وقد يكون القرب قرب الملائكة لأنه ذكر في سياق الآية قرينة تدل على قرب الملائكة حيث قال: { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ } [ق:16/17]، فيجوز هنا أن يكون القرب قرب الملكين .
وأما القرب الوارد في آية الواقعة فهو مقيد بحال الاحتضار لأن الذي يحضر وقتها الملائكة، كما قال - عز وجل -: { حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا } [الأنعام:61] .
كما أن قوله وأنتم لا تبصرون فيه دليل على أنهم الملائكة، إذ يدل على أن هذا القريب في نفس المكان ولكن لا نبصره (1)، فالله - عز وجل - قريب من فوق عرشه، عليم بالسرائر، يعلم ما تكنه الضمائر، وهو قريب بالعلم والقدرة فيما يتعلق بالخلائق أجمعين وقريب باللطف والنصرة وهذا خاص بالمؤمنين، من تقرب منه شبرا تقرب منه زراعا ومن تقرب منه زراعا تقرب منه باعا، وهو أقرب إلى العبد من عنق راحلته، وهو أيضا قريب من عبده بقرب بملائكته الذين يطلعون على سره ويصلون إلى مكنون قلبه (2) .
دلالة الاسم على أوصاف الله .
اسم الله القريب يدل على ذات الله وعلى صفة القرب بدلالة المطابقة، وعلى ذات الله وحدها بالتضمن، وعلى الصفة وحدها بالتضمن، روى مسلم من حديث أبي موسى - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( والذي تَدْعُونَهُ أَقْرَبُ إِلَى أَحَدِكُمْ مِنْ عُنُقِ رَاحِلَةِ أَحَدِكُمْ ) (3)، وهذا القرب وصف ذاتي لا يقتضي مخالطة أو مماسة، فهو قريب من فوق عرشه بكمال وصفه غير ملاصق لخلقه .
__________
(1) مجموع الفتاوى 5/502، 6/ 19، والقواعد المثلى لابن عثيمين ص 65 .
(2) انظر طريق الهجرتين ص44، واجتماع الجيوش الإسلامية ص68، وجامع البيان 2/92.
(3) مسلم في الذكر والدعاء والتوبة، باب استحباب خفض الصوت بالذكر 4/2077 (2704) .(2/265)
والقرب إن تعلق بالمشيئة فهو وصف فعل، كما ورد في قوله تعالى: { وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً } [مريم:52]، وقال - عز وجل -: { فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ المُقَرَّبِينَ } [الواقعة:88]، وقال: { عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا المُقَرَّبُونَ } [المطففين:28]، وعند مسلم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( أَقْرَبُ مَا يَكُونُ العَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ فَأَكْثِرُوا الدُّعَاءَ ) (1) .
وعند الترمذي وصححه الألباني من حديث أبي أمامة - رضي الله عنه - أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ( أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الرَّبُّ مِنَ العَبْدِ في جَوْفِ الليْلِ الآخِرِ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَكُونَ مِمَّنْ يَذْكُرُ الله في تِلكَ السَّاعَةِ فَكُنْ ) (2)، وعند البخاري من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَي بِشِبْرٍ تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَي ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعًا، وَإِنْ أتاني يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً ) (3) .
واسم الله القريب يدل باللزوم على الحياة والقيومية والسمع والبصر والعلم والقدرة والكرم والسعة وغير ذلك من أوصاف الكمال، واسم الله القريب دل على صفة من صفات الذات والأفعال .
الدعاء باسم الله القريب دعاء مسألة .
__________
(1) مسلم في الصلاة، باب ما يقال في الركوع والسجود 1/350 (482) .
(2) الترمذي في الدعوات5/569 (3579)، وانظر صحيح الجامع (1173) .
(3) البخاري في التوحيد، باب السؤال بأسماء الله تعالى 6/ 2694 (6970) .(2/266)
ورد الدعاء بالاسم المطلق في قوله - عز وجل -: { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَليَسْتَجِيبُوا لِي وَليُؤْمِنُوا بِي لَعَلهُمْ يَرْشُدُونَ } [البقرة:186] .
وورد الدعاء بالوصف عند أحمد وصححه الألباني من حديث ابن رفاعة الزرقي - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يدعو: ( اللهمَّ لاَ قَابِضَ لِمَا بَسَطْتَ، وَلاَ بَاسِطَ لِمَا قَبَضْتَ، وَلاَ هَادِي لِمَا أَضْلَلتَ وَلاَ مُضل لِمَنْ هَدَيْتَ، وَلاَ مُعْطِي لِمَا مَنَعْتَ، وَلاَ مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ، وَلاَ مُقَرِّبَ لِمَا بَاعَدْتَ، وَلاَ مُبَاعِدَ لِمَا قَرَّبْتَ، وأعوذ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا أَعْطَيْتَنَا، وَشَرِّ مَا مَنَعْتَ منا ) (1)، وعند مسلم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( اللهُمَّ إِنِّي أَتَّخِذُ عِنْدَكَ عَهْدًا لَنْ تُخْلِفَنِيهِ فَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ؛ فأي الْمُؤْمِنِينَ آذَيْتُهُ شَتَمْتُهُ لَعَنْتُهُ جَلَدْتُهُ فَاجْعَلْهَا لَهُ صَلاَةً وَزَكَاةً وَقُرْبَةً تُقَرِّبُهُ بِهَا إِلَيْك يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) (2) .
__________
(1) المسند 3/424 (15891) وانظر ظلال الجنة (381) .
(2) مسلم في البر والصلة والأدب، باب من لعنه النبي S أو سبه أو دعا عليه 4/2008 (2601) .(2/267)
وروى الترمذي وصحح إسناده الألباني من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( اللهُمَّ أَحْيِنِي مِسْكِينًا وَأَمِتْنِي مِسْكِينًا وَاحْشُرْنِي فِي زُمْرَةِ الْمَسَاكِينِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: لِمَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: إِنَّهُمْ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ قَبْلَ أَغْنِيَائِهِمْ بِأَرْبَعِينَ خَرِيفًا، يَا عَائِشَةُ لاَ تَرُدِّي الْمِسْكِينَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ، يَا عَائِشَةُ أَحِبِّي الْمَسَاكِينَ وَقَرِّبِيهِمْ فَإِنَّ اللهَ يُقَرِّبُكِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) (1) .
وروى الترمذي وصححه الألباني من حديث معاذ بن جبل - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( اللهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ، وَتَرْكَ الْمُنْكَرَاتِ، وَحُبَّ الْمَسَاكِينِ، وَأَنْ تَغْفِرَ لِي وَتَرْحَمَنِي، وَإِذَا أَرَدْتَ فِتْنَةَ قَوْمٍ فَتَوَفَّنِي غَيْرَ مَفْتُونٍ، أَسْأَلُكَ حُبَّكَ وَحُبَّ مَنْ يُحِبُّكَ، وَحُبَّ عَمَلٍ يُقَرِّبُ إِلَى حُبِّكَ، قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : إِنَّهَا حَقٌّ فَادْرُسُوهَا ثُمَّ تَعَلمُوهَا ) (2)، وروى الطبراني وصححه الشيخ الألباني من حديث أبي وائل - رضي الله عنه - عن أبي نحيلة - رضي الله عنه - رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - رمى بسهم فقيل له: ( انزعه فقال: اللهم انقص من الوجع ولا تنقص من الأجر، فقيل له: ادع، فقال: اللهم اجعلني من المقربين، واجعل أمي من الحور العين ) (3) .
__________
(1) الترمذي في كتاب الزهد، باب ما جاء أن فقراء المهاجرين يدخلون الجنة قبل أغنيائهم 4/577 (2352) وانظر صحيح الجامع (1261) .
(2) الترمذي في تفسير القرآن، باب ومن سورة ص 5/368 (3235)، مشكاة المصابيح (748) .
(3) المعجم الكبير 22/ 378 (944)، الأدب المفرد 1/177 (504) .(2/268)
وروى ابن ماجه وصححه الألباني من حديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علمها أن تقول: ( اللهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ مِنَ الْخَيْرِ كُلِّهِ عَاجِلِهِ وَآجِلِهِ، مَا عَلِمْتُ مِنْهُ وَمَا لَمْ أَعْلَمْ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الشَّرِّ كُلِّهِ عَاجِلِهِ وَآجِلِهِ، مَا عَلِمْتُ مِنْهُ وَمَا لَمْ أَعْلَمْ، اللهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ مِنْ خَيْرِ مَا سَأَلَكَ عَبْدُكَ وَنَبِيُّكَ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا عَاذَ بِهِ عَبْدُكَ وَنَبِيُّكَ اللهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْجَنَّةَ وَمَا قَرَّبَ إِلَيْهَا مِنْ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ النَّارِ وَمَا قَرَّبَ إِلَيْهَا مِنْ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ، وَأَسْأَلُكَ أَنْ تَجْعَلَ كُل قَضَاءٍ قَضَيْتَهُ لِي خَيْرًا ) (1) .
الدعاء باسم الله القريب دعاء عبادة .
__________
(1) ابن ماجه في الدعاء، باب الجوامع من الدعاء 2/ 1264 (3846)، صحيح الجامع (1276) .(2/269)
أثر الاسم على سلوك العبد هو سعيه في ابتغاء القرب من الرب، والتزامه بكل عمل يؤدي إلى مرضاته وقربه، قال تعالى: { وَمِنَ الأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللهِ وَصَلوَاتِ الرَّسُول أَلا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لهُمْ سَيُدْخِلهُمُ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } [التوبة:99]، وقال - عز وجل -: { أُولئِكَ الذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الوَسِيلةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً } [الإسراء:57]، وروى البخاري من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: ( إِنَّ اللهَ قَال: مَنْ عَادَى لي وَليًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلي عَبْدِي بِشَيءٍ أَحَبَّ إِلي مِمَّا افْتَرَضْتُ عَليْهِ، وَمَا يَزَال عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلي بِالنَّوَافِل حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ التِي يَبْطُشُ بِهَا، وَرِجْلهُ التِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلنِي لأُعْطِيَنَّهُ، وَلئِنِ اسْتَعَاذَنِي لأُعِيذَنَّهُ، وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيءٍ أَنَا فَاعِلهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ المُؤْمِنِ، يَكْرَهُ المَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ ) (1) .
__________
(1) البخاري في الرقاق، باب التواضع 5/2384 (6137) .(2/270)
ومن دعاء العبادة أيضا أن يبادر بالتوبة والأوبة قريبا، وأن يكون هينا لينا سهلا قريبا، وأن يقيم حدود الله فيمن كان بعيدا أو قريبا، قال تعالى: { إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلى اللهِ للذِينَ يَعْمَلونَ السُّوءَ بِجَهَالةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَليْهِمْ وَكَانَ اللهُ عَليماً حَكِيماً } [النساء: 17]، وروى الطبراني وقال الشيخ الألباني: صحيح لغيره من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - قيل: ( يا رسُولَ الله مَن يحرُم عَلى النَّار؟ قَال: الهَينُ اللينُ السَّهل القَريب ) (1)، وعند ابن ماجة وحسنه الألباني من حديث عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( أَقِيمُوا حُدُودَ اللهِ في القَرِيبِ وَالبَعِيدِ وَلاَ تَأْخُذْكُمْ في اللهِ لوْمَةُ لاَئِمٍ ) (2)، قال تعالى: { وَمَا أَمْوَالكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلفَى إِلا مَنْ آمَنَ وَعَمِل صَالحاً فَأُولئِكَ لهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلوا وَهُمْ فِي الغُرُفَاتِ آمِنُونَ } [سبأ:37] .
أما من جهة التسمية بعبد القريب والتعبد لهذا الاسم فلم يتسم به أحد من السلف أو الخلف في مجال ما أجرينا عليه البحث الحاسوبي، وأيضا جميع محركات البحث على الإنترنت، وهنيئا لمن سمى نفسه أو ولده بهذا الاسم؛ فسيكون أول من تعبد لله به فيما نعلم، والله أعلم .
********************************
53- الله - جل جلاله - المُجِيبُ
********************************
الدليل على ثبوت الاسم وإحصائه .
__________
(1) المعجم الأوسط 8/156 (8256)، صحيح الترغيب والترهيب (1746) .
(2) ابن ماجه في الحدود، باب إقامة الحدود 2/849 (2540)، صحيح الترغيب والترهيب (2352) .(2/271)
سمى الله نفسه المجيب على سبيل الإطلاق والتعظيم، وقد ورد الاسم معرفا ومنونا مرادا به العلمية ودالا على كمال الوصفية في قوله تعالى: { وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ } [الصافات:75]، وقوله سبحانه: { فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ } [هود:61]، ولم يرد الاسم في السنة إلا في حديث سرد الأسماء عند الترمذي وابن ماجة .
شرح الاسم وتفسير معناه .
المجيب في اللغة اسم فاعل، فعله أجاب يجيب جوابا وإجابة واستجابة، والإجابة صدى الكلام أو ترديده، أو المحاورة في الكلام ورد السؤال (1)، وعند البخاري من حديث عَائِشَةَ رضي الله عنها أنها قالت: ( وَوَجَدْتُ عِقْدِي بَعْدَ مَا اسْتَمَرَّ الْجَيْشُ فَجِئْتُ مَنَازِلَهُمْ وَلَيْسَ بِهَا مِنْهُمْ دَاعٍ وَلاَ مُجِيبٌ ) (2)، والإجابة كذلك إجابة المحتاج بالعطية والنوال، وإعطاء الفقير عند السؤال، فللمجيب معنيان، إجابة السائل بالعلم وإجابة النائل بالمال (3) .
__________
(1) لسان العرب 1/283 .
(2) البخاري فى المغازي، باب حديث الإفك 4/1518 (3910) .
(3) شرح أسماء الله الحسنى للرازي ص281، وتفسير أسماء الله للزجاج ص51 .(2/272)
والمُجِيب سبحانه هو الذي يُقابِل السؤالَ والدُّعاء بالقَبُول والعَطاء، وهو المجيب الذي يجيب المضطر إذا دعاه ويغيث الملهوف إذا ناداه، ويكشف السوء عن أوليائه ويرفع البلاء عن أحبائه، وكل الخلائق مفتقرة إليه، ولا قوام لحياتها إلا عليه، لا ملجأ لها منه إلا إليه، قال سبحانه: { يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُل يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ } [الرحمن:29]، فجميع الخلائق تصمد إليه وتعتمد عليه (1)، وشرط إجابة الدعاء صدق الإيمان والولاء، فالله حكيم في إجابته، قد يعجل أو يؤجل على حسب السائل والسؤال، أو يلطف بعبده فيختار له ما يناسب الحال، أو يدخر ما ينفعه عند المصير والمآل، لكن الله تعالى يجيب عبده حتما، ولا يخيب ظنه أبدا، كما وعد وقال وهو أصدق القائلين: { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَليَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلهُمْ يَرْشُدُونَ } [البقرة:186]، وقال: { وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ } [غافر:60] .
__________
(1) الاعتقاد للبيهقي ص60، والأسماء والصفات ص88 .(2/273)
ومن حديث أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - أن رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: ( مَا مِنْ رَجُلٍ يَدْعُو اللهَ بِدُعَاءٍ إِلاَّ اسْتُجِيبَ لَهُ، فَإِمَّا أَنْ يُعَجَّلَ لَهُ في الدُّنْيَا وَإِمَّا أَنْ يُدَّخَرَ لَهُ في الآخِرَةِ، وَإِمَّا أَنْ يُكَفَّرَ عَنْهُ مِنْ ذُنُوبِهِ بِقَدْرِ مَا دَعَا مَا لَمْ يَدْعُ بِإِثْمٍ أَوْ قَطِيعَةِ رَحِمٍ أَوْ يَسْتَعْجِلُ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ وَكَيْفَ يَسْتَعْجِلُ؟ قَالَ: يَقُولُ دَعَوْتُ رَبِّي فَمَا اسْتَجَابَ لي ) (1) .
دلالة الاسم على أوصاف الله .
اسم الله المجيب يدل على ذات الله وعلى صفة الاستجابة بدلالة المطابقة، وعلى أحدهما بالتضمن، قال تعالى: { إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلفٍ مِنَ المَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ } [لأنفال:9]، وقال: { فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ } [يوسف:34] .
وعند البخاري من حديث عائشة رضي الله عنها: ( أَنَّ يَهُودَ أَتَوُا النبي فَقَالُوا السَّامُ عَلَيْكُمْ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: عَلَيْكُمْ وَلَعَنَكُمُ الله، وَغَضِبَ الله عَلَيْكُمْ قَالَ: مَهْلاً يَا عَائِشَةُ عَلَيْكِ بِالرِّفْقِ وَإِيَّاكِ وَالعُنْفَ وَالفُحْشَ، قَالَتْ: أَوَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالُوا؟ قَالَ: أَوَلَمْ تسمعي مَا قُلتُ: رَدَدْتُ عَلَيْهِمْ فَيُسْتَجَابُ لي فِيهِمْ وَلاَ يُسْتَجَابُ لَهُمْ في ) (2) .
__________
(1) صحيح ما عدا قوله: ( وإما أن يكفر عنه من ذنوبه بقدر ما دعا ) انظر صحيح الجامع (5714) وما بين قوسين ضعيف انظر ضعيف الجامع حديث رقم (5177) .
(2) البخاري في الأدب، باب لم يكن النبي S فاحشا ولا متفحشا 5/ 2243 (5683) .(2/274)
وعند البخاري من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( يُسْتَجَابُ لأَحَدِكُمْ مَا لَمْ يَعْجَل يَقُولُ دَعَوْتُ فَلَمْ يُسْتَجَبْ لي ) (1)، وعند مسلم من حديث عبد الله بن عباس - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( وَأَمَّا السُّجُودُ فَاجْتَهِدُوا في الدُّعَاءِ فَقَمِنٌ أَنْ يُسْتَجَابَ لَكُمْ ) (2)، واسم الله المجيب يدل باللزوم على الحياة والقيومية والعلم والقدرة والسمع والبصر واللطف والقرب والود والحب، وغير ذلك من صفات الكمال واسم الله المجيب دل على صفة من صفات الأفعال .
الدعاء باسم الله المجيب دعاء مسألة .
ورد دعاء المسألة بالاسم المطلق في قول الله تعالى: { وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ } [الصافات:75]، وورد الدعاء بالوصف في قوله: { أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ } [النمل:62] .
وورد كذلك في قوله تعالى: { رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَارِ رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَادَ فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ } [آل عمران:193/195] .
__________
(1) الموضع السابق، باب يستجاب للعبد ما لم يعجل 5/ 2335 (5981) .
(2) مسلم في الصلاة، باب النهي عن قراءة القرآن في الركوع والسجود 1/348 (479) .(2/275)
وقال - عز وجل -: { وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الذِينَ لا يَعْلَمُونَ } [يونس:89]، وقال تعالى: { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَليَسْتَجِيبُوا لِي وَليُؤْمِنُوا بِي لَعَلهُمْ يَرْشُدُونَ } [البقرة:186] .
وروى البخاري من حديث عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - أنِ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( مَنْ تَعَارَّ مِنَ الليْلِ فَقَالَ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ الله وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلكُ، وَلَهُ الحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ؛ الحَمْدُ للهِ، وَسُبْحَانَ الله، وَلاَ إِلَهَ إِلاَّ الله، وَالله أَكْبَرُ، وَلاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِالله ثُمَّ قَالَ، اللهمَّ اغْفِرْ لِي، أَوْ دَعَا اسْتُجِيبَ، فَإِنْ تَوَضَّأَ وَصَلى قُبِلَتْ صَلاَتُهُ ) (1)، وعنده أيضا من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( يَنْزِلُ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى كُل لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ الليْلِ الآخِرُ يَقُولُ مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ ) (2) .
__________
(1) البخاري في التهجد، باب فضل من تعار من الليل فصلى 1/387 ( 1103) .
(2) البخاري في التهجد، باب الدعاء والصلاة من آخر الليل 1/384 (1094) .(2/276)
وروى أبو داود وحسنه الألباني من حديث عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: ( شكى النَّاسُ إِلَى رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - قُحُوطَ المَطَرِ فَأَمَرَ بِمِنْبَرٍ فَوُضِعَ لَهُ فِي المُصَلى وَوَعَدَ النَّاسَ يَوْمًا يَخْرُجُونَ فِيهِ قَالَتْ عَائِشَةُ: فَخَرَجَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - حِينَ بَدَا حَاجِبُ الشَّمْسِ فَقَعَدَ عَلَى المِنْبَرِ فَكَبَّرَ - صلى الله عليه وسلم - وَحَمِدَ الله عَزَّ وَجَل ثُمَّ قَالَ: إِنَّكُمْ شَكَوْتُمْ جَدْبَ دِيَارِكُمْ وَاسْتِئْخَارَ المَطَرِ عَنْ إِبَّانِ زَمَانِهِ عَنْكُمْ وَقَدْ أَمَرَكُمُ الله - عز وجل - أَنْ تَدْعُوهُ وَوَعَدَكُمْ أَنْ يَسْتَجِيبَ لَكُمْ ) (1)، وروى الترمذي وصححه الألباني من حديث سعد - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( اللهمَّ اسْتَجِبْ لِسَعْدٍ إِذَا دَعَاكَ ) (2) .
__________
(1) أبو داود في الاستسقاء، باب رفع اليدين في الاستسقاء1/304 (1173)، صحيح الجامع (2310) .
(2) الترمذي في المناقب، باب مناقب سعد بن أبي وقاص5/649 (3751)، مشكاة المصابيح (6116) .(2/277)
وعند الطبراني في الكبير أنه قيل لسعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - متى أصبت الدعوة قال ثم يوم بدر كنت أرمي بين يدي النبي - صلى الله عليه وسلم - فأضع السهم في كبد القوس أقول: اللهم زلزل أقدامهم، وأرعب قلوبهم، وافعل بهم وافعل؛ فيقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( اللهم استجب لسعد ) (1)، وروى الترمذي وصححه الألباني من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( ادْعُوا الله وَأَنْتُمْ مُوقِنُونَ بِالإِجَابَةِ، وَاعْلَمُوا أَنَّ الله لاَ يَسْتَجِيبُ دُعَاءً مِنْ قَلبٍ غَافِلٍ لاَهٍ ) (2)، وعند أحمد وحسنه الألباني من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: ( القُلُوبُ أَوْعِيَةٌ وَبَعْضُهَا أَوْعَى مِنْ بَعْضٍ؛ فَإِذَا سَأَلتُمُ الله - عز وجل - أَيُّهَا النَّاسُ فَاسْأَلُوهُ وَأَنْتُمْ مُوقِنُونَ بِالإِجَابَةِ؛ فَإِنَّ الله لاَ يَسْتَجِيبُ لِعَبْدٍ دَعَاهُ عَنْ ظَهْرِ قَلبٍ غَافِلٍ ) (3) .
وعند مسلم من حديث زيد بن الأرقم - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( اللهمَّ إني أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ، وَالْبُخْلِ وَالْجُبْنِ وَالْهَرَمِ، وَعَذَابِ الْقَبْرِ، اللهمَّ آتِ نفسي تَقْوَاهَا، وَزَكِّهَا أَنْتَ خَيْرُ مَنْ زَكَّاهَا، أَنْتَ وَلِيُّهَا وَمَوْلاَهَا، اللهمَّ إني أَعُوذُ بِكَ مِنْ قَلْبٍ لاَ يَخْشَعُ وَمِنْ نَفْسٍ لاَ تَشْبَعُ وَعِلْمٍ لاَ يَنْفَعُ وَدَعْوَةٍ لاَ يُسْتَجَابُ لَهَا ) (4) .
__________
(1) الطبراني في المعجم الكبير 1/143 (318)، مشكاة المصابيح (6116) .
(2) الترمذي في الدعوات 5/517 (3479)، السلسلة الصحيحة (594) .
(3) المسند 2/177 (6655)، صحيح الترغيب والترهيب (1652) .
(4) مسلم في الذكر والدعاء والتوبة، باب التعوذ من شر ما عمل 4/2088 (2722) .(2/278)
وعند البخاري في الأدب المفرد وصححه الألباني من حديث عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه قام يدعو عام الرمادة فقال: ( اللهم اجعل رزقهم على رؤوس الجبال؛ فاستجاب الله له وللمسلمين، فقال حين نزل به الغيث: الحمد لله، فوالله لو أن الله لم يفرجها ما تركت أهل بيت من المسلمين لهم سعة إلا أدخلت معهم أعدادهم من الفقراء، فلم يكن اثنان يهلكان من الطعام على ما يقيم واحدا ) (1) .
الدعاء باسم الله المجيب دعاء عبادة .
دعاء العبادة حالة إيمانية يكون فيها العبد على يقين بأن الله تعالى يجيب دعوة الداعي إذا دعاه، وأنه لا يخيب رجاء من التجأ إليه أو اعتمد عليه، ومن دعاء العبادة أن يتخير وقت الدعاء الذي ندب إليه المجيب، كوقت نزوله إلى السماء يوم عرفة، وفي جوف الليل قبيل الفجر؛ فهو أعظم وقت لنيل المغفرة والثواب، لأن المجيب - عز وجل - ينزل إلى السماء وينادي على عباده بالتوبة والمغفرة، وقد تقدم حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - في نزول الرب حين يبقى ثلث الليل الآخر، وعند الترمذي وحسنه الألباني من حديث أبي أمامة - رضي الله عنه - أنه قال: ( قِيلَ يَا رَسُولَ اللهِ: أَيُّ الدُّعَاءِ أَسْمَعُ؟ قَالَ: جَوْفَ الليْلِ الآخِرِ، وَدُبُرَ الصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَاتِ ) (2) .
__________
(1) البخاري في الأدب المفرد 1/198 (562) .
(2) الترمذي في الدعوات 5/526 (3499)، مشكاة المصابيح (968) .(2/279)
ومن دعاء العبادة ألا يتعجل المجيب - عز وجل - في إجابة الدعاء، وألا يجهر بالنداء اتقاءً للفتنة والرياء، وأن يحذر من التجاوز والاعتداء، وعند أحمد وصححه الألباني من حديث أبي سعيد - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( ما مِنْ مُسْلِمٍ يَدْعُو بِدَعْوَةٍ لَيْسَ فِيهَا إِثْمٌ وَلاَ قَطِيعَةُ رَحِمٍ إِلاَّ أَعْطَاهُ اللهُ بِهَا إِحْدَى ثَلاَثٍ: إِمَّا أَنْ تُعَجَّلَ لَهُ دَعْوَتُهُ، وَإِمَّا أَنْ يَدَّخِرَهَا لَهُ فِي الآخِرَةِ، وَإِمَّا أَنْ يَصْرِفَ عَنْهُ مِنَ السُّوءِ مِثْلَهَا، قَالُوا: إِذاً نُكْثِرُ، قَالَ: اللهُ أَكْثَرُ ) (1) .
ومن دعاء العبادة أيضا أن يكون المسلم متواضعا هينا لينا قريبا من إخوانه مجيبا لدعوتهم، روى الطبراني وصححه الألباني من حديث ابن عباس - رضي الله عنه -: ( أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يجلس على الأرض، ويأكل على الأرض، ويعتقل الشاة، وَيُجِيبُ دَعْوَةَ المَمْلوكِ على خبز الشعير ) (2)، وعند الترمذي وصححه الألباني من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: ( للمُؤْمِنِ عَلى المُؤْمِنِ سِتُّ خِصَال .. وذكر منها .. وَيُجِيبُهُ إِذَا دَعَاهُ ) (3) .
أما من جهة التسمية بإضافة التعبد للاسم فسمي به عبد المجيب بن أبي القاسم عبد الله بن زهير بن زهير المولى الكبير الصالح أبو محمد البغدادي، روى عنه الضياء وابن خليل والمنذري والنجيب وغيرهم، توفي بحماة في المحرم سنة أربع وست مئة وله سبع وسبعون سنة (4) .
********************************
54- الله - جل جلاله - الغَفُورُ
__________
(1) المسند (11432) وصححه الألباني في تخريج الطحاوية ص522 .
(2) المعجم الكبير 12/67 (12494)، صحيح الجامع (4915) .
(3) الترمذي في كتاب الأدب، باب في حق المسلم على المسلم 2/357 (2633) .
(4) سير أعلام النبلاء للذهبي 21/472 .(2/280)
********************************
الدليل على ثبوت الاسم وإحصائه .
اسم الله الغفور ورد مطلقا معرفا ومنونا محمولا عليه المعنى مسندا إليه مرادا به العلمية ودالا على كمال الوصفية، ففي أحد عشر موضعا من القرآن ورد معرفا بالألف واللام كما في قوله تعالى: { نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيم } [الحجر49]، وقوله سبحانه: { وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ } [الكهف:58]، وفي اثنين وسبعين موضعا ورد منونا كقوله تعالى: { وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } [البقرة:199] .
وعند البخاري من حديث عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو أن أبا بَكْرٍ الصديق - رضي الله عنه - قَالَ لِلنَّبِي - صلى الله عليه وسلم - عَلِّمْنِي دُعَاءً أَدْعُو بِهِ فِي صَلاَتِي قَالَ: ( قُلِ اللهُمَّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْمًا كَثِيرًا وَلاَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ أَنْتَ، فَاغْفِرْ لِي مَغْفِرَةً مِنْ عِنْدِكَ، وَارْحَمْنِي، إِنَّكَ أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ) (1)، وعند أبي داود وصححه الشيخ الألباني من حديث وَاثِلَةَ بْنِ الأَسْقَعِ - رضي الله عنه - أنه قَالَ: ( صَلي بِنَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: اللهُمَّ إِنَّ فُلاَنَ بْنَ فُلاَنٍ فِي ذِمَّتِكَ وَحَبْلِ جِوَارِكَ، فَقِهِ مِنْ فِتْنَةِ الْقَبْرِ وَعَذَابِ النَّارِ، وَأَنْتَ أَهْلُ الْوَفَاءِ وَالْحَمْدِ، اللهُمَّ فَاغْفِرْ لَهُ وَارْحَمْهُ إِنَّكَ أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ) (2) .
شرح الاسم وتفسير معناه .
__________
(1) البخاري في باب الدعاء قبل السلام 1/286 (799) .
(2) أبو داود في الجنائز، باب الدعاء للميت 3/211 (3202)، صحيح أبي داود2/617 (2742) .(2/281)
الغفور في اللغة من صيغ المبالغة على وزن فعول التي تدل على الكثرة والقوة في الفعل، فعله غفر يغفر غفرا ومغفرة، وأَصل الغَفرِ التغطية والستر، وكل شيء سترته فقد غفرته والمغفر غطاء الرأس، والمغفرة التغطية على الذنوب والعفو عنها، غفرَ الله ذنوبه أَي سترها (1)، وعند البخاري من حديث عبد الله بن عمر - رضي الله عنه - أن رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: ( إِن اللهَ يُدْنِي الْمُؤْمِنَ فَيَضَعُ عَلَيْهِ كَنَفَهُ وَيَسْتُرُهُ، فَيَقُولُ أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا؟ أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ أَيْ رَبِّ، حَتَّى إِذَا قَرَّرَهُ بِذُنُوبِهِ وَرَأَى فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ هَلَكَ، قَالَ: سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا، وَأَنَا أَغْفِرُهَا لَكَ الْيَوْمَ، فَيُعْطَى كِتَابَ حَسَنَاتِهِ، وَأَمَّا الْكَافِرُ وَالْمُنَافِقُونَ فَيَقُولُ الأَشْهَادُ هَؤُلاَءِ الذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلاَ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ) (2) .
والغفور سبحانه هو الذي يستر العيوب ويغفر الذنوب، ومهما بلغ الذنب أو تكرر من العبد وأراد الرجوع إلى الرب، فإن باب المغفرة مفتوح في كل وقت، ما لم تغرر النفس أو تطلع الشمس من مغربها، واسم الله الغفور يدل على دعوة العباد للاستغفار بنوعيه، العام والخاص، فالاستغفار من العبد على نوعين:
__________
(1) لسان العرب 5/25، وكتاب العين 4/ 407 .
(2) البخاري في المظالم، باب قول الله تعالى ألا لعنة الله على الظالمين 2/862 (2309) .(2/282)
الأول: الاستغفار العام وهو الاستغفار من صغائر الذنوب، وما يدور من خواطر السوء في القلوب، فالقلب فيه منطقتان: منطقة حديث النفس ومنطقة الكسب فمن المنطقة الأولى تخرج الخواطر التي تتطلب الاستغفار العام، وهي خواطر النفس الأمارة كما ورد في قوله الله تعالى: { وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ } [يوسف:53]، وعند البخاري عن أَبي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( وَاللهِ إِنِّي لأَسْتَغْفِرُ اللهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ فِي الْيَوْمِ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ مَرَّةً ) (1)، وعند مسلم من حديث الأَغرِّ الْمُزَنِيِّ - رضي الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: ( إِنَّهُ لَيُغَانُ عَلَى قَلْبِي وَإِنِّي لأَسْتَغْفِرُ اللهَ فِي الْيَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ ) (2) .
الثاني: الاستغفار الخاص وهو متعلق بمنطقة الكسب بعد تعمد الفعل واقتراف الإثم في اللسان والجوارح كقوله تعالى: { وَالذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ التِي حَرَّمَ اللهُ إِلا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً إِلا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً } [الفرقان:70] .
__________
(1) البخاري في الدعوات، باب استغفار النبي S في اليوم والليلة 5/2324 (5948) .
(2) مسلم في الذكر والدعاء والتوبة، باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن 4/2075 (2702) .(2/283)
والله عز وجل خلق البشر بإرادة حرة مخيرة بين الحق والباطل والخطأ والصواب وأعلمهم أنه الغفور التواب، ليظهر لهم الكمال في أسمائه ويحقق فيهم مقتضى أوصافه لتعود المنفعة عليهم لأنه الغني عنهم أجمعين، روى الترمذي وحسنه الشيخ الألباني من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( كُلُّ ابْنِ آدَمَ خَطَّاءٌ وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ ) (1)، وعند مسلم من حديث أَبِي أَيُّوبَ - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( لَوْ أَنَّكُمْ لَمْ تَكُنْ لَكُمْ ذُنُوبٌ يَغْفِرُهَا اللهُ لَكُمْ لَجَاءَ اللهُ بِقَوْمٍ لَهُمْ ذُنُوبٌ يَغْفِرُهَا لَهُمْ ) (2) .
دلالة الاسم على أوصاف الله .
والغفور - عز وجل - يدل على ذات الله وعلى صفة المغفرة بدلالة المطابقة، وعلى أحدهما بدلالة التضمن، قال تعالى: { وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ العِقَابِ } [الرعد:6]، وقال: { إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ المَغْفِرَةِ } [النجم:32]، وقال سبحانه وتعالى: { وَلَئِنْ قُتِلتُمْ فِي سَبِيلِ الله أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ الله وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ } [آل عمران:157]، وقال تعالى: { اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ الله لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِالله وَرَسُولِهِ وَالله لا يَهْدِي القَوْمَ الفَاسِقِينَ } [التوبة:80] .
__________
(1) الترمذي في صفة القيامة 4/659 (2499) وانظر صحيح الجامع حديث رقم (4515) .
(2) مسلم في كتاب التوبة، باب سقوط الذنوب بالاستغفار توبة 4/2105 (2748)، وانظر في المعنى اللغوي لسان العرب 3/453، وكتاب العين 8/99، والمفردات ص 860 .(2/284)
واسم الله الغفور يدل باللزوم على الحياة والقيومية والعزة والأحدية والرضا والحب واللطف والود والرأفة والرحمة والكرم والحكمة وغير ذلك من أوصاف الكمال، واسم الله الغفور دل على صفة من صفات الأفعال .
الدعاء باسم الله الغفور دعاء مسألة .
ورد الدعاء بالاسم المطلق قوله تعالى عن موسى - عليه السلام -: { قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } [القصص:16]، وقول الله - عز وجل - عن امرأة العزيز: { وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ } [يوسف:53]، وقوله تعالى عن إبراهيم - عليه السلام -: { رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } [إبراهيم:36]، وقوله: { قُلْ يَا عِبَادِيَ الذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم } [الزمر:53]، وقوله تعالى: { وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُوراً رَحِيماً } النساء:110]، وقوله تعالى عن يعقوب - عليه السلام -: { قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } [يوسف:98] .
ومما ورد في السنة من الدعاء بالاسم المطلق حديث أبي بكرٍ الصديق - رضي الله عنه - لما طلب من النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يعلمه دعاء يدعو به في صلاته وقد تقدم ذكره (1)، وكذلك حديث واثلة بن الأسقع في الصلاة على الميت (2) .
__________
(1) انظر ص487 .
(2) الموضع السابق .(2/285)
ومما ورد من الدعاء بالوصف الذي تضمنه الاسم ما رواه مسلم من حديث أم سلمة رضي الله عنها قالت: ( دَخَلَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى أَبِي سَلَمَةَ وَقَدْ شَقَّ بَصَرُهُ فَأَغْمَضَهُ ثُمَّ قَالَ: إِنَّ الرُّوحَ إِذَا قُبِضَ تَبِعَهُ الْبَصَرُ، فَضَجَّ نَاسٌ مِنْ أَهْلِهِ فَقَالَ: لاَ تَدْعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ بِخَيْرٍ فَإِنَّ الْمَلاَئِكَةَ يُؤَمِّنُونَ عَلَى مَا تَقُولُونَ، ثُمَّ قَالَ: اللهُمَّ اغْفِرْ لأَبِى سَلَمَةَ وَارْفَعْ دَرَجَتَهُ فِي الْمَهْدِيِّينَ، وَاخْلُفْهُ فِي عَقِبِهِ فِي الْغَابِرِينَ وَاغْفِرْ لَنَا وَلَهُ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ وَافْسَحْ لَهُ فِي قَبْرِهِ، وَنَوِّرْ لَهُ فِيهِ ) (1) .
وفي صحيح البخاري من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( اللهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُحَلِّقِينَ، قَالُوا: وَلِلْمُقَصِّرِينَ، قَالَ: اللهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُحَلِّقِينَ قَالُوا: وَلِلْمُقَصِّرِينَ، قَالَهَا ثَلاَثًا، قَالَ: وَلِلْمُقَصِّرِينَ ) (2)، وروى أبو داود وصححه الألباني من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال ( الإِمَامُ ضَامِنٌ وَالْمُؤَذِّنُ مُؤْتَمَنٌ، اللهُمَّ أَرْشِدِ الأَئِمَّةَ وَاغْفِرْ لِلْمُؤَذِّنِينَ ) (3) .
__________
(1) مسلم في الجنائز، باب في إغماض الميت والدعاء له إذا حضر 2/634 (920) .
(2) البخاري في الحج، باب الحلق والتقصير ثم الإحلال 2/617 (1641) .
(3) أبو داود في الصلاة باب ما يجب على المؤذن 1/143 (517)، صحيح الجامع (2787) .(2/286)
وعند البخاري من حديث زيد بن أرقم - رضي الله عنه - أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( اللهُمَّ اغْفِرْ لِلأَنْصَارِ وَلأَبْنَاءِ الأَنْصَارِ، وَشَكَّ ابْنُ الْفَضْلِ فِي أَبْنَاءِ أَبْنَاءِ الأَنْصَارِ ) (1)، وورد في رواية مسلم من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - الدعاء بالمغفرة لأبناء أبناء الأنصار من غير شك (2)، وعنده أيضا من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: ( كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كُلمَا كَانَ لَيْلَتُهَا مِنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَخْرُجُ مِنْ آخِرِ الليْلِ إِلَى الْبَقِيعِ فَيَقُولُ: السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ، وَأَتَاكُمْ مَا تُوعَدُونَ غَدًا مُؤَجَّلُونَ، وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللهُ بِكُمْ لاَحِقُونَ، اللهُمَّ اغْفِرْ لأَهْلِ بَقِيعِ الْغَرْقَدِ ) (3) .
وعند البخاري ومسلم من حديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: كأني أنظر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( يَحْكِى نَبِيًّا مِنَ الأَنْبِيَاءِ ضَرَبَهُ قَوْمُهُ فَأَدْمَوْهُ، وَهْوَ يَمْسَحُ الدَّمَ عَنْ وَجْهِهِ، وَيَقُولُ: اللهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ) (4).
الدعاء باسم الله الغفور دعاء عبادة .
__________
(1) البخاري في التفسير، باب قوله هم الذين يقولون لا تنفقوا 4/1862 (4623) .
(2) مسلم في فضائل الصحابة، باب من فضائل الأنصار رضي الله عنهم 4/1948 (2506) .
(3) مسلم في الجنائز، باب ما يقال ثم دخول القبور والدعاء لأهلها 2/669 (974) .
(4) البخاري في كتاب أحاديث الأنبياء، باب قوله تعالى: ( أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا ) 3/1282(3290)، ومسلم في الجهاد والسير، باب غزوة أحد 3/ 1417(1792) .(2/287)
توحيد الله في اسمه الغفور يقتضي كثرة الاستغفار الوقائي العام أو الاستغفار الخاص، مهما بلغت كيفية الذنب وجانيته على العبد، أما الاستغفار العام فهو الذي يحتاط به من التفكير في الذنب قبل وقوعه، ويقضي به على خواطر النفس وهواها وإلجامها عن طغيانها، وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يحطاط لنفسه ويكثر من الاستغفار في اليوم أكثر من سبيعين مرة، وهو - صلى الله عليه وسلم - قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وذلك ليعلم أمته - صلى الله عليه وسلم - كثرة الاستغفار، وعند البخاري من حديث أَبِى هريرة - رضي الله عنه - أنه سمع رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يقول: ( وَاللهِ إني لأَسْتَغْفِرُ اللهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ في الْيَوْمِ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ مَرَّةً ) (1) .
وروى أيضا من حديث سلمان الفارسي - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( لاَ يَغْتَسِلُ رَجُلٌ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَيَتَطَهَّرُ مَا اسْتَطَاعَ مِنْ طُهْرٍ، وَيَدَّهِنُ مِنْ دُهْنِهِ، أَوْ يَمَسُّ مِنْ طِيبِ بَيْتِهِ ثُمَّ يَخْرُجُ فَلاَ يُفَرِّقُ بَيْنَ اثْنَيْنِ، ثُمَّ يُصَلِّى مَا كُتِبَ لَهُ، ثُمَّ يُنْصِتُ إِذَا تَكَلمَ الإِمَامُ إِلاَّ غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجُمُعَةِ الأُخْرَى ) (2)، وروى مسلم من حديث أَبِى هريرة - رضي الله عنه - أن رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: ( الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ وَالْجُمُعَةُ إِلَى الْجُمُعَةِ وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ مُكَفِّرَاتٌ مَا بَيْنَهُنَّ إِذَا اجْتَنَبَ الْكَبَائِرَ ) (3) .
__________
(1) البخاري في الدعوات، باب استغفار النبي S في اليوم والليلة 5/2324 (5948) .
(2) البخاري في الجمعة، باب الدهن للجمعة 1/301 (843) .
(3) مسلم في الطهارة، باب الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة 1/209 (233) .(2/288)
أما الاستغفار الخاص فالعبد يبادر فيه بالتوبة لو غلبته نفسه على العصيان أو استجاب في غفلة النسيان للشيطان، فمهما بلغ الذنب فإن للغفور باب مغفرة لا يغلق حتى تغرغر النفس أو تطلع الشمس من مغربها قال تعالى: { وَالذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُون } [آل عمران:135]، وروى مسلم من حديث أبي موسى - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( إِنَّ اللهَ - عز وجل - يَبْسُطُ يَدَهُ بِالليْلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ وَيَبْسُطُ يَدَهُ بِالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ الليْلِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا ) (1) .
وممن تسمى بالتعبد للاسم عبد الغفور بن عبد العزيز الواسطي، من رواة الحديث لكنه ضعيف الحديث كما قال أبو حاتم، وقال يحيى بن معين: عبد الغفور ليس حديثه بشيء (2) .
********************************
55- الله - جل جلاله - الوَدُودُ
********************************
الدليل على ثبوت الاسم وإحصائه .
اسم الله الودود ورد مطلقا معرفا ومنونا محمولا عليه المعنى مسندا إليه مرادا به العلمية ودالا على كمال الوصفية، قال تعالى: { وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُود ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ } [البروج:14/15]، وقال أيضا: { وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ } [هود:90]، ولم يرد الاسم في السنة إلا في سرد الأسماء عند الترمذي وهو من إدراج الوليد بن مسلم كما تقدم .
شرح الاسم وتفسير معناه .
__________
(1) مسلم في التوبة، باب قبول التوبة من الذنوب وإن تكررت الذنوب والتوبة 4/2113 (2759) .
(2) الجرح والتعديل لابن أبي حاتم 6/55 .(2/289)
الودود في اللغة من صيغ المبالغة، والودُّ مصدر المودَّة، فعله وَدَّ الشيء وُدّا ووِدّا ووَدَّا، والود بمعنى الأمنية ومنه قوله تعالى: { يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ } [البقرة:96]، والودُّ أيضا بمعنى المحبة كما في قوله: { لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ } [المجادلة:22] .
والودود في اللغة أيضا قد يأتي على معنى المعية والمرافقة والمصاحبة كلازم من لوازم المحبة، كما ورد عند مسلم من حديث عَبْدِ اللهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ ابنِ عُمَرَ - رضي الله عنه -: ( أَنَّ رَجُلا مِنَ الأَعْرَابِ لَقِيَهُ بِطَرِيقِ مَكةَ، فَسَلمَ عَلَيْهِ عَبْدُ اللهِ وَحَمَلَهُ عَلَى حِمَارٍ كَانَ يَرْكَبُهُ وَأَعْطَاهُ عِمَامَةً كَانَتْ عَلَى رَأْسِهِ، فَقَالَ ابْنُ دِينَارٍ لَهُ: أَصْلَحَكَ اللهُ إِنَّهُمُ الأَعْرَابُ وَإِنَّهُمْ يَرْضَوْنَ بِالْيَسِيرِ، فَقَالَ عَبْدُ اللهِ: إِنَّ أَبَا هَذَا كَانَ وُدًّا لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: إِنَّ أَبَرَّ الْبِرِّ صِلَةُ الْوَلَدِ أَهْلَ وُدِّ أَبِيهِ ) (1) .
__________
(1) مسلم في البر والصلة والأدب، باب فضل صلة أصدقاء الأب والأم ونحوهما 4/1979 (2552) .(2/290)
والودود سبحانه هو الذي يحب رسله وأولياءه ويتودد إليهم بالمغفرة والرحمة فيرضى عنهم ويتقبل أعمالهم ويوددهم إلى خلقه فيحبب عباده فيهم كما قال تعالى: { إِنَّ الذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً } [مريم:96]، وعند البخاري من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( إِذَا أَحَبَّ الله الْعَبْدَ نَادَى جِبْرِيلَ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ فُلاَنًا فَأَحْبِبْهُ، فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ، فَيُنَادِي جِبْرِيلُ في أَهْلِ السَّمَاءِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ فُلاَنًا فَأَحِبُّوهُ فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ، ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ في الأَرْضِ ) (1)، قال عبد الله بن عباس - رضي الله عنه -: ( الودود الحبيب المجيد الكريم ) (2) .
والله - عز وجل - ودود يؤيد رسله وعباده الصالحين بمعيته الخاصة، فلا يخيب رجاءهم ولا يرد دعاءهم، وهو عند حسن ظنهم به، وهو الودود لعامة خلقه بواسع كرمه وسابغ نعمه، يرزقهم ويؤخر العقاب عنهم لعلهم يرجعون إليه (3)، قال ابن القيم: ( وأما الودود ففيه قولان: أحدهما أنه بمعنى فاعل وهو الذي يحب أنبياءه ورسله وأولياءه وعباده المؤمنين، والثاني أنه بمعنى مودود وهو المحبوب الذي يستحق أن يحب الحب كله وأن يكون أحب إلى العبد من سمعه وبصره وجميع محبوباته ) (4) .
دلالة الاسم على أوصاف الله .
__________
(1) البخاري في بدء الخلق، وانظر النبوات لابن تيمية ص 76 .
(2) الجامع الصحيح المختصر 4/1885.
(3) تفسير القرطبي 19/296 .
(4) جلاء الأفهام في فضل الصلاة على محمد خير الأنام لابن القيم ص315، وانظر في معنى الاسم أيضا الأسماء والصفات للبيهقي ص101، وشرح أسماء الله للرازي ص287، وتفسير أسماء الله للزجاج ص52 .(2/291)
اسم الله الودود يدل على ذات الله وعلى صفة الود بدلالة المطابقة، وعلى ذات الله وحدها بالتضمن وعلى الصفة وحدها بالتضمن، قال تعالى: { إِنَّ الذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً } [مريم:96]، ويدل باللزوم على الحياة والقيومية والرحمة والرأفة والقرب والحب، وغير ذلك من أوصاف الكمال، واسم الله الودود دل على صفة من صفات الأفعال .
الدعاء باسم الله الودود دعاء مسألة .
لم يرد الدعاء بالاسم أو الوصف إلا في روايات ضعيفة كالتي وردت عند الترمذي وابن خزيمة من حديث ابن عباس - رضي الله عنه - مرفوعا: ( اللهُمَّ ذَا الحَبْلِ الشَّدِيدِ وَالأَمْرِ الرَّشِيدِ، أَسْأَلُكَ الأَمْنَ يَوْمَ الوَعِيدِ، وَالجَنَّةَ يَوْمَ الخُلُودِ، مَعَ المُقَرَّبِينَ الشُّهُودِ، الرُّكَّعِ السُّجُودِ المُوفِينَ بِالعُهُودِ، إِنَّكَ رَحِيمٌ وَدُودٌ، وَأَنْتَ تَفْعَلُ مَا تُرِيدُ ) (1) .
__________
(1) الترمذي في كتاب الدعوات 5/482 (3419)، وابن خزيمة في صحيحه، باب الدعاء بعد ركعتي الفجر 2/167 (1119)، وانظر ضعيف الجامع ( 1194) .(2/292)
ويمكن الدعاء بمعنى الاسم فالودود هو المحبوب الذي يستحق أن يحب، وأن يكون أحب إلى العبد من سمعه وبصره وجميع محبوباته، ومما ورد في ذلك ما رواه الترمذي وصححه الألباني من حديث معاذ - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( اللهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَتَرْكَ الْمُنْكَرَاتِ، وَحُبَّ الْمَسَاكِينِ، وَأَنْ تَغْفِرَ لِي وَتَرْحَمَنِي، وَإِذَا أَرَدْتَ فِتْنَةَ قَوْمٍ فَتَوَفَّنِي غَيْرَ مَفْتُونٍ، أَسْأَلُكَ حُبَّكَ وَحُبَّ مَنْ يُحِبُّكَ، وَحُبَّ عَمَلٍ يُقَرِّبُ إِلَى حُبِّكَ، قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : إِنَّهَا حَقٌّ فَادْرُسُوهَا ثُمَّ تَعَلمُوهَا ) (1)، ومن دعاء أبى معلق الأنصاري - رضي الله عنه - وكان قد تعرض للهلاك على يد سارق فنجاه الله - عز وجل -: ( يا ودود، يا ذا العرش المجيد، يا فعالا لما يريد، أسألك بعزتك التي لا ترام وملكك الذي لا يضام، وبنورك الذي ملأ أركان عرشك أن تكفيني شر هذا اللص ) (2) .
الدعاء باسم الله الودود دعاء عبادة .
__________
(1) الترمذي في تفسير القرآن، باب ومن سورة ص 5/368 (3235)، مشكاة المصابيح (748) .
(2) الإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر 7/379 (10551) .(2/293)
توحيد العبد لله في اسمه الودود يتجلى في كثرة وده للمسلمين وحب الخير للآخرين فيحب للعاصي التوبة والمغفرة وللمطيع الثبات وحسن المنزلة، ويعفو عمن أساء إليه ويلين مع البعيد كما يلين مع أقرب الناس إليه، ويكون ودودا قريبا لطيفا مجيبا راعيا بحبه لأهله وعشيرته، فالرسول - صلى الله عليه وسلم - أصابه قومه في رباعيته ولم يمنعه أن يطلب لهم العذر والمغفرة، روى البخاري من حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - أنه قال: ( كأني أَنْظُرُ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - يَحْكِى نَبِيًّا مِنَ الأَنْبِيَاءِ ضَرَبَهُ قَوْمُهُ فَأَدْمَوْهُ، وَهْوَ يَمْسَحُ الدَّمَ عَنْ وَجْهِهِ وَيَقُولُ: اللهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ) (1) .
ومن أعظم الود وتوحيد الله في اسمه الودود مودة الرجل لزوجته ورفقه بها، وكذلك مودة المرأة لزوجها، روى الطبراني وقال الشيخ الألباني: حسن لغيره من حديث أنس - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( ألا أخبركم بنسائكم في الجنة؟ قلنا: بلي يا رسول الله، قال ودود ولود إذا غضبت أو أسيء إليها أو غضب زوجها، قالت: هذه يدي في يدك لا أكتحل بغمض حتى ترضي ) (2) .
وقال تعالى: { إِنَّ الذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّا } [مريم:96]، والمعنى سيجعل لهم حبا في قلوب عباده، وقد تقدم في شرح الاسم وتفسير معنا حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - الذي روى البخاري مرفوعا أن الله - عز وجل - إذا أحب عبدا أمر ملائكته في السماء بحبه ووضع له القبول في الأرض .
__________
(1) البخاري في أحاديث الأنبياء، باب أم حسبت أن أصحاب الكهف 3/ 1282(3290) .
(2) المعجم الأوسط 2/206 (1743)، صحيح الترغيب والترهيب (1941) .(2/294)
وممن تسمى عبد الودود أبو الحسن الهاشمي عبد الودود بن عبد المتكبر بن هارون بن محمد بن عبيد الله بن المهتدي بالله، حدث عن أبي بكر الشافعي، وتوفي يوم الأربعاء مستهل شعبان من سنة أربع وثلاثين وأربعمائة (1) .
********************************
56- الله - جل جلاله - الوَلِيُّ
********************************
الدليل على ثبوت الاسم وإحصائه .
ورد الاسم مطلقا معرفا في قوله تعالى: { أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [الشورى:9]، وقوله - عز وجل -: { وَهُوَ الذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيد } [الشورى:28] .
وقد ورد مقيدا في نصوص أخرى كثيرة كقوله تعالى: { إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ } [الأعراف:196]، وقوله سبحانه: { إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالذِينَ آمَنُوا } [المائدة:55] .
وعند البخاري من حديث عمرو بن العاص - رضي الله عنه - أنه قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - جِهَارًا غَيْرَ سِرٍّ يَقُولُ: ( إِنَّ آلَ أَبِى لَيْسُوا بِأَوْلِيَائِي، إِنَّمَا وَلِيِّيَ اللهُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنْ لَهُمْ رَحِمٌ أَبُلُّهَا بِبَلاَلِهَا ) (2)، يَعْنِي أَصِلُهَا بِصِلَتِهَا .
شرح الاسم وتفسير معناه .
الولي في اللغة صيغة مبالغة من اسم الفاعل الوالي، فعله وَلِيَ يَلِي وِلايةً، والولي هو الذي يلي غيره بحيث يكون قريبا منه بلا فاصل، ويكون ذلك في المكان أو النسب أو النسبة، ويطلق الولي أيضا على الوالد والناصر والحاكم والسيد (3) .
__________
(1) تاريخ بغداد 11/140.
(2) البخاري في كتاب الأدب، باب تبل الرحم ببلاله 5/2233 (5644) .
(3) لسان العرب 15/ 406، وكتاب العين 8/ 365 .(2/295)
والولاية تولي الأمر كقوله تعالى: { فَإِنْ كَانَ الذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِل هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ } [البقرة:282]، وعند مسلم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( إِذَا صَنَعَ لأَحَدِكُمْ خَادِمُهُ طَعَامَهُ، ثُمَّ جَاءَهُ بِهِ وَقَدْ وَلِيَ حَرَّهُ وَدُخَانَهُ، فَلْيُقْعِدْهُ مَعَهُ فَلْيَأْكُلْ ) (1) .
والولي سبحانه هو المُتَوَلي لأُمُور خلقه القَائِم على تدبير ملكه، الذي يمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه كما قال سبحانه: { وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إِلا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَءوفٌ رَحِيمٌ } [الحج:65]، وقال: { أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ } [الرعد:33]، وولاية الله لعباده على وجهين:
الوجه الأول: الولاية العامة وهي ولاية الله لشئون عباده، وتكفله بأرزاقهم وتدبيره لأحوالهم، وتمكينهم من الفعل والاستطاعة، وذلك بتيسير الأسباب ونتائجها وترتيب المعلولات على عللها، وتلك هي الولاية العامة التي تقتضي العناية والتدبير، وتصريف الأمور وتدبير المقادير، فالله من فوق عرشه قريب من عباده كما قال: { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيد } [ق:16] .
__________
(1) مسلم في الأيمان، باب سنان المملوك مما يأكل وإلباسه مما يلبس ولا يكلفه ما يغلبه 3/1284(1663) .(2/296)
الوجه الثاني: ولاية الله للمؤمنين وهي ولاية حفظ وتدبير سواء كان تدبيرا كونيا أو شرعيا؛ فإن الإرادة الكونية والشرعية عند السلف تجتمعان في المؤمن وتفترقان في الكافر حيث تتوافق إرادة المؤمن مع الإرادة الشرعية والكونية معا، والكافر يخالف الشرعية ويوافق الكونية حتما (1)، فالولاية الخاصة ولاية حفظ وعصمة ومحبة ونصرة سواء كان في تدبير الله الكوني أو الشرعي قال تعالى: { الله وَلِيُّ الذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } [البقرة:257] .
وشرط هذه الولاية الإيمان وتحقيق الإخلاص والمتابعة، قال تعالى: { أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ الذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ } [يونس:63] .
وعند البخاري من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعا: ( إن الله قال: من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب .. الحديث ) (2)، فولاية الله لعباده المؤمنين مقرونة بولايتهم لربهم فولايتهم ولاية حفظ لحدوده والتزام بتوحيده، قال تعالى: { قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ } [الأنعام:14] (3) .
دلالة الاسم على أوصاف الله .
اسم الله الولي يدل بالمطابقة والتضمن واللزوم على ما دل عليه اسم الله المولى غير أن الولي دل في أغلب النصوص على الولاية العامة، والمولى دل على الولاية الخاصة كما تقدم ذلك عند ذكر دلالة اسم الله المولي .
__________
(1) انظر شفاء العليل ص280 .
(2) البخاري في الرقاق، باب التواضع 5/2384 (6137) .
(3) شرح العقيدة الطحاوية ص403 .(2/297)
وفي دلالة الاسم على الوصف قال تعالى: { وَقُلِ الحَمْدُ لِلهِ الذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي المُلكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً } [الإسراء:111]، وقال سبحانه: { إِنَّ الله لَهُ مُلكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ الله مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ } [التوبة:116]، وقال: { قُلِ الله أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدا } [الكهف:26]، وروى الحاكم وصححه الشيخ الألباني من حديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( ثَلاَثٌ أَحْلِفُ عَلَيْهِنَّ، لاَ يَجْعَلُ اللهُ - عز وجل - مَنْ لَهُ سَهْمٌ في الإِسْلاَمِ كَمَنْ لاَ سَهْمَ لَهُ فَأَسْهُمُ الإِسْلاَمِ ثَلاَثَةٌ الصَّلاَةُ وَالصَّوْمُ وَالزَّكَاةُ، وَلاَ يَتَوَلى اللهُ - عز وجل - عَبْداً في الدُّنْيَا فَيُوَلِّيهِ غَيْرَهُ يَوْمَ القِيَامَةِ، وَلاَ يُحِبُّ رَجُلٌ قَوْماً إِلاَّ جَعَلَهُ اللهُ - عز وجل - مَعَهُمْ، وَالرَّابِعَةُ لَوْ حَلَفْتُ عَلَيْهَا رَجَوْتُ أَنْ لاَ آثَمَ، لاَ يَسْتُرُ اللهُ - عز وجل - عَبْداً في الدُّنْيَا إِلاَّ سَتَرَهُ يَوْمَ القِيَامَةِ ) (1) .
الدعاء باسم الله الولي دعاء مسألة .
__________
(1) المستدرك 1/67 (49)، وانظر صحيح الجامع (3021) .(2/298)
ورد دعاء المسألة بالاسم المقيد بالإضافة في قوله تعالى عن يوسف - عليه السلام -: { رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ المُلكِ وَعَلمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ } [يوسف:101]، وعند الطبراني وصححه الألباني من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: ( يا ولي الإسلام وأهله ثبتني حتى ألقاك ) (1)، وفي رواية أخرى عنه كان من دعاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( يا ولي الإسلام وأهلِه مسكني بالإسلام حتى ألقاك عليه ) (2) .
الدعاء باسم الله الولي دعاء عبادة .
دعاء العبادة هو اجتهاد العبد في تحقيق مقتضى الاسم بحفظ حدود الله وموالاته على من سواه، قال - عز وجل -: { قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ } [الأنعام:14]، وقال أيضا في التحذير من ولاية الأعداء: { يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ } [الممتحنة:1]، وذلك لا يتم إلا بالإخلاص لله وحده والإقبال عليه بالكلية، ثم الالتزام بأحكام التكليف والعبودية، فولي الله حقا هو من توالت طاعاته من غير عصيان، ومن تولى الحق حفظه في القلب واللسان وسائر الأركان، وتولى توفيقه وتمكينه وإقداره علي الطاعات وكرائم الإحسان .
__________
(1) المعجم الأوسط 1/206 (661) وانظر الأحاديث المختارة 6/270، السلسلة الصحيحة 4/438 (1823) .
(2) السلسلة الصحيحة 4/462 (1476) .(2/299)
روى البخاري من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: ( إِنَّ اللهَ قَال: مَنْ عَادَى لي وَليًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلي عَبْدِي بِشَيءٍ أَحَبَّ إِلي مِمَّا افْتَرَضْتُ عَليْهِ، وَمَا يَزَال عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلي بِالنَّوَافِل حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ التِي يَبْطُشُ بِهَا، وَرِجْلهُ التِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلنِي لأُعْطِيَنَّهُ، وَلئِنِ اسْتَعَاذَنِي لأُعِيذَنَّهُ، وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيءٍ أَنَا فَاعِلهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ المُؤْمِنِ، يَكْرَهُ المَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ ) (1)، فواجب المؤمنين الأولياء نحو ربهم ودينهم وإخوانهم القرب والحب والنصرة لإظهار الدين والتمكين له في الأرض، وهذا ما يقتضيه معنى الولاء ظاهرا باطنا، قال تعالى: { أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ الذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } [يونس:62/64] .
__________
(1) البخاري في الرقاق، باب التواضع 5/2384 (6137) .(2/300)
وعند أبي داود وصححه الألباني من حديث عمر - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( إِنَّ مِنْ عِبَادِ اللهِ لأُنَاسًا مَا هُمْ بِأَنْبِيَاءَ وَلاَ شُهَدَاءَ يَغْبِطُهُمُ الأَنْبِيَاءُ وَالشُّهَدَاءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِمَكَانِهِمْ مِنَ اللهِ تَعَالَى، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ تُخْبِرُنَا مَنْ هُمْ؟ قَالَ: هُمْ قَوْمٌ تَحَابُّوا بِرُوحِ اللهِ عَلَى غَيْرِ أَرْحَامٍ بَيْنَهُمْ وَلاَ أَمْوَالٍ يَتَعَاطَوْنَهَا فَوَ اللهِ إِنَّ وُجُوهَهُمْ لَنُورٌ وَإِنَّهُمْ عَلَى نُورٍ لاَ يَخَافُونَ إِذَا خَافَ النَّاسُ وَلاَ يَحْزَنُونَ إِذَا حَزِنَ النَّاسُ، وَقَرَأَ هَذِهِ الآيَةَ: { أَلاَ إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } [يونس:62] ) (1) .
وممن تسمى بالتعبد لهذا الاسم، عبد الولي بن أبي السرايا بن عبد السلام الأنصاري فقيه شافعي من أخميم أحد القرى التابعة لصعيد مصر، وكان خطيب ناحيته وأحد عدولها وله شعر حسن المذهب، ومن شعره:
تأن إذا أردت النطق حتى تصيب بسهمه غرض البيان
ولا تطلق لسانك ليس شيء أحق بطول سجن من لسان (2) .
********************************
57- الله - جل جلاله - الحَمِيدُ
********************************
الدليل على ثبوت الاسم وإحصائه .
__________
(1) أبو داود في الإجارة، باب في الرهن 3/288 (3527)، صحيح الترغيب والترهيب (3026) .
(2) معجم البلدان 2/119 .(2/301)
اسم الله الحميد ورد في القرآن على سبيل الإطلاق مرادا به العلمية ودالا على كمال الوصفية في كثير من النصوص القرآنية، وقد ورد مفردا ومقترنا باسم الله العزيز والغني والولي والمجيد والحكيم، ومن ذلك قوله تعالى: { وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ } [الحج:24]، وقوله: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ } [فاطر:15]، وقوله: { وَهُوَ الذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ } [الشورى:28]، واقترن بالمجيد في قوله: { قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللهِ رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيد } [هود:73]، واقترن بالحكيم في قوله تعالى: { لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ } [فصلت:42] .
وعند البخاري من حديث كَعْب بْن عُجْرَةَ - رضي الله عنه - أنه قال: ( سَأَلْنَا رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، كَيْفَ الصَّلاَةُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ فَإِنَّ اللهَ قَدْ عَلمَنَا كَيْفَ نُسَلِّمُ؟ قَالَ: قُولُوا: اللهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صَليْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، اللهُمَّ بَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ ) (1) .
شرح الاسم وتفسير معناه .
__________
(1) البخاري في أحاديث الأنبياء، باب يزفون النسلان في المشي 3/1233 (3190) .(2/302)
الحميد في اللغة صيغة مبالغه على وزن فعيل بمعنى اسم المفعول وهو المحمود، فعله حمد يحمد حمدا، والحمد نقيض الذم بمعنى الشكر والثناء، وهو المكافأة على العمل والحمد والشكر مُتَقاربان لكن الحمد أعَمُّ من الشكر , لأنّك تحمَد الإنسان على صِفاته الذَّاتِّية وعلى عطائه ولا تَشْكُره على صِفاته (1) .
قال الراغب: ( الحمد أخص من المدح وأعم من الشكر، فإن المدح يقال فيما يكون من الإنسان باختياره، وما يقال منه وفيه بالتسخير، فقد يمدح الإنسان بطول قامته وصباحة وجهه، كما يمدح ببذل ماله وسخائه وعلمه، والحمد يكون في الثاني دون الأول والشكر لا يقال إلا في مقابلة نعمة، فكل شكر حمد، وليس كل حمد شكرا، وكل حمد مدح، وليس كل مدح حمدا، ويقال: فلان محمود إذا حمد، ومحمد إذا كثرت خصاله المحمودة ) (2) .
والحميد سبحانه هو المستحق للحمد والثناء، حمد نفسه فقال: { الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } [الفاتحة:2]، فهو سبحانه المحمود على ما خلق وشرع، ووهب ونزع، وضر ونفع، وأعطى ومنع، وعلا بذاته وشأنه فارتفع، وأمسك السماء عن الأرض أن تقع وفرش الأرض فانبسط سهلها واتسع، حمد نفسه وحمده الموحدون فله الحمد كله .
قال ابن القيم : ( الحمد كله لله رب العالمين .. فإنه المحمود على ما خلقه وأمر به ونهى عنه، فهو المحمود على طاعات العباد ومعاصيهم وإيمانهم وكفرهم، وهو المحمود على خلق الأبرار والفجار والملائكة وعلى خلق الرسل وأعدائهم، وهو المحمود على عدله في أعدائه كما هو المحمود على فضله وإنعامه على أوليائه، فكل ذرة من ذرات الكون شاهدة بحمده، ولهذا سبح بحمده السماوات السبع والأرض ومن فيهن، وإن من شيء إلا يسبح بحمده ) (3) .
__________
(1) لسان العرب 3/156، وتفسير الطبري 13/179، وبصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز للفيروزآبادي 2/499، تحقيق محمد على النجار المكتبة العلمية، وفتح الباري 8/351 .
(2) المفردات ص256 .
(3) طريق الهجرتين ص192 .(2/303)
وكذلك فإن الله - عز وجل - هو الحميد الذي يحمده عباده الموحدون لأنهم يعلمون أن الله خلق الدنيا للابتلاء وخلق الآخرة للجزاء، فهم يحمدونه على السراء والضراء ويوحدونه في العبادة والاستعانة والدعاء، حتى يكرمهم بجنته عند اللقاء، فإن ابتلاهم صبروا وإن أنعم عليهم شكروا، ولذلك قال تعالى في وصفهم: { وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلهِ الذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا الله } [الأعراف:43]، وقال أيضا: { وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلهِ الذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ } [فاطر:34] (1)، قال ابن القيم:
وهو الحميد فكل حمد واقع : أو كان مفروضا مدى الأزمان
ملأ الوجود جمعيه ونظيره : من غير ما عد ولا حسبان
هو أهله سبحانه وبحمده : كل المحامد وصف ذي الاحسان (2) .
دلالة الاسم على أوصاف الله .
اسم الله الحميد يدل على ذات الله وعلى صفة الحمد بدلالة المطابقة، وعلى أحدهما بدلالة التضمن، قال تعالى: { فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الفُلكِ فَقُلِ الحَمْدُ لِلهِ الذِي نَجَّانَا مِنَ القَوْمِ الظَّالِمِينَ } [المؤمنون:28]، وقال: { فَلِلهِ الحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الأَرْضِ رَبِّ العَالَمِينَ } [الجاثية:36]، وعند البخاري من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( مَنْ قَالَ سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ في يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ حُطَّتْ خَطَايَاهُ وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ البَحْرِ ) (3) .
__________
(1) الاعتقاد للبيهقي ص62 .
(2) شرح قصيدة ابن القيم 2/215 .
(3) البخاري في الدعوات باب فضل التسبيح 5/ 2352 (6042) .(2/304)
واسم الله الحميد يدل باللزوم على الحياة والقيومية والسمع والبصر والعلم والقدرة والغنى والحكمة والعزة والعظمة والعطاء والرحمة والكرم والسعة والجمال والكمال، وغير ذلك من أوصاف الجلال، واسم الله الحميد دل على صفة من صفات الذات .
الدعاء باسم الله الحميد دعاء مسألة .
ورد دعاء المسألة بالاسم المطلق عند البخاري من حديث كعب بن عجرة - رضي الله عنه - الذي تقدم وفيه: ( اللهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صَليْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، اللهُمَّ بَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ ) .
ومن الدعاء بالوصف ما ورد عند البخاري من حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت: ( كَانَ النبي - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ في رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ سُبْحَانَكَ اللهُمَّ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ، اللهُمَّ اغْفِرْ لي ) (1)، وعند مسلم من حديث عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه كان يجهر بهؤلاء الكلمات: ( سُبْحَانَكَ اللهمَّ وَبِحَمْدِكَ تَبَارَكَ اسْمُكَ وَتَعَالَى جَدُّكَ وَلاَ إِلَهَ غَيْرُك ) (2) .
__________
(1) البخاري في الأذان باب الدعاء في الركوع 1/274 (761) .
(2) البخاري في المغازي، باب دخول النبي S من أعلى مكة 4/1562 (4042) .(2/305)
وروى البخاري من حديث ابن عباس - رضي الله عنه - قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا قام من الليل يتهجد قال: ( اللهمَّ لَكَ الحَمْدُ أَنْتَ قَيِّمُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَلَكَ الحَمْدُ لَكَ مُلكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَلَكَ الحَمْدُ أَنْتَ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَكَ الحَمْدُ أَنْتَ الحَقُّ، وَوَعْدُكَ الحَقُّ، وَلِقَاؤُكَ حَقٌّ، وَقَوْلُكَ حَقٌّ، وَالجَنَّةُ حَقٌّ وَالنَّارُ حَقٌّ، وَالنَّبِيُّونَ حَقٌّ، وَمُحَمَّدٌ - صلى الله عليه وسلم - حَقٌّ، وَالسَّاعَةُ حَقٌّ، اللهمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ وَبِكَ آمَنْتُ وَعَلَيْكَ تَوَكَّلتُ، وَإِلَيْكَ أَنَبْتُ، وَبِكَ خَاصَمْتُ، وَإِلَيْكَ حَاكَمْتُ فَاغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ، وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ، أَنْتَ المُقَدِّمُ وَأَنْتَ المُؤَخِّرُ، لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ ) (1)، وعند الترمذي وصححه الألباني من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( مَنْ جَلَسَ فِي مَجْلِسٍ فَكَثُرَ فِيهِ لَغَطُهُ فَقَالَ قَبْلَ أَنْ يَقُومَ مِنْ مَجْلِسِهِ ذَلِكَ: سُبْحَانَكَ اللهمَّ وَبِحَمْدِكَ، أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ، إِلاَّ غُفِرَ لَهُ مَا كَانَ فِي مَجْلِسِهِ ذَلِكَ ) (2) .
الدعاء باسم الله الحميد دعاء عبادة .
__________
(1) البخاري في التهجد، باب التهجد بالليل 1/377 (1069) .
(2) الترمذي في الدعوات، باب ما يقول إذا قام من المجلس 5/494 (3433)، صحيح الجامع (6192) .(2/306)
دعاء العبادة هو أثر الاسم على اعتقاد العبد وسلوكه، أما اعتقاده فيقينه بأن الحمد يتضمن مدح المحمود بصفات كماله ونعوت جلاله مع محبته والرضا عنه والخضوع له، فلا يكون حامدا من جحد صفات المحمود، ولا من أعرض عن محبته والخضوع له، وكلما كانت صفات كمال المحمود أكثر كان حمده أكمل، وكلما نقص من صفات كماله نقص من حمده بحسبها، ولهذا كان الحمد لله حمدا لا يحصيه سواه، لكمال صفاته وكثرتها، ولأجل هذا لا يحصى أحد من خلقه ثناء عليه لما له من صفات الكمال ونعوت الجلال التي لا يحصيها سواه، ولهذا ذم الله تعالى آلهة الكفار وعابها بسلب أوصاف الكمال عنها فعابها بأنها لا تسمع ولا تبصر ولا تتكلم ولا تهدي ولا تنفع ولا تضر .
ومعلوم بالفطرة المستقيمة والعقول السليمة والكتب السماوية أن فاقد صفات الكمال لا يكون إلها ولا مدبرا ولا ربا؛ بل هو مذموم معيب ناقص ليس له الحمد، لا في الأولى ولا في الآخرة، وإنما الحمد في الأولى والآخرة لمن له صفات الكمال ونعوت الجلال التي لأجلها استحق الحمد، قال تعالى: { وَهُوَ اللهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الأُولَى وَالآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } [القصص:70] .(2/307)
وقد حمد نفسه سبحانه على عدم اتخاذ الولد المتضمن لكمال صمديته وغناه وملكه وتعبيد كل شيء له، فاتخاذ الولد ينافي ذلك، وحمد نفسه على عدم الشريك المتضمن تفرده بالربوبية والإلهية، وتوحده بصفات الكمال التي لا يوصف بها غيره فيكون شريكا له، فلو عدمها لكان كل موجود أكمل منه، لأن الموجود أكمل من المعدوم، قال تعالى: { وَقُلِ الْحَمْدُ لِلهِ الذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً } [الإسراء:111]، ولهذا لا يحمد نفسه سبحانه بعدم إلا إذا كان متضمنا لثبوت كمال كما حمد نفسه بكونه لا يموت لتضمنه كمال حياته، قال تعالى: { هُوَ الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } [غافر:65]، فحقيقة الحمد تابعة لإثبات أوصاف الكمال ونفيها نفي لحمده (1) .
وأما أثر الاسم على سلوك العبد فيحمد الله - عز وجل - بالقلب واللسان والجوارح، يحمده أن وفق قلبه وهداه لاختيار الإيمان، ويحمده بذكر اللسان والثاء بالحمد لله التي تملأ الميزان، ويحمده بالجوارح والأركان فيشكر الله - عز وجل - بالخضوع والطاعة وطلب العون وزيادة الإيمان، قال تعالى: { وَقَالُوا الْحَمْدُ للهِ الذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللهُ } [الأعراف:43] .
__________
(1) مدارج السالكين 1/28 بتصرف .(2/308)
وروى مسلم من حديث أبي مالك الأشعري - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( الطُّهُورُ شَطْرُ الإِيمَانِ وَالْحَمْدُ لِلهِ تَمْلأُ الْمِيزَانَ وَسُبْحَانَ اللهِ وَالْحَمْدُ لِلهِ تَمْلآنِ أَوْ تَمْلأُ مَا بَيْنَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ ) (1)، وعند مسلم من حديث سمرة بن جندب - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( أَحَبُّ الْكَلاَمِ إِلَى اللهِ أَرْبَعٌ، سُبْحَانَ اللهِ وَالْحَمْدُ للهِ وَلاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَاللهُ أَكْبَرُ، لاَ يَضُرُّكَ بَأَيِّهِنَّ بَدَأْتَ ) (2)، وقال سليمان - عليه السلام -: { رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ التِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ } [النمل:19]، وقال سبحانه: { اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ } [سبأ:13] .
__________
(1) مسلم في كتاب الطهارة، باب فضل الوضوء 1/203 (223) .
(2) مسلم في كتاب الأدب، باب كراهة التسمية بالأسماء القبيحة وبنافع ونحوه 1/423 (601) .(2/309)
وعند أحمد وصححه الألباني من حديث مطرف - رضي الله عنه - أنه قال: ( قَالَ لي عِمْرَانُ: إني لأُحَدِّثُكَ بِالْحَدِيثِ الْيَوْمَ لِيَنْفَعَكَ اللهُ - عز وجل - بِهِ بَعْدَ الْيَوْمِ، اعْلَمْ أَنَّ خَيْرَ عِبَادِ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْحَمَّادُونَ .. الحديث ) (1)، وعند البخاري من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( إِنَّ للهِ مَلاَئِكَةً يَطُوفُونَ فِي الطُّرُقِ، يَلْتَمِسُونَ أَهْلَ الذِّكْرِ، فَإِذَا وَجَدُوا قَوْمًا يَذْكُرُونَ اللهَ تَنَادَوْا هَلُمُّوا إِلَى حَاجَتِكُمْ، قَالَ: فَيَحُفُّونَهُمْ بِأَجْنِحَتِهِمْ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، قَالَ: فَيَسْأَلُهُمْ رَبُّهُمْ وَهْوَ أَعْلَمُ مِنْهُمْ مَا يَقُولُ عِبَادِي؟ قَالُوا: يَقُولُونَ يُسَبِّحُونَكَ وَيُكَبِّرُونَكَ، وَيَحْمَدُونَكَ وَيُمَجِّدُونَكَ .. الحديث ) (2).
وممن تسمى بالتعبد للاسم، عبد الحميد بن جبير من رواة البخاري قال: ( حَدَّثَنَا صَدَقَةُ، أَخْبَرَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ جُبَيْرِ بْنِ شَيْبَةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّ أُمَّ شَرِيكٍ أَخْبَرَتْهُ أَنَّ النَّبيَ أَمَرَهَا بِقَتْلِ الأَوْزَاغِ ) (3) .
********************************
58- الله - جل جلاله - الحَفِيظُ
********************************
الدليل على ثبوت الاسم وإحصائه .
__________
(1) المسند 4/434، صحيح الجامع (1571) .
(2) البخاري في كتاب الدعوات، باب فضل ذكر الله عز وجل 5/2353 (6045) .
(3) البخاري في بدء الخلق 3/1204 (3131) .(2/310)
ورد في قوله تعالى: { وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ } [سبأ:21]، وفي قوله تعالى عن هود - عليه السلام -: { فَإِنْ تَوَلوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ } [هود:57]، وقد تقدم في شروط الإحصاء أن الاسم المقترن بالعلو والفوقية يزيد الإطلاق كمالا على كمال، فالله من فوق عرشه حفيظ له مطلق الكمال في وصفه، فإذا انضم إلى ذلك اجتماع معاني العلو ظهر في الإطلاق جمال الكمال، وقد ورد الاسم مقيدا في قوله تعالى: { وَالذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ اللهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ } [الشورى:6]، ولم يرد الاسم في السنة إلا في حديث سرد الأسماء المدرجة عند الترمذي وليس بحجة .
شرح الاسم وتفسير معناه .(2/311)
الحفيظ في اللغة مبالغة من اسم الفاعل الحافظ، فعله حفِظ يحفَظُ حِفْظا، وحِفظ الشيء صيانته من التلف والضياع، ويستعمل الحفظ في العلم على معنى الضبط وعدم النسيان، أو تعاهُد الشيء وقلة الغفلة عنه، ورجل حافظ وقوم حُفاظ هم الذين رُزِقوا حِفظ ما سَمِعوا وقلما يَنْسَوْن شيئا، والحافِظ والحفِيظ أيضا هو الموكل بالشيء يَحْفَظه، ومنه الحفظة من الملائكة كما في قوله تعالى: { لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ } [الرعد:11]، أي تحفظ الأنفس بأمر الله حتى يأتي أجلها وكذلك الحفظة الذين يُحْصُونَ الأعمال ويكتبونها على بني آدم، كما قال تعالى: { وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَاماً كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ } [الانفطار:12]، ويقال حفظ المال والسِّرَّ حفظا رَعاه وصانه، واحتفظ بالشيءَ لنفسه يعني خَصَّها به والتحفظ قلة الغَفلة في الأُمور والكلام (1) .
والحفيظ سبحانه هو العليم المهيمن الرقيب على خلقه، لا يَعْزُب عنه مِثقالُ ذرّة في ملكه، وهو الحفيظ الذي يحفظ أعمال المكلفين، والذي شرَّف بحفظها الكرام الكاتبين يدونون على العباد القول والخطرات والحركات والسكنات، ويضعون الأجر كما حُدد لهم بالحسنات والسيئات، وهو الحفيظ الذي يحفظ عليهم أسماعهم وأبصارهم وجلودهم لتشهد عليهم يوم اللقاء (2)، وهو الحفيظ لمن يشاءُ من الشَّرِّ والأذى والبلاء .
__________
(1) انظر بتصرف لسان العرب 7/441، والمفردات ص244 .
(2) انظر هذه المعاني في زاد المسير لابن الجوزي 2/142، وتفسير أسماء الله الحسنى ص48، واشتقاق أسماء الله للزجاج ص146 .(2/312)
والحفيظ أيضا هو الذي يحفظ أهل التوحيد والإيمان، ويعصمهم من الهوى وشبهات الشيطان، ويحول بين المرء وقلبه من الوقوع في العصيان، ويهيأ الأسباب لتوفيقه إلى الطاعة والإيمان، ويشهد لمثل هذه المعاني ما ثبت من حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يدعو: ( اللهم احفظني بالإسلام قائما، واحفظني بالإسلام قاعدا واحفظني بالإسلام راقدا، ولا تشمت بي عدوا حاسدا، اللهم إني أسألك من كل خير خزائنه بيدك، وأعوذ بك من كل شر خزائنه بيدك ) (1) .
والحفيظ أيضا هو الذي حفِظ السماواتِ والأرضَ بقدرته، قال تعالى: { وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ } [البقرة:255]، فالله حفيظ لمخلوقاته يبقيها على حالها لغاياتها، وينظم ترابط العلل بمعلولاتها، وهو سبحانه يحفظ الأشياء بذواتها وصفاتها، وقد ذكر أبو حامد الغزالي رحمه الله أن الحفظ في ذلك على وجهين:
الوجه الأول: إدامة وجود الموجودات وإبقاؤها ويضاده الإعدام، والله تعالى هو الحافظ للسماوات والأرض والملائكة والموجودات التي يطول أمد بقائها والتي لا يطول أمد بقائها، مثل الحيوانات والنبات وغيرهما .
الوجه الثاني: أن الحفظ صيانة المتقابلات المتضادات بعضها عن بعض، كالتقابل بين الماء والنار، فإنهما يتعاديان بطباعهما، فإما أن يطفئ الماء النار، وإما أن تحيل النار الماء إلى بخار، وقد جمع الله - عز وجل - بين هذه المتضادات المتنازعة في سائر العناصر والمركبات، وسائر الأحياء كالإنسان والنبات والحيوان، ولولا حفظه تعالى لهذه الأسباب وتنظيم معادلاتها، وارتباط العلل بمعلولاتها، لتنافرت وتباعدت وبطل امتزاجها واضمحل تركيبها، وهذه هي الأسباب التي تحفظ الإنسان من الهلاك وتؤمن له بحفظ الله الحياة (2) .
__________
(1) حسنه الألباني، انظر صحيح الجامع حديث رقم (1260) .
(2) المقصد الأسنى ص113 بتصرف .(2/313)
دلالة الاسم على أوصاف الله .
اسم الله الحفيظ يدل على ذات الله وعلى صفة الحفظ بدلالة المطابقة، وعلى ذات الله وحدها بالتضمن وعلى الصفة وحدها بالتضمن، والحفيظ على تقدير معنى العلم والإحاطة بكل شيء فإنه يدل على صفة من صفات الذات كقوله تعالى: { إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ } [هود:57]، وعلى تقدير معنى الرعاية والتدبير فإنه يدل على وصف فعل كقوله - عز وجل -: { فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلغَيْبِ بِمَا حَفِظَ الله } [النساء:34]، وقوله: { وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ } [الحجر:17]، وقوله: { وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا } [البقرة:255]، وعند الترمذي وصححه الألباني من حديث ابن عباس - رضي الله عنه - أن رسول الله قال له: ( احْفَظِ الله يَحْفَظْكَ احْفَظِ الله تَجِدْهُ تُجَاهَكَ .. الحديث ) (1)، واسم الله الحفيظ يدل باللزوم على الحياة والقيومية والسمع والبصر والعلم والقدرة والقوة والعزة وغير ذلك من صفات الكمال، والاسم دل على صفة من صفات الذات والأفعال .
الدعاء باسم الله الحفيظ دعاء مسألة .
__________
(1) الترمذي في صفة القيامة 4/667 (2516) .(2/314)
ورد دعاء المسألة بالوصف في قوله تعالى: { قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ } [يوسف:64]، وعند البخاري من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي قال: ( إِذَا أَوَى أَحَدُكُمْ إِلَى فِرَاشِهِ فَلْيَنْفُضْ فِرَاشَهُ بِدَاخِلَةِ إِزَارِهِ، فَإِنَّهُ لاَ يَدْرِي مَا خَلَفَهُ عَلَيْهِ ثُمَّ يَقُولُ: بِاسْمِكَ رَبِّ وَضَعْتُ جَنْبِي وَبِكَ أَرْفَعُهُ، إِنْ أَمْسَكْتَ نَفْسِي فَارْحَمْهَا، وَإِنْ أَرْسَلْتَهَا فَاحْفَظْهَا بِمَا تَحْفَظُ بِهِ الصَّالِحِينَ ) (1) .
__________
(1) البخاري في الدعوات، باب السؤال بأسماء الله تعالى والاستعاذة بها 6/2691 (6958) .(2/315)
وورد عند مسلم حديث يشمل نوعي الدعاء، دعاء المسألة ودعاء العبادة، فمن حديث أَبِي قتادة - رضي الله عنه - أنه قال: ( خَطَبَنَا رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: إِنَّكُمْ تَسِيرُونَ عَشِيَّتَكُمْ وَلَيْلَتَكُمْ وَتَأْتُونَ المَاءَ إِنْ شَاءَ الله غَدًا، فَانْطَلَقَ النَّاسُ لاَ يَلوِي أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ، قَالَ أَبُو قَتَادَةَ: فَبَيْنَمَا رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يَسِيرُ حَتَّى ابْهَارَّ الليْلُ وَأَنَا إِلَى جَنْبِهِ قَال: فَنَعَسَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ، فَمَالَ عَنْ رَاحِلَتِهِ، فَأَتَيْتُهُ فَدَعَمْتُهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ أُوقِظَهُ، حَتَّى اعْتَدَلَ عَلَى رَاحِلَتِهِ قَالَ: ثُمَّ سَارَ حَتَّى تَهَوَّرَ الليْلُ مَالَ عَنْ رَاحِلَتِهِ، قَالَ: فَدَعَمْتُهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ أُوقِظَهُ، حَتَّى اعْتَدَلَ عَلَى رَاحِلَتِهِ، قَالَ: ثُمَّ سَارَ حَتَّى إِذَا كَانَ مِنْ آخِرِ السَّحَرِ مَالَ مَيْلَةً هِيَ أَشَدُّ مِنَ المَيْلَتَيْنِ الأُولَيَيْنِ، حَتَّى كَادَ يَنْجَفِلُ، فَأَتَيْتُهُ فَدَعَمْتُهُ، فَرَفَعَ رَأْسَهُ، فَقَالَ: مَنْ هَذَا؟، قُلتُ: أَبُو قَتَادَةَ، قَالَ: مَتَى كَانَ هَذَا مَسِيرَكَ مِنِّي؟ قُلتُ: مَا زَالَ هَذَا مَسِيرِي مُنْذُ الليْلَةِ، قَالَ: حَفِظَكَ الله بِمَا حَفِظْتَ بِهِ نَبِيَّهُ، ثُمَّ قَالَ: هَل تَرَانَا نَخْفَى عَلَى النَّاسِ؟ ثُمَّ قَالَ: هَل تَرَى مِنْ أَحَدٍ؟ قُلتُ: هَذَا رَاكِبٌ ثُمَّ قُلتُ: هَذَا رَاكِبٌ آخَرُ، حَتَّى اجْتَمَعْنَا فَكُنَّا سَبْعَةَ رَكْبٍ، قَالَ: فَمَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عَنِ الطَّرِيقِ فَوَضَعَ رَأْسَهُ ثُمَّ قَالَ احْفَظُوا عَلَيْنَا صَلاَتَنَا، فَكَانَ أَوَّلَ مَنِ اسْتَيْقَظَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وَالشَّمْسُ فِي ظَهْرِهِ، قَالَ: فَقُمْنَا فَزِعِينَ، ثُمَّ قَالَ:(2/316)
ارْكَبُوا، فَرَكِبْنَا فَسِرْنَا حَتَّى إِذَا ارْتَفَعَتِ الشَّمْسُ نَزَلَ، ثُمَّ دَعَا بِمِيضَأَةٍ كَانَتْ مَعِي فِيهَا شَيْءٌ مِنْ مَاءٍ قَالَ فَتَوَضَّأَ مِنْهَا وُضُوءًا دُونَ وُضُوءٍ، قَالَ: وَبَقِىَ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ مَاءٍ، ثُمَّ قَالَ لأَبِي قَتَادَةَ: احْفَظْ عَلَيْنَا مِيضَأَتَكَ فَسَيَكُونُ لَهَا نَبَأٌ .
ثُمَّ أَذَّنَ بِلاَلٌ بِالصَّلاَةِ فَصَلى رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ صَلى الغَدَاةَ فَصَنَعَ كَمَا كَانَ يَصْنَعُ كُل يَوْمٍ قَالَ: وَرَكِبَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وَرَكِبْنَا مَعَهُ، قَالَ: فَجَعَلَ بَعْضُنَا يَهْمِسُ إِلَى بَعْضٍ: مَا كَفَّارَةُ مَا صَنَعْنَا بِتَفْرِيطِنَا فِي صَلاَتِنَا؟ ثُمَّ قَالَ: أَمَا لَكُمْ فِيَّ أُسْوَةٌ؟ ثُمَّ قَالَ: أَمَا إِنَّهُ لَيْسَ فِي النَّوْمِ تَفْرِيطٌ، إِنَّمَا التَّفْرِيطُ عَلَى مَنْ لَمْ يُصَلِّ الصَّلاَةَ حَتَّى يَجِيءَ وَقْتُ الصَّلاَةِ الأُخْرَى - فينام - فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَليُصَلِّهَا حِينَ يَنْتَبِهُ لَهَا، فَإِذَا كَانَ الغَدُ فَليُصَلِّهَا عِنْدَ وَقْتِهَا، ثُمَّ قَالَ: مَا تَرَوْنَ النَّاسَ صَنَعُوا؟ .. قَالَ: فَانْتَهَيْنَا إِلَى النَّاسِ حِينَ امْتَدَّ النَّهَارُ وَحَمِي كُلُّ شَيْءٍ، وَهُمْ يَقُولُونَ: يَا رَسُولَ الله هَلَكْنَا عَطِشْنَا فَقَالَ: لاَ هُلكَ عَلَيْكُمْ .(2/317)
ثُمَّ قَالَ أَطْلِقُوا لِي غُمَرِي - هو القدح الصغير- قَالَ: وَدَعَا بِالمِيضَأَةِ فَجَعَلَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يَصُبُّ وَأَبُو قَتَادَةَ يَسْقِيهِمْ، فَلَمْ يَعْدُ أَنْ رَأَى النَّاسُ مَاءً فِي المِيضَأَةِ تَكَابُّوا عَلَيْهَا، فَقَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أَحْسِنُوا المَلأَ، كُلُّكُمْ سَيَرْوَى، قَالَ: فَفَعَلُوا فَجَعَلَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يَصُبُّ، وَأَسْقِيهِمْ حَتَّى مَا بَقِىَ غَيْرِي وَغَيْرُ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - ، قَالَ: ثُمَّ صَبَّ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ لِي اشْرَبْ: فَقُلتُ: لاَ أَشْرَبُ حَتَّى تَشْرَبَ يَا رَسُولَ الله، قَالَ إِنَّ سَاقِيَ القَوْمِ آخِرُهُمْ شُرْبًا، قَالَ: فَشَرِبْتُ وَشَرِبَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ، قَالَ: فَأَتَى النَّاسُ المَاءَ جَامِّينَ رِوَاءً ) (1) .
وعند أبي داود وصححه الألباني من حديث عبد الله بن عمر - رضي الله عنه - أنه قال: ( لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَدَعُ هَؤُلاَءِ الدَّعَوَاتِ حِينَ يُمْسِي وَحِينَ يُصْبِحُ: اللهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ العَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، اللهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ العَفْوَ وَالعَافِيَةَ فِي دِينِي وَدُنْيَاي وَأَهْلِي وَمَالِي، اللهُمَّ اسْتُرْ عَوْرَتِي، أو عَوْرَاتِي، وَآمِنْ رَوْعَاتِي، اللهُمَّ احْفَظْنِي مِنْ بَيْنِ يَدَي وَمِنْ خَلفِي، وَعَنْ يَمِينِي وَعَنْ شِمَالِي وَمِنْ فَوْقِي وَأَعُوذُ بِعَظَمَتِكَ أَنْ أُغْتَالَ مِنْ تَحْتِي ) (2) .
الدعاء باسم الله الحفيظ دعاء عبادة .
__________
(1) مسلم في المساجد، باب قضاء الصلاة الفائتة 1/473 (681) ومعنى جامين مستجمين مستريحين .
(2) أبو داود في كتاب الأدب، باب ما يقول إذا أصبح 4/318 (5074)، صحيح الجامع (1274) .(2/318)
دعاء العبادة هو ظهور مقتضى الاسم على اعتقاد العبد وسلوكه، أما أثره على الاعتقاد فيوقن أن الله - عز وجل - يتولى حفظه بنوعين من التدبير، تدبير كوني قدري جبري وتدبير ديني شرعي اختياري، وهو مبتلى بين هذين التدبيرين ومطالب بموقف تجاه النوعين، فالأول يؤمن فيه بقدر الله وإحاطته بعبده قبل خلقه، وحال وجوده وبعد موته، وأنه لا مشيئة للعبد إلا بتوفيق الله ومشيئته .
والثاني يحفظ العبد فيه شرعه وتدبير الله له ليقينه أنه السبيل الوحيد لسعادته في الدنيا والآخرة، وأن من حفظ الله في تدبيره الشرعي حفظه في تدبيره الكوني وعصمه في سكونه وحركته وتولاه بحفظه ومعيته، روى الترمذي وصححه الألباني من حديث ابن عباس - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال له: ( يَا غُلاَمُ إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ، احْفَظِ اللهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ ) (1) .
وأما أثر الاسم على سلوك العبد فتجده قائما في الطاعة محافظا على أحكام العبودية لا يضيع فرضا واجبا ولا سنة مندوبة، ولا يقرب جرما ولا يتجاوز حدوده؛ بل يحفظ كل التوجيهات النبوية بمحبة وحرص ورغبة وصدق نية .
روى البخاري من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( انْتَدَبَ اللهُ لِمَنْ خَرَجَ فِي سَبِيلِهِ لاَ يُخْرِجُهُ إِلاَّ إِيمَانٌ بِي وَتَصْدِيقٌ بِرُسُلِي أَنْ أُرْجِعَهُ بِمَا نَالَ مِنْ أَجْرٍ أَوْ غَنِيمَةٍ، أَوْ أُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، وَلَوْلاَ أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي مَا قَعَدْتُ خَلْفَ سَرِيَّةٍ، وَلَوَدِدْتُ أَنِّي أُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ أُحْيَا، ثُمَّ أُقْتَلُ ثُمَّ أُحْيَا، ثُمَّ أُقْتَلُ ) (2) .
__________
(1) الترمذي في صفة القيامة والرقائق والورع 4/667 (2516)، وانظر صحيح الجامع (7957) .
(2) البخاري في الإيمان، باب الجهاد من الإيمان1/22 (36) .(2/319)
وروى أحمد وصححه الألباني من حديث حميد بن هلال - رضي الله عنه - قال: ( كَانَ رَجُلٌ مِنَ الطُّفَاوَةِ طَرِيقُهُ عَلَيْنَا؛ فَأَتَى عَلَى الْحَي فَحَدَّثَهُمْ قَالَ: قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ فِي عِيرٍ لَنَا فَبِعْنَا بِيَاعَتَنَا ثُمَّ قُلْتُ: لأَنْطَلِقَنَّ إِلَى هَذَا الرَّجُلِ فَلآتِيَنَّ مَنْ بَعْدِي بِخَبَرِهِ، قَالَ: فَانْتَهَيْتُ إِلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَإِذَا هُوَ يُرِينِي بَيْتاً، قَالَ: إِنَّ امْرَأَةً كَانَتْ فِيهِ فَخَرَجَتْ فِي سَرِيَّةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَتَرَكَتْ ثِنْتَي عَشْرَةَ عَنْزاً لَهَا وَصِيصِيَتَهَا كَانَتْ تَنْسِجُ بِهَا، قَالَ: فَفَقَدَتْ عَنْزاً مِنْ غَنَمِهَا وَصِيصِيَتَهَا فَقَالَتْ: يَا رَبِّ، إِنَّكَ قَدْ ضَمِنْتَ لِمَنْ خَرَجَ فِي سَبِيلِكَ أَنْ تَحْفَظَ عَلَيْهِ، وَإِنِّي قَدْ فَقَدْتُ عَنْزاً مِنْ غَنَمِي وَصِيصِيَتِي،وَإِنِّي أَنْشُدُكَ عَنْزِي وَصِيصِيَتِي، قَالَ: فَجَعَلَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَذْكُرُ شِدَّةَ مِنْاشَدَتِهَا لِرَبِّهَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى، قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : فَأَصْبَحَتْ عَنْزُهَا وَمِثْلُهَا وَصِيصِيَتُهَا وَمِثْلُهَا، وَهَاتِيكَ فَائْتِهَا فَاسْأَلْهَا إِنْ شِئْتَ، قَالَ قُلْتُ: بَلْ أُصَدِّقُكَ ) (1) .
__________
(1) مسند الإمام أحمد 5/ 67، وانظر السلسلة الصحيحة (2935) .(2/320)
وعند مسلم من حديث أبي بصرة الغفاري - رضي الله عنه - أنه قال: ( صَلى بِنَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - الْعَصْرَ بِالْمُخَمَّصِ، فَقَالَ: إِنَّ هَذِهِ الصَّلاَةَ عُرِضَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ فَضَيَّعُوهَا فَمَنْ حَافَظَ عَلَيْهَا كَانَ لَهُ أَجْرُهُ مَرَّتَيْنِ وَلاَ صَلاَةَ بَعْدَهَا حَتَّى يَطْلُعَ الشَّاهِدُ ) (1)، روى أبو داود وصححه الألباني من حديث أم حبيبة رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( مَنْ حَافَظَ عَلَى أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ قَبْلَ الظُّهْرِ وَأَرْبَعٍ بَعْدَهَا حَرُمَ عَلَى النَّارِ ) (2) .
وروى أبو داود أيضا وحسنه الشيخ الألباني من حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده - رضي الله عنه - قال: ( قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ عَوْرَاتُنَا مَا نَأْتِي مِنْهَا وَمَا نَذَرُ؟ قَالَ: احْفَظْ عَوْرَتَكَ إِلاَّ مِنْ زَوْجَتِكَ أَوْ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ، قَالَ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ إِذَا كَانَ الْقَوْمُ بَعْضُهُمْ فِي بَعْضٍ؟ قَالَ: إِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ لاَ يَرَيَنَّهَا أَحَدٌ فَلاَ يَرَيَنَّهَا قَالَ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ إِذَا كَانَ أَحَدُنَا خَالِيًا؟ قَالَ: اللهُ أَحَقُّ أَنْ يُسْتَحْيَا مِنْهُ مِنَ النَّاسِ ) (3)، وعند أحمد وصححه الألباني من حديث أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( مَنْ حَفِظَ مَا بَيْنَ فُقْمَيْهِ وَفَرْجَهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ ) (4) .
__________
(1) مسلم في صلاة المسافرين، باب الأوقات التي نهي عن الصلاة فيها1/568 (830) .
(2) أبو داود في الصلاة، باب الأربع قبل الظهر وبعدها2/23 (1269)، صحيح أبي داود 1/236 (1130).
(3) أبو داود كتاب الحمام، باب ما جاء في التعري4/40 (4017)، مشكاة المصابيح (3117) .
(4) المسند 4/398 (20086)، صحيح الجامع (6202) .(2/321)
لم أجد أحدا من رواة الحديث من تسمى عبد الحفيظ في مجال ما أجرينا عليه البحث، وقد تسمى به أحد العلماء المتأخرين وهو القاضي الحافظ التقى عبد الحفيظ بن عبد الله المهلا الشرفي (ت: 1077هـ)، وكان إماما في علوم الاجتهاد يحفظ في كل العلوم مؤلفات عديدة مع شروحها، وله أجوبة على مسائل عديدة وردت إليه من علماء عصره، ورسائل بليغة، وخطب رائقة، وأشعار فائقة (1) .
********************************
59- الله - جل جلاله - المَجِيدُ
********************************
الدليل على ثبوت الاسم وإحصائه .
المجيد اسم من أسماء الله الحسنى ورد في القرآن والسنة على سبيل الإطلاق مرادا به العلمية ودالا على كمال الوصفية، قال تعالى: { قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللهِ رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ البَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ } [هود:73]، وقال - عز وجل -: { ذُو العَرْشِ المَجِيدُ } [البروج:15]، قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وعاصم ذو العرش المجيدُ رفعا، وتلك القراءة دليل على أن المجيد اسم، وقرأ حمزة والكسائي ذو العرش المجيدِ خفضا على أنه وصف العرش (2) .
وعند البخاري من حديث أبي حُمَيْدٍ السَّاعِدِي - رضي الله عنه -: ( أَنَّهُمْ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ كَيْفَ نُصَلِّى عَلَيْكَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: قُولُوا: اللهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَأَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ، كَمَا صَليْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَأَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ ) (3) .
شرح الاسم وتفسير معناه .
__________
(1) البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع، محمد بن علي الشوكاني2/112 .
(2) كتاب السبعة في القراءات لأبي بكر أحمد بن موسى التميمي البغدادي ص678.
(3) البخاري في أحاديث الأنبياء، 3/1232 (3189) .(2/322)
المجيد في اللغة من صيغ المبالغة على وزن فعيل، فعله مجد يمجد تمجيدا، والمجيد هو الكريم الفِعَال، وقيل: إذا قارن شرف الذات حسن الفعال سُمِّيَ مَجدا، وفعيل أبلغ من فاعل، فكأنه يجمع معنى الجليل والوهّاب والكريم، والمَجْدُ المُرُوءةُ والكرمُ والسخاءُ والشرف والفخر والحسب والعزة والرفعة، والمَجْدُ أيضا الأَخذ من الشرف والسُّؤْدَد ما يكفي، وأَمجَدَه ومَجَّده كلاهما عظمَه وأَثنى عليه، وتماجَدَ القومُ فيما بينهم ذكَروا مَجْدَهم (1) .
والله - عز وجل - وصف كتابه بالمجيد فقال: { ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ } [ق:1]، لأن القرآن كلام الله غير مخلوق، وصفة الكلام من صفاته العليا، فالقرآن كريم فيه الإعجاز والبيان وفيه روعة الكلمات وحسن المعان، وفيه كمال السعادة للإنسان، فهو كتاب مجيد عظيم رفيع الشأن .
__________
(1) النهاية في غريب الحديث 4/ 298، ولسان العرب 3/ 396، واشتقاق أسماء الله ص152، ومفردات ألفاظ القرآن ص760، وفتح الباري شرح صحيح البخاري 13/408 .(2/323)
والمجيد سبحانه هو الذي علا وارتفع بذاته، له المجد في أسمائه وصفاته وأفعاله فمجد الذات الإلهية بيِّن في جمال الله وسعته وعلوه واستوائه على عرشه، فعند مسلم من حديث عبد الله بنِ مَسْعُودٍ - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( إِنّ اللهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ ) (1)، وروى أيضا من حديث أَبِي مُوسَى - رضي الله عنه - أن النَّبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( حِجَابُهُ النُّورُ لَوْ كَشَفَهُ لأَحْرَقَ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ ) (2)، وكيفية جمال الذات أو كيفية ما هو عليه أمر لا يدركه سواه ولا يعلمه إلا الله، وليس عند المخلوقين منه إلا ما أخبر به عن نفسه من كمال وصفه وجلال ذاته وكمال فعله (3)، ومِن مجد ذاته استواؤه على عرشه؛ فهو العلي بذاته على خلقه، يعلم السر وأخفى في ملكه وهو القائم عليهم والمحيط بهم قال تعالى: { الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى } [طه:5] .
وقد ثبت أن العرش أعلى المخلوقات، وأنه فوق الماء، وأن الماء فوق السماء، والله - عز وجل - فوق ذلك محيط بالخلائق ويعلم ما هم عليه، روى البخاري من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - أنِ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: ( فَإِذَا سَأَلْتُمُ اللهَ فَسَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ فَإِنَّهُ أَوْسَطُ الْجَنَّةِ وَأَعْلَى الْجَنَّةِ وَفَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ وَمِنْهُ تَفَجَّرُ أَنْهَارُ الْجَنَّةِ ) (4) .
__________
(1) مسلم في كتاب الإيمان، باب تحريم الكبر وبيانه، 1/93 (91) .
(2) الموضع السابق، باب في قوله عليه السلام إن الله لا ينام 1/161 (179) .
(3) انظر الفوائد ص 182.
(4) البخاري في كتاب التوحيد، باب وكان عرشه على الماء وهو رب العرش العظيم 6/2700 (6987) .(2/324)
وقد ذكر الله - عز وجل - في كمال مجده اختصاص الكرسي بالذكر دون العرش في أعظم آية في كتابه فقال سبحانه: { وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ } [البقرة:255]، والكرسي كما فسره السلف الصالح ما يكون تحت قدم الملك عند استوائه على عرشه، وقد بين الله من كمال وصفه وسعة ملكه لمن أعرض عن طاعته وتوحيده في عبادته أن ملك من أشركوا به لو بلغ السماوات السبع والأرضون وما فيهن وما بينهن على عرضهن ومقدارهن وسعة حجمهن لا يمثلن شيئا في الكرسي الذي تحت قدم الملك، فما بالك بعرشه ومجده؟ وما بالك باتساع ملكه؟
وعلى الرغم من ذلك لا يَئُودُهُ حِفظُهُمَا، فهو الذي يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَن تَزُولا، لأنه لا يقوى غيره على حفظهن وإدارتهن حتى لو ادعى لنفسه ملكهن، فالله من حلمه على خلقه أمسكهن بقدرته وأبقاهن لحكمته، ولذلك قال تعالى: { إنَّ الله يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا } [فاطر:41]، وقد ورد عند ابن حبان وصححه الألباني من حديث أبي ذر - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( ما السماوات السبع في الكرسي إلا كحلقة بأرض فلاة وفضل العرش على الكرسي كفضل تلك الفلاة على تلك الحلقة ) (1)، وصح عن ابن عباس - رضي الله عنه - موقوفا أنه قال: ( الكرسي موضع القدمين والعرش لا يقدر قدره إلا الله تعالى ) (2) .
__________
(1) صحيح ابن حبان 2/77 (361)، وانظر السلسلة الصحيحة 1/223 (109) .
(2) انظر تعليق الألباني علي الرواية في شرح العقيدة الطحاوية ص45 .(2/325)
أما مجد أوصافه فله علو الشأن فيها، لا سمي له ولا نظير ولا شبيه له ولا مثيل فالمجد وصف جامع لكل أنواع العلو التي يتصف بها المعبود فهو العلي العظيم لأن أي معبود سواه إذا علا مجده بعض الخلق وغلب على العرش واستقر له الملك فإنه مسلوب العظمة في علوه المحدود، إما لمرضه أو نومه أو قدوم أجله، أو غلبة غيره على ملكه أو غير ذلك من أنواع الضرورة والقيود، فأي عظمة في علو المخلوق وهو يعلم أن قدرته محدودة وأيامه معدودة؟ أيستحق المخلوق أن يكون معبودا من دون الله؟ فما بالنا بمجد رب العزة والجلال الذي له العلو والكمال والعظمة والجمال في جميع الأسماء والصفات والأفعال، له علو الشأن والقهر والفوقية، وعظمته في علوه عظمة حقيقية فهو المجيد حقا وصدقا، ومجد الظالمين زورا وإفكا، وأي عاقل سيقر بمجد أفعاله وبالغ كرمه وإنعامه وجوده وإحسانه، فهو الذي أوجد المخلوقات وحفظها وهداها ورزقها فسبحان المجيد في ذاته وصفاته وأفعاله قال تعالى: { فَتَعَالَى الله المَلِكُ الحَقُّ لا إِلَهَ إِلا هُوَ رَبُّ العَرْشِ الكَرِيمِ } [المؤمنون:116]، وقال أيضا: { سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبِّ العَرْشِ عَمَّا يَصِفُون } [الزخرف:82] .
دلالة الاسم على أوصاف الله .(2/326)
الاسم يدل على ذات الله وعلى صفة المجد كوصف ذات والتمجيد كوصف فعل بدلالة المطابقة، وعلى الذات وحدها بالتضمن وعلى الصفة وحدها كذلك، فمما ورد في وصف الذات ما رواه مسلم من حديث أبي سعيد - رضي الله عنه - قال: ( كَانَ رَسُولُ الله إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ قَالَ: رَبَّنَا لَكَ الحَمْدُ مِلءَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمِلءَ مَا شِئْتَ مِنْ شيء بَعْدُ، أَهْلَ الثَّنَاءِ وَالمَجْدِ، أَحَقُّ مَا قَالَ العَبْدُ وَكُلُّنَا لَكَ عَبْدٌ، اللهمَّ لاَ مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ وَلاَ مُعْطِي لِمَا مَنَعْتَ، وَلاَ يَنْفَعُ ذَا الجَدِّ مِنْكَ الجَدُّ ) (1)، وعند مسلم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال عن رب العزة: ( وَإِذَا قَالَ: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ قَالَ: مجدني عبدي، وَقَالَ: مَرَّةً فَوَّضَ إِلَيَّ عبدي ) (2) .
وعند مسلم من حديث عَمْرُو بْنُ عَبَسَةَ - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( فَإِنْ هُوَ قَامَ فَصَلى فَحَمِدَ الله وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَمَجَّدَهُ بالذي هُوَ لَهُ أَهْلٌ وَفَرَّغَ قَلبَهُ لِلهِ إِلاَّ انْصَرَفَ مِنْ خَطِيئَتِهِ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ ) (3) .
__________
(1) مسلم في الصلاة، باب اعتدال أركان الصلاة 1/343 (471) .
(2) الموضع السابق، باب وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة 1/296 (395) .
(3) مسلم في صلاة المسافرين، باب إسلام عمرو بن عبسة 1/570 (832) .(2/327)
ومما ورد في وصف الفعل ما رواه أحمد بسند صحيح عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنه - أنه قال: ( قَرَأَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - هَذِهِ الآيَةَ وَهُوَ عَلَى المِنْبَرِ: { وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُون } ، قَالَ: ( يَقُولُ الله - عز وجل -: أَنَا الجَبَّارُ، أَنَا المُتَكَبِّرُ، أَنَا المَلِكُ، أَنَا المُتَعَالِ، يُمَجِّدُ نَفْسَهُ قَالَ: فَجَعَلَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يُرَدِّدُهَا حَتَّى رَجَفَ بِهِ المِنْبَرُ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيَخِرُّ بِهِ ) (1)، والاسم يدل باللزوم على الحياة والقيومية والسيادة والأحدية والغنى والصمدية وانتفاء الشبيه والمثلية، ويدل على الكرم والسعة والجمال والعظمة والرفعة والجلال وغير ذلك من صفات الكمال .
الدعاء باسم الله المجيد دعاء مسألة .
__________
(1) مسند أحمد 2/87 (5608)، وانظر صحيح ابن ماجة1/39 (164) .(2/328)
ورد دعاء المسألة بالاسم المطلق في حديث كعب بن عجرة - رضي الله عنه - عند البخاري والذي تقدم ذكره في اسم الله الحميد (1)، ومن الدعاء بالوصف ما رواه مسلم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( مَنْ صَلى صَلاَةً لَمْ يَقْرَأْ فِيهَا بِأُمِّ القُرْآنِ فَهْيَ خِدَاجٌ ثَلاَثًا غَيْرُ تَمَامٍ، فَقِيلَ لأَبِي هُرَيْرَةَ: إِنَّا نَكُونُ وَرَاءَ الإِمَامِ، فَقَالَ: اقْرَأْ بِهَا فِي نَفْسِكَ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: قَالَ الله تَعَالَى: قَسَمْتُ الصَّلاَةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ، فَإِذَا قَالَ العَبْدُ: { الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ } قَالَ الله تَعَالَى: حَمِدَنِي عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ: { الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } قَالَ الله تَعَالَى: أَثْنَى عَلَي عَبْدِي وَإِذَا قَالَ: { مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ } قَالَ: مَجَّدَنِي عَبْدِي، وَقَالَ مَرَّةً: فَوَّضَ إِلَي عَبْدِي فَإِذَا قَالَ: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } ، قَالَ: هَذَا بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ، فَإِذَا قَالَ: { اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ } ، قَالَ: هَذَا لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ ) (2) .
__________
(1) تقدم تخريجه 377 .
(2) مسلم في الصلاة، باب وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة 1/296 (395) .(2/329)
وروى أبو داود وصححه الألباني من حديث أَبِي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قام من الليل كبر ثم يقول: ( سُبْحَانَكَ اللهمَّ وَبِحَمْدِكَ وَتَبَارَكَ اسْمُكَ وَتَعَالَى جَدُّكَ وَلاَ إِلَهَ غَيْرُكَ، ثُمَّ يَقُولُ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ الله ثَلاَثًا، ثُمَّ يَقُولُ: الله أَكْبَرُ كَبِيرًا ثَلاَثًا، أَعُوذُ بِالله السَّمِيعِ العَلِيمِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ مِنْ هَمْزِهِ وَنَفْخِهِ وَنَفْثِهِ ) (1) .
وقد تقدم حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - عند مسلم في دعاء الرسول - صلى الله عليه وسلم - إذا رفع رأسه من الركوع .
الدعاء باسم الله المجيد دعاء عبادة .
أثر الاسم على العبد أن يعظم الله - عز وجل - في قلبه ويعتقد في علوه على خلقه، وأن يكون في قوله وفعله مترفعا عن النقائص والعيوب، سريع التوبة من المعاصي والذنوب يسموا بهمته إلى الدرجات العلى ليصل بتوحيده إلى الفردوس الأعلى في الرفيق الأعلى مع الأبرار والصالحين، قال تعالى: { كَلا إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ كِتَابٌ مَّرْقُومٌ يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ } [المطففين:18/21]، وقال: { إِنَّ الذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً خَالِدِينَ فِيهَا لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً } [الكهف:108] .
__________
(1) أبو داود في كتاب الصلاة، باب من رأى الاستفتاح بسبحانك اللهم وبحمدك 1/206 ( 775)، وانظر مشكاة المصابيح (1217) .(2/330)
والموحد على يقين بأن عزه ومجده في توحيده لله وعبوديته وقربه وطاعته والفوز بمحبته وجنته، وليس مجده في طلب الجاه ورفعته أو المال وزينته، فالله - عز وجل - جعل دار القرار جزاء لمن طرح عن نفسه العلو والاستكبار، ومجد الله بتوحيد الأسماء والصفات والأفعال، وما أبلغ النصيحة من مؤمن آل فرعون لما قال: { يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ } [غافر:39]، وقال: { تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ } [القصص:83] .
ومن دعاء العبادة باسم الله المجيد تمجيد كلامه فقد وصفه بذلك في كتابه فقال سبحانه: { ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيد } [ق:1]، وقال أيضا: { بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظ } [البروج:22]، فالموحد ينبغي أن يؤمن بأن القرآن كلام الله، وكلامه وصف ذاته وفعله، والوصف حكمه حكم الموصوف، والله من أسمائه المجيد فكلامه مجيد غير مخلوق وليس من كلام البشر، تنزه ربنا وتعالى مجده عن قول الجاهلين ومن سار على دربهم من المتكلمين، فتوحيده في اسمه المجيد يوجب على الموحد أن يعظم كلام الله ولا يهون من شأنه، أو يقصر في تنفيذ أمره، أو يتردد في تصديق خبره، فالله - عز وجل - قال في وصفه: { إِنَّ الذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيد } [فصلت:42] .(2/331)
وممن تسمى بالتعبد للاسم، عبد المجيد بن سهل بن عبد الرحمن بن عوف الزهري المدني ممن روى عنهم البخاري في صحيحة قال: ( حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ عَنْ مَالِكٍ، عَنْ عَبْدِ الْمَجِيدِ بْنِ سُهَيْلِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ وَعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - اسْتَعْمَلَ رَجُلاً عَلَى خَيْبَرَ فَجَاءَهُ بِتَمْرٍ جَنِيبٍ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : أَكُلُّ تَمْرِ خَيْبَرَ هَكَذَا، قَالَ: لاَ وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّا لَنَأْخُذُ الصَّاعَ مِنْ هَذَا بِالصَّاعَيْنِ وَالصَّاعَيْنِ بِالثَّلاَثَةِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : لاَ تَفْعَلْ، بِعِ الْجَمْعَ بِالدَّرَاهِمِ، ثُمَّ ابْتَعْ بِالدَّرَاهِمِ جَنِيبًا ) (1) .
********************************
60- الله - جل جلاله - الفَتَّاحُ
********************************
الدليل على ثبوت الاسم وإحصائه .
سمى الله نفسه الفتاح على سبيل الإطلاق مرادا به العلمية ودالا على كمال الوصفية في نص واحد من النصوص القرآنية وهو قوله تعالى: { قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيم } [سبأ:26]، ولم يرد الاسم في السنة إلا في حديث سرد الأسماء المدرجة عند الترمذي وليس بحجة .
شرح الاسم وتفسير معناه .
__________
(1) البخاري في البيوع، باب إذا أراد بيع تمر بتمر خير منه 2/767 (2089)، وانظر ترجمته في الثقات للبستي 7/136، وتهذيب الكمال 18/269، والتعديل والجرح لأبي الوليد الباجي 2/921 (1000) .(2/332)
الفتاح في اللغة من صيغ المبالغة على وزن فعال من اسم الفاعل الفاتح، فعله فَتَحَ يَفْتَح فَتْحاً، والفَتْحُ نقيض الإِغلاق، قال تعالى: { إِنَّ الذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ } [الأعراف:40]، والمعنى أن أَبواب السماء تغلق أمام أرواحهم، فلا تَصْعَدُ أَرواحُهم ولا أَعمالهم بعكس المؤمنين، والمفتاح كلُّ ما يُتَوَصَّل به إلى استخراج الْمْغلقاَت التي يَتَعذَّر الوُصُول إليها، وعند البخاري من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ الْكَلِمِ وَنُصِرْتُ بِالرُّعْبِ، وَبَيْنَمَا أَنَا نَائِمٌ الْبَارِحَةَ إِذْ أُتِيتُ بِمَفَاتِيحِ خَزَائِنِ الأَرْضِ حَتَّى وُضِعَتْ في يَدِي ) (1)، فأخْبر - صلى الله عليه وسلم - أنه أوتيَ مَفاتِيحَ الكَلِم، وهو ما يَسَّر الله له من البَلاغة والفصاحة والوُصول إلى غوامض المعاني وبدائع الحِكَم ومَحاسِن العِبارات والألفاظ التي أُغلِقت على غيره، ومَن كان في يَده مفَاتيح شيء سَهُلَ عليه الوصول إليه، والفتَّاحُ في اللغة أيضا هو الحاكِمُ يقال للقاضي الذي يحكم بين الناس فَتَّاحُ لأَنه يَفْتُحُ مواضع الحق (2) .
__________
(1) البخاري في التعبير، باب رؤيا الليل 6/2568 (6597) .
(2) انظر في المعنى اللغوي: لسان العرب 2/536، واشتقاق أسماء الله للزجاج ص189، ومفردات ألفاظ القرآن ص621، وكتاب العين 3/194.(2/333)
والفتَّاح سبحانه هو الذي يفتح أبواب الرَّحْمة والرزق لعباده أجمعين أو يفتح أبواب البلاء لامتحان المؤمنين الصادقين، فمن الأول ما ورد في قوله تعالى: { وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } [الأعراف:96]، وقوله: { مَا يَفْتَحِ الله لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } [فاطر:2]، قيل معناه ما يأْتيهم به الله من مطر أَو رزق فلا يقدر أَحد أَن يمنعه، وما يمسك من ذلك فلا يقدر أَحد أَن يرسله، ومن الفتح بمعنى فتح البلاء والامتحان ما ورد في قوله تعالى: { فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ } [الأنعام:44] (1) .
والفتاح هو الذي يحكم بين العباد فيما هم فيه يختلفون، ومنه قوله تعالى: { رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ } [الأعراف:89]، وهو - عز وجل - الذي يفتح خزائن جوده وكرمه لعباده الطائعين، ويفتح أبواب البلاء والهلاك على الكافرين وهو الذي يَفتَحُ على خَلقِهِ ما انغلَقَ عليهم من أمورِهِم، فيُيَسّرُها لهم فَضلا منه وكَرَمًا لأن خزائن السماوات والأرض بيده، يفتح منها ما يشاء بحكمته وعلى ما قضاه في خلقه بمشيئته (2)، قال ابن القيم:
وكذلك الفتاح من أسمائه : والفتح في أوصافه أمران
فتح بحكم وهو شرع إلهنا : والفتح بالأقدار فتح ثان
__________
(1) فتح القدير 4/ 326، وتفسير الطبري 22/ 114، وتفسير الثعالبي 3/ 252.
(2) صحيح البخاري 4/1697، وتفسير القرطبي 14/300، وتفسير ابن كثير 3/539 .(2/334)
والرب فتاح بذين كليهما : عدلا وإحسانا من الرحمن (1) .
دلالة الاسم على أوصاف الله .
اسم الله الفتاح يدل على ذات الله وعلى صفة الفتح بدلالة المطابقة، وعلى أحدهما بالتضمن، قال تعالى: { الذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ الله قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ } [النساء:141]، وقال سبحانه: { مَا يَفْتَحِ الله لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ } [فاطر:2]، وقال: { قُل يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالحَقِّ وَهُوَ الفَتَّاحُ العَلِيمُ } [سبأ:26] .
وعند البخاري من حديث سهل بن سعد - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال يوم خيبر: ( لأُعْطِيَنَّ الرَّايَةَ رَجُلاً يَفْتَحُ الله عَلَى يَدَيْهِ ) (2)، وروى أيضا من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( فَأَنْطَلِقُ فَآتِي تَحْتَ العَرْشِ، فَأَقَعُ سَاجِدًا لِرَبِّى - عز وجل - ثُمَّ يَفْتَحُ الله عَلَي مِنْ مَحَامِدِهِ وَحُسْنِ الثَّنَاءِ عَلَيْهِ شَيْئًا لَمْ يَفْتَحْهُ عَلَى أَحَدٍ قبلي ) (3)، وعند البخاري من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (فَتَحَ الله مِنْ رَدْمِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مِثْلَ هَذَا ) (4) .
والاسم يدل باللزوم على الحياة والقيومية والسمع والبصر والعلم والقدرة والغنى والرحمة والعزة والقوة والعدل والحكمة وغير ذلك من أوصاف الكمال، واسم الله الفتاح دل على صفة من صفات الأفعال .
__________
(1) شرح قصيدة ابن القيم 2/234.
(2) البخاري في الجهاد، باب دعاء النبي S إلى الإسلام والنبوة 3/1077 (2783) .
(3) البخاري في التفسير، باب ذرية من حملنا مع نوح 4/ 1746 (4435) .
(4) البخاري في أحاديث الأنبياء، باب قصة يأجوج ومأجوج 3/1221 (3169) .(2/335)
الدعاء باسم الله الفتاح دعاء مسألة .
ورد دعاء المسألة بالوصف في قوله تعالى عن نوح - عليه السلام -: { قَالُوا لَئِن لمْ تَنتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ المَرْجُومِينَ قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي وَمَن مَّعِي مِنَ المُؤْمِنِينَ فَأَنجَيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ فِي الفُلكِ المَشْحُونِ ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ البَاقِينَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ } [الشعراء:118]، وقال تعالى عن شعيب - عليه السلام - وقومه: { قَالَ المَلأُ الذِينَ اسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالذِينَ آمَنُواْ مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي ملتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى الله كَذِباً إِنْ عُدْنَا فِي ملتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا الله مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلا أَنْ يَشَاءَ الله رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُل شَيْءٍ عِلماً عَلَى الله تَوَكَّلنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الفَاتِحِينَ } [الأعراف:89] .(2/336)
وعند مسلم من حديث أبي حميد - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( إِذَا دَخَلَ أَحَدُكُمُ الْمَسْجِدَ فَلْيَقُلِ: اللهُمَّ افْتَحْ لِي أَبْوَابَ رَحْمَتِكَ، وَإِذَا خَرَجَ فَلْيَقُلِ اللهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ ) (1)، وروى أيضا من حديث عبد الله - رضي الله عنه - قال: ( إِنَّا لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ فِي الْمَسْجِدِ إِذْ جَاءَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ فَقَالَ: لَوْ أَنَّ رَجُلاً وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلاً فَتَكَلمَ جَلَدْتُمُوهُ أَوْ قَتَلَ قَتَلْتُمُوهُ، وَإِنْ سَكَتَ سَكَتَ عَلَى غَيْظٍ، وَاللهِ لأَسْأَلَنَّ عَنْهُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ أَتَى رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَسَأَلَهُ فَقَالَ: لَوْ أَنَّ رَجُلاً وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلاً فَتَكَلمَ جَلَدْتُمُوهُ أَوْ قَتَلَ قَتَلْتُمُوهُ أَوْ سَكَتَ سَكَتَ عَلَى غَيْظٍ، فَقَالَ: اللهُمَّ افْتَحْ، وَجَعَلَ يَدْعُو فَنَزَلَتْ آيَةُ اللِّعَانِ: { وَالذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلاَّ أَنْفُسُهُمْ } هَذِهِ الآيَاتُ؛ فَابْتُلِىَ بِهِ ذَلِكَ الرَّجُلُ مِنْ بَيْنِ النَّاسِ، فَجَاءَ هُوَ وَامْرَأَتُهُ إِلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَتَلاَعَنَا؛ فَشَهِدَ الرَّجُلُ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ، ثُمَّ لَعَنَ الْخَامِسَةَ أَنَّ لَعْنَةَ اللهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ، فَذَهَبَتْ لِتَلْعَنَ فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : مَهْ، فَأَبَتْ، فَلَعَنَتْ، فَلَمَّا أَدْبَرَا قَالَ: لَعَلهَا أَنْ تَجِىءَ بِهِ أَسْوَدَ جَعْدًا، فَجَاءَتْ بِهِ أَسْوَدَ جَعْدًا ) (2)
__________
(1) مسلم في صلاة المسافرين، باب ما يقول إذا دخل المسجد 1/494 (713) .
(2) مسلم في كتاب اللعان 2/1133 (1495) .(2/337)
.
الدعاء باسم الله الفتاح دعاء عبادة .
أثر الاسم على العبد أن يعتمد على ربه قبل الأخذ بالأسباب وأن يطلب منه وحده مفاتح الخير، وذلك يكون بحسن توكله عليه وركونه إليه، وأن يحذر من الدنيا إذا فتحت عليه، روى البخاري من حديث أبي سعيد - رضي الله عنه - أَنِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قام على المنبر فقال: ( إِنَّمَا أَخْشَى عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِى مَا يُفْتَحُ عَلَيْكُمْ مِنْ بَرَكَاتِ الأَرْضِ ) (1)، وفي رواية أخرى قال: ( إني مِمَّا أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِى مَا يُفْتَحُ عَلَيْكُمْ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا وَزِينَتِهَا ) (2) .
وعند ابن ماجة وحسنه الألباني من حديث سهل بن سعد الساعدي - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( إِنَّ هَذَا الْخَيْرَ خَزَائِنُ، وَلِتِلْكَ الْخَزَائِنِ مَفَاتِيحُ، فَطُوبَى لِعَبْدٍ جَعَلَهُ اللهُ مِفْتَاحًا لِلْخَيْرِ مِغْلاَقًا لِلشَّرِّ، وَوَيْلٌ لِعَبْدٍ جَعَلَهُ اللهُ مِفْتَاحًا لِلشَّرِّ مِغْلاَقًا لِلْخَيْرِ ) (3) .
__________
(1) البخاري في الجهاد، باب فضل النفقة في سبيل الله 3/1045 (2687) .
(2) البخاري في الزكاة، باب الصدقة على اليتامى 2/532 (1396) .
(3) ابن ماجه في المقدمة، باب من كان مفتاحا للخير 1/87 (238)، صحيح الترغيب والترهيب (66) .(2/338)
وينبغي على العبد أن يعلم أن مفتاح الخير كله في توحيد الله - عز وجل - ومتابعة نبيه - صلى الله عليه وسلم - فعند مسلم من حديث عقبة بن عامر - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ يَتَوَضَّأُ فَيُسْبِغُ الْوُضُوءَ ثُمَّ يَقُولُ: أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ إِلاَّ فُتِحَتْ لَهُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ الثَّمَانِيَةُ يَدْخُلُ مِنْ أَيِّهَا شَاءَ ) (1)، وعند الترمذي وحسنه الألباني من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( مَا قَالَ عَبْدٌ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ قَطُّ مُخْلِصًا إِلاَّ فُتِحَتْ لَهُ أَبْوَابُ السَّمَاءِ حَتَّى تُفْضِيَ إِلَى الْعَرْشِ مَا اجْتَنَبَ الْكَبَائِرَ ) (2) .
وممن تسمى بالتعبد للاسم، عبد الفتاح بن إسماعيل ابن عبد الله ابن أبي عمرو الهروي (ت:540هـ) من أهل هراة، شيخ من أهل الخير، سمع الإمام أبا إسماعيل عبد الله بن محمد بن علي الأنصاري (3) .
********************************
61- الله - جل جلاله - الشَّهِيدُ
********************************
الدليل على ثبوت الاسم وإحصائه .
__________
(1) مسلم في الطهارة، باب الذكر المستحب عقب الوضوء 1/209 (234) .
(2) الترمذي في الدعوات، باب دعاء أم سلمة 5/575 (3590)، صحيح الجامع (5648) .
(3) التجبير في المعجم الكبير للسمعاني 1/469 .(2/339)
ورد الاسم في كثير من النصوص القرآنية مقرونا بالعلو والفوقية كما في قول الله تعالى: { قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى اللهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } [سبأ:47]، وقوله - عز وجل -: { أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } [فصلت:53]، وقد ورد مقيدا في آيات كثيرة كما في قوله: { لَكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللهِ شَهِيداً } [النساء:166] .
وعند البخاري ومسلم من حديث ابن عباس - رضي الله عنه - مرفوعا: ( .. فَأَقُولُ كَمَا قَالَ العَبْدُ الصَّالِحُ: { وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شيء شَهِيدٌ إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ العَزِيزُ الحَكِيم } قال: فَيُقَالُ لِي إِنَّهُمْ لَمْ يَزَالُوا مُرْتَدِّينَ عَلَى أَعْقَابِهِمْ مُنْذُ فَارَقْتَهُمْ ) (1) .
شرح الاسم وتفسير معناه .
__________
(1) البخاري في أحاديث الأنبياء، باب وكنت عليهم كلاهما ما دمت فيهم 4/1691 (4349)، ومسلم في كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب فناء الدنيا وبيان الحشر يوم القيامة 4/2194 (2860) .(2/340)
الشهيد في اللغة صيغة مبالغة من اسم الفاعل الشاهد، فعله شهد يشهد شهودا وشهادة، والشهود هو الحضور مع الرؤية والمشاهدة، وعند أبي داود وحسنه الألباني من حديث أُبَىِّ - رضي الله عنه - أنه قال: ( صَلى بِنَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمًا الصُّبْحَ، فَقال: أَشَاهِدٌ فُلاَنٌ قَالُوا: لاَ، قَالَ أَشَاهِدٌ فُلاَنٌ، قَالُوا لاَ، قال: إِنَّ هَاتَيْنِ الصَّلاَتَيْنِ أَثْقَلُ الصَّلَوَاتِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ وَلَوْ تَعْلَمُونَ مَا فِيهِمَا لأَتَيْتُمُوهُمَا وَلَوْ حَبْوًا عَلَى الرُّكَبِ ) (1) .
والشهادة هي الإِخْبار بما شاهَدَه، شَهِدَ فلان على فلان بحق فهو شاهد وشهيد فالشاهد يلزمه أن يُبَيِّنُ ما عَلِمَهُ على الحقيقة، وعند البخاري من حديث أَبِي بَكْرَةَ - رضي الله عنه - أن رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: ( أَلاَ أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ؟ قُلْنَا: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ، قال: الإِشْرَاكُ بِاللهِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ، وَكَانَ مُتَّكِئًا فَجَلَسَ فَقال: أَلاَ وَقَوْلُ الزُّورِ وَشَهَادَةُ الزُّورِ، أَلاَ وَقَوْلُ الزُّورِ وَشَهَادَةُ الزُّورِ، فَمَا زَالَ يَقُولُهَا حَتَّى قُلْتُ لاَ يَسْكُتُ ) (2) .
__________
(1) أبو داود في كتاب الصلاة، باب في فضل صلاة الجماعة 1/151 (554)، وانظر حكم الألباني على الحديث في مشكاة المصابيح حديث رقم (1066) .
(2) البخاري في الأدب، باب عقوق الوالدين من الكبائر 5/2229 (5631) .(2/341)
والشهادة تأتي بمعنى الحكم كما ورد عند البخاري من حديث زيد بن ثابت - رضي الله عنه - أن أم العلاء رضي الله عنها قالت عند وفاة عثمان بن مظعون - رضي الله عنه -: ( رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْكَ أَبَا السَّائِبِ، فَشَهَادَتِي عَلَيْكَ لَقَدْ أَكْرَمَكَ اللهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : وَمَا يُدْرِيكِ أَنَّ اللهَ قَدْ أَكرَمَهُ؟ فَقُلْتُ: بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ الله فَمَنْ يُكرِمُهُ اللهُ .. الحديث ) (1) .
والشهيد سبحانه هو الرقيب على خلقه أينما كانوا وحيثما كانوا، حاضر شهيد أقرب إليهم من حبل الوريد، يسمع ويرى وهو بالمنظر الأعلى وعلى العرش استوى فالقلوب تعرفه والعقول لا تكيفه، وهو سبحانه فوق عرشه على الحقيقة، وبالكيفية التي تناسبه وشهادته على خلقه شهادة إحاطة شاملة كاملة، تشمل العلم والرؤية والتدبير والقدرة (2)، والشهيد أيضا هو الذي شهد لنفسه بالوحدانية والقيام بالقسط كما قال - عز وجل -: { شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } [آل عمران:19] .
__________
(1) البخاري في الجنائز، باب الدخول على الميت بعد الموت إذا أدرج في كفنه 1/419 (1186)، وانظر في المعنى اللغوي لسان العرب 3/ 238، وكتاب العين 3/ 398 .
(2) تفسير أسماء الله الحسنى ص، وجامع البيان 7/90 53 .(2/342)
وشهادة الله لنفسه بالوحدانية تضمنت عند السلف الصالح عدة مراتب، قال ابن أبي العز: ( وعبارات السلف في شَهِدَ تدور على الحكم والقضاء والإعلام والبيان والإخبار وهذه الأقوال كلها حق لا تنافي بينها، فإن الشهادة تتضمن كلام الشاهد وخبره، وتتضمن إعلامه وإخباره وبيانه، فلها أربع مراتب، فأول مراتبها علم ومعرفة واعتقاد لصحة المشهود به وثبوته، وثانيها تكلمه بذلك وإن لم يعلم به غيره بل يتكلم بها مع نفسه ويتذكرها وينطق بها أو يكتبها، وثالثها أن يعلم غيره بما يشهد به ويخبره به ويبينه له، ورابعها أن يلزمه بمضمونها ويأمره به، فشهادة الله سبحانه لنفسه بالوحدانية والقيام بالقسط تضمنت هذه المراتب الأربع، علمه بذلك سبحانه وتكلمه به وإعلامه وإخباره لخلقه به وأمرهم وإلزامهم به ) (1)، فالله - عز وجل - شهيد يشهد بصدق المؤمنين إذا وحدوه ويشهد لرسله وملائكته، وفوق كل شهادة شهادته لنفسه بالوحدانية، وقد تقدم تفصيل ذلك في اسم الله المؤمن بما يغني عن الإعادة .
دلالة الاسم على أوصاف الله .
اسم الله الشهيد يدل على ذات الله وعلى صفة الشهادة بدلالة المطابقة، وعلى ذات الله وحدها بالتضمن، وعلى الصفة وحدها بالتضمن، قال تعالى: { قُل أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ الله شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ } [الأنعام:19]، وقال: { لَكِنِ الله يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلمِهِ وَالمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِالله شَهِيداً } [النساء:166]، وقال - عز وجل -: { وَالله يَشْهَدُ إِنَّ المُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ } [المنافقون:1] .
__________
(1) شرح العقيدة الطحاوية ص89 .(2/343)
وعند البخاري من حديث أبي بكرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال يوم النحر: ( اللهمَّ اشْهَدْ فَليُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الغَائِبَ، فَرُبَّ مُبَلغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ، فَلاَ تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ ) (1)، واسم الله الشهيد يدل باللزوم على الحياة والقيومية والسمع والبصر والعلم والإحاطة وغير ذلك من أوصاف الكمال، واسم الله الشهيد دل على صفة من صفات الذات إن كان معناه المطلع الرقيب، ودل على صفة من صفات الأفعال إن كان معناه من الشهادة لنفسه ولغيره، وأنه الذي شهد لنفسه بالوحدانية وشهد لأهل الحق بصدقهم .
الدعاء باسم الله الشهيد دعاء مسألة .
ورد الدعاء بالوصف في قوله تعالى عن عيسى - عليه السلام - وأتباعه من الحواريين: { فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى الله قَالَ الحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ الله آمَنَّا بِالله وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ } [آل عمران:52]، وقال: { وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُون } [المائدة:111] .
وعند الحاكم وصححه الشيخ الألباني من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( مَنْ قال: اللهمَّ إِنِّي أُشْهِدُكَ وَأُشْهِدُ مَلاَئِكَتَكَ وحَمَلَةَ عَرْشِكَ، وأشهد من في السماوات ومن في الأرض أَنَّكَ أَنْتَ الله لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ، وحدك لا شريك لك، وأشهد أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُكَ وَرَسُولُكَ، من قالها مرة اعتق الله ثلثه من النار، ومن قالها مرتين أعتق الله ثلثيه من النار، ومن قالها ثلاثا أعتق الله كله من النار ) (2) .
__________
(1) البخاري في الحج، باب الخطبة أيام منى 2/620 (1654) .
(2) مستدرك الحاكم 1/704 (1920)، السلسلة الصحيحة 1/534 (267) .(2/344)
وروى أبو داود وصححه الشيخ الألباني من حديث سليمان بن عمرو عن أبيه - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع يقول: ( أَلاَ إِنَّ كُل رِبًا مِنْ رِبَا الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ، لَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ، أَلاَ وَإِنَّ كُل دَمٍ مِنْ دَمِ الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ، وَأَوَّلُ دَمٍ أَضَعُ مِنْهَا دَمُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، كَانَ مُسْتَرْضَعًا فِي بَنِي لَيْثٍ فَقَتَلَتْهُ هُذَيْلٌ، قال: اللهُمَّ هَلْ بَلغْتُ، قَالُوا: نَعَمْ، ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، قال: اللهُمَّ اشْهَدْ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ ) (1) .
__________
(1) أبو داود في البيوع، باب في وضع الربا 3/244 (3334)، وصحيح أبي داود (1700) .(2/345)
وروى النسائي وصححه الألباني من حديث الأحنف بن قيس - رضي الله عنه - قال: ( خَرَجْنَا حُجَّاجًا فَقَدِمْنَا الْمَدِينَةَ وَنَحْنُ نُرِيدُ الْحَجَّ؛ فَبَيْنَا نَحْنُ فِي مَنَازِلِنَا نَضَعُ رِحَالَنَا إِذْ أَتَانَا آتٍ فَقال: إِنَّ النَّاسَ قَدِ اجْتَمَعُوا فِي الْمَسْجِدِ وَفَزِعُوا، فَانْطَلَقْنَا فَإِذَا النَّاسُ مُجْتَمِعُونَ عَلَى نَفَرٍ فِي وَسَطِ الْمَسْجِدِ، وَإِذَا عَلِي وَالزُّبَيْرُ وَطَلْحَةُ وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، فَإِنَّا لَكَذَلِكَ إِذْ جَاءَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ عَلَيْهِ مُلاَءَةٌ صَفْرَاءُ، قَدْ قَنَّعَ بِهَا رَأْسَهُ فَقال: أَهَهُنَا عَلِي، أَهَهُنَا طَلْحَةُ أَهَهُنَا الزُّبَيْرُ، أَهَهُنَا سَعْدٌ؟ قَالُوا: نَعَمْ قال: فَإِنِّي أَنْشُدُكُمْ بِاللهِ الذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: مَنْ يَبْتَاعُ مِرْبَدَ بَنِي فُلاَنٍ غَفَرَ اللهُ لَهُ، فَابْتَعْتُهُ بِعِشْرِينَ أَلْفًا أَوْ بِخَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ أَلْفًا؛ فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَأَخْبَرْتُهُ، فَقال: اجْعَلْهَا فِي مَسْجِدِنَا وَأَجْرُهُ لَكَ؟ قَالُوا: اللهُمَّ نَعَمْ، قال فَأَنْشُدُكُمْ بِاللهِ الذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال مَنْ يَبْتَاعُ بِئْرَ رُومَةَ غَفَرَ اللهُ لَهُ فَابْتَعْتُهُ بِكَذَا وَكَذَا فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقُلْتُ: قَدِ ابْتَعْتُهَا بِكَذَا وَكَذَا قال: اجْعَلْهَا سِقَايَةً لِلْمُسْلِمِينَ وَأَجْرُهَا لَكَ ؟، قَالُوا: اللهُمَّ نَعَمْ، قال فَأَنْشُدُكُمْ بِاللهِ الذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - نَظَرَ فِي وُجُوهِ الْقَوْمِ فَقال: مَنْ جَهَّزَ هَؤُلاَءِ اللهُ(2/346)
غَفَرَ لَهُ يَعْنِي جَيْشَ الْعُسْرَةِ، فَجَهَّزْتُهُمْ حَتَّى مَا يَفْقِدُونَ عِقَالاً وَلاَ خِطَامًا؟ قَالُوا: اللهُمَّ نَعَمْ، قال: اللهُمَّ اشْهَدِ، اللهُمَّ اشْهَدْ ) (1) .
الدعاء باسم الله الشهيد دعاء عبادة .
دعاء العبادة باسم الله الشهيد هو أثره على العبد في شهادته بالحق، ولو أغضبت سائر الخلق، وأعظم شهادة وأجل شهادة هي شهادة التوحيد ونبذ الشرك، فعند البخاري من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( يَا مُعَاذُ بْنَ جَبَلٍ، وَمُعَاذٌ رَدِيفُهُ عَلَى الرَّحْلِ، قال: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ وَسَعْدَيْكَ، قال: يَا مُعَاذُ قال: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ وَسَعْدَيْكَ، ثَلاَثًا، قال: مَا مِنْ أَحَدٍ يَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ صِدْقًا مِنْ قَلْبِهِ إِلاَّ حَرَّمَهُ اللهُ عَلَى النَّارِ، قال: يَا رَسُولَ اللهِ، أَفَلاَ أُخْبِرُ بِهِ النَّاسَ فَيَسْتَبْشِرُوا، قال: إِذًا يَتَّكِلُوا، وَأَخْبَرَ بِهَا مُعَاذٌ عِنْدَ مَوْتِهِ تَأَثُّمًا ) (2) .
وتلك الشهادة هي أعظم شهادة شهد بها رب العزة والجلال، وشهدت بها الملائكة والأنبياء وأولو العلم، وقد هاجر النبي - صلى الله عليه وسلم - وخاصمه قومه من أجلها، وتبرأ إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - من والده بسببها فحري بمن وحد الله في اسمه الشهيد أن يجدد إيمانه بها وأن يموت عليها .
وبخصوص التسمية بعبد الشهيد لم أجد بالبحث الحاسوبي أحدا سمي به في مجال ما أجرينا عليه البحث، وإن كانت محركات البحث على الإنترنت أظهرت أسماء كثيرة لأناس في عصرنا .
********************************
__________
(1) النسائي في الأحباس، باب وقف المساجد 6/234 (3607)، وانظر ظلال الجنة (1303).
(2) البخاري في العلم، باب من خص بالعلم قوما دون قوم كراهية أن لا يفهموا 1/59 (128) .(2/347)
62- الله - جل جلاله - المُقَدِّمُ
********************************
الدليل على ثبوت الاسم وإحصائه .
لم يرد الاسم في القرآن ولكن سماه به النبي - صلى الله عليه وسلم - على سبيل الإطلاق مرادا به العلمية ودالا على كمال الوصفية، وقد ورد المعنى محمولا عليه مسندا إليه، كما جاء في الحديث المتفق عليه عند البخاري والمسلم من حديث ابن عباس - رضي الله عنه - أن النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - كَانَ إِذَا قَامَ مِنَ الليْلِ يَتَهَجَّدُ قال: ( اللهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ قَيِّمُ السَّماَوَاتِ وَالأَرْضِ .. إلى أن قال .. فَاغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ، وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ، أَنْتَ الْمُقَدِّمُ وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ، لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ أَوْ لاَ إِلَهَ غَيْرُكَ ) (1) .
شرح الاسم وتفسير معناه .
__________
(1) البخاري في كتاب التهجد، باب التهجد بالليل 1/377 (1069) .(2/348)
المُقَدِّمُ في اللغة اسم فاعل، فعله قدَّمَ يقَدَّم تقديما، وعند البخاري من حديث أَبِي هُرَيْرَة - رضي الله عنه - أن رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: ( مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ ) (1)، والقَدَم كل ما قدّمْتَ من خير أو شر، وتَقَدَّمَتْ لفُلان فيه قَدَمٌ أي تَقَدُّم في خير وشرٍّ، والقَدَمُ والقُدْمةُ السَّبْقَةُ في الأمر، قال تعالى: { وَبَشِّرِ الذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ } [يونس:2]، ومعنى قدم صدق يعني عملاً صالحا قدّموه، يقال: لفلان قَدَمُ صِدْقٍ أَي أَثرَة حَسَنة، وقال تعالى: { وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ } [الحجر:24]، قيل معناه لقد علمنا المستقدمين منكم في طاعة، أو من يأْتي منكم أَولاً إِلى المسجد ومن يأْتي متأَخرا، أو من يتقدم من الناس على صاحبه في الموت (2) .
__________
(1) البخاري في كتاب الصوم، باب صوم رمضان احتسابا من الإيمان 1/22 (38) .
(2) لسان العرب 12/467، كتاب العين 5/122، عون المعبود 2/331 .(2/349)
والمقدم سبحانه هو الذي يقدم ويؤخر وفق مشيئته وإرادته، فالتقديم من أنواع التدبير الذي يتعلق بفعل الله في خلقه، وهو على نوعين، كوني وشرعي، فالتقديم الكوني تقدير الله في خلقه وتكوينه وفعله كما ورد ذلك في قوله: { قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرّاً وَلا نَفْعاً إِلا مَا شَاءَ اللهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ } [يونس:49]، وقوله تعالى: { قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ } [سبأ:30]، ومن التقديم المتعلق بالتدبير الكوني اصطفاء الحق لمن شاء من خلقه، وتقديم بعض خلقه على بعضه بناء على حكمته في ابتلاء المخلوقات واصطفاء من شاء للرسالات كما قال تعالى: { إِنَّ اللهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ } [آل عمران:33]، وقوله عن مريم: { وَإِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ } [آل عمران:42]، وقوله عن طالوت: { قَالَ إِنَّ اللهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } [البقرة:247]، فهذا اصطفاء وتقديم يتعلق بالمشيئة والتدبير الكوني .(2/350)
أما التقديم الشرعي فهو متعلق بمحبة الله لفعل دون فعل، وتقديم بعض الأحكام على بعض، لما تقتضيه المصلحة التي تعود على العباد، كما في سنن النَسائي وصححه الألباني من حديث البراء - رضي الله عنه - أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( إِنَّ اللهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَي الصَّفِّ الْمُقدَّمِ، وَالمُؤَذّن يُغْفَرُ لَهُ بِمَدِّ صَوْتِهِ، وَيُصَدِّقُهُ مَنْ سَمِعَهُ مِنْ رَطبٍ وَيَابِسٍ وَلَهُ مِثْل أَجْرِ مَنْ صَلى مَعَهُ ) (1)، وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( لَوْ تَعْلَمُونَ أَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي الصَّفِّ الْمُقَدَّمِ لَكانَتْ قُرْعَةً ) (2)، وعند أبي داود وصححه الألباني من حديث أَنَسِ - رضي الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: ( أَتِمُّوا الصَّفَّ الْمُقَدَّمَ ثُمَّ الذِي يَلِيهِ فَمَا كَانَ مِنْ نَقْصٍ فَلْيَكُنْ فِي الصَّفِّ الْمُؤَخَّرِ ) (3)، ولا عبرة بمن ادعى أنه لا يرغب في التقدم إلى الصف الأول بحجة أن الناس يطلبون فيه الأجر، وأن والعبادة الحق هي ما يكون بغير عوض أو مقابل (4)، وعند البخاري من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( أَسْرِعُوا بِالجِنَازَةِ، فَإِن تَكُ صَالِحَةً فَخَيْرٌ تُقَدِّمُونَهَا إِلَيْهِ، وَإِن يَك سِوَى ذَلِكَ فَشَرٌّ تَضَعُونَهُ عَنْ رِقَابِكمْ ) (5)،
__________
(1) النسائي في الأذان، باب رفع الصوت بالأذان 2/13 (646)، وانظر صحيح الجامع (1841) .
(2) مسلم في الصلاة، باب تسوية الصفوف وإقامتها وفضل الأول فالأول منها 1/326 (439) .
(3) أبو داود في الصلاة، باب تسوية الصفوف 1/180 (671)، وانظر صحيح الجامع (122) .
(4) انظر طبقات الصوفية ص489، والتعرف لمذهب أهل التصوف ص161، وصفة الصفوة 2/249 .
(5) البخاري في الجنائز، باب السرعة بالجنازة 1/442 (1252) .(2/351)
فالمُقَدِّم سبحانه هو الذي يُقدِّم الأشياء ويَضَعها في مواضِعها على مقتضى الحكمة والاستحقاق، فمن اسْتَحقّ التقديمَ قدّمه ومن استحق التأخير أخره، والله تعالى أيضا هو المقدم الذي قدم الأحباء وعصمهم من معصيته، وقدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الأنبياء تشريفا له على غيره، وقدم أنبياءه وأولياءه على غيرهم فاصطفاهم ونصرهم وطهرهم وأكرمهم (1) .
دلالة الاسم على أوصاف الله .
اسم الله المقدم يدل على ذات الله وعلى وصف التقديم بدلالة المطابقة، وعلى أحدهما بدلالة التضمن، وقد ورد وصف الفعل في قوله تعالى: { قَالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالوَعِيدِ } [ق:28]، وعند أحمد في المسند وصححه الألباني من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( إِنَّ أَدْنَى أَهْلِ الجَنَّةِ مَنْزِلَةً رَجُلٌ صَرَفَ الله وَجْهَهُ عَنِ النَّارِ قِبَلَ الجَنَّةِ، وَمَثَّلَ لَهُ شَجَرَةً ذَاتَ ظِلٍّ، فَقال: أي رَبِّ قدمني إِلَى هَذِهِ الشَّجَرَةِ؛ فَأَكُونَ في ظِلِّهَا، فَقَالَ الله: هَل عَسَيْتَ إِنْ فَعَلتُ أَنْ تسألني غَيْرَهَا؟ قال: لاَ وَعِزَّتِكَ، فَقَدَّمَهُ الله إِلَيْهَا، وَمَثَّلَ لَهُ شَجَرَةً ذَاتَ ظِلٍّ وَثَمَرٍ، فَقال: أي رَبِّ قدمني إِلَى هَذِهِ الشَّجَرَةِ؛ أَكُونُ في ظِلِّهَا، وَآكُلُ مِنْ ثَمَرِهَا فَقَالَ الله لَهُ: هَل عَسَيْتَ إِنْ أَعْطَيْتُكَ ذَلِكَ أَنْ تسألني غَيْرَهُ؟ فَيَقُولُ: لاَ وَعِزَّتِكَ فَيُقَدِّمُهُ الله إِلَيْهَا ) (2)، والاسم يدل باللزوم على الحياة والقيومية والسمع والبصر والعلم والقدرة والغنى والعزة والعلو والعظمة وغير ذلك من أوصاف الكمال واسم الله المقدم دل على صفة من صفات الأفعال، قال ابن القيم:
__________
(1) النهاية في غريب الحديث 4/25 .
(2) مسند أحمد 3/27 (11232)، صحيح الجامع (1557) .(2/352)
وهو المقدم والمؤخر ذانك : الصفتان للأفعال تابعتان
وهما صفات الذات أيضا إذ : هما بالذات لا بالغير قائمتان (1) .
الدعاء باسم الله المقدم دعاء مسألة .
ورد الدعاء بالاسم المطلق وكذلك الوصف عند مسلم من حديث علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أن كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا سجد قال: ( اللهمَّ لَكَ سَجَدْتُ، وَبِكَ آمَنْتُ، وَلَكَ أَسْلَمْتُ سَجَدَ وَجْهِي للذِي خَلَقَهُ وَصَوَّرَهُ فَأَحْسَنَ صُورَتَهُ، وَشَقَّ سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ وَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخَالِقِينَ، وَإِذَا سَلمَ مِنَ الصَّلاَةِ قال: اللهمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ وَمَا أَسْرَفْتُ، وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي أَنْتَ المُقَدِّمُ وَالمُؤَخِّرُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ ) (2) .
__________
(1) توضيح المقاصد وتصحيح القواعد في شرح قصيدة الإمام ابن القيم 2/241 .
(2) مسلم في صلاة المسافرين، باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه 1/535 (771) .(2/353)
ومما ورد من الدعاء بالوصف ما رواه البخاري من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( ثُمَّ يَفْرُغُ اللهُ مِنَ الْقَضَاءِ بَيْنَ الْعِبَادِ، وَيَبْقَى رَجُلٌ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَهْوَ آخِرُ أَهْلِ النَّارِ دُخُولاً الْجَنَّةَ، مُقْبِلٌ بِوَجْهِهِ قِبَلَ النَّارِ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ اصْرِفْ وَجْهِي عَنِ النَّارِ قَدْ قَشَبَنِي رِيحُهَا، وَأَحْرَقَنِي ذَكَاؤُهَا؟ فَيَقُولُ: هَلْ عَسَيْتَ إِنْ فُعِلَ ذَلِكَ بِكَ أَنْ تَسْأَلَ غَيْرَ ذَلِكَ؟ فَيَقُولُ: لاَ وَعِزَّتِكَ؛ فَيُعْطِي اللهَ مَا يَشَاءُ مِنْ عَهْدٍ وَمِيثَاقٍ فَيَصْرِفُ اللهُ وَجْهَهُ عَنِ النَّارِ، فَإِذَا أَقْبَلَ بِهِ عَلَى الْجَنَّةِ رَأَى بَهْجَتَهَا سَكَتَ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَسْكُتَ ثُمَّ قال: يَا رَبِّ قَدِّمْنِي عِنْدَ بَابِ الْجَنَّةِ، فَيَقُولُ اللهُ لَهُ: أَلَيْسَ قَدْ أَعْطَيْتَ الْعُهُودَ وَالْمَوَاثِيقَ أَنْ لاَ تَسْأَلَ غَيْرَ الذِي كُنْتَ سَأَلْتَ؟ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ لاَ أَكُونُ أَشْقَى خَلْقِكَ، فَيَقُولُ: فَمَا عَسَيْتَ إِنْ أُعْطِيتَ ذَلِكَ أَنْ لاَ تَسْأَلَ غَيْرَهُ؟ فَيَقُولُ: لاَ وَعِزَّتِكَ لاَ أَسْأَلُ غَيْرَ ذَلِكَ فَيُعْطِي رَبَّهُ مَا شَاءَ مِنْ عَهْدٍ وَمِيثَاقٍ، فَيُقَدِّمُهُ إِلَى بَابِ الْجَنَّةِ، فَإِذَا بَلَغَ بَابَهَا، فَرَأَى زَهْرَتَهَا وَمَا فِيهَا مِنَ النَّضْرَةِ وَالسُّرُورِ فَيَسْكُتُ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَسْكُتَ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ أَدْخِلْنِي الْجَنَّةَ فَيَقُولُ اللهُ: وَيْحَكَ يَا ابْنَ آدَمَ مَا أَغْدَرَكَ، أَلَيْسَ قَدْ أَعْطَيْتَ الْعَهْدَ وَالْمِيثَاقَ أَنْ لاَ تَسْأَلَ غَيْرَ الذِي أُعْطِيتَ؟ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ لاَ تَجْعَلْنِي أَشْقَى خَلْقِكَ، فَيَضْحَكُ اللهُ - عز وجل - مِنْهُ، ثُمَّ يَأْذَنُ لَهُ فِي دُخُولِ(2/354)
الْجَنَّةِ، فَيَقُولُ: تَمَنَّ، فَيَتَمَنَّى حَتَّى إِذَا انْقَطَعَتْ أُمْنِيَّتُهُ قَالَ اللهُ - عز وجل -: تَمَنَّ كَذَا وَكَذَا، أَقْبَلَ يُذَكِّرُهُ رَبُّهُ حَتَّى إِذَا انْتَهَتْ بِهِ الأَمَانِي، قَالَ اللهُ تَعَالَى: لَكَ ذَلِكَ وَمِثْلُهُ مَعَهُ ) (1) .
الدعاء باسم الله المقدم دعاء عبادة .
أثر الاسم على العبد أن يقدِّم منهج الله على أي منهج سواه، ولا يقدم عليه عقله وهواه، ويحذر من الشهوة والشبهة ويراقب ما قدمته يداه، ويزن أوليات العبودية في التزاماته ويراعي ما قدمه الله في أحكامه وتشريعاته، ويعمل في الدنيا كأنه غريب أو عابر سبيل .
وتقديم الموحد منهج الله على أي منهج سواه لا بد أن يكون بمحبة وإقرار ويقين وتسليم، فلا يوجد من هو أعلم بالله من الله، ولا أعلم من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - به، ومن الأمور التي تتطلب التوقف والانتباه، معارضة العقل وتقديمه على كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - لاسيما في موضوع الأسماء الحسنى والصفات العلى، لأن بعض المتكلمين يرى أن عقله مقدم عليهما، وأنه يعطل ويؤول ما شاء منهما بحجة أن التعارض بين العقل والنقل حاصل فيهما، وأن الظاهر من كلامهما فيه تشبيه وتمثيل لا بد من صرفه بدليل أو بغير دليل، ولو حقق الأمر لعلم أنه من المحال أن يتعارض العقل الصريح الواضح مع النقل الصحيح الثابت، بل العقل الصريح يشهد للنقل الصحيح ويؤيده .
__________
(1) البخاري في الأذان، باب فضل السجود1/278 (773) .(2/355)
والسبب في ذلك سبب منطقي والتسليم به أمر حتمي، هذا السبب هو وحدة الصنعة والمصدر؛ فالذي خلق العقل هو الذي أرسل إليه النقل، وهو - عز وجل - أعلم بصناعته لعقل الإنسان، وأعلم بما يصلحه في دار الابتلاء ودار الجزاء، وهو أعلم بما يصلحه في كل زمان ومكان؛ فإذا وضع الحق تبارك وتعالى نظاما دقيقا لصلاح صنعته وألزم الإنسان ببالغ علمه وحكمته أن يعمل بمنهجه وشريعته، كان من المحال أن يضل الإنسان أو يشقى، أو يعيش معيشة ضنكا إذا قدم منهج الله وهدايته على عقله ورؤيته، قال - عز وجل -: { قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى ِ } [طه126:123] .
ومعلوم عند سائر العقلاء أن أولى من يضع النظام لتشغيل المصنوعات مخترعها وصانعها، ولو حدث خلل في التشغيل فذلك إما لسوء المنهج أو عدم الالتزام بالدليل كذلك ولله المثل الأعلى لو حدث تعارض بين العقل والنقل فذلك لسببين لا ثالث لهما إما أن النقل لم يثبت فيتمسك مدعي التعارض بحديث ضعيف أو موضوع وينقلها للناس على أنه من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - دون تمحيص، والسبب الثاني في التعارض أن العقل لم يفهم النقل ولم يدرك خطاب الله - عز وجل - على النحو الصحيح .(2/356)
والذي يقدم عقله على الكتاب والسنة في باب الأسماء والصفات وغير ذلك من الغيبيات أو الأحكام والتكليفات، لا بد أن يعلم أن الله - عز وجل - لما أهبط الأبوين من الجنة عهد إليهما عهدا لهما ولجميع الذرية إلى يوم القيامة، وضمن لمن تمسك بعهده أنه لا يضل ولا يشقى، وأن من أعرض عنه سيعيش معيشة ضنكا .
كما أن المتمسكين بالأدلة القرآنية والنبوية والذين يقدمونها على آرائهم وعقولهم لاسيما في باب الصفات الإلهية، هؤلاء قد شهد الله لهم بالعلم واليقين وكفى به شهيدا بين المختصمين، شهد لهم أنهم على بصيرة من ربهم وبينة من أمرهم، وأنهم هم أولو العقل والألباب، وأن لهم نورا على نور وأنهم هم المهتدون المفلحون، لأن الرسل في بلاغهم عن ربهم صادقون ولا يخبرون عن الله إلا بالحق الذي يعلمون، ولا يخبرون عن أسمائه وصفاته وأفعاله وأحكامه إلا بالحق المحض، سواء في التكليف والطلب وأحكام العبودية أو الخبر عن توحيد الأسماء والصفات والربوبية .
وهذه أول درجات الإيمان عند كل مسلم صادق، فمتى علم المؤمن أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أخبر بشيء من الغيبيات أو الأسماء والصفات صدق تصديقا جازما يبلغ علم اليقين ويزداد المؤمن إيمانا بعين اليقين وحق اليقين، وعلم أيضا أنه لا يجوز أن يكون في الوحي شيء باطني مخفي بخلاف ما فهمه سائر الناس، وأنه من المحال أن يعارض الوحي دليل عقلي يحدث التخبط والالتباس، وأن كل من يظن أنه يعارض خبر الرسل بحججه العقلية وآرائه الفكرية فحجته داحضة وشبهته فاسدة وهي من جنس السفسطة وأنواع القرمطة، فالعقلاء عن الله يعلمون أنه من المحال أن يعارض كتابَ الله وسنةَ رسوله - صلى الله عليه وسلم - رأي أو مقال، فما الظن بمن اعتقد أن أدلة الوحي متضاربة وأن أدلة العقل والنقل متعارضة، وأنه ينبغي كما يزعمون تقديم العقل على النقل عند التعارض .(2/357)
والقصد أن من وحد الله في اسمه المقدم ينبغي أن يقدم منهج الله على أي منهج ولا يقدم عليه عقله وهواه، ويفخر بذلك ويعلم أنه على بصيرة في اتباع السنة وترك البدعة وأن التوحيد نور وأن الشرك ظلمة .
ومن دعاء العبادة أيضا أن يراعي ما قدمه الله في أحكامه وتشريعاته، ويزن أوليات العبودية في التزاماته، فلا يقدم مندوبا على واجب مفروض، ولا يخلط في الأحكام بين ما هو معلوم محدود، فأحكام العبودية التي جعلها الله - عز وجل - تكليفا لقلب العبد ولسانه وجوارحه هي الواجبات والمستحبات والمباحات والمكروهات والمحرمات، فمن قدم بعقله وأخر برأيه شيئا على شيء في غير المباحات مما أمر الله وشرع فهو محدث في دين الله مبتدع، كمن ألزم نفسه بورد في الذكر وقدم شيخه وكلامه على ما ثبت به الأمر، وزعم أن قراءة الورد تعادل الالتزام بكذا وكذا من أمور الشرع آلاف المرات .
وكذلك ادعاء البعض الترفع عن طلب الأجر في عبادتهم لله وأنهم إنما يعبدون الله ولا يطمعون في جنة أو نار، وأن عبادتهم حرة من طلب الأغيار وفعل التجار، فهؤلاء قدموا رأي أنفسهم على كتاب الله وما ثبت عن رسوله - صلى الله عليه وسلم - من الأخبار، وجعلوا أنفسهم أعلى مرتبة من سيد الخلق في عبادته للواحد القهار .(2/358)
ومن دعاء العبادة أيضا أن يتيقظ العبد لشهوته وهواه، ويراقب في كل يوم حصيلة إيمانه وما قدمته يداه قبل أن يندم بين يدي الله حين لا ينفع الندم، قال تعالى: { كَلا إِذَا دُكَّتِ الأَرْضُ دَكّاً دَكّاً وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ وَلا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ } [الفجر:21/26]، وقال - عز وجل -: { وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } [المزمل:20]، وقال تعالى: { يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } [الحشر:18] .
أما من جهة التسمية بعبد المقدم والتعبد بهذا الاسم فلم يتسم به أحد من السلف أو الخلف في مجال ما أجرينا عليه البحث الحاسوبي، وأيضا جميع محركات البحث علي الإنترنت، وهنيئا لمن سمى نفسه أو ولده بهذا الاسم؛ فسيكون أول من تعبد لله به فيما نعلم والله أعلم .
********************************
63- الله - جل جلاله - المُؤخِّرُ
********************************
الدليل على ثبوت الاسم وإحصائه .(2/359)
لم يرد الاسم في القرآن ولكن سماه به النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقد ورد مع الاسم الذي تقدم في قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( أَنْتَ الْمُقَدِّمُ وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ )، والذي ورد في القرآن وصف الفعل كما في قوله تعالى: { وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ } [المنافقون:10]، لكن الاشتقاق من الفعل مرجعيته إلى النص وليس إلى اجتهاد الشخص، فدورنا حيال الأسماء الجمع والإحصاء ثم الحفظ والدعاء، وليس الاشتقاق والإنشاء، ولذلك فإن اسم الله المؤخر ثابت لوروده في السنة .
شرح الاسم وتفسير معناه .
المؤخر في اللغة عكس المقدم، فعله أخّر يؤخر تأخيرا، والتأخر ضد التقدم، ومنه ما ورد عند البخاري من حديث عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه قال: ( فَتَبَسَّمَ رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَقال: أَخِّرْ عَنِّى يَا عُمَرُ ) (1) .
وعند البخاري من حديث عبد الله بن عمرو - رضي الله عنه - أَن النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( ما سئل عَنْ شَيْءٍ قُدِّمَ وَلاَ أُخِّرَ إِلاَّ قَالَ افْعَلْ وَلاَ حَرَجَ ) (2)، وعند البخاري من حديث أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رضي الله عنه - أنه قال: ( كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا ارْتَحَلَ قَبْلَ أَنْ تَزِيغَ الشَّمْسُ أَخَّرَ الظُّهْرَ إِلَى وَقْتِ الْعَصْرِ، ثُمَّ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا، وَإِذَا زَاغَتْ صَلى الظُّهْرَ ثُمَّ رَكِبَ ) (3) .
__________
(1) البخاري في الجنائز، باب ما يكره من الصلاة على المنافقين 1/459 (1300) .
(2) البخاري في العلم، باب الفتيا وهو واقف على الدابة وغيرها 1/43 (83) .
(3) البخاري في كتاب تقصير الصلاة، باب يؤخر الظهر إلى العصر 1/374 (1060)، وانظر كتاب العين للخليل بن أحمد 4/ 303، والمغرب للمطرزي 1/32 .(2/360)
والمؤخْر سبحانه هو الذي يُؤخّر الأشياء فَيَضَعُها في مَواضعها، إما تأخيرا كونيا كما ورد عند مسلم من حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - أن أم حبيبة قالت: ( اللهُمَّ أَمْتِعْنِي بِزَوْجِي رَسُولِ الله وَبِأَبِي أَبِي سُفيَانَ وَبِأَخِي مُعَاوِيَةَ، فَقَالَ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - : قَدْ سَأَلتِ الله لآجَالٍ مَضْرُوبَةٍ وَأَيَّامٍ مَعْدُودَةٍ وَأَرْزَاقٍ مَقْسُومَةٍ، لَنْ يُعَجِّلَ شَيْئًا قَبْلَ حِلِّهِ أَوْ يُؤَخِّرَ شَيْئًا عَنْ حِلِّهِ وَلَوْ كُنْتِ سَأَلْتِ الله أَنْ يُعِيذَكِ مِنْ عَذَابٍ فِي النَّارِ أَوْ عَذَابٍ فِي الْقَبْرِ كَانَ خَيْرًا وَأَفْضَلَ ) (1) ، وإما تأخيرا شرعيا كما ورد عند مسلم من حديث أَبِي عَطِيَّة أنه قال: ( دَخَلْتُ أَنَا وَمَسْرُوقٌ عَلَى عَائِشَةَ فَقُلْنَا: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ رَجُلاَنِ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - أَحَدُهُمَا يُعَجِّلُ الإِفْطَارَ وَيُعَجِّلُ الصَّلاَةَ، وَالآخَرُ يُؤَخِّرُ الإِفْطَارَ وَيُؤَخِّرُ الصَّلاَةَ، قَالَتْ أَيُّهُمَا الذِي يُعَجِّلُ الإِفْطَارَ وَيُعَجِّلُ الصَّلاَةَ؟ قال: قُلْنَا عَبْدُ اللهِ يَعْنِي ابْنَ مَسْعُود، قَالَتْ: كَذَلِكَ كَانَ يَصْنَعُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ) (2) .
__________
(1) مسلم في القدر، باب بيان أن الآجال والأرزاق وغيرها لا تزيد ولا تنقص 4/2050 ( 2663) .
(2) مسلم في كتاب الصيام، باب فضل السحور وتأكيد استحبابه 2/771 (1099) .(2/361)
والمؤخر أيضا هو الذي يؤخر العذاب بمقتضى حكمته ابتلاء لعباده لعلهم يتوبوا إليه قال تعالى: { وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ } [النحل:61]، وقال - عز وجل -: { وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ } [إبراهيم:42]، فالمؤخر هو المنزِلُ للأشياء منازلَها يقدِمُ ما يشاءُ بحكمته ويؤخرُ ما يشاء منها (1)، والفرق بين الآخر والمؤخر أن الآخر دل على صفة من صفات الذات، والمؤخر دل على صفة من صفات الفعل .
دلالة الاسم على أوصاف الله .
__________
(1) لسان العرب 4/11 .(2/362)
اسم الله المؤخر يدل على ذات الله وعلى التأخير كوصف فعل بدلالة المطابقة وعلى ذات الله وحدها بالتضمن، وعلى الصفة وحدها بالتضمن، قال تعالى: { وَلَوْ يُؤَاخِذُ الله النَّاسَ بِظُلمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ } [النحل:61]، وقال سبحانه: { وَلَنْ يُؤَخِّرَ الله نَفْساً إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَالله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } [المنافقون:11]، وقال - عز وجل -: { يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً إِنَّ أَجَلَ الله إِذَا جَاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } [نوح:4]، وعند مسلم من حديث أبي سعيد - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رَأَى في أَصْحَابِهِ تَأَخُّرًا فقال لهم: ( تَقَدَّمُوا فَائْتَمُّوا بي، وَليَأْتَمَّ بِكُمْ مَنْ بَعْدَكُمْ، لاَ يَزَالُ قَوْمٌ يَتَأَخَّرُونَ حَتَّى يُؤَخِّرَهُمُ الله ) (1)، وعند أبي داود وصححه الألباني من حديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( لاَ يَزَالُ قَوْمٌ يَتَأَخَّرُونَ عَنِ الصَّفِّ الأَوَّلِ حَتَّى يُؤَخِّرَهُمُ الله فِي النَّارِ ) (2)، والاسم يدل باللزوم على ما دل عليه اسمه المقدم، واسم الله المؤخر دل على صفة من صفات الأفعال .
الدعاء باسم الله المؤخر دعاء مسألة .
__________
(1) مسلم في الصلاة، باب تسوية الصفوف وإقامتها 1/325 (438) .
(2) أبو داود في الصلاة، باب صف النساء 1/181 (679)، وانظر صحيح الجامع (7699) .(2/363)
ورد دعاء المسألة بالاسم المطلق عند البخاري من حديث علي الذي تقدم في اسم الله المقدم وفيه: ( اللهمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ وَمَا أَسْرَفْتُ، وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي أَنْتَ المُقَدِّمُ وَالمُؤَخِّرُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ ) (1) .
وعنده البخاري أيضا من حديث أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يدعو بهذا الدعاء: ( رَبِّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي وَجَهْلِي، وَإِسْرَافِي فِي أَمْرِي كُلِّهِ، وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي، اللهُمَّ اغْفِرْ لِي خَطَايَاي وَعَمْدِي، وَجَهْلِي وَهَزْلِي، وَكُلُّ ذَلِكَ عِنْدِي، اللهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ، أَنْتَ الْمُقَدِّمُ وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ ) (2) .
وورد الدعاء بالرحمة لمن قدمهم الله أو أخرهم من الأموات والأحياء كما ورد عن مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت: ( قُلْتُ: كَيْفَ أَقُولُ لَهُمْ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قال: قُولِي: السَّلاَمُ عَلَى أَهْلِ الدِّيَارِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ وَيَرْحَمُ اللهُ الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنَّا وَالْمُسْتَأْخِرِينَ، وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللهُ بِكُمْ لَلاَحِقُونَ ) (3) .
الدعاء باسم الله المؤخر دعاء عبادة .
__________
(1) مسلم في صلاة المسافرين، باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه 1/535 (771) .
(2) البخاري في الدعوات، باب قول النبي S: اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت 5/2350 (6035) .
(3) مسلم في الجنائز، باب ما يقال ثم دخول القبور والدعاء لأهلها 2/670 (974) .(2/364)
أثر الاسم على العبد أن يؤخر ما أخره الله - عز وجل -؛ فيراعي أحكام العبودية في تأخير ما أخره وتقديم ما قدمه، قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } [الحجرات:1]، وقد حذر الله - عز وجل - مَن رَفعَ صوته في حضرة نبيه - صلى الله عليه وسلم - وأنذره أن يُحبط عمله، فكيف بمن نحى حكمه ووصف شرعه بالرجعية، وقدم عليه تشريعات وضعية ومناهج عَلمانية شيوعية، روى مسلم من حديث أنس - رضي الله عنه - أنه قال: ( لمَّا نَزَل قول الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ } [الحجرات:2]، جَلسَ ثَابِتُ بْنُ قَيْسٍ فِي بَيْتِهِ وَقَال: أَنَا مِنْ أَهْل النَّارِ وَاحْتَبَسَ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، فَسَأَل النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ فَقَال: يَا أَبَا عَمْرٍو مَا شَأْنُ ثَابِتٍ اشْتَكَى؟ قَال سَعْدٌ: إِنَّهُ لجَارِي يا رسول الله، وَمَا عَلمْتُ لهُ بِشَكْوَى، قَال: فَأَتَاهُ سَعْدٌ فَذَكَرَ لهُ قَوْل رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَال ثَابِتٌ: أُنْزِلتْ هَذِهِ الآيَةُ، وَلقَدْ عَلمْتُمْ أَنِّي مِنْ أَرْفَعِكُمْ صَوْتًا على رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَأَنَا مِنْ أَهْل النَّارِ، فَذَكَرَ ذَلكَ سَعْدٌ للنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، فَقَال رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : بَل هُوَ مِنْ أَهْل الجَنَّةِ، فَكُنَّا نَرَاهُ يَمْشِي بَيْنَ أَظْهُرِنَا رَجُلٌ مِنْ أَهْل الجَنَّةِ ) (1) .
__________
(1) مسلم في الإيمان، باب مخافة المؤمن أن يحبط عمله 1/110 (119) .(2/365)
فينبغي لمن وحد الله في اسمه المؤخر أن يحذر من تقديم ما أخره الله ولو اجتمع الخلق على تقديمه، أو يؤخر ما قدمه ولو اجتمعوا على تأخيره، فإن الدنيا ملك لله لا لهم، ودخول الجنة بإذنه هو دون إذنهم، وقد جعل الله - عز وجل - النجاة في شرعه دون شرعهم، وأخص بالذكر الحذر من دعاوي المبطلين في العبث بأحكام الله في نساء المسلمين، فيؤخرونهن حيث قدمهن الله، ويقدمونهن حيث أخرهن الله، حتى أصبحت حياتهن ضياعا، وبات وجودهن مجرد شهوة ومتاعا، قدم الله النساء في صحبة الأبناء لهن ورعايتهن فأخروهن وأخرجوهن من بيوتهن وتركن رعاية أولادهن، حتى أصبح الولد لا يرى أمه ولا يعرف إلا خادمته أو مربيته أو خادنته، روى البخاري من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال: ( جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقال: يَا رَسُولَ اللهِ مَنْ أَحَقُّ بِحُسْنِ صَحَابَتِي؟ قال: أُمُّكَ، قال: ثُمَّ مَنْ؟ قال: أُمُّكَ، قال: ثُمَّ مَنْ؟ قال: أُمُّكَ قال: ثُمَّ مَنْ؟ قال: ثُمَّ أَبُوكَ ) (1) .
إن الموحد لربه في اسمه المؤخر يجب عليه أن يحذر من كل تقليد أعمى يسلكه كل منحل من رباط الأحكام، وكل متحرر من قيود الإسلام، وكل من جاهر بعصيان الديان وسارع في تبعية الشيطان وأحفاده من بني الإنسان، يدعي على أهل الإيمان التخلف عن ركب الحضارة ومعاصرتها، وهو في حقيقته متخلف عن درب الجنة وطريق أهلها، متقدم إلى حرية الهوى والجحيم والهلاك بعذابها، فبئس التقدم هذا، وبئست الحرية تلك، إن الحرية الحق هي عبودية الله والاستضاءة بتوجيهه في الحياة .
__________
(1) البخاري في كتاب الأدب، باب من أحق الناس بحسن الصحبة 5/2227 (5626) .(2/366)
وقد أخر الله - عز وجل - النساء حفاظا عليهن وصيانة لهن، وقطعا لمرضى القلوب وطمعهم فيهن فجاء هؤلاء وأخرجوهن من بيوتهن وخلعوا الستر والحياء عن وجوههن وأجسادهن وعوراتهن، ووضعوهن فيما ليس من شأنهن، وأقنعوهن بتحدي خالقهن وتأخير شرعه فيهن، كل ذلك مزاحمة منهن للرجال في كل شيء، وكأنهن يردن من ربهن أن يحولهن رجالا بدلا من قضائه وقدره الذي لا يرضيهن، فتمردن على خالقهن وتحررن من إرادته لهن، حتى أصبحن سلعة فاسدة، وبضاعة كاسدة، لا تصلح لبناء أمة تشرف نبيها - صلى الله عليه وسلم - وتعتز بدينها .
ومن ثم فإن المسلمة التي وحدت الله - عز وجل - في اسمه المؤخر عليها أن تطيع ربها ولا تعترض على قدرها في كونها امرأة، فالله - عز وجل - لما فضل الرجل في الإنفاق والقوامة أخرها في منزلها حفاظا عليها وطلبا للسلامة، فهي المستفيدة أولا وآخرا من سعيه وكسبه قال تعالى: { الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللهُ } [النساء:34] .
ولما أخرها للوقوف في الصفوف الصلاة كان حفاظا على مكانتها وسلامتها وتقواها بين يدي الله، روى مسلم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( خَيْرُ صُفُوفِ الرِّجَالِ أَوَّلُهَا وَشَرُّهَا آخِرُهَا وَخَيْرُ صُفُوفِ النِّسَاءِ آخِرُهَا وَشَرُّهَا أَوَّلُهَا ) (1).
__________
(1) مسلم في الصلاة، باب تسوية الصفوف وإقامتها وفضل الأول فالأول منها 1/326 (440) .(2/367)
ومن دعاء العبادة أيضا أن يأخذ المسلم بالرخصة في التقديم والتأخير، ويتبع السنة في ذلك طالما صح فيه الدليل، روى البخاري من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه قال: ( رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا أَعْجَلَهُ السَّيْرُ في السَّفَرِ يُؤَخِّرُ الْمَغْرِبَ حَتَّى يَجْمَعَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْعِشَاءِ ) (1) .
أما من جهة التسمية بعبد المؤخر والتعبد لله بهذا الاسم فلم يتسم به أحد من السلف أو الخلف في مجال ما أجرينا عليه البحث الحاسوبي، وأيضا جميع محركات البحث علي الإنترنت، وهنيئا لمن سمى نفسه أو ولده بهذا الاسم فسيكون أول من تعبد لله به فيما نعلم، والله أعلم .
********************************
64- الله - جل جلاله - المَلِيكُ
********************************
الدليل على ثبوت الاسم وإحصائه .
__________
(1) البخاري في تقصير الصلاة، باب يصلي المغرب ثلاثا في السفر 1/370 (1041) .(2/368)
اسم الله المليك ورد في القرآن الكريم مطلقا يفيد المدح والثناء على الله بنفسه منونا مرادا به العلمية ودالا على الوصفية وكمالها، وقد ورد المعنى محمولا عليه مسندا إليه كما في قوله تعالى: { إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِر } [القمر:55]، وقد ورد الاسم مقيدا في السنة، فعند الترمذي وصححه الألباني من حديث أبي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - أن أبا بَكْرٍ الصديق - رضي الله عنه - قال: يَا رَسُولَ الله مُرْنِي بِشَيْءٍ أَقُولُهُ إذَا أَصْبَحْتُ وَإذَا أَمْسَيْتُ، قال: ( قُل: اللهُمَّ عَالِمَ الغَيْبِ وَالشّهَادَةِ، فَاطِرَ السَّمَاواتِ والأَرْضِ، رَبَّ كُلِّ شَيءٍ وَمَلِيكَهُ أشْهَدُ أَن لاَ إِله إِلاّ أنْتَ أعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ نَفْسِي وَمِنْ شَرِّ الشَّيْطَانِ وشِرْكِهِ، قَالَ قُلهُ إذَا أَصْبَحْتَ وَإذَا أَمْسَيْتَ وإِذَا أخَذْتَ مَضْجَعَكَ ) (1) .
شرح الاسم وتفسير معناه .
المليك في اللغة من صيغ المبالغة على وزن فعيل فعله ملك يملك مِلكا ومُلكا، وجمع المليك ملكاء، والمليك هو المالك العظيم الملك، ويكون بمعنى المَلك (2)، وهو اسم يدل على العلو المطلق للمَلك في مُلكه ومِلكيته، فله علو الشأن والقهر في وصف الملكية، وله علو الشأن والفوقية في وصف الملك والاستواء على العرش، قال أمية بن أبي الصلت:
لك الحمد والنعماء والفضل ربنا : ولا شيء أعلى منك جدا وأمجد
مليك على عرش السماء مهيمن : لعزته تعنو الوجوه وتسجد (3) .
__________
(1) الترمذي في كتاب الدعوات 5/467 (3392)، السلسلة الصحيحة 6/580 (2753) .
(2) زاد المسير 8/104، روح المعاني 27/96 .
(3) تفسير القرطبي 11/248، وروح المعاني 9/113 .(2/369)
والفرق بين المالك والملك والمليك، أن المالك في اللغة صاحب المِلْك أو من له ملكية الشيء، ولا يلزم أن يكون المُلك له، فقد يؤثر الملك على المالك وملكيته فيحجر على ملكيته أو ينازعه فيها أو يسلبها منه، أما الملك فهو أعم من المالك لأنه غالب قاهر فوق كل مالك، فالملك مهيمن على الملك وإن لم تكن له الملكية إلا بضرب من القهر ومنع الغير من التصرف فيما يملكون، والمليك صيغة مبالغة في إثبات كمال الملكية والملك معا مع دوامها أزلا وأبدا، فالمليك أكثر مبالغة من الملك، والملك أكثر مبالغة من المالك، قال ابن الجوزي: ( المليك هو المالك وبناء فعيل للمبالغة في الوصف، ويكون المليك بمعنى الملك ) (1)، فاسم الله المليك يشمل الأمرين معا الملكية والملك (2) .
دلالة الاسم على أوصاف الله .
__________
(1) انظر زاد المسير في علم التفسير لابن الجوزي 8/104، وانظر أيضا: الفروق اللغوية لأبي هلال العسكري ص 513، وتاج العروس للزبيدي 7/181 .
(2) انظر في تفسير الاسم أيضا: الأسماء والصفات ص46، وشرح أسماء الله الحسنى للرازي ص188 .(2/370)
الاسم يدل على ذات الله وعلى صفة المِلك والمُلك معا بدلالة المطابقة، وعلى ذات الله وحدها بالتضمن وعلى الصفة وحدها كذلك، قال الله تعالى عن وصف التملك والملكية: { مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ } [الفاتحة:4]، وقال: { قُل فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرّاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعاً بَل كَانَ اللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً } [الفتح:11]، وقال عن وصف الملك: { الذِي لَهُ مُلكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي المُلكِ وَخَلَقَ كُل شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً } [الفرقان:2]، وقال - عز وجل -: { لله مُلكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [المائدة:120]، وقال عن الوصفين معا: { قُلِ اللهمَّ مَالِكَ المُلكِ تُؤْتِي المُلكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ المُلكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [آل عمران:26] .
واسم الله المليك يدل باللزوم على مجموع ما دل عليه اسمه المالك والملك، واسم الله المليك دل على صفة من صفات الذات .
الدعاء باسم الله المليك دعاء مسألة .
ورد دعاء المسألة بالاسم المقيد في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - الذي تقدم لما طلب أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - من رسول الله أن يعلمه دعاء يقوله في الصباح والمساء (1) .
__________
(1) انظر ص539 .(2/371)
وعند أبي داود وصححه الألباني من حديث ابن عمر - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول إذا أخذ مضجعه: ( الْحَمْدُ لله الذِي كَفَانِي وَآوَانِي وَأَطْعَمَنِي وَسَقَانِي، وَالذِي مَنَّ عَلَي فَأَفْضَلَ، وَالذِي أَعْطَانِي فَأَجْزَلَ، الْحَمْدُ لله عَلَى كُلِّ حَالٍ، اللهُمَّ رَبَّ كُلِّ شَيْءٍ وَمَلِيكَهُ وَإِلَهَ كُلِّ شَيْءٍ، أَعُوذُ بِكَ مِنَ النَّارِ ) (1)، أما دعاؤه بالوصف الذي دله عليه اسمه المليك، فقد تقدم في الدعاء باسم الله المالك والملك .
الدعاء باسم الله المليك دعاء عبادة .
لما كان اسم الله المليك يدل على الكمال المطلق في وصف الملك والملكية معا، كان دعاء العبادة متمثلا في كمال التوحيد والعبودية وخضوع العبد لمليكه بالكلية، فقلبه يطمئن بحبه ولسانه رطب بذكره، وبدنه يسعى لقربه، وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يكثر من تسبيح الله باسمه الملك القدوس ويرفع صوته بذلك، روى أبو داود وصححه الألباني من حديث أبي بن كعب - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا سلم في الوتر قال: ( سُبْحَانَ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ ) (2)، وروى النسائي وصححه الشيخ الألباني من حديث بن أبزى - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( كَانَ يُوتِرُ بِسَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى، وقُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ، وَقُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ، وَيَقُولُ بَعْدَ مَا يُسَلِّمُ : سُبْحَانَ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ يَرْفَعُ بِهَا صَوْتَهُ ) (3) .
__________
(1) أبو داود في الأدب، باب ما يقال عند النوم 4/313 (5058)، وصحيح أبي داود (4229) .
(2) أبو داود في الصلاة، باب في الدعاء بعد الوتر 2/65 (1430) .
(3) النسائي في قيام الليل وتطوع النهار 3/244 (1732)، مشكاة المصابيح (1275) .(2/372)
وذكر أبو طالب المكي أن النفس مبتلاة بأربعة أوصاف، أولها معاني صفات الربوبية نحو الكبر والجبرية، وحب المدح والعز والغنى، ومبتلاة بأخلاق الشياطين مثل الخداع والحيلة والحسد، ومبتلاة بطبائع البدن وحب الأكل والشرب والنكاح، وهي مع ذلك كله مطالبة بأوصاف العبودية مثل الخوف والتواضع والذل، والنفس خلقت متحركة وأمرت بالسكوت، وأنى لها ذلك إن لم يتداركها المليك، وكيف تسكن بالأمر إن لم يسكنها محركها بالخير، فلا يكون العبد عبدا مخلصا حتى يكون للمعاني الثلاثة مخلصا، فإذا تحققت أوصاف العبودية كان خالصا من المعاني التي هي بلاؤه من صفات الربوبية، فإخلاص العبودية للوحدانية عند العلماء الموحدين أشد من الإخلاص في المعاملة عند العاملين، وبذلك رفعوا إلى مقامات القرب، وذلك أنه لا يكون عندهم عبدا حتى يكون من المخالفات حرا، فكيف يكون عبدَ رب وهو عبدُ عبد؟ (1) .
روى البخاري عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ وَعَبْدُ الدِّرْهَمِ وَعَبْدُ الْخَمِيصَةِ، إِنْ أُعْطِىَ رَضِيَ وَإِنْ لَمْ يُعْطَ سَخِطَ، تَعِسَ وَانْتَكَسَ وَإِذَا شِيكَ فَلاَ انْتَقَشَ ) (2) .
وبخصوص التسمية بعبد المليك والتعبد لله به، فلم يتسم به أحد من السلف أو الخلف في مجال ما أجرينا عليه البحث الحاسوبي، وأظهر البحث في الإنترنت بعضا من المسلمين في مصر تسموا به .
********************************
65- الله - جل جلاله - المُقتَدِرُ
********************************
الدليل على ثبوت الاسم وإحصائه .
__________
(1) قوت القلوب 1/85 بتصرف .
(2) البخاري في الجهاد، باب الحراسة في الغزو في سبيل الله 3/ 1057 (2730) .(2/373)
اسم الله المقتدر سمى الله نفسه به في قوله تعالى: { وَلَقَدْ جَاء آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ كَذَّبُوا بِآياتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ } [القمر:42]، وقال أيضا: { إِنَّ المُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ } [القمر:55]، فالاسم في الآيتين ورد مطلقا منونا مرادا به العلمية ودلا على كمال الوصفية، وورد مقرونا بالعلو والفوقية في قوله تعالى: { وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً } [الكهف:45]، وقد علمنا أن الاقتران بالعلو يزيد الإطلاق كمال على كمال، ولذلك فإن هذه الآية بمفردها كافية في إثبات اسم الله المقتدر، ولم يرد الاسم في حديث ثابت وإنما ورد في رواية الوليد بن مسلم عند الترمذي وهي رواية ضعيفة، كما أن سرد الأسماء فيها من إدراج الرواة وليس من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - (1) .
شرح الاسم وتفسير معناه .
المقتدر اسم فاعل من اقتدر، فعله اقتدر يقتدر اقتدارا، والأصل قدَّر يقدر، وقدَر يقدر قدرة، والمقتدر مُفْتَعِل من اقْتَدَرَ، وهو أكثر مبالغة من القادر والقدير (2)، قال ابن منظور: ( المُقْتَدِر الوسط من كل شيء، ورجل مُقْتَدِرُ الخَلْق أَي وَسَطُه، ليس بالطويل والقصير ) (3)، والمقتدر على الشيء هو المتمكن منه بإحاطة تامة وقوة والمهيمن عليه بإحكام كامل وقدرة، قال البيهقي: ( المقتدر هو التام القدرة الذي لا يمتنع عليه شيء ) (4) .
__________
(1) الترمذي كتاب الدعوات، 5/530 (3507)، وانظر تعليق الألباني في مشكاة المصابيح (2288) .
(2) النهاية في غريب الحديث 4/22 .
(3) لسان العرب 5/79 .
(4) الاعتقاد والهداية إلى سبيل الرشاد على مذهب السلف وأصحاب الحديث البيهقي ص63 .(2/374)
وقال المناوي: ( المقتدر من الاقتدار وهو الاستيلاء على كل من أعطاه حظا من قدرته .. والمقتدر أبلغ من القادر لما في البناء من معنى التكلف والاكتساب، فإن ذلك وإن امتنع في حقه تعالى حقيقة لكنه يفيد المعنى مبالغة ) (1) .
والمقتدر سبحانه هو الذي يقدِّر الأشياء بعلمه وينفذها بقدرته، فالمقتدر يجمع دلالة اسم الله القادر و القدير معا، فاسم الله القادر هو الذي يقدر المقادير في علمه، وعلمه المرتبة الأولى من قضائه وقدره، والله - عز وجل - قدر كل شيء قبل تصنيعه وتكوينه، ونظم أمور الخلق قبل إيجاده وإمداده، فالقادر يدل على التقدير في المرتبة الأولى، والقدير يدل على القدرة وتنفيذ المقدر في المرتبة الرابعة من مراتب القدر، فالقدير هو الذي يخلق وفق سابق التقدير .
والقدر بدايته في التقدير ونهايته في القدرة وتحقيق المقدر، أما المقتدر فيجمع وسطية الدلالة مع المبالغة وهذا ما دل عليه معناه في اللغة، حيث جمع في دلالته بين اسم الله القادر والقدير معا فهو أبلغ منهما في الدلالة والوصف، قال تعالى: { وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً } [الكهف:45]، أي مقتدرا على كل شيء من الأشياء يحييه ويفنيه بقدرته لا يعجز عن شيء (2)، وقال تعالى عن فرعون وقومه: { كَذَّبُوا بِآياتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ } [القمر:42] .
__________
(1) فيض القدير 2/487، ومفردات ألفاظ القرآن ص657، واشتقاق أسماء الله ص200 .
(2) فتح القدير للشوكاني 3/290 .(2/375)
قال الزركشي: ( واعلم أن اللفظ إذا كان على وزن من الأوزان ثم نقل إلى وزن آخر أعلى منه فلا بد أن يتضمن من المعنى أكثر مما تضمنه أولا، لأن الألفاظ أدلة على المعاني فإذا زيدت في الألفاظ وجب زيادة المعاني ضرورة ومنه قوله تعالى: { فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ } [القمر:42]، فهو أبلغ من قادر لدلالته على أنه قادر متمكن القدرة لا يرد شيء عن اقتضاء قدرته، ويسمى هذا قوة اللفظ لقوة المعنى ) (1) .
دلالة الاسم على أوصاف الله .
واسم الله المقتدر يدل على ذات الله وعلى صفة التقدير والقدرة معا بدلالة المطابقة وعلى ذات الله وحدها بالتضمن وعلى الصفة وحدها بالتضمن، قال تعالى: { وَكَانَ أَمْرُ اللهِ قَدَراً مَقْدُوراً } [الأحزاب:38]، وقال سبحانه: { الذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُل شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً } [الفرقان:2]، وتأمل كيف جمع الله - عز وجل - بين المليك الذي يدل على مجموع المعنى في اسم الله المالك والملك، والمقتدر الذي يدل على مجموع المعنى في اسم الله القادر والقدير، جمع بينهما وأضاف لهما العندية التي ينالها أهل التقوى في قوله - عز وجل -: { إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِر } [القمر:55]، والاسم يدل باللزوم على الحياة والقيومية والغنى والأحدية والسمع والبصر والعلم والحكمة والقوة والعزة والكبرياء والعظمة، وكل ما ذكر من دلالة اللزوم في اسم الله القادر والقدير، وغير ذلك من صفات الكمال، واسم الله المقتدر دل على صفة من صفات الذات والأفعال .
الدعاء باسم الله المقتدر دعاء مسألة .
__________
(1) البرهان في علوم القرآن لأبي عبد الله محمد بن بهادر الزركشي 3/34 .(2/376)
لم أجد دعاءا ثابتا بالاسم المطلق، إلا ما أثر عن بعض السلف كما روى عن سعيد بن المسيب أنه كان يدعو به ويقول: ( اللهم إنك مليك مقتدر وإن ما تشاء من أمر يكون، قال سعيد: فما سألت الله شيئا بها إلا استجاب لي ) (1) .
أما الدعاء بالوصف فالمقتدر سبحانه وتعالى هو الذي يقدِّر الأشياء بعلمه وينفذها بقدرته، وهو يجمع دلالة اسم الله القادر واسمه القدير معا، ومن الدعاء الجامع بين الأمرين ما ورد عند البخاري من حديث جابر - رضي الله عنه - قال: ( كَانَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يُعَلِّمُنَا الاِسْتِخَارَةَ فِي الأُمُورِ كَمَا يُعَلِّمُنَا السُّورَةَ مِنَ القُرْآنِ، يَقُولُ: إِذَا هَمَّ أَحَدُكُمْ بِالأَمْرِ فَليَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ الفَرِيضَةِ ثُمَّ لِيَقُلِ اللهمَّ إِنِّي أَسْتَخِيرُكَ بِعِلمِكَ وَأَسْتَقْدِرُكَ بِقُدْرَتِكَ، وَأَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ العَظِيمِ، فَإِنَّكَ تَقْدِرُ وَلاَ أَقْدِرُ وَتَعْلَمُ وَلاَ أَعْلَمُ وَأَنْتَ عَلاَّمُ الغُيُوبِ، اللهمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الأَمْرَ خَيْرٌ لِي فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي أَوْ قَالَ عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ فَاقْدُرْهُ لي وَيَسِّرْهُ لي ثُمَّ بَارِكْ لي فِيهِ، وَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الأَمْرَ شَرٌّ لي في ديني وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي أَوْ قَالَ في عَاجِلِ أمري وَآجِلِهِ، فَاصْرِفْهُ عَنِّي وَاصْرِفْنِي عَنْهُ، وَاقْدُرْ لِي الخَيْرَ حَيْثُ كَانَ ثُمَّ أَرْضِنِي، وَيُسَمِّي حَاجَتَهُ ) (2) .
__________
(1) كتاب الدعاء لأبي عبد الرحمن الضبي ص 242.
(2) البخاري في التوحيد، باب ما جاء في التطوع 1/391 ( 1109) .(2/377)
وروى النسائي وصححه الشيخ الألباني من حديث عمار بن ياسر - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( اللهمَّ بِعِلْمِكَ الْغَيْبَ وَقُدْرَتِكَ عَلَى الْخَلْقِ أحيني مَا عَلِمْتَ الْحَيَاةَ خَيْرًا لي وتوفني إِذَا عَلِمْتَ الْوَفَاةَ خَيْرًا لي، اللهمَّ وَأَسْأَلُكَ خَشْيَتَكَ في الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَأَسْأَلُكَ كَلِمَةَ الْحَقِّ في الرِّضَا وَالْغَضَبِ، وَأَسْأَلُكَ الْقَصْدَ في الْفَقْرِ وَالْغِنَى، وَأَسْأَلُكَ نَعِيمًا لاَ يَنْفَدُ، وَأَسْأَلُكَ قُرَّةَ عَيْنٍ لاَ تَنْقَطِعُ، وَأَسْأَلُكَ الرِّضَاءَ بَعْدَ الْقَضَاءِ، وَأَسْأَلُكَ بَرْدَ الْعَيْشِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَأَسْأَلُكَ لَذَّةَ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِكَ وَالشَّوْقَ إِلَى لِقَائِكَ في غَيْرِ ضَرَّاءَ مُضِرَّةٍ وَلاَ فِتْنَةٍ مُضِلةٍ، اللهمَّ زَيِّنَّا بِزِينَةِ الإِيمَانِ وَاجْعَلْنَا هُدَاةً مُهْتَدِينَ ) (1) .
الدعاء باسم الله المقتدر دعاء عبادة .
دعاء العبادة اعتقاد وقول وعمل، أما الاعتقاد فالموحد يعتقد في تقدير الله وقدرته على جميع الموجودات، ويؤمن بخلقه وتدبيره لجميع الكائنات، وينزه الله - عز وجل - أن يكون في ملكه شيء لا يقدر عليه، فيثبت التقدير السابق على الخلق، وأن العباد يعملون وفق ما قدره الحق، وأن الله - عز وجل - خلق الدنيا بأسباب تؤدي إلى نتائج، وعلل تؤدي إلى معلولات، وأن السبب والنتيجة أو العلة والمعلول مخلوقان بمراتب القدر وهما بين التقدير والقدرة، سواء ارتبط المعلول بعلته أو انفصل عن علته، فأهل اليقين ينظرون إلى الأسباب ويعلمون أن الله خلقها وهو الذي يقلبها بمراتب القدر، وأنها في ترابطها أو انفصالها صادرة عن كمال الحكمة في ابتلاء العباد .
__________
(1) النسائي في كتاب السهو 3/54 (1305) . وانظر صحيح الجامع (1301) .(2/378)
أما أثر الاسم في عبودية اللسان فيظهر حين يعلق الموحد أفعاله على مشيئة الله وقدرته، سواء في ماضيه أو حاضره أو مستقبله، وقد علمنا نبينا - صلى الله عليه وسلم - أن الموحد يقول فيما وقع ومضى من الأحداث: قدر الله وما شاء فعل، ولا يقل: لو كان كذا وكذا لكان كذا وكذا، فلا راد لقضائه ولا معقب لحكمه، لاسيما بعد نفاذ التدبير ووقوع القدرة على التقدير، وإنما يجوز للموحد أن يذكر ذلك فيما يستقبل لأنه لا يعلم ما ستجري به المقادير، روى مسلم من حديث أبي هريرة أن رسول الله قال : ( الْمُؤْمِنُ الْقَوِىُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ وَفِى كُلٍّ خَيْرٌ، احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَلاَ تَعْجِزْ، وَإِنْ أَصَابَكَ شَيءٌ فَلاَ تَقُلْ: لَوْ أَنِّى فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا، وَلَكِنْ قُلْ قَدَرُ اللَّهِ وَمَا شَاءَ فَعَلَ فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ ) (1) .
أما رد الأمر إلي المشيئة والقدرة في الحاضر فيقول دائما: لا حولا ولا قوة إلا بالله عملا بما ورد في قول الله - عز وجل - عن العبد الصالح: { وَلوْلا إِذْ دَخَلتَ جَنَّتَكَ قُلتَ مَا شَاءَ اللهُ لا قُوَّةَ إِلا بِاللهِ } [الكهف:39]، وهنا ينسب الموحد النعمة إلى المنعم، ويرد الأمر فيها إلى مشيئة الله وقدرته، فالعبد الصادق مؤمن بأن الله قائم بالقسط والتدبير ومنفرد بالمشيئة والتقدير، يتولى تدبير شئون العالمين، وهو في تقديره أحكم الحاكمين وخير الرازقين، لا يطمع في سواه ولا يرجو إلا إياه، ولا يشهد في العطاء إلا مشيئته ولا يرى في المنع إلا حكمته ولا يعاين في القبض والبسط إلا قدرته، فعند ذلك يقول: { وَمَا تَوْفِيقِي إِلا بِاللهِ عَليْهِ تَوَكَّلتُ وَإِليْهِ أُنِيبُ } [هود:88] .
__________
(1) مسلم في القدر، باب في الأمر بالقوة وترك العجز والاستعانة بالله وتفويض المقادير لله 4/2052 (2664) .(2/379)
وأما رد الأمر إلي مشيئة الله وقدرته في المستقبل فهو كقوله تعالى: { وَلا تَقُولنَّ لشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلكَ غَداً إِلا أَنْ يَشَاءَ اللهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُل عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدا ً } [الكهف:24] .
وأما ظهور توحيد الله في اسمه المقتدر وأثره على الفعل فيتجلى من خلال وسطية العبد في الأخذ بالأسباب والرضا بالنتائج بعد يقينه في تقدير مقلبها، فلا يتغافل العبد عن قدرته بدعوى الانشغال في النظر إلى حكمته، ولا يتواكل عن الأخذ بأسباب معيشته بدعوى الانشغال في النظر إلى قدرته، فالله - عز وجل - يخلق بأسباب وبغير أسباب إن خلق بأسباب فهي العادات وهي حق وصدق، وإن خلق بغير أسباب فهي خوارق العادات التي تُظهر قدرة الله في الخلق، وهذا مقتضى التوحيد في اسم الله المقتدر .
وممن تسمى عبد المقتدر القاضي عبد المقتدر بن ركن الدين الشريحي سنان الدهلوي (ت:791هـ)، من أدباء الهند، وله قصيدة لامية مشهورة (1) .
********************************
66- الله - جل جلاله - المُسَعِّرُ
********************************
الدليل على ثبوت الاسم وإحصائه .
__________
(1) أبجد العلوم الوشي المرقوم في بيان أحوال العلوم القنوجي 1/345 .(2/380)
لم يرد الاسم في القرآن ولكن سماه به النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقد ورد الاسم مطلقا معرفا مسندا إليه المعنى محمولا عليه مرادا به العلمية ودالا على كمال الوصفية، ففي سنن الترمذي وقال حسن صحيح وكذلك عند أبي داود وابن ماجه وأحمد وصححه الألباني جميعهم يروي عن أَنَسٍ بن مالك - رضي الله عنه - أنه قال: ( قَالَ النَّاسُ: يَا رَسُولَ اللهِ غَلاَ السِّعْرُ فَسَعِّرْ لَنَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : إِنَّ اللهَ هُوَ الْمُسَعِّرُ الْقَابِضُ الْبَاسِطُ الرَّازِقُ، وإني لأَرْجُو أَنْ أَلْقَي اللهَ وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْكُمْ يُطَالِبُنِي بِمَظْلَمَةٍ فِي دَمٍ وَلاَ مَالٍ ) (1) .
وكذلك أخرجه أحمد برواية فيها تقديم وتأخير، وفيها قَالَ أَنَس - رضي الله عنه -: ( غَلاَ السِّعْرُ عَلَي عَهْدِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ لَوْ سَعَّرْتَ؟ فَقال: إِنَّ اللهَ هُوَ الخَالِقُ الْقَابِضُ الْبَاسِطُ الرَّازِقُ الْمُسَعِّرُ، وإني لأَرْجُو أَنْ أَلْقَي اللهَ وَلاَ يَطْلُبُنِي أَحَدٌ بِمَظْلَمَةٍ ظَلَمْتُهَا إِيَّاهُ فِي دَمٍ وَلاَ مَالٍ ) (2) .
__________
(1) الترمذي في كتاب البيوع، باب ما جاء في التسعير 3/605 (1314)، وأبو داود في كتاب الإجارة، باب في التسعير 3/272 (3451)، وابن ماجه في التجارات، باب من كره أن يسعر 2/741 (2200)، وأحمد في المسند 3/286 (14089)، وانظر تصحيح الألباني في غاية المرام ص194(323) .
(2) أحمد في المسند، مسند أنس بن مالك 3/156 (12613) .(2/381)
ولا بد هنا من التنبيه على مسألة هامة حول هذا الحديث، فأغلب العلماء الذين تتبعوا الأسماء استدلوا به في إثبات القابض الباسط الرازق واستبعدوا المسعر بلا دليل أو تعليل، بل بعضهم يستبعد الرازق أيضا، فهل اسم الله المسعر ليس فيه كمال مطلق أو أنه يحتمل معنى من معاني النقص عند الإطلاق فيلزم تقييده؟ في الحقيقة لم أجد لا هذا ولا ذاك، فهو من حيث الإطلاق أطلقه الرسول - صلى الله عليه وسلم - دون تقييد، ومن حيث الكمال دلالته أبلغ من القابض الباسط لأنه يشملهما معا، لكن العجب أنني وجدت ذلك الأمر عليه أعلام أجلاء كالإمام البيهقي وابن العربي والأصبهاني وابن منده حتى المعاصرين كابن عثيمين وعبد المحسن العباد جميعهم غض الطرف عن المسعر (1) .
أما الرازق فذكره البيهقي وابن منده والأصبهاني وابن الوزير والغصن من المعاصرين وإن استبعد ابن الوزير مع المسعر أيضا القابض الباسط مع أنه لا دليل على القابض الباسط الرازق إلا هذا الحديث (2)، والعلامة ابن حجر العسقلاني استبعد الجميع مع ثبوت الحديث عنده وتصحيحه له، فهو القائل: ( هذا الحديث رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجة والدارمي والبزار وأبو يعلى من طريق حماد بن سلمة عن ثابت وغيره عن أنس وإسناده على شرط مسلم، وقد صححه ابن حبان والترمذي ) (3) .
والقصد أن الاسم ثابت بالحديث الصحيح، وليس لنا أن نرد قول نبينا - صلى الله عليه وسلم - في تسميته لله - عز وجل - بهذا الاسم بناء على اجتهاد أو استحسان، فلم أجد علة ذكرها أحد لاستبعاده من الأسماء، فما يسري عليه يسري على بقية الأسماء الواردة في الحديث ولذلك أدخله القرطبي في الأسماء الحسنى (4) .
__________
(1) انظر أسماء الله الحسنى للدكتور الغصن ص 352، وقطف الجنى الداني ص 85، ص 92 .
(2) انظر السابق 178 .
(3) تلخيص الحبير 4/14، وانظر كتاب القول المسدد في الذب عن المسند للإمام أحمد ص86 .
(4) الأسنى في شرح الأسماء الحسنى 1/502 .(2/382)
والمسعر اسم من أسماء الله دل على صفة من صفات الفعل، والتسعير في حق الله يتعلق بنوعي التدبير، فالتدبير منه ما هو متعلق بتصريف المقادير وهو التدبير الكوني ومنه ما هو متعلق بالحكم التكليفي وهو التدبير الشرعي، فالأول هو المقصود عند إطلاق الاسم في حق الله، لأن ارتفاع السعر أو انخفاضه مرتبط بالتدبير الكوني والتقدير الأزلي، فالسعر يرتفع بين الناس إما لقلة الشيء وندرته وإما لزيادة الطلب وكثرته وهذا أمر يتعلق بمشيئة الله وحكمته، فهو الذي يبتلي عباده في تصريف أرزاقهم وترتيب أسبابهم، فقد يهيأ أسباب الكسب لإغناء فقير، وهو الذي يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر وهو على كل شيء قدير، فهذا تدبير الله في خلقه وحكمته في تقدير المقادير .(2/383)
وإذا ألزمنا الناس في تلك الحالة أن يبيعوا بقيمة محددة مع تيسر الأسباب وبسط الأرزاق، فهذا ظلم للخلق وإكراه بغير حق واعتراض على الله عز وجل في تقسيم الرزق، ولذلك قال رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : ( إِنَّ اللهَ هُوَ الْمُسَعِّرُ الْقَابِضُ الْبَاسِطُ الرَّازِقُ وإني لأَرْجُو أَنْ أَلْقَي اللهَ وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْكُمْ يُطَالِبُنِي بِمَظْلَمَةٍ فِي دَمٍ وَلاَ مَالٍ ) (1)، فقد رتب النبي - صلى الله عليه وسلم - الحكم علي الوصف المناسب، فمن حاول التسعير على المعنى السابق فقد عارض الخالق ونازعه في مراده، ومنع العباد حقهم مما أولاهم الله في الرخص أو الغلاء، فبين - صلى الله عليه وسلم - أن المانع له من التسعير أنه يتضمن ظلما للناس في أموالهم لكونه تصرفا فيها بغير إذنهم فقال - صلى الله عليه وسلم - : ( وإني لأَرْجُو أَنْ أَلْقَي اللهَ وَلاَ يَطْلُبُنِي أَحَدٌ بِمَظْلَمَةٍ ظَلَمْتُهَا إِيَّاهُ فِي دَمٍ وَلاَ مَالٍ )، فالنهي عن التسعير مرتبط بوقوع الظلم على العباد، أما التسعير المتعلق بالتدبير الشرعي فهو منع الظلم وكفه عن الناس وذلك بمنع استغلال حاجتهم أو احتكار التجار لسلعتهم طلبا لزيادة الأسعار، كأن يمتنع أرباب السلع من بيعها مع توفرها وضرورة الناس إليها إلا بزيادة عن القيمة المناسبة، فهنا إلزامهم بقيمة المثل من الأحكام الوجبة، فالتسعير ههنا أمر شرعي وإلزام بالعدل الذي ألزمهم الله به (2) .
شرح الاسم وتفسير معناه .
__________
(1) تقدم تخريجه ص 547 .
(2) انظر مجموع فتاوى ابن تيمية 28/77 بتصرف .(2/384)
المسعر في اللغة اسم فاعل من التسعير، فعله سعر يسعر تسعيرا وتسعيرة، يقال أسْعَر أهل السوق وسَعَّرُوا إذا اتفقوا علي سِعْر، وهو من سَعَّر النار إذا رفعها، لأن السِّعْر يوصف بالارتفاع، وسَعَرت النارَ إذا أوقدتَهما وسعَّرتها بالتشديد للمبالغة واسْتَعَرَتْ وتَسَعَّرَتْ اشتعلت واستوقدت، ونار سَعِيرٌ يعني مستعرة ومرتفعة، والسعير النار والسعار حر النار ومنه قوله: { كُلمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيراً } [الإسراء:97]، وكذلك قوله تعالى: { وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ } [التكوير:12]، وناقة مسعورة كأَن بها جنوناً من سرعتها أو مسعورة بمعنى جوعانة متلهفة للطعام والالتهام (1) .
والمسعر سبحانه هو الذي يزيد الشيء ويرفع من قيمته أو تأثيره ومكانته، فيقبض ويبسط وفق مشيئته وحكمته، والتسعير وصف كمال في حقه وهو من صفات فعله وحكمه وأمره ولا اعتراض لأَحد من خلقه عليه، فهو الذي يرخص الأشياء ويغليها وفق تديره الكوني أو ما أمر به العباد في تدبيره الشرعي، قال المناوي: ( المسعر هو الذي يرفع سعر الأقوات ويضعها، فليس ذلك إلا إليه وما تولاه الله بنفسه ولم يكله إلى عباده لا دخل لهم فيه ) (2) .
__________
(1) انظر في المعنى اللغوي لسان العرب 4/365، وتاج العروس ص2948، والفائق في غريب الحديث 2/179.
(2) فيض القدير شرح الجامع الصغير للمناوي 2/337، والنهاية في غريب الحديث لابن الأثير 2/368 .(2/385)
والمسعر سبحانه هو الذي يسعر بعدله العذاب على أعدائه وهذا حقه من جهة تدبير الكوني حيث أوجد النار وزادها سعيرا على الكفار، قال تعالى: { وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرا } [الفتح:13]، والمسعر - عز وجل - أيضا هو الذي يتولى التعذيب بالنار في الدنيا، وهذا من جهة تدبيره الشرعي فلا يعذب بالنار، فعند أبي داود وصححه الألباني من حديث حمزة الأسلمي - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمره على سرية وقال له: ( إِنْ وَجَدْتُمْ فُلاَنًا فَاحْرِقُوهُ بِالنَّارِ، فَوَليْتُ فَنَادَانِي فَرَجَعْتُ إِلَيْهِ فَقال: إِنْ وَجَدْتُمْ فُلاَنًا فَاقْتُلُوهُ وَلاَ تُحْرِقُوهُ، فَإِنَّهُ لاَ يُعَذِّبُ بِالنَّارِ إِلاَّ رَبُّ النَّارِ ) (1) .
دلالة الاسم على أوصاف الله .
__________
(1) رواه أبوداود في كتاب الجهاد، باب في كراهية حرق العدو بالنار 3/54 (2673)، وانظر صحيح سنن أبي داود باختصار السند للشيخ محمد ناصر الدين الألباني 2/508 (2327) .(2/386)
اسم الله المسعر يدل على ذات الله وعلى صفة التسعير بدلالة المطابقة وعلى ذات الله وحدها بالتضمن وعلى الصفة وحدها بالتضمن، روى الترمذي وصححه الشيخ الألباني من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( إِذَا كَانَ يَوْمُ القِيَامَةِ يَنْزِلُ إِلَى العِبَادِ لِيَقْضِي بَيْنَهُمْ، وَكُلُّ أُمَّةٍ جَاثِيَةٌ ... إلى أن قال: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ أُولَئِكَ الثَّلاَثَةُ أَوَّلُ خَلقِ الله تُسَعَّرُ بِهِمُ النَّارُ يَوْمَ القِيَامَةِ .. الحديث ) (1)، والاسم يدل باللزوم على الحياة والقيومية والسمع والبصر والعلم والقدرة والعزة والقوة والعدل والحكمة وغير ذلك من أوصاف الكمال واسم الله المسعر دل على صفة من صفات الأفعال .
الدعاء باسم الله المسعر دعاء مسألة .
__________
(1) الترمذي في الزهد، باب ما جاء في الرياء 4/591 (2382)، وصحيح الترغيب والترهيب (1335) .(2/387)
لم يرد دعاء بالاسم ولكن ورد الدعاء بالوصف عند أحمد في المسند بإسناد حسن من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رجلا قال: ( سَعِّرْ يَا رَسُولَ الله، قال: إِنَّمَا يَرْفَعُ الله وَيَخْفِضُ، إِنِّي لأَرْجُو أَنْ أَلقَى الله - عز وجل - وَلَيْسَ لأَحَدٍ عِنْدِي مَظْلَمَةٌ، قَالَ آخَرُ: سَعِّرْ فَقال: ادْعُو الله - عز وجل - ) (1)، وأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - لهم بالدعاء هو دعاء مسألة يطلبوا فيه من ربهم أن يبسط أرزاقهم وأن ييسر أسباب الحياة لهم؛ فتكثر النعم وتنخفض الأسعار ولا ترتفع، لأن ارتفاع السعر أو انخفاضه مرتبط من حيث الأصل بمشيئة الله وحكمته ليتوجه الناس إلى دعاء الله وعبادته، ولذلك فكل دعاء بطلب الرزق أو البسط فيه شاهد بالمعنى لدعاء المسألة باسم الله المسعر، ومن ذلك ما رواه مسلم من حديث أَبي مالِكٍ الأشجعي - رضي الله عنه - أنه قال: (كان الرَّجُل إِذَا أَسْلَمَ عَلمَهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - الصَّلاَةَ، ثُمَّ أَمَرَهُ أَنْ يَدْعُوَ بِهَؤُلاَءِ الكَلِمَاتِ: اللهمَّ اغْفِرْ لي وارحمني وَاهْدِنِي وَعَافِنِي وَارْزُقْنِي ) (2) .
الدعاء باسم الله المسعر دعاء عبادة .
__________
(1) مسند الإمام أحمد 2/372 (8839)، وانظر أيضا: القول المسدد لابن حجر العسقلاني ص82 .
(2) مسلم في الذكر والدعاء والتوبة، باب فضل التهليل والتسبيح والدعاء 4/2073 (2697) .(2/388)
أثر الاسم على سلوك العبد أن يتقي الله في معاملاته لاسيما إن كان من التجار فلا يستغل الناس في زيادة الأسعار، أو يخفي الأقوات سعيا للتفرد والاحتكار، بل يكون حريصا على نفعهم صبورا على دَيْنِهم مراعيا لحاجتهم وفقرهم، سمحا إذا باع وإذا اشترى وإذا اقتضى، روى البخاري من حديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( رَحِمَ اللهُ رَجُلاً سَمْحًا إِذَا بَاعَ، وَإِذَا اشْتَرَى، وَإِذَا اقْتَضَى ) (1)، وعند الترمذي وصححه الألباني من حديث أبي سعيد - رضي الله عنه - أَن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( التَّاجِرُ الصَّدُوقُ الأَمِينُ مَعَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ ) (2)، وورد عند أحمد وصححه الشيخ الألباني من حديث أبي ذر - رضي الله عنه - أنه قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - : ( قُلْتُ: وَمَنْ هَؤُلاَءِ الذِينَ يَشْنَؤُهُمُ اللهُ؟ قال: التَّاجِرُ الْحَلاَّفُ، أَوْ قَالَ الْبَائِعُ الْحَلاَّفُ، وَالْبَخِيلُ الْمَنَّانُ وَالْفَقِيرُ الْمُخْتَالُ ) (3) ، وعند ابن ماجة وصححه الألباني من حديث أبي سعيد - رضي الله عنه - أنه قال: ( كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَرْزُقُنَا تَمْرًا مِنْ تَمْرِ الْجَمْعِ فَنَسْتَبْدِلُ بِهِ تَمْرًا هُوَ أَطْيَبُ مِنْهُ وَنَزِيدُ فِي السِّعْرِ (4)، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : لاَ يَصْلُحُ صَاعُ تَمْرٍ بِصَاعَيْنِ وَلاَ دِرْهَمٌ بِدِرْهَمَيْنِ، وَالدِّرْهَمُ بِالدِّرْهَمِ وَالدِّينَارُ
__________
(1) البخاري في البيوع، باب السهولة والسماحة في الشراء والبيع 2/730 (1970) .
(2) الترمذي في البيوع، ما جاء في التجار 3/515 (1209)، صحيح الترغيب والترهيب (1782) .
(3) أحمد في المسند 5/151(21378)، صحيح الجامع (3074) .
(4) تمر الجمع هو التمر المختلط أو المجموع من أنواع متفرقة وقد لا يكون بعضه جيدا .(2/389)
بِالدِّينَارِ، لاَ فَضْلَ بَيْنَهُمَا إِلاَّ وَزْنًا ) (1)، ويقصد أن يبيعوا هذا التمر المخلوط أولا ثم يشتروا بثمنه من الطيب الجيد على قدر سعره .
وعند أحمد من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( لاَ يَبِيعُ حَاضِرٌ لِبَادٍ وَلاَ تَنَاجَشُوا، وَلاَ يَزِيدُ الرَّجُلُ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ ) (2)، قال العلماء: البيع على البيع حرام، وكذلك الشراء على الشراء، وهو أن يقول لمن اشترى سلعة في وقت الخيار افسخ البيع لأبيعك بأنقص، أو يقول للبائع افسخ لأشترى منك بأزيد، وقال طاوس لابن عباس - رضي الله عنه - ما قوله حاضر لباد؟ قال: لا يكن له سمسارا، وفي رواية: لا يبع حاضر لباد دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض، وفي رواية عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: ( نهينا أن يبيع حاضر لباد، وإن كان أخاه أو أباه ) (3) .
__________
(1) ابن ماجه في التجارات، باب الصرف 2/758 (2256)، صحيح الجامع (7724) .
(2) أحمد في المسند 2/274 (7686)، صحيح الجامع (7591) .
(3) البخاري في البيوع، باب لا يبيع حاضر لباد بالسمسرة 2/758 (2053) .(2/390)
وذكر النووي أن هذه الأحاديث تتضمن تحريم بيع الحاضر للبادي، والمراد به أن يقدم غريب من البادية أو من بلد آخر بمتاع تعم الحاجة إليه ليبيعه بسعر يومه، فيقول له البلدي أو الحاضر اتركه عندي لأبيعه على التدريج بأعلى، أما إذا كان المتاع مما لا يحتاج إليه البلد، ولا يؤثر فيه لقلة ذلك الشيء المجلوب لم يحرم، ولو خالف وباع الحاضر للبادي صح البيع مع التحريم، وفي رواية صحيحة عند أحمد من حديث أبي هريرةَ - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( لاَ تَنَاجَشُوا وَلاَ تَبَاغَضُوا وَلاَ تَدَابَرُوا وَلاَ تَحَاسَدُوا، وَلاَ يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ، وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إِخْوَاناً، الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لاَ يَظْلِمُهُ وَلاَ يَحْقِرُهُ وَلاَ يَخْذُلُهُ، كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ، دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ، التَّقْوَى هَا هُنَا، التَّقْوَى هَا هُنَا، التَّقْوَى هَا هُنَا، يُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلاَثاً بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ ) (1) .
__________
(1) أحمد في المسند 2/360 (8707)، صحيح الجامع (7242) .(2/391)
وفي الموطأ من حديث سعيد بن المسيب - رضي الله عنه -: ( أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ مَرَّ بِحَاطِبِ بْنِ أَبِى بَلْتَعَةَ وَهُوَ يَبِيعُ زَبِيبًا لَهُ بِالسُّوقِ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: إِمَّا أَنْ تَزِيدَ فِي السِّعْرِ، وَإِمَّا أَنْ تُرْفَعَ مِنْ سُوقِنَا ) (1)، وتفصيل ذلك أن عمر - رضي الله عنه - مر على حاطب وهو يبيع زبيباً له بالسوق بأرخص مما يبيع الناس، فقال له عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: إما أن تزيد في السعر، بأن تبيع بمثل ما يبيع أهل السوق، وإما أن ترفع من سوقنا لئلا تضر بأهل السوق، فليس للواحد والاثنين البيع بأرخص مما يبيع أهل السوق دفعاً للضرر، قال ابن رشد: وهو غلط ظاهر، إذ لا يلام أحد على المسامحة في البيع والحطيطة فيه، بل يشكر على ذلك إن فعله لوجه الناس، ويؤجر إن فعله لوجه الله تعالى، ولذلك تراجع عمر - رضي الله عنه - كما وردت القصة كاملة عند البيهقي من حديث القاسم بن محمد عن عمر - رضي الله عنه -: ( أَنَّهُ مَرَّ بِحَاطِبٍ بِسُوقِ الْمُصَلى وَبَيْنَ يَدَيْهِ غَرَارَتَانِ فِيهِمَا زَبِيبٌ فَسَأَلَهُ عَنْ سِعْرِهِمَا، فَسَعَّرَ لَهُ مُدَّيْنِ لِكُلِّ دِرْهَمٍ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ - رضي الله عنه -: قَدْ حُدِّثْتُ ببِعِيرٍ مُقْبِلَةٍ مِنَ الطَّائِفِ تَحْمِلُ زَبِيبًا وَهُمْ يَعْتَبِرُونَ بِسِعْرِكَ، فَإِمَّا أَنْ تَرْفَعَ فِي السِّعْرِ، وَإِمَّا أَنْ تُدْخِلَ زَبِيبَكَ الْبَيْتَ فَتَبِيعَهُ كَيْفَ شِئْتَ، فَلَمَّا رَجَعَ عُمَرُ حَاسَبَ نَفْسَهُ ثُمَّ أَتَى حَاطِبًا فِي دَارِهِ فَقَالَ لَهُ: إِنَّ الذِي قُلْتُ لَيْسَ بِعَزْمَةٍ مِنِّى وَلاَ قَضَاءٍ، إِنَّمَا هُوَ شَيْءٌ أَرَدْتُ بِهِ الْخَيْرَ لأَهْلِ الْبَلَدِ، فَحَيْثُ شِئْتَ فَبِعْ، وَكَيْفَ شِئْتَ فَبِعْ) (2)
__________
(1) موطأ مالك كتاب البيوع، باب الحكرة والتربص 2/651 (1328) .
(2) البيهقي في السنن الكبرى كتاب البيوع، باب التسعير 6/29 (10929) .(2/392)
، وعند البخاري من حديث ابن عمر - رضي الله عنه - أن رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: ( لاَ يَبِيعُ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ وَلاَ تَلَقَّوُا السِّلَعَ حَتَّى يُهْبَطَ بِهَا إِلَى السُّوقِ ) (1) .
والقصد أن المسلم يأخذ بأسباب الرزق في تجارته وكسبه فيراقب الله في التعامل مع خلقه، توحيدا لربه في اسمه المسعر .
وعبد المسعر لم يتسم به أحد في مجال ما أجرينا عليه البحث، وأيضا جميع محركات البحث علي الإنترنت، وهنيئا لمن سمى نفسه أو ولده بهذا الاسم فسيكون أول من تعبد لله به فيما نعلم، والله أعلم .
********************************
67- الله - جل جلاله - القَابِضُ
********************************
الدليل على ثبوت الاسم وإحصائه .
لم يرد الاسم في القرآن ولكن سماه به النبي - صلى الله عليه وسلم - على سبيل الإطلاق مرادا به العلمية ودالا على كمال الوصفية، وقد ورد المعنى مسندا إليه محمولا عليه في الحديث الصحيح الذي سبق في اسم الله المسعر: ( إِنَّ اللهَ هُوَ الْمُسَعِّرُ الْقَابِضُ الْبَاسِطُ الرَّازِقُ وإني لأَرْجُو أَنْ أَلْقَي اللهَ وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْكُمْ يُطَالِبُنِي بِمَظْلَمَةٍ فِي دَمٍ وَلاَ مَالٍ ) (2) .
شرح الاسم وتفسير معناه .
القابض في اللغة اسم فاعل، فعله قَبَضَه يَقْبِضُه قَبْضاً وقَبضة، والقَبْضُ خِلافُ البَسْط وهو في حقنا جَمْعُ الكفّ على الشيء وهو من أوصاف اليد وفعلها، والقبْضة ما أَخذت بِجُمْعِ كفِّك كله تقول: هذا قُبْضةُ كفِّي أَي قدر ما تَقْبضُ عليه ومنه: { فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ } [طه:96]، يعنى من التراب المتأثر بحافِر فرَس الرسول (3) .
__________
(1) البخاري في البيوع، باب النهي عن تلقي الركبان 2/759 (2057) .
(2) تقدم تخريجه ص 547 .
(3) لسان العرب لابن منظور 7/213 .(2/393)
وعند مسلم من حديث إِيَاس بْن سَلَمَةَ عن أبيه - رضي الله عنه - أنه قال: غزونا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حُنَيْنًا .. إلى أن قال: ( فَلَمَّا غَشُوا رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - نَزَلَ عَنِ الْبَغْلَةِ ثُمَّ قَبَضَ قَبْضَةً مِنْ تُرَابٍ مِنَ الأَرْضِ ثُمَّ اسْتَقْبَلَ بِهِ وُجُوهَهُمْ فَقال: شَاهَتِ الْوُجُوهُ، فَمَا خَلَقَ اللهُ مِنْهُمْ إِنْسَانًا إِلاَّ مَلأَ عَيْنَيْهِ تُرَابًا بِتِلْكَ الْقَبْضَةِ، فَوَلوْا مُدْبِرِينَ فَهَزَمَهُمُ اللهُ - عز وجل - ) (1) .
والقبض قد يأتي بمعنى تأخير اليد وعدم مدها أو على المعنى المعاكس وهو تناولك للشيءِ بيدك مُلامَسةً كما ورد عند النسائي وحسنه الألباني من حديث عَائشَة رضي الله عنها أَنَّ امْرَأَة مَدَّتْ يَدَهَا إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - بِكِتَابٍ فَقَبَضَ يَدَهُ فَقَالَتْ: ( يَا رَسُولَ اللهِ مَدَدْتُ يَدِي إِلَيْكَ بِكِتَابٍ فَلَمْ تَأْخُذْهُ، فَقال: إِنِّي لَمْ أَدْرِ أَيَدُ امْرَأَةٍ هِيَ أَوْ رَجُلٍ؟ قَالَتْ: بَلْ يَدُ امْرَأَةٍ، قال: لَوْ كُنْتِ امْرَأَةً لَغَيَّرْتِ أَظْفَارَكِ بِالْحِنَّاءِ ) (2) .
__________
(1) مسلم في الجهاد والسير، باب في غزوة حنين 3/1402 (1777) .
(2) النسائي لسان العرب 7/214، وانظر اشتقاق أسماء الله للزجاج ص40 .(2/394)
وقَبَضْتُ الشيءَ قبْضاً يعني أَخذته، والقَبْضُ قَبُولُكَ المَتاعَ وإِن لم تُحَوِّلُه من مكانه والقبض أيضا تَحْوِيلُكَ المَتاعَ إِلى حَيِّزِك وصار الشيءُ في قَبْضِتي أَي في مِلْكِي، وقبِضَ المريضُ إِذا تُوفِّيَ أو أَشرف على الموت وعند البخاري من حديث أُسَامَة بن زيد - رضي الله عنه - أنه قال: ( أَرْسَلَتِ ابْنَةُ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - إِلَيْهِ: إِنَّ ابْنًا لي قُبِضَ فَائْتِنَا ) (1)، أَرادت أَنه في حال القَبْضِ ومُعالجة النَّزْع، وتَقَبَّضت الجلدةُ في النار أَي انْزَوَتْ، وقال تعالى في وصف المنافقين: { وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ } [التوبة:67]، أَي يقبضونها عن النفقة والصدقة فلا يؤتون الزكاة (2) .
__________
(1) البخاري باب قول النبي صلى الله عليه وسلم يعذب الميت ببعض بكاء أهله عليه1/431 (1224) .
(2) تفسير ابن كثير 2/369، وتفسير الثعالبي 2/140 .(2/395)
والقابِضُ سبحانه هو الذي يمسك الرزق وغيره من الأشياء عن العِبادِ بلطفه وحِكمته، ويَقبِضُ الأَرْواحَ عند المَمات بأمره وقدرته، ويُضَيِّقُ الأسباب على قوم ويُوَسِّع على آخرين ابتلاء وامتحانا (1)، وقبضه تعالى وإمساكه وصف حقيقي لا نعلم كيفيته، نؤمن به علي ظاهره وحقيقته لا نمثل ولا نكيف ولا نعطل ولا نحرف، فالإيمان بصفات الله فرع عن الإيمان بذاته، والقول في صفاته كالقول في ذاته، لأننا ما رأينا الله تعالى وما رأينا لذاته مثيلا، فهو أعلم بكيفية قبضه وبسطه أو إمساكه وأخذه، ولا داعي للتأويل الذي انتهجه المتكلمون بكل سبيل، فنؤمن بما أخبر الله - عز وجل - بلا تمثيل ولا تعطيل، وعلى هذا كان اعتقاد السلف في جميع الصفات والأفعال، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ( وقد تواتر في السنة مجيء اليد في حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فالمفهوم من هذا الكلام أن لله تعالى يدين مختصتان به ذاتيتان له كما يليق بجلاله، وأنه سبحانه خلق آدم بيده دون الملائكة وإبليس، وأنه سبحانه يقبض الأرض ويطوى السماوات بيده اليمنى وأن يداه مبسوطتان ) (2) .
__________
(1) شرح أسماء الله الحسنى للرازي ص241، والمقصد الأسنى للغزالي ص82 .
(2) مجموع الفتاوى 6/ 363 .(2/396)
قال تعالى: { وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَي عَمَّا يُشْرِكُونَ } [الزمر:67]، وورد عند أبي داود وصححه الشيخ الألباني من حديث أَبُي مُوسَى الأشعري - رضي الله عنه - أن رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: ( إِنَّ اللهَ خَلَقَ آدَمَ مِنْ قَبْضَةٍ قَبَضَهَا مِنْ جَمِيعِ الأَرْضِ، فَجَاءَ بَنُو آدَمَ عَلَى قَدْرِ الأَرْضِ، جَاءَ مِنْهُمُ الأَحْمَرُ وَالأَبْيَضُ وَالأَسْوَدُ وَبَيْنَ ذَلِكَ، وَالسَّهْلُ وَالْحَزْنُ وَالْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ ) (1) .
دلالة الاسم على أوصاف الله .
والاسم يدل على ذات الله وعلى صفة القبض بدلالة المطابقة وعلى أحدهما بدلالة التضمن، قال تعالى: { أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّل وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِناً ثُمَّ جَعَلنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضاً يَسِيراً } [الفرقان:45/46]، وقال سبحانه: { وَالله يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } [البقرة:245]، وعند البخاري من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( يَقْبِضُ اللهُ الأَرْضَ، وَيَطْوِي السَّمَاوَاتِ بِيَمِينِهِ، ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا المَلِكُ أَيْنَ مُلُوكُ الأَرْضِ؟ ) (2)، والاسم يدل باللزوم على الحياة والقيومية والسمع والبصر والعلم والقدرة، والقوة والعظمة وغير ذلك من صفات الكمال، واسم الله القابض دل على صفة من صفات الأفعال .
الدعاء باسم الله القابض دعاء مسألة .
__________
(1) أبو داود في كتاب السنة، باب في القدر 4/222 (4693)، وانظر صحيح الجامع (1759) .
(2) البخاري في التفسير، باب يقبض الله الأرض يوم القيامة 5/ 2389 (6154) .(2/397)
ورد دعاء المسألة بالوصف الذي تضمنه الاسم عند أحمد وصححه الألباني من حديث ابن رفاعة الزرقي - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يدعو: ( اللهمَّ لاَ قَابِضَ لِمَا بَسَطْتَ وَلاَ بَاسِطَ لِمَا قَبَضْتَ، وَلاَ هَادِي لِمَا أَضْلَلتَ وَلاَ مُضل لِمَنْ هَدَيْتَ، وَلاَ مُعْطِي لِمَا مَنَعْتَ وَلاَ مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ، وَلاَ مُقَرِّبَ لِمَا بَاعَدْتَ وَلاَ مُبَاعِدَ لِمَا قَرَّبْتَ، وأعوذ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا أَعْطَيْتَنَا وَشَرِّ مَا مَنَعْتَ منا ) (1)، وروى الترمذي وصححه الألباني من حديث ابن عباس - رضي الله عنه - مرفوعا: ( اللهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ، وَتَرْكَ الْمُنْكَرَاتِ وَحُبَّ الْمَسَاكِينِ، وَإِذَا أَرَدْتَ بِعِبَادِكَ فِتْنَةً فَاقْبِضْنِي إِلَيْكَ غَيْرَ مَفْتُونٍ ) (2) .
__________
(1) أحمد في المسند 3/424 (15891) وانظر ظلال الجنة .
(2) الترمذي في التفسير، باب ومن سورة ص 5/366 (3233)، صحيح الجامع (59) .(2/398)
وعند الطبراني وحسنه الألباني من حديث فضالة بن عبيد وتميم الداري رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( من قرأ عشر آيات في ليلة كتب له قنطار، والقنطار خير من الدنيا وما فيها، فإذا كان يوم القيامة يقول ربك - عز وجل -: اقرأ وارق بكل آية درجة حتى ينتهي إلى آخر آية معه، يقول الله - عز وجل - للعبد: اقبض فيقول العبد بيده يا رب أنت أعلم، يقول: بهذه الخلد وبهذه النعيم ) (1)، وروى ابن حبان وحسنه الألباني من حديث عائشة رضي الله عنها قالت في قصة سعد لما حكم في بني قريظة: ( فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لقد حكمت فيهم بحكم الله - عز وجل - وحكم رسوله، قالت: ثم دعا سعد قال: اللهم إن كنت أبقيت على نبيك - صلى الله عليه وسلم - من حرب قريش شيئا فأبقني لها، وإن كنت قطعت الحرب بينه وبينهم فاقبضني إليك ) (2).
الدعاء باسم الله القابض دعاء عبادة .
__________
(1) الطبراني 2/50 (1253)، صحيح الترغيب والترهيب (638) .
(2) صحيح ابن حبان بترتيب ابن بلبان 15/500 (7028)، السلسلة الصحيحة (67) .(2/399)
الصادق في توحيده لاسم الله القابض لا يحمد مخلوقا ولا يذمه لأجل أنه أعطاه أو منعه، فيعلم يقينا أن الله - عز وجل - هو المعطي الأوّل قبل إجراء الأسباب على أيديهم وهو القابض الباسط، فلم يشكر من كان سببا في رزقه إلا لأن الله مدحهم وأمره بشكرهم وإن ذم الذين كانوا سببا في منع رزقه أو مقتهم، فلأجل مخالفتهم لله وموافقتهم لهوى أنفسهم، فالله - عز وجل - مدح المنفقين وذم الممسكين، قال - عز وجل -: { الذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالبُخْل وَمَنْ يَتَوَل فَإِنَّ اللهَ هُوَ الغَنِيُّ الحَمِيد } [الحديد:24]، وقال سبحانه وتعالى: { وَلا يَحْسَبَنَّ الذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلهِ هُوَ خَيْراً لهُمْ بَل هُوَ شَرٌّ لهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ وَللهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } [آل عمران:180] .(2/400)
وقد وكل الله ملكين ينزلان من السماء، أحدهما يدعو لكل منفق، والآخر يدعو على كل ممسك، فعند البخاري من حديث أَبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( ما مِن يومٍ يُصبحُ العِبادُ فيه إِلاَّ مَلكانِ يَنزِلانِ فيقولُ أحدُهما: اللهمَّ أعطِ مُنفِقاً خَلفا، ويَقولُ الآخَرُ: اللّهمَّ أعطِ مُمسِكاً تلفاً ) (1) ، فحسن التوكل على الله - عز وجل - من آثار الإيمان بتوحيده في اسمه القابض، وسبب في الفرج وسعة الرزق، فكل ما يناله العبد من الخير والعطاء فهو رزقه المكتوب في سابق القضاء، وما ناله فيه من الأحكام سيصله بالتمام، والمكتوب أزلا لن يكون لغيره من الخلق أبدا، ومن ثم يصبر عند البلاء ويشكر عند الرخاء وتلك حقيقة الابتلاء التي خلق الإنسان لها، روى البخاري من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( يَقُولُ اللهُ تعالى مَا لِعَبْدِي الْمُؤْمِنِ عِنْدِي جَزَاءٌ إِذَا قَبَضْتُ صَفِيَّهُ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا ثُمَّ احْتَسَبَهُ إِلاَّ الْجَنَّةُ ) (2) .
وأما من التسمية بعبد القابض فلم يتسم به أحد في مجال ما أجرينا عليه البحث الحاسوبي، وأيضا جميع محركات البحث علي الإنترنت، وهنيئا لمن سمى نفسه أو ولده بهذا الاسم؛ فسيكون أول من تعبد لله به فيما نعلم، والله أعلم .
********************************
68- الله - جل جلاله - البَاسِطُ
********************************
الدليل على ثبوت الاسم وإحصائه .
__________
(1) البخاري في الزكاة، باب قول الله تعالى فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى 2/522 (1374) .
(2) البخاري في الرقاق، باب العمل الذي يبتغي به وجه الله فيه سعد 5/2361 (6060) .(2/401)
ورد الاسم في السنة في الحديث السابق مع اسم الله المسعر والقابض، وقد ورد الاسم مطلقا معرفا مرادا به العلمية ودالا علي كمال الوصفية في الحديث الصحيح المرفوع الذي سبق: ( إِنَّ اللهَ هُوَ الْمُسَعِّرُ الْقَابِضُ الْبَاسِطُ الرَّازِقُ ) .
شرح الاسم وتفسير معناه .
الباسط اسم فاعل فعله بسَط يبسُط بَسطا، والبَسْطُ نقيض القَبْضِ، وأَرض مُنْبَسطة مستويَة، وانبسَط الشيء على الأَرض امتد عليها واتسع، وتبَسَّط في البلاد أَي سار فيها طولاً وعَرْضاً، وبَسِيطُ الوجهِ يعني مُتَهَلِّلٌ، والبَسِيطُ هو الرجل المُنبَسِط اللسان، وبسَط إِليَّ يده بما أُحِبّ وأَكره، بسطُها يعني مَدُّها وفي الآية: { لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ } [المائدة:28] .
وبسط الكف يستعمل على أنواع فتارة للطلب نحو قوله - عز وجل -: { لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ } [الرعد:14]، وتارة للأخذ نحو قوله: { وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ } [الأنعام:93]، وتارة للصولة والضرب كما قال تعالى: { وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ } [الممتحنة:2]، وتارة للبذل والعطاء نحو قوله - عز وجل -: { بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ } [المائدة:64] (1)، وبسط اليد في حقنا معلوم المعنى والكيفية، أما في حق الله فمعلوم المعنى مجهول الكيفية .
__________
(1) لسان العرب 7/ 258، والمفردات ص 122.(2/402)
الباسِطُ سبحانه هو الذي يَبْسُط الرزق لعباده بجُوده ورحمته، ويوسعه عليهم ببالغ كرمه وحكمته، فيبتليهم بذلك على ما تقتضيه مشيئته، فإن شاء وسع، وإن شاء قتر فهو الباسط القابض، فإن قبض كان ذلك لما تقتضيه حكمته الباهرة لا لشيء آخر فإن خزائن ملكه لا تفنى، ومواد جوده لا تتناهى كما قال تعالى: { لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } [الشورى:12]، وقال: { وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ } [الشورى:27] (1) .
والباسط سبحانه هو الذي يبسط يده بالتوبة لمن أساء، وهو الذي يملي لهم فجعلهم بين الخوف والرجاء، روى مسلم من حديث أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَل يَبْسُطُ يَدَهُ بِالليْلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ، وَيَبْسُطُ يَدَهُ بِالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ الليْلِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا ) (2) .
__________
(1) فتح القدير 2/57، وكتاب الأسماء والصفات للبيهقي ص85 .
(2) مسلم في التوبة، باب قبول التوبة من الذنوب4/2113 (2759) .(2/403)
وبعض أهل العلم أوجب عدم إطلاق الباسط إلا مقارنا للقابض وألا يفصل بينهما لأن كمال القدرة لا يتحقق إلا بهما معا (1)، وهذا الكلام فيه نظر لأن أسماء الله كلها حسنى وكلها تدل على الكمال، وكل واحد منها يفيد المدح والثناء على الله بنفسه كما أن الأسماء الحسنى لا تخلو من التقييد العقلي بالممكنات (2)، فالقبض مقيد بما يشاء الله قبضه والبسط كذلك، ولذلك إذا صرح النص بالتقييد ذكر الوصف فيه مفردا كما في قوله تعالى: { أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّل وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضاً يَسِيراً } [الفرقان:46]، فالقبض في الآية مقيد بالظل، وإطلاق القابض أيضا مقيد بالممكنات، وهكذا في سائر الأسماء ودلالتها على التقييد بالمفعولات، وقال تعالى في البسط: { وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ } [الشورى:27]، فالبسط مقيد في الآية بالرزق، وقال: { اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ } [الروم:48] .
ومن ثم فإن اسما الله القابض والباسط كل منهما يفيد المدح والثناء بنفسه، وإن ذكرا مقترنين زادت دلالة الكمال في وصف رب العزة والجلال، كما هو الحال عند اقتران الحي مع القيوم، والرحمن مع الرحيم والغني مع الكريم، والقريب مع المجيب وغير ذلك من أسماء الله، فالقول بوجوب ذكر الاسمين معا فيه نظر وإن كان مستحسنا .
دلالة الاسم على أوصاف الله .
__________
(1) انظر تفسير الثعالبي 1/191، تفسير أسماء الله الحسنى ص40 وانظر أيضا تفسير الثعالبي 1/191.
(2) اتظر أسماء الله الحسنى الثابتة في الكتاب والسنة الجزء الأول الإحصاء ص34 .(2/404)
اسم الله الباسط يدل على ذات الله وعلى صفة البسط بدلالة المطابقة، وعلى أحدهما بدلالة التضمن، وقد ورد وصف الفعل في آيات كثيرة تقدمت، وعند مسلم من حديث أنس - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ في رِزْقِهِ وَيُنْسَأَ لَهُ في أَثَرِهِ فَليَصِل رَحِمَهُ ) (1)، وروى أيضا من حديث أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( إِنَّ الله عَزَّ وَجَل يَبْسُطُ يَدَهُ بِالليْلِ لِيَتُوبَ مسيء النَّهَارِ وَيَبْسُطُ يَدَهُ بِالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مسيء الليْلِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا ) (2)، وعنده أيضا من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - في نزول الرب - عز وجل - كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( ثُمَّ يَبْسُطُ يَدَيْهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَقُولُ: مَنْ يُقْرِضُ غَيْرَ عَدُومٍ وَلاَ ظَلُومٍ ) (3)، والاسم يدل باللزوم على ما دل عليه اسمه القابض من صفات الكمال، واسم الله الباسط دل على صفة من صفات الأفعال .
الدعاء باسم الله الباسط دعاء مسألة .
__________
(1) مسلم في البر والصلة والأدب، باب صلة الرحم وتحريم قطيعتها 4/1982 (2557) .
(2) مسلم في التوبة، باب قبول التوبة من الذنوب 4/2113 (2759) .
(3) مسلم في صلاة المسافرين، باب الترغيب في الدعاء والذكر في آخر الليل 1/522 (758) .(2/405)
ورد دعاء المسألة بالوصف في قوله تعالى: { وَأَصْبَحَ الذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَنْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ } [القصص:82]، وكلامهم في هذا الدعاء ندم وتوبة ورجاء، فندموا أن تمنوا مكان قارون وزعموا أنه ذو حظ عظيم، وتابوا إلى الله عن تمني الدنيا إلا بحقها، وأن الله حكيم في بسطها وقبضها، وكان رجاءهم في ربهم أن يحفظهم بالإيمان وألا يجعلهم مفتونين كما فتن قارون لما بسط الله له الدنيا (1) .
__________
(1) زاد المسير لابن الجوزي 6/246 بتصرف .(2/406)
وعند أحمد وصححه الألباني من حديث ابن رفاعة الزرقي - رضي الله عنه - الذي تقدم ذكره في اسم الله القابض، وفيه بتمامه أكثر من دعاء بالوصف حيث قال - رضي الله عنه -: ( لَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ وَانْكَفَأَ الْمُشْرِكُونَ قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - : اسْتَوُوا حَتَّى أُثْنِي عَلَى رَبِّى، فَصَارُوا خَلْفَهُ صُفُوفاً فَقال: اللهمَّ لَكَ الْحَمْدُ كُلُّهُ، اللهمَّ لاَ قَابِضَ لِمَا بَسَطْتَ، وَلاَ بَاسِطَ لِمَا قَبَضْتَ وَلاَ هَادِي لِمَا أَضْلَلْتَ، وَلاَ مُضِل لِمَنْ هَدَيْتَ وَلاَ مُعْطِي لِمَا مَنَعْتَ، وَلاَ مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ وَلاَ مُقَرِّبَ لِمَا بَاعَدْتَ، وَلاَ مُبَاعِدَ لِمَا قَرَّبْتَ، اللهمَّ ابْسُطْ عَلَيْنَا مِنْ بَرَكَاتِكَ وَرَحْمَتِكَ وَفَضْلِكَ وَرِزْقِكَ، اللهمَّ إني أَسْأَلُكَ النَّعِيمَ الْمُقِيمَ الذِي لاَ يَحُولُ وَلاَ يَزُولُ، اللهمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ النَّعِيمَ يَوْمَ الْعَيْلَةِ وَالأَمْنَ يَوْمَ الْخَوْفِ، اللهمَّ إِنِّي عَائِذٌ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا أَعْطَيْتَنَا وَشَرِّ مَا مَنَعْتَ، اللهمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا الإِيمَانَ وَزَيِّنْهُ فِي قُلُوبِنَا وَكَرِّهْ إِلَيْنَا الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ وَاجْعَلْنَا مِنَ الرَّاشِدِينَ، اللهمَّ تَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ وَأَحْيِنَا مُسْلِمِينَ وَأَلْحِقْنَا بِالصَّالِحِينَ غَيْرَ خَزَايَا وَلاَ مَفْتُونِينَ، اللهمَّ قَاتَلِ الْكَفَرَةَ الذِينَ يُكَذِّبُونَ رُسُلَكَ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِكَ، وَاجْعَلْ عَلَيْهِمْ رَجْزَكَ وَعَذَابَكَ، اللهمَّ قَاتَلِ الْكَفَرَةَ الذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَهَ الْحَقِّ ) (1) .
الدعاء باسم الله الباسط دعاء عبادة .
__________
(1) أحمد في المسند 3/424، وصححه الألباني في الأدب المفرد (699) .(2/407)
أثر الإيمان بالاسم على العبد هو بسط القلب وانشراحه بتوحيد الله حيث يسعد بطاعته لربه ويأمل في رحمته وقربه، قال تعالى: { وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } [التغابن:11]، فالله - عز وجل - يقبض القلوب بإعراضها ويبسطها للإيمان بإقبالها فيقلب للعبد نوازع الخير في قلبه، وقرينه من الملائكة يهتف له بأمر ربه، حتى يصبح قلبه على أبيض مثل الصفا لا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض، وهذا هو البسط الحقيقي والتوفيق الإلهي في بلوغ العبد درجة الإيمان، فيجد المبسوط نورا يضيء له الجنان وسائر الجوارح والأركان، روى البخاري من حديث ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول في دعائه: ( اللهُمَّ اجْعَلْ فِي قَلْبِي نُورًا وَفِي بَصَرِي نُورًا وَفِي سَمْعِي نُورًا وَعَنْ يَمِينِي نُورًا وَعَنْ يَسَارِي نُورًا وَفَوْقِي نُورًا وَتَحْتِي نُورًا وَأَمَامِي نُورًا وَخَلْفِي نُورًا، وَاجْعَلْ لِي نُورًا ) (1) .
__________
(1) البخاري في الدعوات، باب الدعاء إذا انتبه بالليل 5/2327 (5957) .(2/408)
ومن دعاء العبادة اعتقاد الموحد أن الطاعة سبب في بسط الرزق، وأن بسطه ابتلاء من الله للعبد، فينبغي أن يشكر عند بسطه وأن يصبر عند قبضه، روى البخاري من حديث عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه -: ( أنه أُتِىَ بِطَعَامٍ وَكَانَ صَائِمًا فَقال: قُتِلَ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ وَهُوَ خَيْرٌ مِنِّى، كُفِّنَ فِي بُرْدَةٍ، إِنْ غُطِّىَ رَأْسُهُ بَدَتْ رِجْلاَهُ، وَإِنْ غُطِّىَ رِجْلاَهُ بَدَا رَأْسُهُ، وَأُرَاهُ قال: وَقُتِلَ حَمْزَةُ وَهُوَ خَيْرٌ مِنِّى، ثُمَّ بُسِطَ لَنَا مِنَ الدُّنْيَا مَا بُسِطَ، أَوْ قال: أُعْطِينَا مِنَ الدُّنْيَا مَا أُعْطِينَا، وَقَدْ خَشِينَا أَنْ تَكُونَ حَسَنَاتُنَا عُجِّلَتْ لَنَا، ثُمَّ جَعَلَ يَبْكِى حَتَّى تَرَكَ الطَّعَامَ ) (1) .
__________
(1) البخاري في الجنائز، باب إذا لم يوجد إلا ثوب واحد 1/428 (1216) .(2/409)
وعند البخاري أيضا من حديث عمرو بن عوف - رضي الله عنه - قال: ( أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وسلم بَعَثَ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ إِلَى الْبَحْرَيْنِ يَأْتِي بِجِزْيَتِهَا وَكَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - هُوَ صَالَحَ أَهْلَ الْبَحْرَيْنِ، وَأَمَّرَ عَلَيْهِمُ الْعَلاَءَ بْنَ الْحَضْرَمِيِّ، فَقَدِمَ أَبُو عُبَيْدَةَ بِمَالٍ مِنَ الْبَحْرَيْنِ فَسَمِعَتِ الأَنْصَارُ بِقُدُومِهِ فَوَافَتْهُ صَلاَةَ الصُّبْحِ مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَلَمَّا انْصَرَفَ تَعَرَّضُوا لَهُ فَتَبَسَّمَ حِينَ رَآهُمْ وَقال: أَظُنُّكُمْ سَمِعْتُمْ بِقُدُومِ أَبِي عُبَيْدَةَ وَأَنَّهُ جَاءَ بِشَيْءٍ قَالُوا: أَجَلْ يَا رَسُولَ اللهِ، قال: فَأَبْشِرُوا وَأَمِّلُوا مَا يَسُرُّكُمْ، فَوَاللهِ مَا الْفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ، وَلَكِنْ أَخْشَى عَلَيْكُمْ أَنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا، كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا، وَتُلْهِيَكُمْ كَمَا أَلْهَتْهُمْ ) (1) .
__________
(1) البخاري في الجزية، باب شهود الملائكة بدرا 4/1473 (3791) .(2/410)
وعند مسلم من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - أنه قال: ( حَضَرَتِ الصَّلاَةُ، فَقَامَ مَنْ كَانَ قَرِيبَ الدَّارِ مِنَ الْمَسْجِدِ يَتَوَضَّأُ وَبَقِىَ قَوْمٌ، فَأُتِىَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بِمِخْضَبٍ مِنْ حِجَارَةٍ فِيهِ مَاءٌ، فَوَضَعَ كَفَّهُ، فَصَغُرَ الْمِخْضَبُ أَنْ يَبْسُطَ فِيهِ كَفَّهُ، فَضَمَّ أَصَابِعَهُ فَوَضَعَهَا فِي الْمِخْضَبِ، فَتَوَضَّأَ الْقَوْمُ كُلُّهُمْ جَمِيعًا، سئل أنس - رضي الله عنه -: كم كَانُوا؟ قال ثَمَانُونَ رَجُلاً ) (1)، ومن أسباب بسط الرزق صلة الرحم، روى البخاري من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ( مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ، وَأَنْ يُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ ) (2) .
وممن تسمى عبد الباسط، الشيخ زين الدين عبد الباسط بن أحمد المكي (ت:853هـ) نظم كتاب غاية المطلوب في قراءة خلف وأبى جعفر ويعقوب (3) .
********************************
69- الله - جل جلاله - الرَّازِقُ
********************************
الدليل على ثبوت الاسم وإحصائه .
__________
(1) البخاري في المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام 3/1310 (3382) .
(2) البخاري في البيوع، باب من أحب البسط في الرزق2/728 (1961) .
(3) كشف الظنون 2/1194 .(2/411)
ورد الاسم في السنة مطلقا معرفا مرادا به العلمية ودالا على كمال الوصفية ففي حديث أَنَسٍ - رضي الله عنه - الذي ورد في الأسماء الثلاثة السابقة قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ( إِنَّ اللهَ هُوَ الْمُسَعِّرُ الْقَابِضُ الْبَاسِطُ الرَّازِقُ )، وكذلك ورد الاسم في القرآن مقيدا في قول الله تعالى: { قَالَ عِيسَي ابْنُ مَرْيَمَ اللهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيداً لأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ } [المائدة:114]، والآية لم نعتمد عليها في إثبات الاسم لأنه لم يرد فيها مطلقا وإنما الاعتماد على ما صح في السنة .
شرح الاسم وتفسير معناه .
الرازق في اللغة اسم فاعل، فعله رَزَقَ يرزُق رَزْقاً ورِزْقاً، والرِّزْقُ هو ما يُنْتَفعُ به وجمعه أَرْزاق، والرزق هو العَطاء، واسْتَرْزَقه يعني طلب منه الرِّزق، وقد يسمى المطر رزقاً لأَن الرِّزْق يكون على أثره، ومعنى قول الله تعالى: { وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ } [الواقعة:82] أَي شُكرَ رزقكم مثل قولهم: مُطِرنا بنَوْءِ الثريا أو بنوء كذا وكذا، والأَرزاقُ نوعان: ظاهرة كالأَقوات للأَبدان، وباطنة كالمَعارف والإيمان للقلوب والنُّفوس (1) .
__________
(1) لسان العرب 10/115 .(2/412)
والرازِقُ سبحانه هو الذي يرزق الخلائق أَجمعين، وهو الذي قدر أرزاقهم قبل خلق العالمين، وهو الذي تكفل باستكمالها ولو بعد حين، فلن تموت نفس إلا باستكمال رزقها كما أخبرنا الصادق الأمين - صلى الله عليه وسلم - ، روى ابن ماجة وصححه الألباني من حديث جَابِرِ - رضي الله عنه - أن النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: ( أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا اللهَ وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ فَإِنَّ نَفْسًا لَنْ تَمُوتَ حَتَّى تَسْتَوْفِىَ رِزْقَهَا وَإِنْ أَبْطَأَ عَنْهَا، فَاتَّقُوا اللهَ وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ خُذُوا مَا حَل وَدَعُوا مَا حَرُمَ ) (1) .
ومن حديث أبي أمامة - رضي الله عنه - أن النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: ( إن روح القدس نفث في روعي أن نفسا لن تموت حتى تستكمل أجلها وتستوعب رزقها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب ولا يحملن أحدكم استبطاء الرزق أن يطلبه بمعصية الله، فإن الله تعالى لا ينال ما عنده إلا بطاعته ) (2)، وقال تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ } [فاطر:3]، فالرازق اسم يدل على وصف الرزق المقارن للخلق في التقدير الأزلي والميثاقي، فالله سبحانه قدر خلقهم ورزقهم معا قبل وجودهم، وكتب أرزاقهم في الدنيا والآخرة قبل إنشائهم، فالرزق وصف عام يتعلق بعموم الكون في عالم الملك والملكوت .
__________
(1) ابن ماجة في كتاب التجارات، باب الاقتصاد في طلب المعيشة 2/725 (2144)، وانظر تصحيح الشيخ الألباني للحديث في صحيح الجامع حديث رقم (2742) .
(2) انظر مسند الشهاب 2/185 (1151)، وانظر صحيح الجامع رقم ( 2085 ) .(2/413)
قال ابن تيمية: ( والرزق اسم لكل ما يغتذى به الإنسان وذلك يعم رزق الدنيا ورزق الآخرة .. فلابد لكل مخلوق من الرزق، قال الله تعالى: { وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلا عَلَى اللهِ رِزْقُهَا } [هود:6]، حتى إن ما يتناوله العبد من الحرام هو داخل في هذا الرزق، فالكفار قد يرزقون بأسباب محرمة ويرزقون رزقا حسنا، وقد لا يرزقون إلا بتكلف، وأهل التقوى يرزقهم الله من حيث لا يحتسبون، ولا يكون رزقهم بأسباب محرمة ولا يكون خبيثا، والتقى لا يحرم ما يحتاج إليه من الرزق، وإنما يحمى من فضول الدنيا رحمة به وإحسانا إليه، فإن توسيع الرزق قد يكون مضرة على صاحبه، وتقديره يكون رحمة لصاحبه ) (1) .
دلالة الاسم على أوصاف الله .
__________
(1) مجموع الفتاوى 16/52، وانظر في معنى الاسم أيضا الأسماء والصفات للبيهقي ص 86 .(2/414)
اسم الله الرازق يدل على ذات الله وعلى صفة الرزق بدلالة المطابقة، وعلى أحدهما بالتضمن، قال تعالى: { وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا الله يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ } [العنكبوت:60]، وقال: { إِنَّ الذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ الله لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ الله الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } [العنكبوت:17]، وقال سبحانه: { وَلَوْ بَسَطَ الله الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ } [الشورى:27]، وعند مسلم من حديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( لاَ يَبِعْ حَاضِرٌ لِبَادٍ، دَعُوا النَّاسَ يَرْزُقِ الله بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ ) (1)، والاسم يدل باللزوم على الحياة والقيومية والسيادة والأحدية والغنى والصمدية والسمع والبصر والعلم والقدرة والعدل والحكمة غير ذلك من صفات الكمال واسم الله الرازق دل على صفة من صفات الأفعال .
الدعاء باسم الله الرازق دعاء مسألة .
__________
(1) مسلم في البيوع، باب تحريم بيع الحاضر للبادي 3/1157 (1522) .(2/415)
ورد الدعاء المسألة بالاسم المقيد في قول الله تعالى: { قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللهمَّ رَبَّنَا أَنْزِل عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيداً لأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ } [المائدة:114]، ورد الدعاء بالوصف في قوله - عز وجل -: { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَل هَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِالله وَاليَوْمِ الآخِرِ } [البقرة:126]، وقال إبراهيم - عليه السلام - أيضا: { رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ المُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَل أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلهُمْ يَشْكُرُونَ } [إبراهيم:37] .
ومما ورد في السنة ما رواه مسلم من حديث سعد - رضي الله عنه - أنه قال: ( جَاءَ أعرابي إِلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقال: عَلِّمْنِي كَلاَمًا أَقُولُهُ، قال: قُل لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، اللهُ أَكْبَرُ كَبِيرًا وَالحَمْدُ للهِ كَثِيرًا، سُبْحَانَ اللهِ رَبِّ العَالَمِينَ، لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللهِ العَزِيزِ الحَكِيمِ، قال: فَهَؤُلاَءِ لِرَبِّي، فَمَا لي؟ قال: قُلِ اللهُمَّ اغْفِرْ لي وارحمني وَاهْدِنِي وَارْزُقْنِي ) (1) .
__________
(1) مسلم في الذكر والدعاء والتوبة، باب فضل التهليل والتسبيح والدعاء 4/2072 (2696) .(2/416)
وعند البخاري من حديث أنس - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل على أم سليم، فأتته بتمر وسمن فقال: ( أَعِيدُوا سَمْنَكُمْ في سِقَائِهِ، وَتَمْرَكُمْ في وِعَائِهِ فَإِنِّي صَائِمٌ، ثُمَّ قَامَ إِلَى نَاحِيَةٍ مِنَ البَيْتِ، فَصَلى غَيْرَ المَكْتُوبَةِ، فَدَعَا لأُمِّ سُلَيْمٍ، وَأَهْلِ بَيْتِهَا، فَقَالَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ: يَا رَسُولَ الله إِنَّ لِي خُوَيْصَةً، قال: مَا هِي؟ قَالَتْ: خَادِمُكَ أَنَسٌ، فَمَا تَرَكَ خَيْرَ آخِرَةٍ وَلاَ دُنْيَا إِلاَّ دَعَا لِي بِهِ، قال: اللهمَّ ارْزُقْهُ مَالاً وَوَلَدًا وَبَارِكْ لَهُ، فَإِنِّي لَمِنْ أَكْثَرِ الأَنْصَارِ مَالاً ) (1) .
وعند البخاري من حديث ابن عباس - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَأْتِيَ أَهْلَهُ قال: بِاسْمِ اللهِ، اللهُمَّ جَنِّبْنَا الشَّيْطَانَ، وَجَنِّبِ الشَّيْطَانَ مَا رَزَقْتَنَا، فَإِنَّهُ إِنْ يُقَدَّرْ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ فِي ذَلِكَ، لَمْ يَضُرَّهُ شَيْطَانٌ أَبَدًا ) (2) .
الدعاء باسم الله الرازق دعاء عبادة .
أثر الاسم في سلوك العبد يقتضي إفراد الله بتقدير الأرزاق والمنع والعطاء والتوكل عليه في الشدة والرخاء، اعتقادا منه أنه لا خالق إلا الله ولا مدبر للكون سواه، وأن الذي يرزق بأسباب قادر على أن يرزق من غير أسباب طالما أنه الخالق الرازق المدبر فليس للعبد سبيل في طلب الرزق بعد الأخذ بالأسباب إلا تقوى الله - عز وجل - كما قال: { وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَل لهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ } [الطلاق:3] .
__________
(1) البخاري في الصوم، باب من زار قوما فلم يفطر عندهم2/699 (1881) .
(2) البخاري في الدعوات، باب ما يقول إذا أتى أهله 5/2347 (6025) .(2/417)
وإذا علم العبد أن الله قائم بالرزق والتدبير ومنفرد بالمشيئة والتقدير، وعلم أيضا أنه قابض على نواصي الملك وله خزائن السماوات والأرض، وأنه أحكم الحاكمين وخير الرازقين، إذا علم العبد ذلك أيقن أن الملك من فوق عرشه كفيل بأمره ورزقه فتوكل عليه وانقطع إليه، لا يطمع في سواه ولا يرجو إلا إياه ولا يشهد في العطاء إلا مشيئته ولا يرى في المنع إلا حكمته ولا يعاين في القبض والبسط إلا قدرته، عند ذلك يحقق توحيد الله في اسمه الرازق .
قال تعالى: { إِنَّ الذينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دَونِ اللّه لاَ يَمْلكُونَ لكُمْ رِزْقَاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللّه الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ } [العنكبوت:17]، وقال سبحانه أيضا: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ } [فاطر:3]، وقال - عز وجل -: { قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ } [يونس:31] .
أما من جهة التسمية بعد الرزاق فقد تسمى به الإمام الحافظ المفسر عز الدين أبو محمد الرسعني الحنبلي المحدث عبد الرازق بن رزق الله بن أبي بكر بن خلف، كان عالما ومفسرا صاحب الرمز الكنيز في تفسير الكتاب العزيز، وكان إماما محدثا أديبا شاعرا دينا صالحا، وقد كانت وفاته في شهر ربيع الآخر في سنة إحدى وستين وستمائة (1) .
********************************
70- الله - جل جلاله - القَاهِرُ
********************************
الدليل على ثبوت الاسم وإحصائه .
__________
(1) طبقات المفسرين لأحمد بن محمد الأدنروي ص 243 .(2/418)
سمى الله نفسه القاهر على سبيل الإطلاق مرادا به العلمية ومقترنا بعلو القهر والشأن والفوقية ودالا على كمال الوصفية في موضعين من القرآن، الأول قوله: { وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ } [الأنعام:18]، وقوله تعالى: { وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ } [الأنعام:61]، وقد ورد المعنى في هذين الموضعين محمولا على الاسم ومسندا إليه، ولم يرد اسم الله القاهر في السنة إلا في سرد الأسماء الحسنى المدرجة عند ابن ماجة، وقد علمنا أن دورنا تجاه الأسماء الإحصاء وليس الاشتقاق والإنشاء .
شرح الاسم وتفسير معناه .
القاهر في اللغة اسم فاعل للموصوف بقهر غيره، فعله قهر يقهر قهرا، وقهرت الشيء غلبته وعلوت عليه مع إذلاله بالاضطرار، تقول: أَخَذتُهُم قهْرا أَي من غير رضاهم وأقهِرُ الرجُل إذا وجَدْتَه مَقهورا، أو صار أمرُه إلى الذل والصغار والقهر، وعند الترمذي وصححه الشيخ الألباني من حديث أَبِى هُرَيْرَة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال في شأن يأجوج ومأجوج: ( فَيَقُولُونَ قَهَرْنَا مَنْ فِي الأَرْضِ وَعَلَوْنَا مَنْ فِي السَّمَاءِ قَسْوَةً وَعُلُوًّا ) (1)، وروى أحمد وصححه الألباني من حديث أَبِي أيوب الأنصاري - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( وَلَمْ يَعْمَلْ يَوْمَئِذٍ عَمَلاً يَقْهَرُهُنَّ .. الحديث ) (2) .
__________
(1) الترمذي في التفسير، باب ومن سورة الكهف 5/313 (3153)، وانظر السلسلة الصحيحة (3153) .
(2) أحمد في المسند 5/420 (23614)، وانظر السلسلة الصحيحة (114)، وانظر لسان العرب 5/120.(2/419)
والقاهر سبحانه هو الغالِب على جميع الخلائق على المعنى العام، الذي يعلو في قهره وقوته فلا غالب ولا منازع له، بل كل شيء تحت قهره وسلطانه، قال تعالى: { مَا اتَّخَذ الله مِنْ وَلد وَمَا كان مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذا لذهَبَ كل إِلهٍ بِمَا خَلقَ وَلعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ سُبْحَانَ الله عَمَّا يَصِفون } [المؤمنون:91]، فيستحيل أن يكون لهذا العالم إلا إله واحد لأن الله قاهر فوق عباده له العلو والغلبة، فلو فرضنا وجود إلهين اثنين مختلفين ومتضادين وأراد أحدهما شيئا خالفه الآخر، فلا بد عند التنازع من غالب وخاسر فالذي لا تنفذ إرادته هو المغلوب العاجز، والذي نفذت إرادته هو القاهر القادر .
والله - عز وجل - قال عن نفسه: { وَهُوَ القَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ } [الأنعام:61]، أي هو الذي قهر كل شيء، وخضع لجلاله كل شيء، وذل لعظمته وكبريائه كل شيء، وعلا على عرشه فوق كل شيء، قال ابن جرير: ( ويعني بقوله القاهر أي المذلل المستعبد خلقه العالي عليهم، وإنما قال فوق عباده لأنه وصف نفسه تعالى بقهره إياهم، ومن صفة كل قاهر شيئا أن يكون مستعليا عليه، فمعنى الكلام إذا: والله الغالب عباده المذل لهم العالي عليهم بتذليله لهم وخلقه إياهم، فهو فوقهم بقهره إياهم وهم دونه ) (1) .
دلالة الاسم على أوصاف الله .
اسم الله القاهر يدل بالمطابقة والتضمن واللزوم على ما دل عليه اسمه القهار، غير أن اسمه القهار مبالغة في الدلالة على الوصف لكثرة الفعل، فالقاهر هو الذي له علو القهر الكلي المطلق باعتبار قهر الكل في الجملة، وعلى اختلاف تنوعهم، فهو قاهر فوق عباده، له علو القهر مقترنا بعلو الشأن والفوقية، أما القهار فهو الذي له علو القهر باعتبار الكثرة وتعيين الجزء، أو باعتبار نوعية المقهور، والاسمان يدلان على صفة من صفات الأفعال .
__________
(1) تفسير ابن جرير 7/ 161، وانظر تفسير البيضاوي 2/ 398، وتفسير القرطبي 6/ 399 .(2/420)
الدعاء باسم الله القاهر دعاء مسألة .
لم أجد دعاء المسألة بالاسم أو الوصف، ويمكن الدعاء بمعنى الاسم؛ فالقاهر هو العلي في قهره وقوته؛ فكل شيء تحت قهره وسلطانه، وكل شيء خضع لجلاله وعظمته، وكبريائه وقدرته، روى أبو داود وصححه الشيخ الألباني من حديث الحسن بن علي رضي الله عنهما أنه قال: ( عَلمَنِي رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كَلِمَاتٍ أَقُولُهُنَّ فِي قُنُوتِ الْوِتْرِ: اللهُمَّ اهْدِني فِيمَنْ هَدَيْتَ، وَعَافِنِي فِيمَنْ عَافَيْتَ، وَتَوَلنِي فِيمَنْ تَوَليْتَ، وَبَارِكْ لِي فِيمَا أَعْطَيْتَ، وَقِنِي شَرَّ مَا قَضَيْتَ، إِنَّكَ تَقْضِي وَلاَ يُقْضَى عَلَيْكَ، وَإِنَّهُ لاَ يَذِلُّ مَنْ وَالَيْتَ وَلاَ يَعِزُّ مَنْ عَادَيْتَ، تَبَارَكْتَ رَبَّنَا وَتَعَالَيْتَ ) (1) .
الدعاء باسم الله القاهر دعاء عبادة .
أثر الاسم على العبد هو الخضوع التام لله - عز وجل - توحيدا له في اسمه القاهر والاستعلاء على الأعداء بعزة الإسلام ثقة ويقينا في ربه، روى مسلم من حديث عقبة بن عامر - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( لاَ تَزَالُ عِصَابَةٌ مِنْ أُمَّتِي يُقَاتِلُونَ عَلَى أَمْرِ اللهِ قَاهِرِينَ لِعَدُوِّهِمْ لاَ يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ وَهُمْ عَلَى ذَلِكَ ) (2) .
__________
(1) أبو داود في كتاب الصلاة، باب القنوت في الوتر 2/63 (1425)، مشكاة المصابيح (1273) .
(2) مسلم في الإمارة، باب قوله S: لا تزال طائفة من أمتي3/1524(1924) .(2/421)
والله - عز وجل - وعد المؤمنين بالعلو والتمكين والنصرة والغلبة فقال: { كَتَبَ اللهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيز } [المجادلة:21]، وقال - عز وجل -: { وَمَنْ يَتَوَل اللهَ وَرَسُولَهُ وَالذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغَالِبُونَ } [المائدة:56]، وقال سبحانه: { وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُون } [الصافات:173]، ورتب - عز وجل - ذلك على توحيد العبد لربه والتجائه إليه، ثم صدق التوكل عليه، ثم الأخذ بأسباب القوة ما استطاع إلى ذلك سبيلا فقال تعالى: { يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ } [محمد:7]، وقال - عز وجل -: { إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ } [آل عمران:160] .(2/422)
وإتقان الأخذ بأسباب القوة من علامات التوحيد وأثر الإيمان باسم الله القاهر فالله عز وجل قادر على أن يقهر الظالمين بأمره الكوني لكنه جعل العباد مبتلين بتدبيره الشرعي لتظهر آثار أسمائه فيهم، فلا بد للموحدين أن يستعينوا بالله القاهر أولا ثم يتقنوا الأخذ بأسباب القوة عند اللقاء لينتصروا على الأعداء، قال تعالى: { وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ } [الأنفال:60]، وذلك يشمل كل ما هو في مقدور البشر من العدة والآلة والحيلة والقوة، وتقديم الإخلاص والصدقة ورد المظالم وصلة الرحم، ودعاء مخلص وأمر بمعروف ونهى عن منكر وأمثال ذلك من الأسباب الموجبة للنصر (1) .
وممن تسمى بالتعبد للاسم أبو رفاعة عبد القاهر بن السري السلمي البصري من الطبقة السابعة للرواة كبار أتباع التابعين روى عنه أبو داود وغيره (2) .
********************************
71- الله - جل جلاله - الدَّيَّانُ
********************************
الدليل على ثبوت الاسم وإحصائه .
__________
(1) المستطرف في كل فن مستظرف 1/464 .
(2) انظر حديثه في سنن أبي داود كتاب الأدب 4/359 (5234) .(2/423)
لم يرد الاسم في القرآن ولكن سماه به النبي - صلى الله عليه وسلم - على سبيل الإطلاق مرادا به العلمية ودالا على كمال الوصفية، فعند البخاري من حديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( يَحْشُرُ اللهُ الْعِبَادَ فَيُنَادِيهِمْ بِصَوْتٍ يَسْمَعُهُ مَنْ بَعُدَ كَمَا يَسْمَعُهُ مَنْ قَرُبَ، أَنَا الْمَلِكُ أَنَا الدَّيَّانُ ) (1) .
وعند أحمد وقال الشيخ الألباني حسن لغيره من حديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أَوْ قَالَ: الْعِبَادُ عُرَاةً غُرْلاً بُهْماً قَالَ قُلْنَا: مَا بُهْماً؟ قَالَ: لَيْسَ مَعَهُمْ شَيْءٌ، ثُمَّ يُنَادِيهِمْ بِصَوْتٍ يَسْمَعُهُ مِنْ قُرْبٍ: أَنَا الْمَلِكُ أَنَا الدَّيَّانُ ) (2) .
شرح الاسم وتفسير معناه .
الديان صيغة مبالغة على وزن فعال، فعله دَان يدين دينا، يقال: دنتهم فدانوا أي جازيتهم وحاسبتهم، وقهرتهم فأطاعوا، والديان يطلق على الملك المطاع، والحاكم والقاضي، وهو الذي يدين الناس، إما بمعنى يقهرهم، وإما بمعنى يحاسبهم، فمن الأول دان الرجل القوم إذا قهرهم فدانوا له إذا انقادوا، ومن الثاني الديان بمعنى المحاسب المجازي، قال خويلد بن نوفل الكلابي للحارث الغساني وكان ملكا ظالما:
يا أيها الملك المخوف أما ترى ليلا وصبحا كيف يختلفان
هل تستطيع الشمس أن تأتي بها ليلا وهل لك بالمليك يدان
__________
(1) البخاري معلقا في كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له 6/2719، وقد وصله ابن حجر في تغليق التعليق 5/355، وصححه الألباني في ظلال الجنة في تخريج السنة 1/225، وانظر الأسنى في شرح الأسماء الحسنى 1/417 .
(2) أحمد في المسند حديث عبد الله بن أنيس3/495 (16465) .(2/424)
يا حار أيقن أن ملكك زائل واعلم بأن كما تدين تدان (1) .
والدين الجزاء، ومالك يوم الدين أي يوم الجزاء، وقوله تعالى عن الكافرين: { أئذا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَدِينُون } [الصافات:53] أي مجزيون محاسبون، وقوله: { فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } [الواقعة:86/87]، أي مقهورين ومدبرين ومجزيين (2)، وقد يكون الديان بمعني صاحب الديوان، وهو الكتاب الحافظ للأعمال والحقوق، ومنه ما رواه أحمد والحاكم من حديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( الدَّوَاوِينُ عِنْدَ اللهِ - عز وجل - ثَلاَثَةٌ: دِيوَانٌ لاَ يَعْبَأُ اللهُ بِهِ شَيْئاً، وَدِيوَانٌ لاَ يَتْرُكُ اللهُ مِنْهُ شَيْئاً، وَدِيوَانٌ لاَ يَغْفِرُهُ اللهُ ) (3) .
__________
(1) جمهرة الأمثال 2/168، والصحاح للجوهري 5/2118، والنهاية في غريب الحديث 2/148 .
(2) قاعدة في المحبة لابن القيم ص34، ولسان العرب 11/525، وفتح الباري 13/384 .
(3) أخرجه الحاكم في المستدرك وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه 4 /619 (8717)، وأحمد في المسند 6/240 (26073)، والحديث ضعفه الألباني انظر ضعيف الجامع حديث رقم (3022) .(2/425)
والديان سبحانه هو الذي دانت له الخليفة، وعنت له الوجوه وذلت لعظمته الجبابرة وخضع لعزته كل عزيز، ملك قاهر على عرش السماء مهيمن، لعزته تعنو الوجوه وتسجد، يرضى على من يستحق الرضا ويثيبه ويكرمه ويدنيه، ويغضب على من يستحق الغضب ويعاقبه ويهينه ويقصيه، فيعذب من يشاء ويرحم من يشاء، ويعطي من يشاء ويمنع من يشاء، ويقرب من يشاء ويقصي من يشاء، له دار البقاء دار عذاب أليمة وهي النار، ودار سعادة دار عظيمة وهي الجنة، فهو الديان الذي يدين العباد أجمعين ويفصل بينهم يوم الدين (1)، كتب أعمالهم فهي حاضرة ولا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أظهرها لهم في الآخرة، قال تعالى: { وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً } [الكهف:49]، وقال - عز وجل -: { يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ } [النور:25] .
قال ابن القيم في معنى يوم الدين: ( يوم يدين الله العباد بأعمالهم، إن خيرا فخيرا وإن شرا فشرا، وذلك يتضمن جزاءهم وحسابهم ) (2) .
دلالة الاسم على أوصاف الله .
__________
(1) انظر الصلاة وحكم تاركها ص 204 بتصرف .
(2) قاعدة في المحبة لابن القيم ص34، لسان العرب 11/525، وفتح الباري 13/384 .(2/426)
اسم الله الديان يدل على ذات الله وعلى وصف الدينونة بدلالة المطابقة، وعلى أحدهما بالتضمن، قال تعالى: { قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنْ المُصَدِّقِينَ أئذا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ } [الصافات:51/53]، وروايات السنة في ذكر الوصف ضعيفة منها الحديث المشهور عن أبي قلابة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( البر لا يبلى، والذنب لا ينسى، والديان لا يموت، اعمل ما شئت كما تدين تدان ) (1)، والاسم يدل باللزوم على الحياة والقيومية والسمع والبصر والعلم والقدرة والملك والعظمة والكبرياء العزة والعدل والحكمة وغير ذلك من صفات الكمال واسم الله الديان دل على صفة من صفات الأفعال .
الدعاء باسم الله الديان دعاء مسألة .
لم أجد دعاء المسألة بالاسم المطلق في نص صحيح، ويمكن الدعاء بمعنى الاسم ومقتضاه، فالديان هو الذي يدين العباد أجمعين ويفصل بينهم ويحاسبهم يوم الدين، وعلى هذا المعنى يحمل دعاء المسألة في قوله تعالى عن إبراهيم - عليه السلام -: { وَالذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ } [الشعراء:82]، وقوله تعالى: { هُوَ الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } [غافر:65]، وعند مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت: ( قُلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ ابْنُ جُدْعَانَ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَصِلُ الرَّحِمَ وَيُطْعِمُ الْمِسْكِينَ، فَهَلْ ذَاكَ نَافِعُهُ؟ قَالَ: لاَ يَنْفَعُهُ، إِنَّهُ لَمْ يَقُلْ يَوْمًا رَبِّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ ) (2) .
__________
(1) انظر ضعيف الجامع (2369)، والسلسلة الضعيفة 4/77 (1576) .
(2) مسلم في الإيمان، باب الدليل على أن من مات على الكفر لا ينفعه عمل 1/196 (214) .(2/427)
ومن حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر، ثم يعرج الذين باتوا فيكم فيسألهم ربهم وهو أعلم بهم: كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: أتيناهم وهم يصلون، وتركناهم وهم يصلون، فاغفر لهم يوم الدين ) (1) .
الدعاء باسم الله الديان دعاء عبادة .
أثر الاسم ومقتضاه أن يحاسب العبد نفسه على كسبه استعدادا للقاء ربه، وأعلى أنواع الموازنة أن يوازن بين مقدار ما يكتسبه من الخير أو البعد عن الشر، بحيث لا تشتبه عليه الفتنة بالنعمة، فينظر إلى ما أنعم الله به عليه من خير، صحة كان أو فراغا أو علما أو طاعة، أو مالا أو سؤددا، أو غير ذلك مما يعد كمالا له في الدنيا، فإن وجد ذلك مما يقربه إلى الله شكره على نعمته، وسعى بالمزيد من توحيده وعبوديته، وإن وجد تقصيرا وبعدا التجأ إلى الله - عز وجل - أن ينجيه، واستغاث به من عذابه وفتنته، قال تعالى: { اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ } [الأنبياء:1]، وقال: { فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمْ اقْرَءُوا كِتَابِي إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِي } [الحاقة:20] .
قال أبو طالب المكي: ( صورة المحاسبة أن يقف العبد وقفة عند ظهور الهمة وابتداء الحركة، ثم يميز الخاطر وهو حركة القلب والاضطراب، وهو تصرف الجسم، فإن كان ما خطر به الخاطر من الهمة التي تقتضي نية أو عقدا أو عزما أو فعلا أو سعيا، إن كان لله - عز وجل - وبه وفيه أمضاه وسارع في تنفيذه، وإن كان لعاجل دنيا أو عارض هوى أو لهو وغفلة سرى بطبع البشرية ووصف الجبلة نفاه وسارع في نفيه، ولم يمكن الخاطر من قلبه بالإصغاء إليه والمحادثة ) (2) .
__________
(1) صحيح الترغيب والترهيب (463) .
(2) قوت القلوب 1/78 .(2/428)
والمحاسبة الحق أن ينشر العبد لكل فعلة فعلها وإن صغرت ثلاثة دواوين، الديوان الأول: لم فعلت؟ وهذا موضع الابتلاء عن وصف الربوبية بحكم العبودية، أي كان عليك أن تعمل لمولاك أم كان ذلك منك بهواك؟ فإن سلم من هذا الديوان بأن كان عليه أن يعمل كما أمر ربه، سأل نفسه عن الديوان الثاني: كيف فعلت هذا؟ وهو مكان المطالبة بالعلم والسنة، أبعلم فعلت أم بجهل؟ فإن الله تعالى لا يقبل عملا إلا خالصا لوجهه موافقا لسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - ، فإن سلم من هذا نشر الديوان الثالث، لمن فعلت؟، وهذا طريق التعبد بالإخلاص لوجه الربوبية، وهو بغية الله - عز وجل - من خلقه الذين يمتنعوا عن إغواء الشيطان قال تعالى: { قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمْ الْمُخْلَصِين } [الحجر:39/40] (1) .
ويروى عن عمر - رضي الله عنه - أنه قال: ( حَاسِبُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُحَاسَبُوا وَتَزَيَّنُوا لِلْعَرْضِ الأَكْبَرِ، وَإِنَّمَا يَخِفُّ الْحِسَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى مَنْ حَاسَبَ نَفْسَهُ فِي الدُّنْيَا ) (2) .
__________
(1) السابق بتصرف 1/80 .
(2) الترمذي في صفة القيامة والرقائق والورع 4/638 (2459) .(2/429)
وعند مسلم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ؟ قَالُوا: الْمُفْلِس فِينَا مَنْ لاَ دِرْهَمَ لَهُ وَلاَ مَتَاعَ، فَقَالَ: إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلاَةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا، وَقَذَفَ هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا وَسَفَكَ دَمَ هَذَا وَضَرَبَ هَذَا، فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ؛ فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ ) (1) .
ومن دعاء العبادة اعتقاد العبد أن الحَكم الديان لا يسوي بين مختلفين، أو يفرق بين متماثلين، سبحانه تنزه عن الجور والظلم، فحكمه وعدله يأبى ذلك لمقتضى هذه الأسماء ومن هنا ميز بين أهل الجنة والنار والمؤمنين والكفار فقال: { أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ } [القلم:36]، فأخبر أن هذا حكم باطل جائر يستحيل نسبته إليه كما يستحيل نسبة الفقر والحاجة والظلم إليه (2) .
__________
(1) مسلم في البر والصلة، باب تحريم الظلم 4/997(2581) .
(2) شفاء العليل ص199 بتصرف .(2/430)
ومن دعاء العبادة أن الموحد يحاسب الناس على ما ظهر منهم ويكل بواطنهم للحسيب الديان، وأن ييسر في الديْن عن المعسرين، وأن يتجاوز عن الفقراء والمساكين روى البخاري من حديث عمر - رضي الله عنه - قال: ( إِنَّ أُنَاسًا كَانُوا يُؤْخَذُونَ بِالْوَحْي في عَهْدِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَإِنَّ الْوَحْي قَدِ انْقَطَعَ، وَإِنَّمَا نَأْخُذُكُمُ الآنَ بِمَا ظَهَرَ لَنَا مِنْ أَعْمَالِكُمْ فَمَنْ أَظْهَرَ لَنَا خَيْرًا أَمِنَّاهُ وَقَرَّبْنَاهُ وَلَيْسَ إِلَيْنَا مِنْ سَرِيرَتِهِ شَيءٌ اللهُ يُحَاسِبُهُ في سَرِيرَتِهِ، وَمَنْ أَظْهَرَ لَنَا سُوءًا لَمْ نَأْمَنْهُ وَلَمْ نُصَدِّقْهُ، وَإِنْ قَالَ إِنَّ سَرِيرَتَهُ حَسَنَةٌ ) (1)، وروى مسلم من حديث أبي مسعود - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( حُوسِبَ رَجُلٌ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ فَلَمْ يُوجَدْ لَهُ مِنَ الْخَيْرِ شَيءٌ إِلاَّ أَنَّهُ كَانَ يُخَالِطُ النَّاسَ، وَكَانَ مُوسِرًا فَكَانَ يَأْمُرُ غِلْمَانَهُ أَنْ يَتَجَاوَزُوا عَنِ الْمُعْسِرِ قَالَ: قَالَ اللهُ - عز وجل -: نَحْنُ أَحَقُّ بِذَلِكَ مِنْهُ تَجَاوَزُوا عَنْهُ ) (2).
ومن جهة التسمية بعبد الديان، فلم يتسم به أحد من السلف والخلف في مجال ما أجرينا عليه البحث، وإن كانت محركات البحث على الإنترنت قد أظهرت اسما لرجل مصري وآخر أفغاني .
********************************
72- الله - جل جلاله - الشَّاكِرُ
********************************
الدليل على ثبوت الاسم وإحصائه .
__________
(1) البخاري في الشهادات، باب الشهداء العدول 2/934 (2498) .
(2) مسلم في المساقاة، باب فضل انتظار المعسر 3/ 1195 (1561) .(2/431)
ورد الاسم في القرآن مطلقا يفيد المدح والثناء على الله بنفسه، منونا مسندا إليه المعنى محمولا عليه مرادا به العلمية ودالا على كمال الوصفية في موضعين القرآن، الأول قوله تعالى: { إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَو اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ } [البقرة:158]، والثاني قوله: { مَا يَفْعَلُ اللهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللهُ شَاكِراً عَلِيماً } [النساء:147]، ولم يثبت الاسم في السنة النبوية .
شرح الاسم وتفسير معناه .
الشاكر اسم فاعل للموصوف بالشكر، فعله شكر يشكر شكرا، والشكر هو الثناء الجميل على الفعل الجليل، ومجازاة الإحسان بالإحسان، روى أحمد وصححه الألباني من حديث صحيح أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -: ( أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - دخل على النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال يا رسول الله: رأيت فلانا يشكر، يذكر أَنَّك أَعْطَيْتَهُ دِينَارَيْنِ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لكن فلانا قَدْ أَعْطَيْتُهُ مَا بَيْنَ الْعَشَرَةِ إِلَى الْمِائَةِ فما شكر، وَإِنَّ أَحَدَهُمْ لَيَسْأَلُنِي الْمَسْأَلَةَ فَأُعْطِيهَا إِيَّاهُ فَيَخْرُجُ بِهَا مُتَأَبِّطُهَا وَمَا هي لَهُمْ إِلاَّ نَارٌ، قَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ الله فَلِمَ تُعْطِيهِمْ؟ قَالَ: إِنَّهُم يَأْبَوْن إِلاَّ أَنْ يَسْأَلُونِي وَيَأْبَى اللهُ لِيَ الْبُخْلَ ) (1) .
__________
(1) أحمد في المسند 3/16 (11139)، وصحيح ابن حبان 8/ 203 (3414)، وانظر صحيح الترغيب والترهيب (844)، وانظر أيضا شرح أسماء الله الحسنى للرازي ص291، وتفسير الأسماء للزجاج ص47 .(2/432)
والشكور أبلغ من الشاكر وهو المبالغ في الشكر بالقلب واللسان والجوارح، قال المناوي: ( الشكور الباذل وسعه في أداء الشكر بقلبه ولسانه وجوارحه اعتقادا واعترافا، وقيل: الشاكر من يشكر على الرخاء، والشكور على البلاء، والشاكر من يشكر على العطاء، والشكور من يشكر على المنع ) (1) .
والله سبحانه شاكر يجازي العباد على أعمالهم، ويزيد من فضله أجورهم، فيقابل شكرهم بزيادة النعم في الدنيا وواسع الأجر في الآخرة قال تعالى: { فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكفُرُون } [البقرة:152]، وقال: { وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ } [إبراهيم:7]، وروى البخاري من حديث أَبِى هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( لاَ يَدْخُلُ أَحَدٌ الْجَنَّةَ إِلاَّ أُرِىَ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ، لَوْ أَسَاءَ لِيَزْدَادَ شُكْرًا، وَلاَ يَدْخُلُ النَّارَ أَحَدٌ إِلاَّ أُرِىَ مَقْعَدَهُ مِنَ الْجَنَّةِ، لَوْ أَحْسَنَ لِيَكُونَ عَلَيْهِ حَسْرَةً ) (2) .
والله - عز وجل - شاكر يرضى بأعمال العباد وإن قلت تكريما لهم ودعوة للمزيد، مع أنه سبحانه قد بين ما لهم من وعد أو وعيد، لكنه شاكر يتفضل بمضاعفة الأجر، ويقبل التوبة ويمحو ما يشاء من الوزر، والله غني عنا وعن شكرنا لا يفتقر إلى طاعتنا أو شيء من أعمالنا لكنه يمدح من أطاعه ويثني عليه ويثيبه، قال تعالى: { مَا يَفْعَل اللهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ الله شَاكِرا عَلِيما } [النساء:147] .
__________
(1) التوقيف على مهمات التعاريف ص437 .
(2) البخاري في كتاب الرقاق 11/426 (6569)، وانظر المقصد الأسنى ص 95 .(2/433)
قال البيضاوي في تفسير الآية: ( ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم، أيتشفى به غيظا، أو يدفع به ضررا، أو يستجلب به نفعا، وهو الغني المتعالي عن النفع والضر، وإنما يعاقب المصر بكفره .. وكان الله شاكرا مثيبا يقبل اليسير ويعطي الجزيل عليما بحق شكركم وإيمانكم ) (1) .
دلالة الاسم على أوصاف الله .
اسم الله الشاكر يدل بالمطابقة والتضمن واللزوم على ما دل عليه اسمه الشكور غير أن اسمه الشكور مبالغة في الدلالة على الوصف لكثرة الفعل، قال تعالى: { مَا يَفْعَلُ اللهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللهُ شَاكِراً عَلِيماً } [النساء:147]، والاسمان يدلان على صفة من صفات الأفعال .
الدعاء باسم الله الشاكر دعاء مسألة .
لم يرد الدعاء بالاسم ولكن ورد الدعاء بمقتضى الاسم كقوله تعالى: { فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ } [البقرة:152]، وقوله تعالى: { رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلهُمْ يَشْكُرُونَ } [إبراهيم:37] .
وروى أحمد والحاكم وصححه الألباني من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( أَتُحِبُّونَ أَنْ تَجْتَهِدُوا فِي الدُّعَاءِ، قُولُوا: اللهُمَّ أَعِنَّا عَلَى شُكْرِكَ وَذِكْرِكَ وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ ) (2)، ويضاف إلى ذلك أيضا ما تقدم في الدعاء باسم الله الشكور .
الدعاء باسم الله الشاكر دعاء عبادة .
__________
(1) تفسير البيضاوي 2/ 272، وتفسير الطبري 5/ 340 .
(2) أحمد في المسند 2/299 (7969)، مستدرك الحاكم 1/677 (1838)، صحيح الجامع (81) .(2/434)
دعاء العبادة هو توحيد العبد لربه في اسمه الشاكر، وهذا يوجب عليه شكر الله - عز وجل - على نعمه السابغة، وشكر الناس على ما أجرى الله على أيديهم من الأسباب، روى أبو داود وصححه الألباني من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( لاَ يَشْكُرُ اللهَ مَنْ لاَ يَشْكُرُ النَّاسَ ) (1)، وعند أحمد وصححه الألباني من حديث عبد الرحمن بن شبل - رضي الله عنه - أن رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: ( إِنَّ الْفُسَّاقَ هُمْ أَهْلُ النَّارِ، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ وَمَنِ الْفُسَّاقُ؟ قَالَ: النِّسَاءُ، قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ أَوَلَسْنَ أُمَّهَاتِنَا وَأَخَوَاتِنَا وَأَزْوَاجَنَا؟ قَالَ: بَلَى، وَلَكِنَّهُنُّ إِذَا أُعْطِينَ لَمْ يَشْكُرْنَ، وَإِذَا ابْتُلِينَ لَمْ يَصْبِرْنَ ) (2)، وفي سنن الترمذي وصححه الألباني من حديث ثوبان - رضي الله عنه - أنه قال: ( لما نزلت: { الذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ } [التوبة:34] قال: كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في بعض أسفاره فقال بعض أصحابه - رضي الله عنهم -: أنزل في الذهب والفضة ما أنزل، لو علمنا أي المال خير فنتخذه، فقال: ( أَفْضَلُهُ لِسَانٌ ذَاكِرٌ وَقَلْبٌ شَاكِرٌ، وَزَوْجَةٌ مُؤْمِنَةٌ تُعِينُهُ عَلَى إِيمَانِهِ ) (3).
وعبد الشاكر لم يتسم به أحد من السلف والخلف في مجال ما أجرينا عليه البحث ووجد في محركات البحث على الإنترنت بعضا ممن تسمى به من أهل مصر .
********************************
73- الله - جل جلاله - المَنَّانُ
********************************
الدليل على ثبوت الاسم وإحصائه .
__________
(1) أبو داود في كتاب الأدب، باب في شكر المعروف 4/255(4811)، صحيح الجامع (7719) .
(2) المسند 3/444، السلسلة الصحيحة (3058) .
(3) الترمذي في التفسير، باب ومن سورة التوبة 5/277 (3094)، صحيح الترغيب (1913) .(2/435)
اسم الله المنان لم يرد في القرآن ولكن ورد في السنة مطلقا معرفا مرادا به العلمية ودالا على كمال الوصفية، وقد ورد المعنى محمولا عليه مسندا إليه كما في سنن أبي داود وصححه الألباني من حديث أنس - رضي الله عنه - أَنَّهُ كَانَ مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - جَالِسًا وَرَجُلٌ يُصَلّي ثُمَّ دَعَا: ( اللهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِأَنَّ لَكَ الْحَمْدَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ الْمَنَّانُ بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَا ذَا الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : لَقَدْ دَعَا اللهَ بِاسْمِهِ الْعَظِيمِ الذِي إِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ وَإِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى ) (1)، وعند الترمذي وصححه الألباني من حديث أنس: ( فَقَالَ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - : تَدْرُونَ بِمَ دَعَا اللهَ؟ دَعَا اللهَ بِاسْمِهِ الأَعْظَمِ الذِي إِذَا دُعِي بِهِ أَجَابَ وَإِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَي )، وكذلك ورد الحديث عند النسائي وابن ماجة، أما عن اقتران المنان بالحنان في بعض الروايات فلم نحتج بها لأنها ضعيفة، ولذلك ثبت اسم الله المنان ولم يثبت الحنان (2).
شرح الاسم وتفسير معناه .
__________
(1) أبو داود في كتاب الصلاة، باب الدعاء 2/79 (1495)، وانظر صحيح أبي داود (1325) .
(2) صفات الله الواردة في القرآن لعلوي السقاف ص 124، وانظر صحيح الجامع (1687)289.(2/436)
المنان في اللغة من صيغ المبالغة على وزن فعال، فعله مَنَّ يَمُنُّ مَنّا، يعني قطعه وذهب به، والمَنِينُ الحبل الضعيف، وحَبل مَنينٌ إِذا أَخْلقَ وتقطع، ورجل مَنِينٌ أَي ضعيف، يقال: كأَنَّ الدهر مَنَّه وذهب بمُنَّته أَي بقوته، والمَنُون الموت لأَنه يَمُنُّ كل شيء فيضعفه وينقصه ويقطعه، ومنه قوله تعالى: { أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ } [الطور:30]، ومَنَّ عليه أَحسن وأنعم عليه، وقوله - عز وجل -: { وَإِن لَك لأَجْرا غَيْرَ مَمْنُونٍ } [القلم:3]، أي غير محسوب أو غير مقطوع أو غير منقوص (1) .
قال الراغب الأصفهاني: ( المنة النعمة الثقيلة، ويقال ذلك على وجهين: أحدهما أن يكون ذلك بالفعل، فيقال: منَّ فلان على فلان إذا أثقله بالنعمة، وعلى ذلك قوله تعالى: { لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ } [آل عمران:164] .. وذلك على الحقيقة لا يكون إلا لله تعالى، والثاني: أن يكون ذلك بالقول، وذلك مستقبح فيما بين الناس إلا عند كفران النعمة، ولقبح ذلك قيل: المنة تهدم الصنيعة، ولحسن ذكرها عند الكفران قيل إذا كفرت النعمة حسنت المنة، وقوله: { يَمُنُّونَ عَلَيْك أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُم بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ للإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } [الحجرات:17]، فالمنة منهم بالقول، ومنة الله عليهم بالفعل، وهو هدايته إياهم كما ذكر ) (2) .
__________
(1) السابق 5/ 106، وزاد المسير لابن الجوزي 8/328 .
(2) مفردات غريب القرآن ص 777 .(2/437)
والمنان سبحانه هو العظيم الهبات الوافر العطايا، الذي يُنْعِمُ غيرَ فاخِرٍ بالإِنعام والذي يبدأ بالنوال قبل السؤال، وهو المُعْطي ابتداء وانتهاء، قال تعالى: { وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ اللهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ } [النحل:18]، فلله المِنَّة على عباده ولا مِنَّة لأَحد عليه، فهو المحسن إلي العبد والمنعم عليه، ولا يطلب الجزاء في إحسانه إليه بل أوجب بفضله لعباده حقا عليه، منة منه وتكرما إن هم وحدوه في العبادة ولم يشركوا به شيئا (1)، روى البخاري من حديث مُعَاذٍ بن جبل - رضي الله عنه - قال: كُنْتُ رِدْفَ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - عَلَى حِمَارٍ يُقَالُ لَهُ عُفَيْرٌ، فَقَالَ: ( يَا مُعَاذُ، هَلْ تَدْرِي حَقَّ اللهِ عَلَى عِبَادِهِ وَمَا حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللهِ؟ قُلْتُ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: فَإِنَّ حَقَّ اللهِ عَلَى الْعِبَادِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلاَ يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَحَقَّ الْعِبَادِ عَلَى اللهِ أَنْ لاَ يُعَذِّبَ مَنْ لاَ يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَفَلاَ أُبَشِّرُ بِهِ النَّاسَ؟ قَالَ: لاَ تُبَشِّرْهُمْ فَيَتَّكِلُوا ) (2) .
دلالة الاسم على أوصاف الله .
__________
(1) لسان العرب 13/418، وتفسير القرطبي 16/94، والأسماء والصفات للبيهقي ص128.
(2) البخاري في كتاب الجهاد والسير، باب اسم الفرس والحمار 3/1049 (2701) .(2/438)
اسم الله المنان يدل على ذات الله وعلى وصف المنة بدلالة المطابقة، وعلى الذات وحدها بالتضمن، وعلى الصفة وحدها بالتضمن، قال تعالى: { لَقَدْ مَنَّ الله عَلَى المُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ } [آل عمران:164]، وقال: { قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ الله يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ } [إبراهيم:11] .
وعند مسلم من حديث معاوية - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خَرَجَ عَلَى حَلقَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فَقَالَ: ( مَا أَجْلَسَكُمْ؟ قَالُوا جَلَسْنَا نَذْكُرُ الله وَنَحْمَدُهُ عَلَى مَا هَدَانَا لِلإِسْلاَمِ وَمَنَّ بِهِ عَلَيْنَا، قَالَ: الله مَا أَجْلَسَكُمْ إِلاَّ ذَاكَ؟ قَالُوا: وَالله مَا أَجْلَسَنَا إِلاَّ ذَاكَ، قَالَ: أَمَا إني لَمْ أَسْتَحْلِفْكُمْ تُهْمَةً لَكُمْ، وَلَكِنَّهُ أتاني جِبْرِيلُ فأخبرني أَنَّ الله عَزَّ وَجَل يُبَاهِي بِكُمُ المَلاَئِكَةَ ) (1)، والاسم يدل باللزوم على الحياة والقيومية والسمع والبصر والعلم والكرم والسعة والعطاء والرحمة، وغير ذلك من صفات الكمال، واسم الله المنان دل على صفة من صفات الأفعال
الدعاء باسم الله المنان دعاء مسألة .
__________
(1) مسلم في الذكر والدعاء والتوبة، باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن 4/ 2075 (2701) .(2/439)
ورد دعاء المسألة بالاسم المطلق في حديث أنس - رضي الله عنه - الذي تقدم وفيه: ( اللهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِأَنَّ لَكَ الْحَمْدَ، لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ الْمَنَّانُ ) (1)، وروى النسائي وحسنه الألباني من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: ( كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذْ أَتَتْهُ وَفْدُ هَوَازِنَ، فَقَالُوا يَا مُحَمَّدُ: إِنَّا أَصْلٌ وَعَشِيرَةٌ، وَقَدْ نَزَلَ بِنَا مِنَ الْبَلاَءِ مَا لاَ يَخْفَى عَلَيْكَ فَامْنُنْ عَلَيْنَا مَنَّ اللهُ عَلَيْكَ، فَقَالَ: اخْتَارُوا مِنْ أَمْوَالِكُمْ أَوْ مِنْ نِسَائِكُمْ وَأَبْنَائِكُمْ فَقَالُوا: قَدْ خَيَّرْتَنَا بَيْنَ أَحْسَابِنَا وَأَمْوَالِنَا، بَلْ نَخْتَارُ نِسَاءَنَا وَأَبْنَاءَنَا .. الحديث ) (2).
الدعاء باسم الله المنان دعاء عبادة .
__________
(1) تقدم ص 578.
(2) النسائي في كتاب الهبة، باب هبة المشاع 4/120 (6515)، صحيح السيرة النبوية ص 20.(2/440)
أثر الاسم على العبد أن يجود بنفسه وماله في سبيل دينه وإخوانه رغبة في القرب من ربه المنان، روى البخاري من حديث ابن عباس - رضي الله عنه - قال: ( خَرَجَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - في مَرَضِهِ الذِي مَاتَ فِيهِ عَاصِبٌ رَأْسَهُ بِخِرْقَةٍ، فَقَعَدَ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: إِنَّهُ لَيْسَ مِنَ النَّاسِ أَحَدٌ أَمَنَّ عَلَي فِي نَفْسِهِ وَمَالِهِ مِنْ أَبي بَكْرِ بْنِ أَبِى قُحَافَةَ، وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا مِنَ النَّاسِ خَلِيلاً لاَتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلاً، وَلَكِنْ خُلةُ الإِسْلاَمِ أَفْضَلُ، سُدُّوا عَنِّي كُل خَوْخَةٍ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ غَيْرَ خَوْخَةِ أَبِي بَكْرٍ ) (1)، ويقول تعالى: { يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى كَالذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ } [البقرة:264]، والمَنُّ هاهنا أَن تَمُنَّ بما أَعطيت وتعتدّ به كأَنك إِنما تقصد به الاعتداد، والأَذى أَن تُوَبِّخَ المعطَى، فأَعلم الله أَن المَنَّ والأَذى يُبْطِلان الصدقة (2) .
__________
(1) البخاري في الصلاة، باب الخوخة والممر في المسجد1/178 (455) .
(2) تفسير القرطبي 17/243 بتصرف .(2/441)
وقال تعالى: { وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ } [المدثر:6]، أَي لا تُعْطِ شيئا مقدَّرا لتأْخذ بدله ما هو أَكثر منه (1)، وورد عند أحمد وصححه الألباني من حديث أبي ذر - رضي الله عنه - أنه قال للنبيِ - صلى الله عليه وسلم - : ( قُلْتُ: وَمَنْ هَؤُلاَءِ الذِينَ يَشْنَؤُهُمُ اللهُ؟ قَالَ: التَّاجِرُ الْحَلاَّفُ أَوْ قَالَ الْبَائِعُ الْحَلاَّفُ وَالْبَخِيلُ الْمَنَّانُ، وَالْفَقِيرُ الْمُخْتَالُ ) (2) .
ومن دعاء العبادة أن يسمي المسلم نفسه أو ولده بعبد المنان محبة في هذا الاسم وبخصوص التسمية بعبد المنان فلم يتسم به أحد من السلف والخلف في مجال ما أجرينا عليه البحث، ووجد في محركات البحث على الإنترنت بعضا ممن تسمى به في هذا العصر .
********************************
74- الله - جل جلاله - القَادِرُ
********************************
الدليل على ثبوت الاسم وإحصائه .
__________
(1) تفسير الطبري 29/148 بتصرف .
(2) المسند 5/151(21378)، صحيح الجامع (3074) .(2/442)
سمى الله نفسه القادر في القرآن وسماه به رسوله - صلى الله عليه وسلم - على سبيل الإطلاق والإضافة مرادا به العلمية ودالا على الوصفية وكمالها، فمن القرآن قوله تعالى: { فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ القَادِرُونَ } [المرسلات:23] حيث ورد الاسم معرفا مطلقا على وجه المدح والكمال والتعظيم، ومما ورد مضافا قوله تعالى: { قُل هُوَ القَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ } [الأنعام:65]، وعند أحمد وصححه الألباني من حديث أَنَسَ بْن مَالِك - رضي الله عنه - قِيلَ: ( يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ يُحْشَرُ النَّاسُ عَلَى وُجُوهِهِمْ؟ قَالَ: إِنَّ الذي أَمْشَاهُمْ عَلَى أَرْجُلِهِمْ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُمْشِيَهُمْ عَلَى وُجُوهِهِمْ ) (1)، وعند مسلم من حديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: ( فَقَالُوا: مِمَّ تَضْحَكُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: مِنْ ضِحْكِ رَبِّ الْعَالَمِينَ حِينَ قَالَ أَتَسْتَهْزِئُ مِنِّى وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ؟ فَيَقُولُ: إِنِّي لاَ أَسْتَهْزِئُ مِنْكَ، وَلَكِنِّى عَلَى مَا أَشَاءُ قَادِرٌ ) (2) .
شرح الاسم وتفسير معناه .
__________
(1) أحمد في المسند 3/167 (12731)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (1687) .
(2) مسلم في الإيمان، باب آخر أهل النار خروجا 1/174 (187) .(2/443)
القادر في اللغة اسم فاعل من قَدَر يَقْدِر فهو قادر، يقال قَدَرْت الأمْر أقْدُرُه وأقدِّرُه إذا نَظَرتَ فيه ودَبَّرتَه، وقدْرُ كل شيء ومِقْدارُه مِقْياسه، وقَدَرَ الشيءُ بالشيء وقَدَّرَه قاسَه، والتقدير على وجوه من المعاني، أَحدها: التروية والتفكير في تسوية أَمر وتهيئته والثاني: تقديره بعلامات يقطعه عليها، والثالث: أَن تَنْوِيَ أَمرا بِعَقدِك تقول: قدَّرْتُ أَمر كذا وكذا أَي نويتُه وعَقدْتُ عليه، ويقال قدَرْتُ لأَمْرِ كذا أَقدِرُ له إِذا نظرت فيه ودَبَّرْتَه وقايسته (1) .
__________
(1) انظر النهاية في غريب الحديث 4/22، ومفردات ألفاظ القرآن ص657، واشتقاق أسماء الله للزجاج ص137، ولسان العرب 5/74 .(2/444)
والقادر سبحانه هو الذي يقدر المقادير في علمه، وعلمه المرتبة الأولى من قضائه وقدره، فالله - عز وجل - قدر كل شيء قبل تصنيعة وتكوينه، ونظم أمور الخلق قبل إيجاده وإمداده ثم كتب في اللوح هذه المعلومات ودونها بالقلم في كلمات، وكل مخلوق مهما عظم شأنه أو قل حجمه كتب الله ما يخصه في اللوح المحفوظ، ثم يشاء بحكمته وقدرته أن يكون الأمر واقعا على ما سبق في تقديره، ولذلك فإن القدر عند السلف مبني على التقدير والقدرة، فبدايته في التقدير وهو علم حساب المقادير، أو العلم الجامع التام لحساب النظام العام الذي يسير عليه الكون من بدايته إلى نهايته، قال - عز وجل -: { وَإِنْ منْ شَيْءٍ إِلا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ } [الحجر:21]، وقال أيضا: { وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً } [الأحزاب:38]، وقال سبحانه: { إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً } [الطلاق:3]، وعند مسلم من حديث عبد الله بن عمرو - رضي الله عنه - أن رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَال: ( كَتَبَ اللهُ مَقَادِيرَ الخَلائِقِ قَبْل أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلفَ سَنَةٍ، وَعَرْشُهُ عَلى المَاءِ ) (1)، وفي رواية الترمذي: ( قَدَّرَ اللهُ المَقَادِيرَ قَبْل أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلفَ سَنَةٍ ) (2) .
__________
(1) مسلم في كتاب القدر، باب حجاج آدم وموسى عليهما السلام 4/2044 (2653) .
(2) الترمذي: كتاب القدر 4/458 (2156) .(2/445)
ومن ثم فإن القادر هو الذي قدر المقادير قبل الخلق والتصوير، والقادر دلالته تتوجه إلى المرتبة الأولى من مراتب القدر، وهي العلم والتقدير وإمكانية تحقيق المقدر ولذلك قال تعالى: { أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلاقُ الْعَلِيمُ } [يس:81]، وقال أيضا: { فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرا مِنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ } [المعارج:40/41]، فالآيات تتعلق بإمكانية تحقيق المقدر، وقال: { وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ } [المؤمنون:95] .
دلالة الاسم على أوصاف الله .
القادر اسم يدل على ذات الله وصفة التقدير بدلالة المطابقة، وعلى ذات الله وحدها بالتضمن، وعلى الصفة وحدها بالتضمن، قال تعالى: { وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ } [الحجر:21]، وقال: { وَالقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالعُرْجُونِ القَدِيمِ } [يس:39]، وقال: { إِنَّا كُل شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَر } [القمر:49] .(2/446)
وعند البخاري من حديث عمر - رضي الله عنه - لما رجع عن البلد التي فيها الطاعون قال له أبو عبيدة - رضي الله عنه -: ( أَفِرَارًا مِنْ قَدَرِ الله؟ فَقَالَ عُمَرُ: لَوْ غَيْرُكَ قَالَهَا يَا أَبَا عُبَيْدَةَ، نَعَمْ نَفِرُّ مِنْ قَدَرِ الله إِلَى قَدَرِ الله، أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ لَكَ إِبِلٌ هَبَطَتْ وَادِيًا لَهُ عُدْوَتَانِ إِحْدَاهُمَا خَصِبَةٌ، وَالأُخْرَى جَدْبَةٌ، أَلَيْسَ إِنْ رَعَيْتَ الخَصْبَةَ رَعَيْتَهَا بِقَدَرِ الله، وَإِنْ رَعَيْتَ الجَدْبَةَ رَعَيْتَهَا بِقَدَرِ الله، فَجَاءَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، وَكَانَ مُتَغَيِّبًا في بَعْضِ حَاجَتِهِ فَقَالَ: إِنَّ عندي في هَذَا عِلمًا سَمِعْتُ رَسُولَ الله يَقُولُ: إِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ بِأَرْضٍ فَلاَ تَقْدَمُوا عَلَيْهِ، وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلاَ تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ، قَالَ: فَحَمِدَ الله عُمَرُ ثُمَّ انْصَرَفَ ) (1) .
وعند مسلم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( المُؤْمِنُ القَوِي خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى الله مِنَ المُؤْمِنِ الضَّعِيفِ وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ، احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ وَاسْتَعِنْ بِالله وَلاَ تَعْجِزْ، وَإِنْ أَصَابَكَ شيء فَلاَ تَقُل لَوْ أَنِّي فَعَلتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا وَلَكِنْ قُل قَدَرُ الله وَمَا شَاءَ فَعَلَ، فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ ) (2)، والاسم يدل باللزوم على الحياة والقيومية والسمع والبصر، والعلم والحكمة والغنى والعزة، وغير ذلك من صفات الكمال واسم الله القادر دل على صفة من صفات الذات والأفعال .
الدعاء باسم الله القادر دعاء مسألة .
__________
(1) البخاري في الطب، باب ما يذكر في الطاعون 5/ 2163 (5397) .
(2) مسلم في القدر، باب في الأمر بالقوة وترك العجز 4/2052 (2664) .(2/447)
ورد الدعاء بالاسم المطلق عند البخاري من حديث جابر - رضي الله عنه - أنه قال: ( لَمَّا نَزَلَتْ: { قُل هُوَ القَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ } قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - : ( أَعُوذُ بِوَجْهِكَ، قَالَ: { أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ } قَالَ - صلى الله عليه وسلم - : أَعُوذُ بِوَجْهِكَ { أَوْ يَلبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ } ، قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - : هَذَا أَهْوَنُ أَوْ هَذَا أَيْسَرُ ) (1) .
ومما ورد من الدعاء بالوصف ما رواه البخاري من حديث جابر - رضي الله عنه - قال: ( كَانَ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - يُعَلِّمُنَا الاِسْتِخَارَةَ فِي الأُمُورِ كُلِّهَا كَالسُّورَةِ مِنَ القُرْآنِ: إِذَا هَمَّ بِالأَمْرِ فَليَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ يَقُولُ: اللهمَّ إِنِّي أَسْتَخِيرُكَ بِعِلمِكَ، وَأَسْتَقْدِرُكَ بِقُدْرَتِكَ، وَأَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ العَظِيمِ، فَإِنَّكَ تَقْدِرُ وَلاَ أَقْدِرُ وَتَعْلَمُ وَلاَ أَعْلَمُ، وَأَنْتَ عَلاَّمُ الغُيُوبِ، اللهمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الأَمْرَ خَيْرٌ لِي فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي، أَوْ قَالَ عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ فَاقْدُرْهُ لي وَيَسِّرْهُ لي ثُمَّ بَارِكْ لي فِيهِ، وَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الأَمْرَ شَرٌّ لي في ديني وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي أَوْ قَالَ في عَاجِلِ أمري وَآجِلِهِ، فَاصْرِفْهُ عَنِّي وَاصْرِفْنِي عَنْهُ، وَاقْدُرْ لِي الخَيْرَ حَيْثُ كَانَ ثُمَّ أَرْضِنِي، وَيُسَمِّي حَاجَتَهُ ) (2) .
__________
(1) البخاري في التفسير، باب قل هو القادر 4/1694 ( 4352) .
(2) البخاري في الدعوات، باب الدعاء بكثرة الولد مع البركة 5/2345 ( 6018) .(2/448)
وعند البخاري من حديث ابن عباس - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَأْتِي أَهْلَهُ قَالَ: بِاسْمِ اللهِ، اللهُمَّ جَنِّبْنَا الشَّيْطَانَ، وَجَنِّبِ الشَّيْطَانَ مَا رَزَقْتَنَا، فَإِنَّهُ إِنْ يُقَدَّرْ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ فِي ذَلِكَ، لَمْ يَضُرَّهُ شَيْطَانٌ أَبَدًا ) (1) .
الدعاء باسم الله القادر دعاء عبادة .
دعاء العبادة يظهر من خلال إيمان العبد بعلم الله السابق وتقدير الأشياء، وأن ذلك سر الله في خلقة لا يعلمه ملك مقرب ولا نبي مرسل، وأن هذا العلم هو علم مفاتح الغيب وتقدير الأمور، قال تعالى: { إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الغَيْثَ وَيَعْلمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللهَ عَليمٌ خَبِيرٌ } [لقمان:34]، وقال: { قُل لا يَعْلمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الغَيْبَ إِلا اللهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ } [النمل:65]، وقال: { قُل أَنْزَلهُ الذِي يَعْلمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً } [الفرقان:6] .
__________
(1) الموضع السابق، باب ما يقول إذا أتى أهله 5/2347 (6025) .(2/449)
روى مسلم من حديث عبد الله بن عمرو - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( كَتَبَ اللهُ مَقَادِيرَ الْخَلاَئِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، قَالَ: وَعَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ ) (1)، وعند أبى داود وصححه الألباني من حديث عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( إِنَّ أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللهُ الْقَلَمَ فَقَالَ لَهُ: اكْتُبْ، قَالَ: رَبِّ وَمَاذَا أَكْتُبُ؟ قَالَ: اكْتُبْ مَقَادِيرَ كُلِّ شَيءٍ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ ) (2) .
__________
(1) مسلم في القدر، باب حجاج آدم وموسى عليهما السلام 4/2044 (2653) .
(2) أبو داود في السنة، باب في القدر4/225 (4700)، صحيح الجامع (2017) .(2/450)
والذي وحد الله في اسمه القادر يعلم أن الله قد سبق علمه في كل كائن من خلقه فقدر ذلك تقديرا محكما مبرما ليس فيه ناقض ولا معقب ولا مزيل ولا مغير، وأن الله - عز وجل - قد علم أن الأشياء تصير موجودة لأوقاتها على ما اقتضته حكمته البالغة فكانت كما علم؛ وإن حصول المخلوقات على ما فيها من غرائب الحكم لا يتصور إلا من عالم قد سبق علمه على إيجادها، كما قال تعالى: { أَلا يَعْلمُ مَنْ خَلقَ وَهُوَ اللطِيفُ الخَبِيرُ } [الملك:14]، فيستحيل حدوث شيء أو وجود فعل بدون علمه وقدرته؛ وإذا كان هذا اعتقاد الموحد في اسمه القادر ركن إلى ربه واعتمد عليه ولم يخش أحدا سواه، وروى الترمذي وصححه الألباني من حديث ابن عباس - رضي الله عنه - قَال: ( كُنْتُ خَلفَ رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمًا فَقَال: يَا غُلامُ إِنِّي أُعَلمُكَ كَلمَاتٍ، احْفَظِ اللهَ يَحْفَظْكَ احْفَظِ اللهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ، إِذَا سَأَلتَ فَاسْأَل اللهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللهِ، وَاعْلمْ أَنَّ الأُمَّةَ لوِ اجْتَمَعَتْ عَلى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لمْ يَنْفَعُوكَ إِلا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللهُ لكَ، وَلوِ اجْتَمَعُوا عَلى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لمْ يَضُرُّوكَ إِلا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللهُ عَليْكَ، رُفِعَتِ الأَقْلامُ وَجَفَّتِ الصُّحُفُ ) (1) .
__________
(1) الترمذي في صفة القيامة 4/667 (2516)، صحيح الجامع (7957) .(2/451)
ومن آمن بالقادر لم يأت عرافا ولا منجما ولا كاهنا ولا مدعيا لمعرفة الغيب لأن علم التقدير سر بيد القادر وحده، لم يطلع عليه ملك مقرب ولا نبي مرسل (1)، روى مسلم عن بعض أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( مَنْ أَتَى عَرَّافًا فَسَأَلهُ عَنْ شَيْءٍ لمْ تُقْبَل لهُ صَلاةٌ أَرْبَعِينَ ليْلةً ) (2) .
__________
(1) العراف الحازر الذي يرجم بالغيب، والمنجم الذي يدعى علم الغيب أو الذي يستدل على الأمور بأسباب ومقدمات يدعي معرفتها، والكهانة ادعاء علم الغيب، انظر شرح النووي على صحيح مسلم 14/ 227 .
(2) مسلم في السلام، باب تحريم الكهانة وإتيان الكهان4/1751 (2230) .(2/452)
ولا ينبغي للموحد أن يعارض العلم السابق والتقدير الحتمي بالتواكل والاستناد للمذهب الجبري، روى البخاري من حديث على بن أبي طالب - رضي الله عنه - أنه قَال: ( كُنَّا فِي جَنَازَةٍ فِي بَقِيعِ الغَرْقَدِ، فَأَتَانَا النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَعَدَ وَقَعَدْنَا حَوْلهُ، وَمَعَهُ مِخْصَرَةٌ؛ فَنَكَّسَ فَجَعَل يَنْكُتُ بِمِخْصَرَتِهِ ثُمَّ قَال: مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ مَا مِنْ نَفْسٍ مَنْفُوسَةٍ إِلا كُتِبَ مَكَانُهَا مِنَ الجَنَّةِ وَالنَّارِ وَإِلا قَدْ كُتِبَ شَقِيَّةً أَوْ سَعِيدَةً، فَقَال رَجُلٌ: يَا رَسُول اللهِ أَفَلا نَتَّكِلُ عَلى كِتَابِنَا وَنَدَعُ العَمَل؟ فَمَنْ كَانَ مِنَّا مِنْ أَهْل السَّعَادَةِ فَسَيَصِيرُ إِلى عَمَل أَهْل السَّعَادَةِ، وَأَمَّا مَنْ كَانَ مِنَّا مِنْ أَهْل الشَّقَاوَةِ فَسَيَصِيرُ إِلى عَمَل أَهْل الشَّقَاوَةِ؟ قَال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أَمَّا أَهْلُ السَّعَادَةِ فَيُيَسَّرُونَ لعَمَل السَّعَادَةِ، وَأَمَّا أَهْلُ الشَّقَاوَةِ فَيُيَسَّرُونَ لعَمَل الشَّقَاوَةِ ثُمَّ قَرَأَ: { فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لليُسْرَى وَأَمَّا مَنْ بَخِل وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ للعُسْرَى } [الليل:5/10] ) (1) .
وممن تسمى بالتعبد لاسم الله القادر الحافظ أبو محمد الرهاوي عبد القادر بن عبد الله، سمَّع على أبي زرعة طاهر بن محمد المقدسي سنن ابن ماجه، وعلى نصر بن سيار جامع الترمذي، ومات في ثاني جمادى الأولى سنة اثنتي عشر وستمائة (2) .
********************************
__________
(1) المخصرة هي العود الصغير، ومعنى نكس أطرق برأسه إلى الأرض، ومعنى ينكت بمخصرته يضرب في الأرض ضربا خفيفا انظر شرح النووي على صحيح مسلم 16/195 .
(2) تذكرة الحفاظ للقيسراني 4/1387 ، وطبقات الحفاظ للسيوطي ص490 .(2/453)
75- الله - جل جلاله - الخلاَّقُ
********************************
الدليل على ثبوت الاسم وإحصائه .
ورد الاسم مطلقا يفيد المدح والثناء على الله بنفسه معرفا محمولا عليه المعنى مسندا إليه مرادا به العلمية ودالا على كمال الوصفية في قوله تعالى: { إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلاقُ الْعَلِيم } [الحجر:86]، وقوله: { أَوَلَيْسَ الذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلاقُ الْعَلِيمُ } [يّس:81]، وفي مستدرك الحاكم وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه من حديث ابن عباس - رضي الله عنه - أنه قال: ( جاء العاص بن وائل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعظم حائل ففته فقال: يا محمد أيبعث الله هذا بعد ما أرم؟ قال: نعم يبعث الله هذا يميتك ثم يحييك ثم يدخلك نار جهنم، قال فنزلت: { أَوَلَمْ يَرَ الإِنسَانُ .. إلى قوله .. أَوَلَيْسَ الذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَى وَهُوَ الْخَلاقُ الْعَلِيمُ ... الآيات } ) (1) .
شرح الاسم وتفسير معناه .
الخلاق صيغة مبالغة على وزن فعال من اسم الفاعل الخالق، فعله خلق يخلق خلقا والفرق بين الخالق والخلاق أن الخالق هو الذي ينشئ الشيء من العدم بتقدير وعلم ثم بمشيئة وتصنيع وخلق عن قدرة وغنى، أما الخلاق فهو الذي يبدع في خلقه كما وكيفا فمن حيث الكم يخلق ما يشاء كما قال - عز وجل -: { إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرا } [النساء:133]، وقال: { وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ } [الأنعام:133] .
__________
(1) المستدرك على الصحيحين تفسير سورة يس 2/466 (3606) .(2/454)
وأما من حيث الكيف فقال: { وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللهِ الذِي أَتْقَنَ كُل شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُون } [النمل:88]، وقال - عز وجل -: { خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ } [التغابن:3]، فالخلاق هو الذي يبدع في خلقه كما وكيفا بقدرته المطلقة، فيعيد ما خلق ويكرره كما كان، بل يخلق خلقا جديدا أحسن مما كان (1)، وفي هذا رد على الذين قالوا ليس في الإمكان أبدع مما كان لأن ذلك ينافي معنى اسمه الخلاق، صحيح أن الله - عز وجل - أحسن وأتقن كل شيء خلقه كما قال: { الذِي أَحْسَنَ كُل شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإنسان مِنْ طِينٍ } [السجدة:7]، لكن قدرة الله مطلقة فهو الخالق الخلاق كما أنه الرازق الرزاق .
__________
(1) انظر في معنى الخالق والخلاق شرح أسماء الله الحسنى للرازي ص211، وتفسير الأسماء للزجاج ص 36 والمقصد الأسنى ص72، والأسماء والصفات للبيهقي ص42 .(2/455)
قال ابن تيمية فيمن قال ليس في الإمكان أبدع من هذا العالم، لأنه لو كان كذلك ولم يخلقه لكان بخلا يناقض الجود أو عجزا يناقض القدرة: ( لا ريب أن الله سبحانه يقدر على غير هذا العالم وعلى إبداع غيره إلى ما لا يتناهى كثرة ويقدر على غير ما فعله كما بين ذلك في غير موضع من القرآن، وقد يراد به – يعني قول القائل ليس في الإمكان - أنه ما يمكن أحسن منه ولا أكمل منه، فهذا ليس قدحا في القدرة، بل قد أثبت قدرته على غير ما فعله، لكن قال ما فعله أحسن وأكمل مما لم يفعله، وهذا وصف له سبحانه بالكرم والجود والإحسان، وهو سبحانه الأكرم فلا يتصور أكرم منه سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا ) (1)، ويذكر ابن القيم أن براهين المعاد في القرآن مبينة على ثلاثة أصول:
أحدها: تقرير كمال علم الرب سبحانه كما قال في جواب من قال: { مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ } ، وقال: { وَإِن السَّاعَةَ لآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلاقُ الْعَلِيم } [الحجر:86] .
والثاني: تقرير كمال قدرته كقوله: { أَوَلَيْسَ الذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَى وَهُوَ الْخَلاقُ الْعَلِيمُ } [يس:81] .
الثالث: كمال حكمته كما في قوله تعالى: { وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ } [الدخان:38]، وقوله سبحانه: { أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ } [المؤمنون:115] (2) .
__________
(1) جامع الرسائل لابن تيمية ص120، رسالة في معنى كون الرب عادلا وفي تنزهه عن الظلم .
(2) الفوائد لابن القيم ص7 .(2/456)
قال ابن كثير: ( وقوله إن ربك هو الخلاق العليم تقرير للمعاد وأنه تعالى قادر على إقامة الساعة، فإنه الخلاق الذي لا يعجزه خلق شيء، العليم بما تمزق من الأجساد وتفرق في سائر أقطار الأرض ) (1) .
والقرطبي يجعل الخلاق دالا أيضا تقدير الله للأخلاق وتقسيمها بين العباد، وهذا يسعه اللفظ ويحتمله، يقول: ( إن ربك هو الخلاق أي المقدر للخلق والأخلاق، العليم بأهل الوفاق والنفاق ) (2) .
دلالة الاسم على أوصاف الله .
الاسم يدل بالمطابقة والتضمن واللزوم على ما دل عليه اسمه الخالق غير أن الخلاق مبالغة في الدلالة على الوصف لكثرة الفعل، فالخالق هو الذي ينشئ الشيء من العدم بتقدير وعلم ثم بتصنيع وخلق عن قدرة وغنى، أما الخلاق فهو الذي يبدع في خلقه كما وكيفا على مثال وغير مثال، والاسمان يدلان على صفة من صفات الأفعال .
الدعاء باسم الله الخلاق دعاء مسألة .
ورد دعاء المسألة بالاسم المطلق فيما أثر عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - أنه قال: ( اللهم إنك خلاق عظيم، إنك سميع عليم، إنك غفور رحيم، إنك رب العرش العظيم، إنك البر الجواد الكريم، اغفر لي وارحمني وعافني وارزقني واجبرني وارفعني واهدني ولا تضلني وأدخلني الجنة برحمتك يا أرحم الراحمين ) (3) .
وعند ابن ماجة وصححه الشيخ الألباني من حديث علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( اللهُمَّ لَكَ سَجَدْتُ، وَبِكَ آمَنْتُ، وَلَكَ أَسْلَمْتُ أَنْتَ رَبِّي، سَجَدَ وَجْهِي لِلذِي شَقَّ سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ، تَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ) (4).
الدعاء باسم الله الخلاق دعاء عبادة .
__________
(1) تفسير ابن كثير 2/ 557 .
(2) تفسير القرطبي 10/ 54 .
(3) الفردوس بمأثور الخطاب 1/441 (1800) .
(4) ابن ماجة في إقامة الصلاة والسنة فيها، باب سجود القرآن 1/335 (1054)، الكلم الطيب (87) .(2/457)
دعاء العبادة هو يقين الشخص وإيمانه بالاسم ومقتضاه؛ فيؤمن بكمال علم الله وحكمته، وأنه الذي يبدع في خلقه كما وكيفا بكمال قدرته، وأن الله لا يعجزه شيء في ملكه، وهو سبحانه غالب على أمره، خلق الدنيا بأسباب تؤدي إلى نتائج وعلل تؤدي إلى معلولات، السبب والنتيجة أو العلة والمعلول مخلوقان بعلم الله ومشيئته وقدرته المطلقة على الخلق، سواء ارتبط المعلول بعلته أو انفصل عن علته أو ارتبط السبب بنتيجته أو انفصل عن نتيجته، كل ذلك لا يؤثر في قدرة الخلاق، ولا يحد من الكمال والإطلاق، ولكن ترابط العلل والأسباب أو انفصالها ظاهر عن كمال العدل والحكمة .
ولمزيد من البيان في كيفية الإيمان بمقتضى اسم الله الخلاق يمكن القول إن الله - عز وجل - جعل الحياة مبنية على ترابط الأسباب بحيث لا يخلق النتيجة إلا إذا خلق سببها أولا ولا يخلق المعلول إلا إذا خلق علته أولا، فلا يخلق النبتة إلا إذا خلق البذرة، ولا يخلق الثمرة إلا إذا خلق النبتة، لا يخلق الابن إلا إذا أوجد الأب والأم، ومن هنا ظهرت الأسباب للعقلاء كابتلاء يصح من خلاله معنى البديهيات، وصحة التجارب والمعادلات، فأهل اليقين ينظرون إلى الأسباب ويعلمون أنها صادرة عن الخلاق، وأن الله - عز وجل - تارة ينسب الفعل إليه لأنه الخالق بتقدير وقدرة، وتارة ينسب الفعل إلى عباده عند دعوتهم إلى العمل في الأسباب بمقتضى الشريعة والعقل والحكمة، فمرة يقول في بيان التقدير والقدرة: { أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ } [الواقعة:64] .(2/458)
وقال أيضا: { فَليَنْظُرْ الإِنسَانُ إِلى طَعَامِهِ أَنَّا صَبَبْنَا المَاءَ صَبًّا ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا وَعِنَبًا وَقَضْبًا وَزَيْتُونًا وَنَخْلا وَحَدَائِقَ غُلبًا وَفَاكِهَةً وَأَبًّا مَتَاعًا لكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ } [عبس:24/32]، فنفى عن الناس خلقهم لأفعالهم وتأثير الأسباب بمفردها في أرزاقهم، وأثبت لنفسه تصريف الأسباب وانفراده بخلقها وتقليبها لأنه الخالق الخلاق على الحقيقة، فهو الذي علم وكتب وشاء وخلق، قدر كل شيء بعلمه، وكتبه في أم الكتاب بقلمه، وأمضاه بمشيئته، وخلقه بقدرته، ثم أمر الناس أن يأخذوا بالأسباب التي خلقها وأحكم ابتلاءهم بها فقال: { تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلهِ إِلا قَليلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ } [يوسف:47] .
وقال تعالى أيضا: { يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ ليَغِيظَ بِهِمُ الكُفَّارَ } [الفتح:29]، فسماهم زراعا وقال تزرعون وسماهم كفارا لأنهم يضعون البذرة ويغطونها ويغيبونها في الأرض، فكلفنا بالعمل لأننا في دار ابتلاء وامتحان، والأخذ بالأسباب حتم على بني الإنسان؛ فهم مستخلفون في ملكه ومخولون في أرضه، فطالبنا بالعمل والإنفاق مع الإيمان بأنه الخلاق ليصل كل منا إلى ما قدر له من الأرزاق، فقال - جل جلاله -: { آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلكُمْ مُسْتَخْلفِينَ فِيهِ فَالذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ } [الحديد:7] .(2/459)
ومن ثم فإن الدنيا دار ابتلاء وامتحان ولا بد أن يجتازها الإنسان، وهو فيها بين نازعين نفسيين متقابلين ومتضادين، وبين نجدين معروضين مطروحين بين إرادته ومخير فيهما بحريه إما إلى جنة وإما إلى نار، كل ذلك ليؤول الناس إلى سابق التقدير وما دون في الكتاب من تقرير المصير لا تغير فيه ولا تبديل، قال تعالى: { فَرِيقٌ فِي الجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ } [الشورى:7] .
فالخلاق سبحانه أظهر الدنيا أسبابا ونسب الفعل إلى أهلها لإظهار حكمته ونسب الفعل وأثبته لنفسه في موضع آخر لإظهار قدرته، فلا يتغافل العبد عن قدرته بدعوى الانشغال في النظر إلى حكمته، وأن الأسباب حاكمة على مشيئة الله وقدرته، وأنها صارمة لا يمكن أن يتخلف المعلول فيها عن علته، فالله - عز وجل - يخلق بأسباب وبغير أسباب، إن خلق بأسباب فهي العادات، وإن خلق بغير أسباب فهي خوارق العادات أو الكرامات والمعجزات، فتجد الثمرة يخلقها الله بعد خلق النبتة ويربط خلق الثمرة بوجودها، ويمكن أن يخلق الثمرة من غير نبتة ويصبح وجودها كعدمها، فهذه مريم ابنة عمران كانت تأكل من الثمار في غير أوانها، قال تعالى: { كُلمَا دَخَل عَليْهَا زَكَرِيَّا المِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقاً قَال يَا مَرْيَمُ أَنَّى لكِ هَذَا قَالتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } [آل عمران:37] .(2/460)
قيل أنها كانت ترزق بفاكهة الصيف في الشتاء وفاكهة الشتاء في الصيف (1)، وهى قد علمت أن الذي يخلق الثمرة بأسباب قادر على أن يخلقها بغير أسباب، ويرزق من يشاء من عبيده بغير حساب، ولذلك كان من قوة يقينها أن الله اختارها محلا للابتلاء وأنها ستحمل على غير عادة النساء، ويخرج منها عيسى - عليه السلام - كمعلول بغير علة ونتيجة بلا سبب، قال تعالى: { فَأَرْسَلنَا إِليْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّل لهَا بَشَرًا سَوِيًّا قَالتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنتَ تَقِيًّا قَال إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لأَهَبَ لكِ غُلامًا زَكِيًّا قَالتْ أَنَّى يَكُونُ لي غُلامٌ وَلمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلمْ أَكُنْ بَغِيًّا قَال كَذَلكِ قَال رَبُّكِ هُوَ عَليَّ هَيِّنٌ وَلنَجْعَلهُ آيَةً للنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا } [مريم:17/21] .
__________
(1) جامع البيان عن تأويل آي القرآن 3/244 .(2/461)
والمقصود بقوله هين أن خوارق العادات لا تأخذ في مراتب القدر ما تأخذه العادات فالولد مثلا في العادة يخلق من أب وأم، وفي خرق العادة من أم فقط فالخلق في العادة أكثر منه في خارق العادة، فعند المقارنة الحسابية وطرح الخوارق من العادات تكون الخوارق أهون وأيسر، وإن كان كل شيء على الله يسير، لكن المراد أن يفهم سائر العباد أن قضية البعث والإعادة قضية حقيقية، وأن ذلك من الأمور اليقينية الحتمية وهي يسيرة على الخلاق، قال تعالى: { وَهُوَ الذِي يَبْدأُ الخَلقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَليْهِ وَلهُ المَثَلُ الأَعْلى فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ } [الروم:27]، وقال سبحانه: { أَوَليْسَ الذِي خَلقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلهُمْ بَلى وَهُوَ الخَلاقُ العَليمُ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُول لهُ كُنْ فَيَكُونُ فَسُبْحَانَ الذِي بِيَدِهِ مَلكُوتُ كُل شَيْءٍ وَإِليْهِ تُرْجَعُونَ } [يّس:83] .
والله - عز وجل - قد يخلق العلة ولا يخلق معلولها وتتخلف النتيجة عن سببها كما فعل بنار إبراهيم - عليه السلام -: { قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلينَ قُلنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْرَاهِيمَ } [الأنبياء:69]، أضرموا نارا لا يقوى الطير على المرور من فوقها وقد توفرت لهم العلة ولكن الله - عز وجل - لم يخلق معلولها .(2/462)
وعند البخاري من حديث أنس بنِ مالكٍ - رضي الله عنه -: ( أنَّ يَهودِيَّةً أتَتِ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - بشاةٍ مَسمومَةٍ فأكَل منها فجيء بها، فقيل: ألا نقتُلُها؟ ) (1)، وفي رواية مسلم: ( فجيء بِهَا إِلى رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَسَأَلهَا عَنْ ذلكَ؟ فَقَالتْ: أَرَدْتُ لأَقْتُلكَ، قَال: مَا كَانَ اللهُ ليُسَلطَكِ عَلى ذَاكِ، أَوْ قَال: عَليَّ، قَال قَالُوا: أَلاَ نَقْتُلها؟ قَال لاَ ) (2)، فالسم علة تخلف معلولها ولم تؤثر في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
__________
(1) البخاري في الهبة، باب قبول الهدية من المشركين2/ 923 (2474) .
(2) مسلم في السلام، باب السم 4/ 1721 (2190) .(2/463)
وقد يخلق الله - عز وجل - المعلول بلا علة كما خلق ناقة صالح - عليه السلام - من الجبل: { وَإِلى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالحاً قَال يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللهِ لكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُل فِي أَرْضِ اللهِ وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَليمٌ } [الأعراف:73]، وعند البخاري من حديث عبدِ الرحمنِ بنِ أبي بكرٍ - رضي الله عنه -: ( أنَّ أصحابِ الصُّفَّةِ كانوا أُناساً فُقراءَ، وأَنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: مَن كان عندَهُ طعامُ اثنينِ فليَذْهَبْ بثالثٍ وإِنْ أَربعٌ فخامسٌ أو سادس، وإنَّ أَبا بكرٍ جاءَ بثلاثةٍ فانطلقَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بعشَرةٍ، قال: فهوَ أَنا وَأَبي وَأُمي وخادِمٌ بينَنا وبينَ بَيتِ أبي بكر، وإِنَّ أَبا بكرٍ تَعشَّى عندَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ثم لبِثَ حيثُ صُليَتِ العِشاءُ، ثم رجعَ فلبِثَ حتّى تعَشَّى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ، فجاءَ بعدَ ما مضى مِنَ الليل ما شاءَ اللهُ، قالت له امرأَتهُ: وما حبَسكَ عن أضيافِكَ؟ قال: أَوَ ما عَشيِتيهم؟ قالت: أَبَوا حتّى تَجيء، قد عُرِضوا فأَبَوا، قال فذهبتُ أَنا فاختبأْتُ، فقال: يا غُنثَرُ، فجدَّعَ وسَبَّ، وقال: كُلوا لا هَنِيّاً، فقال وَاللهِ لا أَطعَمُه أبداً، وأَيمُ اللهِ، ما كنا نأْخُذُ من لُقمةٍ إلاّ رَبا من أَسْفلها أكثرُ منها يعني حتى شَبِعُوا، وصارتْ أَكثَرَ مِما كانت قبل ذلك، فنظرَ إِليها أبو بكرٍ فإِذا هيَ كما هيَ أو أكثرُ، فقال لامرأتِه: يا أُختَ بني فِراسٍ ما هذا؟ قالت: لا وقُرَّةِ عيني لهيَ الآنَ أَكثرُ منها قبل ذلكَ بثلاثِ مرّاتٍ، فأَكل منها أبو بكرٍ وقال: إِنما كان ذلكَ منَ الشيطانِ، يعني يَمينَهُ، ثمَّ أَكل منها لُقمةً، ثمَّ حَملها إِلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -(2/464)
فأصبحتْ عندَه وكان بينَنا وبينَ قومٍ عَقدٌ فمضى الأجلُ ففرَّقَنا اثْنَيْ عشرَ رجُلاً، معَ كل رجلٍ منهم أُناسٌ اللهُ أعلم كم مَع كل رجُلٍ، فأكلوا منها أجمعون، أَو كما قال ) (1).
وعند البخاري من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: ( أُتِيَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بِإِنَاءٍ وَهُوَ بِالزَّوْرَاءِ فَوَضَعَ يَدَهُ فِي الإِنَاءِ، فَجَعَل المَاءُ يَنْبُعُ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ؛ فَتَوَضَّأَ القَوْمُ، قَال قَتَادَةُ: قُلتُ لأَنَسٍ: كَمْ كُنْتُمْ؟ قَال ثَلاثَ مِائَةٍ أو قريبا من ذلك ) (2) .
__________
(1) البخاري في مواقيت الصلاة، باب السمر مع الضيف والأهل 1/217 (577)، والغنثر هو الثقيل الوخيم طويل البال، وقيل الضعيف الحقير، ومعنى فجدَّعَ وسَبَّ، دعا بقطع الأنف وغيره من الأعضاء، وشتم على تأخير واجب الضيافة، انظر فتح الباري 6/598 .
(2) البخاري في المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام 3/ 1309 (3379) .(2/465)
قال ابن القيم: ( الأسباب مظهر حكمته وحمده وموضع تصرفه لخلقه وأمره، فتقدير تعطيلها تعطيل للخلق والأمر، وهو أشد منافاة للحكمة وإبطالا لها، واقتضاء هذه الأسباب لمسبباتها كاقتضاء الغايات لأسبابها، فتعطيلها منها قدح في الحكمة وتفويت لمصلحة العالم التي عليها نظامه وبها قوامه، وأن الرب سبحانه قد يخرق العادة ويعطلها عن مقتضياتها أحيانا إذا كان فيه مصلحة راجحة على مفسدة فوات تلك المسببات، كما عطل النار التي ألقى فيها إبراهيم وجعلها عليه بردا وسلاما عن الإحراق لما في ذلك من المصالح العظيمة، وكذلك تعطيل الماء عن إغراق موسى وقومه وعما خلق عليه من الإسالة والتقاء أجزائه بعضها ببعض هو لما فيه من المصالح العظيمة والآيات الباهرة والحكمة التامة التي ظهرت في الوجود، وترتب عليها من مصالح الدنيا والآخرة ما ترتب فهكذا سائر أفعاله سبحانه مع أنه أشهد عباده بذلك أنه مسبب الأسباب، وأن الأسباب خلقه وأنه يملك تعطيلها عن مقتضياتها وآثارها، وأن كونها كذلك لم يكن من ذاتها وأنفسها، بل هو الذي جعلها كذلك، وأودع فيها من القوى والطبائع ما اقتضت به آثارها، وأنه إن شاء أن يسلبها إياها سلبها، لا كما يقول أعداؤه من الفلاسفة والطبائعيين وزنادقة الأطباء أنه ليس في الإمكان تجريد هذه الأسباب عن آثارها وموجباتها، ويقولون لا تعطيل في الطبيعة وليست الطبيعة عندهم مربوبة مقهورة تحت قهر قاهر وتسخير مسخر يصرفها كيف يشاء، بل هي المتصرفة المدبرة .
ولا كما يقول من نقص علمه ومعرفته بأسرار مخلوقاته وما أودعها من القوى والطبائع والغرائز، وبالأسباب التي ربط بها خلقه وأمره وثوابه وعقابه، فجحد ذلك كله ورد الأمر إلى مشيئة محضة مجردة عن الحكمة والغاية، وعن ارتباط العالم بعضه ببعض ارتباط الأسباب بمسبباتها والقوى بمحالها ) (1).
__________
(1) طريق الهجرتين ص257.(2/466)
ومن ثم فإن الإيمان بأن الله - عز وجل - هو الخلاق يقتضي الإيمان بشرع الله وقدره على الإطلاق، وأن كل ما أخبر به عن البعث والجنة والنار حق لا ريب فيه، روى مسلم من حديث عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - أن رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: ( مَنْ قَالَ أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَأَنَّ عِيسَى عَبْدُ اللهِ وَابْنُ أَمَتِهِ، وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ، وَأَنَّ الْجَنَّةَ حَقٌّ، وَأَنَّ النَّارَ حَقٌّ، أَدْخَلَهُ اللهُ مِنْ أَيِّ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ الثَّمَانِيَةِ شَاءَ ) (1)، وما أحسن قول القائل:
يمضى الزمان وكل فان ذاهب إلا جميل الذكر فهو الباقي
لم يبق من إيوان كسرى بعد ذاك الحفل إلا الذكر في الأوراق
هل كان للسفاح والمنصور والمهدي من ذكر على الإطلاق
رجع التراب إلى التراب بما اقتضت في كل خلق حكمة الخلاق (2) .
وممن تسمى عبد الخلاق، الشيخ الإمام زين الدين عبد الخلاق بن أحمد بن الفرزان الحنبلي في هذه السنة توفي بنابلس سنة ثمان وأربعين وثمانمائة (3) .
********************************
76- الله - جل جلاله - المَالِكُ
********************************
الدليل على ثبوت الاسم وإحصائه .
اسم الله المالك ورد في القرآن على سبيل الإضافة والتقييد مرادا به العلمية ودالا على كمال الوصفية، وإن كانت الإضافة تحمل معنى الإطلاق في الملكية، لكنه ورد في السنة النبوية مطلقا، فمن القرآن قوله تعالى: { قُلِ اللهُمَّ مَالِكَ المُلكِ } [آل عمران:26] .
__________
(1) مسلم في الإيمان، باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة قطعا 1/57 (28) .
(2) نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب 6/ 203 .
(3) شذرات الذهب 4/262 .(2/467)
والملك يطلق في مقابل الملكوت، فالملك يراد به عالم الشهادة غالبا أو الحياة الدنيا بصفة عامة، والملكوت أيضا يراد به في الغالب عالم الغيب أو عالم الآخرة، والله عز وجل هو مالك الملك والملكوت رب العالمين، الذي يملك عالم الغيب وعالم الشهادة بما فيهما، قال تعالى: { قُل يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الذِي لَهُ مُلكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } [الأعراف:158]، فالمالك هو المنفرد بملكية الملك والملكوت .
والله - عز وجل - كما أفرد نفسه بملكيته لعالم الملك أفرد نفسه بملكيته لعالم الغيب أو عالم الملكوت، فقال تعالى: { مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ } [الفاتحة:2/4] (1) .
وإذا كان الحق سبحانه مالكا لعالم الغيب والشهادة وما فيهما كما بينت الأدلة السابقة فهو المالك إذا على سبيل الإطلاق أزلا وأبدا، وعلى الرغم من ذلك فإن أدلة الاسم في القرآن لا تكفي وحدها لحصره أو عده ضمن الأسماء نظرا لعدم الإطلاق الصريح .
__________
(1) بعيدا عن التقسيم الصوفي الفلسفي لعالم الملك والملكوت وفق دعواهم بالحضرات الإلهية الخمس كما ذكر الجرجاني في التعريفات ص119، وتقسيمات أبي حامد الغزالي في معارج القدس ص 15، ص87، وجواهر القرآن ص48، فإننا نعني بالملك والملكوت عالم الغيب والشهادة بناء على إظهار قدرة الله في تقليب الأسباب الظاهرة من إتيان الملك أو نزعه وفق مشيئته وأمره، أو إدراك القدرة الإلهية فيما ورائها، انظر المزيد عن هذا الموضوع في التوقيف على مهمات التعاريف للمناوي ص283، بغية المرتاد في الرد على المتفلسفة والقرامطة والباطنية لابن تيمية ص203، والرد على المنطقيين ص196 .(2/468)
والشرط الذي نلتزمه في حصر الأسماء الحسنى أن يفيد الثناء بنفسه من غير إضافة وأن يرد نص صريح صحيح في ذلك، فالذي ورد في القرآن يعد وصفا أكثر من كونه اسما، لكن الذي يجعله اسما ووصفا هو ما سماه به رسوله - صلى الله عليه وسلم - فيما ثبت عند مسلم من رواية أَبُي بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة - رضي الله عنه - أن النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: ( إِنَّ أَخْنَع اسْمٍ عِنْدَ اللّهِ رَجُلٌ تَسَمَّى مَلِكَ الأَمْلاَكِ لاَ مَالِكَ إِلاَّ اللّهُ - عز وجل - ) (1)، فالرسول - صلى الله عليه وسلم - سماه مالكا على سبيل الإطلاق الصريح مرادا به العلمية ودالا على كمال الوصفية .
شرح الاسم وتفسير معناه .
المالك في اللغة اسم فاعل فعله ملك يملك فهو مالك، والله - عز وجل - مالك الأشياء كلها ومصرفها على إرادته لا يمتنع عليه منها شيء، لأن المالك للشيء في كلام العرب هو المتصرف فيه والقادر عليه، فإن قال قائل: فقد يغصب الإنسان على الشيء فلا يزول ملكه عنه، قيل له: لا يزول ملكه عنه حكما وديانة، فأما في الظاهر والاستعمال فالغاصب له ما هو في يده يصرفه كيف شاء؛ من استعمال أو هبة أو إهلاك أو إصلاح، وإن كان في ذلك مخطئا آثما آتيا ما هو محظور عليه بإحالته بينه وبين مالكه، فإن رجع ذلك الشيء على صاحبه قيل: رجع إلى ملكه أي إلى حاله التي كان فيها حقيقة، والله - عز وجل - قادر على الأشياء التي خلقها ويخلقها لا يمتنع عليه منها شيء، وقد قرأ ابن كثير ونافع وأَبو عمرو وابن عامر وحمزة مَلِك يوم الدين بغير أَلف، وقرأَ عاصم والكسائي ويعقوب مالك بأَلف، وقد رويت القراءتان عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (2) .
__________
(1) مسلم في كتاب الآداب، باب تحريم التسمي بملك الأملاك وبملك الملوك 3/1688 (2143) .
(2) اشتقاق أسماء الله للزجاج ص43، ولسان العرب لابن منظور 10/491، وكتاب السبعة في القراءات لأبي بكر البغدادي ص 104 .(2/469)
والله - عز وجل - مالك الملك، ملكه عن أصالة واستحقاك لأنه الخالق الحي القيوم الوارث فعلة استحقاق الملك أمران:
الأول: صناعة الشيء وإنشائه واختراعه، فالعاقل يعلم عقلا أن المخترع له براءة الاختراع والمؤلف له حق الطبع والنشر، روى البخاري عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه قال: ( مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيِّتَةً فَهِيَ لهُ ) (1)، وَيُرْوَى ذلك أيضا عَنْ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - (2)، وإذا كان ملوك الدنيا لا يمكن لأحدهم أن يؤسس ملكه بجهده منفردا فلا بد له من ظهير أو معين، سواء من أهله وقرابته، أو حزبه وجماعته، أو قبيلته وعشيرته، فإن الله - عز وجل - هو المتفرد بالملكية حقيقة، فلا أحد ساعده في إنشاء الخلق أو عاونه على استقرار الملك، أو يمسك السماء معه أن تقع على الأرض، قال سبحانه وتعالى: { أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ } [الأعراف:54]، وقال أيضا: { مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلا خَلقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ المُضِلينَ عَضُدا } [الكهف:51]، وعند البخاري من حديث عمران بن الحصين - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( كان اللهَ ولم يكن شيء قبلهُ، وكان عرشه على الماء، ثم خلقَ السماواتِ والأرضَ وكتب في الذكر كل شيء ) (3) .
__________
(1) البخاري في كتاب المزارعة، باب من أحيا أرضا مواتا 2/823 .
(2) السابق 2/823 .
(3) البخاري في كتاب التوحيد، باب وكان عرشه على الماء 6/2699 (6982) .(2/470)
الثاني: دوام الحياة فهو علة أخرى لاستحقاق الملك لأنه يوجب انتقال الملكية وثبوت التملك، ومعلوم أن كل من على الأرض ميت فانٍ كما قال تعالى: { كُلُّ مَنْ عَليْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الجَلال والإكرام } [الرحمن:27]، وقال أيضا: { كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ المَوْتِ ثُمَّ إِليْنَا تُرْجَعُون } [العنكبوت:57]، ولما كانت الحياة وصف ذات لله والإحياء وصف فعله، فإن المُلْك بالضرورة سيئول إلى خالقه ومالكه كما قال: { لمَنِ المُلكُ اليَوْمَ للهِ الوَاحِدِ القَهَّار } [غافر:16]، وقال تعالى: { وَللهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِير } [آل عمران:180]، فالمُلْك لله في المبتدأ عند إنشاء الخلق فلم يكن أحد سواه، والملك لله في المنتهى عند زوال الأرض لأنه لن يبق من الملوك سواه، وهو الملك من فوق عرشه لا خالق ولا مدبر للكون إلا الله، فالمَلِك هو المتصرف بالأمر والنهي في مملكته وهو القائم بسياسة خلقه، وملكه هو الحق الدائم له بدوام الحياة، ولما كان الله تعالى هو المنفرد بالخلق والتدبير فإنه ينفرد بالملك والتقدير إلزاما وينفرد أيضا بأنه المالك المستحق للملك، قال ابن القيم: ( الفرق بين الملك والمالك أن المالك هو المتصرف بفعله، والملك هو المتصرف بفعله وأمره، والرب تعالى مالك الملك فهو المتصرف بفعله وأمره ) (1)، ويقصد أن مالك الشيء لا يلزم أن يكون ملكا لوجود من يرأسه ويمنع تصرفه في ملكه، أما الملك الذي له الملكية والملك فله مطلق التدبير والأمر .
دلالة الاسم على أوصاف الله .
__________
(1) بدائع الفوائد 4/ 972 .(2/471)
اسم الله المالك يدل على ذات الله وعلى صفة الملكية بدلالة المطابقة، وعلى ذات الله وحدها بالتضمن، وعلى الصفة وحدها بالتضمن، والاسم يدل باللزوم على الحياة والقيومية فلا يمكن أن يكون المالك ميتا أو غافلا عن ملكه وإلا زال بعضه أو كله وكذلك فإن اسم الله المالك يدل باللزوم على العلم والمشيئة والقدرة والعزة والعظمة والقوة والقبض والبسط والإعطاء والمنع والسمع والبصر والحكمة والخبرة .
والله - عز وجل - لما ذكر ملكيته للأشياء وأنه الذي يمنحها لمن يشاء ذكر بعدها القدرة كلازم لذلك، فاسم الله المالك يدل على هذه الصفات وغيرها من صفات الكمال باللزوم والاسم دل على صفة ذات .
الدعاء باسم الله المالك دعاء مسألة .(2/472)
ورد دعاء المسألة بالاسم المقيد في قوله تعالى: { قُلِ اللهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [آل عمران:26]، وقوله تعالى: { الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ صِرَاطَ الذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ } [الفاتحة:2/7]، وعند الطبراني وحسنه الألباني من حديث أنس - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لمعاذ - رضي الله عنه -: ( ألا أعلمك دعاء تدعو به لو كان عليك مثل جبل أحد دينا لأداه الله عنك، قل يا معاذ: اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير، رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما، تعطيهما من تشاء وتمنع منهما من تشاء، ارحمني رحمة تغنيني بها عن رحمة من سواك ) (1) .
ومن الدعاء بالوصف قوله تعالى: { تَبَارَكَ الذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [الملك:1]، ومن الدعاء بمقتضى الوصف قوله تعالى: { قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلا مَا شَاءَ الله وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } [الأعراف:188] .
الدعاء باسم الله المالك دعاء عبادة .
__________
(1) المعجم الصغير1/336 (558)، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (1821) .(2/473)
دعاء العبادة بالاسم هو اعتقاد وسلوك، فيعتقد أنه عبد في ملك سيده مستخلف في أرضه أمين على ملكه، قد ابتلاه فيما أعطاه وامتحنه واسترعاه، أيرد الملك إلى المالك أم ينسب للمخلوق أوصاف الخالق؟ فيتكبر على العباد بنعم الله ويتعالى عليهم بما منحه وأعطاه، فالموحد الصادق يتحرى في قوله وفعله توحيد الله في اسمه المالك لا يتوكل إلا عليه ولا يلجأ إلا إليه لعمله أن أمور الرزق بيديه، وأن المبتدا منه والمنتهى إليه، قال تعالى: { قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ } [يونس:31]، فوجب على الموحد أن يعرف نفسه وحقيقتها وحقيقة النعم وملكيتها، فإنه مهما عرف نفسه حق المعرفة فإنه إلى المالك الأوحد أذل من كل ذليل، وأقل من كل قليل، وأنه لا يليق به إلا التواضع والخضوع، وكما أنه يتوجب عليه أن يشكر المالك عند العطاء فكذلك يتوجب عليه أن يصبر عند المنع، فالأمور بيد مالكها، والنفوس بيد خالقها، يختار ما يشاء لمن يشاء (1) .
هل سمى أحد من أهل العلم عبد المالك؟ جاء في المدونة الكبرى للإمام مالك بن أنس أنه قال: ( سمعت عبد المالك بن عبد العزيز بن جريح يحدث أنه بلغه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: الحميل غارم ) (2) .
********************************
77- الله - جل جلاله - الرَّزَّاقُ
********************************
__________
(1) انظر في هذا المعنى إحياء علوم الدين 3/359، وصفة الصفوة 3/101 .
(2) المدونة الكبرى 13/218، وانظر الدارس في تاريخ المدارس للدمشقي 2/114، والتكملة لكتاب الصلة للقضاعي 2/271، والحديث صحيح عن أبي أمامة - رضي الله عنه - أن رسول الله S قال: ( الزعيم غارم ) انظر صحيح الجامع (4116) .(2/474)
الدليل على ثبوت الاسم وإحصائه .
سمى الله نفسه الرزاق في الكتاب والسنة فقد ورد الاسم مطلقا معرفا مرادا به العلمية ودالا على كمال الوصفية وقد ورد المعنى محمولا عليه مسندا إليه كما ورد في قوله تعالى: { إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ } [الذاريات:58]، وعند الترمذي وصححه الشيخ الألباني من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - أنه قال: ( غَلاَ السِّعْرُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ سَعِّرْ لَنَا؟ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُسَعِّرُ الْقَابِضُ الْبَاسِطُ الرَّزَّاقُ وَإِنِّي لأَرْجُو أَنْ أَلْقَى رَبِّى وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْكُمْ يَطْلُبُنِي بِمَظْلَمَةٍ فِي دَمٍ وَلاَ مَالٍ ) (1)، وعند الترمذي وصححه الألباني من حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: ( أَقْرَأَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : إِنِّي أَنَا الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ) (2) .
شرح الاسم وتفسير معناه .
الرزاق في اللغة من صيغ المبالغة على وزن فعال من اسم الفاعل الرازق، فعله رزق يرزق رزقا، والمصدر الرزق وهو ما ينتفع به والجمع أرزاق (3) .
__________
(1) الترمذي في كتاب البيوع، باب ما جاء في التسعير 3/605 (1314) .
(2) أبو داود في كتاب الحروف والقراءات، أول كتاب الحروف والقراءات 4/35 (3993) .
(3) الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى للقرطبي 1/278، ولسان العرب 10/115 .(2/475)
وحقيقة الرزق هو العطاء المتجدد الذي يأخذه صاحبه في كل تقدير يومي أو سنوي أو عمري فينال ما قسم له في التقدير الأزلي والميثاقي، والرزاق سبحانه هو الذي يتولى تنفيذ المقدر في عطاء الرزق المقسوم، والذي يخرجه في السماوات والأرض فإخراجه في السماوات يعني أنه مقضي مكتوب، وإخراجه في الأرض يعني أنه سينفذ لا محالة، ولذلك قال الله تعالى في شأن الهدهد الموحد ومخاطبته سليمان - عليه السلام -: { أَلا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ } [النمل:26]، فالرزق مكتوب في السماء وهو وعد الله وحكمه في القضاء قبل أن يكون واقعا مقدورا في الأرض، قال تعالى: { وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ } [ الذريات:22]، وقال عن تنفيذ ما قسمه لكل مخلوق فيما سبق به القضاء: { وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } [العنكبوت:60]، وقال سبحانه وتعالى: { وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا } [هود:6]، فالله يتولاها لحظة بلحظة تنفيذا للمقسوم في سابق التقدير .(2/476)
ومن ثم فالرزاق سبحانه هو الذي يتولى تنفيذ العطاء الذي قدره لأرزاق الخلائق لحظة بلحظ فهو كثير الإنفاق، وهو المفيض بالأرزاق رزقا بعد رزق، مبالغة في الإرزاق، وما يتعلق بقسمة الأرزاق وترتيب أسبابها في المخلوقات، ألا ترى أن الذئب قد جعل الله رزقه في أن يصيد الثعلب فيأكله، والثعلب رزقه أن يصيد القنفذ فيأكله والقنفذ رزقه أن يصيد الأفعى فيأكلها، والأفعى رزقها أن تصيد الطير فتأكله، والطير رزقه في أن يصيد الجراد فيأكله (1)، وتتوالى السلسلة في أرزاق متسلسلة رتبها الرزاق في خلقه، فتبارك الذي أتقن كل شيء في ملكه، وجعل رزق الخلائق عليه، ضمن رزقهم وسيؤديه لهم كما وعد، وكل ذلك ليركنوا إليه ويعبدوه وحده لا شريك له، قال تعالى: { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ } [الذاريات:57]، فالأرزاق مقسومة ولن يعجل شيئا قبل حله أو يؤخر شيئا عن حله (2) .
__________
(1) المستطرف في كل فن مستظرف 2/230 .
(2) انظر في شرح الاسم وتفسير معناه، أسماء الله الحسنى للرازي ص235، وتفسير الأسماء للزجاج ص 38 والمقصد الأسنى ص79 .(2/477)
وعند مسلم من حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - أنه قال: ( قَالَتْ أُمُّ حَبِيبَةَ زَوْجُ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - : اللَّهُمَّ أَمْتِعْنِي بِزَوْجِي رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَبِأَبِي أَبِي سُفْيَانَ وَبِأَخِي مُعَاوِيَةَ، فَقَالَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - : ( قَدْ سَأَلْتِ اللَّهَ لآجَالٍ مَضْرُوبَةٍ وَأَيَّامٍ مَعْدُودَةٍ وَأَرْزَاقٍ مَقْسُومَةٍ، لَنْ يُعَجِّلَ شَيْئًا قَبْلَ حِلِّهِ، أَوْ يُؤَخِّرَ شَيْئًا عَنْ حِلِّهِ، وَلَوْ كُنْتِ سَأَلْتِ اللَّهَ أَنْ يُعِيذَكِ مِنْ عَذَابٍ فِي النَّارِ أَوْ عَذَابٍ فِي الْقَبْرِ كَانَ خَيْرًا وَأَفْضَلَ ) (1)، وقال تعالى: { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللهَ بَالِغ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ الله لِكل شَيْء قَدْرا } [الطلاق:3]، وفي هذا بيان أن الذي قدره الله من الرزق على العموم والإجمال سيتولاه في الخلق على مدار الوقت والتفصيل فهو سبحانه الرزاق الخلاق القدير المقتدر، قال ابن القيم:
وكذلك الرزاق من أسمائه والرزق من أفعاله نوعان
رزق على يد عبده ورسوله نوعان أيضا ذان معروفان
رزق القلوب العلم والإيمان والرزق المعد لهذه الأبدان
هذا هو الرزق الحلال وربنا رزاقه والفضل للمنان
والثاني سوق القوت للأعضاء في تلك المجاري سوقه بوزان
هذا يكون من الحلال كما يكون من الحرام كلاهما رزقان
والله رازقه بهذا الاعتبار وليس بالإطلاق دون بيان (2) .
دلالة الاسم على أوصاف الله .
__________
(1) مسلم في القدر، باب بيان الآجال والأرزاق وغيرها لا تزيد ولا تنقص 4/2050 (2663) .
(2) شرح قصيدة ابن القيم 2/234 .(2/478)
اسم الله الرزاق يدل بالمطابقة والتضمن واللزوم على ما دل عليه اسمه الرازق غير أن اسمه الرزاق مبالغة في الدلالة على الوصف لكثرة الفعل، فالرازق هو الذي قدر أرزاق الخلائق على الجملة في التقدير الأزلي قبل وجودهم، وتكفل باستكمالها لهم حين خلقهم، والرزاق سبحانه هو الذي يتولى تنفيذ العطاء لهم في التقدير المفصل سواء العمري أو السنوي أو اليومي، أو ما يخص كل فرد من كل جنس على اختلاف تنوعه في الوجود زمانا ومكانا، والاسمان يدلان على صفة من صفات الأفعال .
الدعاء باسم الله الرزاق دعاء مسألة .
ورد دعاء المسألة بالوصف في نصوص كثيرة تقدم بعضها في دعاء المسألة باسم الله الرازق، وعند البخاري من حديث أَبِي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( لاَ يَقُل أَحَدُكُمُ اللهمَّ اغْفِرْ لِي إِنْ شِئْتَ، ارْحَمْنِي إِنْ شِئْتَ، ارْزُقْنِي إِنْ شِئْتَ، وَليَعْزِمْ مَسْأَلَتَهُ إِنَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ، لاَ مُكْرِهَ لَهُ ) (1) .
__________
(1) البخاري في التوحيد، باب في المشيئة والإرادة 6/2718 (7039) .(2/479)
وعند البخاري من حديث عمر - رضي الله عنه - قال: ( اللهمَّ ارْزُقْنِي شَهَادَةً في سَبِيلِكَ وَاجْعَل مَوْتِي في بَلَدِ رَسُولِكَ - صلى الله عليه وسلم - ) (1)، وعند مسلم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعا: ( اللهمَّ اجْعَل رِزْقَ آلِ مُحَمَّدٍ قُوتًا ) (2)، وفي رواية عمرو - رضي الله عنه -: ( اللهمَّ ارْزُقْ )، وعنده حديث أَبي مالك الأشجعي - رضي الله عنه - أنه قال: ( كان الرَّجُل إِذَا أَسْلَمَ عَلمَهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - الصَّلاَةَ ثُمَّ أَمَرَهُ أَنْ يَدْعُوَ بِهَؤُلاَءِ الكَلِمَاتِ: اللهمَّ اغْفِرْ لي وارحمني وَاهْدِنِي وَعَافِنِي وَارْزُقْنِي ) (3) .
الدعاء باسم الله الرزاق دعاء عبادة .
__________
(1) البخاري في فضائل المدينة، باب كراهية النبي S أن تعرى المدينة 2/668 (1791) .
(2) مسلم في الزهد والرقائق، باب في الكفاف والقناعة 2/730 (1055) .
(3) مسلم في الذكر والدعاء والتوبة، باب فضل التهليل والتسبيح والدعاء 4/2073 (2697) .(2/480)
أثر الاسم على العبد يتجلى في ثقته ويقينه أن الرزق سيصله كأمر محتوم وأن السعي في الأسباب إنما هو وقوع الأحكام على المحكوم، روى أحمد وصححه الألباني من حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( إِنَّ اللهَ قَسَمَ بَيْنَكُمْ أَخْلاَقَكُمْ كَمَا قَسَمَ بَيْنَكُمْ أَرْزَاقَكُمْ، وَإِن اللهَ - عز وجل - يُعْطِى الدُّنْيَا مَنْ يُحِبُّ وَمَنْ لاَ يُحِبُّ، وَلاَ يُعْطِى الإيمان إِلاَّ مَنْ أَحَبَّ ) (1)، فالعبد الموحد يثق في الرزاق وينفق، ولا يخف من ذي العرش إقلالا، روى البزار وصححه الألباني من حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل على بلال وعنده صبرة من تمر فقال: ( ما هذا يا بلال؟ قال: شيء ادخرته لغد، أو أعد ذلك لأضيافك، فقال: أما تخشى أن يفور له بخار في نار جهنم يوم القيامة، أنفق يا بلال ولا تخش من ذي العرش إقلالا ) (2)، ألا ترى الطير لا تملك خزائن لقوتها وليس لها من الرزق إلا ما قدر بسعيها، روى الترمذي وصححه الألباني من حديث عمر - رضي الله عنه - أن رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: ( لوْ أَنَّكُمْ تَوَكَّلتُمْ عَلى اللهِ حَقَّ تَوَكُّلهِ، لرَزَقَكُمْ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ، تَغْدُو خِمَاصاً، وَتَرُوحُ بِطَاناً ) (3) .
__________
(1) أحمد 1/387 (3672)، السلسلة الصحيحة (2714) .
(2) مسند البزار 5/ 348 (1978)، صحيح الجامع (1512) .
(3) الترمذي في الزهد، باب في التوكل على الله 4/ 573 (2344)، صحيح الجامع (5254) .(2/481)
وقد وكل الله ملكين ينزلان من السماء، أحدهما يدعو لكل منفق والآخر يدعو على كل ممسك، روى البخاري من حديث أَبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( ما مِن يومٍ يُصبحُ العِبادُ فيه إِلاَّ مَلكانِ يَنزِلانِ، فيقولُ أحدُهما: اللهمَّ أعطِ مُنفِقاً خَلفا، ويَقولُ الآخَرُ: اللّهمَّ أعطِ مُمسِكاً تلفاً ) (1) .
والذي وحد الله في اسم الله الرزاق على يقين أن كل ما يناله من الخير والعطاء فهو رزقه من رب السماء، وأن الله قد قسمه فيما سبق به القضاء، وأن ما ناله من الأحكام سيصله لا محالة بالتمام، وما قسمه في المكتوب أزلا لن يكون لغيره من الخلق أبدا، فاللّه - عز وجل - متصف بالقدرة والحكمة، ومن أسمائه القدير الحكيم، فبالقدرة خلق الأشياء وأوجدها وهداها وسيرها وهذا توحيد الربوبية، وبالحكمة رتب الأسباب ونتائجها وابتلانا لنأخذ بها تحقيقا لتوحيد العبودية، فالذي وحد الله حقا لا بد أن يتقلب في إيمانه بالله بين حكمته وقدرته وعدله ومشيئته، فلا يسقط الشرائع والأحكام ويتغاضى في سعيه عن تمييز الحلال من الحرام لاحتجاجه بمشيئة الله وقدرته وأن الخلائق مسيرون على جبر إرادته، ولا مناص من الدخول تحت قهر ربوبيته فيعطل اسم الله الحكيم، وما تضمنه الاسم من وصف الحكمة .
__________
(1) البخاري في الزكاة، باب قول الله تعالى فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى2/522 (1374) .(2/482)
وفي المقابل أيضا لا يجعل الأشياء والأسباب حاكمة أو ضارة نافعة فيشرك في توحيد الله، لأن الله قدير والقدرة صفته، وهو الذي أعطى ومنع وضرّ ونفع وخلق وفعل وجعل لا شريك له في أسمائه ولا ظهير له في أحكامه كما قال - عز وجل - في محكم كلامه: { إِنِ الْحُكْمُ إِلا للهِ } [يوسف:40]، وقال: { وَلاَ يُشْرِكُ في حُكْمِهِ أَحَدا } [الكهف:26]، وقال أيضا عن جميع من سواه: { إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثَاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَمْلكُونَ لكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لهُ إِليْهِ تُرْجَعُونَ } [العنكبوت:17] .
وقد أخبر الله - سبحانه وتعالى - أنه الرزاق كما أنه هو الخالق المحيي المميت، فقرن بين هذه الأربع في موضع واحد مع ترتيب الحكمة والقدرة، فقال - عز وجل -: { الله الذي خَلقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُميتُكُمْ ثُمَّ يُحْييكُمْ } [الروم:4]، فكما أن الله - عز وجل - وحده هو الخالق المحي المميت فكذلك هو وحده الرزاق، وإنما ذكر الله - عز وجل - الأسباب لأن الأسماء تتعلق بها وأحكام الشرع عائدة عليها بالثواب والعقاب، فذكرها لكي لا تعود الأحكام على الحاكم - عز وجل -؛ فالجميع عنده وفي خزائنه إلا أنه أضاف الدنيا إلينا لرجوع الأحكام علينا وليزهدنا فيها، وأضاف الآخرة إليه تفضيلا لها وترغيبا لنا فيها، وقد روى مسلم من حديث صهيب - رضي الله عنه - أن رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: ( عَجَبًا لأَمْرِ المُؤْمِنِ، إِنَّ أَمْرَهُ كُلهُ خَيْرٌ، وَليْسَ ذَاكَ لأَحَدٍ إِلاَّ للمُؤْمِنِ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لهُ ) (1) .
__________
(1) مسلم في الزهد والرقائق، باب المؤمن أمره كله خير 4/2295 (2999) .(2/483)
وممن تسمى بالتعبد للاسم عبد الرزاق بن همام بن نافع الحافظ الكبير أبو بكر الحميري مولاهم الصنعاني صاحب التصانيف، روى عن عبيد الله بن عمر قليلا وعن بن جريج وثور بن يزيد ومعمر الأوزاعي والثوري وخلق كثير، وحديثه مخرج في الصحاح، مات في نصف شوال سنة إحدى عشرة ومائتين (1) .
********************************
78- الله - جل جلاله - الوَكِيلُ
********************************
الدليل على ثبوت الاسم وإحصائه .
__________
(1) تذكرة الحفاظ 1/ 364، والتاريخ الكبير للبخاري 6/130، وتهذيب الكمال للمزي 18/52 .(2/484)
ورد اسم الله الوكيل في قوله تعالى: { الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ } [آل عمران:173]، وهذا هو الموضع الوحيد في القرآن الذي ورد فيه الاسم مطلقا معرفا بالألف واللام، لكن ورد في مواضع أخرى مقرونا بمعاني العلو، والعلو كما تقدم يزيد الإطلاق كمالا على كمال كما ورد في قوله تعالى: { ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ } [الأنعام:102]، وعند البخاري من حديث عبد الله بن عباس - رضي الله عنه - أنه قال: (حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ قَالَهَا إِبْرَاهِيمُ - عليه السلام - حِينَ أُلْقِىَ فِي النَّارِ، وَقَالَهَا مُحَمَّدٌ - صلى الله عليه وسلم - حِينَ قَالُوا: إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ) (1)، وفي سنن الترمذي وصححه الألباني من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( كَيْفَ أَنْعَمُ وَصَاحِبُ الْقَرْنِ قَدِ الْتَقَمَ الْقَرْنَ وَاسْتَمَعَ الإِذْنَ متى يُؤْمَرُ بِالنَّفْخِ فَيَنْفُخُ، فَكَأَنَّ ذَلِكَ ثَقُلَ عَلَى أَصْحَابِ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ لَهُمْ: قُولُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنَا ) (2) .
شرح الاسم وتفسير معناه .
__________
(1) البخاري في التفسير، باب إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم الآية 4/1662 (4287) .
(2) الترمذي في صفة القيامة، باب ما جاء في شأن الصور 4/620 (2431) .(2/485)
الوَكِيل في اللغة هو القَيِّم الكَفِيل الذي تكفل بأرْزَاق العِبَاد، وحَقِيقة الوكيل أنه يَسْتَقل بَأَمْر الموْكول إليه، يقال: توكل بالأَمْر إذا ضَمِنَ القِيام به، ووكلت أمْرِي إلى فلان أي ألْجَأته إليه واعْتَمدت فِيه عَليه، ووكل فلان فلانا إذا اسْتَكفاه أَمْرَه، إما ثقةً بِكفايَتِه أو عَجزا عن القيام بأمر نفسه، ووكيلك في كذا إذا سلمته الأمر وتركته له وفوضته إليه واكتفيت به (1)، فالتوكل قد يأتي بمعنى تولي الإشراف على الشيء ومراقبته وتعهده ومنه ما ورد عند البخاري من حديث سهل بن سعد - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( مَنْ تَوَكَّلَ لِي مَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ وَمَا بَيْنَ لَحْيَيْهِ تَوَكَّلْتُ لَهُ بِالْجَنَّةِ ) (2)، وقد يأتي التوكل بمعنى الاعتماد على الغير والركون إليه ومنه ما ورد في قوله تعالى: { وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ } [الطلاق/3]، وربما يفسر الوكيل بالكفيل، والوكيل أعم لأن كل كفيل وكيل وليس كل وكيل كفيلا، وعند الترمذي وصححه الألباني من حديث عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - : ( لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَوَكلُونَ عَلَى اللهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ لَرُزِقْتُمْ كَمَا تُرْزَقُ الطَّيْرُ تَغْدُو خِمَاصًا وَتَرُوحُ بِطَانًا) (3) .
__________
(1) لسان العرب 11/ 734، وكتاب العين 5/ 405، واشتقاق أسماء الله 136، والمفردات 882 .
(2) البخاري في المحاربين، باب فضل من ترك الفواحش 6/2497 (6422) .
(3) الترمذي في الزهد، باب في التوكل على الله 4/573 (2344) .(2/486)
والوكيل سبحانه هو الذي توكل بالعالمين خلقا وتدبيرا، وهداية وتقديرا، فهو المتوكل بخلقه إيجاد وإمدادا كما قال تبارك وتعالى: { ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ } [الأنعام:102]، وقال تعالى: { اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ } [الزمر:62]، وقال هود - عليه السلام -: { إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا } [هود:56]، فالوكيل الكفيل بأرزاق عباده ومصالحهم (1) .
وهو سبحانه وكيل المؤمنين الذين جعلوا اعتقادهم في حوله وقوته، وخرجوا من حولهم وطولهم وآمنوا بكمال قدرته، وأيقنوا أنه لا حول ولا قوة إلا بالله، فركنوا إليه في جميع أمورهم، وجعلوا اعتمادهم عليه في سائر حياتهم، وفوضوا إليه الأمر قبل سعيهم واستعانوا به حال كسبهم، وحمدوه بالشكر بعد توفيقهم، والرضا بالمقسوم بعد ابتلائهم قال تعالى: { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } [الأنفال:2]، وقال - عز وجل - في وصف المؤمنين: { الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ } [آل عمران:173]، وقال لنبيه - صلى الله عليه وسلم - : { وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً } [الأحزاب:48]، وقال: { رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً } [المزمل:9] (2) .
__________
(1) زاد المسير 1/ 505 .
(2) انظر شرح أسماء الله للرازي ص282، والمقصد الأسنى ص114 .(2/487)
ويذكر ابن القيم أن توكيل العبد ربه يكون بتفويضه نفسه إليه وعزلها عن التصرف إلا بإذنه يتولي شئون أهله ووليه، وهذا هو عزل النفس عن الربوبية وقيامها بالعبودية وهو معنى كون الرب وكيل عبده أي كافيه والقائم بأموره ومصالحه لأنه ينوب عنه في التصرف، فوكالة الرب عبده أمر وتعبد وإحسان له وخلعة منه عليه لا عن حاجة منه وافتقار إليه، وأما توكيل العبد ربه فتسليم لربوبيته وقيام بعبوديته (1) .
دلالة الاسم على أوصاف الله .
الاسم يدل على ذات الله وعلى صفة التوكل بالغير بدلالة المطابقة، وعلى ذات الله وحدها بالتضمن وعلى الصفة وحدها بالتضمن، روى أحمد في المسند وصححه الألباني من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( تَوَكَّلَ الله - عز وجل - بِحِفْظِ امْرِئٍ خَرَجَ في سَبِيلِ الله لاَ يُخْرِجُهُ إِلاَّ الجِهَادُ في سَبِيلِ الله وَتَصْدِيقٌ بِكَلِمَاتِ الله حَتَّى يُوجِبَ لَهُ الجَنَّةَ أَوْ يُرْجِعَهُ إِلَى بَيْتِهِ أَوْ مِنْ حَيْثُ خَرَجَ ) (2)، وعند أبي داود وصححه الألباني من حديث ابن حوالة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( عَلَيْكَ بِالشَّامِ فَإِنَّهَا خِيَرَةُ الله مِنْ أَرْضِهِ، يَجْتَبِي إِلَيْهَا خِيَرَتَهُ مِنْ عِبَادِهِ؛ فَأَمَّا إِنْ أَبَيْتُمْ فَعَلَيْكُمْ بِيَمَنِكُمْ، وَاسْقُوا مِنْ غُدُرِكُمْ، فَإِنَّ الله تَوَكَّلَ لِي بِالشَّامِ وَأَهْلِهِ ) (3)، والاسم يدل باللزوم على الحياة والقيومية والسيادة والصمدية والعظمة والأحدية والسمع والبصر والعلم والقدرة والغنى والقوة والعزة والحكمة وغير ذلك من صفات الكمال، واسم الله الوكيل دل على صفة من صفات الأفعال .
__________
(1) مدارج السالكين 2/127 بتصرف .
(2) مسند أحمد 2/398 (9163)، وانظر صحيح الجامع حديث رقم (5851) .
(3) أبو داود في الجهاد، باب في سكنى الشام 3/4 (2483)، وصحيح الجامع (3659) .(2/488)
الدعاء باسم الله الوكيل دعاء مسألة .
ورد الدعاء بالاسم المطلق في قوله تعالى: { الذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا الله وَنِعْمَ الوَكِيلُ } [آل عمران:173]، وعند البخاري من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ( بَيْنَمَا امْرَأَةٌ تُرْضِعُ ابْنَهَا إِذْ مَرَّ بِهَا رَاكِبٌ وَهْي تُرْضِعُهُ، فَقَالَتِ اللهمَّ لاَ تُمِتِ ابْنِي حَتَّى يَكُونَ مِثْلَ هَذَا فَقَالَ اللهمَّ لاَ تَجْعَلنِي مِثْلَهُ، ثُمَّ رَجَعَ فِي الثَّدْيِ، وَمُرَّ بِامْرَأَةٍ تُجَرَّرُ وَيُلعَبُ بِهَا، فَقَالَتِ اللهمَّ لاَ تَجْعَلِ ابْنِي مِثْلَهَا، فَقَالَ: اللهمَّ اجْعَلنِي مِثْلَهَا فَقَالَ: أَمَّا الرَّاكِبُ فَإِنَّهُ كَافِرٌ، وَأَمَّا المَرْأَةُ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ لَهَا تَزْنِي، وَتَقُولُ حَسْبِي الله، وَيَقُولُونَ تَسْرِقُ، وَتَقُولُ حَسْبِي الله ونعم الوكيل ) (1) .
ومما ورد من الدعاء بالوصف قوله تعالى: { فَإِنْ تَوَلوْا فَقُلْ حَسْبِيَ الله لا إِلَهَ إِلا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ } [التوبة:129]، وقوله - عز وجل -: { عَلَى الله تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ } [الأعراف:89]، وقوله سبحانه: { إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى الله رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } [هود:56]، وقوله: { قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ } [الملك:29] .
__________
(1) البخاري في أحاديث الأنبياء، باب أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم 3/1279 (3279) .(2/489)
وعند أبي داود وحسنه الشيخ الألباني من حديث أبي بكرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( دَعَوَاتُ المَكْرُوبِ: اللهمَّ رَحْمَتَكَ أَرْجُو فَلاَ تَكِلنِي إِلَى نَفْسِي طَرْفَةَ عَيْنٍ وَأَصْلِحْ لِي شَأْنِي كُلهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ ) (1)، وفي مستدرك الحاكم وصححه الألباني من حديث أنس - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لفاطمة: ( ما يمنعك أن تسمعي ما أوصيك به أن تقولي إذا أصبحت وإذا أمسيت: يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث وأصلح لي شأني كله، ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين أبدا ) (2).
الدعاء باسم الله الوكيل دعاء عبادة .
دعاء العبادة يقتضي أن يوقن العبد أن الله قد ضمن له الرزق فلا يتواكل عن طلبه بل يأخذ بأسبابه تحرزا من الطمع وفساد القلب، ولا يضيع حق الزوجة والولد برغم أن أرزاقهم على الله - عز وجل -، والذي يفعل ذلك تارك للسبيل والسنة، فدرجات التوكل ومراحله يجب على الموحد ألا يقلل من شأنها، ولا يأخذ بواحدة ويدع الأخرى، وأولها توجه القلب إلى الله على الدوام لعلمه أنه على كل شيء قدير، وهو الذي يعطي ويمنع فالقدرة كلها له، يحكم في خلقه بما شاء وكيف شاء، أما الأسباب فهي كالآلة بيد الصانع يسيرها ويدبرها، ويوفق من أخذ بها أو يخذله .
__________
(1) أبو داود كتاب الأدب، باب ما يقول إذا أصبح 4/324 (5090)، صحيح الجامع (3388) .
(2) الحاكم في المستدرك 1/730 (2000)، السلسلة الصحيحة (227) .(2/490)
أما المرحلة الثانية في التوكل توجه الجوارح إلى الأسباب لأن الله أثبت آثارها لمعاني الحكمة وتصريفه الأشياء وتقليبها على سبيل الابتلاء، وإيقاع الأحكام على المحكوم وعود الجزاء على الظالم والمظلوم بالعقاب أو الثواب، وذلك ليكون المتوكل قائما بأحكام الشرع ملتزما بمقتضى العطاء والمنع فالله - عز وجل - أمرنا بالسعي ومن ثم لا يضر التصرف والتكسب في المعايش لمن صح توكله، ولا يقدح في منزلته عند الله .
أما المرحلة الثالثة في التوكل التسليم والرضا واليقين بسابق القضاء؛ فالاستسلام لقضاء الله وقدره يكون بعد الأخذ بالأسباب، ولا يأتي قبلها وإلا كان تواكلا مرفوضا والعبد وقتها يكون على حسن اليقين وجميل الصبر وحقيقة الرضا، فتسكن القلوب عند النوازل والبلاء وتطمأن النفوس إلى حكمة الابتلاء، لاعتقادهم أن الله هو الوكيل الذي يدبر الخلائق كيف شاء، قال تعالى: { وَللهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلاً } [النساء:132] .
لم أجد بالبحث الحاسوبي أحدا من السلف سمي عبد الوكيل في مجال ما أجرينا عليه البحث، وإن كان البحث على الإنترنت أظهر أسماء كثيرة في عصرنا .
********************************
79- الله - جل جلاله - الرَّقِيبُ
********************************
الدليل على ثبوت الاسم وإحصائه .(2/491)
ورد الاسم مطلقا منونا مقرونا بمعاني العلو والفوقية في قوله تعالى: { وَكَانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً } [الأحزاب:52]، فالله - عز وجل - من فوق عرشه رقيب، له الكمال المطلق في إحاطته بخلقه، وله الكمال في علو شأنه، فإن أضفت إلى الإطلاق اجتماع معاني العلو كان ذلك من جمال الكمال في الاسم والصفة، كما ورد الاسم مقيدا في قوله تعالى عن عيسى - عليه السلام -: { فَلمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَليْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } [المائدة:117]، وقوله تعالى: { إِنَّ اللهَ كَانَ عَليْكُمْ رَقِيباً } [النساء:1] .
وعند البخاري ومسلم من حديث ابن عباس - رضي الله عنه - قال: قَامَ فِينَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - خَطِيبًا بِمَوْعِظَةٍ .. إلى أن قال: فَأَقُولُ كَمَا قَال العَبْدُ الصَّالِحُ: { وَكُنْتُ عَليْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَليْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شيء شَهِيدٌ إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ العَزِيزُ الحَكِيم } قَال: فَيُقَالُ لِي إِنَّهُمْ لمْ يَزَالُوا مُرْتَدِّينَ عَلى أَعْقَابِهِمْ مُنْذُ فَارَقْتَهُمْ ) (1) .
شرح الاسم وتفسير معناه .
__________
(1) البخاري في كتاب أحاديث الأنبياء، باب وكنت عليهم كلاهما ما دمت فيهم 4/1691 (4349) ومسلم في كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب فناء الدنيا 4/2194 (2860) .(2/492)
الرقيب في اللغة فعيل بمعنى فاعل وهو الموصوف بالمراقبة، فعله رقب يرقب رقابة والرقابة تأتي بمعنى الحفظ والحراسة والانتظار مع الحذر والترقب، وعند البخاري من حديث ابن عمر - رضي الله عنه - أن أبا بكر - رضي الله عنه - قال: ( ارْقُبُوا مُحَمَّدًا - صلى الله عليه وسلم - فِي أَهْلِ بَيْتِهِ ) (1)، أي احفظوه فيهم، وقال هارون - عليه السلام -: { إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي } [طه:94]، فالرقيب الموكل بحفظ الشيء المترصد له المتحرز عن الغفلة فيه، ورقيب القوم حارسهم، وهو الذي يشرف على مرقبة ليحرسهم، ورقيب الجيش طليعتهم، والرقيب الأمين، وارتقب المكان أشرف عليه وعلا فوققه (2) .
والرقيب سبحانه هو المطلع على خلقه يعلم كل صغيرة وكبيرة في ملكه، لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء قال تعالى: { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } [المجادلة:7]، وقال: { أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ } [الزخرف:80] .
__________
(1) البخاري في فضائل الصحابة، باب مناقب قرابة رسول الله S 3/1361 (3509) .
(2) تاج العروس للزبيدي 1/274.والقاموس المحيط للفيروز أبادي 1/75، ولسان العرب 13/437 .(2/493)
ومراقبة الله لخلقه مراقبة عن استعلاء وفوقية، وقدرة وصمدية، لا تتحرك ذرة إلا بإذنه، ولا تسقط ورقة إلا بعلمه، ملك له الملك كله، وله الحمد كله، أزمة الأمور كلها بيديه، ومصدرها منه ومردها إليه، مستو على عرشه لا تخفى عليه خافية، عالم بما في نفوس عباده مطلع على السر والعلانية، يسمع ويرى، ويعطي ويمنع، ويثيب ويعاقب، ويكرم ويهين، ويخلق ويرزق، ويميت ويحيي، ويقدر ويقضي، ويدبر أمور مملكته، فمراقبته لخلقه مراقبة حفظ دائمة، وهيمنة كاملة، وعلم وإحاطة (1) .
والله سبحانه رقيب راصد لأعمال العباد وكسبهم، عليم بالخواطر التي تدب في قلوبهم، يرى كل حركة أو سكنة في أبدانهم، ووكل ملائكته بكتابة أعمالهم وإحصاء حسناتهم وسيئاتهم، قال تعالى: { وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَاماً كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ } [الانفطار:10/12]، فالملائكة تسجيل أفعال الجنان والأبدان، وقال تعالى عن تسجيلهم لقول القلب وقول اللسان: { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ } [ق:16/18]، وهو - عز وجل - من فوقهم رقيب عليهم وعلى تدوينهم، ورقيب أيضا على أفعال الإنسان قال تعالى: { وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ } [يونس:61] (2) .
دلالة الاسم على أوصاف الله .
__________
(1) الفوائد ص28 بتصرف، وانظر أيضا: الصواعق المرسلة 4/ 1223، وشفاء العليل ص 243 .
(2) الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى 1/402، الدر المنثور للسيوطي 2/ 425 .(2/494)
اسم الله الرقيب يدل على ذات الله وعلى صفة الرقابة بدلالة المطابقة، وعلى أحدهما بالتضمن، ولم يرد الوصف نصا وإن ورد بالمعنى عند أبي داود وصححه الشيخ الألباني من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( كَانَ رَجُلاَنِ في بَنِي إِسْرَائِيلَ مُتَآخِيَيْنِ، فَكَانَ أَحَدُهُمَا يُذْنِبُ وَالآخَرُ مُجْتَهِدٌ في الْعِبَادَةِ، فَكَانَ لاَ يَزَالُ الْمُجْتَهِدُ يَرَى الآخَرَ عَلَى الذَّنْبِ، فَيَقُولُ: أَقْصِرْ، فَوَجَدَهُ يَوْمًا عَلَى ذَنْبٍ؛ فَقَالَ لَهُ: أَقْصِرْ، فَقَالَ خَلِّنِي وَرَبِّي، أَبُعِثْتَ عَلَىَّ رَقِيبًا؟ فَقَالَ: وَاللَّهِ لاَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكَ، أَوْ لاَ يُدْخِلُكَ اللَّهُ الْجَنَّةَ فَقُبِضَ أَرْوَاحُهُمَا؛ فَاجْتَمَعَا عِنْدَ رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَقَالَ لِهَذَا الْمُجْتَهِدِ: أَكُنْتَ بِي عَالِمًا أَوْ كُنْتَ عَلَى مَا فِي يَدِي قَادِرًا، وَقَالَ لِلْمُذْنِبِ: اذْهَبْ فَادْخُلِ الْجَنَّةَ بِرَحْمَتِي، وَقَالَ لِلآخَرِ اذْهَبُوا بِهِ إِلَى النَّارِ، قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه -: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ أَوْبَقَتْ دُنْيَاهُ وَآخِرَتَهُ ) (1)، والاسم يدل باللزوم على الحياة والقيومية والسمع والبصر والعلم والقدرة والإحاطة والقوة، وغير ذلك من صفات الكمال، واسم الله الرقيب دل على صفة من صفات الذات .
الدعاء باسم الله الرقيب دعاء مسألة .
__________
(1) أبو داود في كتاب الأدب، باب في النهي عن البغي 4/275 (4901) .(2/495)
ورد دعاء المسألة بالاسم المقيد في قوله تعالى عن عيسى - عليه السلام -: { فَلمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَليْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شيء شَهِيدٌ إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ العَزِيزُ الحَكِيم } [المائدة:117]، وكذلك في عند البخاري من حديث ابن عباس - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( تُحْشَرُونَ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلاً، ثُمَّ قَرَأَ: { كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ } فَأَوَّلُ مَنْ يُكْسَى إِبْرَاهِيمُ، ثُمَّ يُؤْخَذُ بِرِجَالٍ مِنْ أصحابي ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ، فَأَقُولُ: أصحابي فَيُقَالُ: إِنَّهُمْ لَمْ يَزَالُوا مُرْتَدِّينَ عَلَى أَعْقَابِهِمْ مُنْذُ فَارَقْتَهُمْ .. الحديث ) (1)، وفي خطبة الحاجة كما ورد عند أبي داود وصححه الألباني من حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - قَال: علمنا رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - خطبة الحاجة: ( إِنَّ الحَمْدَ للهِ نَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، مَنْ يَهْدِ اللهُ فَلاَ مُضِل لهُ، وَمَنْ يُضْلِل فَلاَ هَادِي لهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلهَ إِلاَّ اللهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ الذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَليْكُمْ رَقِيبًا ) (2) .
الدعاء باسم الله الرقيب دعاء عبادة .
دعاء العبادة هو أثر الاسم في اعتقاد العبد وسلوكه، فالمراقبة لمن وحد الله في اسمه الرقيب على نوعين:
__________
(1) البخاري في أحاديث الأنبياء، باب واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها 3/1271 (3263) .
(2) أبو داود في النكاح، باب في خطبة النكاح 2/238 ( 2118)، وانظر ظلال الجنة (255) .(2/496)
النوع الأول: مراقبة العبد لربه بالمحافظة على حدوده وشرعه واتباعه لسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - فيوقن بأن الله معه من فوق عرشه يتابعه يراه ويسمعه كما ورد عند الترمذي وصححه الألباني من حديث عبد الله بن عباس - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال له: ( يَا غُلاَمُ إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ، احْفَظِ اللهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ، إذا سَألت فاسْأل الله، وإذا اسْتعنتَ فاسْتعن بالله ) (1)، وفي حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - الذي تقدم ذكره في شأن الرجلين المطيع والمذنب: ( فَوَجَدَهُ يَوْمًا عَلي ذَنْبٍ فَقَال لهُ: أَقْصِرْ فَقَال خَلِّنِي وَرَبِّي أَبُعِثْتَ عَلي رَقِيبًا )، والقصد من عموم المراقبة أن يرتقي العبد بإيمانه إلى درجة الإحسان كما ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - في تعريفها: ( الإِحْسَان أَنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَإِنْ لمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ ) (2)، والمحسن أعلى درجة من المؤمن والمسلم .
__________
(1) الترمذي في صفة القيامة والرقائق والورع 4/667 (2516)، وانظر صحيح الجامع (7957) .
(2) مسلم في الإيمان، باب بيان الإيمان والإسلام والإحسان من حديث عمر S1/37 (8) .(2/497)
والنوع الثاني: إيمان العبد بمراقبة الله لعباده وحفظه لهم وإحصائه لكسبهم كقوله تعالى عن عيسي - عليه السلام -: { وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ على كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } [المائدة:117]، وقوله - عز وجل -: { وَاتَّقُوا اللهَ الذِي تَتَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا } [النساء:1]، وعند مسلم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ: رَبِّ ذَاكَ عَبْدُكَ يُرِيدُ أَنْ يَعْمَلَ سَيِّئَةً، وَهُوَ أَبْصَرُ بِهِ، فَقَالَ: ارْقُبُوهُ فَإِنْ عَمِلَهَا فَاكْتُبُوهَا لَهُ بِمِثْلِهَا وَإِنْ تَرَكَهَا فَاكْتُبُوهَا لَهُ حَسَنَةً، إِنَّمَا تَرَكَهَا مِنْ جَرَّاي ) (1) .
وجماع معنى المراقبة ومقتضى أثر الاسم على العبد دوام الملاحظة والتوجه إلى الله ظاهرا وباطنا، فيراقب الله تعالى ويسأله أن يرعاه في مراقبته، لأن الله - عز وجل - قد خص المخلصين بألا يكلهم في جميع أحوالهم إلى أحد سواه وهو يتولى الصالحين، قال الحارث المحاسبي: ( أوائل المراقبة علم القلب بقرب الرب - عز وجل -، والمراقبة في نفسها التي تورث صاحبها وتكمل له الاسم ويستحق أن يسمي مراقبا، دوام علم القلب بعلم الله - عز وجل - في سكونك وحركتك، علما لازما للقلب بصفاء اليقين ) (2) .
وبخصوص التسمية بعبد الرقيب فلم أجد بالبحث الحاسوبي أحدا من السلف أو الخلف سمي به في مجال ما جرينا عليه البحث، وإن كان البحث على الإنترنت أظهر الكثير من الأسماء في عصرنا .
********************************
80- الله - جل جلاله - المُحْسِنُ
********************************
__________
(1) مسلم في الإيمان، باب إذا هم العبد بحسنة كتبت وإذا هم بسيئة لم تكتب 1/117 (129) .
(2) القصد الرجوع إلى الله ص105 .(2/498)
الدليل على ثبوت الاسم وإحصائه .
اسم الله المحسن ورد في السنة النبوية مطلقا يفيد المدح والثناء على الله بنفسه منونا مسندا إليه المعنى محمولا عليه مرادا به العلمية ودالا علي كمال الوصفية، كما ورد عند الطبراني وصححه الألباني من حديث أنس - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( إذا حكمتم فاعدلوا وإذا قتلتم فأحسنوا، فإن الله عز وجل محسن يحب الإحسان ) (1) .
وكذلك ورد من حديث شداد بن أوس - رضي الله عنه - أنه قال: حفظت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اثنتين قال: ( إن الله محسن يحب الإحسان إلي كل شيء، فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذَّبْحَ وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ ولْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ ) (2) .
وقد ورد الحديث عند مسلم من حديث شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ - رضي الله عنه - لكن فيه ذكر الوصف دون الاسم قَالَ شَدَّاد: ( ثِنْتَانِ حَفِظْتُهُمَا عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: ( إِنَّ اللهَ كَتَبَ الإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذَّبْحَ وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ فَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ ) (3) .
شرح الاسم وتفسير معناه .
__________
(1) الطبراني في المعجم الكبير انظر الأحاديث من (7114) إلى (7123)، وانظر مجمع الزوائد ومنبع الفوائد للهيثمي 5/197، ومصنف عبد الرزاق 4/492 .
(2) انظر المزيد عن ثبوت الاسم في كتاب إثبات أن المحسن من أسماء الله الحسنى للدكتور عبد الرزاق بن عبد المحسن البدر، من ص4 إلى ص14، الطبعة الأولى سنة 1423هـ، 2003م، نشر دار غراس، الكويت .
(3) مسلم في كتاب الصيد والذبائح، باب الأمر بإحسان الذبح والقتل 3/1548(1955) .(2/499)
المحسن في اللغة اسم فاعل، فعله أحسن يحسن إحسانا فهو محسن، والحسْنُ ضدُّ القُبْح، وحَسَّن الشيء تحسِينا زينه، وأحْسَنَ إليه وبه صنع له وبه معروفا، وهو يحسن الشيء أي يعلمه بخبره، واستحسن الشيء رغب فيه وتعلق به واعتبره حَسَنا والحُسْنَى البالغة الحسن في كل شيء من جهة الكمال والجمال، كما قال تعالى: { لِلذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَة } [يونس:26]، فالحسْنى الجنة والزّيادة النظر إلى وجه الله تعالى يوم القيامة، فسرها بذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والصحابة من بعده (1) .
وقوله - عز وجل -: { وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى } [لقمان:22]، والمحسن في الشرع هو الذي بلغ درجة الإحسان، والإحسان فسره النبي - صلى الله عليه وسلم - كما جاء عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: ( الإِحْسَان أَنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَإِنْ لمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ )، وقال تعالى: { إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالعَدْلِ وَالإِحْسَانِ } [النحل:90]، قيل: أَراد بالإِحسان الإِخْلاص، وهو شرط في صحةِ الإِيمان والإِسلام معا، وقيل: أَراد بالإِحسان الإِشارةَ إلى المراقبة وحُسْن الطاعة فإِن مَنْ راقَب اللهَ أَحسَن عمَله، والمعنى يشمل الاثنين معا (2) .
__________
(1) شرح العقيدة الطحاوية ص 206 .
(2) لسان العرب 13/114، وكتاب العين 3/143، ومفردات ألفاظ القرآن ص235 .(2/500)
والمحسن سبحانه هو الذي له كمال الحسن في أسمائه وصفاته وأفعاله، كما قال تعالى في كتابه: { اللهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى } [طه:8]، فلا شيء أكمل ولا أجمل من الله، فكل كمال وجمال في المخلوق من آثار صنعته، وهو الذي لا يحد كماله ولا يوصف جلاله، ولا يحصي أحد من خلقه ثناء عليه، بل هو كما أثنى على نفسه، ليس في أفعاله عبث ولا في أوامره سفه، بل أفعاله كلها لا تخرج عن الحكمة والمصلحة والعدل والفضل والرحمة، إن أعطى فبفضله ورحمته، وإن منع أو عاقب فبعدله وحكمته، وهو الذي أحسن كل شيء خلقه فأتقن صنعه وأبدع كونه وهداه لغايته وأحسن إلى خلقه بعموم نعمه وشمول كرمه وسعة رزقه على الرغم من مخالفة أكثرهم لأمره ونهيه، وأحسن إلي المؤمنين فوعدهم الحسني وعاملهم بفضله، وأحسن إلى من أساء فأمهله ثم حاسبه بعدله (1) .
دلالة الاسم على أوصاف الله .
__________
(1) انظر طريق الهجرتين لابن القيم ص470، والأسنى في شرح أسماء الله الحسنى للقرطبي 1/512 .(3/1)
الاسم يدل على ذات الله وعلى صفة الإحسان بدلالة المطابقة، وعلى ذات الله وحدها بالتضمن، وعلى الصفة وحدها بالتضمن، قال تعالى: { خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ المَصِيرُ } [التغابن:3]، وقال: { الذِي أَحْسَنَ كُل شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلقَ الإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ } [السجدة:7]، وقال: { ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلقا آخَرَ فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخَالِقِينَ } [المؤمنون:14]، وقال نبي الله يوسف - عليه السلام -: { مَعَاذَ الله إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ } [يوسف:23]، وقال قوم قارون لما خرج عليهم في زينته: { وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ الله الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ الله إِلَيْكَ } [القصص:77]، والاسم يدل باللزوم على الحياة والقيومية والسمع والبصر والعلم والقدرة والغني والعزة واللطف والرحمة والكرم والرأفة، وغير ذلك من صفات الكمال، واسم الله المحسن دل على صفة من صفات الذات إن كان مشتقا من الفعل اللازم، وإن كان من أحسن المتعدي فهو من صفات الأفعال .
الدعاء باسم الله المحسن دعاء مسألة .(3/2)
ورد دعاء المسألة بالوصف عند مسلم من حديث علي - رضي الله عنه - أنه قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا سجد قال: ( اللهمَّ لَكَ سَجَدْتُ، وَبِكَ آمَنْتُ، وَلَكَ أَسْلَمْتُ، سَجَدَ وَجْهِي للذِي خَلَقَهُ وَصَوَّرَهُ فَأَحْسَنَ صُورَتَهُ، وَشَقَّ سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ، وَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخَالِقِينَ .. الحديث ) (1)، وروى النسائي وصححه الألباني من حديث جابر بن عبد الله أنه قال: ( كَانَ النبي - صلى الله عليه وسلم - إِذَا اسْتَفْتَحَ الصَّلاَةَ كَبَّرَ ثُمَّ قَالَ: إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، اللهُمَّ اهْدِني لأَحْسَنِ الأَعْمَالِ وَأَحْسَنِ الأَخْلاَقِ لاَ يَهْدِي لأَحْسَنِهَا إِلاَّ أَنْتَ، وَقِنِي سَيِّئَ الأَعْمَالِ وَسَيِّئَ الأَخْلاَقِ لاَ يَقِي سَيِّئَهَا إِلاَّ أَنْتَ ) (2)، وروى أحمد وصححه الشيخ الألباني من حديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: ( اللهُمَّ أَحْسَنْتَ خَلْقِي فَأَحْسِنْ خُلُقِي ) (3) .
الدعاء باسم الله المحسن دعاء عبادة .
__________
(1) مسلم في صلاة المسافرين، باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه 1/535 (771) .
(2) النسائي في الافتتاح، باب نوع آخر من الدعاء 2/129 (896)، مشكاة المصابيح (820) .
(3) أحمد 1/403 (3823)، مشكاة المصابيح (5099)، وصحيح الترغيب والترهيب (2657) .(3/3)
دعاء العبادة هو أثر الاسم على اعتقاد العبد وسلوكه، فمن جهة الاعتقاد يوقن الموحد أن الله - عز وجل - غني كريم عزيز رحيم محسن إلى عباده مع غناه عنهم، شرع لعبده في منهجه كل خير ورفع عنه كل شر، وليس في ذلك جلب منفعة إلى الله من العبد بل رحمة منه وإحسانا وتفضلا وتكرما، فهو سبحانه لم يخلق خلقه ليتكثر بهم من قلة ولا ليعتز بهم من ذلة ولا ليرزقوه أو ينفعوه أو يدفعوا عنه قال تعالى: { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ } [الذاريات:56/58]، وقال - عز وجل -: { وَقُلِ الْحَمْدُ للهِ الذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً } [الإسراء:111]، وهو - عز وجل - لا يوالى من يواليه من الذل كما يوالى المخلوق المخلوق، وإنما يوالي أولياءه إحسانا ورحمة ومحبة لهم .
وأما العباد فإنهم كما قال - عز وجل -: { وَاللهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ } [محمد:38]، فهم لفقرهم وحاجتهم إنما يحسن بعضهم إلى بعض لحاجته إلى ذلك، وانتفاعه به عاجلا أو آجلا ولولا تصور ذلك النفع لما أحسن إليه؛ فهو في الحقيقة إنما أراد الإحسان إلى نفسه وجعل إحسانه إلى غيره وسيلة وطريقا إلى وصول نفع ذلك الإحسان إليه، فإنه إما أن يحسن إليه لتوقع جزائه في العاجل فهو محتاج إلى ذلك الجزاء أو معاوضة بإحسانه أو لتوقع حمده وشكره .(3/4)
وهو أيضا إنما يحسن إليه ليحصل منه ما هو محتاج إليه من الثناء والمدح، فهو محسن إلى نفسه بإحسانه إلى الغير، وإما أن يريد الجزاء من الله تعالى في الآخرة فهو أيضا محسن إلى نفسه بذلك، وإنما أخر جزاءه إلى يوم فقره وفاقته، فهو غير ملوم في هذا القصد، فإنه فقير محتاج وفقره وحاجته أمر لازم له من لوازم ذاته، فكماله أن يحرص على ما ينفعه ولا يعجز عنه، قال تعالى: { إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا } [الإسراء:7]، فالمخلوق لا يقصد منفعتك بالقصد الأول، بل إنما يقصد انتفاعه بك، والرب سبحانه إنما يريد نفعك لا انتفاعه به، وذلك منفعة محضة لك خالصة من المضرة بخلاف إرادة المخلوق نفعك، فإنه قد يكون فيه مضرة عليك ولو بتحمل منته، وإذا تدبر الموحد هذا فإن ذلك يمنعه أن يرجو مخلوقا أو يعامله دون الله - عز وجل - أو يطلب منه نفعا أو دفعا أو يعلق قلبه به، فإنه إنما يريد انتفاعه بك لا محض نفعك وهذا حال الخلق كلهم بعضهم مع بعض، وهو حال الولد مع والده والزوج مع زوجه والمملوك مع سيده والشريك مع شريكه؛ فالسعيد من عاملهم لله - عز وجل - لا لهم وأحسن إليهم لله، وخاف الله فيهم، ولم يخفهم مع الله، ورجا الله تعالى بالإحسان إليهم، ولم يرجهم مع الله، وأحبهم لحب الله، ولم يحبهم مع الله - عز وجل -، كما قال أولياء الله: { إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُوراً } [الإنسان:9]، والرب تبارك وتعالى إنما يريدك لك ويريد الإحسان إليك لا لمنفعته، ويريد دفع الضرر عنك فكيف تعلق أملك ورجاءك وخوفك بغيره (1) .
__________
(1) انظر بتصرف إغاثة اللهفان 1/41 .(3/5)
أما أثر الاسم على سلوك العبد فهو التزامه بمقتضى الاسم وبلوغه درجة الإحسان وهي اتقان الطاعة بالمراقبة فيعبد الله كأنه يراه ويحسن تعامله مع الخلق، بداية من رد السلام إلى آخر ما جاء به الإسلام، قال - سبحانه وتعالى -: { وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبا } [النساء:86]، وقال: { وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقا } [النساء:69]، وأحسن الأعمال التي تتطلب الإخلاص والإتقان أداء الصلاة، روى البخاري من حديث عبيد الله بن عدي أنه دخل على عثمان بن عفان - رضي الله عنه - هو محصور، يعني في منزله فقال: ( إِنَّكَ إِمَامُ عَامَّةٍ، وَنَزَلَ بِكَ مَا تَرَى وَيُصَلِّي لَنَا إِمَامُ فِتْنَةٍ وَنَتَحَرَّجُ، فَقَالَ: الصَّلاَةُ أَحْسَنُ مَا يَعْمَلُ النَّاسُ، فَإِذَا أَحْسَنَ النَّاسُ فَأَحْسِنْ مَعَهُمْ، وَإِذَا أَسَاءُوا فَاجْتَنِبْ إِسَاءَتَهُمْ ) (1) .
وكذلك ورد عند أحمد وصححه الألباني من حديث أم الفضل: ( أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - دَخَلَ عَلَى الْعَبَّاسِ وَهُوَ يَشْتَكِي فَتَمَنَّى الْمَوْتَ فَقَالَ: يَا عَبَّاسُ يَا عَمَّ رَسُولِ اللهِ لاَ تَتَمَنَّ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتَ مُحْسِنا تَزْدَادُ إِحْسَانا إِلَى إِحْسَانِكَ خَيْرٌ لَكَ، وَإِنْ كُنْتَ مُسِيئا فَإِنْ تُؤَخَّرْ تَسْتَعْتِبْ خَيْرٌ لَكَ فَلاَ تَتَمَنَّ الْمَوْتَ ) (2) .
__________
(1) البخاري في الأذان، باب إمامة المفتون والمبتدع وقال الحسن صل وعليه بدعته1/246 (663) .
(2) المسند 6/339 (26916)، صحيح الترغيب والتهيب (3368) .(3/6)
ومن دعاء العبادة باسم الله المحسن الإحسان إلى اليتيم، فعند البخاري من حديث أبي موسى - رضي الله عنه - أن رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: ( مَنْ كَانَتْ لَهُ جَارِيَةٌ فَعَالَهَا، فَأَحْسَنَ إِلَيْهَا ثُمَّ أَعْتَقَهَا وَتَزَوَّجَهَا، كَانَ لَهُ أَجْرَانِ ) (1)، وروى أيضا من حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت: ( جَاءَتْنِي امْرَأَةٌ مَعَهَا ابْنَتَانِ تَسْأَلُنِي فَلَمْ تَجِدْ عِنْدِي غَيْرَ تَمْرَةٍ وَاحِدَةٍ فَأَعْطَيْتُهَا فَقَسَمَتْهَا بَيْنَ ابْنَتَيْهَا، ثُمَّ قَامَتْ فَخَرَجَتْ، فَدَخَلَ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - فَحَدَّثْتُهُ فَقَالَ مَنْ يَلِي مِنْ هَذِهِ الْبَنَاتِ شَيْئًا فَأَحْسَنَ إِلَيْهِنَّ كُنَّ لَهُ سِتْرًا مِنَ النَّارِ ) (2) .
ومن الإحسان عدم كفران العشير وقلما يكون في النسوان، روى البخاري من حديث ابن عباس - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( أُرِيتُ النَّارَ فَإِذَا أَكْثَرُ أَهْلِهَا النِّسَاءُ، يَكْفُرْنَ قِيلَ: أَيَكْفُرْنَ بِاللهِ؟ قَالَ: يَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ، وَيَكْفُرْنَ الإِحْسَانَ، لَوْ أَحْسَنْتَ إِلَي إِحْدَاهُنَّ الدَّهْرَ ثُمَّ رَأَتْ مِنْكَ شَيْئًا قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ مِنْكَ خَيْرًا قَطُّ ) (3).
وممن تسمى بالتعبد للاسم عبد المحسن بن عبد الله بن أحمد بن محمد الطوسي خطيب الموصل وابن خطيبها، توفي سنة اثنتين وعشرين وست مائة (4) .
********************************
81- الله - جل جلاله - الحَسِيبُ
********************************
الدليل على ثبوت الاسم وإحصائه .
__________
(1) البخاري في العتق، باب فضل من وضوء جاريته وعلمها2/899 (2406) .
(2) البخاري في كتاب الأدب، باب رحمة الولد وتقبيله ومعانقته5/2234 (5649) .
(3) البخاري في الإيمان، باب كفران العشير وكفر بعد كفر فيه1/19 (29) .
(4) لسان الميزان 4/56 .(3/7)
ورد اسم الله الحسيب في القرآن مطلقا منونا مقرونا بمعاني العلو والفوقية في قوله تعالى: { وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً } [النساء:86]، فالله - عز وجل - من فوق عرشه حسيب باسمه ووصفه، له الكمال المطلق في محاسبته لخلقه وله الكمال في علو شأنه، فإن أضفت إلى الإطلاق اجتماع معاني العلو كان ذلك من جمال الكمال في الاسم والصفة، وقد ورد الاسم مقيدا في قوله تعالى: { فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللهِ حَسِيباً } [النساء:6] .
شرح الاسم وتفسير معناه .
الحسيب في اللغة من صيغ المبالغة، فعله حسِب يحسِب حسَابا وحسبانا، واسم الفاعل الحاسب، وهو الموصوف بمحاسبة غيره، والحساب ضبط العدد وبيان مقادير الأشياء المعدودة، سواء كان ذلك جزما أم ظنا، والحسيب هو الكافي الكريم الرفيع الشأن، والحسب في حقنا هو الشَّرَف الثابِتُ في الآباءِ، والحسَبُ أيضا هو الفعل الصَّالِحُ، ويقال: رُبَّ حَسِيبِ الأَصلِ غيرُ حَسِيب، ِأَي له آباء يفعلون الخير ولا يفعله هو (1) .
__________
(1) لسان العرب 1/310، واشتقاق أسماء الله ص129 .(3/8)
والحسيب سبحانه هو العليم الكافي الذي قدر أرزاق الخلائق قبل خلقهم، ووعد باستكمال العباد لأرزاقهم على مقتضى حكمته في ترتيب الأسباب، فضمن ألا تنفد خزائنه من الإنفاق، وأن كلا سينال نصيبه من الأرزاق، فهو الحسيب الرزاق وهو القدير الخلاق، قال أبو حامد: ( الحسيب هو الكافي، وهو الذي من كان له كان حسبه، والله سبحانه وتعالى حسيب كل أحد وكافيه، وهذا وصف لا تتصور حقيقته لغيره، فإن الكفاية إنما يحتاج إليها المكفي لوجوده ولدوام وجوده ولكمال وجوده وليس في الوجود شيء هو وحده كاف لشيء إلا الله - عز وجل -، فإنه وحده كاف لكل شيء لا لبعض الأشياء، أي هو وحده كاف ليحصل به وجود الأشياء ويدوم به وجودها ويكمل به وجودها ) (1) .
وهو سبحانه أيضا الحسيب الذي يكفي عباده إذا التجئوا إليه، واستعانوا به واعتمدوا عليه، قال تعالى: { الذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللهِ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ } [آل عمران:173/174] .
وعند البخاري من حديث ابن عباس - رضي الله عنه - قال: ( حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الوَكِيلُ، قَالَهَا إِبْرَاهِيمُ - عليه السلام - حِينَ أُلْقِىَ في النَّارِ، وَقَالَهَا مُحَمَّدٌ حِينَ قَالُوا: { إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ } (2)، ومن كان الله حسيبه كفاه، ومن عرف الحسيب حاسب نفسه قبل أن يلقاه .
__________
(1) المقصد الأسنى للغزالي ص113 .
(2) البخاري في التفسير، باب إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم الآية 4/1662( 4287) .(3/9)
والحسيب جل شأنه هو الذي يحصي أعداد المخلوقات وهيئاتها وما يميزها، ويضبط مقاديرها وخصائصها، ويحصي أعمال المكلفين في مختلف الدواوين، يحصي أرزاقهم وأسبابهم وأفعالهم ومآلهم في حال وجودهم وبعد موتهم وعند حسابهم يوم يقوم الأشهاد فهو المجازي للخليقة عند قدومها بحسناتها وسيئاتها، وحِسابُه واقعٌ لا محالة، لا يَشْغَلُه حِسابُ واحد عَن آخَر، كما لاَ يَشْغَلُه سَمْع عن سمع، ولا شَأْنٌ عن شأْنٍ، فهو سريع الحساب كما قال - عز وجل -: { الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ } [غافر:17] (1) .
والحسيب أيضا هو الكريم العظيم المجيد الذي له علو الشأن ومعاني الكمال، وله في ذاته وصفاته مطلق الجمال والجلال، قال تعالى: { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ } [الشورى:11]، وقال تعالى: { هَل تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً } [مريم:65] (2) .
دلالة الاسم على أوصاف الله .
__________
(1) انظر شرح أسماء الله الحسنى للرازي ص274، وتفسير أسماء الله الحسنى للزجاج ص 49، وكتاب المواقف لعضد الدين الإيجي3/309 .
(2) انظر في هذا المعنى معارج القبول 1/144 .(3/10)
اسم الله الحسيب يدل على ذات الله وعلى الحسب كوصف ذات والمحاسبة كوصف فعل بدلالة المطابقة، وعلى ذات الله وحدها بدلالة التضمن، وعلى الصفة وحدها بالتضمن، قال تعالى: { لِلهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ الله فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَالله عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [البقرة:284]، وقال تعالى: { فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً } [الانشقاق:7/8]، وعند البخاري من حديث عمر - رضي الله عنه - أنه قال: ( إِنَّ أُنَاسًا كَانُوا يُؤْخَذُونَ بالوحي في عَهْدِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - ، وَإِنَّ الوحي قَدِ انْقَطَعَ، وَإِنَّمَا نَأْخُذُكُمُ الآنَ بِمَا ظَهَرَ لَنَا مِنْ أَعْمَالِكُمْ، فَمَنْ أَظْهَرَ لَنَا خَيْرًا أَمِنَّاهُ وَقَرَّبْنَاهُ، وَلَيْسَ إِلَيْنَا مِنْ سَرِيرَتِهِ شيء الله يُحَاسِبُهُ في سَرِيرَتِهِ، وَمَنْ أَظْهَرَ لَنَا سُوءًا لَمْ نَأْمَنْهُ وَلَمْ نُصَدِّقْهُ وَإِنْ قَالَ إِنَّ سَرِيرَتَهُ حَسَنَةٌ ) (1) .
__________
(1) البخاري في الشهادات، باب الشهداء العدول 2/934 (2498) .(3/11)
وعند البخاري في من حديث أبي بكرة - رضي الله عنه - أنه قال: ( أَثْنَى رَجُلٌ عَلَى رَجُلٍ عِنْدَ النبي فَقَالَ: وَيْلَكَ قَطَعْتَ عُنُقَ صَاحِبِكَ، قَطَعْتَ عُنَقَ صَاحِبِكَ، مِرَارًا، ثُمَّ قَالَ: مَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَادِحًا أَخَاهُ لا مَحَالَةَ فَليَقُل أَحْسِبُ فُلاَنًا، وَالله حَسِيبُهُ، وَلاَ أُزَكِّي عَلَى الله أَحَدًا، أَحْسِبُهُ كَذَا وَكَذَا إِنْ كَانَ يَعْلَمُ ذَلِكَ مِنْهُ ) (1)، والاسم يدل باللزوم على الحياة والقيومية والعلم الأحدية والقدرة والصمدية والغنى والقوة والعزة والعظمة والمجد والكبرياء، وغير ذلك من صفات الكمال واسم الله الحسيب دل على صفة ذات إن كان مشتقا من الفعل اللازم، ودل على صفة فعل إن كان مشتقا من الفعل المتعدي .
الدعاء باسم الله الحسيب دعاء مسألة .
ورد الدعاء بالوصف في قوله تعالى: { الذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا الله وَنِعْمَ الوَكِيلُ } [آل عمران:173]، وقد تقدم حديث أبي بكرة - رضي الله عنه -، وعند الترمذي وصححه الألباني من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( كَيْفَ أَنْعَمُ وَصَاحِبُ القَرْنِ قَدِ التَقَمَ القَرْنَ وَاسْتَمَعَ الإِذْنَ متى يُؤْمَرُ بِالنَّفْخِ فَيَنْفُخُ، فَكَأَنَّ ذَلِكَ ثَقُلَ عَلَى أَصْحَابِ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ لَهُمْ: قُولُوا حَسْبُنَا الله وَنِعْمَ الوَكِيلُ، عَلَى الله تَوَكَّلنَا ) (2).
الدعاء باسم الله الحسيب دعاء عبادة .
__________
(1) الموضع السابق، باب إذا زكى رجل رجلا 2/946 (2519) .
(2) الترمذي في صفة القيامة، باب ما جاء في شأن الصور 4/620 (2431)، صحيح الجامع (4592) .(3/12)
دعاء العبادة هو شعور الموحد بعز العبودية وشرفها، وأنه بدونها لا قيمة لحسبه ونسبه، روى مسلم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( وَمَنْ بَطَّأَ بِهِ عَمَلُهُ لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ ) (1)، فالكمال اللائق بالإنسان هو تكميل العبودية لله علما وعملا ظاهرا وباطنا، ومن حكمة الله - عز وجل - أنه فضل آدم وبنيه على كثير ممن خلق تفضيلا وجعل عبوديتهم أكمل من عبودية غيرهم، وكانت العبودية أفضل أحوالهم وأعلى درجاتهم، تلك العبودية الاختيارية التي يأتون بها طوعا واختيارا لا كرها واضطرارا، ولهذا أرسل الله - عز وجل - جبريل إلى سيد هذا النوع الإنساني يخيره بين أن يكون عبدا رسولا أو ملكا نبيا، فاختار بتوفيق ربه أن يكون عبدا رسولا، روى أبو يعلى وصححه الألباني من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال: ( جلسَ جِبْرِيل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فنظر إلى السماء فإذا مَلَكُ ينزل فَقَالَ له جبريل: هذا الْمَلَكُ ما نزل منذ خلق قبل الساعة، فلما نزل قال يا محمد: أرسلني إليك ربك، أمَلِكًا أجعلك أم عبدا رسولا؟ قال له جِبْرِيلُ: تواضع لربك يا محمد، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : لا بل عَبْدًا رسولا ) (2) .
__________
(1) مسلم في الذكر والدعاء والتوبة، باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن 4/ 2074 (2699) .
(2) مسند أبي يعلى 10/491، صحيح الترغيب والترهيب (3280) .(3/13)
وقد ذكره سبحانه بأتم العبودية في أشرف مقاماته وأفضل أحواله كمقام الدعوة والتحدي فقال: { وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللهِ يَدْعُوهُ } [الجن:19]، ومقام الإسراء وإنزال القرآن فقال: { وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا } [البقرة:23]، وقال: { سُبْحَانَ الذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ } [الإسراء:1]، وقال سبحانه وتعالى: { تَبَارَكَ الذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ } [الفرقان:1]، فأثنى عليه لعبوديته ه، ولهذا يقول أهل الموقف حين يطلبون الشفاعة اذهبوا إلى محمد عبد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر .
فلما كانت العبودية أشرف أحوال بني آدم وأحبها إلى الله - عز وجل -، وكان لها لوازم وأسباب مشروطة لا يحصل إلا بها كان من أعظم الحكم أن أخرجوا إلى دار تجري عليهم فيها أحكام العبودية وأسبابها وشروطها وموجباتها، فإنه سبحانه يحب إجابة الدعوات وتفريج الكربات وإغاثة اللهفات ومغفرة الزلات وتكفير السيآت ودفع البليات، وإعزاز من يستحق العز، وإذلال من يستحق الذل، ونصر المظلوم وجبر الكسير، ورفع بعض خلقه على بعض، وجعلهم درجات ليعرف قدر فضله وتخصيصه؛ فاقتضى ملكه التام وحمده الكامل أن يخرجهم إلى دار يحصل فيها محبوباته سبحانه، وإن كان لكثير منها طرق وأسباب يكرهها، فأبرز خلقه من العدم إلى الوجود ليجري عليه أحكام أسمائه وصفاته فيظهر كماله المقدس في كل اسم ووصف، وإن كان لم يزل كاملا، فمن كماله ظهور آثار كماله في خلقه وأمره وقضائه وقدره ووعده ووعيده ومنعه وإعطائه وإكرامه وإهانته وعدله وفضله وعفوه وإنعامه وسعة حلمه وشدة بطشه، وقد اقتضى كماله المقدس سبحانه أنه كل يوم هو في شأن، وإدراك العبد لهذه الحكم البالغة وتعامله معها في دار الامتحان أعظم شرف يناله الإنسان (1).
__________
(1) انظر بتصرف مجموع الفتاوى 10/545، شفاء العليل ص243 .(3/14)
ومن دعاء العبادة أيضا أن يقف العبد مع نفسه على الدوام لمحاسبتها، فيميز حركاتها وسكناتها، فإن كان خاطر النفس عند الهم يقتضي نية أو عقدا أو عزما أو فعلا أو سعيا خالصا لله أمضاه وسارع في تنفيذه، وإن كان لعاجل دنيا أو عارض هوى أو لهو أو غفلة نفاه وسارع في نفيه وتقييده .
ثم يذكر أنه ما من فعلة وإن صغرت إلا حاسب نفسه لم فعلت؟، وهذا موضع الابتلاء هل تعمل لمولاك، أم أن ذلك لهواك، فإن سلم من هذا الأمر، سئل عن نفسه كيف فعلت؟ أبعلم أم بجهل؟ فإن الله - عز وجل - لا يقبل عملا إلا على طريقته وطريقة نبيه - صلى الله عليه وسلم - وسنته، فإن سلم من هذا سأل نفسه لمن فعلت؟ ألله أم للسمعة والرياء فالمحاسبة هي المقايسة بين الحسنات والسيئات بميزان الشرع والأحكام وتميز الحلال والحرام، واتقاء الشبهات ما استطاع .
روى البخاري من حديث عائشة رضي الله عنها: ( أنها كَانَتْ لاَ تَسْمَعُ شَيْئًا لاَ تَعْرِفُهُ إِلاَّ رَاجَعَتْ فِيهِ حَتَّى تَعْرِفَهُ، وَأَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: مَنْ حُوسِبَ عُذِّبَ، قَالَتْ عَائِشَةُ فَقُلْتُ أَوَ لَيْسَ يَقُولُ اللهُ - سبحانه وتعالى -: { فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا } فَقَالَ: إِنَّمَا ذَلِكَ الْعَرْضُ، وَلَكِنْ مَنْ نُوقِشَ الْحِسَابَ يَهْلِكْ ) (1) .
وعند مسلم من حديث أبي مسعودٍ - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( حُوسِبَ رَجُلٌ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَلَمْ يُوجَدْ لَهُ مِنَ الْخَيْرِ شَيْءٌ إِلاَّ أَنَّهُ كَانَ يُخَالِطُ النَّاسَ وَكَانَ مُوسِرًا فَكَانَ يَأْمُرُ غِلْمَانَهُ أَنْ يَتَجَاوَزُوا عَنِ الْمُعْسِرِ قَالَ: قَالَ اللهُ - عز وجل -: نَحْنُ أَحَقُّ بِذَلِكَ مِنْهُ تَجَاوَزُوا عَنْهُ ) (2) .
__________
(1) البخاري في العلم، باب من سمع شيئا فراجع 1/51 (103) .
(2) مسلم في المساقاة، باب فضل إنظار المعسر3/1195 (1561) .(3/15)
ومن جهة التسمية بعبد الحسيب فلم أجد بالبحث الحاسوبي أحدا من السلف أو الخلف سمي به في مجال ما أجرينا عليه البحث، وإن كانت محركات البحث على الإنترنت أظهر الكثير من الأسماء في عصرنا.
********************************
82- الله - جل جلاله - الشَّافي
********************************
الدليل على ثبوت الاسم وإحصائه .
لم يرد الاسم في القرآن ولكن سماه به النبي - صلى الله عليه وسلم - على سبيل الإطلاق مرادا به العلمية ودالا على كمال الوصفية، فقد ورد معرفا بالألف واللام محمولا عليه المعنى مسندا إليه، فعند البخاري من حديث عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ إِذَا أَتَي مَرِيضًا أَوْ أُتِي بِهِ قَالَ: ( أَذْهِبِ الْبَاسَ رَبَّ النَّاسِ، اشْفِ وَأَنْتَ الشَّافِي لاَ شِفَاءَ إِلاَّ شِفَاؤُكَ، شِفَاءً لاَ يُغَادِرُ سَقَمًا ) (1) ، وكذلك ورد الحديث في صحيح مسلم عن عَائِشَةَ رضي الله عنها أنها قَالَتْ: ( كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا اشْتَكَى مِنَّا إِنْسَانٌ مَسَحَهُ بِيَمِينِهِ ثُمَّ قَالَ: أَذْهِبِ الْبَاسَ رَبَّ النَّاسِ، وَاشْفِ أَنْتَ الشَّافِي لاَ شِفَاءَ إِلاَّ شِفَاؤُكَ شِفَاءً لاَ يُغَادِرُ سَقَمًا ) (2) ، وتلك الأحاديث التي ثبتت في معظم كتب السنة ورد فيها الاسم والوصف معا.
شرح الاسم وتفسير معناه .
__________
(1) البخاري في كتاب الطب، باب دعاء العائد للمريض 5/2147 (5351) .
(2) مسلم في كتاب السلام، باب استحباب رقية المريض 4/1722 (2191) .(3/16)
الشافي في اللغة اسم فاعل، فعله شفى يشفي شفاءَ، وشفى كل شيء حرفه قال تعالى: { وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ } [آل عمران:103]، والشِّفاء موافاة شفا السلامة وصار اسما للبرء، فالشفاء هو الدواء الذي يكون سببا فيما يبرئ من السَّقمِ، وعند أبي داود وصححه الألباني من حديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: (فَإِنَّمَا شِفَاءُ الْعِيِّ السُّؤَالُ ) (1)، واسْتَشْفَى طلب الشِّفاء وناله، وعند مسلم من حديث عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قَال عن هجاء حسان - رضي الله عنه - لقريش: ( هَجَاهُمْ حَسَّانُ فَشَفَى وَاشْتَفَى ) (2)، أَراد أَنه شَفى المؤمنين واشتفى بنَفسِهِ أَي اخْتصَّ بالشِّفاء، وهو من الشِّفاء أو البُرْءِ من المرض، لكن المعنى نقل من شِفاء الأَجسامِ إِلى شِفاءِ القلوبِ والنُّفُوسِ يقال: اشْتفيْتُ بكذا، وتَشَفيْت من غيْظي (3) .
__________
(1) أبو داود في الطهارة، باب في المجروح يتيمم 1/93(336)، وانظر صحيح الجامع (4362) .
(2) مسلم في فضائل الصحابة رضي الله عنهم، باب فضائل حسان بن ثابت - رضي الله عنه - 3/1936 (2490) .
(3) لسان العرب 14/436، وكتاب العين 6/290، والمفردات ص459 .(3/17)
والشافي سبحانه هو الذي يرفع البأس والعلل، ويشفي العليل بالأسباب والأمل فقد يبرأ الداء مع انعدام الدواء، وقد يشفي الداء بلزوم الدواء، ويرتب عليه أسباب الشفاء، وكلاهما باعتبار قدرة الله سواء، فهو الشافي الذي خلق أسباب الشفاء ورتب النتائج على أسبابها والمعلولات على عللها، فيشفي بها وبغيرها، لأن حصول الشفاء عنده يحكمه قضاؤه وقدره، فالأسباب سواء ترابط فيها المعلول بعلته أو انفصل عنها هي من خلق الله وتقديره، ومشيئته وتدبيره، والأخذ بها لازم علينا من قبل الحكيم سبحانه لإظهار الحكمة في الشرائع والأحكام وتمييز الحلال من الحرام، وظهور التوحيد وحقائق الإسلام، فاللّه - عز وجل - متصف بالقدرة والحكمة، ومن أسمائه القدير الحكيم، فبالقدرة خلق الأشياء وأوجدها وهداها وسيرها، وانفرد بذلك دون شريك وهذا توحيد الربوبية، وبالحكمة رتب الأسباب ونتائجها وابتلانا بها وعلق عليها الشرائع والأحكام تحقيقا لتوحيد العبودية .
وإنما مثل الأسباب كمثل الآلة بيد الصانع فكما لا يقال: السيف ضرب العنق ولا السوط ضرب العبد، وإنما يقال: السياف ضرب العنق وفلان ضرب فلانا بالسوط فكذلك لا يقال شفاني الدواء أو الطبيب لأنها أسباب وعلل، والعلل والأسقام كما ذكر النبي عليه الصلاة والسلام فيما صح عنه: ( طبيبها الذي خلقها ) (1)، فهو سبحانه القادر الفاعل بلطائف القدرة وخفايا المشيئة .
__________
(1) أبو داود في الترجل، باب في الخضاب 4/86 (4207)، وصحيح أبي داود 2/792 (3544) .(3/18)
ولذلك قال إبراهيم - عليه السلام -: { وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ } [الشعراء:80]، وقد وحد الغلام ربه في اسمه الشافي لما قال له الوزير في قصة أصحاب الأخدود: ( مَا هَاهُنَا لك أَجْمَعُ إِن أَنْتَ شَفَيْتَنِي، فقال: إِنِّي لا أَشْفِى أَحَدًا إِنَّمَا يَشْفِى الله، فإِن أَنْتَ آمَنْتَ بِاللهِ دَعَوْتُ اللهَ فَشَفَاكَ، فَآمَنَ بِاللهِ فَشَفَاهُ اللهُ ) (1) .
والله - عز وجل - هو الشافي الذي يشفي النفوس من أسقامها كما يشفي الأبدان من أمراضها وأسقامها، قال تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ } [يونس:57] .
وقد ذكر ابن القيم أن القلب متى اتصل برب العالمين خالق الداء والدواء ومدبر الطب ومصرفه على ما يشاء كانت له أدوية أخرى غير الأدوية التي يعانيها القلب البعيد منه المعرض عنه، فإذا قويت النفس بإيمانها وفرحت بقربها من بارئها وأنسها به وحبها له وتنعمها بذكره، وانصراف قواها كلها إليه وجمع أمورها عليه واستعانتها به وتوكلها عليه، فإن ذلك يكون لها من أكبر الأدوية في دفع الألم بالكلية (2) .
دلالة الاسم على أوصاف الله .
اسم الله الشافي يدل على ذات الله وعلى صفة الشفاء بدلالة المطابقة، وعلى أحدهما بالتضمن، قال تعالى: { قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ الله بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ } [التوبة:14]، وقال تعالى عن نبيه إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - : { وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ } [الشعراء:80] .
__________
(1) رواه مسلم من حديث صهيب في كتاب الزهد والرقاق، وانظر الأسماء والصفات للبيهقي ص111.
(2) زاد المعاد 4/12، وانظر أيضا: إغاثة اللهفان 1/45، وشفاء العليل ص91 بتصرف .(3/19)
وعند مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت: ( كَانَ إِذَا اشْتَكَى رَسُولُ الله رَقَاهُ جِبْرِيلُ، قَالَ: بِاسْمِ الله يُبْرِيكَ، وَمِنْ كُلِّ دَاءٍ يَشْفِيكَ، وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ وَشَرِّ كُلِّ ذي عَيْنٍ ) (1)، وعند الترمذي وصححه الشيخ الألباني من حديث عبد الله بن عباس - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( مَنْ عَادَ مَرِيضًا لَمْ يَحْضُرْ أَجَلُهُ فَقَالَ عِنْدَهُ سَبْعَ مِرَارٍ: أَسْأَلُ الله العَظِيمَ رَبَّ العَرْشِ العَظِيمِ أَنْ يَشْفِيَكَ إِلاَّ عَافَاهُ الله مِنْ ذَلِكَ المَرَضِ ) (2)، والاسم يدل باللزوم على الحياة والقيومية والسمع والبصر والعلم والقدرة والخبرة والحكمة والغنى والقوة وغير ذلك من صفات الكمال، واسم الله الشافي دل على صفة من صفات الأفعال .
الدعاء باسم الله الشافي دعاء مسألة .
__________
(1) مسلم في السلام، باب رآه والمرض والرقى 4/ 1718 (2185) .
(2) الترمذي في الطب 4/410 (2083)، وانظر صحيح الجامع (5766) .(3/20)
ورد دعاء المسألة بالاسم المطلق في حديث عائشة رضي الله عنها الذي تقدم في ذكر الدليل على ثبوت الاسم، وفي سنن أبي داود وصححه الألباني من حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ( إِنَّ الرُّقَي وَالتَّمَائِمَ وَالتِّوَلَةَ شِرْكٌ، فقالت له زوجته: لِمَ تَقُولُ هَذَا؟ وَالله لَقَدْ كَانَتْ عَيْنِي تَقْذِفُ، وَكُنْتُ أَخْتَلِفُ إِلَى فُلاَنٍ اليَهُودِي يَرْقِينِي؛ فَإِذَا رَقَانِي سَكَنَتْ، فَقَالَ عَبْدُ الله: إِنَّمَا ذَاكِ عَمَلُ الشَّيْطَانِ كَانَ يَنْخَسُهَا بِيَدِهِ؛ فَإِذَا رَقَاهَا كَفَّ عَنْهَا، إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيكِ أَنْ تَقُولِي كَمَا كَانَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: أَذْهِبِ البَاسَ رَبَّ النَّاسِ اشْفِ أَنْتَ الشَّافِي، لاَ شِفَاءَ إِلاَّ شِفَاؤُكَ، شِفَاءً لاَ يُغَادِرُ سَقَمًا ) (1)، والتولة نوع من السحر يحبب المرأة إلي زوجها، وتقدم حديث ابن عباس وأبي سعيد وصهيب - رضي الله عنهم - في ذكر دلالة الاسم على أوصاف الله، وكلها شواهد لدعاء الله باسمه الشافي دعاء مسألة .
وروى أحمد وصححه الألباني من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: (جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى النبي - صلى الله عليه وسلم - بِهَا لَمَمٌ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ ادْعُ اللهَ أَنْ يَشْفِيَنِي، قَالَ: إِنْ شِئْتِ دَعَوْتُ اللهَ أَنْ يَشْفِيَكِ، وَإِنْ شِئْتِ فاصبري وَلاَ حِسَابَ عَلَيْكِ، قَالَتْ: بَلْ أَصْبِرُ وَلاَ حِسَابَ عَلَي ) (2) .
الدعاء باسم الله الشافي دعاء عبادة .
__________
(1) أبو داود في الطب، باب في تعليق التمائم 4/9 (3883)، صحيح الجامع (855) .
(2) مسند الإمام أحمد، صحيح الترغيب والترهيب (3419) .(3/21)
دعاء العبادة أن يعتقد العبد أن الله - عز وجل - هو الشافي الذي يشفي بالأسباب أو بدونها لكن يأخذ بها لأن الله علق عليها الشرائع والأحكام وميز بها الحلال من الحرام، فعند أبي داود وصححه الألباني من حديث أسامة بن شريك - رضي الله عنه - قال: ( أَتَيْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - وَأَصْحَابُهُ كَأَنَّمَا عَلَى رُءُوسِهِمُ الطَّيْرُ، فَسَلمْتُ ثُمَّ قَعَدْتُ، فَجَاءَ الأَعْرَابُ مِنْ هَا هُنَا وَهَا هُنَا فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ أَنَتَدَاوَى؟ فَقَالَ: تَدَاوَوْا فَإِنَّ اللهَ - عز وجل - لَمْ يَضَعْ دَاءً إِلاَّ وَضَعَ لَهُ دَوَاءً غَيْرَ دَاءٍ وَاحِدٍ الْهَرَمُ ) (1) .
وأعظم أثر للاسم على العبد في رفع البلاء وتمام الشفاء أن يحصن نفسه بكتاب الله وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - ، وأن يجعل الإيمان والعبودية وقاء له من كل داء، وقد ذكر ابن القيم أن الوحي الذي يوحيه الله إلى رسوله بما ينفع الناس أو يضرهم فيه من الأدوية التي تشفي من الأمراض ما لم يهتد إليها عقول أكابر الأطباء، ولم تصل إليها علومهم وتجاربهم وأقيستهم من الأدوية القلبية والروحانية وقوة القلب واعتماده على الله والتوكل عليه والالتجاء إليه، والانطراح والانكسار بين يديه، والتذلل له، والصدقة والدعاء والتوبة والاستغفار والإحسان إلى الخلق وإغاثة الملهوف والتفريج عن المكروب، فإن هذه الأدوية قد جربتها الأمم فوجدوا لها من التأثير في الشفاء ما لا يصل إليه علم أعلم الأطباء ولا تجربته ولا قياسه .
__________
(1) أبو داود في الطب، باب في الرجل يتداوي 4/3 (3855)، صحيح الجامع (3973) .(3/22)
ومن جرب ذلك علم أنها تفعل ما لا تفعل الأدوية الحسية، وهذا جار على قانون الحكمة الإلهية ليس خارجا عنها ولكن الأسباب متنوعة؛ فإن القلب متى اتصل برب العالمين وخالق الداء والدواء ومدبر الطبيعة ومصرفها على ما يشاء؛ كانت له أدوية أخرى غير الأدوية التي يعانيها القلب البعيد منه المعرض عنه .
وقد علم أن الأرواح متى قويت وقويت النفس والطبيعة تعاونا على دفع الداء وقهره فكيف ينكر لمن قويت طبيعته ونفسه وفرحت بقربها من بارئها وأنسها به وحبها له وتنعمها بذكره وانصراف قواها كلها إليه وجمعها عليه واستعانتها به وتوكلها عليه أن يكون ذلك لها من أكبر الأدوية وتوجب لها هذه القوة دفع الألم بالكلمة، ولا ينكر هذا إلا أجهل الناس وأعظمهم حجابا وأكثفهم نفسا وأبعدهم عن الله وعن حقيقة الإنسان (1) .
وبخصوص التسمية بعبد الشافي فلم أجد بالبحث الحاسوبي أحدا من السلف سمي به في مجالنا، وإن كانت محركات البحث على الإنترنت أظهر الكثير من الأسماء في عصرنا .
********************************
83- الله - جل جلاله - الرَّفِيقُ
********************************
الدليل على ثبوت الاسم وإحصائه .
__________
(1) الطب النبوي ص7 .(3/23)
اسم الله الرفيق ورد في السنة النبوية مطلقا معرفا مسندا إليه المعنى محمولا عليه مرادا به العلمية ودالا علي كمال الوصفية، كما ورد عند البخاري من حديث عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتِ: ( اسْتَأْذَنَ رَهْطٌ مِنَ الْيَهُودِ عَلَي النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - فَقَالُوا السَّامُ عَلَيْكَ فَقُلْتُ بَلْ عَلَيْكُمُ السَّامُ وَاللعْنَةُ، فَقَالَ: يَا عَائِشَةُ إِنَّ اللهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الأَمْرِ كُلِّهِ، قُلْتُ: أَوَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالُوا؟ قَالَ: قُلْتُ وَعَلَيْكُمْ ) (1)، وعند مسلم عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ لها: ( يَا عَائِشَةُ إِنَّ اللهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ وَيُعْطِي عَلَي الرِّفْقِ مَا لاَ يُعْطِي عَلَى الْعُنْفِ وَمَا لاَ يُعْطِي عَلَي مَا سِوَاهُ ) (2) .
شرح الاسم وتفسير معناه .
__________
(1) البخاري في استتابة المرتدين، باب الرد على أهل الذمة 5/2308 (5901) .
(2) مسلم في كتاب البر والصلة والآداب، باب فضل الرفق 4/2003 (2593) .(3/24)
الرفيق في اللغة من صيغ المبالغة، فعيل بمعنى فاعل، فعله رَفقَ يَرْفق رِفقا، والرِّفْق هو اللطف وهو ضد العنْف، ويعني لِين الجانب ولطافة الفعل، رفق بالأَمر وله وعليه وهو به رَفِيق يعني لَطِيف، وعند أحمد من حديث عائشة أَن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( مَا كَانَ الرِّفْقُ فِي شَيْءٍ قَطُّ إِلاَّ زَانَهُ وَلاَ عُزِلَ عَنْ شَيْءٍ إِلاَّ شَانَهُ ) (1)، فالرفق هو اللّطفُ، ورَفِيقكَ هو الذي يُرافِقُك في السفر تَجْمَعُكَ وإِيّاه رفقة واحدة، والرفيق أيضا هو الذي يتولى العمل برفق، أو يتَرفق بالمريض ويتلطف به، وعند أبي داود وصححه الألباني من حديث أَبِى رمثة أن أباه قَالَ للرسول - صلى الله عليه وسلم - : ( أَرِنِي هَذَا الذِي بِظَهْرِكَ فَإِنِّي رَجُلٌ طَبِيبٌ قَالَ - صلى الله عليه وسلم - : اللهُ الطَّبِيبُ، بَلْ أَنْتَ رَجُلٌ رَفِيقٌ، طَبِيبُهَا الذِي خَلَقَهَا ) (2)، والمِرْفَقُ من مَرَافِق الدار الأماكن المصاحبة للدار من خدمات مختلفة كمَصاب الماء ونحوُها والمَرفِق من الإِنسان والدابة أَعلى الذراع وأَسفل العَضُد (3) .
__________
(1) أحمد في المسند 6/206 (25748) وصححه الألباني من حديث أنس انظر: صحيح الجامع (5654) .
(2) أبو داود في الترجل، باب في الخضاب 4/86 (4207)، وانظر صحيح أبي داود 2/792 (3544) .
(3) لسان العرب 10/118، وتهذيب اللغة 9/109، وكتاب العين 5/149، والمغرب للمطرزي 1/339 .(3/25)
والرفيق سبحانه هو اللطيف بعباده القريب منهم يغفر ذنوبهم ويتوب عليهم، وهو الذي تكفل بهم من غير عوض أو حاجة، فييسر أسبابهم، وقدر أرزاقهم، وهداهم لما يصلحهم، فنعمته عليهم سابغة، وحكمته فيهم بالغة، يحب عباده الموحدين ويتقبل صالح أعمالهم، ويقربهم وينصرهم على عدوهم، ويعاملهم بعطف ورحمة وإحسان، ويدعو من خالفه إلى التوبة والإيمان، فهو الرفيق المحسن في خفاء وستر، يحاسب المؤمنين بفضله ورحمته، ويحاسب المخالفين بعدله وحكمته، ترغيبا لهم في توحيده وعبادته، وحلما منه ليدخلوا في طاعته (1) .
والله - عز وجل - رفيق يتابع عباده في حركاتهم وسكناتهم، ويتولاهم في حلهم وترحالهم بمعية عامة وخاصة، فالمعية العامة كقوله: { مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا } [المجادلة:7]، والمعية الخاصة كقوله: { وَأَنَّ اللهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ } [الأنفال:19]، وعند الترمذي وصححه الألباني من حديث ابن عباس - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال له: ( يَا غُلاَمُ إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ، احْفَظِ اللهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ ) (2)، وعند مسلم من حديث ابن عمر - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول إذا خرج للسفر: ( اللهُمَّ أَنْتَ الصَّاحِبُ فِي السفرِ وَالخلِيفة فِي الأَهْلِ .. الحديث ) (3) .
__________
(1) انظر في تفسير الاسم: الاسنى في شرح أسماء الله الحسنى 1/556 .
(2) الترمذي في صفة القيامة والرقائق والورع 4/667 (2516)، وانظر صحيح الجامع (7957) .
(3) مسلم في الحج، باب ما يقول إذا ركب إلى سفر الحج وغيره 2/978 (1342) .(3/26)
وهو جل شأنه الرفيق الذي يجمع عباده الموحدين عنده في الجنة كما قالت امرأت فرعون: { رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتا فِي الْجَنَّةِ } [التحريم:11]، وعند البخاري من حديث عائشة قالت: ( كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ وَهْوَ صَحِيحٌ: لَنْ يُقْبَضَ نَبِي قَطُّ حَتَّى يَرَى مَقْعَدَهُ مِنَ الْجَنَّةِ ثُمَّ يُخَيَّرُ، فَلَمَّا نَزَلَ بِهِ وَرَأْسُهُ عَلَى فَخِذِي، غُشِي عَلَيْهِ سَاعَةً، ثُمَّ أَفَاقَ فَأَشْخَصَ بَصَرَهُ إِلَى السَّقْفِ ثُمَّ قَالَ: اللهُمَّ الرَّفِيقَ الأَعْلَى، قُلْتُ: إِذًا لاَ يَخْتَارُنَا، وَعَلِمْتُ أَنَّهُ الْحَدِيثُ الذِي كَانَ يُحَدِّثُنَا، وَهْوَ صَحِيحٌ، قَالَتْ: فَكَانَتْ تِلْكَ آخِرَ كَلِمَةٍ تَكَلمَ بِهَا: اللهُمَّ الرَّفِيقَ الأَعْلَى ) (1) .
دلالة الاسم على أوصاف الله .
__________
(1) البخاري في الدعوات، باب مرض النبي S ووفاته 4/ 1613 (4173) .(3/27)
اسم الله الرفيق يدل على ذات الله وعلى صفة الرفق بدلالة المطابقة، وعلى ذات الله وحدها بالتضمن، وعلى الصفة وحدها بالتضمن، وقد ورد وصف الفعل عند مسلم من حديث عبد الرحمن بن شماسة - رضي الله عنه - قال: ( أَتَيْتُ عَائِشَةَ أَسْأَلُهَا عَنْ شيء فَقَالَتْ: مِمَّنْ أَنْتَ؟ فَقُلْتُ: رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ مِصْرَ، فَقَالَتْ: كَيْفَ كَانَ صَاحِبُكُمْ لَكُمْ في غَزَاتِكُمْ هَذِهِ؟ فَقَالَ: مَا نَقَمْنَا مِنْهُ شَيْئًا، إِنْ كَانَ لَيَمُوتُ لِلرَّجُلِ مِنَّا الْبَعِيرُ فَيُعْطِيهِ الْبَعِيرَ، وَالْعَبْدُ فَيُعْطِيهِ الْعَبْدَ وَيَحْتَاجُ إِلَى النَّفَقَةِ فَيُعْطِيهِ النَّفَقَةَ، فَقَالَتْ: أَمَا إِنَّهُ لاَ يمنعني الذي فَعَلَ في مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ أخي أَنْ أُخْبِرَكَ مَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، يَقُولُ في بيتي هَذَا: اللهُمَّ مَنْ وَلِي مِنْ أَمْرِ أمتي شَيْئًا فَشَقَّ عَلَيْهِمْ فَاشْقُقْ عَلَيْهِ، وَمَنْ وَلِي مِنْ أَمْرِ أمتي شَيْئًا فَرَفَقَ بِهِمْ فَارْفُقْ بِهِ ) (1)، وقال تعالى: { وَإِذِ اعْتَزَلتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلا الله فَأْوُوا إِلَى الكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقاً } [الكهف:16]، والاسم يدل باللزوم على الحياة والقيومية، واللطف والرحمة والإحسان والحكمة وغير ذلك من صفات الكمال، واسم الله الرفيق دل على صفة من صفات الأفعال .
الدعاء باسم الله الرفيق دعاء مسألة .
__________
(1) مسلم في الإمارة، باب فضيلة الإمام العادل وعقوبة الجائر3/1458(1828) وهي رضي الله عنها تقصد الأمير ابن حديج وكان قد قتل أخاها محمد بن أبي بكر رضي الله عنهم جميعا .(3/28)
ورد دعاء المسألة بالوصف الذي تضمنه الاسم في الحديث الذي تقدم عن عائشة رضي الله عنها وفيه: ( وَمَنْ وَلِي مِنْ أَمْرِ أمتي شَيْئًا فَرَفَقَ بِهِمْ فَارْفُقْ بِهِ )، وكذلك دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( اللهمَّ اغْفِرْ لِي وَاجْعَلنِي مَعَ الرَّفِيقِ الأَعْلَى )، وفي رواية البخاري: ( اللهمَّ اغْفِرْ لِي وَارْحَمْنِي وَأَلحِقْنِي بِالرَّفِيقِ الأَعْلَى ) (1)، وكذلك يمكن الاستشهاد بدعاء أهل الكهف لما قالوا: { فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقاً } [الكهف:16]، على اعتبار أنهم قالوا قبل ذلك: { رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهاً لَقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً } [الكهف:14]، وهم يرجون أن يبسط الله لهم من رحمته ورفقه ما يسهل عليهم اجتياز محنتهم وييسر لهم أمرهم (2) .
الدعاء باسم الله الرفيق دعاء عبادة .
__________
(1) البخاري كتاب المرضى، باب مرض النبي S ووفاته 4/ 1614 (4176) .
(2) انظر تفسير البغوي 3/153، وتفسير الطبري 15/209 .(3/29)
أثر الاسم في توحيد العبد لله يتجلى في رفقه بإخوانه، فيحب للعاصي التوبة والمغفرة وللمطيع الثبات وحسن المنزلة، ويكون ودودا لعباد الله - عز وجل -؛ فيعفو عمن أساء إليه ويلين مع البعيد كما يلين مع أقرب الناس إليه، كما أن الرفق في سائر الأمور ثمرة لا يضاهيها إلا حسن الخلق، ولا يحسن الخلق إلا بضبط قوة الغضب وقوة الشهوة وحفظهما على حد الاعتدال، ولأجل هذا أثنى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الرفق وبالغ فيه، روى الترمذي وصححه الألباني من حديث أبي الدرداء - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( مَنْ أُعْطِىَ حَظَّهُ مِنَ الرِّفْقِ فَقَدْ أُعْطِىَ حَظَّهُ مِنَ الْخَيْرِ، وَمَنْ حُرِمَ حَظَّهُ مِنَ الرِّفْقِ فَقَدْ حُرِمَ حَظَّهُ مِنَ الْخَيْرِ ) (1) .
روى أحمد وصححه الشيخ الألباني من حديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( إِذَا أَرَادَ اللهُ عَزَّ وَجَل بِأَهْلِ بَيْتٍ خَيْرًا أَدْخَلَ عَلَيْهِمُ الرِّفْقَ ) (2)، وروى الطبراني وحسنه الألباني من حديث جرير - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( إن الله - عز وجل - ليعطي على الرفق ما لا يعطي على الخرق، وإذا أحب الله عبدا أعطاه الرفق ما من أهل بيت يحرمون الرفق إلا حرموا ) (3)، وروى أحمد وصححه الألباني من حديث عبد الله - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( حُرِّمَ عَلَى النَّارِ كُلُّ هَيِّنٍ لَيِّنٍ سَهْلٍ قَرِيبٍ مِنَ النَّاسِ ) (4) .
__________
(1) الترمذي في البر والصلة، باب ما جاء في الرفق 4/367 (2013)، صحيح الجامع (6055) .
(2) المسند، صحيح الجامع (303) .
(3) الطبراني 2/306 (2274)، صحيح الترغيب والترهيب (2666) .
(4) المسند 1/415 (3938)، صحيح الجامع (3135) .(3/30)
ويذكر أبو حامد الغزالي أن المحمود في العبد أن يكون وسطا بين العنف واللين كما في سائر الأخلاق، ولكن لما كانت الطباع إلى العنف والحدة أميل كانت الحاجة إلى ترغيبهم في جانب الرفق أكثر؛ فلذلك كثر ثناء الشرع على جانب الرفق دون العنف، وإن كان العنف في محله حسنا كما أن الرفق في محله حسن، وإنما الكامل من يميز مواقع الرفق عن مواضع العنف فيعطي كل أمر حقه، فإن كان قاصر البصيرة أو أشكل عليه حكم واقعه من الوقائع؛ فليكن ميله إلى الرفق فإن النجاح معه في الأكثر(1)، ومن أعظم الرفق وتوحيد الله في اسمه الرفيق، مودة الرجل لزوجته ورفقه بها وكذلك مودة المرأة لزوجها، وقد تقدم ذلك في دعاء العبادة بالودود، قال أبو الفتح البستي:
ورافق الرفق في كل الأمور فلم يندم رفيق ولم يذممه إنسان
ولا يغرنك حظ جره خرق فالخرق هدم ورفق المرء بنيان
أحسن إذا كان إمكان ومقدرة فلن يدوم على الإحسان إمكان
فالروض يزدان بالأنوار فاغمة والحر بالعدل والإحسان يزدان (2).
ومن جهة التسمية بعبد الرفيق فلم أجد بالبحث الحاسوبي أحدا من السلف أو الخلف سمي به في مجالنا، وكذلك لم أجده على الإنترنت، وهنيئا لمن سمى نفسه أو ولده بهذا الاسم فسيكون أول من تعبد لله به فيما نعلم، والله أعلم .
********************************
84- الله - جل جلاله - المُعْطِي
********************************
الدليل على ثبوت الاسم وإحصائه .
__________
(1) إحياء علوم الدين 3/186بتصرف .
(2) عنوان الحكم ص38.(3/31)
لم يرد الاسم في القرآن ولكن سماه به النبي - صلى الله عليه وسلم - على سبيل الإطلاق مرادا به العلمية ودالا على كمال الوصفية، فقد ورد معرفا عند البخاري من حديث مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِى سُفْيَانَ - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ في الدِّينِ، وَاللهُ الْمُعْطِي وَأَنَا الْقَاسِمُ، وَلاَ تَزَالُ هَذِهِ الأُمَّةُ ظَاهِرِينَ عَلَى مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِي أَمْرُ اللهِ وَهُمْ ظَاهِرُونَ ) (1) .
وفي رواية أخرى عند البخاري ذكر الوصف بدلا من الاسم: ( مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ، وَإِنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ وَيُعْطِي اللهُ، وَلَنْ يَزَالَ أَمْرُ هَذِهِ الأُمَّةِ مُسْتَقِيمًا حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ، أَو حَتَّى يَأْتِي أَمْرُ اللهِ ) (2)، والوصف لا يكفي وحده لإثبات اسم الله المعطي فالدليل على الاسم حديث معاوية - رضي الله عنه - .
شرح الاسم وتفسير معناه .
المعطي اسم فاعل فعله أعطى يعطي فهو معط، والعَطِيَّة اسمٌ لما يُعْطي وجمعها عَطايا وأَعْطِيَة، والعطاء إعطاء المال، والعَطاء أَصله اللفظي عَطاو بالواو لأَنه من عَطَوْت إِلا أَن العرب تَهْمِزُ الواو والياء إِذا جاءتا بعد الأَلف لأنها أفضل في النطق والحركة، ويقال اسْتَعْطى وتَعَطي يعني سأَل العَطاء، وإِذا أَردْتَ من زَيدٍ أَن يُعْطِيكَ شيئاً تقول هل أَنتَ مُعْطِيَّه؟ (3) .
__________
(1) البخاري في فرض الخمس، باب قول الله تعالى فإن لله خمسه وللرسول 3/1134 (2948) .
(2) البخاري في الاعتصام، باب قول النبي S لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق 6/2667 (6882) .
(3) لسان العرب 15/68، والمفردات ص672 .(3/32)
والمعطي سبحانه هو الذي أعطى كل شيء خلقه وتولى أمره ورزقه في الدنيا والآخرة كما قال تعالى عن موسى - عليه السلام - وهو يصف عطاء الربوبية: { قَالَ رَبُّنَا الذِي أَعْطَى كُل شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى } [طه:50]، وقال تعالى عن عطاء الآخرة: { وَأَمَّا الذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلا مَا شَاء رَبك عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ } [هود:108]، وعطاء الله قد يكون عاما أو خاصا، فالعطاء العام يكون للخلائق أجمعين، والعطاء الخاص يكون للأنبياء والمرسلين وصالح المؤمنين، فمن العطاء العام ما ورد في قوله تعالى: { كُلاً نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً } [الإسراء:20]، والعطاء هنا هو تمكين العبد من الفعل ومنحه القدرة والاستطاعة، كل على حسب رزقه أو قضاء الله وقدره، ومن العطاء الخاص استجابة الدعاء وتحقيق مطلب الأنبياء والصالحين الأولياء، ومن ذلك الدعاء والعطاء في قول سليمان - عليه السلام -: { رَبِّ اغفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلكا لا يَنبَغِي لأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاء حَيْثُ أَصَابَ وَالشَّيَاطِينَ كُل بَنَّاء وَغَوَّاصٍ وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَو أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } [ص:39]، وكذلك في دعاء زكريا - عليه السلام - حيث قال: { وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً } [مريم:5]، فحقق الله - عز وجل - مطلبه وأعطاه ما تمناه فقال: { يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيّاً } [مريم:7]، وقال عن عطائه للمؤمنين في الآخرة: { جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً(3/33)
حِسَاباً } [النبأ:36] (1) .
دلالة الاسم على أوصاف الله .
اسم الله المعطي يدل على ذات الله وعلى صفة العطاء بدلالة المطابقة، وعلى أحدهما بالتضمن، قال تعالى: { وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً } [الإسراء:20]، وقال: { إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الكَوْثَرَ } [الكوثر:1]، وتقدم ذكر الأدلة من السنة على الوصف، والاسم يدل باللزوم على الحياة والقيومية والسيادة والصمدية والعزة والأحدية والسمع والبصر والعلم القدرة والغنى والقوة والحكمة، وغير ذلك من صفات الكمال، واسم الله المعطي دل على صفة من صفات الأفعال .
الدعاء باسم الله المعطي دعاء مسألة .
ورد الدعاء بالوصف عند مسلم من حديث أَبي سعيد - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إِذَا رفع رأسه من الركوع قال: ( رَبَّنَا لَكَ الحَمْدُ، مِلءَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ، وَمِلءَ مَا شِئْتَ مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ، أَهْلَ الثَّنَاءِ وَالمَجْدِ، أَحَقُّ مَا قَالَ العَبْدُ، وَكُلُّنَا لَكَ عَبْدٌ، اللهمَّ لاَ مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ، وَلاَ مُعْطِي لِمَا مَنَعْتَ، وَلاَ يَنْفَعُ ذَا الجَدِّ مِنْكَ الجَدُّ ) (2) .
__________
(1) انظر المزيد في الاسنى في شرح أسماء الله الحسنى للقرطبي 1/355 .
(2) مسلم في الصلاة، باب اعتدال أركان الصلاة 1/343 (471) .(3/34)
وعند أحمد وصححه الألباني من حديث عبد الرحمن بن جبير أنه حدثه رجل خدم النبي - صلى الله عليه وسلم - ثمان سنين قال: ( كَانَ النبي - صلى الله عليه وسلم - إِذَا قُرِّبَ لَهُ طَعَامٌ قَالَ: بِسْمِ اللهِ، فَإِذَا فَرَغَ مِنْ طَعَامِهِ قَالَ: اللهُمَّ أَطْعَمْتَ وَأَسْقَيْتَ، وَأَغْنَيْتَ وَأَقْنَيْتَ، وَهَدَيْتَ وَاجْتَبَيْتَ فَلَكَ الْحَمْدُ عَلَى مَا أَعْطَيْتَ ) (1) ، وعند مسلم من حديث أبي سعيد - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال ( .. ثُمَّ يَقُولُ: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ فَمَا رَأَيْتُمُوهُ فَهُوَ لَكُمْ، فَيَقُولُونَ: رَبَّنَا أَعْطَيْتَنَا مَا لَمْ تُعْطِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ، فَيَقُولُ لَكُمْ عندي أَفْضَلُ مِنْ هَذَا فَيَقُولُونَ: يَا رَبَّنَا أي شيء أَفْضَلُ مِنْ هَذَا؟ فَيَقُولُ: رضاي فَلاَ أَسْخَطُ عَلَيْكُمْ بَعْدَهُ أَبَدًا ) (2) .
وعند الترمذي وصححه الألباني من حديث ابن عباس - رضي الله عنه - أنه قال: ( كَانَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يُعَلِّمُنَا دُعَاءً نَدْعُو بِهِ في الْقُنُوتِ مِنْ صَلاَةِ الصُّبْحِ: اللهمَّ اهْدِنَا فِيمَنْ هَدَيْتَ، وَعَافِنَا فِيمَنْ عَافَيْتَ، وَتَوَلنَا فِيمَنْ تَوَليْتَ، وَبَارِكْ لَنَا فِيمَا أَعْطَيْتَ، وَقِنَا شَرَّ مَا قَضَيْتَ، إِنَّكَ تَقْضِي وَلاَ يُقْضَى عَلَيْكَ، إِنَّهُ لاَ يَذِلُّ مَنْ وَالَيْتَ تَبَارَكْتَ رَبَّنَا وَتَعَالَيْتَ ) (3) .
__________
(1) أحمد في المسند، صحيح الجامع (4768) .
(2) مسلم في الإيمان، باب معرفة طريق الرؤية1/170 (183) .
(3) الترمذي في أبواب الصلاة، باب ما جاء في قنوت الوتر 2/328 (464)، مشكاة المصابيح (1273) .(3/35)
وعند البخاري من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( ثُمَّ يَفْرُغُ اللهُ مِنَ الْقَضَاءِ بَيْنَ الْعِبَادِ وَيَبْقَى رَجُلٌ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَهْوَ آخِرُ أَهْلِ النَّارِ دُخُولاً الْجَنَّةَ مُقْبِلٌ بِوَجْهِهِ قِبَلَ النَّارِ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ اصْرِفْ وجهي عَنِ النَّارِ قَدْ قَشَبَنِي رِيحُهَا وأحرقني ذَكَاؤُهَا؟ فَيَقُولُ: هَلْ عَسَيْتَ إِنْ فُعِلَ ذَلِكَ بِكَ أَنْ تَسْأَلَ غَيْرَ ذَلِكَ؟ فَيَقُولُ: لاَ وَعِزَّتِكَ فَيُعْطِي اللهَ مَا يَشَاءُ مِنْ عَهْدٍ وَمِيثَاقٍ، فَيَصْرِفُ اللهُ وَجْهَهُ عَنِ النَّارِ، فَإِذَا أَقْبَلَ بِهِ عَلَى الْجَنَّةِ رَأَى بَهْجَتَهَا سَكَتَ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَسْكُتَ، ثُمَّ قَالَ: يَا رَبِّ قَدِّمْنِي عِنْدَ بَابِ الْجَنَّةِ فَيَقُولُ اللهُ لَهُ: أَلَيْسَ قَدْ أَعْطَيْتَ الْعُهُودَ وَالْمَوَاثِيقَ أَنْ لاَ تَسْأَلَ غَيْرَ الذِي كُنْتَ سَأَلْتَ؟ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ لاَ أَكُونُ أَشْقَى خَلْقِكَ، فَيَقُولُ: فَمَا عَسَيْتَ إِنْ أُعْطِيتَ ذَلِكَ أَنْ لاَ تَسْأَلَ غَيْرَهُ؟ فَيَقُولُ: لاَ وَعِزَّتِكَ لاَ أَسْأَلُ غَيْرَ ذَلِكَ، فَيُعْطِي رَبَّهُ مَا شَاءَ مِنْ عَهْدٍ وَمِيثَاقٍ فَيُقَدِّمُهُ إِلَى بَابِ الْجَنَّةِ، فَإِذَا بَلَغَ بَابَهَا، فَرَأَى زَهْرَتَهَا وَمَا فِيهَا مِنَ النَّضْرَةِ وَالسُّرُورِ فَيَسْكُتُ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَسْكُتَ، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ أَدْخِلْنِي الْجَنَّةَ فَيَقُولُ اللهُ: وَيْحَكَ يَا ابْنَ آدَمَ مَا أَغْدَرَكَ، أَلَيْسَ قَدْ أَعْطَيْتَ الْعَهْدَ وَالْمِيثَاقَ أَنْ لاَ تَسْأَلَ غَيْرَ الذي أُعْطِيتَ؟ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ لاَ تجعلني أَشْقَى خَلْقِكَ، فَيَضْحَكُ اللهُ - عز وجل - مِنْهُ، ثُمَّ يَأْذَنُ لَهُ في دُخُولِ الْجَنَّةِ فَيَقُولُ: تَمَنَّ، فَيَتَمَنَّى(3/36)
حَتَّى إِذَا انْقَطَعَتْ أُمْنِيَّتُهُ، قَالَ اللهُ - عز وجل -: تَمَنَّ كَذَا وَكَذَا، أَقْبَلَ يُذَكِّرُهُ رَبُّهُ حَتَّى إِذَا انْتَهَتْ بِهِ الأَمَانِيُّ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: لَكَ ذَلِكَ وَمِثْلُهُ مَعَهُ ) (1)، وعند البخاري من حديث أنس - رضي الله عنه - قال: ( قَالَتْ أمي يَا رَسُولَ اللهِ خَادِمُكَ أَنَسٌ ادْعُ اللهَ لَهُ، قَالَ: اللهُمَّ أَكْثِرْ مَالَهُ وَوَلَدَهُ، وَبَارِكْ لَهُ فِيمَا أَعْطَيْتَهُ ) (2)، وعند أحمد من حديث عبد الله الزرقي - رضي الله عنه - قال: ( لَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ وَانْكَفَأَ الْمُشْرِكُونَ قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - : اسْتَوُوا حَتَّى أُثْنِىَ عَلَى رَبِّى، فَصَارُوا خَلْفَهُ صُفُوفاً، فَقَالَ: اللهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ كُلُّهُ، اللهُمَّ لاَ قَابِضَ لِمَا بَسَطْتَ، وَلاَ بَاسِطَ لِمَا قَبَضْتَ، وَلاَ هَادِي لِمَا أَضْلَلْتَ وَلاَ مُضِل لِمَنْ هَدَيْتَ، وَلاَ مُعْطِي لِمَا مَنَعْتَ، وَلاَ مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ وَلاَ مُقَرِّبَ لِمَا بَاعَدْتَ، وَلاَ مُبَاعِدَ لِمَا قَرَّبْتَ .. الحديث ) (3) .
الدعاء باسم الله المعطي دعاء عبادة .
أما دعاء العبادة فهو تعلق القلب بالمتوحد في عطائه، والتعفف عن سؤال غيره أو دعائه، قال - عز وجل -: { لِلْفُقَرَاءِ الذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لا يَسْأَلونَ النَّاسَ إِلْحَافاً وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ } [البقرة:273] .
__________
(1) البخاري في الأذان، باب فضل السجود1/278 (773) .
(2) البخاري في الدعوات، باب الدعاء بكثرة المال والولد مع البركة5/2344 (6017) .
(3) أحمد في المسند 3/424، وصححه الألباني في الأدب المفرد (699) .(3/37)
وقد ورد عند البخاري من حديث الزبير بن العوام - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: ( لأَنْ يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ حَبْلَهُ فَيَأْتِيَ بِحُزْمَةِ الْحَطَبِ عَلَى ظَهْرِهِ، فَيَبِيعَهَا فَيَكُفَّ اللهُ بِهَا وَجْهَهُ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ النَّاسَ أَعْطَوْهُ أَوْ مَنَعُوهُ ) (1) .
كما أن المسلم ينبغي أن يكون معطاء ولا يخشى الفقر روى البخاري من حديث ابن عباس - رضي الله عنه -: ( أن رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ أَجْوَدَ النَّاسِ بِالْخَيْرِ، وَكَانَ أَجْوَدَ مَا يَكُونُ في شَهْرِ رَمَضَانَ، إِنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ كَانَ يَلْقَاهُ في كُلِّ سَنَةٍ في رَمَضَانَ حَتَّى يَنْسَلِخَ فَيَعْرِضُ عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - الْقُرْآنَ، فَإِذَا لَقِيَهُ جِبْرِيلُ كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَجْوَدَ بِالْخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ الْمُرْسَلَة) (2)، وعند أحمد من حديث أنس - رضي الله عنه -: ( أَنَّ رَجُلاً سَأَلَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَأَعْطَاهُ غَنَماً بَيْنَ جَبَلَيْنِ، فَأَتَى قَوْمَهُ فَقَالَ: أي قَوْمِ أَسْلِمُوا فَوَاللهِ إِنَّ مُحَمَّداً لَيُعْطِى عَطَاءَ مَنْ لاَ يَخَافُ الْفَاقَةَ، وَإِنْ كَانَ الرَّجُلُ لَيَجِيءُ إِلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مَا يُرِيدُ إِلاَّ الدُّنْيَا، فَمَا يُمْسِي حَتَّى يَكُونَ اللهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ أَوْ أَعَزَّ عَلَيْهِ مِنَ الدُّنْيَا بِمَا فِيهَا ) (3)، وروى أبو داود وصححه الألباني من حديث مالك بن نضلة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:
__________
(1) البخاري في الزكاة، باب الاستعفاف عن المسألة 2/535 (1402) .
(2) البخاري في فضائل القرآن، باب أجود ما كان النبي S يكون في رمضان 2/672 (1803) .
(3) أحمد في المسند 3/259 (13756)، مشكاة المصابيح (5806) .(3/38)
( الأَيْدِي ثَلاَثَةٌ: فَيَدُ اللهِ الْعُلْيَا، وَيَدُ الْمُعْطِى التي تَلِيهَا، وَيَدُ السَّائِلِ السُّفْلَى؛ فَأَعْطِ الْفَضْلَ وَلاَ تَعْجِزْ عَنْ نَفْسِكَ ) (1) .
وممن تسمى بالتعبد للاسم الفقيه الشافعي عبد المعطي بن محمد بن مهران القومسي سمع من أخيه أبي الحسن عن المنعم بن الخلوف وغيره، واختل في آخر عمره، مات سنة اثنتين وخمسين وست مائة بالإسكندرية (2) .
********************************
85- الله - جل جلاله - المُقِيتُ
********************************
الدليل على ثبوت الاسم وإحصائه .
سمى الله نفسه في كتابه المقيت فقد ورد الاسم مطلقا منونا مقرونا بمعاني العلو والفوقية في موضع واحد من القرآن وهو قوله تعالى: { مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً } [النساء:85]، فالله - عز وجل - من فوق عرشه مقيت له الكمال المطلق في إقاتة خلقه ورزقهم فإذا أضيف إلى الإطلاق اجتماع معاني العلو كان ذلك من جمال الكمال في الاسم والصفة .
شرح الاسم وتفسير معناه .
المقيت اسم فاعل للموصوف بالإقاتة، فعله أقات وأصله قَات يَقُوت قُوتا، والقوت لغة هو ما يمسك الرمق من الرزق، تقول: قات الرجلَ وأقاته أي أعطاه قوته والمصدر القوت، وهو المدخر المحفوظ الذي يقتات منه حين الحاجة، وعند أبي داود وصححه الألباني من حديث عبد الله بن عمرو - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يُضَيِّعَ مَنْ يَقُوتُ ) (3) .
__________
(1) أبو داود في الزكاة، باب الصدقة على بني هاشم 2/123 (1650)، صحيح الجامع (2794) .
(2) لسان الميزان 4/56 .
(3) أخرجه أبو داود في كتاب الزكاة، باب في صلة الرحم2/132 (1692)، وانظر تصحيح الألباني في إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل (989) .(3/39)
والمقيت سبحانه هو المقتدر الذي خلق الأقوات وتكفل بإيصالها إلى الخلق، وهو حفيظ عليها، فيعطي كل مخلوق قوته ورزقه على ما حدده سبحانه من زمان أو مكان أو كم أو كيف وبمقتضى المشيئة والحكمة، فربما يعطي المخلوق قوتا يكفيه لأمد طويل أو قصير كيوم أو شهر أو سنة، وربما يبتليه فلا يحصل عليه إلا بمشقة وكلفة، والله - عز وجل - خلق الأقوات على مختلف الأنواع والألوان ويسر أسباب نفعها للإنسان والحيوان قال تعالى: { وَهُوَ الذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفا أكلهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّان مُتَشَابِها وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كلوا مِنْ ثمَرِهِ إِذَا أَثمَر وَآتُوا حَقهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلا تُسْرِفوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ المسْرِفِينَ } [الأنعام:141]، وكما أنه سبحانه المقيت الذي يوفي كامل الرزق للإنسان والحيوان، فإنه أيضا مقيت القلوب بالمعرفة والإيمان وهو الحافظ لأعمال العباد بلا نقصان ولا نسيان (1) .
قال البيهقي في تفسير الاسم: ( المقيت هو المقتدر فيرجع معناه إلى صفة القدرة وقيل: المقيت الحفيظ، وقيل: هو معطي القوت فيكون من صفات الفعل ) (2) .
دلالة الاسم على أوصاف الله .
__________
(1) انظر تفسير الاسم في شرح أسماء الله الحسنى للرازي ص373، وتفسير الأسماء الحسنى للزجاج ص48 والمقصد الأسنى للغزالي ص102، واشتقاق أسماء الله ص136، وزاد المسير 2/151.
(2) الاعتقاد والهداية إلى سبيل الرشاد ص59، وانظر أيضا النهاية في غريب الحديث 4/118 .(3/40)
اسم الله المقيت يدل على ذات الله وعلى وصف الإقاتة بدلالة المطابقة، وعلى أحدهما بالتضمن، ولم أقف على نص صريح فيه ذكر الوصف، وإن كان الاسم يتضمنه، وورد بالمعنى عند البخاري من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( اللهُمَّ ارْزُقْ آلَ مُحَمَّدٍ قُوتًا ) (1)، وفي رواية مسلم: ( اللهُمَّ اجْعَل رِزْقَ آلِ مُحَمَّدٍ قُوتًا ) (2) .
والاسم يدل باللزوم على الحياة والقيومية والغني والقوة والسيادة والصمدية وغير ذلك من أوصاف الكمال التي دل عليها اسمه الرزاق والمعطي، واسم الله المقيت دل على صفة من صفات الأفعال .
الدعاء باسم الله المقيت دعاء مسألة .
__________
(1) البخاري في الرقاق، باب كيف كان عيش النبي S وأصحابه 5/2372 (6095) .
(2) مسلم في الزهد والرقائق 4/2281 (1055) .(3/41)
لم أجد دعاء المسألة بالاسم المطلق في نص صحيح، وإن كان ما ورد عند مسلم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعا: ( اللهمَّ ارْزُقْ آلَ مُحَمَّدٍ قُوتًا ) (1)، يمكن أن يحمل على الدعاء بالوصف، أما الدعاء بالمعنى فالمقيت هو الذي يعطي كل مخلوق قوته ورزقه على ما حدده من زمان أو مكان أو كم أو كيف وبمقتضى المشيئة والحكمة، قال تعالى عن إبراهيم - عليه السلام -: { رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ المُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَل أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلهُمْ يَشْكُرُونَ } [إبراهيم:37]، وروى ابن ماجة وحسنه الألباني من حديث ابن عباس - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( مَنْ أَطْعَمَهُ اللهُ طَعَامًا فَلْيَقُلِ: اللهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِيهِ وَارْزُقْنَا خَيْرًا مِنْهُ، وَمَنْ سَقَاهُ اللهُ لَبَنًا فَلْيَقُلِ: اللهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِيهِ وَزِدْنَا مِنْهُ فإني لاَ أَعْلَمُ مَا يُجْزِئُ مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ إِلاَّ اللبَنُ ) (2) .
الدعاء باسم الله المقيت دعاء عبادة .
__________
(1) مسلم في باب في الكفاف والقناعة 2/730 (1055) .
(2) ابن ماجة في الأطعمة، باب اللبن 2/1103 (3322)، السلسلة الصحيحة (2320) .(3/42)
أثر الاسم على العبد أن يؤثر بقوته عامة المسلمين ثقة في أن القوت من رب العالمين لاسيما إذا اشتد عليهم الكرب وقلت لديهم سبل الكسب، روى البخاري من حديث أَبِي هريرة - رضي الله عنه -: ( أَنَّ رَجُلاً أَتَي النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - فَبَعَثَ إِلَي نِسَائِهِ فَقُلْنَ: مَا مَعَنَا إِلاَّ الْمَاءُ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : مَنْ يَضُمُّ أَوْ يُضِيفُ هَذَا؟، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ: أَنَا فَانْطَلَقَ بِهِ إِلَي امْرَأَتِهِ، فَقَالَ أَكْرِمِي ضَيْفَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَقَالَتْ: مَا عِنْدَنَا إِلاَّ قُوتُ صِبْيَانِي فَقَالَ: هَيِّئِي طَعَامَكِ، وَأَصْبِحِي سِرَاجَكِ، وَنَوِّمِي صِبْيَانَكِ، إِذَا أَرَادُوا عَشَاءً، فَهَيَّأَتْ طَعَامَهَا وَأَصْبَحَتْ سِرَاجَهَا، وَنَوَّمَتْ صِبْيَانَهَا، ثُمَّ قَامَتْ كَأَنَّهَا تُصْلِحُ سِرَاجَهَا فَأَطْفَأَتْهُ فَجَعَلاَ يُرِيَانِهِ أَنَّهُمَا يَأْكُلاَنِ فَبَاتَا طَاوِيَيْنِ، فَلَمَّا أَصْبَحَ غَدَا إِلَي رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: ضَحِكَ اللهُ الليْلَةَ أَوْ عَجِبَ مِنْ فَعَالِكُمَا، فَأَنْزَلَ اللهُ - سبحانه وتعالى -: { وَيُؤْثِرُونَ عَلَي أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } [الحشر:9] ) (1) .
__________
(1) البخاري في مناقب الأنصار، باب قول الله ويؤثرون على أنفسهم 3/1382 (3587) .(3/43)
وينبغي على المسلم أن يكون طعامه قوتا وسطا لا يجعل يده مغلولة ولا يكون مسرفا جهولا كما قال تعالى: { وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُل الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً } [الإسراء:29]، وعند الترمذي وصححه الألباني من حديث المقدام بن معد يكرب - رضي الله عنه - أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ( مَا مَلأَ آدَمِيٌّ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنٍ، بِحَسْبِ ابْنِ آدَمَ أُكُلاَتٌ يُقِمْنَ صُلْبَهُ، فَإِنْ كَانَ لاَ مَحَالَةَ فَثُلُثٌ لِطَعَامِهِ وَثُلُثٌ لِشَرَابِهِ وَثُلُثٌ لِنَفَسِهِ ) (1) .
وعند البخاري من حديث عبد الرحمن بن عابس عن أبيه قال: ( قُلْتُ لِعَائِشَةَ أَنَهَى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ تُؤْكَلَ لُحُومُ الأَضَاحِيِّ فَوْقَ ثَلاَثٍ؟ قَالَتْ: مَا فَعَلَهُ إِلاَّ في عَامٍ جَاعَ النَّاسُ فِيهِ، فَأَرَادَ أَنْ يُطْعِمَ الْغَنِىُّ الْفَقِيرَ، وَإِنْ كُنَّا لَنَرْفَعُ الْكُرَاعَ فَنَأْكُلُهُ بَعْدَ خَمْسَ عَشْرَةَ، قِيلَ: مَا اضْطَرَّكُمْ إِلَيْهِ، فَضَحِكَتْ، قَالَتْ: مَا شَبِعَ آلُ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ خُبْزِ بُرٍّ مَأْدُومٍ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ حَتَّى لَحِقَ بِاللهِ ) (2) .
__________
(1) الترمذي في الزهد، باب ما جاء في كراهية كثرة الأكل 4/590 (2380)، صحيح الجامع (5674) .
(2) البخاري في الأطعمة، باب ما كان السلف يدخرون في بيوتهم وأسفارهم 5/2068 (5107) .(3/44)
وينبغي أن نفرق بين الحرص على أن يكون طعام الموحد قوتا وبين والتجويع والمبالغة في الزهد، لأن الله أمر بالاقتصاد في كل شيء وبالصبر على الجوع كابتلاء لا حيلة للإنسان فيه، ولم يأمر بتجويع النفس وتعذيب البدن والمبالغة في الترك طلبا للحكمة والمعرفة؛ فالمسلم لا يكثر من الأكل المفوت للخير الكثير، فقد يكون الأكل واجبا بقدر ما تقوم به البنية، ومندوبا بقدر الشبع الشرعي المقوي له على التنفل، وجائز وهو ما فوقه بحيث لا يورث فتورا عن العبادة، فالقوت إنما يكون لقوام البدن لا لتسمينه وانشغاله عن الله فيصير علافا لا عابدا .
ومن جهة التسمية بعبد المقيت فلم أجد بالبحث الحاسوبي أحدا من السلف أو الخلف سمي به في مجال ما أجرينا عليه البحث، وكذلك لم أجده في جميع محركات البحث على الإنترنت، وهنيئا لمن سمى نفسه أو ولده بهذا الاسم فسيكون أول من تعبد لله به فيما أعلم، والله أعلم .
********************************
86- الله - جل جلاله - السَّيدُ
********************************
الدليل على ثبوت الاسم وإحصائه .
ثبت اسم الله السيد في السنة، فقد سماه به النبي - صلى الله عليه وسلم - على سبيل الإطلاق مرادا به العلمية ودالا على الوصفية وكمالها، ففي سنن أبي داود وصححه الشيخ الألباني من حديث عَبْدِ اللهِ بْنِ الشِّخِّيرِ - رضي الله عنه - قالَ: ( انْطَلَقْتُ في وَفْدِ بَنِي عَامِرٍ إِلَى رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فَقُلنا: أَنْتَ سَيِّدُنا، فقَالَ: السَّيِّدُ الله، قُلْنا: وَأَفْضَلُنا فَضْلاً وَأَعْظَمُنَا طَوْلاً، فَقَالَ: قُولُوا بِقَوْلِكم أَوْ بَعْضِ قَوْلِكمُ وَلاَ يَسْتَجْرِيَنَّكمْ الشَّيْطَانُ ) (1)، والمعنى تكلموا بما جئتم من أجله ودعكم من المبالغة في التعظيم والتسييد التي تفتح باب الشيطان .
__________
(1) أبو داود في كتاب الأدب 4/254 (4806)، وانظر صحيح أبي داود 3/912(4021) .(3/45)
وفي المسند من حديث قَتَادَة قال: سَمِعْتُ مُطَرِّفَ بْنَ عَبْدِ اللهِ بْنِ الشِّخِّيرِ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِيهِ - رضي الله عنه - أن رجلا جَاءَ إِلَى النبي - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: ( أنْتَ سَيِّدُ قُرَيْش، فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - : السَّيِّدُ اللهُ، قَالَ: أَنْتَ أَفْضَلُهَا فِيهَا قَوْلاً وَأَعْظَمُهَا فِيهَا طَوْلاً، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : لِيَقُلْ أَحَدُكُمْ بِقَوْلِهِ وَلاَ يَسْتَجِرُّهُ الشَّيْطَانُ ) (1) .
فالحديث يدل دلالة صريحة على إثبات اسم الله السيد، وأن الذي سماه بذلك هو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وليس بعد قول رسول الله تعقيب، لأنه - صلى الله عليه وسلم - يعني السيادة المطلقة التي تتضمن كل أوجه الكمال والجمال، فالسيد إطلاقا هو رب العزة والجلال، ولم ينف - صلى الله عليه وسلم - السيادة المقيدة التي تليق بالمخلوق، أو السيادة النسبية التي تتضمن المفاضلة والتفوق على الآخرين (2) .
شرح الاسم وتفسير معناه .
السيد في اللغة صفة مشبهة للموصوف بالسيادة، أصله من سادَ يَسُودُ فهو سَيْوِد فقلبت الواو ياء لأجْل الياء الساكنة قبلها ثم أدغمت، وقد سادهم سُودا وسِيادة يعني استادهم، والسَّيّد يُطلق على الربِّ والمالِك والشَّرِيف والفاضل والكريم والحليم ومُتَحمِّل أذى قومِه والزَّوج والرئيس والمقدَّم، والسيد على الإطلاق هو الله لأنه مالك الخلق أَجمعين ولا مالك لهم سواه (3) .
__________
(1) أحمد في المسند 4/24 (16349) .
(2) تحفة المودود بأحكام المولود، 1/126، نشر مكتبة دار البيان، دمشق، 1391هـ .
(3) النهاية في غريب الحديث 2/417، ولسان العرب 3/228، والفائق في غريب الحديث 2/207 .(3/46)
والسيد سبحانه وهو الذي حقت له السيادة المطلقة، فالخلق كلهم عبيده وهو ربهم وهو الذي يملك نواصيهم ويتولاهم، وهو المالك الكريم الحليم الذي يتولى أمرهم ويسوسهم إلى صلاحهم (1)، قال ابن القيم: ( وأما وصف الرب تعالى بأنه السيد فذلك وصف لربه على الإطلاق، فإن سيد الخلق هو مالك أمرهم الذي إليه يرجعون وبأمره يعلمون وعن قوله يصدرون، فإذا كانت الملائكة والإنس والجن خلقا له سبحانه وتعالى وملكا له، ليس لهم غنى عنه طرفة عين، وكل رغباتهم إليه، وكل حوائجهم إليه، كان هو سبحانه وتعالى السيد على الحقيقة ) (2)، وقال الآلوسي: ( وإطلاق الصمد بمعنى السيد عليه تعالى مما لا خوف فيه، وإن كان في إطلاق السيد نفسه خلاف والصحيح إطلاقه عليه - عز وجل - كما في الحديث ) (3)، وقال ابن القيم: ( السيد إذا أطلق عليه تعالى فهو بمعنى المالك والمولى والرب لا بالمعنى الذي يطلق على المخلوق ) (4) .
دلالة الاسم على أوصاف الله .
الاسم يدل على ذات الله وعلى صفة السيادة بدلالة المطابقة، وعلى ذات الله وحدها بالتضمن، وعلى الصفة وحدها بالتضمن، ويدل باللزوم على الحياة والقيومية والعزة الأحدية والسمع والبصر والقوة والعلم والمشيئة والقدرة والعدل والحكمة وغير ذلك من أوصاف الكمال، واسم الله السيد دل على صفة من صفات الذات .
الدعاء باسم الله السيد دعاء مسألة .
__________
(1) انظر بدائع الفوائد لابن القيم 3/730، وعون المعبود في شرح سنن أبي داود 13/111، وشرح النووي على صحيح مسلم 15/6، وانظر فتح الباري 5/180 .
(2) تحفة المودود بأحكام المولود لابن القيم ص126 .
(3) روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، لأبي الفضل محمود الألوسي30/274 .
(4) بدائع الفوائد 3/730 .(3/47)
لم أجد دعاء المسألة بالاسم المطلق في نص صحيح، وإن كان الدعاء بمعنى الاسم مما يستشهد به في دعاء المسألة، كالدعاء باسم الله الصمد فإن الصمد يأتي بمعنى السيد الذي كمل سؤدده في كل شيء، ومن ذلك ما رواه النسائي وصححه الألباني من حديث محجن بن الأدرع: ( أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - دَخَلَ المَسْجِدَ إذَا رَجُلٌ قَدْ قَضَى صَلاَتَهُ وَهُوَ يَتَشَهَّدُ، فَقَال: اللهُمَّ إنِّي أَسْأَلُكَ يَا أَللهُ بِأَنَّكَ الوَاحِدُ الأَحَدُ الصَّمَدُ الذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ، أَنْ تَغْفِرَ لِي ذُنُوبِي إنَّكَ أَنْتَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : قَدْ غُفِرَ لَهُ ثَلاَثاً ) (1) .
ومن أدعية السلف المأثورة بالاسم المطلق ما ورد في دعاء الإمام أحمد لما جاءه خادم المأمون وهو يمسح دموعه بطرف ثوبه ويقول: يعز علي أبا عبد الله، إن المأمون قد سل سيفا لم يسله قبل ذلك، وأقسم إن لم تجبه إلى القول بخلق القرآن ليقتلنك بذلك السيف، فجثي الإمام أحمد على ركبتيه ورمق بطرفه إلى السماء، وقال: سيدي غر حلمك هذا الفاجر حتى تجرأ على أولياءك بالضرب والقتل، اللهم فإن لم يكن القرآن كلامك غير مخلوق فاكفنا مؤنته، فجاءهم الصريخ بموت المأمون في الثلث الأخير من الليل (2)، وتلا يحيي بن معاذ الرازي هذه الآية: { اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى } [طه:43/44]، قال: ( إلهي وسيدي، هذا رفقك بمن يزعم أنه إله، فكيف رفقك بمن يقول أنت الإله؟ ) (3) .
الدعاء باسم الله السيد دعاء عبادة .
__________
(1) النسائي في السهو، باب الدعاء بعد الذكر 1/386 (1224)، صحيح أبي داود (869) .
(2) البداية والنهاية 10/332، وحلية الأولياء 9/195.
(3) شعب الإيمان 4/121 .(3/48)
دعاء العبادة باسم الله السيد يتجلى في مولاة العبد لسيده، وطاعته لمن له السيادة المطلقة؛ فمن المعلوم أنه لا بد لكل عبد من سيد مالك، وأي عبد يخالف سيده فإنه آبق، ولما كان كل إنسان يلجأ إلى قوة عليا عند الاضطرار، ويركن إلى غني قوي عند الافتقار فحري بالعبد الموحد أن يلجأ إلى رب العزة والجلال؛ لأن حقيقة الإنسانية مبنية على معنى الخضوع والعبودية، قال تعالى: { إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً } [مريم:93]، ولما كان الإنسان إن لم يكن عبدا لله فسيكون عبدا لسواه، فالعاقل من العبيد يتخير من الأسياد من يملك السيادة المطلقة على الخلائق أجمعين، ومن هنا قال أبو الأنبياء إبراهيم - عليه السلام -: { قَالَ أَفَرَأَيْتُم مَّا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأَقْدَمُونَ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّي إِلا رَبَّ الْعَالَمِينَ الذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ وَالذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ وَالذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ وَالذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ وَاجْعَلْنِي مِن وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ } [الشعراء:75/85] .(3/49)
فالصادق في توحيده للاسم يوحد الله - عز وجل - في عبادته وخوفه، ورجائه ومحبته مع دوام افتقاره وطاعته، والتواضع لله من خشيته، ولنا في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهدايته خير هاد ودليل، وقد تقدم أن رجلا جَاءَ إِلَى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالَ: أنت سيد قريش، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( السَّيِّدُ اللهُ، قَالَ: أَنْتَ أَفْضَلُهَا فِيهَا قَوْلاً، وَأَعْظَمُهَا فِيهَا طَوْلاً، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : لِيَقُلْ أَحَدُكُمْ بِقَوْلِهِ وَلاَ يَسْتَجِرُّهُ الشَّيْطَانُ ) (1)، وما أحسن قول القائل:
رضيت بسيدي عوضا وأنسا من الأشياء لا أبغي سواه
فيا شوقا إلى ملك يراني على ما كنت فيه ولا أراه (2) .
وينبغي تأدبا مع الله وتوحيدا له في اسمه السيد ألا يسمي المسلم نفسه أو ولده بالاسم مستغرقا للإطلاق معرفا، فكثير من المسلمين وقعوا في ذلك وسموا أولادهم باسم الله السيد بدلا من عبد السيد، صحيح أن الأسماء في حقنا تحمل على التخصيص والإضافة وما يليق بالشخص من الوصف، لكن التسمية على إطلاق اللفظ الذي أطلقه الله لنفسه سوء أدب مع الله - عز وجل - .
__________
(1) أحمد في المسند 4/24 (16349)، مشكاة المصابيح (4900) .
(2) حلية الأولياء 10/62 .(3/50)
وقد ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - غير كنية أبي الحكم إلى أبي شرح، فعند أبي داوود وصححه الألباني من حديث شريح بن هانئ: ( أَنَّهُ لَمَّا وَفَدَ إِلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مَعَ قَوْمِهِ سَمِعَهُمْ يَكْنُونَهُ بِأَبِي الْحَكَمِ فَدَعَاهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: إِنَّ اللهَ هُوَ الْحَكَمُ وَإِلَيْهِ الْحُكْمُ فَلِمَ تُكْنَى أَبَا الْحَكَمِ؟ فَقَالَ: إِنَّ قَوْمِي إِذَا اخْتَلَفُوا فِي شَيْءٍ أَتَوْنِي فَحَكَمْتُ بَيْنَهُمْ فَرَضِيَ كِلاَ الْفَرِيقَيْنِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : مَا أَحْسَنَ هَذَا فَمَا لَكَ مِنَ الْوَلَدِ؟ قَالَ: لِي شُرَيْحٌ وَمُسْلِمٌ وَعَبْدُ اللهِ قَالَ: فَمَنْ أَكْبَرُهُمْ؟ قُلْتُ: شُرَيْحٌ، قَالَ: فَأَنْتَ أَبُو شُرَيْحٍ ) (1) .
هل سمي أحد من أهل العلم عبد السيد؟ تسمى به كثير من أهل العلم، منهم أبو القاسم عبد السيد بن عتاب بن محمد بن جعفر الحطاب المقرئ، قرأ القرآن المجيد بالروايات (2)، ومنهم أيضا: أبو نصر عبد السيد بن محمد بن الصباغ الشافعي (ت:477هـ) صاحب كتاب تذكرة العالم والطريق السالم في أصول الفقه (3) .
********************************
87- الله - جل جلاله - الطَّيِّبُ
********************************
الدليل على ثبوت الاسم وإحصائه .
__________
(1) أبو داود في الأدب، باب في تغيير الاسم القبيح 4/289، (4955)، الأدب المفرد (811) .
(2) انظر لسان الميزان لابن حجر4/19، تكملة الإكمال للبغدادي 2/432 .
(3) كشف الظنون لحاجي خليفة 1/389 .(3/51)
اسم الله الطيب لم يرد في القرآن ولكن ورد في السنة مطلقا منونا مرادا به العلمية ودالا على كمال الوصفية، وقد ورد المعنى محمولا عليه مسندا إليه كما في صحيح مسلم من حديث أَبِى هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - أن رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: ( أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ اللهَ طَيِّبٌ لاَ يَقْبَلُ إِلاَّ طَيِّبًا ) (1)، وروى الترمذي وحسنه الألباني من حديث سَعْدِ بْنِ أَبِى وَقَّاصٍ - رضي الله عنه - أن النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( إِنَّ اللهَ طَيِّبٌ يُحِبُّ الطَّيِّبَ نَظِيفٌ يُحِبُّ النَّظَافَةَ كَرِيمٌ يُحِبُّ الْكَرَمَ جَوَادٌ يُحِبُّ الْجُودَ فَنَظِّفُوا أَفْنِيَتَكُمْ وَلاَ تَشَبَّهُوا بِالْيَهُودِ ) (2)، وهذا الحديث ليس أصلا في إثبات الاسم لأنه ضعيف، ولذلك ليس من أسمائه الحسنى النظيف، وإنما الثابت الصحيح في الروايات الأخرى الجميل والجواد، فالأصل في إثبات اسم الله الطيب هو حديث مسلم فتنبه .
شرح الاسم وتفسير معناه .
__________
(1) مسلم في كتاب الزكاة، باب قبول الصدقة من الكسب الطيب وتربيتها 2/703 (1015)، وأحمد في المسند 2/328 (8330) .
(2) الترمذي في الأدب، باب ما جاء في النظافة 5/111( 2799)، وانظر غاية المرام ص89 (113) .(3/52)
الطيب في اللغة على بناء فَعل، فعله طاب يطيب طيبا فما أطيبه، يعني ما أجمله وما أزكاه وما أنفسه، وما أحلاه وما أجوده، والطيب يكون في المحسوسات وغيرها فالطيب من المحسوسات هو ما لذ وزكا من خيار المطعومات والملبوسات في الدنيا والآخرة كما في قوله تعالى: { كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً } [البقرة:168]، وقال تعالى عن طيبات الآخرة: { وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ } [الصف:12] (1)، أما الطيب في غير المحسوسات فهو كالطيب من القول والكلمات أو الباقيات الصالحات كما في قوله تعالى: { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ } [إبراهيم:24].
__________
(1) لسان العرب 1/563، وكتاب العين 7/461، والمغرب 2/29 .(3/53)
والله سبحانه طيب له الكمال في ذاته وأسمائه وصفاته، قال تعالى: { اللّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى } [طه:8]، وقال تعالى: { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } [الشورى:11]، وهو أيضا طيب في أفعاله يفعل الأكمل والأحسن، فهو الذي أتقن كل شيء، وأحسن كل شيء، فالحكيم اسمه والحكمة صفته، وهي بادية في خلقه تشهد لكمال فعله، وتشهد بأنه جميل جليل عليم خبير، قال تعالى: { صُنْعَ اللهِ الذِي أَتْقَنَ كُل شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ } [النمل:88]، وقال: { صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ } [البقرة:138]، وقال: { الذِي أَحْسَنَ كُل شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإنسان مِنْ طِينٍ } [السجدة:7]، والطيب أيضا هو القدوس المنزه عن النقائص والعيوب، قال القاضي عياض: ( الطيب في صفة الله تعالى بمعنى المنزه عن النقائص وهو بمعنى القدوس، وأصل الطيب الزكاة والطهارة والسلامة من الخبث ) (1) .
وهو سبحانه الطيب الذي طيب الدنيا للموحدين فأدركوا الغاية منها، وعلموا أنها وسيلة إلى الآخرة سينتقلون عنها، وطيب الجنة لهم بالخلود فيها فشمروا إليها سواعدهم وضحوا من أجلها بأموالهم وأنفسهم رغبة في القرب من الله (2).
دلالة الاسم على أوصاف الله .
__________
(1) صحيح مسلم بشرح النووي 7/100، وانظر الديباج على صحيح مسلم 3/89 .
(2) انظر حلية الأولياء 10/375 .(3/54)
اسم الله الطيب يدل على ذات الله وعلى وصف الطيبة بدلالة المطابقة، وعلى أحدهما بالتضمن، ولم يرد الوصف في السنة إلا في روايات ضعيفة كما ورد عند أبي داود من حديث ابن عباس - رضي الله عنه - مرفوعا: ( إِنَّ اللهَ لَمْ يَفْرِضِ الزَّكَاةَ إِلاَّ لِيُطَيِّبَ مَا بَقِي مِنْ أَمْوَالِكُمْ، وَإِنَّمَا فَرَضَ المَوَارِيثَ لِتَكُونَ لِمَنْ بَعْدَكُمْ .. الحديث ) (1)، وورد عند البخاري من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( مَنْ تَصَدَّقَ بِعَدْلِ تَمْرَةٍ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ وَلاَ يَقْبَلُ اللهُ إِلاَّ الطَّيِّبَ وَإِنَّ اللهَ يَتَقَبَّلُهَا بِيَمِينِهِ، ثُمَّ يُرَبِّيهَا لِصَاحِبِهِ كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ حَتَّى تَكُونَ مِثْلَ الجَبَلِ ) (2)، وعنده أيضا من حديثه - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( وَلَخَلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللهِ مِنْ رِيحِ المِسْكِ ) (3) .
وقال تعالى: { وَسِيقَ الذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ } [الزمر:73]، وقال: { قُل مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ الله التِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُل هِيَ لِلذِينَ آمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ القِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } [لأعراف:32] .
__________
(1) أبو داود في الزكاة، باب في حقوق المال 2/126 (1664)، وانظر ضعيف الجامع (1643) .
(2) البخاري في الزكاة، باب قول الله تعالى تعرج الملائكة والروح إليه 6/ 2702 (6993) .
(3) البخاري في التوحيد، باب ما يذكر في المسك 5/ 2215 (5583) .(3/55)
واسم الله الطيب يدل باللزوم على الحياة والقيومية، وجميع أنواع الكمال في الصفات الإلهية كالعلم والأحدية والقدرة والصمدية والغنى والعزة والجلال والعظمة، وسائر ما علمنا وما لم نعلم من أسمائه وصفاته، والاسم يدل على صفة من صفات الذات والفعل معا .
الدعاء باسم الله الطيب دعاء مسألة .
ورد دعاء المسألة بالوصف عند مسلم من حديث ابن عباس - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: ( التَّحِيَّاتُ المُبَارَكَاتُ الصَّلَوَاتُ الطَّيِّبَاتُ للهِ السَّلاَمُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ الله وَبَرَكَاتُهُ، السَّلاَمُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ الله الصَّالِحِينَ، أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ الله وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ الله ) (1) .
__________
(1) مسلم في الصلاة، باب التشهد في الصلاة 1/302 (403) .(3/56)
وورد الدعاء بالمقتضى عند أحمد وصححه الألباني من حديث عبد الرحمن بن عايش - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( اللهمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الطَّيِّبَاتِ وَتَرْكَ المُنْكَرَاتِ، وَحُبَّ المَسَاكِينِ وَأَنْ تَتُوبَ عَلَي، وَإِذَا أَرَدْتَ فِتْنَةً في النَّاسِ فَتَوَفَّنِي غَيْرَ مَفْتُونٍ ) (1)، وعند البخاري من حديث أبي أمامة - رضي الله عنه - أن النبي كان إذا رفع مائدته قال: ( الْحَمْدُ للهِ كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ غَيْرَ مَكْفِيٍ وَلاَ مُوَدَّعٍ وَلاَ مُسْتَغْنًي عَنْهُ رَبَّنَا ) (2)، وعند أبي داود وصححه الألباني من حديث رفاعة بن رافع الزرقي - رضي الله عنه - قال: ( كُنَّا يَوْمًا نُصَلِّي وَرَاءَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَلَمَّا رَفَعَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ قَالَ: سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ قَالَ: رَجُلٌ وَرَاءَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : اللهُمَّ رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: مَنِ الْمُتَكَلِّمُ بِهَا آنِفًا، فَقَالَ الرَّجُلُ: أَنَا يَا رَسُولَ اللهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : لَقَدْ رَأَيْتُ بِضْعَةً وَثَلاَثِينَ مَلَكًا يَبْتَدِرُونَهَا أَيُّهُمْ يَكْتُبُهَا أَوَّلَ ) (3)، وعند ابن ماجة وصححه الألباني من حديث أم سلمة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول إذا صلى الصبح حين يسلم: ( اللهُمَّ إني أَسْأَلُكَ عِلْمًا نَافِعًا، وَرِزْقًا طَيِّبًا وَعَمَلاً مُتَقَبَّلاً ) (4)
__________
(1) أحمد في المسند 5/378 (23258)، ظلال الجنة (388) .
(2) البخاري في الأطعمة، باب ما يقول إذا فرغ من طعامه 5/2078 (5142) .
(3) البخاري في الأذان، باب فضل اللهم ربنا ولك الحمد 1/275 (766) .
(4) ابن ماجة في إقامة الصلاة والسنة، باب ما يقال بعد التسليم 1/298 (925)، .(3/57)
.
الدعاء باسم الله الطيب دعاء عبادة .
دعاء العبادة هو توحيد الله في اسمه الطيب، فيتحرى الموحد الحلال الطيب في طعامه وحاجته وفعله وكلمته عملا بقوله تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ } [البقرة:168]، وقوله - عز وجل -: { فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً طَيِّباً وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ } [النحل:114] .
وكذلك فإن المسلم ينفق من أجود ماله وأطيبه فإن الله طيب لا يقبل إلا الطيبات ولا يبخل على نفسه أو أهله بالطيب من المباحات، قال - عز وجل -: { يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ } [البقرة:267]، وقال - عز وجل -: { قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ التِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } [الأعراف:32]، وكذلك يتخير من الزوجات أطيبهن فإن الطيبيين للطيبات قال تعالى: { الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ } [النور:26] .(3/58)
وأطيب أفعال العبد أن يوحد الرب في أسمائه وصفاته وكل ما انفرد به من أفعاله، فإن الله هو أحسن الخالقين الذي أحسن كل شيء خلقه وليس ذلك لأحد غيره، فكيف يدعو غير الله أو يعظم أحدا سواه؟ قال - عز وجل -: { أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ اللهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ } [الصافات:125] .
وممن تسمى عبد الطيب الشيخ الأجل الصدر الرئيس الأصيل المسند نجيب الدين أبي الفرج عبد الطيب بن عبد المنعم بن على الحراني (1) .
********************************
88- الله - جل جلاله - الحَكَمُ
********************************
الدليل على ثبوت الاسم وإحصائه .
اسم الله الحكم ورد في السنة النبوية مطلقا معرفا مسندا إليه المعنى محمولا عليه مرادا به العلمية ودالا على كمال الوصفية، كما ورد في الحديث الذي رواه أبو داود وصححه الألباني من حديث شُرَيْحٍ عَنْ أَبِيهِ هَانِئٍ - رضي الله عنه -: ( أَنَّهُ لَمَّا وَفَدَ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَعَ قَوْمِهِ سَمِعَهُمْ يَكْنُونَهُ بِأَبِي الْحَكَمِ فَدَعَاهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: إِنَّ اللهَ هُوَ الْحَكَمُ وَإِلَيْهِ الْحُكْمُ فَلِمَ تُكْنَى أَبَا الْحَكَمِ؟ فَقَالَ: إِنَّ قَوْمِي إِذَا اخْتَلَفُوا فِي شَيءٍ أَتَوْنِي فَحَكَمْتُ بَيْنَهُمْ فَرَضِي كِلاَ الْفَرِيقَيْنِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : مَا أَحْسَنَ هَذَا، فَمَا لَكَ مِنَ الْوَلَدِ؟ قَالَ: لِي شُرَيْحٌ وَمُسْلِمٌ وَعَبْدُ اللهِ، قَالَ: فَمَنْ أَكْبَرُهُمْ؟ قُلْتُ: شُرَيْحٌ قَالَ: فَأَنْتَ أَبُو شُرَيْحٍ ) (2)، فالنص صريح في إثبات الاسم .
شرح الاسم وتفسير معناه .
__________
(1) المسند المستخرج على صحيح الإمام مسلم لأبي نعيم الأصبهاني 3/337 .
(2) أبو داود في كتاب الأدب 4/289 (4955)، وانظر صحيح أبي داود 3/936 (4145) .(3/59)
الحَكم في اللغة من صيغ المبالغة لاسم الفاعل الحاكم، وهو الذي يحَكم ويفصل ويقضي في سائر الأمور، فعله حكم يحكم حُكْما، والحكم العلم والفقه، قال تعالى: { يَا يَحْيَى خُذِ الكِتَابَ بِقوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الحكمَ صَبِيّا } [مريم:12]، والحكم القضاء بالعدل قال تعالى: { وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ } [النساء:58]، والحَكَم بفتحتين هو الحاكم، وحَكَّمه في ماله تحكيماً إذا جعل إليه الحُكْمَ فيه، واحتكموا إلى الحاكم وتَحَاكمُوا بمعنى واحد قال تعالى: { فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ } [النساء:65]، والمحاكمة هي المخاصمة إلى الحاكم (1) .
والحكم سبحانه هو الذي يحكم في خلقه كما أراد، إما إلزاما لا يرد وإما تكليفا وابتلاء للعباد، فحكمه في خلقه نوعان:
أولا: حكم يتعلق بالتدبير الكوني وهو واقع لا محالة لأنه يتعلق بالمشيئة، ومشيئة الله لا تكون إلا بالمعنى الكوني، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، ومن ثم لا راد لقضائه لا معقب لحكمه ولا غالب لأمره، ومن هذا الحكم ما ورد في قوله تعالى: { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ } [الرعد:41]، وكذلك قوله: { قَال رَبِّ احْكُمْ بِالحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ المُسْتَعَانُ عَلى مَا تَصِفُونَ } [الأنبياء:112]، أي افعل ما تنصر به عبادك وتخذل به أعداءك .
__________
(1) لسان العرب 12/ 140، وكتاب العين 3/66، والمغرب للمطرزي 1/ 218 .(3/60)
ثانيا: حكم يتعلق بالتدبير الشرعي وهو حكم تكليفي ديني يترتب عليه ثواب وعقاب وموقف المكلفين يوم الحساب، ومثاله ما جاء في قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالعُقُودِ أُحِلتْ لكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلا مَا يُتْلى عَليْكُمْ غَيْرَ مُحِلي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ } [المائدة:1]، ومثال الحكم الشرعي أيضا قوله تعالى: { وَمَا اخْتَلفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلى اللهِ } [الشورى:10]، وقوله: { وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللهِ ثُمَّ يَتَوَلوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلكَ وَمَا أُولئِكَ بِالمُؤْمِنِينَ } [المائدة:43] .
قال القرطبي: ( فالحَكَم من له الحكم و، هو تنفيذ القضايا وإمضاء الأوامر والنواهي وذلك بالحقيقة هو الله تعالى، فهذا الاسم يرجع تارة إلى معنى الإرادة، وتارة إلى معنى الكلام، وتارة إلى الفعل، فأما رجوعه إلى الإرادة فإن الله تعالى حكم في الأزل بما اقتضته إرادته ونفذ القضاء في اللوح المحفوظ، يجري القلم فيه على وفاق حكم الله، ثم جرت الأقدار في الوجود بالخير والشر والعرف والنكر على وفاق القضاء والحكم، وإذا كان راجعا إلى معنى الكلام فيكون معناه المبين لعباده في كتابه ما يطالبهم به من أحكامه كما يقال لمن يبين للناس الأحكام وينهج لهم معاني الحلال والحرام حكم، وعلى هذا فلا يكون في الوجود حكم إلا كتابه، فعنده يوقف إذ هو الحكم العدل، وإذا كان راجعا إلى الفعل فيكون معناه الحكم الذي ينفذ أحكامه في عباده بإشقائه إياهم وإسعاده وتقريبه إياهم وإبعاده على وفق مراده ) (1)، وقال ابن القيم في نونيته:
والحكم شرعي وكوني ولا يتلازمان وما هما سيان
بل ذاك يوجد دون هذا مفردا والعكس أيضا ثم يجتمعان
لن يخلو المربوب من إحداهما أو منهما بل ليس ينتفيان
__________
(1) الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى 1/438 .(3/61)
لكنما الشرعي محبوب له أبدا ولن يخلو من الأكوان
هو أمره الديني جاءت رسله بقيامه في سائر الأزمان
لكنما الكوني فهو قضاؤه في خلقه بالعدل والإحسان
هو كله حق وعدل ذو رضا والشأن في المقضي كل الشان (1) .
دلالة الاسم على أوصاف الله .
اسم الله الحكم يدل على ذات الله وعلى وصف الحكم بدلالة المطابقة، وعلى ذات الله وحدها بالتضمن، وعلى الصفة وحدها بالتضمن قال تعالى: { ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ الله وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالحُكْمُ لِلهِ العَلِيِّ الكَبِيرِ } [غافر:12]، وقال - عز وجل -: { قَالَ الذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ الله قَدْ حَكَمَ بَيْنَ العِبَادِ } [غافر:48]، وقال تعالى: { إِنَّ الله يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ } [المائدة:1]، وقال: { وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ الله وَهُوَ خَيْرُ الحَاكِمِينَ } [يونس:109] .
__________
(1) توضيح المقاصد وتصحيح القواعد في شرح قصيدة الإمام ابن القيم 2/218 .(3/62)
وفي صحيح البخاري من حديث سهل بن حنيف أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الحديبية: ( فَعَلَى مَا نُعْطِي الدَّنِيَّةَ في دِينِنَا، أَنَرْجِعُ وَلَمَّا يَحْكُمِ الله بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ .. الحديث ) (1)، وعند مسلم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( مَا مِنْ صَاحِبِ كَنْزٍ لاَ يُؤَدِّي زَكَاتَهُ إِلاَّ أُحْمِىَ عَلَيْهِ في نَارِ جَهَنَّمَ، فَيُجْعَلُ صَفَائِحَ، فَيُكْوَى بِهَا جَنْبَاهُ وَجَبِينُهُ حَتَّى يَحْكُمَ الله بَيْنَ عِبَادِهِ في يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلفَ سَنَةٍ، ثُمَّ يُرَى سَبِيلَهُ، إِمَّا إِلَى الجَنَّةِ، وَإِمَّا إِلَى النَّارِ ) (2) .
والاسم يدل باللزوم على الحياة والقيومية والأولية والآخرية والسمع والبصر والعلم والقدرة والعزة والعظمة والغنى والقوة والعدل والحكمة والإحاطة والخبرة، وغير ذلك من صفات الكمال، واسم الله الحكم دل على صفة من صفات الأفعال .
الدعاء باسم الله الحكم دعاء مسألة .
__________
(1) البخاري في الجزية، باب الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب 2/978 (2581) .
(2) مسلم في الزكاة، باب إثم مانع الزكاة 2/682 (987) .(3/63)
ورد دعاء المسألة في قوله تعالى: { قُلِ اللهمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ عَالِمَ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } [الزمر:46]، وعند مسلم من حديث عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه - قال: ( سَأَلتُ عَائِشَةَ أُمَّ المُؤْمِنِينَ بِأَي شَيءٍ كَانَ نَبِي الله - صلى الله عليه وسلم - يَفْتَتِحُ صَلاَتَهُ إِذَا قَامَ مِنَ الليْلِ؟ قَالَتْ: كَانَ إِذَا قَامَ مِنَ الليْلِ افْتَتَحَ صَلاَتَهُ: اللهمَّ رَبَّ جِبْرَائِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَإِسْرَافِيلَ، فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ، عَالِمَ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ، اهْدِنِي لِمَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِنَ الحَقِّ بِإِذْنِكَ إِنَّكَ تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إِلَي صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ) (1) .
__________
(1) مسلم كتاب صلاة المسافرين، باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه 1/534 (770) .(3/64)
وروى أحمد وصححه الألباني من حديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( مَا أَصَابَ أَحَداً قَطُّ هَمٌّ وَلاَ حَزَنٌ فَقَالَ: اللهُمَّ إِنِّي عَبْدُكَ وَابْنُ عَبْدِكَ وَابْنُ أَمَتِكَ نَاصِيَتِي بِيَدِكَ مَاضٍ فِي حُكْمُكَ عَدْلٌ فِي قَضَاؤُكَ، أَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَكَ سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ، أَوْ عَلمْتَهُ أَحَداً مِنْ خَلْقِكَ أَوْ أَنْزَلْتَهُ فِي كِتَابِكَ، أَوِ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَكَ، أَنْ تَجْعَلَ الْقُرْآنَ رَبِيعَ قَلْبِي وَنُورَ صَدْرِي وَجَلاَءَ حُزْنِي وَذَهَابَ هَمِّي إِلاَّ أَذْهَبَ اللهُ هَمَّهُ وَحُزْنَهُ، وَأَبْدَلَهُ مَكَانَهُ فَرَجاً، قَالَ: فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ: أَلاَ نَتَعَلمُهَا فَقَالَ: بَلَى يَنْبَغِي لِمَنْ سَمِعَهَا أَنْ يَتَعَلمَهَا ) (1) .
وعند البخاري من حديث عبد الله بن عباس - رضي الله عنه - أنه قال: ( كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا قَامَ مِنَ الليْلِ يَتَهَجَّدُ قَالَ: اللهمَّ لَكَ الحَمْدُ أَنْتَ قَيِّمُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ وَلَكَ الحَمْدُ .. اللهمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ، وَبِكَ آمَنْتُ، وَعَلَيْكَ تَوَكَّلتُ وَإِلَيْكَ أَنَبْتُ، وَبِكَ خَاصَمْتُ، وَإِلَيْكَ حَاكَمْتُ، فَاغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ، وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ، أَنْتَ المُقَدِّمُ وَأَنْتَ المُؤَخِّرُ، لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ أَوْ لاَ إِلَهَ غَيْرُكَ ) (2) .
الدعاء باسم الله الحكم دعاء عبادة .
__________
(1) مسند أحمد 1/391 (3712)، السلسلة الصحيحة (199) .
(2) البخاري في التهجد، باب التهجد بالليل 1/377 ( 1069) .(3/65)
أثر الاسم على إيمان العبد ألا يبتغي حكما دون الله في منهج حياته كما قال تعالى في محكم آياته: { إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلهِ أَمَرَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ } [يوسف:40]، وقال عن اليهود: { وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللهِ ثُمَّ يَتَوَلوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ } [المائدة:43]، وقال عن نبيه - صلى الله عليه وسلم - : { أَفَغَيْرَ اللهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً وَالذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ } [الأنعام:114] .(3/66)
وقد خاصم الزبيرَ بن العوام - رضي الله عنه - رجلٌ من الأنصار، اختلفا على قناة الماء التي تروي أرضهما، وكانت أرض الزبير قبل أرضه والماء يمر أولا على نخله، فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يسقي الزبير أرضه ثم يرسل الماء لجاره، فغضب الأنصاري، وادعى أن الحكم محسوبية وأنه - صلى الله عليه وسلم - حكم لصالح الزبير - رضي الله عنه - عصبية من أجل أنه مكي من المهاجرين، فغضب النبي - صلى الله عليه وسلم - وتلون وجهه، وأمر الزبير أن يسق أرضه حتى يغطي الماء أصول نخله ويبلغ في أرضه إلي مقدار الكَعْبَيْنِ ولا عليه من فعل الأنصاري أو قوله، روى البخاري من حديث الزبير: ( أَنَّ رَجُلا مِنَ الأَنْصَارِ خَاصَمَه فِي شِرَاجِ الحَرَّةِ التِي يَسْقُونَ بِهَا النَّخْل فَقَال الأنصاري: سَرِّحِ المَاءَ يَمُرُّ فَأبي عَليْهِ فَاخْتَصَمَا عِنْدَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، فَقَال رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - للزُّبَيْرِ: اسْقِ يَا زُبَيْرُ ثُمَّ أَرْسِل المَاءَ إلي جَارِكَ، فَغَضِبَ الأنصاري وَقَال: أَنْ كَانَ ابْنَ عَمَّتِكَ، فَتَلوَّنَ وَجْهُ رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ثم قَال: اسْقِ يَا زُبَيْرُ ثُمَّ احْبِسِ المَاءَ حتى يَرْجِعَ إلي الجَدْرِ، فاسْتَوْعَى للزُّبَيْرِ حَقَّهُ فِي صَرِيحِ الحُكْمِ، فَقَالَ الزُّبَيْرُ، وَاللهِ إِنِّي لأَحْسِبُ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ: { فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حتى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلمُوا تَسْليمًا } [النساء:65] ) (1) .
__________
(1) البخاري في المساقاة، باب سكر الأنهار2/832 (2231) .(3/67)
وعند مسلم من حديث عبد الرحمن بن أبي بكرة - رضي الله عنه - قال: ( كَتَبَ أَبِي وَكَتَبْتُ لَهُ إِلَي عُبَيْدِ اللهِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ وَهُوَ قَاضٍ بِسِجِسْتَانَ أَنْ لاَ تَحْكُمَ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَأَنْتَ غَضْبَانُ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: لاَ يَحْكُمْ أَحَدٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَهُوَ غَضْبَانُ ) (1).
ومن تعبد لله بالتسمة عبد الحكم بن ذكوان السدوسي البصري من الطبقة السادسة الذين عاصروا صغار التابعين وهو مقبول، وقال: ابن معين لا أعرفه (2) .
********************************
89- الله - جل جلاله - الأكْرَمُ
********************************
الدليل على ثبوت الاسم وإحصائه .
__________
(1) مسلم في الأقضية، باب كراهة قضاء القاضي وهو غضبان 3/1342 (1717) .
(2) تقريب التهذيب ص 332، ولسان الميزان 7/ 275 .(3/68)
سمى الله نفسه الأكرم في القرآن في قوله تعالى: { اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ الذِي عَلمَ بِالْقَلَمِ } [العلق:3]، وقد ورد الاسم في الآية مطلقا معرفا محمولا عليه المعنى مسندا إليه مرادا به العلمية ودالا على كمال الوصفية، وعند البخاري من حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت: ( .. فَجَاءَهُ الْمَلَكُ فَقَالَ: اقْرَأْ، قَالَ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ، قَالَ: فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي حتى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ: اقْرَأْ، قُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ، فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّانِيَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ: اقْرَأْ، قُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّالِثَةَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ: { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الذِي خَلَقَ خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ } فَرَجَعَ بِهَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَرْجُفُ فُؤَادُهُ فَدَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ رضي الله عنها فَقَالَ: زَمِّلُونِي، زَمِّلُونِي ) (1) .
شرح الاسم وتفسير معناه .
الأكرم اسم دل على المفاضلة في الكرم، فعله كرم يكرم كرما، والأكرم هو الأحسن والأنفس والأوسع، والأعظم والأشرف، والأعلى من غيره في كل وصف كمال، قال تعالى: { إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ } [الحجرات:13] (2) .
__________
(1) البخاري في كتاب بدء الوحي، باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله S 1/4 (3) .
(2) لسان العرب 12/510، والمفردات ص707.(3/69)
والأكرم سبحانه هو الذي لا يوازيه كرم ولا يعادله في كرمه نظير، وقد يكون الأكرم بمعنى الكريم، لكن الفرق بين الكريم والأكرم أن الكريم دل على الصفة الذاتية والفعلية معا كدلالته على معاني الحسب والعظمة والسعة والعزة والعلو والرفعة وغير ذلك من صفات الذات، وأيضا دل على صفات الفعل فهو الذي يصفح عن الذنوب، ولا يمن إذا أعطى فيكدر العطية بالمن، وهو الذي تعددت نعمه على عباده بحيث لا تحصى وهذا كمال وجمال في الكرم، أما الأكرم فهو المنفرد بكل ما سبق في أنواع الكرم الذاتي والفعلي، فهو سبحانه أكرم الأكرمين له العلو المطلق على خلقه في عظمة الوصف وحسنه، ومن ثم له جلال الشأن في كرمه وهو جمال الكمال وكمال الجمال (1) .
__________
(1) انظر الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى 1/112، 1/131 .(3/70)
والله عز وجل لا كرم يسموا إلى كرمه، ولا إنعام يرقى إلى إنعامه، ولا عطاء يوازي عطاءه، له علو الشأن في كرمه، يعطى ما يشاء لمن يشاء كيف يشاء بسؤال وغير سؤال، وهو يعفو عن الذنوب، ويستر العيوب، ويجازي المؤمنين بفضله، ويمهل المعرضين ويحاسبهم بعدله، فما أكرمه، وما أرحمه، وما أعظمه (1)، وحسبنا ما جاء في قوله: { وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوهَا } [النحل:18]، وقال: { وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ } [الضحى:11]، وعند البخاري من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( يَنْزِلُ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى كُل لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ الليْلِ الآخِرُ يَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ ) (2).
دلالة الاسم على أوصاف الله .
اسم الله الأكرم يدل بالمطابقة والتضمن واللزوم على ما دل عليه اسمه الكريم غير أن اسمه الأكرم يدل مع وصف الكرم على التفرد بعلو الشأن فيه وسموه على كل كرم، فهو المنفرد المتوحد بأنواع الكرم الذاتي والفعلي، وله العلو المطلق على خلقه في عظمة الوصف وحسنه فالاسم دل جمال الكمال وكمال الجمال، والاسمان يدلان على صفات ذات وفعل .
الدعاء باسم الله الأكرم دعاء مسألة .
__________
(1) انظر شرح أسماء الله الحسنى للرازي ص278، وتفسير الأسماء الحسنى للزجاج ص50، والمقصد الأسنى للغزالي ص105، والبيهقي ص73، والمفردات ص707 .
(2) البخاري في كتاب التهجد، باب الدعاء والصلاة من آخر الليل 1/384 (1094) .(3/71)
ورد الدعاء بالاسم المطلق عند البيهقي في أصح الروايات عن ابن مسعود - رضي الله عنه - أنه كان يدعو في السعي: ( اللهمَّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ الأَعَزُّ الأَكْرَمُ ) (1)، وفي رواية: ( اللهمَّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَاعْفُ عَمَّا تَعْلَمُ وَأَنْتَ الأَعَزُّ الأَكْرَمُ، اللهمَّ آتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِى الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ) (2)، وقال الألباني: ( وإن دعا في السعي بقوله: رب اغفر وارحم إنك أنت الأعز الأكرم فلا بأس لثبوته عن جمع من السلف ) (3) .
ومما ورد في الدعاء بالوصف ما رواه مسلم من حديث عوف بن مالك - رضي الله عنه - أنه قال: ( سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي عَلَى مَيِّتٍ فَسَمِعْتُ مِنْ دُعَائِهِ وَهُوَ يَقُولُ: اللهُمَّ اغفِرْ لَهُ وَارْحَمْهُ وَعَافِهِ وَاعْفُ عَنْهُ وَأَكرِمْ نُزُلَهُ، وَأَوْسِعْ مُدْخَلهُ، وَاغسِلهُ بِالْمَاءِ وَالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ، وَنَقّهِ مِنَ الْخَطَايَا كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الأَبْيَضُ مِنَ الدَّنَسِ ) (4)، وروى البخاري من حديث أنس - رضي الله عنه - قال: ( كَانَتِ الأَنْصَارُ يَوْمَ الْخَنْدَقِ تَقُولُ: نَحْنُ الذِينَ بَايَعُوا مُحَمَّدَا عَلَى الْجِهَادِ مَا حَيِينَا أَبَدَا فَأَجَابَهُمُ النبي - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ اللهُمَّ لاَ عَيْشَ إِلاَّ عَيْشُ الآخِرَهْ فَأَكْرِمِ الأَنْصَارَ وَالْمُهَاجِرَهْ ) (5) .
الدعاء باسم الله الأكرم دعاء عبادة .
__________
(1) البيهقي في السنن كتاب الحج، باب الخروج إلى الصفا والمروة 5/95 (9134) .
(2) الموضع السابق، باب القول في الطواف 5/84 (9070) .
(3) مناسك الحج والعمرة في الكتاب والسنة وآثار السلف وسرد ما ألحق الناس بها من البدع ص26 .
(4) مسلم في الجنائز، باب الدعاء للميت في الصلاة 2/662(963) .
(5) البخاري في الجهاد، باب البيعة في الحرب أن لا يفروا 3/1081 (2801) .(3/72)
دعاء العبادة أن يُظهر العبد آثار النعمة توحيدا لله في اسمه الأكرم، روى أبو داود وصححه الألباني من حديث أبي الأحوص عن أبيه - رضي الله عنه - أنه أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - في ثوب دون فقال: ( أَلَكَ مَالٌ؟ قَالَ: نَعَم؟ قَالَ: مِنْ أَيِّ الْمَالِ؟ قَالَ: قَدْ أَتَانِيَ اللهُ مِنَ الإِبِلِ وَالْغَنَمِ وَالْخَيْلِ وَالرَّقِيقِ، قَالَ: فَإِذَا أَتَاكَ اللهُ مَالاً فَلْيُرَ أَثَرُ نِعْمَةِ اللهِ عَلَيْكَ وَكَرَامَتِهِ ) (1) .
وروى البيهقي وحسنه الشيخ الألباني من حديث عبد الله بن عمر - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( إِذَا أَتَاكُمْ كَرِيمُ قَوْمٍ فَأَكْرِمُوهُ ) (2)، وعند البخاري من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: ( قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَنْ أَكْرَمُ النَّاسِ؟ قَالَ: أَتْقَاهُمْ، فَقَالُوا: لَيْسَ عَنْ هَذَا نَسْأَلُكَ، قَالَ: فَيُوسُفُ نَبِي اللهِ ابْنُ نَبِي اللهِ ابْنِ نَبِي اللهِ ابْنِ خَلِيلِ اللهِ، قَالُوا: لَيْسَ عَنْ هَذَا نَسْأَلُكَ، قَالَ: فَعَنْ مَعَادِنِ الْعَرَبِ تَسْأَلُونَ؟ خِيَارُهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارُهُمْ فِي الإِسْلاَمِ إِذَا فَقُهُوا ) (3) .
ومن دعاء العبادة أن يدرك المسلم أن الإكرام الحقيقي هو إكرام الله للعبد بالتوفيق للطاعة واليقين والإيمان قال تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ } [الحجرات:13] .
__________
(1) أبو داود في كتاب اللباس، باب في غسل الثوب 4/51 (4063)، مشكاة المصابيح (4352) .
(2) البيهقي في قتال أهل البغي، باب ما على السلطان من إكرام وجوه 8/168.
(3) البخاري في أحاديث الأنبياء، باب قول الله تعالى واتخذ الله إبراهيم خليلا 3/1224 (3175) .(3/73)
أما الإكرام بالنعمة فهي ابتلاء تستوجب الشكر والطاعة، وليس كما يظن البعض أنها دليل رضا ومحبة، قال تعالى: { فَأَمَّا الإنسان إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَن كَلا بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ وَلا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلاً لمّاً وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبّاً جَمّاً } [الفجر:17]، وعند مسلم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( فَيَلْقَى الْعَبْدَ فَيَقُولُ أي فُلْ: أَلَمْ أُكْرِمْكَ وَأُسَوِّدْكَ وَأُزَوِّجْكَ وَأُسَخِّرْ لَكَ الْخَيْلَ وَالإِبِلَ وَأَذَرْكَ تَرْأَسُ وَتَرْبَعُ؟ فَيَقُولُ: بَلَى، قَالَ فَيَقُولُ: أَفَظَنَنْتَ أَنَّكَ مُلاَقِىَّ؟ فَيَقُولُ: لاَ، فَيَقُولُ: فَإِنِّي أَنْسَاكَ كَمَا نَسِيتَنِي ) (1) .
ومن جهة التسمية والتعبد لهذا الاسم فقد تسمى به عبد الأكرم بن أبى حنيفة الكوفي ممن عاصروا صغار التابعين، وهو شيخ مقبول كما هي مرتبته عند ابن حجر وشيخ مستور عند الذهبي (2) .
********************************
90- الله - جل جلاله - البَرٌّ
********************************
الدليل على ثبوت الاسم وإحصائه .
__________
(1) مسلم في الزهد والرقائق 4/2279 (2968) .
(2) الجرح والتعديل لابن أبي حاتم 6/30 (158) .(3/74)
ورد الاسم في القرآن الكريم مطلقا يفيد المدح والثاء على الله بنفسه معرفا محمولا عليه المعنى مسندا إليه مرادا به العلمية ودالا على كمال الوصفية في قوله تعالى: { إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ } [الطور:28]، ولم يرد الاسم في السنة إلا في حديث سرد الأسماء عند الترمذي وابن ماجة، وهذه الأسماء مدرجة في الأحاديث وتعيينها ليس من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - باتفاق أهل المعرفة بحديثه، وعلى ذلك لا يصلح الحديث للاحتجاج به على ثبوت اسم الله البر، وإن كانت الآية كافية شافية في إثبات الاسم وإحصائه .
شرح الاسم وتفسير معناه .
الَبرُّ اسم فاعل للموصوف بالبر، فعله بَرَّ يَبَرُّ فهو بارُّ، وجمعه بَرَرَة , والبِرُّ هو الإحسان، والبر في حق الوالدين والأقربِينَ من الأهل ضدّ العُقوق، وهو الإساءة إليهم والتَّضْييع لحقهم (1)، والبَرُّ والبارّ بمعنى واحد , لكن الذي ثبت في أسماء الله تعالى البَرُّ دُون البارّ والأسماء كما علمنا توقيفية على النص .
__________
(1) لسان العرب 4/51، والمغرب للمطرزي 1/69 .(3/75)
والبر سبحانه هو العَطوف على عبادة ببِرة ولطفه، فهو أهل البر والعطاء يحسن إلى عباده في الأرض والسماء، روى البخاري من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: ( قَالَ اللهُ - عز وجل -: أَنْفِقْ أُنْفِقْ عَلَيْكَ، وَقَالَ: يَدُ اللهِ مَلأَى لاَ تَغِيضُهَا نَفَقَةٌ سَحَّاءُ الليْلَ وَالنَّهَارَ، وَقَالَ: أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْفَقَ مُنْذُ خَلَقَ السَّمَاءَ وَالأَرْضَ فَإِنَّهُ لَمْ يَغِضْ مَا فِي يَدِهِ، وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ، وَبِيَدِهِ الْمِيزَانُ يَخْفِضُ وَيَرْفَعُ ) (1)، كما أن البر - عز وجل - هو الصادق في وعده الذي يتجاوز عن عبده وينصره ويحميه، ويقبل القليل منه وينميه، وهو المحسن إلى عبادِهِ الذي عَمَّ بِرُّهُ وإحسانُه جميعَ خلقِهِ فما منهم من أحد إلا وتكفل الله برزقه (2)، قال أبو السعود: ( البر المحسن الرحيم الكثير الرحمة الذي إذا عبد أثاب وإذا سئل أجاب ) (3) .
دلالة الاسم على أوصاف الله .
__________
(1) البخاري في التفسير، باب قوله وكان عرشه على الماء 4/1724 (4407) .
(2) انظر تفسير البغوي 4/240، وشرح أسماء الله الحسنى للرازي ص335، وفتح القدير 5/100، وتفسير الأسماء الحسنى للزجاج ص61، والأسنى في شرح أسماء الله الحسنى للقرطبي 1/333، وزاد المسير لابن الجوزي 8/53، والمقصد الأسنى للغزالي ص123 .
(3) تفسير أبي السعود 8/150، وانظر أيضا تفسير النسفي 4/185 .(3/76)
اسم الله البر يدل على ذات الله وعلى صفة البر والإبرار بدلالة المطابقة، وعلى أحدهما بالتضمن، وقد ورد الوصف عند البخاري من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( إِنَّ مِنْ عِبَادِ الله مَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى الله لأَبَرَّهُ ) (1)، والاسم يدل باللزوم على الحياة والقيومية والعلم والأحدية والقدرة والصمدية والسمع والبصر والحكمة والغنى والقوة والرحمة والود واللطف والرفق والكرم والرأفة والبسط، وغير ذلك من صفات الكمال، واسم الله البر دل على صفة من صفات الأفعال .
الدعاء باسم الله البر دعاء مسألة .
ورد الدعاء بالاسم المطلق في قوله تعالى: { إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ } [الطور:28]، ويمكن أن يسشهد بما رواه ابن أبي شيبة من حديث مسروق عن عائشة رضي الله عنها: ( أنها مرت بهذه الآية: { فَمَنَّ اللهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ } [الطور:27]، فقالت: اللهم من علينا وقنا عذاب السموم إنك أنت البر الرحيم، فقيل للأعمش: في الصلاة؟ فقال: في الصلاة ) (2) .
__________
(1) البخاري في الصلح، باب الصلح في الدية 2/961 (2556) .
(2) المصنف في الأحاديث والآثار، باب في الرجل يصلي فيمر بآية رحمة أو آية عذاب 2/25 (6036) .(3/77)
وروى ابن ماجة وضعفه الألباني في دعاء عائشة رضي الله عنها: ( اللهُمَّ إني أَدْعُوكَ اللهَ وَأَدْعُوكَ الرَّحْمَنَ وَأَدْعُوكَ الْبَرَّ الرَّحِيمَ، وَأَدْعُوكَ بِأَسْمَائِكَ الْحُسْنَى كُلِّهَا مَا عَلِمْتُ مِنْهَا وَمَا لَمْ أَعْلَمْ أَنْ تَغْفِرَ لي وَتَرْحَمَنِي ) (1)، وروي عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أنه كان يقول: ( صلوات الله البر الرحيم والملائكة المقربين والنبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وما سبح لك من شيء يا رب العالمين على محمد بن عبد الله خاتم النبيين وإمام المتقين ) (2) .
ومن الدعاء بالمقتضى ما ورد عند مسلم من حديث ابن عمر - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا استوى على بعيره خارجا إلى سفر كبر ثلاثا ثم قال: ( سُبْحَانَ الذي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ، اللهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ في سَفَرِنَا هَذَا الْبِرَّ وَالتَّقْوَى وَمِنَ الْعَمَلِ مَا تَرْضَى، اللهُمَّ هَوِّنْ عَلَيْنَا سَفَرَنَا هَذَا .. الحديث ) (3)، فالبر هو أهل البر والعطاء الذي يحسن إلى عباده ببره في الأرض والسماء، والرسول - صلى الله عليه وسلم - سأل الله بمقتضى الاسم وأن يبره في سفره بعطائه، وأن يعينه على وعثائه .
الدعاء باسم الله البر دعاء عبادة .
__________
(1) ابن ماجة في الدعاء، باب اسم الله الأعظم 2/1268(3859)، ضعيف الترغيب والترهيب (1022) .
(2) صفة صلاة النبي S من التكبير إلى التسليم كأنك تراها للعلامة محمد ناصر الدين الألباني ص 173.
(3) مسلم في الحج، باب ما يقول إذا ركب إلى سفر الحج وغيره 2/978 (1342)، ومعنى تَضَوَّر: تلوى وتتقلَّبُ ظهراً لِبَطْنٍ من شِدَّة الحمى والألم، النهاية في غريب الحديث 3/105 .(3/78)
توحيد الله في الاسم يوجب على العبد أن يراعي في تعامله مع ربه الحرص على أنواع البر؛ فيفعل الخيرات ويجتنب المنكرات، ولا يجعل همه فيما لا يعود عليه وعلى الآخرين بالنفع، قال تعالى: { لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ } [البقرة:177]، وكذلك يتعامل مع الآخرين بحسن الخلق وصفاء النية وهذا من أعظم البر، روى مسلم من حديث النواس - رضي الله عنه - أنه قال: ( سألت رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عن البر والإثم، فقال: الْبِرُّ حُسْنُ الْخُلُقِ وَالإِثْمُ مَا حَاكَ فِي صَدْرِكَ وَكَرِهْتَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ ) (1) .
ومن أعظم البر أيضا بر الوالدين كما قال تعالى عن يحيا - عليه السلام -: { وَبَرّاً بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيّاً } [مريم:14]، وعند البخاري من حديث أَبِى هريرة - رضي الله عنه - قال: ( جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ مَنْ أَحَقُّ بِحُسْنِ صَحَابَتِي؟ قَالَ: أُمُّكَ قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: أُمُّكَ، قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: أُمُّكَ، قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: ثُمَّ أَبُوكَ ) (2) .
__________
(1) مسلم في البر والصلة والأدب، باب تفسير البر والإثم 4/1980 (2553) .
(2) البخاري في كتاب الأدب، باب من أحق الناس بحسن الصحبة 5/2227 (5626) .(3/79)
ومن البر الإحسان إلى الأبناء في تربيتهم وفي أسمائهم، روى مسلم من حديث محمد بن عمرو أنه قال: ( سَمَّيْتُ ابْنَتِي بَرَّةَ فَقَالَتْ لِي زَيْنَبُ بِنْتُ أَبِى سَلَمَةَ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عَنْ هَذَا الاِسْمِ، وَسُمِّيتُ بَرَّةَ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : لاَ تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمُ اللهُ أَعْلَمُ بِأَهْلِ الْبِرِّ مِنْكُمْ فَقَالُوا بِمَ نُسَمِّيهَا قَالَ: سَمُّوهَا زَيْنَبَ ) (1) .
وبخصوص التسمية بعبد البر فقد تسمى به عبد البر بن الحافظ أبي العلاء الهمداني تغير بعد سنة ست عشرة وست مائة، وقيل أنه ناب إليه عقله قبل موته بقليل، وإنه توفي سنة أربع وعشرين وست مائة (2) .
********************************
91- الله - جل جلاله - الغَفَّارُ
********************************
الدليل على ثبوت الاسم وإحصائه .
سمى الله نفسه به على سبيل الإطلاق مرادا به العلمية ودالا على كمال الوصفية محمولا عليه المعنى مسندا إليه مقرونا باسم الله العزيز في ثلاثة مواضع من القرآن، كما في قوله تعالى: { رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ } [ص:66]، وورد مطلقا منونا في قوله تعالى: { فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارا } [نوح:10]، وفي الجامع الصغير للسيوطي وصححه الألباني من حديث عائشة رضي الله عنها: ( أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا تضور من الليل ـ تقلب وتلوى من شدة الألم ـ قال: لا إله إلا الله الواحد القهار رب السماوات والأرض وما بينهما العزيز الغفار ) (3) .
شرح الاسم وتفسير معناه .
__________
(1) مسلم في كتاب الأدب، باب استحباب تغيير الاسم القبيح إلى حسن 3/1687 (2142) .
(2) لسان الميزان 3/385 (1538) .
(3) تقدم تخريجه ص 384 .(3/80)
الغفار في اللغة من صيغ المبالغة على وزن فعال كثير المغفرة، فعله غفر يغفر غفرا ومغفرة، وأَصل الغَفرِ التغطية والستر، وقد تقدم الحديث عن المعنى اللغوي في تفسير اسم الله الغفور (1) .
والغفار سبحانه هو الذي يستر الذنوب بفضله ويتجاوز عن عبده بعفوه، وطالما أن العبد موحد فذنوبه تحت مشيئة الله وحكمه، فقد يدخله الجنة ابتداء، وقد يطهره من ذنبه، والغفور والغفار قريبان في المعنى فهما من صيغ المبالغة في الفعل، وقيل الغفار أبلغ من الغفور، فالغفور هو من يغفر الذنوب العظام، والغفار هو من يغفر الذنوب الكثيرة، غفور للكيف في الذنب وغفار للكم فيه (2) .
وقد يكون ثم فروق لم تظهر حتى الآن مما يظهر إعجاز القرآن فيما يستقبل من الزمان كما هو الحال في الإعجاز العددي لحساب الحروف والجمل، فإنها أمور تزيد العقل عجزا في تصور عظمة القرآن، وأمور أخرى تبين أن اسم الله الغفار على وزن فعال له موضعه المحسوب بدقة في كتاب الله، وأن اسم الله الغفور على وزن فعول له أيضا موضعه .
وأيا كان الفرق فإن الغفار يدل على المبالغة في الكثرة، والله - عز وجل - وضع نظاما دقيقا لملائكته في تدوين الأجر الموضوع على العمل، فهي تسجل ما يدور في منطقة حديث النفس دون وضع ثواب أو عقاب لقوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث: ( إِنَّ اللهَ تَجَاوَزَ لِي عَنْ أُمَّتي مَا وَسْوَسَتْ بِهِ صُدُورُهَا مَا لَمْ تَعْمَلْ أَوْ تَكَلمْ ) (3) .
__________
(1) النهاية في غريب الحديث لابن الأثير 3/373، ومجمع البحرين للطريحي 3/321 .
(2) انظر شرح أسماء الله الحسنى للرازي ص220، والأسنى في شرح أسماء الله الحسنى للقرطبي 1/156 والمقصد الأسنى للغزالي ص95.
(3) البخاري في العتق، باب الخطأ والنسيان في العتاقة والطلاق ونحوه2/894 (2391) .(3/81)
وهذا يتطلب استغفارا عاما لمحو خواطر الشر النابعة من هوى النفس، ويتطلب استعاذة لمحو خواطر الشر النابعة من لمة الشيطان، كما أنها تسجل ما يدور في منطقة الكسب مع وضع الثواب والعقاب، وهي تسجل فعل الإنسان المحدد بالزمان والمكان ثم تضع الجزاء المناسب بالحسنات والسيئات في مقابل العمل، فإذا تاب العبد من الذنب محيت سيئاته وزالت وغفرت بأثر رجعي، وبدلت السيئات حسنات كما قال: { إِلا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِل عَمَلاً صَالحاً فَأُولئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيما } [الفرقان:70]، وتلك هي المبالغة في المغفرة أن الوزر يقابله بالتوبة الصادقة حسنات، فالله - عز وجل - غفار كثير المغفرة لم يزل ولا يزال بالعفو معروفا، وبالغفران والصفح عن عباده موصوفا، وكل مضطر إلى عفوه ومغفرته كما هو مضطر إلى رحمته وكرمه، وقد وعد عباده بالمغفرة والعفو لمن أتى منهم بأسبابها فقال: { وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى } [طه:82] (1) .
دلالة الاسم على أوصاف الله .
اسم الله الغفار يدل بالمطابقة والتضمن واللزوم على ما دل عليه اسمه الغفور غير أن الغفار مبالغة في الدلالة على الوصف، لأنه من جهة الاشتقاق اللغوي للأسماء فإن وزن فعَّال أدل على المبالغة من فَعُول، كما أن وزن فعَّال مرتبط بمعنى التكرار والوقوع وقتا بعد وقت، أما فعول فيدل على قوة الوصف وثباته، ولذلك قيل: إن الغفور هو من يغفر الذنوب العظام، والغفار هو من يغفر الذنوب الكثيرة، غفور للكيف في الذنب وغفار للكم فيه، والاسمان يدلان على صفة من صفات الأفعال .
الدعاء باسم الله الغفار دعاء مسألة .
__________
(1) تيسير الكريم الرحمن للسعدي 5/300 .(3/82)
ورد الدعاء بالاسم المطلق في حديث عائشة رضي الله عنها الذي تقدم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا تضور من الليل دعا: ( لا إله إلا الله الواحد القهار رب السماوات والأرض وما بينهما العزيز الغفار )، وبالنظر إلى أن الغفار سبحانه هو كثير المغفرة باعتبار الكم وكثرة المغفرة في الجزء وتعدد النوع والفرد؛ فأغلب الشواهد التي سنذكرها في دعاء المسألة فيها تخصيص المغفرة لفرد بعينه، أما الشواهد التي فيها ذكر المغفرة لنوع ما أو كيف ما أو على الجملة فيستشهد بها في اسم الله الغفور، ومن الدعاء بالوصف ما رواه أحمد وصححه الألباني من حديث ضمرة بن ثعلبة - رضي الله عنه - أنه أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - وعليه حلتان من حلل اليمن فقال له: ( يَا ضَمْرَةُ، أَتَرَى ثَوْبَيْكَ هَذَيْنِ مُدْخِلِيكَ الْجَنَّةَ؟ فَقَالَ: لَئِنِ اسْتَغْفَرْتَ لِي يَا رَسُولَ اللهِ لاَ أَقْعُدُ حَتَّى أَنْزِعَهُمَا عَنِّي فَقَالَ النبي - صلى الله عليه وسلم - : اللهُمَّ اغْفِرْ لِضَمْرَةَ بْنِ ثَعْلَبَةَ فَانْطَلَقَ سَرِيعاً حَتَّى نَزَعَهُمَا عَنْهُ ) (1)، وعند الطبراني وصححه الشيخ الألباني من حديث شداد بن أوس - رضي الله عنه - قال: ( قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : يا شداد بن أوس، إذا رأيت الناس قد اكتنزوا الذهب والفضة فاكنز هؤلاء الكلمات: اللهم إني أسألك الثبات في الأمر والعزيمة على الرشد، وأسألك موجبات رحمتك وعزائم مغفرتك، وأسألك شكر نعمتك وحسن عبادتك، وأسألك قلبا سليما ولسانا صادقا، وأسألك من خير ما تعلم، وأعوذ بك من شر ما تعلم، وأستغفرك لما تعلم إنك أنت علام الغيوب ) (2) .
__________
(1) مسند أحمد 4/338، السلسلة الصحيحة (3018) .
(2) المعجم الكبير 7/ 279 (7135)، السلسلة الصحيحة (3228) .(3/83)
وروى النسائي وصححه الألباني من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: ( فَقَدْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ مَضْجَعِهِ، فَجَعَلْتُ أَلْتَمِسُهُ، وَظَنَنْتُ أَنَّهُ أَتَى بَعْضَ جَوَارِيهِ، فَوَقَعَتْ يَدِي عَلَيْهِ وَهُوَ سَاجِدٌ، وَهُوَ يَقُولُ: اللهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ ) (1) .
وعند مسلم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( صَلاَةُ الرَّجُلِ في جَمَاعَةٍ تَزِيدُ عَلَى صَلاَتِهِ في بَيْتِهِ وَصَلاَتِهِ في سُوقِهِ بِضْعًا وَعِشْرِينَ دَرَجَةً، وَذَلِكَ أَنَّ أَحَدَهُمْ إِذَا تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ، ثُمَّ أَتَى الْمَسْجِدَ لاَ يَنْهَزُهُ إِلاَّ الصَّلاَةُ لاَ يُرِيدُ إِلاَّ الصَّلاَةَ، فَلَمْ يَخْطُ خَطْوَةً إِلاَّ رُفِعَ لَهُ بِهَا دَرَجَةٌ وَحُطَّ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةٌ حَتَّى يَدْخُلَ الْمَسْجِدَ، فَإِذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ كَانَ في الصَّلاَةِ مَا كَانَتِ الصَّلاَةُ هِي تَحْبِسُهُ، وَالْمَلاَئِكَةُ يُصَلُّونَ عَلَى أَحَدِكُمْ مَا دَامَ في مَجْلِسِهِ الذِي صَلى فِيهِ يَقُولُونَ: اللهُمَّ ارْحَمْهُ اللهُمَّ اغْفِرْ لَهُ اللهُمَّ تُبْ عَلَيْهِ مَا لَمْ يُؤْذِ فِيهِ مَا لَمْ يُحْدِثْ فِيهِ ) (2) .
__________
(1) النسائي في كتاب التطبيق 2/220 (1124)، وصححه الألباني في صفة الصلاة .
(2) مسلم في المساجد، باب فضل صلاة الجماعة وانتظار الصلاة 1/459 (649) .(3/84)
وورد عند البخاري من حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت: ( كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ: سُبْحَانَكَ اللهمَّ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ اللهمَّ اغْفِرْ لِي، يَتَأَوَّلُ الْقُرْآنَ ) (1)، وعند مسلم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول في سجوده: ( اللهُمَّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي كُلهُ دِقَّهُ وَجِلهُ وَأَوَّلَهُ وَآخِرَهُ وَعَلاَنِيَتَهُ وَسِرَّهُ ) (2) .
وروى أبو داود وصححه الألباني من حديث عبيد بن خالد السلمي - رضي الله عنه - قال: ( آخَى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بَيْنَ رَجُلَيْنِ، فَقُتِلَ أَحَدُهُمَا وَمَاتَ الآخَرُ بَعْدَهُ بِجُمُعَةٍ أَوْ نَحْوِهَا، فَصَليْنَا عَلَيْهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : مَا قُلْتُمْ؟ فَقُلْنَا: دَعَوْنَا لَهُ وَقُلْنَا: اللهُمَّ اغْفِرْ لَهُ وَأَلْحِقْهُ بِصَاحِبِهِ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : فَأَيْنَ صَلاَتُهُ بَعْدَ صَلاَتِهِ وَصَوْمُهُ بَعْدَ صَوْمِهِ شَكَّ شُعْبَةُ في صَوْمِهِ: وَعَمَلُهُ بَعْدَ عَمَلِهِ إِنَّ بَيْنَهُمَا كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ ) (3).
__________
(1) البخاري في كتاب الأذان، باب التسبيح والدعاء في السجود برقم (784) 1/281 .
(2) مسلم في الصلاة، باب ما يقال في الركوع والسجود 1/350 (483) .
(3) أبو داود في الجهاد، باب في النور يرى عند قبر الشهيد 3/16 (2524) .(3/85)
وعند مسلم من حديث أم سلمة رضي الله عنه أنها قالت: ( دَخَلَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى أَبِي سَلَمَةَ وَقَدْ شَقَّ بَصَرُهُ، فَأَغْمَضَهُ ثُمَّ قَالَ: إِنَّ الرُّوحَ إِذَا قُبِضَ تَبِعَهُ الْبَصَرُ، فَضَجَّ نَاسٌ مِنْ أَهْلِهِ فَقَالَ: لاَ تَدْعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ بِخَيْرٍ، فَإِنَّ الْمَلاَئِكَةَ يُؤَمِّنُونَ عَلَى مَا تَقُولُونَ ثُمَّ قَالَ: اللهُمَّ اغْفِرْ لأَبِى سَلَمَةَ، وَارْفَعْ دَرَجَتَهُ في الْمَهْدِيِّينَ، وَاخْلُفْهُ في عَقِبِهِ في الْغَابِرِينَ وَاغْفِرْ لَنَا وَلَهُ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ، وَافْسَحْ لَهُ في قَبْرِهِ، وَنَوِّرْ لَهُ فِيهِ ) (1) .
وروى أيضا من حديث عبد الله بن بسر - رضي الله عنه - قال: ( نَزَلَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى أَبِى، فَقَرَّبْنَا إِلَيْهِ طَعَامًا وَوَطْبَةً، فَأَكَلَ مِنْهَا ثُمَّ أُتِىَ بِتَمْرٍ، فَكَانَ يَأْكُلُهُ وَيُلْقِى النَّوَى بَيْنَ إِصْبَعَيْهِ وَيَجْمَعُ السَّبَّابَةَ وَالْوُسْطَى .. ثُمَّ أُتِىَ بِشَرَابٍ فَشَرِبَهُ ثُمَّ نَاوَلَهُ الذي عَنْ يَمِينِهِ، فَقَالَ أَبِى: وَأَخَذَ بِلِجَامِ دَابَّتِهِ ادْعُ اللهَ لَنَا، فَقَالَ: اللهُمَّ بَارِكْ لَهُمْ في مَا رَزَقْتَهُمْ وَاغْفِرْ لَهُمْ وَارْحَمْهُمْ ) (2).
__________
(1) مسلم في الجنائز، باب في إغماض الميت والدعاء له إذا حضر 2/634 (920) .
(2) مسلم في الأشربة، باب طلب الدعاء من الضيف الصالح وإجابته لذلك 3/1615(2042) .(3/86)
وروى أبو داود وصححه الألباني من حديث عبد الله بن عمرو - رضي الله عنه - أنه قال: ( كَلِمَاتٌ لاَ يَتَكَلمُ بِهِنَّ أَحَدٌ في مَجْلِسِهِ عِنْدَ قِيَامِهِ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ إِلاَّ كُفِّرَ بِهِنَّ عَنْهُ وَلاَ يَقُولُهُنَّ في مَجْلِسِ خَيْرٍ وَمَجْلِسِ ذِكْرٍ إِلاَّ خُتِمَ لَهُ بِهِنَّ عَلَيْهِ كَمَا يُخْتَمُ بِالْخَاتَمِ عَلَى الصَّحِيفَةِ سُبْحَانَكَ اللهُمَّ وَبِحَمْدِكَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ ) (1)، وروى أيضا وصححه الألباني من حديث أبي الأزهر الأنماري - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أخذ مضجعه من الليل قال: ( بِسْمِ اللهِ وَضَعْتُ جَنْبِي، اللهُمَّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي وَأَخْسِئْ شَيْطَانِي وَفُكَّ رِهَانِي وَاجْعَلْنِي في النَّدِي الأعلى ) (2) .
__________
(1) أبو داود في الأدب، باب في كفارة المجلس 4/264 (4857)، صحيح الجامع (4487) .
(2) أبو داود في الأدب، باب ما يقال عند النوم 4/313 (5054)، صحيح الجامع (4649) .(3/87)
روى الترمذي وصححه الألباني من حديث ابن عباس - رضي الله عنه - أن النبي قال: ( إِنْ تَغْفِرِ اللهُمَّ تَغْفِرْ جَمَّا وَأَي عَبْدٍ لَكَ لاَ أَلَمَّا ) (1)، وعند الطبراني من حديث أبي أمامة - رضي الله عنه - أنه قال: ( إِنَّ فَتًى شَابًّا أَتَى النبي - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ يَا رَسُولَ اللهِ: ائْذَنْ لِي بِالزِّنَا؟ فَأَقْبَلَ الْقَوْمُ عَلَيْهِ فَزَجَرُوهُ وَقَالُوا: مَهْ مَهْ، فَقَالَ: ادْنُهْ فَدَنَا مِنْهُ قَرِيباً، قَالَ: فَجَلَسَ، قَالَ: أَتُحِبُّهُ لأُمِّكَ؟ قَالَ: لاَ وَاللهِ جَعَلَنِي اللهُ فِدَاكَ، قَالَ: وَلاَ النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لأُمَّهَاتِهِمْ، قَالَ: أَفَتُحِبُّهُ لاِبْنَتِكَ؟ قَالَ: لاَ وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ جَعَلَنِي اللهُ فِدَاكَ، قَالَ: وَلاَ النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِبَنَاتِهِمْ قَالَ: أَفَتُحِبُّهُ لأُخْتِكَ؟ قَالَ: لاَ وَاللهِ جَعَلَنِي اللهُ فِدَاكَ، قَالَ: وَلاَ النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لأَخَوَاتِهِمْ، قَالَ: أَفَتُحِبُّهُ لِعَمَّتِكَ؟ قَالَ: لاَ وَاللهِ جَعَلَنِي اللهُ فِدَاكَ، قَالَ: وَلاَ النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِعَمَّاتِهِمْ، قَالَ: أَفَتُحِبُّهُ لِخَالَتِكَ؟ قَالَ: لاَ وَاللهِ جَعَلَنِي اللهُ فِدَاكَ، قَالَ وَلاَ النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِخَالاَتِهِمْ، قَالَ: فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ، وَقَالَ: اللهُمَّ اغْفِرْ ذَنْبَهُ وَطَهِّرْ قَلْبَهُ وَحَصِّنْ فَرْجَهُ قَالَ: فَلَمْ يَكُنْ بَعْدُ ذَلِكَ الْفَتَى يَلْتَفِتُ إِلَى شَيْءٍ ) (2) .
الدعاء باسم الله الغفار دعاء عبادة .
__________
(1) الترمذي في تفسير القرآن، باب ومن سورة والنجم 5/396 (3284)، صحيح الجامع (1417) .
(2) المعجم الكبير 8/162 (7679) السلسلة الصحيحة (370) .(3/88)
توحيد الله في اسمه الغفار يقتضي كثرة الاستغفار والتوبة إلى الله مهما بلغت كميته وكثرته، فالغفار سبحانه كثير المغفرة، روى مسلم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( فِيمَا يَحْكِي عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَل أنه قَالَ: أَذْنَبَ عَبْدٌ ذَنْبًا فَقَالَ: اللهُمَّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي، فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: أَذْنَبَ عَبْدِي ذَنْبًا فَعَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِالذَّنْبِ ثُمَّ عَادَ فَأَذْنَبَ فَقَالَ: أَي رَبِّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي، فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: عَبْدِي أَذْنَبَ ذَنْبًا فَعَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِالذَّنْبِ، ثُمَّ عَادَ فَأَذْنَبَ فَقَالَ: أَي رَبِّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي، فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: أَذْنَبَ عَبْدِي ذَنْبًا فَعَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِالذَّنْبِ وَاعْمَلْ مَا شِئْتَ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكَ ) (1) .
ويذكر النووي أن هذا الحديث ظاهر في الدلالة على أنه لو تكرر الذنب مائة مرة أو ألف مرة أو أكثر وتاب في كل مرة قبلت توبته وسقطت ذنوبه، ولو تاب عن الجميع توبة واحدة صحت توبته، وقوله: اعمل ما شئت فقد غفرت لك، معناه ما دمت تذنب ثم تتوب غفرت لك (2) .
__________
(1) مسلم في التوبة، باب قبول التوبة من الذنوب 4/2112 (2758) .
(2) صحيح مسلم بشرح النووي 17/75 بتصرف .(3/89)
والله - عز وجل - لا يعذب مستغفرا، لكن من أصر على الذنب وطلب من الله مغفرته فهذا ليس باستغفار مطلق، ولهذا لا يمنع العذاب، فالاستغفار يتضمن التوبة، والتوبة تتضمن الاستغفار، وكل منهما يدخل في مسمى الآخر عند الإطلاق، وأما عند اقتران إحدى اللفظتين بالأخرى فالاستغفار طلب وقاية شر ما مضى، والتوبة الرجوع وطلب وقاية شر ما يخافه في المستقبل من سيئات أعماله، فها هنا ذنبان، ذنب قد مضى فالاستغفار منه طلب وقاية شره، وذنب يخاف وقوعه فالتوبة العزم على أن لا يفعله والرجوع إلى الله يتناول النوعين، رجوع إليه ليقيه شر ما مضى، ورجوع إليه ليقيه شر ما يستقبل من شر نفسه وسيئات أعماله (1) .
والتوبة النصوص أو الاستغفار الحق يتضمن أولا تعميم جميع الذنوب واستغراقها بحيث لا تدع التوبة ذنبا إلا تناولته، والثاني إجماع العزم والصدق بكليته عليها بحيث لا يبقى عنده تردد ولا تلوم ولا انتظار، بل يجمع عليها كل إرادته وعزيمته مبادرا بها والثالث تخليصها من الشوائب والعلل القادحة في إخلاصها ووقوعها لمحض الخوف من الله وخشيته، والرغبة فيما لديه والرهبة مما عنده، لا كمن يتوب لحفظ جاهه وحرمته ومنصبه ورياسته، ولحفظ حاله أو لحفظ قوته وماله، أو استدعاء حمد الناس، أو الهرب من ذمهم، أو لئلا يتسلط عليه السفهاء، أو لقضاء نهمته من الدنيا، أو لإفلاسه وعجزه ونحو ذلك من العلل التي تقدح في صحتها وخلوصها لله - عز وجل -، ولا ريب أن هذه التوبة تستلزم الاستغفار وتتضمنه وتمحو جميع الذنوب، وهي أكمل ما يكون من التوبة (2) .
__________
(1) مدارج السالكين 1/308 بتصرف .
(2) السابق 1/310 بتصرف .(3/90)
ومن دعاء العبادة أن يستر العبد على إخوانه عيوبهم، ويغفر لهم ذلاتهم توحيدا لله في اسمه الغفور: { يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } [التغابن:14] .
وممن تسمى عبد الغفار أبو صالح الحراني عبد الغفار بن داود بن مهران سكن مصر ومات سنة أربع وعشرين ومائتين، روى عنه البخاري وأبو داود وغيرهما (1) .
********************************
92- الله - جل جلاله - الرَّءوفُ
********************************
الدليل على ثبوت الاسم وإحصائه .
__________
(1) الثقات للبستي 8/ 421 ، وسير أعلام النبلاء 10/ 438 .(3/91)
سمى الله نفسه الرءوف في القرآن في قوله تعالى: { وَلَوْلا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللهَ رءُوفٌ رَحِيم } [النور20] وقوله: { رَبَّنَا إِنَّكَ رَءوفٌ رَحِيمٌ } ، وفي هذين الموضعين ورد الاسم مطلقا منونا محمولا عليه المعنى مسندا إليه مرادا به العلمية ودالا على كمال الوصفية، وورد مقيدا بالإضافة في قوله تعالى: { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ وَاللهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَاد } [البقرة:207]، وعند البخاري من حديث الْبَرَاءِ - رضي الله عنه -: أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - صَلى إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا أَوْ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا، وَكَانَ يُعْجِبُهُ أَنْ تَكُونَ قِبْلَتُهُ قِبَلَ الْبَيْتِ .. إلى أن قال .. وَكَانَ الذِي مَاتَ عَلَى الْقِبْلَةِ قَبْلَ أَنْ تُحَوَّلَ قِبَلَ الْبَيْتِ رِجَالٌ قُتِلُوا لَمْ نَدْرِ مَا نَقُولُ فِيهِمْ فَأَنْزَلَ اللهُ: { وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ } (1) .
شرح الاسم وتفسير معناه .
__________
(1) البخاري في التفسير باب سيقول السفهاء من الناس 4/1631 (4216) .(3/92)
الرءوف صيغة مبالغة من اسم الفاعل الرائف، وهو الموصوف بالرأفة، فعله رَأَفَ به يَرْأَف رَأْفة، والرأفة في حقنا هي امتلاء القلب بالرقة، وهي أشد ما يكون من الرحمة، وقيل: بل شدة الرحمة ومنتهاها، قال تعالى: { الزَّانِيَة وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ } [النور:2]، يعني لا تنظروا بأي اعتبار يمكن أن يمنحهم شيئا من الرحمة والرقة، فلا ترحموهما فَتُسْقِطُوا عنهما ما أَمَرَ الله به من الحد، ويمكن القول أن الرحمة تسبق الرأفة، فالرأفة هي المنزلة التي تعقبها، يقال: فلان رحيم فإذا اشتدت رحمته فهو رءوف، فالرأفة آخر ما يكون من الرحمة، ولذلك قدمت الرأفة على الرحمة في وصف نبينا - صلى الله عليه وسلم - كما قال تعالى: { بِالْمُؤْمِنِينَ رءوف رَحِيمٌ } [التوبة:128]، وذلك على اعتبار أن الرأفة مبالغة في الرحمة، والمبالغة في الرحمة تتعلق بخاصة المؤمنين، أما الرحمة في اسمه الرحمن فإنها تتعلق بالخلائق أجمعين، فالأمر في الرأفة والرحمة على قدر الولاية والإيمان، وعلى حسب علو الهمة في عمل الإنسان، وقد كانت رأفة النبي - صلى الله عليه وسلم - بأصحابه ما بعدها رأفة (1) .
__________
(1) انظر في المعني اللغوي: لسان العرب 9/ 112، وروح المعاني 2/7، واشتقاق أسماء الله ص86 .(3/93)
والرءوف سبحانه هو الذي يتعطف على عباده المؤمنين بحفظ سمعهم وأبصارهم وحركاتهم وسكناتهم في توحيده وطاعته، وهذا من كمال الرأفة بالصادقين، روى البخاري من حديث أَبِى هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث القدسي: ( وَمَا تَقَرَّبَ إِلَىَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَىَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَىَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ التِي يَبْطُشُ بِهَا وَرِجْلَهُ التِي يَمْشِى بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لأُعِيذَنَّهُ، وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ، يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ ) (1).
__________
(1) البخاري في الرقاق، باب التواضع 5/2384 (6137) .(3/94)
وكذلك الرءوف يدل على معنى التعطف على عباده المذنبين، فيفتح لهم باب التوبة ما لم تغرغر النفس أو تطلع الشمس من مغربها، فقد روى مسلم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( مَنْ تَابَ قَبْل أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا تَابَ اللهُ عَليْه ) (1)، وعنده أيضا من حديث أَبِي مُوسَى الأشعري - رضي الله عنه - أنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَال: ( إِن اللهَ - عز وجل - يَبْسُطُ يَدَهُ بِالليْل ليَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ وَيَبْسُطُ يَدَهُ بِالنَّهَارِ ليَتُوبَ مُسِيء الليْل حتى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا ) (2)، والرءوف أيضا هو الذي يخفف عن عباده فلا يكلفهم ما يشق عليهم أو يخرج عن وسعهم وطاقتهم، قال تعالى: { يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنْسَانُ ضَعِيفاً } [النساء:28]، وقال: { لا يُكَلفُ اللهُ نَفْساً إِلا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا } [البقرة:286] (3) .
دلالة الاسم على أوصاف الله .
__________
(1) مسلم في الذكر والدعاء والتوبة، باب استحباب الاستغفار والاستكثار منه 4/2076 (2703) .
(2) مسلم في كتاب التوبة ، باب قبول التوبة من الذنوب وإن تكررت الذنوب والتوبة 4/2113 (2759) .
(3) شرح أسماء الله الحسنى للرازي ص341، وتفسير الأسماء الحسنى للزجاج ص62، والأسماء والصفات للبيهقي ص77، والمقصد الأسنى للغزالي ص124، والأسنى للقرطبي 1/172.(3/95)
اسم الله الرءوف يدل على ذات الله وعلى صفة الرأفة بدلالة المطابقة، وعلى ذات الله وحدها بالتضمن، وعلى صفة الرأفة وحدها بدلالة التضمن، ولم أقف على نص صحيح في التصريح بالوصف، وقد وردت رواية شديدة الضعف من حديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( فكيف بكم إذا لم يرأف الله بكم ولم يرحمكم؟ قالوا: وكائن ذلك يا رسول الله؟ قال: أي والذي بعث محمدا بالحق إذا استعمل عليكم شراركم فقد تخلى الله عنكم ) (1)، وهذه الرواية لا يصح الاحتجاج بها .
وقد ذكر الله تعالى أنه جعل الرأفة في قلوب بعض عباده فقال: { وَجَعَلنَا فِي قُلُوبِ الذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً } [الحديد:27]، والاسم يدل باللزوم على الحياة والقيومية والعلم والرحمة واللطف والإحسان، وغير ذلك من أوصاف الكمال، واسم الله الرءوف دل على صفة من صفات الأفعال .
الدعاء باسم الله الرءوف دعاء مسألة .
ورد دعاء المسألة بالاسم المطلق في قوله تعالى: { وَالذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الذِينَ سَبَقُونَا بِالأِيمَانِ وَلا تَجْعَل فِي قُلُوبِنَا غِلا لِلذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رءوف رَحِيمٌ } [الحشر:10]، وعند الطبراني من حديث يحيى بن أبي كثير في دعاء ابن مسعود - رضي الله عنه - في الصلاة: ( سبحانك لا إله غيرك، اغفر لي ذنبي وأصلح لي عملي إنك تغفر الذنوب لمن تشاء وأنت الغفور الرحيم، يا غفار اغفر لي يا تواب تب علي، يا رحمن ارحمني يا عفو اعف عني، يا رءوف ارأف بي .. ) (2) .
الدعاء باسم الله الرءوف دعاء عبادة .
__________
(1) كتاب الضعفاء الكبير للعقيلى 2/303 ترجمة رقم (880) .
(2) المعجم الكبير 10/ 57، وانظر مجمع الزوائد ومنبع الفوائد 2/ 143 .(3/96)
أثر الاسم على العبد أن يمتلأ قلبه بالرحمة والرأفة التي تشمل عامة المسلمين وخاصتهم، روى الترمذي وصححه الشيخ الألباني من حديث عبد الله بن عمرو - رضي الله عنه - أن رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : ( الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ، ارْحَمُوا مَنْ فِي الأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ، الرَّحِمُ شُجْنَةٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَمَنْ وَصَلَهَا وَصَلَهُ اللهُ وَمَنْ قَطَعَهَا قَطَعَهُ اللهُ ) (1)، والله - عز وجل - يقول في شأن الموحدين: { ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَة } [الحديد:27] .
ولا بد أن تكون الرأفة في موضعها؛ فكما أنها من الأخلاق الحميدة والخصال العظيمة إلا أن الشدة أنفع في بعض المواضع، كإقامة الحدود والأخذ على أيدي المفسدين الظالمين حين لا ينفع معهم نصح ولا لين، قال تعالى: { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } [النور:2] .
__________
(1) الترمذي في البر، باب ما جاء في رحمة المسلمين 4/323 (1924)، السلسلة الصحيحة (925) .(3/97)
وهذا يشبه حال المريض إذا اشتهى ما يضره أو جزع من تناول الدواء الكريه فأخذتنا رأفة عليه حتى نمنعه شربه؛ فقد أعناه على ما يضره أو يهلكه، وعلى ترك ما ينفعه فيزداد سقمه فيهلك، وهكذا المذنب هو مريض، فليس من الرأفة به والرحمة أن يمكن مما يهواه من المحرمات ولا يعان على ذلك، ولا أن يمكن من ترك ما ينفعه من الطاعات التي تزيل مرضه، بل الرأفة به أن يعان على شرب الدواء وإن كان كريها، مثل الصلاة وما فيها من الأذكار والدعوات فإنها تنهى عن الفحشاء والمنكر، وأن يحمى عما يقوى داءه ويزيد علته وإن اشتهاه، ولا يظن الظان أنه إذا حصل له استمتاع بمحرم يسكن بلاؤه، بل ذلك يوجب له انزعاجا عظيما وزيادة في البلاء والمرض في المآل، فإنه وإن سكن بلاؤه وهدأ ما به عقيب استمتاعه أعقبه ذلك مرضا عظيما عسيرا لا يتخلص منه، بل الواجب دفع أعظم الضررين باحتمال أدناهما قبل استحكام الداء الذي ترامى به إلى الهلاك والعطب .(3/98)
ومن المعلوم أن ألم العلاج النافع أيسر وأخف من ألم المرض الباقي، وبهذا يتبين أن العقوبات الشرعية كلها أدوية نافعة يصلح الله بها مرض القلوب، وهى من رحمة الله بعباده ورأفته بهم الداخلة في قوله تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم - : { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ } [الأنبياء:107]، فمن ترك هذه الرحمة النافعة لرأفة يجدها بالمريض، فهو الذي أعان على عذابه وهلاكه وإن كان لا يريد إلا الخير، إذ هو في ذلك جاهل أحمق كما يفعله بعض النساء والرجال الجهال بمرضاهم وبمن يربونه من أولادهم وغلمانهم وغيرهم في ترك تأديبهم وعقوبتهم على ما يأتونه من الشر ويتركونه من الخير رأفة بهم، فيكون ذلك سبب فسادهم وعداوتهم وهلاكهم، ومن الناس من تأخذه الرأفة بهم لمشاركته لهم في ذلك المرض، وذوقه ما ذاقوه من قوة الشهوة وبرودة القلب والدياثة، فيترك ما أمر الله به من العقوبة، كمن ينادي بتعطيل الحدود الشرعية من قطع يد السارق ورفع عقوبة الزنا، وإباحة الشذوذ والسحاق واللواط وغير ذلك من الأمور الانحلالية تحت دعوى الحرية، فهؤلاء من أظلم الناس وأديثهم في حق نفسه ونظرائه، وهو بمنزلة جماعة من المرضى قد وصف لهم الطبيب ما ينفعهم فوجد كبيرهم مرارته، فترك شربه ونهى عن سقيه للباقين .(3/99)
ومنهم من تأخذه الرأفة لكون أحد الزانين محبوبا له، إما أن يكون محبا لصورته وجماله بعشق أو غيره، أو لقرابة بينهما، أو لمودة أو لإحسانه إليه، أو لما يرجو منه من الدنيا أو غير ذلك، أو لما في العذاب من الألم الذي يوجب رقة القلب، ويتأول بعض النصوص في غير موضعها كقولهم: إنما يرحم الله من عباده الرحماء، ويحتج بمثل قوله - صلى الله عليه وسلم - : الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء، وغير ذلك، وليس كما قال، بل ذلك وضع الشيء في غير موضعه، بل قد ورد عند البيهقي وصححه الألباني من حديث عن عمار بن ياسر - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( ثلاثة لا يدخلون الجنة أبدا، الديوث، والرجلة من النساء، ومدمن الخمر قالوا: يا رسول الله أما مدمن الخمر فقد عرفناه، فما الديوث؟ قال: الذي لا يبالي من دخل على أهله، قلنا: فما الرجلة من النساء؟ قال: التي تشبه بالرجال ) (1) .
ومن لم يكن مبغضا للفواحش كارها ولأهلها، ولا يغضب عند رؤيتها وسماعها لم يكن مريدا للعقوبة عليها، فيبقى العذاب عليها يوجب ألم قلبه، قال تعالى: { وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ .. الآية } [النور:2]، فإن دين الله طاعته وطاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم - المبني على محبته ومحبة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، وأن يكون الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - أحب إليه مما سواهما، فإن الرأفة والرحمة يحبهما الله ما لم تكن مضيعة لدين الله، فهذه الرحمة حسنة مأمور بها أمر إيجاب أو استحباب بخلاف الرأفة في دين الله فإنها منهي عنها .
__________
(1) شعب الإيمان 7/ 412 (10800)، صحيح الترغيب والترهيب (2071) .(3/100)
والشيطان يريد من الإنسان الإسراف في أموره كلها، فإنه إن رآه مائلا إلى الرحمة زين له الرحمة حتى لا يبغض ما أبغضه الله، ولا يغار لما يغار الله منه، وإن رآه مائلا إلى الشدة زين له الشدة في غير ذات الله حتى يترك من الإحسان والبر واللين والصلة والرحمة ما يأمر به الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - ، ويتعدى في الشدة فيزيد في الذم والبغض والعقاب على ما يحبه الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - ، فينبغي أن يكون الموحد سنيا وسطيا في رأفته فإن الله لا يحب المسرفين (1) .
وبخصوص التسمية بعبد الرءوف، فلم يتسم به أحد من رواة الحديث، لكن من المتأخرين والمعاصرين كثير، ومنهم صاحب فيض القدير الروض النضير شرح الجامع الصغير، الشيخ عبد الرءوف محمد المناوي المصري المتوفى سنة ثلاثين وألف تقريبا وهو من الشهرة بمكان (2) .
********************************
93- الله - جل جلاله - الوَهَّابُ
********************************
الدليل على ثبوت الاسم وإحصائه .
__________
(1) مجموع الفتاوى 15/290 بتصرف .
(2) كشف الظنون 1/508 .(3/101)
ورد الاسم في القرآن الكريم مطلقا معرفا مرادا به العلمية ودالا على كمال الوصفية في ثلاثة مواضع منها قوله تعالى: { أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ } [ص:9]، وقوله سبحانه: { رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ } [آل عمران:8]، ولم يرد الاسم في صحيح السنة إلا بالإشارة إلى الآية التي ورد فيها، وذلك فيما ورد عند البخاري من حديث أَبِى هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - أن النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( إِنَّ عِفْرِيتًا مِنَ الْجِنِّ تَفَلتَ عَلَىَّ الْبَارِحَةَ لِيَقْطَعَ عَلَيَّ الصَّلاَةَ فَأَمْكَنَنِي اللهُ مِنْهُ، فَأَرَدْتُ أَنْ أَرْبِطَهُ إِلَى سَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ حَتَّى تُصْبِحُوا وَتَنْظُرُوا إِلَيْهِ كُلُّكُمْ، فَذَكَرْتُ قَوْلَ أَخِي سُلَيْمَانَ رَبِّ هَبْ لِي مُلْكًا لاَ يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ بَعْدِى، فرَدَّهُ الله خَاسِئًا ) (1) .
شرح الاسم وتفسير معناه .
الوهاب في اللغة صيغة مبالغة على وزن فعال من الواهب وهو المعطي للهبة، فعله وهب يهب وهبا وهبة، والهبة عطاء الشيء بلا عوض، قال ابن منظور: ( الهبة العطية الخالية عن الأعواض والأغراض، فإذا كثرت سمي صاحبها وهابا، وهو من أبنية المبالغة ) (2) .
__________
(1) البخاري في كتاب الصلاة، باب الأسير أو الغريم يربط في المسجد 1/176(449) .
(2) لسان العرب 1/803، وكتاب العين 4/97 .(3/102)
والوهاب سبحانه هو الذي يكثر العطاء بلا عوض، ويهب ما يشاء لمن يشاء بلا غرض، ويعطي الحاجة بغير سؤال، ويسبغ على عباده النعم والأفضال، نعمه كامنة في الأنفس وجميع المصنوعات، ظاهرة بادية في سائر المخلوقات، نعم وعطاء وجود وهبات تدل على أنه المتوحد في اسمه الوهاب، قال تعالى: { للهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ } [الشورى:50] (1) .
__________
(1) انظر تفسير الأسماء للزجاج ص60، والأسماء والصفات ص97، والمقصد الأسنى ص77 .(3/103)
والله جل شأنه يهب العطاء في الدنيا على سبيل الابتلاء، ويهب العطاء في الآخرة على سبيل الأجر والجزاء، فعطاؤه في الدنيا علقه بمشيئته وابتلائه للناس بحكمته ليتعلق العبد بربه عند النداء والرجاء، ويسعد بتوحيده وإيمانه بين الدعاء والقضاء، وهذا أعظم فضل وأكبر هبة وعطاء إذا أدرك العبد حقيقة الابتلاء، واستعان بالله في تحقيق ما يتمناه، قال زكريا - عليه السلام - في دعائه: { وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً } [مريم:5]، وقال عن عباده الموحدين: { وَالذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً } [الفرقان:74]، وقال تعالى في المقابل عن الراغبين في الدنيا المعرضين عن الآخرة: { مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَدْحُورا } [الإسراء:18]، فعلق تحقيق مراد العبد في الدنيا على مشيئته سبحانه، أما في الآخرة فيحقق للعبد مشيئته وما يتمناه قال تعالى: { لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ } [ق:35]، فالله عز وجل من أسمائه الحسنى الوهاب ومن صفاته أنه يهب ما يشاء لمن يشاء كيف يشاء، فإن أوجب شيئا على نفسه فهو من فضله وكرمه، فما يعطيه لعباده ظاهرا وباطنا في الدنيا والآخرة، إنما هي نعم وهبات وهي من الكثرة بحيث لا تحصيها الحسابات (1) .
دلالة الاسم على أوصاف الله .
__________
(1) انظر المزيد في تفسير اسم الوهاب: الأسنى للقرطبي 1/396 .(3/104)
اسم الله الوهاب يدل على ذات الله وعلى صفة الوهب بدلالة المطابقة، وعلى أحدهما بالتضمن، روى البيهقي في سننه وصححه الألباني من حديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( إِنَّ أَوْلاَدَكُمْ هِبَةُ اللهِ لَكُمْ، يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ؛ فَهُمْ وَأَمْوَالُهُمْ لَكُمْ إِذَا احْتَجْتُمْ إِلَيْهَا ) (1)، وقال تعالى: { وَوَهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ العَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ } [ص:30]، وقال سبحانه: { وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيّاً } [مريم:53]، وقال: { فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ الله وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاً جَعَلنَا نَبِيّاً } [مريم:49]، والاسم يدل باللزوم على الحياة والقيومية والسيادة والصمدية والسمع والبصر والعلم والقدرة والغنى والعزة والملك والعظمة والقوة والحكمة، وغير ذلك من صفات الكمال، والاسم دل على صفة من صفات الأفعال .
الدعاء باسم الله الوهاب دعاء مسألة .
ورد الدعاء بالاسم المطلق في قوله تعالى عن سليمان - عليه السلام -: { قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ } [ص:35]، وقوله تعالى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وصحبه - رضي الله عنهم -: { رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ } [آل عمران:8]، ومما ورد في الدعاء بالوصف قوله تعالى: { فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ } [الأنبياء:90] .
__________
(1) البيهقي في سننه 7/480، وانظر السلسلة الصحيحة (2564) .(3/105)
وروى البخاري من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( إِنَّ عِفْرِيتًا مِنَ الْجِنِّ تَفَلتَ عَلَىَّ الْبَارِحَةَ أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا لِيَقْطَعَ عَلَىَّ الصَّلاَةَ فَأَمْكَنَنِي اللهُ مِنْهُ، فَأَرَدْتُ أَنْ أَرْبِطَهُ إِلَى سَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ، حَتَّى تُصْبِحُوا وَتَنْظُرُوا إِلَيْهِ كُلُّكُمْ، فَذَكَرْتُ قَوْلَ أَخِي سُلَيْمَانَ رَبِّ هَبْ لِي مُلْكًا لاَ يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ بَعْدِى ) (1)، وروى أيضا من حديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( كان إذا استيقظ من الليل قال: لا إله إلا أنت سبحانك، اللهم إني أستغفرك لذنبي وأسألك برحمتك، اللهم زدني علما ولا تزغ قلبي بعد إذ هديتني، وهب لي من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب ) (2) .
الدعاء باسم الله الوهاب دعاء عبادة .
__________
(1) البخاري في الصلاة، باب الأسير أو الغريم يربط في المسجد 1/176 (449) .
(2) الحاكم في المستدرك 1/724 (1981) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه .(3/106)
دعاء العبادة هو اتصاف العبد بالكرم والعطاء والجود والسخاء، روى البخاري من حديث ابن عباس - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( الْعَائِدُ فِي هِبَتِهِ كَالْكَلْبِ يَعُودُ فِي قَيْئِهِ لَيْسَ لَنَا مَثَلُ السَّوْءِ ) (1)، وفي رواية النسائي وصححه الشيخ الألباني: ( لاَ يَحِلُّ لأَحَدٍ أَنْ يَهَبَ هِبَةً ثُمَّ يَرْجِعَ فِيهَا إِلاَّ مِنْ وَلَدِهِ، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ يَأْكُلُ ثُمَّ يَقيءُ ثُمَّ يَعُودُ فِي قَيْئِهِ ) (2)، وعند البخاري من حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت: ( كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا أَرَادَ سَفَرًا أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ، فَأَيَّتُهُنَّ خَرَجَ سَهْمُهَا خَرَجَ بِهَا مَعَهُ وَكَانَ يَقْسِمُ لِكُلِّ امْرَأَةٍ مِنْهُنَّ يَوْمَهَا وَلَيْلَتَهَا، غَيْرَ أَنَّ سَوْدَةَ بِنْتَ زَمْعَةَ وَهَبَتْ يَوْمَهَا وَلَيْلَتَهَا، لِعَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - تَبْتَغِى بِذَلِكَ رِضَا رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ) (3) .
ومن دعاء العبادة الرضا بما قسمه الله ووهبه من الولد فإن ذلك دليل الإيمان بالاسم وتوحيد الله فيه، قال تعالى: { للهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ } [الشورى:49]، فأخبر سبحانه أن ما قدره بين الزوجين من الولد فقد وهبهما إياه وكفى بالعبد تعرضا لمقته أن يتسخط ما وهبه .
__________
(1) البخاري في الحيل، باب إذا حمل على فرس فرآها تباع 3/1093 (2841) .
(2) النسائي في كتاب الهبة 6/268 (3704)، وانظر صحيح الترغيب والترهيب (2612) .
(3) البخاري في الهبة، باب هبة المرأة لغير زوجها 2/916 (2453) .(3/107)
وبدأ سبحانه بذكر الإناث جبرا لهن لأجل استثقال الوالدين لمكانتهن، وقيل إنما قدمهن لأن سياق الكلام أنه فاعل ما يشاء لا ما يشاء الأبوان، فإن الأبوين لا يريدان إلا الذكور غالبا، وهو سبحانه قد أخبر أنه يخلق ما يشاء فبدأ بذكر الصنف الذي يشاء ولا يريده الأبوان، وقيل إنه سبحانه قدم ما كانت تؤخره الجاهلية من أمر البنات حتى كانوا يئدوهن أي هذا النوع المؤخر عندكم مقدم عندي في الذكر .
وتأمل كيف نكر سبحانه الإناث وعرف الذكور فجبر نقص الأنوثة بالتقديم وجبر نقص التأخير بالتعريف فإن التعريف تنويه، كأنه قال ويهب لمن يشاء الفرسان الأعلام المذكورين الذين لا يخفون عليكم، والمقصود أن التسخط بالإناث من أخلاق الجاهلية التي ذمها الله تعالى (1) .
وممن تسمى عبد الوهاب، أبو محمد البصري عبد الوهاب بن عبد المجيد بن الصلت الثقفي من الطبقة الثامنة، الطبقة الوسطى من أتباع التابعين (ت:194هـ) .
********************************
94- الله - جل جلاله - الجوَادُ
********************************
الدليل على ثبوت الاسم وإحصائه .
__________
(1) تحفة المودود بأحكام المولود ص20 بتصرف .(3/108)
الجواد من أسماء الله الحسنى التي وردت في السنة، فقد سماه به النبي - صلى الله عليه وسلم - على سبيل الإطلاق منونا مرادا به العلمية ودالا على الوصفية وكمالها، وقد ورد المعنى محمولا عليه مسندا إليه، كما ثبت من حديث ابن عباس - رضي الله عنه -، وكذلك من حديث سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( إن الله - عز وجل - جواد يحب الجود ويحب معالي الأخلاق ويبغض سفسافها ) (1)، وهذا الحديث صحيح بمجموع طرقه صححه الشيخ الألباني وغيره، وهو المعول عليه في إثبات الاسم (2) .
__________
(1) انظر تصحيح الألباني في السلسلة الصحيحة (236) (1378) (1627)، وصحيح الجامع (1744) (1800)، وانظر أيضا مسند أبي يعلى 2/121، والمسند لابن كليب الشاشي 1/80، وحلية الأولياء لأبي نعم الأصبهاني 3/263، 5/29، والكتاب المصنف في الأحاديث والآثار لابن أبي شيبة 5/332 (26617) والزهد لهناد بن السري الكوفي 2/423، وكتاب التوحيد لابن منده 2/99، ومجلس إملاء لأبي عبد الله محمد بن عبد الواحد الدقاق ص82، والكرم والجود وسخاء النفوس للبرجلاني ص34،35 .
(2) أثبت هذا الاسم ابن القيم في النونية حيث قال: وهو الجواد فجوده عم الوجود جميعه بالفضل والإحسان وهو الجواد فلا يخيب سائلا ولو أنه من أمة الكفران، انظر توضيح المقاصد وتصحيح القواعد في شرح قصيدة الإمام ابن القيم لأحمد بن إبراهيم بن عيسى 2/229، والشيخ ابن عثيمين في القواعد المثلى ص 16، وانظر صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة لعلوى بن عبد القادر السقاف ص 102.(3/109)
وعند الترمذي في سننه وحسنه وكذلك عند أحمد من حديث أَبِي ذَرٍّ - رضي الله عنه - أن رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: ( يَقُولُ اللهُ تَعَالَى يَا عِبَادِي .. لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَحَيَّكُمْ وَمَيِّتَكُمْ وَرَطْبَكُمْ وَيَابسَكُمُ اجْتَمَعُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلَ كُلُّ إِنْسَانٍ مِنْكُمْ مَا بَلَغَتْ أُمْنِيَّتُهُ فَأَعْطَيْتُ كُل سَائِلٍ مِنْكُمْ مَا سَأَلَ، مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي إِلاَّ كَمَا لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ مَرَّ بِالْبَحْرِ فَغَمَسَ فِيهِ إِبْرَةً ثُمَّ رَفَعَهَا إِلَيْهِ، ذَلِكَ بِأَنِّي جَوَادٌ مَاجِدٌ، أَفْعَلُ مَا أُرِيدُ، عَطَائِي كَلاَمٌ وَعَذَابِي كَلاَمٌ إِنَّمَا أَمْرِي لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْتُهُ أَنْ أَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) (1) .
وروى الترمذي في سننه وحسنه الألباني من حديث سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ - رضي الله عنه - أن النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( إِنَّ اللهَ طَيِّبٌ يُحِبُّ الطَّيِّبَ نَظِيفٌ يُحِبُّ النَّظَافَةَ كَرِيمٌ يُحِبُّ الْكَرَمَ جَوَادٌ يُحِبُّ الْجُودَ فَنَظِّفُوا أَفْنِيَتَكُمْ وَلاَ تَشَبَّهُوا بِالْيَهُودِ ) (2) .
وهذا الحديث والذي قبله ليس أصلا في إثبات اسم الله الجواد لأنه ضعيف وعلى أجود الأحكام حسن البعض، ولذلك لم نعتد به في حصر الأسماء الحسنى وإنما في دلالة الاسم على الصفة، ومن ثم فإنه ليس من أسمائه الحسنى النظيف ولا الماجد، وإنما الثابت الصحيح في الروايات الأخرى الجميل والجواد والطيب .
شرح الاسم وتفسير معناه .
__________
(1) الترمذي في صفة القيامة 4/656 (2495)، وضعفه الألباني في ضعيف الترغيب والترهيب (1008) .
(2) الترمذي في الأدب 5/111 (2799)، وحسنه الألباني في مشكاة المصابيح (4487) .(3/110)
الجواد في اللغة صفة مشبهة للموصوف بالجود، فعله جادَ يَجود جَوْدة، والجَيِّد نقيض الرديء، وقد جاد جَوْدة وأَجاد يعني أَتى بالجَيِّد من القول أَو الفعل، والجود هو الكرم، ورجل جَواد يعني سخي كثير العطاء، والجود من المطر هو الذي لا مطر فوقه في الكثرة، وفلان يَجُود بنفسه أَي يخرجها ويدفعها كما يدفع الإِنسان ماله ويجود به، وعند البخاري من حديث أسامة بن زيد - رضي الله عنه - قَالَ: ( كُنْتُ عِنْدَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - إِذْ جَاءَهُ رَسُولُ إِحْدَى بَنَاتِهِ .. أَنَّ ابْنَهَا يَجُودُ بِنَفْسِهِ، فَبَعَثَ إِلَيْهَا: لِلهِ مَا أَخَذَ، وَلِلهِ مَا أَعْطَى كُلٌّ بِأَجَلٍ فَلْتَصْبِرْ وَلْتَحْتَسِبْ ) (1) .
والذي يجود بنفسه عند الموت لا دخل له في إخراج الروح أو إبقائها، وإنما ذلك لله - عز وجل - الذي يأمر ملائكته باستخراجها، ولكن عبر بأنه يجود بنفسه تكريما له إذ لا حيلة في دفع الموت، أو لرضاه بقدر الله واستعداده للقائه ورغبته في أن يلقى الله مؤمنا، كما في حديث عمران بن حصين - رضي الله عنه - في المرأة الجهنية التي رجمت بحد الزنا قال - صلى الله عليه وسلم - : ( وَهَلْ وَجَدْتَ تَوْبَةً أَفْضَلَ مِنْ أَنْ جَادَتْ بِنَفْسِهَا للهِ تَعَالَى ) (2)، فالجود سهولة البذل والإنفاق وتجنب ما لا يحمد من الأخلاق ويكون بالعبادة والصلاح وبالسخاء والسماح (3) .
__________
(1) البخاري في القدر، باب وكان أمر الله قدرا مقدورا 6/2435 (6228) .
(2) مسلم في الحدود، باب من اعترف على نفسه بالزنى3/1324 (1696) .
(3) لسان العرب 3/135، والنهاية في غريب الحديث 1/312، ومفردات ألفاظ القرآن 210 .(3/111)
والجواد أيضا جمع جادة والجادة الطريق الممهد أو سواء الطريق ووسطه، أو الطريق الأعظم التي تجتمع الطرق عليه كما ورد عند مسلم من حديث عبد الله بن سلام - رضي الله عنه - أنه قال: ( بَيْنَمَا أَنَا نَائِمٌ إِذْ أَتَانِي رَجُلٌ فَقَالَ لِي: قُمْ، فَأَخَذَ بِيَدِي فَانْطَلَقْتُ مَعَهُ قَالَ فَإِذَا أَنَا بِجَوَادَّ عَنْ شِمَالِي، قَالَ: فَأَخَذْتُ لآخُذَ فِيهَا فَقَالَ لِي: لاَ تَأْخُذْ فِيهَا فَإِنَّهَا طُرُقُ أَصْحَابِ الشِّمَالِ، قَالَ: فَإِذَا جَوَادُّ مَنْهَجٌ عَلَي يَمِيِنِي فَقَالَ لِي: خُذْ هَا هُنَا، فَأَتَيْتُ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - فَقَصَصْتُهَا عَلَيْهِ، فَقَالَ، أَمَّا الطُّرُقُ التِي رَأَيْتَ عَنْ يَسَارِكَ فَهِي طُرُقُ أَصْحَابِ الشِّمَالِ وَأَمَّا الطُّرُقُ التِي رَأَيْتَ عَنْ يَمِينِكَ فَهِي طُرُقُ أَصْحَابِ الْيَمِينِ ) (1) .
__________
(1) صحيح مسلم فضائل الصحابة باب من فضائل عبد الله بن سلام - رضي الله عنه - 4/1931 (2484) .(3/112)
والجواد سبحانه هو الكامل في ذاته وأسمائه وصفاته، الذي ينفق على خلقه بكثرة جوده وكرمه وفضله ومدده، فلا تنفد خزائنه ولا ينقطع سحاؤه ولا يمتنع عطاؤه، روى البخاري من حديث أَبِي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( يَدُ اللهِ مَلأَى لاَ يَغِيضُهَا نَفَقَة سَحَّاء الليْلَ وَالنَّهَارَ، أرَأيْتُمْ مَا أَنْفَقَ مُنْذ خَلقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ فَإِنَّهُ لَمْ يَغِضْ مَا في يَدهِ ) (1)، وهو سبحانه من فوق عرشه عليم بموضع جوده في خلقه، فلا يعطي إلا بمقتضى عدله وحكمته، وما يحقق مصلحة الشيء وغايته، ولذلك جاء عقب ذكر جوده ونفقته: ( عَرْشُهُ عَلَى المَاءِ وَبِيَدِهِ الأخْرَى المِيزَان يَخْفِضُ وَيَرْفَعُ ) (2) .
وهو الذي يهدي عباده أجمعين إلى جادة الحق المبين، هداهم سبل الشرائع والأحكام وتمييز الحلال من الحرام، وبين لهم أسباب صلاحهم في الدنيا والآخرة ودعاهم إلى عدم إيثار الدنيا على الآخرة، قال تعالى: { وَاللهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } [يونس:25]، وقال سبحانه: { إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } [هود:56] .
__________
(1) البخاري في كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى لما خلقت بيدي 6/ 2697 (6976)، معنى لا يغيضها أي لا ينقصها نفقة، ومعنى سحاء أي كثرة السح والعطاء وهو إنزال الخير المتواصل، انظر فتح الباري 13/ 395 .
(2) تكملة الحديث السابق عند البخاري .(3/113)
ويذكر ابن القيم أن الجواد سبحانه هو الذي له الجود كله، وجود جميع الخلائق في جنب جوده أقل من ذرة في جبال الدنيا ورمالها، فمن رحمته سبحانه بعباده أنه ابتلاهم بالأوامر والنواهي، لا حاجة منه إليهم بما أمرهم به فهو الغني الحميد، ولا بخلا منه عليهم بما نهاهم عنه فهو الجواد الكريم، ومن رحمته أن نغص عليهم الدنيا وكدرها لئلا يسكنوا إليها ولا يطمئنوا إليها ويرغبوا في النعيم المقيم في داره وجواره، فساقهم إلى ذلك بسياط الابتلاء والامتحان، فمنعهم ليعطيهم، وابتلاهم ليعافيهم، وأماتهم ليحييهم، ومن رحمته بهم أن حذرهم نفسه لئلا يغتروا به فيعاملوه بما لا تحسن معاملته به، كما قال تعالى: { وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَاللهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ } [آل عمران:30]، قال غير واحد من السلف: من رأفته بالعباد حذرهم من نفسه لئلا يغتروا به (1) .
دلالة الاسم على أوصاف الله .
اسم الله الجواد يدل على ذات الله وعلى صفة الجود بدلالة المطابقة، وعلى أحدهما بالتضمن، وقد ورد الوصف في حديث ضعيف رواه البيهقي من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( هل تدرون من أجود جودا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم قال: الله تعالى أجود جودا، ثم أنا أجود بني آدم، وأجودهم من بعدي رجل علم علما فنشره يأتي يوم القيامة أميرا وحده، أو قال أمة وحده ) (2)، قال ابن القيم:
وهو الجواد فجوده عم الوجود جميعه بالفضل والإحسان
وهو الجواد فلا يخيب سائلا ولو أنه من أمة الكفران (3) .
__________
(1) إغاثة اللهفان 2/157 بتصرف .
(2) انظر توضيح المقاصد وتصحيح القواعد في شرح قصيدة الإمام ابن القيم لأحمد بن إبراهيم 2/229.
(3) شعب الإيمان 2/281 (1767)، ومشكاة المصابيح (259)، وضعيف الترغيب والترهيب (851) .(3/114)
واسم الله الجواد يدل باللزوم على الحياة والقيومية والسمع والبصر والعلم والقدرة والغنى والعزة والجلال والقوة، وغير ذلك من أوصاف الكمال، والاسم دل على صفة من صفات الذات إن كان تقدير معناه اتصاف الله بالحسن الذاتي والكمال الإلهي ووصف فعل إن كان تقدير معناه الإفاضة بالنعم على الخلائق .
الدعاء باسم الله الجواد دعاء مسألة .
لم أجد دعاء المسألة بالاسم المطلق أو الوصف ويمكن الدعاء بمعنى الاسم، فالجواد هو الذي ينفق على خلقه بفضله ومدده؛ فلا تنفد خزائنه، ولا ينقطع سحاؤه ولا يمتنع عطاؤه، روى الحاكم وصححه الألباني من حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يدعو: ( اللهم إني أسألك من كل خير خزائنه بيدك، وأعوذ بك من كل شر خزائنه بيدك ) (1)، وعند أبي داود وصححه الألباني من حديث أبي نعامة عن ابن لسعد - رضي الله عنه - أنه قال: ( سَمِعَنِي أَبِى وَأَنَا أَقُولُ: اللهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْجَنَّةَ وَنَعِيمَهَا وَبَهْجَتَهَا وَكَذَا وَكَذَا، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ النَّارِ وَسَلاَسِلِهَا وَأَغلاَلِهَا وَكَذَا وَكَذَا، فَقَالَ يَا بُنَيَ إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ يَقُولُ: سَيَكُونُ قَوْمٌ يَعْتَدُونَ فِي الدُّعَاءِ فَإِيَّاكَ أَنْ تَكُونَ مِنْهُمْ، إِنْ أُعْطِيتَ الْجَنَّةَ أُعْطِيتَهَا وَمَا فِيهَا مِنَ الْخَيْرِ، وَإِنْ أُعِذْتَ مِنَ النَّارِ أُعِذْتَ مِنْهَا وَمَا فِيهَا مِنَ الشَّرِّ ) (2) .
__________
(1) مستدرك الحاكم 1/706 (1924)، السلسلة الصحيحة (1540) .
(2) أبو داود في كتاب الصلاة، باب الدعاء 2/77 (1480) .(3/115)
ومن دعاء الجنيد بن محمد: ( اللهم إني أسألك من فضلك وسعة جودك ورحمتك التي وسعت كل شيء؛ فإنه لا يملكها إلا أنت، أسألك يا جواد يا كريم مغفرة كل ما أحاط به علمك من ذنوبنا، والتجاوز عن كل ما كان منا إنك جواد تحب الجود، اللهم بك أعوذ وبك ألوذ، اللهم اجعل لي في اللهف إلى جودك والرضا بضمانك مندوحة عن منع البخلاء، وغنى عما في أيدي الأغنياء ) (1)، ولأبي القاسم الزمخشري أبيات في دعاء المسألة قال فيها:
قرب الرحيل إلى معاد الآخرة فاجعل الهي خير عمري آخره
وارحم مبيتي في القبور ووحدتي وارحم عظامي حين تبقى ناخره
فأنا المسكين الذي أيامه ولت بأوزار غدت متواترة
فلئن رحمت فأنت أكرم راحم فبحار جودك يا الهي زاخرة (2) .
الدعاء باسم الله الجواد دعاء عبادة .
__________
(1) حلية الأولياء وطبقات الأصفياء 10/285 .
(2) ذيل تذكرة الحفاظ لأبى المحاسن محمد بن علي بن الحسن بن حمزة الحسيني الدمشقي ص339 .(3/116)
أثر الاسم على سلوك العبد يظهر في كثرة الإنفاق وعدم الخشية من الفقر وقد ورد عند البخاري من حديث ابن عباس - رضي الله عنه - أنه قال: ( كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَجْوَدَ النَّاسِ، وَكَانَ أَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيل، وَكَانَ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ فَيُدَارِسُهُ الْقُرْآنَ، فَلَرَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَجْوَدُ بِالْخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ ) (1)، وفي رواية أخرى من حديث أنس - رضي الله عنه - قال: ( كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَحْسَنَ النَّاسِ، وَأَجْوَدَ النَّاسِ، وَأَشْجَعَ النَّاسِ ) (2)، وينبغي أن يكون الإنفاق عن إخلاص وحسن نية، فعند مسلم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( وَرَجُلٌ وَسَّعَ اللهُ عَلَيْهِ وَأَعْطَاهُ مِنْ أَصْنَافِ الْمَالِ كُلِّهِ فَأُتِي بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: مَا تَرَكْتُ مِنْ سَبِيلٍ تُحِبُّ أَنْ يُنْفَقَ فِيهَا إِلاَّ أَنْفَقْتُ فِيهَا لَكَ، قَالَ: كَذَبْتَ وَلَكِنَّكَ فَعَلْتَ لِيُقَالَ هُوَ جَوَادٌ فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَي وَجْهِهِ ثُمَّ أُلْقِي فِي النَّار ) (3) .
__________
(1) البخاري في بدء الوحي، باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله S1/6 (6) .
(2) البخاري في الجهاد، باب الشجاعة في الحرب والجبن 3/1038 (2665) .
(3) مسلم في الإمارة، باب من قاتل للرياء والسمعة استحق النار3/1513 (1905) .(3/117)
وفي رواية الترمذي وصححه الألباني من حديث أبي هريرة قال - رضي الله عنه -: ( قَالَ: كُنْتُ أَصِلُ الرَّحِمَ وَأَتَصَدَّقُ فَيَقُولُ اللهُ لَهُ: كَذَبْتَ، وَتَقُولُ لَهُ الْمَلاَئِكَةُ: كَذَبْتَ، وَيَقُولُ اللهُ تَعَالَي: بَلْ أَرَدْتَ أَنْ يُقَالَ فُلاَنٌ جَوَادٌ، فَقَدْ قِيلَ ذَاكَ ) (1)، ويذكر ابن القيم رحمه الله أن الجود عشر مراتب:
أحدها: الجود بالنفس، وهو أعلى مراتبه كما قال الشاعر:
يجود بالنفس إذ ضن البخيل بها : والجود بالنفس أقصى غاية الجود .
الثانية: الجود بالرياسة وهو ثاني مراتب الجود، فيحمل الجواد جوده على امتهان رياسته والجود بها والإيثار في قضاء حاجات الملتمس .
الثالثة: الجود براحته ورفاهيته وإجمام نفسه فيجود بها تعبا وكدا في مصلحة غيره .
الرابعة: الجود بالعلم وبذله وهو من أعلى مراتب الجود، والجود به أفضل من الجود بالمال لأن العلم أشرف من المال، والناس في الجود به على مراتب متفاوتة، وقد اقتضت حكمة الله وتقديره النافذ أن لا ينفع به بخيلا أبدا، ومن الجود به أن تبذله لمن يسألك عنه بل تطرحه عليه طرحا، ومن الجود بالعلم أن السائل إذا سألك عن مسألة استقصيت له جوابها جوابا شافيا لا يكون جوابك له بقدر ما تدفع به الضرورة، كما كان بعضهم يكتب في جواب الفتيا نعم أو لا مقتصرا عليها .
الخامسة: الجود بالنفع والجاه كالشفاعة والمشي مع الرجل إلى ذي سلطان ونحوه وذلك زكاة الجاه أن يطالب بها العبد كما أن التعليم وبذل العلم زكاته .
__________
(1) الترمذي في الزهد، باب ما جاء في الرياء والسمعة 4/591 (2382)، صحيح الجامع (1713) .(3/118)
السادسة: الجود بنفع البدن على اختلاف أنواعه كما ورد عند البخاري من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( كُلُّ سُلاَمَى عَلَيْهِ صَدَقَةٌ، كُل يَوْمٍ يُعِينُ الرَّجُلَ فِي دَابَّتِهِ يُحَامِلُهُ عَلَيْهَا أَوْ يَرْفَعُ عَلَيْهَا مَتَاعَهُ صَدَقَةٌ، وَالْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ، وَكُلُّ خَطْوَةٍ يَمْشِيهَا إِلَى الصَّلاَةِ صَدَقَةٌ، وَدَلُّ الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ ) (1) .
السابعة: الجود بالمسامحة لمن شتمه أو قذفه أن يجعله في حل، وفي هذا الجود من سلامة الصدر وراحة القلب والتخلص من معاداة الخلق ما فيه .
الثامنة: الجود بالصبر والاحتمال والإغضاء وهذه مرتبة شريفة من مراتبه، وهي أنفع لصاحبها من الجود بالمال وأعز له وأنصر وأملك لنفسه وأشرف لها، ولا يقدر عليها إلا النفوس الكبار، فمن صعب عليه الجود بماله فعليه بهذا الجود فإنه يجتني ثمرة عواقبه الحميدة في الدنيا قبل الآخرة .
التاسعة: الجود بالخُلق والبِشر والبسطة، وهو فوق الجود بالصبر والاحتمال والعفو وهو الذي بلغ بصاحبه درجة الصائم القائم، وهو أثقل ما يوضع في الميزان، وعند مسلم من حديث أبي ذر - رضي الله عنه - قال: قال لي النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( لاَ تَحْقِرَنَّ مِنَ الْمَعْرُوفِ شَيْئًا وَلَوْ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ بِوَجْهٍ طَلْقٍ ) (2) ، وفي هذا الجود من المنافع والمسار وأنواع المصالح ما فيه، والعبد لا يمكنه أن يسع الناس بحاله ويمكنه أن يسعهم بخلقه واحتماله .
العاشرة: الجود بتركه ما في أيدي الناس عليهم فلا يلتفت إليه، ولا يستشرف له بقلبه ولا يتعرض له بحاله ولا لسانه (3) .
__________
(1) البخاري في الجهاد، باب فضل من حمل متاع صاحبه في السفر 3/1059 (2734) .
(2) مسلم في البر والصلة والآداب، باب إستحباب طلاقة الوجه ثم اللقاء 4/2026 (2626) .
(3) مدارج السالكين 2/293 بتصرف .(3/119)
وممن تسمى بالتعبد للاسم عبد الجواد بن أحمد شيخ ثقة كان بالدينور سمع زيد بن إسماعيل الصائغ وأقرانه، روى عنه ابن السني (1) .
********************************
95- الله - جل جلاله - السُّبُّوحُ
********************************
الدليل على ثبوت الاسم وإحصائه .
ورد الاسم في السنة مطلقا منونا مرادا به العلمية ودالا على كمال الوصفية، وقد ورد المعنى محمولا عليه مسندا إليه في صحيح مسلم من حديث عَائِشَة رضي الله عنها أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَقُولُ في رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ: ( سُبُّوحٌ قُدُّوسٌ رَبُّ الْمَلاَئِكَةِ وَالرُّوحِ ) (2)، والحديث ورد أيضا عند أبي داود والنَسائي وأحمد .
شرح الاسم وتفسير معناه .
السبوح في اللغة من أبنية المبالغة على وزن فعُّول، فعله سبح يَسبحُ تسبيحا وسَبَحَ في الكلام إِذا أَكثر فيه التَّسبيح والتنزيه، وسبحان الله معناه تنزيه الله من الصاحبة والولد، وقيل: معناه تنزيه الله تعالى عن كل ما لا ينبغي أن يوصف به، وجِماعُ معناه بُعْدُه تبارك وتعالى عن أَن يكون له شريك أَو ندّ، أَو مثيْل أَو ضدّ، وسبَّحْتُ الله تسبيحاً وسُبْحانا بمعنى واحد (3) .
__________
(1) الإرشاد في معرفة علماء الحديث لأبي يعلى 2/630 .
(2) مسلم في كتاب الصلاة، باب ما يقال في الركوع والسجود 1/353 (487)، وأبو داود في كتاب الصلاة باب ما يقول الرجل في ركوعه وسجوده 1/230 (872)، والنسائي في كتاب التطبيق 1/240 (720)، وأحمد في المسند 6/34 (24109) .
(3) لسان العرب 2/471، وكتاب العين 3/151، والمغرب للمطرزي 1/379 .(3/120)
والسُبّوحُ - عز وجل - هو الذي له أوصاف الكمال والجمال بلا نقص، وله الأفعال المقدسة عن الشر والسوء، حيث يسْبحُ فيها قلبُ المسبح تذكرا وتفكرا فلا يرى إلا العظمةَ والبعدَ عن النَّقص والشَّر، فيقول: ما أبْعَد الله عن السوء، ثم يقطع مسافة أو مَرْحَلة أخرى في معرفةِ الأَوْصَاف ومشاهدةِ والأفعال فيزداد تعظيماً لله وتبعيدا له من السوء، والقلب في ذلك يبتعد من الظلمات إلى النور، ومن إرادة الشر إلى إرادة الخير ومن عَمَى القلوب وأَدْوَائها إلى نُورِها وشفائِها، ومن فسَادِها وَسَيْطرة الأهواء عليها إلى صَلاحِها وسَيْطرة الوَحْي عليها (1)، وعند مسلم من حديث أَبِي مُوسَى الأشعري - رضي الله عنه - أنه قَالَ: ( قَامَ فِينَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ .. وذكر منها .. حِجَابُهُ النُّورُ لَوْ كَشَفَهُ لأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ ) (2) .
والسبوح سبحانه هو الذي سبح بحمده المسبحون قال تعالى: { إِنَّ الذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ } [الأعراف:206]، وقال: { دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ } [يونس:10]، وقال سبحانه: { تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِن مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً } [الإسراء:44] .
دلالة الاسم على أوصاف الله .
__________
(1) انظر الأسماء والصفات للبيهقي ص37، وشرح النووي على صحيح مسلم 4/204 .
(2) مسلم في كتاب الإيمان، باب في قوله عليه السلام إن الله لا ينام 1/161 (179) .(3/121)
اسم الله السبوح يدل على ذات الله وعلى وصف السُّبْحَة بدلالة المطابقة، وعلى أحدهما بالتضمن، وتقدم في حديث أَبِي موسى - رضي الله عنه - مرفوعا: ( حِجَابُهُ النُّورُ لَوْ كَشَفَهُ لأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ )، وقال تعالى: { فَسُبْحَانَ الذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } [يس:83]، وقد نزه الله نفسه وسبحها عن وصف العباد له إلا ما وصف المرسلون فقال تعالى: { سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ العِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ } [الصافات:180/181]، وقال: { وَقَالُوا اتَّخَذَ الله وَلَداً سُبْحَانَهُ بَل لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ } [البقرة:116]، والاسم يدل باللزوم على الحياة والقيومية والكمال المطلق في الذات والصفات والأفعال، واسم الله السبوح دل على صفة من صفات الذات إن كان تقدير معناه المنزه في ذاته وأوصافه وأفعاله، ووصف فعل إن كان تقدير معناه الذي نزه نفسه عن كل نقص وعيب .
الدعاء باسم الله السبوح دعاء مسألة .
ورد دعاء المسألة بالوصف الذي دل عليه الاسم عند البخاري من حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت: ( كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ في رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ: سُبْحَانَكَ اللهمَّ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ اللهمَّ اغْفِرْ لِي ) (1) وعند مسلم من حديث عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه كان يجهر بهؤلاء الكلمات يقول: ( سُبْحَانَكَ اللهمَّ وَبِحَمْدِكَ تَبَارَكَ اسْمُكَ وَتَعَالَى جَدُّكَ وَلاَ إِلَهَ غَيْرُكَ ) (2) .
__________
(1) البخاري كتاب المغازي باب الدعاء في الركوع 1/274 (761) .
(2) مسلم في الصلاة، باب حجة من قال لا يجهر بالبسملة 1/299 (399) .(3/122)
وروى أيضا من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: ( إِذَا أَوَى أَحَدُكُمْ إِلَى فِرَاشِهِ فَليَأْخُذْ دَاخِلَةَ إِزَارِهِ فَليَنْفُضْ بِهَا فِرَاشَهُ وَليُسَمِّ الله؛ فَإِنَّهُ لاَ يَعْلَمُ مَا خَلَفَهُ بَعْدَهُ عَلَى فِرَاشِهِ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَضْطَجِعَ فَليَضْطَجِعْ عَلَى شِقِّهِ الأَيْمَنِ وَليَقُل: سُبْحَانَكَ اللهمَّ رَبِّى بِكَ وَضَعْتُ جَنْبِي وَبِكَ أَرْفَعُهُ، إِنْ أَمْسَكْتَ نَفْسِي فَاغْفِرْ لَهَا وَإِنْ أَرْسَلتَهَا فَاحْفَظْهَا بِمَا تَحْفَظُ بِهِ عِبَادَكَ الصَّالِحِينَ ) (1) .
الدعاء باسم الله السبوح دعاء عبادة .
أثر الاسم على العبد يتجلى في حسن توحيده لله، فيصف الله بما وصف به نفسه في كتابه وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ولا يمثل ولا يكيف، ولا يعطل ولا يحرف، بل يصدق بالخبر وينفذ الأمر، ومن أبرز دلائل التوحيد في اسم الله السبوح كثرة التسبيح بحيث يجعل جنانه ولسانه عامران به وسببا في قربه .
__________
(1) مسلم في الذكر والدعاء والتوبة، باب ما يقول ثم النوم وأخذ المضجع 4/2084 (2714) .(3/123)
روى البخاري من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال: ( جَاءَ الفُقَرَاءُ إِلَي النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالُوا: ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ مِنَ الأَمْوَالِ بِالدَّرَجَاتِ العُلاَ وَالنَّعِيمِ المُقِيمِ، يُصَلُّونَ كَمَا نُصَلِّى وَيَصُومُونَ كَمَا نَصُومُ، وَلَهُمْ فَضْلٌ مِنْ أَمْوَالٍ يَحُجُّونَ بِهَا وَيَعْتَمِرُونَ وَيُجَاهِدُونَ وَيَتَصَدَّقُونَ، قَالَ: أَلاَ أُحَدِّثُكُمْ بِأَمْرٍ إِنْ أَخَذْتُمْ بِهِ أَدْرَكْتُمْ مَنْ سَبَقَكُمْ وَلَمْ يُدْرِكْكُمْ أَحَدٌ بَعْدَكُمْ، وَكُنْتُمْ خَيْرَ مَنْ أَنْتُمْ بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِ إِلاَّ مَنْ عَمِلَ مِثْلَهُ، تُسَبِّحُونَ وَتَحْمَدُونَ وَتُكَبِّرُونَ خَلفَ كُلِّ صَلاَةٍ ثَلاَثًا وَثَلاَثِينَ، فَاخْتَلَفْنَا بَيْنَنَا فَقَالَ بَعْضُنَا: نُسَبِّحُ ثَلاَثًا وَثَلاَثِينَ وَنَحْمَدُ ثَلاَثًا وَثَلاَثِينَ وَنُكَبِّرُ أَرْبَعًا وَثَلاَثِينَ، فَرَجَعْتُ إِلَيْهِ، فَقَالَ: تَقُولُ سُبْحَانَ اللهِ وَالحَمْدُ للهِ وَاللهُ أَكْبَرُ، حَتَّى يَكُونَ مِنْهُنَّ كُلِّهِنَّ ثَلاَثًا وَثَلاَثِينَ، قَالَ أَبُو صَالِحٍ: فَرَجَعَ فُقَرَاءُ المُهَاجِرِينَ إِلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالُوا: سَمِعَ إِخْوَانُنَا أَهْلُ الأَمْوَالِ بِمَا فَعَلنَا فَفَعَلُوا مِثْلَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ ) (1) .
__________
(1) البخاري في الأذان، باب الذكر بعد الصلاة1/ 289 (807) .(3/124)
وعند البخاري من حديث جرير بن عبد الله - رضي الله عنه - قال: كنا عند النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ نظر إلى القمر ليلة البدر فقال: ( أَمَا إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ هَذَا لاَ تُضَامُّونَ أَوْ لاَ تُضَاهُونَ في رُؤْيَتِهِ، فَإِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ لاَ تُغْلَبُوا عَلَى صَلاَةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا فَافْعَلُوا، ثُمَّ قَالَ: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا ) (1)، وروى أبو داود من حديث عقبة بن عامر - رضي الله عنه - أنه قال: ( لَمَّا نَزَلَتْ: { فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ } قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : اجْعَلُوهَا فِي رُكُوعِكُمْ، فَلَمَّا نَزَلَتْ: { سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى } قَالَ: اجْعَلُوهَا فِي سُجُودِكُمْ ) (2) .
أما من جهة التسمية بعبد السبوح فلم يتسم به أحد من السلف أو الخلف في مجال ما أجرينا عليه البحث الحاسوبي، وأيضا في جميع محركات البحث على الإنترنت، وهنيئا لمن سمى نفسه أو ولده بهذا الاسم فسيكون أول من تعبد لله به فيما نعلم، والله أعلم .
********************************
96- الله - جل جلاله - الوَارِثُ
********************************
الدليل على ثبوت الاسم وإحصائه .
__________
(1) البخاري في مواقيت الصلاة، باب فضل صلاة الفجر 1/209 (547) .
(2) أبو داود في الصلاة، باب ما يقول الرجل في ركوعه 1/230 (869)، مشكاة المصابيح (879) .(3/125)
ورد الاسم في القرآن على سبيل الإطلاق والتعظيم معرفا مرادا به العلمية ودالا على كمال الوصفية، قال تعالى: { وَكَمْ أَهْلكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلا قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ } [القصص:58]، وقال: { وَإِنَّا لنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُون } [الحجر:23]، وورد أيضا في دعاء زكريا - عليه السلام -: { وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ } [الأنبياء:89] .
شرح الاسم وتفسير معناه .
الوارث اسم فاعل للموصوف بالوراثة من غيره، يقال: ورث فلان أباه يرثه وراثة وميراثا، وورث الرجل ولده مالا أي أشركه في ماله، والوراثة في حقنا انتقال المال أو الملك من المتقدم إلى المتأخر، ومنه وارث مال الميت الذي يملك تركته، ووارث الملك يرث سلطانه (1) .
والوارث سبحانه هو الباقي الدائم بعد فناء الخلق، قال ابن منظور: ( الوارث صفة من صفات الله - عز وجل - وهو الباقي الدائم الذي يرث الخلائق ويبقى بعد فنائهم، والله - عز وجل - يرث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين، أي يبقى بعد فناء الكل ويفنى من سواه فيرجع ما كان ملك العباد إليه وحده لا شريك له ) (2) .
__________
(1) لسان العرب 2/199، وكتاب العين 8/234، والمغرب للمطرزي 2/349 .
(2) السابق 2/199 .(3/126)
وإذا كان الخلائق يتعاقبون على الأرض فيرث المتأخر المتقدم، ويرث الولد والده والزوج زوجته وهكذا يستمر التوارث حتى ينقطع حبل الحياة في الدنيا، فإنه لا يبقى إلا الوارث مالك الملك، قال تعالى: { وَللهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } [آل عمران:180]، فالوارث سبحانه هو الباقي بعد فناء الخلق أو الوارث لجميع الأشياء بعد فناء أهلها، والوارث أيضا هو الذي أورث المؤمنين ديار الكافرين في الدنيا كما قال تعالى: { وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تطَئُوها وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرا } [الأحزاب:27]، وكذلك أورث المؤمنين مساكنهم في الجنة فجعل لهم البقاء مخلدين فيها كما قال: { وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلهِ الذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ } [الزمر:74]، وقال: { تِلْكَ الْجَنَّةُ التِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيّاً } [مريم:63] .
وتوريث المؤمنين الجنة لا يعني أنها تشارك الله في البقاء، لأن خلد الجنة وأهلها إلى ما لا نهاية إنما هو بإبقاء الله وإرادته، فبقاء المخلوقات ليس من طبيعتها ولا من خصائصها الذاتية، بل من طبيعتها جميعا الفناء، أما بقاء الله ودوامه وميراثه وسائر أوصافه فهي باقية ببقائه ملازمة لذاته، لأن البقاء صفة ذاتية له فهو الوارث لجميع الخلائق في الدنيا والآخرة .
دلالة الاسم على أوصاف الله .(3/127)
اسم الله الوارث يدل على ذات الله وعلى صفة الوراثة بدلالة المطابقة، وعلى ذات الله وحدها بالتضمن وعلى الصفة وحدها بالتضمن، واسم الله الوارث إن كان تقدير معناه الباقي الدائم الذي يؤول إليه الإرث دل على وصف ذات، وإن كان معناه الوارث لجميع الأشياء بعد زوال من شاء من خلقه، أو توريث من شاء ما شاء في ملكه دل على وصف فعل قال تعالى: { قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِالله وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ لِلهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالعَاقِبَةُ لِلمُتَّقِينَ } [الأعراف:128]، والنصوص في ذلك كثيرة، والاسم يدل باللزوم على الحياة والقيومية والقوة والأحدية والقدرة والصمدية والكبرياء والعزة والملك والعظمة، وغير ذلك من أوصاف الكمال .
الدعاء باسم الله الوارث دعاء مسألة .
ورد دعاء المسألة بالاسم المقيد في قوله تعالى: { وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الوَارِثِينَ } [الأنبياء:89]، فقد كان يبتغي الولد مع انقطاع الأسباب فدعا الله بما ينساب حاله: { إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاء خَفِيّاً قَال رَبِّ إِنِّي وَهَنَ العَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَل الرَّأْسُ شَيْباً وَلمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيّاً وَإِنِّي خِفْتُ المَوَالِيَ مِن وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً فَهَبْ لِي مِن لدُنكَ وَلِيّاً يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلهُ رَبِّ رَضِيّاً يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لمْ نَجْعَل لهُ مِن قَبْلُ سَمِيّاً } [مريم:2/7] .(3/128)
وروى الترمذي وحسنه الألباني من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: كان رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يدعو فيقول: ( اللهُمَّ مَتِّعْنِي بِسَمْعِي وَبَصَرِي، وَاجْعَلْهُمَا الْوَارِثَ مِنِّى، وَانْصُرْنِي عَلَى مَنْ يَظْلِمُنِي، وَخُذْ مِنْهُ بِثَأْرِي ) (1) .
الدعاء باسم الله الوارث دعاء عبادة .
دعاء العبادة سلوك يظهر العبد فيه معنى الغربة وتوحيد العبودية لله في مقابل دوام الملك للوارث جل شأنه، فتتوجه الإرادة والأقوال والأفعال على هذا المعنى، روى البخاري من حديث بن عمر - رضي الله عنه - أنه قال: ( أَخَذَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بِمَنْكِبِي فَقَالَ: كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ، أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ: إِذَا أَمْسَيْتَ فَلاَ تَنْتَظِرِ الصَّبَاحَ وَإِذَا أَصْبَحْتَ فَلاَ تَنْتَظِرِ الْمَسَاءَ، وَخُذْ مِنْ صِحَّتِكَ لِمَرَضِكَ وَمِنْ حَيَاتِكَ لِمَوْتِكَ ) (2)، وعند الترمذي وصححه الشيخ الألباني من حديث عبد الله - رضي الله عنه - أنه قال: ( نَامَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى حَصِيرٍ فَقَامَ وَقَدْ أَثَّرَ في جَنْبِهِ فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ لَوِ اتَّخَذْنَا لَكَ وِطَاءً، فَقَالَ: مَا لي وَمَا لِلدُّنْيَا مَا أَنَا في الدُّنْيَا إِلاَّ كَرَاكِبٍ اسْتَظَل تَحْتَ شَجَرَةٍ ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا ) (3) .
__________
(1) الترمذي في الدعوات 5/518 (3480)، صحيح الجامع (1310).
(2) البخاري في الرقاق، باب قول النبي S كن في الدنيا كأنك غريب 5/ 2358 (6053) .
(3) الترمذي في كتاب الزهد 4/588 (2377)، صحيح الجامع ( 5668) .(3/129)
ومن دعاء العبادة أن يتقي الله في حقوق الإرث، ولا يظلم أحدا مما فرض الله لكل وارث لاسيما إن كانوا إناثا، وأن يعطي المساكين من مال الله إذا حضروا القسمة أولم يحضروها، قال - عز وجل -: { وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً } [النساء:8]، روى البخاري من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قَال: ( إِنَّ نَاسًا يَزْعُمُونَ أَنَّ هَذِهِ الآيَةَ نُسِخَتْ، وَلاَ وَاللهِ مَا نُسِخَتْ وَلكِنَّهَا مِمَّا تَهَاوَنَ النَّاسُ، هُمَا وَالِيَانِ وَالٍ يَرِثُ وَذَاكَ الذِي يَرْزُقُ، وَوَالٍ لاَ يَرِثُ فَذَاكَ الذِي يَقُولُ بِالْمَعْرُوفِ، يَقُولُ: لاَ أَمْلِكُ لكَ أَنْ أُعْطِيَكَ ) (1) .
وينبغي أن يوقن الموحد أن الله - عز وجل - هو الذي يقسم الأرزاق، وأن الميراث الحقيقي هو ميراث العلم والأخلاق، ميراث عدن والنعيم والفردوس، قال - عز وجل -: { تِلْكَ الْجَنَّةُ التِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيّاً } [مريم:60/63 ]، وقال سبحانه: { أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ الذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } [المؤمنون:10/11] .
وممن تسمى بالتعبد لهذا الاسم عبد الوارث بن سعيد أبو عبيدة الضرير البصري التنوري (ت:180هـ)، روى عنه البخاري من حديث ابن عباس - رضي الله عنه - أنه قال: ( ضَمَّنِي رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَقَالَ: اللهُمَّ عَلِّمْهُ الْكِتَابَ ) (2) .
********************************
97- الله - جل جلاله - الرَّبُّ
********************************
الدليل على ثبوت الاسم وإحصائه .
__________
(1) البخاري في الوصايا، باب قول الله تعالى وإذا حضر القسمة أولوا القربى 3/1014 (2608) .
(2) البخاري في الاعتصام بالكتاب والسنة، باب قول النبي S اللهم علمه الكتاب 6/2653 (6842) .(3/130)
ثبت الاسم في القرآن والسنة، فقد سمى الله - عز وجل - نفسه بالرب على سبيل الإطلاق والإضافة، وكذلك سماه به رسوله - صلى الله عليه وسلم - ؛ فالإطلاق الذي يفيد المدح والثناء على الله بنفسه فكما ورد في قوله: { سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ } [يس:58]، وكقوله: { بَلدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُور } [سبأ:15]، وفي السنة ما رواه مسلم من حديث ابن عباس - رضي الله عنه - أن رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: ( أَلاَ وَإِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَقْرَأَ الْقُرْآنَ رَاكِعًا أَوْ سَاجِدًا فَأَمَّا الرُّكُوعُ فَعَظِّمُوا فِيهِ الرَّبَّ - عز وجل - وَأَمَّا السُّجُودُ فَاجْتَهِدُوا فِي الدُّعَاءِ فَقَمِنٌ أَنْ يُسْتَجَابَ لَكُمْ ) (1).
وعند الترمذي وصححه الألباني، من حديث عَمْرُو بْنُ عَبَسَةَ - رضي الله عنه - أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: ( أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الرَّبُّ مِنَ الْعَبْدِ في جَوْفِ الليْلِ الآخِرِ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَكُونَ مِمَّنْ يَذْكُرُ اللهَ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ فَكُنْ ) (2) .
__________
(1) مسلم في كتاب الصلاة، باب النهي عن قراءة القرآن في الركوع والسجود 1/348 (479) .
(2) الترمذي في كتاب الدعوات 5/569 (3578)، والحديث صححه الألباني في صحيح الجامع (1173) .(3/131)
وقد ورد الاسم في السنة أيضا في مواضع كثيرة، منها ما ورد عند البخاري من حديث مالكِ بنِ صَعْصَعةَ - رضي الله عنه - أن النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - قال: ( فأتيتُ على موسى؛ فسلمت عليه فقال: مَرحباً بكَ من أخ ونبيّ، فلما جاوَزتُ بكى فقيل: ما أبكاك؟ قال: يا رب، هذا الغلامُ الذي بُعِثَ بعدي؛ يَدخُل الجنةَ من أُمَّتهِ أفضلُ ممّا يدخلُ من أمَّتي ) (1)؛ فالأدلة كثيرة على أن الرب اسم من أسماء الله الحسنى؛ سمى الله به نفسه في كتابه وسماه به رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، وقد اجتمعت فيه شروط الإحصاء .
شرح الاسم وتفسير معناه .
الرب في اللغة صفة مشبهة للموصوف بالربوبية، فعله ربَّ يربُّ ربوبية، أو ربى يربي تربية، والرب هو الذي يربي غيره وينشئه شيئا فشيئا، ويُطْلقُ على المالِك والسَّيِّد والمدَبَّر والمُرَبِّي والقَيِّم والمُنْعِم، ولا يُطلَقُ غيرَ مُضاف إلا على الله تعالى، وإذا أُطلِقَ على غَيره أُضِيف؛ كرب الإبل ورب الدار، أي مالكها، ويطلق أيضا على السيد المطاع، ومنه قوله تعالى: { أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا } أي سيده المطاع، ويطلق الرب أيضا على المعبود ومنه قول الشاعر:
أرب يبول الثعلبان برأسه : لقد ذل من بالت عليه الثعالب .
فوصف الرب من الناحية اللغوية يكون لمن أنشأ الشيء حالا فحالا إلي حد التمام أو قام على إصلاح شئونه وتولي أمره بانتظام (2) .
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب بدء الخلق، باب ما جاء في قوله تعالى: { وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ } 3/1173 (3035) .
(2) انظر بتصرف مفردات ألفاظ القرآن ص336، والنهاية في غريب الحديث 2/179 .(3/132)
والرب سبحانه هو المتكفل بخلق الموجودات وإنشائها والقائم علي هدايتها وإصلاحها وهو الذي نظم معيشتها ودبر أمرها، ودليل هذا المعنى ما ورد في قوله تعالى: { إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الذِي خَلقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلى العَرْشِ يُغْشِي الليْل النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لهُ الخَلقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ العَالمِينَ } [الأعراف:54]؛ فالرب سبحانه هو المتكفل بالخلائق أجمعين إيجادا وإمدادا ورعاية وقياما على كل نفس بما كسبت، قال تعالى: { أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلى كُل نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ } [الرعد:33] .
وحقيقة معنى الربوبية في القرآن تقوم على ركنين اثنين وردا في آيات كثيرة أحدهما إفراد الله بالخلق، والثاني إفراده بالأمر وتدبير ما خلق، كما قال تعالى عن موسى - عليه السلام - هو يبين حقيقة الربوبية لفرعون لما سأله: { قَال فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى قَال رَبُّنَا الذِي أَعْطَى كُل شَيْءٍ خَلقَهُ ثُمَّ هَدَى } [طه:49/50]، فأجاب عن الربوبية بحصر معانيها في معنيين جامعين، الأول إفراد الله بتخليق الأشياء وتكوينها وإنشائها من العدم حيث أعطى كل شيء خلقه وكمال وجوده، والثاني إفراد الله بتدبير الأمر في خلقه كهدايتهم والقيام على شؤونهم وتصريف أحوالهم والعناية بهم، فهو سبحانه الذي توكل بالخلائق أجمعين قال تعالى: { اللهُ خَالقُ كُل شَيْءٍ وَهُوَ عَلى كُل شَيْءٍ وَكِيل } [الزمر:63] (1) .
دلالة الاسم على أوصاف الله .
__________
(1) انظر في المعنى القرآني للرب والربوبية: المختصر المفيد في أنواع التوحيد للمؤلف ص88: 116 .(3/133)
الرب اسم يدل على ذات الله وعلى صفة الربوبية بدلالة المطابقة وعلى ذات الله وحدها بالتضمن، وعلى الصفة وحدها بالتضمن، ويدل باللزوم على الحياة والقيومية والسمع والبصر والعلم والمشيئة والقدرة والملك والغنى والقوة والإحياء والإبقاء والهداية والرزق والإمداد والعطاء، والرعاية والإحاطة والعزة والرحمة والحكمة والخبرة، وكل ما يلزم لتخليق الشيء وتصنيعه وإيجاده واختراعه، فصفة الخالق أن يستغني بنفسه فلا يحتاج إلى غيره، وأن يفتقر وإليه كل من سواه، قال ابن القيم: ( دل البرهان الضروري والعقل الصريح على استغنائه سبحانه بنفسه، وأنه الغني بذاته عن كل ما سواه؛ فغناه من لوازم ذاته، ولا يكون غنيا على الإطلاق إلا إذا كان قائما بنفسه؛ إذ القيام بالغير يستلزم فقر القائم إلى ما قام به ) (1) .
والله - عز وجل - لما نفى الألوهية عمن سواه بين أن الرب المعبود الذي يخلق لا بد أن يتصف بالحياة والقوة والمشيئة والقدرة، وكل ما يلزم للقيام بالنفس قبل إقامة الآخرين قال تعالى: { وَالذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْيَاء وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ } [النحل:20/21]، وقال أيضا: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ الله لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالمَطْلُوبُ مَا قَدَرُوا الله حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ الله لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ } [الحج:73/74] .
__________
(1) الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة لابن القيم 4/1331 .(3/134)
واسم الله الرب يدل باللزوم أيضا على انفراد الله بتدبير أمر المخلوقات وتقدير أحوالهم، والقيام على شئونهم، واللطف بهم، والعناية والهداية إلى ما يصلحهم والقضاء والحكم بينهم وتهيئة الكون لتحقيق الغاية من خلقهم وغير ذلك من صفات الكمال، واسم الله الرب دل على صفة من صفات الذات والأفعال .
الدعاء باسم الله الرب دعاء مسألة .
ورد الدعاء بالاسم المقيد في نصوص كثيرة كقوله تعالى: { وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ القَوَاعِدَ مِنَ البَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّل مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ العَليم } [البقرة:127]، وأيضا ما جاء في قوله تعالى: { رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِل عَليْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلتَهُ عَلى الذِينَ مِنْ قَبْلنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلنَا مَا لا طَاقَةَ لنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلى القَوْمِ الكَافِرِينَ } [البقرة:286]، وقوله سبحانه: { وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَاناً نَصِيراً } [الإسراء:80]، وقوله: { دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللهمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } [يونس:10] .(3/135)
وروى البخاري من حديث شدّاد بن أوسٍ - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( سيِّد الاستغفار اللهم أنتَ ربي لا إلهَ إلا أنت خلقتَني وأنا عبدُك، وأنا على عهدِكَ ووعدِك ما استَطعت أبُوءُ لك بنعمتك، وأبوءُ لك بذنبي فاغفِرْ لي؛ فإنه لا يغفر الذنوبَ إلا أنت، أعوذُ بك من شرِّ ما صنعت، إذا قال حينَ يُمسي فمات؛ دخل الجنَّة، أو كان من أهل الجنة، وإذا قال حِينَ يُصبح فمات من يومِه دخل الجنَّة ) (1)، وعند البخاري من حديث أبي هريرة أن النبي قال: ( إِذَا أَوَى أَحَدُكُمْ إِلَى فِرَاشِهِ فَلْيَنْفُضْ فِرَاشَهُ بِدَاخِلَةِ إِزَارِهِ، فَإِنَّهُ لاَ يَدْرِى مَا خَلَفَهُ عَلَيْهِ، ثُمَّ يَقُولُ بِاسْمِكَ رَبِّ وَضَعْتُ جَنْبِي، وَبِكَ أَرْفَعُهُ، إِنْ أَمْسَكْتَ نَفْسِي فَارْحَمْهَا وَإِنْ أَرْسَلْتَهَا فَاحْفَظْهَا بِمَا تَحْفَظُ بِهِ الصَّالِحِينَ ) (2) .
الدعاء باسم الله الرب دعاء عبادة .
__________
(1) البخاري في الدعوات، باب أفضل الاستغفار، 5/2323 ( 5947) .
(2) الموضع السابق، باب السؤال بأسماء الله تعالى والاستعاذة بها 6/2691 (6958) .(3/136)
أثر الإيمان بتوحيد الله في اسمه الرب أن يكتسي العبد بثوب العبودية، ويخلع عن نفسه رداء الربوبية؛ لعلمه أن المنفرد بها من له علو الشأن والقهر والفوقية، فيثبت لله - عز وجل - أوصاف العظمة والكبرياء، ولا ينازع رب العالمين في كمال شريعته أو يتخلف عن درب النبي - صلى الله عليه وسلم - وسنته، فدعاء العبادة هنا عمل وسلوك وتربية والتزام ومجاهدة وتضحية تدفع المسلم إلى أرقى درجات الإيمان، قال تعالى عن نبيه إبراهيم - عليه السلام -: { قَال أَفَرَأَيْتُم مَّا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأَقْدَمُونَ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لي إِلا رَبَّ العَالمِينَ الذِي خَلقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ وَالذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ وَالذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ وَالذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ رَبِّ هَبْ لي حُكْماً وَأَلحِقْنِي بِالصَّالحِينَ وَاجْعَل لي لسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ وَاجْعَلنِي مِن وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ } [الشعراء:78] .
وقد جعل إبراهيم - عليه السلام - توحيد الله بالربوبية والألوهية مسلكا له في حياته، وزادا له في ابتلاءاته، وذخرا له عند مماته، وهذا العبد الرباني الذي أمر الله عباده أن يتصفوا بوصفه في الاعتقاد والقول والعمل؛ قال - عز وجل -: { وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ } [آل عمران:79]، وعند البخاري من حديث ابن عباس - رضي الله عنه - أنه قال في تفسير الآية: ( كُونُوا رَبَّانِيِّينَ حُكَمَاءَ فُقَهَاءَ ) (1) .
__________
(1) البخاري في العلم، باب العلم قبل القول والعمل 1/37 .(3/137)
ومن دعاء العبادة أيضا أن يتقي العبد ربه فيمن ولاه عليهم، وألا يصف نفسه بأنه رب كذا تواضعا لربه وتوحيدا لله في اسمه ووصفه، وإن جاز أن يصفه غيره بذلك، فعند أبي داود وصححه الألباني من حديث عبد الله بن جعفر - رضي الله عنه - قال: ( أن رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - دَخَلَ حَائِطًا لِرَجُلٍ مِنَ الأَنْصَارِ، فَإِذَا جَمَلٌ فَلَمَّا رَأَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - حَنَّ وَذَرَفَتْ عَيْنَاهُ فَأَتَاهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فَمَسَحَ ذِفْرَاهُ فَسَكَتَ فَقَالَ: مَنْ رَبُّ هَذَا الْجَمَلِ؟ لِمَنْ هَذَا الْجَمَلُ؟ فَجَاءَ فَتًى مِنَ الأَنْصَارِ فَقَالَ: لِي يَا رَسُولَ اللهِ، فَقَالَ: أَفَلاَ تَتَّقِى اللهَ فِي هَذِهِ الْبَهِيمَةِ التِي مَلكَكَ اللهُ إِيَّاهَا، فَإِنَّهُ شَكَى إِلَىَّ أَنَّكَ تُجِيعُهُ وَتُدْئِبُهُ ) (1) .
وأما النهي عن ذلك تواضعا لله؛ فقد ورد عند أبي داود من حديث أَبِى هريرة - رضي الله عنه - أن رسول - صلى الله عليه وسلم - قال: ( لاَ يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ: عَبْدِي وَأَمَتِي، وَلاَ يَقُولَنَّ الْمَمْلُوكُ: رَبِّى وَرَبَّتِي، وَلْيَقُلِ الْمَالِكُ: فَتَايَ وَفَتَاتِي وَلْيَقُلِ الْمَمْلُوكُ: سَيِّدِي وَسَيِّدَتِي، فَإِنَّكُمُ الْمَمْلُوكُونَ وَالرَّبُّ اللهُ - عز وجل - ) (2) .
__________
(1) أبو داود في الجهاد، ما يؤمر به من القيام على الدواب 3/23 (2548)، صحيح الترغيب (2269) .
(2) أبو داود في الأدب، باب لا يقول المملوك ربي وربتي 4/294 (4975)، صحيح الجامع (7766) .(3/138)
قال ابن أبي حاتم: ( باب من روى عنه العلم ممن يسمى عبد الرب، عبد الرب بن كناز السلمي ) (1)، وقال أبو محمد القرشي في طبقات الحنفية: ( عبد الرب بن منصور بن إسماعيل بن إبراهيم أبو المعالي الغزنوي ) (2) .
********************************
98- الله - جل جلاله - الأَعْلى
********************************
الدليل على ثبوت الاسم وإحصائه .
ورد اسم الله الأعلى في القرآن والسنة مطلقا يفيد المدح والثناء على الله بنفسه معرفا مرادا به العلمية ودالا على الوصفية وكمالها، كما في قوله تعالى: { سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى } [الأعلى:1]، وقد ورد الاسم أيضا في قوله: { وَمَا لأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى إِلا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى } [الليل:20] .
وفي صحيح مسلم من حديث حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه - قَالَ: ( صَليْتُ مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ذَاتَ لَيْلَةٍ .. إلى أن قال .. ثُمَّ سَجَدَ فَقَالَ: سُبْحَانَ رَبِّي الأَعْلَى ) (3)، وروى أبو داود وصححه الألباني من حديث ابن عباس - رضي الله عنه -: ( أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ إِذَا قَرَأَ: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى قَالَ: سُبْحَانَ رَبِّىَ الأَعْلَى ) (4) .
شرح الاسم وتفسير معناه .
__________
(1) الجرح والتعديل لابن أبي حاتم 6/ 44 .
(2) الجواهر المضية في طبقات الحنفية نشر مير محمد كتب خانه، كراتشي 1/299 (792) .
(3) مسلم في كتاب صلاة المسافرين، باب استحباب تطويل القراءة في صلاة الليل1 /536 (772) .
(4) أبو داود في كتاب الصلاة، باب الدعاء في الصلاة 1/233 (883)، وانظر حكم الألباني على الحديث في تمام المنة ص185 (133) .(3/139)
الأعلى في اللغة أفعل التفضيل، فعله علا يعلو علوا، فالأعلى هو الذي ارتفع عن غيره وفاقه في وصفه، وهي مفاضلة بين اثنين أو الجميع في عظمة وصف أو فعل، أو مفاضلة بين صاحب العلو والأعلى منه، فالأعلى ذو العلا والعلاء والمعالي (1)، قال تعالى: { وَللهِ المَثَلُ الأَعْلَى وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ } [النحل:60]، وقال: { وَلَهُ المَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ } [الروم:27]، قال الألوسي: ( وله المثل الأعلى أي الصفة العجيبة الشأن التي هي مثل في العلو مطلقا، وهو الوجوب الذاتي، والغنى المطلق، والجود الواسع، والنزاهة عن صفات المخلوقين، ويدخل فيه علوه تعالى عما يقولون علوا كبيرا ) (2) .
واسم الله الأعلى دل على علو الشأن وهو أحد معاني العلو، فالله - عز وجل - تعالى عن جميع النقائص والعيوب المنافية لإلهيته وربوبيته، وتعالى في أحديته عن الشريك والظهير والولي والنصير، وتعالى في عظمته أن يشفع أحد عنده دون إذنه، وتعالى في صمديته عن الصاحبة والولد وأن يكون له كفوا أحد، وتعالى في كمال حياته وقيوميته عن السنة والنوم، وتعالى في قدرته وحكمته عن العبث والظلم، تعالي في صفات كماله ونعوت جلاله عن التعطيل والتمثيل (3) .
__________
(1) لسان العرب 15/85 .
(2) روح المعاني 14/170، وزاد المسير لابن الجوزي 4/ 459، وتذكرة الأريب في تفسير الغريب 1/72 .
(3) انظر في هذا المعنى معارج القبول 1/144 .(3/140)
والله - عز وجل - يجوز في حقه قياس الأولي بدليل قوله: { وَلِلهِ المَثَلُ الأَعْلَى وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ } [النحل:60]، فإنه من المعلوم أن كل كمال أو نعت ممدوح لنفسه لا نقص فيه يكون لبعض الموجودات المخلوقة المحدثة فالرب الخالق الصمد القيوم هو أولى به، وكل نقص أو عيب يجب أن ينزه عنه بعض المخلوقات المحدثة فالرب الخالق القدوس السلام هو أولى أن ينزه عنه (1)، قال ابن تيمية: ( ولهذا كانت الطريقة النبوية السلفية أن يستعمل في العلوم الإلهية قياس الأولى كما قال الله تعالى: { وَلِلهِ المَثَلُ الأَعْلَى } ، إذ لا يدخل الخالق والمخلوق تحت قضية كلية تستوي أفرادها ولا يتماثلان في شيء من الأشياء، بل يعلم أن كل كمال لا نقص فيه بوجه ثبت للمخلوق فالخالق أولى به، وكل نقص وجب نفيه عن المخلوق فالخالق أولى بنفيه عنه ) (2)، فقياس الأولى جائز في حق الله وأسمائه وصفاته وأفعاله أما المحرم الممنوع فهو قياس التمثيل والشمول (3) .
دلالة الاسم على أوصاف الله .
__________
(1) العقيدة الأصفهانية ص74، والفرقان بين الحق والباطل لابن تيمية 13/164.
(2) الكيلانية ضمن مجموع الفتاوى 12/350 .
(3) غاية المرام في علم الكلام لسيف الدين الآمدي 1/122.(3/141)
اسم الله الأعلى يدل على ذات الله وعلى علو الشأن بدلالة المطابقة، وعلى ذات الله وحدها بالتضمن، وعلى الصفة وحدها بالتضمن، ويدل باللزوم على الحياة والقيومية والأحدية والصمدية وانتفاء الشبيه والمثلية، واسم الله الأعلى يدل باللزوم على مطلق الجلال في الأسماء والصفات والأفعال، وقد تقدم أن الجلال يدل على الكمال والجمال، فأسماء الله كلها حسنى وكلها عظمى لأنه سبحانه الأعلى في كل وصف قال تعالى: { تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الجَلالِ والإكرام } [الرحمن:78]، وفيها قراءتان على معنى أن الاسم نفسه موصوف بالجلال والإكرام أو يكون المسمى نفسه موصوفا بالجلال والإكرام، فاسم الله الأعلى دل على مطلق الجلال في الذات والصفات والأفعال، وليس ذلك إلا لرب العزة والجلال، هو الملك العلي الأعلى له علو الذات والفوقية وله علو الشأن في كماله وجماله (1) .
الدعاء باسم الله الأعلى دعاء مسألة .
وورد الدعاء بالوصف الذي تضمنه الاسم؛ فالأعلى سبحانه من له علو الشأن في أسمائه وصفاته وأفعاله، ومما ورد في ذلك ما رواه الترمذي وصححه الألباني من حديث ابن عباس - رضي الله عنه - أنه قال: ( كَانَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يُعَلِّمُنَا دُعَاءً نَدْعُو بِهِ في الْقُنُوتِ مِنْ صَلاَةِ الصُّبْحِ: اللهمَّ اهْدِنَا فِيمَنْ هَدَيْتَ، وَعَافِنَا فِيمَنْ عَافَيْتَ، وَتَوَلنَا فِيمَنْ تَوَليْتَ وَبَارِكْ لَنَا فِيمَا أَعْطَيْتَ، وَقِنَا شَرَّ مَا قَضَيْتَ، إِنَّكَ تَقْضِى وَلاَ يُقْضَى عَلَيْكَ، إِنَّهُ لاَ يَذِلُّ مَنْ وَالَيْتَ تَبَارَكْتَ رَبَّنَا وَتَعَالَيْتَ ) (2) .
__________
(1) انظر في هذا المعنى للعلامة ابن قيم الجوزية في بدائع الفوائد 2/366، وطريق الهجرتين ص47، ومفتاح دار السعادة 2/90، وشفاء العليل ص222 .
(2) الترمذي في أبواب الصلاة، باب ما جاء في قنوت الوتر 2/328 (464)، ومشكاة المصابيح (1273) .(3/142)
ومن الدعاء بالمقتضى سؤال الأعلى من الخير والفضل كما روى البخاري من حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت: ( سَمِعْتُ النبي - صلى الله عليه وسلم - وَهْوَ مُسْتَنِدٌ إِلَىَّ يَقُولُ: اللهُمَّ اغْفِرْ لي وَارْحَمْنِي وَأَلْحِقْنِي بِالرَّفِيقِ الأَعْلَى ) (1) .
وعند أبي داود وصححه الألباني من حديث أبي الأزهر الأنماري - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أخذ مضجعه من الليل قال: ( بِسْمِ اللهِ وَضَعْتُ جَنْبِي، اللهُمَّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي وَأَخْسِئ شَيْطَاني، وَفُكَّ رِهَانِي، وَاجْعَلْنِي في النَّدِىِّ الأَعْلَى ) (2).
الدعاء باسم الله الأعلى دعاء عبادة .
دعاء العبادة سلوك يخضع فيه العبد لربه أعلاه السجود للمعبود، ولذلك كانت الصلاة ركنا أساسيا من أركان الإسلام، وهى في جملتها فيصل بين الكفر والإيمان لأنها تفصل بين معنى الخضوع والعبودية ومعنى العلو والربوبية، فهي اعتراف عملي من الموحد بأنه عبد، وتوحيد واقعي للإله الرب، روى مسلم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( أَقْرَبُ مَا يَكُونُ العَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ فَأَكْثِرُوا الدُّعَاءَ ) (3) .
__________
(1) البخاري في المرضى، باب مرض النبي S ووفاته 4/1614 (4176) .
(2) أبو داود في الأدب، باب ما يقال عند النوم 4/313 (5054)، صحيح الجامع (4649) .
(3) مسلم في الصلاة، باب ما يقال في الركوع والسجود 1/350 (482) .(3/143)
ومن دعاء العبادة أن يكون سلوك العبد في الحياة مبني على الإخلاص وابتغاء وجه الله، وأن تكون غايته الرفيق الأعلى، قال تعالى: { وَمَا لأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى إِلا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى } [الليل:20]، وعند البخاري من حديث عائشة رضي الله عنها أنها كانت تقول: ( إِنَّ مِنْ نِعَمِ اللهِ عَلَىَّ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - تُوُفِّىَ فِي بَيْتِي وَفِي يَوْمِي وَبَيْنَ سَحْرِي وَنَحْرِي .. إلى قولها .. فَجَعَلَ يُدْخِلُ يَدَيْهِ فِي المَاءِ فَيَمْسَحُ بِهِمَا وَجْهَهُ يَقُولُ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، إِنَّ لِلمَوْتِ سَكَرَاتٍ، ثُمَّ نَصَبَ يَدَهُ فَجَعَلَ يَقُولُ: في الرَّفِيقِ الأَعْلَى، حَتَّى قُبِضَ وَمَالَتْ يَدُهُ ) (1) .
وبخصوص التسمية بعبد الأعلى فكثير من السلف ورواة الحديث تسمي به، منهم عبد الأعلى بن عدى البهراني القاضي، من الطبقة الوسطى من التابعين (ت:104هـ) (2) .
********************************
99- الله - جل جلاله - الإلهُ
********************************
الدليل على ثبوت الاسم وإحصائه .
__________
(1) البخاري في المغازي، باب مرض النبي S ووفاته 4/1616 (4184) .
(2) انظر ترجمته في تهذيب التهذيب 6/97، وتقريب التهذيب ص 331 .(3/144)
سمى الله نفسه بالإله على سبيل الإطلاق والإضافة مرادا به العلمية ودالا على الوصفية في القرآن والسنة، وقد ورد المعنى محمولا عليه مسندا إليه كما جاء في قوله تعالى: { وَإِلهُكُمْ إِلهٌ وَاحِدٌ لا إِلهَ إِلا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ } [البقرة:163]؛ حيث ورد فيها الإطلاق والإضافة معا، ومن جهة العلمية اللغوية فقد ورد الاسم منونا مجرورا في قوله تعالى: { وَمَا مِنْ إِلهٍ إِلا إِلهٌ وَاحِدٌ } [المائدة:73]، وقال الإمام البخاري: ( باب ما يُذكرُ في الذّاتِ والنُّعوتِ وأسامي الله - عز وجل - وقال خُبيب: وذلك في ذاتِ الإِله، فذكر الذاتَ باسمِهِ تعالى ) (1)، وهو يشير إلى حديث أبي هريرةَ - رضي الله عنه - في قصة خبيبٌ الأنصاريُّ - رضي الله عنه - لما قال قبل قتله وهو في الأسر بعد أن صلى ركعتين:
ولستُ أبالي حينَ أُقتلُ مسلماً : على أيِّ شِقٍّ كان لِلهِ مصرعي
وذلك في ذات الإِلهِ وإنْ يَشا : يُباركْ على أوصالِ شِلوٍ مُمزَّع
فقتله ابنُ الحارث، فأخبرَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أصحابَه خَبرَهم يومَ أُصيبوا ) (2)، قال ابن حجر العسقلاني : ( وسمعه النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم ينكره فكان جائزا ) (3) .
وقد ورد الاسم مضافا مقيدا في آيات كثيرة كقوله تعالى: { نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيل وَإِسْحَاقَ إِلهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لهُ مُسْلمُونَ } [البقرة:133] .
__________
(1) فتح الباري شرح صحيح البخاري، لأبي الفضل أحمد بن علي بن حجر العسقلاني 13/381، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، نشر دار المعرفة، بيروت، 1379هـ .
(2) البخاري في كتاب التوحيد، باب السؤال بأسماء الله والاستعاذة بها 6/2693 (6967) .
(3) فتح الباري: 13/382 .(3/145)
وعند البخاري من حديث عبد الله بن عباسٍ - رضي الله عنه - قال: كانَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَدعو منَ الليل: ( اللهمَّ لك أَسلمتُ، وبكَ آمنتُ، وعليكَ توكلت، وإليك أَنَبْتُ، وبك خاصمتُ، وإليك حاكمتُ، فاغفرْ لي ما قدَّمتُ وما أخَّرتُ وأسرَرْت وأعلنت،أنتَ إلهي لا إلهَ لي غيرك ) (1) .
شرح الاسم وتفسير معناه .
الإله في اللغة اسم مفعول المألوه أي المعبود، فعله أَلهَ يألهُ إلاهَة، والإله هو الله عز وجل، وكل ما اتخذ من دونه معبودا إِلهٌ عند متخذه، والآلِهَةُ الأَصنام سموا بذلك لاعتقادهم أَن العبادة تَحُقُّ لها، وأصله إلاهٌ على فعال بمعنى مفعول، لأنه مألوه أي معبود، كقولنا إمام بمعنى مؤتم به، فلما أدخلت عليه الألف واللام حذفت الهمزة تخفيفا لكثرته في الكلام (2) .
والإله سبحانه هو المعبود بحق، المستحق للعبادة وحده دون غيره، وقد قامت كلمة التوحيد في الإسلام على معنى الألوهية، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ( لا إله إلا أنت فيه إثبات انفراده بالإلهية، والألوهية تتضمن كمال علمه وقدرته، ورحمته وحكمته، ففيها إثبات إحسانه إلى العباد، فإن الإله هو المألوه، والمألوه هو الذي يستحق أن يعبد، وكونه يستحق أن يعبد هو بما اتصف به من الصفات التي تستلزمك أن يكون هو المحبوب غاية الحب المخضوع له غاية الخضوع، والعبادة تتضمن غاية الحب بغاية الذل ) (3) .
__________
(1) البخاري في كتاب الكسوف، باب التهجد بالليل 1/377 (1069) .
(2) لسان العرب 13/467 .
(3) دقائق التفسير الجامع لتفسير ابن تيمية، 2/364 .(3/146)
واسم الإله يختلف في معناه عن اسم الرب في كثير من النواحي، فالرب معناه يعود إلى الانفراد بالخلق والتدبير، أما الإله فهو المستحق للعبادة المألوه الذي تعظمه القلوب وتخضع له وتعبده عن محبة وتعظيم وطاعة وتسليم، ولذلك كان التوحيد الذي أمر الله - عز وجل - به العباد هو توحيد الألوهية المتضمن لتوحيد الربوبية بأن يعبد الله وحده ولا يشرك به شيئا فيكون الدين كله لله، ولا يخاف العبد إلا الله، ولا يدعو أحدا إلا الله ويكون الله أحب إليه من كل شيء؛ فالموحدون يحبون لله، ويبغضون لله، ويعبدون الله ويتوكلون عليه (1) .
دلالة الاسم على أوصاف الله .
اسم الله الإله يدل على ذات الله وعلى صفة الإلهية بالمطابقة، وعلى ذات الله وحدها بالتضمن، وعلى الصفة وحدها بالتضمن، ويدل باللزوم على انفراده بالربوبية، والحياة والقيومية، والعظمة والصمدية، وجلال الذات والأسماء والصفات الإلهية، واسم الله الإله دل على صفة من صفات الذات، وقد يذكر البعض أن توحيد الإلهية يتضمن توحيد الربوبية كقول ابن أبي العز شارح الطحاوية: ( فعلم أن التوحيد المطلوب هو توحيد الإلهية الذي يتضمن توحيد الربوبية ) (2)، وهو لا يعني الدلالة اللفظية والوضعية لمقصود المتكلم والتي ذكرناها في أنواع الدلالات، ولكنه يعني الدلالة الإيمانية، وأن الذي يؤمن بتوحيد الإلهية سيؤمن حتما بتوحيد الربوبية .
__________
(1) انظر منهاج السنة النبوية لابن تيمية 3/288 وما بعدها بتصرف، وانظر أيضا في تحقيق هذه المسألة وتفصيلها مجموع الفتاوى 1/136، 3/100، 2/11 .
(2) شرح العقيدة الطحاوية ص81 .(3/147)
قال أَبو الهيثم في قول الله تعالى: { مَا اتَّخَذَ الله مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ الله عَمَّا يَصِفُونَ } [المؤمنون:91]، ( لا يكون إِلهاً حتى يكون مَعْبوداً، وحتى يكونَ لعابده خالقاً ورازقاً ومُدَبِّراً، وعليه مقتدراً، فمن لم يكن كذلك فليس بإِله، وإِن عُبِدَ ظُلماً بل هو مخلوق ومُتَعَبَّد ) (1)
الدعاء باسم الله الإله دعاء مسألة .
ورد دعاء المسألة بالاسم المطلق في قوله تعالى عن يونس - عليه السلام -: { وَذَا النُّونِ إِذ ذَهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ } [الأنبياء:87] .
وعند الترمذي وصححه الشيخ الألباني من حديث سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: ( دَعْوَةُ ذِي النُّونِ إِذْ دَعَا وَهُوَ في بَطْنِ الحُوتِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ، فَإِنَّهُ لَمْ يَدْعُ بِهَا رَجُلٌ مُسْلِمٌ فِي شَيْءٍ قَطُّ إِلاَّ اسْتَجَابَ الله لَهُ ) (2) .
__________
(1) لسان العرب 13/467 .
(2) الترمذي في الدعوات، 8/314 ( 3505)، صحيح الترغيب والترهيب (1644) .(3/148)
وروى ابن ماجه وصححه الألباني من حديث ابن عباس - رضي الله عنه - أَنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول عند الكرب: ( لاَ إِلَهَ إِلاَّ الله العَلِىُّ العَظِيمُ، لاَ إِلَهَ إِلاَّ الله الحَلِيمُ الكَرِيمُ، لاَ إِلَهَ إِلاَّ الله رَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ، لاَ إِلَهَ إِلاَّ الله رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَرَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ ) (1)، وعند البخاري من حديث شداد بن أوسٍ مرفوعا: ( سيِّد الاستغفار اللهم أنتَ ربي لا إلهَ إلا أنت خلقتَني وأنا عبدُك .. الحديث ) (2).
وورد الدعاء بالاسم المقيد عند ابن ماجة وصححه الألباني من حديث رافع بن خديخ - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( الحُمَّى مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ فَابْرُدُوهَا بِالمَاءِ، فَدَخَلَ عَلَى ابْنٍ لِعَمَّارٍ فَقَالَ: اكْشِفِ البَاسْ رَبَّ النَّاسْ إِلَهَ النَّاسْ ) (3) .
وعند مسلم من حديث علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: ( اللهمَّ أَنْتَ المَلِكُ لاَ إِلَهَ لِي إِلاَّ أَنْتَ، أَنْتَ رَبِّى وَأَنَا عَبْدُكَ، ظَلَمْتُ نَفْسِي وَاعْتَرَفْتُ بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي ذُنُوبِي جَمِيعًا إِنَّهُ لاَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ أَنْتَ ) (4).
الدعاء باسم الله الإله دعاء عبادة .
__________
(1) ابن ماجه في الدعاء، باب الدعاء ثم الكرب، 2/1278 (3883)، صحيح الجامع (4571) .
(2) البخاري في الدعوات، باب أفضل الاستغفار 5/2323 ( 5947) .
(3) ابن ماجة في الطب، باب الحمى من فيح جهنم 2/1150 (3471)، صحيح الجامع (1223) .
(4) مسلم في صلاة المسافرين، باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه 1/535 (771) .(3/149)
أثر الإيمان الاسم يظهر على العبد في تحقيق التوحيد والخضوع لله، فتوحيد الألوهية هو الغاية التي خلق الله الناس من أجلها، وهو أول الدين وآخره وظاهره وباطنه كما قال تعالى: { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ } [الذريات:56]، فوجب على المسلم الذي اعتقد أن إلهه هو الإله الحق، وأن كل ما سواه خاضع له طوعا وكرها أن يوجه قصده وطلبه في الحياة إلى العمل في مرضاته، وأن يسلك أقرب الطرق والوسائل إليه وهو طريق السنة والاتباع دون الهوى والابتداع، فالهداية التامة تتضمن توحيد المطلوب وتوحيد الطلب وتوحيد الطريق الموصلة إليه، والانقطاع أو تخلف الوصول إليه يقع من الشركة في هذه الأمور أو في بعضها (1) .
والعبد إذا حقق توحيد الألوهية توافقت إرادته مع الإرادة الشرعية الدينية، ومن ثم تتوافق مع الإرادة الكونية القدرية، حتى يكون كما ثبت في السنة النبوية عبدا ربانيا عصمه الله في حركاته وسكناته .
وعند البخاري من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: ( إِنَّ اللهَ قَالَ: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَىَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَىَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَىَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ التِي يَبْطُشُ بِهَا وَرِجْلَهُ التِي يَمْشِى بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لأُعِيذَنَّهُ، وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ، يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ ) (2) .
*********
__________
(1) التبيان في أقسام القرآن لابن القيم، نشر دار الفكر ص 44 بتصرف .
(2) تقدم تخريجه ص680 .(3/150)
ومن ثم فإن المسلم إذا وفقه الله إلى الطاعة واجتهد في أحكام العبودية وأدى توحيد الألوهية، نسب الفضل في طاعته إلى ربه، وأنها كانت بمعونته وتوفيقه لما سبق من قضائه وقدره، ولا ينسب الفضل في ذلك إلى نفسه؛ أو يمن به على ربه، وإذا أحدث ذنبا أو معصية علم أن أفعاله وإن كانت بمشيئة الله وحكمه وقضائه وقدره إلا النسبة في العصيان مردها إلى الإنسان أو وسواس الشيطان فيدعوه ذلك إلى التوبة وطلب الغفران، ويقر لربه بذنبه وأن معصيته بسبب تقصيره وخطئه وأنه مستحق للعقاب بحكمه وعدله، وأن ربه منزه عن ظلم أحد من العالمين، فإن أدخل عبدا الجنة فبفضله، وإن عذبه في النار فبعدله، فهذا هو العبد الذي وحد الله حقا في اسمه الإله وكان سلوكه في الحياة دعاء عبادة لله - عز وجل - .
ومن دعاء العبادة أن يسمى المسلم نفسه أو لده بعبد الإله محبة لله - عز وجل - وأسمائه الحسنى، ولم أجد من تسمى عبد الإله غير جد السيد العلامة الفهامة عثمان بن على بن محمد بن عبد الإله بن أحمد الوزير، وكان عثمان سيدا تقيا ورعا ألمعيا إماما في الفروع حاكما مفتيا متين الديانة والعبادة، مات بصنعاء في جمادى الأولى سنة ثلاثين ومائة وألف (1) .
انتهى ذكر مراتب الإحصاء لكل اسم من الأسماء الحسنى
الثابتة في الكتاب والسنة
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
النتائج المتعلقة بتمييز الأسماء وكيفية التعرف عليها.
النتائج المتعلقة بشرح الأسماء وتفسير معانيها .
النتائج المتعلقة بدلالة الأسماء على الصفات .
النتائج المتعلقة بدعاء المسألة .
النتائج المتعلقة بدعاء العبادة .
تعقيبات وتعليقات على إحصاء الأسماء الحسنى .
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
__________
(1) البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع لمحمد بن علي الشوكاني2/145 .(3/151)
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
بعد جهد كبير ووقت طويل قطعته وأنا عاكف على المراجع وبين يدي حاسوبي الشخصي أقلب في الموسوعات وأراجع النتائج على المطبوع من المؤلفات، يسر الله - عز وجل - بمعرفة ضوابط الإحصاء التي يمكن لأي باحث من المسلمين أن يتعرف من خلالها على أسماء الله الحسنى الثابتة في الكتاب والسنة، ويمكنه أيضا أن يتعرف على ما لم يوافق شروط الإحصاء مما اشتهر من الأسماء على ألسنة الناس .
لقد كانت تلك الضوابط عاملا أساسيا في التعرف على أسماء الله الحسنى كما وردت بنصها بحيث يطمئن المرء إلى أن تلك الأسماء قد سمى الله - عز وجل - نفسه بها في كتابه أو في سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، كما أن هذه الضوابط أسهمت في تمييز ما ثبت وما لم يثبت من الأسماء المشتهرة التي اعتاد عليها الناس منذ أكثر من ألف عام فحفظوها وأنشدوها وكتبوها في المساجد ظنا منهم أنها نص من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - وهي في حقيقتها مدرجة أو ملصقة أو ملحقة بالحديث كاجتهاد شخصي من قبل الوليد بن مسلم مولى بني أمية، وقد علمنا أن كثيرا من تلك الأسماء ليست من أسماء الله الحسنى، ولم يسم الله - عز وجل - نفسه بها في كتابه أو في سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - .
ولما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: ( إِنَّ للهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمَا مِائَةً إِلاَّ وَاحِدًا مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ ) ( )، أيقنا أنه يشير إلى أسماء موجودة معهودة في الكتاب والسنة يمكن إحصاؤها وتتبعها والبحث عنها، كما أن دورنا حيالها هو جمعها وإحصاؤها وليس اشتقاقها وإنشاؤها، ومن ثم فإن الاسم إذا لم يكن له دليل نصي ثابت فلا يجوز أن نسمى الله - عز وجل - به إلزاما حتى ولو ألفه الناس قرونا وأعواما .(3/152)
وقد سعينا على مدار المحاور المتعددة التي وردت في البحث أن نتعرف على مراتب الإحصاء بصورة استقصائية تفصيلية في عملية بحثية مضبوطة بقواعد منهجية تشمل كل اسم من الأسماء الحسنى الثابتة في الكتاب والسنة، صحيح أنها عملية كبيرة وشاقة على أي باحث لكن نتيجتها أمر ضروري لكل مسلم، فمعرفة الأسماء الحسنى ثم مراتب الإحصاء لكل اسم منها شرف يتمناه كل باحث مسلم، وقد تقدم كلام ابن القيم في التعريف بمراتب الإحصاء فقال: ( مراتب إحصاء أسمائه التي من أحصاها دخل الجنة، وهذا هو قطب السعادة ومدار النجاة والفلاح، المرتبة الأولى إحصاء ألفاظها وعددها، المرتبة الثانية فهم معانيها ومدلولها، المرتبة الثالثة دعاؤه بها كما قال تعالى: { وَللهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا } [الأعراف:180]، وهو مرتبتان إحداهما دعاء ثناء وعبادة، والثاني دعاء طلب ومسألة ) ( )، وسوف نعرض الآن مختصرا للنتائج التي توصلنا إليها في المحاور المتعددة لمراتب إحصاء الأسماء الحسنى الثابتة في الكتاب والسنة:
النتائج المتعلقة بتمييز الأسماء وكيفية التعرف عليها.
أول المراتب وأدقها إحصاء ألفاظ الأسماء وعددها، وقد التزمنا في الجمع والإحصاء منهجا علميا مبنيا على خمسة شروط لازمة لكل اسم من الأسماء الحسنى، وهي ورود الاسم نصا في القرآن أو صحيح السنة، وأن يرد في النص مرادا به العلمية ومتميزا بعلامات الاسمية اللغوية، وأن يكون مطلقا مفردا يفيد المدح والثناء بنفسه دون تقييد ظاهر أو إضافة مقترنة، ثم دلالته على الوصف وأن يكون اسما على مسمى، وآخرها أن يكون الوصف الذي دل عليه الاسم في مطلق الجمال والكمال فلا يكون المعنى عند تجرد اللفظ منقسما إلى كمال أو نقص أو يحتمل شيئا يحد من إطلاق الكمال والحسن، تلك هي الشروط التي تضمنها قوله تعالى: { وَللهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا } [الأعراف:180] .(3/153)
وعندما تتبعت ما ورد في الكتاب والسنة باستخدام تقنية البحث الحاسوبية لكتب التراث في الموسوعات الإلكترونية، وما ذكره مختلف العلماء الذين تكلموا في إحصاء الأسماء والذين بلغ إحصاؤهم جميعا ما يزيد على المائتين والثمانين اسما ثم مطابقة تلك الشروط على ما جمعوه فإن النتيجة التي توصلت إليها، ويمكن لأي باحث أن يصل إليها هي تسعة وتسعون اسما فقط دون لفظ الجلالة، وهو إعجاز جديد ظهر باستخدام تقنية الكمبيوتر يصدق قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث: ( إِنَّ للهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمَا مِائَةً إِلاَّ وَاحِدًا )، وقد كانت مفاجأة لي كما هو الحال لدى القارئ، وها هي الأسماء الحسنى الثابتة في الكتاب والسنة مرتبة بأدلتها حسب اقتران الأسماء وورودها في الآيات مع تقارب الألفاظ على قدر المستطاع ليسهل حفظها:
1-2 الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ: والدليل قوله تعالى : { تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } [فصلت:2] .
3-10 المَلِك القُدُّوسُ السَّلامُ المُؤْمِنُ المُهَيْمِنُ العَزِيزُ الجَبَّارُ المُتَكَبِّرُ: والدليل ما ورد في قول الله تعالى: { هُوَ اللهُ الذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ المَلِكُ القُدُّوسُ السَّلامُ المُؤْمِنُ المُهَيْمِنُ العَزِيزُ الجَبَّارُ المُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ } [الحشر:23] .
11-13 الخَالِقُ البَارِئُ المُصَوِّرُ: قال - عز وجل -: { هُوَ اللهُ الخَالِقُ البَارِئُ المُصَوِّرُ } [الحشر:24] .
14-17 الأَوَّلُ الآخِرُ الظَّاهِرُ البَاطِنُ: والدليل قوله تعالى: { هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } [الحديد:3] .
18-19 السَّمِيعُ البَصِيرُ: قال - عز وجل -: { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ } [الشورى:11] .(3/154)
20-21 المَوْلَى النَّصِيرُ: والدليل قوله تعالى: { فَنِعْمَ المَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ } [الحج: 78] .
22-23 العفو القَدِيرُ: قال - عز وجل -: { فَإِنَّ اللهَ كَانَ عَفُوّاً قَدِيراً } [النساء:149] .
24-25 اللطيف الخَبِير: قال - عز وجل -: { أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللطِيفُ الخَبِيرُ } [الملك:14] .
26- الوِتْرُ: قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( وَإِنَّ اللهَ وِتْرٌ يُحِبُّ الْوِتْرَ ) (مسلم 2677) .
27- الجَمِيلُ: قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( إِنَّ اللهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ ) (مسلم91) .
28-29 الحَيِيُّ السِّتيرُ: والدليل قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَل حَيِىٌّ سِتِّيرٌ يُحِبُّ الْحَيَاءَ وَالسَّتْرَ ) (صحيح أبي داود3387) .
30-31 الكَبِيرُ المُتَعَالُ: قال - عز وجل -: { عَالِمُ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الكَبِيرُ المُتَعَالِ } [الرعد:9] .
32-33 الوَاحِد القَهَّارُ: والدليل قوله تعالى: { وَهُوَ الوَاحِدُ القَهَّار } [الرعد:16] .
34-35 الحَقُّ المُبِينُ: والدليل ما ورد في قوله تعالى: { يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللهُ دِينَهُمُ الحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ هُوَ الحَقُّ المُبِينُ } [النور:25] .
36- القَوِيُّ: والدليل قوله تعالى: { إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ } [هود:66] .
37- المَتِينُ: قال - عز وجل -: { إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ } [الذاريات:58] .
38-39 الحَيُّ القَيُّومُ: قوله - عز وجل -: { اللهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ } [البقرة:255] .
40-41 العَلِيُّ العَظِيمُ: والدليل قوله تعالى: { وَهُوَ العَلِيُّ العَظِيمُ } [البقرة:255] .
42-43 الشَّكُور الحَلِيمُ: قوله - عز وجل -: { وَاللهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ } [التغابن:17] .(3/155)
44-45 الوَاسِعُ العَلِيمُ: والدليل قوله تعالى: { إِنَّ اللهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } [البقرة:115] .
46-47 التَّوابُ الحَكِيمُ: قوله - عز وجل -: { وَأَنَّ اللهَ تَوَّابٌ حَكِيم } [النور:10] .
48-49 الغَنِيُّ الكَريمُ: قوله - عز وجل -: { وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ } [النمل:40] .
50-51 الأَحَدُ الصُّمَدُ: قوله تعالى: { قُل هُوَ اللهُ أَحَد اللهُ الصَّمَدُ } .
52-53 القَرِيبُ المُجيبُ: قوله - عز وجل -: { إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ } [هود:61] .
54-55 الغَفُور الوَدودُ: والدليل قوله تعالى: { وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُود } [البروج:14] .
56-57 الوَلِيُّ الحَميدُ: قوله - عز وجل -: { وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ } [الشورى:28] .
58- الحَفيظُ: قوله - عز وجل -: { وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ } [سبأ:21] .
59- المَجيدُ: والدليل قوله تعالى: { ذُو العَرْشِ المَجِيدُ } [البروج:15] .
60- الفَتَّاحُ: والدليل قوله تعالى: { وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيم } [سبأ:26] .
61- الشَّهيدُ: قوله - عز وجل -: { وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } [سبأ:47] .
62-63 المُقَدِّمُ المُؤِّخرُ: والدليل قول النبي - صلى الله عليه وسلم - من حديث ابن عباس - رضي الله عنه -: ( أَنْتَ الْمُقَدِّمُ وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ ) (البخاري1069) .
64-65 المَلِيكُ المَقْتَدِرُ: والدليل ما ورد في قوله تعالى: { إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِر } [القمر:55] .
66-69 المُسَعِّرُ القَابِضُ البَاسِطُ الرَّازِقُ: والدليل قول النبي - صلى الله عليه وسلم - من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه -: ( إِنَّ اللهَ هُوَ الْمُسَعِّرُ الْقَابِضُ الْبَاسِطُ الرَّازِقُ ) (صحيح الجامع 1846) .(3/156)
70- القَاهِرُ: والدليل قوله:- عز وجل -: { وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ } [الأنعام:18] .
71- الديَّانُ: والدليل قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( يَحْشُرُ اللهُ الْعِبَادَ فَيُنَادِيهِمْ بِصَوْتٍ يَسْمَعُهُ مَنْ بَعُدَ كَمَا يَسْمَعُهُ مَنْ قَرُبَ، أَنَا الْمَلِكُ أَنَا الدَّيَّانُ ) (البخاري 6/2719) .
72- الشَّاكِرُ: قوله - عز وجل -: { وَكَانَ اللهُ شَاكِراً عَلِيماً } [النساء:147] .
73- المَنَانُ: حديث أَنس - رضي الله عنه -: ( لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ الْمَنَّانُ) (صحيح أبي داود1325) .
74- القَادِرُ: والدليل قوله تعالى: { فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ القَادِرُونَ } [المرسلات:23] .
75- الخَلاَّقُ: والدليل قوله - عز وجل -: { إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلاقُ الْعَلِيم } [الحجر:86] .
76- المَالِكُ: قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( لاَ مَالِكَ إِلاَّ اللهُ عَزَّ وَجَل ) (مسلم 2143) .
77- الرَّزَّاقُ: قوله - عز وجل -: ( إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ } [الذاريات:58] .
78- الوَكيلُ: قوله - عز وجل -: { وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ } [آل عمران:173] .
79- الرَّقيبُ: قوله - عز وجل -: { وَكَانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً } [الأحزاب:52] .
80- المُحْسِنُ: قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( إن الله محسن يحب الإحسان) (صحيح الجامع 1824) .
81- الحَسيبُ: قوله تعالى: { إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حسِيباً } [النساء:86] .
82- الشَّافِي: قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( اشْفِ وَأَنْتَ الشَّافِي ) (البخاري5351) .
83- الرِّفيقُ: قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( إِنَّ اللهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ) (البخاري5901) .
84- المُعْطي: قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( وَاللهُ الْمُعْطِي وَأَنَا الْقَاسِمُ ) (البخاري2948) .(3/157)
85- المُقيتُ: قوله - عز وجل -: { وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً } [النساء:85] .
86- السَّيِّدُ: قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( السَّيِّدُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى ) (صحيح أبي داود 4021) .
87- الطَّيِّبُ: قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( إِنَّ اللهَ طَيِّبٌ لاَ يَقْبَلُ إِلاَّ طَيِّبًا ) (مسلم8330) .
88- الحَكَمُ: قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( إِنَّ اللهَ هُوَ الْحَكَمُ وَإِلَيْهِ الْحُكْمُ ) (صحيح أبي داود4145) .
89- الأَكْرَمُ: والدليل قوله تعالى: { اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ } [العلق:3] .
90- البَرُّ: قوله - عز وجل -: { إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ } [الطور:28] .
91- الغَفَّارُ: قوله - عز وجل -: { رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ } [ص:66] .
92- الرَّءوفُ: والدليل قوله تعالى: { وَأَنَّ اللهَ رءوف رَحِيم } [النور:20] .
93- الوَهَّابُ: قوله - عز وجل -: { أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ } [ص:9] .
94- الجَوَادُ: قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( إنَّ الله عزَّ وَجل جَوادٌ يحبُ الجودَ ) (صحيح الجامع 1744) .
95- السُّبوحُ: قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( سُبُّوحٌ قُدُّوسٌ رَبُّ الْمَلاَئِكَةِ وَالرُّوحِ ) (مسلم487) .
96- الوَارِثُ: قوله - عز وجل -: { وَإِنَّا لنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُون } [الحجر:23] .
97- الرَّبُّ: والدليل قوله تعالى: { سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ } [يس:58] .
98- الأعْلى: قوله تعالى: { سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى } [الأعلى:1] .
99- الإِلَهُ: قوله - عز وجل -: { وَإِلهُكُمْ إِلهٌ وَاحِدٌ لا إِلهَ إِلا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ } [البقرة:163] .(3/158)
تلك هي الأسماء التي توافقت مع شروط الإحصاء، تسعة وتسعون اسما وردت بالنص الإلهي والنبوي، ثمانية وسبعون في القرآن، وواحد وعشرون في السنة .
وقد ذكرنا أن هذا العدد لا يعنى أن الأسماء الكلية لله - عز وجل - محصورة في تسعة وتسعين اسما؛ لما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - في دعائه: ( أَوْ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَكَ ) ( )، ومن ثم فإن العدد الكلى لأسماء الله الحسنى لا يمكن لأحد حصره ولا الإحاطة به، أما حديث أبي هريرةَ - رضي الله عنه - في ذكر التسعة والتسعين فالمقصود به الأسماء التي تعرف الله - عز وجل - بها إلى عباده في الكتاب والسنة وتناسب الغاية من وجودهم وتحقق معاني الحكمة في ابتلائهم .
وبعد مراجعة الأسماء المشهورة على ألسنة الناس منذ أكثر من ألف عام والتي أدرجها الوليد بن مسلم كاجتهاد شخصي منه في حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - ، تبين أن الأسماء التي وردت فيها ليست تسعة وتسعين اسما، بل ثمانية وتسعين فقط لأن لفظ الجلالة هو الاسم الأعظم الذي تضاف إليه الأسماء ويكمل به عند إحصائه مائة اسم كما هو ظاهر من نص الحديث النبوي: ( إِنَّ للهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمَا مِائَةً إِلاَّ وَاحِدًا ) .(3/159)
كما أن الأسماء الحسنى التي ثبتت بنص الكتاب والسنة في المحفوظ على ألسنة الناس عددها بغير لفظ الجلالة تسعة وستون اسما فقط، وهي الرحمن الرحيم الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر الخالق البارئ المصور الغفار القهار الوهاب الرزاق الفتاح العليم القابض الباسط السميع البصير الحكم اللطيف الخبير الحليم العظيم الغفور الشكور العلي الكبير الحفيظ المقيت الحسيب الكريم الرقيب المجيب الواسع الحكيم الودود المجيد الشهيد الحق الوكيل القوي المتين الولي الحميد الحي القيوم الواحد الصمد القادر المقتدر المقدم المؤخر الأول الآخر الظاهر الباطن المتعالي البر التواب العفو الرءوف المالك الغني الوارث .
أما الأسماء التي لم تثبت أو توافق شروط الإحصاء في تلك الرواية المشهورة فعددها تسعة وعشرون اسما، هذه الأسماء وإن كانت معانيها حق لكن فيها أسماء لم يسم الله - عز وجل - نفسه بها، ولم ترد في كتابه أو في سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، وهي الخافض المعز المذِل العَدْلُ الجَلِيلُ البَاعِثُ المُحْصِي المُبْدِيءُ المُعِيدُ المُمِيتُ الوَاجِدُ المَاجِدُ الوَالِي المُقْسِط المُغْنِي المَانِعُ الضَّارُّ النَّافِعُ البَاقِي الرَّشِيدُ الصَّبُور، وإنما هي اجتهاد من الوليد أو نقلا منه عن اجتهاد بعض شيوخه من أهل الحديث أراد أن يفسر بها حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذكر التسعة والتسعين اسما، وهو مشكور مأجور على ما قدم، لكن اجتهاده أمر غير ملزم ولا يصح الأخذ به بعد أن ظهر الدليل على خلافه، فعقيدة السلف الصالح مبنية على أصول وقواعد لا يمكن أن نتخطاها مهما كان اشتهار المخالفة من حيث الزمان والمكان بين عامة الناس، وأول تلك القواعد أن الأسماء الحسنى توقيفية على النص، وليست مرجعيتها إلى تسمية شخص أو اجتهاده الذي يخطئ فيه أو يصيب .(3/160)
وقد أجمع أهل العلم على اختلاف طوائفهم أنه لا يجوز تسمية الله - عز وجل - بما لم يسم به نفسه في كتابه أو في سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، فمن ذا الذي يجيز لنفسه بعد ذلك أن يفتي الناس بالاعتماد على الأسماء المدرجة أو الملصقة في الروايات، والمبنية على بعض الآراء والاجتهادات دون تمحيص علمي أو تحري ما ثبت منها بالدليل وما لم يثبت؟، وماذا يقول المفتي لربه إذا أجاز لنفسه أو لغيره أن يسمي الله - عز وجل - بأسماء لا دليل عليها من كتاب أو سنة؟ ومن ثم لا ينبغي أن تأخذنا عصبية التبعية للمألوف في العادات مقابل غض الطرف عن النص الثابت في الكتاب وصحيح الروايات .
ونحن نعلم يقينا أن الله - عز وجل - لما أمرنا أن ندعوه بأسمائه الحسنى حذرنا من الإلحاد في أسمائه وعدم الوقوف عند ما سمى به نفسه في كتابه أو في سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، فقال جل شأنه: { وَللهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [لأعراف:180] .
ومن الأسماء التي وردت في تلك الرواية المشهورة والتي لا تتوافق مع ضوابط الإحصاء لانعدام شرط الإطلاق الرافع المحيي المنتقم ذو الجلال والإكرام الجامع النور الهادي البديع، فهذه أسماء مضافة أو مقيدة يصح تسمية الله بها على الوضع الذي ورد في النص كسائر الأسماء المضافة الأخرى، لكن الأسماء المعنية في حديث التسعة والتسعين هي الأسماء المفردة المطلقة التي تفيد المدح والثناء على الله بنفسها .(3/161)
أما الأسماء التي أدرجها عبد الملك الصنعاني والتي لم تثبت أو توافق ضوابط الإحصاء عند ابن ماجة فعددها تسعة وثلاثون اسما، وهي الْبَارُّ الْجَلِيلُ الْمَاجِدُ الْوَاجِدُ الْوَالِي الرَّاشِدُ الْبُرْهَانُ الْمُبْدِئُ الْمُعِيدُ الْبَاعِثُ الشَّدِيدُ الضَّارُّ النَّافِعُ الْبَاقِي الْوَاقِي الْخَافِضُ الرَّافِعُ الْمُعِزُّ الْمُذِلُّ الْمُقْسِطُ ذُو الْقُوَّةِ الْقَائِمُ الدَّائِمُ الْحَافِظُ الْفَاطِرُ السَّامِعُ الْمُحْيِي الْمُمِيتُ الْمَانِعُ الْجَامِعُ الْهَادِي الْكَافِي الأَبَدُ الْعَالِمُ الصَّادِقُ النُّورُ الْمُنِيرُ التَّامُّ الْقَدِيمُ .
وبخصوص الأسماء التي أدرجها عبد العزيز بن حصين مع كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - ورواه عنه الحاكم فالأسماء التي لم تثبت في جمعه أو توافق شروط الإحصاء عددها سبعة وعشرون اسما، وهي الحنان البديع المبديء المعيد النور الكافي الباقي المغيث الدائم ذو الجلال والإكرام الباعث المحيي المميت الصادق القديم الفاطر العلام المدبر الهادي الرفيع ذو الطول ذو المعارج ذو الفضل الكفيل الجليل البادي المحيط .
النتائج المتعلقة بشرح الأسماء وتفسير معانيها .(3/162)
علمنا أن منهج السلف في أبسط صوره هو تصديق الخبر وتنفيذ الأمر، وقد ظهر أثر هذا المنهج جليا في تفسير الأسماء الحسنى والإيمان بمعانيها كما حملتها أدلتها، وبان لنا أن كل اسم إن فسر على المنهج السلفي فله موضعه من المعنى، وإن فسر تحت دعوى تأويل الصفات وتعطيلها أو القول بِلَيِّ أعناقها فرارا من التشبيه الذي دل عليه ظاهرها القبيح، فلن تجد معنا واضحا في تلك الدعاوى والآراء، ولن تجد إحساسا بالعظمة لهذه الأسماء، لاسيما الأسماء المشتقة من فعل واحد كالعلي والأعلى والمتعالي، فإن الذين لا يؤمنون بعلو الذات والفوقية بحجة أن إثبات الاستواء يشبه استواء المخلوق في الكيفية ويفسرون استواء الله على عرشه في السماء بأنه قهر للعرش وهيمنة واستيلاء، هؤلاء لا يستقيم عندهم تفسير اسم الله العلي مع توضيح الفرق بينه وبين الأعلى والمتعال .
وذلك لأن كل اسم من هذه الثلاثة كما سبق دل على معنى من معاني العلو، فاسم الله العلي دل على علو الذات والفوقية وأن الله عال عرشه وهو أعلم بالكيفية، واسمه المتعالي دل على علو القهر والتعالي في القدرة والخالقية، واسمه الأعلى دل على علو الشأن والعظمة في الذات وسائر الصفات الإلهية، وذلك ما تنسجم فيه الأدلة اللغوية مع الأصول القرآنية والنبوية .(3/163)
لكن نظرة المفسرين المتأثرين بالمذاهب الكلامية تختلف عن ذلك، ولا تعطي تلك الأسماء إلا معنى واحدا موجها بخلفية عقلية ومتأثرا بنزعة تأويلية تعطيلية، فبعضهم يجعل اسم الله العلي دالا فقط على علو الرتبة والمنزلة ويؤكد أن هذا فهم الخواص، بل يجعل من أثبت دلالة الاسم على علو الفوقية والاستواء حشوية، بل يجعلهم من العوام الذين لم يجاوز إدراكهم عن الحواس التي هي رتبة البهائم، وأنهم لم يفهموا عظمة إلا بالمساحة، ولا علوا إلا بالمكان ولا فوقية إلا به، ولما جاء إلى اقتران اسم الله العلي بالاستواء وتخصيص العرش بالإضافة إليه سلك فيه تأويلا باطلا، وزعم أن العلو عليه هو علو الرتبة والمكانة، كقول القائل الخليفة فوق السلطان تنبيها به على أنه فوق جميع الناس الذين هم دون السلطان ( )، وقال آخر: ( العلي هو فعيل في معنى فاعل فالله تعالى عال على خلقه وهو علي عليهم بقدرته، ولا يجب أن يذهب بالعلو ارتفاع مكان إذ قد بينا أن ذلك لا يجوز في صفاته ) ( ) .
وعلو الرتبة الذي ذكروه هو المعنى الذي دل عليه اسمه الأعلى عند السلف، وهو علو الشأن والعظمة في الذات وسائر الصفات الإلهية، بخلاف العلي والمتعالي أو علو الفوقية وعلو القهر، فهما معنيان مستقلان، ولذلك أغمضوا أعينهم عنهما وكأنهما غير مذكورين في الأسماء، فصاحب المقصد الأسنى أسقطه ولم يلتفت إليه، قال عن معنى اسم الله المتعالي: ( المتعالي بمعنى العلي مع نوع من المبالغة وقد سبق معناه ) ( ) .(3/164)
والقصد أن مذهب السلف بنقائه الفطري وإيمانه النقي الذي يتوافق فيه العقل الصريح مع النقل الصحيح أظهر كل اسم بمعناه الموضوع له بدقة، انطلاقا من تصديق الخبر وتنفيذ الأمر، وأعني تصديق الخبر على الظاهر الذي أراده الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - وليس الظاهر الذي توهموه انطلاقا من خلفية التشبيه والتمثيل التي أدت إلى التعطيل والتأويل بغير دليل، ومن ثم ظهر فرق كبير بين القادر والقدير والمقتدر، والمالك والملك والمليك، والخالق والخلاق، والرازق والرزاق، وغير ذلك من الأسماء كما سبق ذكره .
وينبغي أن يعلم أنه ليس في إثبات الصفات التي دلت عليها الأسماء الحسنى تشبيه أو تمثيل، أو ظاهر باطل مستحيل يستدعي التعطيل والتأويل بدليل أو بغير دليل، فالرسل صادقون فيما يبلغون، ولا يخبرون عن الله - عز وجل - إلا بالحق الذي يعلمون، ولا يخبرون عن أسمائه وصفاته وأفعاله وأحكامه إلا بالحق المحض الذي يفهمه المسلمون من العامة أو الخاصة، فمتى علم المؤمن أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أخبر عن ربه بشيء من الغيبيات أو الأسماء والصفات صدق تصديقا جازما يبلغ علم اليقين، ويزداد المؤمن بفهمه الدقيق إيمانا في مقام عين اليقين وحق اليقين، وعلم أيضا أنه لا يجوز أن يكون في الوحي شيء ظاهره باطل مستحيل، أو شيء باطني مخفي بخلاف ما أخبر به الناس في صريح الدليل، وأنه من المحال أن يحدث الوحي في نفوس الناس أنواعا من الإلباس أو التخبط والالتباس .
النتائج المتعلقة بدلالة الأسماء على الصفات .
من خلال الحديث عن أسماء الله الحسنى الثابتة في الكتاب والسنة ودلالتها على الصفات علمنا أن طريقة السلف أنهم آمنوا بأسماء الله على الحقيقة، وأنها أعلام تدل على ذاته وأوصاف تدل على جلاله وكماله، وأنها توقيفية على ما وردت به النصوص الصحيحة، وأن الله منفرد بأسمائه وما دلت عليه من أوصافه وأفعاله، فهو سبحانه ليس كمثله شيء في كل ما أثبته لنفسه .(3/165)
كما أنهم لم يتكلموا في المسائل التي ابتدعها المخالفون إلا اضطرارا وإلزاما لبيان الحجة ودحض الشبهة، لاسيما أن المسائل الكلامية الحادثة لا دليل عليها من كلام السابقين في عصر خير القرون، وقد علمنا أيضا أن مسألة اشتقاق الأسماء الحسنى من الصفات لا بد أن نفرق فيها بين عدة جوانب أساسية توضح المسألة وتبين القضية، ففرق بين الجانب التكليفي التوقيفي وتجاوز الحكم الشرعي من ناحية، والجانب الاعتقادي في توحيد الله بأسمائه وصفاته من ناحية أخرى، والجانب اللغوي في دراسة اللفظ ومشتقاته ورد الاسم إلى مفرداته من جهة ثالثة، وقد علمنا أنه لا تعارض بين تلك الجوانب في دلالة الأسماء على الصفات .
وقد تحدثنا أيضا عن أنواع الدلالات اللفظية، وشرح معنى دلالة المطابقة والتضمن واللزوم، ثم طبقناها على الأسماء الحسنى الثابتة في الكتاب والسنة بصورة تفصيلية، وقد ظهر لنا أن الأسماء الدالة على صفات الذات عددها اثنان وعشرون اسما وهي بترتيب ورودها في البحث الملك الأول الآخر القدير الخبير الوتر الجميل الكبير الواحد القوي المتين العلي الحكيم الأحد الصمد الحميد المليك المالك الرقيب السيد الأعلى الإله .
وكذلك الأسماء الدالة على صفات الفعل عددها اثنان وأربعون اسما هي بترتيب ورودها الرحمن الرحيم الخالق المصور المولى النصير العفو اللطيف الحيي الستير القهار الشكور الحليم التواب المجيب الغفور الودود الولي الفتاح المقدم المؤخر المسعر القابض الباسط الرازق القاهر الديان الشاكر المنان الخلاق الرزاق الوكيل الشافي الرفيق المعطي المقيت الحكم الأكرم البر الغفار الرءوف الوهاب .(3/166)
كما أن الأسماء الدالة على صفات الذات والفعل معا كان عددها بناء على نتيجة البحث خمسة وثلاثين اسما، وهي السلام القدوس المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر البارئ الظاهر الباطن السميع البصير المتعالي الحق المبين الحي القيوم العظيم الواسع العليم الغني الكريم القريب الحفيظ المجيد الشهيد المقتدر القادر المحسن الحسيب الطيب الجواد السبوح الوارث الرب .
النتائج المتعلقة بدعاء المسألة .
بعد أن تناول البحث الحديث عن دعاء المسألة لغة واصطلاحا، وأن أمر الله للعباد بأن يدعوه بأسمائه الحسنى يشمل الدعاء بلسان المقال ولسان الحال معا، فلسان المقال هو المدح والثناء والطلب والسؤال، ولسان الحال هو توحيد العبودية لله في الأقوال والأفعال، وبعد العرض التفصيلي لما ورد في الدعاء بكل اسم من أسمائه الحسنى الثابتة في الكتاب والسنة دعاء مسألة؛ فإن النتيجة التي توصل إليها البحث أن الأسماء التي ثبت الدعاء فيها بالاسم المطلق ستة وأربعون اسما، وهي الرحمن الرحيم الملك القدوس السلام العزيز العليم السميع الأول الآخر الظاهر الباطن العفو الحيي الواحد القهار الحق الحي القيوم العلي العظيم الحليم التواب الحكيم الغني الكريم الأحد الصمد القريب المجيب الغفور الحميد المجيد المقدم المؤخر المنان القادر الخلاق الوكيل الشافي الأكرم البر الغفار الرءوف الوهاب الإله، وأما الأسماء التي ثبت الدعاء فيها بالاسم حال الإضافة والتقييد فعددها أحد عشر اسما، وهي البصير المولى النصير القدير الولي المليك الرزاق المالك الرقيب الوارث الرب .(3/167)
أما الأسماء التي ثبت الدعاء فيها بالوصف فعددها خمسة وعشرون اسما وهي المؤمن الجبار المتكبر الخالق البارئ المصور الستير الكبير المبين القوي الواسع الحفيظ الفتاح الشهيد المقتدر المسعر القابض الباسط الرازق المحسن الحسيب الرفيق المعطي الطيب الحكم السبوح الأعلى، والأسماء التي ورد الدعاء فيها بالمعنى والمقتضى فعددها خمسة عشر اسما وهي المهيمن اللطيف الخبير الوتر الجميل المتعال المتين الشكور الودود القاهر الديان الشاكر المقيت السيد الجواد .
النتائج المتعلقة بدعاء العبادة .
تناول البحث الحديث عن دعاء العبادة وبيان منزلته وكيف يحقق العبد مقتضى الاسم في اعتقاده وسلوكه، ثم بحثنا بحثا حاسوبيا واسع النطاق لمن بدأ اسمه بالعبودية والتعبد لله بأسمائه الحسنى، وقد كانت النتيجة كما يلي:
أولا: ستة وثلاثون من علماء السلف الصالح ورواة الحديث بدأت أسماؤهم الأولى بإضافة العبودية لأسماء الله التالية: الرحمن الرحيم الملك القدوس السلام المهيمن العزيز الجبار الخالق البارئ الخبير الكبير المتعال الواحد الحي القيوم العلي العظيم الحكيم الكريم الأحد الصمد الغفور الرزاق القاهر المالك الحميد المجيد الغفار الوهاب الوارث الأعلى الحكم الأكرم الجواد الرب، واثنان أضيفا أيضا لاسميه المؤمن والشكور لكن الأول منهما ثان والثاني منهما ثالث .
ثانيا: سبعة وعشرون من علماء الخلف والمتأخرين ابتداء من القرن الخامس الهجري بدأت أسماؤهم الأولى بإضافة العبودية لأسماء الله الحسنى التالية: الأول السميع البصير المولى النصير اللطيف القهار الحق القوي الواسع العليم الغني المجيب الودود الولي الحفيظ الفتاح المقتدر الباسط القادر الخلاق الرازق المحسن المعطي السيد الطيب البر، وثلاثة أيضا أضيفوا كاسم ثان لأسمائه الظاهر العفو الحليم .(3/168)
ثالثا: الأسماء الحسنى التي لم يتعبد لها أحد من السلف والخلف والمتأخرين ووجدناها لأناس مسلمين معاصرين في محركات البحث ودليل الهاتف على الإنترنت فعددها سبعة عشر اسما، وهي المصور الآخر القدير المبين المتين التواب الرقيب الوكيل الشهيد المليك الديان الشاكر المنان الحسيب الشافي الرءوف الإله .
أما الأسماء الحسنى الثابتة في الكتاب والسنة والتي لم يتعبد لها أحد من المسلمين حتى تاريخ تدوين هذا البحث، ولا نحسب أحدا تسمى بها من قبل في مجال ما أجرينا عليه البحث الحاسوبي فعددها أربعة عشر اسما، وهي المتكبر الباطن الوتر الجميل الحيي الستير القريب المقدم المؤخر المسعر القابض الرفيق المقيت السبوح، وهنيئا لمن سارع وسمى نفسه أو ولده بهذا الاسم فسيكون أول من تسمى به في أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - فيما نعلم، والله أعلم .
تعقيبات وتعليقات على إحصاء الأسماء الحسنى .
إحصاء الأسماء الحسنى الثابتة في الكتاب والسنة من الموضوعات التي يتوق إلى معرفتها جميع المسلمين، وليس من السهل التطرق إليه أو البحث فيه، وقد ذكرت أنني لما أقدمت على هذا البحث كانت بغيتي أن أتعرف على هذه الأسماء، لأنني كنت أعلم أنه لم يثبت حديث صحيح في جمعها وسردها، فرغبت أن أعلم نفسي وأمحو جهلي في هذه القضية، وذكرت أيضا أنه كثيرا ما كنت أخجل من نفسي وأشعر بالحيرة والاضطراب عندما أسأل عن اسم من أسماء الله التي أدرجها بعض الرواة مع كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وأن نتيجة البحث كانت مفاجأة لي قبل غيري، ولو كان هذا البحث لغيري لكان موقفي منه المزيد من الاستغراب والدهشة، ويعلم الله أنني أثناء البحث ما تركت أحدا من إخواننا الأساتذة المتخصصين اتسع وقته لي أو يمكنني استشارته إلا وأخذت رأيه فيما أشكل علي من إحصاء أسماء أو غير ذلك من مفردات البحث .(3/169)
لكن الأمر أحدث بعض ردود الأفعال وبدا شيء من الغرابة حول حقيقة الأسماء المشتهرة على ألسنة الناس منذ فترة طويلة، وكيف أن سردها ليس من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - ؟ بل إن بعض أساتذة الجامعة ويعد من المتخصصين عندما أهديته ما يتعلق بالباب الأول الخاص بإحصاء الأسماء وتمييزها، وطلبت رأيه وتعليقه لعله يفيدني بشيء يثمر البحث ويثريه، فأخبرني أنه بعد قراءته للكتاب كانت المفاجأة التي استرعت انتباهه أنه لأول مرة يعلم أن سرد أسماء الله الحسنى التسعة والتسعين المشهورة على ألسنة الناس مدرج في الحديث وأنه اجتهاد من جمع الوليد بن مسلم ألصق في رواية الترمذي، فقلت في نفسي إذا كان هذا حال المتخصصين فكيف يكون الحال لدى عامة المسلمين؟
وقد كانت أغلب الملاحظات العلمية التي حدثني فيها أهل العلم من المتخصصين في العقيدة وغيرها عبارة عن استبيان أو استفسار أو استغراب من غير إنكار، أو اختلاف في وجهة النظر المتعلقة بتقييد اسم أو إطلاقه، أو عدم التفريق بين التقييد الظاهر في النص والتقييد العقلي بالممكنات، أو قضية التمييز بين حسن الأسماء في حال إطلاقها وحسنها في حال تقييدها، وأن الأسماء المقيدة حسنها فيما قيدت به، والمطلقة في الحسن هي المقصودة بالتسعة والتسعين اسما، أو غير ذلك من الأخطاء المطبعية أو الرغبة في إعادة الصياغة اللغوية لبعض الجمل والفقرات، ومراعاة مفهوم المخالفة لبعض العبارات .(3/170)
وقد ظهرت قضية أخرى لدى بعض الدعاة المحبين لمنهج السلف وطريقة المحدثين والذين ينقلون أغلب كلامهم في العقيدة عن ابن تيمية وابن القيم، فمن شدة حبهم لهما يعتبرون كل ما ورد في كلامهما أمرا مسلما لا يمكن تتبعه بالنظر والتعقيب، وأن من نقل عنهما في أي مرحلة من مراحل حياتهما فهو موفق مصيب، وهما وإن كان حبهما راسخ في قلبي رسوخ الجبال، بل أغلب ما في بحثي هو من بديع ما عندهما من الأقوال، إلا أنه ينبغي رد كلامهما إلى أصولهما في العقيدة، فلما نظر بعض إخواننا الدعاة إلى بعض الأسماء المشهورة ووجدوها مذكورة في كلامهما، كقول شيخ الإسلام ابن تيمية: ( وكذلك الأسماء التي فيها ذكر الشر لا تذكر إلا مقرونة كقولنا الضار النافع المعطي المانع المعز المذل، أو مقيدة كقوله: { إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ } [السجدة:22] ) ( )، وكقول العلامة ابن القيم: ( وأيضا فإنه سبحانه له الأسماء الحسنى، فمن أسمائه الغفور الرحيم العفو الحليم الخافض الرافع المعز المذل المحيي المميت الوارث الصبور، ولا بد من ظهور آثار هذه الأسماء ) ( ) .
وهما في المقابل ـ أعني ابن تيمية وابن القيم ـ يؤكدان في غير موضع على أن الأسماء الحسنى توقيفية على النص، وأنه لا يجوز أن نسمي الله بما لم يسم به نفسه في كتابه أو في سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، فكيف إذا ذكرا أو اعتبرا الضار النافع المانع الخافض الرافع المعز المذل المميت الصبور من الأسماء الحسنى بلا دليل؟(3/171)
والجواب عن هذه المسألة أنه على الرغم من كون تراث شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم يعد مرجعا أساسيا في بحثي هذا، بل لم أجد ـ وأقولها بصدق ـ لم أجد مصدرا يمكن النقل عنه بدقة علمية وراحة نفسية وطمأنينة قلبية مثل ما ورد في تراثهما وما عندهما من بديع الأقوال، لا من جهة الكم، ولا من جهة الكيف، وربما يأخذ البعض علينا كثرة النقل عن ابن القيم على وجه الخصوص، ولكني أشهد الله أنني كنت أقارن وأبحث في الموسوعات الإلكترونية والمراجع العلمية عن بديل أو مشارك في الكمية أو الكيفية بحيث أتلاشى هذا المأخذ غير أني لم أجد بديلا نقيا يتخذ منهجا قرآنيا نبويا بحجم ما كتبه ابن تيمية وتلميذه ابن القيم اللهم إلا مقتطفات يسيرة .
لكن ما يعنينا الآن أن الباحث المحب لهذين الحبرين العظيمين ينبغي عليه أن يتقيد أولا بأصولهما في اعتقاد السلف، ثم إن وجد في بعض كلامهما شيئا يختلف تلمس لهما الحجة والعذر، أولا لأنهما بشر يجوز على اجتهادهما ما يجوز على غيرهما، ثم لأنه من المسلمات عند هذين الحبرين أن أصول العقيدة السلفية مبنية على الأدلة النقلية دون الفلسفات العقلية والمناهج الكلامية، وأن دور العقل حيال النقل هو العلم به والتعرف إليه، وليس العقل عندهما أصلا في ثبوت النقل كما ادعى كثير من المتكلمين، وهما يقرران أن العقل الصريح لا يعارض النقل الصحيح بل يشهد له ويؤيده؛ إذ أن مصدرهما واحد فالذي خلق العقل هو الذي أرسل إليه النقل، ومن المحال أن يرسل إليه ما يفسده، وهناك أصول كثيرة تجدها بين أميال طويلة مما سُطِّر في تراثهما، ومن ثم لا بد أن يراعي الباحث في بحثه أصول الرجلين قبل إلزامهما بشيء يخالفها، وقد ذكرنا في أنواع الدلالات لازم القول هل هو حجة أو قول؟ فليراجع .(3/172)
أما عن العلة التي يمكن تلمسها لذكرهما بعض الأسماء التي لا دليل عليها فيمكن القول إن كل عالم يمر عبر حياته بمراحل علمية متعددة، فلم يولد ابن تيمية وهو يكتب منهاج السنة النبوية، ولم يولد ابن قيم الجوزية ومعه شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل، بل كان حالهما كحال بقية أهل العلم في كل زمان ومكان، وإن كان لهما تميز مخصوص في المواهب العلمية والقدرات الذهنية .
ومن ثم قد يُنقل عن ابن تيمية في بداية حياته بعض الأسماء التي لم تثبت في رواية الوليد نظرا لشهرتها الطويلة بين العامة، بل إن أغلب العلماء في عصرنا وهم أسائذة في أعرق الجامعات ما زالوا يتناقلونها وهم يظنون أنها من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - الثابت المسند في الروايات، وأنها عقيدة مسلمة لا شية فيها، وقد صرح بعضهم لي شخصيا بذلك وأن الأمر بعد إطلاعه عليه كان مفاجئا له، لكن لا يستطيع أي باحث أن يحدد متى ذكر ابن تيمية وابن القيم في كلامهما أن الضار النافع الخافض الرافع المعز المذل من الأسماء الحسنى، هل كان ذلك في أول حياتهما أم في آخرها؟
وفضلا على ذلك أن الأصول التي قررها هذان الحبران تفيد بلا شك أن الأسماء الحسنى توقيفية على النص، وهما يؤكدان في غير موضع أنه لا يجوز أن نسمي الله بما لم يسم به نفسه في كتابه أو في سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، قال ابن تيمية: ( وأما تسميته سبحانه بأنه مريد وأنه متكلم؛ فإن هذين الاسمين لم يردا في القرآن ولا في الأسماء الحسنى المعروفة ومعناهما حق، ولكن الأسماء الحسنى المعروفة هي التي يدعى الله بها، وهي التي جاءت في الكتاب والسنة، وهي التي تقتضي المدح والثناء بنفسها ) ( ) .(3/173)
وقال أيضا: ( وقد اتفق أهل المعرفة بالحديث على أن هاتين الروايتين ـ يعني رواية الترمذي وابن ماجة ـ ليستا من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - وإنما كل منهما من كلام بعض السلف فالوليد ذكرها عن بعض شيوخه الشاميين كما جاء مفسرا في بعض طرق حديثه؛ ولهذا اختلف أعيانهما عنه فروى عنه في إحدى الروايات من الأسماء بدل ما ذكر في الرواية الأخرى؛ لأن الذين جمعوها قد كانوا يذكرون هذا تارة وهذا تارة .. وهذا كله مما يبين لك أنها من الموصول المدرج في الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - .. فتعيينها ليس من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - باتفاق أهل المعرفة بحديثه ) ( )، وقال ابن القيم: ( السابع أن ما يطلق عليه في باب الأسماء والصفات توقيفي وما يطلق عليه من الأخبار لا يجب أن يكون توقيفيا كالقديم والشيء والموجود والقائم بنفسه؛ فهذا فصل الخطاب في مسألة أسمائه: هل هي توقيفية أو يجوز أن يطلق عليه منها بعض ما لم يرد به السمع؟ ) ( ) .
ونحن لو تتبعنا ما ذكره ابن تيمية وابن القيم في أن الأسماء الحسنى توقيفية على النص وأنه لا يجوز أن نسمي الله - عز وجل - بما لم يسم به نفسه، أو أن نصفه بما لم يصف به نفسه في كتابه أو في سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - لعجزنا عن ذلك ( )، فتلك أصول لا يردها أو يناقش فيها إلا من لم يدرك منهج هذين الحبرين، وهي أيضا حجة عليهما قبل غيرهما .(3/174)
ومن ثم لو نقل عن ابن تيمية قوله: ( أسماء الله المقترنة كالمعطي المانع والضار النافع المعز المذل الخافض الرافع فلا يفرد الاسم المانع عن قرينه، ولا الضار عن قربنه لأن اقترانهما يدل على العموم ) ( )، أو نقل عن ابن القيم قوله: ( فإنه سبحانه له الأسماء الحسنى، فمن أسمائه الغفور الرحيم العفو الحليم الخافض الرافع المعز المذل المحيي المميت الوارث الصبور، ولا بد من ظهور آثار هذه الأسماء؛ فاقتضت حكمته سبحانه أن ينزل آدم وذريته دارا يظهر عليهم فيها أثر أسمائه ) ( ) .
لو نقل عنهما مثل ذلك وما تقدم، فإن السؤال الذي يطرح نفسه في هذا المقام على أي دليل استندا الحبران إلى تسمية الله بالضار النافع المعز المذل الخافض الرافع المميت إلى غير ذلك، وهي لم ترد إلا أفعالا ولا دليل على كونها من الأسماء الحسنى؟ فهل كل منهما يجوّز أن يشتق لله اسما من كل فعل؟ وكيف يكون ذلك وقد تقدم توبيخهما لمن فعل ذلك؟ والذي أرجحه كما تقدم أنهما إما ذكرا ذلك في بداية حياتهما أو على اعتبار أنهما يوجهان من أخذ بالمشهور في رواية الوليد ينبغي عليه أن يحتاط فيلتزم بما ذكرا فلا يفرد الاسم عن قرينه من الأسماء المتقابلة، كما أنهما لم يتتبعا الأسماء الحسنى الثابتة في الكتاب والسنة حصرا لصعوبة ذلك بغير وجود الحاسوب المتيسر في عصرنا .
وقد تتبعت الأسماء التي ذكروها في كلامهم السابق فوجدت أنه لم يثبت منها وفق ضوابط الإحصاء إلا المعطي العفو الأول الآخر الظاهر الباطن المقدم المؤخر، وهذه كلها دالة بمفردها على الكمال المطلق، ويجوز الدعاء بها، ويجوز أيضا إطلاقها في حق الله أو اقترانها بمقابلها أو غيره، كما هو الحال في جميع الأسماء المقترنة .(3/175)
أما ما ذكره ابن القيم في دعاء الله بالأسماء المتقابلة حيث قال في قواعده: ( السابع عشر أن أسماءه تعالى منها ما لا يطلق عليه بمفرده بل مقرونا بمقابله كالمانع والضار والمنتقم؛ فلا يجوز أن يفرد هذا عن مقابله؛ فإنه مقرون بالمعطي والنافع والعفو فهو المعطي المانع الضار النافع المنتقم العفو المعز المذل، لأن الكمال في اقتران كل اسم من هذه بما يقابله .. وأما أن يثنى عليه بمجرد المنع والانتقام والإضرار فلا يسوغ، فهذه الأسماء المزدوجة تجري الأسماء منها مجرى الاسم الواحد الذي يمتنع فصل بعض حروفه عن بعض .. ولذلك لم تجيء مفردة ولم تطلق عليه إلا مقترنة فاعلمه، فلو قلت: يا مذل يا ضار يا مانع وأخبرت بذلك لم تكن مثنيا عليه ولا حامدا له حتى تذكر مقابلها ) ( ) .
هذا الكلام الذي ذكره ابن القيم فيه نظر، لأنه قد يصح لو ثبتت تلك الأسماء جميعها، ولكن بعد البحث تبين أنه لم يثبت منها غير المعطي والعفو، فليس من أسمائه الضار ولا النافع ولا المنتقم على إطلاق اللفظ، ولا المانع ولا المعز ولا المذل ولا دليل عليها من كتاب أو سنة، فالقاعدة التي ذكرها مبنية في الأصل على أساس لم يثبت وغير مستقر، وتجدر الإشارة إلى أن أغلب أهل العلم على اختلاف طوائفهم الكلامية والذوقية يكاد يتطابق منهجهم في الأسماء الحسنى مع الطريقة السلفية؛ فهم يؤكدون على أنها توقيفية، وأنه لا يجوز تسمية الله - عز وجل - إلا بما ثبت في الأدلة النقلية .
والقصد أن المسلم لاسيما إن كان داعيا أو فقيها مفتيا ينبغي أن يكون واثقا في عقيدته وعلى بصيرة في منهجيته، متمسكا بأصول السلف ومنهجهم، ولا يخيفه شهرة فلان أو ظهوره المتكرر في وسائل الإعلام، أو منصبه العلمي أيا كان، فكل يأخذ من كلامه ويرد إلا نبينا المعصوم - صلى الله عليه وسلم - ، ومن ثم إذا ثبت الاسم بدليل الكتاب وصحيح السنة لا يسع أي مسلم صادق رده أو عدم الإيمان به .(3/176)
وختاما أشير إلى أن موضوع البحث نظرا لما هو متوقع من ردود الفعل الواسعة في الوسط الإسلامي عند عامة الناس وخاصتهم، لاسيما وأنه يمس ما اعتادوا عليه من الأسماء المشهورة منذ أكثر من ألف عام، والتي لا دليل على كثير منها في الكتاب أو السنة؛ فقد تقدمنا بطلب للأزهر الشريف لفحص وتدقيق وصلاحية الموضوع للنشر والتداول، وذلك من خلال ثلاثين محاضرة مسموعة ومكتوبة نصا على اسطوانة مدمجة تعمل على الكمبيوتر وجميع المشغلات الصوتية MP3، تضمنت الأسماء الحسنى الثابتة في الكتاب والسنة والأدلة عليها وما جاء أيضا من الشرح والدلالة ودعاء المسألة والعبادة، وتضمنت الأدلة على أن كثيرا من الأسماء المشهورة ليست من أسماء الله الحسنى، وأنه لا دليل عليها من كتاب أو سنة، أو أنها لا توافق ضوابط الإحصاء مع ذكر العلة في ذلك، وكيف أنها من جمع الوليد بن مسلم المدرج في رواية الترمذي، وأنه لا يجوز أن نسمي الله - عز وجل - إلا بما سمى به نفسه أو سماه به نبيه - صلى الله عليه وسلم - لا يتجاوز ذلك القرآن والحديث .
وبعد فحص وتدقيق من قبل القائمين على الأمانة العامة لمجمع البحوث الإسلامية بالأزهر الشريف دام قرابة ستة أشهر جاءت موافقة الأزهر على ما ذكرناه في هذه المحاضرات جميعها بتاريخ 5/2/2005م، وهذه صورة مرفقة من تصريح الأمانة العامة لمجمع البحوث الإسلامية بالأزهر الشريف .
وإني لأتوجه بالشكر لأهل العلم المراقبين في الأمانة العامة لمجمع البحوث الإسلامية بالأزهر الشريف الذين صبروا على سماع تلك المحاضرات وقراءتها كلمة كَلمة، حفظ الله الأزهر منارة للحق ينير سبيل المسلمين في كل زمان ومكان .(3/177)
وإني أستغفر الله العظيم وأسأله التجاوز عني والمسامحة في كل ما بدر مني؛ فإني محل خطأ وتقصير، ومثلي إلى عفوه ومغفرته عائذ فقير، وهو سبحانه وتعالى أهل التقوى وأهل المغفرة، وهو الغني الكريم الغفور الحليم والواسع العليم، وأسأله سبحانه أن يجعل هذا العمل خالصا لوجهه الكريم، وأن لا يحرمنا أجره من واسع فضله العظيم، وأن يغفر لوالديَّ ويجزي زوجتي أم عبد الرزاق خير الجزاء على ما قدمته من جهد كبير في مراجعتها لتخريج الأحاديث ومطابقتها على المراجع المطبوعة إنه حسيب رقيب سميع قريب مجيب الدعاء، اللهم أنت ربي وإلهي لا معبود لي سواك؛ فتقبل مني واجعل كاتبه وقارئه وناقله ومعلمه من أهل العمل بمقتضى الأسماء وتحقيق الوعد بجزاء الإحصاء .
الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، الحمد لله ملء السماوات وملء الأرض وملء ما شاء من شيء بعد، أهل الثناء والمجد، أحق ما قال العبد وكلنا لك عبد، لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد، اللهم ربنا ولك الحمد، لا إله إلا أنت المنان، بديع السماوات والأرض يا ذا الجلال والإكرام يا حي يا قيوم، اللهم صلي على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه ودربه إلى يوم الدين، اللهم وأحينا على سنته وتوفنا على ملته غير مبدلين ولا مفرطين ولا مفتونين بفضلك وسعة كرمك يا أرحم الراحمين .
انتهى البحث ولله الحمد
توحيد العبادة ومفهوم الإيمان .
توحيد الصفات بين اعتقاد السلف وتأويلات الخلف .
مفهوم القدر والحرية عند أوائل الصوفية .
مختصر القواعد السلفية في الصفات الربانية .
التصوف هل له أصل في الكتاب والسنة ؟
إثبات الشفاعة لصاحب المقام المحمود والرد على الدكتور مصطفى محمود .
الإنسان وبداية الكون .
معجم ألفاظ الصوفية ـ الأصول القرآنية للمصطلح الصوفي (ثلاثة مجلدات) .
المختصر المفيد في علة تصنيف التوحيد .(3/178)
المحكم والمتشابه وعلاقته بالتفويض .
الدليل من الأناجيل على أن نصارى اليوم يعرفون محمدا S كما يعرفون أبناءهم .
الفضائيات والغزو الفكري .
شروط لا إله إلا الله .
تفسير آية الكرسي ( أعظم آية في كتاب الله ) .
القضاء والقدر .
البدعة الكبرى ( محنة الإمام في صفة الكلام ) .
أسماء الله الحسنى الثابتة في الكتاب والسنة - الإحصاء .
أسماء الله الحسنى الثابتة في الكتاب والسنة - الشرح والتفسير .
أسماء الله الحسنى الثابتة في الكتاب والسنة - دلالتها على الصفات .
أسماء الله الحسنى الثابتة في الكتاب والسنة - دعاء المسألة .
أسماء الله الحسنى الثابتة في الكتاب والسنة - دعاء العبادة .
أسماء الله الحسنى الثابتة في الكتاب والسنة ـ الكتاب الجامع .
مختصر الدعاء بالأسماء الحسنى .
مختصر أسماء الله الحسنى الثابتة في الكتاب والسنة .
إصدارات صوتية ومقروءة تعمل على الكمبيوتر ومشغلات MP3
الإصدار الأول 30 محاضرة في أهم موضوعات العقيدة الإسلامية .
الإصدار الثاني 30 محاضرة في منهج أهل السنة في التوحيد .
الإصدار الثالث 30 محاضرة في القضاء والقدر وحرية الإنسان .
الإصدار الرابع 30 محاضرة في أسماء الله الحسنى الثابتة في الكتاب والسنة .
بسم الله الرحمن الرحيم
السيرة الذاتية لمؤلف الكتاب(3/179)
هو الدكتور محمود عبده عبد الرازق على الرضواني، ولد في قرية الكفر الجديد بمركز المنزلة محافظة الدقهلية بجمهورية مصر العربية سنة 1384هـ/ 1964م، وحصل على درجة الليسانس في تخصص العقيدة الإسلامية من كلية الدعوة وأصول الدين بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة سنة 1406هـ/1986م، ثم حصل على درجة الماجستير فى العقيدة الإسلامية من كلية دار العلوم جامعة القاهرة سنة 1995م، ثم حصل على درجة الدكتوراه فى العقيدة الإسلامية بمرتبة الشرف الأولى من كلية دار العلوم جامعة القاهرة سنة 1998م، ثم حصل على درجة أستاذ مشارك في العقيدة الإسلامية والمذاهب المعاصرة من كلية الشريعة وأصول الدين جامعة الملك خالد في المملكة العربية السعودية ـ وهو عضو مؤسس للجمعية العلمية السعودية لعلوم العقيدة والأديان والفرق والمذاهب المعاصرة بكلية الدعوة وأصول الدين بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة .(3/180)