الإعلام بوجوب الهجرة
من دار الكفر إلى دار الإسلام
تأليف الشيخ
عبدالعزيز بن صالح الجربوع
محتوى البحث
المقدمة .
أولاً : المقصود بالدار
ثانياً : أنواع الدور
ثالثاً : تعريف الهجرة في اللغة والشرع
رابعاً : حكم الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام
خامساً : حالات المهاجر الأربع
سادساً : القول الأول في الحالة الرابعة والأدلة
سابعاً : القول الثاني في الحالة الرابعة والأدلة
ثامناً : الراجح
تاسعاً : المقصود بإظهار الدين
عاشراً : أسس على طريق الهجرة
الختام .
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
إن الحمد لله نحمده ، ونستعينه ، ونستغفره ، ونستهديه ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فهو المهتدي ، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً وأشهد ألا إله إلا الله وحده لاشريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين .
أما بعد :
لقد ضاق المؤمنون ذرعاً برائحة دعوى أولئك النابتة في مجتمعنا ، الغادرين بدينهم وأمتهم الإسلامية الرامية إلى تجميع المسلمين تحت الحد الأدنى من الإسلام ، وعلى ضرورة التعايش معهم ، وأن الواجب أن نخشى على أنفسنا من أنفسنا لا من الغرب ولا من الحكومات المرتدة الكافرة ، وليس لدينا أدنى مشكلة في التعايش مع اليهود والنصارى ، ولا مع الأنظمة العميلة لهؤلاء ، ولكن المشكلة عند الغرب ، وعند الأنظمة المرتدة في التعايش معنا
وخلط هؤلاء الغادرين ، بين سماحة الإسلام مع أهل الكتاب سماحة ضيقة جداً وبين اتخاذهم أولياء ، و تأجيل تطبيق أحكام الردة على المرتدين لعدم القدرة وبين محبتهم والتعايش معهم ، حيث لم تتضح لهم الرؤية الحقيقة لهذا الدين ، ولم يدركوا غوره بل ينقصهم الإيمان العميق بهذه العقيدة ، ولا يعون طبيعة المعركة التي بيننا وبين أعداء الله من شتى الملل ، والنحل حتى من بعض من ينسب نفسه للإسلام .(1/1)
لقد جنى هؤلاء المرتزقة على المسلمين ، عندما زعموا أن العداوة بين المسلمين واليهود و الأنظمة المرتدة الكافرة من أجل المصالح المادية والاجتماعية ، وأنه يجب علينا أن نحترم أديانهم المحرفة ، أو حرية الرأي للمرتدين ، وقرروا أن بيننا وبينهم أرضيات مشتركة والإسلام ركز على نقاط الاشتراك بيننا وبينهم ، لا على نقاط الاختلاف حيث لابد أن يقف المسلمون ، والنصارى ، والمرتدون في صف ، واحد ضد الإلحاد والظلم والاستبداد لأنهم أهل كتاب ، والمرتدون الأصل فيهم الإسلام ، وراحوا يفتشون عن النصوص التي تخدمهم ، وتخدم نحلتهم على حسب تصوراتهم الباهتة قائلين إن الله تعالى يقول :{وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} ويقول: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} ويقول : {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} و......و......و......و(1/2)
ونسوا أو تناسوا في المقابل أن الله تعالى يقول{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ}وقوله{وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ} وقوله {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}وقوله {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ } وقوله{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}وقوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} و......و....... إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث الدالة على وجوب منابذة هؤلاء ، وقتالهم حتى يؤمنوا ، وإن لم نستطع قتالهم ، فلا أقل من مفارقتهم و الهجرة عن ديارهم ديار الكفر والإلحاد .
و سذاجة أي سذاجة ، وغفلة أي غفلة ،أن نظن أن لنا وإياهم طريقاً واحداً نسلكه للتمكين للدين أمام الكفار والملحدين ، والمرتدين فهم جنس واحد إذا كانت المعركة مع المسلمين.(1/3)
إن هذه الحقائق الواعية يغفل عنها السذج ، أمثال المميعين لقضايا دينهم في هذا الزمان ، حين يفهمون أننا نستطيع أن نضع أيدينا في أيدي هؤلاء ، للوقوف في وجه الإلحاد ، والمادية ،بوصفنا جميعاً أهل دين ، وتحت سماء واحدة ، ناسين تعاليم قراننا وديننا ، ومتجاهلين التاريخ ، فهؤلاء الجنس هم الذين ألبوا المشركين على المؤمنين في مكة و المدينة ، منذ بزوغ شمس الدعوة وإشراقها على المعمورة في ذلك الوقت وهذا الوقت وفي كل وقت ، وهم الذين شنوا الحروب الصليبية على المسلمين أكثر من مائتي عام ، وهم الذين ارتكبوا فظائع الأندلس ، وهم الذين شردوا المسلمين من فلسطين ، وأحلوا اليهود محلهم ، متعاونين في هذا مع الإلحاد والمادية ، وهم الذين يشردون المسلمين الآن من الحبشة والصومال والجزائر وأرتيريا ، و يوغسلافيا ، والصين و تركستان ، والهند وكشمير والفليبين ، وفي كل مكان ، وهم الذين ينزلون الآن بكل ثقلهم العسكري على الشيشان والآن يفتلون خيوط المؤامرة على حركة طالبان ، ليس لهم سواعد في هذا سوي الأنظمة العميلة ، ثم يظهر من يقول لنا بأنه يمكن التعايش معهم والاعتراف بهم ، وبردتهم وأديانهم المحرفة .
إن الذين يزعمون ذلك لا يقرؤون القرآن ، وإذا قرءوه لا يفهمونه ، وإذا فهموه اختلط عليهم ، لأن الإسلام لا يعيش في أعماقهم ، ولا في حسهم ، لا بوصفه عقيدة لا يقبل الله من الناس غيرها ، ولا بوصفه ديناً يجب أن يلغي أي دينٍ سواه.(1/4)
إن المعركة مع هؤلاء الكفرة ، والملاحدة ، وغيرهم ، معركة سببها الدين والاعتقاد ، لا بسبب الأرض وضيقها ، ولا اللغة و تأثيرها ، ولا التسلح العسكري وكثرته ، ولا الاقتصاد وانفتاحه ، ولا التكنولوجيا الصناعية وحداثتها ، ولا التقدم التقني ومهارته ، ولا غير ذلك من الرايات المزيفة التي ترفع في كل حين ثم تُخفض ولا حتى من أجل عداوتهم لنا1، إنما هي حرب العقيدة ، والدين ، كما هم يحاربوننا من هذا المنطلق ، لذا فلا يمكن أن نلتقي معهم ما بل بحر صوفة ، وما أشرقت شمس على ثبير ، وما حن بفلاة بعير ، بل الواجب جهادهم وقتالهم بكل ما أوتينا من قوة ، وإن لم نستطع فهجرهم والهجرة عنهم ، وعن بلادهم ، ونشر الوعي بين المؤمنين ، وهذا من أهم ما يمكن أن يقوم به المسلم تجاه دينه ، و ما هذه السطور المختصرة إلا دندنة حول هذه المسألة ، ونشرٌ للوعي فيها ، فإن حكم الهجرة من دار الكفر ، و دار الحرب إلى دار الإسلام ، هي من أوائل الخطى على هذا الطريق ، طريق المفاصلة بين المؤمنين وطواغيت الأرض ، طريق الدعوة إلى الله ، طريق الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً ، ولعل هذه السطور وما تحمله كلماتها تكون مشعلاً على طريق الوعي المنشود ، للنهوض بأمتنا من هذا الواقع الأغبر النكد .حيث هي الآن في موقف لا تحسد عليه ، تماماً مثل الأشقر إن تقدم نحر وإن تأخر عقر .
فللهجرة لها مقصودان ؛ الفرار من الفتنة ، وخوف المفسدة الشركية ، لأن كثرة المساس تميت الإحساس ، بل قد يألف المسلم منظر الكفر نسأل الله السلامة منه وشره ، و يتلاشى كرهه لأهله ، ويصبح ذا غيرة نخرة على الإسلام وأهله ؛ والثاني : مجاهدة أعداء الله ، والتحيز إلى أهل الإسلام ، ونصرتهم ، والعمل على وحدة الصف والتفرغ للدعوة ونشر الدين ، الذي أمرنا الله بنشره ، وتبليغه للناس . وقد أشار الشيخ عبد اللطيف بن عبدالرحمن إلى ذلك في رسالته على الإخوان .(1/5)
وقبل بيان ذلك لابد من بيان ما المقصود بدار الحرب ، ودار الإسلام وأنواع الدور.
أولاً : المقصود بالدار
تطلق الدار علي معنيين اثنين عام وخاص :
فالخاص : هي ما يعبر عنه الفقهاء بقولهم : هي اسم لساحة أدير عليها الحدود تشتمل على بيوت وإصطبل وصحن غير مسقف وعلو , فيجمع فيها بين الصحن للاسترواح ومنافع الأبنية للإسكان . كما في رد المحتار على الدر المختار .
والمعنى العام للدار : المحل . ويجمع العرصة والبناء , وتطلق أيضا على البلدة . وقال صاحب معجم اللغة : الدار المسكن يجمع البناء وما حوله قال تعالى :{ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْداً مَفْعُولاً } (الاسراء:5) وقال تعالى{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ } (البقرة:243) من هنا نستطيع أن نقول : المقصود بالدار المدينة ، أو البلد ، أو الدولة ، أو حتى القرية ، المهم أنه تجمع بشرى يسكن أي جهة من الأرض قام على نظام يحتكم إليه في جميع شئونه ، وهذا النظام شرعي كان أو وضعي . ويمكن أن نقول الدار : هي البلاد ، وما تشمله من أقاليم داخلة تحت حكمها .
…وفي الوقت الحاضر ، والعرف السائد ، الدار هي الدولة :
وهي مجموعة الإيالات ( السياسات ) تجتمع ; لتحقيق السيادة على أقاليم معينة لها حدودها , ومستوطنوها , فيكون الحاكم ، أو الخليفة , أو أمير المؤمنين , على رأس هذه السلطات . وهذا هو المقصود باستعمال مصطلح " دولة " عند من استعمله من فقهاء السياسة الشرعية ، أو الأحكام السلطانية . ونتيجة لذلك يمكن القول أن الدولة تقوم على ثلاثة أركان : الدار , والرعية , والمنعة.(1/6)
وتتألف الدولة من مجموعة من النظم والولايات بحيث تؤدي كل ولاية منها وظيفة خاصة من وظائف الدولة , وتعمل مجتمعة لتحقيق مقصد عام , وهو رعاية مصالح المسلمين الدينية والدنيوية . يقول الماوردي في كتابه الأحكام السلطانية : الإمامة موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا ، والإمام هو من تصدر عنه جميع الولايات في الدولة أ. هـ ويقول ابن تيمية في كتابه السياسة الشرعية: فالمقصود الواجب بالولايات ، إصلاح دين الخلق الذي متى فاتهم خسروا خسرانا مبينا ولم ينفعهم ما نعموا به في الدنيا , وإصلاح ما لا يقوم الدين إلا به من أمر دنياهم أ. هـ ويقول ابن الأزرق في كتابه بدائع السلك : إن حقيقة هذا الوجوب الشرعي - يعني وجوب نصب الإمام - راجعة إلى النيابة عن الشارع في حفظ الدين وسياسة الدنيا به وسمي باعتبار هذه النيابة خلافة وإمامة , وذلك لأن الدين هو المقصود في إيجاد الخلق لا الدنيا فقط أ. هـ من أراد المزيد فليرجع إلى الموسوعة الفقهية ج21ص36
ثانياً : أنواع الدور :
1- دار الإسلام هي : كل بقعة تكون فيها أحكام الإسلام ظاهرة . وقال الشافعي : هي كل أرض تظهر فيها أحكام الإسلام وقال غيره : ولم تظهر فيها خصلة كفرية من تكذيب نبي أو كتاب من أي كتب الله أو استخفاف أو إلحاد . وقيل : كل دار ظهرت فيها دعوة الإسلام من أهله بلا خفير , ولا مجير , ولا بذل جزية , وقد نفذ فيها حكم المسلمين على أهل الذمة إن كان فيهم ذمي , ولم يقهر أهل البدعة فيها أهل السنة وقيل : كل أرض سكنها مسلمون وإن كان معهم فيها غيرهم , أو تظهر فيها أحكام الإسلام.
فالدار المسلمة : هي البلاد الإسلامية وما تشمله من أقاليم داخلة تحت حكم المسلمين . والرعية هم المقيمون في حدود الدولة من المسلمين وأهل الذمة . والسيادة هي ظهور حكم الإسلام ونفاذه .(1/7)
2- دار الكفر هي : كل بقعة تكون فيها أحكام الكفر ظاهرة وليس بينها وبين المسلمين حرب ، وفي حكمها دار المحاربين وقت الهدنة فكل دار حرب دار كفر لا العكس .
3- دار مركبة هي : التي فيها المعنيان ، ليست بمنزلة دار السلم التي يجري عليها أحكام الإسلام , لكون جندها مسلمين , ولا بمنزلة دار الحرب التي أهلها كفار , بل هي قسم ثالث يعامل المسلم فيها بما يستحقه ويقاتل الخارج عن شريعة الإسلام بما يستحقه . كما ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى الكبرى ج4ص331والفتاوىج28ص142
4- دار الحرب هي : كل بقعة تكون فيها الحرب بين المؤمنين والكافرين ، فدار الحرب هي دار الكفار الذين بينهم والمسلمين الحرب.
5- دار العهد وتسمى دار الموادعة ودار الصلح وهي : كل ناحية صالح المسلمون أهلها بترك القتال على أن تكون الأرض لأهلها .
6- دار البغي هي: ناحية من دار الإسلام تحيز إليها مجموعة من المسلمين لهم شوكة خرجت على طاعة الإمام بتأويل .
والمرجع في تعاريف الدور السابقة ، جميع كتب الفقه ، حيث هي مبثوثة فيها ، فبعض المذاهب تذكر ثلاثة أنواع ، وبعضها تذكر أربعة أنواع وهكذا ، فمن أراد المزيد فليرجع إلى عموم كتب الفقه ، دون تحديد لأي كتاب ، وذلك لشهرة هذه التعاريف .
إذاً المقصود بدار الإسلام هي البلد التي تظهر و تجري فيها أحكام المسلمين أو كل أرض سكنها مسلمون وإن كان معهم فيها غيرهم , أو تظهر فيها أحكام الإسلام أو هي البلاد الإسلامية وما تشمله من أقاليم داخلة تحت حكم المسلمين . والرعية هم المقيمون في حدود الدولة من المسلمين وأهل الذمة . والسيادة هي ظهور حكم الإسلام ونفاذه .
وخلافها دار الكفر التي تظهر فيها أحكام الكافرين .2وفي حكمها دار المحاربين وقت الهدنة فكل دار حرب دار كفر لا العكس .
ثالثاً : تعريف الهجرة في اللغة والشرع أو الاصطلاح(1/8)
جاء في لسان العرب لابن منظور ، وتاج العروس للزبيدي مادة (هجر) الهجرضد الوصل هجره يهجره هجرا ، وهجرانا صرمه ، وهما يهتجران ، و يتهاجران والاسم الهجرة وفي الحديث (لا هجرة بعد ثلاث )3
وأما تعريفها في الشرع ، أو الاصطلاح ، فباختصار شديد : هي الخروج من دار الحرب إلى دار الإسلام . كما قال ابن العربي رحمه الله في أحكام القرآن وقال ابن قدامة في المغني : هي الخروج من دار الكفر إلى دار الإسلام . وقال الشيخ سعد بن عتيق رحمه الله - في الدرر السنية - هي : الانتقال من مواضع الشرك والمعاصي إلى بلد الإسلام والطاعة .
رابعاً : حكم الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام
لقد اختلف أهل العلم عليهم رحمة الله تعالى ،في مسألة أصل الهجرة ، هل هي باقية ؟ أم أنها نسخت ؟ على قولين اثنين لا ثالث لهما ، وهذا الخلاف ناتج عن تباين العلماء في فهم الأدلة وإدراك معانيها .(1/9)
فالقول الأول : من يرى النسخ ، وأن أصل الهجرة و حكمها قد انقطع وهم جل علماء الحنفية ، فهذا الجصاص يقرر ذلك في كتابه أحكام القرآن ويقول عند قوله تعالى : { فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ } يعني والله أعلم : حتى يسلموا ويهاجروا ; لأن الهجرة بعد الإسلام , وأنهم وإن أسلموا لم تكن بيننا وبينهم موالاة إلا بعد الهجرة , وهو كقوله تعالى : { مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا } وهذا في حال ما كانت الهجرة فرضا ; وقال النبي صلى الله عليه وسلم : { أنا بريء من كل مسلم أقام بين أظهر المشركين , وأنا بريء من كل مسلم أقام مع مشرك قيل : ولم يا رسول الله ؟ قال : لا تراءى ناراهما} . فكانت الهجرة فرضا إلى أن فتحت مكة فنسخ فرض الهجرة . حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا عثمان بن أبي شيبة قال : حدثنا جرير عن منصور عن مجاهد عن طاووس عن ابن عباس رضى الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة : { لا هجرة ولكن جهاد ونية وإذا استنفرتم فانفروا} . حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا مؤمل بن الفضل قال : حدثنا الوليد عن الأوزاعي عن الزهري عن عطاء بن يزيد عن أبي سعيد الخدري (: {أن أعرابيا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الهجرة , فقال : ويحك إن شأن الهجرة شديد فهل لك من إبل ؟ قال : نعم قال : فهل تؤدي صدقتها ؟ قال : نعم , قال : فاعمل من وراء البحار فإن الله لن يترك من عملك شيئا } فأباح النبي صلى الله عليه وسلم ترك الهجرة . وحدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا مسدد قال : حدثنا يحيى عن إسماعيل بن أبي خالد قال : حدثنا عامر قال : أتى رجل عبد الله بن عمرو فقال : أخبرني بشيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : { المسلم من سلم(1/10)
المسلمون من لسانه ويده , والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه } .
وهذا أيضاً ابن عابدين ،صاحب رد المحتار على الدر المختار يقول : وأما قول العتابي : أن من أسلم ولم يهاجر إلينا ، لا يرث من المسلم الأصلي في دارنا ، ولا المسلم الأصلي ممن أسلم ، ولم يهاجر إلينا ، سواء كان في دار الحرب مستأمنا أو لم يكن فمدفوع بقول بعض علمائنا : يخايل لي أن هذا كان في ابتداء الإسلام , حين كانت الهجرة فريضة ألا ترى أن الله تعالى نفى الولاية بين من هاجر , ومن لم يهاجر فقال :
{ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا }فلما كانت الولاية بينهما منتفية كان الميراث منتفيا , لأن الميراث على الولاية ، فأما اليوم فينبغي أن يرث أحدهما من الآخر ، لأن حكم الهجرة قد نسخ بقوله صلى الله عليه وسلم { لا هجرة بعد الفتح }4 ا هـ
وقالوا في مواضع كثيرة غير المصدرين السابقين قد انقطعت الهجرة ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { لا هجرة بعد الفتح } . وقال : { قد انقطعت الهجرة ولكن جهاد ونية } . وروي { أن صفوان بن أمية لما أسلم , قيل له : لا دين لمن لم يهاجر . فأتى المدينة , فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : ما جاء بك أبا وهب ؟ قال : قيل إنه لا دين لمن لم يهاجر . قال : ارجع أبا وهب إلى أباطح مكة , أقروا على مساكنكم , فقد انقطعت الهجرة , ولكن جهاد ونية }5
…
والقول الثاني : للجمهور وبعض من ند عن رأي الحنفية مثل الحسن حيث يرى أن حكم الآية ثابت في كل من أقام في دار الحرب ، فرأى فرض الهجرة إلى دار الإسلام قائما،ونقل عنه ذلك الجصاص ، وخالفه الرأي.(1/11)
وممن يرى هذا الرأي على سبيل المثال لا الحصر ، الخطابي ، و الطيبي والنووي،و الحافظ بن حجر ، وابن قدامة ، و ابن العربي ، وابن تيمية ، وتلميذه ابن القيم والشوكاني من بعدهم ، ينقل عنهم ويرجح ذلك ، وأئمة الدعوة السلفية بدءاً بالمجدد محمد بن عبد الوهاب ، ونهاية بالعلامة محمد بن ابراهيم6 .
وفي ذلك يقول ابن العربي في أحكام القرآن : الهجرة هي الخروج من دار الحرب إلى دار الإسلام وكانت فرضا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، واستمرت بعده لمن خاف على نفسه ، والتي انقطعت بالأصالة هي القصد إلى النبي صلى الله عليه وسلم حيث كان وقوله ( ولكن جهاد ونية ) قال الطيبي وغيره : هذا الاستدراك يقتضي مخالفة حكم ما بعده ، لما قبله ، والمعنى أن الهجرة التي هي مفارقة الوطن التي كانت مطلوبة على الأعيان إلى المدينة قد انقطعت ، إلا أن المفارقة بسبب الجهاد باقية وكذلك المفارقة بسبب نية صالحة ،كالفرار من دار الكفر ، والخروج في طلب العلم والفرار من الفتن والنية في جميع ذلك معتبرة .
وقال النووي : المعنى أن الخير الذي انقطع بانقطاع الهجرة يمكن تحصيله بالجهاد والنية الصالحة .(1/12)
وقال ابن قدامة في المغني رداً على من يرى النسخ : ولنا ما روى معاوية ( قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : { لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها } . رواه أبو داود . وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه , قال : { لا تنقطع الهجرة ما كان الجهاد } . رواه سعيد , وغيره , مع إطلاق الآيات ، والأخبار الدالة عليها , وتحقق المعنى المقتضي لها في كل زمان . وأما الأحاديث الأول , فأراد بها لا هجرة بعد الفتح من بلد قد فتح . وقوله لصفوان : " إن الهجرة قد انقطعت " . يعني من مكة ; لأن الهجرة الخروج من بلد الكفار , فإذا فتح لم يبق بلد الكفار , فلا تبقى منه هجرة . وهكذا كل بلد فتح لا يبقى منه هجرة , وإنما الهجرة إليه .
هذا باختصار شديد للمسألة ، والناظر بعين الاعتبار ، والبصيرة يجد أن قول الجمهور بعدم النسخ ، وأن الحكم ثابت هو الراجح لأن إعمال الدليلين أولى من إهمال أحدهما ، والنسخ لا يصار إليه إلا إذا تعذر الجمع بين الأدلة والجمع حاصل ولله الحمد حيث أجاب الجمهور على اعتراضات من يرى النسخ . والله أعلم
ويبقى أن نعلم أن الذين قالوا ببقاء حكم الهجرة ، وأنه ثابت،قد اختلفوا هل هو على الوجوب ، أم على الاستحباب والندب ، ولو أردت استقصاء أقوال أهل العلم في ذلك لطال البحث ، وتشتت القارئ ولكن باجتهاد مني أوجز الأمر ، بأن مسألة الهجرة لا نستطيع أن نقول بإيجابها على الإطلاق ، ولا بندبها أو إباحتها على الإطلاق كذلك ، ولكن التفصيل بحسب حال وواقع المهاجر ، وحال وواقع البلد المهَاجِرِ منها والمهَاجَرِ إليها وعلى فرض أنه سيهاجر من بلد كفر إلى بلد إسلام ، أو من بلد فساد إلى بلد صلاح،فلا يخلوا حال هذا المقيم بدار الكفر، ويريد الهجرة إلى دار الإسلام من حالات أربع ، أذكرها في خامساً .
خامساً : حالات المهاجر الأربع وأحكامها(1/13)
1- أن لا يستطيع إظهار دينه في دار الكفر ، ويمكنه الهجرة.
2- أن لا يستطيع إظهار دينه في دار الكفر ، ولا يمكنه الهجرة.
3- أن يستطيع إظهار دينه في دار الكفر ، ولا يمكنه الهجرة إن أراد.
4- أن يستطيع إظهار دينه في دار الكفر ، و يمكنه الهجرة إن أراد.
فالبنسبة للحالة الأولى : أن لا يستطيع إظهار دينه في دار الكفر ، ويمكنه الهجرة فقد اتفق أهل العلم اتفاقاً أشبه بالإجماع7 على أن الهجرة في هذه الحالة واجبة ومن لم يهاجر فإن الوعيد ينتظره ولذا كانت براءة الرسول (منه ، بل إن كانت أنثى لا تجد محرما وكانت تأمن على نفسها في الطريق أو كان خوف الطريق أقل من خوف المقام في دار الحرب8 . وجبة عليها الهجرة ، لقوله تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً } (النساء:97)
وفي الآية وعيد شديد , والوعيد الشديد لا يكون إلا في ارتكاب المحرم وترك الواجب . ولحديث : { أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين لا تتراءى ناراهما }9 وحديث : { لا تنقطع الهجرة ما دام العدو يقاتل }10 أما حديث : { لا هجرة بعد الفتح }11 فمعناه لا هجرة من مكة بعد فتحها , لصيرورة مكة دار إسلام إلى يوم القيامة ، وهذا هو رأي الجمهور من أهل العلم في معنى الحديث ،إلا ما ندر منهم ولذا قال الصنعاني في سبل السلام :(1/14)
[ والحديث12 دليل على وجوب الهجرة من ديار المشركين من غير مكة وهو مذهب الجمهور لحديث جرير ولما أخرجه النسائي من طريق بهز بن حكيم عن أبيه عن جده مرفوعا { لا يقبل الله من مشرك عملا بعدما أسلم أو يفارق المشركين } ولعموم قوله تعالى :{إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً } (النساء:97) الآية وذهب الأقل إلى أنها لا تجب الهجرة وأن الأحاديث منسوخة للحديث الآتي وهو حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية } متفق عليه ، قالوا فإنه عام ناسخ لوجود الهجرة الدال عليه ما سبق وبأنه صلى الله عليه وسلم لم يأمر من أسلم من العرب بالمهاجرة إليه , ولم ينكر عليهم مقامهم ببلدهم ولأنه صلى الله عليه وسلم كان إذا بعث سرية قال لأميرهم : {إذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خلال , فأيتهن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم , ثم ادعهم إلى التحول عن دارهم إلى دار المهاجرين , وأعلمهم أنهم إن فعلوا ذلك أن لهم ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين , فإن أبوا واختاروا دارهم فأعلمهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين يجري عليهم حكم الله تعالى الذي يجري على المؤمنين } الحديث سيأتي بطوله13 فلم يوجب عليهم الهجرة والأحاديث غير حديث ابن عباس محمولة على من لا يأمن على دينه قالوا : وفي هذا جمع بين الأحاديث .
وأجاب من أوجب الهجرة بأن حديث لا هجرة يراد به نفيها عن مكة كما يدل له قوله بعد الفتح فإن الهجرة كانت واجبة من مكة قبله .......... ]
وقال الشافعي في أحكام القرآن :(1/15)
[ وفرض رسول الله ( على من قدر على الهجرة , الخروج إذا كان ممن يفتتن عن دينه ولا يمنع . فقال في رجل منهم توفي : تخلف عن الهجرة , فلم يهاجر {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً } (النساء:97) وأبان الله ( عز وجل ) عذر المستضعفين فقال : {إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً} ويقال : ( عسى ) من الله : واجبة . ودلت سنة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) على أن فرض الهجرة على من أطاقها , إنما هو على من فتن عن دينه بالبلدة التي يسلم بها . لأن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أذن لقوم بمكة أن يقيموا بها , بعد إسلامهم منهم : العباس بن عبد المطلب , وغيره إذ لم يخافوا الفتنة . وكان يأمر جيوشه أن يقولوا لمن أسلم إن هاجرتم فلكم ما للمهاجرين وإن أقمتم فأنتم كأعراب المسلمين وليس يخيرهم ].
…وقال صاحب نيل الأوطار تحت مسألة ( مساكنة الكفار ) :(1/16)
[ وقال ابن العربي : الهجرة هي الخروج من دار الحرب إلى دار الإسلام , وكانت فرضا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم واستمرت بعده لمن خاف على نفسه والتي انقطعت أصلا هي القصد إلى حيث كان . وقد حكى في البحر14 أن الهجرة عن دار الكفر واجبة إجماعا حيث حمل على معصية فعل أو ترك أو طلبها الإمام بقوته لسلطانه . وقد ذهب جعفر بن مبشر وبعض الهادوية15 إلى وجوب الهجرة عن دار الفسق قياسا على دار الكفر , وهو قياس مع الفارق . والحق عدم وجوبها من دار الفسق لأنها دار إسلام وإلحاق دار الإسلام بدار الكفر بمجرد وقوع المعاصي فيها على وجه الظهور ليس بمناسب لعلم الرواية ولا لعلم الدراية , وللفقهاء في تفاصيل الدور والأعذار المسوغة لترك الهجرة مباحث ليس هذا محل بسطها ].
…من هذه الأقوال المستندة للأدلة الشرعية يتضح لنا وجوب الهجرة في مثل هذه الحالة وجوباً عينياً لا مرية فيه ألبتة .
…
الحالة الثانية : أن لا يستطيع إظهار دينه في دار الكفر ، ولا يمكنه الهجرة .
فقد اتفق أهل العلم أيضاً في مثل هذه الحالة على عدم الهجرة ولا يعلم في ذلك مخالف لقوله تعالى{إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً} وعدم الاستطاعة هنا إما أن تكون لمرض , أو إكراه على الإقامة في دار الكفر أو ضعف كالنساء , والولدان . أو غير ذلك من أنواع العجز المسقط لحكم وجوب الهجرة .(1/17)
قال ابن قدامة في المغني : [ الثاني ; من لا هجرة عليه . وهو من يعجز عنها إما لمرض , أو إكراه على الإقامة , أو ضعف ; من النساء والولدان وشبههم , فهذا لا هجرة عليه ; لقول الله تعالى : {إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً} ] لذا قال الشافعي في الأم ، وأحكام القرآن : [ فعذر الله ( عز وجل ) من لم يقدر على الهجرة من المفتونين . فقال : {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (النحل:106) وبعث إليهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أن الله ( عز وجل ) جعل لكم مخرجا...........وأبان الله ( عز وجل ) عذر المستضعفين , فقال :{إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً}الآية قال : ويقال : ( عسى ) من الله : واجبة . ودلت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن فرض الهجرة على من أطاقها , إنما هو على من فتن عن دينه , بالبلدة التي يسلم بها . لأن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أذن لقوم بمكة أن يقيموا بها , بعد إسلامهم منهم : العباس بن عبد المطلب , وغيره إذ لم يخافوا الفتنة . وكان يأمر جيوشه أن يقولوا لمن أسلم إن هاجرتم فلكم ما للمهاجرين وإن أقمتم فأنتم كأعراب المسلمين وليس يخيرهم ]
وقال ابن تيمية في الفتاوىج18 :
[فإن هذه الهجرة كانت مشروعة لما كانت مكة وغيرها دار كفر وحرب وكان الإيمان بالمدينة فكانت الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام واجبه لمن قدر عليها ] ونصوص العلماء في هذا كثيرة جداً ومشهورة شهرة تغني عن ذكرها .(1/18)
…نخلص من هذه الحالة ، أن الهجرة لا تجب فيها ، ولكن يجب أن يبقى المؤمن في حالة تأهب ، وتحفز ، واستعداد للتخلص من البقاء في هذه الدار ، ويتحين فرصة للهرب ، والنجاة بدينه ، ولا يغفل عن ذلك طرفة عين .
الحالة الثالثة : أن يستطيع إظهار دينه في دار الكفر ، ولا يمكنه الهجرة إن أراد .
وهذه لا تختلف عن الحالة الثانية إلا في مسالة إظهار الدين فهنا يمكنه إظهار دينه وهناك لا يمكنه فإن قلنا في الحال الثانية لا تجب عليه الهجرة ويجوز له البقاء إلى أن يجعل الله له مخرجا ، فمن باب أولى في هذه الحالة . ولكن ينبغي في كلى الحالين أن يتحين وينتهز الفرصة ويحاول ويبذل جهده ويستفرغ وسعه في الهروب والهجرة من هذه الدار.
الحالة الربعة : أن يستطيع إظهار دينه في دار الكفر ، و يمكنه الهجرة إن أراد .
وهنا مربط الفرس ، بل الصيد كل الصيد في جوف الفرى ، حيث اختلف أهل العلم في ذلك فمنهم من لا يرى الهجرة ن بل حرمها بعض الشافعية ن كما سيأتي معنا خصوصاً إن كان يستطيع أن يعبد الله ويدع الناس إلى الإسلام . ومن أهل العلم من رأى وجوب الهجرة ومن لم يفعل فهو آثم .
…وقبل الدخول في أدلة الفريقين وقبل الترجيح ينبغي أن يعرف أن الهجرة تكون على عدة أحوال ، فمن دار الكفر إلى دار الإسلام ومن بلد البدعة إلى بلد السنة ومن بلد الفسق إلى بلد الصلاح ومن بلد غالبها أحكامها الإسلام إلى بلد كل أحكامها الإسلام ويختلف حكم الهجرة باختلاف الأحوال السالفة .(1/19)
والحال التي أريد الحديث عنها ، وذكر الخلاف فيها والأدلة ثم الترجيح ، ليست الهجرة المستحبة ، أو المندوبة ، التي تكون من بلد بدعة إلى ما ليس فيه بدعة ، أو من بلد فسق وعصيان إلى بلد ليست كذلك ، وإنما من دار كفر إلى دار إسلام وبمعنى أوضح من بلد أهلها مسلمون والحكم فيها مرتد ، ولي أن أقول :بلد أهلها مسلمون وغالب الأحكام الظاهرة التي يحكمون فيها الإسلام ، والكفر بواح عند طلبة العلم ومن في حكمهم، لكن يجهله الناس من تلبيس العلماء وغيرهم ومن الجهل في دين الله تعالى ، وبيان ذلك بالمثال التالي :
فمثلاً لو أخذنا أحد البلدان العربية ، الشعب كله مسلم ، بل المساجد تغص بهم ويشهدون الجمع والجماعات ، وصوت الأذان في كل وقت يملا الأجواء ، ولكن الحكام يحكمون هذا الشعب بالقوانين الوضعية ، المسماة زوراً وبهتاناً إسلامية ، أو مستمدة من الإسلام كما يزعمون ، المحاكم كذلك وضعية ، و مناهج التعليم معلمنة وإعلان كره الكافرين والتبري منهم ، ومن دينهم جريمة يمنع النظام منها ، والجهاد معطل ، ويعاقب من يضبط أنه جاهد يوماً من الأيام ، ومولاة للكافرين ونصرتهم على المسلمين و.... و.... و.... مما يعجز اللسان عن وصفه ، ومما يزيد الطين بلة وضغثاً على إبالة ، أن ويقوم ثلة وحثالة من علماء السلطة ينعقون صباح مساء ، قائلين : إن هؤلاء ولاة أمر يجب طاعتهم والسير خلف ركابهم ومن لم يسر فسوف يموت ميتة جاهلية !!!! هنا يأتي السؤال الكبير القائل ما حكم هذه الديار التي هذا وصفها ؟ وما حكم الهجرة من هذه الديار والحالة كذلك ، إذا لم يستطع المسلم إظهار دينه في هذه الديار ؟ .(1/20)
والجواب : لا شك أن حكم هذه الدار ليست مسلمة ، وإنما ديار كفر ، أو دار مركبة كما ، قال ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية ،عن بلد ماردين ،كما مر معنا قبل قليل وإن كنت أميل إلى رأي شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله حيث ، إن هذه الدار حصلت في عهده فكان وضهعا وضع النوازل ، فاجتهد رحمه الله في استحداث هذا الوصف لمثل هذه الدار ، وعلى كلٍ فإن الخلاف لفظي لو ما نظرنا إلى حكم الهجرة من هذه الدار إذ إن من يقول أنها دار كفر أو يقول إنها دار مركبة يتفقون على القول بوجوب الهجرة على من لم يستطع إظهار دينه ، وما خالف في ذلك إلا نزر يسير من الحنفية كم سيأتي الآن :في سادساً .
سادساً : القول الأول في الحالة الرابعة والأدلة
القول الأول : القائلين بعدم وجوب الهجرة في مثل هذه الحالة حيث عذرنا الله تعالى في ذلك فيبقى الأمر على الاستحباب . وهذا المشهور من مذهب الحنفية ، ما عدا الحسن
الأدلة
الدليل الأول : قال الحنفية : لا تجب الهجرة من دار الحرب لخبر : ( لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية )16وفي رواية ( قد انقطعت الهجرة ولكن جهاد ونية ) أما حديث : ( ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين )17 فمنسوخ بحديث :
( لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية ) متفق عليه ، قالوا فإنه عام ناسخ لوجود الهجرة الدال عليه ما سبق وبأنه صلى الله عليه وسلم لم يأمر من أسلم من العرب بالمهاجرة إليه , ولم ينكر عليهم مقامهم ببلدهم ( ولأنه صلى الله عليه وسلم كان إذا بعث سرية قال لأميرهم : إذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خلال فأيتهن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم , ثم ادعهم إلى التحول عن دارهم إلى دار المهاجرين , وأعلمهم أنهم إن فعلوا ذلك أن لهم ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين فإن أبوا واختاروا دارهم فأعلمهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين يجري عليهم حكم الله تعالى الذي يجري على المؤمنين ......... الحديث )18 فلم يوجب عليهم الهجرة .(1/21)
الدليل الثاني : ما روا ه لنا سعيد بن منصور في سننه وأصله في الصحيحين ، عن صفوان بن أمية ( لما أسلم ، قيل له لا دين لمن لم يهاجر . فأتى المدينة ، فقال النبي(( وما جاء بك أبا وهب ؟ ) قال : قيل : إنه لا دين لمن لم يهاجر . قال : ( ارجع أبا وهب إلى أباطح مكة ، أقِرُّوا على مساكنكم ، فقد انقطعت الهجر ولكن جهاد ونية )
الدليل الثالث : قالوا أيضاً حديث أبي داود حدثنا أبو داود ، عن أبي سعيد الخدري : { أن أعرابياً سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الهجرة , فقال : ويحك إن شأن الهجرة شديد فهل لك من إبل ؟ قال : نعم , قال : فهل تؤدي صدقتها ؟ قال : نعم , قال : فاعمل من وراء البحار فإن الله لن يترك من عملك شيئا } و وجه الدلالة أن الرسول( أباح ترك الهجرة .
الدليل الرابع : عند أبي داود أيضاً قال : أتى رجل عبد الله بن عمرو رضى الله عنهما فقال : أخبرني بشيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : { المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه } فالهجرة ترك المعاصي والذنوب .
الدليل الخامس : قالوا : الأحاديث غير حديث ابن عباس لا هجرة بعد الفتح والآمرة بالهجرة محمولة على من لا يأمن على دينه ، قالوا : وفي هذا جمع بين الأحاديث .
ويرى بعض الشافعية من يقدر على إظهار دينه في دار الحرب , ويقدر على الاعتزال في مكان خاص , والامتناع من الكفار , فهذا تحرم عليه الهجرة , لأن مكان اعتزاله صار دار إسلام بامتناعه , فيعود بهجرته إلى حوزة الكفار , وهو أمر لا يجوز لأن كل محل قدر أهله على الامتناع من الكفار صار دار إسلام .(1/22)
ومما يمكن أن يستشهد به لهم ما ورد في فتاوى شهاب الدين الرملي الشافعي ( سئل ) عن المسلمين الساكنين في وطن من الأوطان الأندلسية يسمى أرغون وهم تحت ذمة السلطان النصراني يأخذ منهم خراج الأرض بقدر ما يصيبونه فيها ولم يتعد عليهم بظلم غير ذلك لا في الأموال ولا في الأنفس ولهم جوامع يصلون فيها ويصومون رمضان ويتصدقون ويفكون الأسارى من أيدي النصارى إذا حلوا بأيديهم ويقيمون حدود الإسلام جهرا كما ينبغي ويظهرون قواعد الشريعة عيانا كما يجب ولا يتعرض لهم النصراني في شيء من أفعالهم الدينية ويدعون في خطبهم لسلاطين المسلمين من غير تعيين شخص ويطلبون من الله نصرهم وهلاك أعدائهم الكفار وهم مع ذلك يخافون أن يكونوا عاصين بإقامتهم ببلاد الكفر فهل تجب عليهم الهجرة . وهم على هذه الحالة من إظهار الدين نظرا إلى أنهم ليسوا على أمان أن يكلفوهم الارتداد والعياذ بالله تعالى أو على إجراء أحكامهم عليهم أو لا تجب نظرا إلى ما هم فيه من الحال المذكور , ثم إن رجلا من الوطن المذكور جاء إلى أداء فريضة الحج من غير إذن أبويه مخافة أن يمنعاه منه فأداها فهل حجه صحيح أو لا لإيقاعه بغير إذن أبويه وهل يجوز رجوعه إلى أبويه في الوطن المذكور ؟
( فأجاب )(1/23)
بأنه لا تجب الهجرة على هؤلاء المسلمين من وطنهم لقدرتهم على إظهار دينهم به ولأنه صلى الله عليه وسلم بعث عثمان يوم الحديبية إلى مكة لقدرته على إظهار دينه بها بل لا تجوز لهم الهجرة منه ; لأنه يرجى بإقامتهم به إسلام غيرهم ولأنه دار إسلام فلو هاجروا منه صار دار حرب وفيما ذكر في السؤال من إظهارهم أحكام الشريعة المطهرة وعدم تعرض الكفار لهم بسببها على تطاول السنين الكثيرة ما يفيد الظن الغالب بأنهم آمنون منهم من إكراههم على الارتداد عن الإسلام أو على إجراء أحكام الكفر عليهم { وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ } وأما خروج الرجل لحج الفرض بغير إذن أبويه فلا حرج عليه فيه إذ ليس لأبويه منعه من الحج الفرض لا ابتداء ولا إتماما كالصلاة والصوم ويجوز له بعد أداء نسكه رجوعه إلى أبويه بالوطن المذكور , وحجه صحيح معتد به في إسقاط الفرض .
…وقد يستشهد لهم أيضاً بما ورد في المغني لابن قدامة :(1/24)
قال : [ والثالث , من تستحب له , ولا تجب عليه . وهو من يقدر عليها , لكنه يتمكن من إظهار دينه , وإقامته في دار الكفر , فتستحب له , ليتمكن من جهادهم , وتكثير المسلمين , ومعونتهم , ويتخلص من تكثير الكفار , ومخالطتهم , ورؤية المنكر بينهم . ولا تجب عليه ; لإمكان إقامة واجب دينه بدون الهجرة . وقد كان العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم مقيما بمكة مع إسلامه . وروينا { أن نعيم النحام , حين أراد أن يهاجر , جاءه قومه بنو عدي , فقالوا له : أقم عندنا , وأنت على دينك , ونحن نمنعك ممن يريد أذاك , واكفنا ما كنت تكفينا . وكان يقوم بيتامى بني عدي ، وأراملهم فتخلف عن الهجرة مدة , ثم هاجر بعد , فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : قومك كانوا خيرا لك من قومي لي , قومي أخرجوني , وأرادوا قتلي , وقومك حفظوك ومنعوك . فقال : يا رسول الله : بل قومك أخرجوك إلى طاعة الله , وجهاد عدوه وقومي ثبطوني عن الهجرة وطاعة الله أو نحو هذا القول }] . الإصابة في تمييز الصحابة
وهناك علة تكمن وراء هذا الرأي وهي ما سطره ابن العربي في أحكام القرآن قال وقد كنت قلت لشيخنا الإمام الزاهد أبي بكر الفهري : ارحل عن أرض مصر إلى بلادك فيقول : لا أحب أن أدخل بلاداً غلب عليها كثرة الجهل , وقلة العقل , فأقول له : فارتحل إلى مكة أقم في جوار الله وجوار رسوله ; فقد علمت أن الخروج عن هذه الأرض فرض لما فيها من البدعة والحرام , فيقول : وعلى يدي فيها هدى كثير وإرشاد للخلق وتوحيد , وصد عن العقائد السيئة , ودعاء إلى الله عز وجل ....... وقال الماوردي : إذا قدر على إظهار الدين في بلد من بلاد الكفر فقد صارت البلد به دار إسلام فالإقامة فيها أفضل من الرحلة عنها لما يترجى من دخول غيره في الإسلام19 ......... وغير ذلك من الأدلة ، هذه أشهرها وأصحها وأبينها .
سابعاً : القول الثاني في الحالة الرابعة والأدلة(1/25)
القائلين بوجوب الهجرة ويأثم القادر عليها ولم يهاجر لأن الله لم يعذره. وهذا مذهب الجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة .
الأدلة
هي جميع أدلة الحال الأولى التي مرت معنا قبل قليل ص 15 إلى 17 مما يغني عن إعادتها من جديد فلتراجع هناك ، ولكن من باب التذكير اذكر أهمها : قوله تعالي : {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً } (النساء:97)
وقول الرسول( :
{ أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين لا تتراءى ناراهما }
وقوله عليه الصلاة والسلام :
{لا تنقطع الهجرة ما دام العدو يقاتل }
وقوله( :
في حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده مرفوعا { لا يقبل الله من مشرك عملا بعدما أسلم أو يفارق المشركين }
وأجابوا عن أي حديث ينفي الهجرة مثل : { لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية } وحديث { إن الهجرة قد انقطعت } وغيره مما تقدم ذكره ، بقولهم : إن معناه لا هجرة من مكة بعد فتحها , لصيرورة مكة دار إسلام إلى يوم القيامة وقوله لصفوان( {إن الهجرة قد انقطعت } . يعني من مكة ; لأن الهجرة الخروج من بلد الكفار , فإذا فتح لم يبقى بلد الكفار , فلا تبقى منه هجرة . وهكذا كل بلد فتح لا يبقى منه هجرة , وإنما الهجرة إليه.
ثامناً :الراجح(1/26)
إن المتأمل للقولين يجد أن أدلة القول الثاني صحيحة صريحة ، ولا تحتاج إلى تأويل في دلالتها لذا فإني أقول : الراجح هو القول الثاني ، حيث إن أقوى ما استدل به المخالف هو قول الرسول( ( لا هجرة بعد الفتح ) وأن هذا الحديث ناسخ لحكم الهجرة وكذا قوله لصفوان : " إن الهجرة قد انقطعت "20 وهذا لا يعني نسخ حكم الهجرة إذ معناه كما قال ابن العربي و : لا هجرة من مكة بعد فتحها , لصيرورة مكة دار إسلام إلى يوم القيامة فأراد بها لا هجرة بعد الفتح من بلد قد فتح . وقوله لصفوان : " إن الهجرة قد انقطعت " . يعني من مكة ; لأن الهجرة الخروج من بلد الكفار , فإذا فتح لم يبق بلد الكفار , فلا تبقى منه هجرة . وهكذا كل بلد فتح لا يبقى منه هجرة وإنما الهجرة إليه أ.هـ .
وأم قول الرسول ( { المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه } فالهجرة ترك المعاصي والذنوب ، مثل ما قالوا ، وهذا المعنى لا ينفي هجرة البدن ، ولا تعارض بينهما ، بل من لوازم هجرة البدن ، هجرة المعاصي ومن لوازم ترك الهجرة ، والجلوس في بلد الكفر ، البقاء مع المعاصي جنباً إلى جنب وإن لم يفعلها ، فالحق أن يقال : الهجرة هجرتان ، هجرة معنوية ، وهجرة حسية وكلاهما مطلوب . والثانية متضمنة للأولى ولاشك .(1/27)
…والقاعدة تقول : [ إعمال الدليلين أولى من إهمال أحدهما ] ولا يصار إلى النسخ أبداً ، إلا إذا تعذر الجمع بين الدليلين ، لأن النسخ إبطال حكم وإلغائه وإهمال دلالته وهنا يقع الحرج حيث يرد حكم شرعي بلا مبرر ، وتخلى ذمة قد شغلت بحكمه إن لم يكن النسخ ثابت . وهذا الذي رجحته هو اختيار أئمة الدعوة السلفية قاطبة والمطالع للدر السنية ، والرسائل والمسائل النجدية ، ومجموعة مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب علم ذلك علم اليقين ، حتى شدد الشيخ عبدالرحمن بن حسن وقال : ذكر ابن حجر عن صاحب المعتمد : أن الهجرة كما تجب من بلاد الكفر ، تجب من بلاد الإسلام إذا أظهر المسلم بها واجباً ، ولم يقبل منه ، ولا قدر على إظهاره .
ثم أضاف الشيخ عبد الرحمن بن حسن وقال : وكذلك يجب على كل من كان ببلد يعمل فيها بالمعاصي ، ولا يمكنه تغييرها ، الهجرة إلى حيث تتهيأ له العبادة لقوله تعالى : { فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} ......... إلى آخر ما قال في الدرر السنية ج8ص291ط5 .
ومع هذا الرجحان للقول الثاني ، إلا أنه يجب على المسلم أن يعلم ما المقصود بإظهار الدين ، لذا أفردت له مبحثا مستقلاً مختصرا :
تاسعاً : المقصود بإظهار الدين(1/28)
يعتقد كثير من الناس أن المقصود من إظهار الدين هو أن تصلي ، وتصوم وتقرأ القرآن في الديار الكافرة ، أو الحربية ، ولا أحد يعترضك ، أو يؤذيك ، فإذا فعلت هذا فقد أظهرت دينك بينهم ، وهذا غلط فاحش وهوة سحيقة لا بد من ردمها حيث يقول جل ذكره :{قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} إذاً إظهار الدين يكون بإعلان الكفر بهذه الأنظمة ، والتصريح لهم بالعداوة ، وأن يعرف هؤلاء الكفرة ، والمرتدون كفرنا بهم ، وعداوتنا لهم ، وأن لو ظفرنا بهم ما تركناهم على ظهرها ، كما قال عمر رضي الله عنه عندما سأله رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ترى يا ابن الخطاب - يقصد رأيك في أسرى بدر - قال : قلت والله ما أرى ما رأى أبو بكر (، ولكني أرى أن تمكني من فلان قريب لعمر( فأضرب عنقه وتمكن عليا من عقيل فيضرب عنقه ، وتمكن حمزة من فلان أخيه فيضرب عنقه ، حتى يعلم الله أن ليس في قلوبنا هوادة للمشركين ، هؤلاء صناديدهم ، وأئمتهم ، وقادتهم ، فهوى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر( ولم يهوى ما قلت ، وأخذ منهم الفداء ، فلما كان من الغد قال عمر ( فغدوت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر ( وهما يبكيان ، فقلت : ما يبكيك أنت ، وصاحبك ،فإن وجدت بكاء بكيت ، وإن لم أجد بكاء تباكيت لبكائكما ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( للذي عرض على أصحابك من أخذهم الفداء لقد عرض علي عذابكم أدنى من هذه الشجرة(1/29)
........ )وأنزل الله عز وجل { ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض }إلى قوله { فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا } فأحل لهم الغنائم فلما كان يوم أحد من العام المقبل عوقبوا بما صدوا يوم بدر من أخذهم الفداء ، فقتل منهم سبعون وفر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وكسرت رباعيته ، وهشمت البيضة على رأسه ، وسال الدم على وجهه ، فأنزل الله {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} بأخذكم الفداء ورواه مسلم 1763 وأبو داود 2690 والترمذي21
وما أجمل ما سطره الطبري في تفسيره في هذا المعنى المذكور سلفاً حيث يقول :(1/30)
في هذه الآية:{قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} يقول تعالى ذكره للمؤمنين به من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد كان لكم أيها المؤمنون أسوة حسنة ، يقول : قدوة حسنة في إبراهيم خليل الرحمن تقتدون به ، والذين معه من أنبياء الله ، كما حدثني يونس قال أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قول الله عز وجل قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه قال الذين معه الأنبياء ، وقوله إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله يقول حين قالوا لقومهم الذين كفروا بالله وعبدوا الطاغوت أيها القوم إنا برآء منكم ومن الذين تعبدون من دون الله من الآلهة والأنداد ، وقوله : كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العدواة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده ، يقول جل ثناؤه مخبرا عن قيل أنبيائه لقومهم الكفرة كفرنا بكم ، أنكرنا ما كنتم عليه من الكفر بالله وجحدنا عبادتكم وما تعبدون من دون الله ، أن تكون حقا ، وظهر بيننا وبينكم العدواة والبغضاء أبدا على كفركم بالله وعبادتكم ما سواه ، ولا صلح بيننا ولا هوادة حتى تؤمنوا بالله وحده يقول حتى تصدقوا بالله وحده فتوحدوه وتفردوه بالعبادة ، وقوله إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك وما أملك لك من الله من شيء يقول تعالى ذكره قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه في هذه الأمور التي ذكرناها ، من مباينة الكفار ومعاداتهم وترك موالاتهم إلا(1/31)
في قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك فإنه لا أسوة لكم فيه . أ.هـ وقال ابن كثير رحمه الله : يقول تعالى لعباده المؤمنين الذين أمرهم بمصارمة الكافرين وعداوتهم ومجانبتهم والتبري منهم قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه أي وأتباعه الذين آمنوا معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم أي تبرأنا منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم أي بدينكم وطريقكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا يعني وقد شُرعت العداوة ، والبغضاء من الآن بيننا ، ما دمتم على كفركم فنحن أبدا نتبرأ منكم ونبغضكم حتى تؤمنوا بالله وحده أي إلى أن توحدوا الله فتعبدوه وحده لا شريك له وتخلعوا ما تعبدون معه من الأوثان والأنداد . أ.هـ
وفي الدرر السنية قال أبنا الشخ محمد بن عبد الوهاب : وإظهار الدين تكفيرهم وعيب دينهم ، والطعن عليهم ، والبراءة منهم ، والتحفظ من مودتهم والركون إليهم واعتزالهم ، وليس فعل الصلوات فقط إظهاراً للدين ، وقول القائل إنا نعتزلهم في الصلاة ولا نأكل ذبيحتهم حسن ، لكن لا يكفي في إظهار الدين وحده بل لا بد مما ذكر
وقال الشيخ حمد بن عتيق رحمه الله تعالى: والمراد التصريح باستمرار العداوة والبغضاء لمن لم يوحد ربه ، فمن حقق ذلك علماً وعملاً ، وصرح به حتى يعلمه منه أهل بلده ، لم تجب عليه الهجرة من أي بلد كان . وأما من لم يكن كذلك ، بل ظن أنه إذا ترك يصلي ويصوم ويحج ، سقطت عنه الهجرة ، فهذا جهل بالدين ، وغفول عن زبدة رسالة المرسلين ، فإن البلاد إذا كان الحكم فيها لأهل الباطل ، عباد القبور ، وشربة الخمور وأهل القمار ، فهم لا يرضون إلا بشعائر الشرك ، وأحكام الطواغيت ، وكل موطن يكون كذلك لا يشك من له أدنى ممارسة للكتاب والسنة ، أن أهله على غير ما كان عليه رسول الله( . الدرر ج السنية1ص413و418ط5(1/32)
ويبقى هنا أمر لم يتضح لي حتى الآن ألا وهو : هل يكفي في مسألة إعلان العداوة أن يعرف منك ذلك فقط ، لقوله تعالى {قَالُوا سَمِعْنَا فَتىً يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ} حتى ولو لم تتكلم بحضرتهم ، أو حضرة الذين يوصلون لهم الحديث ؟ أو لا بد من إعلان ذلك بصوت مرتفع ومسموع في كل مكان ؟ حيث المتأمل للنصوص السنة يجد الأمرين ، مع الاتفاق في أن الذي لا يُعرفُ عنه من قبل أعدائه ،و من قبل المؤمنين ، تبريه من الكافرين ، والمرتدين ودينهم ، أنه يجب عليه وجوباً حتمياً ، إظهار ذلك بأي طرق الإظهار التي تؤدي الغرض بأوضح صورة وأبينها وإلا فالهجرة فرض عليه مع القدرة ويأثم بتركها .
عاشراً : أسس على طريق الهجرة(1/33)
أولاً : ينبغي للمهاجر احتساب الأجر في الهجر وإخلاص النية لله تعالى ، وأنه هاجر نصرة لدينه وفراراً به من الفتن لا أنه سيجد مراغماً في الأرض وسعة لأن المقصود ليس الرزق فحسب حيث ينقل لنا ابن كثير في تفسير لسورة النساء عند قوله تعالى{وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً} يقول : قال قتادة رحمه الله في تفسير الآية:0إي والله ، من الضلالة إلى الهدى ، ومن القلة إلى الغنى22 أ.هـ إذاً الآية تعالج مخاوف النفس المتنوعة والمتوقعة وهي تواجه خطر الهجرة فلا يمنيها الأماني العذبة دون أن تنال المتاعب في سبيل الدعوة ، لهذا كانت تتمة الآية { وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً}إذاً هناك موت متوقع أيضاً ، قال الشيخ عبدالرحمن بن حسن في الدرر السنية : وإن كان الغالب على أهل الهجرة السلامة والعز ، والتمكين ، و النصر كما جرى لرسول الله( وأتباعه سلفاً وخلفاً ، وبها يحصل الجهاد ولا شك ، وتعلو كلمة الله ويعمل في الأرض بطاعة الله ومصالح الهجرة في الدنيا أكثر من أن تحصر ، كما قال تعالى {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} أ.هـ بتصرف يسير
لذا وجب التنبيه لكي لا يحصل مثلما حصل لكثير من المسلمين عندما دعوا في الجزائر أو المغرب من قبل إخوانهم على درب الجهاد للهجرة ، ووعدوا بالمراغم وسعة الرزق والعيش ، فلما لم يجدوا ذلك ، بل وجدوا ضيقاً أشد من الضيق الذي كانوا قد فروا منه لاكت ألسنتهم ألفاظاً يخشى عليهم من مغبتها ، حيث تشعر بسوء ظنهم بالله تعالى الله عن سوء الظن وغيره من النقائص علواً كبيراً .(1/34)
ثانياً : أن يتحقق من مسألة دار الكفر ، ودار الحرب ، وهنا لا ينبغي أن نوجب الهجرة على المسلمين في الدار التي لم يتبين حالها ( المركبة ) كبلد ماردين - إلا إذا لم يستطع المرء إظهار دينه فيها - حيث سئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عنها فقال : عندما سئل عن بلد ماردين هل هي بلد حرب أم بلد سلم ؟ وهل يجب على المسلم المقيم بها الهجرة إلى بلاد الإسلام أم لا ؟ وإذا وجبت عليه الهجرة ولم يهاجر وساعد أعداء المسلمين بنفسه أو ماله , هل يأثم في ذلك ؟ وهل يأثم من رماه بالنفاق وسبه به أم لا ؟
…الجواب : الحمد لله دماء المسلمين وأموالهم محرمة حيث كانوا في ماردين أو غيرها وإعانة الخارجين عن شريعة دين الإسلام محرمة , سواء كانوا أهل ماردين أو غيرهم والمقيم بها إن كان عاجزا عن إقامة دينه وجبت الهجرة عليه , وإلا استحبت ولم تجب ومساعدتهم لعدو المسلمين بالأنفس والأموال , محرمة عليهم , ويجب عليهم الامتناع من ذلك بأي طريق أمكنهم من تغيب , أو تعريض , أو مصانعة , فإذا لم يمكن إلا بالهجرة تعينت , ولا يحل سبهم عموما ورميهم بالنفاق , بل السب والرمي بالنفاق يقع على الصفات المذكورة في الكتاب والسنة , فيدخل فيها بعض أهل ماردين وغيرهم . وأما كونها دار حرب أو سلم فهي مركبة فيها المعنيان ليست بمنزلة دار السلم التي يجري عليها أحكام الإسلام , لكون جندها مسلمين , ولا بمنزلة دار الحرب التي أهلها كفار , بل هي قسم ثالث يعامل المسلم فيها بما يستحقه ويقاتل الخارج عن شريعة الإسلام بما يستحقه أ.هـ
وفي هذه الحالة المذكورة آنفا ًيستطيع المرء أن يقول باستحباب الهجرة دون الوجوب ، إن كان مستطيعاً إظهار دينه ، كي لا يؤثم الآخرين بلا دليل صحيح صريح وإن لم يستطع إظهار دينه فالهجرة واجبة ولا شك .(1/35)
ثالثاً : يجب على العالم ما لا يجب على العامي ويجب على من تقوم به مصلحة الدعوة ما لا يجب على من ليس كذلك ، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ، لذا إيجاب الهجرة على الجماعات ليس كإيجابها على الأفراد ، وإيجابها على الأفراد الذين تكمن من وراء مجيئهم مصلحة الإسلام والمسلمين ليس كايجابها على الأفراد الذين ليس من وراء مجيئهم إلا التعب والعناء ، وإرهاق الآخرين بهم . والعبرة بالدليل الشرعي لا العواطف الإيمانية فالمسألة دين وشرع .
رابعاً : لا نغفل عن النوع الذي قرره ابن قدامة في المغني قائلاً : من تستحب له ولا تجب عليه . وهو من يقدر عليها , لكنه يتمكن من إظهار دينه , وإقامته في دار الكفر فتستحب له , ليتمكن من جهادهم , وتكثير المسلمين , ومعونتهم , ويتخلص من تكثير الكفار , ومخالطتهم , ورؤية المنكر بينهم . ولا تجب عليه ; لإمكان إقامة واجب دينه بدون الهجرة . وقد كان العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم مقيما بمكة مع إسلامه أ.هـ لكي لا يشدد على من رأى عدم وجوب الهجرة وإنما الندب المؤكد .(1/36)
خامساً : ينبغي أن يهاجر المؤمن من المكان الذي هو فيه إلى ما هو أفضل منه وإلا لم تجب الهجرة عليه ، إلا إلى موضع خلى عما هاجر لأجله من المعاصي فيهاجر من دار الكفر إلى دار الإسلام ، ومن دار ظلم وعصيان إلى دار إنصاف وإحسان أما الانتقال من شر إلى شر ، ومن دار عصاة إلى دار عصاة فليس فيه إلا إتعاب النفس بقطع المفاوز وشتات الحال وضياع المال وإذا لم يجد دار إحسان ، بل كان العصيان منتشرا في البلدان وجب عليه أن يهاجر من موضعه الذي فيه المعاصي ظاهرة ، إلى ما فيه دونه من المعاصي ، أو ما فيه المنكر ، إلى ما فيه ترك الواجب ، نحو أن يكون الموضع الذي هو فيه يظهر فيه الزنى ، والظلم ، ولا ينكر ، وفي غيره يظهر الظلم دون الزنى ، فإنه يجب عليه أن ينتقل إلى الموضع الذي فيه إحدى المعصيتين دون الأخرى ; لأن في الشر خيارا .(التاج المهذب بتصرف)
…وأقول : هل يستقيم الآن ، أن نوجب الهجرة على المؤمن من بلد مختلف في حالها23لكن الشرك فيها أخفى من البلد التي يريد الهجرة إليها ولم يتبين حال هذه البلد حق البيان سوى أن يرى أو يسمع جدية أصحابها في تطبيق الإسلام ، إلا أن الرؤية الحقيقة للإسلام لم تظهر بعد إنما خير فيه دخن ، وخصوصاً مسألة الشرك سواءً شرك القباب الذي نحن في قلق من مسألة الجدية في أطره ، وقولي شرك القباب لا يعني إغفال شرك التشريع مع الله تعالى أو شرك تعظيم وعبادة الدول الكافرة أو شرك تعطيل الجهاد تلبية لرغبة الدول العظمى الكافرة أو ....أو...... المتمثل في كثير من الدول المدعية للإسلام ، وأرجو أن لا يفهم من قولي [شرك القباب ] أنني المز أولئك الجادون في تطبيق شرع الله ، والعمل به ، إنما مجرد بيان للصورة التي يجب أن تظهر للمهاجر قبل هجرته لكي لا يعود على أدراجه مشكلاً عقبة كأداء لمن يريد الهجرة .(1/37)
سادساً : لا يجوز لمن هاجر أن يرجع من مهاجره لغير عذر شرعي وإلا فهو مرتكب لكبيرة من كبائر الذنوب و لقد قال الشيخ عبدالله بن عبداللطيف في معرض نصيحته لأهل الأرطاوية ما نصه : وأخبر الرسول(عن رجل هاجر ، ثم خرج من هجرته إلى البادية فقال : ( ردة صغرى ، ملعون من فعل ذلك ، والذي يبقى على باديته ويحسن إسلامه ، أحسن عند الله ممن هاجر ثم خرج من هجرته )24وبلغني : أن من أهل الأرطاوية أناساً هاجروا وبنوا يريدون الخروج عن الهجرة إلى البادية ، وهذه مصيبة عظيمة لا يأمن من فعلها أن يقع في الردة الكبرى ، ويكون ممن ارتد على عقبيه من بعد ما تبين له الهدى فاحذروا ذلك ، واصبروا ، و صابروا ، ورابطوا ، واستقيموا على أمر ربكم ، ولا تكونوا ممن بدل نعمة الله كفراً ؛ وأسأل الله لي ولكم التوفيق والهداية ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته 25أ.هـ
لهذا قال ابن حجر في الفتح : قوله باب التعرب في الفتنة بالعين المهملة والراء الثقيلة أي السكنى مع الأعراب بفتح الألف وهو أن ينتقل المهاجر من البلد التي هاجر منها فيسكن البدو فيرجع بعد هجرته أعرابيا ، وكان إذ ذاك محرما ، إلا إن أذن له الشارع في ذلك ، وقيده بالفتنة ، إشارة الى ما ورد من الإذن في ذلك ، ثم حلول الفتن كما في ثاني حديثي الباب ، وقيل بمنعه في زمن الفتنة ، لما يترتب عليه من خذلان أهل الحق ، ولكن نظر السلف اختلف في ذلك ، فمنهم من آثر السلامة واعتزل الفتن كسعد ومحمد بن مسلمة ، وابن عمر في طائفة ، ومنهم من باشر القتال وهم الجمهور .......... إلى أن قال : وأخرج النسائي من حديث بن مسعود رفعه ( لعن الله آكل الربا وموكله الحديث وفيه والمرتد بعد هجرته أعرابيا ) قال ابن الأثير في النهاية كان من رجع بعد هجرته إلى موضعه بلا عذر يعدونه كالمرتد .
…وفي سننن البيهقي الكبرى :(1/38)
( باب ما جاء في التعرب ) أخبرنا أبو عبد الله الحافظ أنبأ أبو بكر بن إسحاق الفقيه أنبأ عبد الله بن أحمد بن حنبل حدثني عمرو بن محمد الناقد ثنا يحيى بن عيسى الرملي عن الأعمش عن عبد الله بن مرة عن مسروق قال : قال عبد الله رضي الله عنه ( لعن الله آكل الربا ومؤكله وشاهداه إذا علماه والواشمة والمؤتشمة ولاوي الصدقة والمرتد أعرابيا بعد الهجرة ملعونون على لسان محمد صلى الله عليه وسلم ) تفرد به يحيى بن عيسى هكذا ورواه الثوري وغيره عن الأعمش عن عبد الله بن مرة بن الحارث .
ثم قال :
(باب ما جاء في الرخصة فيه في الفتنة أخبرنا محمد بن عبد الله الحافظ أنبأ أبو الفضل بن إبراهيم ثنا أحمد بن سلمة ثنا قتيبة بن سعيد الثقفي وداد بن مخراق الفاريابي قالا ثنا إسماعيل عن يزيد بن أبي عبيد عن سلمة بن الأكوع ، أنه دخل على الحجاج فقال يا بن الأكوع ، ارتددت على عقبيك ، تعربت بعد الهجرة ، قال : لا ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن لي في البدو أخرجه البخاري ومسلم في الصحيح عن قتيبة بن سعيد وأخبرنا أبو عبد الله الحافظ أخبرني أبو الحسين محمد بن يعقوب أنبأ أبو العباس محمد بن إسحاق ثنا قتيبة بن سعيد ثنا حاتم عن يزيد بن أبي عبيد قال ثم لما قتل عثمان بن عفان رضي الله عنه خرج سلمة إلى الربذة وتزوج هناك امرأة وولد له أولاد فلم يزل هناك حتى قبل أن يموت فنزل يعني المدينة رواه البخاري عن قتيبة .(1/39)
…ولقد جمع الطحاوي رحمه الله في مشكل الآثار بين أحاديث النهي وأحاديث الرخصة بقوله بعد ذكره لحديث سلمة(وفيه{ أن سلمة بن الأكوع قدم المدينة فلقيه بريدة بن حصيب فقال ارتددت عن هجرتك يا سلمة فقال : معاذ الله إني في إذن من رسول الله صلى الله عليه وسلم إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ابدوا يا أسلم انتسموا الرياح واسكنوا الشعاب فقالوا إنا نخاف أن يضرنا ذلك في هجرتنا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أنتم مهاجرون حيث كنتم } قال الطحاوي : فقال قائل ففيما رويت خروج أسلم من الإقامة بدار الهجرة إلى الدار الأعرابية وهذا خلاف ما رويته مما يوجبه ما رويته في الباب الذي قبل هذا الباب . فكان جوابنا له في ذلك بتوفيق الله عز وجل وعونه أن الذي رويناه في الباب الذي قبل هذا الباب من لعنِ رسول الله صلى الله عليه وسلم المرتد أعرابيا بعد هجرته هو عندنا - والله أعلم - على المرتد كذلك ارتدادا يخرج به من الهجرة التي توجب عليه الطاعة إلى الأعرابية التي لا طاعة معها , وأسلم لم يكونوا كذلك بل كانوا على خلافه مما قد بينه عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما روته عنه عائشة رضي الله عنها ...... إلى أن قال : وكان في ذلك ما قد دل أن التبدي المذموم هو التبدي الذي لا يجيب أهله إذا دعوا فأما التبدي الذي هو بخلاف ذلك فهو كالمقام بالحضرة وقد ذكر الله عز وجل الأعراب في كتابه في موضع فذمهم وأخبر أنهم أشد كفرا ونفاقا وأجدر أن لا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله وذكرهم في موضع آخر من كتابه فوصفهم بالإيمان فقال { وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } . فكان الأعراب المذمومون فيما تلونا هم الذين يغيبون عن(1/40)
رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لا يعلموا أحكام الله عز وجل الذي ينزلها عليه ولا فرائضه التي يجريها على لسانه وكان من هو خلافهم منهم ما ذكرهم عز وجل به من الأمور التي حمدهم عليها وأثنى عليهم بها , فكان الأسلميون رضوان الله عليهم ممن دخلوا في ذلك فكانوا كمن لا يفارقه والله نسأله التوفيق .
لذا كان الخلاف في مسألة : جواز إقامة أكثر من ثلاثة أيام للمهاجرين في مكة بعد إنقضاء النسك وذلك في حق المهاجر الذي جاء للمدينة ، وهاجر إليها نصرة لدين الله حيث جاء في حديث البخاري ومسلم عن العلاء بن الحضرمي( يقول سمعت رسول الله( يقول : ( للمهاجر إقامة ثلاث ، بعد الصدر من مكة ) كأنه يقول لا يزيد عليها .
إذاً : لا يجوزله الرجوع إلى وطنه ، وهذا قبل الفتح فلما فتحفت مكة وصارت دار إسلام اختلف الحكم على رأي بعض أهل العلم . ومن أراد المزيد في ذلك فليرجع إلى صحيح البخاري وشرحه لابن حجر ( مناقب الأنصار ) باب إقامة المهاجر بمكة بعد انقضاء نسكه ، وكذا صحيح مسلم شرح النووي باب جواز الإقامة بمكة للمهاجر .......
ويقول ابن حزم في ذلك ما نصه : احتج لمالك , والشافعي ومقلدوهما بالخبر الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من طريق العلاء بن الحضرمي أنه عليه السلام قال { يمكث المهاجر بعد انقضاء نسكه ثلاثا } . قالوا : فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم للمهاجرين الإقامة بمكة التي كانت أوطانهم فأخرجوا عنها في الله تعالى حتى يلقوا ربهم عز وجل غرباء عن أوطانهم لوجهه عز وجل , ثم أباح لهم المقام بها ثلاثا بعد تمام النسك . أ.هـ
يتضح لنا بعد ذلك خطورة الهوة التي قد يقع فيها من هاجر من دار الكفر أو الحرب ثم رجع إليها بدون عذر شرعي وهي على ماهي عليه من الكفر أو الحر ب .(1/41)
سابعاً : من لوازم عدم الهجرة غالباً ، مشاهدت المنكرات ، ومداهنة أرباب المعاصي والسيئات ، وموادتهم ، وانشراح الصدر لهم ، فإن الشر يتداعى ، ويجر بعضه بعضاً ، فلا يرضون عمن هو بين أظهرهم بدون هذه الأمور ، ولا بد من رضاهم والمبادرة في هواهم إلى غير ذلك مما ذكره العلامة عبدالرحمن بن حسن .
ولو هاجر فإن من لوازم هجرته أن يفارق هذه الأمور المذكورة آنفاً وإلا ما فائدة هجرته.
ثامناً : كون الأرض دار كفر ، أو دار إيمان ، أو دار فاسقين ليست صفة لازمة لها بل هي صفة عارضة بحسب سكانها ، والحكم الذي تحكم به ، فكل أرض سكانها المؤمنون المتقون ، وحكمت بشرع الله تعالى فهي دار أولياء الله في ذلك الوقت وكل أرض سكانها الكفار ، أو حكمت بغير الإسلام فهي دار كفر في ذلك الوقت وكل أرض سكانها الفساق فهي دار فسق في ذلك الوقت فإن سكنها غير ما ذكرنا وتبدلت بغيرهم فهي دارهم ، تمتماً كما يقال في المسجد إذا تبدل بخمارة أو صار دار فسق ، أو دار ظلم ، أو كنيسة يشرك فيها بالله ، كان بحسب سكانه ، وكذلك دار الخمر والفسوق ، ونحوها إذا جعلت مسجدا يعبد الله فيه جل وعز ، كان بحسب ما يكون ، وكذلك الرجل الصالح يصير فاسقا ، والكافر يصير مؤمنا ، أو المؤمن يصير كافرا أو نحو ذلك ، كل بحسب انتقال الأحوال ، من حال إلى حال وقد قال تعالى{ وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة } الآية نزلت في مكة لما كانت دار كفر وهى ما زالت في نفسها خير ارض الله ، وأحب أرض الله إليه ، وإنما أراد سكانها ، والشرعة التي تحكم بها فقد روى الترمذي مرفوعا لرسول الله ( أنه قال لمكة وهو واقف بالحزورة ( والله إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله إلى الله ولولا أن قومي أخرجوني منك لما خرجت )وفى رواية ( خير أرض الله وأحب أرض الله إلى ) فبين أنها أحب أرض الله إلى الله ورسوله وكان مقامه بالمدينة .(1/42)
لذا لا ينبغي أن يتساءل المسلم المهاجر ، ويقول كيف أهاجر من بلد فاضل إلى مفضول ؟!
والجواب أن العبرة ليست بمسألة الفاضل والمفضول ولأن رسول الله( أمر بالهجرة من خير بلاد الله ، وأحبها إليه إلى ما هو دونها ، إذ العبرة والحكم معلق بالوصف العارض ، الذي يعرض للبلاد بغض النظر عن فضلها ، ومنزلتها ، ومكانها ولم يعلق الحكم بذلك ، فهذا الوصف العارض سوف يزول بأمر الله تعالى ، ليعود الوصف اللازم لتلك البلاد ، ولا عبرة بكلام وقول ابن العربي في أحكام القرآن ، أن مكة دار إسلام إلى يوم القيامة . فهذا ليس عليه دليل إطلاقاً ، ولا أثر عن الصحابة ، ولا عرف عنهم ، ولا عن السلف الصالح ومن بعدهم رضى الله عن الجميع . فمكة شرفها الله مثلها مثل غيرها في أن يطرأ عليها وصف الكفر ، وأنها دار كفر ، أو أن توصف ويقال عنها أنها دار إسلام ، وهذا حالها على مدى تاريخها الطويل شرفها الله ، وإلا بأي حق كانت تجيش لها الجيوش لكي تفتح للإسلام وأهله ، فيما غبر من الزمن وما جد ؟!!!
الختام
…
لا شك أن دار الإسلام التي تظهر فيها أحكام الإسلام مطبقة من غير مرية ولا تدليس ، ودار الكفر هي التي تظهر فيها أحكام الكفر على أحكام الإسلام ، و دار الحرب هي كل بقعة تكون فيها الحرب بين المؤمنين والكافرين ، وأن الدار المركبة هي ما كان أهلها مسلمون ، وحكامها يطبقون فيهم الإسلام فيما لا يتعارض مع سياستهم وبقائهم على عروشهم ، عروش الظلم ، والقهر ، والاستبداد .
ولا شك أيضاً في أن أصل الهجرة وحكمها باقي ، كلما حصل موجبها ودعوى النسخ باطلة ، ولا تصح ، حيث أمكن الجمع بين الأدلة ،بل لا تعارض بينها ومدعي التعارض متكلف ما ليس له به حق .(1/43)
ولاشك في وجوب الهجرة على ما مضى ذكره،لمن له القدرة عليها ، ولم يمكنه إظهار دينه،وكانت داره دار كفر،أو حرب،وأما إن كانت الدار مختلف فيها [ مركبة ] وكان في هجرته واجب لا يتم إلا به،في الدار المهاجر إليها ، وكان في هجرته تكثير سواد المسلمين وقوتهم به ولم يستطع إظهار دينه ، ووثق في البلد المهاجر إليها في تطبيق شرع الله ، وأن أحكام الإسلام هي الظاهرة ، فإن الهجرة واجبة عليه بعينه كذلك، لما مضى ذكره من الأدلة ، ولأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ، وإن لم يكن الأمر كذلك فيبقى الأمر علي السنية والاستحباب والندب لا غير شرط ، إظهار الدين .
كما أن المقصود بإظهار الدين قولاً واحداً هو : التبري من الكافرين وتكفيرهم ،وإظهار عداوتهم ، وتسفيههم ودينهم ، والتبري ممن يقف معهم و يواليهم وإعلان هذا كله ، وما لم يكن كذلك فليس إظهارٌ للدين بل طمس للدين ومعالمه.
ومما ينبغي بحثه، و معرفته،مسألة الدار المركبة،إذا كان في الهجرة منها يحصل ما لا تحمد عقباه مثل،إحداث ثلمة في أهل الخير وترك المكان للطواغيت يعيثون في الأرض فساداً : خلى لك الجو فبيضي واصفري ونقري ما شئت أن تنقري
لاسيما وبعض الشافعية يرى حرمة الهجرة من أرض تمكن المسلم من التحيز فيها وقدر على إظهار دينه في دار الحرب , ويقدر على الاعتزال في مكان خاص , والامتناع من الكفار , فهذا تحرم عليه الهجرة , لأن مكان اعتزاله صار دار إسلام بامتناعه , فيعود بهجرته إلى حوزة الكفار , وهو أمر لا يجوز لأن كل محل قدر أهله على الامتناع من الكفار صار دار إسلام . وقد مر معنا فتوى شهاب الدين الملي في أهل ( أرغون ) فيجب على المسلم التوخي قدر المستطاع ، وأن يتحرى الصواب في ذلك ثم يبني عليه .
هذا وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، والحمدلله رب العالمين .
كتبه / عبد العزيز بن صالح الجربوع(1/44)
وكان الفراغ منه 24ربيع الآخر لعام 1422هـ
1- للعلامة الشيخ محمد بن ابراهيم كلام نفيس يبين فيه سبب قتالنا للمشركين وجهادنا لهم تحت عنوان ( قتالهم لأجل كفرهم ) في الجزء السادس من فتاوى ورسائل الشيخ ( ط ) الأولى فليراجع هناك فإنه كلام نفيس على اختصاره وقلته .
2- ومما ينبغي معرفته أن هناك أمورٌ كفرية ، لا يعلمها إلا العلماء أو طلبة العلم لدقتها أو لخفائها ، إذ أنها ليست من الكفر البواح الذي يفهمه عامة المسلمين ، فمثلاً الحكم بغير ما أنزل الله في بعض مسائله ، فمع الاتفاق على أنه كفر بتقسيمات الشيخ محمد بن ابراهيم ، إلا أن هناك إشكالاً في فهم العامة لهذا ، لكي نوجب عليهم الهجرة ونؤثمهم بعدم هجرتهم من هذا البلد ، لذا كان تقييد الإسلام بالكفر البواح الذي عندنا فيه من الله برهان لكي يفهمه العامة قبل العلماء ، فيكون ذلك حماية للخارج من أن يقف في وجهه العامة ، فيقاتلوه وهو على الحق ، ولكن عدم ظهور الكفر [ بواحاً ]كان سبباً لحدوث اللبس لدى عامة الناس ، ومن ثم يُرتب على هذا الكفر البواح الخروج على الحاكم وتغييره ، أو الهجرة ، إن لم يمكن الخروج على الحاكم ، وليس المقصود أن الحديث يأمر بصيانة الحاكم المرتد وحمايته ، بل ما ذكرت من حماية المؤمن الخارج ، الذي يريد وجه الله ، ودافع خروجه حق وما رآه كفر ولا شك ولكن ليس بواحاً ، ويضاف إلى ذلك حماية الحاكم المتأول تأولاً له وجه في الشرع ، أو اللغة ، وكذا الحرص على حماية دماء المسلمين ، فإذا لم نقل بالدار المركبة التي ذكرها شيخ الإسلام فما المخرج من ذلك(1/45)
3- رواه الإمام أحمد رقم8960 وكذا مسلم برقم2562 ويراد به الهجرضد الوصل يعني فيما يكون بين المسلمين من عتب ، وموجدة أو تقصير ، يقع في حقوق العشرة والصحبة ، دون ما كان في جانب الدين ، فإن هجرة أهل الأهواء والبدع دائمة على مر الأوقات ، ما لم تظهر منهم التوبة والرجوع إلى الحق فإنه عليه الصلاة والسلام لما خاف على كعب بن مالك وأصحابه النفاق حين تخلفوا عن غزوة تبوك أمر بهجرانهم خمسين يوما وقد هجر النبي( نساءه شهرا ، وهجرت عائشة ابن الزبير مدة ، وهجر جماعة من الصحابة جماعة منهم ، وماتوا متهاجرين قال ابن الأثير : ولعل أحد الأمرين منسوخ بالآخر ، ومن ذلك ما جاء في الحديث ( ومن الناس من لا يذكر الله إلا مهاجرا )يريد هجران القلب وترك الإخلاص في الذكر فكأن قلبه مهاجر للسانه غير مواصل له ومنه حديث أبي الدرداء رضي الله عنه ( ولا يسمعون القرآن إلا هجرا ) يريد الترك له والإعراض عنه. ويقال : هجرت الشيء هجرا إذا تركته وأغفلته .
وقال ابن الأثير : ورواه ابن قتيبة في كتابه : ولا يسمعون القول إلا هجرا بالضم وقال هو الخنا والقبيح من القول قال الخطابي هذا غلط في الرواية والمعنى فإن الصحيح من الرواية ولا يسمعون القرآن ، ومن رواه القول فإنما أراد به القرآن فتوهم أنه أراد به قول الناس والقرآن العزيز مبرأ عن الخنا والقبيح من القول .
و هجر فلان الشرك هجرا و هجرانا و هجرة حسنة حكاه عن اللحياني و الهجرة الخروج من أرض إلى أرض و المهاجرون الذين ذهبوا مع النبي مشتق منه ، و تهجر فلان أي تشبه بالمهاجرين ، وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه هاجروا ولا تهجروا ، قال أبو عبيد : يقول : أخلصوا الهجرة ولا تشبهوا بالمهاجرين على غير صحة منكم فهذا هو التهجر ، وهو كقولك فلان يتحلم وليس بحليم ، ويتشجع أي أنه يظهر ذلك وليس فيه .(1/46)
وقال الأزهري : وأصل المهاجرة عند العرب خروج البدوي من باديته إلى المدن يقال : هاجر الرجل إذا فعل ذلك ، وكذلك كل مخل بمسكنه منتقل إلى قوم آخرين بسكناه فقد هاجر قومه ، وسمي المهاجرون مهاجرين لأنهم تركوا ديارهم ومساكنهم التي نشؤوا بها ، ولحقوا بدار ليس لهم بها أهل ، ولا مال حين هاجروا إلى المدينة فكل من فارق بلده من بدوي ، أو حضري ، أو سكن بلدا آخر فهو مهاجر ، والاسم منه الهجرة قال الله عز وجل : {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} (النساء:100)
وكل من أقام من البوادي بمباديهم ومحاضرهم في القيظ ولم يلحقوا بالنبي ولم يتحولوا إلى أمصار المسلمين التي أحدثت في الإسلام وإن كانوا مسلمين فهم غير مهاجرين وليس لهم في الفيء نصيب ويسمون الأعراب .
وقال الجوهري : الهجرتان هجرة إلى الحبشة وهجرة إلى المدينة ، و المهاجرة من أرض إلى أرض ترك الأولى للثانية
وقال ابن الأثير : الهجرة هجرتان إحداهما التي وعد الله عليها الجنة في قوله تعالى : {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ } (التوبة:111)
فكان الرجل يأتي النبي ويدع أهله وماله ولا يرجع في شيء منه وينقطع بنفسه إلى مهاجره وكان النبي يكره أن يموت الرجل بالأرض التي هاجر منها ،لذا قال : ( لكن البائس سعد بن خولة ) يرثي له أن مات بمكة وقال حين قدم مكة : (اللهم لا تجعل منايانا بها ) - هذا الحديث عند الإمام أحمد وغيره ورجاله رجال الصحيح - فلما فتحت مكة صارت دار إسلام كالمدينة وانقطعت الهجرة .(1/47)
والهجرة الثانية من هاجر من الأعراب وغزا مع المسلمين ولم يفعل كما فعل أصحاب الهجرة الأولى فهو مهاجر وليس بداخل في فضل من هاجر تلك الهجرة وهو المراد بقوله لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة فهذا وجه الجمع بين الحديثين وإذا أطلق ذكر الهجرتين فإنما يراد بهما هجرة الحبشة وهجرة المدينة وفي الحديث سيكون هجرة بعد هجرة فخيار أهل الأرض الزمهم مهاجر إبراهيم المهاجر بفتح الجيم موضع المهاجرة ، ويريد به الشام لأن إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام لما خرج من أرض العراق مضى إلى الشام وأقام به وفي الحديث ( لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية ) وفي حديث آخر ( لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة ) .
قال ابن الأثير : الهجرة في الأصل الاسم من الهجر ضد الوصل وقد هاجر مهاجرة و التهاجر التقاطع ، و الهجر المهاجرة إلى القرى .
و هجر الشيء و أهجره تركه و هجر الرجل هجرا إذا تباعد ونأى وقال الليث : الهجر من الهجران وهو ترك ما يلزمك تعاهده و هجر في الصوم يهجر هجرانا اعتزل فيه النكاح ولقيته عن هجر أي بعد الحول ونحوه وقيل الهجر السنة فصاعدا وقيل بعد ستة أيام فصاعدا وقيل الهجر المغيب أيا كان......... إلى آخر ما قال ابن منظور والزبيدي
4- سيأتي قريباً تخريج هذا الحديث باختصار
5- سيأتي قريباً تخريج هذا الحديث باختصار
6- انظر الدرر السنية كتاب الجهاد ط/2ت1385هـ وكذا هو رأي الشيخ العلامة ابن باز ، والشيخ عبدالرزاق عفيفي رحم الله الجميع .
7- كما سيأتي معنا بعد قليل من كلام الشوكاني نقلاً عن ابن العربي نقلاً عن صاحب كتاب البحر الزخار . وفي الجامع المهذب قال : وأما في الحكم فوجوب الهجرة من دار الكفر ظني ولهذا اختلف العلماء في الوجوب وعدمه وأما دار الحرب فوجوب الهجرة عنها بالإجماع .(1/48)
وقال الحنفية : لا تجب الهجرة من دار الحرب لخبر : { لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية } . أما حديث : { ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين } . فمنسوخ بحديث : { لا هجرة بعد الفتح } وهو قول ضعيف فغالب أهل العلم إن لم يكن جميعهم على خلافه .
8- وهذه الحالة من الحالات التي أجاز أهل العلم فيها سفر المرأة بلا محرم إن أمنت الطريق ، وذلك لأهمية الهجرة وكونها فيصلاً بين الإيمان الصادق من عدمه .
9- أخرجه الترمذي 4/155 من حديث جرير بن عبدالله ، واسناده صحيح .
10- أخرجه أحمد 1/192 من حديث عبدالله بن السعدي وقال الهيثمي رجاله ثقات .
11- أخرجه البخاري 6/3 ومسلم 3/1487 من حديث عبدالله بن عباس(
12- يقصد حديث { أنا بريء من كل مسلم يقيم بين المشركين } :قال ابن حجر في البلوغ : رواه الثلاثة وإسناده صحيح , ورجح البخاري إرساله أ.هـ ويقصد بالثلاثة : أبي داود ، والترمذي ، والنسائي . وقال الصنعاني في السبل : ورجح أيضا أبوحاتم ، وأبو داود ، والترمذي ، والدارقطني إرساله إلى قيس بن أبي حازم . ورواه الطبراني موصولا
13- يشير إلى حديث الإمام مسلم عن عائشة في كتاب الجهاد والسير ، باب تأمير الإمام الأمراء على البعوث رقم 1731و1356و1357و1358
14- يقصد البحر الزخار الجامع لمذاهب علماء الأمصار - وهوكتاب في فروع الفقه الزيدي لأحمد المرتضي ويقع في 6مجلدات
15- فرقة من فرق الشيعة تنتسب إلى محمد بن الهادي وكانت واسعة الانتشار في اليمن زمن الصنعاني صاحب السبل رحمه الله ، لذا كان كثير الاستشهاد بآرائها الفقهية لانتشارها .
16- أخرجه البخاري 6/3 ومسلم 3/1487 من حديث عبدالله بن عباس(
17-رواه مسلم عن عائشة( في كتاب الجهاد والسير ، باب تأمير الإمام الأمراء على البعوث رقم 1731و1356و1357و1358
18- رواه مسلم كما مر معنا قبل قليل .(1/49)
19- قال لشوكاني في النيل : ولا يخفى ما في هذا الرأي من المصادمة لأحاديث الباب القاضية بتحريم الإقامة في دار الكفر .
20- حديث صفوان(مضى ذكره في سنن سعيد بن منصور
21- ما مضى ذكره من قصة عمر ( نقلتها من تفسير ابن كثير ، حيث ساقها بطولها رحمه الله وعزاها للإمام أحمد ، ومسلم وأبي داود والترمذي .
22- تفسير ابن كثير سورة النساء آية (99)
23- وإن رجحنا أنها دار كفر أو حرب فالمسألة لغيرنا مسألة خلاف قوي لأدلته ، فهل نؤثمهم ؟!!
24- الحديث بهذا اللفظ لم أعثر عليه ولا وجود له ولعل الشيخ رواه بالمعنى و الحديث عند الطبراني من حديث جابر بن سمرة(بلفظ (لعن الله من بدا بعد الهجرة ، لعن الله من بدا بعد الهجرة إلا في الفتنة فإن البدو خير من المقام في الفتنة ) قال الهيثمي في مجمع الزوائد رواه الطبراني وفيه : من لم أعرفهم أ.هـ ولكن يشهد له حديث النسائي الذي سيأتي بعد قليل ضمن كلام ابن حجر وكذا سيأتي حديث البيهقي .
25- الدر السنية ج1 ص81 ط 5
??
??
??
??
13(1/50)