الإعلام بكفر من ابتغى غير الإسلام
تقديم الشيخ العلاّمة
عبدالله بن عبدالرحمن الجبرين
الحمد لله الذي خلقنا للعبادة، ونفذ فينا تصرفه ومراده، ووفق من شاء من خلقه لتوحيده وإفراده، وخذل آخرين ورماهم بطرده وإبعاده، أحمده سبحانه وأشكره، وقد وعد الشاكرين بالزيادة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وهي أفضل شهادة، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه وأحفاده.
أما بعد:
فقد قال تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ الأِنَس إِلا لِيَعْبُدُونِ )(الذاريات:56). ومعنى (يعبدون) يوحدون، أي أنه تعالى أوجد هذا النوع من الإِنس والجن، وكلفهم وأمرهم ونهاهم، وقد أقام عليهم الحجة، حيث آتاهم العقول التي يحصل بها التفكر والإدراك، ونصب لهم الآيات البينات، التي يحصل بالنظر فيها التذكر والاعتبار، فسخر لهم الليل والنهار، والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره، ليل داج، ونهار ساج، وسماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، وبحار ذات أمواج، ومطر ونبات، وأرزاق وأقوات، وجموع وأشتات، وإخوان وأخوات، وآباء وأمهات، وأبناء وبنات، وآيات بعد آيات.(1/1)
وقد لفت أنظارهم إلى هذه المخلوقات، فقال تعالى: (ألم نجعل الأرض مهاداً * والجبال أوتاداً * وخلقناكم أزواجاً * وجعلنا نومكم سباتا * وجعلنا الليل لباسا)(النبأ:6-10) الآيات. وقال تعالى: (أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج * والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج)(ق:6-7) الآيات، وقال تعالى: (وعد الله لا يخلف الله وعده ولكن أكثر الناس لا يعلمون)(الروم:6) الآية، ونحو خطبة قس بن ساعدة الإيادي الجاهلي ، والذي ذكر فيها: أن لله ديناً هو أحب من الدين الذي هم عليه، ونبياً قد حان أجل خروجه، وهكذا ذكروا قصة زيد بن عمرو بن نفيل الذي ترك عبادة الأصنام، وحرم أكل ما أهل به لغير الله، وهو جاهلي، وغيره كثير وفي ذلك يقول ابن المعتز:
فيا عَجَبا كَيْفَ يعْصي الإِلَهَ أَمْ كَيْفَ يْجحدُهُ الجاحِدُ
وفي كُلِّ شيءٍ لهُ آيَةٌ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ وَاحِدُ
وَلَهُ في كُلِّ تَحرِيكَةٍ وَتَسْكِينَةٍ أَبَداً شَاهِدُ
ويقول آخر:
تَأَمَّل في نَباتِ الأَرضِ إِلى آثَارِ مَا صَنَعَ الملِيكُ
عُيُونٌ مِنْ لُجين شَاخِصَاتٌ بأحدَاقٍ هِيَ الذّهبُ السَّبِيكُ
على قُضُبِ الزَّبَرْجَدِ شَاهِدَاتٌ بِأَنَّ الله لَيْسَ لَهُ شَرِيكُ
ومع هذه الآيات والبينات، فإن ربنا سبحانه لم يتركنا هملاً، بل أرسل الرسل، وأنزل الكتب، وبَيَّنَ للناس ما نزّل إليهم، لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل، قال الله تعالى: (ولقد بعثنا في كُل أمة رسولاً أن أعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين)(النحل:36).
وورد في الحديث عن زيد بن ثابت، وأُبي بن كعب مرفوعاً: "لو أن الله عذَّب أهل سماواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم لكانت رحمته أوسع من أعمالهم" رواه أحمد وغيره.(1/2)
وحيث إن جميع نوع البشر خلقوا للعبادة، فإن فرضاً عليهم أن يدينوا لله تعالى بالتوحيد، ولنبيه صلى الله عليه وسلم بالطاعة، فمن أطاعه وشهد له بالرسالة وتقبَّل شريعته فهو من أهل الجنة، ومن عصاه ودان بغير الإسلام فهو من أهل النار.
وقد ختم الله الرسالة بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وجعل دينه وشريعته آخر الشرائع، وأرسله إلى جميع الناس بل إلى الثقلين، وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى". قيل: ومن يأبى يا رسول الله؟ قال: "من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى" رواه البخاري.
وقد سلط الله على الإنسان أنواعاً من الأعداء:
o كالشياطين، قال الله تعالى: (ألم تر أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزا)(مريم:83)، أي تدفعهم إلى التمادي في الكفر وتصدهم عن الهدى.
o وكالنفس الأمَّأرة بالسوء والنفس اللوامة.
o وكالهوى الذي يُعمي ويصم.
o وكالشهوات التي تغري بتناولها من يميل إليها، ولو كانت محرمة أو ضارة بالعقل والدِّين.
وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "حفت الجنة بالمكاره، وحفّت النار بالشهوات" متفق عليه.
فلأجل ذلك لا يستغرب قلة من يعتنق الإسلام ويدين به، ولو كان هو دين الفطرة، ودين العقل السليم، لكن لوجود الصوارف عنه صار أهله قلة في غيرهم، وكثيراً ما يذكر الله عن الأكثرين قلة التعقل والعلم، كقوله تعالى: (ولكن أكثر الناس لا يعلمون)(الأعراف:187)، (بل أكثرهم لا يعقلون)(العنكبوت:63).
وقد كنت كتبت مقالة كرد على شخص نشر مقالة يبرر فيها الأديان التي يدين بها المشركون واليهود والنصارى والهندوس وغيرهم، ويستبعد أن يعذبهم الله بالنار، وقد نشرت تلك المقالة في بعض الصحف المحلية، فأحب بعض الإخوان طبعها والزيادة عليها في رسالة صغيرة، فأجبته إلى ذلك لتعم الفائدة، والله الموفق والمعين، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
عبدالله بن عبد الرحمن الجبرين(1/3)
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين
قال فضيلة الشيخ الإمام العلاَّمة أبو محمد عبدالله بن عبدالرحمن بن عبدالله بن إبراهيم الجبرين:
الحمد لله وحده وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
وبعد:
فقد اطَّلعت على ما نشر في جريدة "الشرق الأوسط" العدد (5824) يوم الثلاثاء الموافق 4/6/1415هـ بقلم من سمَّى نفسه: (عبدالفتاح الحايك) الذي اعترف بأنه ليس من أهل الإفتاء، ومع ذلك تجشَّم الفتوى بغير علم، وحكم لليهود المعاصرين والنصارى والهندوس والبوذيين والقاديانيين والمشركين والمنافقين بأنهم من أهل الجنة، واستغرب أن هذه الجموع والمليارات من الأُمم مآلهم إلى النار، وما علم أَن الله تعالى خلقَ الجنة وخلق لها أهلها وهم في أصلاب آبائهم، وخلقَ للنار أهلاً وهم في أصلاب آبائهم، وأنه قال للنار: أنت عذابي أُعذِّب بكِ من أشاء، وللجنة: أنتِ رحمتي أرحم بكِ من أشاء، ولكل منكما عليَّ ملؤها.
وأخبر تعالى بأن أكثر الناس هم الضالون في قوله تعالى: (يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات اعملوا آل داود شكراً وقليلٌ من عبادي الشكور)(سبأ:13)، وقوله: (ولقد صدّق عليهم إبليس ظنّهُ فاتبعوه إلا فريقاً من المؤمنين)(سبأ:20)، وقوله: (وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين)(يوسف:103).
وقد أخبر الله عن إبليس أنه قال: (قال فبعزّتك لأغوينهم أجمعين * إلا عبادك منهم المخلصين)(ص:82-83)، وقال: (ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين)(الأعراف:17)، ونحو ذلك من الأدلة، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن بعث النار من كل ألف تسعمائةٌ وتسعة وتسعون. وواحدٌ في الجنة.
محمد صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء
وشريعته خاتمة الشرائع(1/4)
وقد أرسل الله محمداً صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين، وشريعته خاتمة الشرائع، ونسخ برسالته جميع الأديان، وكلَّف جميع الناس أن يتبعوه بقوله: (الذين يتبعون الرسول النبيّ الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون * قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً الذي له ملك السموات والأرض لا إله إلا هو يحيى ويميت فآمنوا بالله ورسوله النبيّ الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته وأتبعوه لعلكم تهتدون)(الأعراف:157-158)، وقوله: (وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيراً ونذيراً ولكن أكثر الناس لا يعلمون)(سبأ:28).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "وكان النبي يُبعث إلى قومه خاصة وبُعثت إلى الناس عامة" وقال: "بٌعثت إلى الأسود والأحمر".
وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أُمرت أن أُقاتل الناس حتى يشهدوا أَن لا إله إلا الله وأنِّي رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم". وفي رواية: "حتى يقولوا لا إله إلا الله ويؤمنوا بي وبما جئت به".
وأخبر صلى الله عليه وسلم بأركان الإسلام بقوله: "بُني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت".
ولا شك أن من امتنع عن الشهادة لله بالوحدانية ولمحمد بالرسالة ولم يُقم الصلاة ولا الزكاة والحج فليس بمسلم ولا مؤمن؛ وقد قال عليه الصلاة والسلام: "والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بي إلاّ دخل النار"، أو كما قال.(1/5)
وقد أنكر الله على اليهود قولهم: لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة بقوله تعالى: (وقالوا لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة قل أتخذتم عند الله عهداً فلن يخلف الله عهده أم تقولون على الله ما لا تعلمون)(البقرة:80)، فدل على أنهم من أهل النار وأن هذه المقالة صدرت بغير علم، كما أنكر عليهم قولهم: (وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين)(البقرة:111)، وكذا قولهم: (وقالوا كونوا هوداً أو نصارى تهتدوا قل بل ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين)(البقرة:135) وهي الدين الذي بُعث به محمد صلى الله عليه وسلم، فقال: (وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيداً عليكم وتكونوا شهداء على الناس فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واعتصموا بالله هو مولاكم فنعم المولى ونعم النصير)(الحج:135).
وقد أخبر الله تعالى بأن هذا هو الدين الذي اختاره ورضيه للأمة فقال تعالى: (حُرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم وما ذُبح على النّصب وأن تستقسموا بالأزلام ذلكم فسق اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً فمن اضطر في مخمصةٍ غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم)(المائدة:3)، وقال: (ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يُقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين)(آل عمران: 85).
والإسلام هو ما بني على الأركان الخمسة كما فسره النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل المشهور، فمن لم يدخل في هذا الإسلام ويحافظ على أركانه فهو من الخاسرين، والنار أولى به.
أدلة تكفير اليهود والنصارى(1/6)
وقد ذم الله اليهود والنصارى حتى في سورة الفاتحة في قوله: (صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين)(الفتحة:7). فاليهود مغضو ب عليهم، والنصارى ضالون كما في الحديث الصحيح.
وقد حكى الله عنهم مقالات كفرية كقوله: (لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم قل فمن يملك من الله شيئاً إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعاً ولله ملك السموات والأرض وما بينهما يخلق ما يشاء والله على كل شيء قدير)(المائدة:17).
وكذلك: (لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إلهٌ واحدٌ وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسنّ الذين كفروا منهم عذاب أليم)(المائدة:73).
(لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار)(المائدة:72).
وقال عنهم: (وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يُضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون)(التوبة:30).
الآيات في تكفير اليهود والنصارى
وبيان نوع كفرهم وشركهم وتحريفهم للكلم عن مواضعه كثيرة جداً.
وقد دعاهم الله إلى الدخول في الإسلام بقوله تعالى: (يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقاً لما معكم من قبل أن نطمس وجوهاً فنردها على أدبارها أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت وكان أمر الله مفعولاً)(النساء:47).(1/7)
وكل ذلك دليل كفرهم وخروجهم من الدين الصحيح وأنهم كذبوا بالحق لما جاءهم مع أنهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، فلذلك حلت عليهم اللعنة والغضب واستحقوا العذاب في الآخرة، قال تعالى: (لُعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داوود وعيسى ابن مريم ذلك بِما عصوا وكانوا يعتدون)(المائدة)، ولا شك أن تكذيبهم لمحمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به هو أعظم الكفر. وهم المرادون بقوله تعالى: (قل هل أنبّئُكم بشر مِنَ ذلك مثُوبةً عِند الله من لعنه الله وغضِب عليه وجعل مِنهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت أولئك شر مكاناً وأضل عن سواء السبيل)(المائدة:60).
فتأمل هذه الآيات وما بعدها وما يشبهها في سورة النساء تجد أن جميع من كذّب محمداً صلى الله عليه وسلم أو خرج عن شرعه أو أنكر رسالته أو ادعى أنه رسول العرب أو نصب العداوة للمسلمين أتباع هذه الشريعة المحمدية، أنه كافرٌ مستحقٌ لغضب الله ولعنته وعذابه، ولا ينفعه انتماؤه إلى الأديان السابقة والمنسوخة المحرَّفة.
الإسلام هو الدين الصحيح وغيره محرف ومنسوخ
وقد أقام الله البراهين والأدلة على صحة هذه الرسالة والشريعة وأمر بإبلاغها للخاص والعام، فمن بلغته فعاند وعصى وركب هواه واتبع الأديان الباطلة وتمادى في غيه، فإن مصيره إلى النار وبئس القرار.(1/8)
ولا شك أن الأديان السماوية كانت سبيل النجاة قبل تحريفها ونسخها، لكنْ وقع من أهلها التحريفُ للكلم عن مواضعه، وتغييرُ شرع الله، ثم عصيان هذا النبي الكريم، فبطل التمسك بها؛ مع أن الأديان الباقية الآن كلها باطلة حيث دخلها الشرك بالله وعبادة الأنبياء كالمسيح وأمه والعُزَيْر والصالحين، وتغيير دين الله عما هو عليه، والتعبد بما لم يأذن به الله؛ فيُحكم عليهم بأنهم كفار فلا يدخلون في قوله تعالى: (إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون)(البقرة:62).
فالإيمان بالله يستلزم تصديق رسله وخاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم ويستلزم تقبل كلامه القرآن الكريم فلا يدخل في ذلك من كذب محمداً أو طعن في القرآن ولو عمل ما عمل من الصدقات والصلوات الباطلة.
أعمال الكفار الصالحة وعبادتهم تكون هباءً منثوراً
وقد أخبر الله أن أعمال الكفار تكون هباءً منثوراً، منها: أعمال أهل الكتاب الذين لم يؤمنوا بالله وبرسله وكتبه.
فقوله تعالى: (قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم وليزيدن كثيراً منهم ما أنزل إليك من ربك طغياناً وكفراً فلا تأس على القوم الكافرين)(المائدة:86). دليلٌ على أنهم ليسوا على دين، وأن عبادتهم باطلة حيث لم يؤمنوا بما أُنزل إليهم من ربهم ولم يقيموا التوراة والإنجيل فإن إقامتها تستلزم اتباع النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل، فمن لم يتبعه لم يكن على شيء.
وهكذا اشترط الله للأمن الإيمان بالله واليوم الآخر في قوله تعالى (إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون)(البقرة:62).(1/9)
فلابد من الإيمان بالله الذي يستلزم تصديق رسله وخاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم، فلم يقبل منهم الإيمان إلا بشرط وهو التصديق بما جاءت به الرسل.
ولا شك أن العمل الصالح الذي اشترطه الله للمؤمنين لا يحصل إلا بما وافق شرع الله المنزَّل على نبيه صلى الله عليه وسلم، وقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم الإِيمان بأركانه الستة، ومنها الإِيمان بالرسل والكتب وهو يستلزم الاتباع للرسل وخاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم، والعمل بالكتب وخاتمها القرآن الكريم، فمن لم يتبعه فليس بمؤمن ولا ينفعه عمله، ولو عمل أي عمل.
ومعلوم أن الإسلام في وقت كل نبي هو اتباع ما جاء به؛ فاتباع موسى في زمنه، واتباع عيسى في وقته سُمي إسلاماً، لكن زال بعد أن حُرِّفت تلك الشرائع ونُسخ ما بقي منها.
ثم إن حجة الله قائمة، فكتاب الله تعالى محفوظ، وقد تُرجم وفُسِّر بكل اللغات، وانتشر الإِسلام وبلغ أَقصى الأرض وأَدناها ولم يبق لأحد عذر، حيث إن دين الإسلام مشهور معروف ولا يحتاج إلى زيادة تَعَلُّم، كل من دخل فيه أَمكنه أَن يعرف ما أوجب الله عليه في بضعة أيام، ويعمل بما يقدر عليه، ولا يلزمه معرفة التفاصيل دفعة واحدة، فالزكاة لا تلزم الفقير، والصوم لا يكون إلا في السنة مرة، وأحكامه سهلة، والحج في العمر مرة واحدة على المستطيع، والمحرمات يمكن معرفتها في مجلس واحد، فكيف يُقال إن اعتناق الإسلام يستدعي بضع سنوات في دراسته وعرضه على الأديان الأُخرى.
وقد شوهِدَ أَنه دين الفطرة التي فطرَ الله الناس عليها، فمن لم يتبعه مع سماعه به فهو من أهل النار، ومن لم يبلغه ولم يسمع به فهو كأهل الفترات يحكم الله فيهم بما يشاء.
والله المستعان، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
شبهة
بين مسلم ونصراني
السؤال:-(1/10)
يوجد معي في العمل نصراني، فأردت أن أناقشه في الدين لعل وعسى أن يسلم، وخلال المناقشة قال لي: كيف عرفت أني سأدخل النار؟! يمكن أن تكون أنت من أصحاب النار؟ فوسوس الشيطان في نفسي، فهل من كلمة توضحها لي أستطيع بها مناقشته، وأقنعه بالكلام أن الدين عند الله الإسلام، وأننا لعلى الصراط المستقيم، وهم في الضلال المبين؟
الجواب:-
كل الفرق يدَّعون أن الصواب في جانبهم وأن غيرهم من أهل النار، فالنصارى يقولون: إنهم أهل الصواب، واليهود يقولون: إنهم أهل الصواب؛ حتى حكى الله عن اليهود أنهم قالوا كما جاء في كتابه الكريم: (لن تمسّنا النار إلا أياماً معدودة قل أتخذتم عند الله عهداً)(البقرة: 80).
وكذلك حكى الله عنهم أنهم قالوا: (لن يدخُل الجنّة إلا من كان هوداً أو نصارى)(البقرة:111)، فهم يدّعون أن الجنة لهم، اليهود يقولون: إن الجنة لليهود، والنصارى يقولون: إن الجنة للنصارى، وأنتم الذين هم أتباع محمد من أهل النار هذا في زعمهم، ويدّعون أيضاً أنهم هم المسلمون: (وقالوا كونوا هوداً أو نصارى تهتدوا)(البقرة:135) ونحن نجادلهم:
أولاً: نقول لهم: عليكم أن تنظروا في سيرة نبينا وفي معجزاته فهي دليل على صدقه وعلى نبوته، وأن تنظروا بما أيده الله به من القوة ومن التمكين، ومن النصر المبين؛ فهو دليل على أنه على حق وما أيد به أتباعه أيضاً، من النصر ومن القوة ومن نشر الدين، فهو دليل على أنهم على حق.
ثانياً: عليكم أن تنظروا في شريعته التي جاء بها، فمن تأملها عرف أنها من عند الله، هذا القرآن الذي ألقاه الله، وهذه السنة التي نرى ونلاحظها، وهذه النواهي وهذه العبادات، لا شك أن من تأملها عرف أنها من عند الله ونقول لكم: أنتم ما عباداتكم؟ وما شريعتكم؟(1/11)
نحن نعترف أن عندكم التوراة والإنجيل، ولكن قد دخلها التحريف والتبديل والتغيير الكثير فقد أضيف إليها ما ليس منها وتعددت، ولو لم يكن إلا أن عندكم أربعة تسمى أناجيل: إنجيل يوحنا، وإنجيل متى، وإنجيل كذا.. هل كلها مُنَزَّلة أو واحد مُنَزَّل؟ فإن كان المنزل منها واحداً، فما المنزل منها؟
نحن عندنا كتاب الله واحدا، وهو هذا القرآن المُنَزَّل لم يتعدد، إذاً فكيف مع ذلك لا تصدقون بهذه الشريعة وهي كاملة وافية، ليس فيها ما يغيرها؟ وشرائعكم قد غُيّرت، وأحكامها مُغَيّرة، وأوامرها وشرعياتها وعباداتها كلها مُغَيرَّة، ما عندكم إلا شيء قد دخله التغيير حتى الشركيات عندكم، واقتراف المحرمات وما أشبهها، فهذا دليل على أن هذه الشريعة هي الباقية التي يجب على كل من في الأرض أن يدين بها.
الفترة
معناها وأحكامها
قال فضيلة الشيخ عبدالله بن جبرين حفظه الله في آخر رده السابق صـ (27): (ومن لم يبلغه ولم يسمع به فهو كأهل الفترات يحكم الله فيهم بما يشاء).
ولمزيد من الفائدة فقد أوردنا بعض الأسئلة المتعلقة (بالفترة) على فضيلته حفظه الله:
معنى الفترة ومقدارها
السؤال:-
ما معنى الفترة وما مقدارها؟
الجواب:-
قال الله تعالى: (يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل)(المائدة:19) الآية.
قال ابن كثير رحمه الله عند تفسير هذه الآية: "أي بعد مدة متطاولة ما بين إرساله وعيسى بن مريم، وقد اختلفوا في مقدار هذه الفترة، فقال أبو عثمان النهدي، وقتادة: كانت ستمائة سنة. ورواه البخاري عن سلمان الفارسي، وعن قتادة أيضاً: خمسمائة وستون سنة، وقال معمر عن بعض أصحابه: خمسمائة وأربعون سنة والمشهور هو القول الأول، وهو أنها ستمائة سنة. إلخ. انتهى.(1/12)
ومعنى الفترة : أي الزمن الذي لم يبعث فيه أحد من الرسل، ومع ذلك فهذه الفترة لم ينقطع فيها أثر النبوة، فإن العرب لم يزل عندهم بقية من دين إبراهيم وإسماعيل، حيث إنهم يفتخرون بالانتساب إلى إبراهيم، ولهذا ذكرهم الله بذلك بقوله: (مِلّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهيم هو سمَاكمُ المسلمين مِن قَبلٌ)(الحج:87). فهم يعترفون بتوحيد الربوبية، ويخلصون لله العبادة في الشدة كلجة البحر، ويحجون البيت الحرام ويعتمرون، ويحترمون الأشهر الحرم، ويهدون الهدي، ويقلدونه القلائد التي أمر الله بعدم إحلالها، وعندهم خصال الفطرة: كالختان، ونحوه.
أما أهل الكتاب فعندهم التوراة والإنجيل والزبور، وفيهم دين أنبيائهم الذي توارثوه عن آبائهم، بما في ذلك معرفة النبي صلى الله عليه وسلم، حيث: (يجدونه مكتوباً عِندهم في التوراة والإنجيل)(الأعراف:157). ولكن لطول هذه الفترة، ولكون الأنبياء الأولين تختص رسالاتهم بأقوامهم؛ سمى الله هذا الزمن الذي بين محمد صلى الله عليه وسلم وعيسى، وبينه وبين إبراهيم فترة، وذكر أهل الكتاب بذلك حيث إنهم أولى بقبول رسالته لمعرفتهم بالرسل ورسالاتهم ومعجزاتهم، فتكذيبهم له إنكار للحق مع وضوحه، وقد قال تعالى عن الجميع: (فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا لو لا أوتي مثل ما أوتي موسى أولم يكفروا بما أوتي موسى مِن قبل قالوا ساحران تظاهرا وقالوا إنا بكل كافرون)(القصص:48)، يعني موسى وهارون، أي: تعاونا وتناصرا، وقرئ (سحران)، أي: التوراة والقرآن.
أهل الفترة
السؤال:-
من هم الذين يحكم بأنهم من أهل الفترة؟
الجواب:-(1/13)
يدخل فيهم الذين لم تبلغهم الرسالة ولم يعلموا بها، ولم يسمعوا بالشريعة، كالذين في أطراف الأرض وفي أقاصي البلاد، ممن نشأ في جهل عميق، ولم يكن حولهم من يعرفهم بالدِّين والتوحيد وعبادة الله تعالى، وحقه على العباد، كما يدخل فيهم أهل الفترة الذين انقطعت عنهم الرسالة، ولم يبق عندهم شيء من ميراث الأنبياء من الكتب والرسالات كما حصل لبني إسرائيل لما قتلهم بختنصر، وأحرق ما عندهم من الكتب المنزلة، ولم يبق إلا القليل الخافي أو ما في الصدور، ويدخل فيهم أيضاً من فقد السمع ولم يكن معه معرفة بالإشارة ونحوها، وكذا من فقد العقل كليّاً ولم يعرف ما يحدث في الناس، وهكذا من مات صغيراً ولم يدرك ما أدركه الأكابر من العقل والفطنة ونحو هؤلاء.
من مات بعد مجيء الإسلام
السؤال:-
من مات بعد مجيء الإسلام، ولكن لم تصله الرسالة أو وصلته ولكن ناقصة أو محرّفة -أي لم يصله الدين الصحيح- فهل يعتبر من أهل الفترة؟
الجواب:-
لا شك أن نوع الإنسان مكلف ومأمور ومنهي، وعليه واجبات لربه، وقد خص الله نوع البشر بتكاليف حيث فضَّله بالعقل والتمييز، فمتى تم عقله وجبت عليه العبادات والفرائض الدينية، ووجب عليه ترك المحرمات، فإذا جهلها لزمه البحث والسؤال عما خُلِقَ له، فمتى فرط مع قدرته اعْتُبِرَ ملوماً.(1/14)
ولا شك أنه يوجد في الفترات من يجهل الإسلام، ولم يصل إليه عنه خبر، وكذا من يصل إليه خبر الإسلام مشوهاً محرفاً، أو ناقصاً، ولا يستطيع الوصول إلى من يعرِّفه الإسلام والتوحيد الصحيح، فمثل هذا قد يُعْذَر ويُلْحَق بأهل الفترات، ولكن الغالب أنه يقلد من قبله، ويتبع من يصده عن الهدى، فيكون معه في العذاب، كما قال تعالى: (قالت أخراهم لأولهم ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذاباً ضعفاً من النار قال لكل ضعفٌ ولكن لا تعلمون * وقالت أولاهم لأخراهم فما كان لكم علينا من فضل فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون)(الأعراف:38-39) الآية، فأخراهم الأتباع، والأتباع، الذين أضلهم من قبلهم.
وقال تعالى: (إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب * وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرءوا منا)(البقرة:166-167) فالذين اتبعوا هم الأبناء والمتأخرون الذين أضلهم من قبلهم، أخبر بأنهم رأوا العذاب، وتقطعت بهم الأسباب.
وقال تعالى: (فقال الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعاً فهل أنتم مغنون عنا من عذاب الله من شيء قالوا لو هدانا الله لهديناكم)(إبراهيم:21) فالضعفاء هم الأولاد والأحفاد الذين قلدوا من قبلهم فلا ينجون من العذاب.
وقال تعالى: (وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا)(الأحزاب:67)، عذبهم باتباعهم أكابرهم على الضلال.
وقال تعالى: (يقول الذين استضعفوا للذين استكبروا لولا أنتم لكنا مؤمنين) إلى قوله عنهم: (بل مكر الليل والنهار إذ تأمروننا أن نكفر بالله ونجعل له أنداداً)(سبأ الآيات:31-32).(1/15)
وقال تعالى عنهم وهم في النار: (قالوا بل أنتم لا مرحبا بكم أنتم قدمتموه لنا فبئس القرار * قالوا ربنا من قدم لنا هذا فزده عذاباً ضعفاً في النار)(ص:60-61). وقال تعالى: (ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم)(النحل:25) وفي الحديث: "من دعا إلى ضلالة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئاً". والله أعلم.
وكل هذه الأدلة ونحوها كثير واضحة في أن الأتباع يعذبون مع أكابرهم ومن قبلهم ممن دعاهم إلى الضلال وأوقعهم في الكفر والشرك، وتدل على أن في إمكانهم اتِّباع الحق الذي كان موجوداً بعد الأنبياء والرسل، لكن غيَّره من أغواهم الشيطان.
وقد ثبت في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "رأيت عمرو بن لحي يجر قصبه في النار، وهو أول من غيّر دين إبراهيم"، وفي حديث ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إن أول من سيب السوائب وعبد الأصنام أبو خزاعة عمرو بن عامر".
قال ابن كثير عند قوله تعالى: (ما جعل الله من بحيرة)(المائدة:103) بعد أن ساق أحاديث في معناها، "فعمرو هذا هو ابن لحي بن قمعة، أحد رؤساء خزاعة الذين ولوا البيت بعد جرهم، وكان أول من غير دين إبراهيم الخليل، فأدخل الأصنام إلى الحجاز، ودعا الرعاع من الناس إلى عبادتها، والتقرب بها، وشرع لهم هذه الشرائع الجاهلية في الأنعام وغيرها، إلى آخر كلامه رحمه الله".
وقد دل الحديث على أن العرب كانوا على ملة إبراهيم وإسماعيل، ثم حدث بعد ذلك التغيير وعبادة الأصنام بسبب عمرو بن لحي وغيره.(1/16)
ولا شك أن العرب يدركون أن دينهم باطل، كما انتبه لذلك بعضهم كقس بن ساعدة، وزيد بن عمرو بن نفيل، وورقة بن نوفل، ففي تراجمهم وأخبارهم ما يدل على أنهم أنكروا ما عليه قومهم، وأهل بلادهم من الشرك وعبادة الأصنام، فمنهم من ترك عبادة غير الله كزيد بن عمرو الذي قال في حقِّة النبي صلى الله عليه وسلم: "إنه يبعث يوم القيامة أمة وحده". وقال: "رأيته في الجنة يسحب ذيولاً"، وكذا ما ذكر في خطبة قس بن ساعدة التي نبه فيها على الدين الصحيح، واستدل بالآيات والمخلوقات على وحدانية الله تعالى، إلى غير ذلك.
فأما غيرهم فقد ورد في حديث عياض بن حمار: "أن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب" رواه مسلم. وهو دليل على أن هناك بقايا قد تمسكوا بالدين الموروث عن أهل الكتاب.
وكما تدل عليه قصة سلمان الفارسي حيث تنقل من عالم إلى عالم، يأخذ عنه التوحيد والعبادة، إلى أن هاجر إلى المدينة. والله أعلم.
مصير أطفال المسلمين وأطفال المشركين
السؤال:-
نرجو بيان القول الفصل والراجح في مصير أطفال المسلمين وأطفال المشركين بالتفصيل مع ذكر الأدلة من الكتاب والسنة؟
الجواب:-
يُراد بالأطفال كل من مات قبل البلوغ ولم يدرك التكليف.
# فأما أولاد المسلمين ، فالصحيح: أنهم في الجنة مع آبائهم، وينتظرونهم عند أبواب الجنة، ويقال في الدعاء له عند موته في الصلاة عليه: "اللهم أجعله ذخراً لوالديه وفرطاً وأجراً وشفيعاً مجاباً، الله ثقل به موازينهما إلخ..".
وقد ذكر ابن كثير عند تفسير قوله تعالى: (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً)(الإسراء:15) : أن القاضي أبا يعلى حكى عن الإمام أحمد أنه قال: "لا يختلف فيهم أنهم من أهل الجنة". وقد يستدل على ذلك بقوله تعالى: (والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتنهم من عملهم من شيء كل امرئ بما كسب رهين)(الطور:21).(1/17)
# فأما أولاد المشركين الذين ماتوا قبل البلوغ وآباؤهم كفَّار، ففيهم خلاف طويل، وقد تكلم عليهم ابن القيم في طريق الهجرتين في الطبقة الرابعة عشرة من طبقات المكلفين، فذكر فيهم ثمانية أقوال:
الأول: الوقف فيهم وترك الشهادة بأنهم في الجنة أو في النار، ودليله ما في الصحيحين عن أبي هريرة وعن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عمن يموت وهو صغير من أولاد المشركين فقال: "الله أعلم بما كانوا عاملين".
الثاني: أنهم في النار: لما روى أبو عقيل عن بهية عن عائشة أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أولاد المشركين قال: "في النار" وأبو عقيل ضعيف.
الثالث: أنهم في الجنة لما في حديث سمرة الطويل في المنام عند البخاري لما ذكر أن الولدان مع إبراهيم الخليل قيل له: "وأولاد المشركين؟" قال: "وأولاد المشركين".
الرابع : أنهم في منزلة بين المنزلتين بين الجنة والنار، كأصحاب الأعراف، ثم أنكر هذا القول ورده.
الخامس: أنهم تحت المشيئة، وهذا قول المرجئة.
السادس: أنهم خدم أهل الجنة، يعني الولدان الذين ذكرهم الله بقوله: (يطوف عليهم ولدان مخلدون)(الواقعة:17).
وذكر عن الدار قطني حديثاً عن أنس مرفوعاً: "سألت ربي للاهين من البشر أن لا يعذبهم، فأعطانيهم فهم خدام أهل الجنة"، وهو حديث ضعيف.
السابع: أن حكمهم حكم آبائهم في الدنيا والآخرة، فكما هم منهم في الدنيا فهم منهم في الآخرة، أي لو أسلم الآباء بعد موت الأطفال كان أولادهم معهم في الحكم.(1/18)
الثامن: أنهم يمتحنون في عرصات القيامة ويرسل إليهم هناك رسول، وإلى كل من لم تبلغه الدعوة، فمن أطاع الرسول دخل الجنة، ومن عصاه دخل النار، وعلى هذا فيكون بعضهم في الجنة وبعضهم في النار، ويكون قوله صلى الله عليه وسلم: "الله أعلم بما كانوا عاملين"، أي: عند امتحانهم واختبارهم يظهر معلوم الله فيهم، ويتبين من يعلم الله فيه الخير أو الشر، ويجازون حسب ما يعلم الله فيهم من الأهلية واستحقاق الثواب أو العقاب.
وقد وردت بذلك أخبار كثيرة، ذكر بعضها ابن كثير عند تفسير قوله تعالى: (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً)(الإسراء:15) وابن القيم في الطبقة الرابعة عشرة في القول الثامن فيهم في آخر طريق الهجرتين. والله أعلم.
كيف حكم عليهم بأنهم من أهل النار؟
السؤال:-
ورد بأن أهل الفترة يختبرون، وورد أن النبي صلى الله عليه وسلم حَكَمَ على بعض من مات قبل الرسالة بالنار فعندما سأله رجل عن أبيه فقال: "أبوك في النار". ثم قال له: "إن أبي وأباك في النار". فكيف حكم عليهم بأنهم من أهل النار مع أنهم ماتوا قبل مجيء الرسالة؟ أليسوا من أهل الفترة ؟
الجواب:-
وردت أحاديث كثيرة في امتحانهم في الدار الآخرة ذكرها ابن كثير في تفسير قوله تعالى: (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً)(الإسراء:15) وابن القيم في كتابه: "طريق الهجرتين" في الطبقة الرابعة عشرة من طبقات المكلفين.
وأشهرها حديث الأسود بن سريع الذي رواه الإمام أحمد بسند صحيح عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أربعة يحتجون يوم القيامة، رجل أصم لا يسمع، ورجل هرم، ورجل أحمق، ورجل مات في الفترة" وفيه: "فيأخذ مواثيقهم ليطيعنه فيرسل إليهم رسول أن ادخلوا النار، فوالذي نفسي بيده لو دخلوها لكانت عليهم برداً وسلاماً"، ثم رواه عن أبي هريرة وقال في آخره: "فمن دخلها كانت عليه برداً وسلاماً، ومن لم يدخلها رد إليها".(1/19)
ومنها حديث أبي سعيد الخدري رواه محمد بن يحيى الذهلي والبزار عن عطية العوفي عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الهالك في الفترة، والمعتوه والمولود يقول الهالك في الفترة لم يأتني كتاب، ويقول المعتوه: رب لم تجعل لي عقلاً أعقل به خيراً ولا شراً، ويقول المولود: رب لم أدرك العقل، فترفع لهم نار فيقال لهم: ردوها. قال: فيردها من كان في علم الله سعيداً لو أدرك العمل، ويمسك عنها من كان في علم الله شقياً لو أدرك العمل، فيقول: إياي عصيتم فكيف لو أن رسلي أتتكم". وفي رواية البزار: "فكيف برسلي بالغيب" قال بزار: لا يعرف إلا من طريق عطية عنه.
ومنها حديث معاذ بن جبل ذكره عن محمد بن المبارك الصوري، بإسناده عنه مرفوعاً: "يؤتى يوم القيامة بالممسوخ عقلاً، وبالهالك في الفترة وبالهالك صغيراً، فيقول الممسوخ: يا رب لو آتيتني عقلاً ما كان من آتيته عقلاً بأسعد مني، وذكر في الهالك في الفترة والصغير نحو ذلك، فيقول الرب عز وجل: إني آمركم بأمر فتطيعوني فيقولون: نعم، فيقول: اذهبوا فادخلوا النار. قال: ولو دخلوها ما ضرتهم، فتخرج عليهم قوابض فيظنون أنها قد أهلكت ما خلق الله من شيء، فيرجعون سراعاً ثم يأمرهم الثانية فيرجعون كذلك، فيقول الرب عز وجل: قبل أن أخلقكم علمت ما أنتم عاملون وعلى علمي خلقتكم وإلى علمي تصيرون، ضميهم، فتأخذهم النار"، وفي إسناده ضعف. لكن يتقوَّى بالشواهد والطرق الأخرى والأحاديث التي ذكرها ابن كثير وغيره.
فهذه الأحاديث بمجموعها تثبت جنس الامتحان في يوم القيامة، حتى لا يعذب الله تعالى من لا يستحق العذاب.
وقد نقل ابن القيم وابن كثير عن ابن عبدالبر أنه قال: "أهل العلم ينكرون أحاديث هذا الباب، لأن الآخرة ليست دار عمل ولا ابتلاء، وكيف يكلفون دخول النار وليس ذلك في وسع المخلوقين، والله تعالى لا يكلف نفساً إلا وسعها" اهـ.
وأجاب ابن القيم بوجوه:(1/20)
منها : أن أهل العلم لم يتفقوا على إنكارها، بل صححوا بعضها، فحديث الأسود رواه أحمد وإسحاق وابن المديني، فهو أجود من كثير من أحاديث الأحكام.
ومنها : أن أبا الحسن الأشعري حكى هذا المذهب عن أهل السنة، فدل على أنهم عملوا بالأحاديث، وذكر البيهقي في الاعتقاد له: أن بعض الأئمة نصوا على الامتحان، وقالوا: لا ينقطع إلا بدخول دار القرار.
ومنها : ما في الصحيح: في الرجل الذي هو آخر أهل الجنة دخولاً الجنة، وأنه يعطي ربه عهوداً ومواثيق أن لا يسأل غير ما سأل، ثم يسأل، فيقول الله له: ويحك يا ابن آدم ما أغدرك، فالغدر مخالفة للعهد الذي عاهد عليه ربه.
ومنها : قوله تعالى: (ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون)(القلم:42)، فهو صريح في أن الله يدعوهم إلى السجود في القيامة، وأن الكفار لا يستطيعونه إلى آخر كلامه رحمه الله تعالى.
فأما الذين جزم لهم النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم من أهل النار، فلعله قد اطلع على ذلك كما تقدم أنه رأى عمرو بن لحي يجر قصبه في النار، أي أمعاءه؛ لأنه أول من غيَّر دين إبراهيم، وهكذا قوله في حديث ابن مسعود عند أبي داود: "الوائدة والموؤودة في النار"، وفي رواية: "إلا أن تدرك الوائدة الإسلام فتسلم"، ذكره ابن كثير، وقال: إسناده حسن.(1/21)
وحيث إن مشركي العرب عندهم بقية من دين إسماعيل، ولكنهم قلدوا آباءهم في الكفر وعبادة الأصنام. فلا مانع من تعذيبهم على ذلك، والحكم عليهم بأنهم من أهل النار، فإن كان منهم من لم تقم عليهم الحجة، وعاش في جهل وَبُعْدٍ عن شرع الله، ولم يتمكن من البحث عن الدين الصحيح، فله حكم أهل الفترة، وحكم أولاد المشركين، وأما من كان قادراً على البحث وقد أعطاه عقلاً وإدراكاً وعنده آثار وبقايا من دين إبراهيم وإسماعيل، وأصر على عبادة غير الله وهو يعترف بأن الله تعالى هو الرب خالق كل شيء، بما تلقاه عن آبائه وأجداده، ومع ذلك يخلص العبادة لله وحده إذا كان في لجة البحر، ويعلم أنه لا ينجي منه إلا الله تعالى، ثم يعود إلى الشرك، كما هو حال مشركي العرب، فلا مانع من أن يجزم لهم بأنهم من أهل النار إذا ورد فيهم حديث ينص على ذلك، والله يحكم بين عباده، ولا يظلم ربك أحداً، ولا يعذب إلا من يستحق العذاب، ويعترف على نفسه كما حكى الله عنهم قولهم: (وقالوا لو كُنّا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير)(الملك:10).
فهذا ما ظهر لي، ومن لديه جواب غير هذا وله وجه من النظر فله أن يقول به.
وقد كتب السيوطي رسالة في نجاة أبوي النبي صلى الله عليه وسلم وهي مطبوعة في " الحاوي " ، ولكنه تكلف فيها وردَّ الأحاديث الصحيحة، وأنكر عليه شيخنا عبدالعزيز بن باز وغيره، والله أعلم وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.(1/22)