَعَ أَنَّ اللَّهَ عَالِمٌ فِي سَابِقِ أَزَلِهِ أَنَّ فِرْعَوْنَ لَا يَتَذَكَّرُ وَلَا يَخْشَى، فَمَعْنَى لَعَلَّ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْخَلْقِ، لَا إِلَى الْخَالِق جلّ وَعلا] (2) .
- صفة الْحِكْمَة:
[قَوْلُهُ تَعَالَى: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ أَمْراً مِّنْ عِنْدِنَآ} . مَعْنَى قَوْلِهِ: يُفْرَقُ، أَيْ يُفْصَلُ وَيُبَيَّنُ، وَيُكْتَبُ فِي اللَّيْلَةِ الْمُبَارَكَةِ، الَّتِي هِيَ لَيْلَةُ الْقَدْرِ، كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ، أَيْ ذِي حِكْمَةٍ بَالِغَةٍ لِأَنَّ كُلَّ مَا يَفْعَلُهُ الله، مُشْتَمل على أَنْوَاع الحكم الباهرة.
_________
(1) - 8/402، الْملك / 13.
(2) - 5/696، الْحَج / 36. وَانْظُر (2/271 - 272) (الْأَعْرَاف /53) ، (6/203) (النُّور/ 31) .(1/177)
وَقَالَ بَعضهم: حَكِيم، أَي مُحكم، وَلَا تَغْيِيرَ فِيهِ، وَلَا تَبْدِيلَ.
وَكِلَا الْأَمْرَيْنِ حَقٌّ؛ لِأَنَّ مَا سَبَقَ فِي عِلْمِ اللَّهِ، لَا يَتَغَيَّرُ وَلَا يَتَبَدَّلُ؛ وَلِأَنَّ جَمِيعَ أَفْعَالِهِ فِي غَايَةِ الْحِكْمَةِ.
وَهِيَ فِي الِاصْطِلَاحِ وَضْعُ الْأُمُورِ فِي مَوَاضِعِهَا وَإِيقَاعُهَا فِي مَوَاقِعِهَا.
وَإِيضَاحُ مَعْنَى الْآيَةِ: أَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي كُلِّ لَيْلَةِ قَدْرٍ مِنَ السَّنَةِ يُبَيِّنُ لِلْمَلَائِكَةِ وَيَكْتُبُ لَهُمْ، بِالتَّفْصِيلِ وَالْإِيضَاحِ جَمِيعَ مَا يَقَعُ فِي تِلْكَ السَّنَةِ، إِلَى لَيْلَةِ الْقَدْرِ مِنَ السَّنَةِ الْجَدِيدَةِ.
فَتَبَيَّنَ فِي ذَلِكَ الْآجَالُ وَالْأَرْزَاقُ وَالْفَقْرُ وَالْغِنَى، وَالْخِصْبُ وَالْجَدْبُ وَالصِّحَّةُ وَالْمَرَضُ، وَالْحُرُوبُ وَالزَّلَازِلُ، وَجَمِيعُ مَا يَقَعُ فِي تِلْكَ السَّنَّةِ كَائِنًا مَا كَانَ.] (1) .
- صفتا السّمع وَالْبَصَر:
[وَقَالَ فِي وَصْفِ نَفْسِهِ بِالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} ، {وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَقَالَ فِي وَصْفِ الْحَادِثِ بِهِمَا: {إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً} ، {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا} وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
فَلَهُ جَلَّ وَعَلَا سَمْعٌ وَبَصَرٌ حَقِيقِيَّانِ يَلِيقَانِ بِكَمَالِهِ وَجَلَالِهِ، وَلِلْمَخْلُوقِ سَمْعٌ وَبَصَرٌ مُنَاسِبَانِ لِحَالِهِ. وَبَيْنَ سَمْعِ الْخَالِقِ وَبَصَرِهِ، وَسَمْعِ الْمَخْلُوقِ وَبَصَرِهِ مِنَ الْمُنَافَاةِ مَا بَين ذَات الْخَالِق والمخلوق.] (2)
_________
(1) - 7/320، الدُّخان / 4، 5.
(2) - 2/276، الْأَعْرَاف / 54.(1/178)
- صفة الْقُدْرَة:
[قَالَ تَعَالَى فِي وَصْفِ نَفْسِهِ بِالْقُدْرَةِ: {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} ... فَأَثْبَتَ لِنَفْسِهِ قُدْرَةً حَقِيقِيَّةً لَائِقَةً بِجَلَالِهِ وَكَمَالِهِ] (1) .
- صفة الْإِرَادَة:
[وَقَالَ فِي وَصْفِ نَفْسِهِ بِالْإِرَادَةِ: {فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ} ، {إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} ، {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} ، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ ... فَلَهُ جَلَّ وَعَلَا إِرَادَةٌ حَقِيقِيَّةٌ لَائِقَةٌ بِكَمَالِهِ وجلاله] (2) .
- صفة الْحَيَاة:
[وَقَالَ فِي وَصْفِ نَفْسِهِ بِالْحَيَاةِ: {اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَىُّ الْقَيُّومُ} {هُوَ الْحَىُّ لاَ اله إِلاَّ هُوَ} {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَىِّ الَّذِى لاَ يَمُوتُ} ، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. فَلَهُ جَلَّ وَعَلَا حَيَاة حَقِيقِيَّة تلِيق بجلاله وكماله] (3) .
- صفتا الْعُلُوّ وَالْعَظَمَة:
[قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَهُوَ الْعَلِىُّ العَظِيمُ} . وَصَفَ نَفْسَهُ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، بِالْعُلُوِّ وَالْعَظَمَةِ، وَهُمَا مِنَ الصِّفَاتِ الْجَامِعَةِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ فِي
_________
(1) - 2/275، الْأَعْرَاف / 54.
(2) - الْموضع السَّابِق.
(3) - الْموضع السَّابِق.(1/179)
سُورَةِ الْأَعْرَافِ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} .
وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ، مِنْ وَصْفِهِ تَعَالَى نَفْسَهُ بِهَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ الْجَامِعَتَيْنِ الْمُتَضَمِّنَتَيْنِ لِكُلِّ كَمَالٍ وَجَلَالٍ، جَاءَ مِثْلُهُ فِي آيَاتٍ أُخَرَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِىُّ الْعَظِيمُ} وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً} . وَقَوْلِهِ تَعَالَى {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ} وَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلَهُ الْكِبْرِيَآءُ فِى السَّمَوَات وَالأَرْضِ} . إِلَى غير ذَلِك من الْآيَات] (1) .
وَقَالَ صَاحب التَّتِمَّة - رَحمَه الله -: [قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاءِ أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ} . قَالَ ابْن جرير: هُوَ الله تَعَالَى اهـ.
وَمُعْتَقَدُ السَّلَفِ هُوَ طِبْقُ مَا قَالَهُ ابْنُ جَرِيرٍ لِحَدِيثِ الْجَارِيَةِ: «أَيْنَ اللَّهُ؟ قَالَتْ فِي السَّمَاءِ، قَالَ: اعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ» (2) وَلِعِدَّةِ آيَاتٍ فِي هَذَا الْمَعْنى، وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّ مَعْنَى فِي هُوَ الظَّرْفِيَّةُ، فَنَجْعَلُ السَّمَاءَ ظَرْفًا لِلَّهِ تَعَالَى، وَهَذَا يَقْتَضِي التَّشْبِيهَ بِالْمُتَحَيِّزِ. فَيُقَالُ: إِنَّهُ سُبْحَانَهُ مُنَزَّهٌ عَنِ الظَّرْفِيَّةِ بِالْمَعْنَى الْمَعْرُوفِ وَالْمَنْصُوصِ فِي حَقِّ الْمَخْلُوقِ، وَقَدْ دَلَّتِ النُّصُوصُ مِنَ السُّنَّةِ عَلَى نَفْيِ ذَلِكَ عَنْهُ تَعَالَى وَاسْتِحَالَتِهِ عَقْلًا عَلَيْهِ سُبْحَانَهُ فِي حَدِيثِ: «مَا السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ فِي الْكُرْسِيِّ إِلَّا كَحَلْقَةٍ أَوْ دَرَاهِمَ فِي تُرْسٍ، وَمَا الْكُرْسِيُّ فِي الْعَرْشِ إِلَّا كَحَلْقَةٍ فِي فَلَاةٍ، وَمَا الْعَرْشُ فِي كَفِّ الرَّحْمَنِ إِلَّا كَحَبَّةِ خَرْدَلٍ فِي كَفِّ أَحَدِكُمْ» (3) فَانْتَفَتْ ظَرْفِيَّةُ السَّمَاءِ لَهُ سُبْحَانَهُ على الْمَعْرُوف لنا، وَلِأَنَّهُ
_________
(1) - 7/151، 150-الشورى /4.
(2) - أخرجه مُسلم (1/381) (537) من حَدِيث مُعَاوِيَة بن الحكم السّلمِيّ مطولا بِهِ.
(3) - لم أَقف عَلَيْهِ بِهَذَا اللَّفْظ، وَأَظنهُ ملفق من عدَّة رِوَايَات، وروى ابْن جرير فِي تَفْسِير آيَة الْكُرْسِيّ نَحوه بِدُونِ ذكر آخِره بِسَنَد ضَعِيف فِيهِ عبد الرَّحْمَن بن زيد، وَقد صحّح الشَّيْخ الألباني - رَحمَه الله - فِي السلسلة الصَّحِيحَة (109) نَحوه بِلَفْظ: " مَا السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ فِي الْكُرْسِيِّ إِلَّا كَحَلْقَةٍ بِأَرْض فلاة وَفضل الْعَرْش على الْكُرْسِيّ كفضل تِلْكَ الفلاة على تِلْكَ الْحلقَة " وَقَالَ: لَا يَصح فِي صفة الْكُرْسِيّ غير هَذَا الحَدِيث.(1/180)
سُبْحَانَهُ مُسْتَوٍ عَلَى عَرْشِهِ. وَفِيمَا قَدَّمَهُ الشَّيْخُ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ فِي هَذَا الْمَبْحَثِ شِفَاءٌ وَغَنَاءٌ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: إِنَّ فِي السَّمَاءِ بِمَعْنَى فَوْقَ السَّمَاءِ كَقَوْلِهِ: {فَسِيحُواْ فِى الأَرْضِ} أَيْ فَوْقَهَا لَا بِالْمُمَاسَّةِ وَالتَّحَيُّزِ، وَقِيلَ: فِي بِمَعْنَى عَلَى كَقَوْلِهِ: {وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِى جُذُوعِ النَّخْلِ} أَيْ عَلَيْهَا إِلَى أَنْ قَالَ: وَالْأَخْبَارُ فِي هَذَا الْبَابِ كَثِيرَةٌ صَحِيحَةٌ مُنْتَشِرَةٌ مُشِيرَةٌ إِلَى الْعُلُوِّ لَا يَدْفَعُهَا إِلَّا مُلْحِدٌ أَوْ جَاهِلٌ أَوْ مُعَانِدٌ، وَالْمُرَادُ بِهَا تَوْقِيرُهُ وَتَنْزِيهُهُ عَنِ السُّفْلِ وَالتَّحْتِ وَوَصْفُهُ بالعلو اهـ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ هُوَ عَيْنُ مَذْهَبِ السَّلَفِ] (1) اهـ.
- صفة الأحدية:
قَالَ صَاحب التَّتِمَّة - رَحمَه الله -: [قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: لَا يُوصَفُ شَيْءٌ بِالْأَحَدِيَّةِ غَيْرُ اللَّهِ تَعَالَى، لَا يُقَالُ: رَجُلٌ أَحَدٌ وَلَا دِرْهَمٌ أَحَدٌ، كَمَا يُقَالُ: رَجُلٌ وَاحِدٌ أَيْ فَرْدٌ بِهِ، بَلْ أَحَدٌ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى اسْتَأْثَرَ بِهَا فَلَا يُشْرِكُهُ فِيهَا شَيْء] (2) .
_________
(1) - 8/409: 407، الْملك/16.
(2) - 9/612، الْإِخْلَاص/1.(1/181)
فصل فِي صِفَات الْأَفْعَال
- صفة الاسْتوَاء:
[تمدح جَلَّ وَعَلَا فِي سَبْعِ آيَاتٍ مِنْ كِتَابِهِ بِاسْتِوَائِهِ عَلَى عَرْشِهِ، وَلَمْ يَذْكُرْ صِفَةَ الِاسْتِوَاءِ إِلَّا مَقْرُونَةً بِغَيْرِهَا مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ، وَالْجَلَالِ، الْقَاضِيَةِ بِعَظَمَتِهِ وَجَلَالِهِ جَلَّ وَعَلَا، وَأَنَّهُ الرَّبُّ وَحْدَهُ، الْمُسْتَحِقُّ لِأَنْ يُعْبَدَ وَحْدَهُ.
الْمَوْضِعُ الْأَوَّلُ: بِحَسَبِ تَرْتِيبِ الْمُصْحَفِ الْكَرِيمِ. قَوْلُهُ هُنَا فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِى خَلَقَ السَّمَوَات وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِى اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} .
الْمَوْضِعُ الثَّانِي: قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ يُونُسَ: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى العَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} .
الْمَوْضِعُ الثَّالِثُ: قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الرَّعْدِ: {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى العَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُم بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَاراً وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} .
الْمَوْضِعُ الرَّابِعُ: قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ طه: {مَآ أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى إِلاَّ تَذْكِرَةً لِّمَن يَخْشَى تَنزِيلاً مِّمَّنْ خَلَق الأَرْضَ وَالسموات الْعُلَى الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى لَهُ مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا(1/182)
وَمَا تَحْتَ الثَّرَى} .
الْمَوْضِعُ الْخَامِسُ: قَوْلُهُ فِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَىِّ الَّذِى لاَ يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً الَّذِى خَلَقَ السَّمَوَات وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً} .
الْمَوْضِعُ السَّادِسُ: قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ السَّجْدَةِ {اللَّهُ الَّذِى خَلَقَ السَّمَوَات وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ شَفِيعٍ أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَآءِ إِلَى الأَرْضِ} .
الْمَوْضِعُ السَّابِعُ: قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْحَدِيدِ {هُوَ الَّذِى خَلَقَ السَّمَوَات وَالأَرْضَ فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِى الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَآءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ} ... ثمَّ قَالَ: وَأَنَّ لِلْخَالِقِ جَلَّ وَعَلَا اسْتِوَاءً لَائِقًا بِكَمَالِهِ وجلاله ... ] (1) .
وَقَالَ: [أَنَّهُ جَلَّ وَعَلَا مُسْتَوٍ عَلَى عَرْشِهِ فَوْقَ جَمِيعِ خَلْقِهِ، مَعَ أَنَّهُ يَعْلَمُ سِرَّ أَهْلِ الْأَرْضِ وَجَهْرَهُمْ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ. وَيُبَيِّنُ هَذَا الْقَوْلَ، وَيَشْهَدُ لَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَءَمِنتُمْ مَّن فِى السَّمَآءِ أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِىَ تَمُورُ أَمْ أَمِنتُمْ مِّن فِى السَّمَآءِ أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً} ؟ الْآيَةَ، وَقَوْلُهُ: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} ، مَعَ قَوْلِهِ: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ} ، وَقَوْلُهُ: {فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَآئِبِينَ} ... ] (2) .
_________
(1) - 2/ 283: 285، الْأَعْرَاف / 54.
(2) -2/163، الْأَنْعَام/3.(1/183)
- الْمَعِيَّة الْعَامَّة والخاصة:
[قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ} . ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّهُ مَعَ عِبَادِهِ الْمُتَّقِينَ الْمُحْسِنِينَ، وَهَذِهِ الْمَعِيَّةُ بِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ، وَهِيَ بِالْإِعَانَةِ والنَّصر وَالتَّوْفِيقِ. وَكَرَّرَ هَذَا الْمَعْنَى فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ: {إِنَّنِى مَعَكُمَآ أَسْمَعُ وَأَرَى} ، وَقَوْلِهِ: {إِذْ يُوحِى رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ} ، وَقَوْلِهِ: {لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} وَقَوْلِهِ: {قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِىَ رَبِّى سَيَهْدِينِ} ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَأَمَّا الْمَعِيَّةُ الْعَامَّةُ لِجَمِيعِ الْخَلْقِ فَهِيَ بِالْإِحَاطَةِ التَّامَّةِ وَالْعِلْمِ، وَنُفُوذِ الْقُدْرَةِ، وَكَوْنِ الْجَمِيعِ فِي قَبْضَتِهِ جَلَّ وَعَلَا: فَالْكَائِنَاتُ فِي يَدِهِ جَلَّ وَعَلَا أَصْغَرُ مِنْ حَبَّةِ خَرْدَلٍ، وَهَذِهِ هِيَ الْمَذْكُورَةُ أَيْضًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ. كَقَوْلِهِ: {مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلاَ أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ} ، وَقَوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ} ، وَقَوْلُهُ: {فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَآئِبِينَ} ، وَقَوْلِهِ: {وَمَا تَكُونُ فِى شَأْنٍ وَمَا تَتْلُواْ مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ} ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
فَهُوَ جَلَّ وَعَلَا مُسْتَوٍ عَلَى عَرْشِهِ كَمَا قَالَ، عَلَى الْكَيْفِيَّةِ اللَّائِقَةِ بِكَمَالِهِ وَجَلَالِهِ، وَهُوَ مُحِيطٌ بِخَلْقِهِ، كُلِّهِمْ فِي قَبْضَةِ يَدِهِ، لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ، وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كتاب مُبين] (1) .
وَنقل عَن الْأَشْعَرِيّ - رَحمَه الله - قَوْله فِي إِثْبَات صفة الاسْتوَاء، وَصفَة الْعُلُوّ
_________
(1) - 3/355: 354، النَّحْل/128.(1/184)
لله جلّ وَعلا، ثمَّ نقل عَنهُ قَوْله: وَقَدْ قَالَ قَائِلُونَ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْجَهْمِيَّةِ وَالْحَرُورِيَّةِ: إِنَّ قَوْلَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} أَنَّهُ اسْتَوْلَى وَمَلَكَ وَقَهَرَ، وَأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فِي كُلِّ مَكَانٍ، وَجَحَدُوا أَنْ يَكُونَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى عَرْشِهِ كَمَا قَالَ أَهْلُ الْحَقِّ، وَذَهَبُوا فِي الِاسْتِوَاءِ إِلَى الْقُدْرَةِ.
وَلَوْ كَانَ هَذَا كَمَا ذَكَرُوهُ كَانَ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْعَرْشِ وَالْأَرْضِ، فَاللَّهُ سُبْحَانَهُ قَادِرٌ عَلَيْهَا وَعَلَى الْحُشُوشِ، وَعَلَى كُلِّ مَا فِي الْعَالم.
ثمَّ قَالَ: وَإِذَا كَانَ قَادِرًا عَلَى الْأَشْيَاءِ كُلِّهَا وَلَمْ يَجُزْ عِنْدَ أَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَقُولَ: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ مُسْتَوٍ عَلَى الْحُشُوشِ وَالْأَخْلِيَةِ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِوَاءُ عَلَى الْعَرْشِ الِاسْتِيلَاءَ الَّذِي هُوَ عَامٌّ فِي الْأَشْيَاءِ كُلِّهَا.
وَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ اسْتِوَاءً يَخْتَصُّ الْعَرْشَ دُونَ الْأَشْيَاءِ كُلِّهَا.
وَزَعَمَتِ الْمُعْتَزِلَةُ وَالْحَرُورِيَّةُ وَالْجَهْمِيَّةُ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فِي كُلِّ مَكَانٍ فَلَزِمَهُمْ أَنَّهُ فِي بَطْنِ مَرْيَمَ وَفِي الْحُشُوشِ وَالْأَخْلِيَةِ، وَهَذَا خِلَافُ الدِّينِ، تَعَالَى اللَّهُ عَن قَوْلهم. اهـ.
وَقد نقل عَن الباقلاني إثْبَاته للاستواء ثمَّ نقل أَيْضا قَوْله: وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى اسْتِوَائِهِ عَلَى الْعَرْشِ هُوَ اسْتِيلَاؤُهُ عَلَيْهِ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
قَدِ اسْتَوَى بِشْرٌ عَلَى الْعِرَاقِ ... مِنْ غَيْرِ سَيْفٍ وَدَمٍ مِهْرَاقِ
لِأَنَّ الِاسْتِيلَاءَ هُوَ الْقُدْرَةُ وَالْقَهْرُ، وَاللَّهُ تَعَالَى لَمْ يَزَلْ قَادِرًا قَاهِرًا عَزِيزًا مُقْتَدِرًا.
وَقَوْلُهُ: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} يَقْتَضِي اسْتِفْتَاحَ هَذَا الْوَصْفِ بَعْدَ أَنْ لَمْ يكن، فَيبْطل مَا قَالُوهُ] . (1)
_________
(1) - 7/ 458: 471، مُحَمَّد/24.(1/185)
الْكَلَام عَن الْجِهَة: نفيا وإثباتاً:
[اعْلَم أَنَّ مَا يَزْعُمُهُ كَثِيرٌ مِنَ الْجَهَلَةِ، مِنْ أَنَّ مَا فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، مِنْ صِفَةِ الِاسْتِوَاءِ وَالْعُلُوِّ وَالْفَوْقِيَّةِ، يَسْتَلْزِمُ الْجِهَةَ، وَأَنَّ ذَلِكَ مُحَالٌ عَلَى اللَّهِ، وَأَنَّهُ يَجِبُ نَفْيُ الِاسْتِوَاءِ وَالْعُلُوِّ وَالْفَوْقِيَّةِ، وَتَأْوِيلُهَا بِمَا لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ مِنَ الْمَعَانِي، كُلُّهُ بَاطِلٌ.
وَسَبَبُهُ سُوءُ الظَّنِّ بِاللَّهِ وَبِكِتَابِهِ، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَمُدَّعِي لُزُومِ الْجِهَةِ لِظَوَاهِرِ نُصُوصِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ. وَاسْتِلْزَامُ ذَلِكَ لِلنَّقْصِ الْمُوجِبِ لِلتَّأْوِيلِ يُقَالُ لَهُ:
مَا مُرَادُكَ بِالْجِهَةِ؟
إِنْ كُنْتَ تُرِيدُ بِالْجِهَةِ مَكَانًا مَوْجُودًا، انْحَصَرَ فِيهِ اللَّهُ، فَهَذَا لَيْسَ بِظَاهِرِ الْقُرْآنِ، وَلَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ.
وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ بِالْجِهَةِ الْعَدَمَ الْمَحْضَ.
فَالْعَدَمُ عِبَارَةٌ عَنْ لَا شَيْءٍ.
فَمَيِّزْ أَوَّلًا، بَيْنَ الشَّيْءِ الْمَوْجُودِ وَبَين لَا شَيْء] (1) .
- صفة الْمَجِيء:
[قَوْلُهُ تَعَالَى: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَ أَن تَأْتِيهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِىَ رَبُّكَ} ذَكَرَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ إِتْيَانَ اللَّهِ جَلَّ وَعَلَا وَمَلَائِكَتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَذَكَرَ ذَلِكَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، وَزَادَ فِيهِ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ يَجِيئُونَ صُفُوفًا وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَجَآءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً} ، وَذَكَرَهُ فِي مَوْضِعٍ آخر،
_________
(1) - 7/459 - 460 , مُحَمَّد/24.(1/186)
وَزَادَ فِيهِ أَنَّهُ جَلَّ وَعَلَا يَأْتِي فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ} ، وَمِثْلُ هَذَا مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى الَّتِي وَصَفَ بِهَا نَفْسَهُ يَمُرُّ كَمَا جَاءَ وَيُؤْمِنُ بِهَا، وَيَعْتَقِدُ أَنَّهُ حَقٌّ، وَأَنَّهُ لَا يُشْبِهُ شَيْئا من صِفَات المخلوقين] (1) .
وَقَالَ صَاحب التَّتِمَّة: [وَجَاءَ رَبُّكَ: مِنْ آيَاتِ الصِّفَاتِ.
مَوَاضِعُ الْبَحْثِ وَالنَّظَرِ
وَتَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ مِرَارًا فِي الْأَضْوَاءِ فِي عِدَّةِ مَحَلَّاتٍ، وَلْيُعْلَمْ أَنَّهَا وَالِاسْتِوَاءُ وَحَدِيثُ النُّزُولِ وَالْإِتْيَانُ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلُهُ تَعَالَى: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِىَ الأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ} سَوَاء.
وَقَدْ أَوْرَدَ الشَّيْخِ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ مَبْحَثٌ آيَاتِ الصِّفَاتِ كَامِلَةً فِي مُحَاضَرَةٍ أَسْمَاهَا «آيَاتُ الصِّفَاتِ» وَطُبِعَتْ مُسْتَقِلَّةً.
كَمَا تَقَدَّمَ لَهُ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ عِنْدَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِى الَّيْلَ النَّهَارَ} ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِصِفَةِ الْمَجِيءِ بِذَاتِهَا، إلاَّ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ جَمِيعَ الصِّفَاتِ مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ، أَيْ أَنَّهَا ثَابِتَةٌ للَّه تَعَالَى عَلَى مَبْدَأِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ، عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ لِلْمَخْلُوقِ، فَثَبَتَ اسْتِوَاءٌ يَلِيقُ بِجَلَالِهِ عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ لِلْمَخْلُوقِ.
وَكَذَلِكَ هُنَا كَمَا ثَبَتَ اسْتِوَاءٌ ثَبَتَ مَجِيءٌ وَكَمَا ثَبَتَ مَجِيءٌ ثَبَتَ نُزُولٌ.
وَالْكُلُّ مِنْ بَابِ {لَيْس كَمِثْلِهِ شَىْءٌ} ، أَيْ عَلَى مَا قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه: نَحْنُ كُلفنا بِالْإِيمَانِ، فَعَلَيْنَا أَنْ نُؤْمِنَ بِصِفَاتِ اللَّهِ عَلَى مَا يَلِيقُ باللَّه عَلَى مُرَادِ اللَّه، وَلَيْسَ عَلَيْنَا أَنْ نُكَيِّفَ، إِذِ الْكَيْفُ مَمْنُوعٌ عَلَى اللَّهِ
_________
(1) - 2/253, الْأَنْعَام/58.(1/187)
سُبْحَانَهُ.] (1) .
- صفة الْكَلَام:
[قَالَ فِي وَصْفِ نَفْسِهِ بِالْكَلَامِ: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} ، {إِنْى اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي} ، {فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ} وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ ... فَلَهُ جَلَّ وَعَلَا كَلَامٌ حَقِيقِيٌّ يَلِيق بِكَمَالِهِ وجلاله] (2) .
وَقَالَ أَيْضا بعد ذكر عدَّة آيَات فِيهَا نِدَاء من الله تعالي لمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام: [وَالنِّدَاءُ الْمَذْكُورُ فِي جَمِيعِ الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ نِدَاءُ اللَّهِ لَهُ، فَهُوَ كَلَامُ اللَّهِ أَسْمَعَهُ نَبِيَّهُ مُوسَى، وَلَا يُعْقَلُ أَنَّهُ كَلَامٌ مَخْلُوقٌ، وَلَا كَلَامٌ خَلَقَهُ اللَّهُ فِي مَخْلُوقٍ كَمَا يَزْعُمُ ذَلِكَ بَعْضُ الْجَهَلَةِ الْمَلَاحِدَةِ، إِذْ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَقُولَ غَيْرُ اللَّهِ: {إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} ، وَلَا أَنْ يَقُولَ: {إِنَّنِى أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلا أَنَاْ فَاعْبُدْنِى} وَلَوْ فُرِضَ أَنَّ الْكَلَامَ الْمَذْكُورَ قَالَهُ مَخْلُوقٌ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ، كَقَوْلِ فِرْعَوْنَ: {أَنَاْ رَبُّكُمُ الأَعْلَى} عَلَى سَبِيلِ فَرْضِ الْمُحَالِ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَذْكُرَهُ اللَّهُ فِي مَعْرِضِ أَنَّهُ حَقٌّ وَصَوَابٌ.
فَقَوْلُهُ: {إِنَّنِى أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلا أَنَاْ فَاعْبُدْنِى} ، وَقَوْلُهُ: {إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} صَرِيحٌ فِي أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُتَكَلِّمُ بِذَلِكَ صَرَاحَةً لَا تَحْتَمِلُ غَيْرَ ذَلِكَ. كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ عِنْدَ مَنْ لَهُ أَدْنَى مَعْرِفَةٍ بدين الْإِسْلَام.
وَقَوله تَعَالَى: {مِن شَاطِىءِ الْوَادِى الأَيْمَنِ فِى الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ} قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي الْكَشَّافِ: «مِنْ» الْأُولَى وَالثَّانِيَةُ لابتداء
_________
(1) - 9 /219, الْفجْر /21,22.
(2) - 2/276، الْأَعْرَاف/54.(1/188)
الْغَايَةِ. أَيْ أَتَاهُ النِّدَاءُ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِي مِنْ قِبَلِ الشَّجَرَةِ وَ {مِنَ الشَّجَرَةِ} بَدَلٌ من قَوْله: {مِن شَاطِىءِ الْوَادِى} بَدَلُ اشْتِمَالٍ؛ لِأَنَّ الشَّجَرَةَ كَانَتْ نَابِتَةً عَلَى الشَّاطِئِ. كَقَوْلِهِ: {لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرحمن لِبُيُوتِهِمْ} ] . (1)
الْقُرْآن كَلَام الله غير مَخْلُوق مِنْهُ بَدَأَ واليه يعود:
[قَوْلِهِ تَعَالَى: {تَلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ} . أَيْ: نَقْرَؤُهَا عَلَيْكَ. وَأَسْنَدَ جَلَّ وَعَلَا تِلَاوَتَهَا إِلَى نَفْسِهِ لِأَنَّهَا كَلَامُهُ الَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَى رَسُولِهِ بِوَاسِطَةِ الْمَلَكِ، وَأَمَرَ الْمَلَكَ أَنْ يَتْلُوَهُ عَلَيْهِ مُبَلِّغًا عَنْهُ جَلَّ وَعَلَا.
وَنَظِيرُ ذَلِكَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} .
فَقَوْلُهُ: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ} أَيْ قَرَأَهُ عَلَيْكَ الْمَلَكُ الْمُرْسَلُ بِهِ، مِنْ قِبَلِنَا مُبَلِّغًا عَنَّا، وَسَمِعْتَهُ مِنْهُ، فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ أَيْ فَاتَّبِعْ قِرَاءَتَهُ وَاقْرَأْهُ كَمَا سَمِعْتَهُ يَقْرَؤُهُ.
وَقَدْ أَشَارَ تَعَالَى إِلَى ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: {وَلاَ تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ إَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ} .
وَسَمَاعُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقُرْآنَ مِنَ الْمَلَكِ الْمُبَلِّغِ عَنِ اللَّهِ كَلَامَ اللَّهِ وَفَهْمُهُ لَهُ هُوَ مَعْنَى تَنْزِيلِهِ إِيَّاهُ عَلَى قَلْبِهِ فِي قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ} وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِين َبِلِسَانٍ عَرَبِىٍّ مُّبِينٍ} وَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ: {تَلْكَ آيَاتُ اللَّهِ} يَعْنِي آيَاته الشَّرْعِيَّة الدِّينِيَّة ... ] (2) .
وَقد ذكر ذَلِك أَيْضا وأضاف قَوْله: [فَالْكَلَام كَلَام الله بألفاظه ومعانيه،
_________
(1) - 4/316, مَرْيَم /52 - وَانْظُر أَيْضا: 8/449، الحاقة/51، 52.
(2) - 7/337- 338, الجاثية/6.(1/189)
وَجِبْرِيلُ مُبَلِّغٌ عَنِ اللَّهِ، وَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ نُسِبَ الْقَوْلُ لَهُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا سَمِعَهُ إِلَّا مِنْهُ، فَهُوَ الْقَوْلُ الَّذِي أَرْسَلَهُ اللَّهُ بِهِ. وَأَمَرَهُ بِتَبْلِيغِهِ، كَمَا تدل عَلَيْهِ قرينَة ذكر الرَّسُول آي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِى قُوَّةٍ عِندَ ذِى الْعَرْشِ مَكِينٍ} ] . (1)
محنة القَوْل بِخلق الْقُرْآن:
[اعْلَم أَن لهَذَا الدَّلِيل - أَي السبر والتقسيم، وَهُوَ عبارَة عَن حصر أَوْصَاف الْمحل، ثمَّ اختبار تِلْكَ الْأَوْصَافِ الْمَحْصُورَةِ، وَإِبْطَالُ مَا هُوَ بَاطِلٌ مِنْهَا، وإبقاء مَا هُوَ صَحِيح مِنْهَا - آثَارًا تَارِيخِيَّةً، وَسَنَذْكُرُ هُنَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بَعْضَهَا.
فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ هَذَا الدَّلِيلَ الْعَظِيمَ جَاءَ فِي التَّارِيخِ: أَنَّهُ أَوَّلُ سَبَبٍ لِضَعْفِ الْمِحْنَةِ الْعُظْمَى عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي عَقَائِدِهِمْ بِالْقَوْلِ يخلق الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ. وَذَلِكَ أَنَّ مِحْنَةَ الْقَوْلِ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ نَشَأَتْ فِي أَيَّامِ الْمَأْمُونِ، وَاسْتَفْحَلَتْ جِدًّا فِي أَيَّامِ الْمُعْتَصِمِ، وَاسْتَمَرَّتْ عَلَى ذَلِكَ فِي أَيَّامِ الْوَاثِقِ، وَهِيَ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ التَّارِيخِ قَائِمَةٌ عَلَى سَاقٍ وَقَدَمٍ.
وَمَعْلُومٌ مَا وَقَعَ فِيهَا مِنْ قَتْلِ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ الْأَفَاضِلِ وَتَعْذِيبِهِمْ، وَاضْطِرَارِ بَعْضِهِمْ إِلَى الْمُدَاهَنَةِ بِالْقَوْلِ خَوْفًا.
وَمَعْلُومٌ مَا وَقَعَ فِيهَا لِسَيِّدِ الْمُسْلِمِينَ فِي زَمَنِهِ «الْإِمَامِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ حَنْبَلٍ» تَغَمَّدَهُ اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ الْوَاسِعَةِ، وَجَزَاهُ عَنِ الْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ خَيْرًا مِنَ الضَّرْبِ الْمُبَرِّحِ أَيَّامَ الْمُعْتَصِمِ. وَقَدْ جَاءَ أَنَّ أَوَّلَ مَصْدَرٍ تَارِيخِيٍّ لِضِعْفِ هَذِهِ الْمِحْنَةِ وَكَبْحِ جِمَاحِهَا هُوَ هَذَا الدَّلِيلُ الْعَظِيمُ.
قَالَ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ فِي تَارِيخِ بَغْدَادَ فِي الْكَلَامِ عَلَى تَرْجَمَةِ «أَحْمد بن
_________
(1) - 7/703, النَّجْم/5.(1/190)
أَبِي دَؤَاد» : أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْفَرَجِ بْنِ عَلِيٍّ الْبَزَّارُ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مَاسِي، حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ شُعَيْبٍ الشَّاشِيُّ، حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ الشَّاشِيُّ، حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُنَبِّهٍ قَالَ: سَمِعْتُ طَاهِرَ بْنَ خَلَفٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ الْوَاثِقِ الَّذِي يُقَالُ لَهُ الْمُهْتَدِي بِاللَّهِ يَقُولُ: كَانَ أَبِي إِذَا أَرَادَ أَنْ يَقْتُلَ رَجُلًا أَحْضَرَنَا ذَلِكَ الْمَجْلِسَ، فَأُتِيَ بِشَيْخٍ مَخْضُوبٍ مُقَيَّدٍ فَقَالَ أَبِي: ائْذَنُوا لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ وَأَصْحَابِهِ (يَعْنِي ابْنَ أَبِي دُؤَادَ) قَالَ: فَأُدْخِلَ الشَّيْخُ وَالْوَاثِقُ فِي مُصَلَّاهُ فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. فَقَالَ لَهُ: لَا سلم الله عليكا فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، بِئْسَ مَا أَدَّبَكَ مؤدبكا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِذَا حُيّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} وَاللَّهِ مَا حَيَّيْتَنِي بِهَا وَلَا بِأَحْسَنَ مِنْهَا. فَقَالَ ابْنُ أَبِي دُؤَادٍ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، الرَّجُلُ مُتَكَلِّمٌ. فَقَالَ لَهُ: كَلِّمْهُ. فَقَالَ: يَا شَيْخُ، مَا تَقُولُ فِي الْقُرْآنِ؟ قَالَ الشَّيْخُ: لَمْ تَنْصِفْنِي (يَعْنِي وَلِيَ السُّؤَالُ) فَقَالَ لَهُ: سَلْ: فَقَالَ لَهُ الشَّيْخُ: مَا تَقُولُ فِي الْقُرْآنِ؟ فَقَالَ مَخْلُوقٌ: فَقَالَ: هَذَا شَيْءٌ عَلِمه النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ(1/191)
وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ وَالْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ؟ أَمْ شَيْءٌ لَمْ يعلَموه؟ فَقَالَ: شَيْءٌ لَمْ يَعْلَمُوهُ. فَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ شَيْءٌ لَمْ يَعْلَمْهُ النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا أَبُو بَكْرٍ، وَلَا عُمَرُ، وَلَا عُثْمَان، وَلَا عَليّ، وَلَا الْخُلَفَاء الراشدون، عَلمته أنتا؟ قَالَ: فَخَجِلَ. فَقَالَ: أَقِلْنِي وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا. قَالَ نَعَمْ. قَالَ: مَا تَقُولُ فِي الْقُرْآنِ؟ فَقَالَ مَخْلُوقٌ.
فَقَالَ: هَذَا شَيْءٌ عَلِمَهُ النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَالْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ أَوْ لَمْ يَعْلَمُوهُ؟ فَقَالَ: عَلِمُوهُ وَلَمْ يَدْعُوا النَّاسَ إِلَيْهِ قَالَ:
أَفَلَا وَسِعَكَ مَا وسعهما؟ قَالَ: ثُمَّ قَامَ أَبِي فَدَخَلَ مَجْلِسَ الْخَلْوَةِ وَاسْتَلْقَى عَلَى قَفَاهُ، وَوَضَعَ إِحْدَى رِجْلَيْهِ عَلَى الْأُخْرَى وَهُوَ يَقُولُ: هَذَا شَيْءٌ لَمْ يَعْلَمْهُ النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا أَبُو بكر، وَلَا عمر، وَلَا عُثْمَان، وَلَا عَليّ، وَلَا الْخُلَفَاء الراشدون عَلمته أنتا سُبْحَانَ الله شَيْءٌ عَلِمَهُ النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَعُثْمَانُ، وَعَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَالْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ وَلَمْ يَدْعُوا النَّاسَ إِلَيْهِ، أَفَلَا وَسِعَكَ مَا وَسِعَهُمْ؟؟ ثُمَّ دَعَا عَمَّارًا الْحَاجِب، فَأمر أَنْ يَرْفَعَ عَنْهُ الْقُيُودَ وَيُعْطِيَهُ أَرْبَعَمِائَةِ دِينَارٍ، وَيَأْذَنَ لَهُ فِي الرُّجُوعِ، وَسَقَطَ مِنْ عَيْنِهِ ابْنُ أَبِي دُؤَادٍ، وَلَمْ يَمْتَحِنْ بَعْدَ ذَلِكَ أحدا. اهـ مِنْهُ (1) . وَذَكَرَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَارِيخِهِ هَذِهِ الْقِصَّةَ عَنِ الْخَطِيبِ الْبَغْدَادِيِّ، وَلِمَا انْتَهَى مِنْ سِيَاقِهَا قَالَ: ذَكَرَهُ الْخَطِيبُ فِي تَارِيخِهِ بِإِسْنَادٍ فِيهِ بَعْضُ مَنْ لَا يُعْرَفُ اهـ.
وَيُسْتَأْنَسُ لِهَذِهِ الْقِصَّةِ بِمَا ذَكَرَهُ الْخَطِيبُ وَغَيْرُهُ: مِنْ أَنَّ الْوَاثِقَ تَابَ مِنَ الْقَوْلِ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ.
قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي الْبِدَايَةِ وَالنِّهَايَةِ: قَالَ الْخَطِيبُ: وَكَانَ ابْنُ أَبِي دُؤَادٍ اسْتَوْلَى عَلَى الْوَاثِقِ وَحَمَلَهُ عَلَى التَّشْدِيدِ فِي الْمِحْنَةِ، وَدَعَا النَّاسَ إِلَى الْقَوْلِ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ: قَالَ: وَيُقَالُ إِنَّ الْوَاثِقَ رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ قَبْلَ مَوْتِهِ. فَأَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي الْفَتْحِ، أَنْبَأَ أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَسَنِ، ثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَرَفَةَ، حَدَّثَنِي حَامِدُ بْنُ الْعَبَّاس، عَن رجل عَن الْمهْدي: أَنَّ الْوَاثِقَ مَاتَ وَقَدْ تَابَ مِنَ الْقَوْلِ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ (2) .
وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَهَذِهِ الْقِصَّةُ لَمْ تَزَلْ مَشْهُورَةً عِنْدَ الْعُلَمَاءِ، صَحِيحَةَ الِاحْتِجَاجِ فِيهَا إِلْقَامُ الْخَصْمِ الْحَجَرَ.
وَحَاصِلُ هَذِهِ الْقِصَّةِ الَّتِي ألقمَ بِهَا هَذَا الشَّيْخُ الَّذِي كَانَ مُكَبَّلًا بِالْقُيُودِ يُرَادُ قَتْلُهُ أَحْمَدَ بْنَ أَبِي دُؤَادٍ حَجَرًا، هُوَ هَذَا الدَّلِيلُ الْعَظِيمُ الَّذِي هُوَ السبر
_________
(1) - أخرجه الْخَطِيب فِي تَارِيخه (4/151) ، وَمن طَرِيقه الذَّهَبِيّ فِي " سير أَعْلَام النبلاء " (11/132) ، وَقَالَ: هَذِه قصَّة مليحة وان كَانَ فِي طريقها من يجهل وَلها شَاهد. وَذكرهَا ابْن كثير فِي الْبِدَايَة وَالنِّهَايَة (10/321) ، وَقَالَ: ذَكَرَهُ الْخَطِيبُ فِي تَارِيخِهِ بِإِسْنَادٍ فِيهِ بَعْضُ من لَا يعرف.
(2) - الْبِدَايَة وَالنِّهَايَة (10/309) ، وَإِسْنَاده ضَعِيف لجَهَالَة الرَّاوِي عَن الْمهْدي.(1/192)
وَالتَّقْسِيمُ: فَكَانَ الشَّيْخُ الْمَذْكُورُ يَقُولُ لِابْنِ أَبِي دُؤَادٍ: مَقَالَتُكَ هَذِهِ الَّتِي تَدْعُو النَّاسَ إِلَيْهَا لَا تَخْلُو بِالتَّقْسِيمِ الصَّحِيحِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخُلَفَاؤُهُ الرَّاشِدُونَ عَالِمِينَ بِهَا أَوْ غَيْرَ عَالَمِينَ بِهَا وَلَا وَاسِطَةَ بَيْنَ الْعِلْمِ وَغَيْرِهِ. فَلَا قِسْمٌ ثَالِثٌ أَلْبَتَّةَ. ثُمَّ إِنَّهُ رَجَعَ بِالسَّبْرِ الصَّحِيحِ إِلَى الْقِسْمَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ فَبَيَّنَ أَنَّ السَّبْرَ الصَّحِيحَ يُظْهِرُ أَنَّ أَحْمَدَ بْنَ أَبِي دُؤَادٍ لَيْسَ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ مِنَ التَّقْدِيرَيْنِ.
أَمَّا عَلَى أَنَّ النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ عَالِمًا بِهَا هُوَ وَأَصْحَابُهُ، وَتَرَكُوا النَّاسَ وَلَمْ يَدْعُوهُمْ إِلَيْهَا فَدَعْوَةُ ابْنِ أَبِي دُؤَادٍ إِلَيْهَا مُخَالِفَةٌ لِمَا كَانَ عَلَيْهِ النَّبي وَأَصْحَابُهُ مِنْ عَدَمِ الدَّعْوَةِ لَهَا، وَكَانَ يَسَعُهُ مَا وَسِعَهُمْ.
وَأَمَّا عَلَى كَوْنِ النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ غَيْرَ عَالِمِينَ بِهَا فَلَا يُمْكِنُ لِابْنِ أَبِي دُؤَادٍ أَنْ يَدَّعِيَ أَنَّهُ عَالِمٌ بِهَا مَعَ عَدَمِ عِلْمِهِمْ بِهَا. فَظَهَرَ ضَلَالُهُ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ، وَلِذَلِكَ سَقَطَ مِنْ عَيْنِ الْوَاثِقِ، وَتَرَكَ الْوَاثِقُ لِذَلِكَ امْتِحَانَ أَهْلِ الْعِلْمِ. فَكَانَ هَذَا الدَّلِيلُ الْعَظِيمُ أَوَّلَ مَصْدَرٍ تَارِيخِيٍّ لِضَعْفِ هَذِهِ الْمِحْنَةِ الْكُبْرَى. حَتَّى أَزَالَهَا اللَّهُ بِالْكُلِّيَّةِ عَلَى يَدِ الْمُتَوَكِّلِ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَفِي هَذَا مَنْقَبَةٌ تَارِيخِيَّةٌ عَظِيمَةٌ لِهَذَا الدَّلِيل الْمَذْكُور.] (1) .
- صفة الْغَضَب:
[وَوَصَفَ نَفْسَهُ بِأَنَّهُ يَغْضَبُ إِنِ انْتُهِكَتْ حُرُمَاتُهُ فَقَالَ {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِّن ذَلِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللَّهِ مَن لَّعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ} ، {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ} ] (2) .
وَقَالَ: [وَاعْلَمْ أَنَّ الْغَضَبَ صِفَةٌ وَصَفَ اللَّهُ بِهَا نَفسه إِذا انتهكت
_________
(1) - 4/411: 408, مَرْيَم/78.
(2) - 2/283, الْأَعْرَاف/54.(1/193)
حُرُمَاتُهُ، تَظْهَرُ آثَارُهَا فِي الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ. نُعَوْذُ بِاللَّهِ مِنْ غَضَبِهِ جَلَّ وَعَلَا. وَنَحْنُ مَعَاشِرَ الْمُسْلِمِينَ نُمِرُّهَا كَمَا جَاءَتْ فَنُصَدِّقُ رَبَّنَا فِي كُلِّ مَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ، وَلَا نُكَذِّبُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ. مَعَ تَنْزِيهِنَا التَّامِّ لَهُ جَلَّ وَعَلَا عَنْ مُشَابَهَةِ الْمَخْلُوقِينَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَن ذَلِك علوا كَبِيرا] (1) .
- صفة الْعجب:
قَالَ الشنقيطي بعد قَوْلُهُ تَعَالَى: [ {بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخُرُونَ} . قَرَأَ هَذَا الْحَرْفَ عَامَّةُ الْقُرَّاءِ السَّبْعَةِ غَيْرَ حَمْزَةَ وَالْكِسَائِيِّ: {عَجِبْتَ} بِالتَّاءِ الْمَفْتُوحَةِ وَهِيَ تَاءُ الْخِطَابِ، الْمُخَاطَبُ بِهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: {بَلْ عَجِبْتَ} ، بِضَمِّ التَّاءِ وَهِيَ تَاءُ الْمُتَكَلِّمِ، وَهُوَ اللَّه جلَّ وَعَلَا.
وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي تَرْجَمَةِ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ أَنَّ الْقِرَاءَتَيْنِ الْمُخْتَلِفَتَيْنِ يَحْكُمُ لَهُمَا بِحُكْمِ الْآيَتَيْنِ.
وَبِذَلِكَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ عَلَى قِرَاءَةِ حَمْزَةَ وَالْكِسَائِيِّ فِيهَا إِثْبَاتُ الْعَجَبِ للَّه تَعَالَى، فَهِيَ إِذا مِنْ آيَاتِ الصِّفَاتِ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَة] (2) .
- صفة الْمَغْفِرَة:
[وَقَالَ فِي وَصْفِ نَفْسِهِ بِالْمَغْفِرَةِ: {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} . {لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الْآيَات] (3) .
وَقَالَ أَيْضا [وَالْمَغْفِرَةُ: سَتْرُ الذُّنُوبِ بِعَفْوِ اللَّهِ وَحِلْمِهِ حَتَّى لَا يَظْهَرَ لَهَا أَثَرٌ يَتَضَرَّرُ بِهِ صَاحِبُهَا] (4) .
_________
(1) - 4/429, طه/80: 81.
(2) - 6/680, الصافات/12.
(3) - 2/282, الْأَعْرَاف/54.
(4) - 5/834, الْمُؤْمِنُونَ/118.(1/194)
- صفتا الرضي والمحبة:
[وَوَصَفَ نَفْسَهُ جَلَّ وَعَلَا بِالرِّضَى، وَوَصَفَ الْحَادِثَ بِهِ أَيْضًا فَقَالَ: {رَّضِىَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ} وَوَصَفَ نَفْسَهُ جَلَّ وَعَلَا بِالْمَحَبَّةِ، وَوَصَفَ الْحَادِثَ بِهَا، فَقَالَ: {فَسَوْفَ يَأْتِى اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} ، {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِى يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} ] (1) .
- صفة الْحلم:
[وَقَالَ وَصْفِ نَفْسِهِ بِالْحِلْمِ: {لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُّدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ} ] (2) .
- صفتا الرَّحْمَة والرأفة:
[قَالَ فِي وَصفه جلّ وَعلا بهما: {إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ} ] (3) .
[الرَّحْمَة صِفَةُ اللَّهِ الَّتِي اشْتَقَّ لِنَفْسِهِ مِنْهَا اسْمَهُ الرَّحْمَنَ، وَاسْمَهُ الرَّحِيمَ: وَهِيَ صِفَةٌ تَظْهَرُ آثَارُهَا فِي خَلْقِهِ الَّذِينَ يَرْحَمُهُمْ، وَصِيغَةُ التَّفْضِيلِ فِي قَوْلِهِ: {وَأنتَ خَيْرُ الرَاحِمِينَ} لِأَنَّ الْمَخْلُوقِينَ قَدْ يَرْحَمُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَلَا شَكَّ أَنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ تُخَالِفُ رَحْمَةَ خَلْقِهِ، كَمُخَالَفَةِ ذَاتِهِ وَسَائِرِ صِفَاته لذواتهم، وصفاتهم] (4) .
_________
(1) - 2/283,282, الْأَعْرَاف/54.
(2) - 2/282, الْأَعْرَاف/54 , وَانْظُر 5/834, الْمُؤْمِنُونَ/118.
(3) - 2/282, الْأَعْرَاف/54.
(4) 5/834, الْمُؤْمِنُونَ/118 وَأنْظر 2/288، الْأَعْرَاف /56، 1/34,33، الْفَاتِحَة /3.(1/195)
- صفة الْخلق، وتضمنها لصفة التَّصْوِير:
قَالَ صَاحب التَّتِمَّة: [وَمَنْ تَأَمَّلَ بَرَاهِينَ الْقُرْآنِ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَعَلَى قُدْرَتِهِ، عَلَى الْبَعْثِ وَهُمَا أَهَمُّ الْقَضَايَا الْعَقَائِدِيَّةِ يَجِدُ أَهَمَّهَا وَأَوْضَحَهَا وَأَكْثَرَهَا، هُوَ هَذَا الدَّلِيلَ، أَعْنِي دَلِيلَ الْخَلْقِ وَالتَّصْوِيرِ.
وَقَدْ جَاءَ هَذَا الدَّلِيلُ فِي الْقُرْآنِ جُمْلَةً وَتَفْصِيلًا، فَمِنَ الْإِجْمَالِ مَا جَاءَ فِي أَصْلِ الْمَخْلُوقَاتِ جَمِيعًا {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَىْءٍ} وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {تَبَارَكَ الَّذِى بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ} ، وَقَالَ: {إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} ثُمَّ قَالَ {فَسُبْحَانَ الَّذِى بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَىْءٍ} وَقَالَ: {تَبَارَكَ الَّذِى بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ الَّذِى خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحياةَ} أَيْ خَالِقُ الْإِيجَادِ وَالْعَدَمِ، وَخَلْقُ الْعَدَمِ يُسَاوِي فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الْقُدْرَةِ خَلْقَ الْإِيجَادِ، لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى إِعْدَامِ مَا أَوْجَدَ يَكُونُ الْمَوْجُودُ مُسْتَعْصِيًا عَلَيْهِ، فَيَكُونُ عَجْزًا فِي الْمُوجِدِ لَهُ، كَمَنْ يُوجِدُ الْيَوْمَ سِلَاحًا وَلَا يَقْدِرُ عَلَى إِعْدَامِهِ، وَإِبْطَالِ مَفْعُولِهِ، فَقَدْ يَكُونُ سَبَبًا فِي إِهْلَاكِهِ، وَلَا تَكْتَمِلُ الْقُدْرَةُ حَقًّا إِلَّا بِالْخَلْقِ وَالْإِعْدَامِ مَعًا، وَقَالَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَات وَالْأَرْض: {الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِى خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} .
وَقَالَ فِي خَلْقِ الأفلاك وتنظيمها: {وَهُوَ الَّذِى خَلَقَ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} . ثُمَّ فِي أُصُولِ الْمَوْجُودَاتِ فِي الْأَرْضِ بِقَوْلِهِ: {هُوَ الَّذِى خَلَقَ لَكُم مَّا فِى الأَرْضِ جَمِيعاً} .
وَفِي أُصُولِ الْأَجْنَاسِ: الْمَاءُ وَالنَّارُ وَالنَّبَاتُ وَالْإِنْسَانُ، قَالَ: {أَفَرَأَيْتُم مَّا تُمْنُونَ أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَم نَحْنُ الْخَالِقُونَ} .
وَذَكَرَ مَعَهُ الْقُدْرَةَ عَلَى الْإِعْدَامِ: {نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ(1/196)
بِمَسْبُوقِينَ} .
وَفِي أُصُولِ النَّبَاتِ: {أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَارِعُونَ} .
وَفِي أُصُولِ الْمَاءِ: {أَفَرَأَيْتُمُ الْمَآءَ الَّذِى تَشْرَبُونَ أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ} .
وَفِي أُصُولِ تَطْوِيرِ الْحَيَاةِ: {أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِى تُورُونَ أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَآ أَمْ نَحْنُ الْمُنشِئُونَ} .
وَفِي جَانِبِ الْحَيَوَانِ {أَفَلاَ يَنظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ} .
وَلِهَذَا فَقَدْ تَمَدَّحَ تَعَالَى بِهَذِهِ الصِّفَةِ، صِفَةِ الْخلق، وسفة آلِهَةِ الْمُشْرِكِينَ بِالْعَجْزِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {خَلَقَ
السَّمَوَات بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِى الأَرْضِ رَوَاسِىَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ} ثُمَّ قَالَ: {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِى مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِى ضَلَالٍ مُّبِينٍ} .
وَمَعْلُومٌ أَنَّهَا لَمْ تَخْلُقْ شَيْئًا كَمَا قَالَ تَعَالَى مُوَبِّخًا لَهُمْ: {أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ} وَبَيَّنَ أَنَّهُمَا لَا يَسْتَوِيَانِ فِي قَوْلِهِ: {أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} ، ثُمَّ بَيَّنَ نِهَايَةَ ضَعْفِهَا وَعَجْزِهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ آلِهَةً لاَّ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلاَ يَمْلِكُونَ لاًّنفُسِهِمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً وَلاَ يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلاَ حَيَاةً وَلاَ نُشُوراً} وَهَذَا غَايَةُ الْعَجْزِ. كَمَا ضَرَبَ لِذَلِكَ الْمَثَلَ بِقَوْلِهِ: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُواْ ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُواْ لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} فَهُمْ حَقًّا لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا وَلَوْ بِقَدْرِ الذُّبَابَةِ؟ وَهَكَذَا تَرَى صِفَةَ الْخَلْقِ الْمُتَّصِفِ بِهَا سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْظَمَ دَلِيلٍ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهِيَ مُتَضَمِّنَةٌ صِفَةَ(1/197)
التَّصْوِيرِ وَالْعِلْمِ لِأَنَّ لِكُلِّ مَخْلُوقٍ صُورَةً تَخُصُّهُ؟ وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إِلَّا عَنْ عِلْمٍ بِالْغَيْبِ وَالشَّهَادَة، كَمَا تقدم.] (1)
- فَائِدَة: عسي من الله وَاجِبَة:
[مَنْ يَقُولُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ: إِنَّ عَسَى مِنَ اللَّه وَاجِبَةٌ، وَلَهُ وَجْهٌ مِنَ النَّظَرِ؛ لِأَنَّهُ عَزَّ وَجَلَّ جَوَّادٌ كَرِيمٌ،
رَحِيمٌ غَفُورٌ، فَإِذَا أَطْمَعَ عَبْدَهُ فِي شَيْءٍ مِنْ فَضْلِهِ، فَجُودُهُ وَكَرَمُهُ تَعَالَى وَسَعَةُ رَحْمَتِهِ يَجْعَلُ ذَلِكَ الْإِنْسَان الَّذِي أطْعمهُ رَبُّهُ فِي ذَلِكَ الْفَضْلِ يَثِقُ، بِأَنَّهُ مَا أطْعمهُ فِيهِ، إِلَّا لِيَتَفَضَّلَ بِهِ عَلَيْهِ.
وَمِنَ الْآيَاتِ الَّتِي بَيَّنَتْ هَذَا الْمَعْنَى هُنَا، قَوْلُهُ تَعَالَى: {تَعْمَلُونَ يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ تُوبُواْ إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفّرَ عَنكُمْ سَيّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاْنْهَارُ} ، فَقَوْلُهُ فِي آيَةِ «التَّحْرِيمِ» هَذِهِ: {ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ} ؛ كَقَوْلِه فِي آيَة «النُّور» : {أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ} ، لِأَنَّ مَنْ كُفِّرَتْ عَنْهُ سَيِّئَاتُهُ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ، فَقَدْ نَالَ الْفَلَاحَ بِمَعْنَيَيْهِ. وَقَوْلُهُ فِي آيَةِ «التَّحْرِيمِ» : {تُوبُواْ إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً} مُوَضِّحٌ لِقَوْلِهِ فِي «النُّورِ» : {وَتُوبُواْ إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً} ، وَنِدَاؤُهُ لَهُمْ بِوَصْفِ الْإِيمَانِ فِي الْآيَتَيْنِ فِيهِ تَهْيِيجٌ لَهُمْ، وَحَثٌّ عَلَى امْتِثَالِ الْأَمْرِ؛ لِأَنَّ الِاتِّصَافَ بِصِفَةِ الْإِيمَانِ بِمَعْنَاهُ الصَّحِيحِ، يَقْتَضِي الْمُسَارَعَةَ إِلَى امْتِثَالِ أَمْرِ اللَّه، وَاجْتِنَابِ نَهْيِهِ، وَالرَّجَاءُ الْمَفْهُومُ مِنْ لَفْظَةِ عَسَى فِي آيَةِ «التَّحْرِيمِ» ، هُوَ الْمَفْهُومُ مِنْ لَفْظَةِ لَعَلَّ فِي آيَة «النُّور» ، كَمَا لَا يخفى.] (2) .
_________
(1) - 8/113: 115، الْحَشْر 22: 24. وَانْظُر أَيْضا (9/347، 348) (العلق / 1: 5) .
(2) - 6/215، النُّور/39.(1/198)
الرُّؤْيَا
- مَسْأَلَة: هَل يُرى الله - عز وَجل فِي الدُّنْيَا.
[قَوْلُهُ تَعَالَى: {قَالَ رَبِّ أَرِنِى أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِى} ، اسْتَدَلَّ الْمُعْتَزِلَةُ النَّافُونَ لِرُؤْيَةِ اللَّهِ بِالْأَبْصَارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى مَذْهَبِهِمُ الْبَاطِلِ، وَقَدْ جَاءَتْ آيَاتٌ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ نَفْيَ الرُّؤْيَةِ الْمَذْكُورَ، إِنَّمَا هُوَ فِي الدُّنْيَا، وَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ فَإِنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَرَوْنَهُ جَلَّ وَعَلَا بِأَبْصَارِهِمْ. كَمَا صَرَّحَ بِهِ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} ، وَقَوْلِهِ فِي الْكُفَّارِ: {كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ} فَإِنَّهُ يُفْهَمُ مِنْ مَفْهُومِ مُخَالَفَتِهِ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ لَيْسُوا مَحْجُوبِينَ عَنْهُ جَلَّ وَعَلَا.
وَقَدْ ثَبَتَ عَنِ النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} الْحُسْنَى: الْجَنَّةُ، وَالزِّيَادَةُ: النَّظَرُ إِلَى وَجْهِ اللَّهِ الْكَرِيمِ (1) ،
وَذَلِكَ هُوَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} ، وَقد تَوَاتَرَتْ
_________
(1) - قَالَ الكتاني فِي نظم المتناثر (1/ 353) : (الْحسنى الْجنَّة وَالزِّيَادَة النّظر إِلَى وَجه الرحمان) : قَالَ فِي شرح الْمَوَاهِب: جَاءَ مَرْفُوعا من حَدِيث أبي مُوسَى وَكَعب بن عجْرَة وَابْن عمر وَأبي بن كَعْب وَأنس وَأبي هُرَيْرَة وَجَاء مَوْقُوفا على الصّديق وَحُذَيْفَة وَابْن عَبَّاس وَابْن مَسْعُود وَجَاء عَن جمَاعَة من التَّابِعين كَمَا بَسطه فِي البدور وَقَالَ قَالَ الْبَيْهَقِيّ: هَذَا تَفْسِير قد استفاض واشتهر فِيمَا بَين الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وَمثله لَا يُقَال إِلَّا بتوقيف وَقَالَ يحيى بن معِين عِنْدِي سَبْعَة عشر حَدِيثا كلهَا صِحَاح وَزَاد عَلَيْهِ فِي البدور اثْنَيْنِ وسَاق أَلْفَاظ الْجَمِيع عازيا لمخرجيهم وَقَالَ أَنَّهَا بلغت مبلغ التَّوَاتُر عندنَا معاشر أهل الحَدِيث اهـ. وَفِي نواهد الْأَبْكَار وشواهد الأفكار للسيوطي رَحمَه الله: هَذَا التَّفْسِير هُوَ الثَّابِت عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نصا فِي تَفْسِير هَذِه الْآيَة فِيمَا أخرجه مُسلم فِي صَحِيحه وَعَن أَصْحَابه أبي بكر وَحُذَيْفَة وَأبي مُوسَى وَعبادَة بن الصَّامِت وَغَيرهم وَالْأَحَادِيث والْآثَار بِهَذَا التَّفْسِير كَثِيرَة أوردتها فِي التَّفْسِير الْمَأْثُور اهـ. ..(1/199)
الْأَحَادِيثُ عَنِ النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَرَوْنَ رَبَّهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِأَبْصَارِهِمْ، وَتَحْقِيقُ الْمَقَامِ فِي الْمَسْأَلَةِ: أَنَّ رُؤْيَةَ اللَّهِ جَلَّ وَعَلَا بِالْأَبْصَارِ: جَائِزَةٌ عَقْلًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمِنْ أَعْظَمِ الْأَدِلَّةِ عَلَى جَوَازِهَا عَقْلًا فِي دَارِ الدُّنْيَا: قَوْلُ مُوسَى {رَبِّ أَرِنِى أَنظُرْ إِلَيْكَ} لِأَنَّ مُوسَى لَا يَخْفَى عَلَيْهِ الْجَائِزُ وَالْمُسْتَحِيلُ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَمَّا شَرْعًا فَهِيَ جَائِزَةٌ وَوَاقِعَةٌ فِي الْآخِرَةِ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآيَاتُ الْمَذْكُورَةُ، وَتَوَاتَرَتْ بِهِ الْأَحَادِيثُ الصِّحَاحُ، وَأَمَّا فِي الدُّنْيَا فَمَمْنُوعَةٌ شَرْعًا كَمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ آيَةُ «الْأَعْرَافِ» هَذِهِ، وَحَدِيثُ «إِنَّكُمْ لَنْ تَرَوْا رَبَّكُمْ حَتَّى تَمُوتُوا» (1) كَمَا أَوْضَحْنَاهُ فِي كِتَابِنَا (دَفْعُ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيَاتِ الْكتاب) ] (2) .
- مَسْأَلَة: هَلْ رَأَى رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ربه فِي رحْلَة الْمِعْرَاج.
[اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ هَلْ رَأَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَبَّهُ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ بِعَيْنِ رَأسه أَولا؟ فَقَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ: «رَآهُ بِعَيْنِ رَأْسِهِ» وَقَالَتْ عَائِشَةُ وَغَيْرُهَا: «لَمْ يَرَهُ» . وَهُوَ خِلَافٌ مَشْهُورٌ، بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ مَعْرُوفٌ.
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: التَّحْقِيقُ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ نُصُوصُ الشَّرْعِ: أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَرَهُ بِعَيْنِ رَأْسِهِ. وَمَا جَاءَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ مِنْ أَنَّهُ رَآهُ. فَالْمُرَادُ بِهِ الرُّؤْيَة بِالْقَلْبِ. كَمَا
_________
(1) - عزاهُ السُّيُوطِيّ فِي الْجَامِع الصَّغِير بِهَذَا اللَّفْظ للطبراني فِي السّنة مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَصَححهُ الشَّيْخ الألباني - رَحمَه الله -. والْحَدِيث رَوَاهُ بِنَحْوِهِ مُسلم فِي صَحِيحه مطولا (4/2244) (169) .
(2) - 2/297 - 298، الْأَعْرَاف / 143، وَانْظُر أَيْضا: (3/564) (بني إِسْرَائِيل/1) ، (5/633، 634) (الْحَج/28) ، (6/304، 305) (الْفرْقَان/21) ، (6/654) (ق/35) .(1/200)
فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: «أَنَّهُ رَآهُ بِفُؤَادِهِ مَرَّتَيْنِ» (1) لَا بِعَيْنِ الرَّأْسِ.
وَمِنْ أَوْضَحِ الْأَدِلَّةِ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ أَبَا ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (وَهُوَ هُوَ فِي صِدْقِ اللَّهْجَةِ) سَأَلَ النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِعَيْنِهَا. فَأَفْتَاهُ بِمَا مُقْتَضَاهُ: أَنَّهُ لَمْ يَرَهُ. قَالَ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدثنَا وَكِيع، عَن يزِيد بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: سأَلت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَلْ رأَيت رَبك؟ قَالَ: «نورا أَنَّى أَرَاهُ» ؟ (2) .
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ، حَدَّثَنَا أَبِي (ح) وَحَدَّثَنِي حَجَّاجُ بْنُ الشَّاعِرِ، حَدَّثْنَا عَفَّانُ بْنُ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، كِلَاهُمَا عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ قَالَ: «قُلْتُ لِأَبِي ذَرٍّ: لَوْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَسَأَلْتُهُ. فَقَالَ: عَنْ أَيِّ شَيْءٍ كُنْتَ تَسْأَلُهُ؟ قَالَ: كُنْتُ أَسْأَلُهُ: هَلْ رَأَيْتَ رَبَّكَ؟ قَالَ أَبُو ذَرٍّ: قَدْ سَأَلْتُ فَقَالَ: «رَأَيْتُ نُورًا» هَذَا لَفَظَ مُسْلِمٍ (3) .
وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِهِ لِمُسْلِمٍ: أَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نُورًا أَنى أَرَاهُ» ا! فَهُوَ بِتَنْوِينِ «نُورٍ» وَفَتْحِ الْهَمْزَةِ فِي «أَنى» وَتَشْدِيدِ النُّونِ وَفَتْحِهَا. وَ «أَراه» بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ هَكَذَا رَوَاهُ جَمِيعُ الرُّوَاةِ فِي جَمِيعِ الْأُصُولِ وَالرِّوَايَاتِ. وَمَعْنَاهُ: حجابة نور، فَكيف أَرَاهَا!.
قَالَ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْمَازِرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: الضَّمِيرُ فِي «أَرَاهُ» عَائِدٌ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَمَعْنَاهُ: أَنَّ النُّورَ مَنَعَنِي مِنَ الرُّؤْيَةِ. كَمَا جَرَتِ الْعَادَةُ بِإِغْشَاءِ الْأَنْوَارِ الْأَبْصَارَ، وَمَنْعِهَا مِنْ إِدْرَاكِ مَا حَالَتْ بَيْنَ
الرَّائِي وَبَيْنَهُ.
وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «رأَيت نُورًا» مَعْنَاهُ: رَأَيْتُ النُّورَ فَحَسْبُ، وَلَمْ أَرَ غَيره.
_________
(1) - صَحِيح مُسلم (1/158) (176) من قَول ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا -.
(2) - صَحِيح مُسلم [ (1/161) 291- (178) ] .
(3) - صَحِيح مُسلم [ (1/161) 292- (178) ] .(1/201)
قَالَ: وَرُوِيَ «نور اني» بِفَتْحِ الرَّاءِ وَكَسْرِ النُّونِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ رَاجِعًا إِلَى مَا قُلْنَاهُ. أَيْ خَالِقُ النُّورِ الْمَانِعِ مِنْ رُؤْيَتِهِ، فَيَكُونُ مِنْ صِفَاتِ الْأَفْعَالِ.
قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ رَحِمَهُ اللَّهُ: هَذِهِ الرِّوَايَةُ لَمْ تَقَعْ إِلَيْنَا! وَلَا رَأَيْنَاهَا فِي شَيْءٍ مِنَ الْأُصُولِ اهـ مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْ كَلَامِ النَّوَوِيِّ.
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: التَّحْقِيقُ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ هُوَ: أَنَّ مَعْنَى الْحَدِيثِ هُوَ مَا ذُكِرَ، مِنْ كَوْنِهِ لَا يَتَمَكَّنُ أَحَدٌ مِنْ رُؤْيَتِهِ لِقُوَّةِ النُّورِ الَّذِي هُوَ حِجَابُهُ. وَمَنْ أَصْرَحِ الْأَدِلَّةِ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا حَدِيثُ أَبِي مُوسَى الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ «حِجَابُهُ النُّور أَوِ النَّارُ لَوْ كَشَفَهُ لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ» (1) وَهَذَا هُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نُورًا أَنَّى أَرَاهُ» ؟. أَيْ كَيْفَ أَرَاهُ وَحِجَابُهُ نُورٌ، مِنْ صِفَتِهِ أَنَّهُ لَوْ كَشَفَهُ لَأَحْرَقَ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرَهُ مِنْ خَلْقِهِ.
وَقَدْ قَدَّمْنَا: أَنَّ تَحْقِيقَ الْمَقَامِ فِي رُؤْيَةِ اللَّهِ جَلَّ وَعَلَا بِالْأَبْصَارِ أَنَّهَا جَائِزَةٌ عَقْلًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، بِدَلِيلِ قَوْلِ مُوسَى {رَبِّ أَرِنِى أَنظُرْ إِلَيْكَ} لِأَنَّهُ لَا يَجْهَلُ الْمُسْتَحِيلَ فِي حَقِّهِ جَلَّ وَعَلَا. وَأَنَّهَا جَائِزَةٌ شَرْعًا وَوَاقِعَةٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، مُمْتَنِعَةٌ شَرْعًا فِي الدُّنْيَا قَالَ: {لَن تَرَانِى وَلكن انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ} إِلَى قَوْلِهِ {جَعَلَهُ دَكًّا} .
وَمِنْ أَصْرَحِ الْأَدِلَّةِ فِي ذَلِكَ حَدِيثُ «إِنَّكُمْ لَنْ تَرَوْا رَبَّكُمْ حَتَّى تَمُوتُوا» فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَصَحِيحِ ابْنِ خُزَيْمَةَ كَمَا تَقَدَّمَ (2) .
وَأَمَّا قَوْلُهُ: {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ} فَذَلِكَ جِبْرِيلُ عَلَى التَّحْقِيقِ، لَا اللَّهُ جلَّ وَعلا] (3) .
_________
(1) - أخرجه مُسلم (1/161) (179) ، وَلم أَجِدهُ عِنْد البُخَارِيّ بِهَذَا اللَّفْظ.
(2) - سبق تَخْرِيجه آنِفا.
(3) - 3/363: 365، بني إِسْرَائِيل / 1.(1/202)
بعض الْأَسْمَاء الْحسنى
- الرَّحْمَن الرَّحِيم:
[ {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} همَا وَصْفَانِ للَّه تَعَالَى، وَاسْمَانِ مِنْ أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى، مُشْتَقَّانِ مِنَ الرَّحْمَةِ عَلَى وَجْهِ الْمُبَالَغَةِ، وَالرَّحْمَنُ أَشَدُّ مُبَالَغَةً مِنَ الرَّحِيمِ؛ لِأَنَّ الرَّحْمَنَ هُوَ ذُو الرَّحْمَةِ الشَّامِلَةِ لِجَمِيعِ الْخَلَائق فِي الدُّنْيَا، وَلِلْمُؤْمنِينَ فِي الْآخِرَة، والرَّحِيم ذُو الرَّحْمَةِ لِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَعَلَى هَذَا أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ. وَفِي كَلَامِ ابْنِ جَرِيرٍ مَا يُفْهَمُ مِنْهُ حِكَايَةُ الِاتِّفَاقِ عَلَى هَذَا. وَفِي تَفْسِيرِ بَعْضِ السَّلَفِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، كَمَا قَالَهُ ابْنُ كَثِيرٍ، وَيَدُلُّ لَهُ الْأَثَرُ الْمَرْوِيُّ عَنْ عِيسَى كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ كَثِيرٍ وَغَيْرُهُ إِنَّهُ قَالَ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: (الرَّحْمَنُ رَحْمَنُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ والرَّحِيم رَحِيمُ الْآخِرَةِ) (1) . وَقَدْ أَشَارَ تَعَالَى إِلَى هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا حَيْثُ قَالَ: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ} ، وَقَالَ: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} ، فَذَكَرَ الِاسْتِوَاءَ بِاسْمِهِ الرَّحْمَنُ لِيَعُمَّ جَمِيعَ خَلْقِهِ بِرَحْمَتِهِ. قَالَهُ ابْنُ كَثِيرٍ. وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الرَّحْمَنُ} ؛ أَيْ: وَمِنْ رَحْمَانِيَّتِهِ: لُطْفُهُ بِالطَّيْرِ، وَإِمْسَاكُهُ إِيَّاهَا صَافَّاتٍ وَقَابِضَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ.
وَمِنْ أَظْهَرِ الْأَدِلَّةِ فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى:
_________
(1) - ذكره ابْن كثير فِي تَفْسِيره (1/18) ، وَعَزاهُ لِابْنِ مردوية ثمَّ قَالَ: [وَهَذَا غَرِيب جدا وَقد يكون صَحِيحا إِلَى من دون رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ يكون من الْإسْرَائِيلِيات لَا من المرفوعات وَالله أعلم] . وَقَالَ عَنهُ السُّيُوطِيّ فِي الدّرّ المنثور الدّرّ المنثور (1/23) : أخرج ابْن جرير وَابْن عدي فِي الْكَامِل وَابْن مرْدَوَيْه وَأَبُو نعيم فِي الْحِلْية وَابْن عَسَاكِر فِي تَارِيخ دمشق والثعلبي بِسَنَد ضَعِيف جدا عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ بِهِ. وَقَالَ عَنهُ الشَّوْكَانِيّ فِي فتح الْقَدِير (1/23) : [وَفِي إِسْنَاده إِسْمَاعِيل بن يحيى وَهُوَ كَذَّاب وَقد أورد هَذَا الحَدِيث ابْن الْجَوْزِيّ فِي الموضوعات] .(1/203)
{الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ} إِلَى قَوْلِهِ: {فَبِأَىّ آلَاءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ} ، وَقَالَ: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً} فَخَصَّهُمْ بِاسْمِهِ الرَّحِيمِ. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَ مَا قَرَّرْتُمْ، وَبَيْنَ مَا جَاءَ فِي الدُّعَاءِ الْمَأْثُورِ مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم: «رَحْمَن الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَرَحِيمُهُمَا» (1) فَالظَّاهِرُ فِي الْجَوَابِ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - أَنَّ الرَّحِيمَ خَاصٌّ بِالْمُؤْمِنِينَ كَمَا ذَكَرْنَا، لَكِنَّهُ لَا يَخْتَصُّ بِهِمْ فِي الْآخِرَةِ ! بَلْ يَشْمَلُ رَحْمَتَهُمْ فِي الدُّنْيَا أَيْضًا، فَيَكُونُ مَعْنَى رَحِيمُهُمَا رَحْمَتُهُ بِالْمُؤْمِنِينَ فِيهِمَا.
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ رَحِيمٌ بِالْمُؤْمِنِينَ فِي الدُّنْيَا أَيْضًا: أَنَّ ذَلِكَ هُوَ ظَاهِرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً} ، لِأَنَّ صَلَاتَهُ عَلَيْهِمْ وَصَلَاةَ مَلَائِكَتِهِ وَإِخْرَاجَهُ إِيَّاهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ رَحْمَةٌ بِهِمْ فِي الدُّنْيَا. وَإِنْ كَانَتْ سَبَبَ الرَّحْمَةِ فِي الْآخِرَةِ أَيْضًا، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} ، فَإِنَّهُ جَاءَ فِيهِ بِالْبَاء الْمُتَعَلّقَة بالرحيم الْجَار لِلضَّمِيرِ الْوَاقِعِ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ مُسلم - وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، وَتَوْبَتُهُ عَلَيْهِمْ
رَحْمَةٌ فِي الدُّنْيَا، وَإِنْ كَانَتْ سَبَبَ رَحْمَةِ الْآخِرَةِ أَيْضًا. وَالْعِلْمُ عِنْد الله تَعَالَى.] (2) .
_________
(1) - أخرجه الطَّبَرَانِيّ فِي " الصَّغِير " (1/336) (558) من حَدِيث أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم لِمعَاذ فَذكره.، وَقَالَ الهيثمي فِي الْمجمع (10/299) : [رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي الصَّغِير وَرِجَاله ثِقَات] ، الحَدِيث حسنه الشَّيْخ الألباني - رَحمَه الله - فِي " صَحِيح التَّرْغِيب والترهيب " من حَدِيث أنس.
(2) - 1/33، الْفَاتِحَة/3، وَانْظُر: (5/834) (الْمُؤْمِنُونَ/118) .(1/204)
- الْحق:
[مَعْلُوم أَنَّ الْحَقَّ مِنْ أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ} وَقَوْلِهِ: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ} ] (1) .
- الْأَحَد وَبَيَان أصل هَذِه الْكَلِمَة:
قَالَ صَاحب التَّتِمَّة - رَحمَه الله -: [ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} . الْأَحَدُ: قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: أَيِ الْوَاحِدُ الْوِتْرُ، الَّذِي لَا شَبِيهَ لَهُ وَلَا نَظِيرَ، وَلَا صَاحِبَةَ، وَلَا وَلَدَ، وَلَا شَرِيكَ. اهـ.
وَمَعْلُومٌ أَنَّ كُلَّ هَذِهِ الْمَعَانِي صَحِيحَةٌ، فِي حَقِّهِ تَعَالَى.
وَأَصْلُ أَحَدٍ: وَحَدٍ، قُلِبَتِ الْوَاوُ هَمْزَةً. وَمِنْهُ قَوْلُ النَّابِعَةِ:
كَأَنَّ رَحْلِي وَقَدْ زَالَ النَّهَارُ بِنَا ... بِذِي الْجَلِيلِ عَلَى مُسْتَأْنِسٍ وَحَد
وَقَالَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ فِي أَحَدٍ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ بِمَعْنَى وَاحِدٍ.
قَالَ الْخَلِيلُ: يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: أَحَدُ اثْنَانِ ثَلَاثَةٌ، ثُمَّ ذَكَرَ أَصْلَهَا وَحَدٌ، وَقُلِبَتِ الْوَاوُ همزَة للتَّخْفِيف.
وَالثَّانِي: أَن الْوَاحِد والأحد لبسا اسْمَيْنِ مُتَرَادِفَيْنِ.
قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: لَا يُوصَفُ شَيْءٌ بِالْأَحَدِيَّةِ غَيْرُ اللَّهِ تَعَالَى، لَا يُقَالُ: رَجُلٌ أَحَدٌ وَلَا دِرْهَمٌ أَحَدٌ، كَمَا يُقَالُ: رَجُلٌ وَاحِدٌ أَيْ فَرْدٌ بِهِ، بَلْ أَحَدٌ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى اسْتَأْثَرَ بِهَا فَلَا يُشْرِكُهُ فِيهَا شَيْءٌ.
ثُمَّ قَالَ: ذَكَرُوا فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْوَاحِدِ وَالْأَحَدِ وُجُوهًا:
أَحَدُهَا: أَنَّ الْوَاحِدَ يَدْخُلُ فِي الْأَحَدِ، وَالْأَحَدُ لَا يَدْخُلُ فِيهِ.
وَثَانِيهَا: أَنَّكَ لَوْ قُلْتَ: فُلَانٌ لَا يُقَاوِمُهُ وَاحِدٌ، جَازَ أَنْ يُقَالَ: لَكِنَّهُ يُقَاوِمُهُ
_________
(1) - 5/803، الْمُؤْمِنُونَ/71، وَانْظُر أَيْضا: (4/297) (مَرْيَم/34) .(1/205)
اثْنَان بِخِلَاف الْأَحَد.
فَإِنَّكَ لَوْ قُلْتَ: فُلَانٌ لَا يُقَاوِمُهُ أَحَدٌ، لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: لَكِنَّهُ يُقَاوِمُهُ اثْنَانِ.
وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْوَاحِدَ، يُسْتَعْمَلُ فِي الْإِثْبَاتِ، وَالْأَحَدَ يُسْتَعْمَلُ فِي النَّفْيِ، تَقُولُ فِي الْإِثْبَاتِ رَأَيْتُ رَجُلًا وَاحِدًا. وَتَقُولُ فِي النَّفْيِ: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا، فَيُفِيدُ الْعُمُومَ.
أَمَّا مَا نَقَلَهُ عَنِ الْخَلِيلِ، وَقَدْ حَكَاهُ صَاحِبُ الْقَامُوسِ فَقَالَ: وَرَجُلٌ وَاحِدٌ وَأَحَدٌ، أَيْ خِلَافًا لِمَا قَالَهُ الْأَزْهَرِيُّ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّ أَحَدًا تُسْتَعْمَلُ فِي النَّفْيِ فَقَدْ جَاءَ اسْتِعْمَالُهَا فِي الْإِثْبَاتِ أَيْضًا. كَقَوْلِهِ: {أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنْكُم مِّنَ الْغَائِطِ} ، فَتَكُونُ أَغْلَبِيَّةً فِي اسْتِعْمَالِهَا وَدَلَالَتِهَا فِي الْعُمُومِ وَاضِحَةً.
وَقَالَ فِي مُعْجَمِ مَقَايِيسِ اللُّغَةِ فِي بَابِ الْهَمْزَةِ وَالْحَاءِ وَمَا بَعْدَهَا: أَحَدٌ، إِنَّهَا فَرْعٌ وَالْأَصْلُ الْوَاوُ وَحَدٌ.
وَقَدْ ذَكَرَ فِي الْوَاوِ وَفِي مَادَّةِ وَحَدَ. قَالَ: الْوَاوُ وَالْحَاءُ وَالدَّالُ أَصْلٌ وَاحِدٌ يَدُلُّ عَلَى الِانْفِرَادِ مِنْ ذَلِكَ الْوَحْدَةِ
بِفَتْحِ الْوَاوِ وَهُوَ وَاحِدُ قَبِيلَتِهِ، إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ مِثْلُهُ. قَالَ:
يَا وَاحِدَ الْعُرْبِ الَّذِي ... مَا فِي الْأَنَامِ لَهُ نَظِيرُ
وَقِيلَ: إِنَّ هَذَا الْبَيْتَ لَبَشَّارٍ يَمْدَحُ عُقْبَةَ بن مُسلم، أَو لِابْنِ الْمولى يزِيد من حَاتِمٍ، نَقْلًا عَنِ الْأَغَانِي. فَيَكُونُ بِهَذَا ثَبَتَ أَنَّ الْأَصْلَ بِالْوَاوِ وَالْهَمْزَةَ فَرْعٌ عَنْهُ. وَتَقَدَّمَ أَنَّ دَلَالَتَهَا عَلَى الْعُمُومِ أَوْضَحُ أَيْ أَحَدٌ.
وَقَدْ دَلَّتِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ، عَلَى أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَحَدٌ، أَيْ فِي ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ لَا شَبِيهَ وَلَا شَرِيكَ، وَلَا نَظِيرَ وَلَا نِدَّ لَهُ، سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَقَدْ فَسَّرَهُ(1/206)
ضِمْنًا قَوْلُهُ: {وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ} ، وَقَوْلُهُ: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ} ، أَمَّا الْمَعْنَى الْعَامُّ فَإِنَّ الْقُرْآنَ كُلَّهُ، وَالرِّسَالَةَ الْمُحَمَّدِيَّةَ كُلَّهَا، بَلْ وَجَمِيعَ الرِّسَالَاتِ: إِنَّمَا جَاءَتْ لِتَقْرِيرِ هَذَا الْمَعْنَى، بِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَاحِدٌ أَحَدٌ. بَلْ كُلُّ مَا فِي الْوُجُودِ شَاهِدٌ عَلَى ذَلِكَ، كَمَا قِيلَ:
وَفِي كُلِّ شَيْءٍ لَهُ آيَةٌ ... تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ الْوَاحِدُ
أَمَّا نُصُوصُ الْقُرْآنِ عَلَى ذَلِكَ فَهِيَ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَى، لِأَنَّهَا بِمَعْنَى لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّه، وَتَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ، إِشَارَةٌ إِلَى ذَلِكَ فِي أَوَّلِ الصَّافَّاتِ وَفِي غَيْرِهَا، وَفِي الْبَقَرَةِ {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} ، وَفِي التَّوْبَةِ: {وَمَآ أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهًا وَاحِداً لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ} ، فَجَاءَ مَقْرُونًا بِلَا إِلَهَ إلاَّ اللَّه، وَفِي ص قَوْلُهُ: {قُلْ إِنَّمَآ أَنَاْ مُنذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} . وَكَمَا قَدَّمْنَا أَنَّ الرِّسَالَةَ كُلَّهَا جَاءَتْ لِتَقْرِيرِ هَذَا الْمَعْنَى، كَمَا فِي قَوْلِهِ: {هَذَا بَلَاغٌ لِّلنَّاسِ وَلِيُنذَرُواْ بِهِ وَلِيَعْلَمُواْ أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ} ، سُبْحَانَهُ جَلَّ جَلَالُهُ وَتَقَدَّسَتْ أَسْمَاؤُهُ، وَتَنَزَّهَتْ صِفَاتُهُ، فَهُوَ وَاحِدٌ أَحَدٌ فِي ذَاتِهِ وَفِي أَسْمَائِهِ وَفِي صِفَاتِهِ وَفِي أَفْعَالِهِ.
وَقَدْ جَاءَ الْقُرْآنُ بِتَقْرِيرِ هَذَا الْمَعْنَى عَقْلًا كَمَا قَرَّرَهُ نَقْلًا، وَذَلِكَ فِي قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُل لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لاَّبْتَغَوْا إِلَى ذِي العَرْشِ سَبِيلاً سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا} ، وَقَوْلِهِ: {لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا} . فَدَلَّ عَلَى عَدَمِ فَسَادِهِمَا بِعَدَمِ تَعَدُّدِهِمَا، وَجَمَعَ الْعَقْلَ وَالنَّقْلَ فِي قَوْلِهِ: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} ] (1) .
_________
(1) - 9/611: 615، الْإِخْلَاص/1.(1/207)
بَيَان انْتِفَاء الْولادَة واتخاذ الْوَلَد عقلا ونقلاً:
قَالَ صَاحب التَّتِمَّة - رَحمَه الله - عِنْد قَوْله تَعَالَى: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} : [نفي اتِّخَاذِ الْوَلَدِ لَا يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ الْوِلَادَةِ؛ لِأَنَّ اتِّخَاذَ الْوَلَدِ قَدْ يَكُونُ بِدُونِ وِلَادَةٍ كَالتَّبَنِّي أَوْ غَيْرِهِ، كَمَا فِي قِصَّةِ يُوسُفَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى عَنْ عَزِيزِ مِصْرَ: {أَكْرِمِى مَثْوَاهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَآ أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا} .
فَفِي هَذِهِ السُّورَةِ نَفْيٌ أَخَصُّ، فَلَزِمَ التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ وَهِيَ سُورَةُ الْإِخْلَاصِ. وَالَّتِي تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ لِاخْتِصَاصِهَا بِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فِي ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ مِنَ الْوَحْدَانِيَّةِ وَالصَّمَدِيَّةِ، وَنَفْيِ الْوِلَادَةِ وَالْوَلَدِ، وَنَفْيِ الْكُفْءِ، وَكُلُّهَا صِفَاتُ انْفِرَادٍ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ.
وَقَدْ جَاءَ فِيهَا النَّصُّ الصَّرِيحُ بِعَدَمِ الْوِلَادَةِ، وَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، فَهِيَ أَخَصُّ مِنْ تِلْكَ، وَهَذَا مِنَ الْمُسَلَّمَاتِ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ جَمِيعًا بِدُونِ شَكٍّ وَلَا نِزَاعٍ وَلَمْ يُؤَثِّرْ فِيهَا أَيُّ خِلَافٍ.
وَلَكِنَّ غَيْرَ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يُسَلِّمُوا بِذَلِكَ، فاليهود قَالُوا: عَزِيز ابْنُ اللَّهِ، وَالنَّصَارَى قَالُوا: الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ، وَالْمُشْرِكُونَ قَالُوا: الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّهِ، فَاتَّفَقُوا عَلَى ادِّعَاءِ الْوَلَدِ للَّه، وَلَمْ يَدَّعِ أَحَدٌ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ مَوْلُودٌ.
وَقَدْ جَاءَتِ النُّصُوصُ الصَّرِيحَةُ فِي نَفْيِ الْوَلَدِ عَنِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، إِلَّا أَنَّ مُجَرَّدَ النَّصِّ الَّذِي لَمْ يُؤْمِنْ بِهِ الْخَصْمُ لَا يَكْفِي لِإِقْنَاعِهِ، وَفِي هَذِهِ السُّورَةِ وَهِيَ الْمُخْتَصَّةُ بِصِفَاتِ اللَّهِ، لَمْ يَأْتِ التَّنْوِيهُ فِيهَا عَنِ الْمَانِعِ مِنِ اتِّخَاذِ اللَّهِ لِلْوَلَدِ، وَمِنْ كَوْنِهِ سُبْحَانَهُ لَمْ يُولَدْ.
وَلَمَّا كَانَ بَيَانُ الْمَانِعِ أَوِ الْمُوجِبِ مِنْ مَنْهَجِ هَذَا الْكِتَابِ، إِذَا كَانَ يُوجَدُ لِلْحُكْمِ مُوجِبٌ أَوْ مَانِعٌ وَلَمْ تَتَقَدَّمِ الْإِشَارَةُ إِلَى ذَلِكَ، فِيمَا تَقَدَّمَ مِنْ كَلَامِ الشَّيْخِ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ مَعَ أَنَّهُ رَحِمَهُ اللَّه، قَدْ تَكَلَّمَ عَلَى آيَاتِ(1/208)
الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ جُمْلَةً وَتَفْصِيلًا، بِمَا يَكْفِي وَيَشْفِي.
وَلَكِنْ جَاءَ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ ذِكْرُ ادِّعَاءِ الْوَلَدَ للَّه، سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا، وَجَاءَ الرَّدُّ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى مَعَ بَيَانِ الْمَانِعِ مُفَصَّلًا مَعَ الْإِشْعَارِ بِالدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ، وَلِذَا لَزِمَ التَّنْوِيهُ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَالُواْ اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَل لَّهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} . فَهَذَا نَصٌّ صَرِيحٌ فِيمَا قَالُوهُ: {اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا} ، وَنَصٌّ صَرِيحٌ فِي تَنْزِيهِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَسْبِيحِهِ عَمَّا قَالُوا.
ثُمَّ جَاءَ حَرْفُ الْإِضْرَابِ عَنْ قَوْلِهِمْ: {بَل لَّهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأٌَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ} ، فَفِيهِ بَيَانُ الْمَانِعِ عَقْلًا مِنِ اتِّخَاذِ الْوَلَدِ بِمَا يَلْزَمُ الْخَصْمَ، وَذَلِكَ أَنَّ غَايَةَ اتِّخَاذِ الْوَلَدِ أَنْ يَكُونَ بَارًّا بِوَالِدِهِ، وَأَنْ يَنْتَفِعَ الْوَالِدُ بِوَلَدِهِ. كَمَا فِي قَوْلُهُ تَعَالَى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحياةِ الدُّنْيَا} ، أَوْ يَكُونُ الْوَلَدُ وَارِثًا لِأَبِيهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى عَنْ نَبِيِّ اللَّهِ تَعَالَى زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَامُ: {فَهَبْ لِى مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً يَرِثُنِى وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} .
وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حَيٌّ بَاقٍ يَرِثُ وَلَا يُورَثُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} ، وَقَوله: {وَللَّهِ مِيرَاثُ السَّمَوَات وَالأَرْضِ} .
فَإِذَا كَانَ للَّه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كُلُّ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فِي قُنُوتٍ وَامْتِثَالٍ طَوْعًا أَوْ كَرْهًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا يَنبَغِى لِلرَّحْمَنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَداً إِن كُلُّ مَن فِى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِى الرَّحْمَنِ عَبْداً} ، فَهُوَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَيْسَ فِي حَاجَةٍ إِلَى الْوَلَدِ لِغِنَاهُ عَنْهُ.
ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ قُدْرَتَهُ عَلَى الْإِيجَادِ والإبداع فِي قَوْله تَعَالَى: {بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} . وَهَذَا وَاضِحٌ فِي نَفْيِ الْوَلَدِ عَنْهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.(1/209)
وَقَدْ تَمَدَّحَ سُبْحَانَهُ فِي قَوْلِهِ: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَم يَكُنْ لَّهُ شَرِيكٌ فِى الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ وَلِىٌّ مَّنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا} .
أَمَّا أَنَّهُ لَمْ يُولَدْ. فَلَمْ يَدَّعِ أَحَدٌ عَلَيْهِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ مُمْتَنِعٌ عَقْلًا، بِدَلِيلِ الْمُمَانَعَةِ الْمَعْرُوفِ وَهُوَ كَالْآتِي: لَوْ تَوَقَّفَ وُجُودُهُ سُبْحَانَهُ عَلَى أَنْ يُولَدَ لَكَانَ فِي وُجُودِهِ مُحْتَاجًا إِلَى مَنْ يُوجِدُهُ، ثُمَّ يَكُونُ مَنْ يَلِدُهُ فِي حَاجَةٍ
إِلَى وَالِدٍ، وَهَكَذَا يَأْتِي الدَّوْرُ وَالتَّسَلْسُلُ وَهَذَا بَاطِلٌ.
وَكَذَلِكَ فَإِنَّ الْحَاجَةَ إِلَى الْوَلَدِ بِنَفْيِهَا مَعْنَى الصَّمَدِيَّةِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُ، وَلَوْ كَانَ لَهُ وَالِدٌ لَكَانَ الْوَالِدُ أَسْبَقَ وَأَحَقَّ، تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ.
وَقَدْ يُقَالُ: مِنْ جَانِبِ الْمُمَانَعَةِ الْعَقْلِيَّةِ لَوِ افْتُرِضَ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ: {قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَاْ أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} .
فَنَقُولُ عَلَى هَذَا الِافْتِرَاضِ: لَوْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَمَا مَبْدَأُ وُجُودِ هَذَا الْوَلَدِ وَمَا مَصِيرُهُ؟ فَإِنْ كَانَ حَادِثًا فَمَتَى حُدُوثُهُ؟ وَإِنْ كَانَ قَدِيمًا تَعَدَّدَ الْقِدَمُ، وَهَذَا مَمْنُوعٌ.
ثُمَّ إِنْ كَانَ بَاقِيًا تَعَدَّدَ الْبَقَاءُ، وَإِنْ كَانَ مُنْتَهِيًا فَمَتَى انْتِهَاؤُهُ؟
وَإِذَا كَانَ مَآلُهُ إِلَى الِانْتِهَاءِ فَمَا الْحَاجَةُ إِلَى إِيجَادِهِ مَعَ عَدَمِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ، فَانْتَفَى اتِّخَاذُ الْوَلَدِ عَقْلًا وَنَقْلًا، كَمَا انْتَفَتِ الْوِلَادَةُ كَذَلِكَ عَقْلًا وَنَقْلًا.
وَقَدْ أَوْرَدَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ سُؤَالًا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَهُوَ لِمَاذَا قَدَّمَ نَفْيَ الْوَلَدِ عَلَى نَفْيِ الْوِلَادَةِ؟ مَعَ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْمَشَاهَدِ أَنْ يُولَدَ ثُمَّ يَلِدُ؟
وَأَجَابَ بِأَنَّهُ مِنْ تَقْدِيمِ الْأَهَمِّ لِأَنَّهُ رَدٌّ عَلَى النَّصَارَى فِي قَوْلِهِمْ: عِيسَى ابْنُ اللَّه، وَعَلَى الْيَهُودِ فِي قَوْلِهِمْ: عَزِيز ابْنُ اللَّه، وَعَلَى قَوْلِ الْمُشْرِكِينَ: الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّهِ، وَلِأَنَّهُ لَمْ يَدَّعِ أَحَدٌ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ مَوْلُودٌ لِأَحَدٍ، فَكَانَتْ دَعْوَاهُمُ الْوَلَدَ للَّه فِرْيَةٌ عُظْمَى. اهـ.(1/210)
كَمَا قَالَ تَعَالَى: {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِبًا} ، وَقَوْلِهِ: {وَقَالُواْ اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً} . فَلِشَنَاعَةِ هَذِهِ الْفِرْيَةِ قَدَّمَ ذِكْرَهَا، ثُمَّ الرَّدُّ عَلَى عَدَمِ إِمْكَانِهَا بِقَوْلِهِ: {وَمَا يَنبَغِى لِلرَّحْمَنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَداً إِن كُلُّ مَن فِى السَّمَوَات وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً} .
وَقَدْ قَدَّمْنَا دَلِيلَ الْمَنْعِ عَقْلًا وَنَقْلًا.
وَهُنَا سُؤَالٌ أَيْضًا، وَهُوَ إِذَا كَانَ ادِّعَاءُ الْوَلَدِ قَدْ وَقَعَ، وَجَاءَ الرَّدُّ عَلَيْهِ: فَإِنَّ ادِّعَاءَ الْوِلَادَةِ لَمْ يَقَعْ، فَلِمَاذَا ذَكَرَ نَفْيَهُ مَعَ عَدَمِ ادِّعَائِهِ؟
وَالْجَوَابُ واللَّه تَعَالَى أَعْلَمُ: أَنَّ مَنْ جَوَّزَ الْوِلَادَةَ لَهُ وَأَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ، فَقَدْ يجوز الْولادَة عَلَيْهِ، وَأَن يكود مَوْلُودًا فَجَاءَ نَفْيُهَا تَتِمَّةً لِلنَّفْيِ وَالتَّنْزِيهِ، كَمَا فِي حَدِيثِ الْبَحْرِ، كَانَ السُّؤَالُ عَنِ الْوُضُوءِ مِنْ مَائِهِ فَقَطْ، فَجَاءَ الْجَوَابُ عَنْ مَائِهِ وَمَيْتَتِهِ (1) ، لِأَنَّ مَا احْتَمَلَ السُّؤَالَ فِي مَائِهِ يَحْتَمِلُ الِاشْتِبَاهَ فِي مَيْتَتِهِ. وَاللَّهُ تَعَالَى ... أَعْلَمُ.] (2) .
بَيَان أَنه لَا وتر مَوْجُود على الْحَقِيقَة إِلَّا الله - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى -.
قَالَ صَاحب التَّتِمَّة - رَحمَه الله -: [ {وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ} : ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ أَكْثَرَ مِنْ عِشْرِينَ قَوْلًا وَمَجْمُوعُهَا يَشْمَلُ جَمِيعَ الْمَخْلُوقَاتِ جُمْلَةً وَتَفْصِيلًا.
_________
(1) - أخرج أَبُو دَاوُد (1/69) (83) ، وَغَيره مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: سَأَلَ رَجُلٌ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ الله إِنَّا نركب الْبَحْر ونحمل مَعنا الْقَلِيل من المَاء فَإِن توضأنا بِهِ عطشنا أفنتوضأ بِمَاء الْبَحْر؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " هُوَ الطّهُور مَاؤُهُ الْحل ميتَته ". والْحَدِيث صَححهُ الشَّيْخ الألباني - رَحمَه الله -، والأرناؤوط وَغَيرهمَا.
(2) - 9/616: 622، الْإِخْلَاص /3.(1/211)
أَمَّا جُمْلَةً فَقَالُوا: إِنَّمَا الْوَتْرُ هُوَ اللَّهُ، لِلْحَدِيثِ: «إِنَّ اللَّهَ وَتْرٌ يُحِبُّ الْوَتْرَ» (1) ، وَمَا سِوَاهُ شَفْعٌ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمِن كُلِّ شَىْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ} ، فَهَذَا شَمِلَ كُلَّ الْوُجُودِ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ، كَمَا فِي عُمُومِ
{فَلاَ أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ وَمَا لاَ تُبْصِرُونَ} .
أَمَّا التَّفْصِيلُ فَقَالُوا: الْمَخْلُوقَاتُ إِمَّا شَفْعٌ كَالْحَيَوَانَاتِ أَزْوَاجًا، وَالسَّمَاءِ. وَالْأَرْضِ، وَالْجَبَلِ، وَالْبَحْرِ، وَالنَّارِ، وَالْمَاءِ. وَهَكَذَا ذَكَرُوا لِكُلِّ شَيْءٍ مُقَابِلَهُ، وَمِنَ الْأَشْيَاءِ الْفَرْدُ كَالْهَوَاءِ وَكُلُّهَا مِنْ بَابِ الْأَمْثِلَةِ.
وَالْوَاقِعُ أَنَّ أَقْرَبَ الْأَقْوَالِ عِنْدِي وَاللَّهُ أَعْلَمُ: أَنَّهُ هُوَ الْأَوَّلُ لِأَنَّهُ ثَبَتَ عِلْمِيًّا أَنَّهُ لَا يُوجَدُ كَائِنٌ مَوْجُودٌ بِمَعْنَى الْوَتْرِ قَطُّ حَتَّى الْحَصَاةُ الصَّغِيرَةُ.
فَإِنَّهُ ثَبَتَ أَنَّ كُلَّ كَائِنٍ جَمَادٍ أَوْ غَيْرِهِ مُكَوَّنٌ مِنْ ذَرَّاتٍ وَالذَّرَّةُ لَهَا نَوَاةٌ وَمُحِيطٌ، وَبَيْنَهُمَا ارْتِبَاطٌ وَعَنْ طَرِيقِهِمَا التَّفْجِيرُ الَّذِي اكْتُشِفَ فِي هَذَا الْعَصْرِ، حَتَّى فِي أَدَقِّ عَالَمِ الصِّنَاعَةِ كَالْكَهْرُبَاءِ، فَإِنَّهَا مِنْ سَالِبٍ وَمُوجَبٍ، وَهَكَذَا لَا بُدَّ مِنْ دَوْرَةٍ كَهْرُبَائِيَّةٍ لِلْحُصُولِ عَلَى النَّتِيجَةِ مِنْ أَيِّ جِهَازٍ كَانَ، حَتَّى الْمَاءُ الَّذِي كَانَ يُظَنُّ بِهِ الْبَسَاطَةُ فَهُوَ زوج وشفع من عنصرين، أكسجين وَهِدْرُوجِينْ، يَنْفَصِلَانِ إِذَا وَصَلَتْ دَرَجَةُ حَرَارَةِ الْمَاءِ إِلَى مِائَةٍ أَيْ الْغَلَيَانُ، وَيَتَآلَفَانِ إِذَا نَزَلَتِ الدَّرَجَةُ إِلَى حَدٍّ مُعَيَّنٍ فَيَتَاقَطَرَانِ مَاءً. وَهَكَذَا.
وَنَفْسُ الْهَوَاءِ عِدَّةُ غَازَاتٍ وَتَرَاكِيبَ، فَلَمْ يَبْقَ فِي الْكَوْنِ شَيْءٌ قَطُّ فَرْدًا وَتْرًا بِذَاتِهِ، إِلَّا مَا نَصَّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ «إِنَّ اللَّهَ وَتْرٌ يُحِبُّ الْوَتْرُ» (2) وَيُمْكِنُ حَمْلُ الْحَدِيثِ عَلَى معنى الْوتر فِيهِ مستغني بِذَاتِهِ عَنْ غَيْرِهِ، وَالْوَاحِدُ فِي ذَاتِهِ وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ. فَصِفَاتُهُ كُلُّهَا وَتْرٌ كَالْعِلْمِ بِلَا جَهْلٍ وَالْحَيَاةِ بِلَا مَوْتٍ. إِلَخْ. بِخِلَافِ الْمَخْلُوقِ، وَقُلْنَا: الْمُسْتَغْنِي بِذَاتِهِ عَنْ غَيْرِهِ، لِأَنَّ كُلَّ
_________
(1) -أخرجه مُسْلِمٍ (4/2062) (2677) مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مطولا بِهِ.
(2) - انْظُر التَّعْلِيق السَّابِق.(1/212)
مَخْلُوقٍ شَفْعًا، فَإِنَّ كُلَّ عُنْصُرٍ مِنْهُ فِي حَاجَةٍ إِلَى الْعُنْصُرِ الثَّانِي، لِيَكُونَ مَعَهُ ذَاكَ الشَّيْءُ وَاللَّهِ سُبْحَانَهُ بِخِلَافِ ذَلِكَ. وَلِهَذَا كَانَ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ، وَهُوَ أَنَّ الْوَتْرَ هُوَ اللَّه، وَالشَّفْعَ هُوَ الْمَخْلُوقَاتُ جَمِيعُهَا، هُوَ الْقَوْلُ الرَّاجِحُ، وَهُوَ الْأَعَمّ فِي الْمَعْنى.] (1) .
- الصَّمَدُ.
[قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ {الصَّمَدُ} السَّيِّدُ الَّذِي يُلجأ إِلَيْهِ عِنْدَ الشَّدَائِدِ وَالْحَوَائِجِ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ السَّيِّدُ الَّذِي تَكَامَلَ سُؤْدُدُهُ وَشَرَفُهُ وَعَظَمَتُهُ، وَعِلْمُهُ وَحِكْمَتُهُ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ {الصَّمَدُ} هُوَ الَّذِي {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ} ، وَعَلَيْهِ فَمَا بَعْدَهُ تَفْسِيرٌ لَهُ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ الْبَاقِي بَعْدَ فَنَاءِ خَلْقِهِ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ « {الصَّمَدُ} هُوَ الَّذِي لَا جَوْفَ لَهُ، وَلَا يَأْكُلُ الطَّعَامَ، وَهُوَ مَحِلُّ الشَّاهِدِ، وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا
الْقَوْلِ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، وَمُجَاهِدٌ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُرَيْدَةَ، وَعِكْرِمَةُ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَعَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ، وَعَطِيَّةُ الْعَوْفِيُّ، وَالضَّحَّاكُ، وَالسُّدِّيُّ. كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُمُ ابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُمَا.
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: مِنَ الْمَعْرُوفِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، إِطْلَاقُ الصَّمَدِ عَلَى السَّيِّدِ الْعَظِيمِ، وَعَلَى الشَّيْءِ الْمُصْمَتِ الَّذِي لَا جَوف لَهُ، فَمن الأول قَول الزبْرِقَان:
_________
(1) - 9/210 - 211، الْفجْر/ 1: 4.(1/213)
سِيرُوا جَمِيعًا بِنِصْفِ اللَّيْلِ ... وَاعْتَمِدُوا وَلَا رَهِينَةَ إِلَّا سيد صَمد
وَقَول الآخر:
عَلَوْتُهُ بِحُسَامٍ ثُمَّ قُلْتُ لَهُ ... خُذْهَا حُذَيْفُ فَأَنت السَّيِّد الصَّمد
وَقَول الآخر:
أَلَا بَكَّرَ النَّاعِي بِخَيْرِ بَنِي أَسَدِ ... بِعَمْرِو بْنِ مَسْعُودٍ وَبِالسَّيِّدِ الصَّمَدِ
وَمِنَ الثَّانِي قَوْلُ الشَّاعِر:
شِهَابُ حُرُوبٍ لَا تَزَالُ جِيَادُهُ ... عَوَابِسَ يَعْلِكْنَ الشَّكِيمَ الْمُصَمَّدَا
فَإِذَا عَلِمْتَ ذَلِكَ، فَاللَّهُ تَعَالَى هُوَ السَّيِّدُ الَّذِي هُوَ وَحْدَهُ الْمَلْجَأُ عِنْدَ الشَّدَائِدِ وَالْحَاجَاتِ، وَهُوَ الَّذِي تَنَزَّهَ وَتَقَدَّسَ وَتَعَالَى عَنْ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ كَأَكْلِ الطَّعَامِ وَنَحْوِهِ، سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَن ذَلِك علوا كَبِيرا.] (1) .
- القيوم.
[القيوم صِيغَةُ مُبَالَغَةٍ، لِأَنَّهُ جَلَّ وَعَلَا هُوَ الْقَائِمُ بتدبير شؤون جَمِيعِ الْخَلْقِ، وَهُوَ الْقَائِمُ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ، وَقِيلَ: الْقَيُّومُ الدَّائِمُ الَّذِي لَا يَزُول.] (2) .
- الرَّزَّاق.
[وَصِيغَةُ التَّفْضِيلِ فِي قَوْلِهِ: {وَهُوَ خَيْرُ الرَازِقِينَ} نَظَرًا إِلَى أَنَّ بَعْضَ الْمَخْلُوقِينَ يَرْزُقُ بَعْضَهُمْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ} وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ} . وَلَا شكّ أَن فضل رزق الله
_________
(1) - 2/166 - 167، الْأَنْعَام/14.
(2) - 4/563، طه /111، وَانْظُر (8/112) (الْحَشْر/22: 24) .(1/214)
خَلْقَهُ، عَلَى رِزْقِ بَعْضِ خَلْقِهِ بَعْضِهِمْ كَفَضْلِ ذَاتِهِ، وَسَائِرِ صِفَاتِهِ عَلَى ذَوَاتِ خَلْقِهِ، وَصِفَاتِهِمْ] (1) .
- الْعَزِيز الْحَكِيم (2) .
[قَوْله: {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} قَدْ قَدَّمْنَا مَعْنَاهُ مِرَارًا وَذَكَرْنَا أَنَّ الْعَزِيزَ، هُوَ الْغَالِبُ الَّذِي لَا يَغْلِبُهُ شَيْءٌ، وَأَنَّ الْعِزَّةَ هِيَ الْغَلَبَةُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ} وَقَوْلُهُ: {وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ} : أَيْ غَلَبَنِي فِي الْخِصَامِ، وَمِنْ أمْثَالِ الْعَرَبِ مَنْ عَزَّ بَزَّ، يَعْنُونَ مَنْ غَلَبَ اسْتَلَبَ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْخَنْسَاءِ:
كَأَنْ لَمْ يَكُونُوا حِمًى يُخْتَشَى ... إِذِ النَّاسُ إِذْ ذَاكَ مَنْ عَزَّ بَزَّا
وَالْحَكِيمُ، هُوَ مَنْ يَضَعُ الْأُمُورَ فِي موَاضعهَا، ويوقعها فِي مواقعها] (3) .
_________
(1) - 5/806، الْمُؤْمِنُونَ / 72.
(2) - انْظُر مَا سبق ذكره فِي صفة الْحِكْمَة.
(3) - 7/805، الْحَدِيد / 1.(1/215)
بَاب: تَوْحِيد الْقَصْد والطلب (تَوْحِيد الألوهية)
فصل: تَوْحِيد الله عز وَجل فِي الْعِبَادَة
... [قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} أَشَارَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ إِلَى تَحْقِيقِ مَعْنَى لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّه؛ لِأَنَّ مَعْنَاهَا مُرَكَّبٌ مِنْ أَمْرَيْنِ: نَفْيٌ وَإِثْبَاتٌ.
فَالنَّفْيُ: خَلْعُ جَمِيعِ الْمَعْبُودَاتِ غَيْرِ اللَّه تَعَالَى فِي جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْعِبَادَاتِ، وَالْإِثْبَاتُ: إِفْرَادُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَحْدَهُ بِجَمِيعِ أَنْوَاعِ الْعِبَادَاتِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ. وَقَدْ أَشَارَ إِلَى النَّفْيِ مِنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّه بِتَقْدِيمِ الْمَعْمُولِ الَّذِي هُوَ {إِيَّاكَ} وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ، فِي مَبْحَثِ دَلِيلِ الْخِطَابِ الَّذِي هُوَ مَفْهُوم الْمُخَالفَة، وَفِي الْمعَانِي فِي مَبْحَث الْقصر: أَنَّ تَقْدِيمَ الْمَعْمُولِ مِنْ صِيَغِ الْحَصْرِ. وَأَشَارَ إِلَى الْإِثْبَاتِ مِنْهَا بِقَوْلِهِ: {نَعْبُدُ} .
وَقَدْ بَيَّنَ مَعْنَاهَا الْمُشَارَ إِلَيْهِ هُنَا مُفَصَّلًا فِي آيَاتٍ أُخر كَقَوْلِه: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِى خَلَقَكُمْ} ، فَصَرَّحَ بِالْإِثْبَاتِ مِنْهَا بِقَوْلِهِ: {اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ} ، وَصَرَّحَ بِالنَّفْيِ مِنْهَا فِي آخِرِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ بِقَوْلِهِ: {فَلاَ تَجْعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} ، وَكَقَوْلِهِ: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِى كُلّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ وَاجْتَنِبُواْ الْطَّاغُوتَ} ، فَصَرَّحَ بِالْإِثْبَاتِ بِقَوْلِهِ: {أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ} وَبِالنَّفْيِ بِقَوْلِهِ: {وَاجْتَنِبُواْ الْطَّاغُوتَ} ، وَكَقَوْلِهِ: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} ، فَصَرَّحَ بِالنَّفْيِ مِنْهَا بِقَوْلِهِ: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ} ، وَبِالْإِثْبَاتِ بِقَوْلِهِ: {وَيُؤْمِن بِاللَّهِ} ؛ وَكَقَوْلِهِ: {وَإِذْ قَالَ إِبْراهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِى بَرَاء مّمَّا(1/216)
تَعْبُدُونَ إِلاَّ الَّذِى فَطَرَنِى} ، وَكَقَوْلِهِ: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِى إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلاَّ أَنَاْ فَاعْبُدُونِ} ، وَقَوله: {وَاسْئلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} ؛ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} أَيْ لَا نَطْلُبُ الْعَوْنَ إِلَّا مِنْكَ وَحْدَكَ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ كُلُّهُ بِيَدِكَ وَحْدَكَ لَا يَمْلِكُ أَحَدٌ مِنْهُ مَعَكَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ. وَإِتْيَانُهُ بِقَوْلِهِ: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} ، بَعْدَ قَوْلِهِ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} ، فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُتَوَكَّلَ إِلَّا عَلَى مَنْ يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ؛ لِأَنَّ غَيْرَهُ لَيْسَ بِيَدِهِ الْأَمْرُ. وَهَذَا الْمَعْنَى الْمُشَارُ إِلَيْهِ هُنَا جَاءَ مُبَيَّنًا وَاضِحًا فِي آيَاتٍ أُخر كَقَوْلِه: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} ، وَقَوْلِهِ: {فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُلْ حَسْبِىَ اللَّهُ لَا اله إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} ، وَقَوْلِهِ: {رَّبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً} ، وَقَوْلِهِ: {قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا} ، وَإِلَى غَيْرِ ذَلِكَ من الْآيَات] (1) .
- بعض الْأَدِلَّة على إِفْرَاده تَعَالَى بالألوهية (2) :
[قَوْلُهُ تَعَالَى: {الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّن نَّبَاتٍ شَتَّى كُلُواْ وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَاتٍ لأُوْلِي النُّهَى} ... وَقَدْ بَيَّنَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ أَرْبَعَ آيَاتٍ مِنْ آيَاتِهِ الْكُبْرَى الدَّالَّةِ عَلَى أَنه المعبود وَحده. وَمَعَ كَونهَا من
_________
(1) - 1/ 34 - 35، الْفَاتِحَة / 5، وَانْظُر (3/373 - 374) (بني إِسْرَائِيل / 9) وَقد سبق نقل عِبَارَته فِي هَذَا الْمَوْضُوع فِي مُقَدّمَة بَاب تَوْحِيد الربوبية.
(2) - وَانْظُر أَيْضا مَا سننقله عَنهُ - رَحمَه الله - فِي الْمَسْأَلَة التالية.(1/217)
آيَاتٍ عَلَى كَمَالِ قُدْرَتِهِ وَاسْتِحْقَاقِهِ الْعِبَادَةَ وَحْدَهُ دُونَ غَيْرِهِ فَهِيَ مِنَ النِّعَمِ الْعُظْمَى عَلَى بَنِي آدَمَ.
الْأُولَى: فَرْشُهُ الْأَرْضَ عَلَى هَذَا النَّمَطِ الْعَجِيبِ.
الثَّانِيَةُ: جَعْلُهُ فِيهَا سُبلاً يَمُرُّ مَعَهَا بَنُو آدَمَ وَيَتَوَصَّلُونَ بِهَا مِنْ قُطْرٍ إِلَى قُطْرٍ.
الثَّالِثَةُ: إِنْزَالُهُ الْمَاءَ مِنَ السَّمَاءِ عَلَى هَذَا النَّمَطِ الْعَجِيبِ.
الرَّابِعَةُ: إِخْرَاجُهُ أَنْوَاعَ النَّبَاتِ مِنَ الْأَرْضِ.
أَمَّا الْأُولَى: الَّتِي هِيَ جَعْلُهُ الْأَرْضَ مَهْدًا فَقَدْ ذَكَرَ الِامْتِنَانَ بِهَا مَعَ الِاسْتِدْلَالِ بِهَا عَلَى أَنَّهُ الْمَعْبُودُ وَحْدَهُ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مِنْ كِتَابِهِ. كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ العَزِيزُ العَلِيمُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ مَهْداً} ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ مِهَاداً وَالْجِبَالَ أَوْتَاداً} ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ} ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِى مَدَّ الأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِىَ وَأَنْهَاراً} وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ جِدًّا.
وَأَمَّا الثَّانِيَةُ: الَّتِي هِيَ جَعْلُهُ فِيهَا سُبُلًا فَقَدْ جَاءَ الِامْتِنَانُ وَالِاسْتِدْلَالُ بِهَا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ.
كَقَوْلِهِ فِي «الزُّخْرُفِ» : {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ العَزِيزُ العَلِيمُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ مَهْداً وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجاً سُبُلاً لَّعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} وَقَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الدالَّة عَلَى هَذَا فِي سُورَةِ «النَّحْلِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ: {وَأَنْهَاراً وَسُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} .
وَأَمَّا الثَّالِثَةُ، وَالرَّابِعَةُ: وَهُمَا إِنْزَالُ الْمَاءِ مِنَ السَّمَاءِ وَإِخْرَاجُ النَّبَاتِ بِهِ مِنَ الْأَرْضِ فَقَدْ تَكَرَّرَ ذِكْرُهُمَا فِي الْقُرْآنِ عَلَى سَبِيلِ الِامْتِنَانِ وَالِاسْتِدْلَالِ مَعًا.(1/218)
كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِى أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَآءً لَّكُم مَّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ يُنبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ} . وَقَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الدَّالَّةَ عَلَى ذَلِكَ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: {وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجْنَا} الْتِفَاتٌ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى التَّكَلُّمِ بِصِيغَةِ التَّعْظِيمِ. وَنَظِيرُهُ فِي الْقُرْآنِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي «الْأَنْعَامِ» : {وَهُوَ الَّذِى أَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَىْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً نُّخْرِجُ مِنْهُ حَبّاً مُّتَرَاكِباً} ، وَقَوْلُهُ فِي «فَاطِرٍ» : {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أنَزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا} ، وَقَوله فِي «النَّمْل» : {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَآئِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ} .
وَهَذَا الِالْتِفَاتُ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى التَّكَلُّمِ بِصِيغَةِ التَّعْظِيمِ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ كُلِّهَا فِي إِنْبَاتِ النَّبَاتِ يَدُلُّ عَلَى تَعْظِيمِ شَأْنِ إِنْبَاتِ النَّبَاتِ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ ينزل المَاء وَلم ينْبت شَيْئا لَهَلَكَ النَّاسُ جُوعًا وَعَطَشًا. فَهُوَ يَدُلُّ عَلَى عَظَمَتِهِ جَلَّ وَعَلَا، وَشِدَّةِ احْتِيَاجِ الْخَلْقِ إِلَيْهِ وَلُزُوم طاعتهم لَهُ جلّ وَعلا ... ] (1) .
وَقَالَ صَاحب التَّتِمَّة - رَحمَه الله -: [قَوْلُهُ تَعَالَى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَالِمُ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ. هُوَ اللَّهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ المَلِكُ القُدُّوسُ السَّلامُ المُؤْمِنُ المُهَيْمِنُ العَزِيزُ الجَبَّارُ المُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ. هُوَ اللَّهُ الخَالِقُ البَارِئُ المُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} . جَاءَتْ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ الثَّلَاثِ: ذِكْرُ كَلِمَةِ التَّوْحِيدِ مَرَّتَيْنِ، كَمَا ذُكِرَ فِيهَا أَيْضًا تَسْبِيحُ اللَّهِ مَرَّتَيْنِ، وَذُكِرَ مَعَهُمَا العديد من أَسمَاء الله
_________
(1) - 4/455: 459، طه / 53- 54.(1/219)
الْحُسْنَى وَصِفَاتِهِ الْعُلْيَا، فَكَانَتْ بِذَلِكَ مُشْتَمِلَةً عَلَى ثَلَاثِ قَضَايَا أَهَمِّ قَضَايَا الْأَدْيَانِ كُلِّهَا مَعَ جَمِيعِ الْأُمَمِ وَرُسُلِهِمْ، لِأَنَّ دَعْوَةَ الرُّسُلِ كُلَّهَا فِي تَوْحِيدِ اللَّهِ تَعَالَى فِي ذَاتِهِ وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَتَنْزِيهِهِ، وَالرَّدِّ عَلَى مُفْتَرَيَاتِ الْأُمَمِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى.
فَالْيَهُودُ قَالُوا: عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ.
وَالنَّصَارَى قَالُوا الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ.
وَالْمُشْرِكُونَ قَالُوا: {اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً} ، {وَجَعَلُواْ الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثاً} ، وَقَالُوا: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} .
فَكُلُّهُمُ ادَّعَى الشَّرِيكَ مَعَ اللَّهِ، وَقَالُوا: ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَغَيْرَ ذَلِكَ.
وَكَذَلِكَ فِي قَضِيَّةِ التَّنْزِيِهِ، فَالْيَهُودُ قَالُوا: {إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَآءُ} ، وَقَالُوا: {يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ} .
وَالْمُشْرِكُونَ قَالُوا: {وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُوراً} ، وَنَسَبُوا لِلَّهِ مَا لَا يَرْضَاهُ أَحَدُهُمْ لِنَفْسِهِ، وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا، فِي الْوَقْت الَّذِي إِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بالأُنثى ظلَّ وجهُه مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ.
وَهَذَا كَمَا تَرَاهُ أَعْظَمُ افْتِرَاءٍ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَقَدْ سَجَّلَهُ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُواْ اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًامَّا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلاَ لأبَآئِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِبًا} وَكَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَلاَ إِنَّهُم مِّنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} ، وَقَالَ مُبَيِّنًا جُرْمَ مَقَالَتِهِمْ، {وَقَالُواْ اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً وَمَا يَنبَغِى لِلرَّحْمَنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَداً} .(1/220)
فَكَانَتْ تِلْكَ الْآيَاتُ الثَّلَاثُ عِلَاجًا فِي الْجُمْلَةِ لِتِلْكَ الْقَضَايَا الثَّلَاثِ، تَوْحِيدِ الْأُلُوهِيَّةِ، وَتَوْحِيدِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، وَتَنْزِيهِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مَعَ إِقَامَةِ الْأَدِلَّةِ عَلَيْهَا.
وَقَدِ اجْتَمَعَتْ مَعًا لِأَنَّهُ لَا يَتِمُّ أَحَدُهَا إِلَّا بِالْآخَرَيْنِ، لِيَتِمَّ الْكَمَالُ لِلَّهِ تَعَالَى.
قَالَ أَبُو السُّعُودِ: إِنَّ الْكَمَالَاتِ كُلَّهَا مَعَ كَثْرَتِهَا وَتَشَعُّبِهَا رَاجِعَةٌ إِلَى الْكَمَالِ فِي الْقُدْرَةِ وَالْعِلْمِ اهـ.
وَهَذَا كُلُّهُ مُتَوَفِّرٌ فِي هَذَا السِّيَاقِ، وَقَدْ بَدَأَ بِكَلِمَةِ التَّوْحِيدِ، لِأَنَّهَا الْأَصْلُ، لِأَنَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَحْدَهُ آمن بِكُل مَا جَاءَ عَن الله، وآمن بِاللَّهِ عَلَى مَا هُوَ لَهُ أَهْلٌ، وَنَزَّهَهُ عَمَّا لَيْسَ لَهُ بِأَهْلٍ قَالَ تَعَالَى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِى لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ} ثُمَّ أَعْقَبَهُ بِالدَّلِيلِ عَلَى إِفْرَادِهِ تَعَالَى بِالْأُلُوهِيَّةِ بِمَا لَا يُشَارِكُهُ غَيْرُهُ فِيهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} .
وَهَذَا الدَّلِيلُ نَصٌّ عَلَيْهِ عَلَى أَنَّهُ دَلِيلٌ لِوَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى فِي مَوَاضِعَ أُخْرَى مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى {إِنَّمَآ إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَىْءٍ عِلْماً} وَوَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ هُنَا تُسَاوِي عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى {أَلاَّ يَسْجُدُواْ للَّهِ الَّذِى يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِى السَّمَوَات وَالأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} . وَقَوْلِهِ تَعَالَى {اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الحَيُّ القَيُّومُ} إِلَى قَوْلِهِ {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَآءَ} .
وَهَذَا قَطْعًا لَا يُشَارِكُهُ فِيهِ غَيْرُهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَآ إِلاَّ هُوَ} فَكَانَ مِنْ حَقِّهِ عَلَى خَلْقِهِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَحْدَهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، وَجَاءَ بِدَلِيلٍ ثَانٍ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى {هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ صَرَاحَةً أَيْضًا كَدَلِيلٍ عَلَى الْوَحْدَانِيَّةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ(1/221)
لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} فَهُوَ رَحْمَن الدُّنْيَا وَرَحِيمُ الْآخِرَةِ.
وَمِنْ رَحْمَتِهِ الَّتِي اخْتَصَّ بِهَا فِي الدُّنْيَا قَوْلُهُ: {وَهُوَ الَّذِى يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُواْ وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ} وَقَوْلِهِ: {فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} أَيْ: بِإِنْزَالِهِ الْغَيْثَ وَإِنْبَاتِ النَّبَاتِ مِمَّا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إِلَّا هُوَ فَكَانَ حَقُّهُ عَلَى خَلْقِهِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَحْدَهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ.
وَقَدْ جَمَعَ الدَّلِيلَيْنِ الْعِلْمَ وَالرَّحْمَةَ مَعًا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَىْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْماً} .
ثُمَّ جَاءَتْ كَلِمَةُ التَّوْحِيدِ مَرَّةً أُخْرَى، {هُوَ اللَّهُ الَّذِى لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ} ، وَجَاءَ بَعْدَهَا مِنَ الصِّفَاتِ الْجَامِعَةِ قَوْلُهُ: {الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ} ، وَهَذَا الدَّلِيلُ عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ تَعَالَى نَصَّ عَلَيْهِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ صَرِيحًا فِي قَوْلُهُ تَعَالَى {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُو يُحْيِي وَيُمِيتُ} فَالَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ هُوَ الْمَلِكُ الْحَقُّ الْكَامِلُ الْمُلْكِ، وَهُوَ الَّذِي يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِي مُلْكِهِ كَمَا يَشَاءُ بِالْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ وَحْدَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى {تَبَارَكَ الَّذِى بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ الَّذِى خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحياةَ} وَهُوَ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ عَلَى مُلْكِهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ أَيْضًا {اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَىُّ الْقَيُّومُ} فَالْقَيُّومُ هُوَ الْمُهَيْمِنُ وَالْقَائِمُ بِكُلِّ نَفْسٍ، الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ، ثُمَّ جَاءَ بِالدَّلِيلِ الْأَعْظَمِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِىءُ الْمُصَوِّرُ} فَهُوَ وَحْدَهُ الْمُتَفَرِّدُ بِالْخَلْقِ وَالْإِيجَادِ، وَالْإِبْدَاعِ وَالتَّصْوِيرِ، وَقَدْ نَصَّ عَلَى هَذَا الدَّلِيلِ فِي أَكْثَرَ مِنْ مَوْضِعٍ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَّهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَىْءٍ وهُوَ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ} ثُمَّ قَالَ {ذلكمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَىْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ(1/222)
عَلَى كُلِّ شَىْءٍ وَكِيلٌ} .
وَذَكَرَ أَيْضًا الْخَلْقَ مُفَصَّلًا وَالْمُلْكَ مُجْمَلًا فِي قَوْلُهُ تَعَالَى {خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ الأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِى بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقاً مِّن بَعْدِ خَلْقٍ فِى ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ} ثُمَّ قَالَ {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} وَقَالَ {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَىْءٍ} ثُمَّ قَالَ {لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} وَجَمَعَ الْمُلْكَ وَالْخَلْقَ مَعًا فِي قَوْله {الَّذِى لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِى المُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَىْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً} إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ فِي هَذَا الْمَعْنَى.
وَمَنْ تَأَمَّلَ بَرَاهِينَ الْقُرْآنِ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَعَلَى قُدْرَتِهِ، عَلَى الْبَعْثِ وَهُمَا أَهَمُّ الْقَضَايَا الْعَقَائِدِيَّةِ يَجِدُ أَهَمَّهَا وَأَوْضَحَهَا وَأَكْثَرَهَا، هُوَ هَذَا الدَّلِيلَ، أَعْنِي دَلِيلَ الْخَلْقِ وَالتَّصْوِيرِ.
وَقَدْ جَاءَ هَذَا الدَّلِيلُ فِي الْقُرْآنِ جُمْلَةً وَتَفْصِيلًا، فَمِنَ الْإِجْمَالِ مَا جَاءَ فِي أَصْلِ الْمَخْلُوقَاتِ جَمِيعًا {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَىْءٍ} وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {تَبَارَكَ الَّذِى بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ} ، وَقَالَ: {إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} ثُمَّ قَالَ {فَسُبْحَانَ الَّذِى بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَىْءٍ} وَقَالَ: {تَبَارَكَ الَّذِى بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ الَّذِى خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحياةَ} أَيْ خَالِقُ الْإِيجَادِ وَالْعَدَمِ، وَخَلْقُ الْعَدَمِ يُسَاوِي فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الْقُدْرَةِ خَلْقَ الْإِيجَادِ، لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى إِعْدَامِ مَا أَوْجَدَ يَكُونُ الْمَوْجُودُ مُسْتَعْصِيًا عَلَيْهِ، فَيَكُونُ عَجْزًا فِي الْمُوجِدِ لَهُ، كَمَنْ يُوجِدُ الْيَوْمَ سِلَاحًا وَلَا يَقْدِرُ عَلَى إِعْدَامِهِ، وَإِبْطَالِ مَفْعُولِهِ، فَقَدْ يَكُونُ سَبَبًا فِي إِهْلَاكِهِ، وَلَا تَكْتَمِلُ الْقُدْرَةُ حَقًّا إِلَّا بِالْخَلْقِ وَالْإِعْدَامِ مَعًا، وَقَالَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ: {الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِى خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ(1/223)
الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} .
وَقَالَ فِي خَلْقِ الْأَفْلَاكِ وَتَنْظِيمِهَا: {وَهُوَ الَّذِى خَلَقَ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} . ثُمَّ فِي أُصُولِ الْمَوْجُودَاتِ فِي الْأَرْضِ بِقَوْلِهِ: {هُوَ الَّذِى خَلَقَ لَكُم مَّا فِى الأَرْضِ جَمِيعاً} .
وَفِي أُصُولِ الْأَجْنَاسِ: الْمَاءُ وَالنَّارُ وَالنَّبَاتُ وَالْإِنْسَانُ، قَالَ: {أَفَرَأَيْتُم مَّا تُمْنُونَ أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَم نَحْنُ الْخَالِقُونَ} .
وَذَكَرَ مَعَهُ الْقُدْرَةَ عَلَى الْإِعْدَامِ: {نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ} .
وَفِي أُصُولِ النَّبَاتِ: {أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَارِعُونَ} .
وَفِي أُصُولِ الْمَاءِ: {أَفَرَأَيْتُمُ الْمَآءَ الَّذِى تَشْرَبُونَ أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ} .
وَفِي أُصُولِ تَطْوِيرِ الْحَيَاةِ: {أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِى تُورُونَ أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَآ أَمْ نَحْنُ الْمُنشِئُونَ} .
وَفِي جَانِبِ الْحَيَوَانِ {أَفَلاَ يَنظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ} .
وَلِهَذَا فَقَدْ تَمَدَّحَ تَعَالَى بِهَذِهِ الصِّفَةِ، صِفَةِ الْخلق، وسفة آلِهَةِ الْمُشْرِكِينَ بِالْعَجْزِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {خَلَقَ السَّمَوَات بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِى الأَرْضِ رَوَاسِىَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ} ثُمَّ قَالَ: {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِى مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِى ضَلَالٍ مُّبِينٍ} .
وَمَعْلُومٌ أَنَّهَا لَمْ تَخْلُقْ شَيْئًا كَمَا قَالَ تَعَالَى مُوَبِّخًا لَهُمْ: {أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ} وَبَيَّنَ أَنَّهُمَا لَا يَسْتَوِيَانِ فِي قَوْلِهِ: {أَفَمَن يَخْلُقُ(1/224)
كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} ، ثُمَّ بَيَّنَ نِهَايَةَ ضَعْفِهَا وَعَجْزِهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ آلِهَةً لاَّ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلاَ يَمْلِكُونَ لاًّنفُسِهِمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً وَلاَ يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلاَ حَيَاةً وَلاَ نُشُوراً} وَهَذَا غَايَةُ الْعَجْزِ. كَمَا ضَرَبَ لِذَلِكَ الْمَثَلَ بِقَوْلِهِ: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُواْ ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُواْ لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} فَهُمْ حَقًّا لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا وَلَوْ بِقَدْرِ الذُّبَابَةِ؟ وَهَكَذَا تَرَى صِفَةَ الْخَلْقِ الْمُتَّصِفِ بِهَا سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْظَمَ دَلِيلٍ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهِيَ مُتَضَمِّنَةٌ صِفَةَ التَّصْوِيرِ وَالْعِلْمِ لِأَنَّ لِكُلِّ مَخْلُوقٍ صُورَةً تَخُصُّهُ؟ وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إِلَّا عَنْ عِلْمٍ بِالْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، كَمَا تَقَدَّمَ.
وَهَكَذَا أَيْضًا كَانَ هَذَا الدَّلِيلُ أَقْوَى الْأَدِلَّةِ عَلَى الْبَعْثِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَوَلَمْ يَرَ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مٌّبِينٌ وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِىَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحىِ الْعِظَامَ وَهِىَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِى أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} إِلَى آخِرِ السُّورَةِ.
وَكَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى صَرِيحًا فِي ذَلِكَ وَنَصًّا عَلَيْهِ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ البَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ العُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا المَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي المَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لاَّ رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَن فِي القُبُورِ} .(1/225)
ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ جَاحِدَ هَذَا الدَّلِيلِ إِنَّمَا هُوَ مُكَابِرٌ جَاهِلٌ، ضَالٌّ مُضِلٌّ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ بَعْدَهُ مُبَاشَرَةً: {ومِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِى اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلاَ هُدًى وَلاَ كِتَابٍ مُّنِيرٍ ثَانِىَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِى الدُّنْيَا خِزْىٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِّلعَبِيدِ} .
وَمن هُنَا كَانَ أَوَّلُ نِدَاءٍ فِي الْمُصْحَفِ يُوَجَّهُ إِلَى النَّاسِ جَمِيعًا بِعِبَادَةِ اللَّهِ كَانَ لِاسْتِحْقَاقِهِ عِبَادَتَهُ وَحْدَهُ، لِأَنَّهُ مُتَّصِفٌ بِصِفَةِ الْخَلْقِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِىْ خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَآءَ بِنَآءً وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} . أَيْ لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا لَهُ بِأَنْدَادٍ فِيمَا اتَّصَفَ بِهِ سُبْحَانَهُ فَلَا تُشْرِكُوهُمْ مَعَ اللَّهِ فِي عِبَادَتِهِ.
فَكَانَتْ هَذِهِ الصِّفَاتُ لِلَّهِ تَعَالَى فِي آخِرِ هَذِهِ السُّورَةِ حَقًّا أَدِلَّةً عَلَى إِثْبَاتِ وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى فِي ذَاتِهِ وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، وَأَنَّهُ الْمُسْتَحَقُّ لِأَنْ يُعْبَدَ وَحْدَهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ... ] (1) .
- صِفَات من يسْتَحق الْعِبَادَة وَمن لَا يَسْتَحِقهَا.
[قَوْله تَعَالَى: {مَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًى} . صِيغَةُ الْجَمْعِ فِي قَوْلِهِ: خَلَقْنَا لِلتَّعْظِيمِ.
وَقَوْلُهُ: إِلَّا بِالْحَقِّ أَي خلقا متلبساً بِالْحَقِّ.
_________
(1) - 8/108: 117، الْحَشْر / 22: 24. وَهَذَا الْمقَال قد أثْبته هُنَا كَامِلا لربط عباراته، وَعدم قطع تسلسلها، وَقد سبق نقل صَدره عِنْد الْكَلَام على بَيَان تلازم أَنْوَاع التَّوْحِيد، وَنقل جملا من أَثْنَائِهِ عِنْد الْكَلَام على صفة الْخلق، وتضمنها لصفة التَّصْوِير.(1/226)
وَالْحَقُّ ضِدُّ الْبَاطِلِ، وَمَعْنَى كَوْنِ خَلْقِهِ لِلسَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مُتَلَبِّسًا بِالْحَقِّ أَنَّهُ خَلَقَهُمَا لِحَكَمٍ بَاهِرَةٍ، وَلَمْ يَخْلُقْهُمَا بَاطِلًا، وَلَا عَبَثًا، وَلَا لَعِبًا، فَمِنَ الْحَقِّ الَّذِي كَانَ خَلْقُهُمَا مُتَلَبِّسًا بِهِ، إِقَامَةُ الْبُرْهَانِ، عَلَى أَنَّهُ هُوَ الْوَاحِدُ الْمَعْبُودُ وَحْدَهُ جَلَّ وَعَلَا، كَمَا أَوْضَحَ ذَلِكَ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ لَا تَكَادُ تُحْصِيهَا فِي الْمُصْحَفِ الْكَرِيمِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي الْبَقَرَةِ {وَالهكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} ثُمَّ أَقَامَ الْبُرْهَانَ عَلَى أَنَّهُ هُوَ الْإِلَهُ الْوَاحِد بقوله بعده: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ الَليْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَتِي تَجْرِي فِي البَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ المُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} .
فَتَلَبُّسُ خَلْقِهِ لِلسَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بِالْحَقِّ وَاضِحٌ جِدًّا، مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} إِلَى قَوْلِهِ {لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} بَعْدَ قَوْلِهِ {وَالهكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ} ، لِأَنَّ إِقَامَةَ الْبُرْهَانِ الْقَاطِعِ عَلَى صِحَّةِ مَعْنَى لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ هُوَ أَعْظَمُ الْحق.
وَكَقَوْلِه تَعَالَى {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِىْ خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} {الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ
الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَآءَ بِنَآءً وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: {اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ} فِيهِ مَعْنَى الْإِثْبَاتِ مِنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ.
وَقَوْلُهُ {فَلاَ تَجْعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} يَتَضَمَّنُ مَعْنَى النَّفْيِ مِنْهَا عَلَى أَكْمَلِ وَجْهٍ وَأَتَمِّهِ.
وَقَدْ أَقَامَ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا الْبُرْهَانَ الْقَاطِعَ، عَلَى صِحَّةِ مَعْنَى لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، نَفْيًا وَإِثْبَاتًا، بِخَلْقِهِ لِلسَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَمَا بَيْنَهُمَا فِي قَوْلِهِ {الَّذِىْ خَلَقَكُمْ(1/227)
وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَآءَ بِنَآءً} .
وَبِذَلِكَ تَعْلَمُ أَنَّهُ مَا خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا خَلْقًا مُتَلَبِّسًا بِأَعْظَمِ الْحَقِّ، الَّذِي هُوَ إِقَامَةُ الْبُرْهَانِ الْقَاطِعِ، عَلَى تَوْحِيدِهِ جَلَّ وَعَلَا، وَمِنْ كَثْرَةِ الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ، الدَّالَّةِ عَلَى إِقَامَةِ هَذَا الْبُرْهَانِ، الْقَاطِعِ الْمَذْكُورِ، عَلَى تَوْحِيدِهِ جَلَّ وَعَلَا، عُلِمَ مِنِ اسْتِقْرَاءِ الْقُرْآنِ، أَنَّ الْعَلَامَةَ الْفَارِقَةَ مَنْ يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ، وَبَيْنَ مَنْ لَا يَسْتَحِقُّهَا، هِيَ كَوْنُهُ خَالِقًا لِغَيْرِهِ، فَمَنْ كَانَ خَالِقًا لِغَيْرِهِ، فَهُوَ الْمَعْبُودُ بِحَقٍّ، وَمَنْ كَانَ لَا يَقْدِرُ عَلَى خَلْقِ شَيْءٍ، فَهُوَ مَخْلُوقٌ مُحْتَاجٌ، لَا يَصِحُّ أَنْ يُعْبَدَ بِحَالٍ.
فَالْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى ذَلِكَ كَثِيرَةٌ جِدًّا كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي الْبَقَرَة الْمَذْكُورَة آنِفا: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِىْ خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ} .
فَقَوْلُهُ: {الَّذِىْ خَلَقَكُمْ} يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَعْبُودَ هُوَ الْخَالِقُ وَحْدَهُ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَمْ جَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَىْءٍ} . يَعْنِي وَخَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ هُوَ الْمَعْبُودُ وَحْدَهُ.
وَقَدْ أَوْضَحَ تَعَالَى هَذَا فِي سُورَةِ النَّحْلِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ فِيهَا الْبَرَاهِينَ الْقَاطِعَةَ، عَلَى تَوْحِيدِهِ جَلَّ وَعَلَا، فِي قَوْلِهِ {خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} إِلَى قَوْلِهِ {وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} أَتْبَعَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ {أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} .
وَذَلِكَ وَاضِحٌ جِدًّا فِي أَنَّ مَنْ يَخْلُقُ غَيْرَهُ هُوَ الْمَعْبُودُ وَأَنَّ مَنْ لَا يَخْلُقُ شَيْئًا لَا يَصِحُّ أَنْ يُعْبَدَ.
وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى بعده قَرِيبًا مِنْهُ {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ} .(1/228)
وَقَالَ تَعَالَى فِي الْأَعْرَافِ {أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ} . وَقَالَ تَعَالَى فِي الْحَج {ياأَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُواْ ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُواْ لَهُ} أَي وَمن لم يَقْدِرُ أَنْ يَخْلُقَ شَيْئًا لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مَعْبُودًا بِحَالٍ وَقَالَ تَعَالَى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الاّعْلَى الَّذِى خَلَقَ فَسَوَّى} .
وَلَمَّا بَيَّنَ تَعَالَى فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْفُرْقَانِ، صِفَاتِ مَنْ يَسْتَحِقُّ أَنْ يُعْبَدَ، وَمَنْ لَا يَسْتَحِقُّ ذَلِكَ.
قَالَ فِي صِفَاتِ مَنْ يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَة: {الَّذِى لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِى المُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَىْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً} .
وَقَالَ فِي صِفَاتِ مَنْ لَا يَصِحُّ أَنْ يُعْبَدَ {وَاتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ آلِهَةً لاَّ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ} .
وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ جِدًّا وَكُلُّ تِلْكَ الْآيَاتِ تَدُلُّ دَلَالَةً وَاضِحَةً عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى مَا خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا خَلْقًا مُتَلَبِّسًا بِالْحَقِّ.
وَقَدْ بَيَّنَ جَلَّ وَعَلَا أَنَّ مِنَ الْحَقِّ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَبَينهمَا، خَلْقًا مُتَلَبِّسًا بِهِ، تَعْلِيمَهُ خَلْقَهُ
أَنَّهُ تَعَالَى عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَأَنَّهُ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {اللَّهُ الَّذِى خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِّتَعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَىْءٍ عِلْمَا} .
فَلَامُ التَّعْلِيلِ فِي قَوْلِهِ: لِتَعْلَمُوا مُتَعَلِّقَةٌ بِقَوْلِهِ {خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ} وَبِهِ تَعْلَمُ أَنَّهُ مَا خَلَقَ السَّمَاوَاتِ السَّبْعَ، وَالْأَرْضِينَ السَّبْعَ، وَجَعَلَ الْأَمْرَ يَتَنَزَّلُ بَيْنَهُنَّ، إِلَّا خَلْقًا مُتَلَبِّسًا بِالْحَقِّ.(1/229)
وَمِنَ الْحَقِّ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا خَلْقًا مُتَلَبِّسًا بِهِ، هُوَ تَكْلِيفُ الْخَلْقِ، وَابْتِلَاؤُهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا، ثُمَّ جَزَاؤُهُمْ عَلَى أَعْمَالِهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي أَوَّلِ سُورَةِ هُودٍ: {وَهُوَ الَّذِى خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَآءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} .
فَلَامُ التَّعْلِيلِ فِي قَوْله: ليَبْلُوكُمْ مُتَعَلقَة بقوله {خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ} وَبِهِ تَعْلَمُ أَنَّهُ مَا خَلَقَهُمَا إِلَّا خَلْقًا مُتَلَبِّسًا بِالْحَقِّ.
وَنَظِيرُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي أَوَّلِ الْكَهْفِ {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُم أَحْسَنُ عَمَلاً} . وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي أَوَّلِ الْمُلْكِ: {الَّذِى خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} .
وَمِمَّا يُوَضِّحُ أَنَّهُ مَا خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ إِلَّا خَلْقًا مُتَلَبِّسًا بِالْحَقِّ، قَوْلُهُ تَعَالَى فِي آخِرِ الذَّارِيَاتِ {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ مَآ أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَآ أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ} .
سَوَاءٌ قُلْنَا: إِنَّ مَعْنَى إِلَّا لِيَعْبُدُونِ أَيْ لِآمُرَهُمْ بِعِبَادَتِي فَيَعْبُدُنِي السُّعَدَاءُ مِنْهُمْ، لِأَنَّ عِبَادَتَهُمْ يَحْصُلُ بِهَا تَعْظِيمُ اللَّهِ وَطَاعَتُهُ، وَالْخُضُوعُ لَهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ} . وَقَالَ تَعَالَى: {فَإِنِ اسْتَكْبَرُواْ فَالَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لاَ يَسْأمُونَ} .
أَوْ قُلْنَا: إِنَّ مَعْنَى إِلَّا لِيَعْبُدُونِ أَيْ إِلَّا لِيُقِرُّوا لِي بِالْعُبُودِيَّةِ، وَيَخْضَعُوا وَيُذْعِنُوا لِعَظَمَتِي، لِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ طَوْعًا، وَالْكُفَّارُ يذعنون لقهره وسلطانه تَعَالَى كرها ... ] (1) .
_________
(1) - 7/365: 369، الْأَحْقَاف /3، وَانْظُر أَيْضا (7/372 - 373) (الْأَحْقَاف/4) .(1/230)
- أصُول النعم وشكر الْمُنعم.
[نِعَمَ اللَّهِ عَدِيدَةٌ، كَمَا قَالَ: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَآ} .
وَبِهَذَا تَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ مَا قَالَهُ الْمُفَسِّرُونَ، فَهُوَ مِنْ قَبِيلِ التَّمْثِيلِ لَا الْحَصْرِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لاَ تُحْصُوهَآ} .
وَأُصُولُ هَذِهِ النِّعَمُ أَوُّلُهَا الْإِسْلَامُ {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلاَمَ دِيناً} .
وَيَدْخُلُ فِيهَا نِعَمُ التَّشْرِيعِ وَالتَّخْفِيفِ، عَمَّا كَانَ عَلَى الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ.
كَمَا يَدْخُلُ فِيهَا نِعْمَةُ الْإِخَاءِ فِي اللَّهِ {وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُم أَعْدَآءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً} ، وَغَيْرُ ذَلِكَ كثيرا.
وَثَانِيهَا: الصِّحَّةُ، وَكَمَالُ الْخِلْقَةِ وَالْعَافِيَةِ، فَمِنْ كَمَالِ الْخِلْقَةِ الْحَوَاسُّ {أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ وَلِسَاناً
وَشَفَتَيْنِ} . ثُمَّ قَالَ: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} .
وَثَالِثُهَا: الْمَالُ فِي كَسْبِهِ وَإِنْفَاقِهِ سَوَاءٌ، فَفِي كَسْبِهِ مِنْ حِلِّهِ نِعْمَةٌ، وَفِي إِنْفَاقِهِ فِي أَوْجُهِهِ نِعْمَةٌ.
هَذِهِ أُصُولُ النِّعَمِ، فَمَاذَا يُسْأَلُ عَنْهُ، مِنْهَا جَاءَتِ السُّنَّةُ بِأَنَّهُ سَيُسْأَلُ عَنْ كُلِّ ذَلِكَ جُمْلَةً وَتَفْصِيلًا.
أَمَّا عَنِ الدِّينِ وَالْمَالِ وَالصِّحَّةِ، فَفِي مُجْمَلِ الْحَدِيثِ «إِذَا كَانَ يَوْم الْقِيَامَة، لَا تزل قَدَمُ عَبْدٍ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ خَمْسٍ: عَنْ عُمُرِهِ فِيمَ أَبْلَاهُ، وَعَنْ عِلْمِهِ فِيمَ عَمَلٌ بِهِ، وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَ أنفقهُ، وَعَن شبابه فيمَ أفناه» (1) .
_________
(1) - أخرجه التِّرْمِذِيّ (4/612) (2416) من حَدِيث ابْن مَسْعُود رَضِي اله عَنهُ، وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيث غَرِيب لَا نعرفه من حَدِيث ابْن مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا من حَدِيث الْحُسَيْن بن قيس وحُسَيْن بن قيس يضعف فِي الحَدِيث من قبل حفظه. وَفِي الْبَاب عَن أبي بَرزَة وأبي سعيد. والْحَدِيث حسنه الشَّيْخ الألباني - رَحمَه الله -.(1/231)
وَلِعِظَمِ هَذِهِ الْآيَةِ وَشُمُولِهِا، فَإِنَّهَا أَصْبَحَتْ مِنْ قَبِيلِ النُّصُوصِ مَضْرِبَ الْمَثَلِ، فَقَدْ فَصَّلَتِ السُّنَّةُ جُزْئِيَّاتِ مَا كَانَتْ تَخْطُرُ بِبَالِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَدْ أَوْرَدَ الْقُرْطُبِيُّ مَا جَاءَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ أَوْ لَيْلَةٍ، فَإِذَا هُوَ بِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، فَقَالَ: «مَا أَخْرَجَكُمَا مِنْ بُيُوتِكُمَا هَذِهِ السَّاعَةَ؟» قَالَا: الْجُوعُ يَا رَسُولَ اللَّهِ! قَالَ: «وَأَنَا، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهَا لَأَخْرَجَنِي الَّذِي أَخْرَجَكُمَا، قُومُوا» فَقَامُوا مَعَهُ، فَأَتَى رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ، فَإِذَا هُوَ لَيْسَ فِي بَيْتِهِ، فَلَمَّا رَأَتْهُ الْمَرْأَةُ قَالَتْ: مَرْحَبًا! وَأَهْلًا! فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَيْنَ فُلَانٌ؟» قَالَتْ: ذَهَبَ يَسْتَعْذِبُ لَنَا مِنَ الْمَاءِ أَيْ يَطْلُبُ مَاءً عَذْبًا. إِذْ جَاءَ الأَنصاريُّ، فَنَظَرَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَاحِبَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، مَا أحدٌ الْيَوْمَ أَكْرَمُ أَضْيَافًا مِنِّي. قَالَ: فَانْطَلَقَ فَجَاءَهُمْ بِعذْق فِيهِ بُسْرٌ وتمرٌ ورُطبٌ، فَقَالَ: كُلُّوا مِنْ هَذِهِ، وَأَخَذَ الْمُدْيَةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِيَّاكَ والحَلوب، فَذَبَحَ لَهُمْ. فَأَكَلُوا مِنَ الشَّاةِ، وَمِنْ ذَلِكَ العِذق، وَشَرِبُوا، فَلَمَّا أَنْ شَبِعُوا وَرووا، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي بَكْرٍ وَعمر: «وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهَا لتُسأَلن عَنْ هَذَا النَّعِيمِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمُ الْجُوعُ، ثُمَّ لَمْ تَرْجِعُوا حَتَّى أَصَابَكُمْ هَذَا النَّعِيمُ» وَخَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ فِيهِ: «هَذَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، مِنَ النَّعِيمِ الَّذِي تُسْأَلُونَ عَنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، ظِلٌّ بَارِدٌ وَرَطْبٌ طَيِّبٌ، وَمَاءٌ بَارِدٌ» وَكَنَّى الرَّجُلُ الَّذِي مِنَ الْأَنْصَار، فَقَالَ: أَبُو الْهَيْثَم بن التيهَان. (1)
_________
(1) - أخرجه مُسلم (3/1609) (2083) ، وَالتِّرْمِذِيّ (4/582) (2369) ، وَقَالَ: حسن صَحِيح غَرِيب.(1/232)
قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: قُلْتُ: اسْمُ هَذَا الرَّجُلِ مَالِكُ بْنُ التَّيِّهَانِ، وَيُكَنَّى أَبَا الْهَيْثَمِ. وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ كَثِيرٍ هَذِهِ الْقِصَّةَ مِنْ عِدَّةِ طُرُقٍ.
وَمِنْهَا: عِنْدَ أَحْمَدَ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَخَذَ بِالْفَرَقِ وَضَرَبَ بِهِ الْأَرْضَ، وَقَالَ: «إِنَّا لمسؤولون عَنْ هَذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، إِلَّا مِنْ ثَلَاثَةٍ: خِرْقَةٍ لَفَّ الرَّجُلُ بِهَا عَوْرَتَهُ، أَوْ كِسْرَةٍ سَدَّ بِهَا جَوْعَتَهُ، أَوْ جُحْرٍ يَدْخُلُ فِيهِ مِنَ الْحَرِّ وَالْقَرِّ» (1) .
وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: إِنَّ مَا سَدَّ الْجُوعَ، وَسَتَرَ الْعَوْرَةَ مِنْ خَشِنِ الطَّعَامِ، لَا يُسْأَلُ عَنْهُ الْمَرْءُ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ، وَإِنَّمَا يُسْأَلُ عَنِ النَّعِيمِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ اللَّهَ أَسْكَنَ آدَمَ الْجَنَّةَ فَقَالَ لَهُ: {إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلاَ تَعْرَى وَأَنَّكَ لاَ تَظْمَؤُا فِيهَا وَلاَ تَضْحَى} .
فَكَانَتْ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ الْأَرْبَعَةُ مَا يُسَدُّ بِهِ الْجُوعُ، وَمَا يُدْفَعُ بِهِ الْعَطَشُ، وَمَا يُسْكَنُ فِيهِ مِنَ الْحَرِّ وَيُسْتَرُ بِهِ عَوْرَتُهُ، لِآدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالْإِطْلَاقِ، لَا حِسَابَ عَلَيْهِ فِيهَا لِأَنَّهُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْهَا.
وَذُكِرَ عَنْ أَحْمَدَ أَيْضًا بِسَنَدِهِ «أَنَّهُمْ كَانُوا جُلُوسًا فَطَلَعَ عَلَيْهِمُ النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى رَأْسِهِ أَثَرُ مَاءٍ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، نَرَاكَ طَيِّبَ النَّفْسِ؟ قَالَ: أَجَلْ، قَالَ: خَاضَ النَّاسُ فِي ذِكْرِ الْغِنَى، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا بَأْسَ بِالْغِنَى لِمَنِ اتَّقَى اللَّهَ، وَالصِّحَّةُ لِمَنِ اتَّقَى اللَّه، خَيْرٌ مِنَ الْغِنَى، وَطِيبُ النَّفْسِ مِنَ النِّعَمِ» (2) .
قَالَ: وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَن أبي هُرَيْرَة (3) .
_________
(1) - أخرجه أَحْمد (5/81) ، وَحسنه الشَّيْخ الألباني - رَحمَه الله - فِي صَحِيح التَّرْغِيب.
(2) - أخرجه أَحْمد (5/372) ، وَابْن مَاجَه (2/724) (2141) من حَدِيث معَاذ بن عبد الله بن خبيب عَن أَبِيه عَن عَمه مَرْفُوعا بِهِ، وَحسن إِسْنَاده الأرناؤوط، وَصَححهُ الشَّيْخ الألباني - رَحمَه الله -.
(3) - لم أَقف عَلَيْهِ عِنْد ابْنِ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.(1/233)
وَبِهَذَا، فَقَدْ ثَبَتَ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، أَنَّ النَّعِيمَ الَّذِي هُوَ مَحَلُّ السُّؤَالِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَامٌّ فِي كُلِّ مَا يَتَنَعَّمُ بِهِ الْإِنْسَانُ فِي الدُّنْيَا، حِسًّا كَانَ أَوْ مَعْنًى.
حَتَّى قَالُوا: النَّوْمُ مَعَ الْعَافِيَةِ، وَقَالُوا: إِنَّ السُّؤَالَ عَامٌّ لِلْكَافِرِ وَالْمُسْلِمِ، فَهُوَ لِلْكَافِرِ تَوْبِيخٌ وَتَقْرِيعٌ وَحِسَابٌ، وَلِلْمُؤْمِنِ تَقْرِيرٌ بِحَسَبِ شُكْرِ النِّعْمَةِ وَجُحُودِهَا وَكَيْفِيَّةِ تَصْرِيفِهَا. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
وَكُلُّ ذَلِكَ يُرَادُ مِنْهُ الْحَثُّ عَلَى شُكْرِ النِّعْمَةِ، وَالْإِقْرَارِ لِلْمُنْعِمِ وَالْقِيَامِ بِحَقِّهِ سُبْحَانَهُ فِيهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْ نَبِيِّ اللَّه: {رَبِّ أَوْزِعْنِى أَنْ أَشكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِى أَنْعَمْتَ عَلَىَّ وَعَلَى وَالِدَىَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِى فِى ذُرِّيَّتِى إِنَّى تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّى مِنَ الْمُسْلِمِينَ} .
اللَّهم أَوْزِعْنَا شُكْرَ نِعْمَتِكَ، وَاجْعَلْ مَا أَنْعَمْتَ بِهِ عَلَيْنَا عَوْنًا لَنَا عَلَى طَاعَتِكَ.] (1) .
- الله - عز وَجل - لَا تَنْفَعهُ طَاعَتك، وَلَا تضره معصيتك.
[اللَّه تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَأْمُرُ الْخَلْقَ وَيَنْهَاهُمْ؛ لَا لِأَنَّهُ تَضُرُّهُ مَعْصِيَتُهُمْ وَلَا تَنْفَعُهُ طَاعَتُهُمْ، بَلْ نَفْعُ طَاعَتِهِمْ لَهُمْ وَضَرَرُ مَعْصِيَتِهِمْ عَلَيْهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} ، وَقَالَ: {مَّنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا} ، وَقَالَ: {ياأَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِىُّ الْحَمِيدُ} .
وَثَبَتَ فِي «صَحِيحِ مُسْلِمٍ» عَنْ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِيمَا يَرْوِيهِ عَنْ رَبِّهِ أَنَّهُ قَالَ: «يَا عِبَادِي، لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا، يَا عِبَادِي، لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ مِنْكُمْ مَا نَقَصَ ذَلِك
من ملكي
_________
(1) - 9/482: 487، التكاثر/8.(1/234)
شَيْئا» الحَدِيث (1) .] (2) .
- الْإِقْرَار بالربوبية يسْتَلْزم الِاعْتِرَاف بِعِبَادَتِهِ وَحده:
[وَإِقْرَارُهُمْ بِرُبُوبِيَّتِهِ تَعَالَى يُلْزِمُهُ الِاعْتِرَافَ بِعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ، وَالْعلم بذلك.] (3) .
_________
(1) - أخرجه مُسلم (4/1994) (2577) مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
(2) - 1/247، آل عمرَان /97.
(3) - 6/620 - 621، سبأ/24.(1/235)
فصل: معنى " لَا إِلَه إِلَّا الله "
[قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِى كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ وَاجْتَنِبُواْ الْطَّاغُوتَ} . ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنه بَعَثَ فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا بِعِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ، وَاجْتِنَابِ عِبَادَةِ مَا سِوَاهُ.
وَهَذَا هُوَ مَعْنَى «لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ» ، لِأَنَّهَا مُرَكَّبَةٌ مِنْ نَفْيٍ وَإِثْبَاتٍ، فَنَفْيُهَا هُوَ خَلْعُ جَمِيعِ المعبودات غير الله تَعَالَى فِي جَمِيع أَنْوَاع الْعِبَادَاتِ، وَإِثْبَاتُهَا هُوَ إِفْرَادُهُ جَلَّ وَعَلَا بِجَمِيعِ أَنْوَاعِ الْعِبَادَاتِ بِإِخْلَاصٍ، عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي شَرَعَهُ عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ.
وَأَوْضَحَ هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرًا فِي الْقُرْآنِ عَنْ طَرِيقِ الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ. فَمِنَ النُّصُوصِ الدَّالَّةِ عَلَيْهِ مَعَ عُمُومِهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِى إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلاَّ أَنَاْ فَاعْبُدُونِ} ، وَقَوْلُهُ: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} ، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَمِنَ النُّصُوصِ الدَّالَّةِ عَلَيْهِ مَعَ الْخُصُوصِ فِي إِفْرَادِ الْأَنْبِيَاءِ وَأُمَمِهِمْ قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} ، وَقَوْلُهُ: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ كُلَّ مَا عُبِدَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، فَهُوَ طَاغُوتٌ. وَلَا تَنْفَعُ عِبَادَةُ اللَّهِ إِلَّا بِشَرْطِ اجْتِنَابِ عِبَادَةِ مَا سِوَاهُ. كَمَا بَيَّنَهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: {فَمَنْ يَكْفُرْ(1/236)
بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} ، وَقَوْلِهِ: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ} ، إِلَى غير ذَلِك من الْآيَات.] (1) .
وَقَالَ أَيْضا: [قَوْله: {قُلْ إِنَّمَآ يُوحَى إِلَىَّ أَنَّمَآ الهكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنتُمْ مُّسْلِمُونَ} فَقَدْ أمَر فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنْ يَقُولَ: إِنَّمَا أُوحِيَ إِلَيْهِ مَحْصُورٌ فِي هَذَا النَّوْعِ مِنَ التَّوْحِيدِ. لِشُمُولِ كَلِمَةِ «لَا إِلَهَ إلاَّ اللَّهُ» لِجَمِيعِ مَا جَاءَ فِي الكُتب. لِأَنَّهَا تَقْتَضِي طَاعَةَ اللَّهِ بِعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ. فَيَشْمَلُ ذَلِكَ جَمِيعَ الْعَقَائِدِ وَالْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي، وَمَا
يتْبع ذَلِكَ مِنْ ثَوَابٍ وَعِقَابٍ، وَالْآيَاتُ فِي هَذَا النَّوْعِ مِنَ التَّوْحِيدِ كَثِيرَة.] (2) .
- الْأَمر باجتناب عبَادَة غير الله - تَعَالَى -، وَمعنى الطاغوت.
[قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَاجْتَنِبُواْ الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ} . «مِنْ» فِي هَذِهِ الْآيَةِ بَيَانِيَّةٌ. وَالْمَعْنَى: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ الَّذِي هُوَ الْأَوْثَانُ: أَيْ عِبَادَتَهَا، وَالرِّجْسُ: الْقَذَرُ الَّذِي تَعَافُهُ النُّفُوسُ.
وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ الْأَمْرُ بِاجْتِنَابِ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ، وَيَدْخُلُ فِي حُكْمِهَا، وَمَعْنَاهَا عِبَادَةُ كُلِّ مَعْبُودٍ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَائِنًا مَنْ كَانَ.
وَهَذَا الْأَمْرُ بِاجْتِنَابِ عِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ الْمَذْكُورِ هُنَا، جَاءَ مُبَيَّنًا فِي آيَات كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِى كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ وَاجْتَنِبُواْ الْطَّاغُوتَ} وبيَّن تَعَالَى أَنَّ ذَلِكَ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ إِيمَانِهِ بِاللَّهِ فِي قَوْله:
_________
(1) - 3/244 - 245، النَّحْل/36، وَانْظُر (1/34 - 35 الْفَاتِحَة / 5) ، (2/429- 430) (يُونُس/31) ، (3/7، 8) (هود/2) ، (7/231) (الزخرف/28: 30) ، (7/336) (الْأَحْقَاف / 3) ، (9/660) (النَّاس/31) .
(2) - 3/374، بني إِسْرَائِيل/9.(1/237)
{فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} وَأَثْنَى اللَّهُ عَلَى مُجْتَنِبِي عِبَادَةِ الطَّاغُوتِ الْمُنِيبِينَ لِلَّهِ، وَبَيَّنَ أَنَّ لَهُمُ الْبُشْرَى، وَهِيَ مَا يَسُرُّهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُواْ الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُواْ إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى} . وَقَدْ سَأَلَ إِبْرَاهِيمُ رَبَّهُ أَنْ يَرْزُقَهُ اجْتِنَابَ عِبَادَةِ الطَّاغُوتِ، فِي قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاجْنُبْنِى وَبَنِىَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ} وَالْأَصْنَامُ، تَدْخُلُ فِي الطَّاغُوتِ دُخُولا أولياً.] (1) .
وَقَالَ أَيْضا: [وَاعْلَمْ أَنَّ كُلَّ مَا عُبِدَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، فَهُوَ طَاغُوتٌ. وَلَا تَنْفَعُ عِبَادَةُ اللَّهِ إِلَّا بِشَرْطِ اجْتِنَابِ عِبَادَةِ مَا سِوَاهُ. كَمَا بَيَّنَهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} ، وَقَوْلِهِ: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ} ، إِلَى غير ذَلِك من الْآيَات.] (2) .
وَقَالَ أَيْضا: [ {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} ، قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: {الطَّاغُوتَ} الشَّيْطَانُ وَيَدُلُّ لِهَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّمَا ذلكمُ الشَّيْطَانُ يُخَوّفُ أَوْلِيَاءهُ} ، أَيْ يُخَوِّفُكُمْ مِنْ أَوْلِيَائِهِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أُوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً} ، وَقَوْلُهُ: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرّيَّتَهُ أَوْلِيَاء مِن دُونِى وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ} ، وَقَوله: {إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء} ، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ كُلَّ مَا عُبِدَ مِنْ دُونِ اللَّه فَهُوَ طَاغُوتٌ وَالْحَظُّ الْأَكْبَرُ مِنْ ذَلِكَ لِلشَّيْطَانِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يبَنِى بَنِى آدَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ الشَّيطَانَ} ،
_________
(1) - 5/688- 689، الْحَج / 30.
(2) - 3/245، النَّحْل/36.(1/238)
وَقَالَ: {إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثاً وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَاناً مَّرِيداً} ، وَقَالَ عَنْ خَلِيله إِبْرَاهِيم: {سَوِيّاً ياأَبَتِ لاَ تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ} ، وَقَالَ: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} . إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَات.] (1) .
- من لَوَازِم النُّطْق بِالشَّهَادَتَيْنِ.
وَقَالَ صَاحب التَّتِمَّة - رَحمَه الله -: [الْوَاقِع أَن الْعَمَل بِهَذِهِ الْآيَة الْكَرِيمَة - أَي قَوْلُهُ تَعَالَى: ... {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} هُوَ مِنْ لَوَازِمِ نُطْقِ الْمُسْلِمِ بِالشَّهَادَتَيْنِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، اعْتِرَافٌ لِلَّهِ تَعَالَى بِالْأُلُوهِيَّةِ وَبِمُسْتَلْزَمَاتِهَا، وَمِنْهَا إِرْسَالُ الرُّسُلِ إِلَى خَلْقِهِ، وَإِنْزَالُ كُتُبِهِ وَقَوْلَهُ: أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، اعْتِرَافٌ بِرِسَالَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ اللَّهِ لِخَلْقِهِ، وَهَذَا يَسْتَلْزِمُ الْأَخْذَ بِكُلِّ مَا جَاءَ بِهِ هَذَا الرَّسُولُ الْكَرِيمُ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَعْبُدَ اللَّهَ إِلَّا بِمَا جَاءَهُ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ، وَلَا يَحِقُّ لَهُ أَنْ يَعْصِيَ اللَّهَ بِمَا نَهَاهُ عَنْهُ رَسُولُ الله، فَهِيَ بِحَق مستلزمة لِلنُّطْقِ بِالشَّهَادَتَيْنِ.
وَيُؤَيِّدُ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِى شَىْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} فَرَبَطَ مَرَدَّ الْخِلَافِ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ بِالْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَالْيَوْم الآخر.] (2) .
- الإتباع عَلامَة الْمحبَّة.
[قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِى يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} صرح تَعَالَى
_________
(1) - 1/199، الْبَقَرَة / 257.
(2) - 8/67 - 68، الْحَشْر/ 7.(1/239)
فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ اتِّبَاعَ نَبِيِّهِ مُوجِبٌ لِمَحَبَّتِهِ جَلَّ وَعَلَا ذَلِكَ الْمُتَّبِعِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ طَاعَةَ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هِيَ عَيْنُ طَاعَتِهِ تَعَالَى، وَصَرَّحَ بِهَذَا الْمَدْلُولِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُواْ} .
تَنْبِيهٌ
يُؤْخَذُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ عَلَامَةَ الْمَحَبَّةِ الصَّادِقَةِ للَّه وَرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هِيَ اتِّبَاعُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَالَّذِي يُخَالِفُهُ وَيَدَّعِي أَنَّهُ يُحِبُّهُ فَهُوَ كَاذِبٌ مُفْتَرٍ؛ إِذْ لَوْ كَانَ مُحِبًّا لَهُ لَأَطَاعَهُ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ عِنْدَ الْعَامَّةِ أَنَّ الْمَحَبَّةَ تستجلب الطَّاعَة، وَمِنْه قَول الشَّاعِر:
لَوْ كَانَ حُبُّكَ صَادِقًا لَأَطَعْتَهُ ... إِنَّ الْمُحِبَّ لِمَنْ يُحِبُّ مُطِيعُ
وَقَوْلُ ابْنِ أَبِي رَبِيعَةَ المَخْزُومِي:
وَمَنْ لَوْ نَهَانِي مِنْ حُبِّهِ ... عَنِ الْمَاءِ عَطْشَانَ لَمْ أَشْرَبِ
وَقَدْ أَجَادَ مَنْ قَالَ:
قَالَتْ: وَقَدْ سَأَلَتْ عَنْ حَالِ عَاشِقِهَا ... باللَّه صِفْهُ وَلَا تَنْقُصْ وَلَا تَزِدِ
فَقُلْتُ: لَوْ كَانَ رَهْنَ الْمَوْتِ مِنْ ظَمَأٍ ... وَقُلْتِ: قِفْ عَن وُرُود المَاء لم يرد] (1) .
_________
(1) - 1/243، آل عمرَان / 31، وَانْظُر أَيْضا 7/621، الحجرات / 2.(1/240)
فصل: فِي الشّرك
[قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّى إِلَهٌ مِّن دُونِهِ فَذلك نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِى الظَّالِمِينَ} . الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ {مِنْهُمْ} عَائِدٌ إِلَى الْمَلَائِكَةِ الْمَذْكُورِينَ فِي قَوْلِهِ: {بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ} وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ مَعَ كَرَامَتِهِمْ عَلَى اللَّهِ لَوِ ادَّعَى أَحَدٌ مِنْهُمْ أَنَّ لَهُ الْحَقَّ فِي صَرْفِ شَيْءٍ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ الْخَاصَّةِ بِهِ إِلَيْهِ فَكَانَ مُشْرِكًا، وَكَانَ جَزَاؤُهُ جَهَنَّمَ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ التَّعْلِيقَ يَصِحُّ فِيمَا لَا يُمْكِنُ وَلَا يَقَعُ فَقَوْلُهُ: {قُلْ إِن كَانَ لِلرحمن وَلَدٌ} ، وَقَوْلِهِ: {لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا} وَالْمُرَادُ بِذَلِكَ تَعْظِيمُ أَمْرِ الشِّرْكِ.
وَهَذَا الْفَرْضُ وَالتَّقْدِيرُ الَّذِي ذَكَرَهُ جَلَّ وَعَلَا هُنَا فِي شَأْنِ الْمَلَائِكَةِ، ذَكَرَهُ أَيْضًا فِي شَأْنِ الرُّسُلِ عَلَى
الْجَمِيعِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ قَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ أُوْحِىَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ
وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} وَلَمَّا ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا مَنْ ذَكَرَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ فِي سُورَةِ «الْأَنْعَامِ» فِي قَوْلِهِ: {وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ} إِلَى آخَرِ مَنْ ذَكَرَ مِنْهُمْ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ {ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِى بِهِ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ
عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} .] (1) .
بَيَان أُمُور من الشّرك
- من الشّرك الاسْتِسْقَاء بالأنواء.
قَالَ الْعَلامَة الشنقيطي - رَحمَه الله - بعد أَن ذكر الْآيَات القرآنية الدَّالَّة
_________
(1) - 4/611، الْأَنْبِيَاء / 29.(1/241)
على قدرته تَعَالَى على إِنْزَال الْمَطَر، وإسكانه الأَرْض، وإذهابه: [وَهَذِهِ الْآيَاتُ الْقُرْآنِيَّةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ يَجْمَعُ الْمَاءَ فِي الْمُزْنِ، ثُمَّ يُخْرِجُهُ مِنْ خِلَالِ السَّحَابِ، وَخِلَالُ الشَّيْءِ ثُقُوبُهُ وَفُرُوجُهُ الَّتِي هِيَ غَيْرُ مَسْدُودَةٍ، وَبَيَّنَ جَلَّ وَعَلَا أَنَّهُ هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُهُ وَيُصَرِّفُهُ بَيْنَ خَلْقِهِ كَيْفَ يَشَاءُ، فَيُكْثِرُ الْمَطَرَ فِي بِلَادِ قَوْمٍ سَنَةً، حَتَّى يَكْثُرَ فِيهَا الْخِصْبُ وَتَتَزَايَدَ فِيهَا النِّعَمُ، لِيَبْتَلِيَ أَهْلَهَا فِي شُكْرِ النِّعْمَةِ، وَهَلْ يَعْتَبِرُونَ بِعِظَمِ الْآيَةِ فِي إِنْزَالِ الْمَاءِ، وَيُقِلُّ الْمَطَرَ عَلَيْهِمْ فِي بَعْضِ السِّنِينَ، فَتَهْلِكُ مَوَاشِيهِمْ مِنَ الْجَدْبِ وَلَا تَنْبُتُ زُرُوعُهُمْ، وَلَا تُثْمِرُ أَشْجَارُهُمْ، لِيَبْتَلِيَهُمْ بِذَلِكَ، هَلْ يَتُوبُونَ إِلَيْهِ، وَيَرْجِعُونَ إِلَى مَا يُرْضِيهِ.
وَبَيَّنَ أَنَّهُ مَعَ الْإِنْعَامِ الْعَامِّ عَلَى الْخَلْقِ بِإِنْزَالِ الْمَطَرِ بِالْقَدْرِ الْمُصْلِحِ وَإِسْكَانِ مَائِهِ فِي الْأَرْضِ لِيَشْرَبُوا مِنْهُ هُمْ، وَأَنْعَامُهُمْ، وَيَنْتَفِعُوا بِهِ أَبَى أَكْثَرُهُمْ إِلَّا الْكُفْرَ بِهِ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَآءِ مَآءً طَهُوراً لِّنُحْيِىَ بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً وَنُسْقِيَهِ مِمَّا خَلَقْنَآ أَنْعَاماً وَأَنَاسِىَّ كَثِيراً وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُواْ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً} .
وَلَا شَكَّ أَنَّ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ أَبَى مِنْهُمْ إِلَّا كُفُورًا الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّ الْمَطَرَ لَمْ يُنَزِّلْهُ مُنَزِّلٌ هُوَ فَاعِلٌ مُخْتَارٌ، وَإِنَّمَا نَزَلَ بِطَبِيعَتِهِ، فَالْمُنَزِّلُ لَهُ عِنْدَهُمْ: هُوَ الطَّبِيعَةُ، وَأَنَّ طَبِيعَةَ الْمَاءِ التَّبَخُّرُ، إِذَا تَكَاثَرَتْ عَلَيْهِ دَرَجَاتُ الْحَرَارَةِ مِنَ الشَّمْسِ أَوْ الِاحْتِكَاكِ بِالرِّيحِ، وَأَنَّ ذَلِكَ الْبُخَارَ يَرْتَفِعُ بِطَبِيعَتِهِ. ثُمَّ يَجْتَمِعُ، ثُمَّ يَتَقَاطَرُ. وَأَنَّ تَقَاطُرَهُ ذَلِكَ أَمْرٌ طَبِيعِيٌّ لَا فَاعِلَ لَهُ، وَأَنَّهُ هُوَ الْمَطَرُ. فَيُنْكِرُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ فِي إِنْزَالِهِ الْمَطَرَ وَيُنْكِرُونَ دَلَالَةَ إِنْزَالِهِ عَلَى قُدْرَةِ مُنَزِّلِهِ، وَوُجُوبِ الْإِيمَانِ بِهِ وَاسْتِحْقَاقِهِ لِلْعِبَادَةِ وَحْدَهُ، فَمِثْلُ هَؤُلَاءِ دَاخِلُونَ فِي قَوْلِهِ {فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً} بَعْدَ قَوْلِهِ: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُواْ} . وَقَدْ صَرَّحَ فِي قَوْلِهِ: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ} أَنَّهُ تَعَالَى، هُوَ مُصَرِّفُ الْمَاءِ، وَمُنَزِّلُهُ حَيْثُ شَاءَ كَيْفَ شَاءَ. وَمِنْ قَبِيلِ هَذَا الْمَعْنَى: مَا ثَبَتَ فِي(1/242)
صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ «صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصُّبْحَ بِالْحُدَيْبِيَةِ فِي أَثَرِ السَّمَاءِ كَانَتْ مِنَ اللَّيْلِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ فَقَالَ: هَلْ تَدْرُونَ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟ قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: قَالَ أَصْبَحَ مِنْ عِبَادِي مُؤْمِنٌ بِي، وَكَافِرٌ بِي: فَأَمَّا مَنْ قَالَ مُطِرْنَا بِفَضْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ، فَذَلِكَ مُؤْمِنٌ بِي كَافِرٌ بِالْكَوْكَبِ، وَأَمَّا مَنْ قَالَ: مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا، فَذَلِكَ كَافِرٌ بِي مُؤْمِنٌ بِالْكَوْكَبِ» هَذَا لَفْظُ مُسْلِمٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي صَحِيحِهِ (1) ، وَلَا شَكَّ أَنَّ مَنْ قَالَ: مُطِرْنَا بِبُخَارِ كَذَا مُسْنِدًا ذَلِكَ لِلطَّبِيعَةِ، أَنَّهُ كَافِرٌ بِاللَّهِ مُؤْمِنٌ بِالطَّبِيعَةِ وَالْبُخَارِ. وَالْعَرَبُ كَانُوا يَزْعُمُونَ أَنَّ بَعْضَ الْمَطَرِ أَصْلُهُ مِنَ الْبَحْرِ، إِلَّا أَنَّهُمْ يُسْنِدُونَ فِعْلَ ذَلِك الْفَاعِل الْمُخْتَارِ جَلَّ وَعَلَا، وَمِنْ أَشْعَارِهِمْ فِي ذَلِكَ قَوْلُ طَرَفَةَ بْنِ الْعَبْدِ:
لَا تَلُمْنِي إِنَّهَا مِنْ نِسْوَةٍ ... رُقَّدِ الصَّيْفِ مَقَالِيتٍ نُزُرْ
كَبَنَاتِ الْبَحْرِ يَمْأَدْنَ إِذَا ... أَنْبَتَ الصَّيْفُ عَسَالِيجَ الْخُضَرْ
فَقَوْلُهُ: بَنَاتُ الْبَحْرِ يَعْنِي: الْمُزْنَ الَّتِي أَصْلُ مَائِهَا مِنَ الْبَحْرِ.
وَقَوْلُ أَبِي ذُؤَيْبٍ الْهُذَلِيِّ:
سَقَى أُمَّ عَمْرٍو كُلَّ آخِرِ لَيْلَةٍ ... حَنَاتِمُ غرماؤهن نجيج
شَرِبْنَ بِمَاءِ الْبَحْرِ ثُمَّ تَرَفَّعَتْ ... مَتَى لُجَجٌ خُضْرٌ لَهُنَّ نَئِيجُ
وَلَا شَكَّ أَنَّ خَالِقَ السَّمَوَات وَالْأَرْضِ جَلَّ وَعَلَا، هُوَ مُنَزِّلُ الْمَطَرِ عَلَى الْقَدْرِ الَّذِي يَشَاءُ كَيْفَ يَشَاءُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا.] (2) .
_________
(1) - صَحِيح مُسلم (1/83) (71) .
(2) - 5/785: 787، الْمُؤْمِنُونَ / 18، وَانْظُر أَيْضا: 6/336، الْفرْقَان / 50.(1/243)
- من الشّرك إدعاء علم الْغَيْب، وتصديق الْكُهَّان بِمَا يَقُولُونَ.
ذكر الْعَلامَة الشنقيطي - رَحمَه الله - آيَات وعبارات اسْتدلَّ بهَا على أَن الرُّسُل وَالْمَلَائِكَة لَا يعلمُونَ الْغَيْب إِلَّا بِإِذن الله - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - ثمَّ قَالَ: [فَقَدْ ظَهَرَ أَنَّ أَعْلَمَ الْمَخْلُوقَاتِ وَهُمُ الرُّسُلُ، وَالْمَلَائِكَةُ لَا يَعْلَمُونَ مِنَ الْغَيْبِ إِلَّا مَا عَلَّمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى، وَهُوَ تَعَالَى يُعَلِّمُ رُسُلَهُ مِنْ غَيْبِهِ مَا شَاءَ، كَمَا أَشَارَ لَهُ بِقَوْلِهِ: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِى مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَآءُ} ، وَقَوْلِهِ: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ} .
تَنْبِيهٌ
لَمَّا جَاءَ الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ بِأَنَّ الْغَيْبَ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ كَانَ جَمِيعُ الطُّرُقِ الَّتِي يُرَادُ بِهَا التَّوَصُّلُ إِلَى شَيْءٍ مِنْ عِلْمِ الْغَيْبِ غَيْرِ الْوَحْيِ مِنَ الضَّلَالِ الْمُبِينِ، وَبَعْضٌ مِنْهَا يَكُونُ كُفْرًا.
وَلِذَا ثَبَتَ عَنِ النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ أَتى عرَّافاً فَسَأَلَهُ عَنْ شيءٍ لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلَاةٌ أَرْبَعِينَ يَوْمًا» (1) ، وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي مَنْعِ الْعِيَافَةِ وَالْكِهَانَةِ وَالْعَرَافَةِ، وَالطَّرْقِ وَالزَّجْرِ، وَالنُّجُومِ وَكُلُّ ذَلِكَ يَدْخُلُ فِي الْكِهَانَةِ، لِأَنَّهَا تَشْمَلُ جَمِيعَ أَنْوَاعِ ادِّعَاءِ الِاطِّلَاعِ عَلَى عِلْمِ الْغَيْبِ.
وَقَدْ سُئِلَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الكهَّان فَقَالَ: «لَيْسُوا بِشَيْءٍ» (2) .
وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ مَا نَصُّهُ: فَمَنْ قَالَ إِنَّهُ يَنْزِلُ الْغَيْثُ غَدًا. وَجَزَمَ بِهِ فَهُوَ كَافِرٌ أَخْبَرَ عَنْهُ بِأَمَارَةٍ ادَّعَاهَا أَمْ لَا، وَكَذَلِكَ مَنْ قَالَ إِنَّهُ
_________
(1) - أخرجه مُسلم (4/1751) (2230) من حَدِيث عَن صَفِيَّة عَنْ بَعْضِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم.
(2) - أخرجه البُخَارِيّ (5/2294) (5859) ، وَمُسلم (4/1750) (2228) من حَدِيث عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا -.(1/244)
يَعْلَمُ مَا فِي الرَّحِمِ فَإِنَّهُ كَافِرٌ، فَإِنْ لَمْ يَجْزِمْ، وَقَالَ: إِنَّ النَّوْءَ يَنْزِلُ بِهِ الْمَاءُ عَادَةً، وَإِنَّهُ سَبَبُ الْمَاءِ عَادَةً، وَإِنَّهُ سَبَبُ الْمَاءِ عَلَى مَا قَدَّرَهُ وَسَبَقَ فِي عِلْمِهِ لَمْ يَكْفُرْ إِلَّا أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لَهُ أَلَّا يَتَكَلَّمَ بِهِ، فَإِنَّ فِيهِ تَشْبِيهًا بِكَلِمَةِ أَهْلِ الْكُفْرِ وَجَهْلًا بِلَطِيفِ حِكْمَتِهِ، لِأَنَّهُ يَنْزِلُ مَتَى شَاءَ مَرَّةً بِنَوْءِ كَذَا، وَمَرَّةً دُونَ النَّوْءِ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: «أَصْبَحَ مِنْ عِبَادِي مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِرٌ بِالْكَوَاكِبِ» (1) عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ فِي الْوَاقِعَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَكَذَلِكَ قَوْلُ الطَّبِيبِ إِذَا كَانَ الثَّدْيُ الْأَيْمَنُ مُسْوَدَّ الْحَلَمَةِ، فَهُوَ ذَكَرٌ، وَإِنْ كَانَ فِي الثَّدْيِ الْأَيْسَرِ فَهُوَ أُنْثَى، وَإِنْ كَانَتِ الْمَرْأَةُ تَجِدُ الْجَنْبَ الْأَيْمَنَ أَثْقَلَ فَالْوَلَدُ أُنْثَى، وَادَّعَى ذَلِكَ عَادَةً لَا وَاجِبًا فِي الْخِلْقَةِ لَمْ يَكْفُرْ، وَلَمْ يَفْسُقْ.
وَأَمَّا مَنِ ادَّعَى الْكَسْبَ فِي مُسْتَقْبَلِ الْعُمْرِ فَهُوَ كَافِرٌ، أَوْ أَخْبَرَ عَنِ الْكَوَائِنِ الْمُجْمَلَةِ، أَوِ الْمُفَصَّلَةِ فِي أَنْ تَكُونَ قَبْلَ أَنْ تَكُونَ فَلَا رِيبَةَ فِي كُفْرِهِ أَيْضًا. فَأَمَّا مَنْ أَخْبَرَ عَنْ كُسُوفِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ، فَقَدْ قَالَ عُلَمَاؤُنَا: يُؤَدَّبُ وَلَا يُسْجَنُ، أَمَّا عَدَمُ كُفْرِهِ فَلِأَنَّ جَمَاعَةً قَالُوا: إِنَّهُ أَمْرٌ يُدْرَكُ بِالْحِسَابِ وَتَقْدِيرِ الْمَنَازِلِ حَسْبَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ قَوْلِهِ: {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ} .
وَأَمَّا أَدَبُهُمْ، فَلِأَنَّهُمْ يُدْخِلُونَ الشَّكَّ عَلَى الْعَامَّةِ، إِذْ لَا يَدْرُونَ الْفَرْقَ بَيْنَ هَذَا وَغَيْرِهِ فَيُشَوِّشُونَ عَقَائِدَهُمْ، وَيَتْرُكُونَ قَوَاعِدَهُمْ فِي الْيَقِينِ، فَأُدِّبُوا حَتَّى يَسْتُرُوا ذَلِكَ إِذَا عَرَفُوهُ وَلَا يُعْلِنُوا بِهِ.
قُلْتُ: وَمِنْ هَذَا الْبَابِ مَا جَاءَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ بَعْضِ أَزْوَاجِ النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ أَتَى عَرَّافًا فَسَأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلَاةٌ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً» (2) ، وَالْعَرَّافُ: هُوَ الْحَازِي وَالْمُنَجِّمُ الَّذِي يَدَّعِي عِلْمَ الْغَيْبِ، وَهِي
_________
(1) - أخرجه مُسلم، وَسبق تَخْرِيجه آنِفا.
(2) - سبق تَخْرِيجه آنِفا.(1/245)
الْعَرَافَةُ وَصَاحِبُهَا عَرَّافٌ، وَهُوَ الَّذِي يَسْتَدِلُّ عَلَى الْأُمُورِ بِأَسْبَابٍ وَمُقَدِّمَاتٍ يدَّعي مَعْرِفَتَهَا. وَقَدْ يَعْتَضِدُ بَعْضُ أَهْلِ هَذَا الْفَنِّ فِي ذَلِكَ بِالزَّجْرِ وَالطَّرْقِ وَالنُّجُومِ، وَأَسْبَابٍ مُعْتَادَةٍ فِي ذَلِكَ، وَهَذَا الْفَنُّ هُوَ الْعِيَافَةُ بِالْيَاءِ، وَكُلُّهَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهَا اسْمُ الْكِهَانَةِ، قَالَهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ.
وَالْكِهَانَةُ: ادِّعَاءُ عِلْمِ الْغَيْبِ.
قَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي (الْكَافِي) : مِنَ الْمَكَاسِبِ الْمُجْتَمَعِ عَلَى تَحْرِيمِهَا الرِّبَا، وَمُهُورُ الْبَغَايَا، وَالسُّحْتُ، وَالرِّشَا، وَأَخَذُ الْأُجْرَةِ عَلَى النِّيَاحَةِ، وَالْغِنَاءِ، وَعَلَى الْكِهَانَةِ، وَادِّعَاءِ الْغَيْبِ، وَأَخْبَارِ السَّمَاءِ، وَعَلَى الزَّمْرِ وَاللَّعِبِ وَالْبَاطِلُ كُلُّهُ. اهـ مِنَ الْقُرْطُبِيِّ بِلَفْظِهِ، وَقَدْ رَأَيْتُ تَعْرِيفَهُ لِلْعَرَّافِ وَالْكَاهِنِ.
وَقَالَ الْبَغَوِيُّ: الْعَرَّافُ الَّذِي يَدَّعِي مَعْرِفَةَ الْأُمُورِ بِمُقَدِّمَاتٍ يَسْتَدِلُّ بِهَا عَلَى الْمَسْرُوقِ، وَمَكَانِ الضَّالَّةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ تَيْمِيَّةَ: الْعَرَّافُ: اسْمٌ لِلْكَاهِنِ وَالْمُنَجِّمِ وَالرَّمَّالِ، وَنَحْوِهِمْ مِمَّنْ يَتَكَلَّمُ فِي مَعْرِفَةِ الْأُمُورِ بِهَذِهِ الطُّرُقِ.
وَالْمُرَادُ بِالطَّرْقِ: قِيلَ الْخَطُّ الَّذِي يَدَّعِي بِهِ الِاطِّلَاعَ عَلَى الْغَيْبِ، وَقِيلَ إِنَّهُ الضَّرْبُ بِالْحَصَى الَّذِي يَفْعَلُهُ النِّسَاءُ، وَالزَّجْرُ هُوَ الْعِيَافَةُ، وَهِيَ التَّشَاؤُمُ وَالتَّيَامُنُ بِالطَّيْرِ، وَادِّعَاءُ مَعْرِفَةِ الْأُمُورِ مِنْ كَيْفِيَّةِ طَيَرَانِهَا وَمَوَاقِعِهَا وَأَسْمَائِهَا وَأَلْوَانِهَا وَجِهَاتِهَا الَّتِي تَطِيرُ إِلَيْهَا.
وَمِنْهُ قَوْلُ عَلْقَمَةَ بن عَبدة التَّمِيمِي:
وَمَنْ تَعَرَّضَ لِلْغِرْبَانِ يَزْجُرُهَا ... عَلَى سَلَامَتِهِ لَا بُدَّ مَشْئُومُ
وَكَانَ أَشَدَّ الْعَرَبِ عِيَافَةً بَنُو لَهب حَتَّى قَالَ فيهم الشَّاعِر:
خَبِيرٌ بَنُو لَهَبٍ فَلَا تَكُ مُلْغِيًا ... مَقَالَةَ لَهَبِي إِذَا الطَّيْرُ مَرَّتِ(1/246)
وَإِلَيْهِ الْإِشَارَة بقول ناظم عَمُود النّسَب:
فِي مَدْلَجِ بْنِ بَكْرٍ الْقِيَافَةُ ... كَمَا لِلَهَبٍ كَانَت العيافة
وَلَقَد صدق من قَالَ:
لَعَمْرُكَ مَا تَدْرِي الضَّوَارِبُ بِالْحَصَى ... وَلَا زَاجِرَاتُ الطير مَا الله صانع ... ] (1) .
- فَائِدَة: الْفرق بَين العرافة وَالْكهَانَة.
قَالَ الْعَلامَة الشنقيطي - رَحمَه الله - نقلا عَن الْعلوِي الشنقيطي فِي نظمه " رشد الغافل ": [وَالْفرق بَين العرافة وللكهانة مَعَ أَنَّهُمَا يَشْتَرِكَانِ فِي دَعْوَى الِاطِّلَاعِ عَلَى الْغَيْبِ: أَنَّ الْعِرَافَةَ مُخْتَصَّةٌ بِالْأُمُورِ الْمَاضِيَةِ، وَالْكِهَانَةَ مُخْتَصَّة بالأمور الْمُسْتَقْبلَة اهـ مِنْهُ.] (2) .
- من الشّرك الْحلف بِغَيْر الله.
[قَوْله: {لَعَمْرُكَ} مَعْنَاهُ أُقْسِمُ بِحَيَاتِكَ. وَاللَّهُ جَلَّ وَعَلَا لَهُ أَنْ يُقْسِمَ بِمَا شَاءَ مِنْ خَلْقِهِ، وَلَمْ يُقْسِمْ فِي الْقُرْآنِ بِحَيَاةِ أَحَدٍ إِلَّا نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي ذَلِكَ مِنَ التَّشْرِيفِ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا لَا يَخْفَى.
وَلَا يَجُوزُ لِمَخْلُوقٍ أَنْ يَحْلِفَ بِغَيْرِ اللَّهِ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاللَّهِ أَوْ ليصمت» (3) .] (4) .
وَقَالَ صَاحب التَّتِمَّة - رَحمَه الله -: [وَمِنْ هُنَا يُعْلَمُ حَقِيقَةُ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم: «من
_________
(1) - 2/174: 178، الْأَنْعَام /59.
(2) - 4/493، طه/69.
(3) - أخرجه البُخَارِيّ (2/951) (2533) ، وَمُسلم (3/1266) (1646) مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -.
(4) - 3/30، هود / 78 - 79.(1/247)
حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ فَقَدْ أَشْرَكَ» (1) أَيْ لِأَنَّ الْحَالِفَ يُقِيمُ الْمَحْلُوفَ بِهِ مَقَامَ الشُّهُودِ الَّذِينَ رَأَوْا أَوْ سَمِعُوا، وَالْمَخْلُوقُ إِذَا كَانَ غَائِبًا لَا يَرَى وَلَا يَسْمَعُ، فَإِذَا حَلَفَ بِهِ كَانَ قَدْ أَعْطَاهُ صِفَاتِ مَنْ يَرَى وَيَسْمَعُ، وَالْحَالُ أَنَّهُ بِخِلَافِ ذَلِكَ، وَمِنْ نَاحِيَةٍ أُخْرَى الْحَالِفُ وَالْمُسْتَحْلِفُ بِاللَّهِ يَعْلَمَانِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَنْتَقِمَ مِنْ صَاحِبِ الْيَمِينِ الْغَمُوسِ، وَغَيْرُ اللَّهِ إِذَا مَا حُلِفَ بِهِ لَا يَقْوَى وَلَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِك. وَالْعلم عِنْد الله تَعَالَى.] (2) .
- فرع: لله - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَن يقسم بِمَا شَاءَ من مخلوقاته.
وَقَالَ صَاحب التَّتِمَّة - رَحمَه الله -: [يُجْمِعُ الْمُفَسِّرُونَ أَنَّ للَّه تَعَالَى أَنْ يُقْسِمَ بِمَا شَاءَ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ، لِأَنَّهَا دَالَّةٌ عَلَى قُدْرَتِهِ، وَلَيْسَ لِلْمَخْلُوقِ أَنْ يَحْلِفَ إِلَّا بِاللَّهِ تَعَالَى.
وَلَكِنْ هَلْ فِي الْمُغَايَرَةِ بِمَا يُقْسِمُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ مَعْنًى مَقْصُودٌ، أَمْ لِمُجَرَّدِ الذِّكْرِ، وَتَعَدُّدِ الْمُقْسَمِ بِهِ؟
وَبَعْدَ التَّأَمُّلِ، ظَهَرَ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ، أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَا يُقْسِمُ بِشَيْءٍ فِي مَوْضِعٍ دُونَ غَيْرِهِ، إِلَّا لِغَرَضٍ يَتَعَلَّقُ بِهَذَا الْمَوْضِعِ، يَكُونُ بَيْنَ الْمُقْسَمِ بِهِ، وَالْمُقْسَمِ عَلَيْهِ مُنَاسِبَةٌ وَارْتِبَاطٌ، وَقَدْ يَظْهَرُ ذَلِكَ جَلِيًّا، وَقَدْ يَكُونُ خَفِيًّا.
وَهَذَا فِعْلًا مَا تَقْتَضِيهِ الْحِكْمَةُ وَالْإِعْجَازُ فِي الْقُرْآنِ، وَإِنْ كُنْتُ لم أَقف على بحث فِيهِ.
_________
(1) - أخرجه أَبُو دَاوُد (2/242) (3251) ، وَالتِّرْمِذِيّ (4/110) (1535) ، وَقَالَ: حسن، وَأحمد (5/69) ، وَغَيرهم من طرق عَن سعد بن عُبَيْدَة عَن ابْن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا - مَرْفُوعا بِهِ، وَأعله الْبَيْهَقِيّ بالانقطاع، وَأجَاب عَن ذَلِك الشَّيْخ الألباني - رَحمَه الله - فِي الإرواء (2561) ، وَصحح الحَدِيث.
(2) - 8/516، المعارج / 33.(1/248)
ولكنَّ مِمَّا يُشِيرُ إِلَى هَذَا الْمَوْضُوعِ، مَا جَاءَ بِالْإِقْسَامِ بِمَكَّةَ مَرَّتَيْنِ، وَفِي حَالَتَيْنِ مُتَغَايِرَتَيْنِ.
الْأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى: {لاَ أُقْسِمُ بِهذا الْبَلَدِ وَأَنتَ حِلٌّ بِهذا الْبَلَدِ وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِى كَبَدٍ} .
وَالْمَوْضِعُ الثَّانِي: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ وَطُورِ سِينِينَ وَهذا الْبَلَدِ الأَمِينِ لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِى أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} .
فَالْمَقْسَمُ بِهِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ: مَكَّةُ الْمُكَرَّمَةُ، وَالْمُقْسَمُ عَلَيْهِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ خَلْقُ الْإِنْسَانِ، وَلَكِنْ فِي الْمَوْضِعِ الْأَوَّلِ كَانَ الْمُقْسَمُ عَلَيْهِ مُكَابَدَةَ الْإِنْسَانِ مِنْ أَوَّلِ وِلَادَتِهِ إِلَى نَشْأَتِهِ، إِلَى كَدِّهِ فِي حَيَاتِهِ، إِلَى نِهَايَتِهِ وَمَمَاتِهِ.
مِنْ ذَلِكَ مُكَابَدَتُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنْذُ وِلَادَتِهِ إِلَى حَيْثُ مَاتَ أَبُوهُ قَبْلَهُ، وَلَحِقَتْ بِهِ أُمُّهُ، وَهُوَ فِي طُفُولَتِهِ، وَبَعْدَ الْوَحْيِ كَابَدَ مَعَ قَوْمِهِ وَلَقِيَ مِنْهُمْ عَنَتًا شَدِيدًا، حَتَّى تَآمَرُوا عَلَى قَتْلِهِ، فَلَكَأَنَّهُ يَقُولُ لَهُ: اصْبِرْ عَلَى ذَلِكَ، فَإِنَّ الْمُكَابَدَةَ لَا بُدَّ مِنْهَا، وَهِيَ مُلَازِمَةٌ لِلْإِنْسَانِ كَمُلَازَمَتِكَ لِهَذَا الْبَلَدِ مُنْذُ وِلَادَتِكَ.
وَفِي ذِكْرِ {وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ} إِشْعَارٌ بِبَدْءِ الْمُكَابَدَةِ، وَبِأَشُدِّهَا مِنْ حَالَةِ الْوِلَادَةِ وَطَبِيعَةِ الطُّفُولَةِ، وَلِذَا ذَكَرَ هُنَا هَذَا الْبَلَدَ بِدُونِ أَيِّ وَصْفٍ.
أَمَّا فِي الْمَوْضِعِ الثَّانِي: فَالْمُقْسَمُ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ هُوَ خَلْقُ الْإِنْسَانِ، إِلَّا أَنَّهُ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ، وَهِيَ أَعْظَمُ نِعْمَةٍ عَلَيْهِ جَاءَ بِالْمُقْسَمِ بِهِ عَرْضًا لِلنِّعَمِ، وَتَعَدُّدِهَا مِنَ التِّينِ وَالزَّيْتُونِ، سَوَاءٌ كَانَ الْمُرَادُ بِهِمَا الْفَاكِهَةُ الْمَذْكُورَةُ أَوْ أَمَاكِنُهَا، وَهُوَ بَيْتُ الْمَقْدِسِ مَعَ طُورِ سِينِينَ.
فَجَاءَ بِمَكَّةَ أَيْضًا وَلَكِنْ بِوَصْفٍ مُنَاسِبٍ فَقَالَ: {وَهذا الْبَلَدِ الأَمِينِ} ، فَكَأَنَّهُ يَقُولُ: إِنَّ مَنْ أَنْعَمَ عَلَى تِلْكَ الْبِقَاعِ بِالْخَيْرِ وَالْبَرَكَةِ وَالْقَدَاسَةِ، أَنْعَمَ عَلَى الْإِنْسَانِ بِنِعْمَةِ حُسْنِ خِلْقَتِهِ وَحُسْنِ تَقْوِيمِهِ وَفَضْلِهِ عَلَى سَائِرِ مَخْلُوقَاتِهِ. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.(1/249)
وَهُنَا يُقْسِمُ بِحَالَاتِ الْكَوَاكِبِ عَلَى أَصَحِّ الْأَقْوَالِ، فِي ظُهُورهَا واختفائها وجريانها، وبالليل إِذَا عَسْعَسَ: أَقْبَلَ وَأَدْبَرَ، أَوْ أَضَاءَ وَأَظْلَمَ، وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ: أَيْ أَظْهَرَ وَأَشْرَقَ، وَهُمَا أَثَرَانِ مِنْ آثَارِ الشَّمْسِ فِي غُرُوبِهَا وَشُرُوقِهَا.
وَالْمَقْسَمُ عَلَيْهِ: هُوَ أَنَّ الْقُرْآنَ قَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ كَأَنَّهُ يَقُولُ: إِنَّ الْقُرْآنَ الْمُقْسَمَ عَلَيْهِ حَالُهُ فِي الثُّبُوتِ
وَالظُّهُورِ، وَحَالُ النَّاسِ مَعَهُ كَحَالِ هَذِهِ الْكَوَاكِبِ الثَّوَابِتِ لَدَيْكُمْ فِي ظُهُورِهَا تَارَةً، وَاخْتِفَائِهَا أُخْرَى. وَكَحَالِ اللَّيْلِ وَالصُّبْحِ فَهُوَ عِنْدَ أُنَاسٍ مَوْضِعُ ثِقَةٍ وَهِدَايَةٍ كَالصُّبْحِ فِي إِسْفَارِهِ، قُلُوبُهُمْ مُتَفَتِّحَةٌ إِلَيْهِ وَعُقُولُهُمْ مُهْتَدِيَةٌ بِهِ، فَهُوَ لَهُمْ رُوحٌ وَنُورٌ، وَعِنْدَ أُنَاسٍ مُظْلِمَةٌ أَمَامَهُ قُلُوبُهُمْ عَمًى عَنْهُ بَصَائِرُهُمْ، وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ، وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى، وَأُنَاسٌ تَارَةً وَتَارَةً كَالنُّجُومِ أَحْيَانًا، وَأَحْيَانًا، تَارَةً يَنْقَدِحُ نُورُهُ فِي قُلُوبِهِمْ، فَتَظْهَرُ مَعَالِمُهُ فَيَسِيرُونَ مَعَهُ، وَتَارَةً يَغِيبُ عَنْهُمْ نُورُهُ فَتَخْنِسُ عَنْهُ عُقُولُهُمْ وَتَكْنُسُ دُونَهُ قُلُوبُهُمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْهُمْ: {كُلَّمَآ أَضَآءَ لَهُم مَّشَوْاْ فِيهِ وَإِذَآ أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ} .
وَلَيْسَ بَعِيدًا أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، تُعْتَبَرُ النُّجُومُ كَالْكُتُبِ السَّابِقَةِ، مَضَى عَلَيْهَا الظُّهُورُ فِي حِينِهَا وَالْخَفَاءُ بَعْدَهَا.
{وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ} : هُوَ ظَلَامُ الْجَاهِلِيَّةِ.
{وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ} : يُقَابِلُهُ ظُهُورُ الْإِسْلَامِ، وَأَنَّهُ سَيَنْتَشِرُ انْتِشَارَ ضَوْءِ النَّهَارِ، وَلَا تَقْوَى قُوَّةٌ قَطُّ عَلَى حَجْبِهِ، وَسَيَعُمُّ الْآفَاقَ كُلَّهَا، مَهْمَا وَقَفُوا دُونَهُ {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} .
وَقَدْ يَكُونُ فِي هَذَا الْإِيرَاد غرابة على بعض النَّاس، ولاسيما وَأَنِّي لَمْ أَقِفْ عَلَى بَحْثٍ مُسْتَقِلٍّ فِيهِ، وَلَا تَوْجِيهٍ يُشِيرُ إِلَيْهِ، وَلَكِنْ مَعَ التَّتَبُّعِ وجدت(1/250)
اطِّرَادَهُ فِي مَوَاضِعَ مُتَعَدِّدَةٍ، وَجَدِيرٌ بِأَنْ يُفْرَدَ بِرِسَالَةٍ.
وَمِمَّا اطَّرَدَ فِيهِ هَذَا التَّوْجِيهُ سُورَةُ الضُّحَى، يَقُول الله تَعَالَى: {وَالضُّحَى وَالَّيْلِ إِذَا سَجَى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} ، فَإِنَّ الْمُقْسَمَ عَلَيْهِ عَدَمُ تَرْكِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا التَّخَلِّي عَنْهُ، فَجَاءَ بِالْمُقْسَمِ بِهِ قِسْمَيِ الزَّمَنِ لَيْلًا وَنَهَارًا، كَأَنَّهُ يَقُولُ لَهُ: مَا قَلَاكَ رَبُّكَ وَلَا تَخَلَّى عَنْكَ، لَا فِي ضُحَى النَّهَارِ حَيْثُ تَنْطَلِقُ لِسَعْيِكَ، وَلَا فِي ظُلْمَةِ اللَّيْلِ حِينَ تَأْوِي إِلَى بَيْتِكَ.
وَمَعْلُومٌ مَا كَانَ مِنْ عَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ حِينَمَا كَانَ يَجْعَلُهُ يَنَامُ مَعَ أَوْلَادِهِ لَيْلًا، حَتَّى إِذَا أَخَذَ الْجَمِيعُ مَضَاجِعَهُمْ يَأْتِي خِفْيَةً فَيُقِيمُهُ مِنْ مَكَانِهِ. وَيَضَعُ أَحَدَ أَوْلَادِهِ مَحَلَّهُ، حَتَّى لَوْ كَانَ أَحَدٌ نَوَاهُ بِسُوءٍ، وَقَدْ رَآهُ فِي مَكَانِهِ الْأَوَّلِ يُصَادِفُ وَلَدَهُ، وَيَسْلَمُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَوْلُهُ: {وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الأُولَى} ، أَيْ مِنْ كُلِّ مَا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ وَسَجَاهُ اللَّيْلُ.
وَمِنْهُ أَيْضًا: وَهُوَ أَشَدُّ ظُهُورًا فِي سُورَةِ الْعَصْرِ قَالَ تَعَالَى: {وَالْعَصْرِ إِنَّ الإِنسَانَ لَفِى خُسْر ٍإِلاَّ الَّذِينَ آمَنُواْ} ، إِلَى آخَرِ السُّورَةِ. فَإِنَّ الْمُقْسَمَ عَلَيْهِ هُوَ حَالَةُ الْإِنْسَانِ، الْغَالِبَةُ عَلَيْهِ مِنْ خُسْرٍ، إلاَّ مَنِ اسْتَثْنَى اللَّهُ تَعَالَى، فَكَانَ الْمُقْسَمُ بِهِ، وَالْعَصْرُ الْمُعَاصِرُ لِلْإِنْسَانِ: طِيلَةَ حَيَاتِهِ وَهُوَ مَحَلُّ عَمَلِهِ، الَّذِي بِهِ يَخْسَرُ وَيَرْبَحُ. وَهُوَ مُعَاصِرٌ لَهُ وَأَصْدَقُ شَاهِدٍ عَلَيْهِ.
وَكُنْتُ قَدْ سَمِعْتُ مِنَ الشَّيْخِ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ يَقُولُ: إِنَّ الْعُمُرَ وَزَمَنَ الْحَيَاةِ حُجَّةٌ عَلَى الْإِنْسَانِ كَالرِّسَالَةِ وَالنِّذَارَةِ سَوَاءٌ، وَذَكَرَ قَوْلَهُ تَعَالَى: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَآءَكُمُ النَّذِيرُ} ، فَجَعَلَ فِي الْآيَةِ التَّعْمِيرَ، وَهُوَ إِشْغَالُ الْعُمُرِ مُوجِبًا لِلتَّذَكُّرِ وَالتَّأَمُّلِ، وَمُهْلَةً لِلْعَمَلِ، كَمَا تُخْبِرُ إِنْسَانًا بِأَمْرٍ ثُمَّ تُمْهِلُهُ إِلَى أَنْ يَفْعَلَ مَا مَرَّ بِهِ، فَهُوَ أَمْكَنُ فِي الْحُجَّةِ عَلَيْهِ.(1/251)
فَكَانَ الْقَسَمُ فِي الْعَصْرِ عَلَى الرِّبْحِ وَالْخُسْرَانِ، أَنْسُبُ مَا يَكُونُ بَيْنَهُمَا، إِذْ جُعِلَتْ حَيَاةُ الْإِنْسَانِ
كَسُوقٍ قَائِمَةٍ وَالسِّلْعَةُ فِيهِ الْعَمَلُ وَالْعَامِلُ هُوَ الْإِنْسَانُ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {هَلْ أَدُلُّكمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} .
وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عِنْدَ مُسْلِمٍ: «سُبْحَانَ اللَّهِ تَمْلَأُ الْمِيزَانَ» ، وَفِيهِ: «كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو، فَبَائِعٌ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُهَا أَوْ مُوبِقُهَا» (1) ، فَإِنْ كَانَ يَشْغَلُ عُمُرَهُ فِي الْخَيْرِ فَقَدْ رَبِحَ، وَأَعْتَقَ نَفْسَهُ وإلاَّ فَقَدْ خَسِرَ وَأَهْلَكَهَا.
وَيُشِيرُ لِذَلِكَ أَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الّجَنَّةَ} .
فَصَحَّ أَنَّ الدُّنْيَا سُوقٌ، وَالسِّلْعَةُ فِيهَا عَمَلُ الْإِنْسَانِ، وَالْمُعَامَلَةُ فِيهِ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى، فَظَهَرَ الرَّبْطُ والمناسبة مَعَ الْمقسم بِهِ، والمقسم عَلَيْهِ.] (2) .
- من الشّرك الرِّيَاء وَإِرَادَة الْإِنْسَان بِعَمَلِهِ الدُّنْيَا.
[قَوْله: {وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدَا} قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ. أَيْ لَا يُرَائِي النَّاسَ فِي عَمَلِهِ؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ بِعِبَادَةِ اللَّهِ لِأَجْلِ رِيَاءِ النَّاسِ مِنْ نَوْعِ الشِّرْكِ، كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الرِّيَاءَ مِنْ أَنْوَاعِ الشِّرْكِ. وَقَدْ جَاءَتْ فِي ذَلِكَ أَحَادِيثُ مَرْفُوعَةٌ. وَقَدْ سَاقَ طَرَفَهَا ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ. وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ قَوْلَهُ: {وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدَا} أَعَمُّ مِنَ الرِّيَاءِ وَغَيْرِهِ، أَي
_________
(1) - صَحِيح مُسلم (1/203) (223) من حَدِيث أبي مَالك الْأَشْعَرِيّ، وَلَفظه: قَالَ: " قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم الطّهُور شطر الْإِيمَان وَالْحَمْد لِلَّهِ تَمْلَأُ الْمِيزَانَ وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تملآن (أَو تملأ) مَا بَين السَّمَاوَات وَالْأَرْض
وَالصَّلَاة نور وَالصَّدَََقَة برهَان وَالصَّبْر ضِيَاء وَالْقُرْآن حجَّة لَك أَو عَلَيْك كل النَّاس يَغْدُو فَبَايع نَفسه فمعتقها أَو موبقها"
(2) - 9/69: 74، التكوير / 15: 19، وَانْظُر (1/372 - 373) (النِّسَاء/127) ، (8/686 - 687) (المرسلات/7) .(1/252)
لَا يَعْبُدُ رَبَّهُ رِيَاءً وَسُمْعَةً، وَلَا يَصْرِفُ شَيْئًا مِنْ حُقُوقِ خَالِقِهِ لِأَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ، لِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ} فِي الْمَوْضِعَيْنِ، وَيَقُولُ: {وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَآءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِى بِهِ الرِّيحُ فِى مَكَانٍ سَحِيقٍ} ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَيُفْهَمُ مِنْ مَفْهُومِ مُخَالَفَةِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ الَّذِي يُشْرِكُ أَحَدًا بِعِبَادَةِ رَبِّهِ، وَلَا يَعْمَلُ صَالِحًا أَنَّهُ لَا يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ، وَالَّذِي لَا يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ لَا خَيْرَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
وَهَذَا الْمَفْهُومُ جَاءَ مُبَيَّنًا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِيمَا مَضَى قَرِيبًا: {أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً ذَلِكَ جَزَآؤُهُمْ جَهَنَّمُ} لِأَنَّ مَنْ كَفَرَ بِلِقَاءِ اللَّهِ لَا يَرْجُو لِقَاءَهُ. وَقَوْلِهِ فِي «الْعَنْكَبُوتِ» {وَالَّذِينَ كَفَرُواْ بآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَآئِهِ أُولَئِكَ يَئِسُواْ مِن رَّحْمَتِى} ، وَقَوْلِهِ فِي «الْأَعْرَافِ» : {وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَلِقَآءِ الآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} وَقَوْلِهِ فِي «الْأَنْعَامِ» : {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَآءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَآءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُواْ ياحَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا} ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي «يُونُسَ» : {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَآءِ اللَّهِ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ} ، وَقَوْلِهِ فِي «الْفُرْقَانِ» : {وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُواْ فِى أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوّاً كَبِيراً} ، وَقَوْلِهِ فِي «الرُّومِ» : {وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَلِقَآءِ الآخِرَةِ فَأولئك فِى الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ}
إِلَى غير ذَلِك من الْآيَات.] (1) .
_________
(1) - 4/216، الْكَهْف/110.(1/253)
وَقَالَ صَاحب التَّتِمَّة - رَحمَه الله -: مُبينًا حكم الرِّيَاء وحدَّه [أَمَّا الرِّيَاءُ: فَقِيلَ هُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الرُّؤْيَةِ، وَالْمُرَادُ بِهِ إِظْهَارُ الْعِبَادَةِ لِقَصْدِ رُؤْيَةِ النَّاسِ لَهَا فَيُحْمَدُ عَلَيْهَا، وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ تَسْمِيَتُهُ الشِّرْكَ الْخَفِيَّ: «إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمُ الشِّرْكُ الْخَفِيُّ، قَالُوا: وَمَا الشِّرْكُ الْخَفِيُّ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: الرِّيَاءُ، فَإِنَّهُ أَخْفَى فِي نُفُوسِكُمْ مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ» (1) .
وَجَاءَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَآءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدَا} .
وَبَيَانُ الشِّرْكِ فِيهِ أَنَّهُ يَعْمَلُ الْعَمَلَ مِمَّا هُوَ أَصْلًا للَّه، كَالصَّلَاةِ أَوِ الصَّدَقَةِ أَوِ الْحَجِّ، وَلَكِنَّهُ يُظْهِرُهُ لِقَصْدِ أَنْ يَحْمَدَهُ النَّاسُ عَلَيْهِ.
فَكَأَنَّ هَذَا الْجُزْءَ مِنْهُ مُشَارَكَةٌ مَعَ اللَّه، حَيْثُ أَصْبَحَ مِنْ عَمَلِهِ جُزْءٌ لِطَلَبِ الثَّنَاءِ مِنَ النَّاسِ عَلَيْهِ.
وَقَدْ جَاءَ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ: يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: «أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ، فَمَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ مَعِي غَيْرِي تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ» (2) .
أَمَّا حُكْمُ الرِّيَاءِ فِي الْعَمَلِ، فَفِي هَذَا النَّصِّ دَلَالَةٌ عَلَى رَدِّ الْعَمَلِ على
_________
(1) - لم أَقف عَلَيْهِ بِهَذَا اللَّفْظ، وَإِنَّمَا أخرج أَحْمد (5/428، 429) من حَدِيث مَحْمُود بن لبيد أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {إِن أخوف مَا أَخَاف عَلَيْكُم الشّرك الْأَصْغَر قَالُوا وَمَا الشّرك الْأَصْغَر يَا رَسُول الله قَالَ الرِّيَاء يَقُول الله ... عز وَجل لَهُم يَوْم الْقِيَامَة إِذا جزى النَّاس بأعمالهم اذْهَبُوا إِلَى الَّذين كُنْتُم تراؤون فِي الدُّنْيَا فانظروا هَل تَجِدُونَ عِنْدهم
جَزَاء} ، وَصَححهُ الشَّيْخ الألباني - رَحمَه الله - فِي الصَّحِيحَة (951) .
وَأما وصف هَذَا الشّرك بِأَنَّهُ أُخْفِي من دَبِيب النَّمْل فقد أخرج أَحْمد (4/403) مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَرْفُوعا: {يَا أَيهَا النَّاس اتَّقوا هَذَا الشّرك فَإِنَّهُ أخْفى من دَبِيب النَّمْل} ، وَصَححهُ الشَّيْخ الألباني - رَحمَه الله - فِي صَحِيح التَّرْغِيب والترهيب.
(2) - صَحِيح مُسلم (4/2289) (2985) .(1/254)
صَاحِبِهِ، وَتَرْكِهِ لَهُ.
فَقِيلَ: إِنَّهُ يَكُونُ لَا لَهُ فِيهِ، وَلَا عَلَيْهِ مِنْهُ.
فَقِيلَ: لَا يَخْلُو مِنْ ذَمٍّ، كَمَا حَذَّرَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْهُ بِقَوْلِهِ: {وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِم بَطَراً وَرِئَآءَ النَّاسِ} .
وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ رَاءَى رَاءَى اللَّهُ بِهِ، وَمَنْ سَمَّعَ سَمَّعَ اللَّهُ بِهِ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ (1) .
وَالتَّسْمِيعُ: هُوَ الْعَمَلُ لِيَسْمَعَ النَّاسُ بِهِ كَمَا فِي حَدِيثِ الْوَلِيمَةِ «فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي وَالثَّالِثِ سُمْعَةٌ. وَمَنْ سَمَّعَ سَمَّعَ بِهِ» (2) .
فَالرِّيَاءُ مَرْجِعُهُ إِلَى الرُّؤْيَةِ، وَالتَّسْمِيعُ مَرْجِعُهُ إِلَى السَّمَاعِ.
وَمَعْلُومٌ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي قُرَيْشٍ يَوْمَ بَدْرٍ (3) ، وَقَدْ أَحْبَطَ اللَّهُ عَمَلَهُمْ، وَرَدَّهُمْ عَلَى أَعْقَابِهِمْ.
وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ (4) ، وَقِيلَ: إِنَّهُ مُحْبِطٌ لِلْأَعْمَالِ لِمُسَمَّى الشِّرْكِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ} .
وَأُجِيبَ: بِأَنَّهُ يُحْبِطُ الْعَمَلَ الَّذِي هُوَ فِيهِ فَقَطْ، فَإِنْ رَاءَى فِي الصَّلَاةِ أَحْبَطَهَا وَلَا يَتَعَدَّى إِلَى الصَّوْمِ، وَإِنْ رَاءَى فِي صَلَاة نَافِلَة لَا يتَعَدَّى إحباطها
_________
(1) - صَحِيح مُسلم (4/2289) (2986) .
(2) - أخرج أَبُو دَاوُد (2/368) (3745) ، وَأحمد (5/28) من حَدِيث رجل من ثَقِيف مَرْفُوعًا: {أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " الْوَلِيمَة أول يَوْم حق وَالثَّانِي مَعْرُوف وَالْيَوْم الثَّالِث سمعة ورياء} ، والْحَدِيث ضعفه الشَّيْخ الألباني - رَحمَه الله - فِي الإرواء (1950) ، وَضعف إِسْنَاده الأرناؤوط فِي هَامِش الْمسند.
(3) - عزاهُ السُّيُوطِيّ فِي " الدّرّ المتثور " لِابْنِ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله عَنْهُمَا.
(4) - كَذَا بِالْأَصْلِ، وَلم أدر وَجهه، وَلَعَلَّ فِي الْعبارَة سقط.(1/255)
إِلَى صَلَاةِ فَرِيضَةٍ، وَهَكَذَا، قَدْ يَبْدَأُ عَمَلًا خَالِصًا للَّه، ثُمَّ يَطْرَأُ عَلَيْهِ شَبَحُ الرِّيَاءِ، فَهَلْ يَسْلَمُ لَهُ عَمَلُهُ أَوْ يُحْبِطُهُ مَا طَرَأَ عَلَيْهِ مِنَ الرِّيَاءِ؟
فَقَالُوا: إِنْ كَانَ خَاطِرًا وَدَفَعَهُ عَنْهُ فَلَا يَضُرُّهُ، وَإِنِ اسْتَرْسَلَ مَعَهُ. فَقَدْ رَجَّحَ أَحْمَدُ وَابْنُ جَرِيرٍ، عَدَمَ بُطْلَانِ الْعَمَلِ نَظَرًا لِسَلَامَةِ الْقَصْدِ ابْتِدَاءً.
وَدَلِيلُهُمْ فِي ذَلِكَ: مَا رَوَى أَبُو دَاوُدَ فِي مَرَاسِيلِهِ عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ بَنِي سَلَمَةَ كُلُّهُمْ يُقَاتِلُ، فَمِنْهُمْ مَنْ يُقَاتِلُ لِلدُّنْيَا، وَمِنْهُمْ مَنْ يُقَاتِلُ نَجْدَةً، وَمِنْهُمْ مَنْ يُقَاتِلُ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى قَالَ: «كُلُّهُمْ إِذَا كَانَ أَصْلُ أَمْرِهِ، أَنْ تَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا» (1) .
وَذُكِرَ عَنِ ابْنِ جَرِيرٍ: أَنَّ هَذَا فِي الْعَمَلِ الَّذِي يَرْتَبِطُ آخِرُهُ بِأَوَّلِهِ، كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ، أَمَّا مَا كَانَ مِثْلَ الْقِرَاءَةِ وَالْعِلْمِ؛ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ تَجْدِيدُ النِّيَّةِ الْخَالِصَةِ للَّه، أَيْ لِأَنَّ كُلَّ جُزْءٍ مِنَ الْقِرَاءَةِ، وَكُلَّ جُزْءٍ مِنْ طَلَبِ الْعِلْمِ مُسْتَقِلٌّ بِنَفْسِهِ، فَلَا يَرْتَبِطُ بِمَا قَبْلَهُ.
وَهُنَاكَ مَسْأَلَةٌ: وَهِيَ أَنَّ الْعَبْدَ يَعْمَلُ الْعَمَلَ للَّه خَالِصًا، ثُمَّ يَطَّلِعُ عَلَيْهِ بَعْضُ النَّاسِ، فَيُحْسِنُونَ الثَّنَاءَ عَلَيْهِ فَيُعْجِبُهُ ذَلِكَ. فَلَا خِلَافَ أَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الرِّيَاءِ فِي شَيْءٍ لِمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنِ الرَّجُلِ يَعْمَلُ مِنَ الْخَيْرِ يَحْمَدُهُ النَّاسُ عَلَيْهِ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «عَاجِلُ بُشْرَى الْمُسْلِمِ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ (2) .
وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: أَنَّ مَنْ كَانَ يَعْمَلُ عَمَلًا خَفِيًّا، ثُمَّ حَضَرَ بَعْضُ النَّاسِ فَتَرَكَهُ مِنْ أَجْلِهِمْ خَشْيَةَ الرِّيَاءِ، أَنَّهُ يَدْخُلُ فِي الرِّيَاءِ، لِأَنَّهُ يَضْعُفُ فِي نَفْسِهِ أَنَّ يُخْلِصَ النِّيَّةَ للَّه، وَفِي هَذَا بُعد ومشقة.] (3) .
_________
(1) - مَرَاسِيل أبي دَاوُد (ص/242) (321) ، وَإِسْنَاده ضَعِيف لإرساله.
(2) - صَحِيح مُسلم (4/2034) (2642) .
(3) - 9/550: 554، الماعون / 6، 7.(1/256)
فَائِدَة: العلاقة بَين الْمرَائِي، وَالْمُنَافِق.
وَقَالَ صَاحب التَّتِمَّة - رَحمَه الله -: [الْمرَائِي فِي صِلَاتِهِ قَدْ يَكُونُ مُنَافِقًا، وَقَدْ يَكُونُ غَيْرَ مُنَافِقٍ.
فَالرِّيَاءُ أَعَمُّ مِنْ جِهَةٍ، وَالنِّفَاقُ أَعَمُّ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى، أَيْ قَدْ يُرَائِي فِي عَمَلٍ مَا، وَيَكُونُ مُؤْمِنًا بِالْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ وَبِكُلِّ أَرْكَانِ الْإِيمَانِ، وَلَا يُرَائِي فِي عَمَلٍ آخَرَ، بَلْ يَكُونُ مُخْلِصًا فِيهِ كُلَّ الْإِخْلَاصِ.
وَالْمُنَافِقُ دَائِمًا ظَاهِرُهُ مُخَالِفٌ لِبَاطِنِهِ فِي كُلِّ شَيْء، لَا فِي الصَّلَاة فَقَط ... ] (1) .
- المُرَاد بتغيير خلق الله الَّذِي هُوَ من الشّرك.
[قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الشَّيْطَانَ يَأْمُرُهُمْ بِالْكُفْرِ وَتَغْيِيِرِ فِطْرَةِ الْإِسْلَامِ الَّتِي خَلَقَهُمُ اللَّه عَلَيْهَا، وَهَذَا الْقَوْلُ يُبَيِّنُهُ وَيَشْهَدُ لَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِى فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} ، إِذِ الْمَعْنَى عَلَى التَّحْقِيقِ لَا تُبَدِّلُوا فِطْرَةَ اللَّه الَّتِي خَلَقَكُمْ عَلَيْهَا بِالْكُفْرِ. فَقَوْلُهُ: {لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} ، خَبَرٌ أُرِيدَ بِهِ الْإِنْشَاءُ إِيذَانًا بِأَنَّهُ لَا يَنْبَغِي إِلَّا أَنْ يَمْتَثِلَ، حَتَّى كَأَنَّهُ خَبَرٌ وَاقِعٌ بِالْفِعْلِ لَا مَحَالَةَ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ} ، أَي: لَا ترفثوا، وَلَا تفسقوا، ويشهدا لِهَذَا مَا ثَبَتَ فِي «الصَّحِيحَيْنِ» مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ، أَوْ يُنَصِّرَانِهِ، أَوْ يُمَجِّسَانِهِ، كَمَا تُولَدُ الْبَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ، هَل تَجِدُونَ فِيهَا من
_________
(1) - 9/546- 547، الماعون / 6، 7.(1/257)
جَدْعَاءَ» (1) ، وَمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي «صَحِيحِهِ» عَنْ عِيَاضِ بْنِ حِمَارِ بْنِ أَبِي حِمَارٍ التَّمِيمِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِيَ حُنَفَاءَ فَجَاءَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ فَاجْتَالَتْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ وَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أَحْلَلْتُ لَهُمْ» (2) .
وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْمُرَادَ فِي الْآيَةِ بِتَغْيِيرِ خَلْقِ اللَّه خِصَاءُ الدَّوَابِّ، وَالْقَوْلِ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْوَشْمُ، فَلَا بَيَانَ فِي الْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ، وَبِكُلٍّ مِنَ الْأَقْوَالِ الْمَذْكُورَةِ قَالَ جمَاعَة من الْعلمَاء ...
وَكَذَلِكَ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِتَغْيِيرِ خَلْقِ اللَّه الْوَشْمُ، فَهُوَ يَدُلُّ أَيْضًا عَلَى أَنَّ الْوَشْمَ حَرَامٌ.
وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: لعن اللَّه الْوَاشِمَات وَالْمُسْتَوْشِمَات والنامصات والمنتمصات وَالْمُتَفَلِّجَاتِ لِلْحُسْنِ الْمُغَيِّرَاتِ خَلْقَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ، ثُمَّ قَالَ: أَلَا أَلْعَنُ مَنْ لَعَنَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي كِتَابِ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ، يَعْنِي قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُواْ} .
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ: الْمُرَادُ بِتَغْيِيرِ خَلْقِ اللَّه فِي هَذِهِ الْآيَةِ هُوَ أَنَّ اللَّه تَعَالَى خَلَقَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالْأَحْجَارَ وَالنَّارَ وَغَيْرَهَا مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ لِلِاعْتِبَارِ وَلِلِانْتِفَاعِ بِهَا، فَغَيَّرَهَا الْكَفَّارُ بِأَنْ جَعَلُوهَا آلِهَةً مَعْبُودَةً.
وَقَالَ الزَّجَّاجُ: إِنَّ اللَّه تَعَالَى خَلَقَ الْأَنْعَامَ لِتُرْكَبَ وَتُؤْكَلَ، فَحَرَّمُوهَا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَجَعَلَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالْحِجَارَةَ مُسَخَّرَةً لِلنَّاسِ، فَجَعَلُوهَا آلِهَةً يَعْبُدُونَهَا، فَقَدْ غَيَّرُوا مَا خلق اللَّه.
_________
(1) - أخرجه البُخَارِيّ (1/456) (1293) ، وَمُسلم (4/2047) (2658) .
(2) - صَحِيح مُسلم (4/2197) (2865) .(1/258)
وَمَا رُوِيَ عَنْ طَاوُسٍ رَحِمَهُ اللَّه مِنْ أَنَّهُ كَانَ لَا يَحْضُرُ نِكَاحَ سَوْدَاءَ بِأَبْيَضَ وَلَا بَيْضَاءَ بِأَسْوَدَ، وَيَقُولُ: هَذَا مِنْ قَوْلِ اللَّه تَعَالَى: {فَلَيُغَيّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} ، فَهُوَ مَرْدُودٌ بِأَنَّ اللَّفْظَ وَإِنْ كَانَ يَحْتَمِلُهُ، فَقَدْ دَلَّتِ السُّنَّةُ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مُرَادٍ بِالْآيَةِ فَمِنْ ذَلِكَ إِنْفَاذُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نِكَاحَ مَوْلَاهُ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ وَكَانَ أَبْيَضَ بِظِئْرِهِ بَرَكَةَ أُمِّ أُسَامَةَ، وَكَانَتْ حبشية سَوَاء، وَمِنْ ذَلِكَ إِنْكَاحُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُسامة بْنَ زَيْدٍ فَاطِمَةَ بِنْتَ قَيْسٍ وَكَانَتْ بَيْضَاءَ قُرَشِيَّةً وَأُسَامَةُ أَسْوَدَ، وَكَانَتْ تَحْتَ بِلَالٍ أُخْتُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ مِنْ بَنِي زُهْرَةَ بْنِ كِلَابٍ، وَقَدْ سَهَا طَاوُسٌ رَحِمَهُ اللَّه مَعَ عِلْمِهِ وَجَلَالَتِهِ عَنْ هَذَا.
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّه عَنْهُ: وَيُشْبِهُ قَوْلُ طَاوُسٍ هَذَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَا قَالَ بَعْضُ عُلَمَاءِ الْمَالِكِيَّةِ مِنْ أَنَّ السَّوْدَاءَ تُزَوَّجُ بِوِلَايَةِ الْمُسْلِمِينَ الْعَامَّةِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ مَالِكًا يُجِيزُ تَزْوِيج الدنية بِولَايَة عَامَّة مُسلم إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلِيٌّ خَاصٌّ مُجْبَرٌ. قَالُوا: وَالسَّوْدَاءُ دَنِيَّةٌ مُطْلَقًا؛ لِأَنَّ السَّوَادَ شَوَهٌ فِي الْخِلْقَةِ وَهَذَا الْقَوْلُ مَرْدُودٌ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَالْحَقُّ أَنَّ السَّوْدَاءَ قَدْ تَكُونُ شَرِيفَةً، وَقَدْ تَكُونُ جَمِيلَةً، وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الأدباء:
وَسَوْدَاءُ الْأَدِيمِ تُرِيكَ وَجْهًا ... تَرَى مَاءَ النَّعِيمِ جَرَى عَلَيْهِ
رَآهَا نَاظِرِي فَرَنَا إِلَيْهَا ... وَشَكْلُ الشىء منجذب إِلَيْهِ
وَقَالَ آخر:
وَلِي حَبَشِيَّةٌ سَلَبَتْ فُؤَادِي ... وَنَفْسِي لَا تَتُوقُ إِلَى سِوَاهَا
كَأَنَّ شُرُوطَهَا طُرُقٌ ثَلَاثٌ ... تَسِيرُ بِهَا النُّفُوسُ إِلَى هَوَاهَا
وَقَالَ آخَرُ فِي سَوْدَاء:
أَشْبَهَكِ الْمِسْكُ وَأَشْبَهْتِهِ ... قَائِمَةً فِي لَوْنِهِ قَاعِدَهْ
لَا شَكَّ إِذْ لَوْنُكُمَا وَاحِدٌ ... أَنَّكُمَا مِنْ طِينَة وَاحِدَة(1/259)
وَأَمْثَاله فِي كَلَام الأدباء كَثِيرَة.] (1) .
- من الشّرك الطَّيرَة، واعتقاد الْعَدْوى.
[قَوْلُهُ: {اطَّيَّرْنَا بِكَ} ، أَيْ: تَشَاءَمْنَا بِكَ، وَكَانَ قَوْمُ صَالِحٍ إِذَا نَزَلَ بِهِمْ قَحْطٌ أَوْ بلَاء أَو مصائب، قَالُوا: مَا حاءنا هَذَا إِلَّا مِنْ شُؤْمِ صَالِحٍ، وَمَنْ آمَنَ بِهِ.
وَالتَّطَيُّرُ: التَّشَاؤُمُ، وَأَصْلُ اشْتِقَاقِهِ مِنَ التَّشَاؤُمِ بزجر الطير.] (2) .
وَقَالَ أَيْضا: [وَالزَّجْرُ: هُوَ الْعِيَافَةُ، وَهِيَ: التَّشَاؤُمُ وَالتَّيَامُنُ بِالطَّيْرِ، وَادِّعَاءُ مَعْرِفَةِ الْأُمُورِ مِنْ كَيْفِيَّةِ طَيَرَانِهَا وَمَوَاقِعِهَا وَأَسْمَائِهَا وَأَلْوَانِهَا وَجِهَاتِهَا الَّتِي تَطِيرُ إِلَيْهَا.
وَمِنْهُ قَول عَلْقَمَة بن عَبدة التَّمِيمِي:
وَمَنْ تَعَرَّضَ لِلْغِرْبَانِ يَزْجُرُهَا ... عَلَى سَلَامَتِهِ لَا بُدَّ مَشْئُومُ
وَكَانَ أَشَدَّ الْعَرَبِ عِيَافَةً بَنُو لَهب حَتَّى قَالَ فيهم الشَّاعِر:
خَبِيرٌ بَنُو لَهَبٍ فَلَا تَكُ مُلْغِيًا ... مَقَالَةَ لَهَبِي إِذَا الطَّيْرُ مَرَّتِ
وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِ ناظم عَمُود النّسَب:
فِي مَدْلَجِ بْنِ بَكْرٍ الْقِيَافَةُ ... كَمَا لِلَهَبٍ كَانَت العيافة
وَلَقَد صدق من قَالَ:
لَعَمْرُكَ مَا تَدْرِي الضَّوَارِبُ بِالْحَصَى ... وَلَا زَاجِرَاتُ الطير مَا الله صانع] (3) .
_________
(1) - 1/366: 369، النِّسَاء/119.
(2) - 6/406 - 407، النَّمْل / 47.
(3) - 2/178، الْأَنْعَام/59.(1/260)
فرع: الرَّد على من يتشاءم بِيَوْم الْأَرْبَعَاء، وَتَقْرِير أَن النحس والشؤم منشأه وَسَببه الْكفْر والمعاصي.
[قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ} ... وَيَزْعُم بعض أهل الْعلم، أَنَّهَا - أَي الْأَيَّام النحسات - مِنْ آخَرِ شَوَّالٍ، وَأَنَّ أَوَّلَهَا يَوْمُ الْأَرْبِعَاءِ وَآخِرَهَا يَوْمُ الْأَرْبِعَاءِ، وَلَا دَلِيلَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ.
وَمَا يَذْكُرُهُ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَنَّ يَوْمَ النَّحْسِ الْمُسْتَمِرِّ، هُوَ يَوْمُ الْأَرْبِعَاءِ الْأَخِيرُ مِنَ الشَّهْرِ، أَوْ يَوْمُ الْأَرْبِعَاءِ مُطْلَقًا، حَتَّى إِنَّ بَعْضَ الْمُنْتَسِبِينَ لِطَلَبِ الْعِلْمِ وَكَثِيرًا مِنَ الْعَوَامِّ صَارُوا يَتَشَاءَمُونَ بِيَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ الْأَخِيرِ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، حَتَّى إِنَّهُمْ لَا يقدمُونَ على السّفر، وَالتَّزْوِيج وَنَحْوِ ذَلِكَ فِيهِ، ظَانِّينَ أَنَّهُ يَوْمُ نَحْسٍ وَشُؤْمٍ، وَأَنَّ نَحْسَهُ مُسْتَمِرٌّ عَلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ فِي جَمِيعِ الزَّمَنِ، لَا أَصْلَ لَهُ وَلَا مُعَوِّلَ عَلَيْهِ، وَلَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهِ، مَنْ عِنْدَهُ عِلْمٌ، لِأَنَّ نَحْسَ ذَلِكَ الْيَوْمِ مُسْتَمِرٌّ عَلَى عَادٍ فَقَطِ الَّذِينَ أَهْلَكَهُمُ اللَّهُ فِيهِ، فَاتَّصَلَ لَهُمْ عَذَابُ الْبَرْزَخِ وَالْآخِرَةِ، بِعَذَابِ الدُّنْيَا، فَصَارَ ذَلِكَ الشُّؤْمُ مُسْتَمِرًّا عَلَيْهِمُ اسْتِمْرَارًا لَا انْقِطَاعَ لَهُ.
أَمَّا غَيْرُ عَادٍ فَلَيْسَ مُؤَاخَذًا بِذَنْبِ عَادٍ، لِأَنَّهُ لَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى.
وَقَدْ أَرَدْنَا هُنَا أَنْ نَذْكُرَ بَعْضَ الرِّوَايَاتِ الَّتِي اغْتَرَّ بِهَا، مَنْ ظَنَّ اسْتِمْرَارَ نَحْسَ ذَلِكَ الْيَوْمِ، لِنُبَيِّنَ أَنَّهَا لَا مُعَوِّلَ عَلَيْهَا.
قَالَ صَاحِبُ الدُّرِّ الْمَنْثُورِ (1) : وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ {فِى يَوْمِ نَحْسٍ مُّسْتَمِرٍّ} «قَالَ: يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ» .
وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ
_________
(1) - (7/677) .(1/261)
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «قَالَ لِي جِبْرِيلُ اقْضِ بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ. وَقَالَ: يَوْمُ الْأَرْبِعَاءِ يَوْمُ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ» (1) .
وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: «نَزَلَ جِبْرِيلُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ والحجامة وَيَوْم الْأَرْبِعَاءِ يَوْمُ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ» (2) .
وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «يَوْمُ نَحْسٍ يَوْمُ الْأَرْبِعَاءِ» (3) .
وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: «سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْأَيَّامِ، وَسُئِلَ عَنْ يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ قَالَ: يَوْمُ نَحْسٍ، قَالُوا كَيْفَ ذَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: أَغْرَقَ فِيهِ اللَّهُ فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ، وَأَهْلَكَ عَادًا
وَثَمُودَ» (4) .
وَأَخْرَجَ وَكِيعٌ فِي الْغَرَرِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْخَطِيبُ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «آخِرُ أَرْبِعَاءَ فِي الشَّهْرِ يَوْمُ نحسمستمر» (5) .
_________
(1) - ضعف إِسْنَاده الْحَافِظ ابْن حجر فِي التَّلْخِيص (4/206) بإبراهيم بن أبي حَيَّة، قَالَ عَنهُ: ضَعِيف جدا.
(2) - أخرجه ابْن عدي فِي الْكَامِل (5/243) من طَرِيق عِيسَى بن عبد الله بن مُحَمَّد عَن أَبِيه عَن أَبِيه عَن جده عَن عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - بِهِ. وَقَالَ ابْن حبَان فِي الْمَجْرُوحين فِي تَرْجَمَة عِيسَى: [عِيسَى بن عبد الله بن مُحَمَّد بن عمر بن عَليّ بن أبي طَالب من أهل الْكُوفَة يروي عَن أَبِيه عَن آبَائِهِ أَشْيَاء مَوْضُوعَة لَا يحل الِاحْتِجَاج بِهِ كَأَنَّهُ كَانَ يهم ويخطيء حَتَّى كَانَ يَجِيء بالأشياء الْمَوْضُوعَة عَن أسلافه فَبَطل الِاحْتِجَاج بِمَا يرويهِ لما وصفت] .
(3) - وَأعله السُّيُوطِيّ فِي اللآلي بإبراهيم بن هراسة، قَالَ عَنهُ: مَتْرُوك.
(4) - وَأعله السُّيُوطِيّ فِي اللآلي بِأبي الأخيل خَالِد بن عَمْرو الْحِمصِي، قَالَ عَنهُ مُتَّهم.
(5) - قَالَ العجلوني فِي كشف الخفاء (1/11) : [رَوَاهُ ابْن مرْدَوَيْه فِي تَفْسِيره عَن ابْن عَبَّاس والخطيب لَكِن بِلَفْظ من الشَّهْر وَقَالَ السُّيُوطِيّ فِي الْجَامِع الْكَبِير رَوَاهُ وَكِيع فِي الْغرَر وَابْن مرْدَوَيْه فِي تَفْسِيره عَن ابْن عَبَّاس وَفِيه مسلمة ابْن الصَّلْت مَتْرُوك وَأوردهُ ابْن الْجَوْزِيّ فِي الموضوعات وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ من وَجه آخر عَن ابْن عَبَّاس مَوْقُوفا انْتهى وَقَالَ ابْن رَجَب لَا يَصح وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ بِسَنَد ضعفه بِلَفْظ يَوْم الْأَرْبَعَاء يَوْمُ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ] .(1/262)
فَهَذِهِ الرِّوَايَاتُ وَأَمْثَالُهَا لَا تَدُلُّ عَلَى شُؤْمِ يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ عَلَى مَنْ لَمْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَلَمْ يَعْصِهِ لِأَنَّ أَغْلَبَهَا ضَعِيفٌ وَمَا صَحَّ مَعْنَاهُ مِنْهَا، فَالْمُرَادُ بِنَحْسِهِ شُؤْمُهُ عَلَى أُولَئِكَ الْكَفَرَةِ الْعُصَاةِ الَّذِينَ أَهْلَكَهُمُ اللَّهُ فِيهِ بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ وَمَعَاصِيهِمْ.
فَالْحَاصِلُ أَنَّ النَّحْسَ وَالشُّؤْمَ إِنَّمَا منشأة وَسَبَبُهُ الْكُفْرُ وَالْمَعَاصِي.
أَمَّا مَنْ كَانَ مُتَّقِيًا لِلَّهِ مُطِيعًا لَهُ، فِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ الْمَذْكُورِ فَلَا نَحْسَ، وَلَا شُؤْمَ فِيهِ عَلَيْهِ. فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَعْرِفَ النَّحْسَ وَالشُّؤْمَ وَالنَّكَدَ، وَالْبَلَاءَ وَالشَّقَاءَ عَلَى الْحَقِيقَةِ، فَلْيَتَحَقَّقْ أَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ وَعَدَمِ امْتِثَالِ أَمْرِهِ، وَالْعِلْمُ عِنْد الله تَعَالَى.] (1) .
- من الشّرك صرف هيئات الْعِبَادَة لغير الله.
[اعْلَمْ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَتَأَمَّلَ فِي مَعْنَى الْعِبَادَةِ، وَهِيَ تَشْمَلُ جَمِيعَ مَا أَمَرَ اللَّهُ أَنْ يُتَقَرَّبَ إِلَيْهِ بِهِ مِنْ جَمِيعِ الْقُرُبَاتِ فَيُخْلِصَ تَقَرُّبَهُ بِذَلِكَ إِلَى اللَّهِ وَلَا يَصْرِفُ شَيْئًا مِنْهُ لِغَيْرِ اللَّهِ كَائِنًا مَا كَانَ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ ذَلِكَ يَشْمَلُ هَيْئَاتِ الْعِبَادَةِ فَلَا يَنْبَغِي للمُسَلِّم عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى على الْيُسْرَى كهيأة الْمُصَلِّي، لِأَن هيأة الصَّلَاةِ دَاخِلَةٌ فِي جُمْلَتِهَا فَيَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ خَالِصَةً لِلَّهِ، كَمَا كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ يُخْلِصُونَ الْعِبَادَاتِ وَهَيْئَاتِهَا لِلَّهِ وَحده.] (2) .
_________
(1) - 7/123: 125، فصلت / 16.
(2) - 7/626، الحجرات / 2، وَانْظُر أَيْضا (8/596) (الْجِنّ/18) .(1/263)
فصل: حماية النَّبِي - صلى الله عَلَيْهِ وَسلم - جناب التَّوْحِيد وسده كل ذرائع الشّرك
وَمن ذَلِك:
- تَحْرِيم إِقَامَة الْمَسَاجِد على الْقُبُور، وَالنَّهْي عَن الصَّلَاة إِلَى الْقُبُور:
[وَأَمَّا الصَّلَاةُ فِي الْمَقْبَرَةِ وَالصَّلَاةُ إِلَى الْقَبْرِ فَكِلَاهُمَا ثَبَتَ عَنِ النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّهْيُ عَنْهُ. أَمَّا الصَّلَاةُ فِي الْمَقَابِرِ فَقَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ صَحِيحَةٌ فِي النَّهْيِ عَنْهَا مِنْهَا مَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: أَنَّ النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ «لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ» يُحَذِّرُ مَا صَنَعُوا، وَلَوْلَا ذَلِكَ أُبْرِزَ قَبْرُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَيْرَ أَنَّهُ خَشِيَ أَنْ يُتَّخَذَ مَسْجِدًا (1) . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضًا نَحْوُهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (2) وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَيْضًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا (3) ، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا «لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى» وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةِ الِاقْتِصَارُ عَلَى الْيَهُودِ. والنَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَلْعَنُ إِلَّا عَلَى فِعْلٍ حَرَامٍ شَدِيدِ الْحُرْمَةِ. وَعَنْ جُنْدُبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سُفْيَانَ الْبَجَلِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ بِخَمْسٍ وَهُوَ يَقُولُ: «إِنِّي أَبْرَأُ إِلَى اللَّهِ أَنْ يَكُونَ لِي مِنْكُمْ خَلِيلٌ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدِ اتَّخَذَنِي خَلِيلًا كَمَا اتَّخَذَ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا، وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا مِنْ أُمَّتِي خَلِيلًا لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا. أَلا وَإِن من
_________
(1) - أخرجه البُخَارِيّ (1/468) (1324) ، وَمُسلم (1/376) (529) .
(2) - أخرجه البُخَارِيّ (1/468) (426) ، وَمُسلم (1/376) (530) .
(3) - أخرجه البُخَارِيّ (3/1273) (3267) ، وَمُسلم (1/377) (53) .(1/264)
كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ وَصَالِحِيهِمْ مَسَاجِدَ. إِلَّا فَلَا تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ إِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ» . أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ بِهَذَا اللَّفْظِ، رَوَاهُ النَّسَائِيُّ أَيْضًا (1) .
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اجْعَلُوا مِنْ صَلَاتِكُمْ فِي بُيُوتِكُمْ وَلَا تَتَّخِذُوهَا قُبُورًا» (2) أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ إِلَّا ابْنَ مَاجَهْ وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ «وَلَا تَتَّخِذُوهَا قُبُورًا» دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْقُبُورَ لَيْسَتْ مَحَلَّ صَلَاةٍ، وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى الْحَدِيثِ صَلُّوا وَلَا تَكُونُوا كَالْأَمْوَاتِ فِي قُبُورِهِمْ فَإِنَّهُمْ لَا يُصَلُّونَ. وَأَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَرْفُوعًا: «إِنَّ مِنْ شَرَارِ النَّاسِ مَنْ تُدْرِكُهُمُ السَّاعَةُ وَهُمْ أَحْيَاءٌ وَالَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْقُبُورَ مَسَاجِدَ» (3) وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ أَيْضًا.
وَالْأَحَادِيثُ فِي هَذَا الْبَابِ كَثِيرَةٌ صَحِيحَةٌ لَا مَطْعَنَ فِيهَا، وَهِيَ تَدُلُّ دَلَالَةً وَاضِحَةً عَلَى تَحْرِيمِ الصَّلَاةِ فِي الْمَقْبَرَةِ. لِأَنَّ كُلَّ مَوْضِعٍ صُلِّيَ فِيهِ يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْمَسْجِدِ؛ لِأَنَّ الْمَسْجِدَ فِي اللُّغَةِ مَكَانُ السُّجُودِ، وَيَدُلُّ لِذَلِكَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ «وَجُعِلَتْ لِيَ الْأَرْضُ مَسْجِدًا» (4) الْحَدِيثَ أَيْ كُلُّ مَكَانٍ مِنْهَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ فِيهِ. وَظَاهِرُ النُّصُوصِ الْمَذْكُورَةِ الْعُمُومُ سَوَاءٌ نُبِشَتِ الْمَقْبَرَةُ وَاخْتَلَطَ تُرَابُهَا بِصَدِيدِ الْأَمْوَاتِ أَوْ لَمْ تُنْبَشْ؛ لِأَنَّ عِلَّةَ النَّهْيِ لَيْسَتْ بِنَجَاسَةِ الْمَقَابِرِ كَمَا يَقُولُهُ الشَّافِعِيَّةُ، بِدَلِيلِ اللَّعْنِ الْوَارِدِ من النَّبي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
_________
(1) - أخرجه مُسلم (1/377) (532) ، وَالنَّسَائِيّ فِي "الْكُبْرَى" (6/328) (11123) .
(2) - أخرجه البُخَارِيّ (1/166) (422) ، وَمُسلم (1/538) (777) ، وَأَبُو دَاوُد (1/340) (1043) ، وَالتِّرْمِذِيّ (2/313) (451) ، وَقَالَ: حسن صَحِيح، وَالنَّسَائِيّ (3/197) (1598) ، وَأحمد (2/6) .
(3) - أخرجه أَحْمد (1/405) ، وَقَالَ الأرناؤوط: إِسْنَاده حسن.
(4) - أخرجه البُخَارِيّ (1/128) (328) ، وَمُسْلِمٌ (1/370) (521) مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.(1/265)
عَلَى مَنِ اتَّخَذَ قُبُورَ الْأَنْبِيَاءِ مَسَاجِدَ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ قُبُورَ الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ لَيْسَتْ نَجِسَةً فَالْعِلَّةُ لِلنَّهْيِ سَدُّ الذَّرِيعَةِ لِأَنَّهُمْ إِذَا عَبَدُوا اللَّهَ عِنْدَ الْقُبُورِ آلَ بِهِمُ الْأَمْرُ إِلَى عِبَادَةِ الْقُبُورِ.
فَالظَّاهِرُ مِنَ النُّصُوصِ الْمَذْكُورَةِ مَنْعُ الصَّلَاةِ عِنْدَ الْمَقَابِرِ مُطْلَقًا وَهُوَ مَذْهَبُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَفِي صِحَّتِهَا عِنْدَهُ رِوَايَتَانِ وَإِنْ تَحَقَّقَتْ طَهَارَتُهَا، وَذَهَبَ مَالِكٌ إِلَى أَنَّ الصَّلَاةَ فِيهَا مَكْرُوهَةٌ، وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهَا إِذَا كَانَتْ نَجِسَةً لِاخْتِلَاطِ أَرْضِهَا بِصَدِيدِ الْأَمْوَاتِ لِأَجْلِ النَّبْشِ فَالصَّلَاةُ فِيهَا بَاطِلَةٌ، وَإِنْ كَانَتْ لَمْ تُنْبَشْ فَالصَّلَاةُ فِيهَا مَكْرُوهَةٌ عِنْدَهُمْ. وَذَكَرَ النَّوَوِيُّ عَنِ ابْنِ الْمُنْذِرِ أَنَّهُ قَالَ: رُوِّينَا عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ وَعَطَاءٍ وَالنَّخَعِيِّ أَنَّهُمْ كَرِهُوا الصَّلَاةَ فِي الْمَقْبَرَةِ. قَالَ: وَلَمْ يَكْرَهْهَا أَبُو هُرَيْرَةَ وَوَاثِلَةُ بْنُ الْأَسْقَعِ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَنَقَلَ صَاحِبُ الْحَاوِي عَنْ دَاوُدَ أَنَّهُ قَالَ: تَصِحُّ الصَّلَاةُ وَإِنْ تَحَقَّقَ نَبْشُهَا. وَذَكَرَ ابْنُ حَزْمٍ النَّهْيَ عَنِ الصَّلَاةِ فِي الْمَقْبَرَةِ عَنْ خَمْسَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ: وَهُمْ عُمَرُ وَعَلِيٌّ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَأَنَسٌ وَابْنُ عَبَّاسٍ. وَقَالَ: مَا نَعْلَمُ لَهُمْ مُخَالِفًا، وَحَكَاهُ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ التَّابِعِينَ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ وَنَافِعِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ وَطَاوُسٍ وَعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ وَخَيْثَمَةَ وَغَيْرِهِمْ. وَقَدْ حَكَى الْخَطَّابِيُّ فِي مَعَالِمِ السُّنَنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ رَخَّصَ فِي الصَّلَاةِ فِي الْمَقْبَرَةِ. وَحُكِيَ أَيْضًا عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ صَلَّى فِي الْمَقْبَرَةِ.
وَعَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ قُلْتُ لِنَافِعٍ: أَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَكْرَهُ أَنْ يُصَلَّى وَسْطَ الْقُبُورِ قَالَ: لَقَدْ صَلَّيْنَا عَلَى عَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَسْطَ الْبَقِيعِ وَالْإِمَامُ يَوْمَ صَلَّيْنَا عَلَى عَائِشَةَ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَحَضَرَ ذَلِكَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ. رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ (1) . وَمِمَّنْ كَرِهَ الصَّلَاةَ فِي الْمَقْبَرَةِ أَبُو
_________
(1) - أخرجه عبد الرَّزَّاق فِي " مُصَنفه " (1/407) (1593) ، (3/525) (6570) ، وَالْبَيْهَقِيّ (2/435) ، وَالطَّبَرَانِيّ (23/29) (72) من طَرِيق ابْن جريج قَالَ أَخْبرنِي نَافِع بِهِ، وَرِجَاله ثِقَات.(1/266)
حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ. وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ بِجَوَازِ الصَّلَاةِ فِي الْمَقْبَرَةِ بِأَنَّ النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى عَلَى الْمِسْكِينَةِ السَّوْدَاءِ بِالْمَقْبَرَةِ. وَسَيَأْتِي قَرِيبًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ حُكْمُ الصَّلَاةِ إِلَى جِهَةِ الْقَبْرِ.
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: أَظْهَرُ الْأَقْوَالِ دَلِيلًا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عِنْدِي قَوْلُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِأَنَّ النُّصُوصَ صَرِيحَةٌ فِي النَّهْيِ عَنِ الصَّلَاةِ فِي الْمَقَابِرِ وَلَعْنِ مَنِ اتَّخَذَ الْمَسَاجِدَ عَلَيْهَا، وَهِيَ ظَاهِرَةٌ جِدًّا فِي التَّحْرِيمِ. أَمَّا الْبُطْلَانُ فَمُحْتَمَلٌ، لِأَنَّ النَّهْيَ يَقْتَضِي الْفَسَادَ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَحْدَثَ مِنْ أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ» (1) وَالصَّلَاةُ فِي الْمَقَابِرِ مَنْهِيٌّ عَنْهَا، فَلَيْسَتْ مِنْ أَمْرِنَا فَهِيَ رَدٌّ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُقَالَ: الصَّلَاةُ مِنْ أَمْرِنَا فَلَيْسَتْ رَدًّا، وَكَوْنُهَا فِي الْمَكَانِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ هُوَ الَّذِي لَيْسَ مِنْ أَمْرِنَا.
كَمَا عُلِمَ الْخِلَافُ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي كُلِّ مَنْهِيٍّ عَنْهُ لَهُ جِهَتَانِ: إِحْدَاهُمَا مَأْمُورٌ بِهِ مِنْهَا كَكَوْنِهِ صَلَاةً، وَالْأُخْرَى مَنْهِيٌّ عَنْهُ مِنْهَا كَكَوْنِهِ فِي مَوْضِعِ نَهْيٍ أَوْ وَقْتِ نَهْيٍ أَوْ أَرْضٍ مَغْصُوبَةٍ أَوْ بِحَرِيرٍ أَوْ ذَهَبٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ: إِنِ انْفَكَّتْ جِهَةُ الْأَمْرِ عَنْ جِهَةِ النَّهْيِ لَمْ يَقْتَضِ النَّهْيُ الْفَسَادَ، وَإِنْ لَمْ تَنْفَكَّ عَنْهَا اقْتَضَاهُ. وَلَكِنَّهُمْ عِنْدَ التَّطْبِيقِ يَخْتَلِفُونَ، فَيَقُولُ أَحَدُهُمْ: الْجِهَةُ هُنَا مُنْفَكَّةٌ. وَيَقُولُ الْآخَرُ: لَيْسَتْ مُنْفَكَّةً كَالْعَكْسِ، فَيَقُولُ الْحَنْبَلِيُّ مَثَلًا الصَّلَاةُ فِي الْأَرْضِ الْمَغْصُوبَةِ لَا يُمْكِنُ أَنْ تَنْفَكَّ فِيهَا جِهَةُ الْأَمْرِ عَنْ جِهَةِ النَّهْيِ. لِكَوْنِ حَرَكَةِ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ كَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَالْقِيَامِ كُلُّهَا يَشْغَلُ الْمُصَلِّي بِهِ حَيِّزًا مِنَ الْفَرَاغِ لَيْسَ مَمْلُوكًا لَهُ، فَنَفْسُ شَغْلِهِ لَهُ بِبَدَنِهِ أَثْنَاءَ الصَّلَاةِ حَرَامٌ، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ قُرْبَةً بِحَالٍ. فَيَقُولُ الْمُعْتَرِضُ كَالْمَالِكِيِّ وَالشَّافِعِيِّ: الْجِهَةُ مُنْفَكَّةٌ هُنَا لِأَنَّ هَذَا الْفِعْل من حَيْثُ كَونه صَلَاة قربَة،
_________
(1) - أخرجه البُخَارِيّ (2/959) (2550) ، وَمُسلم (2/1343) (1718) ، من حَدِيث عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا -.(1/267)
وَمن حَيْثُ كَونه غَضبا حَرَامٌ، فَلَهُ صَلَاتُهُ وَعَلَيْهِ غَصْبُهُ كَالصَّلَاةِ بِالْحَرِيرِ. وَإِلَى هَذَا الْمَسْأَلَةِ وَأَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ فِيهَا أَشَارَ فِي مَرَاقِي السُّعُودِ بِقَوْلِهِ:
دُخُولُ ذِي كَرَاهَةٍ فِيمَا أُمِرَ ... بِهِ بِلَا قَيْدٍ وَفَصْلٍ قَدْ حُظِرْ
فَنَفْيُ صِحَّةٍ وَنَفْيُ الْأَجْرِ ... فِي وَقْتِ كُرْهٍ لِلصَّلَاةِ يَجْرِي
وَإِنْ يَكُ النَّهْيُ عَنِ الْأَمْرِ انْفَصَلْ ... فَالْفِعْلُ بِالصِّحَّةِ لَا الْأَجْرُ اتَّصَلْ
وَذَا إِلَى الْجُمْهُورِ ذُو انْتِسَابِ ... وَقِيلَ بِالْأَجْرِ مَعَ الْعِقَابِ
وَقَدْ رُوِي الْبُطْلَانُ وَالْقَضَاءُ ... وَقِيلَ ذَا فَقَطْ لَهُ انْتِفَاءُ
مِثْلَ الصَّلَاةِ بِالْحَرِيرِ وَالذَّهَبِ ... أَوْ فِي مَكَانِ الْغَصْبِ وَالْوُضُو انْقَلَبْ
وَمَعْطَنٍ وَمَنْهَجٍ وَمَقْبَرَهْ ... كَنِيسَةٍ وَذِي حَمِيمٍ مَجْزَرَهْ
وَأَمَّا الصَّلَاةُ إِلَى الْقُبُورِ فَإِنَّهَا لَا تَجُوزُ أَيْضًا، بِدَلِيلِ مَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ أَبِي مَرْثَدٍ الْغَنَوِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تُصَلُّوا إِلَى الْقُبُورِ وَلَا تَجْلِسُوا عَلَيْهَا» هَذَا لَفْظُ مُسْلِمٍ. وَفِي لَفْظٍ لَهُ أَيْضًا: «لَا تَجْلِسُوا عَلَى الْقُبُورِ وَلَا تُصَلُّوا إِلَيْهَا» (1) وَالْقَاعِدَةُ الْمُقَرَّرَةُ فِي الْأُصُولِ: أَنَّ النَّهْيَ يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ.
فَأَظْهَرُ الْأَقْوَالِ دَلِيلًا مَنْعُ الصَّلَاةِ فِي الْمَقْبَرَةِ وَإِلَى الْقَبْرِ، لِأَنَّ صِيغَةَ النَّهْيِ الْمُتَجَرِّدَةَ مِنَ الْقَرَائِنِ تَقْتَضِي التَّحْرِيمَ. أَمَّا اقْتِضَاءُ النَّهْيِ الْفَسَادَ إِذَا كَانَ لِلْفِعْلِ جِهَةُ أَمْرٍ وَجِهَةُ نَهْيٍ فَفِيهِ الْخِلَافُ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ آنِفًا وَإِنْ كَانَتْ جِهَتُهُ وَاحِدَةً اقْتَضَى الْفَسَادَ. وَقَالَ صَاحِبُ الْمَرَاقِي فِي اقْتِضَاءِ النَّهْيِ الْفَسَادَ:
وَجَاءَ فِي الصَّحِيحِ لِلْفَسَادِ ... إِنْ لَمْ يَجِي الدَّلِيلُ لِلسَّدَادِ
وَقَدْ نَهَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنِ الصَّلَاةِ إِلَى الْقُبُورِ وَقد قَالَ:
_________
(1) - أخرجه مُسلم (2/668) (972) .(1/268)
«وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ» (1) وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُواْ} وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ لَعْنَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنِ اتَّخَذَ الْقُبُورَ مَسَاجِدَ يَدُلُّ دَلَالَةً وَاضِحَةً عَلَى التَّحْرِيمِ.
وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ بِصِحَّةِ الصَّلَاةِ فِي الْمَقَابِرِ وَإِلَى الْقُبُورِ بِأَدِلَّةٍ مِنْهَا:
عُمُومُ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الثَّابِتُ فِي الصَّحِيح: «وَجعلت لِيَ الْأَرْضُ مَسْجِدًا» الْحَدِيثَ (2) . قَالُوا عُمُومُهُ يَشْمَلُ الْمَقَابِرَ، وَيُجَابُ عَنْ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا أَنَّ أَحَادِيثَ النَّهْيِ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الصَّلَاةِ فِي الْمَقْبَرَةِ وَإِلَى الْقَبْرِ خَاصَّةً، وَحَدِيثُ «جُعِلَتْ لِيَ الْأَرْضُ مَسْجِدًا» عَامٌّ، وَالْخَاصُّ يُقْضَى بِهِ عَلَى الْعَامِّ كَمَا تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ.
وَالثَّانِي أَنَّ النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَثْنَى مِنْ عُمُومِ كَوْنِ الْأَرْضِ مَسْجِدًا الْمَقْبَرَةَ وَالْحَمَّامَ، فَقَدْ أَخْرَجَ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَالشَّافِعِيُّ وَابْنُ خُزَيْمَةَ وَابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَاهُ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «وَالْأَرْض كُلُّهَا مَسْجِدٌ إِلَّا الْمَقْبَرَةَ ... وَالْحَمَّامَ» (3) قَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي «فَتْحِ الْبَارِي» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِ الْبُخَارِيِّ بَابُ «كَرَاهِيَةِ الصَّلَاةِ فِي الْمَقَابِرِ» فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ هَذَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد
_________
(1) - أخرجه البُخَارِيّ (6/2658) (6858) ، وَمُسلم (4/1829) (1337) مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
(2) - سبق تَخْرِيجه.
(3) - أخرجه أَبُو دَاوُد (1/186) (492) ، وَالتِّرْمِذِيّ (2/131) (317) ، وَابْن مَاجَه (1/246) (745) ، وَأحمد (3/83) ،
وَالشَّافِعِيّ فِي "مُسْنده" (1/20) (70) ، وَأَبُو يعلى (2/503) (1350) ، وَابْن خُزَيْمَة (2/7) (791) ، وَابْن حبَان (6/92) (2321) ، وَالْحَاكِم (1/380) (919) ، والْحَدِيث صَححهُ الشَّيْخ الألباني - رَحمَه الله - والأرناؤوط.(1/269)
وَالتِّرْمِذِيُّ وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ، لَكِنِ اخْتُلِفَ فِي وَصْلِهِ إرْسَاله، وَحَكَمَ مَعَ ذَلِكَ بِصِحَّتِهِ الْحَاكِمُ وَابْنُ حِبَّانَ. وَقَالَ الشَّوْكَانِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ «فِي نَيْلِ الْأَوْطَارِ» : صَحَّحَهُ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ وَابْنُ حَزْمٍ الظَّاهِرِيُّ، وَأَشَارَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ إِلَى صِحَّتِهِ.
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: التَّحْقِيقُ أَنَّ الْحَدِيثَ إِذَا اخْتُلِفَ فِي وَصْلِهِ وَإِرْسَالِهِ، وَثَبَتَ مَوْصُولًا مِنْ طَرِيقٍ صَحِيحِةٍ حُكِمَ بِوَصْلِهِ، وَلَا يَكُونُ الْإِرْسَالُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى عِلَّةً فِيهِ. لِأَنَّ الْوَصْلَ زِيَادَةٌ وَزِيَادَاتُ الْعَدْلِ مَقْبُولَةٌ. وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِ صَاحِبِ «مَرَاقِي السُّعُودِ» :
وَالرَّفْعُ وَالْوَصْلُ وَزِيدَ اللَّفْظُ ... مَقْبُولَةٌ عِنْدَ إِمَامِ الْحِفْظِ
مِنْ أَدِلَّةِ مَنْ قَالَ: تَصِحُّ الصَّلَاةُ فِي الْقُبُورِ مَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ امْرَأَةً سَوْدَاءَ
كَانَتْ تَقُمُّ الْمَسْجِدَ أَوْ شَابًا فَقَدَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَ عَنْهَا أَوْ عَنْهُ فَقَالُوا مَاتَ قَالَ: «أَفَلَا آذَنْتُمُونِي» قَالَ: فَكَأَنَّهُمْ صغَّروا أَمْرَهَا أَوْ أَمْرَهُ. فَقَالَ: دلُّوني عَلَى قَبْرِهِ فدلُّوه فصلَّى عَلَيْهَا. ثمَّ قَالَ: «هَذِهِ الْقُبُورُ مملوءةٌ ظُلْمَةً عَلَى أَهْلِهَا وإنَّ اللَّهَ يُنَوِّرُهَا لَهُمْ بِصَلَاتِي عَلَيْهِمْ» (1) . وَلَيْسَ لِلْبُخَارِيِّ «إِنَّ هَذِهِ الْقُبُورَ مَمْلُوءَةٌ ظُلْمَةً» إِلَى آخِرِ الْخَبَرِ قَالُوا: فَهَذَا الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الصَّلَاةِ إِلَى الْقَبْرِ.
وَمِنْ أَدِلَّتِهِمْ أَيْضًا مَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: انْتَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى قَبْرٍ رَطْبٍ فَصَلَّى عَلَيْهِ وَصَفُّوا خَلْفَهُ وَكَبَّرَ أَرْبَعًا (2) .
وَمِنْ أَدِلَّتِهِمْ أَيْضًا مَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ أَنَّ النَّبي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
_________
(1) - أخرجه البُخَارِيّ (1/176) (448) ، وَمُسلم (2/659) (956) .
(2) - أخرجه البُخَارِيّ (1/443) (1256) ، وَمُسلم (2/658) (954) .(1/270)
صَلَّى عَلَى قَبْرٍ (1) .
وَمِنْ أَدِلَّتِهِمْ مَا قَدَّمْنَا مِنَ الصَّلَاةِ عَلَى عَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَسْطَ الْبَقِيعِ.
وَهَذِهِ الْأَدِلَّةُ يُسْتَدَلُّ بِهَا عَلَى جَوَازِ الصَّلَاةِ إِلَى الْقُبُورِ وَصِحَّتِهَا. لَا مُطْلَقِ صِحَّتِهَا دُونَ الْجَوَازِ.
وَمِنْ أَدِلَّتِهِمْ مَا ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ تَعْلِيقًا عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِلَفْظِ: «وَرَأَى عُمَرُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُصَلِّي عِنْدَ قَبْرٍ. فَقَالَ: الْقَبْرَ الْقَبْرَ وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِالْإِعَادَةِ» (2) اهـ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي الْفَتْحِ: أُورِدَ أَثَرُ عُمَرَ الدَّالُّ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ فِي ذَلِكَ لَا يَقْتَضِي فَسَادَ الصَّلَاةِ. وَالْأَثَرُ الْمَذْكُورُ عَنْ عُمَرَ رُوِّينَاهُ مَوْصُولًا فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ لِأَبِي نُعَيْمٍ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ. وَلَفْظُهُ: «بَيْنَمَا أَنَسٌ يُصَلِّي إِلَى قَبْرٍ نَادَاهُ عُمَرُ: الْقَبْرَ الْقَبْرَ ! فَظَنَّ أَنَّهُ يَعْنِي الْقَمَرَ. فَلَمَّا رَأَى أَنَّهُ يَعْنِي الْقَبْرَ جَاوَزَ الْقَبْرَ وَصَلَّى» وَلَهُ طُرُقٌ أُخْرَى بَيَّنْتُهَا فِي تَعْلِيقِ التَّعْلِيقِ. مِنْهَا مِنْ طَرِيقِ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ نَحْوَهُ، زَادَ فِيهِ: فَقَالَ بَعْضُ مَنْ يَلِينِي إِنَّمَا يَعْنِي الْقَبْرَ فَتَنَحَّيْتُ عَنْهُ. وَقَوْلُهُ الْقَبْرَ الْقَبْرَ بِالنَّصْبِ فِيهِمَا عَلَى التَّحْذِيرِ. وَقَوْلُهُ وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِالْإِعَادَةِ اسْتَنْبَطَهُ مِنْ تَمَادِي أَنَسٍ عَلَى
الصَّلَاةِ. وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ يَقْتَضِي فَسَادَهَا لَقَطَعَهَا وَاسْتَأْنَفَ اهـ مِنْهُ بِلَفْظِهِ.
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: هَذِهِ الْأَدِلَّةُ يَظْهَرُ لِلنَّاظِرِ أَنَّهَا مُتَعَارِضَةٌ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْجَمْعَ وَاجِبٌ إِذَا أَمْكَنَ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ وَجَبَ التَّرْجِيحُ، وَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يَجِبُ الْجَمْعُ وَالتَّرْجِيحُ مَعًا. أَمَّا وَجْهُ الْجَمْعِ فَإِنَّ جَمِيعَ الْأَدِلَّةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الصَّلَاةِ إِلَى الْقُبُورِ كُلُّهَا فِي الصَّلَاةِ عَلَى الْمَيِّتِ وَلَيْسَ فِيهَا رُكُوعٌ وَلَا سُجُودٌ، وَإِنَّمَا هِيَ دُعَاءٌ لِلْمَيِّتِ فَهِيَ من جنس الدُّعَاء للأموات
_________
(1) - صَحِيح مُسلم (2/659) (966) .
(2) - البُخَارِيّ مُعَلّقا بِصِيغَة الْجَزْم (1/65) .(1/271)
عِنْدَ الْمُرُورِ بِالْقُبُورِ.
وَلَا يُفِيدُ شَيْءٌ مِنْ تِلْكَ الْأَدِلَّة جَوَاز صَلَاة الْفَرِيضَة أَو الناقلة الَّتِي هِيَ صَلَاةٌ ذَاتُ رُكُوعٍ وَسُجُودٍ. وَيُؤَيِّدُهُ تَحْذِيرُ عُمَرَ لِأَنَسٍ مِنَ الصَّلَاةِ عِنْدَ الْقَبْرِ. نَعَمْ تَتَعَارَضُ تِلْكَ الْأَدِلَّةُ مَعَ ظَاهِرِ عُمُومِ «لَا تَجْلِسُوا عَلَى الْقُبُورِ وَلَا تُصَلُّوا إِلَيْهَا» (1) فَإِنَّهُ يَعُمُّ كُلَّ مَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ اسْمُ الصَّلَاةِ، فَيَشْمَلُ الصَّلَاةَ عَلَى الْمَيِّتِ، فَيَتَحَصَّلُ أَنَّ الصَّلَاةَ ذَاتَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ لَمْ يَرِدْ شَيْءٌ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِهَا إِلَى الْقَبْرِ أَوْ عِنْدَهُ بَلِ الْعَكْسُ.
أَمَّا الصَّلَاةُ عَلَى الْمَيِّتِ فَهِيَ الَّتِي تَعَارَضَتْ فِيهَا الْأَدِلَّةُ. وَالْمُقَرَّرُ فِي الْأُصُولِ أَنَّ الدَّلِيلَ الدَّالَّ عَلَى النَّهْيِ مُقَدَّمٌ عَلَى الدَّلِيلِ عَلَى الْجَوَازِ، وَلِلْمُخَالِفِ أَنْ يَقُولَ: لَا يَتَعَارَضُ عَامٌّ وَخَاصٌّ. فَحَدِيثُ «لَا تُصَلُّوا إِلَى الْقُبُورِ» عَامٌّ فِي ذَاتِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَالصَّلَاةِ عَلَى الْمَيِّتِ. وَالْأَحَادِيثُ الثَّابِتَةُ فِي الصَّلَاةِ عَلَى قَبْرِ الْمَيِّتِ خَاصَّةٌ وَالْخَاصُّ يُقْضَى بِهِ عَلَى الْعَامِّ. فَأَظْهَرُ الْأَقْوَالِ بِحَسَبِ الصِّنَاعَةِ الْأُصُولِيَّةِ: مَنْعُ الصَّلَاةِ ذَاتِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ عِنْدَ الْقَبْرِ وَإِلَيْهِ مُطْلَقًا لِلَعْنِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمُتَّخِذِي الْقُبُورِ مَسَاجِدَ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَدِلَّةِ وَأَنَّ الصَّلَاةَ عَلَى قَبْرِ الْمَيِّتِ الَّتِي هِيَ لِلدُّعَاءِ لَهُ الْخَالِيَةَ مِنَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ تَصِحُّ لِفِعْلِهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الثَّابِت فِي الصَّحِيح مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَأَنَسٍ ويومىء لِهَذَا الْجَمْعِ حَدِيثُ لَعْنِ مُتَّخِذِي الْقُبُورِ مَسَاجِدَ لِأَنَّهَا أَمَاكِنُ السُّجُودِ. وَصَلَاةُ الْجِنَازَةِ لَا سُجُودَ فِيهَا. فَمَوْضِعُهَا لَيْسَ بِمَسْجِدٍ لُغَةً لِأَنَّهُ لَيْسَ مَوْضِعَ سُجُودٍ.
تَنْبِيهٌ
اعْلَمْ أَنَّ مَا يَزْعُمُهُ بَعْضُ مَنْ لَا عِلْمَ عِنْدَهُ: مِنْ أَنَّ الْكتاب وَالسّنة دلا على
_________
(1) - سبق تَخْرِيجه آنِفا.(1/272)
اتِّخَاذِ الْقُبُورِ مَسَاجِدَ، يَعْنِي بِالْكِتَابِ قَوْلَهُ تَعَالَى: {قَالَ الَّذِينَ غَلَبُواْ عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَّسْجِدًا} وَيَعْنِي بِالسُّنَّةِ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ أَنْ مَوْضِعَ مَسْجِدِ النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ فِيهِ قُبُورُ الْمُشْرِكِينَ فِي غَايَةِ السُّقُوطِ، وَقَائِلُهُ مِنْ أَجْهَلِ خَلْقِ اللَّهِ.
أَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الِاسْتِدْلَالِ بِالْآيَةِ فَهُوَ أَنْ تَقُولَ: مَنْ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ الَّذِينَ قَالُوا لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَسْجِدا؟ أهم مِمَّن يقْتَدى بهَا أَمْ هُمْ كَفَرَةٌ لَا يَجُوزُ الِاقْتِدَاءُ بِهِمْ؟ وَقَدْ قَالَ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ مَا نَصُّهُ: «وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي قَائِلِ هَذِهِ الْمَقَالَةِ، أَهُمُ الرَّهْطُ الْمُسْلِمُونَ أَمْ هُمُ الْكُفَّارُ؟ فَإِذَا عَلِمْتَ ذَلِكَ فَاعْلَمْ أَنَّهُمْ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُمْ كُفَّارٌ فَلَا إِشْكَالَ فِي أَنَّ فِعْلَهُمْ لَيْسَ بِحُجَّةٍ إِذْ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ بِالِاحْتِجَاجِ بِأَفْعَالِ الْكُفَّارِ كَمَا هُوَ ضَرُورِيٌّ. وَعَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُمْ مُسْلِمُونَ كَمَا يَدُلُّ لَهُ ذِكْرُ الْمَسْجِدِ لِأَنَّ اتِّخَاذَ الْمَسَاجِدِ مِنْ صِفَاتِ الْمُسْلِمِينَ، فَلَا يَخْفَى عَلَى أَدْنَى عَاقِلٍ أَنَّ قَوْلَ قَوْمٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْقُرُونِ الْمَاضِيَةِ إِنَّهُمْ سَيَفْعَلُونَ كَذَا لَا يُعَارِضُ بِهِ النُّصُوصَ الصَّحِيحَةَ الصَّرِيحَةَ عَنِ النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا مَنْ طَمَسَ اللَّهُ بَصِيرَتَهُ فَقَابَلَ قَوْلَهُمْ {لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَّسْجِدًا} بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ قَبْلَ انْتِقَالِهِ إِلَى الرَّفِيقِ الْأَعْلَى بِخَمْسٍ «لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ» (1) الْحَدِيثَ يَظْهَرُ لَكَ أَنَّ مَنِ اتَّبَعَ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ فِي اتِّخَاذِهِمُ الْمَسْجِدَ عَلَى الْقُبُورِ مَلْعُونٌ عَلَى لِسَانِ الصَّادِقِ الْمَصْدُوقِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا هُوَ وَاضِحٌ، وَمَنْ كَانَ مَلْعُونًا عَلَى لِسَانِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ مَلْعُونٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ كَمَا صَحَّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. لِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ: {وَمَآ آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} ، وَلِهَذَا صَرَّحَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِأَنَّ الْوَاصِلَةَ وَالْوَاشِمَةَ وَمَنْ ذُكِرَ مَعَهُمَا فِي الْحَدِيثِ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ مَلْعُونَةٌ فِي كِتَابِ الله. وَقَالَ للْمَرْأَة
_________
(1) - سبق تَخْرِيجه آنِفا.(1/273)
الَّتِي قَالَتْ لَهُ: قَرَأْتُ مَا بَيْنَ الدَّفَّتَيْنِ فَلم أجد إِن كنت قرأته فقد وجدته، ثُمَّ تَلَا الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ، وَحَدِيثُهُ مَشْهُورٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا (1) ، وَبِهِ تُعْلَمُ أَنَّ مَنِ اتَّخَذَ الْمَسَاجِدَ عَلَى الْقُبُورِ مَلْعُونٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ جَلَّ وَعَلَا عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَأَنَّهُ لَا دَلِيلَ فِي آيَةِ: {لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَّسْجِدًا} .
وَأَمَّا الِاسْتِدْلَالُ بِأَنَّ مَسْجِدَ النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ مَبْنِيٌّ فِي مَحَلِّ مَقَابِرِ الْمُشْرِكِينَ فَسُقُوطُهُ ظَاهِرٌ. لِأَنَّ النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمِرَ بِهَا فَنُبِشَتْ وَأُزِيلَ مَا فِيهَا. فَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «فَكَانَ فِيهِ مَا أَقُولُ لَكُمْ: قُبُورُ الْمُشْرِكِينَ، وَفِيهِ خَرِبٌ، وَفِيهِ نَخْلٌ، فَأَمَرَ النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم بقبور الْمُشْركين، فنبشب، ثُمَّ بِالْخَرِبِ فَسُوِّيَتْ، وَبِالنَّخْلِ فَقُطِعَ، فَصَفُّوا النَّخْلَ قِبْلَةَ الْمَسْجِدِ، وَجَعَلُوا عِضَادَتَيْهِ الْحِجَارَةَ» . الْحَدِيثَ (2) . هَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ. وَلَفْظُ مُسْلِمٍ قَرِيبٌ مِنْهُ بِمَعْنَاهُ. فَقُبُورُ الْمُشْرِكِينَ لَا حُرْمَةَ لَهَا، وَلِذَلِكَ أَمَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَبْشِهَا وَإِزَالَةِ مَا فِيهَا. فَصَارَ الْمَوْضِعُ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ قَبْرٌ أَصْلًا لِإِزَالَتِهِ بِالْكُلِّيَّةِ. وَهُوَ وَاضِحٌ كَمَا ترى اهـ.
وَالتَّحْقِيقُ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْبِنَاءُ عَلَى الْقُبُورِ وَلَا تَجْصِيصُهَا، كَمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ وَغَيْرُهُ عَنْ أَبِي الْهَيَّاجِ الْأَسَدِيِّ: أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ لَهُ: أَلَا أَبْعَثُكَ عَلَى مَا بَعَثَنِي عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلَّا تَدَعَ تِمْثَالًا إِلَّا طَمَسْتَهُ، وَلَا قَبْرًا مُشْرِفًا إِلَّا سَوَّيْتَهُ» (3) .
وَلِمَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ أَيْضًا عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ قَالَ: «نهى رَسُول
_________
(1) - أخرجه البُخَارِيّ (4/1853) (4604) ، وَمُسلم (3/1687) (2125) .
(2) - أخرجه البُخَارِيّ (1/165) (418) ، وَمُسلم (1/373) (524) من حَدِيث أنس - رَضِي الله عَنهُ -.
(3) - أخرجه مُسلم (2/666) (969) .(1/274)
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُجَصَّصَ الْقَبْرُ، وَأَنْ يُقْعَدَ عَلَيْهِ، وَأَنْ يُبْنَى عَلَيْهِ» (1) .
فَهَذَا النَّهْيُ ثَابِتٌ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَدْ قَالَ: «وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ» (2) . وَقَالَ جَلَّ وَعَلَا: {وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُواْ} .] (3) .
فرع: الْجَواب عَن شُبْهَة وجود الْقَبْر النَّبَوِيّ فِي مَسْجِدِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وَقَالَ صَاحب التَّتِمَّة - رَحمَه الله -: [مَا جَاءَ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ مِنَ النَّهْيِ الْأَكِيدِ وَالْوَعِيدِ الشَّدِيدِ بِالنِّسْبَةِ لِقَضِيَّةِ الْمَسَاجِدِ وَدَعْوَةِ التَّوْحِيدِ، وَمَا كَانَ يَفْعَلُهُ الْأَوَّلُونَ مِنْ بِنَاءِ الْمَسَاجِدِ عَلَى الْقُبُورِ، وَيَفْتَحُونَ بِذَلِكَ بَابًا مُطِلًّا عَلَى الشِّرْكِ. كَحَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ وَأُمِّ حَبِيبَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عِنْدَ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ فِي قِصَّتَيْهِمَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَا شَاهَدَتَاهُ بِالْحَبَشَةِ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أُولَئِكَ كَانُوا إِذَا مَاتَ فِيهِمُ الرَّجُلُ الصَّالِحُ أَوِ الْعَبْدُ الصَّالِحُ بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا أُولَئِكَ شِرَارُ الْخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» (4) .
وَكَحَدِيثِ الصَّحِيحَيْنِ: «لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ» ، قَالَتْ عَائِشَةُ: وَلَوْلَا ذَلِكَ لِأُبْرِزَ قَبْرُهُ أَيْ خَشْيَةَ اتِّخَاذِهِ مَسْجِدًا» (5) .
حَدِيثُ الْمُوَطَّأِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ قَبْرِي وثناً يعبد اشْتَدَّ غضب الله
_________
(1) - أخرجه مُسلم (2/667) (970) .
(2) - سبق تَخْرِيجه آنِفا.
(3) - 3/152: 160، الْحجر / 80، وَانْظُر أَيْضا (8/546) (الْجِنّ /80) .
(4) - أخرجه البُخَارِيّ (1/165) (417) ، وَمُسلم (1/375) (528) من حَدِيث عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا - بِهِ.
(5) - سبق تَخْرِيجه.(1/275)
عَلَى قَوْمٍ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ» (1) فَكُلُّ ذَلِكَ مِمَّا يُشَدِّدُ الْحَذَرَ مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَ الْقُبُورِ وَالْمَسَاجِدِ خَشْيَةَ الْفِتْنَةِ وَسَدًّا لِلذَّرِيعَةِ، وَيَشْهَدُ لِهَذَا مَا ذَكَرَهُ عُلَمَاءُ التَّفْسِيرِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ مِنْ سَبَبِ النُّزُولِ، أَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى كَانُوا إِذَا دَخَلُوا كَنَائِسَهُمْ وَبِيَعَهُمْ، أَشْرَكُوا مَعَ اللَّهِ غَيْرَهُ، فَحَذَّرَ اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ.
وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مِمَّا تَفَشَّتْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْبِلْدَانِ الْإِسْلَامِيَّةِ مِمَّا يَسْتَوْجِبُ التَّنَبُّهَ لَهَا، وَرَبْطَ هَذِهِ الْآيَةَ بِهَا مَعَ تِلْكَ النُّصُوصِ النَّبَوِيَّةِ الصَّرِيحَةِ فِي شَأْنِهَا مَهْمَا كَانَ الْمَسْجِدُ.
وَذَكَرَ ابْنُ كَثِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: لما نزلت هَذِه الْآيَة - أَي قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَنَّ المَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً} - لَمْ يَكُنْ فِي الْأَرْضِ مَسْجِدٌ إِلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَام، وَمَسْجِد إيليا بَيْتِ الْمَقْدِسِ (2) .
تَنْبِيهٌ
قَدْ أُثِيرَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ تَسَاؤُلَاتٌ مِنْ بَعْضِ النَّاسِ بِالنِّسْبَةِ لِلْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ وَمَوْضِعِ الْحُجْرَةِ مِنْهُ بَعْدَ إِدْخَالِهَا فِيهِ.
وَقَدْ أَجَابَ عَنْ ذَلِكَ ابْنُ حَجَرٍ فِي فَتْحِ الْبَارِي بِقَوْلِهِ عَلَى حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ: «لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ» . قَالَتْ: وَلَوْلَا ذَلِكَ لَأُبْرِزَ قَبْرُهُ غَيْرَ أَنِّي أَخْشَى أَنْ يُتَّخَذَ مَسْجِدًا. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي كتاب الْجَنَائِز (3) .
_________
(1) - أخرجه مَالك فِي "الْمُوَطَّأ" (1/172) (414) من حَدِيث عَطاء بن عَطاء مُرْسلا بِهِ، وَله شَاهد بِنَحْوِهِ عَن أبي هُرَيْرَة عِنْد أَحْمد، وَسَيَأْتِي تَخْرِيجه قَرِيبا - إِن شَاءَ الله -.
(2) عزاهُ ابْن كثير لِابْنِ أَي حَاتِم، وَإِسْنَاده ضَعِيف، فِيهِ رجل مَجْهُول.
(3) - سبق تَخْرِيجه.(1/276)
وَفِي بَعْضِ رِوَايَاتِهِ: غَيْرَ أَنَّهُ خَشِيَ: فَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَهَذَا قَالَتْهُ عَائِشَةُ قَبْلَ أَنْ يُوَسَّعَ الْمَسْجِدُ النَّبَوِيُّ، وَلِهَذَا لَمَّا وُسِّعَ الْمَسْجِدُ جُعِلَتْ حُجْرَتُهَا مُثَلَّثَةَ الشَّكْلِ مُحَدَّدَةً، حَتَّى لَا يَتَأَتَّى لِأَحَدٍ أَنْ يُصَلِّيَ إِلَى جِهَةِ الْقَبْرِ مَعَ اسْتِقْبَال الْقبْلَة اهـ.
وَذَكَرَتْ كُتُبُ السِّيرَةِ وَتَارِيخِ الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ بَعْضَ الْأَخْبَارِ فِي ذَلِكَ، مِنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ السَّمْهُودِيُّ (1) فِي وَفَاءِ الْوَفَاءِ قَالَ: وَعَنِ الْمُطَّلِبِ قَالَ: كَانُوا يَأْخُذُونَ مِنْ تُرَابِ الْقَبْرِ فَأَمَرَتْ عَائِشَةُ بِجِدَارٍ فَضُرِبَ عَلَيْهِمْ، وَكَانَ فِي الْجِدَارِ كُوَّةٌ فَأَمَرَتْ بِالْكُوَّةِ فَسُدَّتْ هِيَ أَيْضًا. وَنُقِلَ عَن ابْن شيبَة قَالَ أَبُو غَسَّانَ بْنُ يَحْيَى بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ الْحَمِيدِ، وَكَانَ عَالِمًا بِأَخْبَارِ الْمَدِينَةِ وَمِنْ بَيْتِ كِتَابَةٍ وَعِلْمٍ: لَمْ يَزَلْ بَيْتُ النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي دُفِنَ فِيهِ هُوَ وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ظَاهِرًا حَتَّى بَنَى عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَلَيْهِ الْخِطَارَ الْمُزَوَّرَ الَّذِي هُوَ عَلَيْهِ الْيَوْمَ، حِينَ بَنَى الْمَسْجِدَ فِي خِلَافَةِ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَإِنَّمَا جَعَلَهُ مُزَوَّرًا كَرَاهَةَ أَنْ يُشْبِهَ تَرْبِيعَ الْكَعْبَةِ، وَأَنْ يُتَّخَذَ قِبْلَةً يصلى إِلَيْهِ.
قَالَ أَبُو زيد بن شيبَة قَالَ أَبُو غَسَّانَ: وَقَدْ سَمِعْتُ غَيْرَ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ يَزْعُمُ أَنَّ عُمَرَ بْنَ ... عَبْدِ الْعَزِيزِ بَنَى الْبَيْتَ غَيْرَ بِنَائِهِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ وَسَمِعْتُ مَنْ يَقُولُ: بَنَى عَلَى بَيْتِ النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثَةَ أَجْدُرٍ فَدُونَ الْقَبْرِ ثَلَاثَةُ أَجْدُرٍ، جِدَارُ بِنَاءِ بَيْتِ النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ وَجِدَارُ الْبَيْتِ الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ بَنَى عَلَيْهِ يَعْنِي عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَجِدَارُ الْخِطَارِ الظَّاهِرِ، وَقَالَ: قَالَ أَبُو غَسَّانَ فِيمَا حَكَاهُ الْأَقْشَهْدِيُّ: أَخْبَرَنِي الثِّقَةُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ عَنْ مَنْصُورِ بْنِ رَبِيعَةَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عُرْوَةَ، قَالَ: قَالَ عُرْوَةُ: نَازَلْتُ عُمَرَ بْنَ عبد الْعَزِيز فِي قبر
_________
(1) - السمهودي من كبار الصُّوفِيَّة، وَمن الغلاة فِي النَّبِي - صلى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَقد اشْتَمَل كتاباته على بدع وخرافات، وَأَحَادِيث مُنكرَة وموضوعات مكذوبات، مَعَ مَا فِيهِ من حق، وَلكنه مشوب بباطل.(1/277)
النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَلَّا يُجْعَلَ فِي الْمَسْجِدِ أَشَدَّ الْمُنَازَلَةِ فَأَبَى وَقَالَ: كِتَابُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ لَا بُدَّ مِنْ إِنْفَاذِهِ. قَالَ قُلْتُ: فَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ فَاجْعَلْ لَهُ جُؤْجُؤًا. أَيْ وَهُوَ الْمَوْضِعُ لِنَزُورَ خَلْفَ الْحُجْرَةِ اهـ (1) .
فَهَذِهِ مُنَازَلَةٌ فِي مَوْضُوعِ الْحُجْرَةِ وَالْمَسْجِدِ وَهَذَا جَوَابُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ.
وَقَدْ آلَتْ إِلَيْهِ الْخِلَافَةُ وَهُوَ الْخَلِيفَةُ الرَّاشِدُ الْخَامِسُ، وَقَدْ أَقَرَّ هَذَا الْوَضْعَ لَمَّا اتُّخِذَتْ تِلْكَ الِاحْتِيَاطَاتُ مِنْ أَنْ يَكُونَ الْقَبْرُ قِبْلَةً لِلْمُصَلِّينَ، وَهَذَا مِمَّا لَا شَكَّ فِيهِ فِي خَيْرِ الْقُرُونِ الْأُولَى، وَمَشْهَدٍ مِنْ أَكَابِرِ الْمُسْلِمِينَ، مِمَّا لَا يَدَعُ لِأَحَدٍ مَجَالًا لِاعْتِرَاضٍ أَوِ احْتِجَاجٍ أَوِ اسْتِدْلَالٍ، وَقَدْ بُحِثَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ، فِي كُلِّ عَصْرٍ.
وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: بَالَغَ الْمُسْلِمُونَ فِي سَدِّ الذَّرِيعَةِ فِي قَبْرِ النَّبي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فأعلوا حيطان ترتبه، وَسَدُّوا الْمَدْخَلَ إِلَيْهَا، وَجَعَلُوهَا مُحْدِقَةً بِقَبْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ خَافُوا أَنْ يُتَّخَذَ مَوْضِعُ قَبْرِهِ قِبْلَةً إِذَا كَانَ مُسْتَقْبِلَ الْمُصَلِّينَ، فَتُصَوَّرُ الصَّلَاةُ إِلَيْهِ بِصُورَةِ الْعِبَادَةِ، فَبَنَوْا جِدَارَيْنِ مِنْ رُكْنَيِ الْقَبْرِ الشَّمَالِيَّيْنِ وَحَرَّفُوهُمَا حَتَّى الْتَقَيَا عَلَى زَاوِيَةٍ مُثَلَّثَةٍ مِنْ نَاحِيَةِ الشَّمَالِ، حَتَّى لَا يتَمَكَّن أحد من اسْتِقْبَال قَبره اهـ. مِنْ فَتْحِ الْمَجِيدِ.
وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إِنَّ هَذَا الْعَمَلَ الَّذِي اتُّخِذَ حِيَالَ الْقَبْرِ الشَّرِيفِ وَقَبْرَيْ صَاحِبَيْهِ إِنَّمَا هُوَ اسْتِجَابَةُ دُعَائِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ قَبْرِي وَثَنًا يُعْبَدُ» (2) كَمَا قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي نونيته، وَهُوَ من أَشد النَّاس إنكاراً على شُبُهَات الشّرك كشيخه ابْن تَيْمِية رحمهمَا الله تَعَالَى قَالَ:
_________
(1) - لم أَقف عَلَيْهِ، وَظَاهر هَذَا الْإِسْنَاد الضعْف.
(2) - أخرجه أَحْمَدُ (2/246) مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِدُونِ قَوْله: (يعبد) ، وَقَالَ الأرناؤوط: إِسْنَاده قوي.(1/278)
فَأَجَابَ رَبُّ الْعَالَمِينَ دُعَاءَهُ ... وَأَحَاطَهُ بِثَلَاثَةِ الْجُدْرَانِ
حَتَّى غَدَتْ أَرْجَاؤُهُ بِدُعَائِهِ ... فِي عِزَّةٍ وَحِمَايَةٍ وَصِيَانِ
وَقَالَ صَاحِبُ فَتْحِ الْمَجِيدِ: وَدَلَّ الْحَدِيثُ أَنَّ قَبْرَ النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْ عُبِدَ لَكَانَ وَثَنًا. وَلَكِنْ حَمَاهُ اللَّهُ تَعَالَى بِمَا حَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّاسِ فَلَا يُوصَلُ إِلَيْهِ.
وَدَلَّ الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ الْوَثَنَ هُوَ مَا يُبَاشِرُهُ الْعَابِدُ مِنَ الْقُبُورِ وَالتَّوَابِيتِ الَّتِي عَلَيْهَا اهـ.
وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ حَقِيقَةٌ دَقِيقٌ مَأْخَذُهَا، لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ بَعْدَ إِدْخَالِ الْحُجْرَةِ فِي مَأْمَنٍ مِنَ الصَّلَاةِ إِلَيْهِ لَكَانَ وَثَنًا وَحَاشَاهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَكُونُ فِي حَيَاتِهِ دَاعِيًا إِلَى اللَّهِ وَبَعْدَ انْتِقَالِهِ إِلَى الرَّفِيقِ الْأَعْلَى يَكُونُ قَبْرُهُ وَثَنًا يُنَافِي التَّوْحِيدَ، وَيَهْدِمُ مَا بَنَاهُ فِي حَيَاتِهِ.
وَكَيْفَ يَرْضَى اللَّهُ لِرَسُولِهِ ذَلِكَ حَاشَا وَكَلَّا. هَذَا مُجْمَلُ مَا قِيلَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.
وُجْهَةُ نَظَرٍ
وَهُنَا وُجْهَةُ نَظَرٍ، وَإِنْ كُنْتُ لَمْ أَقِفْ عَلَى قَوْلٍ فِيهَا، وَهِيَ أَنَّ كُلَّ نَصٍّ مُتَقَدِّمٍ صَرِيحٌ فِي النَّهْيِ عَنِ اتِّخَاذِ الْمَسَاجِدِ عَلَى الْقُبُورِ، بِأَنْ يَكُونَ الْقَبْرُ أَوَّلًا ثُمَّ يُتَّخَذَ عَلَيْهِ الْمَسْجِدُ، كَمَا جَاءَ فِي قِصَّةِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ: {قَالَ الَّذِينَ غَلَبُواْ عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَّسْجِدًا} أَيْ أَنَّ الْقَبْرَ أَوَّلًا وَالْمَسْجِدَ ثَانِيًا.
أَمَّا قَضِيَّةُ الْحُجْرَةِ وَالْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ فَهِيَ عَكْسُ ذَلِكَ، إِذِ الْمَسْجِدُ هُوَ الْأَوَّلُ وَإِدْخَالُ الْحُجْرَةِ ثَانِيًا، فَلَا تَنْطَبِقُ عَلَيْهِ تِلْكَ النُّصُوصُ فِي نَظَرِي. (1)
_________
(1) - قد سبق للشَّيْخ الشنقيطي - رَحمَه الله - قَرِيبا فِي الْمَسْأَلَة السَّابِقَة بَيَان أَن عِلّة النَّهْي عَن الصَّلَاة إِلَى الْقُبُور، أَو إِقَامَة الْمَسَاجِد على الْقُبُور، وَأَنَّهَا من بَاب سد ذَرِيعَة الشّرك؛ لِأَنَّهُمْ إِذَا عَبَدُوا اللَّهَ عِنْدَ الْقُبُورِ آلَ بهم الْأَمر إِلَى عبَادَة الْقُبُور، وَهَذِه الْعلَّة هِيَ الَّتِي كَانَ يحذر مِنْهَا النَّبِي - صلى الله عَلَيْهِ وَسلم -، وَلَوْلَا ذَلِك لأبرز قَبره - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْعلَّة تعمم معلولها، وَأَن الشَّرْع لَا يفرق بَين المتماثلات؛ وَعَلِيهِ فَلَا فرق بَين تعدِي الْقَبْر على الْمَسْجِد، أَو الْمَسْجِد على الْقَبْر من نَاحيَة تحقق الْعلَّة السَّابِقَة؛ وَعَلِيهِ فَكَمَا قرر الْعلمَاء - رَحِمهم الله - أَنه لَا يجْتَمع فِي دين الْإِسْلَام مَسْجِد وقبر؛ فَإِن كَانَ الْقَبْر أَولا هُدِمَ الْمَسْجِد، وَإِن كَانَ الْعَكْس نُبِش الْقَبْر، وَأما الْمَسْجِد النَّبَوِيّ فَهُوَ حَالَة خَاصَّة، لَا يُقَاس عَلَيْهِ غَيره من الْمَسَاجِد؛ لمضاعفة الصَّلَاة فِيهِ بِأَلف صَلَاة فِي غَيره من الْمَسَاجِد، غير الْمَسْجِد الْحَرَام، وَقد سَأَلَ فَضِيلَة الشَّيْخ عبد الْعَزِيز بن باز - رَحمَه الله - عَن هَذِه الْمَسْأَلَة فَقَالَ: [أما احتجاج بعض الجهلة بِوُجُود قبر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وقبر صَاحِبيهِ فِي مَسْجده فَلَا حجَّة فِي ذَلِك؛
1ـ لِأَن الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دفن فِي بَيته وَلَيْسَ فِي الْمَسْجِد، وَدفن مَعَه صَاحِبَاه أَبُو بكر وَعمر رَضِي الله عَنْهُمَا،
2ـ وَلَكِن لما وسع الْوَلِيد بن عبد الْملك بن مَرْوَان الْمَسْجِد أَدخل الْبَيْت فِي الْمَسْجِد؛ بِسَبَب التَّوسعَة، وَغلط فِي هَذَا، وَكَانَ الْوَاجِب أَن لَا يدْخلهُ فِي الْمَسْجِد؛ حَتَّى لَا يحْتَج الجهلة وأشباههم بذلك،
3ـ وَقد أنكر عَلَيْهِ أهل الْعلم ذَلِك، فَلَا يجوز أَن يقْتَدى بِهِ فِي هَذَا، وَلَا يظنّ ظان أَن هَذَا من جنس الْبناء على الْقُبُور أَو اتخاذها مَسَاجِد؛ لِأَن هَذَا بَيت مُسْتَقل أَدخل فِي الْمَسْجِد؛ للْحَاجة للتوسعة، وَهَذَا من جنس الْمقْبرَة الَّتِي أَمَام الْمَسْجِد مفصولة عَن الْمَسْجِد لَا تضره،
4ـ وَهَكَذَا قبر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مفصول بجدار وقضبان.
وَيَنْبَغِي للْمُسلمِ أَن يبين لإخوانه هَذَا؛ حَتَّى لَا يغلطوا فِي هَذِه الْمَسْأَلَة. وَالله ولي التَّوْفِيق] .
برنامج نور على الدَّرْب، الشريط رقم (62) .(1/279)
وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
وَمِنْ نَاحِيَةٍ أُخْرَى لَمْ يَكُنِ الَّذِي أُدْخِلُ فِي الْمَسْجِدِ هُوَ الْقَبْرَ أَوِ الْقُبُورَ، بَلِ الَّذِي أُدْخِلَ فِي الْمَسْجِدِ هُوَ
الْحُجْرَةُ أَيْ بِمَا فِيهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ كَلَامُ صَاحِبِ فَتْحِ الْمَجِيدِ فِي تَعْرِيفِ الْوَثَنِ: أَنَّهُ مَا سُجِدَ إِلَيْهِ مِنْ قَرِيبٍ.
وَعَلَيْهِ فَمَا مِنْ مُصَلٍّ يَبْعُدُ عَنْ مَكَّةَ إِلَّا وَيَقَعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكَعْبَةِ قُبُورٌ وَمَقَابِرُ، وَلَا يُعْتَبَرُ مُصَلِّيًا إِلَى الْقُبُورِ لِبُعْدِهَا وَوُجُودِ الْحَوَاجِزِ دُونَهُ، وَإِنْ كَانَ الْبُعْدُ(1/280)
نِسْبِيًّا، فَكَذَلِكَ فِي مَوْضُوعِ الْقُبُورِ الثَّلَاثَةِ فِي الْحُجْرَةِ، فَإِنَّهَا بَعِيدَةٌ عَنْ مُبَاشَرَةِ الصَّلَاةِ إِلَيْهَا، وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين.
وَأَيْضًا لشيخ الْإِسْلَام ابْن تَيْمِية رَحمَه الله كلَاما فِي ذَلِكَ مُلَخَّصُهُ مِنَ الْمَجْمُوعِ مُجَلَّدُ 27 ص 323 وَكَأَنَّ النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا مَاتَ وَدُفِنَ فِي حُجْرَةِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا. وَكَانَتْ هِيَ وَحُجَرُ نِسَائِهِ فِي شَرْقِيِّ الْمَسْجِدِ وَقِبْلِيِّهِ، لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ دَاخِلًا الْمَسْجِدَ. وَاسْتَمَرَّ الْأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ إِلَى أَنِ انْقَرَضَ عَصْرُ الصَّحَابَةِ بِالْمَدِينَةِ.
ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ فِي خِلَافَةِ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ بِنَحْوٍ مِنْ سَنَةٍ مِنْ بَيْعَتِهِ وُسِّع الْمَسْجِدُ وَأُدْخِلَتْ فِيهِ الْحُجْرَةُ لِلضَّرُورَةِ. فَإِنَّ الْوَلِيدَ كَتَبَ إِلَى نَائِبِهِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، أَنْ يَشْتَرِيَ الحُجَر مِنْ مُلَّاكِهَا وَرَثَةِ أَزْوَاجِ النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّهُنَّ كُنَّ تُوُفِّينَ كُلُّهُنَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُنَّ، فَأَمَرَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ الْحُجَرَ وَيَزِيدَهَا فِي الْمَسْجِدِ فَهَدَمَهَا وَأَدْخَلَهَا فِي الْمَسْجِدِ، وَبَقِيَتْ حُجْرَةُ عَائِشَةَ عَلَى حَالِهَا. وَكَانَتْ مُغْلَقَةً لَا يُمَكَّنُ أَحَدٌ مِنَ الدُّخُولِ إِلَى قَبْرِ النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا لِصَلَاةٍ عِنْدَهُ وَلَا لِدُعَاءٍ وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ. إِلَى حِينِ كَانَتْ عَائِشَةُ فِي الْحَيَاةِ وَهِيَ تُوُفِّيَتْ قَبْلَ إِدْخَالِ الْحُجْرَةِ بِأَكْثَرَ مِنْ عِشْرِينَ أَوْ ثَلَاثِينَ سَنَةً.
وَقَالَ فِي صَفْحَةِ 823: وَلَمْ تَكُنْ تُمَكِّنُ أَحَدًا أَنْ يَفْعَلَ عِنْدَ قَبْرِهِ شَيْئًا مِمَّا نَهَى عَنْهُ وَبَعْدَهَا كَانَتْ مُغْلَقَةً، إِلَى أَنْ أُدْخِلَتْ فِي الْمَسْجِدِ فَسُدَّ بَابُهَا وَبُنِيَ عَلَيْهَا حَائِطٌ آخَرُ.
فَكُلُّ ذَلِكَ صِيَانَةٌ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنْ يُتَّخَذَ بَيْتُهُ عِيدًا وَقَبْرُهُ وَثَنًا. وَإِلَّا فَمَعْلُومٌ أَنَّ أَهْلَ الْمَدِينَةِ كُلُّهُمْ مُسْلِمُونَ، وَلَا يَأْتِي إِلَى هُنَاكَ إِلَّا مُسْلِمٌ وَكُلُّهُمْ مُعَظِّمُونَ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَمَا فَعَلُوا ذَلِكَ لِيُسْتَهَانَ بِالْقَبْرِ الْمُكَرَّمِ بَلْ فَعَلَوْهُ لِئَلَّا يُتَّخَذَ وَثَنًا يُعْبَدُ. وَلَا يُتَّخَذَ بَيْتُهُ عِيدًا، وَلِئَلَّا يُفْعَلَ بِهِ كَمَا فَعَلَ أَهْلُ الْكِتَابِ
بِقُبُورِ أَنْبِيَائِهِمْ. انْتَهَى.(1/281)
وَتَقَدَّمَ شَرْحُ ابْنِ الْقَيِّمِ لِوَضْعِ الْجُدْرَانِ الثَّلَاثَةِ وَجَعْلِ طَرَفِ الْجِدَارِ الثَّالِثِ مِنَ الشَّمَالِ عَلَى شَكْلِ رَأْسِ مُثَلَّثٍ، وَأَنَّ الْمُشَاهَدَ الْيَوْمَ بَعْدَ ابْن تَيْمِية وَابْن الْقيم رحمهمَا الله، وُجُودُ الشَّبَكِ الْحَدِيدِيِّ مِنْ وَرَاءِ ذَلِكَ كُلِّهِ، وَيَبْعُدُ عَنْ رَأْسِ الْمُثَلَّثِ إِلَى الشَّمَالِ مَا يَقْرُبُ مِنْ سِتَّةِ أَمْتَارٍ يَتَوَسَّطُهَا، أَيْ تِلْكَ الْمَسَافَةُ مِحْرَابٌ كَبِيرٌ، وَهَذَا كَانَ فِي الْمَسْجِدِ سَابِقًا، أَيْ قَبْلَ الشَّبَكِ. مِمَّا يَدُلُّ عَلَى بُعْدِ مَا بَيْنَ الْمُصَلِّي فِي الْجِهَةِ الشَّمَالِيَّةِ مِنَ الْحُجْرَةِ الْمُكَرَّمَةِ وَبَيْنَ الْقُبُورِ الثَّلَاثَةِ، وَيَنْفِي أَيَّ عَلَاقَةٍ لِلصَّلَاةِ مِنْ وَرَائِهِ بِالْقُبُورِ الشَّرِيفَةِ. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
وَفِي خِتَامِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَقَدْ أُثِيرَ فِيهَا كَلَامٌ فِي مَوْسِمِ حَجِّ سَنَةِ 1394 فِي مِنَى وَمِنْ بَعْضِ الْمُشْتَغِلِينَ بِالْعِلْمِ نَقُولُ: لَوْ أَنَّهَا لَمْ تَدْخُلْ بِالْفِعْلِ لَكَانَ لِلْقَوْلِ بِعَدَمِ إِدْخَالِهَا مَجَالٌ. أَمَّا وَقَدْ أُدْخِلَتْ بِالْفِعْلِ وَفِي عَهْدِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَفِي الْقُرُونِ الْمَشْهُودِ لَهَا بِالْخَيْرِ، وَمَضَى عَلَى إِدْخَالِهَا ثَلَاثَةَ عَشَرَ قَرْنًا، فَلَا مَجَالَ لِلْقَوْلِ إِذًا.
وَمِنْ نَاحِيَةٍ أُخْرَى، فَإِنَّ النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَكَتَ عَلَى مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ، أَلَا وَهُوَ مَوْضُوعُ بِنَاءِ الْكَعْبَةِ وَكَوْنِهَا لَمْ تَسْتَوْعِبْ قَوَاعِدَ إِبْرَاهِيمَ وَلَهَا بَابٌ وَاحِدٌ وَمُرْتَفِعٌ عَنِ الْأَرْضِ.
وَكَانَ بِاسْتِطَاعَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُعِيدَ بِنَاءَهَا عَلَى الْوَجْهِ الْأَصَحِّ، فَتَسْتَوْعِبَ قَوَاعِدَ إِبْرَاهِيمَ، وَيَكُونَ لَهَا بَابَانِ وَيُسَوِّيَهُمَا بِالْأَرْضِ. وَلَكِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَرَكَ ذَلِكَ لِاعْتِبَارَاتٍ بَيَّنَهَا فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا.
أَلَا يَسَعُ مَنْ يَتَكَلَّمُ فِي مَوْضُوعِ الْحُجُرَاتِ الْيَوْمَ مَا وَسِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْكَعْبَةِ وَمَا وَسِعَ السَّلَفَ رَحِمَهُمُ اللَّهُ فِي عَيْنِ الْحُجْرَةِ.
وَمِنْ نَاحِيَةٍ ثَالِثَةٍ: لَوْ أَنَّهُ أُخِذَ بِقَوْلِهِمْ، فَأُخْرِجَتْ مِنَ الْمَسْجِدِ أَيْ جُعِلَ الْمَسْجِدُ مِنْ دُونِهَا عَلَى الْأَصْلِ الأول.(1/282)
ثُمَّ جَاءَ آخَرُونَ وَقَالُوا: نُعِيدُهَا عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ فِي عَهْدِ الْخَلِيفَةِ الرَّاشِدِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، أَلَا يُقَالُ فِي ذَلِكَ مَا قَالَ مَالِكٌ لِلرَّشِيدِ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فِي خُصُوصِ الْكَعْبَةِ لَمَّا بَنَاهَا ابْنُ الزُّبَيْرِ، وَأَعَادَهَا الْحَجَّاجُ وَأَرَادَ الرَّشِيدُ أَنْ يُعِيدَهَا عَلَى بِنَاءِ ابْنِ الزُّبَيْرِ فَقَالَ لَهُ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَا تَفْعَلْ لِأَنِّي أَخْشَى أَنْ تُصْبِحَ الْكَعْبَةُ أُلْعُوبَةَ الْمُلُوكِ. فَيُقَالُ هُنَا أَيْضًا فَتُصْبِحُ الْحُجْرَةُ أُلْعُوبَةَ الْمُلُوكِ بَيْنَ إِدْخَالٍ وَإِخْرَاجٍ. وَفِيهِ مِنَ الْفِتْنَةِ مَا فِيهِ. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.] (1) .
- النَّهْي عَن التَّصْوِير.
[أما مَنْعُ تَصْوِيرِ الْحَيَوَانِ وَتَعْذِيبُ فَاعِلِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَشَدَّ الْعَذَابِ، وَأَمْرُهُمْ بِإِحْيَاءِ مَا صَوَّرُوا، وَكَوْنُ الْمَلَائِكَةِ لَا تَدْخُلُ مَحَلًّا فِيهِ صُورَةٌ أَوْ كَلْبٌ، فَكُلُّهُ مَعْرُوفٌ ثَابِتٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.] (2) .
فصل: بعض الْمسَائِل الَّتِي لَهَا علاقَة بتوحيد الألوهية
- التوسل.
[قَوْله تَعَالَى: {يَأأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ} اعْلَمْ أَنَّ جُمْهُورَ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْوَسِيلَةِ هُنَا هُوَ الْقُرْبَةُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِامْتِثَالِ أَوَامِرِهِ، وَاجْتِنَابِ نَوَاهِيهِ عَلَى وَفْقِ مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّد
_________
(1) - 8/597: 606، الْجِنّ / 18.
(2) - 3/167، الْحجر / 80، وَانْظُر أَيْضا (5/64) (الْحَج/26) .(1/283)
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِخْلَاصٍ فِي ذَلِكَ لِلَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّ هَذَا وَحْدَهُ هُوَ الطَّرِيقُ الْمُوَصِّلَةُ إِلَى رِضَى اللَّهِ تَعَالَى، وَنَيْلِ مَا عِنْدَهُ مِنْ خَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
وَأَصْلُ الْوَسِيلَةِ: الطَّرِيقُ الَّتِي تُقَرِّبُ إِلَى الشَّيْءِ، وَتُوَصِّلُ إِلَيْهِ وَهِيَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ بِإِجْمَاعِ الْعُلَمَاءِ، لِأَنَّهُ لَا وَسِيلَةَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى إِلَّا بِاتِّبَاعِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَلَى هَذَا فَالْآيَاتُ الْمُبَيِّنَةُ لِلْمُرَادِ مِنَ الْوَسِيلَةِ كَثِيرَةٌ جِدًّا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَآ آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُواْ} ، وَكَقَوْلِهِ: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِى} ، وَقَوْلِهِ: {قُلْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ} ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ الْمُرَادَ بِالْوَسِيلَةِ الْحَاجَةُ، وَلَمَّا سَأَلَهُ نَافِعٌ الْأَزْرَقُ هَلْ تَعْرِفُ الْعَرَبُ ذَلِكَ؟ أَنْشَدَ لَهُ بَيْتَ عنتر
إِنَّ الرِّجَالَ لَهُمْ إِلَيْكِ وَسِيلَةٌ ... إِنْ يَأْخُذُوكِ تَكَحَّلِي وتخضَّبي (1)
قَالَ: يَعْنِي لَهُمْ إِلَيْكِ حَاجَةٌ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ الَّذِي رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فَالْمَعْنَى: {وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ} ، وَاطْلُبُوا حَاجَتَكُمْ مِنَ اللَّهِ، لِأَنَّهُ وَحْدَهُ هُوَ الَّذِي يَقْدِرُ عَلَى إِعْطَائِهَا، وَمِمَّا يُبَيِّنُ مَعْنَى هَذَا الْوَجْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لاَ يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُواْ عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ} ، وَقَوله: {وَاسْأَلُواْ اللَّهَ مِن فَضْلِهِ} ، وَفِي الحَدِيث «إِذا سَأَلت فَسَأَلَ اللَّهَ» (2) .
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: التَّحْقِيقُ فِي مَعْنَى الْوَسِيلَةِ هُوَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ عَامَّةَ الْعُلَمَاءِ مِنْ أَنَّهَا التَّقَرُّبُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِالْإِخْلَاصِ لَهُ فِي الْعِبَادَةِ، عَلَى وَفْقِ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتَفْسِيرُ ابْنِ عَبَّاسٍ دَاخِلٌ فِي هَذَا، لِأَن دُعَاء الله
_________
(1) - عزاهُ السُّيُوطِيّ فِي الدّرّ المنثور (3/71) للطستي وَابْن الانباري فِي الْوَقْف والابتداء.
(2) - أخرجه التِّرْمِذِيّ (4/667) (2516) وَقَالَ: حسن صَحِيح، وَأحمد (1/293) ، والْحَدِيث صَححهُ الشَّيْخ الألباني - رَحمَه الله -.(1/284)
وَالِابْتِهَالَ إِلَيْهِ فِي طَلَبِ الْحَوَائِجِ مِنْ أَعْظَمِ أَنْوَاعِ عِبَادَتِهِ الَّتِي هِيَ الْوَسِيلَةُ إِلَى نَيْلِ رِضَاهُ وَرَحْمَتِهِ.
وَبِهَذَا التَّحْقِيقِ تَعْلَمُ أَنَّ مَا يَزْعُمُهُ كَثِيرٌ مِنْ مَلَاحِدَةِ أَتْبَاعِ الجهَّال الْمُدَّعِينَ للتصوُّف مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْوَسِيلَةِ فِي الْآيَةِ الشَّيْخُ الَّذِي يَكُونُ لَهُ وَاسِطَةٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ، أَنَّهُ تَخَبُّطٌ فِي الْجَهْلِ وَالْعَمَى وَضَلَالٌ مُبِينٌ وَتَلَاعُبٌ بِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، وَاتِّخَاذُ الْوَسَائِطِ مَنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ أَصُولِ كُفْرِ الْكَفَّارِ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ عَنْهُمْ: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} وَقَوْلِهِ: {وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} ، فَيَجِبُ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ الطَّرِيقَ الْمُوَصِّلَةَ إِلَى رِضى اللَّهِ وَجَنَّتِهِ وَرَحْمَتِهِ هِيَ اتِّبَاعُ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَنْ حَادَ عَنْ ذَلِكَ
فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ، {لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِىِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} .
وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْوَسِيلَةَ فِي بَيْتِ عَنْتَرَةَ مَعْنَاهَا التَّقَرُّبُ أَيْضًا إِلَى الْمَحْبُوبِ، لِأَنَّهُ وَسِيلَةٌ لِنَيْلِ الْمَقْصُودِ مِنْهُ، وَلِذَا أَنْشَدَ بَيْتَ عَنْتَرَةَ الْمَذْكُورَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَالْقُرْطُبِيُّ وَغَيْرُهُمَا لِهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرْنَا وَجَمْعُ الْوَسِيلَةِ: الْوَسَائِلُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
إِذَا غَفَلَ الْوَاشُونَ عُدْنَا لِوَصْلِنَا ... وَعَادَ التَّصَافِي بَيْننَا والوسائل
وَهَذَا الَّذِي سرنا بِهِ الْوَسِيلَةَ هُنَا هُوَ مَعْنَاهَا أَيْضًا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالْوَسِيلَةِ أَيْضًا الْمَنْزِلَةَ الَّتِي فِي الْجَنَّةِ الَّتِي أَمَرَنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نَسْأَلَ لَهُ اللَّهَ أَنْ يُعْطِيَهُ إِيَّاهَا، نَرْجُو اللَّهَ أَنْ يُعْطِيَهُ إِيَّاهَا، لِأَنَّهَا لَا تَنْبَغِي إِلَّا لِعَبْدٍ، وَهُوَ يَرْجُو أَنْ يَكُونَ هُوَ.] (1) .
_________
(1) - 2/86: 88، الْمَائِدَة / 35، وَانْظُر أَيْضا (7/43 - 44) (الزمر / 3) .(1/285)
وَقَالَ صَاحب التَّتِمَّة - رَحمَه الله - بعد أَن ذكر قصَّة الْغُلَام، والساحر، والراهب: [التَّاسِعُ: بَيَانُ رُكْنٍ أَصِيلٍ فِي قَضِيَّةِ التَّوَسُّلِ، وَهُوَ أَنَّ مَبْنَاهُ عَلَى الْإِيمَانِ بِاللَّهِ ثُمَّ الدُّعَاء وسؤال الله تَعَالَى.] (1) .
- السحر (2) .
قَالَ الْعَلامَة الشنقيطي - رَحمَه الله - عِنْد قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} : [مَسَائِلُ تَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى:
اعْلَمْ أَنَّ السِّحْرَ يُطْلَقُ فِي اللُّغَةِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ خَفِيَ سَبَبُهُ وَلَطُفَ وَدَقَّ؛ وَلِذَلِكَ تَقُولُ الْعَرَبُ فِي الشَّيْءِ الشَّدِيدِ الْخَفَاءِ: أَخْفَى مِنَ السِّحْرِ. وَمِنْهُ قَوْلُ مُسْلِمِ بْنِ الْوَلِيدِ الْأَنْصَارِيِّ:
جَعَلْتِ عَلَامَاتِ الْمَوَدَّةِ بَيْنَنَا ... مَصَائِدَ لَحْظٍ من أَخْفَى مِنَ السِّحْرِ
فَأَعْرِفُ مِنْهَا الْوَصْلَ فِي لِينِ طَرْفِهَا ... وَأَعْرِفُ مِنْهَا الْهَجْرَ فِي النَّظَرِ الشَّزْرِ
وَلِهَذَا قِيلَ لِمَلَاحَةِ الْعَيْنَيْنِ: سِحْرٌ؛ لِأَنَّهَا تُصِيبُ الْقُلُوبَ بِسِهَامِهَا فِي خَفَاءٍ. وَمِنْهُ قَوْلُ الْمَرْأَةِ الَّتِي شَبَّبَتْ بِنَصْرِ بْنِ حَجَّاجٍ السُّلَمِيِّ:
_________
(1) - 9/142، البروج / 4، 5.
(2) - وَقد ذكر - رَحمَه الله - فِي هَذَا المبحث مسَائِل كَثِيرَة مِنْهَا: معنى السحر لُغَة، وَاصْطِلَاحا، وأقسام السحر، وَحكم تعلم السحر، وَهل هُوَ حَقِيقَة أم خيال، وحد السَّاحر، وَحل السحر عَن المسحور، وَتَحْقِيق الْقَدْرِ الَّذِي يُمْكِنُ أَنْ يَبْلُغَهُ تَأْثِيرُ السِّحْرِ فِي المسحور، وَالْكَلَام على السحر الَّذِي وَقع للنَّبِي - صلى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَغير ذَلِك، وَقد آثرت أَن أُبْقِي هَذَا الْبَحْث كَمَا هُوَ دون أَي اخْتِصَار - مَعَ مَا فِيهِ من طول، وَمَا لَا علاقَة لَهُ بتوحيد الألوهية - نظرا لما فِيهِ من فَوَائِد، فَالله الْمُسْتَعَان.(1/286)
وَانْظُرْ إِلَى السِّحْرِ يَجْرِي فِي لَوَاحِظِهِ ... وَانْظُرْ إِلَى دَعَجٍ فِي طَرْفِهِ السَّاجِي
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ:
اعْلَمْ أَنَّ السِّحْرَ فِي الِاصْطِلَاحِ لَا يُمْكِنُ حَدُّهُ بِحَدٍّ جَامِعٍ مَانِعٍ؛ لِكَثْرَةِ الْأَنْوَاعِ الْمُخْتَلِفَةِ الدَّاخِلَةِ تَحْتَهُ، وَلَا يَتَحَقَّقُ قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهَا يَكُونُ جَامِعًا لَهَا مَانِعًا لِغَيْرِهَا. وَمِنْ هُنَا اخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُ الْعُلَمَاءِ فِي حَدِّهِ
اخْتِلَافًا مُتَبَايِنًا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ:
اعْلَمْ أَنَّ الْفَخْرَ الرَّازِيَّ فِي تَفْسِيرِهِ قَسَّمَ السِّحْرَ إِلَى ثَمَانِيَةِ أَقْسَامٍ:
الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: سِحْرُ الْكِلْدَانِيِّينَ وَالْكَسْدَائِيِّينَ الَّذِينَ كَانُوا فِي قَدِيمِ الدَّهْرِ يَعْبُدُونَ الْكَوَاكِبَ، وَيَزْعُمُونَ أَنَّهَا هِيَ الْمُدَبِّرَةُ لِهَذَا الْعَالَمِ، وَمِنْهَا تَصْدُرُ الْخَيْرَاتُ وَالشُّرُورُ، وَالسَّعَادَةُ وَالنُّحُوسَةُ، وَهُمُ الَّذِينَ بَعَثَ اللَّهُ تَعَالَى إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مُبْطِلًا لِمَقَالَتِهِمْ وَرَادًّا عَلَيْهِمْ. وَقَدْ أَطَالَ الْكَلَامَ فِي هَذَا النَّوْعِ مِنَ السِّحْرِ.
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ: وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنَ السِّحْرِ كُفْرٌ بِلَا خِلَافٍ. لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَتَقَرَّبُونَ فِيهِ لِلْكَوَاكِبِ كَمَا يَتَقَرَّبُ الْمُسْلِمُونَ إِلَى اللَّهِ، وَيَرْجُونَ الْخَيْرَ مِنْ قِبَلِ الْكَوَاكِبِ وَيَخَافُونَ الشَّرَّ مِنْ قِبَلِهَا كَمَا يَرْجُو الْمُسْلِمُونَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَهُ. فَهُمْ كَفَرَةٌ يَتَقَرَّبُونَ إِلَى الْكَوَاكِبِ فِي سِحْرِهِمْ بِالْكُفْرِ الْبَوَاحِ.
النَّوْعُ الثَّانِي مِنَ السِّحْرِ: سِحْرُ أَصْحَابِ الْأَوْهَامِ وَالنُّفُوسِ الْقَوِيَّةِ. ثُمَّ اسْتَدَلَّ عَلَى تَأْثِيرِ الْوَهْمِ بِأَنَّ الْإِنْسَانَ يُمْكِنُهُ أَنْ يَمْشِيَ عَلَى الْجِسْرِ الْمَوْضُوعِ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، وَلَا يُمْكِنُهُ الْمَشْيُ عَلَيْهِ إِذَا كَانَ مَمْدُودًا عَلَى نَهْرٍ أَوْ نَحْوِهِ قَالَ: وَمَا ذَاكَ إِلَّا أَنَّ تَخَيُّلَ السُّقُوطِ مَتَى قَوِيَ أَوْجَبَهُ. وَقَالَ: وَاجْتَمَعَتِ(1/287)
الْأَطِبَّاءُ عَلَى نَهْيِ الْمَرْعُوفِ عَنِ النَّظَرِ إِلَى الْأَشْيَاءِ الْحُمْرِ، وَالْمَصْرُوعِ عَنِ النَّظَرِ إِلَى الْأَشْيَاءِ الْقَوِيَّةِ اللَّمَعَانِ وَالدَّوَرَانِ. وَمَا
ذَاكَ إِلَّا أَنَّ النُّفُوسَ خُلِقَتْ مُطِيعَةً لِلْأَوْهَامِ.
قَالَ: وَحَكَى صَاحِبُ الشِّفَاءِ عَنْ أَرِسْطُو فِي طَبَائِعِ الْحَيَوَانِ: أَنَّ الدَّجَاجَةَ إِذَا تَشَبَّهَتْ كَثِيرًا بالديَكة فِي الصَّوْتِ وَفِي الْحِرَابِ مَعَ الديَكة نَبَتَ عَلَى سَاقِهَا مِثْلُ الشَّيْءِ النَّابِتِ عَلَى سَاقِ الدِّيكِ، قَالَ: ثُمَّ قَالَ صَاحِبُ الشِّفَاءِ: وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَن الْأَحْوَال الجهمانية تَابِعَةٌ لِلْأَحْوَالِ النَّفْسَانِيَّةِ. قَالَ: وَاجْتَمَعَتِ الْأُمَمُ عَلَى أَنَّ الدُّعَاءَ اللِّسَانِيَّ الْخَالِيَ عَنِ الطَّلَبِ النَّفْسَانِيِّ قَلِيلُ الْعَمَلِ عَدِيمُ الْأَثَرِ. فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ لِلْهِمَمِ وَالنُّفُوسِ آثَارًا.. إِلَى آخِرِ كَلَامِهِ فِي هَذَا النَّوْعِ مِنْ أَنْوَاعِ السِّحْرِ، وَقَدْ أَطَالَ فِيهِ الْكَلَامَ.
وَمَعْلُومٌ أَنَّ النُّفُوسَ الْخَبِيثَةَ لَهَا آثَارٌ بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى، وَمِنْ أَصْرَحِ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْعين حَتَّى وَلَوْ كَانَ شَيْءٌ سَابِقٌ الْقَدَرَ لَسَبَقَتْهُ الْعَيْنُ» . (1) وَهَذَا الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هِمَّةَ الْعَائِنِ وَقُوَّةَ نَفْسِهِ فِي الشَّرِّ جَعَلَهَا اللَّهُ سَبَبًا لِلتَّأْثِيرِ فِي الْمُصَابِ بِالْعَيْنِ.
وَقَالَ الرَّازِيُّ فِي هَذَا النَّوْعِ مِنْ أَنْوَاعِ السِّحْرِ: إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: النُّفُوسُ الَّتِي تَفْعَلُ هَذِهِ الْأَفَاعِيلَ قَدْ تَكُونُ قَوِيَّةً جِدًّا فَتَسْتَغْنِي فِي هَذِهِ الْأَفْعَالِ عَنِ الِاسْتِعَانَةِ بِالْآلَاتِ وَالْأَدَوَاتِ، وَقَدْ تَكُونُ ضَعِيفَةً فَتَحْتَاجُ إِلَى الِاسْتِعَانَةِ بِهَذِهِ الْآلَاتِ.
وَتَحْقِيقُهُ: أَنَّ النَّفْسَ إِذَا كَانَتْ مُسْتَعْلِيَةً عَلَى الْبَدَنِ شَدِيدَةَ الِانْجِذَابِ إِلَى عَالَمِ السَّمَاءِ كَانَتْ كَأَنَّهَا رُوحٌ مِنَ الْأَرْوَاحِ السَّمَاوِيَّةِ، فَكَانَتْ قَوِيَّةً عَلَى التَّأْثِيرِ فِي مَوَادِّ هَذَا الْعَالَمِ، أَمَّا إِذَا كَانَتْ ضَعِيفَةً شَدِيدَةَ التَّعَلُّقِ بِهَذِهِ الذَّاتِ
_________
(1) - أخرجه مُسلم (4/1719) (2188) مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -.(1/288)
الْبَدَنِيَّةِ فَحِينَئِذٍ لَا يَكُونُ لَهَا تَصَرُّفٌ الْبَتَّةَ إِلَّا فِي هَذَا الْبَدَنِ. إِلَى آخِرِ كَلَامِهِ. وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ عَلَى مَنْ نَظَرَهُ.
وَقَالَ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي تَفْسِيرِهِ فِي سُورَةِ «الْبَقَرَةِ» بَعْدَ أَنْ سَاقَ كَلَامَ الرَّازِيِّ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ آنِفًا مَا نَصُّهُ: ثُمَّ أَرْشَدَ إِلَى مُدَاوَاةِ هَذَا الدَّاءِ بِتَقْلِيلِ الْغِذَاءِ وَالِانْقِطَاعِ عَنِ النَّاسِ. قُلْتُ: وَهَذَا الَّذِي يُشِيرُ إِلَيْهِ هُوَ التَّصَرُّفُ بِالْحَالِ وَهُوَ عَلَى قِسْمَيْنِ: تَارَةً يَكُونُ حَالًا صَحِيحَةً شَرْعِيَّةً، يَتَصَرَّفُ بِهَا فِيمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيَتْرُكُ مَا نَهَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَهَذِهِ الْأَحْوَالُ مَوَاهِبُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَكَرَامَاتٌ لِلصَّالِحِينَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَلَا يُسَمَّى هَذَا سِحْرًا فِي الشَّرْعِ. وَتَارَةً تَكُونُ الْحَالُ فَاسِدَةً لَا يَمْتَثِلُ صَاحِبُهَا مَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا يَتَصَرَّفُ بِهَا فِي ذَلِكَ. فَهَذِهِ حَالُ الْأَشْقِيَاءِ الْمُخَالِفِينَ لِلشَّرِيعَةِ، وَلَا يَدُلُّ إِعْطَاءُ اللَّهِ إِيَّاهُمْ هَذِهِ الْأَحْوَالِ عَلَى مَحَبَّتِهِ لَهُمْ. كَمَا أَنَّ الدَّجَّالَ لَهُ مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْأَحَادِيثُ الْكَثِيرَةُ، مَعَ أَنَّهُ مَذْمُومٌ شَرْعًا لَعَنَهُ اللَّهُ، وَكَذَلِكَ مَنْ شَابَهَهُ مِنْ مُخَالِفِي الشَّرِيعَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ عَلَى صَاحِبِهَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ. انْتَهَى كَلَامُ ابْنِ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
النَّوْعُ الثَّالِثُ مِنْ أَنْوَاعِ السِّحْرِ الْمَذْكُورَةِ: الِاسْتِعَانَةُ بِالْأَرْوَاحِ الْأَرْضِيَّةِ، يَعْنِي تَسْخِيرَ الْجِنِّ وَاسْتِخْدَامَهُمْ.
قَالَ: وَاعْلَمْ أَنَّ الْقَوْلَ بِالْجِنِّ مِمَّا أَنْكَرَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنَ الْفَلَاسِفَةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ. أَمَّا أَكَابِرُ الْفَلَاسِفَةِ فَلَمْ يُنْكِرُوا الْقَوْلَ بِهَا. إِلَّا أَنَّهُمْ سَمَّوْهَا بِالْأَرْوَاحِ الْأَرْضِيَّةِ. وَالْجِنُّ الْمَذْكُورُونَ قِسْمَانِ: مُؤْمِنُونَ، وَكَافِرُونَ وَهُمُ الشَّيَاطِينُ.
قَالَ الرَّازِيُّ فِي كَلَامِهِ عَلَى هَذَا النَّوْعِ مِنَ السِّحْرِ: وَاتِّصَالُ النُّفُوسِ النَّاطِقَةِ بِهَا أَسْهَلُ مِنِ اتِّصَالِهَا بِالْأَرْوَاحِ السَّمَاوِيَّةِ لِمَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْمُنَاسَبَةِ(1/289)
وَالْقُرْبِ. ثُمَّ إِنَّ أَصْحَابَ الصَّنْعَةِ وَأَصْحَابَ التَّجْرِبَةِ شَاهَدُوا بِأَنَّ الِاتِّصَالَ بِهَذِهِ الْأَرْوَاحِ الْأَرْضِيَّةِ يَحْصُلُ بِأَعْمَالٍ سَهْلَةٍ مِنَ الرُّقَى وَالدَّخْنِ وَالتَّجْرِيدِ. وَهَذَا النَّوْعُ هُوَ الْمُسَمَّى بِالْعَزَائِمِ، وَعَمَلِ تَسْخِيرِ الْجِنِّ. وَقَدْ أَطَالَ الرَّازِيُّ أَيْضًا الْكَلَامَ فِي هَذَا النَّوْعِ مِنْ أَنْوَاعِ السِّحْرِ.
النَّوْعُ الرَّابِعُ مِنْ أَنْوَاعِ السِّحْرِ: هُوَ التَّخَيُّلَاتُ وَالْأَخْذُ بِالْعُيُونِ. وَمَبْنَى هَذَا النَّوْعِ مِنْهُ عَلَى أَنَّ الْقُوَّةَ الْبَاصِرَةَ قَدْ تَرَى الشَّيْءَ عَلَى خِلَافِ مَا هُوَ عَلَيْهِ فِي الْحَقِيقَةِ لِبَعْضِ الْأَسْبَابِ الْعَارِضَةِ. وَلِأَجْلِ هَذَا كَانَتِ أَغْلَاطُ الْبَصَرِ كَثِيرَةً. أَلَا تَرَى أَنَّ رَاكِبَ السَّفِينَةِ إِذَا نَظَرَ إِلَى الشَّطِّ رَأَى السَّفِينَةَ وَاقِفَةً وَالشَّطَّ مُتَحَرِّكًا، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ السَّاكِنَ يُرَى مُتَحَرِّكًا. وَالْمُتَحَرِّكُ سَاكِنًا. وَالْقَطْرَةُ النَّازِلَةُ تُرَى خَطًّا مُسْتَقِيمًا. إِلَى آخِرِ كَلَامِ الرَّازِيِّ. وَقَدْ أَطَالَ الْكَلَامَ أَيْضًا فِي هَذَا النَّوْع.
وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي تَفْسِيرِهِ فِي سُورَةِ «الْبَقَرَةِ» مُخْتَصِرًا كَلَامَ الرَّازِيِّ الْمَذْكُورَ: وَمَبْنَاهُ عَلَى أَنَّ الْبَصَرَ قَدْ يخطىء وَيَشْتَغِلُ بِالشَّيْءِ الْمُعَيَّنِ دُونَ غَيْرِهِ. أَلَا تَرَى ذَا الشَّعْبَذَةِ الْحَاذِقَ يُظْهِرُ عَمَلَ شَيْءٍ يُذْهِلُ أذهان الناظرين بِهِ، وبأخذ عيوبهم إِلَيْهِ، حَتَّى إِذَا اسْتَغْرَقَهُمُ الشُّغْلُ بِذَلِكَ الشَّيْءِ بِالتَّحْدِيقِ وَنَحْوِهِ عَمِلَ شَيْئًا آخَرَ عَمَلًا بِسُرْعَةٍ شَدِيدَةٍ، وَحِينَئِذٍ، يَظْهَرُ لَهُمْ شَيْءٌ غَيْرُ مَا انْتَظَرُوهُ فَيَتَعَجَّبُونَ مِنْهُ جِدًّا، وَلَوْ أَنَّهُ سَكَتَ وَلَمْ يَتَكَلَّمْ بِمَا يَصْرِفُ الْخَوَاطِرَ إِلَى ضِدِّ مَا يُرِيدُ أَنْ يَعْمَلَهُ، وَلَمْ تَتَحَرَّكِ النُّفُوسُ وَالْأَوْهَامُ إِلَى غَيْرِ مَا يُرِيدُ إِخْرَاجَهُ لَفَطِنَ النَّاظِرُونَ لِكُلِّ مَا يَفْعَلُهُ.
قَالَ: وَكُلَّمَا كَانَتِ الْأَحْوَالُ تُفِيدُ حِسَّ الْبَصَرِ نَوْعًا مِنْ أَنْوَاعِ الْخَلَلِ أَشَدَّ، كَانَ الْعَمَلُ أَحْسَنَ. مِثْلَ أَنْ يَجْلِسَ الْمُشَعْبِذُ فِي مَوْضِعٍ مُضِيءٍ جِدًّا أَوْ مُظْلِمٍ، فَلَا تَقِفُ الْقُوَّةُ النَّاظِرَةُ عَلَى أَحْوَالِهَا وَالْحَالَةُ هَذِهِ. اهـ مِنْهُ. وَلَا يَخْفَى أَنْ يَكُونَ سِحْرُ سَحَرَةِ فِرْعَوْنَ مِنْ هَذَا النَّوْعِ. فَهُوَ تَخْيِيلٌ وَأَخْذٌ(1/290)
بِالْعُيُونِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} فَإِطْلَاقُ التَّخْيِيلِ فِي الْآيَةِ عَلَى سِحْرِهِمْ نَصٌّ صَرِيحٌ فِي ذَلِكَ. وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا قَوْلُهُ فِي «الْأَعْرَافِ» : {فَلَمَّآ أَلْقُوْاْ سَحَرُواْ أَعْيُنَ النَّاسِ} ؛ لِأَنَّ إِيقَاعَ السِّحْرِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ فِي الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَعْيُنَهُمْ تَخَيَّلَتْ غَيْرَ الْحَقِيقَةِ الْوَاقِعَةِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
النَّوْعُ الْخَامِسُ مِنْ أَنْوَاعِ السِّحْرِ: الْأَعْمَالُ الْعَجِيبَةُ الَّتِي تَظْهَرُ مِنْ تَرْكِيبِ الْآلَاتِ الْمُرَكَّبَةِ عَلَى النِّسَبِ الْهَنْدَسِيَّةِ، كَفَارِسٍ عَلَى فَرَسٍ فِي يَدِهِ بُوقٌ، كُلَّمَا مَضَتْ سَاعَةٌ مِنَ النَّهَارِ ضَرَبَ بِالْبُوقِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَمَسَّهُ أَحَدٌ. وَمِنْهَا الصُّوَرُ الَّتِي يُصَوِّرُهَا الرُّومُ وَالْهِنْدُ حَتَّى لَا يُفَرِّقَ النَّاظِرُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْإِنْسَانِ، حَتَّى إِنَّهُمْ يُصَوِّرُونَهَا ضَاحِكَةً وَبَاكِيَةً، حَتَّى يُفَرِّقَ فِيهَا بَيْنَ ضَحِكِ السُّرُورِ، وَبَيْنَ ضَحِكِ الْخَجَلِ، وَضَحِكِ الشَّامِتِ.
فَهَذِهِ الْوُجُوهُ مِنْ لَطِيفِ أُمُورِ الْمَخَايِلِ. قَالَ الرَّازِيُّ: وَكَانَ سِحْرُ سَحَرَةِ فِرْعَوْنَ مِنْ هَذَا الضَّرْبِ. وَمِنْ هَذَا الْبَابِ تَرْكِيبُ صُنْدُوقِ السَّاعَاتِ. وَيَنْدَرِجُ فِي هَذَا الْبَابِ عِلْمُ جَرِّ الْأَثْقَالِ، وَهُوَ أَنْ يَجُرَّ ثَقِيلًا عَظِيمًا بِآلَةٍ خَفِيفَةٍ سَهْلَةٍ، وَهَذَا فِي الْحَقِيقَةِ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُعَدَّ مِنْ بَابِ السِّحْرِ لِأَنَّ لَهَا أَسْبَابًا مَعْلُومَةً نَفِيسَةً، مَنِ اطَّلَعَ عَلَيْهَا قَدِرَ عَلَيْهَا، إِلَّا أَنَّ الِاطِّلَاعَ عَلَيْهَا لَمَّا كَانَ عسير أعد أَهْلُ الظَّاهِرِ ذَلِكَ مِنْ بَابِ السِّحْرِ لِخَفَاءِ مَأْخَذِهِ اهـ.
وَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّ الرَّازِيَّ يَرَى أَنَّ سِحْرَ سَحَرَةِ فِرْعَوْنَ مِنْ هَذَا النَّوْعِ الْأَخِيرِ، لِأَنَّ السَّحَرَةَ جَعَلُوا الزِّئْبَقَ عَلَى الْحِبَالِ وَالْعِصِيِّ فَحَرَّكَتْهُ حَرَارَةُ الشَّمْسِ فَتَحَرَّكَتِ الْحِبَالُ والعصي فظنوا أَنَّهَا حَرَكَة طبيعية حَقِيقَة. وَالَّذِي يَظْهَرُ لَنَا أَنَّهُ مِنَ النَّوْعِ الَّذِي قَبْلَهُ كَمَا قَدَّمْنَا، وَلَا مَانِعَ مِنْ أَنْ يَتَوَارَدَ نَوْعَانِ عَلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ فَيَكُونُ دَاخِلًا فِي هَذَا وَفِي هَذَا. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ كَلَامَ الرَّازِيِّ الَّذِي ذَكَرْنَا فِي هَذَا(1/291)
النَّوْعِ مِنَ السِّحْرِ. قُلْتُ: وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ حِيَلُ النَّصَارَى عَلَى عَامَّتِهِمْ بِمَا يُرُونَهُمْ إِيَّاهُ مِنَ الْأَنْوَارِ، كَقَضِيَّةِ قُمَامَةِ الْكَنِيسَةِ الَّتِي لَهُمْ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَمَا يَحْتَالُونَ بِهِ مِنْ إِدْخَالِ النَّارِ خُفْيَةً إِلَى الْكَنِيسَةِ، وَإِشْعَالِ ذَلِكَ الْقِنْدِيلِ بِصَنْعَةٍ لَطِيفَةٍ تُرَوَّجُ عَلَى الطَّغَامِ مِنْهُمْ، وَأَمَّا الْخَوَاصُّ مِنْهُمْ فَمُعْتَرِفُونَ بِذَلِكَ، وَلَكِنْ يَتَأَوَّلُونَ أَنَّهُمْ يَجْمَعُونَ شَمْلَ أَصْحَابِهِمْ عَلَى دِينِهِمْ، فَيَرَوْنَ ذَلِكَ سَائِغًا لَهُمْ، وَفِيهِمْ شُبَهٌ مِنَ الْجَهَلَةِ الْأَغْبِيَاءِ مِنْ مُتَعَبِّدِي الْكَرَّامِيَّةِ الَّذِينَ يَرَوْنَ جَوَازَ وَضْعِ الْأَحَادِيثِ فِي التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ، فَيَدْخُلُونَ فِي عِدَادِ مَنْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِمْ: «مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ» (1) ، وَقَوْلُهُ: «حَدِّثُوا عَنِّي وَلَا تَكْذِبُوا عَلَيَّ، فَإِنَّهُ مَنْ يَكْذِبُ عَلَيَّ يَلِجُ النَّارَ» (2) . ثُمَّ ذَكَرَهَا هُنَا يَعْنِي الرَّازِيَّ حِكَايَةً عَنْ بَعْضِ الرُّهْبَانِ، وَهِيَ أَنَّهُ سَمِعَ صَوْتَ طَائِرٍ حَزِينِ الصَّوْتِ، ضَعِيفِ الْحَرَكَةِ، فَإِذَا سَمِعَتْهُ الطُّيُورُ تَرِقُّ لَهُ فَتُذْهِبُ فِي وَكْرِهِ مِنْ ثَمَرِ الزَّيْتُونِ لِيَتَبَلَّغَ بِهِ، فَعَمَدَ هَذَا الرَّاهِبُ إِلَى صَنْعَةِ طَائِرٍ عَلَى شَكْلِهِ وَتَوَصَّلَ إِلَى أَن جعله أجوف، فَإِذَا دَخَلَتْهُ الرِّيحُ سُمِعَ مِنْهُ صَوْتٌ كَصَوْتِ ذَلِكَ الطَّائِرِ. وَانْقَطَعَ فِي صَوْمَعَةٍ ابْتَنَاهَا، وَزَعَمَ أَنَّهَا عَلَى قَبْرِ بَعْضِ صَالِحِيهِمْ، وَعَلَّقَ ذَلِكَ الطَّائِرَ فِي مَكَانٍ مِنْهَا، فَإِذَا كَانَ زَمَانُ الزَّيْتُونِ فَتَحَ بَابًا مِنْ نَاحِيَتِهِ فَتَدْخُلُ الرِّيحُ إِلَى دَاخِلِ هَذِهِ الصُّورَةِ فَيَسْمَعُ صَوْتَهَا كُلُّ طَائِرٍ فِي شَكْلِهِ أَيْضًا، فَتَأْتِي الطُّيُورُ فَتَحْمِلُ مِنَ الزَّيْتُونِ شَيْئًا كَثِيرًا فَلَا تَرَى النَّصَارَى إِلَّا ذَلِكَ الزَّيْتُونَ فِي هَذِهِ الصَّوْمَعَةِ وَلَا يَدْرُونَ مَا سَبَبُهُ. فَفَتَنَهُمْ بِذَلِكَ وَأَوْهَمَهُمْ أَنَّ هَذَا مِنْ كَرَامَاتِ صَاحِبِ ذَلِكَ الْقَبْرِ، عَلَيْهِمْ لِعَائِنُ اللَّهِ الْمُتَتَابِعَةُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ انْتَهَى كَلَام ابْن كثير.
_________
(1) - أخرجه البُخَارِيّ (1/52) (110) ، وَمُسلم (1/10) (3) مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
(2) - أخرجه البُخَارِيّ (1/52) (106) ، وَمُسلم (1/9) (1) من حَدِيث عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - بِدُونِ ذكر أَوله.(1/292)
وَذَكَرَ الرَّازِيُّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الَّتِي نَقَلَهَا عَنْهُ ابْنُ كَثِيرٍ: أَنَّ ذَلِكَ الطَّائِرَ الْمَذْكُورَ يُسَمَّى الْبَرَاصِلَ، وَأَنَّ الَّذِي عَمِلَ صُورَتَهُ يُسَمَّى أَرْجِعْيَانُوسَ الْمُوسِيقَارَ، وَأَنَّهُ جَعَلَ ذَلِكَ عَلَى هَيْكَلِ أُورَشْلِيمَ الْعَتِيقِ عِنْدَ تَجْدِيدِهِ إِيَّاهُ، وَأَنَّ الَّذِي قَامَ بِعِمَارَةِ ذَلِكَ الْهَيْكَلِ أَوَّلًا أُسْطَرْخَسُ النَّاسِكُ.
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ: وَهَذَا النَّوْعُ الْخَامِسُ الَّذِي عَدَّهُ الرَّازِيُّ مِنْ أَنْوَاعِ السِّحْرِ، الَّذِي هُوَ الْأَعْمَالُ الْعَجِيبَةُ الَّتِي تَظْهَرُ مِنْ تَرْكِيبِ الْآلَاتِ الْمُرَكَّبَةِ عَلَى النِّسَبِ الْهَنْدَسِيَّةِ. إِلَخْ لَا يَنْبَغِي عَدُّهُ الْيَوْمَ مِنْ أَنْوَاعِ السِّحْرِ؛ لِأَنَّ أَسْبَابَهُ صَارَتْ وَاضِحَةً مُتَعَارَفَةً عِنْدَ النَّاسِ، بِسَبَبِ تَقَدُّمِ الْعِلْمِ الْمَادِّيِّ. وَالْوَاضِحُ الَّذِي صَارَ عَادِيًّا لَا يَدْخُلُ فِي حَدِّ السِّحْرِ، وَقَدْ كَانَتْ أُمُورٌ كَثِيرَةٌ خَفِيَّةَ الْأَسْبَابِ فَصَارَتِ الْيَوْمَ ظَاهِرَتَهَا جِدًّا. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
النَّوْعُ السَّادِسُ مِنْ أَنْوَاعِ السِّحْرِ: الِاسْتِعَانَةُ بِخَوَاصِّ الْأَدْوِيَةِ، مِثْلَ أَنْ يَجْعَلَ فِي طَعَامِهِ بَعْضَ الْأَدْوِيَةِ الْمُبَلِّدَةِ الْمُزِيلَةِ لِلْعَقْلِ وَالدَّخَنَ الْمُسْكِرَةَ نَحْوَ دِمَاغِ الْحِمَارِ إِذَا تَنَاوَلَهُ الْإِنْسَانُ تَبَلَّدَ عَقْلُهُ، وَقَلَّتْ فِطْنَتُهُ، قَالَهُ الرَّازِيُّ. ثُمَّ قَالَ: وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا سَبِيلَ إِلَى إِنْكَارِ الْخَوَاصِّ: فَإِنَّ أَثَرَ الْمِغْنَاطِيسِ مُشَاهَدٌ إِلَّا أَنَّ النَّاسَ قَدْ أَكْثَرُوا فِيهِ وَخَلَطُوا الصِّدْقَ بِالْكَذِبِ، وَالْبَاطِلَ بِالْحَقِّ اهـ كَلَامُ الرَّازِيِّ.
وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ رَحمَه الله بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ هَذَا النَّوْعَ مِنَ السِّحْرِ نَقْلًا عَنِ الرَّازِيِّ: قُلْتُ: يَدْخُلُ فِي هَذَا الْقَبِيلِ كَثِيرٌ مِمَّنْ يَدَّعِي الْفَقْرَ، وَيَتَحَيَّلُ عَلَى جَهَلَةِ النَّاسِ بِهَذِهِ الْخَوَاصِّ مُدَّعِيًا أَنَّهَا أَحْوَالٌ لَهُ: مِنْ مُخَالَطَةِ النِّيرَانِ: وَمَسْكِ الْحَيَّاتِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمُحَاوَلَاتِ انْتَهَى كَلَامُ ابْنِ كَثِيرٍ.
النَّوْعُ السَّابِعُ مِنْ أَنْوَاعِ السِّحْرِ الْمَذْكُورِ: تَعْلِيقُ الْقَلْبِ، وَهُوَ أَنْ يَدَّعِيَ السَّاحِرُ أَنَّهُ قَدْ عَرَفَ الِاسْمَ الْأَعْظَمَ، وَأَنَّ الْجِنَّ يُطِيعُونَ وَيَنْقَادُونَ لَهُ فِي أَكْثَرِ الْأَحْوَالِ: فَإِذَا اتَّفَقَ أَنْ كَانَ السَّامِعُ لِذَلِكَ ضَعِيفَ الْعَقْلِ قَلِيلَ التَّمْيِيز -(1/293)
اعْتقد أَنه حق، وَتعلق قلبه بذلك، وَحصل فِي نَفْسِهِ نَوْعٌ مِنَ الرُّعْبِ وَالْمَخَافَةِ، وَإِذَا حَصَلَ الْخَوْفُ ضَعُفَتِ الْقُوَى الْحَسَّاسَةُ، فَحِينَئِذٍ يَتَمَكَّنُ السَّاحِرُ مِنْ أَنْ يَفْعَلَ مَا يَشَاءُ.
قَالَ الرَّازِيُّ: وَإِنَّ مَنْ جَرَّبَ الْأُمُورَ وَعَرَفَ أَحْوَالَ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلِمَ أَنَّ لِتَعَلُّقِ الْقَلْبِ أَثَرًا عَظِيمًا فِي تَنْفِيذِ الْأَعْمَالِ وَإِخْفَاءِ الْأَسْرَارِ.
وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ بَعْدَ أَنْ نَقَلَ هَذَا النَّوْعَ مِنَ السِّحْرِ عَنِ الرَّازِيِّ: هَذَا النَّمَطُ يُقَالُ لَهُ التَّنْبَلَةُ، وَإِنَّمَا يُرَوَّجُ عَلَى ضُعَفَاءِ الْعُقُولِ مِنْ بَنِي آدَمَ. وَفِي عِلْمِ الْفِرَاسَةِ مَا يُرْشِدُ إِلَى مَعْرِفَةِ كَامِلِ الْعَقْلِ مِنْ نَاقِصِهِ. فَإِذَا كَانَ النَّبيل حَاذِقًا فِي عِلْمِ الْفِرَاسَةِ عَرَفَ مَنْ يَنْقَادُ لَهُ مِنَ النَّاسِ مِنْ غَيْرِهِ.
النَّوْعُ الثَّامِنُ مِنْ أَنْوَاعِ السِّحْرِ: السَّعْيُ بِالنَّمِيمَةِ وَالتَّضْرِيبُ مِنْ وُجُوهٍ لَطِيفَةٍ خَفِيَّةٍ وَذَلِكَ شَائِعٌ فِي النَّاسِ اهـ.
وَالتَّضْرِيبُ بَيْنَ الْقَوْمِ: إِغْرَاءُ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ.
وَقَالَ ابْنُ كثير رَحمَه الله بَعْدَ أَنْ نَقَلَ هَذَا النَّوْعَ الْأَخِيرَ عَنِ الرَّازِيِّ قُلْتُ: النَّمِيمَةُ عَلَى قِسْمَيْنِ: تَارَةً تَكُونُ عَلَى وَجْهِ التَّحْرِيشِ بَيْنَ النَّاسِ، وَتَفْرِيقِ قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ. فَهَذَا حَرَامٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. فَأَمَّا إِنْ كَانَتْ عَلَى وَجْهِ الْإِصْلَاحِ بَيْنَ النَّاسِ، وَائْتِلَافِ كَلِمَةِ الْمُسْلِمِينَ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ «لَيْسَ الْكَذَّابُ مَنْ يُنَمِّ خَيْرًا» (1) أَوْ يَكُونُ عَلَى وَجْهِ التَّخْذِيلِ وَالتَّفْرِيقِ بَيْنَ جُمُوعِ الْكَفَرَةِ، فَهَذَا أَمْرٌ مَطْلُوبٌ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ «الْحَرْبُ خدعة» (2) ، وكما فعل
_________
(1) - أخرجه البُخَارِيّ (2/958) (2546) ، وَمُسلم (4/2011) (2065) من حَدِيث أم كُلْثُوم بنت عقبَة -رَضِي الله عَنْهَا - مَرْفُوعا: [لَيْسَ الْكذَّاب الَّذِي يصلح بَين النَّاس فينمي خيرا أَو يَقُول خيرا] ، وَاللَّفْظ للْبُخَارِيّ.
(2) - أخرجه البُخَارِيّ (3/1102) (2866) ، وَمُسْلِمٌ (3/1361) (1739) مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.(1/294)
نُعَيْمُ بْنُ مَسْعُودٍ فِي تَفْرِيقِهِ بَيْنَ كَلِمَةِ الْأَحْزَابِ وَبَيْنَ قُرَيْظَةَ، جَاءَ إِلَى هَؤُلَاءِ وَنَمَّى إِلَيْهِمْ عَنْ هَؤُلَاءِ، وَنَقَلَ مِنْ هَؤُلَاءِ إِلَى أُولَئِكَ شَيْئًا آخَرَ، ثُمَّ لَأَمَ بَيْنَ ذَلِكَ فَتَنَاكَرَتِ النُّفُوسُ وَافْتَرَقَتْ. وَإِنَّمَا يَحْذُو عَلَى مِثْلِ هَذَا الذَّكَاءِ ذُو الْبَصِيرَةِ النَّافِذَةِ. وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.
ثُمَّ قَالَ الرَّازِيُّ: فَهَذِهِ جُمْلَةُ الْكَلَامِ فِي أَقْسَامِ السِّحْرِ وَشَرْحِ أَنْوَاعِهِ وَأَصْنَافِهِ.
قُلْتُ: وَإِنَّمَا أَدْخَلَ كَثِيرًا مِنْ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ الْمَذْكُورَةِ فِي فَنِّ السِّحْرِ لِلَطَافَةِ مَدَارِكِهَا؛ لِأَنَّ السِّحْرَ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَمَّا لَطُفَ وَخَفِيَ سَبَبُهُ، وَلِهَذَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ «إِنَّ مِنَ الْبَيَانِ لَسِحْرًا» (1) وَسُمِّيَ السَّحُورُ سَحُورًا لِكَوْنِهِ يَقَعُ خَفِيًّا آخِرَ اللَّيْلِ. وَالسِّحْرُ: الرِّئَةُ وَهِيَ مَحَلُّ الْغِذَاءِ، وَسُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِخَفَائِهَا وَلُطْفِ مَجَارِيهَا إِلَى أَجْزَاءِ الْبَدَنِ وَغُضُونِهِ، كَمَا قَالَ أَبُو جَهْلٍ يَوْمَ بَدْرٍ لِعُتْبَةَ: أَنْتَفَخَ سِحْرُهُ، أَيْ أَنْتَفَخَتْ رِئَتُهُ مِنَ الْخَوْفِ.
وَقَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: «تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ سَحْرِي وَنَحْرِي» (2) . وَقَالَ تَعَالَى: {سَحَرُواْ أَعْيُنَ النَّاسِ} أَيْ أَخْفَوْا عَنْهُمْ عَمَلَهُمْ. انْتَهَى كَلَامُ ابْنِ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
هَذَا هُوَ حَاصِلُ الْأَقْسَامِ الثَّمَانِيَةِ الَّتِي ذَكَرَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ فِي سُورَةِ «الْبَقَرَةِ» انْقِسَامَ السِّحْرِ إِلَيْهَا. وَلِأَهْلِ الْعِلْمِ فِيهِ تَقْسِيمَاتٌ مُتَعَدِّدَةٌ يَرْجِعُ غَالِبُهَا إِلَى هَذِهِ الْأَقْسَامِ الْمَذْكُورَةِ وَقَدْ قَسَّمَهُ الشَّيْخُ سَيِّدِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَاجِّ إِبْرَاهِيمَ الْعَلَوِيُّ الشَّنْقِيطِيُّ صَاحِبُ التَّآلِيفِ الْعَدِيدَةِ الْمُفِيدَةِ فِي نَظْمِهِ الْمُسَمَّى (رُشْدُ الْغَافِلِ) وَشَرْحِهِ لَهُ، الَّذِي بَيَّنَ فِيهِ أَنْوَاع عُلُوم الشَّرّ لتتقي
_________
(1) - أخرجه الْبُخَارِيِّ (5/1976) (4851) مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ -.
(2) - أخرجه البُخَارِيّ (1/468) (1323) ، وَمُسلم (4/1893) (2443) .(1/295)
وَتُجْتَنَبَ إِلَى أَقْسَامٍ مُتَعَدِّدَةٍ:
(مِنْهَا) قِسْمٌ يُسَمَّى (بالهيماء) بسكر الْهَاءِ بَعْدَهَا مُثَنَّاةٌ تَحْتِيَّةٌ فَمِيمٌ فَيَاءٌ بَعْدَهَا أَلِفُ التَّأْنِيثِ الْمَمْدُودَةُ، عَلَى وَزْنِ كِبْرِيَاءَ. قَالَ: وَهُوَ مَا تَرَكَّبَ مِنْ خَوَاصٍّ سَمَاوِيَّةٍ تُضَافُ لِأَحْوَالِ الْأَفْلَاكِ، يَحْصُلُ لِمَنْ عُمِلَ لَهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ أُمُورٌ مَعْلُومَةٌ عِنْدَ السَّحَرَةِ، وَقَدْ يَبْقَى لَهُ إِدْرَاكٌ، وَقَدْ يُسْلَبُهُ بِالْكُلِّيَّةِ فَتَصِيرُ أَحْوَالُهُ كَحَالَاتِ النَّائِمِ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ، حَتَّى يَتَخَيَّلَ مُرُورَ السِّنِينِ الْكَثِيرَةِ فِي الزَّمَنِ الْيَسِيرِ. وَحُدُوثَ الْأَوْلَادِ وَانْقِضَاءَ الْأَعْمَارِ وَغَيْرَ ذَلِكَ فِي سَاعَةٍ وَنَحْوِهَا مِنَ الزَّمَنِ الْيَسِيرِ. وَمَنْ لَمْ يُعْمَلْ لَهُ ذَلِكَ لَا تَجِدُ شَيْئًا مِمَّا ذُكِرَ. وَهَذَا تَخْيِيلٌ لَا حَقِيقَةَ لَهُ اهـ.
(وَمِنْهَا) نَوْعٌ يُسَمَّى (بِالسِّيمْيَاءِ) بِكَسْرِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ وَبَقِيَّةُ حُرُوفِهِ كَحُرُوفِ مَا قَبْلَهُ. قَالَ: وَهُوَ عِبَارَةٌ عَمَّا تَرَكَّبَ مِنْ خَوَاصَّ أَرْضِيَّةٍ كَدُهْنٍ خَاصٍّ، أَوْ مَائِعَاتٍ خَاصَّةٍ يَبْقَى مَعَهَا إِدْرَاكٌ، وَقَدْ يُسْلَبُ بِالْكُلِّيَّةِ إِلَى آخِرِ مَا تَقَدَّمَ فِي الْهِيمْيَاءِ.
(وَمِنْهَا) نَوْعٌ هُوَ رُقًى ضَارَّةٌ. قَالَ: كَرُقَى الْجَاهِلِيَّةِ وَأَهْلِ الْهِنْدِ، وَرُبَّمَا كَانَتْ كفرا. قَالَ: وَلِهَذَا نهى
مَالك رَحمَه الله عَن الرقى بالعجمية. وَقَالَ ابْن زكري فِي شَرْحِ (النَّصِيحَةِ) : وَلَا يُقَالُ لِمَا يُحْدِثُ ضَرَرًا رُقًى، بَلْ ذَلِكَ يُقَالُ لَهُ سِحْرٌ.
(وَمِنْهَا) قِسْمٌ يُسَمَّى خَصَائِصُ بَعْضِ الْحَقَائِقِ الَّتِي لَهَا تَسَلُّطٌ عَلَى النُّفُوسِ. كَالْمُشْطِ وَالْمُشَاقَةِ وَجَفُّ طَلْعِ الذَّكَرِ مِنَ النَّخْلِ، وَقِصَّةُ جُعْلِ الْيَهُودِيِّ الَّذِي سَحَرَ النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَا ذُكِرَ فِي سِحْرِهِ مَشْهُورَةٌ. وَسَيَأْتِي إِيضَاحُ ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَمِنْ أَمْثِلَةِ هَذَا النَّوْعِ عِنْدَ أَهْلِهِ: أَنَّ بَعْضَ أَنْوَاعِ الْكِلَابِ مِنْ شَأْنِهِ إِذَا رُمِيَ بِحَجَرٍ أَنْ يَعَضَّهُ، فَإِذَا رُمِيَ بِسَبْعِ حِجَارَةٍ وَعَضَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا وَطُرِحَتْ(1/296)
تِلْكَ الْحِجَارَةُ فِي مَاءٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَإِنَّ السَّحَرَةَ يَزْعُمُونَ أَنْ تَظْهَرَ فِيهِ آثَارٌ مَخْصُوصَةٌ مَعْرُوفَةٌ عِنْدَهُمْ. قَبَّحَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى.
(وَمِنْهَا) نَوْعٌ يُسَمَّى (بِالطَّلَاسِمِ) وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ نَقْشِ أَسْمَاءٍ خَاصَّةٍ لَهَا تَعَلُّقٌ بِالْأَفْلَاكِ وَالْكَوَاكِبِ عَلَى زَعْمِ أَهْلِهَا فِي جِسْمٍ مِنَ الْمَعَادِنِ أَوْ غَيْرِهَا، تَحْدُثُ بِهَا خَاصِّيَّةٌ رُبِطَتْ فِي مَجَارِي الْعَادَاتِ، وَلَا بُدَّ مَعَ ذَلِكَ مِنْ نَفْسٍ صَالِحَةٍ لِهَذِهِ الْأَعْمَالِ. فَإِنَّ بَعْضَ النُّفُوسِ لَا تَجْرِي الْخَاصَّةُ الْمَذْكُورَةُ عَلَى يَدِهِ.
(وَمِنْهَا) نَوْعٌ يُسَمَّى (بِالْعَزَائِمِ) وَهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّ لِكُلِّ نَوْعٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ أَسْمَاءً أُمِرُوا بِتَعْظِيمِهَا، وَمَتَى أُقْسِمَ عَلَيْهِمْ بِهَا أَطَاعُوا وَأَجَابُوا وَفَعَلُوا مَا طُلِبَ مِنْهُمْ اهـ وَلَا يَخْفَى مَا فِي هَذَا الزَّعْمِ مِنَ الْفَسَادِ.
(وَمِنْهَا) نَوْعٌ يُسَمُّونَهُ الِاسْتِخْدَام للكواكب وَالْجِنّ. وَأهل الاستخدامات يَزْعُمُونَ أَنَّ لِلْكَوَاكِبِ إِدْرَاكَاتٍ
رُوحَانِيَّةً. فَإِذَا قُوبِلَتَ الْكَوَاكِبُ بِبَخُورٍ خَاصٍّ وَلِبَاسٍ خَاصٍّ عَلَى الَّذِي يُبَاشِرُ الْبَخُورَ، كَانَتْ رُوحَانِيَّةَ فَلَكِ الْكَوَاكِبِ مُطِيعَةٌ لَهُ، مَتَى مَا أَرَادَ شَيْئًا فَعَلَتْهُ لَهُ عَلَى زَعْمِهِمْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى. وَهَذَا النَّوْعُ مِنْ سِحْرِ الْكِلْدَانِيِّينَ الْمُتَقَدِّمِ. وَكَذَلِكَ مُلُوكُ الْجَانِّ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ إِذَا عَمِلُوا لَهُمْ أَشْيَاءً خَاصَّةً بِكُلِّ مَلِكٍ مِنْ مُلُوكِهِمْ أَطَاعُوا وَفَعَلُوا لَهُمْ مَا أَرَادُوا. قَالَ: وَشُرُوطُ هَذِهِ الْأُمُورِ مُسْتَوْعَبَةٌ فِي كتبهمْ. وَذكر رَحمَه الله مِنْ عُلُومِ الشَّرِّ أَنْوَاعًا كَثِيرَةً: كَالْخَطِّ، وَالْأَشْكَالِ، وَالْمَوَالِدِ، وَالْقُرْعَةِ، وَالْفَأْلِ، وَعِلْمِ الْكَتِفِ، وَالْمُوسِيقَى، وَالرَّعْدِيِّ، وَالْكِهَانَةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ.
وَالْخَطُّ الرَّمْلِيُّ مَعْرُوفٌ. وَالْأَشْكَالُ جَمْعُ شَكْلٍ، وَيُسَمَّى عِلْمُهَا عِلْمُ الْجَدَاوِلِ وَعِلْمُ الْأَوْفَاقِ، وَهِيَ مَعْرُوفَةٌ وَهِيَ مِنَ الْبَاطِلِ.
وَالْمَوَالِدُ جَمْعُ مَوْلِدٍ، وَهِيَ أَنْ يَدَّعِيَ مِنْ مَعْرِفَةِ النَّجْمِ الَّذِي كَانَ طَالِعًا(1/297)
عِنْدَ وِلَادَةِ الشَّخْصِ أَنَّهُ يَكُونُ سُلْطَانًا أَوْ عَالِمًا، أَوْ غَنِيًا أَوْ فَقِيرًا، أَوْ طَوِيلَ الْعُمْرِ أَوْ قَصِيرَهُ، وَنَحْوَ ذَلِكَ.
وَالْقُرْعَةُ مَا يُسَمُّونَهُ قُرْعَةَ الْأَنْبِيَاءِ، وَحَاصِلُهَا جَدْوَلٌ مَرْسُومٌ فِي بُيُوتِهِ أَسْمَاءُ الْأَنْبِيَاءِ وَأَسْمَاءُ الطُّيُورِ. وَبَعْدَ الْجَدْوَلِ تَرَاجِمُ لِكُلِّ اسْمٍ تَرْجَمَةٌ خَاصَّةٌ بِهِ، وَيُذْكَرُ فِيهَا أُمُورٌ مِنَ الْمَنَافِعِ وَالْمَضَارِّ، يُقَالُ لِلشَّخْصِ غَمِّضْ عَيْنَيْكَ وَضَعْ أُصْبُعَكَ فِي الْجَدْوَلِ. فَإِذَا وَضَعَهَا عَلَى اسْمٍ قُرِئَتْ لَهُ تَرْجَمَتُهُ لِيَعْتَقِدَ أَنَّهُ يَكُونُ لَهُ ذَلِكَ الْمَذْكُورُ مِنْهَا. قَالَ: وَقَدْ عَدَّهَا الْعُلَمَاءُ مِنْ بَابِ الِاسْتِقْسَامِ بِالْأَزْلَامِ.
وَمُرَادُهُ بِالْفَأْلِ: الْفَأْلُ الْمُكْتَسَبُ. كَأَنْ يُرِيدَ إِنْسَانٌ التَّزَوُّجَ أَوِ السَّفَرَ مَثَلًا، فَيَخْرُجُ لِيَسْمَعَ مَا يُفْهَمُ مِنْهُ الْإِقْدَامُ أَوِ الْإِحْجَامُ، وَيَدْخُلُ فِيهِ النَّظَرُ فِي الْمُصْحَفِ لِذَلِكَ: وَلَا يَخْفَى أَنَّ ذَلِكَ مِنْ نَوْعِ الِاسْتِقْسَامِ بِالْأَزْلَامِ. أَمَّا مَا يُعْرَضُ مِنْ غَيْرِ اكْتِسَابٍ كَأَنْ يَسْمَعَ قَائِلًا يَقُولُ: مَا مُفْلِحٌ، فَلَيْسَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ كَمَا جَاءَتْ بِهِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ.
وَعِلْمُ الْكَتِفِ: عِلْمٌ يَزْعُمُ أَهْلُ الشَّرِّ وَالضَّلَالِ أَنَّ مَنْ عَلِمَهُ يَكُونُ إِذَا نَظَرَ فِي أَكْتَافِ الْغَنَمِ اطَّلَعَ عَلَى أُمُورٍ مِنَ الْغَيْبِ، وَرُبَّمَا زَعَمَ الْمُشْتَغِلُ بِهِ أَنَّ السُّلْطَانَ يَمُوتُ فِي تَارِيخِ كَذَا، وَأَنَّهُ يَطْرَأُ رُخْصٌ أَوْ غَلَاءٌ أَوْ مَوْتَ الْأَعْيَانِ كَالْعُلَمَاءِ وَالصَّالِحِينَ، وَقَدْ يَذْكُرُ شَأْنَ الْكُنُوزِ أَوِ الدَّفَائِنِ، وَنَحْوَ ذَلِكَ. وَالْمُوسِيقَى مَعْرُوفَةٌ، وَكُلُّهَا مِنَ الْبَاطِلِ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى مَنْ لَهُ إِلْمَامٌ بِالشَّرْعِ الْكَرِيمِ.
وَالرَّعْدِيَّاتُ: عِلْمٌ يَزْعُمُ أَهْلُهُ أَنَّ الرَّعْدَ إِذَا كَانَ فِي وَقْتِ كَذَا مِنَ السَّنَةِ وَالشَّهْرِ فَهُوَ عَلَامَةٌ عَلَى أُمُورٍ غَيْبِيَّةٍ مِنْ جَدْبٍ وَخِصْبٍ، وَكَثْرَةِ الرَّوَاجِ فِي الْأَسْوَاقِ وَقِلَّتِهِ، وَكَثْرَةِ الْمَوْتِ وَهَلَاكِ الْمَاشِيَة، وانقراض الْمَالِك وَنَحْو ذَلِك. وَالْفرق بَين العرافة وللكهانة مَعَ أَنَّهُمَا يَشْتَرِكَانِ فِي دَعْوَى الِاطِّلَاعِ(1/298)
عَلَى الْغَيْبِ: أَنَّ الْعِرَافَةَ مُخْتَصَّةٌ بِالْأُمُورِ الْمَاضِيَةِ، وَالْكِهَانَةَ مُخْتَصَّةٌ بِالْأُمُورِ الْمُسْتَقْبَلَةِ اهـ مِنْهُ.
وَعُلُومُ الشَّرِّ كَثِيرَةٌ، وَقَصَدْنَا بِذِكْرِ مَا ذَكَرْنَا مِنْهَا التَّنْبِيهَ عَلَى خِسَّتِهَا وَقُبْحِهَا شَرْعًا، وَأَنَّ مِنْهَا مَا هُوَ كُفْرٌ بَوَاحٌ، وَمِنْهَا مَا يُؤَدِّي إِلَى الْكُفْرِ، وَأَقَلُّ دَرَجَاتِهَا التَّحْرِيمُ الشَّدِيدُ.
وَقَدْ دَلَّ بَعْضُ الْأَحَادِيثِ وَالْآثَارِ عَلَى أَنَّ الْعِيَافَةَ وَالطَّرْقَ وَالطِّيَرَةَ مِنَ السِّحْرِ. وَقَدْ قَدَّمْنَا مَعْنَى ذَلِكَ فِي «الْأَنْعَامِ» وَعَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «مَنِ اقْتَبَسَ شُعْبَةً مِنَ النُّجُومِ فَقَدِ اقْتَبَسَ شُعْبَةً مِنَ السِّحْرِ زَادَ مَا زَادَ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ (1) . وَلِلنَّسَائِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ «مَنْ عَقَدَ عُقْدَةً ثُمَّ نَفَثَ فِيهَا فَقَدْ سَحَرَ، وَمَنْ سَحَرَ فَقَدْ أَشْرَكَ، وَمَنْ تَعَلَّقَ شَيْئًا وُكِلَ إِلَيْهِ» (2) .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ:
اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي السِّحْرِ هَلْ هُوَ حَقِيقَةٌ أَوْ هُوَ تَخْيِيلٌ لَا حَقِيقَةَ لَهُ.
وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ مِنْهُ مَا هُوَ حَقِيقَةٌ كَمَا قَدَّمْنَا، وَمِنْهُ مَا هُوَ تَخْيِيلٌ كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ. (3)
وَهُوَ مَفْهُومٌ مِنْ أَقْسَامِ السِّحْرِ الْمُتَقَدّمَة فِي كَلَام الرَّازِيّ وَغَيره.
_________
(1) - أخرجه أَبُو دَاوُد (2/408) (3905) ، وَابْن مَاجَه (2/1228) (3726) ، وَأحمد (1/227) مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَصحح إِسْنَاده الأرناؤوط.
(2) - أخرجه النَّسَائِيّ (7/112) (4079) ، وَضَعفه الشَّيْخ الألباني - رَحمَه الله -.
(3) - قَالَ الْعَلامَة الشنقيطي - رَحمَه الله - (4/474 - 475) (طه/66) : [وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} يَدُلُّ عَلَى أَنَّ السِّحْرَ الَّذِي جَاءَ بِهِ سَحَرَةُ فِرْعَوْنَ تَخْيِيلٌ لَا حَقِيقَةَ لَهُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ. وَهَذَا الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ آيَةُ «طه» هَذِهِ دَلَّتْ عَلَيْهِ آيَةُ «الْأَعْرَافِ» وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَلَمَّآ أَلْقُوْاْ سَحَرُواْ أَعْيُنَ النَّاسِ} ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: {سَحَرُواْ أَعْيُنَ النَّاسِ} يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ خَيَّلُوا لِأَعْيُنِ النَّاظِرِينَ أَمْرًا لَا حَقِيقَةَ لَهُ. وَبِهَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ احْتَجَّ الْمُعْتَزِلَةُ وَمَنْ قَالَ بِقَوْلِهِمْ عَلَى أَنَّ السِّحْرَ خَيَالٌ لَا حَقِيقَةَ لَهُ.
وَالتَّحْقِيقُ الَّذِي عَلَيْهِ جَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ: أَنَّ السِّحْرَ مِنْهُ مَا هُوَ أَمْرٌ لَهُ حَقِيقَةٌ لَا مُطْلَقَ تَخْيِيلٍ لَا حَقِيقَةَ لَهُ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مِنْهُ مَا لَهُ حَقِيقَةٌ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ} فَهَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ شَيْءٌ مَوْجُودٌ لَهُ حَقِيقَةٌ تَكُونُ سَبَبًا للتفريق بَين الرجل وَامْرَأَته وَقد عبر الله عَنهُ بِمَا الموصولة وَهِي تدل على أَنه شَيْء لَهُ وجود حَقِيقِيّ. وَمِمَّا يدل على ذَلِك أَيْضا قَوْله تَعَالَى: {وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِى الْعُقَدِ} يَعْنِي السواحر اللَّاتِي يعقدن فِي سحرهن وينفثن فِي عقدهن. فلولا أَن السحر حَقِيقَة لم يَأْمر الله بالاستعاذة مِنْهُ. وَسَيَأْتِي إِن شَاءَ الله أَن السحر أَنْوَاع: مِنْهَا مَا هُوَ أَمر لَهُ حَقِيقَة، وَمِنْهَا مَا هُوَ تخييل لَا حَقِيقَة لَهُ. وَبِذَلِك يَتَّضِح عدم التَّعَارُض بَين الْآيَات الدَّالَّة على أَن لَهُ حَقِيقَة، والآيات الدَّالَّة على أَنه خيال.
فَإِن قيل: قَوْله فِي «طه» : {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ} ، وَقَوله فِي «الْأَعْرَاف» : {سَحَرُواْ أَعْيُنَ النَّاسِ} الدالان على أَن سحر سحرة فِرْعَوْن خيال لَا حَقِيقَة لَهُ، يعارضهما قَوْله فِي «الْأَعْرَاف» : {وَجَآءُو بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} لِأَن وصف سحرهم بالعظم يدل على أَنه غير خيال. فَالَّذِي يظْهر فِي الْجَواب وَالله أعلم أَنهم أخذُوا كثيرا من الحبال والعصي، وخيلوا بسحرهم لأعين النَّاس أَن الحبال والعصي تسْعَى وَهِي كَثِيرَة. فَظن الناظرون أَن الأَرْض ملئت حيات تسْعَى، لِكَثْرَة مَا ألقوا من الحبال والعصي فخافوا من كثرتها، وبتخييل سعي ذَلِك الْعدَد الْكثير وصف سحرهم بالعظم. وَهَذَا ظَاهر لَا إِشْكَال فِيهِ. وَقد قَالَ غير وَاحِد: إِنَّهُم جعلُوا الزئبق على الحبال والعصي، فَلَمَّا أَصَابَهَا حر الشَّمْس تحرّك الزئبق فحرك الحبال والعصي، فخيل للناظرين أَنَّهَا تسْعَى.] .(1/299)
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ:
اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيمَنْ يَتَعَلَّمُ السِّحْرَ وَيَسْتَعْمِلُهُ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ يَكْفُرُ بِذَلِكَ، وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ مِنْهُمْ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُ أَحْمَدَ وَغَيْرُهُمْ. وَعَنْ أَحْمَدَ مَا يَقْتَضِي عَدَمَ كُفْرِهِ. وَعَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ إِذَا تَعَلَّمَ السِّحْرَ قِيلَ لَهُ صِفْ لَنَا سِحْرَكَ. فَإِنْ وَصَفَ مَا يَسْتَوْجِبُ الْكُفْرَ مِثْلَ سِحْرِ أَهْلِ بَابِلَ مِنَ التَّقَرُّبِ لِلْكَوَاكِبِ، وَأَنَّهَا تَفْعَلُ مَا يَطْلُبُ مِنْهَا فَهُوَ كَافِرٌ، وَإِنْ(1/300)
كَانَ لَا يُوجِبُ الْكُفْرَ فَإِنِ اعْتَقَدَ إِبَاحَتَهُ فَهُوَ كَافِرٌ، وَإِلَّا فَلَا. وَأَقْوَالُ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي ذَلِكَ كَثِيرَةٌ مَعْرُوفَةٌ.
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ: التَّحْقِيقُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ هُوَ التَّفْصِيلُ. فَإِنْ كَانَ السِّحْرُ مِمَّا يُعَظَّمُ فِيهِ غَيْرُ اللَّهِ كَالْكَوَاكِبِ وَالْجِنِّ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُؤَدِّي إِلَى الْكُفْرِ فَهُوَ كُفْرٌ بِلَا نِزَاعٍ، وَمِنْ هَذَا النَّوْعِ سِحْرُ هَارُوتَ وَمَارُوتَ الْمَذْكُورُ فِي سُورَةِ «الْبَقَرَةِ» فَإِنَّهُ كُفْرٌ بِلَا نِزَاعٍ. كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلكن الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ} ، وَقَوْلُهُ: {وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِى الآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ} ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلاَ يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ. وَإِنْ كَانَ السِّحْرُ لَا يَقْتَضِي الْكُفْرَ كَالِاسْتِعَانَةِ بِخَوَاصِّ بَعْضِ الْأَشْيَاءِ مِنْ دِهَانَاتٍ وَغَيْرِهَا فَهُوَ حَرَامٌ حُرْمَةً شَدِيدَةً وَلَكِنَّهُ لَا يَبْلُغُ بِصَاحِبِهِ الْكُفْرَ. هَذَا هُوَ التَّحْقِيقُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الَّتِي اخْتَلَفَ فِيهَا الْعُلَمَاءُ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ:
اعْلَمْ أَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي السَّاحِرِ هَلْ يُقْتَلُ بِمُجَرَّدِ فِعْلِهِ للسحر واستعماله لَهُ أَولا؟ قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ: قَالَ ابْنُ هُبَيْرَةَ: وَهَلْ يُقْتَلُ بِمُجَرَّدِ فِعْلِهِ وَاسْتِعْمَالِهِ لَهُ؟ فَقَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ: نَعَمْ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ: لَا. فَأَمَّا إِنْ قَتَلَ بِسِحْرِهِ إِنْسَانًا فَإِنَّهُ يُقْتَلُ عِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يُقْتَلُ حَتَّى يَتَكَرَّرَ مِنْهُ ذَلِكَ. أَوْ يُقِرَّ بِذَلِكَ فِي حَقِّ شَخْصٍ مُعَيَّنٍ. وَإِذَا قُتِلَ فَإِنَّهُ يُقْتَلُ حَدًّا عِنْدَهُمْ إِلَّا الشَّافِعِيَّ فَإِنَّهُ قَالَ: يُقْتَلُ وَالْحَالَةُ هَذِهِ قِصَاصًا.
وَهَلْ إِذَا تَابَ السَّاحِرُ تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ؟ فَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ فِي(1/301)
الْمَشْهُورِ عَنْهُمْ: لَا تُقْبَلُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى: تُقْبَلُ التَّوْبَةُ.
وَأَمَّا سَاحِرُ أَهْلِ الْكِتَابِ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُقْتَلُ كَمَا يُقْتَلُ السَّاحِرُ الْمُسْلِمُ. وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ: لَا يُقْتَلُ. يَعْنِي لِقِصَّةِ لَبِيدِ بْنِ الْأَعْصَمِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُسْلِمَةِ السَّاحِرَةِ. فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهَا لَا تُقْتَلُ، وَلَكِنْ تُحْبَسُ. وَقَالَ الثَّلَاثَةُ: حُكْمُهَا حُكْمُ الرَّجُلِ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْخَلَّالُ: أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الْمَرْوَزِيُّ قَالَ: قَرَأَ عَلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ يَعْنِي أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ عُمَرُ بْنُ هَارُونَ أَخْبَرَنَا يُونُسُ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: يُقْتَلُ سَاحِرُ الْمُسْلِمِينَ وَلَا يُقْتَلُ سَاحِرُ الْمُشْرِكِينَ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَحَرَتْهُ امْرَأَةٌ مِنَ الْيَهُودِ فَلَمْ يَقْتُلهَا (1) . وَقد نقل الْقُرْطُبِيّ عَن مَالك رَحمَه الله أَنَّهُ قَالَ فِي الذِّمِّيِّ: يُقْتَلُ إِنْ قَتَلَ بِسِحْرِهِ. وَحَكَى ابْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادٍ عَنْ مَالِكٍ رِوَايَتَيْنِ فِي الذِّمِّيِّ إِذَا سَحَرَ: إِحْدَاهُمَا أَنَّهُ يُسْتَتَابُ فَإِنْ أَسْلَمَ وَإِلَّا قُتِلَ: وَالثَّانِيَةُ أَنَّهُ يُقْتَلُ وَإِنْ أَسْلَمَ.
وَأَمَّا السَّاحِرُ الْمُسْلِمُ فَإِنْ تَضَمَّنَ سِحْرُهُ كُفْرًا كُفِّرَ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ} لَكِنْ قَالَ مَالِكٌ: إِذَا ظُهِرَ عَلَيْهِ لَمْ تُقْبَلْ تَوْبَتُهُ؛ لِأَنَّهُ كَالزِّنْدِيقِ فَإِنْ تَابَ قَبْلَ أَنْ يُظْهَرَ عَلَيْهِ وَجَاءَ تَائِبًا قَبِلْنَاهُ. فَإِنْ قَتَلَ سِحْرُهُ قُتِلَ. قَالَ الشَّافِعِيُّ فَإِنْ قَالَ لم أتعمد الْقَتْل فَهُوَ مخطىء تَجِبُ عَلَيْهِ الدِّيَةُ. انْتَهَى كَلَامُ ابْنِ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: وَأَمَّا تَعَلُّمُهُ وَتَعْلِيمُهُ فَحَرَامٌ، فَإِنْ تَضَمَّنَ مَا يَقْتَضِي الْكُفْرَ كُفِّرَ وَإِلَّا فَلَا. وَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَا يَقْتَضِي الْكُفْرَ عُزِّرَ واستتيب
_________
(1) - ذكره ابْن كثير فِي تَفْسِيره (1/149) ، وَلم أَقف عَلَيْهِ.(1/302)
مِنْهُ وَلَا يُقْتَلُ عِنْدَنَا، فَإِنْ تَابَ قُبِلَتْ تَوْبَتُهُ. وَقَالَ مَالِكٌ: السَّاحِرُ كَافِرٌ يُقْتَلُ بِالسِّحْرِ وَلَا يُسْتَتَابُ، وَلَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ بَلْ يَتَحَتَّمُ قَتْلُهُ. وَالْمَسْأَلَةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْخِلَافِ فِي قَبُولِ تَوْبَةِ الزِّنْدِيقِ؛ لِأَنَّ السَّاحِرَ عِنْدَهُ كَافِرٌ كَمَا ذَكَرْنَا، وَعِنْدَنَا لَيْسَ بِكَافِرٍ، وَعِنْدَنَا تُقْبَلُ تَوْبَةُ الْمُنَافِقِ وَالزِّنْدِيقِ. وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: وَبِقَوْلِ مَالِكٍ قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ. قَالَ أَصْحَابُنَا: فَإِذَا قَتَلَ السَّاحِرُ بِسِحْرِهِ إِنْسَانًا وَاعْتَرَفَ أَنَّهُ مَاتَ بِسِحْرِهِ وَأَنَّهُ يَقْتُلُ غَالِبًا لَزِمَهُ الْقِصَاصُ. وَإِنْ قَالَ مَاتَ بِهِ وَلَكِنَّهُ قَدْ يَقْتُلُ وَقَدْ لَا يَقْتُلُ فَلَا قِصَاصَ، وَتَجِبُ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ لَا عَلَى عَاقِلَتِهِ. لِأَنَّ الْعَاقِلَةَ لَا تَحْمِلُ مَا ثَبَتَ بِاعْتِرَافِ الْجَانِي. وَقَالَ أَصْحَابُنَا: وَلَا يُتَصَوَّرُ الْقَتْلُ بِالسِّحْرِ بِالْبَيِّنَةِ، وَإِنَّمَا يُتَصَوَّرُ بِاعْتِرَافِ السَّاحِرِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. انْتَهَى كَلَامُ النَّوَوِيِّ.
وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي فَتْحِ الْبَارِي فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِ الْبُخَارِيِّ رَحمَه الله: (بَابُ السِّحْرِ) وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلكن الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} : وَقَدِ اسْتُدِلَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ السِّحْرَ كُفْرٌ وَمُتَعَلِّمُهُ كَافِرٌ، وَهُوَ وَاضِحٌ فِي بَعْضِ أَنْوَاعِهِ الَّتِي قَدَّمْتُهَا، وَهُوَ التَّعَبُّدُ لِلشَّيَاطِينِ أَوِ الْكَوَاكِبِ. وَأَمَّا النَّوْعُ الْآخَرُ الَّذِي هُوَ مِنْ بَابِ الشَّعْوَذَةِ فَلَا يَكْفُرُ مَنْ تَعَلَّمَهُ أَصْلًا.
قَالَ النَّوَوِيُّ: عَمَلُ السِّحْرِ حَرَامٌ، وَهُوَ مِنَ الْكَبَائِرِ بِالْإِجْمَاعِ، وَقَدْ عَدَّهُ النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ السَّبْعِ الْمُوبِقَاتِ، وَمِنْهُ مَا يَكُونُ كُفْرًا، وَمِنْهُ مَا لَا يَكُونُ كُفْرًا، بَلْ مَعْصِيَةً كَبِيرَةً، فَإِنْ كَانَ فِيهِ قَوْلٌ أَوْ فِعْلٌ يَقْتَضِي الْكُفْرَ فَهُوَ كُفْرٌ وَإِلَّا فَلَا. وَأَمَّا تَعَلُّمُهُ وَتَعْلِيمُهُ فَحَرَامٌ إِلَى آخِرِ كَلَامِ النَّوَوِيِّ الَّذِي ذَكرْنَاهُ عَنهُ آنِفا. ثمَّ إِن ابْن حجر لَمَّا نَقَلَهُ عَنْهُ قَالَ: وَفِي الْمَسْأَلَةِ اخْتِلَافٌ كَبِيرٌ وَتَفَاصِيلُ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ بَسْطِهَا اهـ.
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ: التَّحْقِيقُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ السِّحْرَ نَوْعَانِ كَمَا تَقَدَّمَ؟ مِنْهُ مَا هُوَ كُفْرٌ، وَمِنْهُ مَا لَا يبلغ بِصَاحِبِهِ(1/303)
الْكُفْرَ، فَإِنْ كَانَ السَّاحِرُ اسْتَعْمَلَ السِّحْرَ الَّذِي هُوَ كُفْرٌ فَلَا
شَكَّ فِي أَنَّهُ يُقْتَلُ كُفْرًا؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ» (1) .
وَأَظْهَرُ الْقَوْلَيْنِ عِنْدِي فِي اسْتِتَابَتِهِ أَنَّهُ يُسْتَتَابُ، فَإِنْ تَابَ قُبِلَتْ تَوْبَتُهُ. وَقد بيّنت فِي كتابي (دَفْعُ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ) فِي سُورَةِ «آلِ عِمْرَانَ» أَنَّ أَظْهَرَ الْقَوْلَيْنِ دَلِيلًا أَنَّ الزِّنْدِيقَ تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ؛ لِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَأْمُرْ نَبِيَّهُ وَلَا أُمَّتَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالتَّنْقِيبِ عَنْ قُلُوبِ النَّاسِ، بَلْ بِالِاكْتِفَاءِ بِالظَّاهِرِ. وَمَا يُخْفُونَهُ فِي سَرَائِرِهِمْ أَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، خِلَافًا للْإِمَام مَالك رَحمَه الله وَأَصْحَابِهِ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ السَّاحِرَ لَهُ حُكْمُ الزِّنْدِيقِ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَمِرٌّ بِالْكُفْرِ وَالزِّنْدِيقُ لَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ عِنْدَهُ إِلَّا إِذَا جَاءَ تَائِبًا قَبْلَ الِاطِّلَاعِ عَلَيْهِ.
وَأَظْهَرُ الْقَوْلَيْنِ عِنْدِي: أَنَّ الْمَرْأَةَ السَّاحِرَةَ حُكْمُهَا حُكْمُ الرَّجُلِ السَّاحِرِ وَأَنَّهَا إِنْ كَفَرَتْ بِسِحْرِهَا قُتِلَتْ كَمَا يُقْتَلُ الرَّجُلُ؛ لِأَنَّ لَفْظَةَ «مَنْ» فِي قَوْلِهِ: «مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ» (2) تَشْمَلُ الْأُنْثَى عَلَى أَظْهَرِ الْقَوْلَيْنِ وَأَصَحِّهِمَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَمِنَ الْأَدِلَّةِ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتَ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى} . فَأَدْخَلَ الْأُنْثَى فِي لَفْظَةِ «مَنْ» ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {يانِسَآءَ النَّبِىِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ} ، وَقَوله: {وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ للَّهِ} ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَإِلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الَّتِي هِيَ شُمُولُ لَفْظَةِ «مَنْ» فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ لِلْأُنْثَى أَشَارَ فِي مَرَاقِي السُّعُودِ بِقَوْلِهِ:
وَمَا شُمُولُ مَنْ لِلْأُنْثَى جَنَفُ ... وَفِي شَبِيهِ الْمُسْلِمِينَ اخْتَلَفُوا
وَأَمَّا إِنْ كَانَ السَّاحِرُ عَمِلَ السِّحْرَ الَّذِي لَا يَبْلُغُ بِصَاحِبِهِ الْكُفْرَ، فَهَذَا هُوَ مَحَلُّ الْخِلَافِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ. فَالَّذِينَ قَالُوا يُقْتَلُ وَلَوْ لَمْ يَكْفُرْ بِسِحْرِهِ قَالَ أَكْثَرُهُمْ: يُقْتَلُ حَدًّا وَلَوْ قَتَلَ إِنْسَانًا بِسِحْرِهِ، وَانْفَرَدَ الشَّافِعِي فِي هَذِه الصُّورَة
_________
(1) - أخرجه الْبُخَارِيُّ (3/1098) (2854) مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -.
(2) - سبق تَخْرِيجه آنِفا.(1/304)
بِأَنَّهُ يُقْتَلُ قِصَاصًا لَا حَدًّا.
وَهَذِهِ حُجَجُ الْفَرِيقَيْنِ وَمُنَاقَشَتُهَا:
أَمَّا الَّذِينَ قَالُوا مُطْلَقًا إِذَا عَمِلَ بِسِحْرِهِ وَلَوْ لَمْ يَقْتُلْ بِهِ أَحَدًا فاستولوا بِآثَارٍ عَنِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَبِحَدِيثٍ جَاءَ بِذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَصِحَّ. فَمِنَ الْآثَارِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ فِي كِتَابِ (الْجِهَادُ فِي بَابِ الْجِزْيَةِ) : حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ: سَمِعْتُ عَمْرًا قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا مَعَ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ وَعَمْرِو بْنِ أَوْسٍ فَحَدَّثَهُمَا بَجَالَةُ سَنَةَ سَبْعِينَ عَامَ حَجَّ مُصْعَبُ بْنُ الزُّبَيْرِ بِأَهْلِ الْبَصْرَةِ عِنْدَ دَرَجِ زَمْزَمَ قَالَ: كُنْتُ كَاتِبًا لِجَزْءِ بْنِ مُعَاوِيَةَ عَمِّ الْأَحْنَفِ، فَأَتَانَا كِتَابُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَبْلَ مَوْتِهِ بِسَنَةٍ: اقْتُلُوا كُلَّ سَاحِرٍ، وَفَرِّقُوا بَيْنَ كُلِّ ذِي مَحْرَمٍ مِنَ الْمَجُوسِ قَالَ: فَقَتَلْنَا فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ ثَلَاثَ سَوَاحِرَ وَفَرَّقْنَا بَيْنَ الْمَحَارِمِ مِنْهُمْ. وَرَوَاهُ أَيْضًا أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ. (1) وَاعْلَمْ أَنَّ لَفْظَةَ «اقْتُلُوا كُلَّ سَاحِرٍ» إِلَخْ فِي هَذَا الْأَثَرِ سَاقِطَةٌ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِ الْبُخَارِيِّ، ثَابِتَةٌ فِي بَعْضِهَا، وَهِيَ ثَابِتَةٌ فِي رِوَايَةِ مُسَدَّدِ وَأَبِي يَعْلَى. قَالَهُ فِي الْفَتْحِ. وَمِنَ الْآثَارِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا مَا رَوَاهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَعْدِ بْنِ زُرَارَةَ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ حَفْصَةَ زَوْجَ النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَتَلَتْ جَارِيَةً لَهَا سَحَرَتْهَا، وَقَدْ كَانَتْ دَبَّرَتْهَا فَأَمَرَتْ بِهَا فَقُتِلَتْ (2) . قَالَ مَالِكٌ: السَّاحِرُ الَّذِي يَعْمَلُ السِّحْرَ وَلَمْ يَعْمَلْ ذَلِكَ لَهُ غَيْرُهُ هُوَ مِثْلُ الَّذِي قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي كِتَابِهِ: {وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِى الآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ} فَأَرَى أَنْ يُقْتَلَ ذَلِكَ إِذَا عَمِلَ ذَلِكَ من نَفسه
_________
(1) - أخرجه أَبُو دَاوُد (2/148) (3043) ، وَأحمد (1/190) والْحَدِيث صَححهُ الشَّيْخ الألباني - رَحمَه الله -، والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ (3/1151) (2987) ، وَلَيْسَ فِيهِ مَوضِع الشَّاهِد.
(2) - أخرجه مَالك فِي الْمُوَطَّأ (2/871) (1562) بِسَنَد مُنْقَطع.(1/305)
انْتَهَى مِنَ الْمُوَطَّأِ. وَنَحْوَهُ أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ.
وَمِنَ الْآثَارِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ الْكَبِيرِ (1) : حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ. حَدَّثَنَا خَالِدٌ الْوَاسِطِيُّ، عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ: كَانَ عِنْدَ الْوَلِيدِ رَجُلٌ يَلْعَبُ فَذَبَحَ إِنْسَانًا وَأَبَانَ رَأْسَهُ، فَجَاءَ جُنْدَبٌ الْأَزْدِيُّ فَقَتَلَهُ. حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ عَنْ خَالِدٍ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ عَنْ جُنْدَبٍ الْبَجَلِيِّ: أَنَّهُ قَتَلَهُ. حَدَّثَنَا مُوسَى قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ عَنْ عَاصِمٍ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ: قَتَلَهُ جُنْدَبُ بْنُ كَعْبٍ. وَفِي (فَتْحِ الْمَجِيدِ شَرْحِ كِتَابِ التَّوْحِيدِ) لِلْعَلَّامَةِ الشَّيْخِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَسَنٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بَعْدَ أَنْ أَشَارَ لِكَلَامِ الْبُخَارِيِّ فِي التَّارِيخِ الَّذِي ذَكَرْنَا، وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ مُطَوَّلًا، وَفِيهِ: فَأَمَرَ بِهِ الْوَلِيدُ فَسُجِنَ. فَذَكَرَ الْقِصَّةَ بِتَمَامِهَا وَلَهَا طُرُقٌ كَثِيرَةٌ انْتَهَى مِنْهُ.
فَهَذِهِ آثَارٌ عَنْ ثَلَاثَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ فِي قَتْلِ السَّاحِرِ: وَهُمْ عُمَرُ وَابْنَتُهُ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ حَفْصَةٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ جَمِيعًا، وَجُنْدَبٌ وَلَمْ يُعْلَمْ لَهُمْ مُخَالِفٌ مِنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَيُعْتَضَدُ ذَلِكَ بِمَا رَوَاهُ لِلتِّرْمِذِيِّ وَالدَّارَقُطْنِيِّ عَنْ جُنْدَبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «حَدُّ السَّاحِرِ ضَرْبُهُ بِالسَّيْفِ» (2) ، وَضَعَّفَ التِّرْمِذِيُّ إِسْنَادَ هَذَا الْحَدِيثِ وَقَالَ: الصَّحِيحُ عَنْ جُنْدَبٍ مَوْقُوفٌ، وَتَضْعِيفُهُ بِأَنَّ فِي إِسْنَادِهِ إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُسْلِمٍ الْمَكِّيُّ وَهُوَ يَضْعُفُ فِي الْحَدِيثِ. وَقَالَ فِي (فَتْحِ الْمَجِيدِ) أَيْضًا فِي الْكَلَامِ عَلَى حَدِيثِ جُنْدَبٍ الْمَذْكُورِ: رَوَى ابْنُ السَّكَنِ مِنْ حَدِيثِ بُرَيْدَةَ أَنَّ النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يُضْرَبُ ضَرْبَةً وَاحِدَةً فَيَكُونُ أُمَّةً وَحْدَهُ» (3) . اهـ مِنْهُ.
_________
(1) - التَّارِيخ الْكَبِير (2/222) (2268) .
(2) - أخرجه التِّرْمِذِيّ (4/60) (1460) ، وَالطَّبَرَانِيّ (2/161) (1666) ، والْحَدِيث ضعفه الشَّيْخ الألباني - رَحمَه الله -.
(3) - سَاق ابْن حجر فِي " الْإِصَابَة " (1/512) إِسْنَاد بن السكن، وَفِيه: يحيى بن كثير صَاحب الْبَصْرِيّ، قَالَ عَنهُ الذَّهَبِيّ فِي " الكاشف ": ضَعَّفُوهُ، وَقَالَ عَنهُ ابْن حجر فِي " التَّقْرِيب ": ضَعِيف.(1/306)
وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ تَضْعِيفَهُ بِإِسْمَاعِيلَ الْمَذْكُورِ: قُلْتُ قَدْ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، عَنِ الْحَسَنِ عَنْ جُنْدَبٍ مَرْفُوعًا اهـ. وَهَذَا يُقَوِّيهِ كَمَا تَرَى.
فَهَذِهِ الْآثَارُ الَّتِي لَمْ يُعْلَمْ أَنَّ أَحَدًا مِنَ الصَّحَابَةِ أَنْكَرَهَا عَلَى مَنْ عَمِلَ بِهَا مَعَ اعْتِضَادِهَا بِالْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ الْمَذْكُورِ هِيَ حُجَّةُ مَنْ قَالَ بِقَتْلِهِ مُطْلَقًا. وَالْآثَارُ الْمَذْكُورَةُ وَالْحَدِيثُ فِيهِمَا الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّهُ يُقْتَلُ وَلَوْ لَمْ يَبْلُغْ بِهِ سِحْرُهُ الْكُفْرَ؛ لِأَنَّ السَّاحِرَ الَّذِي قَتَلَهُ جُنْدَبٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ سِحْرُهُ مِنْ نَحْوِ الشَّعْوَذَةِ وَالْأَخْذِ بِالْعُيُونِ، حَتَّى إِنَّهُ يُخَيَّلُ إِلَيْهِمْ أَنَّهُ أَبَانَ رَأْسَ الرَّجُلِ، وَالْوَاقِعُ بِخِلَافِ ذَلِكَ. وَقَوْلُ عُمَرَ «اقْتُلُوا كُلَّ سَاحِرٍ» (1) يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ لِصِيغَةِ الْعُمُومِ. وَمِمَّنْ قَالَ بِمُقْتَضَى هَذِهِ الْآثَارِ وَهَذَا الْحَدِيثِ: مَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَأَحْمَدُ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ، وَعُمَرُ، وَعُثْمَانُ، وَابْنُ عُمَرَ، وَحَفْصَةٌ، وَجُنْدَبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَجُنْدَبُ بْنُ كَعْبٍ، وَقَيْسُ بْنُ سَعْدٍ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ. وَغَيْرِهِمْ، كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُمُ ابْنُ قُدَامَةَ فِي (الْمُغْنِي) خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ وَمَنْ وَافَقَهُمَا.
وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ: بِأَنَّهُ إِنْ كَانَ سِحْرُهُ لَمْ يَبْلُغْ بِهِ الْكُفْرَ لَا يُقْتَلُ بِحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ «لَا يحل
دم امرىء مُسْلِمٍ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ ... » الْحَدِيثَ (2) ، وَقَدْ قَدَّمْنَاهُ مِرَارًا. وَلَيْسَ السِّحْرُ الَّذِي لَمْ يَكْفُرْ صَاحِبُهُ مِنَ الثَّلَاثِ الْمَذْكُورَةِ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ مُنْتَصِرًا لِهَذَا الْقَوْلِ: وَهَذَا صَحِيحٌ، وَدِمَاءُ الْمُسْلِمِينَ مَحْظُورَةٌ لَا تُسْتَبَاحُ إِلَّا بِيَقِينٍ، وَلَا يَقِينَ مَعَ الِاخْتِلَافِ، وَالله أعلم.
_________
(1) - سبق تَخْرِيجه آنِفا.
(2) - أخرجه البُخَارِيّ (6/2521) (6484) ، وَمُسلم (3/1302) (16766) .(1/307)
وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِأَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا بَاعَتْ مُدَبَّرَةً لَهَا سَحَرَتْهَا (1) ، وَلَوْ وَجَبَ قَتْلُهَا لَمَا حَلَّ بَيْعُهَا. قَالَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَغَيْرُهُ.
وَمَا حَاوَلَهُ بَعْضُهُمْ مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأَدِلَّةِ الْمَذْكُورَةِ بِحَمْلِ السِّحْرِ عَلَى الَّذِي يَقْتَضِي الْكُفْرَ فِي قَوْلِ مَنْ قَالَ بِالْقَتْلِ، وَحَمْلِهِ عَلَى الَّذِي لَا يَقْتَضِي الْكُفْرَ فِي قَوْلِ مَنْ قَالَ بِعَدَمِ الْقَتْلِ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ الْآثَارَ الْوَارِدَةَ فِي قَتْلِهِ جَاءَتْ بِقَتْلِ السَّاحِرِ الَّذِي سَحَرَهُ مِنْ نَوْعِ الشَّعْوَذَةِ كَسَاحِرِ جُنْدَبٍ الَّذِي قَتَلَهُ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مِمَّا يَقْتَضِي الْكُفْرَ الْمُخْرِجَ مِنْ مِلَّةِ الْإِسْلَامِ، كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ. فَالْجَمْعُ غَيْرُ مُمْكِنٍ. وَعَلَيْهِ فَيَجِبُ التَّرْجِيحُ، فَبَعْضُهُمْ يُرَجِّحُ عَدَمَ الْقَتْلِ بِأَنَّ دِمَاءَ الْمُسْلِمِينَ حَرَامٌ إِلَّا بِيَقِينٍ. وَبَعْضُهُمْ يُرَجِّحُ الْقَتْلَ بِأَنَّ أَدِلَّتَهُ خَاصَّةٌ وَلَا يَتَعَارَضُ عَامٌّ وَخَاصٌّ؛ لِأَنَّ الْخَاصَّ يَقْضِي عَلَى الْعَامِّ عِنْدَ أَكْثَرِ أَهْلِ الْأُصُولِ كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي مَحَلِّهِ.
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: وَالْأَظْهَرُ عِنْدِي أَنَّ السَّاحِرَ الَّذِي لَمْ يَبْلُغْ بِهِ سِحْرُهُ الْكُفْرَ وَلَمْ يَقْتُلْ بِهِ إِنْسَانًا أَنَّهُ لَا يُقْتَلُ؛ لِدَلَالَةِ النُّصُوصِ الْقَطْعِيَّةِ، وَالْإِجْمَاعِ عَلَى عِصْمَةِ دِمَاءِ الْمُسْلِمِينَ عَامَّةً إِلَّا بِدَلِيلٍ وَاضِحٍ. وَقَتْلُ السَّاحِرِ الَّذِي لَمْ يَكْفُرْ بِسِحْرِهِ لَمْ يَثْبُتْ فِيهِ شَيْءٌ عَنِ النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالتَّجَرُّؤُ عَلَى دَمِ مُسْلِمٍ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ صَحِيحٍ مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ مَرْفُوعَةٍ غَيْرُ ظَاهِرٍ عِنْدِي. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، مَعَ أَنَّ الْقَوْلَ بِقَتْلِهِ مُطْلَقًا قَوِيٌّ جِدًّا لِفِعْلِ الصَّحَابَةِ لَهُ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ:
اعْلَمْ أَنَّ النَّاسَ اخْتَلَفُوا فِي تَعَلُّمِ السِّحْرِ مِنْ غَيْرِ عمل بِهِ. هَل يجوز أَو
_________
(1) - أخرجه أَحْمد (6/40) ، وَمَالك فِي " الْمُوَطَّأ " (3/283) (841) ، والأثر صَححهُ الشَّيْخ الألباني - رَحمَه الله - فِي ... " الإرواء " (1757) .(1/308)
لَا؟ وَالتَّحْقِيقُ وَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ: هُوَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ، وَمِنْ أَصْرَحِ الْأَدِلَّةِ فِي ذَلِكَ تَصْرِيحُهُ تَعَالَى بِأَنَّهُ يَضُرُّ وَلَا يَنْفَعُ فِي قَوْلِهِ: {وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ} وَإِذَا أَثْبَتَ اللَّهُ أَنَّ السِّحْرَ ضَارٌّ وَنَفَى أَنَّهُ نَافِعٌ فَكَيْفَ يَجُوزُ تَعَلُّمُ مَا هُوَ ضَرَر مَحْض لَا نفع فِيهَا؟
وَجَزَمَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ فِي سُورَةِ «الْبَقَرَةِ» بِأَنَّهُ جَائِزٌ بَلْ وَاجِبٌ قَالَ مَا نَصُّهُ: (الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ) فِي أَنَّ الْعِلْمَ بِالسِّحْرِ غَيْرُ قَبِيحٍ وَلَا مَحْظُورٍ، اتَّفَقَ الْمُحَقِّقُونَ عَلَى ذَلِكَ لِأَنَّ الْعِلْمَ لِذَاتِهِ شَرِيفٌ، وَأَيْضًا لِعُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {هَلْ يَسْتَوِى الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ} ، وَلِأَنَّ السِّحْرَ لَوْ لَمْ يَكُنْ يُعْلَمُ لَمَا أَمْكَنَ الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُعْجِزَةِ، وَالْعِلْمُ بِكَوْنِ الْمُعْجِزِ مُعْجِزًا وَاجِبٌ، وَمَا يَتَوَقَّفُ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ فَهُوَ وَاجِبٌ، فَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ تَحْصِيلُ الْعِلْمِ بِالسِّحْرِ وَاجِبًا، وَمَا يَكُونُ وَاجِبًا كَيْفَ يَكُونُ حَرَامًا وَقَبِيحًا. انْتَهَى مِنْهُ بِلَفْظِهِ. وَلَا يَخْفَى سُقُوطُ هَذَا الْكَلَامِ وَعَدَمُ صِحَّته. وَقد تعقبه ابْن كثير رَحمَه الله فِي تَفْسِيرِهِ بَعْدَ أَنْ نَقَلَهُ عَنْهُ بِلَفْظِهِ الَّذِي ذَكَرْنَا بِمَا نَصُّهُ: وَهَذَا الْكَلَامُ فِيهِ نَظَرٌ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا قَوْلُهُ: «الْعِلْمُ بِالسِّحْرِ لَيْسَ بِقَبِيحٍ» إِنْ عَنَى بِهِ لَيْسَ بِقَبِيحٍ عقلا فمخالفوه من الْمُعْتَزلَة يمعنون هَذَا، وَإِنْ عَنَى أَنَّهُ لَيْسَ بِقَبِيحٍ شَرْعًا فَفِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ يَعْنِي قَوْلَهُ تَعَالَى {وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ} تَبْشِيعٌ لِعِلْمِ السِّحْرِ. وَفِي السُّنَنِ «مَنْ أَتَى عَرَّافًا أَوْ كَاهِنًا فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ» (1) ، وَفِي السُّنَنِ «مَنْ عَقَدَ عُقْدَةً وَنَفَثَ فِيهَا فَقَدْ سَحَرَ» (2) وَقَوْلُهُ «وَلَا مَحْظُورَ، اتَّفَقَ الْمُحَقِّقُونَ على ذَلِك» كَيفَ لَا يكون
_________
(1) - أخرجه أَبُو دَاوُد (2/408) (3904) ، وَالتِّرْمِذِيّ (1/242) (135) ، وَابْن مَاجَه (1/209) (639) ، وَأحمد (2/429) ، والْحَدِيث صَححهُ الشَّيْخ الألباني - رَحمَه الله -، وَحسنه الأرناؤوط.
(2) - سبق تَخْرِيجه آنِفا.(1/309)
مَحْظُورًا مَعَ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْآيَةِ وَالْحَدِيثِ، وَاتِّفَاقُ الْمُحَقِّقِينَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ قَدْ نَصَّ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَئِمَّةُ الْعُلَمَاءِ أَوْ أَكْثَرُهُمْ. وَأَيْنَ نُصُوصُهُمْ عَلَى ذَلِكَ!
ثُمَّ إِدْخَالُهُ عَلِمَ السِّحْرِ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ} فِيهِ نَظَرٌ. لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ إِنَّمَا دَلَّتْ عَلَى مدح الْعَالمين الْعلم الشَّرْعِيّ، وَلم قُلْتَ إِنَّ هَذَا مِنْهَا! ثُمَّ تُرَقِّيهِ إِلَى وُجُوبِ تَعَلُّمِهِ بِأَنَّهُ لَا يَحْصُلُ الْعِلْمُ بِالْمُعْجِزِ إِلَّا بِهِ ضَعِيفٌ بَلْ فَاسِدٌ.
لِأَنَّ أَعْظَمَ مُعْجِزَاتِ رَسُولِنَا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ هِيَ الْقُرْآنُ الْعَظِيم الَّذِي لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ.
ثُمَّ إِنَّ الْعِلْمَ بِأَنَّهُ مُعْجِزٌ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى عِلْمِ السِّحْرِ أَصْلًا. ثُمَّ مِنَ الْمَعْلُومِ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ الصَّحَابَةَ وَالتَّابِعِينَ وَأَئِمَّةَ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتَهُمْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْمُعْجِزَ، وَيُفَرِّقُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ، وَلَمْ يَكُونُوا يَعْلَمُونَ السِّحْرَ وَلَا تَعَلَّمُوهُ وَلَا عَلَّمُوهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. انْتَهَى.
وَلَا يَخْفَى أَنَّ كَلَامَ ابْنِ كَثِيرٍ هَذَا صَوَابٌ، وَأَنَّ رَدَّهُ عَلَى الرَّازِيِّ وَاقِعٌ مَوْقِعَهُ، وَأَنَّ تَعَلُّمَ السِّحْرِ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُخْتَلَفَ فِي مَنْعِهِ. لِقَوْلِهِ جَلَّ وَعَلَا: {وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ} . وَقَوْلُ ابْنِ كَثِيرٍ فِي كَلَامِهِ الْمَذْكُورِ: وَفِي الصَّحِيحِ «مَنْ أَتَى عَرَّافًا أَوْ كَاهِنًا.. إِلَخْ» إِنْ كَانَ يَعْنِي أَنَّ الْحَدِيثَ بِذَلِكَ صَحِيحٌ فَلَا مَانِعَ، وَإِنْ كَانَ يَعْنِي أَنَّهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا فَلَيْسَ كَذَلِكَ.
وَبِذَلِكَ كُلِّهِ تَعْلَمُ أَنَّ قَوْلَ ابْنِ حَجَرٍ فِي (فَتْحِ الْبَارِي) . وَقَدْ أَجَازَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ تَعَلُّمَ السِّحْرِ لِأَمْرَيْنِ: إِمَّا لِتَمْيِيزِ مَا فِيهِ كُفْرٌ مِنْ غَيْرِهِ. وَإِمَّا لِإِزَالَتِهِ عَمَّنْ وَقَعَ فِيهِ، فَأَمَّا الْأَوَّلُ: فَلَا مَحْذُورَ فِيهِ إِلَّا مِنْ جِهَةِ الِاعْتِقَادِ، فَإِذَا سَلِمَ الِاعْتِقَادُ فَمَعْرِفَةُ الشَّيْءِ بِمُجَرَّدِهِ لَا تَسْتَلْزِمُ مَنْعًا. كَمَنْ يَعْرِفُ كَيْفِيَّةَ عبَادَة أهل(1/310)
الْأَوْثَانِ لِلْأَوْثَانِ؛ لِأَنَّ كَيْفِيَّةَ مَا يُعَلِّمُهُ السَّاحِرُ إِنَّمَا هِيَ حِكَايَةُ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ، بِخِلَافِ تَعَاطِيهِ وَالْعَمَلِ بِهِ.
وَأَمَّا الثَّانِي فَإِنْ كَانَ لَا يَتِمُّ كَمَا زَعَمَ بَعْضُهُمْ إِلَّا بِنَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْكُفْرِ أَوِ الْفِسْقِ فَلَا يَحِلُّ أَصْلًا، وَإِلَّا جَازَ لِلْمَعْنَى الْمَذْكُورِ اهـ خِلَافَ التَّحْقِيقِ، إِذْ لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يُبِيحَ مَا صَرَّحَ اللَّهُ بِأَنَّهُ يَضُرُّ وَلَا يَنْفَعُ، مَعَ أَن تعلمه قد يكون ذَرِيعَة الْعَمَل بِهِ، وَالذَّرِيعَةُ إِلَى الْحَرَامِ يَجِبُ سَدُّهَا كَمَا قَدَّمْنَاهُ.
قَالَ فِي الْمَرَاقِي:
سَدُّ الذَّرَائِعِ إِلَى الْمُحَرَّمِ ... حَتْمٌ كَفَتْحِهَا إِلَى الْمُنْحَتِمِ
هَذَا هُوَ الظَّاهِرُ لَنَا. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ:
اعْلَمْ أَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي حَلِّ السِّحْرِ عَنِ الْمَسْحُورِ. فَأَجَازَهُ بَعْضُهُمْ، وَمَنَعَهُ بَعْضُهُمْ. وَمِمَّنْ أَجَازَهُ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ رَحِمَهُ اللَّهِ تَعَالَى. قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ (بَابُ هَلْ يُسْتَخْرَجُ السِّحْرُ) : وَقَالَ قَتَادَةُ: قُلْتُ لِسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ: رَجُلٌ بِهِ طِبٌّ أَوْ يُؤْخَذُ عَنِ امْرَأَتِهِ، أَيُحَلُّ عَنْهُ، أَوْ يُنْشَرُ؟ قَالَ: لَا بَأْسَ بِهِ، إِنَّمَا يُرِيدُونَ بِهِ الْإِصْلَاحَ. فَأَمَّا مَا يَنْفَعُ فَلَمْ يَنْهَ عَنْهُ اهـ. وَمَالَ إِلَى هَذَا الْمُزَنِيُّ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا بَأْسَ بِالنُّشْرَةِ. قَالَهُ الْقُرْطُبِيُّ. وَقَالَ أَيْضًا: قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: وَفِي كِتَابِ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ: أَنْ يَأْخُذَ سَبْعَ وَرَقَاتٍ مِنْ سِدْرٍ أَخْضَرَ فَيَدُقُّهُ بَيْنَ حَجَرَيْنِ، ثُمَّ يَضْرِبُهُ بِالْمَاءِ وَيَقْرَأُ عَلَيْهِ آيَةَ الْكُرْسِيِّ ثُمَّ يَحْسُو مِنْهُ ثَلَاثَ حَسَوَاتٍ وَيَغْتَسِلُ. فَإِنَّهُ يَذْهَبُ عَنْهُ كُلُّ مَا بِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَهُوَ جَيِّدٌ لِلرَّجُلِ إِذَا حُبِسَ عَنْ أَهْلِهِ انْتَهَى مِنْهُ.
وَمِمَّنْ أَجَازَ النَّشْرَةَ وَهِيَ حَلُّ السِّحْرِ عَنِ الْمَسْحُورِ: أَبُو جَعْفَرٍ الطَّبَرِيُّ، وَعَامِرٌ الشَّعْبِيُّ وَغَيْرُهُمَا. وَمِمَّنْ كَرِهَ ذَلِكَ: الْحَسَنُ. وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ(1/311)
عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا سَحَرَهُ لَبِيدُ بْنُ الْأَعْصَمِ: هَلَّا تَنَشَّرْتَ؟ فَقَالَ: «أَمَّا اللَّهُ فَقَدْ شَفَانِي وَكَرِهْتُ أَنْ أُثِيرَ عَلَى النَّاسِ شَرًّا» (1) .
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: التَّحْقِيقُ الَّذِي لَا يَنْبَغِي الْعُدُولُ عَنْهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: أَنَّ اسْتِخْرَاجَ السِّحْرِ إِنْ كَانَ بِالْقُرْآنِ كَالْمُعَوِّذَتَيْنِ، وَآيَةِ الْكُرْسِيِّ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا تَجُوزُ الرُّقْيَا بِهِ فَلَا مَانِعَ مِنْ ذَلِكَ. وَإِنْ كَانَ بِسِحْرٍ أَوْ بِأَلْفَاظٍ عَجَمِيَّةٍ، أَوْ بِمَا لَا يُفْهَمُ مَعْنَاهُ، أَوْ بِنَوْعٍ آخَرَ مِمَّا لَا يَجُوزُ فَإِنَّهُ مَمْنُوعٌ. وَهَذَا وَاضِحٌ وَهُوَ الصَّوَابُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى كَمَا تَرَى.
وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي فَتْحِ الْبَارِي مَا نَصُّهُ: (تَكْمِيلٌ) قَالَ ابْن الْقيم رَحمَه الله: مِنْ أَنْفَعِ الْأَدْوِيَةِ، وَأَقْوَى مَا يُوجَدُ مِنَ النُّشْرَةِ مُقَاوَمَةُ السِّحْرِ الَّذِي هُوَ مِنْ تَأْثِيرَاتِ الْأَرْوَاحِ الْخَبِيثَةِ بِالْأَدْوِيَةِ الْإِلَهِيَّةِ: مِنَ الذِّكْرِ، وَالدُّعَاءِ، وَالْقِرَاءَةِ. فَالْقَلْبُ إِذَا كَانَ مُمْتَلِئًا مِنَ اللَّهِ، مَعْمُورًا بِذِكْرِهِ، وَلَهُ وِرْدٌ مِنَ الذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ وَالتَّوَجُّهِ، لَا يُخِلُّ بِهِ كَانَ ذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ الْأَسْبَابِ الْمَانِعَةِ مِنْ إِصَابَةِ السِّحْرِ لَهُ. قَالَ: وَسُلْطَانُ تَأْثِيرِ السِّحْرِ هُوَ فِي الْقُلُوبِ الضَّعِيفَةِ. وَلِهَذَا غَالِبُ مَا يُؤَثِّرُ فِيهِ النِّسَاءَ وَالصِّبْيَانَ وَالْجُهَّالَ؛ لِأَنَّ الْأَرْوَاحَ الْخَبِيثَةَ إِنَّمَا تَنْشَطُ عَلَى الْأَرْوَاحِ، تَلَقَاهَا مُسْتَعِدَّةً لِمَا يُنَاسِبُهَا. انْتَهَى مُلَخصا. وَيُعَكر
_________
(1) - أخرجه البُخَارِيّ (5/2252) (5716) ، وَمُسلم (4/1719) (2189) ، وَفِي رِوَايَة البُخَارِيّ: فَهَلا: يَعْنِي تنشرت، وَفِي رِوَايَات أُخْرَى عِنْد البُخَارِيّ وَغَيره، هلا استخرجته، وهلا أحرقته، وَقد جزم ابْن حجر فِي الْفَتْح بِأَنَّهَا مدرجة، وَنقل أَيْضا عَن الْبَعْض حملهَا على الْمَعْنى اللّغَوِيّ بِمَعْنى الْإِظْهَار حَتَّى توَافق الرِّوَايَات الْأُخْرَى حَيْثُ قَالَ (10/480) : [قَوْله مطبوب يَعْنِي مسحورا هَذَا التَّفْسِير مدرج فِي الْخَبَر وَقد بيّنت ذَلِك عِنْد شرح الحَدِيث فِي كتاب الطِّبّ وَكَذَا قَوْله فَهَلا تَعْنِي تنشرت وَمن قَالَ هُوَ مَأْخُوذ من النشرة أَو من نشر الشَّيْء بِمَعْنى إِظْهَاره وَكَيف يجمع بَين قَوْلهَا فَأخْرج وَبَين قَوْلهَا فِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى هلا استخرجته وَأَن حَاصله أَن الْإِخْرَاج الْوَاقِع كَانَ لأصل السحر والاستخراج الْمَنْفِيّ كَانَ لأجزاء السحر] .(1/312)
عَلَيْهِ حَدِيثُ الْبَابِ، وَجَوَازُ السِّحْرِ عَلَى النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَعَ عَظِيمِ مَقَامِهِ، وَصِدْقِ تَوَجُّهِهِ، وَمُلَازَمَةِ وِرْدِهِ وَلَكِنْ يُمْكِنُ الِانْفِصَالُ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِي ذَكَرَهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْغَالِبِ، وَإِنَّمَا وَقَعَ بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِبَيَانِ تَجْوِيزِ ذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. انْتَهَى مِنْ فَتْحِ الْبَارِي.
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ:
اعْلَمْ أَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي تَحْقِيقِ الْقَدْرِ الَّذِي يُمْكِنُ أَنْ يَبْلُغَهُ تَأْثِيرُ السِّحْرِ فِي الْمَسْحُورِ، وَاعْلَمْ أَنَّ لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَاسِطَةٌ وَطَرَفَيْنِ: طَرَفٌ لَا خِلَافَ فِي أَنَّ تَأْثِيرَ السِّحْرِ يَبْلُغُهُ كَالتَّفْرِيقِ بَيْنَ الرَّجُلِ وَامْرَأَتِهِ، وَكَالْمَرَضِ الَّذِي يُصِيبُ الْمَسْحُورَ مِنَ السِّحْرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَدَلِيلُ ذَلِكَ الْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ الصَّحِيحَةُ.
أَمَّا الْقُرْآنُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ} فَصَرَّحَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ بِأَنَّ مِنْ تَأْثِيرِ السِّحْرِ التَّفْرِيقَ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ.
وَأَمَّا السُّنَّةُ فَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا بِأَلْفَاظٍ مُتَعَدِّدَةٍ مُتَقَارِبَةٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُحِرَ حَتَّى كَانَ يَرَى أَنَّهُ يَأْتِي النِّسَاءَ وَلَا يَأْتِيهِنَّ. فَقَالَ: «يَا عَائِشَةُ أَعَلِمْتِ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَفْتَانِي فِيمَا اسْتَفْتَيْتُهُ فِيهِ، أَتَانِي رَجُلَانِ فَقَعَدَ أَحَدُهُمَا عِنْدَ رَأْسِي، وَالْآخر عِنْد دجلي، فَقَالَ الَّذِي عِنْدَ رَأْسِي لِلْآخَرِ: مَا بَالُ الرَّجُلِ؟ قَالَ: مَطْبُوبٌ، قَالَ: وَمَنْ طَبَّهُ؟ قَالَ: لَبِيدُ بْنُ الْأَعْصَمِ رَجُلٌ مِنْ بَنِي زُرَيْقٍ حَلِيفُ الْيَهُودِيِّ كَانَ مُنَافِقًا، قَالَ: وَفِيمَ؟ قَالَ: فِي مُشْطٍ وَمُشَاطَةٍ؟ قَالَ: وَأَيْنَ؟ قَالَ: فِي جُفِّ طَلْعَةِ ذَكَرٍ تَحْتَ رَاعُوفَةٍ فِي بِئْرِ ذَرْوَانَ» قَالَتْ: فَأَتَى النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْبِئْرَ حَتَّى اسْتَخْرَجَهُ، فَقَالَ: «هَذِهِ الْبِئْرُ الَّتِي أَرِبْتُهَا، وَكَأَنَّ مَاءَهَا نُقَاعَةَ الْحِنَّاءِ، وَكَأَنَّ نخلها رُؤُوس الشَّيَاطِين، فاستخرج»(1/313)
قَالَتْ فَقُلْتُ: أَفَلَا أَيْ تَنَشَّرْتَ؟ فَقَالَ: «أَمَّا اللَّهُ فَقَدْ شَفَانِي وَأَكْرَهُ أَنْ أُثِيرَ عَلَى أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ شَرًّا» اهـ (1) هَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِهِ لِهَذَا الْحَدِيثِ، وَالْقِصَّةُ مَشْهُورَةٌ صَحِيحَةٌ.
فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: أَنَّ تَأْثِيرَ السِّحْرِ فِيهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبَّبَ لَهُ الْمَرَضَ. بِدَلِيلِ قَوْلِهِ «أَمَّا اللَّهُ فَقَدْ شَفَانِي» وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ الثَّابِتَةِ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ بِلَفْظِ: فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: مَا وَجَعُ الرَّجُلِ؟ قَالَ مَطْبُوبٌ. أَيْ مَسْحُورٌ. وَهُوَ تَصْرِيحٌ بِأَنَّ السِّحْرَ سَبَّبَ لَهُ وَجَعًا. وَنَفْيُ بَعْضِ النَّاسِ لِهَذِهِ الْقِصَّةِ مُسْتَدِلًّا بِأَنَّهَا لَا تَجُوزُ فِي حَقِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى عَنِ الْكُفَّارِ مُنْكِرًا عَلَيْهِمْ. {إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُورًا} سَاقِطٌ؛ لِأَنَّ الرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةَ الثَّابِتَةَ لَا يُمْكِنُ رَدُّهَا بِمِثْلِ هَذِهِ الدَّعَاوَى. وَسَتَرَى فِي آخِرِ بَحْثِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى إِيضَاحَ وَجْهِ ذَلِكَ. وَطَرَفٌ لَا خِلَافَ فِي أَنَّ تَأْثِيرَ السِّحْرِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَبْلُغَهُ. كَإِحْيَاءِ الْمَوْتَى، وَفَلْقِ الْبَحْرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
قَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ: أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِي السِّحْرِ مَا يَفْعَلُ اللَّهُ عِنْدَهُ إِنْزَالَ الْجَرَادِ وَالْقُمَّلِ وَالضَّفَادِعِ، وَفَلْقَ الْبَحْرِ، وَقَلْبَ الْعَصَا، وَإِحْيَاءَ الْمَوْتَى، وَإِنْطَاقَ الْعَجْمَاءِ، وَأَمْثَالَ ذَلِكَ مِنْ عَظِيمِ آيَاتِ الرُّسُلِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. فَهَذَا وَنَحْوُهُ مِمَّا يَجِبُ الْقَطْعُ بِأَنَّهُ لَا يَكُونُ لَا يَفْعَلُهُ اللَّهُ عِنْدَ إِرَادَةِ السَّاحِرِ. قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الطَّيِّبِ: وَإِنَّمَا مَنَعْنَا ذَلِكَ بِالْإِجْمَاعِ وَلَوْلَاهُ لَأَجَزْنَاهُ انْتَهَى كَلَامُ الْقُرْطُبِيُّ.
وَأَمَّا الْوَاسِطَةُ فَهِيَ مَحَلُّ خِلَافٍ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ، وَهِيَ هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَنْقَلِبَ بِالسِّحْرِ الْإِنْسَانُ حِمَارًا مَثَلًا، وَالْحِمَارُ إِنْسَانًا؟ وَهَلْ يَصِحُّ أَنْ يَطِيرَ السَّاحِرُ فِي الْهَوَاءِ، وَأَنْ يَسْتَدِقَّ حَتَّى يَدْخُلَ مِنْ كُوَّةٍ ضَيِّقَةٍ. وَيَنْتَصِبُ عَلَى رَأْسِ قَصَبَةٍ، وَيَجْرِي عَلَى خَيْطٍ مُسْتَدَقٍّ، وَيَمْشِي عَلَى المَاء، ويركب الْكَلْب
_________
(1) - سبق تَخْرِيجه آنِفا.(1/314)
وَنَحْوَ ذَلِكَ. فَبَعْضُ النَّاسِ يُجِيزُ هَذَا. وَجَزَمَ بِجَوَازِهِ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ، وَكَذَلِكَ صَاحَبُ رُشْدِ الْغَافِلِ وَغَيْرُهُمَا. وَبَعْضُهُمْ يَمْنَعُ مِثْلَ هَذَا.
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ: أَمَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَفْعَلَ جَمِيعَ ذَلِكَ، وَأَنَّهُ يُسَبِّبُ مَا شَاءَ من المسببات على مَا شَاءَ من الْأَسْبَابِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ هُنَاكَ مُنَاسَبَةٌ عَقْلِيَّةٌ بَيَّنَ السَّبَبَ وَالْمُسَبِّبَ كَمَا قَدَّمْنَاهُ مُسْتَوْفًى فِي سُورَةِ «مَرْيَمَ» فَلَا مَانِعَ مِنْ ذَلِكَ، وَاللَّهُ جَلَّ وَعَلَا يَقُولُ {وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ} . وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى ثُبُوتِ وُقُوعِ مِثْلِ ذَلِكَ بِالْفِعْلِ فَلَمْ يَقُمْ عَلَيْهِ دَلِيلٌ مُقْنِعٌ؛ لِأَنَّ غَالِبَ مَا يَسْتَدِلُّ عَلَيْهِ بِهِ قَائِلُهُ حِكَايَاتٌ لَمْ تَثْبُتْ عَنْ عُدُولٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَا وَقَعَ مِنْهَا مِنْ جِنْسِ الشَّعْوَذَةِ وَالْأَخْذِ بِالْعُيُونِ، لَا قَلْبِ الْحَقِيقَةِ مَثَلًا إِلَى حَقِيقَةٍ أُخْرَى. وَهَذَا هُوَ الْأَظْهَرُ عِنْدِي، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
تَنْبيهٌ
اعْلَمْ أَنَّ مَا وَقَعَ مِنْ تَأْثِيرِ السِّحْرِ فِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَسْتَلْزِمُ نَقْصًا وَلَا مُحَالًا شَرْعِيًّا حَتَّى تُرَدَّ بِذَلِكَ الرِّوَايَاتُ الصَّحِيحَةُ. لِأَنَّهُ مِنْ نَوْعِ الْأَعْرَاضِ الْبَشَرِيَّةِ، كَالْأَمْرَاضِ الْمُؤَثِّرَةِ فِي الْأَجْسَامِ، وَلَمْ يُؤَثِّرِ الْبَتَّةَ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالتَّبْلِيغِ. وَاسْتِدْلَالُ مَنْ مَنَعَ ذَلِكَ زَاعِمًا أَنَّهُ مُحَالٌ فِي حَقِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِآيَةِ {إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُورًا} مَرْدُودٌ كَمَا سَنُوَضِّحُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فِي آخِرِ هَذَا الْبَحْثِ.
قَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي الْفَتْحِ: قَالَ الْمَازِرِيُّ: أَنْكَرَ بَعْضُ الْمُبْتَدِعَةِ هَذَا الْحَدِيثَ، وَزَعَمُوا أَنَّهُ يَحُطُّ مَنْصِبَ النُّبُوَّةِ وَيُشَكِّكُ فِيهَا. قَالُوا: وَكُلُّ مَا أَدَّى إِلَى ذَلِكَ فَهُوَ بَاطِلٌ. وَزَعَمُوا أَنَّ تَجْوِيزَ هَذَا يَعْدَمُ الثِّقَةَ بِمَا شَرَعُوهُ مِنَ الشَّرَائِعِ، إِذْ يُحْتَمَلُ عَلَى هَذَا أَنْ يُخَيَّلَ إِلَيْهِ أَنَّهُ يَرَى جِبْرِيلَ وَلَيْسَ هُوَ ثُمَّ،(1/315)
وَأَنَّهُ يُوحَى إِلَيْهِ بِشَيْءٍ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ. قَالَ الْمَازِرِيُّ: هَذَا كُلُّهُ مَرْدُودٌ. لِأَنَّ الدَّلِيلَ قَدْ قَامَ عَلَى صِدْقِ النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا يُبَلِّغُهُ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى، وَعَلَى عِصْمَتِهِ فِي التَّبْلِيغِ. وَالْمُعْجِزَاتُ شَاهِدَاتٌ بِتَصْدِيقِهِ. فَتَجْوِيزُ مَا قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى خِلَافِهِ بَاطِلٌ. وَأَمَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِبَعْضِ أُمُورِ الدُّنْيَا الَّتِي لَمْ يُبْعَثْ لِأَجْلِهَا، وَلَا كَانَتِ الرِّسَالَةُ مِنْ أَجْلِهَا، فَهُوَ فِي ذَلِكَ عُرْضَةٌ لِمَا يَعْتَرِي الْبَشَرَ كَالْأَمْرَاضِ. فَغَيْرُ بَعِيدٍ أَنْ يُخَيِّلَ اللَّهُ فِي أَمْرٍ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا مَا لَا حَقِيقَةَ لَهُ مَعَ عِصْمَتِهِ عَنْ مِثْلِ ذَلِكَ فِي أُمُورِ الدِّينِ. قَالَ: وَقَدْ قَالَ بَعْضُ النَّاسِ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْحَدِيثِ: أَنَّهُ كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ وطئ زَوْجَاته وَلم يكن وطئهن وَهَذَا كثيرا مَا يَقَعُ تَخَيُّلُهُ لِلْإِنْسَانِ فِي الْمَنَامِ، فَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُخَيَّلَ إِلَيْهِ فِي الْيَقَظَةِ.
قُلْتُ: وَهَذَا قَدْ وَرَدَ صَرِيحًا فِي رِوَايَةِ ابْنِ عُيَيْنَةَ فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِي هَذَا، وَلَفْظُهُ: «حَتَّى كَانَ يَرَى أَنَّهُ يَأْتِي النِّسَاءَ وَلَا يَأْتِيهِنَّ» وَفِي رِوَايَةِ الْحُمَيْدِيِّ «أَنَّهُ يَأْتِي أَهْلَهُ وَلَا يَأْتِيهِمْ» قَالَ الدَّاوُدِيُّ: «يُرَى» بِضَمِّ أَوَّلِهِ أَيْ يُظَنُّ. وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: ضُبِطَتْ «يَرَى» بِفَتْحِ أَوَّلِهِ. قُلْتُ: وَهُوَ مِنَ الرَّأْيِ لَا مِنَ الرُّؤْيَةِ فَيَرْجِعُ إِلَى مَعْنَى الظَّنِّ. وَفِي مُرْسَلِ يَحْيَى بْنِ يَعْمُرَ عِنْدَ عَبْدِ الرَّزَّاقِ: سُحِرَ النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ عَائِشَةَ، حَتَّى أَنْكَرَ بَصَرَهُ. وَعِنْدَهُ فِي مُرْسَلِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ: حَتَّى كَادَ يُنْكِرُ بَصَرَهُ. قَالَ عِيَاضٌ فَظَهَرَ بِهَذَا أَنَّ السِّحْرَ إِنَّمَا تَسَلَّطَ عَلَى جَسَدِهِ وَظَوَاهِرِ جَوَارِحِهِ، لَا عَلَى تَمْيِيزِهِ وَمُعْتَقَدِهِ. قُلْتُ: وَوَقَعَ فِي مُرْسَلِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَعْبٍ عِنْدَ ابْنِ سَعْدٍ (1) : فَقَالَتْ أُخْتُ لَبِيدِ بْنِ الْأَعْصَمِ: إِنْ يَكُنْ نَبِيَّنَا فَسَيُخْبَرُ، وَإِلَّا فَسَيُذْهِلُهُ هَذَا السِّحْرُ حَتَّى يَذْهَبَ عَقْلُهُ: قُلْتُ: فَوَقَعَ الشِّقُّ الْأَوَّلُ كَمَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ. وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: لَا يَلْزَمُ مِنْ أَنَّهُ كَانَ يَظُنُّ أَنَّهُ فَعَلَ الشَّيْءَ وَلَمْ يَكُنْ فَعَلَهُ أَنْ يُجْزَمَ بِفِعْلِهِ ذَلِك، وَإِنَّمَا
_________
(1) - الطَّبَقَات الْكُبْرَى (2/198) .(1/316)
يَكُونُ ذَلِكَ مِنْ جِنْسِ الْخَاطِرِ يَخْطُرُ وَلَا يَثْبُتُ. فَلَا يَبْقَى عَلَى هَذَا لِلْمُلْحِدِ حُجَّةٌ.
وَقَالَ عِيَاضٌ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالتَّخَيُّلِ الْمَذْكُورِ أَنَّهُ يَظْهَرُ لَهُ مِنْ نَشَاطِهِ مَا أَلِفَهُ مِنْ سَابِقِ عَادَتِهِ مِنَ الِاقْتِدَارِ عَلَى الْوَطْءِ، فَإِذَا دَنَا مِنَ الْمَرْأَةِ فَتَرَ مِنْ ذَلِكَ كَمَا هُوَ شَأْنُ الْمَعْقُودِ: وَيَكُونُ قَوْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى «حَتَّى كَادَ يُنْكِرُ بَصَرَهُ» (1) أَيْ صَارَ كَالَّذِي أَنْكَرَ بَصَرَهُ بِحَيْثُ إِنَّهُ إِذَا رَأَى الشَّيْءَ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ عَلَى غَيْرِ صِفَتِهِ. فَإِذَا تَأَمَّلَهُ عَرَفَ حَقِيقَتَهُ. وَيُؤَيِّدُ جَمِيعَ مَا تَقَدَّمَ أَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي خَبَرٍ مِنَ الْأَخْبَارِ أَنَّهُ قَالَ قَوْلًا فَكَانَ بِخِلَافِ مَا أَخْبَرَ بِهِ. وَقَالَ الْمُهَلَّبُ: صَوْنُ النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الشَّيَاطِينِ لَا يَمْنَعُ إِرَادَتَهُمْ كَيْدَهُ، فَقَدْ مَضَى فِي الصَّحِيحِ: أَنَّ شَيْطَانًا أَرَادَ أَنْ يُفْسِدَ عَلَيْهِ صَلَاتَهُ، فَأَمْكَنَهُ اللَّهُ مِنْهُ (2) . فَكَذَلِكَ السِّحْرُ مَا نَالَهُ مِنْ ضَرَرِهِ مَا يُدْخِلُ نَقْصًا عَلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِالتَّبْلِيغِ، بَلْ هُوَ مِنْ جِنْسِ مَا كَانَ يَنَالُهُ مِنْ ضَرَرِ سَائِرِ الْأَمْرَاضِ: مِنْ ضَعْفٍ عَنِ الْكَلَامِ، أَوْ عَجْزٍ عَنْ بَعْضِ الْفِعْلِ، أَوْ حُدُوثِ تَخَيُّلٍ لَا يَسْتَمِرُّ بَلْ يَزُولُ. وَيُبْطِلُ اللَّهُ كَيْدَ الشَّيَاطِينَ.
وَاسْتَدَلَّ ابْنُ الْقَصَّارِ عَلَى أَنَّ الَّذِي أَصَابَهُ كَانَ مِنْ جِنْسِ الْمَرَضِ بِقَوْلِهِ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ: «أَمَّا أَنَا فَقَدَ شَفَانِي اللَّهُ» وَفِي الِاسْتِدْلَالِ بِهِ نَظَرٌ. لَكِنْ يُؤَيِّدُ الْمُدَّعِي أَنَّ فِي رِوَايَةِ عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ عِنْدَ الْبَيْهَقِيِّ فِي الدَّلَائِلِ: فَكَانَ يَدُورُ وَلَا يَدْرِي مَا وَجَعَهُ. وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ ابْنِ سَعْدٍ: مَرِضَ النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأُخِذَ عَنِ النِّسَاءِ وَالطَّعَام وَالشرَاب، فهبط عَلَيْهِ ملكان. الحَدِيث (3)
_________
(1) - أخرجه الطَّبَرِيّ فِي " تَفْسِيره " (1/460) بِسَنَدِهِ عَن ابْن شهَاب قَالَ كَانَ عُرْوَة بن الزبير وَسَعِيد بن الْمسيب يحدثان، فَذكره، وَهُوَ حَدِيث مُرْسل.
(2) - أخرجه البُخَارِيّ (3/1260) (3241) مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
(3) - أخرجه ابْن سعد فِي " الطَّبَقَات " (2/198) بِسَنَد فِيهِ جُوَيْبِر، وَهُوَ ابْن سعيد، قَالَ عَنهُ الذَّهَبِيّ فِي الكاشف: تَرَكُوهُ، وَقَالَ عَنهُ ابْن حجر: ضَعِيف جدا.(1/317)
انْتَهَى مِنْ (فَتْحِ الْبَارِي) .
وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَهُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعْصُومٌ بِالْإِجْمَاعِ مِنْ كُلِّ مَا يُؤَثِّرُ خَلَلًا فِي التَّبْلِيغِ وَالتَّشْرِيعِ. وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَعْرَاضِ الْبَشَرِيَّةِ: كَأَنْوَاعِ الْأَمْرَاضِ وَالْآلَامِ، وَنَحْوَ ذَلِكَ فَالْأَنْبِيَاءُ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ يَعْتَرِيهِمْ مِنْ ذَلِكَ مَا يَعْتَرِي الْبَشَرَ. لِأَنَّهُمْ بَشَرٌ كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْهُمْ: {إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ وَلكن اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ} وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُورًا} فَمَعْنَاهُ أَنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَسْحُورٌ أَوْ مَطْبُوبٌ، قَدْ خَبَلَهُ السِّحْرُ فَاخْتَلَطَ عَقْلُهُ فَالْتَبَسَ عَلَيْهِ أَمْرُهُ. يَقُولُونَ ذَلِكَ لِيُنَفِّرُوا النَّاسَ عَنْهُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: «مَسْحُورًا» أَيْ مَخْدُوعًا. مِثْلَ قَوْلِهِ {فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} أَيْ مِنْ أَيْنَ تُخْدَعُونَ. وَمَعْنَى هَذَا رَاجِعٌ إِلَى مَا قَبْلَهُ. لِأَنَّ الْمَخْدُوعَ مَغْلُوبٌ فِي عَقْلِهِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ {مَّسْحُورًا} مَعْنَاهُ أَنَّ لَهُ سِحْرًا أَيْ رِئَةً فَهُوَ لَا يَسْتَغْنِي عَنِ الطَّعَامِ وَالشرَاب، فَهُوَ مثلكُمْ وَلَيْسَ بِملك. كَقَوْلِهِم {مَا لِهذا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِى فِى الْأَسْوَاقِ} ، وَقَوْلِهِ عَنِ الْكُفَّارِ {مَا هَذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِّثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَاسِرُونَ} وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَيُقَالُ لِكُلِّ مَنْ أَكَلَ أَوْ شَرِبَ مِنْ آدَمِيٍّ أَوْ غَيْرِهِ: مَسْحُورٌ وَمُسَحَّرٌ. وَمِنْهُ قَوْلُ لَبِيَدٍ:
فَإِنْ تَسْأَلِينَا فِيمَ نَحْنُ فَإِنَّنَا ... عَصَافِيرُ مِنْ هَذَا الْأَنَامِ الْمُسَحَّرِ
وَقَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ:
أَرَانَا مَوْضِعَيْنِ لِأَمْرِ غَيْبٍ ... وَنُسْحَرُ بِالطَّعَامِ وَبِالشَّرَابِ
أَيْ نُغَذَّى وَنُعَلَّلُ.(1/318)
وَإِذَا عَلِمْتَ أَنَّ أَقْوَالَ الْعُلَمَاءِ فِي قَوْلِهِ «مَسْحُوراً» رَاجِعَةٌ إِلَى دَعْوَاهُمُ اخْتِلَالَ عَقْلِهِ بِالسِّحْرِ أَوَ الْخَدِيعَةِ، أَوْ كَوْنِهِ بَشَرًا عَلِمْتَ أَنَّهُ لَا دَلِيلَ فِي الْآيَةِ عَلَى مَنْعِ بَعْضِ التَّأْثِيرَاتِ الْعَرَضِيَّةِ الَّتِي لَا تَعَلُّقَ لَهَا بِالتَّبْلِيغِ وَالتَّشْرِيعِ كَمَا تَرَى، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
وَقَدْ أَشَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ لِحُكْمِ سَاحِرِ أَهْلِ الذِّمَّةِ، وَاخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ فِي قَتْلِهِ، وَاسْتِدْلَالِ مَنْ قَالَ بِأَنَّهُ لَا يُقْتَلُ بِعَدَمِ قَتْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَبِيدَ بْنَ الْأَعْصَمِ الَّذِي سَحَرَهُ. وَالْقَوْلُ بِأَنَّهُ قَتَلَهُ ضَعِيفٌ، وَلَمْ يَثْبُتْ أَنَّهُ قَتَلَهُ. وَأَظْهَرُ الْأَقْوَالِ عِنْدَنَا أَنَّهُ لَا يكون أَشد حزمة مِنْ سَاحِرِ الْمُسْلِمِينَ، بَلْ يُقْتَلُ كَمَا يُقْتَلُ سَاحِرُ الْمُسْلِمِينَ. وَأَمَّا عَدَمُ قَتْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِابْنِ الْأَعْصَمِ فَقَدْ بَيَّنَتِ الرِّوَايَاتُ الصَّحِيحَةُ أَنَّهُ تَرَكَ قَتْلَهُ اتِّقَاءَ إِثَارَةِ فِتْنَةٍ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَوْلَا ذَلِكَ لَقَتَلَهُ. وَقَدْ تَرَكَ الْمُنَافِقِينَ لِئَلَّا يَقُولَ النَّاسُ مُحَمَّدٌ يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ. فَيَكُونُ فِي ذَلِكَ تَنْفِيرٌ عَنْ دِينِ الْإِسْلَامِ مَعَ اتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ عَلَى قَتْلِ الزِّنْدِيقِ وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنِ الْمُنَافِقِ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.] (1) .
- الشَّفَاعَة:
[ {وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ} ظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ عَدَمُ قَبُولِ الشَّفَاعَةِ مُطْلَقًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ فِي مَوَاضِعَ أُخر أَنَّ الشَّفَاعَةَ الْمَنْفِيَّةَ هِيَ الشَّفَاعَةُ لِلْكُفَّارِ، وَالشَّفَاعَةُ لِغَيْرِهِمْ بِدُونِ إِذْنِ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ.
أَمَّا الشَّفَاعَةُ لِلْمُؤْمِنِينَ بِإِذْنِهِ فَهِيَ ثَابِتَةٌ بِالْكِتَابِ، وَالسُّنَّةِ، وَالْإِجْمَاعِ.
فَنَصَّ عَلَى عَدَمِ الشَّفَاعَةِ لِلْكَفَّارِ بِقَوْلِهِ: {وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى} ، وَقَدْ قَالَ: {وَلاَ يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} . وَقَالَ تَعَالَى عَنْهُمْ مُقَرِّرًا لَهُ: {فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ} . وَقَالَ: {فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ من الْآيَات.
_________
(1) - 4/481: 512، طه / 69.(1/319)
وَقَالَ فِي الشَّفَاعَةِ بِدُونِ إِذْنِهِ: {مَن ذَا الَّذِى يَشْفَعُ عِندَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} . وَقَالَ: {وَكَمْ مّن مَّلَكٍ فِى السَّمَوَاتِ لاَ تُغْنِى شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاء وَيَرْضَى} . وَقَالَ: {يَوْمَئِذٍ لاَّ تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِىَ لَهُ قَوْلاً} ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَادِّعَاءُ شُفَعَاءَ عِنْدَ اللَّه لِلْكُفَّارِ أَوْ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، مِنْ أَنْوَاعِ الْكُفْرِ بِهِ جَلَّ وَعَلَا، كَمَا صَرَّحَ بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: {وَيَقُولُونَ هَؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبّئُونَ اللَّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} .
تَنْبِيهٌ:
هَذَا الَّذِي قَرَّرْنَاهُ مِنْ أَنَّ الشَّفَاعَةَ لِلْكُفَّارِ مُسْتَحِيلَةٌ شَرْعًا مُطْلَقًا، يُسْتَثْنَى مِنْهُ شَفَاعَتُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ فِي نَقْلِهِ مِنْ مَحَلٍّ مِنَ النَّارِ إِلَى مَحَلٍّ آخَرَ مِنْهَا، كَمَا ثَبَتَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّحِيحِ (1) ، فَهَذِهِ الصُّورَةُ الَّتِي ذكرنَا من تَخْصِيص الْكتاب وَالسّنة.] (2) .
وَقَالَ صَاحب التَّتِمَّة - رَحمَه الله -: [قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} . فِيهِ أَنَّ الْكُفَّارَ لَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ، كَمَا أَنَّ فِيهَا إِثْبَاتَ الشَّفَاعَةِ لِلشَّافِعِينَ، وَمَفْهُومُ كَوْنِهَا لَا تَنْفَعُ الْكُفَّارَ أَنَّهَا تَنْفَعُ غَيْرَهُمْ.
وَقَدْ جَاءَتْ نُصُوصٌ فِي الشَّفَاعَةِ لِمَنِ ارْتَضَاهُمُ اللَّهُ، وَقَدْ دَلَّتْ نُصُوصٌ عَلَى كِلَا الْأَمْرَيْنِ، فَمِنْ عَدَمِ الشَّفَاعَةِ لِلْكُفَّارِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلاَ شَفِيعٍ يُطَاعُ} . وَقَوْلُهُ: {وَمَآ أَضَلَّنَآ إِلاَّ الْمُجْرِمُونَ فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ} ذَلِك من الْآيَات.
_________
(1) - أخرجه البُخَارِيّ (4/1408) (3670) ، وَمُسلم (1/194) (209) من حَدِيث الْعَبَّاس - رَضِي الله عَنهُ -.
(2) - 1/64 - 65، الْبَقَرَة / 48، وَانْظُر (8/382) (التَّحْرِيم/10) .(1/320)
وَفِي الْقِسْمِ الثَّانِي قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى} .
وَكَذَلِكَ الشَّفِيعُ لَا يَشْفَعُ إِلَّا مَنْ أُذِنَ لَهُ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا فِيمَنْ أُذِنُوا فِيهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى {مَن ذَا الَّذِى يَشْفَعُ عِندَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} وَقَوْلِهِ: {يَوْمَئِذٍ لاَّ تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ} . وَمَبْحَثُ الشَّفَاعَةِ وَاسِعٌ مُقَرَّرٌ فِي كُتُبِ الْعَقَائِدِ.
وَخُلَاصَةُ الْقَوْلِ فِيهَا أَنَّهَا لَا تَكُونُ إِلَّا بِإِذن من الله الْمَأْذُون لَهُ فِيهَا، وَقَدْ ثَبَتَ للنَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشَّفَاعَةُ الْعُظْمَى وَهِيَ الْمَقَامُ الْمَحْمُودُ، وَعِدَّةُ شَفَاعَاتٍ بَعْدَهَا مِنْهَا مَا اخْتُصَّ بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَالشَّفَاعَةِ الْعُظْمَى وَدُخُولِ الْجَنَّةِ وَالشَّفَاعَةِ فِي غَيْرِ مُسْلِمٍ وَهُوَ عَمُّهُ أَبُو طَالِبٍ لِلتَّخْفِيفِ عَنْهُ، وَمِنْهَا مَا يُشَارِكُهُ فِيهَا غَيْرُهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالصُّلَحَاءِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أعلم.] (1) .
_________
(1) - 8/627 -628، المدثر/48.(1/321)
فصل فِي الْوَلَاء والبراء
[قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} ، ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، أَنَّ مَنْ تَوَلَّى الْيَهُودَ، وَالنَّصَارَى، مِن الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّهُ يَكُونُ مِنْهُمْ بِتَوَلِّيهِ إِيَّاهُمْ.
وَبَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّ تَوَلِّيَهُمْ مُوجِبٌ لِسُخْطِ اللَّهِ، وَالْخُلُودِ فِي عَذَابِهِ، وَأَنَّ مُتَوَلِّيَهُمْ لَوْ كَانَ مُؤْمِنًا مَا تَوَلَّاهُمْ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {تَرَى كَثِيراً مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِى الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالْلهِ والنَّبِىِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَآءَ وَلكن كَثِيراً مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} . وَنَهَى فِي موضِع آخَرَ عَنْ تَوليهم مُبَيِّنًا سَبَبَ التَّنْفِيرِ مِنْهُ. وَهُوَ قَوْله: {ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَوَلَّوْاْ قوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُواْ مِنَ الآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ} .
وَبَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: أَنَّ مَحَلَّ ذَلِكَ، فِيمَا إِذَا لَمْ تَكُنِ الْمُوَالَاةُ بِسَبَبِ خَوْفٍ، وَتَقِيَّةٍ، وَإِنْ كَانَتْ بِسَبَبِ ذَلِكَ فَصَاحِبُهَا مَعْذُورٌ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَىْءٍ إِلاَ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً} فَهَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ فِيهَا بَيَانٌ لِكُلِّ الْآيَاتِ الْقَاضِيَةِ بِمَنْعِ مُوَالَاةِ الْكُفَّارِ مُطْلَقًا وَإِيضَاحٌ، لِأَنَّ (1) مَحَلَّ ذَلِكَ فِي حَالَةِ الِاخْتِيَارِ، وَأَمَّا عِنْدَ الْخَوْفِ وَالتَّقِيَّةِ، فَيُرَخَّصُ فِي مُوَالَاتِهِمْ، بِقَدْرِ الْمُدَارَاةِ الَّتِي يَكْتَفِي بِهَا شَرُّهُمْ، وَيُشْتَرَطُ فِي ذَلِكَ سَلامَة الْبَاطِن من تِلْكَ الْمُوَالَاة.
_________
(1) - كَذَا بِالْأَصْلِ، والعبارة فِيهَا اضْطِرَاب، وَلَعَلَّ صوابها: مُطلقًا، وَأَن مَحل ذَلِك.(1/322)
وَمَنْ يَأْتِي الْأُمُورَ عَلَى اضْطِرَارٍ ... فَلَيْسَ كَمِثْلِ آتِيهَا اخْتِيَارًا
وَيُفْهَمُ مِنْ ظَوَاهِرِ هَذِهِ الْآيَاتِ أَنَّ مَنْ تَوَلَّى الْكُفَّارَ عَمْدًا اخْتِيَارًا، رَغْبَةً فيهم أَنه كَافِر مثلهم.] (1) .
وَقَالَ صَاحب التَّتِمَّة - رَحمَه الله -: [قَوْلِهِ تَعَالَى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ العَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلاَّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ} . الْأُسْوَةُ كَالْقُدْوَةِ، وَهِيَ اتِّبَاعُ الْغَيْرِ عَلَى الْحَالَةِ الَّتِي يَكُونُ عَلَيْهَا حَسَنَةٍ أَوْ قَبِيحَةٍ، وَلِذَا قَالَ تَعَالَى: {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} وَهُنَا أَيْضًا: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِى إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ} .
وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى هَذَا التَّأَسِّي الْمَطْلُوبَ، وَذَلِكَ بِقَوْلِهِ: {إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ} .
فَالتَّأَسِّي هُنَا فِي ثَلَاثَةِ أُمُورٍ:
أَوَّلًا: التَّبَرُّؤُ مِنْهُمْ وَمِمَّا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ.
ثَانِيًا: الْكُفْرُ بِهِمْ.
ثَالِثًا: إِبْدَاءُ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ وَإِعْلَانُهَا وَإِظْهَارُهَا أَبَدًا إِلَى الْغَايَةِ الْمَذْكُورَةِ حَتَّى يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ، وَهَذَا غَايَةٌ فِي الْقَطِيعَةِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ قَوْمِهِمْ، وَزِيَادَةٌ عَلَيْهَا إِبْدَاءُ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ أَبَدًا، وَالسَّبَبُ فِي ذَلِكَ هُوَ الْكُفْرُ، فَإِذَا آمَنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ انْتَفَى كُلُّ ذَلِكَ بَيْنَهُمْ.] (2) .
_________
(1) - 2/98 - 99، الْمَائِدَة / 51.
(2) - 8/138 - 139، الممتحنة / 4.(1/323)
- الْكفْر هُوَ الْعلَّة لعدم مُوالَاة الْكفَّار.
وَقَالَ صَاحب التَّتِمَّة - رَحمَه الله -: [وَمِمَّا قَدَّمْنَا مِنْ أَنَّ سَبَبَ النَّهْيِ عَنْ مُوَالَاةِ الْأَعْدَاءِ، هُوَ الْكُفْرُ يُعْلَمُ أَنَّهُ إِذَا وُجِدَتْ عَدَاوَةٌ لَا لِسَبَبِ الْكُفْرِ فَلَا يُنْهَى عَنْ تِلْكَ الْمُوَالَاةِ لِتَخَلُّفِ الْعِلَّةِ الْأَسَاسِيَّةِ، كَمَا جَاءَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَإِن تَعْفُواْ وَتَصْفَحُواْ وَتَغْفِرُواْ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} .
فَلَمَّا تَخَلَّفَ السَّبَبُ الْأَسَاسِيُّ فِي النَّهْيِ عَنْ مُوَالَاةِ الْعَدُوِّ الَّذِي هُوَ الْكُفْرُ، جَاءَ الْحَثُّ عَلَى الْعَفْوِ وَالصَّفْحِ وَالْغُفْرَانِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْعَدَاوَةَ لِسَبَبٍ آخَرَ هُوَ مَا بَيَّنَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ} . فَكَانَ مُقْتَضَاهَا فَقَطِ الْحَذَرُ مِنْ أَنْ يَفْتِنُوهُ، وَكَانَ مُقْتَضَى الزَّوْجِيَّةِ حُسْنَ الْعِشْرَةِ، كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ. وَسَيَأْتِي زِيَادَةُ إِيضَاحٍ لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عِنْدَ هَذِهِ الْآيَةِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَقَدْ نَصَّ صَرَاحَةً عَلَى عَدَمِ النَّهْيِ الْمَذْكُورِ فِي خُصُوصِ مَنْ لَمْ يُعَادُوهُمْ فِي الدِّينِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {لاَّ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِى الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُواْ إِلَيْهِمْ} .] (1) .
وَقد فصل - رَحمَه الله - القَوْل فِي ذَلِك أَيْضا حَيْثُ قَالَ: [قَوْله تَعَالَى: {لاَّ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِى الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُواْ إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِى الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُواْ عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأولئك هُمُ الظَّالِمُونَ} . اعْتَبَرَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ الْآيَةَ الْأُولَى رُخْصَةً مِنَ الْآيَةِ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ، وَلَكِنْ فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ صِنْفَانِ مِنَ الْأَعْدَاءِ وَقِسْمَانِ من
_________
(1) - 8/129: 135، الممتحنة / 1.(1/324)
الْمُعَامَلَةِ.
الصِّنْفُ الْأَوَّلُ: عَدُوٌّ لَمْ يُقَاتِلُوا الْمُسْلِمِينَ فِي دِينِهِمْ وَلَمْ يُخْرِجُوهُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ، فَهَؤُلَاءِ تَعَالَى فِي حَقهم {لاَّ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ} {أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُواْ إِلَيْهِمْ} .
وَالصِّنْفُ الثَّانِي: قَاتَلُوا الْمُسْلِمِينَ وَأَخْرَجُوهُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِهِمْ، وَهَؤُلَاءِ يَقُولُ تَعَالَى فِيهِمْ: إِنَّمَا يَنْهَاكُم الله أَنْ تَوَلَّوْهُمْ إِذًا فَهُمَا قِسْمَانِ مُخْتَلِفَانِ وَحُكْمَانِ مُتَغَايِرَانِ، وَإِنْ كَانَ الْقِسْمَانِ لَمْ يَخْرُجَا عَنْ عُمُومِ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ الْمُتَقَدِّمِ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ، وَقَدِ اعْتَبَرَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ الْآيَةَ الْأَوْلَى رُخْصَةً بَعْدَ النَّهْيِ الْمُتَقَدِّمِ، ثُمَّ إِنَّهَا نُسِخَتْ بِآيَةِ السَّيْفِ أَوْ غَيْرِهَا عَلَى مَا سَيَأْتِي.
وَاعْتَبَرَ الْآيَةَ الثَّانِيَةَ تَأْكِيدًا لِلنَّهْيِ الْأَوَّلِ، وَنَاقَشَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ دَعْوَى النَّسْخِ فِي الْأُولَى، وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ نَزَلَتْ وَمَنَ الْمَقْصُودُ مِنْهَا، وَالْوَاقِعُ أَنَّ الْآيَتَيْنِ تَقْسِيمٌ لِعُمُومِ الْعَدُوِّ الْمُتَقَدِّمِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوِّى وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَآءَ} ، مَعَ بَيَانِ كُلِّ قِسْمٍ وَحُكْمِهِ، كَمَا تَدُلُّ لَهُ قَرَائِنُ فِي الْآيَةِ الْأُولَى، وَقَرَائِنُ فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ عَلَى مَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
أَمَّا التَّقْسِيمُ فَقِسْمَانِ: قِسْمٌ مُسَالِمٌ لَمْ يُقَاتِلِ الْمُسْلِمِينَ وَلَمْ يُخْرِجْهُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ، فَلَمْ يَنْهَ اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ عَنْ بِرِّهِمْ وَالْإِقْسَاطِ إِلَيْهِمْ، وَقِسْمٌ غَيْرُ مُسَالِمٍ يُقَاتِلُ الْمُسْلِمِينَ وَيُخْرِجُهُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ وَيُظَاهِرُ عَلَى إِخْرَاجِهِمْ، فَنَهَى اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ عَنْ مُوَالَاتِهِمْ، وَفَرْقٌ بَيْنَ الْإِذْنِ بِالْبَرِّ والقسط، وَبَين النَّهْيِ عَنِ الْمُوَالَاةِ وَالْمَوَدَّةِ، وَيَشْهَدُ لِهَذَا التَّقْسِيمِ مَا فِي الْآيَةِ الْأُولَى مِنْ قَرَائِنَ، وَهِيَ عُمُومُ الْوَصْفِ بِالْكُفْرِ، وَخُصُوصُ الْوَصْفِ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَإِيَّاكُمْ.
وَمَعْلُومٌ أَنَّ إِخْرَاجَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمِينَ مِنْ دِيَارِهِمْ كَانَ نَتِيجَةً لقتالهم(1/325)
وَإِيذَائِهِمْ، فَهَذَا الْقِسْمُ هُوَ الْمَعْنِيُّ بِالنَّهْيِ عَنْ مُوَالَاتِهِ لِمَوْقِفِهِ الْمُعَادِي لِأَنَّ الْمُعَادَاةَ تُنَافِي الْمُوَالَاةَ؛ وَلِذَا عَقَّبَ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأولئك هُمُ الظَّالِمُونَ} فَأَيُّ ظُلْمٍ بَعْدَ مُوَالَاةِ الْفَرْدِ لِأَعْدَاءِ أُمَّتِهِ وَأَعْدَاءِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ.
أَمَّا الْقِسْمُ الْعَامُّ وَهُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا جَاءَهُمْ مِنَ الْحَقِّ لَكِنَّهُمْ لَمْ يُعَادُوا الْمُسْلِمِينَ فِي دِينِهِمْ لَا بِقِتَالٍ وَلَا بِإِخْرَاجٍ وَلَا بِمُعَاوَنَةِ غَيْرِهِمْ عَلَيْهِمْ وَلَا ظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِهِمْ، فَهَؤُلَاءِ مِنْ جَانِبٍ لَيْسُوا مَحَلًّا لِلْمُوَالَاةِ لِكُفْرِهِمْ، وَلَيْسَ مِنْهُمْ مَا يَمْنَعُ بِرَّهُمْ وَالْإِقْسَاطَ إِلَيْهِمْ.
وَعَلَى هَذَا فَإِنَّ الْآيَةَ الثَّانِيَةَ لَيْسَ فِيهَا جَدِيدُ بَحْثٍ بَعْدَ الْبَحْثِ الْمُتَقَدِّمِ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ، وَبَقِيَ الْبَحْثُ فِي الْآيَةِ الْأُولَى، وَمِنْ جَانِبَيْنِ: الْأَوَّلُ: بَيَانُ مَنِ الْمَعْنِيُّ بِهَا، وَالثَّانِي: بَيَانُ حُكْمِهَا، وَهَلْ هِيَ مُحْكَمَةٌ أَمْ نُسِخَتْ.
وَقَدِ اخْتَلَفَتْ أَقْوَالُ الْمُفَسِّرِينَ فِي الْأَمْرَيْنِ، وَلِأَهَمِّيَّةِ هَذَا الْمَبْحَثِ وَحَاجَةِ الْأُمَّةِ إِلَيْهِ فِي كُلِّ وَقْتٍ، وَأَشَدِّ مَا تَكُونُ فِي هَذَا الْعَصْرِ لِقُوَّةِ تَشَابُكِ مَصَالِحِ الْعَالَمِ وَعُمْقِ تُدَاخُلِهَا، وَتَرَابِطِ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ فِي جَمِيعِ الْمَجَالَاتِ، وَعَدَمِ انْفِكَاكِ دَوْلَةٍ عَنْ أُخْرَى مِمَّا يَزِيدُ مِنْ وُجُوبِ الِاهْتِمَامِ بِهَذَا الْمَوْضُوعِ.
وَإِنِّي مُسْتَعِينُ اللَّهِ فِي إِيرَادِ مَا قِيلَ فِيهَا، ثُمَّ مُقَدِّمٌ مَا يُمْكِنُ أَخْذُهُ مِنْ مَجْمُوعِ أَقْوَالِ الْمُفَسِّرِينَ، وَكَلَامِ الشَّيْخِ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ.
الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: إِنَّهَاُ مَنْسُوخَةٌ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ عَنْ أَبِي زَيْدٍ أَنَّهَا كَانَتْ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ زَمَنَ الْمُوَادَعَةِ وَتَرْكِ الْأَمْرِ بِالْقِتَالِ ثُمَّ نُسِخَتْ قِيلَ بِآيَةِ: {فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} قَالَهُ قَتَادَةُ.
وَقِيلَ: كَانَتْ فِي أَهْلِ الصُّلْحِ فَلَمَّا زَالَ زَالَ حُكْمُهَا وَانْتَهَى الْعَمَلُ بِهَا بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ.
وَقِيلَ: هِيَ مِنْ أَصْحَابِ الْعَهْدِ حَتَّى يَنْتَهِيَ عَهْدُهُمْ أَوْ يَنْبِذَ إِلَيْهِمْ أَيْ أَنَّهَا كَانَتْ مُؤَقَّتَةً بِوَقْتٍ ومرتبطة بِقوم.(1/326)
وَقِيلَ: إِنَّهَا كَانَتْ فِي الْعَاجِزِينَ عَنِ الْقِتَالِ مِنَ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ.
وَقِيلَ: إِنَّهَا فِي ضَعَفَةِ الْمُؤْمِنِينَ عَنِ الْهِجْرَةِ حِينَمَا كَانَتِ الْهِجْرَةُ وَاجِبَةً، فَلَمْ يَسْتَطِيعُوا، وَعَلَى كُلِّ هَذِهِ الْأَقْوَالِ تَكُونُ قَدْ نُسِخَتْ، بِفَوَاتِ وَقْتِهَا وَذَهَابِ مَنْ عُنِيَ بِهَا.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّهَا مُحْكَمَةٌ قَالَهُ أَيْضًا الْقُرْطُبِيُّ وَنَقَلَهُ عَنْ أَكْثَرِ أَهْلِ التَّأْوِيلِ، وَنَقَلَ مِنْ أَدِلَّتِهِمْ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي أُمِّ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، جَاءَتْ إِلَيْهَا وَهِيَ لَمْ تُسْلِمْ بَعْدُ وَكَانَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ، وَجَاءَتْ لِابْنَتِهَا بِهَدَايَا فَأَبَتْ أَنْ تَقْبَلَهَا مِنْهَا وَأَنْ تَسْتَقْبِلَهَا حَتَّى تَسْتَأْذِنَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَذِنَ لَهَا وَأَمَرَهَا بِصِلَتِهَا وَعَزَاهُ لِلْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ (1) .
وَقَالَ غَيْرُهُ: ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ، وَذَكَرَ عَنِ الْمَاوَرْدِيِّ أَنَّ قُدُومَهَا كَانَ فِي وَقْتِ الْهُدْنَةِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ وَقْتَ الْهُدْنَةِ مِنَ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ الَّذِي قِيلَ: إِنَّهُ مَنْسُوخٌ أَيْ بِانْتِهَائِهَا، وَعَلَيْهِ فَالْآيَةُ دَائِرَةٌ عِنْدَ الْمُفَسِّرِينَ بَيْنَ الْإِحْكَامِ وَالنَّسْخِ.
وَإِذَا رَجَعْنَا إِلَى سَبَبِ نُزُولِ السُّورَةِ وَتَقَيَّدْنَا بِصُورَةِ السَّبَبِ، نَجِدُ أَوَّلَهَا نَزَلَ بَعْدَ انْتِهَاءِ الْعَهْدِ بِنَقْضِ الْمُشْرِكِينَ إِيَّاهُ، وَعِنْدَ تَهَيُّئِ الْمُسْلِمِينَ لِفَتْحِ مَكَّةَ، وَمَجِيءِ أُمِّ أَسْمَاءَ وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْهُدْنَةِ فَهَلْ كَانَ النِّسَاءُ دَاخِلَاتٍ فِي الْعَهْدِ أَمْ لَا؟ لِعَدَمِ التَّصْرِيحِ بِذِكْرِهِنَّ.
وَعَلَيْهِ فَلَا دَلَالَةَ فِي قِصَّةِ أُمِّ أَسْمَاءَ عَلَى عدم النّسخ وَلَا على إثْبَاته.
_________
(1) - أخرجه البُخَارِيّ (3/1162) (3012) ، وَمُسلم (2/696) (1003) من حَدِيث أَسمَاء - رَضِي الله عَنْهَا - قَالَت: قدمت عَليّ أُمِّي وَهِي مُشركَة فِي عهد قُرَيْش إِذْ عَاهَدُوا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ومدتهم مَعَ أَبِيهَا فاستفتت رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ الله إِن أُمِّي قدمت عَليّ وَهِي راغبة أفأصلها؟ قَالَ (نعم صليها) ، وَاللَّفْظ للْبُخَارِيّ.(1/327)
وَإِذَا رَجَعْنَا إِلَى عُمُومِ اللَّفْظِ نَجِدِ الْآيَةَ صَرِيحَةً شَامِلَةً لِكُلِّ مَنْ لَمْ يُنَاصِبِ الْمُسْلِمِينَ الْعَدَاءَ، وَلَمْ يُظْهِرْ سُوءًا إِلَيْهِمْ، وَهِيَ فِي الْكُفَّارِ أَقْرَبُ مِنْهَا فِي الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّ الْإِحْسَانَ إِلَى ضَعَفَةِ الْمُسْلِمِينَ مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ الشَّرْعِيَّةِ، وَعَلَيْهِ فَإِنَّ دَعْوَى النَّسْخِ تَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ قَوِيٍّ يُقَاوِمُ صَرَاحَةَ هَذَا النَّصِّ الشَّامِلِ، وَتَوَفُّرَ شُرُوطِ النَّسْخِ الْمَعْلُومَةِ فِي أُصُولِ التَّفْسِيرِ. وَيُؤَيِّدُ عَدَمَ النَّسْخِ مَا نَقَلَهُ الْقُرْطُبِيُّ عَنْ أَكْثَرِ أَهْلِ التَّأْوِيلِ أَنَّهَا مُحْكَمَةٌ، وَكَذَلِكَ كَلَامُ الشَّيْخِ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلاَ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً} بِأَنَّ ذَلِكَ رُخْصَةٌ فِي حَالَةِ الْخَوْفِ وَالضَّعْفِ مَعَ اشْتِرَاطِ سَلَامَةِ الدَّاخِلِ فِي الْقَلْبِ، فَإِنَّ مَفْهُومَهُ أَنَّهَا مُحْكَمَةٌ وَبَاقٍ الْعَمَلُ بِهَا عِنْدَ اللُّزُومِ، وَمَفْهُومُهُ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا كَانُوا فِي حَالَةِ قُوَّةٍ وَعَدَمِ خَوْفٍ وَفِي مأمنٍ مِنْهُمْ، وَلَيْسَ مِنْهُمْ قِتَالٌ، وَهُمْ فِي غَايَةٍ مِنَ الْمُسَالَمَةِ فَلَا مَانِعَ مِنْ بِرِّهِمْ بِالْعَدْلِ وَالْإِقْسَاطِ مَعَهُمْ، وَهَذَا مِمَّا يَرْفَعُ مِنْ شَأْنِ الْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ، بَلْ وَفِيهِ دَعْوَةٌ إِلَى الْإِسْلَامِ بِحُسْنِ الْمُعَامَلَةِ وَتَأْلِيفِ الْقُلُوبِ بِالْإِحْسَانِ إِلَى مَنْ أَحْسَنَ إِلَيْهِمْ، وَعَدَمِ مُعَادَاةِ مَنْ لَمْ يُعَادِهِمْ، وَمِمَّا يَدُلُّ لِذَلِكَ مِنَ الْقَرَائِنِ الَّتِي نَوَّهْنَا عَنْهَا سَابِقًا مَا جَاءَ فِي التَّذْيِيلِ لِهَذِهِ الْآيَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} فَهَذَا تَرْشِيحٌ لِمَا قَدَّمْنَا كَمَا قَابَلَ هَذَا بِالتَّذْيِيلِ عَلَى الْآيَةِ الْأُخْرَى: {وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مِّنكُمْ فَأولئك هُمُ الظَّالِمُونَ} ، فَفِيهِ مُقَابَلَةٌ بَيْنَ الْعَدْلِ وَالظُّلْمِ فَالْعَدْلُ فِي الْإِحْسَانِ، وَالْقِسْطُ لِمَنْ يُسَالِمُكَ، وَالظُّلْمُ مِمَّنْ يُوَالِي مَنْ يُعَادِي قَوْمَهُ.
وَمِمَّا يَنْفِي النَّسْخَ عَدَمُ التَّعَارُضِ بَيْنَ هَذَا الْمَعْنَى، وَبَيْنَ آيَةِ السَّيْفِ؛ لِأَنَّ شَرْطَ النَّسْخِ التَّعَارُضُ، وَعَدَمُ إِمْكَانِ الْجَمْعِ، وَمَعْرِفَةُ التَّارِيخِ، وَالْجَمْعُ هُنَا مُمْكِنٌ وَالتَّعَارُضُ مَنْفِيٌّ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْقِتَالِ لَا يَمْنَعُ الْإِحْسَانَ قَبْلَهُ، كَمَا أَنَّ الْمُسْلِمِينَ مَا كَانُوا لِيُفَاجِئُوا قَوْمًا بِقِتَالٍ حَتَّى يَدْعُوهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ،(1/328)
وَهَذَا مِنَ الْإِحْسَانِ قَطْعًا، وَلِأَنَّهُمْ قَبِلُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ الْجِزْيَةَ، وَعَامَلُوا أَهْلَ الذِّمَّةِ بِكُلِّ إِحْسَانٍ وَعَدَالَةٍ.
وَقِصَّةُ الظَّعِينَةِ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ صَاحِبَةِ الْمَزَادَتَيْنِ لَمْ يُقَاتِلُوهَا أَوْ يَأْسِرُوهَا أَوْ يَسْتَبِيحُوا مَاءَهَا بَلِ اسْتَاقُوهَا بِمَائِهَا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخَذَ مِنْ مَزَادَتَيْهَا قَلِيلًا، وَدَعَا فِيهِ وَرَدَّهُ، ثُمَّ اسْتَقَوْا وَقَالَ لَهَا: اعْلَمِي أَنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي سَقَانَا وَلَمْ تَنْقُصْ مِنْ مَزَادَتَيْكِ شَيْئًا، وَأَكْرَمُوهَا وَأَحْسَنُوا إِلَيْهَا وَجَمَعُوا لَهَا طَعَامًا، وَأَرْسَلُوهَا فِي سَبِيلِهَا فَكَانَتْ تَذْكُرُ ذَلِكَ، وَتَدْعُو قَوْمَهَا لِلْإِسْلَامِ (1) .
وَقِصَّةُ ثُمَامَةَ لَمَّا جِيءَ بِهِ أَسِيرًا وَرُبِطَ فِي سَارِيَةِ الْمَسْجِدِ، وَبَعْدَ أَنْ أَصْبَحَ عَاجِزًا عَنِ الْقِتَالِ لَمْ يَمْنَعْهُمْ مِنَ الْإِحْسَانِ إِلَيْهِ، فَكَانَ يُرَاحُ عَلَيْهِ كُلَّ يَوْمٍ بِحَلِيبِ سَبْعِ نِيَاقٍ حَتَّى فُكَّ أَسْرُهُ فَأَسْلَمَ طَوَاعِيَةً (2) ، وَهَكَذَا نَصَّ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ} .
وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ ثَمَّ أَسِيرٍ بِيَدِ الْمُسْلِمِينَ إِلَّا مِنَ الْكُفَّارِ.
وَفِي سَنَةِ تِسْعٍ وَهِيَ سَنَةُ الْوُفُودِ، فَكَانَ يَقْدِمُ إِلَى الْمَدِينَةِ الْمُسْلِمُونَ وَغَيْرُ الْمُسْلِمِينَ، فَيَتَلَقَّوْنَ الْجَمِيعَ بِالْبِرِّ وَالْإِحْسَانِ كَوَفْدِ نَجْرَانَ وَغَيْرِهِمْ وَهَاهُو ذَا وَفْدُ تَمِيمٍ جَاءَ يُفَاخِرُ وَيُفَاوِضُ فِي أُسَارَى لَهُ، فَيَأْذَنُ لَهُمْ صلّى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَيَسْتَمِعُ مُفَاخَرَتِهِمْ وَيَأْمُرُ مَنْ يَرُدُّ عَلَيْهِمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَفِي النِّهَايَةِ يُسْلِمُونَ وَيُجِيزُهُمُ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْجَوَائِزِ، وَهَذَا أَقْوَى دَلِيلٍ عَلَى عَدَمِ النَّسْخِ، لِأَنَّ وَفْدًا يَأْتِي مُتَحَدِّيًا مُفَاخِرًا لَكِنَّهُ لَمْ يُقَاتِلْ وَلَمْ يُظَاهِرْ عَلَى إِخْرَاجِهِمْ مِنْ
_________
(1) - أخرجه البُخَارِيّ (1/130) (337) ، وَمُسلم (1/474) (682) من حَدِيث عمرَان - رَضِي الله عَنهُ -.
(2) - أخرجه البُخَارِيّ (4/1589) (4114) / وَمُسلم (3/1386) (1764) مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.(1/329)
دِيَارِهِمْ، وَجَاءَ فِي أَمْرٍ جَارٍ فِي عُرْفِ الْعَرَبِ فَجَارَاهُمْ فِيهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ أَنْ أَعْلَنَ لَهُمْ أَنَّهُ مَا بِالْمُفَاخَرَةِ بُعث، وَلَكِنْ تَرَفُّقًا بِهِمْ، وَإِحْسَانًا إِلَيْهِمْ، وَتَأْلِيفًا لِقُلُوبِهِمْ، وَقَدْ كَانَ فَأَسْلَمُوا، وَهَذَا مَا تُعْطِيهِ جَمِيعُ الْأَقْوَالِ الَّتِي قَدَّمْنَاهَا.
وَقَدْ بَحَثَ إِمَامُ الْمُفَسِّرِينَ الطَّبَرِيُّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مِنْ نَوَاحِي النَّقْلِ وَأَخِيرًا خَتَمَ بَحْثَهُ بِقَوْلِهِ مَا نَصُّهُ: وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ، قَوْلُ مَنْ قَالَ عَنَى بِذَلِكَ قَوْلَهُ تَعَالَى: {لاَّ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِى الدِّينِ} مِنْ جَمِيعِ أَصْنَافِ الْمِلَلِ وَالْأَدْيَانِ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتَصِلُوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ عَمَّ بِقَوْلِهِ: {الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِى الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِّن دِيَارِكُمْ} جَمِيعَ مَنْ كَانَ ذَلِكَ صِفَتُهُ فَلَمْ يُخَصِّصْ بِهِ بَعْضًا دُونَ بَعْضٍ، وَلَا مَعْنَى لِقَوْلِ مَنْ قَالَ: ذَلِكَ مَنْسُوخٌ؛ لِأَنَّ بِرَّ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ مِمَّنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ قَرَابَةُ نَسَبٍ أَوْ مِمَّنْ لَا قَرَابَةَ بَيْنَهُ وَلَا نَسَبَ غَيْرُ مُحَرَّمٍ وَلَا مَنْهِيٌّ عَنْهُ، إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ دَلَالَةٌ لَهُ أَوْ لِأَهْلِ الْحَرْبِ عَلَى عَوْرَةٍ لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ، أَوْ تَقْوِيَةٌ لَهُمْ بِكُرَاعٍ أَوْ سِلَاحٍ.
وَقَدْ بَيَّنَّا صِحَّةَ مَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ الْخَبَرِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ عَنِ الزُّبَيْرِ فِي قِصَّةِ أَسْمَاءَ وَأُمِّهَا.
وَقَوْلُهُ: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} ، يَقُولُ إِنِ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُنْصِفِينَ الَّذِينَ يُنْصِفُونَ النَّاسَ وَيُعْطُونَهُمُ الْحَقَّ وَالْعَدْلَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، فَيَبِرُّونَ مَنْ بَرَّهُمْ، وَيُحْسِنُونَ إِلَى مَنْ أَحْسَنَ إِلَيْهِمْ. انْتَهَى مِنْهُ.
وَفِي تَفْسِيرِ آيَاتِ الْأَحْكَامِ لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ مَبْحَثٌ هَامٌّ نَسُوقُهُ أَيْضًا بِنَصِّهِ لِأَهَمِّيَّتِهِ: قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {لاَّ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِى الدِّينِ} . قَالَ: يُقَالُ: وَاللَّهُ أَعْلَمُ إِنَّ بَعْضَ الْمُسْلِمِينَ تَأَثَّرَ مِنْ صِلَةِ الْمُشْرِكِينَ أَحْسَبُ ذَلِكَ لَمَّا نَزَلَ فَرْضُ جِهَادِهِمْ وَقَطْعُ الْوَلَايَةِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُمْ وَنَزَلَ {لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَآدُّونَ مَنْ حَآدَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} ،(1/330)
فَلَمَّا خَافُوا أَنْ تَكُونَ الْمَوَدَّةُ الصِّلَةَ بِالْمَالِ أَنْزَلَ {لاَّ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِى الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُواْ إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} ، {إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِى الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُواْ عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأولئك هُمُ الظَّالِمُونَ} ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَكَانَتِ الصِّلَةُ بِالْمَالِ وَالْبِرِّ وَالْإِقْسَاطِ وَلِينِ الْكَلَامِ وَالْمُرَاسَلَةِ بِحُكْمِ اللَّهِ غَيْرَ مَا نُهُوا عَنْهُ مِنَ الْوَلَايَةِ لِمَنْ نُهُوا عَنْ وَلَايَتِهِ مَعَ الْمُظَاهَرَةِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ أَبَاحَ بِرَّ مَنْ لَمْ يُظَاهِرْ عَلَيْهِمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَالْإِقْسَاطَ إِلَيْهِمْ وَلَمْ يُحَرِّمْ ذَلِكَ إِلَى مَنْ لَمْ يُظَاهِرْ عَلَيْهِمْ بل ذكر الَّذين ظاهروا عَلَيْهِم فنهاهم عَنْ وَلَايَتِهِمْ إِذْ كَانَ الْوَلَايَةُ غَيْرَ الْبِرِّ وَالْإِقْسَاطِ، وَكَانَ النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَادَى بَعْضَ أُسَارَى بَدْرٍ، وَقَدْ كَانَ أَبُو عَزَّةَ الْجُمَحِيُّ ممَّن منَّ عَلَيْهِ، وَقَدْ كَانَ مَعْرُوفًا بِعَدَاوَتِهِ وَالتَّأْلِيبِ عَلَيْهِ بِنَفْسِهِ وَلِسَانِهِ، وَمِنْ بَعْدِ بَدْرٍ عَلَى ثُمَامَةَ بْنِ أُثَالٍ، وَكَانَ مَعْرُوفًا بِعَدَاوَتِهِ، وَأَمَرَ بِقَتْلِهِ ثُمَّ مَنَّ عَلَيْهِ بَعْدَ أَسْرِهِ وَأَسْلَمَ ثُمَامَةُ وَحَبَسَ الْمِيرَةَ عَنْ أَهْلِ مَكَّةَ فَسَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ أَنْ يُمِيرَهُمْ فَأَذِنَ لَهُ فَمَارَهُمْ.
وَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً} وَالْأَسْرَى يَكُونُونَ مِمَّنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ اهـ مِنْهُ.
وَهَذَا الَّذِي صوَّبه ابْنُ جَرِيرٍ وَصَحَّحَهُ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ الَّذِي تَقْتَضِيهِ رُوحُ التَّشْرِيعِ الْإِسْلَامِيِّ، أَمَّا وِجْهَةُ النَّظَرِ الَّتِي وَعَدْنَا بِتَقْدِيمِهَا فَهِيَ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ الْيَوْمَ مُشْتَرِكَةٌ مَصَالِحُهُمْ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ وَمُرْتَبِطَةٌ بِمَجْمُوعِ دُوَلِ الْعَالَمِ مِنْ مُشْرِكِينَ وَأَهْلِ كِتَابٍ، وَلَا يُمْكِنُ لِأُمَّةٍ الْيَوْمَ أَنْ تَعِيشَ مُنْعَزِلَةً عَنِ الْمَجْمُوعَةِ الدَّوْلِيَّةِ لِتَدَاخُلِ الْمَصَالِحِ وَتَشَابُكِهَا، وَلَاسِيَّمَا فِي الْمَجَالِ الِاقْتِصَادِيِّ عَصَبِ الْحَيَاةِ الْيَوْمَ مِنْ إِنْتَاجٍ أَوْ تَصْنِيعٍ أَوْ تَسْوِيقٍ، فَعَلَى هَذَا تَكُونُ الْآيَةُ مُسَاعَدَةً عَلَى جَوَازِ التَّعَامُلِ مَعَ أُولَئِكَ الْمُسَالِمِينَ وَمُبَادَلَتِهِمْ(1/331)
مَصْلَحَةً بِمَصْلَحَةٍ عَلَى أَسَاسِ مَا قَالَهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَبَيَّنَهُ الشَّافِعِيُّ، وَذَكَرَهُ الشَّيْخُ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ فِي حَقِيقَةِ مَوْقِفِ الْمُسْلِمِينَ الْيَوْمَ مِنَ الْحَضَارَةِ الْغَرْبِيَّةِ فِي عِدَّةِ مُنَاسَبَاتٍ مِنْ مُحَاضَرَاتِهِ وَمِنَ الْأَضْوَاءِ نَفْسِهِ، وَبِشَرْطِ مَا قَالَهُ الشَّيْخُ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ مِنْ سَلَامَةِ الدَّاخِلِ أَيْ عَدَمُ الْمَيْلِ بِالْقَلْبِ، وَلَوْ قِيلَ بِشَرْطٍ آخَرَ وَهُوَ مَعَ عَدَمِ وُجُودِ تِلْكَ الْمَصْلَحَةِ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ أَنْفُسِهِمْ، أَيْ أَنَّ الْعَالَمَ الْإِسْلَامِيَّ يَتَعَاوَنُ أَوَّلًا مَعَ بَعْضِهِ، فَإِذَا أَعْوَزَهُ أَوْ بَعْضَ دُوَلِهِ حَاجَةٌ عِنْدَ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ مِمَّنْ لَمْ يُقَاتِلُوهُمْ وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَدُوًّا عَلَى قِتَالِهِمْ فَلَا مَانِعَ مِنَ التَّعَاوُنِ مَعَ تِلْكَ الدَّوْلَةِ فِي ذَلِكَ، وَمِمَّا يُؤَيِّدُ كُلَّ مَا تَقَدَّمَ عَمَلِيًّا مُعَامَلَةُ النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخُلَفَائِهِ مِنْ بَعْدِهِ لِلْيَهُودِ فِي خَيْبَرَ.
فَمِمَّا لَا شَكَّ فِيهِ أَنَّهُمْ دَاخِلُونَ أَوَّلًا فِي قَوْله تَعَالَى: {ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوِّى وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَآءَ} . وَمَنْصُوصٌ عَلَى عَدَمِ مُوَالَاتِهِمْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَآءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} .
وَمَعَ ذَلِكَ لَمَّا أَخْرَجَهُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْمَدِينَةِ وَحَاصَرَهُمْ بَعْدَهَا فِي خَيْبَرَ وَفَتَحَهَا اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَصْبَحُوا فِي قَبْضَةِ يَدِهِ فَلَمْ يَكُونُوا بَعْدَ ذَلِكَ فِي مَوْقِفِ الْمُقَاتِلِينَ، وَلَا مُظَاهِرِينَ عَلَى إِخْرَاجِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ دِيَارِهِمْ. عَامَلَهُمُ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْقِسْطِ فَعَامَلَهُمْ عَلَى أَرْضِ خَيْبَرَ وَنَخِيلِهَا وَأَبْقَاهُمْ فِيهَا عَلَى جُزْءٍ مِنَ الثَّمَرَةِ كَأُجَرَاءَ يَعْمَلُونَ لِحِسَابِهِ وَحِسَابِ الْمُسْلِمِينَ، فَلَمْ يَتَّخِذْهُمْ عَبِيدًا يُسَخِّرُهُمْ فِيهَا، وَبَقِيَتْ مُعَامَلَتُهُمْ بِالْقِسْطِ كَمَا جَاءَ فِي قِصَّةِ ابْنِ رَوَاحَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (1) لَمَّا ذَهَبَ يَخْرُصُ عَلَيْهِمْ وَعَرَضُوا عَلَيْهِ مَا عَرَضُوا مِنَ الرِّشْوَةِ لِيُخَفِّفَ عَنْهُمْ، فَقَالَ لَهُمْ كَلِمَتَهُ الْمَشْهُورَةَ: وَاللَّهِ لِأَنْتَمْ أَبْغَضُ الْخَلْقِ إِلَيَّ وَجِئْتُكُمْ مِنْ عِنْد
_________
(1) - أخرجهَا أَحْمد (3/367) من حَدِيث جَابر - رَضِي الله عَنهُ -، وَقَالَ الأرناؤوط: إِسْنَاده قوي على شَرط مُسلم.(1/332)
أَحَبِّ الْخَلْقِ إِلَيَّ، وَلَنْ يَحْمِلَنِي بُغْضِي لَكُمْ، وَلَا حُبِّي لَهُ أَنْ أَحْيَفَ عَلَيْكُمْ، فَإِمَّا أَنْ تَأْخُذُوا بِنِصْفِ مَا قُدِّرَتْ، وَإِمَّا أَنْ تَكُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَلَكُمْ نِصْفُ مَا قُدِّرَتْ، فَقَالُوا لَهُ: بِهَذَا قَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أَيْ بِالْعَدَالَةِ وَالْقِسْطِ، وَقَدْ
بَقُوا عَلَى ذَلِكَ نِهَايَةَ زَمَنِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخِلَافَةَ الصِّدِّيقِ وَصَدَرَا مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ حَتَّى أَجْلَاهُمْ عَنْهَا.
وَمِثْلُ ذَلِكَ الْمُؤَلَّفَةُ قُلُوبُهُمْ أَعْطَاهُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ الْفَتْحِ وَأَعْطَاهُمُ الصِّدِّيقُ حَتَّى مَنَعَهُمْ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَقَدْ أَطَلْنَا الْكَلَامَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لِأَهَمِّيَّتِهَا، وَمَسِيسِ الْحَاجَةِ إِلَيْهَا الْيَوْمَ.
وَفِي الْخِتَامِ إِنَّ أَشَدَّ مَا يَظْهَرُ وُضُوحًا فِي هَذَا الْمَقَامِ وَلَمْ يدَّع أَحَدٌ فِيهِ نَسْخًا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَى أَن تُشْرِكَ بِى مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِى الدُّنْيَا مَعْرُوفاً} .
فَهَذِهِ حُسْنُ مُعَامَلَةٍ وَبِرٍّ وَإِحْسَانٍ لِمَنْ جَاهَدَ الْمُسْلِمَ عَلَى أَنْ يُشْرِكَ بِاللَّهِ وَلَمْ يُقَاتِلِ الْمُسْلِمِينَ، فَكَانَ حَقُّ الْأُبُوَّةِ مُقَدَّمًا وَلَوْ مَعَ الْكُفْرِ وَالْمُجَاهَدَةِ عَلَى الشِّرْكِ.
وَكَذَلِكَ أَيْضًا فِي نِهَايَةِ هَذِهِ السُّورَةِ نَفْسِهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} .
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَآتُوهُمْ مَّآ أَنفَقُواْ} أَيْ آتُوا الْمُشْرِكِينَ أَزْوَاجَ الْمُؤْمِنَاتِ الْمُهَاجِرَاتِ مَا أَنْفَقُوا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ بَعْدَ هِجْرَتِهِنَّ، فَبَعْدَ أَنْ أَسْلَمَتِ الزَّوْجَةُ وَهَاجَرَتْ وَانْحَلَّتِ الْعِصْمَةُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ زَوْجِهَا الْكَافِرِ، وَبَعُدَتْ عَنْهُ بِالْهِجْرَةِ وَفَاتَتْ عَلَيْهِ وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهَا، يَأْمُرُ اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يُؤْتُوا أَزْوَاجَهُنَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ، مَا أَنْفَقُوا مِنْ صَدَاقٍ عِنْدَ الزَّوَاجِ وَنَحْوِهِ مَعَ بَقَاءِ الْأَزْوَاجِ عَلَى الْكُفْرِ وَعَجْزِهِمْ عَنِ اسْتِرْجَاعِ الزَّوْجَاتِ وَعَدَمِ جَوَازِ مُوَالَاتِهِمْ قَطْعًا لِكُفْرِهِمْ، وَهَذَا مِنَ الْمُعَامَلَةِ بِالْقِسْطِ وَالْعلم عِنْد الله تَعَالَى.] (1) .
_________
(1) - 8/146: 158، الممتحنة / 8، 9.(1/333)
- الرابطة الْحق هِيَ رابطة الْإِسْلَام دون غَيرهَا.
[وَمِنْ هَدْيِ الْقُرْآنِ لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ، هَدْيُهُ إِلَى أَنَّ الرَّابِطَةَ الَّتِي يَجِبُ أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّهَا هِيَ الَّتِي تَرْبِطُ بَيْنَ أَفْرَادِ الْمُجْتَمَعِ، وَأَنْ يُنَادَى بِالِارْتِبَاطِ بِهَا دُونَ غَيْرِهَا، إِنَّمَا هِيَ دِينُ الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَرْبِطُ بَيْنَ أَفْرَادِ الْمُجْتَمَعِ حَتَّى يَصِيرَ بِقُوَّةِ تِلْكَ الرَّابِطَةِ جَمِيعُ الْمُجْتَمَعِ الْإِسْلَامِيِّ كَأَنَّهُ جَسَدٌ وَاحِدٌ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى.
فَرَبْطُ الْإِسْلَامِ لَكَ بِأَخِيكِ كَرَبْطِ يَدِكَ بِمِعْصَمِكَ، وَرِجْلِكَ بِسَاقِكَ. كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ عَنِ النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ مَثَلَ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ وَتَوَادِّهِمْ كَمَثَلِ الْجَسَدِ الْوَاحِدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى» (1) . وَلِذَلِكَ يَكْثُرُ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ إِطْلَاقُ النَّفْسِ وَإِرَادَةُ الْأَخِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ رَابِطَةَ الْإِسْلَامِ تَجْعَلُ أَخَا الْمُسْلِمِ كَنَفْسِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُمْ مِّن دِيَارِكُمْ} ، أَيْ لَا تُخْرِجُونَ إِخْوَانَكُمْ، وَقَوْلِهِ: {لَّوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْراً} أَيْ بِإِخْوَانِهِمْ عَلَى أَصَحِّ التَّفْسِيرَيْنِ، وَقَوْلِهِ: {وَلاَ تَلْمِزُواْ أَنفُسَكُمْ} ، أَيْ إِخْوَانَكُمْ عَلَى أَصَحِّ التَّفْسِيرَيْنِ، وَقَوْلِهِ: {وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُم} ، أَيْ لَا يَأْكُلُ أَحَدُكُمْ مَالَ أَخِيهِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ؛ وَلِذَلِكَ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ» (2) .
وَمِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ الرَّابِطَةَ الْحَقِيقِيَّةَ هِيَ الدِّينُ، وَأَنَّ تِلْكَ الرَّابِطَةَ تَتَلَاشَى مَعَهَا جَمِيعُ الرَّوَابِطِ النِّسْبِيَّةِ وَالْعَصَبِيَّةِ: قَوْله تَعَالَى {لَا تَجِدُ قَوْماً
_________
(1) - أخرجه البُخَارِيّ (5/2238) (5665) ، وَمُسلم (4/1999) (2586) من حَدِيث النُّعْمَان - رَضِي الله عَنهُ -.
(2) - أخرجه البُخَارِيّ (1/14) (12) ، وَمُسلم (1/67) (49) من حَدِيث أنس - رَضِي الله عَنهُ -.(1/334)
يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} إِذْ لَا رَابِطَةَ نِسْبِيَّةً أَقْرَبُ مِنْ رَابِطَةِ الْآبَاءِ وَالْأَبْنَاءِ وَالْإِخْوَانِ وَالْعَشَائِرِ. وَقَوْلُهُ: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ} ، وَقَوْلُهُ: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} وَقَوْلِهِ: {فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً} ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
فَهَذِهِ الْآيَاتُ وَأَمْثَالُهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ النِّدَاءَ بِرَابِطَةٍ أُخْرَى غَيْرِ الْإِسْلَامِ كَالْعَصَبِيَّةِ الْمَعْرُوفَةِ بِالْقَوْمِيَّةِ لَا يَجُوزُ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ مَمْنُوعٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ.
وَمِنْ أَصْرَحِ الْأَدِلَّةِ فِي ذَلِكَ: مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ قَالَ: بَابُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَآ إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلكن الْمُنَافِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ} حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ: حَفِظْنَاهُ مِنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ قَالَ: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ: كُنَّا فِي غَزَاةٍ فَكَسَعَ رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ، فَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ: يَا للأنصارا! وَقَالَ الْمُهَاجِرِي: يَا للمهاجرينا! فسمَّعها اللَّهُ رَسُولَهُ قَالَ: «مَا هَذَا» ؟ فَقَالُوا: كَسَعَ رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ، فَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ: يَا لِلْأَنْصَارِ، وَقَالَ الْمُهَاجِرِيُّ: يَا لِلْمُهَاجِرِينَ، فَقَالَ النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «دَعُوهَا فَإِنَّهَا مُنْتِنَةٌ» الْحَدِيثَ (1) . فَقَوْلُ هَذَا الْأَنْصَارِيِّ: يَا لِلْأَنْصَارِ، وَهَذَا الْمُهَاجَرِيُّ: يَا لِلْمُهَاجِرِينَ هُوَ النِّدَاءُ بِالْقَوْمِيَّةِ الْعَصَبِيَّةِ بِعَيْنِهِ، وَقَوْلُ النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «دَعُوهَا فَإِنَّهَا مُنْتِنَةٌ» يَقْتَضِي وُجُوبَ تَرْكِ النِّدَاءِ بِهَا؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ «دَعُوهَا» أَمْرٌ صَرِيحٌ بِتَرْكِهَا، وَالْأَمْرُ الْمُطْلَقُ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ عَلَى التَّحْقِيقِ كَمَا تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ
_________
(1) - أخرجه البُخَارِيّ (4/1861) (4622) ، وَمُسلم (4/1998) (2584) من حدث جَابر - رَضِي الله عَنهُ -.(1/335)
عَذَابٌ أَلِيمٌ} ، وَيَقُولُ لِإِبْلِيسَ: {مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مُخَالَفَةَ الْأَمْرِ مَعْصِيَةٌ.
وَقَالَ تَعَالَى عَنْ نبيِّه مُوسَى فِي خِطَابِهِ لِأَخِيهِ: {أَفَعَصَيْتَ أَمْرِى} فَأَطْلَقَ اسْمَ الْمَعْصِيَةِ عَلَى مُخَالَفَةِ الْأَمْرِ: وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} فَدَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ أَمْرَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَانِعٌ مِنَ الِاخْتِيَارِ، مُوجب للامتثال. لاسيما وَقَدْ أَكَّدَ النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا الْأَمْرَ بِالتَّرْكِ بِقَوْلِهِ: «فَإِنَّهَا مُنْتِنَةٌ» وَحَسْبُكَ بِالنَّتَنِ مُوجِبًا لِلتَّبَاعُدِ لِدَلَالَتِهِ عَلَى الْخُبْثِ الْبَالِغِ.
فَدَلَّ هَذَا الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ عَلَى أَنَّ النِّدَاءَ بِرَابِطَةِ الْقَوْمِيَّةِ مُخَالِفٌ لِمَا أَمَرَ بِهِ النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنَّ فَاعِلَهُ يَتَعَاطَى الْمُنْتِنَ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُنْتِنَ خَبِيثٌ، وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُول: {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ} ، وَيَقُولُ: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} وَحَدِيثُ جَابِرٍ هَذَا الَّذِي قَدَّمْنَاهُ عَنِ الْبُخَارِيِّ أَخْرَجَهُ أَيْضًا مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ. وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَأَحْمَدُ بْنُ عَبْدَةَ الضَّبِّيُّ، وَابْنُ أَبِي عُمَرَ، وَاللَّفْظُ لِابْنِ أَبِي شَيْبَةَ قَالَ ابْنُ عَبْدَةَ: أَخْبَرَنَا وَقَالَ الْآخَرُونَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ قَالَ: سَمِعَ عَمْرٌو جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُول: كنَّا مَعَ النَّبي فِي غزاةٍ، فَكَسَعَ رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ رَجُلًا من الْأَنْصَار، فَقَالَ الْأنْصَارِيّ: يَا للأنصارا وَقَالَ الْمُهَاجِرِيُّ: يَا لِلْمُهَاجِرِينَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا بَالُ دَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ» !
قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَسَعَ رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ. فَقَالَ: «دَعُوهَا فَإِنَّهَا مُنْتِنَة.» الحَدِيث.
وَقد عرفت وَجه لدلَالَة هَذَا الْحَدِيثِ عَلَى التَّحْرِيمِ، مَعَ أَنَّ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِهِ الثَّابِتَةِ فِي الصَّحِيحِ التَّصْرِيحَ بِأَنَّ دَعْوَى الرَّجُلِ: «يَا لِبَنِي فُلَانٍ» مِنْ دَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ. وَإِذَا صَحَّ بِذَلِكَ أَنَّهَا مِنْ دَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ فَقَدْ صَحَّ عَنِ النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ ضَرَبَ الْخُدُودَ، وَشَقَّ الْجُيُوبَ، وَدَعَا(1/336)
بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ» (1) . وَفِي رِوَايَةٍ فِي الصَّحِيحِ (2) : «لَيْسَ مِنَّا مِنْ ضَرَبَ الْخُدُودَ، أَوْ شَقَّ الْجُيُوبَ، أَوْ دَعَا بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ» ، وَذَلِكَ صَرِيحٌ فِي أَنَّ مَنْ دَعَا تِلْكَ الدَّعْوَى لَيْسَ مِنَّا، وَهُوَ دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى التَّحْرِيمِ الشَّدِيدِ. وَمِمَّا يَدُلُّ لِذَلِكَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ تَعَزَّى عَلَيْكُمْ بِعَزَاءِ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَعِضُّوهُ بِهَنِّ أَبِيهِ وَلَا تُكَنُّوا» (3)
هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ، أَخْرَجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ طُرُقٍ مُتَعَدِّدَةٍ عَنْ عُتَيِّ بْنِ ضَمْرَةَ السَّعْدِيِّ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَذَكَرَهُ صَاحِبُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ بِلَفْظِ «إِذَا سَمِعْتُمْ مَنْ يُعْتَزَى بِعَزَاءِ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَعَضُّوهُ وَلَا تَكْنُوا» وَأَشَارَ لِأَنَّهُ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ فِي الْمُسْنَدِ، وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ، وَالضِّيَاءُ الْمَقْدِسِيُّ عَنْ أُبي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَجَعَلَ عَلَيْهِ عَلَامَةَ الصِّحَّةِ. وَذَكَرَهُ أَيْضًا صَاحِبُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ بِلَفْظِ «إِذَا رَأَيْتُمُ الرَّجُلَ يَتَعَزَّى..» إِلَخْ، وَأَشَارَ إِلَى أَنَّهُ أَخْرَجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي الْمُسْنَدِ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَجَعَلَ عَلَيْهِ عَلَامَةَ الصِّحَّةِ. وَقَالَ شَارِحُهُ الْمُنَاوِيُّ: وَرَوَاهُ عَنْهُ أَيْضًا الطَّبَرَانِيّ، قَالَ الهيتمي: وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ، وَقَالَ شَارِحُهُ الْعَزِيزِيُّ: هُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ. وَقَالَ فِيهِ الشَّيْخُ إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْعَجْلُونِيُّ فِي كِتَابِهِ (كَشْفُ الْخَفَاءِ وَمُزِيلُ الْإِلْبَاسِ عَمَّا اشْتهر من الْأَحَادِيث على أَلْسِنَة النَّاس) قَالَ النَّجْمُ: رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَمُرَادُهُ بِالنَّجْمِ: الشَّيْخُ مُحَمَّدٌ نَجْمُ الدِّينِ الْغُزِّيُّ فِي كِتَابِهِ الْمُسَمَّى (إِتْقَانُ مَا يُحْسِنُ مِنَ الْأَخْبَارِ الدَّائِرَةِ عَلَى الْأَلْسُنِ) فَانْظُرْ كَيْفَ سَمَّى النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ النِّدَاءَ «عَزَاءَ الْجَاهِلِيَّةِ» وَأَمَرَ أَنْ يُقَالَ لِلدَّاعِي بِهِ «اعضض على هن
_________
(1) - أخرجه البُخَارِيّ (1/435) (1232) ، وَمُسلم (1/99) (103) من حَدِيث ابْن مَسْعُود - رَضِي الله عَنهُ -.
(2) - هِيَ رِوَايَة لمُسلم، وَانْظُر التَّخْرِيج السَّابِق.
(3) - أخرجه أَحْمد (5/136) ، وَالْبُخَارِيّ فِي الْأَدَب الْمُفْرد (1/334) (963) ، وَالنَّسَائِيّ فِي الْكُبْرَى (6/242) (10815) ،
وَابْن حبَان (7/424) (3153) ، وَالطَّبَرَانِيّ (1/198) (532) من حَدِيث أبيّ - رَضِي الله عَنهُ -.(1/337)
أَبِيكَ» أَيْ فَرْجِهِ، وَأَنْ يُصَرَّحَ لَهُ بِذَلِكَ وَلَا يعبر عَنهُ بِالْكِتَابَةِ. فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى شِدَّةِ قُبْحِ هَذَا النِّدَاءِ، وَشِدَّةِ بُغْضِ النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ.
وَاعْلَمْ أَنَّ رُؤَسَاءَ الدُّعَاةِ إِلَى نَحْوِ هَذِهِ الْقَوْمِيَّةِ الْعَرَبِيَّةِ: أَبُو جَهْلٍ، وَأَبُو لَهَبٍ، وَالْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، وَنُظَرَاؤُهُمْ مِنْ رُؤَسَاءِ الْكَفَرَةِ.
وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى تَعَصُّبَهُمْ لِقَوْمِيَّتِهِمْ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ. كَقَوْلِهِ: {قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَآ} ، وَقَوْلِهِ: {قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَآ أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَآءَنَآ} ، وَأَمْثَالِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنِ الْعُلَمَاءِ كَمَا ذَكَرْنَا آنِفًا فِي مَنْعِ النِّدَاءِ بِرَابِطَةٍ غَيْرِ الْإِسْلَامِ، كَالْقَوْمِيَّاتِ وَالْعَصَبِيَّاتِ النِّسْبِيَّةِ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ النِّدَاءُ بِالْقَوْمِيَّةِ يُقْصَدُ مِنْ وَرائه الْقَضَاءُ عَلَى رَابِطَةِ الْإِسْلَامِ وَإِزَالَتُهَا بِالْكُلِّيَّةِ. فَإِنَّ النِّدَاءَ بِهَا حِينَئِذٍ مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيُّ: أَنَّهُ نِدَاءٌ إِلَى التَّخَلِّي عَنْ دِينِ الْإِسْلَامِ، وَرَفْضِ الرَّابِطَةِ السَّمَاوِيَّةِ رَفْضًا بَاتًّا، عَلَى أَن يعتاض مِنْ ذَلِكَ رَوَابِطَ عَصَبِيَّةً قَوْمِيَّةً، مَدَارُهَا عَلَى أَنَّ هَذَا مِنَ الْعَرَبِ، وَهَذَا مِنْهُمْ
أَيْضًا مَثَلًا؛ فَالْعُرُوبَةُ لَا يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ خَلَفًا مِنَ الْإِسْلَامِ. وَاسْتِبْدَالُهَا بِهِ صَفْقَةٌ خَاسِرَةٌ. فَهِيَ كَمَا قَالَ الرَّاجِزُ:
بَدَّلْتُ بِالْجَمَّةِ رَأْسًا أَزْعَرًا ... وَبِالثَّنَايَا الْوَاضِحَاتِ الدُّرْدُرَا
كَمَا اشْتَرَى الْمُسْلِمُ إِذْ تنصَّرا
وَقَدْ عُلِمَ فِي التَّارِيخِ حَالُ الْعَرَبِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ وَحَالُهُمْ بَعْدَهُ كَمَا لَا يَخْفَى.
وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ جلَّ وَعَلَا فِي مُحْكَمِ كِتَابِهِ: أَنَّ الْحِكْمَةَ فِي جَعْلِهِ بَنِي آدَمَ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ هِيَ التَّعَارُفُ فِيمَا بَيْنَهُمْ. وَلَيْسَتْ هِيَ أَنْ يَتَعَصَّبَ كُلُّ شَعْبٍ عَلَى غَيْرِهِ، وَكُلُّ قَبِيلَةٍ عَلَى غَيْرِهَا. قَالَ جلَّ وَعَلَا: {ياأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُواْ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}(1/338)
فَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ {لِتَعَارَفُواْ} لَامُ التَّعْلِيلِ، وَالْأَصْلُ لِتَتَعَارَفُوا، وَقَدْ حُذِفَتْ إِحْدَى التَّاءَيْنِ. فَالتَّعَارُفُ هُوَ الْعِلَّةُ الْمُشْتَمِلَةُ عَلَى الْحِكْمَةِ لِقَوْلِهِ: {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَآئِلَ} وَنَحْنُ حِينَ نُصَرِّحُ بِمَنْعِ النِّدَاءِ بِالرَّوَابِطِ الْعَصَبِيَّةِ وَالْأَوَاصِرِ النِّسْبِيَّةِ، وَنُقِيمُ الْأَدِلَّةَ عَلَى مَنْعِ ذَلِكَ لَا نُنْكِرُ أَنَّ الْمُسْلِمَ رُبَّمَا انْتَفَعَ بِرَوَابِطَ نسبِية لَا تَمُتُّ إِلَى الْإِسْلَامِ بِصِلَةٍ، كَمَا نَفَعَ اللَّهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ. وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ جلَّ وَعَلَا أَنَّ عَطْفَ ذَلِكَ الْعَمِّ الْكَافِرِ عَلَى نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ مِنَنِ اللَّهِ عَلَيْهِ. قَالَ تَعَالَى: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى} أَيْ آوَاكَ بِأَنْ ضَمَّكَ إِلَى عَمِّكَ أَبِي طَالِبٍ.
وَمِنْ آثَارِ هَذِهِ الْعَصَبِيَّةِ النِّسْبِيَّةِ قَوْلُ أَبِي طَالِبٍ فِيهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
وَاللَّهِ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ بِجَمْعِهِمْ ... حَتَّى أوسَّد فِي التُّراب دَفِينًا
كَمَا قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ هُودٍ.
وَقَدْ نَفَعَ اللَّهُ بِتِلْكَ الْعَصَبِيَّةِ النِّسْبِيَّةِ شُعَيْبًا عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْ قَوْمِهِ: {قَالُواْ ياشُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِّمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ} .
وَقَدْ نَفَعَ اللَّهُ بِهَا نَبِيَّهُ صَالِحًا أَيْضًا عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، كَمَا أَشَارَ تَعَالَى لِذَلِكَ بِقَوْلِهِ: {قَالُواْ تَقَاسَمُواْ بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} فَقَدْ دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُمْ يَخَافُونَ مِنْ أَوْلِيَاءِ صَالِحٍ، وَلِذَلِكَ لَمْ يُفَكِّرُوا أَنْ يَفْعَلُوا بِهِ سُوءًا إِلَّا لَيْلًا خِفْيَةً، وَقَدْ عَزَمُوا أَنَّهُمْ إِنْ فَعَلُوا بِهِ ذَلِكَ أَنْكَرُوا وَحَلَفُوا لِأَوْلِيَائِهِ أَنَّهُمْ مَا حَضَرُوا مَا وَقَعَ بِصَالِحٍ خَوْفًا مِنْهُمْ، وَلَمَّا كَانَ لُوطٌ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَا عُصْبَةَ لَهُ فِي قَوْمِهِ ظَهَرَ فِيهِ أَثَرُ ذَلِكَ حَتَّى قَالَ: {لَوْ أَنَّ لِى بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِى إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} وَقَدْ قَدَّمْنَا هَذَا مُسْتَوْفًى فِي «سُورَةِ هُودٍ» .
فَيَلْزَمُ النَّاظِرُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ، وَيَعْلَمَ أَنَّ النِّدَاءَ(1/339)
بِرَوَابِطِ الْقَوْمِيَّاتِ لَا يَجُوزُ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ الْقَصْدُ بِذَلِكَ الْقَضَاءَ عَلَى رَابِطَةِ الْإِسْلَامِ، وَإِزَالَتَهَا بِالْكُلِّيَّةِ بِدَعْوَى أَنَّهُ لَا يُسَايِرُ التَّطَوُّرَ الْجَدِيدَ، أَوْ أَنَّهُ جُمُودٌ وَتَأَخُّرٌ عَنْ مُسَايَرَةِ رَكْبِ الْحَضَارَةِ - نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ طَمْسِ الْبَصِيرَةِ - وَأَنَّ مَنْعَ النِّدَاءِ بِرَوَابِطِ الْقَوْمِيَّاتِ لَا يُنَافِي أَنَّهُ رُبَّمَا انْتَفَعَ الْمُسْلِمُ بِنُصْرَةِ قَرِيبِهِ الْكَافِرِ بِسَبَبِ الْعَوَاطِفِ النِّسْبِيَّةِ وَالْأَوَاصِرِ الْعَصَبِيَّةِ الَّتِي لَا تَمُتُّ إِلَى الْإِسْلَامِ بِصِلَةٍ، كَمَا وَقَعَ مِنْ أَبِي طَالِبٍ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ يُؤَيِّدُ هَذَا الدِّين بِالرَّجُلِ الْفَاجِرِ» (1) وَلَكِنَّ تِلْكَ الْقَرَابَاتِ النِّسْبِيَّةَ لَا يَجُوزُ أَنْ تُجْعَلَ هِيَ الرَّابِطَةَ بَيْنَ الْمُجْتَمَعِ؛ لِأَنَّهَا تَشْمَلُ الْمُسْلِمَ وَالْكَافِرَ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُسْلِمَ عَدُوُّ الْكَافِرِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَآدُّونَ مَنْ حَآدَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} ، كَمَا تَقَدَّمَ.
وَالْحَاصِلُ أَنَّ الرَّابِطَةَ الْحَقِيقِيَّةَ الَّتِي تَجْمَعُ الْمُفْتَرَقَ وَتُؤَلِّفُ الْمُخْتَلَفَ هِيَ رَابِطَةُ «لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ» أَلَا تَرَى أَنَّ هَذِهِ الرَّابِطَةَ الَّتِي تَجْعَلُ الْمُجْتَمَعَ الْإِسْلَامِيَّ كُلَّهُ كَأَنَّهُ جَسَدٌ وَاحِدٌ، وَتَجْعَلُهُ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا، عَطَفَتْ قُلُوبَ حَمَلَةِ الْعَرْشِ وَمَنْ حَوْلَهَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ عَلَى بَنِي آدَمَ فِي الْأَرْضِ مَعَ مَا بَيْنَهُمْ مِنَ الِاخْتِلَافِ. قَالَ تَعَالَى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَىْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُواْ وَاتَّبَعُواْ سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِى وَعَدْتَّهُمْ وَمَن صَلَحَ مِنْ آبَآئِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَن تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} . فَقَدْ أَشَارَ
_________
(1) - أخرجه البُخَارِيّ (3/1114) (2897) ، وَمُسلم (1/105) (111) مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مطولا بِهِ.(1/340)
تَعَالَى إِلَى أَنَّ الرَّابِطَةَ الَّتِي رَبَطَتْ بَيْنَ حَمَلَةِ الْعَرْشِ وَمَنْ حَوْلَهُ، وَبَيْنَ بَنِي آدَمَ فِي الْأَرْضِ حَتَّى دَعَوُا اللَّهَ لَهُمْ هَذَا الدُّعَاءَ الصَّالِحَ الْعَظِيمَ، إِنَّمَا هِيَ الْإِيمَانُ بِاللَّهِ جلَّ وَعَلَا. لِأَنَّهُ قَالَ عَنِ الْمَلَائِكَةِ: {وَيُؤْمِنُونَ بِهِ} فَوَصَفَهُمْ بِالْإِيمَانِ. وَقَالَ عَنْ بَنِي آدَمَ فِي اسْتِغْفَارِ الْمَلَائِكَةِ لَهُمْ {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ} فَوَصَفَهُمْ أَيْضًا بِالْإِيمَانِ؛ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الرَّابِطَةَ بَيْنَهُمْ هِيَ الْإِيمَانُ وَهُوَ أَعْظَمُ رَابِطَةً.
وَمِمَّا يُوَضِّحُ لَكَ أَنَّ الرَّابِطَةَ الْحَقِيقِيَّةَ هِيَ دِينُ الْإِسْلَامِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي أَبِي لَهَبٍ عَمِّ النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ} وَيُقَابِلُ ذَلِكَ بِمَا لِسَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ مِنَ الْفَضْلِ وَالْمَكَانَةِ عِنْدَ النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمِينَ، وَقَدْ جَاءَ عَنِ النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ فِيهِ: «سَلمان مِنَّا أَهْلَ الْبَيْتِ» (1) رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ وَالْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ، وَجَعَلَ عَلَيْهِ صَاحِبُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ عَلَامَةَ الصِّحَّةِ. وَضَعَّفَهُ الْحَافِظُ الذَّهَبِيُّ. وَقَالَ الهيتمي فِيهِ، عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ كَثِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزْنِيُّ ضَعَّفَهُ الْجُمْهُورُ، وَبَقِيَّةُ رِجَالِهِ ثِقَاتٌ. وَقَدْ أَجَادَ مَنْ قَالَ:
لَقَدْ رَفَعَ الْإِسْلَامُ سَلْمَانَ فَارِسٍ ... وَقَدْ وَضَعَ الْكُفْرُ الشَّرِيفَ أَبَا لَهَبِ
وَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ: عَلَى أَنَّ الرَّجُلَ إِنْ مَاتَ وَلَيْسَ لَهُ مِنَ الْقُرَبَاءِ إِلَّا ابْنٌ كَافِرٌ، أَنَّ إِرْثَهُ يَكُونُ لِلْمُسْلِمِينَ بِأُخُوَّةِ الْإِسْلَامِ، وَلَا يَكُونُ لِوَلَدِهِ لِصُلْبِهِ الَّذِي هُوَ كَافِرٌ، وَالْمِيرَاثُ دَلِيلُ الْقَرَابَةِ؛ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْأُخوة الدِّينِيَّة أقرب من الْأُخوة (2) النِّسْبِيَّةِ.
وَبِالْجُمْلَةِ، فَلَا خِلَافَ بَيْنِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ الرابطة الَّتِي ترْبط أَفْرَاد أهل
_________
(1) - أخرجه الطَّبَرَانِيّ (6/212) (6040) ، وَالْحَاكِم (3/691) (6541) من حَدِيث كثير بن عبد الله الْمُزنِيّ عَن أَبِيه عَن جده بِهِ، والْحَدِيث ضعفه الشَّيْخ الألباني - رَحمَه الله - فِي الضعيفة (3704) وَقَالَ عَنهُ: ضَعِيف جدا.
(2) - بِالْأَصْلِ: النُّبُوَّة، وَالصَّوَاب مَا أثْبته.(1/341)
الْأَرْضِ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ، وَتَرْبُطُ بَيْنَ أَهْلِ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ، هِيَ رَابِطَةُ «لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ» فَلَا يَجُوزُ الْبَتَّةَ النِّدَاءُ بِرَابِطَةٍ غَيْرَهَا. وَمَنْ وَالَى الْكُفَّارَ بِالرَّوَابِطِ النِّسْبِيَّةِ مَحَبَّةً لَهُمْ، وَرَغْبَةً فِيهِمْ يَدْخُلُ فِي قَوْلُهُ تَعَالَى {وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِى الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} وَالْعِلْمُ عِنْد الله تَعَالَى.] (1) .
- ولَايَة الْيَهُود لِلنَّصَارَى، كَعَكْسِهِ ولَايَة زائفة.
[قَوْله تَعَالَى: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَآءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ} ذَكَرَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ أَنَّ وِلَايَةَ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ زَائِفَةٌ لَيْسَتْ خَالِصَةً، لِأَنَّهَا لَا تَسْتَنِدُ عَلَى أَسَاسٍ صَحِيحٍ، هُوَ دِينُ الْإِسْلَامِ، فَبَيَّنَ أَنَّ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ بَيْنَ النَّصَارَى دَائِمَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، بِقَوْلِهِ: {وَمِنَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُواْ حَظّاً مِّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَآءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} ، وَبَيَّنَ مِثْلَ ذَلِكَ فِي الْيَهُودِ أَيْضًا، حَيْثُ قَالَ فِيهِمْ: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَآءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُم مَّآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَآءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا فِي الْيَهُودِ فِيمَا بَيْنَهُمْ، كَمَا هُوَ صَرِيحُ السِّيَاقِ، خِلَافًا لِمَنْ قَالَ: إِنَّهَا بَيْنَ الْيَهُودِ، وَالنَّصَارَى.
وَصَرَّحَ تَعَالَى بِعَدَمِ اتِّفَاقِ الْيَهُودِ مُعَلِّلًا لَهُ بِعَدَمِ عُقُولهمْ فِي قَوْله:
_________
(1) - 3/401: 408، بني إِسْرَائِيل / 9، وَانْظُر أَيْضا: (3/41: 43) (هود/91) ، (5/766- 767) (الْمُؤْمِنُونَ/ 5: 7) ، (7/587: 590) (مُحَمَّد / 25: 28) ، (7/628) (الحجرات/10) ، (9/277، 278) (الضُّحَى / 1: 3) .(1/342)
{تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ} .
تَنْبِيهٌ
أَخَذَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ} أَنَّ الْيَهُودِيَّ، وَالنَّصْرَانِيَّ، يَتَوَارَثَانِ، وَرَدَّهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ، بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْآيَةِ، وِلَايَةُ الْيَهُودِ لِخُصُوصِ الْيَهُودِ، وَالنَّصَارَى لِخُصُوصِ النَّصَارَى، وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى فَلَا دَلِيلَ فِي الْآيَة لتوارث الْيَهُود وَالنَّصَارَى.] (1) .
_________
(1) - 2/98، الْمَائِدَة / 51.(1/343)
فصل فِي الْهِجْرَة
[قَوْله تَعَالَى: {ياعِبَادِىَ الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ أَرْضِى وَاسِعَةٌ فَإِيَّاىَ فَاعْبُدُونِ} . نَادَى اللَّه جلَّ وَعَلَا عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَكَّدَ لَهُمْ أَنَّ أَرْضَهُ وَاسِعَةٌ، وَأَمْرَهُمْ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَحْدَهُ دُونَ غَيْرِهِ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ تَقْدِيمُ الْمَعْمُولِ الَّذِي هُوَ إِيَّايَ؛ كَمَا بيّناه فِي الْكَلَام على قَوْله تَعَالَى: {الدّينِ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} .
وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ إِنْ كَانُوا فِي أَرْضٍ لَا يَقْدِرُونَ فِيهَا عَلَى إِقَامَةِ دِينِهِمْ، أَوْ يُصِيبُهُمْ فِيهَا أَذَى الْكُفَّارِ، فَإِنَّ أَرْضَ رَبِّهِمْ وَاسِعَةٌ فَلْيُهَاجِرُوا إِلَى مَوْضِعٍ مِنْهَا يَقْدِرُونَ فِيهِ عَلَى إِقَامَةِ دِينِهِمْ، وَيَسْلَمُونَ فِيهِ مِنْ أَذَى الْكُفَّارِ، كَمَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمُونَ.
وَهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ جَاءَ فِي آيَاتٍ أُخر؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَئِكَةُ ظَالِمِى أَنفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِى الْأَرْضِ قَالْواْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ} ، وَقَوْلِهِ
تَعَالَى: {وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} .] (1) .
وَقَالَ أَيْضا: [قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطاً إِلَى الأَرْضِ الَّتِى بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ} الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: {وَنَجَّيْنَاهُ} عَائِدٌ إِلَى إِبْرَاهِيمَ.
قَالَ أَبُو حَيَّانَ فِي الْبَحْرِ الْمُحِيطِ: وَضُمِّنَ قَوْلُهُ {وَنَجَّيْنَاهُ} مَعْنَى أَخْرَجْنَاهُ بِنَجَاتِنَا إِلَى الْأَرْضِ، وَلِذَلِكَ تَعَدَّى «نجَّيناه» بِإِلَى، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ «إِلَى» مُتَعَلِّقًا بِمَحْذُوفٍ، أَيْ مُنْتَهِيًا إِلَى الْأَرْضِ، فَيَكُونُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَلَا تَضْمِينَ فِي «ونجَّيناه» عَلَى هَذَا، وَالْأَرْضُ الَّتِي خرجا مِنْهَا: هِيَ
_________
(1) - 6/469، العنكبوت / 56، وَانْظُر أَيْضا (7/46- 47) (الزمر/10) .(1/344)
كُوثَى مِنْ أَرْضِ الْعِرَاقِ، وَالْأَرْضُ الَّتِي خَرَجَا إِلَيْهَا: هِيَ أَرْضُ الشَّامِ اهـ مِنْهُ.
وَهَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ تُشِيرُ إِلَى هِجْرَةِ إِبْرَاهِيمَ وَمَعَهُ لُوطٌ مِنْ أَرْضِ الْعِرَاقِ إِلَى الشَّامِ فِرَارًا بِدِينِهِمَا.
وَقَدْ أَشَارَ تَعَالَى إِلَى ذَلِكَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. كَقَوْلِهِ فِي «الْعَنْكَبُوتِ» {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّى مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّى} ، وَقَوْلِهِ فِي «الصَّافَّاتِ:» {وَقَالَ إِنِّى ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّى سَيَهْدِينِ} عَلَى أَظْهَرِ الْقَوْلَيْنِ؛ لِأَنَّهُ فَارٌّ إِلَى رَبِّهِ بِدِينِهِ مِنَ الْكُفَّارِ.
وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَالَ إِنِّى ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّى سَيَهْدِينِ} : هَذِهِ الْآيَةُ أَصْلٌ فِي الْهِجْرَةِ وَالْعُزْلَةِ، وَأَوَّلُ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَذَلِكَ حِينَ خَلَّصَهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ قَالَ: {إِنِّى ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّى} أَيْ مُهَاجِرٌ مِنْ بَلَدِ قَوْمِي وَمَوْلِدِي، إِلَى حَيْثُ أَتَمَكَّنُ مِنْ عِبَادَةِ رَبِّي {فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ} فِيمَا نَوَيْتُ إِلَى الصَّوَابِ، وَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ جَلَّ وَعَلَا مِنْ أَنَّهُ بَارَكَ الْعَالمين فِي الْأَرْضِ الْمَذْكُورَةِ، الَّتِي هِيَ الشَّامُ عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِقَوْلِهِ: {إِلَى الأَرْضِ الَّتِى بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ} بَيَّنَهُ فِي غَيْرِ الْمَوْضِعِ. كَقَوْلِهِ: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِى بِأَمْرِهِ إِلَى الأَرْضِ الَّتِى بَارَكْنَا فِيهَا} ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {سُبْحَانَ الَّذِى أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِى بَارَكْنَا حَوْلَهُ} . وَمَعْنَى كَوْنِهِ (بَارَكَ فِيهَا) . هُوَ مَا جَعَلَ فِيهَا مِنَ الْخِصْبِ وَالْأَشْجَارِ وَالْأَنْهَارِ وَالثِّمَارِ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَآءِ وَالأَرْضِ} وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ بَعَثَ أَكْثَرَ الْأَنْبِيَاءِ مِنْهَا.
وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ كُلَّ مَاءٍ عَذْبٍ أَصْلُ مَنْبَعِهِ من تَحت(1/345)
الصَّخْرَةِ الَّتِي عِنْدَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ (1) . وَجَاءَ فِي ذَلِكَ حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ. وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلَى الأَرْضِ الَّتِى بَارَكْنَا فِيهَا} أَقْوَالٌ أُخَرُ تَرَكْنَاهَا لِضَعْفِهَا فِي نَظَرِنَا.
وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْفِرَارَ بِالدِّينِ مِنْ دَارِ الْكُفْرِ إِلَى بَلَدٍ يتَمَكَّن فِيهِ الفار بِدِينِهِ من إِقَامَته دِينِهِ وَاجِبٌ. وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الْهِجْرَةِ وَجُوبُهُ بَاقٍ بِلَا خِلَافٍ بَيْنِ الْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ.] (2) .
_________
(1) - ذكر السُّيُوطِيّ فِي الْجَامِع الصَّغِير مِنْ حَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَرْفُوعا: {الصَّخْرَة صَخْرَة بَيت الْمُقَدّس على نَخْلَة والنَّخْلَة على نهر من أَنهَار الْجنَّة وتَحت النَّخْلَة آسِيَة بنت مُزَاحم امْرَأَة فِرْعَوْن ومَرْيَم بنت عمرَان ينظمان سموط أهل الْجنَّة إِلَى يَوْم الْقِيَامَة} ، وَعَزاهُ للطبراني، والْحَدِيث قَالَ عَنهُ الشَّيْخ الألباني - رَحمَه الله - فِي ضَعِيف الْجَامِع: مَوْضُوع.
(2) - 7/46 - 47، الْأَنْبِيَاء /71.(1/346)
فصل فِي الْأَعْذَار
الْعذر بِالْإِكْرَاهِ، وَالنِّسْيَان، وَالْخَطَأ
- الْعذر بِالْإِكْرَاهِ من خَصَائِص هَذِه الْأمة.
[أَخَذَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ - أَي قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً} - أَنَّ الْعُذْرَ بِالْإِكْرَاهِ مِنْ خَصَائِصِ هَذِهِ الْأُمَّةِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ عَنْ أَصْحَابِ الْكَهْفِ {إِن يَظْهَرُواْ عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِى مِلَّتِهِمْ} ظَاهِرٌ فِي إِكْرَاهِهِمْ عَلَى ذَلِكَ وَعَدَمِ طَوَاعِيَتِهِمْ، وَمَعَ هَذَا قَالَ عَنْهُمْ: {وَلَن تُفْلِحُواْ إِذًا أَبَدًا} فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْإِكْرَاهَ لَيْسَ بِعُذْرٍ. وَيَشْهَدُ لِهَذَا الْمَعْنَى حَدِيثُ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ فِي الَّذِي دَخَلَ النَّارَ فِي ذُبَابٍ قَرَّبَهُ مَعَ الْإِكْرَاهِ بِالْخَوْفِ مِنَ الْقَتْلِ؛ لِأَنَّ صَاحِبَهُ الَّذِي امْتَنَعَ أَنْ يُقَرِّبَ وَلَوْ ذُبَابًا قَتَلُوهُ (1) .
وَيَشْهَدُ لَهُ أَيْضًا دَلِيلُ الْخِطَابِ، أَيْ مَفْهُومُ الْمُخَالَفَةِ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِي عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ» (2) فَإِنَّهُ يُفْهَمُ مِنْ قَوْلِهِ: «تَجَاوَزَ لِي عَنْ أُمَّتِي» أَنَّ غَيْرَ أُمَّتِهِ مِنَ الْأُمَمِ لَمْ يَتَجَاوَزْ لَهُمْ عَن
_________
(1) - أخرجه أَحْمد فِي " الزّهْد " (1/15) ، وَابْن أبي شيبَة فِي " المُصَنّف " (6/473) (33038) ، وَأَبُو نعيم فِي " الْحِلْية " (1/203) من طرق عَن سلمَان - رَضِي الله عَنهُ - مَوْقُوفا عَلَيْهِ، وَهَذَا الْأَثر صَحِيح الْإِسْنَاد لسلمان، وَلكنه لَيْسَ لَهُ حكم الرّفْع لِأَن سلمَان مَعْرُوف بِرِوَايَة الْإسْرَائِيلِيات.
(2) - أخرجه ابْن مَاجَه (1/659) (2043) مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، (2045) مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - والْحَدِيث صَححهُ الشَّيْخ الألباني - رَحمَه الله -.(1/347)
ذَلِكَ. وَهَذَا الْحَدِيثُ وَإِنْ أَعَلَّهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فَقَدْ تَلَقَّاهُ الْعُلَمَاءُ قَدِيمًا وَحَدِيثًا بِالْقَبُولِ، وَلَهُ شَوَاهِدُ ثَابِتَةٌ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ وَالسُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ. وَقَدْ أَوْضَحْنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي كِتَابِنَا (دَفْعِ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ) فِي سُورَةِ «الْكَهْفِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ {إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُواْ عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ} . وَلِذَلِكَ اخْتَصَرْنَاهَا هُنَا. أَمَّا هَذِهِ الْأُمَّةُ فَقَدْ صَرَّحَ اللَّهُ تَعَالَى بِعُذْرِهِمْ بِالْإِكْرَاهِ فِي قَوْلِهِ: {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} . وَالْعِلْمُ عِنْد الله تَعَالَى.] (1) .
- من أكره على الْكفْر بالإهلاك الْعَظِيم وصبر فَلهُ الشّرف، فَإِن لم يصبر فَلهُ الرُّخْصَة.
وَقَالَ صَاحب التَّتِمَّة - رَحمَه الله - بعد أَن سَاق حَدِيث الْغُلَام والساحر والكاهن، وَأخذ يعدد الْفَوَائِد المستفادة من هَذَا الحَدِيث: [الثَّالِثَ عَشَرَ: مُنْتَهَى الصَّبْرِ وَعَدَمِ الرُّجُوعِ عَنِ الدِّينِ، وَهَكَذَا كَانَ فِي الْأُمَمِ الْأُولَى، وَبَيَانُ فَضْلِ اللَّهِ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ، إِذْ جَازَ لَهَا التَّلَفُّظُ بِمَا يُخَالِفُ عَقِيدَتَهَا وَقَلْبُهَا مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ.
وَقَدْ جَاءَ عَنِ الْفَخْرِ الرَّازِيِّ قَوْلُهُ: الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُكْرَهَ عَلَى الْكُفْرِ بِالْإِهْلَاكِ الْعَظِيمِ الْأَوْلَى بِهِ أَنْ يَصْبِرَ عَلَى مَا خُوِّفَ مِنْهُ، وَأَنَّ إِظْهَارَ كَلِمَةِ الْكُفْرِ كَالرُّخْصَةِ فِي ذَلِكَ، وَقَالَ. وَرَوَى الْحَسَنُ أَنَّ مُسَيْلِمَةَ أَخَذَ رَجُلَيْنِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لِأَحَدِهِمَا: تَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، فَتَرَكَهُ، وَقَالَ لِلْآخَرِ مِثْلَهُ، فَقَالَ: لَا بَلْ أَنْتَ كَذَّابٌ. فَقَتَلَهُ، فَقَالَ النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَمَّا
الَّذِي تَرَكَ فَأَخَذَ بِالرُّخْصَةِ فَلَا تَبِعَةَ عَلَيْهِ، وَأما الَّذِي قتل فَأخذ بالأفضل
_________
(1) - 4/81، الْكَهْف/20.(1/348)
فهنيئاً لَهُ» (1) .] (2) .
- إِشْكَال، وَالْجَوَاب عَنهُ.
[قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَقَدْ عَهِدْنَآ إِلَى آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِىَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً} . قَوْلُهُ: {وَلَقَدْ عَهِدْنَآ إِلَى آدَمَ} أَيْ أَوْصَيْنَاهُ أَلَّا يَقْرَبَ تِلْكَ الشَّجَرَةَ. وَهَذَا الْعَهْدُ إِلَى آدَمَ الَّذِي أَجْمَلَهُ هُنَا بَيَّنَهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، كَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ «الْبَقَرَة» : {وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ} فَقَوْلُهُ: {وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ} هُوَ عَهْدُهُ إِلَى آدَمَ الْمَذْكُورُ هُنَا.
وَقَوْلُهُ فِي «الْأَعْرَافِ» : {وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلاَ مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ} .
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَنَسِىَ} فِيهِ لِلْعُلَمَاءِ وَجْهَانِ مَعْرُوفَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ الْمُرَادَ بِالنِّسْيَانِ التُّرْكُ، فَلَا يُنَافِي كَوْنَ التَّرْكِ عَمْدًا، وَالْعَرَبُ تُطْلِقُ النِّسْيَانَ وَتُرِيدُ بِهِ التَّرْكَ وَلَوْ عَمْدًا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {قَالَ كَذلك أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذلك الْيَوْمَ تُنْسَى} فَالْمُرَادُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: التَّرْكُ قَصْدًا. وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَآءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُواْ بِآياتِنَا يَجْحَدُونَ} ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَذُوقُواْ بِمَا نَسِيتُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُواْ عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ نَسُواْ اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقِيلَ الْيَوْمَ
_________
(1) - أخرجه ابْن أبي شيبَة فِي " المُصَنّف " (6/473) (33037) بِسَنَد رِجَاله ثِقَات، إِلَّا أَنه من مُرْسل عَن الْحسن.
(2) - 9/142 - 143، البروج/4، 5.(1/349)
نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِّن نَّاصِرِينَ} . وَعَلَى هَذَا فَمَعْنَى قَوْلِهِ: {فَنَسِىَ} أَيْ تَرَكَ الْوَفَاءَ بِالْعَهْدِ، وَخَالَفَ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ مِنْ تَرْكِ الْأَكْلِ مِنْ تِلْكَ الشَّجَرَةِ؛ لِأَنَّ النَّهْيَ عَنِ الشَّيْءِ يَسْتَلْزِمُ الْأَمْرَ بِضِدِّهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: هُوَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالنِّسْيَانِ فِي الْآيَةِ: النِّسْيَانُ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الذِّكْرِ، لِأَنَّ إِبْلِيسَ لَمَّا أَقْسَمَ لَهُ بِاللَّهِ أَنَّهُ لَهُ نَاصِحٌ فِيمَا دَعَاهُ إِلَيْهِ مِنَ الْأَكْلِ مِنَ الشَّجَرَةِ الَّتِي نَهَاهُ رَبُّهُ عَنْهَا غَرَّهُ وَخَدَعَهُ بِذَلِكَ، حَتَّى أَنْسَاهُ الْعَهْدَ الْمَذْكُورَ. كَمَا يُشِيرُ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَقَاسَمَهُمَآ إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ} . وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: إِنَّمَا سُمِّيَ الْإِنْسَانُ لِأَنَّهُ عَهِدَ إِلَيْهِ فَنَسِيَ رَوَاهُ عَنْهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ اهـ (1) . وَلَقَدْ قَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ:
وَمَا سُمِّيَ الْإِنْسَانُ إِلَّا لِنَسْيِهِ ... وَلَا الْقَلْبُ إِلَّا أَنَّهُ يَتَقَلَّبُ
أَمَّا عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ فَلَا إِشْكَالَ فِي قَوْلِهِ: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} وَأَمَّا عَلَى الثَّانِي فَفِيهِ إِشْكَالٌ مَعْرُوفٌ؛ لِأَنَّ النَّاسِيَ مَعْذُورٌ فَكَيْفَ يُقَالُ فِيهِ {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} .
وَأَظْهَرُ أَوْجُهِ الْجَوَابِ عِنْدِي عَنْ ذَلِكَ: أَنَّ آدَمَ لَمْ يَكُنْ مَعْذُورًا بِالنِّسْيَانِ. وَقَدْ بَيَّنْتُ فِي كتابي (دفع إِيهَام الِاضْطِرَاب عَن آيَات الْكِتَابِ) الْأَدِلَّةَ الدَّالَّةَ عَلَى أَنَّ الْعُذْرَ بِالنِّسْيَانِ وَالْخَطَأِ وَالْإِكْرَاهِ مِنْ خَصَائِصِ هَذِهِ الْأُمَّةِ. كَقَوْلِهِ هُنَا {فَنَسِىَ} مَعَ قَوْلِهِ {وَعَصَى} فَأُسْنِدَ إِلَيْهِ النِّسْيَانُ وَالْعِصْيَانُ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مَعْذُورٍ بِالنِّسْيَانِ. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى هَذَا مَا ثَبَتَ فِي صَحِيح مُسلم من
_________
(1) - أخرجه ابْن أبي حَاتِم، كَمَا ذكر عَنهُ ابْن كثير فِي تَفْسِيره (3/225) ، سَاق إِسْنَاده، وَأخرجه الطَّبَرِيّ (8/465) من طَرِيق الْأَعْمَش عَنْ مُسْلِمٍ الْبَطِينِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِهِ، والْحَدِيث رِجَاله ثِقَات إِلَّا أَنه مَعْلُول بعنعنة الْأَعْمَش؛ لِأَنَّهُ مدلساً.(1/350)
حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا قَرَأَ {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَآ إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا} قَالَ اللَّهُ نَعَمْ قَدْ فَعَلْتُ (1) . فَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مَعْفُوًّا عَنْ جَمِيعِ الْأُمَمِ لَمَا كَانَ لِذِكْرِهِ عَلَى سَبِيلِ الِامْتِنَانِ وَتَعْظِيمِ الْمِنَّةِ عَظِيمُ مُوقِعٍ. وَيُسْتَأْنَسُ لِذَلِكَ بِقَوْلِهِ: {كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا} وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ حَدِيثُ: «إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِي عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ» (2) . فَقَوْلُهُ «تَجَاوَزَ لِي عَنْ أُمَّتِي» يَدُلُّ عَلَى الِاخْتِصَاصِ بِأُمَّتِهِ، وَلَيْسَ مَفْهُومَ لَقَبٍ؛ لِأَنَّ مَنَاطَ التَّجَاوُزِ عَنْ ذَلِكَ هُوَ مَا خَصَّهُ اللَّهُ بِهِ مِنَ التَّفْضِيلِ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الرُّسُلِ.
وَالْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ وَإِنْ أَعَلَّهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فَلَهُ شَوَاهِدُ ثَابِتَةٌ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَلَمْ يَزَلْ عُلَمَاءُ الْأُمَّةِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا يَتَلَقَّوْنَهُ بِالْقَبُولِ.
وَمِنَ الْأَدِلَّةِ عَلَى ذَلِكَ حَدِيثُ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ الْمَشْهُورِ فِي الَّذِي دَخَلَ النَّارَ فِي ذُبَابٍ قَرَّبَهُ مَعَ أَنَّهُ مُكْرَهٌ وَصَاحِبُهُ الَّذِي امْتَنَعَ مِنْ تَقْرِيبِ شَيْءٍ لِلصَّنَمِ وَلَوْ ذُبَابًا قَتَلُوهُ (3) . فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الَّذِي قَرَّبَهُ مُكْرَهٌ، لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُقَرِّبْ لَقَتَلُوهُ كَمَا قَتَلُوا صَاحِبَهُ، وَمَعَ هَذَا دَخَلَ النَّارَ فَلَمْ يَكُنْ إِكْرَاهُهُ عُذْرًا. وَمِنَ الْأَدِلَّةِ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى عَنْ أَصْحَابِ الْكَهْفِ: {إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُواْ عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِى مِلَّتِهِمْ وَلَن تُفْلِحُواْ إِذًا أَبَدًا} فَقَوْلُهُ: {يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِى مِلَّتِهِمْ} دَلِيلٌ عَلَى الْإِكْرَاهِ، وَقَوْلُهُ: {وَلَن تُفْلِحُواْ إِذًا أَبَدًا} دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ الْعُذْرِ بِذَلِكَ الْإِكْرَاهِ. كَمَا أَوْضَحْنَا ذَلِكَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ.
_________
(1) - أخرجه مُسْلِمٍ (1/115) (125) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، (1/116) (126) عَنِ ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا -.
(2) - سبق تَخْرِيجه آنِفا.
(3) - سبق تَخْرِيجه أَيْضا.(1/351)
وَاعْلَمْ أَنَّ فِي شَرْعِنَا مَا يَدُلُّ عَلَى نَوْعٍ مِنَ التَّكْلِيفِ بِذَلِكَ فِي الْجُمْلَةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} فَتَحْرِيرُ الرَّقَبَةِ هُنَا كَفَّارَةٌ لِذَلِكَ الْقَتْلِ خَطَأً. وَالْكَفَّارَةُ تُشْعِرُ بِوُجُودِ الذَّنْبِ فِي الْجُمْلَةِ. كَمَا يُشِيرُ إِلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ خَطَأً {فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً} فَجُعِلَ صَوْمُ الشَّهْرَيْنِ بَدَلًا مِنَ الْعِتْقِ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْهُ. وَقَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ {تَوْبَةً مِّنَ اللَّهِ} يدل على أَن الله هُنَاكَ مُؤَاخَذَةً فِي الْجُمْلَةِ بِذَلِكَ الْخَطَأِ، مَعَ قَوْلِهِ: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَآ أَخْطَأْتُمْ بِهِ} وَمَا قَدَّمْنَا مِنْ حَدِيثِ مُسْلِمٍ: أَنَّ النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا قَرَأَ {لاَ تُؤَاخِذْنَآ إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا} قَالَ اللَّهُ نَعَمْ قَدْ فَعَلْتُ، فَالْمُؤَاخَذَةُ الَّتِي هِيَ الْإِثْمُ مَرْفُوعَةٌ وَالْكَفَّارَةُ الْمَذْكُورَةُ. قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: هِيَ بِسَبَبِ التَّقْصِيرِ فِي التَّحَفُّظِ وَالْحَذَرِ مِنْ وُقُوعِ الْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ، وَاللَّهُ جَلَّ وَعَلَا أَعْلَمُ.] (1) .
_________
(1) - 4/566، 567، طه / 115، وَانْظُر أَيْضا 6/219، النُّور / 33.(1/352)
فصل الْعذر بِالْجَهْلِ
[قَوْله: {لِّتَعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ} وَقَوْلُهُ: {اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِىْ خَلَقَكُمْ} رَاجِعٌ إِلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ هُوَ الْعِلْمُ بِاللَّهِ؛ لِأَنَّ مَنْ عَرَفَ اللَّهَ أَطَاعَهُ وَوَحَّدَهُ.
وَهَذَا الْعِلْمُ يُعَلِّمُهُمُ اللَّهُ إِيَّاهُ وَيُرْسِلُ لَهُمُ الرُّسُلَ بِمُقْتَضَاهُ لِيَهْلِكَ من هلك عَن بَيِّنَة، ويحيي من حييّ عَنْ بَيِّنَةٍ، فَالتَّكْلِيفُ بَعْدَ الْعِلْمِ، وَالْجَزَاءُ بَعْدَ التَّكْلِيف ... ] (1) .
مُلَاحظَة:
قد يسْتَدلّ الْبَعْض بِآيَة الْمِيثَاق على عدم الْعذر بِالْجَهْلِ فِي أُمُور التَّوْحِيد؛ لذا سَوف أنقل كَلَام الْعَلامَة الشنقيطي - رَحمَه الله - حول هَذِه الْآيَة ليتضح الْمقَام. وَالله الْمُسْتَعَان.،
قَالَ - رَحمَه الله -: [قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ} .
فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ وَجْهَانِ مِنَ التَّفْسِيرِ معروفان عِنْد الْعلمَاء:
_________
(1) - 7/676، الذاريات / 56.(2/353)
أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَعْنَى أَخْذِهِ ذُرِّيَّةَ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ: هُوَ إِيجَادُ قَرْنٍ مِنْهُمْ بَعْدَ قَرْنٍ، وَإِنْشَاءُ قَوْمٍ بَعْدَ آخَرِينَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {كَمَآ أَنشَأَكُمْ مِّن ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ} ، وَقَالَ: {هُوَ الَّذِى جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِى الأَرْضِ} وَقَالَ: {وَيَجْعَلُكُمْ حُلَفَآءَ} ، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ: وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَمَعْنَى قَوْلِهِ: {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى} أَنَّ إِشْهَادَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا هُوَ بِمَا نُصِبَ لَهُمْ مِنَ الْأَدِلَّةِ الْقَاطِعَةِ بِأَنَّهُ رَبُّهُمُ الْمُسْتَحِقُّ مِنْهُمْ لِأَنْ يَعْبُدُوهُ وَحْدَهُ؛ وَعَلَيْهِ فَمَعْنَى قَالُوا بَلَى، أَيْ قَالُوا ذَلِكَ: بِلِسَانِ حَالِهِمْ لِظُهُورِ الْأَدِلَّةِ عَلَيْهِ. وَنَظِيرُهُ مِنْ إِطْلَاقِ الشَّهَادَةِ عَلَى شَهَادَةِ لِسَانِ الْحَالِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله شَهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِم بِالْكُفْرِ} أَيْ بِلِسَانِ حَالِهِمْ عَلَى الْقَوْلِ بِذَلِكَ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ} أَيْ بِلِسَانِ حَالِهِ أَيْضًا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْمُرَادُ فِي الْآيَةِ أَيْضًا.
وَاحْتَجَّ مَنْ ذَهَبَ إِلَى هَذَا الْقَوْلِ بِأَنَّ اللَّهَ جَلَّ وَعَلَا جَعَلَ هَذَا الْإِشْهَادَ حُجَّةً عَلَيْهِمْ فِي الْإِشْرَاكِ بِهِ جَلَّ وَعَلَا فِي قَوْلِهِ: {أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَآ أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ} ، قَالُوا: فَلَوْ كَانَ الْإِشْهَادُ الْمَذْكُورُ الْإِشْهَادَ عَلَيْهِمْ يَوْمَ الْمِيثَاقِ، وَهُمْ فِي صُورَةِ الذَّرِّ لَمَا كَانَ حُجَّةً عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّهُ لَا يَذْكُرُهُ مِنْهُمْ أَحَدٌ عِنْدَ وُجُودِهِ فِي الدُّنْيَا، وَمَا لَا عِلْمَ لِلْإِنْسَانِ بِهِ لَا يَكُونُ حُجَّةً عَلَيْهِ.
فَإِنْ قِيلَ إِخْبَارُ الرُّسُلِ بِالْمِيثَاقِ الْمَذْكُورِ كَافٍ فِي ثُبُوتِهِ، قُلْنَا: قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ: «الْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ أَنَّ الْمُكَذِّبِينَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ يُكَذِّبُونَ بِجَمِيعِ مَا جَاءَتْهُمْ بِهِ الرُّسُلُ مِنْ هَذَا وَغَيْرِهِ، وَهَذَا جُعِلَ حُجَّةً مُسْتَقِلَّةً عَلَيْهِمْ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ الْفِطْرَةُ الَّتِي فُطِرُوا عَلَيْهَا مِنَ التَّوْحِيدِ، وَلِهَذَا قَالَ: {أَن تَقُولُواْ} اهـ مِنْهُ بِلَفْظِهِ.(2/354)
فَإِذَا عَلِمْتَ هَذَا الْوَجْهَ الَّذِي ذَكَرْنَا فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ، وَمَا اسْتَدَلَّ عَلَيْهِ قَائِلُهُ بِهِ مِنَ الْقُرْآنِ. فَاعْلَمْ أَنَّ الْوَجْهَ الْآخَرَ فِي مَعْنَى الْآيَةِ: أَنَّ اللَّهَ أَخْرَجَ جَمِيعَ ذُرِّيَّةِ آدَمَ مِنْ ظُهُورِ الْآبَاءِ فِي صُورَةِ الذَّرِّ، وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِلِسَانِ الْمَقَالِ: {أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى} ثُمَّ أَرْسَلَ بَعْدَ ذَلِكَ الرُّسُلَ مُذَكِّرَةً بِذَلِكَ الْمِيثَاقِ الَّذِي نَسِيَهُ الْكُلُّ وَلَمْ يُولَدْ أَحَدٌ مِنْهُمْ وَهُوَ ذَاكِرٌ لَهُ وَإِخْبَارُ الرُّسُلِ بِهِ يَحْصُلُ بِهِ الْيَقِينُ بِوُجُودِهِ.
قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ - هَذَا الْوَجْهُ الْأَخِيرُ يَدُلُّ لَهُ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ.
أَمَّا وَجْهُ دَلَالَةِ الْقُرْآنِ عَلَيْهِ، فَهُوَ أَنَّ مُقْتَضَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَنَّ مَا أَقَامَ اللَّهُ لَهُمْ مِنَ الْبَرَاهِينِ الْقَطْعِيَّةِ كَخَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَمَا فِيهِمَا مِنْ غَرَائِبِ صُنْعِ اللَّهِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّهُ الرَّبُّ الْمَعْبُودُ وَحْدَهُ، وَمَا رَكَّزَ فِيهِمْ مِنَ الْفِطْرَةِ الَّتِي فَطَرَهُمْ عَلَيْهَا تَقُومُ عَلَيْهِمْ بِهِ الْحُجَّةُ، وَلَو لم يَأْتِيهم نَذِيرٌ وَالْآيَاتُ الْقُرْآنِيَّةُ مُصَرِّحَةٌ بِكَثْرَةٍ، بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يُعَذِّبُ أَحَدًا حَتَّى يُقِيمَ عَلَيْهِ الْحُجَّةَ بِإِنْذَارِ الرُّسُل، وَهُوَ دَلِيل على عدم الِاكْتِفَاء بِمَا نصب من الْأَدِلَّة، وَمَا ركز من الْفِطْرَةِ، فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} فَإِنَّهُ قَالَ فِيهَا: حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا، وَلَمْ يَقُلْ حَتَّى نَخْلُقَ عُقُولًا، وَنَنْصُبَ أَدِلَّةً، وَنُرَكِّزَ فِطْرَةً.
وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} ، فَصَرَّحَ بِأَنَّ الَّذِي تَقُومُ بِهِ الْحُجَّةُ عَلَى النَّاسِ، وَيَنْقَطِعُ بِهِ عُذْرُهُمْ: هُوَ إِنْذَارُ الرُّسُلِ لَا نَصْبَ الْأَدِلَّةِ وَالْخَلْقِ عَلَى الْفِطْرَةِ.
وَهَذِهِ الْحُجَّةُ الَّتِي بُعِثَ الرُّسُلُ لِقَطْعِهَا بَيَّنَهَا فِي «طَهَ» بِقَوْلِهِ: {وَلَوْ أَنَّآ أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ لَقَالُواْ رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَى} ، وَأَشَارَ لَهَا فِي «الْقَصَصِ» بِقَوْلِهِ: {وَلَوْلا أَن تُصِيبَهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُواْ رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ(2/355)
إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتِّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} ، وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ تَعَالَى صَرَّحَ بِأَنَّ جَمِيعَ أَهْلِ النَّارِ قُطِعَ عُذْرُهُمْ فِي الدُّنْيَا بِإِنْذَارِ الرُّسُلِ، وَلَمْ يَكْتَفِ فِي ذَلِكَ بِنَصْبِ الْأَدِلَّةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {كُلَّمَا أُلْقِىَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَآ أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قَالُواْ بَلَى قَدْ جَآءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِن شَىْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ فِى ضَلَالٍ كَبِيرٍ} ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَآءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَآ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُواْ بَلَى وَلكن حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ} ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ لَفْظَةَ كُلَّمَا فِي قَوْلِهِ: {كُلَّمَا أُلْقِىَ فِيهَا فَوْجٌ} صِيغَةُ عُمُومٍ، وَأَنَّ لَفْظَةَ الَّذِينَ فِي قَوْلِهِ: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ} صِيغَةُ عُمُومٍ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْمَوْصُولَ يَعُمُّ كُلَّ مَا تَشْمَلُهُ صِلَتُهُ.
وَأَمَّا السُّنَّةُ: فَإِنَّهُ قَدْ دَلَّتْ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ عَلَى أَنَّ اللَّهَ أَخْرَجَ ذُرِّيَّةَ آدَمَ فِي صُورَةِ الذَّرِّ فَأَخَذَ عَلَيْهِمُ الْمِيثَاقَ كَمَا ذَكَرَ هُنَا، وَبَعْضُهَا صَحِيحٌ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: قَالَ أَبُو عُمَرَ يَعْنِي ابْنَ عَبْدِ الْبَرِّ لَكِنَّ مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ قَدْ صَحَّ عَنِ النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ وُجُوهٍ ثَابِتَةٍ كَثِيرَةٍ مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ وَغَيْرِهِمُ اهـ (1) . مَحَلُّ الْحَاجَةِ مِنْهُ بِلَفْظِهِ.
وَهَذَا الْخِلَافُ الَّذِي ذَكَرْنَا هَلْ يُكْتَفَى فِي الْإِلْزَامِ بِالتَّوْحِيدِ بِنَصْبِ الْأَدِلَّةِ، أَوْ لَا بُدَّ مِنْ بَعْثِ الرُّسُلِ لِيُنْذِرُوا؟ هُوَ مَبْنَى الْخِلَافِ الْمَشْهُورِ عِنْدَ أَهْلِ الْأُصُولِ فِي أَهْلِ الْفَتْرَةِ. هَلْ يَدْخُلُونَ النَّارَ بِكُفْرِهِمْ؟ وَحَكَى الْقَرَافِيُّ عَلَيْهِ
_________
(1) التَّمْهِيد لِابْنِ عبد الْبر (18/85) وَمَا بعْدهَا، وَانْظُر السلسلة الصَّحِيحَة (48، 49، 50) فقد صحّح الشَّيْخ الألباني - رَحمَه الله - جملَة من هَذِه الْأَحَادِيث وَتكلم على بعض الْفَوَائِد المستفادة مِنْهَا، فانظرها هُنَاكَ.(2/356)
الْإِجْمَاعَ وَجَزَمَ بِهِ النَّوَوِيُّ فِي (شَرْحِ مُسْلِمٍ) ، أَوْ يُعْذَرُونَ بِالْفَتْرَةِ وَهُوَ ظَاهِرُ الْآيَاتِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا، وَإِلَى هَذَا الْخِلَافِ أَشَارَ فِي (مَرَاقِي السُّعُودِ) بِقَوْلِهِ:
ذُو فَتْرَةٍ بِالْفَرْعِ لَا يُرَاعُ ... وَفِي الْأُصُولِ بَيْنَهُمْ نِزَاعُ
وَقَدْ حَقَّقْنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مَعَ مُنَاقَشَةِ أَدِلَّةِ الْفَرِيقَيْنِ فِي كِتَابِنَا (دَفْعُ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ) فِي سُورَةِ «بَنِي إِسْرَائِيلَ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} ، وَلذَلِك اختصرناها هُنَا.] (1) .
- مَسْأَلَة: أهل الفترة معذورون فِي الدُّنْيَا، ويختبرون فِي الْآخِرَة.
[قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} . ظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ اللَّهَ جلَّ وَعَلَا لَا يُعَذِّبُ أَحَدًا مِنْ خَلْقِهِ لَا فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ. حَتَّى يَبْعَثَ إِلَيْهِ رَسُولًا يُنْذِرُهُ وَيُحَذِّرُهُ فَيُعْصَى ذَلِكَ الرَّسُولُ، وَيُسْتَمَرُّ عَلَى الْكُفْرِ وَالْمَعْصِيَةِ بَعْدَ الْإِنْذَارِ وَالْإِعْذَارِ.
وَقَدْ أَوْضَحَ جلَّ وَعَلَا هَذَا الْمَعْنَى فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} فَصَرَّحَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: بِأَنْ لَا بُدَّ أَنْ يَقْطَعَ حُجَّةَ كُلِّ أَحَدٍ بِإِرْسَالِ الرُّسُلِ، مُبَشِّرِينَ مَنْ أَطَاعَهُمْ بِالْجَنَّةِ، وَمُنْذِرِينَ مَنْ عَصَاهُمُ النَّارَ.
وَهَذِهِ الْحُجَّةُ الَّتِي أَوْضَحَ هُنَا قَطَعَهَا بِإِرْسَالِ الرُّسُلِ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ. بَيَّنَهَا فِي آخِرِ سُورَةِ طَهَ بِقَوْلِهِ {وَلَوْ أَنَّآ أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ لَقَالُواْ رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَى} .
وَأَشَارَ لَهَا فِي سُورَةِ الْقَصَصِ بِقَوْلِهِ: {وَلَوْلا أَن تُصِيبَهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا
_________
(1) - 2/300: 303، الْأَعْرَاف / 172، 173.(2/357)
قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُواْ رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتِّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} ، وَقَوْلِهِ جلَّ وَعَلَا: {ذَلِكَ أَن لَّمْ يَكُنْ رَّبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ} ، وَقَوله: {يَأَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مَّنَ الرُّسُلِ أَن تَقُولُواْ مَا جَآءَنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ} ، وَكَقَوْلِهِ: {وَهذا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ أَن تَقُولُواْ إِنَّمَآ أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَآئِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا وَإِن كُنَّا عَن دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ أَوْ تَقُولُواْ لَوْ أَنَّآ أُنزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّآ أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَآءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ} ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَيُوَضِّحُ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَاتُ الْمَذْكُورَةُ وَأَمْثَالُهَا فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ مِنْ أَنَّ اللَّهَ جلَّ وَعَلَا لَا يُعَذِّبُ أَحَدًا إِلَّا بَعْدَ الْإِنْذَارِ وَالْإِعْذَارِ عَلَى أَلْسِنَةِ الرُّسُلِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ تَصْرِيحُهُ جلَّ وَعَلَا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ بِأَنْ لَمْ يْدْخِلْ أَحَدًا النَّارَ إِلَّا بَعْدَ الْإِعْذَارِ وَالْإِنْذَارِ عَلَى أَلْسِنَةِ الرُّسُلِ.
فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ جلَّ وَعَلَا: {كُلَّمَا أُلْقِىَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَآ أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قَالُواْ بَلَى قَدْ جَآءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِن شَىْءٍ} .
وَمَعْلُومٌ أَنَّ قَوْلَهُ جلَّ وَعَلَا: {كُلَّمَا أُلْقِىَ فِيهَا فَوْجٌ} يَعُمُّ جَمِيعَ الْأَفْوَاجِ الْمُلْقِينَ فِي النَّارِ.
قَالَ أَبُو حَيَّانَ فِي «الْبَحْرِ الْمُحِيطِ» فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِهَا مَا نَصُّهُ: «وَكُلَّمَا» تَدُلُّ عَلَى عُمُومِ أَزْمَانِ الْإِلْقَاءِ فَتَعُمُّ الْمُلْقِينَ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ جلَّ وَعَلَا: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَآءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَآ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُواْ بَلَى وَلكن حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ} ، وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ} عَام(2/358)
لِجَمِيعِ الْكُفَّارِ.
وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ: أَنَّ الْمُوصُولَاتِ كَالَّذِي وَالَّتِي وَفُرُوعِهِمَا مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ، لِعُمُومِهَا فِي كُلِّ مَا تَشْمَلُهُ صِلَاتُهَا، وَعَقَدَهُ فِي مَرَاقِي السُّعُودِ بِقَوْلِهِ فِي صِيَغِ الْعُمُومِ:
صِيَغُهُ كُلُّ أَوِ الْجَمِيعُ ... وَقَدْ تَلَا الَّذِي الَّتِي الْفُرُوعَ
وَمُرَادُهُ بِالْبَيْتِ: أَنَّ لَفْظَةَ «كُلٍّ، وَجَمِيعٍ، وَالَّذِي، وَالَّتِي» وَفُرُوعِهِمَا كُلُّ ذَلِكَ مِنَ صِيغ الْعُمُومِ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً} إِلَى قَوْله {يَوْمِكُمْ هَذَا} عَامٌّ فِي جَمِيعِ الْكُفَّارِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي أَنَّ جَمِيعَ أَهْلِ النَّارِ قَدْ أَنْذَرَتْهُمُ الرُّسُلُ فِي دَارِ الدُّنْيَا، فَعَصَوُا أَمْرَ رَبِّهِمْ كَمَا هُوَ وَاضِحٌ.
وَنَظِيرُهُ أَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ كَفَرُواْ لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لاَ يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُواْ وَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِّنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِى كُلَّ كَفُورٍ وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِى كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَآءَكُمُ النَّذِيرُ} . فَقَوله {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى جَهَنَّمَ} إِلَى قَوْله {النَّذِيرُ فَذُوقُواْ} عَامٌّ أَيْضًا فِي جَمِيعِ أَهْلِ النَّارِ. كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ قَرِيبًا.
وَنَظِيرُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَقَالَ الَّذِينَ فِى النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُواْ رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِّنَ الْعَذَابِ قَالُواْ أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُواْ بَلَى قَالُواْ فَادْعُواْ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِى ضَلَالٍ} ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ جَمِيعَ أَهْلِ النَّارِ أَنْذَرَتْهُمُ الرُّسُلُ فِي دَارِ الدُّنْيَا.
وَهَذِهِ الْآيَاتُ الَّتِي ذَكَرْنَا وَأَمْثَالُهَا فِي الْقُرْآنِ تَدُلُّ عَلَى عُذْرِ أَهْلِ الْفَتْرَةِ بِأَنَّهُمْ لَمْ يَأْتِهِمْ نَذِيرٌ وَلَوْ مَاتُوا عَلَى الْكُفْرِ، وَبِهَذَا قَالَتْ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ(2/359)
الْعِلْمِ.
وَذَهَبَتْ جَمَاعَةٌ أُخْرَى مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى أَنَّ كُلَّ مَنْ مَاتَ عَلَى الْكُفْرِ فَهُوَ فِي النَّارِ وَلَوْ لَمْ يَأْتِهِ نَذِيرٌ، وَاسْتَدَلُّوا بِظَوَاهِرِ آيَاتٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، وَبِأَحَادِيثَ عَنِ النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَمِنَ الْآيَاتِ الَّتِي اسْتَدَلُّوا بِهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} ، وَقَوْلُهُ: {إِن الَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} ، وَقَوْلُهُ: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ الأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ} ، وَقَوْلُهُ: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ} ، وَقَوله: {وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَآءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِى بِهِ الرِّيحُ فِى مَكَانٍ سَحِيقٍ} ، وَقَوْلُهُ {إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ} ، وَقَوْلُهُ: {قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ} ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَظَاهِرُ جَمِيعِ هَذِهِ الْآيَاتِ الْعُمُومُ. لِأَنَّهَا لَمْ تُخَصَّصْ كَافِرًا دُونَ كَافِرٍ، بَلْ ظَاهِرُهَا شُمُولُ جَمِيعِ الْكُفَّارِ.
وَمِنَ الْأَحَادِيثِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ الْكُفَّارَ لَا يُعْذَرُونَ فِي كُفْرِهِمْ بِالْفَتْرَةِ مَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَفَّانُ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ: أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَين أَبي؟. قَالَ: «فِي النَّار» فَلَمَّا قَفَّى دَعَاهُ فَقَالَ: «إنَّ أَبي وَأَبَاكَ فِي النَّار» (1) اهـ. وَقَالَ مُسْلِمٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي صَحِيحِهِ أَيْضًا: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادٍ وَاللَّفْظُ لِيَحْيَى قَالَا: حَدَّثَنَا مَرْوَانُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، عَنْ يَزِيدَ يَعْنِي ابْنَ كِيسَانَ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
_________
(1) - صَحِيح مُسلم (1/191) (203) .(2/360)
«اسْتَأْذَنْتُ رَبِّي أَنْ أَسْتَغْفِرَ لِأُمِّي فَلَمْ يَأْذَنْ لِي، وَاسْتَأْذَنْتُهُ أَنْ أَزُورَ قَبْرَهَا فَأَذِنَ لِي» حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ كِيسَانَ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: زَارَ النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْرَ أُمِّهِ فَبَكَى وأَبكى مَنْ حَوْلَهُ. فَقَالَ: «اسْتَأْذَنْتُ رَبِّي فِي أَنْ أَسْتَغْفِرَ لَهَا فَلَمْ يُؤْذَنْ لِي، وَاسْتَأْذَنْتُهُ فِي أَنْ أَزُورَ قَبْرَهَا فَأَذِنَ لِي، فَزُورُوا الْقُبُورَ فَإِنَّهَا تذكِّر الْمَوْتَ» (1) اهـ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَحَادِيثِ الدَّالَّةِ عَلَى عَدَمِ عُذْرِ الْمُشْرِكِينَ بِالْفَتْرَةِ.
وَهَذَا الْخِلَافُ مَشْهُورٌ بَيْنَ أَهْلِ الْأُصُولِ، هَلِ الْمُشْرِكُونَ الَّذِينَ مَاتُوا فِي الْفَتْرَةِ وَهُمْ يَعْبُدُونَ الْأَوْثَانَ فِي النَّارِ لِكُفْرِهِمْ، أَوْ مَعْذُورُونَ بِالْفَتْرَةِ؟ وَعَقَدَهُ فِي «مَرَاقِي السُّعُودِ» بِقَوْلِهِ:
ذُو فَتْرَةٍ بِالْفَرْعِ لَا يُرَاعُ ... وَفِي الْأُصُولِ بَيْنَهُمْ نِزَاعٌ
وَمِمَّنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ أَهْلَ الْفَتْرَةِ الَّذِينَ مَاتُوا عَلَى الْكُفْرِ فِي النَّارِ: النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ، وَحَكَى عَلَيْهِ الْقَرَافِيُّ فِي شَرْحِ التَّنْقِيحِ الْإِجْمَاعَ. كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُ صَاحِبُ «نَشْرِ الْبُنُودِ» .
وَأَجَابَ أَهْلُ هَذَا الْقَوْلِ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ:
الْأَوَّلُ: أَنَّ التَّعْذِيبَ المنفى فِي قَوْله {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ} ، وَأَمْثَالِهَا مِنَ الْآيَاتِ، إِنَّمَا هُوَ التَّعْذِيبُ الدُّنْيَوِيُّ، كَمَا وَقَعَ فِي الدُّنْيَا مِنَ الْعَذَابِ بِقَوْمِ نُوحٍ، وَقَوْمِ هُودٍ، وَقَوْمِ صَالِحٍ، وَقَوْمِ لُوطٍ، وَقَوْمِ شُعَيْبٍ، وَقَوْمِ مُوسَى وَأَمْثَالِهِمْ. وَإِذًا فَلَا يُنَافِي ذَلِكَ التَّعْذِيبَ فِي الْآخِرَةِ.
وَنَسَبَ هَذَا الْقَوْلَ الْقُرْطُبِيُّ، وَأَبُو حَيَّانَ، وَالشَّوْكَانِيُّ وَغَيْرُهُمْ فِي
_________
(1) - صَحِيح مُسلم (2/671) (976) .(2/361)
تَفَاسِيرِهِمْ إِلَى الْجُمْهُورِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ مَحَلَّ الْعُذْرِ بِالْفَتْرَةِ الْمَنْصُوصَ فِي قَوْلِهِ: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ} وَأَمْثَالِهَا فِي غَيْرِ الْوَاضِحِ الَّذِي لَا يُخْفَى عَلَى أَدْنَى عَاقِلٍ، أَمَّا الْوَاضِحُ الَّذِي لَا يَخْفَى عَلَى مَنْ عِنْدَهُ عَقْلٌ كَعِبَادَةِ الْأَوْثَانِ فَلَا يُعْذَرُ فِيهِ أَحَدٌ؛ لِأَنَّ الْكُفَّارَ يُقِرُّونَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ رَبُّهُمْ، الْخَالِقُ الرَّازِقُ، النَّافِعُ، الضَّارُّ، وَيَتَحَقَّقُونَ كُلَّ التَّحَقُّقِ أَنَّ الْأَوْثَانَ لَا تَقْدِرُ عَلَى جَلْبِ نَفْعٍ وَلَا عَلَى دَفْعِ ضُرٍّ، كَمَا قَالَ عَنْ قَوْمِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنطِقُونَ} وَكَمَا جَاءَتِ الْآيَاتُ الْقُرْآنِيَّةُ بِكَثْرَةٍ بِأَنَّهُمْ وَقْتَ الشَّدَائِدِ يُخْلِصُونَ الدُّعَاءَ لِلَّهِ وَحْدَهُ. لِعِلْمِهِمْ أَنَّ غَيْرَهُ لَا يَنْفَعُ وَلَا يَضُرُّ، كَقَوْلِهِ {فَإِذَا رَكِبُواْ فِى الْفُلْكِ دَعَوُاْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} ، وَقَوْلِهِ: {وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُاْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} ، وَقَوْلِهِ: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِى الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَ إِيَّاهُ} ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ، وَلَكِنَّ الْكُفَّارَ غَالَطُوا أَنْفُسَهُمْ لِشِدَّةِ تَعَصُّبِهِمْ لِأَوْثَانِهِمْ فَزَعَمُوا أَنَّهَا تُقَرِّبُهُمْ إِلَى اللَّهِ زُلْفَى، وَأَنَّهَا شُفَعَاؤُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ، مَعَ أَنَّ الْعَقْلَ يَقْطَعُ بِنَفْيِ ذَلِكَ.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ عِنْدَهُمْ بَقِيَّةَ إِنْذَارٍ مِمَّا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ الَّذِينَ أُرْسِلُوا قَبْلَ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. كَإِبْرَاهِيمَ وَغَيْرِهِ، وَأَنَّ الْحُجَّةَ قَائِمَةٌ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ، وَجَزَمَ بِهَذَا النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ، وَمَالَ إِلَيْهِ الْعِبَادِي فِي (الْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ) .
الْوَجْهُ الرَّابِعُ: مَا جَاءَ مِنَ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ عَنِ النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ بَعْضَ
أَهْلِ الْفَتْرَةِ فِي النَّارِ، كَمَا قَدَّمْنَا بَعْضَ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ بِذَلِكَ فِي صَحِيحٍ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ.
وَأَجَابَ الْقَائِلُونَ بِعُذْرِهِمْ بِالْفَتْرَةِ عَنْ هَذِهِ الْأَوْجُهِ الْأَرْبَعَةِ، فَأَجَابُوا عَنِ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ كَوْنُ التَّعْذِيبِ فِي قَوْله: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} إِنَّمَا هُوَ التَّعْذِيبُ الدُّنْيَوِيُّ دُونَ الْأُخْرَوِيِّ مِنْ وَجْهَيْن:(2/362)
الْأَوَّلُ: أَنَّهُ خِلَافَ ظَاهِرِ الْقُرْآنِ؛ لِأَنَّ ظَاهِرَ الْقُرْآنِ انْتِفَاءُ التَّعْذِيبِ مُطْلَقًا، فَهُوَ أَعَمُّ مِنْ كَوْنِهِ فِي الدُّنْيَا، وَصَرْفُ الْقُرْآنَ عَنْ ظَاهِرِهِ مَمْنُوعٌ إِلَّا بِدَلِيلٍ يَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْقُرْآنَ دَلَّ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ على شُمُولِ التَّعْذِيبِ الْمَنْفِيِ فِي الْآيَةِ لِلتَّعْذِيبِ فِي الْآخِرَةِ. كَقَوْلِهِ: {كُلَّمَا أُلْقِىَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَآ أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قَالُواْ بَلَى} وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ جَمِيعَ أَفْوَاجِ أَهْلِ النَّارِ مَا عُذِّبُوا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا بَعْدَ إِنْذَارِ الرُّسُلِ. كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ بِالْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ.
وَأَجَابُوا عَنِ الْوَجْهِ الثَّانِي، وَهُوَ أَنَّ مَحَلَّ الْعُذْرِ بِالْفَتْرَةِ فِي غَيْرِ الْوَاضِحِ الَّذِي لَا يُخْفَى عَلَى أَحَدٍ بِنَفْسِ الْجَوَابَيْنِ الْمَذْكُورِينَ آنِفًا؛ لِأَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ الْوَاضِحِ وَغَيْرِهِ مُخَالِفٌ لِظَاهِرِ الْقُرْآنِ، فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ دَلِيلٍ يَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ، وَلِأَنَّ اللَّهَ نَصَّ عَلَى أَنَّ أَهْلَ النَّارِ مَا عُذِّبُوا بِهَا حَتَّى كَذَّبُوا الرُّسُلَ فِي دَارِ الدُّنْيَا، بَعْدَ إِنْذَارِهِمْ مِنْ ذَلِكَ الْكُفْرِ الْوَاضِحِ، كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ.
وَأَجَابُوا عَنِ الْوَجْهِ الثَّالِثِ الَّذِي جَزَمَ بِهِ النَّوَوِيُّ، وَمَالَ إِلَيْهِ الْعَبَّادِيُّ، وَهُوَ قِيَامُ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ بِإِنْذَارِ الرُّسُلِ الَّذِينَ أُرْسِلُوا قَبْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّهُ قَوْلٌ بَاطِلٌ بِلَا شَكٍّ؛ لِكَثْرَةِ الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ الْمُصَرِّحَةِ بِبُطْلَانِهِ؛ لِأَنَّ مُقْتَضَاهُ أَنَّهُمْ أُنْذِرُوا عَلَى أَلْسِنَةِ بَعْضِ الرُّسُلِ وَالْقُرْآنُ يَنْفِي هَذَا نَفْيًا بَاتًّا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ. كَقَوْلِهِ فِي «يس» : {لِتُنذِرَ قَوْماً مَّآ أُنذِرَ آبَآؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ} وَ «مَا» فِي قَوْلِهِ {مَّآ أُنذِرَ آبَآؤُهُمْ} نَافِيَةٌ عَلَى التَّحْقِيقِ، لَا مَوْصُولَةٌ، وَتَدُلُّ لِذَلِكَ الْفَاءُ فِي قَوْلِهِ {فَهُمْ غَافِلُونَ} ، وَكَقَوْلِهِ فِي «الْقَصَصِ» : {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلكن رَّحْمَةً مِّن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْماً مَّآ أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ} ، وَكَقَوْلِهِ فِي «سَبَأٍ» {وَمَآ آتَيْنَاهُمْ مِّنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَآ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِّن نَّذِيرٍ} ، وَكَقَوْلِهِ فِي «الم السَّجْدَةِ» : {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْماً مَّآ أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن(2/363)
قَبْلِكَ} ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَأَجَابُوا عَنِ الْوَجْهِ الرَّابِعِ، بِأَنَّ تِلْكَ الْأَحَادِيثَ الْوَارِدَةَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ أَخْبَارُ آحَادٍ يُقَدَّمُ عَلَيْهَا الْقَاطِعُ، وَهُوَ قَوْلُهُ: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} ، وَقَوْلُهُ: {كُلَّمَا أُلْقِىَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَآ أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قَالُواْ بَلَى} ، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَأَجَابَ الْقَائِلُونَ بِالْعُذْرِ بِالْفَتْرَةِ أَيْضًا عَنِ الْآيَاتِ الَّتِي اسْتَدَلَّ بِهَا مُخَالِفُوهُمْ كَقَوْلِهِ: {وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} ، إِلَى آخِرِ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْآيَاتِ بِأَنَّ مَحَلَّ ذَلِكَ فِيمَا إِذَا أُرْسِلَتْ إِلَيْهِمُ الرُّسُلَ فَكَذَّبُوهُمْ بِدَلِيلِ قَوْله: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} .
وَأَجَابَ الْقَائِلُونَ بِتَعْذِيبِ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ مِنْ أَهْلِ الْفَتْرَةِ عَنْ قَوْلِ مُخَالِفِيهِمْ: إِنَّ الْقَاطِعَ الَّذِي هُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} يَجِبُ تَقْدِيمُهُ عَلَى أَخْبَارِ الْآحَادِ الدَّالَّةِ عَلَى تَعْذِيبِ بَعْضِ أَهْلِ الْفَتْرَةِ، كَحَدِيثَيْ مُسْلِمٍ فِي صَحِيحِهِ الْمُتَقَدِّمِينَ بِأَنَّ الْآيَةَ عَامَّةٌ، وَالْحَدِيثَيْنِ كِلَاهُمَا خَاصٌّ فِي شَخْصٍ مُعَيَّنٍ. وَالْمَعْرُوفُ فِي الْأُصُولِ أَنَّهُ لَا يَتَعَارَضُ عَامٌّ وَخَاصٌّ؛ لِأَنَّ الْخَاصَّ يَقْضِي عَلَى الْعَامِّ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ، خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ، كَمَا بَيَّنَاهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ.
فَمًا أَخْرَجَهُ دَلِيلٌ خَاصٌّ خَرَجَ مِنَ الْعُمُومِ، وَمَا لَمْ يُخْرِجْهُ دَلِيلٌ خَاصٌّ بَقِيَ دَاخِلًا فِي الْعُمُومِ. كَمَا تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ.
وَأَجَابَ الْمَانِعُونَ بِأَنَّ هَذَا التَّخْصِيصَ يُبْطِلُ حِكْمَةَ الْعَامِّ؛ لِأَنَّ اللَّهَ جَلَّ وَعَلَا تَمَدَّحُ بِكَمَالِ الْإِنْصَافِ. وَأَنَّهُ لَا يُعَذِّبُ حَتَّى يَقْطَعَ حُجَّةَ الْمُعَذَّبِ بِإِنْذَارِ الرُّسُلِ فِي دَارِ الدُّنْيَا، وَأَشَارَ لِأَنَّ ذَلِكَ الْإِنْصَافَ الْكَامِلَ، وَالْإِعْذَارَ الَّذِي هُوَ قَطْعُ الْعُذْرِ عِلَّةٌ لِعَدَمِ التَّعْذِيبِ، فَلَوْ عَذَّبَ إِنْسَانًا وَاحِدًا مِنْ غَيْرِ إِنْذَارٍ لَاخْتَلَّتْ تِلْكَ الْحِكْمَةُ الَّتِي تَمَدَّحَ اللَّهُ بِهَا، وَلَثَبَتَتْ لِذَلِكَ الْإِنْسَانِ(2/364)
الْحُجَّةُ الَّتِي أَرْسَلَ اللَّهُ الرُّسُلَ لِقَطْعِهَا، كَمَا بَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ: {رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} ، وَقَوْلِهِ: {وَلَوْ أَنَّآ أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ لَقَالُواْ رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَى} كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ.
وَأَجَابَ الْمُخَالِفُونَ عَنْ هَذَا بِأَنَّهُ لَوْ سَلَّمَ أَنَّ عَدَمَ الْإِنْذَارِ فِي دَارِ الدُّنْيَا عِلَّةٌ لِعَدَمِ التَّعْذِيبِ فِي الْآخِرَةِ، وَحَصَلَتْ عِلَّةُ الْحُكْمِ الَّتِي هِيَ عَدَمُ الْإِنْذَارِ فِي الدُّنْيَا، مَعَ فَقْدِ الْحُكْمِ الَّذِي هُوَ عَدَمُ التَّعْذِيبِ فِي الْآخِرَةِ لِلنَّصِّ فِي الْأَحَادِيثِ عَلَى التَّعْذِيبِ فِيهَا، فَإِنَّ وُجُودَ عِلَّةِ الْحُكْمِ مَعَ فَقْدِ الْحُكْمِ الْمُسَمَّى فِي اصْطِلَاحِ أَهْلِ الْأُصُولِ بِـ «النَّقْضِ» تَخْصِيصٌ لِلْعِلَّةِ، بِمَعْنَى أَنَّهُ قَصَرَ لَهَا عَلَى بَعْضِ أَفْرَادِ مَعْلُولِهَا بِدَلِيلٍ خَارِجٍ كَتَخْصِيصِ الْعَامِّ، أَيْ قَصْرُهُ عَلَى بَعْضِ أَفْرَادِهِ بِدَلِيلٍ. وَالْخِلَافُ فِي النَّقْضِ هَلْ هُوَ إِبْطَالٌ لِلْعِلَّةِ، أَوْ تَخْصِيصٌ لَهَا مَعْرُوفٌ فِي الْأُصُولِ، وَعَقَدَ الْأَقْوَالَ فِي ذَلِكَ صَاحِبُ «مَرَاقِي السُّعُودِ» بِقَوْلِهِ فِي مَبْحَثِ الْقَوَادِحِ:
مِنْهَا وُجُودُ الْوَصْفِ دُونَ الْحُكْمِ ... سَمَّاهُ بِالنَّقْضِ وُعَاةُ الْعِلْمِ
وَالْأَكْثَرُونَ عِنْدَهُمْ لَا يَقْدَحُ ... بَلْ هُوَ تَخْصِيصٌ وَذَا مُصَحِّحٌ
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ تَخْصِيصٌ ... إِنْ يَكُ الِاسْتِنْبَاطُ لَا التَّنْصِيصُ
وَعَكْسُ هَذَا قَدْ رَآهُ الْبَعْضُ ... وَمُنْتَقَى ذِي الِاخْتِصَارِ النَّقْضُ
إِنْ لَمْ تَكُنْ مَنْصُوصَةً بِظَاهِرٍ ... وَلَيْسَ فِيمَا اسْتُنْبِطَتْ بِضَائِرِ
إِنْ جَا لِفَقْدِ الشَّرْطِ أَوْ لِمَا مَنَعَ ... وَالْوَفْقُ فِي مِثْلِ الْعَرَايَا قَدْ وَقَعَ
فَقَدْ أَشَارَ فِي الْأَبْيَاتِ إِلَى خَمْسَةِ أَقْوَالٍ فِي النَّقْضِ: هَلْ هُوَ تَخْصِيصٌ، أَوْ إِبْطَالٌ لِلْعِلَّةِ، مَعَ التَّفَاصِيلِ الَّتِي ذَكَرَهَا فِي الْأَقْوَالِ الْمَذْكُورَةِ.
وَاخْتَارَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ أَهْلِ الْأُصُولِ: أَنَّ تَخَلُّفَ الْحُكْمِ عَنِ الْوَصْفِ(2/365)
إِنْ كَانَ لِأَجْلِ مَانِعٍ مَنَعَ مِنْ تَأْثِيرِ الْعِلَّةِ، أَوْ لِفَقْدِ شَرْطِ تَأْثِيرِهَا فَهُوَ تَخْصِيصٌ لِلْعِلَّةِ، وَإِلَّا فَهُوَ نَقْضٌ وَإِبْطَالٌ لَهَا.
فَالْقَتْلُ الْعَمْدُ الْعَدُوَّانُ عِلَّةٌ لِوُجُوبِ الْقِصَاصِ إِجْمَاعًا، فَإِذَا وُجِدَ هَذَا الْوَصْفُ الْمُرَكَّبَ الَّذِي هُوَ الْقَتْلُ الْعَمْدُ الْعُدْوَانُ، وَلَمْ يُوجَدِ الْحُكْمُ الَّذِي هُوَ الْقِصَاصُ فِي قَتْلِ الْوَالِدِ وَلَدَهُ لِكَوْنِ الْأُبُوَّةِ مَانِعًا مِنْ تَأْثِيرِ الْعِلَّةِ فِي الْحُكْمِ فَلَا يُقَالُ هَذِهِ الْعِلَّةُ مَنْقُوضَةٌ؛ لِتَخَلُّفِ الْحُكْمِ عَنْهَا فِي هَذِهِ الصُّورَةِ، بَلْ هِيَ عِلَّةُ مَنَعَ مِنْ تَأْثِيرِهَا مَانِعٌ. فَيُخَصَّصُ تَأْثِيرُهَا بِمَا لَمْ يَمْنَعْ مِنْهُ مَانِعٌ.
وَكَذَلِكَ مَنْ زَوَّجَ أَمَتَهُ مِنْ رَجُلٍ، وَغَرَّهُ فَزَعَمَ لَهُ أَنَّهَا حُرَّةٌ فَوَلَدَ مِنْهَا. فَإِنَّ الْوَلَدَ يَكُونُ حُرًّا، مَعَ أَنَّ رِقَّ الْأُمِّ عِلَّةٌ لِرِقِّ الْوَلَدِ إِجْمَاعًا؛ لِأَنَّ كُلَّ ذَاتِ رَحِمٍ فَوَلَدُهَا بِمَنْزِلَتِهَا؛ لِأَنَّ الْغُرُورَ مَانِعٌ مَنَعَ مِنْ تَأْثِيرِ الْعِلَّةِ
الَّتِي هِيَ رِقُّ الْأُمِّ فِي الْحُكْمِ الَّذِي هُوَ رِقُّ الْوَلَدِ، وَكَذَلِكَ الزِّنَى: فَإِنَّهُ عَلِمَ لِلرَّجْمِ إِجْمَاعًا.
فَإِذَا تَخَلَّفَ شَرْطُ تَأْثِيرِ هَذِهِ الْعِلَّةِ الَّتِي هِيَ الزِّنَى فِي هَذَا الْحُكْمِ الَّذِي هِيَ الرَّجْمُ، وَنَعْنِي بِذَلِكَ الشَّرْطِ الْإِحْصَانَ. فَلَا يُقَالُ إِنَّهَا عِلَّةٌ مَنْقُوضَةٌ، بَلْ هِيَ عِلَّةٌ تَخَلَّفَ شَرْطُ تَأْثِيرِهَا. وَأَمْثَالُ هَذَا كَثِيرَةٌ جِدًّا. هَكَذَا قَالَهُ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ.
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: الَّذِي يَظْهَرُ: أَنَّ آيَةَ «الْحَشْرِ» دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ النَّقْضَ تَخْصِيصٌ لِلْعِلَّةِ مُطْلَقًا، وَاللَّهَ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَنَعْنِي بِآيَةِ «الْحَشْرِ» قَوْلَهُ تَعَالَى فِي بَنِي النَّضِيرِ: {وَلَوْلاَ أَن كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاَءَ لَعَذَّبَهُمْ فِى الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِى الآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ} .
ثُمَّ بَيَّنَ جَلَّ وَعَلَا عِلَّةَ هَذَا الْعِقَابِ بِقَوْلِهِ: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَآقُّواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} . وَقَدْ يُوجَدُ بَعْضُ مَنْ شَاقَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَلَمْ يُعَذِّبْ بِمِثْلِ الْعَذَابِ الَّذِي عَذَّبَ بِهِ بَنُو النَّضِيرِ، مَعَ الِاشْتِرَاكِ فِي الْعِلَّةِ الَّتِي هِيَ مُشَاقَّةُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ.(2/366)
فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ تَخَلُّفَ الْحُكْمِ عَنِ الْعِلَّةِ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ تَخْصِيصٌ لِلْعِلَّةِ لَا نَقْضٌ لَهَا. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
أَمَّا مَثَلُ بَيْعِ التَّمْرِ الْيَابِسِ بِالرَّطْبِ فِي مَسْأَلَةِ بَيْعِ الْعَرَايَا فَهُوَ تَخْصِيصٌ لِلْعِلَّةِ إِجْمَاعًا لَا نَقْضَ لَهَا. كَمَا أَشَارَ لَهُ فِي الْأَبْيَاتِ بِقَوْلِهِ: * وَالْوَفْقُ فِي مِثْلِ الْعَرَايَا قَدْ وَقَعَ *
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: الظَّاهِرُ أَنَّ التَّحْقِيقَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الَّتِي هِيَ: هَلْ يَعْذُرُ الْمُشْرِكُونَ بِالْفَتْرَةِ أَوْ لَا؟ هُوَ أَنَّهُمْ مَعْذُورُونَ بِالْفَتْرَةِ فِي الدُّنْيَا، وَأَنَّ اللَّهَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَمْتَحِنُهُمْ بِنَارٍ يَأْمُرُهُمْ بِاقْتِحَامِهَا، فَمَنِ اقْتَحَمَهَا دَخْلَ الْجَنَّةَ وَهُوَ الَّذِي كَانَ يُصَدِّقُ الرُّسُلَ لَوْ جَاءَتْهُ فِي الدُّنْيَا، وَمَنِ امْتَنَعَ دَخَلَ النَّارَ وَعُذِّبَ فِيهَا، وَهُوَ الَّذِي كَانَ يُكَذِّبُ الرُّسُلَ لَوْ جَاءَتْهُ فِي الدُّنْيَا؛ لَأَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا كَانُوا عَامِلِينَ لَوْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ.
وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ هَذَا هُوَ التَّحْقِيقُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لِأَمْرَيْنِ:
الْأَوَّلُ - أَنَّ هَذَا ثَبَتَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَثُبُوتُهُ عَنْهُ نَصٌّ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ. فَلَا وَجْهَ لِلنِّزَاعِ أَلْبَتَّةَ مَعَ ذَلِكَ.
قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِهَا، بَعْدَ أَنْ سَاقَ الْأَحَادِيثَ الْكَثِيرَةَ الدَّالَّةَ عَلَى عُذْرِهِمْ بِالْفَتْرَةِ وَامْتِحَانِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، رَادًّا عَلَى ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ تَضْعِيفَ أَحَادِيثِ عُذْرِهِمْ وَامْتِحَانِهِمْ، بِأَنَّ الْآخِرَةَ دَارُ جَزَاءٍ لَا عَمَلٍ، وَأَنَّ التَّكْلِيفَ بِدُخُولِ النَّارِ تَكْلِيفٌ بِمَا لَا يُطَاقُ وَهُوَ لَا يُمْكِنُ مَا نَصَّهُ: وَالْجَوَابُ عَمَّا قَالَ: أَنَّ أَحَادِيثَ هَذَا الْبَابِ مِنْهَا مَا هُوَ صَحِيحٌ كَمَا قَدْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ كَثِيرٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْعُلَمَاءِ، وَمِنْهَا مَا هُوَ حَسَنٌ، وَمِنْهَا مَا هُوَ ضَيْفٌ يَتَقَوَّى بِالصَّحِيحِ وَالْحَسَنِ. وَإِذَا كَانَتْ أَحَادِيثُ الْبَابِ الْوَاحِدِ مُتَّصِلَةً مُتَعَاضِدَةً عَلَى هَذَا النَّمَطِ، أَفَادَتِ الْحُجَّةَ عِنْدَ النَّاظِرِ فِيهَا. وَأَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ دَارُ جَزَاءٍ، فَلَا شَكَّ أَنَّهَا(2/367)
دَارُ جَزَاءٍ، وَلَا يُنَافِي التَّكْلِيفَ فِي عَرَصَاتِهَا قَبْلَ دُخُولِ الْجَنَّةِ أَوِ النَّارِ. كَمَا حَكَاهُ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ عَنْ مَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ مِنَ امْتِحَانِ الْأَطْفَالِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ} .
وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصِّحَاحِ وَغَيْرِهَا: «أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَسْجُدُونَ لِلَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَنَّ الْمُنَافِقَ لَا يَسْتَطِيعُ ذَلِكَ،
وَيَعُودُ ظَهْرُهُ كَالصَّفِيحَةِ الْوَاحِدَةِ طَبَقًا وَاحِدًا، كُلَّمَا أَرَادَ السُّجُودَ خَرَّ لِقَفَاهُ» (1) . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ فِي الرَّجُلِ الَّذِي يَكُونُ آخِرَ أَهْلِ النَّارِ خُرُوجًا مِنْهَا: «أَنَّ اللَّهَ يَأْخُذُ عُهُودَهُ وَمَوَاثِيقَهُ أَلَّا يَسْأَلَ غَيْرَ مَا هُوَ فِيهِ، وَيَتَكَرَّرُ ذَلِكَ مِنْهُ، وَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: يَا بن آدم، مَا أغدرك ثُمَّ يَأْذَنُ لَهُ فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ» (2) .
وَأَمَّا قَوْلُهُ: فَكَيْفَ يُكَلِّفُهُمُ اللَّهُ دُخُولَ النَّارِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي وُسْعِهِمْ؟ فَلَيْسَ هَذَا بِمَانِعٍ مِنْ صِحَّةِ الْحَدِيثِ. فَإِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ الْعِبَادَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِالْجَوَازِ عَلَى الصِّرَاطِ وَهُوَ جِسْرٌ عَلَى مَتْنِ جَهَنَّمَ أَحَدُّ مِنَ السَّيْفِ وَأَدَقُّ مِنَ الشَّعْرِ، وَيَمُرُّ الْمُؤْمِنُونَ عَلَيْهِ بِحَسْبِ أَعْمَالِهِمْ، كَالْبَرْقِ، وَكَالرِّيحِ، وَكَأَجَاوِيدِ الْخَيْلِ وَالرِّكَابِ، وَمِنْهُمُ السَّاعِي، وَمِنْهُمُ الْمَاشِي، وَمِنْهُمْ مَنْ يَحْبُو حَبْوًا، وَمِنْهُمُ الْمَكْدُوسُ عَلَى وَجْهِهِ فِي النَّارِ. وَلَيْسَ مَا وَرَدَ فِي أُولَئِكَ بِأَعْظَمَ مِنْ هَذَا، بَلْ هَذَا أَطَم وَأعظم!
وَأَيْضًا: فَقَدْ ثَبَتَتِ السُّنَّةُ بِأَنَّ الدَّجَّالَ يَكُونُ مَعَهُ جَنَّةٌ وَنَارٌ، وَقَدْ أَمَرَ الشَّارِعُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يُدْرِكُونَهُ أَنْ يَشْرَبَ أَحَدُهُمْ مِنَ الَّذِي يرى أَنه نَار فَإِنَّهُ
_________
(1) - أخرجه البُخَارِيّ (6/2704) (7000) ، وَمُسلم (1/167) (183) مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
(2) - أخرجه البُخَارِيّ (5/2403) (6204) ، وَمُسلم (1/163) (182) مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.(2/368)
يَكُونُ عَلَيْهِ بَرْدًا وَسَلَامًا (1) . فَهَذَا نَظِيرُ ذَلِكَ.
وَأَيْضًا: فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يَقْتُلُوا أَنْفُسَهُمْ، فَقَتَلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا حَتَّى قَتَلُوا فِيمَا قِيلَ فِي غَدَاةٍ وَاحِدَةٍ سَبْعِينَ أَلْفًا، يَقْتُلُ الرَّجُلُ أَبَاهُ وَأَخَاهُ، وَهُمْ فِي عَمَايَةِ غَمَامَةٍ أَرْسَلَهَا اللَّهُ عَلَيْهِمْ، وَذَلِكَ عُقُوبَةٌ لَهُمْ عَلَى عِبَادَةِ الْعِجْلِ (2) . وَهَذَا أَيْضًا شَاقٌّ عَلَى النُّفُوسِ جِدًّا لَا يَتَقَاصَرُ عَمَّا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. انْتَهَى كَلَامُ ابْنِ كَثِيرٍ بِلَفْظِهِ.
وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَيْضًا قَبْلَ هَذَا الْكَلَامِ بِقَلِيلٍ مَا نَصُّهُ: وَمِنْهُمْ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُمْ يُمْتَحَنُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي عَرَصَاتِ الْمَحْشَرِ، فَمَنْ أَطَاعَ دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَانْكَشَفَ عِلْمُ اللَّهِ فِيهِ بِسَابِقِ السَّعَادَةِ، وَمَنْ عَصَى دَخَلَ النَّارَ دَاخِرًا، وَانْكَشَفَ عِلْمُ اللَّهِ فِيهِ بِسَابِقِ الشَّقَاوَةِ (3) .
وَهَذَا الْقَوْلُ يَجْمَعُ بَيْنَ الْأَدِلَّةِ كُلِّهَا، وَقَدْ صَرَّحَتْ بِهِ الْأَحَادِيثُ الْمُتَقَدِّمَةُ الْمُتَعَاضِدَةُ، الشَّاهِدُ بَعْضُهَا لِبَعْضٍ.
وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الَّذِي حَكَاهُ الشَّيْخُ أَبُو الْحسن عَليّ بن إِسْمَاعِيل الْأَشْعَرِيّ
_________
(1) - أخرجه البُخَارِيّ (3/1272) (3266) ، وَمُسلم (4/2248) (2934) من حَدِيث حُذَيْفَة رَضِي الله عَنهُ.
(2) - انْظُر الْآثَار الْوَارِدَة فِي ذَلِك فِي " تَفْسِير الطَّبَرِيّ" (1/286) .
(3) - أخرج أَحْمد (4/24) عَن الْأسود بن سريع أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {أَرْبَعَة يَوْم الْقِيَامَة رجل أَصمّ لَا يسمع شَيْئا وَرجل أَحمَق وَرجل هرم وَرجل مَاتَ فِي فَتْرَة فَأَما الْأَصَم فَيَقُول رب لقد جَاءَ الْإِسْلَام وَمَا أسمع شَيْئا وَأما الأحمق فَيَقُول رب لقد جَاءَ الْإِسْلَام وَالصبيان يحذفوني بالبعر وَأما الْهَرم فَيَقُول رَبِّي لقد جَاءَ الْإِسْلَام وَمَا أَعقل شَيْئا وَأما الَّذِي مَاتَ فِي الفترة فَيَقُول رب مَا أَتَانِي لَك رَسُول فَيَأْخُذ مواثيقهم ليطيعنه فَيُرْسل إِلَيْهِم أَن أدخلُوا النَّار قَالَ فوالذي نفس مُحَمَّد بِيَدِهِ لَو دخلوها لكَانَتْ عَلَيْهِم بردا وَسلَامًا} ، وَأخرج نَحوه عَن أبي هُرَيْرَة، والْحَدِيث صَححهُ الشَّيْخ الألباني - رَحمَه الله - فِي الصَّحِيحَة (1434) ، وَهُوَ فصل النزاع فِي هَذِه الْمَسْأَلَة.(2/369)
عَنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، وَهُوَ الَّذِي نَصَرَهُ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَيْهَقِيُّ فِي كِتَابِ (الِاعْتِقَادِ) وَكَذَلِكَ غَيْرُهُ مِنْ مُحَقِّقِي الْعُلَمَاءِ وَالْحُفَّاظِ وَالنُّقَّادِ. انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْ كَلَامِ ابْنِ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَهُوَ وَاضِحٌ جِدًّا فِيمَا ذَكَرْنَا.
الْأَمْرُ الثَّانِي: أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الْأَدِلَّةِ وَاجِبٌ مَتَى مَا أَمْكَنَ بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّ إِعْمَالَ الدَّلِيلَيْنِ أَوْلَى مِنْ إِلْغَاءِ أَحَدِهِمَا، وَلَا وَجْهَ لِلْجَمْعِ بَيْنَ الْأَدِلَّةِ إِلَّا هَذَا الْقَوْلُ بِالْعُذْرِ وَالِامْتِحَانِ، فَمَنْ دَخَلَ النَّارَ فَهُوَ الَّذِي لَمْ يَمْتَثِلْ مَا أَمَرَ بِهِ عِنْدَ ذَلِكَ الِامْتِحَانِ، وَيَتَّفِقُ بِذَلِكَ جَمِيعُ الْأَدِلَّةِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
وَلَا يَخْفَى أَنَّ مِثْلَ قَوْلِ ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: إِنَّ الْآخِرَةَ دَارُ جَزَاءٍ لَا دَارُ عَمَلٍ لَا يَصِحُّ أَنْ تَرِدَ بِهِ النُّصُوصُ الصَّحِيحَةُ الثَّابِتَةُ عَنِ النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. كَمَا أَوْضَحْنَاهُ فِي كِتَابِنَا (دَفْعُ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيَاتِ الْكتاب) .] (1) .
_________
(1) - 3/429: 440، بني إِسْرَائِيل / 15، وَانْظُر أَيْضا (2/168) (الْأَنْعَام/19) .(2/370)
فصل فِي الحاكمية
[قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِى شَىْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ} الْآيَةَ، أَمَرَ اللَّه فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، بِأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ تَنَازَعَ فِيهِ النَّاسُ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ وَفُرُوعِهِ أَنْ يُرَدَّ التَّنَازُعُ فِي ذَلِكَ إِلَى كِتَابِ اللَّه وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: {مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} ، وَأَوْضَحَ هَذَا الْمَأْمُورَ بِهِ هُنَا بِقَوْلِهِ: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَىْء فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} ، وَيُفْهَمُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّحَاكُمُ إِلَى غَيْرِ كِتَابِ اللَّه وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ أَوْضَحَ تَعَالَى هَذَا الْمَفْهُومَ مُوَبِّخًا لِلْمُتَحَاكِمِينَ إِلَى غَيْرِ كِتَابِ اللَّه وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُبَيِّنًا أَنَّ الشَّيْطَانَ أَضَلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا عَنِ الْحَقِّ بِقَوْلِهِ: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ} ، وَأَشَارَ إِلَى أَنَّهُ لَا يؤمنْ أَحَدٌ حَتَّى يَكْفُرَ بِالطَّاغُوتِ بِقَوْلِهِ: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} .
وَمَفْهُومُ الشَّرْطِ أَنَّ مَنْ لَمْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ لَمْ يَسْتَمْسِكْ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَهُوَ كَذَلِكَ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَمْسِكْ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى فَهُوَ بِمَعْزِلٍ عَنِ الْإِيمَانِ؛ لِأَنَّ الْإِيمَانَ باللَّه هُوَ الْعُرْوَةُ الْوُثْقَى، وَالْإِيمَانُ بِالطَّاغُوتِ يَسْتَحِيلُ اجْتِمَاعُهُ مَعَ الْإِيمَانِ باللَّه؛ لِأَنَّ الْكُفْرَ بِالطَّاغُوتِ شَرْطٌ فِي الْإِيمَانِ باللَّه أَوْ رُكْنٌ مِنْهُ، كَمَا هُوَ صَرِيحُ قَوْلِهِ: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ} .] (1) .
- وَقد فصَّل أَيْضا - رَحمَه الله - القَوْل عِنْد قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدا} ، وبيَّن أَن الحكم لَا يكون إِلَّا لله، وَأخذ يَسُوق الْآيَات الدَّالَّة على ذَلِك، ثمَّ بيَّن أَنَّ مُتَّبِعِي أَحْكَامِ الْمُشَرِّعِينَ غَيْرِ مَا شَرَعَهُ الله أَنهم مشركون بِاللَّه فَقَالَ: [قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلاَ يُشْرِكُ فِى حُكْمِهِ أَحَدًا} . قَرَأَ
_________
(1) - 1/292، 293، النِّسَاء / 59.(2/371)
هَذَا الْحَرْفَ عَامَّةُ السَّبْعَةِ مَا عَدَا ابْنَ عَامِرٍ «وَلَا يُشْرِكُ» بِالْيَاءِ الْمُثَنَّاةِ التَّحْتِيَّةِ، وَضَمِّ الْكَافِ عَلَى الْخَبَرِ، وَلَا نَافِيَةٌ وَالْمَعْنَى: وَلَا يُشْرِكُ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا أَحَدًا فِي حُكْمِهِ، بَلِ الْحُكْمُ لَهُ وَحْدَهُ جَلَّ وَعَلَا لَا حُكْمَ لِغَيْرِهِ أَلْبَتَّةَ، فَالْحَلَالُ مَا أَحَلَّهُ تَعَالَى، وَالْحَرَامُ مَا حَرَّمَهُ، وَالدِّينُ مَا شَرَعَهُ، وَالْقَضَاءُ مَا قَضَاهُ.
وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ مِنَ السَّبْعَةِ. «وَلَا تُشْرِكْ» بِضَمِّ التَّاءِ الْمُثَنَّاةِ الْفَوْقِيَّةِ وَسُكُونِ الْكَافِ بِصِيغَةِ النَّهْيِ، أَيْ لَا تُشْرِكْ يَا نَبِيَّ اللَّهِ، أَوْ لَا تُشْرِكْ أَيُّهَا الْمُخَاطَبُ أَحَدًا فِي حُكْمِ اللَّهِ جَلَّ وَعَلَا، بَلْ أَخْلِصِ الْحُكْمَ لِلَّهِ مِنْ شَوَائِبِ شِرْكِ غَيْرِهِ فِي الْحُكْمِ.
وَحُكْمُهُ جَلَّ وَعَلَا الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ: {وَلاَ يُشْرِكُ فِى حُكْمِهِ أَحَدًا} شَامِلٌ لِكُلِّ مَا يَقْضِيهِ جَلَّ وَعَلَا. وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ التَّشْرِيعُ دُخُولًا أَوَّلِيًّا.
وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ كَوْنِ الْحُكْمِ لِلَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ فِيهِ عَلَى كِلْتَا الْقِرَاءَتَيْنِ جَاءَ مُبَيَّنًا فِي آيَاتٍ أُخَرَ. كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ} وَقَوله تَعَالَى: {وَقَالَ يابَنِىَّ لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُواْ} ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَىْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {ذَلِكُم بِأَنَّهُ إِذَا دُعِىَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِن يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُواْ فَالْحُكْمُ للَّهِ الْعَلِىِّ الْكَبِيرِ} ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {كُلُّ شَىْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَهُ الْحَمْدُ فِى الاٍّولَى وَالآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} ، وَقَوْلِهِ: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} . وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِى حَكَماً وَهُوَ الَّذِى أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً} ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَيُفْهَمُ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ كَقَوْلِهِ {وَلاَ يُشْرِكُ فِى حُكْمِهِ أَحَدًا} أَنَّ مُتَّبِعِي أَحْكَامِ الْمُشَرِّعِينَ غَيْرِ مَا شَرَعَهُ اللَّهُ أَنَّهُمْ مُشْرِكُونَ بِاللَّهِ.(2/372)
وَهَذَا الْمَفْهُومُ جَاءَ مُبَيَّنًا فِي آيَاتٍ أُخَرَ. كَقَوْلِهِ فِيمَنِ اتَّبَعَ تَشْرِيعَ الشَّيْطَانِ فِي إِبَاحَةِ الْمَيْتَةِ بِدَعْوَى أَنَّهَا ذَبِيحَةُ اللَّهِ: {وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّه لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} فَصَرَّحَ بِأَنَّهُمْ مُشْرِكُونَ بِطَاعَتِهِمْ. وَهَذَا الْإِشْرَاكُ فِي الطَّاعَةِ، وَاتِّبَاعِ التَّشْرِيعِ الْمُخَالِفِ لِمَا شَرَعَهُ اللَّهُ تَعَالَى هُوَ الْمُرَادُ بِعِبَادَةِ الشَّيْطَانِ فِي قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يابَنِى آدَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ الشَّيطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ وَأَنِ اعْبُدُونِى هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ} ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى عَنْ نَبِيِّهِ إِبْرَاهِيمَ: {ياأَبَتِ لاَ تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيّاً} ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثاً وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَاناً مَّرِيداً} أَيْ مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا شَيْطَانًا، أَيْ وَذَلِكَ بِاتِّبَاعِ تَشْرِيعِهِ؛ وَلِذَا سَمَّى اللَّهُ تَعَالَى الَّذِينَ يُطَاعُونَ فِيمَا زَيَّنُوا مِنَ الْمَعَاصِي شُرَكَاءَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكَذلك زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَآؤُهُمْ} . وَقَدْ بَيَّنَ النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا لِعَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا سَأَلَهُ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ} فَبَيَّنَ لَهُ إِنَّهُمْ أَحَلُّوا لَهُمْ مَا حَرَّمَ اللَّهُ، وَحَرَّمُوا عَلَيْهِمْ مَا أَحَلَّ اللَّهُ فَاتَّبَعُوهُمْ فِي ذَلِكَ، وَأَنَّ ذَلِكَ هُوَ اتِّخَاذُهُمْ إِيَّاهُمْ أَرْبَابًا (1) .
وَمِنْ أَصْرَحِ الْأَدِلَّةِ فِي هَذَا: أَنَّ اللَّهَ جَلَّ وَعَلَا فِي سُورَةِ النِّسَاءِ بَيَّنَ أَنَّ مَنْ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى غَيْرِ مَا شَرَعَهُ اللَّهُ يَتَعَجَّبُ مِنْ زَعْمِهِمْ أَنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ، وَمَا ذَلِكَ إِلَّا لِأَنَّ دَعْوَاهُمُ الْإِيمَانَ مَعَ إِرَادَةِ التَّحَاكُمِ إِلَى الطَّاغُوتِ بَالِغَةٌ مِنَ الْكَذِبِ مَا يَحْصُلُ مِنْهُ الْعَجَبُ. وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ
_________
(1) - أخرجه التِّرْمِذِيّ (5/278) (3095) من حَدِيث عدي، والْحَدِيث حسنه الشَّيْخ الألباني - رَحمَه الله -.(2/373)
إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلَالاً بَعِيداً} .
وَبِهَذِهِ النُّصُوصِ السَّمَاوِيَّةِ الَّتِي ذَكَرْنَا يَظْهَرُ غَايَةَ الظُّهُورِ: أَنَّ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الْقَوَانِينَ الْوَضْعِيَّةَ الَّتِي شَرَعَهَا الشَّيْطَانُ عَلَى أَلْسِنَةِ أَوْلِيَائِهِ مُخَالَفَةً لِمَا شَرَعَهُ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ لَا يَشُكُّ فِي كُفْرِهِمْ وَشِرْكِهِمْ إِلَّا مَنْ طَمَسَ اللَّهُ بصيرته، وأعماه عَن نور الْوَحْي مثلهم.] (1) .
وَقَالَ أَيْضا: [اعْلَمْ أَنَّ كُلَّ مُسْلِمٍ، يَجِبُ عَلَيْهِ فِي هَذَا الزَّمَانِ، تَأَمُّلُ هَذِهِ الْآيَاتِ، مِنْ سُورَةِ مُحَمَّد - أَي قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّواْ عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لِلَّذِينَ كَرِهُواْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِى بَعْضِ الأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُواْ مَآ أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُواْ رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} - وَتَدَبُّرِهَا، وَالْحَذَرُ التَّامُّ مِمَّا تَضَمَّنَتْهُ مِنَ الْوَعِيدِ الشَّدِيدِ؛ لِأَنَّ كَثِيرًا مِمَّنْ يَنْتَسِبُونَ لِلْمُسْلِمِينَ دَاخِلُونَ بِلَا شَكٍّ فِيمَا تَضَمَّنَتْهُ مِنَ الْوَعِيدِ الشَّدِيدِ؛ لِأَنَّ عَامَّةَ الْكُفَّارِ مِنْ شَرْقِيِّينَ وَغَرْبِيِّينَ كَارِهُونَ لِمَا نَزَّلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ هَذَا الْقُرْآنُ وَمَا يُبَيِّنُهُ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ السُّنَنِ.
فَكُلُّ مَنْ قَالَ لِهَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ الْكَارِهِينَ لِمَا نَزَّلَهُ اللَّهُ: سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ، فَهُوَ دَاخِلٌ فِي وَعِيدِ الْآيَةِ.
وَأَحْرَى مِنْ ذَلِكَ مِنْ يَقُولُ لَهُمْ: سَنُطِيعُكُمْ فِي الْأَمر كَالَّذِين يتبعُون
_________
(1) - 4/90: 92، الْكَهْف / 26.(2/374)
الْقَوَانِينَ الْوَضْعِيَّةَ مُطِيعِينَ بِذَلِكَ لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ، فَإِنَّ هَؤُلَاءِ لَا شَكَّ أَنَّهُمْ مِمَّنْ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ، وَأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ، وَأَنَّهُ مُحْبِطٌ أَعْمَالَهُمْ.
فَاحْذَرْ كُلَّ الْحَذَرِ مِنَ الدُّخُولِ فِي الَّذِينَ قَالُوا: سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ.] (1) .
- وَقَالَ أَيْضا مُبينًا صِفَات من يسْتَحق أَن يكون لَهُ الحكم: [قَوْله تَعَالَى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَىْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} . مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ أَنَّ مَا اخْتَلَفَ فِيهِ النَّاسُ مِنَ الْأَحْكَامِ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ وَحْدَهُ، لَا إِلَى غَيْرِهِ، جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَة.
فَالْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ فِي حُكْمِهِ كَالْإِشْرَاكِ بِهِ فِي عِبَادَتِهِ قَالَ فِي حُكْمِهِ {وَلاَ يُشْرِكُ فِى حُكْمِهِ أَحَدًا} ، وَفِي قِرَاءَةِ ابْنِ عَامِرٍ مِنَ السَّبْعَة {وَلاَ تُشْرِكُواْ فِى حُكْمِهِ أَحَدًا} بِصِيغَةِ النَّهْيِ.
وَقَالَ فِي الْإِشْرَاك بِهِ فِي عِبَادَته: {فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَآءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدَا} ، فَالْأَمْرَانِ سَوَاءٌ كَمَا تَرَى إِيضَاحَهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
وَبِذَلِكَ تَعْلَمُ أَنَّ الْحَلَالَ هُوَ مَا أَحَلَّهُ اللَّهُ، وَالْحَرَامَ هُوَ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ، وَالدِّينَ هُوَ مَا شَرَعَهُ اللَّهُ، فَكُلُّ تَشْرِيعٍ مَنْ غَيْرِهِ بَاطِلٌ، وَالْعَمَلُ بِهِ بَدَلَ تَشْرِيعِ اللَّهِ عِنْدَ مَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ مِثْلُهُ أَوْ خَيْرٌ مِنْهُ، كُفْرُ بَوَاحٍ لَا نِزَاعَ فِيهِ.
وَقَدْ دَلَّ الْقُرْآنُ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، عَلَى أَنَّهُ لَا حُكْمَ لِغَيْرِ اللَّهِ، وَأَنَّ اتِّبَاعَ تَشْرِيعِ غَيْرِهِ كُفْرٌ بِهِ، فَمِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ لِلَّهِ وَحْدَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ} ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنِ الْحُكْمُ
_________
(1) - 7/584: 590، مُحَمَّد / 25: 28.(2/375)
إِلاَّ للَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} . وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ} وَقَوْلُهُ: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ فَأولئك هُمُ الْكَافِرُونَ} ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلاَ يُشْرِكُ فِى حُكْمِهِ أَحَدًا} ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {كُلُّ شَىْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى {لَهُ الْحَمْدُ فِى الاٍّولَى وَالآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ
تُرْجَعُونَ} وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ.
وَقَدْ قَدَّمْنَا إِيضَاحَهَا فِي سُورَةِ الْكَهْفِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ يُشْرِكُ فِى حُكْمِهِ أَحَدًا} .
وَأَمَّا الْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى أَنَّ اتِّبَاعَ تَشْرِيعِ غَيْرِ اللَّهِ الْمَذْكُورِ كُفْرٌ فَهِيَ كَثِيرَةٌ جِدًّا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ} ، وَقَوله تَعَالَى: {وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يابَنِى آدَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ الشَّيطَانَ} ، وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ جِدًّا، كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ فِي الْكَهْفِ.
مَسْأَلَةٌ
اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ جَلَّ وَعَلَا بَيَّنَ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، صِفَاتِ مَنْ يَسْتَحِقُّ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ لَهُ، فَعَلَى كُلِّ عَاقِلٍ أَنْ يَتَأَمَّلَ الصِّفَاتِ الْمَذْكُورَةَ، الَّتِي سَنُوَضِّحُهَا الْآنَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَيُقَابِلَهَا مَعَ صِفَاتِ الْبَشَرِ الْمُشَرِّعِينَ لِلْقَوَانِينِ الْوَضْعِيَّةِ، فَيَنْظُرُ هَلْ تَنْطَبِقُ عَلَيْهِمْ صِفَاتُ مَنْ لَهُ التَّشْرِيعُ.
سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَنْ ذَلِكَ.
فَإِنْ كَانَتْ تَنْطَبِقُ عَلَيْهِمْ وَلَنْ تَكُونَ، فَلْيَتَّبِعْ تَشْرِيعَهُمْ.
وَإِنْ ظَهَرَ يَقِينًا أَنَّهُمْ أَحْقَرُ وَأَخَسُّ وَأَذَلُّ وَأَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ، فَلْيَقِفْ بِهِمْ عِنْدَ حَدِّهِمْ، وَلَا يُجَاوِزْهُ بِهِمْ إِلَى مَقَامِ الرُّبُوبِيَّةِ.(2/376)
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنْ يَكُونَ لَهُ شَرِيكٌ فِي عِبَادَتِهِ، أَوْ حُكْمِهِ أَوْ مُلْكِهِ.
فَمِنَ الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ الَّتِي أَوْضَحَ بِهَا تَعَالَى صِفَاتِ مِنْ لَهُ الْحُكْمُ وَالتَّشْرِيعُ قَوْلُهُ هُنَا: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ
مِن شَىْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} ، ثُمَّ قَالَ مُبَيِّنًا صِفَاتِ مَنْ لَهُ الْحُكْمُ {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّى عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ فَاطِرُ السَّمَوَات وَالأَرْضِ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَمِنَ الأَنْعَامِ أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} .
فَهَلْ فِي الْكَفَرَةِ الْفَجَرَةِ الْمُشَرِّعِينَ لِلنُّظُمِ الشَّيْطَانِيَّةِ، مَنْ يَسْتَحِقُّ أَنْ يُوصَفَ بِأَنَّهُ الرَّبُّ الَّذِي تُفَوَّضُ إِلَيْهِ الْأُمُورُ، وَيُتَوَكَّلُ عَلَيْهِ، وَأَنَّهُ فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَيْ خَالِقُهُمَا وَمُخْتَرِعُهُمَا، عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ سَابِقٍ، وَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي خَلَقَ لِلْبَشَرِ أَزْوَاجًا، وَخَلَقَ لَهُمْ أَزْوَاجَ الْأَنْعَامِ الثَّمَانِيَةَ الْمَذْكُورَةَ فِي قَوْلُهُ تَعَالَى: {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِّنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ} ، وَأَنَّهُ {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْء وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} وَأَنا {لَّهُ مَقَالِيدُ السَّمَوَات وَالاْرْضِ} ، وَأَنَّهُ {هُوَ الَّذِى يَبْسُطُ الرّزْقَ لِمَنْ يَشَاء وَيَقَدِرُ} أَيْ يُضَيِّقُهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ {وَهُوَ بِكُلّ شَىْء عَلِيمٌ} .
فَعَلَيْكُمْ أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ أَنْ تَتَفَهَّمُوا صِفَاتِ مَنْ يَسْتَحِقُّ أَنْ يُشَرِّعَ وَيُحَلِّلَ وَيُحَرِّمَ، وَلَا تَقْبَلُوا تَشْرِيعًا مِنْ كَافِرٍ خَسِيسٍ حَقِيرٍ جَاهِلٍ.
وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِى شَىْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} ، فَقَوْلُهُ فِيهَا: {فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ} كَقَوْلِهِ فِي هَذِهِ {فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} .
وَقَدْ عَجِبَ نَبِيُّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ قَوْلِهِ: {فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ} مِنَ الَّذِينَ يَدَّعُونَ الْإِيمَانَ مَعَ أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ الْمُحَاكَمَةَ، إِلَى مَنْ لَمْ يَتَّصِفْ بِصِفَاتِ من لَهُ(2/377)
الْحُكْمُ، الْمُعَبَّرِ عَنْهُ فِي الْآيَةِ بِالطَّاغُوتِ، وَكُلُّ تَحَاكُمٍ إِلَى غَيْرِ شَرْعِ اللَّهِ فَهُوَ تَحَاكُمٌ إِلَى الطَّاغُوتِ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلَالاً بَعِيداً} .
فَالْكُفْرُ بِالطَّاغُوتِ، الَّذِي صَرَّحَ اللَّهُ بِأَنَّهُ أَمَرَهُمْ بِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، شَرْطٌ فِي الْإِيمَانِ كَمَا بَيَّنَهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} .
فَيُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ مَنْ لَمْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ لَمْ يَتَمَسَّكْ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى، وَمَنْ لَمْ يَسْتَمْسِكْ بِهَا فَهُوَ مُتَرَدٍّ مَعَ الْهَالِكِينَ.
وَمِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَهُ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِىٍّ وَلاَ يُشْرِكُ فِى حُكْمِهِ أَحَدًا} .
فَهَلْ فِي الْكَفَرَةِ الْفَجَرَةِ الْمُشَرِّعِينَ مَنْ يَسْتَحِقُّ أَنْ يُوصَفَ بِأَنَّ لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ؟ وَأَنْ يُبَالَغَ فِي سَمْعِهِ وَبَصَرِهِ لِإِحَاطَةِ سَمْعِهِ بِكُلِّ الْمَسْمُوعَاتِ وَبَصَرِهِ بِكُلِّ الْمُبْصَرَاتِ؟
وَأَنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدٍ دُونَهُ مِنْ وَلِيٍّ؟
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا؟
وَمِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلاَ تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَىْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} .
فَهَلْ فِي الْكَفَرَةِ الْفَجَرَةِ الْمُشَرِّعِينَ مَنْ يَسْتَحِقُّ أَنْ يُوصَفَ بِأَنَّهُ الْإِلَهُ الْوَاحِدُ؟ وَأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ؟ وَأَنَّ الْخَلَائِقَ يَرْجِعُونَ إِلَيْهِ؟(2/378)
تَبَارَكَ رَبُّنَا وَتَعَاظَمَ وَتَقَدَّسَ أَنْ يُوصَفَ أَخَسُّ خَلْقِهِ بِصِفَاتِهِ.
وَمِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {ذَلِكُم بِأَنَّهُ إِذَا دُعِىَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِن يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُواْ فَالْحُكْمُ للَّهِ الْعَلِىِّ الْكَبِيرِ} .
فَهَلْ فِي الْكَفَرَةِ الْفَجَرَةِ الْمُشَرِّعِينَ النُّظُمَ الشَّيْطَانِيَّةَ، مَنْ يَسْتَحِقُّ أَنْ يُوصَفَ فِي أَعْظَمِ كِتَابٍ سَمَاوِيٍّ، بِأَنَّهُ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ؟
سُبْحَانَكَ رَبَّنَا وَتَعَالَيْتَ عَنْ كُلِّ مَا لَا يَلِيقُ بِكَمَالِكَ وَجَلَالِكَ.
وَمِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِى الاٍّولَى وَالآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ الَّيْلَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَآءٍ أَفَلاَ تَسْمَعُونَ قُلْ أَرَءَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفلاَ تُبْصِرُونَ وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} .
فَهَلْ فِي مُشَرِّعِي الْقَوَانِينِ الْوَضْعِيَّةِ، مَنْ يَسْتَحِقُّ أَنْ يُوصَفَ بِأَنَّ لَهُ الْحَمْدَ فِي الْأَوْلَى وَالْآخِرَةِ، وَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يُصَرِّفُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ مُبَيِّنًا بِذَلِكَ كَمَالَ قُدْرَتِهِ، وَعَظَمَةَ إِنْعَامِهِ عَلَى خَلْقِهِ.
سُبْحَانَ خَالِقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، جَلَّ وَعَلَا أَنْ يَكُونَ لَهُ شَرِيكٌ فِي حُكْمِهِ أَوْ عِبَادَتِهِ، أَوْ مُلْكِهِ.
وَمِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكن أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} .
فَهَلْ فِي أُولَئِكَ مَنْ يَسْتَحِقُّ أَنْ يُوصَفَ بِأَنَّهُ هُوَ الْإِلَهُ الْمَعْبُودُ وَحْدَهُ، وَأَنَّ عِبَادَتَهُ وَحْدَهُ هِيَ الدِّينُ الْقَيِّمُ؟(2/379)
سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا.
وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ} .
فَهَلْ فِيهِمْ مَنْ يَسْتَحِقُّ أَنْ يُتَوَكَّلَ عَلَيْهِ، وَتُفَوِّضَ الْأُمُورُ إِلَيْهِ؟
وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُمْ بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَآ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} .
فَهَلْ فِي أُولَئِكَ الْمُشَرِّعِينَ مَنْ يَسْتَحِقُّ أَنْ يُوصَفَ بِأَنَّ حُكْمَهُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِاتِّبَاعِ الْهَوَى؟ وَأَنَّ مَنْ تَوَلَّى عَنْهُ أَصَابَهُ اللَّهُ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِ؟ لِأَنَّ الذُّنُوبَ لَا يُؤَاخَذُ بِجَمِيعِهَا إِلَّا فِي الْآخِرَةِ؟ وَأَنَّهُ لَا حُكْمَ أَحْسَنُ مِنْ حُكْمِهِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ؟
سُبْحَانَ رَبِّنَا وَتَعَالَى عَنْ كُلِّ مَا لَا يَلِيقُ بِكَمَالِهِ وَجَلَالِهِ.
وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ} .
فَهَلْ فِيهِمْ مَنْ يَسْتَحِقُّ أَنْ يُوصَفَ بِأَنَّهُ يَقُصُّ الْحَقَّ، وَأَنَّهُ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ؟
وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِى حَكَماً وَهُوَ الَّذِى أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً} .
فَهَلْ فِي أُولَئِكَ الْمَذْكُورِينَ مَنْ يَسْتَحِقُّ أَنْ يُوصَفَ بِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ هَذَا الْكِتَابَ مُفَصَّلًا، الَّذِي يَشْهَدُ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ، وَبِأَنَّهُ تَمَّتْ كَلِمَاتُهُ صِدْقًا وَعَدْلًا أَيْ صِدْقًا فِي الْأَخْبَارِ، وَعَدْلًا فِي الْأَحْكَامِ، وَأَنَّهُ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيم؟(2/380)
سُبْحَانَ رَبِّنَا مَا أَعْظَمَهُ وَمَا أَجَلَّ شَأْنَهُ.
وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّآ أَنزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِّنْهُ حَرَامًا وَحَلاَلاً قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} .
فَهَلْ فِي أُولَئِكَ الْمَذْكُورِينَ مَنْ يَسْتَحِقُّ أَنْ يُوصَفَ بِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الرِّزْقَ لِلْخَلَائِقِ، وَأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ تَحْلِيلٌ وَلَا تَحْرِيمٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ؟ لِأَنَّ مِنَ الضَّرُورِيِّ أَنَّ مَنْ خَلَقَ الرِّزْقَ وَأَنْزَلَهُ هُوَ الَّذِي لَهُ التَّصَرُّفُ فِيهِ بِالتَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ؟
سُبْحَانَهُ جَلَّ وَعَلَا أَنْ يَكُونَ لَهُ شَرِيكٌ فِي التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ.
وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ فَأولئك هُمُ الْكَافِرُونَ} .
فَهَلْ فِيهِمْ مَنْ يَسْتَحِقُّ الْوَصْفَ بِذَلِكَ؟
سُبْحَانَ رَبِّنَا وَتَعَالَى عَنْ ذَلِكَ.
وَمِنْهَا قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهذا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ
إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} .
فَقَدْ أَوْضَحَتِ الْآيَةُ أَنَّ الْمُشَرِّعِينَ غَيْرَ مَا شَرَّعَهُ اللَّهُ إِنَّمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ، لِأَجْلِ أَنْ يَفْتَرُوهُ عَلَى اللَّهِ، وَأَنَّهُمْ لَا يُفْلِحُونَ وَأَنَّهُمْ يُمَتَّعُونَ قَلِيلًا ثُمَّ يُعَذَّبُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ، وَذَلِكَ وَاضِحٌ فِي بُعْدِ صِفَاتِهِمْ مِنْ صِفَاتِ مَنْ لَهُ أَنْ يُحَلِّلَ وَيُحَرِّمَ.
وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ هَلُمَّ شُهَدَآءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِن شَهِدُواْ فَلاَ تَشْهَدْ مَعَهُمْ} .
فَقَوْلُهُ: {هَلُمَّ شُهَدَاءكُمُ} صِيغَةُ تَعْجِيزٍ، فَهُمْ عَاجِزُونَ عَنْ بَيَانِ مُسْتَنَدِ(2/381)
التَّحْرِيمِ. وَذَلِكَ وَاضِحٌ فِي أَنَّ غَيْرَ اللَّهِ لَا يَتَّصِفُ بِصِفَاتِ التَّحْلِيلِ وَلَا التَّحْرِيمِ، وَلَمَّا كَانَ التَّشْرِيعُ وَجَمِيعُ الْأَحْكَامِ، شَرْعِيَّةً كَانَتْ أَوْ كَوْنِيَّةً قَدَرِيَّةً، مِنْ خَصَائِصِ الرُّبُوبِيَّةِ، كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآيَاتُ الْمَذْكُورَةُ كَانَ كُلُّ مَنِ اتَّبَعَ تَشْرِيعًا غَيْرَ تَشْرِيعِ اللَّهِ قَدِ اتَّخَذَ ذَلِكَ الْمُشَرِّعَ رَبًّا، وَأَشْرَكَهُ مَعَ اللَّهِ.
وَالْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى هَذَا كَثِيرَةٌ، وَقَدْ قَدَّمْنَاهَا مِرَارًا وَسَنُعِيدُ مِنْهَا مَا فِيهِ كِفَايَةٌ، فَمِنْ ذَلِكَ وَهُوَ مِنْ أَوْضَحِهِ وَأَصْرِحِهِ، أَنَّهُ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَعَتْ مُنَاظَرَةٌ بَيْنَ حِزْبِ الرَّحْمَنِ، وَحِزْبِ الشَّيْطَانِ، فِي حُكْمٍ مِنْ أَحْكَامِ التَّحْرِيمِ وَالتَّحْلِيلِ وَحِزْبُ الرَّحْمَنِ يَتَّبِعُونَ تَشْرِيعَ الرَّحْمَنِ، فِي وَحْيِهِ فِي تَحْرِيمِهِ، وَحِزْبُ الشَّيْطَانِ يَتَّبِعُونَ وَحْيَ الشَّيْطَانِ فِي تَحْلِيلِهِ.
وَقَدْ حَكَمَ اللَّهُ بَيْنَهُمَا وَأَفْتَى فِيمَا تَنَازَعُوا فِيهِ فَتْوَى سَمَاوِيَّةً قُرْآنِيَّةً تُتْلَى فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ.
وَذَلِكَ أَنَّ الشَّيْطَانَ لَمَّا أَوْحَى إِلَى أَوْلِيَائِهِ فَقَالَ لَهُمْ فِي وَحْيِهِ: سَلُوا مُحَمَّدًا عَنِ الشَّاةِ تُصْبِحُ مَيْتَةً مَنْ هُوَ الَّذِي قَتَلَهَا؟ فَأَجَابُوهُمْ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي قَتَلَهَا.
فَقَالُوا: الْمَيْتَةُ إِذًا ذَبِيحَةُ اللَّهِ، وَمَا ذَبَحَهُ اللَّهُ كَيْفَ تَقُولُونَ إِنَّهُ حَرَامٌ؟ مَعَ أَنَّكُمْ تَقُولُونَ إِنَّمَا ذَبَحْتُمُوهُ بِأَيْدِيكُمْ حَلَالٌ، فَأَنْتُمْ إِذًا أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ وَأَحَلُّ ذَبِيحَةً.
فَأَنْزَلَ اللَّهُ بِإِجْمَاعِ مَنْ يُعْتَدُّ بِهِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} (1) يَعْنِي الْمَيْتَةَ أَيْ وَإِنْ زَعَمَ الْكُفَّارُ أَنَّ اللَّهَ ذَكَّاهَا بِيَدِهِ الْكَرِيمَةِ بِسِكِّينٍ مِنْ ذهب: {وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} وَالضَّمِير عَائِد إِلَى
_________
(1) أخرجه أَبُو دَاوُد (2/111) (2818) ، وَالنَّسَائِيُّ (7/237) (4437) ، وَابْنُ مَاجَهْ (2/1059) (3173) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا بِهِ، والْحَدِيث صَححهُ الشَّيْخ الألباني - رَحمَه الله -.(2/382)
الْأَكْلِ الْمَفْهُومِ مِنْ قَوْلِهِ: {وَلاَ تَأْكُلُواْ} وَقَوْلُهُ: {لَفِسْقٌ} أَيْ خُرُوجٌ عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ، وَاتِّبَاعٌ لِتَشْرِيعِ الشَّيْطَانِ: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ} . أَيْ بِقَوْلِهِمْ: مَا ذَبَحْتُمُوهُ حَلَالٌ وَمَا ذَبَحَهُ اللَّهُ حَرَامٌ، فَأَنْتُمْ إِذا أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ، وَأَحَلُّ تَذْكِيَةً، ثُمَّ بَيَّنَ الْفَتْوَى السَّمَاوِيَّةِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ، فِي الْحُكْمِ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} فَهِيَ فَتْوَى سَمَاوِيَّةٌ مِنَ الْخَالِقِ جَلَّ وَعَلَا صَرَّحَ فِيهَا بِأَنَّ مُتَّبِعَ تَشْرِيعِ الشَّيْطَانِ الْمُخَالِفِ لِتَشْرِيعِ الرَّحْمَنِ مُشْرِكٌ بِاللَّهِ.
وَهَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مَثَّلَ بِهَا بَعْضُ عُلَمَاءِ الْعَرَبِيَّةِ لِحَذْفِ اللَّامِ الْمُوَطِّئَةِ لِلْقَسَمِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى اللَّامِ الْمُوَطِّئَةِ الْمَحْذُوفَةِ عَدَمُ اقْتِرَانِ جُمْلَةِ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ بِالْفَاءِ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ شَرْطًا لَمْ يَسْبِقْهُ قَسَمٌ لَقِيلَ: فَإِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ فِي الْخُلَاصَةِ:
وَاقرُنْ بِفَا حَتْمًا جَوَابًا لَو جُعِلْ ... شَرْطًا لِأَنْ أَوْ غَيْرِهَا لَمْ يَنْجَعِلْ
وَهُوَ مَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ، وَحَذْفُ الْفَاءِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ مِنْ ضَرُورَةِ الشِّعْرِ.
وَمَا زَعَمَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّهُ يَجُوزُ مُطْلَقًا، وَأَنَّ ذَلِكَ دَلَّتْ عَلَيْهِ آيَتَانِ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ.
إِحْدَاهُمَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} .
وَالثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَآ أَصَابَكُمْ مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} بِحَذْفِ الْفَاءِ فِي قِرَاءَةِ نَافِعٍ وَابْنِ عَامِرٍ مِنَ السَّبْعَةِ خِلَافُ التَّحْقِيقِ.
بَلِ الْمُسَوِّغُ لِحَذْفِ الْفَاءِ فِي آيَةِ: {إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} تَقْدِيرُ الْقَسَمِ الْمَحْذُوفِ قَبْلَ الشَّرْطِ الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ بِحَذْفِ الْفَاءِ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ فِي الْخُلَاصَةِ:(2/383)
وَاحْذِفْ لَدَى اجْتِمَاعِ شَرْطٍ وَقَسَمٍ ... جَوَابَ مَا أَحْرَتْ فَهُوَ مُلْتَزَمْ
وَعَلَيْهِ: فَجُمْلَةُ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ جَوَابُ الْقَسَمِ الْمُقَدَّرِ، وَجَوَابُ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ فَلَا دَلِيل فِي الْآيَة لحذف الْفَاء الْمَذْكُور.
وَالْمُسَوِّغُ لَهُ فِي آيَةِ {بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُم} أَنَّ مَا فِي قِرَاءَةِ نَافِعٍ وَابْنِ عَامِرٍ مَوْصُولَةٌ كَمَا جَزَمَ بِهِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْمُحَقِّقِينَ، أَيْ وَالَّذِي أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ كَائِنٌ وَوَاقِعٌ بِسَبَبِ مَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ.
وَأَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ: فَمَا مَوْصُولَةٌ أَيْضًا، وَدُخُولُ الْفَاءِ فِي خَبَرِ الْمَوْصُولِ جَائِزٌ كَمَا أَنَّ عَدَمَهُ جَائِزٌ فَكِلْتَا الْقِرَاءَتَيْنِ جَارِيَةٌ عَلَى أَمْرٍ جَائِزٍ.
وَمِثَالُ دُخُولِ الْفَاءِ فِي خَبَرِ الْمَوْصُولِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِالَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُم عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} وَهُوَ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ مَا فِي قراء الْجُمْهُورِ شَرْطِيَّةٌ، وَعَلَيْهِ فَاقْتِرَانُ الْجَزَاءِ بِالْفَاءِ وَاجِبٌ أَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ نَافِعٍ وَابْنِ عَامِرٍ، فَهِيَ مَوْصُولَةٌ لَيْسَ إِلَّا كَمَا هُوَ التَّحْقِيقُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
وَكَوْنُ مَا شَرْطِيَّةً عَلَى قِرَاءَةٍ وَمَوْصُولَةً عَلَى قِرَاءَةٍ لَا إِشْكَالَ فِيهِ. لِمَا قَدَّمْنَا مِنْ أَنَّ الْقِرَاءَتَيْنِ فِي الْآيَةِ الْوَاحِدَةِ كَالْآيَتَيْنِ.
وَمِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى نَحْوِ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ آيَةُ الْأَنْعَامِ الْمَذْكُورَةُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ} ، فَصَرَّحَ بِتَوَلِّيهِمْ لِلشَّيْطَانِ أَيْ بِاتِّبَاعِ مَا يُزَيِّنُ لَهُمْ مِنَ الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي مُخَالِفًا لِمَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ، ثُمَّ صَرَّحَ بِأَنَّ ذَلِكَ إِشْرَاكٌ بِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ} وَصَرَّحَ أَنَّ الطَّاعَةَ فِي ذَلِكَ الَّذِي يُشَرِّعُهُ الشَّيْطَانُ لَهُمْ وَيُزَيِّنُهُ عِبَادَةٌ لِلشَّيْطَانِ.
وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَنْ عَبَدَ الشَّيْطَانَ فَقَدْ أَشْرَكَ بِالرَّحْمَنِ قَالَ تَعَالَى: {أَلَمْ أَعْهَدْ(2/384)
إِلَيْكُمْ يابَنِى آدَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ الشَّيطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ وَأَنِ اعْبُدُونِى هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً} ، وَيدخل فيهم متبعوا نِظَامِ الشَّيْطَانِ دُخُولًا أَوْلِيَاءُ {أَفَلَمْ تَكُونُواْ تَعْقِلُونَ} .
ثُمَّ بَيَّنَ الْمَصِيرَ الْأَخِيرَ لِمَنْ كَانَ يَعْبُدُ الشَّيْطَانَ فِي دَارِ الدُّنْيَا، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِى كُنتُمْ تُوعَدُونَ اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَآ أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: عَن نبيه إِبْرَاهِيم {ياأَبَتِ لاَ تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرحمن عَصِيّاً} فَقَوْلُهُ: لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ: أَيْ بِاتِّبَاعِ مَا يُشَرِّعُهُ مِنَ الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي، مُخَالِفًا لِمَا شَرَعَهُ اللَّهُ.
وَقَالَ تَعَالَى: {إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثاً وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَاناً مَّرِيداً} فَقَوْلُهُ: {وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَاناً} يَعْنِي مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهؤلاء إِيَّاكُمْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ قَالُواْ سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِمْ بَلْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ} .
فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {بَلْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ الْجِنَّ} أَيْ يَتَّبِعُونَ الشَّيَاطِينَ وَيُطِيعُونَهُمْ فِيمَا يُشَرِّعُونَ وَيُزَيِّنُونَ لَهُمْ، مِنَ الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي عَلَى أَصَحِّ التَّفْسِيرَيْنِ.
وَالشَّيْطَانُ عَالِمٌ بِأَنَّ طَاعَتَهُمْ لَهُ الْمَذْكُورَةَ إِشْرَاكٌ بِهِ كَمَا صَرَّحَ بِذَلِكَ وَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ فِي الْآخِرَةِ، كَمَا نَصَّ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ فِي قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِىَ الأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ} إِلَى قَوْلِهِ: {إِنِّى كَفَرْتُ بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ} فَقَدِ اعْتَرَفَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُشْرِكِينَ بِهِ مِنْ قَبْلُ أَيْ فِي دَارِ الدُّنْيَا، وَلَمْ يَكْفُرْ بِشِرْكِهِمْ ذَلِكَ إِلَّا يَوْم الْقِيَامَة.(2/385)
وَقَدْ أَوْضَحَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا الْمَعْنى الَّذِي بَيْننَا فِي الْحَدِيثِ لَمَّا سَأَلَهُ عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ قَوْلِهِ: {اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً} كَيْفَ اتَّخَذُوهُمْ أَرْبَابًا؟ وَأَجَابَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِنَّهُمْ أَحَلُّوا لَهُمْ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَحَرَّمُوا عَلَيْهِمْ مَا أَحَلَّ اللَّهُ فَاتَّبَعُوهُمْ، وَبِذَلِكَ الِاتِّبَاعِ اتَّخَذُوهُمْ أَرْبَابًا» (1) .
وَمِنْ أَصْرَحِ الْأَدِلَّةِ فِي هَذَا أَنَّ الْكُفَّارَ إِذَا أَحَلُّوا شَيْئًا، يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُ وَحَرَّمُوا شَيْئًا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ أَحَلَّهُ، فَإِنَّهُمْ يَزْدَادُونَ كُفْرًا جَدِيدًا بِذَلِكَ، مَعَ كُفْرِهِمُ الْأَوَّلِ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا النَّسِىءُ زِيَادَةٌ فِى الْكُفْرِ} إِلَى قَوْلِهِ: {وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} .
وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَلَا شَكَّ أَنَّ كُلَّ مَنْ أَطَاعَ غَيْرَ اللَّهِ، فِي تَشْرِيعٍ مُخَالِفٍ لِمَا شَرَعَهُ اللَّهُ، فَقَدْ أَشْرَكَ بِهِ مَعَ اللَّهِ كَمَا يَدُلُّ لِذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَكَذلك زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَآؤُهُمْ} فَسَمَّاهُمْ شُرَكَاءَ لَمَّا أَطَاعُوهُمْ فِي قَتْلِ الْأَوْلَادِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُواْ لَهُمْ مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ} فَقَدْ سَمَّى تَعَالَى الَّذِينَ يُشَرِّعُونَ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ شُرَكَاءَ، وَمِمَّا يَزِيدُ ذَلِكَ إِيضَاحًا، أَنَّ مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ عَنِ الشَّيْطَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، مِنْ أَنَّهُ يَقُولُ لِلَّذِينِ كَانُوا يُشْرِكُونَ بِهِ فِي دَارِ الدُّنْيَا، إِنِّي كفرت بِمَا أشركتمون مِنْ قَبْلُ، أَنَّ ذَلِكَ الْإِشْرَاكَ الْمَذْكُورَ لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ زَائِدٌ عَلَى أَنَّهُ دَعَاهُمْ إِلَى طَاعَتِهِ فَاسْتَجَابُوا لَهُ كَمَا صَرَّحَ بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى عَنْهُ: {وَمَا كَانَ لِىَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِى} ، وَهُوَ وَاضح كَمَا ترى.] (2) .
_________
(1) - سبق تَخْرِيجه آنِفا.
(2) - 7/162: 173، الشورى/10.(2/386)
- وَقْفَة مَعَ آيَات الْمَائِدَة وَبَيَان حكم من لم يحكم بِمَا أنزل الله.
[قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ فَأولئك هُمُ الْكَافِرُونَ} .
اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: هَلْ هِيَ فِي الْمُسْلِمِينَ، أَوْ فِي الْكُفَّارِ، فَرُوِيَ عَنِ الشَّعْبِيِّ أَنَّهَا فِي الْمُسْلِمِينَ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهَا فِي الْيَهُودِ، وَرُوِيَ عَنْ طَاوُسٍ أَيْضًا أَنَّهَا فِي الْمُسْلِمِينَ، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِالْكُفْرِ فِيهَا كُفْرٌ دُونَ كُفْرٍ، وَأَنَّهُ لَيْسَ الْكُفْرَ الْمُخْرِجَ مِنَ الْمِلَّةِ، وروِي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ قَالَ: لَيْسَ الْكُفْرَ الَّذِي تَذْهَبُونَ إِلَيْهِ (1) ، رَوَاهُ عَنْهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ وَقَالَ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ، وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ، قَالَهُ ابْنُ كَثِيرٍ.
قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: وَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا فِي الْيَهُودِ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ فِيمَا قَبْلَهَا أَنَّهُمْ {يُحَرّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَواضِعِهِ} ، وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ {إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا} يَعْنِي الْحُكْمَ الْمُحَرَّفَ الَّذِي هُوَ غَيْرُ حُكْمِ اللَّهِ {فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ} أَيِ الْمُحَرَّفَ، بَلْ أُوتِيتُمْ حُكْمَ اللَّهِ الْحَقَّ {فَاحْذَرُواْ} فَهُمْ يَأْمُرُونَ بِالْحَذَرِ مِنْ حُكْمِ اللَّهِ الَّذِي يَعْلَمُونَ أَنَّهُ حَقٌّ.
وَقَدْ قَالَ تَعَالَى بَعْدَهَا {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَآ أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْكَلَامَ فِيهِمْ، وَمِمَّنْ قَالَ بِأَنَّ الْآيَةَ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ مَا ذَكَرَ الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ، وَحُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَأَبُو مِجْلَزٍ، وَأَبُو رَجَاءٍ الْعُطَارِدِيُّ، وَعِكْرِمَةُ وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَغَيْرُهُمْ، وَزَادَ الْحَسَنُ، وَهِيَ عَلَيْنَا وَاجِبَةٌ نَقَلَهُ عَنْهُمُ ابْنُ كَثِيرٍ، وَنَقَلَ نَحْو
_________
(1) - أخرجه الْحَاكِم (2/342) (3219) ، وَصَححهُ على شَرطهمَا، وَوَافَقَهُ الذَّهَبِيّ، وَأخرجه الْبَيْهَقِيّ (8/20) ، والْحَدِيث صَححهُ الشَّيْخ الألباني - رَحمَه الله - فِي تَحْقِيق الْإِيمَان لشيخ الْإِسْلَام (ص/114) .(2/387)
قَوْلِ الْحَسَنِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ.
وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ فَأولئك هُمُ الْكَافِرُونَ} وَ {الظَّالِمُونَ} وَ {الْفَاسِقُونَ} نَزَلَتْ كُلُّهَا فِي الْكُفَّارِ، ثَبَتَ ذَلِكَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ الْبَرَاءِ (1) ، وَقَدْ تَقَدَّمَ وَعَلَى هَذَا الْمُعْظَمِ، فَأَمَّا الْمُسْلِمُ فَلَا يَكْفُرُ وَإِنِ ارْتَكَبَ كَبِيرَةً، وَقِيلَ فِيهِ إِضْمَارٌ، أَيْ {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ} رَدًّا لِلْقُرْآنِ وَجَحْدًا لِقَوْلِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ كَافِرٌ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ.
فَالْآيَةُ عَامَّةٌ عَلَى هَذَا قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَالْحَسَنُ: هِيَ عَامَّةٌ فِي كُلِّ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْيَهُودِ وَالْكُفَّارِ، أَيْ مُعْتَقِدًا ذَلِكَ وَمُسْتَحِلًّا لَهُ.
فَأَمَّا مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ، وَهُوَ مُعْتَقِدٌ أَنَّهُ مُرْتَكِبُ محرمٍ فَهُوَ مِنْ فُسَّاقِ الْمُسْلِمِينَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى إِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ، وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةٍ: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ} فَقَدْ فَعَلَ فِعْلًا يُضَاهِي أَفْعَالَ الْكُفَّارِ.
وَقِيلَ: أَيْ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِجَمِيعِ مَا أَنْزَلَ فَهُوَ كَافِرٌ فَأَمَّا مَنْ حَكَمَ بِالتَّوْحِيدِ، وَلَمْ يَحْكُمْ بِبَعْضِ الشَّرَائِعِ فَلَا يَدْخُلُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ إِلَّا أَنَّ الشَّعْبِيَّ قَالَ: هِيَ فِي الْيَهُودِ خَاصَّةً، وَاخْتَارَهُ النَّحَّاسُ قَالَ: وَيدل على ذَلِك ثَلَاثَة أَشْيَاء. مِنْهُمَا أَنَّ الْيَهُودَ ذَكَرُوا قَبْلَ هَذَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {لِلَّذِينَ هَادُواْ} فَعَادَ الضَّمِيرُ عَلَيْهِمْ.
وَمِنْهَا أَنَّ سِيَاقَ الْكَلَامِ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ. أَلَا تَرَى أَنَّ بَعْدَهُ {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ} ، فَهَذَا الضَّمِيرُ لِلْيَهُودِ بِإِجْمَاعٍ، وَأَيْضًا فَإِنَّ الْيَهُودَ هُمُ الَّذِينَ أَنْكَرُوا
_________
(1) - أخرجه مُسلم فِي " صَحِيحه " (3/1327) (1700) .(2/388)
الرَّجْمَ وَالْقِصَاصَ، فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ «مَنْ» إِذَا كَانَتْ لِلْمُجَازَاةِ فَهِيَ عَامَّةٌ إِلَّا أَنْ يَقَعَ دَلِيلٌ عَلَى تَخْصِيصِهَا قِيلَ لَهُ: «مَنْ» هُنَا بِمَعْنَى الَّذِي، مَعَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْأَدِلَّةِ وَالتَّقْرِيرِ، وَالْيَهُودُ الَّذِينَ لَمْ يَحْكُمُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ، فَهَذَا مِنْ أَحْسَنِ مَا قِيلَ فِي هَذَا.
وَيُرْوَى أَنَّ حُذَيْفَةَ سُئِلَ عَنْ هَذِهِ الْآيَاتِ، أَهِيَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَقَالَ: نَعَمْ هِيَ فِيهِمْ، وَلَتَسْلُكُنَّ سَبِيلَهُمْ حَذْو النَّعْل بالنعل، وَقيل: {الْكَافِرُونَ} للْمُسلمين، و {الظَّالِمُونَ} للْيَهُود و {الْفَاسِقُونَ} لِلنَّصَارَى، وَهَذَا اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرِ بْنِ الْعَرَبِيِّ، قَالَ: لِأَنَّهُ ظَاهِرُ الْآيَاتِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ، وَابْنِ أَبِي زَائِدَةَ، وَابْنِ شُبْرُمَةَ وَالشَّعْبِيِّ أَيْضًا. قَالَ طَاوُسٌ وَغَيْرُهُ: لَيْسَ بِكُفْرٍ يَنْقُلُ عَنِ الْمِلَّةِ، وَلَكِنَّهُ كُفْرٌ دُونَ كُفْرٍ.
وَهَذَا يَخْتَلِفُ إِنْ حَكَمَ بِمَا عِنْدَهُ عَلَى أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَهُوَ تَبْدِيلٌ لَهُ يُوجِبُ الْكُفْرَ. وَإِنْ حَكَمَ بِهِ هَوًى وَمَعْصِيَةً فَهُوَ ذَنْبٌ تُدْرِكُهُ الْمَغْفِرَةُ عَلَى أَصْلِ أَهْلِ السُّنَّةِ فِي الْغُفْرَانِ لِلْمُذْنِبِينَ. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: وَمَذْهَبُ الْخَوَارِجِ أَنَّ مَنِ ارْتَشَى، وَحَكَمَ بِحُكْمِ غَيْرِ اللَّهِ فَهُوَ كَافِرٌ، وَعَزَا هَذَا إِلَى الْحَسَنِ وَالسُّدِّيِّ، وَقَالَ الْحَسَنُ أَيْضًا: أَخَذَ اللَّهُ عَلَى الْحُكَّامِ ثَلَاثَةَ أَشْيَاءَ: أَلَّا يَتَّبِعُوا الْهَوَى، وَأَلَّا يَخْشَوُا النَّاسَ وَيَخْشَوْهُ، وَأَلَّا يَشْتَرُوا بِآيَاتِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا، انْتَهَى كَلَامُ الْقُرْطُبِيِّ.
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: الظَّاهِرُ الْمُتَبَادِرُ مِنْ سِيَاقِ الْآيَات أَن آيَة {هُمُ الْكَافِرُونَ} نَازِلَةٌ فِي الْمُسْلِمِينَ، لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ قَبْلَهَا مُخَاطِبًا لِمُسْلِمِي هَذِهِ الأُمة {فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً} ، ثُمَّ قَالَ: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ فَأولئك هُمُ الْكَافِرُونَ} فَالْخِطَابُ لِلْمُسْلِمِينَ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ مُتَبَادِرٌ مِنْ سِيَاقِ الْآيَةِ، وَعَلَيْهِ فَالْكُفْرُ إِمَّا كُفْرٌ دُونَ كَفْرٍ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ فَعَلَ ذَلِكَ مُسْتَحِلًّا لَهُ، أَوْ قَاصِدًا بِهِ جَحْدَ أَحْكَامِ اللَّهِ(2/389)
وَرَدِّهَا مَعَ الْعِلْمِ بِهَا.
أَمَّا مَنْ حَكَمَ بِغَيْرِ حُكْمِ اللَّهِ، وَهُوَ عَالِمٌ أَنَّهُ مُرْتَكِبٌ ذَنْبًا فَاعِلٌ قَبِيحًا، وَإِنَّمَا حَمَلَهُ عَلَى ذَلِكَ الْهَوَى فَهُوَ مِنْ سَائِرِ عُصَاةِ الْمُسْلِمِينَ، وَسِيَاقُ الْقُرْآنِ ظَاهِرٌ أَيْضًا فِي أَنَّ آيَةَ {فَأولئك هُمُ الظَّالِمُونَ} فِي الْيَهُودِ لِأَنَّهُ قَالَ قَبْلَهَا: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَآ أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنْفَ بِالأَنْفِ وَالاٍّذُنَ بِالاٍّذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أنزَلَ اللَّهُ فَأولئك هُمُ الظَّالِمُونَ} .
فَالْخِطَابُ لَهُمْ لِوُضُوحِ دَلَالَةِ السِّيَاقِ عَلَيْهِ كَمَا أَنَّهُ ظَاهِرٌ أَيْضًا فِي أَن آيَة {فَأولئك هُمُ الْفَاسِقُون} .
وَاعْلَمْ أَنَّ تَحْرِيرَ الْمَقَامِ فِي هَذَا الْبَحْثِ أَنَّ الْكُفْرَ وَالظُّلْمَ وَالْفِسْقَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا رُبَّمَا أُطْلِقَ فِي الشَّرْعِ مُرَادًا بِهِ الْمَعْصِيَةُ تَارَةً، وَالْكُفْرَ الْمُخْرِجَ مِنَ الْمِلَّةِ أُخْرَى {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ} مُعَارَضَةً للرُّسل وَإِبْطَالًا لِأَحْكَامِ اللَّهِ فَظُلْمُهُ وَفِسْقُهُ وَكُفْرُهُ كُلُّهَا كُفْرٌ مُخْرِجٌ عَنِ الْمِلَّةِ، {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ} مُعْتَقِدًا أَنَّهُ مُرْتَكِبٌ حَرَامًا فَاعِلٌ قَبِيحًا فَكُفْرُهُ وَظُلْمُهُ وَفِسْقُهُ غَيْرُ مُخْرِجٍ عَنِ الْمِلَّةِ، وَقَدْ عَرَفْتَ أَنَّ ظَاهِرَ الْقُرْآنِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأُولَى فِي الْمُسْلِمِينَ، وَالثَّانِيَةَ فِي الْيَهُودِ، وَالثَّالِثَةَ فِي النَّصَارَى، وَالْعِبْرَةُ بِعُمُومِ الْأَلْفَاظِ لَا بِخُصُوصِ الْأَسْبَابِ، وَتَحْقِيقُ أَحْكَامِ الْكُلِّ هُوَ مَا رَأَيْتَ، وَالْعِلْمُ عِنْد الله تَعَالَى.] (1) .
وَقَالَ أَيْضا - رَحمَه الله -: [قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ فَأولئك هُمُ الْفَاسِقُونَ} قَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ فِي النَّصَارَى، وَالَّتِي قَبْلَهَا فِي الْيَهُودِ، وَالَّتِي قَبْلَ تِلْكَ فِي الْمُسْلِمِينَ، كَمَا يَقْتَضِيهِ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ.
وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ الْكُفْرَ، وَالظُّلْمَ، وَالْفِسْقَ كُلَّهَا يُطْلَقُ عَلَى الْمَعْصِيَةِ بِمَا دون
_________
(1) - 2/90: 93، الْمَائِدَة / 44: 47.(2/390)
الْكُفْرِ، وَعَلَى الْكُفْرِ المخْرج مِنَ الْمِلَّةِ نَفْسِهِ.
فَمِنَ الْكُفْرِ بِمَعْنَى الْمَعْصِيَةِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا سَأَلَتْهُ الْمَرْأَةُ عَنْ سَبَبِ كَوْنِ النِّسَاءِ أَكْثَرَ أَهْلِ النَّارِ، إِنَّ ذَلِكَ وَاقِعٌ بِسَبَبِ كُفْرِهِنَّ، ثُمَّ فَسَّرَهُ بِأَنَّهُنَّ " يَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ " (1) ، وَمِنَ الْكُفْرِ بِمَعْنَى الْمُخْرِجِ عَنِ الْمِلَّةِ، قَوْله تَعَالَى: {قُلْ ياأَيُّهَا الْكَافِرُونَ لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} .
وَمِنَ الظُّلْمِ بِمَعْنَى الْكُفْرِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} ، وَقَوْلِهِ: {وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِّنَ الظَّالِمِينَ} ، وَقَوْلُهُ: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} ، وَمِنْهُ بِمَعْنَى الْمَعْصِيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ} .
وَمِنَ الْفِسْقِ بِمَعْنَى الْكُفْرِ قَوْلُهُ: {وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُواْ فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَآ أَرَادُواْ أَن يَخْرُجُواُ مِنْهَآ أُعِيدُواْ فِيهَا} ، وَمِنْهُ بِمَعْنَى الْمَعْصِيَةِ قَوْلُهُ فِي الَّذِينَ قَذَفُوا عَائِشَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: {وَلاَ تَقْبَلُواْ لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأولئك هُمُ الْفَاسِقُونَ} . وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْقَذْفَ لَيْسَ بِمُخْرِجٍ عَنِ الْمِلَّةِ، وَيَدُلُّ لَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ جَآءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنْكُمْ} ، وَمِنَ الفِسق بِمَعْنَى الْمَعْصِيَةِ أَيْضًا، قَوْلُهُ فِي الْوَلِيد بن عقبَة: {ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِن جَآءَكُمْ فَاسِقُ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُواْ} .
وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ الْأَلْفَاظِ لَا بِخُصُوصِ الْأَسْبَابِ، فَمَنْ كَانَ امْتِنَاعُهُ مِنَ الْحُكْمِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ، لِقَصْدِ مُعَارَضَتِهِ وَرَدِّهِ، وَالِامْتِنَاعِ مِنِ الْتِزَامِهِ، فَهُوَ كَافِرٌ ظَالِمٌ فَاسِقٌ كُلُّهَا بِمَعْنَاهَا الْمُخْرِجِ مِنَ الْمِلَّةِ، وَمَنْ كَانَ امْتِنَاعُهُ مِنَ الْحُكْمِ لِهَوًى، وَهُوَ يَعْتَقِدُ قُبْحَ فِعْلِهِ، فَكُفْرُهُ وَظُلْمُهُ وَفِسْقُهُ غَيْرُ الْمُخْرِجِ مِنَ الْمِلَّةِ، إِلَّا إِذَا كَانَ مَا امْتَنَعَ مِنَ الْحُكْمِ بِهِ شَرْطًا فِي صِحَّةِ إِيمَانِهِ، كَالِامْتِنَاعِ مِنِ اعْتِقَادِ مَا لَا بُدَّ مِنِ اعْتِقَادِهِ، هَذَا هُوَ الظَّاهِر فِي الْآيَات
_________
(1) أخرجه الْبُخَارِيُّ (1/19) (29) مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.(2/391)
الْمَذْكُورَةِ، كَمَا قَدَّمْنَا وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.] (1) .
- تَنْبِيه: يجب التنبه إِلَى الْفرق بَين النظام الشَّرْعِيّ، والنظام الإداري فِي الحاكمية.
[اعْلَمْ أَنَّهُ يَجِبُ التَّفْصِيلُ بَيْنَ النِّظَامِ الْوَضْعِيِّ الَّذِي يقتضى تحكيمه الْكفْر بخالق السَّمَوَات وَالْأَرْضِ، وَبَيْنَ النِّظَامِ الَّذِي لَا يَقْتَضِي ذَلِكَ.
وَإِيضَاحُ ذَلِكَ أَنَّ النِّظَامَ قِسْمَانِ: إِدَارِيٌّ، وَشَرْعِيٌّ. أَمَّا الْإِدَارِيُّ الَّذِي يُرَادُ بِهِ ضَبْطُ الْأُمُورِ وَإِتْقَانُهَا عَلَى وَجْهٍ غَيْرِ مُخَالِفٍ لِلشَّرْعِ، فَهَذَا لَا مَانِعَ مِنْهُ، وَلَا مُخَالِفَ فِيهِ مِنَ الصَّحَابَةِ، فَمَنْ بَعْدَهُمْ. وَقَدْ عَمِلَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ ذَلِكَ أَشْيَاءَ كَثِيرَةً مَا كَانَتْ فِي زَمَنِ النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَكَتْبِهِ أَسْمَاءَ الْجُنْدِ فِي دِيوَانٍ لِأَجْلِ الضَّبْطِ، وَمَعْرِفَةِ مَنْ غَابَ وَمَنْ حَضَرَ كَمَا قَدَّمْنَا إِيضَاحَ الْمَقْصُودِ مِنْهُ فِي سُورَةِ «بَنِي إِسْرَائِيلَ» فِي الْكَلَامِ عَلَى الْعَاقِلَةِ الَّتِي تَحْمِلُ دِيَةَ الْخَطَأِ، مَعَ أَنَّ النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ، وَلَمْ يَعْلَمْ بِتَخَلُّفِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ إِلَّا بَعْدَ أَنْ وَصَلَ تَبُوكَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَكَاشْتِرَائِهِ أَعْنِي عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ دَارَ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ وَجَعْلِهِ إِيَّاهَا سِجْنًا فِي مَكَّةَ الْمُكَرَّمَةِ، مَعَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَتَّخِذْ سِجْنًا هُوَ وَلَا أَبُو بَكْرٍ. فَمِثْلُ هَذَا مِنَ الْأُمُورِ الْإِدَارِيَّةِ الَّتِي تُفْعَلُ لِإِتْقَانِ الْأُمُورِ مِمَّا لَا يُخَالف الشَّرْع لَا بَأْس بِهِ. كتنظيم شؤون الْمُوَظَّفِينَ، وَتَنْظِيمِ إِدَارَةِ الْأَعْمَالِ عَلَى وَجْهٍ لَا يُخَالِفُ الشَّرْعَ. فَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الْأَنْظِمَةِ الْوَضْعِيَّةِ لَا بَأْسَ بِهِ، وَلَا يَخْرُجُ عَنْ قَوَاعِدِ الشَّرْعِ مِنْ مُرَاعَاةِ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ.
وَأَمَّا النِّظَامُ الشَّرْعِيّ الْمُخَالف لتشريع خالقي السَّمَوَات وَالْأَرْض فتحكيمه كفر بخالق السَّمَوَات وَالْأَرْضِ. كَدَعْوَى أَنَّ تَفْضِيلَ الذَّكَرِ عَلَى الْأُنْثَى فِي الْمِيرَاثِ لَيْسَ بِإِنْصَافٍ، وَأَنَّهُمَا يَلْزَمُ اسْتِوَاؤُهُمَا فِي الْمِيرَاث.
_________
(1) - 2/97، الْمَائِدَة / 47، وَانْظُر أَيْضا (1/364 - 365) (النِّسَاء/117) ، (3/400، 401) (بني إِسْرَائِيل / 9) .(2/392)
وَكَدَعْوَى أَنَّ تَعَدُّدَ الزَّوْجَاتِ ظُلْمٌ، وَأَنَّ الطَّلَاقَ ظُلْمٌ لِلْمَرْأَةِ، وَأَنَّ الرَّجْمَ وَالْقَطْعَ وَنَحْوَهُمَا أَعْمَالٌ وَحْشِيَّةٌ لَا يَسُوغُ فِعْلُهَا بِالْإِنْسَانِ، وَنَحْوَ ذَلِكَ.
فَتَحْكِيمُ هَذَا النَّوْعِ مِنَ النِّظَامِ فِي أَنْفُسِ الْمُجْتَمَعِ وَأَمْوَالِهِمْ وَأَعْرَاضِهِمْ وَأَنْسَابِهِمْ وَعُقُولِهِمْ وَأَدْيَانِهِمْ كُفْرٌ بخالق السَّمَوَات وَالْأَرْضِ، وَتَمَرُّدٌ عَلَى نِظَامِ السَّمَاءِ الَّذِي وَضَعَهُ مَنْ خَلَقَ الْخَلَائِقَ كُلَّهَا وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَصَالِحِهَا سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْ أَنْ يَكُونَ مَعَهُ مُشَرِّعٌ آخَرُ عُلُوًّا كَبِيرًا {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُواْ لَهُمْ مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ} ، {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّآ أَنزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِّنْهُ حَرَامًا وَحَلاَلاً قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} ، {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهذا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ} وَقَدْ قَدَّمْنَا جُمْلَةً وَافِيَةً مِنْ هَذَا النَّوْعِ فِي سُورَةِ «بَنِي إِسْرَائِيلَ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِى لِلَّتِى هِىَ أَقْوَمُ} .] (1) .
باب الْإِيمَان بِالْمَلَائِكَةِ
فصل - مَلَائِكَة الصعُود بالأرواح:
قَالَ صَاحب التَّتِمَّة - رَحمَه الله -: [قَالَ أَبُو حَيَّان فِي كَلَامه على الْمَلَائِكَة الَّتِي ترقى بِروح العَبْد: اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ مَلَائِكَةً لِلْمُشْرِكِينَ وَهُمْ مَلَائِكَةُ الْعَذَابِ، وَمَلَائِكَةً لِلْمُؤْمِنِينَ، وَهُمْ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ. وَلَا يَسْتَكْرِهُ فَرِيقٌ مِنْهُمَا أَنْ يَصْعَدَ بِمَا تَخَصَّصَ لَهُ، بَلْ قَدْ لَا يَسْمَحُ لِلْآخَرِ بِمَا يَخُصُّهُ.
كَمَا فِي حَدِيثِ الَّذِي قَتَلَ مِائَةَ نفس (2) ، وأدركته الْوَفَاة فِي منتصف
_________
(1) - 4/92 - 93، الْكَهْف / 26.
(2) - أخرجه مُسلم (4/2118) (2766) مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.(2/393)
الطَّرِيقِ، فَحَضَرَتْهُ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ وَمَلَائِكَةُ الْعَذَابِ يَخْتَصِمُونَ أَيُّهُمْ يَصْعَدُ بِرُوحِهِ، كُلٌّ يُرِيدُ أَنْ يَتَوَلَّى قَبْضَ رُوحِهِ أُولَئِكَ يَقُولُونَ: إِنَّهُ قَتَلَ مِائَةَ نَفْسٍ وَلَمْ يَعْمَلْ خَيْرًا قَطُّ، وَأُولَئِكَ يَقُولُونَ: إِنَّه خرج تَائِبًا إِلَى الله تَعَالَى.] (1) .
فصل - الْحفظَة، وَمَا تكْتب.
[قَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: {مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ} . أَيْ مَا يَنْطِقُ بِنُطْقٍ وَلَا يَتَكَلَّمُ بِكَلَامٍ إِلَّا لَدَيْهِ، أَيْ إِلَّا وَالْحَالُ أَنَّ عِنْدَهُ رَقِيبًا. أَيْ مَلَكًا مُرَاقِبًا لِأَعْمَالِهِ حَافِظًا لَهَا شَاهِدًا عَلَيْهَا لَا يَفُوتُهُ مِنْهَا شَيْءٌ. عَتِيدٌ: أَيْ حَاضِرٌ لَيْسَ بِغَائِبٍ يَكْتُبُ عَلَيْهِ مَا يَقُولُ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ، وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ أَنَّ الْإِنْسَانَ عَلَيْهِ حَفَظَةٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ يَكْتُبُونَ أَعْمَالَهُ، جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ. كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَاماً كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} . وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لاَ نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} . وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ إِنَّ كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}
وَقَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لِهَذَا فِي سُورَةِ مَرْيَمَ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى {كَلاَّ سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ} .
وَفِي سُورَةِ الزُّخْرُفِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْألُونَ} ، وَقَدْ ذَكَرَ جَمَاعَةٌ مِنْ أهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ الْقَعِيدَ الَّذِي هُوَ عَنِ الْيَمِينِ يَكْتُبُ الْحَسَنَاتِ، وَالَّذِي عَنِ الشِّمَالِ يَكْتُبُ السَّيِّئَاتِ، وَأَنَّ صَاحِبَ الْحَسَنَاتِ أَمِينٌ عَلَى صَاحِبِ السَّيِّئَاتِ، فَإِذَا عَمِلَ حَسَنَةً كَتَبَهَا صَاحِبُ الْيَمِينِ عَشْرًا، وَإِذَا عَمِلَ سَيِّئَةً قَالَ صَاحِبُ الْيَمِينِ لِصَاحِبِ الشِّمَالِ: أَمْهِلْهُ وَلَا تَكْتُبْهَا عَلَيْهِ لَعَلَّهُ يَتُوبُ أَوْ يَسْتَغْفِرُ؟ وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: يُمْهِلُهُ سبع
_________
(1) - 8/641 - 642، الْقِيَامَة / 26: 30.(2/394)
سَاعَات (1) . وَالْعلم عِنْد الله تَعَالَى.] (2) .
- هَل تكْتب الْحفظَة مَا لَا ثَوَاب فِيهِ، وَلَا عِقَاب.
[تَنْبِيهٌ: اعْلَمْ أَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي عَمَلِ الْعَبْدِ الْجَائِزِ الَّذِي لَا ثَوَابَ وَلَا عِقَابَ عَلَيْهِ، هَل تكتبه الْحفظَة عَلَيْهِ أَولا؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَكْتُبُ عَلَيْهِ كُلُّ شَيْءٍ حَتَّى الْأَنِينَ فِي الْمَرَضِ، وَهَذَا هُوَ ظَاهِرُ قَوْلِهِ: {مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: مِنْ قَوْلٍ نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ زِيدَتْ قَبْلَهَا لَفْظَةُ مِنْ، فَهِيَ نَصٌّ صَرِيحٌ فِي الْعُمُومِ.
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: لَا يُكْتَبُ مِنَ الْأَعْمَالِ إِلَّا مَا فِيهِ ثَوَابٌ أَوْ عِقَابٌ، وَكُلُّهُمْ مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا جَزَاءَ إِلَّا فِيمَا فِيهِ ثَوَابٌ أَوْ عِقَابٌ فَالَّذِينَ يَقُولُونَ: لَا يَكْتُبُ إِلَّا مَا فِيهِ ثَوَابٌ أَوْ عِقَابٌ، وَالَّذِينَ يَقُولُونَ يَكْتُبُ الْجَمِيعَ مُتَّفِقُونَ عَلَى إِسْقَاطِ مَا لَا ثَوَابَ فِيهِ وَلَا عِقَابَ، إِلَّا أَنَّ بَعْضَهُمْ يَقُولُونَ لَا يُكْتَبُ أَصْلًا، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُونَ: يُكْتَبُ أَوَّلًا ثُمَّ يُمْحَى. وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ مَحْوَ ذَلِكَ، وَإِثْبَاتَ مَا فِيهِ ثَوَابٌ أَوْ عِقَابٌ هُوَ معنى قَوْله تَعَالَى: {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَآءُ وَيُثْبِتُ} .
وَالَّذِينَ قَالُوا: لَا يُكْتَبُ مَا لَا جَزَاءَ فِيهِ. قَالُوا: إِنَّ فِي الْآيَةِ نَعْتًا مَحْذُوفًا سوَّغ حَذْفَهُ الْعِلْمُ بِهِ، لِأَنَّ كُلَّ النَّاسِ يَعْلَمُونَ أَنَّ الْجَائِزَ لَا ثَوَابَ فِيهِ وَلَا
_________
(1) - روى الطَّبَرَانِيّ (8/191) (7787) ، (8/247) (7971) عَن أبي أُمَامَة: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {صَاحب الْيَمين أَمِين على صَاحب الشمَال فَإِذا عمل العَبْد حَسَنَة كتبهَا بِعشر أَمْثَالهَا وَإِذا عمل سَيِّئَة وَأَرَادَ صَاحب الشمَال أَن يَكْتُبهَا قَالَ لصَاحب الْيَمين أمسك عَنْهَا فَيمسك عَنْهَا فَإِن اسْتغْفر الله لم يكْتب وَإِن سكت كتبت عَلَيْهِ} ، والْحَدِيث قَالَ عَنهُ الشَّيْخ الألباني - رَحمَه الله - فِي الضعيفة (2237) : مَوْضُوع.
(2) - 7/648: 651، ق/ 17 - 18، وَانْظُر أَيْضا (2/179) (الْأَنْعَام/61) ، (7/729، 730) (الْقَمَر / 52 - 53) ، (9/83 - 84) (الانفطار / 10: 12) .(2/395)
عِقَابَ، وَتَقْدِيرُ النَّعْتِ الْمَحْذُوفِ، مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ مُسْتَوْجِبٍ لِلْجَزَاءِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ حَذْفَ النَّعْتِ إِذَا دُلَّ عَلَيْهِ أُسْلُوبٌ عَرَبِيٌّ مَعْرُوفٌ] (1) .
- المفاضلة بَين الْمَلَائِكَة وصالحي الْبشر.
وَقَالَ صَاحب التَّتِمَّة - رَحمَه الله -: [ {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ} . الْحُكْمُ هُنَا بِالْعُمُومِ، كَالْحُكْمِ هُنَاكَ. وَلَكِنَّهُ هُنَا بِالْخَيْرِيَّةِ وَالتَّفْضِيلِ.
أَمَّا مِنْ حَيْثُ الْجِنْسِ فَلَا إِشْكَالَ، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ أَفْضَلُ الْأَجْنَاسِ {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى آدَمَ} .
وَأَمَّا مِنْ حَيْثُ الْعُمُومِ، فَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فِيهَا مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ صَالِحَ الْمُؤْمِنِينَ أَفْضَلُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ.
وَلَعَلَّ مِمَّا يُقَوِّي هَذَا الِاسْتِدْلَالَ، هُوَ أَنَّ بَعْضَ أَفْرَادِ جِنْسِ الْإِنْسَانِ أَفْضَلُ مِنْ عُمُومِ أَفْرَادِ جِنْسِ الْمَلَائِكَةِ، وَهُوَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِذَا فُضِّلَ بَعْضُ أَفْرَادِ الْجِنْسِ لَا يُمْنَعُ فِي الْبَعْضِ الْآخَرِ وَلَكِنْ هَلْ بَعْضُ أَفْرَادِ الْأُمَّةِ بَعْدَهُ أَفْضَلُ مِنْ عُمُومِ أَوْ بَعْضِ أَفْرَادِ الْمَلَائِكَةِ؟ هَذَا هُوَ مَحَلَّ الْخِلَافِ.
وَلِلْقُرْطُبِيِّ مَبْحَثٌ فِي ذَلِكَ: مَبْنَاهُ عَلَى أَصْلِ الْمَادَّةِ وَوُرُودِ النُّصُوصِ مِنْ جِهَةِ أَصْلِ الْمَادَّةِ إِنْ كَانَتِ الْبَرِيَّةُ مَأْخُوذَةً مِنَ الْبَرْيِ وَهُوَ التُّرَابُ. فَلَا تَدْخُلُ الْمَلَائِكَةُ تَحْتَ هَذَا التَّفْضِيلِ وَإِلَّا فَتَدْخُلُ.
وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ النُّصُوصِ، فَقَالَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ عِنْدَ قَوْلِهِ: {قَالَ يَاآدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَآئِهِمْ} ، قَالَ الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي هَذَا الْبَابِ أَيُّهُمَا أَفْضَلُ، الْمَلَائِكَةُ أَوْ بَنُو آدَمَ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ، فَذَهَبَ قَوْلٌ إِلَى أَن الرُّسُل من
_________
(1) - 7/651: 652، ق/ 17 - 18.(2/396)
الْبَشَرِ أَفْضَلُ مِنَ الرُّسُلِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَالْأَوْلِيَاءَ مِنَ الْبَشَرِ أَفْضَلُ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ.
وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى أَنَّ الْمَلَأَ الْأَعْلَى أَفْضَلُ، وَاحْتَجَّ مَنْ فَضَّلَ الْمَلَائِكَةَ بِأَنَّهُمْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ وَقَوْلِهِ لَا يعصون لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ. وَقَوْلِهِ
: {قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِى خَزَآئِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّى مَلَكٌ} .
وَبِمَا فِي الْبُخَارِيِّ يَقُولُ اللَّه: «مَنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَأٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلَأٍ خَيْرٍ مِنْهُ» (1) وَهَذَا نَصٌّ عَلَى أَنَّ الْمَلَأَ الْأَعْلَى خَيْرٌ مِنْ مَلَأِ الْأَرْضِ.
وَاحْتَجَّ مَنْ فَضَّلَ بَنِي آدَمَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ} ، بِالْهَمْزِ مِنْ بَرأَ اللَّهُ الْخَلقُ، وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا رِضًا لِطَالِبِ الْعِلْمِ» أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ (2) .
وَبِأَنَّ اللَّهَ يُبَاهِي بِأَهْلِ عَرَفَاتٍ الْمَلَائِكَةَ، وَلَا يُبَاهِي إِلَّا بِالْأَفْضَلِ واللَّه تَعَالَى أَعْلَمُ.
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: وَلَا طَرِيقَ إِلَى الْقَطْعِ بِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ خَيْرٌ مِنْهُمْ؛ لِأَنَّ طَرِيقَ ذَلِكَ خَبَرُ اللَّه، وَخَبَرُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ إِجْمَاع الْأمة.
وَلَيْسَ هَا هُنَا شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ خِلَافًا لِلْقَدَرِيَّةِ وَالْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ، حَيْثُ قَالُوا: الْمَلَائِكَةُ أَفْضَلُ. قَالَ: وَأَمَّا مَنْ قَالَ مِنْ أَصْحَابِنَا وَالشِّيعَةِ: إِنَّ الْأَنْبِيَاءَ أَفْضَلُ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ الْمَلَائِكَةِ بِالسُّجُودِ لآدَم، إِلَى آخِره.
_________
(1) - صَحِيح البُخَارِيّ (6/2694) (6970) مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
(2) - أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ (2/241) (3641) ، وَالتِّرْمِذِيُّ (5/48) (2682) ، وَابْنُ مَاجَهْ (223) (1/81) مِنْ حَدِيث أبي الدَّرْدَاء - رَضِي الله عَنهُ -، والْحَدِيث صَححهُ الشَّيْخ الألباني - رَحمَه الله -.(2/397)
ثُمَّ رَدَّ هَذَا الِاسْتِدْلَالَ.
وَقَدْ سُقْنَا هَذَا الْبَحْثَ لِبَيَانِ الْخِلَافِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الْمُشْتَمِلِ عَلَيْهَا لَفْظُ الْبَرِيَّةِ، وَأَعْتَقِدُ أَنَّ الْمُفَاضَلَةَ جُزْئِيَّةٌ لَا كُلِّيَّةٌ، وَذَلِكَ أَنَّ جِنْسَ الْبَشَرِ خِلَافُ جِنْسِ الْمَلَائِكَةِ، وَالْمَلَائِكَةُ فِيهِمُ النَّصُّ بِأَنَّهُمْ {عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ} ، وَالْبَشَرُ فِيهِمُ النَّصُّ {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى آدَمَ} ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا، كَالْفَرْقِ بَيْنَ الِاسْمِ وَالْفِعْلِ فِي الدَّلَالَةِ.
فَفِي الْمَلَائِكَةِ بِالِاسْمِ: مُكْرَمُونَ، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى الدَّوَامِ وَالثُّبُوتِ، وَفِي بَنِي آدَمَ كَرَّمْنَا، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى التَّجَدُّدِ وَالْحُدُوثِ.
وَهَذَا هُوَ الْوَاقِعُ، فَالتَّكْرِيمُ ثَابِتٌ وَلَازِمٌ وَدَائِمٌ لِلْمَلَائِكَةِ بِخِلَافِهِ فِي بَنِي آدَمَ إِذْ فِيهِمْ وَفِيهِمْ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ التَّفْضِيلَ فِي الْأَعْمَالِ مِنْ حَيْثُ صُدُورِهَا مِنْ بَنِي آدَمَ وَمِنَ الْمَلَائِكَةِ، إِذِ الْمَلَائِكَةُ تَصْدُرُ عَنْهُمْ أَعْمَالُ الْخَيْرِ جِبِلَّةً أَوْ بِدُونِ نَوَازِعِ شَرٍّ، بِخِلَافِ بَنِي آدَمَ، وَإِنَّ أَعْمَالَ الْخَيْرِ تَصْدُرُ عَنْهَا بِمَجْهُودٍ مُزْدَوَجٍ، حَيْثُ رُكِّبَتْ فِيهِمُ النَّفْسُ اللَّوَّامَةُ وَالْأَمَّارَةُ بِالسُّوءِ. وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنَ الْجَانِبِ الْحَيَوَانِيِّ.
وَازْدِوَاجِيَّةُ الْمَجْهُودِ، هُوَ أَنَّهُ يُنَازِعُ عَوَامِلَ الشَّرِّ حَتَّى يَتَغَلَّبَ عَلَيْهَا، وَيَبْذُلَ الْجُهْدَ فِي فِعْلِ الْخَيْرِ، فَهُوَ يُجَاهِدُ لِلتَّخْلِيصِ مِنْ نَوَازِعِ الشَّرِّ، هُوَ يُجَاهِدُ لِلْقِيَامِ بِفِعْلِ الْخَيْرِ، وَهَذَا مَجْهُودٌ يَقْتَضِي التَّفْضِيلَ عَلَى الْمَجْهُودِ مِنْ جَانِبٍ وَاحِدٍ.
وَقَدْ جَاءَ فِي السُّنَّةِ مَا يَشْهَدُ لِذَلِكَ، لَمَّا ذَكَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِهِ «أَن يَأْتِي بَعْدَهُمْ مِنْ أَنَّ الْعَامِلَ مِنْهُمْ لَهُ أَجْرُ خَمْسِينَ، فَقَالُوا: خَمْسِينَ مِنَّا أَوْ مِنْهُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: بَلْ خَمْسِينَ مِنْكُمْ، لِأَنَّكُمْ تَجِدُونَ أَعْوَانًا عَلَى الْخَيْرِ وَهُمْ لَا يَجدونَ» (1) .
_________
(1) - أخرجه أَبُو دَاوُد (2/526) (4341) ، وَالتِّرْمِذِيّ (5/257) (3058) ، وَقَالَ: حسن غَرِيب، وَابْن مَاجَه (2/1330) (
4014) ، من حَدِيث أبي ثَعْلَبَة - رَضِي الله عَنهُ - مطولا بِهِ، والْحَدِيث ضعفه الشَّيْخ الألباني - رَحمَه الله -.(2/398)
وَحَدِيثُ «سَبَقَ دِرْهَمٌ مِائَةَ أَلْفِ دِرْهَمٍ» (1) وَبَيَّنَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّ الدِّرْهَمَ سَبَقَ الْأَضْعَافَ الْمُضَاعَفَةَ، لِأَنَّهُ ثَانِي اثْنَيْنِ فَقَطْ، وَالْمِائَةَ أَلْفٍ جُزْءٌ مِنْ مَجْمُوعٍ كَثِيرٍ.
فَالنَّفْسُ الَّتِي تَجُودُ بِنِصْفِ مَا تَمْلِكُ، وَلَا يَتَبَقَّى لَهَا إِلَّا دِرْهَمٌ، خَيْرٌ بِكَثِيرٍ مِمَّنْ تُنْفِقُ جُزْءًا ضَئِيلًا مِمَّا تَمْلِكُ وَيَتَبَقَّى لَهَا الْمَالُ الْكَثِيرُ، فَكَانَتْ عَوَامِلُ التَّصَدُّقِ وَدَوَافِعُهُ مُخْتَلِفَةً مُنَزَّلَةً فِي النَّفْسِ مُتَضَادَّةً. فَالدِّرْهَمُ فِي ذَاتِهِ وَمَاهِيَّتِهِ مِنْ جِنْسِ الدَّرَاهِمِ الْأُخْرَى، لَمْ تَتَفَاوَتِ الْمَاهِيَّةُ وَلَا الْجِنْسُ، وَلَكِنْ تَفَاوَتَتِ الدَّوَافِعُ وَالْعَوَامِلُ لِإِنْفَاقِهِ، وَلَعَلَّ الْمُفَاضَلَةَ الْمَقْصُودَةَ تَكُونُ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ أَوْلَى. واللَّه تَعَالَى أعلم.] (2) .
فصل بعض أَحْكَام الْجِنّ
- هَل إِبْلِيس ملك فِي الأَصْل أم لَا؟ وَبَيَان ذُريَّته، وَكَيف تناسله.
[وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، {كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} ظَاهِرٌ فِي أَنَّ سَبَبَ فِسْقِهِ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ كَوْنُهُ مِنَ الْجِنِّ. وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ فِي «مَسْلَكِ النَّصِّ» وَفِي «مَسْلَكِ الْإِيمَاءِ وَالتَّنْبِيهِ» : أَنَّ الْفَاءَ مِنَ الْحُرُوفِ الدَّالَّةِ عَلَى التَّعْلِيلِ، كَقَوْلِهِمْ: سَرَقَ فَقُطِعَتْ يَدُهُ، أَيْ لِأَجْلِ سَرِقَتِهِ. وَسَهَا فَسَجَدَ، أَيْ لِأَجْلِ سَهْوِهِ، وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا} أَيْ لِعِلَّةِ سَرِقَتِهِمَا. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ هُنَا {كَانَ مِنَ الْجِنِّ
_________
(1) - أخرجه النَّسَائِيّ (5/59) (2527، 2528) ، وَأحمد (2/379) مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، والْحَدِيث حسنه الشَّيْخ الألباني - رَحمَه الله -.
(2) - 9/417: 421، الْبَيِّنَة / 7.(2/399)
فَفَسَقَ} أَيْ لِعِلَّةِ كَيْنُونَتِهِ مِنَ الْجِنِّ؛ لِأَنَّ هَذَا الْوَصْفَ فَرَّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَلَائِكَةِ، لِأَنَّهُمُ امْتَثَلُوا الْأَمْرَ وَعَصَا هُوَ؛ وَلِأَجْلِ ظَاهِرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ ذَهَبَتْ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ إِبْلِيسَ لَيْسَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ فِي الْأَصْلِ بَلْ مِنَ الْجِنِّ، وَأَنَّهُ كَانَ يَتَعَبَّدُ مَعَهُمْ، فَأُطْلِقَ عَلَيْهِمُ اسْمُهُمْ لِأَنَّهُ تَبَعٌ لَهُمْ، كَالْحَلِيفِ فِي الْقَبِيلَةِ يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُهَا. وَالْخِلَافُ فِي إِبْلِيسَ هَلْ هُوَ مَلَكٌ فِي الْأَصْلِ وَقَدْ مَسَخَهُ اللَّهُ شَيْطَانًا، أَوْ لَيْسَ فِي الْأَصْلِ بِمَلَكٍ، وَإِنَّمَا شَمَلَهُ لَفْظُ الْمَلَائِكَةِ لِدُخُولِهِ فِيهِمْ وَتَعَبُّدُهُ مَعَهُمْ مَشْهُورٌ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ.
وَحُجَّةُ مَنْ قَالَ: إِنَّ أَصْلَهُ لَيْسَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ أَمْرَانِ:
أَحَدُهُمَا: عَصْمَةُ الْمَلَائِكَةِ مِنِ ارْتِكَابِ الْكُفْرِ الَّذِي ارْتَكَبَهُ إِبْلِيسُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْهُمْ: {لاَّ يَعْصُونَ اللَّهَ مَآ أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} ، وَقَالَ تَعَالَى: {لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} .
وَالثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ صَرَّحَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ بِأَنَّهُ مِنَ الْجِنِّ، وَالْجِنُّ غَيْرُ الْمَلَائِكَةِ. قَالُوا: وَهُوَ نَصٌّ قُرْآنِيٌّ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ.
وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ مَلَكٌ فِي الْأَصْلِ بِمَا تَكَرَّرَ فِي الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ مِنْ قَوْلِهِ: {فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُون َإِلاَّ إِبْلِيسَ} قَالُوا: فَإِخْرَاجُهُ بِالِاسْتِثْنَاءِ مِنْ لَفْظِ الْمَلَائِكَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ مِنْهُمْ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ:
وَالظَّوَاهِرُ إِذَا كَثُرَتْ صَارَتْ بِمَنْزِلَةِ النَّصِّ. وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الِاسْتِثْنَاءِ الِاتِّصَالُ لَا الِانْقِطَاعُ.
قَالُوا: وَلَا حُجَّةَ لِمَنْ خَالَفَنَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {كَانَ مِنَ الْجِنّ} لِأَنَّ الْجِنَّ قَبِيلَةٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، خُلِقُوا مِنْ بَيْنِ الْمَلَائِكَةِ مِنْ نَارِ السَّمُومِ كَمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسِ (1) . وَالْعَرَبُ تَعْرِفُ فِي لُغَتِهَا إِطْلَاقَ الْجِنِّ عَلَى الْمَلَائِكَة. وَمِنْه
_________
(1) - رَوَاهُ الطَّبَرِيّ فِي تَفْسِيره (7/513) بِسَنَد فِيهِ بشر بن عمَارَة، قَالَ عَنهُ ابْن حجر فِي التَّقْرِيب: ضَعِيف.(2/400)
قَوْلُ الْأَعْشَى فِي سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ:
وَسُخِّرَ مِنْ جِنِّ الْمَلَائِكِ تِسْعَةٌ ... قِيَامًا لَدَيْهِ يَعْمَلُونَ بِلَا أَجْرِ
قَالُوا: وَمِنْ إِطْلَاقِ الْجِنِّ عَلَى الْمَلَائِكَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَجَعَلُواْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً} عِنْدَ مَنْ يَقُولُ: بِأَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ قَوْلُهُمْ: الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّهِ. سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْ كُلِّ مَا لَا يَلِيقُ بِكَمَالِهِ وَجَلَالِهِ عُلُوًّا كَبِيرًا! وَمِمَّنْ جَزَمَ بِأَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ فِي الْأَصْلِ لِظَاهِرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَقَصَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ.
وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ «الْبَقَرَةِ» : إِنَّ كَوْنَهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ هُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ: ابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ جُرَيْجٍ، وَابْنِ الْمُسَيِّبِ، وَقَتَادَةَ وَغَيْرِهِمْ. وَهُوَ اخْتِيَارُ الشَّيْخِ أَبِي الْحَسَنِ، وَرَجَّحَهُ الطَّبَرِيُّ، وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِهِ «إِلَّا إِبْلِيسَ» اهـ وَمَا يَذْكُرُهُ الْمُفَسِّرُونَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ السَّلَفِ كَابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ: مِنْ أَنَّهُ كَانَ مِنْ أَشْرَافِ الْمَلَائِكَةِ، وَمِنْ خُزَّانِ الْجَنَّةِ، وَأَنَّهُ كَانَ يُدَبِّرُ أَمْرَ السَّمَاءِ الدُّنْيَا، وَأَنَّهُ كَانَ اسْمُهُ عَزَازِيلُ كُلُّهُ مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ الَّتِي لَا مُعَوَّلَ عَلَيْهَا.
وَأَظْهَرُ الْحُجَجِ فِي الْمَسْأَلَةِ حُجَّةُ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ غَيْرُ مَلَكٍ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ} ، وَهُوَ أَظْهَرُ شَيْءٍ فِي الْمَوْضُوعِ مِنْ نُصُوصِ الْوَحْي. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى ...
وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: {وَذُرّيَّتَهُ} دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ لِلشَّيْطَانِ ذُرِّيَّةً، فَادِّعَاءُ أَنَّهُ لَا ذُرِّيَّةَ لَهُ مُنَاقِضٌ لِهَذِهِ الْآيَةِ مُنَاقَضَةً صَرِيحَةً كَمَا تَرَى. وَكُلُّ مَا نَاقَضَ صَرِيحَ الْقُرْآنِ فَهُوَ بَاطِلٌ بِلَا شَكٍّ وَلَكِنْ طَرِيقَةُ وُجُودِ نَسْلِهِ هَلْ هِيَ عَنْ تَزْوِيجٍ أَوْ غَيْرِهِ. لَا دَلِيلَ عَلَيْهَا مِنْ نَصٍّ صَرِيحٍ، وَالْعُلَمَاءُ مُخْتَلِفُونَ فِيهَا. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: سَأَلَنِي الرَّجُلُ: هَلْ لِإِبْلِيسَ زَوْجَةٌ؟ فَقُلْتُ: إِن ذَلِك عرس لم(2/401)
أشهدها ثُمَّ ذَكَرْتُ قَوْلَهُ تَعَالَى: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِى} فَعَلِمْتُ أَنَّهُ لَا تَكُونُ ذُرِّيَّةٌ إِلَّا مِنْ زَوْجَةٍ فَقُلْتُ: نَعَمْ. وَمَا فَهِمَهُ الشَّعْبِيُّ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ أَنَّ الذَّرِّيَّةَ تَسْتَلْزِمُ الزَّوْجَةَ رُوِيَ مِثْلُهُ عَنْ قَتَادَةَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: إِنَّ كَيْفِيَّةَ وُجُودِ النَّسْلِ مِنْهُ أَنَّهُ أَدْخَلَ فَرْجَهُ فِي فَرْجِ نَفْسِهِ فَبَاضَ خَمْسَ بَيْضَاتٍ: قَالَ: فَهَذَا أَصْلُ ذُرِّيَّتِهِ. وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ لَهُ فِي فَخْذِهِ الْيُمْنَى ذَكَرًا، وَفِي الْيُسْرَى فَرْجًا، فَهُوَ يَنْكِحُ هَذَا بِهَذَا فَيَخْرُجُ لَهُ كُلَّ يَوْمٍ عَشْرَ بَيْضَاتٍ، يَخْرُجُ مِنْ كُلِّ بَيْضَةٍ سَبْعُونَ شَيْطَانًا وَشَيْطَانَةً. وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذِهِ الْأَقْوَالَ وَنَحْوَهَا لَا مُعَوَّلَ عَلَيْهَا لِعَدَمِ اعْتِضَادِهَا بِدَلِيلٍ مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةَ. فَقَدْ دَلَّتِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ عَلَى أَنَّ لَهُ ذُرِّيَّةً. أَمَّا كَيْفِيَّةُ وِلَادَةِ تِلْكَ الذُّرِّيَّةِ فَلَمْ يَثْبُتْ فِيهِ نَقْلٌ صَحِيحٌ، وَمِثْلُهُ لَا يُعْرَفُ بِالرَّأْيِ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: قُلْتُ: الَّذِي ثَبَتَ فِي هَذَا الْبَابِ مِنَ الصَّحِيحِ مَا ذَكَرَهُ الْحِمْيَرِيُ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّحِيحَيْنِ عَنِ الْإِمَامِ أَبِي بَكْرٍ الْبَرْقَانِيِّ: أَنَّهُ خَرَّجَ فِي كِتَابِهِ مُسْنَدًا عَنْ أَبِي مُحَمَّدٍ عَبْدِ الْغَنِيِّ بْنِ سَعِيدٍ الْحَافِظِ، مِنْ رِوَايَةِ عَاصِمٍ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ، عَنْ سَلْمَانَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَكُنْ أَوَّلَ مَنْ يَدْخُلُ السُّوقَ وَلَا آخِرَ مَنْ يَخْرُجُ مِنْهَا، فِيهَا بَاضَ الشَّيْطَانُ وَفَرَّخَ» (1)
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لِلشَّيْطَانِ ذُرِّيَّةً مِنْ صُلْبِهِ.
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: هَذَا الْحَدِيثُ إِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَبِيضُ وَيُفَرِّخُ، وَلَكِنْ لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى ذَلِكَ. هَلْ هِيَ مِنْ أُنْثَى هِيَ زَوْجَةٌ لَهُ، أَوْ مِنْ غَيْرِ ذَلِكَ، مَعَ أَنَّ دَلَالَةَ الْحَدِيثِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا لَا تَخْلُو مِنِ احْتِمَالٍ؛ لِأَنَّهُ يكثر
_________
(1) - أخرجه بِهَذَا اللَّفْظ الطَّبَرَانِيّ (6/248) (6118) ، وَالْبَيْهَقِيّ فِي الشّعب (7/379) (10655) ، وَرَوَاهُ مُسلم فِي صَحِيحه عَن سلمَان بِلَفْظِ: {قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَا تَكُنْ أَوَّلَ مَنْ يَدْخُلُ السُّوقَ وَلَا آخر من يخرج مِنْهَا فَإِنَّهَا معركة - أَو قَالَ مربض - الشَّيْطَان وَبهَا رايته) } ..(2/402)
فِي كَلَامِ الْعَرَبِ إِطْلَاقُ بَاضَ وَفَرَّخَ عَلَى سَبِيل الْمثل. فَيحْتَمل معنى بَاضَ وَفَرَّخَ عَلَى سَبِيلِ الْمَثَلِ؛ فَيَحْتَمِلُ مَعْنَى بَاضَ وَفَرَّخَ أَنَّهُ فَعَلَ بِهَا مَا شَاءَ مِنْ إِضْلَالٍ وَإِغْوَاءٍ وَوَسْوَسَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْمَثَلِ، لِأَنَّ الْأَمْثَالَ لَا تُغَيَّرُ أَلْفَاظُهَا (1) . وَمَا يَذْكُرُهُ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ وَغَيْرُهُمْ مِنْ تَعْيِينِ أَسْمَاءِ أَوْلَادِهِ وَوَظَائِفِهِمُ الَّتِي قَلَّدَهُمْ إِيَّاهَا؛ كَقَوْلِهِ: زَلَنْبُورُ صَاحِبُ الْأَسْوَاقِ. وَتِبْرٌ صَاحِبُ الْمَصَائِبِ يَأْمُرُ بِضَرْبِ الْوُجُوهِ وَشَقِّ الْجُيُوبِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، والأعور صَاحب أَبْوَاب الزِّنَى، ومسوط صَاحب الْأَخْبَار يلقها فِي أَفْوَاهِ النَّاسِ فَلَا يَجِدُونَ لَهَا أَصْلًا، وَدَاسِمٌ هُوَ الشَّيْطَانُ الَّذِي إِذَا دَخَلَ الرَّجُلُ بَيْتَهُ فَلَمْ يُسَلِّمْ وَلَمْ يَذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ بَصَرَهُ مَا لَمْ يَرْفَعْ مِنَ الْمَتَاعِ وَمَا لَمْ يُحْسِنْ مَوْضِعَهُ يُثِيرُ شَرَّهُ عَلَى أَهْلِهِ، وَإِذَا أَكَلَ وَلَمْ يَذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ أَكَلَ مَعَهُ، وَالْوَلْهَانُ صَاحِبُ الْمَزَامِيرِ وَبِهِ كَانَ يُكَنَّى إِبْلِيسُ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ تَعْيِينِ أَسْمَائِهِمْ ووظائفهم كُله لَا معلو عَلَيْهِ؛ إِلَّا مَا ثَبَتَ مِنْهُ عَنِ النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمِمَّا ثَبَتَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ تَعْيِينِ وَظِيفَةِ الشَّيْطَانِ وَاسْمِهِ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي صَحِيحِهِ (2) : حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ خَلَفٍ الْبَاهِلِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى عَنْ سَعِيدٍ الْجُرَيْرِيِّ عَنْ أَبِي الْعَلَاءِ: أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ أَبِي الْعَاصِ أَتَى النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ حَالَ بيني وَبَين صَلَاتي وقراءتي يلبسهَا عليا! فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «ذَاك شَيْطَان يُقَال لَهُ خنرب، فَإِذَا أَحْسَسْتَهُ فَتَعَوَّذْ بِاللَّهِ مِنْهُ، وَاتْفُلْ عَنْ يَسَارِكَ ثَلَاثًا» قَالَ: فَفَعَلْتُ ذَلِكَ فَأَذْهَبَهُ اللَّهُ عَنِّي.
وَتَحْرِيشُ الشَّيْطَانِ بَيْنَ النَّاسِ وَكَوْنُ إِبْلِيسَ يَضَعُ عَرْشَهُ عَلَى الْبَحْرِ، وَيَبْعَثُ سَرَايَا فَيَفْتِنُونَ النَّاسَ فَأَعْظَمُهُمْ عِنْدَهُ أَعْظَمُهُمْ فِتْنَةً كُلُّ ذَلِكَ مَعْرُوف
_________
(1) - وَيشْهد لهَذَا الْوَجْه رِوَايَة مُسلم السَّابِقَة.
(2) - صَحِيح مُسلم (4/1728) (2203) .(2/403)
ثَابِتٌ فِي الصَّحِيحِ (1) . وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.] (2) .
- الْجِنّ مكلفون، وَبَيَان أَن مؤمنيهم فِي الْجنَّة، وكفارهم فِي النَّار.
[قَوْله تَعَالَى: {ياقَوْمَنَآ أَجِيبُواْ دَاعِىَ اللَّهِ وَآمِنُواْ بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} . مَنْطُوقُ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ مَنْ أَجَابَ دَاعِيَ اللَّهِ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَآمَنَ بِهِ، وَبِمَا جَاءَ بِهِ، مِنَ الْحَقِّ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ ذُنُوبَهُ. وَأَجَارَهُ مِنَ الْعَذَابِ الْأَلِيمِ، ومفهومها، أَعنِي مَفْهُوم مخالفتها، وَالْمَعْرُوف بِدَلِيلِ الْخِطَابِ، أَنَّ مَنْ لَمْ يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ مِنَ الْجِنِّ، وَلَمْ يُؤْمِنْ بِهِ لَمْ يَغْفِرْ لَهُ، وَلَمْ يُجِرْهُ، مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ، بَلْ يُعَذِّبُهُ وَيُدْخِلُهُ النَّارَ، وَهَذَا الْمَفْهُومُ جَاءَ مُصَرَّحًا بِهِ مُبَيَّنًا فِي آيَاتٍ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لاّمْلاّنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} . وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلكن حَقَّ الْقَوْلُ مِنْى لاّمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} وَقَوْلِهِ تَعَالَى {قَالَ ادْخُلُواْ فِى أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُم مِّن الْجِنِّ وَالإِنْسِ فِى النَّارِ} : وَقَوْلِهِ تَعَالَى {فَكُبْكِبُواْ فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ} إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
أَمَّا دُخُولُ الْمُؤْمِنِينَ، الْمُجِيبِينَ دَاعِيَ اللَّهِ مِنَ الْجِنِّ، الْجَنَّةَ فَلَمْ تَتَعَرَّضْ لَهُ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ بِإِثْبَاتٍ وَلَا نَفْيٍ، وَقَدْ دَلَّتْ آيَةٌ أُخْرَى عَلَى أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْجِنِّ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ، وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الرَّحْمَنِ: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ فَبِأَىِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} وَبِهِ تَعْلَمُ أَنَّ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ، قَائِلِينَ إِنَّهُ يُفْهَمُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ، مِنْ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ من الْجِنّ
_________
(1) - صَحِيح مُسلم (4/2167) (2813) .
(2) - 4/131: 135، الْكَهْف/ 50.(2/404)
لَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ، وَأَنَّ جَزَاءَ إِيمَانِهِمْ وَإِجَابَتِهِمْ دَاعِيَ اللَّهِ، هُوَ الْغُفْرَانُ وَإِجَارَتُهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَلِيمِ فَقَطْ، كَمَا هُوَ نَصُّ الْآيَةِ، كُلِّهِ خِلَافُ التَّحْقِيقِ.
وَقَدْ أَوْضَحْنَا ذَلِكَ فِي كِتَابِنَا «دَفْعُ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ، عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ، مِنْ سُورَةِ الْأَحْقَافِ فَقُلْنَا فِيهِ مَا نَصُّهُ: هَذِهِ الْآيَةُ، يُفْهَمُ مِنْ ظَاهِرِهَا، أَنَّ جَزَاءَ الْمُطِيعِ مِنَ الْجِنِّ غُفْرَانُ ذُنُوبِهِ، وَإِجَارَتُهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ، لَا دُخُولُهُ الْجَنَّةَ.
وَقَدْ تَمَسَّكَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ مِنْهُمْ الْإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، بِظَاهِرِ هَذِهِ الْآيَةِ، فَقَالُوا إِنَّ الْمُؤْمِنِينَ الْمُطِيعِينَ مِنَ الْجِنِّ لَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ، مَعَ أَنَّهُ جَاءَ فِي آيَةٍ أُخْرَى، مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مُؤْمِنِيهِمْ فِي الْجَنَّةِ وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} ، لِأَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ شُمُولَهُ لِلْجِنِّ وَالْإِنْسِ، بِقَوْلِهِ {فَبِأَىِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} .
وَيُسْتَأْنَسُ لِهَذَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَآنٌّ} فَإِنَّهُ يُشِيرُ إِلَى أَنَّ فِي الْجَنَّةِ جِنًّا يَطْمِثُونَ النِّسَاءَ كَالْإِنْسِ.
وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا، أَنَّ آيَةَ الْأَحْقَافِ، نَصَّ فِيهَا عَلَى الْغُفْرَانِ، وَالْإِجَارَةِ مِنَ الْعَذَابِ، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ فِيهَا لِدُخُولِ الْجَنَّةِ، بِنَفْيٍ وَلَا إِثْبَاتٍ، وَآيَةُ الرَّحْمَنِ نَصَّ فِيهَا عَلَى دُخُولِهِمُ الْجَنَّةَ، لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِيهَا: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} .
وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ أَنَّ الِّمَوْصُولَاتِ مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ، فَقَوْلُهُ: {وَلِمَنْ خَافَ} ، يَعُمُّ كُلَّ خَائِفٍ مَقَامَ رَبِّهِ، ثُمَّ صَرَّحَ بِشُمُولِ ذَلِكَ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ مَعًا بِقَوْلِهِ: {فَبِأَىِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} .
فَبَيَّنَ أَنَّ الْوَعْدَ بِالْجَنَّتَيْنِ لِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ مِنْ آلَائِهِ، أَيْ نِعَمِهِ عَلَى الْإِنْسِ وَالْجِنِّ، فَلَا تَعَارُضَ بَيْنَ الْآيَتَيْنِ، لِأَنَّ إِحْدَاهُمَا بَيَّنَتْ مَا لَمْ تعرض لَهُ(2/405)
الْأُخْرَى.
وَلَوْ سَلَّمْنَا أَنَّ قَوْلَهُ: {يَغْفِرْ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} ، يُفْهَمُ مِنْهُ عَدَمُ دُخُولِهِمُ الْجَنَّةَ، فَإِنَّهُ إِنَّمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ بِالْمَفْهُومِ، وَقَوْلَهُ: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} {فَبِأَىِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} يَدُلُّ عَلَى دُخُولِهِمُ الْجَنَّةَ بِعُمُومِ الْمَنْطُوقِ.
وَالْمَنْطُوقُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْمَفْهُومِ كَمَا تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ.
وَلَا يَخْفَى أَنَّا إِذَا أَرَدْنَا تَحْقِيقَ هَذَا الْمَفْهُومِ الْمُدَّعَى وَجَدْنَاهُ مَعْدُومًا مِنْ أَصْلِهِ لِلْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ قِسْمَةَ الْمَفْهُومِ ثُنَائِيَّةٌ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَفْهُومَ مُوَافَقَةٍ أَوْ مُخَالَفَةٍ وَلَا ثَالِثَ.
وَلَا يَدْخُلُ هَذَا الْمَفْهُومُ الْمُدَّعَى فِي شَيْءٍ مِنْ أَقْسَامِ الْمَفْهُومَيْنِ.
أَمَّا عَدَمُ دُخُولِهِ فِي مَفْهُومِ الْمُوَافَقَةِ بِقِسْمَيْهِ فَوَاضِحٌ.
وَأَمَّا عَدَمُ دُخُولِهِ فِي شَيْءٍ مِنْ أَنْوَاعِ مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ، فَلِأَنَّ عَدَمَ دُخُولِهِ فِي مَفْهُومِ الْحَصْرِ أَوِ الْغَايَةِ أَوِ الْعَدَدِ أَوِ الصِّفَةِ أَوِ الظَّرْفِ وَاضِحٌ.
فَلَمْ يَبْقَ مِنْ أَنْوَاعِ مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ يُتَوَهَّمُ دُخُولُهُ فِيهِ إِلَّا مَفْهُومُ الشَّرْطِ أَوِ اللَّقَبِ، وَلَيْسَ دَاخِلًا فِي وَاحِدٍ مِنْهُمَا.
فَظَهَرَ عَدَمُ دُخُولِهِ فِيهِ أَصْلًا.
أَمَّا وَجْهُ تَوَهُّمِ دُخُولِهِ فِي مَفْهُومِ الشَّرْطِ، فَلِأَنَّ قَوْلَهُ: {يَغْفِرْ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ} فِعْلٌ مُضَارِعٌ مَجْزُومٌ بِكَوْنِهِ جَزَاءَ الطَّلَبِ.
وَجُمْهُورُ عُلَمَاءِ الْعَرَبِيَّةِ عَلَى أَنَّ الْفِعْلَ إِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ مَجْزُومٌ بِشَرْطٍ مُقَدَّرٍ، لَا بِالْجُمْلَةِ قَبْلَهُ، كَمَا قِيلَ بِهِ.
وَعَلَى الصَّحِيحِ الَّذِي هُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ، فَتَقْرِيرُ الْمَعْنَى: {أَجِيبُواْ دَاعِىَ اللَّهِ وَآمِنُواْ بِهِ} إِنْ تَفْعَلُوا ذَلِكَ يَغْفِرْ لَكُمْ، فَيُتَوَهَّمُ فِي الْآيَةِ مَفْهُومُ هَذَا(2/406)
الشَّرْطِ الْمُقَدَّرِ.
وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا: أَنَّ مَفْهُومَ الشَّرْطِ عِنْدَ الْقَائِلِ بِهِ، إِنَّمَا هُوَ فِي فِعْلِ الشَّرْطِ لَا فِي جَزَائِهِ، وَهُوَ مُعْتَبَرٌ هُنَا فِي فِعْلِ الشَّرْطِ عَلَى عَادَتِهِ، فَمَفْهُومُ أَنْ تُجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَتُؤْمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ، أَنَّهُمْ إِنْ لَمْ يُجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَلَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ لَمْ يَغْفِرْ لَهُمْ، وَهُوَ كَذَلِكَ.
أَمَّا جَزَاءُ الشَّرْطِ فَلَا مَفْهُومَ لَهُ لِاحْتِمَالِ أَنْ تَتَرَتَّبَ عَلَى الشَّرْطِ الْوَاحِدِ مَشْرُوطَاتٌ كَثِيرَةٌ، فَيُذْكَرُ بَعْضُهَا جَزَاءً لَهُ فَلَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ غَيْرِهِ.
كَمَا لَوْ قُلْتَ لَشَخْصٍ مَثَلًا: إِنْ تَسْرِقْ يَجِبُ عَلَيْكَ غُرْمُ مَا سَرَقْتَ.
فَهَذَا الْكَلَامُ حَقٌّ وَلَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ غَيْرِ الْغُرْمِ كَالْقَطْعِ، لِأَنَّ قَطْعَ الْيَدِ مُرَتَّبٌ أَيْضًا عَلَى السَّرِقَةِ كَالْغُرْمِ.
وَكَذَلِكَ الْغُفْرَانُ، وَالْإِجَارَةُ مِنَ الْعَذَابِ وَدُخُولُ الْجَنَّةِ كُلُّهَا مُرَتَّبَةٌ عَلَى إِجَابَةِ دَاعِيَ اللَّهِ وَالْإِيمَانِ بِهِ.
فَذَكَرَ فِي الْآيَةِ بَعْضَهَا وَسَكَتَ فِيهَا عَنْ بَعْضٍ، ثُمَّ بَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، وَهَذَا لَا إِشْكَالَ فِيهِ.
وَأَمَّا وَجْهُ تَوَهُّمِ دُخُولِهِ فِي مَفْهُومِ اللَّقَبِ، فَلِأَنَّ اللَّقَبَ فِي اصْطِلَاحِ الْأُصُولِيِّينَ هُوَ مَا لَمْ يُمْكِنِ انْتِظَامُ الْكَلَامِ الْعَرَبِيِّ دُونَهُ، أَعْنِي الْمُسْنَدَ إِلَيْهِ سَوَاءً كَانَ لَقَبًا أَوْ كُنْيَةً أَوِ اسْمًا أَوِ اسْمَ جِنْسٍ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ.
وَقَدْ أَوْضَحْنَا اللَّقَبَ غَايَةً فِي الْمَائِدَةِ.
وَالْجَوَابُ عَنْ عَدَمِ دُخُولِهِ فِي مَفْهُومِ اللَّقَبِ، أَنَّ الْغُفْرَانَ وَالْإِجَارَةَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُدَّعَى بِالْفَرْضِ أَنَّهُمَا لَقَبَانِ لِجِنْسِ مَصْدَرَيْهِمَا، وَأَنَّ تَخْصِيصَهُمَا بِالذِّكْرِ يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ غَيْرِهِمَا فِي الْآيَةِ سَنَدَانِ لَا مُسْنَدَ إِلَيْهِمَا بِدَلِيلِ أَنَّ الْمَصْدَرَ فِيهِمَا كَامِنٌ فِي الْفِعْلِ وَلَا يَسْتَنِدُ إِلَى الْفِعْلِ إِجْمَاعًا مَا لَمْ يَرِدْ مُجَرَّدُ(2/407)
لَفْظِهِ عَلَى سَبِيلِ الْحِكَايَةِ.
وَمَفْهُومُ اللَّقَبِ عِنْدَ الْقَائِلِ بِهِ إِنَّمَا هُوَ فِيمَا إِذَا كَانَ اللَّقَبُ مُسْنَدًا إِلَيْهِ، لِأَنَّ تَخْصِيصَهُ بِالذِّكْرِ عِنْدَ الْقَائِلِ بِهِ يَدُلُّ عَلَى اخْتِصَاصِ الْحُكْمِ بِهِ دُونَ غَيْرِهِ، وَإِلَّا لَمَا كَانَ لِلتَّخْصِيصِ بِالذِّكْرِ فَائِدَةٌ كَمَا عَلَّلُوا بِهِ مَفْهُومَ الصِّفَةِ.
وَأُجِيبَ مِنْ جِهَةِ الْجُمْهُورِ: بِأَنَّ اللَّقَبَ ذُكِرَ لِيُمَكِّنَ الْحُكْمَ لَا لِتَخْصِيصِهِ بِالْحُكْمِ، إِذْ لَا يُمْكِنُ الْإِسْنَادُ بِدُونِ مُسْنَدٍ إِلَيْهِ.
وَمِمَّا يُوَضِّحُ ذَلِكَ أَنَّ مَفْهُومَ الصِّفَةِ الَّذِي حُمِلَ عَلَيْهِ اللَّقَبُ عِنْدَ الْقَائِلِ بِهِ إِنَّمَا هُوَ فِي الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ لَا فِي الْمُسْنَدِ لِأَنَّ الْمُسْنَدَ إِلَيْهِ هُوَ الَّذِي تُرَاعَى أَفْرَادُهُ وَصِفَاتُهَا فَيُقْصَدُ بَعْضُهَا بِالذِّكْرِ دُونَ بَعْضٍ فَيَخْتَصُّ الْحُكْمُ بِالْمَذْكُورِ.
أَمَّا الْمُسْنَدُ فَإِنَّهُ لَا يُرَاعَى فِيهِ شَيْءٌ مِنَ الْأَفْرَاد وَلَا الْأَوْصَاف أَصْلًا وَإِنَّمَا يُرَاعَى فِيهِ مُجَرَّدُ الْمَاهِيَةِ الَّتِي هِيَ الْحَقِيقَةُ الذِّهْنِيَّةُ.
وَلَوْ حَكَمْتَ مَثَلًا عَلَى الْإِنْسَانِ بِأَنَّهُ حَيَوَانٌ فَإِنَّ الْمُسْنَدَ إِلَيْهِ الَّذِي هُوَ الْإِنْسَانُ فِي هَذَا الْمِثَالِ يُقْصَدُ بِهِ جَمِيعُ أَفْرَادِهِ لِأَنَّ كُلَّ فَرْدٍ مِنْهَا حَيَوَانٌ بِخِلَافِ الْمُسْنَدِ الَّذِي هُوَ الْحَيَوَانُ فِي هَذَا الْمِثَالِ فَلَا يُقْصَدُ بِهِ إِلَّا مُطْلَقُ مَاهِيَتِهِ وَحَقِيقَتِهِ الذِّهْنِيَّةِ مِنْ غَيْرِ مُرَاعَاةِ الْأَفْرَادِ، لِأَنَّهُ لَوْ رُوعِيَتْ أَفْرَادُهُ لَاسْتَلْزَمَ الْحُكْمُ عَلَى الْإِنْسَانِ بِأَنَّهُ فَرد آخر من أَفْرَاد الْحَيَوَان كالفرس مَثَلًا.
وَالْحُكْمُ بِالْمُبَايِنِ عَلَى الْمُبَايِنِ بَاطِلٌ إِذَا كَانَ إِيجَابِيًّا بِاتِّفَاقِ الْعُقَلَاءِ. وَعَامَّةُ النُّظَّارِ عَلَى أَنَّ مَوْضُوعَ الْقَضِيَّةِ إِذَا كَانَتْ غَيْرَ طَبِيعِيَّةٍ يُرَاعَى فِيهِ مَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ عُنْوَانُهَا مِنَ الْأَفْرَادِ بِاعْتِبَارِ الْوُجُودِ الْخَارِجِيِّ إِنْ كَانَتْ خَارِجِيَّةً أَو الذهْنِي إِن كَانَت حَقِيقِيَّة.
وَأما الْمَحْمُولُ مِنْ حَيْثُ هُوَ فَلَا تُرَاعَى فِيهِ الْأَفْرَادُ الْبَتَّةَ، وَإِنَّمَا يُرَاعَى فِيهِ مُطْلَقُ الْمَاهِيَةِ وَلَوْ سَلَّمْنَا تَسْلِيمًا جَدَلِيًّا أَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْآيَةِ يَدْخُلُ فِي مَفْهُومِ اللَّقَبِ فَجَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ مَفْهُومَ اللَّقَبِ لَا عِبْرَةَ بِهِ وَرُبَّمَا كَانَ اعْتِبَارُهُ(2/408)
كُفْرًا كَمَا لَوِ اعْتَبَرَ مُعْتَبِرٌ مَفْهُومَ اللَّقَبِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ} فَقَالَ يُفْهَمُ مِنْ مَفْهُومِ لَقَبِهِ أَنَّ غَيْرَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ رَسُولَ اللَّهِ فَهَذَا كُفْرٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ.
فَالتَّحْقِيقُ أَنَّ اعْتِبَارَ مَفْهُومِ اللَّقَبِ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ شَرْعًا وَلَا لُغَةً وَلَا عَقْلًا سَوَاءً كَانَ اسْمَ جِنْسٍ أَوِ اسْمَ عَيْنٍ أَوِ اسَمَ جَمْعٍ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ، فَقَوْلُكَ: جَاءَ زَيْدٌ لَا يُفْهَمُ مِنْهُ عَدَمُ مَجِيءِ عَمْرٍو، وَقَوْلُكَ: رَأَيْتُ أسدا لَا يفهم مِنْهُ عدم رؤيتك غير الْأَسَدِ وَالْقَوْلُ بِالْفَرْقِ بَيْنَ اسْمِ الْجِنْسِ فَيُعْتَبَرُ وَاسْمِ الْعَيْنِ فَلَا يُعْتَبَرُ، لَا يَظْهَرُ.
فَلَا عِبْرَةَ بِقَوْلِ الصَّيْرَفِيِّ وَأَبِي بَكْرٍ الدَّقَّاقِ وَغَيْرِهِمَا من الشَّافِعِيَّة.
وَلَا يَقُول ابْنِ خُوَيْزِ مَنْدَادَ وَابْنِ الْقَصَّارِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَلَا يَقُول بَعْضِ الْحَنَابِلَةِ بِاعْتِبَارِ مَفْهُومِ اللَّقَبِ، لِأَنَّهُ لَا دَلِيلَ عَلَى اعْتِبَارِهِ عِنْدَ الْقَائِلِ بِهِ، إِلَّا أَنَّهُ يَقُولُ: لَوْ لَمْ يَكُنِ اللَّقَبُ مُخْتَصًّا بِالْحُكْمِ لَمَا كَانَ لِتَخْصِيصِهِ بِالذِّكْرِ فَائِدَةٌ، كَمَا عَلَّلَ بِهِ مَفْهُومَ الصِّفَةِ لِأَنَّ الْجُمْهُورَ يَقُولُونَ: ذُكِرَ اللَّقَبُ لِيُسْنَدَ إِلَيْهِ وَهُوَ وَاضِحٌ لَا إِشْكَالَ فِيهِ.
وَأَشَارَ صَاحِبُ مَرَاقِي السُّعُودِ إِلَى تَعْرِيفِ اللَّقَبِ بِالِاصْطِلَاحِ الْأُصُولِيِّ وَأَنَّهُ أَضْعَفُ الْمَفَاهِيمِ بِقَوْلِهِ:
أَضْعَفُهَا اللَّقَبُ وَهُوَ مَا أُبِي ... مِنْ دُونِهِ نَظْمُ الْكَلَامِ الْعَرَبِ
وَحَاصِلُ فِقْهِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْجِنَّ مُكَلَّفُونَ، عَلَى لِسَانِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِدَلَالَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ وَأَنَّ كَافِرَهُمْ فِي النَّارِ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ، وَهُوَ صَرِيحُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {لاّمْلاّنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَكُبْكِبُواْ فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ} ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالَ ادْخُلُواْ فِى أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُم مِّن الْجِنِّ وَالإِنْسِ فِى النَّارِ} إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.(2/409)
وَأَنَّ مُؤْمِنِيهِمُ اخْتُلِفَ فِي دُخُولِهِمُ الْجَنَّةَ وَمَنْشَأُ الْخِلَافِ الِاخْتِلَافُ فِي فَهْمِ الْآيَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ.
وَالظَّاهِرُ دُخُولُهُمُ الْجَنَّةَ كَمَا بَيَّنَّا، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. اهـ. مِنْهُ بِلَفْظِهِ.] (1) .
- إِذا كَانَ الْجِنّ من نَار فَكيف تحرقه النَّار؟
قَالَ صَاحب التَّتِمَّة - رَحمَه الله -: [وَقَوله تَعَالَى: {وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِّلشَّيَاطِينِ} ، وَهِي الشُّهُبُ مِنَ النَّارِ، وَالشُّهُبُ النَّارُ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: {أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَّعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} ، وَالرُّجُومُ وَالشُّهُبُ هِيَ الَّتِي تُرْمَى بِهَا الشَّيَاطِينُ عِنْدَ اسْتِرَاقِ السَّمْعِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَن يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَّصَداً} .
وَقَوْلِهِ: {إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ} .
وَهُنَا سُؤَالٌ، وَهُوَ إِذَا كَانَ الْجِنُّ مِنْ نَارٍ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: {وَخَلَقَ الْجَآنَّ مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ} ، فَكَيْفَ تَحْرِقُهُ النَّارُ؟
فَأَجَابَ عَنْهُ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ بِقَوْلِهِ: إِنَّ النَّارَ يَكُونُ بَعْضُهَا أَقْوَى مِنْ بَعْضٍ، فَالْأَقْوَى يُؤَثِّرُ عَلَى الْأَضْعَفِ، وَمِمَّا يَشْهَدُ لِمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى بَعْدَهُ {وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ} وَالسَّعِيرُ: أَشَدُّ النَّارِ.
وَمَعْلُومٌ أَنَّ النَّارَ طَبَقَاتٌ بَعْضُهَا أَشَدُّ مِنْ بَعْضٍ، وَهَذَا أَمْرٌ مَلْمُوسٌ، فَقَدْ تَكُونُ الْآلَةُ مَصْنُوعَةً مِنْ حَدِيدٍ وَتُسَلَّطَ عَلَيْهَا آلَةٌ مِنْ حَدِيدٍ أَيْضًا، أَقْوَى مِنْهَا فتكسرها.
كَمَا قيل: لَا يقل الْحَدِيدَ إِلَّا الْحَدِيدُ، فَلَا يَمْنَعُ كَوْنُ أَصْلِهِ من نَار أَلا
_________
(1) - 7/401: 407، الْأَحْقَاف / 31، وَانْظُر أَيْضا (7/756 - 757) (الرَّحْمَن / 46) .(2/410)
يَتَعَذَّبَ بِالنَّارِ، كَمَا أَنَّ أَصْلَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ مِنْ حمإٍ مَسْنُونٍ، وَمِنْ صَلْصَالٍ كالفخَّار، وَبَعْدَ خَلْقِهِ فَإِنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ التَّعْذِيبَ بِالصَّلْصَالِ وَلَا بِالْفَخَّارِ، فَقَدْ يُقْضَى عَلَيْهِ بِضَرْبَةٍ مِنْ قِطْعَةٍ مِنْ فخَّار. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.] (1) .
- لَا رسل من الْجِنّ.
[قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنْكُمْ} . قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: الْمُرَادُ بِالرُّسُلِ مِنَ الْجِنِّ نُذُرُهُمُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ كَلَامَ الرُّسُلِ، فَيُبَلِّغُونَهُ إِلَى قَوْمِهِمْ، وَيَشْهَدُ لِهَذَا أَنَّ اللَّهَ ذَكَرَ أَنَّهُمْ مُنْذِرُونَ لِقَوْمِهِمْ فِي قَوْلِهِ: {وَإِذْ صَرَفْنَآ إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُواْ أَنصِتُواْ فَلَمَّا قُضِىَ وَلَّوْاْ إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ} .
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: {رُسُلٌ مِّنْكُمْ} أَيْ مِنْ مَجْمُوعِكُمُ الصَّادِقِ بِخُصُوصِ الْإِنْسِ: لِأَنَّهُ لَا رُسُلَ مِنَ الْجِنِّ، وَيُسْتَأْنَسُ لِهَذَا الْقَوْلِ بِأَنَّ الْقُرْآنَ رُبَّمَا أُطْلِقَ فِيهِ الْمَجْمُوعُ مُرَادًا بَعْضُهُ، كَقَوْلِهِ: {وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً} ، وَقَوْلِهِ: {فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا} ، مَعَ أَنَّ الْعَاقِرَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ، كَمَا بَينه بقوله: {فَنَادَوْاْ صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ} ] (2) .
- هَل ينْكح الْإِنْس الْجِنّ، أَو الْعَكْس، وَحكمه؟
[فِي قَوْلِهِ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا} رَدٌّ عَلَى الْعَرَبِ الَّتِي كَانَتْ تَعْتَقِدُ أَنَّهَا كَانَتْ تَزَوَّجُ الْجِنَّ وَتُبَاضِعُهَا. حَتَّى رُوِيَ أَنَّ عَمْرَو بْنَ يُرْبُوعِ بْنِ حَنْظَلَةَ بْنِ مَالِكٍ تزوج سعلاة مِنْهُم، وَكَانَ يخبؤوها عَنْ سَنَا الْبَرْقِ لِئَلَّا تَرَاهُ فَتَنْفِرُ. فَلَمَّا كَانَ فِي بعض اللَّيَالِي لمع الْبَرْق
_________
(1) - 8/394، الْملك / 5.
(2) - 2/188، الْأَنْعَام / 130.(2/411)
وعاينته السعلاة، فَقَالَت: عمروا وَنَفَرَتْ. فَلَمْ يَرَهَا أَبَدًا. وَلِذَا قَالَ عِلْبَاءُ بْنُ أَرْقَمَ يَهْجُو أَوْلَادَ عَمْرٍو الْمَذْكُورِ:
أَلَا لَحَى اللَّهُ بَنِي السَّعْلَاةْ ... عَمْرَو بْنَ يَرْبُوعٍ لِئَامَ النَّاتْ
لَيْسُوا بِأَعْفَافٍ وَلَا أَكَيَاتْ
وَقَوْلُهُ «النَّاتُ» أَصْلُهُ «النَّاسُ» أُبْدِلَتْ فِيهِ السِّينُ تَاءً. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ «أَكَيَاتٌ» أَصْلُهُ «أَكْيَاسٌ» جَمْعُ كَيِّسٍ، أُبْدِلَتْ فِيهِ السِّينُ تَاءً أَيْضًا. وَقَالَ الْمَعَرِّيُّ يَصِفُ مَرَاكِبَ إِبِلٍ مُتَغَرِّبَةٍ عَنِ الْأَوْطَانِ، إِذَا رَأَتْ لَمَعَانَ الْبَرْقِ تَشْتَاقُ إِلَى أَوْطَانِهَا. فَزَعَمَ أَنَّهُ يَسْتُرُ عَنْهَا الْبَرْقَ لِئَلَّا يُشَوِّقُهَا إِلَى أَوْطَانِهَا كَمَا كَانَ عَمْرٌو يَسْتُرُهُ عَنْ سَعْلَاتِهِ:
إِذَا لَاحَ إِيمَاضٌ سَتَرْتُ وُجُوهَهَا ... كَأَنِّي عَمْرٌو وَالْمُطِيُّ سَعَالِي
وَالسَّعْلَاةُ: عَجُوزُ الْجِنِّ. وَقَدْ رُوِيَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَحَدُ أَبَوَيْ بِلْقِيسَ كَانَ جنِّيًّا» (1) قَالَ صَاحِبُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: أَخْرَجَهُ أَبُو الشَّيْخِ فِي الْعَظَمَةِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ فِي التَّفْسِيرِ، وَابْنُ عَسَاكِرَ: وَقَالَ شَارِحُهُ المنَاوي: فِي إِسْنَادِهِ سَعِيدُ بْنُ بِشْرٍ قَالَ فِي الْمِيزَانِ عَنِ ابْنِ مَعِينٍ: ضَعِيفٌ. وَعَنِ ابْنِ مُسْهِرٍ: لَمْ يَكُنْ بِبَلَدِنَا أَحْفَظُ مِنْهُ، وَهُوَ ضَعِيفٌ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ، ثُمَّ سَاقَ مِنْ مَنَاكِيرِهِ هَذَا الْخَبَر. وَبَشِيرُ بْنُ نَهِيكٍ أَوْرَدَهُ الذَّهَبِيُّ فِي الضُّعَفَاءِ. وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: لَا يُحْتَجُّ بِهِ. وَوَثَّقَهُ النَّسَائِيُّ. انْتَهَى.
وَقَالَ الْمَنَاوِيُّ فِي شَرْحِ حَدِيثِ «أَحَدُ أَبَوَيْ بِلْقِيسَ كَانَ جِنِّيًا» قَالَ قَتَادَةُ: وَلِهَذَا كَانَ مُؤَخَّرُ قَدَمَيْهَا كَحَافِرِ الدَّابَّةِ. وَجَاءَ فِي آثَارٍ: أَنَّ الْجِنِّيَّ الْأُمُّ، وَذَلِكَ أَنَّ أَبَاهَا مَلِكَ الْيَمَنِ خَرَجَ لِيَصِيدَ فَعَطِشَ، فَرُفِعَ لَهُ خِبَاءٌ فِيهِ شَيْخٌ فَاسْتَسْقَاهُ، فَقَالَ: يَا حَسَنَةُ اسْقِي عَمَّكِ، فَخَرَجَتْ كَأَنَّهَا شَمْسٌ بِيَدِهَا كأس
_________
(1) - والْحَدِيث ضعفه الشَّيْخ الألباني - رَحمَه الله - فِي الضعيفة (1818) .(2/412)
مِنْ يَاقُوتٍ، فَخَطَبَهَا مِنْ أَبِيهَا، فَذَكَرَ أَنَّهُ جِنِّيُّ، وَزَوَّجَهَا مِنْهُ بِشَرْطِ أَنَّهُ إِنْ سَأَلَهَا عَنْ شَيْءٍ عَمِلَتْهُ فَهُوَ طَلَاقُهَا، فَأَتَتْ مِنْهُ بِوَلَدٍ ذَكَرٍ، وَلَمْ يُذَكِّرْ قَبْلَ ذَلِكَ، فَذَبَحَتْهُ فَكَرَبَ لِذَلِكَ، وَخَافَ أَنْ يَسْأَلَهَا فَتَبِينُ مِنْهُ، ثُمَّ أَتَتْ بِبِلْقِيسَ فَأَظْهَرَتِ الْبِشْرَ فَاغْتَمَّ فَلَمْ يَمْلِكْ أَنْ سَأَلَهَا، فَقَالَتْ: هَذَا جَزَائِي مِنْكَ! بَاشَرْتُ قَتْلَ وَلَدِي مِنْ أَجْلِكَ! وَذَلِكَ أَنْ أَبِي يَسْتَرِقُ السَّمْعَ فَسَمِعَ الْمَلَائِكَةَ تَقُولُ: إِنَّ الْوَلَدَ إِذَا بَلَغَ الْحُلُمَ ذَبَحَكَ، ثُمَّ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فِي هَذِهِ فَسَمِعَهُمْ يُعَظِّمُونَ شَأْنَهَا، وَيَصِفُونَ مُلْكَهَا، وَهَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنَكَ، فَلَمْ يَرَهَا بَعْدُ. هَذَا مَحْصُولُ مَا رَوَاهُ ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ يَحْيَى الْغَسَّانِيِّ اهـ مِنْ شَرْحِ المنَاوي لِلْجَامِعِ الصَّغِيرِ.
وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ «سُورَةِ النَّحْلِ» : كَانَ أَبُو بِلْقِيسَ وَهُوَ السَّرْحُ بْنُ الْهُدَاهِدِ بْنِ شُرَاحِيلَ، مَلِكًا عَظِيمَ الشَّأْنِ، وَكَانَ يَقُولُ لِمُلُوكِ الْأَطْرَافِ: لَيْسَ أَحَدٌ مِنْكُمْ كُفْأً لِي، وَأَبَى أَنْ يَتَزَوَّجَ مِنْهُمْ، فَزَوَّجُوهُ امْرَأَةً مِنَ الْجِنِّ يُقَالُ لَهَا رَيْحَانَةُ بَنَتُ السَّكَنِ؛ فَوَلَدَتْ لَهُ بِلْقِمَةَ وَهِيَ بِلْقِيسُ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ غَيْرُهَا. وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: قَالَ النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَانَ أَحَدُ أَبَوَيْ بِلْقِيسَ جِنِّيًّا» (1) إِلَى أَنْ قَالَ: وَيُقَالُ إِنَّ سَبَبَ تَزَوُّجِ أَبِيهَا مِنَ الْجِنِّ أَنَّهُ كَانَ وَزِيرًا لِمَلِكٍ عَاتٍ، يَغْتَصِبُ نِسَاءَ الرَّعِيَّةِ، وَكَانَ الْوَزِيرُ غَيُورًا فَلَمْ يَتَزَوَّجْ، فَصَحِبَ مَرَّةً فِي الطَّرِيقِ رَجُلًا لَا يَعْرِفُهُ فَقَالَ: هَلْ لَكَ مِنْ زَوْجَةٍ؟ فَقَالَ: لَا أَتَزَوَّجُ أَبَدًا، فَإِنَّ مَلِكَ بَلَدِنَا يَغْتَصِبُ النِّسَاءَ مِنْ أَزْوَاجِهِنَّ، فَقَالَ: لَئِنْ تَزَوَّجْتَ ابْنَتِي لَا يَغْتَصِبُهَا أَبَدًا، قَالَ: بَلْ يَغْتَصِبُهَا! قَالَ: إِنَّا قَوْمٌ مِنَ الْجِنِّ لَا يَقْدِرُ عَلَيْنَا، فَتَزَوَّجَ ابْنَتَهُ فَوَلَدَتْ لَهُ بِلْقِيسَ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الرِّوَايَاتِ.
وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ أَيْضًا: وَرَوَى وُهَيْبُ بْنُ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ، عَنِ الْخَلِيلِ بْنِ أَحْمَدَ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ حَاضِرٍ قَالَ: كَانَتْ أُمُّ بِلْقِيسَ من الْجِنّ، يُقَال لَهَا:
_________
(1) - سبق تَخْرِيجه آنِفا.(2/413)
بِلْعِمَةُ بِنْتُ شَيْصَانَ.
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: الظَّاهِرُ أَنَّ الْحَدِيثَ الْوَارِدَ فِي كَوْنِ أَحَدِ أَبَوَيْ بِلْقِيسَ جِنِّيًّا ضَعِيفٌ، وَكَذَلِكَ الْآثَارُ الْوَارِدَةُ فِي ذَلِكَ لَيْسَ مِنْهَا شَيْءٌ يَثْبُتُ.
مَسْأَلَةٌ
اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي جَوَازِ الْمُنَاكَحَةِ بَيْنَ بَنِي آدَمَ وَالْجِنِّ. فَمَنَعَهَا جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَأَبَاحَهَا بَعْضُهُمْ.
قَالَ الْمَنَاوِيُّ (فِي شَرْحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ) : فَفِي الْفَتَاوَى السِّرَاجِيَّةِ لِلْحَنَفِيَّةِ: لَا تَجُوزُ الْمُنَاكَحَةُ بَيْنَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ وَإِنْسَانِ الْمَاءِ. لِاخْتِلَافِ الْجِنْسِ. وَفِي فَتَاوَى الْبَارِزِيِّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: لَا يَجُوزُ التَّنَاكُحُ بَيْنَهُمَا. وَرَجَّحَ ابْنُ الْعِمَادِ جَوَازَهُ اهـ.
وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا مُسْتَنْكَرٌ لِلْعُقُولِ. لِتَبَايُنِ الْجِنْسَيْنِ، وَاخْتِلَافِ الطَّبْعَيْنِ. إِذِ الْآدَمِيُّ جُسْمَانِيٌّ، وَالْجِنِّيُّ رُوحَانِيٌّ. وَهَذَا مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ، وَذَلِكَ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ، وَالِامْتِزَاجُ مَعَ هَذَا التَّبَايُنِ مَدْفُوعٌ، وَالتَّنَاسُلُ مَعَ هَذَا الِاخْتِلَافِ مَمْنُوعٌ اهـ.
وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ الْمَالِكِيِّ: نِكَاحُهُمْ جَائِزٌ عَقْلًا. فَإِنْ صَحَّ نَقْلًا فَبِهَا وَنِعْمَتْ.
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: لَا أَعْلَمُ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَلَا فِي سُنَّةِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَصًّا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ مُنَاكَحَةِ الْإِنْسِ الْجِنَّ، بَلِ الَّذِي يُسْتَرْوَحُ مِنْ ظَوَاهِرِ الْآيَاتِ عَدَمُ جَوَازِهِ. فَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا} . مُمْتَنًّا عَلَى بَنِي آدَمَ بِأَنَّ أَزْوَاجَهُمْ مِنْ نَوْعِهِمْ وَجِنْسِهِمْ يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّهُ مَا جَعَلَ لَهُمْ أَزْوَاجًا تُبَايِنُهُمْ كَمُبَايَنَةِ الْإِنْسِ لِلْجِنِّ، وَهُوَ ظَاهِرٌ.
وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً(2/414)
لِّتَسْكُنُواْ إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً} . فَقَوْلُهُ: {أَنْ خَلَقَ لَكُم مّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْواجاً} فِي مَعْرِضِ الِامْتِنَانِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَا خَلَقَ لَهُمْ أَزْوَاجًا مِنْ غَيْرِ أَنْفُسِهِمْ. وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ مَا تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ مِنْ «أَنَّ النَّكِرَةَ فِي سِيَاقِ الِامْتِنَانِ تَعُمُّ» فَقَوْلُهُ: {جَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا} جَمْعٌ مُنْكَرٌ فِي سِيَاقِ الِامْتِنَانِ فَهُوَ يَعُمُّ، وَإِذَا عَمَّ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى حَصْرِ الْأَزْوَاجِ الْمَخْلُوقَةِ لَنَا فِيمَا هُوَ مِنْ أَنْفُسِنَا، أَيْ مِنْ نَوْعِنَا وَشَكْلِنَا. مَعَ أَنَّ قَوْمًا مِنْ أَهْلِ الْأُصُولِ زَعَمُوا «أَنَّ الْجُمُوعَ الْمُنْكَرَةَ فِي سِيَاقِ الْإِثْبَاتِ مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ» ، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهَا فِي سِيَاقِ الْإِثْبَاتِ لَا تَعُمُّ، وَعَلَيْهِ دَرَجَ فِي مَرَاقِي السُّعُودِ حَيْثُ قَالَ فِي تَعْدَادِهِ لِلْمَسَائِلِ الَّتِي عُدِمَ الْعُمُومُ فِيهَا أَصَحُّ:
مِنْهُ مُنْكَرُ الْجُمُوعِ عُرْفًا ... وَكَانَ وَالَّذِيَ عَلَيْهِ انْعَطَفَا
أَمَّا فِي سِيَاقِ الِامْتِنَانِ فَالنَّكِرَةُ تَعُمُّ. وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ «أَنَّ النَّكِرَةَ فِي سِيَاقِ الِامْتِنَانِ تَعُمُّ» ، كَقَوْلِهِ: {وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَآءِ مَآءً طَهُوراً} أَيْ فَكُلُّ مَاءٍ نَازِلٍ مِنَ السَّمَاءِ طَهُورٌ، وَكَذَلِكَ النَّكِرَةُ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ أَوِ الشَّرْطِ أَوِ النَّهْيِ، كَقَوْلِهِ: {مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} ، وَقَوْلِهِ: {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ} ، وَقَوله: {وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً} . وَيَسْتَأْنِسُ لِهَذَا بِقَوْلِهِ: {وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ} فَإِنَّهُ يَدُلُّ فِي الْجُمْلَةِ عَلَى أَنَّ تَرْكَهُمْ مَا خلق الله لَهُم من أَزوَاجهم، وتعديه إِلَى غَيْرِهِ يَسْتَوْجِبُ الْمَلَامَ، وَإِنْ كَانَ أَصْلُ التَّوْبِيخِ وَالتَّقْرِيعِ عَلَى فَاحِشَةِ اللِّوَاطِ؛ لِأَنَّ أَوَّلَ الْكَلَامِ {أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ} فَإِنَّهُ وَبَّخَهُمْ عَلَى أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِتْيَانُ الذُّكُورِ. وَالثَّانِي: تَرْكُ مَا خَلَقَ لَهُمْ رَبُّهُمْ مِنْ أَزْوَاجِهِمْ.
وَقَدْ دَلَّتِ الْآيَاتُ الْمُتَقَدِّمَةُ عَلَى أَنَّ مَا خُلِقَ لَهُمْ مِنْ أَزْوَاجِهِمْ، هُوَ الْكَائِنُ(2/415)
مِنْ أَنْفُسِهِمْ. أَيْ مِنْ نَوْعِهِمْ وَشَكْلِهِمْ. كَقَوْلِهِ: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا} ، وَقَوْلِهِ: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً} ، فَيُفِيدُ أَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ لَهُمْ أَزْوَاجًا مِنْ غير أنفسهم. وَالْعلم عِنْد الله تَعَالَى.] (1) .
باب الْإِيمَان بالكتب
- الْإِيمَان بالكتب كلهَا.
[قَوْله تَعَالَى: {وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّه} يَعْنِي: وَتُؤْمِنُونَ بِالْكُتُبِ كُلِّهَا كَمَا يَدُلُّ لَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَقُلْ آمَنتُ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَابٍ} ، وَقَوله: {كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ} ] (2) .
- صحف إِبْرَاهِيم ومُوسَى - عَلَيْهِمَا السَّلَام -.
[قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْراهِيمَ} لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا هَذَا الَّذِي أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ فِي سُورَةِ «الْأَعْلَى» أَنَّهُ صُحُفٌ وَأَنَّ مِنْ جُمْلَةِ مَا فِي تِلْكَ الصُّحُفِ: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحياةَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: {إِنَّ هَذَا لَفِى الصُّحُفِ الْأُولَى صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسَى} .
قَوْله تَعَالَى: {وَمَآ أُوتِىَ مُوسَى وَعِيسَى} لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا مَا أُوتِيَهُ مُوسَى وَعِيسَى، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَهُ فِي مَوَاضِعَ أُخر. فَذَكَرَ أَنَّ مَا أُوتيه مُوسَى هُوَ التَّوْرَاةُ الْمُعَبَّرُ عَنْهَا بِالصُّحُفِ فِي قَوْلِهِ: {صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسَى} ، وَذَلِكَ كَقَوْلِهِ: {ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} وَهُوَ التَّوْرَاةُ بِالْإِجْمَاعِ. وَذَكَرَ أَنَّ مَا أُوتِيَهُ عِيسَى هُوَ الْإِنْجِيلُ كَمَا فِي قَوْله: {وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ
_________
(1) - 3/290: 292، النَّحْل / 27.
(2) - 1/251، آل عمرَان / 119، وَانْظُر أَيْضا (5/31) (الْحَج/5) .(2/416)
وَآتَيْنَاهُ الإنجِيلَ} .] (1) .
وَقَالَ أَيْضا: [قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} الظَّاهِر فِي مَعْنَاهُ: أَنَّ الْفُرْقَانَ هُوَ الْكِتَابُ الَّذِي أُوتِيَهُ مُوسَى، وَأَنَّمَا عَطَفَ عَلَى نَفْسِهِ؛ تَنْزِيلًا لِتَغَايُرِ الصِّفَاتِ مَنْزِلَةَ تَغَايُرِ الذَّوَاتِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْكِتَابَ الَّذِي هُوَ التَّوْرَاةُ مَوْصُوفٌ بِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَكْتُوبٌ كَتَبَهُ اللَّه لِنَبِيِّهِ مُوسَى عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ فُرْقَانٌ أَيْ فَارَقَ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، فَعَطَفَ الْفُرْقَانَ عَلَى الْكِتَابِ، مَعَ أَنَّهُ هُوَ نَفْسُهُ نَظَرًا لتغاير الصفتين، كَقَوْل الشَّاعِرِ:
إِلَى الْمَلِكِ الْقِرْمِ وَابْنِ الْهُمَامِ ... وَلَيْثِ الكتيبة فِي المزدحم
ثمَّ قَالَ: وَالدَّلِيل من القرءان عَلَى أَنَّ الْفُرْقَانَ هُوَ مَا أُوتِيَهُ مُوسَى، قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ} .] (2) .
وَقَالَ صَاحب التَّتِمَّة - رَحمَه الله -: [وَجَاءَ عِنْدَ الْقُرْطُبِيِّ: أَنَّ صُحُفَ إِبْرَاهِيمَ كَانَتْ أَمْثَالًا، وَصُحُفَ مُوسَى كَانَتْ مَوَاعِظَ، وَذَكَرَ نَمَاذِجَ لَهَا.
وَعِنْدَ الْفَخْرِ الرَّازِيِّ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّهُ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «كَمْ أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ؟ فَقَالَ: مِائَةً وَأَرْبَعَةَ كُتُبٍ عَلَى آدَمَ عَشْرَ صُحُفٍ، وَعَلَى شِيثَ خَمْسِينَ صَحِيفَةً: وَعَلَى إِدْرِيسَ ثَلَاثِينَ صَحِيفَةً، وَعَلَى إِبْرَاهِيمَ عشر صَحَائِف والتوراة وَالْإِنْجِيل وَالزَّبُور وَالْفرْقَان» (3) .
_________
(1) - 1/74، الْبَقَرَة / 136.
(2) - 1/66، الْبَقَرَة/33.
(3) - أخرجه ابْن حبَان فِي "صَحِيحه" (2/76) (361) ، وَأَبُو نعيم فِي الْحِلْية (1/166) من طَرِيق إِبْرَاهِيم بن هِشَام بن يحيى بن يحيى الغساني عَن أَبِيه عَن جده عَن أبي إِدْرِيس الْخَولَانِيّ عَن أبي ذَر مطولا، الحَدِيث وَإِسْنَاده ضَعِيف جدا فإبراهيم بن هِشَام بن يحيى بن يحيى الغساني فال عَنهُ أَبُو حَاتِم، وَأَبُو زرْعَة: كَذَّاب، وَقَالَ عَنهُ الذَّهَبِيّ: مَتْرُوك. إِلَّا أَن الشَّيْخ الألباني - رَحمَه الله - فِي الصَّحِيحَة (6/361 - 364) ذكر لَهُ متابعات عِنْد أبي نعيم وَلم يسق لَفظهَا، وَمَال إِلَى تَقْوِيَة الحَدِيث بِطُولِهِ.(2/417)
وَفِي هَذَا نَصٌّ عَلَى أَنَّ فِي الْقُرْآنِ مِمَّا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى، وَقَدْ جَاءَ مَا يَدُلُّ أَنْ مَعَانٍ أُخْرَى كَذَلِكَ
فِي صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى كَمَا فِي سُورَةِ النَّجْمِ فِي قَوْلِهِ: {أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِى صُحُفِ مُوسَى وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِى وَفَّى أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى} .
وَهَذَا يُؤَيِّدُ أَنَّهَا أَكْثَرُهَا أَمْثَالًا وَمَوَاعِظَ، كَمَا يُؤَكِّدُ تَرَابُطَ الْكتب السماوية.] (1) .
- الْكتاب الَّذِي أَخذه يحيى - عَلَيْهِ السَّلَام - بِقُوَّة هُوَ: التَّوْرَاة.
[اعْلَمْ أَنَّهُ هُنَا وَصَفَهُ بِأَنَّهُ قَالَ لَهُ {يايَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} وَوَصَفَهُ بِقَوْلِهِ {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ} إِلَى قَوْلِهِ {وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَياً} . فَقَوْلُهُ {يايَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ} مَقُولُ قَوْلٍ مَحْذُوفٍ. أَيْ وَقُلْنَا لَهُ يَا يحيى خُذ الْكتاب بِقُوَّة. وَالْكتاب: التوارة. أَيْ خُذِ التَّوْرَاةَ بِقُوَّةٍ. أَيْ بِجِدٍّ وَاجْتِهَادٍ، وَذَلِكَ بِتَفَهُّمِ الْمَعْنَى أَوَّلًا حَتَّى يَفْهَمَهُ عَلَى الْوَجْهِ الصَّحِيحِ، ثُمَّ يَعْمَلَ بِهِ مِنْ جَمِيعِ الْجِهَاتِ، فَيَعْتَقِدَ عَقَائِدَهُ، وَيُحِلَّ حَلَالَهُ، وَيُحَرِّمَ حَرَامَهُ، وَيَتَأَدَّبَ بِآدَابِهِ، وَيَتَّعِظَ بِمَوَاعِظِهِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ جِهَاتِ الْعَمَلِ بِهِ. وَعَامَّةُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَن المُرَاد بِالْكتاب هُنَا: التوارة. وَحَكَى غَيْرُ وَاحِدٍ عَلَيْهِ الْإِجْمَاعَ.
وَقِيلَ: هُوَ كِتَابٌ أُنْزِلَ عَلَى يَحْيَى، وَقِيلَ: هُوَ اسْمُ جِنْسٍ يَشْمَلُ الْكُتُبَ الْمُقَدَّمَةَ. وَقِيلَ: هُوَ صُحُفُ إِبْرَاهِيم. وَالْأَظْهَر قَول الْجُمْهُور: إِنَّه التَّوْرَاة
_________
(1) - 9/184، الْأَعْلَى/16: 19.(2/418)
كَمَا قدمنَا.] (1) .
- معنى تَنْزِيل الْقُرْآن على قلب النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
[قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ} ظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ أَن جِبْرِيل ألْقى القرءان فِي قَلْبِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَيْرِ سَمَاعِ قِرَاءَةٍ وَنَظِيرُهَا فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ} . وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ فِي مَوَاضِعَ أُخر أَنَّ مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ الْمَلَكَ يَقْرَؤُهُ عَلَيْهِ حَتَّى يَسْمَعَهُ مِنْهُ، فَتَصِلُ مَعَانِيهِ إِلَى قَلْبِهِ بَعْدَ سَمَاعِهِ وَذَلِكَ هُوَ مَعْنَى تَنْزِيلِهِ عَلَى قَلْبِهِ. وَذَلِكَ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {لاَ تُحَرّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} ، وَقَوْلِهِ: {وَلاَ تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ إَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُل رَّبّ زِدْنِى عِلْماً} .] (2) .
باب الْإِيمَان بالرسل الْكِرَام - عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام -
فصل وجوب الْإِيمَان بِجَمِيعِ الرُّسُل - عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام -.
[قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ} لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا هَذَا الَّذِي أَمَرَ بِهِ أَنْ يُوصَلَ، وَقَدْ أَشَارَ إِلَى أَنَّ مِنْهُ الْأَرْحَامَ بِقَوْلِهِ: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُواْ فِى الاْرْضِ وَتُقَطّعُواْ أَرْحَامَكُمْ} .
وَأَشَارَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ إِلَى أَنَّ مِنْهُ الْإِيمَانَ بِجَمِيعِ الرُّسُلِ، فَلَا يَجُوزُ قَطْعُ بَعْضِهِمْ عَنْ بَعْضٍ فِي ذَلِكَ بِأَنْ يُؤْمِنَ بِبَعْضِهِمْ دون بَعضهم الآخر. وَذَلِكَ
_________
(1) - 4/244 - 245، مَرْيَم / 12: 15.
(2) - 1/71، الْبَقَرَة/97.(2/419)
فِي قَوْلِهِ: {وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقّاً} .] (1) .
- تَكْذِيب لرَسُول وَاحِد تَكْذِيب لجَمِيع الرُّسُل.
[قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ: التَّحْقِيقُ فِي الْجَوَابِ، أَنَّ مَنْ كَذَّبَ رَسُولًا وَاحِدًا فَقَدْ كَذَّبَ جَمِيعَ الْمُرْسَلِينَ، وَمَنْ كَذَّبَ نَذِيرًا وَاحِدًا فَقَدْ كَذَّبَ جَمِيعَ النُّذُرِ، لِأَنَّ أَصْلَ دَعْوَةِ جَمِيعِ الرُّسُلِ وَاحِدَةٌ، وَهِيَ مَضْمُونُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ كَمَا أَوْضَحَهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِى كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ وَاجْتَنِبُواْ الْطَّاغُوتَ} وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِى إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلاَّ أَنَاْ فَاعْبُدُونِ} . وَقَوله تَعَالَى: {وَاسْئلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَآ أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} .
وَأَوْضَحَ تَعَالَى أَن من كذب بَعضهم فقد كذب جَمِيع فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقّاً} ، وَأَشَارَ إِلَى ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: {لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ} . وَقَوْلِهِ {لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} . وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ آمَنُواْ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُواْ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ} .
وَقَدْ أَوْضَحَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ أَنَّ تَكْذِيبَ رَسُولٍ وَاحِدٍ تَكْذِيبٌ لِجَمِيعِ الرُّسُلِ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ} ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ تَكْذِيبَهُمْ لِلْمُرْسَلِينَ إِنَّمَا وَقَعَ بِتَكْذِيبِهِمْ نوحًا وَحده، حَيْثُ فَرد ذَلِك بقوله:
_________
(1) - 1/47 - 48، الْبَقَرَة / 27.(2/420)
{إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلاَ تَتَّقُونَ} إِلَى قَوْلِهِ {قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِى كَذَّبُونِ} وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ} ، ثُمَّ بَيَّنَ أَن ذَلِك بتكذيب هود وَحده، حَيْثُ فَرده بِقَوْلِهِ: {إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلاَ تَتَّقُونَ} وَنَحْوِ ذَلِكَ. فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي قِصَّةِ صَالِحٍ وَقَوْمِهِ، وَلُوطٍ وَقَوْمِهِ، وَشُعَيْبٍ وَأَصْحَابِ الْأَيْكَةِ، كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ، وَهُوَ وَاضِحٌ لَا خَفَاءَ فِيهِ، وَيَزِيدُهُ إِيضَاحًا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِنَّا مَعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ أَوْلَادُ عَلَّاتٍ دِينُنَا وَاحِدٌ» (1) يَعْنِي أَنَّهُمْ كُلَّهُمْ مُتَّفِقُونَ فِي الْأُصُولِ وَإِنِ اخْتَلَفَتْ شَرَائِعُهُمْ فِي بَعْضِ الْفُرُوعِ.] (2) .
- لَا طَرِيق لمعْرِفَة أوَامِر الله ونواهيه إِلَّا عَن طَرِيق الْوَحْي.
[لَا يَخْفَى عَلَى مَنْ لَهُ إِلْمَامٌ بِمَعْرِفَةِ دِينِ الْإِسْلَامِ أَنَّهُ لَا طَرِيقَ تُعْرَفُ بِهَا أَوَامِرُ اللَّهِ وَنَوَاهِيهِ، وَمَا يُتَقَرَّبُ إِلَيْهِ بِهِ مِنْ فِعْلٍ وَتَرْكٍ إِلَّا عَنْ طَرِيقِ الْوَحْيِ؛ فَمَنِ ادَّعَى أَنَّهُ غَنِيٌّ فِي الْوُصُولِ إِلَى مَا يُرْضِي ربه عَن الرُّسُل، وَمَا جاؤوا بِهِ وَلَوْ فِي مَسْأَلَةٍ وَاحِدَةٍ فَلَا شَكَّ فِي زَنْدَقَتِهِ. وَالْآيَاتُ وَالْأَحَادِيثُ الدَّالَّةُ عَلَى هَذَا لَا تُحْصَى، قَالَ تَعَالَى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} ... ] (3) .
- دُعَاء الْأَنْبِيَاء - عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام - مستجاب.
نقل الْعَلامَة الشنقيطي - رَحمَه الله - عَن الْمجد فِي الْمُنْتَقى قَوْله: [وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةٌ مُسْتَجَابَةٌ فَتَعَجَّلَ كُلُّ نَبِيٍّ دَعْوَتَهُ، وَإِنِّي اخْتَبَأْتُ دَعْوَتِي شَفَاعَةً لِأُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ. فَهِيَ نَائِلَةٌ إِن شَاءَ الله
_________
(1) - أخرجه البُخَارِيّ (3/1270) (3259) ، وَمُسلم (4/1837) (2365) مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
(2) - 7/727 - 728، الْقَمَر / 41 - 42، وَانْظُر أَيْضا: 1/74 - 75، الْبَقَرَة / 136.
(3) - 4/174، الْكَهْف / 65، وَانْظُر (7/676) (الذاريات/56) .(2/421)
مَنْ مَاتَ مِنْ أُمَّتِي لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئا» رَوَاهُ ... مُسلم (1) .] (2) .
وَقَالَ صَاحب التَّتِمَّة - رَحمَه الله -: [قَوْله تَعَالَى: {الَّذِى أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خوْفٍ} : إِنَّ فِي هَذِهِ السُّورَةِ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ دَعْوَةَ الْأَنْبِيَاءِ مُسْتَجَابَةٌ، لِأَنَّ الْخَلِيلَ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبينَا الصَّلَاة وَالسَّلَام دَعَا لأهل الْحَرَام بِقَوْلِهِ: {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مَّنَ النَّاسِ تَهْوِى إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِّنَ الثَّمَرَاتِ} .
وَقَالَ أَيْضا: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ} ، فَأَطْعَمَهُمُ اللَّهُ مِنْ جُوعٍ وَآمَنُهُمْ مِنْ خَوْفٍ، وَبَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِم آيَاته.] (3) .
- مِيرَاث الْأَنْبِيَاء - عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام -.
[قَوْله تَعَالَى عَنْ زَكَرِيَّا: {وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِىَ مِن وَرَآئِى وَكَانَتِ امْرَأَتِى عَاقِرًا فَهَبْ لِى مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً يَرِثُنِى وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً} .
مَعْنَى قَوْلِهِ: {خِفْتُ الْمَوَالِىَ} أَيْ خِفْتُ أَقَارِبِي وَبَنِي عَمِّي وَعُصْبَتِي: أَنْ يُضَيِّعُوا الدِّينَ بَعْدِي، وَلَا يَقُومُوا لِلَّهِ بِدِينِهِ حَقَّ الْقِيَامِ، فَارْزُقْنِي وَلَدًا يَقُومُ بَعْدِي بِالدِّينِ حَقَّ الْقيام. وَبِهَذَا التَّفْسِير تعلم أَن معنى قومه «يَرِثنِي» أَنه إِرْث وَعلم وَنُبُوَّةٍ، وَدَعْوَةٍ إِلَى اللَّهِ وَالْقِيَامِ بِدِينِهِ، لَا إِرْثَ مَالٍ، وَيَدُلُّ لِذَلِكَ أَمْرَانِ:
أَحَدُهُمَا: قَوْلُهُ {وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} وَمَعْلُومٌ أَنَّ آلَ يَعْقُوب انقرضوا
_________
(1) - صَحِيحِ مُسْلِمٍ (1/189) (199) مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
(2) - 4/344 - 345، مَرْيَم / 59 - 60.
(3) - 9/539 - 540، قُرَيْش / 4.(2/422)
مِنْ زَمَانٍ، فَلَا يُورَثُ عَنْهُمْ إِلَّا الْعِلْمُ وَالنُّبُوَّةُ وَالدِّينُ.
وَالْأَمْرُ الثَّانِي: مَا جَاءَ مِنَ الْأَدِلَّةِ عَلَى أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ لَا يُورَثُ عَنْهُمُ الْمَالُ، وَإِنَّمَا يُورَثُ عَنْهُمُ الْعِلْمُ وَالدِّينُ، فَمِنْ ذَلِكَ مَا أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَا نُورَثُ، مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ» (1) ، وَمِنْ ذَلِكَ أَيْضًا مَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ أَيْضًا عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لِعُثْمَانَ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَالزُّبَيْرِ وَسَعْدٍ، وَعَلِيٍّ، وَالْعَبَّاسِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ: «أَنْشُدُكُمُ اللَّهَ الَّذِي بِإِذْنِهِ تَقُومُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ، أَتَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا نُورَثُ مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ» ، قَالُوا: نَعَمْ (2) . وَمِنْ ذَلِكَ مَا أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ أَيْضًا عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ أَزْوَاجَ النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ تُوَفِّي أَرَدْنَ أَنْ يَبْعَثْنَ عُثْمَانَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ يَسْأَلْنَهُ مِيرَاثَهُنَّ. فَقَالَتْ عَائِشَةُ: أَلَيْسَ قَالَ النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ» (3) . وَمِنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ أَيْضًا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم: «لَا تقتسم ورثني دِينَارا، مَا تركتُ بعد نَفَقَة نسَائِي ومؤونة عَامِلِي فَهُوَ صدقةٌ» (4) وَفِي لَفْظٍ عِنْدَ أَحْمَدَ: «لَا تقتسم ورثني دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا» (5) .
وَمِنْ ذَلِكَ أَيْضًا مَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ فَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ لِأَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: مَنْ يَرِثُكَ إِذَا مِتَّ؟ قَالَ: وَلَدِي وَأَهْلِي، قَالَتْ: فَمَا لَنَا لَا نَرِثُ النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّ النَّبي لَا يُورَثُ» وَلَكِنْ أعول من كَانَ رَسُول الله
_________
(1) - أخرجه البُخَارِيّ (3/1126) (2926) ، وَمُسلم (3/1380) (1759) .
(2) - أخرجه البُخَارِيّ (5/2048) (5043) ، وَمُسلم (3/1376) (1757) .
(3) - أخرجه البُخَارِيّ (6/2475) (6349) ، وَمُسلم (3/1379) (1758) .
(4) - أخرجه البُخَارِيّ (3/1020) (2624) ، وَمُسلم (3/1382) (1760) .
(5) - أخرجه أَحْمد (2/242) .(2/423)
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعُولُهُ، وَأُنْفِقُ عَلَى مَنْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُنْفِقُ (1) .
فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ وَأَمْثَالُهَا ظَاهِرَةٌ فِي أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَا يُورَثُ عَنْهُمُ الْمَالُ بَلِ الْعِلْمُ وَالدِّينُ. فَإِنْ قِيلَ: هَذَا مُخْتَصٌّ بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. لِأَنَّ قَوْلَهُ «لَا نُورَثُ» يَعْنِي بِهِ نَفْسَهُ. كَمَا قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ عَنْهُ آنِفًا: أُنْشِدُكُمْ بِاللَّهِ الَّذِي بِإِذْنِهِ تَقُومُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ، هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا نُورَثُ مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ» يُرِيدُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَفْسَهُ، فَقَالَ الرَّهْطُ: قَدْ قَالَ ذَلِكَ الْحَدِيثَ. فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّ عُمَرَ قَالَ: أَنَّ مُرَادَ النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ «لَا نُورَثُ» نَفْسُهُ، وَصَدَّقَهُ الْجَمَاعَةُ الْمَذْكُورُونَ فِي ذَلِكَ، وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى الْخُصُوصِ فَلَا مَانِعَ إِذَنْ مِنْ كَوْنِ الْمَوْرُوثِ عَنْ زَكَرِيَّا فِي الْآيَةِ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِهَا هُوَ الْمَالُ؟ فَالْجَوَابُ مِنْ أَوْجُهٍ:
الْأَوَّلُ: أَنَّ ظَاهِرَ صِيغَةِ الْجَمْعِ شُمُولُ جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ، فَلَا يَجُوزُ الْعُدُولُ عَنْ هَذَا الظَّاهِرِ إِلَّا بِدَلِيلٍ مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ. وَقَوْلُ عُمَرَ لَا يَصِحُّ تَخْصِيصُ نَصٍّ مِنَ السُّنَّةِ بِهِ؛ لِأَنَّ النُّصُوصَ لَا يَصِحُّ تَخْصِيصُهَا بِأَقْوَالِ الصَّحَابَةِ عَلَى التَّحْقِيقِ كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي الْأُصُولِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَ عُمَرَ «يُرِيدُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَفْسَهُ» لَا يُنَافِي شُمُولَ الْحُكْمِ لِغَيْرِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ قَصْدُهُ يُرِيدُ أَنَّهُ هُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْنِي نَفْسَهُ فَإِنَّهُ لَا يُورَثُ، وَلَمْ يَقُلْ عُمَرُ إِنَّ اللَّفْظَ لَمْ يَشْمَلْ غَيْرَهُ، وَكَوْنُهُ يَعْنِي نَفْسَهُ لَا يُنَافِي أَنَّ غَيْرَهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ لَا يُورَثُ أَيْضًا.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: مَا جَاءَ مِنَ الْأَحَادِيثِ صَرِيحًا فِي عُمُوم عدم الْإِرْث المَال فِي جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ. وَسَنَذْكُرُ طَرَفًا مِنْ ذَلِكَ هُنَا إِنْ شَاءَ الله تَعَالَى.
_________
(1) - أخرجه التِّرْمِذِيّ (4/157) (1608) ، وَقَالَ حسن غَرِيب، وَأحمد (1/10) ، وَلم يذكر أَحْمد أَبَا هُرَيْرَة فِي إِسْنَاده، والْحَدِيث صَححهُ الشَّيْخ الألباني - رَحمَه الله -.(2/424)
قَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي فَتْحِ الْبَارِي مَا نَصُّهُ: وَأَمَّا مَا اشْتُهِرَ فِي كُتُبِ أَهْلِ الْأُصُولِ وَغَيْرِهِمْ بِلَفْظِ «نَحْنُ مَعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ لَا نُورَثُ» (1) فَقَدْ أَنْكَرَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ، وَهُوَ كَذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ لِخُصُوصِ لَفْظِ «نَحْنُ» لَكِنْ أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ بِلَفْظِ «إِنَّا مَعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ لَا نُورَثُ» (2) الْحَدِيثَ وَأَخْرَجَهُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مَنْصُورٍ، عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ عَنْهُ، وَهُوَ كَذَلِكَ فِي مُسْنَدِ الْحُمَيْدِيِّ عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، وَهُوَ مِنْ أَتْقَنِ أَصْحَابِ ابْنِ عُيَيْنَةَ فِيهِ. وَأَوْرَدَهُ الْهَيْثَمُ بْنُ كُلَيْبٍ فِي مُسْنَدِهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ الصَّدِيقِ بِاللَّفْظِ الْمَذْكُورِ. وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ (3) بِنَحْوِ اللَّفْظِ الْمَذْكُورِ. وَأَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي الْعِلَلِ (4) من رِوَايَة أم هانىء عَنْ فَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصَّدِيقِ بِلَفْظِ «إِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَا يُورَثُونَ» انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْ كَلَامِ ابْنِ حَجَرٍ، وَقَدْ رَأَيْتُ فِيهِ هَذِهِ الطُّرُقَ الَّتِي فِيهَا التَّصْرِيحُ بِعُمُومِ الْأَنْبِيَاءِ، وَقَدْ قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: إِنَّ إِنْكَارَ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ غَيْرُ مُسَلَّمٍ إِلَّا بِالنِّسْبَةِ لخُصُوص لفظ «نَحن» هَذِه الرِّوَايَاتُ الَّتِي أَشَارَ لَهَا يَشُدُّ بَعْضُهَا.
وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ أَنَّ الْبَيَانَ يَصِحُّ بِكُلِّ مَا يُزِيلُ الْإِشْكَالَ وَلَوْ قَرِينَةٌ أَوْ غَيْرُهَا كَمَا قَدَّمْنَاهُ مُوَضَّحًا فِي تَرْجَمَةِ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ، وَعَلَيْهِ فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ الَّتِي ذَكَرْنَا تُبَيِّنُ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ قَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ «لَا نُورَثُ» أَنَّهُ يَعْنِي نَفْسَهُ. كَمَا قَالَ عُمَرُ وَجَمِيعُ الْأَنْبِيَاءِ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الرِّوَايَات
_________
(1) - أخرجه الرّبيع فِي مُسْنده (ص/261) (969) ، بِسَنَد فِيهِ أَبُو عُبَيْدَة، وَهُوَ مُسلم بن أبي كَرِيمَة، قَالَ عَنهُ أَبُو حَاتِم: مَجْهُول.
(2) - أخرجه أَحْمد (2/463) ، وَصحح إِسْنَاده الأرناؤوط.
(3) - (5/26) (4578) .
(4) - (1/231) (34) .(2/425)
الْمَذْكُورَةُ. وَالْبَيَانُ إِرْشَادٌ وَدَلَالَةٌ يَصِحُّ بِكُلِّ شَيْءٍ يُزِيلُ اللَّبْسَ عَنِ النَّصِّ مِنْ نَصٍّ أَوْ فِعْلٍ أَوْ قَرِينَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ. قَالَ فِي مَرَاقِي السُّعُودِ فِي تَعْرِيفِ الْبَيَانِ وَمَا بِهِ الْبَيَانُ:
تَصْيِيرُ مُشْكَلٍ مِنَ الْجَلِيِّ ... وَهُوَ وَاجِبٌ عَلَى النَّبي
إِذَا أُرِيدَ فَهْمُهُ وَهْوَ بِمَا ... مِنَ الدَّلِيلِ مُطْلَقًا يَجْلُو الْعَمَا
وَبِهَذَا الَّذِي قَرَّرْنَا تَعْلَمُ: أَنَّ قَوْلَهُ هُنَا {يَرِثُنِى وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} يَعْنِي وِرَاثَةَ الْعِلْمِ وَالدِّينِ لَا الْمَالِ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ} . فَتِلْكَ الْوِرَاثَةُ أَيْضًا وِرَاثَةُ عِلْمٍ وَدِينٍ، وَالْوِرَاثَةُ قَدْ تُطْلَقُ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَلَى وِرَاثَةِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} ، وَقَوْلِهِ: {وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُواْ الْكِتَابَ مِن بَعْدِهِمْ لَفِى شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ} ، وَقَوْلِهِ: {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُواْ الْكِتَابَ} ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَمِنَ السُّنَّةِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ مَا رَوَاهُ أَبُو الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «الْعُلَمَاءُ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ» (1) وَهُوَ فِي الْمُسْنَدِ وَالسُّنَنِ قَالَ صَاحِبُ (تَمْيِيزُ الطَّيِّبِ مِنَ الْخَبِيثِ، فِيمَا يَدُورُ عَلَى أَلْسِنَةِ النَّاس من الحَدِيث) : رَوَاهُ أَحْمد أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَآخَرُونَ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ مَرْفُوعًا بِزِيَادَةِ «إِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا، وَإِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ» وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ وَغَيْرُهُمَا انْتَهَى مِنْهُ بِلَفْظِهِ. وَقَالَ صَاحِبُ (كشف الخفاء ومزيل الألباس عَمَّا اشْتهر من الْأَحَادِيثِ عَلَى أَلْسِنَةِ النَاسِ) : «الْعُلَمَاءُ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْأَرْبَعَةُ وَآخَرُونَ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ مَرْفُوعا بِزِيَادَة «إِن
_________
(1) - أخرجه أَبُو دَاوُد (2/341) (3641) ، وَالتِّرْمِذِيّ (5/48) (2682) ، وَابْن مَاجَه (1/81) (223) ، وَأحمد (5/196) ، وَابْن حبَان (1/289) (88) ، والْحَدِيث صَححهُ الشَّيْخ الألباني - رَحمَه الله -.(2/426)
الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا وَإِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ..» الْحَدِيثَ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ وَغَيْرُهُمَا، وَحَسَّنَهُ حَمْزَةُ الْكِنَانِيُّ وَضَعَّفَهُ غَيْرُهُمْ لِاضْطِرَابِ سَنَدِهِ لَكِنْ لَهُ شَوَاهِدُ. وَلِذَا قَالَ الْحَافِظُ: لَهُ طرق يعرف بهَا أَن الحَدِيث أَصْلًا، وَرَوَاهُ الدَّيْلَمِيُّ عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ بِلَفْظِ التَّرْجَمَةِ اهـ مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ.
وَالظَّاهِرُ صَلَاحِيَةُ هَذَا الْحَدِيثِ لِلِاحْتِجَاجِ لِاعْتِضَادِ بَعْضِ طُرُقِهِ بِبَعْضٍ. فَإِذَا عَلِمْتَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ دَلَالَةِ هَذِهِ الْأَدِلَّةِ عَلَى أَنَّ الْوِرَاثَةَ الْمَذْكُورَةَ فِي الْآيَةِ وِرَاثَةُ عِلْمٍ وَدِينٍ لَا وِرَاثَةَ مَالٍ فَاعْلَمْ أَنَّ لِلْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ:
الْأَوَّلُ: هُوَ مَا ذَكَرْنَا.
وَالثَّانِي: أَنَّهَا وِرَاثَةُ مَالٍ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّهَا وَبِالنِّسْبَةِ لِآلِ يَعْقُوبَ فِي قَوْلِهِ «وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ» وِرَاثَةُ عِلْمٍ وَدِينٍ، وَهَذَا اخْتِيَارُ ابْنِ جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ.
وَقَدْ ذَكَرَ مَنْ قَالَ: إِنَّ وِرَاثَتَهُ لِزَكَرِيَّا وِرَاثَةَ مَالٍ حَدِيثًا عَنِ النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ: «رَحِمَ اللَّهُ زَكَرِيَّا مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ وَرَثَتِهِ» (1) أَيْ مَا يَضُرُّهُ إِرْثُ وَرَثَتِهِ لِمَالِهِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا لَمْ يَثْبُتْ عَنِ النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَالْأَرْجَحُ فِيمَا يَظْهَرُ لَنَا هُوَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّهَا وِرَاثَةُ عِلْمٍ وَدِينٍ؛ لِلْأَدِلَّةِ الَّتِي ذَكَرْنَا وَغَيْرِهَا مِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ.
وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ هُنَا مَا يُؤَيِّدُ ذَلِكَ مِنْ أَوْجُهٍ، قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِىَ مِن وَرَآئِى} : وَجْهُ خَوْفِهِ أَنَّهُ خَشِيَ أَنْ يَتَصَرَّفُوا مِنْ بَعْدِهِ فِي النَّاسِ تَصَرُّفًا سَيِّئًا فَسَأَلَ اللَّهَ وَلَدًا يَكُونُ نَبِيًّا مِنْ بَعْدِهِ؛ لِيَسُوسَهُمْ بِنُبُوَّتِهِ بِمَا يُوحَى إِلَيْهِ فَأُجِيبَ فِي ذَلِكَ؛ لَا أَنَّهُ خَشِيَ من
_________
(1) - أخرجه الطَّبَرِيّ فِي "تَفْسِيره" (16/48) من حَدِيث قَتَادَة مَرْفُوعا بِهِ، وَهُوَ مُرْسل.(2/427)
وِرَاثَتِهِمْ لَهُ مَالَهُ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ أَعْظَمُ مَنْزِلَةً، وَأَجَلُّ قَدْرًا مِنْ أَنْ يُشْفِقَ عَلَى مَالِهِ إِلَى مَا هَذَا حَدُّهُ، وَأَنْ يَأْنَفَ مِنْ وِرَاثَةِ عَصَبَاتِهِ لَهُ، وَيَسْأَلَ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لِيَحُوزَ مِيرَاثَهُ دُونَهُمْ وَهَذَا وَجْهٌ.
الثَّانِي: أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُ كَانَ ذَا مَالٍ؛ بَلْ كَانَ نَجَّارًا يَأْكُلُ مِنْ كَسْبِ يَدَيْهِ. وَمِثْلُ هَذَا لَا يَجْمَعُ مَالًا، وَلَا سِيَّمَا الْأَنْبِيَاءُ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا أَزْهَدَ شَيْءٍ فِي الدُّنْيَا.
الثَّالِثُ: أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا نُورَثُ مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ» وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ «نَحْنُ مَعْشَرَ الْأَنْبِيَاءِ لَا نُورَثُ» (1) وَعَلَى هَذَا فَتَعَيَّنَ حَمْلُ قَوْلِهِ {فَهَبْ لِى مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً يَرِثُنِى} عَلَى مِيرَاثِ النُّبُوَّةِ؛ وَلِهَذَا قَالَ {يَرِثُنِى وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} كَقَوْلِهِ: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ} أَيْ فِي النُّبُوَّةِ، إِذْ لَوْ كَانَ فِي الْمَالِ لَمَا خَصَّهُ مِنْ بَيْنِ إِخْوَتِهِ بِذَلِكَ، وَلَمَا كَانَ فِي الْإِخْبَارِ بِذَلِكَ كَبِيرُ فَائِدَةٍ، إِذْ مِنَ الْمَعْلُومِ الْمُسْتَقِرِّ فِي جَمِيعِ الشَّرَائِعِ وَالْمِلَلِ: أَنَّ الْوَلَدَ يَرِثُ أَبَاهُ، فَلَوْلَا أَنَّهَا وِرَاثَةٌ خَاصَّةٌ لَمَا أَخْبَرَ بِهَا، وَكُلُّ هَذَا يُقَرِّرُهُ وَيُثْبِتُهُ مَا صَحَّ فِي الْحَدِيثِ: «نَحْنُ مَعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ لَا نُورَثُ. مَا تَرَكْنَا فَهُوَ صَدَقَةٌ» اهـ مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْ كَلَامِ ابْنِ كَثِيرٍ، ثُمَّ سَاقَ بَعْدَ هَذَا طُرُقَ الْحَدِيثِ الَّذِي أَشَرْنَا لَهُ «يَرْحَمُ اللَّهُ زَكَرِيَّا وَمَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ وَرَثَةِ مَالِهِ» الْحَدِيثَ. ثُمَّ قَالَ فِي أَسَانِيدِهِ: وَهَذِهِ مُرْسَلَاتٌ لَا تُعَارِضُ الصِّحَاحَ. وَاعْلَمْ أَنَّ لَفْظَ «نَحْنُ مَعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ» وَلَفْظَ «إِنَّا مَعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ» مُؤَدَّاهُمَا وَاحِدٌ، إِلَّا أَنَّ «إِنَّ» دَخَلَتْ عَلَى «نَحْنُ» فَأَبْدَلَتْ لَفْظَةَ «نَحْنُ» الَّتِي هِيَ الْمُبْتَدَأُ بِلَفْظَةِ «نَا» الصَّالِحَةِ لِلنَّصْبِ، وَالْجُمْلَةُ هِيَ هِيَ إِلَّا أَنَّهَا فِي أحد اللَّفْظَيْنِ أكدت. «إِن» كَمَا لَا يخفى.] (2) .
_________
(1) - سبق تَخْرِيج هَذِه الرِّوَايَات، وَلم أَقف على هَذَا الحَدِيث عِنْد التِّرْمِذِيّ.
(2) - 4/223: 228، مَرْيَم / 5.(2/428)
- غَلَبَة الْأَنْبِيَاء - عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام - وَمَعْنَاهَا.
[قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَكَأَيِّن مِّن نَّبِىٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ} ، هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ قُتِلَ بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ يَحْتَمِلُ نَائِبُ الْفَاعِلِ فِيهَا أَنْ يَكُونَ لَفْظَةَ رِبِيُّونَ وَعَلَيْهِ فَلَيْسَ فِي قُتِلَ ضَمِيرٌ أَصْلًا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ نَائِبُ الْفَاعِلِ ضَمِيرًا عَائِدًا إِلَى النَّبِيِّ، وَعَلَيْهِ فَمَعَهُ خَبَرٌ مُقَدَّمٌ وَرِبِيُّونَ مُبْتَدَأٌ مُؤَخَّرٌ سَوَّغَ الِابْتِدَاءَ بِهِ اعْتِمَادُهُ عَلَى الظَّرْفِ قَبْلَهُ وَوَصْفُهُ بِمَا بَعْدَهُ وَالْجُمْلَةُ حَالِيَّةٌ وَالرَّابِطُ الضَّمِيرُ، وَسَوَّغَ إِتْيَانَ الْحَالِ مِنَ النَّكِرَةِ الَّتِي هِيَ نَبِيٌّ وَصْفُهُ بِالْقَتْلِ ظُلْمًا، وَهَذَا هُوَ أَجْوَدُ الْأَعَارِيبِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْآيَةِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ، وَبِهَذَيْنِ الِاحْتِمَالَيْنِ فِي نَائِبِ الْفَاعِلِ الْمَذْكُورِ يَظْهَرُ أَنَّ فِي الْآيَةِ إِجْمَالًا. وَالْآيَاتُ الْقُرْآنِيَّةُ مُبَيِّنَةٌ أَنَّ النَّبِيَّ الْمُقَاتِلَ غَيْرُ مَغْلُوبٍ بَلْ هُوَ غَالِبٌ، كَمَا صَرَّحَ تَعَالَى بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: {كَتَبَ اللَّهُ لاَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِى} ، وَقَالَ قَبْلَ هَذَا: {أُوْلَئِكَ فِى الاْذَلّينَ} ، وَقَالَ بَعْدَهُ: {إِنَّ اللَّهَ قَوِىٌّ عَزِيزٌ} .
وَأَغْلَبُ مَعَانِي الْغَلَبَةِ فِي الْقُرْآنِ الْغَلَبَةُ بِالسَّيْفِ وَالسِّنَانِ كَقَوْلِهِ: {إِن يَكُن مّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِاْئَتَيْنِ وَإِن يَكُنْ مّنكُمْ مّاْئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفًا مّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ} ، وَقَوله: {إِن يَكُن مّنكُمْ مّاْئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِاْئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُواْ أَلْفَيْنِ} ، وَقَوْلِهِ: {الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِى أَدْنَى الأَرْضِ وَهُم مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِى بِضْعِ سِنِينَ} ، وَقَوْلِهِ: {كَم مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةٍ كَثِيرَةً} ، وَقَوْلِهِ: {قُلْ لّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ} ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ الْمَقْتُولَ لَيْسَ بِغَالِبٍ بَلْ هُوَ قِسْمٌ مُقَابِلٌ لِلْغَالِبِ بِقَوْلِهِ: {وَمَن يُقَاتِلْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَو يَغْلِبْ} ، فَاتَّضَحَ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ أَنَّ الْقَتْلَ لَيْسَ وَاقِعًا عَلَى النَّبِيِّ الْمُقَاتِلِ؛ لِأَنَّ اللَّه كَتَبَ وَقَضَى لَهُ فِي أَزَلِهِ أَنَّهُ(2/429)
غَالِبٌ، وَصَرَّحَ بِأَنَّ الْمَقْتُولَ غَيْرُ غَالِبً.
وَقَدْ حَقَّقَ الْعُلَمَاءُ أَنَّ غَلَبَةَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَى قِسْمَيْنِ، غَلَبَةٌ بِالْحُجَّةِ وَالْبَيَانِ، وَهِيَ ثَابِتَةٌ لِجَمِيعِهِمْ، وَغَلَبَةٌ بِالسَّيْفِ وَالسِّنَانِ، وَهِيَ ثَابِتَةٌ لِخُصُوصِ الَّذِينَ أُمِرُوا مِنْهُمْ بِالْقِتَالِ فِي سَبِيلِ اللَّه؛ لِأَنَّ مَنْ لَمْ يُؤْمَرْ بِالْقِتَالِ لَيْسَ بِغَالِبٍ وَلَا مَغْلُوبٍ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُغَالِبْ فِي شَيْءٍ وَتَصْرِيحُهُ تَعَالَى، بِأَنَّهُ كَتَبَ إِنَّ رُسُلَهُ غَالِبُونَ شَامِلٌ لِغَلَبَتِهِمْ مَنْ غَالَبَهُمْ بِالسَّيْفِ، كَمَا بَيَّنَّا أَنَّ ذَلِكَ هُوَ مَعْنَى الْغَلَبَةِ فِي الْقُرْآنِ، وَشَامِلٌ أَيْضًا لِغَلَبَتِهِمْ بِالْحُجَّةِ وَالْبَيَانِ، فَهُوَ مُبِينٌ أَنَّ نَصْرَ الرُّسُلِ الْمَذْكُورَ فِي قَوْلِهِ: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا} ، وَفِي قَوْلِهِ: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ} ، أَنَّهُ نَصْرُ غَلَبَةٍ بِالسَّيْفِ وَالسِّنَانِ لِلَّذِينَ أُمِرُوا مِنْهُمْ بِالْجِهَادِ؛ لِأَنَّ الْغَلَبَةَ الَّتِي بَيَّنَ أَنَّهَا كَتَبَهَا لَهُمْ أَخَصُّ مِنْ مُطْلَقِ النَّصْرِ؛ لِأَنَّهَا نَصْرٌ خَاصٌّ، وَالْغَلَبَةُ لُغَةً الْقَهْرُ وَالنَّصْرُ لُغَةً إِعَانَةُ الْمَظْلُومِ، فَيَجِبُ بَيَانُ هَذَا الْأَعَمِّ بِذَلِكَ الْأَخَصِّ.
وَبِهَذَا تَعْلَمُ أَنَّ مَا قَالَهُ الْإِمَامُ الْكَبِيرُ ابْنُ جَرِيرٍ رَحِمَهُ اللَّه وَمَنْ تَبِعَهُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: {إِنَّا لَنَنصُرُ} ، مِنْ أَنَّهُ لَا مَانِعَ مَنْ قَتْلِ الرَّسُولِ الْمَأْمُورِ بِالْجِهَادِ، وَأَنَّ نَصْرَهُ الْمَنْصُوصَ فِي الْآيَةِ، حِينَئِذٍ يُحْمَلُ عَلَى أَحَدِ أَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ اللَّه يَنْصُرُهُ بَعْدَ الْمَوْتِ، بِأَنْ يُسَلِّطَ عَلَى مَنْ قَتَلَهُ مَنْ يَنْتَقِمُ مِنْهُ، كَمَا فَعَلَ بِالَّذِينَ قَتَلُوا يَحْيَى وَزَكَرِيَّاءَ وَشَعْيَا مِنْ تَسْلِيطِ بُخْتُنَصَّرَ عَلَيْهِمْ، وَنَحْوَ ذَلِكَ.
الثَّانِي: حَمْلُ الرُّسُلِ فِي قَوْلِهِ: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا} ، عَلَى خُصُوصِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحْدَهُ، أَنَّهُ لَا يَجُوزُ حَمْلُ الْقُرْآنِ عَلَيْهِ لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ خُرُوجٌ بِكِتَابِ اللَّه عَنْ ظَاهِرِهِ الْمُتَبَادَرِ مِنْهُ بِغَيْرِ دَلِيلٍ مِنْ كِتَابٍ، وَلَا سُنَّةٍ وَلَا إِجْمَاعٍ، وَالْحُكْمُ بِأَنَّ الْمَقْتُولَ مِنَ الْمُتَقَاتِلِينَ هُوَ(2/430)
الْمَنْصُورُ بَعِيدٌ جِدًّا، غَيْرُ مَعْرُوفٍ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ، فَحَمْلُ الْقُرْآنِ عَلَيْهِ بِلَا دَلِيلٍ غَلَطٌ ظَاهِرٌ، وَكَذَلِكَ حَمْلُ الرُّسُلِ عَلَى نَبِيِّنَا وَحْدَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ بَعِيدٌ جِدًّا أَيْضًا، وَالْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى عُمُومِ الْوَعْدِ بِالنَّصْرِ لِجَمِيعِ الرُّسُلِ كَثِيرَةٌ، لَا نِزَاعَ فِيهَا.
الثَّانِي: أَنَّ اللَّه لَمْ يَقْتَصِرْ فِي كِتَابِهِ عَلَى مُطْلَقِ النَّصْرِ الَّذِي هُوَ فِي اللُّغَةِ إِعَانَةُ الْمَظْلُومِ، بَلْ صَرَّحَ بِأَنَّ ذَلِكَ النَّصْرَ الْمَذْكُورَ لِلرُّسُلِ نَصْرُ غَلَبَةٍ بِقَوْلِهِ: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِى} ، وَقَدْ رَأَيْتَ مَعْنَى الْغَلَبَةِ فِي الْقُرْآنِ وَمَرَّ عَلَيْكَ أَنَّ اللَّه جَعَلَ الْمَقْتُولَ قِسْمًا مُقَابِلًا لِلْغَالِبِ فِي قَوْلِهِ: {وَمَن يُقَاتِلْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَو يَغْلِبْ} ، وَصَرَّحَ تَعَالَى بِأَنَّ مَا وَعَدَ بِهِ رُسُلَهُ لَا يُمْكِنُ تَبْدِيلُهُ بِقَوْلِهِ جَلَّ وَعَلَا: {وَلَقَدْ كُذّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَأِ الْمُرْسَلِينَ} ، وَلَا شَكَّ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِى} ، مِنْ كَلِمَاتِهِ الَّتِي صَرَّحَ بِأَنَّهَا لَا مُبَدِّلَ لَهَا وَقَدْ نَفَى جَلَّ وَعَلَا عَنِ الْمَنْصُورِ أَنْ يَكُونَ مَغْلُوبًا نَفْيًا بَاتًّا بِقَوْلِهِ: {إِن يَنصُرْكُمُ اللَّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ} ، وَذَكَرَ مُقَاتِلٌ أَنَّ سَبَبَ نُزُولِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ} ، أَنَّ بَعْضَ النَّاسِ قَالَ: أَيَظُنُّ مُحَمَّدٌ وَأَصْحَابُهُ أَنْ يَغْلِبُوا الرُّومَ، وَفَارِسَ، كَمَا غَلَبُوا الْعَرَبَ زَاعِمًا أَنَّ الرُّومَ وَفَارِسَ لَا يَغْلِبُهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِكَثْرَتِهِمْ وَقُوَّتِهِمْ فَأَنْزَلَ اللَّه الْآيَةَ، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْغَلَبَةَ الْمَذْكُورَةَ فِيهَا غَلَبَةٌ بِالسَّيْفِ وَالسِّنَانِ؛ لِأَنَّ صُورَةَ السَّبَبِ لَا يُمْكِنُ إِخْرَاجُهَا، وَيَدُلُّ لَهُ قَوْلُهُ قَبْلَهُ: {أُوْلَئِكَ فِى الْأَذَلِّينَ} ، وَقَوْلُهُ بَعْدَهُ: {إِنَّ اللَّهَ قَوِىٌّ عَزِيزٌ} .
وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي تَرْجَمَةِ هَذَا الْكِتَابِ، أَنَّنَا نَسْتَشْهِدُ لِلْبَيَانِ بِالْقِرَاءَةِ السَبْعِيَّةِ بِقِرَاءَةٍ شَاذَّةٍ، فَيَشْهَدُ لِلْبَيَانِ الَّذِي بَيَّنَّا بِهِ، أَنَّ نَائِبَ الْفَاعِلِ رِبِيُّونَ، وَأَنَّ بَعْضَ الْقُرَّاءِ غَيْرَ السَّبْعَةِ قَرَأَ قُتِّلَ مَعَهُ رِبِيُّونَ بِالتَّشْدِيدِ؛ لِأَنَّ التَّكْثِيرَ الْمَدْلُولَ عَلَيْهِ(2/431)
بِالتَّشْدِيدِ يَقْتَضِي أَنَّ الْقَتْلَ وَاقِعٌ عَلَى الرِّبِيِّينَ.
وَلِهَذِهِ الْقِرَاءَةِ رَجَّحَ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَالْبَيْضَاوِيُّ، وَابْنُ جِنِّيٍّ؛ أَنَّ نَائِبَ الْفَاعِلِ رِبِيُّونَ، وَمَالَ إِلَى ذَلِكَ الْأَلُوسِيُّ فِي «تَفْسِيرِهِ» مُبَيِّنًا أَنَّ دَعْوَى كَوْنِ التَّشْدِيدِ لَا يُنَافِي وُقُوعَ الْقَتْلِ عَلَى النَّبِيِّ؛ لِأَنَّ: {كَأَيِّن} إِخْبَارٌ بِعَدَدٍ كَثِيرٍ أَيْ: كَثِيرٍ مِنْ أَفْرَادِ النَّبِيِّ قُتِلَ خِلَافَ الظَّاهِرِ، وَهُوَ كَمَا قَالَ، فَإِنْ قِيلَ: قَدْ عَرَفْنَا أَنَّ نَائِبَ الْفَاعِلِ الْمَذْكُورَ مُحْتَمِلٌ لِأَمْرَيْنِ، وَقَدِ ادَّعَيْتُمْ أَنَّ الْقُرْآنَ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ رِبِيُّونَ لَا ضَمِيرُ النَّبِيِّ لِتَصْرِيحِهِ بِأَنَّ الرُّسُلَ غَالِبُونَ، وَالْمَقْتُولَ غَيْرُ غَالِبٍ، وَنَحْنُ نَقُولُ دَلَّ الْقُرْآنُ فِي آيَاتٍ أُخر، عَلَى أَنَّ نَائِبَ الْفَاعِلِ ضَمِيرُ النَّبِيِّ، لِتَصْرِيحِهِ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ بِقَتْلِ بَعْضِ الرُّسُل كَقَوْلِه: {فَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ} ، وَقَوْلِهِ: {قُلْ قَدْ جَاءكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِى بِالْبَيّنَاتِ وَبِالَّذِى قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ} ، فَمَا وَجْهُ تَرْجِيحِ مَا اسْتَدْلَلْتُمْ بِهِ عَلَى أَنَّ النَّائِبَ رِبِيُّونَ، عَلَى مَا اسْتَدْلَلْنَا بِهِ عَلَى أَنَّ النَّائِبَ ضَمِيرُ النَّبِيِّ فَالْجَوَابُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
الْأَوَّلُ: أَنَّ مَا اسْتَدْلَلْنَا بِهِ أَخَصُّ مِمَّا اسْتَدْلَلْتُمْ بِهِ، وَالْأَخَصُّ مُقَدَّمٌ عَلَى الْأَعَمِّ، وَلَا يَتَعَارَضُ عَامٌّ وَخَاصٌّ، كَمَا تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ، وَإِيضَاحُهُ أَنَّ دَلِيلَنَا فِي خُصُوصِ نَبِيٍّ أَمْرٌ بِالْمُغَالَبَةِ فِي شَيْءٍ، فَنَحْنُ نَجْزِمُ بِأَنَّهُ غَالِبٌ فِيهِ تَصْدِيقًا لِرَبِّنَا فِي قَوْلِهِ: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِى} ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ تِلْكَ الْمُغَالَبَةُ فِي الْحُجَّةِ وَالْبَيَانِ، أَمْ بِالسَّيْفِ وَالسِّنَانِ، وَدَلِيلُكُمْ فِيمَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ هَذَا؛ لِأَنَّ الْآيَاتِ الَّتِي دَلَّتْ عَلَى قَتْلِ بَعْضِ الرُّسُلِ، لَمْ تَدُلَّ عَلَى أَنَّهُ فِي خُصُوصِ جِهَادٍ، بَلْ ظَاهِرُهَا أَنَّهُ فِي غَيْرِ جِهَادٍ، كَمَا يُوَضِّحُهُ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنَّ جَمِيعَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ بَعْضَ الرُّسُلِ قَتَلَهُمْ أَعْدَاءُ اللَّه كُلُّهَا فِي قَتْلِ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْبِيَاءَهُمْ، فِي غَيْرِ جِهَادٍ، وَمُقَاتَلَةٍ إِلَّا مَوْضِعَ النزاع وَحده.(2/432)
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ مَا رَجَّحْنَاهُ مِنْ أَنَّ نَائِبَ الْفَاعِلِ رِبِيُّونَ، تَتَّفِقُ عَلَيْهِ آيَاتُ الْقُرْآنِ اتِّفَاقًا وَاضِحًا، لَا لَبْسَ فِيهِ عَلَى مُقْتَضَى اللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ فِي أَفْصَحِ لُغَاتِهِ، وَلَمْ تَتَصَادَمْ مِنْهُ آيَتَانِ، حَيْثُ حَمَلْنَا الرَّسُولَ الْمَقْتُولَ عَلَى الَّذِي لَمْ يُؤْمَرْ بِالْجِهَادِ، فَقَتْلُهُ إِذَنْ لَا إِشْكَالَ فِيهِ، وَلَا يُؤَدِّي إِلَى مُعَارَضَةِ آيَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّه؛ لِأَنَّ اللَّه حَكَمَ لِلرُّسُلِ بِالْغَلَبَةِ، وَالْغَلَبَةُ لَا تَكُونُ إِلَّا مَعَ مُغَالَبَةٍ، وَهَذَا لَمْ يُؤْمَرْ بِالْمُغَالَبَةِ فِي شَيْءٍ، وَلَوْ أُمِرَ بِهَا فِي شَيْءٍ لَغَلَبَ فِيهِ، وَلَوْ قُلْنَا بِأَنَّ نَائِبَ الْفَاعِلِ ضَمِيرُ النَّبِيِّ لَصَارَ الْمَعْنَى أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ الْمُقَاتِلِينَ قُتِلُوا فِي مَيْدَانِ الْحَرْبِ، كَمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ صِيغَةُ {وَكَأَيّن} الْمُمَيَّزَةُ بِقَوْلِهِ: {مِنْ نَّبِىٍّ} ، وَقَتْلُ الْأَعْدَاءِ هَذَا الْعَدَدَ الْكَثِيرَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ الْمُقَاتِلِينَ فِي مَيْدَانِ الْحَرْبِ مُنَاقِضٌ مُنَاقِضَةً صَرِيحَةً لِقَوْلِهِ: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِى} ، وَقَدْ عَرَفْتَ مَعْنَى الْغَلَبَةِ فِي الْقُرْآنِ، وَعَرَفْتَ أَنَّهُ تَعَالَى، بَيَّنَ أَنَّ الْمَقْتُولَ غَيْرُ الْغَالِبِ، كَمَا تَقَدَّمَ، وَهَذَا الْكِتَابُ الْعَزِيزُ مَا أُنْزِلَ لِيَضْرِبَ بَعْضُهُ بَعْضًا، وَلَكِنْ أُنْزِلَ لِيُصَدِّقَ بَعْضُهُ بَعْضًا، فَاتَّضَحَ أَنَّ الْقُرْآنَ دَلَّ دَلَالَةً وَاضِحَةً عَلَى أَنَّ نَائِبَ الْفَاعِلِ رِبِيُّونَ، وَأَنَّهُ لَمْ يُقْتَلْ رَسُولٌ فِي جِهَادٍ، كَمَا جَزَمَ بِهِ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَالزَّجَّاجُ، وَالْفَرَّاءُ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ، وَقَصَدْنَا فِي هَذَا الْكِتَابِ الْبَيَانَ بِالْقُرْآنِ، لَا بِأَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ، وَلِذَا لَمْ نَنْقُلْ أَقْوَالَ مَنْ رَجَّحَ مَا ذَكَرْنَا.
وَمَا رَجَّحَ بِهِ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ كَوْنَ نَائِبِ الْفَاعِلِ ضَمِيرَ النَّبِيِّ مِنْ أَنَّ سَبَبَ النُّزُولِ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّ سَبَبَ نُزُولِهَا أَنَّ الصَّائِحَ صَاحَ قُتِلَ مُحَمَّدٌ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَن قَوْله: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ} ، يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ وَأَنَّ قَوْلَهُ: {فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ} ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الرِّبِيِّينَ لَمْ يُقْتَلُوا؛ لِأَنَّهُمْ لَوْ قُتِلُوا لَمَا قَالَ عَنْهُمْ: {فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ} ، فَهُوَ كَلَامٌ كُلُّهُ سَاقِطٌ وَتَرْجِيحَاتٌ لَا مُعَوَّلَ عَلَيْهَا فَالتَّرْجِيحُ بِسَبَبِ النُّزُولِ فِيهِ أَنَّ سَبَبَ النُّزُولِ لَوْ كَانَ يَقْتَضِي(2/433)
تَعْيِينَ ذِكْرِ قَتْلِ النَّبِيِّ لَكَانَتْ قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ قَاتَلَ بِصِيغَةِ الْمَاضِي مِنَ الْمُفَاعَلَةِ جَارِيَةً عَلَى خِلَافِ الْمُتَعَيِّنِ وَهُوَ ظَاهِرُ السُّقُوطِ كَمَا تَرَى وَالتَّرْجِيح بقوله: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ} ، ظَاهِرُ السُّقُوطِ؛ لِأَنَّهُمَا مُعَلَّقَانِ بِأَدَاةِ الشَّرْطِ وَالْمُعَلَّقُ بِهَا لَا بَدَلَ عَلَى وُقُوعِ نِسْبَةٍ أَصْلًا لَا إِيجَابًا، لَا سَلْبًا حَتَّى يُرَجِّحَ بِهَا غَيْرُهَا.
وَإِذَا نَظَرْنَا إِلَى الْوَاقِعِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَجَدْنَا نَبِيَّهُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ لَمْ يُقْتَلْ وَلَمْ يَمُتْ وَالتَّرْجِيحُ بِقَوْلِهِ: {فَمَا وَهَنُواْ} ، سُقُوطُهُ كَالشَّمْسِ فِي رَابِعَةِ النَّهَارِ وَأَعْظَمُ دَلِيلٍ قَطْعِيٍّ عَلَى سُقُوطِهِ قِرَاءَةُ حَمْزَةَ وَالْكِسَائِيِّ: {وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ} ، كُلُّ الْأَفْعَالِ مِنَ الْقَتْلِ لَا مِنَ الْقِتَالِ وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ السَّبْعِيَّةُ الْمُتَوَاتِرَةُ فِيهَا: فَإِنَّ قَتَلُوكُمْ بِلَا أَلِفٍ بَعْدَ الْقَافِ فِعْلٌ مَاضٍ مِنَ الْقَتْلِ فَاقْتُلُوهُمْ، أَفَتَقُولُونَ هَذَا لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ الْمَقْتُولَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُؤْمَرَ بِقَتْلِ قَاتِلِهِ، بَلِ الْمَعْنَى قَتَلُوا بَعْضُكُمْ وَهُوَ مَعْنًى مَشْهُورٌ فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ يَقُولُونَ: قَتَلُونَا وَقَتَلْنَاهُمْ، يَعْنُونَ وُقُوعَ الْقَتْلِ عَلَى الْبَعْضِ كَمَا لَا يَخْفَى، وَقَدْ أَشَرْنَا إِلَى هَذَا الْبَيَانِ فِي كِتَابِنَا «دَفْعُ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيَاتِ الْكتاب» ، وَالْعلم عِنْد اللَّه تَعَالَى.] (1) .
- عصمَة الْأَنْبِيَاء - عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام -.
[قَوْله تَعَالَى فِي هَذِه الْآيَة - أَي قَوْله تَعَالَى: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} -: {وَعَصَى آدَمَ} يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَعْنَى «غَوَى» ضلَّ عَنْ طَرِيقِ الصَّوَابِ كَمَا ذَكَرْنَا، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ وَأَمْثَالَهَا فِي الْقُرْآنِ هِيَ حُجَّةُ مَنْ قَالَ بِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ غَيْرُ مَعْصُومِينَ مِن الصَّغَائِرِ، وعِصمة الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ الله
_________
(1) - 1/254: 259، آل عمرَان / 146، وَانْظُر أَيْضا (1/18: 20) (الْمُقدمَة) ، (6/697) (الصافات / 171: 173) ، (7/823، 824) (المجادلة / 21) .(2/434)
وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ مَبْحَثٌ أُصُولِيٌّ لِعُلَمَاءِ الْأُصُولِ فِيهِ كَلَامٌ كَثِيرٌ وَاخْتِلَافٌ مَعْرُوفٌ، وَسَنَذْكُرُ هُنَا طَرَفًا مِنْ كَلَامِ أَهْلِ الْأُصُولِ فِي ذَلِكَ.
قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ فِي مُخْتَصَرِهِ فِي الْأُصُولِ: مَسْأَلَةٌ الْأَكْثَرُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ عَقْلًا عَلَى الْأَنْبِيَاءِ مَعْصية. وَخَالَفَ الرَّوَافِضُ، وَخَالَفَ الْمُعْتَزِلَةُ إِلَّا فِي الصَّغَائِرِ، وَمُعْتَمَدُهُمُ التَّقْبِيحُ الْعَقْلِيُّ، وَالْإِجْمَاعُ عَلَى عِصْمَتِهِمْ بَعْدَ الرِّسَالَةِ مِنْ تَعَمُّدِ الْكَذِبِ فِي الْأَحْكَامِ؛ لِدَلَالَةِ الْمُعْجِزَةِ عَلَى الصِّدْقِ، وجوَّزه الْقَاضِي غَلَطًا وَقَالَ: دَلَّتْ عَلَى الصِّدْقِ اعْتِقَادًا، وَأَمَّا غَيْرُهُ مِن الْمَعَاصِي فَالْإِجْمَاعُ عَلَى عِصْمَتِهِمْ مِنَ الْكَبَائِرِ وَالصَّغَائِرِ الْخَسِيسَةِ، وَالْأَكْثَرُ عَلَى جَوَازِ غَيْرِهِمَا. اهـ مِنْهُ بِلَفْظِهِ.
وَحَاصِلُ كَلَامِهِ: عِصَمَتُهُمْ مِنَ الْكَبَائِرِ، وَمِنْ صَغَائِرِ الخِسّة دُونَ غَيْرِهَا مِنَ الصَّغَائِرِ.
وَقَالَ الْعَلَّامَةُ الْعَلَوِيُّ الشَّنْقِيطِيُّ فِي (نَشْرِ الْبُنُودِ شَرْحِ مَرَاقِي السُّعُودِ) فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ:
وَالْأَنْبِيَاءُ عُصِموا مِمَّا نَهَوْا ... عَنْهُ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ تَفُكُّهٌ
بِجَائِزٍ بَلْ ذَاكَ لِلتشريع ... أَوْ نِيَّةِ الزُّلْفَى مِنَ الرَّفِيعِ
مَا نَصُّهُ: فَقَدْ أَجْمَعَ أَهْلُ الْمِلَلِ وَالشَّرَائِعِ كُلِّهَا عَلَى وُجُوبِ عِصْمَتِهِمْ مِنْ تَعَمُّدِ الْكَذِبِ فِيمَا دَلَّ الْمُعْجِزُ الْقَاطِعُ عَلَى صِدْقِهِمْ فِيهِ، كَدَعْوَى الرسَالَة، وَمَا يبلغونه عَن الله تَعَالَى الْخَلَائق، وَصُدُورُ الْكَذِبِ عَنْهُمْ فِيمَا ذَكَرَ سَهْوًا أَوْ نِسْيَانًا مَنَعَهُ الْأَكْثَرُونَ وَمَا سِوَى الْكَذِبِ فِي التَّبْلِيغِ، فَإِنْ كَانَ كُفراً فَقَدْ أَجْمَعَتِ الأُمَّة عَلَى عِصْمَتِهم مِنْهُ قَبْلَ النبُوَّة وَبَعْدَهَا، وَإِنْ كَانَ غَيْرَهُ فَالْجُمْهُورُ عَلَى عِصْمَتهم مِن الْكَبَائِرِ عَمداً، وَمُخَالِفُ الْجُمْهُورِ الْحَشْوِيَّةُ.
وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْحَقِّ: هَلِ الْمَانِعُ لِوقوع الْكَبَائِرِ مِنْهم عَمْداً الْعَقْلُ أَوِ السَّمْعُ؟ وَأَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ فَالْعَقْلُ، وَإِنْ كَانَ سَهْوًا فَالْمُخْتَارُ العِصْمة مِنْهَا. وَأَمَّا(2/435)
الصَّغَائِرُ عَمْدًا أَوْ سَهْوًا فَقَدْ جَوزها الْجُمْهُورُ عَقْلًا، لَكِنَّهَا لَا تَقَعُ مِنْهم غَيْرُ صَغَائِرَ الخِسَّة فَلَا لَا يَجُوزُ وُقُوعُهَا مِنْهُمْ لَا عَمْدًا وَلَا سَهْوًا. انْتَهَى مِنْهُ.
وَحَاصِلُ كَلَامِهِ: عِصْمَتُهُمْ مِنَ الْكَذِبِ فِيمَا يُبلِّغونه عَنِ اللَّهِ وَمِنَ الكُفر وَالْكَبَائِرِ وَصَغَائِرِ الْخِسَّةِ، وَأَنَّ الْجُمْهُورَ عَلَى جَوَازِ وُقوع الصَّغَائِرِ الْأُخْرَى مِنْهُمْ عَقْلًا، غَيْرَ أَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَقَعْ فِعْلًا.
وَقَالَ أَبُو حيَّان فِي الْبَحْرِ فِي سُورَةِ «الْبَقَرَةِ» وَفِي الْمُنْتَخَبِ لِلْإِمَامِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي الْفَضْلِ الْمُرْسِيِّ مَا مُلَخَّصُهُ: مَنعت الأمَّة وُقُوعَ الْكُفْرِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، إِلَّا الْفُضَيْلِيَةَ مِنَ الْخَوَارِجِ قَالُوا: وَقَدْ وَقَعَ مِنْهُمْ ذُنُوبٌ وَالذَّنْبُ عِنْدَهُمْ كُفر. وَأَجَازَ الْإِمَامِيَّةُ إِظْهَارَ الكُفر مِنْهُمْ عَلَى سَبِيلِ التَّقِيَّةِ. وَاجْتَمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى عِصْمتهم مِن الْكَذِبِ وَالتَّحْرِيفِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالتَّبْلِيغِ، فَلَا يَجوز عَمْدًا وَلَا سَهْوًا. ومِن النَّاسِ مَنْ جَوَّزَ ذَلِكَ سَهْوًا. وَأَجْمَعُوا عَلَى امْتِنَاعِ خَطَئِهِمْ فِي الْفُتْيَا عَمْدًا، وَاخْتَلَفُوا فِي السَّهْوِ.
وَأَمَّا أَفْعَالُهُمْ فَقَالَتِ الْحَشَوِيَّةُ: يَجُوزُ وُقُوعُ الْكَبَائِرِ مِنْهُمْ عَلَى جِهة الْعَمْدِ، وَقَالَ أَكْثَرُ الْمُعْتَزِلَةِ: بِجَوَازِ الصَّغَائِرِ عَمْدًا إِلَّا فِي الْقَوْلِ كَالْكَذِبِ. وَقَالَ الْجُبَّائِيُّ: يَمْتَنِعَانِ عَلَيْهِمْ إِلَّا عَلَى جِهَةِ التَّأْوِيلِ. وَقِيلَ: يَمْتَنِعَانِ عَلَيْهِمْ إِلَّا عَلَى جِهَةِ السَّهْوِ وَالْخَطَأِ، وهُم مأخُوذون بِذَلِكَ وَإِنْ كَانَ مَوْضُوعًا عَنْ أُمَّتِهِمْ، وَقَالَتِ الرَّافِضَةُ يَمْتَنِعُ ذَلِكَ عَلَى كُلِّ جِهَةٍ.
وَاخْتُلِفَ فِي وَقْتِ العِصْمة. فَقَالَتِ الرَّافِضَةُ: مِن وَقْت مَوْلدهم. وَقَالَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ: مِنْ وَقْت النُّبُوَّةِ، وَالْمُخْتَارُ عِنْدَنَا أَنَّهُ لَمْ يَصْدُرْ عَنْهُمْ ذَنْبٌ حَالَةَ النُّبُوَّةِ البتَّة لَا الْكَبِيرَةُ وَلَا الصَّغِيرَةُ، لِأَنَّهُمْ لَوْ صَدَر عَنْهُمُ الذَّنْبُ لَكَانُوا أَقَلَّ دَرَجَةٍ مِنْ عُصَاةِ الْأُمَّةِ لِعَظِيمِ شَرَفِهِمْ وَذَلِكَ مُحَالٌ، وَلِئَلَّا يَكُونُوا غَيْرَ مَقْبُولِي الشَّهَادَةِ، وَلِئَلَّا يَجِبَ زَجْرهم وَإِيذَاؤُهُمْ، وَلِئَلَّا يُقْتَدَى بِهِمْ فِي ذَلِكَ. وَلِئَلَّا يَكُونُوا مُسْتَحِقِّين لِلعقاب، ولئِلا يَفْعَلُوا ضِد مَا أُمِروا بِهِ لِأَنَّهُمْ(2/436)
مُصْطفون، وَلِأَنَّ إِبْلِيسَ اسْتَثْنَاهُمْ فِي الْإِغْوَاءِ. انْتَهَى مَا لخَّصناه مِنْ (الْمُنْتَخَبِ) ، وَالْقَوْلُ فِي الدَّلَائِلِ لِهَذِهِ الْمَذَاهِبِ. وَفِي إِبْطَالِ مَا يَنْبَغِي إِبْطَالُهُ مِنْهَا مَذْكُورٌ فِي كُتُبِ أُصُولِ الدِّينِ. انْتَهَى كَلَامُ أَبِي حَيان.
وَحَاصِلُ كَلَامِ الأصوليِّين فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: عِصْمَتهم مِن الكُفر وَفِي كُلِّ مَا يَتَعَلَّقُ بِالتَّبْلِيغِ، وَمِنَ الْكَبَائِرِ وَصَغَائِرِ الْخِسَّةِ كَسَرِقَةِ لُقْمَةٍ وَتَطْفِيفِ حَبَّةٍ، وَأَنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ الْأُصُول على جَوَاز وُقُوع الصَّغَائِر غير الصَّغَائِر الْخِسَّةِ مِنْهُمْ، وَلَكِنَّ جَمَاعَةً كَثِيرَةً مِن متأخِّري الأصوليِّين اخْتَارُوا أَنَّ ذَلِكَ وَإِنْ جَازَ عَقْلًا لَمْ يَقع فِعْلًا، وَقَالُوا: إِنَّمَا جَاءَ فِي الْكِتَابِ والسنَّة مِن ذَلِكَ أَنَّ مَا فَعَلُوهُ بِتَأْوِيلٍ أَوْ نِسْيَانًا أَوْ سَهْوًا، أَوْ نَحْوَ ذَلِك.
قَالَ مقيده عَفا الله وَغَفَرَ لَهُ: الَّذِي يَظْهَرُ لَنَا أَنَّهُ الصَّوَابُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ لَمْ يَقع مِنْهُمْ مَا يُزْرِي بِمَرَاتِبِهِمُ العَلِّية، وَمَنَاصِبِهِمُ السامِيَة، وَلَا يَسْتَوْجِبُ خَطَأً مِنْهُمْ وَلَا نَقْصًا فِيهِمْ صَلوات اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ، وَلَوْ فَرَضْنا أَنَّهُ وَقَعَ مِنْهُمْ بَعْضُ الذُّنُوبِ لأِنهم يَتَدَارَكُونَ مَا وَقَعَ مِنْهُمْ بِالتَّوْبَةِ، وَالْإِخْلَاصِ، وصِدق الْإِنَابَةِ إِلَى اللَّهِ حَتَّى يَنَالُوا بِذَلِكَ أَعْلَى دَرَجَاتِهِمْ فَتَكُونُ بِذَلِكَ دَرَجَاتُهُمْ أَعْلَى مِنْ دَرَجَةِ مَنْ لَمْ يَرْتَكِبْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، ومِما يُوَضِّحُ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى} . فَانْظُرْ أَيَّ أَثَرٍ يَبْقَى لِلعِصْيان وَالْغَيِّ بَعْدَ تَوْبَةِ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَاجْتِبَائِهِ أَيِ اصْطِفَائِهِ إِيَّاهُ، وهِدايته لَهُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ بَعْضَ الزَّلَّاتِ يَنَالُ صَاحِبُهَا بِالتَّوْبَةِ مِنْهَا دَرَجَةً أَعلَى من دَرَجَته قبل ارْتِكَاب ذَلِك الزلة. وَالْعلم عِنْد الله تَعَالَى.] (1) .
_________
(1) - 4/583: 586، طه/121، وَانْظُر أَيْضا (4/567 - 568) (طه/115) .(2/437)
- الله تَعَالَى يَأْمر أنبياءه - عَلَيْهِم السَّلَام - وينهاهم ليشرع لأممهم.
[قَوْله تَعَالَى: {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِى الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} . قَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: {إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِى الأَرْضِ} ، قَدْ بَيَّنَّا الْحُكْمَ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ، فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِى الأَرْضِ خَلِيفَةً} . وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ {فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} قَدْ أَمَرَ نَبِيَّهُ دَاوُدَ فِيهِ، بِالْحُكْمِ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَنَهَاهُ فِيهِ عَنِ اتِّبَاعِ الْهَوَى، وَأَنَّ اتِّبَاعَ الْهَوَى، عِلَّةٌ لِلضَّلَالِ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، لِأَنَّ الْفَاءَ فِي قَوْلِهِ فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ تَدُلُّ عَلَى الْعِلِّيَّةِ.
وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ، فِي مَسْلَكِ الْإِيمَاءِ وَالتَّنْبِيهِ، أَنَّ الْفَاءَ مِنْ حُرُوفِ التَّعْلِيلِ كَقَوْلِهِ: سَهَى فَسَجَدَ، وَسَرَقَ فَقُطِعَتْ يَدُهُ، أَوْ لِعِلَّةِ السَّهْوِ فِي الْأَوَّلِ، وَلِعِلَّةِ السَّرِقَةِ فِي الثَّانِي، وَأُتْبِعَ ذَلِكَ بِالتَّهْدِيدِ لِمَنِ اتَّبَعَ الْهَوَى، فَأَضَلَّهُ رَبُّنَا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى بَعْدَهُ يَلِيهِ: {إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدُ بِمَا نَسُواْ يَوْمَ الْحِسَابِ} .
وَمَعْلُومٌ أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ دَاوُدَ، لَا يَحْكُمُ بِغَيْرِ الْحَقِّ، وَلَا يَتَّبِعُ الْهَوَى، فَيُضِلَّهُ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، وَلَكِنَّ اللَّهَ تَعَالَى، يَأْمُرُ أَنْبِيَاءَهُ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَيَنْهَاهُمْ، لِيَشْرَعَ لِأُمَمِهِمْ.
وَلِذَلِكَ أَمَرَ نَبِيَّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِمِثْلِ مَا أَمَرَ بِهِ دَاوُدَ، وَنَهَاهُ أَيْضًا عَنْ مَثَلِ ذَلِكَ، فِي آيَاتٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ} . وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُمْ بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَآ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ} وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً} وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} .
وَقَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ عَلَى هَذَا، فِي سُورَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ(2/438)
تَعَالَى: {لاَّ تَجْعَل مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَّخْذُولاً} .
وَبَيَّنَّا أَنَّ مِنْ أَصْرَحِ الْأَدِلَّةِ الْقُرْآنِيَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ يُخَاطَبُ بِخِطَابٍ، وَالْمُرَادُ بِذَلِكَ الْخِطَابِ غَيْرُهُ يَقِينًا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا} ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ أَبَاهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تُوُفِّيَ قَبْلَ وِلَادَتِهِ، وَأَنْ أَمَّهُ مَاتَتْ وَهُوَ صَغِيرٌ، وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّ اللَّهَ يُخَاطِبُهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا} وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا يَبْلُغُ عِنْدَهُ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا، وَلَا كِلَاهُمَا لِأَنَّهُمَا قَدْ مَاتَا قَبْلَ ذَلِكَ بِزَمَانٍ.
فَتَبَيَّنَ أَنَّ أَمْرَهُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ وَنَهْيَهُ لَهُ فِي قَوْلِهِ {فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} : إِنَّمَا يُرَادُ بِهِ التَّشْرِيعُ عَلَى لِسَانِهِ لِأُمَّتِهِ، وَلَا يُرَادُ بِهِ هُوَ نَفْسُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ قَدَّمْنَا هُنَاكَ أَنَّ مِنْ أَمْثَالِ الْعَرَبِ: إِيَّاكَ أَعْنِي وَاسْمَعِي يَا جَارَةُ، وَذَكَرْنَا فِي ذَلِكَ رَجَزَ سَهْلِ بْنِ مَالِكٍ الْفَزَارِيِّ الَّذِي خَاطَبَ بِهِ امْرَأَةً، وَهُوَ يَقْصِدُ أُخْرَى وَهِيَ أُخْتُ حَارِثَةَ بْنِ لَأْمٍ الطَّائِيِّ وَهُوَ قَوْلُهُ:
يَا أُخْتَ خَيْرِ الْبَدْوِ وَالْحَضَارَهْ ... كَيْفَ تَرَيْنَ فِي فَتَى فَزَارَهْ
أَصْبَحَ يَهْوَى حُرَّةً مِعْطَارَهْ ... إِيَّاكِ أَعْنِي وَاسْمَعِي يَا جَارَهْ
وَذَكَرْنَا هُنَاكَ الرَّجَزَ الَّذِي أَجَابَتْهُ بِهِ الْمَرْأَةَ، وَقَوْلَ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ إِنَّ الْخِطَابَ فِي قَوْلِهِ: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا} ، هُوَ الْخِطَابُ بِصِيغَةِ الْمُفْرِدِ، الَّذِي يُرَادُ بِهِ عُمُومُ كُلِّ مَنْ يَصِحُّ خِطَابُهُ. كَقَوْلِ طَرَفَةَ بْنِ الْعَبْدِ فِي مُعَلَّقَتِهِ:
سَتُبْدِي لَكَ الْأَيَّامُ مَا كُنْتَ جَاهِلًا ... وَيَأْتِيكَ بِالْأَخْبَارِ مَنْ لَمْ تُزَوِّدِ
أَيْ سَتُبْدِي لَكَ وَيَأْتِيكَ أَيُّهَا الْإِنْسَانُ الَّذِي يَصِحُّ خِطَابُكَ، وَعَلَى هَذَا فَلَا دَلِيلَ فِي الْآيَةِ، غَيْرَ صَحِيحٍ، وَفِي سِيَاقِ الْآيَاتِ قَرِينَةٌ قُرْآنِيَّةٌ وَاضِحَةٌ دَالَّةٌ(2/439)
عَلَى أَنَّ الْمُخَاطَبَ بِذَلِكَ هُوَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَيْهِ، فَالِاسْتِدْلَالُ بِالْآيَةِ، اسْتِدْلَالٌ قُرْآنِيٌّ صَحِيحٌ، وَالْقَرِينَةُ الْقُرْآنِيَّةُ الْمَذْكُورَةُ، هِيَ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي تِلْكَ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي الَّتِي خَاطَبَ بِهَا رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الَّتِي أَوَّلُهَا {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ} . مَا هُوَ صَرِيحٌ، فِي أَنَّ الْمُخَاطَبَ بِذَلِكَ هُوَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَا عُمُومُ كُلِّ مَنْ يَصِحُّ مِنْهُ الْخُطَّابُ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {ذَلِكَ مِمَّآ أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتُلْقَى فِى جَهَنَّمَ مَلُومًا مَّدْحُورًا} .] . (1)
- نسَاء الْأَنْبِيَاء معصومات من الزِّنَا.
[قَوْله تَعَالَى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ امْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِينَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئاً} . أَجْمَعَ الْمُفَسِّرُونَ هُنَا عَلَى أَنَّ الْخِيَانَةَ لَيْسَتْ زَوْجِيَّةً.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نِسَاءُ الْأَنْبِيَاءِ مَعْصُومَاتٌ، وَلَكِنَّهَا خِيَانَةٌ دِينِيَّةٌ بِعَدَمِ إِسْلَامِهِنَّ وَإِخْبَارِ أَقْوَامِهِنَّ بِمَنْ يُؤْمِنَّ مَعَ أَزوَاجهنَّ اهـ.
وَقَدْ يُسْتَأْنَسُ لِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ هَذَا بِتَحْرِيمِ التَّزَوُّجِ مِنْ نِسَاءِ النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَهُ، وَالتَّعْلِيلُ لَهُ بِأَنَّ ذَلِكَ يُؤْذِيهِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تؤْذُواْ رَسُولَ اللَّهِ وَلاَ أَن تَنكِحُواْ أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذلكمْ كَانَ عِندَ اللَّهِ عَظِيماً} .
فَإِذَا كَانَ تَسَاؤُلُهُنَّ بِدُونِ حِجَابٍ يُؤْذِيهِ، وَالزَّوَاجُ بِهِنَّ مِنْ بَعْدِهِ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ، فَكَيْفَ إِذَا كَانَ غَيْرُ التَّسَاؤُلِ وَبِغَيْرِ الزَّوَاجِ؟ إِنَّ مَكَانَةَ الْأَنْبِيَاءِ عِنْدَ اللَّهِ أعظم من ذَلِك.] (2) .
_________
(1) - 7/25: 27، ص/24.
(2) - 8/381، التَّحْرِيم / 10، وَانْظُر أَيْضا (8/538) (نوح /26 - 27) .(2/440)
- التَّوْبَة دَعْوَة الرُّسُل - عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام -.
وَقَالَ صَاحب التَّتِمَّة - رَحمَه الله -: [وَمِمَّا تَجْدُرُ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ أَنَّ التَّوْبَةَ دَعْوَةُ الرُّسُلِ، وَلَوْ بَدَأْنَا مَعَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَعَ قِصَّتِهِ فَفِيهَا {فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ} ، وَمَعْلُومٌ مُوجِبُ تِلْكَ التَّوْبَةِ.
ثُمَّ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَقُولُ: {رَّبِّ اغْفِرْ لِى وَلِوَالِدَىَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِىَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} .
وَإِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَقُولُ: {وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَآ إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} .] (1) .
- المعجزة.
[وَبَيَّنَ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ، أَنَّ مِنْ آيَاتِهِ الَّتِي يُرِيهَا بَعْضَ خَلْقِهِ، مُعْجِزَاتِ رُسُلِهِ، لِأَنَّ الْمُعْجِزَاتِ آيَاتٌ، أَيْ دَلَالَاتٌ، وَعَلَامَاتٌ عَلَى صِدْقِ الرُّسُلِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي فِرْعَوْنَ: {وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى} ... ] (2) .
- أولُوا الْعَزْم من الرُّسُل.
[قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} . اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمُرَادِ بِأُولِي الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ اخْتِلَافا كثيرا.
_________
(1) - 9/596، النَّصْر/3، وَانْظُر أَيْضا (4/567: 569) (طه/115) ، (4/745) (الْأَنْبِيَاء/83، 84) ، (7/24) (ص/24) .
(2) - 7/75، غَافِر/13.(2/441)
وَأَشْهُرُ الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ أَنَّهُمْ خَمْسَةٌ، وَهُمُ الَّذين قدمنَا ذكرهم فِي الْأَحْزَاب والشورى، وَهُمْ نُوحٌ وَإِبْرَاهِيمُ وَمُوسَى وَعِيسَى وَمُحَمَّدٌ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.
وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَالرُّسُلُ الَّذِينَ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَصْبِرَ كَمَا صَبَرُوا أَرْبَعَةٌ فَصَارَ هُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَامِسَهُمْ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْقَوْلَ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِأُولِي الْعَزْمِ جَمِيعُ الرُّسُلِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَأَنَّ لَفْظَةَ مِنْ، فِي قَوْلِهِ: مِنَ الرُّسُلِ بَيَانِيَّةٌ يَظْهَرُ أَنَّهُ خِلَافُ التَّحْقِيقِ، كَمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ بَعْضُ الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلاَ تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ} ، فَأَمَرَ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا نَبِيَّهُ فِي آيَةِ الْقَلَمِ هَذِهِ بِالصَّبْرِ، وَنَهَاهُ عَنْ أَنْ يَكُونَ مِثْلَ يُونُسَ، لِأَنَّهُ هُوَ صَاحِبُ الْحُوتِ وَكَقَوْلِهِ: {وَلَقَدْ عَهِدْنَآ إِلَى آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِىَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً} فَآيَةُ الْقَلَمِ، وَآيَةُ طه الْمَذْكُورَتَانِ كِلْتَاهُمَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ أُولِي الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ الَّذِينَ أُمِرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يَصْبِرَ كَصَبْرِهِمْ لَيْسُوا جَمِيع الرُّسُل وَالْعلم عِنْد الله تَعَالَى.] (1) .
وَقَالَ أَيْضا: [ {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّيْنَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِّيثَاقًا غَلِيظاً} .
ذَكَرَ جلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ أَخَذَ مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ، ثُمَّ خَصَّ مِنْهُمْ بِذَلِكَ خَمْسَةً: هُمْ أولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ، وَهُمْ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَنُوحٌ، وَإِبْرَاهِيمُ، وَمُوسَى، وَعِيسَى. وَلَمْ يُبَيِّنْ هُنَا الْمِيثَاقَ الَّذِي أَخَذَهُ عَلَيْهِمْ، وَلَكِنَّهُ جلَّ وَعَلَا بيَّن ذَلِكَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ؛ فَبَيَّنَ الْمِيثَاقَ الْمَأْخُوذَ عَلَى جَمِيعِ النَّبِيِّينَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ «آلِ عِمْرَانَ» : {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ
_________
(1) - 7/408، الْأَحْقَاف/35.(2/442)
مُّصَدّقٌ لّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ} . وَقَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ فِي سُورَةِ «مَرْيَمَ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قِصَّةِ الْخَضِرِ، وَقَدْ بيَّن جلَّ وَعَلَا الْمِيثَاقَ الَّذِي أَخَذَهُ على خُصُوص الْخَمْسَة الَّذين هم أُولوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ فِي سُورَةِ «الشُّورَى» ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {شَرَعَ لَكُم مّنَ الِدِينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُواْ الدّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ} .] (1) .
- المفاضلة بَين الْأَنْبِيَاء - عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام -.
[فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، أَعْنِي قَوْلَهُ تَعَالَى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} ، إِشْكَالٌ قَوِيٌّ مَعْرُوفٌ. وَوَجْهُهُ: أَنَّهُ ثَبَتَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا تُخَيِّرُونِي عَلَى مُوسَى، فَإِنَّ النَّاسَ يَصْعَقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يَفِيقُ، فَإِذَا مُوسَى بَاطِشٌ بِجَانِبِ الْعَرْشِ، فَلَا أَدْرِي أَفَاقَ قَبْلِي أَمْ كَانَ مِمَّنِ اسْتَثْنَى اللَّه» (2) ، وَثَبَتَ أَيْضًا فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ: «لَا تُخَيِّرُوا بَيْنَ الْأَنْبِيَاءِ، فَإِنَّ النَّاسَ يَصْعَقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» الْحَدِيثَ (3) ، وَفِي رِوَايَةٍ: «لَا تُفَضِّلُوا بَيْنَ أَنْبِيَاءِ اللَّه» (4) ، وَفِي رِوَايَةٍ: «لَا تُخَيِّرُونِي مِنْ بَيْنِ الْأَنْبِيَاءِ» (5) .
وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ مَا نَصُّهُ: وَهَذِهِ الْآيَةُ مُشْكِلَةٌ، وَالْأَحَادِيثُ ثَابِتَةٌ بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا تخَيرُوا بَين الْأَنْبِيَاء وَلَا تفضلوا بَين
_________
(1) - 6/572، الْأَحْزَاب/7.
(2) - أخرجه البُخَارِيّ (2/849) (2280) ، وَمُسلم (4/1843) (2373) .
(3) - أخرجه البُخَارِيّ (2/850) (2281) ، وَمُسلم (4/1845) (163- 2374) .
(4) - أخرجه البُخَارِيّ (3/1254) (3233) ، وَمُسلم (4/1843) (159-2373) من حَدِيث أَي هُرَيْرَة - رَضِي الله عَنهُ - بِهِ.
(5) - أخرجه البُخَارِيّ (4/1700) (4362) مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِهِ.(2/443)
أَنْبِيَاءِ اللَّه» ، رَوَاهَا الْأَئِمَّةُ الثِّقَاتُ، أَيْ: لَا تَقُولُوا فُلَانٌ خَيْرٌ مِنْ فُلَانٍ، وَلَا فُلَانٌ أَفْضَلُ مِنْ فُلَانٍ، اهـ.
قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي الْجَوَابِ عَنْ هَذَا الْإِشْكَالِ مَا نَصُّهُ: وَالْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ هَذَا كَانَ قَبْلَ أَنْ يُعْلَمَ بِالتَّفْضِيلِ، وَفِي هَذَا نَظَرٌ.
الثَّانِي: أَنَّ هَذَا قَالَهُ مِنْ بَابِ الْهَضْمِ وَالتَّوَاضُعِ.
الثَّالِثُ: أَنَّ هَذَا نَهْيٌ عَنِ التَّفْضِيلِ فِي مِثْلِ هَذَا الْحَالِ الَّتِي تَحَاكَمُوا فِيهَا عِنْدَ التَّخَاصُمِ وَالتَّشَاجُرِ.
الرَّابِعُ: لَا تُفَضِّلُوا بِمُجَرَّدِ الْآرَاءِ وَالْعَصَبِيَّةِ.
الْخَامِسُ: لَيْسَ مَقَامُ التَّفْضِيلِ إِلَيْكُمْ، وَإِنَّمَا هُوَ إِلَى اللَّه عَزَّ وَجَلَّ، وَعَلَيْكُمُ الِانْقِيَادُ وَالتَّسْلِيمُ لَهُ وَالْإِيمَانُ بِهِ. اهـ مِنْهُ بِلَفْظِهِ.
وَذَكَرَ الْقُرْطُبِيُّ فِي «تَفْسِيرِهِ» أَجْوِبَةً كَثِيرَةً عَنْ هَذَا الْإِشْكَالِ، وَاخْتَارَ أَنَّ مَنْعَ التَّفْضِيلِ فِي خُصُوصِ النُّبُوَّةِ، وَجَوَازَهُ فِي غَيْرِهَا مِنْ زِيَادَةِ الْأَحْوَالِ وَالْخُصُوصِ وَالْكَرَامَاتِ فَقَدْ قَالَ مَا نَصُّهُ: قُلْتُ: وَأَحْسَنُ مِنْ هَذَا قَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْمَنْعَ مِنَ التَّفْضِيلِ إِنَّمَا هُوَ مِنْ جِهَةِ النُّبُوَّةِ هُوَ الَّتِي هِيَ خَصْلَةٌ وَاحِدَةٌ لَا تَفَاضُلَ فِيهَا، وَإِنَّمَا التَّفْضِيلُ فِي زِيَادَةِ الْأَحْوَالِ وَالْخُصُوصِ وَالْكَرَامَاتِ وَالْأَلْطَافِ وَالْمُعْجِزَاتِ الْمُتَبَايِنَاتِ.
وَأَمَّا النُّبُوَّةُ فِي نَفْسِهَا فَلَا تَتَفَاضَلُ، وَإِنَّمَا تَتَفَاضَلُ بِأُمُورٍ أُخر زَائِدَةٍ عَلَيْهَا، وَلِذَلِكَ مِنْهُمْ رُسُلٌ وَأُولُو عَزْمٍ، وَمِنْهُمْ مَنِ اتُّخِذَ خَلِيلًا، وَمِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّه وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ. قَالَ اللَّه تَعَالَى: {وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودُ زَبُوراً} ، قُلْتُ: وَهَذَا قَوْلٌ حَسَنٌ، فَإِنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ الْآيِ وَالْأَحَادِيثِ مِنْ غَيْرِ نَسْخٍ، وَالْقَوْلُ بِتَفْضِيلِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ، إِنَّمَا هُوَ بِمَا مَنَحَ مِنَ الْفَضَائِلِ وَأَعْطَى مِنَ الْوَسَائِلِ، وَقَدْ أَشَارَ ابْنُ عَبَّاسٍ إِلَى هَذَا فَقَالَ:(2/444)
إِن اللَّه فضل مُحَمَّدًا صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ وَعَلَى أَهْلِ السَّمَاءِ، فَقَالُوا: بِمَ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ فَضَّلَهُ عَلَى أَهْلِ السَّمَاءِ؟ فَقَالَ: إِنَّ اللَّه تَعَالَى قَالَ: {وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنّى إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلك نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِى الظَّالِمِينَ} ، وَقَالَ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً لّيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} ، قَالُوا: فَمَا فَضْلُهُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ؟ قَالَ: قَالَ اللَّه تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيّنَ لَهُمْ} ، وَقَالَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لّلنَّاسِ} ، فَأَرْسَلَهُ إِلَى الْجِنِّ وَالْإِنْسِ، ذَكَرَهُ أَبُو مُحَمَّدٍ الدَّارِمِيُّ فِي «مُسْنَدِهِ» (1) ، وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ (2) : خَيْرُ بَنِي آدَمَ نُوحٌ وَإِبْرَاهِيمُ وَمُوسَى وَمُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُمْ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ، وَهَذَا نَصٌّ مِنَ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ فِي التَّعْيِينِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَنْ أُرْسِلَ أَفْضَلُ مِمَّنْ لَمْ يُرْسَلْ؛ فَإِنَّ مَنْ أُرْسِلَ فَضُلَ عَلَى غَيْرِهِ بِالرِّسَالَةِ، وَاسْتَوُوا فِي النُّبُوَّةِ إِلَى مَا يَلْقَاهُ الرُّسُلُ مِنْ تَكْذِيبِ أُمَمِهِمْ وَقَتْلِهِمْ إِيَّاهُمْ، وَهَذَا مِمَّا لَا خَفَاءَ بِهِ.
اهـ مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ بِلَفْظِهِ.
وَاخْتَارَ ابْنُ عَطِيَّةَ كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُ الْقُرْطُبِيُّ أَنَّ وَجْهَ الْجَمْعِ جَوَازُ التَّفْضِيلِ إِجْمَالًا كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَلَا فَخْرَ» (3) ، وَلَمْ يُعَيِّنْ وَمَنَعَ التَّفْضِيلَ عَلَى طَرِيقِ الْخُصُوصِ كَقَوْلِهِ: «لَا تُفَضِّلُونِي عَلَى مُوسَى» (4) ، وَقَوْلِهِ: «لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ أَنَا خير من يُونُس بن
متَّى» (5) ، وَنَحْو
_________
(1) - أخرجه الدَّارمِيّ (1/38) (46) ، وَالْحَاكِم (2/381) (3335) ، وَصَححهُ، وَوَافَقَهُ الذَّهَبِيّ، والأثر صحّح إِسْنَاده حُسَيْن أَسد فِي تَحْقِيق سنَن الدِّرَامِي.
(2) - لم أَقف عَلَيْهِ.
(3) - أخرجه مُسْلِمٍ (4/1782) (2278) مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
(4) - لم أَقف عَلَيْهِ مُسْندًا بِهَذَا اللَّفْظ، وَإِنَّمَا ذكره الطَّحَاوِيّ فِي شرح مَعَاني الْآثَار (4/315) بِدُونِ إِسْنَاد.
(5) - أخرجه البُخَارِيّ (3/1244) (3215) ، وَمُسلم (4/1846) (2377) مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - بِهِ.(2/445)
ذَلِك وَالْعلم عِنْد اللَّه تَعَالَى.] (1) .
- بعض المفارقات من الْقُرْآن بَين نَبينَا - صلى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَغَيره من الرُّسُل.
[وَقَدْ دَلَّتْ آيَاتٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يُخَاطِبُهُ فِي كِتَابِهِ بِاسْمِهِ، وَإِنَّمَا يُخَاطِبُهُ بِمَا يَدُلُّ عَلَى التَّعْظِيمِ والتوقير، كَقَوْلِه: {يَاأَيُّهَا النَّبِىُّ} . {ياأَيُّهَا الرَّسُولُ} . {ياأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} . {ياأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} مَعَ أَنَّهُ يُنَادِي غَيْرَهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ بِأَسْمَائِهِمْ كَقَوْلِهِ {وَقُلْنَا يَاآدَمُ} . وَقَوْلِهِ: {وَنَادَيْنَاهُ أَن ياإِبْرَاهِيمُ} وَقَوْلِهِ: {قَالَ يانُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} . قِيلَ {يانُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِّنَّا} . وَقَوْلِهِ: {قَالَ يامُوسَى إِنْى اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ} وَقَوْلِهِ: {إِذْ قَالَ اللَّهُ ياعِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ} وَقَوْلِهِ: {يادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً} .
أَمَّا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يُذْكَرِ اسْمُهُ فِي الْقُرْآنِ فِي خِطَابٍ، وَإِنَّمَا يُذْكَرُ فِي غَيْرِ ذَلِكَ كَقَوْلِهِ: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ} . وَقَوْلِهِ: {وَآمَنُواْ بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ} . وَقَوْلِهِ: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ} .] (2) .
- الْفرق بَين النَّبِي وَالرَّسُول.
[وَآيَة الْحَج هَذِه - أَي قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} - تبين أَن مَا أشهر عَلَى أَلْسِنَةِ أَهْلِ الْعِلْمِ، مِنْ أَنَّ النَّبي هُوَ مَنْ أُوحِيَ إِلَيْهِ وَحْيٌ، وَلَمْ يُؤْمَرْ بتبليغه،
_________
(1) - 1/196: 198، الْبَقَرَة / 253.
(2) - 7/616، الحجرات/2.(2/446)
وَأَنَّ الرَّسُولَ هُوَ النَّبي الَّذِي أُوحِيَ إِلَيْهِ، وَأُمِرَ بِتَبْلِيغِ مَا أُوحِيَ إِلَيْهِ غَيْرُ صَحِيحٍ، لِأَنَّ قَوْلُهُ تَعَالَى {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِىٍّ} . يَدُلُّ عَلَى أَنْ كُلًّا مِنْهُمَا مُرْسَلٌ، وَأَنَّهُمَا مَعَ ذَلِكَ بَيْنَهُمَا تَغَايُرٌ وَاسْتَظْهَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّ النَّبي الَّذِي هُوَ رَسُولٌ أُنْزِلَ إِلَيْهِ كِتَابٌ وَشَرْعٌ مُسْتَقِلٌّ مَعَ الْمُعْجِزَةِ الَّتِي ثَبَتَتْ بِهَا نُبُوَّتُهُ، وَأَنَّ النَّبي الْمُرْسَلَ الَّذِي هُوَ غَيْرُ الرَّسُولِ، هُوَ مَنْ لَمْ يَنْزِلْ عَلَيْهِ كِتَابٌ وَإِنَّمَا أُوحِيَ إِلَيْهِ أَنْ يَدْعُوَ النَّاسَ إِلَى شَرِيعَةِ رَسُولٍ قَبْلَهُ، كَأَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ الَّذِينَ كَانُوا يُرْسَلُونَ وَيُؤْمَرُونَ بِالْعَمَلِ بِمَا فِي التَّوْرَاةِ، كَمَا بَيَّنَهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ {يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ} .] (1) .
- عُقُوبَة الْأُمَم المكذبة للرسل، وَبَيَان وَجه الْمُنَاسبَة بَين عَملهَا وعقابها.
قَالَ صَاحب التَّتِمَّة - رَحمَه الله -: [نَصَّ تَعَالَى هُنَا أَنَّ فِرْعَوْنَ وَمَنْ قَبْلَهُ، وَالْمُؤْتَفِكَاتِ جَاءُوا بِالْخَاطِئَةِ وَهِيَ: {فَعَصَوْاْ رَسُولَ رَبِّهِمْ} ، وَكَذَلِكَ عَادٌ وَثَمُودُ كَذَّبُوا بِالْقَارِعَةِ. فَالْجَمِيعُ اشْتَرَكَ فِي الْخَاطِئَةِ، وَهِيَ عِصْيَانُ الرَّسُولِ {فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ} ، وَلَكِنَّهُ قَدْ أَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً.
وَنَوَّعَ فِي أَخْذِهِمْ ذَلِكَ: فَأَغْرَقَ فِرْعَوْنَ وَقَوْمَ نُوحٍ، وَأَخَذَ ثَمُودَ بِالصَّيْحَةِ، وَعَادًا بِرِيحٍ، وَقَوْمَ لُوطٍ بِقَلْبِ قُرَاهُمْ، كَمَا أَخَذَ جَيْشَ أَبْرَهَةَ بِطَيْرٍ أَبَابِيلَ، فَهَلْ فِي ذَلِكَ مُنَاسَبَةٌ بَيْنَ كُلِّ أُمَّةٍ وَعُقُوبَتِهَا، أَمْ أَنَّهُ لِلتَّنْوِيعِ فِي الْعُقُوبَةِ لِبَيَانِ قُدْرَتِهِ تَعَالَى وَتَنْكِيلِهِ بِالْعُصَاةِ لِرُسُلِ اللَّهِ.
الْوَاقِعُ أَنَّ أَيَّ نَوْعٍ مِنَ الْعُقُوبَةِ فِيهِ آيَةٌ عَلَى الْقُدْرَةِ، وَفِيهِ تَنْكِيلٌ بِمَنْ وَقَعَ بِهِمْ، وَلَكِنَّ تَخْصِيصَ كُلِّ أُمَّةٍ بِمَا وَقَعَ عَلَيْهَا يُثِيرُ تَسَاؤُلًا، وَلَعَلَّ مِمَّا يُشِيرُ إِلَيْهِ الْقُرْآن إِشَارَة خَفِيفَة هُوَ الْآتِي:
_________
(1) - 5/735، الْحَج / 52.(2/447)
أَمَّا فِرْعَوْنُ فَقَدْ كَانَ يَقُولُ: {أَلَيْسَ لِى مُلْكُ مِصْرَ وَهذه الأَنْهَارُ تَجْرِى مِن تَحْتِى} ، فَلَمَّا كَانَ يَتَطَاوَلُ بِهَا جَعَلَ اللَّهُ هَلَاكَهُ فِيهَا أَيْ فِي جِنْسِهَا.
وَأَمَّا قَوْمُ نُوحٍ فَلَمَّا يَئِسَ مِنْهُمْ بَعْدَ أَلْفِ سَنَةٍ إِلَّا خمسين عَاما، وَأَصْبحُوا لَا يلدوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا، فَلَزِمَ تَطْهِيرُ الْأَرْضِ مِنْهُمْ، وَلَا يَصْلُحُ لِذَلِكَ إِلَّا الطُّوفَانُ.
وَأَمَّا ثَمُودُ فَأُخِذُوا بِالصَّيْحَةِ الطَّاغِيَةِ، لِأَنَّهُمْ نَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ، فَلَمَّا كَانَ نِدَاؤُهُمْ صَاحِبَهُمْ سَبَبًا فِي عَقْرِ النَّاقَةِ كَانَ هَلَاكُهُمْ بِالصَّيْحَةِ الطَّاغِيَةِ.
وَأَمَّا عَادٌ فَلِطُغْيَانِهِمْ بِقُوَّتِهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِيهِمْ: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ الَّتِى لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِى الْبِلَادِ} ، وَسَوَاءٌ عِمَادُ بُيُوتِهِمْ وَقُصُورِهِمْ، فَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ طُولِ أَجْسَامِهِمْ وَوَفْرَةِ أَمْوَالِهِمْ وَتَوَافُرِ
الْقُوَّةِ عِنْدَهُمْ، فَأُخِذُوا بِالرِّيحِ وَهُوَ أَرَقُّ وَأَلْطَفُ مَا يَكُونُ، مِمَّا لَمْ يَكُونُوا يَتَوَقَّعُونَ مِنْهُ أَيَّةَ مَضَرَّةٍ وَلَا شِدَّةٍ.
وَكَذَلِكَ جَيْشُ أَبَرْهَةَ لَمَّا جَاءَ مُدْلٍ بِعَدَدِهِ وَعُدَّتِهِ، وَجَاءَ مَعَهُ بِالْفِيلِ أَقْوَى الْحَيَوَانَاتِ، سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِ أَضْعَفَ الْمَخْلُوقَاتِ والطيور {وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ} .
أَمَّا قَوْمُ لُوطٍ فَلِكَوْنِهِمْ قَلَبُوا الْأَوْضَاعَ بِإِتْيَانِ الذُّكُورِ دُونَ الْإِنَاثِ، فَكَانَ الْجَزَاءُ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ، قَلَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قُرَاهُمْ. وَالْعِلْمُ عِنْد الله تَعَالَى.] (1) .
_________
(1) - 8/441: 443، الحاقة / 9.(2/448)
فصل بعض أَحْكَام الْأَنْبِيَاء
تكلم الْعَلامَة الشنقيطي - رَحمَه الله - على بعض الْأَحْكَام الْخَاصَّة بِعَدَد من الرُّسُل والأنبياء فِي عدَّة مَوَاطِن من التَّفْسِير، وسوف اقْتصر على ذكر بعض الْأَحْكَام الْمُتَعَلّقَة بِمن توسع - رَحمَه الله - فِي الْكَلَام عَنْهُم، حَتَّى لَا يطول الْبَحْث، وسوف أبدأ - بِمَشِيئَة الله - بخاتمهم، وَصَاحب لِوَاء الْحَمد - صلى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَالله الْمُسْتَعَان.
فصل الْإِيمَان بسيدنا مُحَمَّد - صلى الله عَلَيْهِ وَسلم -
- كل نَبِي بُشِّرَ بِالنَّبِيِّ - صلى الله عَلَيْهِ وَسلم -.
[قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يابَنِى إِسْرَاءِيلَ إِنِّى رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَىَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِى مِن بَعْدِى اسْمُهُ أَحْمَدُ} . ذَكَرَ مُوسَى وَلَمْ يَذْكُرْ مَعَهُ الْبُشْرَى بالنَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَذَكَرَ عِيسَى فَذَكَرَهَا مَعَهُ، مِمَّا يَدُلُّ بِمَفْهُومِهِ أَنَّهُ لَمْ يُبَشِّرْ بِهِ إِلَّا عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَلَكِنْ لَفْظُ عِيسَى مَفْهُومُ لَقَبٍ وَلَا عَمَلَ عَلَيْهِ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ، وَقَدْ بَشَّرَتْ بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمِيعُ الْأَنْبِيَاءِ، وَمِنْهُمْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَمِمَّا يُشِيرُ إِلَى أَنَّ مُوسَى مُبَشِّرًا بِهِ قَوْلُ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ، وَالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ هِيَ التَّوْرَاةُ أُنْزِلَتْ عَلَى مُوسَى.
وَقَدْ جَاءَ صَرِيحًا التَّعْرِيفُ بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِالَّذِينَ مَعَهُ فِي التَّوْرَاةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّآءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً} إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِى التَّوْرَاةِ} .
كَمَا جَاءَ وَصْفُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ فِي نَفْسِ السِّيَاقِ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَثَلُهُمْ فِى الإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ} إِلَى آخِرِ(2/449)
السُّورَةِ.
وَجَاءَ النَّصُّ فِي حَقِّ جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَآ آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ
وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ آقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذلكمْ إِصْرِى قَالُواْ
أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُمْ مِّنَ الشَّاهِدِينَ} .
قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ مَا بَعَثَ اللَّهُ نَبِيًّا إِلَّا أَخَذَ عَلَيْهِ الْعَهْدَ لَئِنْ بُعِثَ وَهُوَ حييّ لَيَتْبَعَنَّهُ، وَأَخَذَ عَلَيْهِ أَنْ يَأْخُذَ عَلَى أُمَّتِهِ لَئِنْ بُعِثَ مُحَمَّدٌ وَهُمْ أَحْيَاءٌ لَيَتْبَعُنَّهُ وَيَنْصُرُنَّهُ. (1) اهـ.
وَجَاءَ مِصْدَاقُ ذَلِكَ فِي قِصَّةِ النَّجَاشِيِّ لَمَّا سَمِعَ مِنْ جَعْفَرَ عَنْهُ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ: «أشهد أَن
رَسُول الله وَأَن الَّذِي نَجِدُ فِي الْإِنْجِيلِ، وَأَنَّهُ الَّذِي بَشَّرَ بِهِ عِيسَى ابْن مَرْيَمَ، وَمَا قَالَهُ أَيْضًا: وَاللَّهِ لَوْلَا مَا أَنَا فِيهِ مِنَ الْمُلْكِ لَأَتَيْتُهُ حَتَّى أَكُونَ أَنَا أَحْمِلُ نَعْلَيْهِ وَأُوَضِّئُهُ. فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ سَاقَهُ ابْنُ كَثِيرٍ، وَعَزَاهُ إِلَى أَحْمَدَ رَحِمَهُ اللَّهُ (2) .
وَكَذَلِكَ دَعْوَةُ نَبِيِّ اللَّهِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مّنْهُمْ} ، وَلِذَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَا دَعْوَةُ أَبِي إِبْرَاهِيمَ وَبُشْرَى عِيسَى وَرُؤْيَا أُمِّي الَّتِي رَأَتْ» (3) .
وَقَدْ خُصَّ عِيسَى بِالنَّصِّ عَلَى الْبُشْرَى بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم لِأَنَّهُ آخر أَنْبيَاء بني إِسْرَائِيل،
_________
(1) - لم أَقف عَلَيْهِ، وَقد رَأَيْت الْحَافِظ فِي الْفَتْح (6/434) عزاهُ للْبُخَارِيّ بِنَحْوِهِ.
(2) - أخرجه أَحْمد (1/461) من حَدِيث ابْن مَسْعُود - رَضِي الله عَنهُ -، وجوَّد إِسْنَاده الشَّيْخ الألباني - رَحمَه الله - فِي صَحِيح السِّيرَة (ص/166) .
(3) - أخرجه أَحْمد (4/127) ، وَابْن حبَان (14/312) ، وَالطَّبَرَانِيّ (18/252) (629: 631) ، وَالْحَاكِم (2/453) (3566) ، وَصَححهُ وَوَافَقَهُ الذَّهَبِيّ - كلهم - من حَدِيث الْعِرْبَاض - رَضِي الله عَنهُ -، والْحَدِيث صَححهُ الأرناؤوط.(2/450)
فَهُوَ نَاقِلٌ تِلْكَ الْبُشْرَى لِقَوْمِهِ عَمَّا قَبْلَهُ.
كَمَا قَالَ: {مُّصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَىَّ مِنَ التَّوْرَاةِ} وَمَنْ قَبْلَهُ نَاقِلٌ عَمَّنْ قَبْلَهُ، وَهَكَذَا حَتَّى صَرَّحَ بِهَا عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَأَدَّاهَا إِلَى قومه.] (1) .
- النَّبِي - صلى الله عَلَيْهِ وَسلم - هُوَ دَعْوَة إِبْرَاهِيم - عَلَيْهِ السَّلَام - وَمن ذُريَّته.
[قَوْلُهُ تَعَالَى: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَآ إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ} لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا مَنْ هَذِهِ الْأُمَّةُ الَّتِي أَجَابَ اللَّه بِهَا دُعَاءَ نَبِيِّهِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ، وَلَمْ يُبَيِّنْ هُنَا أَيْضًا هَذَا الرَّسُولَ الْمَسْؤُولَ بَعَثَهُ فِيهِمْ مَنْ هُوَ؟ وَلَكِنَّهُ يُبَيِّنُ فِي سُورَةِ الْجُمُعَةِ أَنَّ تِلْكَ الْأُمَّةَ الْعَرَبُ، وَالرَّسُولَ هُوَ سَيِّدُ الرُّسُلِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: {هُوَ الَّذِى بَعَثَ فِى الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مّنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكّيهِمْ وَيُعَلّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِى ضَلَالٍ مُّبِينٍ وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُواْ بِهِمْ} ؛ لِأَنَّ الْأُمِّيِّينَ الْعَرَبُ بِالْإِجْمَاعِ. وَالرَّسُولَ الْمَذْكُورَ نَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِجْمَاعًا. وَلَمْ يُبْعَثْ رَسُولٌ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ إِلَّا نَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحْدَهُ.
وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ (2) أَنَّهُ هُوَ الرَّسُولُ الَّذِي دَعَا بِهِ إِبْرَاهِيمُ وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ عُمُومَ رِسَالَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم إِلَى الْأسود والأحمر.] (3) .
- معرفَة أهل الْكتاب ليَوْم مولده.
قَالَ صَاحب التَّتِمَّة - رَحمَه الله -: [قَوْله تَعَالَى: {حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ
_________
(1) - 8/180: 182، الصَّفّ / 6، وَانْظُر أَيْضا (9/ 414، 415) (الْبَيِّنَة / 5) .
(2) - لم أَقف عَلَيْهِ فِي أحد الصَّحِيحَيْنِ، وَسبق تَخْرِيجه آنِفا.
(3) - 1/73 - 74، الْبَقَرَة / 128 - 129.(2/451)
رَسُولٌ مِّنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفاً مُّطَهَّرَةً} . أَجْمَلَ الْبَيِّنَةَ ثُمَّ فَصَّلَهَا فِيمَا بَعْدَهَا {رَسُولٌ مِّنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفاً} .
وَفِي هَذَا قِيلَ: إِنَّ الْبَيِّنَةَ هِيَ نَفْسُ الرَّسُولِ فِي شَخْصِهِ، لِمَا كَانُوا يَعْرِفُونَهُ قَبْلَ مَجِيئِهِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: {وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِى مِن بَعْدِى اسْمُهُ أَحْمَدُ} ، وَقَوْلِهِ: {يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَآءَهُمْ} .
فَكَأَنَّ وُجُودَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَاتِهِ بَيِّنَةٌ لَهُمْ.
وَلِذَا جَاءَ فِي الْآثَارِ الصَّحِيحَةِ أَنَّهُمْ عَرَفُوا يَوْمَ مَوْلِدِهِ بِظُهُورِ نَجْمِ نَبِيِّ الْخِتَانِ (1) إِلَى آخَرِ أَخْبَارِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانُوا يَسْتَفْتِحُونَ بِهِ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا، وَكَذَلِكَ الْمُشْرِكُونَ كَانُوا يَعْرِفُونَهُ عَنْ طَرِيقِ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَبِمَا كَانَ مُتَّصِفًا بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمِنْ جَمِيلِ الصِّفَاتِ كَمَا قَالَتْ لَهُ خَدِيجَةُ عِنْدَ بَدْءِ الْوَحْيِ لَهُ وَفَزَعِهِ مِنْهُ: «كَلَّا واللَّه لَنْ يُخْزِيَكَ اللَّه، واللَّه إِنَّكَ لَتَحْمِلُ الْكَلَّ وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الدَّهْرِ» إِلَى آخِرِهِ (2) ، وَقَوْلِ عَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ: «واللَّه مَا رَأَيْتُهُ لَعِبَ مَعَ الصِّبْيَانِ وَلَا عَلِمْتُ عَلَيْهِ كِذْبَةً» (3) إِلَخْ. وَقَدْ لَقَّبُوهُ بِالْأَمِينِ، وَحَادِثَةُ شَقِّ الصَّدْرِ فِي رضاعه، بل وَقبل ذَلِكَ فِي قِصَّةِ أَبِيهِ عَبْدِ اللَّه، لَمَّا تَعَرَّضَتْ لَهُ الْمَرْأَةُ تُرِيدُهُ لِنَفْسِهَا، فَأَبَى. وَلَمَّا تَزَوَّجَ وَدَخَلَ بِآمِنَةَ أُمِّ النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم لقيها بعد
_________
(1) - أخرجه ابْن إِسْحَاق فِي سيرته (ص/62) من حَدِيث حسان بن ثَابت - رَضِي الله عَنهُ - بِنَحْوِهِ، فَقَالَ: " والله إِنِّي لغلام يافع ابْن سبع سِنِين أَو ابْن ثَمَان سِنِين اعقل كل مَا سَمِعت إِذْ سَمِعت يَهُودِيّا وهُوَ على أطمه بِيَثْرِب يصْرخ: يَا معشر يهود فَلَمَّا اجْتَمَعُوا إِلَيْهِ قَالُوا: وَيْلَكَ مَا لَكَ؟ قَالَ: " طلع نجم أَحْمد الَّذِي يبْعَث بِهِ اللَّيْلَة " وَرِجَاله ثِقَات إِلَّا أَن فِيهِ جَهَالَة الرَّاوِي عَن يحيى بن عبد الله.
(2) - أخرجه البُخَارِيّ (4/1894) (4670) ، وَمُسلم (1/139) (160) من حَدِيث عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا - مطولا بِهِ.
(3) - لم أَقف عَلَيْهِ مُسْندًا، وَإِنَّمَا نَقله الشَّيْخ عَطِيَّة - رَحمَه الله - عَن الألوسي فِي تَفْسِيره (30/161) .(2/452)
ذَلِكَ، فَقَالَتْ لَهُ: لَا حَاجَةَ لِي بِكَ، فَقَالَ: وَكَيْفَ كُنْتِ تَتَعَرَّضِينَ لِي؟ فَقَالَتْ: رَأَيْتُ نُورًا فِي وَجْهِكَ، فَأَحْبَبْتُ أَنْ يَكُونَ لِي، فَلَمَّا تَزَوَّجْتَ وَضَعْتَهُ فِي آمِنَةَ وَلَمْ أَرَهُ فِيكَ الْآنَ، فَلَا حَاجَةَ لِي فِيكَ (1) .
فَكُلُّهَا دَلَائِلُ عَلَى أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ فِي شَخْصِهِ بَيِّنَةٌ لَهُمْ، ثُمَّ أَكْرَمَهُ اللَّه بِالرِّسَالَةِ، فَكَانَ رَسُولًا يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً، مِنَ الْأَبَاطِيلِ وَالزَّيْغِ وَمَا لَا يَلِيقُ بِالْقُرْآنِ.
وَمِمَّا اسْتُدِلَّ بِهِ لِذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى عَنْهُ: {وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُّنِيراً} فَعَلَيْهِ يَكُونُ رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ بَدَلٌ مِنَ الْبَيِّنَةِ مَرْفُوعٌ عَلَى الْبَدَلِيَّةِ، أَوْ أَنَّ الْبَيِّنَةَ مَا يَأْتِيهِمْ بِهِ الرَّسُولُ مِمَّا يَتْلُوهُ عَلَيْهِمْ مِنَ الصُّحُفِ الْمُطَهَّرَةِ فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ.
فَالتَّشْرِيعُ الَّذِي فِيهَا وَالْإِخْبَارُ الَّذِي أَعْلَنَهُ تَكُونُ الْبَيِّنَةُ. وَعَلَى كُلٍّ، فَإِنَّ الْبَيِّنَةَ تَصْدُقُ عَلَى الْجَمِيعِ، كَمَا تَصْدُقُ عَلَى الْمَجْمُوعِ، وَلَا يَنْفَكُّ أَحَدُهُمَا عَنِ الْآخَرِ، فَلَا رَسُولَ إِلَّا بِرِسَالَةٍ تُتْلَى، وَلَا رِسَالَةَ تُتْلَى إلاَّ بِرَسُولٍ يَتْلُوهَا.
وَقَدْ عُرِّفَ لَفْظُ الْبَيِّنَةِ، لِلْإِشَارَةِ إِلَى وُجُودِ عِلْمٍ عَنْهَا مُسْبَقٍ عَلَيْهَا.
فَكَأَنَّهُ قِيلَ: حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ الْمَوْصُوفَةُ لَهُمْ فِي كُتُبِهِمْ، وَيُشِيرُ إِلَيْهَا مَا قَدَّمْنَا فِي أَخْبَارِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْهُ، وَآخَرِ سُورَةِ الْفَتْحِ {ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِى التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِى الإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ} .] (2) .
- بعض أَسْمَائِهِ - صلى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَصِفَاته.
[قَوْله تَعَالَى: {اسْمُهُ أَحْمَدُ} جَاءَ النَّصُّ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ عِدَّةُ أَسْمَاءٍ، وَفِي الصَّحِيحِ قَوْلُهُ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَا لِي أَسْمَاءٌ أَنَا مُحَمَّدٌ، وَأَنَا أَحْمَدُ، وَأَنَا الماحي الَّذِي
_________
(1) - أخرجه ابْن إِسْحَاق فِي سيرته (ص/19) ، قَالَ: كَانَ عبد الْمطلب فَذكره، وَهُوَ مُرْسل.
(2) - 9/404: 407، الْبَيِّنَة / 1: 4.(2/453)
يَمْحُو اللَّهُ بِهِ الْكُفْرَ، وَأَنَا الْحَاشِرُ الَّذِي يُحْشَرُ النَّاسُ عَلَى قَدَمِي وَأَنَا الْعَاقِبُ» (1) .
وَبِهَذِهِ الْمُنَاسَبَةِ فَقَدْ ذُكِرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِاسْمِهِ أَحْمَدَ هُنَا. وَبِاسْمِهِ مُحَمَّدٍ فِي سُورَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
كَمَا ذُكِرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِصِفَاتٍ عَدِيدَةٍ أَجْمَعِهَا مَا يعد تَرْجَمَة ذانية مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} .] (2) .
- عُمُوم رسَالَته - صلى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَوُجُوب الْإِيمَان بِهِ.
[قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأُوحِىَ إِلَىَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ} صَرَّحَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ بِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنْذِرٌ لِكُلِّ مَنْ بَلَغَهُ هَذَا الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ كَائِنًا مَنْ كَانَ، وَيُفْهَمُ مِنَ الْآيَةِ أَنَّ الْإِنْذَارَ بِهِ عَامٌّ لِكُلِّ مَنْ بَلَغَهُ، وَأَنَّ كُلَّ مَنْ بَلَغَهُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِهِ فَهُوَ فِي النَّارِ، وَهُوَ كَذَلِكَ.
أَمَّا عُمُومُ إِنْذَارِهِ لِكُلِّ مَنْ بَلَغَهُ، فَقَدْ دَلَّتْ عَلَيْهِ آيَاتٌ أُخَرُ أَيْضا كَقَوْلِه {قُلْ ياأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّى رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} ، وَقَوْلِهِ {وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَآفَّةً لِّلنَّاسِ} ، وَقَوْلِهِ {تَبَارَكَ الَّذِى نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً} .
وَأَمَّا دُخُولُ مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِهِ النَّارَ، فَقَدْ صَرَّحَ بِهِ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ {وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ} .
_________
(1) - أخرجه البُخَارِيّ (3/1299) (3339) ، وَمُسلم (4/1828) (2354) مِنْ حَدِيثِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ -.
(2) - 8/182، الصَّفّ / 6.(2/454)
وَأَمَّا مِنْ لَمْ تَبْلُغْهُ دَعْوَةُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَهُ حُكْمُ أَهْلِ الْفَتْرَةِ الَّذِينَ لَمْ يَأْتِهِمْ رَسُولٌ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.] (1) .
- إتباع النَّبِي - صلى الله عَلَيْهِ وَسلم - مُوجب لمحبة الله جلّ وَعلا لذَلِك المُتتَّبِع.
[قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِى يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} صَرَّحَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ اتِّبَاعَ نَبِيِّهِ مُوجِبٌ لِمَحَبَّتِهِ جَلَّ وَعَلَا ذَلِكَ الْمُتَّبِعِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ طَاعَةَ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هِيَ عَيْنُ طَاعَتِهِ تَعَالَى، وَصَرَّحَ بِهَذَا الْمَدْلُولِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُواْ} .
تَنْبِيهٌ
يُؤْخَذُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ عَلَامَةَ الْمَحَبَّةِ الصَّادِقَةِ للَّه وَرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هِيَ اتِّبَاعُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَالَّذِي يُخَالِفُهُ وَيَدَّعِي أَنَّهُ يُحِبُّهُ فَهُوَ كَاذِبٌ مُفْتَرٍ؛ إِذْ لَوْ كَانَ مُحِبًّا لَهُ لَأَطَاعَهُ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ عِنْدَ الْعَامَّةِ أَنَّ الْمَحَبَّةَ تَسْتَجْلِبُ الطَّاعَةَ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
لَوْ كَانَ حُبُّكَ صَادِقًا لَأَطَعْتَهُ ... إِنَّ الْمُحِبَّ لِمَنْ يُحِبُّ مُطِيعُ
وَقَوْلُ ابْنِ أَبِي رَبِيعَةَ المَخْزُومِي:
وَمَنْ لَوْ نَهَانِي مِنْ حُبِّهِ ... عَنِ الْمَاءِ عَطْشَانَ لَمْ أَشْرَبِ
وَقَدْ أَجَادَ مَنْ قَالَ:
قَالَتْ: وَقَدْ سَأَلَتْ عَنْ حَالِ عَاشِقِهَا ... باللَّه صِفْهُ وَلَا تَنْقُصْ وَلَا تَزِدِ
فَقُلْتُ: لَوْ كَانَ رَهْنَ الْمَوْتِ مِنْ ظَمَأٍ ... وَقُلْتِ: قِفْ عَن وُرُود المَاء لم يرد] (2) .
_________
(1) - 2/168، الْأَنْعَام/19، وَانْظُر (1/74) (الْبَقَرَة/128 - 129) ، (3/102) (إِبْرَاهِيم/52) .
(2) - 1/243، آل عمرَان/31.(2/455)
- تَعْظِيمه - صلى الله عَلَيْهِ وَسلم - بإتباعه.
[وَاعْلَمْ أَنَّ كُلَّ عَاقِلٍ إِذَا رَأَى رَجُلًا مُتَدَيِّنًا فِي زَعْمِهِ مُدَّعِيًا حُبَّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَعْظِيمَهُ وَهُوَ يُعَظِّمُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَمْدَحُهُ بِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ الْمَاءَ مِنَ السَّمَاءِ وَأَنْبَتَ بِهِ الْحَدَائِقَ ذَاتَ الْبَهْجَةِ، وَأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الَّذِي جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا إِلَى آخِرِ مَا تَضَمَّنَتْهُ الْآيَاتُ الْمُتَقَدِّمَةُ، فَإِنَّ ذَلِكَ الْعَاقِلَ لَا يَشُكُّ فِي أَنَّ ذَلِكَ الْمَادِحَ الْمُعَظِّمَ فِي زَعْمِهِ مِنْ أَعْدَاءِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ الْمُتَعَدِّينَ لِحُدُودِ اللَّهِ.
وَقَدْ عَلِمْتَ مِنَ الْآيَاتِ الْمُحْكَمَاتِ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ ذَلِكَ وَبَيْنَ إِجَابَةِ الْمُضْطَرِّينَ وَكَشْفِ السُّوءِ عَنِ الْمَكْرُوبِينَ.
فِعْلَيْنَا مَعَاشِرَ الْمُسْلِمِينَ أَنْ نَنْتَبِهَ مِنْ نَوْمَةِ الْجَهْلِ وَأَنْ نُعَظِّمَ رَبَّنَا بِامْتِثَالِ أَمْرِهِ وَاجْتِنَابِ نَهْيِهِ، وَإِخْلَاصِ الْعِبَادَةِ لَهُ، وَتَعْظِيمِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِاتِّبَاعِهِ وَالِاقْتِدَاءِ بِهِ فِي تَعْظِيمِ اللَّهِ وَالْإِخْلَاصِ لَهُ وَالِاقْتِدَاءِ بِهِ فِي كُلِّ مَا جَاءَ بِهِ.
وَأَلَّا نُخَالِفَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا نَعْصِيَهُ، وَأَلَّا نَفْعَلَ شَيْئًا يُشْعِرُ بِعَدَمِ التَّعْظِيمِ وَالِاحْتِرَامِ، كَرَفْعِ الْأَصْوَاتِ قُرْبَ قَبْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَصْدُنَا النَّصِيحَةُ وَالشَّفَقَةُ لِإِخْوَانِنَا الْمُسْلِمِينَ لِيَعْمَلُوا بِكِتَابِ اللَّهِ، وَيُعَظِّمُوا نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَعْظِيمَ الْمُوَافِقِ لِمَا جَاءَ بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَتْرُكُوا مَا يُسَمِّيهِ الْجَهَلَةُ مَحَبَّةً وَتَعْظِيمًا وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ احْتِقَارٌ وَازْدِرَاءٌ وَانْتِهَاكٌ لِحُرُمَاتِ اللَّهِ، وَرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِىِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتَ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأولئك يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيراً} .
وَاعْلَمْ أَيْضًا رَحِمَكَ اللَّهُ: أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ إِجَابَةِ الْمُضْطَرِّ(2/456)
وَكَشْفِ السُّوءِ عَنِ الْمَكْرُوبِ، وَبَيْنَ تَحْصِيلِ الْمَطَالِبِ الَّتِي لَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا إِلَّا اللَّهُ، كَالْحُصُولِ عَلَى الْأَوْلَادِ وَالْأَمْوَالِ وَسَائِرِ أَنْوَاعِ الْخَيْرِ.
فَإِنَّ الْتِجَاءَ الْعَبْدِ إِلَى رَبِّهِ فِي ذَلِكَ أَيْضًا مِنْ خَصَائِصَ رُبُوبِيَّتِهِ جَلَّ وَعَلَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: {قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَآءِ وَالأَرْضِ} وَقَالَ تَعَالَى: {فَابْتَغُواْ عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُواْ لَهُ} . وَقَالَ تَعَالَى: {يَهَبُ لِمَن يَشَآءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَن يَشَآءُ الذُّكُورَ} . وَقَالَ تَعَالَى: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَاسْأَلُواْ اللَّهَ مِن فَضْلِهِ} إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَفِي الْحَدِيثِ «إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللَّهَ» (1) .
وَقَدْ أَثْنَى اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا عَلَى نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ بِالْتِجَائِهِمْ إِلَيْهِ وَقْتَ الْكَرْبِ يَوْمَ بَدْرٍ فِي قَوْلِهِ: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ} . فَنَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ إِذَا أَصَابَهُمْ أَمْرٌ أَوْ كرب التجؤوا إِلَى اللَّهِ وَأَخْلَصُوا لَهُ الدُّعَاءَ. فَعَلَيْنَا أَنْ نتبع وَلَا نبتدع.] (2) .
- حرمته - صلى الله عَلَيْهِ وَسلم - حَيا كحرمته مَيتا.
قَالَ الْعَلامَة الشنقيطي - رَحمَه الله - وَهُوَ يتَكَلَّم عَن تَحْرِيم رفع الصَّوْت عِنْد قَبره، أَو فِي مَسْجده [وَمَعْلُومٌ أَنَّ حُرْمَةَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ وَفَاتِهِ كَحُرْمَتِهِ فِي أَيَّامِ حَيَاتِهِ ... ] (3) .
_________
(1) - أخرجه التِّرْمِذِيّ (4/667) (2516) ، وَقَالَ: حسن صَحِيح، وَأحمد (1/293) ، والْحَدِيث صَححهُ الشَّيْخ الألباني - رَحمَه الله -.
(2) - 7/624: 626، الحجرات / 1.
(3) - 7/617، الحجرات / 2.(2/457)
- الْهدى الْعَام وَالْخَاص.
[قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّواْ الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} . قَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ {فَهَدَيْنَاهُمْ} الْمُرَادُ بِالْهُدَى فِيهِ هُدَى الدَّلَالَةِ وَالْبَيَانِ، وَالْإِرْشَادِ، لَا هُدَى التَّوْفِيقِ وَالِاصْطِفَاءِ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى بَعْدَهُ {فَاسْتَحَبُّواْ الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} ، لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ هِدَايَةَ تَوْفِيقٍ لَمَا انْتَقَلَ صَاحِبُهَا عَنِ الْهُدَى إِلَى الْعَمَى.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ {فَاسْتَحَبُّواْ الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} أَي اخْتَارُوا الْكفْر على الْإِيمَانِ، وَآثَرُوهُ عَلَيْهِ، وَتَعَوَّضُوهُ مِنْهُ.
وَهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي ذكرنَا يُوضحهُ قَوْله تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ آبَآءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَآءَ إِنِ اسْتَحَبُّواْ الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ} فَقَوْلُهُ فِي آيَةِ التَّوْبَةِ هَذِهِ: {إِنِ اسْتَحَبُّواْ الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ} مُوَافِقٌ فِي الْمَعْنَى لِقَوْلِهِ هُنَا: فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى.
وَنَظِيرُ ذَلِكَ فِي الْمَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى: {الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحياةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} فَلَفْظَةُ اسْتَحَبَّ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرًا مَا تَتَعَدَّى بِعَلَى؛ لِأَنَّهَا فِي مَعْنَى اخْتَارَ وَآثَرَ.
وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ هُودِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالأَعْمَى} . أَنَّ الْعَمَى الْكُفْرُ، وَأَنَّ
الْمُرَادَ بِالْأَعْمَى فِي آيَاتٍ عَدِيدَةٍ الْكَافِرُ. وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ، مِنْ أَنَّ الْهُدَى يَأْتِي فِي الْقُرْآنِ بِمَعْنَاهُ الْعَامِّ، الَّذِي هُوَ الْبَيَانُ، وَالدَّلَالَةُ، وَالْإِرْشَادُ، لَا يُنَافِي أَنَّ الْهُدَى قَدْ يُطْلَقُ فِي الْقُرْآنِ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ، عَلَى الْهُدَى الْخَاصِّ الَّذِي هُوَ التَّوْفِيقُ، وَالِاصْطِفَاءُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} .(2/458)
فَمِنْ إِطْلَاقِ الْقُرْآنِ الْهُدَى عَلَى مَعْنَاهُ الْعَامِّ قَوْلُهُ هُنَا: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ} أَيْ بَيَّنَّا لَهُمْ طَرِيقَ الْحَقِّ وَأَمَرْنَاهُمْ بِسُلُوكِهَا، وَطُرُقِ الشَّرِّ وَنَهَيْنَاهُمْ عَنْ سُلُوكِهَا عَلَى لِسَانِ نَبِيِّنَا صَالِحٍ، عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ {فَاسْتَحَبُّواْ الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} أَي اخْتَارُوا الْكفْر على الْإِيمَان بَعْدَ إِيضَاحِ الْحَقِّ لَهُمْ.
وَمِنْ إِطْلَاقِهِ عَلَى مَعْنَاهُ الْعَامِّ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ} بِدَلِيلِ قَوْلِهِ بَعْدَهُ {إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً} ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ هُدَى تَوْفِيقٍ لَمَا قَالَ: {وَإِمَّا كَفُوراً} .
وَمِنْ إِطْلَاقِهِ عَلَى مَعْنَاهُ الْخَاصِّ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} . وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى} . وَقَوْلُهُ: {مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ} .
وَبِمَعْرِفَةِ هَذَيْنِ الْإِطْلَاقَيْنِ تَتَيَسَّرُ إِزَالَةُ إِشْكَالٍ قُرْآنِيٍّ: وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى: أَثْبَتَ الْهُدَى لِنَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي آيَةٍ، وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِى إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} وَنَفَاهُ عَنْهُ فِي آيَةٍ أُخْرَى وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّكَ لاَ تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ} .
فَيُعْلَمُ مِمَّا ذَكَرْنَا: أَنَّ الْهُدَى الْمُثْبَتَ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، هُوَ الْهُدَى الْعَامُّ الَّذِي هُوَ الْبَيَانُ، وَالدَّلَالَةُ وَالْإِرْشَادُ، وَقَدْ فَعَلَ ذَلِكَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَيَّنَ الْمَحَجَّةَ الْبَيْضَاءَ، حَتَّى تَرَكَهَا لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا لَا يَزِيغُ عَنْهَا هَالِكٌ.
وَالْهُدَى الْمَنْفِيُّ عَنْهُ فِي آيَةِ: {إِنَّكَ لاَ تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ} هُوَ الْهُدَى الْخَاصُّ الَّذِي هُوَ التَّفَضُّلُ بِالتَّوْفِيقِ، لِأَنَّ ذَلِكَ بِيَدِ اللَّهِ وَحْدَهُ، وَلَيْسَ بِيَدِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَن يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ} . وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِن تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِى مَن يُضِلُّ} وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِك(2/459)
كَثِيرَةٌ مَعْلُومَةٌ.
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِى أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ} ، لَا مُنَافَاةَ فِيهِ بَيْنَ عُمُومِ النَّاسِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَخُصُوصِ الْمُتَّقِينَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} لِأَنَّ الْهُدَى الْعَامَّ لِلنَّاسِ هُوَ الْهُدَى الْعَامُّ، وَالْهُدَى الْخَاصُّ بِالْمُتَّقِينَ، هُوَ الْهُدَى الْخَاصُّ كَمَا لَا يَخْفَى. وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي غَيْرِ هَذَا الْموضع، وَالْعلم عِنْد الله تَعَالَى.] (1) .
- بَيَان الرضي فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} .
قَالَ صَاحب التَّتِمَّة - رَحمَه الله -: [ {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} جَاءَ مُؤَكَّدًا بِاللَّامِ وَسَوْفَ، وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: يُعْطِيهِ فِي الدُّنْيَا مِنْ إِتْمَامِ الدِّينِ وَإِعْلَاءِ كَلِمَةِ اللَّه، وَالنَّصْرِ عَلَى الْأَعْدَاءِ.
وَالْجُمْهُورُ: أَنَّهُ فِي الْآخِرَةِ، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ عَلَى سَبِيلِ الْإِجْمَالِ، إِلَّا أَنَّهُ فُصِّلَ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ
، فَأَعْظَمُهَا مَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُودًا} .
وَجَاءَ فِي السُّنَّةِ بَيَانُ الْمَقَامِ الْمَحْمُودِ وَهُوَ الَّذِي يَغْبِطُهُ عَلَيْهِ الْأَوَّلُونَ وَالْآخِرُونَ، كَمَا فِي حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ الْعُظْمَى حِينَ يَتَخَلَّى كُلُّ نَبِيٍّ، وَيَقُولُ: «نَفْسِي نَفْسِي، حَتَّى يَصِلُوا إِلَى النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَقُولُ: أَنَا لَهَا أَنَا لَهَا» إِلَخْ (2) .
وَمِنْهَا: الْحَوْضُ الْمَوْرُودُ، وَمَا خُصَّتْ بِهِ أُمَّتُهُ غُرًّا مُحَجَّلِينَ، يردون عَلَيْهِ الْحَوْض.
_________
(1) - 7/125: 127، فصلت / 17.
(2) - أخرجه البُخَارِيّ (6/2727) (7072) ، وَمُسلم (1/180) (193) من حَدِيث أنس - رَضِي الله عَنهُ -.(2/460)
وَمِنْهَا: الْوَسِيلَةُ، وَهِيَ مَنْزِلَةٌ رَفِيعَةٌ عَالِيَةٌ لَا تَنْبَغِي إِلَّا لِعَبْدٍ وَاحِدٍ، كَمَا فِي الْحَدِيثِ: «إِذْ سَمِعْتُمُ الْمُؤَذِّنَ فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ، ثُمَّ صَلُّوا عليَّ وَسَلُوا اللَّهَ لِيَ الْوَسِيلَةَ، فَإِنَّهَا مَنْزِلَةٌ فِي الْجَنَّةِ لَا تَنْبَغِي إلاَّ لِعَبْدٍ وَاحِدٍ، وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَنَا هُوَ» (1) .
وَإِذَا كَانَتْ لِعَبْدٍ وَاحِدٍ فَمَنْ يَسْتَقْدِمُ عَلَيْهَا، وَإِذَا رَجَا رَبَّهُ أَنْ تَكُونَ لَهُ طَلَبَ مِنَ الْأُمَّةِ طَلَبَهَا لَهُ، فَهُوَ مِمَّا يُؤَكِّدُ أَنَّهَا لَهُ، وإلاَّ لَمَا طَلَبَهَا وَلَا تَرَجَّاهَا، وَلَا أَمَرَ بِطَلَبِهَا لَهُ. وَهُوَ بِلَا شَكٍّ أَحَقُّ بِهَا مِنْ جَمِيعِ الْخَلْقِ، إِذِ الْخَلْقُ أَفْضَلُهُمُ الرُّسُلُ، وَهُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُقَدَّمٌ عَلَيْهِمْ فِي الدُّنْيَا، كَمَا فِي الْإِسْرَاءِ تَقَدَّمَ عَلَيْهِمْ فِي الصَّلَاةِ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ.
وَمِنْهَا: الشَّفَاعَةُ فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ: «أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوَّلُ مَنْ تفتح لَهُ الْجنَّة، وَأَن رضواناً خَازِنَ الْجَنَّةِ يَقُولُ لَهُ: أُمِرْتُ أَلَّا أَفْتَحَ لِأَحَدٍ قَبْلَكَ» (2) .
وَمِنْهَا: الشَّفَاعَةُ، الْمُتَعَدِّدَةُ حَتَّى لَا يَبْقَى أَحَدٌ مِنْ أُمَّتِهِ فِي النَّارِ، كَمَا فِي الْحَدِيثِ: «لَا أَرْضَى وَأَحَدٌ مِنْ أُمَّتِي فِي النَّارِ» (3) أَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يَرْزُقَنَا شَفَاعَتَهُ، وَيُورِدَنَا حَوْضَهُ. آمِينَ.
وَشَفَاعَتُهُ الْخَاصَّةُ فِي الْخَاصِّ فِي عَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ، فَيُخَفَّفُ عَنْهُ بِهَا مَا كَانَ فِيهِ.
وَمِنْهَا: شَهَادَتُةُ عَلَى الرُّسُلِ، وَشَهَادَةُ أُمَّتِهِ عَلَى الْأُمَمِ وَغَيْرُ ذَلِكَ، وَهَذِهِ بِلَا شَكٍّ عَطَايَا مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ لحبيبه وَصفيه الْكَرِيم، صلوَات الله
_________
(1) - أخرجه مُسْلِمٍ (1/288) (384) مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ -.
(2) - أخرجه مُسلم (1/188) (197) من حَدِيث أنس - رَضِي الله عَنهُ -.
(3) - لم أَقف عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا أورد الْقُرْطُبِيّ وَغَيره من الْمُفَسّرين أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِ: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} قَالَ: " إِذا وَالله لَا أرْضى وَوَاحِد من أمتِي فِي النَّار ".(2/461)
وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحِبَهُ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا.
تَنْبِيهٌ
اللَّامُ فِي {وَلَلآخِرَةُ} وَفِي {وَلَسَوْفَ} لِلتَّأْكِيدِ وَلَيْسَتْ لِلْقَسَمِ، وَهِيَ فِي الْأَوَّلِ دَخَلَتْ عَلَى الْمُبْتَدَأِ، وَفِي الثَّانِيَةِ الْمُبْتَدَأُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ، لَأَنْتَ سَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى. قَالَهُ أَبُو حَيَّانَ وَأَبُو السُّعُود.] (1) .
- بَيَان الْخَيْر الْكثير الَّذِي أعْطِيه النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
قَالَ صَاحِبُ التَّتِمَّة - رَحمَه الله -: [قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّآ أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} . الْكَوْثَرُ فَوْعَلُ من الْكَثْرَة، وَأَعْطَيْنَاك قرىء: أَنْطَيْنَاكَ، بِإِبْدَالِ الْعَيْنِ نُونًا، وَلَيْسَتِ النُّونُ مُبْدَلَةً عَنِ الْعَيْنِ، كَإِبْدَالِ الْأَلِفِ مِنَ الْوَاوِ أَوِ الْعَيْنِ فِي الْأَجْوَفِ وَنَحْوِهِ، وَلَكِنَّ كُلَّا مِنْهُمَا أَصْلٌ بِذَاتِهِ، وَقِرَاءَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ. قَالَهُ أَبُو حَيَّانَ.
وَاخْتُلِفَ فِي الْكَوْثَرِ.
فَقِيلَ: عَلَمٌ.
وَقِيلَ: وَصْفٌ.
وَعَلَى الْعَلَمِيَّةِ قَالُوا: إِنَّهُ عَلَمٌ عَلَى نَهْرٍ فِي الْجَنَّةِ، وَعَلَى الْوَصْفِ قَالُوا: الْخَيْرُ الْكَثِيرُ.
وَمِمَّا اسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى الْعَلَمِيَّةِ، مَا جَاءَ فِي السُّنَّةِ مِنَ الْأَحَادِيثِ الصِّحَاحِ، ذَكَرَهَا ابْنُ كَثِيرٍ وَغَيْرُهُ.
وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: لَمَّا عُرِجَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى السَّمَاء
_________
(1) - 9/280: 282، الضُّحَى / 5.(2/462)
قَالَ: «أتيت نهر حافتاه قباب اللُّؤْلُؤ مجوف. فَقُلْتُ: مَا هَذَا يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: هَذَا الْكَوْثَرُ» (1) .
وَبِسَنَدِهِ أَيْضًا عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا «سُئِلَتْ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّآ أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} ، قَالَتْ: هُوَ نَهْرٌ أُعْطِيَهُ نَبِيُّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، شَاطِئَاهُ عَلَيْهِمَا دُرٌّ مُجَوَّفٌ، آنِيَتُهُ كَعَدَدِ النُّجُومِ» (2) .
وَبِسَنَدِهِ أَيْضًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ فِي الْكَوْثَرِ: هُوَ الْخَيْرُ الَّذِي أَعْطَاهُ اللَّهُ إِيَّاهُ، قَالَ أَبُو بِشْرٍ: قُلْتُ لِسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: فَإِنَّ النَّاسَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُ نَهْرٌ فِي الْجَنَّةِ، فَقَالَ سَعِيدٌ: النَّهْرُ الَّذِي فِي الْجَنَّةِ مِنَ الْخَيْرِ، الَّذِي أَعْطَاهُ اللَّهُ إِيَّاهُ (3) .
وَذَكَرَ ابْنُ كَثِيرٍ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ وَغَيْرَهَا عَنْ أَحْمَدَ رَحِمَهُ اللَّه: وَمِنْهَا بِسَنَدِ أَحْمَدَ إِلَى أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: «أَغْفَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِغْفَاءَةً، فَرَفَعَ رَأْسَهُ مُتَبَسِّمًا إِمَّا قَالَ لَهُمْ، وَإِمَّا قَالُوا لَهُ: لِمَ ضَحِكْتَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّهُ نَزَلَتْ عليَّ آنِفًا سُورَةٌ، فَقَرَأَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ، حَتَّى خَتَمَهَا، فَقَالَ: هَلْ تَدْرُونَ مَا الْكَوْثَرُ؟ قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: نَهَرَ أَعْطَانِيهِ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ فِي الْجَنَّةِ، عَلَيْهِ خَيْرٌ كَثِيرٌ، تَرِدُ عَلَيْهِ أُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ، آنِيَتُهُ عَدَدُ الْكَوَاكِبِ يَخْتَلِجُ الْعَبْدُ مِنْهُمْ، فَأَقُولُ: يَا رَبِّ إِنَّهُ مِنْ أُمَّتِي، فَيُقَالُ: إِنَّكَ لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بعبدك» (4) .
وَذَكَرَ ابْنُ كَثِيرٍ مَا جَاءَ فِي صِفَةِ الْحَوْضِ، وَهَذِهِ النُّصُوصُ عَلَى أَنَّ الْكَوْثَرَ نَهَرٌ فِي الْجَنَّةِ، أَعْطَاهُ اللَّه لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم.
_________
(1) - أخرجه البُخَارِيّ (4/1900) (4680) من حَدِيث أنس - رَضِي الله عَنهُ -.
(2) - أخرجه البُخَارِيّ (4/1900) (4681) .
(3) - أخرجه البُخَارِيّ (4/1900) (4682) .
(4) - أخرجه مُسلم (1/300) (400) ، وَأحمد (3/102) .(2/463)
وَفِي الْحَدِيثِ الْأَخِيرِ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ قَوْلُهُ: «عَلَيْهِ خَيْرٌ كَثِيرٌ» يُشْعِرُ بِأَنَّ مَعْنَى الْوَصْفِيَّةِ مَوْجُودٌ.
وَلِذَا قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّهُ الْخَيْرُ الْكَثِيرُ، وَمِمَّنْ قَالَ ذَلِكَ ابْنُ عَبَّاسٍ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ الْبُخَارِيِّ عَنْهُ.
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى الْمَعْنَى، بِقَوْلِ الشَّاعِرِ الْكُمَيْتِ:
وَأَنْتَ كَثِيرٌ يَا ابْنَ مَرْوَانَ طَيِّبٌ ... وَكَانَ أَبُوكَ ابْنُ الْفَصَائِل
وَالَّذِي تَطْمَئِنُّ إِلَيْهِ النَّفْسُ أَنَّ الْكَوْثَرَ، هُوَ الْخَيْرُ الْكَثِيرُ، وَأَنَّ الْحَوْضَ أَوِ النَّهَرَ مِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ.
وَقَدْ أَتَتْ آيَاتٌ تَدُلُّ عَلَى إِعْطَاءِ اللَّهِ لِرَسُولِهِ الْخَيْرَ الْكَثِيرَ، كَمَا جَاءَ فِي قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} .
وَفِي الْقَرِيبِ سُورَةُ الضُّحَى وَفِيهَا: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} ، أَعْقَبَهَا بِنِعَمٍ جَلِيلَةٍ مِنْ شَرْحِ الصُّدُورِ، وَوَضْعِ الْوِزْرِ، وَرَفْعِ الذِّكْرِ، وَالْيُسْرِ بَعْدَ الْعُسْرِ.
وَبَعْدَهَا فِي سُورَةِ التِّينِ جَعَلَ بَلَدَهُ الْأَمِينَ، وَأَعْطَى الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ.
وَبَعْدَهَا سُورَةُ اقْرَأْ، امْتَنَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنَ، وَعَلَّمَهُ مَا لَمْ يكن يعلم.
وَبَعْدَهَا سُورَةُ الْقَدْرِ: أَعْطَاهُ لَيْلَةً خَيْرًا مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ.
وَبَعْدَهَا سُورَةُ الْبَيِّنَةِ: جَعَلَ أُمَّتَهُ خَيْرَ الْبَرِيَّةِ، وَمَنَحَهُمْ رِضَاهُ عَنْهُمْ، وَأَرْضَاهُمْ عَنْهُ.
وَبَعْدَهَا سُورَةُ الزَّلْزَلَةِ: حَفِظَ لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ، فَلَمْ يُضَيِّعْ عَلَيْهِمْ مِثْقَالَ الذَّرَّةِ مِنَ الْخَيْرِ.
وَفِي سُورَةِ الْعَادِيَاتِ: أَكْبَرُ عَمَلٍ الْجِهَادُ، فَأَقْسَمَ بِالْعَادِيَاتِ فِي سَبِيل(2/464)
اللَّه، وَالنَّصْرِ عَلَى الْأَعْدَاءِ.
وَفِي سُورَةِ التَّكَاثُرِ: تَرْبِيَتُهُمْ عَلَى نِعَمِهِ لِيَشْكُرُوهَا، فَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ.
وَفِي سُورَةِ الْعَصْرِ: جَعَلَ أُمَّتَهُ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ، تُؤْمِنُ باللَّه وَتَعْمَلُ الصَّالِحَاتِ، وَتَتَوَاصَى بِالْحَقِّ وَتَدْعُو إِلَيْهِ، وَتَتَوَاصَى بِالصَّبْرِ، وَتَصْبِرُ عَلَيْهِ.
وَبَعْدَهَا فِي سُورَةِ قُرَيْشٍ: أَكْرَمَ اللَّهُ قَوْمَهُ، فَآمَنَهُمْ وَأَعْطَاهُمْ رِحْلَتَيْهِمْ.
وَفِي السُّورَةِ الَّتِي قَبْلَهَا مُبَاشَرَةً، وَهِيَ سُورَةُ الْمَاعُونِ: يُمْكِنُ عَمَلُ مُقَارَنَةٍ تَامَّةٍ أَوَّلًا.
وَفِي الْجُمْلَةِ، لَئِنْ كَانَ الْمُنَافِقُونَ يَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ، فَقَدْ أَعْطَيْنَاكَ الْخَيْرَ الْكَثِيرَ ثَانِيًا.
وَعَلَى التَّفْصِيلِ فَفِي الْأُولَى: وَصَفَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُكَذِّبِينَ بِدَعِّ الْيَتِيمِ، وَفِي الضُّحَى قَدْ بَيَّنَ لَهُ حَقَّ الْيَتِيمِ {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلاَ تَقْهَرْ} ، فَكَانَ هُوَ خَيْرُ مُوَكَّلٍ، وَخَيْرُ كَافِلٍ، وَوَصَفَهُمْ هُنَا بِأَنَّهُمْ لَا يَحُضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ.
وَقَدْ أَوْضَحَ لَهُ فِي الضُّحَى، {وَأَمَّا السَّآئِلَ فَلاَ تَنْهَرْ} ، فَكَانَ يُؤْثِرُ السَّائِلَ عَلَى نَفْسِهِ، وَهَؤُلَاءِ سَاهُونَ عَنْ صَلَاتِهِمْ يُرَاءُونَ بِأَعْمَالِهِمْ.
وَفِي هَذِهِ السُّورَةِ {فَصَلِّ لِرَبِّكَ} ، أَدَاءُ الصَّلَاةِ وَخَالِصَةٌ لِرَبِّهِ، وَإِطْعَامُ الْمِسْكِينِ بِنَحْرِ الْهَدْيِ وَالضَّحِيَّةِ وَالصَّدَقَةِ، وَكُلُّ ذَلِكَ خَيْرٌ كَثِيرٌ، يُضَافُ إِلَيْهِ مَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ، كَمَا فِي حَدِيثِ: «أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ قَبْلِي: نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ، وَأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ، وَحَلَّتْ لِيَ الْغَنَائِمُ، وَلَمْ تَكُنْ تَحُلُّ لِأَحَدٍ قَبْلِي. وَكَانَ النَّبي يُبْعَثُ لِقَوْمِهِ خَاصَّة، فَبعث لِلنَّاسِ كَافَّةً، وَجُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا، فَأَيُّمَا(2/465)
رَجُلٌ أَدْرَكَتْهُ الصَّلَاةَ فَلْيُصَلِّ» (1) .
وَقَوْلُهُ: «رُفِعَ لِي عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ، وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ» (2) .
وَفِي قَوْلُهُ تَعَالَى: {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَآ إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَآ أَنتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} ، قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِن اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: قَدْ فَعَلْتُ، قَدْ فَعَلْتُ» (3) .
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمِنَ الَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُودًا} ، وَهُوَ الْمَقَامُ الَّذِي يَغْبِطُهُ عَلَيْهِ الْأَوَّلُونَ وَالْآخَرُونَ.
إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ النُّصُوصِ، بِمَا يُؤَكِّدُ قَوْلَ ابْنِ عَبَّاسٍ، عِنْدَ الْبُخَارِيِّ: إِنَّ الْكَوْثَرَ: الْخَيْرُ الْكَثِيرُ، وَأَنَّ النَّهْرَ فِي الْجنَّة من هَذَا الْخَيْر الَّذِي أعْطِيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.] (4) .
- الْإِسْرَاء والمعراج.
[قَوْلُهُ تَعَالَى: {سُبْحَانَ الَّذِى أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى} . وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي تَرْجَمَةِ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ: أَنَّ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَيَانِ الَّتِي تَضَمَّنَهَا أَنْ يَقُولَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فِي الْآيَةِ قَوْلًا وَيَكُونُ فِي الْآيَةِ قَرِينَةٌ تَدُلُّ عَلَى عَدَمِ صِحَّةِ ذَلِكَ الْقَوْلِ، فَإِنَّا نُبَيِّنُ ذَلِكَ، فَإِذَا عَلِمْتَ ذَلِكَ.
فَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْإِسْرَاءَ بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، زعم بعض أهل
_________
(1) - أخرجه البُخَارِيّ (1/128) (328) ، وَمُسْلِمٌ (1/370) (521) مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
(2) - أخرجه ابْن مَاجَه، وَصَححهُ الشَّيْخ الألباني - رَحمَه الله -، وَقد سبق تَخْرِيجه.
(3) - أخرجه مُسلم، وَقد سبق تَخْرِيجه.
(4) - 9/565: 571، الْكَوْثَر/ 1.(2/466)
الْعِلْمِ أَنَّهُ بِرُوحِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دُونَ جَسَدِهِ، زَاعِمًا أَنَّهُ فِي الْمَنَامِ لَا الْيَقَظَةِ، لِأَنَّ رُؤْيَا الْأَنْبِيَاءِ وَحْيٌ.
وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ: أَنَّ الْإِسْرَاءَ بالجسدِ، وَالْمِعْرَاجَ بِالرُّوحِ دُونَ الْجَسَدِ، وَلَكِنَّ ظَاهِرَ الْقُرْآنِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ بِرُوحِهِ وَجَسَدِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقَظَةً لَا مَنَامًا، لِأَنَّهُ قَالَ {بِعَبْدِهِ} وَالْعَبْدُ عِبَارَةٌ عَنْ مَجْمُوعِ الرُّوحِ وَالْجَسَدِ، وَلِأَنَّهُ قَالَ {سُبْحَانَ} والتَّسبيح إِنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ الْأُمُورِ الْعِظَامِ. فَلَوْ كَانَ مَنَامًا لَمْ يَكُنْ لَهُ كَبِيرُ شَأْنٍ حَتَّى يَتَعَجَّبَ مِنْهُ. وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} لِأَنَّ الْبَصَرَ مِنْ آلَاتِ الذَّاتِ لَا الرُّوحِ، وَقَوْلُهُ هُنَا {لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا} .
وَمِنْ أَوْضَحِ الْأَدِلَّةِ الْقُرْآنِيَّةِ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ جَلَّ وَعَلَا: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِى أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِى القُرْآنِ} فَإِنَّهَا رُؤْيا عين يقظة، وَلَا رُؤْيَا مَنَامٍ، كَمَا صحَّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ.
وَمِنَ الْأَدِلَّةِ الْوَاضِحَةِ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ رُؤْيَا مَنَامٍ لَمَا كَانَتْ فِتْنَةً، وَلَا سَبَبًا لِتَكْذِيبِ قُرَيْشٍ، لَأَنَّ رُؤْيَا الْمَنَامِ لَيْسَتْ مَحَلَّ إِنْكَارٍ، لِأَنَّ الْمَنَامَ قَدْ يُرَى فِيهِ مَا لَا يَصِحُّ. فَالَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ فِتْنَةً هُوَ مَا رَآهُ بِعَيْنِهِ مِنَ الْغَرَائِبِ وَالْعَجَائِبِ.
فَزَعَمَ الْمُشْرِكُونَ أَنَّ مَنِ ادَّعَى رُؤْيَةَ ذَلِكَ بِعَيْنِهِ فَهُوَ كَاذِبٌ لَا مَحَالَةَ، فَصَارَ فتْنَة لَهُم ...
وَيُؤَيِّدُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ كَوْنِهَا رُؤْيَا عَيْنٍ يَقَظَةٍ قَوْلُهُ تَعَالَى هُنَا: {لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا} ، وَقَوْلُهُ {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} . وَمَا زَعَمَهُ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَنَّ الرُّؤْيَا لَا تُطْلَقُ بِهَذَا اللَّفْظِ لُغَةً إِلَّا عَلَى رُؤْيَا الْمَنَامِ، مَرْدُودٌ. بَلِ التَّحْقِيقُ: أَنَّ لَفْظَ الرُّؤْيَا يُطْلَقُ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ عَلَى رُؤْيَةِ الْعَيْنِ يَقَظَةً أَيْضًا. وَمِنْهُ قَوْلُ الرَّاعِي وَهُوَ عَرَبِيٌّ قُحٌّ:
فَكَبَّرَ للرُّؤيا وَهَشَّ فُؤَادُهُ ... وبشَّر نَفْسًا كَانَ قَبْلُ يَلُومُهَا(2/467)
فَإِنَّهُ يَعْنِي رُؤْيَةَ صَائِدٍ بِعَيْنِهِ. وَمِنْهُ أَيْضًا قَوْلُ أَبِي الطَّيِّبِ: وَرُؤْيَاكَ أَحْلَى فِي الْعُيُونِ مِنَ الْغَمْضِ. قَالَهُ صَاحِبُ اللِّسَانِ.
وَزَعَمَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: أَنَّ الْمُرَادَ بِالرُّؤْيَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّءْيَا الَّتِى أَرَيْنَاكَ} ، رُؤْيَا مَنَامٍ، وَأَنَّهَا هِيَ الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَّقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَآءَ اللَّهُ} .. وَالْحَقُّ الْأَوَّلُ.
وَرُكُوبُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْبُرَاقِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِسْرَاءَ بِجِسْمِهِ. لِأَنَّ الرُّوحَ لَيْسَ مِنْ شَأْنِهِ الرُّكُوبُ عَلَى الدَّوَابِّ كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ:
فَقَدْ تَوَاتَرَتِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ عَنْهُ: أَنَّهُ أُسَرِيَ بِهِ مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى، وَأَنَّهُ عُرِجَ بِهِ مِنَ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى حَتَّى جَاوَزَ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ.
وَقَدْ دَلَّتِ الْأَحَادِيثُ الْمَذْكُورَةُ عَلَى أَنَّ الْإِسْرَاءَ وَالْمِعْرَاجَ كِلَيْهِمَا بِجِسْمِهِ وَرُوحِهِ، يَقَظَةً لَا مَنَامًا، كَمَا دَلَّتْ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا الْآيَاتُ الَّتِي ذَكَرْنَا.
وَعَلَى ذَلِكَ مِنْ يُعْتَدُّ بِهِ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، فَلَا عِبْرَةَ بِمَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ مِنَ الْمُلْحِدِينَ. وَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحيحين مِنْ طَرِيقِ شَرِيكٍ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ الْإِسْرَاءَ الْمَذْكُورَ وَقَعَ مَنَامًا لَا يُنَافِي مَا ذَكَرْنَا مِمَّا عَلَيْهِ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، وَدَلَّتْ عَلَيْهِ نُصُوصُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. لِإِمْكَانِ أَنْ يَكُونَ رَأَى الْإِسْرَاءَ الْمَذْكُورَ نَوْمًا، ثُمَّ جَاءَتْ تِلْكَ الرُّؤْيَا كَفَلَقِ الصُّبْحِ فَأُسَرِيَ بِهِ يَقَظَةً تَصْدِيقًا لِتِلْكَ الرُّؤْيَا الْمَنَامِيَّةِ. كَمَا رَأَى فِي النَّوْمِ أَنَّهُمْ دَخَلُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ، فَجَاءَتْ تِلْكَ الرُّؤْيَا كَفَلَقِ الصُّبْحِ، فَدَخَلُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ فِي عُمْرَةِ الْقَضَاءِ عَامَ سَبْعٍ يَقَظَةً، لَا مَنَامًا، تَصْدِيقًا لِتِلْكَ الرُّؤْيَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لَّقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ آمِنِينَ} الْآيَةَ. وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ حَدِيثُ عَائِشَةَ الصَّحِيحُ «فَكَانَ لَا(2/468)
يَرَى رُؤْيَا إِلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ» (1) مَعَ أَنَّ جَمَاعَةً مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ قَالُوا: إِنَّ شَرِيكِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي نَمِرٍ سَاءَ حِفْظُهُ فِي تِلْكَ الرِّوَايَةِ الْمَذْكُورَةِ عَنْ أَنَسٍ، وَزَادَ فِيهَا وَنَقَصَ، وَقَدَّمَ وَأَخَّرَ، وَرَوَاهَا عَنْ أَنَسٍ غَيْرُهُ مِنَ الْحُفَّاظِ عَلَى الصَّوَابِ، فَلَمْ يَذْكُرُوا الْمَنَامَ الَّذِي ذَكَرَهُ شَرِيكٌ الْمَذْكُورُ. وَانْظُرْ رِوَايَاتِهِمْ بِأَسَانِيدِهَا وَمُتُونِهَا فِي تَفْسِيرِ ابْنِ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
فَقَدْ جَمَعَ طُرُقَ حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ جَمْعًا حَسَنًا بِإِتْقَانٍ، ثُمَّ قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ: «وَالْحَقُّ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أُسَرِيَ بِهِ يَقَظَةً لَا مَنَامًا مِنْ مَكَّةَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ رَاكِبًا الْبُرَاقَ، فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى بَابِ الْمَسْجِدِ رَبَطَ الدَّابَّةَ عِنْدَ الْبَابِ وَدَخَلَهُ فَصَلَّى فِي قِبْلَتِهِ تَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ أُتِيَ بِالْمِعْرَاجِ وَهُوَ كَالسُّلَّمِ ذُو درجٍ يَرْقَى فِيهَا، فَصَعِدَ فِيهِ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، ثُمَّ إِلَى بَقِيَّةِ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ، فَتَلَقَّاهُ مِنْ كُلِّ سَمَاءٍ مُقَرَّبُوهَا، وَسَلَّمَ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ فِي السَّمَاوَاتِ بِحَسْبِ مَنَازِلِهِمْ وَدَرَجَاتِهِمْ، حَتَّى مَرَّ بِمُوسَى الْكَلِيمِ فِي السَّادِسَةِ، وَإِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ فِي السَّابِعَةِ، ثُمَّ جَاوَزَ مَنْزِلَيْهِمَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَيْهِمَا وَعَلَى سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ، حَتَّى انْتَهَى إِلَى مُسْتَوًى يَسْمَعُ فِيهِ صَرِيفَ الْأَقْلَامِ، أَيْ أَقْلَامِ الْقَدَرِ بِمَا هُوَ كَائِنٌ، وَرَأَى سِدْرَةَ الْمُنْتَهَى، وَغَشِيَهَا مِنْ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى عَظَمَةٌ عَظِيمَةٌ مِنْ فَرَاشٍ مَنْ ذَهَبٍ وَأَلْوَانٍ مُتَعَدِّدَةٍ، وَغَشِيَتْهَا الْمَلَائِكَةُ، وَرَأَى هُنَاكَ جِبْرِيلَ عَلَى صُورَتِهِ وَلَهُ سِتُّمِائَةِ جَنَاحٍ، وَرَأَى رَفْرَفًا أَخْضَرَ قَدْ سَدَّ الْأُفُقَ، وَرَأَى الْبَيْتَ الْمَعْمُورَ، وَإِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلَ بانِيَ الْكَعْبَةِ الْأَرْضِيَّةِ مُسْنِدًا ظَهْرَهُ إِلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ الْكَعْبَةُ السَّمَاوِيَّةُ يَدْخُلُهُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ، يَتَعَبَّدُونَ فِيهِ ثُمَّ لَا يَعُودُونَ إِلَيْهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَرَأَى الْجَنَّةَ وَالنَّارَ، وَفَرَضَ اللَّهُ عَلَيْهِ هُنَالِكَ الصَّلَوَاتِ خَمْسِينَ، ثُمَّ خَفَّفَهَا إِلَى خَمْسٍ رَحْمَةً مِنْهُ وَلُطْفًا
_________
(1) - أخرجه البُخَارِيّ (4/1894) (4670) ، وَمُسلم (1/139) (160) من حَدِيث عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا -.(2/469)
بِعِبَادِهِ، وَفِي هَذَا اعْتِنَاءٌ بِشَرَفِ الصَّلَاةِ وَعَظَمَتِهَا، ثُمَّ هَبَطَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَهَبَطَ مَعَهُ الْأَنْبِيَاءُ، فَصَلَّى بِهِمْ فِيهِ لَمَّا حَانَتِ الصَّلاة، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهَا الصُّبْحُ مِنْ يَوْمَئِذٍ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّهُ أَمَّهُمْ فِي السَّمَاءِ، وَالَّذِي تَظَاهَرَتْ بِهِ الرِّوَايَاتُ أَنَّهُ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَلَكِنْ فِي بَعْضِهَا أَنَّهُ كَانَ أَوَّلَ دُخُولِهِ إِلَيْهِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ بَعْدَ رُجُوعِهِ إِلَيْهِ، لِأَنَّهُ لَمَّا مَرَّ بِهِمْ فِي مَنَازِلِهِمْ جَعَلَ يَسْأَلُ عَنْهُمْ جِبْرِيلَ وَاحِدًا وَاحِدًا وَهُوَ يُخْبِرُهُ بِهِمْ، وَهَذَا هُوَ اللَّائِقُ؛ لِأَنَّهُ كَانَ أَوَّلًا مَطْلُوبًا إِلَى الْجَنَابِ الْعُلْوِيِّ لِيَفْرِضَ عَلَيْهِ وَعَلَى أُمَّتِهِ مَا يَشَاءُ اللَّهُ تَعَالَى.
ثُمَّ لَمَّا فَرَغَ مِنَ الَّذِي أُرِيدَ بِهِ اجْتَمَعَ بِهِ هُوَ وَإِخْوَانِهِ مِنَ النَّبيين، ثُمَّ أَظْهَرَ شَرَفَهُ وَفَضْلَهُ عَلَيْهِمْ بِتَقْدِيمِهِ فِي الْإِمَامَةِ، وَذَلِكَ عَنْ إِشَارَةِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي ذَلِكَ، ثُمَّ خَرَجَ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَرَكِبَ الْبُرَاقَ وَعَادَ إِلَى مَكَّةَ بِغَلَسٍ. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. انْتَهَى بِلَفْظِهِ مِنْ تَفْسِيرِ الْحَافِظِ ابْنِ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: ثَبَتَ الْإِسْرَاءُ فِي جَمِيعِ مُصَنَّفَاتِ الْحَدِيثِ، وَرُوِيَ عَنِ الصَّحَابَةِ فِي كُلِّ أَقْطَارِ الْإِسْلَامِ، فَهُوَ مُتَوَاتِرٌ بِهَذَا الْوَجْهِ. وَذَكَرَ النَّقَّاشُ مِمَّنْ رَوَاهُ: عِشْرِينَ صَحَابِيًّا، ثُمَّ شَرَعَ يَذْكَرُ بَعْضَ طُرُقِهِ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا، وَبَسْطُ قِصَّةِ الْإِسْرَاءِ، تَرَكْنَاهُ لِشُهْرَتِهِ عِنْدَ الْعَامَّةِ، وَتَوَاتُرِهِ فِي الْأَحَادِيثِ.
وَذَكَرَ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي آخِرِ كَلَامِهِ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ فَائِدَتَيْنِ، قَالَ فِي أُولَاهُمَا: «فَائِدَةٌ حَسَنَةٌ جَلِيلَةٌ وَرَوَى الْحَافِظَ أَبُو نُعَيْمٍ الْأَصْبَهَانِيُّ فِي كِتَابِ (دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ) مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ الْوَاقِدِيِّ: حَدَّثَنِي مَالِكُ بْنُ أَبِي الرِّجَالِ، عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ (1) قَالَ: «بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دِحْيَةَ بْنَ خَلِيفَةَ إِلَى قَيْصر» . فَذكر
_________
(1) - هَذَا الْإِسْنَاد ضَعِيف مُرْسل، فِيهِ عمر بن عبد الله قَالَ عَنهُ ابْن حجر فِي التَّقْرِيب: ضَعِيف وَكَانَ كثير الْإِرْسَال. وَمُحَمّد بن كَعْب تَابِعِيّ، فَالْحَدِيث مُرْسل ضَعِيف.(2/470)
وُرُودَهُ عَلَيْهِ وَقُدُومَهُ إِلَيْهِ، وَفِي السِّيَاقِ دَلَالَةٌ عَظِيمَةٌ عَلَى وُفُورِ عَقْلِ هِرَقْلَ، ثُمَّ اسْتَدْعَى مَنْ بِالشَّامِ مِنَ التُّجَّارِ فَجِيءَ بِأَبِي سُفْيَانَ صَخْرِ بْنِ حَرْبٍ وَأَصْحَابِهِ.
فَسَأَلَهُمْ عَنْ تِلْكَ الْمَسَائِلِ الْمَشْهُورَةِ الَّتِي رَوَاهَا الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ. وَجَعَلَ أَبُو سُفْيَانَ
يَجْتَهِدُ أَنَّ يحقِّر أمره ويصغِّره عِنْده، قَالَ فِي السِّيَاقِ عَنْ أَبِي سُفْيَانَ: «وَاللَّهِ مَا مَنَعَنِي مِنْ أَنْ أَقُولَ عَلَيْهِ قَوْلًا أُسْقِطُهُ بِهِ من عينه إِلَّا أَنا أَكْرَهُ أَنْ أَكْذِبَ عِنْدَهُ كِذْبَةً يَأْخُذُهَا عليَّ وَلَا يُصَدِّقُنِي فِي شيءٍ، قَالَ: حتَّى ذَكَرْتُ قَوْلَهُ لَيْلَةَ أُسَرِيَ بِهِ، قَالَ فَقُلْتُ: أيُّها الْمَلِكُ، أَلَا أُخْبِرُكَ خَبَرًا تَعْرِفُ بِهِ أَنه قَدْ كَذَبَ، قَالَ: وَمَا هُوَ؟ قَالَ: قُلْتُ إِنَّهُ يَزْعُمُ لَنَا أَنَّهُ خَرَجَ مِنْ أَرْضِنَا أَرْضِ الْحَرَمِ فِي ليلةٍ، فَجَاءَ مَسْجِدَكُمْ هَذَا مَسْجِدَ إِيلِيَاءَ، وَرَجَعَ
إِلَيْنَا تِلْكَ اللَّيْلَةَ قَبْلَ الصَّباح. قَالَ: وَبِطْرِيقُ إِيلِيَاءَ عِنْدَ رَأْسِ قَيْصَرَ، فَقَالَ بِطْرِيقُ إِيلِيَاءَ: قَدْ عَلِمْتُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ.
قَالَ: فَنَظَرَ إِلَيْهِ قَيْصَرُ وَقَالَ: وَمَا عِلْمُكَ بِهَذَا؟ قَالَ: إِنِّي كُنْتُ لَا أَنَامُ لَيْلَةً حتَّى أُغْلِقَ أَبْوَابَ الْمَسْجِدِ، فَلَمَّا كَانَتْ تِلْكَ اللَّيلةِ أَغْلَقْتُ الأَبواب كلَّها غَيْرَ بابٍ واحدٍ غَلَبَنِي، فَاسْتَعَنْتُ عَلَيْهِ بعمَّالي وَمَنْ يَحْضُرُنِي كُلُّهُمْ فَغَلَبَنَا، فَلَمْ نَسْتَطِعْ أَنْ نُحَرِّكَهُ كَأَنَّمَا نُزَاوِلُ بِهِ جَبَلًا، فَدَعَوْتُ إِلَيْهِ النَّجاجرة فَنَظَرُوا إِلَيْهِ فَقَالُوا: إنَّ هَذَا الْبَابَ سَقَطَ عَلَيْهِ النِّجَافُ وَالْبُنْيَانُ وَلَا نَسْتَطِيعُ أَنْ نحرِّكه، حَتَّى نُصْبِحَ فَنَنْظُرَ مِنْ أَيْنَ أَتَى قَالَ: فَرَجَعْتُ وَتَرَكْتُ الْبَابَيْنِ مَفْتُوحَيْنِ، فلمَّا أَصْبَحَتْ غَدَوْتُ عَلَيْهِمَا فَإِذَا الْمَجَرُّ الَّذِي فِي زَاوِيَةِ الْمَسْجِدِ مَثْقُوبٌ، وَإِذَا فِيهِ أَثر مَرْبِطِ الدَّابَّةِ، قَالَ: فَقُلْتُ لِأَصْحَابِي: مَا حُبِسَ هَذَا الْبَابُ اللَّيلة إِلَّا عَلَى نبيٍّ وَقَدْ صلَّى اللَّيْلَةَ فِي ... مَسْجِدِنَا اهـ.(2/471)
ثُمَّ قَالَ فِي الْأُخْرَى: «فَائِدَةٌ قَالَ الْحَافِظُ أَبُو الْخَطَّابِ عُمَرُ بْنُ دِحْيَةَ فِي كِتَابِهِ (التَّنْوِيرِ فِي مَوْلِدِ السِّرَاجِ الْمُنِيرِ) وَقَدْ ذَكَرَ حَدِيث الْإِسْرَاء عَن طَرِيقِ أَنَسٍ وَتَكَلَّمَ عَلَيْهِ فَأَجَادَ وَأَفَادَ. ثُمَّ قَالَ: وَقَدْ تَوَاتَرَتِ الرِّوَايَاتُ فِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَعَلِيٍّ، وَابْنِ مسعودٍ، وَأَبِي ذرٍّ، وَمَالِكِ بْنِ صَعْصَعَةَ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَبِي سَعِيدٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَشَدَّادِ بْنِ أَوس، وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ قُرْطٍ، وَأَبِي حَبَّةَ، وَأَبِي لَيْلَى الْأَنْصَارِيَّيْنِ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، وَجَابِرٍ، وَحُذَيْفَةَ، وبُريدة، وَأَبِي أَيُّوبَ، وَأَبِي أُمامة، وَسَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ، وَأَبِي الْحَمْرَاءِ، وصهيب الرُّومِي، وَأم هانىء، وَعَائِشَةَ، وَأَسْمَاءَ ابْنَتَيْ أَبِي بَكْرٍ الصَّدِيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ. مِنْهُمْ مَنْ سَاقَهُ بِطُولِهِ، وَمِنْهُمْ مَنِ اخْتَصَرَهُ عَلَى مَا وَقَعَ فِي الْمَسَانِيدِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ رِوَايَةُ بَعْضِهِمْ عَلَى شَرْطِ الصِّحَّةِ «فَحَدِيثُ الْإِسْرَاءِ أَجْمَعَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ، وَأَعْرَضَ عَنْهُ الزَّنَادِقَةُ وَالْمُلْحِدُونَ {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} اهـ من ابْن كثير بِلَفْظِهِ ... ] (1) .
- هَل يَقع الِاجْتِهَاد من النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
[قَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ {إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْىٌ يُوحَى} اسْتَدَلَّ بِهِ عُلَمَاءُ الْأُصُولِ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ يَجْتَهِدُ، وَالَّذِينَ قَالُوا إِنَّهُ قَدْ يَقَعُ مِنْهُ الِاجْتِهَادُ، اسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ} . وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا كَانَ لِنَبِىٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ} . وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا كَانَ لِلنَّبِىِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ} .
قَالُوا: فَلَوْ لَمْ يَكُنْ هَذَا عَنِ اجْتِهَادٍ، لَمَا قَالَ {عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ} . وَلَمَا قَالَ: {مَا كَانَ لِنَبِىٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى} ، وَلَا مُنَافَاة بَين
_________
(1) - 3/356: 363، بني إِسْرَائِيل / 1.(2/472)
الْآيَاتِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: {إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْىٌ يُوحَى} مَعْنَاهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يُبَلِّغُ عَنِ اللَّهِ إِلَّا شَيْئًا أَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ أَنْ يُبَلِّغَهُ، فَمَنْ يَقُولُ: إِنَّهُ شِعْرٌ أَوْ سِحْرٌ أَوْ كِهَانَةٌ، أَوْ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ هُوَ أَكْذَبُ خَلْقِ اللَّهِ وَأَكْفَرُهُمْ، وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ أَنَّهُ أَذِنَ لِلْمُتَخَلِّفِينَ عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ، وَأَسَرَ الْأُسَارَى يَوْمَ
بَدْرٍ، وَاسْتَغْفَرَ لِعَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ مِنْ غَيْرِ أَنَّ يَنْزِلَ عَلَيْهِ وَحي خَاص فِي ذَلِك.] (1) .
- عصمته - صلى الله عَلَيْهِ وَسلم -.
قَالَ صَاحب التَّتِمَّة - رَحمَه الله -: [أَمَّا فِي خُصُوصِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّا نُورِدُ الْآتِي: إِنَّهُ مَهْمَا يَكُنْ مِنْ شَيْءٍ، فَإِنَّ عِصْمَتَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْكَبَائِرِ وَالصَّغَائِرِ بَعْدَ الْبِعْثَةِ يَجِبُ الْقَطْعُ بِهَا، لِنَصِّ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} لِوُجُوبِ التَّأَسِّي بِهِ وَامْتِنَاعِ أَنْ يَكُونَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ قَطْعًا.
أَمَّا قَبْلَ الْبَعْثَةِ، فَالْعِصْمَةُ مِنَ الْكَبَائِرِ أَيْضًا، يَجِبُ الْجَزْمُ بِهَا لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ فِي مَقَامِ التَّهَيُّؤِ لِلنُّبُوَّةِ مِنْ صِغَرِهِ، وَقَدْ شُقَّ صَدْرُهُ فِي سِنِّ الرَّضَاعِ، وَأُخْرِجَ مِنْهُ حَظُّ الشَّيْطَانِ، ثُمَّ إِنَّهُ لَوْ كَانَ قَدْ وَقَعَ مِنْهُ شَيْءٌ لَأَخَذُوهُ عَلَيْهِ حِينَ عَارَضُوهُ فِي دَعْوَتِهِ، وَلَمْ يُذْكَرْ مِنْ ذَلِكَ وَلَا شَيْءَ فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا الْقَوْلُ فِي الصَّغَائِرِ، فَهِيَ دَائِرَةٌ بَيْنَ الْجَوَازِ وَالْمَنْعِ، فَإِنْ كَانَتْ جَائِزَةً وَوَقَعَتْ، فَلَا تَمُسَّ مَقَامَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِوُقُوعِهَا قَبْلَ الْبَعْثَةِ وَالتَّكْلِيفِ، وَأَنَّهَا قَدْ غُفِرَتْ وَحُطَّ عَنْهُ ثِقْلُهَا، فَإِنْ لَمْ تَقَعْ وَلَمْ تَكُنْ جَائِزَةً فِي حَقِّهِ، فَهَذَا الْمَطْلُوبُ.
وَقَدْ سَاقَ الْأَلُوسِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي تَفْسِيرِهِ (2) : أَنَّ عَمَّهُ أَبَا طَالِبٍ، قَالَ لِأَخِيهِ الْعَبَّاس يَوْمًا: «لقد ضمته إِلَيَّ وَمَا فَارَقْتُهُ لَيْلًا وَلَا نَهَارًا وَلَا ائتمنت
_________
(1) - 7/702، النَّجْم / 1: 4.
(2) - تَفْسِير الألوسي (30/161) .(2/473)
عَلَيْهِ أحدا» ، وَذكر قصَّة بِنَبِيِّهِ وَمَنَامِهِ فِي وَسَطِ أَوْلَادِهِ أَوَّلَ اللَّيْلِ، ثُمَّ نَقله أَبَاهُ مَحَلَّ أَحَدِ أَبْنَائِهِ حِفَاظًا عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: «وَلَمْ أَرَ مِنْهُ كِذْبَةً وَلَا ضَحِكًا وَلَا جَاهِلِيَّةً، وَلَا وَقَفَ مَعَ الصِّبْيَانِ وَهُمْ يَلْعَبُونَ» .
وَذَكَرَتْ كُتُبُ التَّفْسِيرِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرَادَ مَرَّةً فِي صِغَرِهِ أَنْ يَذْهَبَ لِمَحَلِّ عُرْسٍ لِيَرَى مَا فِيهِ، فَلَمَّا دَنَا مِنْهُ أَخَذَهُ النَّوْمُ وَلَمْ يَصْحُ إِلَّا عَلَى حَرِّ الشَّمْسِ، فَصَانَهُ اللَّهُ مِنْ رُؤْيَهِ أَوْ سَمَاعِ، شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ (1) .
وَمِنْهُ قِصَّةُ مُشَارَكَتِهِ فِي بِنَاءِ الْكَعْبَةِ حِينَ تَعَرَّى وَمُنِعَ مِنْهُ حَالًا (2) ، وَعَلَى الْمَنْعِ مِنْ وُقُوعِ شَيْءٍ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَقِيَ الْجَوَابُ عَلَى مَعْنَى الْآيَةِ، فَيُقَالُ واللَّه تَعَالَى أَعْلَمُ: إِنَّهُ تَكْرِيمٌ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا جَاءَ فِي أَهْلِ بَدْرٍ، قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَعَلَّ اللَّهَ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ: افْعَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ» (3) مَعَ أَنَّهُمْ لَنْ يَفْعَلُوا مُحَرَّمًا بِذَلِكَ، وَلَكِنَّهُ تَكْرِيمٌ لَهُمْ وَرَفْعٌ لِمَنْزِلَتِهِمْ.
وَقَدْ كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتُوبُ وَيَسْتَغْفِرُ وَيَقُومُ اللَّيْلَ حَتَّى تورَّمت قَدَمَاهُ، وَقَالَ: «أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا» (4) .
فَكَانَ كُلُّ ذَلِكَ مِنْهُ شُكْرًا للَّه تَعَالَى، وَرَفْعًا لِدَرَجَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَدْ جَاءَ: «نَعِمَ الْعَبْدُ صُهَيْبٌ، لَوْ لم يخف الله لم يَعْصِهِ» (5) ، وَهُوَ
_________
(1) - أخرج هَذِه الْقِصَّة الْحَاكِم (4/273) (7619) ، وَابْن حبَان (14/169) (6272) من حَدِيث عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - بِهِ، والْحَدِيث ضعفه الشَّيْخ الألباني - رَحمَه الله - وَانْظُر "دفاع عَن الحَدِيث النَّبَوِيّ" (ص/13) .
(2) - أخرجه البُخَارِيّ (1/143) (357) ، وَمُسْلِمٌ (1/267) (340) مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
(3) - أخرجه البُخَارِيّ (3/1095) (2845) ، مُسلم (4/1914) (2494) من حَدِيث على - رَضِي الله عَنهُ -.
(4) - أخرجه البُخَارِيّ (1/380) (1078) ، وَمُسلم (4/2171) (2819) من حَدِيث الْمُغيرَة - رَضِي الله عَنهُ -.
(5) - قَالَ الشَّيْخ الألباني - رَحمَه الله - فِي السلسلة الضعيفة (1006) : لَا أصل لَهُ.(2/474)
حَسَنَةٌ مِنْ حَسَنَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
أَوْ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَعْتَدُّ عَلَى نَفْسِهِ بِالتَّقْصِيرِ، وَيَعْتَبِرُ ذَنْبًا يَسْتَثْقِلُهُ وَيَسْتَغْفِرُ مِنْهُ، كَمَا كَانَ إِذَا خَرَجَ مِنَ الْخَلَاءِ قَالَ: «غُفْرَانَكَ» (1) .
وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ مُوجِبٍ لِلِاسْتِغْفَارِ، إِلَّا مَا قِيلَ شُعُورُهُ بِتَرْكِ الذِّكْرِ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ، اسْتَوْجَبَ مِنْهُ ذَلِكَ.
وَقَدِ اسْتَحْسَنَ الْعُلَمَاءُ قَوْلَ الْجُنَيْدِ: حَسَنَاتُ الْأَبْرَارِ سَيِّئَاتُ الْمُقَرَّبِينَ، أَوْ أَنَّ الْمُرَادَ مِثْلُ مَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ بَعْضِ اجْتِهَادَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفِي سَبِيلِ الدَّعْوَةِ، فَيُرَدُّ اجْتِهَادُهُ فَيَعْظُمُ عَلَيْهِ كَقِصَّةِ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ، وَعُوتِبَ فِيهِ {عَبَسَ وَتَوَلَّى أَن جَآءَهُ الأَعْمَى} ، وَنَظِيرِهَا وَلَوْ كَانَ بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ، إِلَّا أَنَّهُ مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ كَقَوْلِهِ: {عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ} ، وَقِصَّةِ أُسَارَى بَدْرٍ، وَقَوْلِهِ: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَىْءٌ} ، وَاجْتِهَادِهِ فِي إِيمَانِ عَمِّهِ، حَتَّى قِيلَ لَهُ: {إِنَّكَ لاَ تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ} ، وَنَحْوِ ذَلِكَ. فَتحمل الْآيَة عَلَيْهِ، أَو أَن للوزر بِمَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ، وَهُوَ مَا كَانَ يُثْقِلُهُ مِنْ أَعْبَاءِ الدَّعْوَةِ، وَتَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ، كَمَا ذَكَرَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَمَّا كَانَ لَيْلَةَ أُسري بِي فَأَصْبَحْتُ بِمَكَّةَ فَظِعْتُ، وَعَرَفْتُ أَنَّ النَّاسَ مُكَذِّبِيَّ، فَقَعَدْتُ مُعْتَزِلًا حَزِينًا، فمرَّ بِي أَبُو جَهْلٍ، فَجَاءَ حَتَّى جَلَسَ إِلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ كَالْمُسْتَهْزِئِ: هَلْ كَانَ مِنْ شَيْءٍ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نَعَمْ، وَقَصَّ عَلَيْهِ الْإِسْرَاءَ» (2) .
فَفِيهِ التَّصْرِيحُ بِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَظِعَ، والفظاعة: ثقل وحزن، والحزن: ثقل.
_________
(1) - أخرجه أَبُو دَاوُد (1/155) (30) ، وَالتِّرْمِذِيّ (1/12) (7) ، وَابْن مَاجَه (1/110) (300) ، وَأحمد (6/155) ، والدارمي (1/183) (680) من حَدِيث عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا -، والْحَدِيث صَححهُ الشَّيْخ الألباني - رَحمَه الله -.
(2) - أخرجه أَحْمد (1/309) ، وَقَالَ الأرناؤوط: إِسْنَاده صَحِيح على شَرط الشَّيْخَيْنِ.(2/475)
وَتَوَقُّعُ تَكْذِيبِهِمْ إِيَّاهُ أَثْقَلُ عَلَى النَّفْسِ مِنْ كل شَيْء. واللَّه تَعَالَى أعلم.] (1) .
- أمة النَّبِي - صلى الله عَلَيْهِ وَسلم - أفضل الْأُمَم.
[قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمينَ} . ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ فَضَّلَ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى الْعَالَمِينَ.
وَذَكَرَ هَذَا الْمَعْنَى فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْ كِتَابِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: {يَابَنِى إِسْرَاءِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِى الَّتِى أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّى فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} فِي الْمَوْضِعَيْنِ. وَقَوْلِهِ فِي الدُّخَانِ: {وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} ، وَقَوْلِهِ فِي الْأَعْرَافِ: {قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} .
وَلَكِنَّ اللَّهَ جَلَّ وَعَلَا بَيَّنَ أَنَّ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، خَيْرٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَكْرَمُ عَلَى اللَّهِ،
كَمَا صَرَّحَ بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ} . فَخير صِيغَةُ تَفْضِيلٍ وَالْآيَةُ
نَصٌّ صَرِيحٌ فِي أَنَّهُمْ خَيْرٌ مِنْ جَمِيعِ الْأُمَمِ، بَنِي إِسْرَائِيلَ وَغَيْرِهِمْ.
وَمِمَّا يَزِيدُ ذَلِكَ إِيضَاحًا حَدِيثِ مُعَاوِيَةَ بْنِ حَيْدَةَ الْقُشَيْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي أُمَّتِهِ: «أَنْتُمْ تُوفُونَ سَبْعِينَ أُمَّةً أَنْتُمْ خَيْرُهَا وَأَكْرَمُهَا عَلَى اللَّهِ» (2) وَقَدْ رَوَاهُ عَنْهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَالْحَاكِمُ وَهُوَ حَدِيثٌ مَشْهُورٌ،
_________
(1) - 9/313: 316) (الشَّرْح / 1: 4) .
(2) - أخرجه التِّرْمِذِيّ (5/226) (3001) ، وَابْن مَاجَه (2/1433) (4287، 4288) وَأحمد (5/3) ، وَالْحَاكِم (4/94) (6987) وَصحح إِسْنَاده، وَوَافَقَهُ الذَّهَبِيّ، والْحَدِيث حسنه الشَّيْخ الألباني - رَحمَه الله -.(2/476)
وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: حَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَيُرْوَى مِنْ حَيْثُ معَاذ بن جبل وَأبي سعيد نَحوه اهـ.
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ: وَلَا شَكَّ فِي صِحَّةِ مَعْنَى حَدِيثِ مُعَاوِيَةَ بْنِ حَيْدَةَ الْمَذْكُورِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ يَشْهَدُ لَهُ النَّصُّ الْمَعْصُومُ الْمُتَوَاتِرُ فِي قَوْلُهُ تَعَالَى: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَكَذلك جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى النَّاسِ} . وَقَوْلُهُ: {وَسَطًا} أَيْ خِيَارًا عُدُولًا.
وَاعْلَمْ أَنَّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ كَوْنِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْضَلَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآيَةُ وَالْحَدِيثُ الْمَذْكُورَانِ وَغَيْرُهُمَا مِنَ الْأَدِلَّةِ لَا يُعَارِضُ الْآيَاتِ الْمَذْكُورَاتِ آنِفًا فِي تَفْضِيلِ بَنِي إِسْرَائِيلَ.
لِأَنَّ ذَلِكَ التَّفْضِيلَ الْوَارِدَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ ذُكِرَ فِيهِمْ حَالَ عَدَمِ وُجُودِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَالْمَعْدُومُ فِي حَالِ عَدَمِهِ لَيْسَ بِشَيْءٍ حَتَّى يُفَضَّلَ أَوْ يُفَضَّلَ عَلَيْهِ.
وَلَكِنَّهُ تَعَالَى بَعْدَ وُجُودِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صرح بِأَنَّهَا هِيَ خَيْرُ الْأُمَمِ.
وَهَذَا وَاضِحٌ لِأَنَّ كُلَّ مَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ تَفْضِيلِ بَنِي إِسْرَائِيلَ. إِنَّمَا يُرَادُ بِهِ ذِكْرُ أَحْوَالٍ سَابِقَةٍ؛ لِأَنَّهُمْ فِي وَقْتِ نُزُولِ الْقُرْآنِ كَفَرُوا بِهِ وَكَذَّبُوا كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَلَمَّا جَآءَهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} .
وَمَعْلُومٌ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَذْكُرْ لَهُمْ فِي الْقُرْآنِ فَضْلًا إِلَّا مَا يُرَادُ بِهِ أَنَّهُ كَانَ فِي زَمَنِهِمُ السَّابِقِ لَا فِي وَقْتِ نُزُولِ الْقُرْآنِ.
وَمَعْلُومٌ أَنَّ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ تَكُنْ مَوْجُودَةً فِي ذَلِكَ الزَّمَنِ السَّابِقِ الَّذِي هُوَ ظَرْفُ تَفْضِيلِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَأَنَّهَا بَعْدَ وُجُودِهَا، صَرَّحَ اللَّهُ بِأَنَّهَا هِيَ خَيْرُ الْأُمَمِ، كَمَا أَوْضَحْنَا. وَالْعِلْمُ عِنْدَ الله تَعَالَى.] (1) .
_________
(1) - 7/351: 353، الجاثية / 16.(2/477)
فصل سيدنَا آدم - عَلَيْهِ السَّلَام -
- أَمر الله - تَعَالَى - الْمَلَائِكَة كلهم بِالسُّجُود لسيدنا آدم - عَلَيْهِ السَّلَام -.
[قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُواْ لأَدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى} . ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّهُ أَمَرَ الْمَلَائِكَةِ بِالسُّجُودِ لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى. أَيْ أَبى أَن يسْجد ...
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: {فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ} صَرَّحَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّ السُّجُودَ الْمَذْكُورَ سَجَدَهُ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ لَا بَعضهم، وَذَلِكَ فِي قَوْله تَعَالَى: {فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلاَّ إِبْلِيسَ} .] (1) .
- سيدنَا آدم - عَلَيْهِ السَّلَام- لَيْسَ من أولي الْعَزْم من الرُّسُل.
[وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: {وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً} يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَبَانَا آدَمَ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَيْسَ مِنَ الرُّسُلِ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} وَهُمْ: نُوحٌ، وَإِبْرَاهِيمُ، وَمُوسَى، وَعِيسَى، وَمُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقِيلَ: هُمْ جَمِيعُ الرُّسُلِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ {وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً} أَيْ لَمْ نَجِدْ لَهُ صَبْرًا عَنْ أَكْلِ الشَّجَرَةِ وَمُوَاظَبَةً عَلَى الْتِزَامِ الْأَمْرِ.
وَأَقْوَالُ الْعُلَمَاءِ رَاجِعَةٌ إِلَى هَذَا، والوجود فِي قَوْله: {لَمْ نَجِدْ} قَالَ أَبُو حبَان فِي الْبَحْرِ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الْعِلْمِ، وَمَفْعُولَاهُ {لَهُ عَزْماً} وَأَنْ يَكُونَ نَقِيضَ الْعَدَمِ، كَأَنَّهُ قَالَ: وعدمنا لَهُ عزماً اهـ مِنْهُ. وَالْأول أظهر،
_________
(1) - 4/568 - 569، طه / 116.(2/478)
وَالله تَعَالَى أعلم.] (1) .
- سيدنَا آدم - عَلَيْهِ السَّلَام - رَسُول، وَنَبِي مُكَلم.
[قَوْله تَعَالَى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا هَذَا الَّذِي كَلَّمَهُ اللَّه مِنْهُمْ وَقَدْ بَيَّنَ أَنَّ مِنْهُمْ مُوسَى عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِقَوْلِهِ: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} ، وَقَوْلُهُ: {إِنْى اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي} .
قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: {مّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ اللَّهُ} ، يَعْنِي مُوسَى وَمُحَمَّدًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِمَا وَسَلَّمَ، وَكَذَلِكَ آدَمُ كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الْمَرْوِيِّ فِي «صَحِيحِ ابْنِ حِبَّانَ» ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ (2) .
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّه عَنْهُ تَكْلِيمُ آدَمَ الْوَارِدُ فِي «صَحِيحِ ابْنِ حِبَّانَ» يُبَيِّنُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} ، وَأَمْثَالُهَا مِنَ الْآيَاتِ فَإِنَّهُ ظَاهِرٌ فِي أَنَّهُ بِغَيْرِ وَاسِطَةِ الْمَلَكِ، وَيَظْهَرُ مِنْ
هَذِهِ الْآيَةِ نَهْيُ حَوَّاءَ عَنِ الشَّجَرَةِ عَلَى لِسَانِهِ، فَهُوَ رَسُولٌ إِلَيْهَا بِذَلِكَ.
قَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {مِّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ اللَّهُ} ، مَا نَصُّهُ: وَقَدْ سُئِلَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَن آدَمَ أَنَبِيٌّ مُرْسَلٌ هُوَ؟ فَقَالَ: «نَعَمْ نَبِيٌّ
_________
(1) - 4/568، طه / 115.
(2) - أخرجه ابْن حبَان فِي "صَحِيحه" (2/76) (361) ، وَأَبُو نعيم فِي الْحِلْية (1/166) من طَرِيق إِبْرَاهِيم بن هِشَام بن يحيى بن يحيى الغساني عَن أَبِيه عَن جده عَن أبي إِدْرِيس الْخَولَانِيّ عَن أبي ذَر مطولا بِهِ وَإِسْنَاده ضَعِيف جدا فإبراهيم بن هِشَام بن يحيى بن يحيى الغساني فال عَنهُ أَبُو حَاتِم، وَأَبُو زرْعَة: كَذَّاب، وَقَالَ عَنهُ الذَّهَبِيّ: مَتْرُوك. وَقد صحّح الشَّيْخ الألباني - رَحمَه الله - فِي الصَّحِيحَة (2668) الحَدِيث بِلَفْظ: (كَانَ آدم نَبيا مكلما وَكَانَ بَينه وَبَين نوح عشرَة قُرُون وَكَانَت الرُّسُل ثَلَاثمِائَة وَخَمْسَة عشر) .(2/479)
مُكَلَّمٌ» (1) ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَدْ تَأَوَّلَ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ تَكْلِيمَ آدَمَ كَانَ فِي الْجَنَّةِ، فَعَلَى هَذَا تَبْقَى خَاصِّيَّةُ مُوسَى اهـ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِنِّي هُدًى} ، فِي سُورَةِ «الْبَقَرَةِ» مَا نَصُّهُ: لِأَنَّ آدَمَ كَانَ هُوَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيَّامَ حَيَاتِهِ، بَعْدَ أَنْ أُهْبِطَ إِلَى الْأَرْضِ، وَالرَّسُولُ مِنَ اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ إِلَى وَلَدِهِ، فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ مَعْنِيًّا وَهُوَ، الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِقَوْلِهِ: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِنِّي هُدًى} ، أَيْ: رُسُلٌ اهـ مَحَلُّ الْحُجَّةِ مِنْهُ بِلَفْظِهِ
وَفِيهِ وَفِي كَلَامِ ابْنِ كَثِيرٍ الْمُتَقَدِّمِ عَنْ «صَحِيحِ ابْنِ حِبَّانَ» التَّصْرِيحُ بِأَنَّ آدَمَ رَسُولٌ وَهُوَ مُشْكِلٌ مَعَ مَا ثَبَتَ فِي حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ مِنْ أَنَّ نُوحًا عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَوَّلُ الرُّسُلِ وَيَشْهَدُ لَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيّينَ مِن بَعْدِهِ} ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا طَرِيقَ لِلْجَمْعِ إِلَّا مِنْ وَجْهَيْنِ:
الْأَوَّلُ: أَنَّ آدَمَ أُرْسِلَ لِزَوْجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ فِي الْجَنَّةِ، وَنُوحٌ أَوَّلُ رَسُولٍ أُرْسِلَ فِي الْأَرْضِ، وَيَدُلُّ لِهَذَا الْجَمْعِ مَا ثَبَتَ فِي «الصَّحِيحَيْنِ» وَغَيْرِهِمَا، وَيَقُولُ: «وَلَكِنِ ائْتُوا نُوحًا فَإِنَّهُ أَوَّلُ رَسُولٍ بَعَثَهُ اللَّه إِلَى أهل الأَرْض» الحَدِيث (2) .
_________
(1) - وَهَذَا جُزْء مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - السَّابِق، وَفِيه: (قلت: يَا رَسُول الله كم الْأَنْبِيَاء؟ قَالَ: مائَة ألف وَعِشْرُونَ ألفا، قلت يَا رَسُول الله: كم الرُّسُل من ذَلِك؟ قَالَ: ثَلَاث مائَة وَثَلَاثَة عشر جما غفيرا، قَالَ قلت يَا رَسُول الله من كَانَ أَوَّلهمْ قَالَ آدم قلت يَا رَسُول الله: أَنَبِي مُرْسل؟ قَالَ: نعم، خلقه الله بِيَدِهِ وَنفخ فِيهِ من روحه وَكَلمه قبلا) وَقد سبق بَيَان ضعفه بِطُولِهِ، إِلَّا أَن الشَّيْخ الألباني - رَحمَه الله - فِي الصَّحِيحَة (6/361 - 364) ذكر لَهُ متابعات عِنْد أبي نعيم وَلم يسق - أَي الشَّيْخ الألباني - لَفظهَا، وَمَال إِلَى تَقْوِيَة الحَدِيث بِطُولِهِ، إِلَّا أَن الِاسْتِدْلَال بذلك على ثُبُوت أَجْزَائِهِ غير مُسَلَّم، وَقد تتبع شَيخنَا أَبُو الْهَيْثَم - حفظه الله - الْأَلْفَاظ الَّتِي سَاقهَا صَاحب الْحِلْية، وَمَال إِلَى عدم ثُبُوت الزِّيَادَة الَّتِي تثبت أَن سيدنَا آدم - عَلَيْهِ السَّلَام - كَانَ رَسُولا، وَعِنْدِي أَنه على فرض ثُبُوت هَذِه الزِّيَادَة فَإِنَّهَا لَا تَسْتَلْزِم إِثْبَات أَنه رَسُول، بل الرسَالَة هُنَا بالنعنى اللّغَوِيّ، وَالله أعلم.
(2) - أخرجه البُخَارِيّ (3/1215) (3162) ، وَمُسلم (1/184) (194) مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.(2/480)
فَقَوْلُهُ: «إِلَى أَهْلِ» الْأَرْضِ، لَوْ لَمْ يُرَدْ بِهِ الِاحْتِرَازُ عَنْ رَسُولٍ بُعِثَ لِغَيْرِ أَهْلِ الْأَرْضِ، لَكَانَ ذَلِكَ الْكَلَامُ حَشْوًا، بَلْ يُفْهَمُ من مَفْهُوم مُخَالفَته مَا ذكرنَا. ويستأنس لَهُ بِكَلَامِ ابْنِ عَطِيَّةَ الَّذِي قَدَّمْنَا نَقْلَ الْقُرْطُبِيِّ لَهُ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ آدَمَ أُرْسِلَ إِلَى ذُرِّيَّتِهِ وَهُمْ عَلَى الْفِطْرَةِ لَمْ يَصْدُرْ مِنْهُمْ كُفْرٌ فَأَطَاعُوهُ، وَنُوحٌ هُوَ أَوَّلُ رَسُولٍ أُرْسِلَ لِقَوْمٍ كَافِرِينَ يَنْهَاهُمْ عَنِ الْإِشْرَاكِ باللَّه تَعَالَى، وَيَأْمُرُهُمْ بِإِخْلَاصِ الْعِبَادَةِ لَهُ وَحْدَهُ، وَيَدُلُّ لِهَذَا الْوَجْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً} . أَيْ: عَلَى الدِّينِ الْحَنِيفِ، أَيْ حَتَّى كَفَرَ قَوْمُ نُوحٍ، وَقَوْلُهُ: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيّينَ} . واللَّه تَعَالَى أَعلم.] (1) .
فصل سيدنَا إِدْرِيس - عَلَيْهِ السَّلَام -
[وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَة الْكَرِيمَة - قَوْله تَعَالَى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّيْنَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَاءِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَآ إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّواْ سُجَّداً وَبُكِيّاً} -: قَالَ السُّدِّيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ: فَالَّذِي عَنَى بِهِ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ: «إِدْرِيسُ» . وَالَّذِي عَنَى بِهِ مِنْ ذُرِّيَّةِ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ: «إِبْرَاهِيمُ» . وَالَّذِي عَنَى بِهِ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ: «إِسْحَاقُ وَيَعْقُوبُ وَإِسْمَاعِيلُ» . وَالَّذِي عَنَى بِهِ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِسْرَائِيلَ: «مُوسَى وَهَارُونُ وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى
ابْنُ مَرْيَمَ» . قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَلِذَلِكَ فَرَّقَ أَنْسَابَهُمْ وَإِنْ كَانَ يَجْمَعُ جَمِيعَهُمْ آدَمُ، لِأَنَّ فِيهِمْ مَنْ لَيْسَ مِنْ وَلَدِ مَنْ
كَانَ مَعَ نُوحٍ فِي السَّفِينَةِ وَهُوَ إِدْرِيسُ فَإِنَّهُ جَدُّ نُوحٍ.
قُلْتُ: هَذَا هُوَ الْأَظْهَرُ أَنَّ إِدْرِيسَ فِي عَمُودِ نَسَبِ نُوحٍ عَلَيْهِمَا وعَلى نَبينَا
_________
(1) - 1/194 - 195، الْبَقَرَة / 253.(2/481)
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ مِنْ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَخْذًا مِنْ حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ حَيْثُ قَالَ فِي سَلَامِهِ عَلَى النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَرْحَبًا بالنَّبي الصَّالِحِ، وَالْأَخِ الصَّالِحِ» (1) وَلَمْ يَقُلْ وَالْوَلَدِ الصَّالِحِ، كَمَا قَالَ آدَمُ وَإِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِمَا وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ انْتَهَى الْغَرَض من كَلَام ابْن كثير رَحمَه الله تَعَالَى.] (2) .
فصل سيدنَا نوح - عَلَيْهِ السَّلَام (3) -
- إِبْرَاهِيم من ذريّة نوح، وَبَعض الْأَنْبِيَاء من ذرّية نوح دون إِبْرَاهِيم - عَلَيْهِم السَّلَام -.
[قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَجَعَلْنَا فِى ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ} . الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: {ذُرّيَّتَهُ} ، رَاجِعٌ إِلَى إِبْرَاهِيمَ.
وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ وَالْمُرْسَلِينَ الَّذِينَ أُنْزِلَتْ عَلَيْهِمُ الْكُتُبَ بَعْدَ إِبْرَاهِيمَ كُلَّهُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ، وَمَا ذَكَرَهُ هُنَا عَنْ إِبْرَاهِيمَ ذُكِرَ فِي سُورَةِ «الْحَدِيدِ» : أَنَّ نُوحًا مُشْتَرِكٌ مَعَهُ فِيهِ، وَذَلِكَ وَاضِحٌ لِأَنَّ إِبْرَاهِيمَ مِنْ ذُرِّيَّةِ نُوحٍ، مَعَ أَنَّ بَعْضَ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ ذُرِّيَّةِ نُوحٍ دُونَ إِبْرَاهِيمَ؛ وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنَا فِى ذُرّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ} .] (4) .
_________
(1) - أخرجه البُخَارِيّ (1/135) (342) ، وَمُسلم (1/148) (163) مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
(2) - 4/329، مَرْيَم / 58.
(3) - سبق بَيَان أَن سيدنَا نوح أول رَسُول أرسل إِلَى أهل الأَرْض، وَانْظُر (1/194 - 195، الْبَقَرَة / 253) ، وَقد تكلم الشنقيطي - رَحمَه الله - عَن جِدَال قوم سيدنَا نوح - عَلَيْهِ السَّلَام - لَهُ والآيات الْمُوَضّحَة لنجاته، وَمن آمن مَعَه فِي السَّفِينَة، وإغراق بَاقِي قومه وَولده فِي (3/16: 25) (هود/27: 42) وَغَيرهَا من الْمَوَاضِع فَانْظُرْهُ.
(4) - 6/465، العنكبوت / 27.(2/482)
فصل سيدنَا إِبْرَاهِيم - عَلَيْهِ السَّلَام -
- مِلَّة سيدنَا إِبْرَاهِيم - عَلَيْهِ السَّلَام - هِيَ دين الْإِسْلَام.
[قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ} لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا مَا مِلَّةُ إِبْرَاهِيمَ وَبَيَّنَهَا بِقَوْلِهِ: {قُلْ إِنَّنِى هَدَانِى رَبّى إِلَى صِراطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مّلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} ، فَصَرَّحَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِأَنَّهَا دِينُ الْإِسْلَامِ الَّذِي بَعَثَ اللَّه بِهِ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَكَذَا فِي قَوْلِهِ: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ} .
قَوْله تَعَالَى: {يَابَنِىَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ} أَشَارَ إِلَى أَنَّهُ دِينُ الْإِسْلَامِ هُنَا بِقَوْلِهِ: {فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} ، وَصَرَّحَ بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: {إِنَّ الدّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلَامُ} ، وَقَوْلِهِ: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِى الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} .] (1) .
- صحف سيدنَا إِبْرَاهِيم - عَلَيْهِ السَّلَام -.
[قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْراهِيمَ} لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا هَذَا الَّذِي أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ فِي سُورَةِ «الْأَعْلَى» أَنَّهُ صُحُفٌ وَأَنَّ مِنْ جُمْلَةِ مَا فِي تِلْكَ الصُّحُفِ: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحياةَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: {إِنَّ هَذَا لَفِى الصُّحُفِ الاْولَى صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسَى} .] (2) .
_________
(1) - 1/74، الْبَقَرَة / 130، 132.
(2) - 1/174، الْبَقَرَة / 136.(2/483)
- شدَّة صدق سيدنَا إِبْرَاهِيم - عَلَيْهِ السَّلَام -.
[وَجُمْلَةُ {إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَّبِيّاً} مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْبَدَلِ وَالْمُبْدَلِ مِنْهُ عَلَى الْإِعْرَابِ الْمَذْكُورِ. وَالصِّدِّيقُ صِيغَةُ مُبَالَغَةٍ مِنَ الصِّدْقِ، لِشِدَّةِ صِدْقِ إِبْرَاهِيمَ فِي مُعَامَلَتِهِ مَعَ رَبِّهِ وَصِدْقِ لَهْجَتِهِ، كَمَا شَهِدَ اللَّهُ لَهُ بِصِدْقِ مُعَامَلَتِهِ فِي قَوْلِهِ: {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِى وَفَّى} ، وَقَوْلِهِ: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّى جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا} .
وَمِنْ صِدْقِهِ فِي مُعَامَلَتِهِ رَبَّهُ: رِضَاهُ بِأَنْ يَذْبَحَ وَلَدَهُ، وَشُرُوعُهُ بِالْفِعْلِ فِي ذَلِكَ طَاعَةً لِرَبِّهِ. مَعَ أَنَّ الْوَلَدَ فِلْذَةٌ مِنَ الْكَبِدِ.
لَكِنَّمَا أَوْلَادُنَا بَيْنَنَا ... أَكْبَادُنَا تَمْشِي عَلَى الْأَرْضِ
قَالَ تَعَالَى: {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِين ِوَنَادَيْنَاهُ أَن ياإِبْرَاهِيم ُقَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَآ} .
وَمِنْ صِدْقِهِ فِي مُعَامَلَتِهِ مَعَ رَبِّهِ: صَبْرُهُ عَلَى الْإِلْقَاءِ فِي النَّارِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {قَالُواْ حَرِّقُوهُ وَانصُرُواْ آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ} ، وَقَالَ: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ} .
وَذَكَرَ عُلَمَاءُ التَّفْسِيرِ فِي قِصَّتِهِ أَنَّهُمْ لَمَّا رَمَوْهُ إِلَى النَّارِ لَقِيَهُ جِبْرِيلُ فَسَأَلَهُ: هَلْ لَكَ حَاجَةٌ؟ فَقَالَ: أَمَّا إِلَيْكَ فَلَا وَأَمَّا إِلَى اللَّهِ فَنَعَمْ. فَقَالَ لَهُ: لِمَ لَا تَسْأَلُهُ؟ فَقَالَ: عِلْمُهُ بِحَالِي كَافٍ عَنْ سُؤَالِي (1) ؟؟ (2)
وَمِنْ صِدْقِهِ فِي مُعَامَلَتِهِ رَبَّهُ: صَبْرُهُ عَلَى مُفَارقَة الْأَهْل والوطن فِرَارًا لدينِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَأامَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّى مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّى} وَقد هَاجر من سَواد الْعرق إِلَى دمشق (3) .
_________
(1) - قَالَ الشَّيْخ الألباني - رَحمَه الله - فِي الضعيفة (21) : لَا أصل لَهُ.
(2) - وَانْظُر أَيْضا لتفاصيل هَذِه الْقِصَّة (4/640: 643) (الْأَنْبِيَاء/67: 70) .
(3) - وَانْظُر أَيْضا لتفاصيل هَذِه الْقِصَّة (4/643 - 644) (الْأَنْبِيَاء/71) .(2/484)
وَقَدْ بَيَّنَ جَلَّ وَعَلَا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ أَنَّهُ لَمْ يَكْتَفِ بِنَهْيِهِمْ عَنْ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ وَبَيَانِ أَنَّهَا لَا تَنْفَعُ وَلَا تَضُرُّ، بَلْ زَادَ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ كَسَرَهَا وَجَعَلَهَا جُذَاذًا وَتَرَكَ الْكَبِيرَ مِنَ الْأَصْنَامِ، وَلَمَّا سَأَلُوهُ هَلْ هُوَ الَّذِي كَسَرَهَا قَالَ لَهُمْ: إِنَّ الَّذِي فَعَلَ ذَلِكَ كَبِيرُ الْأَصْنَامِ، وَأَمَرَهُمْ بِسُؤَالِ الْأَصْنَامِ إِنْ كَانَتْ تَنْطِقُ. كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْهُ: {وَتَاللَّهِ لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَن تُوَلُّواْ مُدْبِرِينَ فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً إِلاَّ كَبِيراً لَّهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُون َقَالُواْ مَن فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ قَالُواْ سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيم ُقَالُواْ فَأْتُواْ بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُون َقَالُواْ آنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا ياإِبْرَاهِيم ُقَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْألُوهُمْ إِن كَانُواْ يِنْطِقُون َفَرَجَعُواْ إِلَى أَنفُسِهِمْ فَقَالُواْ إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظَّالِمُونَ ثُمَّ نُكِسُواْ عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنطِقُون َقَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُكُمْ شَيْئاً وَلاَ يَضُرُّكُم ْأُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} ، وَقَالَ تَعَالَى: {فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلا تَأْكُلُونَ مَا لَكُمْ لاَ تَنْطِقُونَ فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ فَأَقْبَلُواْ إِلَيْهِ يَزِفُّون َقَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} .
فَقَوْلُهُ {فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ} أَيْ مَالَ إِلَى الْأَصْنَام يضْربهَا ضربا بيمنه حَتَّى جعلهَا جذاذاً، أَي قطاعاً مُتَكَسِّرَةً مِنْ قَوْلِهِمْ: جَذَّهُ إِذَا قَطَعَهُ وَكَسَرَهُ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: {إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً} أَيْ كَثِيرُ الصِّدْقِ يُعْرَفُ مِنْهُ أَنَّ الْكَذِبَاتِ الثَّلَاثَ الْمَذْكُورَةَ فِي الْحَدِيثِ (1) عَنْ إِبْرَاهِيم كلهَا
_________
(1) - أخرج البُخَارِيّ (3/1225) (3179) ، وَمُسلم (4/1840) (2371) من حَدِيث عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لم يكذب إِبْرَاهِيم النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام قطّ إِلَّا ثَلَاث كذبات ثِنْتَيْنِ فِي ذَات الله قَوْله: {إِنِّي سقيم} وَقَوله: {بل فعله كَبِيرهمْ هَذَا} وَوَاحِدَة فِي شَأْن سارة ... الحَدِيث.(2/485)
فِي اللَّهِ تَعَالَى، وَأَنَّهَا فِي الْحَقِيقَةِ مِنَ الصدْق لَا من الْكَذِب بِمَعْنَاهُ الْحَقِيقِيّ ... ] (1) .
- ذُريَّته - عَلَيْهِ السَّلَام -.
[قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلاًّ جَعَلْنَا صَالِحِينَ} . ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّهُ وَهَبَ لِإِبْرَاهِيمَ ابْنَهُ إِسْحَاقَ، وَابْنَ ابْنِهِ يَعْقُوبَ بْنَ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، وَأَنَّهُ جَعَلَ الْجَمِيعَ صَالِحِينَ. وَقَدْ أَوْضَحَ الْبِشَارَةَ بِهِمَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَامْرَأَتُهُ قَآئِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَآءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} ، وَقَوْلِهِ: {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً مِّنَ الصَّالِحِينَ} .
وَقَدْ أَشَارَ تَعَالَى فِي سُورَةِ «مَرْيَمَ» إِلَى أَنَّهُ لَمَّا هَجَرَ الْوَطَنَ وَالْأَقَارِبَ عَوَّضَهُ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ قُرَّةَ الْعَيْنِ بِالذُّرِّيَّةِ الصَّالِحَةِ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: {فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاًّ جَعَلْنَا نَبِيّاً} ... ] (2) .
فصل سيدنَا لوط - عَلَيْهِ السَّلَام -
[قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلُوطاً آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِى كَانَت تَّعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ وَأَدْخَلْنَاهُ فِى رَحْمَتِنَآ إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} ، قَوْلُهُ {وَلُوطاً} مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ مُضْمر وجوبا يُفَسر {آتَيْنَاهُ} كَمَا قَالَ فِي الْخُلَاصَةِ:
فَالسَّابِقُ انْصِبْهُ بِفعل أمضرا ... حتما مُوَافق لما قد أظهرا
_________
(1) - 4/306 - 307، مَرْيَم / 41: 45.
(2) - 4/644: 645، الْأَنْبِيَاء/72، 73.(2/486)
قَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: الْحُكْمُ: النُّبُوَّةُ. وَالْعِلْمُ: الْمَعْرِفَةُ بِأَمْرِ الدِّينِ، وَمَا يَقَعُ بِهِ الْحُكْمُ بَيْنَ الْخُصُومِ. وَقِيلَ: عِلْمًا فَهْمًا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: حُكْمًا: حِكْمَةً، وَهُوَ مَا يَجِبُ فِعْلُهُ، أَوْ فَصْلًا بَيْنَ الْخُصُومِ، وَقِيلَ: هُوَ النُّبُوَّةُ.
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: أَصْلُ الْحُكْمِ فِي اللُّغَةِ: الْمَنْعُ كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ. فَمَعْنَى الْآيَاتِ: أَنَّ اللَّهَ آتَاهُ
مِنَ النُّبُوَّةِ وَالْعِلْمِ مَا يَمْنَعُ أَقْوَالَهُ وَأَفْعَالَهُ مِنْ أَنْ يَعْتَرِيَهَا الْخَلَلُ.
وَالْقَرْيَةُ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ: هِيَ سَدُومُ وَأَعْمَالُهَا، وَالْخَبَائِثُ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُهَا جَاءَتْ مُوَضَّحَةً فِي آيَاتٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ: {مِنْهَا} اللِّوَاطُ، وَأَنَّهُمْ هُمْ أَوَّلُ مَنْ فَعَلَهُ مِنَ النَّاسِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى {أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّن الْعَالَمِينَ} ، وَقَالَ {أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ} . وَمِنَ الْخَبَائِثِ الْمَذْكُورَةِ إِتْيَانُهُمُ الْمُنْكَرَ فِي نَادِيهِمْ، وَقَطْعُهُمُ الطَّرِيقَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِى نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ} . وَمِنْ أَعْظَمِ خَبَائِثِهِمْ: تَكْذِيبُ نَبِيِّ اللَّهِ لُوطٍ وَتَهْدِيدُهُمْ لَهُ بِالْإِخْرَاجِ مِنَ الْوَطَنِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْهُمْ: {قَالُواْ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ يالُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ} ، وَقَالَ تَعَالَى: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ أَخْرِجُواْ آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ فِي مَوَاضِعَ مُتَعَدِّدَةٍ مِنْ كِتَابِهِ: أَنَّهُ أَهْلَكَهُمْ فَقَلَبَ بِهِمْ بَلَدَهُمْ، وَأَمْطَرَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ} وَالْآيَاتُ بِنَحْوِ ذَلِك ... كَثِيرَة.] (1) .
_________
(1) - 4/647: 649، الْأَنْبِيَاء/74، 75، وَانْظُر أَيْضا: (2/291 - 292) (الْأَعْرَاف/ 80، 83) ، (3/27: 35) (هود/74، 77: 81) ، وَغير ذَلِك من الْمَوَاضِع.(2/487)
فصل سيدنَا أَيُّوب - عَلَيْهِ السَّلَام -
- هَل دعاؤه ربَّه كَانَ من الشكوى؟ وَالْجَوَاب عَن نِسْبَة مَا أَصَابَهُ للشَّيْطَان.
[قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّى مَسَّنِىَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ} . الظَّاهِر أَن قَوْله {وَأَيُّوبَ} مَنْصُوب باذكر مُقَدَّرًا، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي «ص» {وَاذْكُرْ عَبْدَنَآ أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّى مَسَّنِىَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ} .
وَقَدْ أَمَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ الْكَرِيمَتَيْنِ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنْ يَذْكُرَ أَيُّوبَ حِينَ نَادَى رَبَّهُ قَائِلًا: {أَنِّى مَسَّنِىَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} وَأَنَّ رَبَّهُ اسْتَجَابَ لَهُ فَكَشَفَ عَنْهُ جَمِيعَ مَا بِهِ مِنَ الضُّرِّ، وَأَنَّهُ آتَاهُ أَهْلَهُ، وَآتَاهُ مِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْهُ جَلَّ وَعَلَا بِهِ، وَتَذْكِيرًا لِلْعَابِدِينَ أَيِ الَّذِينَ يَعْبُدُونَ اللَّهَ لِأَنَّهُمْ هُمُ الْمُنْتَفِعُونَ بِالذِّكْرَى.
وَهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرَهُ هُنَا ذَكَرَهُ أَيْضًا فِي سُورَةِ «ص» فِي قَوْلِهِ: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَآ أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّى مَسَّنِىَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ} إِلَى قَوْلِهِ {لأُوْلِي الأَلْبَابِ} وَالضُّرُّ الَّذِي مَسَّ أَيُّوبَ، وَنَادَى رَبَّهُ لِيَكْشِفَهُ عَنْهُ كَانَ بَلَاءً أَصَابَهُ فِي بَدَنِهِ وَأَهْلِهِ وَمَالِهِ. وَلَمَّا أَرَادَ اللَّهُ إِذْهَابَ الضُّرِّ عَنْهُ أَمَرَهُ أَنْ يَرْكُضَ بِرِجْلِهِ فَفَعَلَ، فَنَبَعَتْ لَهُ عَيْنُ مَاءٍ فَاغْتَسَلَ مِنْهَا فَزَالَ كُلُّ مَا بِظَاهِرِ بَدَنِهِ مِنَ الضُّرِّ، وَشَرِبَ مِنْهَا فَزَالَ كُلُّ مَا بِبَاطِنِهِ. كَمَا أَشَارَ تَعَالَى إِلَى ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ} .(2/488)
وَمَا ذَكَرَهُ فِي «الْأَنْبِيَاءِ» : مِنْ أَنَّهُ آتَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْهُ وَذِكْرَى لِمَنْ يَعْبُدُهُ بَيَّنَهُ فِي «ص» فِي قَوْلِهِ، {وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنَّا وَذِكْرَى لأُوْلِي الأَلْبَابِ} ، وَقَوْلِهِ فِي «الْأَنْبِيَاءِ» ، {وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ} مَعَ قَوْلِهِ فِي «ص» ، {وَذِكْرَى لأُوْلِي الأَلْبَابِ} فِيهِ الدَّلَالَةُ الْوَاضِحَةُ عَلَى أَنَّ أَصْحَابَ الْعُقُولِ السَّلِيمَةِ مِنْ شَوَائِبِ الِاخْتِلَالِ، هُمُ الَّذِينَ يَعْبُدُونَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَيُطِيعُونَهُ. وَهَذَا يُؤَيِّدُ قَوْلَ مَنْ قَالَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، إِنَّ مَنْ أَوْصَى بِشَيْءٍ مِنْ مَالِهِ لِأَعْقَلِ النَّاسِ أَنَّ تِلْكَ الْوَصِيَّةَ تُصْرَفُ لِأَتْقَى النَّاسِ وَأَشَدِّهِمْ طَاعَةً لِلَّهِ تَعَالَى. لِأَنَّهُمْ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ. أَيِ الْعُقُولِ الصَّحِيحَةِ السَّالِمَةِ مِنَ الِاخْتِلَالِ.
تَنْبِيهٌ
فِي هَذِهِ الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ سُؤَالٌ مَعْرُوفٌ، وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ قَوْلَ أَيُّوبَ الْمَذْكُورَ فِي «الْأَنْبِيَاءِ» فِي قَوْلِهِ، {إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّى مَسَّنِىَ الضُّرُّ} وَفِي «ص» فِي قَوْلِهِ، {إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّى مَسَّنِىَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ} يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ ضَجِرَ مِنَ الْمَرَضِ فَشَكَا مِنْهُ. مَعَ أَن قَوْله تَعَالَى، {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِّعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} يَدُلُّ عَلَى كَمَالِ صَبْرِهِ؟
وَالْجَوَابُ أَنَّ مَا صَدَرَ مِنْ أَيُّوبَ دُعَاءٌ وَإِظْهَارُ فَقْرٍ وَحَاجَةٍ إِلَى رَبِّهِ، لَا شَكْوَى وَلَا جَزَعٌ.
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْقُرْطُبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، وَلَمْ يَكُنْ قَوْلُهُ {مَسَّنِىَ الضُّرُّ} جَزَعًا. لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً} بَلْ كَانَ ذَلِكَ دُعَاءً مِنْهُ. وَالْجَزَعُ فِي الشَّكْوَى إِلَى الْخَلْقِ لَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَالدُّعَاءُ لَا يُنَافِي الرِّضَا. قَالَ الثَّعْلَبِيُّ: سَمِعْتُ أُسْتَاذَنَا أَبَا الْقَاسِمِ بْنَ حَبِيبٍ يَقُولُ: حَضَرْتُ مَجْلِسًا غَاصًّا بِالْفُقَهَاءِ وَالْأُدَبَاءِ فِي دَارِ السُّلْطَانِ. فَسُئِلْتُ عَنْ(2/489)
هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ بَعْدَ اجْتِمَاعِهِمْ عَلَى أَنَّ قَوْلَ أَيُّوبَ كَانَ شِكَايَةً وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً} فَقُلْتُ: لَيْسَ هَذَا شِكَايَةً، وَإِنَّمَا كَانَ دُعَاءً. بَيَانُهُ {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ} وَالْإِجَابَةُ تَتَعَقَّبُ الدُّعَاءَ لَا الِاشْتِكَاءَ. فَاسْتَحْسَنُوهُ وَارْتَضَوْهُ. وَسُئِلَ الْجُنَيْدُ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ فَقَالَ: عَرَّفَهُ فَاقَةَ السُّؤَالِ لِيَمُنَّ عَلَيْهِ بِكَرَمِ النَّوَالِ انْتَهَى مِنْهُ.
وَدُعَاءُ أَيُّوبَ الْمَذْكُورُ ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي سُورَةِ «الْأَنْبِيَاءِ» مِنْ غَيْرِ أَنْ يُسْنَدَ مَسُّ الضُّرِّ أَيُّوبَ إِلَى الشَّيْطَانِ فِي قَوْلِهِ: {أَنِّى مَسَّنِىَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} وَذَكَرَهُ فِي سُورَة «ص» وَأسْندَ ذَلِك الشَّيْطَانِ فِي قَوْلِهِ: {أَنِّى مَسَّنِىَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ} وَالنُّصْبُ عَلَى جَمِيعِ الْقِرَاءَاتِ مَعْنَاهُ:
التَّعَبُ وَالْمَشَقَّةُ، وَالْعَذَابُ: الْأَلَمُ. وَفِي نِسْبَةِ مَا أَصَابَهُ مِنَ الْمَشَقَّةِ وَالْأَلَمِ إِلَى الشَّيْطَانِ فِي سُورَةِ «ص» هَذِهِ إِشْكَالٌ قَوِيٌّ مَعْرُوفٌ. لِأَنَّ اللَّهَ ذَكَرَ فِي آيَاتٍ مِنْ كِتَابِهِ: أَنَّ الشَّيْطَانَ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى مِثْلِ أَيُّوبَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ الْكِرَامِ. كَقَوْلِهِ: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ} ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِّن سُلْطَانٍ} ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى مُقَرِّرًا لَهُ: {وَمَا كَانَ لِىَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِى} ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} .
وَلِلْعُلَمَاءِ عَنْ هَذَا الْإِشْكَالِ أَجْوِبَةٌ. مِنْهَا مَا ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ قَالَ:
فَإِنْ قُلْتَ: لِمَ نَسَبَهُ إِلَى الشَّيْطَانِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُسَلِّطَهُ عَلَى أنبيائه ليقضي إِن إِتْعَابِهِمْ وَتَعْذِيبِهِمْ وَطَرَهُ، وَلَوْ قَدَرَ عَلَى ذَلِكَ لَمْ يَدَعْ صَالِحًا إِلَّا وَقَدْ نَكَبَهُ وَأَهْلَكَهُ، وَقَدْ تَكَرَّرَ فِي الْقُرْآنِ أَنَّهُ لَا سُلْطَانَ لَهُ إِلَّا الْوَسْوَسَةَ فَحَسْبُ؟
قُلْتُ: لَمَّا كَانَتْ وَسْوَسَتُهُ إِلَيْهِ، وَطَاعَتُهُ لَهُ فِيمَا وَسْوَسَ سَبَبًا فِيمَا مَسَّهُ اللَّهُ(2/490)
بِهِ مِنَ النُّصْبِ وَالْعَذَابِ
نَسَبَهُ إِلَيْهِ، وَقَدْ رَاعَى الْأَدَبَ فِي ذَلِكَ حَيْثُ لَمْ يَنْسُبْهُ إِلَى اللَّهِ فِي دُعَائِهِ، مَعَ أَنَّهُ فَاعِلُهُ وَلَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إِلَّا هُوَ. وَقِيلَ: أَرَادَ مَا كَانَ يُوَسْوِسُ بِهِ إِلَيْهِ فِي مَرَضِهِ مِنْ تَعْظِيمِ مَا نَزَلَ بِهِ مِنَ الْبَلَاءِ، وَيُغْرِيهِ عَلَى الْكَرَاهَةِ وَالْجَزَعِ، فَالْتَجَأَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي أَنْ يَكْفِيَهُ ذَلِكَ بِكَشْفِ الْبَلَاءِ، أَوْ بِالتَّوْفِيقِ فِي دَفْعِهِ وَرَدِّهِ بِالصَّبْرِ الْجَمِيلِ.
وَرُوِيَ أَنَّهُ كَانَ يَعُودُهُ ثَلَاثَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. فَارْتَدَّ أَحَدُهُمْ فَسَأَلَ عَنْهُ، فَقِيلَ: أَلْقَى إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ أَنَّ اللَّهَ لَا يَبْتَلِي الْأَنْبِيَاءَ الصَّالِحِينَ. وَذُكِرَ فِي سَبَبِ بَلَائِهِ: أَنَّ رَجُلًا اسْتَغَاثَهُ عَلَى ظَالِمٍ فَلَمْ يُغِثْهُ. وَقِيلَ: كَانَتْ مَوَاشِيهِ فِي نَاحِيَةِ مَلِكٍ كَافِرٍ فَدَاهَنَهُ وَلَمْ يَغْزُهُ. وَقِيلَ. أُعْجِبَ بِكَثْرَةِ مَالِهِ. انْتَهَى مِنْهُ.
وَمِنْهَا مَا ذَكَرَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: أَنَّ اللَّهَ سَلَّطَ الشَّيْطَانَ عَلَى مَالِهِ وَأَهْلِهِ ابْتِلَاءً لِأَيُّوبَ؛ فَأَهْلَكَ الشَّيْطَانُ مَالَهُ وَوَلَدَهُ، ثُمَّ سَلَّطَهُ عَلَى بَدَنِهِ ابْتِلَاءً لَهُ فَنَفَخَ فِي جَسَدِهِ نَفْخَةً اشتعل مِنْهَا، فَصَارَ فِي جده ثَآلِيلُ، فَحَكَّهَا بِأَظَافِرِهِ حَتَّى دَمِيَتْ، ثُمَّ بِالْفَخَّارِ حَتَّى تَسَاقَطَ لَحْمُهُ، وَعَصَمَ اللَّهُ قَلْبَهُ وَلِسَانَهُ. (وَغَالِبُ ذَلِكَ مِنِ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ) وَتَسْلِيطُهُ لِلِابْتِلَاءِ عَلَى جَسَدِهِ، وَمَالِهِ وَأَهْلِهِ مُمْكِنٌ، وَهُوَ أَقْرَبُ مِنْ تَسْلِيطِهِ عَلَيْهِ بِحَمْلِهِ عَلَى أَنْ يَفْعَلَ مَا لَا يَنْبَغِي. كَمُدَاهَنَةِ الْمَلِكِ الْمَذْكُورِ، وَعَدَمِ إِغَاثَةِ الْمَلْهُوفِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي يَذْكُرُهَا الْمُفَسِّرُونَ. وَقَدْ ذَكَرُوا هُنَا قِصَّةً طَوِيلَةً تَتَضَمَّنُ الْبَلَاءَ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ، وَقَدْرَ مُدَّتَهُ (وَكُلُّ ذَلِكَ مِنِ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ) وَقَدْ ذَكَرْنَا هُنَا قَلِيلًا.
وَغَايَةُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ: أَنَّ اللَّهَ ابْتَلَى نَبِيَّهُ أَيُّوبَ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَأَنَّهُ نَادَاهُ فَاسْتَجَابَ لَهُ وَكَشَفَ عَنْهُ كُلَّ ضُرٍّ، وَوَهَبَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ، وَأَنَّ أَيُّوبَ نَسَبَ ذَلِكَ فِي «ص» إِلَى الشَّيْطَانِ. وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ سَلَّطَهُ اللَّهُ عَلَى جَسَدِهِ وَمَالِهِ وَأَهْلِهِ. ابْتِلَاءً لِيَظْهَرَ صَبْرُهُ الْجَمِيلُ، وَتَكُونَ لَهُ الْعَافِيَةُ الْحَمِيدَةُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَيَرْجِعَ لَهُ كُلُّ مَا أُصِيبَ فِيهِ، وَالْعِلْمُ(2/491)
عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى وَهَذَا لَا يُنَافِي أَنَّ الشَّيْطَانَ لَا سُلْطَانَ لَهُ عَلَى مِثْلِ أَيُّوبَ، لِأَنَّ التَّسْلِيطَ عَلَى الْأَهْلِ وَالْمَالِ وَالْجَسَدِ مَنْ جِنْسِ الْأَسْبَابِ الَّتِي تَنْشَأُ عَنْهَا الْأَعْرَاضُ الْبَشَرِيَّةُ كَالْمَرَضِ، وَذَلِكَ يَقَعُ لِلْأَنْبِيَاءِ، فَإِنَّهُمْ يُصِيبُهُمُ الْمَرَضُ، وَمَوْتُ الْأَهْلِ، وَهَلَاكُ الْمَالِ لِأَسْبَابٍ مُتَنَوِّعَةٍ. وَلَا مَانِعَ مِنْ أَنْ يَكُونَ جُمْلَةُ تِلْكَ الْأَسْبَابِ تسليط الشَّيْطَان على ذَلِك للابتلاء ...
وَقَوْلُ اللَّهِ لِنَبِيِّهِ أَيُّوبَ فِي سُورَةِ «ص» : {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِب بِّهِ وَلاَ تَحْنَثْ} ، قَالَ الْمُفَسِّرُونَ فِيهِ: إِنَّهُ حَلَفَ فِي مَرَضِهِ لَيَضْرِبَنَّ زَوْجَهُ مِائَةَ سَوْطٍ، فَأَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يَأْخُذَ ضِغْثًا فَيَضْرِبَهَا بِهِ لِيَخْرُجَ مِنْ يَمِينِهِ، وَالضِّغْثُ: الْحُزْمَةُ الصَّغِيرَةُ مِنْ حَشِيشٍ أَوْ رَيْحَانٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ يَأْخُذُ حُزْمَةً فِيهَا مِائَةُ عُودٍ فَيَضْرِبُهَا بِهَا ضَرْبَةً وَاحِدَةً، فَيَخْرُجُ بِذَلِكَ مِنْ يَمِينِهِ. وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ «الْكَهْفِ» الِاسْتِدْلَالَ بِآيَةِ {وَلاَ تَحْنَثْ} عَلَى أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ الْمُتَأَخِّرَ لَا يُفِيدُ. إِذْ لَوْ كَانَ يُفِيدُ لِقَالَ اللَّهُ لِأَيُّوبَ قُلْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. لِيَكُونَ ذَلِكَ اسْتِثْنَاءً فِي يَمِينِكَ.] (1) .
فصل سيدنَا يُونُس - عَلَيْهِ السَّلَام -
[قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِى الظُّلُمَاتِ أَن لاَّ إِلَهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّى كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذلك نُنجِى الْمُؤْمِنِينَ} . أَيْ وَاذْكُرْ ذَا النُّونِ. وَالنُّونُ: الْحُوتُ. «وَذَا» بِمَعْنَى صَاحِبٍ. فَقَوله {ذَا النُّونِ} مَعْنَاهُ صَاحِبُ الْحُوتِ. كَمَا صَرَّحَ اللَّهُ بِذَلِكَ فِي «الْقَلَمِ» فِي قَوْلِهِ {وَلاَ تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ} . وَإِنَّمَا أَضَافَهُ إِلَى الْحُوت لِأَنَّهُ النقمَة كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ} .
_________
(1) - 4/741: 745، الْأَنْبِيَاء / 83 - 84.(2/492)
وَقَوْلُهُ: {فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ} فِيهِ وَجْهَانِ مِنَ التَّفْسِيرِ لَا يَكْذِّبُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ:
الأول أَن الْمَعْنى {فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ} أَيْ لَنْ نُضَيِّقَ عَلَيْهِ فِي بَطْنِ الْحُوتِ. وَمِنْ إِطْلَاقِ «قَدَرَ» بِمَعْنَى «ضَيَّقَ» فِي الْقُرْآنِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَآءُ وَيَقَدِرُ} أَيْ وَيُضَيِّقُ الرِّزْقَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّآ آتَاهُ اللَّهُ} . فَقَوْلُهُ: {وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ} أَيْ وَمَنْ ضُيِّقَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ.
الْوَجْهُ الثَّانِي أَنَّ مَعْنَى {لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ} لَنْ نَقْضِيَ عَلَيْهِ ذَلِكَ. وَعَلَيْهِ فَهُوَ مِنَ الْقَدَرِ وَالْقَضَاءِ. «وَقَدَرَ» بِالتَّخْفِيفِ تَأْتِي بِمَعْنَى «قَدَّرَ» الْمُضَعَّفَةِ: وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَالْتَقَى المَآءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ} أَيْ قَدَّرَهُ اللَّهُ. وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ وَأَنْشَدَهُ ثَعْلَبٌ شَاهِدًا لِذَلِكَ:
فَلَيْسَتْ عَشِيَاتُ الْحِمَى بِرَوَاجِعٍ ... لَنَا أَبَدًا مَا أَوْرَق السّلم النَّضر
وَلَا عَائِذ ذَاكَ الزَّمَانُ الَّذِي مَضَى ... تَبَارَكْتَ مَا تَقْدِرُ يَقع وَلَك الشُّكْرُ
وَالْعَرَبُ تَقُولُ: قَدَرَ اللَّهُ لَكَ الْخَيْرَ يَقْدِرُهُ قَدْرًا، كَضَرَبَ يَضْرِبُ، وَنَصَرَ يَنْصُرُ، بِمَعْنَى قَدَّرَهُ لَكَ تَقْدِيرًا. وَمِنْهُ عَلَى أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ «لَيْلَةُ الْقَدْرِ» لِأَنَّ اللَّهَ يُقَدِّرُ فِيهَا الْأَشْيَاءَ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} وَالْقَدَرُ بِالْفَتْحِ، وَالْقَدْرُ بِالسُّكُونِ: مَا يُقَدِّرُهُ اللَّهُ مِنَ الْقَضَاءِ. وَمِنْهُ قَوْلُ هُدْبَةَ بْنِ الْخَشْرَمِ:
أَلَا يَا لَقَوْمِي لِلنَّوَائِبِ وَالْقَدَرِ ... وَلِلْأَمْرِ يَأْتِي الْمَرْءُ مِنْ حَيْثُ لَا يَدْرِي
أَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّ {لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ} مِنَ الْقُدْرَةِ فَهُوَ قَوْلٌ بَاطِلٌ بِلَا شَكٍّ. لِأَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ يُونُسَ لَا يَشُكُّ فِي قُدْرَةِ اللَّهِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، كَمَا لَا يَخْفَى.
وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: {مُغَاضِباً} أَيْ فِي حَالِ كَوْنِهِ مُغَاضِبًا(2/493)
لِقَوْمِهِ. وَمَعْنَى الْمُفَاعَلَةِ فِيهِ: أَنَّهُ أَغْضَبَهُمْ بِمُفَارَقَتِهِ وَتَخَوُّفِهِمْ حُلُولَ الْعَذَابِ بِهِمْ، وَأَغْضَبُوهُ حِينَ دَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ مُدَّةً فَلَمْ يُجِيبُوهُ، فَأَوْعَدَهُمْ بِالْعَذَابِ. ثُمَّ خَرَجَ مِنْ بَيْنِهِمْ عَلَى عَادَةِ الْأَنْبِيَاءِ عِنْدَ نُزُولِ الْعَذَابِ قَبْلَ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لَهُ فِي الْخُرُوجِ. قَالَهُ أَبُو حَيَّانَ فِي الْبَحْرِ. وَقَالَ أَيْضًا: وَقِيلَ مَعْنَى «مُغَاضِباً» غَضْبَانُ، وَهُوَ مِنَ الْمُفَاعَلَةِ الَّتِي لَا تَقْتَضِي اشْتِرَاكًا. نَحْوَ عَاقَبْتُ اللِّصَّ، وَسَافَرْتُ اهـ.
وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَ مَنْ قَالَ {مُغَاضِباً} أَيْ مُغَاضِبًا لِرَبِّهِ كَمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ وَالشَّعْبِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَاخْتَارَهُ الطَّبَرِيُّ وَالْقُتْبِيُّ، وَاسْتَحْسَنَهُ الْمَهْدَوِيُّ يَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى مَعْنَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ. أَيْ مُغَاضِبًا مِنْ أَجْلِ رَبِّهِ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ هَذَا الْقَوْلَ عَمَّنْ ذَكَرْنَا: وَقَالَ النَّحَّاسُ: وَرُبَّمَا أَنْكَرَ هَذَا مَنْ لَا يَعْرِفُ اللُّغَةَ، وَهُوَ قَوْلٌ صَحِيحٌ، وَالْمَعْنَى: مُغَاضِبًا مِنْ أَجْلِ رَبِّهِ كَمَا تَقُولُ: غَضِبْتُ لَكَ أَيْ مِنْ أَجْلِكَ، وَالْمُؤْمِنُ يَغْضَبُ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ إِذَا عُصِيَ انْتَهَى مِنْهُ. وَالْمَعْنَى عَلَى مَا ذَكَرَ: مُغَاضِبًا قَوْمَهُ مِنْ أَجْلِ رَبِّهِ، أَيْ، مِنْ أَجْلِ كُفْرِهِمْ بِهِ، وَعِصْيَانِهِمْ لَهُ. وَغَيْرُ هَذَا لَا يَصِحُّ فِي الْآيَةِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَنَادَى فِى الظُّلُمَاتِ} . أَيْ ظُلْمَةِ الْبَحْرِ، وَظُلْمَةِ اللَّيْلِ، وَظُلْمَةِ بَطْنِ الْحُوتِ. «وَأَنْ» فِي قَوْلِهِ {أَن لاَّ إِلَهَ إِلاَّ أَنتَ} مفسرة ...
وَقَوْلُهُ: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ} أَيْ أَجَبْنَاهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ الَّذِي هُوَ فِيهِ فِي بَطْنِ الْحُوتِ، وَإِطْلَاقُ اسْتَجَابَ بِمَعْنَى أَجَابَ مَعْرُوفٌ فِي اللُّغَةِ، وَمِنْهُ قَوْلُ كَعْبِ بْنِ سَعْدٍ الْغَنَوِيِّ:
وَدَاعٍ دَعَا يَا مَنْ يُجِيبُ إِلَى النَّدَى ... فَلَمْ يَسْتَجِبْهُ عِنْدَ ذَاكَ مُجِيبُ
وَمَا ذَكَرَهُ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ: مِنْ نِدَاءِ نَبِيِّهِ يُونُسَ فِي تِلْكَ الظُّلُمَاتِ هَذَا النِّدَاءَ الْعَظِيمَ، وَأَنَّ اللَّهَ اسْتَجَابَ لَهُ وَنَجَّاهُ مِنَ الْغم أوضحه(2/494)
فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ.
وَبَيَّنَ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ: أَنَّهُ لَوْ لَمْ يُسَبِّحْ هَذَا التَّسْبِيحَ الْعَظِيمَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِ الْحُوتِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ وَلَمْ يَخْرُجْ مِنْهُ. وَبَيَّنَ فِي بَعْضِهَا أَنَّهُ طَرَحَهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ.
وَبَيَّنَ فِي بَعْضِهَا: أَنَّهُ خَرَجَ بِغَيْرِ إِذْنٍ كَخُرُوجِ الْعَبْدِ الْآبِقِ، وَأَنَّهُمُ اقْتَرَعُوا عَلَى مَنْ يُلْقَى فِي الْبَحْرِ فَوَقَعَتِ الْقُرْعَةُ عَلَى يُونُسَ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي يُلْقَى فِيهِ.
وَبَيَّنَ فِي بَعْضِهَا: أَنَّ اللَّهَ تَدَارَكَهُ بِرَحْمَتِهِ. وَلَوْ لَمْ يَتَدَارَكْهُ بِهَا لِنُبِذَ بِالْعَرَاءِ فِي حَالِ كَوْنِهِ مَذْمُومًا، وَلَكِنَّهُ تَدَارَكَهُ بِهَا فَنُبِذَ غَيْرَ مَذْمُومٍ، قَالَ تَعَالَى فِي «الصَّافَّاتِ» : {وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِى بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَآءِ وَهُوَ سَقِيمٌ وَأَنبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِّن يَقْطِينٍ وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِاْئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} . فَقَوْلُهُ فِي آيَاتِ «الصَّافَّاتِ» الْمَذْكُورَةِ {إِذْ أَبَقَ} أَيْ حِينَ أَبَقَ، وَهُوَ مِنْ قَوْلِ الْعَرَبِ: عَبْدٌ آبِقٌ، لِأَنَّ يُونُسَ خَرَجَ قَبْلَ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ رَبُّهُ، وَلِذَلِكَ أُطْلِقَ عَلَيْهِ اسْمُ الْإِبَاقِ. وَاسْتِحْقَاقِ الْمَلَامَةِ فِي قَوْلِهِ: {وَهُوَ مُلِيمٌ} لِأَنَّ الْمُلِيمَ اسْمُ فَاعِلِ أَلَامَ إِذَا فَعَلَ مَا يَسْتَوْجِبُ الْمَلَامَ. وَقَوْلِهِ: {فَسَاهَمَ} أَيْ قَارَعَ بِمَعْنَى أَنَّهُ وَضَعَ مَعَ أَصْحَابِ السَّفِينَةِ سِهَامَ الْقُرْعَةِ لِيَخْرُجَ سَهْمُ مَنْ يُلْقَى فِي الْبَحْرِ. وَقَوْلِهِ: {فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ} أَيِ الْمَغْلُوبِينَ فِي الْقُرْعَةِ.
لِأَنَّهُ خَرَجَ لَهُ السَّهْمُ الَّذِي يُلْقَى صَاحِبُهُ فِي الْبَحْرِ. وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
قَتَلْنَا الْمُدْحَضِينَ بِكُلِّ فَجٍّ ... فَقَدْ قَرَّتْ بِقَتْلِهِمُ الْعُيُونُ
وَقَوْلُهُ {فَنَبَذْنَاهُ} أَيْ طَرَحْنَاهُ، بِأَنْ أَمَرْنَا الْحُوتَ أَنْ يُلْقِيَهُ بِالسَّاحِلِ.(2/495)
وَالْعَرَاءُ: الصَّحْرَاءُ. وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: الْعَرَاءُ الْفَضَاءُ أَوِ الْمُتَّسَعُ مِنَ الْأَرْضِ، أَوِ الْمَكَانُ الْخَالِي أَوْ وَجْهُ الْأَرْضِ رَاجِعٌ إِلَى ذَلِكَ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ وَهُوَ رَجُلٌ مِنْ خُزَاعَةَ:
وَرَفَعْتُ رجلالاً أَخَافُ عِثَارَهَا ... وَنَبَذْتُ بِالْبَلَدِ الْعَرَاءِ ثِيَابِي
وَشَجَرَةُ الْيَقْطِينِ: هِيَ الدُّبَّاءُ. وَقَوْلِهِ: {وَهُوَ سَقِيمٌ} أَيْ مَرِيضٌ لِمَا أَصَابَهُ مِنِ الْتِقَامِ الْحُوتِ إِيَّاهُ، وَقَالَ تَعَالَى فِي «الْقَلَمِ» . {وَلاَ تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ لَّوْلاَ أَن تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِّن رَّبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَآءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} فَقَوْلُهُ فِي آيَةِ «الْقَلَمِ» هَذِهِ: {إِذْ نَادَى} أَيْ نَادَى أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ، وَقَوْلِهِ: {وَهُوَ مَكْظُومٌ} أَيْ مَمْلُوءٌ غَمًّا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ} وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ. وَعَنْ عَطَاءٍ وَأَبِي مَالِكٍ {مَكْظُومٌ} : مَمْلُوءٌ كَرْبًا. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْغَمِّ وَالْكَرْبِ: أَنَّ الْغَمَّ فِي الْقَلْبِ. وَالْكَرْبَ فِي الْأَنْفَاسِ. وَقِيلَ {مَكْظُومٌ} مَحْبُوسٌ. وَالْكَظْمُ: الْحَبْسُ. وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: كَظَمَ غَيْظَهُ، أَيْ حَبَسَ غَضَبَهُ، قَالَهُ ابْنُ بَحْرٍ. وَقِيلَ: الْمَكْظُومُ الْمَأْخُوذُ بِكَظْمِهِ، وَهُوَ مَجْرَى النَّفَسِ، قَالَهُ الْمُبَرِّدُ انْتَهَى مِنَ الْقُرْطُبِيِّ.
وَآيَةُ «الْقَلَمِ» الْمَذْكُورَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ يُونُسَ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَجَّلَ بِالذَّهَابِ وَمُغَاضَبَةِ قَوْمِهِ، وَلَمْ يَصْبِرِ الصَّبْرَ اللَّازِمَ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ مُخَاطِبًا نَبِيَّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا: {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلاَ تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ} . فَإِنَّ أَمْرَهُ لِنَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالصَّبْرِ وَنَهْيَهُ إِيَّاهُ أَنْ يَكُونَ كَصَاحِبِ الْحُوتِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ صَاحِبَ الْحُوتِ لَمْ يَصْبِرْ كَمَا يَنْبَغِي.
وَقِصَّةُ يُونُسَ، وَسَبَبُ ذَهَابِهِ وَمُغَاضَبَتِهِ قَوْمَهُ مَشْهُورَةٌ مَذْكُورَةٌ فِي كُتُبِ التَّفْسِيرِ. وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى فِي سُورَةِ «يُونُسَ» : أَنَّ قَوْمَ يُونُسَ آمَنُوا فَنَفَعَهُمْ(2/496)
إِيمَانُهُمْ دُونَ غَيْرِهِمْ مِنْ سَائِرِ الْقُرَى الَّتِي بُعِثَتْ إِلَيْهِمُ الرُّسُلُ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: {فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَآ إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّآ آمَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْىِ فِى الْحياةَ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} .
وَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: {وَكَذلك نُنجِى الْمُؤْمِنِينَ} يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَا مِنْ مُؤْمِنٍ يُصِيبُهُ الْكَرْبُ وَالْغَمُّ فَيَبْتَهِلُ إِلَى اللَّهِ دَاعِيًا بِإِخْلَاصٍ، إِلَّا نَجَّاهُ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ الْغَمِّ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا دَعَا بِدُعَاءِ يُونُسَ هَذَا. وَقَدْ جَاءَ فِي حَدِيثٍ مَرْفُوعٍ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي دُعَاءِ يُونُسَ الْمَذْكُورِ: «لَمْ يَدْعُ بِهِ مُسْلِمٌ رَبَّهُ فِي شَيْءٍ قَطُّ إِلَّا اسْتَجَابَ لَهُ» (1) رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُمْ. وَالْآيَةُ الْكَرِيمَةُ شَاهِدَةٌ لِهَذَا الْحَدِيثِ شَهَادَةً قَوِيَّةً كَمَا تَرَى، لِأَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُ أَنْجَى يُونُسَ شَبَّهَ بِذَلِكَ إِنْجَاءَهُ الْمُؤْمِنِينَ.] (2) .
فصل سيدنَا مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَام -
[قَالَ ابْن كثير فِي قَوْله {نُودِىَ مِن شَاطِىءِ الْوَادِى الأَيْمَنِ} أَيْ مِنْ جَانِبِ الْوَادِي مِمَّا يَلِي الْجَبَلَ عَنْ يَمِينِهِ مِنْ نَاحِيَةِ الْغَرْبِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِىِّ إِذْ قَضَيْنَآ إِلَى مُوسَى الأَمْرَ} فَهَذَا مِمَّا يُرْشِدُ إِلَى أَنَّ مُوسَى قَصَدَ النَّارَ إِلَى جِهَة الْقبْلَة والجبل الغربي عَن يَمِينه اهـ مِنْهُ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: {وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ} ، وَقَوْلِهِ: {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا} .
وَالنِّدَاءُ الْمَذْكُورُ فِي جَمِيعِ الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ نِدَاءُ الله لَهُ، فَهُوَ كَلَام الله
_________
(1) - أخرجه التِّرْمِذِيّ (5/529) (3505) ، وَأحمد (1/170) ، وَالنَّسَائِيّ فِي الْكُبْرَى (6/168) (10492) ، وَأَبُو يعلى (2/110) (772) ، وَالْحَاكِم (2/414) (3444) وَصَححهُ وَوَافَقَهُ الذَّهَبِيّ، والْحَدِيث حسن إِسْنَاده الأرناؤوط.
(2) - 4/745: 750، الْأَنْبِيَاء / 87، 88.(2/497)