بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادى له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله.
اللهم صلِّ على سيدنا محمد النبى وأزواجه أمهات المؤمنين، وذريته وآل بيته، كما صليت على آل إبراهيم، إنك حميدٌ مجيد.
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا (#qà)¨?$# اللَّهَ ¨,xm تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ tbqكJد=َ،-B } [آل عمران: 102]
{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ (#qà)¨?$# رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ ;oy‰دn¨ur وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا #[ژچدWx. [ن!$|،دSur وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1) } [النساء: 1]
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا (#qà)¨?$# اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) ôxد=َءمƒ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71) } [الأحزاب: 70-71]
أما بعد..
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدىِّ هدىُّ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة فى النار، اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
- - -
مقدمة:(1/1)
نعود للكلام على أسماء الله الحسنى، وكنا فى الكلام على اسم الله الوكيل، وقد قطعنا شوطاً فيه قبل شرح العقيدة الطحاوية، ونعود لاستكماله. واليوم موعدنا مع المنهج الذى نتبعه فى شرح الأسماء والصفات، وهو أن نعود إلى الآيات القرآنية الكريمة التى ورد فيها هذا الاسم الكريم لنحصرها، ونصنفها بحسب المعانى التى تشير إليها على قدر ما يفتح الله تعالى، ثم نفسر شيئاً منها.
تلخيص لما سبق:
ونذكر فى بداية الدرس بكلمتين؛ بقوله(1): "من التوكل أن يكل الأمر إلى مالكه سبحانه وتعالى؛ أن يسلمه إلى من هو بيده؛ أن يعتمد على قيامه بالأمر، والاستغناء بفعله عن فعلك، وبإرادته عن إرادتك.. لابد أن تحفظ هذا الكلام حتى تتعلم أن تكون متوكلاً على الله، محققاً درجات التَّوكل الثمان التى سبق أن ذكرناها فيما سبق.
والوكالة يراد بهما أمران:
- التوكيل، وهو الاستنابة والتفويض.
- والثانى التَّوكل، وهو التصريف بطريق النيابة عن المُوَكِّل.
وهذا من الجانبين، لأن الله يُوَكِّل عبده ويُقيمه فى حفظ ما وكله فيه، والعبد يُوَكِّل ربه ويعتمد عليه.
فأما وكالة الرب لعبده: ففى قوله تعالى: { أُولَئِكَ الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ (89) } ]الأنعام: 89[، قال قتادة: "وَكَّلْنَا بها الأنبياء الثمانية عشر الذين ذكرناهم"، وفى هذه الآية تفاسير كثيرة ذكرها ابن كثير وغيره.
والصواب: أن المراد من قام بها إيماناً ودعوةً وجهاداً ونصره، فهؤلاء هم الذين وكَّلَهم الله سبحانه بها (إيماناً ودعوةً وجهاداً ونُصْرَةً...)، فاحفظ لنفسك، فهل أنت ممن وكَّلهم الله سبحانه وتعالى بهذا الدين؟ أم أنت من الذين أهملهم وتركهم ولم يَجْتَبِهم سبحانه لذلك؟
__________
(1) أى فى مدارج السالكين، يراجع: ج2، ص131-132.(1/2)
فإن قلتَ: وهل يصح أن يُقال إن أحداً وكيلُ الله؟ قلتُ: لا، لأن الوكيل يتصرف عن موكله بطريق النيابة، فإن وكلَّت محامياً فإنه يتصرف عنك بطريق النيابة، والله - عز وجل - لا نائب له، فيعطى له التصريف فى كل أموره أو بعضها، وأنه سبحانه لا يَخْلُفُه أحد، بل هو الذى يَخْلُفُ عبده، ومن ذلك قول النبى - صلى الله عليه وسلم - إذا سافر: "اللَّهُمَّ أَنْتَ الصَّاحِبُ فِى السَّفَرِ وَالْخَلِيفَةُ فِى الأَهْلِ".(1)
على أنه لا يمتنع أن يطلق ذلك باعتبار أنك مأمور بحفظ ما وكلك فيه ورعايته والقيام به.
أما توكيل العبدِ ربَّه فهو تفويضه إليه؛ أن يُفَوِّضَ إليه كما ذكرنا فى درجات التوكل، وأن يعزل نفسه عن التصرف، وأن يثبت التصرف لأهله ووليه سبحانه وتعالى، لذلك قيل فى التوكل: هو عزل النفس عن الربوبية وقيامها بالعبودية، وهو معنى كون الربِ وكيلَ عبدِه، أى كافيه والقائم بأموره ومصالحه؛ لأنه نائبه فى التصرف، فوكالة الرب عبده أمرٌ وتعبدٌ وإحسانٌ له، وخلعة منه عليه، لا عن حاجة منه وافتقارٍ إليه كَمُوَالاتِه، أما توكيل العبدِ ربَّه: فهو تسليم لربوبيته، والقيام بعبوديته.
الآيات الكريمة:
الوكيل له تعلق بكل الأسماء الحسنى (الكافى، العليم، الحسيب، الغفار، الوهاب، المحسن... إلى غير هذه الأسماء من الأسماء الحسنى).
- ويرجع تَعَلُّم هذا الاسم إلى مصلحة المرء بأن يوكِّل اللهَ فيما يريد من أعماله وأشغاله، وهو العبد الفقير الضعيف، فإذا ما فَوَّض أمره إلى الله سبحانه وسلَّمه مقاليد أحواله، فيقوم له بها سبحانه على أحسن وجه، وأكمله، وأفضله: { وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ } .
__________
(1) صحيح مسلم: 3339, تحفة 7348 - 1342/425(1/3)
لذلك فمن يُقَصِّرُ فى معرفة أسماء الله الحسنى، وهذا الاسم بالذات من أسماء الله سبحانه، فهو يُقَصِّرُ فى حقِّ نفسه فى كل شىء، كان يمكن أن يكونوا أفضل من ذلك فى العبادة والمعاملة ونصرة الدين وإعلاء كلمة الله والسلوك والذكر والتعبد والتوحيد والتعلق بالله والمحبة للرب والسكون إليه والاطمئنان إلى ذكره، ولكنَّهم لم يُسارعوا فى أن يُحَصِّلوا هذه المعانى الجميلة التى افترقت بها أحوال المتقدمين عن أحوالنا وتميزت بها عبادتهم وطاعاتهم... فارتفعت منزلتُهم بحسن توكلهم: { وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آَذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (12) } [إبراهيم: 12].
فعلى المرء أن يحزن على نفسه لفوات هذا الحظ العظيم وأنه هو الذى أضاعه على نفسه لا أحد غيره أضاعه عليه.
وبالتأمل فى الآيات التى ذكرت اسم الله الوكيل والتوكل وجدناها تدور على هذه الأربعة وهى:
أولاً: أن الله سبحانه هو الوكيل:
وعليه فقد بينت كذلك:
- الأمر بالتوكل.
- أسباب الأمر بالتوكل.
- مظاهر التوكل.
ثانياً: التوكل هو حال الرسل وأتباعهم.
ثالثاً: التوكل متعلق بالإيمان.
رابعاً: العاقبة الحسنة للتوكل.
وكما هو منهجنا سنحصر الآيات ثم نشير إجمالاً إلى بعض معانيها تحت كل عنوان من تلك العناوين، لنبين ترابطها، وإفادتها للمعنى، ثم نتبعها بتفسير بعض تلك الآيات، إذ التفصيل فى ذلك خارج عن حدود الدرس. وسنبدأ الحديث من النقطة الثانية، وهى أن التوكل حال الرسل عليهم السلام.
- - -
ثانياً: التوكل هو حال الرسل وأتباعهم:
( أ ) توكل النبى - صلى الله عليه وسلم - :
وقد وضحته الآيات.
فنبدأ بما ورد عن النبى - صلى الله عليه وسلم - ، فهو إمام المتوكلين وسيدهم علماً وحالاً حتى سماه المولى سبحانه وتعالى (المُتَوَكِّل)؛ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ قَالَ:(1/4)
" لَقِيتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ - رضى الله عنهما - قُلْتُ أَخْبِرْنِى عَنْ صِفَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِى التَّوْرَاةِ. قَالَ أَجَلْ، وَاللَّهِ إِنَّهُ لَمَوْصُوفٌ فِى التَّوْرَاةِ بِبَعْضِ صِفَتِهِ فِى الْقُرْآنِ؛ يَا أَيُّهَا النَّبِىُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً، وَحِرْزاً لِلأُمِّيِّينَ، أَنْتَ عَبْدِى وَرَسُولِى سَمَّيْتُكَ الْمُتَوَكِّلَ، لَيْسَ بِفَظٍّ وَلاَ غَلِيظٍ وَلاَ سَخَّابٍ فِى الأَسْوَاقِ، وَلاَ يَدْفَعُ بِالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ وَلَكِنْ يَعْفُو وَيَغْفِرُ، وَلَنْ يَقْبِضَهُ اللَّهُ حَتَّى يُقِيمَ بِهِ الْمِلَّةَ الْعَوْجَاءَ؛ بِأَنْ يَقُولُوا لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَيَفْتَحُ بِهَا أَعْيُناً عُمْياً، وَآذَاناً صُمًّا، وَقُلُوباً غُلْفاً ".(1)
وأما الآيات فقوله تعالى:
1. { فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ } [التوبة: 129[.
2. { قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ (30) } [الرعد: 30].
3. { ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ } [الشورى: 10].
4. { قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آَمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا } [الملك: 29].
5. { الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) } [آل عمران: 173].
__________
(1) صحيح البخارى: 2125 ، طرفه 4838 - تحفة 8886.(1/5)
وذلك مستفاد من قول ابْنِ عَبَّاسٍ - رضي الله عنه - : " { حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ } قَالَهَا إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ حِينَ أُلْقِىَ فِى النَّارِ، وَقَالَهَا مُحَمَّدٌ - صلى الله عليه وسلم - حِينَ قَالُوا: { إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ } ".(1)
(ب) توكل الأنبياء عليهم السلام:
o عن نوحٍ - عليه السلام - : جاء قوله تعالى: { وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآَيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ } [يونس: 71].
فقد واجه نوح - عليه السلام - قوةً غاشمةً كثيرةَ العدد والعُدَّة، وهو على العكس من قلة العدد وضعف العُدَّة، ومع ذلك يقول لهم: { فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ } .
o وعن هود - عليه السلام - : { إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آَخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى ::ق؛uژإہ مُسْتَقِيمٍ } [هود: 56].
فهى من أعظم الآيات الدالة على صدقِ الرسل. كيف يقوم رجل واحد أمامَ هذه الأمة العظيمة لِيُسَفِّهَ أحلامَهم، ويَسبَ أصنامهم، ولِيتحداهم جميعاً أن يَكيدوه ولا ينظروه، ولا يمهلوه، بل يعاجلونه العقوبة ولا يمنعهم عن ذلك مانع، ولكنه منتصر عليهم، وممنوع بالله تعالى وممنوع بحسن توكله عليه - وقد سبق أن تناولناها فى شرح العقيدة الطحاوية.
__________
(1) صحيح البخارى: 4563.(1/6)
o وعن شعيب - عليه السلام - : { قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ أُنِيبُ وَإِلَيْهِ (88) } [هود: 88].
وذلك لما قالوا: { قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (87) } [هود: 87].
فهو - عليه السلام - ليس خائفاً منهم، ثم هو يريد الإصلاح، وفيها كذلك الافتقار إلى الله تعالى، { وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ } ، فينبغى أن تكون هذه الآيات كلها هى حال أهل الإيمان؛ فى الدعوة، والتوكل، ونُصرة الدين لله جل وعلا. وعليهم أن يعلموا أنهم:
أولاً: يريدون الإصلاح.
ثانياً: لا يخافون الظلم ولا الظالمين.
ثالثاً: أنهم لاجئون إلى الله، وتوفيقهم به سبحانه، لا يهمهم سوى القيام بما أمرهم به الله، ويقومون بكل ذلك توكلاً على الله، ويكون ذلك سبباً لنصرتهم وكفايتهم وتأييدهم وتوفيقهم وكفايتهم وكف أعدائهم عنهم، ولا يقوم لهم أحد؛ لأن العاقبة فى نهاية المطاف للتقوى وللمتقين.
رابعاً: أنهم لا يتزحزحون عن إرادة الإصلاح، ولا يُقَصِّرُون فى طلب هذا الإصلاح دعوةً إلى الله تعالى، وسلوكاً إليه، ونصرة لدينه بكل ما يستطيعون، وما توفيقهم فى هذا الأمر إلا بالله سبحانه كما قال شعيب - عليه السلام - : { عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ } ، والتوكل والإنابة كما ذكرنا من قبل.(1/7)
ويقول لهم شعيب - عليه السلام - كذلك فيما ورد عنه: { قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ } [الأعراف: 89].
وسيدنا شعيب - عليه السلام - هو خطيب الأنبياء؛ وهذه الكلمات الجميلة القوية التى قالها تبين ملامح الدين والدعوة إلى الله تعالى وعواقبها، وتبين ما يتعلق بها من أولها إلى آخرها، وقد اكتملت فيها كل ملامح وأصول الدعوة إلى الله تعالى؛ سواء أكانت فى الداعى، أو من يدعوهم إلى الله تعالى، أو فى وسائل الدعوة، أو فى الدعوة نفسها والثبات عليها، إذ هى دعوة التوحيد. وهذه الآية تثير التساؤل لمن يقرأها: وهل كان سيدنا شعيب - عليه السلام - على مِلَّتِهم؟ ألم يقل: { قَدْ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا } ؟
وإلا فكيف يقول سيدنا شعيب - عليه السلام - هذه المقولة؟ لا لم يكن شعيب - عليه السلام - فى مِلَّتِهم، بل كان خطيبَ قومه فهو يتكلم بلسانهم. فلم يكن شعيب - عليه السلام - كافراً، ولم يبعث الله نبياً كان على الكفر أبداً، ولكنه - عليه السلام - كان المتحدث باسم الذين آمنوا، يتحدث بلسانهم، فيقول للكفار: لا يجوز لهؤلاء أن يعودوا فى ملتكم وقد نجاهم الله منها.
التوكل حال الرسل وأتباعهم، ويجب أن يكون حال المؤمنين اليوم، وعليهم أن يتفكروا فى هذه الآيات التى ذكرها رسل الله عليهم الصلاة والسلام حال إعلانهم التوكل على الله، ومجابهتهم للظلمة والكفرة بأنهم متوكلون على الله، وأنهم لا يخافون منهم شيئاً.(1/8)
o وعن يعقوب - عليه السلام - : { وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (67) } [يوسف: 67].
وذلك فى قصة يوسف - عليه السلام - ، فى سورة يوسف لما فُقِدَ يوسف - عليه السلام - وأُخِذَ ابنه الآخر، وسَيُشَار إليها فى الأمر بالتوكل والكلام عن الوكيل سبحانه.
أما { وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ } : أنه من أراد أن يتوكل فليتوكل على الله سبحانه. لماذا ؟ سنعرف إن شاء الله تعالى فى الجزء الخاص بأسباب التوكل على الله.
o وعن إبراهيم - عليه السلام - : فى قوله تعالى: { الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) } [آل عمران: 173].. قالها لما ألقى فى النار، وكذلك ذكر الله سبحانه وتعالى عنه وعن أتباعه فى مجابهة قومه قولَه سبحانه: { قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآَءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (4) رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (5) } [الممتحنة: 4-5].(1/9)
o وعن موسى - عليه السلام - وقومه: وذلك فى قول الله تعالى: { وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آَمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (84) فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (85) وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (86) } [يونس: 84-86].
فبَيَّنَ أن التوكل هو حال الرسل عليهم الصلاة والسلام، وحال أتباعهم المؤمنين الكرام، فكان موسى - عليه السلام - هو إمامهم وأسوتهم فى التوكل.
o الآية الجامعة عن توكل الرسل عليهم الصلاة والسلام كافة: { قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ } [إبراهيم: 11].
فهذا قول الرسل وحالهم كافة - وإن ذكر عن بعضهم - ثم قال تعالى: { وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آَذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (12) } [إبراهيم: 12].
o وقد ذكرها المولى سبحانه عن النبى - صلى الله عليه وسلم - وأتباعه فى قوله تعالى: { الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) } [آل عمران: 173].(1/10)
كان العكس ينبغى أن يحدث، أى أنه عندما يشتد الحال، ويقسو الكفار والظالمون على المسلمين، وتضييق الدنيا عليهم، كان السياق يستدعى أن يؤول أمرهم إلى الدمار، أو الهَلَكَة، أو الخوف، ولكن جاءت الإجابة: { فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ } ، وذلك لحسن توكلهم، ويقينهم على مولاهم سبحانه وتعالى.
فقالوا: إن الله جلَّ وعلا يكفينا ولو اجتمعت علينا الدنيا والآخرة والجن والإنس وكل أحد. لهذا جاء هذا المعنى فى أصحاب النبى - صلى الله عليه وسلم - ، وهذه دعوة القرآن الكريم، فينبغى أن يكون أتباع الرسل على هذه الحالة الحسنة التى أشارت إليها الآيات. لماذا ؟ الإجابة فى الجزء الأول أو العنوان الأول من هذا الموضوع وهو أن الوكيل هو الله سبحانه وتعالى.
- - -
وبعد البدء بثانياً لتوضيح الأمر نعود إلى الترتيب:
أولاً: الله سبحانه وتعالى هو الوكيل:(1)
لأن الله سبحانه هو الوكيل، فإذا وكَّلوا الله تعالى فإنه سبحانه يكفيهم، ويحفظهم، ويمنعهم ويحميهم من الدنيا كلها، من كل أحد، لأن الأمر كله بيديه، وإذا شاء سبحانه أمراً فإنما يقول له كن فيكون: (مَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ)(2)، وفيما يلى نستعرض الآيات التى تبين سبب توكل المتوكلين على الله تعالى.
أسباب توكل المتوكلين على الله سبحانه وتعالى:
1- لأنه سبحانه هو رب المشرق والمغرب: { رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا (9) } [المزمل: 9].
__________
(1) أشرنا إلى المعنى فى أول الدرس.
(2) مسند أبى داود: رقم 5075، الأدب، باب 101.(1/11)
فبسبب أنه سبحانه هو رب المشرق والمغرب، المُتَصَرِّفُ فيهما، والمتصرف سبحانه فى كل شىء، فلا يجوز التوكل على غيره. لأن غيره لا يملك شيئاً، فكيف يدفع عن غيره إن كان لا يستطيع أن يدفع عن نفسه هو؟ ولا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً، وكيف ينوب عن غيره فى قضاء مصالحه، وهو محتاج إلى ذلك، وليس له ذرة فى المشرق أو المغرب، أو فى أى شىء، فأنى يتوكل عليه! لذلك قال: { لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا } .
لماذا يتوكل المرء على الله ؟ ..
2- لأنه هو الهادى وهو الذى هداهم: قال تعالى: { وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آَذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (12) } [إبراهيم: 12].
فالهداية بيده سبحانه، وهو الذى هداهم إلى سبيله وطريقه. فكيف يهديهم إلى سبيله وطريقه، ثم يتوكلون على غيره ممن ليس بهاد، ولا مهتد ولا يستطيع لهم الهداية؟ لو كان هذا الذى يتوكلون عليه من دون الله يستطيع هدايتهم إلى صراط الله تعالى، ويدخلهم جنة الله تعالى، كان يمكن أن يقال: إنه له شركٌ فى التوكل مع الله تعالى، ولكنه كما قال تعالى: { وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا } .
وقد ذكر المولى سبحانه هذه الهداية فى سورة يونس، قال تعالى: { قُلْ هَلْ مِنْ /ن3ح !%x.uژà° مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمْ مَنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (35) } ]يونس: 35[.(1/12)
هل من شركائكم من يهدى إلى الحق؟ من هذا الذى يجوز أن يكون نظيراً لله؟! ومن الذى يمكنه أن يعرف الجنة والنار والدنيا والآخرة والضلال والصواب والحق والباطل والحساب والعقاب والكتب والرسل... حتى يتبعه الناس ويهتدوا بهديه إلا أن يكون الله سبحانه وتعالى، وأن يكون ذلك عن طريق رسله الذين هداهم إلى طريقه. لا، لا يمكن ذلك لأحدٍ أبداً.. فهل من شركائكم من يهدى إلى الحق ؟ { قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ } ، ثم يقول: { أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمْ مَنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى } .. يعنى هذا الذى لا يهتدى إلا أن يُهدى، أى من يحتاج إلى أن يهديه غيره، فكيف يكون هو الهادى؟.. { قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ } .
فكيف يكون من هذا حاله هو الهادى؟ فهم يتوكلون على الله لأنه هو الوكيل سبحانه من ناحية، ومن ناحية أخرى لأنه سبحانه هداهم سبلهم، فهداهم إلى الحق والصواب فى الدنيا، وإلى الصراط المستقيم فى الآخرة، وأن غيره لا يتوكل عليه لأنه لا يستحق ذلك أحد والهداية أعظم شىء وأجله لأنها سعادة الدنيا والآخرة.
لماذا يتوكل المرء على الله ؟ ..
3- لأنه سبحانه عزيز حكيم: { وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِن اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (49) } [الأنفال: 49[.(1/13)
فلماذا يتوكلون على الله؟ لأنه عزيز حكيم، ومن صفات الوكيل التى سبق أن ذكرناها أنه لا يأخذ على وكالته أجراً، وأن يكون قوياً قادراً، فيحمى، ويحفظ، ويدفع عمن يتوكل عليه، وأن يتصرف له فى الوكالة بالحكمة، والتى هى وضع الشىء فى موضعه المناسب، فيخرج عن الحمق والجهل الذى يمكن أن يتصرف به الوكيل عن مُوَكِّلِهِ، فَيَتَصَرَّف له بالحكمة، والعزة، فيستطيع أن يُوَصِّله إلى ما وكله فيه بالقوة والحكمة والعلم والقدرة وتمام الكفاية له بتمام القوة والمنعة، فأنت تقول: (هذا فلان عزيز) أى لا يستطيع أحد أن يصل إليه، أو يتمكن منه، لأنه قوى ممتنع قادر، وكذلك فإن المولى سبحانه هو الحكيم، فيكون قضاؤه وتصرفه ليس بالطيش، ولا بالجهل، ولا بالحمق، ولا عدم العلم، ولا عدم تقدير الأمور، ولا تقدير عواقبها، بل هو سبحانه وتعالى هو القائم بذلك كله. فمن أجدر منه بالتوكل؟
لماذا يتوكل المرء على الله ؟ ..
4- لأن الحكم له سبحانه بل هو مقصور عليه: { إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (67) } [يوسف: 67].
فإذا توكل المرء على من لا يحكم فيمكن أن يمنعه الحاكم الحقيقى، أى إذا توكل على المحكوم الذى ليس أمره بيده بل بيد غيره، وناصيته بيد غيره، ويمكن أن يقع عليه من غيره الحبس والمنع والوقف عن التصرف.
وكذلك فإن الحكم مقصور على الله سبحانه وتعالى، لا لأحد غيره، ومن كان له شىء من الحكم فهو مما أعطاه الله، ووهبه إياه، لذلك قال: { إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ } .. لذلك فقد توكلت عليه، وكذلك فإن المتوكلين إذا أرادوا أن يتوكلوا فعليه سبحانه، لا على غيره، ودل النفى والاستثناء على الاختصاص؛ أى له الحكم سبحانه لا لأحدٍ غيره.(1/14)
فلما علمت أنه الحَكَم والحاكم وأن له الحكم سبحانه وتعالى، فمن الجهل والحمق أن تتوكل على غيره، ممن لا يملك شيئاً، ولا يستطيع شيئاً، لأن هذا المحكوم لا يتصرف فى نفسه فضلاً أن يتصرف فى غيره، بل كله بيد غيره: يحركه، ويمنعه من التصرف، ويُوقِفُهُ، ويَطْرُدُهُ، ويَحْرِمُهُ، ويُجَرِّدُهُ مالَه وحياته أيضاً، فإذا أردت أن تتوكل، فعليه هو صاحب الحكم والأمر والنهى سبحانه وتعالى.
لماذا يتوكل المرء على الله ؟ ..
5- لأن الأمر كله راجع إليه: وذلك فى قوله سبحانه: { وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123) } [هود: 123[.
فله الأمر كله، وإليه يرجع الأمر كله، إن كان الأمر يرجع لأحد، أو التصريف يرجع لأحد، أو الشأن يرجع لأحد، إن كان أى شىء من ذلك يرجع لأحد غيره فتوكل على هذا الغير. ولكن إليه لا إلى غيره يرجع الأمر، فلذلك فاعبده، وتوكل عليه. وكذلك الغيب كله له، غيب السموات والأرض، وغيرُه لا يعلم ما يحدث فى غد بل بعد قليل فى محيطه المحدود، فلاشك أن قصور علمه سبب لوقوع الخلل فى عمله وتدبيره، وأنه ليس له بصر من ثم بعواقب الأمور ونتائج الأعمال، فمن له الغيب وتمام العلم، هو الذى يحكم أحسن الأحكام للأعمال، ويدبرها أفضل التدبير حالاً ومآلاً فاعبده وتوكل عليه.
لماذا يتوكل المرء على الله ؟ ..
6- لأنه سبحانه هو الحى الذى لا يموت: { وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا } [سورة الفرقان: 58].(1/15)
وكان يمكن أن يقول: { وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ } فيفتح لك باب التوكل على أى حى، أى حى تذهب إليه، وتتوكل عليه، ولكن خصص ذلك التوكل منك بأن يكون على { الَّذِي لَا يَمُوتُ } ، وهو الله سبحانه. فقيدها بأن هذا الحى الذى تتوكل عليه ينبغى ألا يكون معرضاً للفناء، فالذى يموت؛ حياته بيد غيره، فإن توكلت عليه، وأصبح ميتاً، ضاع عليك ما قصدته لأجله، أو ما طلبته منه، أو توجهت به إليه.. إلى غير ذلك مما ذكرنا.
فلا تتوكل حينئذ على أحد فى الدنيا ولا فى غيرها إلا على الله، لا على نفسك، ولا على غيرها: حاكماً كان، أميراً كان، عظيماً كان، حقيرا كان، قوياً كان، ضعيفاً كان، لأن كل ذلك فانٍ، لأنه سبحانه أمرك بالتوكل عليه فقط، لأنه هو الحى، وهو الذى لا يموت، كما نهاك أن تتوكل على أى أحد بعده أو غيره، لأن هذا الغير يموت ويفنى وينتهى، فالجن والإنس يموتون، فيخرج بذلك من قلبك كل ركون إلى غيره أوثقةً فى ذلك الغير، أو اعتماداً على هذا الزائل.
لماذا يتوكل المرء على الله ؟ ..
7- لأنه سبحانه هو العزيز الرحيم: { وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (217) } [الشعراء: 218[..
العزيز وكما سبق القول، هو القوى الممتنع القادر، يصل إلى كل شىء، ولا يصل إلى جنابه شىء، والذى تشتد إليه حاجة كل مخلوق.(1/16)
والرحيم فى نفس الوقت هى من الصفات التى ينبغى توافرها فى الوكيل، لأنه لا يستطيع أن يقوم بأمرك إلا الرحيم بك، لو لم يكن رحيما بك لَفَرَّطَ فى أمرك، ولم يقم لك بأشغالك على تمام الرحمة، ولا يهمه ما يقع بك، يذهب ليُقِيمَ لك هذا الشيء، فإن أقامه لك كان بها، وإن لم يقم لك لم يكن لِيُهِمَّهُ ما يقع بك، ليس رحيماً، أو رؤوفاً، أو مشفقاً. لا يحاول أن يأتى لك بكل خير، وأن يمنع عنك كل شر، ولا يحاول أن يحصل لك كل المصلحة، ولا يحاول أن يدفع عنك المفسدة أو المضرة.. لا يستطيع ذلك إلا الرحيم، لذلك تجد هذه الصفة فى الأب؛ فهو يكافح من أجل لأولاده، ويهمه مصلحتهم، ويقوم على تحصيل سعادتهم، فيقوم بأشغالهم، ويتحمل أعباءهم، ويدفع عنهم السوء.. كل ذلك، وهو غير حزين، ولا متضايق، ولا متأفف من أن يقوم لهم بذلك. بل سعيد أن يراهم على أحسن حال، فإن كان الأب كذلك، فما بالك بالرب الرحيم سبحانه، وقد وسعت رحمته كل شىء.
لماذا يتوكل المرء على الله ؟ ..
8- لأن النبى - صلى الله عليه وسلم - على الحق المبين: { فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (79) } ]سورة النمل:80[.
ويكون الحق المبين مستفاد من الله عز وجل: فتوكل على الله، لأن الله تعالى هو الحق، وأنت على الحق الذى وهبك سبحانه إياه، فلا تخش من شىء، لأنك متوكل عليه سبحانه، فأنت على الحق الذى هو منه جل وعلا.(1/17)
توكل على الله لأنك متبع للرسول - صلى الله عليه وسلم - فى أحوالك وأقوالك وأفعالك، ظاهراً وباطناً، والرسول - صلى الله عليه وسلم - على الحق المبين، والله - عز وجل - هو الذى يُظْهرُ هذا الحق، ويُعْلِيه، ويُخْفِضُ الباطل، ويمحقه، فلا تخش شيئاً، لأنك متوكلٌ عليه، والتعبير ها هنا بالإلزام: أى توكل على الله (تعليله: بسبب) أنك على الحق المبين، وكل أحد يظن أنه على الحق، ولكن الحق المبين لا يكون إلا من عند الله، والرسول - صلى الله عليه وسلم - على هذا الحق، وليس أى حق، بل الحق المبين، الواضح، فلا يخش شيئاً، فمهما اتبعت الرسول - صلى الله عليه وسلم - قربت من هذا الحق، وبالتالى من هذا التوكل العظيم.
لماذا يتوكل المرء على الله ؟ ..
9- لأنه هو الله الواحد المعبود الذى لا إله إلا هو: { اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (13) } [التغابن: 13]، لأنه لا إله إلا هو، لا معبود بحق إلا الله، فهو الذى تألهه القلوب، وتعظمه، وتعبده وتحبه وتخافه وترجوه، فإذا كان هذا المعبود بحق سبحانه وتعالى، فلابد أن يقف لعبيده، ويدفع عنهم، وهو الذى يقويهم، ويرزقهم، ويحفظهم، كما ذكرنا فى تعلق توحيد الربوبية بالألوهية، إذا كان هو الرازق، الخالق، المحيي، المميت، فلا بد أن يكون هو الإله المعبود، الذى لا إله إلا هو، وإذا كان هو المعبود الذى يعبده الناس، ويدعونه، وينيبون إليه، ويتضرعون إليه، فلابد أنه هو الذى يعطيهم ويمنحهم ويرزقهم، ويحييهم ويميتهم، ويحفظهم ويرعاهم ويتولاهم بعنايته، لذلك قال سبحانه: { اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (13) } .(1/18)
إذا كان لا إله إلا هو، فكيف يتوكل المرء على غيره؟ إذ ليس ثم غيره إلهاً. لا إله إلا هو، الواحد، الحق سبحانه وتعالى، فكيف يلوى على غيره، ويرجو غيره، وأن غيره ليسوا بآلهة لا يستحقون عبادة، ولا دعاء، ولا إنابة، ولا خوفاً، ولا خشية، ولا رجاء، لأنهم لا يملكون ضراً، ولا نفعاً، ولا موتاً، ولا حياة، ولا نشوراً، ولا شيئاً، فالإله الحق هو الذى يجب أن يتوكل عليه العبد. لماذا ؟ لأنه يدعوه، ويتضرع إليه، ويطلب منه، ويصلى له، ويسجد، ويركع، ويصوم، ويحج، ويزكى، وبقية العبادات التى يقوم له سبحانه، ألا يكون ذلك مدعاة لأنْ تتوكل عليه هو، لا على غيره، فكيف تدعوه، وتتضرع إليه، وتطلب منه، وتصلى له، وتسجد، وتركع، وتصوم، وتحج، وتزكى.. ثم أنت تتوكل فى أمورك على غيره، إذا كان غيره هذا ينبغى أن يكون مثلك؛ يدعوه، ويتضرع إليه، ويسجد له ويتوكل عليه.
لماذا يتوكل المرء على الله ؟ ..
10- لأنه سبحانه هو الحسيب والكافى: { ... قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (38) } [الزمر: 38].(1/19)
فالمتوكلون إذا أرادوا أن يتوكلوا، فإنهم يتوكلون على من يكفيهم، حسبى الله تعنى أن الله سبحانه وتعالى يكفيني، قل حسبى الله، وهى الآية التى شرحها فى الآية الأخرى: { وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ } [الطلاق: 3[.. فالله يكفيك، فإذا كان هو سبحانه الذى يكفيك فعليه توكل.. { وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ } .. يكفيك أمور الدنيا وأمور الآخرة، وأمور نفسك، وأمور الشيطان، يكفيك أمور الهوى، والعباد، والخلق، والرزق، والتدبير، كل هذه الأمور، حتى أمور العبادة، والتوكل، والإنابة، فيكفيك أن تعلم عندما تقول حسبى الله أنه هو الذى يكفيك، ولا يكفيك أحدٌ غيره، ولا يغفر لك أحدٌ غيره، ولا يقوم بشئونك فى الدنيا والآخرة أحدٌ غيره، ولا يصلحك فى الدنيا والآخرة غيره، ولا يدفع عنك الضر فى الدنيا والآخرة غيره، من الذى يدفع عن أحد فى الدنيا؟ فإن دفع فى الدنيا فمن الذى يدفع عنه فى الآخرة؟ من الذى يغفر؟ من الذى تنيب إليه؟ من الذى يرزق؟ من الذى يحيى؟ من الذى يميت؟ من الذى يوفق ويهدى؟ من الذى يعطى ويشفى ويفك الكرب ويقيل العثرات غيره سبحانه وتعالى؟ لذلك تتعلم حينما تقول هذه الكلمة أن الله تعالى هو الكافى، وستأتى إن شاء الله تعالى فى قوله سبحانه فى عاقبة التوكل: { فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ } [آل عمران: 159[.
لماذا يتوكل المرء على الله ؟ ..
11- لأنه سبحانه أعظم وكيل: { وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا } [الأحزاب: 3].(1/20)
أمره سبحانه بالتوكل، وحيث أنه ليس هناك وكيلٌ يكفى إلا هو سبحانه وتعالى، وهى - هذه الآية - لا تحتاج إلى أى كلام، ولكنه ضعف الإيمان، فعدم فهم قضية الإيمان والتوكل هو السبب فى أن المرء يهلع، ويجزع، ويصيبه الفزع والجزع إذا نزل به شىء، ونسى أنه من الله، وأن الله تعالى هو الذى يرفع هذا الذى نزل، وأن الله سبحانه وتعالى هو الذى يكفيه، فعندها يقول: حسبى الله؛ فيمتلئ قلبه إيماناً، ويقيناً، وطمأنينة، ورضا، وتسليماً، وتفويضاً، واعتماداً، واستناداً على الله تبارك وتعالى، ويُخْرِج من قلبه سوء الظن بربه، ويَثْبُتُ قلبُه عند ملاقاة ذلك، وينشرح صدرُه لقضائه وقدره سبحانه وتعالى. لذلك قال: { ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102) } ]الأنعام: 102[.
إذن.. فلماذا يتوكل المرء على الله ؟ ..
12- لأنه خالق كل شىء، وأنه على كل شىء وكيل: { ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102) } [الأنعام: 102[.
لذلك فقد قال المولى سبحانه وتعالى أيضاً: { وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (132) } ]النساء: 132[.
فالسماوات والأرض له سبحانه، هل لأحد فى الأرض شىء؟ وإن كان لأحدٍ فى الأرض شىء فمن الذى له فى السماوات شىء؟ وما فيهما؟ وما عليها؟ ومن كان فيها وما كان؟ وما يكون؟ وما يمكن أن يحدث إلى أن تقوم الساعة؟ كل ذلك له سبحانه وتعالى فعليه فتوكل، لا على غيره، وحينئذ تتعلم أنه لا كافىَ إلا الله.(1/21)
وكذلك الآية الأخرى: { وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (132) } ]النساء: 171[.. لما تحقق المؤمنون بتلك الأسباب من أسباب التوكل وصل بهم إلى هذه الحالة الحسنة، فقال سبحانه وتعالى: { إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا (65) } ]الإسراء: 65[.
فقد وصل إلى الحالة الجميلة، الحالة التى يحتاجها المؤمنون، وهى كيف لا يكون للشيطان عليهم سلطان؟ ولا يكون ذلك إلا بالله تعالى، أى بالتوكل عليه سبحانه، لماذا ؟ قال: لأنه كفى بالله وكيلا، فإذا توكل المرءُ على اللهِ تعالى كان جزاؤه { إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ } .. لماذا ؟ قال: لأنهم متوكلون على الله تعالى، ويظن المرء أن سياق الآية ينبغى أن يكون مثلاً: إن الله كان غفوراً رحيماً، وقوياً عزيزاً لأنه ليس للشيطان عليهم سلطان، ويفاجأ المرء عندما يجد سياق الآية ينتهى بقوله: { وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا } .. فلماذا كان خاتمة هذه الآية هكذا؟
والإجابة على هذا السؤال فى آية سورة النحل؛ حيث يقول المولى جل وعلا: { إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) } [النحل: 99[.
المقصود فى هذه الآية الإتيان بالتوكل وليس الإيمان، لأنه يخاطب المؤمنين، فالمولى سبحانه يُوَضِّحُ لعباده صفةً من صفات المؤمنين، والتى هى من أهم صفاتهم والتى لا يستطيع الشيطان بسبب وجودها أن يكون له عليهم سلطان، وهى صفة التوكل، إذن ما الذى يجعل الشيطانَ يفقد سلطانه على المؤمنين؟ إنها تلك المنْزلة العاليه، وهى منْزلة التوكل والتى يتفاوت فيها المؤمنون، والسر فى هذا المعنى قوله تعالى: { إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ }
[(1/22)
النحل: 99]، { إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا } [الإسراء: 65].
وكذلك آيات سورة الحجر: { قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40) قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ (42) } ]الحجر:40-42[.
فسياق الآية: { إِنْ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ } ، وكأن أى آية تكون بدايتها { إِنْ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ } فيظن العقل القاصر للمرء أن نهايتها هى { إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ } .. أما فى الآية التى نتناولها فقال فيها سبحانه: { وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا } لماذا؟ لأن هؤلاء المتوكلين قال فيهم المولى سبحانه وتعالى إن الشيطان ليس له عليهم سلطان { إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) } .. فهو لم يتسلط عليهم لأنهم عباد لله المتوكلون عليه سبحانه وتعالى، ولما كانوا عباداً له مخلصين، وكان توكلهم عليه سبحانه فكفاهم بكفايته.. { وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا } .
- - -
ثالثاً: التوكل والإيمان:
الإيمان من ثمراته التوكل، وعلى قدر الإيمان على قدر ما يكون التوكل على الله تعالى أو الهلع والجزع الذى نراه فى أحوالنا، لذلك قال تعالى:
1. { وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ } [آل عمران: 122[.
2. { وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } [المائدة: 23[.
3. { إِنْ كُنْتُمْ آَمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ } ??]يونس: 84[.(1/23)
4. { وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ } [التغابن: 13[.
فهذه الآيات تبين علاقة الإيمان بالتوكل، وأنه عندما حَضَّهُم سبحانه وتعالى على التوكل أثار فيهم قضية الإيمان، يعنى أن يقول لهم: إن كنتم آمنتم بالله فتوكلوا عليه، لأن التوكل دليل الإيمان ومرتبط به، وأن الضعف الذى نحن فيه إنما هو ضعف التوكل على الله، والاستناد إليه، والتفويض إليه، وتسليم الأمر إليه، وأن تسلم إرادتك إلى إرادته، وتصرفك إلى تصرفه، وأن يدبر هو جل وعلا لك شأنك، وأن يقوم على أمورك وأحوالك، وأن تعتقد فى ذلك الاعتقاد الجازم، وأن تعتقد أنه يدبر لك، ويقضى لك، ويهيئ لك أفضل ما يمكن أن يكون لك، وأن يقوم لك بأشغالك... إلى آخر ذلك. وذلك دليل الإيمان، فضعف التوكل دليل ضعف الإيمان، وأننا فى درجات الإيمان الدنيا، والتى لا يصدر منها حسن التوكل، ولا التفويض، ولا التسليم، بل التى يصدر منها الاعتراض على الله تعالى، وعدم الرضا بقضائه، ويقول أنا متوكل على الله، وكذب؛ فلو توكل على الله لرضى بما فعل الله، كما ذكرنا فى دروس التوكل من قبل.
- - -
رابعاً: عاقبة التوكل:
أشار القرآن الكريم إلى عاقبة التوكل حتى يَحْمِلَ المؤمنين على التوكل والإيمان بالله تعالى، فذكر هذه العواقب:
العاقبة الأولى: الكفاية من الله تعالى للمتوكلين: { وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ } [الطلاق: 3[.. فأَعْظِمْ بالكفاية من شىء، ولكن القلوب لم تصل بعد إلى هذا المعنى.
العاقبة الثانية: محبة الله تعالى للمتوكلين: { فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159) ] } آل عمران:159[.
العاقبة الثالثة: ما عند الله خير وأبقى لهم: { وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آَمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } ]الشورى: 36[.(1/24)
العاقبة الرابعة: أن أجرهم أعظم الأجر بإضافة الصبر لهم: { نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (58) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (59) } ]العنكبوت: 58:59[.
العاقبة الخامسة: أن الشيطان ليس له عليهم سبيل: { إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) } ]النحل: 99[.
فلا سلطان للشيطان على المتوكلين من المؤمنين، فإذا نظرت لهذه الآيات وجدت تكامل العاقبة الحسنة من الله تعالى للمؤمنين:
- فأجرهم أعظم الأجر فى الآخرة، كما قال سبحانه: { نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ } .
- وما عند الله لهم هو الخير، وهذه فى الآخرة: { وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آَمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (36) } .
- ولهم محبة الله فى الأولى والآخرة.. { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159) } .
- الله سبحانه يكفيهم فى الدنيا والآخرة.. { `tBur ِ@©.uqtGtƒ 'n?tم "!$# uqكgsù ے¼çmç7َ،ym } .
- ليس للشيطان عليهم سبيل، وهذه فى الأولى.. { ¼çm¯Rخ) }ّٹs9 ¼çms9 ي`"sـù=ك™ 'n?tم ڑْïد%©!$# (#qمZtB#uن 4'n?tمur َOخgخn/u' tbqè=2uqtGtƒ اززب } .
فكل الخيرات والعواقب الحسنة قد جمعها الله تعالى لهم... فليس للشيطان عليهم سلطان ، وإذا توكلوا على الله فى الدنيا كفاهم همومهم من أولها إلى آخرها، وإذا توكلوا عليه فى العبادة وفى أمور الآخرة كذلك كفاهم أمور الآخرة، ثم رزقهم محبته سبحانه وتعالى جزاء توكلهم عليه سبحانه، وأعظم الأجر فى الأولى والآخرة عليهم؛ فلا للشيطان عليهم سبيل والله حسبهم، وكافيهم فى الدنيا والآخرة.
تفسير:
وبعد هذا العرض الإجمالى للآيات نورد تفسير بعض الآيات بشىء من التوضيح والتفصيل، وإليك هذه الآية، وهى قوله تعالى: { #sŒخ*sù |MّBzotم ِ@©.uqtGsù 'n?tم "!$# ¨bخ) ©!$# =دtن† tû,خ#دj.uqtGكJّ9$# اتخزب } ]آل عمران: 159[..(1/25)
الملاحظ يجد أن (فتوكل) ليست جواب الشرط لـ (فإذا عزمت) ولكن ( إذا عزمت على أمر فبادر ولا تتردد حتى لا يفوت الوقت ولا يفوت الخير، وكن فى مبادرتك هذه متوكلاً على الله تعالى، وهنا يظهر معنيان:
الأول: المبادرة للأمر مع الأخذ بالأسباب.
الثانى: التوكل على الله سبحانه مع الأخذ بالأسباب، والدليل على أن (فتوكل) ليست جواب لـ(فإذا عزمت) أنها لو كانت جواباً لها لما كان للشورى المأمور بها فى الآية فائدة.. { ¨bخ) ©!$# =دtن† tû,خ#دj.uqtGكJّ9$# اتخزب } [آل عمران: 153[.
لأن التوكل علامة صدق الإيمان، ومن التوكل ملاحظة عظمة الله وقدرته، لذلك فهو يتوكل عليه، ويعتقد فى نفس الوقت ضرورة الحاجة إليه، وعدم الاستغناء عنه، فهو يتوكل على الله سبحانه لأن:
- العبد محتاجٌ إلى الله.
- أن الله سبحانه عظيم قادر، إذا توكل عليه العبدُ كفاه سبحانه.
وهذا أدب عظيم مع الخالق، يدل على محبة العبد لربه، فكان جزاؤه محبة الله له، فالمتوكلون أحبوا الله تعالى لأنهم لجئوا إليه وعلموا أنهم غير مُستغنين عنه سبحانه، وفى نفس الوقت علموا عظمة الله تعالى وقدرة الله تعالى ورحمة الله تعالى بهم، واستيقنوا من ذلك، فدل ذلك كله على صدق إيمانهم به: أى دل على محبتهم له، وأنهم توجهوا إليه بهذا التوكل لمحبتهم له، واعتقادهم فى ربهم أنه هو قوى قادرٌ، وسيكون لمصلحتهم، مع صدق إيمانهم فى كونه يمكن أن يقوم لهم بذلك كله، فكان جزاؤهم من الله تعالى على هذه المحبة التى أحببوها لربهم أن الله تعالى أحبهم.. { ¨bخ) ©!$# =دtن† tû,خ#دj.uqtGكJّ9$# اتخزب } ]آل عمران: 159[.
سبحانك اللهم وبحمدك.. أشهد ألا إله إلا أنت.. أستغفرك وأتوب إليك..
وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
- - -(1/26)