ـ[أَركانُ الإيمانِ]ـ
إعداد
الباحث في القرآن والسنة
علي نايف الشحود
حقوق الطبع لكل مسلم
الطبعة الرابعة
1431هـ - 2010 م
مزيدة ومنقحة(/)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين
أما بعد:
فهذا كتابٌ مختصر فيه خلاصة العقيدة الإسلامية الصحيحة، وذلك بأسلوبٍ معاصر سهل وجذاب.
وقد ذكرت فيه الخلاصة التي اتفق عليها علماء الإسلام في العقيدة الإسلامية، مشفوعةً بأدلتها من القرآن الكريم وصحيح السنة النبوية المطهرة، وقد قسمته لسبعة أبواب:
- الباب الأول - مفهوم العقيدة الإسلامية
- الباب الثاني- أهمية العقيدة في حياة الإنسان
- الباب الثالث - مفهوم الإيمان
- الباب الرابع- الإيمان بالغيب
- الباب الخامس- أركان الإيمان
•الركن الأول "الإيمان بالله"
•الركن الثاني: الإيمان بالملائكة
•الركن الثالث: الإيمان بالكتب
•الركن الرابع: الإيمان بالرسل
•الركن الخامس: الإيمان بالقدر
•سادسا- الإيمان باليوم الآخر
- الباب السادس - أهم خصائص العقيدة الإسلامية
- الباب السابع- فوائد الإيمان وثمراته
مع تفصيل كل نقطة وتقسيمها إلى جزئيات ليسهل حفظها(1/1)
- التركيز على آثارها السلوكية والوجدانية التي نحن بأمس الحاجة إليها
- الابتعاد عن تعقيدات علم الكلام
والآيات كلها معزوة لسورها وغالبها مشروح بشكل مختصر، والأحاديث مخرجة من مصاردها ومحكوم عليها بما يناسبها جرحا وتعديلاً، وجلُّها صحيحة.
وقد شرحت هذا الكتاب بكتابي ((الواضح في أركان الإيمان))
هذا وأسأل الله تعالى أن ينفع بها كاتبها وقارئها إنه نعم المولى ونعم النصير {إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ {88}
في ليلة الخميس 29/ 2/1424 هـ الموافق 1/ 5/2003 م
تمت مراجعته وتعديله بتاريخ 26 ربيع الآخر لعام 1428 هـ
وتم تنقيحه وتعديله في 13 شوال 1431 هـ الموافق ل 22/ 9/2010 م
وكتبه
الباحث في القرآن والسنة
علي بن نايف الشحود(1/2)
الباب الأول
مفهوم العقيدة الإسلامية
العقيدة الإسلامية هي: مجموعة من الأسس والمبادئ المتعلقة بالخالق عز وجل والنبوات, وما أخبر به الأنبياء من الأمور الغيبية، مثل الملائكة والبعث واليوم الآخر وغيرها من الأمور التي أخبر بها الرسل بناءاً على ما أوحَى الله عز وجل إليهم, ومن ثمَّ دعوا الناس إلى الإيمان الجازم بها مع اعتقاد بطلان كلِّ ما يخالفها.
ما يدخل في مفهوم العقيدة الإسلامية:
1 - ما يتعلق بالله تعالى وكل ما أخبر به عن نفسه تعالى: ذاتا، وصفاتا، وأفعالا.
2 - الرسل الكرام الذين بعثهم الله تعالى برسالاته إلى البشر, وما يتعلق بأولئك الرسل عليهم السلام من صفات, وما يجب في حقهم، وما يستحيل عليهم، وما هو جائز منهم.
3 - الأمور الغيبية: وهي التي لا يمكن الوصول إلى معرفتها إلا بوحي من الله تعالى، بواسطة رسول من رسله- عليهم السلام- أو كتاب من كتبه.
ويدخل في هذه الأمور:
1 - الملائكة: فيجب الإيمان بهم جملة, وبمن علمنا اسمه, ومن علمنا عمله تفصيلاً.
2 - الكتب: فيجب الإيمان بأن لله كتبا أنزلها على رسله عليهم السلام. فنؤمن بما نص عليه تفصيلا كما قال الله تعالى: { .. وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا} (55) سورة الإسراء، وقوله {إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ ... } (44) سورة المائدة , وقوله تعالى: {وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فِيهِ ... } (47) سورة المائدة، كما نؤمنُ بما لم يسمَّ منها إجمالا.
3 - اليوم الآخر: وما يتعلق بوقته وكلُّ ما أخبرنا به مما يقع فبه من البعث والنشور والحساب والجنة والنار وغير ذلك.
4 - أخبار بدء الخليقة وما يتعلق بذلك.(1/3)
الباب الثاني
أهمية العقيدة في حياة الإنسان
1 - لابد لكل بناءٍ ماديا كان أو معنويا من أساسٍ يقوم عليه. والدين الإسلاميُّ بناءٌ متكامل يشمل جميع حياة المسلم منذ ولادته وحتى مماته, ثم ما يصير إليه بعد موته. وهذا البناءُ الضخم يقوم على أساس متين هو العقيدة الإسلامية التي تتخذ من وحدانية الخالق منطلقا لها, كماقال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (162) سورة الأنعام.
فالإسلامُ يعنَى بالعقيدة ويوليها أكبر عناية, سواء من حيث ثبوتها بالنصوص ووضوحها, أو من حيث ترتيب آثارها في نفوس معتقديها. لذا نجد أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - مكث ثلاثة عشر سنة بمكة المكرمة ينزل عليه القرآن، وكان في غالبه ينصبُّ على البناء العقدي, حتى إذا ما تمكنت العقيدة في نفوس أصحابه رضوان الله عليهم نزلت التشريعاتُ الأخرى بعد الهجرة إلى المدينة.
2 - إن العقيدة- أيا كانت هذه العقيدة- تعدُّ ضرورة من ضروريات الإنسان التي لا غنى له عنها, ذلك أن الإنسان بحسب فطرته، يميل إلى اللجوء إلى قوة عليا يعتقد فيها القوة الخارقة, والسيطرةَ الكاملة عليه وعلى المخلوقات من حوله. وهذا الاعتقادُ يحقق له الميل الفطري للتدين, ويشبع نزعته تلك، فإذا كان الأمر كذلك فإنَّ أولى ما يحقق ذلك هو الاعتقادُ الصحيح الذي يوافق تلك الفطرة, ويحترم عقل الإنسان ومكانته في الكون، وهذا ما جاءت به العقيدة الإسلامية. قال الله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ} (82) سورة الأنعام.3 - لما كان الدين الإسلامي بناء متكاملاً اعتقادا وعبادة وسلوكا، لزم أن يكون هذا البناء متناسقا ومنسجما، لذا نجد أن العنصر الأساسي فيه هو العقيدةُ الإسلاميةُ التي يقوم عليها، وهي عقيدة التوحيد الخالص لله تعالى، مما يكسبها مركزا مهما لفهم الدين الإسلامي فهماً صحيحاً. فالعقائد الإسلامية والعبادات والمعاملات والسلوك كلُّها تتجهُ(1/4)
لوجهة واحدة هي إخلاصُ الدين لله تعالى, وهذا الاتجاه المتحد له أهمية قصوى في فهم الدين الإسلامي, قال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً} (125) سورة النساء
4 - إن إخلاص الدين لله تعالى لا يبلغ كماله إلا بإخلاص المحبَّة لله المعبود،والمحبةُ لا تكتمل إلا بتمام المعرفة. والعقيدة الإسلامية تقدم للإنسان كل ما يجب عليه معرفته في حقِّ الله تعالى, وبذلك يبلغ كمال المحبة، وبالتالي يسعى لكمال الإخلاص لله تعالى؛لأنه أتم معرفته به، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: (أَنَا وَاللَّهِ أَعْلَمُكُمْ بِاللَّهِ، وَأَتْقَاكُمْ لَهُ) (1)،وعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَأْمُرُهُمْ بِمَا يُطِيقُونَ فَيَقُولُونَ إِنَّا لَسْنَا كَهَيْئَتِكَ قَدْ غَفَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ. فَيَغْضَبُ حَتَّى يُرَى ذَلِكَ فِى وَجْهِهِ. قَالَ ثُمَّ يَقُولُ «وَاللَّهِ إِنِّى لأَعْلَمُكُمْ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ قَلْباً» (أخرجه أحمد) (2).
5 - إن الإنسان هو خليفة الله تعالى في الأرض (3)،وقد وكّل إليه إعمارها, كما أمر بعبادة الله تعالى والدعوة إلى دينه. والمسلمُ في حياته كلها يستشعر أنه يؤدي رسالة الله
__________
(1) - المستدرك للحاكم برقم (1742) وصحيح ابن خزيمة برقم (2704) وهو صحيح
(2) - برقم (25021) وهو صحيح
(3) - وفي فتاوى الشبكة الإسلامية: رقم الفتوى 40112 لا حرج في مقولة "الإنسان خليفة الله في الأرض" تاريخ الفتوى: 18 رمضان 1424
السؤال:أود السؤال هل يصح قولنا: الإنسان خليفة الله في الأرض، أو أن الأصح الإنسان خليفة في الأرض؟ وجزاكم الله كل خير.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فلا حرج في قولك "الإنسان خليفة الله في الأرض" لما رواه أحمد عن حذيفة رضي الله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيه: فإن رأيت يومئذٍ خليفة الله في الأرض فالزمه ... والحديث حسنه شعيب الأرناؤوط في تحقيق المسند، والألباني في صحيح الجامع برقم 2995.
ويصح قولك" الإنسان خليفة الله في الأرض" للآية الكريمة في سورة البقرة إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً [البقرة:30].
وقد ذهب بعض أهل العلم إلى منع هذا الإطلاق (خليفة الله) أو كراهته، إلا إن أريد بالإضافة أن الله استخلفه عن غيره ممن كان قبله، قال ابن القيم رحمه الله: وحقيقتها: خليفة الله الذي جعله الله خلفا عن غيره. وانظر تفصيل ذلك في معجم المناهي اللفظية للشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد ص 252.والله أعلم. المفتي: مركز الفتوى بإشراف د. عبدالله الفقيه(1/5)
تعالى بتحقيق شرعه في الأرض, فعقيدته تدفعه إلى العمل الجاد المخلص، لأنه يعلم أنه مأمور بذلك دينا, وأنه مثاب على كل ما يقوم به من عمل جلَّ ذلك العملُ أم صغرَ قال تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (40) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى (41) [النجم/39 - 41]}.
6 - إن إفراد الله تعالى بالتوجه إليه في جميع الأمور يحقق للإنسان الحريةَ الحقيقية التي يسعى إليها، فلا يكون إلا عبدا لله تعالى وحده لا شريك له, فتصغر بذلك في عينه جميعُ المعبودات من دون الله، وتصغر العبودية للمادة والانقياد للشهوات. فإن العقيدةَ ما إنْ تتمكنْ من قلب المسلم حتى تطرد منه الخوف إلا من الله تعالى، والذل إلا لله. وهذا التحرر من العبودية لغير الله تعالى هو الذي جعل جنديا من جنود الإسلام - وهو ربعي بن عامر رضي الله عنه (1) - عندما ذهب لملك الفرس حين سأله عن سبب مجيئهم، فقال:" الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، فأرسلنا بدينه إلى خلقه لتدعوهم إليه، فمن قبل ذلك قبلنا منه ورجعنا عنه، ومن أبى قاتلناه أبداً حتى نفضي إلى موعود الله" (2).
__________
(1) - ربعي بن عامر بن خالد بن عمرو. قال الطبري: كان عمر أمد به المثنى بن حارثة وكان من أشراف العرب وللنجاشي الشاعر فيه مديح.،وقال سيف في الفتوح عن أبي عثمان عن خالد وعبادة قالا: قدم على أبي عبيدة كتاب عمر بأن يصرف جند العراق إلى العراق وعليهم هاشم بن عتبة وعلي مقدمته القعقاع بن عمرو وعلى مجنبته عمير بن مالك وربعي بن عامر وفي ذلك يقول ربعي:
أنخنا إليها كورة بعد كورة ... نقصهم حتى احتوينا المناهلا
وله ذكر أيضاً في غزوة نهاوند وكان ممن بنى فسطاطاً أمير تلك الغزوة النعمان بن مقرن وولاه الأحنف لما فتح خراسان على طخارستان.
وقد تقدم غير مرة أنهم كانوا لا يؤمرون إلا الصحابة. الإصابة في معرفة الصحابة - (ج 1 / ص 349) و تاريخ دمشق - (ج 18 / ص 49) ت 2136
(2) - البداية والنهاية لابن كثير (ج/ص: 7/ 47) وتاريخ الرسل والملوك - (ج 2 / ص 268)(1/6)
الباب الثالث
مفهوم الإيمان
1. الإيمان اعتقادٌ وقولٌ وعملٌ؛ فهو اعتقاد القلب في الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -،وكل ما جاء به الشرع اعتقاداً جازما لا يرد عليه شك، ولا ريبة ٌ.
2. ثم اتباع ذلك الاعتقاد بعمل الجوارح حتى يطابق الظاهر الباطن. قال الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} (15) سورة الحجرات.
وهذا الاعتقاد الجازم لابد أن يكون في أمر مغيَّبٍ عن الناس، فالإيمانُ بهذا الغيب هو الذي يتفاضل فيه الناس ويتفاوتون.
3. والإيمان يزيدُ بالطاعة وينقصُ بالمعصية، قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4) [الأنفال/2 - 5]}
4. وله شُعَبٌ كثيرةٌ كما أخبر الصادقُ المصدوقُ، أعلاها لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، فعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «الإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ أَوْ بِضْعٌ وَسِتُّونَ شُعْبَةً فَأَفْضَلُهَا قَوْلُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الإِيمَانِ».أخرجه مسلم 0 (1)
5. وله عرى كثيرةٌ أوثقها: الحبُّ في الله والبغضُ في الله، والموالاة ُفي الله والمعاداةُ في الله. فعَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ كُنَّا جُلُوساً عِنْدَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ «أَىُّ عُرَى الإِسْلاَمِ أَوْثَقُ» (2).قَالُوا الصَّلاَةُ. قَالَ «حَسَنَةٌ وَمَا هِىَ بِهَا».قَالُوا الزَّكَاةُ. قَالَ «حَسَنَةٌ وَمَا هِىَ بِهَا».قَالُوا صِيَامُ رَمَضَانَ. قَالَ «حَسَنٌ وَمَا هُوَ بِهِ».قَالُوا الْحَجُّ. قَالَ «حَسَنٌ
6.
__________
(1) - برقم (62)
(2) - العروة: ما يُستمسك به ويُعتصم من الدين(1/7)
7. وَمَا هُوَ بِهِ».قَالُوا الْجِهَادُ. قَالَ «حَسَنٌ وَمَا هُوَ بِهِ».قَالَ «إِنَّ أَوْسَطَ عُرَى الإِيمَانِ أَنْ تُحِبَّ فِى اللَّهِ وَتُبْغِضَ فِى اللَّهِ».أخرجه أحمد (1)،عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «يَا عَبْدَ اللَّهِ أَىُّ عُرَى الإِسْلاَمِ أَوْثَقُ؟».قَالَ قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: «الْوَلاَيَةُ فِى اللَّهِ الْحُبُّ فِى اللَّهِ وَالْبُغْضُ فِى اللَّهِ» السنن الكبرى للبيهقي (2).
8. ومن انتقضَ إيمانٌه بشيء من نواقض الإيمان فكفر، لم تنفعْه بقية ُشعب الإيمان إن وجدت عنده لقوله تعالى: {إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا} (48) سورة النساء، وقال تعالى: { ... وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (5) سورة المائدة. ومن ارتكب المعاصي (غير الكفر والشرك بالله) فهو إلى مشيئة الله، إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له، ما دام عنده أصل الإيمان
فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ - رضى الله عنه - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «مَنْ مَاتَ يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا دَخَلَ النَّارَ».وَقُلْتُ أَنَا مَنْ مَاتَ لاَ يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا دَخَلَ الْجَنَّةَ. (أخرجه البخاري) (3)
وعَنْ جَابِرٍ قَالَ أَتَى النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - رَجُلٌ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الْمُوجِبَتَانِ فَقَالَ «مَنْ مَاتَ لاَ يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا دَخَلَ الْجَنَّةَ وَمَنْ مَاتَ يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا دَخَلَ النَّارَ» (أخرجه مسلم) (4).
و عَنِ الْمَعْرُورِ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا ذَرٍّ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ «أَتَانِى جِبْرِيلُ فَبَشَّرَنِى أَنَّهُ مَنْ مَاتَ لاَ يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا دَخَلَ الْجَنَّةَ».قُلْتُ وَإِنْ سَرَقَ وَإِنْ زَنَى قَالَ «وَإِنْ سَرَقَ وَإِنْ زَنَى» (أخرجه البخاري) (5)
__________
(1) - برقم (19027) وهو صحيح
(2) - (ج 10 / ص 233) برقم (21600) وهو صحيح
(3) - برقم (1238)
(4) - برقم (279)
(5) - برقم (7487و1237 و 1408 و 2388 و 3222 و 5827 و 6268 و 6443 و 6444)(1/8)
فينبغي علينا الحرص على الطاعة والمبادرة إلى العمل الصالح. والمسابقة إلى الخيرات، ليبقى إيماننا في ازدياد، مع المحافظة دوماً على أصل الإيمان وتحصينه، فإنه رأس المال وعروة النجاة الوثقى.(1/9)
الباب الرابع
الإيمان بالغيب
إنَّ الإيمان الغيب هو الذي يتفاضل فيه الناس ويتفاوتون، ولذلك يحسن بنانأن نعرِفَ ما هو الغيب، ثم ننطلق من ذلك إلى بيان أركان الإيمان.
مفهوم الغيب في الإسلام:
الغيب في الإسلام هو: كل ما غاب عن حسِّ الإنسان سواءٌ بقي سرًّا مكتوما يعجز الإنسانُ عن إدراكه بحيث لا يعلمه إلا اللطيف الخبير، أو كان مما يعلمه الإنسانُ بالخبر اليقين عن الله تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم -،وقد يعلمُ الإنسانُ بعض الغيب بتحليله الفكري أو نحو ذلك من الوسائل. (وذلك في بعض ما يمكن الوصول إليه بالوسائل المساعدة، على توسيع مدى الحواس مثل المناظير وغيرها من الأجهزة، وهذا مما يدخل في الغيب النسبي كما سنرى).
أهمية الإيمان بالغيب:
إن الإيمان بالغيب خاصيةٌ من الخصائص المميزة للإنسان عن غيره من الكائنات؛ ذلك لأن َّالحيوان يشترك مع الإنسان في إدراك المحسوس، أما الغيبُ فإن الإنسان- وحده- المؤهلُ للإيمان به بخلاف الحيوان. لذا كان الإيمان بالغيب ركيزةً أساسيةً من ركائز الإيمان في الرسالات السماوية كلها. فقد جاءت هذه الرسالات ُ بكثير من الأمور الغيبية التي لا سبيل للإنسان إلى العلم بها إلا بطريق الوحي الثابت في الكتاب والسنة، كالحديث عن الله تعالى وصفاته وأفعاله وعن السماوات السبع وما فيهن، وعن الملائكة والنبيين والجنة والنار والشياطين والجن وغير ذلك من الحقائق الإيمانية الغيبية، التي لا سبيل لإدراكها والعلم بها إلا بالخبر الصادق عن الله تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم -.
أقسامُ الغيبِ:
1. الغيبُ المطلقُ:(1/10)
هو الذي ليس للإنسان سبيل إلى العلم به عبر وسائل إدراكه أو حواسه،وهو نوعان:
النوع الأول: ما أعلمَ اللهُ تعالى الناسَ به أو ببعضهِ عن طريق الوحي إلى الرسل،الذين يبلغونه إلى الناس،ومن أمثلة ذلك الشياطينُ والجنُّ، وما جاء من أخبارهم،نحو قوله تعالى: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآَنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآَمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا (2) وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا (3) [الجن/1 - 3]}.
النوع الثاني.:ما استأثرَ اللهُ تعالى بعلمه، فلم يطلع عليه أحداً من خلقه، لا نبيٌّ مرسلٌ ولا ملكٌ مقربٌ، وذلك هو المقصود بقوله تعالى: {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} (59) سورة الأنعام،ومن أمثلته العلمُ بوقت قيام الساعة، والموت من حيثُ زمانه ومكانه وسببه، وبعضُ ما سمي الله تعالى به نفسه. قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (34) سورة لقمان، و عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَا أَصَابَ أَحَداً قَطُّ هَمٌّ وَلاَ حَزَنٌ فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّى عَبْدُكَ وَابْنُ عَبْدِكَ وَابْنُ أَمَتِكَ نَاصِيَتِى بِيَدِكَ مَاضٍ فِىَّ حُكْمُكَ عَدْلٌ فِىَّ قَضَاؤُكَ أَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَكَ سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ أَوْ عَلَّمْتَهُ أَحَداً مِنْ خَلْقِكَ أَوْ أَنْزَلْتَهُ فِى كِتَابِكَ أَوِ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِى عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَكَ أَنْ تَجْعَلَ الْقُرْآنَ رَبِيعَ قَلْبِى وَنُورَ صَدْرِى وَجَلاَءَ حُزْنِى وَذَهَابَ هَمِّى. إِلاَّ أَذْهَبَ اللَّهُ هَمَّهُ وَحُزْنَهُ وَأَبْدَلَهُ مَكَانَهُ فَرَجاً».قَالَ فَقِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلاَ نَتَعَلَّمُهَا فَقَالَ «بَلَى يَنْبَغِى لِمَنْ سَمِعَهَا أَنْ يَتَعَلَّمَهَا». (أخرجه أحمد) (1)
2. الغيبُ المقيَّدُ النسبيُّ:
__________
(1) - برقم (3784) والصحيحة برقم (199) صحيح(1/11)
هو ما كان غائبا عن البعضِ، مثلَ الحوادثِ التاريخية. فإنها غيبٌ بالنسبة لمن لم يعلمها، لذلك قال الله تعالى للنبي - صلى الله عليه وسلم - بعد أن ذكر قصة آل عمران: {ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ} (44) سورة آل عمران.
3. الغيبُ المقيَّدُ غيرُ النسبيِّ:
هو كل ما غاب عن الحسِّ بسببِ بعد الزمان (المستقبل)،أو المكان، أو غير ذلك،حتى ينكشف ذلك الحجابُ الزمانيُّ أو المكانيُّ،كما في قوله تعالى: {فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَن لَّوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ} (14) سورة سبأ.وذلك في موت سيدنا سليمان عليه السلامُ.
ومن الأمثلة على الأمور الغيبية:
1. الرُّوحُ: قال الله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} (85) سورة الإسراء.
2. علاماتُ الساعة الصُّغْرَى التي أخبر عنها النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في حديث جبريل: قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَتَى السَّاعَةُ؟ قَالَ: «مَا الْمَسْئُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ، وَلَكِنْ سَأُحَدِّثُكَ عَنْ أَشْرَاطِهَا؛ إِذَا وَلَدَتِ الْمَرْأَةُ رَبَّتَهَا فَذَاكَ مِنْ أَشْرَاطِهَا،وَإِذَا كَانَ الْحُفَاةُ الْعُرَاةُ رُءُوسَ النَّاسِ،فَذَاكَ مِنْ أَشْرَاطِهَا،فِى خَمْسٍ لا يَعْلَمُهُنَّ إِلاَّ اللَّهُ: {إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (34) سورة لقمان». (أخرجه البخاري ومسلم) (1).
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «سَيَأْتِى عَلَى النَّاسِ سَنَوَاتٌ خَدَّاعَاتٌ يُصَدَّقُ فِيهَا الْكَاذِبُ وَيُكَذَّبُ فِيهَا الصَّادِقُ وَيُؤْتَمَنُ فِيهَا الْخَائِنُ وَيُخَوَّنُ فِيهَا الأَمِينُ
__________
(1) - صحيح البخارى برقم (50) ومسلم برقم (102)(1/12)
وَيَنْطِقُ فِيهَا الرُّوَيْبِضَةُ قِيلَ وَمَا الرُّوَيْبِضَةُ قَالَ الرَّجُلُ التَّافِهُ فِى أَمْرِ الْعَامَّةِ». (أخرجه ابن ماجة) (1)،
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - «لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُقْبَضَ الْعِلْمُ، وَتَكْثُرَ الزَّلاَزِلُ، وَيَتَقَارَبَ الزَّمَانُ، وَتَظْهَرَ الْفِتَنُ، وَيَكْثُرَ الْهَرْجُ - وَهْوَ الْقَتْلُ الْقَتْلُ - حَتَّى يَكْثُرَ فِيكُمُ الْمَالُ فَيَفِيضُ». (أخرجه البخاري) (2).
و عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ «لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تُقَاتِلُوا الْيَهُودَ حَتَّى يَقُولَ الْحَجَرُ وَرَاءَهُ الْيَهُودِىُّ يَا مُسْلِمُ، هَذَا يَهُودِىٌّ وَرَائِى فَاقْتُلْهُ». (أخرجه البخاري ومسلم) (3).
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ «لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَقْتَتِلَ فِئَتَانِ، فَيَكُونَ بَيْنَهُمَا مَقْتَلَةٌ عَظِيمَةٌ، دَعْوَاهُمَا وَاحِدَةٌ، وَلاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُبْعَثَ دَجَّالُونَ كَذَّابُونَ قَرِيبًا مِنْ ثَلاَثِينَ، كُلُّهُمْ يَزْعُمُ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ». (أخرجه البخاري) (4).
__________
(1) - برقم (4172) وهو صحيح
(2) - برقم (1036 و85 و 1412 و 3608 و 3609 و 4635 و 4636 و 6037 و6506 و 6935 و 7061و 7115 و7121)
(3) - البخاري برقم (2925) ومسلم برقم (7522)
(4) - برقم (3609 و 85 و 1036 و 1412 و 3608 و4635 و 4636 و 6037 و 6506 و 6935 و 7061 و 7115و7121)
وفي فتح الباري لابن حجر برقم (3609):
قَوْله (فِئَتَانِ) بِكَسْرِ الْفَاء بَعْدهَا هَمْزَة مَفْتُوحَة تَثْنِيَة فِئَة أَيْ جَمَاعَة، وَوَصَفَهُمَا فِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى تَجَوَّزَ أَيْ بِالْكَثْرَةِ، وَالْمُرَاد بِهِمَا مَنْ كَانَ مَعَ عَلِيّ وَمُعَاوِيَة لَمَّا تَحَارَبَا بِصِفِّينَ،وَقَوْله (دَعْوَاهُمَا وَاحِدَة) أَيْ دِينهمَا وَاحِد لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا كَانَ يَتَسَمَّى بِالْإِسْلَامِ، أَوْ الْمُرَاد أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا كَانَ يَدَّعِي أَنَّهُ الْمُحِقّ، وَذَلِكَ أَنَّ عَلِيًّا كَانَ إِذْ ذَاكَ إِمَام الْمُسْلِمِينَ وَأَفْضَلهمْ يَوْمَئِذٍ بِاتِّفَاقِ أَهْل السُّنَّة، وَلِأَنَّ أَهْل الْحَلّ وَالْعَقْد بَايَعُوهُ بَعْد قَتْل عُثْمَان، وَتَخَلَّفَ عَنْ بَيْعَته مُعَاوِيَة فِي أَهْل الشَّام، ثُمَّ خَرَجَ طَلْحَة وَالزُّبَيْر وَمَعَهُمَا عَائِشَة إِلَى الْعِرَاق فَدَعَوْا النَّاس إِلَى طَلَب قَتَلَة عُثْمَان لِأَنَّ الْكَثِير مِنْهُمْ اِنْضَمُّوا إِلَى عَسْكَر عَلِيّ، فَخَرَجَ عَلِيّ إِلَيْهِمْ فَرَاسَلُوهُ فِي ذَلِكَ فَأَبَى أَنْ يَدْفَعهُمْ إِلَيْهِمْ إِلَّا بَعْد قِيَام دَعْوَى مِنْ وَلِيّ الدَّم وَثُبُوت ذَلِكَ عَلَى مَنْ بَاشَرَهُ بِنَفْسِهِ، وَكَانَ بَيْنهمْ مَا سَيَأْتِي بَسْطه فِي كِتَاب الْفِتَن إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى. وَرَحَلَ عَلِيّ بِالْعَسْكَرِ طَالِبًا الشَّام، دَاعِيًا لَهُمْ إِلَى الدُّخُول فِي طَاعَته، مُجِيبًا لَهُمْ عَنْ شُبَههمْ فِي قَتَلَة عُثْمَان بِمَا تَقَدَّمَ، فَرَحَلَ مُعَاوِيَة بِأَهْلِ الشَّام فَالْتَقَوْا بِصِفِّينَ بَيْن الشَّام وَالْعِرَاق فَكَانَتْ بَيْنهمْ مَقْتَلَة عَظِيمَة كَمَا أَخْبَرَ بِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَآلَ الْأَمْر بِمُعَاوِيَةَ وَمَنْ مَعَهُ عِنْد ظُهُور عَلِيّ عَلَيْهِمْ إِلَى طَلَب التَّحْكِيم، ثُمَّ رَجَعَ عَلِيّ إِلَى الْعِرَاق، فَخَرَجَتْ عَلَيْهِ الْحَرُورِيَّة فَقَتَلَهُمْ بِالنَّهْرَوَان وَمَاتَ بَعْد ذَلِكَ، وَخَرَجَ اِبْنه الْحَسَن بْن عَلِيّ بَعْده بِالْعَسَاكِرِ لِقِتَالِ أَهْل الشَّام وَخَرَجَ إِلَيْهِ مُعَاوِيَة فَوَقَعَ بَيْنهمْ الصُّلْح كَمَا أَخْبَرَ بِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيث أَبِي بَكْرَة الْآتِي فِي الْفِتَن " إِنَّ اللَّه يُصْلِح بِهِ بَيْن فِئَتَيْنِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ " وَسَيَأْتِي بَسْط جَمِيع ذَلِكَ هُنَاكَ إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى.
قَوْله: (حَتَّى يُبْعَث) بِضَمِّ أَوَّله أَيْ يَخْرُج، وَلَيْسَ الْمُرَاد بِالْبَعْثِ مَعْنَى الْإِرْسَال الْمُقَارِن لِلنُّبُوَّةِ، بَلْ هُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى (إِنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِين عَلَى الْكَافِرِينَ).وقَوْله: (دَجَّالُونَ كَذَّابُونَ) الدَّجْل التَّغْطِيَة وَالتَّمْوِيه، وَيُطْلَق عَلَى الْكَذِب أَيْضًا، فَعَلَى هَذَا " كَذَّابُونَ " تَأْكِيد. وَقَوْله (قَرِيبًا مِنْ ثَلَاثِينَ) كَذَا وَقَعَ بِالنَّصْبِ وَهُوَ عَلَى الْحَال مِنْ النَّكِرَة الْمَوْصُوفَة، وَوَقَعَ فِي رِوَايَة أَحْمَد " قَرِيب " بِالرَّفْعِ عَلَى الصِّفَة، وَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِم مِنْ حَدِيث جَابِر بْن سَمُرَة الْجَزْم بِالْعَدَدِ الْمَذْكُور بِلَفْظِ " إِنَّ بَيْن يَدَيْ السَّاعَة ثَلَاثِينَ كَذَّابًا رِجَالًا كُلّهمْ يَزْعُم أَنَّهُ نَبِيّ " وَرَوَى أَبُو يَعْلَى بِإِسْنَادٍ حَسَن عَنْ عَبْد اللَّه بْن الزُّبَيْر تَسْمِيَة بَعْض الْكَذَّابِينَ الْمَذْكُورِينَ بِلَفْظِ " لَا تَقُوم السَّاعَة حَتَّى يَخْرُج ثَلَاثُونَ كَذَّابًا مِنْهُمْ مُسَيْلِمَة وَالْعَنْسِيّ وَالْمُخْتَار ". قُلْت: وَقَدْ ظَهَرَ مِصْدَاق ذَلِكَ فِي آخِر زَمَن النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَخَرَجَ مُسَيْلِمَة بِالْيَمَامَةِ، وَالْأَسْوَد الْعَنْسِي بِالْيَمَنِ، ثُمَّ خَرَجَ فِي خِلَافَة أَبِي بَكْر طُلَيْحَة بْن خُوَيْلِد فِي بَنِي أَسَد بْن خُزَيْمَةَ، وَسِجَاح التَّمِيمِيَّة فِي بَنِي تَمِيم، وَفِيهَا يَقُول شَبِيب بْن رِبْعِيّ وَكَانَ مُؤَدِّبهَا: أَضْحَتْ نَبِيَّتنَا أُنْثَى نُطِيف بِهَا وَأَصْبَحَتْ أَنْبِيَاء النَّاس ذُكْرَانًا وَقُتِلَ الْأَسْوَد قَبْل أَنْ يَمُوت النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقُتِلَ مُسَيْلِمَة فِي خِلَافَة أَبِي بَكْر، وَتَابَ طُلَيْحَة وَمَاتَ عَلَى الْإِسْلَام عَلَى الصَّحِيح فِي خِلَافَة عُمَر، وَنُقِلَ أَنَّ سَجَاح أَيْضًا تَابَتْ، وَأَخْبَار هَؤُلَاءِ مَشْهُورَة عِنْد الْإِخْبَارِيِّينَ.(1/13)
وبعضها قد وقع فعلاً، وبعضها لم يقعْ بعدُ.
3. علامات الساعة الكبرى، وهي عشرة كما روي عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ أَسِيدٍ الْغِفَارِىِّ رضي الله عنه قَالَ اطَّلَعَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - عَلَيْنَا وَنَحْنُ نَتَذَاكَرُ فَقَالَ «مَا تَذَاكَرُونَ».قَالُوا نَذْكُرُ السَّاعَةَ.قَالَ «إِنَّهَا لَنْ تَقُومَ حَتَّى تَرَوْنَ قَبْلَهَا عَشْرَ آيَاتٍ».فَذَكَرَ الدُّخَانَ وَالدَّجَّالَ وَالدَّابَّةَ وَطُلُوعَ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا وَنُزُولَ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ - صلى الله عليه وسلم - وَيَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ وَثَلاَثَةَ خُسُوفٍ خَسْفٌ بِالْمَشْرِقِ وَخَسْفٌ بِالْمَغْرِبِ وَخَسْفٌ بِجَزِيرَةِ الْعَرَبِ وَآخِرُ ذَلِكَ نَارٌ تَخْرُجُ مِنَ الْيَمَنِ تَطْرُدُ النَّاسَ إِلَى مَحْشَرِهِمْ. (أخرجه مسلم) (1)
وعن هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ «لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَنْزِلَ فِيكُمُ ابْنُ مَرْيَمَ حَكَمًا مُقْسِطًا، فَيَكْسِرَ الصَّلِيبَ، وَيَقْتُلَ الْخِنْزِيرَ، وَيَضَعَ الْجِزْيَةَ، وَيَفِيضَ الْمَالُ حَتَّى لاَ يَقْبَلَهُ أَحَدٌ». (أخرجه البخاري) (2).
__________
(1) - برقم (7467)
(2) - برقم (2222 و 2476 و 3448 و 3449) المقسط: العادل(1/14)
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رضى الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ «لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا، فَإِذَا طَلَعَتْ فَرَآهَا النَّاسُ آمَنُوا أَجْمَعُونَ، فَذَلِكَ حِينَ لاَ يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا، لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ، أَوْ كَسَبَتْ فِى إِيمَانِهَا خَيْرًا، وَلَتَقُومَنَّ السَّاعَةُ وَقَدْ نَشَرَ الرَّجُلاَنِ ثَوْبَهُمَا بَيْنَهُمَا فَلاَ يَتَبَايَعَانِهِ وَلاَ يَطْوِيَانِهِ، وَلَتَقُومَنَّ السَّاعَةُ وَقَدِ انْصَرَفَ الرَّجُلُ بِلَبَنِ لِقْحَتِهِ فَلاَ يَطْعَمُهُ، وَلَتَقُومَنَّ السَّاعَةُ وَهْوَ يَلِيطُ حَوْضَهُ فَلاَ يَسْقِى فِيهِ، وَلَتَقُومَنَّ السَّاعَةُ وَقَدْ رَفَعَ أُكْلَتَهُ إِلَى فِيهِ فَلاَ يَطْعَمُهَا». (أخرجه البخاري) (1).
__________
(1) - برقم (4635 و85 و 1036 و 1412 و 3608 و 3609 و4636 و 6037 و 6506 و 6935 و 7061 و 7115 و 7121) ومسلم برقم (413) - وراجع كتابي الخلاصة في أشراط الساعة الكبرى(1/15)
الباب الخامس
أركان الإيمان
هذه الأركانُ هي الركائز الأساسية التي يقوم عليه البناءُ الإيمانيُّ، وكلها تتعلق بأمور يعتقدها المؤمن اعتقادا جازما بناء على ما ورده من خبر صادقٍ بخصوصها. كما أنَّ هذه الأركان متفق عليها بين جميع الرسالات المنْزلة من عند الله تعالى، حيث دعا كلُّ رسول قومه للإيمان بها كما قال الله تعالى: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاء وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ} (13) سورة الشورى ,ولا يصحُّ إيمان المسلم إلا باعتقاده الجازم بجميع هذه الأركان اعتقادا صحيحا بعيدا عن الشكِّ.
وهذه الأركان هي: الإيمان بالله، والإيمان بالملائكة، والإيمان بالكتب، والإيمان بالرسل، والإيمان باليوم الآخر، والإيمان بالقضاء والقدر.،وهي جميعها متعلقةٌ بالغيب، حيثُ إن اعتقادها مبنيٌّ على ما بلغنا من نصوص الوحيِ بخصوصِها.(1/16)
الركنُ الأولُ
الإيمان بالله تعالى
هو أن يعتقد المرء اعتقادا جازما بقلبه بأن الله تعالى موجودٌ وجودا حقيقيا بذاته، و أنه هو الذي خلق الكون بما فيه بلا شريكٍ، وأنه تعالى موصوفٌ بصفات الكمال كلِّها، ومنزهٌ عن صفات النقص والعيوب، وأنه لا شبيهَ ولا مثيلَ له من خلقهِ قال تعالى: {فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} (11) سورة الشورى، وأنه وحده المستحقُّ للعبادة بكل أنواعها دون أن يشرك معه في ذلك أحدٌ غيره، قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} (5) سورة البينة
ما يتضمنهُ الإيمان بالله تعالى:
الأول- الإيمانُ بوجودهِ وجودا ذاتيا حقيقيا، وقد دلَّتِ الأدلةُ الفطرية والكونية والشرعية والعقلية على ذلك:
التدين فطرة:
مفهوم الدين في الاصطلاح الإسلامي: الإيمانُ بذاتٍ إلهيةٍ جديرةٍ بالطاعة والعبادة، من خلال النصوص التي تحدد صفات تلك الذات، وتبينُ القواعدَ العملية التي ترسم طريق عبادتها، والشواهد على ذلك كثيرة منها:
*الشواهد العقلية:
1 - إن فطرة التدين أصيلةٌ في الإنسان، وهذا أمر لا يقبل المراءَ بناءً على الشواهد التاريخية والواقعية. ومع أن علماء المقارنة بين الأديان -على اختلاف مللهم - متفقونَ على تأصُّلِ العقيدة الدينيةِ في طبائع بني الإنسانِ.(1/17)
2 - إن ظاهرة التدينِ- المتمثلة في البحث عن قوةٍ عليا- تعمُّ البشرَ جميعَهم، ولا يستغنون عنها بغريزة من الغرائز الأخرى كحبِّ البقاءِ، أو حبِّ النوع، أو حبِّ المعرفة، أو حبِّ الوطن أو غير ذلك من الغرائز.
3 - إن الدينَ لم يكن لازماً من لوازم الجماعات البشرية لأنه مصلحةٌ وطنية ٌأو حاجةٌ حياتيةٌ حيويةٌ، لأنَّ الدين قد وجد قبل وجودِ الأوطان، ولأن الحاجةَ الحيوية تتحقق أغراضها في كل زمنٍ، وتتوافر أسبابها في كل حالةٍ،ولا يزال الإنسان ُبعد تحقق هذه الأغراضِ في حاجة ٍإلى الدين. لكن َّالدينَ كان لازماً؛ لأنه يقرر مكانَ الإنسان الفردِ في الكونِ أو في الحياةِ، و يبيّن للإنسان العلاقاتِ بين الكائنات جميعاً،ويبيّن مصدر الحياةِ، ولأن الإنسانَ لا يقنعُ بالحياة المحدودةِ، فهو يسعى إلى حياةِ الخلودِ، ويريدُ لنفسه أن تتصلَ بالكونِ كلِّه في أوسع مداهُ.
00000000000000000
إن هناك قواعد وحقائق مقرره اتفق عليها جميع العقلاء من بني آدم وهذه القواعد هي:
1 - بطلانُ الرجحان بدونِ مرجحٍ ... 2 - بطلانُ التسلسل
3 - بطلان الدَّور ... 4 - قانون العلَّةِ
وهذه القواعد تقيم الأدلة العقلية المباشرة لوجود الله تعالى.
أولا: بطلان الرجحان بدون مرجح:
إن هذا الكون الموجود لا يخلو من أحد احتمالات ثلاثة:
1.أن يكون واجبَ الوجود.
2.أن يكون ممتنعَ الوجود.
3.أن يكون ممكنَ {جائز} الوجود.
أما الاحتمالُ الأول: فباطل. لأنه يترتب عليه امتناع انعدام الكون، وذلك محال عقلا, فإننا نرى أعيان المخلوقات تموت وتحيا، وتوجد وتنعدم فلا مانع عقلا من انعدام الكون.
أما الاحتمال الثاني: فباطل أيضا. لأن الكونَ موجودٌ حقيقة, فلو كان ممتنع الوجود لما أمكن وجوده.(1/18)
إذاً لم يبق إلا الاحتمالُ الثالث: وهو أنه ممكن الوجود، أي أنه جائز فيه أن يوجد أو لا يوجد على حدٍّ سواء. ولكنَّ الكونَ موجودٌ فعلا, فإذاً لابد من وجود مرجح خارجي لأحد الأمرين المستويين: الوجود و العدم. فإن ْ قال قائل: إن الكون هو الذي أوجد نفسه. قلنا هذا يستلزم الترجيحَ بدون مرجح, لأنه لو أوجد نفسه لكان واجبَ الوجود, ولكننا اتفقنا على أنه ممكن الوجود, فلزم أن يكون قد أوجدته قوة أخرى خارجة عنه ومباينة ٌ له في ذاتهِ وصفاتهِ. قال تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ (36) [الطور/35،36]}
فإن قال القائل: يمكن أن تكون قوةٌ أخرى- سوى الله تعالى - هي التي أوجدته, قلنا سترى بطلان هذا الفرض في الأدلة التالية:
ثانيا: بطلان التسلسل:
إن احتمال أن تكون قوة أخرى- سوى الله تعالى- قد أوجدت هذا الكون باطلٌ, لأنه يؤدي إلى التسلسل, وهو أن تطردَ الاحتمالات بصورة مستمرةٍ دون أن يصل العقلُ إلى شيءٍ يستقر عليه في حكمه. فلو قال القائل: إن الكونَ يحتمل أن يوجده سوى الله تعالى. قلنا له: وهذا الموجد المفترَضُ، من الذي أوجده؟ فإن قالَ: أوجده موجدٌ غيره. قلنا: إن هذا سيؤدي إلى أن يكون كل واحد في السلسلة علةً لوجود غيره إلى ما لانهاية، وهذا باطلٌ. فإذاً هذه السلسلة لابد أن تنتهي إلى ذاتٍ موجودةٍ واجبةِ الوجودِ، أوجدتْ نفسها، حتى ينتهيَ التسلسلُ، وهذه هي الذاتُ الإلهيةُ.
ثالثا: بطلانُ الدور:
الدورُ هو توقف وجودِ أمر ٍعلى أمرٍ آخر، إلا أنَّ هذا الأخير متوقف في وجودهِ على وجودِ الأول, وهذا باطلٌ غير مستقيم عقلا. مثاله: لو قلنا إن وجودَ البيضة متوقفٌ على وجود الدجاجة، إلا أن الدجاجةَ متوقفةٌ على وجود البيضة, لما وجد كلاهما لاستحالة ذلك. وهذا هو الدور. فلو قال القائل: إن الكون حادث وله علة, إلا أن هذه العلة المؤثرة في وجوده عبارةٌ عن التفاعلات الذاتية لذراتهِ الأولى, والتي استمرت لملايين السنين حتى انتهت إلى هذا الكونِ, أي أن الطبيعةَ هي التي أوجدته.(1/19)
فنقول له: ما هي العلة الأولى في إيجاد الذراتِ الأولى المتفاعلة؟ وما علةُ التفاعل الذاتي؟ فإن قال: العلة في ذلك الذرات ذاتها, أي أنها أوجدت نفسها ثم تفاعلت لتوجد الكون. قلنا له: إن هذا هو الدور الممنوع ذاته, لأنك جعلت الشيء علة لوجود غيره وهذا الغير علة لوجوده هو في ذاته, حيث إنه لما كان في العدم المطلق, كان وجوده متوقفا على أن يخرج من العدم, فإذا خرج أصبح علةً لا يجاد نفسه. ثم نقول له: إنك قلت إن الكونَ محدثٌ غير أزلي, فكيف يكون المحدث علةً لنفسهِ وهو لم يكن موجودا من قبلُ, والعدم المحض ُلا يوجِدُ شيئا. فإن الشيءَ يمتنع أن يكون خالقا ومخلوقاً في الوقت نفسه!!!!
رابعا: قانون العلَّة:
إن التخصيصَ والنظامَ يدلان على العلةِ والحكمةِ من وراء ذلك التخصيص والنظام. ولا يعقَلُ أن توجدَ علةٌ أو حكمةٌ بدون مؤثرٍ مدبرٍ لها, فلو قلنا: إنَّ هذه الشمس إنما وجدت اتفاقا،وليس من وراء وجودها حكمة, وكلُّ ما تقوم به من وظائف َحياتيةٍ في الكون إنما جاءت بطريقِ الاتفاقِ ومحضِ الصُّدفةِ. لو قلنا ذلك لما شك أحدٌ -في عصرنا الحاضر- في جنونِ القائلين به. كما أننا لو قلنا لعالم في وظائف الأعضاء: إن الأجهزةَ العضويةَ في الإنسان مثل المخ والكبد والبنكرياس وغير ذلك إنما جاءت اتفاقا وتهيأت لوظائفها صدفة لما شكَّ ذلك العالم لحظة في جنوننا. فإذا كنا نستنكر أن تكون هذه الجزئيات قد وجدت اتفاقا, فكيف نصدِّقُ من يقول: إن الكون بكل موجوداتهِ قد وُجد اتفاقا. وأن النظام الذي فيه ليس له مدبرٌ من ورائهِ، وأن الأحداثَ المعللة والحكم النافذةَ في أجزائهِ قد جاءت اتفاقا بدون قصدٍ لغايتها؟ هل يُعقل أن يكون مثل هذا الكون المعجزِ في نظامهِ وترتيبهِ وضبطِ مقاديرهِ قد وُجِدَ عبثاً, وأن كل تلك الدقة قد جاءت اتفاقا؟؟!!.
إن المصدق لهذا يكون كالمصدِّقِ لمن يقول له: إنه لو أتينا بستةٍ من القرود وأجلسناها إلى ست آلاتٍ طابعة لملايين السنين، فإنه لا يستبعد أن يخرج لنا أحدُها بقصيدةٍ رائعة ٍمن روائعَ المتنبي مثلا. هل تصدق هذا القائل؟ إنه- بلا شك - أعقلُ من القرود الستة,(1/20)
ولكنْ للأسف ليس حظُّ القرود في إخراج قصيدة المتنبي بأوفرَ من حظِّهِ هو في أن يكون مثل المتنبي. أليس كذلك؟
*-شواهد من الطبيعة:
1 - إن من طبيعة الإنسان أنه عندما يقع في مأزق- ولا يجد في القوى المادية معيناً ومنقذاً له- فإنه يلجأ إلى الله تعالى متضرعاً إليه بالدعاء حتى ينقذه مما هو فيه. قال تعالى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُورًا {67} الإسراء
2 - إن النفوس مجبولةٌ على حبِّ من يحسن إليها، لذلك تعظمه وتتقرب إليه، وهذه الفطرة ثابتة حتى في الحيوان. أما ترى أن الكلبَ يكون وفياً لصاحبه، حتى إنه يدافع عنه بنفسه ويموت دونه! لذلك فإنَّ الإنسان مفطورٌ على معرفة ربه الذي خلقه، وعلى عبادته لذا قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ {6} الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ {7} فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَكَ {8} [سورة الانفطار].
*-دليل الفطرة
إن فطرةَ الإنسان تشهد بوجود الله تعالى- مهما حاول الإنسان إخفاءها- فكم من إنسان ينكر وجود الله تعالى، فإذا ضاقتْ به السبلُ المادية في الأزمات لم يجدْ إلا أن يتوجهَ بقلبهِ إلى السماء, وربما يرفع يديه في خضوع وتذللٍ لعله يجد من القوَّة العليا مخرجاً مما هو فيه من ضيق. ألم تجرب ذلك بنفسك؟ ربما حدث لك شيء منه فنسيت بعد زوال الكربة. ولكن لاشك أنك لازلت تذكر حكاية من هذا النوع حدثت لغيرك. قال تعالى: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَاءتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُاْ اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنِّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} (22) سورة يونس، وقال تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} (65) سورة العنكبوت، وقال تعالى: {أَمْ مَنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ(1/21)
حَاجِزًا أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (61) أَمْ مَنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (62) أَمْ مَنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (63) [النمل/61 - 63]}
نظرة الإسلام للفطرة:
أولاً: إن الله تعالى خلق الإنسان وجعله مفطوراً على معرفة ربه وعبادته، وقد ثبت ذلك في نصوص كثيرة؛ منها:
1 - قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ {172} أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ {173} سورة الأعراف.
2 - وقال الله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ {30} سورة الروم.
3 - عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - قَالَ قَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - «كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ كَمَثَلِ الْبَهِيمَةِ تُنْتَجُ الْبَهِيمَةَ هَلْ تَرَى فِيهَا جَدْعَاءَ». (أخرجه البخاري ومسلم) (1).
ثانياً: إنَّ هذه الفطرة توصل الإنسان إلى المعرفة الإجمالية بخالقه، وتشعره بصلته به وأنه إلههُ وخالقه، لذا: فإنه لا بد لهذه الفطرة من تزكيةٍ وتنميةٍ وذلك لا يكون إلا بوحي من الله تعالى بواسطة رسله. قال تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10) [الشمس/7 - 10]}
ثالثاً: إن لهذه الفطرة في الإنسان - حتى تقوم بدورها الطبيعي - ركنانِ:
1 - القلب السليم: وهو القلب المؤمن الذي لم يتأثر بالشياطين من الجن والإنس، بل ظلَّ على فطرته وسلامته التي ينتج عنها الاعتقاد الصحيح. وكلما كان التأثر
__________
(1) - صحيح البخارى برقم (1385 و 1358 و 1359 و 4775 و6599) ومسلم برقم (6926)(1/22)
والانحراف أقل في هذا القلب كلما ازداد قبوله للحقِّ وتعلقه به. قال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} (37) سورة ق
2 - العقل الصحيح: وهو العقل النقيُّ الصافي غير المنساق لمؤثرات الهوى والشهوة، المهيأُ لاحترام الحقائق وقبول الحق،الرافضُ للوهم والخرافة. قال تعالى: {أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ {19} الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَلاَ يِنقُضُونَ الْمِيثَاقَ {20} وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ {21} وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ {22} سورة الرعد
رابعاً: إن الإنسان بطبعه قد فطر على أمور وغرائزَ تعدُّ من دعائم حياته المادية والمعنوية مثلُ حبِّ الحياة وحبِّ المال والولد وحبِّ الملذات، وحبِّ النساء وحبِّ الاختلاط ببني جنسه، وغير ذلك. غير أن الإسلامَ وضع ضوابطَ لهذه الغرائزَ حيث لا يتجاوز المرء مداه فينغمس فيها.
ففي شهوة الأكل والشرب جعل ضابطاً عاما هو عدم الإسرافِ. قال تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ {31} الأعراف:31]
ولقضاء شهوة الجنس والعاطفة شرع الزواج: قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ {21} [الروم]
ولشهوة التملك جعل الله السبيل لذلك التعامل المشروع: قال تعالى: {وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ {275} [البقرة].
خامساً: إن الله تعالى أنزل شريعته وجعلها مناسبةً للفطرة ِالسليمةِ، ولم يرد فيها شيء يصادمُ الفطرة البشرية(1/23)
منهج المعرفة في أمور الاعتقاد (مصادر التلقي)
قدمنا فيما مضى أن مجالات المعرفة بالنسبة للإنسان تتمثل في عالم الشهادة - العلم الماديِّ- وعالم الغيب أو ما وراء الطبيعة.
وقد سبق أن معرفة الإنسان تكون بالحواس والأجهزة المخترعة عن طريق العقل الذي يقوم بتحليل المعارف التي يتلقاها للوصول إلى العلم.
أما ما يتعلق بما وراء المادة فإنه ليس مما يقع في حدود الحواس، فمن المنطقي ألا تكون تلك الحواسُ قادرةً على إدراك ما يقع في ذلك المجال،كما أن العقل- وهو يتمتع بقدرات محدودةٍ -مقيد بعاملي الزمان والمكان لا يستطيع أن يحيط علما بما هو خارج عن حدوده،فضلا عن أن يحيط بما لا حدَّ له.غير أن ذلك لا يعنى إلغاءَ دورِ العقل في معرفة عالم الغيب،فالمعرفة الإجماليةُ من أعظم واجبات العقل، حيث يستدل بالشهادة على علم الغيب، كما قال الله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ السَّمَاء مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ {164} [سورة البقرة].
أمَّا أن يخوضَ العقل فيما ليس من مجاله، فهذا مما لا يستقيمُ مع المنهج المعرفي الصحيح، حيث إن العلمَ بالشيء فرعٌ من تصورهِ، وما لا يستطيع العقل تصوُّرَه ُلا يسعه إدراكه بمجرده، لذا قال الله تعالى: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً {36} [الإسراء]،أي لا تتبع ما ليس لك به علم يثبت عندك بالرؤية البصرية، أو بالروايات السمعية أو البراهين القطعية، فإن الله يسألك عن ما أعطاك من آلات هذا العلم الثلاث.
وقال تعالى:: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا {110} [طه]،وقال تعالى: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء [البقرة:255]،وقد نفى الإحاطة بالعلم هنا عن البشر لأنه ليس في مقدورهم بلوغ ذلك، فهو ليس واقعا في مجال معرفتهم المتعلقة بالأمور المادية كما قال تعالى: {(1/24)
يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ {7} [الروم]،والفرق ظاهر بين علم الخالق وعلم المخلوق، إذ لو تساوى علمُ المخلوق بعلم الخالق لتساوى الخالقُ والمخلوقُ، وهذا لا يعقل، بل الفارق بين العلمين كالفرق بين الذاتين، فإذا كان الأمر متعلقا بعالم الغيب والاعتقاد فيه - وقد قررنا أن مسألة الإيمان بالخالق الواحد وعبادته أمر فطري -فإذاً لا بد من تحديد السبل إلى معرفة الأمور الغيبية التي لا تدركها حواسنا ولا تحيط بها عقولنا من أمور الاعتقاد بالدين.
مصادر التلقي:
المصدر الأول: الخبر الصادق من الله تعالى أو من رسوله:
يكون الله تعالى مصدراً مباشراً للمعرفة البشرية في أمور الاعتقاد وغيرها بثلاثة طرق، كما في قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ {51} الشورى}،فقد ذكر الله تعالى في هذه الآية ثلاث مراتب للإخبار لا تكون إلا للأنبياء، وهذه المراتب هي:
1 - تكليم الله تعالى عبده يقظة بلا واسطة، كما كلَّم موسى عليه السلام {وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا {164 [النساء].
2 - مرتبة الوحي المختص بالأنبياء كما قال تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا {163} [النساء].
3 - إرسال الرسول الملكي إلى الرسول البشري، فيوحي إليه عن الله تعالى ما أمره أن يوصله إليه قال تعالى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ {193} عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ {194} سورة الشعراء
وقال تعالى عما يخبر به الرسول: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4) [النجم/3،4]
فكلُّ ما أخبر به الرسول - صلى الله عليه وسلم - حقٌّ وصدقٌ، فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ كُنْتُ أَكْتُبُ كُلَّ شَىْءٍ أَسْمَعُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أُرِيدُ حِفْظَهُ فَنَهَتْنِى قُرَيْشٌ وَقَالُوا أَتَكْتُبُ كُلَّ شَىْءٍ(1/25)
تَسْمَعُهُ وَرَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بَشَرٌ يَتَكَلَّمُ فِى الْغَضَبِ وَالرِّضَا فَأَمْسَكْتُ عَنِ الْكِتَابِ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَأَوْمَأَ بِأُصْبُعِهِ إِلَى فِيهِ فَقَالَ «اكْتُبْ فَوَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ مَا يَخْرُجُ مِنْهُ إِلاَّ حَقٌّ». (أخرجه أبو داود) (1).
المصدر الثاني: الفطرة التي جعلها الله تعالى غريزة في الناس:
وقد سبق أن بيان الفطرة لمسائل الاعتقاد إجمالي يهيئ المرء لقبول ما يأتيه من الله تعالى من تفصيل.
المصدر الثالث: العقل:
وهو أيضا يوصل الإنسان إلى معرفة إجمالية في بعض المسائل، مثل وجود الخالق تعالى، وأنه ليس كمثله شيء. أما تفاصيل ذلك وما حجبَ عن الإنسان من علم الغيب وغير ذلك فلا بدَّ فيه مع العقل من نور الوحي الذي يرشد العقلَ ويدلُّهُ عليه.
*- الشواهد العقلية
1 - إن الأمور المتعلقة بما وراء المادة (الغيبيات) ليس مما يقع في حدود الحواس، فمن المنطق ألاّ تكون تلك الحواس قادرة على إدراك ما يقع في ذلك المجال، كما أن العقل- وهو يتمتع بقدرات محدودة، ويتقيد بعاملي الزمان والمكان - لا يستطيع أن يحيط علماً بما هو خارج عن حدوده، فضلاً عن أن يحيط بعلم ما لا حدَّ له
2 - إن صانع الآلة هو أدرى الناس بها؛ فالله ُتعالى هو خالق الكون وما فيه، وهو خالق الإنسان؛ ولذلك فإنه تعالى أعلم بخلقه وما يصلحهم، كما أنه أعلم بنفسه وما غيبّه عن خلقه. وبناء على ذلك فإنَّ أصدق خبر فيما يخص ذلك إنما يكون من اللهِ تعالى كماقال تعالى: {وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ {14} [فاطر]
*- شواهد من الطبيعة:
إن من المشاهد أن الإنسان عندما يحتاج إلى معرفة أمر من الأمور فإنه يتجه بسؤاله إلى الجهة أو الشخص الذي يظن أن عنده علم بذلك. فالمريض يسأل الطبيب حتى يصف له دواء مرضه. وكذلك الطفل يظن أن أباه هو أعرف الناس، لذا يتوجه إليه بكل سؤال
__________
(1) - برقم (3648) وهو صحيح(1/26)
يخطر بباله. فإذا كان كذلك فإن من الطبيعي أن يكون مصدرُ التلقي في الأمور المتعلقةِ بالعقائدِ والغيبياتِ هو الخبر الصادق من الله تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم -.
إن هناك كثيراً من الأمور الغائبة عن علم الإنسان مع اتصاله بها، كالروح وكثير من الظواهر الطبيعية التي يعجز الإنسان عن تفسيرها، فمن الأولى أن يعجز عن تفسير الغيبياتِ، أو إدراكها.
*- العلاقة بين الدين والعلم:
تتمثل مجالات المعرفة في عالمي الغيب والشهادة، أو العالم المادي المحسوس وعالم ما وراء المادة. والإنسان في معرفته يعتمد على ما يتوفر لديه من الأدوات والوسائل المستخدمة للوصول إلى المعرفة، والمتمثلة في الحوادث والأجهزة التي توسع من مدارك الحواس، ومن المعلوم ضرورة أن الحواسَّ تتمتعُ بقدرات محدودة، وقد عمل الإنسان على زيادة تلك القدرات بالأجهزة العلمية التي أعانت على توسيع مجال إدراك حواسه، إلا أنه مع ذلك يظلُّ مقيدا في معرفته بقدرات تلك الأجهزة، وهي أيضا محدودة القدرات بالضرورة .. و بناءا على هذا فإن المعرفة الإنسانية- عن طريق الحواس والأجهزة - تظل محدودة في عالم الشهادة، وهي مع ذلك لم تبلغ من العلم إلا قليلا، إذ أن المجال الذي تعيش فيه، والمجال الذي استطاع الإنسان أن يكتشفه من مجرتنا الشمسية لا يمثل سوى قطرةٍ من بحرٍ لجيٍّ.
فمعرفة الإنسان التي يحصل عليها في عالم المادة تتوقف على منهجيته المعرفية عن طريق الحواس، وهو محكوم بالزمان والمكان في الإطار الممكن.
أما عالمُ الغيبِ فتتوقف معرفة الإنسان فيه على الخبرِ الصادق الذي يبلغه عن مصدرٍ يتمتع بالعلمِ المطلق، الذي يتجاوز محدودية الحواس وحاجزي الزمان والمكان، وهذا المصدر هو الله سبحانه وتعالى.
فإذا ثبت للإنسان صحة الخبرِ من حيث نسبته إلى مصدره، وهو الله تعالى، أو رسوله المبلغ عنه، فإن ذلك الخبر يقتضي صدقَ المخبَرِ به(1/27)
وعلمُ الإنسان- في علم المادة - عبارةٌ عن اكتشاف سنن الله تعالى في خلقه، وعلى هذا فإنه يستحيلُ أن تتناقضَ الحقيقةُ العلميةُ اليقينيةُ مع الحقيقةِ الدينيةِ اليقينية، لأن كليهما من الله تعالى، فهذه آياته في الآفاق وتلك آياته في التنزيل، وقد قال الله تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ {53} [فصلت]،وقال تعالى: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ {6} [سبأ].
الخلاصة:
إن الأدلة العقلية تثبت بيقين بأن الله تعالى موجود وجودا حقيقيا، وأنه تعالى الذي خلق هذا الكون بكلِّ ما فيه، وأن القول بخلاف ذلك لا يتفقُ مع العقلِ ولا مع الفطرة ِالسليمةِ، قال تعالى: {ذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} (102) سورة الأنعام، وقال تعالى: {قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُلِ اللّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُم مِّن دُونِهِ أَوْلِيَاء لاَ يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} (16) سورة الرعد، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} (3) سورة فاطر
آيات الكون والأنفس شاهدة على وجود الله:
إن الكون المشهود كتابٌ مفتوح يشهد بوجود الله تعالى الذي خلقه. فالنظام الدقيق والدقة الفائقة في كل أجزائه وموجوداته، تقرُّ بأنه من صنع مدبرٍ عليمٍ حكيم ٍعظيم ٍقويٍّ متينٍ. وهذه بعض النماذج التي تنقلك في سياحة مع الكون:
1 - آيات الآفاق في الأفلاك
2 - آيات الأنفس في الإنسان ذلك المجهول(1/28)
3 - عالم الحيوان - الكائنات المجهرية- المخلوقات العظيمة - النحل. أمة أمثالكم - ماذا تعرف عن البحار وما فيها؟
4 - عالم النبات
الله الخالق يتجلى في عصر العلم
إن كبار الباحثين يمتازون عن غيرهم بأنهم - في غالبهم -يبحثون في الأمور بعقل مدرك ونظر ثاقب متجرد. لذا فإن شهاداتهم تعدُّ ذاتُ اعتبار كبير في الأمور التي يدلون فيها بآرائهم. ونحن هنا نذكر أقوال بعض من العلماء المشهورين في قضية الوجود والخلق.
1.ماذا قال عالم الرياضيات مكتشف قانون الجاذبية إسحاق نيوتن: قال نيوتن: إنه لا يمكن أن تأتي إلى حيز الوجود مباهج عالم الطبيعة الزاهرة ومنوعاتها هذه بدون إرادة واجب الوجود, أعني به الإله القادر قدرة مطلقة, السميع البصير المكتمل الذي يسع كل شيء.
2.قال هيرشل عالم الفلك الإنجليزي: كلما اتسع نطاق العلم ازدادت البراهين الدامغة القوية على وجود خالق أزلي لا حدَّ لقدرته ولا نهاية. فالجيولوجيون والفلكيون والرياضيون والطبيعيون قد تعاونوا وتضامنوا على تشييد صرح العلم, وهو في الواقع صرح عظمة الله وحده.
3.ويقول وولتر أوسكار لندبرج عالم الفسيولوجيا و الكيمياء الحيوية الأمريكي: أما المشتغلون بالعلوم الذين يرجون الله فلديهم متعة كبرى يحصلون عليها كلما وصلوا إلى كشف جديد في ميدان من الميادين, إذ إن كل كشف جديد يدعم إيمانهم بالله ويزيد إدراكهم و أبصارهم لأيادي الله في هذا الكون.
4.أما العالم الأمريكي الفسيولجى أندرو كونواى ايفى فقد قال: إن أحدا لا يستطيع أن يثبت خطأ الفكرة التي تقول أن الله موجود، كما أن أحدا لا يستطيع أن يثبت صحة الفكرة التي تقول أن الله غير موجود، وقد ينكر منكر وجود الله تعالى ولكنه لا يستطيع أن يؤيد إنكاره بدليل. وأحيانا يشك الإنسان في وجود شيء من الأشياء، ولابد في هذه(1/29)
الحالة أن يستند شكُّه إلى أساس فكري، ولكنني لم أقرأ ولم أسمع في حياتي دليلا عقليا واحدا على عدم وجوده تعالى, وقد قرأت وسمعت في الوقت ذاته أدلة كثيرة على وجوده، كما لمست بنفسي بعض ما يتركه الإيمان من حلاوة في نفوس المؤمنين, وما يخلفه الإلحاد من مرارة في نفوس الملحدين.
منهج الإسلام في تقرير حقيقة وجود الله تعالى:
تبين النصوص الثابتة في الكتاب والسنة بأن الإقرار بوجود الخالق الذي خلق الإنسان وجميع الكائنات أمرٌ فطري لا يسع الإنسان إنكاره في قرارة نفسه، وإن حاول إبداء ما يخالف ذلك. فما من إنسان إلا ويجد نفسه مضطرا للجوء إلى الله تعالى كلما ألمَّ به ضررٌ تنقطع به الأسباب المادية الظاهرة, فهنا تطفو فطرته وتحمله إلى اللجوء إلى الله تعالى. أما دعوى الملحدين عدم وجود إله خالق لهم ولهذا الكون فإنما هي مكابرة وعناد، مثل دعوى فرعون وقومه، وقد حكى الله علام الغيوب عما في أنفسهم بقوله: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} (14) سورة النمل
وقد أظهر فرعون ذلك حين أحاطت به الأمواج وأدركه الغرق فقال: { .. آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (90) سورة يونس
منهج القرآن في تقرير وجود الله تعالى:
لم تنصرف نصوص القرآن الكريم إلى إثبات وجود الله تعالى وتقرير وجوده كقصدٍ أساسي, وإنما جاءت لتقرير ألوهية الله تعالى، وأنه لا إله غيره- و إن كانت تأتي بذلك ضمنا أو صراحة في أحيان قليلة- ذلك أن البشر كما ذكرنا مقرين بوجود الله تعالى، إلا قليلا ممن شذ جحودا ومكابرة. ولذلك حكى الله تعالى عن الرسل عليهم السلام قولهم لأقوامهم: {قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى قَالُواْ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَآؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ} (10) سورة إبراهيم(1/30)
،ولقد كان المشركون يقرون بربوبية الله تعالى, قال تعالى: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} (61) سورة العنكبوت، وقال تعالى: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} (25) سورة لقمان.وقد اشتمل القرآن الكريم على أساليبَ متعددةٍ في قضية الوجود والألوهية، وأهم تلك الأساليب ما يلي:
أولا: القرآن يتوجه بالخطاب إلى المشاعر:
إن القرآن الكريم يخاطب في الإنسان قلبه ووجدانه حتى يثير تلك الفطرة الكامنة فيه، وحتى لا يكون خطابه جافا مجردا متجها للعقل المجرد. وقد أشار الله تعالى إلى هذه الميزة بقوله: {لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (21) سورة الحشر،ولما كان القرآن يحمل بين طياته وألفاظه قوة التأثير الذاتي, أمر الله تعالى بإجارة المشركين. قال تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ} (6) سورة التوبة، وبسبب هذه القوة الذاتية كان مشركوا العرب يوصي بعضهم بعضا بعدم سماع القرآن حتى لا يتأثروا به {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} (26) سورة فصلت،ولتحريك المشاعر وانفعالها سلك القرآن مسالك شتى منها:
1 - توجيه المشاعر إلى التأمل في الكون والحياة:
ذلك أن عظمة المخلوق تدل على عظمة الخالق, وأن هذا الكون الفسيح القائم على الدقة والانتظام لا يمكن أن يوجد إلا بقدرة فائقة وعلم تامٍّ. والإنسان المتبلد لا تلفِت نظره السماء الكائنة فوقه, ولا الأرض الساكنة تحته, لذا يخاطب القرآن المشاعر ويوجهها إلى هذه الآيات كما في قوله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191) [آل عمران/190 - 192]}(1/31)
2 - التذكير بالنعم وأن الله هو رازق الإنسان:
فالإنسان مقرٌّ بأنه لم يخلق من هذه النعم شيئا, مع أنه أكبر المستفيدين منها، بل جعلت لأجله. غير أن الإنسان بحكم الألف والاعتياد تبلَّد حسه, فينسى الله الخالق. لذلك يذكره الله تعالى بهذه النعم التي لا تحصى, ومن أعظمها الماء والهواء. قال تعالى: {وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} (34) سورة إبراهيم.
3 - تذكير الإنسان بخلقه وأصله:
إن الإنسان هو أكرم خلق الله تعالى لما ميزه به من عقل و إدراك, وهذا الإنسان قد أوجده الله تعالى بعد أن لم يكن شيئا قال تعالى: {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا (1) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2) [الإنسان/1 - 3]}،هذا الإنسان بعد أن خلقه الله تعالى أحسَّ بأنه قد استغنى عن خالقه, فطغى وألهته شواغله وأهواؤه عن ربه كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ (8) [الإنفطار/6 - 8]}،وقال تعالى: {كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآَهُ اسْتَغْنَى (7) إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى (8) [العلق/6 - 8]}،لذلك نجد أن الله تعالى يخاطب الإنسان داعيا إياه لينظر في نفسه, والحكَم والآيات الكامنة فيه كما في قوله تعالى: {وَفِي الْأَرْضِ آَيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21) [الذاريات/20 - 22]}،وقوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آَخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14) ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ (15) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ (16) [المؤمنون/12 - 17]}،وقد جاء العلم الحديث ببيان وصدق ذلك كله.
4 - التذكير بالموت والحياة:(1/32)
يوجه الله تعالى خطابه إلى البشر مذكرا إياهم بأنه هو الذي خلقهم وبثَّ فيهم الروح. ذلك السرُّ المعجز في بقائهم, وأنهم لا يملكون شيئا من ذلك. كما يذكِّرهم بالموت وأنه لا مفر لأحد منه. وفي هذا إثارةٌ للمشاعر حتى تتساءل: من أنا؟ ومن أين أتيت؟ ولماذا أتيت؟ وأين سأمضي؟ وما مصيري؟ هذه الأسئلة الكبرى التي يبحث لها كل إنسان عن جواب, قد أجاب عليها القران بقوله تعالى: تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2) [الملك/1 - 3]،وبقوله تعالى: {فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ (85) فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (87) [الواقعة/83 - 87] ْ}.
ثانيا: مخاطبة العقل:
إن منهج الخطاب القرآني للبشرية ليس قائما على إثارة المشاعر ومخاطبة الوجدان فحسب, بل إنه مع ذلك يتوجه بالخطاب إلى العقلِ, فيحثه على التدبر والتأمل، ويثير فيه التساؤلات التي ترشد وجهته، ومن تلك التساؤلات: هل يمكن أن يوجد هذا الكون الهائل بلا خالق؟ أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ (36) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُسَيْطِرُونَ (37) أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38) [الطور/35 - 38]
منهج القرآن في أدلته العقلية:
تهدف الأدلة التي يأتي بها القرآن إلى تقرير وجود الله تعالى وتفرده بالخلق والملك والتدبير. وهو في ذلك يأتي بالبراهين البدهية السهلة التي يدركها العقل بدون خوض في الجدال العقيم الجاف. وعلة ذلك: حتى تكون هذه الأدلة متاحةً لجميع العقول بكل مستوياتها كما في قوله تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} (35) سورة الطور، وقوله تعالى: {أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} (17) سورة النحل(1/33)
،وقوله تعالى: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} (14) سورة الملك، وقوله تعالى: {أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا} (67) سورة مريم.
الله تعالى في العقيدة الإسلامية:
لقد عني القرآن الكريم منذ ابتداء نزوله بمكة بتصحيح الأفهام، وتعريف الناس بالله رب العالمين حتى يعرفوه معرفة صحيحة, ومن ثم يتم البناء الإيماني لهم على أساس سليم. لذا كانت جلُّ السور المكية تركز تركيزا تاما على مسائل الاعتقاد توضيحا صحيحا, وتدعوا الناس إلى الإيمان بالله تعالى انطلاقا من ذلك.
الأول- الإيمان بربوبيته تعالى:
وذلك بالإيمان بأنه الخالق المالك المدبر للكون وما فيه، وحده لا شريك له ولا معاون له في ذلك، قال تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ} (3) سورة يونس، وقال تعالى: {قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ} (31) سورة يونس، كما أنه تعالى وحده صاحب الأمر والنهي في التشريع كله، فلا مشرع سواه، قال تعالى: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاء وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ} (13) سورة الشورى، وكذلك يجب الإيمان بكل ما تستلزم الربوبية من صفات الكمال قال تعالى: {وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ {70} القصص
الثاني- الإيمان بألوهيته تعالى:
إن مما يتطلبه الإيمان بالله تعالى: الإيمان بأنه الإله الحقُّ الذي يستحق العبادة، وألا يتخذ غيره إلها بأي وجه ٍ من وجوه الألوهية المقتضية للعبادة. فكما أنه لا ربَّ سواه فكذلك(1/34)
فإنه لا معبودَ بحقٍّ سواه، كما قال تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} (163) سورة البقرة.
هذا وقد بين الله تعالى قضية الإيمان به تعالى في سورة قصيرة من سور القرآن يحفظها كل مسلم حتى يتقرر لديه مقتضى الإيمان بالله وحده ألا وهي سورة الإخلاص: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)} سورة الإخلاص
تفرّد بصفات الجلال والكمال التي وصف بها نفسه في كتابه، أو وصفه بها نبيه - صلى الله عليه وسلم - في سنَّته، فلا نَصِفُ أحداً من خلقه بشيء من صفاته، ولا نُلحدُ في أسماء ربنا وصفاته. قال تعالى: {وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} (180) سورة الأعراف.
بل نؤمن بما وصف سبحانه به نفسه، وبما وصفه به رسوله عليه الصلاة والسلام من غير تحريفٍ ولا تعطيلٍ، ومن غير تكييفٍ ولا تمثيلٍ، قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (27) سورة الروم.
الثالث- الإيمانُ بحاكميته تعالى:
فالحاكميةُ مصدرٌ صناعي يؤدي المعنى الذي يؤديه المصدر القياسي (الحكم)،ومعنى توحيد الحاكمية: أي إفراد الله سبحانه بالحكم والتشريع، وأنه سبحانه هو الحكَمُ والمشرع، وأنه لا يشرك في حكمه أحداً.
ولا شك أن الحاكمية بهذا المفهوم من أصول الدين ومقتضيات "لا إله إلا الله" ومن توحيد الألوهية الذي نزلت به الكتب، وأرسلت لأجله الرسل، وهي قضية ثابتة بالكتاب والسنة والإجماع.
قال العلامة الشنقيطي في أضواء البيان عند قوله تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} (10) سورة الشورى (1):
__________
(1) - أضواء البيان - (ج 7 / ص 150) فما بعد(1/35)
" ما دلت عليه هذه الآية الكريمة من أن ما اختلف فيه الناس من الأحكام فحكمه إلى الله وحده لا إلى غيره، جاء موضحاً في آيات كثيرة، فالإشراك بالله في حكمه كالإشراك به في عبادته، قال في حكمه: {قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا} (26) سورة الكهف،وفي قراءة ابن عامر من السبعة (ولا تشرك في حكمه أحدا)،وقال في الإشراك به في عبادته { .. وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} (110) سورة الكهف، فالأمران سواء .. وبذلك تعلم أن الحلال ما أحله الله، وأن الحرام ما حرمه الله، والدين هو ما شرعه الله، فكل تشريع من غيره باطل، والعمل به بدل تشريع الله عند من يعتقد أنه مثله، أو خير منه كفر بواح لا نزاع فيه، وقد دلَّ القرآن في آيات كثيرة على أنه لا حكم لغير الله، وأن اتباعَ تشريع غيره كفرٌ به، فمن الآيات الدالة على أن الحكم لله وحده قوله تعالى: { .. إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ} (57) سورة الأنعام،وقوله تعالى: { .. وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} (44) سورة المائدة،وقوله تعالى: {وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (88) سورة القصص،والآيات بمثل ذلك كثيرة جداً كقوله تعالى: {إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ} (100) سورة النحل،وقوله تعالى: {وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} (121) سورة الأنعام،وقوله تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} (60) سورة يس،والآيات بمثل ذلك كثيرة جداً ".انتهى.
فمن حكم بغير ما أنزل اللهُ فهو كافرٌ ظالمٌ فاسقٌ، كما حكم الله بذلك. فإن كانَ معتقداً صوابَ ما حكم به أو جوازَه فقد كفرَ كفراً مخرجاً من الملة، وإنْ حكمَ بغير حكم اللهِ لشهوةٍ أو هوىً فكافرٌ كفراً أصغرَ، وهو معصية ٌ وإثم كبيرٌ. وأما التشريعُ الوضعيُّ وسنُّ القوانين وإخضاعُ الناس لذلك فهذا كفرٌ مخرجٌ من الملَّةِ، وإن قال صاحبُه: إنَّ شرعَ الله أعدلُ وأحسنُ، لأنه مضاه بذلك شرع الله تعالى ناعيا على بني(1/36)
إسرائيل: {اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} (31) سورة التوبة.
وعَنْ عَدِىِّ بْنِ حَاتِمٍ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - وَفِى عُنُقِى صَلِيبٌ مِنْ ذَهَبٍ قَالَ فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ) قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَعْبُدُونَهُمْ. قَالَ: «أَجَلْ وَلَكِنْ يُحِلُّونَ لَهُمْ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيَسْتَحِلُّونَهُ وَيُحَرِّمُونَ عَلَيْهِمْ مَا أَحَلَّ اللَّهُ فَيُحَرِّمُونَهُ فَتِلْكَ عِبَادَتُهُمْ لَهُمْ» (أخرجه البيهقي في السنن الكبرى) (1).
وعَنْ أَبِى الْبَخْتَرِىِّ قَالَ: سُئِلَ حُذَيْفَةُ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ هَذِهِ الآيَةِ (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ) أَكَانُوا يُصَلُّونَ لَهُمْ قَالَ لاَ وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا يُحِلُّونَ لَهُمْ مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فَيَسْتَحِلُّونَهُ وَيُحَرِّمُونَ عَلَيْهِمْ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَهُمْ فَيُحَرِّمُونَهُ فَصَارُوا بِذَلِكَ أَرْبَابًا (السنن الكبرى للبيهقي) (2).
فلابد أن تكون شريعة الله هي التي تحكم الأرض، وإليها رجوع الناس في شؤونهم وأحوالهم وتقاضيهم
لقد قام البناء الإسلامي على الأسس الآتية:
أولا: تقرير عقيدة التوحيد:
إن الناظر في القرآن الكريم ليجد أن أعظم ما اهتمت به نصوصه قضية توحيد الله تعالى توحيدا كاملا خالصا من الشرك في جميع صوره، وقد بينت النصوص أن التوحيد يتناول ثلاثة مسائل أساسية:
1 - توحيد الله تعالى في ربوبيته وأنه تعالى وحده الخالق المالك المدبر للكون وشئونه.
__________
(1) - السنن الكبرى للبيهقي (ج 10 / ص 116) برقم (20847) وهو صحيح لغيره
(2) - (ج 10 / ص 116) برقم (20848) وفيه انقطاع ولكنه صحيح لغيره(1/37)
2 - توحيده تعالى - ترتيبا على ما سبق - في صفاته التي تجب له وتليق بعظمته وجلاله, وكذلك توحيده في أسمائه التي سمى بها نفسه من أسماء حسنى تتضمن كماله وجلاله.
3 - إفراده تعالى بالعبادة حتى لا يتخذ معبودا سواه بأي وجه من وجوه العبادة.
أسباب التركيز على عقيدة التوحيد:
تعتبر عقيدة التوحيد هي الأساس الفاصل بين الإيمان والشرك أو الكفر. ولما كان البناء الإسلامي كله يقوم عليها, فقد عني القرآن الكريم والرسول - صلى الله عليه وسلم - بتأسيس ذلك وتوضيحه غاية التوضيح.
كانت المجتمعات البشرية قد اعترى تصورها لله الخالق انحراف كبير سببه التحريف الذي حدث للديانات السابقة مما فتح الباب أمام الانحرافات والتخيلات الفاسدة في العقيدة الإلهية، فأصبح الناس بين طرفي نقيض:
الطرف الأول: قوم غلوا بعقولهم فجعلوا إلههم صورة خيالية تجريدية لا محل لها من الواقع. فكان الإله عندهم صورة ذهنية مجردة.
الطرف الثاني: قوم فرطوا في إلههم فشبهوه بالمخلوق, ووصفوه بصفات المخلوق من حيث التعدد واتخاذ الولد والتجسيد، وكونه يعتريه ما يعتري البشر من الآفات والنقائص, وأنه يمكن أن يخفى عليه شيء من الخلق.
المسالة الأولى: توحيده تعالى في ربو بيته خلقا وملكا وتدبيرا:
بين القرآن الكريم بأن الله تعالى هو وحده الخالق لهذا الكون بكل ما فيه بلا شريك ولامعين له في ذلك. فالله تعالى أوجده من العدم, ووضع له النواميس التي يسير عليها، وخلق فيه المخلوقات المختلفة التي تعيش فيه. ولأنه تعالى المتفرد بخلقه, فهو كذلك المتفرد بملكه لكل ما في الكون, وليس لسواه ملك على أي شيء أصالة, كما أنه تعالى هو المتصرف المدبر للكون. وقد جعل الله تعالى آياته في الكون وانتظام أمره ونفاذ قدرته أدلة على وجوده وتفرده وعظيم سلطانه وقدرته, ذلك أن البشر جميعا -إلا من شذ منهم- يقرون بأن الله تعالى هو الخالق لهذا الكون المالك له والمدبر(1/38)
لأمره، قال تعالى: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} (87) سورة الزخرف، والإيمان بالربوبية يزيد النفس خشوعا ورهبة, لأن الإنسان ضعيف بطبعه وخلقته, فإذا ظهرت قوة خارقة وقف أمامها مبهوراً كما قال الله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} (67) سورة الزمر.
المسألة الثانية: إفراد لله تعالى في ذاته وصفاته وأسمائه وأفعاله:
1.ذات الله تعالى:
إن لله تعالى في العقيدة الإسلامية ذاتاً متميزة مستقلة، لها وجود حقيقي لا خيالي، إلا إنها ذات لا تشبه ذوات المخلوقين لا من حيث الوجود ولا من حيث الصفات. فوجود الله تعالى وجود كامل لم يسبق بعدم ولا يدركه فناء ولا عدم، فهو الأول وليس قبله شيء، كما أنه الآخر وليس بعده شيء، قال تعالى {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (3) سورة الحديد، وكان من دعائه - صلى الله عليه وسلم - «اللَّهُمَّ رَبَّ السَّمَوَاتِ وَرَبَّ الأَرْضِ وَرَبَّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ رَبَّنَا وَرَبَّ كُلِّ شَىْءٍ فَالِقَ الْحَبِّ وَالنَّوَى وَمُنْزِلَ التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالْفُرْقَانِ أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ كُلِّ شَىْءٍ أَنْتَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهِ اللَّهُمَّ أَنْتَ الأَوَّلُ فَلَيْسَ قَبْلَكَ شَىْءٌ وَأَنْتَ الآخِرُ فَلَيْسَ بَعْدَكَ شَىْءٌ وَأَنْتَ الظَّاهِرُ فَلَيْسَ فَوْقَكَ شَىْءٌ وَأَنْتَ الْبَاطِنُ فَلَيْسَ دُونَكَ شَىْءٌ اقْضِ عَنَّا الدَّيْنَ وَأَغْنِنَا مِنَ الْفَقْرِ» (أخرجه مسلم) (1).
ولما كانت هذه الذات بالحال التي ذكرنا, فإن العقل البشري يستحيل عليه إدراك كنه هذه الذات, لأنه لا يتصور إلا الأشياء التي تدركها حواسه المحددة. فذات الله تعالى جلت عن أن تدركها البصائر النافذة فضلا عن الأبصار، وعظمت عن أن تتوهمها الظنون أو تتصورها الأفكار، قال تعالى: {لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} (103) سورة الأنعام.
2.صفات الله تعالى وأسمائه:
__________
(1) - برقم (7064)(1/39)
لما كانت ذات الله تعالى مما تعجز الإفهام عن إدراكها، وتحار العقول في بلوغ فهمها لمخالفتها لسائر المخلوقات، كان السبيل إلى التعريف بها هو التعريف بصفاته تعالى. وقد سلك القرآن الكريم ذلك المنهج, وكذلك الرسول - صلى الله عليه وسلم -.فقد اتخذ القرآن الكريم في التعريف بالله تعالى منهج الاستدلال بالشاهد الموجود على الغائب. فجعل آياته الكونية الدالة على عظمته وجلاله وفائق قدرته وسلطانه منطلقا لبيان صفاته وأسمائه المتضمنة لكماله وجلاله. فالناظر في صنعة يستدل بها على كثير من صفات صانعها. لذا نجد أن القرآن كثيرا ما يضرب الأمثال للناس, مع أنه جعل قاعدة عامة لذلك تفيد نفي المماثلة والمشابهة بين الخالق والمخلوق كما في قوله تعالى: {لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَىَ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (60) سورة النحل، وقوله: {فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} (11) سورة الشورى، فكل ذات من الذوات لابدَّ لها من صفات تتصف بها. و إذا كان الإنسان يتصف بصفات هي في حقه صفات كمال كالعلم والسمع والبصر والعدل والإرادة والحكمة وكل صفات الكمال، فالله تعالى أولى بذلك وأعلى، مع العلم بالفارق التام بين صفات الخالق وصفات المخلوق. ومن أسماء الله تعالى وصفاته التي وردت بها النصوص قوله تعالى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (22) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23) هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (24) [الحشر/22 - 24]}
فوائد التعريف بالصفات:
1 - تنزيه الله تعالى عن مشابهة الخلق كما قال الله تعالى: { ... لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} (11) سورة الشورى، وقوله تعالى: {وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ} (4) سورة الإخلاص(1/40)
2 - تعريف الخلق بربهم و إلههم حتى يعبدوه حق عبادته بناءا على معرفتهم به، لأن كمال العبادة يكون بكمال المعرفة كما قال الله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ} (19) سورة محمد
3 - قطع الطمع عن إدراك كيفية تلك الصفات، كما قال الله تعالى: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} (110) سورة طه
أفعال الله تعالى:
أفعال الله تعالى تقوم على كمال القدرة وتمام العلم المحيط بكل شيء، فالله تعالى لما كان متفردا في ذاته وصفاته, استلزم ذلك أن يكون متفردا في أفعاله، فلا يشبهه أحد من خلقه في فعل من أفعاله. لذا نجد أن الله تعالى كثيرا ما تحدَّى البشر بأن يأتوا بشيء من أفعاله, فقد تحدَّاهم بأن يخلقوا ذبابة, أو ينزلوا ولو أقصر سورة من القرآن, ولكن هيهات أن يقدر على شيء من ذلك أحد في اللاحق وقد عجز عنه السابقون. قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} (73) سورة الحج، وقال تعالى: {وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (23) سورة البقرة
المسألة الثالثة: إفراد الله تعالى بالعبادة حتى لا يتخذَ إلهٌ غيره بأي وجهٍ من الوجوه المقتضية للعبادة:
وهذه قضية جوهرية من قضايا التوحيد, بل هي الركن الأساسي الذي تقتضيه عقيدة التوحيد الإسلامية المتقررة في كلمة التوحيد (لا إله إلا الله) أي لا معبود بحق إلا الله. فهذه هي الكلمة الفاصلة بين عقيدة التوحيد في الإسلام وغيرها من العقائد الأخرى. فلما كان الله تعالى متفردا في ذاته وصفاته وأفعاله- وكانت النفوس مفطورة على اتخاذ إله تعبده وتعظمه- كان الله تعالى هو المعبود بحق, والمستحق الوحيد لهذه العبادة مهما تعددت الآلهة المتخذة.(1/41)
بل إن المتقرر حتى لدى كثير من المشركين المتخذين لأكثر من إله أنهم يعتقدون بأن هناك إله اواحدا يسيطر على جميع الآلهة الأخرى، وأنه هو عظيمها و إمامها, وأن ما دونه وسيلة إليه. ومن النصوص في ذلك قوله تعالى
: {أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} (3) سورة الزمر، وقال تعالى: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} (25) سورة لقمان.
الأسس التي يقوم عليها توحيد الذات والصفات:
يعد مبحث توحيد الذات والصفات أدق مباحث العقيدة الإسلامية, وذلك لأنه المحك الذي انزلقت فيه كثير من الفرق, وضلَّت في مسالكه العديدُ من الفلسفات والأفكار. لذا عنيت العقيدة الإسلامية بوضع الأسس السليمة للخروج بمعتقد صحيحٍ صريحٍ في هذا الباب يأمن فيه السالك ُالانزلاقَ والضلالَ. وتتمثل هذه الأسس فيما يلي:
الأساس الأول: أنه لا يوصف الله تعالى إلا بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله - صلى الله عليه وسلم -:
وكذا في باب الأسماء لا يسمَّى الله سبحانه وتعالى إلا بما جاء به الشرع. ذلك أن الحكم على الشيء فرع عن تصوره، فإذا كانت الذات الإلهية لا تدركها العقول والأبصار. فإن الواجب أن لا توصف تلك الذات إلا بما تصف به نفسها أو بما يصفها به من وكّل إليه شيء من ذلك، وهم الرسل الكرام عليهم الصلاة والسلام. قال الله تعالى: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} (36) سورة الإسراء، وقال تعالى: {وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} (180) سورة الأعراف، وقال تعالى: { .. لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} (11) سورة الشورى، وقوله(1/42)
تعالى: {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} (65) سورة مريم.
الأساس الثاني: تنزيه الله تعالى عن أن يشبه شيئا من خلقه أو أن يشبهه أحد من خلقه في ذاته أوصفاته أو أفعاله:
فقد تقرر لدينا أن ذات الله تعالى لا تشبه ذوات المخلوقين. لذا كان اللازم ألا تشبه صفاته صفات المخلوقين, لأن الكلام في الصفات يبنى على الكلام في الذات. ويدل على ذلك قوله تعالى: {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65) [مريم/65]}
الأساس الثالث: أنه لا سبيل لإدراك الكيفيات والهيئات فيما يتعلق بذات الله تعالى وصفاته وأفعاله:
وهذا الأساس يقوم أيضا على اختلافه سبحانه وتعالى عن المخلوقات. فالإنسان محدود القدرات في إدراكه للأمور الغائبة عنه، وحتى قدرته التي يحاول بها الخروج عن حدود الواقع، وهي قوة التخيل، فإنه لا يتجاوز بها المدركات المادية المتصورة لديه مهما حاول تشكيل صورها وتوسيع مداها. أما حينما يحاول الخروج عن ذلك فان عقله يقع في التناقض أو عدم القدرة على تصور ذلك.(1/43)
ثمراتُ الإيمان بالله تعالى
1 - استشعارُ الإنسان عظمة ِالله سبحانه وتعالى وجلاله وكماله، مما يدفع الإنسان إلى الخوف واللجوء إليه والتقرب إليه حبا وتعظيما ومهابة وإجلالا، وكل ذلك يؤثر في حياة المؤمن تأثيرا كبيرا يدفعه إلى السلوك القويم رجاء ثواب الله تعالى وخوف عقابه، كما أنه يملأ قلبه حبا للخير فيسعى إلى دعوة غيره بالتي هي أحسن حتى يشترك معه في تحصيل هذا الخير، لذا قال الله تعالى في وصف الرسول - صلى الله عليه وسلم -: {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ (128) سورة التوبة}
2.استعلاءُ نفس المؤمن وتحرره من العبودية لغير الله تعالى، فلا يخاف إلا إياه، ولا يطمع إلا في رضاه، وهذا ما يربي فيه الخصال الحميدة من العزة والكرامة والصدق والشجاعة والسخاء، لأنه صار عبدا لله حقا يستمد عزه من عزته كما قال تعالى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ (8) سورة المنافقون ْ، وقوله تعالى حكاية عن إبراهيم عليه السلام: {وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (81) سورة الأنعام}
3.إضفاءُ الحياة معنى أكبر وأبعد من المعاني القاصرة المتصفة بالذاتية والأنانية، حيث إن المؤمن يعتقد جازما بأن هذه الدنيا مزرعةٌ للآخرة، وأن له بكل ما يبذل في هذه الدنيا حسنةً، قال تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (40) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى (41) وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى (42) [النجم/39 - 43]}
4.تنزيهُ الله تعالى عن مشابهة خلقه، وبيان أنه المتفرد بصفات الكمال والجلال، فلا يتطرق إلى قلب المؤمن شيءٌ من أوهام تشبيه أحد من الخلق بالله عز وجل، أو وصف ذلك المخلوق بصفات الكمال الواجبة لله تعالى(1/44)
5 - يثمر للعبد محبةَ الله وتعظيمه الموجبين للقيام بأمره، واجتناب نهيه، وإذا قام العبد بذلك نال بهما كمال السعادة في الدنيا والآخرة.قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (54) سورة المائدة
6 - إنَّ الإيمان بالله ينشئ في النفس الأنفة والعزة؛ لأنه يعلم أن الله هو المالك الحقيقي لكل ما في هذا الكون، وأنه لا نافع ولا ضار إلا هو، وهذا العلم يغنيه عن غير الله، وينزع من قلبه خوف سواه، فلا يرجو إلا الله، ولا يخاف سواه.قال تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174) إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175) [آل عمران/173 - 175]}
7 - إنَّ الإيمان بالله ينشئ في نفسه التواضع؛ لأنه يعلم أن ما به من نعمة فمن الله، فلا يغره الشيطان، ولا يبطر ولا يتكبر، ولا يزهو بقوته وماله.قال تعالى: {وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ} (53) سورة النحل.
8 - إنَّ المؤمن بالله يعلم علم اليقين أنه لا سبيلَ إلى الفلاحِ والنجاةِ إلا بالعمل الصالح الذي يرضاه الله،قال تعالى: {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُم بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ جَزَاء الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ} (37) سورة سبأ، في حين يعتقد غيره اعتقادات باطلة كاعتقاد أن الله أمر بصلب ابنه تكفيرا عن خطايا البشر، أو يؤمن بآلهة ويعتقد أنها تحقق له ما يريد، وهي في حقيقتها لا تنفع ولا تضر، أو يكون ملحدا فلا يؤمن بوجود خالق .. وكل هذه أماني، حتى إذا وردوا على الله يوم القيامة وعاينوا الحقائق أدركوا أنهم كانوا في ضلال مبين.قال تعالى: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَيْنَ شُرَكَآؤُكُمُ الَّذِينَ كُنتُمْ(1/45)
تَزْعُمُونَ (22) ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (23) انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24) سورة الأنعام.}
9 - إنَّ الإيمان بالله يربي في الإنسان قوة عظيمة من العزم والإقدام والصبر والثبات والتوكل، حينما يضطلع بمعالي الأمور في الدنيا ابتغاء لمرضاة الله، ويكون على يقين تام أنه متوكل على ملك السماوات والأرض، وأنه يؤيده ويأخذ بيده، فيكون راسخا رسوخ الجبال في صبره وثباته وتوكله
10 - الأمن التام والاهتداء التام: فبحسب الإيمان يحصل الأمن والاهتداء في الدنيا والبرزخ والآخرة،قال الله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ} (82) سورة الأنعام.
11 - الاستخلافُ في الأرض والتمكين والعزة: قال الله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (55) سورة النور.
12 - دخول ُالجنان والنجاة من النيران: قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ} (12) سورة محمد
13 - الحياةُ الطيبة: فالحياة الطيبة الحافلة بكل ما هو طيب-إنما هي ثمرة من ثمرات الإيمان بالله-عز وجل- قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} (97) سورة النحل.
14 - حلولُ الخيرات ونزولُ البركات: قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} (96) سورة الأعراف.
15 - الهدايةُ لكل خير: قال تعالى: {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (11) سورة التغابن.وقال: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ(1/46)
الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} (9) سورة يونس.وقال تعالى: {وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ} (24) سورة الحج.
16 - السلامةُ من الخسارة: قال تعالى: [وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)] (العصر:1 - 3).
17 - الإيمانُ بالله سببٌ لدفاع الله عن أهله: قال عز وجل {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ} (38) سورة الحج.
18 - تكفيرُ السيئات: قال تعالى: [وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ] (محمد:2).
19 - الرفعةُ والعلو: قال تعالى: { ... يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} (11) سورة المجادلة.
20 - إخلاصُ العملِ: فلا يمكن للعبد أن يقومَ بالإخلاص لله، ولعباد الله، ونصيحتهم على وجه الكمال إلا بالإيمان الحقيقي.فعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حِينَ بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوْصِنِي، قَالَ: أَخْلِصْ دِينَكَ يَكْفِكَ الْعَمَلُ الْقَلِيلُ " (أخرجه الحاكم في المستدرك) (1).
21 - قوةُ التوكل: فالإيمان بالله يوجب للعبد قوة التوكل على الله، { .. وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} (3) سورة الطلاق،وقال تعالى {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4) [الأنفال/2 - 5]}
22 - الشجاعةُ: فالإيمان بالله يبعث على الشجاعة والإقدام؛ لأنه يملأ قلب المؤمن بالخوف من الله، والخشية له، وتعظيمه، وإجلاله. قال تعالى: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا
__________
(1) برقم (7844) وهو حسن(1/47)
مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} (23) سورة الأحزاب
23 - حسنُ الخلق: فالإيمان يدعو إلى حسن الخلق مع جميع طبقات الناس، وإذا ضعف الإيمان أو نقص أو انحرف أثَّر ذلك في أخلاق العبد انحرافاً بحسب بُعْده عن الإيمان. قال تعالى: {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (90) سورة النحل
24 - الإعانةُ على تحمل المشاقِّ: فالإيمان أكبر عون على تحمل المشاق، والقيام بالطاعات، وترك الفواحش والمنكرات.
25 - الذكرُ الحسن: فالإيمان يوجب لصاحبه أن يكون معتبراً عند الخلق أميناً.
26 - عزةُ النفس: فالإيمان يوجب للعبد العفة، وعزة النفس، والترفع عن إراقة ماء الوجه؛ تذللاً للمخلوقين.
27 - إن َّالإيمان هو السبب الوحيد للقيام بذروة سنام الإسلام وهو الجهاد البدني والمالي والقولي في سبيل الله.
28 - ولايةُ الله لعبده المؤمن ..
قال تعالى: {اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أولياؤهم الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (257) سورة البقرة
عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ «إِذَا أَحَبَّ اللَّهُ الْعَبْدَ نَادَى جِبْرِيلَ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلاَنًا فَأَحْبِبْهُ. فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ فَيُنَادِى جِبْرِيلُ فِى أَهْلِ السَّمَاءِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلاَنًا فَأَحِبُّوهُ. فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِى الأَرْضِ». (أخرجه البخاري) (1).
29 - استغفارُ الملائكة لهم،يقول الله تعالى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (7) رَبَّنَا
__________
(1) - برقم (3209) ومسلم برقم (6873)(1/48)
وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آَبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (8) وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9) [غافر/7 - 9]}
30 - السعادةُ التي يجدها المسلم في لذة العبادة،وهي الحياة الطيبة التي وعد الله بها عباده المؤمنين يقول الله تعالى {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} (97) سورة النحل. وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - قَالَ قَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - «يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِى بِى، وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِى، فَإِنْ ذَكَرَنِى فِى نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِى نَفْسِى، وَإِنْ ذَكَرَنِى فِى مَلأٍ ذَكَرْتُهُ فِى مَلأٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَىَّ بِشِبْرٍ تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَىَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعًا، وَإِنْ أَتَانِى يَمْشِى أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً». (أخرجه الشيخان) (1).
وقال العلامة ابن القيم رحمه في مدارج السالكين (2):"فإنه لا نعيمَ له ولا لذة ولا ابتهاج ولا كمال إلا بمعرفة الله ومحبته والطمأنينة بذكره والفرح والابتهاج بقربه والشوق إلى لقائهِ، فهذه جنته العاجلة، كما أنه لا نعيم له في الآخرة ولا فوز إلا بجواره في دار النعيم في الجنة الآجلة، فله جنتان لا يدخل الثانية منهما إن لم يدخلِ الأولى وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه يقول: إن في الدنيا جنةً من لم يدخلها لم يدخلْ جنة الآخرة، وقال بعض العارفين: إنه ليمر بالقلب أوقاتٌ أقول: إن ْكان أهلُ الجنة في مثل هذا إنهم لفي عيشٍ طيبٍ، وقال بعض المحبين: مساكينٌ أهلُ الدنيا خرجوا من الدنيا وما ذاقوا أطيبَ ما فيها، قالوا: وما أطيبَ ما فيها؟ قال: محبةُ الله والأنسُ به والشوقُ إلى لقائه والإقبالُ عليه والإعراض ُعما سواه أو نحو هذا من الكلام، وكلُّ من له قلبٌ حيٌّ يشهدُ هذا ويعرفُه ذوقاً .. "
31 - ُ من سلطان الشيطان.ذلك أن الشيطانَ يوسوسُ لكل أحد ويدلُّه إلى ما يهلكه، وقد جعل الله لعباده المؤمنين حصوناً يمتنعون فيها من وسوسته، يقول الله تعالى:
__________
(1) - صحيح البخارى برقم (7405) ومسلم برقم (6981)
(2) - مدارج السالكين - (ج 3 / ص 7)(1/49)
{فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ الله أكبر إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الله أكبر إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ} سورة النحل (98 ـ 100)
32 - يمدُّ الإنسان بقدرةٍ كبيرةٍ على تحمُّل المصائب. قال تعالى: {وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} (146) سورة آل عمران.
وعَنْ صُهَيْبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «عَجَبًا لأَمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ وَلَيْسَ ذَاكَ لأَحَدٍ إِلاَّ لِلْمُؤْمِنِ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ». (رواه مسلم) (1).
__________
(1) - برقم (7692)(1/50)
الركنُ الثاني
الإيمانُ بالملائكة
تعريفه:
هو التصديق الجازم بأن لله ملائكةً موجودين، مخلوقين من نور، وأنهم عبادٌ مكرمون يسبحون الله في الليل والنهار لا يفترون، وأنهم لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، ثم إنهم ليسوا كالبشر، فهم لا يأكلونَ ولا يشربونَ ولا ينامون ولا يتناسلون، وإنهم قائمون بوظائف متنوعة أوكلَ الله تعالى إليهم القيام بها.
صفات الملائكة:
إن العلمَ بالملائكة من الأمور الغيبية التي لا يصل إليها العقلُ المجرد، وإنما السبيل لمعرفتهم هو الخبر الصادقُ عن الله عز وجل أو عن رسوله - صلى الله عليه وسلم -.وقد جاءت الأخبار التي تفيد بوجود الملائكة وتذكر بعض صفاتهم بصورة مجملةٍ دون تفصيل ومما ورد في ذلك:
1 - أنهم مخلوقون من نور:
فعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «خُلِقَتِ الْمَلاَئِكَةُ مِنْ نُورٍ وَخُلِقَ الْجَانُّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ وَخُلِقَ آدَمُ مِمَّا وُصِفَ لَكُمْ». (أخرجه مسلم) (1)،لكنه لم يبين لنا النور الذي خُلقوا منه، لذا فإننا لا نستطيع الخوض في ذلك وإنما الواجب الاعتقاد بصحته وصدقه والتوقف عنده.
أما متى خُلقوا فليس هذا أيضا مما ذكر، بل الذي جاءت به النصوص أن خلقهم كان قبلَ خلقِ آدم عليه السلام لأنه تعالى أمرهم بالسجود لآدم عند خلقه، قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} (30) سورة البقرة، وقال أيضا: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ (28) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ (29) سورة الحجر}
__________
(1) - برقم (7687) -المارج: لهب النار المختلط بسواها(1/51)
2 - عِظمُ خلقهم:
لقد ذكر الله تعالى بعض صفات الملائكة في القرآن العظيم، ومن ذلك عِظم خلقهم فقد قال تعالى عن ملائكة النار: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} (6) سورة التحريم، وقال تعالى عن جبريل عليه السلام: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ (41) [الحاقة/40،41]،و عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ «أُذِنَ لِى أَنْ أُحَدِّثَ عَنْ مَلَكٍ مِنْ مَلاَئِكَةِ اللَّهِ مِنْ حَمَلَةِ الْعَرْشِ إِنَّ مَا بَيْنَ شَحْمَةِ أُذُنِهِ إِلَى عَاتِقِهِ مَسِيرَةُ سَبْعِمِائَةِ عَامٍ». (أخرجه أبو داود) (1).
فهذه النصوص وغيرها تبين عظمة الملائكة، فالواجب علينا الإيمانُ بكل ما جاء في ذلك، مع أننا لا نستطيع تصور كيفياتهم، إذ كيف نتصور مخلوقات ذات أجنحة مثنى وثلاث ورباع والجناح ُالواحد يسد الأفقَ، وجبريل عليه السلام له ستمائة جناح كما ورد بذلك الحديث. فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ رَأَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - جِبْرِيلَ فِى صُورَتِهِ وَلَهُ سِتُّمِائَةِ جَنَاحٍ كُلُّ جَنَاحٍ مِنْهَا قَدْ سَدَّ الأُفُقَ يَسْقُطُ مِنْ جَنَاحِهِ مِنَ التَّهَاوِيلِ وَالدُّرِّ وَالْيَاقُوتِ مَا اللَّهُ بِهِ عَلِيمٌ. (أخرجه أحمد) (2)
3 - قدرتهم على التشكل في مادة كثيفة جسمانية:
لقد أعطيت الملائكةُ القدرةَ على التشكل والخروج عن صورتهم الحقيقية، فقد جاء جبريل عليه السلام إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في صورة رجلٍ شديد بياضِ الثيابِ، شديد سواد الشعر (3)،كما جاء إلى مريم عليها السلام في صورة رجل، وغير ذلك من المواقف التي ظهر بها بعض الملائكة للرسل عليهم السلام ..
4 - كثرة ُالطاعة والعبادة:
__________
(1) - برقم (4729) وهو صحيح
(2) - برقم (3821) وهو صحيح
(3) - انظر صحيح مسلم برقم (102)(1/52)
إن الملائكة كثيرو الطاعة والعبادة لله تعالى: حمدا وتسبيحا وتنزيها وطاعةٌ لأوامره دون كللٍ أو مللٍ، قال الله تعالى: وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ (19) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ (20) [الأنبياء/19 - 20]،وقال الله تعالى: {فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ} (38) سورة فصلت، ومع هذا فهم لا يأكلونَ ولا يشربونَ ولا ينامون، ولا يتناسلون، كما أنهم لا يوصفون بالذكورة أو الأنوثة.
وظائفهم:
للملائكة وظائفُ عديدةٌ لا تحصى، وقد جاءت الأخبار ببعض تلك الوظائف ومن أهمها:
(1) - إبلاغ كلام الله تعالى وحكمه إلى عباده المرسلين:
قال الله تعالى مخبراً عن القرآن: وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195) [الشعراء/192 - 196]،وقال تعالى: {رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ لِيُنذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ} (15) سورة غافر، وقد ثبت بالسنة أن هذه وظيفة جبريل عليه السلام.
(2) - حمل العرش:
فقد نصَّ القرآن الكريم على أن عرش الرحمنِ تحمله الملائكة قال الله تعالى: {وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} (17) سورة الحاقة. و قال تعالى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} (غافر:7).
(3) - رعايةُ الجنة وأهلها، والقيامُ على النار ومن فيها:
وقد أطلق القرآن الكريم على القائمين بهذه الوظائف اسم الخزنةِ قال تعالى: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آَيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى(1/53)
وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ (71) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (72) وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ (73) [الزمر/71 - 73]}،وقال تعالى: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آَبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24) [الرعد/23،24]}
وقال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ (49) قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (50) [غافر/49 - 50]}،وخصَّ أصحاب النار باسم الزبانية. قال تعالى: {فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ (18) [العلق/17 - 19]}
ورؤساء خزنة جهنم تسعة عشر، قال تعالى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ (27) لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ (28) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29) عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ (30) وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آَمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ (31) [المدثر/27 - 32]}.
وزعيمهم مالك قال تعالى: {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} (الزخرف:77)
وقد جاء في السنة ذكر مالك وأنه خازن النار، فعَنْ سَمُرَةَ قَالَ قَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - «رَأَيْتُ اللَّيْلَةَ رَجُلَيْنِ أَتَيَانِى قَالاَ الَّذِى يُوقِدُ النَّارَ مَالِكٌ خَازِنُ النَّارِ، وَأَنَا جِبْرِيلُ، وَهَذَا مِيكَائِيلُ» (أخرجه البخاري) (1).
(4) - مراقبةُ أعمال الخلق وتصرفاتهم وإحصاؤها:
__________
(1) - برقم (3236)(1/54)
وذلك أن مع كلِّ إنسان مكلف ملكينِ أحدهما عن يمينه والآخر عن شماله، قال تعالى: {إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17) مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18) [ق/17 - 19]}
وقال تعالى: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (12) [الإنفطار/10 - 13]}
و عن مجاهد، قال: مع كل إنسان مَلكان: ملك عن يمينه، وملك عن يساره; قال: فأما الذي عن يمينه، فيكتب الخير، وأما الذي عن يساره فيكتب الشرّ. أخرجه الطبري (1)
(5) - المحافظةُ على الإنسان خلال حياته كلها:
قال الله تعالى: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللّهِ .. } (11) سورة الرعد
(6) - قبض الأرواح عند الموت (ملك الموت):
قال تعالى: {قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ {11} السجدة
ولملك الموت أعوان من الملائكة، يأتون العبد بحسب عمله، وإن كان محسنًا ففي أحسن هيئة، وإن كان مسيئًا ففي أشنع هيئة. قال تعالى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً حَتَّىَ إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ} (61) سورة الأنعام}
(7) -حضور مجالس الذكر:
عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ «إِنَّ لِلَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى مَلاَئِكَةً سَيَّارَةً فُضْلاً يَتَبَّعُونَ مَجَالِسَ الذِّكْرِ فَإِذَا وَجَدُوا مَجْلِسًا فِيهِ ذِكْرٌ قَعَدُوا مَعَهُمْ وَحَفَّ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِأَجْنِحَتِهِمْ حَتَّى يَمْلَئُوا مَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ السَّمَاءِ الدُّنْيَا فَإِذَا تَفَرَّقُوا عَرَجُوا وَصَعِدُوا إِلَى السَّمَاءِ - قَالَ - فَيَسْأَلُهُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَهُوَ أَعْلَمُ بِهِمْ مِنْ أَيْنَ جِئْتُمْ فَيَقُولُونَ جِئْنَا مِنْ عِنْدِ عِبَادٍ لَكَ فِى الأَرْضِ يُسَبِّحُونَكَ وَيُكَبِّرُونَكَ وَيُهَلِّلُونَكَ وَيَحْمَدُونَكَ وَيَسْأَلُونَكَ.
__________
(1) - تفسير الطبري - (ج 22 / ص 344) وهو حسن(1/55)
قَالَ وَمَاذَا يَسْأَلُونِى قَالُوا يَسْأَلُونَكَ جَنَّتَكَ. قَالَ وَهَلْ رَأَوْا جَنَّتِى قَالُوا لاَ أَىْ رَبِّ. قَالَ فَكَيْفَ لَوْ رَأَوْا جَنَّتِى قَالُوا وَيَسْتَجِيرُونَكَ. قَالَ وَمِمَّ يَسْتَجِيرُونَنِى قَالُوا مِنْ نَارِكَ يَا رَبِّ. قَالَ وَهَلْ رَأَوْا نَارِى قَالُوا لاَ. قَالَ فَكَيْفَ لَوْ رَأَوْا نَارِى قَالُوا وَيَسْتَغْفِرُونَكَ - قَالَ - فَيَقُولُ قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ فَأَعْطَيْتُهُمْ مَا سَأَلُوا وَأَجَرْتُهُمْ مِمَّا اسْتَجَارُوا - قَالَ - فَيَقُولُونَ رَبِّ فِيهِمْ فُلاَنٌ عَبْدٌ خَطَّاءٌ إِنَّمَا مَرَّ فَجَلَسَ مَعَهُمْ قَالَ فَيَقُولُ وَلَهُ غَفَرْتُ هُمُ الْقَوْمُ لاَ يَشْقَى بِهِمْ جَلِيسُهُمْ». (أخرجه مسلم) (1)
و عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «إِنَّ لِلَّهِ مَلاَئِكَةً يَطُوفُونَ فِى الطُّرُقِ، يَلْتَمِسُونَ أَهْلَ الذِّكْرِ، فَإِذَا وَجَدُوا قَوْمًا يَذْكُرُونَ اللَّهَ تَنَادَوْا هَلُمُّوا إِلَى حَاجَتِكُمْ.قَالَ فَيَحُفُّونَهُمْ بِأَجْنِحَتِهِمْ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا.قَالَ فَيَسْأَلُهُمْ رَبُّهُمْ وَهْوَ أَعْلَمُ مِنْهُمْ مَا يَقُولُ عِبَادِى قَالُوا يَقُولُونَ يُسَبِّحُونَكَ، وَيُكَبِّرُونَكَ، وَيَحْمَدُونَكَ وَيُمَجِّدُونَكَ.
قَالَ فَيَقُولُ هَلْ رَأَوْنِى قَالَ فَيَقُولُونَ لاَ وَاللَّهِ مَا رَأَوْكَ.قَالَ فَيَقُولُ وَكَيْفَ لَوْ رَأَوْنِى قَالَ يَقُولُونَ لَوْ رَأَوْكَ كَانُوا أَشَدَّ لَكَ عِبَادَةً، وَأَشَدَّ لَكَ تَمْجِيدًا، وَأَكْثَرَ لَكَ تَسْبِيحًا.قَالَ يَقُولُ فَمَا يَسْأَلُونِى قَالَ يَسْأَلُونَكَ الْجَنَّةَ.قَالَ يَقُولُ وَهَلْ رَأَوْهَا قَالَ يَقُولُونَ لاَ وَاللَّهِ يَا رَبِّ مَا رَأَوْهَا.قَالَ يَقُولُ فَكَيْفَ لَوْ أَنَّهُمْ رَأَوْهَا قَالَ يَقُولُونَ لَوْ أَنَّهُمْ رَأَوْهَا كَانُوا أَشَدَّ عَلَيْهَا حِرْصًا، وَأَشَدَّ لَهَا طَلَبًا، وَأَعْظَمَ فِيهَا رَغْبَةً.قَالَ فَمِمَّ يَتَعَوَّذُونَ قَالَ يَقُولُونَ مِنَ النَّارِ.قَالَ يَقُولُ وَهَلْ رَأَوْهَا قَالَ يَقُولُونَ لاَ وَاللَّهِ مَا رَأَوْهَا.قَالَ يَقُولُ فَكَيْفَ لَوْ رَأَوْهَا قَالَ يَقُولُونَ لَوْ رَأَوْهَا كَانُوا أَشَدَّ مِنْهَا فِرَارًا، وَأَشَدَّ لَهَا مَخَافَةً.قَالَ فَيَقُولُ فَأُشْهِدُكُمْ أَنِّى قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ.قَالَ يَقُولُ مَلَكٌ مِنَ الْمَلاَئِكَةِ فِيهِمْ فُلاَنٌ لَيْسَ مِنْهُمْ إِنَّمَا جَاءَ لِحَاجَةٍ.قَالَ هُمُ الْجُلَسَاءُ لاَ يَشْقَى بِهِمْ جَلِيسُهُمْ» (أخرجه البخاري) (2)
وعَنِ الأَغَرِّ أَبِى مُسْلِمٍ أَنَّهُ شَهِدَ عَلَى أَبِى هُرَيْرَةَ وَأَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ أَنَّهُمَا شَهِدَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ «مَا مِنْ قَوْمٍ يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ حَفَّتْ بِهِمُ الْمَلاَئِكَةُ
__________
(1) - برقم (7015) -الفُضل: ملائكة زائدون على الحفظة وغيرهم
(2) - برقم (6408).(1/56)
وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ وَنَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ وَذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ». (أخرجه الترمذي) (1)
(8) - وضع أجنحتها لطالب العلم والاستغفار له:
عَنْ كَثِيرِ بْنِ قَيْسٍ قَالَ كُنْتُ جَالِسًا مَعَ أَبِى الدَّرْدَاءِ فِى مَسْجِدِ دِمَشْقَ فَجَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ يَا أَبَا الدَّرْدَاءِ إِنِّى جِئْتُكَ مِنْ مَدِينَةِ الرَّسُولِ - صلى الله عليه وسلم - لِحَدِيثٍ بَلَغَنِى أَنَّكَ تُحَدِّثُهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَا جِئْتُ لِحَاجَةٍ. قَالَ فَإِنِّى سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ «مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَطْلُبُ فِيهِ عِلْمًا سَلَكَ اللَّهُ بِهِ طَرِيقًا مِنْ طُرُقِ الْجَنَّةِ وَإِنَّ الْمَلاَئِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا رِضًا لِطَالِبِ الْعِلْمِ وَإِنَّ الْعَالِمَ لَيَسْتَغْفِرُ لَهُ مَنْ فِى السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِى الأَرْضِ وَالْحِيتَانُ فِى جَوْفِ الْمَاءِ وَإِنَّ فَضْلَ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ وَإِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ وَإِنَّ الأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلاَ دِرْهَمًا وَرَّثُوا الْعِلْمَ فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ» (أخرجه أبو داود) (2).
(9) - ومنهم الموكل بالقطر والنبات وهو ميكائيل عليه السلام:
وقد ورد ذكره في القرآن. قال تعالى: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ} (البقرةَ:98) وهو ذو مكانه عالية، ومنزلة رفيعة عند ربه، ولذا خصه الله هنا بالذكر مع جبريل، وعطفهما على الملائكة، مع أنهما من جنسهم لشرفهما، من قبيل عطف الخاص على العام،
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ , قَالَ: أَقْبَلَتْ يَهُودُ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - , فَقَالُوا: يَا أَبَا الْقَاسِمِ نَسْأَلُكَ عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ أَجَبْتَنَا فِيهَا اتَّبَعْنَاكَ , وَصَدَّقْنَاكَ وَآمَنَّا بِكَ , قَالَ: فَأَخَذَ عَلَيْهِمْ مَا أَخَذَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ , قَالُوا: اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ , قَالُوا: أَخْبِرْنَا عَنْ عَلامَةِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -؟ قَالَ: تَنَامُ عَيْنَاهُ , وَلا يَنَامُ قَلْبُهُ, قَالُوا: أَخْبِرْنَا كَيْفَ تُؤَنِّثُ الْمَرْأَةُ وَكَيْفَ تُذْكِرُ؟ قَالَ: يَلْتَقِي الْمَاءَانِ , فَإِنْ عَلا مَاءُ الْمَرْأَةِ مَاءَ الرَّجُلِ آنَثَتْ , وَإِنْ عَلا مَاءُ الرَّجُلِ مَاءَ الْمَرْأَةِ أَذْكَرَتْ, قَالُوا: صَدَقْتَ , قَالُوا: فَأَخْبِرْنَا عَنِ الرَّعْدِ مَا هُوَ؟ قَالَ: مَلَكٌ مِنَ الْمَلائِكَةِ
__________
(1) - برقم (3705) وهو صحيح
(2) - سنن أبى داود برقم (3643) وهو صحيح(1/57)
مُوَكَّلٌ بِالسَّحَابِ يَصْرِفُهُ حَيْثُ شَاءَ اللَّهُ, قَالُوا: فَمَا هَذَا الصَّوْتُ الَّذِي يُسْمَعُ؟ قَالَ: زَجْرَةُ السَّحَابِ إِذَا زَجَرَهُ حَتَّى يَنْتَهِيَ إِلَى حَيْثُ أَمَرَهُ, قَالُوا: صَدَقْتَ , قَالُوا: فَأَخْبِرْنَا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ؟ قَالَ: كَانَ يَسْكُنُ الْبَدْوَ , فَاشْتَكَى فَلَمْ يَجِدْ شَيْئًا يُلائِمُهُ إِلا لُحُومَ الإِبِلِ وَأَلْبَانَهَا فَلِذَلِكَ حَرَّمَهَا, قَالُوا: صَدَقْتَ , قَالُوا: فَأَخْبِرْنَا مَنِ الَّذِي يَأْتِيكَ مِنَ الْمَلائِكَةِ , فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ نَبِيٍّ إِلا وَيَأْتِيهِ مَلَكٌ مِنَ الْمَلائِكَةِ بِالرِّسَالَةِ , وَالْوَحْيِ , فَمَنْ صَاحِبُكَ؟ فَإِنَّمَا بَقِيَتْ هَذِهِ , قَالَ: جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ, قَالُوا: ذَلِكَ الَّذِي يَنْزِلُ بِالْحَرْبِ وَالْقِتَالِ , ذَلِكَ عَدُوُّنَا, لَوْ قُلْتَ: مِيكَائِيلُ الَّذِي يَنْزِلُ بِالْقَطْرِ تَابَعْنَاكَ , فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ:"قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ" [البقرة آية 97]. (أخرجه الطبراني) (1)
وقد ورد ذكره في حديث آخر فعن أبي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ قَالَ سَأَلْتُ عَائِشَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ بِأَىِّ شَىْءٍ كَانَ نَبِىُّ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَفْتَتِحُ صَلاَتَهُ إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ قَالَتْ كَانَ إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ افْتَتَحَ صَلاَتَهُ «اللَّهُمَّ رَبَّ جِبْرَائِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَإِسْرَافِيلَ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ اهْدِنِى لِمَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِكَ إِنَّكَ تَهْدِى مَنْ تَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ» (أخرجه مسلم) (2).
ولذا قال العلماء إن هؤلاء الثلاثة المذكورين هم أفضل الملائكة.
(10) - ومنهم الموكل بالصُّور:
وهو إسرافيل عليه السلام وهو ثالث الملائكة المفضلين المتقدم ذكرهم. وهو أحد حملة العرش. والصور: قرن عظيم ينفخ فيه. عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِى قَالَ جَاءَ أَعْرَابِىٌّ إِلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ مَا الصُّورُ قَالَ «قَرْنٌ يُنْفَخُ فِيهِ». (أخرجه الترمذي) (3)
وعَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «كَيْفَ أَنْعَمُ وَقَدِ الْتَقَمَ صَاحِبُ الْقَرْنِ الْقَرْنَ وَحَنَى جَبْهَتَهُ وَأَصْغَى سَمْعَهُ يَنْتَظِرُ أَنْ يُؤْمَرَ أَنْ يَنْفُخَ فَيَنْفُخَ».قَالَ
__________
(1) - برقم (12259) ومسند أحمد برقم (2528) وسنن الترمذى برقم (3406)
وهو حديث حسن
(2) - صحيح مسلم برقم (1847)
(3) - برقم (2617) وهو صحيح(1/58)
الْمُسْلِمُونَ فَكَيْفَ نَقُولُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ «قُولُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ تَوَكَّلْنَا عَلَى اللَّهِ رَبِّنَا» (أخرجه الترمذي) (1).
وينفخ إسرافيل في الصور ثلاث نفخات: نفخة الفزع، ونفخة الصعق، ونفخة البعث. قال تعالى: {وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} (النمل:87).وهذه هي نفخة الفزع وقد دل على النفختين الأخريين قوله تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} (الزمر:68).
(11) - ومنهم الموكل بالجبال وهو ملك الجبال:
عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ حَدَّثَنِى عُرْوَةُ أَنَّ عَائِشَةَ - رضى الله عنها - زَوْجَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - حَدَّثَتْهُ أَنَّهَا قَالَتْ لِلنَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - هَلْ أَتَى عَلَيْكَ يَوْمٌ كَانَ أَشَدَّ مِنْ يَوْمِ أُحُدٍ قَالَ «لَقَدْ لَقِيتُ مِنْ قَوْمِكِ مَا لَقِيتُ، وَكَانَ أَشَدُّ مَا لَقِيتُ مِنْهُمْ يَوْمَ الْعَقَبَةِ، إِذْ عَرَضْتُ نَفْسِى عَلَى ابْنِ عَبْدِ يَالِيلَ بْنِ عَبْدِ كُلاَلٍ، فَلَمْ يُجِبْنِى إِلَى مَا أَرَدْتُ، فَانْطَلَقْتُ وَأَنَا مَهْمُومٌ عَلَى وَجْهِى، فَلَمْ أَسْتَفِقْ إِلاَّ وَأَنَا بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ، فَرَفَعْتُ رَأْسِى، فَإِذَا أَنَا بِسَحَابَةٍ قَدْ أَظَلَّتْنِى، فَنَظَرْتُ فَإِذَا فِيهَا جِبْرِيلُ فَنَادَانِى فَقَالَ إِنَّ اللَّهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ، وَقَدْ بَعَثَ إِلَيْكَ مَلَكَ الْجِبَالِ لِتَأْمُرَهُ بِمَا شِئْتَ فِيهِمْ، فَنَادَانِى مَلَكُ الْجِبَالِ، فَسَلَّمَ عَلَىَّ ثُمَّ قَالَ يَا مُحَمَّدُ، فَقَالَ ذَلِكَ فِيمَا شِئْتَ، إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمِ الأَخْشَبَيْنِ، فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ أَصْلاَبِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ لاَ يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا» (أخرجه البخاري ومسلم) (2).
(12) - ومنهم الملك الموكل بالرحم:
__________
(1) - سنن الترمذى برقم (3551) وهو صحيح لغيره
(2) - صحيح البخارى برقم (3231) ومسلم برقم (4754) والأخشبان: هما جبلا مكةَ: أبو قبيس والذي يقابله.(1/59)
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ «إِنَّ اللَّهَ - عَزَّ وَجَلَّ - وَكَّلَ بِالرَّحِمِ مَلَكًا يَقُولُ يَا رَبِّ نُطْفَةٌ، يَا رَبِّ عَلَقَةٌ، يَا رَبِّ مُضْغَةٌ. فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَقْضِىَ خَلْقَهُ قَالَ أَذَكَرٌ أَمْ أُنْثَى شَقِىٌّ أَمْ سَعِيدٌ فَمَا الرِّزْقُ وَالأَجَلُ فَيُكْتَبُ فِى بَطْنِ أُمِّهِ» (أخرجه البخاري) (1).
(13) - ومنهم زوار البيت المعمور:
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ «أُتِيتُ بِالْبُرَاقِ - وَهُوَ دَابَّةٌ أَبْيَضُ طَوِيلٌ فَوْقَ الْحِمَارِ وَدُونَ الْبَغْلِ يَضَعُ حَافِرَهُ عِنْدَ مُنْتَهَى طَرْفِهِ ... وفيه ثُمَّ عَرَجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ فَقِيلَ مَنْ هَذَا قَالَ جِبْرِيلُ. قِيلَ وَمَنْ مَعَكَ قَالَ مُحَمَّدٌ - صلى الله عليه وسلم -.قِيلَ وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ قَالَ قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ. فَفُتِحَ لَنَا فَإِذَا أَنَا بِإِبْرَاهِيمَ - صلى الله عليه وسلم - مُسْنِدًا ظَهْرَهُ إِلَى الْبَيْتِ الْمَعْمُورِ وَإِذَا هُوَ يَدْخُلُهُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ لاَ يَعُودُونَ إِلَيْهِ .. » (أخرجه مسلم) (2)
وعند البخاري عَنْ مَالِكِ بْنِ صَعْصَعَةَ - رضى الله عنهما - قَالَ قَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - «وفيه .... فَأَتَيْنَا السَّمَاءَ السَّابِعَةَ، قِيلَ مَنْ هَذَا قِيلَ جِبْرِيلُ. قِيلَ مَنْ مَعَكَ قِيلَ مُحَمَّدٌ. قِيلَ وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ مَرْحَبًا بِهِ، وَنِعْمَ الْمَجِىءُ جَاءَ. فَأَتَيْتُ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَقَالَ مَرْحَبًا بِكَ مِنِ ابْنٍ وَنَبِىٍّ، فَرُفِعَ لِىَ الْبَيْتُ الْمَعْمُورُ، فَسَأَلْتُ جِبْرِيلَ فَقَالَ هَذَا الْبَيْتُ الْمَعْمُورُ يُصَلِّى فِيهِ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ، إِذَا خَرَجُوا لَمْ يَعُودُوا إِلَيْهِ آخِرَ مَا عَلَيْهِمْ،» (3)
(14) - تبليغ الرسول - صلى الله عليه وسلم - السلام من أمته:
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «إِنَّ لِلَّهِ مَلاَئِكَةً سَيَّاحِينَ فِى الأَرْضِ يُبَلِّغُونِى مِنْ أُمَّتِى السَّلاَمَ» (أخرجه النسائي) (4).
(15) - ومنهم الموكلون بفتنة القبر وسؤال العباد في قبورهم وهما مُنْكَر ونَكِير
__________
(1) - صحيح البخارى برقم (318 و 3333 و 6595)
(2) - برقم (429)
(3) - برقم (3207)
(4) - برقم (1290) وهو صحيح(1/60)
وقد دلت على ذلك الأحاديث الصحيحة، فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رضى الله عنه - أَنَّهُ حَدَّثَهُمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ «إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا وُضِعَ فِى قَبْرِهِ، وَتَوَلَّى عَنْهُ أَصْحَابُهُ، وَإِنَّهُ لَيَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالِهِمْ، أَتَاهُ مَلَكَانِ فَيُقْعِدَانِهِ فَيَقُولاَنِ مَا كُنْتَ تَقُولُ فِى الرَّجُلِ لِمُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم -.فَأَمَّا الْمُؤْمِنُ فَيَقُولُ أَشْهَدُ أَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ. فَيُقَالُ لَهُ انْظُرْ إِلَى مَقْعَدِكَ مِنَ النَّارِ، قَدْ أَبْدَلَكَ اللَّهُ بِهِ مَقْعَدًا مِنَ الْجَنَّةِ، فَيَرَاهُمَا جَمِيعًا».قَالَ قَتَادَةُ وَذُكِرَ لَنَا أَنَّهُ يُفْسَحُ فِى قَبْرِهِ. ثُمَّ رَجَعَ إِلَى حَدِيثِ أَنَسٍ قَالَ «وَأَمَّا الْمُنَافِقُ وَالْكَافِرُ فَيُقَالُ لَهُ مَا كُنْتَ تَقُولُ فِى هَذَا الرَّجُلِ فَيَقُولُ لاَ أَدْرِى، كُنْتُ أَقُولُ مَا يَقُولُ النَّاسُ. فَيُقَالُ لاَ دَرَيْتَ وَلاَ تَلَيْتَ. وَيُضْرَبُ بِمَطَارِقَ مِنْ حَدِيدٍ ضَرْبَةً، فَيَصِيحُ صَيْحَةً يَسْمَعُهَا مَنْ يَلِيهِ، غَيْرَ الثَّقَلَيْنِ» (أخرجه الشيخان) (1).
و عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «إِذَا قُبِرَ الْمَيِّتُ - أَوْ قَالَ أَحَدُكُمْ أَتَاهُ مَلَكَانِ أَسْوَدَانِ أَزْرَقَانِ يُقَالُ لأَحَدِهِمَا الْمُنْكَرُ وَالآخَرُ النَّكِيرُ فَيَقُولاَنِ مَا كُنْتَ تَقُولُ فِى هَذَا الرَّجُلِ فَيَقُولُ مَا كَانَ يَقُولُ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
فَيَقُولاَنِ قَدْ كُنَّا نَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُولُ هَذَا. ثُمَّ يُفْسَحُ لَهُ فِى قَبْرِهِ سَبْعُونَ ذِرَاعًا فِى سَبْعِينَ ثُمَّ يُنَوَّرُ لَهُ فِيهِ ثُمَّ يُقَالُ لَهُ نَمْ. فَيَقُولُ أَرْجِعُ إِلَى أَهْلِى فَأُخْبِرُهُمْ فَيَقُولاَنِ نَمْ كَنَوْمَةِ الْعَرُوسِ الَّذِى لاَ يُوقِظُهُ إِلاَّ أَحَبُّ أَهْلِهِ إِلَيْهِ. حَتَّى يَبْعَثَهُ اللَّهُ مِنْ مَضْجَعِهِ ذَلِكَ. وَإِنْ كَانَ مُنَافِقًا قَالَ سَمِعْتُ النَّاسَ يَقُولُونَ فَقُلْتُ مِثْلَهُ لاَ أَدْرِى. فَيَقُولاَنِ قَدْ كُنَّا نَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُولُ ذَلِكَ. فَيُقَالُ لِلأَرْضِ الْتَئِمِى عَلَيْهِ. فَتَلْتَئِمُ عَلَيْهِ. فَتَخْتَلِفُ فِيهَا أَضْلاَعُهُ فَلاَ يَزَالُ فِيهَا مُعَذَّبًا حَتَّى يَبْعَثَهُ اللَّهُ مِنْ مَضْجَعِهِ ذَلِكَ» (أخرجه الترمذي) (2)
فهؤلاء هم أشهر من جاءت النصوص بذكر وظائفهم وأسمائهم من الملائكة ممن يتعين على العبد الإيمان بهم والتصديق بمدلولات النصوص في حقهم والله تعالى أعلم.
__________
(1) - صحيح البخارى برقم (1374) ومسلم برقم (7395)
(2) - برقم (1092) وهو حديث صحيح(1/61)
ثمرات الإيمان بالملائكة
إنَّ الله -عز وجل- لم يطلع الناس على شيء من غيبه إلا وكان فيه نعمة عظيمة لهم، ومن فضل الله علينا أن ْ عَرَّفَنَا بهذه المخلوقات الكريمة. وجعل الإيمان بها من الإيمان بالغيبِ الذي يعد أول صفة للمتقين. قال تعالى: {الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3)} [البقرة:1 - 3].
ومن هذه الثمرات:
1 - وقوف المؤمن على عظيم قدرة الله تعالى، وذلك واضح في عظم خلق الملائكة.
2 - اطمئنان المؤمن إلى أنه محاطٌ برعاية الله تعالى له، بهؤلاء الخلق العظام الذين يرعون شؤونه، ويسيرون كثيرا من شؤون الكون بإذن الله تعالى.
3 - حثُّ المؤمن على العمل الصالح وزجره عن السيئات، حيث أن الملائكة يترصدون جميع أعماله ويسجلونها عليه.
4 - إغلاقُ باب الخرافة والتخيلاتِ الباطلة والاعتقاد الزائف في الملائكة، وذلك ببيان الحقِّ في شأنهم، وتوضيح ما يخص البشر وينفعهم العلم به من أمر الملائكة.
5 - أنْ تتطهر عقيدة المسلم من شوائب الشركِ وأدرانه، لأنَّ المسلم إذا آمن بوجود الملائكة الذين كلفهم الله بهذه الأعمال العظيمة تخلَّص من الاعتقاد بوجود مخلوقات وهميةٍ تسهمُ في تسيير أمور ِ الكون.
6 - أنْ يعلم المسلم أن الملائكة لا ينفعونَ ولا يضرون، وإنما هم عباد مكرمون لا يعصون الله ما أمرهم، ويفعلون ما يؤمرون، قال تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26) لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28) وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (29) [الأنبياء/26 - 30]} فلا يعبدهم ولا يتوجه إليهم، ولا يتعلقُ بهم.(1/62)
7 - شكرُ الله تعالى على لطفه وعنايته بعباده، حيث وكَّلَ بهم من هؤلاء الملائكة من يقوم بحفظهم وكتابة أعمالهم وغير ذلك، مما تتحقق به مصالحهم في الدنيا والآخرة.
8 - محبةُ الملائكة على ما هداهم الله إليه، من تحقيق عبادة الله على الوجه الأكمل ونصرتهم للمؤمنين واستغفارهم لهم. قال تعالى: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلآئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرَّعْبَ فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} (12) سورة الأنفال، وقال تعالى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (7) رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آَبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (8) وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَن تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (9) سورة غافر7 - 9
9 - الاستقامةُ على أمر الله عز وجل: فإن من يستشعر وجود الملائكة معه وعدم مفارقتها له، ويؤمن برقابتهم لأعماله وأقواله وشهادتهم على كل ما يصدر عنه، ليستحي من الله ومن جنوده، فلا يخالفه في أمر ولا يعصيه في العلانية أو في السرِّ، فكيف يعصى الله مَنْ علم أن كل شيء محسوبٌ ومكتوبٌ؟
10 - الطمأنينةُ: فالمسلمُ مطمئن إلى حماية الله له، فقد جعل الله عليه حافظًا يحفظه من الجن والشياطين ومن كل شرٍّ: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللّهِ ... } (11) سورة الرعد.
11 - حبُّ الله عز وجل: فالمسلم عندما يؤمن بالملائكة وأعمالهم ويرى كيف أن الله -عز وجل- وكَّل ملائكة بالسماء، وملائكة بالأرض، وملائكة بالجبال، وملائكة بالسحاب .. إلخ وكل ذلك من أجل الإنسان وراحته يتوجه إلى الله بالشكر فتزداد محبة الله في قلبه ويعمل على طاعته. عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ «يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ مَلاَئِكَةٌ بِاللَّيْلِ وَمَلاَئِكَةٌ بِالنَّهَارِ، وَيَجْتَمِعُونَ فِى صَلاَةِ الْفَجْرِ وَصَلاَةِ الْعَصْرِ، ثُمَّ(1/63)
يَعْرُجُ الَّذِينَ بَاتُوا فِيكُمْ، فَيَسْأَلُهُمْ وَهْوَ أَعْلَمُ بِهِمْ كَيْفَ تَرَكْتُمْ عِبَادِى فَيَقُولُونَ تَرَكْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ، وَأَتَيْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ». (أخرجه البخاري) (1)
12 - الصبر على طاعة الله: ومن ثمرات الإيمان بالملائكة الصبر، ومواصلة الجهاد في سبيل الله، وعدم اليأس والشعور بالأنس والطمأنينة، فعندما يصبح المؤمن غريبًا في وطنه وبين أهله وقومه حينما يدعوهم إلى الله ويجد منهم الصدَّ والاستهزاء يجد المؤمن من ملائكة الله أنيسًا ورفيقًا يصحبه ويطمئنه ويشجعه على مواصلة السير في طريق الهدى، لأن جنود الله معه، يعبدون الله كما يعبد المؤمن ربه، ويتجهون إلى خالق السموات والأرض كما يتجه، فيشعر بأنه لا يسير وحده إلى الله دائمًا بل يسير مع موكب إيمانى مع الملائكة ومع الأنبياء عليهم السلام، ومع السماوات والأرض وباقى مخلوقات الله التي تسبح بحمده.
__________
(1) - صحيح البخارى برقم (555 و 3223 و 7429 و 7486) ومسلم برقم (1464)(1/64)
الإيمان بالجن
الجنُّ من مخلوقات الله -عز وجل- والمسلم يؤمن بأن الجنَّ خلقوا من النار، قال تعالى: {وَخَلَقَ الْجَانَّ مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ} (15) سورة الرحمن. وعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «خُلِقَتِ الْمَلاَئِكَةُ مِنْ نُورٍ وَخُلِقَ الْجَانُّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ وَخُلِقَ آدَمُ مِمَّا وُصِفَ لَكُمْ» (أخرجه مسلم) (1).
وقد خلق الله -عز وجل- الجن قبل الإنس، قال تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (26) وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ (27) [الحجر/26،27]
والمسلمُ يؤمن بأن الجنَّ مأمور مثل الإنسان بطاعة الله، وأن يجعلوا حياتهم كلَّها طبقًا لما أراده الله، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (56) سورة الذاريات، وقال سبحانه مخاطبًا الجن والإنس: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُواْ شَهِدْنَا عَلَى أَنفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ} (130) سورة الأنعام
والمسلم يؤمن بأن الله -عز وجل- أرسل نبيَّه محمدًا (إلى كلٍّ من الإنس والجن، عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ «فُضِّلْتُ عَلَى الأَنْبِيَاءِ بِسِتٍّ أُعْطِيتُ جَوَامِعَ الْكَلِمِ وَنُصِرْتُ بِالرُّعْبِ وَأُحِلَّتْ لِىَ الْغَنَائِمُ وَجُعِلَتْ لِىَ الأَرْضُ طَهُورًا وَمَسْجِدًا وَأُرْسِلْتُ إِلَى الْخَلْقِ كَافَّةً وَخُتِمَ بِىَ النَّبِيُّونَ» (مسلم) (2).وقوله تعالى: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآَنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29) قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (30) يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآَمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (31) وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ
__________
(1) - برقم (7687) المارج: لهب النار المختلط بسواها
(2) - برقم (1195)(1/65)
بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (32) [الأحقاف/29 - 32].
طوائف الجن:
والمسلمُ يؤمن بأن الجن طوائفُ كثيرة مثل الإنس تمامًا، فمنهم المؤمنون ومنهم الكافرون، ومنهم الصالحون ومنهم المفسدون، ومنهم الشياطين، ومنهم العفاريت، قال تعالى: {وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا} (14) سورة الجن، وقال أيضًا: {وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا} (11) سورة الجن، وقال: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} (112) سورة الأنعام،
والجنُّ أنواعٌ مختلفة، لكل نوع ميزات يتميز بها عن غيره، فهناك الجنُّ الطيار والغواصُ وغير ذلك.
قدرات الجن:
والمسلمُ يؤمن بأن الله -عز وجل- منح الجنَّ قدرات خاصة لم يمنحها للإنس جميعًا، ومن هذه القدرات سرعة التنقل الفائق، والقوة العظيمة التى تدل على عظمة الخالق -سبحانه-،كما جاء فى قصة سليمان عليه السلام، عندما أراد أن يثبت لملكة سبأ عظم ما أعطاه الله -عز وجل- له من نعم عظيمة وآلاء جليلة، قال تعالى: {قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (38) قَالَ عِفْريتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آَتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (39) قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آَتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآَهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40) [النمل/38 - 40].
والمسلمُ يؤمن بأن الجن يستطيعون التحليق في الفضاء الخارجي، وكانوا يستمعون إلى السماء، وينقلون أخبارها إلى الكهنة بعد إضافة كثير من الأكاذيب إليها، فلما بعث الله(1/66)
-عز وجل- النبي - صلى الله عليه وسلم - حُرِسَت السماء بالشهب والملائكة، يقول الله -عز وجل- على لسان أحد الجن: {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا (8) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآَنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا (9) [الجن/8،9]
و عَنْ عَائِشَةَ - رضى الله عنها - زَوْجِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهَا سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ «إِنَّ الْمَلاَئِكَةَ تَنْزِلُ فِى الْعَنَانِ - وَهْوَ السَّحَابُ - فَتَذْكُرُ الأَمْرَ قُضِىَ فِى السَّمَاءِ، فَتَسْتَرِقُ الشَّيَاطِينُ السَّمْعَ، فَتَسْمَعُهُ فَتُوحِيهِ إِلَى الْكُهَّانِ، فَيَكْذِبُونَ مَعَهَا مِائَةَ كَذْبَةٍ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ» (أخرجه البخاري) (1).
والمسلمُ يؤمن بأن الله -عز وجل- قد سخر الجنَّ لسليمان، يغوصون في البحر، ويستخرجون له من خيراته، ويبنون له القصور الشامخات، وقد جعلهم الله -عز وجل- من جنود سليمان عليه السلام، قال تعالى: {وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ} (17) سورة النمل
وقال تعالى: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ (12) يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آَلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (13) [سبأ/12،13]
وقال تعالى: {وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَن يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ} (82) سورة الأنبياء والمسلمُ يؤمن أن للجنِّ قدرةً على تغيير أشكالهم، فعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - قَالَ وَكَّلَنِى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِحِفْظِ زَكَاةِ رَمَضَانَ، فَأَتَانِى آتٍ فَجَعَلَ يَحْثُو مِنَ الطَّعَامِ، فَأَخَذْتُهُ، وَقُلْتُ وَاللَّهِ لأَرْفَعَنَّكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -.قَالَ إِنِّى مُحْتَاجٌ، وَعَلَىَّ عِيَالٌ، وَلِى حَاجَةٌ شَدِيدَةٌ.قَالَ فَخَلَّيْتُ عَنْهُ فَأَصْبَحْتُ فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - «يَا أَبَا هُرَيْرَةَ مَا فَعَلَ أَسِيرُكَ الْبَارِحَةَ».قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ شَكَا حَاجَةً شَدِيدَةً وَعِيَالاً فَرَحِمْتُهُ، فَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ.قَالَ «أَمَا إِنَّهُ قَدْ كَذَبَكَ وَسَيَعُودُ».فَعَرَفْتُ أَنَّهُ سَيَعُودُ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِنَّهُ سَيَعُودُ.فَرَصَدْتُهُ فَجَاءَ
__________
(1) - برقم (3210 و 3288 و 5762 و6213 و 7561) ومسلم برقم (5952)(1/67)
يَحْثُو مِنَ الطَّعَامِ فَأَخَذْتُهُ فَقُلْتُ لأَرْفَعَنَّكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -.قَالَ دَعْنِى فَإِنِّى مُحْتَاجٌ، وَعَلَىَّ عِيَالٌ لاَ أَعُودُ، فَرَحِمْتُهُ، فَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ فَأَصْبَحْتُ، فَقَالَ لِى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، مَا فَعَلَ أَسِيرُكَ».قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ شَكَا حَاجَةً شَدِيدَةً وَعِيَالاً، فَرَحِمْتُهُ فَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ. قَالَ «أَمَا إِنَّهُ قَدْ كَذَبَكَ وَسَيَعُودُ».فَرَصَدْتُهُ الثَّالِثَةَ فَجَاءَ يَحْثُو مِنَ الطَّعَامِ، فَأَخَذْتُهُ فَقُلْتُ لأَرْفَعَنَّكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -،وَهَذَا آخِرُ ثَلاَثِ مَرَّاتٍ أَنَّكَ تَزْعُمُ لاَ تَعُودُ ثُمَّ تَعُودُ. قَالَ دَعْنِى أُعَلِّمْكَ كَلِمَاتٍ يَنْفَعُكَ اللَّهُ بِهَا. قُلْتُ مَا هُوَ قَالَ إِذَا أَوَيْتَ إِلَى فِرَاشِكَ فَاقْرَأْ آيَةَ الْكُرْسِىِّ (اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَىُّ الْقَيُّومُ) حَتَّى تَخْتِمَ الآيَةَ، فَإِنَّكَ لَنْ يَزَالَ عَلَيْكَ مِنَ اللَّهِ حَافِظٌ وَلاَ يَقْرَبَنَّكَ شَيْطَانٌ حَتَّى تُصْبِحَ. فَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ فَأَصْبَحْتُ، فَقَالَ لِى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «مَا فَعَلَ أَسِيرُكَ الْبَارِحَةَ».قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ زَعَمَ أَنَّهُ يُعَلِّمُنِى كَلِمَاتٍ، يَنْفَعُنِى اللَّهُ بِهَا، فَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ. قَالَ «مَا هِىَ».قُلْتُ قَالَ لِى إِذَا أَوَيْتَ إِلَى فِرَاشِكَ فَاقْرَأْ آيَةَ الْكُرْسِىِّ مِنْ أَوَّلِهَا حَتَّى تَخْتِمَ (اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَىُّ الْقَيُّومُ) وَقَالَ لِى لَنْ يَزَالَ عَلَيْكَ مِنَ اللَّهِ حَافِظٌ وَلاَ يَقْرَبَكَ شَيْطَانٌ حَتَّى تُصْبِحَ، وَكَانُوا أَحْرَصَ شَىْءٍ عَلَى الْخَيْرِ. فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - «أَمَا إِنَّهُ قَدْ صَدَقَكَ وَهُوَ كَذُوبٌ، تَعْلَمُ مَنْ تُخَاطِبُ مُنْذُ ثَلاَثِ لَيَالٍ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ» قَالَ لاَ. قَالَ «ذَاكَ شَيْطَانٌ» (أخرجه البخارى) (1).
و عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ «إِنَّ عِفْرِيتًا مِنَ الْجِنِّ تَفَلَّتَ عَلَىَّ الْبَارِحَةَ - أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا - لِيَقْطَعَ عَلَىَّ الصَّلاَةَ، فَأَمْكَنَنِى اللَّهُ مِنْهُ، فَأَرَدْتُ أَنْ أَرْبِطَهُ إِلَى سَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِى الْمَسْجِدِ، حَتَّى تُصْبِحُوا وَتَنْظُرُوا إِلَيْهِ كُلُّكُمْ، فَذَكَرْتُ قَوْلَ أَخِى سُلَيْمَانَ رَبِّ هَبْ لِى مُلْكًا لاَ يَنْبَغِى لأَحَدٍ مِنْ بَعْدِى». (أخرجه البخاري) (2).
مساكنُ الجن:
المسلمُ يؤمن بأن للجنِّ مساكنَ يسكنون فيها، مثل: الأماكن الخربة، والصحارى، والأماكن النجسة، والأماكن المظلمة. فعَنْ صَيْفِىٍّ أَخْبَرَنِى أَبُو السَّائِبِ
__________
(1) - برقم (2311)
(2) - برقم (461 و 1210 و 3284 و 3423 و 4808)(1/68)
مَوْلَى هِشَامِ بْنِ زُهْرَةَ أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ فِى بَيْتِهِ قَالَ فَوَجَدْتُهُ يُصَلِّى فَجَلَسْتُ أَنْتَظِرُهُ حَتَّى يَقْضِىَ صَلاَتَهُ فَسَمِعْتُ تَحْرِيكًا فِى عَرَاجِينَ فِى نَاحِيَةِ الْبَيْتِ فَالْتَفَتُّ فَإِذَا حَيَّةٌ فَوَثَبْتُ لأَقْتُلَهَا فَأَشَارَ إِلَىَّ أَنِ اجْلِسْ. فَجَلَسْتُ فَلَمَّا انْصَرَفَ أَشَارَ إِلَى بَيْتٍ فِى الدَّارِ فَقَالَ أَتَرَى هَذَا الْبَيْتَ فَقُلْتُ نَعَمْ. قَالَ كَانَ فِيهِ فَتًى مِنَّا حَدِيثُ عَهْدٍ بِعُرْسٍ - قَالَ - فَخَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِلَى الْخَنْدَقِ فَكَانَ ذَلِكَ الْفَتَى يَسْتَأْذِنُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِأَنْصَافِ النَّهَارِ فَيَرْجِعُ إِلَى أَهْلِهِ فَاسْتَأْذَنَهُ يَوْمًا فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «خُذْ عَلَيْكَ سِلاَحَكَ فَإِنِّى أَخْشَى عَلَيْكَ قُرَيْظَةَ».فَأَخَذَ الرَّجُلُ سِلاَحَهُ ثُمَّ رَجَعَ فَإِذَا امْرَأَتُهُ بَيْنَ الْبَابَيْنِ قَائِمَةً فَأَهْوَى إِلَيْهَا الرُّمْحَ لِيَطْعُنَهَا بِهِ وَأَصَابَتْهُ غَيْرَةٌ فَقَالَتْ لَهُ اكْفُفْ عَلَيْكَ رُمْحَكَ وَادْخُلِ الْبَيْتَ حَتَّى تَنْظُرَ مَا الَّذِى أَخْرَجَنِى. فَدَخَلَ فَإِذَا بِحَيَّةٍ عَظِيمَةٍ مُنْطَوِيَةٍ عَلَى الْفِرَاشِ فَأَهْوَى إِلَيْهَا بِالرُّمْحِ فَانْتَظَمَهَا بِهِ ثُمَّ خَرَجَ فَرَكَزَهُ فِى الدَّارِ فَاضْطَرَبَتْ عَلَيْهِ فَمَا يُدْرَى أَيُّهُمَا كَانَ أَسْرَعَ مَوْتًا الْحَيَّةُ أَمِ الْفَتَى قَالَ فَجِئْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَذَكَرْنَا ذَلِكَ لَهُ وَقُلْنَا ادْعُ اللَّهَ يُحْيِيهِ لَنَا. فَقَالَ «اسْتَغْفِرُوا لِصَاحِبِكُمْ».ثُمَّ قَالَ «إِنَّ بِالْمَدِينَةِ جِنًّا قَدْ أَسْلَمُوا فَإِذَا رَأَيْتُمْ مِنْهُمْ شَيْئًا فَآذِنُوهُ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ فَإِنْ بَدَا لَكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فَاقْتُلُوهُ فَإِنَّمَا هُوَ شَيْطَانٌ» (أخرجه مسلم) (1).
طعامُ الجنِّ:
والمسلم ُيؤمن بما أخبر به الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن طعام الجنِّ، وهو العظم والروثة، فعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رضى الله عنه أَنَّهُ كَانَ يَحْمِلُ مَعَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - إِدَاوَةً لِوَضُوئِهِ وَحَاجَتِهِ، فَبَيْنَمَا هُوَ يَتْبَعُهُ بِهَا فَقَالَ «مَنْ هَذَا».فَقَالَ أَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ. فَقَالَ «ابْغِنِى أَحْجَارًا أَسْتَنْفِضْ بِهَا، وَلاَ تَأْتِنِى بِعَظْمٍ وَلاَ بِرَوْثَةٍ».فَأَتَيْتُهُ بِأَحْجَارٍ أَحْمِلُهَا فِى طَرَفِ ثَوْبِى حَتَّى وَضَعْتُ إِلَى جَنْبِهِ ثُمَّ انْصَرَفْتُ، حَتَّى إِذَا فَرَغَ مَشَيْتُ، فَقُلْتُ مَا بَالُ الْعَظْمِ وَالرَّوْثَةِ قَالَ «هُمَا مِنْ طَعَامِ الْجِنِّ، وَإِنَّهُ أَتَانِى وَفْدُ جِنِّ نَصِيبِينَ وَنِعْمَ الْجِنُّ، فَسَأَلُونِى الزَّادَ، فَدَعَوْتُ اللَّهَ لَهُمْ أَنْ لاَ يَمُرُّوا بِعَظْمٍ وَلاَ بِرَوْثَةٍ إِلاَّ وَجَدُوا عَلَيْهَا طَعَامًا» (أخرجه البخاري) (2).وعَنْ عَامِرٍ
__________
(1) - برقم (5976) = العراجين: جمع العرجون وهو العود الأصفر الذى فيه الشماريخ إذا يبس واعوج =انتظمها: طعنها حتى أنفذ الرمح منها
(2) - برقم (3860)(1/69)
قَالَ سَأَلْتُ عَلْقَمَةَ هَلْ كَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ شَهِدَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لَيْلَةَ الْجِنِّ قَالَ فَقَالَ عَلْقَمَةُ أَنَا سَأَلْتُ ابْنَ مَسْعُودٍ فَقُلْتُ هَلْ شَهِدَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لَيْلَةَ الْجِنِّ قَالَ لاَ وَلَكِنَّا كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ذَاتَ لَيْلَةٍ فَفَقَدْنَاهُ فَالْتَمَسْنَاهُ فِى الأَوْدِيَةِ وَالشِّعَابِ فَقُلْنَا اسْتُطِيرَ أَوِ اغْتِيلَ - قَالَ - فَبِتْنَا بِشَرِّ لَيْلَةٍ بَاتَ بِهَا قَوْمٌ فَلَمَّا أَصْبَحْنَا إِذَا هُوَ جَاءٍ مِنْ قِبَلِ حِرَاءٍ - قَالَ - فَقُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَدْنَاكَ فَطَلَبْنَاكَ فَلَمْ نَجِدْكَ فَبِتْنَا بِشَرِّ لَيْلَةٍ بَاتَ بِهَا قَوْمٌ. فَقَالَ «أَتَانِى دَاعِى الْجِنِّ فَذَهَبْتُ مَعَهُ فَقَرَأْتُ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ».قَالَ فَانْطَلَقَ بِنَا فَأَرَانَا آثَارَهُمْ وَآثَارَ نِيرَانِهِمْ وَسَأَلُوهُ الزَّادَ فَقَالَ «لَكُمْ كُلُّ عَظْمٍ ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ يَقَعُ فِى أَيْدِيكُمْ أَوْفَرَ مَا يَكُونُ لَحْمًا وَكُلُّ بَعَرَةٍ عَلَفٌ لِدَوَابِّكُمْ».فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «فَلاَ تَسْتَنْجُوا بِهِمَا فَإِنَّهُمَا طَعَامُ إِخْوَانِكُمْ» (أخرجه مسلم) (1).
ولكي يحترسَ المسلم ُمن وجود الشيطان معه عند الطعام، فعليه أن يلتزم بآداب الإسلام في تناول الطعام بأن يبدأ باسم الله -تعالى-،ويأكل بيمينه، ولا يأكل بشماله؛ حتى لا يشاركه الشيطان في أكله، عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ «لاَ يَأْكُلَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمْ بِشِمَالِهِ وَلاَ يَشْرَبَنَّ بِهَا فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَأْكُلُ بِشِمَالِهِ وَيَشْرَبُ بِهَا» (أخرجه مسلم) (2).
والمسلمُ يؤمن بأن مصيرَ الكافرين من الجنِّ هو نفس مصير الكافرين من الإنس، فهم مكلفون بالإيمان بالله وطاعته، وسوف يحاسبون على ما يعملون فى الدنيا، قال تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} (179) سورة الأعراف، وقال تعالى:: {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} (13) سورة السجدة
العلاقة بين الجن والإنس:
__________
(1) - برقم (1035) = استطير: ذُهب به بسرعة كأن الطير حملته =اغتيل: قتل خدعة
(2) - برقم (5386)(1/70)
المسلمُ يؤمن بأن الكافرين من الجن يوسوسون إلى الإنسان، ويزينون له المعاصي، ويشككون المسلم في الله -عز وجل- عن أبي هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه -قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «يَأْتِى الشَّيْطَانُ أَحَدَكُمْ فَيَقُولُ مَنْ خَلَقَ كَذَا مَنْ خَلَقَ كَذَا حَتَّى يَقُولَ مَنْ خَلَقَ رَبَّكَ فَإِذَا بَلَغَهُ فَلْيَسْتَعِذْ بِاللَّهِ، وَلْيَنْتَهِ» (متفق عليه) (1).
والمسلمُ يؤمن بأن الله -سبحانه- يحفظه من مسِّ الجن وإيذائه، بالتزام الطاعات، قال تعالى: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللّهِ ... } (11) سورة الرعد، أما الذين يبتعدون عن طريق الله، فمن السهل على الجن أن يؤذوهم بالصرع والجنون، فعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِى لَيْلَى حَدَّثَنِى أُبَىُّ بْنُ كَعْبٍ قَالَ كُنْتُ عِنْدَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فَجَاءَ أَعْرَابِىٌّ فَقَالَ يَا نَبِىَّ اللَّهِ إِنَّ لِى أَخاً وَبِهِ وَجَعٌ. قَالَ «وَمَا وَجَعُهُ».قَالَ بِهِ لَمَمٌ. قَالَ «فَائْتِنِى بِهِ».فَوَضَعَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَعَوَّذَهُ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَأَرْبَعِ آيَاتٍ مِنْ أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَهَاتَيْنِ الآيَتَيْنِ (وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ) وَآيَةِ الْكُرْسِىِّ وَثَلاَثِ آيَاتٍ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَآيَةٍ مِنْ آلِ عِمْرَانَ (شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ) وَآيَةٍ مِنَ الأَعْرَافِ (إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِى خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ) وَآَخِرِ سُورَةِ الْمُؤْمِنِينَ (فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ) وَآيَةٍ مِنْ سُورَةِ الْجِنِّ (وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا) وَعَشْرِ آيَاتٍ مِنْ أَوَّلِ سُورَةِ (وَالصَّافَّاتِ) وَثَلاَثِ آيَاتٍ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْحَشْرِ وَ (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) وَالْمُعَوِّذَتَيْنِ فَقَامَ الرَّجُلُ كَأَنَّهُ لَمْ يَشْتَكِ قَطُّ. (أخرجه أحمد) (2).
ومن ذلك ما روي عَنْ يَعْلَى بْنِ مُرَّةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتْ إِلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - مَعَهَا صَبِىٌّ لَهَا بِهِ لَمَمٌ فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - «اخْرُجْ عَدُوَّ اللَّهِ أَنَا رَسُولُ اللَّهِ».قَالَ فَبَرَأَ. قَالَ
__________
(1) - صحيح البخارى برقم (3276) ومسلم برقم (361 و362)
وفي شرح النووي على مسلم - (ج 1 / ص 253)
قَالَ الْإِمَام الْمَازِرِيُّ رَحِمَهُ اللَّه: ظَاهِر الْحَدِيث أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهُمْ أَنْ يَدْفَعُوا الْخَوَاطِر بِالْإِعْرَاضِ عَنْهَا، وَالرَّدّ لَهَا مِنْ غَيْر اِسْتِدْلَال وَلَا نَظَر فِي إِبْطَالهَا. قَالَ: وَاَلَّذِي يُقَال فِي هَذَا الْمَعْنَى أَنَّ الْخَوَاطِر عَلَى قِسْمَيْنِ: فَأَمَّا الَّتِي لَيْسَتْ بِمُسْتَقِرَّةٍ وَلَا اِجْتَلَبَتْهَا شُبْهَة طَرَأَتْ فَهِيَ الَّتِي تُدْفَع بِالْإِعْرَاضِ عَنْهَا، وَعَلَى هَذَا يُحْمَل الْحَدِيث، وَعَلَى مِثْلهَا يَنْطَلِق اِسْم الْوَسْوَسَة؛ فَكَأَنَّهُ لَمَّا كَانَ أَمْرًا طَارِئًا بِغَيْرِ أَصْل دُفِعَ بِغَيْرِ نَظَر فِي دَلِيل إِذْ لَا أَصْل لَهُ يُنْظَر فِيهِ. وَأَمَّا الْخَوَاطِر الْمُسْتَقِرَّة الَّتِي أَوْجَبَتْهَا الشُّبْهَة فَإِنَّهَا لَا تُدْفَع إِلَّا بِالِاسْتِدْلَالِ وَالنَّظَر فِي إِبْطَالهَا. وَاَللَّه أَعْلَم.
(2) برقم (21774) وفيه ضعف = اللمَم: طرف من الجنون يعترى الإنسان(1/71)
فَأَهْدَتْ إِلَيْهِ كَبْشَيْنِ وَشَيْئاً مِنْ أَقِطٍ وَشَيْئاً مِنْ سَمْنٍ. قَالَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «خُذِ الأَقِطَ وَالسَّمْنَ وَأَحَدَ الْكَبْشَيْنِ وَرُدَّ عَلَيْهَا الآخَرَ» (أخرجه أحمد في مسنده) (1).وقال تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (275) سورة البقرة.
والمسلمُ يعلم أنه في معركة مستمرة ٍمع الشياطين وأعوانهم من شياطين الإنس والجن، الذين يفسدون فى الأرض ولا يطيعون الله -عز وجل-.والمسلمُ يعرف أعداءه جيدًا، وأول عدو يجب أن يحترس منه هو الشيطان، قال تعالى: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} (6) سورة فاطر،وقال: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} (60) سورة يس.
فالمسلمُ لا يتبع الشيطان في طريق غوايته، بل يحذر دائمًا من وسوسته؛ لأنه سبب الضلال فب كل وقت وفي أي مكان، فهو الذي زين للأمم السابقة طرق الشرك بالله -تعالى-،ودعاهم إلى تكذيب الرسل، وقد أخذ على نفسه العهد أن يضلَّ الناس جميعًا إلا المخلصين المؤمنين، فقال: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83) [ص/82،83]}
وقال -سبحانه- عن إضلال إبليس للأمم السابقة: {وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ} (24) سورة النمل، وقال تعالى: {وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَد تَّبَيَّنَ لَكُم مِّن مَّسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ} (38) سورة العنكبوت،والشيطان يلازم الإنسان في كل حركاته وسكناته، فكلَّما همَّ بطاعة الله صرفه
__________
(1) برقم (18014) السلسلة الصحيحة برقم (485) و و المستدرك للحاكم برقم (4232) وصححه ووافقه الذهبي وهو حسن = الأقط: اللبن المحمض يجمد حتى يستحجر ويطبخ أو يطبخ به(1/72)
عنها، وكلما ابتعد عن معصية الله قَرَّبَهُ منها، فهو يكره أن يرى الإنسان في طاعة لله -عز وجل-،ويوسوس للإنسان في صلاته ودعائه وقراءة القرآن، بل وفي كل طاعة.
فعلى المسلم أن يتعوذ بالله من الشيطان حينما يشعر بوسوسة منه، قال تعالى: {وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (200) سورة الأعراف.
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «إِذَا نُودِىَ بِالصَّلاَةِ أَدْبَرَ الشَّيْطَانُ وَلَهُ ضُرَاطٌ حَتَّى لاَ يَسْمَعَ الأَذَانَ، فَإِذَا قُضِىَ الأَذَانُ أَقْبَلَ، فَإِذَا ثُوِّبَ بِهَا أَدْبَرَ فَإِذَا قُضِىَ التَّثْوِيبُ أَقْبَلَ حَتَّى يَخْطِرَ بَيْنَ الْمَرْءِ وَنَفْسِهِ يَقُولُ اذْكُرْ كَذَا وَكَذَا مَا لَمْ يَكُنْ يَذْكُرُ حَتَّى يَظَلَّ الرَّجُلُ إِنْ يَدْرِى كَمْ صَلَّى، فَإِذَا لَمْ يَدْرِ أَحَدُكُمْ كَمْ صَلَّى ثَلاَثًا أَوْ أَرْبَعًا فَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ وَهْوَ جَالِسٌ» (أخرجه البخاري) (1).
والمسلمُ يعلم أن الشيطان يحاول أن يوقعه في الشرك بالله، وهى أكبر جريمة يرتكبها الإنسان في حق الله، فإن لم يستطع أن يوقعه في الشرك أوقعه في كبائر الذنوب، والبدع، وإن لم يستطع حاول أن يوقعه في صغائر الذنوب، فهو لا يمل أبدًا من إضلال الإنسان، قال تعالى: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاء وَاللّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (268) سورة البقرة].وقال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168) إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (169) [البقرة/168،169].
والشيطانُ يسعى بين الناس بالفساد، وتقطيع الأرحام، ونشر الحقد والحسد والضغينة بينهم، قال تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ} (91) سورة المائدة.
والمسلمُ يعلم أن إبليس يبعث جنوده من الشياطين للفساد في الأرض، ويكون أكثرهم فسادًا أقربهم إليه منزلة. عَنْ جَابِرٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «إِنَّ إِبْلِيسَ يَضَعُ عَرْشَهُ عَلَى الْمَاءِ ثُمَّ يَبْعَثُ سَرَايَاهُ فَأَدْنَاهُمْ مِنْهُ مَنْزِلَةً أَعْظَمُهُمْ فِتْنَةً يَجِىءُ أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ فَعَلْتُ
__________
(1) - برقم (1231) يخطر: يوسوس(1/73)
كَذَا وَكَذَا فَيَقُولُ مَا صَنَعْتَ شَيْئًا قَالَ ثُمَّ يَجِىءُ أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ مَا تَرَكْتُهُ حَتَّى فَرَّقْتُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ - قَالَ - فَيُدْنِيهِ مِنْهُ وَيَقُولُ نِعْمَ أَنْتَ».قَالَ الأَعْمَشُ أُرَاهُ قَالَ «فَيَلْتَزِمُهُ» (أخرجه مسلم) (1).فالشيطان يفرح بخراب البيوت العامرة، وتشريد النفوس الآمنة.
والمسلمُ يعلم ملازمة الشيطان له وإصراره على غوايته، فعليه أن يذكر الله عند دخوله إلى بيته حتى لا يدخل الشيطان معه، وعند طعامه حتى لا يأكل الشيطان معه، وفى كل أمور حياته ليبعد عنه الشيطان، والمسلم ُ يعلم أنه إن لم يفعل ذلك أكل وشرب ونام معه الشيطان، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ «إِذَا دَخَلَ الرَّجُلُ بَيْتَهُ فَذَكَرَ اللَّهَ عِنْدَ دُخُولِهِ وَعِنْدَ طَعَامِهِ قَالَ الشَّيْطَانُ لاَ مَبِيتَ لَكُمْ وَلاَ عَشَاءَ. وَإِذَا دَخَلَ فَلَمْ يَذْكُرِ اللَّهَ عِنْدَ دُخُولِهِ قَالَ الشَّيْطَانُ أَدْرَكْتُمُ الْمَبِيتَ. وَإِذَا لَمْ يَذْكُرِ اللَّهَ عِنْدَ طَعَامِهِ قَالَ أَدْرَكْتُمُ الْمَبِيتَ وَالْعَشَاءَ» (أخرجه مسلم) (2).
والمسلمُ يعلم أن الشيطان عدوٌّ للأنبياء والمرسلين. قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} (112) سورة الأنعام.
وعن عُرْوَةَ أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - حَدَّثَتْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - خَرَجَ مِنْ عِنْدِهَا لَيْلاً. قَالَتْ فَغِرْتُ عَلَيْهِ فَجَاءَ فَرَأَى مَا أَصْنَعُ فَقَالَ «مَا لَكِ يَا عَائِشَةُ أَغِرْتِ».فَقُلْتُ وَمَا لِى لاَ يَغَارُ مِثْلِى عَلَى مِثْلِكَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «أَقَدْ جَاءَكِ شَيْطَانُكِ».قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوَمَعِىَ شَيْطَانٌ قَالَ «نَعَمْ».قُلْتُ وَمَعَ كُلِّ إِنْسَانٍ قَالَ «نَعَمْ».قُلْتُ وَمَعَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ «نَعَمْ وَلَكِنْ رَبِّى أَعَانَنِى عَلَيْهِ حَتَّى أَسْلَمَ» (أخرجه مسلم) (3).
والمسلمُ يعلم أنَّ السحرَ حقيقةٌ لا ريب فيها، يقول الله في سحرة فرعون: {قَالَ أَلْقُوْاْ فَلَمَّا أَلْقَوْاْ سَحَرُواْ أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} (116) سورة
__________
(1) - برقم (7284)
(2) - برقم (5381)
(3) - برقم (7288)(1/74)
الأعراف،وقال سبحانه: {وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ} (102) سورة البقرة.
وقد سُحِرَ الرسولُ - صلى الله عليه وسلم - على يد لبيد بن الأعصم اليهودي، فعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ سُحِرَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى كَانَ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ يَفْعَلُ الشَّىْءَ وَمَا يَفْعَلُهُ، حَتَّى كَانَ ذَاتَ يَوْمٍ دَعَا وَدَعَا، ثُمَّ قَالَ «أَشَعَرْتِ أَنَّ اللَّهَ أَفْتَانِى فِيمَا فِيهِ شِفَائِى أَتَانِى رَجُلاَنِ، فَقَعَدَ أَحَدُهُمَا عِنْدَ رَأْسِى وَالآخَرُ عِنْدَ رِجْلَىَّ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِلآخَرِ مَا وَجَعُ الرَّجُلِ قَالَ مَطْبُوبٌ.قَالَ وَمَنْ طَبَّهُ قَالَ لَبِيدُ بْنُ الأَعْصَمِ.قَالَ فِى مَاذَا قَالَ فِى مُشُطٍ وَمُشَاقَةٍ وَجُفِّ طَلْعَةٍ ذَكَرٍ.قَالَ فَأَيْنَ هُوَ قَالَ فِى بِئْرِ ذَرْوَانَ».فَخَرَجَ إِلَيْهَا النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ لِعَائِشَةَ حِينَ رَجَعَ «نَخْلُهَا كَأَنَّهَا رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ».فَقُلْتُ اسْتَخْرَجْتَهُ فَقَالَ «لاَ أَمَّا أَنَا فَقَدْ شَفَانِى اللَّهُ، وَخَشِيتُ أَنْ يُثِيرَ ذَلِكَ عَلَى النَّاسِ شَرًّا، ثُمَّ دُفِنَتِ الْبِئْرُ» (أخرجه البخاري) (1).
فالمسلمُ يدعو ربه دائمًا ويستغفره، ويتعوذ به من شرور الشياطين، قال تعالى: {وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (97) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (98) [المؤمنون/97 - 99]
وهو يعلمُ أن الله -عز وجل- يحمى عباده المؤمنين من مكائد الشيطان، وأنه قد بشرهم بالحفظ من كيد الشيطان فقال: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} (42) سورة الحجر. وقال تعالى: فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآَنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ
__________
(1) - برقم (3268 و 3175 و 5763 و5765 و 5766 و 6063 و 6391)
قلت: وهذا السحر لاينافي عصمة الرسول صلى الله عليه وسلم، فالعصمة هي في تبليغ الوحي الإلهي، وهي مصونة لم يؤثر عليها السحر بشيء، بل كان تأثيره في أمور دنيوية جبلية عادية، وهذا جائزة في حقِّ الرسل، فهم بشر يعتريهم ما يعتري البشر، خلا معصية الله تعالى(1/75)
الرَّجِيمِ (98) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100) [النحل/98 - 101].
وقد كان عمر بن الخطاب رضى الله عنه، حينما يسير فى طريق، يلتمس الشيطان طريقًا آخر خوفًا من عمر، لأنه كان عبدًا مخلصًا لله، فعن سَعْدِ بْنِ أَبِى وَقَّاصٍ قَالَ اسْتَأْذَنَ عُمَرُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -،وَعِنْدَهُ نِسَاءٌ مِنْ قُرَيْشٍ يُكَلِّمْنَهُ وَيَسْتَكْثِرْنَهُ، عَالِيَةً أَصْوَاتُهُنَّ، فَلَمَّا اسْتَأْذَنَ عُمَرُ، قُمْنَ يَبْتَدِرْنَ الْحِجَابَ، فَأَذِنَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -،وَرَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَضْحَكُ، فَقَالَ عُمَرُ أَضْحَكَ اللَّهُ سِنَّكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ.قَالَ «عَجِبْتُ مِنْ هَؤُلاَءِ اللاَّتِى كُنَّ عِنْدِى، فَلَمَّا سَمِعْنَ صَوْتَكَ ابْتَدَرْنَ الْحِجَابَ».قَالَ عُمَرُ فَأَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ كُنْتَ أَحَقَّ أَنْ يَهَبْنَ.ثُمَّ قَالَ أَىْ عَدُوَّاتِ أَنْفُسِهِنَّ، أَتَهَبْنَنِى وَلاَ تَهَبْنَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قُلْنَ نَعَمْ، أَنْتَ أَفَظُّ وَأَغْلَظُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -.قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ مَا لَقِيَكَ الشَّيْطَانُ قَطُّ سَالِكًا فَجًّا إِلاَّ سَلَكَ فَجًّا غَيْرَ فَجِّكَ» (أخرجه الشيخان) (1).
والمسلمُ يعلم أن الجنَّ لا تقدر على شيء إلا بإرادة الله، كما أنها لا تعلمُ من غيب الله شيئًا، قال تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (27) [الجن/26،27]،وقال تعالى عن وفاة النبي سليمان عليه السلام: {فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَن لَّوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ} (14) سورة سبأ. فعلى المسلم أن يكون دائم الصلة بالله -عز وجل-،فمن كان في كنف الله -عز وجل- حماه الله من شياطين الإنس والجن فهو نعم المولى ونعم النصير. قال تعالى: {إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ غَرَّ هَؤُلاء دِينُهُمْ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ فَإِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (49) سورة الأنفال
والمسلمُ يعلم أن إبليس تكبَّرَ على أمر الله -عز وجل- عندما أمره بالسجود لآدم تكريمًا له، وقال: {قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ
__________
(1) - البخارى برقم (3294) ومسلم برقم (6355) -الفج: الطريق الواسع(1/76)
وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ} (12) سورة الأعراف، فغضب الله عليه، وأنزله من السماء، وأخرجه من رحمته: {قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْؤُومًا مَّدْحُورًا لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ} (18) سورة الأعراف. وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «إِذَا قَرَأَ ابْنُ آدَمَ السَّجْدَةَ اعْتَزَلَ الشَّيْطَانُ يَبْكِى يَقُولُ يَا وَيْلَهُ أُمِرَ بِالسُّجُودِ فَسَجَدَ فَلَهُ الْجَنَّةُ وَأُمِرْتُ بِالسُّجُودِ فَعَصَيْتُ فَلِىَ النَّارُ» (أخرجه أحمد) (1).
والجنُّ مكلفون بالعبادة والطاعة لله -عز وجل- مثل الإنس، يدل على ذلك خطاب الله -عز وجل- لهم في القرآن قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (56) سورة الذاريات، وعَنْ جَابِرٍ رضى الله عنه قَالَ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى أَصْحَابِهِ فَقَرَأَ عَلَيْهِمْ سُورَةَ الرَّحْمَنِ مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا فَسَكَتُوا فَقَالَ «لَقَدْ قَرَأْتُهَا عَلَى الْجِنِّ لَيْلَةَ الْجِنِّ فَكَانُوا أَحْسَنَ مَرْدُودًا مِنْكُمْ كُنْتُ كُلَّمَا أَتَيْتُ عَلَى قَوْلِهِ (فَبِأَىِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) قَالُوا لاَ بِشَىْءٍ مِنْ نِعَمِكَ رَبَّنَا نُكَذِّبُ فَلَكَ الْحَمْدُ» (أخرجه الترمذي) (2).
لقد علمَ إبليسُ أن الله خلقه، وكلَّفه وأمره، ولكنه استكبر على أمر الله. والمسلم لا يفعل هذا أبدًا، فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «لاَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِى قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ كِبْرٍ وَلاَ يَدْخُلُ النَّارَ مَنْ كَانَ فِى قَلْبِهِ مِثْقَالُ خَرْدَلَةٍ مِنْ إِيمَانٍ» (أخرجه أبو داود والترمذي) (3).
والمسلمُ يجب أن يعلم أن الشيطان سوف يتبرأ من أوليائه يوم القيامة، قال تعالى: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (22) سورة إبراهيم.
والذينَ ينكرون الجنَّ ليس لهم حجة ولا سند، فإن كانوا لا يؤمنون بالغيب، فإن هناك أشياء من الغيب لا ندركها، ولكن ندرك تأثيرها، فالكهرباء -مثلا- لا نراها، ولكن
__________
(1) - برقم (9964) وهو صحيح
(2) - برقم (3602) و الصحيحة (2150) وهو حديث حسن
(3) - أبو داود برقم (4093) والترمذى برقم (2129) وهو صحيح(1/77)
ندرك تأثيرها، وكذلك الجاذبية والروح، فإن كانوا ينكرون هذه الأشياء، فليمسك أحدهم بسلك من الكهرباء، ويزعم أنه غير موجود لأنه لا يراه، هذا إن أرادوا دليلا عقليًّا، فإن أرادوا دليلا من الشرع، فيكفيهم أن الله -عز وجل- أنزل سورة كاملة، وسماها سورة الجن، وذكرهم في أكثر من موضع في القرآن الكريم.،فهم أشبه الناس بقوله تعالى: {وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (11) كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (12) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (13) وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (15)} [الحجر/11 - 15](1/78)
الركن الثالث
الإيمان بالكتب السماوية
المقصود بالكتب: هي الكتبُ التي أنزلها الله تعالى على رسله رحمةً للخلق، وهدايةً لهم ليصلوا بها إلى سعادتهم في الدنيا والآخرة.
والإيمان بها يعني الاعتقادُ الجازم بأنَّ الله تعالى أنزل كتبا على رسله إلى أقوامهم، وأن هذه الكتب قد حوت عقيدة التوحيد الخالص لله تعالى، إضافةً إلى تشريعات خاصة بكل أمةٍ، إلا أن هذه التشريعات قد نُسختْ بعد نزول شريعةِ محمد - صلى الله عليه وسلم -.قال تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} (48) سورة المائدة
كيفية الإيمان بالكتب السماوية:
أولا: يجب على المؤمن أن يعتقد جازما بأن الله تعالى قد أوحى بهذه الكتب إلى الرسل المرسلين للبشرية، والإيمان بها على النحو التالي:
(1) - ما جاء من الكتب ذكره وأنه أوحيَ به إلى رسولٍ بعينه فيجبُ الإيمان به عيناً مثل القرآن و الإنجيل والتوراة والزبور وصحف إبراهيم وموسى، فهذه المذكورة يجب الإيمان بها. على وجه التفصيل المذكور.
(2) - الإيمانُ إجمالا بأن الله تعالى قد أنزل كتباً على رسله غير التي سمَّاها في القرآن الكريم.
ثانيا: تصديقُ ما صح وصوله من أخبارها، والإيمان به، وأنه حقٌّ من عند الله تعالى.
ثالثا: العملُ بأحكام ما لم ينسخ منها والرضا والتسليم به سواء فهمنا حكمته أم لم نفهمها، إلا أنه بالجملة فإن جميع الكتب السابقة منسوخةٌ بالقرآن الكريم كما قال الله تعالى {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ(1/79)
فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ} (سورة المائدة 48).وقد أشار الله تعالى لهذه الكيفية بقوله تعالى: {قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} (136) سورة البقرة.
موقفنا من الكتب السماويةِ السابقة:
إن الله تعالى لم يتعهدْ بحفظِ الكتب السابقة من التحريفِ والتبديلِ، بل وكّلَ حفظها إلى مَنْ أنزلتْ عليهم كما قال الله تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللّهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} (44) سورة المائدة، لذا فإنَّ هذه الكتبَ لم تسلمْ منَ التحريف والتبديلِ بنصِّ القرآن الكريم. بل إنَّ الكثير من أهلِ الأديانِ أنفسِهم مقرُّون بحدوث التحريفِ كما أقرَّ بذلك كثير من العلماء.
ما تضمنته الكتب السابقة وموقفنا منه:
إن َّ ما تضمنته الكتبُ السابقة في صورتها الموجودة اليوم على ثلاثة أقسام:
أولا: ما جاء في القرآن الكريم أو السنةِ الصحيحة تصديقاً له بأنه قد جاء في أحد الكتب، فإننا نؤمنُ به ونعتقدُ صحته ومثال ذلك قوله تعالى عن التوراة: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (45) سورة المائدة
ثانيا: ما جاء في القرآن الكريم ِ أو السنةِ الصحيحة تكذيبٌ له وأنه افتراء على الله تعالى، فإننا نجزمُ بعدم صحته، ولا نؤمن به؛ مثل ادعاء أن عيسى عليه السلام ابن الله تعالى، قال تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (116)} [البقرة/116]،وقال تعالى: {قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ(1/80)
الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (68) قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (69)} [يونس/68 - 70]،وقال تعالى: {وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا (4) مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآَبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا (5)} [الكهف/4و5]،ومثل ما جاء في قوله الله تعالى عن زعم اليهود: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُواْ بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} (93) سورة آل عمران.
ثالثا: ما لم يأتِ في القرآن أو السنة الصحيحة تصديقٌ له ولا تكذيبٌ: فإنَّ موقفنا منه التوقفُ، فلا نصدِّقُ ولا نكذِّبُ، فعَنِ أَبِى نَمْلَةَ الأَنْصَارِىُّ أَنَّهُ بَيْنَمَا هُوَ جَالِسٌ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَعِنْدَهُ رَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ مُرَّ بِجَنَازَةٍ فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ هَلْ تَتَكَلَّمُ هَذِهِ الْجَنَازَةُ فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - «اللَّهُ أَعْلَمُ».فَقَالَ الْيَهُودِىُّ إِنَّهَا تَتَكَلَّمُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «مَا حَدَّثَكُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ فَلاَ تُصَدِّقُوهُمْ وَلاَ تُكَذِّبُوهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ فَإِنْ كَانَ بَاطِلاً لَمْ تُصَدِّقُوهُ وَإِنْ كَانَ حَقًّا لَمْ تُكَذِّبُوهُ» (أخرجه أبو داود) (1).
وأنَّ خاتمها القرآنُ العظيم، كلامُ ربِّ العالمين على الحقيقةِ، نزلَ به الرُّوح الأمينُ على قلبِ محمد - صلى الله عليه وسلم - ليكون من المرسلين، قال تعالى: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195) [الشعراء/192 - 195]}،مهيمناً على سائر كتب الله، قال تعالى: {{وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} (48) سورة المائدة}،وهو منزلٌ من الله تعالى، وليسَ بمخلوقٍ، ولا يُساويهِ شيءٌ من كلام المخلوقين، ومن قال: {إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} (25) سورة المدثر،فقد كفرَ وحقَّ عليه العذاب -إن لم يرجع عن ذلك
__________
(1) - برقم (3646) وهو حسن(1/81)
ويتوب- في قوله تعالى: (سَأُصْلِيه سَقَر) [المدثر:26].ونؤمنُ بأن الله قد كلَّم موسى تكليماً، قال تعالى: {وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} (164) سورة النساء.
أمَّا القرآنُ الكريمُ فنؤمنُ بأنَّ الله تعالى قد تكفَّلَ بحفظهِ من كلِّ تحريفٍ وتبديلٍ، قال الله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (9) سورة الحجر، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41) لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42) [فصلت/41،42]} وأن الله تعالى علّقَ النذارةَ به فقال: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ اللّهِ شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُل لاَّ أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ} (19) سورة الأنعام.
وأن الله تعالى جعله المعجزة الخالدة الباقية الدالة على صدق الرسالات السماوية، وأنه قد تحدى الإنس والجن عن أن يأتوا بمثله قال تعالى: {قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا {88} الإسراء وقال تعالى: {وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ {23} فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ {24} البقرة. فهو حجة الله على خلقه إلى يوم الدين
ونؤمنُ بأن َّكتابه هو العروةُالوثقى، وحبلُه المتين ُالذي من استمسك به نجى، ومن أعرضَ عنه وهجره فقد هلك وضل ضلالاً مبيناً. فعن عَلِىٍّ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ «أَلاَ إِنَّهَا سَتَكُونُ فِتْنَةٌ».فَقُلْتُ مَا الْمَخْرَجُ مِنْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ «كِتَابُ اللَّهِ فِيهِ نَبَأُ مَا كَانَ قَبْلَكُمْ وَخَبَرُ مَا بَعْدَكُمْ وَحُكْمُ مَا بَيْنَكُمْ هُوَ الْفَصْلُ لَيْسَ بِالْهَزْلِ مَنْ تَرَكَهُ مِنْ جَبَّارٍ قَصَمَهُ اللَّهُ وَمَنِ ابْتَغَى الْهُدَى فِى غَيْرِهِ أَضَلَّهُ اللَّهُ وَهُوَ حَبْلُ اللَّهِ الْمَتِينُ وَهُوَ الذِّكْرُ الْحَكِيمُ وَهُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ هُوَ الَّذِى لاَ تَزِيغُ بِهِ الأَهْوَاءُ وَلاَ تَلْتَبِسُ بِهِ الأَلْسِنَةُ وَلاَ يَشْبَعُ مِنْهُ الْعُلَمَاءُ وَلاَ يَخْلَقُ عَلَى كَثْرَةِ الرَّدِّ وَلاَ تَنْقَضِى عَجَائِبُهُ(1/82)
هُوَ الَّذِى لَمْ تَنْتَهِ الْجِنُّ إِذْ سَمِعَتْهُ حَتَّى قَالُوا (إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا يَهْدِى إِلَى الرُّشْدِ) مَنْ قَالَ بِهِ صَدَقَ وَمَنْ عَمِلَ بِهِ أُجِرَ وَمَنْ حَكَمَ بِهِ عَدَلَ وَمَنْ دَعَا إِلَيْهِ هُدِىَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ». (أخرجه الترمذي) (1).
إنَّ الكتب التي نزلت قبل القرآن الكريمِ ضاعتْ نُسَخُها الأصلية، ولم يبقَ في أيدي الناس إلا تراجمها، أمَّا القرآنُ فما يزال محفوظًا بسوره وآياته وكلماتهِ وحروفه كما تلاه جبريلُ -عليه السلام- على رسول الله ... - صلى الله عليه وسلم -،والكتبُ السابقةُ قد اختلطَ فيها كلامُ البشر بكلام الله تعالى، فلا يعرفُ أحدٌ فيها كلام الله من كلام البشرِ، وأمَّا القرآنُ فهو جميعُه كلام الله- تعالى-،ولم يختلطْ بحديثِ الرسول - صلى الله عليه وسلم - أو أقوال الصحابة أو غيرهم.
إنَّ تلكَ الكتبَ ليس منها كتابٌ تصحُّ نسبته إلى الرسول الذي أُنزل عليه، فالتوراةُ الحاليةُ لم يكتبها موسى، وإنما دُوِّنت بعد موسى-عليه السلام- بقرون عديدة، وكذا الإنجيلُ، أمَّا القرآنُ الكريمُ فهو الكتابُ الوحيد الذي ثبتتْ نسبتهُ بصورةٍ قطعيةٍ إلى الرسولِ - صلى الله عليه وسلم - وإنْ لم يكتبْه، فقد كان يأمر كتَّاب الوحي أن يدونوا كلَّ ما نزلَ أولاً بأوَّلٍ.
وتعاليمُ القرآنِ هي كلمةُ الله التي يسعد بها البشرُ، فأرادَ الله لها أن تخلدَ على مرِّ الزمن، فصانها وحفظَها من التبديلِ والتحريفِ، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41) لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42)} [فصلت/41،42].وقال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (9) سورة الحجر.
وننظر نحن اليوم من وراء القرون إلى وعد اللّه الحق بحفظ هذا الذكر فنرى فيه المعجزة الشاهدة بربانية هذا الكتاب - إلى جانب غيرها من الشواهد الكثيرة - ونرى أن الأحوال والظروف والملابسات والعوامل التي تقلبت على هذا الكتاب في خلال هذه القرون ما كان يمكن أن تتركه مصونا محفوظا لا تتبدل فيه كلمة،ولا تحرف فيه
__________
(1) - برقم (3153) والبزار برقم (836) والمعجم الكبير للطبراني برقم (16587) عن معاذ وفيه ضعف(1/83)
جملة، لولا أن هنالك قدرة خارجة عن إرادة البشر، أكبر من الأحوال والظروف والملابسات والعوامل، تحفظ هذا الكتاب من التغيير والتبديل، وتصونه من العبث والتحريف.
لقد جاء على هذا القرآن زمان في أيام الفتن الأولى كثرت فيه الفرق، وكثر فيه النزاع، وطمت فيه الفتن، وتماوجت فيه الأحداث. وراحت كل فرقة تبحث لها عن سند في هذا القرآن وفي حديث رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - ودخل في هذه الفتن وساقها أعداء هذا الدين الأصلاء من اليهود - خاصة - ثم من «القوميين» دعاة «القومية» الذين تسمّوا بالشعوبيين! ولقد أدخلت هذه الفرق على حديث رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - ما احتاج إلى جهد عشرات العلماء الأتقياء الأذكياء عشرات من السنين لتحرير سنة رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - وغربلتها وتنقيتها من كل دخيل عليها من كيد أولئك الكائدين لهذا الدين.
كما استطاعت هذه الفرق في تلك الفتن أن تؤول معاني النصوص القرآنية، وأن تحاول أن تلوي هذه النصوص لتشهد لها بما تريد تقريره من الأحكام والاتجاهات ..
ولكنها عجزت جميعا - وفي أشد أوقات الفتن حلوكة واضطرابا - أن تحدث حدثا واحدا في نصوص هذا الكتاب المحفوظ وبقيت نصوصه كما أنزلها اللّه حجة باقية على كل محرف وكل مؤول وحجة باقية كذلك على ربانية هذا الذكر المحفوظ.
ثم جاء على المسلمين زمان - ما نزال نعانيه - ضعفوا فيه عن حماية أنفسهم، وعن حماية عقيدتهم، وعن حماية نظامهم، وعن حماية أرضهم، وعن حماية أعراضهم وأموالهم وأخلاقهم. وحتى عن حماية عقولهم وإدراكهم! وغيّر عليهم أعداؤهم الغالبون كل معروف عندهم، وأحلوا مكانه كل منكر فيهم .. كل منكر من العقائد والتصورات، ومن القيم والموازين، ومن الأخلاق والعادات. ومن الأنظمة والقوانين .. وزينوا لهم الانحلال والفساد والتوقح والتعري من كل خصائص «الإنسان» وردوهم إلى حياة كحياة الحيوان .. وأحيانا إلى حياة يشمئز منها الحيوان .. ووضعوا لهم ذلك الشر كله تحت عنوانات براقة من «التقدم» و «التطور» و «العلمانية» و «العلمية» و «الانطلاق» و «التحرر» و «تحطيم الأغلال» و «الثورية» و «التجديد» ... إلى آخر(1/84)
تلك الشعارات والعناوين .. وأصبح «المسلمون» بالأسماء وحدها مسلمين. ليس لهم من هذا الدين قليل ولا كثير. وباتوا غثاء كغثاء السيل لا يمنع ولا يدفع، ولا يصلح لشيء إلا أن يكون وقودا للنار .. وهو وقود هزيل! ..
ولكن أعداء هذا الدين - بعد هذا كله - لم يستطيعوا تبديل نصوص هذا الكتاب ولا تحريفها. ولم يكونوا في هذا من الزاهدين. فلقد كانوا أحرص الناس على بلوغ هذا الهدف لو كان يبلغ، وعلى نيل هذه الأمنية لو كانت تنال! ولقد بذل أعداء هذا الدين - وفي مقدمتهم اليهود - رصيدهم من تجارب أربعة آلاف سنة أو تزيد في الكيد لدين اللّه. وقدروا على أشياء كثيرة .. قدروا على الدس في سنة رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - وعلى تاريخ الأمة المسلمة. وقدروا على تزوير الأحداث ودس الأشخاص في جسم المجتمع المسلم ليؤدوا الأدوار التي يعجزون عن أدائها وهم سافرون. وقدروا على تحطيم الدول والمجتمعات والأنظمة والقوانين. وقدروا على تقديم عملائهم الخونة في صورة الأبطال الأمجاد ليقوموا لهم بأعمال الهدم والتدمير في أجسام المجتمعات الإسلامية على مدار القرون، وبخاصة في العصر الحديث ..
ولكنهم لم يقدروا على شيء واحد - والظروف الظاهرية كلها مهيأة له - .. لم يقدروا على إحداث شيء في هذا الكتاب المحفوظ، الذي لا حماية له من أهله المنتسبين إليه وهم بعد أن نبذوه وراء ظهورهم غثاء كغثاء السيل لا يدفع ولا يمنع فدل هذا مرة أخرى على ربانية هذا الكتاب، وشهدت هذه المعجزة الباهرة بأنه حقا تنزيل من عزيز حكيم.
لقد كان هذا الوعد على عهد رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - مجرد وعد. أما هو اليوم - من وراء كل تلك الأحداث الضخام ومن وراء كل تلك القرون الطوال. فهو المعجزة الشاهدة بربانية هذا الكتاب، والتي لا يماري فيها إلا عنيد جهول: «إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ، وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ» .. وصدق اللّه العظيم .. ما يختار!!! (1)
__________
(1) - في ظلال القرآن للسيد قطب - ت- علي بن نايف الشحود [ص 2768](1/85)
والغايةُ من ذلك أن تبقى حجةُ الله قائمةً على الناس. والقرآنُ أنزله اللهُ للعالمين جميعًا، وللناس كافةً، وليس خاصًا لقوم معينين كما كانت الكتبُ السابقة، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} (28) سورة سبأ
والذين يكتبون عن الإسلام فيقولون: إنه أول دين جاء بالعقيدة الكاملة في توحيد اللّه أو جاء بالعقيدة الكاملة في حقيقة الرسالة والرسول أو جاء بالعقيدة الكاملة في الآخرة والحساب والجزاء .. وهم يقصدون الثناء على الإسلام! .. هؤلاء لا يقرأون القرآن! ولو قرأوه لسمعوا اللّه تعالى يقرر أن جميع رسله - صلوات اللّه عليهم وسلامه - جاءوا بالتوحيد المطلق الخالص الذي لا ظل فيه للشرك في صورة من صوره .. وأنهم جميعا أخبروا الناس بحقيقة الرسول، وبشريته وأنه لا يملك لهم ولا لنفسه ضرا ولا نفعا، ولا يعلم غيبا، ولا يبسط أو يقبض رزقا .. وأنهم جميعا أنذروا قومهم بالآخرة وما فيها من حساب وجزاء .. وأن سائر حقائق العقيدة الإسلامية الأساسية جاء بها كل رسول .. وصدق الكتاب الأخير ما جاءت به الكتب قبله .. إنما تلك الأقوال أثر من آثار الثقافة الأوربية. التي تزعم أن أصول العقيدة - بما فيها العقائد السماوية - قد تطورت وترقت، بتطور الأقوام وترقيها! وما يمكن أن يدافع عن الإسلام بهدم أصوله التي يقررها القرآن! فليحذر الكتاب والقارئون هذا المزلق الخطير!!!
فأما حكمة إنزال هذا الكتاب، فلكي ينذر به الرسول - صلى الله عليه وسلم - أهل مكة - أم القرى - وما حولها: «وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها» .. وسميت مكة أم القرى، لأنها تضم بيت اللّه الذي هو أول بيت وضع للناس ليعبدوا اللّه فيه وحده بلا شريك وجعله مثابة أمن للناس وللأحياء جميعا ومنه خرجت الدعوة العامة لأهل الأرض ولم تكن دعوة عامة من قبل وإليه يحج المؤمنون بهذه الدعوة، ليعودوا إلى البيت الذي خرجت منه الدعوة! وليس المقصود، كما يتصيد أعداء الإسلام من المستشرقين، أن تقصر الدعوة على أهل مكة ومن حولها.(1/86)
فهم يقتطعون هذه الآية من القرآن كله، ليزعموا أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - ما كان يقصد في أول الأمر أن يوجه دعوته إلا إلى أهل مكة وبعض المدن حولها. وأنه إنما تحول من هذا المجال الضيق الذي ما كان خياله يطمح في أول الأمر إلى أوسع منه فتوسع في الجزيرة كلها، ثم همَّ أن يتخطاها .. لمصادفات لم يكن في أول الأمر على علم بها!
وذلك بعد هجرته إلى المدينة، وقيام دولته بها! .. وكذبوا .. ففي القرآن المكي، وفي أوائل الدعوة، قال اللّه سبحانه لرسوله - صلى الله عليه وسلم - «وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ» ... (الأنبياء:107) .. «وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً» ... (سبأ:28) ولعل الدعوة يومذاك كانت محصورة في شعاب مكة يحيط بها الكرب والابتلاء! (1)
والقرآنُ هو الهدى الموصِلُ إلى كلِّ خيرٍ. قال تعالى: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} (2) سورة البقرة.
والله -عز وجلَّ- يريدُ لكلمته أنْ تنتشرَ، وتصلَ إلى العقولِ والأسماع في كلِّ مكانٍ، ولا يتمُّ ذلك إلا إذا كانتْ سهلةَ الحفظِ والفهمِ، فليسَ في القرآن ما يصعبُ على الناس فهمُه أو العملُ به، قال تعالى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} (17) سورة القمر.
وهذا هو القرآن حاضرا، سهل التناول، ميسر الإدراك، فيه جاذبية ليقرأ ويتدبر. فيه جاذبية الصدق والبساطة، وموافقة الفطرة، واستجاشة الطبع، لا تنفد عجائبه، ولا يخلق على كثرة الرد. وكلما تدبره القلب عاد منه بزاد جديد. وكلما صحبته النفس زادت له ألفة وبه أنسا. (2)
والقرآنُ معجزةُ الرسول - صلى الله عليه وسلم -،فلو اجتمعتِ الدنيا بأسرِها على أن تأتي َ بمثل ما جاء به في القرآن الكريم لأعجزَهم ذلك، فهو {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} (42) سورة فصلت.
__________
(1) - في ظلال القرآن للسيد قطب - ت- علي بن نايف الشحود [ص 1579]
(2) - في ظلال القرآن للسيد قطب - ت- علي بن نايف الشحود [ص 4282](1/87)
وأنى للباطل أن يدخل على هذا الكتاب. وهو صادر من اللّه الحق. يصدع بالحق. ويتصل بالحق الذي تقوم عليه السماوات والأرض؟
وأنى يأتيه الباطل وهو عزيز. محفوظ بأمر اللّه الذي تكفل بحفظه فقال: «إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ».والمتدبر لهذا القرآن يجد فيه ذلك الحق الذي نزل به، والذي نزل ليقره. يجده في روحه ويجده في نصه. يجده في بساطة ويسر. حقا مطمئنا فطريا، يخاطب أعماق الفطرة، ويطبعها ويؤثر فيها التأثير العجيب. وهو «تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ» .. والحكمة ظاهرة في بنائه، وفي توجيهه، وفي طريقة نزوله، وفي علاجه للقلب البشري من أقصر طريق. واللّه الذي نزله خليق بالحمد. وفي القرآن ما يستجيش القلب لحمده الكثير. ثم يربط السياق بين القرآن وسائر الوحي قبله وبين رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - وسائر الرسل قبله. ويجمع أسرة النبوة كلها في ندوة واحدة تتلقى من ربها حديثا واحدا، ترتبط به أرواحها وقلوبها، وتتصل به طريقها ودعوتها ويحس المسلم الأخير أنه فرع من شجرة وارفة عميقة الجذور، وعضو من أسرة عريقة قديمة التاريخ: «ما يُقالُ لَكَ إِلَّا ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ. إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ» ..
إنه وحي واحد، ورسالة واحدة، وعقيدة واحدة. وإنه كذلك استقبال واحد من البشرية، وتكذيب واحد، واعتراضات واحدة .. ثم هي بعد ذلك وشيجة واحدة، وشجرة واحدة، وأسرة واحدة، وآلام واحدة، وتجارب واحدة، وهدف في نهاية الأمر واحد، وطريق واصل ممدود.
أي شعور بالأنس، والقوة، والصبر، والتصميم. توحيه هذه الحقيقة لأصحاب الدعوة، السالكين في طريق سار فيها من قبل نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد وإخوانهم جميعا - صلوات اللّه وسلامه عليهم أجمعين؟
وأي شعور بالكرامة والاعتزاز والاستعلاء على مصاعب الطريق وعثرتها وأشواكها وعقباتها، وصاحب الدعوة يمضي وهو يشعر أن أسلافه في هذا الطريق هم تلك العصبة المختارة من بني البشر أجمعين؟(1/88)
إنها حقيقة: «ما يُقالُ لَكَ إِلَّا ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ» .. ولكن أي آثار هائلة عميقة ينشئها استقرار هذه الحقيقة في نفوس المؤمنين؟
وهذا ما يصنعه هذا القرآن، وهو يقرر مثل هذه الحقيقة الضخمة ويزرعها في القلوب. (1)
والقرآنُ دعوةٌ إلى الفضيلة ِوالنهيِ عن الرذيلةِ. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ} (57) سورة يونس].
والقرآنُ شفاءٌ للنفوسِ. يطهرُها من أمراضها، فهو شفاءٌ لها من الكفرِ والضلالِ، وشفاءٌ لها من الغلِّ والحقدِ، قال تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا} (82) سورة الإسراء
__________
(1) - في ظلال القرآن للسيد قطب - ت- علي بن نايف الشحود [ص 3917](1/89)
ثمراتُ الإيمان بالكتب السماوية
1) - أخذُ كتابِ الله بقوةٍ، والتمسكُ به وتعظيمُ أوامره والعملِ بها، وعدمِ ضرب بعضِها ببعضٍ، والإيمانُ بمتشابههِ، وردُّهُ إلى مُحْكمهِ، على طريقةِ الراسخينَ في العلم. قال تعالى: {هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ {7} آل عمران
2) - وأنه منهجُ حياةٍ متكاملٍ يهدي للتي هي أقومُ، ولا سعادةَ للبشريةِ إلا به. قال تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا {9} وأَنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا {10} الإسراء
يهدي للتي هي أقوم في عالم الضمير والشعور، بالعقيدة الواضحة البسيطة التي لا تعقيد فيها ولا غموض، والتي تطلق الروح من أثقال الوهم والخرافة، وتطلق الطاقات البشرية الصالحة للعمل والبناء، وتربط بين نواميس الكون الطبيعية ونواميس الفطرة البشرية في تناسق واتساق.
ويهدي للتي هي أقوم في التنسيق بين ظاهر الإنسان وباطنه، وبين مشاعره وسلوكه، وبين عقيدته وعمله، فإذا هي كلها مشدودة إلى العروة الوثقى التي لا تنفصم، متطلعة إلى أعلى وهي مستقرة على الأرض، وإذا العمل عبادة متى توجه الإنسان به إلى اللّه، ولو كان هذا العمل متاعا واستمتاعا بالحياة.
ويهدي للتي هي أقوم في عالم العبادة بالموازنة بين التكاليف والطاقة، فلا تشق التكاليف على النفس حتى تمل وتيأس من الوفاء. ولا تسهل وتترخص حتى تشيع في النفس الرخاوة والاستهتار. ولا تتجاوز القصد والاعتدال وحدود الاحتمال.(1/90)
ويهدي للتي هي أقوم في علاقات الناس بعضهم ببعض: أفرادا وأزواجا، وحكومات وشعوبا، ودولا وأجناسا، ويقيم هذه العلاقات على الأسس الوطيدة الثابتة التي لا تتأثر بالرأي والهوى ولا تميل مع المودة والشنآن ولا تصرفها المصالح والأغراض. الأسس التي أقامها العليم الخبير لخلقه، وهو أعلم بمن خلق، وأعرف بما يصلح لهم في كل أرض وفي كل جيل، فيهديهم للتي هي أقوم في نظام الحكم ونظام المال ونظام الاجتماع ونظام التعامل الدولي اللائق بعالم الإنسان.
ويهدي للتي هي أقوم في تبني الديانات السماوية جميعها والربط بينها كلها، وتعظيم مقدساتها وصيانة حرماتها فإذا البشرية كلها بجميع عقائدها السماوية في سلام ووئام.
«إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ» .. «وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً، وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً» فهذه هي قاعدته الأصيلة في العمل والجزاء. فعلى الإيمان والعمل الصالح يقيم بناءه. فلا إيمان بلا عمل، ولا عمل بلا إيمان. الأول مبتور لم يبلغ تمامه، والثاني مقطوع لاركيزة له. وبهما معا تسير الحياة على التي هي أقوم .. وبهما معا تتحقق الهداية بهذا القرآن.
فأما الذين لا يهتدون بهدي القرآن، فهم متروكون لهوى الإنسان. الإنسان العجول الجاهل بما ينفعه وما يضره، المندفع الذي لا يضبط انفعالاته ولو كان من ورائها الشر له: «وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولًا» ..
ذلك أنه لا يعرف مصائر الأمور وعواقبها. ولقد يفعل الفعل وهو شر، ويعجل به على نفسه وهو لا يدري. أو يدري ولكنه لا يقدر على كبح جماحه وضبط زمامه .. فأين هذا من هدى القرآن الثابت الهادئ الهادي؟
ألا إنهما طريقان مختلفان: شتان شتان. هدى القرآن وهو الإنسان! (1)
3) - أنزل الله عز وجل كتبه هدايةً للعباد، وجعل لها المنزلة السامية، والمكانة الرفيعة، وجعلَ الإيمان بها ركناً من أركانِ دينهِ، لا يصح إيمان العبد إلا بالإيمان بها. قال تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ
__________
(1) - في ظلال القرآن للسيد قطب - ت- علي بن نايف الشحود [ص 2880](1/91)
وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} (285) سورة البقرة
وقد رتبَ سبحانه على الإيمان بكتبه ثمراتٍ عظيمةً، لعلَّ من أهمها السعادةُ في الدنيا والفوزُ في الآخرة، ذلك أنَّ من لم يؤمن بتلك الكتب فقد خالفَ أمر الله تعالى، وضلَّ ضلالا بعيداً، قال تعالى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً} (النساء:136)،فقد قرن سبحانه الإيمان بكتبه بالإيمان به، وجعل عاقبة الكفران بها كعاقبة الكفران به، سواء بسواء.
4) - استشعارُ المسلم لنعم الله عليه وآلاءه التي لا تعدُّ ولا تحصى، فقد جعل له كتباً تهديه سبلَ الرشاد، فلم يتركهُ سبحانه هملاً تتخطفه الأهواءُ والشهوات، وتتقاذفه الميولُ والرغبات، بل هيَّأ له من الأسباب ما يُصلِحُ أمره ويسددُ وجهته. ولن يقدِّرَ العبد ما أسبغ الله عليه من نعمة الإيمان به، وما يتبعه من إيمانٍ بما أنزله من كتب إلا عندما يتأملُ حالَ من حُرم هذه النّعم، وحالَ من كان يحيا حياة الغيِّ والضلالِ، لا يدري الهدفَ من سيره، وما هي الغاية التي يسعى إليها من مسيره، قال تعالى: {أَفَمَن يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّن يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} (22) سورة الملك،وقال أيضاً في حق الضالين عن هديه: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} (179) سورة الأعراف.
5) - إنه يمنحُ المؤمن الشعورَ بالراحة والطمأنينة، وذلك بمعرفته أن َّالله سبحانه قد أنزل على كلِّ قوم ٍمن الشرائع ما يناسبُ حالهم، ويحققُ حاجتهم، ويهديهم لما فيه صلاحُ أمرهم في الدنيا والآخرة، قال تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} (المائدة:48)،فإذا كان المؤمن على بينة من هذه السنَّة الإلهية ازداد إيماناً مع إيمانه، ويقيناً فوق يقينه، فيزدادُ حباً لربه ومعرفةً له وتعظيماً لقدره، فتنطلقُ جوارحه عاملةً بأوامر الله فتتحقق الغاية العظيمة من الإيمان بالكتب - وهي العمل بما فيها - فينالُ ثمرة هذا الإيمان سعادةً في الدنيا وفوزاً في الآخرة، وقد وعد الله عز وجل العاملين بشرعهِ الخير(1/92)
والبركات في الدنيا والآخرة، كما قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ والأرض} (الأعراف:96) وقال أيضاً: {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لأكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُون َ} (المائدة:66).
إن العقيدة الإيمانية في اللّه، وتقواه، ليست مسألة منعزلة عن واقع الحياة، وعن خط تاريخ الإنسان.
إن الإيمان باللّه، وتقواه، ليؤهلان لفيض من بركات السماء والأرض. وعدا من اللّه. ومن أوفى بعهده من اللّه؟ ونحن - المؤمنين باللّه - نتلقى هذا الوعد بقلب المؤمن، فنصدقه ابتداء، لا نسأل عن علله وأسبابه ولا نتردد لحظة في توقع مدلوله .. نحن نؤمن باللّه - بالغيب - ونصدق بوعده بمقتضى هذا الإيمان ..
ثم ننظر إلى وعد اللّه نظرة التدبر - كما يأمرنا إيماننا كذلك - فنجد علته وسببه! إن الإيمان باللّه دليل على حيوية في الفطرة وسلامة في أجهزة الاستقبال الفطرية وصدق في الإدراك الإنساني، وحيوية في البنية البشرية، ورحابة في مجال الإحساس بحقائق الوجود .. وهذه كلها من مؤهلات النجاح في الحياة الواقعية.
والإيمان باللّه قوة دافعة دافقة، تجمع جوانب الكينونة البشرية كلها، وتتجه بها إلى وجهة واحدة، وتطلقها تستمد من قوة اللّه، وتعمل لتحقيق مشيئته في خلافة الأرض وعمارتها، وفي دفع الفساد والفتنة عنها، وفي ترقية الحياة ونمائها .. وهذه كذلك من مؤهلات النجاح في الحياة الواقعية.
والإيمان باللّه تحرر من العبودية للهوى ومن العبودية للعبيد. وما من شك أن الإنسان المتحرر بالعبودية للّه، أقدر على الخلافة في الأرض خلافة راشدة صاعدة. من العبيد للهوى ولبعضهم بعضا! وتقوى اللّه يقظة واعية تصون من الاندفاع والتهور والشطط والغرور، في دفعة الحركة ودفعة الحياة
وتوجه الجهد البشري في حذر وتحرج، فلا يعتدي، ولا يتهور، ولا يتجاوز حدود النشاط الصالح. وحين تسير الحياة متناسقة بين الدوافع والكوابح، عاملة في الأرض، متطلعة إلى(1/93)
السماء، متحررة من الهوى والطغيان البشري، عابدة خاشعة للّه .. تسير سيرة صالحة منتجة تستحق مدد اللّه بعد رضاه. فلا جرم تحفها البركة، ويعمها الخير، ويظلها الفلاح .. والمسألة - من هذا الجانب - مسألة واقع منظور - إلى جانب لطف اللّه المستور - واقع له علله وأسبابه الظاهرة، إلى جانب قدر اللّه الغيبي الموعود ..
والبركات التي يعد اللّه بها الذين يؤمنون ويتقون، في توكيد ويقين، ألوان شتى لا يفصلها النص ولا يحددها. وإيحاء النص القرآني يصور الفيض الهابط من كل مكان، النابع من كل مكان، بلا تحديد ولا تفصيل ولا بيان. فهي البركات بكل أنواعها وألوانها، وبكل صورها وأشكالها، ما يعهده الناس وما يتخيلونه، وما لم يتهيأ لهم في واقع ولا خيال! والذين يتصورون الإيمان باللّه وتقواه مسألة تعبدية بحتة، لا صلة لها بواقع الناس في الأرض، لا يعرفون الإيمان ولا يعرفون الحياة! وما أجدرهم أن ينظروا هذه الصلة قائمة يشهد بها اللّه - سبحانه - وكفى باللّه شهيدا.
ويحققها النظر بأسبابها التي يعرفها الناس: «وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ. وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ» ..
ولقد ينظر بعض الناس فيرى أمما - يقولون: إنهم مسلمون - مضيقا عليهم في الرزق، لا يجدون إلا الجدب والمحق! .. ويرى أمما لا يؤمنون ولا يتقون، مفتوحا عليهم في الرزق والقوة والنفوذ .. فيتساءل: وأين إذن هي السنة التي لا تتخلف؟
ولكن هذا وذلك وهم تخيله ظواهر الأحوال! إن أولئك الذين يقولون: إنهم مسلمون .. لا مؤمنون ولا متقون! إنهم لا يخلصون عبوديتهم للّه، ولا يحققون في واقعهم شهادة أن لا إله إلا اللّه! إنهم يسلمون رقابهم لعبيد منهم، يتألهون عليهم، ويشرعون لهم - سواء القوانين أو القيم والتقاليد - وما أولئك بالمؤمنين. فالمؤمن لا يدع عبدا من العبيد يتأله عليه، ولا يجعل عبدا من العبيد ربه الذي يصرف حياته بشرعه وأمره .. ويوم كان أسلاف هؤلاء الذين يزعمون الإيمان مسلمين حقا. دانت لهم الدنيا، وفاضت عليهم بركات من السماء والأرض، وتحقق لهم وعد اللّه.(1/94)
فأما أولئك المفتوح عليهم في الرزق .. فهذه هي السنة: «ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا، وَقالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ»! فهو الابتلاء بالنعمة الذي مر ذكره. وهو أخطر من الابتلاء بالشدة ..
وفرق بينه وبين البركات التي يعدها اللّه من يؤمنون ويتقون. فالبركة قد تكون مع القليل إذا أحسن الانتفاع به، وكان معه الصلاح والأمن والرضى والارتياح .. وكم من أمة غنية قوية ولكنها تعيش في شقوة، مهددة في أمنها، مقطعة الأواصر بينها، يسود الناس فيها القلق وينتظرها الانحلال. فهي قوة بلا أمن. وهو متاع بلا رضى. وهي وفرة بلا صلاح. وهو حاضر زاه يترقبه مستقبل نكد. وهو الابتلاء الذي يعقبه النكال ..
إن البركات الحاصلة مع الإيمان والتقوى، بركات في الأشياء، وبركات في النفوس، وبركات في المشاعر، وبركات في طيبات الحياة .. بركات تنمي الحياة وترفعها في آن. وليست مجرد وفرة مع الشقوة والتردي والانحلال ". (1)
__________
(1) - في ظلال القرآن للسيد قطب - ت- علي بن نايف الشحود [ص 1793](1/95)
الركنُ الرابع
الإيمانُ بالرسل
المراد بالرسل:
رجالٌ اصطفاهم الله تعالى من النوع الإنساني ليكونوا وسطاءَ بينه وبين عباده، في تبليغِ ما شاء من العقائد والعباداتِ والأحكامِ والآدابِ، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} (67) سورة المائدة، ويبشِّرون من آمن بحسن الثوابِ، وينذرونَ من كفر وأعرضَ سوء العقاب قال الله تعالى: {رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} (165) سورة النساء.
معنى الإيمان بالرسل:
أن يؤمنَ المرءُ إيماناً جازما بكل نبيٍّ ورسولٍ عُرفتْ نبوتُه ورسالتُه عن طريق القرآن الكريمِ أو السنةِ الصحيحة إجمالاً وتفصيلاً. فمن عُرف منهم بأسمائهم آمنا بهم بأعيانهم على التفصيل، ومن لم يعرف منهم بأسمائهِم آمنا بهم على سبيل الإجمال، دون أن ننكر نبوةَ أو رسالةَ أحدٍ منهم.
أول الرسل وأخرهم:
إن أول رسولٍ إلى أهل الأرض هو نوحٌ عليه السلام، وآخرُهم محمدٌ - صلى الله عليه وسلم -.قال الله تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآَتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (163) وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (164) [النساء/163،164]}،وقال تعالى: {مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} (40) سورة الأحزاب(1/96)
ثم إنه لم تخلُ أمةٌ من الأمم إلا وقد أُرسل إليهم رسولٌ بشريعة مستقلةٍ أو أوحيَ إليه بشريعةِ من قبله ليجددها، قال الله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} (36) سورة النحل
وقوله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلَا فِيهَا نَذِيرٌ} (24) سورة فاطر.
الرسلُ من جنس البشر:
والرسل بشرٌ مخلوقون، ليس لهم من خصائص الربوبية أو الألوهية شيءٌ، بل تلحقهُم جميعُ خصائص البشر من المرض والموت والحاجة إلى الأكل والشرب وغير ذلك من صفات البشر من النكاح و التناسل- عدا الصفاتِ المنفرة -،ولكنهم يمتازون عن غيرهم بأنهم أصدقُ الناس وآمنُ الناس، وأشجعُ الناس، وأكرمُ الناس، وأرحمُ الناس بالناس، وأتقَى الناس، ولا يقعونَ في المعاصي، وأنَّ الله تعالى أوحَى إليهم دون سواهم من الناس، قال الله تعالى آمرا نبيه محمدا - صلى الله عليه وسلم -: {قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (188) سورة الأعراف، وقال الله تعالى عن إبراهيم عليه السلام واصفا ربه: {وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82) رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83) [الشعراء/79 - 83]}،وقوله تعالى عن عيسى عليه السلام: {إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ} (59) سورة الزخرف.
فليس إلها يعبد كما انحرف فريق من النصارى فعبدوه. إنما هو عبد أنعم اللّه عليه. ولا جريرة له في عبادتهم إياه. فإنما أنعم اللّه عليه ليكون مثلا لبني إسرائيل ينظرون إليه ويتأسون به. فنسوا المثل، وضلوا السبيل! واستطرد إلى أسطورتهم حول الملائكة، يبين لهم أن الملائكة خلق من خلق اللّه مثلهم. ولو شاء اللّه لجعل الملائكة يخلفونهم في هذه(1/97)
الأرض، أو لحول بعض الناس إلى ملائكة يخلفونهم في الأرض: «وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ» .. فمرد الأمر إلى مشيئة اللّه في الخلق. وما يشاؤه من الخلق يكون. وليس أحد من خلقه يمت إليه بنسب، ولا يتصل به - سبحانه - إلا صلة المخلوق بالخالق، والعبد بالرب، والعابد بالمعبود. (1)
ما يتضمنه الإيمان بالرسل:
1 - الإيمانُ بأن رسالتهم حقٌّ منَ الله تعالى لا تفريق بينهم:
فالكفرُ بواحد منهم كفرٌ بهم جميعا، كما قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (150) أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (151) وَالَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (152)} [النساء/150 - 152]
لقد كان اليهود يدعون الإيمان بأنبيائهم وينكرون رسالة عيسى ورسالة محمد كما كان النصارى يقفون بإيمانهم عند عيسى - فضلا عن تأليهه - وينكرون رسالة محمد كذلك.
وكان القرآن ينكر على هؤلاء وهؤلاء ويقرر التصور الإسلامي الشامل الكامل عن الإيمان باللّه ورسوله بدون تفريق بين اللّه ورسله وبدون تفريق كذلك بين رسله جميعا. وبهذا الشمول كان الإسلام هو «الدين» الذي لا يقبل اللّه من الناس غيره، لأنه هو الذي يتفق مع وحدانية اللّه ومقتضيات هذه الوحدانية.
إن التوحيد المطلق للّه سبحانه يقتضي توحيد دينه الذي أرسل به الرسل للبشر، وتوحيد رسله الذين حملوا هذه الأمانة للناس .. وكل كفر بوحدة الرسل أو وحدة الرسالة هو كفر بوحدانية اللّه في الحقيقة وسوء تصور لمقتضيات هذه الوحدانية. فدين اللّه للبشر ومنهجه للناس، هو هولا يتغير في أساسه كما أنه لا يتغير في مصدره. لذلك عبر السياق هنا عمن يريدون التفرقة بين اللّه ورسله (بأن يؤمنوا باللّه ويكفروا بالرسل) وعمن
__________
(1) - في ظلال القرآن للسيد قطب - ت- علي بن نايف الشحود [ص 3995](1/98)
يريدون التفرقة بين الرسل (بأن يؤمنوا ببعضهم ويكفروا ببعضهم) عبر عن هؤلاء وهؤلاء بأنهم «الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ»،وعد تفرقتهم بين اللّه ورسله، وتفرقتهم بين بعض رسله وبعض، كفرا باللّه وبرسله.
إن الإيمان وحدة لا تتجزأ .. الإيمان باللّه إيمان بوحدانيته - سبحانه - ووحدانيته تقتضي وحدة الدين الذي ارتضاه للناس لتقوم حياتهم كلها - كوحدة - على أساسه. ويقتضي وحدة الرسل الذين جاءوا بهذا الدين من عنده - لا من عند أنفسهم ولا في معزل عن إرادته ووحيه - ووحدة الموقف تجاههم جميعا .. ولا سبيل إلى تفكيك هذه الوحدة. إلا بالكفر المطلق وإن حسب أهله أنهم يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض! وكان جزاؤهم عند اللّه أن أعد لهم العذاب المهين .. أجمعين ..
«أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا، وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً» .. أما «المسلمون» فهم الذين يشتمل تصورهم الاعتقادي على الإيمان باللّه ورسله جميعا بلا تفرقة. فكل الرسل عندهم موضع اعتقاد واحترام وكل الديانات السماوية عندهم حق - ما لم يقع فيها التحريف فلا تكون عندئذ من دين اللّه، وإن بقي فيها جانب لم يحرف، إذ أن الدين وحدة - وهم يتصورون الأمر - كما هو في حقيقته -:إلها واحدا، ارتضى للناس دينا واحدا ووضع لحياتهم منهجا واحدا، وأرسل رسله إلى الناس بهذا الدين الواحد وهذا المنهج الواحد. وموكب الإيمان - في حسهم - موصول، يقوده نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد وإخوانهم من الرسل - صلوات اللّه وسلامه عليهم جميعا - ونسبهم هم إلى هذا الموكب الموصول عريق وهم حملة هذه الأمانة الكبرى، وهم ورثة هذا الخير الموصول على طول الطريق المبارك .. لا تفرقة ولا عزلة ولا انفصام .. وإليهم وحدهم انتهى ميراث الدين الحق.
وليس وراء ما عندهم إلا الباطل والضلال. وهذا هو «الإسلام» الذي لا يقبل اللّه غيره من أحد. وهؤلاء هم «المسلمون» الذين يستحقون الأجر من اللّه على ما عملوا، ويستحقون منه المغفرة والرحمة فيما قصروا فيه: «أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ، وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً» ..(1/99)
والإسلام إنما يتشدد هذا التشدد في توحيد العقيدة في اللّه ورسله، لأن هذا التوحيد هو الأساس اللائق بتصور المؤمن لإلهه سبحانه كما أنه هو الأساس اللائق بوجود منظم، غير متروك للتعدد والتصادم. ولأنه هو العقيدة اللائقة بإنسان يرى وحدة الناموس في هذا الوجود أينما امتد بصره. ولأنه هو التصور الكفيل بضم المؤمنين جميعا في موكب واحد، يقف أمام صفوف الكفر، وفي حزب واحد يقف أمام أحزاب الشيطان .. ولكن هذا الصف الواحد ليس هو صف أصحاب الاعتقادات المحرفة - ولو كان لها أصل سماوي - إنما هو صف أصحاب الإيمان الصحيح والعقيدة التي لم يدخلها انحراف.
ومن ثم كان «الإسلام» هو «الدين».وكان «المسلمون» «خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ» المسلمون المعتقدون عقيدة صحيحة، العاملون بهذه العقيدة. لا كل من ولد في بيت مسلم، ولا كل من لاك لسانه كلمة الإسلام! وفي ظل هذا البيان يبدو الذين يفرقون بين اللّه ورسله، ويفرقون بين بعض الرسل وبعض، منقطعين عن موكب الإيمان، مفرقين للوحدة التي جمعها اللّه، منكرين للوحدانية التي يقوم عليها الإيمان باللّه (1).
2 - الإيمانُ بكلِّ من جاء ذكره بعينه و اسمه:
وقد ذكر القرآن الكريم خمسةً وعشرين رسولاً وهم (آدَمُ - أَيُّوبُ - إِبْرَاهِيمُ - إِدْرِيسُ - إِسْحَاقُ - إِسْمَاعِيلُ - إِلْيَاسُ - الْيَسَعُ - دَاوُودُ - ذُو الْكِفْلِ - زَكَرِيَّا - سُلَيْمَانُ - شُعَيْبٌ - صَالِحٌ - عِيسَى - لُوطٌ - مُحَمَّدٌ - مُوسَى - نُوحٌ - هَارُونُ - هُودُ - يَحْيَى - يَعْقُوبُ - يُوسُفُ - يُونُسٌ (ذُو النُّونِ)،أما من لم يذكر باسمه فإنَّ الواجب أن نؤمنَ به إجمالاً قال الله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِّن قَبْلِكَ مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُم مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاء أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ} (78) سورة غافر.
إن لهذا الأمر سوابق كثيرة، قص اللّه على رسوله بعضها في هذا الكتاب، وبعضها لم يقصصه. وفيما قصه من أمر الرسل ما يشير إلى الطريق الطويل الواصل الواضح المعالم
__________
(1) - في ظلال القرآن للسيد قطب - ت- علي بن نايف الشحود [ص 1162](1/100)
وما يقرر السنة الماضية الجارية التي لا تتخلف وما يوضح حقيقة الرسالة ووظيفة الرسل وحدودها أدق إيضاح.
وتؤكد الآية حقيقة تحتاج إلى توكيدها في النفس، وتتكئ عليها لتقررها تقريرا شديدا: «وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ» .. فالنفس البشرية - ولو كانت نفس رسول - تتمنى وترغب أن تستعلي الدعوة وأن يذعن لها المكابرون سريعا. فتتطلع إلى ظهور الآية الخارقة التي تقهر كل مكابرة. ولكن اللّه يريد أن يلوذ عباده المختارون بالصبر المطلق ويروضوا أنفسهم عليه فيبين لهم أن ليس لهم من الأمر شيء، وأن وظيفتهم تنتهي عند حد البلاغ، وأن مجيء الآية هو الذي يتولاه حينما يريد. لتطمئن قلوبهم وتهدأ وتستقر ويرضوا بكل ما يتم على أيديهم ويدعوا الأمر كله بعد ذلك للّه.
ويريد كذلك أن يدرك الناس طبيعة الألوهية وطبيعة النبوة، ويعرفوا أن الرسل بشر منهم، اختارهم اللّه، وحدد لهم وظيفتهم، وما هم بقادرين ولا محاولين أن يتجاوزوا حدود هذه الوظيفة ..
كذلك ليعلم الناس أن تأخير الآيات رحمة بهم فقد قضى في تقديره بأن يدمر على المكذبين بعد ظهور الآيات. وإذن فهي مهلة، وهي من اللّه رحمة: «فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ» .. ولم يعد هناك مجال لعمل ولا لتوبة ولا لرجعة بعد قضاء اللّه الأخير. (1)
3 - التصديقُ بكلِّ ما صحَّ من أخبارهم وجاء به نصٌّ من الكتابِ أو السنة الصحيحةِ.
4 - ونؤمنُ بمعجزاتِ الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ..
ونحفظُ لهم حقَّهم، ونتأدبُ معهم، ولا نفضِّل عليهم أحداً من الناس لا الأولياءَ ولا الأئمةَ، ولا غيرهم 0
5 - ونؤمنُ بأن خاتمَ الأنبياء والمرسلين نبينا محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - تسليماً كثيراً، فلا نبيَّ بعده
__________
(1) - في ظلال القرآن للسيد قطب - ت- علي بن نايف الشحود [ص 3885](1/101)
قال تعالى: {مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا {40} الأحزاب
«ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ» فزينب ليست حليلة ابنه، وزيد ليس ابن محمد. إنما هو ابن حارثة. ولا حرج إذن في الأمر حين ينظر إليه بعين الحقيقة الواقعة.
والعلاقة بين محمد - صلى الله عليه وسلم - وبين جميع المسلمين - ومنهم زيد بن حارثة - هي علاقة النبي بقومه، وليس هو أبا لأحد منهم: «وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ» ..
ومن ثم فهو يشرع الشرائع الباقية، لتسير عليها البشرية وفق آخر رسالة السماء إلى الأرض، التي لا تبديل فيها بعد ذلك ولا تغيير. «وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً» .. فهو الذي يعلم ما يصلح لهذه البشرية، وما يصلحها وهو الذي فرض على النبي ما فرض، واختار له ما اختار. ليحل للناس أزواج أدعيائهم، إذا ما قضوا منهن وطرا، وانتهت حاجتهم منهن، وأطلقوا سراحهن ..
قضى اللّه هذا وفق علمه بكل شيء. ومعرفته بالأصلح والأوفق من النظم والشرائع والقوانين ووفق رحمته وتخيره للمؤمنين. (1).
وعَنْ فُرَاتٍ الْقَزَّازِ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا حَازِمٍ قَالَ قَاعَدْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ خَمْسَ سِنِينَ، فَسَمِعْتُهُ يُحَدِّثُ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ «كَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ تَسُوسُهُمُ الأَنْبِيَاءُ، كُلَّمَا هَلَكَ نَبِىٌّ خَلَفَهُ نَبِىٌّ، وَإِنَّهُ لاَ نَبِىَّ بَعْدِى، وَسَيَكُونُ خُلَفَاءُ فَيَكْثُرُونَ.قَالُوا فَمَا تَأْمُرُنَا قَالَ فُوا بِبَيْعَةِ الأَوَّلِ فَالأَوَّلِ، أَعْطُوهُمْ حَقَّهُمْ، فَإِنَّ اللَّهَ سَائِلُهُمْ عَمَّا اسْتَرْعَاهُمْ» (أخرجه الشيخان) (2).
وشريعتُه هي الشريعةُ المهيمنةُ على سائر الشرائع، إلى يوم القيامة، قال تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ {48} وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ
__________
(1) - في ظلال القرآن للسيد قطب - ت- علي بن نايف الشحود [ص 3632]
(2) - البخارى برقم (3455) ومسلم برقم (4879)(1/102)
وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللّهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ {49} أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ {50} سورة المائدة
ويقف الإنسان أمام هذه النصاعة في التعبير، وهذا الحسم في التقرير، وهذا الاحتياط البالغ لكل ما قد يهجس في الخاطر من مبررات لترك شيء - ولو قليل - من هذه الشريعة في بعض الملابسات والظروف
يقف الإنسان أمام هذا كله، فيعجب كيف ساغ لمسلم - يدعي الإسلام - أن يترك شريعة اللّه كلها، بدعوى الملابسات والظروف! وكيف ساغ له أن يظل يدعي الإسلام بعد هذا الترك الكلي لشريعة اللّه! وكيف لا يزال الناس يسمون أنفسهم «مسلمين»؟! وقد خلعوا ربقة الإسلام من رقابهم، وهم يخلعون شريعة اللّه كلها ويرفضون الإقرار له بالألوهية، في صورة رفضهم الإقرار بشريعته، وبصلاحية هذه الشريعة في جميع الملابسات والظروف، وبضرورة تطبيقها كلها في جميع الملابسات والظروف! «وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ» ..
يتمثل الحق في صدوره من جهة الألوهية، وهي الجهة التي تملك حق تنزيل الشرائع، وفرض القوانين .. ويتمثل الحق في محتوياته، وفي كل ما يعرض له من شئون العقيدة والشريعة، وفي كل ما يقصه من خبر، وما يحمله من توجيه: «مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ» ..
فهو الصورة الأخيرة لدين اللّه، وهو المرجع الأخير في هذا الشأن، والمرجع الأخير في منهج الحياة وشرائع الناس، ونظام حياتهم، بلا تعديل بعد ذلك ولا تبديل.
ومن ثم فكل اختلاف يجب أن يرد إلى هذا الكتاب ليفصل فيه. سواء كان هذا الاختلاف في التصور الاعتقادي بين أصحاب الديانات السماوية، أو في الشريعة التي جاء هذا الكتاب بصورتها الأخيرة. أو كان هذا الاختلاف بين المسلمين أنفسهم، فالمرجع الذي يعودون إليه بآرائهم في شأن الحياة كله هو هذا الكتاب، ولا قيمة لآراء الرجال ما لم يكن لها أصل تستند إليه من هذا المرجع الأخير.(1/103)
وتترتب على هذه الحقيقة مقتضياتها المباشرة: «فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ، وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ» ..
والأمر موجه ابتداء إلى رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - فيما كان فيه من أمر أهل الكتاب الذين يجيئون إليه متحاكمين. ولكنه ليس خاصا بهذا السبب، بل هو عام .. وإلى آخر الزمان .. طالما أنه ليس هناك رسول جديد، ولا رسالة جديدة، لتعديل شيء ما في هذا المرجع الأخير! لقد كمل هذا الدين، وتمت به نعمة اللّه على المسلمين. ورضيه اللّه لهم منهج حياة للناس أجمعين. ولم يعد هنالك من سبيل لتعديل شيء فيه أو تبديله، ولا لترك شيء من حكمه إلى حكم آخر، ولا شيء من شريعته إلى شريعة أخرى. وقد علم اللّه حين رضيه للناس، أنه يسع الناس جميعا. وعلم اللّه حين رضيه مرجعا أخيرا أنه يحقق الخير للناس جميعا. وأنه يسع حياة الناس جميعا، إلى يوم الدين. وأي تعديل في هذا المنهج - ودعك من العدول عنه - هو إنكار لهذا المعلوم من الدين بالضرورة. يخرج صاحبه من هذا الدين. ولو قال باللسان ألف مرة: إنه من المسلمين! وقد علم اللّه أن معاذير كثيرة يمكن أن تقوم وأن يبرر بها العدول عن شيء مما أنزل اللّه واتباع أهواء المحكومين المتحاكمين .. وأن هواجس قد تتسرب في ضرورة الحكم بما أنزل اللّه كله بلا عدول عن شيء فيه، في بعض الملابسات والظروف. فحذر اللّه نبيه - صلى الله عليه وسلم - في هذه الآيات مرتين من اتباع أهواء المتحاكمين، ومن فتنتهم له عن بعض ما أنزل اللّه إليه ..
وأولى هذه الهواجس: الرغبة البشرية الخفية في تأليف القلوب بين الطوائف المتعددة، والاتجاهات والعقائد المتجمعة في بلد واحد. ومسايرة بعض رغباتهم عند ما تصطدم ببعض أحكام الشريعة، والميل إلى التساهل في الأمور الطفيفة، أو التي يبدو أنها ليست من أساسيات الشريعة!
وقد روي أن اليهود عرضوا على رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - أن يؤمنوا له إذا تصالح معهم على التسامح في أحكام بعينها منها حكم الرجم. وأن هذا التحذير قد نزل بخصوص هذا العرض .. ولكن الأمر - كما هو ظاهر - أعم من حالة بعينها وعرض بعينه. فهو أمر يعرض في مناسبات شتى، ويتعرض له أصحاب هذه الشريعة في كل حين .. وقد شاء(1/104)
اللّه - سبحانه - أن يحسم في هذا الأمر، وأن يقطع الطريق على الرغبة البشرية الخفية في التساهل مراعاة للاعتبارات والظروف، وتأليفا للقلوب حين تختلف الرغبات والأهواء.
فقال لنبيه: إن اللّه لو شاء لجعل الناس أمة واحدة ولكنه جعل لكل منهم طريقا ومنهاجا وجعلهم مبتلين مختبرين فيما آتاهم من الدين والشريعة، وما آتاهم في الحياة كلها من عطايا. وأن كلا منهم يسلك طريقه ثم يرجعون كلهم إلى اللّه، فينبئهم بالحقيقة، ويحاسبهم على ما اتخذوا من منهج وطريق .. وأنه إذن لا يجوز أن يفكر في التساهل في شيء من الشريعة لتجميع المختلفين في المشارب والمناهج .. فهم لا يتجمعون: «لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً. وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً. وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ. فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ. إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً. فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ».
بذلك أغلق اللّه - سبحانه - مداخل الشيطان كلها وبخاصة ما يبدو منها خيرا وتأليفا للقلوب وتجميعا للصفوف بالتساهل في شيء من شريعة اللّه في مقابل إرضاء الجميع! أو في مقابل ما يسمونه وحدة الصفوف!
إن شريعة اللّه أبقى وأغلى من أن يضحى بجزء منها في مقابل شيء قدر اللّه ألا يكون! فالناس قد خلقوا ولكل منهم استعداد، ولكل منهم مشرب، ولكل منهم منهج، ولكل منهم طريق. ولحكمة من حكم اللّه خلقوا هكذا مختلفين.
وقد عرض اللّه عليهم الهدى وتركهم يستبقون. وجعل هذا ابتلاء لهم يقوم عليه جزاؤهم يوم يرجعون إليه، وهم إليه راجعون وإنها لتعلة باطلة إذن، ومحاولة فاشلة، أن يحاول أحد تجميعهم على حساب شريعة اللّه، أو بتعبير آخر على حساب صلاح الحياة البشرية وفلاحها. فالعدول أو التعديل في شريعة اللّه لا يعني شيئا إلا الفساد في الأرض، وإلا الانحراف عن المنهج الوحيد القويم، وإلا انتفاء العدالة في حياة البشر، وإلا عبودية الناس بعضهم لبعض، واتخاذ بعضهم لبعض أربابا من دون اللّه .. وهو شر عظيم وفساد عظيم .. لا يجوز ارتكابه في محاولة عقيمة لا تكون لأنها غير ما قدره اللّه في(1/105)
طبيعة البشر ولأنها مضادة للحكمة التي من أجلها قدر ما قدر من اختلاف المناهج والمشارع، والاتجاهات والمشارب .. وهو خالق وصاحب الأمر الأول فيهم والأخير. وإليه المرجع والمصير ..
إن محاولة التساهل في شيء من شريعة اللّه، لمثل هذا الغرض، تبدو - في ظل هذا النص الصادق الذي يبدو مصداقه في واقع الحياة البشرية في كل ناحية - محاولة سخيفة لا مبرر لها من الواقع ولا سند لها من إرادة اللّه ولا قبول لها في حس المسلم، الذي لا يحاول إلا تحقيق مشيئة اللّه. فكيف وبعض من يسمون أنفسهم «مسلمين» يقولون: إنه لا يجوز تطبيق الشريعة حتى لا نخسر «السائحين»؟!!!
أي واللّه هكذا يقولون! ويعود السياق فيؤكد هذه الحقيقة، ويزيدها وضوحا. فالنص الأول: «فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ» .. قد يعني النهي عن ترك شريعة اللّه كلها إلى أهوائهم! فالآن يحذره من فتنتهم له عن بعض ما أنزل اللّه إليه: «وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ، وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ، وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ» ..
فالتحذير هنا أشد وأدق وهو تصوير للأمر على حقيقته .. فهي فتنة يجب أن تحذر .. والأمر في هذا المجال لا يعدو أن يكون حكما بما أنزل اللّه كاملا أو أن يكون اتباعا للهوى وفتنة يحذر اللّه منها.
ثم يستمر السياق في تتبع الهواجس والخواطر فيهون على رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - أمرهم إذا لم يعجبهم هذا الاستمساك الكامل بالصغيرة قبل الكبيرة في هذه الشريعة، وإذا هم تولوا فلم يختاروا الإسلام دينا أو تولوا عن الاحتكام إلى شريعة اللّه (في ذلك الأوان حيث كان هناك تخيير قبل أن يصبح هذا حتما في دار الإسلام): «فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ. وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ».فإن تولوا فلا عليك منهم ولا يفتنك هذا عن الاستمساك الكامل بحكم اللّه وشريعته. ولا تجعل إعراضهم يفت في عضدك أو يحولك عن موقفك .. فإنهم إنما يتولون ويعرضون لأن اللّه يريد أن يجزيهم على بعض ذنوبهم. فهم الذين سيصيبهم السوء بهذا الإعراض: لا أنت ولا شريعة(1/106)
اللّه ودينه ولا الصف المسلم المستمسك بدينه .. ثم إنها طبيعة البشر: «وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ» فهم يخرجون وينحرفون. لأنهم هكذا ولا حيلة لك في هذا الأمر، ولا ذنب للشريعة! ولا سبيل لاستقامتهم على الطريق! وبذلك يغلق كل منافذ الشيطان ومداخله إلى النفس المؤمنة ويأخذ الطريق على كل حجة وكل ذريعة لترك شيء من أحكام هذه الشريعة لغرض من الأغراض في ظرف من الظروف ..
ثم يقفهم على مفرق الطريق .. فإنه إما حكم اللّه، وإما حكم الجاهلية. ولا وسط بين الطرفين ولا بديل، فحكم اللّه يقوم في الأرض، وشريعة اللّه تنفذ في حياة الناس، ومنهج اللّه يقود حياة البشر .. أو أنه حكم الجاهلية، وشريعة الهوى، ومنهج العبودية .. فأيهما يريدون؟ (1).
ولا يكونُ العبدُ مؤمناً حتى يتبعَها ويسلِّمَ لحكمها تسليماً تامًّا، قال تعالى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا} (65) سورة النساء.
إن الناس لا يؤمنون - ابتداء - إلا أن يتحاكموا إلى منهج اللّه ممثلا - في حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم - في أحكام الرسول. وباقيا بعده في مصدريه القرآن والسنة بالبداهة ولا يكفي أن يتحاكموا إليه - ليحسبوا مؤمنين - بل لا بد من أن يتلقوا حكمه مسلمين راضين: «فَلا وَرَبِّكَ .. لا يُؤْمِنُونَ .. حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ، ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً» .. فهذا هو شرط الإيمان وحد الإسلام.
ويقول لها: إن الذين يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت - أي إلى غير شريعة اللّه - لا يقبل منهم زعمهم أنهم آمنوا بما أنزل إلى الرسول وما أنزل من قبله. فهو زعم كاذب. يكذبه أنّهم يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت: «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ، يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ - وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ - وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيداً».
__________
(1) - في ظلال القرآن للسيد قطب - ت- علي بن نايف الشحود [ص 1287](1/107)
ويقول لها: إن علامة النفاق أن يصدوا عن التحاكم إلى ما أنزل اللّه والتحاكم إلى رسول اللّه: «وَإِذا قِيلَ لَهُمْ: تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ، رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً».
ويقول لها: إن منهجها الإيماني ونظامها الأساسي، أن تطيع اللّه - عز وجل - في هذا القرآن - وأن تطيع رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - في سنته - وأولي الأمر من المؤمنين الداخلين في شرط الإيمان وحد الإسلام معكم: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ، وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ. وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ» ..
ويقول لها: إن المرجع، فيما تختلف فيه وجهات النظر في المسائل الطارئة المتجددة، والأقضية التي لم ترد فيها أحكام نصية .. إن المرجع هو اللّه ورسوله .. أي شريعة اللّه وسنة رسوله: «فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شيء، فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ» ..
وبهذا يبقى المنهج الرباني مهيمنا على ما يطرأ على الحياة من مشكلات وأقضية كذلك، أبد الدهر، في حياة الأمة المسلمة .. وتمثل هذه القاعدة نظامها الأساسي، الذي لا تكون مؤمنة إلا به، ولا تكون مسلمة إلا بتحقيقه .. إذ هو يجعل الطاعة بشروطها تلك، ورد المسائل التي تجد وتختلف فيها وجهات النظر إلى اللّه ورسوله .. شرط الإيمان وحد الإسلام .. شرطا واضحا ونصا صريحا: «إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ» (1) ..
ومرة أخرى نجدنا أمام شرط الإيمان وحدّ الإسلام. يقرره اللّه سبحانه بنفسه. ويقسم عليه بذاته. فلا يبقى بعد ذلك قول لقائل في تحديد شرط الإيمان وحدّ الإسلام، ولا تأويل لمؤول.
اللهم إلا مماحكة لا تستحق الاحترام .. وهي أن هذا القول مرهون بزمان، وموقوف على طائفة من الناس! وهذا قول من لا يدرك من الإسلام شيئا ولا يفقه من التعبير القرآني قليلا ولا كثيرا. فهذه حقيقة كلية من حقائق الإسلام جاءت في صورة قسم مؤكد مطلقة من كل قيد .. وليس هناك مجال للوهم أو الإيهام بأن تحكيم رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - هو تحكيم شخصه. إنما هو تحكيم شريعته ومنهجه. وإلا لم يبق لشريعة اللّه وسنة
__________
(1) - في ظلال القرآن للسيد قطب - ت- علي بن نايف الشحود [ص 1026](1/108)
رسوله مكان بعد وفاته - صلى الله عليه وسلم - وذلك قول أشد المرتدين ارتدادا على عهد أبي بكر - رضي اللّه عنه - وهو الذي قاتلهم عليه قتال المرتدين: بل قاتلهم على ما هو دونه بكثير. وهو مجرد عدم الطاعة للّه ورسوله، في حكم الزكاة وعدم قبول حكم رسول اللّه فيها، بعد الوفاة!
وإذا كان يكفي لإثبات «الإسلام» أن يتحاكم الناس إلى شريعة اللّه وحكم رسوله .. فإنه لا يكفي في «الإيمان» هذا، ما لم يصحبه الرضى النفسي، والقبول القلبي، وإسلام القلب والجنان، في اطمئنان! هذا هو الإسلام .. وهذا هو الإيمان .. فلتنظر نفس أين هي من الإسلام وأين هي من الإيمان! قبل ادعاء الإسلام وادعاء الإيمان! (1).
6 - ونؤمنُ بأن َّالله قد اتخذَ محمداً - صلى الله عليه وسلم - خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً
فعَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ - رضى الله عنه - قَالَ خَطَبَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - النَّاسَ وَقَالَ «إِنَّ اللَّهَ خَيَّرَ عَبْدًا بَيْنَ الدُّنْيَا وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ فَاخْتَارَ ذَلِكَ الْعَبْدُ مَا عِنْدَ اللَّهِ».قَالَ فَبَكَى أَبُو بَكْرٍ، فَعَجِبْنَا لِبُكَائِهِ أَنْ يُخْبِرَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ عَبْدٍ خُيِّرَ. فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - هُوَ الْمُخَيَّرُ وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ أَعْلَمَنَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «إِنَّ مِنْ أَمَنِّ النَّاسِ عَلَىَّ فِى صُحْبَتِهِ وَمَالِهِ أَبَا بَكْرٍ، وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلاً غَيْرَ رَبِّى لاَتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ، وَلَكِنْ أُخُوَّةُ الإِسْلاَمِ وَمَوَدَّتُهُ، لاَ يَبْقَيَنَّ فِى الْمَسْجِدِ بَابٌ إِلاَّ سُدَّ، إِلاَّ بَابَ أَبِى بَكْرٍ» (أخرجه الشيخان) (2).
وبعثه رحمة للعالمين قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} (107) سورة الأنبياء
إن المنهج الذي جاء مع محمد - صلى الله عليه وسلم - منهج يسعد البشرية كلها ويقودها إلى الكمال المقدر لها في هذه الحياة.
__________
(1) - في ظلال القرآن للسيد قطب - ت- علي بن نايف الشحود [ص 1038]
(2) - البخارى برقم (3654) ومسلم برقم (6322) من طرق(1/109)
ولقد جاءت هذه الرسالة للبشرية حينما بلغت سن الرشد العقلي: جاءت كتابا مفتوحا للعقول في مقبل الأجيال، شاملا لأصول الحياة البشرية التي لا تتبدل، مستعدا لتلبية الحاجات المتجددة التي يعلمها خالق البشر، وهو أعلم بمن خلق، وهو اللطيف الخبير.
ولقد وضع هذا الكتاب أصول المنهج الدائم لحياة إنسانية متجددة. وترك للبشرية أن تستنبط الأحكام الجزئية التي تحتاج إليها ارتباطات حياتها النامية المتجددة، واستنباط وسائل تنفيذها كذلك بحسب ظروف الحياة وملابساتها، دون اصطدام بأصول المنهج الدائم.
وكفل للعقل البشري حرية العمل، بكفالة حقه في التفكير، وبكفالة مجتمع يسمح لهذا العقل بالتفكير.
ثم ترك له الحرية في دائرة الأصول المنهجية التي وضعها لحياة البشر، كيما تنمو وترقى وتصل إلى الكمال المقدر لحياة الناس في هذه الأرض.
ولقد دلت تجارب البشرية حتى اللحظة على أن ذلك المنهج كان وما يزال سابقا لخطوات البشرية في عمومه، قابلا لأن تنمو الحياة في ظلاله بكل ارتباطاتها نموا مطردا. وهو يقودها دائما، ولا يتخلف عنها، ولا يقعد بها، ولا يشدها إلى الخلف، لأنه سابق دائما على خطواتها متسع دائما لكامل خطواتها.
وهو في تلبيته لرغبة البشرية في النمو والتقدم لا يكبت طاقاتها في صورة من صور الكبت الفردي أو الجماعي، ولا يحرمها الاستمتاع بثمرات جهدها وطيبات الحياة التي تحققها.
وقيمة هذا المنهج أنه متوازن متناسق. لا يعذب الجسد ليسمو بالروح، ولا يهمل الروح ليستمتع الجسد.
ولا يقيد طاقات الفرد ورغائبه الفطرية السليمة ليحقق مصلحة الجماعة أو الدولة. ولا يطلق للفرد نزواته وشهواته الطاغية المنحرفة لتؤذي حياة الجماعة، أو تسخرها لإمتاع فرد أو أفراد.(1/110)
وكافة التكاليف التي يضعها ذلك المنهج على كاهل الإنسان ملحوظ فيها أنها في حدود طاقته، ولمصلحته وقد زود بالاستعدادات والمقدرات التي تعينه على أداء تلك التكاليف، وتجعلها محببة لديه - مهما لقي من أجلها الآلام أحيانا - لأنها تلبي رغيبة من رغائبه، أو تصرف طاقة من طاقاته.
ولقد كانت رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - رحمة لقومه ورحمة للبشرية كلها من بعده والمبادئ التي جاء بها كانت غريبة في أول الأمر على ضمير البشرية، لبعد ما كان بينها وبين واقع الحياة الواقعية والروحية من مسافة. ولكن البشرية أخذت من يومها تقرب شيئا فشيئا من آفاق هذه المبادئ. فتزول غرابتها في حسها، وتتبناها وتنفذها ولو تحت عنوانات أخرى.
لقد جاء الإسلام لينادي بإنسانية واحدة تذوب فيها الفوارق الجنسية والجغرافية. لتلتقي في عقيدة واحدة ونظام اجتماعي واحد .. وكان هذا غريبا على ضمير البشرية وتفكيرها وواقعها يومذاك. والأشراف يعدون أنفسهم من طينة غير طينة العبيد .. ولكن ها هي ذي البشرية في خلال نيف وثلاثة عشر قرنا تحاول أن تقفو خطى الإسلام، فتتعثر في الطريق، لأنها لا تهتدي بنور الإسلام الكامل. ولكنها تصل إلى شيء من ذلك المنهج - ولو في الدعاوى والأقوال - وإن كانت ما تزال أمم في أوربا وأمريكا تتمسك بالعنصرية البغيضة التي حاربها الإسلام منذ نيف وثلاث مائة وألف عام.
ولقد جاء الإسلام ليسوي بين جميع الناس أمام القضاء والقانون. في الوقت الذي كانت البشرية تفرق الناس طبقات، وتجعل لكل طبقة قانونا. بل تجعل إرادة السيد هي القانون في عهدي الرق والإقطاع .. فكان غريبا على ضمير البشرية يومذاك أن ينادي ذلك المنهج السابق المتقدم بمبدأ المساواة المطلقة أمام القضاء .. ولكن ها هي ذي شيئا فشيئا تحاول أن تصل - ولو نظريا - إلى شيء مما طبقة الإسلام عمليا منذ نيف وثلاث مائة وألف عام.(1/111)
وغير هذا وذلك كثير يشهد بأن الرسالة المحمدية كانت رحمة للبشرية وأن محمدا - صلى الله عليه وسلم - إنما أرسل رحمة للعالمين. من آمن به ومن لم يؤمن به على السواء. فالبشرية كلها قد تأثرت بالمنهج الذي جاء به طائعة أو كارهة، شاعرة أو غير شاعرة وما تزال ظلال هذه الرحمة وارفة، لمن يريد أن يستظل بها، ويستروح فيها نسائم السماء الرخية، في هجير الأرض المحرق وبخاصة في هذه الأيام.
وإن البشرية اليوم لفي أشد الحاجة إلى حس هذه الرحمة ونداها. وهي قلقة حائرة، شاردة في متاهات المادية، وجحيم الحروب، وجفاف الأرواح والقلوب .. (1)
وأمره وأمر أمته بالتأسِّي بملة ِإبراهيم فقال: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (123) سورة النحل،وقال سبحانه: (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ {4} رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ {5} لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ {6}) [الممتحنة:4].
فنتأسَّى بذلك إلى أن نلقَى الله، ونبرأُ من المشركين وأنصارهِم وأوليائهِم، ونبغضُهُم ونبرأُ مما يعبدونَ من دون الله، ونبرأُ منَ الأشياءَ الباطلةِ المخالفةِ لدين اللهِ، ونظهرُ عداوتنَا للمحادّينَ لله ورسوله ِ منهم، المحاربينَ للحقِّ، المجاهرينَ بباطلهِم، ولا يمنعُنا ذلك من دعوتهِم وبيانِ الحقِّ لمن أرادَ سماعَه منهم، وتمنِّي هدايتهِم. قال تعالى: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ {22} سورة المجادلة
__________
(1) - في ظلال القرآن للسيد قطب - ت- علي بن نايف الشحود [ص 3096](1/112)
إنها المفاصلة الكاملة بين حزب اللّه وحزب الشيطان، والانحياز النهائي للصف المتميز، والتجرد من كل عائق وكل جاذب، والارتباط في العروة الواحدة بالحبل الواحد. «لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ» .. فما جعل اللّه لرجل من قلبين في جوفه، وما يجمع إنسان في قلب واحد ودّين: ودّا للّه ورسوله وودا لأعداء اللّه ورسوله! فإما إيمان أو لا إيمان. أما هما معا فلا يجتمعان.
«وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ» .. فروابط الدم والقرابة هذه تتقطع عند حد الإيمان. إنها يمكن أن ترعى إذا لم تكن هناك محادة وخصومة بين اللوائين: لواء اللّه ولواء الشيطان. والصحبة بالمعروف للوالدين المشركين مأمور بها حين لا تكون هناك حرب بين حزب اللّه وحزب الشيطان. فأما إذا كانت المحادة والمشاقة والحرب والخصومة فقد تقطعت تلك الأواصر التي لا ترتبط بالعروة الواحدة وبالحبل الواحد. ولقد قتل أبو عبيدة أباه في يوم بدر. وهم الصديق أبو بكر بقتل ولده عبد الرحمن. وقتل مصعب بن عمير أخاه عبيد بن عمير. وقتل عمر وحمزة وعلي وعبيدة والحارث أقرباءهم وعشيرتهم. متجردين من علائق الدم والقرابة إلى آصرة الدين والعقيدة. وكان هذا أبلغ ما ارتقى إليه تصور الروابط والقيم في ميزان اللّه.
«أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ» .. فهو مثبت في قلوبهم بيد اللّه مكتوب في صدورهم بيمين الرحمن. فلا زوال له ولا اندثار، ولا انطماس فيه ولا غموض! «وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ» ..
وما يمكن أن يعزموا هذه العزمة إلا بروح من اللّه. وما يمكن أن تشرق قلوبهم بهذا النور إلا بهذا الروح الذي يمدهم بالقوة والإشراق، ويصلهم بمصدر القوة والإشراق.
«وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها» .. جزاء ما تجردوا في الأرض من كل رابطة وآصرة ونفضوا عن قلوبهم كل عرض من أعراضها الفانية.
«رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ» .. وهذه صورة وضيئة راضية مطمئنة، ترسم حالة المؤمنين هؤلاء، في مقام عال رفيع. وفي جو راض وديع .. ربهم راض عنهم وهم راضون(1/113)
عن ربهم. انقطعوا عن كل شيء ووصلوا أنفسهم به فتقبلهم في كنفه، وأفسح لهم في جنابه، وأشعرهم برضاه. فرضوا. رضيت نفوسهم هذا القرب وأنست به واطمأنت إليه.
«أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ» .. فهم جماعته. المتجمعة تحت لوائه. المتحركة بقيادته. المهتدية بهديه. المحققة لمنهجه. الفاعلة في الأرض ما قدره وقضاه. فهي قدر من قدر اللّه.
«أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ».ومن يفلح إذن إذا لم يفلح أنصار اللّه المختارون؟
وهكذا تنقسم البشرية إلى حزبين اثنين: حزب اللّه وحزب الشيطان. وإلى رايتين اثنتين: راية الحق وراية الباطل. فإما أن يكون الفرد من حزب اللّه فهو واقف تحت راية الحق، وإما أن يكون من حزب الشيطان فهو واقف تحت راية الباطل .. وهما صفان متميزان لا يختلطان ولا يتميعان!! لا نسب ولا صهر، ولا أهل ولا قرابة، ولا وطن ولا جنس، ولا عصبية ولا قومية .. إنما هي العقيدة، والعقيدة وحدها. فمن انحاز إلى حزب اللّه ووقف تحت راية الحق فهو وجميع الواقفين تحت هذه الراية إخوة في اللّه. تختلف ألوانهم وتختلف أوطانهم، وتختلف عشائرهم وتختلف أسرهم، ولكنهم يلتقون في الرابطة التي تؤلف حزب اللّه، فتذوب الفوارق كلها تحت الراية الواحدة. ومن استحوذ عليه الشيطان فوقف تحت راية الباطل، فلن تربطه بأحد من حزب اللّه رابطة. لا من أرض، ولا من جنس، ولا من وطن ولا من لون، ولا من عشيرة ولا من نسب ولا من صهر .. لقد أنبتت الوشيجة الأولى التي تقوم عليها هذه الوشائج فانبتت هذه الوشائج جميعا ..
ومع إيحاء هذه الآية بأنه كان هناك في الجماعة المسلمة من تشده أواصر الدم والقرابة وجواذب المصلحة والصداقة، مما تعالجه هذه الآية في النفوس، وهي تضع ميزان الإيمان بهذا الحسم الجازم، والمفاضلة القاطعة .. إلا أنها في الوقت ذاته ترسم صورة لطائفة كانت قائمة كذلك في الجماعة المسلمة، ممن تجردوا وخلصوا ووصلوا إلى ذلك المقام.
وهذه الصورة هي أنسب ختام للسورة التي بدأت بتصوير رعاية اللّه وعنايته بهذه الأمة في واقعة المرأة الفقيرة التي سمع اللّه لها وهي تجادل رسوله - صلى الله عليه وسلم - في شأنها وشأن زوجها! فالانقطاع للّه الذي يرعى هذه الأمة مثل هذه الرعاية هو الاستجابة(1/114)
الطبيعية. والمفاصلة بين حزب اللّه وحزب الشيطان هي الأمر الذي لا ينبغي غيره للأمة التي اختارها اللّه للدور الكوني الذي كلفها إياه. (1)
إن الوشيجة التي يتجمع عليها الناس في هذا الدين وشيجة فريدة تتميز بها طبيعة هذا الدين، وتتعلق بآفاق وآماد وأبعاد وأهداف يختص بها ذلك المنهج الرباني الكريم.
إن هذه الوشيجة ليست وشيجة الدم والنسب وليست وشيجة الأرض والوطن، وليست وشيجة القوم والعشيرة، وليست وشيجة اللون واللغة، وليست وشيجة الجنس والعنصر، وليست وشيجة الحرفة والطبقة ..
إن هذه الوشائج جميعها قد توجد ثم تنقطع العلاقة بين الفرد والفرد كما قال اللّه سبحانه وتعالى لعبده نوح - عليه السلام - وهو يقول: «رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي» .. «يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ» ثم بين له لماذا يكون ابنه .. ليس من أهله .. «إنه عمل غير صالح» .. إن وشيجة الإيمان قد انقطعت بينكما يا نوح: «فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ» فأنت تحسب أنه من أهلك، ولكن هذا الحسبان خاطئ. أما المعلوم المستيقن فهو أنه ليس من أهلك، ولو كان هو ابنك من صلبك!
وهذا هو المعلم الواضح البارز على مفرق الطريق بين نظرة هذا الدين إلى الوشائج والروابط، وبين نظرات الجاهلية المتفرقة .. إن الجاهليات تجعل الرابطة آنا هي الدم والنسب وآنا هي الأرض والوطن، وآنا هي القوم والعشيرة، وآنا هي اللون واللغة، وآنا هي الجنس والعنصر، وآنا هي الحرفة والطبقة! تجعلها آنا هي المصالح المشتركة، أو التاريخ المشترك. أو المصير المشترك .. وكلها تصورات جاهلية - على تفرقها أو تجمعها - تخالف مخالفة أصيلة عميقة عن أصل التصور الإسلامي! والمنهج الرباني القويم - ممثلا في هذا القرآن الذي يهدي للتي هي أقوم وفي توجيهات الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهي من هذا القرآن وعلى نسقه واتجاهه - قد أخذ الأمة المسلمة بالتربية على ذلك الأصل الكبير .. والمعلم الواضح البارز في مفرق الطريق .. وهذا المثل الذي يضربه في هذه السورة من
__________
(1) - في ظلال القرآن للسيد قطب - ت- علي بن نايف الشحود [ص 4380](1/115)
نوح وابنه فيما يكون بين الوالد والولد، ضرب أمثاله لشتى الوشائج والروابط الجاهلية الأخرى، ليقرر من وراء هذه الأمثال حقيقة الوشيجة الوحيدة التي يعتبرها ..
ضرب لها المثل فيما يكون بين الولد والوالد وذلك فيما كان بين إبراهيم - عليه السلام - وأبيه وقومه كذلك: «وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ، إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا. إِذْ قالَ لِأَبِيهِ: يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً؟ يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ، فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا. يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ، إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا. يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا .. قالَ: أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ؟ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ! وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا. قالَ: سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي، إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا، وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُوا رَبِّي، عَسى أَلَّا أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا. فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنا نَبِيًّا وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا، وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا» ... (مريم:41 - 50).
وضرب لها المثل فيما كان بين إبراهيم وذريته كما علمه اللّه سبحانه ولقنه، وهو يعطيه عهده وميثاقه.
ويبشره ببقاء ذكره وامتداد الرسالة في عقبه: «وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ، فَأَتَمَّهُنَّ، قالَ: إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً، قالَ: وَمِنْ ذُرِّيَّتِي؟ قالَ: لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ .. »
«وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ: رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ - مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ. قالَ: وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ» .. (البقرة:124 - 126) وضرب لها المثل فيما يكون بين الزوج وزوجه، وذلك فيما كان بين نوح وامرأته، ولوط وامرأته.
وفي الجانب الآخر ما كان بين امرأة فرعون وفرعون: «ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ، كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ، فَخانَتاهُما، فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللَّهِ شَيْئاً، وَقِيلَ: ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ» ...(1/116)
«وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ، إِذْ قالَتْ: رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ، وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ، وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ» ... (التحريم:10 - 11) وضرب لها المثل فيما يكون بين المؤمنين وأهلهم وقومهم ووطنهم وأرضهم وديارهم وأموالهم، ومصالحهم وماضيهم ومصيرهم. وذلك فيما كان بين إبراهيم والمؤمنين به مع قومهم. وما كان من الفتية أصحاب الكهف مع أهلهم وقومهم ودورهم وأرضهم ...
«قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ، إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ: إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، كَفَرْنا بِكُمْ وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ ... » .. (الممتحنة:4).
«أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً؟ إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقالُوا: رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً، فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً. ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً. نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ، إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً، وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقالُوا: رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً. هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً. لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ! فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً؟ وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ - إِلَّا اللَّهَ - فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ، وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقاً» ... (الكهف:9 - 16).
وبهذه الأمثلة التي ضربها اللّه للأمة المسلمة من سيرة الرهط الكريم من الأنبياء والمؤمنين. الذين سبقوها في موكب الإيمان الضارب في شعاب الزمان، وضحت معالم الطريق لهذه الأمة وقام هذا المعلم البارز أمامها عن حقيقة الوشيجة التي يجب أن يقوم عليها المجتمع المسلم، ولا يقوم على سواها. وطالبها ربها بالاستقامة على الطريق في حسم ووضوح يتمثلان في مواقف كثيرة، وفي توجيهات من القرآن كثيرة
هذه نماذج منها ..
«لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ - وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ - أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ(1/117)
بِرُوحٍ مِنْهُ، وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ، أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ، أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» ... (المجادلة:22) «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ، وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ، يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ، إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي، تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ، وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ» ... (الممتحنة:1) «لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ، يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ، وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ. قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ ... إلخ» .. (الممتحنة:3 - 4) «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ، وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ» ... (التوبة:23). «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ، بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ، وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ، إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ» ... (المائدة:51).
وهكذا تقررت تلك القاعدة الأصيلة الحاسمة في علاقات المجتمع الإسلامي وفي طبيعة بنائه وتكوينه العضوي الذي يتميز به عن سائر المجتمعات الجاهلية قديما وحديثا إلى آخر الزمان. ولم يعد هناك مجال للجمع بين «الإسلام» وبين إقامة المجتمع على أية قاعدة أخرى غير القاعدة التي اختارها اللّه للأمة المختارة. والذين يدعون صفة الإسلام، ثم يقيمون مجتمعاتهم على قاعدة أو أكثر من تلك العلاقات الجاهلية التي أحل الإسلام محلها قاعدة العقيدة، إما أنهم لا يعرفون الإسلام وإما أنهم يرفضونه. والإسلام في كلتا الحالتين لا يعترف لهم بتلك الصفة التي يدعونها لأنفسهم وهم لا يطبقونها، بل يختارون غيرها من مقومات الجاهلية فعلا! وندع هذه القاعدة - وقد صارت واضحة تماما - لننظر في جوانب من حكمة اللّه في إقامة المجتمع الإسلامي على هذه القاعدة ..
إن العقيدة تمثل أعلى خصائص «الإنسان» التي تفرقه من عالم البهيمة لأنها تتعلق بالعنصر الزائد في تركيبه وكينونته عن تركيب البهيمة وكينونتها - وهو العنصر الروحي الذي به صار هذا المخلوق إنسانا في هذه الصورة - وحتى أشد الملحدين(1/118)
إلحادا وأكثر الماديين مادية، قد انتبهوا أخيرا إلى أن العقيدة خاصة من خواص الإنسان تفرقه فرقا أساسيا عن الحيوان (1).
ومن ثم ينبغي أن تكون العقيدة - في المجتمع الإنساني الذي يبلغ ذروة الحضارة الإنسانية - هي آصرة التجمع. لأنها العنصر الذي يتعلق بأخص خصائص الإنسان المميزة له عن البهائم. ولا تكون آصرة التجمع عنصرا يتعلق بشيء يشترك فيه الإنسان مع البهائم! من مثل الأرض والمرعى والمصالح والحدود التي تمثل خواص الحظيرة، وسياج الحظيرة! ولا تكون كذلك هي الدم والنسب والعشيرة والقوم والجنس والعنصر واللون واللغة .. فكلها مما يشترك فيه الإنسان مع البهيمة. وليس هناك إلا شؤون العقل والقلب التي يختص بها الإنسان دون البهيمة!
كذلك تتعلق العقيدة بعنصر آخر يتميز به الإنسان عن البهائم .. هو عنصر الاختيار والإرادة، فكل فرد على حدة يملك أن يختار عقيدته بمجرد أن يبلغ سن الرشد وبذلك يقرر نوع المجتمع الذي يريد أن يعيش فيه مختارا ونوع المنهج الاعتقادي والاجتماعي والسياسي والاقتصادي والخلقي الذي يريد - بكامل حريته - أن يتمذهب به ويعيش.
ولكن هذا الفرد لا يملك أن يقرر دمه ونسبه ولونه وقومه وجنسه. كما لا يملك أن يقرر الأرض التي يحب أن يولد فيها، ولغة الأم التي يريد أن ينشأ عليها .. إلى آخر تلك المقومات التي تقام عليها مجتمعات الجاهلية! .. إن هذه الأمور كلها يقضى فيها قبل مجيئه إلى هذه الأرض، ولا يؤخذ له فيها مشورة ولا رأي إنما هي تفرض عليه فرضا سواء أحب أم كره! فإذا تعلق مصيره في الدنيا والآخرة معا - أو حتى في الدنيا وحدها - بمثل هذه المقومات التي تفرض عليه فرضا لم يكن مختارا ولا مريدا وبذلك تسلب إنسانيته مقوما من أخص مقوماتها وتهدر قاعدة أساسية من قواعد تكريم الإنسان بل من قواعد تركيبه وتكوينه الإنساني المميز له من سائر الخلائق! ومن أجل المحافظة على خصائص الإنسان الذاتية، والمحافظة على الكرامة التي وهبها اللّه له متمشية مع تلك الخصائص يجعل الإسلام العقيدة - التي يملك كل فرد اختيارها بشخصه منذ أن يبلغ
__________
(1) - من هؤلاء جوليان هاكسلي من علماء الداروينية الحديثة! (السيد رحمه الله)(1/119)
سن الرشد - هي الآصرة التي يقوم عليها التجمع الإنساني في المجتمع الإسلامي والتي يتقرر على أساسها مصير كل فرد بإرادته الذاتية. وينفي أن تكون تلك العوامل الاضطرارية، التي لا يدله فيها، ولا يملك كذلك تغييرها باختياره، هي آصرة التجمع التي تقرر مصيره طول حياته.
ومن شأن قيام المجتمع على آصرة العقيدة - وعدم قيامه على العوامل الاضطرارية الأخرى - أن ينشىء مجتمعا إنسانيا عالميا مفتوحا يجيء إليه الأفراد من شتى الأجناس والألوان واللغات والأقوام والدماء والأنساب والديار والأوطان بكامل حريتهم واختيارهم الذاتي لا يصدهم عنه صاد، ولا يقوم في وجوههم حاجز، ولا تقف دونه حدود مصطنعة، خارجة عن خصائص الإنسان العليا. وأن تصب في هذا المجتمع كل الطاقات والخواص البشرية، وتجتمع في صعيد واحد، لتنشئ «حضارة إنسانية» تنتفع بكل خصائص الأجناس البشرية ولا تغلق دون كفاية واحدة، بسبب من اللون أو العنصر أو النسب والأرض ..
«ولقد كان من النتائج الواقعية الباهرة للمنهج الإسلامي في هذه القضية ولإقامة التجمع الإسلامي على آصرة العقيدة وحدها، دون أواصر الجنس والأرض واللون واللغة والمصالح الأرضية القريبة، والحدود الإقليمية السخيفة!
ولإبراز «خصائص الإنسان» في هذا التجمع وتنميتها وإعلائها، دون الصفات المشتركة بينه وبين الحيوان .. كان من النتائج الواقعية الباهرة لهذا المنهج أن أصبح المجتمع المسلم مجتمعا مفتوحا لجميع الأجناس والألوان واللغات، بلا عائق من هذه العوائق الحيوانية السخيفة! وأن صبت في بوتقة المجتمع الإسلامي خصائص الأجناس البشرية وكفاياتها، وانصهرت في هذه البوتقة وتمازجت، وأنشأت مركبا عضويا فائقا في فترة تعد نسبيا قصيرة. وصنعت هذه الكتلة العجيبة المتجانسة المتناسقة حضارة رائعة ضخمة، تحوي خلاصة الطاقة البشرية في زمانها مجتمعة، على بعد المسافات وبطء طرق الاتصال في ذلك الزمان. «لقد اجتمع في المجتمع الإسلامي المتفوق: العربي والفارسي والشامي والمصري والمغربي والتركي والصيني والهندي والروماني والإغريقي(1/120)
والأندونيسي والإفريقي ... إلى آخر الأقوام والأجناس .. وتجمعت خصائصهم كلها لتعمل متمازجة متعاونة متناسقة في بناء المجتمع الإسلامي والحضارة الإسلامية. ولم تكن هذه الحضارة الضخمة يوما ما «عربية» إنما كانت دائما «إسلامية» ولم تكن يوما ما «قومية» إنما كانت دائما «عقدية».
«ولقد اجتمعوا كلهم على قدم المساواة، وبآصرة الحب. وبشعور التطلع إلى وجهة واحدة. فبذلوا جميعا أقصى كفاياتهم، وأبرزوا أعمق خصائص أجناسهم، وصبوا خلاصة تجاربهم الشخصية والقومية والتاريخية في بناء هذا المجتمع الواحد الذي ينتسبون إليه جميعا على قدم المساواة، وتجمع فيه بينهم آصرة تتعلق بربهم الواحد، وتبرز فيها إنسانيتهم وحدها بلا عائق. وهذا ما لم يجتمع قط لأي تجمع آخر على مدار التاريخ! «لقد كان أشهر تجمع بشري في التاريخ القديم هو تجمع الإمبراطورية الرومانية مثلا. فقد جمعت بالفعل أجناسا متعددة، ولغات متعددة، وألوانا متعددة، وأمزجة متعددة. ولكن هذا كله لم يقم على «آصرة إنسانية» ولم يتمثل في قيمة عليا كالعقيدة .. لقد كان هناك تجمع طبقي على أساس طبقة الأشراف وطبقة العبيد في الإمبراطورية كلها من ناحية وتجمع عنصري على أساس سيادة الجنس الروماني - بصفة عامة - وعبودية سائر الأجناس الأخرى. ومن ثم لم يرتفع قط إلى أفق التجمع الإسلامي ولم يؤت الثمار التي آتاها التجمع الإسلامي.
«كذلك قامت في التاريخ الحديث تجمعات أخرى .. تجمع الإمبراطورية البريطانية مثلا .. ولكنه كان كالتجمع الروماني، الذي هو وريثه! تجمعا قوميا استغلاليا، يقوم على أساس سيادة القومية الإنجليزية، واستغلال المستعمرات التي تضمها الإمبراطورية .. ومثله الإمبراطوريات الأوربية كلها .. الإمبراطورية الأسبانية والبرتغالية في وقت ما، والإمبراطورية الفرنسية .. كلها في ذلك المستوي الهابط البشع المقيت! وأرادت الشيوعية أن تقيم تجمعا من نوع آخر، يتخطى حواجز الجنس والقوم والأرض واللغة واللون.(1/121)
ولكنها لم تقمه على قاعدة «إنسانية» عامة، إنما أقامته على القاعدة «الطبقية».فكان هذا التجمع هو الوجه الآخر للتجمع الروماني القديم .. هذا تجمع على قاعدة طبقة «الأشراف» وذلك تجمع على قاعدة طبقة «الصعاليك» (البروليتريا) والعاطفة التي تسوده هي عاطفة الحقد الأسود على سائر الطبقات الأخرى! وما كان لمثل هذا التجمع الصغير البغيض أن يثمر إلا أسوأ ما في الكائن الإنساني .. فهو ابتداء قائم على أساس إبراز الصفات الحيوانية وحدها وتنميتها وتمكينها. باعتبار أن «المطالب الأساسية» للإنسان هي «الطعام والمسكن والجنس» - وهي مطالب الحيوان الأولية - وباعتبار أن تاريخ الإنسان هو تاريخ البحث عن الطعام!!
«لقد تفرد الإسلام بمنهجه الرباني في إبراز أخص خصائص الإنسان وتنميتها وإعلائها في بناء المجتمع الإنساني .. وما يزال متفردا .. والذين يعدلون عنه إلى أي منهج آخر، يقوم على أية قاعدة أخرى، من القوم أو الجنس أو الأرض أو الطبقة .. إلى آخر هذا النتن السخيف، هم أعداء «الإنسان» حقا! هم الذين لا يريدون لهذا الإنسان أن يتفرد في هذا الكون بخصائصه العليا كما فطره اللّه ولا يريدون لمجتمعه أن ينتفع بأقصى كفايات أجناسه وخصائصها وتجاربها في امتزاج وتناسق» (1) ..
ويحسن أن نذكر أن أعداء هذا الدين، الذين يعرفون مواضع القوة في طبيعته وحركته وهم الذين يقول اللّه تعالى فيهم: «الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ» .. لم يفتهم أن يدركوا أن التجمع على أساس العقيدة سر من أسرار قوة هذا الدين، وقوة المجتمع الإسلامي الذي يقوم على هذا الأساس ..
ولما كانوا بصدد هدم ذلك المجتمع أو إضعافه إلى الحد الذي يسهل عليهم السيطرة عليه وشفاء ما في صدورهم من هذا الدين وأهله ولاستغلالهم كذلك واستغلال مقدراتهم وديارهم وأموالهم .. لما كانوا بصدد تلك المعركة مع هذا المجتمع لم يفتهم أن يوهنوا من
__________
(1) - مقتطفات من فصل: «نشأة المجتمع المسلم وخصائصه» من كتاب: «معالم في الطريق». «دار الشروق». (السيد رحمه الله)(1/122)
القاعدة التي يقوم عليها وأن يقيموا لأهله المجتمعين على إله واحد، أصناما تعبد من دون اللّه، اسمها تارة «الوطن» واسمها تارة «القوم» واسمها تارة «الجنس».
وظهرت هذه الأصنام على مراحل التاريخ تارة باسم «الشعوبية» وتارة باسم «الجنسية الطورانية» وتارة باسم «القومية العربية» وتارة بأسماء شتى، تحملها جبهات شتى، تتصارع فيما بينها في داخل المجتمع الإسلامي الواحد القائم على أساس العقيدة، المنظم بأحكام الشريعة ... إلى أن وهنت القاعدة الأساسية تحت المطارق المتوالية، وتحت الإيحاءات الخبيثة المسمومة وإلى أن أصبحت تلك «الأصنام» مقدسات يعتبر المنكر لها خارجا على دين قومه! أو خائنا لمصالح بلده!!! وأخبث المعسكرات التي عملت وما زالت تعمل في تخريب القاعدة الصلبة التي كان يقوم عليها التجمع الإسلامي الفريد في التاريخ .. كان هو المعسكر اليهودي الخبيث، الذي جرب سلاح «القومية» في تحطيم التجمع المسيحي، وتحويله إلى قوميات سياسية ذات كنائس قومية .. وبذلك حطموا الحصار المسيحي حول الجنس اليهودي ثم ثنوا بتحطيم الحصار الإسلامي حول ذلك الجنس الكنود! وكذلك فعل الصليبيون مع المجتمع الإسلامي - بعد جهد قرون كثيرة في إثارة النعرات الجنسية والقومية والوطنية بين الأجناس الملتحمة في المجتمع الإسلامي .. ومن ثم استطاعوا أن يرضوا أحقادهم الصليبية القديمة على هذا الدين وأهله. كما استطاعوا أن يمزقوهم ويروضوهم على الاستعمار الأوربي الصليبي. وما يزالون.
حتى يأذن اللّه بتحطيم تلك الأصنام الخبيثة الملعونة ليقوم التجمع الإسلامي من جديد، على أساسه المتين الفريد ..
وأخيرا فإن الناس ما كانوا ليخرجوا من الجاهلية الوثنية بكلياتهم حتى تكون العقيدة وحدها هي قاعدة تجمعهم. ذلك أن الدينونة للّه وحده لا تتم تمامها إلا بقيام هذه القاعدة في تصورهم وفي تجمعهم.(1/123)
يجب أن تكون هناك قداسة واحدة لمقدس واحد، وألا تتعدد «المقدسات»! ويجب أن يكون هناك شعار واحد، وألا تتعدد «الشعارات» ويجب أن تكون هناك قبلة واحدة يتجه إليها الناس بكلياتهم وألا تتعدد القبلات والمتجهات ..
إن الوثنية ليست صورة واحدة هي وثنية الأصنام الحجرية والآلهة الأسطورية! إن الوثنية يمكن أن تتمثل في صور شتى كما أن الأصنام يمكن أن تتخذ صورا متعددة وآلهة الأساطير يمكن أن تتمثل مرة أخرى في المقدسات والمعبودات من دون اللّه أيا كانت أسماؤها. وأيا كانت مراسمها.
وما كان الإسلام ليخلص الناس من الأصنام الحجرية والأرباب الأسطورية، ثم يرضى لهم بعد ذلك أصنام الجنسيات والقوميات والأوطان .. وما إليها .. يتقاتل الناس تحت راياتها وشعاراتها. وهو يدعوهم إلى اللّه وحده، وإلى الدينونة له دون شيء من خلقه!
لذلك قسم الإسلام الناس إلى أمتين اثنتين على مدار التاريخ البشري .. أمة المسلمين من أتباع الرسل - كل في زمانه حتى يأتي الرسول الأخير إلى الناس كافة - وأمة غير المسلمين من عبدة الطواغيت والأصنام في شتى الصور والأشكال على مدار القرون ..
وعند ما أراد اللّه أن يعرف المسلمين بأمتهم التي تجمعهم على مدار القرون، عرفها لهم في صورة أتباع الرسل - كل في زمانه - وقال لهم في نهاية استعراض أجيال هذه الأمة: «إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ» .. ولم يقل للعرب: إن أمتكم هي الأمة العربية في جاهليتها وإسلامها سواء! ولا قال لليهود: إن أمتكم هي بنو إسرائيل أو العبرانيون في جاهليتهم وإسلامهم سواء! ولا قال لسلمان الفارسي: إن أمتك هي فارس! ولا لصهيب الرومي: إن أمتك هي الرومان! ولا لبلال الحبشي: إن أمتك هي الحبشة! إنما قال للمسلمين من العرب والفرس والروم والحبش: إن أمتكم هي المسلمون الذين أسلموا حقا على أيام موسى وهارون، وإبراهيم، ولوط، ونوح، وداود وسليمان، وأيوب، وإسماعيل وإدريس وذي الكفل وذي النون، وزكريا ويحيى، ومريم .. كما جاء في سورة الأنبياء: (آيات:48 - 91).(1/124)
هذه هي أمة «المسلمين» في تعريف اللّه سبحانه .. فمن شاء له طريقا غير طريق اللّه فليسلكه. ولكن ليقل: إنه ليس من المسلمين!
أما نحن الذين أسلمنا للّه، فلا نعرف لنا أمة إلا الأمة التي عرفها لنا اللّه. واللّه يقص الحق وهو خير الفاصلين .. (1)
وأنَّ الله تعالى أرسلهم لإقامة الحجة على البشر
قال تعالى: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء: 165]
يَقُولُ تَعَالَى: إنَّهُ أَرْسَلَ الرُّسُلَ يُبَشِّرُونَ مَنْ أَطَاعَ اللهَ، وَاتَّبَعَ رِضْوَانَهُ بِالخَيْرَاتِ وَحُسْنِ الثَّوَابِ، وَيُنْذِرُونَ، بِالعِقَابِ وَالعَذَابِ، مَنْ خَالَفَ أَمْرَهُ، وَكَذَّبَ رُسُلَهُ، وَذَلِكَ لِكَيْلا يَبْقَى لِمُعْتَذِرٍ عُذْرٌ، بَعْدَ أنْ أَوْضَحَتِ الرُّسُلُ لِلْنَّاسِ أوَامِرَ اللهِ وَنَوَاهِيهِ، وَالجَزَاءُ لاَ يَكُونُ إلاَّ لِمَنْ بَلَغَتْهُ الدَّعْوَةُ عَلَى الوَجْهِ الصَّحِيحِ. وَكَانَ اللهُ عَزيزَ الجَانِبِ لا يُضَامُ، حَكِيماً فِي شَرْعِهِ وَتَدْبِيرِهِ. (2)
إن مصائر البشرية كلها في الدنيا وفي الآخرة سواء، منوطة بالرسل وبأتباعهم من بعدهم. فعلى أساس تبليغهم هذا الأمر للبشر، تقوم سعادة هؤلاء البشر أو شقوتهم، ويترتب ثوابهم أو عقابهم .. في الدنيا والآخرة.
إنه أمر هائل عظيم .. ولكنه كذلك .. ومن ثم كان الرسل - صلوات اللّه عليهم - يحسون بجسامة ما يكلفون. وكان اللّه - سبحانه - يبصرهم بحقيقة العبء الذي ينوطه بهم .. وهذا هو الذي يقول اللّه عنه لنبيه: «إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا» .. ويعلمه كيف يتهيأ له ويستعد: «يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا. نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا. أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا .. إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا» .. «إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا. فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً. وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً
__________
(1) - في ظلال القرآن للسيد قطب - ت- علي بن نايف الشحود [ص 2512]
(2) - أيسر التفاسير لأسعد حومد [ص 658](1/125)
وَأَصِيلًا. وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا» .. وهذا هو الذي يشعر به نبيه - صلى الله عليه وسلم - وهو يأمره أن يقول وأن يستشعر حقيقة ما يقول: «قُلْ: إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ، وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً .. إِلَّا بَلاغاً مِنَ اللَّهِ وَرِسالاتِهِ» .. «عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً، إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ، فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً .. لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ. وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً» ..
إنه الأمر الهائل العظيم .. أمر رقاب الناس .. أمر حياتهم ومماتهم .. أمر سعادتهم وشقائهم .. أمر ثوابهم وعقابهم .. أمر هذه البشرية، التي إما أن تبلغ إليها الرسالة فتقبلها وتتبعها فتسعد في الدنيا والآخرة. وإما أن تبلغ إليها فترفضها وتنبذها فتشقى في الدنيا والآخرة. وإما ألا تبلغ إليها فتكون لها حجة على ربها، وتكون تبعة شقائها في الدنيا وضلالها معلقة بعنق من كلف التبليغ فلم يبلغ! فأما رسل اللّه - عليهم الصلاة والسلام - فقد أدوا الأمانة وبلغوا الرسالة، ومضوا إلى ربهم خالصين من هذا الالتزام الثقيل .. وهم لم يبلغوها دعوة باللسان، ولكن بلغوها - مع هذا - قدوة ممثلة في العمل، وجهادا مضنيا بالليل والنهار لإزالة العقبات والعوائق .. سواء كانت هذه العقبات والعوائق شبهات تحاك، وضلالات تزين، أو كانت قوى طاغية تصد الناس عن الدعوة وتفتنهم في الدين. كما صنع رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - خاتم النبيين. بما أنه المبلغ الأخير. وبما أن رسالته هي خاتمة الرسالات. فلم يكتف بإزالة العوائق باللسان. إنما أزالها كذلك بالسنان «حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ» ..
وبقي الواجب الثقيل على من بعده .. على المؤمنين برسالته .. فهناك أجيال وراء أجيال جاءت وتجيء بعده - صلى الله عليه وسلم - وتبليغ هذه الأجيال منوط - بعده - بأتباعه. ولا فكاك لهم من التبعة الثقيلة - تبعة إقامة حجة اللّه على الناس وتبعة استنقاذ الناس من عذاب الآخرة وشقوة الدنيا - إلا بالتبليغ والأداء .. على ذات المنهج الذي بلغ به رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - وأدى .. فالرسالة هي الرسالة والناس هم الناس ..(1/126)
وهناك ضلالات وأهواء وشبهات وشهوات .. وهناك قوى عاتية طاغية تقوم دون الناس ودون الدعوة وتفتنهم كذلك عن دينهم بالتضليل وبالقوة .. الموقف هو الموقف والعقبات هي العقبات، والناس هم الناس.
ولا بد من بلاغ، ولا بد من أداء. بلاغ بالبيان. وبلاغ بالعمل حتى يكون المبلغون ترجمة حية واقعة مما يبلغون. وبلاغ بإزالة العقبات التي تعترض طريق الدعوة وتفتن الناس بالباطل وبالقوة .. وإلا فلا بلاغ ولا أداء ..
إنه الأمر المفروض الذي لا حيلة في النكوص عن حمله .. وإلا فهي التبعة الثقيلة. تبعة ضلال البشرية كلها وشقوتها في هذه الدنيا، وعدم قيام حجة اللّه عليها في الآخرة! وحمل التبعة في هذا كله، وعدم النجاة من النار .. فمن ذا الذي يستهين بهذه التبعة؟ وهي تبعة تقصم الظهر وترعد الفرائص وتهز المفاصل؟! إن الذي يقول: إنه «مسلم» إما أن يبلغ ويؤدي هكذا. وإلا فلا نجاة له في دنيا ولا في أخرى .. إنه حين يقول: إنه «مسلم» ثم لا يبلغ ولا يؤدي .. كل ألوان البلاغ والأداء هذه، إنما يؤدي شهادة ضد الإسلام الذي يدعيه! بدلا من أداء شهادة له، تحقق فيه قوله تعالى: «وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً».
وتبدأ شهادته للإسلام، من أن يكون هو بذاته. ثم ببيته وعائلته. ثم بأسرته وعشيرته، صورة واقعية من الإسلام الذي يدعو إليه .. وتخطو شهادته الخطوة الثانية بقيامة بدعوة الامة - بعد دعوة البيت والأسرة والعشيرة - إلى تحقيق الإسلام في حياتها كلها .. الشخصية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية .. وتنتهي شهادته بالجهاد لإزالة العوائق التي تضل الناس وتفتنهم من أي لون كانت هذه العوائق .. فإذ استشهد في هذا فهو إذن «شهيد» أدى شهادته لدينه، ومضى إلى ربه .. وهذا وحده هو «الشهيد».وفي نهاية المطاف نقف وقفة خاشعة أمام جلال اللّه وعظمته ممثلة في علمه، وعدله، ورعايته، وفضله، ورحمته وبره .. بهذا الكائن الإنساني الذي يجحد ويطغى.
نقف أمام عظمة العلم بهذا الكائن وما أودعه من القوى والطاقات وما ركب في كينونته من استعدادات الهدى والضلال. وما رتبه على هذا العلم حين لم يكله إلى عقله(1/127)
وحده .. على عظمة هذه الأداة التي وهبها له وعلى كثرة ما في الأنفس والآفاق من دلائل الهدى وموجبات الإيمان .. فلقد علم اللّه أن هذه الأداة العظيمة تنوشها الشهوات والنزوات وأن الدلائل المبثوثة في تضاعيف الكون وأطواء النفس قد يحجبها الغرض والهوى، ويحجبها الجهل والقصور .. ومن ثم لم يكل إلى العقل البشري تبعة الهدى والضلال - إلا بعد الرسالة والبيان - ولم يكل إليه بعد البيان والاهتداء وضع منهج الحياة، إنما وكل إليه تطبيق منهج الحياة الذي يقرره له اللّه .. ثم ترك له ما وراء ذلك - وهو ملك عريض - يبدع فيه ما شاء، ويغير فيه ما شاء، ويركب فيه ما شاء، ويحلل فيه ما شاء. منتفعا بتسخير اللّه لهذا الملك كله لهذا الإنسان وهو الذي يخطىء عقله ويصيب، وتعثر قدمه وتستقيم على الطريق!
ونقف أمام عظمة العدل الذي يرتب للناس حجة على اللّه - سبحانه - لو لم يرسل إليهم الرسل مبشرين ومنذرين. هذا مع احتشاد كتاب الكون المفتوح، وكتاب النفس المكنون بالآيات الشواهد على الخالق، ووحدانيته، وتدبيره وتقديره، وقدرته وعلمه .. ومع امتلاء الفطرة بالأشواق والهواتف إلى الاتصال ببارئها والإذعان له، والتناسق والتجاوب والتجاذب بينها وبين دلائل وجود الخالق في الكون والنفس .. ومع هبة العقل الذي يملك أن يحصي الشواهد ويستنبط النتائج .. ولكن اللّه - سبحانه - بما يعلم من عوامل الضعف التي تطرأ على هذه القوى كلها، فتعطلها، أو تفسدها، أو تطمسها، أو تدخل في حكمها الخطأ والشطط، قد أعفى الناس من حجية الكون، وحجية الفطرة، وحجية العقل، ما لم يرسل إليهم الرسل ليستنقذوا هذه الأجهزة كلها مما قد يرين عليها، وليضبطوا بموازين الحق الإلهي الممثل في الرسالة، هذه الأجهزة، فتصح أحكامها حين تستقيم على ضوابط المنهج الإلهي .. وعندئذ فقط يلزمها الإقرار والطاعة والاتباع أو تسقط حجتها وتستحق العقاب ..
ونقف أمام عظمة الرعاية والفضل والرحمة والبر بهذا المخلوق الذي يكرمه اللّه ويختاره، على ما يعلم به من ضعف ونقص فيكل إليه هذا الملك العريض .. خلافة الأرض .. وهو بالقياس إليه ملك عريض! وإن كان في ملك اللّه ذرة تمسكها يد اللّه(1/128)
فلا تضيع في ملكه الكبير! ثم تشاء رعايته وفضله ورحمته وبره، ألا تدعه لما أودع في كينونته من فطرة هادية ولكنها تطمس ومن عقل هاد ولكنه يضل بل يتفضل عليه ربه فيرسل إليه الرسل تترى .. وهو يكذب ويعاند ويشرد وينأى فلا يأخذه ربه بأخطائه وخطاياه ولا يحبس عنه بره وعطاياه، ولا يحرمه هداه على أيدي رسله الهداة ..
ثم لا يأخذه بالعقاب في الدنيا أو في الآخرة حتى تبلغه الرسل فيعرض ويكفر، ويموت وهو كافر لا يتوب ولا ينيب ..
ومن عجب أن يأتي على هذا الإنسان زمان يزعم لنفسه أنه استغنى عن ربه .. استغنى عن رعايته وفضله ورحمته وبره .. استغنى عن هدايته ودينه ورسله .. استغنى بالأداة التي علم ربه أنها لا تغنيه - ما لم تقوّم بمنهج اللّه - فلم يكتب عليه عقابا إلا بعد الرسالة والبيان .. فيتمثل لنا الطفل الذي يحس ببعض القوة في ساقيه فيروح يبعد عنه اليد التي تسنده، ليتكفأ ويتعثر! غير أن الطفل في هذا المثال أرشد وأطوع للفطرة. إذ أنه بمحاولة الاستقلال عن اليد التي تسنده يجيب داعي الفطرة في استحثاث طاقات كامنة في كيانه وإنماء قدرات ممكنة النماء وتدريب عضلات وأعصاب تنمو وتقوى بالتدريب .. أما إنسان اليوم الذي يبعد عنه يد اللّه، ويتنكب هداه، فإن كينونته - بكل ما يكمن فيها من قوى - يعلم اللّه أنها لا تشتمل على قوة مكنونة تملك الاستغناء عن يد اللّه وهداه. وقصارى ما في قواه أنها ترشد وتضبط وتستقيم برسالة اللّه. وتضل وتختل وتضطرب إذا هي استقلت بنفسها، وتنكبت هداه! وخطأ وضلال - إن لم يكن هو الخداع والتضليل - كل زعم يقول: إن العقول الكبيرة كانت حرية أن تبلغ بدون الرسالة ما بلغته بالرسالة .. فالعقل ينضبط - مع الرسالة - بمنهج النظر الصحيح فإذا أخطأ بعد ذلك في التطبيق كان خطؤه كخطأ الساعة التي تضبط، ثم تغلبها عوامل الجو والمؤثرات، وطبيعة معدنها الذي يتأثر بهذه المؤثرات، لا كخطأ الساعة التي لم تضبط أصلا، وتركت للفوضى والمصادفة! وشتان شتان! وآية أن ما يتم بالرسالة - عن طريق العقل نفسه - لا يمكن أن يتم بغيرها فلا يغني العقل البشري عنها ..(1/129)
أن تاريخ البشرية لم يسجل أن عقلا واحدا من العقول الكبيرة النادرة اهتدى إلى مثل ما اهتدت إليه العقول العادية المتوسطة بالرسالة .. لا في تصور اعتقادي ولا في خلق نفسي، ولا في نظام حياة، ولا في تشريع واحد لهذا النظام ..
إن عقول أفلاطون وأرسطو من العقول الكبيرة قطعا .. بل إنهم ليقولون: إن عقل أرسطو هو أكبر عقل عرفته البشرية - بعيدا عن رسالة اللّه وهداه - فإذا نحن راجعنا تصوره لإلهه - كما وصفه - رأينا المسافة الهائلة التي تفصله عن تصور المسلم العادي لإلهه مهتديا بهدى الرسالة.
وقد وصل أخناتون - في مصر القديمة - إلى عقيدة التوحيد - وحتى مع استبعاد تأثره في هذا بإشعاع عقيدة التوحيد في رسالة إبراهيم ورسالة يوسف - فإن الفجوات والأساطير التي في عقيدة أخناتون تجعل المسافة بينها وبين توحيد المسلم العادي لإلهه بعيدة بعيدة.
وفي الخلق نجد في الفترة التي هيمن فيها الإسلام في صدر الإسلام نماذج للأوساط ممن رباهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - لا تتطاول إليها أعناق الأفذاذ على مدار التاريخ ممن لم تخرجهم رسالة سماوية.
وفي المبادئ والنظم والتشريعات لا نجد أبدا ذلك التناسق والتوازن، مع السمو والرفعة التي نجدها في نظام الإسلام ومبادئه وتشريعاته. ولا نجد أبدا ذلك المجتمع الذي أنشأه الإسلام يتكرر لا في زمانه ولا قبل زمانه ولا بعد زمانه في أرض أخرى، بتوازنه وتناسقه ويسر حياته وتناغمها ..
إنه ليس المستوي الحضاري المادي هو الذي يكون عليه الحكم. فالحضارة المادية تنمو بنمو وسائلها التي ينشئها «العلم» الصاعد .. ولكن ميزان الحياة في فترة من الفترات هو التناسق والتوازن بين جميع أجزائها وأجهزتها وأوضاعها .. هو التوازن الذي ينشىء السعادة والطمأنينة، والذي يطلق الطاقات الإنسانية كلها لتعمل دون كبت ودون مغالاة في جانب من جوانبها الكثيرة .. والفترة التي عاشت بالإسلام كاملا لم تبلغها البشرية - بعيدا عن الرسالة - في أي عصر .. والخلخلة وعدم الاتزان هو الطابع الدائم(1/130)
للحياة في غير ظل الإسلام مهما التمعت بعض الجوانب ومهما تضخمت بعض الجوانب. فإنما تلتمع لتنطفئ جوانب أخرى. وإنما تتضخم على حساب الجوانب الأخرى .. والبشرية معها تتأرجح وتحتار وتشقى ". (1)
إن هذا العقل الذي وهبه اللّه للإنسان قادر على تلقي ذلك الوحي، وإدراك مدلولاته .. وهذه وظيفته .. ثم هذه هي فرصته في النور والهداية وفي الانضباط بهذا الضابط الصحيح الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
فأما حين يستقل هذا العقل البشري بنفسه بعيدا عن الوحي، فإنه يتعرض حينئذ للضلال والانحراف، وسوء الرؤية، ونقص الرؤية، وسوء التقدير، وسوء التدبير.
يتعرض لهذا كله بسبب طبيعة تركيبه ذاتها في رؤية الوجود أجزاء لا كلا واحدا. تجربة بعد تجربة، وحادثة بعد حادثة، وصورة بعد صورة .. حيث يتعذر عليه أن يرى الوجود جملة، ليقيم على أساس هذه الرؤية الكاملة أحكاما، ويضع على أساسها نظاما، ملحوظا فيه الشمول والتوازن .. ومن ثم يظل - حين ينعزل عن منهج اللّه وهداه - يرتاد التجارب، ويغير الأحكام، ويبدل النظام، ويضطرب بين الفعل وردود الفعل، ويتخبط من أقصى اليمين إلى أقصى الشمال .. وهو في ذلك كله يحطم كائنات بشرية عزيزة، وأجهزة إنسانية كريمة .. ولو اتبع الوحي لكفى البشر هذا الشر كله وجعل التجارب والتقلبات في «الأشياء» وفي «المادة» وفي «الأجهزة» وفي «الآلات» .. وهي مجاله الطبيعي الذي يمكن أن يستقل فيه. والخسارة في النهاية مواد وأشياء. لا أنفس وأرواح! ويتعرض لهذا كله - بعد طبيعة تركيبه - بسبب ما ركب في الكيان البشري من شهوات وأهواء ونزعات، لا بد لها من ضابط، يضمن أن تؤدي وظائفها في استمرار حياة البشرية وارتقائها، ولا تتعدى هذا الحد المأمون فتؤدي إلى تدمير الحياة أو انتكاسها! وهذا الضابط لا يمكن أن يكون هو العقل البشري وحده فلا بد لهذا العقل الذي يضطرب تحت ضغط الأهواء والشهوات والنزعات - وهي شتى - من ضابط آخر يضبطه هو ذاته ويحرسه بعد أن يضبطه من الخلل أيضا، ويرجع إليه هذا العقل بكل
__________
(1) - في ظلال القرآن للسيد قطب - ت- علي بن نايف الشحود [ص 1178](1/131)
تجربة، وكل حكم - في مجال الحياة البشرية - ليقوّم به تجربته وحكمه، وليضبط به اتجاهه وحركته. والذين يزعمون للعقل البشري درجة من الأصالة في الصواب كدرجة الوحي، باعتبار أن كليهما - العقل والوحي - من صنع اللّه فلا بد أن يتطابقا .. هؤلاء إنما يستندون إلى تقريرات عن قيمة العقل قال بها بعض الفلاسفة من البشر، ولم يقل بها اللّه سبحانه! والذين يرون أن هذا العقل يغني عن الوحي - حتى عند فرد واحد من البشر مهما بلغ عقله من الكبر - إنما يقولون في هذه القضية غير ما يقول اللّه .. فاللّه قد جعل حجته على الناس هي الوحي والرسالة، ولم يجعل هذه الحجة هي عقلهم البشري، ولا حتى فطرتهم التي فطرهم اللّه عليها من معرفة ربها الواحد والإيمان به.
لأن اللّه سبحانه يعلم أن العقل وحده يضل، وأن الفطرة وحدها تنحرف. وأنه لا عاصم لعقل ولا لفطرة، إلا أن يكون الوحي هو الرائد الهادي، وهو النور والبصيرة والذين يزعمون أن الفلسفة تغني العقل عن الدين أو أن العلم - وهو من منتجات العقل - يغني البشرية عن هدى اللّه إنما يقولون قولا لا سند له من الحقيقة ولا من الواقع كذلك .. فالواقع يشهد أن الحياة البشرية التي قامت أنظمتها على المذاهب الفلسفية أو على العلم، هي أبأس حياة يشقى فيها «الإنسان» مهما فتحت عليه أبواب كل شيء ومهما تضاعف الإنتاج والإيراد ومهما تيسرت أسباب الحياة ووسائل الراحة فيها على أوسع نطاق .. وليس مقابل هذا أن تقوم الحياة على الجهل والتلقائية! فالذين يضعون المسألة هكذا مغرضون! فإن الإسلام منهج حياة يكفل للعقل البشري الضمانات التي تقيه عيوب تركيبه الذاتي، وعيوب الضغوط التي تقع عليه من الأهواء والشهوات والنزعات. ثم يقيم له الأسس، ويضع له القواعد، التي تكفل استقامته في انطلاقه للعلم والمعرفة والتجربة كما تكفل له استقامة الحياة الواقعية التي يعيش في ظلها - وفق شريعة اللّه - فلا يضغط عليه الواقع لينحرف بتصوراته ومناهجه كذلك! (1)
__________
(1) - في ظلال القرآن للسيد قطب - ت- علي بن نايف الشحود [ص 1519](1/132)
ثمراتُ الإيمان بالرسل
1 - معرفةُ الله تعالى المعرفةَ الصحيحة عن طريق ما جاء به الرسل عليهم السلام.
2 - بيانُ عظيم عناية الله تعالى بعبادهِ حيث أرسل إليهم رسلاً من أنفسهِم يبينون لهم آياتهِ وشريعتهِ، ويبشرونهم بجزيل الثواب لمن أمنَ بهم، و ينذرون من كفرَ بهم سوءَ العقاب.
3 - تحقيق ُالرغبات والنزعاتِ البشرية في معرفة ما لا يستطيعُ العقل البشريُّ الوصولَ إليه بمجرده
4 - بيانُ إمكان بلوغِ البشر درجاتٍ عاليةٍ في القرب من الله تعالى بالطاعة، لأن المرسلينَ إليهم هم من جنسهِم، قال الله تعالى آمرا رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يبينَ ذلك للناس: ((قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ {6} فصلت)).
5 - محبةُ الرسل، والثناءُ والصلاةُ والسلامُ عليهم، والدعاءُ لهم على ما تحمَّلوه من أذى أقوامهم، وما صبروا عليه من مشقات الدعوة، والإقتداءُ والتأسِّي بهم في ذلك، ومتابعتُهم على نهجهِم وسنتهِم، وسيرتهِم ودعوتهِم إلى الله قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً {21} الأحزاب
6 - ونحبُّ بحبِّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وآلَ بيته الأطهارِ، وأصحابَه وأتباعَه وأنصارَه إلى يوم الدين، ونتولاهم ولا نبرأُ من أحدٍ منهم، بل نبغضُ من يبغضُهم، وبغير الخير يذكرهُم، فلا نذكرهُم إلا بخيرٍ، وحبُّهم عندنا دينٌ وإيمانٌ وإحسانٌ نتقربُ به إلى الله تعالى. قال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ {100} التوبة
ونتميزُ عن أهل البدع بسلامةِ قلوبنِا وألسنتنا لهم، ولا نملُّ من أن ندعوَ بقوله تعالى: (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤوفٌ رَحِيمٌ) [الحشر:10].(1/133)
7 - ونُمسكُ عمّا شجرَ بين أصحابِ النبي عليه الصلاة والسلام، فهم في ذلك بينَ مجتهدٍ مصيبٍ ومجتهدٍ مخطئٍ، فلبعضهِم أجرٌ ولبعضهِم أجرانِ، رضوان الله عليهم أجمعين.
8 - وهم مع ذلك ليسوا بمعصومينَ، ولكنَّهم كما أخبر النبي عليه الصلاة والسلام خيرُ القرون، والمُدّ من أحدهم إذا تصدّق َبه خيرٌ من مثل جبلِ أحد ذهباً ممن بعدهم. فعن عِمْرَانَ بْنَِ حُصَيْنٍ - رضى الله عنهما - قَالَ قَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - «خَيْرُكُمْ قَرْنِى، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ» (أخرجه البخاري) (1).
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ - رضى الله عنه - عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ «خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِى، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ يَجِىءُ أَقْوَامٌ تَسْبِقُ شَهَادَةُ أَحَدِهِمْ يَمِينَهُ، وَيَمِينُهُ شَهَادَتَهُ» (أخرجه البخاري) (2).
وعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ سَأَلَ رَجُلٌ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - أَىُّ النَّاسِ خَيْرٌ قَالَ «الْقَرْنُ الَّذِى أَنَا فِيهِ ثُمَّ الثَّانِى ثُمَّ الثَّالِثُ» (أخرجه مسلم) (3).
وعَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ - رضى الله عنه - قَالَ قَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - «لاَ تَسُبُّوا أَصْحَابِى، فَلَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلاَ نَصِيفَهُ» (أخرجه الشيخان) (4).
9 - ونحبُّ أنصارَ الدين في كلِّ زمانٍ إلى قيامِ الساعة، القريبَ منهم والبعيدَ، من عرفنا منهم ومن لم نعرفْ، ولا يضرُّهم ألا نعرفهم. ولا نبرأُ من أحدٍ منهم أو نعاديهِ أو نعاملُه معاملةَ غيرِ المسلمين، بلْ نتولاَّهم وندعو لهم وننصرهُم ونجتهدُ أن نكون منهم. امتثالا لقول النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - «لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ» (أخرجه البخاري ومسلم) (5).
__________
(1) - برقم (2651)
(2) - برقم (2652)
(3) - برقم (6641) وهذا الحديث متواتر
(4) - البخارى برقم (3673) ومسلم برقم (6651) - النَّصيف: النصف
(5) - البخاري برقم (13) ومسلم برقم (179)(1/134)
وعَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِى تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى» (أخرجه مسلم) (1).
وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " يَا عَبْدَ اللهِ، أَيُّ عُرَى الْإِسْلَامِ أَوْثَقُ؟ " قَالَ: قُلْتُ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ: " الْوَلَايَةُ فِي اللهِ، الْحَبُّ فِي اللهِ وَالْبُغْضُ فِي اللهِ، يَا عَبْدَ اللهِ، أَتَدْرِي أَيُّ النَّاسِ أَعْلَمُ؟ " قُلْتُ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: " فَإِنَّ أَعْلَمَ النَّاسَ أَعْلَمُهُمْ بِالْحَقِّ إِذَا اخْتَلَفَ النَّاسُ، وَإِنْ كَانَ مُقَصِّرًا فِي الْعَمَلِ، وَإِنْ كَانَ يَزْحَفُ عَلَى سِتَّةٍ " (2).
__________
(1) - برقم (6751)
(2) - شعب الإيمان [12/ 73] (9064) صحيح لغيره(1/135)
الركن الخامس
الإيمان بالقدر
تعريفه:
1. هو «الإقرارُ بأن الله -تعالى- علمَ كلَّ شيء وكتب مقادير كل شيء، وكلُّ شيء بإرادته ومشيئته وأنه خالقُ كلِّ شيء. يخلقُ ما يشاء فعّالٌ لما يريد، ما شاءَه كانَ، وما لم يشأْ لم يكنْ، بيده ملكوتُ كلِّ شيءٍ، يحي ويميت، وهو على كل شيء قديرٌ. يهدي من يشاءُ بفضله، ويضلُّ من يشاء بعدلهِ، لا معقِّبَ لحكمِه، ولا رادَّ لقضائهِ، خلق الخلقَ، وقدَّر أعمالَهم وأرزاقَهم وحياتهَم وموتهَم، قال تعالى: {ذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} (102) سورة الأنعام، وقال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} (3) سورة سبأ، وقال تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (26) سورة آل عمران، وقال تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ} (31) سورة المدثر، و عَنْ طَاوُسٍ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ - رضى الله عنهما - قَالَ كَانَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ يَتَهَجَّدُ قَالَ «اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ قَيِّمُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ وَلَكَ الْحَمْدُ، لَكَ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَلَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ، وَلَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ الْحَقُّ، وَوَعْدُكَ الْحَقُّ، وَلِقَاؤُكَ حَقٌّ، وَقَوْلُكَ حَقٌّ، وَالْجَنَّةُ حَقٌّ، وَالنَّارُ حَقٌّ، وَالنَّبِيُّونَ حَقٌّ، وَمُحَمَّدٌ - صلى الله عليه وسلم - حَقٌّ، وَالسَّاعَةُ حَقٌّ، اللَّهُمَّ(1/136)
لَكَ أَسْلَمْتُ، وَبِكَ آمَنْتُ وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ، وَإِلَيْكَ أَنَبْتُ، وَبِكَ خَاصَمْتُ، وَإِلَيْكَ حَاكَمْتُ، فَاغْفِرْ لِى مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ، وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ، أَنْتَ الْمُقَدِّمُ وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ، لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ - أَوْ لاَ إِلَهَ غَيْرُكَ -».قَالَ سُفْيَانُ وَزَادَ عَبْدُ الْكَرِيمِ أَبُو أُمَيَّةَ «وَلاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ» (أخرجه الشيخان) (1).
2. والخيرُ والشرُّ مقدرانِ على العبادِ، قال تعالى: {أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هَذِهِ مِنْ عِندِ اللّهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هَذِهِ مِنْ عِندِكَ قُلْ كُلًّ مِّنْ عِندِ اللّهِ فَمَا لِهَؤُلاء الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا} (78) سورة النساء، ولم يكلفِ اللهُ العبادَ إلا ما يطيقونَ، قال تعالى: {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ... } (286) سورة البقرة، ولا حولَ ولا قوةَ إلا بالله: أي لا حيلةَ لأحد، ولا تحوُّلَ لأحدٍ عن معصية ِالله إلا بمعونةِ الله سبحانه، ولا قوة َلأحدٍ على إقامةِ طاعةِ الله والثباتِ عليها إلا بتوفيقِ اللهِ.
3. وكما أنَّ المسبَّباتِ من قدَرِ الله الذي فُرغ منه، فكذلك أسبابُها أيضاً من قدَر الله الذي فُرغ منه، عَنْ عَلِىٍّ - رضى الله عنه - قَالَ كَانَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - فِى جَنَازَةٍ فَأَخَذَ شَيْئًا فَجَعَلَ يَنْكُتُ بِهِ الأَرْضَ فَقَالَ «مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ وَقَدْ كُتِبَ مَقْعَدُهُ مِنَ النَّارِ وَمَقْعَدُهُ مِنَ الْجَنَّةِ».قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلاَ نَتَّكِلُ عَلَى كِتَابِنَا وَنَدَعُ الْعَمَلَ قَالَ «اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ، أَمَّا مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ فَيُيَسَّرُ لِعَمَلِ أَهْلِ السَّعَادَةِ، وَأَمَّا مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الشَّقَاءِ فَيُيَسَّرُ لِعَمَلِ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ».ثُمَّ قَرَأَ (إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (4) فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10) [الليل/4 - 11]) (أخرجه الشيخان) (2).
4. والإيمانُ بالقدَر على درجتينِ؛ وكلُّ درجةٍ تتضمنُ شيئين:
__________
(1) البخارى برقم (1120 و 6317 و 7385 و 7442 و 7499) ومسلم برقم (1844)
(2) - البخارى برقم (4949 و 1362 و 4945 و 4946 و 4947 و 4948 و 6217 و 6605 و 7552) ومسلم برقم (6903)(1/137)
فالدرجةُ الأولى: الإيمانُ بأن اللهَ علِمَ ما الخلقُ عاملونَ، فسبقَ علمُه في كلِّ كائن ٍفي خلقِه، فقدَّرَ ذلك تقديراً محكماً قال تعالى: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} (61) سورة يونس، وقال تعالى: {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} (2) سورة الفرقان ر، وقال: {مَّا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَّقْدُورًا} (38) سورة الأحزاب. الدرجة الثانية: الإيمانُ بمشيئةِ الله النافذةِ، وقدرتهِ الشاملةِ، وأنَّ ما شاء اللهُ كانَ، وما لم يشأْ لم يكنْ، وأنهُ ما في السماواتِ والأرضِ منْ حركةٍ ولا سكونٍ إلا بمشيئةِ الله سبحانه وتعالى، ولا يكون في ملكِه إلا ما يريدُ. عن عَبْدِ الْحَمِيدِ مَوْلَى بَنِى هَاشِمٍ أَنَّ أُمَّهُ حَدَّثَتْهُ وَكَانَتْ تَخْدِمُ بَعْضَ بَنَاتِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّ بِنْتَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - حَدَّثَتْهَا أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يُعَلِّمُهَا فَيَقُولُ «قُولِى حِينَ تُصْبِحِينَ سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ لاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ مَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَىْءٍ عِلْمًا فَإِنَّهُ مَنْ قَالَهُنَّ حِينَ يُصْبِحُ حُفِظَ حَتَّى يُمْسِىَ وَمَنْ قَالَهُنَّ حِينَ يُمْسِى حُفِظَ حَتَّى يُصْبِحَ» (أخرجه أبو داود) (1).
5. ومع ذلك فقدْ أمرَ العباد بطاعتِه وطاعةِ رسلهِ ونهاهُم عن معصيتِهِ، قال تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} (12) سورة التغابن، وهو سبحانه يحبُّ المتقين، قال تعالى: {بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} (76) سورة آل عمران، ويحبٌّ المحسنينَ، قال تعالى: { .. إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (195) سورة البقرة، ويحب ُّالمقسطين، قال تعالى: { .. إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (42) سورة المائدة، ويرضَى عن الذين آمنوا وعملوا الصالحات، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7) جَزَاؤُهُمْ
__________
(1) - برقم (5077) وهو حسن فيه عبد الحميد مولى بني هاشم وثقه ابن حبان والذهبي في الكاشف (3160)(1/138)
عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} (8) سورة البينة، ولا يحبُّ الكافرين، قال تعالى: {قُلْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ فإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} (32) سورة آل عمران، ولا يرضَى عن القوم الفاسقينَ، قال تعال ى: { ... فَإِنَّ اللّهَ لاَ يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} (96) سورة التوبة، ولا يأمر بالفحشاء، قال تعالى: {وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا وَاللّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء أَتَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} (28) سورة الأعراف، ولا يرضى لعباده الكفر، قال تعالى: {إِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} (7) سورة الزمر، ولا يحب الفساد قال تعالى: { .. وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ} (205) سورة البقرة.
6. غِنَى اللهِ الكاملِ عن العبادِ؛ حيثُ لا تنفعهُ طاعةُ المطيع كما لا تضرُّه معصية العاصي. وغناهُ تعالى شاملٌ ومطلقٌ، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} (15) سورة فاطر، وهو يفيد في طمأنينةِ القلبِ عند المؤمنِ في هذا الباب، وأنَّ الله تعالى ليس بحاجة إلى العباد حتَّى يجبرَهم أو يعذبَهم بغيرِ ذنبٍ يستحقونَ العقابَ عليه قال تعالى: {مَّا يَفْعَلُ اللّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ وَكَانَ اللّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا} (147) سورة النساء. وَعنْ أَبِى ذَرٍّ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فِيمَا رَوَى عَنِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَّهُ قَالَ «يَا عِبَادِى إِنِّى حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِى وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلاَ تَظَالَمُوا يَا عِبَادِى كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلاَّ مَنْ هَدَيْتُهُ فَاسْتَهْدُونِى أَهْدِكُمْ يَا عِبَادِى كُلُّكُمْ جَائِعٌ إِلاَّ مَنْ أَطْعَمْتُهُ فَاسْتَطْعِمُونِى أُطْعِمْكُمْ يَا عِبَادِى كُلُّكُمْ عَارٍ إِلاَّ مَنْ كَسَوْتُهُ فَاسْتَكْسُونِى أَكْسُكُمْ يَا عِبَادِى إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا فَاسْتَغْفِرُونِى أَغْفِرْ لَكُمْ يَا عِبَادِى إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّى فَتَضُرُّونِى وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِى فَتَنْفَعُونِى يَا عِبَادِى لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا زَادَ ذَلِكَ فِى مُلْكِى شَيْئًا يَا عِبَادِى لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ(1/139)
وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِى شَيْئًا يَا عِبَادِى لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِى صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِى فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِى إِلاَّ كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ يَا عِبَادِى إِنَّمَا هِىَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلاَ يَلُومَنَّ إِلاَّ نَفْسَهُ» (أخرجه مسلم) (1).
7. وأفعالُ العباد خلقُ الله وفعلُ العباد، فالعبادُ فاعلونَ حقيقةً، والله خالقُ أفعالهِم، والعبدُ هو المؤمن أو الكافرُ، والبرُّ أو الفاجرُ، والمصلِّي والصائمُ، وللعبادِ قدرة ٌعلى أعمالهِم ولهم إرادةٌ، واللهُ خالقُهم وخالقُ قدرتهِم وإرادتهِم. قال تعالى: {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (27) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29) [التكوير/27 - 29]}
والواقع أن دلائل الهدى وموحيات الإيمان في الأنفس والآفاق من القوة والعمق والثقل بحيث يصعب على القلب التفلت من ضغطها إلا بجهد متعمد. وبخاصة حين يسمع التوجيه إليها بأسلوب القرآن الموحي الموقظ. وما ينحرف عن طريق اللّه - بعد ذلك - إلا من يريد أن ينحرف. في غير عذر ولا مبرر! (2)
__________
(1) - برقم (6737)
(2) - في ظلال القرآن للسيد قطب - ت- علي بن نايف الشحود [ص 4758](1/140)
آثار الإيمان بالقدر
وللقدر آثار كبيرة على الفرد وعلى المجتمع نجملها فيما يلي:
1.القدَرُ من أكبر الدواعي التي تدعو إلى العملِ والنشاطِ والسعيِ بما يرضي اللهَ في هذه الحياة، والإيمانُ بالقدر من أقوى الحوافز للمؤمن لكي يعملَ ويقدِمَ على عظائم الأمور بثباتٍ وعزمٍ ويقينٍ.
2.ومنْ آثارِ الإيمان بالقدَر أن يعرفَ الإنسانُ قدْرَ نفسه، فلا يتكبَّر ولا يبطُر ولا يتعالى أبدًا؛ لأنهُ عاجزٌ عن معرفةِ المقدورِ، ومستقبل ِما هو حادثٌ، ومن ثمّ يقرُّ الإنسان بعجزهِ وحاجتِه إلى ربِّه تعالى دائمًا. وهذا من أسرارِ خفاءِ المقدور. قال تعالى: {لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} (23) سورة الحديد.
3.ومنْ آثارِ الإيمان بالقدَرِ أنه يطردُ القلقَ والضجرَ عند فواتِ المراد أو حصولِ مكروه ٍ، لأنَّ ذلك بقضاءِ الله تعالى الذي له ملكُ السموات والأرض، وهو كائنٌ لا محالةَ، فيصبرُ على ذلك ويحتسبُ الأجرَ، وإلى هذا يشيرُ الله تعالى بقوله: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آَتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (23) [الحديد/22،23]}،وعَنِ ابْنِ الدَّيْلَمِىِّ قَالَ أَتَيْتُ أُبَىَّ بْنَ كَعْبٍ فَقُلْتُ لَهُ وَقَعَ فِى نَفْسِى شَىْءٌ مِنَ الْقَدَرِ فَحَدِّثْنِى بِشَىْءٍ لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُذْهِبَهُ مِنْ قَلْبِى. فَقَالَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ عَذَّبَ أَهْلَ سَمَوَاتِهِ وَأَهْلَ أَرْضِهِ عَذَّبَهُمْ وَهُوَ غَيْرُ ظَالِمٍ لَهُمْ وَلَوْ رَحِمَهُمْ كَانَتْ رَحْمَتُهُ خَيْرًا لَهُمْ مِنْ أَعْمَالِهِمْ وَلَوْ أَنْفَقْتَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا فِى سَبِيلِ اللَّهِ مَا قَبِلَهُ اللَّهُ مِنْكَ حَتَّى تُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ وَتَعْلَمَ أَنَّ مَا أَصَابَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ وَأَنَّ مَا أَخْطَأَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَكَ وَلَوْ مُتَّ عَلَى غَيْرِ هَذَا لَدَخَلْتَ النَّارَ. قَالَ ثُمَّ أَتَيْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ - قَالَ - ثُمَّ أَتَيْتُ حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ - قَالَ -(1/141)
ثُمَّ أَتَيْتُ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ فَحَدَّثَنِى عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - مِثْلَ ذَلِكَ. (أخرجه أبو داود) (1).و عَنْ صُهَيْبٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «عَجَبًا لأَمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ وَلَيْسَ ذَاكَ لأَحَدٍ إِلاَّ لِلْمُؤْمِنِ إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ» (أخرجه مسلم) (2).
4.الإيمانُ بالقدَر يقضي على كثيرٍ من الأمراض التي تعصفُ بالمجتمعات، وتزرعُ الأحقادَ بين المؤمنين، وذلك مثلُ رذيلةِ الحسَدِ، فالمؤمنُ لا يحسدُ الناس على ما آتاهم اللهُ من فضله؛ لأنه هو الذي رزقَهم وقدَّر لهم ذلك، وهو يعلم أنه حين يحسدُ غيره إنما يعترضُ على المقدورِ، قال تعالى عن اليهود: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَآ آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا} (54) سورة النساء. وهكذا فالمؤمنُ يسعى لعملِ الخير، ويحبُّ للناس ما يحبُّ لنفسه، فإنْ وصلَ إلى ما يصبو إليه حمِدَ الله وشكرَهُ على نِعَمِهِ، وإنْ لم يصلْ إلى شيءٍ من ذلك صبرَ ولم يجزعْ، ولم يحقِدْ على غيرهِ ممنْ نالَ من الفضلِ ما لم ينلْهُ؛ لأن اللهَ هو الذي يقسِم الأرزاق َ بين العبادِ قال تعالى: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} (32) سورة الزخرف.
ورزق المعاش في الحياة الدنيا يتبع مواهب الأفراد، وظروف الحياة، وعلاقات المجتمع. وتختلف نسب التوزيع بين الأفراد والجماعات وفق تلك العوامل كلها. تختلف من بيئة لبيئة، ومن عصر لعصر، ومن مجتمع لمجتمع، وفق نظمه وارتباطاته وظروفه العامة كلها. ولكن السمة الباقية فيه، والتي لم تتخلف أبدا - حتى في المجتمعات المصطنعة المحكومة بمذاهب موجهة للإنتاج وللتوزيع - أنه متفاوت بين الأفراد.
وتختلف أسباب التفاوت ما تختلف بين أنواع المجتمعات وألوان النظم. ولكن سمة التفاوت في مقادير الرزق لا تتخلف أبدا. ولم يقع يوما - حتى في المجتمعات المصطنعة
__________
(1) - برقم (4701) وهو صحيح = السماط: الجماعة من الناس
(2) - برقم (7692)(1/142)
المحكومة بمذاهب موجهة - أن تساوى جميع الأفراد في هذا الرزق أبدا: «وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ» ..
والحكمة في هذا التفاوت الملحوظ في جميع العصور، وجميع البيئات، وجميع المجتمعات هي:
«لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا» .. ليسخر بعضهم بعضا .. ودولاب الحياة حين يدور يسخر بعض الناس لبعض حتما. وليس التسخير هو الاستعلاء .. استعلاء طبقة على طبقة، أو استعلاء فرد على فرد .. كلا! إن هذا معنى قريب ساذج، لا يرتفع إلى مستوى القول الإلهي الخالد. كلا! إن مدلول هذا القول أبقى من كل تغير أو تطور في أوضاع الجماعة البشرية وأبعد مدى من ظرف يذهب وظرف يجيء .. إن كل البشر مسخر بعضهم لبعض. ودولاب الحياة يدور بالجميع، ويسخر بعضهم لبعض في كل وضع وفي كل ظرف. المقدر عليه في الرزق مسخر للمبسوط له في الرزق. والعكس كذلك صحيح. فهذا مسخر ليجمع المال، فيأكل منه ويرتزق ذاك. وكلاهما مسخر للآخر سواء بسواء. والتفاوت في الرزق هو الذي يسخر هذا لذاك، ويسخر ذاك لهذا في دورة الحياة .. العامل مسخر للمهندس ومسخر لصاحب العمل. والمهندس مسخر للعامل ولصاحب العمل. وصاحب العمل مسخر للمهندس وللعامل على السواء .. وكلهم مسخرون للخلافة في الأرض بهذا التفاوت في المواهب والاستعدادات، والتفاوت في الأعمال والأرزاق ..
وأحسب أن كثيرين من دعاة المذاهب الموجهة يتخذون من هذه الآية موضع هجوم على الإسلام ونظمه الاجتماعية والاقتصادية. وأحسب أن بعض المسلمين يقفون يجمجمون أمام هذا النص، كأنما يدفعون عن الإسلام تهمة تقرير الفوارق في الرزق بين الناس، وتهمة تقرير أن الناس يتفاوتون في الرزق ليتخذ بعضهم بعضا سخريا! وأحسب أنه قد آن لأهل الإسلام أن يقفوا بإسلامهم مواجهة وصراحة موقف الاستعلاء المطلق، لا موقف الدفاع أمام اتهام تافه!(1/143)
إن الإسلام يقرر الحقائق الخالدة المركوزة في فطرة هذا الوجود الثابتة ثبات السماوات والأرض ونواميسها التي لا تختل ولا تتزعزع. وطبيعة هذه الحياة البشرية قائمة على أساس التفاوت في مواهب الأفراد والتفاوت فيما يمكن أن يؤديه كل فرد من عمل والتفاوت في مدى إتقان هذا العمل. وهذا التفاوت ضروري لتنوع الأدوار المطلوبة للخلافة في هذه الأرض. ولو كان جميع الناس نسخا مكرورة ما أمكن أن تقوم الحياة في هذه الأرض بهذه الصورة.
ولبقيت أعمال كثيرة جدا لا تجد لها مقابلا من الكفايات، ولا تجد من يقوم بها - والذي خلق الحياة وأراد لها البقاء والنمو، خلق الكفايات والاستعدادات متفاوتة تفاوت الأدوار المطلوب أداؤها. وعن هذا التفاوت في الأدوار يتفاوت الرزق .. هذه هي القاعدة .. أما نسبة التفاوت في الرزق فقد تختلف من مجتمع إلى مجتمع، ومن نظام إلى نظام. ولكنها لا تنفي القاعدة الفطرية المتناسقة مع طبيعة الحياة الضرورية لنمو الحياة. ومن ثم لم يستطع أصحاب المذاهب المصطنعة المتكلفة أن يساووا بين أجر العامل وأجر المهندس، ولا بين أجر الجندي وأجر القائد. على شدة ما حاولوا أن يحققوا مذهبهم. وهزموا أمام الناموس الإلهي الذي تقرره هذه الآية من كلام اللّه. وهي تكشف عن سنة ثابتة من سنن الحياة. ذلك شأن الرزق والمعاش في هذه الحياة الدنيا. ووراء ذلك رحمة اللّه: «وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ» .. واللّه يختار لها من يشاء، ممن يعلم أنهم لها أهل. ولا علاقة بينها وبين عرض الحياة الدنيا ولا صلة لها بقيم هذه الحياة الدنيا. فهذه القيم عند اللّه زهيدة زهيدة. ومن ثم يشترك فيها الأبرار والفجار، وينالها الصالحون والطالحون. بينما يختص برحمته المختارين.
وإن قيم هذه الأرض لمن الزهادة والرخص بحيث - لو شاء اللّه - لأغدقها إغداقا على الكافرين به. ذلك إلا أن تكون فتنة للناس، تصدهم عن الإيمان باللّه: «وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ. وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً وَسُرُراً عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ. وَزُخْرُفاً. وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا. وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ» ..(1/144)
فهكذا - لولا أن يفتتن الناس. واللّه أعلم بضعفهم وتأثير عرض الدنيا في قلوبهم - لجعل لمن يكفر بالرحمن صاحب الرحمة الكبيرة العميقة - بيوتا سقفها من فضة، وسلالمها من ذهب. بيوتا ذات أبواب كثيرة. قصورا. فيها سرر للاتكاء، وفيها زخرف للزينة .. رمزا لهوان هذه الفضة والذهب والزخرف والمتاع بحيث تبذل هكذا رخيصة لمن يكفر بالرحمن! «وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا» .. متاع زائل، لا يتجاوز حدود هذه الدنيا. ومتاع زهيد يليق بالحياة الدنيا. «وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ» .. وهؤلاء هم المكرمون عند اللّه بتقواهم فهو يدخر لهم ما هو أكرم وأبقى ويؤثرهم بما هو أقوم وأغلى. ويميزهم على من يكفر بالرحمن، ممن يبذل لهم من ذلك المتاع الرخيص ما يبذله للحيوان! وإن عرض الحياة الدنيا الذي ضرب اللّه له بعض الأمثال من المال والزينة والمتاع ليفتن الكثيرين. وأشد الفتنة حين يرونه في أيدي الفجار، ويرون أيادي الأبرار منه خالية أو يرون هؤلاء في عسر أو مشقة أو ابتلاء، وأولئك في قوة وثروة وسطوة واستعلاء. واللّه يعلم وقع هذه الفتنة في نفوس الناس. ولكنه يكشف لهم عن زهادة هذه القيم وهوانها عليه ويكشف لهم كذلك عن نفاسة ما يدخره للأبرار الأتقياء عنده. والقلب المؤمن يطمئن لاختيار اللّه للأبرار وللفجار.
وأولئك الذين كانوا يعترضون على اختيار اللّه لرجل لم يؤت شيئا من عرض هذه الحياة الدنيا ويقيسون الرجال بما يملكون من رياسة، أو بما يملكون من مال. يرون من هذه الآيات هوان هذه الأعراض وزهادتها عند اللّه. وأنها مبذولة لشر خلق اللّه وأبغضهم عند اللّه. فهي لا تدل على قربى منه ولا تنبئ عن رضى، ولا تشي باختيار!
وهكذا يضع القرآن الأمور في نصابها ويكشف عن سنن اللّه في توزيع الأرزاق في الدنيا والآخرة ويقرر حقيقة القيم كما هي عند اللّه ثابتة. وذلك في صدد الرد على المعترضين على رسالة محمد واختياره. واطراح العظماء المتسلطين! وهكذا يرسي القواعد الأساسية والحقائق الكلية التي لا تضطرب ولا تتغير ولا تؤثر فيها تطورات الحياة، واختلاف النظم، وتعدد المذاهب، وتنوع البيئات. فهناك سنن للحياة ثابتة، تتحرك الحياة في مجالها ولكنها لا تخرج عن إطارها. والذين تشغلهم الظواهر المتغيرة عن تدبر(1/145)
الحقائق الثابتة، لا يفطنون لهذا القانون الإلهي، الذي يجمع بين الثبات والتغير، في صلب الحياة وفي أطوار الحياة ويحسبون أن التطور والتغير، يتناول حقائق الأشياء كما يتناول أشكالها. ويزعمون أن التطور المستمر يمتنع معه أن تكون هناك قواعد ثابتة لأمر من الأمور وينكرون أن يكون هناك قانون ثابت غير قانون التطور المستمر. فهذا هو القانون الوحيد الذي يؤمنون بثباته!
فأما نحن - أصحاب العقيدة الإسلامية - فنرى في واقع الحياة مصداق ما يقرره اللّه من وجود الثبات والتغير متلازمين في كل زاوية من زوايا الكون، وفي كل جانب من جوانب الحياة. وأقرب ما بين أيدينا من هذا التلازم ثبات التفاوت في الرزق بين الناس، وتغير نسب التفاوت وأسبابه في النظم والمجتمعات .. وهذا التلازم مطرد في غير هذا المثال (1).
5.والإيمانُ بالقدر يبعث في القلوب الشجاعةَ على مواجهة الشدائد، ويقوي فيها العزائمَ فتثبت في ساحات الجهادِ ولا تخافُ الموتَ، لأنها توقنُ أن الآجالَ محدودة ٌلا تتقدم ولا تتأخر لحظة واحدة. قال تعالى: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ {34} الأعراف، وقال تعالى ردا على المنافقين: {وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا (15) قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا (16) قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (17)} ْ [الأحزاب/15 - 17]
ذلك كان شأنهم والأعداء بعد خارج المدينة ولم تقتحم عليهم بعد. ومهما يكن الكرب والفزع، فالخطر المتوقع غير الخطر الواقع، فأما لو وقع واقتحمت عليهم المدينة من أطرافها .. «ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ» وطلبت إليهم الردة عن دينهم «لَآتَوْها» سراعا غير
__________
(1) - في ظلال القرآن للسيد قطب - ت- علي بن نايف الشحود [ص 3983](1/146)
متلبثين، ولا مترددين «إِلَّا قَلِيلًا» من الوقت، أو إلا قليلا منهم يتلبثون شيئا ما قبل أن يستجيبوا ويستسلموا ويرتدوا كفارا! (1).
6 - الإيمانُ بالقدر من أكبر العوامل التي تكونُ سبباً في استقامةِ المسلمِ، وخاصة في معاملته للآخرينَ، فحين يقصِّرُ في حقّهِ أحدٌ أو يسيءُ إليه أو يردُّ إحسانهُ بالإساءةِ أو ينالُ من عرضهِ بغير حق ٍّتجدهُ يعفو ويصفحُ، لأنه يعلم أن ذلك مقدّرٌ، وهذا إنما يحسنُ إذا كان في حقِّ نفسهِ، أمّا في حقِّ الله فلا يجوزُ العفوُ ولا التعللُ بالقدَر، لأن القدرَ إنما يحتجُّ به في المصائبِ لا في المعايبِ.،كما في قصة ِ مسطح رضي الله عنه عندما صدَّق أكاذيب المنافقين حول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، ولما أنزل الله تعالى براءتها من السماء «قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ وَكَانَ يُنْفِقُ عَلَى مِسْطَحٍ لِقَرَابَتِهِ مِنْهُ: وَاللَّهِ لَا أُنْفِقُ عَلَى مِسْطَحٍ شَيْئًا أَبَدًا بَعْدَ الَّذِي قَالَ لِعَائِشَةَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {وَلَا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (22) سورة النور
قَالَ أَبُو بَكْرٍ بَلَى وَاللَّهِ إِنِّي لَأُحِبُّ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لِي فَرَجَعَ إِلَى مِسْطَحٍ النَّفَقَةَ الَّتِي كَانَ يُنْفِقُ عَلَيْهِ وَقَالَ وَاللَّهِ لَا أَنْزِعُهَا عَنْهُ أَبَدًا» (أخرجه البخاري ومسلم) (2).
7.والإيمانُ بالقدَر يغرسُ في نفس المؤمن حقائقَ الإيمان المتعددة، فهو دائم ُالاستعانةِ بالله، يعتمد على الله ويتوكلُ عليه مع فعل الأسبابِ، وهو أيضًا دائمُ الافتقارِ إلى ربه - تعالى - يستمدُّ منه العونَ على الثبات، ويطلبُ منه المزيد، وهو أيضًا كريمٌ يحبُّ الإحسانِ إلى الآخرين، فتجده يعطفُ عليهم.
8.ومن آثارِ الإيمان بالقدَر أنَّ الداعيَ إلى الله يصدعُ بدعوتهِ، ويجهرُ بها أمام الكافرين والظالمين، لا يخافُ في الله لومة لائمٍ، يبيّنُ للناس حقيقةَ الإيمان، ويوضحُ لهم مقتضياته، ويكشف الباطلَ وزيفهُ ودُعاتهِ وحماتهِ،فعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصامتِ قَالَ: بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِى الْعُسْرِ وَالْيُسْرِ وَالْمَنْشَطِ وَالْمَكْرَهِ وَعَلَى
__________
(1) - في ظلال القرآن للسيد قطب - ت- علي بن نايف الشحود [ص 3592]
(2) - البخاري برقم (6185) و مسلم برقم (4974)(1/147)
أَثَرَةٍ عَلَيْنَا وَعَلَى أَنْ لاَ نُنَازِعَ الأَمْرَ أَهْلَهُ وَعَلَى أَنْ نَقُولَ بِالْحَقِّ أَيْنَمَا كُنَّا لاَ نَخَافُ فِى اللَّهِ لَوْمَةَ لاَئِمٍ. (أخرجه مسلم) (1)
ويقولُ كلمةَ الحقِّ أمامَ الظالمينَ، ويفضحُ ما هم فيهِ من كفرٍ وظلمٍ، عَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «أَفْضَلُ الْجِهَادِ كَلِمَةُ عَدْلٍ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ».أَوْ «أَمِيرٍ جَائِرٍ» (أخرجه أبو داود) (2).
وإذا كان الأمرُ هكذا فكيف يبقى في نفسِ المؤمن الداعية ذرّةٌ من خوفٍ وهو يؤمن بقضاءِ الله وقدَره؟! فما قُدِّرَ سيكونُ، وما لم يقدَّر لنْ يكونَ، وهذا كله مرجعه إلى الله وحده، والعبادُ لا يملكون من ذلك شيئاً. فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ كُنْتُ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمًا فَقَالَ «يَا غُلاَمُ إِنِّى أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللَّهَ وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَاعْلَمْ أَنَّ الأُمَّةَ لَوِ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَىْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلاَّ بِشَىْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ وَلَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَىْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلاَّ بِشَىْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ رُفِعَتِ الأَقْلاَمُ وَجَفَّتِ الصُّحُفُ» (أخرجه الترمذي) (3).
8 - الإيمانُ بالقدَر طريقُ الخلاصِ من الشركِ، وهو مفرقُ الطريقِ بين التوحيدِ والشركِ، فالمؤمنُ بالقدَر يُقرُّ بأن هذا الكون وما فيه صادرٌ عن إلهٍ واحدٍ، ومعبودٍ واحدٍ، ومن لم يؤمنْ هذا الإيمانَ، فإنه يجعلُ مَنْ دونَ الله آلهةً وأرباباً.
9 - وهو يفضي إلى الاستقامةِ على منهجٍ سواءٍ في السّراءِ والضرّاءِ، لا تبطرُه النعمةُ، ولا تيئسهُ المصيبةُ، فهو يعلمُ أن كلَّ ما أصابهُ من نعمٍ وحسناتٍ فمنَ اللهِ، لا بذكائهِ وحسنِ تدبيرهِ، {وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ} (53) سورة النحل
وإذا أصابَهُ الضراءُ والبلاءُ علِم أن هذا بتقديرِ اللهِ ابتلاءً منه، فلا يجزعُ ولا ييأسُ، بل يحتسبُ ويصبرُ، فيسكبُ هذا الإيمان في قلبِ المؤمن الرضا والطمأنينةَ. قال تعالى عن
__________
(1) - برقم (4874)
(2) - برقم (4346) ومسند أحمد برقم (11442) والمعجم الكبير للطبراني برقم (8007) وهو صحيح لغيره
(3) - برقم (2706) وهو صحيح(1/148)
معركة أحد {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآَخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (152) إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (153) [آل عمران/152،153]}.
10 - المؤمنُ بالقدر دائماً على حذر من أن يأتيهُ ما يضلُّه، كما يخشى أن يُختمَ له بخاتمةٍ سيئةٍ، وهذا لا يدفعه إلى التكاسلِ والخمولِ، بل يدفعُه إلى المجاهدةِ الدائبةِ للاستقامة، والإكثار من الصالحاتِ، ومجانبةِ المعاصي والموبقاتِ، كما يبقى قلبُ العبد معلقاً بخالقِه، يدعوهُ ويرجوهُ ويستعينُه، ويسألهُ الثبات على الحقِّّ كما يسأله الرشدَ والسدادَ. قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} (69) سورة العنكبوت.
11 - إذا آمنَ المؤمنُ بالقدَر فإنه يقبلُ على أمر الله، وإنْ قلَّتِ الرفقةُ، ويقبلُ على الجهادِ في سبيله، وإنْ كانَ وحدَهُ. عَنْ أَنَسٍ - رضى الله عنه - قَالَ غَابَ عَمِّى أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ عَنْ قِتَالِ بَدْرٍ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، غِبْتُ عَنْ أَوَّلِ قِتَالٍ قَاتَلْتَ الْمُشْرِكِينَ، لَئِنِ اللَّهُ أَشْهَدَنِى قِتَالَ الْمُشْرِكِينَ لَيَرَيَنَّ اللَّهُ مَا أَصْنَعُ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ وَانْكَشَفَ الْمُسْلِمُونَ قَالَ «اللَّهُمَّ إِنِّى أَعْتَذِرُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ هَؤُلاَءِ - يَعْنِى أَصْحَابَهُ - وَأَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ هَؤُلاَءِ» - يَعْنِى الْمُشْرِكِينَ - ثُمَّ تَقَدَّمَ، فَاسْتَقْبَلَهُ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ، فَقَالَ يَا سَعْدُ بْنَ مُعَاذٍ، الْجَنَّةَ، وَرَبِّ النَّضْرِ إِنِّى أَجِدُ رِيحَهَا مِنْ دُونِ أُحُدٍ.قَالَ سَعْدٌ فَمَا اسْتَطَعْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا صَنَعَ.قَالَ أَنَسٌ فَوَجَدْنَا بِهِ بِضْعًا وَثَمَانِينَ ضَرْبَةً بِالسَّيْفِ أَوْ طَعْنَةً بِرُمْحٍ أَوْ رَمْيَةً بِسَهْمٍ، وَوَجَدْنَاهُ قَدْ قُتِلَ وَقَدْ مَثَّلَ بِهِ الْمُشْرِكُونَ، فَمَا عَرَفَهُ أَحَدٌ إِلاَّ أُخْتُهُ بِبَنَانِهِ.قَالَ أَنَسٌ كُنَّا نَرَى أَوْ نَظُنُّ أَنَّ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ فِيهِ وَفِى أَشْبَاهِهِ {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ(1/149)
صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} (23) سورة الأحزاب (أخرجه البخاري) (1).
وعَنْ أَنَسٍ،" أَنَّ ثَابِتَ بْنَ قَيْسٍ جَاءَ يَوْمَ الْيَمَامَةِ وَقَدْ تَحَنَّطَ وَلَبِسَ أَكْفَانَهُ وَقَدِ انْهَزَمَ أَصْحَابُهُ، وَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا جَاءَ بِهِ هَؤُلَاءِ، وَأَعْتَذِرُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ هَؤُلَاءِ، فَبِئْسَ مَا عَوَّدْتُمْ أَقْرَانَكُمْ خَلُّوا بَيْنَنَا وَبَيْنَ أَقْرَانِنَا سَاعَةً، ثُمَّ حَمَلَ فَقَاتَلَ سَاعَةً فَقُتِلَ، وَكَانَتْ دِرْعُهُ قَدْ سُرِقَتْ، فَرَآهُ رَجُلٌ فِيمَا يَرَى النَّائِمُ، فَقَالَ: إِنَّ دِرْعِي فِي قِدْرٍ تَحْتَ إِكَافٍ بِمَكَانِ كَذَا وَكَذَا، وَأَوْصَى بِوَصَايَا، فَطَلَبَ الدِّرْعَ فَوَجَدَ حَيْثُ قَالَ: فَأَنْفَذُوا وَصِيَّتَهُ " (أخرجه الحاكم في المستدرك) (2)
12 - الجِدُّ في العمل الذي يرضي اللهَ، والتواضعُ والبعدُ عن التكبر، وزعمِ استقلال الأسبابِ في إيجاد المسبباتِ، والرضا والاطمئنانُ والصبرُ والثباتُ، وعدمِ التسخُّطِ والقلقِ في الحياةِ، بخلافِ من لم يؤمنْ بالقدرِ، فإنهُ يصابُ بالكبرياءِ، ويزعمُ أنَّ ما أتاه اللهُ من ملكٍ وجاهٍ وغيره، إنما أوتيهُ بعلمهِ المستقلِّ عن اللهِ وبعلمِه وخبرتهِ، فإذا أصيبَ في شيءٍ من ذلك قلقَ واضطربتْ حياتهُ، وقد يصلُ به الأمر إلى إزهاقِ روحهِ لعدمِ صبرهِ وشدةِ تسخطهِ، كما هو حاصلٌ كثيراً اليومَ، وبخاصةٍ في العالم الذي بلغَ مبلغاً عظيماً من الرقيِّ الماديِّ.
قال تعالى عن قارون: {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآَتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76) وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآَخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77) قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78) [القصص/76،78]}
__________
(1) - برقم (2805)
(2) - الْمُسْتَدْرَكُ عَلَى الصَّحِيحَيْنِ لِلْحَاكِمِ (5024) وصححه ووافقه الذهبي(1/150)
و عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - قَالَ شَهِدْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ لِرَجُلٍ مِمَّنْ يَدَّعِى الإِسْلاَمَ «هَذَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ».فَلَمَّا حَضَرَ الْقِتَالُ قَاتَلَ الرَّجُلُ قِتَالاً شَدِيدًا، فَأَصَابَتْهُ جِرَاحَةٌ فَقِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، الَّذِى قُلْتَ إِنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَإِنَّهُ قَدْ قَاتَلَ الْيَوْمَ قِتَالاً شَدِيدًا وَقَدْ مَاتَ. فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - «إِلَى النَّارِ».قَالَ فَكَادَ بَعْضُ النَّاسِ أَنْ يَرْتَابَ، فَبَيْنَمَا هُمْ عَلَى ذَلِكَ إِذْ قِيلَ إِنَّهُ لَمْ يَمُتْ، وَلَكِنَّ بِهِ جِرَاحًا شَدِيدًا. فَلَمَّا كَانَ مِنَ اللَّيْلِ لَمْ يَصْبِرْ عَلَى الْجِرَاحِ، فَقَتَلَ نَفْسَهُ، فَأُخْبِرَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - بِذَلِكَ فَقَالَ «اللَّهُ أَكْبَرُ، أَشْهَدُ أَنِّى عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ».ثُمَّ أَمَرَ بِلاَلاً فَنَادَى بِالنَّاسِ «إِنَّهُ لاَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلاَّ نَفْسٌ مُسْلِمَةٌ، وَإِنَّ اللَّهَ لَيُؤَيِّدُ هَذَا الدِّينَ بِالرَّجُلِ الْفَاجِرِ» (أخرجه البخاري ومسلم) (1).
__________
(1) - البخارى برقم (3062) ومسلم برقم (319)(1/151)
سادسا
الإيمانُ باليوم الآخر
1 - ونؤمن بفتنة القبر، ونعيمه للمؤمنين، وبعذابه لمن كان له أهلاً:
كما جاءت به الأخبار متواترة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -،قال تعالى آل فرعون: (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيَّاً وَيَومَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آل فِرْعَوْنَ أَشَدَّ العَذَابِ) [غافر:46].و عَنْ زَيْدِ بْنِ ثابت قَالَ: بَيْنَمَا النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - فِى حَائِطٍ لِبَنِى النَّجَّارِ عَلَى بَغْلَةٍ لَهُ وَنَحْنُ مَعَهُ إِذْ حَادَتْ بِهِ فَكَادَتْ تُلْقِيهِ وَإِذَا أَقْبُرٌ سِتَّةٌ أَوْ خَمْسَةٌ أَوْ أَرْبَعَةٌ - قَالَ كَذَا كَانَ يَقُولُ الْجُرَيْرِىُّ - فَقَالَ «مَنْ يَعْرِفُ أَصْحَابَ هَذِهِ الأَقْبُرِ».فَقَالَ رَجُلٌ أَنَا. قَالَ «فَمَتَى مَاتَ هَؤُلاَءِ».قَالَ مَاتُوا فِى الإِشْرَاكِ. فَقَالَ «إِنَّ هَذِهِ الأُمَّةَ تُبْتَلَى فِى قُبُورِهَا فَلَوْلاَ أَنْ لاَ تَدَافَنُوا لَدَعَوْتُ اللَّهَ أَنْ يُسْمِعَكُمْ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ الَّذِى أَسْمَعُ مِنْهُ».ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ فَقَالَ «تَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنْ عَذَابِ النَّارِ».قَالُوا نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ عَذَابِ النَّارِ فَقَالَ «تَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ».قَالُوا نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ. قَالَ «تَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنَ الْفِتَنِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ».قَالُوا نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الْفِتَنِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ قَالَ «تَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ».قَالُوا نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ. (أخرجه مسلم) (1)
وفتنة القبر: هي سؤال منكر ونكير للعبد فيه عن ربه ودينه ونبيه، فيثبِّت الله الذين آمنوا بالقول الثابت:
فعَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ خَرَجْنَا مَعَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فِى جَنَازَةِ رَجُلٍ مِنَ الأَنْصَارِ فَانْتَهَيْنَا إِلَى الْقَبْرِ وَلَمَّا يُلْحَدْ فَجَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَجَلَسْنَا حَوْلَهُ كَأَنَّ عَلَى رُءُوسِنَا الطَّيْرَ وَفِى يَدِهِ عُودٌ يَنْكُتُ بِهِ فِى الأَرْضِ فَرَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ «اسْتَعِيذُوا بِاللَّهِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ».مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاَثاً ثُمَّ قَالَ «إِنَّ الْعَبْدَ الْمُؤْمِنَ إِذَا كَانَ فِى انْقِطَاعٍ مِنَ الدُّنْيَا وَإِقْبَالٍ مِنَ الآخِرَةِ نَزَلَ إِلَيْهِ مَلاَئِكَةٌ مِنَ السَّمَاءِ بِيضُ الْوُجُوهِ كَأَنَّ وُجُوهَهُمُ الشَّمْسُ مَعَهُمْ كَفَنٌ
__________
(1) - برقم (7392)(1/152)
مِنْ أَكْفَانِ الْجَنَّةِ وَحَنُوطٌ مِنْ حَنُوطِ الْجَنَّةِ حَتَّى يَجْلِسُوا مِنْهُ مَدَّ الْبَصَرِ ثُمَّ يَجِىءُ مَلَكُ الْمَوْتِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ حَتَّى يَجْلِسَ عِنْدَ رَأْسِهِ فَيَقُولُ أَيَّتُهَا النَّفْسُ الطَّيِّبَةُ اخْرُجِى إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ - قَالَ - فَتَخْرُجُ تَسِيلُ كَمَا تَسِيلُ الْقَطْرَةُ مِنْ فِى السِّقَاءِ فَيَأْخُذُهَا فَإِذَا أَخَذَهَا لَمْ يَدَعُوهَا فِى يَدِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ حَتَّى يَأْخُذُوهَا فَيَجْعَلُوهَا فِى ذَلِكَ الْكَفَنِ وَفِى ذَلِكَ الْحَنُوطِ وَيَخْرُجُ مِنْهَا كَأَطْيَبِ نَفْحَةِ مِسْكٍ وُجِدَتْ عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ - قَالَ - فَيَصْعَدُونَ بِهَا فَلاَ يَمُرُّونَ - يَعْنِى بِهَا - عَلَى مَلأٍ مِنَ الْمَلاَئِكَةِ إِلاَّ قَالُوا مَا هَذَا الرُّوحُ الطَّيِّبُ فَيَقُولُونَ فُلاَنُ بْنُ فُلاَنٍ بِأَحْسَنِ أَسْمَائِهِ الَّتِى كَانُوا يُسَمُّونَهُ بِهَا فِى الدُّنْيَا حَتَّى يَنْتَهُوا بِهَا إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا فَيَسْتَفْتِحُونَ لَهُ فَيُفْتَحُ لَهُمْ فَيُشَيِّعُهُ مِنْ كُلِّ سَمَاءٍ مُقَرَّبُوهَا إِلَى السَّمَاءِ الَّتِى تَلِيهَا حَتَّى يُنْتَهَى بِهِ إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ اكْتُبُوا كِتَابَ عَبْدِى فِى عِلِّيِّينَ وَأَعِيدُوهُ إِلَى الأَرْضِ فَإِنِّى مِنْهَا خَلَقْتُهُمْ وَفِيهَا أُعِيدُهُمْ وَمِنْهَا أُخْرِجُهُمْ تَارَةً أُخْرَى - قَالَ - فَتُعَادُ رُوحُهُ فِى جَسَدِهِ فَيَأْتِيهِ مَلَكَانِ فَيُجْلِسَانِهِ فَيَقُولاَنَ لَهُ مَنْ رَبُّكَ فَيَقُولُ رَبِّىَ اللَّهُ. فَيَقُولاَنِ لَهُ مَا دِينُكَ فَيَقُولُ دِينِىَ الإِسْلاَمُ. فَيَقُولاَنِ لَهُ مَا هَذَا الرَّجُلُ الَّذِى بُعِثَ فِيكُمْ فَيَقُولُ هُوَ رَسُولُ اللَّهِ.فَيَقُولاَنِ لَهُ وَمَا عِلْمُكَ فَيَقُولُ قَرَأْتُ كِتَابَ اللَّهِ فَآمَنْتُ بِهِ وَصَدَّقْتُ.فَيُنَادِى مُنَادٍ فِى السَّمَاءِ أَنْ صَدَقَ عَبْدِى فَأَفْرِشُوهُ مِنَ الْجَنَّةِ وَأَلْبِسُوهُ مِنَ الْجَنَّةِ وَافْتَحُوا لَهُ بَاباً إِلَى الْجَنَّةِ - قَالَ - فَيَأْتِيهِ مِنْ رَوْحِهَا وَطِيبِهَا وَيُفْسَحُ لَهُ فِى قَبْرِهِ مَدَّ بَصَرِهِ - قَالَ - وَيَأْتِيهِ رَجُلٌ حَسَنُ الْوَجْهِ حَسَنُ الثِّيَابِ طَيِّبُ الرِّيحِ فَيَقُولُ أَبْشِرْ بِالَّذِى يَسُرُّكَ هَذَا يَوْمُكَ الَّذِى كُنْتَ تُوعَدُ فَيَقُولُ لَهُ مَنْ أَنْتَ فَوَجْهُكَ الْوَجْهُ يَجِىءُ بِالْخَيْرِ فَيَقُولُ أَنَا عَمَلُكَ الصَّالِحُ. فَيَقُولُ رَبِّ أَقِمِ السَّاعَةَ حَتَّى أَرْجِعَ إِلَى أَهْلِى وَمَالِى. قَالَ وَإِنَّ الْعَبْدَ الْكَافِرَ إِذَا كَانَ فِى انْقِطَاعٍ مِنَ الدُّنْيَا وَإِقْبَالٍ مِنَ الآخِرَةِ نَزَلَ إِلَيْهِ مِنَ السَّمَاءِ مَلاَئِكَةٌ سُودُ الْوُجُوهِ مَعَهُمُ الْمُسُوحُ فَيَجْلِسُونَ مِنْهُ مَدَّ الْبَصَرِ ثُمَّ يَجِىءُ مَلَكُ الْمَوْتِ حَتَّى يَجْلِسَ عِنْدَ رَأْسِهِ فَيَقُولُ أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْخَبِيثَةُ اخْرُجِى إِلَى سَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَغَضَبٍ - قَالَ - فَتُفَرَّقُ فِى جَسَدِهِ فَيَنْتَزِعُهَا كَمَا يُنْتَزَعُ السَّفُّودُ مِنَ الصُّوفِ الْمَبْلُولِ فَيَأْخُذُهَا فَإِذَا أَخَذَهَا لَمْ يَدَعُوهَا فِى يَدِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ حَتَّى يَجْعَلُوهَا فِى تِلْكَ الْمُسُوحِ وَيَخْرُجُ مِنْهَا كَأَنْتَنِ رِيحِ جِيفَةٍ وُجِدَتْ عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ(1/153)
فَيَصْعَدُونَ بِهَا فَلاَ يَمُرُّونَ بِهَا عَلَى مَلأٍ مِنَ الْمَلاَئِكَةِ إِلاَّ قَالُوا مَا هَذَا الرُّوحُ الْخَبِيثُ فَيَقُولُونَ فُلاَنُ بْنُ فُلاَنٍ بِأَقْبَحِ أَسْمَائِهِ الَّتِى كَانَ يُسَمَّى بِهَا فِى الدُّنْيَا حَتَّى يُنْتَهَى بِهِ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا فَيُسْتَفْتَحُ لَهُ فَلاَ يُفْتَحُ لَهُ».ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - (لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِى سَمِّ الْخِيَاطِ) «فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ اكْتُبُوا كِتَابَهُ فِى سِجِّينٍ فِى الأَرْضِ السُّفْلَى فَتُطْرَحُ رُوحُهُ طَرْحاً».ثُمَّ قَرَأَ (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِى بِهِ الرِّيحُ فِى مَكَانٍ سَحِيقٍ) «فَتُعَادُ رُوحُهُ فِى جَسَدِهِ وَيَأْتِيهِ مَلَكَانِ فَيُجْلِسَانِهِ فَيَقُولاَنِ لَهُ مَنْ رَبُّكَ فَيَقُولُ هَاهْ هَاهْ لاَ أَدْرِى. فَيَقُولاَنِ لَهُ مَا دِينُكَ فَيَقُولُ هَاهْ هَاهْ لاَ أَدْرِى. فَيَقُولاَنِ لَهُ مَا هَذَا الرَّجُلُ الَّذِى بُعِثَ فِيكُمْ فَيَقُولُ هَاهْ هَاهْ لاَ أَدْرِى. فَيُنَادِى مُنَادٍ مِنَ السَّمَاءِ أَنْ كَذَبَ فَافْرِشُوا لَهُ مِنَ النَّارِ وَافْتَحُوا لَهُ بَاباً إِلَى النَّارِ فَيَأْتِيهِ مِنْ حَرِّهَا وَسَمُومِهَا وَيُضَيَّقُ عَلَيْهِ قَبْرُهُ حَتَّى تَخْتَلِفَ فِيهِ أَضْلاَعُهُ وَيَأْتِيهِ رَجُلٌ قَبِيحُ الْوَجْهِ قَبِيحُ الثِّيَابِ مُنْتِنُ الرِّيحِ فَيَقُولُ أَبْشِرْ بِالَّذِى يَسُوءُكَ هَذَا يَوْمُكَ الَّذِى كُنْتَ تُوعَدُ. فَيَقُولُ مَنْ أَنْتَ فَوَجْهُكَ الْوَجْهُ يَجِىءُ بِالشَّرِّ فَيَقُولُ أَنَا عَمَلُكَ الْخَبِيثُ فَيَقُولُ رَبِّ لاَ تُقِمِ السَّاعَةَ». (أخرجه أحمد) (1).
وأحوالُ البرزخ من أمور الغيب التي يدركها الميت ُدون غيره، وهي لا تدركُ بالحسَّ في الحياة الدنيا، ولذلك فالإيمانُ بها مما يميزُ المؤمنَ بالغيب عن المكذب به. (2).
2 - ونؤمن بأشراط الساعة التي أخبر الله تعالى بها في كتابه، وأخبر بها نبيه عليه الصلاة والسلام في سنته:
من خروج الدجالِ على الحقيقة، ونؤمنُ بنزول عيسى ابن مريم عليه السلام وهو الذي يقتلُه، وبطلوعِ الشمس من مغربها، وبخروجِ دابة الأرضِ، وسائرِ ما أخبر الله تعالى به، أو أخبرَ به نبيُه عليه الصلاة والسلام. فعَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ أَسِيدٍ الْغِفَارِىِّ قَالَ اطَّلَعَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - عَلَيْنَا وَنَحْنُ نَتَذَاكَرُ فَقَالَ «مَا تَذَاكَرُونَ».قَالُوا نَذْكُرُ السَّاعَةَ. قَالَ «إِنَّهَا لَنْ تَقُومَ حَتَّى تَرَوْنَ قَبْلَهَا عَشْرَ آيَاتٍ».فَذَكَرَ الدُّخَانَ وَالدَّجَّالَ وَالدَّابَّةَ وَطُلُوعَ الشَّمْسِ
__________
(1) - مسند أحمد برقم (19038) وأبو داود برقم (4755) وتهذيب الآثار للطبري - (ج 2 / ص 212) برقم (171) ومصنف ابن أبي شيبة برقم (12058) وهو حديث صحيح، وأهم حديث في هذا الباب
(2) - انظر التفاصيل في كتابي الاستعداد للموت(1/154)
مِنْ مَغْرِبِهَا وَنُزُولَ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ - صلى الله عليه وسلم - وَيَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ وَثَلاَثَةَ خُسُوفٍ خَسْفٌ بِالْمَشْرِقِ وَخَسْفٌ بِالْمَغْرِبِ وَخَسْفٌ بِجَزِيرَةِ الْعَرَبِ وَآخِرُ ذَلِكَ نَارٌ تَخْرُجُ مِنَ الْيَمَنِ تَطْرُدُ النَّاسَ إِلَى مَحْشَرِهِمْ. (أخرجه مسلم) (1).
وعَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ أَسِيدٍ قَالَ كَانَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - فِى غُرْفَةٍ وَنَحْنُ أَسْفَلَ مِنْهُ فَاطَّلَعَ إِلَيْنَا فَقَالَ «مَا تَذْكُرُونَ».قُلْنَا السَّاعَةَ. قَالَ «إِنَّ السَّاعَةَ لاَ تَكُونُ حَتَّى تَكُونَ عَشْرُ آيَاتٍ خَسْفٌ بِالْمَشْرِقِ وَخَسْفٌ بِالْمَغْرِبِ وَخَسْفٌ فِى جَزِيرَةِ الْعَرَبِ وَالدُّخَانُ وَالدَّجَّالُ وَدَابَّةُ الأَرْضِ وَيَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَطُلُوعُ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا وَنَارٌ تَخْرُجُ مِنْ قُعْرَةِ عَدَنٍ تَرْحَلُ النَّاسَ». (أخرجه مسلم) (2).
وعَنِ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ قَالَ ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الدَّجَّالَ ذَاتَ غَدَاةٍ فَخَفَّضَ فِيهِ وَرَفَّعَ حَتَّى ظَنَنَّاهُ فِى طَائِفَةِ النَّخْلِ فَلَمَّا رُحْنَا إِلَيْهِ عَرَفَ ذَلِكَ فِينَا فَقَالَ «مَا شَأْنُكُمْ».قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ ذَكَرْتَ الدَّجَّالَ غَدَاةً فَخَفَّضْتَ فِيهِ وَرَفَّعْتَ حَتَّى ظَنَنَّاهُ فِى طَائِفَةِ النَّخْلِ. فَقَالَ «غَيْرُ الدَّجَّالِ أَخْوَفُنِى عَلَيْكُمْ إِنْ يَخْرُجْ وَأَنَا فِيكُمْ فَأَنَا حَجِيجُهُ دُونَكُمْ وَإِنْ يَخْرُجْ وَلَسْتُ فِيكُمْ فَامْرُؤٌ حَجِيجُ نَفْسِهِ وَاللَّهُ خَلِيفَتِى عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ إِنَّهُ شَابٌّ قَطَطٌ عَيْنُهُ طَافِئَةٌ كَأَنِّى أُشَبِّهُهُ بِعَبْدِ الْعُزَّى بْنِ قَطَنٍ فَمَنْ أَدْرَكَهُ مِنْكُمْ فَلْيَقْرَأْ عَلَيْهِ فَوَاتِحَ سُورَةِ الْكَهْفِ إِنَّهُ خَارِجٌ خَلَّةً بَيْنَ الشَّأْمِ وَالْعِرَاقِ فَعَاثَ يَمِينًا وَعَاثَ شِمَالاً يَا عِبَادَ اللَّهِ فَاثْبُتُوا».قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا لَبْثُهُ فِى الأَرْضِ قَالَ «أَرْبَعُونَ يَوْمًا يَوْمٌ كَسَنَةٍ وَيَوْمٌ كَشَهْرٍ وَيَوْمٌ كَجُمُعَةٍ وَسَائِرُ أَيَّامِهِ كَأَيَّامِكُمْ».قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ فَذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِى كَسَنَةٍ أَتَكْفِينَا فِيهِ صَلاَةُ يَوْمٍ قَالَ «لاَ اقْدُرُوا لَهُ قَدْرَهُ».قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا إِسْرَاعُهُ فِى الأَرْضِ قَالَ «كَالْغَيْثِ اسْتَدْبَرَتْهُ الرِّيحُ فَيَأْتِى عَلَى الْقَوْمِ فَيَدْعُوهُمْ فَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَجِيبُونَ لَهُ فَيَأْمُرُ السَّمَاءَ فَتُمْطِرُ وَالأَرْضَ فَتُنْبِتُ فَتَرُوحُ عَلَيْهِمْ سَارِحَتُهُمْ أَطْوَلَ مَا كَانَتْ ذُرًا وَأَسْبَغَهُ ضُرُوعًا وَأَمَدَّهُ خَوَاصِرَ ثُمَّ يَأْتِى الْقَوْمَ فَيَدْعُوهُمْ فَيَرُدُّونَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ فَيَنْصَرِفُ عَنْهُمْ فَيُصْبِحُونَ مُمْحِلِينَ لَيْسَ بِأَيْدِيهِمْ شَىْءٌ مِنْ أَمْوَالِهِمْ وَيَمُرُّ بِالْخَرِبَةِ فَيَقُولُ
__________
(1) - برقم (7467)
(2) -برقم (7468)(1/155)
لَهَا أَخْرِجِى كُنُوزَكِ. فَتَتْبَعُهُ كُنُوزُهَا كَيَعَاسِيبِ النَّحْلِ ثُمَّ يَدْعُو رَجُلاً مُمْتَلِئًا شَبَابًا فَيَضْرِبُهُ بِالسَّيْفِ فَيَقْطَعُهُ جَزْلَتَيْنِ رَمْيَةَ الْغَرَضِ ثُمَّ يَدْعُوهُ فَيُقْبِلُ وَيَتَهَلَّلُ وَجْهُهُ يَضْحَكُ فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ بَعَثَ اللَّهُ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ فَيَنْزِلُ عِنْدَ الْمَنَارَةِ الْبَيْضَاءِ شَرْقِىَّ دِمَشْقَ بَيْنَ مَهْرُودَتَيْنِ وَاضِعًا كَفَّيْهِ عَلَى أَجْنِحَةِ مَلَكَيْنِ إِذَا طَأْطَأَ رَأَسَهُ قَطَرَ وَإِذَا رَفَعَهُ تَحَدَّرَ مِنْهُ جُمَانٌ كَاللُّؤْلُؤِ فَلاَ يَحِلُّ لِكَافِرٍ يَجِدُ رِيحَ نَفَسِهِ إِلاَّ مَاتَ وَنَفَسُهُ يَنْتَهِى حَيْثُ يَنْتَهِى طَرْفُهُ فَيَطْلُبُهُ حَتَّى يُدْرِكَهُ بِبَابِ لُدٍّ فَيَقْتُلُهُ ثُمَّ يَأْتِى عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ قَوْمٌ قَدْ عَصَمَهُمُ اللَّهُ مِنْهُ فَيَمْسَحُ عَنْ وُجُوهِهِمْ وَيُحَدِّثُهُمْ بِدَرَجَاتِهِمْ فِى الْجَنَّةِ فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ أَوْحَى اللَّهُ إِلَى عِيسَى إِنِّى قَدْ أَخْرَجْتُ عِبَادًا لِى لاَ يَدَانِ لأَحَدٍ بِقِتَالِهِمْ فَحَرِّزْ عِبَادِى إِلَى الطُّورِ. وَيَبْعَثُ اللَّهُ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ فَيَمُرُّ أَوَائِلُهُمْ عَلَى بُحَيْرَةِ طَبَرِيَّةَ فَيَشْرَبُونَ مَا فِيهَا وَيَمُرُّ آخِرُهُمْ فَيَقُولُونَ لَقَدْ كَانَ بِهَذِهِ مَرَّةً مَاءٌ. وَيُحْصَرُ نَبِىُّ اللَّهُ عِيسَى وَأَصْحَابُهُ حَتَّى يَكُونَ رَأْسُ الثَّوْرِ لأَحَدِهِمْ خَيْرًا مِنْ مِائَةِ دِينَارٍ لأَحَدِكُمُ الْيَوْمَ فَيَرْغَبُ نَبِىُّ اللَّهِ عِيسَى وَأَصْحَابُهُ فَيُرْسِلُ اللَّهُ عَلَيْهُمُ النَّغَفَ فِى رِقَابِهِمْ فَيُصْبِحُونَ فَرْسَى كَمَوْتِ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ يَهْبِطُ نَبِىُّ اللَّهِ عِيسَى وَأَصْحَابُهُ إِلَى الأَرْضِ فَلاَ يَجِدُونَ فِى الأَرْضِ مَوْضِعَ شِبْرٍ إِلاَّ مَلأَهُ زَهَمُهُمْ وَنَتْنُهُمْ فَيَرْغَبُ نَبِىُّ اللَّهِ عِيسَى وَأَصْحَابُهُ إِلَى اللَّهِ فَيُرْسِلُ اللَّهُ طَيْرًا كَأَعْنَاقِ الْبُخْتِ فَتَحْمِلُهُمْ فَتَطْرَحُهُمْ حَيْثُ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ يُرْسِلُ اللَّهُ مَطَرًا لاَ يَكُنُّ مِنْهُ بَيْتُ مَدَرٍ وَلاَ وَبَرٍ فَيَغْسِلُ الأَرْضَ حَتَّى يَتْرُكَهَا كَالزَّلَفَةِ ثُمَّ يُقَالُ لِلأَرْضِ أَنْبِتِى ثَمَرَتَكِ وَرُدِّى بَرَكَتَكِ. فَيَوْمَئِذٍ تَأْكُلُ الْعِصَابَةُ مِنَ الرُّمَّانَةِ وَيَسْتَظِلُّونَ بِقِحْفِهَا وَيُبَارَكُ فِى الرِّسْلِ حَتَّى أَنَّ اللِّقْحَةَ مِنَ الإِبِلِ لَتَكْفِى الْفِئَامَ مِنَ النَّاسِ وَاللِّقْحَةَ مِنَ الْبَقَرِ لَتَكْفِى الْقَبِيلَةَ مِنَ النَّاسِ وَاللِّقْحَةَ مِنَ الْغَنَمِ لَتَكْفِى الْفَخِذَ مِنَ النَّاسِ فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ بَعَثَ اللَّهُ رِيحًا طَيِّبَةً فَتَأْخُذُهُمْ تَحْتَ آبَاطِهِمْ فَتَقْبِضُ رُوحَ كُلِّ مُؤْمِنٍ وَكُلِّ مُسْلِمٍ وَيَبْقَى شِرَارُ النَّاسِ يَتَهَارَجُونَ فِيهَا تَهَارُجَ الْحُمُرِ فَعَلَيْهِمْ تَقُومُ السَّاعَةُ» (أخرجه مسلم) (1).
__________
(1) - برقم (7560)
البخت: واحدتها البختية وهى الناقة طويلة العنق ذات السنامين =الحدب: الغليظ من الأرض فى ارتفاع =حرز: ضم =خلة: طريق =الذرى: جمع الذروة وهى أعلى الشىء والمراد السنام -الرسل: اللبن =يرغب: يدعو =الزلفة: المكان يحفر ليحبس فيه ماء السماء وقيل المرآة =الزهم: الريح المنتنة =الزهمة: الريح المنتنة =السارحة: الماشية =اليعاسيب: جمع يعسوب وهو ذكر النحل = عاث: أفسد =الفئام: الجماعة الكثيرة =الفخذ: حى الرجل إذا كان من أقرب عشيرته =الفرسى: جمع الفريس وهم القتلى =القحف: القشر =القطط: شديد جعودة شعر الرأس =يكن: يستر =اللقحة: الناقة ذات اللبن قريبة العهد بالولادة =الممحل: المجدب المقحط =الْمدر: القرى والأمصار واحدتها مدرة = ينسلون: يخرجون مسرعين =النغف: جمع النغفة وهو دود يوجد فى أنوف الإبل والغنم فتموت به فى أقرب وقت =يتهارجون: يجامعون النساء بحضرة الناس =المهرودة: الحلة أو الشقة وقيل الثوب المهرود الذى يصبغ بالورس والزعفران =الوبَر: البيت المتخذ من صوف الإبل والمراد أهل البادية = وانظر كتابي الخلاضة في أشراط الساعة الكبرى(1/156)
وأما اليوم الآخر: فالمراد باليوم الآخر: هو يوم القيامة الذي يبعث الله فيه الناس للحساب والجزاء. وسمي بذلك لأنه لا يوم بعده حيث يستقر أهل الجنة في منازلهم وأهل النار في منازلهم.
* مفهومُ الإيمان باليوم الآخر:
هو الاعتقادُ الجازم بصحة إخبارِ الله تعالى وإخبارِ رسله عليهم الصلاة والسلام بفناءِ هذه الدنيا، وما يسبقُ ذلك من أماراتٍ وما يقع في اليومِ الآخر من أهوالِ واختلافِ أحوال، كذلك التصديقُ بالأخبارِ الواردة عن الآخرةِ وما فيها من النعيم والعذاب، وما يجري فيها من الأمور العظامِ، كبعث الخلائقِ وحشرهم ومحاسبتهم ومجازاتهم على أعمالهِم الاختياريةِ التي قاموا بها في الحياةِ الدنيا.
*ما يتضمنه الإيمان باليوم الآخر:
1. الإيمان بالبعث: وهو إحياءُ الموتى حين ينفخُ في الصُّور النفخةَ الثانية، قال تعالى: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ {48} مَا يَنظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ {49} فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ {50} وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُم مِّنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ {51} قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ {52} إِن كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ {53} فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ {54} (سورة يس)،وقال تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُم قِيَامٌ يَنظُرُونَ(1/157)
{68} وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاء وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ {69} وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ {70} (سورة الزمر).
فيقومُ الناس لرب ِّالعالمين، حفاةً عراةً غرلاً، قال الله تعالى: {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ (15) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ (16) [المؤمنون/15 - 17]}،وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ «يُحْشَرُ النَّاسُ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلاً فَأَوَّلُ مَنْ يُكْسَى إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ ثُمَّ قَرَأَ (كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ). (أخرجه أحمد) (1).
2. الإيمان بالحساب والجزاء: فكلُّ إنسان يحاسَبُ على عملهِ في الدنيا، ثم يوفَّى حسابَهُ قال الله تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} (47) سورة الأنبياء. وقال تعالى: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ {71} قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ {72} وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ {73} وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاء فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ {74} (سورة الزمر).
3. ونؤمنُ بحوض نبينا محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - في عرَصات القيامة، وأن ماءَه أشدُّ بياضاً من اللبن وأحلَى من العسلِ، وآنيتَهُ بعددِ نجومِ السماء، وطولَهُ شهرٌ، وعرضَه شهرٌُ، من شربَ منه شربةً لم يظمأْ بعدها أبداً، عَنْ أَبِى ذَرٍّ قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا آنِيَةُ الْحَوْضِ قَالَ «وَالَّذِى نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لآنِيَتُهُ أَكْثَرُ مِنْ عَدَدِ نُجُومِ السَّمَاءِ وَكَوَاكِبِهَا أَلاَ فِى اللَّيْلَةِ الْمُظْلِمَةِ الْمُصْحِيَةِ آنِيَةُ الْجَنَّةِ مَنْ شَرِبَ مِنْهَا لَمْ يَظْمَأْ آخِرَ مَا عَلَيْهِ يَشْخُبُ فِيهِ مِيزَابَانِ
__________
(1) - برقم (1978) وابن حبان برقم (7442 و7445) وهو صحيح = الغرل: جمع أغرل وهو الذى لم يختتن(1/158)
مِنَ الْجَنَّةِ مَنْ شَرِبَ مِنْهُ لَمْ يَظْمَأْ عَرْضُهُ مِثْلُ طُولِهِ مَا بَيْنَ عَمَّانَ إِلَى أَيْلَةَ مَاؤُهُ أَشَدُّ بَيَاضًا مِنَ اللَّبَنِ وَأَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ». (أخرجه مسلم) (1).
4. وأنَّ أصنافاً من أمةِ محمد - صلى الله عليه وسلم - سيُذادونَ عنه، ويمنعونَ من ورودهِ، عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَتَى الْمَقْبُرَةَ فَقَالَ «السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لاَحِقُونَ وَدِدْتُ أَنَّا قَدْ رَأَيْنَا إِخْوَانَنَا».قَالُوا أَوَلَسْنَا إِخْوَانَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ «أَنْتُمْ أَصْحَابِى وَإِخْوَانُنَا الَّذِينَ لَمْ يَأْتُوا بَعْدُ».فَقَالُوا كَيْفَ تَعْرِفُ مَنْ لَمْ يَأْتِ بَعْدُ مِنْ أُمَّتِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ «أَرَأَيْتَ لَوْ أَنَّ رَجُلاً لَهُ خَيْلٌ غُرٌّ مُحَجَّلَةٌ بَيْنَ ظَهْرَىْ خَيْلٍ دُهْمٍ بُهْمٍ أَلاَ يَعْرِفُ خَيْلَهُ».قَالُوا بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ «فَإِنَّهُمْ يَأْتُونَ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنَ الْوُضُوءِ وَأَنَا فَرَطُهُمْ عَلَى الْحَوْضِ أَلاَ لَيُذَادَنَّ رِجَالٌ عَنْ حَوْضِى كَمَا يُذَادُ الْبَعِيرُ الضَّالُّ أُنَادِيهِمْ أَلاَ هَلُمَّ. فَيُقَالُ إِنَّهُمْ قَدْ بَدَّلُوا بَعْدَكَ. فَأَقُولُ سُحْقًا سُحْقًا». (أخرجه مسلم) (2)
وعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ قَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - «إِنِّى فَرَطُكُمْ عَلَى الْحَوْضِ، مَنْ مَرَّ عَلَىَّ شَرِبَ، وَمَنْ شَرِبَ لَمْ يَظْمَأْ أَبَدًا، لَيَرِدَنَّ عَلَىَّ أَقْوَامٌ أَعْرِفُهُمْ وَيَعْرِفُونِى، ثُمَّ يُحَالُ بَيْنِى وَبَيْنَهُمْ، فَأَقُولُ إِنَّهُمْ مِنِّى. فَيُقَالُ إِنَّكَ لاَ تَدْرِى مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ. فَأَقُولُ سُحْقًا سُحْقًا لِمَنْ غَيَّرَ بَعْدِى» (أخرجه البخاري) (3).
5. وفي ذلك اليوم تدنو فيه الشمسُ من رؤوس العباد، حتى يكونَ عرقُ الناس على قدرِ أعمالهم، فعن الْمِقْدَادِ بْنِ الأَسْوَدِ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ «تُدْنَى الشَّمْسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْخَلْقِ حَتَّى تَكُونَ مِنْهُمْ كَمِقْدَارِ مِيلٍ». «فَيَكُونُ النَّاسُ عَلَى قَدْرِ أَعْمَالِهِمْ فِى الْعَرَقِ فَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى كَعْبَيْهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى رُكْبَتَيْهِ
__________
(1) - برقم (6129) وحديثه متواتر
(2) - برقم (607) - بهم: جمع بهيم وهو الأسود وقيل الذى لايخالط لونه لون سواه =الدهم: جمع أدهم وهو الأسود
(3) - برقم (6583)(1/159)
وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى حَقْوَيْهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يُلْجِمُهُ الْعَرَقُ إِلْجَامًا».قَالَ وَأَشَارَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِيَدِهِ إِلَى فِيهِ. (أخرجه مسلم) (1).
6. ونؤمنُ بالصِّراط المنصوبِ على مَتن جهنمَ، وهو الجسرُ الذي بين الجنةِ والنارِ، يمرُّ عليه الناسُ على قدرِ أعمالهِم، فمنهم مَنْ يمرُّ كلمحِ البصر، ومنهم مَنْ يمرُّ كالبرق، ومنهم من يمرُّ كالريحِ، ومنهم من يمرُّ كالفرس الجوادِ، ومنهم من يمرُّ كركابِ الإبل، ومنهم من يعدو عدواً، ومنهم من يمشي مشياً، ومنهم ومن يزحفُ زحفاً، ومنهم من يُخطف خطفاً ويُلقَى في جهنم، فإنَّ على الجسر كلاليبَ تخطفُ الناسَ بأعمالهم، فمنْ مر َّ على الصراطِ دخل الجنةَ ونجا. عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «.0 وَيُضْرَبُ جِسْرُ جَهَنَّمَ».قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يُجِيزُ، وَدُعَاءُ الرُّسُلِ يَوْمَئِذٍ اللَّهُمَّ سَلِّمْ سَلِّمْ، وَبِهِ كَلاَلِيبُ مِثْلُ شَوْكِ السَّعْدَانِ، أَمَا رَأَيْتُمْ شَوْكَ السَّعْدَانِ».قَالُوا بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ «فَإِنَّهَا مِثْلُ شَوْكِ السَّعْدَانِ، غَيْرَ أَنَّهَا لاَ يَعْلَمُ قَدْرَ عِظَمِهَا إِلاَّ اللَّهُ، فَتَخْطَفُ النَّاسَ بِأَعْمَالِهِمْ، مِنْهُمُ الْمُوبَقُ، بِعَمَلِهِ وَمِنْهُمُ الْمُخَرْدَلُ، ثُمَّ يَنْجُو» (أخرجه البخاري ومسلم) (2)
7. فإذا عبروا عليه، وقفوا عند قنطرة بين الجنة والنار، فيُقتَصّ من بعضهم لبعض، فإذا هُذّبوا ونُقُّوا، أذن لهم في دخول الجنة. عَنْ أَبِى الْمُتَوَكِّلِ النَّاجِىِّ أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِىَّ - رضى الله عنه - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «يَخْلُصُ الْمُؤْمِنُونَ مِنَ النَّارِ فَيُحْبَسُونَ عَلَى قَنْطَرَةٍ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ فَيُقَصُّ لِبَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ مَظَالِمُ كَانَتْ بَيْنَهُمْ فِى الدُّنْيَا حَتَّى إِذَا هُذِّبُوا وَنُقُّوا أُذِنَ لَهُمْ فِى دُخُولِ الْجَنَّةِ فَوَالَّذِى نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لأَحَدُهُمْ أَهْدَى بِمَنْزِلِهِ فِى الْجَنَّةِ مِنْهُ بِمَنْزِلِهِ كَانَ فِى الدُّنْيَا» (أخرجه البخاري) (3).
8. وأول من يستفتحُ بابَ الجنة محمدٌ عليه الصلاة والسلام، وأولُ من يدخل الجنةَ من الأمم أمتُه عليه الصلاة والسلام. عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «أَنَا
__________
(1) - برقم (7385) -حقويه: خاصرتيه
(2) - البخارى برقم (6573) ومسلم برقم (469)
(3) - برقم (6535)(1/160)
أَكْثَرُ الأَنْبِيَاءِ تَبَعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَنَا أَوَّلُ مَنْ يَقْرَعُ بَابَ الْجَنَّةِ». (أخرجه مسلم) (1)،و عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «آتِى بَابَ الْجَنَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَسْتَفْتِحُ فَيَقُولُ الْخَازِنُ مَنْ أَنْتَ فَأَقُولُ مُحَمَّدٌ. فَيَقُولُ بِكَ أُمِرْتُ لاَ أَفْتَحُ لأَحَدٍ قَبْلَكَ». (أخرجه مسلم) (2)،وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «نَحْنُ الآخِرُونَ الأَوَّلُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَنَحْنُ أَوَّلُ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ بَيْدَ أَنَّهُمْ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِنَا وَأُوتِينَاهُ مِنْ بَعْدِهِمْ فَاخْتَلَفُوا فَهَدَانَا اللَّهُ لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ فَهَذَا يَوْمُهُمُ الَّذِى اخْتَلَفُوا فِيهِ هَدَانَا اللَّهُ لَهُ - قَالَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ - فَالْيَوْمُ لَنَا وَغَدًا لِلْيَهُودِ وَبَعْدَ غَدٍ لِلنَّصَارَى». (أخرجه مسلم) (3).
9. ونؤمنُ بالجنةِ والنار، وأنهُما مخلوقتانِ لا تفنيانِ، وأنَّ الله خلقَ لهما أهلاً فمنْ شاءَ منهم فإلى الجنةِ بفضلِه، ومنْ شاءَ منهم فإلى النار بعدلِه.
قال تعالى: {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (15)} [آل عمران/15]
وقال تعالى: {أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (136)} [آل عمران/136]
وقال تعالى: {لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ (198)} [آل عمران/198]
وقال تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13)} [النساء/13]
وقال تعالى: {وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا (57)} [النساء/57]
__________
(1) - برقم (505)
(2) - برقم (507)
(3) - برقم (2017)(1/161)
وقال تعالى: {وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا (122)} [النساء/122]
وقال تعالى: {قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (119)} [المائدة/119]
وقال تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108)} [هود/108] ......
وأما في خلود أهل فقد قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (162)} [البقرة/161 - 162]
وقال تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85) كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (86) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (87) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (88)} [آل عمران/85 - 88]
وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا (168) إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (169)} [النساء/168،168]
وقال تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (128)} [الأنعام/128]
وقال تعالى: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (67) وَعَدَ(1/162)
اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (68)} [التوبة/67،68]
وقال تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106) خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (107)} [هود/106،107]
وقال تعالى: {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (29)} [النحل/28،29]
وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا (64) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (65)} [الأحزاب/64 - 65]
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ الْجَنَّةَ قَالَ لِجِبْرِيلَ: اذْهَبْ فَانْظُرْ إِلَيْهَا. فَذَهَبَ فَنَظَرَ إِلَيْهَا ثُمَّ جَاءَ فَقَالَ: أَىْ رَبِّ وَعِزَّتِكَ لاَ يَسْمَعُ بِهَا أَحَدٌ إِلاَّ دَخَلَهَا ثُمَّ حَفَّهَا بِالْمَكَارِهِ ثُمَّ قَالَ: يَا جِبْرِيلُ اذْهَبْ فَانْظُرْ إِلَيْهَا فَذَهَبَ فَنَظَرَ إِلَيْهَا ثُمَّ جَاءَ فَقَالَ: أَىْ رَبِّ وَعِزَّتِكَ لَقَدْ خَشِيتُ أَنْ لاَ يَدْخُلَهَا أَحَدٌ».قَالَ: «فَلَمَّا خَلَقَ اللَّهُ النَّارَ قَالَ: يَا جِبْرِيلُ اذْهَبْ فَانْظُرْ إِلَيْهَا. فَذَهَبَ فَنَظَرَ إِلَيْهَا ثُمَّ جَاءَ فَقَالَ: أَىْ رَبِّ وَعِزَّتِكَ لاَ يَسْمَعُ بِهَا أَحَدٌ فَيَدْخُلُهَا فَحَفَّهَا بِالشَّهَوَاتِ ثُمَّ قَالَ: يَا جِبْرِيلُ اذْهَبْ فَانْظُرْ إِلَيْهَا. فَذَهَبَ فَنَظَرَ إِلَيْهَا ثُمَّ جَاءَ فَقَالَ: أَىْ رَبِّ وَعِزَّتِكَ لَقَدْ خَشِيتُ أَنْ لاَ يَبْقَى أَحَدٌ إِلاَّ دَخَلَهَا». (أخرجه أبو داود) (1)،وعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: يَا عَائِشَةُ خَلَقَ اللَّهُ الْجَنَّةَ وَخَلَقَ لَهَا أَهْلاً وَخَلَقَ النَّارَ وَخَلَقَ لَهَا أَهْلاً وَهُمْ فِى أَصْلاَبِ آبَائِهِمْ». (أخرجه أحمد) (2).
وعَنْ مُسْلِمِ بْنِ يَسَارٍ الْجُهَنِىِّ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ سُئِلَ عَنْ هَذِهِ الآيَةِ (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِى آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى
__________
(1) - برقم (4746) وهو صحيح
(2) - برقم (24861) وهو صحيح(1/163)
شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ).فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُسْأَلُ عَنْهَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى خَلَقَ آدَمَ ثُمَّ مَسَحَ ظَهْرَهُ بِيَمِينِهِ فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّةً فَقَالَ خَلَقْتُ هَؤُلاَءِ لِلْجَنَّةِ وَبِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ يَعْمَلُونَ ثُمَّ مَسَحَ ظَهْرَهُ فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّةً فَقَالَ خَلَقْتُ هَؤُلاَءِ لِلنَّارِ وَبِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ يَعْمَلُونَ».فَقَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَفِيمَ الْعَمَلُ قَالَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «إِنَّ اللَّهَ إِذَا خَلَقَ الْعَبْدَ لِلْجَنَّةِ اسْتَعْمَلَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى يَمُوتَ عَلَى عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيُدْخِلَهُ بِهِ الْجَنَّةَ وَإِذَا خَلَقَ الْعَبْدَ لِلنَّارِ اسْتَعْمَلَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ حَتَّى يَمُوتَ عَلَى عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِ أَهْلِ النَّارِ فَيُدْخِلَهُ بِهِ النَّارَ» (أخررجه مالك في الموطأ) (1).
وعَنْ مُعَاذِ بن جَبَلٍ، أَنّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ، فَلَمَّا قَدِمَ عَلَيْهِمْ، قَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنِّي رَسُولُ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِلَيْكُمْ، يُخْبِرُكُمْ"أَنَّ الْمَرَدَّ إِلَى اللَّهِ، إِلَى جُنَّةٍ أَوْ نَارٍ، خُلُودٌ وَلا مَوْتَ، وَإِقَامَةٌ وَلا ظَعْنَ" (2)
وعَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ الْأَوْدِيِّ، قَالَ: قَامَ فِينَا مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، فَقَالَ:" يَا بَنِي أَوْدٍ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -،تَعْلَمُونَ الْمَعَادَ إِلَى اللَّهِ، ثُمَّ إِلَى الْجَنَّةِ أَوْ إِلَى النَّارِ، وَإِقَامَةٌ لَا ظَعْنَ فِيهِ، وَخُلُودٌ لَا مَوْتٌ فِي أَجْسَادٍ لَا تَمُوتُ " (3)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ: مَا لَنَا إِذَا كُنَّا عِنْدَكَ رَقَّتْ قُلُوبُنَا، وَزَهِدْنَا فِي الدُّنْيَا، وَكُنَّا مِنْ أَهْلِ الآخِرَةِ، فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِكَ فَآنَسْنَا أَهَالِينَا، وَشَمَمْنَا أَوْلَادَنَا أَنْكَرْنَا أَنْفُسَنَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:" " لَوْ أَنَّكُمْ تَكُونُونَ إِذَا خَرَجْتُمْ مِنْ عِنْدِي كُنْتُمْ عَلَى حَالِكُمْ ذَلِكَ لَزَارَتْكُمُ المَلَائِكَةُ فِي بُيُوتِكُمْ، وَلَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَجَاءَ اللَّهُ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ كَيْ يُذْنِبُوا فَيَغْفِرَ لَهُمْ " "
قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مِمَّ خُلِقَ الخَلْقُ؟ قَالَ:" مِنَ المَاءِ "،قُلْتُ: الْجَنَّةُ مَا بِنَاؤُهَا؟ قَالَ:" لَبِنَةٌ مِنْ فِضَّةٍ وَلَبِنَةٌ مِنْ ذَهَبٍ، وَمِلَاطُهَا الْمِسْكُ الْأَذْفَرُ، وَحَصْبَاؤُهَا اللُّؤْلُؤُ
__________
(1) -برقم (1627) وهو صحيح
(2) - المعجم الكبير للطبراني - (ج 15 / ص 103) (16788) صحيح لغيره
(3) - المستدرك للحاكم (281) صحيح(1/164)
وَاليَاقُوتُ، وَتُرْبَتُهَا الزَّعْفَرَانُ مَنْ دَخَلَهَا يَنْعَمُ وَلَا يَبْأَسُ، وَيَخْلُدُ وَلَا يَمُوتُ، لَا تَبْلَى ثِيَابُهُمْ، وَلَا يَفْنَى شَبَابُهُمْ "
ثُمَّ قَالَ:" " ثَلَاثٌ لَا تُرَدُّ دَعْوَتُهُمْ، الإِمَامُ العَادِلُ، وَالصَّائِمُ حِينَ يُفْطِرُ، وَدَعْوَةُ المَظْلُومِ يَرْفَعُهَا فَوْقَ الغَمَامِ، وَتُفَتَّحُ لَهَا أَبْوَابُ السَّمَاءِ، وَيَقُولُ الرَّبُّ عَزَّ وَجَلَّ: وَعِزَّتِي لَأَنْصُرَنَّكِ وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ " (1)
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - «يُقَالُ لأَهْلِ الْجَنَّةِ خُلُودٌ لاَ مَوْتَ.وَلأَهْلِ النَّارِ يَا أَهْلَ النَّارِ خُلُودٌ لاَ مَوْتَ» (2).
وعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «إِذَا صَارَ أَهْلُ الْجَنَّةِ فِى الْجَنَّةِ وَأَهْلُ النَّارِ فِى النَّارِ جِىءَ بِالْمَوْتِ حَتَّى يُوقَفَ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ ثُمَّ يُذْبَحُ ثُمَّ يُنَادِى مُنَادٍ يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ خُلُودٌ لاَ مَوْتَ يَا أَهْلَ النَّارِ خُلُودٌ لاَ مَوْتَ فَازْدَادَ أَهْلُ الْجَنَّةِ فَرَحاً إِلَى فَرَحِهِمْ وَازْدَادَ أَهْلُ النَّارِ حُزْناً إِلَى حُزْنِهِمْ» (3).
وعن أبي سعيد، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:"يُجاءُ بالمَوْتِ يَوْمَ القِيامَةِ فَيُوقَفُ بينَ الجَنَّةِ والنَّار كأنَّه كَبْشٌ أمْلَح، قال: فَيُقَالُ: يا أهْلَ الجَنَّةِ هَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا؟ فَيَشْرئِبُّونَ وَيَنْظُرُون، فَيَقُولُونَ: نَعَمْ، هَذَا المَوْتُ، فَيُقَالُ: يا أهْلَ النَّارِ هَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا؟ فَيَشْرئِبُّونَ وَيَنْظُرُونَ، فيقُولُونَ نَعَمْ هَذَا المَوْتُ، ثُمَّ يُؤْمَرُ بِهِ فَيُذْبَحُ، قال: فَيَقُول: يا أهْلَ الجَنَّةِ خُلُودٌ فَلا مَوْتَ، وَيَا أهْلَ النَّارِ خُلُودٌ فلا مَوْتَ، قال: ثم قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) وأشار بيده في الدنيا". (4)
وعن أبي هريرة، عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - في هذه الآية (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ) قال:"يُنَادَى: يَا أهْلَ الجَنَّةِ، فَيَشْرَئِبُونَ، فَيَنْظُرُونَ، ثُمَّ يُنَادَى: يا أهْلَ النَّار فَيَشْرَئِبُّونَ فَيَنْظُرُونَ، فَيُقالُ: هَلْ تَعْرِفُونَ المَوْتَ؟ قال: فَيَقُولُونَ: لا قال: فَيُجَاءُ بِالمَوْتِ فِي صُورَةِ كَبْشٍ أمْلَحَ، فيُقالُ: هَذَا المَوْتُ، ثُمَّ
__________
(1) - سنن الترمذى (2717) صحيح لغيره
(2) - صحيح البخارى (6545)
(3) - مسند أحمد (6136) صحيح
(4) - تفسير الطبري - (ج 18 / ص 201) صحيح(1/165)
يُؤْخَذُ فَيُذْبَحُ، قالَ: ثُمَّ يُنَادِي يا أهْلَ النَّارِ خُلُودٌ فَلا مَوْتَ، وَيَا أهْلَ الجَنَّةِ خُلُودٌ فلا مَوْتَ"،قال: ثم قرأ (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ). (1)
وقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِهِ: وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ قَالَ: يُصَوِّرُ اللَّهُ الْمَوْتَ فِي صُورَةِ كَبْشٍ أَمْلَحَ، فَيُذْبَحُ، قَالَ: فَيَيْأَسُ أَهْلُ النَّارِ مِنَ الْمَوْتِ، فَلَا يَرْجُونَهُ، فَتَأْخُذُهُمُ الْحَسْرَةُ مِنْ أَجْلِ الْخُلُودِ فِي النَّارِ، وَفِيهَا أَيْضًا الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ، وَيَأْمَنُ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْمَوْتَ، فَلَا يَخْشَوْنَهُ، وَأَمِنُوا الْمَوْتَ، وَهُوَ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ، لِأَنَّهُمْ يُخَلَّدُونَ فِي الْجَنَّةِ " (2)
10. والجنةُ دارُ النعيم التي أعدَّها الله تعالى للمؤمنين في مقعدِ صدقٍ عند مليكِ مقتدرِ، فيها من أنواعُ النعيم المقيم ما لا عين ٌرأت ولا أذنٌ سمعت ولا خطرَ على قلبِ بشرٍ، قال تعالى: (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [السجدة:17]،وقال تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ (8) لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ (9) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (10) لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً (11) فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ (12) فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (13) وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ (14) وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15) وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (16)} [الغاشية/8 - 17]،وقال تعالى: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (22) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26) وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28) [المطففين/22 - 28]}،وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «قَالَ اللَّهُ أَعْدَدْتُ لِعِبَادِى الصَّالِحِينَ مَا لاَ عَيْنَ رَأَتْ وَلاَ أُذُنَ سَمِعَتْ وَلاَ خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ فَاقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ (فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِىَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ). (أخرجه البخاري ومسلم) (3).
11. وأمَّا النارُ فهي دارُ العذاب التي أعدَّها الله تعالى أصلاً للكافرين، قال تعالى: (وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتي أُعِدَّتْ للكَافِرِينَ) [آل عمران:131]،وقال تعالى: {إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ
__________
(1) - تفسير الطبري - (ج 18 / ص 202) صحيح
(2) - تفسير الطبري - (ج 18 / ص 202) (21650) حسن لغيره = انظر التفاصيل في كتابي الإيمان بيوم القيامة وأهواله
(3) - البخاري برقم (3244) ومسلم برقم (7310) = وانظر كتابي ((صفة الجنة في القرآن والسنة))(1/166)
مِرْصَادًا (21) لِلطَّاغِينَ مَآَبًا (22) لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا (23) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا (24) إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا (25) جَزَاءً وِفَاقًا (26) إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا (27) وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا كِذَّابًا (28) وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا (29) فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا (30) [النبأ/21 - 30]}.
وأهلُ النار خالدين فيها أبدا، قال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُم مِّنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ} (36) سورة فاطر، وقال تعالى: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (74) لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (75) وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (76) وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ (77) لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (78) [الزخرف/74 - 78]}،وقال تعالى: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ (19) يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20) وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21) كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (22) [الحج/19 - 23]}
وقال تعالى: {ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51) لَآَكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52) فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (53) فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (54) فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (55) هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (56) [الواقعة/51 - 56]}
ويدخلها عصاةُ المسلمين، ولكنها ليست دارهم التي أعدَّت لهم، ولذلك إذا دخلوها لم يخلدوا فيها، بل يعذَّبون بقدر ذنوبهم ثم مصيرهم إلى الجنة التي هي دارُ المؤمنين. (1)
12. ونؤمنُ بالشفاعةِ التي أذنَ الله تعالى بها لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم -،فله في القيامة عدة شفاعاتٍ:
-أما الأولى: فشفاعتُه في أهل الموقف كي يقضَى بينهم بعد أن يتراجعَ الأنبياءُ آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام عن الشفاعةِ حتى تنتهي إلى نبينا محمدٍ عليه الصلاة والسلام. عن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ «إِذَا كَانَ
__________
(1) - انظر التفاصيل في كتابي ((صفة النار في القرآن والسنة))(1/167)
يَوْمُ الْقِيَامَةِ مَاجَ النَّاسُ بَعْضُهُمْ فِى بَعْضٍ فَيَأْتُونَ آدَمَ فَيَقُولُونَ اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ. فَيَقُولُ لَسْتُ لَهَا وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِإِبْرَاهِيمَ فَإِنَّهُ خَلِيلُ الرَّحْمَنِ. فَيَأْتُونَ إِبْرَاهِيمَ فَيَقُولُ لَسْتُ لَهَا وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِمُوسَى فَإِنَّهُ كَلِيمُ اللَّهِ. فَيَأْتُونَ مُوسَى فَيَقُولُ لَسْتُ لَهَا وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِعِيسَى فَإِنَّهُ رُوحُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ. فَيَأْتُونَ عِيسَى فَيَقُولُ لَسْتُ لَهَا وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِمُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - فَيَأْتُونِى فَأَقُولُ أَنَا لَهَا. فَأَسْتَأْذِنُ عَلَى رَبِّى فَيُؤْذَنُ لِى وَيُلْهِمُنِى مَحَامِدَ أَحْمَدُهُ بِهَا لاَ تَحْضُرُنِى الآنَ فَأَحْمَدُهُ بِتِلْكَ الْمَحَامِدِ وَأَخِرُّ لَهُ سَاجِدًا فَيُقَالُ يَا مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَكَ وَقُلْ يُسْمَعْ لَكَ وَسَلْ تُعْطَ وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ. فَأَقُولُ يَا رَبِّ أُمَّتِى أُمَّتِى. فَيُقَالُ انْطَلِقْ فَأَخْرِجْ مَنْ كَانَ فِى قَلْبِهِ مِثْقَالُ شَعِيرَةٍ مِنْ إِيمَانٍ. فَأَنْطَلِقُ فَأَفْعَلُ ثُمَّ أَعُودُ فَأَحْمَدُهُ بِتِلْكَ الْمَحَامِدِ ثُمَّ أَخِرُّ لَهُ سَاجِدًا فَيُقَالُ يَا مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَكَ وَقُلْ يُسْمَعْ لَكَ وَسَلْ تُعْطَ وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ فَأَقُولُ يَا رَبِّ أُمَّتِى أُمَّتِى. فَيُقَالُ انْطَلِقْ فَأَخْرِجْ مِنْهَا مَنْ كَانَ فِى قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ أَوْ خَرْدَلَةٍ مِنْ إِيمَانٍ. فَأَنْطَلِقُ فَأَفْعَلُ ثُمَّ أَعُودُ فَأَحْمَدُهُ بِتِلْكَ الْمَحَامِدِ ثُمَّ أَخِرُّ لَهُ سَاجِدًا فَيُقَالُ يَا مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَكَ وَقُلْ يُسْمَعْ لَكَ وَسَلْ تُعْطَ وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ. فَأَقُولُ يَا رَبِّ أُمَّتِى أُمَّتِى. فَيَقُولُ انْطَلِقْ فَأَخْرِجْ مَنْ كَانَ فِى قَلْبِهِ أَدْنَى أَدْنَى أَدْنَى مِثْقَالِ حَبَّةِ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ فَأَخْرِجْهُ مِنَ النَّارِ. فَأَنْطَلِقُ فَأَفْعَلُ». قَالَ «ثُمَّ أَعُودُ الرَّابِعَةَ فَأَحْمَدُهُ بِتِلْكَ ثُمَّ أَخِرُّ لَهُ سَاجِدًا فَيُقَالُ يَا مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَكَ وَقُلْ يُسْمَعْ وَسَلْ تُعْطَهْ وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ. فَأَقُولُ يَا رَبِّ ائْذَنْ لِى فِيمَنْ قَالَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ. فَيَقُولُ وَعِزَّتِى وَجَلاَلِى وَكِبْرِيَائِى وَعَظَمَتِى لأُخْرِجَنَّ مِنْهَا مَنْ قَالَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ». (أخرجه البخاري ومسلم) (1).وهي التي عناها القرآن الكريم بقوله تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا} (79) سورة الإسراء
-وأمَّا الثانية: فيشفعُ في أهل الجنةِ أن يدخلوا الجنة، عَنْ حُذَيْفَةَ قَالاَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «يَجْمَعُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى النَّاسَ فَيَقُومُ الْمُؤْمِنُونَ حَتَّى تُزْلَفَ لَهُمُ الْجَنَّةُ فَيَأْتُونَ آدَمَ فَيَقُولُونَ يَا أَبَانَا اسْتَفْتِحْ لَنَا الْجَنَّةَ. فَيَقُولُ وَهَلْ أَخْرَجَكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ إِلاَّ خَطِيئَةُ أَبِيكُمْ آدَمَ لَسْتُ بِصَاحِبِ ذَلِكَ اذْهَبُوا إِلَى ابْنِى إِبْرَاهِيمَ خَلِيلِ اللَّهِ - قَالَ - فَيَقُولُ إِبْرَاهِيمُ
__________
(1) - البخاري برقم (7510) ومسلم برقم (500)(1/168)
لَسْتُ بِصَاحِبِ ذَلِكَ إِنَّمَا كُنْتُ خَلِيلاً مِنْ وَرَاءَ وَرَاءَ اعْمِدُوا إِلَى مُوسَى - صلى الله عليه وسلم - الَّذِى كَلَّمَهُ اللَّهُ تَكْلِيمًا. فَيَأْتُونَ مُوسَى - صلى الله عليه وسلم - فَيَقُولُ لَسْتُ بِصَاحِبِ ذَلِكَ اذْهَبُوا إِلَى عِيسَى كَلِمَةِ اللَّهِ وَرُوحِهِ. فَيَقُولُ عِيسَى - صلى الله عليه وسلم - لَسْتُ بِصَاحِبِ ذَلِكَ. فَيَأْتُونَ مُحَمَّدًا - صلى الله عليه وسلم - فَيَقُومُ فَيُؤْذَنُ لَهُ وَتُرْسَلُ الأَمَانَةُ وَالرَّحِمُ فَتَقُومَانِ جَنَبَتَىِ الصِّرَاطِ يَمِينًا وَشِمَالاً فَيَمُرُّ أَوَّلُكُمْ كَالْبَرْقِ».قَالَ قُلْتُ بِأَبِى أَنْتَ وَأُمِّى أَىُّ شَىْءٍ كَمَرِّ الْبَرْقِ قَالَ «أَلَمْ تَرَوْا إِلَى الْبَرْقِ كَيْفَ يَمُرُّ وَيَرْجِعُ فِى طَرْفَةِ عَيْنٍ ثُمَّ كَمَرِّ الرِّيحِ ثُمَّ كَمَرِّ الطَّيْرِ وَشَدِّ الرِّجَالِ تَجْرِى بِهِمْ أَعْمَالُهُمْ وَنَبِيُّكُمْ قَائِمٌ عَلَى الصِّرَاطِ يَقُولُ رَبِّ سَلِّمْ سَلِّمْ حَتَّى تَعْجِزَ أَعْمَالُ الْعِبَادِ حَتَّى يَجِىءَ الرَّجُلُ فَلاَ يَسْتَطِيعُ السَّيْرَ إِلاَّ زَحْفًا - قَالَ - وَفِى حَافَتَىِ الصِّرَاطِ كَلاَلِيبُ مُعَلَّقَةٌ مَأْمُورَةٌ بِأَخْذِ مَنْ أُمِرَتْ بِهِ فَمَخْدُوشٌ نَاجٍ وَمَكْدُوسٌ فِى النَّارِ».وَالَّذِى نَفْسُ أَبِى هُرَيْرَةَ بِيَدِهِ إِنَّ قَعْرَ جَهَنَّمَ لَسَبْعُونَ خَرِيفًا. (أخرجه مسلم) (1)
- وأما الثالثة: فهي شفاعته في تخفيف العذاب عن بعض المشركين؛ كما في شفاعته لعمه أبي طالب، فيكون في ضحضاح من نار؛ فعنِ الْعَبَّاسَ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ - رضى الله عنه -أنّهُ قَالَ لِلنَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم -:مَا أَغْنَيْتَ عَنْ عَمِّكَ فَإِنَّهُ كَانَ يَحُوطُكَ وَيَغْضَبُ لَكَ.قَالَ: «هُوَ فِى ضَحْضَاحٍ مِنْ نَارٍ، وَلَوْلاَ أَنَا لَكَانَ فِى الدَّرَكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ» (أخرجه الشيخان) (2).لأنَّ الله أخبر أن الكافرين لا تنفعهم شفاعة الشافعين، ونبينا - صلى الله عليه وسلم - أخبر أن شفاعته لأهل التوحيد خاصة.فشفاعتُه لعمه أبي طالب خاصة به وخاصة لأبي طالب، وهذه الشفاعات الثلاث خاصة له عليه الصلاة والسلام.
- وأما الرابعة: فشفاعته فيمن استحق النار من الموحدين أن يخرج منها، أو لا يدخلها أصلاً، وهذا النوع له - صلى الله عليه وسلم -،ولسائر النبيين والصديقين والشهداء ونحوهم ممن أذنَ الله لهم، فيشفعُ فيمن استحقَّ النار ألا يدخلَها، ويشفعُ فيمن دخلَها أن يخرجَ منها، فعن
__________
(1) - برقم (503) -تزلف: تقرب -مكدوس: المدفوع من ورائه
(2) - البخارى برقم (3883) ومسلم برقم (531) -الضحضاح: ما رق من الماء على وجه الأرض ما يبلغ الكعبين فاستعاره للنار(1/169)
عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ - رضى الله عنهما - عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «يَخْرُجُ قَوْمٌ مِنَ النَّارِ بِشَفَاعَةِ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - فَيَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ، يُسَمَّوْنَ الْجَهَنَّمِيِّينَ» (أخرجه البخاري) (1)
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «شَفَاعَتِى لأَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنْ أُمَّتِى». (أخرجه أبو داود) (2).
وأهل السنة والجماعة يؤمنون بهذه الشفاعات كلها لثبوت أدلتها وأنها لا تحققُ إلا بشرطين:
الشرط الأول: إذن الله للشافع أن يشفعَ، كما قال تعالى: {مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} الآية (255) البقرة، وقوله تعالى: {مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ} الآية (3) من سورة يونس.
الشرط الثاني: رضا اللهِ عن المشفوع له كما قال تعالى: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى} الآية (28) الأنبياء ويجمع الشرطين قوله تعالى: {وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شيئًا إِلاَّ مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاء وَيَرْضَى} الآية (26) النجم.) (3).
13 - ويُخرجُ الله تعالى من النار أقواماً بغير شفاعةٍ، بفضله سبحانه ورحمته، فعَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ «يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَفِى قَلْبِهِ وَزْنُ شَعِيرَةٍ مِنْ خَيْرٍ وَيَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَفِى قَلْبِهِ وَزْنُ بُرَّةٍ مِنْ خَيْرٍ وَيَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَفِى قَلْبِهِ وَزْنُ ذَرَّةٍ مِنْ خَيْرٍ».أخرجه البخاري ومسلم (4).
وعن أبي الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يُسْأَلُ عَنِ الْوُرُودِ فَقَالَ نَجِىءُ نَحْنُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَنْ كَذَا وَكَذَا انْظُرْ أَىْ ذَلِكَ فَوْقَ النَّاسِ - قَالَ - فَتُدْعَى الأُمَمُ بِأَوْثَانِهَا وَمَا كَانَتْ تَعْبُدُ الأَوَّلُ فَالأَوَّلُ ثُمَّ يَأْتِينَا رَبُّنَا بَعْدَ ذَلِكَ فَيَقُولُ مَنْ تَنْظُرُونَ فَيَقُولُونَ نَنْظُرُ
__________
(1) - برقم (6566)
(2) - برقم (4741) والترمذي برقم (2622) وهو صحيح مشهور، وانظر شرح العقيدة الواسطية - (ج 1 / ص 287) والتنبيهات اللطيفة فيما احتوت عليه الواسطية من المباحث المنيفة - (ج 1 / ص 76)
(3) - انظر التفاصيل في كتابي ((الإيمان بيوم القيامة وأهواله))
(4) - برقم (44) ومسلم برقم (499)(1/170)
رَبَّنَا. فَيَقُولُ أَنَا رَبُّكُمْ. فَيَقُولُونَ حَتَّى نَنْظُرَ إِلَيْكَ. فَيَتَجَلَّى لَهُمْ يَضْحَكُ - قَالَ - فَيَنْطَلِقُ بِهِمْ وَيَتَّبِعُونَهُ وَيُعْطَى كُلُّ إِنْسَانٍ مِنْهُمْ - مُنَافِقٍ أَوْ مُؤْمِنٍ - نُورًا ثُمَّ يَتَّبِعُونَهُ وَعَلَى جِسْرِ جَهَنَّمَ كَلاَلِيبُ وَحَسَكٌ تَأْخُذُ مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ يَطْفَأُ نُورُ الْمُنَافِقِينَ ثُمَّ يَنْجُو الْمُؤْمِنُونَ فَتَنْجُو أَوَّلُ زُمْرَةٍ وُجُوهُهُمْ كَالْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ سَبْعُونَ أَلْفًا لاَ يُحَاسَبُونَ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ كَأَضْوَإِ نَجْمٍ فِى السَّمَاءِ ثُمَّ كَذَلِكَ ثُمَّ تَحِلُّ الشَّفَاعَةُ وَيَشْفَعُونَ حَتَّى يَخْرُجَ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَكَانَ فِى قَلْبِهِ مِنَ الْخَيْرِ مَا يَزِنُ شَعِيرَةً فَيُجْعَلُونَ بِفِنَاءِ الْجَنَّةِ وَيَجْعَلُ أَهْلُ الْجَنَّةِ يَرُشُّونَ عَلَيْهِمُ الْمَاءَ حَتَّى يَنْبُتُوا نَبَاتَ الشَّىْءِ فِى السَّيْلِ وَيَذْهَبُ حُرَاقُهُ ثُمَّ يَسْأَلُ حَتَّى تُجْعَلَ لَهُ الدُّنْيَا وَعَشَرَةُ أَمْثَالِهَا مَعَهَا. (أخرجه مسلم) (1).
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ - رضى الله عنه - قَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم -: «إِنِّى لأَعْلَمُ آخِرَ أَهْلِ النَّارِ خُرُوجًا مِنْهَا وَآخِرَ أَهْلِ الْجَنَّةِ دُخُولاً رَجُلٌ يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ كَبْوًا فَيَقُولُ اللَّهُ اذْهَبْ فَادْخُلِ الْجَنَّةَ. فَيَأْتِيهَا فَيُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهَا مَلأَى فَيَرْجِعُ فَيَقُولُ يَا رَبِّ وَجَدْتُهَا مَلأَى فَيَقُولُ اذْهَبْ فَادْخُلِ الْجَنَّةَ. فَيَأْتِيهَا فَيُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهَا مَلأَى. فَيَقُولُ يَا رَبِّ وَجَدْتُهَا مَلأَى فَيَقُولُ اذْهَبْ فَادْخُلِ الْجَنَّةَ فَإِنَّ لَكَ مِثْلَ الدُّنْيَا وَعَشَرَةَ أَمْثَالِهَا. أَوْ إِنَّ لَكَ مِثْلَ عَشَرَةِ أَمْثَالِ الدُّنْيَا. فَيَقُولُ تَسْخَرُ مِنِّى أَوْ تَضْحَكُ مِنِّى وَأَنْتَ الْمَلِكُ».فَلَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ضَحِكَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ وَكَانَ يُقَالُ ذَلِكَ أَدْنَى أَهْلِ الْجَنَّةِ مَنْزِلَةً». (أخرجه البخاري ومسلم) (2).
14 - ويبقى في الجنة فضلٌ فينشئ الله له أقواماً فيدخلهم الجنة0،عَنْ أَنَسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «يَدْخُلُ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ فَيَبْقَى فِيهَا مَا شَاءَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فَيُنْشِئُ اللَّهُ تَعَالَى لَهَا يَعْنِى خَلْقاً حَتَّى يَمْلأَهَا». (أخرجه أحمد) (3).
15 - ونؤمنُ برؤية المؤمنين ربَّهم يوم القيامة، وفي الجنة، كما قال تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23) [القيامة/22،23]}،وكما تواترت
__________
(1) - برقم (489) = الحسك: جمع حسكة وهى الشوكة الصلبة = الزمرة: الجماعة من الناس
(2) - برقم (6571) ومسلم برقم (479) -الكبو: الحبو -النواجذ: جمع ناجذ وهو أقصى الأضراس
(3) - برقم (12877) وهو صحيح- وهو في البخاري برقم (4850) ومسلم برقم7354) ضمن حديث عن أبي هريرة(1/171)
الأخبارُ بذلك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأنَّ المؤمنين يرون ربهم يوم القيامة كما يرونَ القمر ليلةَ البدرِ لا يضامونَ في رؤيته،فعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ أُنَاسٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ نَرَى رَبَّنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَقَالَ «هَلْ تُضَارُّونَ فِى الشَّمْسِ لَيْسَ دُونَهَا سَحَابٌ».قَالُوا لاَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ «هَلْ تُضَارُّونَ فِى الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ لَيْسَ دُونَهُ سَحَابٌ».قَالُوا لاَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ «فَإِنَّكُمْ تَرَوْنَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ يَجْمَعُ اللَّهُ النَّاسَ فَيَقُولُ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ شَيْئًا فَلْيَتَّبِعْهُ فَيَتْبَعُ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ الشَّمْسَ وَيَتْبَعُ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ الْقَمَرَ وَيَتْبَعُ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ الطَّوَاغِيتَ وَتَبْقَى هَذِهِ الأُمَّةُ فِيهَا مُنَافِقُوهَا فَيَأْتِيهِمُ اللَّهُ فِى غَيْرِ الصُّورَةِ الَّتِى يَعْرِفُونَ فَيَقُولُ أَنَا رَبُّكُمْ. فَيَقُولُونَ نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْكَ هَذَا مَكَانُنَا حَتَّى يَأْتِيَنَا رَبُّنَا فَإِذَا أَتَانَا رَبُّنَا عَرَفْنَاهُ فَيَأْتِيهِمُ اللَّهُ فِى الصُّورَةِ الَّتِى يَعْرِفُونَ فَيَقُولُ أَنَا رَبُّكُمْ. فَيَقُولُونَ أَنْتَ رَبُّنَا فَيَتْبَعُونَهُ وَيُضْرَبُ جِسْرُ جَهَنَّمَ».قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يُجِيزُ وَدُعَاءُ الرُّسُلِ يَوْمَئِذٍ اللَّهُمَّ سَلِّمْ سَلِّمْ وَبِهِ كَلاَلِيبُ مِثْلُ شَوْكِ السَّعْدَانِ أَمَا رَأَيْتُمْ شَوْكَ السَّعْدَانِ».قَالُوا بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ «فَإِنَّهَا مِثْلُ شَوْكِ السَّعْدَانِ غَيْرَ أَنَّهَا لاَ يَعْلَمُ قَدْرَ عِظَمِهَا إِلاَّ اللَّهُ فَتَخْطَفُ النَّاسَ بِأَعْمَالِهِمْ مِنْهُمُ الْمُوبَقُ بِعَمَلِهِ وَمِنْهُمُ الْمُخَرْدَلُ ثُمَّ يَنْجُو حَتَّى إِذَا فَرَغَ اللَّهُ مِنَ الْقَضَاءِ بَيْنَ عِبَادِهِ وَأَرَادَ أَنْ يُخْرِجَ مِنَ النَّارِ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُخْرِجَ مِمَّنْ كَانَ يَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ أَمَرَ الْمَلاَئِكَةَ أَنْ يُخْرِجُوهُمْ فَيَعْرِفُونَهُمْ بِعَلاَمَةِ آثَارِ السُّجُودِ وَحَرَّمَ اللَّهُ عَلَى النَّارِ أَنْ تَأْكُلَ مِنِ ابْنِ آدَمَ أَثَرَ السُّجُودِ فَيُخْرِجُونَهُمْ قَدِ امْتُحِشُوا فَيُصَبُّ عَلَيْهِمْ مَاءٌ يُقَالُ لَهُ مَاءُ الْحَيَاةِ فَيَنْبُتُونَ نَبَاتَ الْحِبَّةِ فِى حَمِيلِ السَّيْلِ وَيَبْقَى رَجُلٌ مُقْبِلٌ بِوَجْهِهِ عَلَى النَّارِ فَيَقُولُ يَا رَبِّ قَدْ قَشَبَنِى رِيحُهَا وَأَحْرَقَنِى ذَكَاؤُهَا فَاصْرِفْ وَجْهِى عَنِ النَّارِ فَلاَ يَزَالُ يَدْعُو اللَّهَ. فَيَقُولُ لَعَلَّكَ إِنْ أَعْطَيْتُكَ أَنْ تَسْأَلَنِى غَيْرَهُ. فَيَقُولُ لاَ وَعِزَّتِكَ لاَ أَسْأَلُكَ غَيْرَهُ. فَيَصْرِفُ وَجْهَهُ عَنِ النَّارِ ثُمَّ يَقُولُ بَعْدَ ذَلِكَ يَا رَبِّ قَرِّبْنِى إِلَى بَابِ الْجَنَّةِ. فَيَقُولُ أَلَيْسَ قَدْ زَعَمْتَ أَنْ لاَ تَسْأَلْنِى غَيْرَهُ وَيْلَكَ ابْنَ آدَمَ مَا أَغْدَرَكَ. فَلاَ يَزَالُ يَدْعُو. فَيَقُولُ لَعَلِّى إِنْ أَعْطَيْتُكَ ذَلِكَ تَسْأَلَنِى غَيْرَهُ. فَيَقُولُ لاَ وَعِزَّتِكَ لاَ أَسْأَلُكَ غَيْرَهُ. فَيُعْطِى اللَّهَ مِنْ عُهُودٍ وَمَوَاثِيقَ أَنْ لاَ يَسْأَلَهُ غَيْرَهُ فَيُقَرِّبُهُ إِلَى بَابِ الْجَنَّةِ فَإِذَا رَأَى مَا فِيهَا سَكَتَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَسْكُتَ ثُمَّ يَقُولُ رَبِّ أَدْخِلْنِى الْجَنَّةَ. ثُمَّ يَقُولُ(1/172)
أَوَلَيْسَ قَدْ زَعَمْتَ أَنْ لاَ تَسْأَلَنِى غَيْرَهُ وَيْلَكَ يَا ابْنَ آدَمَ مَا أَغْدَرَكَ فَيَقُولُ يَا رَبِّ لاَ تَجْعَلْنِى أَشْقَى خَلْقِكَ. فَلاَ يَزَالُ يَدْعُو حَتَّى يَضْحَكَ فَإِذَا ضَحِكَ مِنْهُ أَذِنَ لَهُ بِالدُّخُولِ فِيهَا فَإِذَا دَخَلَ فِيهَا قِيلَ تَمَنَّ مِنْ كَذَا. فَيَتَمَنَّى ثُمَّ يُقَالُ لَهُ تَمَنَّ مِنْ كَذَا. فَيَتَمَنَّى حَتَّى تَنْقَطِعَ بِهِ الأَمَانِىُّ فَيَقُولُ لَهُ هَذَا لَكَ وَمِثْلُهُ مَعَهُ».قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَذَلِكَ الرَّجُلُ آخِرُ أَهْلِ الْجَنَّةِ دُخُولاً» (أخرجه البخاري) (1).
__________
(1) - برقم (6573) ومسلم برقم (469) =الذكاء: لهب النار واشتعالها =تضارون: لا تتخالفون ولا تتجادلون فى صحة النظر = قشبنى: سمنى وأهلكنى =امتحشوا: احترقت جلودهم حتى ظهرت العظام(1/173)
حقائق هامة عن البعث والنشور
*-البعث ضرورة شرعية وعقلية:
أولا: إن الله خلق الخلقَ لغايةٍ محددة في الدنيا إلى أجلٍّ مسمًّى، فإذا كان كذلك، فإنَّ الحياةَ الدنيا لا يمكن أن تكون آخر المطاف، حتى يعلمَ الله المصلحَ من المفسد، ويجازي كلا بعمله، قال الله تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ} (115) سورة المؤمنون.
ثانيا: اتفاقُ الرسالات السماوية جميعا على أن الناسَ سوف يموتون ويبعثون ليوم يجازون فيه على أعمالهم. بل وحتى الأديانِ الأرضية تقومُ على حقيقة البعثِ والجزاء.
ثالثا: شعورُ كلِّ الناس قديما وحديثا بوجود حياةٍ أخرى يلقى فيها الإنسان جزاءَ عمله الذي قام به في هذه الدنيا من خير أو شر. وهذه الغريزة ُالموجودة في نفس الإنسان هي التي تجعله يعرف الخيرَ بالجملة ويحبُّ فعله، ويعرف الشرَّ كذلك ويكرَهُ فعله وفاعله. فهذا الشعورُ ينبعثُ من إحساسِ الإنسان ِبوجود حياة أخرى يجازَى فيها على عمله، ويستحيلُ أن يتفقَ شعورُ الناس قاطبةً على ذلك، ثمَّ يكونُ منطلقَ ذلك ونهايتَه وهمٌ وخيالٌ.
رابعا: نشاهدُ في حياتنا الدنيا ظالمينَ بقوا على حالهِم حتى الموت، ومظلومينَ كذلك حتى آخر حياتهِم، فإذا كانتِ الحياة الدنيا هي نهايةَ المطافِ، فهل يكونُ ذلك عدلاً وحكمةً!! .
كما أننا نشاهدُ في الأرض كفاراً ومؤمنينَ، وكلٌّ منهم يظلُّ على حالهِ حتى مماتهِ- مع اختلافِ أعمالهم في الحياة الدنيا- فهلْ من العدلِ أن يسوَّى بينهم بأن يكون الموتُ هو ختامَ الرواية ولا شيءَ بعده!!.
قال الله تعالى: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} (28) سورة ص، وقال تعالى: {أًمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أّن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاء مَّحْيَاهُم وَمَمَاتُهُمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ} (21) سورة الجاثية.(1/174)
* إمكانُ البعث:
لقد تضافرتِ الأدلةُ على إمكان البعث، وهي من القوةِ بحيثُ يعجزُ عاقلٌ عن إنكارهِ، لأنَّ قضيةَ البعثِ متقررةٌ في النفوسِ. ومن الأدلة على ذلك:
1 - الأخبارُ السابقة من الله تعالى عن الرسلِ الكرام، فقد اتفقتْ جميعُ الرسالاتِ على أنَّ الله تعالى قادرٌ على إعادة الخلقِ بعد موتهم وأنه تعالى فاعلٌ ذلك لا محالةَ. قال الله تعالى: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن لَّن يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} (7) سورة التغابن، وقال الله تعالى: {اللّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ حَدِيثًا} (87) سورة النساء.
2 - أنَّ القادر على فعل الشيءِ ابتداء و إيجاده من العدمِ لا يعجزه أن يعيدَ ذلك الشيء بعد عدمه. فالله تعالى هو فاطرُ السماوات والأرضِ ومن فيهن ابتداء أ فيعجزهُ أن يفنيَ ذلك ثم يعيدُه!!
لذا قال الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (27) سورة الروم، وقال تعالى: {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاء كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} (104) سورة الأنبياء.
3 - إنَّ الأرض تكونُ هامدةً لا حياة فيها، فينزل الله تعالى الماء فتنمو وتخضرُّ. فالقادرُ على إحيائها قادر ٌ على إحياء الموتى. قال الله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (39) سورة فصلت
4 - وقال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (77) وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ(1/175)
يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (81) إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83) [يس/77 - 83]}.(1/176)
ثمرات الإيمان باليوم الآخر
لما كانَ الإيمان باليوم الآخر أحدَ أصولِ الإيمان الستةِ التي لا يصحُّ إيمانُ مسلمٍ بدونها.
ولما لذلك الإيمانِ من أثرٍ في حياة المسلمِ وطاعته لأوامر الله (عزَّ و جلَّ) واجتنابِ نواهيه، ولما له من أثرٍ في صلاحِ القلوبِ وصلاحِ الناس وسعادتهِم في الدنيا والآخرة، ولما في نسيانِ ذلك اليوم العظيم ِوالغفلةِ عنه من خطرٍ على حياةِ الناس ومصيرهِم .. فلا غرابةَ إذن أن يردَ ذكرُ هذا اليوم كثيراً في القرآن الكريم، حتى لا تكاد تخلو منه صفحةٌ من صفحاتهِ.
وإذا كانَ الكتابُ والسنَّةُ قد اهتما غاية الاهتمامِ بتفاصيل ذلك اليوم المشهودِ، وبأحوال هذا النبأ العظيم؛ فإنه من الحمقِ والجهلِ ألا نهتمَّ بما اهتمَّ به الوحيانِ.
إنَّ أعظمَ قضيةٍ يجبُ أن ينشغلَ بها كلُّ واحد منا هي: قضيةُ وجودهِ وحياتهِ والغايةِ منها، وقضيةُ مستقبلهِ ومصيرهِ وشقائهِ وسعادتهِ، فلا يجوزُ أن يتقدمَ ذلك شيءٌ مهما كان، فكلُّ أمر دونه هينٌ، وكلُّ خطبٍ سواه حقيرٌ. وهل هناكَ أعظمُ وأفدح ُمن أن يخسرَ الإنسانُ حياتَه وأهلَه، ويخسرَ مع ذلك سعادتَه وسعادتَهم، فماذا يبقى بعد ذلك؟ قال تعالى: {فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُم مِّن دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} (15) سورة الزمر. وقال تعالى: {وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُّقِيمٍ} (45) سورة الشورى.
وأهميةُ هذا الموضوع تتجلَّى فيما يلي:
1 - انفتاح الدنيا الشديد على كثير من الناس في هذا الزمان وما صحب ذلك من مكر الليل والنهار بأساليب جديدة ودعايات خبيثة تزين الدنيا في أعين الناس وتصدهم عن الآخرة، ومع ما كان عليه صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الإيمان والتقوى، فقد كانَ يحذرهم من الاغترار بالدنيا وضرورة الاستعداد للآخرة، مع أنَّ الدنيا لم تنفتحْ عليهم(1/177)
مثل اليوم، فلا شكَّ ولا ريبَ أننا أحوجُ منهم بكثير إلى أن نتذكرَ الآخرة ويذكّرَّ بعضُنا بعضاً، بعظمةِ شأنها وأهمية الاستعداد لها.
2 - ركونُ كثيرٍ من الناس للدنيا، ولقد ترتبَ على ذلك أن قستِ القلوب، وتحجرتِ الأعينِ، وهُجِرَ كتابُ الله (عز وجل)،وإذا قرأ أحدُنا القرآن قرأهُ بقلب لاهٍ، فأنَّّى لمثل ذلك القلب أن يخشعَ لذكر اللهِ؟ وأنَّّى لعينيهِ أن تدمعَ خوفاً من الله، وقد انعكس ذلك على الصلاةِ، فقلّ الخاشعونَ والمطمئنون فيها .. والله المستعان.
3 - لما في تذكُّرِ ذلك اليومِ ومشاهدهِ العظيمةِ من حثٍّ على العملِ الصالحِ، والمبادرةِ لفعل الخيراتِ وترك المنكراتِ، بل ما تكاسلَ المتكاسلون في عمل الصالحات سواءٌ الواجب منها والمسنونُ إلا بسببِ الغفلةِ عن الآخرة والانشغالِ عنها، يقول تعالى في وصف عباده الصالحين: {رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ} (37) سورة النور، وقال تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ} (9) سورة الزمر.
4 - لمَا ظهرَ في عصرنا اليومَ من المشكلاتِ المعقدةِ والأمراضِ المزمنةِ، التي نشأتْ عنها الأمراضُ النفسيةُ المتنوعةُ من القلقِ والاكتئابِ، اللذين يؤديانِ غالباً إلى حياةٍ يائسةٍ، ومن أسبابِ ذلك: البعدُ عن الله تعالى، وعن تذكُّرٍ اليومِ الآخر.
5 - لمَّا تميزَ به زماننا اليومَ من كثرةِ المظالم في بعض المجتمعاتِ واعتداءِ الناس بعضهم على بعضٍ، من أكلٍ لأموالٍ غيرهِم بدونِ وجهِ حقٍّ، وكذلك النيلُ من الأعراضِ، والحسدِ والتباغضِ، والفرقةِ والاختلافِ، وبخاصة بين بعضَ الدعاةِ وطلبةِ العلم، ولا شكَّ أنه لا شيءَ مثلَ تذكرِ اليومِ الآخرِ، وتذكُّرِ الوقوف بين يدي الله (عز وجل) علاجاً لتلك الأمراضٍ.
6 - ولما كان الركونُ إلى الدنيا والغفلةُ عن الآخرةِ من أعظمِ الأسبابِ في وهن النفوس وضعفها كان لا بدَّ من التذكيرِ المستمرِّ بذلك اليوم،وما فيه من نعيمٍ أو جحيمٍ، لأنَّ(1/178)
في هذا التذكير أكبرَ الأثر في نشاط الهممِ وعدم الاستسلامِ للوهنِ واليأسِ رجاءَ ثواب اللهِ (عزَّ وجلَّ) وما أعدَّهُ للمجاهدين في سبيله الداعين إليه.
7 - ولمَّا قلَّ في برامجِ الدعوةِ والتربيةِ الاعتناءُ بهذه الجانب العظيمِ من التربية مما له الأثرُ الكبيرُ في الاستقامةِ على الجادة، والدعوةِ إلى الله على بصيرةٍ، ولكنْ نرى من بعضِ المهتمينَ بالدعوة من يستهينُ بهذا الجانبِ العظيمِ حتى صارَ بعضُهم يقللُ من أثرِ التذكرةِ بالآخرة بقوله: إن هذا الأمرَ يغلبُ عليه الوعظُ أو هذا مقالٌ عاطفيٌّ وعظيٌّ ... إلخ .. مع أنَّ المتأملَ لكتابِ الله (سبحانه) وسنَّةِ رسوله - صلى الله عليه وسلم - يرَى بجلاءٍ جانبَ الوعظِ بارزاً بالربطِ بين الدنيا والآخرةِ والثوابِ والعقابِ .. نسأل اللهَ أن يهدينا جميعاً، وأنْ يوفقَنا للاقتداءِ بالسنَّةِ والسيرِ على نهجِها.
الآثارُ المرجوةُ لليقين باليوم الآخر:
إنَّ في اليقين باليوم الآخر وأنبائه العظيمة لآثاراً واضحةً وثماراً طيبةً، لابدَّ أن تظهر في قلب العبد وعلى لسانه وجوارحه، وفي حياته كلِّها، ولكنَّ هذا اليقين وحده لا يكفي حتى ينضمَّ إليه الصبر ومجاهدة الشهوات والعوائقِ، لأن الواحد منا ـ مع يقينهِ باليوم الآخر وأهواله ـ يرى في حياته أن ثمراتِ هذا اليقين ضعيفةٌ، فلابد إذن من سببٍ لهذا الأمر.
وهناك ثمرات كثيرة للإيمان باليوم الآخر ومنها:
1 - الإخلاصُ لله (عز وجل) والمتابعةُ للرسول - صلى الله عليه وسلم -:
إنَّ الموقنَ بلقاء الله (عز وجل) يوم الفزعِ الأكبر، لا تلقاهُ إلا حريصاً على أعماله، خائفاً من كل ما يحبطها من أنواعِ الشركِ الأكبر أو الشركِ الأصغر، حيث إنَّ الشرك َالأكبر يحبطُ جميعَ الأعمالِ، فتصير هباءً منثوراً، والشركُ الأصغر يحبطُ العملَ الذي حصل فيه هذا النوع من الشرك كيسير الرياء، والعُجب، والمنِّ، وطلب الجاهِ والشرف في الدنيا، فكلَّما كان العبدُ موقناً بلقاء ربه كان منه الحرصُ الشديد على ألا تضيعَ منه أعمالُه الصالحةُ في موقف القيامة، يومَ أن يكون في أشدِّ الأوقات حاجةُ إليها؛ ولذلك فهو يجاهدُ نفسه بحمايةِ أعماله في الدنيا بالإخلاص فيها لله (تعالى) لعل َّ الله (عز(1/179)
وجل) أن ينفعه بها، كما أن اليقينَ بالرجوعِ إلى الله (عز وجل) يجعلُ العبد في أعماله كلِّها متبعاً للرسول - صلى الله عليه وسلم - غيرَ مبتدع ولا مبدلٍ؛ لأن الله (عز وجل) لا يقبلُ من العملِ إلا ما كان خالصاً صواباً، قال (تعالى):- ((قُلْ إنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إلَيَّ أَنَّمَا إلَهُكُمْ إلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً)) [الكهف:110].
2 - الحذرُ من الدنيا والزهدُ فيها والصبرُ على شدائدها وطمأنينةُ القلب وسلامتُه:
إذا أكثرَ العبدُ ذكر الآخرة، وكانت منه دائماً على بالٍ، فإنَّ الزهدَ في الدنيا والحذرَ منها ومن فتنتها سيحلانِ في القلبِ، وحينئذٍ لا يكترثُ بزهرتِها، ولا يحزن على فواتها، ولا يمدنَّ عينيه إلى ما متَّع الله به بعض عباده من نعم ليفتنهم فيها، قال تعالى: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} (131) سورة طه، وهذه الثمرةُ يتولد عنها بدورها ثمارٌ أخرى مباركةٌ طيبةٌ منها: القناعةُ، وسلامةُ القلب من الحرص والحسد والغلِّ والشحناء؛ لأن الذي يعيشُ بتفكيره في الآخرة وأنبائِها العظيمة لا تهمُّه الدنيا الضيقةُ المحدودةُ، مع ملاحظة أن إيمانَ المسلم ِباليوم الآخر وزهدَه في الدنيا لا يعني انقطاعَه عنها وعدم ابتغاءِ الرزق في أكنافِها؛ يقول (تعالى): {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} (77) سورة القصص
كما يتولدُ أيضا من هذا الشعور، الراحةُ النفسيةُ والسعادةُ القلبية ُ، وقوة ُالاحتمال والصبرُ على الشدائد والابتلاءات، ذلك للرجاء فيما عند الله (عز وجل) من الأجرِ والثواب، وأنه مهما جاء من شدائدَ الدنيا فهي منقطعةٌ ولها أجلٌ، فهو ينتظرُ الفرجَ ويرجو الثواب الذي لا ينقطعُ يوم الرجوعِ إلى الله (عز وجل)،قال (تعالى): {وَلاَ تَهِنُواْ فِي ابْتِغَاء الْقَوْمِ إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ وَكَانَ اللّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} (104) سورة النساء، وما إن ْيفقدُ القلبُ هذه المعاني حتى يخيمَ عليه الهمُّ والتعاسةُ، ومن هنا ينشأُ القلقُ والانزعاج ُوالضيقُ والحزنُ، أما(1/180)
ذاك الذي عرف الدنيا على حقيقتِها، وامتلأ قلبهُ بهمِّ الآخرة وأنبائها، فإن نفسَه لا تذهبُ على الدنيا حسراتٍ، ولا تنقطعُ نفسه لهثاً في طلبها، ولا يأكلُ قلبَه الغلُّ والحسدُ والتنافسُ فيها، ولا يقلُّ صبرُه ولا يجزعُ قلبهُ عند المحنِ والشدائد، ومهما حُرِم في هذه الدنيا الفانية ِ، فهو يعلمُ أنَّ للهِ (عز وجل) في ذلك الحكمةَ البالغةَ، وهو يرجو الأجرَ يوم القيامة، قال (تعالى): {وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ (33) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ (34) وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (35)} [الزخرف/33 - 35].
3 - التزودُ بالأعمال الصالحة وأنواع القربات ِ، واجتنابُ المعاصي والمبادرةُ بالتوبة والاستغفار:
فهو راجٍ خائفٌ، والسائرُ على الطريق إذا خافَ أسرع السير مخافة الفواتِ.
عن بُكَيْرَ بْنِ فَيْرُوزَ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «مَنْ خَافَ أَدْلَجَ وَمَنْ أَدْلَجَ بَلَغَ الْمَنْزِلَ أَلاَ إِنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ غَالِيَةٌ أَلاَ إِنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ الْجَنَّةُ» (أخرجه الترمذي) (1).
وهو (سبحانه) كما جعل الرجاء لأهل الأعمال الصالحة، فكذلك جعل الخوفَ لأهل الأعمال الصالحة، فعُلم أن الرجاءَ والخوفَ النافع ما اقترنَ به العمل، قال (تعالى): ((إنَّ الَذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ (59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ)) [المؤمنون:57 - 61].
عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ وَهْبٍ الْهَمْدَانِىِّ أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَتْ سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ هَذِهِ الآيَةِ (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ) قَالَتْ عَائِشَةُ أَهُمُ الَّذِينَ يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ وَيَسْرِقُونَ قَالَ «لاَ يَا بِنْتَ الصِّدِّيقِ وَلَكِنَّهُمُ الَّذِينَ
__________
(1) - برقم (2638) وهو صحيح = أدلج: سار ليلا(1/181)
يَصُومُونَ وَيُصَلُّونَ وَيَتَصَدَّقُونَ وَهُمْ يَخَافُونَ أَنْ لاَ يُقْبَلَ مِنْهُمْ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِى الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ» (أخرجه الترمذي) (1).
واللهُ سبحانه وصفَ أهلَ السعادة بالإحسانِ مع الخوفِ، ووصفَ الأشقياء بالإساءةِ مع الأمن (2).قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُمْ بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ (59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (61) ْ [المؤمنون/57 - 61]،وقال تعالى: ((إنَّ الَذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ)) [البقرة:218].
4 - الدعوةُ إلى الله عز وجل والجهادِ في سبيله:
إنهما من أفضل القرباتِ والأعمال الصالحِة، وأثرهما عظيمٌ في إنقاذ الناس بإذن ربهم من الظلماتِ إلى النور، قال تعالى: ((وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إلى اللَّهِ وَعملَ صَالِحاً وَقَالَ إنَّنِي مِنَ المُسْلِمِينَ)) [فصلت:33]
وفي الجهاد أيضاً: حقيقةُ الزهد في الحياة الدنيا، وفيه أيضاً: حقيقةُ الإخلاص؛ فإنَّ الكلام فيمن جاهدَ في سبيلِ الله، لا في سبيلِ الرياسةِ، ولا في سبيل المالِ، ولا في سبيل الحميَّةِ .. وهذا لا يكون إلا لمن قاتلَ ليكون الدينُ كلُّه لله، ولتكونَ كلمةُ الله هي العليا، وأعظمُ مراتب الإخلاصِ: تسليمُ النفس والمالِ للمعبود، كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآَنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111) التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآَمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (112)} [التوبة/111 - 112].
__________
(1) - برقم (3475) وهو صحيح
(2) - الجواب الكافي، ص 57، 58.(1/182)
"و في الحديث عن الجهادِ في سبيل الله عز وجل، ومحاربةِ الفساد وتعبيدِ الناس لربِّ العالمين أكبرُ ردٍّ على الذين يرونَ أن التعلقَ باليومِ الآخر والاستعدادَ له يعني اعتزالَ الناسِ، وتركَ الدنيا لأهلها، والاشتغالَ بالنفس وعيوبِها، وتركَ الحياةِ يأسن فيها أهلُها. قال تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} (32) سورة الأعراف
إن الناس إذا كانوا في فترات من الزمان يعيشون سلبيين ويدعون الفساد والشر والظلم والطغيان والتخلف والجهالة تغمر حياتهم الدنيا - مع ادعائهم الإسلام - فإنما هم يصنعون ذلك كله أو بعضه لأن تصورهم للإسلام قد فسد وانحرف ولأن يقينهم في الآخرة قد تزعزع وضعف! لا لأنهم يدينون بحقيقة هذا الدين ويستيقنون من لقاء اللّه في الآخرة. فما يستيقن أحد من لقاء اللّه في الآخرة، وهو يعي حقيقة هذا الدين، ثم يعيش في هذه الحياة سلبيا، أو متخلفا، أو راضيا بالشر والفساد والطغيان.
إنما يزاول المسلم هذه الحياة الدنيا، وهو يشعر أنه أكبر منها وأعلى. ويستمتع بطيباتها أو يزهد فيها وهو يعلم أنها حلال في الدنيا خالصة له يوم القيامة. ويجاهد لترقية هذه الحياة وتسخير طاقاتها وقواها وهو يعرف أن هذا واجب الخلافة عن اللّه فيها. ويكافح الشر والفساد والظلم محتملا الأذى والتضحية حتى الشهادة وهو إنما يقدم لنفسه في الآخرة .. إنه يعلم من دينه أن الدنيا مزرعة الآخرة وأن ليس هنالك طريق للآخرة لا يمر بالدنيا وأن الدنيا صغيرة زهيدة ولكنها من نعمة اللّه التي يجتاز منها إلى نعمة اللّه الكبرى ..
وكل جزئية في النظام الإسلامي منظور فيها إلى حقيقة الحياة الآخرة وما تنشئه في التصور من سعة وجمال وارتفاع وما تنشئه في الخلق من رفعة وتطهر وسماحة ومن تشدد في الحق وتحرج وتقوى وما تنشئه في النشاط الإنساني من تسديد وثقة وتصميم.
من أجل ذلك كله لا تستقيم الحياة الإسلامية بدون يقين في الآخرة. ومن أجل ذلك كله كان هذا التوكيد في القرآن الكريم على حقيقة الآخرة ..(1/183)
وكان العرب في جاهليتهم - وبسبب من هذه الجاهلية - لا تتسع آفاقهم التصورية والشعورية والفكرية للاعتقاد في حياة أخرى غير هذه الحياة الدنيا ولا في عالم آخر غير هذا العالم الحاضر: ولا في امتداد الذات الإنسانية إلى آماد وآفاق وأعماق غير هذه الآماد المحسوسة .. مشاعر وتصورات أشبه شيء بمشاعر الحيوان وتصوراته .. شأنهم في هذا شأن الجاهلية الحاضرة .. «العلمية» كما يصر أهلها على تسميتها! «وَقالُوا: إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ» .. وكان اللّه - سبحانه - يعلم أن الاعتقاد على هذا النحو يستحيل أن تنشأ في ظله حياة إنسانية رفيعة كريمة ..
هذه الآفاق الضيقة في الشعور والتصور، التي تلصق الإنسان بالأرض، وتلصق تصوره بالمحسوس منها كالبهيمة .. وهذه الرقعة الضيقة من الزمان والمكان، التي تطلق السعار في النفس، والتكالب على المتاع المحدود، والعبودية لهذا المتاع الصغير، كما تطلق الشهوات من عقالها تعربد وحدها بلا كابح، ولا هدنة، ولا أمل في عوض، إن لم تقض هذه الشهوات الهابطة الصغيرة، التي لا تكاد تبلغ نزوات البهيمة! .. وهذه الأنظمة والأوضاع، التي تنشأ في الأرض منظورا فيها إلى هذه الرقعة الضيقة من الزمان والمكان بلا عدل ولا رحمة، ولا قسط ولا ميزان .. إلا أن يصارع الأفراد بعضهم بعضا، وتصارع الطبقات بعضها بعضا، وتصارع الأجناس بعضها بعضا .. وينطلق الكل في الغابة انطلاقا لا يرتفع كثيرا على انطلاق الوحوش والغيلان! كما نشهد اليوم في عالم «الحضارة» .. في كل مكان ..
كان اللّه - سبحانه - يعلم هذا كله ويعلم أن الأمة التي قدر أن يعطيها مهمة الإشراف على الحياة البشرية، وقيادتها إلى القمة السامقة التي يريد أن تتجلى فيها كرامة الإنسانية في صورة واقعية .. أن هذه الأمة لا يمكن أن تؤدي واجبها هذا إلا بأن تخرج بتصوراتها وقيمها من ذلك الجحر الضيق إلى تلك الآفاق والآماد الواسعة .. من ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة .. ولهذا كان ذلك التوكيد على حقيقة الآخرة .. أولا لأنها حقيقة. واللّه يقص الحق. وثانيا لأن اليقين بها ضرورة لاستكمال إنسانية الإنسان: تصورا واعتقادا، وخلقا وسلوكا، وشريعة ونظاما.(1/184)
ومن ثم كانت هذه الإيقاعات العنيفة العميقة التي نراها في هذه الموجة من نهر السورة المتدفق .. الإيقاعات التي يعلم اللّه أن فطرة الإنسان تهتزلها وترجف فتتفتح نوافذها، وتستيقظ أجهزة الاستقبال فيها، وتتحرك وتحيا، وتتأهب للتلقي والاستجابة .. ذلك كله فضلا على أنها تمثل الحقيقة: «وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ. قالَ: أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ؟ قالُوا: بَلى وَرَبِّنا. قالَ: فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ» .. هذا مصير الذين قالوا:؟ إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ» .. وهذا هو مشهدهم البائس المخزي المهين وهم موقوفون في حضرة ربهم الذي كذبوا بلقائه، لا يبرحون الموقف. وكأنما أخذ بأعناقهم حتى وقفوا في هذا المشهد الجليل الرهيب: «قالَ: أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ؟» ..
وهو سؤال يخزي ويذيب! «قالُوا: بَلى وَرَبِّنا» .. الآن. وهم موقوفون على ربهم. في الموقف الذي نفوا على سبيل التوكيد أن يكون! وفي اختصار يناسب جلال الموقف، ورهبة المشهد، وهول المصير، يجيء الأمر العلوي بالقضاء الأخير: «قالَ: فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ» ..
وهو مصير يتفق مع الخلائق التي أبت على نفسها سعة التصور الإنساني وآثرت عليه جحر التصور الحسي! والتي أبت أن ترتفع إلى الأفق الإنساني الكريم، وأخلدت إلى الأرض، وأقامت حياتها وعاشت على أساس ذلك التصور الهابط الهزيل! لقد ارتكست هذه الخلائق حتى أهلت نفسها لهذا العذاب الذي يناسب طبائع الكافرين بالآخرة الذين عاشوا ذلك المستوي الهابط من الحياة! بذلك التصور الهابط الهزيل! (1)
5 - اجتنابُ الظلم بشتَّى صوره:
نظراً لكثرة الظلم والشحناء بين المسلمين في عصرنا الحاضر، وأنه لا شيء يمنع النفسَ من ظلم غيرها في نفس أو مال أو عرض: كاليقينِ بالرجوع إلى الله عز وجل، وإعطاء كلِّ ذي حقٍّ حقه، وإنصافِ المظلوم ممن ظلمه، فإذا تذكرَ العبد هذا الموقفَ العصيبَ الرهيب، وأنه لا يضيعُ عند الله شيء، كما قال تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ
__________
(1) - في ظلال القرآن للسيد قطب - ت- علي بن نايف الشحود [ص 1485](1/185)
الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} (47) سورة الأنبياء، وقوله تعالى: {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا} (111) سورة طه، إذا تذكر َهذه المواقف واتعظ بهذه الآيات، وأيقنَ بتحققها فلا شكَّ أن ذلك سيمنعُه من التهاونِ في حقوق الخلق، والحذرِ من ظلمهم في دمِ أو مال أو عرض، خاصةًّ وأن حقوقَ العباد مبنيةٌ على المشاحَّة والحرصِ على استيفاء الحقِّ من الخصم، وبالذاتِ في يوم الهولِ الأعظمِ الذي يتمنَّى العبد فيه أن يكون له مظلمةٌ عند أمه وأبيه وصاحبته وبنيه، فضلاً عن غيرهم من الأباعد، ومعلومٌ أن التقاضي هنالك ليس بالدينار والدرهم، ولكن بالحسنات والسيئات. عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «مَنْ كَانَتْ لَهُ مَظْلَمَةٌ لأَحَدٍ مِنْ عِرْضِهِ أَوْ شَىْءٍ فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهُ الْيَوْمَ، قَبْلَ أَنْ لاَ يَكُونَ دِينَارٌ وَلاَ دِرْهَمٌ، إِنْ كَانَ لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ أُخِذَ مِنْهُ بِقَدْرِ مَظْلَمَتِهِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ صَاحِبِهِ فَحُمِلَ عَلَيْهِ» (أخرجه البخاري) (1).و عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ «أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ».قَالُوا الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لاَ دِرْهَمَ لَهُ وَلاَ مَتَاعَ. فَقَالَ «إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِى يَأْتِى يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلاَةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ وَيَأْتِى قَدْ شَتَمَ هَذَا وَقَذَفَ هَذَا وَأَكَلَ مَالَ هَذَا وَسَفَكَ دَمَ هَذَا وَضَرَبَ هَذَا فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ طُرِحَ فِى النَّارِ» (أخرجه مسلم) (2).
وقال تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31) [الزمر/30،31]}.
6 - حصولُ الأمن والاستقرارِ والألفةِ بين الناس بالحكمِ بشريعة الله:
إنَّ مجتمعاً يسودُ بين أهله الإيمانُ بالله عز وجل واليقينَ بالآخرة والجزاء والحساب، لا شكَّ أنه مجتمعٌ تسودُه المحبةُ ويعمُّه السلامُ؛ لأنَّ تعظيم اللهِ سبحانه سيجعلُ هذه النفوسَ
__________
(1) -برقم (2449)
(2) - برقم (6744)(1/186)
لا ترضى بغير شرعِ الله عز وجل بديلاً، ولا تقبلُ الاستسلامَ إلا لحكمِه، وهذا بدورهِ سيُضفي الأمنَ والأمانَ على مثل هذه المجتمعاتِ، لأن أهلَها يخافونَ الله ويخافونَ يوم الفصل والجزاء، فلا تحاكم َإلا لشرعِ الله، ولا تعاملَ إلا بأخلاقِ الإسلام الفاضلةِ: فلا خيانةَ ولا غشَّ ولا ظلمَ، ولا يعني هذا أنه لا يوجدُ في المجتمعاتِ المسلمةِ من يظلمُ أو يخونُ أو يغشَّ، فهذا لم يسلمْ منه عصرُ النبوة ولا الخلافةِ الراشدة، لكنَّ هذه المعاصي تبقَى فرديةً، يؤدَّبُ أفرادُها بحكم ِالله عز وجل وحدوده، إذا لم يردعْهم وازع ُالدين والخوفِ من الله، والحالاتُ الفرديةُ تلك ليستْ عامةً، قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ} (82) سورة الأنعام،وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (208) فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (209)} [البقرة/208،209] ..
إنها دعوة للمؤمنين باسم الإيمان. بهذا الوصف المحبب إليهم، والذي يميزهم ويفردهم، ويصلهم باللّه الذي يدعوهم .. دعوة للذين آمنوا أن يدخلوا في السلم كافة.
وأول مفاهيم هذه الدعوة أن يستسلم المؤمنون بكلياتهم للّه، في ذوات أنفسهم، وفي الصغير والكبير من أمرهم. أن يستسلموا الاستسلام الذي لا تبقى بعده بقية ناشزة من تصور أو شعور، ومن نية أو عمل، ومن رغبة أو رهبة، لا تخضع للّه ولا ترضى بحكمه وقضاه. استسلام الطاعة الواثقة المطمئنة الراضية. الاستسلام لليد التي تقود خطاهم وهم واثقون أنها تريد بهم الخير والنصح والرشاد وهم مطمئنون إلى الطريق والمصير، في الدنيا والآخرة سواء.
وتوجيه هذه الدعوة إلى الذين آمنوا إذ ذاك تشي بأنه كانت هنالك نفوس ما تزال يثور فيها بعض التردد في الطاعة المطلقة في السر والعلن. وهو أمر طبيعي أن يوجد في الجماعة إلى جانب النفوس المطمئنة الواثقة الراضية .. وهي دعوة توجه في كل حين للذين آمنوا ليخلصوا ويتجردوا وتتوافق خطرات نفوسهم واتجاهات مشاعرهم مع ما يريد اللّه بهم، وما يقودهم إليه نبيهم ودينهم، في غير ما تلجلج ولا تردد ولا تلفت.(1/187)
والمسلم حين يستجيب هذه الاستجابة يدخل في عالم كله سلم وكله سلام. عالم كله ثقة واطمئنان، وكله رضى واستقرار. لا حيرة ولا قلق، ولا شرود ولا ضلال. سلام مع النفس والضمير. سلام مع العقل والمنطق. سلام مع الناس والأحياء. سلام مع الوجود كله ومع كل موجود. سلام يرف في حنايا السريرة. وسلام يظلل الحياة والمجتمع. سلام في الأرض وسلام في السماء. وأول ما يفيض هذا السلام على القلب يفيض من صحة تصوره للّه ربه، ونصاعة هذا التصور وبساطته ..
إنه إله واحد. يتجه إليه المسلم وجهة واحدة يستقر عليها قلبه فلا تتفرق به السبل، ولا تتعدد به القبل ولا يطارده إله من هنا وإله من هناك - كما كان في الوثنية والجاهلية - إنما هو إله واحد يتجه إليه في ثقة وفي طمأنينة وفي نصاعة وفي وضوح.
وهو إله قوي قادر عزيز قاهر .. فإذا اتجه إليه المسلم فقد اتجه إلى القوة الحقة الوحيدة في هذا الوجود.
وقد أمن كل قوة زائفة واطمأن واستراح. ولم يعد يخاف أحدا أو يخاف شيئا، وهو يعبد اللّه القوي القادر العزيز القاهر. ولم يعد يخشى فوت شيء. ولا يطمع في غير من يقدر على الحرمان والعطاء.
وهو إله عادل حكيم، فقوته وقدرته ضمان من الظلم، وضمان من الهوى، وضمان من البخس. وليس كآلهة الوثنية والجاهلية ذوات النزوات والشهوات. ومن ثم يأوي المسلم من إلهه إلى ركن شديد، ينال فيه العدل والرعاية والأمان.
وهو رب رحيم ودود. منعم وهاب. غافر الذنب وقابل التوب. يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء.
فالمسلم في كنفه آمن آنس، سالم غانم، مرحوم إذا ضعف، مغفور له متى تاب ..
وهكذا يمضي المسلم مع صفات ربه التي يعرفه بها الإسلام فيجد في كل صفة ما يؤنس قلبه، وما يطمئن روحه، وما يضمن معه الحماية والوقاية والعطف والرحمة والعزة والمنعة والاستقرار والسلام(1/188)
كذلك يفيض السلام على قلب المسلم من صحة تصور العلاقة بين العبد والرب. وبين الخالق والكون.
وبين الكون والإنسان .. فاللّه خلق هذا الكون بالحق وخلق كل شيء فيه بقدر وحكمة. وهذا الإنسان مخلوق قصدا، وغير متروك سدى، ومهيأ له كل الظروف الكونية المناسبة لوجوده، ومسخر له ما في الأرض جميعا.
وهو كريم على اللّه، وهو خليفته في أرضه. واللّه معينه على هذه الخلافة. والكون من حوله صديق مأنوس، تتجاوب روحه مع روحه، حين يتجه كلاهما إلى اللّه ربه. وهو مدعو إلى هذا المهرجان الإلهي المقام في السماوات والأرض ليتملاه ويأنس به. وهو مدعو للتعاطف مع كل شيء ومع كل حي في هذا الوجود الكبير، الذي يعج بالأصدقاء المدعوين مثله إلى ذلك المهرجان! والذين يؤلفون كلهم هذا المهرجان! والعقيدة التي تقف صاحبها أمام النبتة الصغيرة، وهي توحي إليه أن له أجرا حين يرويها من عطش، وحين يعينها على النماء، وحين يزيل من طريقها العقبات .. هي عقيدة جميلة فوق أنها عقيدة كريمة. عقيدة تسكب في روحه السلام وتطلقه يعانق الوجود كله ويعانق كل موجود ويشيع من حوله الأمن والرفق، والحب والسلام.
والاعتقاد بالآخرة يؤدي دوره الأساسي في إفاضة السلام على روح المؤمن وعالمه ونفي القلق والسخط والقنوط .. إن الحساب الختامي ليس في هذه الأرض والجزاء الأوفى ليس في هذه العاجلة .. إن الحساب الختامي هناك والعدالة المطلقة مضمونة في هذا الحساب. فلا ندم على الخير والجهاد في سبيله إذا لم يتحقق في الأرض أو لم يلق جزاءه. ولا قلق على الأجر إذا لم يوف في هذه العاجلة بمقاييس الناس، فسوف يوفاه بميزان اللّه. ولا قنوط من العدل إذا توزعت الحظوظ في الرحلة القصيرة على غير ما يريد، فالعدل لا بد واقع. وما اللّه يريد ظلما للعباد.
والاعتقاد بالآخرة حاجز كذلك دون الصراع المجنون المحموم الذي تداس فيه القيم وتداس فيه الحرمات.(1/189)
بلا تحرج ولا حياء. فهناك الآخرة فيها عطاء، وفيها غناء، وفيها عوض عما يفوت. وهذا التصور من شأنه أن يفيض السلام على مجال السباق والمنافسة وأن يخلع التجمل على حركات المتسابقين وأن يخفف السعار الذي ينطلق من الشعور بأن الفرصة الوحيدة المتاحة هي فرصة هذا العمر القصير المحدود! ومعرفة المؤمن بأن غاية الوجود الإنساني هي العبادة، وأنه مخلوق ليعبد اللّه .. من شأنها - ولا شك - أن ترفعه إلى هذا الأفق الوضيء. ترفع شعوره وضميره، وترفع نشاطه وعمله، وتنظف وسائله وأدواته. فهو يريد العبادة بنشاطه وعمله وهو يريد العبادة بكسبه وإنفاقه وهو يريد العبادة بالخلافة في الأرض وتحقيق منهج اللّه فيها. فأولى به ألا يغدر ولا يفجر وأولى به ألا يغش ولا يخدع وأولى به ألا يطغى ولا يتجبر وأولى به ألا يستخدم أداة مدنسة ولا وسيلة خسيسة. وأولى به كذلك ألا يستعجل المراحل، وألا يعتسف الطريق، وألا يركب الصعب من الأمور. فهو بالغ هدفه من العبادة بالنية الخالصة والعمل الدائب في حدود الطاقة .. ومن شأن هذا كله ألا تثور في نفسه المخاوف والمطامع، وألا يستبد به القلق في أية مرحلة من مراحل الطريق.
فهو يعبد في كل خطوة وهو يحقق غاية وجوده في كل خطرة، وهو يرتقي صعدا إلى اللّه في كل نشاط وفي كل مجال.
وشعور المؤمن بأنه يمضي مع قدر اللّه، في طاعة اللّه، لتحقيق إرادة اللّه .. وما يسكبه هذا الشعور في روحه من الطمأنينة والسلام والاستقرار والمضي في الطريق بلا حيرة ولا قلق ولا سخط على العقبات والمشاق وبلا قنوط من عون اللّه ومدده وبلا خوف من ضلال القصد أو ضياع الجزاء .. ومن ثم يحس بالسلام في روحه حتى وهو يقاتل أعداء اللّه وأعداءه. فهو إنما يقاتل للّه، وفي سبيل اللّه، ولإعلاء كلمة اللّه ولا يقاتل لجاه أو مغنم أو نزوة أو عرض ما من أعراض هذه الحياة.
كذلك شعوره بأنه يمضي على سنة اللّه مع هذا الكون كله. قانونه قانونه، ووجهته وجهته. فلا صدام ولا خصام، ولا تبديد للجهد ولا بعثرة للطاقة. وقوى الكون كله تتجمع إلى قوته، وتهتدي بالنور الذي يهتدي به، وتتجه إلى اللّه وهو معها يتجه إلى اللّه.(1/190)
والتكاليف التي يفرضها الإسلام على المسلم كلها من الفطرة ولتصحيح الفطرة. لا تتجاوز الطاقة ولا تتجاهل طبيعة الإنسان وتركيبه ولا تهمل طاقة واحدة من طاقاته لا تطلقها للعمل والبناء والنماء ولا تنسى حاجة واحدة من حاجات تكوينه الجثماني والروحي لا تلبيها في يسر وفي سماحة وفي رخاء .. ومن ثم لا يحار ولا يقلق في مواجهة تكاليفه. يحمل منها ما يطيق حمله، ويمضي في الطريق إلى اللّه في طمأنينة وروح وسلام.
والمجتمع الذي ينشئه هذا المنهج الرباني، في ظل النظام الذي ينبثق من هذه العقيدة الجميلة الكريمة، والضمانات التي يحيط بها النفس والعرض والمال .. كلها مما يشيع السلم وينشر روح السلام.
هذا المجتمع المتواد المتحاب المترابط المتضامن المتكافل المتناسق. هذا المجتمع الذي حققه الإسلام مرة في أرقى وأصفى صوره. ثم ظل يحققه في صور شتى على توالي الحقب، تختلف درجة صفائه، ولكنه يظل في جملته خيرا من كل مجتمع آخر صاغته الجاهلية في الماضي والحاضر، وكل مجتمع لوثته هذه الجاهلية بتصوراتها ونظمها الأرضية! هذا المجتمع الذي تربطه آصرة واحدة - آصرة العقيدة - حيث تذوب فيها الأجناس والأوطان، واللغات والألوان، وسائر هذه الأواصر العرضية التي لا علاقة لها بجوهر الإنسان ..
هذا المجتمع الذي يسمع اللّه يقول له: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (10) سورة الحجرات .. والذي يرى صورته في قول رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِى تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى». (1) ..
هذا المجتمع الذي من آدابه: {وَإِذَا حُيِّيْتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا} (86) سورة النساء .. {وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} (18) سورة لقمان .. {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ
__________
(1) - صحيح مسلم- المكنز - (6751)(1/191)
حَمِيمٌ} (34) سورة فصلت .. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (11) سورة الحجرات .. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ} (12) سورة الحجرات ..
هذا المجتمع الذي من ضماناته: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} (6) سورة الحجرات .. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ} (12) سورة الحجرات
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (27) سورة النور .. وقول رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «لاَ تَحَاسَدُوا وَلاَ تَنَاجَشُوا وَلاَ تَبَاغَضُوا وَلاَ تَدَابَرُوا وَلاَ يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا. الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لاَ يَظْلِمُهُ وَلاَ يَخْذُلُهُ وَلاَ يَحْقِرُهُ. التَّقْوَى هَا هُنَا».وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ «بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ». (1) ..
ثم هذا المجتمع النظيف العفيف الذي لا تشيع فيه الفاحشة ولا يتبجح فيه الإغراء، ولا تروج فيه الفتنة، ولا ينتشر فيه التبرج، ولا تتلفت فيه الأعين على العورات، ولا ترف فيه الشهوات على الحرمات، ولا ينطلق فيه سعار الجنس وعرامة اللحم والدم كما تنطلق في المجتمعات الجاهلية قديما وحديثا .. هذا المجتمع الذي تحكمه التوجيهات الربانية الكثيرة، والذي يسمع اللّه - سبحانه - يقول: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (19)
__________
(1) - صحيح مسلم- المكنز - (6706)(1/192)
سورة النور .. {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ} (2) سورة النور .. {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (4) سورة النور
.. {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} (30) سورة النور .. {وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاء وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (31) سورة النور
والذي يخاطب فيه نساء النبي - أطهر نساء الأرض في أطهر بيت في أطهر بيئة في أطهر زمان {يَا نِسَاء النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاء إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَّعْرُوفًا (32) وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33)} سورة الأحزاب ..
وفي مثل هذا المجتمع تأمن الزوجة على زوجها، ويأمن الزوج على زوجته، ويأمن الأولياء على حرماتهم وأعراضهم، ويأمن الجميع على أعصابهم وقلوبهم. حيث لا تقع العيون على المفاتن، ولا تقود العيون القلوب إلى المحارم. فإما الخيانة المتبادلة حينذاك وإما الرغائب المكبوتة وأمراض النفوس وقلق الأعصاب .. بينما المجتمع المسلم النظيف العفيف آمن ساكن، ترف عليه أجنحة السلم والطهر والأمان!(1/193)
وأخيرا إنه ذلك المجتمع الذي يكفل لكل قادر عملا ورزقا، ولكل عاجز ضمانة للعيش الكريم، ولكل راغب في العفة والحصانة زوجة صالحة، والذي يعتبر أهل كل حي مسؤولين مسؤولية جنائية لومات فيهم جائع حتى ليرى بعض فقهاء الإسلام تغريمهم بالدية.
والمجتمع الذي تكفل فيه حريات الناس وكراماتهم وحرماتهم وأموالهم بحكم التشريع، بعد كفالتها بالتوجيه الرباني المطاع. فلا يؤخذ واحد فيه بالظنة، ولا يتسور على أحد بيته، ولا يتجسس على أحد فيه متجسس، ولا يذهب فيه دم هدرا والقصاص حاضر ولا يضيع فيه على أحد ماله سرقة أو نهبا والحدود حاضرة.
المجتمع الذي يقوم على الشورى والنصح والتعاون. كما يقوم على المساواة والعدالة الصارمة التي يشعر معها كل أحد أن حقه منوط بحكم شريعة اللّه لا بإرادة حاكم، ولا هوى حاشية، ولا قرابة كبير.
وفي النهاية المجتمع الوحيد بين سائر المجتمعات البشرية، الذي لا يخضع البشر فيه للبشر. إنما يخضعون حاكمين ومحكومين للّه ولشريعته وينفذون حاكمين ومحكومين حكم اللّه وشريعته. فيقف الجميع على قدم المساواة الحقيقية أمام اللّه رب العالمين وأحكم الحاكمين، في طمأنينة وفي ثقة وفي يقين ..
هذه كلها بعض معاني السلم الذي تشير إليه الآية وتدعو الذين آمنوا للدخول فيه كافة. ليسلموا أنفسهم كلها للّه فلا يعود لهم منها شيء، ولا يعود لنفوسهم من ذاتها حظ إنما تعود كلها للّه في طواعية وفي انقياد وفي تسليم ..
ولا يدرك معنى هذا السلم حق إدراكه من لا يعلم كيف تنطلق الحيرة وكيف يعربد القلق في النفوس التي لا تطمئن بالإيمان، في المجتمعات التي لا تعرف الإسلام، أو التي عرفته ثم تنكرت له، وارتدت إلى الجاهلية، تحت عنوان من شتى العنوانات في جميع الأزمان .. هذه المجتمعات الشقية الحائرة على الرغم من كل ما قد يتوافر لها من الرخاء المادي والتقدم الحضاري، وسائر مقومات الرقي في عرف الجاهلية الضالة التصورات المختلة الموازين.(1/194)
وحسبنا مثل واحد مما يقع في بلد أوربي من أرقى بلاد العالم كله وهو «السويد».حيث يخص الفرد الواحد من الدخل القومي ما يساوي خمسمائة جنيه في العام. وحيث يستحق كل فرد نصيبه من التأمين الصحي وإعانات المرض التي تصرف نقدا والعلاج المجاني في المستشفيات. وحيث التعليم في جميع مراحله بالمجان، مع تقديم إعانات ملابس وقروض للطلبة المتفوقين وحيث تقدم الدولة حوالي ثلاثمائة جنيه إعانة زواج لتأثيث البيوت .. وحيث وحيث من ذلك الرخاء المادي والحضاري العجيب ..
ولكن ماذا؟ ماذا وراء هذا الرخاء المادي والحضاري وخلو القلوب من الإيمان باللّه؟
إنه شعب مهدد بالانقراض، فالنسل في تناقص مطرد بسبب فوضى الاختلاط! والطلاق بمعدل طلاق واحد لكل ست زيجات بسبب انطلاق النزوات وتبرج الفتن وحرية الاختلاط! والجيل الجديد ينحرف فيدمن على المسكرات والمخدرات ليعوض خواء الروح من الإيمان وطمأنينة القلب بالعقيدة. والأمراض النفسية والعصبية والشذوذ بأنواعه تفترس عشرات الآلاف من النفوس والأرواح والأعصاب .. ثم الانتحار .. والحال كهذا في أمريكا .. والحال أشنع من هذا في روسيا ..
إنها الشقوة النكدة المكتوبة على كل قلب يخلو من بشاشة الإيمان وطمأنينة العقيدة. فلا يذوق طعم السلم الذي يدعى المؤمنون ليدخلوا فيه كافة، ولينعموا فيه بالأمن والظل والراحة والقرار: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً .. وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ. إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ» ..
ولما دعا اللّه الذين آمنوا أن يدخلوا في السلم كافة ... حذرهم أن يتبعوا خطوات الشيطان. فإنه ليس هناك إلا اتجاهان اثنان. إما الدخول في السلم كافة، وإما اتباع خطوات الشيطان. إما هدى وإما ضلال. إما إسلام وإما جاهلية. إما طريق اللّه وإما طريق الشيطان. وإما هدى اللّه وإما غواية الشيطان .. وبمثل هذا الحسم ينبغي أن يدرك المسلم موقفه، فلا يتلجلج ولا يتردد ولا يتحير بين شتى السبل وشتى الاتجاهات.
إنه ليست هنالك مناهج متعددة للمؤمن أن يختار واحدا منها، أو يخلط واحدا منها بواحد .. كلا! إنه من لا يدخل في السلم بكليته، ومن لا يسلم نفسه خالصة لقيادة اللّه(1/195)
وشريعته، ومن لا يتجرد من كل تصور آخر ومن كل منهج آخر ومن كل شرع آخر .. إن هذا في سبيل الشيطان، سائر على خطوات الشيطان ..
ليس هنالك حل وسط، ولا منهج بين بين، ولا خطة نصفها من هنا ونصفها من هناك! إنما هناك حق وباطل. هدى وضلال. إسلام وجاهلية. منهج اللّه أو غواية الشيطان. واللّه يدعو المؤمنين في الأولى إلى الدخول في السلم كافة ويحذرهم في الثانية من اتباع خطوات الشيطان. ويستجيش ضمائرهم ومشاعرهم، ويستثير مخاوفهم بتذكير هم بعداوة الشيطان لهم، تلك العداوة الواضحة البينة، التي لا ينساها إلا غافل. والغفلة لا تكون مع الإيمان. (1)
أما عندما يقلُّ الوازعُ الدينيُّ والخوفُ من الآخرةِ، ويكونُ التحاكمُ إلى أهواءِ البشر وحكمِهم فهذا هو البلاءُ العظيمُ والفسادُ الكبيرُ: حيثُ تداسُ القيم ُوالحرماتُ، ويأكلُ القويُّ الضعيفَ، وبالتالي: لا يأمنُ الناسُ على أديانهِم ولا أنفسهِم ولا أموالهِم ولا أعراضهِم، وكفى بذلك سبباً في عدمِ الأمنِ والاستقرارِ، وانتشارِ الخوف، واختلالِ حياةِ الناس.
7 - تقصير الأمل وحفظ الوقت:
إنَّ من أخطر الأبواب التي يدخل منها الشيطان على العبد: طولَ الأمل، والأمانيَّ الخادعة التي تجعل صاحبها في غفلةٍ شديدة عن الآخرة، واغترارٍ بزينة الحياة الدنيا، وتضييعِ ساعات العمر النفيسة في اللهثِ وراءها حتى يأتي الأجلُ الذي يقطع هذه الآمال، وتذهبُ النفس حسراتٍ على ما فرطت في عمرها، وأضاعتْ من أوقاتها. ولكنَّ اليقين بالرجوع إلى الله عز وجل، والتذكر َالدائم لقِصر الحياة الدنيا وأبديةِ الآخرة وبقائها، هو العلاجُ الناجعُ لطول الأملِ وضياع الأوقاتِ. و قَالَ عَلِيٌّ: إنَّمَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ اثْنَتَيْنِ: طُولَ الأَمَلِ , وَاتِّبَاعَ الْهَوَى , فَإِنَّ طُولَ الأَمَلِ يُنْسِي الآخِرَةَ، وَإِنَّ اتِّبَاعَ الْهَوَى يَصُدُّ، عَنِ الْحَقِّ، وَإِنَّ الدُّنْيَا قَدْ تَرَحَّلَتْ مُدْبِرَةً، وَإِنَّ الآخِرَةَ مُقْبِلَةٌ وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا
__________
(1) - في ظلال القرآن للسيد قطب - ت- علي بن نايف الشحود [ص 437](1/196)
بَنُونَ فَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الآخِرَةِ , فَإِنَّ الْيَوْمَ عَمَلٌ، وَلاَ حِسَابَ , وَغَدًا حِسَابٌ، وَلاَ عَمَلَ."أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (1)
وعَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِى سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ «لاَ يَزَالُ قَلْبُ الْكَبِيرِ شَابًّا فِى اثْنَتَيْنِ فِى حُبِّ الدُّنْيَا، وَطُولِ الأَمَلِ» (أخرجه البخاري) (2).
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -،لِرَجُلٍ وَهُوَ يَعِظُهُ:" اغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ: شَبَابَكَ قَبْلَ هِرَمِكَ، وَصِحَّتَكَ قَبْلَ سَقَمِكَ، وَغِنَاءَكَ قَبْلَ فَقْرِكَ، وَفَرَاغَكَ قَبْلَ شُغْلِكَ، وَحَيَاتَكَ قَبْلَ مَوْتِكَ" (أخرجه الحاكم) (3).
8 - سلامةُ التفكير وانضباطُ الموازين وسموُّ الأخلاق:
لا يستوي من يؤمنُ بالله واليوم الآخر ويوقنُ بيوم الحساب والجزاء ولا يغفل عنه، ومَنْ لا يؤمنُ بالآخرة، أو يؤمن بها ولكنَّه في لهوٍ وغفلةٍ عنها، لا يستويان أبداً في الدنيا ولا في الآخرة، أما في الآخرة فيوضحه قوله تعالى: {لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ} (20) سورة الحشر.
وأما في الحياة الدنيا فلا يلتقي أبداً من يعلمُ أن له غاية ًعظيمة في هذا الحياة، وأن مردَّه إلى الله عز وجل في يوم الجزاءِ والحسابِ والنشور، مع من لا يعلم ُمن هذه الحياة الدنيا إلا ظاهرها، وأنها كلُّ شيء عنده، وهو عن الآخرةِ من الغافلين. قال تعالى: {أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ} (19) سورة الرعد، وقال تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191) رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (192) رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آَمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآَمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ
__________
(1) - برقم (34489) وفيه راو مبهم
(2) - برقم (6420)
(3) - برقم (7846) وهو صحيح(1/197)
عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ (193) رَبَّنَا وَآَتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ (194) [آل عمران/190 - 194]}.
إنهما لا يلتقيانِ في التفكيرِ، ولا في الميزانِ الذي توزنُ به الأشياءُ والأحداث، ولا في الأحكامِ، وبالتالي: فبقدرِ ما تسمو أخلاقُ الأوَّل وتعلو همتُه لسموِّ منهجه وميزانهِ بقدر ما تسفلُ وترذلُ أخلاقُ الآخرِ لسفالة تصورهِ وفساد ميزانِه. قال تعالى في وصف أهل الدنيا: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} (7) سورة الروم.
9 - الفوزُ برضا الله سبحانه وجنته، والنجاةُ من سخطه والنار:
وهذه ثمرةُ الثمار، وغايةُ الغايات، قال تعالى: ((كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ المَوْتِ وَإنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا إلاَّ مَتَاعُ الغُرُورِ)) [آل عمران:185].
إنه لا بدَّ من استقرار هذه الحقيقة في النفس: حقيقةُ أنَّ الحياة َفي هذه الأرض موقوتةٌ، محدودةٌ بأجل؛ ثم تأتي نهايتُها حتماً .. يموتُ الصالحون يموتُ الطالحون. يموت المجاهدون ويموت القاعدون. يموت المستعلون بالعقيدة ويموت المستذَلون للعبيد. يموت الشجعانُ الذين يأبون الضيم، ويموتُ الجبناء الحريصون على الحياة بأيِّ ثمن .. يموت ذوو الاهتمامات الكبيرةِ والأهدافِ العالية، ويموتُ التافهون الذين يعيشون فقط للمتاعِ الرخيص. الكل يموت .. {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} .. كلُّ نفس تذوقُ هذه الجرعة، وتفارقُ هذه الحياة .. لا فارقَ بين نفس ونفس في تذوق هذه الجرعة ِمن هذه الكأسِ الدائرة على الجميع. إنما الفارق في شيء آخر؛ الفارق في قيمة أخرى. الفارق في المصير الأخير: {وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} ..
هذه هي القيمة التي يكون فيها الافتراقُ. وهذا هو المصير الذي يفترق فيه فلانٌ عن فلان. القيمةُ الباقيةُ التي تستحقُّ السعي والكدَّ. والمصيرُ المخوِّف الذي يستحقُّ أن يحسب له ألفَ حساب:(1/198)
{فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} .. ولفظ {زحزح} بذاته يصور معناه بجرسه، ويرسم هيئته، ويلقي ظله! وكأنما للنار جاذبيةًّ تشدُّ إليها من يقترب منها، ويدخل في مجالها!
فهو في حاجةٍ إلى من يزحزحهُ قليلاً قليلاً ليخلصه من جاذبيتها المنهومة!
فمن أمكن أن يزحزحَ عن مجالها، ويستَنقَذَ من جاذبيتها، ويدخل الجنة .. فقد فاز .. (1)
10 - تقويةُ الدافع الداخلي للعملِ الصالح، واستشعارُ قيمة الحياة، وأنها ابتلاء للآخرة ومزرعة لها.
11 - تسليةُ المؤمنِ عما يفوته في الدنيا، حتى يعلم َأن ثوابه الأعظم إنما هو في الآخرة، وأنَّ كل ما يصيبُه من بلاء في الدنيا فيصبرُ عليه فإنه يضاعِف حسناته في الآخرة. فعَنِ عَائِشَةَ - رضى الله عنها - زَوْجَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «مَا مِنْ مُصِيبَةٍ تُصِيبُ الْمُسْلِمَ إِلاَّ كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا عَنْهُ، حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا» (أخرجه البخاري) (2).و عَنْ عَطَاءَ بْنُ أَبِى رَبَاحٍ قَالَ قَالَ لِى ابْنُ عَبَّاسٍ أَلاَ أُرِيكَ امْرَأَةً مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ قُلْتُ بَلَى. قَالَ هَذِهِ الْمَرْأَةُ السَّوْدَاءُ أَتَتِ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَتْ إِنِّى أُصْرَعُ، وَإِنِّى أَتَكَشَّفُ فَادْعُ اللَّهَ لِى. قَالَ «إِنْ شِئْتِ صَبَرْتِ وَلَكِ الْجَنَّةُ وَإِنْ شِئْتِ دَعَوْتُ اللَّهَ أَنْ يُعَافِيَكِ».فَقَالَتْ أَصْبِرُ. فَقَالَتْ إِنِّى أَتَكَشَّفُ فَادْعُ اللَّهَ أَنْ لاَ أَتَكَشَّفَ، فَدَعَا لَهَا " (أخرجه البخاري) (3).
وقال تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146) وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (147) فَآَتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآَخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148) [آل عمران/146 - 148]}.
__________
(1) - في ظلال القرآن - (ج 2 / ص 22)
(2) - برقم (5640)
(3) - برقم (5652)(1/199)
وعَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، قَالَ:" لَقِيتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بِالْبَطْحَاءِ، فَأَخَذَ بِيَدِي، فَانْطَلَقْتُ مَعَهُ، فَمَرَّ بِعَمَّارٍ، وَأَبِي عَمَّارٍ، وَأُمِّ عَمَّارٍ، وَهُمْ يُعَذَّبُونَ فَقَالَ:" صَبْرًا آلَ يَاسِرٍ، فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى الْجَنَّةِ ". (أخرجه أبو نعيم في معرفة الصحابة) (1).
12 - ازدياد الخوف والخشية من الله تعالى، والرجاء في ثوابه الذي أعده لعباده المتقين، وذلك بالعمل بمقتضى أوامره واجتناب نواهيه والالتزام بشرعه .. عن بُكَيْرَ بْنِ فَيْرُوزَ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «مَنْ خَافَ أَدْلَجَ وَمَنْ أَدْلَجَ بَلَغَ الْمَنْزِلَ أَلاَ إِنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ غَالِيَةٌ أَلاَ إِنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ الْجَنَّةُ» (أخرجه الترمذي) (2).
وعَنِ الطُّفَيْلِ بْنِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:" مَنْ خَافَ أَدْلَجَ، وَمَنْ أَدْلَجَ فَقَدْ بَلَغَ الْمَنْزِلَ، أَلا إِنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ غَالِيَةٌ، أَلا إِنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ الْجَنَّةُ، جَاءَتِ الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ، جَاءَ الْمَوْتُ بِمَا فِيهِ " (أخرجه الحاكم في المستدرك) (3).
13 - الإيمانُ بالآخرة صمام الأمان لهذا الإنسان في هذه الدار، فهو الذي يمنعه من الفسادِ والإلحادِ، ومن لم يؤمن بالآخرة لا يرتدعُ عن قبيحٍ ولا منكرٍ، قال تعالى: {وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ} (74) سورة المؤمنون.
فلو كانوا مهتدين لتابعوا بقلوبهم وعقولهم أطوار النشأة التي تحتم الإيمان بالآخرة، وبالعالم الذي يسمح ببلوغ الكمال الممكن، وتحقيق العدل المرسوم. فليست الآخرة إلا حلقة من حلقات الناموس الشامل الذي ارتضاه اللّه لتدبير هذا الوجود.
14 - الحرصُ على طاعة الله تعالى رغبةً في ثوابِ ذلك اليوم، والبعدِ عن معصيته، خوفاً من عقاب ذلك اليوم. قال تعالى: { ... إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} (90) سورة الأنبياء.
15 - اليقين بالآخرة يؤدي للهداية والفلاح:
قال تعالى: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ
__________
(1) - معرفة الصحابة لأبي نعيم [5/ 2812] (6662) وهو حديث حسن
(2) - برقم (2638) وصحيح الجامع (6222) وهو صحيح = أدلج: سار ليلا
(3) - برقم (7852) وهو صحيح = الدلجة: السير في أول الليل والمراد التشمير والجد في الطاعة = الراجفة: النفخة الأولى في الصور، والتي تميت الخلائق = الرادفة: النفخة الثانية في الصور يوم القيامة(1/200)
قَبْلِكَ وَبِالْآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5) [البقرة/2 - 5]}.
فاليقينُ بالآخرة هو مفرقُ الطريق بين من يعيشُ بين جدرانِ الحسِّ المغلقةِ، ومن يعيشُ في الوجودِ المديد الرحيب. بين من يشعرُ أن حياتَه على الأرض هيَ كلُّ ما له في هذا الوجود، ومن يشعرُ أن حياتَه على الأرض ابتلاءٌ يمهِّدُ للجزاء، وأنَّ الحياةَ الحقيقية إنما هي هنالكَ، وراء هذا الحيِّز الصغيرِ المحدودِ (1).
واليقينُ بالآخرة هو الضمانُ ليقظةِ القلب البشري، وتطلعِه إلى ما عند الله، واستعلائهِ على أوهاق (2) الأرض، وترفعُه على متاع الحياة الدنيا؛ ومراقبةِ الله في السرِّ والعلن وفي الدقيقِ والجليلِ؛ والوصول ِإلى درجة الإحسانِ التي سئل عنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: «الإِحْسَانُ أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ» (3).
وهؤلاءِ المحسنونُ هم الذين يكون الكتاب لهم هدىً ورحمةً؛ لأنهم بما في قلوبهِم من تفتحٍ وشفافيةٍ يجدون في صحبةِ هذا الكتاب راحةً وطمأنينةً؛ ويتَّصِلون بما في طبيعتهِ من هدى ونورٍ، ويدركونَ مراميهِ وأهدافهِ الحكيمة ِ، وتصطلحُ نفوسُهم عليه، وتحسُّ بالتوافقِ والتناسق ووحدةِ الاتجاه، ووضوحِ الطريق.
وإنَّ هذا القرآن ليعطي كلَّ قلبٍ بمقدارِ ما في هذا القلب من حساسيةٍ وتفتحٍ وإشراقٍ؛ وبقدر ما يقبلُ عليه في حب ٍّوتطلعٍ وإعزازٍ.إنه كائنٌ حيٌّ يعاطفُ القلوبَ الصديقةَ، ويجاوبُ المشاعر المتوجهةَ إليه بالرفرفةِ والحنينِ!
{أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (5) سورة البقرة. ومن هُديَ فقد أفلحَ، فهو سائرٌ على النورِ، واصلٌ إلى الغاية ِ، ناجٍ من الضلالِ في الدنيا، ومن عواقبِ الضلالِ في الآخرة؛ وهو مطمئنٌ في رحلته على هذا الكوكبِ تتناسقُ خطاهُ مع دورة
__________
(1) - في ظلال القرآن للسيد قطب - ت- علي بن نايف الشحود [ص 233]
(2) - الأوهاق جمع وهق: وهو الحبْلُ المُغارُ يُرْمى في أُنشوطَة فتؤْخَذُ به الدابّة والإنسانُ - تاج العروس - (ج 1 / ص 6621)
(3) - أخرجه البخاري برقم (4777)(1/201)
الأفلاكِ ونواميسِ الوجود؛ فيحسُّ بالأنسِ والراحةِ والتجاوبِ مع كلِّ كائنٍ في الوجودِ (1).
16 - الذين آمنوا بالله واليوم الآخر َلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ:
قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62)} [البقرة/62] , و قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (69)} [المائدة/69]
فهؤلاء لا يخافون على مستقبلهم، فقد ضمنه لهم من خلقهم، ولا يحزنون على نعمة أو لعاعة ٍ تفوتهم في هذه الدار، رجاء ما عند الله تعالى من ثواب ٍ عظيم ٍ ادخره لهم. قال تعالى: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} (131) سورة طه
17 - الإيمانُ بالله واليوم الآخرِ، مع الأخذِ بلوازمهما يجعل البلادَ آمنةً من غضبِ الله ِ ومقته، ويرزقها من الطيباتِ:
قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آَمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آَمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126)} [البقرة/126]
ومفهومُ الآية ِالمخالف ِ، أنَّ منْ لم يكنْ كذلك، سيعيشُ في قلقِ وخوفٍ ورعبٍ، وسيحرمه الله تعالى خيراتٍ كثيرةً، بسبب عدم إيمانه بالله واليوم الآخر مع العذاب الشديدِ، والمصير المحتوم الذي ينتظره يوم القيامة، كما قال تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا (27) وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا كِذَّابًا (28) وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا (29) فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا (30) [النبأ/27 - 30]}.
18 - الإيمانُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ هو منبعُ كلِّ خيرٍ، وسببُ كلِّ برٍّ:
__________
(1) - في ظلال القرآن للسيد قطب - ت- علي بن نايف الشحود [ص 3526](1/202)
قال تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177) [البقرة/177]}.
قال الإمام الرازيُّ رحمه الله:" إنَّ الإنسانَ لا يمكنُه أنْ ينفقَ محبوبَهُ إلا إذا توسَّلَ بإنفاقِ ذلك المحبوبِ إلى وجدانِ محبوبِ أشرفِ منَ الأولِ، فعلَى هذا الإنسانُ لا يمكنُهُ أنْ ينفقَ الدنيا في الدنيا إلا إذا تيقنَ سعادةَ الآخرةِ، ولا يمكنُه أنْ يعترفَ بسعادةِ الآخرةِ إلا إذا أقرَّ بوجودِ الصانعِ العالم القادر ِ، وأقرَّ بأنَّهُ يجبُ عليه الانقيادُ لتكاليفِه وأوامرِه ونواهيِهِ، فإذا تأملتَ علمتَ أنَّ الإنسانَ لا يمكنُه إنفاقَ الدنيا في الدنيا إلا إذا كان مستجمعاً لجميعِ الخصالِ المحمودةِ في الدنيا " (1).
19 - الإيمانُ بالله واليوم الآخر، هو الذي يجعل الإنسان يحافظ على الأمانة:
قال تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُواْ إِصْلاَحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكُيمٌ} (228) سورة البقرة، فالمطلقةُ لا تكتم ما في رحمها خوفا من الله تعالى، وخوفا من لقائه
20 - الإيمان بالله واليوم الآخر هو الذي يجعلُ الإنسانَ ينتصرُ على نفسهُ وهواهُ:
قال تعالى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْاْ بَيْنَهُم بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} (232) سورة البقرة. عَنِ الْحَسَنِ (فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ) قَالَ حَدَّثَنِى مَعْقِلُ بْنُ يَسَارٍ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِيهِ قَالَ زَوَّجْتُ أُخْتًا لِى مِنْ رَجُلٍ فَطَلَّقَهَا، حَتَّى إِذَا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا جَاءَ يَخْطُبُهَا، فَقُلْتُ لَهُ زَوَّجْتُكَ وَفَرَشْتُكَ
__________
(1) - تفسير الرازي - (ج 4 / ص 296)(1/203)
وَأَكْرَمْتُكَ، فَطَلَّقْتَهَا، ثُمَّ جِئْتَ تَخْطُبُهَا، لاَ وَاللَّهِ لاَ تَعُودُ إِلَيْكَ أَبَدًا، وَكَانَ رَجُلاً لاَ بَأْسَ بِهِ وَكَانَتِ الْمَرْأَةُ تُرِيدُ أَنَّ تَرْجِعَ إِلَيْهِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الآيَةَ (فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ) فَقُلْتُ الآنَ أَفْعَلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ فَزَوَّجَهَا إِيَّاهُ. (أخرجه البخاري) (1).
وفي رواية عَنِ الْحَسَنِ حَدَّثَنِى مَعْقِلُ بْنُ يَسَارٍ قَالَ كَانَتْ لِى أُخْتٌ تُخْطَبُ إِلَىَّ فَأَتَانِى ابْنُ عَمٍّ لِى فَأَنْكَحْتُهَا إِيَّاهُ ثُمَّ طَلَّقَهَا طَلاَقًا لَهُ رَجْعَةٌ ثُمَّ تَرَكَهَا حَتَّى انْقَضَتْ عِدَّتُهَا فَلَمَّا خُطِبَتْ إِلَىَّ أَتَانِى يَخْطُبُهَا فَقُلْتُ لاَ وَاللَّهِ لاَ أُنْكِحُهَا أَبَدًا. قَالَ فَفِىَّ نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ (وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ) الآيَةَ. قَالَ فَكَفَّرْتُ عَنْ يَمِينِى فَأَنْكَحْتُهَا إِيَّاهُ. (أخرجه أبو داود) (2).
22 - الإيمانُ بِاللَّهِ و بِالْيَوْمِ الْآَخِرِ هو الذي يمنع المرء من الرياءِ:
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (264)} [البقرة/264]،وقال تعالى: {وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا (38) وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا (39)} [النساء/38،39].
23 - الإيمانُ بِاللَّهِ وَ بِالْيَوْمِ الْآَخِرِ هو الذي يجعلنا نردُّ كلَّ ما تنازعنا فيه إلى الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -:
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59)} [النساء/59]
فمنْ لم يردَّ المتنازعَ فيه إلى الله تعالى (كتابه) وإلى رسوله - صلى الله عليه وسلم - (سنته) فليس مؤمنا بالله واليوم الآخر على الحقيقة، وإن ادعى ما ادَّعى!!
__________
(1) - برقم (5130)
(2) - برقم (2089) وهو صحيح ...(1/204)
24 - الإيمانُ بِاللَّهِ و بِالْيَوْمِ الْآَخِرِ هو الذي يجعلُ المرءَ راسخاً في العلم ِ:
قال تعالى: {لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا (162) [النساء/162]}
25 - الإيمانُ بِاللَّهِ و بِالْيَوْمِ الْآَخِرِ هو الذي يجعل المرءَ يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ ويحافظ عليها:
قال تعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} [التوبة/18].
إِنَّ الذِينَ يَسْتَحِقُّونَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللهِ هُمُ الذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَحْدَهُ، وَبُكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ، وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ، وَيُؤَدُّونَ زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ، وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً غَيْرَ اللهِ، فَهُمْ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَيَقُولونَ كَلِمَةَ الحَقِّ، وَيَعْبُدُونَ اللهَ وَحْدَهُ؛ وَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ كَانَ هُوَ مِمَّنْ يَعْمُرُونَ مَسَاجِدَ اللهِ، لِتَوافُقِ فِعْلِهِ مَعَ إِيمَانِهِ، وَكَانَ مِنَ المُهْتَدِينَ إِلَى طَرِيقِ الحَقِّ وَالصَّوَابِ. (1)
26 - الإيمانُ بِاللَّهِ وبِالْيَوْمِ الْآَخِرِ هو الذي يثبت المؤمنين في القتال، فلا يفرون، ولا يستأذنون:
قال تعالى: {لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (44) إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (45)} [التوبة/44،45].
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ (عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ لاَ يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِى رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ) نَسَخَتْهَا الَّتِى فِى النُّورِ (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهَ إِنَّ
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد [ص 1254](1/205)
الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أخرجه البيهقي في السنن (1).
وهذه هي القاعدة التي لا تخطئ. فالذين يؤمنون باللّه , ويعتقدون بيوم الجزاء , لا ينتظرون أن يؤذن لهم في أداء فريضة الجهاد ; ولا يتلكأون في تلبية داعي النفرة في سبيل اللّه بالأموال والأرواح بل يسارعون إليها خفافا وثقالا كما أمرهم اللّه، طاعة لأمره، ويقينا بلقائه، وثقة بجزائه، وابتغاء لرضاه. وإنهم ليتطوعون تطوعا فلا يحتاجون إلى من يستحثهم، فضلا عن الإذن لهم. إنما يستأذن أولئك الذين خلت قلوبهم من اليقين فهم يتلكأون ويتلمسون المعاذير، لعل عائقا من العوائق يحول بينهم وبين النهوض بتكاليف العقيدة التي يتظاهرون بها، وهم يرتابون فيها ويترددون.
إن الطريق إلى اللّه واضحة مستقيمة، فما يتردد ويتلكأ إلا الذي لا يعرف الطريق، أو الذي يعرفها ويتنكبها اتقاء لمتاعب الطريق! (2)
27 - الإيمانُ بِاللَّهِ وبِالْيَوْمِ الْآَخِرِ هو الذي يجعل المرءَ ينتفعُ بالموعظةِ:
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا (1) فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (3) [الطلاق/1 - 4]}
والمخاطبون بهذه الأحكام هم المؤمنون المعتقدون باليوم الآخر. فهو يقول لهم: إنه يعظهم بما هو من شأنهم. فإذا صدقوا الإيمان به وباليوم الآخر فهم إذن سيتعظون ويعتبرون. وهذا هو محك إيمانهم، وهذا هو مقياس دعواهم في الإيمان! (3)
__________
(1) - السنن الكبرى للبيهقي (ج 9 / ص 173) برقم (19053) وهو صحيح
(2) - في ظلال القرآن للسيد قطب - ت- علي بن نايف الشحود [ص 2265]
(3) - في ظلال القرآن للسيد قطب - ت- علي بن نايف الشحود [ص 4486](1/206)
28 - الإيمانُ بِاللَّهِ وبِالْيَوْمِ الْآَخِرِ هو الذي يجعل المرءَ لا تأخذه رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ:
قال تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2) [النور/2]}
29 - الإيمانُ بِاللَّهِ وبِالْيَوْمِ الْآَخِرِ هو الذي يجعلُ المرءَ يُوَادُّ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ:
قال تعالى: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آَبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22) [المجادلة/22]}.
30 - الإيمانُ بِاللَّهِ وبِالْيَوْمِ الْآَخِرِ هو الذي يجعل المرءَ يعترف بجريمته، ويطلب تطهيره منها:
عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ جَاءَ مَاعِزُ بْنُ مَالِكٍ إِلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ طَهِّرْنِى. فَقَالَ «وَيْحَكَ ارْجِعْ فَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ وَتُبْ إِلَيْهِ».قَالَ فَرَجَعَ غَيْرَ بَعِيدٍ ثُمَّ جَاءَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ طَهِّرْنِى. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «وَيْحَكَ ارْجِعْ فَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ وَتُبْ إِلَيْهِ».قَالَ فَرَجَعَ غَيْرَ بَعِيدٍ ثُمَّ جَاءَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ طَهِّرْنِى. فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - مِثْلَ ذَلِكَ حَتَّى إِذَا كَانَتِ الرَّابِعَةُ قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «فِيمَ أُطَهِّرُكَ».فَقَالَ مِنَ الزِّنَى. فَسَأَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «أَبِهِ جُنُونٌ».فَأُخْبِرَ أَنَّهُ لَيْسَ بِمَجْنُونٍ. فَقَالَ «أَشَرِبَ خَمْرًا».فَقَامَ رَجُلٌ فَاسْتَنْكَهَهُ فَلَمْ يَجِدْ مِنْهُ رِيحَ خَمْرٍ. قَالَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «أَزَنَيْتَ».فَقَالَ نَعَمْ. فَأَمَرَ بِهِ فَرُجِمَ فَكَانَ النَّاسُ فِيهِ فِرْقَتَيْنِ قَائِلٌ يَقُولُ لَقَدْ هَلَكَ لَقَدْ أَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ وَقَائِلٌ يَقُولُ مَا تَوْبَةٌ أَفْضَلَ مِنْ تَوْبَةِ مَاعِزٍ أَنَّهُ جَاءَ إِلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فَوَضَعَ يَدَهُ فِى يَدِهِ ثُمَّ قَالَ اقْتُلْنِى بِالْحِجَارَةِ - قَالَ - فَلَبِثُوا بِذَلِكَ يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلاَثَةً ثُمَّ جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَهُمْ جُلُوسٌ فَسَلَّمَ ثُمَّ جَلَسَ فَقَالَ «اسْتَغْفِرُوا لِمَاعِزِ بْنِ مَالِكٍ».قَالَ فَقَالُوا غَفَرَ اللَّهُ لِمَاعِزِ بْنِ مَالِكٍ.- قَالَ - فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «لَقَدْ تَابَ(1/207)
تَوْبَةً لَوْ قُسِمَتْ بَيْنَ أُمَّةٍ لَوَسِعَتْهُمْ».قَالَ ثُمَّ جَاءَتْهُ امْرَأَةٌ مِنْ غَامِدٍ مِنَ الأَزْدِ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ طَهِّرْنِى. فَقَالَ «وَيْحَكِ ارْجِعِى فَاسْتَغْفِرِى اللَّهَ وَتُوبِى إِلَيْهِ».فَقَالَتْ أَرَاكَ تُرِيدُ أَنْ تُرَدِّدَنِى كَمَا رَدَّدْتَ مَاعِزَ بْنَ مَالِكٍ. قَالَ «وَمَا ذَاكِ».قَالَتْ إِنَّهَا حُبْلَى مِنَ الزِّنَا. فَقَالَ «آنْتِ».قَالَتْ نَعَمْ. فَقَالَ لَهَا «حَتَّى تَضَعِى مَا فِى بَطْنِكِ».قَالَ فَكَفَلَهَا رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ حَتَّى وَضَعَتْ قَالَ فَأَتَى النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ قَدْ وَضَعَتِ الْغَامِدِيَّةُ. فَقَالَ «إِذًا لاَ نَرْجُمَهَا وَنَدَعَ وَلَدَهَا صَغِيرًا لَيْسَ لَهُ مَنْ يُرْضِعُهُ».فَقَامَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ فَقَالَ إِلَىَّ رَضَاعُهُ يَا نَبِىَّ اللَّهِ. قَالَ فَرَجَمَهَا. (أخرجه مسلم) (1).
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّى عَالَجْتُ امْرَأَةً فِى أَقْصَى الْمَدِينَةِ وَإِنِّى أَصَبْتُ مِنْهَا مَا دُونَ أَنْ أَمَسَّهَا فَأَنَا هَذَا فَاقْضِ فِىَّ مَا شِئْتَ. فَقَالَ لَهُ عُمَرُ لَقَدْ سَتَرَكَ اللَّهُ لَوْ سَتَرْتَ نَفْسَكَ - قَالَ - فَلَمْ يَرُدَّ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - شَيْئًا فَقَامَ الرَّجُلُ فَانْطَلَقَ فَأَتْبَعَهُ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - رَجُلاً دَعَاهُ وَتَلاَ عَلَيْهِ هَذِهِ الآيَةَ (أَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَىِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ) فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ يَا نَبِىَّ اللَّهِ هَذَا لَهُ خَاصَّةً قَالَ «بَلْ لِلنَّاسِ كَافَّةً» (أخرجه مسلم) (2).
__________
(1) - برقم (4527)
(2) -برقم (7180) وهناك أحاديث عديدة في هذا الباب -عالج: داعب(1/208)
الباب السادس
أهمُّ خصائصِ العقيدة الإسلامية
1 - إنَّ أولى خصائص هذه العقيدة أنها ربانيةٌ من عند اللهِ، وأنها لم تتغيرْ ولم تتبدلْ، وهذا يطمئنُ النفسَ أنها خيرٌ لأنفسنِا، وأنَّ السعادةَ تكمنُ في تنفيذها، وأنَّ الشقاءَ يترتبُ على تركها:
أ. فالخيرُ والبركةُ والسعادةُ ووفرة ُالإنتاج كلُّها من بركاتِ تطبيقِ الشريعة المبنية على هذه العقيدة: قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}. (الأعراف:96).وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ}. (المائدة:66)
ب. وما دامتْ ربانيةٌ من الله عز وجلَّ فإنها مبرأةٌ من النقصِ، سالمةٌ من العيب، بعيدةٌ عن الحيفِ والظلم، لأنَّ اللهَ له المثل الأعلى في السماوات والأرض ِ، قال تعالى: {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (90) سورة النحل. وقال تعالى: { ... الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا .. } (3) سورة المائدة
ج-.ومادامتْ ربانيةً فهي التي تشبعُ جَوعةَ الفطرةِ للعبادةِ لا يسدُّها إلا منهاجُ الله، ولا تملأُها النظمُ الفلسفيةُ، ولا السلطانُ السياسيُّ، ولا الثراءُ الماليُّ. قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} (30) سورة الروم
وهذه الجوعةُ الفطريةُ للجوع إلى قوةٍّ عليا تبرزُ باديةً للعِيان أمام َالأعاصيرِ والكوارثِ والمحنِ، فهذا (ستالين) الذي كان يقولُ: (لا إلهَ والحياةُ مادةُّ، والدينُ علقةٌ تمتصُّ دماءَ الشعوبِ) يضعفُ أمامَ هولِ الحربِ العالميةِ الثانيةِ، فإذا به يُخرجُ القساوسةَ منَ السجنِ(1/209)
حتى يدعونَ له بالنصرِ، ومرةً ثانيةً أمامَ شدةِ المرضِ يرسلُ وراءَ القسيسِ حتى يصليَ لهُ ويستغفرَ.
د. ومادامتْ ربانيةً فالناسُ أمامها سواءٌ، لا فضلَ لعربيٍّ على عجميٍّ إلا بالتقوَى، فاللهُ خالقُ الناسِ أجمعينَ فكلُّهم عبيدُه، وهو لا يفضِّلُ لوناً على لونٍ، الأبيضَ على الأسود -كما هو الحالُ في القانونِ الأمريكيِّ- عَنْ أَبِى نَضْرَةَ حَدَّثَنِى مَنْ سَمِعَ خُطْبَةَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِى وَسَطِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ فَقَالَ «يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَلاَ إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ أَلاَ لاَ فَضْلَ لِعَرَبِىٍّ عَلَى أَعْجَمِىٍّ وَلاَ لِعَجَمِىٍّ عَلَى عَرَبِىٍّ وَلاَ لأَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ وَلاَ أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ إِلاَّ بِالتَّقْوَى أَبَلَّغْتُ» (أخرجه أحمد) (1).
ولا يفضِّلُ الرجالَ على النساءِ من بابِ قوله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (النحل:97)،وليس من بابِ قوله تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ .. } (34) سورة النساء، فتأمل الفرق .. ولا يحابيهم سبحانهُ -لأنَّ الرجلَ والمرأة َكلَّهم خلقُه- ولا يفضِّلُ طبقةً على طبقةٍ كالأشرافِ على العبيدِ، ولا يفضِّلُ جنساً على جنسٍ، كتفضيلِ العرقِ الآريِّ والجنسِ الأبيضِ على غيره (وألمانيا فوقَ الجميع)،ولذا فهي العقيدةُ الوحيدةُ التي تنصِفُ الناسَ وتعدلُ بينهم، والناسُ يقفونَ فيها على قدمِ المساواةِ حاكمِهم ومحكومهِم سواءٌ. قال تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}. (الأنعام:115)
2 - ومنْ خصائصِ هذه العقيدةِ أنها ثابتةٌ:
قال تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} (18) سورة الجاثية.
وثباتُ العقيدةِ ناتجٌ عن أنها منزلةٌ من عندِ الله، وقد انقطعَ الوحيُ بالتحاقِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالرفيقِ الأعلى منَ الجنة، وبقيتْ النصوصُ ثابتةً إلى يوم الدينِ لا ينسخُها ناسخٌ ولا
__________
(1) - برقم (24204) وهو صحيح(1/210)
يبدِّلهُا كافرٌ. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:" إِنِّي قَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ شَيْئَيْنِ لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُمَا: كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّتِي، وَلَنْ يَتَفَرَّقَا حَتَّى يَرِدَا عَلَيَّ الْحَوْضَ" (أخرجه الحاكم في المستدرك) (1).
والإنسانُ يتحركُ ويتطورُ وينمو، ولكنْ داخلَ إطارِ العقيدةِ الثابتِ الذي يتسعُ لحركةِ الإنسان ونموِّه، وإذا خرجَ الإنسانُ من الإطار الثابتِ فإنهُ يسبحُ كالنجمِ الذي يفلتُ من مدارهِ، ويسيرُ إلى نهايتهِ التي تؤدِّي إلى اصطدامهِ بكوكبِ آخرَ، فيتحطَّمُ ويحطِّمُ معهُ غيرَه.
ولا بدَّ من شيءٍ ثابتٍ يرجع الناسُ إليه، حتى يطمئنُّوا ويستريحوا،ويكونَ عندهم مقياسٌ يعرفونَ طولَ الأشياء وعرضِها ووزنِها، أما الذين يقولونَ بأنَّ كلَّ شيءٍ متطورٌ في الحياةِ حتَّى الدينَ والأخلاقَ والنظمَ، فهذا يؤدِّي إلى فوضَى كبيرةٍ، فلا نعرفُ الحكمَ على أيِّ شيءٍ، ولأضربَ مثلاً: الزنا مثلا ثابتةٌ حرمتُه وبشاعتُه في الرسالاتِ التي نزلت منْ عندِ اللهِ، فلا يختلفُ في هذه القضيةِ اثنانِ. فإذا كانَ المقياسُ الذي حكمنا به على الزِّنا أنهُ قبيحٌ ثابتٌ، فإن َّالزنا يبقَى بشعاً، ويستقرُّ في ذهنِ الأجيالِ أن َّهذا الحكمَ ثابتٌ لا يتغيرُ، فتتربَّى قلوبهُم على كراهيةِ الزنا واحتقارهِ.
أمَّا إذا كانَ القانونُ والدِّينُّ غيرَ ثابتينِ، وكانا متطورينِ، فإنه يعني أنَّ الزنا كانَ بشعاً في فترةٍ من الفتراتِ، ولكنَّ الزنا الآنَ في عرفِ الذينَ يقولونَ بتطوِّر الأخلاقِ- مثل ُ (فرويد) - ضرورةً بيولوجيةً لا بدَّ منها.
وكذلك سترُ العوراتِ وتغطيةُ اللحم باللباسِ -خاصةً من قبلِ النساء- كانَ أمراً طبيعياً وثابتاً في الأخلاقِ والأديانِ، ويبقَى ثابتاً إلى يوم الدينِ، أمَّا في الأخلاقِ المتطورةِ فلقدْ كانَ سترُ العورة ِمستحسناً في عصرٍ منَ العصورِ، ثم جاءَ القرنُ العشرينُ ورأى أنَّ سترَ العورةِ شيءٌ مستقبحٌ، وأصبحَ أصحابَهُ ينادونَ بكشفِ العورة ِ في أجهزةِ إعلامهِم وأبواقهِم التي تفوحُ منها رائحةُ الخبثِ والكيدِ والغدرِ بهذا الكائن ِالإنسانيِّ الذي يريدونَ تحطيمَهُ.
__________
(1) - برقم (319) وهو صحيح(1/211)
وثباتُ العقيدةِ يضعُ ميزاناً ثابتاً يقيسُ الناسَ، فالميزانُ واحدٌ، الكيلو في هذا الميزان تساوي (1000) غم، فإذا جئنا نزنُ شخصاً فإننا نضعُه في هذا الميزانِ الواحدِ، ونضعُ مقابلَهُ كيلواتٍ حتى نعرفَ وزنهُ، وهنا يكونُ الحكم صحيحاً على وزن جميع الناسِ، لأن َّالوزنَ واحدٌ والعيارَ واحدٌ، فإذا جاءَ قومٌ وغيَّروا الميزانَ، وقالوا عن الكيلو إنها قنطارٌ، فإنَّ الشخصَ الذي يزنُ سبعينَ كيلو غراماً في الميزانِ الأولِ هو نفسه يزنُ سبعين قنطاراً في الميزانِ الثاني، والشخصُ هو الشخصُ.
وعندما يختلفُ الميزانُ لا يمكنُ أن يكونَ الحكمُ صحيحاً، ولذا فإنَّ الرجل عندَ الناس يكونُ مبجلاً مطاعاً محترماً لأنه ثقيلٌ في ميزانهِم، ولكنْ عندما نضعُه في ميزانِ اللهِ الثابتِ فإنه قدْ لا يزنُ شيئا، فمثلاً الوليدُ بنُ المغيرةِ كانتْ قريشٌ تعتبرهُ زعيماً وتقول: {لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ}. (الزخرف:31)
ولكنَّ اللهَ تعالى يقول عنهُ وعن أمثالِه: وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ (13) أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ (14) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آَيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (15) [القلم/10 - 15]،ويقول: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ}. (الأنفال:55).
فقريشٌ لا تقطعُ أمراً إلا بعدَ استشارتهِ واستنصاحهِ، واللهُ يسميهِ دابةً، والمؤمنونَ يعتبرونَهُ دابَّةً، بلْ أقلَّ منَ الدابَّةِ: قال تعالى عنه وعن أمثاله: {أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ}. (الأعراف:179) , وقال تعالى: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابَّ عِندَ اللّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ} (22) سورة الأنفال.
وثباتُ العقيدة يجعلُها أصلاً يرجعُ الناس إليهِ حاكمُهم ومحكومُهم على السواء، والناسُ يستريحونَ ويسعدونَ، لأنَّ الحاكمَ لا يستطيعُ أن يظلمَ الناس، ويقولَ قبل أن يظلمَهم: غيرتُ القانونَ، ولا يستطيعُ المحكومونَ أن يقولوا للحاكمِ: نحن لا نعرفُ القانونَ لأنهُ جديدٌ.
ولكنه إذا كانَ ثابتاً، فإنَّ الناسَ يتربونَ منذُ نعومةِ أظفارهِم على معرفتهِ، ويكونُ النظامُ حيًّا في نفوسهِم، ويعيشُ في حسِّهم. فلا يستطيعُ الحاكمُ في الدِّينِ الربانيِّ أن ْيدعيَ أنَّ(1/212)
الظروفَ طارئةٌ، ولا أنْ يقولَ: أحكامٌ عسكريةٌ يوقفُ بها تطبيقَ دينِ اللهِ، وتحتَ هذه الأسماءِ ووراءَ هذه الشعاراتِ تسفكُ الدماءُ، وتداسُ الكرامةُ، وتنتهكُ الحرمةُ، وهذا هو شأنُ جميعِ الأنظمة ِالوضعيةِ الأرضيةِ، أو بتعبيرٍ أدقَّ (الأديانُ الأرضيةُ) التي اخترعَها البشرُ منْ عندِ أنفسهِم، وأبرزُ ما تكونُ هذه الظاهرةُ في الأنظمةِ العسكريةِ والانقلاباتِ الثوريةِ، ففي كلِّ انقلابٍ قانونٌ جديدٌ، وفي كلِّ مرةٍ تٌنصَبُ المشانقُ وتعلَّقُ على أعوادٍ في الأسواقِ، ودعكَ عنِ التحقيقاتِ مع النساءِ في الظلامِ، والناسُ الذين يدفَنونَ أحياءً، أو يوضعونَ في براميلِ النيتريكِ، حتى يذوبوا ثم يطالَبُُ أهلُهم بهِم لأنهم فرُّوا منَ السجنِ!!
وفي كلِّ مرةٍ يغيَّرُ فيها النظامُ تفقِدُ البلدُ أعزَّ أبنائهِا، وأقدرَ كفاءاتِها، وأعلى طاقاتِها، وأثمنَ ما لديها، وهمُ العيناتُ من الشبابِ والمفكرينَ والقادةِ وغيرهِم.
وثباتُ العقيدةِ الربانيةِ يجعلُ الناسَ جميعاً تحت ظلِّ الدستورِ والحكمِ، وليسَ هنالك حاكمٌ فوقَ القانونِ ومحكومٌ تحتَ القانونِ، ونظامٌ يسري على الحاكمِ، ونظامٌ يسري على المحكومِ.
فالله -سبحانه وتعالى- هو الذي ... {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} (الأنبياء:23)
أمَّا الخليفةُ والأميرُ والحاكمُ فهم جميعاً خلقُ الله، ويعبدونَ اللهَ بتنفيذِ هذا القانونِ الربانيِّ، فما داموا منْ خلقِ الله فهمْ عبيدٌ، وليسوا آلهةً لا يُسألونَ.
3 - ومنْ خصائصِ هذه العقيدةِ الوضوحُ:
فالعقيدةُ الإسلاميةُ عقيدةٌ واضحةٌ لا غموضَ فيها ولا تعقيدٌ، فهي تتلخصُ في أنَّ لهذهِ المخلوقاتِ إلهاً واحداً مستحِقًّا للعبادةِ هو اللهُ تعالى, الذي خلقَ الكونَ البديعَ المنسَّقَ, وقدَّر كلَّ شيءٍ فيه تقديرا، وأنَّ هذا الإلهَ ليسَ له شريكٌ ولا شبيهٌ ولا صاحبةٌ ولا ولدٌ.
فهذا الوضوحُ يناسبُ العقلَ السليمَ, لأنَّ العقلَ- دائماً -يطلبُ الترابطَ والوحدة َعندَ التنوعِ والكثرةِ، ويريدُ أنْ يُرجعَ الأشياءَ المختلفةَ إلى سبب ٍواحدٍ. وكما أنَّ العقيدةَ الإسلاميةَ واضحةٌ، فهي كذلك لا تدعوا إلى الاتباعِ الأعمَى, بل على العكسِ فإنها تدعوا إلى التبصُّر والتعقُّلِ, قال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ(1/213)
وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (108) سورة يوسف، ولأنَّ العقيدة َمما تحارُ العقولُ المجردةُ فيها, ولا تصلُ إلى إدراكِها إلا منْ طريقِ الشارعِ الحكيمِ، فقد رجعَ كثيرٌ من الفلاسفةِ وأهلِ الكلامِ من المسلمينَ عن مناهجِهم العقليةِ المجردةِ إلى منهجِ الكتابِ والسُّنةِ, ومن هؤلاءِ الفخرُ الرازيُّ- وهو منْ كبارِ الفلاسفةِ المسلمينَ- إذ يقولُ بعد عمرٍ طويلٍ في البحثِ العقليِّ:
نِهَايَةُ إِقْدَامِ الْعُقُولِ عِقَالُ ... ... وَغَايَةُ سَعْيِ الْعَالَمِينَ ضَلَالُ
وَأَرْوَاحُنَا فِي وَحْشَةٍ مِنْ جُسُومِنَا ... وَحَاصِلُ دُنْيَانَا أَذَى وَوَبَالُ
وَلَمْ نَسْتَفِدْ مِنْ بَحْثِنَا طُولَ عُمْرِنَا ... سِوَى أَنْ جَمَعْنَا فِيهِ: قِيلَ وَقَالُوا
فَكَمْ قَدْ رَأَيْنَا مِنْ رِجَالٍ وَدَوْلَةٍ ... فَبَادُوا جَمِيعًا مُسْرِعِينَ وَزَالُوا
وَكَمْ مِنْ جِبَالٍ قَدْ عَلَتْ شُرُفَاتِهَا ... رِجَالٌ، فَزَالُوا وَالْجِبَالُ جِبَالُ
لَقَدْ تَأَمَّلْتُ الطُّرُقَ الْكَلَامِيَّةَ، وَالْمَنَاهِجَ الْفَلْسَفِيَّةَ، فَمَا رَأَيْتُهَا تَشْفِي عَلِيلًا، وَلَا تُرْوِي غَلِيلًا، وَرَأَيْتُ أَقْرَبَ الطُّرُقِ طَرِيقَةَ الْقُرْآنِ، اقْرَأْ فِي الْإِثْبَاتِ: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (1)، {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} (2)،وَاقْرَأْ فِي النَّفْيِ: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} (3)، {وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} (4)،ثُمَّ قَالَ:" وَمَنْ جَرَّبَ مِثْلَ تَجْرِبَتِي عَرَفَ مِثْلَ مَعْرِفَتِي " (5).
4 - فطريةُ العقيدة الإسلامية:
إنَّ العقيدةَ الإسلامية ليست غريبةً عن الفطرةِ السليمة ولا مناقضةً لها، بل هي على وفاقٍ تامٍّ وانسجامٍ كاملٍ معها. وليس هذا بالأمر الغريبِ, إذ إنَّ خالقَ الإنسانِ العليم بحالهِ هو الذي شرعَ له منَ الديِّنِ ما يناسبُ فطرتَهُ التي خلقهُ عليها، كما قال
__________
(1) - سورة طَهَ آية 5.
(2) - سورة فَاطِرٍ آية 10.
(3) - سورة الشُّورَى آية 11.
(4) - سورة طَهَ آية 110.
(5) - شرح الطحاوية في العقيدة السلفية - (ج 1 / ص 482) ومنهاج السنة النبوية - (ج 5 / ص 190) ودرء التعارض - (ج 1 / ص 89) وسير أعلام النبلاء - (ج 21 / ص 501)(1/214)
تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} (30) سورة الروم، وقوله تعالى: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} (14) سورة الملك، والواقعُ شاهدٌ على موافقةِ الفطرة للعقيدةِ الإسلامية القائمةِ على الإخلاصِ لله وحدَهُ، فما أنْ يصابَ الإنسانُ بضرٍّ تعجزُ أمامَه القوى الماديةُ إلا ويلجأُ إلى اللهِ تعالى في تذللٍ وخضوعٍ، ويستوي في ذلك الكافرُ والمؤمنُ، قال تعالى: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَاءتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُاْ اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنِّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} (22) سورة يونس، بل حتى الطفلُ الصغيرُ, فإنه لو تُركَ على حالهِ دون أنْ يؤثرَ عليه والداهُ أو البيئةُ من حولِه لنشأَ معتقداً بالله تعالى ربًّا وإلهاً لا يعبدُ سواهُ. فعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - قَالَ قَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - «كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ، كَمَثَلِ الْبَهِيمَةِ تُنْتَجُ الْبَهِيمَةَ، هَلْ تَرَى فِيهَا جَدْعَاءَ» (أخرجه الشيخان) (1).
5 - عقيدةٌ توقيفيةٌ مبرهَنةٌ:
تتميزُ العقيدةُ الإسلامية بأنها توقيفيةٌ, فلا تجاوزَ فيها للنصوص المثبتةِ لها, كما إنها عقيدةٌ مبرهنةٌ تقوم على الحجةِ والدليل، ولا تكتفي في تقرير قضاياها بالخبرِ المؤكِّد والإلزام الصارمِ، بل تحترمُ العقولَ والمبادئَ التي يقومُ عليها الدينُ كلُّه, ذلك أنها لا تثبُتُ في جميع جزئياتها وكلياتهِا إلا بدليلٍ من الكتابِ أو السُّنةِ. بل إنَّ أتباعها منهيونَ عن الخوضِ في مسائلِها إلا عن علمٍ وبرهانٍ, قال تعالى: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} (36) سورة الإسراء، وقال تعالى: {وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ إِنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (115) سورة التوبة، كما أنَّ القرآنَ الكريمَ حين يدعوا الناس إلى الإيمانِ بمفرداتِ العقيدةِ يقيمُ على ذلك الأدلةَ الواضحةَ من آياتِ الأنفس ِوالآفاقِ، فلا يدعوهم إلى
__________
(1) - البخاري برقم (1385) ومسلم برقم (6926) = جدعاء: مقطوعة الأطراف =الجمعاء: مكتملة الأعضاء(1/215)
التقليدِ الأعمَى أو الإتباعِ على غيرِ هدًى، بل إنه يأمرهُم أن يطلبوا البرهانَ والدليل َقال تعالى: {وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} (111) سورة البقرة، ويترتب على البرهنةِ والتوقيفيةِ ما يلي:
ا-تحديدُ مصادر العقيدة بالكتابِ والسنةِ الصحيحةِ.
ب- الالتزامُ بألفاظِ الكتاب والسنةِ المعّبرُ بها عن الحقائقِ العَقدية.
ت- استعمالُ تلك الألفاظِ فيما سيقتْ لأجلهِ.
ث- عدمُ تحميلِ تلك الألفاظِ ما لا تحتملُ من المعاني.
ج- السكوتُ عن ما سكتَ عنه الكتابُ والسُّنةُ، وذلك بتفويضِ علمِه إلى الله تعالى وحدَهُ.
ح- أنْ نقدِّمَ دلالةَ الكتابِ والسنة على ما سواهما من عقلٍ أو حسٍّ أو ذوقٍ أو غير ذلك من وسائل المعرفةِ.
ومن أمثلةِ الدلائلِ التي ساقها الله عز وجل في القرآن الكريم القائمةِ على البراهين ما يلي:
*- الدليلُ العقليُّ قال تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} (35) سورة الطور.
*-الدليلُ من الأنفسِ قال تعالى: {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} (21) سورة الذاريات.
*-الدليلُ من الآفاقِ قال تعالى: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ (19) بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ (20) [الرحمن/19،20]}.
6 - عقيدةٌ ثابتةٌ ودائمةٌ:
لما كانتِ العقيدة الإسلاميةُ تقومُ على الدليل والبرهانِ, لزمَ أن تكون عقيدةً ثابتة ًودائمةً، قال الله تعالى: {لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ .. } (64) سورة يونس.
فهي عقيدةٌ ثابتةٌ ومحددةٌ، لا تقبلُ الزيادةَ ولا النقصانَ، ولا التحريفَ ولا التبديلَ. فليسَ لحاكمٍ أو مجمعٍ من المجامعِ العلميةِ أو مؤتمرٍ من المؤتمراتِ الدينيةِ ليسَ لأولئكَ جميعاً و لا(1/216)
لغيرهِم أنْ يضيفوا إليها شيئاً أو يحذفوا منها شيئاً, وكلُّ إضافةٍ أو تحويرٍ مردودٌ على صاحبِه كائناً منْ كانَ بقول النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ أَحْدَثَ فِى أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ فِيهِ فَهُوَ رَدٌّ» (1).أي مردودُ عليه. وقد هددَ القرآنُ الكريمُ العلماءَ خاصةً من أن تميلَ بهِم الأهواءُ والأطماعُ أو الإغراءتُ المادية ُ فيزيدوا أو ينقصوا شيئاً من الدِّينِ قال الله تعالى: {فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِندِ اللّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ} (79) سورة البقرة، وعلى هذا فكلُّ البدعِ والأساطيرِ والخرافاتِ التي دُستْ في بعض كتبِ المسلمين, أو أ شيعتْ بين عامتهِم باطلةٌ مردودةٌ لا يقرُّها القرآن ُولا تؤخذُ حجةً عليه, وإنما الحجةُ فيما ثبتَ من نصوصِه فقط. كما قال الله تعالى: {رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} (165) سورة النساء.
ولقد ثبتت أمام الضربات المتوالية التي يقوم بها أعداء الإسلام؛ من اليهود، والنصارى، والمجوس، وغيرهم، فما إن يعتقد هؤلاء أن عظمها قد وهن، وأن جذوتها قد خبت، ونارها قد انطفأت، حتى تعود جذعة ناصعة نقية؛ فهي ثابتة إلى قيام الساعة، محفوظة بحفط الله ـ تعالى ـ تتناقلها الأجيال جيلاً بعد جيل؛ ورعيلاً بعد رعيل، لم يتطرق إليها التحريف، أو الزيادة، أو النقصان، أو التبديل.
كيف لا والله ـ عز وجل ـ هو الذي تكفل بحفظها، وبقائها ولم يكل ذلك إلى أحد من خلقه؟.قال ـ تعالى ـ: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) [الحجر:9].
7 - إنها عقيدةٌ وسطٌ لا إفراطَ فيها ولا تفريطَ:
إنَّ العقيدة َالإسلامية وسطٌ بين الذينَ ينكرونَ كلَّ ما وراءِ الطبيعةِ مما لم تصلْ إليه حواسُّهم, وبين الذين يثبتونَ للعالم ِ أكثرَ من إلهٍ, والذين يحلُّون روحَ الإله في الملوكِ والحكام، بل وفي بعض الحيواناتِ والنباتات والجماداتِ؟!!.
فقد رفضتِ العقيدةُ الإسلامية الإنكارَ الملحدَ, كما رفضتِ التعددَ الجاهلَ و الإشراكَ الغافلَ, وأثبتتْ للعالمِ إلهاً واحداً لا شريكَ له. كما أنها وسطٌ في الصفاتِ الواجبةِ لله
__________
(1) -أخرجه البخاري برقم (2697) ومسلم برقم (4589)(1/217)
تعالى, فلمْ تسلكْ سبيلَ الغلوِّ في التجريدِ فتجعلْ صفاتِ الإله صوراً ذهنيةً مجردةً عن معنًى قائمٍ بذاتٍ لا توحِي بخوفٍ ولا رجاءٍ، كما فعلتِ الفلسفةُ اليونانية، ولم تسلكْ كذلك سبيلَ التشبيهِ و التمثيلِ والتجسيمِ كما فعلتْ بعضُ العقائدِ حيثُ جعلتْ الإلهَ كأنهُ أحدُ المخلوقين يلحقُه ما يلحقُهم من نقصٍ وعيوبٍ. فالعقيدةُ الإسلاميةُ تنزهُ الله تعالى إجمالاً عن مشابهةِ المخلوقينَ بقواعدَ مثلَ قوله تعالى: { .. لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} (11) سورة الشورى، وقوله تعالى: {وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ} (4) سورة الإخلاص، وقوله تعالى: {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} (65) سورة مريم.
ومعَ هذا تصفُه بصفاتٍ إيجابيةٍ فعالةٍ تبعثُ الخوفَ والرجاءَ في نفوسِ العباد كما في قوله تعالى: {اللّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} (255) سورة البقرة.
ثم إنها وسطٌ بين التسليمِ الساذجِ والتقليدِ الأعمى في العقائدَ, وبينَ الغلوِّ والتوغلِ بالعقلِ لإدراك ِكلِّ شيءٍ حتى الألوهيةِ. فهي تنهَى عن التقليدِ الأعمَى، حيث عابَ اللهُ على القائلين {بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ} (22) سورة الزخرف، وتنهى عن التوغلِ بالعقلِ لإدراك ِكيفية صفاتِ الربِّ عزَّ وجلَّ فقال تعالى: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} (110) سورة طه، وقال تعالى: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} (36) سورة الإسراء، وتدعوهم إلى التوسطِ والأخذ ِبالمدركاتِ كوسائطَ قال تعالى: {وَفِي الْأَرْضِ آَيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21) [الذاريات/20،21]}.
8 - أنها تقوم على التسليم لله ـ تعالى ـ ولرسوله ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ:(1/218)
وذلك لأنها غيب، والغيب يقوم على التسليم، فالتسليم بالغيب من أعظم صفات المؤمنين التي مدحهم الله بها، كما في قوله ـ تعالى ـ: (ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) [البقرة:2،3].
ذلك أن العقول لا تدرك الغيب، ولا تستقل بمعرفة الشرائع؛ لعجزها وقصورها؛ فكما أن سمع الإنسان قاصر، وبصره كليل، وقوتَه محدودة ـ فكذلك عقله، فَتَعَيَّن الإيمان بالغيب والتسليم لله ـ عز وجل ـ.
9 - اتصال سندها بالرسول - صلى الله عليه وسلم - والتابعين وأئمة الدين قولاً، وعملاً، واعتقاداً:
وهذه الخصيصة قد اعترف بها كثير من خصومها؛ فلا يوجد ـ بحمد الله ـ أصل من أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة ـ ليس له أصل أو مستند من الكتاب والسنَّة، أو عن السلف الصالح، بخلاف العقائد الأخرى المبتدعة.
10 - السلامة من الاضطراب والتناقض واللبس:
فلا مكان فيها لشيء من ذلك مطلقاً، كيف لا وهي وحي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه؟
فالحق لا يضطرب، ولا يتناقض، ولا يلتبس.
بل يشبه بعضه بعضاً، ويصدق بعضه بعضاً (وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) [النساء:82].
11 - أنها قد تأتي بالمحار، ولكن لا تأتي بالمحال:
ففي العقيدة الإسلامية ما يبهر العقول، وما قد تحار فيه الأفهام، كسائر أمور الغيب؛ من عذاب القبر ونعيمه، والصراط، والحوض، والجنة والنار، وكيفية صفات الله ـ عز وجل ـ.
فالعقول تحار في فهم حقيقة هذه الأمور، وكيفياتها، ولكنها لا تحيلها بل تسلِّم لذلك، وتنقاد، وتذعن؛ لأن ذلك صدر عن الوحي المنزل، الذي لا ينطق عن الهوى.
12 - العموم والشمول والصلاح:(1/219)
فهي عامة، شاملة، صالحة لكل زمان ومكان، وحال، وأمة. بل إن الحياة لا تستقيم إلا بها.
13 - أنها سبب للنصر والظهور والتمكين:
فذلك لا يكون إلا لأهل العقيدة الصحيحة، فهم الظاهرون، وهم الناجون، وهم المنصورون، فعَنْ ثَوْبَانَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «لاَ تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِى ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ لاَ يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ حَتَّى يَأْتِىَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَذَلِكَ» (1) ".
فمن أخذ بتلك العقيدة أعزه الله، ومن تركها خذله الله.
وقد عَلِم ذلك كلُّ من قرأ التاريخ، فمتى حاد المسلمون عن دينهم ـ حاق بهم ما حاق، كما حدث لهم في الأندلس وغيرها.
14 - أنها ترفع قدر أهلها:
فمن اعتقدها، وزاد علماً بها، وعملاً بمقتضاها، ودعوة للناس إليها ـ أعلا الله قدره، ورفع له ذكره، ونشر بين الناس فضله، فرداً كان أو جماعة؛ ذلك أن العقيدة الصحيحة هي أفضل ما اكتسبته القلوب، وخير ما أدركته العقول؛ فهي تثمر المعارف النافعة، والأخلاق العالية.
15 - العقيدة الإسلامية عقيدة الألفة والاجتماع:
فما اتحد المسلمون، وما اجتمعت كلمتهم في مختلف الأعصار والأمصار ـ إلا بتمسكهم بعقيدتهم، وأخذهم بها، وما تفرقوا واختلفوا إلا لبعدهم عنها.
قال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [آل عمران:103]
يَأمُرُ اللهُ تَعَالَى المُؤْمِنِينَ بِالتَّمَسُّكِ بِحَبْلِ اللهِ، أيْ بِعَهْدِهِ وَدِينِهِ وَذِمَّتِهِ وَقُرْآنِهِ، وَمَا أمَرَهُمْ بِهِ مِنَ الإِلْفَةِ وَالمَحَبَّةِ وَالاجْتِمَاعِ، وَيَنْهَاهُمْ عَنِ التَّفَرُّقِ، وَيَطْلُبُ إلَيْهِمْ أنْ يَذْكُرُوا نِعْمَتَهُ عَلَيهِمْ إذْ ألَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ، وَآخَى بَيْنَهُم بَعْدَ العَدَاوَةِ المُسْتَحْكِمَةِ، وَالفُرْقَةِ التِي كَانَتْ بَيْنَ
__________
(1) - صحيح مسلم- المكنز (5059)(1/220)
الأَوْسِ وَالخَزْرَجِ، فَقَدْ كَانُوا عَلَى مِثْلِ شَفِيرِ النَّارِ، بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ وَضَلاَلِهِمْ وَاقْتِتَالِهِمْ، فَهَدَاهُمُ اللهُ وَأَنْقَذَهُمْ.
وَكَمَا بَيَّنَ لَهُمْ رَبُّهُمْ، فِي هَذِهِ الآيَاتِ، مَا يُضْمِرُهُ لَهُمُ اليَهُودُ مِنْ شَرٍّ وَخِدَاعٍ وَغِشٍّ، وَمَا كَانُوا عَلَيهِ فِي حَالِ جَاهِلِيَّتِهِمْ مِنْ كُفْرٍ وَفُرْقَةٍ وَاقْتِتَالٍ، وَمَا صَارُوا إليهِ بِفَضْلِ الإِسْلاَمِ مِنْ وَحْدَةٍ وَإِخَاءٍ، كَذَلِكَ يُبَيِّن سَائِرَ حُجَجِهِ فِي تَنْزِيلِهِ عَلَى رَسُولِهِ، لِيُعِدَّهُمْ لِلاهْتِدَاءِ الدَّائِمِ، حَتَّى لا يَعُودُوا إلى عَمَلِ أهْلِ الجَاهِلِيَّةِ مِنَ التَّفَرُّقِ وَالعَدَاوَةِ وَالاقْتِتَالِ. (1)
16 - أنها تحمي معتنقيها من التخبط والفوضى والضياع:
فالمنهج واحد، والمبدأ واضح ثابت لا يتغير، فيسلم معتنقها من اتباع الهوى، ويسلم من التخبط في توزيع الولاء والبراء، والمحبة والبغضاء، بل تعطيه معياراً دقيقاً لا يخطىء أبداً، فيسلم من التشتت والتشرد والضياع، فيعرف من يوالي، ويعرف من يعادي، ويعرف ما له وما عليه.
قال تعالى: {وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [آل عمران:101]
وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللهِ، وَيَتَوَكَّلْ عَلَيهِ فَإنَّ ذَلِكَ يُبْعِدُهُ عَنِ الغَيِّ وَالضَّلاَلِ، وَيُوصِلُهُ إلى الهِدَايَةِ وَالرَّشَادِ، وَطَرِيقِ السَّدَادِ.
17 - أنها تمنح معتنقيها الراحة النفسية والفكرية:
فلا قلق في النفس، ولا اضطراب في الفكر؛ لأن هذه العقيدة تصل المؤمن بخالقه ـ عز وجل ـ فيرضى به رباً مدبراً، وحاكماً مشرعاً، فيطمئن قلبه بقدره، وينشرح صدره لحكمه، ويستنير فكره بمعرفته.
فال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (4) لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا (5) وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1/ 396)(1/221)
ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (6)} [الفتح:4 - 6]
لقد كَانَ مِنْ شُرُوطِ صُلْحِ الحُدَيْبِيَةِ شَرْطَانِ تَرَكَا أَثَراً فِي نُفُوسِ المُؤْمِنِينَ:
1 - أَنْ لاَ يَدْخُلَ المُسْلِمُونَ مَكَّةَ عَامَهُمْ ذَاكَ، وَأَنْ يَأتُوا مُعْتَِرينَ فِي العَامِ، الذِي يَلِيهِ.
2 - أنْ يَرُدَّ المُسْلِمُونَ مَنْ جَاءَهُمْ مِنْ قُرَيشٍ مُسْلِماً إِلى قَوْمهِم، وَأَنْ لاَ تَرُدَّ قُرَيشٌ مَنْ جَاءَها مِنَ المُسْلِمِينَ مُرْتَداً عَنِ الإِسْلامِ.
وَظَنَّ بَعْضُ المُسْلِمِين أَنَّ في هذينِ الشَّرْطِينِ غبْناً لِلمُسْلِمِينَ، حَتّى إِن رَسُولَ اللهِ لَمَّا أَمرَ المُسْلِمِينَ بِنَحْرِ الهَدْيِ، وَبِحَلقِ شُعُورِهِمْ، لَمْ يَمْتَثِلوا لأَمْرِهِ في بَادئِ الأَمرِ، فَقَدْ ثَارَتْ في نُفُوسِهِمِ الحَمِيَّةُ للإِسْلامِ فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَى المُؤْمِنِينَ لِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُهم، وَلِيَزْدَادُوا يَقِينا في دِينِهمْ بِطَاعَةِ اللهِ، وَطَاعَةِ رَسُولِهِ، وَاللهُ تَعَالى هُوَ الذِي يُدَبِّرُ أمرَ الكَوْنِ، فَيَجْعَلُ جَمَاعةً مِنْ جُنْدِهِ يُقَاتِلُون لإِعْلاَءِ كَلِمَةِ الحَقِّ، وَيَجْعَلُ غَيْرَهم يُقَاتِلُونَ في سَبيلِ الشَّيْطَانِ، وَلَوْ شَاءَ اللهُ لأَرْسَلَ عَلَيْهِم جُنْداً مِنَ السَّماء يَقْضُونَ عَلَيهم، لكِنَّهُ سُبْحَانَه وَتَعَالى شَرَعَ الجِهَادَ والقِتَالَ لما في ذلِكَ مِنَ المَصْلَحَةِ التِي لاَ يَعْلَمُها إِلاَّ هُوَ، وَاللهُ عَلِيمٌ بِالأُمُورِ، حَكِيمٌ في شَرْعِهِ وَتَدْبِيرِهِ.
وَإِنما قَدَّرَ اللهُ تَعَالى ذَلِكَ لِيَعْرِفَ المُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ نِعْمَةَ اللهِ، وَيَشْكُرُوهَا فَيَدْخُلُوا الجَنَّةَ لِيَبْقَوْا فِيها خَالِدِينَ أَبداً، وَلِيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ بِأَعْمَالِهم الصَّالِحةِ، وفي ذلِكَ ظَفَرٌ لَهُم بِما يَرْجُونَ، وَمَا يَسْعَوْنَ إِليهِ، وَهذا الظَّفَرُ بِالبْغِيةِ، وَدُخُولُ الجَنَّةِ، هُوَ الفَوزُ العَظيمُ.وَلِيُعَذِّبَ اللهُ المُنَافِقِينَ وَالمُنَافِقَاتِ، وَالمُشْرِكِينَ بِرَبِّهمِ وَالمُشْرِكَاتِ، في الدُّنيا بالقَهْرِ والغَلَبةِ، وَبِتَسْلِيطِ النَّبِيِّ وَالمُسْلِمِينَ عَلَيهِمْ، وفي الآخِرَةِ بِالعَذَابِ الأَليمِ في نَارِ جَهَنَّمَ، وَقَدْ كَانَ هؤلاءِ المُنَافِقُونَ وَالمُشْرِكُونَ يَظُنُّونَ أَنَّ اللهَ لَنْ يَنْصُرَ الرَّسُولَ وَالمُؤْمِنينَ عَلَى الكَافِرينَ، وَكَانُوا يَتَرَبَّصُونَ بِهِمِ الدَّوائِر وَقَدْ دَعَا اللهُ سُبْحَانَهُ عَلَى هؤُلاءِ بِأَنْ تَدُورَ عَلَيهِمْ أَحْدَاثُ الزَّمَنِ بِالسَّوْءِ، وأَنْ تَنْزِلَ بِهِمِ النَّكَبَاتُ وَالمَصَائِبُ، ثُمَّ لَعَنَهم اللهُ وَغَضِبَ عَلَيهِمْ، وَأَنْذَرَهُم بِأَنَّهُ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أليماً في نَارِ جَهَنَّمَ، وَسَاءَتْ جَهَنَّمُ مَصِيراً يَصِيرُ إِليهِ المُنَافِقُونَ وَالمُشْرِكُونَ.(1/222)
18 - سلامة القصد والعمل:
بحيث يَسْلَمُ معتنقها من الانحراف في عبادة الله ـ عز وجل ـ فلا يعبد غير الله، ولا يرجو سواه.
قال تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5]
وهنا كذلك مفرق طريق .. مفرق طريق بين التحرر المطلق من كل عبودية، وبين العبودية المطلقة للعبيد! وهذه الكلية تعلن ميلاد التحرر البشري الكامل الشامل. التحرر من عبودية الأوهام. والتحرر من عبودية النظم، والتحرر من عبودية الأوضاع. وإذا كان اللّه وحده هو الذي يعبد، واللّه وحده هو الذي يستعان، فقد تخلص الضمير البشري من استذلال النظم والأوضاع والأشخاص، كما تخلص من استذلال الأساطير والأوهام والخرافات ..
وهنا يعرض موقف المسلم من القوى الإنسانية، ومن القوى الطبيعية ..
فأما القوى الإنسانية - بالقياس إلى المسلم - فهي نوعان: قوة مهتدية، تؤمن باللّه، وتتبع منهج اللّه ..
وهذه يجب أن يؤازرها، ويتعاون معها على الخير والحق والصلاح .. وقوة ضالة لا تتصل باللّه ولا تتبع منهجه. وهذه يجب أن يحاربها ويكافحها ويغير عليها.
ولا يهولن المسلم أن تكون هذه القوة الضالة ضخمة أو عاتية. فهي بضلالها عن مصدرها الأول - قوة اللّه - تفقد قوتها الحقيقية. تفقد الغذاء الدائم الذي يحفظ لها طاقتها. وذلك كما ينفصل جرم ضخم من نجم ملتهب، فما يلبث أن ينطفىء ويبرد ويفقد ناره ونوره، مهما كانت كتلته من الضخامة. على حين تبقى لأية ذرة متصلة بمصدرها المشع قوتها وحرارتها ونورها: «كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ» ..
غلبتها باتصالها بمصدر القوة الأول، وباستمدادها من النبع الواحد للقوة وللعزة جميعا.
وأما القوى الطبيعية فموقف المسلم منها هو موقف التعرف والصداقة، لا موقف التخوف والعداء. ذلك أن قوة الإنسان وقوة الطبيعة صادرتان عن إرادة اللّه ومشيئته. محكومتان بإرادة اللّه ومشيئته، متناسقتان متعاونتان في الحركة والاتجاه.(1/223)
إن عقيدة المسلم توحي إليه أن اللّه ربه قد خلق هذه القوى كلها لتكون له صديقا مساعدا متعاونا وأن سبيله إلى كسب هذه الصداقة أن يتأمل فيها. ويتعرف إليها، ويتعاون وإياها، ويتجه معها إلى اللّه ربه وربها.
وإذا كانت هذه القوى تؤذيه أحيانا، فإنما تؤذيه لأنه لم يتدبرها ولم يتعرف إليها، ولم يهتد إلى الناموس الذي يسيرها.
ولقد درج الغربيون - ورثة الجاهلية الرومانية - على التعبير عن استخدام قوى الطبيعة بقولهم: «قهر الطبيعة» .. ولهذا التعبير دلالته الظاهرة على نظرة الجاهلية المقطوعة الصلة باللّه، وبروح الكون المستجيب للّه.
فأما المسلم الموصول القلب بربه الرحمن الرحيم، الموصول الروح بروح هذا الوجود المسبحة للّه رب العالمين .. فيؤمن بأن هنالك علاقة أخرى غير علاقة القهر والجفوة. إنه يعتقد أن اللّه هو مبدع هذه القوى جميعا. خلقها كلها وفق ناموس واحد، لتتعاون على بلوغ الأهداف المقدرة لها بحسب هذا الناموس. وأنه سخرها للإنسان ابتداء ويسر له كشف أسرارها ومعرفة قوانينها. وأن على الإنسان أن يشكر اللّه كلما هيأ له أن يظفر بمعونة من إحداها. فاللّه هو الذي يسخرها له، وليس هو الذي يقهرها: «سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً» ..
وإذن فإن الأوهام لن تملأ حسه تجاه قوى الطبيعة ولن تقوم بينه وبينها المخاوف .. إنه يؤمن باللّه وحده، ويعبد اللّه وحده، ويستعين باللّه وحده. وهذه القوى من خلق ربه. وهو يتأملها ويألفها ويتعرف أسرارها، فتبذل له معونتها، وتكشف له عن أسرارها. فيعيش معها في كون مأنوس صديق ودود .. وما أروع قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهو ينظر إلى جبل أحد عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِى عَمْرٍو مَوْلَى الْمُطَّلِبِ بْنِ حَنْطَبٍ، أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ - رضى الله عنه - يَقُولُ خَرَجْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِلَى خَيْبَرَ أَخْدُمُهُ، فَلَمَّا قَدِمَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - رَاجِعًا، وَبَدَا لَهُ أُحُدٌ قَالَ «هَذَا جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ».ثُمَّ أَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ قَالَ اللَّهُمَّ إِنِّى أُحَرِّمُ مَا بَيْنَ لاَبَتَيْهَا كَتَحْرِيمِ إِبْرَاهِيمَ مَكَّةَ «اللَّهُمَّ(1/224)
بَارِكْ لَنَا فِى صَاعِنَا وَمُدِّنَا» (1).ففي هذه الكلمات كل ما يحمله قلب المسلم الأول محمد - صلى الله عليه وسلم - من ود وألفة وتجاوب، بينه وبين الطبيعة في أضخم وأخشن مجاليها .. (2)
19 - الربوبية المطلقة هي مفرق الطريق:
والربوبية المطلقة هي مفرق الطريق بين وضوح التوحيد الكامل الشامل، والغبش الذي ينشأ من عدم وضوح هذه الحقيقة بصورتها القاطعة. وكثيرا ما كان الناس يجمعون بين الاعتراف باللّه بوصفه الموجد الواحد للكون، والاعتقاد بتعدد الأرباب الذين يتحكمون في الحياة. ولقد يبدو هذا غريبا مضحكا. ولكنه كان وما يزال.
ولقد حكى لنا القرآن الكريم عن جماعة من المشركين كانوا يقولون عن أربابهم المتفرقة: «ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى» .. كما قال عن جماعة من أهل الكتاب: «اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ» .. وكانت عقائد الجاهليات السائدة في الأرض كلها يوم جاء الإسلام، تعج بالأرباب المختلفة، بوصفها أربابا صغارا تقوم إلى جانب كبير الآلهة كما يزعمون! فإطلاق الربوبية في هذه السورة، وشمول هذه الربوبية للعالمين جميعا، هي مفرق الطريق بين النظام والفوضى في العقيدة. لتتجه العوالم كلها إلى رب واحد، تقر له بالسيادة المطلقة، وتنفض عن كاهلها زحمة الأرباب المتفرقة، وعنت الحيرة كذلك بين شتى الأرباب .. ثم ليطمئن ضمير هذه العوالم إلى رعاية اللّه الدائمة وربوبيته القائمة. وإلى أن هذه الرعاية لا تنقطع أبدا ولا تفتر ولا تغيب، لا كما كان أرقى تصور فلسفي لأرسطو مثلا يقول بأن اللّه أوجد هذا الكون ثم لم يعد يهتم به، لأن اللّه أرقى من أن يفكر فيما هو دونه! فهو لا يفكر إلا في ذاته! وأرسطو - وهذا تصوره - هو أكبر الفلاسفة، وعقله هو أكبر العقول! لقد جاء الإسلام وفي العالم ركام من العقائد والتصورات والأساطير والفلسفات والأوهام والأفكار ..
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز [10/ 352] (2889)
(2) - في ظلال القرآن للسيد قطب - ت- علي بن نايف الشحود [ص 211](1/225)
يختلط فيها الحق بالباطل، والصحيح بالزائف، والدين بالخرافة، والفلسفة بالأسطورة .. والضمير الإنساني تحت هذا الركام الهائل يتخبط في ظلمات وظنون، ولا يستقر منها على يقين.
وكان التيه الذي لا قرار فيه ولا يقين ولا نور، هو ذلك الذي يحيط بتصور البشرية لإلهها، وصفاته وعلاقته بخلائقه، ونوع الصلة بين اللّه والإنسان على وجه الخصوص.
ولم يكن مستطاعا أن يستقر الضمير البشري على قرار في أمر هذا الكون، وفي أمر نفسه وفي منهج حياته، قبل أن يستقر على قرار في أمر عقيدته وتصوره لإلهه وصفاته، وقبل أن ينتهي إلى يقين واضح مستقيم في وسط هذا العماء وهذا التيه وهذا الركام الثقيل.
ولا يدرك الإنسان ضرورة هذا الاستقرار حتى يطلع على ضخامة هذا الركام، وحتى يرود هذا التيه من العقائد والتصورات والأساطير والفلسفات والأوهام والأفكار التي جاء الإسلام فوجدها ترين على الضمير البشري، والتي أشرنا إلى طرف منها فيما تقدم صغير. (وسيجيء في استعراض سور القرآن الكثير منها، مما عالجه القرآن علاجا وافيا شاملا كاملا).
ومن ثم كانت عناية الإسلام الأولى موجهة إلى تحرير أمر العقيدة، وتحديد التصور الذي يستقر عليه الضمير في أمر اللّه وصفاته، وعلاقته بالخلائق، وعلاقة الخلائق به على وجه القطع واليقين.
ومن ثم كان التوحيد الكامل الخالص المجرد الشامل، الذي لا تشوبه شائبة من قريب ولا من بعيد .. هو قاعدة التصور التي جاء بها الإسلام، وظل يجلوها في الضمير، ويتتبع فيه كل هاجسة وكل شائبة حول حقيقة التوحيد، حتى يخلصها من كل غبش. ويدعها مكينة راكزة لا يتطرق إليها وهم في صورة من الصور ..
كذلك قال الإسلام كلمة الفصل بمثل هذا الوضوح في صفات اللّه وبخاصة ما يتعلق منها بالربوبية المطلقة. فقد كان معظم الركام في ذلك التيه الذي تخبط فيه الفلسفات والعقائد كما تخبط فيه الأوهام والأساطير ..(1/226)
مما يتعلق بهذا الأمر الخطير، العظيم الأثر في الضمير الإنساني. وفي السلوك البشري سواء.
والذي يراجع لجهد المتطاول الذي بذله الإسلام لتقرير كلمة الفصل في ذات اللّه وصفاته وعلاقته بمخلوقاته، هذا الجهد الذي تمثله النصوص القرآنية الكثيرة .. الذي يراجع هذا الجهد المتطاول دون أن يراجع ذلك الركام الثقيل في ذلك التيه الشامل الذي كانت البشرية كلها تهيم فيه .. قد لا يدرك مدى الحاجة إلى كل هذا البيان المؤكد المكرر، وإلى كل هذا التدقيق الذي يتتبع كل مسالك الضمير .. ولكن مراجعة ذلك الركام تكشف عن ضرورة ذلك الجهد المتطاول، كما تكشف عن مدى عظمة الدور الذي قامت به هذه العقيدة - وتقوم في تحرير الضمير البشري وإعتاقه وإطلاقه من عناء التخبط بين شتى الأرباب وشتى الأوهام والأساطير!
وإن جمال هذه العقيدة وكمالها وتناسقها وبساطة الحقيقة الكبيرة التي تمثلها .. كل هذا لا ينجلى للقلب والعقل كما يتجلى من مراجعة ركام الجاهلية من العقائد والتصورات، والأساطير والفلسفات! وبخاصة موضوع الحقيقة الإلهية وعلاقتها بالعالم .. عندئذ تبدو العقيدة الإسلامية رحمة. رحمة حقيقية للقلب والعقل، رحمة بما فيها من جمال وبساطة، ووضوح وتناسق، وقرب وأنس، وتجاوب مع الفطرة مباشر عميق .. (1)
20 - تؤثر في السلوك والأخلاق والمعاملة:
فهي تأمر أهلها بكل خير، وتنهاهم عن كل شر، فتأمرهم بالعدل والاعتدال، وتنهاهم عن الظلم والانحراف.
قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل:90]
إِنَّ اللهَ تَعَالَى يَأْمُرُ فِي كِتَابِهِ الذِي أَنْزَلَهُ عَلَى رَسُولِهِ - صلى الله عليه وسلم - بِالعَدْلِ وَالإِنْصَافِ، وَيَنْدُبُ إِلَى الإِحْسَانِ وَالفَضْلِ، وَيَأْمُرُ بِصِلَةِ الرَّحْمِ وَإِعْطَاءِ ذَوِي القُرْبَى مَا هُمْ بِحَاجَةٍ إِلَيْهِ، وَيَنْهَى عَنِ ارْتِكَابِ المُحَرَّمَاتِ وَالمُنْكَرَاتِ وَالفَوَاحِشِ، مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ، مِمَّا يَأْتِيهِ العَبْدُ
__________
(1) - في ظلال القرآن للسيد قطب - ت- علي بن نايف الشحود [ص 208](1/227)
سِرّاً وَخِفْيَةً وَاللهُ تَعَالَى إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالخَيْرِ، وَيَنْهَاكُمْ عَنِ المُنْكَرِ وَالشَّرِّ، لَعَلَّكُمْ تَتَذَكَّرُونَ مَا أَوْدَعَهُ اللهُ فِي الفِطْرَةِ مِنْ وَحْيٍ قَوِيمٍ أَصِيلٍ، فَتَعْمَلُوا بِمُقْتَضَاهُ.
لقد جاء هذا الكتاب لينشىء أمة وينظم مجتمعا، ثم لينشىء عالما ويقيم نظاما. جاء دعوة عالمية إنسانية لا تعصب فيها لقبيلة أو أمة أو جنس إنما العقيدة وحدها هي الآصرة والرابطة والقومية والعصبية. ومن ثم جاء بالمبادئ التي تكفل تماسك الجماعة والجماعات، واطمئنان الأفراد والأمم والشعوب، والثقة بالمعاملات والوعود والعهود:
جاء «بِالْعَدْلِ» الذي يكفل لكل فرد ولكل جماعة ولكل قوم قاعدة ثابتة للتعامل، لا تميل مع الهوى، ولا تتأثر بالود والبغض، ولا تتبدل مجاراة للصهر والنسب، والغنى والفقر، والقوة والضعف. إنما تمضي في طريقها تكيل بمكيال واحد للجميع، وتزن بميزان واحد للجميع. وإلى جوار العدل .. «الْإِحْسانِ» .. يلطف من حدة العدل الصارم الجازم، ويدع الباب مفتوحا لمن يريد أن يتسامح في بعض حقه إيثارا لود القلوب، وشفاء لغل الصدور. ولمن يريد أن ينهض بما فوق العدل الواجب عليه ليداوي جرحا أو يكسب فضلا.
والإحسان أوسع مدلولا، فكل عمل طيب إحسان، والأمر بالإحسان يشمل كل عمل وكل تعامل، فيشمل محيط الحياة كلها في علاقات العبد بربه، وعلاقاته بأسرته، وعلاقاته بالجماعة، وعلاقاته بالبشرية جميعا.
ومن الإحسان «إِيتاءِ ذِي الْقُرْبى» إنما يبرز الأمر به تعظيما لشأنه، وتوكيدا عليه. وما يبني هذا على عصبية الأسرة، إنما يبنيه على مبدأ التكافل الذي يتدرج به الإسلام من المحيط المحلي إلى المحيط العام. وفق نظريته التنظيمية لهذا التكافل (1).
«وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ» .. والفحشاء كل أمر يفحش أي يتجاوز الحد. ومنه ما خصص به غالبا وهو فاحشة الاعتداء على العرض، لأنه فعل فاحش فيه اعتداء وفيه تجاوز للحد حتى ليدل على الفحشاء ويختص بها. والمنكر كل فعل تنكره
__________
(1) - فصل التكافل الاجتماعي في كتاب «دراسات إسلامية». «دار الشروق».(1/228)
الفطرة ومن ثم تنكره الشريعة فهي شريعة الفطرة. وقد تنحرف الفطرة أحيانا فتبقى الشريعة ثابتة تشير إلى أصل الفطرة قبل انحرافها. والبغي الظلم وتجاوز الحق والعدل.
وما من مجتمع يمكن أن يقوم على الفحشاء والمنكر والبغي. ما من مجتمع تشيع فيه الفاحشة بكل مدلولاتها، والمنكر بكل مغرراته، والبغي بكل معقباته، ثم يقوم ..
والفطرة البشرية تنتفض بعد فترة معينة ضد هذه العوامل الهدامة، مهما تبلغ قوتها، ومهما يستخدم الطغاة من الوسائل لحمايتها. وتاريخ البشرية كله انتفاضات وانتفاضات ضد الفحشاء والمنكر والبغي. فلا يهم أن تقوم عهود وأن تقوم دول عليها حينا من الدهر، فالانتقاض عليها دليل على أنها عناصر غريبة على جسم الحياة، فهي تنتفض لطردها، كما ينتفض الحي ضد أي جسم غريب يدخل إليه. وأمر اللّه بالعدل والإحسان ونهيه عن الفحشاء والمنكر والبغي يوافق الفطرة السليمة الصحيحة، ويقويها ويدفعها للمقاومة باسم اللّه. لذلك يجيء التعقيب: «يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ» فهي عظة للتذكر تذكر وحي الفطرة الأصيل القويم ... (1)
21 - تدفع معتنقيها إلى الحزم والجد في الأمور.
فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -،لِرَجُلٍ وَهُوَ يَعِظُهُ: اغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ: شَبَابَكَ قَبْلَ هِرَمِكَ، وَصِحَّتَكَ قَبْلَ سَقَمِكَ، وَغِنَاءَكَ قَبْلَ فَقْرِكَ، وَفَرَاغَكَ قَبْلَ شُغْلِكَ، وَحَيَاتَكَ قَبْلَ مَوْتِكَ "المستدرك للحاكم (2)
وعَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: أَخَذَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بِمَنْكِبِي أَوْ قَالَ بِمَنْكِبَيَّ، فقَالَ: كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ، أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ، قَالَ: فَكَانَ ابْنُ عُمَرَ، يَقُولُ: إِذَا أَصْبَحْتَ، فَلاَ تَنْتَظِرُ الْمَسَاءَ، وَإِذَا أَمْسَيْتَ فَلاَ تَنْتَظِرُ الصَّبَّاحَ، وَخُذْ مِنْ صِحَّتِكَ لِمَرَضِكَ، وَمَنْ حَيَاتِكَ لِمَوْتِكَ " صحيح ابن حبان (3)
22 - تبعث في نفس المؤمن تعظيم الكتاب والسنة:
__________
(1) - انظر: أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1/ 1991) وفي ظلال القرآن للسيد قطب - ت- علي بن نايف الشحود [ص 2846]
(2) - المستدرك للحاكم (7846) صحيح
(3) - صحيح ابن حبان - (2/ 472) (698) وصحيح البخارى- المكنز (6416)(1/229)
لأنه يعلم أن الكتاب والسنَّة حق وصواب، وهدى ورحمة؛ فينبعث بذلك إلى تعظيمهما، والأخذ بهما.
قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} [الأحزاب:36]
فلَيْسَ لِمُؤِمِن وَلا لِمُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ قَضَاءً، أَنْ يَتَخَيَّروا مِنْ أَمْرِهِمْ غيرَ مَا قَضَاهُ اللهُ وَرَسُولُهُ لَهُمْ، وَلاَ أَنْ يُخَالِفُوا أَمْرَ اللهِ وَأَمرَ رَسُولِهِ وَقَضَاءَهُما.وَمَن يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فِيمَا أَمَرَا بِهِ، وَنَهَيَا عَنْهُ، فَقَدْ جَارَ عَنِ السَّبِيلِ القَوِيمِ، وَسَلَكَ غَيْرَ طَرِيقِ الهُدَى وَالرَّشَادِ. (1)
وليس لهم أن يختاروا الدور الذي يقومون به، لأنهم لا يعرفون الرواية كاملة وليس لهم أن يختاروا الحركة التي يحبونها لأن ما يحبونه قد لا يستقيم مع الدور الذي خصص لهم! وهم ليسوا أصحاب الرواية ولا المسرح وإن هم إلا أجراء، لهم أجرهم على العمل، وليس لهم ولا عليهم في النتيجة! عندئذ أسلموا أنفسهم حقيقة للّه. أسلموها بكل ما فيها فلم يعد لهم منها شيء. وعندئذ استقامت نفوسهم مع فطرة الكون كله واستقامت حركاتهم مع دورته العامة وساروا في فلكهم كما تسير تلك الكواكب والنجوم في أفلاكها، لا تحاول أن تخرج عنها، ولا أن تسرع أو تبطئ في دورتها المتناسقة مع حركة الوجود كله.
وعندئذ رضيت نفوسهم بكل ما يأتي به قدر اللّه، لشعورهم الباطن الواصل بأن قدر اللّه هو الذي يصرف كل شيء، وكل أحد، وكل حادث، وكل حالة. واستقبلوا قدر اللّه فيهم بالمعرفة المدركة المريحة الواثقة المطمئنة. وشيئا فشيئا لم يعودوا يحسون بالمفاجأة لقدر اللّه حين يصيبهم، ولا بالجزع الذي يعالج بالتجمل أو بالألم الذي يعالج بالصبر. إنما عادوا يستقبلون قدر اللّه استقبال العارف المنتظر المرتقب لأمر مألوف في حسه، معروف في ضميره، ولا يثير مفاجأة ولا رجفة ولا غرابة!
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد [ص 3450](1/230)
ومن ثم لم يعودوا يستعجلون دورة الفلك ليقضوا أمرا هم يريدون قضاءه، ولم يعودوا يستبطئون الأحداث لأن لهم أربا يستعجلون تحقيقه، ولو كان هذا الأرب هو نصر دعوتهم وتمكينها! إنما ساروا في طريقهم مع قدر اللّه، ينتهي بهم إلى حيث ينتهي، وهم راضون مستروحون، يبذلون ما يملكون من أرواح وجهود وأموال في غير عجلة ولا ضيق، وفي غير من ولا غرور، وفي غير حسرة ولا أسف. وهم على يقين أنهم يفعلون ما قدر اللّه لهم أن يفعلوه وأن ما يريده اللّه هو الذي يكون، وأن كل أمر مرهون بوقته وأجله المرسوم.
إنه الاستسلام المطلق ليد اللّه تقود خطاهم، وتصرف حركاتهم وهم مطمئنون لليد التي تقودهم، شاعرون معها بالأمن والثقة واليقين، سائرون معها في بساطة ويسر ولين.
وهم - مع هذا - يعملون ما يقدرون عليه، ويبذلون ما يملكون كله، ولا يضيعون وقتا ولا جهدا، ولا يتركون حيلة ولا وسيلة. ثم لا يتكلفون ما لا يطيقون، ولا يحاولون الخروج عن بشريتهم وما فيها من خصائص، ومن ضعف وقوة ولا يدعون ما لا يجدونه في أنفسهم من مشاعر وطاقات، ولا يحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا، ولا أن بقولوا غير ما يفعلون.
وهذا التوازن بين الاستسلام المطلق لقدر اللّه، والعمل الجاهد بكل ما في الطاقة، والوقوف المطمئن عند ما يستطيعون .. هذا التوازن هو السمة التي طبعت حياة تلك المجموعة الأولى وميزتها وهي التي أهلتها لحمل أمانة هذه العقيدة الضخمة التي تنوء بها الجبال!
واستقرار ذلك المقوم الأول في أعماق الضمائر هو الذي كفل لتلك الجماعة الأولى تحقيق تلك الخوارق التي حققتها في حياتها الخاصة، وفي حياة المجتمع الإنساني إذ ذاك. وهو الذي جعل خطواتها وحركاتها تتناسق مع دورة الأفلاك، وخطوات الزمان، ولا تحتك بها أو تصطدم، فتتعوق أو تبطئ نتيجة الاحتكاك والاصطدام. وهو الذي بارك تلك الجهود، فإذا هي تثمر ذلك الثمر الحلو الكثير العظيم في فترة قصيرة من الزمان.(1/231)
ولقد كان ذلك التحول في نفوسهم بحيث تستقيم حركتها مع حركة الوجود، وفق قدر اللّه المصرف لهذا الوجود .. كان هذا التحول في تلك النفوس هو المعجزة الكبرى التي لا يقدر عليها بشر إنما تتم بإرادة اللّه المباشرة التي أنشأت الأرض والسماوات، والكواكب والأفلاك ونسقت بين خطاها ودوراتها ذلك التنسيق الإلهي الخاص.
وإلى هذه الحقيقة تشير هذه الآيات الكثيرة في القرآن .. حيث يقول اللّه تبارك وتعالى: «إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ» .. أو يقول: «لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ» .. أو يقول: «إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ» .. فذلك هو الهدى بحقيقته الكبيرة ومعناه الواسع. هدى الإنسان إلى مكانه في هيكل هذا الوجود وتنسيق خطاه مع حركة هذا الوجود. ولن يؤتي الجهد كامل ثماره إلا حين يستقيم القلب على هدى اللّه بمعناه وتستقيم حركة الفرد مع دورة الوجود ويطمئن الضمير إلى قدر اللّه الشامل الذي لا يكون في الوجود أمر إلا وفق مقتضاه.
ومن هذا البيان ينجلي أن هذا النص القرآني: «وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ» .. أشمل وأوسع وأبعد مدى من أي حادث خاص يكون قد نزل فيه. وأنه يقرر كلية أساسية، أو الكلية الأساسية، في منهج الإسلام!. (1)
23 - تَكْفُل لمعتنقيها الحياة الكريمة:
ففي ظل العقيدة الإسلامية يتحقق الأمن والحياة الكريمة؛ ذلك أنها تقوم على الإيمان بالله، ووجوب إفراده بالعبادة دون من سواه، وذلك-بلا شك - سبب الأمن والخير والسعادة في الدارين؛ فالأمن قرين الإيمان، وإذا فقد الإيمان فقد الأمن، قال ـ تعالى ـ: (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمْ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ) [الأنعام:82].
__________
(1) - في ظلال القرآن للسيد قطب - ت- علي بن نايف الشحود [ص 3627](1/232)
فأهل التقوى والإيمان لهم الأمن التام، والاهتداء التام في العاجل والآجل، وأهل الشرك والمعصية هم أهل الخوف وأولى الناس به، فهم مهددون بالعقوبات والنقمات في سائر الأوقات.
بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الآيَةِ مَنْ هُوَ الحَقِيقُ بِالأَمْنِ عَلَى سَبِيلِ التَّفْصِيلِ فَقَالَ: الذِينَ أَخْلَصُوا العِبَادَةَ للهِ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَلَمْ يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً، وَلَمْ يَخْلِطُوا إِيمَانَهُمْ (يَلْبِسُوا) بِظُلْمٍ، وَلاَ كُفْرٍ، وَلاَ شِرْكٍ بِاللهِ، فَهَؤُلاءِ هُمُ الآمِنُونَ يَوْمَ القِيَامَةِ مِنَ الخُلُودِ فِي العَذَابِ، وَأُولَئِكَ هُمُ المُهْتَدُونَ فِي الدُّنْيا وَالآخِرَةِ. (1)
وإذا كان الشرك باللّه مصدر المخاوف والأوهام، فلا غرابة في أن المشركين يعيشون دائما في قلق واضطراب وخوف من مغيبات القدر والمستقبل. أما المؤمنون الموحدون فلهم الأمن المطلق بشرط وجود الوصفين: وهما الإيمان، وهو كمال القوة النظرية، وعدم الإيمان بالظلم، وهو كمال القوة العملية. والمراد من الظلم هنا: هو الشرك لأنه الظلم الأكبر، ولقوله تعالى حكاية عن لقمان، إذ قال لابنه وهو يعظه: يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ، إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ والمراد هنا: الذين آمنوا باللّه، ولم يثبتوا للّه شريكا في العبادة. (2)
24 - تعترف بالعقل وتحدد مجاله:
فالعقيدة الإسلامية تحترم العقل السوي، وترفع من شأنه، ولا تحجر عليه، ولا تنكر نشاطه، والإسلام لا يرضى من المسلم أن يطفئ نور عقله، ويركن إلى التقليد الأعمى في مسائل الاعتقاد وغيرها.
قال تعالى: {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الرعد:19]
لا يَسْتَوِي المُهْتَدِي مِنَ النَّاسِ، الذِي يَعْلَمُ أَنَّ الذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ يَا مُحَمَّدُ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الحَقُّ، الذِي لاَ شَكَّ فِيهِ، مَعَ الضَّالِّ، الذِي لاَ يَعْلَمُ ذَلِكَ، لأنَّهُ يَكُونُ كَالأَعْمَى لاَ يَهْتَدِي
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1/ 872)
(2) - التفسير المنير فى العقيدة والشريعة والمنهج ج 7، ص: 275(1/233)
إِلَى خَيْرٍ، وَلاَ يَفْهَمُهُ، وَلَوْ فَهِمَهُ مَا انْقَادَ إِلَيْهِ، وَلاَ صَدَّقَ بِهِ وَلاَ انْتَفَعَ.؟ فَالذِينَ يَتَّعِظُونَ وَيَعْتَبِرُونَ هُمْ أَصْحَابُ العُقُولِ السَّلِيمَةِ، وَالبَصَائِرِ المُدْرِكَةِ (أُولُو الأَلْبَابِ) (1).
فالعمى وحده هو الذي ينشئ الجهل بهذه الحقيقة الكبرى الواضحة التي لا تخفى إلا على أعمى. والناس إزاء هذه الحقيقة الكبيرة صنفان: مبصرون فهم يعلمون، وعمي فهم لا يعلمون! والعمى عمى البصيرة، وانطماس المدارك، واستغلاق القلوب، وانطفاء قبس المعرفة في الأرواح، وانفصالها عن مصدر الإشعاع .. «إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ» .. الذين لهم عقول وقلوب مدركة تذكر بالحقّ فتتذكر، وتنبه إلى دلائله فتتفكر (2).
25 - تعترف بالعواطف الإنسانية، وتوجهها الوجهة الصحيحة:
فالعواطف أمر غريزي، ولا يتجرد منه أي إنسان سوي، والعقيدة الإسلامية ليست عقيدة هامدة جامدة، بل هي عقيدة حيَّة، تعترف بالعواطف الإنسانية، وتقدرها حق قدرها، وفي الوقت نفسه لا تطلق العنان لها، بل تُقوِّمها، وتسمو بها، وتوجهها الوجهة الصحيحة، التي تجعل منها أداة خير وتعمير، بدلاً من أن تكون معولَ هدمٍ وتدمير.
26 - العقيدة الإسلامية كفيلة بحل جميع المشكلات:
سواء مشكلات الفرقة والشتات، أو مشكلات السياسة والاقتصاد، أو مشكلات الجهل والمرض والفقر، أو غير ذلك.
فلقد جمع الله بها القلوب المشتتة، والأهواء المتفرقة، وأغنى بها المسلمين بعد العَيْلَة، وعلّمهم بها بعد الجهل، وبصّرهم بعد العمى، وأطعمهم من جوع، وآمنهم من خوف.
قال تعالى: {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [الأنفال:26] يُنَبِّهُ اللهُ تَعَالَى المُؤْمِنِينَ إِلَى مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّعَمِ الوَفِيرَةِ، فَقَدْ كَانُوا قَلِيلِي العَدَدِ، مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ، يَعْتَدِي عَلَيْهِمُ النَّاسُ، خَائِفِينَ مِنْ مُجْرِمِي قُرَيْشٍ، فَقَوَّاهُمْ
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد [ص 1727]
(2) - في ظلال القرآن للسيد قطب - ت- علي بن نايف الشحود [ص 2695](1/234)
وَآوَاهُمْ، وَنَصَرَهُمْ وَرَزَقَهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ، وَكُلُّ هَذِهِ النَّعَمِ التِي أَنْعَمَ بِهَا اللهُ عَلَيْهِمْ تَسْتَحِقُّ مِنْهُمْ أَنْ يَشْكُرُوهُ عَلَيْهَا، فَاللهُ تَعَالَى مُنْعِمٌ يُحِبُّ الشُكْرَ مِنْ عِبَادِهِ (1).
والعصبة المسلمة التي تجاهد اليوم لإعادة إنشاء هذا الدين في واقع الأرض وفي حياة الناس قد لا تكون قد مرت بالمرحلتين، ولا تذوقت المذاقين .. ولكن هذا القرآن يهتف لها بهذه الحقيقة كذلك. ولئن كانت اليوم إنما تعيش في قوله تعالى: «إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ» .. فأولى لها أن تستجيب لدعوة الحياة التي يدعوها إليها رسول اللّه وأن تترقب في يقين وثقة، موعود اللّه للعصبة المسلمة، موعوده الذي حققه للعصبة الأولى، ووعد بتحقيقه لكل عصبة تستقيم على طريقه، وتصبر على تكاليفه .. وأن تنتظر قوله تعالى: «فَآواكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ، وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ».وهي إنما تتعامل مع وعد اللّه الصادق - لا مع ظواهر الواقع الخادع - ووعد اللّه هو واقع العصبة المسلمة الذي يرجح كل واقع!! (2)
فاللّه يحقق لمن امتثل أوامره سعادة الدنيا، وعزة السلطان، والتمكين في الأرض، والأمن من المخاوف، والنصر على الأعداء، ويمنحهم أيضا الفوز والنجاة والرضوان في الآخرة. فإن تنكروا للأوامر الإلهية ولم يشكروا النعم، كحال المسلمين اليوم، صاروا أذلة ضعافا. وسنة الله في ذلك هي: إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ، وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [الأعراف 7/ 128]. (3)
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد [ص 1187]
(2) - في ظلال القرآن للسيد قطب - ت- علي بن نايف الشحود [ص 2025]
(3) - التفسير المنير فى العقيدة و الشريعة و المنهج - (9/ 296)(1/235)
الباب السابع
فوائد الإيمان وثمراته
إن منْ حكمة الله الربانيةِ أن جعل قلوبَ عباده المؤمنين تحسُّ وتتذوق وتشعر بثمرات الإيمان لتندفع نحو مرضاته والتوكلِ عليه سبحانه وتعالى. فإنَّ شجرة الإيمانِ إذا ثبتتْ وقويتْ أصولها وتفرعت فروعُها، وزهتْ أغصانُها، وأينعت أفنانها عادت على صاحبها وعلى غيره بكلِّ خيرٍ عاجلٍ وآجل في الدنيا والآخرة. وثمارُ الإيمان وثمراته ِوفوائدهِ كثيرةٌ قد بينها الله سبحانه وتعالى في كتابهِ الكريم.
فمن أعظم هذه الفوائدَ والثمارِ:
أولاً: الاغتباطُ بولاية الله الخاصة ِالتي هي أعظمُ ما تنافس فيه المتنافسون، وتسابق فيه المتسابقون، وأعظم ُما حصل عليه المؤمنون.
قال تعالى: أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (64 [يونس/62 - 64].
فكلُّ مؤمن تقي، فهو لله وليٌّ ولايةً خاصةً، من ثمراتها ما قاله الله عنه: {اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (257) سورة البقرة، أي: يخرجهم من ظلماتِ الكفر إلى نورِ الإيمان، ومن ظلماتِ الجهل إلى نور العلم، ومن ظلماتِ المعاصي إلى نورِ الطاعة، ومن ظلماتِ الغفلةِ إلى نور اليقظةِ والذكر، وحاصلُ ذلك: أنه يخرجُهم من ظلماتِ الشرورِ المتنوعةِ إلى ما يرفعُها من أنوارِ الخير العاجلِ والآجلِ. وإنما حازوا هذا العطاءَ الجزيلَ: بإيمانهمُ الصحيحِ، وتحقيقهِم هذا الإيمان بالتقوى، فإنَّ التقوى من تمامِ الإيمان.
ثانياً: الفوزُ برضى اللهِ ودارِ كرامته:(1/236)
قال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71) وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72)} [التوبة/71،72]،فنالوا رضا ربهم ورحمته، والفوزَ بهذه المساكن الطيبة: بإيمانهِم الذي كمّلوا به أنفسهم، وكمّلوا غيرهم بقيامهم بطاعة الله وطاعة رسوله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فاستولوا على أجلِّ الوسائلَ، وأفضلِ الغاياتِ وذلك فضلُ الله.
ثالثا: أن الله يدفعُ عن المؤمنينَ جميع المكارهِ، وينجّيهِم من الشدائدَ:
كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ} (38) سورة الحج، أي: يدفع عنهم كلَّ مكروه، يدفع عنهم شرَّ شياطين الأنس وشياطين الجن، ويدفع عنهم الأعداءَ، ويدفع عنهم المكارهَ قبل نزولها، ويرفعها أو يخففها بعد نزولها.
ولما ذكر تعالى ما وقع فيه يونس - عليه السلام - وأنه ( ... فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) [الأنبياء: من الآية87] قال: (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ) [الأنبياء:88].إذا وقعوا في الشدائد، كما نجّينا يونس قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «دَعْوَةُ ذِى النُّونِ إِذْ دَعَا وَهُوَ فِى بَطْنِ الْحُوتِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّى كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ. فَإِنَّهُ لَمْ يَدْعُ بِهَا رَجُلٌ مُسْلِمٌ فِى شَىْءٍ قَطُّ إِلاَّ اسْتَجَابَ اللَّهُ لَهُ» (أخرجه الترمذي) (1).
وقال تعالى: ( ... وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً) [الطلاق: من الآية4].
فالمؤمنُ المتقي ييسر الله له أمورَه وييسره لليسْرى، ويجنبه العسرى: ويسهلُ عليه الصعاب، ويجعل له من كلِّ همٍّ فرجاً، ومن كل ضيقٍ مخرجاً، ويرزقُه من حيثُ لا يحتسبُ. وشواهدُ هذا كثيرة من الكتاب والسنة ... .
__________
(1) - سنن الترمذى (3845) صحيح = النون: الحوت(1/237)
رابعاً: أن الإيمان والعمل الصالح - الذي هو فرعه - يثمر الحياة الطيبة في هذه الدار، وفى دار القرار:
قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} (97) سورة النحل
وذلك أنه من خصائصِ الإيمان، أنه يثمر ُطمأنينةَ القلبِ وراحته، وقناعتَه بما رزقَ الله، وعدم تعلقِه بغيره، وهذه هي الحياةُ الطيبةُ. فإنَّ أصل الحياةِ الطيبة: راحةُ القلب وطمأنينتُه، وعدمُ تشويشه مما يتشوشُ منه الفاقدُ للإيمانِ الصحيح.
فالعقيدة هي التي تجعل للعمل الصالح باعثا وغاية. فتجعل الخير أصيلا ثابتا يستند إلى أصل كبير. لا عارضا مزعزعا يميل مع الشهوات والأهواء حيث تميل.
وأن العمل الصالح مع الإيمان جزاؤه حياة طيبة في هذه الأرض. لا يهم أن تكون ناعمة رغدة ثرية بالمال. فقد تكون به، وقد لا يكون معها. وفي الحياة أشياء كثيرة غير المال الكثير تطيب بها الحياة في حدود الكفاية: فيها الاتصال باللّه والثقة به والاطمئنان إلى رعايته وستره ورضاه. وفيها الصحة والهدوء والرضى والبركة، وسكن البيوت ومودات القلوب. وفيها الفرح بالعمل الصالح وآثاره في الضمير وآثاره في الحياة .. وليس المال إلا عنصرا واحدا يكفي منه القليل، حين يتصل القلب بما هو أعظم وأزكى وأبقى عند اللّه. وأن الحياة الطيبة في الدنيا لا تنقص من الأجر الحسن في الآخرة.
وأن هذا الأجر يكون على أحسن ما عمل المؤمنون العاملون في الدنيا، ويتضمن هذا تجاوز اللّه لهم عن السيئات. فما أكرمه من جزاء!. (1)
خامساً: إن جميعَ الأعمال ِوالأقوال إنما تصحُّ وتكملُ بحسب ما يقوم بقلبِ صاحبِها من الإيمانِ والإخلاص:
ولهذا يذكر الله هذا الشرط الذي هو أساس كلِّ عمل، مثل قوله: {فَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ} (94) سورة الأنبياء.
__________
(1) - في ظلال القرآن للسيد قطب - ت- علي بن نايف الشحود [ص 2850](1/238)
أي لا يجحدُ سعيه ولا يضيعُ عملُه، بل يُضاعفُ بحسب قوة إيمانهِ، وقال تعالى: {وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا} (19) سورة الإسراء،والسعيُ للآخرة: هو العملُ بكل ما يقرِّب إليها، ويدني منها، منَ الأعمال التي شرعَها اللهُ على لسان نبيهِ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - فإذا تأسستْ على الإيمانِ، وانبنتْ عليه: كان السعيُ مشكوراً مقبولاً مضاعفاً، لا يضيعُ منه مثقال ذرة.
هذا هو قانون العمل والجزاء .. لا جحود ولا كفران للعمل الصالح متى قام على قاعدة الإيمان .. وهو مكتوب عند اللّه لا يضيع منه شيء ولا يغيب.
ولا بد من الإيمان لتكون للعمل الصالح قيمته، بل ليثبت للعمل الصالح وجوده. ولا بد من العمل الصالح لتكون للإيمان ثمرته، بل لتثبت للإيمان حقيقته.
إن الإيمان هو قاعدة الحياة، لأنه الصلة الحقيقية بين الإنسان وهذا الوجود، والرابطة التي تشد الوجود بما فيه ومن فيه إلى خالقه الواحد، وترده إلى الناموس الواحد الذي ارتضاه، ولا بد من القاعدة ليقوم البناء. والعمل الصالح هو هذا البناء. فهو منهار من أساسه ما لم يقم على قاعدته.
والعمل الصالح هو ثمرة الإيمان التي تثبت وجوده وحيويته في الضمير. والإسلام بالذات عقيدة متحركة متى تم وجودها في الضمير تحولت إلى عمل صالح هو الصورة الظاهرة للإيمان المضمر .. والثمرة اليانعة للجذور الممتدة في الأعماق.
ومن ثم يقرن القرآن دائما بين الإيمان والعمل الصالح كلما ذكر العمل والجزاء. فلا جزاء على إيمان عاطل خامد لا يعمل ولا يثمر. ولا على عمل منقطع لا يقوم على الإيمان.
والعمل الطيب الذي لا يصدر عن إيمان إنما هو مصادفة عابرة، لأنه غير مرتبط بمنهج مرسوم. ولا موصول بناموس مطرد. وإن هو إلا شهوة أو نزوة غير موصولة بالباعث الأصيل للعمل الصالح في هذا الوجود. وهو الإيمان بإله يرضى عن العمل الصالح، لأنه وسيلة البناء في هذا الكون، ووسيلة الكمال الذي قدره اللّه لهذه الحياة. فهو حركة ذات(1/239)
غاية مرتبطة بغاية الحياة ومصيرها، لا فلتة عابرة، ولا نزوة عارضة، ولا رمية بغير هدف، ولا اتجاها معزولا عن اتجاه الكون وناموسه الكبير. (1)
وأما إذا فقدَ العملُ الإيمانَ، فلو استغرق العاملُ ليلهُ ونهاره فإنه غير مقبول ٍقال تعالى: (وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً) [الفرقان:23]
ذلك أنه لم يقم على الإيمان، الذي يصل القلب باللّه، والذي يجعل العمل الصالح منهجا مرسوما وأصلا قاصدا، لا خبط عشواء، ولا نزوة طارئة، ولا حركة مبتورة لا قصد لها ولا غاية. فلا قيمة لعمل مفرد لا يتصل بمنهج، ولا فائدة لحركة مفردة ليست حلقة من سلسلة ذات هدف معلوم. إن وجود الإنسان وحياته وعمله في نظرة الإسلام موصولة كلها بأصل هذا الكون، وبالناموس الذي يحكمه، والذي يصله كله باللّه. بما فيه الإنسان وما يصدر عنه من نشاط. فإذا انفصل الإنسان بحياته عن المحور الرئيسي الذي يربطه ويربط الكون، فإنه يصبح لقي ضائعا لا وزن له ولا قيمة، ولا تقدير لعمله ولا حساب. بل لا وجود لهذا العمل ولا بقاء. والإيمان هو الذي يصل الإنسان بربه فيجعل لعمله قيمة ووزنا، ويجعل له مكانه في حساب هذا الكون وبنائه. وهكذا تعدم أعمال أولئك المشركين. تعدم إعداما يصوره التعبير القرآني تلك الصورة الحسية المتخيلة: «وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً» .. (2)
وقال تعالى: قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104) أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا (105) ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آَيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا (106) [الكهف/103 - 107] , فهم لما فقدوا الإيمانَ، وأحلوا محلَّه الكفرَ بالله وآياته - حبطتْ أعمالهُم قال تعالى: ( ... لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ ... ) [الزمر: من الآية65].
__________
(1) - في ظلال القرآن للسيد قطب - ت- علي بن نايف الشحود [ص 3091]
(2) - في ظلال القرآن للسيد قطب - ت- علي بن نايف الشحود [ص 3279](1/240)
ولهذا كانتِ الرِّدةُ عن الإيمانِ تحبطُ جميعَ الأعمالِ الصالحة، كما أنَّ الدخولَ في الإسلام والإيمانِ يجُبُّ ما قبله من السيئاتِ وإن عظُمتْ. التوبةُ من الذنوبِ المنافيةِ للإيمان، والقادحةِ فيه، والمنقصَةِ له - تجُبُّ ما قبلها. قال تعالى مبينا صفات عباده الصالحين: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (70) [الفرقان/68 - 70]}
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «التَّائِبُ مِنَ الذَّنْبِ كَمَنْ لاَ ذَنْبَ لَهُ» (أخرجه ابن ماجة) (1).
سادساً: أنَّ صاحبَ الإيمان يهديه اللهُ إلى الصراط المستقيم، ويهديه إلى علم الحقِّ، وإلى العمل به وإلى تلقي المحابَّ بالشكر، وتلقِّي المكارهَ والمصائبَ بالرضا والصبر:
قال تعالى: ({إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} (9) سورة يونس.
الذين آمنوا فأدركوا أن هناك ما هو أعلى من هذه الحياة الدنيا، وعملوا الصالحات بمقتضى هذا الإيمان، تحقيقا لأمر اللّه بعمل الصالحات، وانتظارا للآخرة الطيبة .. وطريقها هو الصالحات .. هؤلاء. «يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ» .. يهديهم إلى الصالحات بسبب هذا الإيمان الذي يصل ما بينهم وبين اللّه، ويفتح بصائرهم على استقامة الطريق، ويهديهم إلى الخير بوحي من حساسية الضمير وتقواه .. هؤلاء يدخلون الجنة. «تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ» .. وما يزال الماء ولن يزال يوحي بالخصب والري والنماء والحياة .. فما همومهم في هذه الجنة وما هي شواغلهم، وما هي دعواهم التي يحبون تحقيقها؟ إن همومهم ليست مالا ولا جاها، وإن شواغلهم ليست دفع أذى ولا تحصيل مصلحة. لقد كفوا شر ذلك كله، ولقد اكتفوا فما لهم من حاجة من تلك الحاجات، ولقد استغنوا بما وهبهم اللّه، ولقد ارتفعوا عن مثل هذه الشواغل والهموم.
__________
(1) - برقم (4391) وهو صحيح(1/241)
إن أقصى ما يشغلهم حتى ليوصف بأنه «دعواهم» هو تسبيح اللّه أولا وحمده أخيرا، يتخلل هذا وذاك تحيات بينهم وبين أنفسهم وبينهم وبين ملائكة الرحمن: «دَعْواهُمْ فِيها: سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ. وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ. وَآخِرُ دَعْواهُمْ: أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ» ..
إنه الانطلاق من هموم الحياة الدنيا وشواغلها والارتفاع عن ضروراتها وحاجاتها، والرفرفة في آفاق الرضى والتسبيح والحمد والسلام. تلك الآفاق اللائقة بكمال الإنسان.) (1).
وقال تعالى: {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (11) سورة التغابن.
إنه الإيمان الذي يرد كل شيء إلى اللّه، ويعتقد أن كل ما يصيب من خير ومن شر فهو بإذن اللّه. وهي حقيقة لا يكون إيمان بغيرها. فهي أساس جميع المشاعر الإيمانية عند مواجهة الحياة بأحداثها خيرها وشرها. كما يجوز أن تكون هناك مناسبة حاضرة في واقع الحال عند نزول هذه السورة. أو هذه الآية من السورة، فيما كان يقع بين المؤمنين والمشركين من وقائع.
وعلى أية حال فهذا جانب ضخم من التصور الإيماني الذي ينشئه الإسلام في ضمير المؤمن. فيحس يد اللّه في كل حدث، ويرى يد اللّه في كل حركة، ويطمئن قلبه لما يصيبه من الضراء ومن السراء. يصبر للأولى ويشكر للثانية. وقد يتسامى إلى آفاق فوق هذا، فيشكر في السراء وفي الضراء إذ يرى في الضراء كما في السراء فضل اللّه ورحمته بالتنبيه أو بالتكفير أو بترجيح ميزان الحسنات، أو بالخير على كل حال.
وفي الحديث الصحيح عَنْ صُهَيْبٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «عَجَبًا لأَمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ وَلَيْسَ ذَاكَ لأَحَدٍ إِلاَّ لِلْمُؤْمِنِ إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ». (2)
__________
(1) - في ظلال القرآن للسيد قطب - ت- علي بن نايف الشحود [ص 2395]
(2) - صحيح مسلم- المكنز [19/ 91] 7692(1/242)
«وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ» .. وقد فسرها بعض السلف بأنها الإيمان بقدر اللّه والتسليم له عند المصيبة. وعن ابن عباس يعني يهدي قلبه هداية مطلقة. ويفتحه على الحقيقة اللدنية المكنونة. ويصله بأصل الأشياء والأحداث، فيرى هناك منشأها وغايتها. ومن ثم يطمئن ويقر ويستريح. ثم يعرف المعرفة الواصلة الكلية فيستغني عن الرؤية الجزئية المحفوفة بالخطأ والقصور. ومن ثم يكون التعقيب عليها: «وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ» .. فهي هداية إلى شيء من علم اللّه، يمنحه لمن يهديه، حين يصح إيمانه فيستحق إزاحة الحجب، وكشف الأسرار .. بمقدار .. (1)
ولو لم يكنْ من ثمرات الإيمان، إلا أنهُ يسلِّي صاحبَه عن المصائبِ والمكارهِ التي تعترض كلَّ أحدٍ في كلِّ وقتٍ، ومصاحبةُ الإيمانِ واليقين أعظمُ مسلٍّ عنها، ومهونٍ لها وذلك: لقوةِ إيمانه وقوة توكله، ولقوة رجائهِ بثواب ربه، وطمعه في فضله؛ فحلاوةُ الأجر تخففُ مرارةَ الصبر قال تعالى: {وَلاَ تَهِنُواْ فِي ابْتِغَاء الْقَوْمِ إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ وَكَانَ اللّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} (104) سورة النساء.
إنهن كلمات معدودات. يضعن الخطوط الحاسمة، ويكشفن عن الشقة البعيدة، بين جبهتي الصراع ..
إن المؤمنين يحتملون الألم والقرح في المعركة .. ولكنهم ليسوا وحدهم الذين يحتملونه .. إن أعداءهم كذلك يتألمون وينالهم القرح واللأواء .. ولكن شتان بين هؤلاء وهؤلاء .. إن المؤمنين يتوجهون إلى اللّه بجهادهم، ويرتقبون عنده جزاءهم .. فأما الكفار فهم ضائعون مضيعون، لا يتجهون للّه، ولا يرتقبون عنده شيئا في الحياة ولا بعد الحياة ..
فإذا أصر الكفار على المعركة، فما أجدر المؤمنين أن يكونوا هم أشد إصرارا، وإذا احتمل الكفار آلامها، فما أجدر المؤمنين بالصبر على ما ينالهم من آلام. وما أجدرهم كذلك أن لا يكفوا عن ابتغاء القوم ومتابعتهم بالقتال، وتعقب آثارهم، حتى لا تبقى لهم قوة، وحتى لا تكون فتنة ويكون الدين للّه.
__________
(1) - في ظلال القرآن للسيد قطب - ت- علي بن نايف الشحود [ص 4472](1/243)
وإن هذا لهو فضل العقيدة في اللّه في كل كفاح. فهناك اللحظات التي تعلو فيها المشقة على الطاقة، ويربو الألم على الاحتمال. ويحتاج القلب البشري إلى مدد فائض وإلى زاد. هنالك يأتي المدد من هذا المعين، ويأتي الزاد من ذلك الكنف الرحيم.
ولقد كان هذا التوجيه في معركة مكشوفة متكافئة. معركة يألم فيها المتقاتلون من الفريقين. لأن كلا الفريقين يحمل سلاحه ويقاتل.
ولربما أتت على العصبة المؤمنة فترة لا تكون فيها في معركة مكشوفة متكافئة .. ولكن القاعدة لا تتغير.
فالباطل لا يكون بعافية أبدا، حتى ولو كان غالبا! إنه يلاقي الآلام من داخله. من تناقضه الداخلي ومن صراع بعضه مع بعض. ومن صراعه هو مع فطرة الأشياء وطبائع الأشياء.
وسبيل العصبة المؤمنة حينئذ أن تحتمل ولا تنهار. وأن تعلم أنها إن كانت تألم، فإن عدوها كذلك يألم.
والألم أنواع. والقرح ألوان .. «وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ ما لا يَرْجُونَ» .. وهذا هو العزاء العميق. وهذا هو مفرق الطريق .. «وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً» .. يعلم كيف تعتلج المشاعر في القلوب. ويصف للنفس ما يطب لها من الألم والقرح .. ) (1).
وبهذا التصوير يفترق طريقان ويبرز منهجان ويصغر كل ألم، وتهون كل مشقة. ولا يبقى مجال للشعور بالضنى وبالكلال .. فالآخرون كذلك يألمون. ولكنهم يرجون من اللّه ما لا يرجون! ويرسم هذا الدرس - بجملة الموضوعات التي يعالجها، وبطرائق العلاج التي يسلكها - ما كان يعتمل في جسم الجماعة المسلمة، وهي تواجه مشاق التكوين الواقعية ومشكلات التكوين العملية. وما كان يشتجر في النفوس من عوامل الضعف البشري ومن رواسب الماضي الجاهلي، ومن طبيعة الفطرة البشرية وهي تواجه التكاليف بمشاقها وآلامها مع ما يصاحب هذه المشاق والآلام من أشواق ومن تطلع إلى الوفاء كذلك يستثيرها المنهج الحكيم، ويستجيشها في الفطرة لتنهض بهذا الأمر العظيم. (2).
__________
(1) - في ظلال القرآن للسيد قطب - ت- علي بن نايف الشحود [ص 1109]
(2) - في ظلال القرآن للسيد قطب - ت- علي بن نايف الشحود [ص 1095](1/244)
سابعاً: ومن ثمراتِ الإيمان ولوازمه حبُّ الله لهم:
قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً) [مريم:96] أي بسبب إيمانهم وأعمالِ الإيمان، يحبُّهم اللهُ ويجعلُ لهم المحبةَ في قلوب المؤمنينَ. ومَنْ أحبَّه اللهُ وأحبَّه المؤمنونَ من عبادهِ حصلتْ له السعادةُ والفلاحُ والفوائدُ الكثيرةُ من محبَّةِ المؤمنين من الثناءِ والدعاءِ له حياً وميتاً، والاقتداءِ به وحصولِ الإمامةِ في الدِّينِ.
وللتعبير بالود في هذا الجو نداوة رخية تمس القلوب، وروح رضى يلمس النفوس. وهو ود يشيع في الملأ الأعلى، ثم يفيض على الأرض والناس فيمتلىء به الكون كله ويفيض.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ إِذَا أَحَبَّ عَبْدًا دَعَا جِبْرِيلَ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ: يَا جِبْرِيلُ إِنِّي أُحِبُّ فُلاَنًا فَأَحِبَّهُ، قَالَ: فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ قَالَ: ثُمَّ يُنَادِي فِي أَهْلِ السَّمَاءِ: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلاَنًا، قَالَ: فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ، ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِي الأَرْضِ، وَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ إِذَا أَبْغَضَ عَبْدًا دَعَا جِبْرِيلَ، فَقَالَ: يَا جِبْرِيلُ، إِنِّي أُبْغِضُ فُلاَنًا فَأَبْغِضْهُ، قَالَ: فَيُبْغِضُهُ جِبْرِيلُ، قَالَ: ثُمَّ يُنَادِي فِي أَهْلِ السَّمَاءِ: إِنَّ اللَّهَ يُبْغِضُ فُلاَنًا فَأَبْغِضُوهُ، قَالَ: فَيُبْغِضُهُ أَهْلُ السَّمَاءِ، ثُمَّ تُوضَعُ لَهُ الْبَغْضَاءُ فِي الأَرْضِ. (1) ..
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ «إِذَا أَحَبَّ اللَّهُ عَبْدًا نَادَى جِبْرِيلَ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلاَنًا، فَأَحِبَّهُ. فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ، فَيُنَادِى جِبْرِيلُ فِى أَهْلِ السَّمَاءِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلاَنًا، فَأَحِبُّوهُ. فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ، ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِى أَهْلِ الأَرْضِ» (أخرجه البخاري) (2).
وعجبا لقوم يمرون على هذا كله، ليقولوا: إن التصور الإسلامي تصور جاف عنيف، يصور العلاقة بين اللّه والإنسان علاقة قهر وقسر، وعذاب وعقاب، وجفوة وانقطاع ... لا كالتصور الذي يجعل المسيح ابن اللّه وأقنوم الإله، فيربط بين اللّه والناس، في هذا الازدواج! إن نصاعة التصور الإسلامي في الفصل بين حقيقة الألوهية وحقيقة العبودية، لا تجفف ذلك الندى الحبيب، بين اللّه والعبيد، فهي علاقة الرحمة كما أنها علاقة العدل، وهي علاقة الود كما أنها علاقة التجريد، وهي علاقة الحب كما أنها
__________
(1) - مسند أحمد (عالم الكتب) [3/ 486] (9352) 9341 صحيح- وانظر في ظلال القرآن للسيد قطب - ت- علي بن نايف الشحود [ص 3011]
(2) - برقم (6040)(1/245)
علاقة التنزيه .. إنه التصور الكامل الشامل لكل حاجات الكينونة البشرية في علاقتها برب العالمين (1) ..
ومن أجلِّ ثمرات الإيمان: أنْ يجعل َالله للمؤمنين الذين كمّلوا إيمانهم بالعلم والعمل - لسانَ صدقٍ - ويجعلُهم أئمةً يهتدونَ بأمرهِ كما قال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} (24) سورة السجدة، فبالصبرِ واليقينِ - اللذينِ هما رأسُ الإيمانِ وكمالُه - نالوا الإمامةَ في الدين (2).
ثامناً: رفعُ مكانتهِم في الدارين:
قال تعالى: { ... يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ .. } (11) سورة المجادلة.
فهم أعلى الخلقِ درجةً عند الله وعندَ عبادهِ في الدنيا والآخرة، وإنما نالوا هذه الرفعةَ بإيمانهِم الصحيحِ وعملِهم ويقينهِم، والعلمُ واليقينُ من أصولِ الإيمانِ.
تاسعاً: حصولُ البشارةِ بكرامةِ الله والأمنِ التامِّ منْ جميعِ الوجوهِ:
قال تعالى: ( ... وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) (البقرة: من الآية223) فأطلقها ليعمَّ الخيرُ العاجلُ والآجلُ، وقيّدَها في مثل قوله تعالى: {وَبَشِّرِ الَّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُواْ هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (25) سورة البقرة، فلهم البشارةُ المطلقةُ والمقيَّدةُ، ولهمُ الأمنُ المطلقُ في مثل قوله تعالى: (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ) [الأنعام:82] ولهمُ الأمنُ المقيَّدُ في مثل قوله تعالى: ( ... فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) [الأنعام: من الآية48].فنفَى عنهمُ الخوفَ لما يستقبلونهُ، والحزن َ مما مضى عليهم، وبذلك يتمُّ لهم الأمنُ.
__________
(1) - في ظلال القرآن للسيد قطب - ت- علي بن نايف الشحود [ص 1308]
(2) - موسوعة كتب ابن القيم - (ج 69 / ص 88)(1/246)
فالمؤمنُ له الأمنُ التامُّ في الدنيا والآخرة: أمِنَ منْ سخطِ اللهِ وعقابهِ، وأمنَ منْ جميعِ المكاره ِوالشرورِ. وله البشارةُ الكاملةُ بكلَّ خيرٍ، كما قال تعالى: {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (64) سورة يونس.
ويوضِّحُ هذه البشارةَ قولُه تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32)} [فصلت/30 - 33]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (28) سورة الحديد، فرتّبَ على الإيمانِ حصولَ الثواب المضاعفِ، وكمالَ النورِ الذي يمشي به العبدُ في حياتهِ، ويمشي به يومَالقيامة: {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (12) سورة الحديد، فالمؤمنُ مَنْ يمشي في الدنيا بنورِ علمِه وإيمانِه، وإذا أُطفئتِ الأنوارُ يومَ القيامة: مشَى بنورهِ على الصراطِ حتى يجوزَ به إلى دارِ الكرامةِ والنعيمِ، وكذلكَ رتَّبَ المغفرةَ على الإيمانِ، ومن غُفرتْ سيئاتهُ سلِمَ منَ العقابِ، ونالَ أعظمَ الثوابِ. (1)
عاشراً: حصولُ الفلاح - الذي هو: إدراكُ غاية الغاياتِ، فإنه إدراكُ كلِّ مطلوبٍ، والسلامةُ من كلِّ مرهوبٍ، والهدَى الذي هو أشرفُ الوسائلَ.
كما قال تعالى: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)} [البقرة/2 - 5] فهذا هو الهدى التامُّ، والفلاحُ الكاملُ.
__________
(1) - التوضيح والبيان لشجرة الإيمان - (ج 1 / ص 43)(1/247)
فلا سبيلَ إلى الهدَى والفلاح ِ- اللذينِ لا صلاحَ ولا سعادةَ إلا بهما - إلا بالإيمانِ التامِّ بكلِّ كتابٍ أنزلهُ الله، وبكلِّ رسولٍ أرسله اللهُ. فالهدى أجلُّ الوسائلَ، والفلاحُ أكملُ الغاياتِ (1).
الحادي عشر: الانتفاعُ بالمواعظَ والتذكيرُ بالآيات.
قال تعالى: (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ) (الذريات:55) وقال تعالى: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ) [الحجر:77] وهذا: لأن الإيمانَ يحملُ صاحبَه على التزامِ الحقِّ واتباعهِ، علماً وعملاً، وكذلك معه الآلةُ العظيمةُ والاستعدادُ لتلقِّي المواعظَ النافعةَ، والآياتُ الدالةُ على الحقِّ، وليس عنده مانعٌ يمنعُه من قبول الحقِّ، ولا منَ العملِ به.
الثاني عشر: ومنها أن الإيمانُ يقطعُ الشكوكَ التي تعرِض لكثيرٍ من الناس فتضر بدينهم
قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} (15) سورة الحجرات، أي: دفعَ الإيمانُ الصحيحُ -الذي معهم -الريبَ والشكَّ الموجودَ، وإنزالهُ بالكليةِ، وقاومُ الشكوكَ التي تلقيها شياطينُ الإنسِ والجنِّ، والنفوسُ الأمّارة ُبالسوءِ. فليس لهذه العللِ المهلكةِ دواءٌ إلا تحقيقَ الإيمانِ.
ولهذا ثبت في الحديث الصحيح ِ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «لاَ يَزَالُ النَّاسُ يَتَسَاءَلُونَ حَتَّى يُقَالَ هَذَا خَلَقَ اللَّهُ الْخَلْقَ فَمَنْ خَلَقَ اللَّهَ فَمَنْ وَجَدَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَلْيَقُلْ آمَنْتُ بِاللَّهِ» (2).
وفي رواية قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «يَأْتِى الشَّيْطَانُ أَحَدَكُمْ فَيَقُولُ مَنْ خَلَقَ كَذَا وَكَذَا حَتَّى يَقُولَ لَهُ مَنْ خَلَقَ رَبَّكَ فَإِذَا بَلَغَ ذَلِكَ فَلْيَسْتَعِذْ بِاللَّهِ وَلْيَنْتَهِ» (أخرجه مسلم) (3).
وبهذا بينَ - صلى الله عليه وسلم - الدواءَ النافع لهذا الداء المهلكِ. وهي ثلاثة أشياء:
__________
(1) - التوضيح والبيان لشجرة الإيمان - (ج 1 / ص 43)
(2) - أخرجه مسلم برقم (360)
(3) - برقم (362)(1/248)
1 - الانتهاءُ عن الوساوس الشيطانيةٍ 2 - والاستعاذةُ من شرِّ مَن ألقاها وشبّهَ بها؛ ليضلَّ بها العباد 3 - والاعتصامُ بعصمةِ الإيمان الصحيحِ الذي مَنِ اعتصم به كانَ من الآمنين. وذلك: لأنَّ الباطل يتضحُ بطلانُه بأمورٍ كثيرة أعظمُها: العلمُ أنه منافٍ للحقِّ، وكلُّ ما ناقضَ الحقَّ فهو باطلٌ، قال تعالى {فَذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} (32) سورة يونس.
الثالث عشر: أن الإيمانَ ملجَأُ المؤمنينَ في كلِّ ما يلمُّ بهم: من سرورٍ وحزنٍ وخوفٍ وأمنٍ، وطاعةٍ، ومعصيةٍ، وغير ذلك من الأمور التي لابدَّ لكل أحد منها:
فيلجؤونَ إلى الإيمانِ عند الخوفِ فيطمئنونَ إليه فيزيدهُم إيماناً وثباتاً، وقوة ًوشجاعةً، ويضمحلُّ الخوفُ الذي أصابهُم كما قال تعالى: عن خيارِ الخلق: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174) إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175)} [آل عمران/173 - 175].
لقد اضمحلَّ الخوفُ من قلوبِ هؤلاء الأخيارِ، وخلفهُ قوةُ الإيمانِ وحلاوتُه، وقوةُ التوكل على الله، والثقةُ بوعده.
ويلجؤونَ إلى الإيمانِ عند الطاعة ِوالتوفيقِ للأعمالِ الصالحة: فيعترفون بنعمةِ الله عليهم بها، وأن نعمتَهُ عليهم فيها أعظمُ مِن نِعَمِ العافيةِ والرزقِ، وكذلك يحرصونُ على تكميلِها، وعملِ كلِّ سببٍ لقبولها، وعدمِ ردِّها أو نقصها. ويسألون الذي تفضلَ عليهم بالتوفيق لها: أن يتمَّ عليهم نعمتَهُ بقبولها، والذي تفضلَ عليهم بحصول أصلها: أن يتمَّ لهم منها ما انتقصوهُ منها {أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} (61) سورة المؤمنون
ويلجؤون إلى الإيمانِ إذا ابتلوا بشيءٍ من المعاصي بالمبادرةِ إلى التوبةِ منها، وعملِ ما يقدرون عليه من الحسناتِ - لجبر نقصها. قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ} (201) سورة الأعراف(1/249)
فالمؤمنون في جميع تقلباتهم وتصرفاتهم - ملجؤهُم إلى الإيمانِ ومفزعهُم إلى تحقيقهِ، ودفعِ ما ينافيه ويضادِّه، وذلك من فضل الله عليهم ومنِّهِ (1).
إن اختتام الآية بقوله: «فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ» ليضيف معاني كثيرة إلى صدر الآية. ليس لها ألفاظ تقابلها هناك .. إنه يفيد أن مس الشيطان يعمي ويطمس ويغلق البصيرة. ولكن تقوى اللّه ومراقبته وخشية غضبه وعقابه .. تلك الوشيجة التي تصل القلوب باللّه وتوقظها من الغفلة عن هداه .. تذكر المتقين. فإذا تذكروا تفتحت بصائرهم وتكشفت الغشاوة عن عيونهم: «فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ» ..
إن مس الشيطان عمى، وإن تذكر اللّه إبصار .. إن مس الشيطان ظلمة، وإن الاتجاه إلى اللّه نور .. إن مس الشيطان تجلوه التقوى، فما للشيطان على المتقين من سلطان (2). ..
__________
(1) - التوضيح والبيان لشجرة الإيمان - (ج 1 / ص 46)
(2) - في ظلال القرآن للسيد قطب - ت- علي بن نايف الشحود [ص 1897](1/250)
المراجع والمصادر
1 - القرآن الكريم
2 - أضواء البيان للشنقيطي
3 - في ظلال القرآن للسيد قطب بتحقيقي
4 - تفسير الطبري
5 - تفسير ابن كثير
6 - التفسير المنير
7 - أيسر التفاسير حومد
8 - تفسير الرازي
9 - صحيح البخاري
10 - صحيح مسلم
11 - سنن الترمذي
12 - سنن أبي داود
13 - سنن النسائي
14 - سنن ابن ماجة
15 - صحيح ابن حبان
16 - مسند الإمام أحمد بن حنبل
17 - السنن الكبرى للبيهقي
18 - المستدرك للحاكم
19 - صحيح ابن خزيمة
20 - صحيح الجامع الصغير للألباني
21 - مسند البزار
22 - المعجم الكبير للطبراني
23 - تهذيب الآثار للطبري
24 - مصنف ابن أبي شيبة
25 - تاريخ دمشق لابن عساكر
26 - البداية والنهاية لابن كثير
27 - تاريخ الرسل والملوك للطبري(1/251)
28 - سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني
29 - فتح الباري لابن حجر العسقلاني
30 - شرح النووي على مسلم
31 - فتاوى الشبكة الإسلامية
32 - الجواب الكافي لابن القيم
33 - اليوم الآخر في ظلال القرآن
34 - الكاشف للذهبي
35 - النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير
36 - كثير من كتب العقيدة
37 - شرح الطحاوية في العقيدة السلفية
38 - منهاج السنة النبوية لابن تيمية
39 - درء التعارض بين العقل والنقل له
40 - سير أعلام النبلاء للذهبي
41 - موسوعة كتب ابن القيم
42 - التوضيح والبيان لشجرة الإيمان للسعدي
43 - المكتبة الشاملة الإصدار الثاني
44 - برنامج قالون
45 - الواضح في أركان الإيمان للمؤلف
46 - صفة الجنة في القرآن والسنة للمؤلف
47 - صفة النار في القرآن والسنة للمؤلف
48 - الإيمان بيوم القيامة وأهواله للمؤلف
49 - الخلاصة في أشراط الساعة الكبرى للمؤلف(1/252)