0106761219 (002) – 4522919(00202)
ش العزيز بالله ـ الزيتون ـ القاهرة
الطبعة الأولى
1426هـ - 2005م
***************************************************
رقم الإيداع بدار الكتب ـ 2836 / 2005
الترقيم الدولي - I . S . B . N
0 - 2009 - 17 - 977
***************************************************
لمراسلة المؤلف والتعليق على البحث
ababm@hotmail.com
***************************************************
لطلبات الجملة
(أكثر من مائة نسخة)
0123482108(002) - 0122578499(002)
4398205 (00202) - 4389187 (00202)
***************************************************
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمدا عبد الله ورسوله .
قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } [الحشر:18]، وقال - عز وجل -: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } [آل عمران:102]، وقال سبحانه: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً } [الأحزاب:70/71]، أما بعد ..
فقد أمرنا الله في كتابه أن ندعوه بأسمائه الحسنى فقال: { وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [الأعراف:180] .(1/1)
وقال سبحانه وتعالى: { قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيّاً مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى } [الإسراء:110]، وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( إِنَّ للهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمَا مِائَةً إِلاَّ وَاحِدًا مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ ) (1) .
من المعلوم أن إحصاء الأسماء الحسنى وجمعها من الكتاب والسنة قضية لها من الأهمية والمكانة في قلوب المسلمين ما تتطلع إليه نفوس الموحدين وتتعلق بها ألسنة الذاكرين ويرتقي الطالبون من خلالها مدارج السالكين، قال ابن القيم: ( فالعلم بأسمائه وإحصاؤها أصل لسائر العلوم، فمن أحصى أسماءه كما ينبغي أحصى جميع العلوم، إذ إحصاء أسمائه أصل لإحصاء كل معلوم؛ لأن المعلومات هي من مقتضاها ومرتبطة بها ) (2) .
ويذكر ابن القيم أن مراتب إحصاء الأسماء الحسنى التي من أحصاها دخل الجنة ـ وهذا هو قطب السعادة ومدار النجاة والفلاح ـ ثلاث مراتب: المرتبة الأولى إحصاء ألفاظها وعددها، المرتبة الثانية فهم معانيها ومدلولها، المرتبة الثالثة دعاؤه بها، وهو مرتبتان إحداهما دعاء ثناء وعبادة، والثانية دعاء طلب ومسألة، فلا يثنى عليه إلا بأسمائه الحسنى وصفاته العلى، وكذلك لا يسأل إلا بها (3) .
__________
(1) أخرجه البخاري في الشروط، باب إن لله مائة اسم إلا واحدا 6/2691 (6957)، ومسلم في الذكر والدعاء والتوبة، باب في أسماء الله تعالى وفضل من أحصاها 4/2063 (2677) .
(2) بدائع الفوائد 1/171 .
(3) انظر السابق 1/171 .(1/2)
لكن السؤال الذي يطرح نفسه على عامة المسلمين وخاصتهم، ما هي الأسماء الحسنى التي ندعو الله - عز وجل - بها؟! إن المتفق علي ثبوته وصحته عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو الإشارة إلى العدد تسعة وتسعين في الحديث السابق الذي ورد في الصحيحين عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، لكن لم يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - تعيين الأسماء الحسنى أو سردها في نص واحد، وهذا أمر لا يخفى على العلماء الراسخين قديما وحديثا والمحدِّثين منهم خصوصا، إذاً كيف ظهرت الأسماء التي يحفظها الناس منذ أكثر من ألف عام؟ !
في نهاية القرن الثاني ومطلع القرن الثالث الهجري حاول ثلاثة من رواة الحديث جمعها باجتهادهم؛ إما استنباطا من القرآن والسنة أو نقلا عن اجتهاد الآخرين في زمانهم، الأول منهم ـ وهو أشهرهم وأسبقهم ـ الوليد بن مسلم مولى بني أمية (ت:195هـ) وهو عند علماء الجرح والتعديل كثير التدليس والتسوية في الحديث (1)، والثاني هو عبد الملك بن محمد الصنعاني، وهو عندهم ممن لا يجوز الاحتجاج بروايته لأنه ينفرد بالموضوعات (2)، أما الثالث فهو عبد العزيز بن الحصين وهو ممن لا يجوز الاحتجاج به بحال من الأحوال لأنه ضعيف متروك ذاهب الحديث كما قال الإمام مسلم (3) .
__________
(1) تقريب التهذيب لابن حجر 2/336، ميزان الاعتدال للذهبي 4/347 .
(2) تهذيب التهذيب لابن حجر 6/372، والكاشف في معرفة من له رواية في الكتب الستة للذهبي 2/214 .
(3) المجروحين 2/138، ميزان الاعتدال 2/627، التلخيص الحبير 4/190، الضعفاء والمتروكين 2/109.(1/3)
هؤلاء الثلاثة اجتهدوا فجمع كل منهم قرابة التسعة والتسعين اسما ثم فسر بها حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - الذي أشار فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى هذا العدد، غير أن ما جمعه الوليد بن مسلم هو الذي اشتهر بين الناس منذ أكثر من ألف عام، فقد جمع ثمانية وتسعين اسما بالإضافة إلى لفظ الجلالة وهي: الرَّحمنُ الرَّحيمُ المَلِك القُدُّوسُ السَّلاَمُ المُؤْمِنُ المُهَيمِنُ العَزِيزُ الجَبَّارُ المُتَكَبِّر الخَالِقُ البَارِئ المُصَوِّرُ الغَفَّارُ القَهَّارُ الوَهَّابُ الرَّزَّاقُ الفتَّاحُ العَلِيمُ القَابِضُ البَاسِطُ الخافضُ الرَّافِعُ المعزُّ المذِل السَّمِيعُ البَصِيرُ الحَكَمُ العَدْلُ اللّطِيفُ الخَبِيرُ الحَلِيمُ العَظِيمُ الغَفُورُ الشَّكُورُ العَلِيُّ الكَبِيرُ الحَفِيظُ المُقِيتُ الحَسِيبُ الجَلِيلُ الكَرِيمُ الرَّقِيبُ المُجِيبُ الْوَاسِعُ الحَكِيمُ الوَدُودُ المَجِيدُ البَاعِثُ الشَّهِيدُ الحَق الوَكِيلُ القَوِيُّ المَتِينُ الوَلِيُّ الحَمِيدُ المُحْصِي المُبْدِيءُ المُعِيدُ المُحْيِي المُمِيتُ الحَيُّ القَيُّومُ الوَاجِدُ المَاجِدُ الوَاحِدُ الصَّمَدُ القَادِرُ المُقْتَدِرُ المُقَدِّمُ المُؤَخِّرُ الأوَّلُ الآخِرُ الظَّاهِرُ البَاطِنُ الوَالِي المُتَعَالِي البَرُّ التَّوَّابُ المنتَقِمُ العَفُوُّ الرَّءُوف مَالِكُ المُلْكِ ذُو الجَلاَلِ وَالإكْرَامِ المُقْسِط الجَامِعُ الغَنِيُّ المُغْنِي المَانِعُ الضَّارُّ النَّافِعُ النُّورُ الهَادِي البَدِيعُ البَاقِي الوَارِثُ الرَّشِيدُ الصَّبُور (1) .
__________
(1) أخرجه الترمذي في كتاب الدعوات 5/530 (3507)، وانظر ضعيف الجامع (1943) .(1/4)
ولننظر كيف اشتهرت تلك الأسماء التي اجتهد الوليد بن مسلم في جمعها؟! كان الوليد كثيرا ما يحدث الناس بحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - المتفق عليه - والذي يشير إجمالا إلى إحصاء تسعة وتسعين اسما – ثم يتبعه في أغلب الأحيان بذكر هذه الأسماء التي توصل إليها كتفسير شخصي منه للحديث، وقد نُقِلت عنه مدرجة مع كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - وألحقت أو بمعنى آخر ألصقت بالحديث النبوي الذي رواه الترمذي، وظن أغلب الناس بعد ذلك أنها نص من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - فحفظوها وانتشرت بين العامة والخاصة حتى الآن، ومع أن الإمام الترمذي لما دون هذه الأسماء في سننه مدرجة مع الحديث النبوي نبه على غرابتها، وهو يقصد بغرابتها ضعفها وانعدام ثبوتها مع الحديث كما ذكر الشيخ الألباني رحمه الله (1) .
بل من الأمور العجيبة التي لا يعرفها الكثيرون أن الأسماء التي كان الوليد بن مسلم يذكرها للناس لم تكن واحدة في كل مرة، ولم تكن متطابقة قط، بل يتنوع اجتهاده عند الإلقاء فيذكر لتلاميذه أسماء أخرى مختلفة عما ذكره في اللقاء السابق، فالأسماء التي رواها عنه الطبراني وضع فيها القائم الدائم بدلا من القابض الباسط اللذين وردا في رواية الترمذي المشهورة، واستبدل الرشيد بالشديد والأعلى والمحيط والمالك بدلا من الودود والمجيد والحكيم، والأسماء التي رواها عنه ابن حبان وضع فيها الرافع بدلا من المانع في رواية الترمذي، وما رواه عنه ابن خزيمة في صحيحه وضع فيها الحاكم بدلا من الحكيم والقريب بدلا من الرقيب، والمولى بدلا من الوالي والأحد مكان المغني، ورويت عنه أيضا بعض الروايات اختلفت عن رواية الترمذي في ثلاثة وعشرين اسما (2)، والعجيب أن الأسماء المدرجة في رواية الترمذي هي المشهورة المعروفة حتى عصرنا .
__________
(1) انظر مشكاة المصابيح 2/15 (2288) .
(2) فتح الباري شرح صحيح البخاري 11/216 .(1/5)
والقصد أن هذه الأسماء التي يحفظها الناس ليست نصا من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - وإنما هي ملحقة أو ملصقة أو كما قال المحدثون مدرجة مع قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( إِنَّ للهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمَا مِائَةً إِلاَّ وَاحِدًا ) (1)، وهذا أمر قد يكون غريبا على عامة الناس لكنه لا يخفى على أهل العلم والمعرفة بحديثه - صلى الله عليه وسلم - ، قال الأمير الصنعاني: ( اتفق الحفاظ من أئمة الحديث أن سردها إدراج من بعض الرواة ) (2)، وقال ابن حجر: ( والتحقيق أن سردها من إدراج الرواة ) (3)، وقال ابن تيمية عن رواية الترمذي وابن ماجه: ( وقد اتفق أهل المعرفة بالحديث على أن هاتين الروايتين ليستا من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وإنما كل منهما من كلام بعض السلف ) (4)، وقال أيضا: ( لم يرد في تعيينها حديث صحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأشهر ما عند الناس فيها حديث الترمذي الذي رواه الوليد بن مسلم عن شعيب عن أبي حمزة، وحفاظ أهل الحديث يقولون: هذه الزيادة مما جمعه الوليد بن مسلم عن شيوخه من أهل الحديث، وفيها حديث ثان أضعف من هذا رواه ابن ماجه، وقد روي في عددها غير هذين النوعين من جمع بعض السلف ) (5) .
وقد ذكر أيضا أنه إذا قيل بتعيينها على ما في حديث الترمذي مثلا ففي الكتاب والسنة أسماء ليست في ذلك الحديث، مثل اسم الرب فإنه ليس في حديث الترمذي وأكثر الدعاء المشروع إنما هو بهذا الاسم، وكذلك اسم المنان والوتر والطيب والسبوح والشافي كلها ثابتة في نصوص صحيحة، وتتبع هذا الأمر يطول (6) .
__________
(1) تقدم تخريجه ص7 .
(2) سبل السلام شرح بلوغ المرام من أدلة الأحكام 4/108.
(3) بلوغ المرام من أدلة الأحكام ص346 .
(4) دقائق التفسير الجامع لتفسير شيخ الإسلام ابن تيمية 2/473 .
(5) الفتاوى الكبرى 1/217.
(6) السابق 1/217 بتصرف .(1/6)
ولما كان هذا هو حال الأسماء الحسنى التي حفظها الناس لأكثر من ألف عام والتي أنشدها كل منشد، وكتبت على الحوائط في كل مسجد؛ فلا بد من دراسة علمية استقصائية تنبه الملايين من المسلمين على ما ثبت فيها من الأسماء وما لم يثبت، ثم تعريفهم بالأسماء الحسنى الصحيحة الثابتة في الكتاب والسنة وكيف يمكن أن نتعرف عليها بسهولة؟ لأن علماء الأمة اتفقوا على اختلاف مذاهبهم على أنه يجب الوقوف على ما جاء في الكتاب والسنة بذكر أسماء الله - عز وجل - نصا دون زيادة أو نقصان، وأن أسماء الله الحسنى توقيفية على النص لا مجال للعقل فيها، وأن العقل لا يمكنه بمفرده أن يتعرف على أسماء الله - عز وجل - التي تليق بجلاله؛ ولا يمكنه أيضا إدراك ما يستحقه الرب - عز وجل - من صفات الكمال والجمال فتسمية رب العزة والجلال بما لم يسم به نفسه قول على الله بلا علم وهو أمر حرمه الله على عباده كما قال - عز وجل - في كتابه: { قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ } [الأعراف:33]، وقال: { وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالبَصَرَ وَالفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولا } [الإسراء:36] .
وقد اشتهرت في ذلك مناظرة بين الإمام أبي الحسن الأشعري وشيخه أبي على الجبائي عندما دخل عليهما رجل يسأل: هل يجوز أن يسمى الله تعالى عاقلا؟ فقال أبو علي الجبائي: لا يجوز؛ لأن العقل مشتق من العقال وهو المانع، والمنع في حق الله محال فامتنع الإطلاق، فقال له أبو الحسن الأشعري: فعلى قياسك لا يسمى الله سبحانه حكيما؛ لأن هذا الاسم مشتق من حكمة اللجام وهي الحديدة المانعة للدابة عن الخروج، ويشهد لذلك قول حسان بن ثابت - رضي الله عنه -:(1/7)
فنحكم بالقوافي من هجانا : ونضربُ حين تختلط الدماء .
وقول الآخر:
أبني حنيفة حكموا سفهاءكم : إني أخاف عليكمُ أن أغضبا .
والمعنى نمنع بالقوافي من هجانا، وامنعوا سفهاءكم؛ فإذا كان اللفظ مشتقا من المنع والمنع على الله محال لزمك أن تمنع إطلاق حكيم على الله تعالى، فلم يجب الجبائي إلا أنه قال لأبي الحسن لأشعري: فلم منعت أنت أن يسمى الله عاقلا وأجزت أن يسمى حكيما؟ قال الأشعري: لأن طريقي في مأخذ أسماء الله - عز وجل - الإذن الشرعي دون القياس اللغوي؛ فأطلقت حكيما لأن الشرع أطلقه ومنعت عاقلا لأن الشرع منعه ولو أطلقه الشرع لأطلقته (1) .
قال ابن حزم الأندلسي: ( لا يجوز أن يسمى الله تعالى ولا أن يخبر عنه إلا بما سمى به نفسه أو أخبر به عن نفسه في كتابه أو على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - أو صح به إجماع جميع أهل الإسلام المتيقن ولا مزيد، وحتى وإن كان المعنى صحيحا فلا يجوز أن يطلق عليه تعالى اللفظ، وقد علمنا يقينا أن الله - عز وجل - بنى السماء فقال: { وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا } [الذاريات:47]، ولا يجوز أن يسمى بناء، وأنه تعالى خلق أصباغ النبات والحيوان وأنه تعالى قال: { صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً } [البقرة:138]، ولا يجوز أن يسمى صباغا، وأنه تعالى سقانا الغيث ومياه الأرض ولا يسمى سقاء ولا ساقيا وهكذا كل شيء لم يسم به نفسه ) (2) .
__________
(1) طبقات الشافعية الكبرى للسبكي 3/358 .
(2) الفصل في الملل والأهواء والنحل 2/108، 3/43 .(1/8)
وقال النووي: ( أسماء الله توقيفية لا تطلق عليه إلا بدليل صحيح ) (1)، واحتج الإمام الغزالي على أن الأسماء توقيفية بالاتفاق على أنه لا يجوز لنا أن نسمي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - باسم لم يسمه به أبوه ولا سمى به نفسه وكذا كل كبير من الخلق، قال: فإذا امتنع ذلك في حق المخلوقين فامتناعه في حق الله أولى (2)، وقال أبو القاسم عبد الكريم القشيري: ( الأسماء تؤخذ توقيفا من الكتاب والسنة والإجماع، فكل اسم ورد فيها وجب إطلاقه في وصفه وما لم يرد لم يجز ولو صح معناه ) (3) .
وقال ابن الوزير المرتضى: ( فأسماء الله وصفاته توقيفية شرعية، وهو أعز من أن يطلق عليه عبيده الجهلة ما رأوا من ذلك، فلا يجوز تسميته رب الكلاب والخنازير ونحو ذلك من غير إذن شرعي، وإنما يسمى بما سمى به نفسه ) (4) .
وقال عبد الرءوف المناوي في بيان علة تأكيد النبي - صلى الله عليه وسلم - على تسعة وتسعين اسما بقوله مائة إلا واحدا: ( ولما كانت معرفة أسمائه توقيفية لا يعلم إلا من طريق الوحي والسنة ولم يكن لنا التصرف فيها بما لم يهتد إليه مبلغ علمنا ومنتهى عقولنا، وقد نهينا عن إطلاق ما لم يرد به توقيف، وكان الاحتمال في رسم الخط واقعا باشتباه تسعة وتسعين في زلة الكاتب وهفوة القلم بسبعة وتسعين أو تسعة وسبعين؛ فينشأ الاختلاف في المسموع من المسطور أكده - صلى الله عليه وسلم - حسما للمادة وإرشادا للاحتياط بقوله مائة إلا واحدا ) (5) .
__________
(1) شرح النووي على صحيح مسلم 7/188.
(2) فتح الباري11/223.
(3) سبل السلام 4/109.
(4) إيثار الحق على الخلق في رد الخلافات إلى المذهب الحق من أصول التوحيد 1/314.
(5) فيض القدير شرح الجامع الصغير 2/479 .(1/9)
وقال الزركشي: ( اعلم أن أسماء الله تعالى توقيفية لا تؤخذ قياسا واعتبارا من جهة العقول، وقد زل في هذا الباب طوائف من الناس ) (1)، وقال السفاريني: ( أسماؤه ثابتة عظيمة لكنها في الحق توقيفيه لنا بذا أدلة وفِيَّه ) (2)، وقال جمال الدين الغزنوي: ( وأسماء الله - عز وجل - تؤخذ توقيفا ولا يجوز أخذها قياسا ) (3)، وقال عضد الدين الإيجي: ( تسميته تعالى بالأسماء توقيفية، أي يتوقف إطلاقها على الإذن فيه وذلك للاحتياط احترازا عما يوهم باطلا لعظم الخطر في ذلك ) (4) .
والأقوال في ذلك كثيرة يعز إحصاؤها وكلها تدل على أن عقيدة أهل السنة والجماعة مبنية على أن الأسماء الحسنى توقيفية، وأنه لا بد في كل اسم من دليل نصي صحيح يُذكر فيه الاسم بلفظه، فدورنا حيال الأسماء الجمع والإحصاء ثم الحفظ والدعاء، وليس الاشتقاق والإنشاء، والذين قالوا بأن الأسماء الحسنى مشتقة من الصفات إنما يقصدون أنها تدل على الصفات والأفعال، وأنها تلاقي مصادرها اللغوية في اللفظ والمعنى من حيث الاشتقاق، وأن الاسم في اللغة يشتق من الوصف والفعل أو العكس، لكن لا يحق لأحد أن يشتق هو بنفسه من الفعل الذي يراه أو الوصف الذي يختاره اسما لله - عز وجل -؛ فلا نسمي الله إلا بما سمى به نفسه في كتابه أو في سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - .
والسؤال الذي يطرح نفسه بالضرورة كتعقيب على ذلك كيف نميز إذا الأسماء الحسنى التي ندعو الله بها؟ أو كيف يمكن للمسلم أن يتعرف عليها من الكتاب والسنة؟
__________
(1) معنى لا إله إلا الله ص141 .
(2) العقيدة السفارينية ص52 .
(3) كتاب أصول الدين ص108 .
(4) كتاب المواقف 3/306 .(1/10)
قال ابن الوزير اليماني: ( تمييز التسعة والتسعين يحتاج إلى نص متفق على صحته أو توفيق رباني، وقد عدم النص المتفق على صحته في تعيينها، فينبغي في تعيين ما تعين منها الرجوع إلى ما ورد في كتاب الله بنصه، أو ما ورد في المتفق على صحته من الحديث ) (1) .
والرجوع إلى ما أشار إليه ابن الوزير مسألة أكبر من طاقة فرد وأوسع من دائرة مجد لأن الشرط الأول والأساسي في إحصاء الأسماء الحسنى هو فحص جميع النصوص القرآنية وجميع ما ورد في السنة النبوية مما وصل إلينا في المكتبة الإسلامية، وهذا الأمر يتطلب استقصاء شاملا لكل اسم ورد في القرآن، وكذلك كل نص ثبت في السنة، ويلزم من هذا بالضرورة فرز عشرات الآلاف من الأحاديث النبوية وقراءتها كلمة كلمة للوصول إلى اسم واحد، وهذا في العادة خارج عن قدرة البشر المحدودة وأيامهم المعدودة؛ ولذلك لم يقم أحد من أهل العلم سلفا وخلفا بتتبع الأسماء حصرا منذ أكثر من ألف عام، وإنما كان كل منهم يجمع ما استطاع باجتهاده أو ما تيسر له من جمع غيره واجتهاده، وكان أغلبهم يكتفي برواية الترمذي أو ما رآه صوابا عند ابن ماجة والحاكم فيقوم بشرحه وتفسيره مع التنبيه على أن الأسماء الحسنى توقيفية على النص، كما فعل الإمام الزجاج والخطابي والبيهقي والقشيري والغزالي والرازي والقرطبي وغيرهم من القدامى والمعاصرين، وقد كان شيخ الإسلام ابن تيمية يشير إلى صعوبة تتبع الأسماء الحسنى الثابتة في الكتاب والسنة ويقول: ( وتتبع هذا الأمر يطول ) (2) .
__________
(1) العواصم والقواصم في الذب عن سنة أبي القاسم 7/228 .
(2) الفتاوى الكبرى 1/217 .(1/11)
لكن الله - عز وجل - لما يسر الأسباب في هذا العصر أصبح من الممكن إنجاز مثل هذا البحث في وقت قصير نسبيا، وذلك باستخدام الكمبيوتر والموسوعات الالكترونية التي قامت على خدمة القرآن وحوت آلاف الكتب العلمية، واشتملت على المراجع الأصلية للسنة النبوية وكتب التفسير والفقه والعقائد والتاريخ والأدب والنحو وغيرها الكثير والكثير .
ولم تكن هذه التقنية قد ظهرت منذ عشر سنوات تقريبا، أو بصورة أدق لم يكن ما صدر منها كافيا لإنجاز مثل هذا البحث، ولما عايشت الحاسوب منذ أول ظهوره وظهور الموسوعات التراثية الالكترونية حتى جمعت بين يدي تباعا أكثر من خمس وثلاثين موسوعة الكترونية تراثية دفعني ذلك ومنذ عامين تقريبا إلى أن أقدم على هذا الموضوع مستعينا بالله أولا ثم بما سخره من التقنية الحديثة وقدرة الحاسوب على قراءة آلاف المراجع الأصلية من تلك الموسوعات في ثوان معدودات؛ فالرغبة في إتمام البحث مهما كانت النتائج أمر ملح وضرورة يصعب دفعها عن النفس .
وكثيرا ما يشعر أي متخصص أو داعية بالحيرة والاضطراب عندما يسأل عن تحرير المسألة في أحد الأسماء المشهورة كالمعز والمذل والمبديء والمعيد والخافض والضار والنافع والعدل والمانع والواجد والماجد والباقي والمميت والباعث والمحصي والرشيد والجليل، وغير ذلك مما اشتهر على ألسنة العامة والخاصة؟ .(1/12)
وسبب الحيرة أن تلك الأسماء وردت مدرجة مع رواية الوليد بن مسلم التي رواها الترمذي في سننه، فلا يمكن القول أو الجزم يأنها من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ومع ذلك تجدها وقد شرحها أو ذكرها أعلام كبار من السلف والخلف في كتبهم، هذا من جهة، ومن جهة أخرى نجد أن أهل العلم قد اتفقوا على أن الأسماء الحسنى توقيفية على النص وأنه لا يجوز تسمية الله - عز وجل - إلا بدليل، كما أن الجزم بأنه قد ورد النص أو لم يرد في الكتاب والسنة بذكر كل اسم من هذه الأسماء مسألة يصعب تتبعها وإحصاؤها كما سبق وأشرنا، ومن ثم تحدث الحيرة والاضطراب عند مواجه السؤال عن الموقف الصحيح من تلك الأسماء .
وقد كانت الإجابة في الغالب وحالي حال الكثيرين في إجاباتهم الاعتماد إجمالا على ذكر منهج أهل السنة والجماعة في موضوع الأسماء الحسنى، أو ما تيسر من اجتهاد جزئي لمن سبق من العلماء في رد اسم أو إثباته، أو الاكتفاء بما ورد من الأسماء في الروايات المدرجة مع التنبيه على أن سرد الأسماء فيها ليس من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - ولكنه اجتهاد شخصي من قبل الرواة، كما أنها روايات مختلفة ومضطربة .(1/13)
لكن بعد استخدام البحث الحاسوبي واستقصاء أدلة الكتاب والسنة تبين أن هذه الأسماء جميعها ليست من الأسماء الحسنى لأن الله - عز وجل - لم يسم نفسه بها، وكذلك لم ترد في صحيح السنة، فالمعز المذل اسمان لهما شهرة واسعة، وهما وإن كان معناهما صحيحا لكنهما لم يردا اسمين لله - عز وجل - في القرآن أو السنة، وإنما سماه بهما الوليد بن مسلم ضمن ما أدرجه باجتهاده في الحديث الذي رواه عنه الترمذي، وكذلك عبد الملك الصنعاني ضمن ما أدرجه في رواية ابن ماجة، حيث اشتق كل منهما هذين الاسمين من فعلين وردا في قوله تعالى: { قُلِ اللهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [آل عمران:26] .
والله - عز وجل - أخبر في الآية أنه يؤتي ويشاء وينزع ويعز ويذل، ولم يذكر في الآية بعد مالك الملك واسمه القدير سوى صفات الأفعال، فالذين سموا الله - عز وجل - المعز المذل اشتقوا له اسمين من فعلين، وتركوا على قياسهم ثلاثة أسماء أخرى، فيلزمهم تسمية الله - عز وجل - بالمشيء والمؤتي والمنزع طالما أن المرجعية في علمية الاسم إلى القياس والرأي والاشتقاق دون التتبع والجمع والإحصاء .
وكذلك المبدِيء المعِيد اسمان لا دليل على ثبوتهما، ولم يردا في كتاب الله أو في سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - اسمين لله - عز وجل -، ولكن وردا فعلين في مواضع كثيرة، كقوله تعالى: { قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ } [يونس:34]، وقوله: { إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ } [البروج:13]، فاستند من سمى الله بهذين الاسمين إلى مجرد اجتهاده في الاشتقاق من الفعلين فقط، وهذا ليس من حق أحد إلا ما ورد النص بذكر الاسم .(1/14)
وتسمية الله بالخافض يلزمها الدليل أيضا؛ فالاسم لم يرد في القرآن أو السنة وإنما ورد الفعل يخفض عند مسلم من حديث أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - أن - صلى الله عليه وسلم - النبي قال: ( إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَل لاَ يَنَامُ وَلاَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ يَخْفِضُ الْقِسْطَ وَيَرْفَعُهُ ) (1)، ولا يجوز لنا أن نشتق لله من كل فعل اسما ولم يخولنا الله في ذلك قط، وإنما أمرنا سبحانه بإحصاء أسمائه وجمعها من الكتاب والسنة ثم دعاؤه بها، فدورنا حيال الأسماء الحسنى الإحصاء والدعاء وليس الاشتقاق والإنشاء .
__________
(1) أخرجه مسلم في الإيمان، باب في قوله عليه السلام إن الله لا ينام 1/161 (179) .(1/15)
ولو أصر أحد على تسمية الله - عز وجل - بالمعز المذل المبديء المعيد الخافض وأجاز لنفسه ذلك فيلزمه قياسا تسميته البناء لأنه بنى السماء فقال: { أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا } [النازعات:27]، والساقي لأنه سقى أهل الجنة شرابا طهورا فقال: { وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً } [الإنسان:21]، والمدمر لأنه دمر على الكافرين فقال: { دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا } [محمد:10]، والطامس لأنه طمس على أعينهم فقال: { وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ } [يس:66]، والماسخ لأنه مسخهم على مكانتهم فقال: { وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ } [يس:67]، والمقطع لأنه قطع اليهود أمما فقال: { وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً } [الأعراف:168]، والمفجر لأنه سبحانه فجر الأرض عيونا فقال: { وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً } [القمر:12]، والحامل لأنه حمل نبيه نوحا - عليه السلام - على ذات ألواح ودسر فقال تعالى: { وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ } [القمر:13]، وغير ذلك من آلاف الأفعال في الكتاب والسنة والتي سيقلبها دون حق إلى أسماء لله - عز وجل - .(1/16)
كما أن الله - عز وجل - قال: { وَللهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا } [الأعراف:180]، وقال سبحانه: { فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى } [الإسراء:110]، ولم يقل: ولله الأوصاف الحسنى أو فله الأفعال الحسنى، وشتان بين الأسماء والأوصاف؛ نقول العليم متصف بالعلم والقدير متصف بالقدرة، والعزيز متصف بالعزة، والرحمن متصف بالرحمة، والخبير متصف بالخبرة ونحن دورنا إحصاء الأسماء وليس الأوصاف، فالأوصاف تتبع الموصوف وتقوم به ولا تقوم بنفسها وكذلك الفعل يقوم بفاعله، إذ لا يصح أن نقول: الرحمة استوت على العرش، أو العزة أجرت الشمس، أو العلم والحكمة والخبرة أنزلت الكتاب وأظهرت على النبي - صلى الله عليه وسلم - ما غاب من الأسرار، أو يرحم ويعز ويعلم فعل كذا وكذا، فهذه كلها أوصاف وأفعال لا تقوم بنفسها بخلاف الأسماء الحسنى الدالة على المسمى الذي اتصف بها كالرحمن والرحيم والعزيز والعليم والخبير والحكيم .
وعلى ذلك لا يصح تسمية الله - عز وجل - بالجليل حيث لا يوجد دليل في الكتاب أو صحيح السنة ورد فيه الاسم بنصه، ولكن ورد الوصف في قول الله تعالى: { وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ } [الرحمن:27]، وفرق كبير بين الاسم والوصف؛ فالله - عز وجل - وصف نفسه بالقوة فقال: { ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ } [الذاريات:58]، وسمى نفسه القوي فقال: { وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ } [الشورى:19]، ووصف نفسه بالرحمة فقال: { وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَة } [الأنعام:133]، وسمى نفسه الرحمن الرحيم في قوله - عز وجل -: { تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } [فصلت:2]، ولما كانت أسماء الله توقيفية ولا نسمي الله - عز وجل - إلا بما سمى به نفسه في الكتاب والسنة، فإن الله - عز وجل - وصف نفسه بالجلال فقال: { ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ } [الرحمن:27]، ولم يسم نفسه الجليل إذا لم يرد فيه دليل كما سبق .(1/17)
وكذلك اسم الباعث والمحصي لم أجد حجة أو دليلا على إثبات هذين الاسمين والذي ورد في القرآن والسنة في نصوص كثيرة صفات أفعال فقط، كما في قوله تعالى: { يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللهُ وَنَسُوهُ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } [المجادلة:6]، ومن الملاحظ أن الذي اشتق الباعث من قوله يبعثهم، والمحصي من قوله أحصاه الله ترك المنبئ من قوله فينبئهم؛ لأن الآية لم يرد فيها بعد اسم الله الشهيد سوى الأفعال التي اشتق منها فعلين وترك الثالث في حين أن هذه الأسماء جميعها لم ترد نصا صريحا في الكتاب أو في صحيح السنة .
أما تسمية الله - عز وجل - بالضار النافع فهذان الاسمان لم يردا في القرآن أو السنة وخصوصا الضار لم يرد اسما ولا وصفا ولا فعلا، وليس لمن سمى الله بهما إلا الاجتهاد الشخصي في الاشتقاق من المعنى الذي ورد في قوله تعالى: { قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ } [الأعراف:188]، أو ما ورد عند الترمذي وصححه الشيخ الألباني من حديث ابن عباس - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: ( وَاعْلَمْ أَنَّ الأُمَّةَ لَوِ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلاَّ بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ، وَلَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلاَّ بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ ) (1)، كيف يعقل تسمية رب العزة والجلال بالضار وليس فيه وصف كمال ولا حجة على ثبوته من كتاب الله أو سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ؟
__________
(1) الترمذي في كتاب صفة القيامة والرقائق والورع 4/667 (2516) .(1/18)
وكيف يكون الضار اسما والمفترض أن تكون الأسماء التي نجمعها أو نحصيها كلها حسنى تفيد المدح والثناء على الله بنفسها؟ وكيف يكون الضار من الأسماء المحفوظة المشهورة في حين لا يذكر فيها اسم الله الأعلى ونحن نذكره في كل سجدة، وقد نص الله - عز وجل - على اسميته وعلميته فقال: { سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى } [الأعلى:1]؟ فالواجب على كل مسلم أن يقف عند النص، إن ورد فيه الاسم سمى الله به وإن لم يرد فليس لأحد الحق في تسمية الله - عز وجل - به وإن صح معناه في حق الله، فالعدل مثلا اسم من الأسماء المشتهرة ضمن ما أدرجه الوليد بن مسلم باجتهاده في الحديث الذي رواه عنه الترمذي في سننه، لكن ما الدليل عليه؟ وأين النص الذي ذكر فيه؟
لقد تبين بعد البحث الحاسوبي أنه لم يرد في القرآن أو السنة اسما ولا فعلا، ولا دليل لمن سمى الله - عز وجل - بهذا الاسم سوى الأمر بالعدل في قوله تعالى: { إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ والإحسان } [النحل:90]، والمفترض لو قلنا على منهجهم في جواز اشتقاق الاسم من الفعل أن يسمى الله - عز وجل - الآمر اشتقاقا من الفعل يأمر وليس العدل .
ولو تساءلنا أيضا عن تسمية الله - عز وجل - بالمميت هل ورد النص عليه في الكتاب والسنة؟ تبين بعد البحث الحاسوبي أنه لم يرد، والذي ورد في القرآن في أربعة عشر موضعا الفعل المضارع يميت كما في قول الله تعالى: { هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } [يونس:56]، وورد الفعل الماضي أمات في ثلاثة مواضع كقوله - عز وجل - : { وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا } [النجم:44]، وهذا لا يكفي وحده في إثبات الاسم؛ فلا يجوز أن نسمي الله - عز وجل - بما لم يسم به نفسه في كتابه أو في سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، وسوف يأتي بإذن الله تفصيل الأدلة حول كل اسم من الأسماء المدرجة في روايات السنة .(1/19)
إن من دوافع البحث الرئيسية أن باب الأسماء الحسنى يفتقر إلى دراسة علمية استقصائية حصرية تشمل كل ما ورد في الأصول القرآنية والنبوية، وكم راودتني نفسي منذ زمن طويل أن أجد جوابا شافيا لنفسي قبل غيري في التعرف على أسماء الله الحسنى التسعة والتسعين التي ورد النص عليها إجمالا والتي ثبتت في الكتاب والسنة، وكنت كلما هممت باستقصاء الموضوع والبحث فيه أجد من الهيبة ما يوهن عزيمتي ويضعف إرادتي لأن الموضوع أكبر من طاقتي وأوسع من دائرتي، وهذا يتطلب كما سبق جهدا يخرج عن قدرة البشر المحدودة وأيامهم المعدودة .(1/20)
ولما يسر الله - عز وجل - الأسباب في هذا العصر وأصبح ذلك أمرا ممكنا بعد أن ظهرت تقنية البحث الحاسوبية وقدرة الحاسوب على قراء ملايين الصفحات في لحظات معدودات أقدمت على البحث وأنا لا أتوقع ما توصلت إليه من نتائج، ويعلم الله أن الجهد الذي بذلته في هذا البحث وشاركتني فيه زوجتي أم عبد الرزاق من خلال العمل المتواصل لمدة عامين كاملين على ثلاثة حواسب يساوي أضعاف ما بذلته في رسالة الدكتوراه على ضخامة حجمها، لكن النتيجة التي أسفر عنها البحث يتصاغر بجانبها كل جهد، فقد ظهرت مفاجأة لم تكن في الحسبان، تلك المفاجأة تتمثل في أن ما تعرف الله به إلى عباده من أسمائه الحسنى التي وردت في كتابه وفي سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - تسعة وتسعون اسما وردت بنصها كما أشار النبي - صلى الله عليه وسلم - إجمالا إلى العدد المذكور في الحديث المتفق عليه، وذلك عند تمييزها عن الأوصاف، وإخراج ما قيد منها بالإضافة أو بموضع الكمال عند انقسام المعنى المجرد وتطرق الاحتمال، هذا مع تحري ثبوتها بالنص وتتبعها بالدليل كما سيأتي ذكره بالتفصيل والتحليل، فالشروط التي استخرجت من القرآن والسنة أو الضوابط التي انتهجت في إحصاء الأسماء بعد البحث الحاسوبي والاستقصاء لم تنطبق إلا على تسعة وتسعين اسما من جملة ما ورد في القرآن والسنة وما ذكره المتوسعون من العلماء والذي يزيد عن المائتين والثمانين اسما .(1/21)
وليس في الأمر تكلف أو افتعال، أو تعسف أو تحايل على واقع الحال، أو محاولة مني لجعل عدد الأسماء الحسنى محصورا في تسعة وتسعين اسما بصورة أو بأخرى، بل كانت مفاجأة غير متوقعة كما سيري القارئ؛ فالأمر في إحصاء الأسماء أصبح الآن مرهونا بشروط أو قواعد أو ضوابط أو أسس يستطيع من خلالها كل باحث من العامة أو الخاصة مهما كانت درجته العلمية أو حصيلته الثقافية ـ إذا تجرد من النوازع النفسية وغلبة الطبع لما اعتاد عليه من الموروثات الثقافية ـ يستطيع أن يطبقها بدقة على كل نص عند إحصائه للأسماء الحسنى الثابتة في الكتاب والسنة، وسيصل إن شاء الله إلى النتيجة ذاتها التي توصلنا إليها، ومن ثم يتعرف بسهولة ويسر على العدد الذي ذكره النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث المتفق عليه، وقد أعيد البحث الحاسوبي مرات ومرات لتأكيد النتيجة سواء من قبلي شخصيا أو من قبل الكثير من الباحثين فكانت النتيجة واحدة .(1/22)
وبهذه الشروط أو تلك القواعد علم أيضا حال كل اسم من الأسماء التي اجتهد الرواة في جمعها ثم أدرجوها أو ألحقوها بحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - في كتب السنة، وسوف نفصلها تفصيلا دقيقا فيما سيأتي إن شاء الله، وهذا العدد الذي تظهره تقنية الحاسوب في عصرنا يدلل على إعجاز نبوي جديد يحقق قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( إِنَّ للهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمَا مِائَةً إِلاَّ وَاحِدًا مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ ) (1)، ولا تعارض بين ذلك وما جاء في حديث عبد الله ابن مسعود - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في دعاء الكرب: ( أَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَكَ، سَمَّيتَ بِهِ نَفْسَكَ أَوْ أَنْزَلْتَهُ فِي كِتَابِكَ، أَوْ عَلَّمْتَهُ أَحَداً مِنْ خَلْقِكَ، أَوْ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَكَ ) (2)، لأن هذا الحديث يدل على انفراد الله بعلم العدد الكلى لأسمائه الحسنى، فما استأثر به في علم الغيب عنده لا يمكن لأحد حصره ولا الإحاطة به .
قال الإمام النووي في تعليقه على حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: ( وأما قوله - صلى الله عليه وسلم - من أحصاها دخل الجنة فاختلفوا في المراد بإحصائها، فقال البخاري وغيره من المحققين معناه حفظها، وهذا هو الأظهر لأنه جاء مفسرا في الرواية الأخرى من حفظها، وقيل أحصاها عدها في الدعاء بها، وقيل أطاقها أي أحسن المراعاة لها والمحافظة على ما تقتضيه وصدق بمعانيها ) (3) .
__________
(1) تقدم تخريجه ص 7 .
(2) رواه أحمد في المسند 1/391 (3712)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة 1/383 (199) .
(3) صحيح مسلم بشرح النووي 17/5 .(1/23)
غير أنه من الضروري قبل حفظها أن نتعرف عليها أولا؛ لأن حفظها يعقب استخراجها ولا يمكن حفظها إلا بعد معرفة المواضع التي وردت فيها نصا من الكتاب أو صحيح السنة النبوية، وإن كان لإحصائها بعد معرفتها وجمعها وحفظها مراتب أخرى كشرحها وتفسير معانيها بالقرآن والسنة والمأثور من كلام السلف والخلف، ثم فهم دلالتها على أوصاف الكمال بأنواع الدلالات المختلفة سواء كانت مطابقة أو تضمنا أو التزاما، وبيان المواضع في الكتاب والسنة التي ورد الاسم فيها علما على ذات الله وتلك التي ورد فيها وصفا لله - عز وجل - سواء كان وصف ذات أو وصف فعل؟ ثم البحث عن كيفية الدعاء بالأسماء الحسنى دعاء مسألة؟ أو كيف يدعو الموحد ربه بأسمائه الحسنى كما أمر الله - عز وجل - في قوله: { وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا } [الأعراف:180]؟ وما هو الدعاء القرآني أو الدعاء النبوي الصحيح المأثور في كل اسم من الأسماء بمفرده؟
والأكثر أهمية فيما يتعلق بحياة المسلم البحث عن كيفية الدعاء بالأسماء الحسنى دعاء عبادة؟ أو أثر كل اسم من الأسماء الحسنى على سلوك العبد وتوجيه أقواله وأفعاله إلى توحيد الله؟ ولذلك جاءت خطة البحث في إحصاء الأسماء الحسنى الثابتة في الكتاب والسنة على النحو التالي:
المقدمة: واشتملت على أهمية الموضوع وخطة البحث .
الباب الأول: تمييز الأسماء الحسنى الثابتة في الكتاب والسنة .
وقد اشتمل على المحاور التالية:
أسماء الله الكلية وإحصاء الأسماء الحسنى .
الجمع بين رواية ابن مسعود ورواية أبي هريرة .
ظهور الأسماء الحسنى مرتبط بمقتضى الحكمة الإلهية .
رأي ابن القيم في مقتضى الأسماء الحسنى .
شروط الإحصاء وجهود المعاصرين في جمع الأسماء .
الشرط الأول ثبوت النص في القرآن أو صحيح السنة .
الشرط الثاني علمية الاسم واستيفاء العلامات اللغوية .
الشرط الثالث إطلاق الاسم دون إضافة أو تقييد .(1/24)
الشرط الرابع دلالة الاسم على الوصف .
الشرط الخامس دلالة الوصف على الكمال المطلق .
اللؤلؤة الفضلى في نظم أسماء الله الحسنى .
الأسماء المدرجة في الروايات وتمييزها بشروط الإحصاء .
الباب الثاني: الإيمان بأسماء الله الحسنى الثابتة في الكتاب والسنة .
وقد اشتمل على المحاور التالية:
منهج السلف في العقيدة وأثره في الإيمان بأسماء الله الحسنى .
موقف السلف ممن عطل دلالة الأسماء على الصفات .
أزلية الأسماء والصفات الإلهية .
القول في مسألة الاسم والمسمى .
دلالة الأسماء على العلمية والوصفية .
جلال أسماء الله الحسنى .
اسم الله الأعظم ودلالته على الصفات .
قصص واهية حول الاسم الأعظم .
الروايات الثابتة في الاسم الأعظم .
دلالة اقتران الأسماء الحسنى على الصفات .
هل الأسماء مشتقة من الصفات أم العكس؟
أنواع الدلالات وتعلقها بالأسماء والصفات .
موقف المسلم من الأسماء المشهورة التي لم تثبت .
الباب الثالث: الدعاء بأسماء الله الحسنى الثابتة في الكتاب والسنة .
وقد اشتمل على المحاور التالية:
دعاء المسألة والعبادة لغة واصطلاحا .
المقصود بدعاء المسألة ودعاء العبادة .
دعاء المسألة أعلى أنواع التوسل إلى الله .
أنواع دعاء المسألة وتعلقها بالأسماء الحسنى .
آداب دعاء الله بأسمائه دعاء مسألة .
الشرك في الدعاء والإلحاد في الأسماء .
دعاء العبادة ومقتضى الأسماء الحسنى .
التفاضل والتكامل بين دعاء المسألة ودعاء العبادة .
حكم تسمية العباد بأسماء الله الحسنى .
الباب الرابع: مراتب الإحصاء لكل اسم من الأسماء .
وقد اشتمل على دراسة موسوعية لكل اسم من الأسماء الحسنى الثابتة في الكتاب والسنة، وقد تضمنت المحاور التالية:
أولا: الدليل على ثبوت الاسم وإحصائه .
ثانيا: شرح الاسم وتفسير معناه .
ثالثا: دلالة الاسم على أوصاف الله .
رابعا: الدعاء بالاسم دعاء مسألة .
خامسا: الدعاء بالاسم دعاء عبادة .(1/25)
أما الأسماء الحسنى الثابتة في الكتاب والسنة والتي شملتها الدراسة الموسوعية فبيانها على النحو التالي: الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ المَلِكُ القُدُّوسُ السَّلامُ المُؤْمِنُ المُهَيْمِنُ العَزِيزُ الجَبَّارُ المُتَكَبِّرُ الخَالِقُ البَارِئُ المُصَوِّرُ الأَوَّلُ الآخِرُ الظَّاهِرُ البَاطِنُ السَّمِيعُ البَصِيرُ المَوْلَى النَّصِيرُ العَفُوُّ القَدِيرُ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ الوِتْرُ الجَمِيلُ الحَيِيُّ السِّتيرُ الكَبِيرُ المُتَعَالُ الوَاحِدُ القَهَّارُ الحَقُّ المُبِينُ القَوِيُّ المَتِينُ الحَيُّ القَيُّومُ العَلِيُّ العَظِيمُ الشَّكُورُ الحَلِيمُ الوَاسِعُ العَلِيمُ التَّوابُ الحَكِيمُ الغَنِيُّ الكَرِيمُ الأَحَدُ الصَّمَدُ القَرِيبُ المُجيبُ الغَفُورُ الوَدودُ الوَلِيُّ الحَميدُ الحَفيظُ المَجيدُ الفَتَّاحُ الشَّهيدُ المُقَدِّمُ المُؤخِّرُ المَلِيكُ المُقْتَدِرْ المُسَعِّرُ القَابِضُ البَاسِطُ الرَّازِقُ القَاهِرُ الديَّانُ الشَّاكِرُ المَنانَّ القَادِرُ الخَلاَّقُ المَالِكُ الرَّزَّاقُ الوَكيلُ الرَّقيبُ المُحْسِنُ الحَسيبُ الشَّافِي الرِّفيقُ المُعْطي المُقيتُ السَّيِّدُ الطَّيِّبُ الحَكَمُ الأَكْرَمُ البَرُّ الغَفَّارُ الرَّءوفُ الوَهَّابُ الجَوَادُ السُّبوحُ الوَارِثُ الرَّبُّ الأعْلى الإِلَهُ، وقد رتبت ترتيبا اجتهاديا حسب اقتران ورودها في النصوص القرآنية والنبوية مع مراعاة تقارب ألفاظها وسهولة حفظها .
خاتمة البحث: واشتملت على ما يلي:
النتائج المتعلقة بتمييز الأسماء وكيفية التعرف عليها.
النتائج المتعلقة بشرح الأسماء وتفسير معانيها .
النتائج المتعلقة بدلالة الأسماء على الصفات .
النتائج المتعلقة بدعاء المسألة .
النتائج المتعلقة بدعاء العبادة .
تعقيبات وتعليقات على إحصاء الأسماء الحسنى .(1/26)
أسأل الله - عز وجل - بأسمائه الحسنى التي جمعتها من كتابه ومن سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يعينني على نفسي وأن يغفر لي ذنبي وتقصيري، وما بدر مني من سوء نظري وتدبيري، وأن يرزقني طاعته وتقواه وأن يجعل هذا البحث سببا في عتق رقبتي من النار يوم ألقاه، وأن يغفر لوالديَّ ويجزي زوجتي أم عبد الرزاق خير الجزاء على ما قدمته من جهد كبير وعناء في مساعدتي لإخراج هذا البحث، كما أسأل الله سبحانه وتعالى لكل من نصحني من إخواني وشجعني ووجهني وساعدني وأرشدني وانتقدني للانتباه إلى ما غاب عني، ولكل من نقل البحث أو نشره أو شرحه أو اختصره أو جعله سببا في توجيه المسلمين إلى توحيد رب العالمين أن ينال وننال معه شفاعة خاتم الأنبياء والمرسلين .
وكتبه
د/محمود عبد الرازق الرضواني
السابع من شعبان سنة 1426هـ
الحادي عشر من سبتمبر سنة 2005م
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
تمييز الأسماء الحسنى الثابتة في الكتاب والسنة
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
أسماء الله الكلية وإحصاء الأسماء الحسنى .
الجمع بين رواية ابن مسعود ورواية أبي هريرة .
ظهور الأسماء الحسنى مرتبط بمقتضى الحكمة الإلهية .
رأي ابن القيم في مقتضى الأسماء الحسنى .
شروط الإحصاء وجهود المعاصرين في جمع الأسماء .
الشرط الأول ثبوت النص في القرآن أو صحيح السنة .
الشرط الثاني علمية الاسم واستيفاء العلامات اللغوية .
الشرط الثالث إطلاق الاسم دون إضافة أو تقييد .
الشرط الرابع دلالة الاسم على الوصف .
الشرط الخامس دلالة الوصف على الكمال المطلق .
اللؤلؤة الفضلى في نظم أسماء الله الحسنى .
الأسماء المدرجة في الروايات وتمييزها بشروط الإحصاء .
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -(1/27)
تمييز الأسماء الحسنى الثابتة
في الكتاب والسنة
( أسماء الله الكلية وإحصاء الأسماء الحسنى:
من المسائل الضرورية التي تطرح نفسها عند الحديث عن أسماء الله الحسنى هي التمييز بين معتقد السلف الصالح في عدم حصر أسماء الله الكلية في تسعة وتسعين اسما ومعنى الإحصاء الذي ورد في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -، والذي ورد فيه النص والتأكيد على ذكر العدد بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( إِنَّ للهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمَا مِائَةً إِلاَّ وَاحِدًا مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ ) (1) .
ونظرا لعدم ورود النص على التسعة والتسعين اسما، أو سردها في حديث صحيح جامع، وكذلك صعوبة استخراج هذا العدد من الكتاب والسنة بجهد شخصي أو ضابط إلزامي، إذ لم يسبق أن توصل إليه أحد فيما مضى؛ تصور البعض أن أسماء الله الحسنى التي وردت في الكتاب والسنة تزيد عن هذا العدد بكثير؛ مما أدى إلى تضارب المعاني حول فهم حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -، وكيفية تفسيره أو الجمع بينه وبين معتقد السلف في عدم حصر أسماء الله الكلية؟!
والسؤال الذي يطرح نفسه على الأذهان ما الحكمة إذا من النص على هذا العدد بالذات؟ وهل من أحصى تسعة وتسعين اسما من جملة أسماء الله الحسنى الواردة في الكتاب والسنة ـ على فرض أنها أكثر من تسعة وتسعين اسما ـ فقد تحقق فيه الوصف بدخول الجنة؟! وإن كان هذا المعنى هو المقصود فما عدد الأسماء الموجودة لدينا بالنص الصريح؟ هل يزيد عن المائتين أو الثلاثمائة أو أكثر أو أقل؟!
وما ميزة العدد المذكور بتسعة وتسعين اسما والذي سيحصيه المسلم باختياره هو عن العدد المتبقي؟ وهل قضية إحصاء التسعة والتسعين متروكة لاختيار الشخص أم لحكم الدليل وورود النص؟! أسئلة كثيرة تطرح نفسها على من جعل أسماء الله الحسنى الواردة في الكتاب والسنة أكثر من مائة إلا واحدا، ولذلك صار الناس بين فريقين ووجهة متوسطة:
__________
(1) تقدم تخريجه ص 7 .(1/28)
الأول: فريق متوسع في الحصر يجمع باجتهاده ما يشاء من الأسماء، وحجته ما رواه أحمد وصححه الشيخ الألباني من حديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في دعاء الكرب: ( مَا أَصَابَ أَحَداً قَطُّ هَمٌّ وَلاَ حَزَنٌ فَقَالَ: اللهُمَّ إِنِّي عَبْدُكَ وَابْنُ عَبْدِكَ وَابْنُ أَمَتِكَ، نَاصِيَتِي بِيَدِكَ، مَاضٍ فِيَّ حُكْمُكَ، عَدْلٌ فِيَّ قَضَاؤُكَ، أَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَكَ، سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ، أَوْ أَنْزَلْتَهُ فِي كِتَابِكَ، أَوْ عَلمْتَهُ أَحَداً مِنْ خَلْقِكَ، أَوِ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَكَ، أَنْ تَجْعَلَ الْقُرْآنَ رَبِيعَ قَلْبِي، وَنُورَ صَدْرِي وَجَلاَءَ حُزْنِي وَذَهَابَ همِّي إِلاَّ أَذْهَبَ اللَّهُ هَمَّهُ وَحُزْنَهُ وَأَبْدَلَهُ مَكَانَهُ فَرَجاً، فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلاَ نَتَعَلَّمُهَا؟ فَقَالَ: بَلَى يَنْبَغِي لِمَنْ سَمِعَهَا أَنْ يَتَعَلَّمَهَا ) (1)، والشاهد قوله أو استأثرت به في علم الغيب عندك، فدل ذلك على أن أسماء الله غير محصورة في عدد معين، وفي المقابل غضوا الطرف عن العدد تسعة وتسعين المذكور في صريح النص، حيث حمله بعضهم على معنى يتوافق مع وجهتهم .
__________
(1) المسند 1/391 (3712)، ورواه ابن حبان في صحيحه، باب ذكر الأمر لمن أصابه حزن أن يسأل الله ذهابه عنه وإبداله إياه فرحا 3/253 (972)، والحاكم في المستدرك 1/690 (1877)، وانظر السلسلة الصحيحة للشيخ الألباني 1/383 .(1/29)
ومن ثم أخذ صاحب هذه الوجهة يشتق من أفعال الله - عز وجل - وأوصافه ما يشاء من الأسماء، أو يطلق ما قيده الله في كتابه، أو يَفْصِلُ ما أضافه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سنته، وقد تتبعت ما ذكره المتوسعون على تنوع اجتهاداتهم واختلاف مقالاتهم فبلغ جمعهم وإحصاؤهم للأسماء على أوسع ما ذكروا قرابة المائتين والتسعين اسما، وهي بعد لفظ الجلالة، وعلى اعتبار الترتيب الحاسوبي الأبجدي الألف بائي المشرقي كما يلي:
أحسن الخالقين، أحكم الحاكمين، أرحم الراحمين، الأبد، الأجل، الأحد، الأحكم الآخر، الأسرع، الأعز، الأعظم، الأعلم، الأعلى، الأقرب، الأقوى، الأكبر الأكرم، الإله أليم الأخذ، الأول، البادئ، البار، البارئ، الباسط، الباطن الباعث، الباقي، البالغ البالي، البديع، البر، البرهان، البصير، التام، التواب الجاعل، الجامع، الجبار .
الجليل، الجميل، الجواد، الحاسب، الحافظ، الحاكم، الحروف المقطعة، الحسيب الحفي، الحفيظ، الحق، الحكم، الحكيم، الحليم، الحميد، الحنان، الحي، الحيي، الخافض الخالق، الخبير، الخلاق، الخليفة، الدائم، الدافع، الدهر، الديان الذاريء، الرءوف الراتق، الرازق، الراشد، الرافع، الراضي الرب، الرحمن الرحيم، الرزاق، الرشيد، الرفيع الرفيق، الرقيب، الزارع، الساتر، السامع، السبوح، الستار، الستير، السخط السريع، السلام، السميع، السيد، الشافي، الشاكر، الشاهد، الشديد، الشفيع الشكور، الشهيد .
الصاحب، الصادق، الصانع، الصبور، الصمد، الضار، الطالب، الطبيب، الطيب الظاهر، العالم، العدل، العزيز، العظيم، العفو، العلام، العلي، العليم، الغافر، الغالب الغفار، الغفور، الغني، الغياث، الغيور، الفاتح، الفاتق، الفاتن، الفارج الهم، الفاطر الفاعل، الفالق، الفتاح، الفرد، الفعال، القائم، القابض القابل التوب، القادر، القاضي القاهر، القدوس، القدير، القريب، القهار القوي، القيام، القيم، القيوم .(1/30)
الكائن، الكاتب، الكاشف، الكافي، الكبير، الكريم، الكفيل، اللطيف، المؤتي، المؤخر المؤمن، الماجد، المالك، المانع، المبارك، المبتلي، المبديء، المبرم، المبغض، المبقي، المبلي المبين، المتعالي، المتكبر، المتم، المتوفي، المتين، المجيب، المجيد، المحب، المحسان، المحسن المحصي، المحي، المحيط، المخرج، المخزي، المدبر، المدمدم، المدمر، المذكور، المذل، المرسل المرشد، المريد، المستجيب، المستعان، المستمع، المسعر المصور .
المضل، المطعم، المطهر، المعافي، المعبود، المعذب، المعز، المعطي، المعيد، المعين المغني، المغيث، المفرج، المفضل، المفني، المقتدر، المقدر، المقدم المقسط، المقلب المقيت، الملك، المليك، الممتحن، المميت، المنان، المنتقم المنجي، المنذر، المنزع، المنزل المنشئ، المنعم، المنير، المهلك، المهيمن، الموئل، الموسع، المولى، الناصر، النافع .
النذير، النصير، النور، الهادي، الهوي، الواجد، الوهاب، آمين، أهل التقوى أهل المغفرة، خير الحافظين، خير الحاكمين، خير الراحمين، خير الرازقين، خير الفاتحين خير الفاصلين، خير الماكرين، خير المنذرين، خير الناصرين، خير الوارثين، خير الغافرين ذو الانتقام، ذو الجبروت، ذو الجلال والإكرام، ذو الرحمة، ذو الطول، ذو العرش، ذو الفضل، ذو القوة، ذو المعارج، ذو الإحسان، ذو الملكوت، رمضان، سريع الحساب سريع العقاب، شديد العقاب، عدو الكافرين، فالق الإصباح، فالق الحب والنوى، مالك الملك، مثبت القلوب، مخرج الحي من الميت، مخرج الميت من الحي، مصرف القلوب نعم القاهر، نعم الماهد، نعم المجيب، نعم المولى، واسع المغفرة .(1/31)
الفريق الثاني: له وجهة أخرى تولاها ابن حزم الأندلسي، حيث جزم بأن أسماء الله الكلية محصورة في تسعة وتسعين اسما فقط وهي الواردة في الكتاب والسنة، ثم فسر بذلك حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -، وفي المقابل غض الطرف عن حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - في دعاء الكرب، ولما لزم ابن حزم استخراج التسعة والتسعين لم يتمكن إلا من جمع أربعة وثمانين اسما من الكتاب والسنة، قال رحمه الله: ( فصح أنه لا يحل لأحد أن يسمي الله تعالى إلا بما سمى به نفسه، وصح أن أسماءه لا تزيد على تسعة وتسعين شيئا لقوله عليه السلام: مائة إلا واحدا؛ فنفى الزيادة وأبطلها لكن يخبر عنه بما يفعل تعالى، وجاءت أحاديث في إحصاء التسعة والتسعين اسما مضطربة لا يصح منها شيء أصلا، فإنما تؤخذ من نص القرآن ومما صح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقد بلغ إحصاؤنا منها إلى ما نذكر ) (1)، ثم ذكر رحمه الله أربعة وثمانين اسما استخرجها من القرآن والسنة (2) .
أما الفريق الثالث: فهو فريق وسط تولى وجهته ابن تيمية وتلميذه ابن القيم ومن انتهج نهجهما من أصحاب الطريقة السلفية أو من المتكلمين الأشعرية ؛ فلم يقل بقول ابن حزم، ولم يتوسع في الاشتقاق كما فعل الفريق الأول؛ بل اتفقوا جميعا على أن الأسماء الحسنى توقيفية على النص، لكن أحدا منهم لم يستطع جمعها بتمامها أو حصرها من الكتاب والسنة، وبقي الباحث مترددا في فهم إجاباتهم عن كون أسماء الله الحسنى الواردة في الكتاب والسنة تتجاوز أو لا تتجاوز تسعة وتسعين اسما؛ فيراهم يأخذون بالروايتين الثابتتين معا، رواية أبي هريرة - رضي الله عنه - ورواية عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - .
__________
(1) انظر المحلى لابن حزم 8/31، والفصل في الملل والنحل 2/112.
(2) انظر السابق 8/31 .(1/32)
سئل ابن تيمية عمن قال لا يجوز الدعاء إلا بالتسعة والتسعين اسما ولا يقول يا حنان يا منان، ولا يقول يا دليل الحائرين، فهل له أن يقول ذلك؟ فأجاب بأن هذا القول وإن كان قد قاله طائفة من المتأخرين كأبي محمد بن حزم وغيره، فإن جمهور العلماء على خلافه، وعلى ذلك مضى سلف الأمة وأئمتها، وهو الصواب لوجوه:
أحدها: أن التسعة والتسعين اسما لم يرد في تعيينها حديث صحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأشهر ما عند الناس فيها حديث الترمذي الذي رواه الوليد بن مسلم عن شعيب عن أبي حمزة، وحفاظ أهل الحديث يقولون هذه الزيادة مما جمعه الوليد بن مسلم عن شيوخه من أهل الحديث، وفيها حديث ثان أضعف من هذا رواه ابن ماجه وقد روى في عددها غير هذين النوعين من جمع بعض السلف، وهذا القائل الذي حصر أسماء الله في تسعة وتسعين لم يمكنه استخراجها من القرآن، وإذا لم يقم على تعيينها دليل يجب القول به لم يمكن أن يقال هي التي يجوز الدعاء بها دون غيرها، لأنه لا سبيل إلى تمييز المأمور من المحظور؛ فكل اسم يجهل حاله يمكن أن يكون من المأمور ويمكن أن يكون من المحظور، وإن قيل لا تدعوا إلا باسم له ذكر في الكتاب والسنة قيل هذا أكثر من تسعة وتسعين .
الثاني: أنه إذا قيل بتعيينها على ما في حديث الترمذي مثلا ففي الكتاب والسنة أسماء ليست في ذلك الحديث مثل الرب فإنه ليس في حديث الترمذي وأكثر الدعاء المشروع إنما هو بهذا الاسم .. وكذلك اسم المنان في الحديث الذي قال فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - لقد دعا الله باسمه الأعظم الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى، وهذا رد لقول من زعم أنه لا يمكن في أسمائه المنان .. وغير ذلك مما ثبت في الكتاب والسنة وثبت الدعاء بها بإجماع المسلمين، وليس من هذه التسعة والتسعين .. وتتبع هذا يطول .(1/33)
الثالث: ما احتج به الخطابي وغيره وهو حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ما أصاب عبدا قط .. قال الخطابي فهذا يدل على أن له أسماء استأثر بها (1) .
لقد كانت الإشكالية المطروحة دائما لدى الباحثين السابقين هي عدم التوصل إلى شروط نصية أو ضوابط نقلية إلزامية يؤدي تطبيقها إلى إحصاء تسعة وتسعين اسما فقط من القرآن وصحيح السنة، أو على نص ما أشار إليه ابن تيمية أعلاه أنه لا سبيل إلى تمييز المأمور من المحظور؛ فكل اسم يجهل حاله يمكن أن يكون من المأمور، ويمكن أن يكون من المحظور (2) .
وقد حاول بعض المعاصرين خوض التجربة دون التزام شروط نصية معلنة، فحاول استخرج الأسماء الثابتة في الكتاب والسنة باجتهاده؛ فتوصل بعضهم إلى ما يزيد عن التسعة والتسعين اسما أو ما يقل عن ذلك، وسوف نفصل نتيجة ما وصلوا إليه عند الحديث عن شروط الإحصاء، لكن الملاحظ أن الزيادة أو النقص فيما وصلوا إليه لا تتجاوز خمسة أسماء، وكأن الدائرة تضيق لتنير طريق السعي إلى تحقيق مقتضى حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -، والذي نص فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - على تسعة وتسعين اسما، أو مائة إلا واحدا ووعد من أحصاها بدخول الجنة .
( الجمع بين رواية ابن مسعود ورواية أبي هريرة:
__________
(1) مجموع الفتاوى 22/481، 22/482، 22/483 بتصرف .
(2) السابق 22/482 .(1/34)
وما نود التنبيه إليه مما تجتمع الأدلة عليه في هذه القضية ومن خلال اعتقاد السلف المبني على النصوص القرآنية والنبوية أنه لا شك في أن جملة أسماء الله تعالى الكلية تعد أمرا من الأمور الغيبية التي استأثر الله بها، وأنها غير محصورة في عدد معين وهذا نص ظاهر في رواية ابن مسعود - رضي الله عنه -، ولا يفهم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - الذي ورد فيه النص على تسعة وتسعين اسما حصرها جميعها بمجموعها الكلي؛ لأن المقصود بإحصاء هذا العدد إحصاء الأسماء الحسنى التي تعرف الله - عز وجل - بها إلى عباده في كتابه وفي سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، ولا يدل على حصر أسماء الله الكلية في هذا العدد، ولو كان المراد الحصر لقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : إن أسماء الله تسعة وتسعون اسما من أحصاها دخل الجنة أو نحو ذلك؛ فمعنى الحديث أن هذا العدد الذي تعرف الله به إلى عباده في كتابه وفي سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - من جملة أسماء الله - عز وجل - ومن شأنه أن من أحصاه دخل الجنة، ونظير هذا أن تقول: عندي مائة درهم أعددتها للصدقة؛ فإنه لا يمنع أن يكون عندك دراهم أخرى لم تعدها للصدقة؛ فالمراد إذا الإخبار عن دخول الجنة بإحصائها لا الإخبار بحصر أسماء الله الكلية (1) .
__________
(1) انظر بتصرف شرح سنن ابن ماجه للسيوطي ص 275، وانظر أيضا مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية 6/381، والفتاوى الكبرى 1/218 .(1/35)
قال ابن القيم: ( الأسماء الحسنى لا تدخل تحت حصر ولا تحد بعدد؛ فإن لله تعالى أسماء وصفات استأثر بها في علم الغيب عنده لا يعلمها ملك مقرب ولا نبي مرسل كما في الحديث الصحيح أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو استأثرت به في علم الغيب عندك، فجعل أسماءه ثلاثة أقسام: قسم سمى به نفسه فأظهره لمن شاء من ملائكته أو غيرهم ولم ينزل به كتابه، وقسم أنزل به كتابه فتعرف به إلى عباده، وقسم استأثر به في علم غيبه فلم يطلع عليه أحد من خلقه، ولهذا قال: استأثرت به، أي انفردت بعلمه ) (1) .
وقد أظهرت نتيجة هذا البحث أن ما تعرف الله به إلى عباده من أسمائه الحسنى التي وردت في كتابه وفي سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - هي الأسماء التسعة والتسعون المذكورة في العدد النبوي المخصوص، وقد تقدمت الإشارة إلى ذلك في المقدمة؛ فالأمر أصبح الآن مرهونا بشروط أو قواعد أو ضوابط أو أسس ــ سمها ما شئت ــ يستطيع من خلالها كل باحث من العامة أو الخاصة أن يطبقها بدقة على كل نص عند إحصائه للأسماء الحسنى الثابتة في الكتاب والسنة وسيصل إن شاء الله إلى النتيجة ذاتها .
( ظهور الأسماء الحسنى مرتبط بمقتضى الحكمة الإلهية :
الإحصاء في اللغة معناه الحفظ والجمع والعد والإحاطة، وقد ورد هذا المعنى في قوله تعالى: { يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } [المجادلة:6]، وقال: { لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً } [الجن:28]، قال ابن منظور: ( الإِحْصَاءُ العَدُّ والحِفْظ وأَحْصَيْت الشيءَ عَدَدته وأَحْصَى الشيءَ أَحاط به ) (2) .
__________
(1) بدائع الفوائد 1/171، وانظر أيضا شفاء العليل ص 277 .
(2) لسان العرب 14/184 .(1/36)
من الواضح اتفاق العلماء على أن أسماء الله الكلية لا تحصى ولا تعد؛ فهو سبحانه الذي يعلم عددها، أما تخصيص بعضها بتسعة وتسعين اسما وتأكيد النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله مائة إلا واحدا فالعلة في ذلك والله أعلم أن كل مرحلة من مراحل الخلق يُظهر فيها الحق سبحانه وتعالى من أسمائه وصفاته ما يناسب الغاية من وجودها، ويحقق كمال الحكمة في تكوينها، ويظهر دلائل التوحيد في إبداعها، ففي مرحلة الدنيا وما فيها من شهوات وأهواء وشبهات واختلاف وتباين في الآراء، وتقليب الأمور للإنسان على أنواع الابتلاء، وحكمة الله في تكليفه بالشرائع والأحكام، وتمييز الحلال من الحرام، في هذه المرحلة تعرف الله - عز وجل - إلى عباده بجملة من أسمائه وصفاته تناسب حاجة الإنسان وضرورياته، فيبدي لربه أقصى طاقاته وإمكانياته في تحقيق التوحيد بمقتضى هذه الأسماء، تلك الأسماء هي المعنية بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( إِنَّ للهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمَا مِائَةً إِلاَّ وَاحِدًا ) (1) .
__________
(1) البخاري في الشروط، باب إن لله مائة اسم إلا واحدا 6/2691 (6957) .(1/37)
ولمزيد من البيان يمكن القول إن الحياة الدنيا لما كانت دارا للابتلاء والامتحان ومحلا لاختيار الكفر أو الإيمان، وكان الناس فيها متفاوتين مختلفين آجالا وأرزاقا وألوانا وأخلاقا، منهم الغني والفقير والأعمى البصير، منهم القوي والضعيف والظالم والمظلوم والحاكم والمحكوم والمالك والمعدوم، منهم الكاذب والصادق والمخلص والمنافق إلى غير ذلك من أنواع الأخلاق وتنوع الأرزاق واختلاف السلوك وابتلاء ملك الملوك؛ لما كانت الدنيا كذلك فإن حكمة الله تَظهر في تعريف الخلائق ما يناسبهم من أسمائه وصفاته؛ فالمذنب من العباد إن أراد التوبة سيجد الله توابا رحيما عفوا غفورا، والمظلوم سيجده حقا مبينا حكما عدلا وليا نصيرا، والضعيف المقهور سيجده قويا عزيزا جبارا قديرا، والفقير سيجد الله رزاقا حسيبا مقيتا وكيلا، وهكذا سيجد العباد من أسماء الله وصفاته ما يناسب حاجتهم ويلبي بغيتهم؛ فالفطرة التي فطر الله الخلائق عليها اقتضت أن تلجأ النفوس إلى قوة عليا عند ضعفها، وتطلب غنيا أعلى عند فقرها وتوابا رحيما عند ذنبها، وسميعا قريبا بصيرا مجيبا عند سؤالها، ومن هنا كانت لكل مرحلة من مراحل الخلق التي قدرها الله - عز وجل - ما يناسبها من أسمائه وصفاته وأفعاله .(1/38)
ألا ترى أنه في البدء عندما أسكن الله آدم وحواء جنة الابتلاء فأكلا من الشجرة وانكشفت العورة وتطلبت الفطرة فرجا ومخرجا كان الفرج والمخرج في تعريفهم بأسماء الله - عز وجل - التي تناسب حالهما وما يغفر به ذنبهما؛ فعلمهما كلمات هي في حقيقتها أسماء لله وصفات، علم آدم - عليه السلام - أن يدعو الله باسمه التواب الرحيم، أو يدعو بوصف التوبة والرحمة كما قال سبحانه: { فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } [البقرة:37]، فتَعَلمها ودعا الله - عز وجل - بها: { قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ } [الأعراف:23] .
روي عن أنس بن مالك وعبد الله بن عباس وعبد الرحمن بن يزيد وسعيد بن جبير وغير واحد من السلف - رضي الله عنهم - أنهم قالوا: ( الكلِمَاتُ التي تلَقّى آدمٌ مِن رَبِّهِ فَتَابَ عَلَيْه: لا إلَه إلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ اللهُم وَبحمْدِكَ عَمِلْتُ سُوءا وَظَلَمْتُ نَفْسي فاغفر لي إنَّكَ خَيْر الغافِرين، لا إلَه إلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ وَبحمْدِكَ عَمِلْتُ سُوءا وَظَلَمْتُ نَفْسي فَارْحَمْني إنَّكَ أَنْتَ أَرْحَمُ الراحِمين، لا إلَه إلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ وَبحمْدِكَ عَمِلْتُ سُوءا وَظَلَمْتُ نَفْسي فَتُبْ عَلَيَّ إنَّكَ أَنْتَ التَّوابُ الرَّحِيم ) (1) .
__________
(1) انظر مجمع الزوائد للهيثمي 8/198، وشعب الإيمان للبيهقي 5/434، وكتاب العظمة لأبى محمد الأصفهاني 5/ 1549، وكتاب الزهد لهناد بن السري الكوفي 2/461، وقد ضعف الألباني رفعه إلى النبي S، انظر ضعيف الترغيب والترهيب (1006) .(1/39)
وطالما أن الدنيا خلقت للابتلاء فإن الله - عز وجل - قد عرفنا بما يناسبنا ويناسبها من الأسماء، وقد لا ينفع الدعاء بهذه الأسماء أو بعضها في مرحلة أخرى كمرحلة القيامة والدار الآخرة؛ فلو دعا المشركون أو الكفار المخلدون ربهم يوم القيامة باسمه العظيم القريب الرفيق المجيب الواسع المنان الرحيم الرحمن المحسن السلام الجواد الفتاح الستير الرءوف الودود اللطيف الكريم الأكرم الغفور الغفار البر الطيب العفو التواب، لو دعا المخلدون في النار ربهم بأي اسم من هذه الأسماء أن يغفر ذنبهم، وأن يفرج كربهم، وأن يعفو عنهم، وأن يقبل التوبة منهم، وأن يرحمهم من العذاب؛ فإن ذلك لا يتحقق ولا يستجاب لمخالفته مقتضى الحكمة وما دون في أم الكتاب، ولذلك قال تعالى عن أهل النار ودعائهم: { وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذَابِ قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ } [غافر:49/51]، وقال سبحانه في شأنهم أيضا: { قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَالِّينَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ قَالَ اخْسَأُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ } [المؤمنون:106/108]، ومن ثم فإن كل مرحلة من مراحل الخلق لها ما يناسبها من الحِكَم وإبداء الأسماء والصفات .(1/40)
وقد بين النبي - صلى الله عليه وسلم - أيضا أنه عند مجيء الحق للفصل بين الخلق يوم القيامة يغضب غضبا شديدا لم يَغضَبْ قبلَه مثله، ولن يَغضبَ بعدَهُ مثلَه، فيبلُغُ الناسَ من الغمِّ والكَرَبِ ما لا يُطيقون ولا يَحتمِلون، فيبحثون عن شفيع قريب لكن الأنبياء يتخلفون عن الشفاعة إلا صاحب المقام المحمود يقول عندها: أنا لها، كما ورد عند البخاري من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعا: ( فأنطِلقُ فآتي تحتَ العرش فأقَعُ ساجداً لربي عزَّ وجل ثمَّ يَفتح اللهُ عليَّ من مَحامِدِه وحُسنِ الثناءِ عليهِ شيئاً لم يَفتحْهُ على أحدٍ قبلي، ثم يُقال: يا محمد ارفَعْ رأسك سَل تُعطَهْ، واشفعْ تُشَفع ) (1)، وتلك المحامد أو ما ذكره النبي - صلى الله عليه وسلم - في الثناء على ربه - كما ذكر كثير من أهل العلم - أسماء من أسماء الله لم يعلمها أحد من قبل، يتعلمها النبي - صلى الله عليه وسلم - ويدعوا الله بها فيستجيب له (2) .
ومن ثم فإن أسماء الله التي تعرف بها إلى عباده والتي خصها النبي - صلى الله عليه وسلم - بالعدد المشار إليه في الأحاديث كلها حسنى وكلها عظمى وتتناسب مع أحوال العباد ودعائهم لله بها، وذلك ابتلاء من الله لهم في الاستعانة به والصدق معه والرغبة إليه والخوف منه والتوكل عليه وغير ذلك من معاني العبودية التي تحقق العلة من خلقهم .
والنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يبين التسعة والتسعين اسما على وجه العد والتفصيل ليجتهد الناس في البحث والتحصيل، وفي ذلك حكمة بالغة، ومعان ساطعة، أن يطلبها الناس ويبذلوا غاية جهدهم في التعرف على أسماء ربهم التي ثبتت في الكتاب والسنة، ثم يؤمنوا بها ويعملوا بمقتضاها .
__________
(1) البخاري في كتاب التفسير، باب ذرية من حملنا مع نوح 4/ 1746 (4435) .
(2) بدائع الفوائد 1/176، وطريق الهجرتين ص 224 .(1/41)
وكل ذلك من باب المسارعة في الخيرات ورفعة الدرجات وتتفاوت المنازل في الجنات وتحقيق وعد النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي يحفز الهمم ويبث على الطاعات كما جاء في الحديث: ( إِنَّ للهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمَا مِائَةً إِلاَّ وَاحِدًا مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ ) (1)، فمن المعلوم أنه يلزم لحفظ أسماء الله الحسنى إحصاؤها واستيفاؤها أولا، وهذا يتطلب اجتهادا وبحثا طويلا، ثم الإحاطة بمعانيها والإيمان بها والعمل بمقتضاها ثانيا، وهذا يتطلب مجاهدة وجهادا كبيرا، ثم دعاء الله بها وحسن المراعاة لأحكامها، وهذا يتطلب علما وفقها وبصيرة وتلك مراتب الإحصاء على ما ترجح من أقوال العلماء .
قال ابن القيم: ( مراتب إحصاء أسمائه التي من أحصاها دخل الجنة وهذا هو قطب السعادة ومدار النجاة والفلاح، المرتبة الأولى إحصاء ألفاظها وعددها، المرتبة الثانية فهم معانيها ومدلولها، المرتبة الثالثة دعاؤه بها كما قال تعالى: { وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا } [الأعراف:180]، وهو مرتبتان إحداهما: دعاء ثناء وعبادة، والثاني: دعاء طلب ومسألة، فلا يثنى عليه إلا بأسمائه الحسنى وصفاته العلى، وكذلك لا يسأل إلا بها؛ فلا يقال: يا موجود أو يا شيء أو يا ذات اغفر لي وارحمني؛ بل يسأل في كل مطلوب باسم يكون مقتضيا لذلك المطلوب فيكون السائل متوسلا إليه بذلك الاسم ومن تأمل أدعية الرسل ولاسيما خاتمهم وإمامهم وجدها مطابقة لهذا ) (2) .
( رأي ابن القيم في مقتضى الأسماء الحسنى:
__________
(1) تقدم تخريجه ص 7 .
(2) انظر بدائع الفوائد 1/171 .(1/42)
ذكر ابن القيم رحمه الله في شأن الموحدين أصحاب الهمم العالية أن العبد إذا كانت همته أعلى ونفسه أشرف أقبل على ربه متدبرا لعهده ففهمه وحفظه، وعلم أن لربه شأنا في عهده ليس كشأن غيره، فوجد ربه قد تعرف إليه وعرفه بنفسه ووصفه واسمه وفعله، وعرفه أيضا بأحكامه، فعرف العبد من ذلك العهد ربا قيوما بنفسه، مقيما لغيره غنيا عن كل ما سواه، وكل ما سواه فقير إليه، وأنه مستو على عرشه فوق جميع خلقه، يرى ويسمع، ويرضي ويغضب، ويحب ويبغض ويدبر أمر مملكته، وهو فوق عرشه متكلم آمر ناه، يرسل رسله إلى أقطار مملكته بكلامه الذي يسمعه من يشاء من خلقه، وأنه قائم بالقسط مجاز بالإحسان والإساءة، وأنه حليم غفور جواد محسن شكور موصوف بكل كمال منزه عن كل عيب ونقص وأنه لا مثيل له ولا نظير .(1/43)
وشهد العبد أيضا حكمته في تدبير مملكته، وكيف يقدر المقادير بمشيئته من غير منازعة لعدله وحكمته، وفهم عن الله سبحانه ما وصف به نفسه في كتابه من حقائق أسمائه، وأشرقت أنوارها على قلبه فصارت له كالمعاينة، فرأى حينئذ تعلق الأسماء والصفات بالخلق والأمر، وارتباطهما بهما، وسريان آثارهما في العالم الحسي والعالم الروحي، ورأى تصرف الأسماء ومقتضياتها في الخلائق، كيف عمت وخصت وقربت وأبعدت وأعطت ومنعت؟ فشاهد العبد بقلبه مواقع عدله وقسطه وفضله ورحمته واجتمع له الإيمان بلزوم حجته مع نفوذ أقضيته وكمال قدرته مع كمال عدله وحكمته، ونهاية علوه على جميع خلقه مع إحاطته ومعيته وجلاله وعظمته وكبريائه وبطشه وانتقامه مع رحمته وبره ولطفه وجوده وعفوه وحلمه، ورأى لزوم الحجة مع قهر المقادير التي لا خروج لمخلوق عنها، وكيف اصطحاب الصفات وتوافقها وشهادة بعضها لبعض وانعطاف الحكمة التي هي نهاية وغاية على المقادير التي هي أول وبداية، ورجوع فروعها إلى أصولها ومبادئها إلى غاياتها، حتى كأنه يشاهد مبادئ الحكمة وتأسيس القضايا على وفق الحكمة والعدل والمصلحة والرحمة والإحسان، لا تخرج قضية عن ذلك إلى انقضاء الأكوان وانفصال الأحكام يوم الفصل بين العباد، وظهور عدله وحكمته وصدق رسله وما أخبرت به عنه لجميع الخليقة، إنسها وجنها مؤمنها وكافرها (1) .
ثم يذكر ابن القيم أنه حينئذ يتبين للخلق من صفات جلاله ونعوت كماله ما لم يكونوا يعرفونه قبل ذلك، حتى إن أعرف خلقه به في الدنيا يثني عليه يومئذ من صفات كماله ونعوت جلاله ما لم يكن يحسنه في الدنيا، وكما يظهر ذلك لخلقه تظهر لهم الأسباب التي بها زاغ الزائغون وضل الضالون وانقطع المنقطعون، فيكون الفرق بين العلم يومئذ بحقائق الأسماء والصفات والعلم بها في الدنيا كالفرق بين العلم بالجنة والنار .
__________
(1) الفوائد ص166 بتصرف، نشر دار الكتب العلمية، الطبعة الثانية، بيروت 1393 .(1/44)
وكذلك يفهم العبد كيف اقتضت أسماؤه وصفاته لوجود النبوة والشرائع، وأن لا يترك خلقه سدى؟ وكيف اقتضت ما تضمنته من الأوامر والنواهي؟ وكيف اقتضت وقوع الثواب والعقاب والمعاد؟ وأن ذلك من موجبات أسمائه وصفاته بحيث ينزه عما زعم أعداؤه من إنكار ذلك، ويرى شمول القدرة وإحاطتها بجميع الكائنات حتى لا يشذ عنها مثقال ذرة، ويرى أنه لو كان معه إله آخر لفسد هذا العالم، وأنه سبحانه لو جاز عليه النوم أو الموت لتدكدك هذا العالم بأسره ولم يثبت طرفة عين، ويرى ذلك الإسلام والإيمان اللذين تعبد الله بهما جميع عباده كيف انبعاثهما من الصفات المقدسة؟ (1) .
ولما أدرك الموحدون هذه الحكم والغايات سعوا في تحقيق مقتضى الأسماء والصفات فجعلوا حياتهم لله، وعقدوا قلوبهم على ترك مخالفته ومعاصيه؛ فهممهم مصروفة إلى القيام بما يحب ويرضى من الأقوال والأفعال، يقصدون من العبادة أكملها ومن الأوقات أولها، امتلأت قلوبهم من معرفة الله - عز وجل - وغُمرت بمحبته وخشيته وإجلاله ومراقبته فسرت المحبة في أجزائهم فلم يبق فيها عرق ولا مفصل إلا وقد دخله الحب، قد أنساهم حبه ذكر غيره؛ فامتلئوا بحبه عن حب من سواه، وبذكره عن ذكر من سواه، وبخوفه ورجائه والرغبة إليه والرهبة منه والتوكل عليه والإنابة إليه والسكون إليه والتذلل والانكسار بين يديه عن تعلق ذلك منهم بغيره، فإذا صارت للموحد أسماء ربه وصفاته مشهداً لقلبه أنسته ذكر غيره، وشغلته عن حب من سواه؛ فحينئذ يكون الرب سبحانه سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشى بها، فبه يسمع وبه يبصر وبه يبطش وبه يمشى، فيبقى قلب العبد نورا لمعرفة محبوبه ومحبته وعظمته وجلاله وكبريائه، وناهيك بقلب هذا شأنه، فيا له من قلب موحد خالص تقي نقي، ما أَدناه من ربه وما أحظاه في قربه (2) .
__________
(1) السابق ص167 بتصرف .
(2) طريق الهجرتين ص320 بتصرف .(1/45)
وإذا كانت بصيرة العبد منفتحة في معرفة الأَسماءِ والصفات والأفعال فإن شهودها الخاص يطابق ما جاءَ به الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولا يخالفه، إذ أن المنهج الرباني هو في حقيقته توجيه من الله للعبد فيما ابتلاه وخوله واسترعاه، والعبد أمين مخول مستخلف مبتلى ليس له في ملك سيده إلا الطاعة والخضوع والانقياد لما شرعه سيده من الأحكام .
فمن شأن الموحدين أَن تنسلخ نفوسهم من التدبير والاختيار الذي يخالف تدبير ربهم واختياره، بل قد سلموا إليه سبحانه التدبير كله، فلا يزاحم تدبيرهم تدبيره ولا اختيارهم اختياره، لتيقنهم أَنه الملك القاهر القابض على نواصي الخلق المتولي لتدبير الملك، وتيقنهم مع ذلك أَنه سبحانه الحكيم في أَفعاله، الذي لا تخرج أَفعاله عن الحكمة والمصلحة والرحمة، فلم يدخلوا أَنفسهم معه في تدبيره لملكه وتصريفه أُمور عباده بلو كان كذا وكذا لكان كذا وكذا، ولا بليت ولعل وعسى، بل ربهم - عز وجل - أَجل وأَعظم في قلوبهم من أَن يعترضوا عليه، أو يتسخطوا تدبيره أو يتمنوا سواه .
وهم أَعلم بالله وأعرف بأسمائه وصفاته من أَن يتهموه في تدبيره أَو يظنوا به الإخلال بمقتضى حكمته وعدله، بل الموحد ناظر بعين قلبه إلى باري الأَشياء وفاطرها، ناظر إلى إتقان صنعته مشاهد للحكيم في حكمته، لا يعيب إلا ما عابه الله، ولا يذم إلا ما ذمه، وإذا سبق إلى قلبه ولسانه عيب ما لم يعبه الله وذم ما لم يذمه الله تاب إلى الله منه، روى البخاري من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال: ( مَا عَابَ النَّبِيُ - صلى الله عليه وسلم - طَعَامًا قَطُّ، إِنِ اشْتَهَاهُ أَكَلَهُ وَإِلاَّ تَرَكَهُ ) (1) .
__________
(1) البخاري في المناقب، باب صفة النبي S 3/1306 (3370) .(1/46)
ومن هنا نعلم أثر الأسماء الحسنى التي تعرف الله بها إلى عباده وما تضمنته من الصفات، وظهور أثر كمالها المقدس وارتباطه بحكمته سبحانه في المخلوقات، وظهور بواعث محبته على الوجه الذي تشهد العقول والفطر بمقتضاه؛ فتشهد حكمته الباهرة في كل فعل أو حكم قضاه، وأنه سبحانه وتعالى الجواد الذي يحب أن يجود، والعفو الذي يحب أن يعفو، والغفور الذي يحب أن يغفر، وأنه لا بد من لوازم ذلك خلقا وشرعا وأن الله يحب أن يثنى عليه ويمدح ويمجد ويسبح ويعظم إلى غير ذلك من الحكم .
وقد أثنى الله - عز وجل - على عباده المؤمنين حيث نزهوه عن إيجاد الخلق لا لشيء ولا لغاية فقال جل جلاله في وصفهم: { الَذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } [آل عمران: 191]، وأخبر أن هذا ظن أعدائه لا ظن أوليائه فقال سبحانه وتعالى: { وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ } [ص:27] (1) .
ومن ثم فإن الله - عز وجل - أبرز خلقه من العدم إلى الوجود ليجري عليه أحكام أسمائه وصفاته فيظهر كماله المقدس وإن كان لم يزل كاملا ، قال ابن القيم: ( لا بد من ظهور أثر هذه الأسماء ووجود ما يتعلق به؛ فاقتضت حكمة الله أن أنزل الأبوين من الجنة ليظهر مقتضى أسمائه وصفاته فيهما وفي ذريتهما، فلو تربت الذرية في الجنة لفاتت أثار هذه الأسماء وتعلقاتها والكمال الإلهي يأبى ذلك فإنه الملك الحق المبين؛ والملك هو الذي يأمر وينهي ويكرم ويهين ويثيب ويعاقب ويعطي ويمنع ويعز ويذل؛ فأنزل الأبوين والذرية إلى دار تجري عليهم هذه الأحكام ) (2) .
__________
(1) شفاء العليل ص199 بتصرف .
(2) السابق ص243 .(1/47)
شروط الإحصاء وجهود المعاصرين في جمع الأسماء:
علمنا أنه لم يصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - تعيين الأسماء الحسنى أو سردها في نص واحد وأن سر الأسماء في حديث الترمذي مما جمعه الوليد بن مسلم باجتهاده أو عن شيوخه من أهل الحديث، وقد ذكر ابن الوزير اليماني أن تمييز التسعة والتسعين يحتاج إلى نص متفق على صحته أو توفيق رباني، وقد عدم النص المتفق على صحته في تعيينها؛ فينبغي في تعيين ما تعين منها الرجوع إلى ما ورد في كتاب الله بنصه أو ما ورد في المتفق على صحته من الحديث (1) .
ويضاف إلى ما ذكره ابن الوزير ضرورة استخراج الشروط أو القواعد أو الضوابط المنهجية التي حملتها النصوص القرآنية والنبوية في تمييز الأسماء الحسنى والتعرف على العلة في إحصاء كل اسم منها؛ لأن كثيرا من الذين اعتمدوا في منهجهم على تتبع الأسماء الحسنى التي نص عليها الكتاب ووردت في صحيح السنة استبعدوا أسماء يقتضي منهجهم إدخالها، وأدخلوا أسماء يقتضي المنهج إخراجها، فالعملية البحثية الاستقصائية الشاملة المبنية على تتبع ما ورد في الكتاب والسنة ينبغي أن تكون محكومة بضوابط علمية وشروط منهجية يجب التزامها في عملية الجمع والإحصاء .
ومن أفضل من جمع الأسماء الحسنى حتى عصرنا الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله في كتابه القيم ــ القواعد المثلى في صفات الله وأسمائه الحسنى ــ حيث اعتمد في منهج الإحصاء على تتبع ما ورد في القرآن وصحيح السنة من غير أن يذكر شروطا معلنة أو ضوابط محددة، غير أنه استبعد أسماء كان ينبغي إدخالها على مقتضى منهجه في الحصر كاسم الله الديان والمسعر والرازق والستير والمالك، مع أن اسم الله الديان ثبت في نص صحيح، وإن كان معلقا عند البخاري إلا أنه موصول ثابت صحيح عند غيره كما سيأتي بيانه .
__________
(1) العواصم والقواصم 7/228 .(1/48)
وكذلك اسم الله المسعر والرازق وردا مع القابض الباسط في أكثر من حديث صحيح، فأدخل الشيخ اسمين اثنين واستبعد اثنين دون ذكر علة أو سبب، وكذلك اسم الله الستير ورد مع اسمه الحيِيِّ في نص واحد صحيح فأدخل أحدهما واستبعد الآخر دون بيان السبب في ذلك، واسم الله المالك ورد مطلقا في السنة ومضافا في القرآن ولم يدخله الشيخ في الأسماء، وأدخل اسم الله العالم والحافظ والمحيط والحفي مع أن هذه الأسماء إنما وردت مضافة أو مقيدة، والشيخ رحمه الله نبه على علة تردده في إدخال اسم الله الحفي فقال: ( وإن كان عندنا تردد في إدخال الحفي لأنه إنما ورد مقيداً في قوله تعالى عن إبراهيم - عليه السلام -: { إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً } [مريم:47] ) (1)، مما يشعر بمفهوم المخالفة أن العالم والحافظ والمحيط أسماء وردت مطلقة وهي ليست كذلك .
كما أن إدخال هذه الأسماء المضافة أو المقيدة يؤدي إلى ضرورة إدخال جميع الأسماء التي تركها الشيخ رحمه الله كالبديع والفاطر والنور والغافر والسريع والواسع والفالق والجامع والقابل والزارع والمنزل والبالغ والجاعل والكاتب والمتم والحاسب والخليفة والصاحب والمقلب والمحيي والماهد والمرسل والمبتلي والمخرج والهادي والمخزي والمستعان والشديد والعلام والكفيل والمنتقم، وغير ذلك من الأسماء المضافة أو المقيدة، والقصد أن الشيخ رحمه الله لم يبين منهجا يلتزمه في الجمع والإحصاء غير أنه اعتمد على مجرد ورود النص فقط، وهذا وحده لا يكفي لتمييز التسعة والتسعين كما ذكرنا آنفا، وقد وافق جمعه أربعة وتسعين اسما مما ورد في بحثنا .
__________
(1) القواعد المثلي ص16، نشر دار الأرقم، الطبعة الأولى، الكويت سنة 1406هـ .(1/49)
وكذلك الشيخ عبد المحسن العباد حفظه الله في كتابه قطف الجنى الداني استبعد اسم الله المسعر والقابض والباسط والرازق، أو بمعنى آخر استبعد الأسماء التي وردت في الحديث الصحيح الذي رواه أصحاب السنن من حديث أنس - رضي الله عنه - أنه قال: ( قَالَ النَّاسُ: يَا رَسُولَ اللهِ غَلاَ السِّعْرُ فَسَعِّرْ لَنَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : إِنَّ اللهَ هُوَ الْمُسَعِّرُ الْقَابِضُ الْبَاسِطُ الرَّازِقُ، وإني لأَرْجُو أَنْ أَلْقَي اللهَ وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْكُمْ يُطَالِبُنِي بِمَظْلَمَةٍ فِي دَمٍ وَلاَ مَالٍ ) (1) .
ويصعب القول بأن الشيخ حفظه الله لم يصل علمه إلى وجود الحديث في السنن أو أنه لم يصح عنده؛ لأنه ذكر في جمعه وإحصائه اسم الله المحسن استنادا إلى الحديث الذي رواه الطبراني وصححه الشيخ الألباني من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( إذا حَكمْتم فاعْدِلوا، وإذا قَتَلتم فأحْسِنوا؛ فإنَّ الله عَز وجَل محْسِن يحبُ الإحْسَان ) (2) .
__________
(1) رواه الترمذي في البيوع، باب ما جاء في التسعير 3/605 (1314)، وأبو داود في كتاب الإجارة، باب في التسعير 3/272 (3451)، وابن ماجه في التجارات، باب من كره أن يسعر 2/741 (2200)، وأحمد في المسند 3/286 (14089)، وانظر تصحيح الشيخ الألباني للحديث في غاية المرام ص194(323) .
(2) الطبراني في المعجم الكبير الأحاديث من (7114) إلى (7123)، وانظر تصحيح الألباني للحديث في صحيح الجامع (494)، وانظر قطف الجنى الداني ص90 .(1/50)
والمنهج العلمي يقتضي المساواة في الحكم، لأنه طالما أدخل الباحث في جمعه وإحصائه اسما واحدا محتجا فيه بحديث صحيح رواه الطبراني؛ فإنه من باب أولى لا ينبغي أن يترك حديثا ثابتا صحيحا رواه أصحاب السنن لا سيما وهو مشتمل على أربعة أسماء وردت مطلقة معرفة، ودالة بالمطابقة على ذات الله وأوصاف الكمال التي اتصف بها رب العزة والجلال، وإلا اعتبر ذلك خللا علميا وقصورا منهجيا .
كما أن هذا الحديث الذي تركه الشيخ حفظه الله من الشهرة بمكان فهو الدليل الوحيد على اسمين مشهورين ضمن ما أدرجه الوليد بن مسلم عند الترمذي من الأسماء التي يحفظها الناس منذ أكثر من ألف عام، وهما القابض والباسط؛ فلم يردا في القرآن أو السنة اسمين إلا في هذا الحديث .
ومن الأسماء التي تركها الشيخ عبد المحسن أيضا اسم الله الجواد والمالك مع ثبوت هذه الأسماء في صحيح السنة، وأدخل حفظه الله في المقابل اسم الله الهادي والحافظ والكفيل والغالب والمحيط مع كونها وردت مضافة أو مقيدة، ويلزمه على ذلك إحصاء جميع ما تركه من أنواع المضاف المقيد في القرآن والسنة، وعلى أي حال فقد وافق جمعه ثلاثة وتسعين اسما من الأسماء التي وردت في بحثنا (1) .
وفي أطروحته العلمية المتميزة التي تناول فيها دراسة أسماء الله الحسنى استبعد الشيخ عبد الله صالح الغصن حفظه الله اسم الله المعطي والمالك والسيد والمسعر وأدخل بدلا منها اسمه العالم والهادي والمحيط والحافظ والحاسب، مع أن ما استبعده ثابت صحيح مطلق، وما أدخله في جمعه وإحصائه مضاف أو مقيد (2) .
__________
(1) قطف الجنى الداني ص85 : ص92 .
(2) أسماء الله الحسنى ص186:175، نشر دار الوطن الرياض الطبعة الأولى 1417 .(1/51)
ويبدوا أن ضابط التقييد والإطلاق عنده فيه نظر حيث يقول في الفصل الثاني المعنون بضوابط في تمييز الأسماء الحسنى عن غيرها، البند الرابع: ( ما ورد مقيدا أو مضافا من الأسماء في القرآن أو السنة فلا يكون اسما بهذا الورود مثل اسم المنتقم فلم يرد إلا مقيدا في قوله تعالى: { إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ } [السجدة:22]، وفي قوله: { إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ } [إبراهيم:47]، وما ورد مضافا مثل قوله تعالى: { عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ } [الرعد:9]، وقوله تعالى: { اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا } [البقرة:257]، فلا يؤخذ الاسم من هذا الورود المضاف لكن يؤخذ من آيات أخر، فيؤخذ اسم العالم من قوله تعالى: { وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ } [الأنبياء:81]، ويؤخذ اسم الله الولي من قوله تعالى: { وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ } [الشورى:28]، وإذا ورد في الكتاب والسنة اسم فاعل يدل على نوع من الأفعال ليس بعام شامل فهذا لا يكون من الأسماء الحسنى لأن الأسماء الحسنى معانيها كاملة الحسن تدل على الذات، ولا تدل على معنى خاص؛ مثل مجري السحاب هازم الأحزاب الزارع الذارئ المسعر ) (1) .
__________
(1) السابق ص137:136 .(1/52)
ومما يلاحظ أنه حفظه الله جعل كل اسم مضاف أو مقيد غير داخل في جمعه وإحصائه كمنهج ملزم للتعرف على الأسماء الحسنى، وهذا بالفعل شرط من الشروط المعتمدة في البحث والتي قام عليها الدليل، لكن الشيخ حفظه الله لم يطبق هذا المنهج في جميع الأسماء التي جمعها أو حتى الفقرة السابقة التي ذكرها، فمن الأسماء التي أدخلها اسم الله العالم والهادي والمحيط والحافظ والحاسب وهي مضافة أو مقيدة، أما العالم والمحيط فالتقييد اللفظي بالباء ظاهر فيهما، وهذه الأسماء مقيدة أيضا بحال الكمال لاحتمال معنى الباء الحلول والظرفية كما في قوله: { وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ } [الأنبياء:81]، وقوله - عز وجل -: { وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً } [النساء:126] .
وأما اسمه الهادي فقد ورد في جميع المواضع مقيدا بالإضافة كما في قوله: { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيرا ً } [الفرقان:31]، والمعنى كفاك ربك هاديا لك ونصيرا، نصب على الحال أو التمييز أي يهديك وينصرك فلا تبال بما عاداك (1)، وما قيل في اسم الله الهادي يقال أيضا في اسمه الحاسب؛ فقد ورد مقيدا في قوله: { وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ } [الأنبياء:47]، وقوله: { أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ } [الأنعام:62]، وأما اسم الله الحافظ فلم يرد مطلقا وإنما ورد مقيدا في نصوص كثيرة كقوله: { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } [الحجر:9]، وقوله عز وجل: { فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ } [يوسف:64] .
__________
(1) انظر تفسير القرطبي 13/28، وتفسير ابن كثير 3/318، وتفسير الطبري 19/10 .(1/53)
وأما ما ذكره في استبعاد اسم الفاعل الذي يدل على نوع من الأفعال ليس بعام شامل وأنه لا يكون من الأسماء الحسنى وتعليله ذلك بأن الأسماء الحسنى معانيها كاملة الحسن تدل على الذات ولا تدل على معنى خاص، ثم ضرب لذلك أمثلة بمجري السحاب وهازم الأحزاب والزارع والذارئ والمسعر فهذا أمر فيه نظر؛ لأن الأسماء الحسنى جميعها تدل بالمطابقة على الذات والوصف معا؛ فهي علمية ووصفية وليست أعلاما مجردة، وهي مترادفة باعتبار دلالتها على الذات ومتنوعة باعتبار دلالتها على الصفات .
كما أن اسم الفاعل هو ما يدل على التجدد والحدوث دون النظر إلى العموم أو الخصوص كالخالق والقاهر والرازق والشاكر والمالك والقادر وغير ذلك من الأسماء المشتقة من الأفعال؛ فهذه أسماء تحدث أثارها في المخلوقات بمقتضيات الزمان والمكان وإظهار حكمة الله في ابتلاء كل إنسان .
وكذلك المسعر اسم عام لا يظهر أثره في سلعة واحدة بل في كل السلع تدبيرا ورزقا وقبضا وبسطا لكل ما يتفاعل معه الإنسان في بيعه وشرائه، وليس الاسم مرتبطا بسلعة معينة أو مقيدا بزمان مخصوص أو بمكان دون آخر بحيث يمكن القول إنه نوع من الأفعال ليس بعام ولا شامل، كما أن الاسم لا يظهر أثره في البيع والشراء فقط بل يتعلق أيضا بمشيئة الله في إظهار أثر عدله وحكمه في الآخرة، وذلك بتسعير النار وزيادتها على من كفر بربه وتمادى في شركه ومات ظالما لنفسه مصرا على ذنبه دون إنابة أو توبة، قال تعالى: { وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيراً } [الإسراء:97] .(1/54)
أما الأمثلة الأخرى التي ذكرها كمجري السحاب وهازم الأحزاب والزارع والذارئ فالعلة في عدم إحصائها ليس كما ذكر في كونها نوعا من الأفعال ليس بعام أو شامل وإنما لكونها مضافة كما في مجري السحاب وهازم الأحزاب، أو مقيدة كما في الذارع حيث ورد مقيدا بما يحرثون كما قال الله تعالى: { أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ } [الواقعة:63/64] .
وكذلك الذاريء لم يرد في القرآن اسما وإنما ورد فعلا، وورد في السنة بلفظ مقيد رواه أحمد من حديث عبد الله بن عباس - رضي الله عنه - أنه قال: ( لَمَّا نَزَلَتْ آيَةُ الدَّيْنِ قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : إِنَّ أَوَّلَ مَنْ جَحَدَ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ، قَالَهَا ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، إِنَّ اللهَ لَمَّا خَلَقَ آدَمَ عَلَيْهِ الصَّلاَة وَالسَّلاَمُ مَسَحَ ظَهْرَهُ فَأَخْرَجَ مِنْهُ مَا هُوَ ذَارِئٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ) (1)، فاللفظ ظاهر على تقيده على فرض صحة الحديث، والمعنى أخرج منه ما هو ذارؤه من البشر، وإن كان اللفظ الثابت الصحيح ليس فيه اسم الذارئ أصلا فالرواية الصحيحة المرفوعة: ( إِنَّ أَوَّلَ مَنْ جَحَدَ آدَمُ، إِنَّ اللهَ - عز وجل - لَمَّا خَلَقَه مَسَحَ ظَهْرَهُ فَأَخْرَجَ مِنْهُ مَا هُوَ مِنْ ذَرَارِىَّ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فعَرضهُمْ عَلَيْهِ ) (2) .
__________
(1) المسند 1/371 (3519)، وانظر تعليق الحافظ ابن كثير على الحديث في تفسيره 1/335 .
(2) مسند الإمام أحمد 1/251 (2270)، وانظر ظلال الجنة (204) .(1/55)
وقد حرصت على لقاء الشيخ الدكتور الغصن حفظه الله أو الاتصال به هاتفيا لأسأله عن علة واضحة لاستبعاده اسم الله المسعر؟ ولماذا أدخل في جمعه وإحصاءه ثلاثة أسماء واستثنى المسعر من حديث أنس - رضي الله عنه - الذي اشتمل على أربعة أسماء هي المسعر القابض الباسط الرازق، في حين أن الشيخ ابن عثيمين أدخل القابض والباسط واستثنى المسعر والرازق؟!
وبعد جهد كبير عثرت على هاتفه وتمكنت من الاتصال به وكان في دولة أخرى وأخبرني أنه لا يعرف علة أو ضابطا لذلك، وأنه لا دليل لديه على عدم اعتبار المسعر اسما، وقد عده ابن حزم والقرطبي، وذكر لي أيضا أن الأمر في إحصاء الأسماء ما زال غامضا يفتقر إلى مزيد من الدراسة، فجزاه الله خير الجزاء ونفعنا وإياه ببحثه المتميز في دراسة الأسماء، فقد اتفق معنا في خمسة وتسعين اسما .
وفي دراسته المتميزة عن صفات الله الواردة في الكتاب والسنة جمع الشيخ علوي بن عبد القادر السقاف حفظه الله مائة اسم غير لفظ الجلالة، وقد تتبع في منهجيته ما ورد في النص بلفظ الاسم، وإن لم يبين ضابطا معلنا في جمعه من حيث الإطلاق أو عدمه أو دلالة الاسم على كمال الوصف أو غير ذلك مما سيأتي بيانه في شروط الإحصاء .(1/56)
وقد ظهر ذلك في تردده بين الطبعة الأولى والثانية حيث تراجع عن بعض الأسماء التي وافقت معنا شروط الإحصاء وأدخل فيها ما لم يوافقها، فقال حفظه الله: ( أما الأسماء الحسنى فقد أضفت ثلاثة أسماء ترجح لي بالدليل أنها من أسماء الله - عز وجل - وهي الديان والمقيت والهادي، وتوقفت في اسمين فلم أوردهما في هذه الطبعة وهما العالم والوارث ) (1)، ولم يبين الشيخ ماهية الدليل الذي ترجح لديه غير أنه أدخل الهادي في الطبعة الثانية وهو مقيد كما تقدم، وتوقف في العالم وهو مصيب في توقفه لأنه ورد مقيدا بالإضافة، لكن اسم الله الوارث الذي استبعده يتفق مع ضوابط الإحصاء كما سيأتي بيانه .
أما الأسماء التي عدها ولم تتوافق مع شروط الإحصاء فهي الأعز والحافظ والمحيط والهادي، وقد تقدم الحديث عن التقيد في الحافظ والمحيط والهادي، أما الأعز فلم يرد مرفوعا، وإنما ورد موقوفا على ابن مسعود - رضي الله عنه - وابن عمر رضي الله عنهما: ( رب اغفر وارحم وأنت الأعز الأكرم ) (2)، واعتباره الموقوف في حكم المرفوع عند بعض المحدثين لا يكفي لإثباته، وشأنه في ذلك شأن القراءة الشاذة التي صحت عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ورواها الإمام البخاري في صحيحه عندما قرأ الحي القيوم في آية الكرسي: الحي القيام (3)، وهي من حيث الصحة أثبت من رواية الأعز، ومع ذلك ذكر الشيخ حفظه الله الأعز اسما والقيام وصفا وغض الطرف عن اعتبار القيام اسما مع وضوح العلمية فيه كوضوح الشمس (4) .
__________
(1) صفات الله الواردة في الكتاب والسنة ص8، ط2 نشر دار الهجرة الرياض 1422هـ .
(2) انظر مصنف ابن أبي شيبة 4/68، وصححه الألباني موقوفا في مناسك الحج والعمرة في الكتاب والسنة وآثار السلف وسرد ما ألحق الناس بها من البدع ص53 .
(3) البخاري في كتاب التفسير، تفسير سورة نوح 4/ 1872 .
(4) صفات الله الواردة في الكتاب والسنة ص347 .(1/57)
أما ما لم يدخله الشيخ السقاف حفظه الله مما ثبت من الأسماء اسم الله المسعر والوارث والمالك، وهي أسماء ثابتة تتوافق مع ضوابط الإحصاء كما سيأتي بيانها، وأيا كان الأمر فقد بذل الشيخ جهدا مباركا مشكورا يشهد له كل منصف، بل يعد ما توصل إليه الشيخ في كتابه من نتائج أقرب ما يكون إلى بحثنا من حيث الاتفاق في إحصاء الأسماء حيث اتفق معنا في ستة وتسعين اسما .
والقصد أن الأمر في إحصاء الأسماء الحسنى يتطلب منهجا علميا دقيقا مبنيا على قواعد أو ضوابط أو أسس تحدد الشروط اللازمة لإحصاء الأسماء الحسنى الثابتة في الكتاب والسنة .
وهؤلاء العلماء الأجلاء من أفضل ما يعتمد على أبحاثهم في تمييز الأسماء الحسنى والتعرف عليها حتى الآن، حيث يدور إحصاؤهم جميعا حول تسعة وتسعين اسما، وهي دائرة قريبة جدا كما هو ملاحظ مهدت الطريق لاستخراج الأسماء الحسنى الثابتة في الكتاب والسنة .
غير أن الأمر في إحصاء الأسماء الحسنى لا يكفي فيه كما سبق مجرد تتبع اللفظ الثابت في النص الصحيح، بل لا بد من مراعاة الضوابط العلمية الأخرى التي يمكن من خلالها تمييز الاسم عن الوصف والفعل، ومتى يراد به في النص العلمية ومتى يراد به الوصفية؟ هذا مع تحري دلالة الاسم على مطلق الكمال والحسن، ومراعاة ما إذا كان الوصف مطلقا في الدلالة على الكمال أو مخصصا مقيدا بالإضافة؛ أو محمولا على وجه الكمال فقط عند انقسام المعنى وتطرق الاحتمال، حيث يكون المعنى عند تجرده كمالا في حال ونقصا في حال، وهل قضية اشتقاق الأسماء الحسنى من الأوصاف والأفعال تعود إلى اجتهاد الشخص أو إلى ثبوت النص؟(1/58)
ومن ثم لا بد من تحديد الضوابط اللازمة للتعرف على أسماء الله الحسنى بحيث يكون البحث والتمييز المعتمد عليها سهلا ميسرا في مقدور العامة والخاصة أن يصلوا بأنفسهم إلى تسعة وتسعين اسما إذا طبقوها بدقة، ولا يكون الأمر مقتصرا فقط على تمييز الأسماء الحسنى الثابتة في الكتاب والسنة، بل لا بد أيضا من بيان الأسماء التي لم تنطبق عليها شروط الإحصاء مع ذكر العلة في استبعادها، فيقال هذا اسم والعلة كذا وهذا ليس باسم والعلة كذا وكذا، وفوق ذلك وقبله يتطلب البحث كما ذكر ابن الوزير اليماني توفيقا ربانيا في جمع النصوص واستيفائها والالتزام بمنهجية البحث والدقة في تطبيقها .
وبعد بحث طويل وجهد كبير في استخراج الشروط المنهجية أو القواعد الأساسية لإحصاء الأسماء الإلهية التي تعرف الله - عز وجل - بها إلى عباده يمكن حصر هذه القواعد أو تلك الضوابط في خمسة شروط لازمة لكل اسم من الأسماء الحسنى دل عليها بوضوح شديد قوله - عز وجل -: { وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا } [الأعراف:180]، وقوله: { قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيّاً مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى } [الإسراء:110]، وحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - في الصحيحين مرفوعا: ( إِنَّ للهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمَا مِائَةً إِلاَّ وَاحِدًا مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ ) (1)، أما كيفية استخراج الشروط من هذه الأدلة فبيانها مفصلا على النحو التالي:
( الشرط الأول: ثبوت النص في القرآن أو صحيح السنة .
الشرط الأول من شروط إحصاء الأسماء الحسنى أن يرد الاسم نصا في القرآن أو ما ثبت في صحيح السنة، وهذا الشرط مأخوذ من قوله - عز وجل -: { وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا } [الأعراف:180]، وقوله: { فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى } [الإسراء:110] .
__________
(1) تقدم تخريجه .(1/59)
ووجه الدلالة أن لفظ الأسماء الحسنى يدل على أنها معهودة موجودة، فالألف واللام هنا للعهد، ولما كان دورنا حيال الأسماء هو الإحصاء دون الاشتقاق والإنشاء فإن الإحصاء لا يكون إلا لشيء موجود معهود، ولا يعرف ذلك إلا بما نص عليه كتاب الله وما صح بالسند المتصل المرفوع إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وهذا الشرط ذكره ابن تيمية في قوله: ( الأسماء الحسنى المعروفة هي التي يدعى الله بها، وهي التي جاءت في الكتاب والسنة، وهي التي تقتضي المدح والثناء بنفسها ) (1) .
ومعلوم من مذهب السلف أن أسماء الله الحسنى توقيفية على الأدلة السمعية، ولا بد فيها من تحري الدليل بطريقة علمية تضمن لنا مرجعية الاسم إلى كلام الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - ، ولا يكون ذلك إلا بالرجوع إلى ما ورد في القرآن أو ما ورد في صحيح السنة النبوية على طريقة المحدثين؛ لأن محيط الرسالة لا تخرج دائرته عن ذلك، والرسالة تلقاها النبي - صلى الله عليه وسلم - عن طريق الوحي وبأشكاله المختلفة، قال تعالى: { وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَىإِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى } [النجم:3/4]، ثم انقطع الوحي بعد موت النبي - صلى الله عليه وسلم - فلا ينزل على أحد إلى يوم القيامة، وهذا واضح في قوله تعالى: { مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيما } [الأحزاب:40] .
__________
(1) شرح العقيدة الأصفهانية ص19 .(1/60)
كما أن هذا الشرط يعتمد منهج السلف أيضا في كون الاحتجاج بصحيح السنة النبوية كالاحتجاج بالآيات القرآنية سواء بسواء، فلا خلاف بين جمهور العلماء الذين يعتد بهم في أن السنة حجة مستقلة في تشريع الأحكام، وأنها كالقرآن في تمييز الحلال من الحرام، وأنها المصدر الثاني لمعرفة أصول الإسلام، وأنها المفصحة عن معاني القرآن والموضحة لأوامره وأخباره والكاشفة عن تأويل النص وبيان أسراره .
وقد أكد القرآن بوضوح لا لبس فيه أن السنة وحي من الله - عز وجل - يجب الإيمان به ويجب اتباع الرسول - صلى الله عليه وسلم - في كل شيء وفي كل وقت؛ في حياته وبعد مماته؛ لأنها أصول لم تخصص بزمن دون زمن؛ فيجب تصديق الرسول - صلى الله عليه وسلم - في خبره، والطاعة لأمره عن يقين ومحبة وإخلاص .
قال ابن حزم: ( إن القرآن لما كان هو الأصل الذي يرجع إليه في معرفة الإسلام وجدنا فيه وجوب طاعة ما أمرنا به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ووجدناه عز وجل يقول فيه واصفا لرسوله - صلى الله عليه وسلم - : { وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى } [النجم:3/4]، فصح لنا بذلك أن الوحي ينقسم من الله عز وجل إلى رسوله - صلى الله عليه وسلم - على قسمين: أحدهما وحي متلو مؤلف تأليفا معجز النظام وهو القرآن، والثاني وحي مروي منقول غير مؤلف ولا معجز النظام ولا متلو لكنه مقروء، وهو الخبر الوارد عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وهو المبين عن الله - عز وجل - مراده منا ) (1) .
__________
(1) الإحكام في أصول الأحكام 1/93 .(1/61)
ولا فرق أيضا في الاحتجاج بالسنة النبوية بين باب الأحكام الفقهية وباب القضايا الاعتقادية، وقد عبر أبو طالب المكي عن العلة في ذلك بقوله: ( فإنا قوم متبعون نقفوا الأثر غير مبتدعين بالرأي والمعقول نرد به الخير .. إلى أن قال: وفي رد أخبار الصفات بطلان شرائع الإسلام، لأن الناقلين إلينا ذلك هم ناقلوا شرائع الدين وأحكام الإيمان فإن كانوا عدولا فيما نقلوه من الشريعة فالعدل مقبول القول في كل ما نقلوه، وإن كانوا كذبوا فيما نقلوا من أخبار الصفات فالكذب مردود القول في كل ما جاءوا به ) (1) .
ولم يختلف أحد من الأمم في أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث إلى الملوك رسولا واحدا يدعوهم إلى الإسلام، واحدا واحدا مفردا إلى كل مدينة وقبيلة، كصنعاء وحضرموت ونجران وتيماء والبحرين وعمان وغير ذلك من البلدان، وكان كل رسول يُعَلم الناس أحكام دينهم كلها، عقيدة وشريعة، وافترض النبي - صلى الله عليه وسلم - على كل جهة قبول رواية أميرهم ومعلمهم؛ فصح قبول خبر الواحد الثقة عن مثله مبلغا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (2) .
أما القواعد التي اعتمد البحث عليها في تمييز الحديث المقبول من المردود والصحيح من الضعيف فهي قواعد المحدثين، أو ما عرف بعلم مصطلح الحديث الذي يشترط في الحديث الصحيح اتصال السند بنقل العدل الضابط عن مثله إلى منتهاه من غير شذوذ ولا علة، وعلى ما هو معتبر أيضا في قواعدهم (3) .
__________
(1) قوت القلوب في معاملة المحبوب لأبى طالب المكي 2/124 .
(2) المحلى لابن حزم 1/52 بتصرف .
(3) المنهل الروي في مختصر علوم الحديث النبوي لمحمد بن إبراهيم بن جماعة ص33 بتصرف .(1/62)
وليس كل ما نسب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يقبل بلا ضابط أو نقاش، فلا بد من الترابط العلمي المتصل بين رواة السند؛ بحيث يتلقى الراوي اللاحق عن السابق؛ فلا يكون بين اثنين من رواة الحديث فجوة زمنية أو مسافة مكانية يتعذر معها اللقاء أو يستحيل معها التلقي والأداء، كما يلزم أيضا اتصاف الرواة بالعدالة، وهى صفة خلقية تكتسبها النفس الإنسانية وتحمل صاحبها على ملازمة التقوى والمروءة ومجانبة الفسوق والابتداع فلا يعرف بارتكاب كبيرة أو إصرار على صغيرة، ولا بد أن يتصف الراوي أيضا بالضبط والتثبت من الحفظ والسلامة من الخطأ وانعدام الوهم مع القدرة على استحضار ما حفظه وهذا شرط في جميع رواة الحديث الصحيح من أول السند إلى آخر راوٍ فيه، يضاف إلى ذلك عدم مخالفة الراوي لمن هو أوثق منه وأثبت، ولا يكون في روايته أيضا علة قادحة أو سبب ظاهر يؤدي إلى الحكم بعدم ثبوت الحديث، فالطريق الوحيد المعتمد في ثبوت السنة هو الالتزام بقواعد المحدثين وأصولهم في معرفتها (1) .
أما الحكم على ثبوت الحديث بالأصول الكلامية أو المناهج الفلسفية أو الكشوفات الذوقية فلا مجال له في بحثنا؛ لأن الآراء العقلية كثيرة ومتضاربة والمواجيد الذوقية مختلفة ومتغيرة، فالحكم على حديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - في هذه الحالة يحكمه الهوى ويسوقه استحسان النفس .
ومن ثم لا عبرة بقول من قال من أصحاب الطرق: ( ربما صح عندنا من أحاديث الأحكام ما اتفق المحدثون على ضعفه وتجريح نقلته، وقد أخذناه بالكشف عن قائله صحيحا فنتعبد به أنفسنا على غير ما تقرر عند علماء الأصول، ورب حديث قد صححوه واتفقوا عليه وليس بصحيح عندنا بطريقة الكشف فنترك العمل به ) (2) .
__________
(1) المرجع السابق ص 33 وما بعدها، وانظر أيضا صحيح مسلم بشرح النووي 1/27، وتدريب الراوي للسيوطي 1/63 بتصرف .
(2) رسائل ابن عربي ص4، دار إحياء التراث العربي، حيدر آباد، الهند، 1948م .(1/63)
إن من أعظم الأسس في الاعتماد على السنة الالتزام بقواعد المحدثين في معرفة المقبول من المردود والصحيح من الضعيف، وقد التزمت في منهجية العمل بالشرط الأول أنه إذا لم يرد الاسم نصا في القرآن فيلزم لأخذه من السنة أن يكون الحديث ثابتا صحيحا، فلا يعتد في النص على ذكر الأسماء الحسنى بالضعيف، ولا يعتمد اعتمادا كاملا على ما ثبت وخف ضبطه كالحسن؛ لأن الحسن على ما ترجح عند المحدثين من رواية الصدوق، أو هو ما اتصل سنده بنقل العدل الذي خف ضبطه قليلا عن مثله إلى منتهاه من غير شذوذ ولا علة، وربما يثير ذلك إنكار البعض لكنهم لا يختلفون معنا في تطرق الاحتمال إلى ضبط النص والتيقن منه في ثبوت لفظ الاسم دون الوصف، اللهم إلا إذا كان الحديث صحيحا بمجموع طرقه وكثرتها، ومن ثم لم أعتمد على الحديث الحسن في إحصاء نص الأسماء الحسنى، وإن اعتمدته حجة في إثبات الأوصاف وشرح معاني الأسماء، وبيان دلالة الاسم على المعنى سواء بالمطابقة أو التضمن واللزوم، وأيضا في التعرف على كيفية الدعاء بالاسم، أو الدعاء بالوصف الذي دل عليه، سواء في دعاء المسألة أو في دعاء العبادة، شأنه في ذلك شأن الاحتجاج به في سائر الأحكام وأمور الإسلام، فالحديث الحسن حجة مقبول عند جمهور أهل العلم .
وإذا كان الاسم معتمدا في ثبوته على نص ورد في أحد الصحيحين اكتفيت بالإحالة عليهما لأنهما أصح الكتب بعد كتاب الله، وقد اتفقت الأمة على تلقيهما بالقبول، قال الإمام النووي: ( اتفق العلماء رحمهم الله على أن أصح الكتب بعد القرآن العزيز الصحيحان البخاري ومسلم وتلقتهما الأمة بالقبول ) (1) .
__________
(1) صحيح مسلم بشرح النووي 1/14 .(1/64)
وقال أبو عمرو بن الصلاح: ( أول من صنف في الصحيح البخاري أبو عبد الله محمد بن إسماعيل، وتلاه أبو الحسين مسلم بن الحجاج القشيري، ومسلم مع أنه أخذ عن البخاري واستفاد منه فإنه يشارك البخاري في كثير من شيوخه، وكتاباهما أصح الكتب بعد كتاب الله العزيز ) (1) .
وكذلك إذا لم يرد الاسم نصا في القرآن وورد في السنة معتمدا في حجيته على ثبوت الحديث فقط وكان الحديث في غير الصحيحين فلا بد من الحكم على صحته من قبل جمع من أعلام المحدثين عملا بالأحوط على قدر المستطاع، أما ما عدا البحث عن حجية دليل السنة في ثبوت الاسم فاكتفيت غالبا فيما لم يرد في الصحيحين بتراث الشيخ الألباني رحمه الله وحكمه على الحديث من جهة القبول أو الرد .
وسبب ذلك كثرة الأحاديث الواردة في شرح الاسم لغة وشرعا، وفهم دلالتها مطابقة وتضمنا والتزاما، وكذلك كثرة ما ورد منها في الدعاء بنوعيه، دعاء المسألة ودعاء العبادة، كما أن الشيخ الألباني من المحدثين المعاصرين الذين أسهموا في تنقية السنة الشريفة من الأحاديث المكذوبة والضعيفة، وألف كتبا خصصها للأحاديث الصحيحة وأخرى للأحاديث الضعيفة والموضوعة، وعزل الصحاح عن الضعاف في كثير من كتب السنن وغيرها، وتعد موسوعته الالكترونية مرجعا هاما لدى الباحثين المحققين بعد مطابقتها على المراجع الأصلية .
أما الأسماء التي لم تتوافق مع الشرط الأول أو مع ثبوت النص مما اشتهر في جمع الوليد بن مسلم المدرج في رواية الترمذي والمشهور بين الناس منذ أكثر من ألف عام فهما الواجد والماجد، وكذلك الحنان في جمع عبد العزيز بن حصين المدرج في رواية الحاكم، وسيأتي تفصيل ذلك عند الحديث عن الأسماء التي لم تثبت في تلك الروايات إن شاء الله تعالى .
__________
(1) هدي الساري مقدمة فتح الباري شرح صحيح البخاري لابن حجر العسقلاني ص10.(1/65)
ومن الأسماء التي لم تتوافق أيضا مع هذا الشرط مما ذكره أهل العلم اسم السخي والنظيف والهْوِيّ والمفضل والمنعم ورمضان وآمين والأعز والقيام .
أما السخي فورد مع النظيف في رواية ضعيفة عند السيوطي في الجامع الصغير من حديث ابن عمر - رضي الله عنه - مرفوعا: ( إِنَّ اللهَ تَعَالى جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ، سَخي يُحِبُّ السَّخاءَ نَظِيفٌ يُحِبُّ النَّظَافَةَ ) (1)، وكذلك ورد النظيف في عدة روايات ضعيفة عند الترمذي وغيره، من حديث سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( إِنَّ اللهَ طَيِّبٌ يُحِبُّ الطَّيِّبَ، نَظِيفٌ يُحِبُّ النَّظَافَةَ، كَرِيمٌ يُحِبُّ الْكَرَمَ، جَوَادٌ يُحِبُّ الْجُودَ؛ فَنَظِّفُوا أَفْنِيَتَكُمْ وَلاَ تَشَبَّهُوا بِالْيَهُودِ ) (2) .
وهذا الحديث والذي قبله ليس أصلا في إثبات الأسماء الأخرى التي تضمنها، وإنما ثبوتها معتمد لورودها في روايات أخرى صحيحة سيأتي بيانها في موضع كل اسم .
__________
(1) فيض القدير شرح الجامع الصغير 2/225، وانظر ضعيف الجامع (1596) .
(2) أخرجه الترمذي في كتاب الأدب، باب ما جاء في النظافة 5/111( 2799)، وضعفه الألباني في غاية المرام ص89 (113)، وضعيف الجامع (1616)، وحسنه في مشكاة المصابيح (4487) .(1/66)
وأما الهْوِيّ فقد ورد في حديث صحيح رواه النسائي من حديث ربيعة بن كعب الأسلمي - رضي الله عنه - أنه قال: ( كُنْتُ أَبِيتُ عِنْدَ حُجْرَةِ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - ، فَكُنْتُ أَسْمَعُهُ إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ يَقُولُ: سُبْحَانَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الْهَوِىَّ، ثُمَّ يَقُولُ: سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ الْهَوِىَّ ) (1)، وقد فسره البعض على أنه اسم، وليس هذا مقصد الراوي لأن الحديث ورد تفسيره في روايات أخرى صحيحة أنه يعني بالهوي وقت الليل الطويل قبل منتصفه أو بعده، ولا يعنيه اسما لله - عز وجل -، فعند الترمذي وصححه الشيخ الألباني قال ربيعة - رضي الله عنه -: ( كُنْتُ أَبِيتُ عِنْدَ بَابِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَأُعْطِيهِ وَضُوءَهُ فَأَسْمَعُهُ الْهَوِىَّ مِنَ اللَّيْلِ يَقُولُ: سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ وَأَسْمَعُهُ الْهَوِىَّ مِنَ اللَّيْلِ يَقُولُ: الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) (2) .
وقد عده الإمام القرطبي من الأسماء الحسنى وقال: ( منها الهوي جل جلال الله وتقدست أسماؤه ) (3)، ثم تأوله معناه بأنه المحبوب من خلقه العارفين بحقه .
__________
(1) أخرجه النسائي في كتاب قيام الليل وتطوع النهار والحث على الصلاة في البيوت، باب فضل صلاة الليل 1/416 (1318)، وانظر تصحيح الألباني للحديث مشكاة المصابيح (1218) .
(2) الترمذي في الدعوات، رواه البخاري في الأدب المفرد 1/418 (1218) .
(3) الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى 1/431 .(1/67)
وهذا على فرض ثبوته أو احتمال أن يكون ما أخطأ فيه الراوي صحيحا من وجه، مع أنه نقل عن الأقليشي أن ذلك من أغرب ما ورد في صفات الله تعالى، وأنه خطأ من أبي نعيم صاحب ابن المبارك في تفسيره للأسماء، حيث جعله اسما وفسره في حق الله بمعنى الطويل الدائم، ثم بين أنه أشكل عليه الأمر ودخل عليه اللبس، وأن رواية الترمذي فسرت ما حدث من اللبس، وأن الهوى ليس بصفة لله تعالى وإنما هو وصف الليل، ومراد الراوي أنه كان يسمع صوت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الليل وهو يصلي، فربما كان يسمعه في النصف الأول، وربما كان يسمعه في النصف الآخر (1) .
وأما المنعم والمفضل فقد وردا في حديث ضعيف مرسل رواه ابن أبي شيبة والبيهقي من طريق الأعمش عن حبيب بن أبي ثابت عن بعض أشياخه أنه قال: ( كَانَ - صلى الله عليه وسلم - إذا أتَاهُ الأمْرُ مما يُعْجبه قَال: الحمْدُ لله المنْعِم المفْضِل الذي بنعْمَتِه تَتِم الصَّالحات، وإذا الأمْرُ أتَاهُ مما يَكرَهُه قال: الحمْدُ لله عَلى كُلِّ حَال ) (2) .
__________
(1) السابق 1/434 .
(2) انظر المصنف 6/71 (29554)، وقال أبو داود: روي متصلا وفيه أحاديث ضعاف ولا يصح انظر المراسيل ص357 (532)، وانظر الأسنى 1/510 .(1/68)
وأما اعتبار رمضان من أسماء الله الحسنى فلا يصح لأنه لم يثبت في حديث صحيح وإنما رواه البيهقي وابن عدي من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( لاَ تَقُولُوا رَمَضَانَ فَإِنَّ رَمَضَانَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللهِ وَلَكِنْ قُولُوا شَهْرُ رَمَضَانَ ) (1)، وهو حديث ضعيف وقيل موضوع، وقد عده الإمام القرطبي من الأسماء الحسنى وشرح معناه، مع أنه جزم بأنه لم يأتي في الكتاب ولا في السنة الثابتة، بل نفي في تفسيره أن يكون اسما فقال: ( روى رمضان اسم من أسماء الله تعالى وهذا ليس بصحيح؛ فإنه من حديث أبي معشر نجيح وهو ضعيف ) (2) .
وكذلك الحال في اعتبار آمين اسما من أسماء الله الحسنى استنادا إلى بعض الروايات الموقوفة والمرفوعة التي لم تصح كما روى ابن أبي شيبة في مصنفه عن هلال بن يساف موقوفا، وكذلك عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - أنه قال: ( آمين اسم من أسماء الله تعالى ) (3)، ورواه أيضا عبد الرزاق في مصنفه موقوفا على أبي هريرة - رضي الله عنه - (4)، قال ابن كثير: ( وحكى القرطبي عن مجاهد وجعفر الصادق وهلال بن يساف أن آمين اسم من أسماء الله تعالى، وروي عن ابن عباس مرفوعا ولا يصح، قاله أبو بكر بن العربي المالكي ) (5) .
__________
(1) سنن البيهقي الكبرى 4/201 (7693) .
(2) تفسير القرطبي 2/292، وانظر للمقارنة الأسنى 1/169، وانظر فتح الباري 4/113 .
(3) المصنف لابن أبي شيبة 2/188 (7971) (7972) (7973) .
(4) مصنف عبد الرزاق 2/99 (2651)، وانظر الأسنى 1/295 .
(5) تفسير ابن كثير 1/32 .(1/69)
وأما الأعز والقيام فقد تقدم أن الأعز لم يرد مرفوعا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وإنما ورد موقوفا على ابن مسعود - رضي الله عنه - وابن عمر - رضي الله عنه -: ( رب اغفر وارحم وأنت الأعز الأكرم ) (1)، قال الشيخ الألباني: ( وروي مرفوعا ولم يصح ) (2)، أما اعتباره في حكم المرفوع عند بعض المحدثين فلا يكفي ذلك لإثباته اسما، بل لا بد في الشرط الأول من شروط الإحصاء ثبوت الاسم في نص صريح ورد في حديث مرفوع صحيح .
وأما القيام فقد ورد في قراءة شاذة صحت عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه قرأ: ( اللهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيَّامُ )، وقد رواها الإمام البخاري في صحيحه (3)، قال ابن جرير الطبري: ( والقراءة التي لا يجوز غيرها عندنا في ذلك ما جاءت به قراءة المسلمين نقلا مستفيضا عن غير تشاعر ولا تواطؤ وراثة، وما كان مثبتا في مصاحفهم، وذلك قراءة من قرأ الحي القيوم ) (4) .
( الشرط الثاني: علمية الاسم واستيفاء العلامات اللغوية .
يشترط في إحصاء الأسماء الحسنى وجمعها من الكتاب والسنة علمية الاسم، فلا بد أن يرد في النص مرادا به العلمية ومتميزا بعلامات الاسمية المعروفة في اللغة؛ لأن القرآن نزل بلغة العرب وخطابهم الله - عز وجل - على ما يعرفون من قواعدها وأصولها، ومن ثم فإن قواعد اللغة تعد أساسا مهما في تمييز الاسم والتعرف عليه .
__________
(1) تقدم الحديث عنه ص47 .
(2) مناسك الحج والعمرة ص45 .
(3) البخاري في كتاب التفسير، تفسير سورة نوح 4/ 1872 .
(4) تفسير الطبري 3/164 .(1/70)
ويتميز الاسم عن الفعل والحرف بخمس علامات لغوية أساسية معروفة، كأن يدخل عليه حرف الجر، كما ورد في قول الله تعالى: { وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ } [الفرقان:58]، وكذلك قوله: { تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } [فصلت:2]، أو يرد الاسم منونا؛ فالتنوين من علامات الاسمية كقوله تعالى: { بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ } [سبأ:15]، وقوله: { وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً } [النساء:17] .(1/71)
أو تدخل عليه ياء النداء كما ورد عند البخاري من حديث أنس - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( إِنَّ اللهَ وَكَّلَ فِي الرَّحِمِ مَلَكًا فَيَقُولُ: يَا رَبِّ نُطْفَةٌ، يَا رَبِّ عَلَقَةٌ، يَا رَبِّ مُضْغَةٌ ) (1)، وكما ورد عند أبي داود وصححه الألباني من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - أنه كان مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالسا ورجل يصلي ثم دعا: ( اللهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِأَنَّ لَكَ الْحَمْدَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ الْمَنَّانُ بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ، يَا ذَا الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ، يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ، فَقَالَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - : لَقَدْ دَعَا اللهَ بِاسْمِهِ الْعَظِيمِ الذِي إِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ وَإِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى ) (2)، أو يكون الاسم معرفا بالألف واللام، فذلك من أهم العلامات المميزة للاسم كما ورد في قوله تعالى: { سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى } [الأعلى:1]، وقوله - عز وجل -: { تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ } [يس:5]، أو يكون المعنى مسندا إليه محمولا عليه كقوله تعالى: { الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً } [الفرقان:59]، وقوله: { وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ } [الكهف:58]، فالمعنى في الآيتين ورد محمولا على اسم الله الرحمن واسمه الغفور مسندا إليهما وهذه من أهم العلامات التي تميز الاسم وعلميته .
قال في شرح قطر الندى في معنى الإسناد إليه: ( وهي الحديث عنه كقام زيد فزيد اسم لأنك حدثت عنه بالقيام وهذه العلامة أنفع العلامات المذكورة للاسم ) (3) .
__________
(1) البخاري في أحاديث الأنبياء، باب خلق آدم 3/1213 (3155) .
(2) أبو داود في الصلاة، باب الدعاء 2/79 (1495)، صحيح أبي داود1/279 (1326) .
(3) شرح قطر الندى وبل الصدى ص12 .(1/72)
وقال ابن هشام الأنصاري: ( الإسناد إليه وهو أن يسند إليه ما تتم به الفائدة سواء كان المسند فعلا أو اسما أو جملة .. وهذه العلامة هي أنفع علامات الاسم ) (1)، فهذه خمس علامات يتميز بها الاسم عن الفعل والحرف، وقد جمعها ابن مالك في قوله:
بالجر والتنوين والندا وأل : ومسند للاسم تمييز حصل (2) .
أما الدليل على هذا الشرط فهو مأخوذ من قوله تعالى: { وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا } [الأعراف:180]، وقوله أيضا: { قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيّاً مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى } [الإسراء:110]، ووجه الاستدلال أنه سبحانه قال: ولله الأسماء، فله الأسماء، ولم يقل: ولله الأوصاف الحسنى أو فله الأفعال الحسنى وشتان بين الأسماء والأوصاف عند سائر العلماء وسائر العقلاء، فالوصف لا يقوم بنفسه وإنما يقوم بموصوفه، والفعل لا يتم إلا بفاعله؛ إذ لا يصح أن نقول: الرحمة استوت على العرش، أو العزة أجرت الشمس، أو العلم والحكمة والخبرة وغير ذلك من الصفات أنزلت الكتاب وأظهرت على النبي - صلى الله عليه وسلم - ما غاب، فهذه كلها أوصاف لا تقوم بنفسها بخلاف الأسماء الدالة علي المسمى الذي اتصف بها، ولذلك قال - عز وجل -: { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } [طه:5]، فذكر الاسم وهو يتضمن الوصف دون انعكاس، وقال تعالى: { وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ } [يس:38]، فاسم الله العزيز دل على وصف العزة دون العكس، وقال - عز وجل -: { تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ } [الزمر:1]، وقال أيضا: { وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ
__________
(1) شرح شذور الذهب في معرفة كلام العرب 1/19 .
(2) أوضح المسالك إلى ألفية ابن مالك 3/156، وشرح بن عقيل 1/21 .(1/73)
عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِير } [التحريم:3] .
وجميع المواضع التي يذكر فيها الاسم المميز بعلاماته الخمس فإنه يكون في موضعه علما ووصفا معا، بخلاف انفراد الوصف أو الفعل، فلا بد من قيام الوصف بموصوفه وقيام الفعل بفاعله، وبخلاف أسمائنا وأوصافنا أيضا، لأنه من الأمور الجوهرية في فهم الأسماء الحسنى ودلالتها على الصفات ضرورة التمييز بين الاسم ودلالته الوضعية عندما يستعمل في حق المخلوق والاسم ودلالته في حق الخالق .
وعدم فهم هذه المسألة أحدث لبسا أو غموضا عند بعض أهل العلم وتردد في إدخال اسم الجميل الذي دل عليه قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( إِنَّ اللهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ ) (1)، ظنا منه أن اسم الله الجميل في هذا الموضع وصف وليس اسما، وهو من باب الخبر كما تقول: سعيد سعيد؛ فالأول عند العقلاء اسم والثاني وصف، وكذلك ظنهم في اسم الله الوتر والطيب والجواد والحيي والستير والمحسن والرفيق حيث اعتقدوا أنها أوصاف لله - عز وجل - وليست من الأسماء الحسنى .
__________
(1) مسلم في الإيمان، باب تحريم الكبر وبيانه 1/93 (91)، من حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - .(1/74)
وهذا الظن غالبا ما ينشأ في توحيد الأسماء والصفات من عدم التمييز بين دلالة الاسم على الوصف في حق الله تعالى ودلالته في حقنا، فلو قلنا مثلا: سعيدٌ سعيد كلاهما من الناحية اللغوية اسمان، لكن الأول في استعماله المتعارف بين الناس لا يراد به إلا العلمية التي تميزه عن غيره، ولا يعني المنادي في ندائه أو مخاطبته سعيدا غير ذاته المتميزة بالاسم فقط، بغض النظر إن كانت صفة السعادة موجودة فيه أم معدومة فالاسم في حق البشر فارغ من الوصفية عند التسمي أو حال الولادة، لأن وجود الوصف وتحققه فيه مستقبلا يكون مجرد احتمال، بل لما سمى الإنسان سعيدا عند الولادة فإن أحدا لا يعلم أنه في مستقبله سيكون حزينا أم سعيدا، لأن ذلك أمر غيبي غير معلوم أو سر مخبأ في قدره المحتوم، فلما اكتسب المولود المسمى سعيدا وصف السعادة كحالة طارئة وصفة زائدة قامت به ووصف بها استدعى ذلك تعبيرا إضافيا عن حلول صفة السعادة فيه واكتسابه لها، فقلنا: سعيد سعيد أو سعيد في منتهى السعادة .
أما الأسماء في حق الله - عز وجل - فتختلف اختلافا كليا عن ذلك، لأنه سبحانه ليس كمثله شيء في أسمائه وصفاته وأفعاله كما قال تعالى: { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } [الشورى:11]، فأسماؤه علمية ووصفية معا في آن واحد، ولا يمكن قياسها بما سبق في حق المخلوق، ولذلك لم يقل النبي- صلى الله عليه وسلم - فيما ثبت من الروايات: إن الجواد سبحانه جواد، وإن المحسن - عز وجل - محسن، وإن الحيي الستير حيي ستير، وإن الجميل سبحانه جميل، والوتر وتر، كما قلنا في حق المخلوق سعيد سعيد ومنصور منصور وصالح صالح؛ لأن الأسماء في حق الله - عز وجل - أعلام وأوصاف، سواء ذكر الاسم أولا أو ثانيا، مبتدأ أو خبرا، أو في أي موضع كان من النص فهو علم ووصف معا .(1/75)
أما الأسماء في حقنا فهي على الأغلب أعلام بلا أوصاف فجاز في حق المخلوق سعيد سعيد ومنصور منصور وصالح صالح، لكن لو ذكر ذلك في حق الخالق لصار تكرارا وحشوا بلا معنى يتنزه عنه من أوتي جوامع الكلم - صلى الله عليه وسلم - ، ولذلك فإن الثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ( إِنَّ اللهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ ) (1)، فالجميل اسم لله - عز وجل - ورد في الحديث منونا والتنوين من علامات الاسمية، وأضيف إليه المعنى بعده، وهو ما ورد في قوله - صلى الله عليه وسلم - : يحب الجمال، وكذا الحال في اسم الله الجواد الذي ورد من حديث سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( إِنَّ الله عَزَّ وَجَلَّ جَوادٌ يُحِبُّ الجودَ ) (2) .
__________
(1) تقدم تخريجه ص 59 .
(2) السلسلة الصحيحة (236) (1378) (1627)، وصحيح الجامع (1744) (1800) .(1/76)
وكذلك الوتر ورد عند مسلم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( وَإِنَّ اللهَ وِتْرٌ يُحِبُّ الْوِتْرَ ) (1)، والرفيق اسم ورد عند الإمام البخاري من حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( إِنَّ الله رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ ) (2) ، والمحسن ورد عند الطبراني وصححه الشيخ الألباني من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( فإِنَّ اللهَ محسِن يُحِبُّ الإحْسان ) (3)، والحيي والستير وردا كذلك عند أبي داود من حديث يعلى بن أمية أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( إِنَّ الله عَزَّ وَجَلَّ حَيِىٌّ سِتِّيرٌ يُحِبُّ الْحَيَاءَ وَالسَّتْرَ ) (4) .
__________
(1) مسلم في الذكر، باب في أسماء الله تعالى 4/2062 (2677) .
(2) البخاري في كتاب استتابة المرتدين، باب الرد على أهل الذمة 5/2308 (5901) .
(3) المعجم الكبير من (7114) إلى (7123)، وانظر صحيح الجامع (1824) .
(4) أبو داود في كتاب الحمام 4/39 (4012)، وانظر صحيح أبي داود 2/758 (3387) .(1/77)
ومن ثم فإن اسم الله الجواد والجميل والوتر والرفيق والمحسن والحيي والستير وغير ذلك من الأسماء الحسنى كلها تدل على العلمية والوصفية معا، لأن الله - عز وجل - أسماؤه وأوصافه أولية أزلية ودائمة أبدية، فلم يطرأ عليه وصف كان مفقودا أو يستجد به كمال لم يكن موجودا كما طرأت السعادة واستجد النصر والصلاح على سعيد ومنصور وصالح، وسوف يأتي تفصيل ذلك إن شاء الله عند الحديث عن دلالة الأسماء على الصفات، ومن ثم فإن الشرط الثاني من شروط الإحصاء علمية الاسم لقول الله تعالى: { وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا } [الأعراف:180]، ولم يقل الأوصاف أو الأفعال، كما أن معنى الدعاء أن تدخل علي الأسماء أداة النداء، سواء ظاهرة أو مضمرة، والنداء من علامات الاسمية، فلا بد أن تتحقق في الأسماء الحسنى علامات الاسم اللغوية، وقد ذكر ابن تيمية رحمه الله هذا الشرط ضمن قوله: ( الأسماء الحسنى المعروفة هي التي يدعى الله بها، وهي التي جاءت في الكتاب والسنة، وهي التي تقتضي المدح والثناء بنفسها ) (1) .
وعليه فإن كثيرا من الأسماء المشتهرة على ألسنة الناس هي في الحقيقة أوصاف وأفعال وليست من الأسماء الحسنى، ونحن قد علمنا من مذهب السلف الصالح أن أسماء الله الحسنى نصية توقيفية، لا بد فيها من أدلة قرآنية أو ما صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في السنة النبوية، وليست أسماء الله مسألة عقلية اجتهادية يشتق فيها الإنسان لربه من وصفه أو فعله ما يشاء من الأسماء، فهذا قول على الله بلا علم أو دليل .
وكثير من العلماء لاسيما من أدرج الأسماء في حديث الترمذي وابن ماجة والحاكم جعلوا المرجعية في علمية الكثير من الأسماء إلى أنفسهم واجتهادهم، وليست إلى النص الثابت في الكتاب والسنة، وهذا يعارض ما اتفق عليه السلف الصالح في كون الأسماء الحسنى توقيفية .
__________
(1) شرح العقيدة الأصفهانية ص19 .(1/78)
ومثال الأسماء التي تدخل تحت هذه النوعية، تسمية الله - عز وجل - بالمعز المذل الخافض المبديء المعيد الضار النافع المميت الباعث الباقي العدل المحصي المقسط المغني، فمن الذي سمى الله بهذه الأسماء؟! هل سمى الله نفسه بها أم سماه رسوله - صلى الله عليه وسلم - ؟!
هذه الأسماء جميعها لم ينطبق عليها الشرط الأول ولا الشرط الثاني وهو ورود النص بعلمية الاسم؛ وقد سبق وأشرنا أن المعز والمذل اسمان اشتهرا بين الناس شهرة واسعة على أنهما من الأسماء الحسنى، وهما وإن كان معناهما صحيحا لكنهما لم يردا في القرآن أو السنة اسمين علمين على ذات الله - عز وجل -، فقد ذكرهما من أدرج الأسماء في حديث الترمذي وكذلك عند ابن ماجة والبيهقي وغيرهم (1) .
أما حجتهم أو دليلهم على الاسمين فهو قوله تعالى: { قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [آل عمران:26] .
__________
(1) الأحاديث التي أدرج فيها الرواة أسماء الله الحسنى كرواية الترمذي وابن ماجة والحاكم وغيرهم يكمن الرجوع إلى تفصيلها والتعرف على عللها في كتاب: جزء فيه طرق إن لله تسعة وتسعين اسما لأبي نعيم الأصفهاني من ص93: ص172، تحقيق مشهور حسن سلمان، طبعة مكتبة الغرباء الأثرية 1413هـ، وانظر للإمام البيهقي: كتاب الأسماء والصفات ص108، دار الكتب العلمية، بيروت، والاعتقاد والهداية إلى سبيل الرشاد على مذهب السلف وأصحاب الحديث ص57 .(1/79)
وكذلك اسم الخافض استندوا فيه إلى ما رواه مسلم من حديث أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَل لاَ يَنَامُ وَلاَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ يَخْفِضُ الْقِسْطَ وَيَرْفَعُهُ ) (1)، واستند الإمام البيهقي في ثبوته إلى المعنى الذي ورد في قوله تعالى: { يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ } [الرحمن:29]، وما ذكره بسنده مرفوعا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ( مِنْ شَأنه أنْ يِغفرَ ذَنبا وَيفَرِّج كَربا وَيرْفَعُ قَومَا وَيَضَعُ آخَرين ) (2)، وهذا غير كاف في إثبات الاسم .
__________
(1) مسلم في الإيمان، باب في قوله عليه السلام إن الله لا ينام 1/161 (179) .
(2) الأسماء والصفات للبيهقي ص 99 .(1/80)
وكذلك أيضا اسم المبديء والمعيد ذكرهما من أدرج الأسماء في حديث الترمذي وابن ماجة والحاكم وكذلك البيهقي وغيرهم كثير فقد اشتقوا هذين الاسمين باجتهادهم استنادا إلى الأفعال كما قوله تعالى: { إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ } [البروج:13]، ومعلوم أن أسماء الله - عز وجل - توقيفية وليس في الآيتين سوى الفعلين فقط، وكذلك أيضا الضار والنافع اسمان مشهوران استندوا فيهما إلى المفهوم من قوله تعالى: { قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ } [الأعراف:188]، أو ما ورد عند الترمذي وصححه الشيخ الألباني من حديث ابن عباس - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: ( وَاعْلَمْ أَنَّ الأُمَّةَ لَوِ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلاَّ بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللهُ لَكَ، وَلَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلاَّ بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللهُ عَلَيْكَ ) (1) .
ولم يُذكر في الآية أو الحديث النص على الاسم أو حتى الفعل ولم أجد في القرآن أو في السنة إلا الفعل نفع فيما ورد عند البخاري من حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت: ( فَمَا كَانَتْ مِنْ خُطْبَتِهِمَا مِنْ خُطْبَةٍ إِلاَّ نَفَعَ اللهُ بِهَا، لَقَدْ خَوَّفَ عُمَرُ النَّاسَ وَإِنَّ فِيهِمْ لَنِفَاقًا فَرَدَّهُمُ اللهُ بِذَلِكَ ) (2)، وهذا أيضا لا يكفي في إثبات الاسم لأن تسمية الله بما نشاء ليس من حقنا ولم يرد به إذن شرعي، أما الضار فالجميع استند إلى المفهوم من الآية والحديث (3) .
__________
(1) الترمذي في صفة القيامة والرقائق والورع 4/667 (2516)، صحيح الجامع (7957) .
(2) البخاري في فضائل الصحابة، باب قوله S لو كنت متخذا خليلا 3/1341 (3467) .
(3) الأسماء والصفات ص 96 .(1/81)
وكذلك تسمية الله - عز وجل - بالعدل، والعدل معناه صحيح في حق الله ولكنه لم يرد اسما ودليلهم المعنى المفهوم من قوله تعالى: { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى } [النحل:90]، أو قوله - عز وجل -: { وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } [الأنعام:115]، أو قوله سبحانه: { الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ } [الانفطار:7]، وهذا كله غير كاف في إثبات الاسم، وليس من حقنا تسمية الله بما لم يسم به نفسه .
وكذلك تسمية الله - عز وجل - بالجليل حيث ذكره جمع كبير من العلماء وهو محفوظ ضمن الأسماء المشهورة؛ مع أن الاسم لم يرد في الكتاب ولا في السنة، ومن أدرجه استند في إثباته إلى اجتهاده في الاشتقاق من الوصف الذي ورد في قوله تعالى: { وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإكْرَامِ } [الرحمن:27]، وقوله - عز وجل - أيضا: { تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ َوالْإكْرَامِ } [الرحمن:78]، وهذا غير كاف في التسمية فذو من الأسماء الخمسة وليست من الأسماء الحسنى، وفرق كبير بين الجلال والجليل أو بين الوصف والاسم، كما أن الله - عز وجل - وصف نفسه بالقوة فقال: { ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ } [الذاريات:58] وسمى نفسه القوي فقال: { وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ } [الشورى:19]، ووصف نفسه بالرحمة فقال تعالى: { وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ } [الأنعام:133]، وسمى نفسه الرحمن الرحيم فقال: { تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } [فصلت:2]، ولما كانت أسماء الله - عز وجل - توقيفية ولا يجوز لنا أن نسمي الله إلا بما سمى به نفسه أو سماه به نبيه - صلى الله عليه وسلم - ؛ فإن الله وصف نفسه بالجلال ولم يسم نفسه الجليل .(1/82)
ومن ذلك أيضا تسمية الله بالباعث استنادا إلى الاشتقاق من الفعل الذي ورد في قوله تعالى: { وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ } [الأنعام:36]، وقوله: { ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [البقرة:56]، وتسميتهم لله بالمحصي استنادا لقوله - عز وجل -: { وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ } [يس:12]، أو قوله: { أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ } [المجادلة:6] .
وكذلك التسمية بالمميت والقاضي استندوا في ذلك إلى اجتهادهم في الاشتقاق من الفعل الذي ورد في قوله تعالى: { هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } [غافر:68]، وتسمية الله بالمقسط لم يستندوا فيها إلى وصف أو فعل ولكن إلى أمره تعالى بالقسط ومحبته للمقسطين كما في قوله تعالى: { قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ } [الأعراف:29]، وقوله - عز وجل -: { وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } [المائدة:42]، وكذلك تسميته بالمانع استنادا إلى اجتهادهم في الاشتقاق من الفعل الذي ورد في حديث معاوية - رضي الله عنه - مرفوعا: ( اللهُمَّ لاَ مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ وَلاَ مُعْطِىَ لِمَا مَنَعْتَ ) (1) .
__________
(1) البخاري في الدعوات، باب الذكر بعد الصلاة 1/289 (808) .(1/83)
وكذلك تسمية الله بالمغني استنادا إلى الاشتقاق من الفعل في قوله: { حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ } [النور:33]، وأيضا تسمية الله بالباقي لم أجد دليلا استندوا إليه إلا ما ورد في قوله تعالى: { وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ َالْإكْرَامِ } [الرحمن:27]، والدافع استندوا إلى المصدر من الفعل دفع في قوله: { وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ } [البقرة:251] (1)، وكذلك تسمية الله - عز وجل - بالمصلي استنادا إلى اشتقاقهم من الفعل في قوله: { هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً } [الأحزاب:43]، أو قوله - عز وجل -: { إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً } [الأحزاب:56]، وقس على ذلك أيضا تسمية الله سبحانه بالفاتن والبالي والراتق والساتر والسخط والمبغض والمحب والمفني والمنجي والمرشد والمنزع وغير ذلك من الأسماء التي اشتقت من أوصاف الله وأفعاله .
والأمثلة في ذلك كثيرة والقصد أن كثيرا من الأسماء المدرجة والمشتهرة على ألسنة العامة والخاصة ليست من الأسماء الحسنى وإنما هي أوصاف لله - عز وجل - أو أفعال وهي إن كان معناها حق إلا أن دورنا حيال الأسماء الجمع والإحصاء ثم الحفظ والدعاء وليس الاشتقاق والإنشاء أو تسمية الله بما نشاء .
__________
(1) انظر المزيد عن الأسماء التي اشتقها العلماء من الصفات والأفعال في كتاب العواصم والقواصم في الذب عن سنة أبي القاسم لابن الوزير 7/228، وكتاب الأسماء والصفات للبيهقي ص 80، ص102 .(1/84)
والله - عز وجل - لا يقاس على خلقه بقياس تمثيلي أو شمولي (1)، لأن أفعاله صادرة عن أسمائه وصفاته بعكس أسماء المخلوقين فهي صادرة عن أفعالهم؛ فالرب تبارك وتعالى أفعاله عن كماله، والمخلوق كماله عن أفعاله فاشتقت له الأسماء بعد أن كمل بالفعل، أما الرب سبحانه فلم يزل كاملا فحصلت أفعاله عن كماله لأنه كامل بذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله، كمل ففعل، والمخلوق فعل فكمل الكمال اللائق به (2) ، ومن ثم فإن ورود النص صريحا بعلمية الاسم من أهم الضوابط أو الشروط في التعرف على أسماء الله الحسنى، وسيأتي بإذن الله تعالى حصر الأسماء التي أدرجت في الروايات والتي لم تنطبق عليها شروط الإحصاء .
( الشرط الثالث: إطلاق الاسم دون إضافة أو تقييد .
__________
(1) قياس التمثيل هو إلحاق فرع بأصل في حكم جامع لعلة، وهو محرم في باب الأسماء والصفات لأن الممثل يجعل صفة الله فرعا وصفته أصلا ويحكم بينهما بالتماثل لعلة الاشتراك في الصفة عند التجرد عن الإضافة وهذا باطل، أما قياس الشمول فهو قياس كلي علي جزئي ويستخدمه المشبه والمكيف ومثاله قولهم: لو كان علي العرش لكان محمولا، ولو كان في مكان لكان محصورا، ولو كان كذا لكان كذا، فالمشبه يجعل هذه القوانين التي تحكمنا قانونا شاملا عاما ويجعل الله تعالي فردا من البشر تسري عليه تلك القوانين، ويجدر التنبيه على أنه يجوز في حق الله قياس الأولي لقوله: { وَللهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى } [النحل:60]، وهو كل كمال لله لا نقص فيه يكون لبعض الموجودات فالله هو أولى به، وكل نقص أو عيب يجب أن ينزه عنه بعض المخلوقات فالرب هو أولى أن ينزه عنه، انظر مختصر القواعد السلفية في الصفات الربانية للمؤلف ص13 .
(2) بدائع الفوائد 1/169 بتصرف .(1/85)
من الشروط الأساسية اللازمة لإحصاء الأسماء الحسنى أن يرد الاسم في سياق النص مفردا مطلقا دون إضافة مُقَيِّدة أو قرينة ظاهرة تحد من الإطلاق وذلك بأن يفيد المدح والثناء على الله بنفسه؛ لأن الإضافة والتقييد يحدان من إطلاق الحسن والكمال على قدر ما أضيف إليه الاسم أو قيد به، والله - عز وجل - ذكر أسماءه باللانهائية في الحسن وهذا يعني الإطلاق التام الذي يتناول جلال الذات والصفات والأفعال .
وهذا الشرط مأخوذ من قوله تعالى: { وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى } [الأعراف:180]، أي البالغة مطلق الحسن بلا حد ولا قيد، قال الإمام القرطبي: ( وحسن الأسماء إنما يتوجه بتحسين الشرع لإطلاقها والنص عليها، وانضاف إلى ذلك أنها تقتضي معاني حسانا شريفة ) (1)، وقال الآلوسي: ( الحسنى أنيث الأحسن أفعل تفضيل ومعنى ذلك أنها أحسن الأسماء وأجلها لأنبائها عن أحسن المعاني وأشرفها ) (2) .
ويدخل في معنى الإطلاق اقتران الاسم بالعلو المطلق لأن معاني العلو جميعها سواء علو الشأن أو علو القهر أو علو الذات والفوقية هي في حد ذاتها إطلاق؛ فالعلو يزيد الإطلاق كمالا على كمال وجلالا فوق الجلال، وقد ذكر الله من أسمائه الحسنى القدير فقال: { وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [التوبة:39] حيث ورد الاسم في الآية مطلقا معرفا ومنونا مرادا به العلمية ومقرونا بمعاني العلو والفوقية، وفي موضع آخر ذكره مطلقا فقط من غير اقتران بالعلو فقال سبحانه: { عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } [الممتحنة:7]، وعند المقارنة بين الموضعين نجد أن العلو لا يحد من إطلاق الوصف، بل يزيده كمالا على كمال وجمالا فوق الجمال .
__________
(1) تفسير القرطبي 10/343 .
(2) روح المعاني 9/120 .(1/86)
ومن ثم فإن كل اسم اقترن بمعاني العلو أو الفوقية فهو مطلق في الدلالة على الحسن والكمال يفيد المدح والثناء على الله بنفسه، كقوله تعالى في اسمه المقيت: { وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً } [النساء:85]، وقوله - عز وجل - في اسمه الشهيد: { وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } [سبأ:47]، وكذلك اسم الله الحفيظ في قوله تعالى: { وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ } [سبأ:21]، والرقيب في قوله سبحانه: { وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً } [الأحزاب:52]، والحسيب أيضا في قوله تعالى: { إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً } [النساء:86]، والمقتدر في قوله - عز وجل -: { وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً } [الكهف:45]، وكذلك القاهر في قوله: { وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ } [الأنعام:18] .
وكذلك أيضا إذا ورد الاسم معرفا بالألف واللام مطلقا بصيغة الجمع والتعظيم فإنه يزيد الإطلاق عظمة وجمالا وحسنا وكمالا، وينفي في المقابل أي احتمال لتعدد الذوات أو دلالة الجمع على غير التعظيم والإجلال كما ورد في قوله تعالى: { فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ } [المرسلات:23]، وقوله - عز وجل -: { وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ } [الحجر:23]، وقوله تعالى: { وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ } [الصافات:75] .
وهذا الشرط ذكره ابن تيمية ضمن تعريفه للأسماء الحسنى حيث قال: ( الأسماء الحسنى المعروفة هي التي يدعى الله بها، وهي التي جاءت في الكتاب والسنة، وهي التي تقتضي المدح والثناء بنفسها ) (1) .
__________
(1) شرح العقيدة الأصفهانية ص19 .(1/87)
وإذا كانت الأسماء الحسنى لا تخلو في أغلبها من تصور التقييد العقلي بالممكنات وارتباط آثارها بالمخلوقات كاسم الله الخالق والخلاق والرازق والرزاق؛ أو لا تخلو من تخصيص عقلي ما يتعلق ببعض المخلوقات دون بعض كالأسماء الدالة على صفات الرحمة والعفو والمغفرة مثل الرحيم والعفو والغفور والغفار؛ فإن ذلك التقييد لا يدخل تحت الشرط المذكور، وإنما المقصود هو التقييد بالإضافة الظاهرة في النص التي تستدعي أن يذكر الاسم كما ذكره الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - كالغافر والقابل والشديد في قوله: { غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ } [غافر:3] .(1/88)
وكذلك الفاطر والجاعل في قوله تعالى: { الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً } [فاطر:1]، والمنزل والسريع في الحديث الذي رواه البخاري من حديث عبد الله بن أبي أوفى - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دعا يوم الأحزاب على المشركين فقال في دعائه: ( اللهُمَّ مُنْزِلَ الْكِتَابِ سَرِيعَ الْحِسَابِ اللهُمَّ اهْزِمِ الأَحْزَابَ ) (1)، فهذا كله تقييد يجعل حسن الاسم مقرونا بالإضافة الظاهرة في النص، ولو أطلق لا يصح كإطلاق البالغ فيما قيده الله بالإضافة في قوله: { إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً } [الطلاق:3]، وأيضا الخادع في قوله: { إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ } [النساء:142]، وكذلك لا يصح إطلاق العدو في قوله: { مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ } [البقرة:98]، وكذلك المخزي يذكر كما ورد في قوله: { وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ } [التوبة:2]، وهكذا في سائر الأسماء التي قيدها الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - .
ومن الأسماء التي لم ينطبق عليها شرط الإطلاق المحيي حيث ورد مقيدا في قوله تعالى: { إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى } [فصلت:39]، والرفيع في قوله - عز وجل -: { رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ } [غافر:15]، والمتم في قوله: { وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ } [الصف:8] .
__________
(1) البخاري في المغازي، باب من صف أصحابه ثم الهزيمة 3/1072 (2775) .(1/89)
وكذلك المستعان في قوله تعالى عن يعقوب - عليه السلام -: { وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ } [يوسف:18]، وقد يظن البعض أن الاسم ورد مطلقا فيما رواه البخاري من حديث أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - لما قال له النبي - صلى الله عليه وسلم - عن عثمان - رضي الله عنه -: ( افْتَحْ لَهُ وَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ عَلَى بَلْوَى تُصِيبُهُ، فَإِذَا عُثْمَانُ، فَأَخْبَرْتُهُ بِمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَحَمِدَ اللَّهَ ثُمَّ قَالَ: اللَّهُ الْمُسْتَعَانُ ) (1)، والأمر ليس كذلك لأمور منها أن الإطلاق في المستعان ليس من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقد دار الأمر بين الصحابيين، ومنها أن المقصود هو طلب عثمان - رضي الله عنه - الاستعانة والصبر على إنجاز مقتضى الوعد أخذا من قول يعقوب - عليه السلام -: والله المستعان، ولذلك شك أبو موسى الأشعري - رضي الله عنه - في قول عثمان - رضي الله عنه - هل قال: الله المستعان أم طلب الصبر من الله؟ ففي رواية مسلم عنه أنه قال: ( فَذَهَبْتُ فَإِذَا هُوَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ، قَالَ: فَفَتَحْتُ وَبَشَّرْتُهُ بِالْجَنَّةِ، قَالَ: وَقُلْتُ الَّذِي قَالَ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: اللَّهُمَّ صَبْرًا أَوِ اللَّهُ الْمُسْتَعَانُ ) (2)، وفي رواية أحمد: ( اللَّهُمَّ صَبْراً وَعَلَى اللَّهِ التُّكْلاَنُ ) (3)، وقد كان الصحابة - رضي الله عنهم - يتأسون بأدعية القرآن كما في حادثة الإفك لما قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: (
__________
(1) البخاري في فضائل الصحابة - رضي الله عنهم -، باب مناقب عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - 3/ 1350 (3490) .
(2) مسلم كتاب فضائل الصحابة - رضي الله عنهم -، باب من فضائل عثمان بن عفان - رضي الله عنه - 4/ 1867 (2403) .
(3) أحمد في المسند 4/406 (19661) وقال الشيخ شعيب الأرنؤوط: إسناده صحيح على شرط الشيخين .(1/90)
وَاللَّهِ لَئِنْ حَلَفْتُ لاَ تُصَدِّقُونِي، وَلَئِنِ اعْتَذَرْتُ لاَ تَعْذِرُونِي، فَمَثَلِي وَمَثَلُكُمْ كَمَثَلِ يَعْقُوبَ وَبَنِيهِ، فَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ ) (1) ، وكثيرا ما يذكره المفسرون في كلامهم ويدعو به المسلمون في حياتهم اليومية لطلب الاستعانة على حاجة ما، فيذكر أحدهم الاسم مختصرا من غير إضافة وهو يعني الاستعانة المقيدة بقضاء حاجة بعينها، ذكر الدعاء بسببها ولأجلها .
__________
(1) البخاري في أحاديث الأنبياء، باب قول الله تعالى لقد كان في يوسف وأخوته 3/ 1239 (3208) .(1/91)
ومن الأسماء التي لم ينطبق عليها شرط الإطلاق الفالق والمخرج في قوله: { إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ } [الأنعام:95]، والحفي في قوله: { قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّا } [مريم:47]، ومن المقيد بالإضافة أيضا اسم النور في قوله: { اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } [النور:35]، والهادي في قوله تعالى: { وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } [الحج:54]، وكذلك البديع في قوله: { بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } [البقرة:117]، والجامع في قوله تعالى: { رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ } [آل عمران:9]، وكذلك العالم في قوله: { عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ } [الرعد:9]، وقوله - عز وجل -: { وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ } [الأنبياء:81]، والعلام في قوله: { قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلامُ الْغُيُوبِ } [سبأ:48]، والمحيط ورد مقيدا في غير آية كقول الله تعالى: { أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ } [فصلت:54]، هذا فضلا عن إفادة الباء لمعنى الحلول الظرفية وهو أحد معانيها اللغوية (1)، فيذكر الاسم على تقييده بمعنى الكمال فقط .
__________
(1) شرح ابن عقيل المصري الهمذاني 3/21 .(1/92)
ومن الأسماء المقيدة في ظاهر النص والتي لا توافق شرط الإطلاق اسم الله الكاشف الذي ورد في قوله تعالى: { وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلا هُوَ } [الأنعام:17]، وكذلك الصاحب والخليفة فيما ورد عند مسلم من حديث ابن عمر - رضي الله عنه - في دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - عند السفر أنه كان يقول: ( اللهُمَّ أَنْتَ الصَّاحِبُ في السَّفَرِ وَالْخَلِيفَةُ في الأَهْلِ ) (1)، وكذلك مقلب القلوب ورد مقيدا في حديث ابن عمر - رضي الله عنه - عند أبي داود وصححه الألباني قال: ( أكثرُ مَا كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يحلفٌ بهذه اليَمِين: لا ومُقَلِّبَ القُلوبِ ) (2)، فلا يصح إطلاق ما قيده النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وليس من أسمائه الحسنى المقلب على إطلاق اللفظ، وكذلك القائم في قوله - عز وجل -: { أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ } [الرعد:33] .
__________
(1) مسلم في الحج، باب ما يقول إذا ركب إلى سفر 2/978 (1342) .
(2) أبو داود في الأيمان والنذور 3/255 (3263)، وانظر صحيح أبي داود 2/629 (2796) .(1/93)
ويدخل في حكم المقيد أيضا ما قيد بقرينة ظاهرة تعلق بها الاسم في سياق النص كما في قوله تعالى: { أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ } [الواقعة:63/64] حيث قيد اسمه الزارع بما يحرثون، وكذلك المنزل في قوله: { أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ } [الواقعة:68/69]، وكذلك قيد اسمه المنشيء في قوله تعالى بعد ذلك: { أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ } [الواقعة:71/72]، والموسع تعلق في ظاهر النص بالسماء والماهد بفراشة الأرض قال تعالى: { وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ وَالأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ } [الذاريات:47/48]، وأيضا المستمع ورد مقيدا في قوله: { قَالَ كَلَّا فَاذْهَبَا بِآياتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ } [الشعراء:15]، وكذلك الفاعل في قوله: { كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ } [الأنبياء:104] .(1/94)
وكذلك اسم الأجل فيما رواه البخاري من حديث البراء - رضي الله عنه - في قول أبي سفيان يوم غزوة أحد: ( يَوْمٌ بِيَوْمِ بَدْرٍ وَالْحَرْبُ سِجَالٌ، إِنَّكُمْ سَتَجِدُونَ فِي الْقَوْمِ مُثْلَةً لَمْ آمُرْ بِهَا وَلَمْ تَسُؤْنِي، ثُمَّ أَخَذَ يَرْتَجِزُ أُعْلُ هُبَلْ، أُعْلُ هُبَلْ، قَالَ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - : أَلاَ تُجِيبُوا لَهُ؟ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا نَقُولُ؟ قَالَ: قُولُوا اللَّهُ أَعْلَى وَأَجَلُّ، قَالَ: إِنَّ لَنَا الْعُزَّى وَلاَ عُزَّى لَكُمْ، فَقَالَ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - : أَلاَ تُجِيبُوا لَهُ؟ قَالَ، قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا نَقُولُ؟ قَالَ: قُولُوا اللَّهُ مَوْلاَنَا وَلاَ مَوْلَى لَكُمْ ) (1)، والمعنى الظاهر من قرينة النص ورد هم على القائل، الله أعلى وأجل من هبل وآلهتكم الباطلة .
__________
(1) البخاري في الجهاد والسير، باب ما يكره من التنازع والاختلاف في الحرب 3/1105 (2874) .(1/95)
ويجدر التنبيه على أن بعض الصيغ التي يتعلق بها الاسم كصيغة إنا كنا، وما كنا، وإن كنا، وكنا بكل شي، وكفى به، أو كفى بنا، وإنا المقترنة بلام الخبر لا تتوافق مع شرط الإطلاق كالمنذر في قوله - عز وجل -: { إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ } [الدخان:3]، والمبتلي في قوله تعالى: { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيات وَإِنْ كُنَّالَمُبْتَلِينَ } [المؤمنون:30]، والمرسل في قوله: { وَمَا كُنْتَ ثَاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ } [القصص:45]، والصادق في قوله - عز وجل -: { وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ } [الأنعام:146]، وكذلك المبرم في قوله تعالى: { أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ } [الزخرف:79]، والحاسب في قوله - عز وجل -: { وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ } [الأنبياء:47] .(1/96)
وهذه الصيغ ــ منذرين مبتلين مرسلين صادقون مبرمون حاسبين ــ ليس فيها من علامات الاسمية إلا الواو والنون أو الياء والنون كبديل عن التنوين في حال الإفراد ولو أفردت لقيل: منذرٍ مبتلي مرسلٍ صادقٌ مبرم حاسبٍ؛ فلم تدخل عليها في هذه المواضع أو غيرها لام التعريف ولا ياء النداء ولا حرف الجر، بخلاف اسمه القادر والوارث والمجيب فهي أسماء صريحة في الصياغة بغض النظر عن إضافة الواو والنون أو عدم إضافتها؛ فهذه الثلاثة معرفة بلام التعريف ومطلقة في دلالتها بنفسها على العلمية وصريحة أيضا بمفردها في صياغتها الاسمية، فإذا اقترنت بالواو والنون أو الياء والنون أو لم تقترن لا يتطرق إليها أي احتمال للكثرة والعددية، ولا يتصور معها التعدد في الذات الإلهية، بل تجعل الجمع محصورا في دلالته على التعظيم مع إثبات العلمية والوصفية، والتعظيم كما علمنا يزيد الإطلاق عظمة وجمالا وحسنا وكمالا، كما قال سبحانه وتعالى: { وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ } [الحجر:23]، وقال جل شأنه: { وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ } [الصافات:75]، وقال سبحانه: { فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ } [المرسلات:23] .
أما تلك الصيغ فهي أقرب إلى الأفعال الوصفية من العلمية أو من قبيل مشابهة الصفة بالفعل لأن الفعل تتصل به هذه العلامة، فضاربون مثل يضربون، وكذلك مبتلون ومرسلون ومبرمون وحاسبون مثل يبتلون ويرسلون ويبرمون ويحسبون (1) .
ومعلوم أن جمْعها بالواو والنون أو الياء والنون محمول على جمع المذكر السالم في الإعراب كأسماء الجموع، ومن جهة أخرى فإن هذه الصيغ مقيدة بموضع التعظيم والكمال دون المعنى الذي يتطرق إليه الاحتمال؛ وهذا بخلاف التنوين في حال الإفراد أو دخول لام التعريف والنداء (2) .
__________
(1) اللباب في علل البناء والإعراب 2/190 .
(2) شرح ابن عقيل 1/60 .(1/97)
وأيضا فإن هذه الصيغ تقيد دائما بما ورد من قرينة في السياق لأن تصور التقييد العقلي فيها لا يحسن مع الإطلاق، ولذلك فإن هذه الأسماء يذكرها المفسرون دائما على معنى التقييد، فالفاعل يذكر متعلقا بالشيء المفعول، والمبتلي مثلا يذكر متعلقا بمن وقع عليه الابتلاء، والصادق يذكر مقيدا بما يدفع الكذب والافتراء .
قال ابن جرير الطبري: ( وقوله وإنا لصادقون يقول: وإنا لصادقون في خبرنا هذا عن هؤلاء اليهود عما حرمنا عليهم من الشحوم ولحوم الأنعام والطير التي ذكرنا أنا حرمنا عليهم وفي غير ذلك من أخبارنا، وهم الكاذبون في زعمهم أن ذلك إنما حرمه إسرائيل على نفسه، وأنهم إنما حرموه لتحريم إسرائيل إياه على نفسه ) (1)، وقال أبو السعود: ( وكانوا كلما أتوا بمعصية عوقبوا بتحريم شيء مما أحل لهم، وهم ينكرون ذلك ويدعون أنها لم تزل محرمة على الأمم، فرد ذلك عليهم وأكد بقوله تعالى: وإنا لصادقون، أي في جميع أخبارنا التي من جملتها هذا الخبر ولقد ألقمهم الحجر ) (2) .
والإمام القرطبي مع توسعه في الإحصاء وتسويته بين المقيد والمطلق من الأسماء لم يستطع تفسيرها إلا بتقييد المعنى فقال: ( وإنا لصادقون في أخبارنا عن هؤلاء اليهود عما حرمنا عليهم من اللحوم والشحوم ) (3) .
وكذلك أيضا فإن هذه الأسماء لم يذكرها أحد من المحققين الذين التزموا شرط الإطلاق في إحصائهم للأسماء الحسنى، وإنما ذكرها كثير من المتوسعين الذين أجازوا لأنفسهم إطلاق المقيد وفصل المضاف، وتحويل الأفعال والأوصاف إلى أسماء حسنى باجتهادهم في الإحصاء .
__________
(1) تفسير ابن جرير 7/76 .
(2) تفسير أبي السعود 3/195 .
(3) تفسير القرطبي 7/127 .(1/98)
ومن الصيغ التي لا تتوافق مع شرط الإطلاق أيضا صيغ التفضيل المقرون بالإضافة كخير الماكرين وخير الناصرين وخير الفاصلين وخير الحاكمين وخير الفاتحين وخير الغافرين وخير المنزلين وخير الراحمين وأسرع الحاسبين وأحكم الحاكمين وأرحم الراحمين، تلك الصيغ تذكر في حق الله كما هي، ولا يصح فصلها أو إطلاقها ثم جعلها ضمن الأسماء الحسنى التي تفيد المدح والثناء بنفسها، فتقول كما قال البعض: من أسمائه الحسنى الخير والأسرع والأحكم والأرحم، أو تطلق لفظ الماكرين وتفصله عن اللفظ المقارن في خير الماكرين، ثم تسميه الماكر والناصر والغافر والفاصل والفاتح والحاكم والحاسب والراحم وغير ذلك؛ فلا يصح أن نطلق ما قيده الله - عز وجل - أو نفصل ما أضافه رسوله - صلى الله عليه وسلم - .
وكثير من الذين توسعوا في جمع الأسماء ولم يلتزموا شرط الإطلاق وقعوا عند إحصاء الأسماء في اضطراب شديد حتى بدا جمعهم مبنيا على الاجتهادات الشخصية دون القواعد العلمية أو الأصول المنهجية؛ فأدخل بعضهم ما استحسنه من الأسماء واستعبد منها ما يشاء، ولو ضربنا مثلا بإطلاق جميع المقيد في القرآن واعتباره من الأسماء الحسنى التي توسع المتوسعون في عدها للزم بالضرورة إدخال الأسماء الآتية: الآخذ الأحسن الأحق الأحكم الأرحم الأسرع الأشد الأصدق الأعلم الأقرب الأكبر الأهل والماكر البديع البريء الجاعل الجامع الحاسب الحافظ الحاكم الحفي الخادع الخير الممسك الراحم الرافع الرفيع الزارع السريع الشاهد الشديد الشفيع الصادق العالم العدو العلام الغافر الغالب الفاتح الفاصل الفاطر الفاعل الفالق الفعال القائم القابل الكاتب الكاشف الكافي الماهد المبتلي المبرم المتم المتوفي المحيط المحيي المخرج المخزي المرسل المستعان المستمع المطهر المعذب المغير المنتقم المنذر المنزل المنْشئ المهْلك الموسع الموهن الناصر الهادي الوالي الوحيد .(1/99)
والمتوسعون أنفسهم ذكروا منها ما شاءوا ففصلوا المضاف وأطلقوا المقيد ومنع الحياء بعضهم أن يطلقوا على ربهم ما قيده في كثير من الأسماء كالعدو والخادع والمخزي والمهلك والمعذب والمنزل فذكروها في كتبهم مقيدة كما هي وخالفوا منهجهم في الإطلاق .
وعلى ذلك فالأسماء المقيدة بالإضافة حسنها أن تذكر على ما ورد به نص كلام الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - ، ولكنها لا توافق شرط الإطلاق اللازم لإحصاء الأسماء الحسنى، ويجوز الدعاء بها على الوضع الذي قيدت به فتقول: يا مقلب القلوب، ولا تقل: يا مقلب فقط، ومعلوم أن باب الصفات أوسع من باب الأسماء، وباب الأفعال أوسع من باب الصفات، وباب الإخبار أوسع من باب الأفعال (1) .
( الشرط الرابع: دلالة الاسم على الوصف .
لا بد لإحصاء الاسم من دلالته على الوصف وأن يكون اسما على مسمى؛ فأسماء الله - عز وجل - لا تكون حسنى بلا معنى، فلا بد من دلالتها على المعنى الذي تضمنه كل اسم والذي يختلف عن الآخر، ودليل ذلك قول الله تعالى: { وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا } [الأعراف:180]، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ( وليس في أسمائه الحسنى إلا اسم يمدح به، ولهذا كانت كلها حسنى، والحسنى بخلاف السوأى فكلها حسنة والحسن محبوب ممدوح ) (2) .
كما أن الأسماء الجامدة لا مدح فيها، ولا دلالة لها على الثناء، ويلزم أيضا من كونها جامدة أنه لا معنى لها، ولا قيمة لتعدادها أو الدعوة إلى إحصائها، ويترتب على ذلك أيضا رد حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - الذي ورد في الصحيحين أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( إِنَّ للهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمَا مِائَةً إِلاَّ وَاحِدًا مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ ) (3) .
__________
(1) انظر ما ذكره ابن القيم في ذلك في كتابه بدائع الفوائد1/171 .
(2) منهاج السنة النبوية 5/409 .
(3) تقدم تخريجه ص7 .(1/100)
كما أن الله - عز وجل - بين أن أسماءه الحسنى أعلام تدل على ذاته وأوصاف تدل على معاني الكمال، فقال سبحانه في الدلالة على علميتها: { قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيّاً مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى } [الإسراء:110]، فكلها تدل على مسمى واحد، ولا فرق بين الرحمن أو الرحيم أو الملك أو القدوس أو السلام أو المؤمن أو المهيمن أو العزيز أو الجبار أو المتكبر إلى آخر ما ذكر من أسمائه الحسنى في الدلالة على ذاته، فهي من جهة العلمية مترادفة .
أما من جهة دلالتها على الوصفية فهي متنوعة ومختلفة، قال تعالى في الدلالة على وصفيتها: { وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا } [الأعراف:180]، ووجه الاستدلال أن دعاء الله بها مرتبط بحال العبد ومطلبه وما يناسب حاجته واضطراره، من ضعف أو فقر، أو ظلم أو قهر، أو مرض أو جهل، أو غير ذلك من أحوال العباد، فالضعيف يدعو الله باسمه القادر القدير المقتدر القوي، والفقير يدعوه باسمه المعطي المقيت الرزاق الغني، والمقهور المظلوم يدعوه باسمه الحي القيوم إلى غير ذلك مما يناسب أحوال العباد والتي لا تخرج على اختلاف تنوعها عما أظهر لهم من أسمائه الحسنى .
ولولا يقين العبد الفقير عند دعائه أن الله - عز وجل - غني قدير موصوف في غناه بأنه لا مثيل له ولا نظير ما التجأ إليه أو دعاه، والله - عز وجل - بين أنه يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء لكمال أسمائه وصفاته، ولانفراده عن عباده بالإلهية المطلقة كما قال سبحانه: { أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ } [النمل:62]، فعلم العقلاء أنه لا يجيب المضطر إذا دعاه وهو عاجز لا صفة له مطلقا .(1/101)
وقد ذكر ابن القيم في تعريفه بمنهج السلف الصالح في أسماء الله الحسنى أن الأسماء لها اعتباران: اعتبار من حيث الذات، واعتبار من حيث الصفات، فهي أعلام وأوصاف، وهي بالاعتبار الأول مترادفة وبالاعتبار الثاني متباينة، والوصف بها لا ينافي العلمية بخلاف أوصاف العباد فإنها تنافي علميتهم (1) ؛ فالرحمن اسمه تعالى ووصفه، لا تنافي اسميته وصفيته، فمن حيث هو صفة جرى تابعا على اسم الله، ومن حيث هو اسم ورد في القرآن علما غير تابع، وكذلك فإن الأسماء مشتقة من الصفات إذ الصفات مصادر الأسماء الحسنى (2) .
وقد استقبح أهل العلم مذهب المعتزلة في إثبات الأسماء ونفي دلالتها على الصفات لأن معنى ذلك أنهم أثبتوا وجود الذات فقط، وجعلوا أسماء الله الدالة عليها أسماء فارغة من الأوصاف أو أسماء بلا مسمى فقالوا: هو العليم بلا علم، والسميع بلا سمع والبصير بلا عين، ومعلوم من مذهب السلف أن أسماء الله في دلالتها على الصفات لا تشبه أسماء المخلوقين في دلالتها، فقد يسمى الإنسان سعيدا وهو حزين، أما رب العزة والجلال فهو الغني الذي اتصف بالغنى دون الفقر، وهو القوي الذي اتصف بالقوة لا الضعف، وهو السميع الذي اتصف بالسمع تعالى الله عن ضدها، وهكذا في سائر الأسماء والصفات، ولهذا كانت أسماؤه حسنى وعظمى ولا تكون حسنى وعظمى بغير ذلك، ومن ثم فإن دلالة الاسم على الوصف شرط من شروط الإحصاء .
__________
(1) بدائع الفوائد 1/170.
(2) السابق 1/28، وانظر شرح قصيدة الإمام ابن القيم، لأحمد بن إبراهيم بن عيسى 1/14 .(1/102)
أما مثال ما لم يتحقق فيه دلالة الاسم على الوصف من الأسماء الجامدة ما ورد في عند البخاري من حديث أَبِي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( قَالَ اللهُ - عز وجل -: يُؤْذِينِي ابْنُ آدَمَ يَسُبُّ الدَّهْرَ وَأَنَا الدَّهْرُ بِيَدِي الأَمْرُ أُقَلِّبُ الليْلَ وَالنَّهَارَ ) (1)، فالدهر ذكره ابن حزم في الأسماء استنادا للحديث (2)، والأمر ليس كذلك لأن الدهر اسم جامد لا يتضمن وصفا يفيد المدح والثناء على الله بنفسه .
وقد ذكر الشيخ محمد بن صالح العثيمين من أسباب استبعاده أنه لا يحمل معنى يلحقه بالأسماء الحسنى، كما أنه في حقيقته اسم للوقت والزمن كما قال سبحانه وتعالى عن منكري البعث: { وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ } [الجاثية:24]، وهم يريدون مرور الليالي والأيام، والحديث لا يدل على أن الدهر من أسماء الله تعالى، وذلك أن الذين يسبون الدهر إنما يريدون الزمان الذي هو محل الحوادث، لا يريدون الله تعالى، فيكون معنى قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( وأنا الدهر ) ما فسره بقوله: ( بيدي الأمر أقلب الليل والنهار )، فهو سبحانه خالق الدهر وما فيه، وقد بين أنه يقلب الليل والنهار وهما الدهر، ولا يمكن أن يكون المقلَّب هو المقلِّب، وبهذا يتبين أنه يمتنع أن يكون الدهر في هذا الحديث مرادا به الله تعالى (3) .
__________
(1) البخاري في التفسير، باب تفسير سورة حم 4/1825 (4549) .
(2) المحلى لابن حزم 8/31، والفصل في الملل والنحل 2/112.
(3) القواعد المثلى ص10 .(1/103)
قال ابن حجر العسقلاني: ( وقال عياض: زعم بعض من لا تحقيق له أن الدهر من أسماء الله وهو غلط؛ فإن الدهر مدة زمان الدنيا، وعرفه بعضهم بأنه أمد مفعولات الله في الدنيا، أو فعله لما قبل الموت، وقد تمسك الجهلة من الدهرية والمعطاة بظاهر هذا الحديث واحتجوا به على من لا رسوخ له في العلم، لأن الدهر عندهم حركات الفلك وأمد العالم ولا شيء عندهم ولا صانع سواه، وكفى في الرد عليهم قوله في بقية الحديث: أنا الدهر أقلب ليله ونهاره، فكيف يقلب الشيء نفسه ! تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا ) (1) .
ويلحق بذلك أيضا الحروف المقطعة في أوائل السور والتي اعتبرها البعض من أسماء الله - عز وجل -، حيث قيل: هي اسم الله الأعظم إلا أنا لا نعرف تأليفه منها، وقيل: هي أسماء لله أقسم بها، وقال آخرون: الم، الألف من الله، واللام من جبريل، والميم من محمد - صلى الله عليه وسلم - وقيل: الألف مفتاح اسمه الله، واللام مفتاح اسمه اللطيف والميم مفتاح اسمه المجيد، وقيل أيضا: الم تعني أنا الله أعلم، والر أنا الله أرى، والمص أنا الله أفصل فالألف تؤدي عن معنى أنا، واللام تؤدي عن اسم الله، والميم تؤدي عن معنى أعلم وهذه كلها آراء اجتهادية ليست مبنية على حديت ثابت مرفوع (2) .
والأعجب من ذلك قول العكبري: ( هذه الحروف المقطعة كل واحد منها اسم فألف اسم يعبر به عن مثل الحرف الذي في قال، ولام يعبر بها عن الحرف الأخير من قال وكذلك ما أشبهها، والدليل على أنها أسماء أن كلا منها يدل على معنى في نفسه، وهي مبنية لأنك لا تريد أن تخبر عنها بشيء، وإنما يحكى بها ألفاظ الحروف التي جعلت أسماء لها، فهي كالأصوات نحو غاق في حكاية صوت الغراب ) (3) .
__________
(1) فتح الباري 10/ 566 .
(2) انظر تفسير القرطبي 1/154، والبرهان في علوم القرآن 1/172.
(3) التبيان في إعراب القرآن 1/10 .(1/104)
وقد ذكر القاضي أبو بكر بن العربي بطلان مثل هذا الكلام فقال: ( ومن الباطل علم الحروف المقطعة في أوائل السور ) (1) .
وقال الإمام السيوطي: ( وقد تحصل لي فيها عشرون قولا وأزيد، ولا أعرف أحدا يحكم عليها بعلم، ولا يصل منها إلى فهم، والذي أقوله إنه لولا أن العرب كانوا يعرفون أن لها مدلولا متداولا بينهم لكانوا أول من أنكر ذلك على النبي - صلى الله عليه وسلم - ، بل تلي عليهم حم فصلت وص وغيرهما فلم ينكروا ذلك، بل صرحوا بالتسليم له في البلاغة والفصاحة مع تشوفهم إلى عثرة وغيرها وحرصهم على زلة؛ فدل على أنه كان أمرا معروفا بينهم لا إنكار فيه ) (2) .
ولا يعني القول باشتراط دلالة الاسم على الوصف جواز اجتهاد الشخص في اشتقاق الأسماء من صفات الذات والأفعال؛ لأن الاشتقاق ليس من حق أحد إلا رب العزة والجلال، والمرجعية في ذلك إلى النص الشرعي دون القياس العقلي أو التلاقي اللغوي .
وليس مراد من قال من أهل العلم بأن أسماء الله مشتقة من الصفات والأفعال سوى أنها تلاقي مصادرها اللغوية في اللفظ والمعنى، لا أنها متولدة منها وصادرة عنها صدور الفرع عن أصله، وتسمية النحاة المصدر والمشتق منه أصلا وفرعا ليس معناه أن أحدهما تولد من الآخر؛ وإنما هو باعتبار أن أحدهما متضمن للآخر وزيادة فالاشتقاق هنا ليس اشتقاقا ماديا أو تشبيها يحكم فيه على أسماء الخالق بما يحكم أسماء المخلوقين، وإنما هو اشتقاق لغوي متلازم بين الاسم والفعل والوصف؛ ولا محذور في القول باشتقاق أسماء الله الحسنى على هذا المعنى، مع التنبيه على أن حق التسمية تكون المرجعية فيه إلى تسمية الله لنفسه أو تسمية نبيه - صلى الله عليه وسلم - ، وأن الأسماء الحسنى أزلية أولية بأولية الذات (3) .
__________
(1) الاتقان في علوم القرآن للسيوطي 2/26 .
(2) السابق 2/26 .
(3) انظر بتصرف شرح قصيدة ابن القيم 1/12 .(1/105)
وعلى ذلك فإن الاسم إذا أطلق على الله - عز وجل - جاز أن يشتق منه المصدر والفعل فيخبر به عنه فعلا ومصدرا، نحو السميع البصير القدير يطلق عليه منه السمع والبصر والقدرة، ويخبر عنه بالأفعال من ذلك نحو قوله: { قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ } [المجادلة:1]، وقوله: { فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ } [المرسلات:23]، هذا إن كان الفعل متعديا، فإن كان لازما لم يخبر عنه به نحو الحي، بل يطلق عليه الاسم والمصدر دون الفعل (1) .
( الشرط الخامس: دلالة الوصف على الكمال المطلق .
يشترط في إحصاء الأسماء الحسنى أن يكون الوصف الذي دل عليه الاسم في غاية الجمال والكمال، فلا يكون المعنى عند تجرد اللفظ منقسما إلى كمال أو نقص أو يحتمل شيئا يحد من إطلاق الكمال والحسن، وهذا الشرط مأخوذ من قوله تعالى: { وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا } [الأعراف:180]، أي البالغة مطلق الكمال في الحسن التي لا تحمل أي معنى من معاني النقص، وكذلك قوله - عز وجل -: { تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإكْرَامِ } [الرحمن:78]، ووجه الاستدلال أن اسم الله جل شأنه تنزه وتمجد وتعظم وتقدس عن كل معاني النقص، لأنه سبحانه وتعالى له مطلق الحسن والجلال وكل معاني الكمال والجمال (2) .
__________
(1) بدائع الفوائد1/170 بتصرف .
(2) زاد المسير 3/214، وروح المعاني 18/230 .(1/106)
والله - عز وجل - لا يتصف إلا بالكمال المطلق الذي لا نقص فيه بوجه من الوجوه كالحياة والعلم والقدرة، والسمع والبصر والرحمة، والعزة والحكمة والعظمة، وغير ذلك من أوصاف الكمال، أما ضد ذلك من أوصاف النقص كالموت والعجز والظلم، والغفلة والسنة والنوم فالله - عز وجل - منزه عنها وعن كل وصف لا يليق بجلاله مما وصف الواصفون فقال: { سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ } [الصافات:180] .
أما إذا كان الوصف عند تجرده عن الإضافة في موضع احتمال، فكان كمالا في حال ونقصا في حال فلا يصح فيه إطلاق الاسم على الله - عز وجل - أو حتى إطلاق الوصف دون تقييد، وينبغي على المسلم ألا يثبته لله إثباتا مطلقا ولا ينفيه عنه نفيا مطلقا، بل لا بد من البيان والتفصيل والتقيد بما ورد في التنزيل، وهذا منهج السلف في الألفاظ التي تحتمل وجهين عن التجرد عن الإضافة كالمكر والخداع والنسيان، والاستهزاء والكيد والخذلان، وغير ذلك من الأوصاف كالإبرام والتردد والصحبة والاستخلاف (1) .
__________
(1) انظر هذا المعنى في المواضع الآتية: الحقيقة والمجاز لابن تيمية 20 /471، وانظر له أيضا الرسالة التدمرية ص 14، والمحلى لابن حزم 1/34، وإعلام الموقعين لابن القيم 3/218، وحز الغلاصم في إفحام المخاصم عند جريان النظر في أحكام القدر لابن حيدرة 2/39 .(1/107)
والمكر هو التدبير في الخفاء بقصد الإساءة أو الإيذاء وهذا قبيح مذموم، أو بقصد الابتلاء والجزاء وهذا ممدوح محمود، ولهذا لا يصح إطلاق الماكر اسما أو وصفا في حق الله - عز وجل - دون تخصيص لأن الإطلاق فيه احتمال اتصافه بالنقص أو الكمال، وقد نسب الله - عز وجل - المكر إلى نفسه مقيدا في مقابل مكر الكافرين فقال: { وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ } [آل عمران:54]، وقال سبحانه وتعالى مخاطبا نبيه - صلى الله عليه وسلم - : { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ } [الأنفال:30]، وفي هذه المواضع لا يحتمل التقييد إلا الكمال فجاز أن يتصف به رب العزة والجلال .(1/108)
وما يقال في المكر يقال أيضا في الاستهزاء؛ فالاستهزاء على إطلاق الوصف يكون كمالا في موضع ونقصا في آخر؛ فلا يصح إطلاقه في حق الله دون تقيد كقول القائل الله مستهزئ فهذا باطل، ولكن يصح أن القول بأن الله - عز وجل - يستهزئ بالمنافقين في مقابل استهزائهم بالمؤمنين، فالاستهزاء في موضع النقص هو شأن المنافقين، والاستهزاء في موضع الكمال هو ما ورد في قول رب العزة والجلال: { وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } [البقرة:14/15]، وكذلك الخداع والسخرية والكيد، فإن ذلك يكون كمالا في موضع ونقصا في آخر فلا يتصف به إلا في موضع الكمال كما قال تعالى: { إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلا قَلِيلا } [النساء:142]، وفي السخرية بالمنافقين قال - عز وجل -: { الذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [التوبة:79]، وقال في الكيد بالكافرين: { إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً وَأَكِيدُ كَيْداً } [الطارق:15/16]، وكذلك أيضا ما ورد في السنة عن صفة التردد، روى البخاري من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن قول الله - عز وجل -: ( وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءتَهُ ) (1)، فوصف التردد عند الإطلاق
__________
(1) البخاري في الرقاق، باب التواضع 5/2384 (6137) .(1/109)
يكون كمالا في موضع ونقصا في آخر، فلو كان التردد عن جهل وقلة علم وعدم إحكام للأمر كان التردد نقصا وعيبا، وإن كان التردد لإظهار الفضل والمحبة في مقابل إنفاذ الأمر وتحقيق الحكمة كان كمالا ولطفا وعظمة وهو المقصود في الحديث .
وعلى ذلك ليس من أسماء الله الحسنى الماكر أو الخادع أو الفاتن أو المضل أو الفاعل أو الكاتب أو نحو ذلك، لأنه يكون كمالا في موضع ونقصا في آخر، فلا يتصف به إلا في موضع الكمال فقط .
وكذلك اسم الطبيب لا بد أن يذكر مقيدا، لأن المعنى عند التجرد ينقسم إلى كمال ونقص، فقد يكون معناه تدبير أسباب الشفاء، وقد يكون بمعنى السحر والإمراض والبلاء، قال ابن منظور: ( والطِّبُّ والطُّبُّ السِّحْر .. وقد طُبَّ الرجلُ والمَطْبوبُ المَسْحُورُ ) (1)، فمن الأول ما ورد عند أبي داود وصححه الألباني من حديث أبي رمثة - رضي الله عنه - أنه قال: ( فَقَالَ لَهُ أَبِى: أرني هَذَا الذي بِظَهْرِكَ فإني رَجُلٌ طَبِيبٌ؟ قَالَ - صلى الله عليه وسلم - : اللهُ الطَّبِيبُ، بَلْ أَنْتَ رَجُلٌ رَفِيقٌ، طَبِيبُهَا الذي خَلَقَهَا ) (2) .
__________
(1) لسان العرب 1/554 .
(2) أبو داود في الترجل، باب في الخضاب 4/86 (4207)، وصحيح أبي داود (3544) .(1/110)
والاسم هنا مقيد بالقرينة المنصوص عليها في الحديث وهو قوله - صلى الله عليه وسلم - : طبيبها الذي خلقها، لأن الرجل لما رأى خاتم النبوة في كتف النبي - صلى الله عليه وسلم - ظنه جرح أو خُراج فأراد أن يزيله حبا في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإظهارا لمهارته في الطب، وقد كان أغلب الصحابة - رضي الله عنهم - يعلمون أنه ليس جرحا ولكنه خاتم النبوة، فلم يتفطن الرجل لذلك وتعجل فقال للنبي - صلى الله عليه وسلم - ما قال، ولم يرد النبي - صلى الله عليه وسلم - من شدة حيائه وكرم أخلاقه أن يسبب له حرجا ويبين له أنه ليس مرضا ولكنه خاتم النبوة وهذا أمر في سائر الأنبياء، فقال له: طبيبها الذي خلقها، أو يداويها الذي خلقها، ومعنى كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - : إن كان فيها داء كما تظن فالله - عز وجل - طبيب ما أصابني (1)، فالاسم هنا مقيد وليس مطلقا .
والدليل على ذلك ما ورد في الروايات الأخرى؛ ففي المسند عند أحمد ورجاله ثقات أنه قال: ( فَقُلْتُ لَهُ: يَا نَبِيَ اللهِ إِنِّي رَجُلٌ طَبِيبٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتٍ أَطِبَّاءَ فَأَرِنِي ظَهْرَكَ، فَإِنْ تَكُنْ سَلْعَةٌ أَبُطُّهَا، وَإِنْ تَكُنْ غَيْرَ ذَلِكَ أَخْبَرْتُكَ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ إِنْسَانٍ أَعْلَمَ بِجُرْحٍ أَوْ خُرَاجٍ مِنِّى، قَالَ: طَبِيبُهَا اللهُ ) (2) .
__________
(1) عون المعبود 11/175 .
(2) مسند الإمام أحمد 2/227 (7111) .(1/111)
وفي رواية أخرى قال: ( قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ وَلَمْ أَكُنْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَخَرَجَ وَعَلَيْهِ ثَوْبَانِ أَخْضَرَانِ فَقُلْتُ لاِبْنِى: هَذَا وَاللهِ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَجَعَلَ ابْنِي يَرْتَعِدُ هَيْبَةً لِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي رَجُلٌ طَبِيبٌ، وَإِنَّ أَبِي كَانَ طَبِيباً وَإِنَّا أَهْلُ بَيْتِ طِبٍّ، وَاللهِ مَا يَخْفَى عَلَيْنَا مِنَ الْجَسَدِ عِرْقٌ وَلاَ عَظْمٌ؛ فَأَرِنِي هَذِهِ التِي عَلَى كَتِفِكَ، فَإِنْ كَانَتْ سَلْعَةً قَطَعْتُهَا ثُمَّ دَاوَيْتُهَا، قَالَ: لاَ، طَبِيبُهَا اللهُ ) (1) .
وورد عند الطبراني أنه قال: ( فَنَظَرْتُ فَإِذَا في نُغْضِ كَتِفِهِ مِثْلُ بَعْرَةِ الْبَعِيرِ أَوْ بَيْضَةِ الْحَمَامَةِ، فَقُلْتُ: أَلاَ أُدَاوِيكَ مِنْهَا يَا رَسُولَ اللهِ؟ فَإِنَّا أَهْلُ بَيْتٍ نُطَبِّبُ فَقَالَ: يُدَاوِيهَا الذي وَضَعَهَا ) (2) .
وروى الطبراني وأحمد اللفظ له: ( خَرَجْتُ مَعَ أَبِى حَتَّى أَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَرَأَيْتُ بِرَأْسِهِ رَدْعَ حِنَّاءٍ، وَرَأَيْتُ عَلَى كَتِفِهِ مِثْلَ التُّفَّاحَةِ، قَالَ أَبِى: إِنِّي طَبِيبٌ أَلاَ أَبُطُّهَا لكَ؟ قَالَ: طَبِيبُهَا الذي خَلَقَهَا ) (3) .
أما الرواية التي روت عن مجاهد وفيها: ( الطبيب الله ولعلك ترفق بأشياء تخرق بها غيرك )، فهي رواية مرسلة عن مجاهد وقد ضعفها الشيخ الألباني (4) .
__________
(1) السابق 2/228 (7118) .
(2) المعجم الكبير 22/278 (713)، وطبقات ابن سعد ا/427، والسابق 2/226 (7108) .
(3) السابق 22/ 280 (718)، ومسند الإمام أحمد 4/163 .
(4) ضعيف الجامع (3656) .(1/112)
ومن الطب بمعنى السحر والإمراض ما ورد عند البخاري من حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت: ( سُحِرَ النَّبِيُ - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى كَانَ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ يَفْعَلُ الشَّيءَ وَمَا يَفْعَلُهُ حَتَّى كَانَ ذَاتَ يَوْمٍ دَعَا وَدَعَا، ثُمَّ قَالَ: أَشَعَرْتِ أَنَّ اللَّهَ أَفْتَانِي فِيمَا فِيهِ شِفَائِي أَتَانِي رَجُلاَنِ، فَقَعَدَ أَحَدُهُمَا عِنْدَ رَأْسِي وَالآخَرُ عِنْدَ رِجْلَي، فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِلآخَرِ: مَا وَجَعُ الرَّجُلِ؟ قَالَ: مَطْبُوبٌ . قَالَ: وَمَنْ طَبَّهُ؟ قَالَ: لَبِيدُ بْنُ الأَعْصَمِ، قَالَ: فِي مَاذَا؟ قَالَ: فِي مُشُطٍ وَمُشَاقَةٍ وَجُفِّ طَلْعَةٍ ذَكَرٍ، قَالَ: فَأَيْنَ هُوَ؟ قَالَ: فِي بِئْرِ ذَرْوَانَ، فَخَرَجَ إِلَيْهَا النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ لِعَائِشَةَ حِينَ رَجَعَ: نَخْلُهَا كَأَنَّهَا رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ، فَقُلْتُ: اسْتَخْرَجْتَهُ؟ فَقَالَ: لاَ، أَمَّا أَنَا فَقَدْ شَفَانِي اللَّهُ، وَخَشِيتُ أَنْ يُثِيرَ ذَلِكَ عَلَى النَّاسِ شَرًّا، ثُمَّ دُفِنَتِ الْبِئْرُ ) (1).
فالطبيب معناه عند التجرد منقسم إلى كمال ونقص، ولا يذكر في حق الله إلا مقيدا بموضع الكمال فقط، بخلاف الشافي فإن معناه مطلق في الكمال، ولذلك لم يقل النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث: أما أنا فقد طببني الله، ولكنه قال: أَمَّا أَنَا فَقَدْ شَفَانِي اللَّهُ .
__________
(1) البخاري في بدء الخلق، باب صفة إبليس وجنوده 3/1192 (3095) .(1/113)
وقال المناوي: ( وليس الطبيب بموجود في أسماء الله تعالى، فإن قيل يجوز إطلاقه عليه تعالى فيقال: يا طبيب عملا بهذا الخبر، قلنا: لا، لأنه حديث ضعيف، وقد شرطوا لجواز الإطلاق صحة الحديث كما مر، وبفرض صحته فهو ممنوع لأنه وقع كما قال الطيبي مقابلا لقوله: أنا طبيب مشاكلة وطباقا للجواب على السؤال ) (1) .
وهكذا القول في وصف الصحبة والخلافة التي تضمنها الاسم المقيد عند مسلم من حديث ابن عمر - رضي الله عنه - أن رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال في دعاء السفر: ( اللهُمَّ أَنْتَ الصَّاحِبُ في السَّفَرِ وَالْخَلِيفَةُ في الأَهْلِ ) (2)، فلا يصح إطلاق الصاحب أو الخليفة بعد أن ذكرهما النبي - صلى الله عليه وسلم - مقيدين، لأن الصحبة عند التجرد عن الإضافة تكون في الخير والشر كما قال تعالى عن التي في الخير: { مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى } [النجم:2]، وقال عن صحبة الشر: { فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ } [القمر:29] .
والخلافة أيضا عند التجرد عن الإضافة تعني النيابة عن الغير، وتكون عن نقص أو عن كمال، فلا يمكن أن يحمل كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا على الوجه الأخير، قال الراغب الأصفهاني: ( والخلافة النيابة عن الغير، إما لغيبة المنوب عنه، وإما لموته، وإما لعجزه، وإما لتشريف المستخلَف، وعلى هذا الوجه الأخير استخلف الله أولياءه في الأرض ) (3)، ولذلك أيضا لا يصح القول بأن الإنسان خليفة عن الله - عز وجل - في أرضه إلا على التقييد بموضع الكمال، لأن استخلاف الإنسان بالمعنى الذي ورد في القرآن والسنة له عند التحقيق معنيان:
__________
(1) فيض القدير شرح الجامع الصغير 4/289.
(2) مسلم في كتاب الحج، باب ما يقول إذا ركب إلى سفر الحج وغيره 2/978 (1342) .
(3) مفردات غريب القرآن ص 156 .(1/114)
الأول: استخلاف عن نقص الأوصاف بحكم طبيعة الإنسان، ويكون عند عجز المستخلف عن القيام بملكه أو تدبير أمره، إما لغيابه أو قلة علمه، وإما لمرضه أو موته كاستخلاف القائد نائبا على جنده أو قومه، كما ورد ذلك في قوله - عز وجل -: { وَقَال مُوسَى لأخِيهِ هَارُونَ اخْلُفنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيل المُفْسِدِين } [الأعراف:142]، وكما ورد عند البخاري من حديث سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - أنه قال: ( خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِلَى تَبُوكَ وَاسْتَخْلَفَ عَلِيًّا، فَقَالَ: أَتُخَلِّفُنِي فِي الصِّبْيَانِ وَالنِّسَاءِ؟ قَالَ: أَلا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى إِلا أَنَّهُ لَيْسَ نَبِيٌّ بَعْدِي؟ (1)، ومن ذلك أيضا استخلاف ولى الأمر نائبا عنه قبل موته، كما ورد عند البخاري من حديث ابن عمر - رضي الله عنه - أنه قال: ( حَضَرْتُ أَبِي حِينَ أُصِيبَ فَأَثْنَوْا عَليْهِ وَقَالُوا: جَزَاكَ اللهُ خَيْرًا، فَقَال: رَاغِبٌ وَرَاهِبٌ، قَالُوا: اسْتَخْلفْ، فَقال: أَتَحَمَّلُ أَمْرَكُمْ حَيّا وَمَيِّتًا لوَدِدْتُ أَنَّ حَظِّي مِنْهَا الكَفَافُ لا عَليَّ وَلا لي، فَإِنْ أَسْتخلفْ فَقَدِ اسْتَخْلفَ منْ هُوَ خَيْرٌ مِنِّي وَإِنْ أَتْرُكْكُمْ فَقَدْ تَرَكَكُمْ مَنْ هوَ خَيْرٌ مِنِّي، رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، قَال عَبْدُ اللهِ: فَعرَفْتُ أَنَّهُ حِينَ ذَكَرَ رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - غَيْرُ مُسْتَخْلفٍ ) (2) .
__________
(1) البخاري في المغازي، باب غزوة تبوك وهي غزوة العسرة 4/1602 (4154) .
(2) البخاري في كتاب الأحكام، باب الاستخلاف 6/2638 (6792) .(1/115)
الثاني: استخلاف عن كمال الأوصاف، وذلك إذا كان لتشريف الإنسان وإكرامه أو اختباره وامتحانه، وليس لعجز المستخلف عن القيام بشؤونه، كالطبيب في سنة الامتياز عندما يفحص مريضا حال مراقبة الأستاذ، فمثل هذا إن اجتاز الامتحان فقد فاز ونال الشرف بشهادة عظيمة بين الناس، وإن لم يؤد الواجب على الوجه المطلوب استحق العقوبة والرسوب حتى يتمكن من النجاح عند الإعادة، وإن تكرر منه الفشلُ والنسيان استحق المنع والحرمان من أي شرف أو فضل، ولله المثل الأعلى - ويجوز في حقه قياس الأولى - يصح القول إن الإنسان خليفة عن الله - عز وجل - في الأرض على وجه الابتلاء والامتحان لأن هذا الوجه كله مقيد بالكمال الذي لا نقص فيه ولا عجز .
قال ابن القيم: ( لفظ الخداع ينقسم إلى محمود ومذموم؛ فإن كان بحق فهو محمود وإن كان بباطل فهو مذموم ) (1)، وذكر أيضا مما يدخل تحت هذه النوعية المكر فإنه ينقسم إلى محمود ومذموم وحقيقته إظهار أمر وإخفاء خلافه ليتوصل به إلى مراده، فمن المحمود: مكره تعالى بأهل المكر مقابلة لهم بفعلهم، وجزاء لهم بجنس عملهم، وكذلك الكيد ينقسم إلى نوعين (2) .
__________
(1) انظر إغاثة اللهفان 1/386، وانظر أيضا في هذا المعنى المحلي لابن حزم 1/34، والموافقات للشاطبي 2/150، رسالة في الحقيقة والمجاز ضمن مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 20/471، كتاب الإيمان الكبير ضمن المرجع السابق 7/111، إعلام الموقعين عن رب العالمين لابن القيم 3/218، القواعد المثلي في صفات الله وأسمائه الحسني للشيخ محمد بن صالح العثيمين ص29:27.
(2) السابق 1/387 .(1/116)
وقال أيضا في معنى الشرط الخامس من شروط الإحصاء: ( فعليك بمراعاة ما أطلقه سبحانه على نفسه من الأسماء والصفات، والوقوف معها وعدم إطلاق ما لم يطلقه على نفسه ما لم يكن مطابقا لمعنى أسمائه وصفاته، وحينئذ فيطلق المعنى لمطابقته له دون اللفظ، ولاسيما إذا كان مجملا أو منقسما إلى ما يمدح به وغيره؛ فإنه لا يجوز إطلاقه إلا مقيدا، وهذا كلفظ الفاعل والصانع فإنه لا يطلق عليه في أسمائه الحسنى إلا إطلاقا مقيدا أطلقه على نفسه كقوله تعالى: { فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ } [البروج:16] وقوله: { إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ } [الحج:18]، وقوله - عز وجل -: { صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ } [النمل:88]، فإن اسم الفاعل والصانع منقسم المعنى إلى ما يمدح عليه ويذم ولهذا المعنى والله أعلم لم يجيء في الأسماء الحسنى المريد كما جاء فيها السميع البصير، ولا المتكلم ولا الآمر الناهي لانقسام مسمى هذه الأسماء، بل وصف نفسه بكمالاتها وأشرف أنواعها، ومن هنا يعلم غلط بعض المتأخرين وزلقه الفاحش في اشتقاقه له سبحانه من كل فعل أخبر به عن نفسه اسما مطلقا فأدخله في أسمائه الحسنى؛ فاشتق له اسم الماكر والخادع والفاتن والمضل والكاتب ونحوها من قوله: { وَيَمْكُرُ اللَّهُ } [الأنفال:30]، ومن قوله: { وَهُوَ خَادِعُهُمْ } [النساء:142]، وقوله - عز وجل -: { لِنَفْتِنَهُمْ فِيه } [طه:131]، ومن قوله: { يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ } [الرعد:27]، وقوله - عز وجل -: { كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي } [المجادلة:21] ) (1)، ثم بين رحمه الله خطأهم في ذلك من عدة وجوه:
الأول: أنه عز وجل لم يطلق على نفسه هذه الأسماء فإطلاقها عليه لا يجوز .
الثاني: أنه سبحانه أخبر عن نفسه بأفعال مختصة مقيدة فلا يجوز أن ينسب إليه مسمى الاسم عند الإطلاق .
__________
(1) انظر طريق الهجرتين 1/ 486، 1/487 .(1/117)
الثالث: أن مسمى هذه الأسماء منقسم إلى ما يمدح عليه المسمى به وإلى ما يذم فيحسن في موضع ويقبح في موضع، فيمتنع إطلاقه عليه سبحانه من غير تفصيل .
الرابع: أن هذه ليست من الأسماء الحسنى التي يسمى بها سبحانه كما قال: { وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا } [الأعراف:180]، وهي التي يحب سبحانه أن يثنى عليه ويحمد بها دون غيرها .
الخامس: أن هذا القائل لو سمي بهذه الأسماء، وقيل له: هذه مدحتك وثناء عليك فأنت الماكر الفاتن المخادع المضل اللاعن الفاعل الصانع ونحوها لما كان يرضى بإطلاق هذه الأسماء عليه ويعدها مدحة، ولله المثل الأعلى سبحانه وتعالى عما يقول الجاهلون به علوا كبيرا .
السادس: أن هذا القائل يلزمه أن يجعل من أسمائه اللاعن والجائي والآتي والذاهب والتارك والمقاتل والصادق والمنزل والنازل والمدمدم والمدمر وأضعاف ذلك
فيشتق له اسما من كل فعل أخبر به عن نفسه وإلا تناقض تناقضا بينا، ولا أحد من العقلاء طرد ذلك، فعلم بطلان قوله والحمد لله رب العالمين (1) .
__________
(1) انظر طريق الهجرتين لابن القيم 1/ 486، 1/487، وانظر له أيضا بدائع الفوائد 1/169، وإعلام الموقعين عن رب العالمين 3/218 .(1/118)
هذه الشروط هي التي تتبعنا من خلالها أسماء الله الحسنى الثابتة في الكتاب والسنة، وقد ذكر مختلف العلماء الذين تكلموا في إحصاء الأسماء الحسنى ما يزيد على المائتين والثمانين اسما، سواء اجتهدوا في جمعها مستندين إلى نص مطلق أو نص مقيد أو باشتقاقهم لها من الصفات والأفعال، وعند تطبيق هذه الشروط على ما جمعوه أو اشتقوه، وما ورد في كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - لم تنطبق إلا على تسعة وتسعين اسما فقط دون لفظ الجلالة، وقد تكررت تجربة ذلك مرات عديدة فكانت النتيجة واحدة، ويعلم الله أنها كانت مفاجأة لي كما هو الحال لدى القارئ، وقد ساعد في ذلك التقنية الحديثة في استقصاء الاسم ومشتقات المعنى اللغوي في القرآن ومختلف كتب السنة من خلال الموسوعات الإلكترونية الضخمة، فكانت النتيجة كما ذكر نبينا - صلى الله عليه وسلم - تسعة وتسعين اسما .
وكما ذكرت في المقدمة أنه ليس في الأمر تكلف وافتعال، أو تعسف أو تحايل على واقع الحال؛ فالأمر في جمع الأسماء وإحصائها أصبح مرهونا بشروط أو قواعد أو ضوابط أو أسس سمها ما شئت، إذا طبقت بدقة على كل نص ثابت في الكتاب والسنة لإحصاء الأسماء الحسنى فنتيجتها واحدة إن شاء الله، ومن ثم يمكن التعرف بسهولة ويسر على العدد الذي ذكره النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -، كما أنه بهذه الشروط والقواعد قد علم حال كل اسم من الأسماء التي اجتهد في ذكرها مختلف العلماء .(1/119)
وكما قلت لم نكن نتوقع أن تكون النتيجة على هذا النحو، وكما أشرت سابقا أنه لا تعارض بين إحصاء الأسماء في تسعة وتسعين اسما وما ثبت في كون أسماء الله غير محصورة في عدد معين، لأن العدد الكلى لأسمائه الحسنى لا يعلمه إلا الله، وما استأثر به في علم الغيب عنده لا يمكن لأحد حصره ولا الإحاطة به، أما التسعة والتسعون فهي الأسماء التي تعرف الله بها إلى عبده في كتابه وفي سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - .
( اللؤلؤة الفضلى في نظم أسماء الله الحسنى .
أما الأسماء الحسنى التي انطبقت عليها شروط الإحصاء والتي سيأتي بيان أدلتها من القرآن وصحيح السنة وإحصاء مراتبها فبيانها كالتالي: الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ المَلِكُ القُدُّوسُ السَّلامُ المُؤْمِنُ المُهَيْمِنُ العَزِيزُ الجَبَّارُ المُتَكَبِّرُ الخَالِقُ البَارِئُ المُصَوِّرُ الأَوَّلُ الآخِرُ الظَّاهِرُ البَاطِنُ السَّمِيعُ البَصِيرُ المَوْلَى النَّصِيرُ العَفُوُّ القَدِيرُ اللطِيفُ الخَبِيرُ الوِتْرُ الجَمِيلُ الحَيِيُّ السِّتيرُ الكَبِيرُ المُتَعَالُ الوَاحِدُ القَهَّارُ الحَقُّ المُبِينُ القَوِيّ المَتِينُ الحَيُّ القَيُّومُ العَلِيُّ العَظِيمُ الشَّكُورُ الحَلِيمُ الوَاسِعُ العَلِيمُ التَّوابُ الحَكِيمُ الغَنِيُّ الكَرِيمُ الأَحَدُ الصَّمَدُ القَرِيبُ المُجيبُ الغَفُورُ الوَدودُ الوَلِيُّ الحَميدُ الحَفيظُ المَجيدُ الفَتَّاحُ الشَّهيدُ المُقَدِّمُ المُؤخِّرُ المَلِيكُ المُقْتَدِرْ المُسَعِّرُ القَابِضُ البَاسِطُ الرَّازِقُ القَاهِرُ الديَّانُ الشَّاكِرُ المَنانَّ القَادِرُ الخَلاَّقُ المَالِكُ الرَّزَّاقُ الوَكيلُ الرَّقيبُ المُحْسِنُ الحَسيبُ الشَّافِي الرِّفيقُ المُعْطي المُقيتُ السَّيِّدُ الطَّيِّبُ الحَكَمُ الأَكْرَمُ البَرُّ الغَفَّارُ الرَّءوفُ الوَهَّابُ الجَوَادُ السُّبوحُ الوَارِثُ الرَّبُّ الأعْلى الإِلَهُ .(1/120)
هذا مع مراعاة أن ترتيب الأسماء الحسنى مسألة اجتهادية راعينا في معظمها ترتيب اقتران الأسماء بورودها في الآيات مع تقارب الألفاظ على قدر المستطاع ليسهل حفظها بأدلتها، والأمر في ذلك متروك للمسلم وطريقته في حفظها .
وهذه الأسماء التي تتبعتها بضوابطها اطلع عليها كثير من أهل العلم وأبدوا إعجابهم بالنتيجة، وكان منهم فضيلة الشيخ أبو يزن حمزة بن فايع الفتحي حفظه الله، وهو أحد أعضاء هيئة التدريس العاملين معنا في كلية الشريعة وأصول الدين بجامعة الملك خالد حيث أثار الموضوع اهتمامه فدفعه ذلك إلى أن نظم الأسماء الحسنى بشروطها في قصيدة سماها اللؤلؤة الفضلى في نظم أسماء الله الحسنى الثابتة في الكتاب والسنة، وقد أطال في مقدمتها ومدحني بما لا أستحق، فاستأذنته أن يقتصر على ما ورد فيها من الأسماء وشروط الإحصاء فجزاه الله خير الجزاء، وأسأله سبحانه أن يرزقني وإياه الإخلاص في القول والعمل، فلا ينفع الوعد على الإحصاء إلا بتقوى الله في السراء والضراء، فقال حفظه الله فيما نظمه:
-
الله ربنا هو الإلهُ -
له من الأسماء ما اصطفاهُ - -
- الواحدُ الحي كذا المليكُ -
والملكُ المالكُ لا شريكُ - -
- والصمدُ السيدُ والمبينُ -
والأحدُ العظيمُ والمتينُ - -
- وإنه الحق العلي الأعلى -
المتعالي الوتر قد تجلى - -
- وإنه المجيدُ والعليمُ -
والقادرُ القديرُ والحليمُ - -
- وإنه السميعُ والبصيرُ -
والأولُ الآخرُ والستيرُ - -
- والظاهرُ الباطنُ والكبيرُ -
والوارثُ الرقيبُ والنصيرُ - -
- سبحانه البارئُ والمصورُ -
والقابضُ الباسطُ والمسعرُ - -
- المؤمنُ المهيمنُ الجبارُ -
والقاهرُ القهارُ والغفارُ - -
- والأكرمُ الوهابُ والديانُ -
العفو والوكيل والرحمنُ - -
- وإنه العزيزُ والحكيمُ -
والطيبُ المحسنُ والكريمُ - -
- وإنه الغني والشكورُ -
والشاكرُ المجيبُ والغفورُ - -
- والرازقُ التوابُ والرزاقُ -
والخالقُ الفتاحُ والخلاقُ - -(1/121)
- والمعطي والجوادُ والقريبُ -
والشافي والمنانُ والحسيبُ - -
- وربنا الحفيظُ والشهيدُ -
والواسعُ السبوحُ والحميدُ - -
- وإنه المولى الولي البر -
الحكم ُ المقدمُ المؤخرُ - -
- تبارك السلامُ والرءوفُ -
القوي والقدوسُ واللطيفُ - -
- وربنا الودودُ والقيومُ -
الرفيقُ والحيي والرحيمُ - -
- وربنا الجميلُ فانظر واعتبرْ -
وإنه المقيتُ والمتكبرْ - -
- وإنه المقتدرُ الخبيرُ -
يعلمُ ما كانَ وما يصيرُ - -
- ثم هنا قد تمت الأسماءُ -
تسع وتسعون ولا افتراءُ - -
- فخذها بالقبولِ والتسليمِ -
فإنها من مصدرٍ عليمِ - -
- قد حدها بالقيد والشرائطِ -
محصورةً في خمسةِ الضوابطِ - -
- النص محفوظٌ بلا إقحامِ -
وكونُه اسماً من الأعلامِ - -
- وإنه يجري على الإطلاقِ -
يحمل ذا الوصف بلا شقاقِ - -
- في غاية الجمالِ والكمالِ -
ليس بمقسومٍ ولا انفصالِ - -
- تلك هي الشروط باستيفاءِ -
فطبقن من غير ما هباء - -
- ينأى بها البديع والعلام -
والمكر والدهر كذا القيام - -
- فحلِّ ذا النفس بذي الأسماء -
وزنها بالإخلاص والرجاء
-
الأسماء المدرجة في الروايات وتمييزها بشروط الإحصاء .
لما كان هذا هو حال الأسماء الحسنى التي حفظها الناس لأكثر من ألف عام وأنشدها كل منشد وكتبت في كل مسجد، ليست نصا من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - باتفاق أهل العلم والمعرفة بحديثه؛ وإنما هي في حقيقتها ملحقة أو مدرجة في الأحاديث التي ورد فيها سرد الأسماء؛ فلا بد أن نبين ما ثبت فيها من الأسماء الحسنى وما لم يثبت أو يوافق شروط الإحصاء .
أولا: رواية الترمذي في جامعه:(1/122)
قال الإمام الترمذي: ( حدثنا إبْرَاهيمُ بنُ يَعْقُوب الجوزجاني، أَخبرنا صَفْوَانُ بنُ صَالِح، أخبرنا الوَلِيدُ بنُ مُسْلِمٍ، أخبرنا شُعَيْبُ بنُ أبي حَمْزَةَ عَن أبي الزِّنَادِ عَن الأَعْرَجِ عَن أبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - : إنَّ لله تِسْعَةً وتِسْعِينَ اسْماً مِائَةً غيرَ وَاحِدَةٍ مَنْ أَحْصَاها دَخَلَ الجَنَّة، هُوَ الله الذِي لا إلَهَ إلاّ هُوَ الرَّحمنُ الرَّحيمُ المَلِك القُدُّوسُ السَّلاَمُ المُؤْمِنُ المُهَيمِنُ العَزِيزُ الجَبَّارُ المُتَكَبِّر الخَالِقُ البَارِيءُ المُصَوِّرُ الغَفَّارُ القَهَّارُ الوَهَّابُ الرَّزَّاقُ الفتَّاحُ العَلِيمُ القَابِضُ البَاسِطُ الخافضُ الرَّافِعُ المعزُّ المذِل السَّمِيعُ البَصِيرُ الحَكَمُ العَدْلُ اللّطِيفُ الخَبِيرُ الحَلِيمُ العَظِيمُ الغَفُورُ الشَّكُورُ العَلِيُّ الكَبِيرُ الحَفِيظُ المُقِيتُ الحَسِيبُ الجَلِيلُ الكَرِيمُ الرَّقِيبُ المُجِيبُ الْوَاسِعُ الحَكِيمُ الوَدُودُ المَجِيدُ البَاعِثُ الشَّهِيدُ الحَق الوَكِيلُ القَوِيُّ المَتِينُ الوَلِيُّ الحَمِيدُ المُحْصِي المُبْدِيءُ المُعِيدُ المُحْيِي المُمِيتُ الحَيُّ القَيُّومُ الوَاجِدُ المَاجِدُ الوَاحِدُ الصَّمَدُ القَادِرُ المُقْتَدِرُ المُقَدِّمُ المُؤَخِّرُ الأوَّلُ الآخِرُ الظَّاهِرُ البَاطِنُ الوَالِي المُتَعَالِي البَرُّ التَّوَّابُ المنتَقِمُ العَفُوُّ الرَّؤُوف مَالِكُ المُلْكِ ذُو الجَلاَلِ وَالإكْرَامِ المُقْسِط الجَامِعُ الغَنِيُّ المُغْنِي المَانِعُ الضَّارُّ النَّافِعُ النُّورُ الهَادِي البَدِيعُ البَاقِي الوَارِثُ الرَّشِيدُ الصَّبُور ) (1) .
__________
(1) الترمذي في كتاب الدعوات 5/530، وانظر ضعيف الجامع (1945) .(1/123)
بداية من قول الراوي في الحديث هو الله الذي لا إله إلا هو إلى آخر ما ورد فيه ليس من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وإنما هي أسماء من جمع الراوي أو نقله عن اجتهاد الآخرين ثم إدراجه لها في الحديث، ولذلك فإن فيها ما ثبت وما لم يثبت، وفيها ما لا ينطبق عليه شروط الإحصاء، وبيان ذلك كالتالي:
عدد الأسماء الواردة في هذا الحديث ثمانية وتسعون اسما بالإضافة إلى لفظ الجلالة وليست تسعة وتسعين تضاف إلى لفظ الجلالة كما أظهرها البحث الحاسوبي وكما دل عليه ظاهر الحديث المتفق عليه عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( إِنَّ للهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمَا مِائَةً إِلاَّ وَاحِدًا مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ ) (1) .
أما الأسماء الحسنى التي ثبتت بنص الكتاب والسنة في حديث الترمذي فعددها تسعة وستون اسما بغير لفظ الجلالة وهي على ترتيب ورودها: الرحمن الرحيم الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر الخالق البارئ المصور الغفار القهار الوهاب الرزاق الفتاح العليم القابض الباسط السميع البصير الحكم اللطيف الخبير الحليم العظيم الغفور الشكور العلي الكبير الحفيظ المقيت الحسيب الكريم الرقيب المجيب الواسع الحكيم الودود المجيد الشهيد الحق الوكيل القوي المتين الولي الحميد الحي القيوم الواحد الصمد القادر المقتدر المقدم المؤخر الأول الآخر الظاهر الباطن المتعالي البر التواب العفو الرءوف المالك الغني الوارث .
__________
(1) أخرجه البخاري في الشروط، باب إن لله مائة اسم إلا واحدا 6/2691 (6957)، ومسلم في الذكر والدعاء والتوبة، باب في أسماء الله تعالى وفضل من أحصاها 4/2063 (2677) .(1/124)
أما الأسماء التي لم تثبت أو توافق شروط الإحصاء فعددها تسعة وعشرون اسما وهي: الخافضُ الرافع المعزُّ المذِل العَدْلُ الجَلِيلُ البَاعِثُ المُحْصِي المُبْدِيءُ المُعِيدُ المُحْيِي المُمِيتُ الوَاجِدُ المَاجِدُ الوَالِي المنتَقِمُ ذُو الجَلاَلِ وَالإكْرَامِ المُقْسِط الجَامِعُ المُغْنِي المَانِعُ الضَّارُّ النَّافِعُ النُّورُ الهَادِي البَدِيعُ البَاقِي الرَّشِيدُ الصَّبُور .
وهذه الأسماء منها اثنان وعشرون ليست من الأسماء الحسنى ولكنها أفعال وأوصاف لا يصح الاشتقاق منها وهي: الخافضُ المعزُّ المذِل العَدْلُ الجَلِيلُ البَاعِثُ المُحْصِي المُبْدِيءُ المُعِيدُ المُمِيتُ الوَاجِدُ المَاجِدُ الوَالِي ذُو الجَلاَلِ وَالإكْرَامِ المُقْسِط المُغْنِي المَانِعُ الضَّارُّ النَّافِعُ البَاقِي الرَّشِيدُ الصَّبُور، وكذلك سبعة أسماء مقيدة أو مضافة تذكر على الوضع الذي ورد في النص وهي: الرَّافِعُ المُحْيِي المنتَقِمُ الجَامِعُ النُّورُ الهَادِي البَدِيعُ .
( تفصيل العلة في عدم ثبوتها أو إحصائها .(1/125)
تقدم الحديث عن كثير من هذه الأسماء وسوف نشير إليها اختصارا لأهمية الموضوع لدى كل مسلم، وسنذكرها على ترتيب ورودها، وأولها الخافض، وهو اسم لم يرد في القرآن الكريم أو السنة النبوية كما سبق، أما اسمه الرافع فورد مقيدا في قول الله تعالى: { إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } [آل عمران:55]، ويلاحظ أن إطلاق اسمه الرافع يلزم منه إطلاق المتوفي والمطهر والجاعل وإلا كان تناقضا ظاهرا في اشتقاق اسم واستبعاد آخر، وورد الفعلان يخفض ويرفع فيما رواه مسلم من حديث أَبى موسى الأشعري - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَل لاَ يَنَامُ وَلاَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ، يَخْفِضُ الْقِسْطَ وَيَرْفَعُهُ ) (1) ، وثبوت الأفعال كما سبق ليس دليلا على إثبات الأسماء الحسنى، لأن دورنا حيال الأسماء الحسنى الإحصاء ثم الحفظ والدعاء وليس الاشتقاق والإنشاء، أما اسم المعز والمذل، فلم أجد حجة أو دليلا لمن أدرج هذين الاسمين إلا الاشتقاق من صفات الأفعال في قوله تعالى: { وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ } [آل عمران:26]، وقد تقدم الحديث عنهما (2) .
__________
(1) انظر ص16 .
(2) انظر ص16 .(1/126)
واسم العدل معناه حق لكنه لم يرد في القرآن اسما أو فعلا، ولا دليل لمن سمى الله بهذا الاسم سوى ما ورد من الأمر بالعدل في قوله تعالى: { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ } [النحل:90]، أو ربما استند إلى المعنى الذي ورد عند أبي داود وصححه الشيخ الألباني من حديث أبي أمامة - رضي الله عنه - أنه قال: ( سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: إِنَّ اللهَ قَدْ أَعْطَى كُل ذي حَقٍّ حَقَّهُ فَلاَ وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ ) (1) .
أما تسميته الله بالجليل فلم يرد اسما في الكتاب أو صحيح السنة ولكن ورد وصفا في قوله: { وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإكْرَامِ } [الرحمن:27]، وفرق كبير بين الاسم والوصف، وقد تقدم الحديث عن ذلك، وإن الله - عز وجل - وصف نفسه بالجلال ولم يسم نفسه الجليل (2) .
__________
(1) أبو داود في كتاب الإجارة، باب في تضمين العارية 3/296 (3565)، وانظر تصحيح الشيخ الألباني للحديث في مشكاة المصابيح حديث رقم (3073) .
(2) انظر ص17 .(1/127)
أما تسمية الله الباعث المحصي فقد تقدم أنه لا دليل على إثبات هذين الاسمين وأن الذي ورد في القرآن والسنة صفات الأفعال فقط كما في قوله: { يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ِ } [المجادلة:6]، وهي كثيرة في القرآن والسنة، وقد ورد الباعث مقيدا في حديث ضعيف وقيل موضوع رواه أحمد من حديث أم الدرداء رضي الله عنها عن أبي الدرداء - رضي الله عنه - قال: ( سَمِعْتُ أَبَا الْقَاسِمِ يَقُولُ مَا سَمِعْتُهُ يُكَنِّيهِ قَبْلَهَا وَلاَ بَعْدَهَا يَقُولُ: إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَل يَقُولُ: يَا عِيسَى إِنِّي بَاعِثٌ مِنْ بَعْدِكَ أُمَّةً إِنْ أَصَابَهُمْ مَا يُحِبُّونَ حَمِدُوا اللهَ وَشَكَرُوا وَإِنْ أَصَابَهُمْ مَا يَكْرَهُونَ احْتَسَبُوا وَصَبَرُوا ) (1) .
وتسمية الله - عز وجل - بالمبديء المعيد تقدم أن هذين الإسمين وإن كان معناهما حقا إلا أنه لا دليل على ثبوتهما في الكتاب والسنة، وليس لمن سمى الله بهما إلا اجتهاده في الاشتقاق من قوله تعالى: { إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ } [البروج:13]، ومعلوم أن أسماء الله الحسنى توقيفية على النص وليس في الآيتين سوى الفعلين فقط (2) .
__________
(1) المسند 6/450 (27585)، وانظر ضعيف الجامع (4052) .
(2) انظر ص18 .(1/128)
أما اسم المحيي فلم يرد في القرآن والسنة إلا مقيدا كما في قوله تعالى: { إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى } [فصلت:39] ، وقد تقدم في شروط الإحصاء أن الاسم لا بد أن يفيد المدح والثناء على الله بنفسه فيكون مطلقا، ولو جاز إحصاء المحيي ضمن الأسماء للزم إحصاء الغافر والقابل والشديد والفاطر والجاعل والمنزل والسريع والبالغ والمخزي والمتم والفالق والمخرج إلى غير ذلك من الأسماء المقيدة التي تقدمت عند الحديث عن شروط الإحصاء، هذا فيما يتعلق بالمحيي، أما اسم المميت فلم يرد في الكتاب أو السنة، والذي ورد في القرآن والسنة صفات أفعال، وذلك لا يكفي وحده في إثبات الاسم، ولا يجوز أن نسمي الله - عز وجل - بما لم يسم به نفسه (1) .
وبخصوص تسمية الله - عز وجل - الواجد الماجد فهذان الاسمان لم يردا في القرآن أو صحيح السنة، أما الماجد فلم يثبت في حديث صحيح، وقد ورد في السنة عند الترمذي من حديث أَبي ذر الغفاري - رضي الله عنه - أن رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال عن رب العزة: ( ذَلِكَ بِأَنِّي جَوَادٌ مَاجِدٌ ) (2)، وفي رواية عند أحمد لكنها ضعيفة: ( ذَلِكَ لأَنِّي جَوَادٌ مَاجِدٌ وَاجِدٌ أَفْعَلُ مَا أَشَاءُ ) (3)، وهذا الحديث ليس أصلا في إثبات اسم الله الجواد، لأنه ثبت في روايات أخرى لكن الشاهد أنه ليس من أسماء الله الواجد الماجد .
__________
(1) انظر ص19 .
(2) الترمذي في صفة القيامة 4/656 (2495)، وضعفه الألباني في ضعيف الترغيب (1008) .
(3) المسند 5/154 (21406)، وانظر ضعيف الجامع (6437) .(1/129)
وأما اسم الوالي فلم يرد في القرآن أو صحيح السنة والذي ثبت هو الولي والمولى وليس لمن أدرجه في الأسماء إلا ما جاء في قوله تعالى: { وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ } [الرعد:11]، والمعنى ما لهم من دون الله ممن يلي أمرهم ويدفع عنهم (1)، وكذلك اسم المنتقم فلم يرد اسما على سبيل الإطلاق ولكن ورد مقيدا في ثلاثة مواضع من القرآن، منها قوله - عز وجل -: { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ } [السجدة:22]، وكذلك ورد وصف الانتقام في قوله تعالى: { إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ } [إبراهيم:47]، وورد الفعل في قوله - عز وجل -: { فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ } [الزخرف:25] .
أما ذو الجلال والإكرام، فالجلال والإكرام وصفان لله - عز وجل -، أما ذو فمن الأسماء الخمسة وليست من الأسماء الحسنى، وقد ورد الوصفان في قوله تعالى: { وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ } [الرحمن:27] ، وقوله أيضا: { تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ } [الرحمن:78] ، وفرق كبير بين الاسم والوصف كما تقدم .
__________
(1) انظر تفسير النسفي 2/212، زاد المسير 4/313، فتح القدير 3/69، وانظر الأسنى في شرح الأسماء الحسنى لأبي عبد الله القرطبي 1/253 .(1/130)
وتسمية الله - عز وجل - بالمقسط لا دليل عليها من القرآن أو السنة، إذ لم يرد اسما أو وصفا أو فعلا، ولكن الذي أدرجه في الحديث استند إلى أمره تعالى بالقسط ومحبته للمقسطين في قوله: { قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ } [الأعراف:29]، أو ما ورد عند مسلم من حديث أَبى موسى - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَل لاَ يَنَامُ وَلاَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ يَخْفِضُ الْقِسْطَ وَيَرْفَعُهُ ) (1)، وقوله: { وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } [المائدة:42] .
أما الجامع فقد ورد مقيدا في موضعين من كتاب الله، الأول في قوله تعالى: { رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ } [آل عمران:9]، والثاني قوله: { إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً } [النساء:140] .
__________
(1) مسلم في الإيمان، باب في قوله عليه السلام إن الله لا ينام 1/161 (179) .(1/131)
وتسمية الله - عز وجل - المغني لا دليل عليها من القرآن أو السنة، وليس لمن أدرجه في الحديث إلا اجتهاده في الاشتقاق من الفعل الذي ورد في قوله: { وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } [التوبة:28]، أو قوله سبحانه: { حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ } [النور:33]، أما اسم المانع فليس لمن أدرجه إلا الاشتقاق من الفعل منع في قوله تعالى: { وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالآياتِ إِلا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ } [الإسراء:59]، أو ما ورد عند البخاري من حديث معاوية - رضي الله عنه - في أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( اللهُمَّ لاَ مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ وَلاَ مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ ) (1)، والحديث لا دليل فيه على علمية الاسم لا في المانع ولا في المعطي، لأن المعطي ثبتت فيه الإسمية عند البخاري في قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( وَاللهُ الْمُعْطِي وَأَنَا الْقَاسِمُ ) (2) .
__________
(1) البخاري في كتاب الدعوات، باب الذكر بعد الصلاة 1/289 (808) .
(2) البخاري في فرض الخمس باب قول الله تعالى: فإن لله خمسه وللرسول 3/1134 (2948) .(1/132)
وأما الضار النافع فقد تقد أن هذين الاسمان لا دليل عليهما في القرآن أو السنة ولم يرد الضار اسما ولا وصفا ولا فعلا (1)، وبخصوص تسمية الله بالنور والهادي والبديع فهذه الأسماء لم ترد في القرآن والسنة إلا مقيدة بالإضافة فتذكر كما قيدها الله - عز وجل -، فاسم الله النور ورد مقيدة بالإضافة في قوله تعالى: { اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } [النور:35]، واسمه الهادي ورد مقيدا في قوله: { وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } [الحج:54]، والبديع اسم مقيد ورد في قوله - عز وجل -: { بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } [البقرة:117]، فهذه الأسماء مقيدة بالإضافة ولا بد أن تذكر بما قيدت به، وما تقدم في الحديث عن شرط الإطلاق يغني عن الإعادة .
__________
(1) انظر ص63 .(1/133)
وتسمية الله بالباقي والرشيد والصبور لا دليل عليها، فلم ترد تلك الأسماء في القرآن أو السنة، ولم أجد دليلا لتسمية الله بالباقي يمكن أن يستند إليه من أدرج الأسماء في حديث الترمذي إلا ما ورد في قول الله تعالى: { وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ } [الرحمن:27]، وذلك لا يصلح دليلا لإثبات الاسم، فلا يحق لنا أن نسمي الله بما لم يسم به نفسه، أما الرشيد فلا دليل عليه من كتاب أو سنة لأنه لم يرد اسما ولا وصفا أو فعلا ولا أدري من أين اشتقه؟ وأغلب الظن عندي أنه أخذه من المعنى الوارد في قوله تعالى: { وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ } [الأنبياء:51]، أما الصبور فلم يرد اسما في القرآن أو السنة ويبدوا أن من أدرجه عند الترمذي استند إلى اجتهاده في الاشتقاق من صيغة أفعل التفضيل فيما ورد عند البخاري من حديث أَبى موسى - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( لَيْسَ أَحَدٌ أَوْ لَيْسَ شَيْءٌ أَصْبَرَ عَلَى أَذًى سَمِعَهُ مِنَ اللهِ، إِنَّهُمْ لَيَدْعُونَ لَهُ وَلَدًا وَإِنَّهُ لَيُعَافِيهِمْ وَيَرْزُقُهُمْ ) (1)، وقد علمنا أن أسماء الله توقيفية ودورنا حيالها الإحصاء وليس الاشتقاق والإنشاء .
ثانيا: رواية ابن ماجة في سننه .
__________
(1) البخاري في كتاب الأدب، باب الصبر على الأذى 5/2262 (5748) .(1/134)
قال أبو عبد الله محمد بن يزيد بن ماجة: ( حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مُحَمَّدٍ الصَّنْعَانِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو الْمُنْذِرِ زُهَيْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ التَّمِيمِيُّ، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ الأَعْرَجُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: إِنَّ لِلهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا مِائَةً إِلا وَاحِدًا إِنَّهُ وِتْرٌ يُحِبُّ الْوِتْرَ مَنْ حَفِظَهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ وَهِيَ اللهُ الْوَاحِدُ الصَّمَدُ الأَوَّلُ الآخِرُ الظَّاهِرُ الْبَاطِنُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ الْمَلِكُ الْحَقُّ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ اللطِيفُ الْخَبِيرُ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ الْعَلِيمُ الْعَظِيمُ الْبَارُّ الْمُتْعَالِ الْجَلِيلُ الْجَمِيلُ الْحَيُّ الْقَيُّومُ الْقَادِرُ الْقَاهِرُ الْعَلِيُّ الْحَكِيمُ الْقَرِيبُ الْمُجِيبُ الْغَنِيُّ الْوَهَّابُ الْوَدُودُ الشَّكُورُ الْمَاجِدُ الْوَاجِدُ الْوَالِي الرَّاشِدُ الْعَفُوُّ الْغَفُورُ الْحَلِيمُ الْكَرِيمُ التَّوَّابُ الرَّبُّ الْمَجِيدُ الْوَلِيُّ الشَّهِيدُ الْمُبِينُ الْبُرْهَانُ الرَّءُوفُ الرَّحِيمُ الْمُبْدِئُ الْمُعِيدُ الْبَاعِثُ الْوَارِثُ الْقَوِيُّ الشَّدِيدُ الضَّارُّ النَّافِعُ الْبَاقِي الْوَاقِي الْخَافِضُ الرَّافِعُ الْقَابِضُ الْبَاسِطُ الْمُعِزُّ الْمُذِلُّ الْمُقْسِطُ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ الْقَائِمُ الدَّائِمُ الْحَافِظُ الْوَكِيلُ الْفَاطِرُ السَّامِعُ الْمُعْطِي الْمُحْيِي الْمُمِيتُ الْمَانِعُ الْجَامِعُ الْهَادِي الْكَافِي الأَبَدُ الْعَالِمُ الصَّادِقُ النُّورُ الْمُنِيرُ التَّامُّ الْقَدِيمُ الْوِتْرُ(1/135)
الأَحَدُ الصَّمَدُ الذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ ) (1) .
بعد حذف المكرر في الحديث وهما اسم الله الرحيم واسمه الصمد، وعلى اعتبار أن لفظ الجلالة ضمن الأسماء الحسنى، فإن عدد الأسماء الواردة عند ابن ماجة في هذا الحديث مائة اسم .
أما الأسماء الحسنى التي ثبتت بنص الكتاب والسنة في هذا الحديث فعددها ستون اسما بغير لفظ الجلالة وهي على ترتيب ورودها: الواحد الصمد الأول الآخر الظاهر الباطن الخالق البارئ المصور الملك الحق السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر الرحمن الرحيم اللطيف الخبير السميع البصير العليم العظيم المتعال الجميل الحي القيوم القادر القاهر العلي الحكيم القريب المجيب الغني الوهاب الودود الشكور العفو الغفور الحليم الكريم التواب الرب المجيد الولي الشهيد المبين الرءوف الوارث القوي القابض الباسط الرزاق المتين الوكيل المعطي الوتر الأحد .
وأما الأسماء التي لم تثبت أو توافق شروط الإحصاء فعددها تسعة وثلاثون اسما وهي على ترتيب ورودها: الْبَارُّ الْجَلِيلُ الْمَاجِدُ الْوَاجِدُ الْوَالِي الرَّاشِدُ الْبُرْهَانُ الْمُبْدِئُ الْمُعِيدُ الْبَاعِثُ الشَّدِيدُ الضَّارُّ النَّافِعُ الْبَاقِي الْوَاقِي الْخَافِضُ الرَّافِعُ الْمُعِزُّ الْمُذِلُّ الْمُقْسِطُ ذُو الْقُوَّةِ الْقَائِمُ الدَّائِمُ الْحَافِظُ الْفَاطِرُ السَّامِعُ الْمُحْيِي الْمُمِيتُ الْمَانِعُ الْجَامِعُ الْهَادِي الْكَافِي الأَبَدُ الْعَالِمُ الصَّادِقُ النُّورُ الْمُنِيرُ التَّامُّ الْقَدِيمُ .
( تفصيل العلة في عدم ثبوتها أو إحصائها .
__________
(1) ابن ماجة في كتاب الدعاء، باب أسماء الله 2/1269 (3860)، ضعيف الجامع (1943) .(1/136)
تقدم الحديث عن تفصيل العلة في عدم إحصاء معظم تلك الأسماء، والذي تقدم ذكره منها واحد وعشرون اسما، وهي على ترتيب ورودها في الحديث كما يلي: الْجَلِيلُ الْمَاجِدُ الْوَاجِدُ الْوَالِي الْمُبْدِيُ الْمُعِيدُ الْبَاعِثُ الضَّارُّ النَّافِعُ الْبَاقِي الْخَافِضُ الرَّافِعُ الْمُعِزُّ الْمُذِلُّ الْمُقْسِطُ الْمُحْيِي الْمُمِيتُ الْمَانِعُ الْجَامِعُ الْهَادِي النُّورُ .
أما بقية الأسماء التي لم تذكر فعددها ثمانية عشر اسما، وهي على ترتيب ورودها في الحديث: الْبَارُّ الرَّاشِدُ الْبُرْهَانُ الشَّدِيدُ الْوَاقِي ذُو الْقُوَّةِ الْقَائِمُ الدَّائِمُ الْحَافِظُ الْفَاطِرُ السَّامِعُ الْكَافِي الأَبَدُ الْعَالِمُ الصَّادِقُ الْمُنِيرُ التَّامُّ الْقَدِيمُ .
وأما بيان العلة في عدم إحصائها ضمن الأسماء الحسنى وكيف أنها لم توافق الشروط قسنذكرها على ترتيب ورودها، وأولها اسم الله البار والراشد والبرهان، هذه الأسماء لم ترد في القرآن أو صحيح السنة، والذي ثبت في القرآن البر بدلا من البار كما قال تعالى: { إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ } [الطور:28]، ولعل من أدرجها يقصد البر ولكن حدث وهم أو تصحيف، فالآية صريحة في الدلالة على الاسم، قال ابن الأثير: ( في أسماء الله تعالى البر دون البار، وهو العطوف على عباده ببره ولطفه، والبر والبار بمعنى واحد وإنما جاء في أسماء الله تعالى البر دون البار ) (1) .
__________
(1) لسان العرب 4/52 .(1/137)
وكذلك الراشد لم يرد في القرآن أو السنة اسما أو وصفا أو فعلا، وأغلب الظن أيضا أن من أدرجه أخذه من المعنى المفهوم في قول الله تعالى: { وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ } [الأنبياء:51]، أما البرهان فلم يرد في القرآن اسما ولا فعلا، وليس لمن أدرج الأسماء إلا اجتهاده في الاشتقاق من المعنى الذي ورد في قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً } [النساء:174]، وقوله: { وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهَانَ رَبِّهِ } [يوسف:24] .
أما اسم الشديد والواقي وذو القوة، فلم يرد اسم الله الشديد في القرآن إلا مقيدا بالإضافة على كثرة المواضع التي ذكر فيها، وذلك كقول الله تعالى: { غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ ِ } [غافر:3]، وقد علمنا أنه من شروط الإحصاء أن يفيد الاسم المدح والثناء بنفسه، أما المقيد فلا بد أن يذكر بما قيد به، ولو أطلق للزم من أطلقه أن يسمي الله القابل والغافر وغير ذلك من الأسماء المقيدة، وأما التسمية بالواقي فلم يرد في القرآن أو السنة اسما، ومن أدرجه في الحديث استند إلى الاشتقاق من المعنى الذي ورد في قوله تعالى: { وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ ِ } [الرعد:34]، أو الاشتقاق من الفعل في قول الله - عز وجل -: { فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورا ِ } [الإنسان:11]، فأخذ الواقي من قوله فوقاهم، ويلزم بالضرورة اللاقي أو الملاقي لقوله ولقاهم، لكن دورنا تجاه الأسماء الإحصاء وليس الإنشاء .(1/138)
وأما ذو القوة فالقوة صفة لا تقوم نفسها ولا بد من قيامها بموصوفها، وذو من الأسماء الخمسة وليست من الأسماء الحسنى كما أن الراوي ذكر القوي ضمن الأسماء المدرجة في الحديث، فأغلب الظن عندي والله أعلم أنه لما أورد الرزاق ثم من بعده المتين ذكر الوصف بين الاسمين ولم يحذفه لهيبة كلام الله عنده فرتبها كما ورد في قوله: { إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ } [الذاريات:58] .
وتسمية الله - عز وجل - القائم والدائم والحافظ لا تتوافق مع ضوابط الإحصاء، فالقائم والدائم اسمان مقيدان، ورد القائم في قوله تعالى: { أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ } [الرعد:33]، وكذلك الحافظ لم يرد مطلقا وإنما ورد مقيدا في نصوص كثيرة كقوله - عز وجل -: { إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظ } [الطارق:4]، وقوله: { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } [الحجر:9]، وقد تقدم الحديث عنه (1)، أما الدائم فلم أجد له دليلا في الكتاب والسنة، وربما أدخله الراوي اجتهادا منه في حمله على معنى البقاء الذي في قوله تعالى: { وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإكْرَامِ } [الرحمن:27]، ولكن هذا لا يعد حجة في إثبات الاسم .
__________
(1) انظر ص45 .(1/139)
وأما اسم الفاطر فلم يرد في القرآن أو السنة مطلقا، وإنما ورد مقيدا بالإضافة في ستة مواضع من القرآن منها قوله تعالى: { الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً } [فاطر:1]، ويلزم من أدرج الأسماء في الحديث تسمية الله بالجاعل لأنه ورد مع الفاطر في موضع واحد، وكذلك الكافي ورد مقيدا في قوله تعالى: { أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ } [الزمر:36]، أما السامع فلم أجد له دليلا إلا الاشتقاق من الفعل سمع كما في قوله تعالى: { قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ } [المجادلة:1]، مع أن الاسم الصريح في الآية السميع وليس السامع، وتسمية الله بالأبد لا دليل عليها من كتاب أو سنة وأغلب الظن عندي أن من أدرج الأسماء في الحديث حمل الأبد على معنى البقاء في قوله: { وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإكْرَامِ } [الرحمن:27]، أما اسمه العالم فلم يرد في القرآن أو السنة إلا مقيدا بالإضافة كما ورد في قوله: { عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ } [الرعد:9] .(1/140)
وأما تسمية الله بالصادق فقد تقدم الحديث عنه عند ذكر الشروط وأنه ورد مقيدا في مقابل تكذيب اليهود وافترائهم وادعاءاتهم الباطلة كما قال تعالى: { ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ } [الأنعام:146] (1)، كما أن الاسم عند التجرد والإطلاق منقسم المعنى؛ فالصدق يستعمل في الحق والخير أو الشر والباطل كما في قوله تعالى عن قوم سبأ: { وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } [سبأ:20]، ولذلك فإن الذي ثبت هو اسم الله المؤمن، وأما قول الله تعالى: { وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ } [الحجر:64]، فلا دليل فيه لأن هذا من كلام الملائكة الذين أرسلوا إلى قوم لوط - عليه السلام -، وأما اسم المنير فهو اجتهاد ممن أدرج الأسماء في حديث ابن ماجة، ولم يرد اسما في القرآن أو السنة، ولعله اشتق ذلك من قوله تعالى: { اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } [النور:35]، أو لأن الله أنزل على نبيه كتابا منيرا، أو جعل القمر في السماء منيرا كما جاء في قوله تعالى: { تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُنِيراً } [الفرقان:61] .
__________
(1) انظر ص72 .(1/141)
وكذلك التام لم يرد في القرآن أو صحيح السنة، وربما اشتقه من أدرجه من معنى الغني بالنفس الذي دل عليه اسمه الغني، أو المعنى الوارد في قوله تعالى: { وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ } [الصف:8]، أو قوله: { ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَاماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ } [الأنعام:154]، وهذه كلها لا تعد حجة في إثبات الاسم، وأما القديم فلم يرد اسما ولا وصفا، وأغلب الظن أن الراوي اجتهد وأخذه من المعنى الذي ورد عند أبي داود وصححه الألباني من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا دخل المسجد قال: ( أَعُوذُ بِاللهِ الْعَظِيمِ وَبِوَجْهِهِ الْكَرِيمِ وَسُلْطَانِهِ الْقَدِيمِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ) (1) .
ثالثا: رواية الحاكم في المستدرك .
__________
(1) أبو داود في الصلاة، باب فيما يقوله عند دخوله المسجد 1/127 (466)، وانظر صحيح الجامع (4715) .(1/142)
روى الحاكم النيسابوري بسنده عن عبد العزيز بن حصين بن الترجمان قال: حدثنا أيوب السختياني وهشام بن حسان عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إن لله تسعة وتسعين أسما من أحصاها دخل الجنة، الله الرحمن الرحيم الإله الرب الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر الخالق الباريء المصور الحليم العليم السميع البصير الحي القيوم الواسع اللطيف الخبير الحنان المنان البديع الودود الغفور الشكور المجيد المبديء المعيد النور الأول الآخر الظاهر الباطن الغفار الوهاب القادر الأحد الصمد الكافي الباقي الوكيل المجيد المغيث الدائم المتعال ذو الجلال والإكرام المولى النصير الحق المبين الباعث المجيب المحيي المميت الجميل الصادق الحفيظ الكبير القريب الرقيب الفتاح التواب القديم الوتر الفاطر الرزاق العلام العلي العظيم الغني المليك المقتدر الأكرم الرءوف المدبر المالك القدير الهادي الشاكر الرفيع الشهيد الواحد ذو الطول ذو المعارج ذو الفضل الخلاق الكفيل الجليل الكريم، قال الحاكم: هذا حديث محفوظ من حديث أيوب وهشام عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة مختصرا دون ذكر الأسامي الزائدة فيها (1) .
عدد الأسماء في هذا الحديث أربعة وتسعون اسما مع لفظ الجلالة ودون اعتبار التكرار الوارد في اسم الله المجيد، وقد سقط من النص أربعة أسماء أوردها البيهقي في الاعتقاد، وهي على ترتيب ورودها عنده: البادي العفو الحميد المحيط (2) .
__________
(1) مستدرك الحاكم 1/63 (42) .
(2) الاعتقاد للبيهقي ص51 .(1/143)
أما الأسماء الحسنى التي ثبتت بنص الكتاب والسنة في هذا الحديث فعددها سبعون اسما مع إضافة الأسماء التي لم تذكر في الحديث وبغير لفظ الجلالة، وهي على ترتيب ورودها: الرحمن الرحيم الإله الرب الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر الخالق الباريء المصور الحليم العليم السميع البصير الحي القيوم الواسع اللطيف الخبير المنان الودود الغفور الشكور المجيد الأول الآخر الظاهر الباطن الغفار الوهاب القادر الأحد الصمد الوكيل المتعال المولى النصير الحق المبين المجيب الجميل الحفيظ الكبير القريب الرقيب الفتاح التواب الوتر الرزاق العلي العظيم الغني المليك المقتدر الأكرم الرءوف المالك القدير الشاكر الشهيد الواحد الخلاق الكريم العفو الحميد .
وأما الأسماء التي لم تثبت أو توافق شروط الإحصاء فعددها سبعة وعشرون اسما وبيانها كالتالي: الحنان البديع المبديء المعيد النور الكافي الباقي المغيث الدائم ذو الجلال والإكرام الباعث المحيي المميت الصادق القديم الفاطر العلام المدبر الهادي الرفيع ذو الطول ذو المعارج ذو الفضل الكفيل الجليل البادي المحيط .
( تفصيل العلة في عدم ثبوتها أو إحصائها .(1/144)
تقدم الحديث عن تفصيل العلة في عدم إحصاء معظم تلك الأسماء وبينا السبب في ذلك والذي تقدم ذكره منها ستة عشر اسما، وهي على ترتيب ورودها البديع المبديء المعيد النور الكافي الباقي الدائم ذو الجلال والإكرام الباعث المحيي المميت الصادق القديم الفاطر الهادي الجليل، أما بقية الأسماء فعددها أحد عشر اسما، وهي على ترتيب ورودها في الحديث: الحنان المغيث العلام المدبر الرفيع ذو الطول ذو المعارج ذو الفضل الكفيل البادي المحيط، وأما العلة في عدم ثبوتها، فأولها اسم الحنان حيث لم يثبت في القرآن أو صحيح السنة، وإنما ورد في حديث ضعيف كما قال الخطابي: ( ومما يدعو به الناس خاصهم وعامهم وإن لم تثبت به الرواية عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحنان ) (1) .
وقال الشيخ علوي السقاف: ( والخلاصة أنَّ عد بعضهم الحنان من أسماء الله تعالى فيه نظر لعدم ثبوته ) (2) ، وقد ورد في المسند بسند ضعيف عن أَنس - رضي الله عنه - أنه قال: ( كُنْتُ جَالِساً مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - في الْحَلْقَةِ وَرَجُلٌ قَائِمٌ يُصَلِّى، فَلَمَّا رَكَعَ وَسَجَدَ جَلَسَ وَتَشَهَّدَ ثُمَّ دَعَا فَقَالَ: اللهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِأَنَّ لَكَ الْحَمْدَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ الْحَنَّانُ بَدِيعَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ ذَا الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ إِنِّي أَسْأَلُكَ ) (3)، وفي لفظ عند ابن حبان: ( الْحَنَّانُ الْمَنَّانُ ) (4)، وزيادة الحنان في الروايات شاذة .
__________
(1) انظر صفات الله الواردة في القرآن لعلوي السقاف ص 125 .
(2) السابق ص 125 .
(3) المسند للإمام أحمد 3/158 (12632) .
(4) صحيح ابن حبان 3/175 (893) .(1/145)
أما تسمية الله بالمغيث فلم يرد في القرآن اسما، وأغلب الظن أن من أدرجه في الحديث اشتقه باجتهاده من مما ورد عند البخاري من حديث أَنس - رضي الله عنه - قال: ( دَخَلَ رَجُل الْمَسْجِدَ يَوْمَ جُمُعَةٍ وَرَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَائِمٌ يَخْطُبُ، فَاسْتَقْبَلَ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَائِمًا ثُمَّ قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ هَلَكَتِ الأَمْوَالُ وَانْقَطَعَتِ السُّبُلُ، فَادْعُ اللهَ يُغِيثُنَا فَرَفَعَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَدَيْهِ ثُمَّ قَالَ: اللهُمَّ أَغِثْنَا اللهُمَّ أَغِثْنَا، اللهُمَّ أَغِثْنَا ) (1) .
والعلام اسم لم يرد في القرآن والسنة على سبيل الإطلاق وإنما ورد مقيدا بالإضافة في أربعة مواضع من القرآن كقول الله تعالى: { قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلامُ الْغُيُوبِ ِ } [سبأ:48]، وأما المدبر فلم يثبت في القرآن والسنة اسما، وإنما ورد فعلا في أربعة مواضع من القرآن كقوله تعالى: { يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ } [الرعد:2]، وهذا لا يكفي لإثبات الاسم لأن دورنا تجاه الأسماء الحسنى الإحصاء وليس الاشتقاق والإنشاء، والذي أدرج المدبر اشتقاقا من الآية السابقة يلزمه قياسا أن يدرج المفصل لأنه الفعلين وردا معا .
وكذلك اسم الرفيع لم يرد في القرآن إلا مقيدا وفي موضع واحد وهو قوله: { رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ ِ } [غافر:15]، ومن شروط الإحصاء أن يفيد الاسم المدح والثناء بنفسه فلا بد أن يكون مطلقا، أما ذو الطول وذو المعارج وذو الفضل فالأمر فيه كما تقدم عند الحديث عن ذي القوة، فهذه كلها أوصاف، وذو من الأسماء الخمسة وليست من الأسماء الحسنى .
__________
(1) البخاري في الاستسقاء، باب الاستسقاء في المسجد الجامع 1/343 (967) .(1/146)
وأما تسمية بالكفيل فهو اسم لم يرد في القرآن إلا مقيدا وفي موضع واحد كما قال تعالى: { وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ } [النحل:91]، والإطلاق شرط في الجمع والإحصاء، أما تسمية الله بالبادي فلم أجد دليلا عليه في القرآن أو ما ثبت في السنة وربما اشتقه من أدرج الأسماء من قول الله تعالى: { وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُون َ } [الزمر:47]، أو من قوله: { إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ } [البروج:13]، كما تقدم في المبديء، وأما المحيط فقد تقد الحديث أنه لم يرد مطلقا، وإنما ورد مقيدا بالباء في آيات كثيرة كقوله تعالى: { وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ } [البقرة:19] .
هذه أغلب الأسماء التي اشتهرت على ألسنة العامة والخاصة منذ أكثر من ألف عام استندوا فيها إلى الروايات السابقة التي أدرجت فيها الأسماء عند الإمام الترمذي وابن ماجة والحاكم، وإن كانت رواية الترمذي هي الأكثر شهرة وانتشارا في العالم الإسلامي وقد بينت ما ثبت منها وما لم يثبت مع ذكر العلة في ذلك .
وإذا كانت التقنية الحديثة وظهور الموسوعات الإلكترونية التي استخدمتها في استقصاء نصوص القرآن والسنة لم تظهر إلا في هذا العصر فإن السابقين الذين اجتهدوا في استخراج الأسماء الحسنى حتى وصل إحصاء بعضهم إلي خمسة وتسعين اسما ثابتا متوافقا مع شروط الإحصاء دون استخدام الكمبيوتر أو الكتاب الإلكتروني، هؤلاء هم أهل الفضل والسبق، وما قدموه يعد مرجعا أساسيا في إخراج هذا البحث، فاللهم اجزهم عنا خير الجزاء .
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
الإيمان بأسماء الله الحسنى الثابتة في الكتاب والسنة(1/147)
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
( منهج السلف في العقيدة وأثره في الإيمان بأسماء الله الحسنى .
موقف السلف ممن عطل دلالة الأسماء على الصفات .
أزلية الأسماء والصفات الإلهية .
القول في مسألة الاسم والمسمى .
دلالة الأسماء على العلمية والوصفية .
جلال أسماء الله الحسنى .
اسم الله الأعظم ودلالته على الصفات .
قصص واهية حول الاسم الأعظم .
( الروايات الثابتة في الاسم الأعظم.
دلالة اقتران الأسماء الحسنى على الصفات .
هل الأسماء مشتقة من الصفات أم العكس ؟
أنواع الدلالات وتعلقها بالأسماء والصفات .
موقف المسلم من الأسماء المشهورة التي لم تثبت .
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
الإيمان بأسماء الله الحسنى الثابتة
في الكتاب والسنة
( منهج السلف في العقيدة وأثره في الإيمان بأسماء الله الحسنى .(1/148)
منهج السلف الصالح في أبسط صوره هو منهج إيماني فطري مبني على فهم حقيقة الإسلام والإيمان، فهم كانوا يصدقون خبر الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - تصديقا جازما ينفي الوهم والشك والظن، وينفذون الأمر تنفيذا كاملا يقوم على الإخلاص والحب، بحيث تنسجم فطرتهم النقية مع توجيه النصوص القرآنية والنبوية (1) ، هذا المبدأ ـ أعني مبدأ
__________
(1) المقصود بالسلف الصالح هم أصحاب النبي S والتابعون ومن أدرك عصر خير القرون من بعدهم، وهم المعنيون بما ورد عند البخاري من حديث عمران بن حصين - رضي الله عنه - أن النبي S قال: ( خَيْرُكُمْ قرني، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، قَالَ عِمْرَانُ: لاَ أَدْرِى أَذَكَرَ النبي S بَعْدُ قَرْنَيْنِ أَوْ ثَلاَثَةً )، رواه البخاري في الشهادات، باب لا يشهد على شهادة جور إذا أشهد 2/938 (2508)، وعند البخاري أيضا من رواية ابن مسعود - رضي الله عنه - أن النبي S قال: ( خَيْرُ النَّاسِ قرني، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ يجيء أَقْوَامٌ تَسْبِقُ شَهَادَةُ أَحَدِهِمْ يَمِينَهُ، وَيَمِينُهُ شَهَادَتَهُ )، انظر الموضع السابق (2059)، وبصورة أكثر دقة يمكن القول: إن التعريف الاصطلاحي للسلفي هو من تحقق فيه عاملان، أحدهما: عامل منهجي، وهو كل من قدم النقل على العقل عند توهم التعارض، والثاني: عامل زمني، وهو كل من أدرك زمن القرون الفاضلة أو عصر خير القرون، والذي ينتهي تقريبا في المائتين والعشرين من الهجرة؛ ويقابله أيضا مصطلح الخلف، ويطلق أيضا على من تحقق فيه عاملان أيضا، أحدهما: عامل منهجي وهو كل من قدم العقل على النقل أو قدم الرأي على الكتاب والسنة، والثاني: عامل زمني وهو كل من أعقب القرون الفاضلة أو عصر خير القرون، ويراد بهم من تبع نهج الجهمية من المعتزلة والمتكلمين، انظر تفصيل ذلك في كتاب المحكم والمتشابه وقضية التفويض للمؤلف ص9 .(1/149)
تصديق الخبر وطاعة الأمر وبعيدا عن الفلسفات العقلية والآراء الكلامية ـ هو غاية من جاء بعدهم وسلك دربهم في مختلف العصور، مهما تنوعت كلماته أو بدت اعتقاداته في توحيد الله - عز وجل - .
ونحن لو نظرنا إلى هذا المبدأ بنظرة علمية تحليلية لوجدنا أنه يعبر عن العقيدة الإسلامية الصحيحة بأدق تفاصيلها؛ فالمسلم بقوله: لا إله إلا الله، قد عقد في نفسه عقدا أن يكون الله - عز وجل - هو المعبود الحق الذي يصدق في خبره دون تكذيب ويطاع في أمره دون عصيان، وتلك حقيقة الإيمان التي نزل بها القرآن وفهمها أصحاب اللسان، فمن المعلوم أن الكلام العربي قسمان:
الأول: الخبر، وهو يتطلب من المخاطَب التصديق، وقد عرفه العلماء بأنه ما يصح أن يدخله الصدق أو الكذب، فالخبر هو الدال على أن مدلوله قد وقع قبل صدوره أو سيقع بعد صدوره .
الثاني: الأمر أو الطلب، وهو يتطلب من المخاطَب الاستجابة والتنفيذ، وقد عرفه العلماء بأنه ما لا يحتمل الصدق أو الكذب، فمدلوله الإيجابي يحصل مع آخر حرف منه، وهو التنفيذ والاستجابة على الفور أو التراخي بحسب مراد الآمر الناهي (1) .
قال ابن هشام: ( التحقيق أن الكلام ينقسم إلى خبر وإنشاء فقط، وأن الطلب من أقسام الإنشاء، وأن مدلول قم حاصل عند التلفظ به لا يتأخر عنه، وإنما يتأخر عنه الامتثال، وهو خارج عن مدلول اللفظ ) (2) .
ويذكر البيهقي أن حقيقة الإيمان والتوحيد تكمن في تصديق الخبر وتنفيذ الأمر لأن الخبر هو القول الذي يدخله الصدق والكذب، والأمر والنهي كل واحد منهما قول يتردد بين أن يطاع قائله وبين أن يعصي، فمن سمع خبرا واعتقد أنه حق وصدق فقد آمن به ومن سمع أمرا أو نهيا فاعتقد الطاعة له فكأنما آمن في نفسه به (3) .
__________
(1) انظر شرح السيوطي علي سنن النسائي 2/131، والكفاية في علم الرواية للخطيب البغدادي ص 16.
(2) شرح شذور الذهب في معرفة كلام العرب لابن هشام ص40 .
(3) شعب الإيمان للبيهقي 1/35 .(1/150)
وقد بين ابن القيم أن أساس التوحيد والهداية التي منَّ الله بها على عباده يقوم على تصديق خبر الله من غير اعتراض شبهة، وامتثال أمره من غير اعتراض شهوة، ثم يقول: ( وعلى هذين الأصلين مدار الإيمان وهما تصديق الخبر وطاعة الأمر ) (1) .
ولما كان الصحابة - رضي الله عنهم - هم أهل الفصاحة واللسان، وقد خاطبهم الله - عز وجل - بنوعي الكلام في القرآن كان منهجهم في مسائل التوحيد والإيمان هو تصديق الخبر وتنفيذ الأمر، فلو أخبرهم الله عن شيء صدقوه تصديقا جازما ينفي الوهم والشك والظن، وهذا ما عرف لاحقا عند السلف بتوحيد العلم والخبر، أو توحيد المعرفة والإثبات، أو توحيد الربوبية والأسماء والصفات، أو غير ذلك من مسميات واصطلاحات .
والصحابة - رضي الله عنهم - أيضا لو أمرهم الله بشيء نفذوه بالقلب واللسان والجوارح، وهو ما عرف لاحقا عند السلف بتوحيد العبادة، أو توحيد الإلوهية، أو توحيد القصد والطلب، فغاية التوحيد العظمى وطريقة السلف المثلى التي جاهدوا المخالفين لإلزامهم بها أن يثبتوا ما أثبته الله لنفسه بتصديق خبره، وأن يطيعوا الله فيما أمر به على لسان نبيه - صلى الله عليه وسلم - ، فالصحابة - رضي الله عنهم - أجمعوا إجماعا سكوتيا دون مخالف أن يصدقوا خبر ربهم وبلاغ نبيهم وأن ينفذوا أمر معبودهم عن خضوع وتسليم ومحبة وتعظيم، ولم يكن بينهم من دان بغير ذلك، ومن شك في ذلك فما قدرهم حق قدرهم، وما أدرك حقيقة إيمانهم وإسلامهم رضي الله عنهم أجمعين .
__________
(1) مفتاح دار السعادة لابن القيم 1/40 .(1/151)
ونحن لو طالعنا نصوص القرآن والسنة جملة وتفصيلا لعلمنا أن أساس الرسالة يكمن في تصديق خبر الله وتنفيذ أمره، فقد روى البخاري من حديث عبد الله بن عباس - رضي الله عنه - أنه قال: ( لَمَّا نَزَلَتْ: { وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ } [الشعراء:214]، خَرَجَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - حتى صَعِدَ الصَّفَا، فَهَتَفَ: يَا صَبَاحَاهْ، فَقَالُوا: مَنْ هَذَا؟ فَاجْتَمَعُوا إِلَيْهِ فَقَالَ: أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ خَيْلا تَخْرُجُ مِنْ سَفْحِ هَذَا الْجَبَلِ أَكُنْتُمْ مُصَدِّقِيَّ؟ قَالُوا: مَا جَرَّبْنَا عَلَيْكَ كَذِبًا قَالَ: فَإِنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ ) (1)؛ فالصحابة - رضي الله عنهم - صدقوا نبيهم - صلى الله عليه وسلم - تصديقا جازما في كل ما أخبرهم عن الله - عز وجل -، أما المشركون فكذبوه حتى قال له عمه: ( تَبًّا لَكَ مَا جَمَعْتَنَا إِلا لِهَذَا ثُمَّ قَامَ، فَنَزَلَتْ: { تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ } [المسد:1] ) (2) .
وعند ابن ماجة وصححه الألباني من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال عن المسلم وهو يسأل في قبره: ( فَيُقَالُ لَهُ: مَا هَذَا الرَّجُلُ؟ فَيَقُولُ: مُحَمَّدٌ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - جَاءَنَا بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ عِنْدِ الله فَصَدَّقْنَاهُ .. فَيُقَالُ لَهُ .. عَلَى الْيَقِينِ كُنْتَ، وَعَلَيْهِ مُتَّ، وَعَلَيْهِ تُبْعَثُ إِنْ شَاءَ الله ) (3) .
__________
(1) البخاري في تفسير القرآن، باب تفسير سورة تبت يدا أبي لهب 4/1902(4687) .
(2) جزء من الحديث السابق .
(3) ابن ماجة في الزهد، باب ذكر القبر والبلى 2/1426 (4268)، وانظر صحيح الجامع (1968) .(1/152)
وهم كما صدقوا نبيهم في كل ما أخبرهم به عن ربه؛ فإنهم أطاعوه أيضا في كل ما أمرهم به، وكانوا يبايعونه على ذلك، روى البخاري من حديث جرير بن عبد الله - رضي الله عنه - أنه قال: ( بَايَعْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، فَلَقَّنَنِي فقال: فِيمَا اسْتَطَعْتُ وَالنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ ) (1)، وروى أيضا من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - في موقفه مع أهل الصفة لما أمره النبي - صلى الله عليه وسلم - بدعوتهم وإطعامهم، وكان يتلوى من الجوع، قال: ( فَسَاءَنِي ذَلِكَ .. وَلَمْ يَكُنْ مِنْ طَاعَةِ الله وَطَاعَةِ رَسُولِهِ - صلى الله عليه وسلم - بُدٌّ ) (2) .
فهذا حال أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وحال من سلك نهجهم من السلف، وحال كل مسلم صادق نقي الفطرة من العامة والخاصة، روى مالك في الموطأ من حديث ابن أبي مليكة أنه قال: ( مَرَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رضي الله عنه - بِامْرَأَةٍ مَجْذُومَةٍ وَهِيَ تَطُوفُ بِالْبَيْتِ فَقَالَ لَهَا: يَا أَمَةَ الله لا تُؤْذِي النَّاسَ لَوْ جَلَسْتِ فِي بَيْتِكِ؛ فَجَلَسَتْ؟ فَمَرَّ بِهَا رَجُلٌ بَعْدَ ذَلِكَ فَقَالَ لَهَا: إِنَّ الذِي كَانَ قَدْ نَهَاكِ قَدْ مَاتَ؛ فَاخْرُجِي، فَقَالَتْ: مَا كُنْتُ لأُطِيعَهُ حَيًّا وَأَعْصِيَهُ مَيِّتًا ) (3).
__________
(1) البخاري في الأحكام، باب كيف يبايع الإمام الناس 6/2634 (6778) .
(2) البخاري في الرقاق، باب كيف كان عيش النبي S 5/2370 (6087) .
(3) مالك في الموطأ حديث رقم 1/424 (950) .(1/153)
إذا علمنا ذلك فإن اعتقاد أهل السنة في توحيد الأسماء والصفات هو تصديق الله في خبره وإثبات ما أثبته لنفسه وما أثبته رسوله - صلى الله عليه وسلم - من غير أن يقحموا عقولهم في مهالك التمثيل والتكييف أو يكلفوا أنفسهم تأويلا يؤدي إلى التعطيل والتحريف، فهم آمنوا بأسماء الله على الحقيقة، وأنها أعلام تدل على ذاته، وأوصاف تدل على جلاله وكماله، وأنها توقيفية على ما وردت به نصوص القرآن وما وصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وأن الله - عز وجل - منفرد بأسمائه وما دلت عليه من أوصافه وأفعاله، فهو سبحانه ليس كمثله شيء في كل ما أثبته لنفسه، هذا شأن اعتقادهم ومنهجهم في هذا الباب (1) .
ولما ظهرت المعتزلة وهيمنت على الخلافة الإسلامية في الربع الأول من القرن الثالث الهجري ابتدعوا منهجا جديدا في التوحيد غير ما عرف بين الصحابة والتابعين وعلماء السلف الصالح، فزعموا أن التوحيد هو إثبات الأسماء ونفي الصفات، وأن إثبات الصفات تشبيه وتجسيم يؤدي إلى تعدد الآلهة، أو كما زعموا يؤدي إلى تعدد القدماء وأن الله تعالى لم يكن له في الأزل اسم ولا وصف ثم اكتسب الأسماء والأوصاف بعد أن لم تكن؛ فهذه الأسماء والأوصاف من أقوال المسميين المخلوقين المحدثين الواصفين، وقد ظهرت على إثر هذه الآراء مسألة غريبة حول فهم الأسماء الحسنى ودلالتها على ذات الله، هذه المسألة هي المعروفة بمسألة الاسم والمسمى، هل الاسم هو عين المسمى أو هو غيره؟
__________
(1) انظر تفصيل المسألة في مجموع الفتاوى لابن تيمية 20/401، وله أيضا الرسالة التدمرية ص39، ومختصر الصواعق المرسلة 2/242 وما بعدها، والتوحيد لابن خزيمة ص15 .(1/154)
والسابقون من سلف الأمة لم يتكلموا فيها ولم يتطرقوا إليها، لكن اضطروا بعد ذلك إلى الحديث عنها رغبة في بيان الحق لعامة المسلمين ودحض شبهة المخالفين، قال أبو القاسم اللالكائي: ( وأما القول في الاسم أهو المسمى أو غير المسمى؟ فإنه من الحماقات الحادثة التي لا أثر فيها فيتبع، ولا قول من إمام فيستمع، والخوض فيه شين والصمت عنه زين، وحسب امريء من العلم به والقول فيه أن ينتهي إلى قول الصادق - عز وجل -، وهو قوله: { قُلِ ادْعُوا الله أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيّاً مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى } [الإسراء:110]، وقوله: { وَللهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا } [الأعراف:180]، ويعلم أن ربه هو الذي على العرش استوى، له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى؛ فمن تجاوز ذلك فقد خاب وخسر ) (1) .
موقف السلف ممن عطل دلالة الأسماء على الصفات .
__________
(1) شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة 1/186 .(1/155)
تطلب الأمر من أهل العلم بعد أن ظهرت أصول المعتزلة بيان حقيقة التوحيد ورد الشبهات التي ابتدعوها وإظهار عوارهم فيها (1)، فمعنى قولهم بإثبات الأسماء ونفي الصفات أنهم أثبتوا ذاتا لا صفة لها، وجعلوا أسماء الله الدالة عليها أسماء فارغة من الأوصاف أو أسماء بلا مسمى، فقالوا: إن الله عليم بعلم هو ذاته وسميع بسمع هو ذاته وبصير ببصر هو ذاته، أو هو عليم بلا علم وسميع بلا سمع وبصير بلا بصر، وهكذا جردوا سائر الأسماء عن الصفات؛ فأساس مذهبهم نفي الصفات، والعلة عندهم كما زعموا نفي التشبيه وإثبات التوحيد، وهذا الكلام ظاهر البطلان وأساسه سوء الفهم لمعنى التوحيد، وتخبطهم في إدراك القدر المشترك والقدر الفارق عند التعبير عن الأشياء، فمن المعلوم أنه ما من شيئين إلا وبينهما قدر مشترك وقدر فارق، فمن نفى القدر الفارق فقد مثل، ومن نفى القدر المشترك فقد عطل (2) .
قال ابن تيمية: ( سمى الله نفسه بأسماء وسمى صفاته بأسماء، وكانت تلك الأسماء مختصة به إذا أضيفت إليه لا يشركه فيها غيره، وسمى بعض مخلوقاته بأسماء مختصة بهم مضافة إليهم توافق تلك الأسماء إذا قطعت عن الإضافة والتخصيص، ولم يلزم من اتفاق الاسمين وتماثل مسماهما واتحاده عند الإطلاق والتجريد عن الإضافة والتخصيص اتفاقهما، ولا تماثل المسمى عند الإضافة والتخصيص، فضلا عن أن يتحد مسماهما عند الإضافة والتخصيص ) (3) .
__________
(1) أصول المعتزلة خمسة أصول عقلية استخدموا فيها مصطلحات سلفية ووضعوها على معان كلامية باطلة تخالف منهج السلف في العقيدة، وهذه الأصول هي التوحيد، والعدل، والمنزلة بين المنزلتين، وإنفاذ الوعيد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، انظر شرح العقيدة الطحاوية ص589 .
(2) انظر الرسالة التدمرية لابن تيمية ضمن مجموع الفتاوى 3/69 .
(3) مجموع الفتاوى 3/10 .(1/156)
ومن ثم فإن الأسماء من جهة اللغة عامة مشتركة تتخصص دلالتها عند العقلاء بالإضافة والتقييد، فلو قال قائل: هذا فيل كبير، وقال آخر: هذا طائر كبير فالمشترك بين القولين بعد اسم الإشارة لفظ ( كبير)، وهو عند سائر العقلاء من حيث الدلاله له ثلاثة معان ظاهرة، الأول عند إضافته إلى الفيل فأي عاقل يتصور من دلالته معنى معينا يستوعبه الذهن حيث يتصور فيلا كبيرا بين بني جنسه من الفيلة، والثاني عند إضافته إلى الطائر فإن العاقل يتصور من دلالته معنى آخر غير المعنى السابق فهو طائر كبير بين الطيور، ولا يزعم عاقل أنه عندما يسمع قول القائل طائر كبير فإنه يتصور جبلا أو جملا أو فيلا أو بغلا أو غير ذلك، والثالث إذا قطع لفظ ( كبير) عن الإضافة وكان وحده مجردا، فإن له معنى آخر يتصور الذهن فيه شيئا عاما يمكن اشتراك الكل فيه، وإن كانت الألفاظ لا تطلق مجردة بين العقلاء؛ فالله - عز وجل - وله المثل الأعلى إذا قال في كتابه: { إِنَّا خَلَقْنَا الإنسان مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً } [الإنسان:2]، وقال عن نفسه: { إِنَّ الله كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً } [النساء:58]، فإن السميع والبصير كاسمين أو لفظين من مفردات اللغة لهما من حيث الدلالة ثلاثة أنواع يستوعبها العقلاء:
الأول: إذا أضيفا إلى الإنسان؛ فإن العاقل يعلم معنى كونه سميعا بصيرا، ويعلم الكيفية الحقيقية التي دل عليها هذان الاسمان في حق المخلوق، فالإنسان يسمع بأذن ويبصر بحدقة، وهذا ظاهر اللفظ عند تخصيصه وتقييده بالإنسان .(1/157)
الثاني: إذا أضيفا إلى الله - عز وجل -؛ فإن العاقل يعلم معنى كونه سبحانه سميعا بصيرا فالله يسمع ويرى على الحقيقة، لكن العاقل لا يعلم الكيفية الحقيقية للوصفين الذين دل عليهما هذان الاسمان في حق الله تعالى؛ فالكيف مجهول لنا؛ لأننا ما رأينا الله، وما رأينا له نظيرا، وهو سبحانه وحده الذي يعلم كيف هو؟ وقد أمرنا أن نؤمن بما أخبرنا به عن نفسه وأن نصدقه تصديقا جازما، وهذا مراد السلف بأن نصوص الصفات على ظاهرها في حق الله - عز وجل - .
الثالث: إذا قطعا عن الإضافة وانفصلا عن التقييد وكانا مجردين؛ فإن لهما معنى ثالثا عاما ومشتركا غير المعنى الأول والثاني، وهذا لا يكون في الواقع، بل يتصوره الذهن فقط، ولا يلزم أبدا من استعمال الأسماء المجردة في حق الخالق أو المخلوق وجود التطابق بين سمع هذا وذاك أو بصر هذا وذاك، أو وجود المماثلة والمشابهة بينهما .
ومن هنا ظهر الخطأ الذي وقع فيه المعطل والممثل، لأن المعطل لما شبه الله بخلقه لم يجد الصورة التي كونها في ذهنه مستساغة أو مقبولة؛ فأراد أن ينفيها بمثل ما ذكره المتكلمون من أنواع التأويل وسحب النصوص عن دلالاتها، فالنصوص المكونة من حروف وكلمات وهي بدورها تشتمل على الأسماء والصفات، وهذه الألفاظ كمفردات لغوية يستخدمها المتكلم في التعبير عن مراده عند تجردها وذكر مفرداتها منقطعة عن الإضافة تكون عامة مشتركة بحيث يمكن استخدامها في حق الخالق والمخلوق معا .(1/158)
أما إذا أضيفت إلى الخالق سبحانه وقيدت ألفاظها بالدلالة عليه؛ فإنها تدل على معنى يخص الخالق دون غيره، وكذلك إذا أضيفت إلى المخلوق وقيدت ألفاظها بالدلالة عليه؛ فإنها تدل على معنى آخر يخص المخلوق دون غيره، فهناك قدر مشترك عند التجرد، وقدر فارق عند التخصيص والتقيد، ولا يمكن إهمال القدر الفارق لأن ذلك تمثيل للمخلوق بالخالق، ولا يمكن نفي القدر العام المشترك بين الجميع لأنه تعطيل للألفاظ اللغوية وإبطال للتفاهم والتواصل في لغة التخاطب بين الإنسانية (1) .
وقد تضمن القرآن نصوصا كثيرة تدل على أن الله - عز وجل - سمى نفسه بأسماء، وسمى بعض عباده بأسماء هي في حقهم نظير تلك الأسماء في حقه سبحانه عند التجرد وعموم اللفظ، فسمى نفسه حيا كما ورد في قوله - عز وجل -: { اللهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ } [البقرة:255]، وسمى بعض عباده حيا كما في قوله: { يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ } [الأنعام:95]، مع العلم أنه ليس الحي كالحي، وسمى نفسه عليما كما في قوله - عز وجل -: { إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ } [الأنعام:83]، وسمى بعض عباده عليما كما في ورد في قوله: { وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ } [الذاريات: 28]، وليس العليم كالعليم، وسمى نفسه حليما كما في قوله - عز وجل -: { وَالله غَنِيٌّ حَلِيمٌ } [البقرة: 263]، وسمى بعض عباده حليما كما في قوله تعالى: { فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ } [الصافات:101] .
وكذلك سمى نفسه رءوفا رحيما، وسمى بعض عباده رءوفا رحيما، وليس الرءوف كالرءوف ولا الرحيم كالرحيم، وكذلك سمى نفسه ملكا عزيزا جبارا متكبرا، وسمى بعض عباده ملكا وبعضهم عزيزا وبعضهم جبارا متكبرا، وليس هو في ذلك مماثلا لخلقه (2) .
__________
(1) انظر في هذا المعنى بيان تلبيس الجهمية 1/391 .
(2) الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح 4/425 .(1/159)
قال أبو عمر الطلمنكي: ( وقال قوم من المعتزلة والجمهية لا يجوز أن يسمى الله عز وجل بالأسماء على الحقيقة ويسمى بها المخلوق، فنفوا عن الله الحقائق من أسمائه وأثبتوها لخلقه، فإذا سئلوا ما حملهم على هذا الزيغ، قالوا: الاجتماع في التسمية يوجب التشبيه، قلنا: هذا خروج عن اللغة التي خوطبنا بها، لأن المعقول في اللغة أن الاشتباه لا يحصل بالتسمية، وإنما بتشبيه الأشياء بأنفاسها وذواتها، أو بأوصاف وهيئات فيها، كالبياض بالبياض، والسواد بالسواد، والطويل بالطويل، والقصير بالقصير، ولو كانت الأسماء توجب اشتباهاً وتماثلاً لاشتبهت الأشياء كلها لشمول اسم الشيء لها، وعموم تسمية الأشياء بها ) (1) .
وقد أخبر الله عما في الجنة من أنواع النعيم التي أعدها لأهلها من المطاعم والملابس والمناكح والمساكن، فأخبر أن فيها لبنا وعسلا وخمرا ولحما وماء وحريرا وذهبا وفضة وفاكهة وحورا وقصورا، قال ابن عباس - رضي الله عنه -: ( ليس في الجنة شيء مما في الدنيا إلا الأسماء ) (2)، وإذا كانت تلك الحقائق التي أخبر الله عنها هي موافقة في الأسماء التي في الدنيا وليست مماثلة لها، بل بينها من التباين مما لا يعلمه إلا الله، فالخالق سبحانه وتعالى أعظم مباينة للمخلوق من مباينة مخلوق الآخرة لمخلوق الدنيا (3) .
__________
(1) مختصر العلو للعلي الغفار للحافظ الذهبي ص 264.
(2) الترغيب والترهيب 4/316، وهو صحيح موقوف كما ذكر الألباني، انظر صحيح الترغيب والترهيب (3769) وصحيح الجامع حديث (5410)، والسلسلة الصحيحة 5/219 (2188) .
(3) مجموع الفتاوى 3/28 .(1/160)
وعليه فإن أساس ضلال المخالفين قياسهم الخالق على المخلوق أولا، ثم نفى أوصاف الخالق فرارا مما اعتقدوه، فقول المعتزلة سميع بسمع هو ذاته أو سميع بلا سمع خشية إثبات الصفات هو في الحقيقة ذم لله وليس مدحا، فمن المعلوم أن الاسم في حقنا قد يكون على مسمى وقد لا يكون، فلو قيل: فلان اسمه سعيد، فربما تجد فيه وصف السعادة وربما يكون بائسا حزينا، فهو في الحالة الأولى اسم على مسمى، وفي الثانية اسم بلا معنى أو اسم على غير مسمى أو اسم فارغ من الوصف .
أما أسماء الله عند السلف فهي أسماء على مسمى فالله - عز وجل - هو الغني الذي يتصف بالغني لا الفقر، ولا نقول كما قالت المعتزلة: غنى بلا غنى، وهو القوي الذي يتصف بالقوة لا الضعف، وهو السميع يتصف بصفة السمع تعالى الله عن ضدها، وهكذا القول في سائر الأسماء والصفات، ولهذا كانت أسماء الله - عز وجل - كلها حسنى وكلها عظمى ولا يمكن أن تكون حسنى وعظمى بغير ذلك، قال تعالى: { وَللهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا } [الأعراف:180 ]؛ ومن المعلوم أن دعاء الله بها أن يقول الفقير: يا غني اغنني بفضلك عمن سواك، ولولا يقين الفقير أن الله - عز وجل - غني ليس له نظير في غناه ما دعاه، وأن يقول الضعيف: يا قوي قوني، فلولا يقينه أنه سبحانه لا شبيه له في قوته ما دعاه، وهكذا فإن أصحاب الفطرة النقية يعلمون أن الله يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء بجلال أسمائه وعظمة أوصافه وأفعاله، قال تعالى: { أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَءلَهٌ مَعَ الله قَلِيلا مَا تَذَكَّرُونَ } [النمل:62]، وأي عاقل يعلم أنه لا يجيب المضطر إذا دعاه وهو عاجز لا وصفة له على الإطلاق .(1/161)
وهذا المذهب الذي ينفي دلالة أسماء الله على أوصافه وأفعاله يترتب عليه أن قوله تعالى: { وَللهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا } [الأعراف:180 ]، لا معنى له ولا قيمة عند معتنقيه، وكذا الحال في تعداد الأسماء الحسنى من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عند البخاري مرفوعا: ( إِنَّ للهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا مِائَةً إِلا وَاحِدًا مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنّةَ ) (1)، لأن تعداد الأسماء الحسنى أو الدعاء بها مبني على إثبات الصفات .
وأي نقص تنسبه المعتزلة في حق الله أعظم من أن يكون ربهم لا صفة له عندهم تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا، إن العاقل لا يقبل هذا على نفسه ولا يرضاه فكيف يجيزه على ربه ويدعو إليه؟، فلو قال له قائل: أنت لا صفة لك عندي ربما خاصمه دهرا، ولا يتوقع عاقل أنه ستسعد بقوله ويعده مدحا إلا أن يكون مختلا عقليا أو اعتزاليا كلاميا، لأن الفطرة مجبولة على إثبات الأوصاف الحميدة؛ فمن العجب أن يثبتوا لأنفسهم أجود الأوصاف ويصفون أنفسهم بالذكاء والفهم والرسوخ في العلم، وينفون عن الله الذي ليس كمثله شيء سائر أوصاف الكمال، ومن ثم لا بد من الإيمان بصفات الله على الحقيقة كالإيمان بوجود ذاته سواء بسواء، لأن القول في الذات كالقول في الصفات والقول في الصفات كالقول في بعضها البعض (2) .
أزلية الأسماء والصفات الإلهية .
__________
(1) البخاري في الشروط، باب إن لله مائة اسم إلا واحدا 2/981 (6957) .
(2) انظر المزيد عن هذا الموضوع في المسألة المصرية في القرآن ضمن مجموع الفتاوى 12/183، وبيان تلبيس الجهمية 1/516، ودرء تعارض العقل والنقل 5/19، 5/ 34 .(1/162)
وأما زعم المعتزلة أن الله تعالى لم يكن له في الأزل اسم ولا وصف ثم اكتسب الأسماء والأوصاف بعد أن لم تكن؛ وأن الأسماء الحسنى والأوصاف العليا من أقوال المسميين الواصفين المحدثين فأساسه أيضا قياس التمثيل وتشبيه الخالق بالمخلوق؛ فالمخلوق يكتسب الأسماء والأوصاف شيئا فشيئا حتى يصل إلى الكمال اللائق، أما رب العزة والجلال فما زال بأسمائه وصفاته له الكمال والجمال، قال الإمام الطحاوي: ( ما زال بصفاته قديما قبل خلقه ) (1) .
وهو يعني أن الله سبحانه أول ليس قبله شيء، متصف بصفات الكمال قبل خلقه لكل شيء، فأسماؤه وصفاته أزلية أبدية، وكما أنه في ذاته أول بلا ابتداء فكذلك أسماؤه وصفاته تابعة لذاته فهي أولية بأولية الله، فلم يكن أولا بلا أسماء ولا صفات ثم سماه الناس وحدثت له الصفات؛ لأن قولهم هذا يلزم منه أن يكون ناقصا في فترة ثم اكتسب كمالا لم يكن من قبل، ولذلك بين الإمام الطحاوي أن وجود الخلق مفتقر إلى الله - عز وجل - وأنه غني عمن سواه؛ فقال رحمه الله: ( لم يزدد بكونهم شيئا لم يكن قبلهم من صفته ) (2)، أي أن وجود المخلوقات لم يزده كمالا كان مفقودا أو ينفي عنه نقصا كان موجودا، سبحانه وتعالى عن قول القائل: لم يكن الله خالقا إلا بعد أن خلق الخلق ولم يكن رازقا إلا بعد ظهور الملك فهذا شأن المخلوق في أوصافه؛ يقال عنه عالم بعد اكتساب العلم وزوال الجهل، وخبير بعد اكتساب الخبرة ومزاولة المهنة وملك بعد اكتساب الملك وظهور العزة، وحكيم رشيد بعد ظهور العقل والحكمة، وطيب رحيم بعد ظهور الإحسان والرحمة، أما ربنا تبارك وتعالى فله كمال الأسماء والصفات في أزليته وأبديته، قال الطحاوي: ( وكما كان بصفاته أزليا كذلك لا يزال عليها أبديا، ليس بعد خلق الخلق استفاد اسم الخالق، ولا بإحداث البرية استفاد اسم الباري ) (3) .
__________
(1) شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز الحنفي ص127.
(2) السابق ص127 .
(3) السابق ص 137 .(1/163)
إن الإنسان إذا كان في عشيرته ذليلا فقيرا مهانا ضعيفا واكتسب أوصاف الكمال فأصبح عزيزا غنيا نسيبا قويا؛ فإن الناس لا ينسون أوصاف نقصه وحال ضعفه حتى لو بلغ غاية الكمال في وصفه، بل يتذكرون حال ذله وفقره، ويذكرونه بأيام ضعفه ونقصه، وكل ذلك لأنه اكتسب كمالا لم يكن من قبل، ومن هنا قيل في المثل: كان كراعا فصار ذراعا (1) .
لكن لو انتقل وهو على حال الكمال إلى بلد آخر لا يعرفه الناس فيه؛ فرأوه من بدايته عزيزا غنيا منيعا قويا، فإنهم لا يذكرونه على الدوام إلا بالكمال، ولا يعرفون وصفه إلا مقترنا بالعزة في كل حال فيصفونه بالعزة والغنى والأصالة والقوة .
ذُكر أن أعرابيين صديقين كانا يعشيان فقيرين بالبادية، غير أن أحدهما ذهب إلى المدينة وتقرب من الحجاج بن يوسف الثقفي حتى أمَّره على أصبهان؛ فسمع عنه صديق فقره الذي كان بالبادية؛ فشد إليه الرحال حتى وصل إلى قصره وحاول لقاءه فمنعه الحراس أياما كثيرة حتى أُذِن له بالدخول، فلما رآه أنشده قائلا:
أتذكر إذ قميصك جلد تيس : وإذ نعلاك من جلد البعير
فسبحان الذي أعطاك ملكا : وعلمك الجلوس على السرير (2) .
__________
(1) الكراع هو القزم الصغير، وهذا المثل يضرب للرجل الذليل يصير عزيزا كبيرا، انظر مجمع الأمثال لأبي الفضل أحمد بن محمد الميداني النيسابوري 2/131، وكتاب جمهرة الأمثال لأبي هلال العسكري 2/141.
(2) انظر البيان والتبيين لأبي عثمان عمرو بن بحر ص 582، وكتاب جمهرة الأمثال 2/39 .(1/164)
والقصد أن من شهد النقص في شخص تحول عنه إلى الكمال يعز عليه أن يتناسى ما سبق له من سوء الحال، فيستكثر مدحه بوصفه وكماله، ويسهل عليه تذكيره بنقصه سوء حاله، هذا شأن البشر، لكن الرب سبحانه ما عرفَّ نفسه إلينا إلا ربا معبودا ملكا قدوسا سلاما مؤمنا مهيمنا عزيزا جبارا متكبرا خالقا بارئا مصورا له الأسماء الحسنى والصفات العليا، وله فيها مطلق الجلال القائم على مطلق الكمال والجمال، ولذلك قال الطحاوي: ( له معنى الربوبية ولا مربوب ومعنى الخالق ولا مخلوق ) (1)، ويعني أن الله هو رب العالمين قبل وجود العالمين وحال وجودهم وبعد فناء من شاء منهم، هو الرب قبل أن توجد المربوبات، والرب معناه الخالق المالك المدبر المتصرف السيد المصلح وهذه الصفات لازمة للذات، وهو سبحانه غني بذاته عن العالمين له الكمال المطلق في أسمائه وصفاته وربوبيته للخلائق أجمعين، يقول الإمام الطحاوي: ( ذلك بأن الله على كل شيء قدير، وكل شيء إليه فقير، وكل أمر عليه يسير، لا يحتاج إلى شيء: { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ } [الشورى:11] ) (2) .
__________
(1) شرح العقيدة الطحاوية ص142 .
(2) السابق ص142.(1/165)
ومن ثم فإن كل مسلم عاقل ينأى بنفسه أن يعتقد في ربه أنه ما وصف بالقدرة إلا بعد أن خلق المخلوقات، بل القدرة صفة أزلية له، وإنما وجود المخلوقات أثر ناتج من كونه على كل شيء قدير، ولا يلزم من ذلك قدم المخلوقات أو تعدد القدماء كما زعمت المعتزلة، فإن الله في خلقه وأمره غني عن العالمين، قال تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الفُقَرَاءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الغَنِيُّ الحَمِيدُ } [فاطر:15]، فلو كان مفتقرا إلى غيره لفسد الكون بأسره ولذلك أمرنا بحمده فقال: { وَقُلِ الحَمْدُ لِلهِ الذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي المُلكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً } [الإسراء:111]، فكما أنه أول بلا بداية فكذلك ليس لأسمائه وأوصافه بداية؛ فهو الخالق الرازق دائما وأبدا وهو العلي القوي دائما وأبدا، وهو رب العالمين دائما وأبدا، أما مخلوقاته فهي متنوعة متجددة، يخلق الله ما يشاء ويفعل في خلقه ما يشاء .
القول في مسألة الاسم والمسمى .(1/166)
نظرا لتعدد الآراء الفلسفية والمذاهب الكلامية في هذه القضية واختلاف المنهج والنية بين نظرة المعتزلة والمتكلمين من جهة وأتباع السلف الصالح من جهة أخرى؛ فإن هذه المسألة لا بد فيها من التفصيل، ومراعاة قصد القائل ومراد بالدليل، فربما ينسب لسلفي أن الاسم هو المسمى، ولا يقصد ما يقصده المعتزلي، والقضية أيضا صحيحة عند دورانها وانعكاسها، فالسلفي إذا ثبت عنه أنه قال: الاسم هو المسمى؛ فإنه يعني أن أسماء الله وأصافه أزلية أبدية ملازمة للذات، وليست محدثة بعد أن لم تكن كما ادعى المخالفون، ومن قال من السلف ذلك في بعض المواطن كأحمد بن حنبل وأبي زرعة عبيد الله بن عبد الكريم، وأبي حاتم محمد بن إدريس الحنظلي وغيرهم رحمهم الله تعالى، إنما قاله على اعتبار أن القرآن غير مخلوق، وأنه كلام الله الذي تشتمل نصوصه على الأسماء والصفات حكمه حكم الذات في الأولية والأبدية (1) .
والمعتزلي إذا قال الاسم هو المسمى (2)، فإنه يعني أن الأسماء هي عين الذات وأنها مجردة من الصفات، فلا يقوم بها علم ولا سمع ولا بصر ولا وصف، كقوله عليم بذاته سميع بذاته بصير بذاته، لا بعلم ولا قدرة ولا حياة ولا صفات أزلية، ولا معان قائمة بذاته، فإنه ينفي الصفات ويدعي إثبات الأسماء كعلم على الذات فقط، فمنهجه العقلي وما تخمر في ذهنه من ضلال فكري هيأ له أن إثبات الصفات تشبيه وتجسيم، وأن الصفات ذوات أخرى منفصلة عن الذات، وأن إثباتها يعد مشاركة للذات في القدم الذي هو أخص وصف الله عنده، وهذا في اعتقاده شرك وهدم للتوحيد .
__________
(1) الفصل في الملل والأهواء والنحل لابن حزم 5/19.
(2) الملل والنحل للشهرستاني 1/ 44، 1/50 .(1/167)
ومن ثم فإن المعتزلي بقوله الاسم هو المسمى يريد من ذلك نفي الصفات الإلهية وهو مع ذلك لا يقدر على تكذيب النصوص القرآنية والنبوية التي صرحت دون لبس أو غموض بذكر أسماء الله الحسنى والأمر بدعاء الله بها، فوقع المعتزلي في حيرة بين تصديق العقل وتكذيب النقل، ووجد نفسه بين أمرين متضادين ومتناقضين؛ فخرج بهذا الحل الأعوج، وزعم بزعمه الأعرج أن التوحيد يكون في أثبات الأسماء ونفي الصفات، وأن أسماء الله هي ذاته وهي أعلام بلا أوصاف .
ومن قال من أهل العلم كابن حزم الأندلسي وابن حجر العسقلاني أن الاسم غير المسمى يقصد أنه يفهم من اللفظ غير ما يفهم من مدلوله، ففرق كبير بين اسم زيد المكتوب في النص وبين ذاته أو شخصيته المتحركة؛ فذاته هي الحقيقة التي يدل عليها الاسم، وهم يعلمون قطعا أن الاسم دال على المسمى (1) .
__________
(1) الفصل 5/27، وانظر فتح الباري لابن حجر 11/225 .(1/168)
ومن قال من الجهمية والمعتزلة الاسم غير المسمى فإنه يعني أن أسماء الله مخلوقة كما أن القرآن مخلوق، وليست الأسماء عنده أزلية بأزلية الذات ولا أولية بأوليتها، وأن الله كان ولا وجود لهذه الأسماء، ثم خلقها ثم تسمى بها، ولذلك اشتد إنكار أئمة السنة كأحمد بن حنبل وغيره على الذين يقولون أسماء الله مخلوقة، وأن الاسم غير المسمى وأن أسماء الله غيره وما كان غيره فهو مخلوق، فهؤلاء هم الذين ذمهم السلف الصالح وغلظوا فيهم القول؛ لأن أسماء الله من كلامه، وكلام الله غير مخلوق، بل هو المتكلم به، وهو المسمى نفسه بما شاء فيه من الأسماء، ويروى عن الشافعي والأصمعي وغيرهما أنهم قالوا: إذا سمعت الرجل يقول الاسم غير المسمى فاشهد عليه بالزندقة (1)، فهم يعنون بذلك التحذير من ضلالات الجهمية والمعتزلة، ولا يعنون من كان حسن النية من أهل السنة إذا قال ذلك، فلكل وجهة هو موليها .
__________
(1) مجموع الفتاوى 6/185 بتصرف، وانظر أيضا: الإبانة لأبي الحسن الأشعري ص54، وشرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة لأبي القاسم اللالكائي 2/212.(1/169)
والقول الذي عليه جمهور أهل العلم من المتبعين لنهج السلف الصالح هو القول الذي فهم به الصحابة - رضي الله عنهم - قول الله تعالى: { قُلِ ادْعُوا الله أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيّاً مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى } [الإسراء:110]، وقوله سبحانه: { وَللهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا } [الأعراف:180]، وما رواه أحمد من حديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال في دعاء الكرب: ( أَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَكَ، سَمَّيتَ بِهِ نَفْسَكَ أَوْ أَنْزَلْتَهُ فِي كِتَابِكَ، أَوْ عَلمْتَهُ أَحَداً مِنْ خَلْقِكَ، أَوْ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَكَ ) (1)، فالاسم للمسمى والأسماء الحسنى أسماء لله - عز وجل - دالة عليه، وهي في حقه أعلام وأوصاف، قال ابن تيمية: ( وأما الذين يقولون إن الاسم للمسمى كما يقوله أكثر أهل السنة فهؤلاء وافقوا الكتاب والسنة والمعقول، قال تعالى: { وَللهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى } [الأعراف:180]، وقال: { أَيّاً مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى } [الإسراء:110]، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( إن لله تسعة وتسعين اسما ) (2)، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( إن لي خمسة أسماء أنا محمد وأحمد والماحي والحاشر والعاقب ) (3)، وكلاهما في الصحيحين، وإذا قيل لهم: أهو المسمى أم غيره؟ فصلوا فقالوا ليس هو نفس المسمى ولكن يراد به المسمى، وإذا قيل إنه غيره بمعنى أنه يجب أن يكون مباينا له فهذا باطل؛ فإن المخلوق قد يتكلم بأسماء نفسه فلا تكون بائنة عنه فكيف بالخالق وأسماؤه من كلامه وليس كلامه بائنا عنه؟، ولكن قد يكون الاسم نفسه
__________
(1) حديث صحيح رواه أحمد 1/391 (3712)، وصححه الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة 1/383 .
(2) تقدم تخريجه ص7 .
(3) البخاري في المناقب، باب ما جاء في أسماء رسول الله S 3/ 1299 (3339) .(1/170)
بائنا، مثل أن يسمى الرجل غيره باسم أو يتكلم باسمه، فهذا الاسم نفسه ليس قائما بالمسمى لكن المقصود به المسمى، فإن الاسم مقصوده إظهار المسمى وبيانه ) (1) .
والناس مفطورون على أن الأسماء وضعت للدلالة على مسمياتها، وأنه إذا ذكر الاسم انصرف الذهن في المقام الأول إلى العلمية التي تميز صاحبه، ثم ينظر بعد ذلك إلى الوصفية، ومن المعلوم أن بني آدم يكتسبون معرفة الأسماء ويتعلمون حدود الأشياء بعد ولادتهم، فالإنسان يولد مؤهلا للعلم وصالحا للتمييز والفهم، وقد أوجد الله - عز وجل - فيه جهازا متكاملا للإدراك والتمييز، ويحتوي عقلا أو معالجا بسرعة فائقة يقوم بتحليل النصوص والمعلومات ومعرفة الأسماء والصفات بدقة متناهية، ويتضمن أيضا وسائل إدخال الألفاظ وإخراجها، ووسائل أخرى لحفظ المعلومات واستدعائها، قال تعالى: { وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلمُونَ شَيْئًا وَجَعَل لكُمْ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لعَلكُمْ تَشْكُرُونَ } [النحل:78] .
كما أن الإنسان يتعلم الأسماء ويعرف حدود الأشياء شيئا فشيئا؛ فربما يتعلم الطفل الصغير في بضعِ ساعات كلمة واحدة أو بضع كلمات، كل يوم يزداد علمه وتقوى معرفته للأسماء ودلالتها على الأشياء، فيقال له: هذه هرة، وهذه جرة، وهذه بقرة، وهذه شجرة إلى غير ذلك من الأسماء ودلالتها على مسمياتها، حتى يصل عند البلوغ إلى حصيلة علمية تكفي لتكليفة بالأحكام الشرعية وإدراك الغاية من وجوده في الحياة وكيف يعبد الله - عز وجل - وحده ولا يشرك به شيئا؟
__________
(1) مجموع الفتاوى 6/207 .(1/171)
ومن العجيب أن الأسماء التي يحصلها الإنسان في سنوات علمها الله لآدم - عليه السلام - في لحظات، فتعلم الأسماء ودلالتها على مسمياتها وتعرف على أوصافها وخصائصها مرة واحدة، قال تعالى: { وَعَلمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ على المَلائِكَةِ فَقَال أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاء إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ } [البقرة:31]، فالأسماء التي تعلمها آدم كلها دالة على مسمياتها؛ لأن المسميات كانت أعيانا قائمة وذوات ثابتة تراها الملائكة، وإنما جهلت الأسماء فقط التي علمها الله آدم - عليه السلام - وعلمها آدم الملائكة، فكانت حكمة الله من ذلك التعليم تعريف الأسماء مع تصور مسمياتها؛ فيحصل الفهم والمعرفة لمراد المتكلم، ولو لم يحصل له المعرفة كان في ذلك إبطال لحكمة الله - عز وجل -، وإفساد لمصالح بني آدم، وسلب الإنسان خاصيته التي ميزه بها على سائر الحيوان، فالاسم إذا دليل على المسمى وعلم عليه يميزه عن غيره (1) .
وقد أمر الله المسلمين بذكر أسمائه فإذا ذكروه عرفوه وعبدوه وأحبوه، لأن أسماءه دليل عليه، قال تعالى: { فِي بُيُوتٍ أَذِنَ الله أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ } [النور:36/37] .
__________
(1) انظر الصواعق المرسلة 2/641 بتصرف .(1/172)
والله - عز وجل - أمر بتسبيح اسمه كما أمر بدعائه بأسمائه الحسنى، فيدعى بأسمائه ويسبح باسمه، وتسبيح اسمه تسبيح له؛ إذ المقصود بالاسم دلالته على المسمى، كما أن دعاءه هو دلالة على دعاء المسمى، قال تعالى: { قُلِ ادْعُوا الله أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيّاً مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى } [الإسراء:110]، وقال: { وَمِنَ الليْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ } [ق:40]، وقال سبحانه وتعالى: { وَمِنَ الليْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً } [الإنسان:26]؛ فأمر هنا بذكره، وفي آية أخرى أمر سبحانه بذكر اسمه فقال: { سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى } [الأعلى:1]، وقال أيضا: { وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً } [ المزمل:8]، وقال سبحانه: { وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ } [الأنعام:121]، وكل ذلك واضح في دلالة الاسم على مسماه، ومن ثم فإن الذي يذكر الاسم يريد مسماه، وقد أجمع أهل العلم على أن من حلف باسم من أسماء الله - عز وجل - فحنث فعليه الكفارة، ولا خلاف بينهم في ذلك (1)، وينبغي أن يعلم أيضا أن دلالة الاسم على المسمى يثبت دلالته على الذات والصفات معا، كما سيأتي تفصيل ذلك في أنواع الدلالات .
دلالة الأسماء على العلمية والوصفية .
__________
(1) انظر الفصل في الملل والأهواء والنحل لابن حزم 5/22، وشرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة لأبي القاسم اللالكائي 2/211، والعلو للعلي الغفار للذهبي ص 166 .(1/173)
تعريف الاسم كاصطلاح يتردد بين علماء العقائد هو ما دل على علم لتمييزه عن غيره أو اللفظ الدال على المسمى، وهو إما مشتق من السمو وهو العلو، أو من السمة وهي العلامة، ويقال لصاحبه مسمى، فالاسم يظهر به المسمى ويعلو فيقال للمُسَمِّى: سَمِّهِ، أي أظهره وأعلي ذكره بالاسم، والاسم له خصائص منها جواز الإسناد إليه، ودخول حرف التعريف والجر والتنوين والإضافة (1) .
أما الصفة عندهم فهي ما دل على معنى أو شيء يقوم بذات الموصوف ولا يمكن أن يقوم بنفسه أو ينفصل عن موصوفه، كالسعادة والقوة والجمال، والعزة والقدرة والكمال وغير ذلك من صفات الذات والأفعال، فهذه الصفات لا تقوم بنفسها ولكنها ملازمة للموصوف وتتبعه في الحكم فيقال سعيد متصف بالسعادة، والقوي متصف بالقوة، والجميل متصف بالجمال وهكذا، قال ابن فارس: ( الصفة الأمارة اللازمة للشيء ) (2) .
__________
(1) مجموع الفتاوى لابن تيمية 6/195، والتبيان في إعراب القرآن لأبي البقاء العكبري 1/1، وأوضح المسالك إلى ألفية ابن مالك لابن هشام 1/13.
(2) انظر معجم مقاييس اللغة 5/448، والتعريفات ص133 .(1/174)
وإذا كان الاسم في اللغة هو ما تميز بعلامات الاسمية المعروفة فإنه أيضا يتناول الصفة والموصوف والفاعل والمفعول والعلة والمعلول (1)، فمثلا قولنا: سعيد سعيد هذان اسمان من الناحية اللغوية، لكن الأول يراد به العلمية، والثاني يراد به الوصفية إن كان خبرا ولم يكن اسما لوالد الأول، وقولنا: سعيد في منتهى السعادة، فالأول والأخير اسمان من الناحية اللغوية، لكن الأول للعلمية، والثاني للوصفية، فالسعادة لا تقوم بنفسها ولابد من قيامها بموصوف، شأنها في ذلك شأن الأسباب في إضافتها لمن قام بها، فكما لا يصح أن نقول ضرب السوط فلانا، ولا قتله السيف، بل السوط والسيف كلاهما اسمان لغويان لا يستقلان بفعل ذاتي، بل يفعل بهما ويضاف الفعل إلى من فعل بهما، فكذلك لا يصح أن نقول الرحمة استوت على العرش، أو العزة والقدرة نصرت المؤمنين وهزمت الكافرين، بل يقال: الرحمن على العرش استوى أو الرحمن علم القرآن، والعزيز القدير نصر المؤمنين وهزم الكافرين، فالصفة تقوم بموصوفها ولا يمكن أن تقوم بنفسها .
وهنا نقطة جوهرية في فهم الأسماء الحسنى ودلالتها على الصفات سبق الحديث عنها في عند ذكر الشرط الثاني من شروط الإحصاء (2)، وهى أنه لا بد من التمييز بين الاسم ودلالته الوضعية عندما يستعمل في حق المخلوق، والاسم ودلالته في حق الخالق، فعدم فهم هذه المسألة هو أساس التفرق والاختلاف، لأن الاسم في استعماله المتعارف بين الناس لا يراد به إلا العلمية التي تميزه عن غيره، ولا يعني إن كانت فيه صفة السعادة أم لا؛ فالاسم في حقنا فارغ من الوصفية على الأغلب ومرتبط على الدوام بمسماه كاسم بلا وصف، فإن استجد الوصف عبرنا عن ذلك بقدر زائد فقلنا سعيد سعيد أو سعيد في منتهى السعادة .
__________
(1) انظر نتائج الفكر للسهيلي ص63، وانظر أيضا أسماء الله الحسنى دراسة في البنية والدلالة، د. أحمد مختار عمر ص6، والإيضاح في علل النحو للزجاجي ص48 .
(2) انظر ص 58 .(1/175)
أما الأسماء في حق الله فتختلف اختلافا كليا عن ذلك؛ فهي علمية ووصفية معا في آن واحد، ولا يمكن قياسها بما سبق في حق المخلوق، ولذلك لم يقل النبي - صلى الله عليه وسلم - : إن الجواد سبحانه جواد، وإن المحسن محسن، وإن الحيي الستير حيي ستير، وإن الجميل جميل، والوتر وتر، كما قلنا في حق المخلوق سعيد سعيد، لأن الأسماء في حق الله أعلام وأوصاف، سواء ذكر الاسم أولا أو ثانيا، مبتدأ أو خبرا، أو في أي موضع كان من النص فهو علم ووصف، ومن ثم فإن الجواد والجميل والوتر والرفيق والمحسن والحيي والستير كلها أسماء صحيحة ثابتة لله - عز وجل - تدل على العلمية والوصفية معا، لأن الله لم يطرأ عليه وصف أو يستجد به كمال، كما طرأت السعادة واستجد النصر والصلاح على سعيد ومنصور وصالح .(1/176)
وقد كان من شأن العرب أن يسموا أولادهم بأسماء الجماد والحيوان لما يرون فيها من بعض الصفات النبيلة كتسميتهم صخرا أو حربا أو أسدا أو كلبا أو جحشا أو كعبا، وهم يقصدون بهذه التسمية أولا تمييز الشخص عن غيره؛ لأنه لا بد لكل فرد من اسم يميزه بالعلمية، ويتطلعون أيضا أن تتحقق فيه مستقبلا الوصفية التي تضمنها الاسم، فالذي يسمي ولده صخرا يأمل أن تتوفر فيه صفة القوة والصلابة، والذي يسمي ولده حربا يأمل أن تتوفر فيه صفة الفارس المقاتل والمقدام الهمام، والذي يسميه أسدا أو كلبا أو جحشا أو كعبا يرغب أن تتوفر فيه صفة الشجاعة والجرأة والوفاء والتحمل والعظمة والبقاء، ولذلك كانت أغلب الأسماء التي يسميها العرب مبنية على مراعاة العلمية والرغبة والأمل في حدوث الوصفية كأبي سفيان بن حرب، وعند البخاري تزوج أبو بكر امرأة من كلب (1)، يعني من بني كلب، وأيضا كان من أمهات المؤمنين زينب بنت جحش رضي الله عنها، ومن الصحابة أبي بن كعب، وكعب بن مالك الذي تخلف عن غزوة تبوك رضي الله عنهم أجمعين، وقد يسمون الجارية زهرة أو غزالا، أو شهدا أو نورا، أو قمرا أو جميلة، وهي سوداء كالليل البهيم أو قبيحة وجها دميم، أو خبيثة الجوهر والمنظر .
والقصد أن الأسماء البشرية يراد بها في الأصل العلمية مع الرغبة في وجود الوصفية وقياس ذلك على أسماء الخلق هو أصل الضلال، ولما خلط أهل الاعتزال بين الأحكام المتعلقة بعالم الغيب وعالم الشهادة، وشبهوا الخالق بالمخلوق حدث اللبس والغموض في مسألة الاسم والمسمى، هل هو عينه أو غيره؟ وهل الصفات زائدة علي الذات أم لا؟ وغير ذلك من القضايا التي زعموا فيها أن التوحيد هو إثبات الأسماء ونفي الصفات وقد تخبطوا هم أنفسهم في فهمها قبل بيانها وشرحها للآخرين .
__________
(1) البخاري في فضائل الصحابة، باب هجرة النبي S إلى المدينة 3/1427 (3706) .(1/177)
لكن عقيدة السلف لما كانت مبنية على أن التوحيد هو إفراد الله - عز وجل - بما ثبت له من الأسماء والصفات، وأن الله متوحد عن الأقيسة التمثيلية والقواعد الشمولية التي تحكم ذوات المخلوقات فإنهم وفقوا إلى الفهم الصحيح في باب الأسماء والصفات، فعندهم أن الأسماء في حق الله علمية ووصفية، علمية من جهة الدلالة على الذات ووصفية من جهة المعنى الذي تضمنه كل اسم، فاسم الله القدير وكذلك العلي الرحمن القوي العزيز الحكيم السميع العليم وغير ذلك من الأسماء دلت على إثبات صفة القدرة والعلو والرحمة والقوة والعزة والحكمة والسمع والعلم، فهي أعلام لقوله تعالى: { قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى } [الإسراء:110]، وكلها تدل على ذات واحدة ومسمى واحد، وهي أيضا أوصاف لقوله تعالى: { وَلِلهِ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا } [الأعراف:180] .
والله - عز وجل - ذكر من أسمائه الحسنى الغفور الرحيم، وكلاهما علم على ذاته كما جاء في قوله: { وَهُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ } [يونس:107]، وقوله أيضا: { نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الغَفُورُ الرَّحِيمُ } [الحجر:49]، وقد بين في موضع آخر تضمن الاسم للوصف، وأن الغفور ذو مغفرة، والرحيم ذو رحمة، فقال تعالى: { وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ العِقَابِ } [الرعد:6]، وقال سبحانه أيضا: { وَرَبُّكَ الغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ } [الكهف:58]، ومن أسمائه الحسنى القوي حيث ورد علما مطلقا على ذات الله فقال - عز وجل -: { إِنَّ رَبَّكَ هُوَ القَوِيُّ العَزِيزُ } [هود:66]، وفي موضع آخر بين أنه متصف بالقوة فقال: { إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو القُوَّةِ المَتِينُ } [الذاريات:58] .(1/178)
وذكر سبحانه وتعالى أيضا من أسمائه الحسنى العزيز فقال: { لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } [آل عمران:6]، ثم قال في تضمن الاسم للوصف: { سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ العِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ } [الصافات:180]، وقال أيضا: { الذِينَ يَتَّخِذُونَ الكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ المُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ العِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ لِلهِ جَمِيعاً } [النساء:139]، ومن ثم فإن الأدلة قاطعة في أن الله سبحانه رحيم برحمة، قوي بقوة، عزيز بعزة، وكذلك أيضا قدير بقدرة حكيم بحكمة، سميع بسمع، عليم بعلم، وغير ذلك من الأسماء ودلالتها على الصفات، ولا يشبه في وصفه حال المخلوق كما نقول سعيد بلا سعادة، أو صالح بلا صلاح أو فالح بلا فلاح، أو سعيد وهو حزين كاسم بلا مسمى، أو منصور وهو مهزوم، أو صالح وهو طالح، فالسلف الصالح أثبتوا أسماء الله - عز وجل - أعلاما وأوصافا بعكس المعتزلة كما تقدم .(1/179)
قال ابن القيم: ( وقد اختلف النظار في هذه الأسماء هل هي متباينة نظرا إلى تباين معانيها، وأن كل اسم يدل على غير ما يدل عليه الآخر، أم هي مترادفة لأنها تدل على ذات واحدة؛ فمدلولها لا تعدد فيه وهذا شأن المترادفات؟ .. والتحقيق أن يقال: هي مترادفة بالنظر إلى الذات متباينة بالنظر إلى الصفات، وكل اسم منها يدل على الذات الموصوفة بتلك الصفة بالمطابقة، وعلى أحدهما وحده بالتضمن، وعلى الصفة الأخرى بالالتزام ) (1)، وقال أيضا: ( أسماء الرب تعالى هي أسماء ونعوت، فإنها دالة على صفات كماله، فلا تنافي فيها بين العلمية والوصفية؛ فالرحمن اسمه تعالى ووصفه، لا تنافي اسميتُه وصفيتَه، فمن حيث هو صفة جرى تابعا على اسم الله، ومن حيث هو اسم ورد في القرآن غير تابع، ورود الاسم علما، وكذلك فإن الأسماء مشتقة من الصفات، إذ الصفات مصادر الأسماء الحسنى ) (2) .
ومن المعلوم أن فطرة البشر مجبولة على طلب الأوصاف الحميدة والانتساب للنعوت الجميلة والأفعال الجليلة، ومن ثم فإن أسماء الله - عز وجل - من باب أولى دالة على أوصاف الجلال ومعاني الكمال والجمال .
جلال أسماء الله الحسنى .
__________
(1) جلاء الأفهام في فضل الصلاة والسلام على محمد خير الأنام لابن قيم الجوزية ص177 .
(2) بدائع الفوائد 1/28، ستأتي إن شاء الله قضية الاشتقاق بالتفصيل بعد قليل .(1/180)
من حكمة الله - عز وجل - أنه فطر عباده على أن يكون جلال المحبوب هو أعظم دواعي الحب في قلوبهم، فالقلب يحب كل جميل، ويتعلق بكل جليل، ومن هنا تعلقت القلوب بربها لعظمة أسمائه وجلالها، وكمال أوصافه وجمالها، قال تعالى في وصف أسمائه: { وَللهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا } [الأعراف:180]، وقال في مدحها وعلو شأنها: { تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الجَلالِ والإكرام } [الرحمن:78]، وقد أجمع القراء على قراءة ذي الجلال بالياء، وكذلك في مصاحف أهل الحجاز والعراق على اعتبار معنى المباركة ووصف المسمى بالجلال، وتفرد ابن عامر بالواو فقرأ: { تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذو الجلال } ، وكذلك في مصاحف أهل الشام على اعتبار أن الجلال والمباركة تعود على الأسماء الحسنى (1)، قال ابن تيمية: ( وهو في مصحف أهل الشام تبارك اسم ربك ذو الجلال والإكرام، وهي قراءة ابن عامر، فالاسم نفسه موصوف بالجلال والإكرام، وفي سائر المصاحف وفي قراءة الجمهور ذي الجلال؛ فيكون المسمى نفسه موصوفا بالجلال والإكرام ) (2) .
__________
(1) انظر حجة القراءات لأبي زرعة عبد الرحمن بن محمد بن زنجلة ص 694، تحقيق سعيد الأفغاني، نشر مؤسسة الرسالة، بيروت 1402هـ، وانظر تفسير البغوي 4/278 .
(2) مجموع الفتاوى 16/322 .(1/181)
والجلال هو منتهى الحسن والعظمة في الأسماء والصفات والأفعال، وله عند التحقيق ركنان: أولهما الكمال وهو بلوغ الوصف أعلاه، والثاني الجمال وهو بلوغ الحسن منتهاه، قال ابن القيم: ( والله سبحانه تعرف إلى عباده من أسمائه وصفاته وأفعاله بما يوجب محبتهم له؛ فإن القلوب مفطورة على محبة الكمال ومن قام به، والله سبحانه وتعالى له الكمال المطلق من كل وجه الذي لا نقص فيه بوجه ما، وهو سبحانه الجميل الذي لا أجمل منه، بل لو كان جمال الخلق كلهم على رجل واحد منهم وكانوا جميعهم بذلك الجمال لما كان لجمالهم قط نسبة إلى جمال الله؛ بل كانت النسبة أقل من نسبة سراج ضعيف إلى حذاء جرم الشمس ولله المثل الأعلى ) (1) .
ومن حكمة الله - عز وجل - في خلقه أنه إن أعطى أحدا من عباده كمالا ابتلاه في الجمال وإن أعطاه جمالا ابتلاه في الكمال، وإن أعطاه كمالا وجمالا ابتلاه في دوام الحال، فربما يبلغ المرء كمالا في الغني بحيث يفوق الآخرين فيه حتى يبلغ الوصف أعلاه، لكنه مبتلى في غناه فربما يكون جاهلا أو مريضا، أو قبيحا أو عقيما، أو مبتلى في ولده وزوجته، أو أهله وعشيرته، أو غير ذلك من أنواع البلاء .
وكذلك ربما تجد امرأة بلغت كمالا في الخلق والنسب، ولها منزلة كبيرة في الشرفِ والحسب، وعلى قدر كبير من العلم والفهم، وهي أبعد ما تكون عن الخيانة وموصوفة بالصدق والأمانة، غير أنها قبيحة سوداء، أو دميمة بكماء، لا تسر أحدا من الناظرين قد أعطاه الله - عز وجل - من جهة الكمال وابتلاها من جهة الجمال .
__________
(1) روضة المحبين 1/418 .(1/182)
والله - عز وجل - لو أعطى أحدا من عباده كمالا وجمالا ابتلاه في دوام الحال؛ فما يلبث أن يموت الخليفة العادل أو يغتال، وكل ذلك عن حكمة الله - عز وجل - في خلقه، ليعلموا أن له الجلال المطلق في أسمائه وصفاته، وأنه هو المنفرد به دون غير، فالوحيد الذي اتصف بالكمال والجمال هو رب العزة والجلال، بل كل اسم من أسمائه فيه الكمال والجمال معا وقد قال تعالى: { تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الجَلالِ والإكرام } [الرحمن:78] .
ويذكر ابن القيم أنك إذا أضفت إلى كماله وجماله ما كان من إحسانه في ملكه وإنعامه على خلقه فإنه لا يتخلف عن حبه إلا الجاحدون وأصحاب القلوب والخبيثة والنفوس الخسيسة، فإن الله فطر النفوس على محبة المحسنين إليهم، المتصفين لديهم بالكمال والجمال، وإذا كانت هذه فطرة الله - عز وجل - التي فطر عليها القلوب، فمن المعلوم أن مقلب القلوب لا أحد يعظمه إحسانا وجمالا، أو إنعاما وكمالا، فلا شيء أكمل من الله وشيء لا أجمل من الله، فكل كمال وجمال في المخلوق من آثار صنعته، وكمال قدرته وبديع حكمته، وكل هذه أوصاف دلت عليها الأسماء، فلا نحصي ثناء عليه هو كما أثنى على نفسه، له الفضل كله على خلقه وجنه وإنسه، له النعمة السابغة، والحجة البالغة، والسطوة الدامغة، ليس في أفعاله عبث، ولا في أوامره سفه، بل أفعاله كلها لا تخرج عن المصلحة والحكمة والفضل والرحمة، كلامه صدق، ووعده حق، وعدله ظاهر في سائر الخلق ، إن أعطى فبفضله ورحمته وكرمه ونعمته، وإن منع أو عاقب فبعدله وحكمته (1) .
__________
(1) انظر الفوائد لابن القيم ص183، وطريق الهجرتين ص 470، وروضة المحبين 1/418 .(1/183)
وقد سماه نبينا - صلى الله عليه وسلم - بالجميل وبين أنه يحب الجمال، روى مسلم من حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قَال: ( إِنَّ اللهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الجَمَال ) (1)، فهو سبحانه له في أسمائه جمال الذات وجمال الصافات وجمال الأفعال في سائر المخلوقات، لا تقوى الأبصار في هذه الدار على النظر إلى رب العزة والجلال، قال تعالى: { وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ } [الأعراف:143]، فالجبل مع شدة صلابته لم يقو على رؤية الله من سبحات جلاله، وكمال نوره وجماله، فأي محبوب في الوجود يسمو إلى علو شأنه وكماله؟ قال الله تعالى: { هُوَ اللهُ الخَالِقُ البَارِئُ المُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ } [الحشر:24]، ومن هنا فطِر العباد على محبة الله وذكره، وإظهار حكمته في خلقه، قال ابن القيم: ( وهو سبحانه إنما خلق الخلق لعبادته ومعرفته، وأصل عبادته محبته على آلآئه ونعمه وعلى كماله وجلاله، وذلك أمر فطري ابتدأ الله عليه خلقه وهي فطرته التي فطر الناس عليها كما فطرهم على الإقرار به وكما قالت الرسل لأممهم: { أَفِي اللهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } [إبراهيم:10]، فالخلق مفطورون على معرفته وتوحيده، فلو خلوا وهذه الفطرة لنشئوا على معرفته وعبادته وحده ) (2) .
اسم الله الأعظم ودلالته على الصفات .
__________
(1) مسلم في الإيمان، باب تحريم الكبر وبيانه 1/93 (91) .
(2) شفاء العليل ص 253 .(1/184)
زعم كثيرون أن الاسم الأعظم سر مكنون وغيب مصون وأن خاصة الأولياء العارفين يعلمونه بالتلقي عن مشايخهم، وأن هذا الاسم من علِمه ودعا الله به فلا بد أن يستجاب له، بغض النظر عن كونه كافرا أو مؤمنا، وجعلوا لذلك هالة من التقديس في قلوب العامة خوفا من الدعاء بالاسم الأعظم الذي انفردوا بمعرفته .
وربما يتساءل بعض العامة عن العلة في إخفاء الاسم الأعظم؟ فالإجابة المشهورة عند هؤلاء أن العامة قد يدعون به دعوة باطلة فيستجاب لهم، أما العارفون فهم أمناء الله على سره وخلقه، ويستدلون بحديث ضعيف أو شبه موضوع يروى عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن عائشة سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يعلمها الاسم الأعظم؟ فقال لها: ( يا عائشة، نهينا عن تعليمه النساء والصبيان والسفهاء ) (1) .
ومما روى من هذه المبالغات أن إبراهيم بن أدهم كان من الأشراف، وكان أبوه كثير المال والخدم والمراكب، فبينما إبراهيم في الصيد على فرسه يركض، إذا هو بصوت من فوقه يناديه: يا إبراهيم ما هذا العبث؟ ألهذا خلقت؟ أم بهذا أمرت؟ ثم قرأ قول الله تعالى: { أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ } [المؤمنون:115]، وقال له اتق الله، عليك بالزاد ليوم الفاقة، فنزل عن دابته ورفض الدنيا، وصادف راعيا لأبيه فأخذ عباءته، وأعطاه فرسه وما معه ودخل البادية، فرأى فيها رجلا علمه الاسم الأعظم، فدعا به، فرأى الخضر وقال له: إنما علمك أخي داود (2) .
__________
(1) انظر ميزان الاعتدال في نقد الرجال للذهبي 2/124، ولسان الميزان لابن حجر 2/104، والكامل في ضعفاء الرجال لأبي أحمد الجرجاني 2/169.
(2) انظر حلية الأولياء وطبقات الأصفياء لأبي نعيم الأصبهاني 7/369، وسير أعلام النبلاء لشمس الدين الذهبي 7/388، وصفوة الصفوة لابن الجوزي 4/153 .(1/185)
فهذه الرواية توحي بأن داود - عليه السلام - ما زال حيا، وأنه يعلم الناس الاسم الأعظم وأن من يدعو به يأتيه الخضر الذي علم موسى - عليه السلام - مع أنه قد مات كسائر البشر ولا دليل على حياته، ولك أن تتصور بعد ذلك توالى الكرامات، وتأثير الاسم الأعظم في ظهور خوارق العادات وغير ذلك من الحكايات الواهية والمبالغات، لكن اسم الله الأعظم ليس كما يصوره هؤلاء أنه شيء مخفي غيبي هم فقط الذين يعلمون كيفية الوصول إليه فأسماء الله كلها حسنى وكلها عظمى، وقد وصف الله أسماءه بالحسنى في أربعة مواضع من القرآن، كما في قوله: { ولله الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا } [الأعراف:180] .
ووجه الحسن في أسماء الله أنها دالة على أحسن وأعظم وأقدس مسمى وهو الله عز وجل، فذاته في حسنها وجلالها ليس كمثلها شيء، وأسماؤه في كمالها وجمالها تنزهت عن كل نقص وعيب، وقد قال الله تعالى: { تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الجَلالِ والإكرام } [الرحمن:78]، وهذا يسري على كل اسم تسمى به الله، سواء غابت عنا معرفته أو علمناه، فاسم الله الحي متضمن لكمال الحياة، وهي صفة أزلية أبدية، لم تسبق بعدم ولا يلحقها زوال، حياة لازمة لكمال الأسماء والصفات من العلم والقدرة والسمع والبصر والحكمة والملك والقوة والعزة .
وكذلك اسمه العليم متضمن لكمال العلم الذي لم يسبق بجهل، ولا يحاط بشيء منه إلا إذا شاء الموصوف به، فهو علم واسع أحاط بكل شيء جملة وتفصيلا، سواء ما يتعلق بأفعال الله وأقداره، أو ما يتعلق بأمور الخلق وشئونه .(1/186)
قال تعالى: { وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي البَرِّ وَالبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ وَهُوَ الذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِالليْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمّىً ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } [الأنعام:59/60] .
وكذلك اسمه الرحمن فإنه يتضمن الرحمة العامة بجميع الخلائق، وهي رحمة واسعة شاملة، قال تعالى: { وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُل شَيْءٍ } [الأعراف:156]، وقال عن دعاء الملائكة للمؤمنين: { رَبَّنَا وَسِعْتَ كُل شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلماً فَاغْفِرْ لِلذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الجَحِيمِ } [غافر:7]، وعند البخاري من حديث عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه قال: ( قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بِسَبْيٍ، فَإِذَا امْرَأَةٌ مِنَ السَّبْيِ تَبْتَغِي، إِذَا وَجَدَتْ صَبِيًّا فِي السَّبْيِ أَخَذَتْهُ فَأَلْصَقَتْهُ بِبَطْنِهَا وَأَرْضَعَتْهُ (1)، فَقَالَ لَنَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : أَتَرَوْنَ هَذِهِ الْمَرْأَةَ طَارِحَةً وَلَدَهَا فِي النَّارِ؟ قُلنَا: لاَ وَاللهِ، وَهِي تَقْدِرُ عَلَى أَنْ لاَ تَطْرَحَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : للهُ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ هَذِهِ بِوَلَدِهَا ) (2) .
__________
(1) هذه المرأة كانت مرضعة، وعند الحرب فقدت طفلها وقد سبيت، ففعلت ذلك ليخفف عنها ألم اللبن في ثديها فأخذت تبحث عن طفلها حتى وجدته؛ فأخذته وضمته وأرضعته، انظر فتح الباري 10/430 .
(2) البخاري في الأدب، باب رحمة الولد وتقبيله ومعانقته 5/2235 (5653) .(1/187)
فأسماء الله - عز وجل - كلها حسنى وعظمى على اعتبار ما يناسبها من أحوال العباد، ومن أجل ذلك تعرف الله إليهم بجملة منها تكفي لإظهار معاني الكمال في عبوديتهم، وتحقق كمال الحكمة في أفعال خالقهم، فاسم الله الأعظم الذي يناسب حال فقرهم المعطي الجواد المحسن الواسع الغني، واسمه الأعظم الذي يناسب حال ضعفهم القادر القدير المقتدر المهيمن القوي، وفي حال الذلة وقلة الحيلة يناسبهم الدعاء باسمه العزيز الجبار المتكبر الأعلى المتعالي العلي، وفي حال الندم بعد اقتراف الذنب يناسبهم الدعاء باسمه اللطيف التواب الغفور الغفار الحيي الستير، وفي حال السعي والكسب يدعون الرازق الرزاق المنان السميع البصير، وفي حال الجهل والبحث عن أسباب العلم والفهم يناسبهم الدعاء باسمه الحسيب الرقيب العليم الحكيم الخبير، وفي حال الحرب وقتال العدو فنعم المولى ونعم النصير، وهكذا كل اسم من الأسماء الحسنى هو الأعظم في موضعه وعلى حسب حال العبد وما ينفعه .
والله - عز وجل - أسماؤه لا تحصى ولا تعد، وهو وحده الذي يعلم عددها، فعند أحمد من حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - مرفوعا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في دعاء الكرب: ( أَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَكَ، سَمَّيتَ بِهِ نَفْسَكَ أَوْ أَنْزَلْتَهُ فِي كِتَابِكَ، أَوْ عَلمْتَهُ أَحَداً مِنْ خَلْقِكَ، أَوْ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَكَ ) (1) .
__________
(1) انظر ص 119 .(1/188)
لكن الله - عز وجل - من حكمته أنه يعطي كل مرحلة من مراحل خلقه معرفة ما يناسبها من أسمائه وصفاته؛ بحيث تظهر فيها دلائل جلاله وكماله، ففي مرحلة الابتلاء وما في الدنيا من شهوات وأهواء، وحكمة الله في تكليفنا بالشرائع والأحكام، وتمييز الحلال من والحرام، في هذه المرحلة عرفنا الله بجملة من أسمائه تتناسب مع احتياجاتنا وتوحيدنا له، فقال - صلى الله عليه وسلم - : ( إِنَّ لِلّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمَا مِائَةً إِلاَّ وَاحِدًا مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ ) (1) .
ومن ثم فإن المذنب إن أراد التوبة سيجد الله توابا رحيما عفوا غفورا، والمظلوم سيجد الله حقا مبينا حكما وليا نصيرا، والضعيف المقهور سيجد الله قويا قديرا عزيزا جبارا، والفقير سيجد الله رازقا رزاقا غنيا وكيلا، وهكذا سيجد العباد من الأسماء والصفات ما ينسب حاجتهم ومطلبهم، فالفطرة اقتضت أن تلجأ النفوس إلى قوة عليا عند ضعفها، وتطلب غينا أعلى عند فقرها، وتوابا رحيما عند ذنبها، وسميعا بصيرا قريبا مجيبا عند سؤالها، ومن هنا كانت لكل مرحلة من مراحل الخلق ما يناسبها من أسماء الله وصفاته، وقد سبق الإشارة إلى ذلك (2) .
وطالما أن الدنيا جعلت للابتلاء، فإن الله قد عرفنا بما يناسبهما ويناسبنا من الأسماء ومن ثم فإن أسماء الله كلها حسنى وكلها عظمى على اعتبار ما يناسبها من أحوال العباد، وذلك لابتلائهم في الاستعانة بالله، والصدق معه، والخوف منه، والرغبة إليه، والتوكل عليه، وغير ذلك من معاني توحيد العبودية لله، وكل ذلك أيضا ليعود النفع عليهم لا عليه، فهم المنتفعون بذكرهم وطاعتهم ومسارعتهم في الخيرات، فالاسم الأعظم ليس كما يصوره البعض حسب أهوائهم وأذواقهم سر مكنون وغيب مصون مقصور على أوليائهم، أو يأخذونه بالتلقي والسند عن قدماء الأولياء أو بلعام بن باعوراء .
__________
(1) البخاري في الشروط، باب إن لله مائة اسم إلا واحدا 6/2691 (6957) .
(2) انظر ص 33 .(1/189)
قصص واهية حول الاسم الأعظم .
ومن الأهمية بمكان التنبيه على خطورة بعض القصص الواهية التي حيكت حول اسم الله الأعظم، والتي رويت في كتب السير والتاريخ وتناقلها العامة في أحاديثهم وهي باطلة لا أصل لها .
كالمبالغة في القصة التي ذكرت أن الملكين ببابل هاروت وماروت الذين يقال أنهما أهبطا إلى الأرض حين عمل بنو آدم المعاصي ليقضيا بين الناس بالحق، وأن الله ألقى في قلوبهما شهوة النساء، ونهاهما ربهما عن شرب الخمر والزنا وسفك الدماء، وأنهما كانا يعلمان الاسم الأعظم ليصعدا به إلى السماء، فجاءتهما امرأة في مسألة لها فأعجبتهما وروداها عن نفسها في البغي والفحشاء، فأبت عليهما حتى يعلماها الاسم الأعظم، ثم أبت مرة أخرى حتى يشربا الخمر، فشربا الخمر وزنيا بها، ثم خرجا فقتلا بريئا معصوما، فدعت المرأة بالاسم الأعظم؛ فصعدت إلى السماء ومسخت فتحولت إلى كوكب خناس هو كوكب الزهرة الذي نراه في السماء، وغضب الله على الملكين فسماهما هاروت وماروت وخيرهما بين عذاب الدنيا والآخرة فاختارا عذاب الدنيا (1) .
وهناك من بالغ وزعم أن كوكب الزهرة ما زال يعلم الشياطين الاسم الأعظم وهم بدورهم يعلمونه لأوليائهم مع السحر، فيتكلمون بكلام يجعل الواحد منهم يطير في الهواء أو يمشي على الماء أو غير ذلك مما تناقلته الدهماء .
__________
(1) انظر تفسير القرطبي 2/52، وتفسير ابن جرير الطبري 1/457، وتفسير الثعالبي 1/93، وانظر كشف الخفاء ومزيل الإلباس عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس لإسماعيل بن محمد العجلوني 2/439، وكتاب القول المسدد في الذب عن المسند للإمام أحمد لأبي الفضل أحمد بن علي العسقلاني ص39، انظر تعليق ابن حزم على هذه القصة في الفصل 4/26، والإحكام في أصول الأحكام 5/154 .(1/190)
قال ابن كثير: ( وقد روى في قصة هاروت وماروت عن جماعة من التابعين كمجاهد والسدي والحسن البصري وقتادة وأبي العالية والزهري والربيع بن أنس ومقاتل بن حيان وغيرهم، وقصها خلق من المفسرين من المتقدمين والمتأخرين وحاصلها راجع في تفصيلها إلى أخبار بني إسرائيل؛ إذ ليس فيها حديث مرفوع صحيح متصل الإسناد إلى الصادق المصدوق المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى، وظاهر سياق القرآن إجمال القصة من غير بسط ولا إطناب، فنحن نؤمن بما ورد في القرآن على ما أراده الله تعالى، والله أعلم بحقيقة الحال ) (1) .
__________
(1) انظر تفسير ابن كثير 1/142، وضعيف الترغيب والترهيب (1416)، قال الشيخ الألباني في رفع هذه الرواية: حديث منكر، وقال أيضا: حديث باطل، انظر السلسلة الضعيفة 2/313 (912) .(1/191)
والأعجب من ذلك ما انتشر بين العامة والخاصة من إسرائيليات ومبالغات في قصة بلعام بن باعوراء التي يذكرون فيها أن الله - عز وجل - أمر بني إسرائيل بقتال الجبارين بقيادة يوشع النبي، فانطلق بلعام وهو رجل من قوم موسى - عليه السلام - كان يعلم الاسم الأعظم المكتوم فكفر وأتى الجبارين، فقال: لا ترهبوا بني إسرائيل، فإني إذا خرجتم تقاتلونهم أدعو عليهم دعوة فيهلكون، فكان عندهم فيما شاء من الأهواء، غير أنه كان لا يستطيع أن يأتي النساء؛ فكان ينكح أتانا له، وكان يلهث كما يلهث الكلب وخرج لسانه من فمه حتى نزل على صدره، فخرج يوشع النبي يقاتل الجبارين في الناس وخرج بلعام مع الجبارين على أتانه وهو يريد أن يلعن بني إسرائيل بالاسم الأعظم، فكلما أراد أن يدعو على بني إسرائيل تدور الأتان دون أن يدري فتأتي اللعنة على الجبارين، فقالوا له: إنك تدعو علينا يا بن باعوراء، فيقول لهم: إنما أردت بني إسرائيل، فأخذ ملك من ملوك الجبارين بذنب الأتان، وجعلها تتحرك، وأخذ بلعام يضربها ويكثر من ضربها، فتكلمت الأتان وقالت: ويلي منك يا بلعام أنت تنكحني بالليل وتضربني بالنهار (1) .
__________
(1) انظر تفسير ابن جرير الطبري 9/ 126، وانظر أيضا البداية والنهاية 1/322، وانظر تعليق ابن حزم على هذه القصة في الفصل 1/140 .(1/192)
ومن القصص أيضا حول الاسم الأعظم خبر عبد الله بن الثامر، وهو كما ذكرت بعض كتب السيرة غلام أصحاب الأخدود الذي كان يذهب إلى ساحر في أحد القرى التابعة لنجران، وكان بينها وبين قرية الساحر رجل صالح على دين عيسى - عليه السلام - يعلم الاسم الأعظم، فكان عبد الله بن الثامر يتخلف إليه، فيعجبه ما يرى من صلاته وعبادته، فجعل يجلس إليه ويسمع منه حتى أسلم، فوحد الله وعبده وجعل يسأله عن شرائع الإسلام حتى إذا تفقه فيه جعل يسأله عن الاسم الأعظم، وكان يعلمه فكتمه إياه، وقال له: يا ابن أخي إنك لن تحمله، أخشى عليك ضعفك عنه، فلما رأى ابن الثامر أن صاحبه قد ضن به عنه عمد إلى قداح فجمعها (1)، ثم لم يبق لله اسما يعلمه إلا كتبه في قدح، حتى إذا أحصاها أوقد لها نارا ثم جعل يقذفها فيها قدحا قدحا، حتى إذا مر بالاسم الأعظم قذف فيها بقدحه، فوثب القدح حتى خرج منها ولم تضره النار شيئا، فأخذه ثم أتى صاحبه، فأخبره بأنه قد علم الاسم الأعظم الذي كتمه، قال: وكيف علمته؟ فأخبره بما صنع، قال: أي ابن أخي قد أصبته فأمسك على نفسك، وما أظن أن تفعل، فجعل ابن الثامر إذا دخل نجران لم يلق أحدا به ضر إلا قال: يا عبد الله أتوحد الله وتدخل في ديني وأدعو الله فيعافيك مما أنت فيه من البلاء؟ فيقول: نعم فيدعو له بالاسم الأعظم فيشفى (2) .
__________
(1) القدح هنا بمعنى قطعة الحجر المصقول، انظر المغرب في ترتيب المعرب للمطرزي 2/159.
(2) انظر السيرة النبوية 1/ 149، وتاريخ لابن جرير 1/435، وتفسير القرطبي 19/ 291 .(1/193)
والثابت الصحيح في هذه القصة ما رواه مسلم من حديث صُهَيْبٍ الرومي - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الغلام قال: ( الْيَوْمَ أَعْلَمُ آلسَّاحِرُ أَفْضَلُ أَمِ الرَّاهِبُ أَفْضَلُ؟ فَأَخَذَ حَجَرًا فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ أَمْرُ الرَّاهِبِ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ أَمْرِ السَّاحِرِ فَاقْتُلْ هَذِهِ الدَّابَّةَ حَتَّى يَمْضِىَ النَّاسُ، فَرَمَاهَا فَقَتَلَهَا وَمَضَى النَّاسُ فَأَتَى الرَّاهِبَ فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ لَهُ الرَّاهِبُ: أَي بُنَىَّ أَنْتَ الْيَوْمَ أَفْضَلُ مِنِّى، قَدْ بَلَغَ مِنْ أَمْرِكَ مَا أَرَى وَإِنَّكَ سَتُبْتَلَى فَإِنِ ابْتُلِيتَ فَلاَ تَدُلَّ عَلَىَّ، وكان الغلام يبرئ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ وَيُدَاوِي النَّاسَ مِنْ سَائِرِ الأَدْوَاءِ فَسَمِعَ جَلِيسٌ لِلمَلِكِ كَانَ قَدْ عَمِيَ، فَأَتَاهُ بِهَدَايَا كَثِيرَةٍ، فَقَالَ: مَا هاهُنَا لَكَ أَجْمَعُ إِنْ أَنْتَ شَفَيْتَنِي، فَقَالَ إِنِّي لاَ أَشْفِي أَحَداً، إِنَّمَا يَشْفِي الله، فَإِنْ أَنْتَ آمَنْتَ بِاللهِ دَعَوْتُ اللهَ فَشَفَاكَ، فَآمَنَ بِاللهِ فَشَفَاهُ الله ) (1)، فالرسول - صلى الله عليه وسلم - بين أن دعاء الغلام كان مجابا وأنه الله جعله ابتلاء للملك الذي ادعى الربوبية لنفسه، وليس في كلامه - صلى الله عليه وسلم - ذكر الاسم الأعظم ولا طرح الأسماء الحسنى في النار كفكرة لمعرفته؟
والقصد أن أسماء الله أجل من أن تكون محورا لمثل هذه القصص الواهية التي انتشرت بين المسلمين كقصص مشوقة وحكايات عن الأمم السابقة دون تثبت من النقل أو إعمال للعقل يميز بين ما ثبت بالدليل وما هو من قبيل التخييل، فالعلم له ثوابته التي لا يصح المساس بها .
( الروايات الثابتة في الاسم الأعظم.
__________
(1) مسلم في الزهد والرقائق، باب قصة أصحاب الأخدود والساحر والراهب والغلام 4/2299 (3005) .(1/194)
العظمة في أسماء الله - عز وجل - تكون باعتبار كل اسم على انفراده أو باعتبار جمعه إلى غيره؛ فيحصل بجمع الاسم إلى الآخر كمال فوق كمال، والأعلى في الكمال هو الأعظم على هذا الاعتبار، ومن هنا تحمل الروايات التي ثبتت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذكر الاسم الأعظم، روى ابن ماجة وحسنه الشيخ الألباني من حديث أسماء بنت يزيد رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( اسْمُ اللهِ الأَعْظَمُ فِي هَاتَيْنِ الآيَتَيْنِ: { وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ } ، وَفَاتِحَةِ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ ) (1) .
وعند ابن ماجة من حديث أبي عبد الرحمن القاسم عن أبي أمامة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( اسْمُ اللهِ الأَعْظَمُ الذِي إِذَا دُعِي بِهِ أَجَابَ في سُوَرٍ ثَلاثٍ، البَقَرَةِ وَآلِ عِمْرَانَ وَطه ) (2)، قال القاسم: فالتمستها، إنه الحي القيوم: { اللهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الحَيُّ القَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ } [البقرة:255]، { اللهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الحَيُّ القَيُّومُ } [آل عمران:2] { وَعَنَتِ الوُجُوهُ لِلحَيِّ القَيُّومِ } [طه:111] (3) .
__________
(1) ابن ماجة في فضائل القرآن والأدعية والأذكار، باب اسم الله الأعظم 2/1267 (3855)، وانظر صحيح ابن ماجة (3845)، وصحيح أبي داود (1343) .
(2) ابن ماجة في الموضع السابق 2/1267 (3856)، وصحيح ابن ماجة (3846)، وانظر أيضا صحيح أبي داود (1327)، والسلسلة الصحيحة 2/371 (746) .
(3) قال الشيخ الألباني: ( قول القاسم إن الاسم الأعظم في آية: ( وعنت الوجوه للحي القيوم ) من سورة طه لم أجد في المرفوع ما يؤيده، فالأقرب عندي أنه في قوله في أول السورة ( إني أنا الله لا إله إلا أنا .. ) فإنه الموافق لبعض الأحاديث الصحيحة فانظر الفتح 225/11) السلسلة الصحيحة 2/371 (746) .(1/195)
وعند الترمذي واللفظ له وابن ماجة وصححه الألباني من حديث عبد الله بن بريدة الأسلمي عن أبيه - رضي الله عنه - قال: ( سَمِعَ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - رَجُلاً يَدْعُو وَهُوَ يَقُولُ: اللهمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِأَنِّي أَشْهَدُ أَنَّكَ أَنْتَ الله، لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ الأَحَدُ الصَّمَدُ، الذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ، فَقَالَ - صلى الله عليه وسلم - : وَالذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ سَأَلَ الله بِاسْمِهِ الأَعْظَمِ الذِي إِذَا دُعِي بِهِ أَجَابَ وَإِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى ) (1) .
وعند أبي داود وابن ماجة وصححه الشيخ الألباني من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - أنه كان مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالسا ورجل يصلي ثم دعا: ( اللهمَّ إني أَسْأَلُكَ بِأَنَّ لَكَ الْحَمْدَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ الْمَنَّانُ، بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ، يَا ذَا الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ يَا حي يَا قَيُّومُ، فَقَالَ النبي - صلى الله عليه وسلم - : لَقَدْ دَعَا الله بِاسْمِهِ الْعَظِيمِ الذي إِذَا دعي بِهِ أَجَابَ وَإِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى ) (2) .
أما بيان اعتبارات العظمة في الأسماء الحسنى التي ذكرها العلماء، واستندوا فيها إلى الروايات السابقة، فيمكن ترتيبه على النحو التالي:
__________
(1) ابن ماجة في الدعاء، باب اسم الله الأعظم 2/1267 (3857)، وانظر صحيح أبي داود (1341) .
(2) أبو داود في الوتر، باب الدعاء 2/79 (1495)، وانظر صحيح ابن ماجة 2/329 (3112) .(1/196)
1- الاسم الأعظم هو الله - عز وجل -: وأكثر أهل العلم على ذلك، وهذا القول صحيح من عدة أوجه، منها أنه ورد ذكره في الأحاديث السابق، ومنها أنه يدل على جميع الأسماء الحسنى والصفات العليا بالدلالات الثلاث، المطابقة والتضمن واللزوم؛ فإنه دال على إلهيته سبحانه المتضمنة لثبوت صفات الإلهية له مع نفي أضدادها عنه، وصفات الإلهية هي التي يستحق بها أن يعبد وأن تتعلق به القلوب خوفا ورجاء وتوكلا والتجاء، وهي صفات الكمال المنزهة عن التشبيه والمثال وعن النقائص والعيوب، ولهذا يضيف الله تعالى سائر الأسماء الحسنى إلى هذا الاسم كقوله تعالى: { وَلله الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا } [الأعراف:180]، وكذلك ورد قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( إِنَّ للهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمَا مِائَةً إِلاَّ وَاحِدًا مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ ) (1)، فلفظ الجلالة يكمل المائة والتسعة والتسعون مضافة إليه .
كما أنه يقال الرحمن والرحيم والقدوس والسلام والعزيز والحكيم من أسماء الله ولا يقال الله من أسماء الرحمن ولا من أسماء العزيز ونحو ذلك، فعلم أن اسمه الله مستلزم لجميع معاني الأسماء الحسنى دال عليها بالإجمال، والأسماء الحسنى تفصيل وتبيين لصفات الإلهية التي اشتق منها اسم الله .
__________
(1) أخرجه البخاري في الشروط، باب إن لله مائة اسم إلا واحدا 6/2691 (6957) .(1/197)
واسم الله - عز وجل - أيضا دال على كونه مألوها معبودا تألهه الخلائق محبة وتعظيما وخضوعا وفزعا إليه في الحوائج والنوائب، وذلك مستلزم لكمال ربوبيته ورحمته المتضمنين لكمال الملك والحمد، وإلهيته وربوبيته ورحمانيته وملكه مستلزم لجميع صفات كماله إذ يستحيل ثبوت ذلك لمن ليس بحي ولا سميع ولا بصير ولا قادر ولا متكلم ولا فعال لما يريد ولا حكيم في أفعاله، كما أن صفات الجلال والجمال أخص باسم الله - عز وجل -، وصفات الفعل والقدرة، والتفرد بالضر والنفع والعطاء والمنع، ونفوذ المشيئة وكمال القوة وتدبير أمر الخليقة أخص باسم الرب، وصفات الإحسان واللطف والجود والرأفة والبر والمنة أخص باسم الرحمن (1) .
فهذا الاسم هو الأصل في إسناد الأسماء الحسنى إليه، قال تعالى: { قُلِ ادْعُوا الله أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيّاً مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى } [الإسراء:110]، وقد ذكر الرازي في شرحه لهذه الآية أن الله - عز وجل - خص هذين الاسمين بالذكر، وذلك يدل على أنهما أشرف من غيرهما، ثم إن اسم الله أشرف من اسم الرحمن؛ لأنه قدمه في الذكر من جهة، ومن جهة أخرى أنه أعظم في الدلالة على الصفات من دلالة الرحمن، فاسم الرحمن يدل على كمال الرحمة، بينما اسم الله يدل على كل الصفات اللازمة لكمال الذات الإلهية كمالا مطلقا (2) .
__________
(1) مدارج السالكين لابن القيم 1/32 بتصرف، وانظر تفسير أسماء الله للزجاج ص24 .
(2) شرح أسماء الله الحسنى ص 91 .(1/198)
ومما ذكره الرازي أيضا أن هذا الاسم ما أُطلق على غير الله - عز وجل -؛ فالعرب كانوا يسمون الأوثان آلهة إلا هذا الاسم؛ فإنهم ما كانوا يطلقونه على غير الله - عز وجل - كما قال سبحانه: { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ لَيَقُولُنَّ الله } [لقمان:25]، كما أن هذا الاسم له خاصية غير حاصلة في سائر الأسماء، وهي أن سائر الأسماء والصفات إذا دخل عليها النداء أسقط عنه الألف واللام، ولهذا لا يجوز أن يقال: يا الرحمن يا الرحيم، بل يقال: يا رحمن يا رحيم، أما هذا الاسم فإنه يحتمل هذا المعنى فيصح أن يقال: يا الله، فالألف واللام للتعريف، فعدم سقوطها عن هذا الاسم يدل على أن هذه المعرفة لا تزول عنه البتة (1) .
2- الاسم الأعظم هو الرحمن الرحيم: وهو صحيح باعتبار عدة أوجه دلت على كمال مخصوص فوق كمال الاسم المنفرد، فالرحمن كما ذكر ابن القيم هو من اتصف بالرحمة العامة الشاملة، والرحيم هو الراحم لعباده، ولم يجيء رحمن بعباده ولا رحمن بالمؤمنين مع ما في اسم الرحمن الذي هو على وزن فعلان من سعة هذا الوصف وثبوت جميع معناه الموصوف به، ألا ترى أنهم يقولون غضبان للممتلئ غضبا، وندمان وحيران وسكران ولهفان لمن مليء بذلك؛ فبناء فعلان للسعة والشمول، ولهذا يقرن الله سبحانه وتعالى استواءه على العرش بهذا الاسم كثيرا كقوله - عز وجل -: { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } [طه:5]، وكقوله تعالى أيضا: { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً } [الفرقان:59]، فاستوى على عرشه باسمه الرحمن لأن العرش محيط بالمخلوقات وقد وسعها والرحمة محيطة بالخلق واسعة لهم على اختلاف أنواعهم كما قال: { وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُل شَيْءٍ } [الأعراف:156]، فاستوى على أوسع المخلوقات بأوسع الصفات ومن ثم وسعت رحمته كل شيء .
__________
(1) السابق ص 93 وما بعدها .(1/199)
وعند البخاري من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( لَمَّا قَضَى اللهُ الْخَلْقَ كَتَبَ في كِتَابِهِ فَهْوَ عِنْدَهُ فَوْقَ الْعَرْشِ إِنَّ رحمتي غَلَبَتْ غَضَبِى ) (1)، فتأمل اختصاص هذا الكتاب بذكر الرحمة ووضعه عنده على العرش، وطابق بين ذلك وبين قوله تعالى: { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } [طه:5]، وقوله: { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً } [الفرقان:59]، ينفتح لك باب عظيم من معرفة الرب تبارك وتعالى، إن لم يغلقه عنك التعطيل والتجهم (2) .
قال أبو علي الفارسي: ( الرحمن اسم عام في جميع أنواع الرحمة يختص به الله تعالى والرحيم إنما هو خاص بالمؤمنين، قال تعالى: { هُوَ الذِي يُصَلّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالمُؤْمِنِينَ رَحِيما } [الأحزاب:43] ) (3)، وقال ابن عباس - رضي الله عنه -: ( هما اسمان رقيقان أحدهما أرق من الآخر ) (4) .
وقال القرطبي: ( الرحمن خاص الاسم عام الفعل، والرحيم عام الاسم خاص الفعل وهذا قول الجمهور ) (5) .
وقد ذكر الله - عز وجل - استواءه على عرشه مقرونا باسمه الرحمن ليعم جميع الخلائق على اختلاف أنواعها برحمته، ولولا هذه الرحمة ما اتسعت الدنيا لكافر لحظة، فالرحمة هنا أظهرت عظمة الحكمة بجلال الأسماء وظهور الآلاء؛ ليتعظ من يتقلب في نعمته وهو غافل عن رحمته وحكمته، قال تعالى: { فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } [الرحمن:13] .
__________
(1) البخاري في بدء الخلق، باب ما جاء في قوله تعالى وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده 3/1166(3022) .
(2) مدارج السالكين 1/33 بتصرف .
(3) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 1/105.
(4) انظر فتح الباري شرح صحيح البخاري13/359 .
(5) الجامع لأحكام القرآن 1/105.(1/200)
كما أن الله - عز وجل - خص المؤمنين باسمه الرحيم فقال سبحانه: { وَكَانَ بِالمُؤْمِنِينَ رَحِيماً } [الأحزاب:43]، وذلك ليميز بينهم وبين الكافرين، فالكافر سيعامل بعدله والمؤمن سيعامل بفضله، وهذان الاسمان كلاهما عليهما مدار الحكمة في الدنيا والآخرة .
وما أجمل قول ابن القيم: ( وأما الرحمة فهي التعلق والسبب الذي بين الله وبين عباده، فالتأليه منهم له والربوبية منه لهم، والرحمة سبب واصل بينه وبين عباده، بها أرسل إليهم رسله، وأنزل عليهم كتبه، وبها هداهم، وبها أسكنهم دار ثوابه، وبها رزقهم وعافاهم وأنعم عليهم، فبينهم وبينه سبب العبودية، وبينه وبينهم سبب الرحمة، واقتران ربوبيته برحمته كاقتران استوائه على عرشه برحمته فقوله - عز وجل -: { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } [طه:5]، مطابق لقوله: { رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } [الفاتحة:2/3]، فإن شمول الربوبية وسعتها بحيث لا يخرج شيء عنها أقصى شمول الرحمة وسعتها، فوسع كل شيء برحمته وربوبيته ) (1)، وعلى ذلك فإن الرحمن الرحيم هما اسم الله الأعظم على اعتبار علوهما عن غيرهما في الدلالة على معاني الكمال والحكمة .
3- الاسم الأعظم هو الحي القيوم: وهو صحيح باعتبار عدة أوجه دلت على كمال مخصوص فوق جميع الأسماء، فهذان الاسمان عند اجتماعهما يختصان عن باقي الأسماء الحسنى بما فيهما من أبعاد اعتقاديه ويعطيان من معاني الكمال ما ليس لغيرهما؛ فجميع الأسماء الحسنى والصفات العليا تدل باللزوم على أن الله - عز وجل - حي قيوم، فالحياة وصف ذاته ومن أجلها كملت جميع أسمائه وصفاته، فلا يمكن أن يكون سميعا بصيرا عليما قديرا إلا إذا كان حيا، ولا يمكن أن يكون ملكا عزيزا قويا غنيا إلا إذا كان حيا، ولا يمكن أن يكون رحيما رءوفا مهيمنا عظيما إلا إذا كان حيا، ولا يمكن أن يكون جبارا متكبرا خالقا بارئا مصورا إلا إذا كان حيا .
__________
(1) مدارج السالكين 1/35 .(1/201)
ومن ثم فجميع أسماء الله - عز وجل - تدل على صفة الحياة التي تضمنها اسمه الحي، وهذه قضية عقلية نقلية بينها الله في القرآن بأفضل بيان وأجمل برهان، قال تعالى عن آلة المشركين: { إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ القِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ } [فاطر:14]، فمعبوداتهم لا تستجيب لكونها موتى، والميت تزول صفاته بزوال ذاته؛ فلا يقال عالم وهو ميت، بل يقال كان عالما ولا يقال غني قوي وهو ميت، بل يقال كان غنيا قويا، ولا يقال ملك وهو ميت بل يقال كان ملكا عادلا أو ظالما .
كما أن ملكية الشيء أو حق التملك، إما أن يكون سببه اختراع الأشياء وإيجادها أو دوام الحياة وكمالها؛ فالمخترع له براءة الاختراع والمؤلف له حق الطبع والنشر، وعند البخاري قال عمر - رضي الله عنه -: ( مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيِّتَةً فَهِيَ لهُ ) (1)، ومن المعلوم أن أي ملك في الدنيا لا يمكن أن يؤسس ملكه بمفرده بل يساعده خاصته وقرابته، ويسانده حزبه وجماعته، أما رب العزة فهو الحي قبل وجود الأحياء، وهو الإله الحق الذي انفرد بإنشاء الخلق وإقامة الملك، قال تعالى: { مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلا خَلقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ المُضِلينَ عَضُداً } [الكهف:51] .
__________
(1) البخاري في المزارعة، باب من أحيا أرضا مواتا 2/283 (2210) .(1/202)
ولما كان دوام الحياة وكمالها يؤدي إلى انتقال الملكية وثبوتها؛ فإن الحياة والقيومية أساس الربوبية وكمال العظمة والملكية، قال تعالى: { كُلُّ مَنْ عَليْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الجَلال والإكرام } [الرحمن:27]، وقال - عز وجل -: { وَللهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } [آل عمران:180]، والله - عز وجل - لما ذكر هذا الاسم الأعظم في أعظم آية قرآنية فقال: { اللهُ لا إِلهَ إِلا هُوَ الحَيُّ القَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ } [البقرة:255]، قال سبحانه بعدها مبينا التفرد بالملك والملكية: { لهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ } [البقرة:255] .
والقيم في اللغة هو السيد الذي يسوس الأمور ويدبرها، فقيم البلدة سيدها وأمينها ومدبرها، واسم الله القيوم تقدير فعله قام اللازم وأقام المتعدي، قام بذاته فلا يحتاج إلى غيره، وأقام غيره لافتقاره إليه، والله - عز وجل - هو القائم بنفسه الذي بلغ مطلق الكمال في وصفه، وهو الباقي بجلاله وكماله على الدوام دون تأثر أو تغيير؛ لأن الحي من البشر قد يكون موصوفا بالسمع لكن سمعه يتأثر بمرور الوقت فيفتقر إلى وسيلة للسماع، وقد يكون بصيرا لكنه يتأثر بعد مدة فيضع عدسة يستعين بها على الإبصار، فالحي قد يكون متصفا بالصفات لكنه يتأثر بالسنة والغفلة والنوم، ولو كان قائما دائما لكملت حياته وبقيت صفاته .(1/203)
ولذلك فإن الله - عز وجل - أثبت الحياة والقيومية اللازمة لكمال أسمائه وصفاته بطريق الإثبات والنفي المتضمن لكمال المقابل، وهذه أبلغ طرق المدح التي اتبعها السلف الصالح في مدح ربهم (1)، فمدار أوصاف الكمال وجميع الأسماء الحسنى تدل باللزوم على أن الله عز وجل حي قيوم، ومن ثم جعلهما النبي - صلى الله عليه وسلم - اسم الله الأعظم على هذا الاعتبار (2) .
قال ابن القيم: ( صفة الحياة متضمنة لجميع صفات الكمال مستلزمة لها، وصفة القيومية متضمنة لجميع صفات الأفعال، ولهذا كان اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى هو اسم الحي القيوم، والحياة التامة تضاد جميع الأسقام والآلام، ولهذا لما كملت حياة أهل الجنة؛ لم يلحقهم هم ولا غم ولا حزن ولا شيء من الآفات، ونقصان الحياة يضر بالأفعال وينافي القيومية؛ فكمال القيومية لكمال الحياة؛ فالحي المطلق التام لا يفوته صفة الكمال البتة، والقيوم لا يتعذر عليه فعل ممكن البتة ) (3) .
4- الاسم الأعظم هو الأحد الصمد: وهو صحيح على اعتبار أن الاسمين معا يدلان على كمال مخصوص يلازم جميع الأسماء والصفات، فالأحد دل على أنه سبحانه المنفرد بأسمائه وصفاته وأفعاله عن كل ما سواه، فالأحدية هي الانفراد ونفي الشريك والشبيه والمثلية، كما أن الصمدية تعني السيادة المطلقة في كل وصف على حدة فالصمد هو السيد الذي له الكمال المطلق في كل شيء، وهو المستغني عن كل شيء وكل من سواه مفتقر إليه، يصمد إليه ويعتمد عليه، وهو الكامل في جميع صفاته وأفعاله وليس فوقه أحد في كماله، وهو الذي يصمد إليه الناس في حوائجهم وسائر أمورهم فالأمور أصمدت إليه، وقيامها وبقاؤها عليه، لا يقضي فيها غيره، وهو المقصود إليه في الرغائب والمستغاث به عند المصائب، الذي يطعم ولا يَطعَم ولم يلد ولم يولد .
__________
(1) انظر هذه المسألة في تفسير آية الكرسي للمؤلف، تحت الطبع .
(2) انظر مجموع الفتاوى 18/311 .
(3) الطب النبوي ص159.(1/204)
أما كمال الوصف المخصوص عند اجتماع الأحدية والصمدية، فيمكن القول إن الله - عز وجل - لما فطر النفوس على أن تلجأ إلى قوة عليا عند ضعفها، وتطلب غينا أعلى عند فقرها، وعليما خبيرا عند جهلها، ورءوفا شافيا عند مرضها، ومن كملت أوصافه عند اضطرارها، فإن الله - عز وجل - هو المستحق لأن يكون هو الصمد دون ما سواه، والمخلوق وإن كان صمدا من بعض الوجوه؛ فإن حقيقة الصمدية منتفية عنه لأنه يقبل التفرق والزوال والتجزئة والانحلال، ويتقسم ويتبعض فينفصل بعضه من بعض، وهو أيضا مفتقر إلى ما سواه، وكل ما سوى الله مفتقر إليه من كل وجه فليس أحد يصمد إليه كل شيء ولا يصمد هو إلى شيء إلا الله تبارك وتعالى؛ لأنه لا يجري عليه شيء من ذلك، بل حقيقة الصمدية وكمالها له وحده، ولا يمكن انعدامها بوجه من الوجوه، كما لا يمكن تثنية أحديته أيضا بوجه من الوجوه، فهو أحد لا يماثله شيء من الأشياء كما قال تعالى: { وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ } [الإخلاص:4]، وقد استعملت الأحدية هنا في النفي، أي ليس شيء من الأشياء كفوا له في شيء من الأشياء لأنه أحد، وعند أبي داود وصححه الألباني من حديث عبد الله بن الشخير - رضي الله عنه - لما قال وفد بني عامر للرسول - صلى الله عليه وسلم - : ( أَنْتَ سَيِّدُنا، فقَالَ: السَّيِّدُ الله ) (1) .
__________
(1) صحيح أبي داود 3/912(4021)، وانظر مجموع الفتاوى 17/239 بتصرف .(1/205)
كما أن هذا الاسم الأعظم أو الأحد الصمد دل على أن الله لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد، فإن الصمد هو الذي لا جوف له ولا أحشاء، فلا يدخل فيه شيء، ولا يأكل ولا يشرب، سبحانه وتعالى كما قال: { قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ } [الأنعام:14]، وفي قراءة الأعمش وغيره ولا يطعم بالفتح (1)، وقال تعالى: { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ } [الذريات:56/57]، ومن مخلوقاته الملائكة وهم صمد لا يأكلون ولا يشربون؛ فالخالق لهم جل جلاله أحق بكل غنى وكمال جعله لبعض مخلوقاته (2) .
وقد فسر بعض السلف الصمد بأنه الذي لا يأكل ولا يشرب، وأن الصمد هو المصمد الذي لا جوف له؛ فلا يخرج منه عين من الأعيان ولا يلد، وهو كلام صحيح على معنى أنه لا يفارقه شيء منه، ولهذا امتنع عليه أن يلد وأن يولد، وذلك أن الولادة والتولد، وكل ما يكون من هذه الألفاظ لا يكون إلا من أصلين، وما كان من المتولد عينا قائمة بنفسها فلابد لها من مادة خرج منها، وقد نفى الله ذلك بقوله: { قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ } [الإخلاص:1]، فإن الأحد هو الذي لا كفؤ له ولا نظير فيمتنع أن تكون له صاحبة، والتولد إنما يكون بين شيئين، قال تعالى: { أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُل شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } [الأنعام:101]، فنفى سبحانه الولد بامتناع لازمه عليه؛ فإن انتفاء اللازم يدل على انتفاء الملزوم، وبأنه خالق كل شيء وكل ما سواه مخلوق له، ليس فيه شيء مولود له، فهو سبحانه غني بذاته، يمتنع في حقه أن يكون والدا وأن يكون مولودا (3) .
__________
(1) انظر البرهان في علوم القرآن 1/341، والتبيان في إعراب القرآن 1/237 .
(2) مجموع الفتاوى 17/239 بتصرف .
(3) السابق 17/220 بتصرف .(1/206)
وقد ذكر ابن القيم أن سورة الإخلاص فيها كمال التوحيد العلمي الاعتقادي وإثبات الأحدية لله المستلزمة نفي كل شركة عنه، وإثبات الصمدية المستلزمة لإثبات كل كمال له، هذا مع كون الخلائق تصمد إليه في حوائجها وتقصده الخليقة وتتوجه إليه، وفيها أيضا نفي الوالد والولد والكف عن طلبه، وهذا متضمن لنفي الأصل والفرع والنظير والمماثل، ولذلك صارت هذه السورة تعدل ثلث القرآن، ففي اسمه الصمد إثبات كل الكمال، وفي نفي الكفء التنزيه عن الشبيه والمثال، وفي الأحد نفى كل شريك لرب العزة والجلال، وهذه الأصول الثلاثة هي مجامع التوحيد (1) .
قال ابن تيمية: ( كذلك فإن هذين الاسمين يستلزمان سائر أسماء الله الحسنى وما فيها من التوحيد كله قولا وعملا، والنبي - صلى الله عليه وسلم - ذكر هذين الاسمين فقال: ( الله الواحد الصمد تعدل ثلث القرآن ) (2)، وذلك أن كونه أحدا وكونه الصمد يتضمن أنه الذي يقصده كل شيء لذاته ولما يطلب منه، وأنه مستغن بنفسه عن كل شيء، وأنه بحيث لا يجوز عليه التفرق والفناء، وأنه لا نظير له في شيء من صفاته، ونحو ذلك مما ينافي الصمدية، وهذا يوجب أن يكون حيا عالما قديرا ملكا قدوسا سلاما مهيمنا عزيزا جبارا متكبرا ) (3) .
__________
(1) الطب النبوي ص141بتصرف .
(2) رواه البخاري من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - ولفظه: ( قَالَ النَّبِىُّ S لأَصْحَابِهِ: أَيَعْجِزُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَقْرَأَ ثُلُثَ الْقُرْآنِ في لَيْلَةٍ؟ فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ وَقَالُوا: أَيُّنَا يُطِيقُ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ: اللَّهُ الْوَاحِدُ الصَّمَدُ ثُلُثُ الْقُرْآنِ ) انظر كتاب فضائل القرآن، باب فضل قل هو الله أحد 4/1916 (4727) .
(3) بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية 2/459 .(1/207)
ومن ثم فإن اجتماع اسم الأحد مع الصمد يضيفان من معاني الجلال والعظمة ما ليس لغيرهما، ولذلك ذكرهما النبي - صلى الله عليه وسلم - على أنهما اسم الله الأعظم، فهو سبحانه متوحد صمد، سيد كمل في سؤدده وفي جميع أوصافه وعظمته، وحلمه ورحمته، وعلمه وحكمته، وهذه صفته لا تنبغي لأحد إلا له .
دلالة اقتران الأسماء الحسنى على الصفات .
علمنا أن أسماء الله كلها حسنى وكلها عظمى على اعتبار ما يناسبها من أحوال العباد، فالغني هو اسم الله الأعظم حال فقر العباد، والقوى هو الأعظم حال ضعفهم والعليم حال جهلهم، والرزاق حال سعيهم وكسبهم، ويذكر ابن القيم أن كل اسم من أسماء الله الحسنى له أثر من الآثار في الخلق والأمر، لا بد من ترتبه عليه كترتب المرزوق والرزق على الرازق، وترتب المرحوم وأسباب الرحمة على الرحمن، وترتب المرئيات والمسموعات على السميع والبصير، ونظائر ذلك في جميع الأسماء؛ فلو لم يكن في عباده من يخطئ ويذنب ليتوب عليه ويغفر له ويعفو عنه لم تظهر آثار أسمائه الغفور والعفو والحليم والتواب وما جرى مجراها، وظهور أثر هذه الأسماء ومتعلقاتها في الخليقة كظهور آثار سائر الأسماء الحسنى ومتعلقاتها، فكما أن اسمه الخالق يقتضي مخلوقا والبارئ يقتضي مبروءا، والمصور يقتضي مصورا ولا بد، فأسماؤه الغفار التواب تقتضي مغفورا له وما يغفره له، وكذلك من يتوب عليه وأمورا يتوب عليه من أجلها، ومن يحلم عنه ويعفو عنه وما يكون متعلق الحلم والعفو، فإن هذه الأمور متعلقة بالغير ومعانيها مستلزمة لمتعلقاتها (1) .
__________
(1) مفتاح دار السعادة 1/287 بتصرف .(1/208)
فكل اسم من أسماء الله هو الأعظم في موضعه بظهور أثره في العباد وحكمة الله في ترتيب المصالح المقصودة والغايات الحميدة، والله - عز وجل - من حكمته أيضا أنه يقرن بين أسمائه في كثير من المواضع لتظهر دلالتها على أوصافه فتعطي كمالا فوق الكمال وجلال فوق الجلال بحيث تتجلى عظمة رب العزة والجلال في أسمائه وصفاته وأفعاله كما قال سبحانه: { تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ } [الرحمن:78]، وقد وردت أمثلة كثيرة في ذلك منها:
اقتران العزيز بالحكيم: فكل منهما دال على الكمال الخاص الذي يقتضيه، وهو العزة المطلقة في العزيز والحكمة المطلقة في الحكيم، والجمع بينهما دال على كمال آخر وهو أن عزته تعالى مقرونة بالحكمة؛ فعزته لا تقتضي ظلما وجورا كما يفعل العزيز مع من كان مقهورا، فإن العزيز منهم قد تأخذه العزة بالإثم فيظلم غيره ولا يحكم فعله، وسمع بعض الأعراب قارئا يقرأ قوله تعالى: { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } [المائدة:38]، فقرأها والله غفور رحيم، فقال: ليس هذا كلام الله، فقال: أتكذب بالقرآن؟ فقال: لا ولكن لا يحسن هذا، فرجع القارئ إلى خطئه، فقال: صدقت (1) .
ونحن إذا تأملنا ختام الآيات بما ورد فيها من الأسماء والصفات وجدنا كلام الله مختتما بذكر الصفة التي يقتضيها ذلك المقام، والاسم الأعظم الذي يناسب هذه الأحكام حتى كأن الأسماء والأوصاف ذكرت دليلا عليها وعلة لذكرها، كقوله تعالى: { إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ } [المائدة:118]، أي إن مغفرتك لهم صادرة عن عزة وكمال قدرة لا عن عجز أو جهل أو فقر أو ضعف .
__________
(1) انظر بتصرف شفاء العليل ص200، وجلاء الأفهام ص 318 .(1/209)
وقوله: { تَنْزِيلُ الكِتَابِ مِنَ اللهِ العَزِيزِ الحَكِيمِ } [الزمر:1]، فذكر العزة المتضمنة لكمال القدرة والتصرف، والحكمة المتضمنة لكمال الحمد والعلم، ولهذا كثيراً ما يقرن تعالى بين هذين الاسمين في آيات التشريع والجزاء ليدل عباده على أن مصدر ذلك كله عن حكمة بالغة وعزة قاهرة، ففهم الموفقون عن الله - عز وجل - مراده وحكمته، وانتهوا إلى ما وقفوا عليه، ووصلت إليه أفهامهم وعلومهم، وردوا علم ما غاب عنهم إلى أحكم الحاكمين ومن هو بكل شيء عليم، وتحققوا بما عملوه من حكمته التي بهرت عقولهم، وأن لله في كل ما خلق وأمر وأثاب وعاقب من الحكم البوالغ ما تقتصر عقولهم عن إدراكه، وأنه تعالى هو الغنى الحميد العليم الحكيم، فمصدر خلقه وأمره وثوابه وعقابه غناه وحمده وعلمه وحكمته، ليس مصدره مشيئة مجردة، وقدرة خالية من الحكمة والرحمة والمصلحة والغايات المحمودة المطلوبة له خلقاً وأمراً، وأنه سبحانه لا يسأل عما يفعل لكمال عزته وحكمته (1) .
__________
(1) انظر مفتاح دار السعادة 2/78 بتصرف .(1/210)
اقتران العزيز بالعليم: ذكر الله - عز وجل - هذين الاسمين مقترنين بعد بيان قدرته في تسيير الأجرام الفضائية والكواكب الدرية وترتيب مواقيتها الزمنية، كما ورد في قوله تعالى: { وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ العَزِيزِ العَلِيمِ } [يس:38]، وذلك ليعلم الجميع أن كل شيء موجود إنما هو بعلم ومشيئة، وليس أمرا تلقائيا عفويا دون عزة وحكمة، فهذا التقدير لمسير الشمس والقمر والليل والنهار وحركات النجوم في مطالعها ومغاربها تقدير ناشئ عن عزته وعلمه، وذلك متضمن وقوعه على وجه حكمته وأمره والغاية التي وجدت من أجلها، وأنها مهما عظمت أجرامها واتسعت أرجاؤها فلا يعز إيجادها وتدبير أمورها على العزيز العليم فقال جل شأنه: { فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظاً ذَلِكَ تَقْدِيرُ العَزِيزِ العَلِيمِ } [فصلت:12] (1)، وقال تعالى في سورة الدخان: { وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ } [الدخان:38]، وقال في سورة الرحمن: { وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ المِيزَانَ } [الرحمن:7]، وكل ذلك لتظهر أسماؤه وأحكامه وإنعامه وإكرامه حتى يلتزم العباد بتكليف الله لهم، ويوحدوا الله - عز وجل - كما أمرهم، قال تعالى: { أَلا تَطْغَوْا فِي المِيزَانِ وَأَقِيمُوا الوَزْنَ بِالقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا المِيزَانَ } [الرحمن:9] .
__________
(1) الصواعق المرسلة 4/1570 بتصرف .(1/211)
اقتران العزيز بالرحيم: ومن هذا أيضا ما ختم به سبحانه قصص الأنبياء في كثير من آيات القرآن، ففي سورة الشعراء يذكر في أعقاب كل قصة: { وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العَزِيزُ الرَّحِيمُ } [الشعراء:9]، وقد كررت ثماني مرات، كل مرة عقب كل قصة فالإشارة في كل واحدة بذلك إلى قصة النبي المذكور قبلها، وما اشتملت عليه من الآيات والعبر (1)، وقد ختمها باسمين مقترنين ليبين أن ما حكم به بين الرسل وأتباعهم وأهل الحق وأعدائهم صادر عن عزة ورحمة، فوضع العزة فيما يقابل النقمة من أعدائه ووضع الرحمة فيما يقابل النصرة لأوليائه .
قال الزركشي: ( وأما مناسبة قوله العزيز الرحيم فإنه تعالى نفى الإيمان عن الأكثر فدل بالمفهوم على إيمان الأقل؛ فكانت العزة على من لم يؤمن والرحمة لمن آمن، وهما مرتبتان كترتيب الفريقين ) (2)، فكل اسم وضع عن حكمة تظهر التناسب في الوصف ومن ثم فإن ترتيب الأسماء لم يأت من فراغ وإنما عن حكمة مرادة ورسالة وبلاغ .
اقتران السميع بالعليم: أمر الله - عز وجل - أن يقرن العبد بين هذين الاسمين عند الاستعاذة به من الشيطان فقال: { وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } [الأعراف:200]، وذلك لأنه يرانا ولا نراه؛ فناسب ذكر العليم مع السميع .
__________
(1) الإتقان 2/181 .
(2) البرهان في علوم القرآن 3/20 .(1/212)
وعند طلب الاستعاذة من شياطين الإنس ناسب ذكر البصير مع السميع، قال ابن القيم: ( وتأمل حكمة القرآن الكريم كيف جاء في الاستعاذة من الشيطان الذي نعلم وجوده ولا نراه بلفظ السميع العليم في الأعراف والسجدة، وجاءت الاستعاذة من شر الإنس الذين يؤنسون ويرون بالإبصار بلفظ السميع البصير في سورة حم المؤمن فقال: { إِنَّ الذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ } [غافر:56]، لأن أفعال هؤلاء أفعال معاينة ترى بالبصر، وأما نزع الشيطان فوساوس وخطرات يلقيها في القلب يتعلق بها العلم؛ فأمر بالاستعاذة بالسميع العليم فيها، وأمر بالاستعاذة بالسميع البصير في باب ما يرى بالبصر ويدرك بالرؤية ) (1) .
اقتران الحميد بالمجيد: الحميد سبحانه هو الذي له من الصفات وأسباب الحمد ما يقتضي أن يكون محمودا، وإن لم يحمده غيره فهو حميد في نفسه، والمحمود من تعلق به حمد الحامدين، وهكذا المجيد، والحمد والمجد إليهما يرجع الكمال كله؛ فإن الحمد يستلزم الثناء والمحبة للمحمود، فمن أحببته ولم تثن عليه لم تكن حامدا له حتى تكون مثنيا عليه محبا له، وهذا الثناء والحب تبع للأسباب المقتضية له، وهو ما عليه المحمود من صفات الكمال ونعوت الجلال والإحسان إلى الغير فإن هذه هي أسباب المحبة، وكلما كانت هذه الصفات أجمع وأكمل كان الحمد والحب أتم وأعظم .
__________
(1) بدائع الفوائد 2/463 .(1/213)
والله سبحانه له الكمال المطلق الذي لا نقص فيه بوجه ما، والإحسان كله له ومنه، فهو أحق بكل حمد وبكل حب من كل جهة، فهو أهل أن يحب لذاته وصفاته وأفعاله وأسمائه وإحسانه وكل ما صدر منه سبحانه وتعالى، وأما المجد فهو مستلزم للعظمة والسعة والجلال التي يحمد من أجلها، ولهذا جمع سبحانه بين هذين الاسمين فقال: { قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللهِ رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ } [هود:73] (1) .
اقتران الغني بالحليم: جمع الله بين هذين الاسمين في قوله: { قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذىً وَاللهُ غَنِيٌّ حَلِيم } [البقرة:263]، وذلك ليبين للأغنياء أنه غني عنهم لن يستفيد شيئا منهم، وإنما الحظ الأوفر لهم أنفسهم، فالصدقة نفعها عائد عليهم، فكيف يمنون بنفقاتهم على ربهم، ويؤذون بها عباده مع غناه عنهم وعن كل ما سواه، وهو مع هذا حليم إذ لا يعاجل المنان منهم بالعقوبة، وهذا وعيد ضمني وتحذير قوى لمن عاد في ذلك، وقد يكون المعنى أن الله سبحانه وتعالى مع غناه التام من كل وجه هو الموصوف بالحلم والتجاوز عن الذنب مع واسع عطائه وكمال نعمائه، فكيف يؤذي أحدكم غيره بمنه وأذاه مع قلة ما يعطي مهما بلغ في غناه (2) .
__________
(1) جلاء الأفهام ص318 بتصرف .
(2) طريق الهجرتين وباب السعادتين ص544 بتصرف .(1/214)
اقتران الغني بالكريم: جمع الله بين هذين الاسمين في قوله تعالى: { وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ } [النمل:40]، وفي اجتماع الاسمين من معاني الكمال الكثير والكثير؛ فليس كل غني كريما وليس كل كريم غنيا، ولن يكتسي الغِنَي بالجمال إذا كان الغَني بخيلا، كما أنه لن يكتسي الكريم بالكمال إذا كان الكريم فقيرا، وليس من غني كريم له مطلق الغنى والكرم إلا رب العزة والجلال، فالله غني لا حاجة به إلى أحد سواه ولا يضره كفر من كفر من خلقه (1)، وهو سبحانه غني كريم، ومن كرمه كثرة فضله على من يكفر بنعمه ويجعلها وسيلة إلى معصيته، والقصد أن كل اسم من أسماء الله يتضمن صفة من صفاته، وإذا اقترنت صفة كمال بأخرى نشأ عن ذلك كمال آخر يظهر أثره في حكمة الله وخلقة للأشياء .
اقتران الواسع بالعليم: ورد هذان الاسمان في سبعة مواضع من القرآن، كما في قوله: { مَثَلُ الذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } [البقرة:261]، وقد ختمت الآية باسمين مطابقين لسياقها، فلا يستبعد العبد هذه المضاعفة، ولا يضيق عنها عطنه فإن المضاعف واسع العطاء، واسع الغنى، واسع الفضل، ومع ذلك فلا يُظن أن سعة عطائه تقتضي حصولها لكل منفق، فإنه عليم بمن تصلح له هذه المضاعفة وهو أهل لها ومن لا يستحقها ولا هو أهل لها، فإن كرمه وفضله لا يناقض حكمته بل يضع فضله مواضعه لسعته ورحمته، ويمنعه من ليس من أهله بعلمه وحكمته (2) .
__________
(1) تفسير الطبري 19/165 .
(2) طريق الهجرتين ص540 بتصرف .(1/215)
اقتران الغفور بالودود: سر اقتران هذين الاسمين في قوله تعالى: { إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ } [البروج:13/14]، أن العبد الذي بينه وبين الله محبة وود لو أذنب ثم تاب واستغفر نادما صادقا، فإن الله يقبل توبته ويعيد محبته ويرجع الود أعظم مما كان، قال ابن القيم: ( وهذا بخلاف ما يظنه من نقصت معرفته بربه من أنه سبحانه إذا غفر لعبده ذنبه فإنه لا يعود الود الذي كان له منه قبل الجناية، واحتجوا في ذلك بأثر إسرائيلي مكذوب أن الله قال لداود - عليه السلام -: يا داود أما الذنب فقد غفرناه وأما الود فلا يعود، وهذا كذب قطعا؛ فإن الود يعود بعد التوبة النصوح أعظم مما كان فإنه سبحانه يحب التوابين، ولو لم يعد الود لما حصلت له محبته ) (1) .
10- اقتران الأول والآخر والظاهر والباطن: وردت هذه الأسماء في مجموعها دالة على معنى الإحاطة والكمال، وأنه لامناص للعبد من ركونه وافتقاره إلى رب العزة والجلال، فحصل من المعاني باقترانها جلال فوق الكمال الذي ينفرد به كل اسم منها فقال - عز وجل -: { هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } [الحديد:3]، فاسمه الأول يقتضي التجرد من مطالعة العباد للأسباب وإن أخذوا بها، وأن يجردوا النظر إلى سابق فضله ورحمته، وأنه المبتدئ بالإحسان من غير وسيلة من العبد؛ إذ لا وسيلة له في العدم قبل وجود أي وسيلة كانت هناك، وإنما هو عدم محض، وقد أتى عليه حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا، فمنه سبحانه الإعداد ومنه الإمداد، وفضله سابق على الوسائل التي هي في الأصل من فضله وجوده .
__________
(1) السابق ص357 .(1/216)
واسم الله الآخر يقتضي أيضا عدم ركونه ووثوقه بالأسباب والوقوف معها؛ فإنها تنعدم لا محالة، وتنقضي بالآخرية، ويبقى الدائم الباقي بعدها، فالتعلق بها تعلق بعدم ينقضي، فهذان الاسمان يوجبان صحة الاضطرار إلى الله وحده، ودوام الفقر إليه دون ما سواه، وأما اسمه الظاهر فيقتضي تحقق العبد من علو الله المطلق على كل شيء، وأنه ليس فوقه شيء، وأنه قاهر فوق عباده، ومن ثم يصير لقلبه اتجاها يقصده، وربا يعبده، وإلها يتوجه إليه ويوحده بخلاف من لا يدري أين ربه؟ فإنه ضائع مشتت القلب، ليس لقلبه قبلة يتوجه نحوها .
وأما اسمه الباطن فيقتضي معرفة إحاطة الرب سبحانه بالعالم وعظمته، وأن العوالم كلها في قبضته، وأن الله قد أحاط بالخلائق أجمعين، فهذه الأسماء الأربعة هي أركان العلم والمعرفة، فأولية الله - عز وجل - سابقة على أولية كل ما سواه، وآخريته ثابتة بعد آخرية كل ما سواه، وظاهريته فوقيته وعلوه على كل شيء سواه، وبطونه سبحانه إحاطته بكل شيء بحيث يكون أقرب إليه من نفسه، فمدار هذه الأسماء الأربعة على الإحاطة الزمانية والمكانية، فكان لها من معاني الكمال عند الاجتماع ما ليس لكل اسم من هذه الأسماء عند انفراده (1) .
هل الأسماء مشتقة من الصفات أم العكس؟
قضية أسماء الله الحسنى هل هي مشتقة من الصفات أم الصفات مشقة من الأسماء لا بد أن نفرق فيها بين عدة جوانب أساسية توضح المسألة وتبين القضية:
__________
(1) السابق ص39 بتصرف .(1/217)
الجانب الأول: إذا نظرنا إليها من جهة التكليف والحكم الشرعي، فإنه لا يجوز أن تُشتق الأسماء من الصفات، وإنما الصفات هي المشتقة من الأسماء، فتشتق من السميع البصير صفة السمع والبصر، ومن العليم القدير العلم والقدرة، ومن العزيز الحكيم العزة والحكمة، ومن الكريم العظيم الكرم والعظمة، لكن لا يجوز أن نشتق من صفات الذات والأفعال أسماء رب العزة والجلال، فقد وصف الله نفسه بالإرادة والاستواء والكلام والنزول والجلال والانتقام وأنه يؤتي وينزع ويعز ويذل ويخفض ويرفع ويبديء ويعيد ويقضي ويكتب لكن لا يجوز لنا أن نشتق له من هذه الصفات المريد والمستوى والمتكلم والنازل والجليل والمنتقم والمؤتي والمنزع والمعز والمذل والخافض والرافع والمبديء والمعيد والقاضي والكاتب .
ومن الخطأ أن نسمى الله بهذه الأسماء أو بعضها، ومن فعل ذلك فقد سمى ربه بما لم يسم به نفسه في كتابه أو في سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، فأسماء الله الحسنى بإجماع السلف الصالح توقيفية على النص؛ لا بد فيها من أدلة قرآنية، أو ما صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في السنة النبوية، وليست أسماء الله - عز وجل - مسألة عقلية اجتهادية يشتق فيها الإنسان لربه من أوصافه وأفعاله ما يشاء من الأسماء، فكثير من العلماء جعلوا المرجعية في علمية الاسم واشتقاقه من الوصف إلى أنفسهم، وليس إلى النص الثابت في الكتاب والسنة، وهذا يعارض ما اتفق عليه أهل السنة والجماعة في كون الأسماء الحسنى توقيفية سمعية، وقد تقدم الكلام عن ذلك عند الحديث عن الشرط الأول من شروط الإحصاء، ومن ثم فإن الأسماء الحسنى على هذا الاعتبار لا تشتق من صفات الذات أو صفات الأفعال حتى لو كانت الصفة مطلقة في الكمال، أو مقيدة به في حال دون حال، ومن أجل ذلك كان باب صفات الله - عز وجل - أوسع من باب أسمائه الحسنى (1) .
__________
(1) انظر بتصرف بدائع الفوائد 1/162، ومدارج السالكين 3/415 .(1/218)
الجانب الثاني: إذا نظرنا إلى اشتقاق الأسماء والصفات من الجانب الاعتقادي وكيفية توحيد المسلم لربه؟ فإنه تعالى ليس كمثله شيء في ذاته المقدسة أو أسمائه الحسنى أو صفاته العليا أو أفعاله سبحانه، ولا يقاس على خلقه بقياس تمثيلي أو شمولي، فمن المعلوم أن الإنسان في بدايته وعند أول خلقه وتكوينه يكون ناقصا في أوصافه وأفعاله؛ من أجل ذلك صح اكتساب ما يليق به من أنواع الكمال كالشرف والعلم والقوة والمال وما يحمد عليه من جميل الصفات والأفعال؛ إذ كمالهم وصلاحهم عن أفعالهم، فالعبد أسماؤه وصفاته عن أفعاله؛ فيحدث له اسم العالم والكامل بعد حدوث العلم والكمال فيه، ويكتسب مالا فيصبح غنيا ويحمده الناس فيصبح محمودا، ويتحرى الصدق فيكون صادقا، فهم يُكمِّلون نقصهم الذاتي بفعل كمال كسبي؛ فيظهر بين الناس حسنهم وحسن أسمائهم وأوصافهم وأفعالهم (1) .
__________
(1) انظر بتصرف كتب ورسائل وفتاوى ابن تيمية في العقيدة 8/387 .(1/219)
أما رب العزة والجلال فأفعاله عن جلال أسمائه وكمال أوصافه، وهي مشتقة منها كما ورد في المسند وصححه الشيخ الألباني من حديث عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( قَالَ اللهُ - عز وجل -: أَنَا الرَّحْمَنُ خَلَقْتُ الرَّحِمَ، وَشَقَقْتُ لَهَا مِنِ اسْمِي اسْماً فَمَنْ وَصَلَهَا وَصَلْتُهُ وَمَنْ قَطَعَهَا بَتَتُّهُ ) (1)، وهذا الحديث دليل واضح على أن الله - عز وجل - أفعاله صادرة عن أسمائه وأوصافه بعكس أسماء المخلوقين وأوصافهم التي تصدر عن أفعالهم؛ فعقيدة التوحيد تقتضي الإيمان بأن أفعال الله - عز وجل - صادرة عن كماله، كمُل ففعل، وأن كمال المخلوق صادر عن أفعاله، فعل فكمل الكمال اللائق به، ومن ثم اشتقت الأسماء له بعد أن كمل بالفعل، أما الرب فلم يزل كاملا على الدوام بأسمائه وصفاته أزلا وأبدا (2) .
وعلى ذلك فإن الأسماء الحسنى والصفات الذاتية وأصل الصفات الفعلية من جهة المشيئة والإمكانية هي في حقيقتها أزلية أبدية بأزلية الذات الإلهية، وطالما أنه سبحانه ليس كمثله شيء في ذاته وأسمائه وصفاته، وأن الاشتقاق في حقه ليس كالاشتقاق في حقنا، فإن الأسماء الحسنى دالة على الصفات ومرتبطة بها، والصفات يشتق الله لنفسه منها ما يشاء من الأسماء؛ فهذا حقه وفعله فيما يخصه، قال - عز وجل -: { فَسُبْحَانَ اللهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ } [الأنبياء:23] .
__________
(1) مسند الإمام أحمد 1/191(1659)، وانظر السلسلة الصحيحة للشيخ الألباني 2/49 (520) .
(2) انظر بتصرف بدائع الفوائد 1/169.(1/220)
لكن المسلم الموحد صاحب العقيدة الصحيحة لا يجوز له أن يشتق لله من أوصافه وأفعاله ما يشاء من الأسماء، لأنها توقيفية على النص كما سبق، ولأن دورنا حيال أسماء الله الحسنى الإحصاء، ثم الحفظ والدعاء، وليس الاشتقاق والإنشاء، ولعل هذا ما يعنيه من قال من العلماء بأن الأسماء مشتقة من الصفات كقول ابن القيم رحمه الله: ( أسماؤه مشتقة من صفاته وصفاته قديمة به فأسماؤه غير مخلوقة ) (1)، وكذلك قوله: ( والرب تعالى يُشتق له من أوصافه وأفعاله أسماء، ولا يُشتق له من مخلوقاته وكل اسم من أسمائه فهو مشتق من صفة من صفاته أو فعل قائم به، فلو كان يُشتق له اسم باعتبار المخلوق المنفصل؛ فإنه يُسمى متكونا ومتحركا وساكنا وطويلا وأبيض وغير ذلك لأنه خالق هذه الصفات، فلما لم يطلق عليه اسم من ذلك مع أنه خالقه علم إنما يشتق أسمائه من أفعاله وأوصافه القائمة به، وهو سبحانه لا يتصف بما هو مخلوق منفصل عنه ولا يتسمى باسمه ) (2) .
الجانب الثالث: إذا نظرنا إلى اشتقاق الأسماء والصفات من الجانب اللغوي، فمن جهة اللغة واشتقاق الألفاظ يصح القول بأن الأسماء الحسنى مشتقة من الصفات والأفعال، وأنها ملاقية لمصادرها في اللفظ والمعنى، وتسمية النحاة المصدر والمشتق منه أصلا وفرعا ليس معناه أن أحدهما تولد من الآخر، وإنما هو باعتبار أن أحدهما متضمن للآخر وزيادة، لا أن العرب تكلموا بالأسماء أولا ثم اشتقوا منها الأفعال؛ فإن التخاطب بالأفعال ضروري كالتخاطب بالأسماء لا فرق بينهما، فالاشتقاق هنا ليس اشتقاقا ماديا، وإنما هو اشتقاق تلازم يسمى المتضمِّن فيه مشتقا، والمتضمَّن مشتقا منه ولا محذور في اشتقاق أسماء الله تعالى بهذا المعنى (3) .
__________
(1) شفاء العليل ص 277، ومدارج السالكين 1/37 .
(2) السابق ص 271 .
(3) انظر بتصرف مجموع الفتاوى 17/ 231، وشرح قصيدة ابن القيم 1/12 .(1/221)
قال ابن القيم: ( زعم السهيلي وشيخه ابن العربي أن اسم الله غير مشتق؛ لأن الاشتقاق يستلزم مادة يشتق منها واسمه سبحانه قديم لا مادة له فيستحيل الاشتقاق ولا ريب أنه إن أريد بالاشتقاق هذا المعنى فهو باطل، ولكن من قال بالاشتقاق لم يُرد هذا المعنى ولا ألمّ بقلبه، وإنما أراد أنه دال على صفة له تعالى وهي الإلهية، كسائر أسمائه الحسنى من العليم والقدير فإنها مشتقة من مصادرها بلا ريب، وهي قديمة والقديم لا مادة له، فما كان جوابكم عن هذه الأسماء كان جواب من قال بالاشتقاق في الله تعالى، ثم الجواب عن الجميع أنا لا نعني بالاشتقاق إلا أنها ملاقية لمصادرها في اللفظ والمعنى، لا أنها متولدة منها تولد الفرع من أصله ) (1) .
ولولا أن الأسماء تتنوع في اشتقاقاتها اللغوية ومبانيها اللفظية لما ظهرت معاني التخاطب بين الإنسانية، والله - عز وجل - إنما أنزل القرآن بالعربية، والقرآن تضمن ذكر الأسماء والصفات الإلهية التي أراد من عباده أن يعرفوها ويدعوه بها، قال أبو هلال العسكري: ( كل اسمين يجريان على معنى من المعاني وعين من الأعيان في لغة واحدة فإن كل واحد منهما يقتضي خلاف ما يقتضيه الآخر ) (2) .
والمدقق بعمق في أسماء الله الحسنى ودلالتها على معاني الكمال يجد أنه لا يوجد اسمان يتطابقان دلاليا سواء جاء الاختلاف من المعنى المعجمي للاسم حيث يختلف الاسمان في الجذر ويتقارب معناهما فيُظن ترادفهما، أو جاء الاختلاف من المعنى الصرفي حين يتفق الاسمان في الجذر فيُظن تكرارهما .
__________
(1) بدائع الفوائد 1/27، وانظر أيضا حول هذه النقطة الفرق بين الفرق للبغدادي ص 327، والفصل في الملل والأهواء والنحل لابن حزم 5/23، ودرء تعارض العقل والنقل لابن تيمية 10/231 .
(2) الفروق اللغوية ص11 .(1/222)
فمن النوع الأول التمييز الدلالي بين اسم الله الحميد واسمه الشكور، فكلاهما اسمان لله - عز وجل - مختلفان في الجذر متقاربان في المعنى لكن لا يتطابقان (1)، وقد جمع النبي - صلى الله عليه وسلم - بين الحمد والشكر في موضع واحد بأداة العطف، والأصل في العطف اقتضاء المغايرة كما ورد عند أحمد وصححه الشيخ الألباني من حديث سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( عَجِبْتُ لِلْمُؤْمِنِ إِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ حَمِدَ اللهَ وَشَكَرَ، وَإِنَّ أَصَابَتْهُ مُصِيبَةٌ حَمِدَ اللهِ وَصَبَرَ ) (2)، قال أبو هلال العسكري: ( يعطف الشيء على الشيء وإن كانا يرجعان إلى شيء واحد إذا كان في أحدهما خلاف للآخر ) (3) .
وقد ذكر في الفرق بينهما أن الشكر هو الاعتراف بالنعمة على جهة التعظيم للمنعم ولا يصح إلا على النعمة، أما الحمد فهو الذكر الجميل على جهة التعظيم ويصح على النعمة وغير النعمة (4) .
__________
(1) انظر أسماء الله الحسنى دراسة في البنية والدلالة للدكتور أحمد مختار عمر ص83، وأنبه على أن كل ما سيأتي إلى نهاية الحديث عن الجانب اللغوي؛ فإنه للأمانة العلمية مختصر من الفصل الثالث من هذا البحث المتميز للدكتور أحمد مختار، ولكن بصياغة وتصرف، وتنسيق وتخريج منهجي يتناسب مع موضوعنا ومنهجنا .
(2) مسند الإمام أحمد 1/173 (1492)، وانظر صحيح الجامع (3986)، ومشكاة المصابيح (1733) .
(3) الفروق اللغوية ص11 .
(4) الفروق ص35 .(1/223)
وأما النوع الثاني وهو مجيء الاختلاف من المعنى الصرفي، فإنما يتلمس حين يتفق الاسمان في الجذر ويختلفان في الوزن؛ فينفي احتمال الترادف بينهما أو ثبات المعنى للاسم ذاته اختلاف معنى الصيغة في كل اسم، واشتقاقه من فعلين يختلفان في التجرد والزيادة، كاسم الله المبين والقيوم؛ فإن كانا مشتقين من المجرد كبان وقام على وزن فعل حَمل الاسم المأخوذ من الفعل مجرد أصل المعنى، وهو الظاهر الواضح المتميز في المبين، والقيام بالنفس وكمال الوصف والبقاء على الدوام في القيوم، أما تلك التي أخذت من وزن أفعل فقد أضافت الصيغة فيها معنى التعدية، وهو المعنى الغالب على وزن أفعل (1)، فيكون معنى المبين الذي أبان لكل مخلوق علة وجوده وغايته، وأبان لهم طلاقة قدرته مع بالغ حكمته، وأبان لهم الأدلة القاطعة على وحدانيته، وأبان لهم دينهم بأحكام شريعته، ولا يعذب أحدا من خلقه إلا بعد بيان حجته، ومعنى القيوم الذي أقام أُمور الخلق وتولى تدبير الرزق وأبقاهم لمقتضى حكمته، فالمعنى يتغير في الاسم بتغير الاشتقاق في الفعل من حيث الأصل والزيادة .
__________
(1) انظر شرح الشافية 1/83، وشذا العرف 38، 39، نقلا عن دكتور أحمد مختار ص 85 .(1/224)
وهناك من التنوع في معاني الأسماء ما نتج عن اختلاف الوزن فيه عن طريق اشتقاق الاسم من فعلين مزيدين يختلفان في نوع الزيادة مما جعل كلا منهما يكتسب معناه الصرفي من معنى فعله المزيد، كالقادر والمقتدر من فعَّل وافتعل قدَّر واقتدر وسيأتي تقدم ذكر الفرق بينهما في شرحنا للأسماء الحسنى، وكذلك ورد من أسماء الله تعالى ما هو مأخوذ من فِعْلٍ على وزن تفاعل وله نظير من الجذر الثلاثي المجرد وهو العلي والمتعال، فالعلي الذي يتصف بعلو الفوقية، أما المتعال فهو الذي يتصف بعلو الشأن على سبيل المبالغة والإطلاق، وأيضا ورد من أسماء الله ما هو مأخوذ من فِعْلٍ على وزن تفعَّل ولهما نظير من الفعل الثلاثي المجرد وهما الكبير والمتكبر، ذكر البيهقي أن التاء في المتكبر هي تاء التفرد والتخصيص بالكبر لا تاء التعاطي والتكلف (1) .
وقد ذهب بعضهم إلى أن أسماء الله التي هي صيغة مبالغة كلها مجاز، إذ هي موضوعة للمبالغة ولا مبالغة فيها؛ لأن المبالغة هي أن تثبت للشيء أكثر مما له وصفات الله تعالى متناهية في الكمال لا يمكن المبالغة فيها، والمبالغة أيضا تكون في صفات تقبل الزيادة والنقصان وصفات الله تعالى منزهة عن ذلك، وقد ذكرنا أن ذلك يصح من الجانب الاعتقادي، وإن كان فيه نظر من الجانب اللغوي، كما أن المحققين ذهبوا إلى أن المبالغة في حق الله تعالى لا تعني زيادة الفعل، ولكن تعني تعدد المفعولات وكثرة المتعلقات، فالله تواب لكثرة قبوله من يتوب إليه من عباده، والله قدير باعتبار تكثير التعلق وليس تكثير الوصف، والله عليم باعتبار عموم العلم لكل الأفراد لا باعتبار المبالغة في الوصف، إذ العلم لا يصح التفاوت فيه (2) .
__________
(1) كتاب الأسماء والصفات للبيهقي ص94 .
(2) انظر البرهان 2/508:507 .(1/225)
ومن التنوع الدلالي لأسماء الله الحسنى أيضا الفرق بين معاني الصيغ داخل المشتق الواحد، حيث يثير تعدد الصيغ في كل من الصفة المشبهة وصيغ المبالغة سؤالا هاما وهو: هل معانيها كلها واحدة أو هناك فروق بينها؟
علمنا أن الحديث عن نفي الترادف يستلزم في حال اتحاد المعنى المعجمي عدم الاتحاد في المعنى الصرفي أو معنى الصيغة، ويؤكد هذا الاتجاه تنوع الاستعمال القرآني وعدم استخدامه وزنا معينا من أوزان النوع الواحد تبعا للمعنى المراد إبرازه، كقوله تعالى: { إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } [البقرة:173]، مع قوله تعالى: { رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ } [ص:66]، فماذا يمكن أن يلحظ من فروق بين أوزان الصفة المشبهة؟ أو بين أوزان صيغ المبالغة؟
على الرغم من دقة الإجابة عن هذا السؤال إلا أنه يمكن تلمس هذه الفروق فبالنسبة للصفة المشبهة فالملحظ الأساسي عنها أن اختلاف أوزانها يعكس تفاوتا في درجة دلالتها على الثبوت والدوام من ناحية، كما يعكس اختلاف الدلالة الصرفية لأفعالها من ناحية أخرى، فوزن فعلان على سبيل المثال يفيد ثبوت الصفة ولكن بشكل أقل، ولكن لا يبلغ في تجدده ووقوعه مبلغ اسم الفاعل، لأن زواله بطيء مثل شبعان وظمآن وغضبان وريان، ولكنه يعوض هذا بدلالته على معنى الامتلاء أو ضده، وهذا بخلاف وزن فعيل الذي يفيد ثبوت الصفة بقدر كبير من الدوام والاستمرار نحو طويل وقصير ودميم وعقيم، أو على وجه قريب من ذلك نحو نحيف وسمين، أما وزن فَعِل فيرتبط عادة بالصفات الداخلية تبعا لفعله، مثل فرح وطرب وقلق .(1/226)
وأما بالنسبة لصيغ المبالغة فعلى الرغم من دلالتها جميعا على كثرة المعنى كما وكيفا من ناحية واشتقاقها من الأفعال المتعدية عادة من ناحية أخرى؛ فإنه يفرق بينها لغويا عدة أشياء، منها اختلافها في درجة القوة تبعا لاختلاف أبنيتها على حد قولهم: إن زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى، فوزن فعَّال مثلا أو فَعُّول أو فُعُّول أدل على المبالغة من فَعُول أو فعيل وهما أدل على المبالغة من فعِل، ومنها تميز وزن فعَّال بارتباطه بمعنى التكرار والوقوع وقتا بعد وقت، ومنها تميز وزن فعيل بكثرة استخدامه للمبالغة في الصفات الدالة على الثبوت، فعليم يدل على أنه لكثرة علمه وتبحره فيه أصبح له طبيعة ثابتة وسجية ملازمة (1)، قال أبو هلال العسكري: ( إذا كان الرجل قويا على الفعل قيل فَعول مثل صبور وشكور، وإذا فعل الفعل وقتا بعد وقت قيل فعّال مثل علام وصبار، وإذا كان عادة له قيل مفعال مثل معوان ومعطاء .. ومن لا يتحقق المعاني يظن أن ذلك كله يفيد المبالغة فقط، وليس الأمر كذلك، بل هي مع إفادتها المبالغة تفيد المعاني التي ذكرناها ) (2) .
__________
(1) انظر أسماء الله الحسنى دراسة في البنية والدلالة للدكتور أحمد مختار ص95، ص96 بتصرف .
(2) الفروق اللغوية ص12، 13 .(1/227)
ومعظم الأسماء الحسنى جاءت على صيغ دالة على الفاعل، فمنها ما دل على وجود الصفة دون قصد المقارنة، ويضم اسم الفاعل وهو ما يدل على التجدد والحدوث كالخالق والقاهر والرازق والشاكر والمالك والقادر والوارث، ومنها ما دل على الصفة المشبهة وهي ما يدل على الثبات والدوام كما في وزن فعلان كالرحمن، ووزن فُعُّول كالقدوس، ووزن فَعَلْ كالأحد الصمد الحكم، ووزن فَعْل كالبر والحق والحي والرب وكذلك على وزن فَعُّول كالقيوم، ومنها ما دل على صيغ المبالغة وهي ما يدل على التأكيد والمبالغة في الشيء، كالأسماء التي وردت على وزن فعَّال مثل التواب الغفار الفتاح الجبار الوهاب القهار الخلاق الرزاق، وعلى وزن فعيل كالسميع البصير العليم الخبير الحسيب النصير الحفيظ الرقيب اللطيف القريب العلي العظيم الغني الحكيم العزيز الرحيم القدير الحليم الكريم الحميد المجيد الوكيل الشهيد المليك الكبير القوي المتين، وعلى وزن فعُول كالرءوف الودود الشكور العفو الغفور، وعلى وزن فَعِل كالملك، ومنها ما جاء على اسم التفضيل وهو ما يدل على وجود الصفة مع قصد المقارنة كالأول والآخر والأكرم والأعلى (1) .
وهناك عدد من الأسماء الحسنى ورد بصيغ مشتركة بين الصفة المشبهة وصيغ المبالغة مثل وزن فعيل كحسيب وحفيظ وحكيم ورحيم وستير وسميع وعزيز وعليم وبصير وجميل وحليم وخبير ورقيب، وأيضا وزن فعُول مثل شكور وغفور وودود وعفو ورءوف، وكذلك وزن فَعِل الذي ورد منه اسم الله الملك .
وقد يسأل سائل عن كيفية التمييز بين النوعين؟ على الرغم من صعوبة ذلك واختلاف العلماء حول معايير الفصل بين النوعين، بل تساهل بعضهم في إطلاق أحد النوعين على الآخر لاشتراكهما في الدلالة على قوة المعنى، على الرغم من ذلك يمكن طرح معيارين للتفريق بين النوعين:
__________
(1) أسماء الله الحسنى دراسة في البنية ص96 بتصرف .(1/228)
أحدهما: اتخاذ معنى الصيغة فيصلا حين الحكم، ورد كل ما جاء من فعيل بمعنى اسم الفاعل سواء كان بمعنى فاعل أو مُفْعِل أو مُفاعِل إلى الصفة المشبهة إذا كان المراد من الحدث الدلالة على الثبوت، وإلى صيغة المبالغة إذا كان المراد الدلالة على كثرة وقوع الفعل وتكراره .
الثاني: اتخاذ التعدي واللزوم مقياسا آخر، فما كان من اللازم كان أولى أن ينسب إلى الصفة المشبهة، وما كان من المتعدي كان أولى أن ينسب إلى صيغ المبالغة .
وبهذا يمكن توجيه ما جاء في قوله: { إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ } [البقرة:32]، قال في الفروق اللغوية: ( الحكيم بمعنى المحكِم مثل البديع بمعنى المبدع .. أو بمعنى العالم بإحكام الأمور ) (1)، فعلى الأول يكون صيغة مبالغة لتعديه إلى مفعول، وعلى الثاني يكون صفة مشبهة .
وكذلك القول في الحسيب فإذا كان من فعل متعد فهو صيغة مبالغة، وإذا كان من فعل لازم فهو صفة مشبهة، وأيضا الحفيظ والرحيم والستير والسميع والعليم كلها صيغ مبالغة لأنها من فعل متعد، أما العزيز فهو صفة مشبهة لأنه من فعل لازم، وكذلك العلي صفة مشبهة لأنه من فعل لازم، وقس على ذلك (2) .
أنواع الدلالات وتعلقها بالأسماء والصفات .
__________
(1) الفروق اللغوية ص77.
(2) أسماء الله الحسنى دراسة في البنية ص98 بتصرف .(1/229)
الدلالة المقصودة في البحث هي الدلالة اللفظية الوضعية، وهي فهم المعنى عند إطلاق اللفظ (1)، أو هي العلم بالمعنى المقصود، أو الحقيقة التي يؤول إليها الكلام عند صدوره من المتكلم (2)، وتنقسم هذه الدلالة عند العلماء إلى ثلاثة أقسام، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ( الماهية التي يعنيها المتكلم بلفظه، دلالة لفظه عليها دلالة مطابقة ودلالته على ما دخل فيها دلالة تضمن، ودلالته على ما يلزمها وهو خارج عنها دلالة الالتزام ) (3)، وبيان تلك الدلالات مفصلة على النحو التالي:
__________
(1) انظر بتصرف تحرير القواعد المنطقية لقطب الدين محمود بن محمد الرازي ص 29، نشر مصطفى البابي الحلبي القاهرة سنة 1367هـ .
(2) الرد على المنطقيين لابن تيمية ص74، والإحكام في أصول الأحكام للآمدي 1/37 .
(3) منهاج السنة النبوية لابن تيمية 5/453 .(1/230)
1- دلالة المطابقة: وهي دلالة اللفظ على ما عناه المتكلم ووضعه له، أو هي دلالة اللفظ على الحقيقة والمعنى المقصود، مثل دلالة لفظ البيت على مجموع الجدران والسقف والأبواب والنوافذ (1)، فمن المعلوم أن الألفاظ أو الأسماء تطلق على الأشياء لتتميز بها عن غيرها، وكل اسم أو لفظ في أي لغة وعلى أي لسان ينطبق في دلالته بين العقلاء على شيء متعارف عليه، سواء بالوضع اللغوي أو لغة التخاطب التي فُطرت عليها الإنسانية، أو الوضع الشرعي المرتبط بالشرائع الدينية كلفظ الصلاة والزكاة والصيام والركوع والسجود في الإسلام، أو الوضع العرفي الذي يصطلح عليه أهل بلد ما أو قرية أو قبيلة، أو الوضع الاصطلاحي الذي يتعارف عليه أهل علم من العلوم؛ فالألفاظ المنطوقة أو المكتوبة لها مدلولات معينة يعيها القلب ويدرك معناها ولها في الواقع مدلولات من قبل المتكلم، قال ابن تيمية: ( والمعنى المدلول عليه باللفظ لا بد أن يكون مطابقا للفظ؛ فتكون دلالة اللفظ عليه بالمطابقة .. وليست دلالة المطابقة دلالة اللفظ على ما وضع له كما يظنه بعض الناس .. بل يجب الفرق بين ما وضع له اللفظ وبين ما عناه المتكلم باللفظ وبين ما يحمل المستمع عليه اللفظ، فالمتكلم إذا استعمل اللفظ في معنى فذلك المعنى هو الذي عناه باللفظ، وسمي معنى لأنه عني به أي قصد وأريد بذلك فهو مراد المتكلم ومقصوده بلفظه .. وكل لفظ استعمل في معنى فدلالته عليه مطابقة لأن اللفظ طابق المعنى بأي لغة كان، سواء سمي ذلك حقيقة أو مجازا ) (2) .
__________
(1) درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية10/12، وانظر له أيضا الصفدية 2/154 .
(2) منهاج السنة النبوية لابن تيمية 5/452 .(1/231)
ومن أمثلة دلالة المطابقة دلالة لفظ المسجد على مسماه في أي وضع شرعي أو عرفي أو اصطلاحي، إذ يدل في الوضع الشرعي على شيء معين جعل للصلاة والجماعة والجمع، فلو قال أحدهم لأخيه انتظرني في المسجد فإنه لا ينتظره في السوق؛ لعلمه أن المسجد لفظ يدل على مكان معلوم جعل للصلاة والعبادة، وأن لفظ السوق يدل على مكان آخر وضع للبيع والشراء .
وأيضا لو قال المشتري للبائع: أعطني تفاحا، فإن البائع يعطيه شيئا معينا أو فاكهة معلومة يطلق عليها هذا اللفظ، وليس إذا قال له أعطني تفاحا أعطاه عنبا أو برتقالا أو جزرا أو خيارا؛ لأن الله - عز وجل - فطر العقلاء على أن يتعلموا الأسماء وما تنطبق عليه من مدلولات في واقعهم، فالمشتري والبائع يعلمان أن لفظ التفاح يدل على شيء معين غير الذي يدل عليه لفظ البرتقال، لكن لو قلت للبائع: أعطني خيارا فأعطاك برتقالا فذلك إما لأنه لم يسمع فيعاد اللفظ؛ أو لأنه لم يعقل ومثل هذا لا يعد من العقلاء ولا يصلح للبيع والشراء .(1/232)
وإذا قيل محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإن المسلم يعلم أن ذلك ينطبق على خاتم الأنبياء ولا ينصرف ذهنه إلى عيسى - عليه السلام - أو موسى - عليه السلام - أو غيرهما من الأنبياء، لأن كل لفظ أو اسم ينطبق على شيء معين دون غيره، وإذا قيل الخالق هو الله - عز وجل -، فإن الذهن يفهم من دلالة الاسم أنه ينطبق على ذات الله تعالى المتصفة بصفة الخلق، ولا ينصرف إلى ذات أخرى إلا عند من فسدت فطرتهم ونسبوا الخالقية لغيره، كما أن الذهن لا ينصرف أيضا عند النطق بلفظ الخالق إلى صفة أخرى غير صفة الخلق، لأن اسم الله الخالق يدل بالمطابقة على ذات الله وصفة الخلق معا، فلا ينصرف إلى صفة الرزق أو القوة أو العزة أو الحكمة أو غير ذلك من الصفات، لأن صفة الخلق تدل على شيء غير الذي تدل عليه صفة الرزق، وصفة القوة يفهم منها شيء غير الذي يفهم من صفة العزة أو الحكمة إلا عند من فسد إدراكهم في فهم دلالة اللفظ على معناه وقالوا بأن أسماء الله الحسنى التي تعرف الله بها إلى عباده في الكتاب والسنة لا تدل بالمطابقة إلا على ذات الله فقط ولا تدل على شيء من الصفات البتة، فعندهم اسم الله السميع يدل على ذات الله فقط، ولا معنى لاسمه السميع، بل معنى السميع عندهم هو معنى الملك الخلاق القدير الرزاق إلى غير ذلك من أسماء الله الحسنى التي أمر عباده بأن يدعوه بها وقد تحدثنا عن ذلك في بيان أن أسماء الله أعلام وأوصاف .(1/233)
والله - عز وجل - لما علم آدم الأسماء فقال: { وَعَلمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلهَا } [البقرة:32]، علمه الأسماء كألفاظ تدل بالمطابقة على تمييز الأشياء والعلم بخصائصها والتعرف على حقائقها ذاتا وصفة مطابقة وتضمنا والتزاما، وليس الذي تعلمه آدم - عليه السلام - كما يفهم البعض هو مجرد ألفاظ أو كلمات يستعملها هو وأبناؤه؛ بل إنه تعلم الشيء واسمه وخاصيته وأنواع دلالته مطابقة وتضمنا والتزاما، فالذي عرضه الله سبحانه على الملائكة أعيان الأشياء بذواتها وصفاتها وليست معاني أو كلمات لا مدلول لها ولا حقيقة، وإنما علم الله آدم الشيء المادي المحسوس الذي يمكن أن يحمل الاسم المعين، وكذلك تأثير كل شيء في غيره وما ينشأ عن ذلك من المعاني والعلوم، وهذا واضح بين بدليل أن الله جل شأنه قال بعد ذلك: { ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } [البقرة:32] .
قال ابن القيم: ( فكانت حكمة ذلك التعليم تعريف مراد المتكلم، فلو لم يحصل له المعرفة كان في ذلك إبطال لحكمة الله وإفساد لمصالح بني آدم وسلب الإنسان خاصيته التي ميزه بها على سائر الحيوان ) (1) .
ودلالة المطابقة هي الدلالة الأصلية في الألفاظ التي وضعت لمعانيها، وهي تكشف عن نية القائل بمجرد صدور اللفظ؛ فلا يستفصل فيها عن مراده، وسميت بالمطابقة لمطابقة المعنى للفظ وموافقته، كقولهم طابق النعل النعل إذا توافقا، والمراد من تطابق اللفظ والمعنى هو عدم زيادة اللفظ على المعنى أو قصوره عنه (2) .
__________
(1) الصواعق المرسلة 2/643 .
(2) انظر بتصرف البحر المحيط للزركشي 2/272، وانظر أيضا شرح الكوكب المنير لتقي الدين أبي البقاء الفتوحي ص35، وحاشية العطار على شرح الخبيصي لأبي السعادات حسن العطار ص50 .(1/234)
2- دلالة التضمن: وهي دلالة اللفظ على بعض المعنى المقصود من قبل المتكلم أو هي دلالة اللفظ الموضوعة من قبل المتكلم على جزء المعنى المقصود، أو هي دلالة اللفظ الوضعية على جزء مسماه (1)، كدلالة لفظ الشجرة على الأوراق؛ فإن الشجرة تضمنت الأوراق وغيرها، فالذهن يتصور الأوراق وبقية الأجزاء مباشرة عند النطق بلفظ الشجرة، فيتصور بدلالة التضمن فروعها وخشبها وثمارها وجميع ما حوت من أجزاء، ومثال ذلك أيضا دلالة لفظ المدرسة على الفصول والتلاميذ والمدرسين؛ فإن الذهن يتصور مباشرة أن لفظ المدرسة ينطبق على عدة أشياء يطلق عليها مجتمعه هذا اللفظ، وكذلك أيضا دلالة لفظ الصلاة في الاصطلاح الشرعي على الوقوف والركوع والسجود والجلوس بهيئة مخصوصة، وغير ذلك من الحركات والسكنات التي تضمنتها الصلاة؛ فلفظ الصلاة يدل على كل جزء من أجزائها بالتضمن، وسميت دلالة التضمن بذلك لكون الجزء ضمن المعنى الموضوع له (2)، فدلالة المطابقة تشمل عموم ما دل عليه اللفظ، ودلالة التضمن موضوعة لخصوصه .
أما بالنسبة لأسماء الله تعالى فكل اسم يدل على الذات وحدها بالتضمن، وعلى الصفة وحدها بالتضمن؛ فاسم الله العزيز يدل على صفة العزة وحدها بالتضمن، كما يدل أيضا على ذات الله وحدها بالتضمن، ويدل على ذات الله وعلى صفة العزة معا بالمطابقة، قال ابن القيم: ( الاسم من أسمائه له دلالات، دلالة على الذات والصفة بالمطابقة ودلالة على أحدهما بالتضمن ) (3) .
__________
(1) انظر الرد على المنطقيين لشيخ الإسلام ابن تيمية ص76، وانظر أيضا التقرير والتحبير في شرح التحرير لمحمد بن محمد بن أمير حاج 1/99 .
(2) انظر المرشد السليم في المنطق الحديث والقديم للدكتور عوض الله جاد حجازي ص47 .
(3) بدائع الفوائد ص170 .(1/235)
3- دلالة اللزوم: هي دلالة اللفظ على معنى يخرج عن دلالة المطابقة والتضمن وهو لازم لوجوده لزوماً عقليا يتصوره الذهن عند ذكر اللفظ، وسمي لازما لارتباطه بمدلول اللفظ وامتناع انفكاكه عنه (1)، ومثال ذلك دلالة الشيء على سبب وجوده كدلالة البعرة على البعير، والأثر على المسير، وكدلالة الحمل على الزواج أو الزنا إلا في بعض الخوارق الاستثنائية، ولذلك لما جاء الملك مريم وأعلمها أنها ستحمل وتلد أخبرته أن الولد يكون من طريق مشروع أو ممنوع بدلالة اللزوم، ولم يحدث أنها تزوجت، أو وقع الاحتمال الثاني وهذا ليس شأنها، فأخبرها أن هذا خارج عن اللوازم العقلية، كما ورد في قوله: { قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيّاً قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا وَكَانَ أَمْراً مَّقْضِيّاً } [مريم:19] .
ومن ثم فإن دلالة اللزوم مبنية على فهم العقل لترابط الأسباب بحيث ترتبط العلة بمعلولها والنتيجة بسببها، فدلالة السقف على الأعمدة دلالة لزوم لأن العاقل يعلم أن السقف لا يوجد إلا بعد وجود الحائط أو الأعمدة، فالذهن لا يتصور السقف إلا مرفوعا على شيء، فلفظ السقف دلنا على الأعمدة باللزوم مع ملاحظة أن الأعمدة ليست مما دل عليه لفظ السقف بالمطابقة أو بالتضمن، فدلالة اللزوم من الدلالات العقلية والقواعد الشمولية التي تصح بها لغة التخاطب بين الإنسانية وطرق الاستدلال على توحيد الربوبية؛ فالذي يعلم بدلالة اللزوم أن السقف يلزمه أعمدة يوقن عند ذلك بقدرة الخالق، وأنه ليس كمثله شيء عندما يقرأ قوله تعالى: { الله الذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا } [الرعد:2] .
__________
(1) انظر التوقيف على مهمات التعاريف للمناوي ص615 بتصرف .(1/236)
والله - عز وجل - كثيرا ما يدعو العقلاء إلى النظر بدلالة اللزوم إلى ما في الكون من آيات تدل على عظمة أوصافه وكمال أفعاله، قال تعالى: { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ الليْلِ وَالنَّهَارِ لآياتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ } [آل عمران:190]؛ فدلالة اللزوم هي دلالة الشيء على سببه، أما دلالة الشيء على نتيجته وتوقع حدوثها فهي دلالة التزام كدلالة الغيوم على اقتراب المطر، وكدلالة الفعل على رد الفعل، فلكل فعل رد فعل بالالتزام، وكل رد فعل ناشئ عن فعل باللزوم، ودلالة الالتزام من إضافة المسبب إلى السبب (1) .
وكما أن الأسماء الحسنى تدل على الصفات بالمطابقة والتضمن فإنها أيضا تدل على الصفات باللزوم كدلالة اسم الله الخالق على صفة العلم والقدرة؛ فاسم الله الخالق يدل على ذات الله وصفة الخالقية بالمطابقة، ويدل على أحدهما بالتضمن، ويدل على العلم والقدرة باللزوم؛ لأن العاجز والجاهل لا يخلق، ولذلك لما ذكر الله خلق السماوات والأرض عقب بذكر ما دل عليه الخلق باللزوم فذكر القدرة والعلم، قال تعالى: { الله الذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ الله عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ الله قَدْ أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً } [الطلاق:12] .
ومن وفقه الله لفهم دلالة اللزوم المتعلقة بالأقوال والأفعال فكانت أقواله صادرة عن حكمة وأفعاله عن روية وفطنة ووزن جميع أموره بدقة بحيث يقدر المنفعة والمضرة ويتخير الأحسن والأفضل على الدوام فقد وفق إلى خير كثير كما قال تعالى: { يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً } [البقرة:269] .
__________
(1) انظر بتصرف حاشية الصبان على شرح الملوي ص 53 .(1/237)
وأغلب ما يحل بالإنسان من بلاء وشقاء سببه الغفلة عن لازم قوله وفعله، وقد ثبت عند الإمام البخاري من حديث أبي هريرةَ - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( إنَّ العبدَ ليَتكلمُ بالكلمةِ ما يَتبَينُ فيها يَزلُّ بها في النار أبعدَ مما بينَ المشرق ) (1)، وعند البخاري في رواية أخرى: ( وإن العبدَ ليتكلمَ بالكلمة من سَخَط اللّه لا يُلقي لها بالاً يهوي بها في جهنم ) (2) .
ولذلك اختلفوا في لازم القول هل هو قول يحاسب عليه الإنسان؟ فقال بعضهم: إذا كان هذا اللازم لازماً من قوله لزم أن يكون قولاً له محاسب عليه، لأن ذلك هو الأصل لاسيما إذا قرب التلازم، ورد آخرون ذلك وقالوا هذا مردود بأن الإنسان بشر وله حالات نفسية وخارجية توجب الذهول عن اللازم، فقد يغفل أو يسهو أو ينغلق فكره أو يقول القول في مضايق المناظرات من غير تفكير في لوازمه (3) .
وكثير من العامة يغفلون عن لوازم كلامهم إما لجهلهم أو سرعة اندفاعهم أو ما شابه ذلك من تقلب الأحوال، ولو حوسبوا على ذلك لعجز من يحصي لوازم الأقوال والأفعال، روي أن أعرابيا خرج إلى الحج مع أصحابه فلما كان في طريق العودة إلى أهله لقيه بعض أقربائه؛ فسأله عن أهله ومنزله، فقال: لما خرجت إلى الحج بعد ثلاثة أيام وقع في بيتك حريق أتى على أهلك ومنزلك، فرفع الأعرابي يديه إلى السماء وقال: ما أحسن هذا يا رب، تأمرنا بعمارة بيتك وتخرب علينا بيوتنا (4)، وكذلك خرجت أعرابية إلى الحج فلما كانت في بعض الطريق عطبت راحلتها فرفعت يديها إلى السماء وقالت: يا رب أخرجتني من بيتي إلى بيتك فلا بيتي ولا بيتك (5)، ومثل هذا الكلام لوازمه كفر لكن القائل في الغالب غافل عن لازم قوله .
__________
(1) البخاري في الرقاق باب حفظ اللسان 5/2377 (6112) .
(2) الموضع السابق حديث رقم (6113) .
(3) مجموع الفتاوى 2/217 .
(4) جمهرة خطب العرب 3/340 .
(5) السابق 3/340 .(1/238)
وأخذ الحجاج أعرابيا سرق فأمر بضربه، فلما قرعه السوط قال: يا رب شكرا حتى ضرب سبعمائة سوط، فلقيه أشعب فقال له: تدري لم ضربك الحجاج سبعمائة سوط؟ قال: لا، قال: لكثرة شكرك، فإن الله يقول: { لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ } [إبراهيم:7]، قال الأعرابي: وهذا في القرآن؟ قال: نعم، فقال: يا رب لا شكرا فلا تزدن، أسأت في شكري فاعف عنى، باعد ثواب الشاكرين منى(1)، وسمع أعرابي إماما يقرأ: { وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُواَ } [البقرة:221] قرأها بفتح التاء، فقال الأعرابي: ولا إن آمنوا أيضا - يقصد أن اللواط محرم - فقيل له: إنه يلحن وليس هكذا يقرأ؟ فقال: أخروه قبحه الله لا تجعلوه إماما فإنه يحل ما حرم الله (2) .
قال ابن تيمية: ( فخلق كثير من الناس ينفون ألفاظا أو يثبتونها بل ينفون معاني أو يثبتونها ويكون ذلك مستلزما لأمور هي كفر، وهم لا يعلمون بالملازمة بل يتناقضون وما أكثر تناقض الناس لاسيما في هذا الباب، وليس التناقض كفراً ) (3)، ثم فصل المسألة وبين أن لازم قول الإنسان نوعان:
أحدهما: لازم قوله الحق، فهذا مما يجب عليه أن يلتزمه، فإن لازم الحق حق ويجوز أن يضاف إليه إذا علم من حاله أنه لا يمتنع من التزامه بعد ظهوره، وكثير مما يضيفه الناس إلى مذهب الأئمة من هذا الباب .
الثاني: لازم قوله الذي ليس بحق، فهذا لا يجب التزامه، إذ أكثر ما فيه أنه قد تناقض، وقد ثبت أن التناقض واقع من كل عالم غير النبيين، ثم إن عرف من حاله أنه يلتزمه بعد ظهوره له فقد يضاف إليه وإلا فلا يجوز أن يضاف إليه قول لو ظهر له فساده لم يلتزمه (4) .
__________
(1) السابق 3/38 .
(2) السابق 3/342 .
(3) مجموع الفتاوى 5/306 .
(4) السابق 29/42، والفتاوى الكبرى 3/ 425 .(1/239)
ولما كان قول الله حق وليس فيه اختلاف ظاهر أو تناقض مضمر كما قال تعالى عن كتابه العزيز: { وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ } [فصلت:41/42]، وكذلك لما كان قول رسوله - صلى الله عليه وسلم - حق حيث قال الله في شأنه: { وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى } [النجم:3/4]، فإن اللازم من كلام الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - إذا صح أن يكون لازماً فهو حق، وذلك لأن لازم الحق حق والله - عز وجل - عالم بما يكون لازما من كلامه وكلام رسوله - صلى الله عليه وسلم - وأن العقلاء سيدركون ذلك بدلالة اللزوم (1) .
ومن ثم فإن في دلالة أسماء الله تعالى على ذاته وصفاته تكون بالمطابقة والتضمن واللزوم، الاسم يدل على الذات والصفة بدلالة المطابقة، ويدل على ذات الله وحدها بالتضمن، وعلى الصفة وحدها بالتضمن، ويدل باللزوم على أوصاف أخرى غير الوصف الذي اشتق منه، فالرحمن يدل على ذات الله وعلى صفة الرحمة بالمطابقة ويدل على الذات وحدها بالتضمن وعلى صفة الرحمة وحدها بالتضمن، ويدل على الحياة والعلم والقدرة التزاما، وهذا ينطبق على جميع الأسماء الحسنى ودلالتها على الصفات (2) .
وتجدر الإشارة إلى أن الأسماء الحسنى عند المعتزلة تدل على الذات بالمطابقة فقط لأنهم ينفون الصفات، فالأسماء عندهم تنعدم فيها دلالة التضمن واللزوم مع كونها أدلة عقلية صحيحة تؤيد صحيح المنقول ، فما أعجب تناقضهم إذ يدعون تعظيم العقل وأنهم أهل التوحيد والعدل وهم أبعد الناس عن صريح المعقول .
__________
(1) انظر بتصرف القواعد المثلى في صفات الله وأسمائه الحسنى ص14.
(2) انظر توضيح المقاصد وتصحيح القواعد في شرح قصيدة ابن القيم 2/250، وبدائع الفوائد 1/170.(1/240)
ومن ثم لا بد أن ننبه على خطأ غير مقصود في ذكر دلالة الأسماء على الصفات ذكره الشيخ حافظ حكمي رحمه الله، وتناقله كثير من الدعاة دون تحقق في فهم المسألة حيث قال رحمه الله: ( فدلالة اسمه تعالى الرحمن على ذاته عز وجل مطابقة وعلى صفة الرحمة تضمنا وعلى الحياة وغيرها التزاما، وهكذا سائر أسمائه تبارك وتعالى ) (1)، فقوله بأن الرحمن يدل على ذات الله بالمطابقة هو في حقيقته مذهب المعتزلة، والصواب أنه يدل على الذات بالتضمن وعلى الرحمة بالتضمن وعليهما معا بالمطابقة، والشيخ لا يقصد مذهب المعتزلة لأنه أثبت الصفات وهم ينفونها فتنبه .
موقف المسلم من الأسماء المشهورة التي لم تثبت .
موقف المسلم من الأسماء المشهورة التي لم تثبت ولا دليل عليها من كتاب أو سنة هو موقفه الذي أمر الله - عز وجل - به، فالمسلم يقبل ما ورد عن الله في أسمائه وقام عليه الدليل ويؤمن بها، ويرد ما لم يرد في كتاب الله أو في سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، وتلك عقيدة أهل السنة والجماعة أنهم لا يسمون الله إلا بما سمى به نفسه في كتابه أو فيما صح عن رسوله - صلى الله عليه وسلم - لا يتجاوز في ذلك القرآن والحديث، وكل مسلم يلزمه أن يصدق الله في خبره على شرط العلم واليقين، وأن يطيعه في أمره على شرط الإخلاص المحبة والقبول والانقياد .
أما إلزامنا بقول الوليد بن مسلم أو بعض شيوخه الذين سموا الله - عز وجل - بأسماء لا دليل عليها في رواية الترمذي كالخافض الرافع المعز المذل العدل الجليل الباعث المحصي المبديء المعيد المميت الواجد الماجد المقسط المغني المانع الضار النافع الباقي الرشيد الصبور وغير ذلك من الأسماء التي لم تثبت، فهذا ليس بلازم ولا نعتقد أن هذه من الأسماء الصحيحة التي نسمى الله - عز وجل - بها مهما كانت شهرتها ومهما طال إنشاد الناس لها على مر السنين .
__________
(1) معارج القبول 1/119.(1/241)
ونعذر من سبق وسمى الله - عز وجل - بها ظنا منه أنها من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ونوقر علماءنا من السلف والخلف الذين هم ورثة الأنبياء، ولا نظن أبدا أن حدا منهم يجيز لنفسه تسمية الله - عز وجل - بما لم يسم به نفسه في كتابه أو فيما صح عن رسوله - عز وجل - أو أن أحدا منهم يتجاوز في ذلك القرآن والحديث، فهم الذين جاهدوا المخالفين وذموا اعتقادهم لأنهم نفوا دلالة أسماء الله - عز وجل - على أوصافه، فكيف نعتقد في أهل السبق والفضل أنهم يتمسكوا باسم لا دليل عليه ويردوا أسماء ثبتت بنص القرآن وصحيح السنة؟
وإنما قلنا ذلك ونبهنا عليه لأن بعض الأخوة لما طرح عليه الموضوع هالته المسألة فبدأ يعقب بتعليقات وتعميمات يخشى من خلالها كما صرح لي بعضهم رد الفعل لدى العامة والخاصة في العالم الإسلامي، كقول بعضهم: هل بقاء المسلم على اعتقاده في أن الأسماء الحسنى هي المشهورة منذ زمن بعيد، أو هل عدم العلم بهذه الأسماء التسعة والتسعين التي وردت في هذا البحث الجديد يؤثر على توحيد المسلم لله في باب الأسماء والصفات وما تعلق بذلك من أمور العقيدة والعبودية، فإن كان مؤثرا فقد قدحنا في السابقين وإن لم يكن مؤثرا فليس للبحث أهمية؟ وهل قضية إحصاء التسعة والتسعين اسما وجمعها من الكتاب والسنة مسألة قطعية أو ظنية؟(1/242)
بخصوص مسألة القطعي والظني في الأمور الاعتقادية فإن المعروف عن الصحابة والتابعين أنهم كانوا يتلقون نصوص القرآن وما ثبت في السنة بالتصديق والتسليم ويقابلونها بالخضوع والحب والتعظيم، لا يفرقون فيها بين متواتر وآحاد، بل جميع ما صح وثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحي من الله إلى سائر العباد، لا بد لهم أن يصدقوا خبره بشرط اليقين ولا بد من تنفيذ أمره بكمال الانقياد، ولو قلنا كما قال البعض بأن أحاديث الآحاد لا تدل على اليقين في أمور الاعتقاد فيلزمهم رد كل ما جاء في كتب السنة إلا قليلا من متواتر الإسناد، وهذا فيه إبطال السنة كأساس للإسلام وتمييع مقنع للشرائع والأحكام، ولا يدعي أحد بأن نتائج بحثه ملزمة لجميع المسلمين، ولكن الملزم لكل للمسلمين الصادقين أنهم إذا علموا أن الأسماء المذكورة الثابتة بالدليل الصحيح تزيد على ما ثبت في رواية الوليد بن مسلم التي اشتهرت منذ زمن بعيد بثلاثين اسما وهي: المولى النصير القدير الوتر الجميل الحيي الستير المبين الأحد القريب المليك المسعر الرازق القاهر الديان الشاكر المنان الخلاق المحسن الشافي المعطي الرفيق السيد الطيب الأكرم الجواد السبوح الرب الأعلى الإله، وكلها أسماء وردت في نص الكتاب أو صحيح السنة، إذا علم المسلم ذلك لزمه أن يؤمن بها ولا يسعه ردها، وأنه يجوز له أن يسمي ولده بالتعبد لها، وكذلك يدعو الله بها دعاء مسألة ودعاء عبادة .
لكن العجب أن يصر مسلم على أن الأسماء المشهورة التي لم تثبت هي أسماء صحيحة وحجته في ذلك أنه ألف الآباء والأجداد يحفظونها من مئات السنين، فكيف يغيرها لنتيجة وصل إليها أحد الباحثين؟ سبحان الله، كيف يتأتى لمسلم شهد ألا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يفضل طريقة الآباء على الثابت الصحيح من الأسماء؟(1/243)
هل العادات والموروثات الثقافية مهما كان انتشارها مقدمة على النصوص القرآنية والنبوية؟ وقد قال الله - عز وجل - في كتابه: { فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الأَلْبَابِ } [الزمر:17/18]، إن الكلام عن نتيجة البحث لا يقال فيها كما ذكر البعض هل قطعية أو ظنية؟ بل ما يقال فيها إن الأمر أسفر عن بيان الأسماء الحسنى الثابتة في القرآن وصحيح السنة، فهل يردها المسلم لأنه لم يألف سماعها في الأسماء المشتهرة من مئات السنين؟
كما أن الأغرب والأعجب التاقض البين في موقف البعض ممن تمسك بما لم يثبت من الأسماء المشهورة، فإن كان ذا منهج سلفي حديثي أثري فهو أعلم من غيره برواية الترمذي، وأن الأسماء مدرجة فيها كاجتهاد شخصي من قبل الوليد بن مسلم أو عن بعض شيوخه من أهل الحديث، وكذلك يعلم أن الأسماء الحسنى توقيفية على النص وأنه لا يجوز لأي شخص أن يسمى الله - عز وجل - إلا بما سمى به نفسه في كتابه أو سماه به رسوله - صلى الله عليه وسلم - فيما صح عنه، وإلا صار ذلك ميلا بأسماء الله عما يجب فيها، من إحصائها ثم حفظها ثم دعائه بها كما أمرنا ثم حذرنا فقال: { وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [الأعراف:180]، فبأي دليل تمسك به صاحب المنهج السلفي الأثري الحديثي واعتمد عليه في تسمية الله - عز وجل - بالخافض الرافع المعز المذل العدل الجليل الباعث المحصي المبديء المعيد المميت الواجد الماجد المقسط المغني المانع الضار النافع الباقي الرشيد الصبور؟ أليس الأولى بالمسلم لاسيما إن كان عالما أن ينصر ما جاء من الأسماء الحسنى في كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ؟(1/244)
أما إن كان المتمسك بالأسماء المشهورة التي لم تثبت ذا منهج عقلي أو أشعري كلامي فالتناقض في حقه أشد وأعجب، لأن عقيدة المتكلمين في باب الصفات مبنية على أنهم لا يثبتون من أوصاف الله بالعقل إلا شيئا قليلا، وما ورد منها في النقل حتى لو كان قرآنا وظنوا أنه مخالف للعقل أولوه تأويلا، ولا يتردد بعضهم في نفي ظاهره وتعطيله عن مدلوله تعطيلا، فهم لا يصفون الله إلا بدليل نصي قطعي الثبوت وبشرط ألا يوهم تشبيها وتمثيلا، على حد قولهم أو ظنهم في هذا الباب، أما عقيدتهم في أسماء الله فهم يثبتونها كما أثبتها الله لنفسه وكما سماه بها رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، ويتفقون جميعا على أن الأسماء الحسنى توقيفية على النص ـ شأنهم في ذلك شأن السلف ومن انتسب لأهل السنة والجماعة ـ وحيث إنه لم يثبت حديث صحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - سرد فيه الأسماء الحسنى في نص واحد، وأن المشهور على ألسنة الناس إنما هي أسماء مدرجة مضطربة من جمع الوليد بن مسلم عن بعض شيوخه من أهل الحديث أو اجتهاده الشخصي، فهل يعقل أن نتمسك في باب الأسماء الحسنى الذي هو أشرف أبواب العقيدة على الإطلاق بقول الوليد بن مسلم ونقدمه على اسم من الأسماء ثبت بدليل قطعي ورد في القرآن، في حين أن الدليل النصي مهما كان قطيعا في ثبوته يأتي عندهم في ترتيبه بعد تقديم القواطع العقلية؟ فأي تناقض مع النفس يجيزه المسلم في موقفه من أسماء ربه؟(1/245)
أما عن الذي تساءل إن كان عدم الأخذ بالأسماء التسعة والتسعين التي وردت في هذا البحث يؤثر في توحيد الله، فإن ذلك يعد قدحا في اعتقاد السابقين؟ فأقول تقدم أن منهج الصحابة والتابعين وسلف الأمة في أبسط صوره الإيمانية الفطرية أنهم كانوا يصدقون خبر الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - في ذكر أسمائه وصفاته تصديقا جازما، وينفذون الأمر تنفيذا كاملا ولا يشركون بالله شيئا، ويعلمون أن الله ليس كمثله شيء فيما أخبرهم به عن نفسه، وهذا المبدأ ـ بعيدا عن الفلسفات العقلية والآراء الكلامية ـ هو غاية من جاء من بعدهم وسار على نهجهم في مختلف العصور مهما تنوعت كلماته أو عبر عن اعتقاداته في توحيد الله، فالذي شهد منهم أنه لا إله إلا الله قد عقد في نفسه عقدا أن يكون الله - عز وجل - هو المعبود الحق الذي يصدق في خبره دون تكذيب ويطاع في أمره دون عصيان، وهذا مجمل حقيقة الإيمان التي نزل بها القرآن وفهمها أصحاب اللسان .
ومن ثم فإن أهل العلم السابقين الذين اجتهدوا في إحصاء الأسماء الحسنى التسعة والتسعين وجمعها وتعريف الناس بها مهما كانت نتيجة أبحاثهم فهم أهل العلم والسبق والفضل، وقد كنت قبل البحث لا أجد في الحديث عن أسماء الله إلا ما ورد في كتبهم وما قدموه من جهدهم في الإجابة عن أي سؤال في موضوع الأسماء، والمسلم لن يتأثر توحيده طالما أنه على الإيمان المجمل، وأنه لو علم خبر الله سيصدقه تصديقا جازما ولو علم أمره سينفذه تنفيذا كاملا، فدور أهل العلم في كل عصر ومصر أن يبنوا العلم للناس ويصدعوا به، ولا يكتمونه خوفا من جائر أو اعتقاد سائر دائر يفتقر إلى الدليل المبين منذ مئات السنين .
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
الدعاء بأسماء الله الحسنى الثابتة في الكتاب والسنة
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -(1/246)
دعاء المسألة والعبادة لغة واصطلاحا .
المقصود بدعاء المسألة ودعاء العبادة .
دعاء المسألة أعلى أنواع التوسل إلى الله .
أنواع دعاء المسألة وتعلقها بالأسماء الحسنى .
آداب دعاء الله بأسمائه دعاء مسألة .
الشرك في الدعاء والإلحاد في الأسماء .
دعاء العبادة ومقتضى الأسماء الحسنى .
التفاضل والتكامل بين دعاء المسألة ودعاء العبادة .
حكم تسمية العباد بأسماء الله الحسنى .
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
الدعاء بأسماء الله الحسنى الثابتة
في الكتاب والسنة
( دعاء المسألة والعبادة لغة واصطلاحا .
أصل الدعاء إمالة الشيءَ إليك بكلام يكون منك طلبا أو نداءً، أو رغبة أو رجاءً أو سؤالا وابتهالا، يقال: دعا الرجل دعوا ودعاء ناداه، والاسم الدعوة، ودعوت فلانا أي صحت به واستدعيته (1)، قال عنترة بن شداد:
يدعون عنتر والرماح كأنها : أشطان بئر في لبان الأدهم
يقولون: يا عنتر، وتداعى القوم دعا بعضهم بعضا حتى يجتمعوا (2) .
__________
(1) معجم مقاييس اللغة 2/279، ولسان العرب 14/257، والقاموس المحيط 1/1655 .
(2) المغرب في ترتيب المعرب 1/289، وشأن الدعاء للخطابي ص3 .(1/247)
وهو داع وهم دعاة ينادون في الناس بتوحيد الله وعبادته، وعند البخاري من حديث جابر - رضي الله عنه - أن الملائكة قالت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( إِنَّ لِصَاحِبِكُمْ هَذَا مَثَلاً فَاضْرِبُوا لَهُ مَثَلاً .. فَقَالُوا: مَثَلُهُ كَمَثَلِ رَجُلٍ بَنَى دَارًا، وَجَعَلَ فِيهَا مَأْدُبَةً وَبَعَثَ دَاعِيًا فَمَنْ أَجَابَ الدَّاعِيَ دَخَلَ الدَّارَ وَأَكَلَ مِنَ الْمَأْدُبَةِ، وَمَنْ لَمْ يُجِبِ الدَّاعِيَ لَمْ يَدْخُلِ الدَّارَ وَلَمْ يَأْكُلْ مِنَ الْمَأْدُبَةِ، فَقَالُوا: أَوِّلُوهَا لَهُ يَفْقَهْهَا، فَقَالَ: بَعْضُهُمْ إِنَّهُ نَائِمٌ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الْعَيْنَ نَائِمَةٌ وَالْقَلْبَ يَقْظَانُ، فَقَالُوا: فَالدَّارُ الْجَنَّةُ وَالدَّاعِي مُحَمَّدٌ - صلى الله عليه وسلم - فَمَنْ أَطَاعَ مُحَمَّدًا - صلى الله عليه وسلم - فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ، وَمَنْ عَصَى مُحَمَّدًا - صلى الله عليه وسلم - فَقَدْ عَصَى اللهَ وَمُحَمَّدٌ - صلى الله عليه وسلم - فَرْقٌ بَيْنَ النَّاسِ ) (1) .
والتداعي أن يدعو بعضهم بعضا للاجتماع على شيء، وعند أبي داود وصححه الألباني من حديث ثوبان - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( يُوشِكُ الأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ كَمَا تَدَاعَى الأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا ..الحديث ) (2) .
ويُقال: دعوتُ الله أدعوه دعاءً ابتهلت إليه بالسؤال ورغبت فيما عنده من الخير، ودعا لفلان طلب له الخير، ودعا على فلان طلب له الشر (3) .
__________
(1) البخاري في الاعتصام، باب الاقتداء بسنن رسول الله S 6/2655 (6852) .
(2) أبو داود في الملاحم، باب في تداعي الأمم على الإسلام 4/111 (4297) السلسلة الصحيحة 2/647(958) .
(3) المعجم الوسيط 1/268 .(1/248)
أما الدعاء من جهة الشرع فقد عرفه الخطابي بقوله: ( معنى الدعاء استدعاء العبدِ ربَّه عزَّ وجل العناية، واستمدادُه منه المعونة، وحقيقته إظهار الافتقار إلى الله تعالى والتبرّؤ من الحول والقوة، وهو سمة العبودية واستشعارُ الذلة البشريَّة، وفيه معنى الثناء على الله - عز وجل -، وإضافة الجود والكرم إليه ) (1)، والدعاء يرد في القرآن والسنة على عدة معاني:
1- النداء: كما في قوله - عز وجل -: { يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا للهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ } [الأنفال:24]، وعند البخاري من حديث سعيد بن المعلى - رضي الله عنه - أنه قال: ( كُنْتُ أُصَلِّي في الْمَسْجِدِ فَدَعَانِي رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَلَمْ أُجِبْهُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنِّي كُنْتُ أُصَلِّي، فَقَالَ: أَلَمْ يَقُلِ اللهُ: اسْتَجِيبُوا للهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ ) (2) .
__________
(1) شأن الدعاء للخطابي ص4 .
(2) البخاري في التفسير ، باب ما جاء في فاتحة الكتاب4/ 1623 (4204) .(1/249)
2- الطلب والسؤال: كما في قوله تعالى: { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ } [البقرة:186]، وقوله سبحانه: { قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى } [طه:36]، وعند البخاري من حديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( مَنْ قَالَ حِينَ يَسْمَعُ النِّدَاءَ: اللهُمَّ رَبَّ هَذِهِ الدَّعْوَةِ التَّامَّةِ وَالصَّلاَةِ الْقَائِمَةِ آتِ مُحَمَّدًا الْوَسِيلَةَ وَالْفَضِيلَةَ وَابْعَثْهُ مَقَامًا مَحْمُودًا الذِي وَعَدْتَهُ حَلتْ لَهُ شَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) (1)، وعند مسلم من حديث عبد الله بن عمرو - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( إِذَا سَمِعْتُمُ الْمُؤَذِّنَ فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ، ثُمَّ صَلُّوا عَلَي؛ فَإِنَّهُ مَنْ صَلى عَلَي صَلاَةً صَلى اللهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا، ثُمَّ سَلُوا اللهَ لِيَ الْوَسِيلَةَ فَإِنَّهَا مَنْزِلَةٌ فِي الْجَنَّةِ لاَ تَنْبَغِي إِلاَّ لِعَبْدٍ مِنْ عِبَادِ اللهِ، وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَنَا هُوَ، فَمَنْ سَأَلَ لِيَ الْوَسِيلَةَ حَلتْ لَهُ الشَّفَاعَةُ ) (2) .
3- العبادة: لما روى عند الترمذي وصححه الألباني من حديث النعمان - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( الدُّعَاءَ هُوَ الْعِبَادَةُ، ثُمَّ قَرَأَ: { وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ } [غافر:60] ) (3) .
__________
(1) البخاري في الأذان، باب الدعاء ثم النداء 1/222 (589) .
(2) مسلم في الصلاة، باب استحباب القول مثل قول المؤذن لمن سمعه1/ 288 (384) .
(3) الترمذي في التفسير، باب سورة المؤمن 5/274(3247)، صحيح الترغيب والترهيب (1627) .(1/250)
4- الاستغاثة: كما في قوله تعالى: { قُلْ أَرَأَيْتُكُم إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللهِ أَوْ أَتَتْكُمْ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاء وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ } [الأنعام:40/41]، وقوله: { أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ } [النمل:62] .
وورد الدعاء بمعان أخرى أغلبها يعود لما سبق كالحث على الشيء والاستفهام والقول والتسمية وغيرها (1) .
__________
(1) لسان العرب 14/258، والمفردات للراغب الأصبهاني ص315، وفتح الباري 11/94 .(1/251)
المسألة لغة أصلها استدعاء الشيء وطلب معرفته والسؤال عنه، فاستدعاء المال أو ما يؤدي إليه طلبه والحرص عليه وسؤال الآخرين منه، واستدعاء المعرفة طلبها والحرص على حصولها، روى الترمذي وصححه الألباني من حديث عبد الله بن عمرو - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( لاَ تَحِل الْمَسْأَلَةُ لِغَنِي وَلاَ لِذِي مِرَّةٍ سَوِي ) (1)، وعند البخاري من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: ( بَيْنَمَا نَحْنُ جُلُوسٌ مَعَ النَّبِيِ - صلى الله عليه وسلم - فِي الْمَسْجِدِ دَخَلَ رَجُلٌ عَلَى جَمَلٍ فَأَنَاخَهُ فِي الْمَسْجِدِ، ثُمَّ عَقَلَهُ، ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: أَيُّكُمْ مُحَمَّدٌ؟ وَالنَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - مُتَّكِئٌ بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِمْ، فَقُلْنَا: هَذَا الرَّجُلُ الأَبْيَضُ الْمُتَّكِئُ، فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ: ابْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ؟ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : قَدْ أَجَبْتُكَ، فَقَالَ الرَّجُلُ لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - : إِنِّي سَائِلُكَ فَمُشَدِّدٌ عَلَيْكَ فِي الْمَسْأَلَةِ فَلاَ تَجِدْ عَلَي فِي نَفْسِكَ، فَقَالَ: سَلْ عَمَّا بَدَا لَكَ؟ فَقَالَ: أَسْأَلُكَ بِرَبِّكَ وَرَبِّ مَنْ قَبْلَكَ آللهُ أَرْسَلَكَ إِلَى النَّاسِ كُلِّهِمْ؟ فَقَالَ: اللهُمَّ نَعَمْ .. الحديث ) (2) .
__________
(1) الترمذي في الزكاة، باب ما جاء من لا تحل له الصدقة 3/42(652) .
(2) البخاري في العلم، باب ما جاء في العلم وقوله تعالى: وقل رب زدني علما 1/35 (63) .(1/252)
والسؤال إن كان من العبد لربه كان طلبا ورجاء، ومدحا وثناء، ورغبة ودعاءا واضطرارا والتجاء، وإن كان من الله لعبده كان تكليفا وابتلاءا، ومحاسبة وجزاءا وتشريفا وتعريفا، فمن النوع الأول قوله تعالى: { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ } [البقرة:186]، وقوله تعالى: { قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى } [طه:36]، لما طلب منه آخاه هارون وزيرا، وقوله: { وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ } [إبراهيم:34]، أي من كل حوائجكم وما تطلبونه بلسان حالكم أو مقالكم (1) .
وكذلك قوله تعالى: { قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ } [هود:46/47]، وقوله: { يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُل يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ } [الرحمن:29]، والسؤال في الآية يشمل كل أوجه المعاني المذكورة (2)، وعند مسلم من حديث سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( سَأَلْتُ رَبِّي ثَلاَثًا فَأَعْطَانِي ثِنْتَيْنِ وَمَنَعَنِي وَاحِدَةً، سَأَلْتُ رَبِّي أَنْ لاَ يُهْلِكَ أُمَّتِي بِالسَّنَةِ فَأَعْطَانِيهَا، وَسَأَلْتُهُ أَنْ لاَ يُهْلِكَ أُمَّتِي بِالْغَرَقِ فَأَعْطَانِيهَا، وَسَأَلْتُهُ أَنْ لاَ يَجْعَلَ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ فَمَنَعَنِيهَا ) (3) .
__________
(1) تفسير ابن كثير 2/541 .
(2) تفسير القرطبي 17/166، وتفسير أبي السعود 8/180 .
(3) مسلم في الفتن وأشراط الساعة، باب هلاك هذه الأمة بعضهم ببعض 4/ 2216 (2890) .(1/253)
ومن النوع الثاني قوله تعالى: { إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ } [محمد:37] أي لا يأمركم بإخراج جميعها في فريضة الزكاة تكليفا وابتلاء (1)، وقوله - عز وجل -: { فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } [الحجر:92]، أي سؤال محاسبة وجزاء، ومثله قوله: { ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ } [التكاثر:8]، وفي سؤال التشريف وتعريف الفضل والمكانة روى مسلم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ مَلاَئِكَةٌ بِالليْلِ وَمَلاَئِكَةٌ بِالنَّهَارِ، وَيَجْتَمِعُونَ فِي صَلاَةِ الْفَجْرِ وَصَلاَةِ الْعَصْرِ، ثُمَّ يَعْرُجُ الذِينَ بَاتُوا فِيكُمْ، فَيَسْأَلُهُمْ رَبُّهُمْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِهِمْ: كَيْفَ تَرَكْتُمْ عِبَادِي؟ فَيَقُولُونَ: تَرَكْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ وَأَتَيْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ ) (2) .
وأما العبادة في اللغة فهي الخضوع والتذليل من قولهم: طريق معبَّد أي مذلل بكثرة الوطء عليه، يقال: تعبَّد فلان لفلان إذا تذلل له، وكل خضوع ليس فوقه خضوع فهو عبادة، طاعة كان للمعبود أو غير طاعة، وكل طاعة لله على جهة المحبة والخضوع والتذلل فهي عبادة (3) .
__________
(1) تفسير القرطبي 16/257، وفتح القدير 5/42 .
(2) مسلم في المساجد، باب فضل صلاتي الصبح والعصر والمحافظة عليهما 1/439 (632) .
(3) لسان العرب 14/258، والمفردات للراغب الأصفهاني ص315 .(1/254)
والعبادة من جهة المعنى الشرعي تعني الخضوع التام المقترن بالإرادة وتعظيم المحبوب فإن كان الخضوع والطاعة بغير إرادة فلا تسمى عبادة، بل هي في هذه الحالة إكراه وإلزام، قال ابن القيم: ( والعبادة تجمع أصلين، غاية الحب بغاية الذل والخضوع والعرب تقول: طريق معبد أي مذلل، والتعبد التذلل والخضوع، فمن أحببته ولم تكن خاضعا له لم تكن عابدا له، ومن خضعت له بلا محبة لم تكن عابدا له حتى تكون محبا خاضعا ) (1)، وقال أيضا: ( العبادة هي الحب مع الذل؛ فكل من ذللت له وأطعته وأحببته دون الله فأنت عابد له ) (2)، وقال ابن تيمية: ( فالإله الذي يألهه القلب بكمال الحب والتعظيم والإجلال والإكرام والخوف والرجاء ونحو ذلك، وهذه العبادة هي التي يحبها الله ويرضاها، وبها وصف المصطفين من عباده وبها بعث رسله ) (3) .
__________
(1) مدارج السالكين لابن القيم 1/74 .
(2) السابق 2/182 .
(3) مجموع الفتاوى 10/157 .(1/255)
والأصل في العبادة طلب العلو والتعظيم للمعبود، فلما كان العبادة مبنية على الخضوع والتذلل والافتقار مع كمال المحبة والتعظيم، فإنها في المقابل مبنية أيضا على إثبات علو المعبود وتوحيده وتقديسه وتعظيمه، وكلما ازداد الموحد طاعة وخضوعا وسجودا وتذللا وافتقارا كان أعلى توحيدا وأكثر تقديسا وتعظيما، ومن ثم كان السجود للمعبود أعلى برهان على توحيد العبادة، وأيضا فإن المسلم يكون في سجوده على أعلى درجات القرب من الله - عز وجل -، روى مسلم من حديث أَبِي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( أَقْرَبُ مَا يَكُونُ العَبْدُ منْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجدٌ فَأَكْثِرُوا الدُّعَاءَ ) (1)، وعند أبي داود وحسنه الألباني من حديث عقبة بن عامر - رضي الله عنه - أنه قال: ( لَمَّا نَزَلَتْ: { فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ العَظِيمِ } [الواقعة:74:12]، قَالَ رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : اجْعَلُوهَا في رُكُوعِكُمْ، فَلَمَّا نَزَلَتْ: { سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى } [الأعلى:1]، قَالَ: اجْعَلُوهَا في سُجُودِكُمْ ) (2) .
ولما كان السجود دليلا عمليا على توحيد العبادة للمعبود، وأنهم لا ينازعون الله في اسمه الرب الأعلى الإله، فإنه سبحانه لعن إبليس وطرده من رحمته لمنازعته الربوبية والعلو والألوهية عند امتناعه عن السجود، قال تعالى: { قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ العَالِينَ } [ص:75]، وقد بين الله - عز وجل - أن امتناعه كان طلبا للكبرياء أو العلو لا غير ولذلك طرده من رحمته وأخرجه من جنته لأن ذلك لا ينبغي إلا لله .
__________
(1) مسلم في الصلاة، باب ما يقال في الركوع والسجود 1/350 (482) .
(2) أبو داود في الصلاة، باب ما يقول الرجل في ركوعه 1/230 (869)، مشكاة المصابيح (879) .(1/256)
والسجود للمعبود أو أداء الصلاة في الإسلام أمره عظيم، ولا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة، روى مسلم من حديث جابر - رضي الله عنه - أنه قال: ( سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: إِنَّ بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ الشِّرْكِ وَالكُفْرِ تَرْكَ الصَّلاَةِ ) (1)، ومن ثم فإن السجود للمعبود برهان التوحيد والطاعة والعبودية، ونفي الاستكبار والمنازعة على الربوبية، فالكبرياء شأن الرب وليس من شأن العبد ولا بد أن ينضم مع سائر المخلوقات في وصف الخضوع والسجود، لأن الكون بأسره لا صلاح له إلا بتوحيد المعبود، قال تعالى: { لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلا اللهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ } [الأنبياء:22] .
( المقصود بدعاء المسألة ودعاء العبادة .
أمر الله - عز وجل - عباده أن يدعوه بأسمائه الحسنى فقال: { وَللهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [الأعراف:180]، قال الإمام القرطبي: ( فادعوه بها أي اطلبوا منه بأسمائه فيطلب بكل اسم ما يليق به تقول يا رحيم ارحمني، يا حكيم احكم لي، يا رزاق ارزقني ) (2) .
وقال ابن القيم في معنى الدعاء بها: ( وهو مرتبتان: إحداهما دعاء ثناء وعبادة والثاني دعاء طلب ومسألة، فلا يثنى عليه إلا بأسمائه الحسنى وصفاته العلى، وكذلك لا يسأل إلا بها، فلا يقال يا موجود، أو يا شيء، أو يا ذات اغفر لي وارحمني؛ بل يسأل في كل مطلوب باسم يكون مقتضيا لذلك المطلوب؛ فيكون السائل متوسلا إليه بذلك الاسم، ومن تأمل أدعية الرسل ولاسيما خاتمهم وإمامهم وجدها مطابقة لهذا ) (3) .
__________
(1) مسلم في الإيمان، باب بيان إطلاق اسم الكفر على من ترك الصلاة1/88 (82) .
(2) تفسير القرطبي 7/327، وانظر تفسير الواحدي 1/ 423 .
(3) بدائع الفوائد 1/171 .(1/257)
ويمكن القول إن أمره تعالى للمكلفين أن يدعوه بأسمائه الحسنى يشمل المعاني السابقة للدعاء التي وردت في الكتاب والسنة، وهي نداء الله بها، والطلب والسؤال بذكرها، والثناء عليه ومدحه بها، وظهور الداعي بسلوك العبودية الذي يوحد الله في كل اسم منها، وبصورة أخرى يصح القول بأن دعاء الله بأسمائه يكون بلسان المقال أو بلسان الحال، فلسان المقال هو المدح والثناء والطلب والسؤال، ولسان الحال هو الخضوع وتوحيد العبودية لله في الأقوال والأفعال، وعلى هذا المعنى قسم المحققون من العلماء ما ورد في الآية من الأمر بالدعاء إلى نوعين:
الأول: دعاء مسألة ويكون بلسان المقال، وهو طلب ما ينفع الداعي من جلب منفعة أو دفع مضرة، فيسأل الله بأسمائه الحسنى التي تناسب حاجته وحاله ومطلبه ويتوسل إلى الله بذكرها وذكر ما تضمنته من كمال الأوصاف وجلالها، فيردد في دعائه من أسماء الله ما يناسبه عند تقلب الأحوال، ويظهر في دعائه وأقواله إيمانه بالتوحيد وأوصاف الكمال، ففي حال فقره يدعو ويستعين ويثني ويستغيث بالمعطي الجواد المحسن الواسع الغني، وفي حال ضعفه يبتهل إلى القادر القدير المقتدر المهيمن القوي وفي حال الذلة وقلة الحيلة يناسبه أن يلتجأ في دعائه وابتهاله إلى ربه بذكر أسمائه العزيز الجبار المتكبر الأعلى المتعالي العلي .(1/258)
وعند الندم بعد الخطأ واقتراف الذنب يناسبه الدعاء باسمه الرحمن الرحيم اللطيف التواب الغفور الغفار الحيي الستير، وفي حال السعي والكسب يدعو الرازق الرزاق المنان السميع البصير، وفي حال الجهل والبحث عن أسباب العلم والفهم يناسبه الدعاء باسمه الحسيب الرقيب العليم الحكيم الخبير، وفي حال الحرب وقتال العدو فنعم المولى ونعم النصير، وهكذا يدعو ويتوسل ويبتهل ويتضرع إلى ربه بذكر ما يناسب مقامه وموضعه وحاله وما ينفعه من أسماء الله الحسنى، أو بعبارة أخرى يقدم بين يدي سؤاله الثناء على الله بأسمائه وأوصافه وأفعاله ما يتناسب مع أحواله فيثني على الله ويلح في التجائه وندائه، ويصدق في مناجاته وسؤاله ودعائه .
الثاني: دعاء العبادة ويكون بلسان الحال، وهو تعبد لله يظهر التوحيد في كل اسم من أسمائه وكل وصف من أوصافه، فهو دعاء سلوكي ومظهر أخلاقي وحال إيماني يبدوا فيه المسلم موحدا لله في كل اسم من الأسماء الحسنى بحيث تنطق أفعاله أنه لا معبود بحق سواه، وتسابق أقواله في شهادته ألا إله إلا الله، وأنه سبحانه المتوحد في أسمائه وأوصافه لا سمي له في علاه، فقد يكون العبد الموحد في ذروة غناه مبتلى بالمال فيما استخلفه الله واسترعاه؛ فيظهر بمظهر الفقر والتواضع لعلمه أن الله هو الغني المتوحد في غناه، وأن المال ماله وهو مستخلف عليه مخول فيه مبتلى به في هذه الحياة فتجده يلين لإخوانه ولا يعرف بينهم بالغني من شدة توحيده وإيمانه .(1/259)
ولو كان الموحد شريفا حسيبا عليا نسيبا بدت عليه بدعاء العبادة مظاهر الذل والافتقار، وخضع بجنانه وبنيانه وكيانه إلى الحسيب الجبار القهار المتعال، لعلمه أن المتوحد في الحسب والكبرياء وما تضمنته هذه الأسماء هو الله، وأن الحسيب لا يكون حسيا إذا عبد هواه أو تكبر واستعلى على خلق الله، فسلوكه سلوك المخلصين من العبيد، وأفعاله بدعاء العبادة تنطق بشهادة التوحيد، وسوف يأتي عن هذا الموضوع في الجزء الخامس المزيد والمزيد إن شاء الله .
والمقصود بدعاء العبادة هو أثر أسماء الله - عز وجل - على اعتقاد العبد وأقواله وأفعاله بحيث يراعي في سلوكه توحيد العبودية لله في كل اسم أو وصف على حدة، فهو دعاء بلسان الحال أو دعاء سلوكي ومظهر أخلاقي وحال إيماني يبدو فيه المسلم موحدا لله في كل اسم من الأسماء الحسنى بحيث تنطق أفعاله أنه لا معبود بحق سواه وأنه بفعله هذا يشهد ألا إله إلا الله، فالغَني يَظهر في سلوكه بمظهر الفقر توحيدا لله في اسمه الغني، والقوي يظهر بمظهر الضعف توحيدا لله في اسمه القوي، وهكذا يراعي كل اسم من أسماء الله في سلوكه دعاء وتعظيما وخشية وإجلالا .(1/260)
وقد أفرد ابن القيم رحمه الله فصلا في بيان دعاء العبادة ودعاء المسألة، وبين أن الدعاء في القرآن يراد به هذا تارة، وهذا تارة، ويراد به مجموعهما، وهما متلازمان فإن دعاء المسألة هو طلب ما ينفع الداعي وطلب كشف ما يضره أو دفعه، وكل من يملك الضر والنفع فإنه المعبود حقا، والمعبود لا بد أن يكون مالكا للنفع والضرر، ولهذا أنكر الله تعالى على من عبد من دونه مالا يملك ضرا ولا نفعا؛ لأن المعبود يدعى للنفع والضر دعاء مسألة، ويدعي خوفا ورجاء دعاء عبادة؛ فعلم أن النوعين متلازمان؛ فكل دعاء عبادة مستلزم لدعاء المسألة، وكل دعاء مسألة متضمن لدعاء العبادة (1)، وقد ذكر ابن القيم الأدلة القرآنية على هذين النوعين والتي يمكن تلخيصها في النقاط التالية:
1- ما ورد في قول الله - عز وجل -: { ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ } [الأعراف:55/56]، فهاتان الآيتان مشتملتان على آداب نوعي الدعاء دعاء العبادة، ودعاء المسألة، وقد نفى الله - عز وجل - عمن عبد من دونه إمكانية النفع والضر القاصر والمتعدي؛ فهم لا يملكونه لأنفسهم ولا لعابديهم قال تعالى: { وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لأَنْفُسِهِمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَيَاةً وَلا نُشُوراً } [الفرقان:3]، وإذا كان هذا حالهم؛ فإن الذي يدعى ويسأل للنفع والضرر هو المعبود حقا .
__________
(1) السابق 3/513 بتصرف .(1/261)
2- قوله تعالى: { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلهُمْ يَرْشُدُونَ } [البقرة:186]، وهذا يتناول نوعي الدعاء وبكل منهما فسرت الآية ، فقيل: أعطيه إذا سألني، وقيل: أثيبه إذا عبدني والقولان متلازمان، وليس هذا من استعمال اللفظ المشترك في معنييه كليهما، أو استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه، بل هذا استعمال له في حقيقته الواحدة المتضمنة للأمرين جميعا .
3- ما ورد في قوله تعالى: { قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاماً } [الفرقان:77]، قيل: لولا دعاؤكم إياه، وقيل دعاؤه إياكم إلى عبادته فيكون المصدر مضافا إلى المفعول، وعلى الأول مضافا إلى الفاعل، وهو الأرجح من القولين، وعلى هذا فالمراد به نوعا الدعاء، وهو في دعاء العبادة أظهر، أي ما يعبأ بكم ربي لولا أنكم تعبدونه، وعبادته تستلزم مسألته؛ فالنوعان داخلان فيه .
4- قوله تعالى: { وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ } [غافر:60]، فالدعاء يتضمن النوعين، وهو في دعاء العبادة أظهر؛ ولهذا عقبه بقوله: { إِنَّ الذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ } [غافر:60]، فالدعاء هو دعاء العبادة، وقد فسر الدعاء في الآية بهذا وهذا، وعند الترمذي وصححه الألباني من حديث النعمان - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( الدُّعَاءَ هُوَ الْعِبَادَةُ، ثُمَّ قَرَأَ: { وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ } [غافر:60] ) (1).
__________
(1) الترمذي في التفسير، باب سورة المؤمن 5/274(3247)، صحيح الترغيب والترهيب (1627) .(1/262)
5- قوله تعالى عن خليله إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - : { الْحَمْدُ لِلهِ الذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ } [إبراهيم:39]، فالمراد بالسمع هنا السمع الخاص، وهو سمع الإجابة والقبول لا السمع العام لأنه سميع لكل مسموع، وإذا كان كذلك فالدعاء هنا يتناول دعاء الثناء ودعاء الطلب، وسمع الرب تبارك وتعالى له إثابته على الثناء، وإجابته للطلب فهو سميع لهذا وهذا .
6- قوله تعالى عن زكريا - عليه السلام -: { قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيّاً } [مريم:4]، فقد قيل: إنه دعاء المسألة، والمعنى إنك عودتني إجابتك وإسعافك ولم تشقني بالرد والحرمان، فهو توسل إليه تعالى بما سلف من إجابته وإحسانه، وقدم ذلك أمام طلبه الولد وجعله وسيلة إلى ربه فطلب منه أن يجاريه على عادته التي عوده من قضاء حوائجه إذا ما سأله .(1/263)
7- قول الله تعالى: { قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيّاً مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى } [الإسراء:110]، فهذا الدعاء دعاء المسألة، وقد ذكر في سبب النزول عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: ( كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم البيت فجهر بالدعاء فجعل يقول: يا الله يا رحمن؛ فسمعته أهل مكة؛ فأقبلوا عليه؛ فأنزل الله: { قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيّاً مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى } إلى آخر الآية ) (1)، وروى عن عبد الله بن عباس - رضي الله عنه - قال: ( كان النبي - صلى الله عليه وسلم - ساجدا يدعو يا رحمن يا رحيم فقال المشركون: هذا يزعم أنه يدعو واحدا وهو يدعو مثنى مثنى؛ فأنزل الله تعالى: { قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيّاً مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى } الآية ) (2) .
وقيل إن الدعاء هاهنا بمعنى التسمية كقولهم: دعوت ولدي سعيدا، وادعه بعبد الله ونحوه، والمعنى سموا الله أو سموا الرحمن؛ فالدعاء هاهنا بمعنى التسمية، وليس ذلك عين المراد، بل المراد بالدعاء معناه المعهود المطرد في القرآن، وهو دعاء السؤال ودعاء الثناء، ولكنه متضمن معنى التسمية، فليس المراد مجرد التسمية الخالية عن العبادة والطلب بل التسمية الواقعة في دعاء الثناء والطلب؛ فعلى هذا المعنى يصح أن يكون في تدعوا معنى تسموا، والمعنى أيا ما تسموا في ثنائكم ودعائكم وسؤالكم .
__________
(1) خلق أفعال العباد للبخاري ص82 .
(2) جامع البيان عن تأويل آي القرآن 15/ 182 .(1/264)
8- قوله تعالى: { إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ } [الطور:28]، فهذا أظهر في دعاء العبادة المتضمن للسؤال رغبة ورهبة، والمعنى إنا كنا من قبل نخلص له العبادة، وبهذا استحقوا أن وقاهم عذاب السموم لا بمجرد السؤال المشترك بين الناجي وغيره؛ فإن الله سبحانه يسأله من في السموات ومن في الأرض، والفوز والنجاة إنما هي بإخلاص العبادة لله لا بمجرد السؤال والطلب، وكذلك قوله عن فتية أصحاب الكهف: { إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهاً لَقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً } [الكهف:14]، وكذلك قوله تعالى: { أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ } [الصافات:125]، فهذا أظهر في دعاء العبادة (1) .( دعاء المسألة أعلى أنواع التوسل إلى الله .
__________
(1) بدائع الفوائد 3/513 وما بعدها بتصرف .(1/265)
إذا كان مدح المخلوق قبل سؤاله بذكر القليل من أوصاف كماله يعد سببا للإجابة وتحقيق المطلوب؛ فإن مدح الخالق قبل سؤاله بذكر أسمائه وصفاته وأفعاله يعد أساسا متينا في دعاء المسألة من باب أولى، لاسيما أن المخلوق يمدح بوصف مكتسب زائل لا يدوم، وربما يمدح بما لا يستحق، وربما يمدح نفاقا وكذبا، كما أن مدح المسئول قبل السؤال يعود النفع فيه على السائل والمسئول، أما رب العزة والجلال فما زال بأسمائه وصفاته أولا قبل خلقه، لم يزدد بكونهم شيئا لم يكن قبلهم من صفته، وكما كان بأسمائه وصفاته أزليا كذلك لا يزال عليها أبديا، هو الغني بذاته عن العالمين، كل شيء إليه فقير، وكل أمر عليه يسير، لا يحتاج إلى شيء، وهو كما قال: { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ } (1)، فالله - عز وجل - أهل الثناء والمجد، مهما بالغت في مدحه فلن توفيه شيئا من حقه وما ينبغي لجلال وجهه وجمال وصفه وكمال فعله .
__________
(1) شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز الحنفي ص127 بتصرف .(1/266)
كما أن المادح لربه هو المستفيد من ثنائه ومدحه، أما رب العزة والجلال فهو غني عن مدح العالمين، ولما أمرنا سبحانه أن نمدحه ونسأله وندعوه فإن ذلك لنفعنا وليس لنفعه - عز وجل -، روى مسلم من حديث أبي ذر - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال فيما روى عن الله تبارك وتعالى: ( يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلاَ تَظَالَمُوا، يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلاَّ مَنْ هَدَيْتُهُ فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ، يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ جَائِعٌ إِلاَّ مَنْ أَطْعَمْتُهُ فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ، يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ عَارٍ إِلاَّ مَنْ كَسَوْتُهُ فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ، يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِالليْلِ وَالنَّهَارِ، وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ، يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي، يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا، يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا، يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْتُ كُل إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلاَّ كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ، يَا عِبَادِي إِنَّمَا هِي أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا، فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللهَ، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ(1/267)
فَلاَ يَلُومَنَّ إِلاَّ نَفْسَهُ ) (1) .
وقد وردت نصوص نبوية كثيرة تدل على أن الداعي يتوجب عليه أن يثني على ربه قبل السؤال والدعاء، وأن يصلي أيضا على خاتم الأنبياء - صلى الله عليه وسلم - ، روى أبو داود وصححه الشيخ الألباني من حديث فضالة بين عبيد - رضي الله عنه - أنه قال: ( سَمِعَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - رَجُلًا يَدْعُو فِي صَلاتِهِ، لَمْ يُمَجِّدِ اللهَ تَعَالَى، وَلَمْ يُصَلِّ عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : عَجِلَ هَذَا ثُمَّ دَعَاهُ فَقَالَ لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ: إِذَا صَلى أَحَدُكُمْ، فَلْيَبْدَأْ بِتَمْجِيدِ رَبِّهِ جَل وَعَزَّ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ، ثُمَّ يُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ثُمَّ يَدْعُو بَعْدُ بِمَا شَاءَ ) (2) .
__________
(1) مسلم في البر والصلة والأدب، باب تحريم الظلم 4/1994 (2577) .
(2) أبو داود في كتاب الصلاة، باب الدعاء 2/77 (1481)، وانظر صفة الصلاة للألباني ص181 .(1/268)
وروى النسائي وصححه الشيخ الألباني من حديث زيد بن خارجة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( صَلُّوا عَلَيَّ وَاجْتَهِدُوا فِي الدُّعَاءِ، وَقُولُوا: اللهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ ) (1)، وروى الترمذي وحسنه الألباني من حديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قَالَ: ( كُنْتُ أُصَلِّي وَالنَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ مَعَهُ، فَلَمَّا جَلَسْتُ بَدَأْتُ بِالثَّنَاءِ عَلَى اللهِ، ثُمَّ الصَّلاةِ عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، ثُمَّ دَعَوْتُ لِنَفْسِي، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : سَلْ تُعْطَهْ، سَلْ تُعْطَهْ ) (2) .
__________
(1) النسائي في كتاب السهو 3/48 (1292)، صحيح الجامع (3783) .
(2) الترمذي في أبواب الصلاة، باب ما ذكر في الثناء على الله والصلاة على النبي S 2/448 (593) وانظر مشكاة المصابيح للشيخ الألباني (931) .(1/269)
والله - عز وجل - يحب أن يثني عليه عبده بأسمائه وصفاته قبل سؤاله ودعائه، روى البخاري من حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( لاَ أَحَدَ أَغْيَرُ مِنَ اللهِ وَلِذَلِكَ حَرَّمَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ، وَلاَ شَيْءَ أَحَبُّ إِلَيْهِ الْمَدْحُ مِنَ اللهِ لِذَلِكَ مَدَحَ نَفْسَهُ ) (1) ، وفي حديث الشفاعة عند البخاري من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( فيَأْتُونِي فَأَسْتَأْذِنُ عَلَى رَبِّى في دَارِهِ فَيُؤْذَنُ لِي عَلَيْهِ، فَإِذَا رَأَيْتُهُ وَقَعْتُ سَاجِدًا؛ فَيَدَعُنِي مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَدَعَنِي، فَيَقُولُ: ارْفَعْ مُحَمَّدُ، وَقُلْ يُسْمَعْ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، وَسَلْ تُعْطَ، قَالَ: فَأَرْفَعُ رَأْسي فَأُثْنِي عَلَى رَبِّي بِثَنَاءٍ وَتَحْمِيدٍ يُعَلّمُنِيهِ ) (2)، وعند مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( اللهُمَّ أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ، وَبِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْكَ، لاَ أُحْصِى ثَنَاءً عَلَيْكَ أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ ) (3) .
__________
(1) البخاري في التفسير، باب قوله ولا تقربوا الفواحش 4/ 1696 (4358) .
(2) البخاري في التوحيد، باب قول الله تعالى وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة 6/ 2708 (7002) .
(3) مسلم في الصلاة، باب ما يقال في الركوع والسجود 1/352 (486) .(1/270)
وأنواع التوسل التي شرعها الله تعالى لعباده وحث عليها ثلاثة أنواع أعلاها وأشرفها التوسل إليه بأسمائه الحسنى وصفاته وأفعاله، كما في قول يوسف - عليه السلام -: { رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ المُلكِ وَعَلمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ } [يوسف:101]، وعند مسلم من حديث علي - رضي الله عنه - في دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا قام إلى الصلاة: ( اللهُمَّ أَنْتَ المَلِكُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ، أَنْتَ رَبِّي وَأَنَا عَبْدُكَ ظَلَمْتُ نفسي وَاعْتَرَفْتُ بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لي ذُنُوبِي جَمِيعًا إِنَّهُ لاَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ أَنْتَ .. الحديث ) (1)، وروى النسائي وصححه الشيخ الألباني من حديث محجن بن الأدرع - رضي الله عنه - أنه قال: ( دَخَلَ رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - المَسْجِدَ إذَا رَجُلٌ قَدْ قَضَى صَلاَتَهُ وَهُوَ يَتَشَهَّدُ، فَقَال: اللهُمَّ إنِّي أَسْأَلُكَ يَا أَللهُ بِأَنَّكَ الوَاحِدُ الأَحَدُ الصَّمَدُ الذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ أَنْ تَغْفِرَ لِي ذُنُوبِي إنَّكَ أَنْتَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : قَدْ غُفِرَ لَهُ ثَلاَثاً ) (2) .
__________
(1) مسلم في صلاة المسافرين باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه 1/535 ( 771) .
(2) النسائي في السهو، باب الدعاء بعد الذكر1/386 (1224)، صحيح أبي داود 2/185(869) .(1/271)
فهذا أعلى أنواع التوسل إلى الله وهو تنفيذ وطاعة لقوله - عز وجل -: { وَللهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا } [الأعراف:180]، والمعنى ادعوا الله تعالى متوسلين إليه بأسمائه الحسنى، والأسماء كما علمنا تدل على الصفات بالتضمن واللزوم، ومن ذلك أيضا ما رواه النسائي وصححه الألباني من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: ( كُنْتُ مَعَ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - جَالِسًا وَرَجُلٌ قَائِمٌ يُصَلِّي، فَلَمَّا رَكَعَ وَسَجَدَ وَتَشَهَّدَ دَعَا فَقَالَ فِي دُعَائِهِ: اللهمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِأَنَّ لكَ الحَمْدَ، لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ المَنَّانُ، بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ، يَا ذَا الجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ، يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ إِنِّي أَسْأَلُكَ، فَقَالَ النَّبِيُ - صلى الله عليه وسلم - لأَصْحَابِهِ: تَدْرُونَ بِمَا دَعَا؟ قَالُوا: الله وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: وَالذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَقَدْ دَعَا الله بِاسْمِهِ العَظِيمِ الذِي إِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ، وَإِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى ) (1) .
__________
(1) الموضع السابق 2/52 (1300)، مشكاة المصابيح (2290) .(1/272)
أما النوع الثاني من التوسل فهو التوسل إلى الله تعالى بفعل العمل الصالح وهو من دعاء العبادة، كأن يذكر الداعي عملا صالحا ذا بال فيه خوفه من الله سبحانه وتقواه إياه وإيثاره رضاه على كل شيء، وطاعته له جل شأنه ثم يتوسل به إلى ربه في دعائه ليكون أرجى لقبوله وإجابته، وهذا توسل جيد وجميل قد شرعه الله وارتضاه ويدل على مشروعيته قوله تعالى: { الذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } [آل عمران:16]، وقوله - عز وجل - - { رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ } [آل عمران:193]، وأمثال هذه الآيات الكريمات المباركات، وعند البخاري من حديث عبد الله بن عمر - رضي الله عنه - أنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( انْطَلَقَ ثَلاَثَةُ رَهْطٍ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ حَتَّى أَوَوُا الْمَبِيتَ إِلَى غَارٍ فَدَخَلُوهُ، فَانْحَدَرَتْ صَخْرَةٌ مِنَ الْجَبَلِ فَسَدَّتْ عَلَيْهِمُ الْغَارَ فَقَالُوا إِنَّهُ لاَ يُنْجِيكُمْ مِنْ هَذِهِ الصَّخْرَةِ إِلاَّ أَنْ تَدْعُوا اللهَ بِصَالِحِ أَعْمَالِكُمْ .. الحديث ) (1) .
__________
(1) البخاري في الإجارة، باب من استأجر أجيرا فترك أجره فعمل فيه المستأجر فزاد 2/793 (2152)، وانظر التوسل أنواعه وأحكامه للشيخ الألباني ص32، ط 3، المكتب الإسلامي، بيروت .(1/273)
وأما النوع الثالث فهو التوسل إلى الله تعالى بدعاء الأحياء من المؤمنين الصالحين كأن يقع المسلم في ضيق شديد أو تحل به مصيبة، ويعلم من نفسه التفريط في حق الله تبارك وتعالى، فيطلب ممن يعتقد فيه الصلاح والتقوى أو الفضل والعلم بالكتاب والسنة أن يدعوا له ربه ليفرج عنه كربه ويذهب عنه همه، فهذا نوع آخر من التوسل المشروع دلت عليه النصوص، فعند البخاري من حديث أنس - رضي الله عنه - قال: ( بَيْنَمَا النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَخْطُبُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ إِذْ قَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، هَلَكَ الْكُرَاعُ وَهَلَكَ الشَّاءُ، فَادْعُ اللهَ أَنْ يَسْقِيَنَا، فَمَدَّ يَدَيْهِ وَدَعَا ) (1)، وروى أيضا من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه -: ( أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَانَ إِذَا قَحَطُوا اسْتَسْقَى بِالْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَقَالَ: اللهُمَّ إِنَّا كُنَّا نَتَوَسَّلُ إِلَيْكَ بِنَبِيِّنَا فَتَسْقِينَا، وَإِنَّا نَتَوَسَّلُ إِلَيْكَ بِعَمِّ نَبِيِّنَا فَاسْقِنَا، قَالَ: فَيُسْقَوْنَ ) (2)، ومعنى قول عمر - رضي الله عنه - إنا كنا نتوسل إليك بنبينا - صلى الله عليه وسلم - وإنا نتوسل إليك بعم نبينا أننا كنا نقصد نبينا - صلى الله عليه وسلم - ونطلب منه أن يدعو لنا ونتقرب إلى الله بدعائه، والآن وقد انتقل - صلى الله عليه وسلم - إلى الرفيق الأعلى، ولم يعد من الممكن أن يدعو لنا فإننا نتوجه إلى عم نبينا العباس ونطلب منه أن يدعو لنا (3) .
أنواع دعاء المسألة وتعلقها بالأسماء الحسنى .
__________
(1) البخاري في الجمعة، باب رفع اليدين في الخطبة 1/315 (890) .
(2) البخاري في الاستسقاء، باب ذكر العباس بن عبد المطلب - رضي الله عنه -3/1360 (3507) .
(3) التوسل أنواعه وأحكامه للشيخ الألباني ص41 .(1/274)
1- أن يكون الدعاء بالاسم المطلق وهو أعلاه لأنه يدل بالتضمن على وصف كمال مطلق بحيث يكون الاسم في غاية الحسن، ومن ذلك استعاذة مريم: { قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيّا } [مريم:18]، وقوله تعالى عن إبراهيم - عليه السلام - والذين معه: { رَبَّنَا لا تَجْعَلنَا فِتْنَةً لِلذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ العَزِيزُ الحَكِيم } [الممتحنة:5] .
ومما ورد في السنة من الدعاء بالاسم المطلق ما رواه البخاري من حديث أبي بكرٍ - رضي الله عنه - أنه قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - : ( عَلِّمْنِي دُعَاءً أَدْعُو بِهِ فِي صَلاَتِي، قَالَ: قُلِ اللهمَّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْمًا كَثِيرًا وَلاَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ أَنْتَ فَاغْفِرْ لِي مَغْفِرَةً مِنْ عِنْدِكَ وَارْحَمْنِي إِنَّكَ أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ) (1)، وعند مسلم من حديث علي - رضي الله عنه - في دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا قام إلى الصلاة: ( اللهُمَّ أَنْتَ المَلِكُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ، أَنْتَ رَبِّي وَأَنَا عَبْدُكَ ظَلَمْتُ نفسي وَاعْتَرَفْتُ بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لي ذُنُوبِي جَمِيعًا إِنَّهُ لاَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ أَنْتَ .. الحديث ) (2) .
__________
(1) البخاري في كتاب الدعوات، باب الدعاء قبل السلام 1/286 (799) .
(2) مسلم في صلاة المسافرين، باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه 1/535 (771) .(1/275)
وروى الإمام مسلم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا آوى إلى فراشه قال: ( اللهمَّ رَبَّ السَّمَوَاتِ وَرَبَّ الأَرْضِ وَرَبَّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، رَبَّنَا وَرَبَّ كُلِّ شيء فَالِقَ الْحَبِّ وَالنَّوَى، وَمُنْزِلَ التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالْفُرْقَانِ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ كُلِّ شيء أَنْتَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهِ، اللهمَّ أَنْتَ الأَوَّلُ فَلَيْسَ قَبْلَكَ شيء، وَأَنْتَ الآخِرُ فَلَيْسَ بَعْدَكَ شيء وَأَنْتَ الظَّاهِرُ فَلَيْسَ فَوْقَكَ شيء وَأَنْتَ الْبَاطِنُ فَلَيْسَ دُونَكَ شيء، اقْضِ عَنَّا الدَّيْنَ وَاغْنِنَا مِنَ الْفَقْرِ ) (1)، فهذه النصوص ورد فيها دعاء مسألة باسم الله الرحمن والعزيز الحكيم، والغفور الرحيم، والملك، والأول الآخر الظاهر الباطن .
__________
(1) مسلم في الذكر والدعاء والتوبة، باب ما يقول ثم النوم 4/2084 (2713) .(1/276)
2- أن يكون دعاء المسألة بالاسم المقيد وهذا النوع شأنه شأن الدعاء بجميع الأسماء المقيدة، ومن ذلك قوله تعالى عن زكريا - عليه السلام -: { قَال رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ } [آل عمران:38]، فاسم الله السميع من الأسماء الحسنى المطلقة ولكنه ورد مقيدا في هذا الموضع، ومثله أيضا الدعاء باسم الله البصير حال التقييد كما في قول موسى - عليه السلام -: { وَاجْعَل لِّي وَزِيراً مِّنْ أَهْلِي هَارُونَ أَخِي اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً إِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيراً قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى } [طه:25/35]، وكذلك اسم الله المولى في قوله: { رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى القَوْمِ الكَافِرِينَ } [البقرة:286]، وأيضا اسم الله النصير فيما رواه أبو داود وصححه الألباني من حديث أنس - رضي الله عنه - أنه قال: ( كَانَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إِذَا غَزَا قَالَ: اللهمَّ أَنْتَ عَضُدِي وَنَصِيرِي بِكَ أَحُولُ وَبِكَ أَصُولُ وَبِكَ أُقَاتِلُ ) (1)، وعند الترمذي وصححه الشيخ الألباني أن أبا بكر - رضي الله عنه - قال: يا رسول الله مرني بشيء أقوله إذَا أصبحت وإذا أمسيت قال: ( قُل اللهُمَّ عَالِمَ الغَيْبِ وَالشّهَادَةِ ، فَاطِرَ السَّمَاواتِ والأَرْضِ، رَبَّ كُلّ شَيءٍ وَمَلِيكَهُ أشْهَدُ أَن لاَ إِله إِلاّ أنْتَ، أعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ نَفْسِي وَمِنْ شَرِّ الشَّيْطَانِ وشِرْكِهِ، قَالَ: قُلهُ إذَا أَصْبَحْتَ وَإذَا أَمْسَيْتَ، وإِذَا أخَذْتَ مَضْجَعَكَ ) (2)
__________
(1) أبو داود في الجهاد، باب ما يدعى ثم اللقاء 3/42 (2632)، وانظر الكلم الطيب (126) .
(2) الترمذي في الدعوات 5/467 (3392)، وانظر السلسلة الصحيحة (2753) .(1/277)
.
3- الدعاء بالوصف الذي دل عليه الاسم سواء كان وصف ذات أو فعل، فمن دعاء المسألة بوصف الذات الدعاء بالعزة التي دل عليها اسم الله العزيز فيما رواه مسلم من حديث ابن عباس - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: ( اللهمَّ إني أَعُوذُ بِعِزَّتِكَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ أَنْ تضلني، أَنْتَ الحي الذي لاَ يَمُوتُ وَالْجِنُّ وَالإِنْسُ يَمُوتُونَ ) (1)، وكذلك الدعاء بالعظمة التي دل عليها اسمه العظيم فيما رواه أبو داود وصححه الألباني من حديث ابن عمر - رضي الله عنه - أنه قال: ( لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَدَعُ هَؤُلاَءِ الدَّعَوَاتِ حِينَ يُمْسِي وَحِينَ يُصْبِحُ .. وذكر منها: وَأَعُوذُ بِعَظَمَتِكَ أَنْ أغتَالَ مِنْ تَحْتِي ) (2) .
__________
(1) مسلم في الذكر والدعاء والتوبة، باب التعوذ من شر ما عمل 4/ 2086 (2717) .
(2) أبو داود في كتاب الأدب، باب ما يقول إذا أصبح 4/318 (5074)، صحيح الجامع (1274) .(1/278)
أما الدعاء بوصف الفعل فكالدعاء بالفتح الذي دل عليه اسم الله الفتاح في دعاء نبي الله نوح - عليه السلام -: { قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي وَمَن مَّعِي مِنَ المُؤْمِنِينَ } [الشعراء:118]، والدعاء بفعل الإجابة الذي دل عليه اسم الله المجيب في قوله تعالى: { أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ } [النمل:62]، وكذلك الدعاء بفعل الإبراء الذي دل عليه اسمه البارئ سبحانه فيما رواه مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت: ( كَانَ إِذَا اشْتَكَى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - رَقَاهُ جِبْرِيلُ، قَالَ: بِاسْمِ اللهِ يُبْرِيكَ وَمِنْ كُلِّ دَاءٍ يَشْفِيكَ .. ) (1)، والدعاء بوصف المغفرة والرحمة والمعافاة والإكرام والتوسيع وكلها أوصاف دل عليها اسم الله الغفار الرحيم العفو الكريم الواسع روى مسلم من حديث عوف بن مالك - رضي الله عنه - أنه قال: صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على جنازة، فحفظت من دعائه: ( اللهمَّ اغْفِرْ لَهُ وَارْحَمْهُ، وَعَافِهِ وَاعْفُ عَنْهُ، وَأَكْرِمْ نُزُلَهُ، وَوَسِّعْ مُدْخَلَهُ .. ) (2)، والدعاء بفعل القبض الذي تضمنه اسم الله القابض فيما رواه الترمذي وصححه الألباني من حديث ابن عباس - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( اللهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ، وَتَرْكَ الْمُنْكَرَاتِ وَحُبَّ الْمَسَاكِينِ، وَإِذَا أَرَدْتَ بِعِبَادِكَ فِتْنَةً فَاقْبِضْنِي إِلَيْكَ غَيْرَ مَفْتُونٍ ) (3) .
__________
(1) مسلم في السلام، باب رآه والمرض والرقى 4/1718 (2185) .
(2) مسلم في الجنائز، باب الدعاء للميت 2/662 (963) .
(3) الترمذي في التفسير، باب ومن سورة ص 5/366 (3233)، صحيح الجامع (59) .(1/279)
4- أن يكون الدعاء والمدح والثناء بلسان المقال، ويكون دعاء المسألة بلسان الحال ومن ذلك ما رواه البخاري من حديث ابن عباس - رضي الله عنه - قال: ( كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَدْعُو عِنْدَ الكَرْبِ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ الله العَظِيمُ الحَلِيمُ، لاَ إِلَهَ إِلاَّ الله رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ ) (1)، وكذلك ما ورد عند الترمذي وصححه الشيخ الألباني من حديث علي - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( أَلاَ أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ إِذَا قُلتَهُنَّ غَفَرَ الله لَكَ وَإِنْ كُنْتَ مَغْفُورًا لَكَ، قَالَ قُل: لاَ إِلَهَ إِلاَّ الله العَلِي العَظِيمُ، لاَ إِلَهَ إِلاَّ الله الحَلِيمُ الكَرِيمُ، لاَ إِلَهَ إِلاَّ الله، سُبْحَانَ الله ربِّ السَّماوات السَّبْع وربِّ العَرشِ العَظِيمِ الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ ) (2) .
5- الدعاء بمقتضى الاسم فهذا يشمله دعاء المسألة، والمقصود الدعاء بمقتضى الطلب أو الخبر في سياق النص الذي ورد فيه ذكر الاسم أو الوصف كقوله تعالى: { إِنَّ الذِينَ آمَنُوا وَالذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ الله أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ الله وَالله غَفُورٌ رَحِيمٌ } [البقرة:218]، وقوله: { وَمَنْ يَعْمَل سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ الله يَجِدِ الله غَفُوراً رَحِيماً } [النساء:110]، وقوله سبحانه: { أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى الله وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَالله غَفُورٌ رَحِيمٌ } [المائدة:74]، فالمسلم يقول: اللهم إني أرجو رحمتك إنك أنت الغفور الرحيم، اللهم إني عملت سوءا وظلمت نفسي فاغفر لي إنك أنت الغفور الرحيم، اللهم إني أتوب إليك وأستغفرك يا غفور يا رحيم .
__________
(1) البخاري في كتاب الدعوات، باب الدعاء ثم الكرب 5/2336 (5985) .
(2) الترمذي في الدعوات 5/529 (3504)، وانظر صحيح الجامع (2621) .(1/280)
وأيضا قوله تعالى: { وَعَلَى الثَّلاثَةِ الذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلجَأَ مِنَ الله إلا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ الله هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } [التوبة:118]، فلو تخلف مسلم عن تنفيذ أمر الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - ففعل محرما أو ترك واجبا، أو أحس بمرارة الذنب، وندم وأسف على ما سبق من الود والحب، وضاقت عليه الأرض بما رحبت، فله أن يدعو دعاء مسألة بمقتضى حال الثلاثة الذين خلفوا عن غزة تبوك، فيقول مثلا: اللهم ضاقت علي الأرض بما رحبت، وضاقت علي نفسي، وأيقنت أنه لا ملجأ منك إلا إليك؛ فتب علي إنك أنت التواب الرحيم، وكذلك قوله تعالى عن نبيه شعيب - عليه السلام - لما قال لقومه: { وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ } [هود:90]، فالموحد لله في أسمائه يقول في دعاء المسألة: اللهم إني أستغفرك وأتوب إليك إنك أنت الرحيم الودود .(1/281)
ويمكن الدعاء أيضا بمقتضى الاسم المطلق في قوله تعالى: { وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ } [الحج:78]، فالموحد يطلب من ربه أن يمسكه بشرعه وأن ينير له سبل الهداية والصلاح، وأن يبصره بأسباب النجاح والفلاح وأن يجعل له بصيرة في قلبه وعصمة في قربه، وأن يتولاه بحفظه وينصره على عدوه، وكذلك الدعاء بمقتضى قوله تعالى: { وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً } [الفرقان:58]، وقوله: { قُلْ كَفَى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً } [الإسراء:96]، يقول في دعائه: اللهم يا خبير يا بصير، سبحانك وبحمدك، توكلت عليك في مسألتي وأنت عليم بذنبي فاغفر لي وعافني وارزقني واقض حاجتي ويسر أمري ويسمي لربه ما يشاء .(1/282)
وقس على ذلك ما ورد في قوله تعالى عن آدم - عليه السلام - وحواء: { قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخَاسِرِينَ } [الأعراف:23]، وقوله سبحانه عن نبيه نوح - عليه السلام -: { وَإلا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الخَاسِرِينَ } [هود:47]، وقوله لسيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - : { وَاسْتَغْفِرِ الله إِنَّ الله كَانَ غَفُوراً رَحِيماً } [النساء:106]، فالمسلم يتأول القرآن قولا وفعلا وينفذ مقتضى الطلب أو الخبر، ويقول في دعاء المسألة: اللهم اغفر لي إنك أنت الغفور الرحيم، وفي دعاء العبادة كما سيأتي تفصيله بحول الله يصدق مع ربه بالإخلاص في التوبة والاستغفار، وقد كان النبي يتأول القرآن على هذا النحو كما ورد عند البخاري من حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت: ( كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ: سُبْحَانَكَ اللهمَّ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ اللهمَّ اغْفِرْ لِي، يَتَأَوَّلُ الْقُرْآنَ ) (1)، وتعني أنه كان ينفذ أمر الله له في سورة النصر: { إِذَا جَاء نَصْرُ الله وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ الله أَفْوَاجاً فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً } [النصر:1/3]، والمراد بالتأويل الحقيقة التي يؤول إليها الكلام وهذا المقصود بالتأويل في عرف السلف، فتأويل الأمر عندهم تنفيذه، أو فعل المأمور به وترك المنهي عنه، وتأويل الخبر عندهم وقوعه وحدوثه مطابقا لما ذكره المتكلم سواء في الماضي أو الحاضر والمستقبل (2)
__________
(1) البخاري في كتاب الأذان، باب التسبيح والدعاء في السجود 1/281 (784) .
(2) ليس معنى التأويل عند السلف هو ما اشتهر عند أغلب الناس من صرف المعنى الراجح إلى آخر مرجوح بدليل أو بغير دليل، كتأويل المتكلمين لاستواء الله على العرش بالاستيلاء والغلبة والقهر، وتأويل اليدين بالقوة والقدرة، أو النعمة والرحمة، أو ما شابه ذلك، فإن السلف لا يعرفون ذلك، ولا قال أحد منهم بمثل هذا التأويل بل التأويل عندهم هو ما ورد في القرآن والسنة، وهو بمعنى الحقيقة التي يؤول إليها الكلام، أو التفسير والبيان وقد شرحناه في عدة مواضع، انظر توحيد الصفات بين اعتقاد السلف وتأويلات الخلف ص42، ومختصر القواعد السلفية في الصفات الربانية ص35، والمحكم والمتشابه وقضية التأويل ص23 .(1/283)
.
والقصد أن الدعاء عبودية لله تعالى وافتقار إليه، وتذلل بين يديه، فكلما كثره العبد وطوله وأعاده وأبداه ونوع جمله كان ذلك أبلغ في عبوديته وإظهار فقره وتذللِه وحاجته وكان ذلك أقرب له من ربه وأعظم لثوابه، وهذا بخلاف المخلوق؛ فإنك كلما كثرت سؤاله وكررت حوائجك إليه أبرمته وأثقلت عليه وهان أمرك بين يديه، وكلما تركت سؤاله كان أعظم عنده وأحب إليه، والله سبحانه كلما سألته كنت أقرب إليه وأحب إليه، وكلما ألححت عليه في الدعاء أحبك، ومن لم يسأله يغضب عليه، فالله يغضب إن تركت سؤاله، وبني آدم حين يسأل يغضب، فالمطلوب يزيد بزيادة الطلب وينقص بنقصانه (1)، ومن ثم سوف نستقصي في بحثنا ما استطعنا من أدعية مأثورة على تفصيل هذه الأنواع المذكورة في كل اسم من الأسماء الحسنى .
( آداب دعاء الله بأسمائه دعاء المسألة .
إذا اقترن دعاء المسألة بالآداب الشرعية كان من أعظم الأسباب الإيمانية وأقواها في تحصيل المنافع الدنيوية والدرجات العلية في الآخرة، بل يكون الداعي في توسله من حيث نوع التوسل ورفعته وحقيقته وكيفيته في أعلى درجات القرب من الله - عز وجل - فلو أن الموحد في دعائه لربه باسمه ووصفه كان مخلصا في دعائه متقيدا بطريقة نبيه - صلى الله عليه وسلم - وعلى ثقة من ربه في إجابة مطلبه ملتزما بآداب الدعاء الشرعية فقد تأول بحق قول الله - عز وجل -: { وَللهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا } [الأعراف:180] .
__________
(1) انظر جلاء الأفهام في فضل الصلاة والسلام على محمد خير الأنام لابن القيم ص299 بصرف .(1/284)
والله - عز وجل - أمرنا بالإخلاص في الدعاء فقال: { هُوَ الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } [غافر:65]، وأمر بأن يكون الداعي على ثقة ويقين بأن الإجابة حاصلة، وأن الله تعالى يستحي من عبده إذا صدق في دعائه أن يخيب رجاءه ويرده صفر اليدين، فعند أبي داود وصححه الألباني من حديث سلمان الفارسي - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( إِنَّ رَبَّكُمْ تَبَارَكَ وَتَعَالَى حَيِيٌ كَرِيمٌ يَسْتَحْيِي مِنْ عَبْدِهِ إِذَا رَفَعَ يَدَيْهِ إِلَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُمَا صِفْرًا ) (1) ، وعند الترمذي وحسنه الألباني من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( ادْعُوا اللهَ وَأَنْتُمْ مُوقِنُونَ بِالإِجَابَةِ، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ لاَ يَسْتَجِيبُ دُعَاءً مِنْ قَلْبٍ غَافِلٍ لاَهٍ ) (2) .
__________
(1) أبو داود في كتاب الصلاة، باب الدعاء 2/78 (1488)، وصحيح ابن ماجة 2/331 (3117) .
(2) الترمذي 5/517 (3479)، والسلسلة الصحيحة (594) .(1/285)
ومن آداب الدعاء استحضار القلب بالخشوع والرغبة في الثواب، والخشية والرهبة والخوف من العقاب، قال تعالى في وصف نبيه زكريا - عليه السلام -: { فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ } [الأنبياء:90]، يضاف إلى ذلك قوة العزم والجزم في الدعاء، ولا يعلقه بالمشيئة، روى البخاري من حديث أنس - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( إِذَا دَعَا أَحَدُكُمْ فَلْيَعْزِمِ الْمَسْأَلَةَ، وَلاَ يَقُولَنَّ اللهُمَّ إِنْ شِئْتَ فَأَعْطِنِي؛ إِنَّهُ لاَ مُسْتَكْرِهَ لَهُ ) (1)، فهذه من الآداب الشرعية والتوجيهات النبوية .
__________
(1) البخاري في الدعوات، باب ليعزم المسألة فإنه لا مكره له 5/2334 (5979) .(1/286)
وإذا كان الدعاء بالأسماء الحسنى مطلوبا في كل زمان ومكان إلا أنه في بعض المواطن التي تضيق فيها الأسباب بالإنسان أقوى مسألة وأسرع استجابة، فالله - عز وجل - يحب العبد الملح في الدعاء، والإلحاح فيه يزداد مع الاضطرار وصدق الالتجاء، قال تعالى: { أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ } [النمل:62]، فإذا ضاقت بالعبد السبل وانقطعت بالمكروب الحيل، فأول ما يفعله أن يستغيث بربه، ويلجأ إلى الله بما يناسب حاله من الأسماء ويضرع إليه ويبتهل في الدعاء، قال تعالى: { هُوَ الذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ } [يونس:22] .(1/287)
وعند البخاري من حديث عبد الله بن عباس - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال وهو في قبة له يوم بدر: ( أَنْشُدُكَ عَهْدَكَ وَوَعْدَكَ، اللهُمَّ إِنْ شِئْتَ لَمْ تُعْبَدْ بَعْدَ الْيَوْمِ أَبَدًا، فَأَخَذَ أَبُو بَكْرٍ بِيَدِهِ وَقَالَ: حَسْبُكَ يَا رَسُولَ اللهِ؛ فَقَدْ أَلْحَحْتَ عَلَى رَبِّكَ، وَهُوَ فِي الدِّرْعِ فَخَرَجَ وَهُوَ يَقُولُ: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ، بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ ) (1)، وروى أحمد وصححه الألباني من حديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( مَا أَصَابَ أَحَداً قَطُّ هَمٌّ وَلاَ حَزَنٌ فَقَالَ: اللهُمَّ إِنِّي عَبْدُكَ وَابْنُ عَبْدِكَ وَابْنُ أَمَتِكَ نَاصِيَتِي بِيَدِكَ مَاضٍ فِي حُكْمُكَ عَدْلٌ فِي قَضَاؤُكَ، أَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَكَ سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ، أَوْ عَلمْتَهُ أَحَداً مِنْ خَلْقِكَ، أَوْ أَنْزَلْتَهُ فِي كِتَابِكَ، أَوِ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَكَ، أَنْ تَجْعَلَ الْقُرْآنَ رَبِيعَ قَلْبِي وَنُورَ صَدْرِي وَجَلاَءَ حُزْنِي وَذَهَابَ هَمِّي، إِلاَّ أَذْهَبَ اللهُ هَمَّهُ وَحُزْنَهُ وَأَبْدَلَهُ مَكَانَهُ فَرَجاً، قَالَ: فَقِيلَ يَا رَسُولَ اللهِ: أَلاَ نَتَعَلمُهَا فَقَالَ: بَلَى، يَنْبَغِي لِمَنْ سَمِعَهَا أَنْ يَتَعَلمَهَا ) (2) .
__________
(1) البخاري في الجهاد، باب بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر 4/1846 (4596) .
(2) مسند أحمد 1/391 (3712)، السلسلة الصحيحة (199) .(1/288)
ومن آداب الدعاء ألا يدعو بقطيعة أرحام أو بمحرم أو إثم أو زور أو بهتان، أو ما شابه ذلك من أنواع العصيان، فقد روى مسلم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( لا يَزَالُ يُسْتَجَابُ لِلْعَبْدِ، مَا لَمْ يَدْعُ بِإِثْمٍ، أَوْ قَطِيعَةِ رَحِمٍ، مَا لَمْ يَسْتَعْجِلْ قِيلَ يَا رَسُولَ اللهِ: مَا الاسْتِعْجَالُ؟ قَالَ: يَقُولُ قَدْ دَعَوْتُ، وَقَدْ دَعَوْتُ، فَلَمْ أَرَ يَسْتَجِيبُ لِي؛ فَيَسْتَحْسِرُ عِنْدَ ذَلِكَ وَيَدَعُ الدُّعَاءَ ) (1)، كما أن الداعي ينبغي ألا يُحَجِّر رحمة الله في الدعاء، أو يبخل بدعائه على إخوانه ضنا بالفضل لنفسه ومنعا للأجر لغيره، فرحمة الله تعالى وسعت كل شيء، روى البخاري من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال: ( قَامَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي صَلاةٍ وَقُمْنَا مَعَهُ، فَقَالَ أَعْرَابِيٌّ وَهُوَ فِي الصَّلاةِ: اللهُمَّ ارْحَمْنِي وَمُحَمَّدًا، وَلا تَرْحَمْ مَعَنَا أَحَدًا، فَلَمَّا سَلمَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ لِلأَعْرَابِيِّ: لَقَدْ حَجَّرْتَ وَاسِعًا، يُرِيدُ رَحْمَةَ اللهِ )، وعند مسلم من حديث جندب - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حَدَّثَ: ( أَنَّ رَجُلا قَالَ: وَاللهِ لا يَغْفِرُ اللهُ لِفُلانٍ، وَإِنَّ اللهَ تَعَالَى قَالَ: مَنْ ذَا الذِي يَتَأَلى عَلَيَّ أَنْ لا أَغْفِرَ لِفُلانٍ، فَإِنِّي قَدْ غَفَرْتُ لِفُلانٍ وَأَحْبَطْتُ عَمَلَكَ، أَوْ كَمَا قَالَ ) (2) .
__________
(1) مسلم في الذكر والدعاء والتوبة، باب بيان أنه يستجاب للداعي ما لم يعجل 4/2096 (2735) .
(2) مسلم في البر والصلة والأدب، باب النهي عن تقنيط الإنسان من رحمة الله 4/2023 (2621) .(1/289)
ومن آداب الدعاء أن يدعو وقت السحر في جوف الليل قبيل الفجر؛ فهو أعظم وقت لنيل المغفرة والثواب، فالله - عز وجل - ينزل إلى السماء الدنيا وينادي العباد: هل من تائب؟ هل من مستغفر؟ وروى البخاري من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( يَنْزِلُ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى كُل لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ الليْلِ الآخِرُ، يَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ؟ مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ؟ مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ؟ ) (1)، وعند الترمذي وحسنه الشيخ الألباني من حديث أبي أمامة - رضي الله عنه - أنه قال: ( قِيلَ يَا رَسُولَ اللهِ: أَيُّ الدُّعَاءِ أَسْمَعُ؟ قَالَ: جَوْفَ الليْلِ الآخِرِ وَدُبُرَ الصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَاتِ ) (2) .
__________
(1) البخاري في التهجد، باب الدعاء والصلاة من آخر الليل 1/384 (1094) .
(2) الترمذي في كتاب الدعوات 5/526 (3499)، مشكاة المصابيح (968) .(1/290)
والمسلم إذا دعا الله دعاء مسألة فيستحب أن يكرر دعاءه ثلاث مرات، أو يزيد عن ذلك عند الضيق والكربات فعند مسلم عن ابن مسعود - رضي الله عنه - أنه قال: ( بَيْنَمَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي عِنْدَ الْبَيْتِ، وَأَبُو جَهْلٍ وَأَصْحَابٌ لَهُ جُلُوسٌ وَقَدْ نُحِرَتْ جَزُورٌ بِالأَمْسِ، فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: أَيُّكُمْ يَقُومُ إِلَى سَلا جَزُورِ بَنِي فُلانٍ فَيَأْخُذُهُ فَيَضَعُهُ فِي كَتِفَيْ مُحَمَّدٍ إِذَا سَجَدَ؟ فَانْبَعَثَ أَشْقَى الْقَوْمِ، فَأَخَذَهُ؛ فَلَمَّا سَجَدَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - وَضَعَهُ بَيْنَ كَتِفَيْهِ، فَاسْتَضْحَكُوا وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يَمِيلُ عَلَى بَعْضٍ، وَأَنَا قَائِمٌ أَنْظُرُ، لَوْ كَانَتْ لِي مَنَعَةٌ طَرَحْتُهُ عَنْ ظَهْرِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، وَالنَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - سَاجِدٌ مَا يَرْفَعُ رَأْسَهُ، حَتَّى انْطَلَقَ إِنْسَانٌ فَأَخْبَرَ فَاطِمَةَ، فَجَاءَتْ وَهِيَ جُوَيْرِيَةٌ، فَطَرَحَتْهُ عَنْهُ، ثُمَّ أَقْبَلَتْ عَلَيْهِمْ تَشْتِمُهُمْ، فَلَمَّا قَضَى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - صَلاتَهُ، رَفَعَ صَوْتَهُ، ثُمَّ دَعَا عَلَيْهِمْ، وَكَانَ إِذَا دَعَا دَعَا ثَلاثًا، وَإِذَا سَأَلَ سَأَلَ ثَلاثًا، ثُمَّ قَالَ: اللهُمَّ عَلَيْكَ بِقُرَيْشٍ، ثَلاثَ مَرَّاتٍ، فَلَمَّا سَمِعُوا صَوْتَهُ، ذَهَبَ عَنْهُمُ الضِّحْكُ، وَخَافُوا دَعْوَتَهُ، ثُمَّ قَالَ: اللهُمَّ عَلَيْكَ بِأَبِي جَهْلِ بْنِ هِشَامٍ وَعُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ وَشَيْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ وَالْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ وَأُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ وَعُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ، وَذَكَرَ السَّابِعَ وَلَمْ أَحْفَظْهُ، فَوَ الذِي بَعَثَ مُحَمَّدًا - صلى الله عليه وسلم - بِالْحَقِّ، لَقَدْ رَأَيْتُ الذِينَ سَمَّى صَرْعَى يَوْمَ بَدْرٍ، ثُمَّ(1/291)
سُحِبُوا إِلَى الْقَلِيبِ، قَلِيبِ بَدْرٍ ) (1) .
ويستحب للداعي أن يدعو في بعض المواضع التي حث النبي - صلى الله عليه وسلم - عليها كالدعاء في السجود، وبين الأذان والإقامة، وإذا شعر بالظلم والقهر، روى مسلم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول - صلى الله عليه وسلم - قال: ( أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ فَأَكْثِرُوا الدُّعَاءَ ) (2)، روى أيضا من حديث ابن عباس - رضي الله عنه - قال: ( كَشَفَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - السِّتَارَةَ، وَالنَّاسُ صُفُوفٌ خَلْفَ أَبِي بَكْرٍ، فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّهُ لَمْ يَبْقَ مِنْ مُبَشِّرَاتِ النُّبُوَّةِ إِلا الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ، يَرَاهَا الْمُسْلِمُ أَوْ تُرَى لَهُ، أَلا وَإِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَقْرَأَ الْقُرْآنَ رَاكِعًا أَوْ سَاجِدًا، فَأَمَّا الرُّكُوعُ فَعَظِّمُوا فِيهِ الرَّبَّ - عز وجل -، وَأَمَّا السُّجُودُ فَاجْتَهِدُوا فِي الدُّعَاءِ فَقَمِنٌ أَنْ يُسْتَجَابَ لَكُمْ ) (3)، وعند أحمد وصححه الشيخ الألباني من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( إِنَّ الدُّعَاءَ لا يُرَدُّ بَيْنَ الأَذَانِ وَالإِقَامَةِ فَادْعُوا ) (4)، وعند البخاري من حديث ابن عباس - رضي الله عنه - في وصية النبي - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ - رضي الله عنه -: ( وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللهِ حِجَابٌ ) (5)
__________
(1) البخاري في الوضوء، باب إذا ألقي على ظهر المصلي قذر أو جيفة لم تفسد عليه صلاته 1/94 (237) .
(2) مسلم في الصلاة، باب ما يقال في الركوع والسجود 1/350 (482) .
(3) الموضع السابق، باب النهي عن قراءة القرآن في الركوع والسجود 1/348 (479) .
(4) المسند 3/155 (12606)، وانظر الثمر المستطاب في فقه السنة والكتاب للألباني 1/198 .
(5) البخاري في الزكاة، باب أخذ الصدقة من الأغنياء وترد في الفقراء حيث كانوا 2/544 (1425) .(1/292)
.
وينبغي للداعي في دعاء مسألته أن يكون على طاعة لله - عز وجل - وتوحيد له في العبودية وأن يمتثل للأوامر الشرعية وألا يفعل شيئا حرمه الله، لأن ذلك من موانع الإجابة وتأخير الاستجابة لمطلبه .
روى مسلم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول - صلى الله عليه وسلم - قال: ( أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ اللهَ طَيِّبٌ لاَ يَقْبَلُ إِلاَّ طَيِّبًا، وَإِنَّ اللهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ فَقَالَ: { يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ } [المؤمنون:51]، وَقَالَ: { يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُم } [البقرة:172]، ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ: يَا رَبِّ يَا رَبِّ، وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ وَغُذِىَ بِالْحَرَامِ فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ ) (1) .
__________
(1) مسلم في الزكاة، باب قبول الصدقة من الكسب الطيب 2/703 (1015) .(1/293)
ومن محذورات دعاء المسألة ألا يتعجل في إجابة الدعاء، وألا يجهر بالنداء اتقاءً للفتنة والرياء، وأن يحذر أيضا من التجاوز والاعتداء في الدعاء، ولا يتمنى الموت عند الضرر والبلاء، فعند البخاري من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول - صلى الله عليه وسلم - قال: ( يُسْتَجَابُ لأَحَدِكُمْ مَا لَمْ يَعْجَلْ يَقُولُ: دَعَوْتُ فَلَمْ يُسْتَجَبْ لي ) (1)، وعند أحمد وصححه الألباني من حديث أبي سعيد - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( ما مِنْ مُسْلِمٍ يَدْعُو بِدَعْوَةٍ لَيْسَ فِيهَا إِثْمٌ وَلاَ قَطِيعَةُ رَحِمٍ إِلاَّ أَعْطَاهُ اللهُ بِهَا إِحْدَى ثَلاَثٍ: إِمَّا أَنْ تُعَجَّلَ لَهُ دَعْوَتُهُ، وَإِمَّا أَنْ يَدَّخِرَهَا لَهُ فِي الآخِرَةِ، وَإِمَّا أَنْ يَصْرِفَ عَنْهُ مِنَ السُّوءِ مِثْلَهَا، قَالُوا: إِذاً نُكْثِرُ؟ قَالَ: اللهُ أَكْثَرُ ) (2) .
وعند البخاري من حديث أبي موسى - رضي الله عنه - أنه قال: ( لَمَّا غَزَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - خَيْبَرَ أَوْ قَالَ: لَمَّا تَوَجَّهَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَشْرَفَ النَّاسُ عَلَى وَادٍ، فَرَفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ بِالتَّكْبِيرِ اللهُ أَكْبَرُ، اللهُ أَكْبَرُ، لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : أرْبَعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ، إِنَّكُمْ لاَ تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلاَ غَائِبًا، إِنَّكُمْ تَدْعُونَ سَمِيعًا قَرِيبًا وَهْوَ مَعَكُمْ .. ) (3)، فينبغي على الداعي أن يكون وسطاً في دعوته كما أنه وسط في منهجيته؛ فلا يؤذي أحدا بصوته ولا يشق عليه في متابعته بالتأمين .
__________
(1) البخاري في الدعوات، باب يستجاب للعبد ما لم يعجل 5/ 2335 (5981) .
(2) أحمد وصححه الألباني في تخريج العقيدة الطحاوية ص522 .
(3) البخاري في المغازي، باب غزوة خيبر 4/ 1541 (3968) .(1/294)
وروى أبو داود وقال الألباني: حسن صحيح من حديث أبي نعامة عن ابن لسعد - رضي الله عنه - أنه قال: ( سَمِعَنِي أَبِى وَأَنَا أَقُولُ: اللهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْجَنَّةَ وَنَعِيمَهَا وَبَهْجَتَهَا، وَكَذَا وَكَذَا، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ النَّارِ وَسَلاَسِلِهَا وَأَغلاَلِهَا، وَكَذَا وَكَذَا فَقَالَ: يَا بُنَيَ إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ يَقُولُ: سَيَكُونُ قَوْمٌ يَعْتَدُونَ فِي الدُّعَاءِ فَإِيَّاكَ أَنْ تَكُونَ مِنْهُمْ، إِنْ أُعْطِيتَ الْجَنَّةَ أُعْطِيتَهَا وَمَا فِيهَا مِنَ الْخَيْرِ، وَإِنْ أُعِذْتَ مِنَ النَّارِ أُعِذْتَ مِنْهَا وَمَا فِيهَا مِنَ الشَّرِّ ) (1)، ومن الاعتداء في الدعاء أن يشمل ما يناقض المشيئة والحكمة كالدعاء بالبقاء في الدنيا أبد الآبدين، أو إهلاك الناس أجمعين، أو يدعوا بإباحة ما حرمه الله على المكلفين أو ما شابه ذلك، وعند مسلم من حديث أنس - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( لاَ يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدُكُمُ الْمَوْتَ لِضُرٍّ نَزَلَ بِهِ؛ فَإِنْ كَانَ لاَ بُدَّ مُتَمَنِّيًا فَلْيَقُلِ: اللهُمَّ أحيني مَا كَانَتِ الْحَيَاةُ خَيْرًا لي وتوفني إِذَا كَانَتِ الْوَفَاةُ خَيْرًا لي ) (2)، فتمني الموت من التجاوز في الدعاء لأنه يكون عن خلل في الإيمان بالقضاء والقدر، فلا بد من الصبر على البلاء والشكر على النعماء والاستعانة بالله والإلحاح في الدعاء .
__________
(1) أبو داود في كتاب الصلاة، باب الدعاء 2/77 (1480) .
(2) مسلم في الذكر والدعاء والتوبة، باب تمني كراهة الموت لضر نزل به 4/2064 (2680) .(1/295)
هذه بعض آداب الدعاء إذا انضمت إلى دعاء الله بالأسماء الحسنى مع فهم دقيق وإيمان عميق واتصال وثيق بالله، كان ذلك من أقوى الأسباب تأثيرا، وأرجى عند الله إجابة وقبولا، قال ابن القيم: ( وكذلك الدعاء فإنه من أقوى الأسباب في دفع المكروه وحصول المطلوب، ولكن قد يتخلف عنه أثره؛ إما لضعفه في نفسه بأن يكون دعاء لا يحبه الله لما فيه من العدوان؛ وإما لضعف القلب وعدم إقباله على الله وجمعيته عليه وقت الدعاء فيكون بمنزلة القوس الرخو جدا فإن السهم يخرج منه خروجا ضعيفا، وإما لحصول المانع من الإجابة من أكل الحرام والظلم ورين الذنوب على القلوب واستيلاء الغفلة والسهو واللهو وغلبتها عليها ) (1) .
( الشرك في الدعاء والإلحاد في الأسماء .
__________
(1) الجواب الكافي لابن قيم الجوزية 1/3 .(1/296)
من الأمور المهلكة والكبائر الموبقة أن يجعل الإنسان شريكا لله في الربوبية والعبودية والأسماء والصفات، قال تعالى: { إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ } [المائدة:72]، وروى البخاري من حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - أنه قال: ( سَأَلتُ رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : أَيُّ الذَّنْبِ عِنْدَ اللهِ أَكْبَرُ؟ قَال: أَنْ تَجْعَل للهِ نِدًّا وَهُوَ خَلقَكَ ) (1)، وأصل الشرك التشارك في شيء، أو مخالطة الشريكين، والشريك المشارك، وشاركت فلانا صرت شريكه، وأشرك بالله جعل له شريكا فيما انفرد به، والشرك بالله مبناه على منازعة الله في أوصافه بالتشبيه (2)، فمن تشبه بالله في أسمائه وأوصافه وتعالى عن حد العبودية فقد أشرك بالله في الربوبية، ومن شبه المخلوق بالخالق ووصفه بأوصاف العظمة التي لا تنبغي إلا لله فقد وقع في شرك العبودية، ومن شبه الخالق بالمخلوق فمثل وكيف وعطل وحرف فقد وقع في شرك الأسماء والصفات .
وكثيرا ما يُذكر دعاء المشركين لآلهتهم في القرآن كتعبير عن دعاء المسألة والعبادة معا وإن كان دعاؤهم يغلب عليه دعاء المسألة في بعض المواضع، وفي مواضع أخرى يغلب عليه دعاء العبادة، فقوله تعالى: { إِنَّ الذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } [الأعراف:194]، الأغلب فيه دعاء المسألة لأنه يردا به النداء والطلب والسؤال، وقد بين الله أن تلك المعبودات لا تستجيب لانتفاء صفات الإلوهية اللازمة للإجابة .
__________
(1) البخاري في التفسير، باب قوله تعالى: فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون 4/1626 (4207) .
(2) لسان العرب 10/ 448، كتاب العين 5/ 293، والمغرب 1/441 .(1/297)
وكذلك قوله: { إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ } [فاطر:14]، وقوله: { وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَل مَنْ تَدْعُونَ إِلا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإنسان كَفُوراً } [الإسراء:67]، الأغلب فيه دعاء المسألة لأنه قوله لا يسمعوا دعاءكم، وقوله ضل من تدعون هو دعاء مسألة واستغاثة، ولما أيقن المشركون أنه لا يجيب المضطر إذا دعاه إلا الله وحدوه وأخلصوا له في دعاء المسألة .
روي النسائي وصححه الألباني من حديث سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - أنه قال: ( لَمَّا كَانَ يَوْمُ فَتْحِ مَكَّةَ أَمَّنَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - النَّاسَ إِلاَّ أَرْبَعَةَ نَفَرٍ وَامْرَأَتَيْنِ، وَقَالَ: اقْتُلُوهُمْ وَإِنْ وَجَدْتُمُوهُمْ مُتَعَلِّقِينَ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ .. قال: وَأَمَّا عِكْرِمَةُ فَرَكِبَ الْبَحْرَ فَأَصَابَتْهُمْ عَاصِفٌ، فَقَالَ أَصْحَابُ السَّفِينَةِ: أَخْلِصُوا فَإِنّ آلِهَتَكُمْ لاَ تُغْنِى عَنْكُمْ شَيْئًا هَا هُنَا، فَقَالَ عِكْرِمَةُ: وَاللهِ لَئِنْ لَمْ يُنَجِّنِي مِنَ الْبَحْرِ إِلاَّ الإِخْلاَصُ لاَ يُنَجِّينِي فِي الْبَرِّ غَيْرُهُ، اللهُمَّ إِنَّ لَكَ عَلَىَّ عَهْدًا إِنْ أَنْتَ عافيتني مِمَّا أَنَا فِيهِ أَنْ آتِىَ مُحَمَّدًا - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى أَضَعَ يدي في يَدِهِ فَلأَجِدَنَّهُ عَفُوًّا كَرِيمًا، فَجَاءَ فَأَسْلَمَ ) (1) .
__________
(1) النسائي في كتاب تحريم الدماء، باب الحكم في المرتد 7/105 (4067) .(1/298)
وقد يكون دعاء المشركين محمول على دعاء العبادة كقوله تعالى: { قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ } [الزمر:38]، فمعنى ما تدعون أي ما تعبدون، وقال تعالى عن خليله إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - : { وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيّاً فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاً جَعَلْنَا نَبِيّاً } [مريم:48/49]، فالدليل ظاهر في دعاء العبادة المتضمن دعاء المسألة، والقصد أن دعاء المشركين لأوثانهم، يراد به دعاء العبادة تارة ودعاء المسألة تارة أخرى، وإن كان شيخ الإسلام قد جعله في دعاء العبادة المتضمن دعاء المسألة، قال ابن تيمية: ( وكل موضع ذكر فيه دعاء المشركين لأوثانهم، فالمراد به دعاء العبادة المتضمن دعاء المسألة، فهو في دعاء العبادة أظهر لوجوه ثلاثة:
أحدها: أنهم قالوا: { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى } [الزمر:3]، فاعترفوا بأن دعاءهم إياهم عبادتهم لهم .
الثاني: أن الله تعالى فسر هذا الدعاء في موضع آخر كقوله تعالى: { وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ } [الشعراء:92/93]، وقوله - عز وجل -: { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ } [الأنبياء:98] وقوله سبحانه وتعالى: { لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ } [الكافرون:2]، فدعاؤهم لآلهتهم هو عبادتهم .(1/299)
الثالث: أنهم كانوا يعبدونها في الرخاء؛ فإذا جاءتهم الشدائد دعوا الله وحده وتركوها، ومع هذا فكانوا يسألونها بعض حوائجهم ويطلبون منها، وكان دعاؤهم لها دعاء عبادة ودعاء مسألة ) (1) .
والله - عز وجل - كما أمر عباده أن يدعوه بأسمائه الحسنى فإنه حذر من الإلحاد فيها؛ فقال جل شأنه: { وَللهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [الأعراف:180]، قال ابن القيم: ( والإلحاد في أسمائه هو العدول بها وبحقائقها ومعانيها عن الحق الثابت لها، وهو مأخوذ من الميل كما يدل عليه مادته لحد؛ فمنه اللحد وهو الشق في جانب القبر الذي قد مال عن الوسط، ومنه الملحد في الدين المائل عن الحق إلى الباطل، تقول العرب التحد فلان إلى فلان إذا عدل إليه ) (2) .
ويمكن القول على المعنى الظاهر في آية الأعراف أن الله - عز وجل - أمر بإخلاص الدعاء له بأسمائه الحسنى وأوصافه العليا، وأمر ألا يصرف شيء من ذلك إلى غيره وهو المعنى الظاهر للإلحاد فيها، فإن دعاء غير الله يستلزم وصفه بما لا يجوز إلا في حقه من أنواع الكمال التي تضمنتها الأسماء، فالذي يدعو غير الله من القباب والأوثان، ويطلب منه الرحمة والمدد والغفران، ويصرف إليه دعاء المسألة أو دعاء العبادة؛ فقد شبه المخلوق بالخالق، وسوى بينهما في صفات الكمال ووقع في شرك الإلوهية؛ لأن دعاءهم يستلزم تشبيه من لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا بمن كانت أزمة الأمور بيديه ومرجعها إليه فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن (3) .
__________
(1) مجموع الفتاوى 15/13، وانظر للمقارنة بدائع الفوائد لابن القيم الجوزية3/515 .
(2) بدائع الفوائد 1/179 .
(3) إغاثة اللهفان 1/101، والفوائد ص28 بتصرف .(1/300)
ومن ثم فإن صرف دعاء المسألة للأموات إلحاد في توحيد الأسماء والصفات من جهة ومن جهة أخرى شرك ظاهر في العبادة، فالذي يستغيث ويطلب المدد من غير الله يثبت له بدلالة اللزوم صفة الحياة؛ لأنه لو اعتقد أنه ميت ما توجه إليه بالنداء والدعاء ويثبت أيضا أنه يسمع ويبصر ويعلم ويقدر، ويثبت أيضا أنه قوي غنى، فالفقير الضعيف لا يدعى ولا يقصد، قال الله - عز وجل -: { ذَلِكُمْ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ المُلكُ وَالذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ } [فاطر:13/14]، فنفي الله عنهم أوصاف الكمال التي انفرد بها عمن سواه، وقال تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ } [الحج:73] .
فمن السميع لما ذهب المشرك إلي أصم أبكم؟ ومن البصير لما استغاث بعاجز عم؟ ومن الغنى لما توجه إلي فقير معدم؟ ومن القدير لما عكف على ضريح ميت ضعيف فقير؟ قال تعالى: { وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالبَصِيرُ وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ وَلا الظِّلُّ وَلا الحَرُورُ وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَاءُ وَلا الأَمْوَاتُ إِنَّ اللهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي القُبُورِ } [فاطر:22/23]، فدعاء المسألة وكذلك دعاء العبادة توجه لله بأسمائه وصفاته، وإفراده سبحانه بالتعظيم والدعاء والحب الخوف والرجاء، فإذا صرف شيئا من ذلك لغير الله فإنه إلحاد وميل وشرك .(1/301)
وينبغي على كل مسلم في عصرنا ألا يفتن بما يراه من أفعال بعض الجهلة من المسلمين حيث يراهم متوجهين إلي الأضرحة والقباب، ويطوفون حولها خاشعين مقبلين العمائم والأعتاب، يدعونهم ويضرعون إليهم، ويطلبون المدد منهم ويقدمون من أنواع النذور أجود ما عندهم، مستبيحين حرمة الأدلة في النهي عن بناء القبور على المساجد، وشد الرحال إلي الأضرحة والموالد زاعمين أن الأولياء يتحكمون في المنافذ والطرقات، ويحمون زوارهم ولو كانوا علي أبعد المسافات، فدعاء الأموات شرك بالله وإلحاد، وقد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - جميع المسلمين قبل موته ألا يتخذوا القبور مساجد سدا لذرائع الشرك وحتى لا يدعى فيها غير الإله الحق، فعند مسلم من حديث جندب - رضي الله عنه - قال: ( سَمِعْتُ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ بِخَمْسٍ وَهُوَ يَقُولُ: أَلاَ وَإِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ وَصَالِحِيهِمْ مَسَاجِدَ، أَلاَ فَلاَ تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ إِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ ) (1) .
وقال تعالى: { وَأَنَّ المَسَاجِدَ لِلهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَدً } [الجن:18]، وقال في موضع آخر: { فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالغُدُوِّ وَالآصَالِ } [النور:36]، فالشرك في الدعاء له صلة وثيقة بالإلحاد في الأسماء لأنه تشبيه للمخلوق بالخالق وتسوية بينهما فيما انفرد به الله من الأسماء والصفات .
__________
(1) مسلم في كتاب المساجد، باب النهي عن بناء المساجد على القبور 1/377 (532) .(1/302)
قال قتادة في معني { يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ } : يشركون (1)، وقال عطاء: الإلحاد هو المضاهاة (2)، والله - عز وجل - يسأل المشركين وهم يعذبون في جهنم تبكيتا لهم على إلحادهم وشركهم به: { وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ هَلْ يَنصُرُونَكُمْ أَوْ يَنتَصِرُونَ فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ تَاللهِ إِن كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَمَا أَضَلنَا إِلا المُجْرِمُونَ } [الشعراء:92/99]، وقد بلغ من إلحاد المشركين القدماء أنهم اشتقوا من أسماء الله أسماء للأصنام، كما فعلوا في اشتقاق العزى من العزيز، واشتقاق اللات من الإله (3) .
__________
(1) تفسير ابن أبي حاتم 5/1623 .
(2) الدر المنثور للسيوطي 3/271 .
(3) بدائع الفوائد لابن القيم 1/179 بتصرف .(1/303)
ومن الإلحاد في الأسماء التشبه بالخالق فيما انفرد به من أوصاف الكمال كمن تعاظم وتكبر ودعا الناس إلى إطرائه بالمدح والتعظيم، وتعليق القلوب به خوفاً ورجاءً واستغاثة والتجاءً وغير ذلك من دعاء المسألة والعبادة، فهذا قد تشبه بالله وألحد في أسمائه ونازعه في ربوبيته، فالعبد إذا خلع عن نفسه رداء العبودية فإنه سينازع الله في أوصاف الربوبية ويتشبه به في العلو والكبرياء، وعظمة الأوصاف والأسماء، روى أبو داود من حديث أبى هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( يَقُولُ اللهُ - عز وجل -: الكِبْرِيَاءُ رِدَائِي وَالعَظَمَةُ إِزَارِي، فَمَنْ نَازَعَنِي شَيْئًا مِنْهُمَا أَلقَيْتُهُ فِي جَهَنَّمَ ) (1)، وعند مسلم من حديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( لا يَدْخُلُ الجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ ) (2)، ومن ثم فإن العبد لا يبلغ درجة التوحيد إلا إذا خلع عن نفسه رداء الربوبية واكتسي بثوب العبودية، واعتقد أنه عبد في ملك سيده مستخلف في أرضه أمين على ملكه مبتلى فيما خوله واسترعاه، وأنه سبحانه المتوحد في ملكه لا معبود بحق سواه؛ فيتوجه إليه بالمدح والثناء والاستغاثة والدعاء .
__________
(1) أبو داود في كتاب اللباس، باب ما جاء في الكبر 4/59 (4090)، صحيح الجامع (4311) .
(2) مسلم في الإيمان، باب تحريم الكبر وبيانه 1/93 (91) .(1/304)
وكذلك من الإلحاد في الأسماء والميل بها عما يجب لها التشبه به سبحانه في الاسم الذي لا ينبغي إلا له وحده، كملك الأملاك وحاكم الحكام، ومن وصف نفسه بالسمو والمعالي وصاحب العظمة التعالي، وغير ذلك من المصطلحات التي لا تليق بمقام العبودية، وعند مسلم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( أَغْيَظُ رَجُلٍ عَلى اللهِ يَوْمَ القِيَامَةِ وَأَخْبَثُهُ وَأَغْيَظُهُ عَليْهِ رَجُلٍ كَانَ يُسَمَّى مَلكَ الأَمْلاكِ، لا مَلكَ إِلا اللهُ ) (1) .
ومن الإلحاد في الأسماء تشبيه الخالق بالمخلوق وهو شرك الأسماء والصفات فالتوحيد في باب الصفات يقصد به إفراد الله بذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله عن الأقيسة والقواعد والقوانين التي تحكم ذوات المخلوقين وصفاتهم وأفعالهم، قال تعالى: { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ } [الشورى:11]، وباب الأسماء الحسنى لم يسلم من إلحاد الملحدين وتعطيل المبطلين بحجج عقلية سقيمة وآراء فكرية عقيمة، فمن ذلك تعطيل الجهمية وأتباعهم لأسماء الله عن معانيها وجحد حقائقها، كقولهم: إنها ألفاظ مجردة لا تتضمن صفة ولا معنى فيزعمون أنه سميع بلا سمع، وبصير بلا بصر، وهذا من أعظم الإلحاد فيها عقلا وشرعا ولغة وفطرة وهو يقابل إلحاد المشركين؛ فإن أولئك أعطوا من أسمائه وصفاته لآلهتهم، وهؤلاء سلبوا كماله وجحدوها وعطلوها وكلاهما ألحد في أسمائه .
__________
(1) مسلم في الأدب، باب تحريم التسمي بملك الأملاك وبملك الملوك 3/1688 (2143) .(1/305)
ومما ينبغي التحذير منه تعطيل أوصاف الله بحجة أن إثباتها تشبيه للخالق بالمخلوق، فقد يتوهم كثير من الناس في بعض الصفات أو أكثرها أو كلها أنها تماثل صفات المخلوقين، ثم يريد أن ينفي ذلك الذي فهمه فيقع عدة محاذير مركبة، أولها أنه مثل ما فهمه من النصوص من صفات الله بصفات المخلوقين وظن أن مدلولها هو التمثيل، وثانيها أنه إذ جعل ذلك هو مفهومها وعطله بقيت النصوص معطلة عما دلت عليه، فيبقى مع جنايته على النصوص وظنه السيئ الذي ظنه بالله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - حيث ظن أن ما يفهم من كلامهما هو التمثيل الباطل، يبقى وقد عطل ما أودع الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - في كلامهما من إثبات الصفات والمعاني الإلهية اللائقة بجلاله، ولا يكتفي بذلك بل ينفي تلك الصفات عن الله - عز وجل - بغير علم فيكون معطلا لما يستحقه الرب، كما أنه يصف ربه بنقيض تلك الصفات من صفات الأموات والجمادات أو صفات المعدومات، أو يلوى عنق النصوص بتأويل باطل مجرد عن الدليل فيكون قد عطل ومثل ووقع في تحريفات مغلفة بأنواع من التأويلات، فيجمع بين التحريف والتعطيل والتكييف والتمثيل، فيكون ملحدا في أسماء الله وصفاته وآياته (1) .
ومن الشرك والإلحاد في الأسماء الحسني أيضا أن يسمى الله بما لم يسم به نفسه كتسمية النصارى له أبا وتسمية الفلاسفة له موجبا بذاته أو علة فاعلة بالطبع ونحو ذلك، وكذلك وصفه بما يتعالى عنه ويتقدس كقول اليهود إنه فقير، وقولهم إنه استراح بعد أن خلق خلقه وقولهم يد الله مغلولة، وأمثال ذلك مما هو إلحاد في أسمائه وصفاته (2) .
( دعاء العبادة ومقتضى الأسماء الحسنى .
__________
(1) بدائع الفوائد 1/180 بتصرف .
(2) السابق 1/179 بتصرف .(1/306)
لما خلق الله - عز وجل - العباد خلقهم لحكمة إلهية تظهر مقتضى أسمائه الحسنى وصفاته العليا فهو سبحانه لم يخلق الخلق عبثا ولم يترك العباد سدى، قال تعالى: { أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ } [المؤمنون:115]، وقال - عز وجل -: { أَيَحْسَبُ الإنسان أَنْ يُتْرَكَ سُدىً } [القيامة:36]، فكل مخلوق مهما دق حجمه أو عظم شأنه وجوده له علة مرتبطة بأسماء رب العزة والجلال وما دلت عليه من أوصاف الكمال، قال - عز وجل -: { وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلا بِالحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ } [الدخان:38/39] .
ومعنى الحق الحكم والغايات المحمودة التي لأجلها خلق الله ذلك كله، وأعلى هذه الغايات أن يعبد ويعرف بأسمائه وصفاته وأفعاله وآياته، وأن يحب ويدعى ويشكر ويذكر، فالله - عز وجل - له الكمال في أسمائه وأوصافه وأفعاله، ولا بد من ظهور آثارها في العالم؛ فمن أسمائه الرحمن الرحيم وهذا يقتضي مرحوما ورحمة، ومن أسمائه المالك الملك المليك وهذا يقتضي وجود مُلك ومملوك، ومن أسمائه المحسن ويقتضي ذلك وجود الإحسان ومن يحسن إليه من الخلق، وهو سبحانه الرزاق ولا بد من وجود الرزق ومن يرزقه في الملك، وهو أيضا غفار حليم تواب، جواد منان وهاب، حفيظ لطيف وكيل رقيب، قابض باسط قريب مجيب، وهذه الأسماء تقتضي وجود مخلوقات تتعلق بها وآثار تعرف من خلالها، فلم يكن بد من وجود متعلقاتها وآثارها وإلا تعطلت الأوصاف وبطلت الأسماء .(1/307)
ومن ثم كانت حكمة الله - عز وجل - في وجود الخلائق وابتلائها وظهور الإنسانية واستخلافها، فتظهر أنواع الكمالات للموحدين ومعنى التوحيد للخلائق أجمعين ويفهموا ثم حقيقة أمر الله ونهيه، ودينه وشرعه، وقضائه وقدره، وكيف يدبر الأمر ويبرم القضاء، ويتصرف في ملكه كيف شاء، ويثيب ويعاقب بأنواع الجزاء فيجازي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته، فيوجد ثم أثر عدله لأنه الحكم، وأثر فضله لأنه المعطي المقيت، وأثر حمده ومجده وشكره لأنه الحميد المجيد الشاكر الشكور، وأثر لطفه وعفوه وتوبته ومغفرته لأنه اللطيف العفو التواب الغفور؛ فيحمد على ذلك ويشكر، ويذكر بالحمد في السماء والأرض، يقينا من العباد أنه لا إله الله ولا معبود بحق سواه، وأن عبادته تظهر آثار أسمائه وصفاته على تنوعها وكثرتها وعندها تشهد مخلوقاته بأن الله ربها وفاطرها ومليكها وأنه وحده إلهها ومعبودها (1) .
__________
(1) شفاء العليل لابن القيم ص198 بتصرف .(1/308)
والله - عز وجل - من حكمته وعدله أنه جعل الإنسان خليفة في أرضه مستأمنا في ملكه لأنه قبل الأمانة حين رفضتها السماوات والأرض والجبال فقال - عز وجل -: { إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً } [الأحزاب:72]، وهنا يظهر مقتضى توحيد العبد لربه في أسمائه وصفاته فالله - عز وجل - استخلف الإنسان في الأرض وهو معه من فوق عرشه محيط به، يتابعه ويراه ويسمعه؛ لكنه بين أن استخلافه في هذه الدار علي وجه الابتلاء والاختبار، وتخويله في الأمانة على وجه الترقب والانتظار، وجزائه عند الحساب إما إلي جنة وإما إلي نار كما قال رب العزة والجلال: { الذِي خَلَقَ المَوْتَ وَالحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا وَهُوَ العَزِيزُ الغَفُورُ } [الملك:2]، وقال - عز وجل -: { إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا } [الإنسان:3] .
وينبغي التنبه إلى أن استخلاف الإنسان في الأرض ليس عن غيبة المستخلِف كما يتوهم من لم يفهم الآيات علي الوجه الصحيح، حيث ظن أن الإنسان لو كان خليفة لله في الأرض لاقتضى ذلك معاني النقص في حق الله - عز وجل -، وأن الله ما غاب عن ملكه حتى يستخلف غيره، وهذا يصح لو كان استخلافا مطلقا في معاني الربوبية، لكن المقصود هو استخلاف مقيد على سبيل الابتلاء والامتحان، كما أن الاستخلاف وإن اقتضى الغياب بين الناس في العادة إلا أنه في استخلاف الله للإنسان كان السبب المباشر في وجود عالم الغيب وعالم الشهادة، وهذه قضيه كبيرة وحقيقة مثيرة كشفت عنها آيات كثيرة بينتها مفصلة في بحثنا عن الإنسان وبداية الكون .(1/309)
وهنا أقول وأؤكد إن استخلاف الإنسان في الأرض ترتب عليه تهيئة الكون في مرحلته الأخيرة بحيث يحقق معنى الابتلاء بوجود عالم الغيب والشهادة، ولهذا أيضا هيأ الله الإنسان بمدارك محدودة لا يستطيع تجاوزها، ومن ثم فإن الغيب والشهادة ليس بالنسبة لعلم الله بخلقه ولكن بالنسبة لعلم الإنسان بمخلوقات ربه، وذلك ليظهر مقتضى إيمان العبد بالغيب وتوحيده لله في أسمائه وصفاته، فيوحد الله في اسمه العليم وما دل عليه الاسم من وصف العلم وأن علم الله علم مطلق شامل لكل صغيرة وكبيرة في الخلق كما قال الله - عز وجل -: { عَالِمُ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الكَبِيرُ المُتَعَالِ } [الرعد:8] .
وفي المقابل يقر الموحد بمحدودية علمه ولا يفتن به مهما بلغ شأنه، قال - عز وجل -: { وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ العِلمِ إِلا قَلِيلا } [الإسراء:85]، ومطلوب منه أيضا ألا يدعي علم ما لا يخصه مما انفرد الله به كعلم الغيب وأمور التقدير أو الاطلاع على اللوح وما دون فيه من تقرير المصير، قال تعالى: { قُل لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ الغَيْبَ إِلا اللهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ } [النمل:65] .(1/310)
وكما وحد العبد ربه في اسمه العليم فإنه مطالب بتوحيده أيضا في اسمه السميع البصير الرقيب الخبير لأن علمه مهما بلغ محدود وحواسه لها حدود وقيود سيحاسب عليها في يوم موعود، فمطلوب من جهة الأمر والتكليف والمدح والتشريف أن ينطق بشهادة الحق وأن يترك قول الزور ويتحرى الصدق؛ ليكون وقافا عند حدود مداركه وينسب مطلق الكمال في الوصف إلى خالقه ومالكه، ومن ثم يوحد الله في اسمه السميع البصير الرقيب الخبير المالك الملك المليك، قال تعالى: { وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالبَصَرَ وَالفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولا } [الإسراء:36]، وعند البخاري من حديث أبي بكرة عن أبيه - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( أَلا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الكَبَائِرِ؟ قُلنَا: بَلَي يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: الإِشْرَاكُ بِاللهِ وَعُقُوقُ الوَالِدَيْنِ، وَكَانَ مُتَّكِئًا فَجَلَسَ فَقَالَ: أَلا وَقَوْلُ الزُّورِ وَشَهَادَةُ الزُّورِ أَلا وَقَوْلُ الزُّورِ وَشَهَادَةُ الزُّورِ، فَمَا زَالَ يَقُولُهَا حتى قُلتُ: لا يَسْكُتُ ) (1) .
__________
(1) البخاري في كتاب الأدب، باب عقوق الوالدين من الكبائر5/2229 (5631) .(1/311)
ومن أجل ذلك أيضا كلف الله الإنسان بالتصديق الجازم لأركان الإيمان، وأولها وأعلاها الإيمان بالله وربوبيته وأسمائه وصفاته، واستحقاقه وحده توحيد العبودية ومعاني الألوهية، فالموحد يجب أن يُصَدِّق الله في كل خبر عن عالم الغيب، وينفذ ما أمره به وشرعه له في عالم الشهادة، فالشريعة إنما هي توجيه للعبد في السلوك الأمثل تجاه ما استأمنه واسترعاه وخوله وابتلاه، والأمانة في الأصل مرد الأمر فيها إلى ربها ومالكها، وهكذا سيوحد المسلم ربه في أسمائه الحسنى ويعلم أن الله منفرد بها، وأن ما منحه من أسماء وخلع عليه من أوصاف إنما كان ذلك بفضله؛ ليشكر الله على نعمه ويوحده في اسمه ووصفه، وأنه سبحانه ليس كمثله شيء، فلا يتشبه بالله أو يشبه الله بخلقه، أو يشبه المخلوق بالخالق، لأن الشرك يُخرج العبد عن دوره في الحياة إلى منازعة الله في ربوبيته وإلوهيته وتعطيل أسمائه وصفاته، فما منحه الله من اسم أو صف ينبغي أن يوحد الله فيه؛ فإن خلع عليه وصف الغنى فلأن الله هو الغني، وإن أكرمه بوصف القوة فلأن الله هو القوي، وهكذا في كل وصف يناله العبد بفضل الله وكرمه وما أسبغ علينا من نعمه، وكل ذلك يدفع الموحد إلى توحيد الله في مقتضى أسمائه الحسنى وهي:(1/312)
الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ المَلِكُ القُدُّوسُ السَّلامُ المُؤْمِنُ المُهَيْمِنُ العَزِيزُ الجَبَّارُ المُتَكَبِّرُ الخَالِقُ البَارِئُ المُصَوِّرُ الأَوَّلُ الآخِرُ الظَّاهِرُ البَاطِنُ السَّمِيعُ البَصِيرُ المَوْلَى النَّصِيرُ العَفُوُّ القَدِيرُ اللطِيفُ الخَبِيرُ الوِتْرُ الجَمِيلُ الحَيِيُّ السِّتيرُ الكَبِيرُ المُتَعَالُ الوَاحِدُ القَهَّارُ الحَقُّ المُبِينُ القَوِيُّ المَتِينُ الحَيُّ القَيُّومُ العَلِيُّ العَظِيمُ الشَّكُورُ الحَلِيمُ الوَاسِعُ العَلِيمُ التَّوابُ الحَكِيمُ الغَنِيُّ الكَرِيمُ الأَحَدُ الصَّمَدُ القَرِيبُ المُجيبُ الغَفُورُ الوَدودُ الوَلِيُّ الحَميدُ الحَفيظُ المَجيدُ الفَتَّاحُ الشَّهيدُ المُقَدِّمُ المُؤخِّرُ المَلِيكُ المُقْتَدِرْ المُسَعِّرُ القَابِضُ البَاسِطُ الرَّازِقُ القَاهِرُ الديَّانُ الشَّاكِرُ المَنانَّ القَادِرُ الخَلاَّقُ المَالِكُ الرَّزَّاقُ الوَكيلُ الرَّقيبُ المُحْسِنُ الحَسيبُ الشَّافِي الرِّفيقُ المُعْطي المُقيتُ السَّيِّدُ الطَّيِّبُ الحَكَمُ الأَكْرَمُ البَرُّ الغَفَّارُ الرَّءوفُ الوَهَّابُ الجَوَادُ السُّبوحُ الوَارِثُ الرَّبُّ الأعْلى الإِلَهُ .
ولما أدرك الموحدون هذه الحكم وتلك الغايات سعوا في تحقيق مقتضى الأسماء والصفات، فجعلوا حياتهم لله وعقدوا قلوبهم على ترك مخالفته ومعاصيه، وقد تقدم ذلك بما يغني عن الإعادة (1) .
__________
(1) انظر ص38 .(1/313)
والقصد أن السير إلى الله - عز وجل - من طريق الأَسماءِ والصفات شأْنه عجيب لاسيما إذا اقترن بالفهم الصحيح لدور الإنسان في الحياة، وأن الله استخلفه استخلافا مقيدا بالخضوع للتكليف وإظهار العبودية، والعمل في أرض الله بالإرادة الشرعية، وليس كما يفهمه البعض نيابة عن الله في معنى من معاني الربوبية، أو مشاركة له في الأسماء والصفات الإلهية، أو تخويلا لغيره في إرادته الكونية، سبحانه وتعالى أن يتخذ شريكا له في ملكه، أو يتخذ لنفسه وليا من الذل وينعزل عن خلقه، قال تعالى: { وقُل الحَمْدُ لِلهِ الذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي المُلكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنْ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا } [الإسراء:111]، ومن ثم إذا ظلم الإنسان نفسه وخلع رداء العبودية لينازع ربه في وصف الربوبية، أو يشاركه في العلو والكبرياء وعظمة الأوصاف والأسماء فليس للظالم إلا الشقاء والحرمان ودوام العذاب في النيران، وليس بعد البعد عن الجنان خسران، روى أبو داود عن أبى هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( يَقُولُ اللهُ- عز وجل -: الكِبْرِيَاءُ رِدَائِي وَالعَظَمَةُ إِزَارِي فَمَنْ نَازَعَنِي شَيْئًا مِنْهُمَا أَلقَيْتُهُ فِي جَهَنَّمَ ) (1) .
__________
(1) أبو داود في اللباس، باب ما جاء في الكبر 4/59 (4090)، صحيح الجامع (4311) .(1/314)
وإذا كانت طبيعة العبد الأمين في علاقته بسيده الذي استودعه أمانة أن يرجع إليه في طلب العون والهداية، فإن القرآن جاء بإحياء فطرة التوحيد في نفوس المستخلفين ورد الملك إلى رب العالمين؛ لكي يبقى الإنسان في علاقته بربه دائم الصلة، ويرجع علي الدوام إلى الذي خوله، ويتوكل على الله في كل مسألة؛ فيقف عند أوامر التكليف وقوف الموقنين الراسخين وحاله في الإيمان كحال القائلين: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } [الفاتحة:5]، فالموحد لله حقا يضع في اعتقاده توحيد الربوبية، ويُظهِر في سلوكه توحيد العبودية، ويعظم الله في أسمائه وصفاته بالقلب واللسان والجوارح، ويصرف إليه كل معاني العلو والتوحيد، وهذا هو المقصود من دعاء العبادة، قال تعالى: { هُوَ الحَيُّ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ ً } [غافر:65] .(1/315)
وقال سبحانه: { وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ } [غافر:60]، وقال - عز وجل - أيضا: { وَللهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّل عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ً } [هود:123] ، وروى مسلم من حديث عبد الله بن عمر - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول عند سفره: ( سُبْحَانَ الذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ، اللهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ فِي سَفَرِنَا هَذَا البِرَّ وَالتَّقْوَى وَمِنَ العَمَلِ مَا تَرْضَى، اللهُمَّ هَوِّنْ عَلَيْنَا سَفَرَنَا هَذَا وَاطْوِ عَنَّا بُعْدَهُ، اللهُمَّ أَنْتَ الصَّاحِبُ فِي السَّفَرِ، وَالخَلِيفَةُ فِي الأهْلِ، اللهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ وَعْثَاءِ السَّفَرِ وَكَآبَةِ المَنْظَرِ، وَسُوءِ المُنْقَلَبِ فِي المَالِ وَالأهْلِ ) (1) .
فانظر إلى قوله - صلى الله عليه وسلم - والخليفة في الأهل، فيه كمال التواضع والافتقار؛ لأن الله لما استخلف النبي - صلى الله عليه وسلم - في أهله واسترعاه فيهم وأودعهم أمانة عنده على سبيل الابتلاء والاختبار، كان سلوك النبي - صلى الله عليه وسلم - في المقابل هو طلب العون والدعاء، وإظهار مقتضى التوحيد في الأسماء، وأن بداية الأمر منه وتمامه عليه ومنتهاه إليه، فطلب العون من ربه واعترف له بعجزه، واعترف بضعفه في إبقاء الأمانة محفوظة على شرعه، فدعا ربه أن يكون خليفته في أهله، وأن يعاونه في المحافظة عليهم، وكأنه يعيد الأمانة أو الوديعة إلى صاحبها .
__________
(1) مسلم في الحج، باب ما يقول إذا ركب إلى سفر الحج وغيره 3/978(1342) .(1/316)
وإذا أدرك الموحد ذلك كانت حقيقة توحيده ودعاء العبادة في اعتقاده وأقواله وسلوكه بادية في إفراده سبحانه بكماله في خلقه وأمره وقضائه وقدره، ووعده ووعيده ومنعه وإكرامه، وعدله وفضله وعفوه وإنعامه، وسعة حلمه وشدة بطشه، وأن الله قد اقتضى كماله المقدس أنه كل يوم هو في شأن فمن جملة شؤونه أن يغفر ذنبا، ويفرج كربا ويشفي مريضا ويفك عانيا وينصر مظلوما ويغيث ملهوفا، ويحبر كسيرا ويغني فقيرا ويجيب دعوة ويقيل عثرة، ويعز ذليلا ويذل متكبرا ويقصم جبارا، ويميت ويحيي ويضحك ويبكي ويخفض ويرفع ويعطي ويمنع، ويرسل رسله من الملائكة ومن البشر لتنفيذ أوامره وسوق مقاديره التي قدرها إلى مواقيتها التي وقتها، وهذا كله لم يكن ليحصل إلا في دار ابتلاء وامتحان واستخلاف للإنسان في الأرض (1) .
__________
(1) شفاء العليل ص244 بتصرف .(1/317)
ويذكر ابن القيم أن يوم الميعاد الأكبر هو يوم مظهر الأسماء والصفات وأحكامها ولهذا يقول سبحانه: { يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لا يَخْفَى عَلَى اللهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ المُلكُ اليَوْمَ للهِ الوَاحِدِ القَهَّارِ } [غافر:16]، وقال جل جلاله: { المُلكُ يَوْمَئِذٍ الحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْماً عَلَى الكَافِرِينَ عَسِيراً } [الفرقان:26]، وقال تعالى: { يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ للهِ } [الانفطار:19]، حتى إن الله سبحانه ليتعرف إلى عباده في ذلك اليوم بأسماء وصفات لم يعرفوها في هذه الدار، فهو يوم ظهور المملكة العظمى والأسماء الحسنى والصفات العلى، فتأمل ما أخبر به الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - من شأن ذلك اليوم وأحكامه، وظهور عزته تعالى وعظمته وعدله وفضله ورحمته وآثار صفاته المقدسة وكيف أن دار الابتلاء جرى على أهلها أيضا مقتضى الأسماء ثم أعقبها دارا للجزاء يجري على أهلها أيضا أحكام الأسماء والصفات، ومن ثم فإن تعطيل أسمائه وصفاته عن مقتضاها تعطيل لربوبية الله وعزته، وملكه وإلوهيته، وعدله وحكمته، ومن فتح الله له بابا من الفقه في أحكام الأسماء والصفات أدرك بولوجه اختصاصها لآثارها واستحالة تعطيلها، وكيف تعلقت بمقتضياتها؟ فإنه بلغ أعظم نعمة وأكبر منة يمن بها الله على عباده، وهذا باب عزيز من أبواب الإيمان يفتحه الله على من يشاء ويحرم منه من يشاء (1) .
( التفاضل والتكامل بين دعاء المسألة ودعاء العبادة .
__________
(1) اقتبسنا بعض المعاني المناسبة بصياغة تناسب الموضوع من كلام ابن القيم في الموضع السابق ص243 .(1/318)
هل دعاء العبادة أفضل أم دعاء المسألة؟ تكلم البعض في التفاضل بين نوعي الدعاء من حيث التقديم والتأخير في الدرجة والرتبة؛ فقدم بعضهم دعاء المسألة وقد الآخرون دعاء العبادة، والقضية بين نوعي الدعاء قضية تكامل يتكامل كل نوع مع الآخر في تحقيق توحيد العبودية، لأن العبودية أو الإيمان تحقيقها يكون بالقلب واللسان والجوارح وأحكام العبودية موجهة إلى كل منها؛ فدعاء المسألة غالبا ما يكون بقول اللسان ودعاء العبادة غالبا ما يكون بالجنان والأركان .
والأصل في اللسان القول ووظيفته الأولى التي خلق من أجلها ومن الله على الإنسان بها هي إخراج ما في القلب من علم أو فكر أو نية أو عمل حسب المراد عند الخطاب مع الآخرين، وهو الوسيلة الأولى للتفاهم والتفاعل معهم وبه صار متكلما .
والأصل في الجوارح الاستطاعة والعمل ثم الخضوع والطاعة والانقياد، وأحكام العبودية موزعة على هذه الأركان بحيث تتكامل في مجموعها لأداء الغاية التي خلق من أجلها الإنسان، قال ابن القيم: ( ورحى العبودية تدور على خمس عشرة قاعدة من كملها كمل مراتب العبودية، وبيانها أن العبودية منقسمة على القلب اللسان والجوارح وعلى كل منها عبودية تخصه، والأحكام التي للعبودية خمسة، واجب ومستحب وحرام ومكروه ومباح، وهي لكل واحد من القلب واللسان والجوارح ) (1) .
__________
(1) مدارج السالكين 1/109 .(1/319)
وقد جعل الله - عز وجل - العبودية غاية ما ينتهي إليه الموحدون فقال تعالى: { وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ } [الذاريات:56]، قال ابن تيمية: ( هذه اللام ليست هي اللام التي يسميها النحاة لام العاقبة والصيرورة .. هي اللام المعروفة وهي لام كي ولام التعليل التي إذا حذفت انتصب المصدر المجرور بها علي المفعول له، وتسمي العلة الغائية وهي متقدمة في العلم والإرادة متأخرة في الوجود والحصول، وهذه العلة هي المراد المطلوب المقصود من الفعل .. فمقتضي اللام في قوله وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون الإرادة الدينية الشرعية، وهذه قد يقع مرادها وقد لا يقع، فهو العمل الذي خلق العباد له ) (1) .
ولما كانت غاية المسلم هي تحقيق العبودية وتوحيد الله فيها فإن أداءها يتكامل في ذات العبد بين دعاء المسألة ودعاء العبادة، وقد تقدم أن دعاء العبادة هو مقتضى قول العبد: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } [الفاتحة:5]، ويكون بلسان الحال، أو هو تعبد لله يظهر التوحيد في كل اسم من أسمائه وكل وصف من أوصافه، بحيث تنطق أفعاله بشهادة لا إله إلا الله وأنه لا معبود بحق سواه، أما دعاء المسألة فهو مقتضى قول الموحدين في دعائهم: { وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } [الفاتحة:5]، وهو استعانة منهم بلسان المقال، وطلب ما ينفع الداعي من جلب منفعة أو دفع مضرة، فيسأل الله بأسمائه الحسنى التي تناسب حاجته وحاله ومطلبه، ويتوسل إلى الله بذكرها وذكر ما تضمنته من كمال الأوصاف وجلالها، ويردد في دعائه من أسماء الله ما يناسبه عند تقلب الأحوال وقد تقدم ذكر ذلك في الجزء الخاص بدعاء المسألة .
__________
(1) دقائق التفسير 2 / 528 .(1/320)
غير أن الأمر في تقديم دعاء العبادة على دعاء المسألة وطلب الاستعانة إنما هو باعتبار منزلة كل منهما في الدلالة على توحيد الله - عز وجل -، فتقديم دعاء العبادة مثلا على الاستعانة في فاتحة الكتاب من باب تقديم الغايات على الوسائل، إذ العبادة غاية العباد التي خلقوا لها والاستعانة وسيلة إليها، كما أن قوله إياك نعبد متعلق بألوهيته واسمه الله، وإياك نستعين متعلق بربوبيته واسمه الرب، فقدم إياك نعبد على إياك نستعين كما قدم اسم الله على الرب في أول السورة فقال: { الْحَمْدُ لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } [الفاتحة:2]، لأن إياك نعبد فيها ما اختص به الرب، فكان من الشطر الأول الذي هو ثناء على الله تعالى لكونه أولى به، وإياك نستعين فيها ما اختص به العبد فكان من الشطر الذي له وهو اهدنا الصراط المستقيم إلى آخر السورة .
كما أن العبادة المطلقة تتضمن الاستعانة من غير عكس، فكل عابد لله عبودية تامة مستعين به ولا ينعكس، لأن صاحب الأغراض والشهوات قد يستعين به على شهواته فكانت العبادة أكمل وأتم ولهذا كانت فيما اختص به الرب، ولأن الاستعانة أيضا جزء من العبادة من غير عكس، وكذلك فإن الاستعانة طلب منه والعبادة طلب له، ولأن العبادة لا تكون إلا من مخلص، والاستعانة تكون من مخلص ومن غير مخلص، ولأن العبادة حقه سبحانه الذي أوجبه عليك، والاستعانة طلب العون على العبادة وهو بيان صدقته التي تصدق بها عليك، وأداء حقه أهم من التعرض لصدقته .
ومن ذك أيضا أن العبادة شكر نعمته عليك، والله يحب أن يشكر، والإعانة فعله بك وتوفيقه لك، فإذا التزمت عبوديته ودخلت تحت رقها أعانك عليها؛ فكان التزامها والدخول تحت رقها سببا لنيل الإعانة، وكلما كان العبد أتم عبودية كانت الإعانة من الله له أعظم، والعبودية محفوفة بإعانتين، إعانة قبلها على التزامها والقيام بها، وإعانة بعدها على شكرها بعبودية أخرى، وهكذا أبدا حتى يقضي العبد نحبه .(1/321)
ومن ذلك أيضا أن إياك نعبد له وإياك نستعين به، وما له مقدم على ما به، لأن ما له متعلق بمحبته ورضاه، وما به متعلق بمشيئته، وما تعلق بمحبته أكمل مما تعلق بمجرد مشيئته؛ فإن الكون كله متعلق بمشيئته وكذلك الملائكة والشياطين والمؤمنون والكفار والطاعات والمعاصي، والمتعلق بمحبته طاعاتهم وإيمانهم وتوحيدهم لله فقط فالكفار أهل مشيئته والمؤمنون أهل محبته، ولهذا لا يستقر في النار شيء لله أبدا وكل ما فيها فإنه به تعالى وبمشيئته، فهذه الأسرار يتبين بها حكمة تقديم إياك نعبد على إياك نستعين (1)، قال ابن تيمية: ( تأملت أنفع الدعاء، فإذا هو سؤال العون على مرضاته، ثم رأيته في الفاتحة في إياك نعبد وإياك نستعين ) (2) .
__________
(1) مدارج السالكين 1/75 بتصرف .
(2) السابق 1/78 .(1/322)
وربما يكون دعاء المسألة في بعض المواطن له أعلى المنازل في توحيد الله وعبادته وذلك عندما يدرك العبد أن عصمته في طاعته، وأن عبادته مرهونة بتوفيق الله ورعايته، وأن بلوغ جنته كان بسبب عونه وهدايته، قال تعالى: { وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلهِ الذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } [الأعراف:43]، فأعمالهم سبب في دخول الجنة وليست من باب المقابلة والعدل، وإنما هي من باب الكرم والفضل، روى البخاري من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ( لَنْ يُدْخِلَ أَحَدًا عَمَلُهُ الْجَنَّةَ قَالُوا: وَلاَ أَنْتَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: لاَ، وَلاَ أَنَا، إِلاَّ أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللهُ بِفَضْلٍ وَرَحْمَةٍ فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَلاَ يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدُكُمُ الْمَوْتَ، إِمَّا مُحْسِنًا فَلَعَلهُ أَنْ يَزْدَادَ خَيْرًا، وَإِمَّا مُسِيئًا فَلَعَلهُ أَنْ يَسْتَعْتِبَ ) (1)، فدعاء الله العصمة والنجاة من أعلى المنازل في توحيد العبودية لله، والمعصوم من عصمه الله واستجاب منه هذا الدعاء .
__________
(1) البخاري في كتاب المرضى، باب نهي تمني المريض الموت5/2147 (5349) .(1/323)
ويذكر ابن القيم أن الناس في العبادة والاستعانة أربعة أقسام، أجلها وأفضلها أهل العبادة والاستعانة بالله عليها، فعبادة الله غاية مرادهم وطلبهم منه أن يعينهم عليها ويوفقهم للقيام بها، ولهذا كان من أفضل ما يسأل الرب تبارك وتعالى الإعانة على مرضاته، وهو الذي علمه النبي - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ بن جبل - رضي الله عنه -، روى أبو داود وصححه الألباني من حديث معاذ - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخذ بيده وقال: ( يا معاذ والله إني لأحبك والله إني لأحبك، فقال: أُوصِيكَ يَا مُعَاذُ لاَ تَدَعَنَّ في دُبُرِ كُلِّ صَلاَةٍ تَقُولُ: اللهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ ) (1)، فأنفع الدعاء طلب العون على مرضاته، وأفضل المواهب إسعافه بهذا المطلوب، وجميع الأدعية المأثورة مدارها على هذا وعلى دفع ما يضاده، وعلى تكميله وتيسير أسبابه (2) .
وخلاصة القول أن التكامل حاصل بين دعاء العبادة ودعاء المسألة، بل كل منهما يدل على النوع الآخر إما بدلالة المطابقة أو التضمن أو اللزوم حسب الموطن المناسب للعبد من جهة تنفيذه لأحكام العبودية كما أو كيفا، وقد أمر الله - عز وجل - المسلمين أن يدعوه بأسمائه الحسنى فقال: { وَللهِ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا } [الأعراف:180]، وهذا يشمل الطلب والسؤال والنداء والعبادة والمدح والثناء .
( حكم تسمية العباد بأسماء الله الحسنى .
__________
(1) أبو داود في الصلاة، باب في الاستغفار 2/86 (1522)، صحيح الجامع (7969) .
(2) مدارج السالكين 1/78 بتصرف .(1/324)
حقيقة التسمية بين البشر تعريف الشخص باسم مخصوص يتميز به عن غيره بحيث يتصور الذهن وجوده عند ذكره، وهذا فرع عن تعريف الاسم العام وهو ما وضع للدلالة على علم لتمييزه عن غيره، أما التسمية في حق الخالق فلا تخضع لأحكامنا لأن الله - عز وجل - متوحد في اسمه ووصفه لا يقاس على خلقه بقياس تمثيلي أو شمولي، فهو سبحانه وتعالى ليس كمثله شيء، وأسماؤه أزلية أبدية لا أولية لها ولا آخرية، وهي أيضا علمية ووصفية معا .
أما أسماء البشر فقد تحدثنا في دلالة الأسماء على الصفات عن نقطة جوهرية في فهم قضية التسمي بالأسماء، وهى أنه لا بد من التمييز بين الاسم ودلالته الوضعية عندما يستعمل في حق المخلوق والاسم ودلالته النقلية عندما يستعمل في حق الخالق، فهذه المسألة بالغة الأهمية في فهم قضية التوحيد (1)، فالأصل في التسمي بالاسم بين البشر منذ ولادتهم ارتباطه على الدوام بمسماه كعلم بلا وصف أو اسم فارغ من الوصفية، فإن استجد الوصف عبرنا عن ذلك بقدر زائد يناسبه، فإن دام اقتران الوصف بمسماه ربما ينقلب الوصف اسما في العرف عند البعض، وينادى به الشخص كعلم يميزه عن غيره لكنه ما يلبث أن يزول بفناء ذاته وانتقاله إلى الآخرة، ومن ثم إن جاز الوصف أو الاسم في حقه فهو مقيد محدود ولا يكون مطلقا أبدا، ولذلك من تسمى الملك فلان أو المقدم فلان أو الرقيب فلان أو الكبير فلان سرعان ما يزول عنه الوصف بالتقاعد أو انتقال الدرجة والرتبة أو بحلول الأجل المحتوم، ونقول كان ملكا عادلا أو كان رقيبا ظالما وعند مسلم من حديث صهيب - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال في قصة أصحاب الأخدود: ( كَانَ مَلِكٌ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ .. الحديث) (2) .
__________
(1) انظر ص 58، ص122.
(2) مسلم في الزهد والرقائق، باب قصة أصحاب الأخدود 4/2299 (3005) .(1/325)
وهنا ترى الحكمة العليا في التزام التسمية الشرعة، فإذا مات الشخص مهما بلغ في الوصف فلا يحمل معه في قبره إلا ما قدم من صالح عمله بعد أن زال عن الدنيا باسمه ووصفه، وأشرف أعماله التي يقدمها لنفعه عبودية ربه وتوحيده لله - عز وجل - فيها، ولهذا كان أحب اسم له هو ما اختاره نبينا - صلى الله عليه وسلم - وهو أن يكون عبد الله وعبد الرحمن من يوم ولادته إلى يوم مماته .
وقد ذكرنا أن العرب كان من شأنهم أن يسموا أولادهم بأسماء الجماد والحيوان لما يرون فيها من بعض الصفات النبيلة كتسميتهم صخرا أو حربا، أو أسدا أو كلبا، أو جحشا أو كعبا، وهم يقصدون بهذه التسمية في المقام الأول تمييز الشخص عن غيره لأنه لا بد لكل فرد من اسم يميزه بالعلمية، ويتطلعون أيضا أن تتحقق فيه الوصفية التي تضمنها الاسم مستقبلا، ولما جاء الإسلام أدب المسلمين في أسمائهم وأسماء أبنائهم فشرع لهم آدابا وأحكاما ينبغي مراعاتها؛ فالتسمية حين الولادة حق مشروع للأب دون الأم، قال ابن القيم: ( التسمية حق للأب لا للأم، وهذا مما لا نزاع فيه بين الناس وأن الأبوين إذا تنازعا في تسمية الولد فهي للأب، كما أنه يدعى لأبيه لا لأمه فيقال: فلان ابن فلان، قال تعالى: { ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ } [الأحزاب:5] ) (1) .
__________
(1) تحفة المودود بأحكام المولود ص135 .(1/326)
ولما كان الإنسان يوم ولادته لا حول له ولا قوة في تسميته أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - الآباء بالإحسان إلى أولادهم، وأن يتخيروا أحب الأسماء لهم، روى مسلم من حديث عبد الله بن عمر - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( إِنَّ أَحَبَّ أَسْمَائِكُمْ إِلى اللهِ عَبْدُ اللهِ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ ) (1)، ويلتحق بهذين الاسمين ما كان مثلهما كعبد الرحيم وعبد الملك وعبد الصمد وسائر الأسماء الحسنى (2) .
وعند البخاري من حديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - أنه قال: ( وُلِدَ لِرَجُلٍ مِنَّا غُلاَمٌ فَسَمَّاهُ الْقَاسِمَ، فَقَالَتِ الأَنْصَارُ: لاَ نَكْنِيكَ أَبَا الْقَاسِمِ وَلاَ نُنْعِمُكَ عَيْنًا، فَأَتَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ وُلِدَ لي غُلاَمٌ فَسَمَّيْتُهُ الْقَاسِمَ فَقَالَتِ الأَنْصَارُ: لاَ نَكْنِيكَ أَبَا الْقَاسِمِ وَلاَ نُنْعِمُكَ عَيْنًا، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : أَحْسَنَتِ الأَنْصَارُ، سَمُّوا بِاسْمِي وَلاَ تَكَنَّوْا بِكُنْيَتِي، فَإِنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ ) (3)، وعند أبي داود وصححه الألباني من حديث أبي وهب الجشمي - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( تَسَمَّوْا بِأَسْمَاءِ الأَنْبِيَاءِ، وَأَحَبُّ الأَسْمَاءِ إِلَى اللهِ عَبْدُ اللهِ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ، وَأَصْدَقُهَا حَارِثٌ وَهَمَّامٌ، وَأَقْبَحُهَا حَرْبٌ وَمُرَّةُ ) (4) .
__________
(1) مسلم في كتاب الأدب، باب النهي عن التكني بأبي القاسم 3/ 1682 (2132) .
(2) انظر تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي للمباركفوري 8/100 .
(3) البخاري في فرض الخمس، باب قول الله تعالى فأن لله خمسه وللرسول 3/1134 (2947) .
(4) أبو داود في كتاب الأدب، باب في تغيير الأسماء 4/287(4950)، الأدب المفرد (814) .(1/327)
أما المكروه من الأسماء والمحرم فقد ذكر ابن حزم اتفاق العلماء على تحريم كل اسم معبد لغير الله كعبد العزى وعبد هبل وعبد عمرو وعبد الكعبة، وما أشبه ذلك فلا تحل التسمية بعبد علي ولا عبد الحسين ولا عبد الكعبة (1)، وروى مسلم من حديث سمرة بن جندب - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( أَحَبُّ الْكَلاَمِ إِلَى اللهِ أَرْبَعٌ سُبْحَانَ اللهِ وَالْحَمْدُ لِلهِ وَلاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَاللهُ أَكْبَرُ، لاَ يَضُرُّكَ بَأَيِّهِنَّ بَدَأْتَ، وَلاَ تُسَمِّيَنَّ غُلاَمَكَ يَسَارًا وَلاَ رَبَاحًا وَلاَ نَجِيحًا وَلاَ أَفْلَحَ، فَإِنَّكَ تَقُولُ: أَثَمَّ هُوَ؟ فَلاَ يَكُونُ، فَيَقُولُ: لاَ إِنَّمَا هُنَّ أَرْبَعٌ فَلاَ تَزِيدُنَّ عَلَىَّ ) (2) .
قال ابن القيم: ( وفي معنى هذا مبارك ومفلح وخير وسرور ونعمة وما أشبه ذلك فإن المعنى الذي كره له النبي - صلى الله عليه وسلم - التسمية بتلك الأربع موجود فيها؛ فإنه يقال أعندك خير؟ أعندك سرور؟ أعندك نعمة؟ فيقول: لا، فتشمئز القلوب من ذلك وتتطير به، وتدخل في باب المنطق المكروه .. وفيه معنى آخر يقتضي النهي وهو تزكية النفس بأنه مبارك ومفلح، وقد لا يكون كذلك ) (3) .
__________
(1) تحفة المودود ص 113، قال ابن القيم في التعقيب على رأي ابن حزم: ( أما قوله أنا ابن عبد المطلب فهذا ليس من باب إنشاء التسمية بذلك، وإنما هو باب الإخبار بالاسم الذي عرف به المسمى دون غيره، والأخبار بمثل ذلك على وجه تعريف المسمى لا يحرم .. فباب الإخبار أوسع من باب الإنشاء؛ فيجوز ما لا يجوز في الإنشاء ) انظر السابق ص114 .
(2) مسلم في كتاب الأدب، باب كراهة التسمية بالأسماء القبيحة وبنافع ونحو3/1685 (2137) .
(3) تحفة المودود ص116.(1/328)
ومن سوء الأدب في التسمية التسميةُ بأسماء الشياطين كخنزب والولهان والأعور والأجدع، ومنها أسماء الفراعنة والجبابرة كفرعون وقارون وهامان، ومنها أسماء الملائكة كجبرائيل وميكائيل وإسرافيل فإنه يكره تسمية الآدميين بها، ومنها الأسماء التي لها معان تكرهها النفوس ولا تلائمها كحرب ومرة وكلب وحية وأشباهها (1) .
وإذا لم يحسن الأب تسمية ولده فعلى الولد بعد بلوغ الرشد أن يغير اسمه، لأن الاسم كما يدعى به الشخص في الدنيا فإنه يدعى به يوم القيامة، فإن كان الاسم يؤذي النفس في الدنيا فهو في الآخرة من باب أولى، والصواب الذي دلت عليه السنة الصحيحة الصريحة ونص عليه الأئمة كالبخاري وغيره، أن المرء يدعى لأبيه في الدنيا والآخرة، وليس كما يظن البعض أنه يدعى بأمه يوم القيامة، روى مسلم من حديث ابن عمر - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( إِذَا جَمَعَ اللهُ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرْفَعُ لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ فَقِيلَ: هَذِهِ غَدْرَةُ فُلاَنِ بْنِ فُلاَنٍ ) (2) .
__________
(1) السابق ص117بتصرف .
(2) مسلم في الجهاد والسير ، باب تحريم الغدر 3/1359 (1735) .(1/329)
ولا حرج في تغيير الاسم لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعل ذلك وأمر به، روى مسلم من حديث عبد الله بن عمر - رضي الله عنه -: ( أَنَّ ابْنَةً لِعُمَرَ كَانَتْ يُقَالُ لَهَا عَاصِيَةُ، فَسَمَّاهَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - جَمِيلَةَ ) (1) ، وروى أيضا من حديث زينب بنت أم سلمة أنها قالت: ( كَانَ اسْمِي بَرَّةَ فَسَمَّانِي رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - زَيْنَبَ، قَالتْ: وَدَخَلتْ عَليْهِ زَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ وَاسْمُهَا بَرَّةُ فَسَمَّاهَا زَيْنَب ) (2)، وروى البخاري من حديث سعيد بن المسيب عن أبيه عن جده - رضي الله عنه - أن أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( فَقَالَ: مَا اسْمُكَ، قَالَ حَزْنٌ، قَالَ: أَنْتَ سَهْلٌ، قَالَ: لاَ أُغَيِّرُ اسْمًا سَمَّانِيهِ أَبِى، قَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ: فَمَا زَالَتِ الْحُزُونَةُ فِينَا بَعْدُ ) (3) .
وقال أبو داود بعد أن أورد هذا الحديث: ( وغير النبي - صلى الله عليه وسلم - اسم العاص وعزيز وعتلة وشيطان والحكم وغراب وحباب وشهاب فسماه هشاما، وسمى حربا سلما وسمى المضطجع المنبعث، وأرضا تسمى عفرة سماها خضرة، وشعب الضلالة سماه شعب الهدى، وبنو الزنية سماهم بني الرشدة، وسمى بني مغوية بني رشدة، قال أبو داود تركت أسانيدها للاختصار ) (4) .
__________
(1) مسلم في كتاب الأدب، باب استحباب تغيير الاسم القبيح إلى حسن 3/1687 (2139) .
(2) الموضع السابق حديث رقم (2142) .
(3) البخاري في كتاب الأدب، باب اسم الحزن 5/ 2288 (5836)، والحزونية الغلظة .
(4) سنن أبي داود 4/ 289 .(1/330)
قال ابن القيم: ( ومما يمنع تسمية الإنسان به أسماء الرب تبارك وتعالى، فلا يجوز التسمية بالأحد والصمد ولا بالخالق ولا بالرازق، وكذلك سائر الأسماء المختصة بالرب تبارك وتعالى، ولا تجوز تسمية الملوك بالقاهر والظاهر كما لا يجوز تسميتهم بالجبار والمتكبر والأول والآخر والباطن وعلام الغيوب ) (1) .
وقد ثبت عند أبي داوود وصححه الشيخ الألباني من حديث شريح بن هانئ: ( أَنَّهُ لمَّا وَفَدَ إِلى رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مَعَ قَوْمِهِ سَمِعَهُمْ يَكْنُونَهُ بِأَبِي الحَكَمِ فَدَعَاهُ رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَال: إِنَّ اللهَ هُوَ الحَكَمُ وَإِليْهِ الحُكْمُ فَلمَ تُكْنَى أَبَا الحَكَمِ، فَقَال: إِنَّ قَوْمِي إِذَا اخْتَلفُوا فِي شَيْءٍ أَتَوْنِي فَحَكَمْتُ بَيْنَهُمْ فَرَضِيَ كِلاَ الفَرِيقَيْنِ، فَقَال رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : مَا أَحْسَنَ هَذَا فَمَا لكَ مِنَ الوَلدِ؟ قَال لي شُرَيْحٌ وَمُسْلمٌ وَعَبْدُ اللهِ، قَال: فَمَنْ أَكْبَرُهُمْ؟ قُلتُ: شُرَيْحٌ، قَال: فَأَنْتَ أَبُو شُرَيْحٍ ) (2) .
ومن المحرم أيضا التسمية بملك الملوك وسلطان السلاطين وشاهنشاه، روى مسلم من حديث أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( إِنَّ أَخْنَع اسْمٍ عِنْدَ اللّهِ رَجُلٌ تَسَمَّى مَلِكَ الأَمْلاَكِ ) (3)، وفي رواية أخرى عنده قال: ( أَغْيَظُ رَجُلٍ عَلَى اللهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَخْبَثُهُ وَأَغْيَظُهُ عَلَيْهِ رَجُلٌ كَانَ يُسَمَّى مَلِكَ الأَمْلاَكِ لاَ مَلِكَ إِلاَّ اللهُ ) (4) .
__________
(1) تحفة المودود ص125.
(2) أبو داود في الأدب، باب في تغيير الاسم القبيح 4/289 (4955)، الأدب المفرد (811) .
(3) مسلم في كتاب الآداب، باب تحريم التسمي بملك الأملاك وبملك الملوك 3/1688 (2143) .
(4) الموضع السابق .(1/331)
قال بن القيم: ( وفي معنى ذلك كراهية التسمية بقاضي القضاء وحاكم الحكام فان حاكم الحكام في الحقيقة هو الله، وقد كان جماعة من أهل الدين والفضل يتورعون عن إطلاق لفظ قاضي القضاة وحاكم الحكام قياسا على ما يبغضه الله ورسوله من التسمية بملك الأملاك وهذا محض القياس، وكذلك تحرم التسمية بسيد الناس وسيد الكل كما يحرم سيد ولد آدم، فان هذا ليس لأحد إلا لرسول الله وحده فهو سيد ولد آدم فلا يحل لأحد أن يطلق على غيره ذلك ) (1) ، روى أبو داود وصححه الألباني من حديث عبد الله بن الشخير - رضي الله عنه - أنه قال: ( انْطَلَقْتُ في وَفْدِ بَنِي عَامِرٍ إِلَى رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فَقُلنا: أَنْتَ سَيِّدُنا، فقَالَ: السَّيِّدُ الله، قُلْنا: وَأَفْضَلُنا فَضْلاً، وَأَعْظَمُنَا طَوْلاً، فَقَالَ: قُولُوا بِقَوْلِكم أَوْ بَعْضِ قَوْلِكمُ وَلاَ يَسْتَجْرِيَنَّكمْ الشَّيْطَانُ ) (2)، ولا ينافي هذا قوله: أنا سيد ولد آدم فإن هذا إخبار منه عما أعطاه الله من سيادة النوع الإنساني وفضله وشرفه عليهم (3) .
قال ابن القيم: ( وأما الأسماء التي تطلق عليه وعلى غيره كالسميع والبصير والرءوف والرحيم فيجوز أن يخبر بمعانيها عن المخلوق، ولا يجوز أن يتسمى بها على الإطلاق بحيث يطلق عليه كما يطلق على الرب تعالى ) (4) .
__________
(1) تحفة المودود ص115.
(2) أبو داود في كتاب الأدب 4/254 (4806)، وانظر صحيح أبي داود 3/912(4021) .
(3) تحفة المودود ص126بتصرف .
(4) السابق ص127.(1/332)
ومن ثم لا يجوز تسمية الإنسان باسم من أسماء الله الحسنى الثابتة في الكتاب والسنة، ولا يتعبد بالتسمي لاسم لم يسمي الله نفسه به، ولا يتعبد لاسم ذكره الله مقيدا فيطلقه هو في تعبده، لأن الله حذرنا من تسميته بما لم يسم به نفسه في كتابه أو في سنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - قال تعالى: { وَللهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [الأعراف:180] .(1/333)
وينبغي التنبه إلى أن التعبد لله بالإضافة لأسمائه الحسنى من آداب دعاء العبادة وتوحيد العبودية لله - عز وجل -، قال ابن تيمية: ( شريعة الإسلام الذي هو الدين الخالص لله وحده تعبيد الخلق لربهم كما سنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وتغيير الأسماء الشركية إلى الأسماء الإسلامية والأسماء الكفرية إلى الأسماء الإيمانية، وعامة ما سمى به النبي عبد الله وعبد الرحمن، كما قال تعالى: { قُلِ ادْعُوا الله أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيّاً مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى } [الإسراء:110]، فإن هذين الاسمين هما أصل بقية أسماء الله تعالى وكان شيخ الإسلام الهروي قد سمى أهل بلده بعامة أسماء الله الحسنى، وكذلك أهل بيتنا غلب على أسمائهم التعبيد لله كعبد الله وعبد الرحمن وعبد الغني والسلام والقاهر واللطيف والحكيم والعزيز والرحيم والمحسن والأحد والواحد والقادر والكريم والملك والحق، وقد ثبت في صحيح مسلم عن نافع عن عبد الله بن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال أحب الأسماء إلى الله عبد الله وعبد الرحمن وأصدقها حارث وهمام وأقبحها حرب ومرة، وكان من شعار أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معه في الحروب يا بني عبد الرحمن يا بني عبد الله يا بني عبيد الله كما قالوا ذلك يوم بدر وحنين والفتح والطائف فكان شعار المهاجرين يا بني عبد الرحمن، وشعار الخزرج يا بني عبد الله، وشعار الأوس يا بني عبيد الله ) (1) .
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
مراتب إحصاء الأسماء الحسنى الثابتة في الكتاب والسنة
أولا : الدليل على ثبوت الاسم وإحصائه .
ثانيا : شرح الاسم وتفسير معناه .
ثالثا : دلالة الاسم على أوصاف الله .
رابعا : الدعاء بالاسم دعاء مسألة .
خامسا : الدعاء بالاسم دعاء عبادة .
__________
(1) كتب ورسائل وفتاوى ابن تيمية في العقيدة 1/ 379 .(1/334)
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ المَلِكُ القُدُّوسُ السَّلامُ المُؤْمِنُ المُهَيْمِنُ العَزِيزُ الجَبَّارُ المُتَكَبِّرُ الخَالِقُ البَارِئُ المُصَوِّرُ الأَوَّلُ الآخِرُ الظَّاهِرُ البَاطِنُ السَّمِيعُ البَصِيرُ المَوْلَى النَّصِيرُ العَفُوُّ القَدِيرُ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ الوِتْرُ الجَمِيلُ الحَيِيُّ السِّتيرُ الكَبِيرُ المُتَعَالُ الوَاحِدُ القَهَّارُ الحَقُّ المُبِينُ القَوِيُّ المَتِينُ الحَيُّ القَيُّومُ العَلِيُّ العَظِيمُ الشَّكُورُ الحَلِيمُ الوَاسِعُ العَلِيمُ التَّوابُ الحَكِيمُ الغَنِيُّ الكَرِيمُ الأَحَدُ الصَّمَدُ القَرِيبُ المُجيبُ الغَفُورُ الوَدودُ الوَلِيُّ الحَميدُ الحَفيظُ المَجيدُ الفَتَّاحُ الشَّهيدُ المُقَدِّمُ المُؤخِّرُ المَلِيكُ المُقْتَدِرْ المُسَعِّرُ القَابِضُ البَاسِطُ الرَّازِقُ القَاهِرُ الديَّانُ الشَّاكِرُ المَنانَّ القَادِرُ الخَلاَّقُ المَالِكُ الرَّزَّاقُ الوَكيلُ الرَّقيبُ المُحْسِنُ الحَسيبُ الشَّافِي الرِّفيقُ المُعْطي المُقيتُ السَّيِّدُ الطَّيِّبُ الحَكَمُ الأَكْرَمُ البَرُّ الغَفَّارُ الرَّءوفُ الوَهَّابُ الجَوَادُ السُّبوحُ الوَارِثُ الرَّبُّ الأعْلى الإِلَهُ .
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
مراتب إحصاء أسماء الله الحسنى الثابتة
في الكتاب والسنة(1/335)
بشر النبي - صلى الله عليه وسلم - من أحصى أسماء الله الحسنى بالجنة، فقد ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( إِنَّ للهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمَا مِائَةً إِلاَّ وَاحِدًا مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ ) (1) .
__________
(1) أخرجه البخاري في الشروط، باب إن لله مائة اسم إلا واحدا 6/2691 (6957)، ومسلم في الذكر والدعاء والتوبة، باب في أسماء الله تعالى وفضل من أحصاها 4/2063 (2677) .(1/336)
وقد تحدث أهل العلم كثيرا عن معنى الإحصاء الوارد في الحديث فمن قائل: إن إحصاءها هو معرفتها والقيام بعبوديتها، كما أن القرآن لا ينفع حفظ ألفاظه من لا يعمل به، وقيل: معناه عدها حتى يستوفيها، بمعنى أن لا يقتصر على بعضها؛ فيدعو الله بها كلها، ويثني عليه بجميعها، فيستوجب الموعود عليها من الثواب، وقال آخرون: أحصاها أطاق القيام بحق هذه الأسماء وعمل بمقتضاها وحافظ على ما تقتضيه، وصدق بمعانيها، وهو أن يعتبر معانيها فيلزم نفسه بموجبها، فإذا قال الرزاق وثق بالرزق وكذا سائر الأسماء، وقيل: أحصاها أطاقها، أي أحسن المراعاة لها فعمل بها، فإذا قال الحكيم سلم لجميع أوامره وأقداره، وأنها جميعها على مقتضى الحكمة، وإذا قال القدوس استحضر كونه مقدسا منزها عن جميع النقائض، وقال البخاري وغيره من المحققين: إن معنى أحصاها حفظها، وهذا هو الأظهر لثبوته نصا في الخير (1)، فقد روى مسلم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( لِلَّهِ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ اسْمًا مَنْ حَفِظَهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ وَإِنَّ اللَّهَ وِتْرٌ يُحِبُّ الْوِتْرَ ) (2) .
__________
(1) انظر في معنى قول النبي S من أحصاها دخل الجنة، شر النووي على صحيح مسلم 17/ 5، وفتح الباري 11/ 226، وتحفة الأحوزي 9/338، ومعارج القبول 1/125 .
(2) مسلم في الذكر والدعاء والتوبة، باب في أسماء الله تعالى وفضل من أحصاها 4/ 2062 (2677) .(1/337)
ومن أفضل المعاني الجامعة لما قيل في معنى الإحصاء ما ذكره ابن القيم حيث بين أن مراتب إحصاء الأسماء الحسنى التي من أحصاها دخل الجنة ثلاث مراتب، المرتبة الأولى إحصاء ألفاظها وعددها، المرتبة الثانية فهم معانيها ومدلولها، المرتبة الثالثة دعاؤه بها وهو مرتبتان، إحداهما دعاء ثناء وعبادة، والثانية دعاء طلب ومسألة، فلا يثنى عليه إلا بأسمائه الحسنى وصفاته العلى، وكذلك لا يسأل إلا بها (1) .
ومن ثم فإن مقصدنا بمراتب الإحصاء التي سنعرضها في هذا الباب لكل اسم من الأسماء هي تلك المراتب التي تستوفي جميع الآراء السابقة في معنى الإحصاء، وهي مراحل استيفاء الاسم علما وعملا وقولا وفعلا، بداية من التعريف به والدليل على كونه من أسماء الله الحسنى الثابتة في الكتاب والسنة، ثم تفسير معناه وشرحه، ثم فهم دلالته على أوصاف الكمال بأنواع الدلالات المختلفة سواء كانت مطابقة أو تضمنا أو التزاما، ثم التعرف على كيفية الدعاء بالاسم دعاء مسألة، وكيف يدعو الموحد ربه بكل اسم من الأسماء الحسنى الثابتة في الكتاب والسنة استجابة لقوله تعالى: { وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا } [الأعراف:180]؟ وما هو الدعاء القرآني أو الدعاء النبوي الصحيح المأثور في كل اسم من الأسماء بمفرده؟ ثم الأكثر أهمية في مراتب إحصاء الاسم هو الدعاء به دعاء عبادة؟ أو كيفية التعرف على أثر الاسم في سلوك العبد وتوحيده لله فيه من خلال انضباط أقواله وأفعاله؟ وكيف يظهر تعظيم العبد للاسم في أذكاره وسائر أموره وتسميته لنفسه وأولاده؟
__________
(1) بدائع الفوائد 1/171 بتصرف .(1/338)
ولذلك سوف نتناول في كل اسم من أسماء الله الحسنى الثابتة في الكتاب والسنة خمسة محاور أساسية، المحور الأول هو ذكر الدليل النقلي على ثبوت الاسم وإحصائه وتتبعه في الكتاب والسنة، والمحور الثاني يتناول شرح الاسم وتفسير معناه اللغوي ثم معناه الشرعي من خلال تفسير القرآن بالقرآن ثم بالسنة ثم بالمأثور من كلام الصحابة - رضي الله عنهم - والتابعين وعلماء السلف الصالح، والمحور الثالث دلالة الاسم على أوصاف الله والبحث عن المواضع التي ورد بها النقل الصحيح ودلت على إثبات الوصف سواء كان وصف ذات أو وصف فغل، والمحور الرابع الدعاء بالاسم دعاء طلب ومسألة، أما المحور الخامس والأخير فهو الدعاء بالاسم دعاء عبادة وتتبع من تعبد لأسماء الله من أهل العلم سلفا وخلفا، وقد راعينا في هذه المحاور منهجا تبدو معالمه فيما يلي:
أولا: الدليل على ثبوت الاسم وإحصائه .(1/339)
الأسماء التي درسنا فيها مراتب الإحصاء هي الأسماء التي انطبقت عليها شروط الإحصاء وهي على ترتيب ورودها المختار: الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ المَلِكُ القُدُّوسُ السَّلامُ المُؤْمِنُ المُهَيْمِنُ العَزِيزُ الجَبَّارُ المُتَكَبِّرُ الخَالِقُ البَارِئُ المُصَوِّرُ الأَوَّلُ الآخِرُ الظَّاهِرُ البَاطِنُ السَّمِيعُ البَصِيرُ المَوْلَى النَّصِيرُ العَفُوُّ القَدِيرُ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ الوِتْرُ الجَمِيلُ الحَيِيُّ السِّتيرُ الكَبِيرُ المُتَعَالُ الوَاحِدُ القَهَّارُ الحَقُّ المُبِينُ القَوِيُّ المَتِينُ الحَيُّ القَيُّومُ العَلِيُّ العَظِيمُ الشَّكُورُ الحَلِيمُ الوَاسِعُ العَلِيمُ التَّوابُ الحَكِيمُ الغَنِيُّ الكَرِيمُ الأَحَدُ الصَّمَدُ القَرِيبُ المُجيبُ الغَفُورُ الوَدودُ الوَلِيُّ الحَميدُ الحَفيظُ المَجيدُ الفَتَّاحُ الشَّهيدُ المُقَدِّمُ المُؤخِّرُ المَلِيكُ المُقْتَدِرْ المُسَعِّرُ القَابِضُ البَاسِطُ الرَّازِقُ القَاهِرُ الديَّانُ الشَّاكِرُ المَنانَّ القَادِرُ الخَلاَّقُ المَالِكُ الرَّزَّاقُ الوَكيلُ الرَّقيبُ المُحْسِنُ الحَسيبُ الشَّافِي الرِّفيقُ المُعْطي المُقيتُ السَّيِّدُ الطَّيِّبُ الحَكَمُ الأَكْرَمُ البَرُّ الغَفَّارُ الرَّءوفُ الوَهَّابُ الجَوَادُ السُّبوحُ الوَارِثُ الرَّبُّ الأعْلى الإِلَهُ .
وقد استخدمنا في دراستها المنهج الاستقصائي الحصري لكل ما جاء في الكتاب والسنة بتقنية البحث الحاسوبي على جميع الموسوعات الإسلامية الإلكترونية والمواقع التراثية على الشبكة الدولية للإنترنت والتي ظهرت حتى تاريخ تدوين هذه الكلمات، ثم مراجعة النتائج على مراجعها المطبوعة للتأكد من سلامة النتيجة في دليل كل اسم .(1/340)
وبينا أيضا وجه الاستدلال الذي يوافق ضوابط الإحصاء في التعرف على أسماء الله الحسنى الثابتة في الكتاب والسنة، وكيف انطبقت القواعد العلمية أو الشروط المنهجية على كل اسم بمفرده؟ تلك الضوابط التي تتمثل في ثبوت الاسم نصا في القرآن أو صحيح السنة، وأن يكون علما دالا على ذات الله وليس فعلا أو وصفا، وأن يكون الاسم مطلقا يفيد المدح والثناء على الله بنفسه دون إضافة مقيدة أو قرينة ظاهرة تحد من إطلاق الوصف، وأن يكون اسما على مسمى تتحقق فيه الدلالة على الوصف، وأن يكون الوصف الذي دل عليه الاسم في غاية الجمال والكمال؛ فلا يكون المعنى عند تجرد اللفظ عن الإضافة منقسما إلى كمال أو نقص أو يحتمل شيئا يحد من إطلاق الكمال والحسن .
وربما نشير إلى بعض الإحصائيات المتعلقة بكل اسم من جهة عدد مرات وروده في القرآن سواء كان مطلقا أو مقيدا، مع تقديم المطلق على المقيد في الترتيب والذكر، أو من حيث اقترانه ببعض الأسماء الأخرى .
وبخصوص عزو الأحاديث إلى كتب السنة اكتفينا فيما ورد في الصحيحين بتخريج الحديث من صحيح البخاري أو صحيح مسلم ونادرا ما نجمع بين التخريجين حتى لا يطول الأمر، واعتبرنا الإحالة عليهما كافية في الحكم على الحديث بالصحة لأنهما أصح الكتب بعد كتاب الله، وقد اتفقت الأمة على تلقيهما بالقبول .
أما إذا ورد الحديث في غير الصحيحين فلا بد من تخريجه من مصدره أولا بذكر الكتاب ثم الباب إن وجد ثم رقم الجزء والصفحة ثم رقم الحديث حسب الترتيب المنطقي المختار في التخريج، ثم بعد ذلك بيان حكمه من قبل المحققين .(1/341)
وقد اشترطنا أن يكون الحكم على صحة الحديث الذي هو حجة في إثبات الاسم صادرا من قبل جمع من أعلام المحدثين عملا بالأحوط وعلى قدر المستطاع، أما ما عدا البحث عن حجية دليل السنة في ثبوت الاسم فاكتفيت غالبا فيما لم يرد في الصحيحين بتراث الشيخ الألباني رحمه الله وحكمه على الحديث من جهة القبول أو الرد، وما تيسر لنا من أقوال المحدثين سواء كانوا من القدامى أو المعاصرين، وذلك نظرا لكثرة الأحاديث الواردة في شرح الاسم لغة وشرعا، وفهم دلالتها مطابقة وتضمنا والتزاما، وكذلك كثرة ما ورد منها في الدعاء بنوعيه، دعاء المسألة ودعاء العبادة .
ثانيا: شرح الاسم وتفسير معناه .
انتهجت في تفسير الأسماء الحسنى الثابتة في الكتاب والسنة شرح الاستعمال اللغوي أولا ثم تفسير المعاني الاعتقادية ثانيا، وقد التزمت في شرح المعنى اللغوي بيان اشتقاق الاسم واستعمالاته في المراجع اللغوية مع اعتبار نصوص القرآن والسنة شواهد لغوية لجميع مداخل الأسماء الحسنى، واستقصاء وجوه استعمال اللفظ في تلك الشواهد من خلال البحث في الموسوعات الإلكترونية لتظهر المعاني المتنوعة التي ترددت بين الصحابة - رضي الله عنهم - والتابعين، وقد قدمت هذه الشواهد على غيرها وجعلت لها الأولوية في حصر المعاني وتوجيهها وتنظيمها وترتيبها لأن القرآن والسنة من أرقي أنواع الشواهد اللغوية، هذا مع صياغة المعنى اللغوي وتلخيصه من المراجع المختلفة وترتيبه بأسلوب سهل يظهر ارتباط المعنى اللغوي بالمعاني الاعتقادية، ثم الإشارة إلى المراجع اللغوية التي وردت فيها هذه المعاني أو بعضها .(1/342)
كما التزمت طريقة السلف في تفسير كل اسم لأنه المنهج الذي يكشف حقيقة المعاني الاعتقادية كما وردت بها النصوص القرآنية والنبوية دون توجيهها من الخلف بأصول كلامية أو آراء فلسفية أو تأويلات تعطيلية أو مواجيد ذوقية، هذا مع صياغة المعاني المختلفة والمذكورة بصورة جزئية في المراجع المتنوعة وإخراجها في صياغة أدبية بعبارات سهلة عذبة تدل على أوجه الكمال والجمال في كل اسم ومدى ارتباطه الوثيق بالأصول القرآنية وما صح في السنة النبوية .
وكذلك انتهجت بصورة أساسية في الشرح والتفسير الرجوع إلى المراجع اللغوية التي لم يتأثر أصحابها بالمذاهب الكلامية، وكذلك كتب التفاسير العامة، أو الخاصة بشرح الأسماء الحسنى، وكان أهم المراجع اللغوية لسان العرب لابن منظور؛ فشواهده اللغوية شواهد مجردة تفصح عن المعنى دون تأثير خارجي، فتجده يورد الشواهد القرآنية والنبوية وغير ذلك من الشواهد الشعرية، ويفرغ منها المعاني كما حملتها النصوص .
وقد ظهر أثر ذلك في التفريق بين معاني الأسماء المشتقة من وصف واحد كالعلي والأعلى والمتعالي، فهذه الأسماء لو فسرت على منهج السلف لظهر الفرق بينها واضحا جليا بحيث تنسجم معها دلالة النصوص، ولو فسرت على طريقة المتأثرين بمذهب المتكلمين فإنها جميعا تظهر بمعنى واحد، ولذلك فإن كثيرا من الذين شرحوا معاني الأسماء جمعوا بينها في مدخل واحد (1)، ومن ثم فإن المراجع التي تأثرت بالمنهج الكلامي أو الصوفي لم نأخذ منها إلا ما وافق أصول السلف في العقيدة، سواء في شرح الاسم من الناحية اللغوية أو تفسير معناه بالأدلة النقلية .
ثالثا: دلالة الاسم على أوصاف الله .
__________
(1) انظر مثلا تفسير أسماء الله الحسنى لأبي اسحاق الزجاج ص48، ص60، وشأن الدعاء لأبي سليمان الخطابي ص66، وشرح أسماء الله للرازي ص265، 335، والمقصد الأسنى لأبي حامد الغزالي ص96، 126 .(1/343)
انتهجنا في استخراج دلالة الأسماء الحسنى الثابتة في الكتاب والسنة على الصفات الإلهية البحث بصورة تفصيلية بحيث نبين دلالة الاسم على الوصف بالمطابقة والتضمن واللزوم وبيان الأدلة النقلية والعقلية على ذلك، مستخدمين التقنية الحاسوبية وسرعة الكمبيوتر في البحث عن النصوص الصحيحة، وذلك ليظهر الدليل النصي على ثبوت الوصف، وأن الله - عز وجل - لما سمى نفسه بأسمائه الحسنى بين في مواضع أخرى أنها أوصاف كمال وجلال، سواء كانت أوصافا ذاتية لا تتعلق بالمشيئة وتلازم الذات ولا تنفك عنها كما في اسم الله الأول والآخر والقدير والخبير والوتر والجميل والواحد والكبير والقوي والمتين والعلي الحكيم والأحد الرقيب وغير ذلك مما سيأتي بيانه، أو كانت الأسماء دالة على أوصاف فعلية تتعلق بمشيئة الله وفعله في خلقه كما ورد ذلك في اسم الله الرحمن الرحيم الشكور الحليم المولى النصير الحيي الستير القاهر الديان الشاكر المنان الخالق الخلاق الرازق الرزاق الشافي الرفيق المعطي المقيت العفو القهار البر الغفار وغير ذلك مما سيأتي بيانه، أو كانت الأسماء دالة على أوصاف ذاتية من وجه وفعلية من وجه آخر تتعلق بمشيئة الله وفعله وحكمته في خلقه، كما ورد ذلك في اسم الله السلام القدوس المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر المتعال الظاهر الباطن السميع البصير الحق المبين القيوم العظيم الواسع العليم الغني الكريم الحفيظ المجيد القريب الشهيد الجواد السبوح الوارث الرب وغير ذلك مما سيأتي تفصيله وبيانه .
هذا بالإضافة إلى التنبيه على المواضع التي يدل الاسم فيها على وصف الذات أو وصف الفعل أو الذات والفعل معا، مع تقديم وصف الذات في ترتيبه على وصف الفعل، وقد اجتهدنا على قدر المستطاع في بيان دلالة الاسم على الوصف بدلالة اللزوم، وإن كان هذا الأمر شاقا ودقيقا لكنها تعد أمثلة كثيرة لطلاب العلم تساعدهم على فهم دلالة الأسماء على الصفات .(1/344)
رابعا: الدعاء بالاسم دعاء مسألة .
دعاء المسألة من أهم الأجزاء المتعلقة بمراتب الإحصاء، وقد رتبته حسبما أشرنا في أنواع دعاء المسألة بحث يكون الدعاء بالاسم المطلق وهو أعلاه لأنه يدل بالتضمن على وصف كمال مطلق، وقدمنا أيضا في الاسم الواحد ما ورد مطلقا في القرآن على ما ورد مقيدا، وهكذا في السنة يقدم المطلق على مقيد، كما في دعاء المسألة باسم الله الرحمن الرحيم الملك القدوس السلام العزيز العليم الأول الآخر الظاهر الباطن العفو الحيي الواحد القهار الحي القيوم العلي العظيم الحليم الحكيم الغني الكريم القريب المجيب الحميد المجيد وغير ذلك من الأسماء الحسنى التي سيأتي بيانها .
وإذا لم أجد دعاء المسألة بالاسم المطلق بحثنا عن الدعاء بالاسم المقيد وهذا النوع شأنه شأن الدعاء بجميع الأسماء المقيدة، كما في اسم الله المولى الذي ورد في قول الله تعالى: { أَنْتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى القَوْمِ الكَافِرِينَ } [البقرة:286]، وأيضا اسم الله النصير في حديث أنس - رضي الله عنه - أنه قال: ( كَانَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إِذَا غَزَا قَالَ: اللهمَّ أَنْتَ عَضُدِي وَنَصِيرِي بِكَ أَحُولُ وَبِكَ أَصُولُ وَبِكَ أُقَاتِلُ ) (1)، وكذلك اسم الله البصير القدير الولي المليك الرازق المالك الرقيب الوارث الرب .
__________
(1) أبو داود في الجهاد، باب ما يدعى ثم اللقاء 3/42 (2632)، وانظر الكلم الطيب (126) .(1/345)
وإن لم يكن ثم دليل على الدعاء بالاسم المطلق أو المقيد بحثتا عن الدعاء بالوصف الذي دل عليه الاسم سواء كان وصف ذات أو وصف فعل، كالدعاء بالفتح الذي دل عليه اسم الله الفتاح في دعاء نوح - عليه السلام -: { قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي وَمَن مَّعِي مِنَ المُؤْمِنِينَ } [الشعراء:118]، والدعاء بفعل الإجابة الذي دل عليه اسم المجيب في قوله: { أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ } [النمل:62]، وكذلك الدعاء بفعل الإبراء الذي دل عليه اسمه البارئ، وكذا هو المنهج الذي اتبعناه في دعاء المسألة باسم المؤمن الجبار المتكبر الخالق البارئ المصور الستير الكبير المبين القوي الواسع الحفيظ الفتاح الشهيد المقتدر المسعر القابض الباسط الرزاق المحسن الحسيب الرفيق المعطي الطيب الحكم السبوح الأعلى وغير ذلك مما سأتي بيانه .
وإذا لم أجد دعاء مسألة بالاسم المطلق أو المقيد أو الوصف الذي دل عليه الاسم بحثا عن الدعاء بمقتضى الاسم فهذا يشمله دعاء المسألة، والمقصود الدعاء بمقتضى الخبر الذي يتضمن الطلب في سياق النص مثل أن يخبر الله - عز وجل - عن حدث ما ويختم الآية باسم من أسمائه الحسنى يقتضي الدعاء به في مثل هذا الموضع، وهذا المنهج اتبعناه في دعاء المسألة باسم الله المهيمن اللطيف الخبير الوتر الجميل المتعال المتين الشكور الودود القاهر الديان الشاكر المقيت السيد الجواد وغير ذلك من الأسماء .
خامسا: الدعاء بالاسم دعاء عبادة .(1/346)
تعتبر هذه المرتبة هي النتيجة المؤثرة في ضبط القلب واللسان والجوارح على مقتضى أسماء الله الحسنى الثابتة في الكتاب والسنة؛ ولذلك كانت أهم المراتب التي تطلبت منهجا استقصائيا شموليا لكل ما جاء في الكتاب والسنة على جميع الموسوعات الإسلامية الإلكترونية، وذلك لمعرفة آثار الأسماء الحسنى وانعكاس تلك الآثار على اعتقاد الصحابة وأقوالهم وأفعالهم وسلوكهم ومنهج حياتهم، وكيف يؤثر ذلك على المسلم المعاصر وعبادته لله بالقلب أو اللسان أو سائر الجوارح والأركان، وكيف تكون كل حركة أو سكنة في الحياة صادرة منه عن فهم دقيق وإيمان عميق واتصال وثيق بأسماء الله الحسنى وما دلت عليه من أوصاف الجلال، وكيف أن السلوك التعبدي والحال الإيماني الذي بلغ بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه - رضي الله عنهم - هذا الكمال كانت له حلاوة في الجنان وطلاوة على اللسان وكانوا يشعرون بمذاقها في وجدانهم وكيانهم؛ فليس أقل من بيان تلك الحالة الإيمانية التي عايشها أصحاب النبي وسعدوا فيها بالدنيا والآخرة، فأكثرنا من النقل الثابت عنهم فيما يتعلق بكل اسم من أسماء الله - عز وجل - بمفرده، وما يستفاد من تلك الأحداث في إيضاح حقيقة التوحيد وكيف تكون نورا يسعى به الموحدون ويرون به ما لا يراه الناظرون .(1/347)
وقد أجرينا في دعاء العبادة أيضا بحثا حاسوبيا واسع النطاق لمن بدأ اسمه بالعبودية أو التعبد لله - عز وجل - بأسمائه الحسنى الثابتة في الكتاب والسنة من علماء السلف ورواة الحديث ثم علماء الخلف والمتأخرين منهم ابتداء من القرن الخامس الهجري حتى ما قبل القرن الماضي، ثم بيان الأسماء الحسنى التي لم يتعبد لها أحد في تسميته من السلف والخلف والمتأخرين ووجدناها لأناس معاصرين في جميع الموسوعات الإسلامية الإلكترونية التي ظهرت حتى الآن، وتحتوي على أكثر من عشرين ألف مجلد مطبوع اشتملت على كتب الرجال والتراجم والطبقات والسير والتاريخ وغير ذلك مما سيأتي بيانه، وكذلك جميع محركات البحث على الإنترنت ودليل الهاتف الإلكتروني في الدول العربية، وذلك لنصل إلى الأسماء الحسنى الثابتة في الكتاب والسنة والتي لم يتعبد لها أحد في نطاق هذا البحث وحتى تاريخ تدوينه، وذلك ليسارع كل مسلم فيسمي نفسه أو ولده باسم من تلك الأسماء ويكون له السبق على مستوى أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - ، فلا نحسب أحدا من المسلمين تسمى بها من قبل والله أعلم .
********************************************************************************
1- الله - جل جلاله - الرَّحْمَنُ
********************************************************************************
دليل إحصاء الاسم وثبوته:(1/348)
اسم الله الرحمن ورد في القرآن والسنة مطلقا معرفا ومنونا مفردا ومقترنا مرادا به العلمية ودالا على كمال الوصفية، وقد ورد المعنى مسندا إليه محمولا عليه كما جاء في قوله تعالى: { الرَّحْمَنُ عَلمَ الْقُرْآنَ } [الرحمن:1/2]، وقوله: { قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيّاً مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى } [الإسراء:110]، وقد ورد الاسم في خمسة وأربعين موضعا من القرآن اقترن في ستة منها باسمه الرحيم، ولم يقترن بغيره في بقية المواضع، قال تعالى: { هُوَ اللهُ الذِي لا إِلَهَ إلا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ } [الحشر:22]، وقال - عز وجل -: { تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم } [فصلت:2] .
ومما ورد في السنة ما رواه أحمد وصححه الألباني من حديث ابنِ مَسْعُودٍ - رضي الله عنه - أن النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: ( الْخَيْلُ ثَلاَثَةٌ، فَفَرَسٌ لِلرَّحْمَنِ وَفَرَسٌ لِلإِنْسَانِ وَفَرَسٌ لِلشَّيْطَانِ، فَأَمَّا فَرَسُ الرَّحْمَنِ فَالذِي يُرْبَطُ فِي سَبِيلِ اللهِ .. الحديث ) (1)، وفي المسند أيضا وصححه الألباني من حديث عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ - رضي الله عنه - أِنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: ( قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَل أَنَا الرَّحْمَنُ خَلَقْتُ الرَّحِمَ، وَشَقَقْتُ لَهَا مِنِ اسْمِي .. الحديث ) (2)، وكذلك من حديث عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ خَنْبَشٍ - رضي الله عنه - وصححه الألباني في دعائه - صلى الله عليه وسلم - : ( وَمِنْ شَرِّ كُلِّ طَارِقٍ إِلاَّ طَارِقاً يَطْرُقُ بِخَيْرٍ يَا رَحْمَنُ .. الحديث ) (3) .
__________
(1) المسند 1/395 (3756)، وصححه الألباني في إرواء الغليل (1508)، وصحيح الجامع (3350) .
(2) السابق 1/191(1659)، وانظر السلسلة الصحيحة 2/49 (520) .
(3) السابق 3/419 (15859)، وانظر السلسلة الصحيحة 2/495 (840) .(1/349)
شرح الاسم وتفسير معناه:
الرحمن في اللغة صفة مشبهة وهي أبلغ من الرحيم، والرحمة في حقنا رقة في القلب تقتضي الإحسان إلى المرحوم وتكون بالمسامحة واللطف أو المعاونة والعطف، والرحمة تستدعي مرحوما فهي من صفات الأفعال (1) .
والرحمن اسم يختص بالله - عز وجل - ولا يجوز إطلاقه في حق غيره، والرحمن سبحانه هو المتصف بالرحمة العامة الشاملة حيث خلق عباده ورزقهم، وهداهم سبلهم، وأمهلهم فيما استخلفهم وخولهم، واسترعاهم في أرضه واستأمنهم في ملكه ليبلوهم أيهم أحسن عملا، ومن ثم فإن رحمت الله - عز وجل - في الدنيا وسعتهم جميعا فشملت المؤمنين والكافرين، والرحمة تفتح أبواب الرجاء والأمل، وتثير مكنون الفطرة وتبعث على صالح العمل، وتدفع أبواب الخوف واليأس، وتشعر الشخص بالأمن والأمان (2) .
__________
(1) انظر تفصيل المعنى في لسان العرب 12/231، وكتاب العين 3/224 .
(2) انظر فتح الباري 13/358 في معنى قول الحليمي: الرحمن هو مزيح العلل .(1/350)
والله - عز وجل - سبقت رحمته غضبه، ولم يجعل من واسع رحمته إلا جزءا يسيرا في الدنيا يتراحم به الناس ويتعاطفون حتى ترفع الدابة حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه، روى البخاري من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ( جَعَلَ الله الرَّحْمَةَ مِائَةَ جُزْءٍ، فَأَمْسَكَ عِنْدَهُ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ جُزْءًا وَأَنْزَلَ فِي الأَرْضِ جُزْءًا وَاحِدًا، فَمِنْ ذَلِكَ الْجُزْءِ يَتَرَاحَمُ الْخَلْقُ حَتَّى تَرْفَعَ الْفَرَسُ حَافِرَهَا عَنْ وَلَدِهَا خَشْيَةَ أَنْ تُصِيبَهُ ) (1)، وفي رواية أخرى عند البخاري قال - صلى الله عليه وسلم - : ( إِنَّ اللهَ خَلَقَ الرَّحْمَةَ يَوْمَ خَلَقَهَا مِائَةَ رَحْمَةٍ فَأَمْسَكَ عِنْدَهُ تِسْعًا وَتِسْعِينَ رَحْمَةً، وَأَرْسَلَ فِي خَلْقِهِ كُلِّهِمْ رَحْمَةً وَاحِدَةً، فَلَوْ يَعْلَمُ الْكَافِرُ بِكُلِّ الذِي عِنْدَ اللهِ مِنَ الرَّحْمَةِ لَمْ يَيْأَسْ مِنَ الْجَنَّةِ، وَلَوْ يَعْلَمُ الْمُؤْمِنُ بِكُلِّ الذِي عِنْدَ اللهِ مِنَ الْعَذَابِ لَمْ يَأْمَنْ مِنَ النَّارِ ) (2) .
__________
(1) البخاري في الأدب، باب جعل الله الرحمة في مائة جزء 5/2236 (5654) .
(2) البخاري في الرقاق، باب الرجاء مع الخوف 5/2374 (6104) .(1/351)
وورد عند البخاري أيضا من حديث عُمَر بن الخطاب - رضي الله عنه - أَنَّهُ قَالَ: ( قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بِسَبْيٍ، فَإِذَا امْرَأَةٌ مِنَ السَّبْيِ تَبْتَغِي، إِذَا وَجَدَتْ صَبِيًّا فِي السَّبْيِ أَخَذَتْهُ فَأَلْصَقَتْهُ بِبَطْنِهَا وَأَرْضَعَتْهُ (1)، فَقَالَ لَنَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : أَتَرَوْنَ هَذِهِ الْمَرْأَةَ طَارِحَةً وَلَدَهَا فِي النَّارِ؟ قُلْنَا: لاَ وَاللهِ وَهِي تَقْدِرُ عَلَى أَنْ لاَ تَطْرَحَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : لَلهُ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ هَذِهِ بِوَلَدِهَا ) (2) .
فالرحمة التي دل عليها اسمه الرحمن رحمة عامة تُظهر مقتضى الحكمة في أهل الدنيا فمن رحمته أنه أنعم عليهم ليشكروا ولكن كثيرا منهم جاحدون قال تعالى: { وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ الليْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلكُمْ تَشْكُرُونَ } [القصص:73]، وقال: { وَهُوَ الذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً } [الفرقان:48] .
__________
(1) هذه المرأة كانت مرضعة وعند الحرب فقدت طفلها وقد سبيت، وقد فعلت ذلك ليخفف ألم اللبن في ثديها فأخذت تبحث عن طفلها حتى وجدته فأخذته وضمته وأرضعته، فتح الباري 10/430 .
(2) البخاري في الأدب، باب رحمة الولد وتقبيله ومعانقته 5/2235 (5653)، ومسلم في التوبة، باب في سعة رحمة الله تعالى وأنها سبقت غضبه 4/2109 .(1/352)
ولما كانت الرحمة التي دل عليها اسمه الرحمن رحمة عامة بالناس أجمعين فإن الله خص هذا الاسم ليقرنه باستوائه على عرشه في جميع المواضع التي وردت في القرآن والسنة قال تعالى: { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } [طه:5]، ومن حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: ( فَإِذَا سَأَلْتُمُ اللهَ فَسَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ فَإِنَّهُ أَوْسَطُ الْجَنَّةِ وَأَعْلَى الْجَنَّةِ وَفَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ ) (1)، وذلك لأن الله - عز وجل - فوق الخلائق أجمعين سواء كانوا مؤمنين أو كافرين، فحياتهم قائمة بإذنه، وأرزاقهم مكنونة في غيبه، وبقائهم رهن مشيئته وأمره ومن ثم فإنه لا حول ولا قوة لهم إلا بقوته وحوله، فهو الملك وهو الرحمن الذي استوى على عرشه، ودبر أمر الخلائق في ملكه؛ فلا يستغني عنه في الحقيقة مؤمن أو كافر، قال تعالى: { الذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً } [الفرقان:59] .
دلالة الاسم على أوصاف الله:
اسم الله الرحمن يدل على ذات الله وعلى صفة الرحمة العامة بدلالة المطابقة، وعلى ذات الله وحدها بدلالة التضمن، وعلى صفة الرحمة وحدها بالتضمن، قال تعالى مبينا اتصافه بالرحمة العامة: { وَرَبُّكَ الغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ العَذَابَ بَل لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً } [الكهف:58]، فالرحمة في الآية صفة لا تقوم بنفسها ولكنها تقوم بالموصوف المسمى الرحمن الرحيم، غير أن دلالة الرحمن على هذه الرحمة العامة أقرب؛ وذلك لعمومها في الناس أجمعين؛ وقد ذكر الله - عز وجل - أنه بسببها أخر العذاب عن الكافرين، ولو كانت رحمة خاصة لأهلكهم أجمعين .
__________
(1) البخاري في التوحيد، باب وكان عرشه على الماء 6/2700 (6987) .(1/353)
ومن الأدلة على تضمن اسم الله الرحمن للرحمة العامة قوله تعالى: { قُل مَنْ يَكْلؤُكُمْ بِالليْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَل هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ } [الأنبياء:42]، ومعنى يكلؤكم أي يحرسكم ويحفظكم؛ فلا يحتاج الناس إلى حافظ يحفظهم من الرحمن ذي الرحمة الواسعة (1)، قال البيضاوي: ( وفي لفظ الرحمن تنبيه على أن لا كالئ غير رحمته العامة ) (2) .
وقال تعالى أيضا في دلالة اسم الله الرحمن على الرحمة العامة: { الرحمنُ علمَ القرآنَ خلقَ الإنسانَ علمَه البَيان } [الرحمن:1/3]، فخلق الإنسان وتعليمه البيان من قبل الرحمن يدل على أن ذلك من الرحمة العامة لأن لفظ الإنسان يتناول الجنس .
ومن الرحمة العامة التي دل عليها اسمه الرحمن قوله تعالى: { وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ الليْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلكُمْ تَشْكُرُونَ } [القصص:73]، فالليل والنهار من رحمته وينتفع بهما جميع المكلفين، إمهالا وابتلاء من رب العالمين، ومن ثم تتحقق فيهم مشيئته، وتتجلى فيهم حكمته، وتستقيم الشرائع والأحكام ويتميز الحلال من الحرام، قال تعالى: { وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلِ الله أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ } [يونس:21]، وفي المسند أيضا وصححه الألباني من حديث عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( قَالَ الله عَزَّ وَجَل: أَنَا الرَّحْمَنُ خَلَقْتُ الرَّحِمَ، وَشَقَقْتُ لَهَا مِنِ اسْمِي اسْماً، فَمَنْ وَصَلَهَا وَصَلتُهُ، وَمَنْ قَطَعَهَا بَتَتُّهُ ) (3) .
__________
(1) تفسير القرطبي 11/291، والبرهان في علوم القرآن 2/504 .
(2) تفسير البيضاوي 4/95 .
(3) السابق 1/191(1659)، وانظر السلسلة الصحيحة 2/49 (520) .(1/354)
والخطاب في الحديث عام لجميع المكلفين، وعند البخاري من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( جَعَلَ الله الرَّحْمَةَ مِائَةَ جُزْءٍ، فَأَمْسَكَ عِنْدَهُ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ جُزْءًا وَأَنْزَلَ في الأَرْضِ جُزْءًا وَاحِدًا، فَمِنْ ذَلِكَ الجُزْءِ يَتَرَاحَمُ الخَلقُ حَتَّى تَرْفَعَ الفَرَسُ حَافِرَهَا عَنْ وَلَدِهَا خَشْيَةَ أَنْ تُصِيبَهُ ) (1) .
واسم الله الرحمن يدل باللزوم على الحياة والقيومية والغنى والأحدية والعزة والصمدية والعلم والحكمة وكل ما يلزم للرحمة المطلقة العامة، لأنه لا يتصور وجود الرحمة من ميت أو زوال قدرته عليها، أو تناقصها وانعدام القيومية فيها، ولا يتصور أيضا من يمنح الرحمة وهو مفتقر إلى غيره وليس غنيا بذاته في قيام رحمته وعزته وقدرته وقوته، فلا بد لرحمته إذا من صمديته وسيادته، وأحديته وكماله في جميع الأوصاف، والاسم دل على صفة من صفات الفعل لأن الرحمة التي تضمنها تتعلق بمشيئته، كما أن بقاء المخلوقات في الدنيا على معنى الابتلاء صادر عنها وعن مقتضى حكمته، ولو شاء الله بقدرته وعزته لأذهب هذا الخلق وأوجد خلقا جديدا، لكن الرحمة العامة لحقت الناس أجمعين، فبها خلقهم ورزقهم وجعلهم ينعمون وهم في الدنيا مخيرون مبتلون، وكل ذلك إلى حين، ومن ثم فإن الرحمن - عز وجل - اسم يدل على صفة الرحمة، ورحمة الله للخلائق عامة من وجه، وخاصة من وجه آخر، بحسب الوقت المناسب لكل موجود في الكون وعلته، وإظهار حكمة الله - عز وجل - في أدائه لغايته .
الدعاء باسم الله الرحمن دعاء مسألة:
__________
(1) البخاري في كتاب الأدب، باب جعل الله الرحمة في مائة جزء 5/2236 (5654) .(1/355)
ورد الدعاء بالاسم المطلق في استعاذة مريم ابنة عمران عندما تمثل لها جبريل - عليه السلام - بشرا سويا، وبشرها بعيسى - عليه السلام - قال تعالى: { قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيّا } [مريم:18]، وهي تعني إن كنت تقيا تتقي الله وتخشى الاستعاذة وتعظمها فإني عائذة منك بالرحمن، أو فتتعظ بتعويذي ولا تتعرض لي؛ فجواب الشرط محذوف دل عليه ما قبله (1)، وورد الدعاء أيضا بالاسم المطلق في قوله تعالى: { قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ المُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ } [الأنبياء:112] .
وروى أحمد وصححه الشيخ الألباني من حديث عبد الرحمن التميمي - رضي الله عنه - أن رجلا سأله كيف صنع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حِين كادته الشياطين؟ قال: ( جَاءَتِ الشَّيَاطِينُ إِلَى رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - مِنَ الأَوْدِيَةِ، وَتَحَدَّرَتْ عَلَيْهِ مِنَ الجِبَالِ، وَفِيهِمْ شَيْطَان مَعَهُ شُعْلَة مِنْ نَارٍ يُرِيدُ أَنْ يُحْرِقَ بِهَا وَجْهَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَهَبَطَ إِلَيْهِ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ قُل، قَالَ مَا أَقُولُ، قَالَ: قُل أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللهِ التَّامَّةِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ وَذَرَأَ وَبَرَأَ وَمِنْ شَرِّ مَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ، وَمِنْ شَرِّ مَا يَعْرُجُ فِيهَا، وَمِنْ شَرِّ فِتَنِ الليْلِ وَالنَّهَارِ، وَمِنْ شَرِّ كُلِّ طَارِقٍ إِلاَّ طَارِقاً يَطْرُقُ بِخَيْرٍ يَا رَحْمَنُ، قَالَ: فَطَفِئَتْ نَارُهُمْ، وَهَزَمَهُمْ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى ) (2) .
__________
(1) تفسير البيضاوي 4/9، وتفسير الطبري 16/61 .
(2) مسند الإمام أحمد 3/419 (15859)، السلسلة الصحيحة (840) .(1/356)
وورد الدعاء بالاسم المضاف عند الطبراني وحسنه الألباني من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لمعاذ بن جبل - رضي الله عنه -: ( ألا أعلمُك دعَاء تدعو به لوْ كان عَليْك مثل جبل أحد دَيْنا لأدَّاه الله عنكْ، قل يا مُعاذ: اللهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ، تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ، وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ، وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ، بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، رَحمَن الدنْيا والآخِرَة ورحِيمَهُما، تُعطِيهما مَنْ تَشَاء وتمنَعُ مِنْهمَا مَنْ تَشَاء ارْحَمْني رَحمَة تُغْنيني بها عَن رِحْمَة مَنْ سِواك ) (1) .
أما دعاء المسألة بوصف الرحمة العامة الذي دل عليه اسمه الرحمن؛ فقد ورد في نصوص كثيرة، منها قوله تعالى: { وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى القَوْمِ الكَافِرِينَ } [البقرة:286]، وقوله في البر بالوالدين على العموم: { وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً واخفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً } [الإسراء:23/24] .
__________
(1) الطبراني في الجامع الصغير 1/336 (558)، صحيح الترغيب والترهيب (1821) .(1/357)
وقال - عز وجل - في وصف عباده الموحدين: { إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ } [المؤمنون:109]، وقال تعالى: { وَقُل رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ } [المؤمنون:118]، وقال تعالى: { قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَالله خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ } [يوسف:64]، وروى البخاري من حديث عبد الله بن عمر - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( اللهمَّ ارْحَمِ المُحَلِّقِينَ قَالُوا وَالمُقَصِّرِينَ يَا رَسُولَ الله، قَالَ: اللهمَّ ارْحَمِ المُحَلِّقِينَ، قَالُوا: وَالمُقَصِّرِينَ يَا رَسُولَ الله، قَالَ وَالمُقَصِّرِينَ ) (1) .
وجميع ما تقدم تعد أدلة صريحة في دعاء الله باسمه الرحمن دعاء مسألة، أو الدعاء بالوصف الذي دل عليه الاسم، فيدعو المسلم بما يناسب حاجته ومطلبه؛ فيقول: اللهم إني أسألك يا رحمن أن ترحمني وأن ترحم والدي وسائر عبادك المسلمين يا أرحم الراحمين أو يقول: أعوذ بالرحمن وأستعين به من كل سوء وبلاء، ومن كل شر وشقاء، وغير ذلك مما يناسب حاله ومسألته .
الدعاء باسم الله الرحمن دعاء عبادة:
__________
(1) البخاري في الحج، باب الحلق والتقصير ثم الإحلال 2/616 (1640) .(1/358)
دعاء العبادة باسم الله الرحمن هو امتلاء القلب بالرحمة والحب والحرص على ما ينفع عموم الخلق؛ فالرحمن رحمته عامة وتوحيد العبد للاسم في سلوكه يقتضي الرحمة العامة بعباد الله، سواء كانوا مؤمنين أو كافرين، فالمؤمنون يحب لهم ما يحب لنفسه فيوقر كبيرهم ويرحم صغيرهم ويجعل رحمته موصولة إليهم، يسعد بسعادتهم ويحزن لحزنهم، أما رحمته بالكافرين فيحرص على دعوتهم ويسهم في إخماد كفرهم والنار التي تحرقهم، ويجتهد في نصحهم والأخذ على أيدهم ولو بجهادهم في بعض المواطن، فلو علم الكافر ما ينتظره من العذاب لشكر كل من دعاه إلى تقوى الله ولو ساقه بسيوف الحق من بين يديه ومن خلفه، قال تعالى: { وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُول يَا ليْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُول سَبِيلاً يَا وَيْلتَي ليْتَنِي لمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَليلاً لقَدْ أَضَلنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ للإِنْسَانِ خَذُولاً } [الفرقان:27/29] .(1/359)
أما الأدلة على ما سبق فقد روى أبو داود وصححه الألباني من حديث عبد الله بن عمرو - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ، ارْحَمُوا أَهْل الأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ ) (1)، وفي زيادة صحيحة عند الترمذي: ( الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ، ارْحَمُوا مَنْ فِي الأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ، الرَّحِمُ شُجْنَةٌ مِنَ الرَّحْمَنِ، فَمَنْ وَصَلهَا وَصَلهُ اللهُ وَمَنْ قَطَعَهَا قَطَعَهُ اللهُ ) (2)، وفي المسند وصححه الألباني من حديث عبد الله بن عمرو - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال وهو على المنبر: ( ارْحَمُوا تُرْحَمُوا وَاغْفِرُوا يَغْفِرِ اللهُ لكُمْ، وَيْل لأَقْمَاعِ القَوْل، وَيْل للمُصِرِّينَ الذِينَ يُصِرُّونَ عَلى مَا فَعَلوا وَهُمْ يَعْلمُونَ ) (3)، والأقماع هم الذين يسمعون القول ولا يعملون به، شبه النبي - صلى الله عليه وسلم - آذانهم بالأقماع المخرومة يصب فيها الكلام كصب الماء في الأقماع فلا تبقي شيئا ينتفع به (4) .
__________
(1) أبو داود في الأدب، باب في الرحمة 4/285 (4941)، صحيح الجامع (3522) .
(2) الترمذي في البر والصلة4/285 (4941)، السلسلة الصحيحة (925) والشجنة هي القرابة المتشابكة .
(3) أحمد في المسند 2/165(6541)، صحيح الجامع (897) .
(4) انظر بتصرف لسان العرب 8/ 295، والغريب لابن قتيبة 1/ 337 .(1/360)
ومن دعاء العبادة التسمية بعبد الرحمن فهو أحب الأسماء إلى الله - عز وجل - كما ثبت عند مسلم من حديث ابن عمر - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( إِنَّ أَحَبَّ أَسْمَائِكُمْ إِلى اللهِ عَبْدُ اللهِ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ ) (1)، ومن جهة التسمية فقد تسمى به كثير من المسلمين وعلى رأسهم عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه - (ت:32هـ) وهو من العشرة المبشرين بالجنة، هاجر الهجرتين وشهد بدرا وأحدا والمشاهد كلها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (2) .
********************************************************************************
2- الله - جل جلاله - الرَّحِيمُ
********************************************************************************
دليل إحصاء الاسم وثبوته:
__________
(1) مسلم في كتاب الأدب، باب النهي عن التكني بأبي القاسم 3/ 1682 (2132) .
(2) انظر الإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر العسقلاني 4/ 346 .(1/361)
اسم الله الرحيم تحققت فيه شروط الإحصاء، فقد ورد في القرآن والسنة مطلقا معرفا ومنونا، مرادا به العلمية ودالا على الوصفية وكمالها، واسم الله الرحيم اقترن باسمه الرحمن كما تقدم في ستة مواضع من القرآن، وغالبا ما يقترن اسم الله الرحيم بالتواب والغفور والرءوف والودود والعزيز، وذلك لأن الرحمة التي دل عليها الرحيم رحمة خاصة تلحق المؤمنين، فالله عز وجل رحمته التي دل عليها اسمه الرحمن شملت الخلائق في الدنيا مؤمنهم وكافرهم وبرهم وفاجرهم، لكنه في الآخرة رحيم بالمؤمنين فقط (1)، ومما ورد في الدلالة على ثبوت اسم الله الرحيم قوله تعالى: { تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم } [فصلت:2]، وقوله سبحانه: { سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ } [يس:58]، وكذلك قوله - عز وجل -: { نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } [الحجر:50] .
__________
(1) انظر تفسير أسماء الله الحسنى لأبي إسحاق إبراهيم بن محمد ص 28، نشر دار الثقافة العربية دمشق سنة 1974م، ومناهل العرفان في علوم القرآن، لمحمد عبد العظيم الزرقاني، 2/62 تحقيق مكتب البحوث الدراسات، الطبعة الأولى، نشر دار الفكر، بيروت، 1996.(1/362)
أما أدلة السنة فمنها ما رواه البخاري من حديث أَبِى بَكْرٍ الصديق - رضي الله عنه - أَنَّهُ قَالَ لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - : عَلِّمْنِي دُعَاءً أَدْعُو بِهِ فِي صَلاَتِي، قَالَ: ( قُلِ اللهُمَّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْمًا كَثِيرًا وَلاَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ أَنْتَ، فَاغْفِرْ لِي مَغْفِرَةً مِنْ عِنْدِكَ، وَارْحَمْنِي، إِنَّكَ أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ) (1)، وعند أبي داود وصححه الألباني من حديث ابنِ عُمَرَ - رضي الله عنه - قَالَ: ( إِنْ كُنَّا لَنَعُدُّ لِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي الْمَجْلِسِ الْوَاحِدِ مِائَةَ مَرَّةٍ: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَتُبْ عَلَىَّ إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ) (2) .
شرح الاسم وتفسير معناه:
__________
(1) البخاري في كتاب الدعوات، باب الدعاء قبل السلام 1/286 (799) .
(2) أبو داود في كتاب الوتر، باب في الاستغفار 2/85 (1516)، وانظر صحيح أبي داود (1357) وانظر أيضا صحيح ابن ماجة 2/321 (3075)، والسلسلة الصحيحة (556) .(1/363)
الرحيم في اللغة من صيغ المبالغة، فعيل بمعنى فاعلٍ كسَمِيعٌ بمعنى سامِع وقديرٌ بمعنى قادر، والرحيم دل على صفة الرحمة الخاصة التي ينالها المؤمنون، فالرَّحْمَنُ الرحيم بنيت صفة الرحمة الأُولى على فعلان لأَن معناه الكثرة، فرحمته وسِعَتْ كل شيء وهو أَرْحَمُ الراحمين، وأَما الرَّحِيمُ فإِنما ذكر بعد الرَّحْمن لأن الرَّحْمن مقصور على الله عز وجل، والرحيم قد يكون لغيره، فجيء بالرحيم بعد استغراق الرَّحْمنِ معنى الرحْمَة لاختصاص المؤمنين بها كما في قوله: { وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيما ً } [الأحزاب:43]، وقال عبد الله بن عباس - رضي الله عنه -: ( هما اسمان رقيقان أَحدهما أَرق من الآخر ) (1) .
والرحمة الخاصة التي دل عليها اسمه الرحيم شملت عباده المؤمنين في الدنيا والآخرة فقد هداهم إلى توحيده وعبوديته، وهو الذي أكرهم في الآخرة بجنته، ومنَّ عليهم في النعيم برؤيته (2)، ورحمة الله لا تقتصر على المؤمنين فقط؛ بل تمتد لتشمل ذريتهم من بعدهم تكريما لهم كما قال تعالى في نبأ الخضر والجدار:
__________
(1) انظر بتصرف: لسان العرب 12/231، وتفسير القرطبي 1/106، وانظر المزيد حول هذا المعنى في المقصد الأسنى لأبي حامد الغزالي ص62، والأسماء والصفات للبيهقي ص69، وفتح الباري 13/358 .
(2) انظر في هذا المعنى: تفسير ابن جرير الطبري 1/57، وفتح الباري 13/358 .(1/364)
{ وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ } [الكهف:82]، فالإيمان بالله والعمل في طاعته وتقواه من أهم أسباب الرحمة الخاصة، قال تعالى: { وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلكُمْ تُرْحَمُونَ } [آل عمران:132]، وقال: { وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلكُمْ تُرْحَمُون } [الأنعام:155] (1) .
3- دلالة الاسم على أوصاف الله:
__________
(1) شرح الزرقاني على موطأ الإمام مالك 4/538، وتفسير الطبري 16/7، وحاشية ابن القيم على سنن أبي داود 6/55، وجامع العلوم والحكم ص186 .(1/365)
اسم الله الرحيم من جهة العلمية يدل على ذات الله، ومن جهة الوصفية يدل على صفة الرحمة الخاصة، فدلالته على الذات والصفة معا مطابقة، ودلالته على ذات الله وحدها تضمن، وعلى الصفة وحدها تضمن، قال تعالى: { يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَن مَّوْلًى شَيْئاً وَلا هُمْ يُنصَرُونَ إِلا مَن رَّحِمَ اللهُ إِنَّهُ هُوَ العَزِيزُ الرَّحِيمُ } [الدخان:38/42]، فالآية ورد فيها الاسم ودلالته على الوصف، وهذه رحمة خاصة بالمؤمنين تضمنها اسمه الرحيم، وقالت امرأة العزيز بعد توبتها: { وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ } [يوسف:53]، فالآية اشتملت على الاسم والوصف معا، وقال سبحانه وتعالى: { وَإِذَا جَاءَكَ الذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنَا فَقُل سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } [الأنعام:54]، ووجه الدلالة في أن الرحيم هو المتصف بالرحمة الخاصة أن الله عز وجل كتب على نفسه الرحمة لأنه الغفور الرحيم، ولا تلحق هذه الرحمة كما ورد في الآية إلا المؤمنين التائبين المصلحين، ومن الأدلة التي تتضمن الاسم ودلالته على الوصف معا قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَآمِنُوا بِرَسُولهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } [الحديد:28]، وقال تعالى عن نبيه نوح - عليه السلام - ومن ركب معه السفينة: { وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ } [هود:41]، ومعلوم أن من ركب السفينة هم أهل التوحيد والإيمان، وقال تعالى عن رحمته التي شملت أهل الجنان: { لَهُمْ(1/366)
فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ } [يس:57/58]، والأدلة في ذلك كثيرة وتتبعها في القرآن والسنة يطول، فالرحيم ورد في أغلب النصوص على أنه المتصف بالرحمة الخاصة، والاسم يدل باللزوم على ما دل عليه اسمه الرحمن، ويدل أيضا على الأوصاف المتعلقة بالرحمة الخاصة لأن رحمة الله للمؤمنين تدل على اتصافه باللطف والحلم والرأفة، والكرم والإحسان والود، والمنة والعفو والرفق، وكل ما يرافق الرحمة الخاصة التي يرحم الله بها أهل طاعته، واسم الله الرحيم دل على صفة من صفات الأفعال لأنها تتعلق بمشيئته .(1/367)
وتجدر الإشارة إلى أن اسمي الله الرحمن الرحيم يجتمعان في المعنى من جهة تعلقهما بالمشيئة، ويفترقان من جهة تعلقهما بالحكمة، فالرحمن دل على الرحمة العامة والرحيم دل على الخاصة، فمن الوجه الأول ورد الجمع بينهما في حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - الذي رواه الطبراني وحسنه الألباني أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لمعاذ - رضي الله عنه -: ( ألا أعَلمُك دُعاء تَدعو به لو كَان عليكَ مثل جبلِ أحدٍ دَيْنا لأدَّاه الله عنْكَ، قل يا معاذ: اللهمَّ مَالِكَ المُلكِ، تُؤْتِي المُلكَ مَنْ تَشَاءُ، وَتَنْزِعُ المُلكَ مِمَّنْ تَشَاءُ، وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ، وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، رَحمَن الدُنيا والآخِرَة ورَحيمَهما، تُعْطيهُما مَن تَشاء وتمنَعُ مِنْهما مَنْ تَشاء، ارحمني رَحمة تُغْنِيني بها عَن رَحمةِ مَنْ سِوَاك ) (1)، فلما ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - تعلق الرحمة بالمشيئة جمع بين الاسمين في المعنى، أما الوجه الثاني في تعلق الاسمين بالحكمة؛ فإن حكمة الله اقتضت أن تكون الدنيا قائمة على معنى الابتلاء ويناسبها الرحمة العامة، و أن تكون الآخرة قائمة على معنى الجزاء ويناسبها الرحمة الخاصة، والأدلة السابقة كافية في إظهار الفرق بينهما .
4- الدعاء بالاسم دعاء مسألة:
__________
(1) رواه الطبراني في الصغير بإسناد جيد، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (1821) .(1/368)
ورد دعاء المسألة بالاسم المطلق في قوله تعالى عن إبراهيم وولده إسماعيل عليهما السلام: { رَبَّنَا وَاجْعَلنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } [البقرة:128]، وقوله تعالى في شأن موسى - عليه السلام -: { قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ } [القصص:16]، وقوله سبحانه عن أهل الجنة: { إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ البَرُّ الرَّحِيمُ } [الطور:28]، ودعاء أهل الجنة يشمل دعاء المسألة ودعاء العبادة .(1/369)
ومما ورد في السنة من الدعاء بالاسم المطلق ما رواه البخاري من حديث أبي بكرٍ - رضي الله عنه - أنه قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - : ( عَلِّمْنِي دُعَاءً أَدْعُو بِهِ فِي صَلاَتِي، قَالَ: قُلِ اللهمَّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْمًا كَثِيرًا وَلاَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ أَنْتَ، فَاغْفِرْ لِي مَغْفِرَةً مِنْ عِنْدِكَ وَارْحَمْنِي إِنَّكَ أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ) (1)، وعند النسائي وصححه الشيخ الألباني من حديث حنظلة بن علي - رضي الله عنه - أن محجن بن الأدرع حدثه: ( أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - دَخَلَ المَسْجِدَ، إذَا رَجُلٌ قَدْ قَضَى صَلاَتَهُ وَهُوَ يَتَشَهَّدُ، فَقَال َ: اللهُمَّ إنِّي أَسْأَلُكَ يَا أَللهُ بِأَنَّكَ الوَاحِدُ الأَحَدُ الصَّمَدُ الذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ أَنْ تَغْفِرَ لِي ذُنُوبِي إنَّكَ أَنْتَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : قَدْ غُفِرَ لَهُ ثَلاَثاً ) (2)، وعند أبي داود وصححه الألباني عن واثلة بن الأسقع - رضي الله عنه - أنه قال: ( صَلى بِنَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: اللهُمَّ إِنَّ فُلاَنَ بْنَ فُلاَنٍ فِي ذِمَّتِكَ وَحَبْلِ جِوَارِكَ، فَقِهِ مِنْ فِتْنَةِ الْقَبْرِ وَعَذَابِ النَّارِ وَأَنْتَ أَهْلُ الْوَفَاءِ وَالْحَمْدِ، اللهُمَّ فَاغْفِرْ لَهُ وَارْحَمْهُ إِنَّكَ أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ) (3)، وعنده أيضا وصححه الألباني من دعاء ابن مسعود - رضي الله عنه -: (
__________
(1) البخاري في كتاب الدعوات، باب الدعاء قبل السلام 1/286 (799) .
(2) النسائي في السهو، باب الدعاء بعد الذكر1/386 (1224)، صحيح أبي داود 2/185(869) .
(3) أبو داود في الجنائز، باب الدعاء للميت 3/211 (3202)، صحيح أبي داود 2/617 (2742) .(1/370)
اللهمَّ أَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِنَا وَأَصْلِحْ ذَاتَ بَيْنِنَا وَاهْدِنَا سُبُلَ السَّلاَمِ، وَنَجِّنَا مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ، وَجَنِّبْنَا الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ، وَبَارِكْ لَنَا فِي أَسْمَاعِنَا وَأَبْصَارِنَا وَقُلُوبِنَا وَأَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا، وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ، وَاجْعَلنَا شَاكِرِينَ لِنِعْمَتِكَ مُثْنِينَ بِهَا قَابِلِيهَا وَأَتِمَّهَا عَلَيْنَا ) (1) .
ومما ورد من الدعاء بوصف الرحمة الخاصة الذي تضمنه اسم الله الرحيم قوله تعالى في شأن موسى - عليه السلام -: { قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ } [الأعراف:151]، وقوله عن أيوب - عليه السلام -: { وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ } [الأنبياء:83]، وعند البخاري من حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت: ( سَمِعَ النبي - صلى الله عليه وسلم - رَجُلاً يَقْرَأُ في المَسْجِدِ؛ فَقَالَ: رَحِمَهُ الله، لَقَدْ أذكرني كَذَا وَكَذَا آيَةً، أَسْقَطْتُهُنَّ مِنْ سُورَةِ كَذَا وَكَذَا ) (2)، وعنده في رواية أخرى قالت عائشة: (تَهَجَّدَ النبي - صلى الله عليه وسلم - في بيتي فَسَمِعَ صَوْتَ عَبَّادٍ يُصَلِّي في المَسْجِدِ فَقَالَ: يَا عَائِشَةُ، أَصَوْتُ عَبَّادٍ هَذَا؟، قُلتُ: نَعَمْ ، قَالَ: اللهمَّ ارْحَمْ عَبَّادًا ) (3) .
__________
(1) أبو داود في الصلاة، باب التشهد 1/254 (969) .
(2) البخاري في الشهادات، باب شهادة الأعمى وأمره ونكاحه وإنكاحه ومبايعته 2/940 (2512) .
(3) الموضع السابق .(1/371)
ومما يدل على دعاء المسألة مقتضى الطلب أو الخبر الذي يتضمنه كما ورد في قوله تعالى: { إِنَّ الذِينَ آمَنُوا وَالذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ الله أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ الله وَالله غَفُورٌ رَحِيمٌ } [البقرة:218]، فالمسلم يقول: اللهم إني أرجو رحمتك إنك أنت الغفور الرحيم، وقوله: { وَمَنْ يَعْمَل سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ الله يَجِدِ الله غَفُوراً رَحِيماً } [النساء:110]، فيقول: اللهم إني عملت سوءا وظلمت نفسي فاغفر لي إنك أنت الغفور الرحيم، وقوله تعالى: { أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى الله وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَالله غَفُورٌ رَحِيمٌ } [المائدة:74]، اللهم إني أتوب إليك وأستغفرك إنك أنت الغفور الرحيم .
5- الدعاء بالاسم دعاء عبادة:(1/372)
دعاء العبادة باسم الله الرحيم هو امتلاء القلب برحمة الولاء ورقة الوفاء التي تدفع إلى حب المؤمنين وبغض الكافرين، وأسوتنا في ذلك هو سيد الخلق أجمعين، قال تعالى: { لقَدْ جَاءَكُمْ رَسُول مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَليْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَليْكُمْ بِالمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ } [التوبة:128]، وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - رحيما بأصحابه رفيقا حبيبا قريبا صديقا، روى البخاري من حديث مالك بن الحويرث - رضي الله عنه - أنه قال: ( أَتَيْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فِي نَفَرٍ مِنْ قَوْمِي فَأَقَمْنَا عِنْدَهُ عِشْرِينَ ليْلةً، وَكَانَ رَحِيمًا رَفِيقًا، فَلمَّا رَأَى شَوْقَنَا إِلى أَهَالينَا قَال: ارْجِعُوا فَكُونُوا فِيهِمْ وَعَلمُوهُمْ وَصَلوا، فَإِذَا حَضَرَتِ الصَّلاَةُ فَليُؤَذّنْ لكُمْ أَحَدُكُمْ وَليَؤُمَّكُمْ أَكْبَرُكُمْ ) (1)، وعند مسلم من حديث عياض - رضي الله عنه - أن رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَال ذات يوم في خطبته: ( وَأَهْل الجَنَّةِ ثَلاَثَةٌ، ذُو سُلطَانٍ مُقْسِطٌ مُتَصَدِّقٌ مُوَفَّقٌ، وَرَجُل رَحِيمٌ رَقِيقُ القَلبِ لكُل ذِي قُرْبَى، وَمُسْلمٍ وَعَفِيفٌ مُتَعَفِّفٌ ذُو عِيَال ) (2)، فالطاعة تدفع إلى الرحمة والعفو والمغفرة، وتوحيد الله يستوجب الفوز والنجاة في الآخرة .
__________
(1) البخاري في كتاب الأذان، باب من قال ليؤذن في السفر مؤذن واحد 1/226 (602) .
(2) مسلم في كتاب الجنة، باب التي يعرف بها في الدنيا أهل الجنة وأهل النار 4/2197 (2865) .(1/373)
وممن تسمى عبد الرحيم أبو زياد المحاربي الكوفي عبد الرحيم بن عبد الرحمن بن محمد (ت:211)، وأخرج له البخاري في صحيحه قال: ( حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحِيمِ المُحَارِبِيُّ قَال: حَدَّثَنَا زَائِدَةُ عَنْ حُمَيْدٍ الطَّوِيل عَنْ أَنَسٍ - رضي الله عنه - قَال: أَخَّرَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - صَلاَةَ العِشَاءِ إِلى نِصْفِ الليْل، ثُمَّ صَلى ثُمَّ قَال: قَدْ صَلى النَّاسُ وَنَامُوا، أَمَا إِنَّكُمْ فِي صَلاَةٍ مَا انْتَظَرْتُمُوهَا ) (1) .
********************************************
3- الله - جل جلاله - المَلِكُ
********************************
1- الدليل على ثبوت الاسم وإحصائه:
اسم الله الملك ورد في القرآن والسنة مطلقا معرفا بالألف واللام مرادا به العلمية ودالا على كمال الوصفية، وقد ورد المعنى مسندا إليه محمولا عليه، ومن ذلك ما ورد في قوله تعالى: { هُوَ اللهُ الذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ المَلِكُ القُدُّوسُ السَّلامُ المُؤْمِنُ المُهَيْمِنُ العَزِيزُ الجَبَّارُ المُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُون َ } [الحشر:23]، وقوله: { فَتَعَالَى اللهُ المَلِكُ الحَقُّ لا إِلَهَ إِلا هُوَ رَبُّ العَرْشِ الكَرِيم ِ } [المؤمنون:116] .
__________
(1) البخاري في مواقيت الصلاة، باب وقت العشاء إلى نصف الليل 1/209 (546) .(1/374)
وعند مسلم من حديث عَلِىِّ - رضي الله عنه - في دعاء النبي - إِذَا قَامَ إِلَى الصَّلاَةِ: ( اللهُمَّ أَنْتَ المَلِكُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ .. الحديث ) (1)، وعند البخاري من حديث أبي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - يَقُولُ: ( يَقْبِضُ اللهُ الأَرْضَ وَيَطْوِى السماوات بِيَمِينِهِ ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا المَلِكُ، أَيْنَ مُلُوكُ الأَرْضِ ) (2)، وعند مسلم من حديث أَبِى هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - أن رَسُولِ اللهِ - قَالَ: ( يَنْزِلُ اللهُ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا كُل لَيْلَةٍ حِينَ يَمْضِي ثُلُثُ الليْلِ الأَوَّلُ فَيَقُولُ: أَنَا المَلِكُ، أَنَا المَلِكُ، مَنْ ذَا الذِي يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ؟ .. الحديث ) (3) .
2- الشرح والتفسير:
__________
(1) مسلم في صلاة المسافرين، باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه 1/535 (771) .
(2) البخاري في التفسير، باب قوله والأرض جميعا قبضته 4/1812 (4534) .
(3) مسلم في صلاة المسافرين، باب الترغيب في الدعاء 1/522 (758) .(1/375)
أصل الملك في اللغة الربط والشد، قال ابن فارس: ( أصل هذا التركيب يدل على قوة في الشيء وصحة، ومنه قولهم: ملكت العجين أملكه ملكا إذا شددت عجنه وبالغت فيه ) (1)، والملك هو النافذ الأمر في ملكه، إذ ليس كل مالك ينفذ أمره وتصرفه فيما يملكه، فالملك أعم من المالك (2)، والملك الحقيقي هو الله وحده لا شريك له، ولا يمنع ذلك وصف غيره بالملك كما قال: { وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُل سَفِينَةٍ غَصْباً } [الكهف:79]، فهذا ملك مخلوق وملكه مقيد محدود، أما الملك الحق فهو الذي أنشأ الملك وأقامه بغير معونة من الخلق، وصرف أموره بالحكمة والعدل والحق، وله الغلبة وعلو القهر على من نازعه في شيء من الملك .
فالملك سبحانه هو الذي له الأمر والنهي في مملكته، وهو الذي يتصرف في خلقه بأمره وفعله، وليس لأحد عليه فضل في قيام ملكه أو رعايته، قال تعالى: { قُلِ ادْعُوا الذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلا لِمَنْ أَذِنَ } [سبأ:22/23] .
__________
(1) انظر المغرب في ترتيب المعرب لابن المطرز 2/ 274، وانظر أيضا: النهاية في غريب الحديث 4/359 ولسان العرب 10/ 495، ومفردات ألفاظ القرآن ص472 بتصرف .
(2) تفسير أسماء الله الحسنى للزجاج ص30 .(1/376)
وهذه الآية تضمنت نفي جميع الوجوه التي تعلل بها المشركون في التعلق بمعبوداتهم فنفت الآية عن آلهتهم كل أوجه التأثير في الكون ممثلة في نفي الملك التام، وذلك لانعدام ربوبيتهم فلا يخلقون في الكون شيئا، ولا يدبرون فيه أمرا، وكذلك نفي المشاركة لله في الملك بأن يكون لهم نصيب وله نصيب، فنفت عن آلهتهم أن تملك مثقال ذرة في السماوات والأرض، ونفت أيضا وجود الظهير والمعين، فقد يدعى بعض المشركين أن آلهتهم لا يملكون شيئا ولا يشاركون الله في الملك لكنها تعد ظهيرا له أو معينا؛ أو مشيرا أو وزيرا يعاون الله في تدبير الخلق والقيام على شئونه، ثم نفي الله عنهم آخر ما تعلقوا به وهي الشفاعة من غير إذن، فقد جعلوا معبوداتهم وسطاء عند الله فقالوا: { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى } [الزمر:3]، فأخبر سبحانه أنه لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، فهو الذي يأذن للشافع والمشفوع فيه، وهو الذي يحدد لهم نوعية الشفاعة (1)، فالأدلة مجتمعة على أنه لا خالق للكون إلا الله، ولا مدبر له سواه، وأنه الملك الحق الدائم القائم بسياسة خلقه إلى غايتهم .
3- دلالة الاسم على أوصاف الله:
__________
(1) مجموع الفتاوى 11/528، والصواعق المرسلة 2/462 .(1/377)
الملك اسم يدل على ذات الله وعلى صفة الملك بدلالة المطابقة، وعلى ذات الله وحدها بالتضمن، وعلى الصفة وحدها بالتضمن، فالملك من بيده الملك المطلق التام الذي لا يشاركه أحد فيه، قال تعالى: { تَبَارَكَ الذِي بِيَدِهِ المُلك وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [الملك:1]، وقال سبحانه: { الذِي لَهُ مُلكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي المُلكِ } [الفرقان:2]، وقال أيضا: { ذَلِكُمُ الله رَبُّكُمْ لَهُ المُلكُ وَالذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِير ٍ } [فاطر:13]، واسم الله الملك يدل باللزوم على الحياة والقيومية، والعلو والأحدية، والسيادة والصمدية، والعلم والمشيئة والقدرة والسمع والبصر والقوة، والعدل والحكمة والعظمة، فلا يتصور ملك دائم له الملك التام المطلق بغير هذه الصفات وغير ذلك من صفات الكمال، فالملك الحق هو الذي يستغني بذاته وصفاته عن كل ما سواه، ويفتقر إليه كل موجود سواه .
ومن أهم القضايا المتعلقة بدلالة اللزوم إثبات علو الملك وفوقيته واستوائه على عرشه، وإذا كان كل ملك في الدنيا يلزمه لإثبات ملكه أن يستوي على عرشه مع دوام فوقيته وعلوه، فالملك الخالق أولى بالكمال من المخلوق؛ لاسيما أن الله أثبت ذلك لنفسه فقال: { الرَّحْمَنُ عَلى العَرْشِ اسْتَوَى } [طه:5]، فإثبات استواء الله على عرشه من لوازم توحيده في اسمه الملك، ولذلك قال تعالي: { فَتَعَالى اللهُ المَلكُ الحَقُّ لا إِلهَ إِلا هُوَ رَبُّ العَرْشِ الكَرِيم ِ } [المؤمنون:116]، واسم الله الملك دل على صفة من صفات الذات .
4- الدعاء بالاسم دعاء مسألة:(1/378)
ورد الدعاء بالاسم المطلق فيما رواه مسلم من حديث علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - في دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا قام إلى الصلاة: ( اللهُمَّ أَنْتَ المَلِكُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ، أَنْتَ رَبِّي وَأَنَا عَبْدُكَ، ظَلَمْتُ نفسي وَاعْتَرَفْتُ بِذَنْبِي، فَاغْفِرْ لي ذُنُوبِي جَمِيعًا، إِنَّهُ لاَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ أَنْتَ .. الحديث ) (1) ، وفي دعاء المسألة بالوصف قال الله تعالى: { قُلِ اللهمَّ مَالِكَ المُلكِ تُؤْتِي المُلكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ المُلكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [آل عمران:26]، وقال عن يوسف - عليه السلام -: { رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ المُلكِ وَعَلمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ } [يوسف:101]، وفي دعاء سليمان - عليه السلام -: { قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلكاً لا يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الوَهَّابُ } [ص:35] .
__________
(1) مسلم في صلاة المسافرين، باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه 1/535 ( 771) .(1/379)
وعند البخاري من حديث المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول في دبر كل صلاة إذا سلم: ( لاَ إِلَهَ إِلاَّ الله، وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلكُ وَلَهُ الحَمْدُ وَهْوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، اللهمَّ لاَ مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ، وَلاَ مُعْطِي لِمَا مَنَعْتَ، وَلاَ يَنْفَعُ ذَا الجَدِّ مِنْكَ الجَدُّ ) (1)، وروى مسلم من حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أمسى قال: ( أَمْسَيْنَا وَأَمْسَى المُلكُ للهِ، وَالحَمْدُ للهِ، لاَ إِلَهَ إِلاَّ الله وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلكُ وَلَهُ الحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ .. الحديث ) (2)، وعند ابن ماجة وصححه الألباني من حديث جابر - رضي الله عنه - في وصف حجة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ( ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الْبَيْتِ، فَاسْتَلَمَ الرُّكْنَ، ثُمَّ خَرَجَ مِنَ الْبَابِ إِلَى الصَّفَا، حَتَّى إِذَا دَنَا مِنَ الصَّفَا قَرَأَ: { إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ } [البقرة:158]، نَبْدَأُ بِمَا بَدَأَ الله بِهِ، فَبَدَأَ بِالصَّفَا، فَرَقِىَ عَلَيْهِ حَتَّى رَأَى الْبَيْتَ فَكَبَّرَ الله وَهَللَهُ وَحَمِدَهُ، وَقَالَ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ الله وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شيء قَدِيرٌ، لاَ إِلَهَ إِلاَّ الله وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ أَنْجَزَ وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَهَزَمَ الأَحْزَابَ وَحْدَهُ، ثُمَّ دَعَا بَيْنَ ذَلِكَ ) (3)
__________
(1) البخاري في الدعوات، باب الدعاء بعد الصلاة، 5/2332 ( 5971) .
(2) مسلم في الذكر والدعاء، باب التعوذ من شر ما عمل ومن شر ما لم يعمل 4/2088 ( 2723) .
(3) ابن ماجة في المناسك، باب حجة رسول الله S 2/1022 (3074)، مشكاة المصابيح (2555) .(1/380)
.
5- الدعاء بالاسم دعاء عبادة:
دعاء العبادة هو أثر الإيمان بتوحيد الله في اسمه الملك، ويتجلى ذلك في تعظيم الملك ومحبته، وموالاته وطاعته، وتوحيده في عبوديته، والاستجابة لدعوته، والغيرة على حرمته، ومراقبته في السر والعلن، ورد الأمر إليه، وحسن التوكل عليه، ودوام الافتقار إليه، وأعظم جرم في حق الملك الأوحد منازعته على ملكه أو نسبة شيء منه إلى غيره، فصانع الشيء ومؤلفه هو مالكه المتصرف فيه، ولو اعتدى أحد عليه بسلب ملكه ونسبته إلى نفسه أو غيره، سواء بالفعل أو بالادعاء لكان ظالما مدعيا ما ليس له بحق، ومن ثم فإن الله عز وجل وله المثل الأعلى لما كان منفردا بالخلق والأمر وله كمال الملك من جهة الأصالة والاستحقاق، فإنه من الظلم العظيم أن يدعي أحد من الخلق ما ليس له بحق في أي معنى من معاني الربوبية، كما فعل فرعون وهامان وقارون والنمرود بن كنعان، أو ينسب لنفسه الملك على وجه الأصالة لا على وجه الأمانة والامتحان، فالإنية الشركية كانت ولا تزال مصدرا للظلم والطغيان وسوء الخاتمة، قال - عز وجل -: { الذِينَ آمَنُوا وَلمْ يَلبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلمٍ أُولئِكَ لهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ } [الأنعام:81/82]، روى البخاري من حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - لما نزلت هذه الآية قال: ( قُلنَا يَا رَسُول اللهِ: أَيُّنَا لاَ يَظْلمُ نَفْسَهُ؟ قَال: ليْسَ كَمَا تَقُولونَ: لمْ يَلبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلمٍ بِشِرْكٍ، أَوَلمْ تَسْمَعُوا إِلى قَوْل لقْمَانَ لاِبْنِهِ: { يَا بُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لظُلمٌ عَظِيمٌ } ) (1)، فالموحد يغار على الملك الأوحد أن يرى غيره يعبد في مملكته، ولذلك كان الشرك قبيحا في قلوب الموحدين، وكان توحيد الله - عز وجل - زينة حياة الموحدين .
__________
(1) البخاري في أحاديث الأنبياء، باب قوله واتخذ الله إبراهيم خليلا 3/1226(3181) .(1/381)
أما من جهة التسمية بعبد الملك والتعبد بهذا الاسم فكثير من السلف ورواة الحديث تسموا به، منهم عبد الملك بن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث، من صغار التابعين وهو ثقة، روى عنه البخاري من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( لاَ يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهْوَ مُؤْمِنٌ، وَلاَ يَشْرَبُ الخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهْوَ مُؤْمِنٌ وَلاَ يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهْوَ مُؤْمِنٌ ) (1) .
********************************
4- الله - جل جلاله - القُدُّوسُ
********************************
1- الدليل على ثبوت الاسم وإحصائه:
__________
(1) انظر مصنف عبد الرزاق 5/406، ومعرفة الثقات 2/101، والحديث رواه البخاري في كتاب الأشربة، باب النهبى بغير إذن صاحبه 2/875 (2343) .(1/382)
ورد الاسم في القرآن مطلقا معرفا ومنونا مرادا به العلمية ودالا على الوصفية وكمالها، وقد ورد المعنى مسندا إليه محمولا عليه في موضعين من القرآن، الأول في قوله تعالى: { هُوَ اللهُ الذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ المَلِكُ القُدُّوسُ السَّلامُ المُؤْمِنُ المُهَيْمِنُ العَزِيزُ الجَبَّارُ المُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ } [الحشر:23]، والثاني في قوله: { يُسَبِّحُ لِلهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ المَلِكِ القُدُّوسِ العَزِيزِ الحَكِيمِ } [الجمعة:1]، ومن السنة ما ورد عند مسلم من حديث عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ رَسُولَ اللهِ - كَانَ يَقُولُ فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ: ( سُبُّوحٌ قُدُّوسٌ رَبُّ المَلاَئِكَةِ وَالرُّوحِ ) (1)، وفي سنن أبي داوود وقال الألباني حسن صحيح من حديث شَرِيقٌ الهَوْزَنِي - رضي الله عنه - عن عَائِشَةَ رضي الله عنها قالت: ( كَانَ رَسُولُ اللهِ - إِذَا هَبَّ مِنَ الليْلِ كَبَّرَ عَشْرًا وَحَمِدَ عَشْرًا، وَقَالَ: سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ عَشْرًا، وَقَالَ: سُبْحَانَ المَلِكِ القُدُّوسِ عَشْرًا وَاسْتَغْفَرَ عَشْرًا وَهَللَ عَشْرًا .. الحديث ) (2) .
2- الشرح والتفسير:
__________
(1) مسلم في كتاب الصلاة، باب ما يقال في الركوع والسجود1/353 (487) .
(2) أبو داود في الأدب، باب ما يقول إذا أصبح 4/322 (5085)، صحيح أبي داود 3/958 (4242) .(1/383)
التقديس في اللغة التطهير، ومنه سميت الجنة حظيرة القدس كما ورد عند البزار من حديث أنس - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال عن رب العزة: ( من ترك الخمر وهو يقدر عليه لأسقينه منه في حظيرة القدس، ومن ترك الحرير وهو يقدر عليه لأكسونه إياه في حظيرة القدس ) (1)، وكذلك سمى جبريل - عليه السلام - روح القدس قال تعالى: { قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ } [النحل:102] (2) .
والقداسة تعني الطهر والبركة، وقدس الرجل ربه أي عظمه وكبره، وطهر نفسه بتوحيده وعبادته، ومحبته وطاعته , ومن ذلك قول الملائكة: { وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ } [البقرة:30]، فالقدوس لغة يعني المطهر المنزه عن كل نقص المتصف بكل أنواع الكمال (3) .
__________
(1) مسند البزار 3/181 (3584) والحديث صحيح لغيره، انظر صحيح الترغيب والترهيب (2375) .
(2) تفسير البيضاوي 3/420، ودقائق التفسير لابن تيمية 1/310 .
(3) لسان العرب 6/168، وشرح أسماء الله الحسنى للرازي ص94، والمقصد الأسنى ص65 .(1/384)
والقدوس سبحانه هو المنفرد بأوصاف الكمال الذي لا تضرب له الأمثال، فهو المنزه المطهر الذي لا نقص فيه بوجه من الوجوه، والتقديس الذي هو خلاصة التوحيد الحق إفراد الله سبحانه بذاته وأصافه وأفعاله عن الأقيسة التمثيلية والقواعد الشمولية والقوانين التي تحكم ذوات المخلوقين وأصافهم وأفعالهم، فالله عز وجل نزه نفسه عن كل نقص فقال: { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } [الشورى:11]، فلا مثيل له نحكم على كيفية أوصافه من خلاله، ولا يستوي مع سائر الخلق فيسري عليه قانون أو قياس أو قواعد تحكمه كما تحكمهم لأنه القدوس المطهر المتصف بالتوحيد المنفرد عن أحكام العبيد، ثم أثبت الله لنفسه أوصاف الكمال والجمال؛ فقال سبحانه بعد نفي النقص مطلقا وجملة: { وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } [الشورى:11] فلا يكون التقديس تقديسا ولا التنزيه تنزيها إلا بنفي وإثبات، ومن ثم لا يجوز في حق الله قياس تمثلي أو شمولي وإنما يجوز في حقه قياس الأولى لقوله تعالى: { وَلِلهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى } [النحل:60] (1).
3- دلالة الاسم على أوصاف الله:
اسم الله القدوس يدل على ذات الله وعلى صفة القدسية كوصف ذات والتقديس كوصف فعل بدلالة المطابقة، فالله عز وجل مقدس في ذاته منزه عن كل نقص وعيب لأنه متصف بكل أنواع الكمال، وهو المستحق للتقديس والعظمة والجلال ولذلك قالت الملائكة: { وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ } [البقرة:30] .
__________
(1) انظر مختصر القواعد السلفية في الصفات الربانية للمؤلف، محذورات القاعدة الأولى ص 13 .(1/385)
وهو سبحانه أيضا يقدس من شاء من خلقه وفق مراده وحكمه، فالتقديس وصف فعله كما ورد في حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( إِنَّ الله عَزَّ وَجَل لاَ يُقَدِّسُ أُمَّةً لاَ يُؤْخَذُ لِلضَّعِيفِ فِيهِمْ حَقُّهُ ) (1)، وفي رواية أبي سفيان بن الحارث - رضي الله عنه -: ( إِنَّ الله لاَ يُقَدِّسُ أُمَّةً لاَ يَأْخُذُ الضَّعِيفُ حَقَّهُ مِنَ القَوِىِّ وَهُوَ غَيْرُ مُتَعْتَعٍ ) (2)، وعند ابن ماجة وصححه الألباني من حديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( كَيْفَ يُقَدِّسُ الله أُمَّةً لاَ يُؤْخَذُ لِضَعِيفِهِمْ مِنْ شَدِيدِهِمْ ) (3) .
واسم الله القدوس يدل على ذات الله وحدها بالتضمن، وعلى الصفة وحدها بالتضمن وعليهما معا بالمطابقة، ويدل باللزوم على الحياة والقيومية، والعلو والأحدية والغني والصمدية، والملك والفوقية، وكل ما يلزم لمعنى القدسية ونفي الشبيه والمثلية فلا بد لمن تزه عن كل نقص وعيب من الغنى بالنفس وعلو الشأن في كل اسم ووصف، واسم الله القدوس دل على صفة من صفات الذات والأفعال.
4- الدعاء بالاسم دعاء مسألة:
__________
(1) انظر صحيح الجامع حديث رقم (1858) .
(2) السابق حديث رقم (1857) .
(3) ابن ماجة في الفتن، باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر 2/1329 (4010)، وانظر تصحيح الشيخ الألباني في ظلال الجنة في تخريج السنة (582) .(1/386)
ورد الدعاء بالاسم المطلق عند أبي داود وقال الألباني: حسن صحيح من حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت: ( كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا هَبَّ مِنَ الليْلِ كَبَّرَ عَشْرًا وَحَمِدَ عَشْرًا، وَقَالَ: سُبْحَانَ الله وَبِحَمْدِهِ عَشْرًا، وَقَالَ: سُبْحَانَ المَلِكِ القُدُّوسِ عَشْرًا وَاسْتَغْفَرَ عَشْرًا، وَهَللَ عَشْرًا، ثُمَّ قَالَ: اللهمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ ضِيقِ الدُّنْيَا وَضِيقِ يَوْمِ القِيَامَةِ عَشْرًا، ثُمَّ يَفتَتِحُ الصَّلاَةَ ) (1)، وعند مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول في ركوعه وسجوده: ( سُبُّوحٌ قُدُّوسٌ رَبُّ المَلاَئِكَةِ وَالرُّوحِ ) (2)، وهو دعاء ثناء ومدح له وجه في دعاء المسألة .
__________
(1) أبو داود في الأدب، باب ما يقول إذا أصبح 4/322 ( 5085) .
(2) مسلم في الصلاة، باب ما يقال في الركوع والسجود1/353 (487) .(1/387)
ومما ورد في الدعاء بالوصف الذي تضمنه الاسم ما رواه البيهقي وصححه الألباني من حديث بريدة - رضي الله عنه - قال: ( لَمَّا قَدِمَ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ مِنْ أَرْضِ الْحَبَشَةِ لَقِيَهُ النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: أخبرني بِأَعْجَبِ شيء رَأَيْتَهُ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ، قَالَ: مَرَّتِ امْرَأَةٌ عَلَى رَأْسِهَا مِكْتَلٌ فِيهِ طَعَامٌ؛ فَمَرَّ بِهَا رَجُلٌ عَلَى فَرَسٍ فَأَصَابَهَا فَرَمَى بِهِ؛ فَجَعَلْتُ أَنْظُرُ إِلَيْهَا وَهِي تُعِيدُهُ في مِكْتَلِهَا، وَهِي تَقُولُ: وَيْلٌ لَكَ يَوْمَ يَضَعُ الْمَلِكُ كُرْسِيَّهُ فَيَأْخُذُ لِلمَظْلُومِ مِنَ الظالِمِ فَضَحِكَ النبي - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ؛ فَقَالَ: كَيْفَ تُقَدَّسُ أَمَّةٌ لاَ تَأْخُذُ لِضَعِيفِهَا مِنْ شَدِيدِهَا حَقَّهُ وَهُوَ غَيْرُ مُتَعْتَعٍ ) (1)، وفي رواية قال بريدة: ( كيف يقدس الله أمة لا يأخذ ضعيفها حقه من قويها ) (2) .
5- الدعاء بالاسم دعاء عبادة:
__________
(1) سنن البيهقي الكبرى 6/95 (11294)، وانظر ظلال الجنة في تخريج السنة لابن أبي عاصم (582) .
(2) صحيح الجامع (4597) .(1/388)
يتجلى توحيد المسلم لربه في اسمه القدوس من خلال تنزيهه عن أقيسة التمثيل والشمول التي تحكمنا وتحكم أوصافنا، كما أنه ينزه الله عن وصف العباد له إلا ما وصف المرسلون، قال تعالى: { سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ العِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلامٌ عَلى المُرْسَلينَ وَالحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالمِينَ } [الصافات:182]، فيصف الله بما وصف به نفسه وبما وصفه به رسوله - صلى الله عليه وسلم - من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، ويعلم أن ما وُصِف الله به من ذلك فهو حق ليس فيه لغز ولا أحاجي، لاسيما إذا كان المتكلم أعلم الخلق وأفصحهم في البيان والدلالة والإرشاد، وهو سبحانه مع ذلك ليس كمثله شيء لا في نفسه المقدسة المذكورة بأسمائه وصفاته ولا في أفعاله (1) .
ومن دعاء العبادة أيضا أن ينزه المسلم نفسه عن المعاصي والذنوب، ويطلب المعونة من ربه أن يحفظه في سمعه وبصره وبدنه من جميع النقائص والعيوب .
أما من جهة التسمية بعبد القدوس فقد تسمى به عبد القدوس بن الحجاج أبو مغيرة الخولاني الحمصي (ت:212)، روى البخاري عنه قال: ( حَدَّثَنَا أَبُو المُغِيرَةِ عَبْدُ القُدُّوسِ بْنُ الحَجَّاجِ، حَدَّثَنَا الأَوْزَاعِيُّ، حَدَّثَنِي عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - تَزَوَّجَ مَيْمُونَةَ وَهُوَ مُحْرِمٌ ) (2) .
********************************
5- الله - جل جلاله - السَّلامُ
********************************
1- الدليل على ثبوت الاسم وإحصائه:
__________
(1) انظر في ذلك: الأربلية ضمن مجموع فتاوى ابن تيمية 5/195، والعقيدة الأصفهانية 2/25، والعقيدة الواسطية 3/130، والفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان 11/250، والكيلانية 12/446، وقاعدة في الكلام علي المرشدة 11/480 .
(2) البخاري في كتاب الأشربة، باب تزويج المحرم 2/652 (1740) .(1/389)
لم يرد الاسم في القرآن إلا في موضع واحد وهو قوله تعالى: { هُوَ اللهُ الذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ المَلِكُ القُدُّوسُ السَّلامُ المُؤْمِنُ المُهَيْمِنُ العَزِيزُ الجَبَّارُ المُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ } [الحشر:23]، وفي هذا الموضع ورد مطلقا معرفا مرادا به العلمية ومسندا إليه المعنى محمولا عليه ودالا على الوصفية وكمالها .
وعند البخاري من حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: ( كُنَّا إِذَا صَليْنَا خَلفَ النَّبِيِّ - قُلنَا: السَّلاَمُ عَلَى جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ، السَّلاَمُ عَلَى فُلاَنٍ وَفُلاَنٍ، فَالتَفَتَ إِلَيْنَا رَسُولُ اللهِ - فَقَالَ: إِنَّ اللهَ هُوَ السَّلاَمُ .. الحديث ) (1)، وفي صحيح مسلم من حديث ثَوْبَانَ - رضي الله عنه - أنه قَالَ: ( كَانَ رَسُولُ اللهِ - إِذَا انْصَرَفَ مِنْ صَلاَتِهِ اسْتَغْفَرَ ثَلاَثًا وَقَالَ: اللهُمَّ أَنْتَ السَّلاَمُ وَمِنْكَ السَّلاَمُ تَبَارَكْتَ ذَا الجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ ) (2)، وفي صحيح الجامع من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - قال: ( إن السلام اسم من أسماء الله تعالى فأفشوه بينكم ) (3) .
2- الشرح والتفسير:
__________
(1) البخاري في كتاب الأذان، باب التشهد في الآخرة 1/286 (797) .
(2) مسلم في كتاب المساجد، باب استحباب الذكر بعد الصلاة 1/414 (591) .
(3) صحيح الجامع 11/131، وانظر الأدب المفرد، باب السلام اسم من أسماء الله 1/343 (989) .(1/390)
السلام في اللغة مصدر استعمل اسما للموصوف بالسلامة، فعله سلم يسلم سلاما وسلامة، والسلامة الأمن والأمان والحصانة والاطمئنان، والبراءة من كل آفة ظاهرة وباطنة، والخلاص من كل مكروه وعيب (1)، ومادة السلام تدل على الخلاص والنجاة، وقيل للجنة دار السلام لأنها دار السلامة من الهموم والآفات، باقية بنعيمها وأهلها في أمان ما دامت السماوات والأرض، قال تعالى: { لَهُمْ دَارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [الأنعام:127] (2)، ومن السلامة أيضا التحية الخالصة من سوء الطوية وخبث النية، فسميت التحية في الإسلام سلاما، روى البخاري من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - أن النَّبِيِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: ( خَلَقَ الله آدَمَ وَطولهُ سِتُّونَ ذِرَاعًا، ثمَّ قال اذْهَبْ فَسَلِّمْ عَلَى أُولَئِكَ مِنَ الْمَلاَئِكَةِ فَاسْتَمِعْ مَا يُحَيُّونَكَ، تَحِيَّتُكَ وَتَحِيَّةُ ذُرِّيَّتِكَ، فقال السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ، فَقَالُوا: السَّلاَمُ عَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللهِ، فَزَادُوهُ وَرَحْمَةُ اللهِ ) (3) .
__________
(1) لسان العرب 12/289، والمغرب في ترتيب المعرب 1/411 .
(2) اشتقاق أسماء الله للزجاج ص216 .
(3) البخاري في أحاديث الأنبياء، باب خلق آدم صلوات الله عليه 3/1210 (3148) .(1/391)
والله عز وجل هو السلام لسلامته من النقائص والعيوب، فهو الذي سَلَِم في ذاته بنوره وجلاله، فمن جماله وسبحات وجهه احتجب عن خلقه رحمة بهم وابتلاء لهم روى مسلم من حديث أَبِي مُوسَى - رضي الله عنه - أن النبي قال - صلى الله عليه وسلم - : ( حِجَابُهُ النُّورُ لَوْ كَشَفَهُ لأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ ) (1)، وهو الذي سَلَِم في صفاته بكمالها وعلو شأنها، وسلم أيضا في أفعاله بإطلاق قدرته وإنفاذ مشيئته، وكمال عدله وبالغ حكمته، وهو سبحانه الذي يدعو عباده إلى السلامة وإفشاء السلام فأثنى على عباده في قوله: { وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً } [الفرقان:63]، وهو الذي يدعو إلى سبل السلام باتباع منهج الإسلام كما قال: { يَهْدِي بِهِ الله مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ } [المائدة:16]، وهو سبحانه الذي يدعو عباده إلى دار السلام ويبلغ من استجاب منهم إليها فقال: { وَاللهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } [يونس:25]، فكل سلامة منشأها منه وتمامها عليه ونسبتها إليه (2) .
3- دلالة الاسم على أوصاف الله:
__________
(1) مسلم في كتاب الإيمان، باب في قوله عليه السلام إن الله لا ينام1/161 (179) .
(2) شرح أسماء الله الحسنى للرازي ص196، والأسماء والصفات للبيهقي ص53، والمقصد الأسنى ص67 .(1/392)
هذا الاسم يدل على ذات الله وعلى صفة السلامة كوصف ذات والتسليم كوصف فعل بدلالة المطابقة، وعلى ذات الله وحدها بالتضمن، وعلى الصفة وحدها بالتضمن، فالسلامة وصف ذاته لسلامته من النقائص والعيوب، ووصف فعله لأنه سلم من شاء من خلقه على مقتضى حكمته وأمره، فهو جل شأنه السلام ومنه السلام، روى مسلم من حديث ثوبان - رضي الله عنه - مرفوعا: ( اللهُمَّ أَنْتَ السَّلاَمُ وَمِنْكَ السَّلاَمُ تَبَارَكْتَ ذَا الجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ ) (1)، وهو الذي سلم أهل الجنة من كل ما ينغص عيشهم أو يكدر صفوهم، وجعل السلام أيضا من قوله لهم، قال تعالى: { لَهُمْ دَارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [الأنعام:127]، وقال سبحانه: { سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ } [يس:58]، واسم الله السلام يدل باللزوم على الحياة والقيومية والعزة والقدسية، والغني والصمدية، والحكمة والأحدية، وغير ذلك من صفات الكمال، واسم الله السلام دل على صفة من صفات الذات والأفعال .4- الدعاء بالاسم دعاء مسألة:
ورد دعاء المسألة بالاسم المطلق عند مسلم من حديث ثوبان - رضي الله عنه - أنه قال: ( كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا انْصَرَفَ مِنْ صَلاَتِهِ اسْتَغْفَرَ ثَلاَثًا وَقَالَ: اللهُمَّ أَنْتَ السَّلاَمُ وَمِنْكَ السَّلاَمُ تَبَارَكْتَ ذَا الجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ ) (2) .
__________
(1) مسلم في كتاب المساجد، باب استحباب الذكر بعد الصلاة 1/414 (591) .
(2) مسلم في كتاب المساجد، باب استحباب الذكر بعد الصلاة 1/414 (591) .(1/393)
وورد الدعاء بالوصف الذي دل عليه الاسم فيما رواه البخاري من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( فَيَأْتِيهِمُ الله فَيَقُولُ: أَنَا رَبُّكُمْ، فَيَقُولُونَ: أَنْتَ رَبُّنَا فَيَدْعُوهُمْ فَيُضْرَبُ الصِّرَاطُ بَيْنَ ظهراني جَهَنَّمَ، فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يَجُوزُ مِنَ الرُّسُلِ بِأُمَّتِهِ وَلاَ يَتَكَلمُ يَوْمَئِذٍ أَحَدٌ إِلاَّ الرُّسُلُ، وَكَلاَمُ الرُّسُلِ يَوْمَئِذٍ اللهمَّ سَلّمْ سَلّمْ ) (1)، وعند مسلم من حديث حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( وَنَبِيُّكُمْ قَائِمٌ عَلَى الصِّرَاطِ يَقُولُ: رَبِّ سَلمْ سَلمْ، حَتَّى تَعْجِزَ أَعْمَالُ الْعِبَادِ، حَتَّى يجيء الرَّجُلُ فَلاَ يَسْتَطِيعُ السَّيْرَ إِلاَّ زَحْفًا ) (2)، ومن الدعاء بمقتضى الاسم ما رواه الترمذي وصححه الألباني من حديث طلحة بن عبيد الله - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا رأى الهلال قال: ( اللهمَّ أَهْلِلْهُ عَلَيْنَا بِالْيُمْنِ وَالإِيمَانِ وَالسَّلاَمَةِ وَالإِسْلاَمِ، رَبِّي وَرَبُّكَ الله ) (3) .
5- الدعاء بالاسم دعاء عبادة:
__________
(1) البخاري في الأذان، باب قول الله تعالى وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة 6/2704 (7000) .
(2) مسلم في الإيمان، باب أدنى أهل الجنة منزلة فيها 1/187 (195) .
(3) الترمذي في الدعوات، باب ما يقول عند رؤية الهلال 5/405 (3451) والسلسلة الصحيحة (1816) .(1/394)
أثر الإيمان بتوحيد الله في اسمه السلام أن يكف المسلم نفسه عن إخوانه فيسلموا من أذيته ويحرص على جيرانه وقرابته، روى البخاري من حديث عبد الله بن عمرو - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( المُسْلمُ مَنْ سَلمَ المُسْلمُونَ مِنْ لسَانِهِ وَيَدِهِ ) (1)، وروى البخاري أيضا من حديث أبي شرح - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( وَاللهِ لاَ يُؤْمِنُ، وَاللهِ لاَ يُؤْمِنُ، وَاللهِ لاَ يُؤْمِنُ، قِيل: وَمَنْ يَا رَسُول اللهِ؟ قَال: الذِي لاَ يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَايِقَهُ ) (2) .
ومن ذلك أيضا أن يفشي السلام بين العباد، ويلتزم بتحية الإسلام، روى الطبراني وصححه الألباني من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( السَّلاَمُ اسْم مِن أسماءِ الله فأفشُوه بَينكم ) (3)، وعند البخاري من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( خَلقَ اللهُ آدَمَ عَلى صُورَتِهِ، طُولهُ سِتُّونَ ذِرَاعًا، فَلمَّا خَلقَهُ قَال: اذْهَبْ فَسَلمْ عَلى أُولئِكَ النَّفَرِ مِنَ المَلاَئِكَةِ جُلوسٌ، فَاسْتَمِعْ مَا يُحَيُّونَكَ، فَإِنَّهَا تَحِيَّتُكَ وَتَحِيَّةُ ذُرِّيَّتِكَ فَقَال: السَّلاَمُ عَليْكُمْ، فَقَالوا السَّلاَمُ عَليْكَ وَرَحْمَةُ اللهِ، فَزَادُوهُ وَرَحْمَةُ اللهِ، فَكُل مَنْ يَدْخُل الجَنَّةَ عَلى صُورَةِ آدَمَ، فَلمْ يَزَل الخَلقُ يَنْقُصُ بَعْدُ حَتَّى الآنَ ) (4) .
__________
(1) البخاري في الأشربة، باب الانتهاء عن المعاصي 5/2379 (6119) .
(2) البخاري في الاستئذان، باب إثم من لا يأمن جاره بوائقه 5/2240 (5670) .
(3) المعجم الأوسط 3/231 (3008)، صحيح الجامع (3697) .
(4) البخاري في كتاب الأدب، باب بدء السلام 5/2299 (5873) .(1/395)
وفي الجملة ينبغي على المسلم أن يسلك سبل السلام التي تؤدي إلى دار السلام قال الله - عز وجل -: { يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُل السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلمَاتِ إِلى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } [المائدة:16]، وقال: { وَاللهُ يَدْعُو إِلى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } [يونس:25] .
أما من جهة التسمية بعبد السلام فقد تسمى به كثير منهم أبو بكر عبد السلام بن حرب (ت:187)، أخرج عنه البخاري، قال: ( حَدَّثَنَا الفَضْل بْنُ دُكَيْنٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ السَّلاَمِ بْنُ حَرْبٍ عَنْ هِشَامٍ عَنْ حَفْصَةَ عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ قَالتْ: قَال النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - : ( لاَ يَحِل لاِمْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ أَنْ تُحِدَّ فَوْقَ ثَلاَثٍ إِلاَّ عَلى زَوْجٍ ) (1) .
********************************
6- الله - جل جلاله - المُؤْمِنُ
********************************
1- الدليل على ثبوت الاسم وإحصائه:
__________
(1) البخاري في الطلاق، باب الكحل للحادة 5/2043 (5025) .(1/396)
ورد الاسم في القرآن الكريم في موضع واحد وهو قوله تعالى: { هُوَ اللهُ الذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ المَلِكُ القُدُّوسُ السَّلامُ المُؤْمِنُ المُهَيْمِنُ العَزِيزُ الجَبَّارُ المُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ } [الحشر:23]، وفي هذا الموضع كما سبق في اسمه السلام ورد مطلقا معرفا مرادا به العلمية ودالا على الوصفية وكمالها، هذا بالإضافة إلى الإسناد إليه وحمل المعنى تابعا عليه، ولم يرد في السنة إلا في أحاديث سرد الأسماء عند الترمذي من طريق الوليد بن مسلم، وعند ابن ماجة من طريق عبد الملك الصنعاني وعند غيرهما أيضا، وهذه الأسماء مدرجة في الأحاديث وتعيينها ليس من كلام النبي - باتفاق أهل المعرفة بحديثه، وإن كانت آية الحشر كافية شافية في إثبات الاسم وإحصائه .
2- الشرح والتفسير:
المؤمن في اللغة اسم فاعل للموصوف بالإيمان، وأصله أمن يأمن أمنا، والأمن ما يقابل الخوف، والإيمان في حقنا هو تصديق الخبر تصديقا جازما، وتنفيذ الأمر تنفيذا كاملا، فمن الأول قول إخوة يوسف - عليه السلام - لأبيهم: { وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ } [يوسف:17]، ومن الثاني ما رواه البخاري من حديث ابن عباس - رضي الله عنه - في وفد عَبْدِ الْقَيْسِ لَمَّا أَتَوُا النَّبِيَ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ لهم: ( أَتَدْرُونَ مَا الإِيمَانُ بِاللهِ وَحْدَهُ؟ قَالُوا: الله وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: شَهَادَةُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ الله وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، وَإِقَامُ الصَّلاَةِ، وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ، وَصِيَامُ رَمَضَانَ، وَأَنْ تُعْطُوا مِنَ الْمَغْنَمِ الْخُمُسَ ) (1)، أما اسم الله المؤمن ففيه عدة أقوال يدل عليها الاسم ويشملها لأنها جميعا من معاني الكمال الذي اتصف به رب العزة والجلال:
__________
(1) البخاري في كتاب الإيمان، باب أداء الخمس من الإيمان1/29 (53) .(1/397)
القول الأول: أنه الذي أمَّنَ الناس ألا يظلم أحدا من خلقه، وأمَّن من آمن به من عذابه، فكل سينال ما يستحق، قال تعالى: { إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيما ً } [النساء:40]، وقال: { وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً } [الكهف:49] (1) .
__________
(1) اشتقاق أسماء الله ص222، وتفسير الطبري 28/54، وشرح أسماء الله الحسنى للرازي ص198 .(1/398)
القول الثاني: أن المؤمن هو المجير الذي يجير المظلوم من الظالم، بمعنى يؤمنه من الظلم وينصره (1)، كما قال: { قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُل شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } [المؤمنون:88]، وقال: { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ الله وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } [الملك:28]، أي لن يجدوا ملاذا ولا مأمنا، وعند أبي داود وصححه الألباني من حديث أَبِي هُرَيْرَة - رضي الله عنه - أَن النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَقول: ( اللهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْفَقْرِ وَالْقِلةِ وَالذلةِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ أَنْ أَظْلِمَ أَوْ أُظْلَمَ ) (2) , وعند البخاري ومسلم من حديث أَبِي مُوسَى الأشعري - رضي الله عنه - أن رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: ( إِنَّ اللهَ لَيُمْلِي لِلظَّالِمِ حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفلِتْهُ، قَالَ ثُمَّ قَرَأَ: { وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ القرَى وَهي ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ } ) (3) .
__________
(1) زاد المسير لابن الجوزي 8/ 225، والمقصد الأسنى ص67 .
(2) أبو داود في كتاب الوتر، باب في الاستعاذة 2/91 (1543)، وانظر السلسلة الصحيحة للشيخ الألباني حديث رقم (1445)، وكذلك صحيح أبي داود (1381) .
(3) البخاري في كتاب التفسير، باب قوله وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة 4/1726 (4409) ومسلم في كتاب، باب تحريم الظلم 4/1997 (2583) .(1/399)
القول الثالث: أن المؤمن هو الذي يصدق المؤمنين إذا وحدوه، لأنه الواحد الذي وحد نفسه فقال: { شَهِدَ الله أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِما بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الإِسْلامُ } [آل عمران:18] (1)، وهذه الآية تحمل أعظم المعاني في كشف حقيقة التوحيد وكيف خلق العباد من أجله؟
وبيان ذلك أننا لو فرضنا بقياس الأولى ولله المثل لأعلى طلابا وأساتذة ومقررا واختبارا، وبعد الاختبار تنازع المجتهدون من الطلاب مع الكثرة الغالبة في صحة ما أجابوا به، فزعم الخاسرون أنهم على الصواب وأن إجابتهم توافق المنهج المقرر في الكتاب وأن المجتهدين من الطلاب هم المخطئون في إجابتهم، ثم بالغوا وطلبوا شهادة أستاذهم، فشهد بخطئهم وصحة جواب المجتهدين، فكذبوا أستاذهم وطلبوا شهادة الأعلى من المتخصصين، فشهدوا لأستاذهم وللطلاب المجتهدين، فكذبوهم وطلبوا شهادة من وضع الاختبار، ومن يرجع إليه القرار، وأقروا على أنفسهم أن شهادته ملزمة لهم وأنها فصل المقال، فشهد من وضع الاختبار بصحة جواب المتخصصين والأساتذة والطلاب المجتهدين وكانت شهادته للجميع إخبارا وتصديقا وقولا فصلا وإعلاما وحٌكما عدلا لا مجال لرده ولا معقب لحكمه .
__________
(1) تفسير الطبري 28/54، وروح المعاني 28/63، الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى 1/243 .(1/400)
إذا علم ذلك فالله عز وجل وله المثل الأعلى جعل قضية الخلق هي شهادة ألا إله إلا الله وأنه لا معبود بحق سواه، وجعل أحكام العبودية أو الأحكام الشرعية هي المنهج المقرر على طلاب السعادة في هذه الدنيا كما قال: { قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ } [البقرة:38]، فإذا أهمل طلاب السعادة منهج الهداية، وجعلوا سعادتهم في عبودية الشهوات والشبهات وتناسوا مرحلة الابتلاء والكفاح والرغبة في النجاح والفلاح، وتسببوا في ضلالهم بمخالفتهم رسلهم، ثم أعلنوا زورا وبهتانا أنهم كانوا على الصواب، وأنهم الكثرة الغالبة عند الحساب، وأنهم أجابوا بادعائهم وفق ما تقرر في الكتاب، فكذبوا على أنفسهم كما ذكر الله في شأنهم: { ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلا أَنْ قَالُوا وَاللهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَل عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُون } [الأنعام:23/24]، وهنا شهد أولو العلم وشهدت الملائكة بضلال المشركين وصحة ما جاء عن رسلهم، وشهد الله بصدق المرسلين وخسران المشركين تصديقا للموحدين وإنصافا لمذهبهم وتكذيبا لأعدائهم وتصديقا للملائكة وأولي العلم، فهو سبحانه المؤمن الذي شهد أنه لا إله إلا هو، وأن هذه الكلمة هي كلمة الحق وحقيقة التوحيد وأنها رد على جميع من ضل من العبيد، فتضمنت كلمة التوحيد أجل شهادة وأعظمها وأعدلها وأصدقها من أجل شاهد بأجل مشهود به، فشهادة الله سبحانه لنفسه بالوحدانية والقيام بالقسط تضمنت عند السلف أربع مراتب، علمه سبحانه بذلك وتكلمه به وإعلامه وإخباره لخلقه وأمرهم وإلزامهم به، وعبارات السلف في الشهادة تدور على الحكم والقضاء والإعلام والبيان والإخبار، وهذه الأقوال كلها حق لا تنافي بينها فإن الشهادة تتضمن كلام الشاهد وخبره، وتتضمن إعلامه(1/401)
وإخباره وبيانه (1) .
القول الرابع: أن المؤمن هو الذي يصدق مع عباده المؤمنين في وعده، ويصدق ظنون عباده الموحدين ولا يخيب آمالهم (2)، قال تعالى: { قُلْ صَدَقَ الله فَاتَّبِعُوا مِلةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } [آل عمران:95]، وقال: { ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ } [الأنبياء:9]، وعند البخاري من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - مرفوعا: ( يَقُولُ الله تَعَالَى: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي .. الحديث ) (3)، وعند النسائي وصححه الألباني من حديث ابْن عُمَرَ - رضي الله عنه - أنه قال: ( قَامَ رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمَ فَتْحِ مَكة عَلَى دَرَجَةِ الْكعْبَةِ فَحَمِدَ اللهَ وَأثنَى عَلَيْهِ وَقَالَ: الْحَمْدُ لِلهِ الذِي صَدَقَ وَعْدَهُ وَنَصَرَ عَبْدَهُ وَهَزَمَ الأَحْزَابَ وَحْدَهُ ) (4)، فالمؤمن في أسماء الله هو الذي يصدق في وعده وهو عند ظن عبده لا يخيب أمله ولا يخذل رجاءه، وجميع المعاني السابقة حق يشملها تفسير الاسم .
3- دلالة الاسم على أوصاف الله:
__________
(1) انظر شرح العقيدة الطحاوية ص 89، والأسماء والصفات للبيهقي ص83 .
(2) تفسير القرطبي 18/46، وتفسير أسماء الله للزجاج ص31 .
(3) البخاري في كتاب التوحيد، باب السؤال بأسماء الله تعالى 6/2694 (6970) .
(4) النسائي في كتاب القسامة، باب ذكر الاختلاف على خالد الحذاء 8/42 (4799)، وانظر إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل للألباني 7/257 .(1/402)
اسم الله المؤمن يدل على ذات الله وعلى صفة الصدق كوصف ذات، والتصديق كوصف فعل بدلالة المطابقة، وعلى ذات الله وحدها بالتضمن، وعلى الصفة وحدها كذلك، أما دلالته على ذات الله فلأن الأسماء كلها أعلام، وأما دلالته على الصدق كوصف ذات فلقوله: { قُل صَدَقَ الله } [آل عمران:95]، وقوله تعالى: { وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ الله حَدِيثاً } [النساء:87]، ولاستحالة اتصافه بالمقابل، قال تعالى: { لَقَدْ صَدَقَ الله رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالحَقِّ } [الفتح:27]، وقال: { وَلَمَّا رَأى المُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا الله وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ الله وَرَسُولُهُ } [الأحزاب:22]، وقال أهل الجنة: { الحَمْدُ لِلهِ الذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ } [الزمر:74]، وعند البخاري من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أن رجلا أتي النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ( أخي يَشْتَكِى بَطْنَهُ، فَقَالَ: اسْقِهِ عَسَلاً، ثُمَّ أَتَى الثَّانِيَةَ فَقَالَ: اسْقِهِ عَسَلاً، ثُمَّ أَتَاهُ فَقَالَ: فَعَلتُ، فقال: صَدَقَ الله وَكَذَبَ بَطْنُ أَخِيكَ، اسْقِهِ عَسَلاً ) (1)، وعند البخاري من حديث ابن عمر - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( صَدَقَ الله وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَهَزَمَ الأَحْزَابَ وَحْدَهُ ) (2) .
__________
(1) البخاري في العمرة، باب الدواء بالعسل 5/2152 (5360) .
(2) البخاري في الطب، باب ما يقول إذا رجع من الحج أو العمرة أو الغزو2/637 (1703) .(1/403)
وأما دلالة اسم الله المؤمن على التصديق كوصف فعل فكما ورد عند البخاري من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعا فقالوا: ( يَا رَسُولَ الله صَدَّقَ الله حَدِيثَكَ ) (1)، وعند مسلم من حديث عمر - رضي الله عنه - أنه قال: ( .. وَقَلمَا تَكَلمْتُ وَأَحْمَدُ الله بِكَلاَمٍ إِلاَّ رَجَوْتُ أَنْ يَكُونَ الله يُصَدِّقُ قَوْلِي الذِي أَقُولُ ) (2)، وعند الترمذي وصححه الألباني من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( مَنْ قَالَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ الله وَالله أَكْبَرُ، صَدَّقَهُ رَبُّهُ فَقَالَ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا وَأَنَا أَكْبَرُ ) (3)، وعند أبي داود وصححه الألباني من حديث بريدة بن الحصيب - رضي الله عنه - أنه قال: ( خَطَبَنَا رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ، فَأَقْبَلَ الحَسَنُ وَالحُسَيْنُ عَلَيْهِمَا قَمِيصَانِ أَحْمَرَانِ يَعْثُرَانِ وَيَقُومَانِ، فَنَزَلَ فَأَخَذَهُمَا فَصَعِدَ بِهِمَا المِنْبَرَ ثُمَّ قَالَ: صَدَقَ الله: { إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ } ، رَأَيْتُ هَذَيْنِ فَلَمْ أَصْبِرْ، ثُمَّ أَخَذَ فِى الخُطْبَة ) ِ(4) .
__________
(1) البخاري في القدر، باب غزوة خيبر 4/1540 (3967) .
(2) مسلم في الطلاق، باب في الإبلاء واعتزال النساء وتخييرهن 2/ 1107 (1479) .
(3) الترمذي في الدعوات، باب ما يقول العبد إذا مرض5/492 (3430)، وانظر صحيح الجامع 5/492 .
(4) أبو داود في الصلاة، باب الإمام يقطع الخطبة للأمر يحدث 1/290 (1109) .(1/404)
واسم الله المؤمن يدل باللزوم على الحياة والقيومية، والسمع والبصر والعلم والعدل والحكمة، والعظمة والقوة، والقدرة والعزة، والسيادة والرحمة على اعتبار أن هذه الأوصاف لازمة للمؤمن الذي يصدق في قوله وفعله، والذي يصدق مع عباده المؤمنين في وعده، ويصدق ظن عباده الموحدين ولا يخيب آمالهم، والذي أمَّنَ الناس ألا يظلم أحد من خلقه، وأمَّن من آمن به من عذابه .
4- الدعاء بالاسم دعاء مسألة:
لم أجد دعاء مأثورا بالاسم المطلق ولكن ورد الدعاء بالوصف، فعلى اعتبار أن معنى المؤمن هو المجير الذي يؤمن عباده المؤمنين وينصرهم على من ظلمهم، ورد دعاء المسألة في سؤال إبراهيم - عليه السلام - لربه: { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِير ُ } [البقرة:126]، وقال سبحانه: { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ } [إبراهيم:35]، وعند أحمد وصححه الألباني من حديث عبد الله الزرقي - رضي الله عنه - أنه قَالَ: ( لَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ، وَانْكَفَأَ الْمُشْرِكُونَ قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - : اسْتَوُوا حَتَّى أُثْنِي عَلَى رَبِّى، فَصَارُوا خَلْفَهُ صُفُوفاً .. وذكر في دعائه .. اللهمَّ إني أَسْأَلُكَ النَّعِيمَ يَوْمَ الْعَيْلَةِ، وَالأَمْنَ يَوْمَ الْخَوْفِ، اللهمَّ إني عَائِذٌ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا أَعْطَيْتَنَا وَشَرِّ مَا مَنَعْتَ، اللهمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا الإِيمَانَ وَزَيِّنْهُ في قُلُوبِنَا، وَكَرِّهْ إِلَيْنَا الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ وَاجْعَلْنَا مِنَ الرَّاشِدِينَ، اللهمَّ تَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ(1/405)
وَأَحْيِنَا مُسْلِمِينَ وَأَلْحِقْنَا بِالصَّالِحِينَ غَيْرَ خَزَايَا وَلاَ مَفْتُونِينَ، اللهمَّ قَاتَلِ الْكَفَرَةَ الذِينَ يُكَذِّبُونَ رُسُلَكَ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِكَ، وَاجْعَلْ عَلَيْهِمْ رَجْزَكَ وَعَذَابَكَ، اللهمَّ قَاتَلِ الْكَفَرَةَ الذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَهَ الْحَقِّ ) (1) .
وعلى اعتبار أن معنى المؤمن هو الذي يصدق المؤمنين إذا وحدوه، ويوفقهم إلى الإيمان، ويصدق معهم في وعده، فقد ورد دعاء المسألة بمقتضى الوصف في قوله تعالى عن الحواريين أتباع عيسى - عليه السلام -: { رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ } [آل عمران:53]، وقوله تعالى عمن آمن برسول الله - صلى الله عليه وسلم - من القسسين والرهبان: { وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ بِاللّهِ وَمَا جَاءنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَن يُدْخِلَنَا رَبَّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ فَأَثَابَهُمُ اللّهُ بِمَا قَالُواْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاء الْمُحْسِنِينَ } [المائدة:83/85]، وكذلك قوله تعالى: { إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيّاً حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنتُم مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ } [المؤمنون:109/111] .
__________
(1) أحمد في المسند 3/424، وصححه الألباني في الأدب المفرد (699) .(1/406)
وقد روى ابن حبان وصححه الألباني من حديث فضالة بن عبيد - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( اللهم من آمن بك وشهد أني رسولك؛ فحبب إليه لقاءك وسهل عليه قضاءك، وأقلل له من الدنيا، ومن لم يؤمن بك ويشهد أني رسولك؛ فلا تحبب إليه لقاءك ولا تسهل عليه قضاءك وأكثر له من الدنيا ) (1)، وروى الحاكم وصححه الألباني من حديث عبد الله بن عمرو - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( إن الإيمان ليخلق في جوف أحدكم كما يخلق الثوب، فاسألوا الله تعالى أن يجدد الإيمان في قلوبكم ) (2)، وعند البخاري من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( إِذَا أَمَّنَ الإِمَامُ فَأَمِّنُوا فَإِنَّهُ مَنْ وَافَقَ تَأْمِينُهُ تَأْمِينَ الْمَلاَئِكَةِ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ ) (3)، ودعاء المسألة في الجملة أن يذكر الداعي الاسم كوسيلة لتحقيق مطلبه؛ فيدعو به المظلوم على اعتبار أن معنى المؤمن هو المجير، ويدعو به الصادق إذا كذبه الناس أو افتروا عليه، ويدعو به أيضا من يرجو نعمة ربه ويخاف عذابه أن يؤمنه في الدنيا والآخرة .
5- الدعاء بالاسم دعاء عبادة:
__________
(1) صحيح ابن حبان بترتيب ابن بلبان 1/ 438 (208)، السلسلة الصحيحة (1338) .
(2) مستدرك الحاكم 1/45 (5)، صحيح الجامع (1590) .
(3) البخاري في الأذان، باب الرجعة الإمام بالتأمين 1/270 (747) .(1/407)
أثر الاسم في سلوك العبد وتوحيده لله فيه هو يقين العبد في ربه أنه لا يظلم أحدا من خلقه، وأنه سينصر المظلوم ولو بعد حين، فيلجأ إلى الله أن يجيره من ظلم الظالمين، ويثق أن وعد الله لعباده المؤمنين كائن لا محالة، وقد كان لعائشة رضي الله عنها موقف عظيم في حادثة الإفك يدل على توحيدها لله في أسمائه الحسنى وما دل عليه اسمه المؤمن، فعند البخاري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لها: ( يَا عَائِشَةُ فَإِنَّهُ بَلغَنِي عَنْكِ كَذَا وَكَذَا، فَإِنْ كُنْتِ بَرِيئَةً فَسَيُبَرِّئُكِ اللهُ، وَإِنْ كُنْتِ أَلمَمْتِ فَاسْتَغْفِرِي اللهَ وَتُوبِي إِليْهِ، فَإِنَّ العَبْدَ إِذَا اعْتَرَفَ بِذَنْبِهِ ثُمَّ تَابَ تَابَ اللهُ عَليْهِ، تقول عائشة رضي الله عنها: فَلمَّا قَضَى رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مَقَالتَهُ قَلصَ دَمْعِي حَتَّى مَا أُحِسُّ مِنْهُ قَطْرَةً، وَقُلتُ لأَبِي: أَجِبْ عَنِّي رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، قَال: وَاللهِ مَا أَدْرِي مَا أَقُول لرَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَقُلتُ: لأُمِّي أَجِيبِي عَنِّي رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فِيمَا قَال، قَالتْ: وَاللهِ مَا أَدْرِي مَا أَقُول لرَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَقُلتُ وَأَنَا جَارِيَةٌ حَدِيثَةُ السِّنِّ لاَ أَقْرَأُ كَثِيرًا مِنَ القُرْآنِ: إِنِّي وَاللهِ لقَدْ عَلمْتُ أَنَّكُمْ سَمِعْتُمْ مَا يَتَحَدَّثُ بِهِ النَّاسُ وَوَقَرَ في أَنْفُسِكُمْ وَصَدَّقْتُمْ بِهِ، وَلئِنْ قُلتُ لكُمْ إِنِّي بَرِيئَةٌ، وَاللهُ يَعْلمُ إِنِّي لبَرِيئَةٌ لاَ تُصَدِّقُونِي بِذَلكَ، وَلئِنِ اعْتَرَفْتُ لكُمْ بِأَمْرٍ، وَاللهُ يَعْلمُ أَنِّي بَرِيئَةٌ لتُصَدِّقُنِّي وَاللهِ مَا أَجِدُ لي وَلكُمْ مَثَلاً إِلاَّ أَبَا يُوسُفَ إِذْ قَال: { فَصَبْرٌ جَمِيل وَاللهُ المُسْتَعَانُ عَلى مَا تَصِفُونَ } ، ثُمَّ(1/408)
تَحَوَّلتُ عَلى فِرَاشِي، وَأَنَا أَرْجُو أَنْ يُبَرِّئَنِي اللهُ، وَلكِنْ وَاللهِ مَا ظَنَنْتُ أَنْ يُنْزِل فِي شَأْنِي وَحْيًا، وَلأَنَا أَحْقَرُ فِي نَفْسِي مِنْ أَنْ يُتَكَلمَ بِالقُرْآنِ فِي أَمْرِي، وَلكِنِّي كُنْتُ أَرْجُو أَنْ يَرَى رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي النَّوْمِ رُؤْيَا يُبَرِّئُنِي اللهُ، فَوَاللهِ مَا رَامَ مَجْلسَهُ وَلاَ خَرَجَ أَحَدٌ مِنْ أَهْل البَيْتِ حَتَّى أُنْزِل عَليْهِ، فَأَخَذَهُ مَا كَانَ يَأْخُذُهُ مِنَ البُرَحَاءِ، حَتَّى إِنَّهُ ليَتَحَدَّرُ مِنْهُ مِثْل الجُمَانِ مِنَ العَرَقِ فِي يَوْمٍ شَاتٍ، فَلمَّا سُرِّي عَنْ رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ يَضْحَكُ، فَكَانَ أَوَّل كَلمَةٍ تَكَلمَ بِهَا أَنْ قَال لي: يَا عَائِشَةُ، احمدي اللهَ فَقَدْ بَرَّأَكِ اللهُ، فَقَالتْ لي أُمِّي: قُومِي إِلى رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقُلتُ: لاَ وَاللهِ، لاَ أَقُومُ إِليْهِ، وَلاَ أَحْمَدُ إِلاَّ اللهَ فَأَنْزَل اللهُ - سبحانه وتعالى -: { إِنَّ الذِينَ جَاؤُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لكُم بَل هُوَ خَيْرٌ لكُمْ لكُل امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ وَالذِي تَوَلى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ لوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ المُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالوا هَذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ لوْلا جَاؤُوا عَليْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَإِذْ لمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاء فَأُوْلئِكَ عِندَ اللهِ هُمُ الكَاذِبُونَ .. الآيات } ) (1).
__________
(1) البخاري في المغازي، باب تعديل النساء بعضهن بعضا 2/945 (2518) .(1/409)
وممن تسمى عبد المؤمن والد روح من رواة الحديث عند البخاري، قال في إحدى رواياته: ( حَدَّثَنَا رَوْحُ بْنُ عَبْدِ المُؤْمِنِ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ، حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالكٍ - رضي الله عنه - عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَال: إِنَّ فِي الجَنَّةِ لشَجَرَةً يَسِيرُ الرَّاكِبُ فِي ظِلهَا مِائَةَ عَامٍ لاَ يَقْطَعُهَا ) (1) .
********************************
7- الله - جل جلاله - المُهَيْمِنُ
********************************
1- الدليل على ثبوت الاسم وإحصائه:
لم يرد في القرآن إلا في موضع واحد وهو قوله تعالى: { هُوَ اللهُ الذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ المَلِكُ القُدُّوسُ السَّلامُ المُؤْمِنُ المُهَيْمِنُ العَزِيزُ الجَبَّارُ المُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ } [الحشر:23]، ولم يرد في السنة .
2- الشرح والتفسير:
المهيمن في اللغة اسم فاعل للموصوف بالهيمنة، فعله هيمن يهيمن هيمنة، والهيمنة على الشيء السيطرة عليه وحفظه والتمكن منه كما يهيمن الطائر على فراخه ويرفرف بجناحيه فوقهم لحمايتهم وتأمينهم، ويقال: المهيمن أصله المؤمن من آمن يعني أمَّن غيره من الخوف (2) .
__________
(1) البخاري في بدء الخلق، باب ما جاء في صفة الجنة وأنها مخلوقة 3/1187(3079) .
(2) لسان العرب 13/437 .(1/410)
والله عز وجل هو المهيمن على عباده فهو فوقهم بذاته له علو القهر والشأن، ملك على عرشه لا يخفى عليه شيء في مملكته، يعلم جميع أحوالهم ولا يعزب عنه شيء من أعمالهم هو القاهر فوقهم، وإن تركهم أو ترك بعضهم مع ظلمهم وكفرهم فذلك لحكمته فيما هم فيه مبتلون، ولما قضى وقدر ميسرون كما قال تعالى: { وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ } [إبراهيم:42]، فهو محيط بالعالمين مهيمن بقدرته على الخلائق أجمعين، وهو سبحانه على كل شيء قدير وكل شيء إليه فقير وكل أمر عليه يسير، لا يعجزه شيء ولا يفتقر إلى شيء: { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } [الشورى:11] (1) .
__________
(1) انظر شرح العقيدة الطحاوية ص 142، والأسماء والصفات للبيهقي ص84 .(1/411)
فجماع معنى المهيمن أنه المحيط بغيره الذي لا يخرج عن قدرته مقدور ولا ينفك عن حكمه مفطور، له الفضل على جميع الخلائق في سائر الأمور، قال أبو الحسن الأشعري: ( خلق الأشياء بقدرته، ودبرها بمشيئته، وقهرها بجبروته وذللها بعزته فذل لعظمته المتكبرون، واستكان لعز ربوبيته المتعظمون، وانقطع دون الرسوخ في علمه العالمون، وذلت له الرقاب وحارت في ملكوته فطن ذوي الألباب، وقامت بكلمته السماوات السبع، واستقرت الأرض المهاد ) (1)، وقال ابن حجر: ( وأصل الهيمنة الحفظ والارتقاب، تقول: هيمن فلان على فلان إذا صار رقيبا عليه فهو مهيمن ) (2)، فالمهيمن الرقيب على الشيء والحافظ له والقائم عليه وهذا ملحق بالمعنى السابق، ويلحق به أيضا تفسير المهيمن بالشهيد ومنه قوله تعالى: { وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ َ } [المائدة:48]، فالله شهيد على خلقه بما يكون منهم من قول أو فعل (3)، وفي صحيح مسلم من حديث أَبِي ذَرٍّ - رضي الله عنه - عَنِ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - فِيمَا يروي عَنِ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَّهُ قَالَ: ( يَا عِبَادِي إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا، فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللهَ، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلاَ يَلُومَنَّ إِلاَّ نَفْسَهُ ) (4)، وقيل في معنى المهيمن أيضا أنه الذي لا ينقص الطائع من ثوابه شيئا ولو كثر ولا يزيد العاصي عقابا على ما يستحقه لأنه لا يجوز عليه الكذب، وقد سمى الثواب والعقاب
__________
(1) الإبانة ص8، وانظر اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية لابن القيم ص 182 .
(2) فتح الباري 8/ 269، وانظر جامع البيان عن تأويل آي القرآن 6/ 266 .
(3) تفسير غريب الحديث للخطابي 2/91 .
(4) مسلم في كتاب البر والصلة والأدب، باب تحريم الظلم 4/1994 (2577) .(1/412)
جزاء، وله أن يتفضل بزيادة الثواب ويعفو عن كثير من العقاب (1) .
3- دلالة الاسم على أوصاف الله:
اسم الله المهيمن يدل على ذات الله وعلى صفة الهيمنة بدلالة المطابقة، وعلى كل منهما بالتضمن، والهيمنة كما تقدم في شرح المعنى تعني الإحاطة والحفظ والعلو مع العلم والقدرة والقهر، ولم يرد وصف الهيمنة نصا، وإنما تضمنه الاسم لأن أسماء الله أعلام وأوصاف، والهيمنة وردت نصا في وصف القرآن الكريم وعلو شأنه على ما سبق من الكتب، قال تعالى: { وَأَنْزَلنَا إِلَيْكَ الكِتَابَ بِالحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ } [المائدة:48]، أما من جهة المعنى الذي دل عليه الاسم فالنصوص كثيرة في إثبات الإحاطة والحفظ والعلو والقهر وغير ذلك مما سيأتي في موضعه .
واسم الله المهيمن يدل باللزوم على الحياة والقيومية، والسمع والبصر والقدرة والصمدية، والكبرياء والعظمة، والغنى والعزة، والعلم والحكمة، وكل ما يلزم لمعني الهيمنة المطلقة، واسم الله المهيمن دل على صفة من صفات الذات والفعل معا، أما دلالتها على صفة الذات فلاستحالة وصف الله بمقابلها، وأما دلالتها على صفة الفعل فلتعلق بعض المعنى الذي يشمله الوصف بالمشيئة من الحفظ الخاص والاستواء والقهر لمن شاء وغير ذلك من صفات الأفعال .
4- الدعاء بالاسم دعاء مسألة:
__________
(1) فتح الباري 6/ 366، وتفسير أسماء الله للزجاج ص32، والمقصد الأسنى ص69 .(1/413)
لم أجد دعاء بالاسم أو بالوصف، ويمكن الدعاء بمعنى الاسم ومقتضاه، فالمهيمن هو الرقيب الذي أحاط بكل شيء من كل وجه، روى البخاري من حديث البراء بن عازب - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: ( إِذَا أَتَيْتَ مَضْجَعَكَ فَتَوَضَّأْ وُضُوءَكَ لِلصَّلاَةِ، ثُمَّ اضْطَجِعْ عَلَى شِقِّكَ الأَيْمَنِ، ثُمَّ قُلِ اللهمَّ أَسْلَمْتُ وَجْهِي إِلَيْكَ، وَفَوَّضْتُ أَمْرِي إِلَيْكَ وَأَلجَأْتُ ظَهْري إِلَيْكَ، رَغْبَةً وَرَهْبَةً إِلَيْكَ، لاَ مَلجَأَ وَلاَ مَنْجَا مِنْكَ إِلاَّ إِلَيْكَ، اللهمَّ آمَنْتُ بِكِتَابِكَ الذِي أَنْزَلتَ، وَبِنَبِيِّكَ الذِي أَرْسَلتَ، فَإِنْ مُتَّ مِنْ لَيْلَتِكَ فَأَنْتَ عَلَى الفِطْرَةِ وَاجْعَلهُنَّ آخِرَ مَا تَتَكَلمُ بِهِ ) (1)، وروى البيهقي وحسنه الشيخ الألباني من حديث مصعب بن سعد عن أبيه - رضي الله عنه - أن أعرابيا قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - : ( علمني دعاء لعل الله أن ينفعني به قال: قل اللهم لك الحمد كله وإليك يرجع الأمر كله ) (2)، ومما ورد في دعاء المسألة مما روى عن السلف ما جاء في دعاء يحيى بن معاذ الرازي:
جلالك يا مهيمن لا يبيد وملكك دائم أبدا جديد
وحكمك نافذ في كل أمر وليس يكون إلا ما تريد
ذنوبي لا تضرك يا إلهي وعفوك نافع وبه تجود
فنعم الرب مولانا وإنا لنعلم أننا بئس العبيد
وينقص عمرنا في كل يوم ولا زالت خطايانا تزيد
قصدت إلى الملوك بكل باب عليه حاجب فظ شديد
وبابك معدن للجود يا من إليه يقصد العبد الطريد (3) .
5- الدعاء بالاسم دعاء عبادة:
__________
(1) البخاري في الوضوء، باب فضل من بات على الوضوء 1/97 ( 244) .
(2) شعب الإيمان 4/97 (4398)، وانظر صحيح الترغيب والترهيب (1576) .
(3) شعب الإيمان 5/466(7308) .(1/414)
دعاء العبادة باسم الله المهيمن أن يتقي المسلم ربه في قوله وفعله لعلمه أن الله مهيمن رقيب مطلع على سره، وأنه سبحانه لا يمنعه حجاب ولا ستر أن يرى عبده حال ذنبة ويجازيه على صنعه، وأنه سيعاقب كل ظالم على ظلمه في العاجل قبل الآجل، وربما رأى العاصي سلامة ماله وبدنه فظن أنه لا عقوبة، لكن الله يملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته، قال تعالى: { وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَل الظَّالمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ ليَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ } [إبراهيم:42]، وقال - جل جلاله -: { مَنْ يَعْمَل سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَليّاً وَلا نَصِيراً } [النساء:123]، ومن ثم فإن الموحد بتوحيده لله في اسمه المهيمن يصدع بالحق ولا يخاف في الله لومة لائم، فإن النفس قوامها ومرجعها إلى خالقها، وهو مهيمن عليها وعلى الخلائق أجمعين؛ فيدفعه ذلك إلى أن يتعزز بعزة الله، ويعمل في مرضاته، ويخلص له النية ابتغاء وجهه، ويستعين به دون غيره، متوكلا عليه آخذا بأسباب القوة راضيا بقضائه وقدره، قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلةٍ عَلى المُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلى الكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيل اللهِ وَلا يَخَافُونَ لوْمَةَ لائِمٍ ذَلكَ فَضْل اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَليمٌ } [المائدة:54] .(1/415)
أما من جهة التسمية بعبد المهيمن، فلم أجد في رواة الحديث من تسمى به غير عبد المهيمن بن عباس بن سهل بن سعد الساعدي، وهو من رواة الحديث الضعفاء وإن كانت التسمية بعبد المهيمن محمودة فهي تعبد لله باسم من أسمائه، لكن الراوي متروك الحديث عند النسائي، وقال ابن حبان: لما فحش الوهم في روايته بطل الاحتجاج به، وعند الدارقطني ليس بالقوي، ومنكر الحديث عند ابن الجوزي (1) .
********************************
8- الله - جل جلاله - العَزِيزُ
********************************
1- الدليل على ثبوت الاسم وإحصائه:
ورد اسم الله العزيز في كثير من النصوص القرآنية مطلقا معرفا ومنونا مرادا به العلمية ودالا على الوصفية وكمالها، وقد ورد المعنى محمولا عليه مسندا إليه، كما جاء في قول الله تعالى: { هُوَ الذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ } [آل عمران:6]، وقوله: { وَلِلهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً } [الفتح:7]، واسم الله العزيز ورد مقترنا ببعض الأسماء الحسنى كالحكيم والعليم والخبير والحميد والرحيم والغفار والوهاب والقوي .
وفي الجامع الصغير وصححه الألباني من حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي - كان إذا تضور من الليل – تقلب وتلوى من شدة الألم - قال: ( لا إله إلا الله الواحد القهار، رب السماوات والأرض وما بينهما العزيز الغفار ) (2) .
2- الشرح والتفسير:
__________
(1) الضعفاء والمتروكين لابن الجوزي 2/154 (2193)، والجرح والتعديل لابن أبي حاتم 6/68 (354) .
(2) السيوطي في الجامع الصغير1/107 (146) وانظر السلسلة الصحيحة 5 /98 (2066) .(1/416)
العزيز في اللغة من صيغ المبالغة على وزن فعيل، فعله عز يعز عزا وعزة، أما المعنى اللغوي فيأتي على معان، منها العزيز بمعنى الغالب، والعزة بمعنى الغلبة، ومنه ما ورد في قوله تعالى: { فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ َ } [صّ:23]، أي غلبني في محاورة الكلام، ومنها العزيز بمعنى الجليل الشريف الرفيع الشأن ومنه قوله تعالى عن المنافقين: { يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَل َ } [المنافقون:8]، أي ليخرجن الجليل الشريف منها الذليل، ومنها العزيز بمعنى القوي القاهر الشديد الصلب وعَزَّزْت القوم قَوَّيْتُهم وشَدَّدْتُهم ومنه ما ورد في قوله تعالى: { إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ َ } [يس:14]، أَي قَوَّينا وشَدَّدنا، ومنها العزيز بمعنى المنقطع النظير أو الشيء القليل النادر الوجود (1)، ومنه ما ورد عند أبي داود من حديث عَاصِمِ بْنِ كُلَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ - رضي الله عنه - قَالَ: ( كُنَّا مَعَ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - يُقَالُ لَهُ مُجَاشِعٌ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ فَعَزَّتِ الْغَنَمُ، فَأَمَرَ مُنَادِيًا فَنَادَى أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَقُولُ: إِنَّ الْجَذَعَ يُوَفِّي مِمَّا يُوَفِّي مِنْهُ الثَّنِيُ ) (2) .
__________
(1) لسان العرب 5/ 374، والمفردات ص 563، واشتقاق أسماء الله ص237 .
(2) أبو داود في كتاب الضحايا، باب ما يجوز من السن في الضحايا 3/96 (2799)، وانظر إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل للألباني (1146)، وصحيح أبي داود (2494) .(1/417)
وهذه المعاني جميعا يجوز وصف الله بها، فالله عز وجل عزيز غالب على أمره كما قال: { وَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ َ } [يوسف:21]، وقال: { كَتَبَ الله لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ َ } [المجادلة:21]، وهو العزيز الذي له علو الشأن والفوقية في ذاته وصفته كما قال تعالى: { رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً َ } [مريم:65]، وفي صحيح مسلم من حديث َأَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - أن رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: ( الْعِزُّ إِزَارُهُ وَالْكِبْرِيَاءُ رِدَاؤُهُ فَمَنْ يُنَازِعُنِي عَذَّبْتُهُ ) (1)، والله عزيز متفرد لا مثيل له متوحد لا شبيه له كما قال: { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ } [الشورى:11]، وقال تعالى: { قلْ هُوَ الله أَحَدٌ } ، وقال مبينا معنى الانفراد والأحدية: { وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ } ، أي أن الأحد هو العزيز المنفرد بأوصاف الكمال الذي لا مثيل له فنحكم على كيفية أوصافه من خلاله، ولا يستوي مع سائر الخلق في قانون أو قياس لأنه المتصف بالتوحيد العزيز المنفرد عن أحكام العبيد (2) .
3- دلالة الاسم على أوصاف الله:
__________
(1) مسلم البر والصلة والأدب، باب تحريم الكبر 4/2023 (2620) .
(2) انظر في معنى الاسم جامع البيان 7/90، واشتقاق أسماء الله للزجاج ص239، والمقصد الأسنى ص96 .(1/418)
الاسم يدل على ذات الله وعلى صفة العزة بدلالة المطابقة، وعلى أحدهما بالتضمن فالله عز وجل له العزة كوصف ذات، والإعزاز كوصف فعل، أما صفة الذات فلأنها صفة قائمة به يستحيل وصفه بضدها، قال تعالى في وصف المنافقين: { يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى المَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَل وَلِلهِ العِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ المُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ } [المنافقون:8]، وقال: { مَنْ كَانَ يُرِيدُ العِزَّةَ فَلِلهِ العِزَّةُ جَمِيعاً } [فاطر:10]، وقال سبحانه: { سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ العِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ } [الصافات:180]، وعند مسلم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( العِزُّ إِزَارُهُ، وَالكِبْرِيَاءُ رِدَاؤُهُ، فَمَنْ يُنَازِعُنِي عَذَّبْتُهُ ) ِ(1) ، وعند البخاري من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( لاَ تَزَالُ جَهَنَّمُ تَقُولُ هَل مِنْ مَزِيدٍ حَتَّى يَضَعَ رَبُّ العِزَّةِ فِيهَا قَدَمَهُ، فَتَقُولُ: قَطْ قَطْ وَعِزَّتِكَ ) ِ(2)، وعنده أيضا من حديث أنس - رضي الله عنه - قال: ( وَدَنَا الجَبَّارُ رَبُّ العِزَّةِ فَتَدَلى حَتَّى كَانَ مِنْهُ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى ) ِ(3) .
__________
(1) مسلم في البر والصلة والأدب، باب تحريم الكبر 4/2023 (2620) .
(2) البخاري في الأيمان والنذور، باب قوله وتقول هل من مزيد4/1835 (4568) .
(3) البخاري في التوحيد، باب قوله وكلم الله موسى تكليما 6/2731 (7079) .(1/419)
وروى النسائي وصححه الألباني من حديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( يَجِيءُ الرَّجُلُ آخِذًا بِيَدِ الرَّجُلِ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ هَذَا قتلني، فَيَقُولُ الله لَهُ: لِمَ قَتَلتَهُ؟ فَيَقُولُ: قَتَلتُهُ لِتَكُونَ العِزَّة لَكَ، فَيَقُولُ: فَإِنَّهَا لي، ويجيء الرَّجُلُ آخِذًا بِيَدِ الرَّجُلِ فَيَقُولُ إِنَّ هَذَا قتلني، فَيَقُولُ الله لَهُ: لِمَ قَتَلتَهُ؟ فَيَقُولُ: لِتَكُونَ العِزَّةُ لِفُلاَنٍ، فَيَقُولُ: إِنَّهَا لَيْسَتْ لِفُلاَنٍ فَيَبُوءُ بِإِثْمِهِ ) ِ(1) وفي رواية: ( يجيء المقتول آخذا قاتله وأوداجه تشخب دما عند ذي العزة، فيقول: يا رب سل هذا فيم قتلني؟ فيقول: فيم قتلته؟ قال: قتلته لتكون العزة لفلان، قيل: هي لله ) ِ(2) .
__________
(1) النسائي كتاب تحريم الدم 2/286 (3460)، وانظر السلسلة الصحيحة 6/445 رقم (2698) .
(2) صحيح الترغيب والترهيب (2448) .(1/420)
وأما الإعزاز كوصف الفعل فالله عز وجل يمنحها لمن شاء من خلقه كما قال سبحانه: { قُلِ اللهمَّ مَالِكَ المُلكِ تُؤْتِي المُلكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ المُلكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [آل عمران:26]، وعند مسلم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ وَمَا زَادَ الله عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلاَّ عِزًّا وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلهِ إِلاَّ رَفَعَهُ الله ) (1)، وعند الترمذي وصححه الألباني من حديث ابن عمر - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( اللهمَّ أَعِزَّ الإِسْلاَمَ بِأَحَبِّ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ إِلَيْكَ بأبي جَهْلٍ أَوْ بِعُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ ) (2)، واسم الله العزيز يدل باللزوم على الحياة والقيومية، والعلم القدرة والأحدية، والسيادة والحكمة والصمدية، والكبرياء والعظمة والقدسية، وغير ذلك من صفات الكمال .
4- الدعاء بالاسم دعاء مسألة:
__________
(1) مسلم في البر والصلة والأدب ، باب استحباب العفو والتواضع 4/2001 (2588) .
(2) الترمذي في المناقب، باب في مناقب عمر - رضي الله عنه - 5/617 (3681) وانظر صحيح الجامع (3681) .(1/421)
ورد الدعاء بالاسم المطلق في قوله تعالى عن إبراهيم - عليه السلام - والذين معه: { رَبَّنَا لا تَجْعَلنَا فِتْنَةً لِلذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ العَزِيزُ الحَكِيم ُ } [الممتحنة:5]، وقول إبراهيم - عليه السلام - أيضا: { رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ } [البقرة:129]، وقال عيسى - عليه السلام -: { إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ } [المائدة:118]، وورد في دعاء حملة العرش للمؤمنين: { رَبَّنَا وَأَدْخِلهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ التِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُريَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ العَزِيزُ الحَكِيم ُ } [غافر:8]، وكذلك ما ورد عند ابن حبان وصححه الشيخ الألباني من حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا تضور من الليل قال: ( لا إله إلا الله الواحد القهار، رب السماوات والأرض وما بينهما العزيز الغفار ) (1) .
__________
(1) صحيح ابن حبان 12/340 (5530)، وانظر صحيح الجامع (4693)، ومعنى تَضَوَّر: تلوى وتتقلَّبُ ظهراً لِبَطْنٍ من شِدَّة الحمى والألم، انظر النهاية في غريب الحديث 3/105.(1/422)
وقد ورد الدعاء بالوصف في نصوص كثيرة، منها ما ورد في قوله تعالى: { قُلِ اللهمَّ مَالِكَ المُلكِ تُؤْتِي المُلكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ المُلكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [آل عمران:26]، وعند ابن ماجة وصححه الألباني من حديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( اللهم أعز الإسلام بعمر بن الخطاب خاصة ) (1)، وعند الترمذي وصححه الألباني من حديث ابن عمر - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال ( اللهمَّ أَعِزَّ الإِسْلاَمَ بِأَحَبِّ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ إِلَيْكَ؛ بأبي جَهْلٍ أَوْ بِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ) (2)، وروى أبو داود وصححه الألباني من حديث عثمان بن أبي العاص - رضي الله عنه - أنه قال: أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وبي وجع قد كاد يهلكني، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( امْسَحْهُ بِيَمِينِكَ سَبْعَ مَرَّاتٍ وَقُلْ: أَعُوذُ بِعِزَّةِ الله وَقُدْرَتِهِ مِنْ شَرِّ مَا أَجِدُ، قَالَ: فَفَعَلْتُ ذَلِكَ، فَأَذْهَبَ الله عَزَّ وَجَل مَا كَانَ بِي، فَلَمْ أَزَلْ آمُرُ بِهِ أهلي وَغَيْرَهُمْ ) (3) .
__________
(1) ابن ماجة، باب فضل عمر رضي الله عنه1/39 (105)، والسلسلة الصحيحة (3225) .
(2) الترمذي في المناقب، باب في مناقب عمر - رضي الله عنه - 5/617 (3681)، وصحيح السيرة النبوية ص193.
(3) أبو داود في الطب، باب كيف الرقى 4/11 (3891)، وصحيح الجامع (346) .(1/423)
وروى الترمذي وصححه الألباني من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال له: ( إِذَا اشْتَكَيْتَ؛ فَضَعْ يَدَكَ حَيْثُ تَشْتَكِي وَقُلْ: بِسْمِ الله أَعُوذُ بِعِزَّةِ الله وَقُدْرَتِهِ مِنْ شَرِّ مَا أَجِدُ مِنْ وجعي هَذَا، ثُمَّ ارْفَعْ يَدَكَ، ثُمَّ أَعِدْ ذَلِكَ وِتْرًا ) (1)، وعند مسلم من حديث ابن عباس - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: ( اللهمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ وَبِكَ آمَنْتُ، وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ، وَإِلَيْكَ أَنَبْتُ، وَبِكَ خَاصَمْتُ، اللهمَّ إني أَعُوذُ بِعِزَّتِكَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ أَنْ تضلني أَنْتَ الحي الذي لاَ يَمُوتُ وَالْجِنُّ وَالإِنْسُ يَمُوتُونَ ) (2)، وروى الحاكم وصححه الألباني من حديث أنس - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( من قال إذا أوى إلى فراشه: الحمد لله الذي كفاني وآواني، الحمد لله الذي أطعمني وسقاني، الحمد لله الذي من علي وأفضل، اللهم إني أسألك بعزتك أن تنجني من النار، فقد حمد الله بجميع محامد الخلق كلهم ) (3).
5- الدعاء بالاسم دعاء عبادة:
__________
(1) الترمذي في الدعوات، باب في الرقية إذا اشتكى5/574 (3588)، والسلسلة الصحيحة (1258) .
(2) مسلم في الذكر والدعاء والتوبة، باب التعوذ من شر ما عمل 4/ 2086 ( 2717) .
(3) مستدرك الحاكم 1/ 730 (2001)، والسلسلة الصحيحة (3444) .(1/424)
أثر الاسم في سلوك العبد هو مظهر العزة التي يشعر بها المسلم في توحيده لربه وعبوديته وحبه وكل عمل يزيده من قربه، ويقينه أن العزة في إتباع أمره، وأنه سبحانه العزيز الذي جعل العزة لنبيه - صلى الله عليه وسلم - وأتباعه وحزبه، ولا يرضى بديلا عن عزة الإسلام وأهله حتى لو كانت لأهله وعشيرته وقومه، ورد عند البخاري من حديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - أنه قال: ( غَزَوْنَا مَعَ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - فِي غَزْوَةُ بَنِي المُصْطَلقِ وَقَدْ ثَابَ مَعَهُ نَاسٌ مِنَ المُهَاجِرِينَ حَتَّى كَثُرُوا، وَكَانَ مِنَ المُهَاجِرِينَ رَجُل لعَّابٌ فَكَسَعَ أَنْصَارِيًّا، فَغَضِبَ الأَنْصَارِيُّ غَضَبًا شَدِيدًا حَتَّى تَدَاعَوْا، وَقَال الأَنْصَارِيُّ: يَا للأَنْصَارِ، وَقَال المُهَاجِرِيُّ: يَا للمُهَاجِرِينَ، فَخَرَجَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَال: مَا بَال دَعْوَى أَهْل الجَاهِليَّةِ، ثُمَّ قَال: مَا شَأْنُهُمْ فَأُخْبِرَ بِكَسْعَةِ المُهَاجِرِيِّ الأَنْصَارِيَّ، فَقَال النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : دَعُوهَا فَإِنَّهَا خَبِيثَةٌ، وَقَال عَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَي بْنُ سَلول: أَقَدْ تَدَاعَوْا عَليْنَا لئِنْ رَجَعْنَا إِلى المَدِينَةِ ليُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَل ) (1) وفي رواية الترمذي فقال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: ( يَا رَسُول اللهِ دَعْنِي أَضْرِبْ عُنُقَ هَذَا المُنَافِق فَقَال النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : دَعْهُ لاَ يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُل أَصْحَابَهُ، فَقَال لهُ ابْنُهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ اللهِ: وَاللهِ لاَ تَنْقَلبُ حَتَّى تُقِرَّ أَنَّكَ الذَّليل وَرَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - العَزِيزُ، فَفَعَل ) (2)
__________
(1) البخاري في المناقب، باب ما ينهى من دعوى الجاهلية 3/1296(3330)، وكسعه ضربه على دبره .
(2) الترمذي في تفسير القرآن، باب ومن سورة المنافقين 5/417 (3315) .(1/425)
َ.
وعند البخاري من حديث زيد بن أرقم - رضي الله عنه - قال: ( كُنْتُ فِي غَزَاةٍ فَسَمِعْتُ عَبْدَ اللهِ بْنَ أُبَي يَقُول: لاَ تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُول اللهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلهِ، وَلوْ رَجَعْنَا مِنْ عِنْدِهِ ليُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَل، فَذَكَرْتُ ذَلكَ لعَمِّي أَوْ لعُمَرَ فَذَكَرَهُ للنَّبِي - صلى الله عليه وسلم - فَدَعَانِي فَحَدَّثْتُهُ؛ فَأَرْسَل رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إِلى عَبْدِ اللهِ بْنِ أُبَي وَأَصْحَابِهِ، فَحَلفُوا مَا قَالوا فَكَذَّبَنِي رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَصَدَّقَهُ، فَأَصَابَنِي هَمٌّ لمْ يُصِبْنِي مِثْلهُ قَطُّ، فَجَلسْتُ فِي البَيْتِ فَقَال لي عَمِّي: مَا أَرَدْتَ إِلى أَنْ كَذَّبَكَ رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَمَقَتَكَ، فَأَنْزَل اللهُ - سبحانه وتعالى -: { إِذَا جَاءَكَ المُنَافِقُونَ } فَبَعَثَ إِلي النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَرَأَ: { إِذَا جَاءكَ المُنَافِقُونَ قَالوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لرَسُول اللهِ وَاللهُ يَعْلمُ إِنَّكَ لرَسُولهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ المُنَافِقِينَ لكَاذِبُونَ اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَن سَبِيل اللهِ إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُوا يَعْمَلونَ ... إلى قوله .. هُمُ الذِينَ يَقُولونَ لا تُنفِقُوا عَلى مَنْ عِندَ رَسُول اللهِ حَتَّى يَنفَضُّوا وَللهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلكِنَّ المُنَافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ يَقُولونَ لئِن رَّجَعْنَا إِلى المَدِينَةِ ليُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَل وَللهِ العِزَّةُ وَلرَسُولهِ وَللمُؤْمِنِينَ وَلكِنَّ المُنَافِقِينَ لا يَعْلمُونَ } فَقَال - صلى الله عليه وسلم - لزيد: إِنَّ اللهَ قَدْ صَدَّقَكَ يَا زَيْدُ ) (1) .
__________
(1) البخاري في التفسير، باب قوله إذا جاءك المنافقون 4/1859 (4617) .(1/426)
وممن عبد لله بإضافته لهذا الاسم عبد العزيز بن مسلم (ت:267)، روى عنه البخاري في صحيحه قال: ( حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيل، حَدَّثَنَا عَبْدُ العَزِيزِ بْنُ مُسْلمٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ دِينَارٍ قَال: سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما، قَال النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - : الضَّبُّ لسْتُ آكُلهُ وَلاَ أُحَرِّمُهُ ) (1) .
********************************
9- الله - جل جلاله - الجَبَّارُ
********************************
1- الدليل على ثبوت الاسم وإحصائه:
ورد الاسم في القرآن الكريم في موضع واحد وهو قوله تعالى: { هُوَ اللهُ الذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ المَلِكُ القُدُّوسُ السَّلامُ المُؤْمِنُ المُهَيْمِنُ العَزِيزُ الجَبَّارُ المُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ } [الحشر:23]، وانطبقت عليه شروط الإحصاء وهي الإطلاق والعلمية ودلالته على كمال الوصفية، وقد وردت في السنة النبوية أدلة كثيرة منها ما رواه البخاري من حديث أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رضي الله عنه - أن النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( تَكُونُ الأَرْضُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ خُبْزَةً وَاحِدَةً، يَتَكَفَّؤُهَا الْجَبَّارُ بِيَدِهِ، كَمَا يَكْفَأُ أَحَدُكُمْ خُبْزَتَهُ فِي السَّفَرِ، نُزُلاً لأَهْلِ الْجَنَّةِ ) (2) .
وعند مسلم من حديث عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ - رضي الله عنه - قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى الْمِنْبَرِ وَهُوَ يَقُولُ: ( يَأْخُذُ الْجَبَّارُ عَزَّ وَجَل سَماَوَاتِهِ وَأَرَضِيهِ بِيَدَيْهِ ) (3) .
2- الشرح والتفسير:
__________
(1) البخاري في الذبائح، باب الضب 5/2104 (5216) .
(2) البخاري في كتاب الرقاق، باب يقبض الله الأرض يوم القيامة 5/2389 (6155) .
(3) مسلم في كتاب صفة القيامة والجنة والنار 4/2149 (2788) .(1/427)
الجبار في اللغة صيغة مبالغة من اسم الفاعل الجابر، وهو الموصوف بالجبر، فعله جبر يجبر جبرا، وأصل الجبر إصلاح الشيء بضرب من القهر، ومنه جبر العظم أي أصلح كسره، وجبر الفقير أغناه وجبر الخاسر عوضه وجبر المريض عالجه، ويستعمل الجبر بمعنى الإكراه على الفعل والإلزام بلا تخير (1) .
والجبار سبحانه هو الذي يجبر الفقر بالغنى والمرض بالصحة، والخيبة والفشل بالتوفيق والأمل، والخوف والحزن بالأمن والاطمئنان، فهو جبار متصف بكثرة جبره حوائج الخلائق (2)، وهو الجبار أيضا لعلوه على خلقه، ونفاذ مشيئته في ملكه فلا غالب لأمره ولا معقب لحكمه، فما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، قال أبو حامد الغزالي: ( الجبار هو الذي ينفذ مشيئته على سبيل الإجبار في كل واحد، ولا تنفذ فيه مشيئة أحد، الذي لا يخرج أحد من قبضته، وتقصر الأيدي دون حمى حضرته فالجبار المطلق هو الله سبحانه وتعالى فإنه يجبر كل أحد ولا يجبره أحد، ولا مثنوية في حقه في الطرفين ) (3)، وقال ابن القيم: ( وأما الجبار من أسماء الرب تعالى، هو الجبروت وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: سبحان ذي الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة فالجبار اسم من أسماء التعظيم كالمتكبر والملك والعظيم والقهار ) (4) .
__________
(1) المفردات ص 183، والفائق في غريب الحديث للزمخشري 1/416، ولسان العرب 4/113.
(2) المقصد الأسنى ص71، وتفسير أسماء الله للزجاج ص34 .
(3) المقصد الأسنى ص74، وانظر السابق 184، والأسماء والصفات للبيهقي ص48، واشتقاق أسماء الله للزجاج ص241، وتفسير الطبري 28/ 36.
(4) شفاء العليل ص121 .(1/428)
والجبار عند الجبرية هو الذي يكره العباد على الفعل فلا اختيار لهم ولا حرية وهو مردود لقوله تعالى: { لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } [البقرة:256]، وإنما يتحقق معنى الجبار في الإجبار عن إسقاط الاختيار ورفع التكليف والمسؤولية كالسنن الكونية التي لا تحويل فيها ولا تبديل، وكالحركات اللاإرادية في الإنسان كحركة القلب وسريان الروح في الأبدان (1) .
والجبار اسم دل على معنى من معاني العظمة والكبرياء، وهو في حق الله وصف محمود من معان الكمال والجمال، وفي حق العباد وصف مذموم من معاني النقص لقوله تعالى: { كَذَلِكَ يَطْبَعُ الله عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّار ٍ } [غافر:35] (2) .
3- دلالة الاسم على أوصاف الله:
__________
(1) كتب ورسائل وفتاوى ابن تيمية في العقيدة 8 /465، وتفسير القرطبي 2/ 139 .
(2) مفردات ألفاظ القرآن ص 184 .(1/429)
اسم الله الجبار يدل على ذات الله وعلى صفة الجبروت بدلالة المطابقة، وعلى ذات الله وحدها بالتضمن، وعلى صفة الجبروت بدلالة التضمن، فالجبار هو المتصف بالجبروت والعظمة كوصف ذات، والإجبار كوصف فعل بمعنى الإصلاح أو قهر الخلائق على مشيئته، فمن الأول ما رواه أبو داود وصححه الألباني من حديث عوف بن مالك - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول في ركوعه: ( سُبْحَانَ ذي الجَبَرُوتِ وَالمَلَكُوتِ وَالكِبْرِيَاءِ وَالعَظَمَةِ ) (1)، ومن الثاني ما ورد عند الترمذي وصححه الألباني من حديث ابن عباس - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول بين السجدتين: ( اللهمَّ اغْفِرْ لي وَارْحَمْنِي وَاجْبُرْنِي وَاهْدِنِي وَارْزُقْنِي ) (2)، واسم الله الجبار يدل باللزوم على الحياة والقيومية، والسمع والبصر والعزة، والغنى والقوة والعظمة، والملك والهيمنة والقدرة وعلو الشأن والقهر والفوقية، وغير ذلك من صفات الكمال، واسم الله الجبار دل على صفة من صفات الذات والأفعال .
4- الدعاء بالاسم دعاء مسألة:
__________
(1) أبو داود في الصلاة، باب ما يقول الرجل في ركوعه وسجوده 1/230 (873)، والمشكاة (882) .
(2) الترمذي في أبواب الصلاة، باب ما يقول بين السجدتين 2/76 (284)، وانظر صفة الصلاة ص153 .(1/430)
ورد دعاء المسألة بالوصف الذي تضمنه الاسم فيما رواه الترمذي وصححه الشيخ الألباني من حديث عبد الله بن عباس - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول بين السجدتين: ( اللهمَّ اغْفِرْ لِي وَارْحَمْنِي وَاجْبُرْنِي وَاهْدِنِي وَارْزُقْنِي ) (1)، وعند الطبراني وحسنه الألباني من حديث أبي أمامة - رضي الله عنه - قال: ( ما صليت خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا قريب منه إلا سمعته يقول في دبر كل صلاة: اللهم اغفر لي ذنوبي وخطاياي كلها، اللهم أنعشني واجبرني واهدني لصالح الأعمال والأخلاق؛ فإنه لا يهدي لصالحها ولا يصرف سيئها إلا أنت ) (2) .
ومما ورد من الدعاء بمقتضى الاسم وأن الله ليس كمثله شيء في اسمه ووصفه ما رواه البخاري من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( لَمْ يَتَكَلمْ في الْمَهْدِ إِلاَّ ثَلاَثَة .. وذكر منهم ... وَكَانَتِ امْرَأَةٌ تُرْضِعُ ابْنًا لَهَا مِنْ بني إِسْرَائِيلَ، فَمَرَّ بِهَا رَجُلٌ رَاكِبٌ ذُو شَارَةٍ، فَقَالَتِ: اللهمَّ اجْعَلِ ابني مِثْلَهُ، فَتَرَكَ ثَدْيَهَا، وَأَقْبَلَ عَلَى الرَّاكِبِ فَقَالَ: اللهمَّ لاَ تجعلني مِثْلَهُ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى ثَدْيِهَا يَمَصُّهُ .. فَقَالَتْ: لِمَ ذَاكَ؟ فَقَالَ: الرَّاكِبُ جَبَّارٌ مِنَ الْجَبَابِرَةِ .. الحديث ) (3)، والحديث يدل على أن الطفل استجار في دعائه من كل جبار لعلمه أن الجبروت لله وحده .
5- الدعاء بالاسم دعاء عبادة:
__________
(1) الترمذي في الصلاة، باب ما يقول بين السجدتين 2/76 (284)، وانظر صفة صلاة ص 153.
(2) المعجم الكبير 8/227 (7893)، صحيح الجامع (1266) .
(3) البخاري في كتاب الأنبياء، باب واذكر في الكتاب مريم 3/1268 (3253) .(1/431)
دعاء العبادة هو مظهر الخضوع لجبروت الله توحيدا له في اسمه الجبار، فينفي الموحد عن نفسه التجبر والاستكبار، ويلين للحق إذا ظهر له نوره من غير إنكار كما قال رب العزة والجلال: { الذِينَ يُجَادِلونَ فِي آيَاتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ الذِينَ آمَنُوا كَذَلكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى كُل قَلبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ } [غافر:35]، وقال عيسى - عليه السلام -: { وَبَرّاً بِوَالدَتِي وَلمْ يَجْعَلنِي جَبَّاراً شَقِيّاً } [مريم:32]، كما أن يقين الموحد وإيمانه بأن الله عز وجل هو الجبار يجعله دائم الانكسار والافتقار والاستغفار، رغبة في ربه أن يجبر كسره وأن يغفر ذنبه وأن يديم فقره إليه، وأن يُقَوِّمَ نفسه إذا تمردت عليه، روى النسائي وصححه الألباني من حديث حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه - أنه صلى مع رسول الله ِ- صلى الله عليه وسلم - ذات ليلة فسمعه حين كبر قال: ( اللهُ أَكْبَرُ ذَا الجَبَرُوتِ وَالمَلكُوتِ وَالكِبْرِيَاءِ َالعَظَمَةِ وَكَانَ يَقُول في رُكُوعِهِ: سُبْحَانَ رَبِّي العَظِيمِ، وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ قَال: لرَبِّي الحَمْدُ، لرَبِّي الحَمْدُ، وَفِي سُجُودِهِ: سُبْحَانَ رَبِّي الأَعْلى، وَبَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ: رَبِّ اغْفِرْ لي، رَبِّ اغْفِرْ لي ) (1).
__________
(1) النسائي في الأذان، باب الأذان لمن جمع بين الصلاتين 1/224 (656) .(1/432)
وممن عبد لله بإضافته لهذا الاسم عبد الجبار بن العلاء، روى عنه مسلم في صحيحه قال: ( حَدَّثَنِي عَبْدُ الجَبَّارِ بْنُ العَلاَءِ، حَدَّثَنَا مَرْوَانُ الفَزَارِيَّ، حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَمْزَةَ، أَخْبَرَنِي أَبُو غَطَفَانَ المُرِّيُّ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - يَقُول: قَال رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : لاَ يَشْرَبَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمْ قَائِمًا فَمَنْ نَسِي فَليَسْتَقِيئ ) (1).
********************************
10- الله - جل جلاله - المُتَكَبِّرُ
********************************
1- الدليل على ثبوت الاسم وإحصائه:
لم يرد في القرآن الكريم إلا في قوله تعالى: { هُوَ اللهُ الذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ المَلِكُ القُدُّوسُ السَّلامُ المُؤْمِنُ المُهَيْمِنُ العَزِيزُ الجَبَّارُ المُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ } [الحشر:23] وفي هذا الموضع سمى الله نفسه به على سبيل الإطلاق مرادا به العلمية ودالا على الوصفية وكمالها، وقد ورد المعنى أيضا محمولا عليه مسندا إليه، وفي السنة روى أحمد بسند صحيح عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ - رضي الله عنه - أنه قَالَ: ( قَرَأَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - هَذِهِ الآيَةَ وَهُوَ عَلَى المِنْبَرِ: { وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُون َ } قَالَ: ( يَقُولُ اللهُ عَزَّ وَجَل: أَنَا الجَبَّارُ، أَنَا المُتَكَبِّرُ، أَنَا المَلِكُ، أَنَا المُتَعَالِ، يُمَجِّدُ نَفْسَهُ قَالَ: فَجَعَلَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يُرَدِّدُهَا حَتَّى رَجَفَ بِهِ المِنْبَرُ، حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيَخِرُّ بِهِ ) (2) .
2- الشرح والتفسير:
__________
(1) مسلم في الأشربة، باب كراهية الشرب قائما 3/1601 (2026) .
(2) أحمد في المسند، مسند عبد الله بن عمر2/87 (5608)، وانظر صحيح ابن ماجة1/39 (164) .(1/433)
المتكبر ذو الكبرياء وهو الملك اسم فاعل للموصوف بالكبْرياء، والمتكبر هو العظيمُ المتعالي القاهِرُ لعُتَاةِ خَلقِهِ، إذا نازعوه العظمة قصمهم، والمتكبر أيضا هو الذي تكبر عن كل سوء وتكبر عن ظلم عباده، وتكبر عن قبول الشرك في العبادة فلا يقبل منها إلا ما كان خالصا لوجهه، روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( قَالَ الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى: أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ مَنْ عَمِلَ عَمَلاً أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ ) (1)، وأصل الكبر والكبرياء الامتناع، والكبرياء في صفات الله مدح وفي صفات المخلوقين ذم، فهو سبحانه المتفرد بالعظمة والكبرياء، وكل من رأى العظمة والعجب والكبرياء لنفسه على الخصوص دون غيره كانت رؤيته خاطئة كاذبة باطلة، لأن الكبرياء لا تكون إلا لله، والأكرمية بين العباد مبنية على الأفضلية في تقوى الله، والتاء في اسم الله المتكبر تاء التفرد والتخصص لأن التعاطي والتكلف والكبر لا يليق بأحد من الخلق وإنما سمة العبد الخضوع والتذلل قال تعالى:
__________
(1) مسلم كتاب الزهد والرقائق باب من أشرك في الله وفي نسخة باب تحريم الرياء 4/2289 (2986) .(1/434)
{ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِين َ } [الزمر:60]، وقال موسى - عليه السلام -: { إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ } [غافر:27]، وقال سبحانه أيضا: { الذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ الذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ الله عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّار ٍ } [غافر:35] ، وعند الترمذي وحسنه الألباني من حديث عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: ( يُحْشَرُ الْمُتَكَبِّرُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْثَالَ الذَّرِّ فِي صُوَرِ الرِّجَالِ يَغْشَاهُمُ الذُّلُّ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ، فَيُسَاقُونَ إِلَى سِجْنٍ فِي جَهَنَّمَ يُسَمَّى بُولَسَ تَعْلُوهُمْ نَارُ الأَنْيَارِ يُسْقَوْنَ مِنْ عُصَارَةِ أَهْلِ النَّارِ طِينَةِ الْخَبَالِ ) (1)، وعند مسلم من حديث ابْنِ مَسْعُودٍ - رضي الله عنه - أَنِ النَّبِيِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: ( لاَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ، قَالَ رَجُلٌ: إِنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا وَنَعْلُهُ حَسَنَةً، قَالَ: إِنَّ اللهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ وَغَمْطُ النَّاسِ ) (2).
3- دلالة الاسم على أوصاف الله:
__________
(1) الترمذي في كتاب صفة القيامة 4/655 (2492) وحسن الألباني في صحيح الجامع (8040) .
(2) مسلم في الإيمان، باب تحريم الكبر وبيانه1/93 (91) .(1/435)
الاسم يدل على ذات الله وعلى صفة الكبرياء بدلالة المطابقة، وعلى أحدهما بالتضمن، قال تعالى: { وَلَهُ الكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } [الجاثية:37]، وعند البخاري من حديث عبد الله بن قَيْسٍ عن أبيه - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( وَمَا بَيْنَ القَوْمِ وَبَيْنَ أَنْ يَنْظُرُوا إِلَى رَبِّهِمْ إِلاَّ رِدَاءُ الكِبْرِ عَلَى وَجْهِهِ في جَنَّةِ عَدْنٍ ) (1)، وفي رواية مسلم ( إِلاَّ رِدَاءُ الكِبْرِيَاءِ ) (2)، وعند أبي داود وصححه الألباني من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( قَالَ الله عَزَّ وَجَل: الكِبْرِيَاءُ رِدَائِي وَالعَظَمَةُ إِزَارِي، فَمَنْ نَازَعَنِي وَاحِدًا مِنْهُمَا قَذَفْتُهُ في النَّارِ ) (3)، وقد تقدم في اسم الله الجبار حديث عوف بن مالك - رضي الله عنه - مرفوعا: ( سُبْحَانَ ذي الجَبَرُوتِ وَالمَلَكُوتِ وَالكِبْرِيَاءِ وَالعَظَمَةِ ) (4)، فالمتكبر سبحانه من له الكبرياء المطلق فوق كل شيء، قال تعالى: { قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ } [الأعراف:13]، واسم الله المتكبر يدل باللزوم على الحياة والقيومية والقدرة والصمدية، والجبروت والعزة، والهيمنة والحكمة، وغير ذلك من صفات الكمال، والاسم دل على صفة من صفات الذات والأفعال .
4- الدعاء بالاسم دعاء مسألة:
__________
(1) البخاري في التفسير، باب قوله ومن دونهما جنتان 4/1848 (4597) .
(2) مسلم في الإيمان، باب إثبات رؤية المؤمنين في الآخرة ربهم سبحانه وتعالى 1/163(180) .
(3) أبو داود في اللباس، باب ما جاء في الكبر 4/59 (4090)، وانظر صحيح الجامع ( 1908) .
(4) انظر صحيح أبي داود 1/230 (873) .(1/436)
ورد الدعاء بالوصف الذي تضمنه الاسم؛ فعلى اعتبار أن المتكبر هو العظيمُ المتعالي القاهِرُ لعُتَاةِ خَلقِهِ يمكن الاستشهاد بما ورد عند مسلم من حديث مصعب بن سعد عن أبيه - رضي الله عنه - أنه قال: ( جَاءَ أعرابي إِلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: علمني كَلاَمًا أَقُولُهُ قَالَ قُل: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ اللهُ أَكْبَرُ كَبِيرًا، وَالحَمْدُ لِلهِ كَثِيرًا، سُبْحَانَ اللهِ رَبِّ العَالَمِينَ لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللهِ العَزِيزِ الحَكِيمِ، قَالَ: فَهَؤُلاَءِ لِرَبِّي فَمَا لي؟ قَالَ: قُلِ اللهُمَّ اغْفِرْ لي وارحمني وَاهْدِنِي وَارْزُقْنِي ) (1) .
وورد دعاء المسألة بالاسم عند الديلمي موقوفا على أبي هريرة وفي ثبوته نظر أنه - رضي الله عنه - قال في دعائه: ( اللهم إني أسألك يا الله يا عزيز يا جبار يا متكبر، أنت الذي سجد لك ضوء النهار وشعاع الشمس وحفيف الشجر ودوي الماء ونور القمر، يا الله لا شريك لك، أسألك بهذه الأسماء أن تصلي على محمد عبدك ورسولك وعلى آل محمد ) (2) .
وقد استجار موسى - عليه السلام - في دعائه من كل متكبر، لأن التكبر لا ينبغي إلا لله وحده، قال تعالى: { وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الحِسَابِ } [غافر:27] .
5- الدعاء بالاسم دعاء عبادة:
__________
(1) مسلم في الذكر والدعاء والتوبة، باب فضل التهليل والتسبيح والدعاء 4/2072 (2696) .
(2) الفردوس بمأثور الخطاب للديلمي 1/450 (1831)، وإن كان في تبوته عن أبي هريرة - رضي الله عنه - نظر .(1/437)
دعاء العبادة هو أثر الإيمان بتوحيد الله في اسمه المتكبر، ويتجلى ذلك في نفي الكبر عن النفس بالتواضع، ونفي الشرك عن الفعل بالإخلاص، وأن يخلع العبد عن نفسه أوصاف الربوبية؛ فلا يتعالى ولا يتكبر، ولا يتمظهر ولا يتبخطر، ولكن يتواضع لله المتكبر، روى البخاري من حديث حارثة بن وهب الخزاعي - رضي الله عنه - أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: ( أَلاَ أُخْبِرُكُمْ بِأَهْل الجَنَّةِ، كُل ضَعِيفٍ مُتَضَعِّفٍ لوْ أَقْسَمَ عَلى اللهِ لأَبَرَّهُ أَلاَ أُخْبِرُكُمْ بِأَهْل النَّارِ كُل عُتُل جَوَّاظٍ مُسْتَكْبِرٍ ) (1)، وفي رواية أخرى صحيحه من حديث عبد الله بن عمرو - رضي الله عنه - ( كُل جَعْظَرِيٍّ جَوَّاظٍ مُسْتَكْبِرٍ جَمَّاعٍ مَنَّاعٍ ) (2)، والعتل هو الشديد الجافي الغليظ من الناس والجواظ هو الجموع المنوع الذي يجمع المال من أي جهة ويمنع صرفه في سبيل الله، والجعظري هو الفظ الغليظ المتكبر، وقيل: هو الذي ينتفخ بما ليس عنده (3)، وعند مسلم من حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - أنِ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( لا يَدْخُل الجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلبِهِ مِثْقَال ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ ) (4) .
أما من جهة التسمية بعبد المتكبر، والتعبد لله بهذ الاسم فلم يتسم به أحد من السلف أو الخلف في مجال ما أجرينا عليه البحث الحاسوبي، وكذلك جميع محركات البحث على الإنترنت، وهنيئا لمن سمى نفسه أو ولده بذلك الاسم لأنه لم يسبقه أحد من السلف أو الخلف فيما نعلم، وسيكون له السبق في التعبد لله به والله أعلم .
********************************
11- الله - جل جلاله - الخَالقُ
__________
(1) البخاري في التفسير، باب عتل بعد ذلك زنيم 4/1870 (4633) .
(2) أحمد في المسند، 2/169(6580)، صحيح الترغيب والترهيب (3197) .
(3) فتح القدير 3/67، وتحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي 7/ 279 .
(4) مسلم في الإيمان، باب تحريم الكبر وبيانه 1/93 (91) .(1/438)
********************************
الدليل على ثبوت الاسم وإحصائه .
ورد الاسم في القرآن مطلقا ومقيدا معرفا ومنونا، قال تعالى: { هُوَ اللهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى } [الحشر:24]، وقال جل شأنه: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ } [فاطر:3]، وورد مقيدا في مواضع كثيرة كقوله تعالى: { اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ } [الزمر:62] .
أما ما ورد في السنة فقد روى الإمام أحمد وصححه الشيخ الألباني من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - أنه قال: ( غَلاَ السِّعْرُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ لَوْ سَعَّرْتَ؟ فَقَالَ: إِنَّ اللهَ هُوَ الخَالِقُ الْقَابِضُ الْبَاسِطُ الرَّازِقُ الْمُسَعِّرُ، وَإِنِّي لأَرْجُو أَنْ أَلْقَى اللهَ وَلاَ يَطْلُبُنِي أَحَدٌ بِمَظْلَمَةٍ ظَلَمْتُهَا إِيَّاهُ فِي دَمٍ وَلاَ مَالٍ ) (1)، وقد صح من حديث عمران بن حصين، والحكم بن عمرو الغفاري، والنواس بن سمعان - رضي الله عنهم - أن النبي- صلى الله عليه وسلم - قال: ( لاَ طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الخالق ) (2) .
شرح الاسم وتفسير معناه .
__________
(1) السابق 3/156 (12613)، وانظر صحيح الجامع (1846) .
(2) مشكاة المصابيح، محمد بن عبد الله الخطيب التبريزي، تحقيق الشيخ الألباني (3696) .(1/439)
الخالق في اللغة اسم فاعل فعله خلق يخلق خلقا، والخلق مصدر من الفعل خلق ومنه قوله: { الذِي أَحْسَنَ كُل شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإنسان مِنْ طِينٍ } [السجدة:7]، ويأتي الخَلق أيضا بمعنى المخلوق، ومنه قوله تعالى: { هَذَا خَلْقُ اللهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الذِينَ مِنْ دُونِهِ } [لقمان:11] (1)، والخلق أصله التقدير المستقيم ويستعمل في إبداع الشيء من غير أصل ولا احتذاء، وفي إيجاد الشيء من الشيء (2) .
والخلق قد يأتي أيضا بمعنى الكذب على اعتبار أن الذي يكذب يؤلف وينشئ كلاما لا يطابق الحقيقة، ومن ذلك قول الله تعالى: { إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثَاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكا } [العنكبوت:17]، وقوله: { إِنْ هَذَا إِلا خُلُقُ الأَوَّلِينَ } [الشعراء:137] (3).
__________
(1) اشتقاق أسماء الله ص166، لسان العرب 2/1244.
(2) مفردات ألفاظ القرآن ص 296 .
(3) اشتقاق أسماء الله ص167 .(1/440)
والخالق في أسماء الله هو الذي أوْجد جميعَ الأشياء بعد أن لم تكنْ مَوْجُودة، وقدر أمورها في الأزل بعد أن كانت معدومة، والخالق أيضا هو الذي ركب الأشياء تركيبا ورتبها بقدرته ترتيبا، فمن الأدلة على معنى الإنشاء والإبداع وإيجاد الأشياء من العدم قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ } [فاطر:3]، ومن الأدلة على معنى التركيب والترتيب الذي يدل عليه اسمه الخالق قوله تعالى: { ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ } [المؤمنون:14]، وخلاصة ما ذكره العلماء في معنى الخالق أنه من التقدير وهو العلم السابق، أو القدرة على الإيجاد والتصنيع والتكوين (1) .
والحقيقة أن معنى الخالق قائم عليهما معا، لأن حدوث المخلوقات مرتبط عند السلف بمراتب القدر، فكل مخلوق مهما عظم شأنه أو دق حجمه لا بد أن يمر بأربع مراتب، وهي علم الله السابق وتقدير كل شيء قبل تصنيعة وتكوينه، وتنظيم أمور الخلق قبل إيجاده وإمداده وهو علم التقدير وحساب المقادير .
ثم بعد ذلك مرتبة الكتابة وهي كتابة المعلومات وتدوينها بالقلم في كلمات، فالله كتب ما يخص كل مخلوق في اللوح المحفوظ؛ كتب فيه تفصيل خلقه وإيجاده وما يلزم لنشأته وإعداده ثم هدايته وإمداده وجميع ما يرتبط بتكوينه وترتيب حياته .
__________
(1) المقصد الأسنى ص72، وتفسير أسماء الله للزجاج ص36، وشرح أسماء الله الحسنى للرازي ص211 .(1/441)
ثم بعد ذلك المرتبة الثالثة من مراتب القدر وهي مرتبة المشيئة فليس في الكون مشيئة عليا إلا مشيئة الله - عز وجل -، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، والمشيئة هي عامل التخصيص والنوع بين المخلوقات حسب الزمان والمكان الذي يتم فيه تخليق الحدث .
ثم تأتي المرتبة الرابعة من مراتب القدر وهي مرتبة خلق الأشياء وتكوينها وتصنيعها وتنفيذها وفق ما قدر لها بمشيئة الله في اللوح المحفوظ، قال ابن القيم: ( مراتب القضاء والقدر التي من لم يؤمن بها لم يؤمن بالقضاء والقدر أربع مراتب: المرتبة الأولى علم الرب سبحانه بالأشياء قبل كونها، المرتبة الثانية كتابته لها قبل كونها، المرتبة الثالثة مشيئته لها، والرابعة خلقه لها ) (1)، فالله - عز وجل - خالق كل شيء تقديرا وقدرة، ومراتب القدر هي المراحل التي يمر بها المخلوق من كونه معلومة في علم الله في الأزل إلى أن يصبح واقعا مخلوقا مشهودا، قال تعالى: { وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً } [الأحزاب:38] .
دلالة الاسم على أوصاف الله .
__________
(1) انظر تفصيل هذه المراتب والدليل عليها في شفاء العليل ص 29 وما بعدها .(1/442)
اسم الله الخالق يدل على ذات الله وعلى صفة الخالقية بدلالة المطابقة، وعلى ذات الله وحدها بالتضمن، وعلى الصفة وحدها بالتضمن، قال تعالى: { قَالَ كَذَلِكِ الله يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ } [آل عمران:47]، وقال: { للهِ مُلكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ } [الشورى:49]، وقال: { وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ } [القصص:68]، واسم الله الخالق يدل باللزوم على الحياة والقيومية والسمع والبصر والعلم والمشيئة والحكمة والقدرة والغنى والقوة والعزة وغير ذلك من الصفات الذاتية والفعلية، ولما وصف الله نفسه بالخالقية فقال: { الله الذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأمْرُ بَيْنَهُنَّ } ، قال بعدها: { لِتَعْلَمُوا أَنَّ الله عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ الله قَدْ أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلماً } [الطلاق:12]، واسم الله الخالق دل على صفة من صفات الأفعال .
الدعاء باسم الله الخالق دعاء مسألة .
ورد دعاء المسألة بالوصف الذي تضمنه الاسم في كثير من نصوص الكتاب والسنة كما في قوله: { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ الليْلِ وَالنَّهَارِ لآياتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ الذِينَ يَذْكُرُونَ الله قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } [آل عمران:190/191]، وقال سبحانه: { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ } [الفلق:1/2] ..(1/443)
وعند النسائي وصححه الألباني من حديث حميد بن عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه - أن رجلا من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( قُلْتُ وَأَنَا في سَفَرٍ مَعَ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - : وَاللهِ لأَرْقُبَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لِصَلاَةٍ حَتَّى أَرَى فِعْلَهُ، فَلَمَّا صَلى صَلاَةَ الْعِشَاءِ وَهِي الْعَتَمَةُ اضْطَجَعَ هَوِيًّا مِنَ الليْلِ ثُمَّ اسْتَيْقَظَ فَنَظَرَ في الأُفُقِ فَقَالَ: { رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلا حَتَّى بَلَغَ .. إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَادَ } .. الحديث ) (1)،
وعند النسائي وصححه الألباني من حديث عقبة بن عامر - رضي الله عنه - أنه قال: ( أُهْدِيَتْ للنبي - صلى الله عليه وسلم - بَغْلَةٌ شَهْبَاءُ فَرَكِبَهَا، وَأَخَذَ عُقْبَةُ يَقُودُهَا بِهِ، فَقَالَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - لِعُقْبَةَ: اقْرَأْ، قَالَ: وَمَا أَقْرَأُ يَا رَسُولَ الله؟ قَالَ: اقْرَأْ { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ } ، فَأَعَادَهَا عَلَي حَتَّى قَرَأْتُهَا، فَعَرَفَ أَنِّي لَمْ أَفْرَحْ بِهَا جِدًّا، قَالَ: لَعَلكَ تَهَاوَنْتَ بِهَا، فَمَا قُمْتُ، يَعْنِي بِمِثْلِهَا ) (2) .
وفي رواية أخرى عند النسائي وصححها الألباني من حديث عقبة - رضي الله عنه - قال: ( قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : قل، قلت: وما أقول؟ قال: قل هو الله أحد، قل أعوذ برب الفلق، قل أعوذ برب الناس، فقرأهن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم قال: لم يتعوذ الناس بمثلهن أو لا يتعوذ الناس بمثلهن ) (3) .
__________
(1) النسائي في القيام، باب بأي شيء تستفتح صلاة الليل 3/213 (1626) ، مشكاة المصابيح (1209) .
(2) النسائي في الاستعاذة، باب الاستعاذة 8/252 (5433) .
(3) السابق 4/441 (7852) .(1/444)
وعند البخاري من حديث شداد بن أوس - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( سَيِّدُ الاِسْتِغْفَارِ أَنْ تَقُولَ: اللهمَّ أَنْتَ رَبِّي، لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ، خَلَقْتَنِي وَأَنَا عَبْدُكَ، وَأنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ .. الحديث ) (1)، وعند مسلم من حديث ابن عمر - رضي الله عنه - أنه أمر رجلا إذا أخذ مضجعه أن يقول: ( اللهمَّ خَلَقْتَ نفسي وَأَنْتَ تَوَفَّاهَا، لَكَ مَمَاتُهَا وَمَحْيَاهَا، إِنْ أَحْيَيْتَهَا فَاحْفَظْهَا، وَإِنْ أَمَتَّهَا فَاغْفِرْ لَهَا اللهمَّ إني أَسْأَلُكَ الْعَافِيَةَ، فَقَالَ لَهُ رَجُل: أَسَمِعْتَ هَذَا مِنْ عُمَرَ؟ فَقَالَ: مِنْ خَيْرٍ مِنْ عُمَرَ مِنْ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - ) (2) .
وروى أبو داود وصححه الألباني من حديث أبي صالح - رضي الله عنه - قال: ( سمعت رجلا من أسلم قال: كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَجَاءَ رَجُل مِنْ أَصْحَابِهِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ لُدِغْتُ الليْلَةَ؛ فَلَمْ أَنَمْ حَتَّى أَصْبَحْتُ، قَالَ: مَاذَا؟ قَالَ: عَقْرَبٌ، قَالَ: أَمَا إِنَّكَ لَوْ قُلْتَ حِينَ أَمْسَيْتَ أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ الله التَّامَّاتِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ لَمْ تَضُرَّكَ إِنْ شَاءَ اللهُ ) (3) .
الدعاء باسم الله الخالق دعاء عبادة .
__________
(1) البخاري في الدعوات، باب أفضل الاستغفار 5/2323 (5947) .
(2) مسلم في الذكر والدعاء والتوبة، باب ما يقول ثم النوم وأخذ المضجع 4/2083 (2712) .
(3) أبو داود في كتاب الطب، باب كيف الرقى 4/13 (3898) .(1/445)
أثر الاسم في سلوك العبد يتجلى في إيمانه بأن ما قدره الخالق وكتبه في اللوح كائن لا محالة، وأنه سيخلقه بمشيئته وقدرته، فيؤمن بقدر الله ويعمل بشريعته، ولا يضرب أحدهما بالآخر، ويعلم أنه ميسر لما خلق له، روى أبو داود وصححه الألباني من حديث مسلم بن يسار الجهني أن عمر - رضي الله عنه - سئل عن هذه الآية: { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالوا بَلى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولوا يَوْمَ القِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلينَ } [الأعراف:172]، فقال عمر - رضي الله عنه - سمعت رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - سئل عنها فقال: ( إِنَّ اللهَ - عز وجل - خَلقَ آدَمَ ثُمَّ مَسَحَ ظَهْرَهُ بِيَمِينِهِ فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّةً فَقَال: خَلقْتُ هَؤُلاَءِ للجَنَّةِ وَبِعَمَل أَهْل الجَنَّةِ يَعْمَلونَ ثُمَّ مَسَحَ ظَهْرَهُ فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّةً فَقَال: خَلقْتُ هَؤُلاَءِ للنَّارِ وَبِعَمَل أَهْل النَّارِ يَعْمَلونَ، فَقَال رَجُل: يَا رَسُول اللهِ فَفِيمَ العَمَل؟ فَقَال رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : إِنَّ اللهَ - عز وجل - إِذَا خَلقَ العَبْدَ للجَنَّةِ اسْتَعْمَلهُ بِعَمَل أَهْل الجَنَّةِ حَتَّى يَمُوتَ عَلى عَمَل مِنْ أَعْمَال أَهْل الجَنَّةِ فَيُدْخِلهُ بِهِ الجَنَّةَ، وَإِذَا خَلقَ العَبْدَ للنَّارِ اسْتَعْمَلهُ بِعَمَل أَهْل النَّارِ حَتَّى يَمُوتَ عَلى عَمَل مِنْ أَعْمَال أَهْل النَّارِ فَيُدْخِلهُ بِهِ النَّارَ ) (1) .
__________
(1) أبو داود في السنة، باب في القدر4/226 رقم (4703) وقال الشيخ الألباني: حديث صحيح إلا مسح الظهر انظر صحيح أبي داود 3 /891 (3936)، وشرح الطحاوية ص220، ص266 .(1/446)
ومن دعاء العبادة شكر العبد لخالقه من خلال قوله وفعله، وطاعته لله - عز وجل - في كل جزء من بدنه، روى مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها أنها سمعت رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يقول: ( خُلقَ كُل إِنْسَانٍ مِنْ بَنِي آدَمَ عَلى سِتِّينَ وَثَلاَثِمَائَةِ مَفْصِل، فَمَنْ كَبَّرَ اللهَ، وَحَمِدَ اللهَ، وَهَلل اللهَ وَسَبَّحَ اللهَ، وَاسْتَغْفَرَ اللهَ، وَعَزَل حَجَرًا عَنْ طَرِيقِ النَّاسِ، أَوْ شَوْكَةً أَوْ عَظْمًا عَنْ طَرِيقِ النَّاسِ، وَأَمَرَ بِمَعْرُوفٍ أَوْ نَهَى عَنْ مُنْكَرٍ عَدَدَ تِلكَ السِّتِّينَ وَالثَّلاَثِمِائَةِ السُّلاَمَى، فَإِنَّهُ يَمْشِي يَوْمَئِذٍ وَقَدْ زَحْزَحَ نَفْسَهُ عَنِ النَّارِ ) (1)، ومن أثر الاسم على العبد إيمانه بأن الخالق في أوصافه يختلف عن المخلوق فلا يُزينن له الشيطان أن يخضع الخالق لأحكام المخلوق، بل يستعذ بالله من نزغه ووسواسه، روى مسلم من حديث أَبِي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: ( ليَسْأَلنَّكُمُ النَّاسُ عَنْ كُل شيء حَتَّى يَقُولوا: اللهُ خَلقَ كُل شيء فَمَنْ خَلقَهُ ) (2) .
__________
(1) مسلم في الزكاة، باب بيان أن اسم الصدقة يقع على كل نوع من المعروف 2/698 (1007) .
(2) مسلم في الإيمان، باب بيان الوسوسة في الإيمان وما يقوله من وجدها 1/121 (135) .(1/447)
وكذلك لا يتشبه بالله فيما انفرد به من الخلق والربوبية؛ فيمثل التماثيل ويتشبه بالله في الخلق والتصوير، روى البخاري عن مسلم بن صبيح الهمداني أنه قَال: ( كُنَّا مَعَ مَسْرُوقٍ فِي دَارِ يَسَارِ بْنِ نُمَيْرٍ فَرَأي فِي صُفَّتِهِ تَمَاثِيل فَقَال: سَمِعْتُ عَبْد َاللهِ بن مسعود قَال: سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: إِنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَذَابًا عِنْدَ اللهِ يَوْمَ القِيَامَةِ المُصَوِّرُونَ ) (1)، وعند أحمد من حديث ابن عمر - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ القِيَامَةِ المُصَوِّرُونَ يُقَالُ لهُمْ أَحْيُوا مَا خَلقْتُمْ ) (2)، وفي صحيح البخاري من حديث أبي زُرْعَةَ البجلي قَال: ( دَخَلتُ مَعَ أَبِي هُرَيْرَةَ دَارًا بِالمَدِينَةِ فَرَأي أَعْلاهَا مُصَوِّرًا يُصَوِّرُ قَال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ ـ يعني عن رب العزة أنه قال - عز وجل -: ( وَمَنْ أَظْلمُ مِمَّنْ ذَهَبَ يَخْلُقُ كَخَلقِي فَليَخْلُقُوا حَبَّةً وَليَخْلُقُوا ذَرَّةً ) (3)، فالحديث نبه فيه الله - عز وجل - بالذرة والشعيرة على ما هو أعظم منها وأكبر .
أما من جهة التسمية بعبد الخالق، فقد تسمى به أبو روح البصري عبد الخالق بن سلمة الشيباني، من الطبقة السادسة الذين عاصروا صغار التابعين، وهو ثقة مقل كما ذكر ابن حجر والذهبي (4) .
********************************
12- الله - جل جلاله - الْبَارِئُ
********************************
الدليل على ثبوت الاسم وإحصائه .
__________
(1) البخاري في كتاب اللباس، باب عذاب المصورين يوم القيامة 5/2220 (5606) .
(2) مسند الإمام أحمد 1/375 (3558)، وقال شعيب الأرنؤوط: إسناده صحيح على شرط الشيخين .
(3) البخاري في اللباس، باب نقض الصور 5/2220 (5609) .
(4) تهذيب التهذيب 6/123.(1/448)
ورد الاسم في القرآن مطلقا معرفا مرادا به العلمية ودالا على كمال الوصفية في قوله تعالى: { هُوَ اللهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى } [الحشر:24] .
وورد مقيدا في قوله موسى - عليه السلام - لقومه: { فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } [البقرة:54]، والاسم لم يرد في السنة إلا في سرد الأسماء المدرجة عند الترمذي وابن ماجة، وهو ليس حجة في إثبات أسماء الله الحسنى .
شرح الاسم وتفسير معناه .
البارئ في اللغة اسم فاعل فعله برأ يبرأ برءا، وبَرُء بضم الراء أي خلا من العيب أو التهمة والمذمة، وخلص منها وتنزه عن وصفه بالنقص، وأبرأ فلانا من حق له عليه أي خلصه منه، وبرئ المريض أي شفي من مرضه (1)، وفي صحيح مسلم من حديث جَابِرٍ - رضي الله عنه - أنْ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: ( لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءٌ فَإِذَا أُصِيبَ دَوَاءُ الدَّاءِ بَرَأَ بِإِذْنِ اللهِ - عز وجل - ) (2)، والبريء مرادف للبراء كما في قوله تعالى: { وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا } [النساء:112]، وقوله: { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاء مِّمَّا تَعْبُدُونَ } [الزخرف:26]، ويقال: بريت القلم أي جعلته صالحا للكتابة , وبريت السهم أي جعلته مناسبا وصالحا للإصابة، وقال الشاعر:
يا باري القوس بريا ليس يحكمه : لا تفسد القوس أعط القوس باريها (3) .
__________
(1) تفسير غريب القرآن لابن قتيبة ص15، جامع الأصول في أحاديث الرسول لابن الأثير 4/177 .
(2) مسلم كتاب السلام، باب لكل داء دواء واستحباب التداوي 4/1729 (2204) .
(3) اشتقاق أسماء الله ص242، ولسان العرب 1/239، وصبح الأعشى 2/485 .(1/449)
قال أبو إسحاق: ( البرء خلق على صفة، فكل مبروء مخلوق، وليس كل مخلوق مبروءا، وذلك لأن البرء من تبرئة الشيء من الشيء من قولهم: برأت من المرض وبرئت من الدَّيْن أبرأ منه، فبعض الخلق إذا فصل من بعض سمي فاعلة بارئا ) (1) .
والبارئ إذا كان تقدير فعله برء يَبْرَأ كفعل لازم فإن معناه السالم الخالي من النقائص والعيوب، والبارئ سبحانه له الكمال المطلق في ذاته وصفاته وأفعاله، تنزه عن كل نقص، وتقدس عن كل عيب، لا شبيه له ولا مثيل، ولا ند له ولا نظير .
أما إذا كان البارئ تقدير فعله أبرأ كفعل متعد لمفعول، فالبارئ سبحانه يعني واهب الحياة للأحياء، الذي خلق الأشياء صالحة ومناسبة للغاية التي أرادها، وهو الذي يُتِم الصنعة على وجه التدبير ويظهر المقدور وفق سابق التقدير، قال تعالى: { مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ } [الحديد:22] .
والبارئ أيضا هو الذي أبرأ الخلق، وفصل كل جنس عن الآخر، وصور كل مخلوق بما ينساب الغاية من خلقه (2)، قال أبو علي: ( هو المعنى الذي به انفصلت الصور بعضها من بعض، فصورة زيد مفارقة لصورة عمرو، وصورة حمار مفارقة لصورة فرس فتبارك الله خالقا وبارئا ) (3) .
دلالة الاسم على أوصاف الله .
__________
(1) تفسير أسماء الله الحسنى للزجاج ص37 .
(2) الأسماء والصفات للبيهقي ص40، والمقصد الأسنى ص72، وتفسير القرطبي 18/48، وشرح أسماء الله الحسنى للرازي ص216، والكشاف للزمخشري 4/85 .
(3) تفسير أسماء الله الحسنى للزجاج ص37 .(1/450)
اسم الله البارئ يدل بالمطابقة على ذات الله وعلى البراءة من العيب كوصف ذات والإبراء للخلق كوصف فعل، وعلى الذات وحدها بالتضمن، وعلى الصفة وحدها بالتضمن، فالبارئ إذا كان تقدير فعله برء يَبْرَأ كفعل لازم؛ فالله - عز وجل - هو البارئ من كل نقص المتصف بالجلال والكمال، وإذا كان تقدير فعله أبرأ كفعل متعد فهو وصف فعل به قدَّر الأحداث وفصل الأجناس وتميز الناس .
قال تعالى: { مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى الله يَسِيرٌ } [الحديد:22]، وقال - عز وجل -: { يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ الله وَجِيهاً } [الأحزاب:69] .
وعند البخاري من حديث أَبِى جحيفة - رضي الله عنه - قال: ( قُلتُ لِعَلِىٍّ - رضي الله عنه -: هَل عِنْدَكُمْ شَيءٌ مِنَ الوَحْي إِلاَّ مَا فِي كِتَابِ الله؟ قَالَ: وَالذِي فَلَقَ الحَبَّةَ وَبَرَأَ النَّسَمَةَ .. الحديث ) (1) .
وعليه فإن الله - عز وجل - تسمي بالبارئ وهو موصوف بإحداث البرايا، والاسم يدل باللزوم على الحياة والقيومية والعلم والقدرة، ويدل أيضا على الغنى والقوة والإتقان والخبرة والعظمة والحكمة، وغير ذلك من صفات الكمال، واسم الله البارئ دل على صفة من صفات الذات والأفعال .
الدعاء باسم الله البارئ دعاء مسألة .
__________
(1) البخاري كتاب الجهاد، باب فكاك الأسير 3/1110 رقم (2883) .(1/451)
لم يرد الدعاء بالاسم المطلق ولكن ورد دعاء المسألة بالوصف فيما رواه أحمد وصححه الشيخ الألباني من حديث عبد الرحمن التميمي - رضي الله عنه - أن جبريل - عليه السلام - علم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يقول: ( أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ الله التَّامَّاتِ التي لاَ يُجَاوزُهُنَّ بَرٌّ وَلاَ فَاجِرٌ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ وَذَرَأَ وَبَرَأَ .. الحديث ) (1)، وروى مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت: ( كَانَ إِذَا اشْتَكَى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - رَقَاهُ جِبْرِيلُ قَالَ بِاسْمِ اللهِ يُبْرِيكَ وَمِنْ كُلِّ دَاءٍ يَشْفِيكَ وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ وَشَرِّ كُلِّ ذِي عَيْنٍ ) (2) .
__________
(1) مسند الإمام أحمد 3/419 (15859)، وصحيح الجامع (74)، والسلسلة الصحيحة (840) .
(2) مسلم في السلام، باب رآه والمرض والرقى 4/1718 (2185) .(1/452)
وقد ورد دعاء المسألة بمقتضى المعنى المناسب للاسم، وطلب المسلم من ربه البراءة من كل إثم، وما يغضب الله من الأقوال والأفعال، ومن ذلك ما رواه البخاري من حديث سالم عن أبيه - رضي الله عنه - قال: ( بَعَثَ النبي - صلى الله عليه وسلم - خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ إِلَى بني جَذِيمَةَ فَدَعَاهُمْ إِلَى الإِسْلاَمِ؛ فَلَمْ يُحْسِنُوا أَنْ يَقُولُوا أَسْلَمْنَا، فَجَعَلُوا يَقُولُونَ صَبَأْنَا، وَجَعَلَ خَالِدٌ قَتْلاً وَأَسْرًا، فَدَفَعَ إِلَى كُلِّ رَجُلٍ أَسِيرَهُ حَتَّى إِذَا أَصْبَحَ يَوْمُنَا، أَمَرَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ أَنْ يَقْتُلَ كُلُّ رَجُلٍ مِنَّا أَسِيرَهُ، قَالَ ابْنُ عُمَرَ: فَقُلْتُ وَالله لاَ أَقْتُلُ أسيري وَلاَ يَقْتُلُ أَحَدٌ .. فَقَدِمْنَا عَلَى النبي - صلى الله عليه وسلم - فَذُكِرَ لَهُ صُنْعُ خَالِدٍ، فَقَالَ النبي - صلى الله عليه وسلم - وَرَفَعَ يَدَيْهِ: اللهمَّ إني أَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ خَالِدٌ، مَرَّتَيْنِ ) (1) .
__________
(1) البخاري في المغازي، باب بعث النبي S خالد بن الوليد إلى بني جذيمة 4/1577 (4084) .(1/453)
وعند البخاري من حديث أنس - رضي الله عنه - أن عمه أنس بن النضر - رضي الله عنه - غاب عن قتال بدر فقال: ( غِبْتُ عَنْ أَوَّلِ قِتَالٍ قَاتَلَهُ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - الْمُشْرِكِينَ، لَئِنِ الله أشهدني قِتَالاً لِلْمُشْرِكِينَ لَيَرَيَنَّ الله كَيْفَ أَصْنَعُ؟ فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ انْكَشَفَ الْمُسْلِمُونَ فَقَالَ: اللهمَّ إني أَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا جَاءَ بِهِ هَؤُلاَءِ، يَعْنِي الْمُشْرِكِينَ، وَأَعْتَذِرُ إِلَيْكَ مِمَّا يَصْنَعُ هَؤُلاَءِ يَعْنِي أَصْحَابَهُ، ثُمَّ تَقَدَّمَ فَلَقِيَهُ سَعْدٌ فَقَالَ: يَا أخي مَا فَعَلْتَ؟ أَنَا مَعَكَ، فَلَمْ أَسْتَطِعْ أَنْ أَصْنَعَ مَا صَنَعَ، فَوُجِدَ فِيهِ بِضْعٌ وَثَمَانُونَ مِنْ ضَرْبَةٍ بِسَيْفٍ وَطَعْنَةٍ بِرُمْحٍ وَرَمْيَةٍ بِسَهْمٍ فَكُنَّا نَقُولُ فِيهِ وَفِي أَصْحَابِهِ نَزَلَتْ: { فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ } [الأحزاب:23] ) (1).
وروى مسلم من حديث جندب - رضي الله عنه - قال سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يموت بخمس وهو يقول: ( إني أَبْرَأُ إِلَى الله أَنْ يَكُونَ لي مِنْكُمْ خَلِيلٌ، فَإِنَّ الله تَعَالَى قَدِ اتخذني خَلِيلاً كَمَا اتَّخَذَ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً، وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا مِنْ أمتي خَلِيلاً لاَتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلاً، أَلاَ وَإِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ وَصَالِحِيهِمْ مَسَاجِدَ، أَلاَ فَلاَ تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ إني أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ ) (2) .
الدعاء باسم الله البارئ دعاء عبادة .
__________
(1) البخاري في الجهاد، باب غزوة أحد 4/ 1487 (3822) .
(2) مسلم في المساجد، باب النهي عن بناء المساجد على القبور 1/377 (532) .(1/454)
دعاء العبادة هو مراعاة العبد لاسمه البارئ في سلوكه؛ فيبرأ إلى الله من كل شهوة تخالف أمره، ومن كل شبهة تخالف خبره، ومن كل ولاء لغير دينه وشرعه، ومن كل بدعة تخالف سنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - ، ومن كل معصية تؤثر على محبة الله وقربه، ورضاه سبحانه عن عبده .
روى النسائي وصححه الألباني من حديث صفوان بن محرز - رضي الله عنه - أنه قال: ( أُغْمِي عَلى أَبِي مُوسَى فَبَكَوْا عَليْهِ فَقَال: أَبْرَأُ إِليْكُمْ كَمَا بَرِئَ إِليْنَا رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ليْسَ مِنَّا مَنْ حَلقَ وَلاَ خَرَقَ وَلاَ سَلق ) (1)، وعند مسلم من حديث أم سلمة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( إِنَّهُ يُسْتَعْمَل عَليْكُمْ أُمَرَاءُ فَتَعْرِفُونَ وَتُنْكِرُونَ، فَمَنْ كَرِهَ فَقَدْ بَرِئَ وَمَنْ أَنْكَرَ فَقَدْ سَلمَ، وَلكِنْ مَنْ رَضِيَ وَتَابَعَ ) (2) .
وقال تعالى عن خليله إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - : { وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأبِيهِ إِلا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلمَّا تَبَيَّنَ لهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ للهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَليمٌ } [التوبة:114] .
__________
(1) النسائ في كتاب الجنائز، باب السلق 4/20 (1861) وانظر صحيح الترغيب والترهيب، وخرق شق الثياب وسلق رفع صوته عند المصيبة .
(2) مسلم في الإمارة، باب وجوب الإنكار على الأمراء فيما يخالف الشرع 3/1480(1854) .(1/455)
كما أنه ينبغي على العبد أن يتقي الله - عز وجل - في عمله؛ فيخلص فيه ويتقنه ما استطاع ليظهر جمال الصنعة توحيدا لمن أبرأ صانعها وعلمه ما لم يكن يعلم، ومنحه قوة على التفكير والإبداع، وقد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك كما روى الطبراني وصححه الشيخ الألباني من حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( إِنَّ الله يُحِبُ إذا عَمِل أحَدُكُم عَمَلا أنْ يُتْقِنَه ) (1)، فإذا كانت دقة الصنعة وإتقانها دليلا على خبرة صانعها وقدرته على الإبداع، فالذي خلق صانعها وصوره وأبرأه على هذا الكمال له مطلق الحق في أن يعبد وأن يطاع .
أما من جهة التسمية بعبد البارئ والتعبد لله بهذا الاسم، فقد تسمى به عبد البارئ بن إسحاق، روى عنه البيهقي بعضا من كلام ذي النون المصري قال: ( ثلاثة من علامات السنة المسح على الخفين والمحافظة على صلوات الجمع وحب السلف ) (2) .
********************************
13- الله - جل جلاله - المصَوِّرُ
********************************
الدليل على ثبوت الاسم وإحصائه .
لم يرد الاسم في القرآن إلا في قوله تعالى: { هُوَ اللهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى } [الحشر:24]، وقد تحققت فيه شروط الإحصاء كما في الأسماء السابقة، ولم يثبت في السنة النبوية .
شرح الاسم وتفسير معناه .
__________
(1) المعجم الأوسط 1/275 (897)، السلسلة الصحيحة (1113) .
(2) شعب الإيمان 3/79، 3/ 469 .(1/456)
المصور في اللغة اسم فاعل للموصوف بالتصوير، فعله صور وأصله صار يَصُور صوْرا، وصور الشيء أي جعل له شكلا معلوما، وصور الشيء قطعه وفصله وميزه عن غيره، وتصويره جعله على شكل متصور وعلى وصف معين، والصورة هي الشكل والهيئة أو الذات المتميزة بالصفات (1)، قال الراغب: ( الصورة ما ينتقش به الأعيان ويتميز بها غيرها، وذلك ضربان: أحدهما محسوس يدركه الخاصة والعامة، بل يدركه الإنسان وكثير من الحيوان بالمعاينة كصورة الإنسان والفرس والحمار، والثاني معقول يدركه الخاصة دون العامة كالصورة التي اختص الإنسان بها من العقل والروية والمعاني التي خُص بها شيء بشيء ) (2) .
والمصور سبحانه هو الذي صور المخلوقات بشتى أنواع الصور الجلية والخفية والحسية والعقلية، فلا يتماثل جنسان أو يتساوى نوعان بل لا يتساوى فردان، فلكلٍ صورته وسيرته وما يخصه ويميزه عن غيره، والصور متميزة بألوان وأشكال في ذاتها وصفاتها، وإحصاؤها في نوع واحد أو حصرها في جنس واحد أمر يعجز العقل ويذهل الفكر، فالمصور في أسماء الله الحسنى هو مبدع صور المخلوقات ومزينها بحكمته ومعطي كل مخلوق صورته على ما اقتضت مشيئته وحكمته، وهو الذي صور الناس في الأرحام أطوارا ونوعهم أشكالا كما قال تعالى: { وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ منَ السَّاجِدِينَ } [الأعراف:11] .
__________
(1) اشتقاق أسماء الله ص 243 .
(2) مفردات ألفاظ القرآن ص 497 .(1/457)
والله - عز وجل - كما صور الأبدان فتعددت وتنوعت نوع أيضا في الأخلاق فتتعدد صور الطباع والسلوك والمواهب والأفكار (1)، وأعظم تكريم للإنسان من الله المصور أنه خلقه على صورته في المعنى المجرد ليستخلفه في أرضه ويستأمنه في ملكه، روى البخاري ومسلم من حديث أَبِي هريرة - رضي الله عنه - أنِ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( خَلَقَ الله آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ طُولُهُ سِتُّونَ ذِرَاعًا، فَلَمَّا خَلَقَهُ قَالَ اذْهَبْ فَسَلِّمْ عَلَى أُولَئِكَ النَّفَرِ مِنَ الْمَلاَئِكَةِ جُلُوسٌ فَاسْتَمِعْ مَا يُحَيُّونَكَ فَإِنَّهَا تَحِيَّتُكَ وَتَحِيَّةُ ذُرِّيَّتِكَ؛ فَقَالَ: السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ: فَقَالُوا: السَّلاَمُ عَلَيْكَ وَرَحْمَة اللهِ فَزَادُوهُ وَرَحْمَة اللهِ، فَكل مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ عَلَى صُورَةِ آدَمَ، فَلَمْ يَزَلِ الْخَلْقُ يَنْقُصُ بَعْدُ حَتَّى الآنَ ) (2) .
والحديث ظاهر المعنى في أن الله - عز وجل - صور آدم وجعل له سمعا وبصرا وعلما وحكما وخلافة وملكا وغير ذلك من الأوصاف المشتركة عند التجرد، والتي يصح عند إطلاقها استخدامها في حق الخالق والمخلوق، فالله - عز وجل - له صورة وآدم له صورة، ولفظ الصورة عند التجرد لا يعني التماثل قط، ولا يكون علة للتشبيه إلا عند من فسدت فطرته من المشبهة والمعطلة .
__________
(1) الأسماء والصفات للبيهقي ص44، والمقصد الأسنى ص72، وشرح أسماء الله الحسنى للرازي ص217 .
(2) البخاري في الاستئذان، باب بدء السلام 5/2299(5873)، ومسلم في كتاب الجنة 4/2183(2841) .(1/458)
أما الصورة عند الإضافة والتقييد فصورة الحق لا يعلم كيفيتها إلا هو، لأننا ما رأيناه وما رأينا له مثيلا، أما صورة آدم فمعلومة المعنى والكيفية، وقد خلق الله آدم على صورته - عز وجل - في القدر المشترك مع ثبوت الفارق عند أهل التوحيد، قال ابن تيمية: ( ما من شيئين إلا بينهما قدر مشترك وقدر فارق فمن نفى القدر المشترك فقد عطل، ومن نفى القدر الفارق فقد مثل ) (1)، والحديث عن ذلك له موضعه، والقصد أن المصور سبحانه خص الإنسان بهيئة متميزة، من خلالها يدرك بالبصر والبصيرة، وأسجد له بعد تصويره الملائكة، وليس بعد ذلك شرف أو فضيلة (2) .
دلالة الاسم على أوصاف الله .
اسم الله المصور يدل على ذات الله وعلى صفة التصوير بدلالة المطابقة، وعلى أحدهما بالتضمن، قال تعالى: { الله الذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ قَرَاراً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ } [غافر:64]، وقال - عز وجل -: { هُوَ الذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ } [آل عمران:6]، وقال أيضا: { وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلنَا لِلمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ } [الأعراف:11]، وقال تعالى: { يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ الذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ } [الانفطار:6/8] .
__________
(1) الرسالة التدمرية ضمن مجموع الفتاوى 3/69 .
(2) انظر أقوال العلماء في المراد بحديث بقوله خلق الله آدم على صورته، فتح الباري 5/183 .(1/459)
وعند مسلم من حديث أنس - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( لَمَّا صَوَّرَ الله آدَمَ في الجَنَّةِ تَرَكَهُ مَا شَاءَ الله أَنْ يَتْرُكَهُ، فَجَعَلَ إِبْلِيسُ يُطِيفُ بِهِ يَنْظُرُ مَا هُوَ؟ فَلَمَّا رَآهُ أَجْوَفَ عَرَفَ أَنَّهُ خُلِقَ خَلقًا لاَ يَتَمَالَكُ ) (1)، وعند البخاري من حديث أنس - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( مَا رَأَيْتُ في الخَيْرِ وَالشَّرِّ كَاليَوْمِ قَطُّ، إِنَّهُ صُوِّرَتْ لي الجَنَّةُ وَالنَّارُ حَتَّى رَأَيْتُهُمَا دُونَ الحَائِطِ ) (2) ، واسم الله المصور يدل باللزوم على ما دل عليه اسمه الخالق البارئ من صفات الكمال، وقد دل على صفة من صفات الأفعال .
الدعاء باسم الله المصور دعاء مسألة .
__________
(1) مسلم في البر والصلة والأدب، باب خلق الإنسان خلقا لا يتمالك 4/ 2016 (2611) .
(2) البخاري في الفتن، باب التعوذ من الفتن 5/2340 (6001) .(1/460)
ورد الدعاء بالوصف فيما رواه مسلم من حديث علي - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا سجد قال: ( اللهمَّ لَكَ سَجَدْتُ، وَبِكَ آمَنْتُ، وَلَكَ أَسْلَمْتُ، سَجَدَ وَجْهِي للذِي خَلَقَهُ وَصَوَّرَهُ وَشَقَّ سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ تَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخَالِقِينَ ) (1)، فالرسول - صلى الله عليه وسلم - ذكر في دعاء المسألة بين يدي مطلبه الوصف الذي تضمنه الاسم، ثم طلب من الله ما شاء فقال: ( أَنْتَ رَبِّي وَأَنَا عَبْدُكَ، ظَلَمْتُ نَفْسِي، وَاعْتَرَفْتُ بِذَنْبِي، فَاغْفِرْ لِي ذُنُوبِي جَمِيعًا إِنَّهُ لاَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ أَنْتَ، وَاهْدِنِي لأَحْسَنِ الأَخْلاَقِ لاَ يَهْدِي لأَحْسَنِهَا إِلاَّ أَنْتَ وَاصْرِفْ عَنِّي سَيِّئَهَا لاَ يَصْرِفُ عَنِّي سَيِّئَهَا إِلاَّ أَنْتَ ) (2)، وروى الطبراني وصححه الألباني من حديث أسامة بن زيد - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل البيت؛ فرأى صورا؛ فدعا بماء فجعل يمحوها ويقول: ( قاتل الله قوما يصورون ما لا يخلقون ) (3) .
الدعاء باسم الله المصور دعاء عبادة .
__________
(1) مسلم في صلاة المسافرين 1/535 (771) .
(2) الموضع السابق .
(3) المعجم الكبير 1/166 (407)، وانظر صحيح الجامع (4292) .(1/461)
دعاء العبادة باسم الله المصور أن يراعي العبد توحيد الله فيه، فلا يتشبه به فيما انفر به من الربوبية ويقع في شرك تصوير، روى مسلم وأحمد من حديث سعيد بن أبي الحسن أنه قال: ( جَاءَ رَجُل إِلى ابْنِ عَبَّاسٍ - رضي الله عنه - فَقَال: إِنِّي رَجُل أُصَوِّرُ هَذِهِ الصُّوَرَ فَأَفْتِنِي فِيهَا، وفي رواية أحمد قال: مَعِيشَتِي مِنْ صَنْعَةِ يَدِي وَإِنِّي أَصْنَعُ هَذِهِ التَّصَاوِيرَ، فَقَال لهُ: ادْنُ مِنِّي، فَدَنَا مِنْهُ، ثُمَّ قَال: ادْنُ مِنِّي، فَدَنَا حَتَّى وَضَعَ يَدَهُ عَلى رَأْسِهِ، قَال: أُنَبِّئُكَ بِمَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، سَمِعْتُ رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُول: كُل مُصَوِّرٍ فِي النَّارِ يَجْعَل لهُ بِكُل صُورَةٍ صَوَّرَهَا نَفْسًا فَتُعَذِّبُهُ فِي جَهَنَّمَ، وفي رواية أحمد قَال: فَرَبَا لهَا الرَّجُل رَبْوَةً شَدِيدَةً وَاصْفَرَّ وَجْهُهُ، فَقَال لهُ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَيْحَكَ إِنْ أَبَيْتَ إِلاَّ أَنْ تَصْنَعَ، فَعَليْكَ بِهَذَا الشَّجَرِ، وَكُل شَيْءٍ ليْسَ فِيهِ رُوحٌ، وفي رواية أحمد: إِنْ كُنْتَ لاَ بُدَّ فَاعِلاً فَاصْنَعِ الشَّجَرَ وَمَا لاَ نَفْسَ له) (1) .
وروى الطبراني وحسنه الشيخ الألباني من حديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( أشد الناس عذابا يوم القيامة رجل قتل نبيا، أو قتله نبي أو رجل يضل الناس بغير علم، أو مصور يصور التماثيل ) (2) .
__________
(1) مسلم في اللباس، باب تحريم تصوير صورة الحيوان 3/1670(2110)، وأحمد في المسند 1/308 .
(2) المعجم الكبير 10/211 (10497)، صحيح الجامع (1000) .(1/462)
وقد وردت النصوص النبوية في كثير من المواضع بتحريم عموم التصوير، والعلماء لهم في ذلك تفصيل؛ فلا خلاف بينهم في أن نحت التماثيل محرم شرعا، وأغلبهم على تحريم الصور عموما إلا ما تدعو الضرورة إليه كالصور اللازمة للتعريف بالشخص في الرخص والبطاقات وغير ذلك من المستجدات، أما تصوير ما لا روح فيه كالشجر والجبل والسيارات ونحو ذلك فلا حرج فيه (1) .
ومن جهة التسمية بعبد المصور والتعبد بهذا الاسم فلم يتسم به أحد من السلف أو الخلف في مجال ما أجرينا عليه البحث الحاسوبي، أما في عصرنا فكان للشيخ محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله السبق في تسمية ولده عبد المصور تعظيما لأسماء الله الحسنى الثابتة في الكتاب والسنة .
********************************
14- الله - جل جلاله - الأوَّلُ
********************************
الدليل على ثبوت الاسم وإحصائه .
اسم الله الأول سمى الله نفسه به على سبيل الإطلاق مرادا به العلمية ودالا على كمال الوصفية في نص واحد من النصوص القرآنية، قال تعالى: { هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } [الحديد:3]، وورد في السنة عند مسلم من حديث أَبِى هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - أن النَّبِيِ - صلى الله عليه وسلم - قال: ( اللهُمَّ أَنْتَ الأَوَّلُ فَليْسَ قَبْلكَ شيء، وَأَنْتَ الآخِرُ فَليْسَ بَعْدَكَ شيء، وَأَنْتَ الظَّاهِرُ فَليْسَ فَوْقَكَ شيء، وَأَنْتَ البَاطِنُ فَليْسَ دُونَكَ شيء، اقْضِ عَنَّا الدَّيْنَ وَاغْنِنَا مِنَ الفَقْرِ ) (2) .
شرح الاسم وتفسير معناه .
__________
(1) شرح العمدة في الفقه لابن تيمية 4/ 389 .
(2) مسلم في الذكر والدعاء والتوبة، باب ما يقول ثم النوم وأخذ المضجع 4/2084 (2713)، والترمذي في كتاب الدعوات 5/518 (3481)، وابن ماجه في الدعاء، باب دعاء رسول الله S 2/1259 (3831) .(1/463)
الأول في اللغة على وزن أفعل، تأسيس فعله من همزة وواو ولام، آل يؤول أوْلا وقد قيل من واوين ولام، والأول أفصح وهو في اللغة صفة مشبهة للموصوف بالأولية وهو الذي يترتب عليه غيره، والأولية أيضا الرجوع إلى أول الشيء ومبدؤه أو مصدره وأصله، ويستعمل الأول للمتقدم بالزمان كقولك عبد الملك أولا ثم المنصور، والمتقدم بالرياسة في الشيء وكون غيره محتذيا به نحو الأمير أولا ثم الوزير، والمتقدم بالنظام الصناعي نحو أن يقال: الأساس أولا ثم البناء (1) .
والأول سبحانه هو الذي لم يسبقه في الوجود شيء، وهو الذي علا بذاته وشأنه فوق كل شيء، وهو الذي لا يحتاج إلى غيره في شيء، وهو المستغني بنفسه عن كل شيء (2)، فالأول اسم دل على وصف الأولية، وأولية الله تقدمه على كل من سواه في الزمان، فهي بمعنى القَبلية خلاف البعدية، أو التقدم خلاف التأخر، وهذه أولية زمانية، ومن الأولية أيضا تقدمه سبحانه على غيره تقدما مطلقا في كل وصف كمال وهذا معنى الكمال في الذات والصفات في مقابل العجز والقصور لغيره من المخلوقات فلا يدانيه ولا يساويه أحد من خلقه لأنه سبحانه منفرد بذاته ووصفه وفعله، فالأول هو المتصف بالأولية، والأولية وصف لله وليست لأحد سواه (3) .
__________
(1) مفردات ألفاظ القرآن ص100، وكتاب العين 8/368، واشتقاق أسماء الله ص204 .
(2) السابق ص100، والأسماء والصفات للبيهقي ص 25 .
(3) الأسماء والصفات للبيهقي ص24، تفسير أسماء الله للزجاج ص60، وشرح أسماء الله للرازي ص325 .(1/464)
وربما يستشكل البعض وصف الله - عز وجل - بالأولية مع وصفه بدوام الخالقية والقدرة والفاعلية، فإذا كان الله هو الأول الذي ليس قبله شيء، فهل يعني ذلك أنه كان معطلا عن الفعل ثم أصبح خالقا فاعلا قادرا بعد أن لم يكن؟ والجواب عن ذلك أن يقال: إن الله - عز وجل - موصوف بأنه مريد فعال، يفعل ما يشاء وقت ما يشاء كما قال تعالى: { ذُو العَرْشِ المَجِيد فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ } [البروج:15/16]، وقد بين الله - عز وجل - أنه قبل وجود السماوات والأرض لم يكن سوى العرش والماء كما جاء في قوله: { وَهُوَ الذِي خَلقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلى المَاء } [هود:7]، ومن حديث عِمْرَانَ - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قَال: ( كَانَ اللهُ وَلمْ يَكُنْ شَيْءٌ قَبْلهُ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلى المَاءِ، ثُمَّ خَلقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْض وَكَتَبَ فِي الذِّكْرِ كُل شَيْءٍ ) (1)، وربما يسأل سائل ويقول: وماذا قبل العرش والماء؟
__________
(1) البخاري في كتاب بدء الخلق، باب ما جاء في قوله وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده 3/1166 (3019) .(1/465)
والجواب أن الله قد شاء أن يوقف علمنا عن بداية المخلوقات عند العرش والماء فقال تعالى: { ولا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلمِهِ إِلا بِمَا شَاءَ } [البقرة:255]، فالله أعلم هل توجد مخلوقات قبل العرش والماء أم لا؟ لكننا نعتقد أن وجودها أمر ممكن متعلق بمشيئة الله وقدرته، فالله أخبرنا أنه يخلق ما يشاء، ويفعل ما يشاء وهو على ما يشاء قدير، وأنه متصف بصفات الأفعال، ومن لوازم الكمال أنه فعال لما يريد على الدوام أزلا وأبدا، سواء كان ذلك قبل العرش والماء أو بعد وجودهما، لكن الله - عز وجل - أوقف علمنا عند هذا الحد، كما أن جهلنا بذلك لا يؤثر فيما يخصنا أو يتعلق بحياتنا من معلومات ضرورية لتحقيق الكمال في حياة الإنسان، قال سليمان التيمي: ( لو سئلت أين الله؟ لقلت: في السماء، فإن قال السائل: أين كان عرشه قبل السماء؟ لقلت: على الماء، فإن قال: فأين كان عرشه قبل الماء؟ لقلت: لا أعلم ) (1)، ويعقب الإمام البخاري بقوله: ( وذلك لقول الله تعالى: { ولا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلمِهِ إِلا بِمَا شَاءَ } [البقرة:255]، يعني إلا بما بين ) (2) .
وهذه المسألة تسمى في باب العقيدة بالتسلسل وهو ترتيب وجود المخلوقات في متوالية مستمرة غير متناهية من الأزل والأبد، ومعتقد السلف أن التسلسل في الأزل جائز ممكن، ولا يلزم من ذلك أن الخلق يشارك الله في الأزلية والأولية (3) .
دلالة الاسم على أوصاف الله .
__________
(1) خلق أفعال العباد ص37 .
(2) السابق 37 .
(3) شرح العقيدة الطحاوية ص 135 .(1/466)
اسم الله الأول يدل على ذات الله وعلى صفة الأولية المطلقة بدلالة المطابقة، وعلى ذات الله وحدها بالتضمن، وعلى الصفة وحدها بالتضمن، ووصف الأولية وصف ذاتي يدل على مطلق القبلية وعلو الشأن والفوقية، وقد تقدم من حديث أَبِى هريرة - رضي الله عنه - مرفوعا: ( اللهُمَّ أَنْتَ الأَوَّلُ فَليْسَ قَبْلكَ شيء ) (1)، كما أن الأولية في الأشياء مرجعيتها إلي الله خلقا وإيجادا وعطاء وإمدادا، قال تعالى: { إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدىً لِلعَالَمِينَ } [آل عمران:96]، وقال: { كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً علينَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ } [الأنبياء:104]، وقال: { قُل يُحْيِيهَا الذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلقٍ عَلِيمٌ } [يس:79]، وعند أبي داود وصححه الألباني من حديث عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( إِنَّ أَوَّلَ مَا خَلَقَ الله القَلَمَ فَقَالَ لَهُ: اكْتُبْ قَالَ: رَبِّ وَمَاذَا أَكْتُبُ؟ قَالَ: اكْتُبْ مَقَادِيرَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ ) (2)، واسم الله الأول يدل باللزوم على الحياة والقيومية والسمع والبصر والعلم والحكمة والمشيئة والقدرة والعلو والغني والعظمة وغير ذلك من صفات الكمال، واسم الله الأول دل على صفة من صفات الذات .
الدعاء باسم الله الأول دعاء مسألة .
__________
(1) انظر ص298 .
(2) أبو داود في السنة، باب في القدر 4/225 (4700)، وانظر صحيح الجامع (2018) .(1/467)
ورد الدعاء بالاسم المطلق في حديث مسلم السابق عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا آوى إلى فراشه قال: ( اللهمَّ رَبَّ السَّمَوَاتِ وَرَبَّ الأَرْضِ وَرَبَّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، رَبَّنَا وَرَبَّ كُلِّ شيء، فَالِقَ الْحَبِّ وَالنَّوَى، وَمُنْزِلَ التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالْفُرْقَانِ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ كُلِّ شيء أَنْتَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهِ، اللهمَّ أَنْتَ الأَوَّلُ فَلَيْسَ قَبْلَكَ شيء، وَأَنْتَ الآخِرُ فَلَيْسَ بَعْدَكَ شيء، وَأَنْتَ الظَّاهِرُ فَلَيْسَ فَوْقَكَ شيء وَأَنْتَ الْبَاطِنُ فَلَيْسَ دُونَكَ شيء، اقْضِ عَنَّا الدَّيْنَ وَاغْنِنَا مِنَ الْفَقْرِ ) (1) .
وعند الحاكم وقال صحيح الإسناد ولم يخرجاه من حديث أم سلمة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يدعو بهؤلاء الكلمات: ( اللهم أنت الأول لا شيء قبلك، وأنت الآخر فلا شيء بعدك، أعوذ بك من شر كل دابة ناصيتها بيدك، وأعوذ بك من الإثم والكسل ومن عذاب القبر ومن فتنة القبر، وأعوذ بك من المأثم والمغرم، اللهم نق قلبي من الخطايا كما نقيت الثوب الأبيض من الدنس، اللهم باعد بيني وبين خطيئتي كما بعدت بين المشرق والمغرب ) (2) .
الدعاء باسم الله الأول دعاء عبادة .
__________
(1) مسلم في الذكر والدعاء والتوبة، باب ما يقول ثم النوم 4/2084 (2713) .
(2) الحاكم في المستدرك 1/705 ( 1922) .(1/468)
دعاء العبادة اعتقاد وسلوك يقتضي توحيد الله في اسمه الأول، أما الاعتقاد فمعرفة العبد أن الله - عز وجل - هو الأول الغني بذاته وصفاته، وأن كمال أوصافه أيضا أوَّلي بأولية ذاته؛ فلم يكتسب وصفا كان مفقودا أو كمالا لم يكن موجودا، كما هو الحال بين المخلوقات في اكتساب أوصاف الكمال، فإذا علم المسلم أن أصله من طين وله بداية ونهاية وحياة إلى حين أيقن أن ما قام به من الكمال مرجعه إلى رب العالمين، وأن طاعته تعود إلى توفيق الله وفضله، وأن الفرع لا محالة سيرجع إلى أصله كما ذكر الله - عز وجل - في قوله: { إِليْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللهِ حَقّاً إِنَّهُ يَبْدأُ الخَلقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ليَجْزِيَ الذِينَ آمَنُوا وَعَمِلوا الصَّالحَاتِ بِالقِسْطِ وَالذِينَ كَفَرُوا لهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَليمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ } [يونس:4]، وقال - سبحانه وتعالى -: { وَهُوَ الذِي يَبْدأُ الخَلقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَليْهِ وَلهُ المَثَل الأَعْلى فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ } [الروم:27] .(1/469)
أما أثر الاسم على سلوك العبد فيظهر من محبة الأولية في طلب الخير، وطلب الأسبقية في التزام الأمر، وحرصه على المزيد من الأجر، قال تعالى في وصف عباده الموحدين: { أُولئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الخَيْرَاتِ وَهُمْ لهَا سَابِقُونَ } [المؤمنون:61]، وقال سبحانه أيضا: { إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لنَا خَاشِعِينَ } [الأنبياء:90]، فتجد توحيد الله في اسمه الأول باديا على العبد عند مداومته على الصلاة في أول الوقت، عملا بما ورد عند البخاري من حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - أن رجلا سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - أي الأعمال أفضل قال: ( الصَّلاَةُ لوَقْتِهَا وَبِرُّ الوَالدَيْنِ ثُمَّ الجِهَادُ في سَبِيل اللهِ ) (1) .
وكذلك حرصه على الصف الأول ومجاهدة الآخرين في استباقهم إليه، فقد ورد عند البخاري من حديث أَبِي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( لوْ يَعْلمُ النَّاسُ مَا فِي النِّدَاءِ وَالصَّفِّ الأَوَّل ثُمَّ لمْ يَجِدُوا إِلاَّ أَنْ يَسْتَهِمُوا عَليْهِ لاَسْتَهَمُوا، وَلوْ يَعْلمُونَ مَا فِي التَّهْجِيرِ لاَسْتَبَقُوا إِليْهِ، وَلوْ يَعْلمُونَ مَا فِي العَتَمَةِ وَالصُّبْحِ لأَتَوْهُمَا وَلوْ حَبْوًا ) (2) .
__________
(1) البخاري في التوحيد، باب وسمى النبي S الصلاة عملا 6/2740 (7096) .
(2) البخاري في الأذان، باب الاستهام في الأذان 1/222 (590) .(1/470)
وأخطأ من اعتقد أن العبادة الحق ما كانت بغير عوض أو طلب للأجر، كما روى عن رابعة العدوية أنها قالت: ( ما عبدتك خوفا من نارك ولا طمعا في جنتك ولكن حبا لذاتك ) (1)، فقد ظن البعض أن العبد ينبغي أن يعبد الله - عز وجل - على غير انتظار للثواب وعلى غير خوف من العقاب، بل يسترسل معه على ما ينبغي له من العبودية حتى بلغوا درجة يحتقرون فيها من عبد الله - عز وجل - انتظار لثوابه وخوفا من عقابه، وقد صنفوه من التجار الذين لا يعطون إلا لانتظار العوض، وغالى بعضهم فوصف من يطلب الأجر في عبادته بأنه من عبيد السوء الذين لا يشعرون بطعم محبته، ولا يوقرون الله - عز وجل - لذاته بل لما يصلهم من نعيمه وجنته (2) .
__________
(1) صفة الصفوة 2/249.
(2) انظر طبقات الصوفية للسلمي ص489، والتعرف لمذهب أهل التصوف للكلاباذي ص161، ص184، واللمع في التصوف للسراج الطوسي ص208، ص490، وصفة الصفوة لابن الجوزي 2/249 .(1/471)
وقد أثنى الله على عباده وأوليائه بسؤالهم الجنة ورجائهم لها، والاستعاذة من النار وعذابها، فقال تعالى: { إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ } [الأنبياء:90]، وقال: { وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا } [الفرقان:65/66]، وعند أبي داود وصححه الألباني من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لرجل: ( كَيْفَ تَقُولُ فِي الصَّلاَةِ؟ قَالَ أَتَشَهَّدُ وَأَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْجَنَّةَ وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ النَّارِ، أَمَا إِنِّي لاَ أُحْسِنُ دَنْدَنَتَكَ وَلاَ دَنْدَنَةَ مُعَاذٍ، فَقَالَ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - : حَوْلَهَا نُدَنْدِنُ ) (1) .
وممن تسمى بإضافة العبودية لاسم الله الأول الإمام أبو الوقت عبد الأول بن عيسى قال محمد بن طاهر القيسراني في وفيات سنة ثلاث وخمسين وخمسمائة: ( وفيها مات مسند زمانه الإمام أبو الوقت عبد الأول بن عيسى بن شعيب السجزي ببغداد عن خمس وتسعين سنة ) (2) .
********************************
15- الله - جل جلاله - الآخِرُ
********************************
الدليل على ثبوت الاسم وإحصائه .
اسم الله الآخر ورد مع الاسم السابق في قوله تعالى: { هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } [الحديد:3]، وكذلك ورد في السنة من حيث أبي هريرة - رضي الله عنه - الذي تقدم وفيه: ( .. وَأَنْتَ الآخِرُ فَليْسَ بَعْدَكَ شيء .. الحديث ) (3) .
__________
(1) أبو داود في الصلاة، باب في تخفيف الصلاة 1/270 (792)، صحيح أبي داود 1/150 (710) .
(2) تذكرة الحفاظ، أطراف أحاديث كتاب المجروحين لابن حبان للقيسراني 4/ 1315.
(3) انظر ص 301 .(1/472)
شرح الاسم وتفسير معناه .
الآخر في اللغة اسم فاعل لمن اتصف بالآخرية، فعله أَخَر يَأْخر أخرا، والآخِرُ ما يقابل الأَوَّل، ويقال أيضا لما بقي في المدة الزمنية، ويقال للثاني من الأرقام العددية أو ما يعقب الأول في البعدية والنوعية، ويقال أيضا لما بقي في المواضع المكانية، ونهاية الجمل الكلامية، فمن الآخِرُ الذي يقابل الأَوَّل قوله تعالى: { رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيداً لأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا } [المائدة:114] .
ومن الآخر الذي يقال لما بقي في المدة الزمنية، قوله تعالى: { وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالذِي أُنْزِلَ عَلَى الذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلهُمْ يَرْجِعُونَ } [آل عمران:72]، وكذلك ما رواه البخاري من حديث عبد الله بن عُمَرَ - رضي الله عنه - أنه قَالَ: ( صَلى بِنَا النَّبِيُ - صلى الله عليه وسلم - الْعِشَاءَ فِي آخِرِ حَيَاتِهِ ) (1) .
ومن الآخر الذي يقال للثاني من الأرقام العددية أو ما يعقب الأول في البعدية والنوعية، قوله تعالى: { ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخَرِينَ } [الشعراء:66]، ومن الآخر الذي يقال لما بقي في المواضع المكانية ما رواه البخاري من حديث ابن عباس - رضي الله عنه - أنه قال: ( صَعِدَ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - الْمِنْبَرَ وَكَانَ آخِرَ مَجْلِسٍ جَلَسَهُ مُتَعَطِّفًا مِلحَفَةً عَلَى مَنْكِبَيْهِ ) (2)، ومن الآخر الذي يقال لنهاية الجمل الكلامية، قوله تعالى: { وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } [يونس:10] .
__________
(1) البخاري في العلم، باب السمر في العلم 1/55 (116) .
(2) البخاري في الجمعة، باب من قال في الخطبة بعد الثناء أما بعد 1/314 (885) .(1/473)
والآخر سبحانه هو المتصف بالبقاء والآخرية فهو الآخر الذي ليس بعده شيء الباقي بعد فناء الخلق (1)، وهنا سؤال يطرح نفسه عن كيفية الجمع بين وصف الله - عز وجل - بأنه الآخر الباقي الذي ليس بعده شيء وبقاء المخلوقات في الجنة ودوامها وأبديتِها كما قال تعالى عن أهل الجنة ونعيمها ودوام متعتها ولذتها: { قَال اللهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالدِينَ فِيهَا أَبَدا رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلكَ الفَوْزُ العَظِيمُ } [المائدة:119]، وقال - عز وجل - عن أهل النار وعذابها ودوام الشقاء لأهلها: { وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولهُ فَإِنَّ لهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالدِينَ فِيهَا أَبَدا } [الجن:23]، وما تفسير قوله تعالى: { وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الجَلال والإكرام } [الرحمن:27]، وحديث مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول في دعائه: ( وَأَنْتَ الآخِرُ فَليْسَ بَعْدَكَ شَيْءٌ ) (2)؟
__________
(1) انظر في المعنى اللغوي: كتاب العين 4/303، ولسان العرب 4/11، والنهاية في غريب الحديث 1/29 والمفردات ص68، واشتقاق أسماء الله ص204 .
(2) انظر ص301 .(1/474)
قد يبدو في الظاهر أن بقاء أهل الجنة والنار أبدا متعارض مع إفراد الله - عز وجل - بالبقاء وأنه الآخر الذي ليس بعده شيء، لكن هذا التعارض يزول إذا علمنا أنه لا بد أن نفرق في قضية البقاء والآخرية بين ما يبقى ببقاء الله وما يبقي بإبقاء الله، أو نفرق بين بقاء الذات والصفات الإلهية وبقاء المخلوقات التي أوجدها الله - عز وجل - كالجنة والنار وما فيهما، فالجنة مثلا باقية بإبقاء الله، وما يتجدد فيها من نعيم متوقف في وجوده على مشيئة الله، أما ذاته وصفاته فباقية ببقائه، وشتان بين ما يبقي ببقاء الله وما يبقي بإبقائه، فالجنة مخلوقة خلقها الله - عز وجل - وكائنة بأمره وهي رهن مشيئة وحكمه؛ فمشيئة الله حاكمة علي ما يبقى فيها وما لا يبقى .
ومن ثم فإن السلف الصالح يعتبرون خلد الجنة وأهلها إلى ما لا نهاية إنما هو بإبقاء الله وإرادته، فالبقاء عندهم ليس من طبيعة المخلوقات ولا من خصائصها الذاتية، بل من طبيعتها جميعا الفناء، فالخلود ليس لذات المخلوق أو طبيعته، وإنما هو بمدد دائم من الله تعالى وإبقاء مستمر لا ينقطع .(1/475)
أما صفات الله - عز وجل - ومنها وجهه وعزته وعلوه ورحمته ويده وقدرته وملكه وقوته فهي صفات باقية ببقائه ملازمة لذاته حيث البقاء صفة ذاتية لله كما أن الأزلية صفة ذاتية له أيضا، فلا بد إذا أن نفرق بين صفات الأفعال الإلهية وأبديتها، ومفعولات الله الأبدية وطبيعتها، وهذا ما جاء به القرآن حيث فرق بين نوعين من البقاء، الأول هو بقاء الذات بصفاتها كما في قوله تعالى: { كُلُّ مَنْ عَليْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الجَلال والإكرام } [الرحمن:27]، والنوع الثاني من البقاء بقاء المفعولات وأبديتها كالجنة والنار قال تعالى: { وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى } [الأعلى:17]، فالآية الأولى دلت على صفة من صفات الذات وهى صفة الوجه، ودلت على بقاء الصفة ببقاء الذات، فأثبتت بقاء الذات بصفاتها، وأثبتت فناء ما دونها أو إمكانية فنائه، إذ أن الله هو الأول والآخر وهو قبل كل شيء وبعد كل شيء .
ومن معاني اسم الله الآخر أنه الذي تنتهي إليه أمور الخلائق كلها كما ورد عند البخاري من حديث البراء بن عازب - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( اللهُمَّ أَسْلَمْتُ نَفْسِي إِلَيْكَ وَفَوَّضْتُ أَمْرِي إِلَيْكَ وَأَلْجَأْتُ ظَهْرِي إِلَيْكَ رَهْبَةً وَرَغْبَةً إِلَيْكَ، لاَ مَلْجَأَ وَلاَ مَنْجَا مِنْكَ إِلاَّ إِلَيْكَ ) (1) .
دلالة الاسم على أوصاف الله .
__________
(1) البخاري في الدعوات، باب فضل من بات على الوضوء 1/97 (244) .(1/476)
اسم الله الآخر يدل على ذات الله وصفة الآخرية والبقاء بدلالة المطابقة، وعلى ذات الله وحدها بالتضمن، وعلى الصفة وحدها بالتضمن، وقد تقدمت الأدلة عند شرح الاسم على بقاء الحق بقاء ذاتيا، وأن ما سواه باق بإبقائه، إن شاء أبقاه وإن شاء أفناه، فبقاء المخلوقات في الآخرة لا لذاتها ولكن بعطاء من الله لإكرام أهل طاعته وإنفاذ عدله في أهل معصيته، ومن ثم فإن الله - عز وجل - هو الأخر الموصوف بالآخرية المطلقة، واسم الله الآخر يدل باللزوم على ما دل عليه اسمه الأول، والاسم أيضا دل على صفة من صفات الذات .
الدعاء باسم الله الآخر دعاء مسألة .
النصوص الواردة في اسم الله الأول شواهد لدعاء المسألة باسم الله الآخر، وهي أيضا شواهد لاسميه الظاهر والباطن، ويمكن الدعاء بالمعنى الذي دل عليه الاسم لأن معنى الآخر هو الذي تنتهي إليه الأمور، وهو الذي بيده تصريف المقادير، وكل دعاء حول هذا المعنى يدخل تحت دعاء المسألة، كما ورد عند أبي داود وحسنه الألباني من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا غزا قال: ( اللهمَّ أَنْتَ عَضُدِي وَنَصِيرِي، بِكَ أَحُولُ وَبِكَ أَصُولُ وَبِكَ أُقَاتِلُ ) (1) .
وعنده أيضا وصححه الألباني من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول إذا أصبح: ( اللهمَّ بِكَ أَصْبَحْنَا، وَبِكَ أَمْسَيْنَا، وَبِكَ نَحْيَا، وَبِكَ نَمُوتُ، وَإِلَيْكَ النُّشُورُ، وَإِذَا أَمْسَى قَالَ: اللهمَّ بِكَ أَمْسَيْنَا و بِكَ أَصْبَحْنَا، وَبِكَ نَحْيَا، وَبِكَ نَمُوتُ، وَإِلَيْكَ النُّشُورُ ) (2) .
الدعاء باسم الله الآخر دعاء عبادة .
__________
(1) أبو داود في الجهاد، باب ما يدعى ثم اللقاء 3/42 ( 2632)، صحيح الجامع (4757) .
(2) أبو داود في الأدب، باب ما يقول إذا أصبح 4/317 ( 5068)، صحيح الجامع (353) .(1/477)
ذكر ابن القيم أن التعبد لله باسمه الآخر أن تجعله وحده غايتك التي لا غاية لك سواه ولا مطلوب لك وراءه، فكما انتهت إليه الأواخر، وكان بعد كل آخر فكذلك اجعل نهايتك إليه، فإن إلى ربك المنتهى، انتهت الأسباب والغايات فليس وراءه مرمى ينتهي إليه طريق (1) .
وعند تحقيق التوحيد في الاسم تجد الموحد يعود بافتقاره إلى ربه، ويجعل المرجعية في فعله إلى ما اختاره لعبده، لعلمه أن الله - عز وجل - مالك الإرادات ورب القلوب والنيات يصرفها كيف شاء، فما شاء أن يزيغه منها أزاغه، وما شاء أن يقيمه منها أقامه، قال الله تعالى: { رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لنَا مِنْ لدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الوَهَّابُ } [آل عمران:8]، فهو سبحانه الذي ابتدع الخلق بقدرته ابتداعا، واخترعهم على مشيئته اختراعا، وهو الذي ينجي من قضائه بقضائه، وهو الذي يعيذ بنفسه من نفسه، وهو الذي يدفع ما منه بما منه فالخلق كله له، والأمر كله له، والحكم كله له، ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وما شاء لم يستطع أن يصرفه إلا مشيئته، وما لم يشأ لم يمكن أن يجلبه إلا مشيئته؛ فلا يأتي بالحسنات إلا هو، ولا يذهب بالسيئات إلا هو ولا يهدي لأحسن الأعمال والأخلاق إلا هو ولا يصرف سيئها إلا هو، قال - عز وجل -: { وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لهُ إِلا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لفَضْلهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ } [يونس:107] (2) .
__________
(1) طريق الهجرتين 1/49 بتصرف .
(2) السابق 1/53 بتصرف .(1/478)
والتحقق بمعرفة اسم الله الآخر يوجب صحة الاضطرار وكمال الافتقار، ويحول بين العبد وبين رؤية الأعمال والأحوال، والخروج عن رق العبودية إلى دعوى ما ليس له، وكيف يدعي مع الله حالا أو مقاما من قلبه، وإرادته وحركته الظاهرة والباطنة بيد ربه ومليكه، لا يملك هو منها شيئا، وإنما هي بيد مقلب القلوب ومصرفها كيف يشاء فالإيمان بهذا هو نظام التوحيد، ومتى انحل من القلب انحل نظام التوحيد، فسبحان من لا يوصل إليه إلا به، ولا يطاع إلا بمشيئته، ولا ينال ما عنده من الكرامة إلا بطاعته، ولا سبيل إلى طاعته إلا بتوفيقه ومعونته، فعاد الأمر كله إليه، كما ابتدأ الأمر كله منه، فهو الأول والآخر، والكل مستند إليه إبداعا وإنشاء واختراعا وخلقا وإحداثا وتكوينا وإيجادا وإبداء وإعادة وبعثا، فله الملك كله، هو الأول بلا أول كان قبله، والآخر بلا آخر يكون بعده (1) .
ومن جهة التسمية بعبد الآخر والتعبد بهذا الاسم فلم يتسم به أحد من السلف أو الخلف في مجال ما أجرينا عليه البحث الحاسوبي، وفي عصرنا تسمى به الشيخ عبد الآخر حماد الغنيمي صاحب المنحة الإلهية في تهذيب شرح الطحاوية .
********************************
16- الله - جل جلاله - الظَّاهِرُ
********************************
الدليل على ثبوت الاسم وإحصائه .
ورد الاسم مقترنا بالاسمين السابقين في قوله تعالى: { هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } [الحديد:3]، وفي السنة أيضا دعاء النَّبِيِ - صلى الله عليه وسلم - الذي تقدم في اسمه الأول والآخر: ( وَأَنْتَ الظَّاهِرُ فَليْسَ فَوْقَكَ شيء ) .
شرح الاسم وتفسير معناه .
__________
(1) السابق 1/53 بتصرف .(1/479)
الظاهِرُ في اللغة اسم فاعل لمن اتصف بالظهور، والظاهِرُ خلاف الباطن، ظَهَرَ يَظْهَرُ ظُهُوراً فهو ظاهر وظهير، والظهور يرد على عدة معان، منها العلو والارتفاع يقال: ظَهَر على الحائط وعلى السَّطْح يعني صار فوقه، قال تعال: { فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْباً } [الكهف:97]، أَي ما قَدَرُوا أَن يَعْلوا عليه لارتفاعه .
والظهور أيضا بمعنى الغلبة، ظَهَرَ فلانٌ على فلان أَي قَوِيَ عليه، ويقال: أَظهَر الله المسلمين على الكافرين أَي أَعلاهم عليهم، قال تعالى: { فَأَيَّدْنَا الذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ } [الصف14]، أَي غالبين عالين .
والظهر بمعنى السند والحماية وما يُركن إليه يقال: فلان له ظَهْرٌ أَي مال من إِبل وغنم، وفلان ظَهَرَ بالشيء ظهْرا فَخَرَ به، وعند البخاري من حديث أبي هُرَيْرَة - رضي الله عنه - أن النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( خَيْرُ الصَّدَقَةِ مَا كَانَ عَنْ ظَهْرِ غِنًى ) (1) .
ويأتي الظهور أيضا بمعنى البيان وبُدُوّ الشيء الخفيّ، وكذلك الظهْرُ ما غاب عنك يقال: تكلمت بذلك عن ظَهْرِ غَيْب، ويقال حَمَل فلان القرآن على ظهْرِ لسانه وعن ظَهْر قلبه، وعند النسائي وصححه الشيخ الألباني من حديث سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ - رضي الله عنه - مرفوعا: ( فَقَالَ: هَلْ تَقْرَؤُهُنَّ عَنْ ظَهْرِ قَلْبٍ؟ ) (2) .
والمظاهرة المعاونة وظَاهَرَ بعضهم بعضاً أَعانه، قال تعالى: { وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ } [الممتحنة:9]، أَي عاوَنُوا (3) .
__________
(1) البخاري في الزكاة، باب لا صدقة إلا عن ظهر غنى 2/518 (1360) .
(2) النسائي في النكاح، باب التزويج على سور من القرآن 6/113 (3339) .
(3) انظر في المعنى اللغوي: لسان العرب 4/52، والنهاية في غريب الحديث 3/ 164، ومفردات ألفاظ القرآن ص540، واشتقاق أسماء الله للزجاج 137 .(1/480)
والظاهر سبحانه هو المنفرد بعلو الذات والفوقية، وعلو الغلبة والقاهرية، وعلو الشأن وانتفاء الشبيه والمثلية، فهو الظاهر في كل معاني الكمال، وهو البين المبين الذي أبدى في خلقه حججه الباهرة، وبراهينه الظاهرة، أحاط بكل شيء علما وأحصى كل شيء عددا، حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه (1)، قال ابن الأَثير: ( الظاهر في أسماء الله هو الذي ظهر فوق كل شيء وعلا عليه، وقيل: الظاهر هو الذي عُرِفَ بطريق الاستدلال العقلي بما ظهر لهم من آثار أَفعاله وأَوصافه ) (2) .
والظاهر أيضا هو الذي بدا بنوره مع احتجابه بعالم الغيب، وبدت آثار ظهوره لمخلوقاته في عالم الشهادة، فالله - عز وجل - استخلف الإنسان في ملكه واستأمنه على أرضه فاقتضى الاستخلاف والابتلاء أن يكون الإنسان بين عالمين، عالم الغيب وعالم الشهادة، ليتحقق مقتضى توحيد الله في أسمائه، وجلاء المعاني المتعلقة بأوصافه وأفعاله قال تعالى: { عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً } [الجن:26]، وقال: { ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ } [السجدة:6] .
وهو سبحانه أيضا الظاهر الذي أقام الخلائق وأعانهم ورزقهم، ودبر أمرهم وهداهم سبلهم، فهو المعين للخلائق على المعنى العام، وهو نصير الموحدين من عباده على المعنى الخاص (3) .
دلالة الاسم على أوصاف الله .
__________
(1) ورد ذلك في حديث أبي مُوسَى - رضي الله عنه - أن النبي S قال: ( حِجَابُهُ النُّورُ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ النَّارُ، لَوْ كَشَفَهُ لأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ ) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب في قوله عليه السلام إن الله لا ينام 1/161 (179) .
(2) النهاية في غريب الحديث 3/ 164 .
(3) الأسماء والصفات للبيهقي ص24، وتفسير أسماء الله للزجاج ص60، وشرح أسماء الله للرازي ص252 .(1/481)
اسم الظاهر يدل على ذات الله وعلى الظهور والعلو كوصف ذات والإظهار كوصف فعل بدلالة المطابقة، وعلى ذات الله وحدها بدلالة التضمن، وعلى الصفة وحدها بالتضمن، فالظهور الذاتي واضح في علو الشأن والقهر والفوقية، وأما الإظهار كوصف فعل؛ فالله - عز وجل - يظهر ما يشاء في خلقه وفق حكمته وأمره، ولذلك قال سبحانه وتعالى: { هُوَ الذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالهُدَى وَدِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المُشْرِكُونَ } [التوبة:33]، وقال تعالى: { عَالِمُ الغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً من إِلا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ } [الجن:26/27] .
واسم الله الظاهر يدل باللزوم على الحياة والقيومية والسمع والبصر والعلم والقدرة والغني والقوة والعزة والعظمة والعلو والإحاطة، وغير ذلك من صفات الكمال، واسم الله الظاهر دل على صفة من صفات الذات والأفعال .
الدعاء باسم الله الظاهر دعاء مسألة .
دعاء المسألة بالاسم المطلق ورد في حديث أَبِي هريرة - رضي الله عنه - الذي تقدم في دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - باسم الله الأول: ( وَأَنْتَ الظَّاهِرُ فَليْسَ فَوْقَكَ شيء، وَأَنْتَ البَاطِنُ فَليْسَ دُونَكَ شيء، اقْضِ عَنَّا الدَّيْنَ وَاغْنِنَا مِنَ الفَقْرِ ) (1) .
__________
(1) تقدم تخريجه انظر ص301 .(1/482)
ويمكن الدعاء أيضا بالمعنى الذي تضمنه الاسم، فالظاهر هو المعين والسند والظهير والعلي والملجأ والنصير، ومن ذلك ما رواه البخاري من حديث البراء بن عازب - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: ( إِذَا أَتَيْتَ مَضْجَعَكَ فَتَوَضَّأْ وُضُوءَكَ لِلصَّلاَةِ ثُمَّ اضْطَجِعْ عَلَى شِقِّكَ الأَيْمَنِ، ثُمَّ قُلِ: اللهمَّ أَسْلَمْتُ وَجْهِي إِلَيْكَ، وَفَوَّضْتُ أَمْرِي إِلَيْكَ وَأَلجَأْتُ ظَهْري إِلَيْكَ، رَغْبَةً وَرَهْبَةً إِلَيْكَ، لاَ مَلجَأَ وَلاَ مَنْجَا مِنْكَ إِلاَّ إِلَيْكَ، اللهمَّ آمَنْتُ بِكِتَابِكَ الذِي أَنْزَلتَ، وَبِنَبِيِّكَ الذِي أَرْسَلتَ، فَإِنْ مُتَّ مِنْ لَيْلَتِكَ فَأَنْتَ عَلَى الفِطْرَةِ وَاجْعَلهُنَّ آخِرَ مَا تَتَكَلمُ بِهِ ) (1)، وعند أبي داود وصححه الألباني من حديث معاذ - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخذ بيده وقال: ( يا معاذ والله إني لأحِبُّك، والله إني لأحِبُّك فقال: أُوصِيكَ يَا مُعَاذُ لاَ تَدَعَنَّ في دُبُرِ كُلِّ صَلاَةٍ تَقُولُ: اللهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ ) (2) .
__________
(1) البخاري في الوضوء، باب فضل من بات على الوضوء 1/97 (244) .
(2) أبو داود في كتاب الصلاة، باب في الاستغفار 2/86 (1522)، صحيح الجامع (7969) .(1/483)
وعند الترمذي وصححه الألباني من حديث شداد بن أوس - رضي الله عنه - أنه قال: ( كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يُعَلِّمُنَا أَنْ نَقُولَ: اللهُمَّ إني أَسْأَلُكَ الثَّبَاتَ في الأَمْرِ، وَأَسْأَلُكَ عَزِيمَةَ الرُّشْدِ وَأَسْأَلُكَ شُكْرَ نِعْمَتِكَ وَحُسْنَ عِبَادَتِكَ، وَأَسْأَلُكَ لِسَانًا صَادِقًا وَقَلْبًا سَلِيمًا وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا تَعْلَمُ وَأَسْأَلُكَ مِنْ خَيْرِ مَا تَعْلَمُ، وَأَسْتَغْفِرُكَ مِمَّا تَعْلَمُ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ ) (1) .
الدعاء باسم الله الظاهر دعاء عبادة .
دعاء العبادة هو أثر الاسم على اعتقاد العبد وسلوكه، فمن جهة الاعتقاد إيمانه بقدرة الله في الأشياء، وأنه الظاهر الذي استوى على عرشه في السماء، وأنه المهيمن على سائر الأشياء، وأنه سبحانه منفرد بالخلق والتدبير، وقائم بالملك والتقدير، وإذا نظر العبد إلى وجوه الحكمة في إظهار الأسباب وتصريفها وابتلاء العباد بتقليبها أخذ بها على وجه الضرورة واللزوم لإيقاع الأحكام على المحكوم، فمن وافق الشرائع والسنن استحق من الله الثواب، ومن خالف وابتدع استحق منه العقاب، وكل عبد سيلاقي ما دون في أم الكتاب .
__________
(1) الترمذي في الدعوات، السلسلة الصحيحة (3228) .(1/484)
وطالما أن الله - عز وجل - غالب على أمره وظاهر فوق خلقه، فإنه سينفذ مراده في ملكه ولن يخرج ذلك عن كمال عدله، فكان ابتلاء العباد من خلال دعوتهم للإيمان بتوحيد الربوبية من جهة، وإلزامهم بتوحيد العبودية من جهة أخرى، قال - عز وجل -: { فَإِذَا مَسَّ الإنسان ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَال إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلى عِلمٍ بَل هِيَ فِتْنَةٌ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلمُونَ } [الزمر:49]، فتنة لأنه نظر إلى الأسباب الظاهرة في تقلبها، وتغافل عن مقلبها، الذي أظهرها باسمه الظاهر تحقيقا للحكمة في اسمه الحكيم، تلك الحكمة التي خلقهم من أجلها، وإظهارا للقدرة التي كلفهم بتوحيد العبودية من خلالها، فالمتوكل على الله قائم بالأحكام الشرعية، ملتزم بتوحيد العبودية، يعمل بشرع الله ويؤمن بقدره، وإنما أظهر الله - عز وجل - الأسباب لأن الأسماء تتعلق بها، وأحكام الشريعة عائدة عليها بالثواب والعقاب .
وممن تسمى عبد الظاهر والدا القاضي علاء الدين المعروف بابن عبد الظاهر بن محمد السعدي (ت:717هـ)، وله رسالة تسمى مراتع الغزلان (1) .
********************************
17- الله - جل جلاله - البَاطِنُ
********************************
الدليل على ثبوت الاسم وإحصائه .
ورد الاسم مع الأسماء الثلاثة السابقة في قوله تعالى: { هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } [الحديد:3]، وكذلك ورد في السنة في دعاء النَّبِيِ - صلى الله عليه وسلم - الذي تقدم في اسمه الأول والآخر والظاهر: ( وَأَنْتَ البَاطِنُ فَليْسَ دُونَكَ شيء ) .
شرح الاسم وتفسير معناه .
__________
(1) كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون لحاجي خليفة 2/1650 .(1/485)
الباطن اسم فاعل لمن اتصف بالبطون، والبطون خلاف الظهور، فعله بَطنَ يَبْطنُ بطونا، والبَطنُ من الإِنسان وسائِر الحيوان خلاف الظهْر، والبَطنُ من كل شيء جَوْفُه قال - عز وجل -: { وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ } [النحل:78]، وقال: { وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَة لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا } [الأنعام:139] .
والبطون أيضا الخفاء والاحتجاب وعدم الظهور، ومنه قوله تعالى: { وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ } [الأنعام:151]، وبطن الشيء أساسه المحتجب الذي تستقر به وعليه الأشياء، وعند مسلم من حديث جَابِرٌ بن عبد الله - رضي الله عنه - أن رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: ( جَاوَرْتُ بِحِرَاءٍ شَهْرًا فَلَمَّا قَضَيْتُ جِوَارِي نَزَلتُ فَاسْتَبْطَنْتُ بَطْنَ الوَادِي فَنُودِيتُ، فَنَظَرْتُ أَمَامِي وَخَلْفِي وَعَنْ يَمِينِي وَعَنْ شِمَالِي فَلَمْ أَرَ أَحَدًا ) (1)، وقال تعالى: { وَهُوَ الذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكةَ } [الفتح:24]، قال ابن منظور: ( وذلك أن بني هاشم وبني أمية وسادة قريش نزول ببطن مكة، ومن كان دونهم فهم نزول بظواهر جبالها ) (2) .
__________
(1) مسلم في كتاب الإيمان، باب بدء الوحي إلى رسول الله S 1/144 (161) .
(2) لسان العرب 1/136، وانظر في المعنى اللغوي: النهاية في غريب الحديث 13/52، ومفردات ألفاظ القرآن ص 130، واشتقاق أسماء الله للزجاج ص137 .(1/486)
والباطن سبحانه هو المحتجب عن أبصار الخلق الذي لا يرى في الدنيا ولا يدرك في الآخرة، وفرق بين الرؤية والإدراك؛ فالله - عز وجل - لا يرى في الدنيا ويرى في الآخرة أما الإدراك فإنه لا يدرك في الدنيا ولا في الآخرة، قال تعالى: { فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قَالَ كَلا } [الشعراء:61/62]، فموسى نفى الإدراك ولم ينف الرؤية؛ لأن الإدراك هو الإحاطة بالمدرك من كل وجه، أما الرؤية فهي أخص من ذلك، فكل إدراك يشمل الرؤية، وليست كل رؤية تشمل الإدراك، قال تعالى: { لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِك الأَبْصَارَ وَهُوَ اللطِيفُ الْخَبِيرُ } [الأنعام:103] (1) .
والله - عز وجل - باطن احتجب بذاته عن أبصار الناظرين لحكمة أرادها في الخلائق أجمعين، فالله يُرى في الآخرة ولا يرى في الدنيا لأنه شاء أن تقوم الخلائق على معنى الابتلاء، ولو رأيناه في الدنيا وانكشف الحجاب والغطاء؛ لتعطلت حكمة الله في تدبيره الأشياء .
قال تعالى: { ألمْ تَرَ أَنَّ اللهَ خَلقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالحَقِّ } [إبراهيم:19]، فالعلة في احتجابه وعدم رؤيته هي الامتحان والابتلاء، قال - عز وجل -: { الذي خَلقَ المَوْتَ وَالحَيَاةَ ليَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً } [الملك:2]، ومن هنا كان البطون ووضع الغطاء على أهل الابتلاء، أو كشف الحجاب عند الانتقال لدار الجزاء، قال تعالى: { لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيد } [ق:22]، فكيف يتحقق الإيمان بالله ونحن نراه؟ وكيف تستقيم الشرائع إلا في مخالفة الإنسان هواه؟ (2) .
__________
(1) انظر في الفرق بين الرؤية والإدراك: شرح العقيدة الطحاوية ص208، وبيان تلبيس الجهمية 1/553 .
(2) انظر للمقارنة: كتاب التوحيد لابن منده 2/82 .(1/487)
وإذا كان الله تعالى لا يرى في الدنيا ابتلاءا فإنه سبحانه يرى في الآخرة إكراما وجزاءا، إكراما لأهل طاعته، وزيادة في النعيم لأهل محبته، كما قال: { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } [القيامة:22/23]، وقد تواترت الأحاديث في إثبات رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة، فالعلة إذا في احتجابه أو عدم إدراك كيفية أوصافه ليست عدم وجودها ولا استحالة رؤية الله تعالى، ولكن العلة قصور الجهاز الإدراكي في الحياة الدنيا عن إدراك حقائق الغيب، لأن الله - عز وجل - خلق الإنسان بمدارك محدودة لتحقيق معنى الابتلاء، قال تعالى: { إِنَّا خَلقْنَا الإنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَليهِ فَجَعَلنَاهُ سَمِيعا بَصِيرا } [الإنسان:2]، فمن الصعب أن يرى الإنسان ما بطن من الغيبيات، أو يرى كيفية الذات والصفات، فالشيء لا يرى إلا لسببين: الأول خفاء المرئي وهو ممتنع في حق الله، والثاني ضعف الجهاز الإدراكي للرائي وهذا شأن الإنسان (1) .
فمن الخطأ البحث عن كيفية الحقائق الغيبية أو كيفية الذات والصفات الإلهية لأن الله - عز وجل - باطن احتجب عن خلقه في عالم الشهادة بالنواميس الكونية، أما في الآخرة عند لقائه فالأمر يختلف؛ إذ أن مدركات الإنسان وقتها تتغير بالكيفية التي تناسب أمور الآخرة وأحداثها، كما ثبت في السنة أن الإنسان سيكون عند دخول الجنة على صورة آدم - عليه السلام - طوله ستون زراعا (2)، والله - عز وجل - مع أنه الباطن الذي احتجب عن أبصار الناظرين لجلاله وحكمته وكمال عزته وعظمته إلا أن حقيقة وجوده وكمال أوصافه نور يضيء بصائر المؤمنين، فهو القريب المجيب الذي يسمع الخلائق أجمعين .
دلالة الاسم على أوصاف الله .
__________
(1) انظر شرح العقيد الطحاوية ص211 .
(2) انظر حديث البخاري في أحاديث الأنبياء، باب خلق آدم 3/1210(3148)، وقد تقدم ص295.(1/488)
اسم الله الباطن يدل على ذات الله وعلى صفة البطون بدلالة المطابقة، وعلى أحدهما بالتضمن، وصفة البطون تشمل صفة العلم والإحاطة والهيمنة، وتشمل عظمة الذات وجلالها واحتجابها من وراء الأسباب، وعلى مقتضى حكمته في ابتلاء العباد فالله - عز وجل - هو الباطن الذي أحاط بهم من كل الوجوه، قال تعالى: { وَالله مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ } [البروج:20]، واسم الله الباطن يدل باللزوم على الحياة والقيومية، والجلال والقدسية وجمال الذات والصفات الإلهية وغير ذلك من صفات الكمال، والاسم دل على صفة ذات وفعل، أما دلالتها على صفة الذات فلكمال الله وجلاله حيث ينقطع دونه كل كمال، وأما دلالتها على صفة الفعل فلاحتجاب الحق عمن شاء من الخلق على مقتضي علمه وحكمته، فلو شاء قوى أبصار الناظرين على رؤيته، وقد وعد المؤمنين بالزيادة في جنته .
الدعاء باسم الله الباطن دعاء مسألة .(1/489)
دعاء المسألة بالاسم المطلق ورد في حديث أَبِي هريرة - رضي الله عنه - الذي تقدم، كما يمكن دعاء الله بالمعنى الذي دل عليه الاسم وما يناسبه من حال العباد، فمعنى الباطن هو العليم القريب الذي يسمع السر وأخفى، وهو أقرب إلى عبده من حبل الوريد، ومما يمكن ذكره في هذا المقام ما رواه الترمذي وحسنه الألباني من حديث عبد الله بن عباس - رضي الله عنه - أنه قال: ( قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لِلْعَبَّاسِ: إِذَا كَانَ غَدَاةُ الاِثْنَيْنِ فأتني أَنْتَ وَوَلَدُكَ حَتَّى أَدْعُوَ لَهُمْ بِدَعْوَةٍ يَنْفَعُكَ الله بِهَا وَوَلَدَكَ، فَغَدَا وَغَدَوْنَا مَعَهُ وَأَلْبَسَنَا كِسَاءً ثُمَّ قَالَ: اللهمَّ اغْفِرْ لِلْعَبَّاسِ وَوَلَدِهِ مَغْفِرَةً ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً لاَ تُغَادِرُ ذَنْبًا، اللهمَّ احْفَظْهُ في وَلَدِهِ ) (1)، وعند مسلم من حديث عَلِي بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رضي الله عنه - أنْ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: ( اللهمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ، وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ، وَمَا أَسْرَفْتُ، وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي، أَنْتَ المُقَدِّمُ وَأَنْتَ المُؤَخِّرُ، لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ ) (2) .
الدعاء باسم الله الباطن دعاء عبادة .
__________
(1) الترمذي في المناقب، باب مناقب العباس بن عبد المطلب - رضي الله عنه - 5/653 (3762) .
(2) مسلم في صلاة المسافرين، باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه 1/535 (771) .(1/490)
دعاء العبادة هو إقرار العبد ويقينه أن الله - عز وجل - هو الذي يقدر الأمور ويدبرها وأن الأسباب التي أظهرها بحكمته هي كالآلة بيد صانعها والله من ورائهم محيط، هو الباطن القادر الفاعل بلطائف القدرة وخفايا المشيئة، قال - سبحانه وتعالى -: { أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ أأَنْتُمْ تَزْرَعُوَنهُ أمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ } ، فنسب الزراعة لنفسه مرة لأنه الباطن الذي استتر عن خلقه بلطائف القدرة وخفايا المشيئة، ونسبها إلينا فقال - عز وجل -: { قَال تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً } [يوسف:47]، فنسب الزراعة إلينا لأنه الظاهر الذي أظهر الأسباب في خلقه تكليفا لهم بالشرائع والأحكام وتمييز الحلال من الحرام .
وعند البخاري من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( أَصْدَقُ بَيْتٍ قَالهُ الشَّاعِرُ: أَلا كُل شَيْءٍ مَا خَلا اللهَ بَاطِل ) (1)، فنفي ما سوى الله على اعتبار أنه المتوحد في القدرة الذي احتجب خلف الأسباب، وهو - صلى الله عليه وسلم - يعلم أن الحياة التي ابتلانا الله بها أسباب حق تؤدي إلى نتائج صدق، ولم يمنعه ذلك أن قال أصدق بيت قاله الشاعر: أَلا كُل شَيْءٍ مَا خَلا اللهَ بَاطِل إيثاراً منه للتوحيد وتوحيدا للمتوحد، ويذكر ابن القيم أن التعبد لله باسمه الأول والآخر والظاهر والباطن له رتبتان:
الرتبة الأولى: أن تشهد الأولية منه - سبحانه وتعالى - في كل شيء، والآخرية بعد كل شيء والعلو والفوقية فوق كل شيء، والقرب والدنو دون كل شيء، فالمخلوق يحجبه مثله عما هو دونه، فيصير الحاجب بينه وبين المحجوب، والرب جل جلاله ليس دونه شيء أقرب إلى الخلق منه .
__________
(1) البخاري في فضائل الصحابة، باب أيام الجاهلية 3/1395 (3628) .(1/491)
الرتبة الثانية: أن يعامل كل اسم بمقتضاه، فيعامل سبقه تعالى بأوليته لكل شيء وسبقه بفضله وإحسانه الأسباب كلها بما يقتضيه ذلك من أفراده، وعدم الالتفات إلى غيره، أو الوثوق بسواه أو التوكل عليه، فمن ذا الذي شفع لك في الأزل حيث لم تكن شيئا مذكورا حتى سماك باسم الإسلام، ووسمك بسمة الإيمان، وجعلك من أهل قبضة اليمين، وأقطعك في ذلك الغيب أعمال المؤمنين؛ فعصمك عن العبادة للعبيد، وأعتقك من التزام الرق لمن له شكل أو نديد، ثم وجه وجهة قلبك إليه سبحانه دون ما سواه .
ومن ثم اضرع إلى الذي عصمك من السجود للصنم، وقضى لك بقدم الصدق في القدم أن يتم عليك نعمة هو ابتدأها، وكانت أوليتها منه بلا سبب منك، واسْمُ بهمتك عن ملاحظة الاختيار، ولا تركنن إلى الرسوم والآثار، ولا تقنع بالخسيس الدون وعليك بالمطالب العالية والمراتب السامية التي لا تنال إلا بطاعة الله؛ فإن الله سبحانه قضى أن لا ينال ما عنده إلا بطاعته، ومن كان لله كما يريد كان الله له فوق ما يريد فمن أقبل إليه تلقاه من بعيد، ومن تصرف بحوله وقوته ألان له الحديد، ومن ترك لأجله أعطاه فوق المزيد، ومن أراد مراده الديني أراد ما يريد، ثم اسم بسرك إلى المطلب الأعلى، واقصر حبك وتقربك على من سبق فضله وإحسانه إليك (1) .
__________
(1) طريق الهجرتين 1/49 بتصرف .(1/492)
وهنا مسألة مهمة في معرفة الأسماء الأربعة التي تقدمت وهي الأول والآخر والظاهر والباطن، فإن هذه الأسماء كما ذكر ابن القيم رحمه الله هي أركان العلم والمعرفة، فحقيق بالعبد أن يبلغ في معرفتها إلى حيث تنتهي به قواه وفهمه، فالعبد له أول وآخر وظاهر وباطن، بل كل شيء له أول وآخر وظاهر وباطن، حتى الخطرة واللحظة والنفس وأدنى من ذلك وأكثر، فأولية الله - عز وجل - سابقة على أولية كل ما سواه، وآخريته ثابتة بعد آخرية كل ما سواه، فأوليته سبقه لكل شيء وآخريته بقاؤه بعد كل شيء وظاهريته سبحانه فوقيته وعلوه على كل شيء، ومعنى الظهور يقتضي العلو، وظاهر الشيء هو ما علا منه وأحاط بباطنه، وبطونه سبحانه إحاطته بكل شيء بحيث يكون أقرب إليه من نفسه، فمدار هذه الأسماء الأربعة على الإحاطة .
وهي إحاطتان: زمانية ومكانية، فإحاطة أوليته وآخريته بالقبلية والبعدية فكل سابق انتهى إلى أوليته، وكل آخر انتهى إلى آخريته، فأحاطت أوليته وآخريته بالأوائل والأواخر، وأحاطت ظاهريته وباطنيته بكل ظاهر وباطن، فما من ظاهر إلا والله فوقه، وما من باطن إلا والله من ورائه، وما من أول إلا والله قبله، وما من آخر إلا والله بعده، فالأول أزله، والآخر دوامه وبقاؤه، والظاهر علوه وعظمته والباطن قربه ودنوه، فسبق كل شيء بأوليته، وبقى بعد كل شيء بآخريته، وعلا على كل شيء بظهوره، ودنا من كل شيء ببطونه، فلا تواري منه سماء سماءً، ولا أرض أرضا، ولا يحجب عنه ظاهر باطنا، بل الباطن له ظاهر، والغيب عنده شهادة والبعيد منه قريب، والسر عنده علانية، فهذه الأسماء الأربعة تشتمل على أركان التوحيد، فهو الأول في آخريته والآخر في أوليته، والظاهر في بطونه والباطن في ظهوره، لم يزل أولا وآخرا وظاهرا وباطنا (1) .
__________
(1) طريق الهجرتين 1/49 بتصرف .(1/493)
ولم أجد بالبحث الحاسوبي أحدا سمي عبد الباطن في مجال ما أجرينا عليه البحث وكذلك جميع محركات البحث على الإنترنت، وهنيئا لمن سمى نفسه أو ولده بذلك الاسم لأنه لم يسبقه أحد من السلف أو الخلف فيما نعلم والله أعلم .
********************************
18- الله - جل جلاله - السَّمِيعُ
********************************
الدليل على ثبوت الاسم وإحصائه .
سمى الله نفسه السميع في كثير من النصوص القرآنية والنبوية، وقد ورد فيها الاسم مطلقا معرفا ومنونا مرادا به العلمية ودالا على كمال الوصفية، فمن القرآن قوله تعالى: { ليْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ } [الشورى:11]، وقوله - عز وجل -: { إِنَّ اللهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً } [النساء:58]، وقد ورد الاسم مقترنا باسم الله العليم في أكثر من ثلاثين موضعا، ومقترنا باسم الله البصير في أكثر من عشرة مواضع، ومقترنا باسم الله القريب في قوله تعالى: { قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ } [سبأ:50] .
وفي السنة ورد عند البخاري من حديث أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - قال: كنّا مع النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في سَفَر، فكنا إذا عَلونا كبَّرنا، فقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - : ( أيها الناس أربَعوا على أنفُسِكم فإنكم لا تَدْعونَ أصمَّ ولا غائباً، ولكنْ تدعون سميعاً بصيراً ) (1) .
__________
(1) البخاري في كتاب الجهاد، باب ما يكره من رفع الصوت في التكبير 3/1091 (2830) .(1/494)
وروى أبو داود وصححه الألباني من حديث أَبِى سَعِيدٍ الخُدْرِي - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يستفتح في صلاته قبل القراءة بقوله: ( أَعُوذُ بِاللهِ السَّمِيعِ العَلِيمِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ مِنْ هَمْزِهِ وَنَفْخِهِ وَنَفْثِهِ ) (1) .
شرح الاسم وتفسير معناه .
السميع في اللغة على وزن فَعِيل من أبْنِيةِ المُبالغة، فعله سَمِعَ يسَمْع سَمعا، والسَّمْعُ في حقنا ما وَقر في الأُذن من شيء تسمعه، والسمع صفة ذات وصفة فعل، فصفة الذات يعبر به عن الأذن والقوة التي بها يدرك الأصوات كما في قوله: { خَتَمَ الله عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ } [البقرة:7]، أما صفة الفعل فتارة يكون السمع بمعنى الاستماع والإنصات كقوله تعالى: { وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا } [الأحقاف:29]، وتارة يعبر به عن الفهم كما قال تعالى: { قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا } [البقرة:93]، أي فهمنا قولك ولم نأتمر بأمرك، وتارة يعبر به عن الطاعة كقوله: { وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا } [البقرة:285]، أي فهمنا وأتمرنا (2) .
والسميع سبحانه هو المتصف بالسمع كوصف ذات ووصف فعل، فوصف الذات وصف حقيقي نؤمن به على ظاهر الخبر في حقه، وظاهر الخبر ليس كالظاهر في حق البشر كما يتوهم من تلوث عقله بالتشبيه والتعطيل، لأننا ما رأينا الله - عز وجل - وما رأينا كيفية سمعه، وما رأينا مثيلا لذاته ووصفه .
__________
(1) أبو داود في كتاب الصلاة، باب من رأى الاستفتاح بسبحانك اللهم وبحمدك 1/206 (775)، وانظر صحيح أبي داود 1/148(701) .
(2) مفردات ألفاظ القرآن ص425، واشتقاق أسماء الله للزجاج ص75، والنهاية في غريب الحديث 2/401 ولسان العرب 8/162، وبدائع الفوائد 2/308 .(1/495)
وليس إثبات الصفات تشبيها أو تجسيما كما أشار بعضهم على الخليفة المأمون أن يكتب على ستر الكعبة: ( ليس كمثله شيء وهو العزيز الحكيم )، بدلا من قول الله - عز وجل -: { ليْسَ كَمِثْلِهِ شَيْء وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ } [الشورى:11]، فاعتقد أن إثبات السمع في حق الله تشبيه، وأنه لا بد أن يكون سمع الله بأذن كما هو شأن الإنسان في كيفية سمعه، ومن ثم حرف الكلام عن موضعه، وهذا باطل لأن الله يسمع بالكيفية التي تناسب عظمته، وهو الذي يعلم حقيقة سمعه وكيفيته .
قال الأَزهري: ( والعجب من قوم فسَّروا السميعَ بمعنى المسْمِع فِراراً من وصف الله بأَن له سَمْعا، وقد ذكر الله الفعل في غير موضع من كتابه؛ فهو سَمِيع ذو سَمْعٍ بلا تكييفٍ ولا تشبيه بالسمع من خلقه، ولا سَمْعُه كسَمْعِ خلقه، ونحن نصف الله بما وصف به نفسه، بلا تحديد ولا تكييف، ولست أُنكر في كلام العرب أن يكون السميع سامِعاً ويكون مُسْمِعا ) (1) .
أما السمع كوصف فعل لله - عز وجل - فهو السمع الذي يتعلق بمشيئته سبحانه، أو على المعنى الخاص الذي فيه إجابة الدعاء أو إسماع من يشاء، وعند مسلم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعا: ( وَإِذَا قَالَ سَمِعَ الله لِمَنْ حَمِدَهُ فَقُولُوا رَبَّنَا لَك الْحَمْدُ ) (2) .
__________
(1) لسان العرب 8/163.
(2) مسلم في كتاب الصلاة، باب النهي عن مبادرة الإمام بالتكبير وغيره 1/310 (415) .(1/496)
وعند الترمذي وصححه الألباني من حديث عبد الله بن عمرو - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: ( اللهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ قَلْبٍ لاَ يَخْشَعُ، وَدُعَاءٍ لاَ يُسْمَعُ، وَمِنْ نَفسٍ لاَ تَشْبَعُ، وَمِنْ عِلمٍ لاَ يَنْفَعُ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَؤُلاَءِ الأَرْبَعِ ) (1)، وكقوله - عز وجل -: { وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَاءُ وَلا الأَمْوَاتُ إِنَّ الله يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ } [فاطر:22] .
دلالة الاسم على أوصاف الله .
اسم الله السميع يدل على ذات الله وعلى صفة السمع بدلالة المطابقة، وعلى أحدهما بالتضمن؛ فالسميع هو الذي يسمع بوصف ذاته، ويسمع من شاء من خلقه بوصف فعله، أما وصف الذات فكقوله تعالى: { قَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ التِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى الله وَالله يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ الله سَمِيعٌ بَصِيرٌ } [المجادلة:1]، وقد اشتملت الآية على الاسم ودلالته على الوصف، وقال تعالى: { لَقَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ الذِينَ قَالُوا إِنَّ الله فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا } [آل عمران:181]، وقال: { أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ } [الزخرف:80] .
__________
(1) الترمذي في الدعوات 5/519 (3482)، انظر صحيح ابن ماجة1/47(202) .(1/497)
وعند البخاري من حديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قَالَ: ( اجْتَمَعَ عِنْدَ البَيْتِ قُرَشِيَّانِ وَثَقَفِيٌ، أَوْ ثَقَفِيَّانِ وَقُرَشِيٌ، كَثِيرَةٌ شَحْمُ بُطُونِهِمْ، قَلِيلَة فِقْهُ قلُوبِهِمْ، فَقَالَ أَحَدُهُمْ: أَتُرَوْنَ أَنَّ الله يَسْمَعُ مَا نَقُولُ؟ قَالَ الآخَرُ: يَسْمَعُ إِنْ جَهَرْنَا وَلاَ يَسْمَعُ إِنْ أَخْفَيْنَا، وَقَالَ الآخَرُ: إِنْ كَانَ يَسْمَعُ إِذَا جَهَرْنَا فَإِنَّهُ يَسْمَعُ إِذَا أَخْفَيْنَا، فَأَنْزَلَ الله عَزَّ وَجَل: { وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ الله لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ } [فصلت:22] ) (1)، وأما الإسماع فوصف فعله لتعلقه بالمشيئته كما ورد ذلك في قول الله تعالى: { وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَاءُ وَلا الأَمْوَاتُ إِنَّ الله يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي القُبُور } [فاطر:22]، وقد تقدم ما رواه أبو داود وصححه الشيخ الألباني من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعا: ( اللهمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الأَرْبَعِ، مِنْ عِلمٍ لاَ يَنْفَعُ وَمِنْ قَلبٍ لاَ يَخْشَعُ، وَمِنْ نَفْسٍ لاَ تَشْبَعُ، وَمِنْ دُعَاءٍ لاَ يُسْمَعُ ) (2) .
__________
(1) البخاري: التفسير، باب قوله وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم 4/1818 (4539) .
(2) أبوداود في الصلاة، باب في الاستعاذة 2/92 (1548)، وانظر صحيح الجامع (1297) .(1/498)
واسم الله السميع يدل باللزوم على الحياة والقيومية فالميت لا يسمع، وضعيف السمع يفتقر إلى آلة تضخم الصوت، ولذلك قال تعالى: { إِنَّكَ لا تُسْمِعُ المَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلوْا مُدْبِرِينَ } [النمل:80]، وقال مخاطبا المشركين في عبادتهم الموتى من الصالحين: { إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ القِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ } [فاطر:14]، وقال إبراهيم - عليه السلام -: { يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً } [مريم:42]، ويدل الاسم أيضا على كمال الذات والصفات الإلهية .
الدعاء باسم الله السميع دعاء مسألة .(1/499)
ورد دعاء المسألة بالاسم المطلق في كثير من النصوص منها ما ورد في قوله تعالى عن إبراهيم - عليه السلام -: { وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ القَوَاعِدَ مِنَ البَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّل مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ العَلِيمُ } [البقرة:127]، وعند البخاري من حديث عبد الله بن عباس - رضي الله عنه - أن إبراهيم - عليه السلام - قَال: ( يَا إِسْمَاعِيلُ، إِنَّ اللهَ أَمَرَنِي بِأَمْرٍ، قَال: فَاصْنَعْ مَا أَمَرَكَ رَبُّكَ، قَال: وَتُعِينُنِي؟ قَال: وَأُعِينُكَ، قَال: فَإِنَّ اللهَ أمرني أَنْ أَبْنِىَ هَا هُنَا بَيْتًا وَأَشَارَ إِلى أَكَمَةٍ مُرْتَفِعَةٍ عَلى مَا حَوْلهَا، فَعِنْدَ ذَلِكَ رَفَعَا القَوَاعِدَ مِنَ البَيْتِ، فَجَعَل إِسْمَاعِيلُ يأتي بِالحِجَارَةِ وَإِبْرَاهِيمُ يَبْنِي حَتَّى إِذَا ارْتَفَعَ البِنَاءُ جَاءَ بِهَذَا الحَجَرِ فَوَضَعَهُ لهُ، فَقَامَ عَليْهِ وَهْوَ يَبْنِي، وَإِسْمَاعِيلُ يُنَاوِلُهُ الحِجَارَةَ، وَهُمَا يَقُولاَنِ: { رَبَّنَا تَقَبَّل مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ العَلِيمُ } ، فَجَعَلاَ يَبْنِيَانِ حَتَّى يَدُورَا حَوْل البَيْتِ وَهُمَا يَقُولاَنِ: { رَبَّنَا تَقَبَّل مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ العَلِيمُ } ) (1) .
__________
(1) البخاري في أحاديث الأنبياء، باب يزفون النسلان في المشي 3/1229 (3184) .(1/500)
ومثال الدعاء بالاسم المطلق أيضا ما ورد في قوله تعالى: { إِذْ قَالتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّل مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ العَلِيمُ } [آل عمران:35]، وكذلك قوله تعالى عن دعاء زكريا - عليه السلام -: { قَال رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ } [آل عمران:38]، وروى أبو داود وصححه الألباني من حديث أبي سعيد - رضي الله عنه - أنه قال: ( كَانَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إِذَا قَامَ مِنَ الليْلِ كَبَّرَ ثُمَّ يَقُولُ: سُبْحَانَكَ اللهمَّ وَبِحَمْدِكَ وَتَبَارَكَ اسْمُكَ وَتَعَالَى جَدُّكَ وَلاَ إِلَهَ غَيْرُكَ، ثُمَّ يَقُولُ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ الله، ثَلاَثًا ثُمَّ يَقُولُ: الله أَكْبَرُ كَبِيرًا ثَلاَثًا، أَعُوذُ بِالله السَّمِيعِ الْعَلِيمِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ مِنْ هَمْزِهِ وَنَفْخِهِ وَنَفْثِهِ، ثُمَّ يَقْرَأُ ) (1) .
__________
(1) أبو داود في الصلاة، باب من رأى الاستفتاح بسبحانك 1/206 (775)، مشكاة المصابيح (1217) .(2/1)
وعند الترمذي وصححه الشيخ الألباني من حديث أبان بن عثمان عن أبيه - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( مَا مِنْ عَبْدٍ يَقُولُ في صَبَاحِ كُلِّ يَوْمٍ وَمَسَاءِ كُلِّ لَيْلَةٍ: بِسْمِ الله الذي لاَ يَضُرُّ مَعَ اسْمِهِ شيء في الأَرْضِ وَلاَ في السَّمَاءِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ فَيَضُرُّهُ شيء، وَكَانَ أَبَانُ قَدْ أَصَابَهُ طَرَفُ فَالَجِ، فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَنْظُرُ إِلَيْهِ فَقَالَ لَهُ أَبَانُ: مَا تَنْظُرُ؟ أَمَا إِنَّ الْحَدِيثَ كَمَا حَدَّثْتُكَ، وَلَكِنِّي لَمْ أَقُلْهُ يَوْمَئِذٍ لِيُمْضِي اللهُ عَلَي قَدَرَهُ ) (1) .
__________
(1) الترمذي في كتاب الدعوات، باب ما جاء في الدعاء إذا أصبح وإذا أمسى 5/465 (3388)، وانظر صحيح الجامع (5745)، وصحيح الترغيب والترهيب (655) .(2/2)
وعند النسائي وحسنه الألباني من حديث أبي سكينة عن رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ( لَمَّا أَمَرَ النبي - صلى الله عليه وسلم - بِحَفْرِ الْخَنْدَقِ عَرَضَتْ لَهُمْ صَخْرَةٌ حَالَتْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْحَفْرِ؛ فَقَامَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وَأَخَذَ الْمِعْوَلَ وَوَضَعَ رِدَاءَهُ نَاحِيَةَ الْخَنْدَقِ وَقَالَ: تَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً لاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ، فَنَدَرَ ثُلُثُ الْحَجَرِ وَسَلْمَانُ الفارسي قَائِمٌ يَنْظُرُ (1)؛ فَبَرَقَ مَعَ ضَرْبَةِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - بَرْقَةٌ، ثُمَّ ضَرَبَ الثَّانِيَةَ وَقَالَ: تَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً لاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ، فَنَدَرَ الثُّلُثُ الآخَرُ فَبَرَقَتْ بَرْقَةٌ؛ فَرَآهَا سَلْمَانُ، ثُمَّ ضَرَبَ الثَّالِثَةَ وَقَالَ: تَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً لاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ، فَنَدَرَ الثُّلُثُ الباقي، وَخَرَجَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فَأَخَذَ رِدَاءَهُ وَجَلَسَ، قَالَ سَلْمَانُ: يَا رَسُولَ الله رَأَيْتُكَ حِينَ ضَرَبْتَ مَا تَضْرِبُ ضَرْبَة إِلاَّ كَانَتْ مَعَهَا بَرْقَةٌ؟ قَالَ لَهُ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - : يَا سَلْمَانُ رَأَيْتَ ذَلِكَ؟ فَقَالَ: إي والذي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ يَا رَسُولَ الله قَالَ: فإني حِينَ ضَرَبْتُ الضَّرْبَةَ الأُولَى رُفِعَتْ لي مَدَائِنُ كِسْرَى وَمَا حَوْلَهَا وَمَدَائِنُ كَثِيرَةٌ حَتَّى رَأَيْتُهَا بِعَيْنَيَ، قَالَ لَهُ مَنْ حَضَرَهُ مِنْ أَصْحَابِهِ: يَا رَسُولَ الله ادْعُ الله أَنْ يَفْتَحَهَا عَلَيْنَا وَيُغَنِّمَنَا دِيَارَهُمْ
__________
(1) ندر الشيء إذا سقط، انظر كتاب العين 8/21 .(2/3)
وَيُخَرِّبَ بِأَيْدِينَا بِلاَدَهُمْ، فَدَعَا رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بِذَلِكَ، ثُمَّ ضَرَبْتُ الضَّرْبَةَ الثَّانِيَةَ فَرُفِعَتْ لي مَدَائِنُ قَيْصَرَ وَمَا حَوْلَهَا حَتَّى رَأَيْتُهَا بعيني، قَالُوا: يَا رَسُولَ الله ادْعُ الله أَنْ يَفْتَحَهَا عَلَيْنَا وَيُغَنِّمَنَا دِيَارَهُمْ وَيُخَرِّبَ بِأَيْدِينَا بِلاَدَهُمْ، فَدَعَا رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بِذَلِكَ، ثُمَّ ضَرَبْتُ الثَّالِثَةَ فَرُفِعَتْ لي مَدَائِنُ الْحَبَشَةِ وَمَا حَوْلَهَا مِنَ الْقُرَى حَتَّى رَأَيْتُهَا بِعَيْنَي، قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عِنْدَ ذَلِكَ: دَعُوا الْحَبَشَةَ مَا وَدَعُوكُمْ، وَاتْرُكُوا التُّرْكَ مَا تَرَكُوكُمْ ) (1) .
ومما ورد في دعاء المسألة بالوصف ما رواه مسلم من حديث أبو موسى الأشعري - رضي الله عنه - أنه قال: ( وَإِذَا قَالَ: سَمِعَ الله لِمَنْ حَمِدَهُ فَقُولُوا: اللهمَّ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ، يَسْمَعِ الله لَكُمْ؛ فَإِنَّ الله تَعَالَى قَالَ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ - صلى الله عليه وسلم - : سَمِعَ الله لِمَنْ حَمِدَهُ ) (2)، وقد تقدم استعاذة النبي - صلى الله عليه وسلم - من دعاء لا يسمع .
وعند مسلم من حديث ابن عباس - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج إلى الصلاة وهو يقول: ( اللهمَّ اجْعَل فِي قَلبِي نُورًا، وَفِي لِسَانِي نُورًا، وَاجْعَل فِي سَمْعِي نُورًا وَاجْعَل فِي بَصَرِي نُورًا، وَاجْعَل مِنْ خَلفِي نُورًا، وَمِنْ أَمَامِي نُورًا، وَاجْعَل مِنْ فَوْقِي نُورًا، وَمِنْ تَحْتِي نُورًا اللهمَّ أَعْطِنِي نُورًا ) (3) .
__________
(1) النسائي في الجهاد، باب غزوة الترك والحبشة 6/43 (3176)، وصحيح الجامع (3384) .
(2) مسلم في الصلاة، باب التشهد في الصلاة1/303 (404) .
(3) مسلم في صلاة المسافرين، باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه 1/530، (763) .(2/4)
وعند البخاري في الأدب المفرد من حديث عبد الرحمن بن يزيد قال: ( كان الربيع يأتي علقمة يوم الجمعة، فإذا لم أكن ثمة أرسلوا إلى، فجاء مرة ولست ثمة، فلقيني علقمة وقال لي: ألم تر ما جاء به الربيع؟ قال: ألم تر أكثر ما يدعو الناس، وما أقل إجابتهم؟ وذلك أن الله - عز وجل - لا يقبل إلا الناخلة من الدعاء، قلت: أو ليس قال ذلك عبد الله؟ قال: وما قال؟ قال: قال عبد الله: لا يسمع الله من مسمع، ولا من مراء ولا لاعب إلا داع دعا بتثبت من قلبه، قال: فذكر علقمة؟ قال: نعم ) (1) .
الدعاء باسم الله السميع دعاء عبادة .
الإيمان بالاسم له أثر كبير على اعتقاد العبد وسلوكه، أما الاعتقاد فالموحد يعلم أن الله - عز وجل - من فوق عرشه يسمع كل صغيرة وكبيرة في خلقه، وأنه سبحانه متوحد في سمعه وبصره، له الكمال المطلق كما قال تعالى عن نفسه: { ليْسَ كَمِثْلهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ } [الشورى:11] .
روى ابن ماجة وحسنه الألباني من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: ( الحَمْدُ للهِ الذِي وَسِعَ سَمْعُهُ الأَصْوَاتَ، لقَدْ جَاءَتِ المُجَادِلةُ إِلى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَأَنَا فِي نَاحِيَةِ البَيْتِ تَشْكُو زَوْجَهَا وَمَا أَسْمَعُ مَا تَقُول؛ فَأَنْزَل اللهُ: { قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْل التِي تُجَادِلكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلى اللهِ وَاللهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ } [المجادلة:1] ) (2) .
__________
(1) الأدب المفرد (606)، وانظر مصنف ابن أبي شيبة 6/34 (29270)، والرواية لا يصح رفعها ولكنها محفوظة من كلام ابن مسعود رضي الله عنه، انظر العلل المتناهية لابن الجوزي 2/841 .
(2) ابن ماجة في المقدمة، باب فيما أنكرت الجهمية 1/67، (188)، ظلال الجنة (625) .(2/5)
وأما أثر الإيمان بالاسم على سلوك العبد فإن الموحد يراقب ربه في سره وعلانيته لعلمه أن الله من فوق عرشه يسمعه وهو عليم بسره ونجواه، ومن ثم يتقيه ويخشاه ولا يخاف من أحد سواه، قال - عز وجل -: { أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلى وَرُسُلنَا لدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ } [الزخرف:80] .
كما أن الصادق في توحيده لاسم الله السميع هو الذي يسمع بسمع الله؛ فلا يسمع إلا ما يحبه ويرضاه، روى البخاري من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال فيما يروي عن رب العزة - جل جلاله -: ( وَمَا تَقَرَّبَ إِليَ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِليَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَليْهِ، وَمَا يَزَال عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلي بِالنَّوَافِل حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الذِي يُبْصِرُ بِهِ ) (1) .
والمقصود بقوله كنت سمعه الذي يسمع به أي يحفظه الله في سمعه ويهيأ الأسباب لحفظه، وذلك لمداومة العبد على حفظ الله في شرعه، وليس المقصود اتحاد الذات أو الحلول كما زعم الغلاة، فالعبد يحفظ سمعه بالتزامه منهج الله - عز وجل - فلا يؤذي الناس بسمعه كأن يتحسس عوراتهم أو يخوض في أعراضهم أو يشهر بزلاتهم، أو ما شابه ذلك مما هو مستقبح في الشرع.
__________
(1) البخاري في الرقاق، باب التواضع 5/ 2384 (6137) .(2/6)
وعند البخاري من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الحَدِيثِ، وَلاَ تَحَسَّسُوا وَلاَ تَجَسَّسُوا، وَلاَ تَحَاسَدُوا وَلاَ تَدَابَرُوا وَلاَ تَبَاغَضُوا، وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إِخْوَانًا ) (1)، وعند مسلم من حديث عبد الله بن عباس - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( مَنْ سَمَّعَ سَمَّعَ اللهُ بِهِ، وَمَنْ رَاءَى رَاءَى اللهُ بِهِ ) (2) .
وممن تسمى عبد السميع أبو العز عبد السميع بن عبد العزيز بن غلاب الواسطي المقرئ (ت:618هـ)، سمع أبا طالب بن الكتاني، وقرأ القرآن الكريم بالروايات على أبي الفضل هبة الله بن علي بن قسام، وحدث وأقرأ بواسط وكان فرضيا (3) .
********************************
19- الله - جل جلاله - البَصَيرُ
********************************
الدليل على ثبوت الاسم وإحصائه .
__________
(1) البخاري في كتاب الأدب، باب لا يخطب على خطبة أخيه 5/ 1976(4849) .
(2) مسلم في الزهد والرقاق، باب تحريم الرياء 4/ 2289 (2986) .
(3) انظر ترجمته في تكملة الإكمال لأبي بكر محمد بن عبد الغني البغدادي 4/391 .(2/7)
اسم الله البصير ورد مطلقا معرفا ومنونا مرادا به العلمية ودالا على كمال الوصفية ومقترنا باسم الله السميع في آيات كثيرة، كقوله تعالى: { سُبْحَانَ الذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ ليْلاً مِنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ إِلى المَسْجِدِ الأَقْصَى الذِي بَارَكْنَا حَوْلهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ } [الإسراء:1]، وقوله: { اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ } [الحج:75]، وقد ورد مطلقا منونا مفردا في موضعين ومقترنا بالسميع في ستة مواضع، قال تعالى: { وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً } [الفرقان:20] .
أما ما ورد في السنة فقد تقدم الحديث في الاسم السابق: ( فإنكم لا تَدْعونَ أصمَّ ولا غائبا ولكنْ تدعون سميعاً بصيراً )، وورد عند أبي داود وصححه الألباني من حديث أبي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - أنه قْرَأ هَذِهِ الآيَةَ: { إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً } ، ثم قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَضَعُ إِبْهَامَهُ عَلَى أُذُنِهِ وَالَّتِي تَلِيهَا عَلَى عَيْنِهِ (1) .
شرح الاسم وتفسير معناه .
البَصِيرٌ في اللغة من أبنية المبالغة، فعيل بمعنى فاعل، فعله بَصُرَ يُبصِرُ بَصَرا وتَبَصَّرَهُ، قال تعالى: { فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ } [الأنعام:104]، وتَبَاصَرَ القومُ أَبْصَرَ بعضهم بعضاً، والبَصَرُ يقال للعَيْنُ إِلاَّ أَنه مذكر، ويقال أيضا لحِسُّ العَيٌّن والنظر، أو القوة التي تبصر بها العين أو حاسة الرؤْية .
__________
(1) أبو داود في كتاب السنة، باب في الجهمية 4/233 (4728)، صحيح أبي داود 3/895(3954) .(2/8)
والتَّبَصُّر التَّأَمُّل والتَّعَرُّف والتعريف والإِيضاح، والبَصيرة الحجة والاستبصار وهي اسم لما يعقد في القلب من الدين وتحقيق الأَمر، وقيل: البَصيرة الفطنة، ورجل بَصِيرٌ بالعلم عالم به، وبَصرُ القلب نَظرهُ وخاطره (1) .
والبصير سبحانه هو المتصف بالبصر، والبصر صفة من صفات ذاته تليق بجلاله يجب إثباتها لله دون تمثيل أو تكييف، أو تعطيل أو تحريف، فهو الذي يبصر جميع الموجودات في عالم الغيب والشهادة، ويرى الأشياء كلها مهما خفيت أو ظهرت ومهما دقت أو عظمت .
وهو سبحانه وتعالى مطلع على خلقه يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور، لا يخفى عليه شيء من أعمال العباد، بل هو بجميعها محيط، ولها حافظ ذاكر، فالسر عنده علانية والغيب عنده شهادة، يرى دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء ويرى نياط عروقها ومجاري القوت في أعضائها (2)، قال ابن القيم:
وهو البصير يرى دبيب النملة السوداء تحت الصخر والصوان
ويرى مجاري القوت في أعضائها : ويرى عروق بياضها بعيان
ويرى خيانات العيون بلحظها : ويرى كذاك تقلب الأجفان (3) .
__________
(1) لسان العرب 4/64، والنهاية في غريب الحديث 1/131، وكتاب العين 7/117، والمفردات ص127.
(2) مدارج السالكين 3/253، وتفسير ابن جرير الطبري 1/431، والأسماء والصفات للبيهقي ص63 وتفسير أسماء الله الحسنى للزجاج ص42، وشرح أسماء الله الحسنى للرازي ص247 .
(3) توضيح المقاصد وتصحيح القواعد في شرح قصيدة الإمام ابن القيم 2/215 .(2/9)
والله - جل جلاله - هو البصير الذي ينظر للمؤمنين بكرمه ورحمته، ويمن عليهم بنعمته وجنته، ويزيدهم كرما بلقائه ورؤيته، ولا ينظر إلي الكافرين إيقاعا لعقوبته، فهم مخلدون في العذاب محجوبون عن رؤيته، كما قال تعالى: { كَلا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ } [المطففين:15]، وقال: { أُولَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ الله وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [آل عمران:77] .
وعند البخاري من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - أن النَّبِيِ - صلى الله عليه وسلم - قال: ( ثَلاَثَةٌ لاَ يُكَلمُهُمُ الله يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ رَجُلٌ حَلَفَ عَلَى سِلْعَةٍ، لَقَدْ أَعْطَى بِهَا أَكْثَرَ مِمَّا أَعْطَى وَهْوَ كَاذِبٌ، وَرَجُل حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ كَاذِبَةٍ بَعْدَ الْعَصْرِ لِيَقْتَطِعَ بِهَا مَالَ رَجُلٍ مُسْلِمٍ، وَرَجُلٌ مَنَعَ فَضْلَ مَاءٍ ) (1) .
دلالة الاسم على أوصاف الله .
الاسم يدل على ذات الله وعلى صفة العين والإبصار بدلالة المطابقة، وعلى ذات الله وحدها بالتضمن، وعلى الصفة وحدها بالتضمن، أما دلالة البصير على الصفة الذاتية، فقد روى البخاري عن ابن عمر - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكر الدجال فقال: { إِنِّي لأُنْذِرُكُمُوهُ، وَمَا مِنْ نبي إِلاَّ أَنْذَرَهُ قَوْمَهُ، لَقَدْ أَنْذَرَ نُوحٌ قَوْمَهُ وَلَكِنِّى أَقُولُ لَكُمْ فِيهِ قَوْلاً لَمْ يَقُلهُ نبي لِقَوْمِهِ، تَعْلَمُونَ أَنَّهُ أَعْوَرُ وَأَنَّ الله لَيْسَ بِأَعْوَرَ ) (2) .
__________
(1) البخاري في المساقاة، باب من رأى أن صاحب الحوض 2/834 (2240) .
(2) البخاري في أحاديث الأنبياء، باب كيف يعرض الإسلام على الصبي 3/1113 (2892) .(2/10)
وفي رواية مسلم: ( إِنَّ الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَيْسَ بِأَعْوَرَ، أَلاَ إِنَّ المَسِيحَ الدَّجَّالَ أَعْوَرُ عَيْنِ اليُمْنَى، كَأَنَّ عَيْنَهُ عِنَبَةٌ طَافِيَةٌ ) (1)، وصفة العين صفة ذاتية حقيقية نؤمن بها تصديقا لخبر الله ولا نسأل عن الكيفية؛ لأننا ما رأينا الله، وما رأينا لعينه مثيلا، فالله - عز وجل - له عينان حقيقيتان تليق بذاته سبحانه، وقال تعالى لموسى وهارون عليهما السلام: { قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى } [طه:46] .
وأما الإبصار كوصف فعل فالله - عز وجل - ينظر إلى بعض خلقه دون بعض نظرة تعطف ورحمة ورأفة وتنعيما وقربة فهو من باب الخصوص، قال تعالى عن أعدائه: { إِنَّ الذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ الله وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ الله وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ القِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [آل عمران:77]، وعند البخاري من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( ثَلاَثَةٌ لاَ يُكَلِّمُهُمُ الله يَوْمَ القِيَامَةِ، وَلاَ يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ .. الحديث ) (2)، واسم الله البصير يدل باللزوم على ما دل عليه اسمه السميع - عز وجل - .
الدعاء باسم الله البصير دعاء مسألة .
__________
(1) مسلم في الفتن وأشراط الساعة، باب ذكر الدجال وصفة وما معه4/2248 (2933) .
(2) البخاري في المساقاة، باب قول الله تعالى وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة 6/ 2710 (7008) .(2/11)
ورد دعاء المسألة بالاسم المضاف في قوله تعالى عن موسى - عليه السلام -: { قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي وَاجْعَل لِّي وَزِيراً مِّنْ أَهْلِي هَارُونَ أَخِي اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً إِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيراً قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى } [طه:25/35]، وقول مؤمن آل فرعون: { وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ تَدْعُونَنِي لأَكْفُرَ بِاللهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ لا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلا فِي الآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللهِ إِنَّ اللهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ } [غافر:41/44] .(2/12)
ومن دعاء المسألة أيضا الدعاء بمعنى الاسم ومقتضاه كسؤال العبد ربه أن ينير له بصره وبصيرته في قول أو فعل يتناسب مع حاجته كما في قول إبراهيم - عليه السلام - وهو يطلب من ربه أن يبصره بنسكه وحجه: { رَبَّنَا وَاجْعَلنَا مُسْلِمَيْنِ لكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَليْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } [البقرة:128]، وقال أيضا في شأنه - عليه السلام - عندما طلب من ربه طلبا خاصا يزداد به قربة إليه من خلال النظر إلى أفعال المحبوب: { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ } [البقرة:260] .
وكان هذا أيضا حال موسى - عليه السلام - عندما طلب من ربه طلبا خاصا يزداد به قربة من خلال النظر إلى المحبوب: { وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ } [الأعراف:143] .(2/13)
وكذلك أمر الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يتوكل على الذي يراه حين يقوم من الليل: { وَتَوَكَّل عَلى العَزِيزِ الرَّحِيمِ الذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ } [الشعراء:219]، فكان من دعائه - صلى الله عليه وسلم - : ( اللهمَّ اجْعَل فِي قَلبِي نُورًا، وَفِي لِسَانِي نُورًا، وَاجْعَل فِي سَمْعِي نُورًا وَاجْعَل فِي بَصَرِي نُورًا، وَاجْعَل مِنْ خَلفِي نُورًا، وَمِنْ أَمَامِي نُورًا، وَاجْعَل مِنْ فَوْقِي نُورًا وَمِنْ تَحْتِي نُورًا، اللهمَّ أَعْطِنِي نُورًا ) (1) .
وروى أبو داود وحسنه الألباني من حديث عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( إِنَّ مُوسَى قَالَ: يَا رَبِّ أَرِنَا آدَمَ الذي أَخْرَجَنَا وَنَفْسَهُ مِنَ الْجَنَّةِ، فَأَرَاهُ الله آدَمَ فَقَالَ: أَنْتَ أَبُونَا آدَمُ؟ فَقَالَ لَهُ آدَمُ: نَعَمْ، قَالَ: أَنْتَ الذي نَفَخَ الله فِيكَ مِنْ رُوحِهِ وَعَلمَكَ الأَسْمَاءَ كُلهَا وَأَمَرَ الْمَلاَئِكَةَ فَسَجَدُوا لَكَ؟ قَالَ نَعَمْ، قَالَ: فَمَا حَمَلَكَ عَلَى أَنْ أَخْرَجْتَنَا وَنَفْسَكَ مِنَ الْجَنَّةِ؟ .. الحديث ) (2).
الدعاء باسم الله البصير دعاء عبادة .
__________
(1) مسلم في صلاة المسافرين، باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه 1/525 (763) .
(2) أبو داود في السنة، باب في القدر 4/226 (4702)، السلسة الصحيحة (1702) .(2/14)
دعاء العبادة باسم الله البصير هو وصول العبد لمرتبة الإحسان وتأثره الدائم بكمال المراقبة، روى البخاري من حديث عمر - رضي الله عنه - أن جبريل سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ( أخبرني عَنِ الإِحْسَان؟ قَال: أَنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ ) (1)، فوجب على العبد أن يراقب ربه في طاعته، ويوقن أنه من فوق عرشه بصير بعبادته، عليم بإخلاصه ونيته، قال - عز وجل -: { وَقُل اعْمَلوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلكُمْ وَرَسُولهُ وَالمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلى عَالمِ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلونَ } [التوبة:105]، كما أن دعاء العبادة يوجب علينا أن ننظر ونتفكر وأن نعتبر ونتذكر، ننظر في خلق الله وآثار صنعته، وكمال قدرته وبالغ حكمته، قال - عز وجل -: { أَفَلا يَنظُرُونَ إِلى الإِبِل كَيْفَ خُلقَتْ وَإِلى السَّمَاء كَيْفَ رُفِعَتْ .. إلى قوله .. فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ } [الغاشية:17/21]، وكما أمرنا الله - عز وجل - أن ننظر في الأسباب الظاهرة أمرنا أن نعتبر بفعله في الأمم الغابرة فقال - جل جلاله -: { قَدْ خَلتْ مِنْ قَبْلكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُكَذِّبِينَ } [آل عمران:137] .
أما من جهة التسمية بعبد البصير فلم أجد أحدا تسمى به من علماء السلف أو رواة الحديث، لكن سمى به من الخلف المتأخرين كثير، منهم أبو محمود عبد البصير ابن أبي نصر الضراب من أهل هراة (ت:541هـ) (2) .
********************************
20- الله - جل جلاله - المَوْلَى
********************************
الدليل على ثبوت الاسم وإحصائه .
__________
(1) البخاري في الإيمان، باب سؤال جبريل النبي S 1/27 (50) .
(2) انظر ترجمته في التحبير في المعجم الكبير للسمعاني 1/506 .(2/15)
اسم الله المولى ورد في القرآن الكريم على سبيل الإطلاق مرادا به العلمية ودالا على كمال الوصفية، قال تعالى: { وَإِنْ تَوَلوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ } [الأنفال:40]، وقال سبحانه: { وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ } [الحج:78]، وقد ورد مقيدا في قوله تعالى: { ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ } [محمد:11]، وقوله: { قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلا مَا كَتَبَ اللهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ } [التوبة:51] .
وعند البخاري من حديث الْبَرَاء بْن عَازِبٍ - رضي الله عنه - أن أبا سفيان قال يوم أحد: ( إِنَّ لَنَا الْعُزَّى وَلاَ عُزَّى لَكُمْ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: أَلاَ تُجِيبُوا لَهُ؟ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ مَا نَقُولُ؟ قَالَ: قُولُوا اللهُ مَوْلاَنَا وَلاَ مَوْلَى لَكُمْ ) (1) .
شرح الاسم وتفسير معناه .
المولى في اللغة مصدر على وزن مَفعَل، فعله ولي يلي وليا وولاية، والمولى اسم يطلق على الرَّب والمالِك والسَّيْد والمنْعم والمعْتق والنَّاصِر والمحِب والتابِع والجار وابن العَمّ والحلِيف والعَقِيد والصِّهْر والعَبْد والمنْعم عليه، والفرق بين الولي والمولى أن الولي هو من تولى أمرك وقام بتدبير حالك وحال غيرك وهذه من ولاية العموم، أما المولى فهو من تركن إليه، وتعتمد عليه، وتحتمي به عند الشدة والرخاء وفي السراء والضراء وهذه من ولاية الخصوص (2) .
__________
(1) البخاري في كتاب المغازى، باب ما يكره من التنازع والاختلاف في الحرب 3/1105 (2874) .
(2) انظر لسان العرب 5/ 411، الغريب لابن سلام 3/141، والنهاية في غريب الحديث 5/ 227 .(2/16)
والمولى سبحانه هو من يركن إليه الموحدون ويعتمد عليه المؤمنون في الشدة والرخاء والسراء والضراء ولذلك خص الولاية هنا بالمؤمنين، قال تعالى: { ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ } [محمد:11]، وقال - عز وجل -: { وَإِنْ تَوَلوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ } [الأنفال:40]، وقال: { قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلا مَا كَتَبَ الله لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ } [التوبة:51]، والله - عز وجل - جعل ولايته للموحدين مشروطة بالاستجابة لأمره، والعمل في طاعته وقربه، والسعي إلى مرضاته وحبه، فمن حديث أَبِي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( إِنَّ اللهَ قَالَ: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ التِي يَبْطُشُ بِهَا وَرِجْلَهُ التِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لأُعِيذَنَّهُ، وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ، يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ ) (1) .
دلالة الاسم على أوصاف الله .
__________
(1) البخاري في الرقاق، باب التواضع 5/2384 (6137) .(2/17)
اسم الله المولى يدل على ذات الله وعلى صفة الولاية الخاصة بدلالة المطابقة، وعلى أحدهما بالتضمن، فالولاية التي دل عليها اسمه المولى تكون لبعض خلقه دون بعض كما قال تعالى: { الله وَلِيُّ الذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } [البقرة:257]، وقال سبحانه: { لَهُمْ دَارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُون } [الأنعام:127]، واسم الله المولى يدل باللزوم على الحياة والقيومية والسمع والبصر والعلم والقدرة والعدل والحكمة والعزة والرحمة والسيادة والأحدية والغنى والصمدية، وغير ذلك من أوصاف الكمال، واسم الله المولى دل على صفة من صفات الأفعال .
الدعاء باسم الله المولى دعاء مسألة .(2/18)
ورد دعاء المسألة باسم الله المولى مقيدا بالإضافة في قوله تعالى عن المؤمنين: { رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِل عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلتَهُ عَلَى الذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى القَوْمِ الكَافِرِينَ } [البقرة:286]، وقوله تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم - : { قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلا مَا كَتَبَ الله لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ } [التوبة:51]، وروى النسائي وصححه الألباني من حديث زيد بن الأرقم - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( اللهمَّ إني أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ وَالْبُخْلِ وَالْجُبْنِ وَالْهَرَمِ وَعَذَابِ الْقَبْرِ، اللهمَّ آتِ نفسي تَقْوَاهَا، وَزَكِّهَا أَنْتَ خَيْرُ مَنْ زَكَّاهَا، أَنْتَ وَلِيُّهَا وَمَوْلاَهَا، اللهمَّ إني أَعُوذُ بِكَ مِنْ قَلْبٍ لاَ يَخْشَعُ وَمِنْ نَفْسٍ لاَ تَشْبَعُ وَعِلْمٍ لاَ يَنْفَعُ وَدَعْوَةٍ لاَ يُسْتَجَابُ لَهَا ) (1).
__________
(1) مسلم في الذكر والدعاء والتوبة، باب التعوذ من شر ما عمل 4/2088 (2722) .(2/19)
وورد الدعاء بالوصف الذي تضمنه الاسم عند الترمذي وصححه الألباني من حديث ابن عباس - رضي الله عنه - أنه قال: ( كَانَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يُعَلِّمُنَا دُعَاءً نَدْعُو بِهِ في الْقُنُوتِ مِنْ صَلاَةِ الصُّبْحِ: اللهمَّ اهْدِنَا فِيمَنْ هَدَيْتَ، وَعَافِنَا فِيمَنْ عَافَيْتَ، وَتَوَلنَا فِيمَنْ تَوَليْتَ وَبَارِكْ لَنَا فِيمَا أَعْطَيْتَ، وَقِنَا شَرَّ مَا قَضَيْتَ، إِنَّكَ تَقْضِي وَلاَ يُقْضَى عَلَيْكَ، إِنَّهُ لاَ يَذِلُّ مَنْ وَالَيْتَ تَبَارَكْتَ رَبَّنَا وَتَعَالَيْتَ ) (1) .
وعند ابن ماجة وصححه الألباني من حديث البراء بن عازب - رضي الله عنه - أن رسول الله قال في دعائه لعلي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: ( اللهمَّ وَالِ مَنْ وَالاَهُ، اللهمَّ عَادِ مَنْ عَادَاهُ ) (2) .
الدعاء باسم الله المولى دعاء مسألة .
__________
(1) الترمذي في أبواب الصلاة، باب ما جاء في قنوت الوتر 2/328 (464)، مشكاة المصابيح (1273) .
(2) ابن ماجة في فضل علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - 1/43 (116)، السلسلة الصحيحة (1750) .(2/20)
دعاء العبادة هو أثر الإيمان بالاسم في سلوك العبد فيجاهد نفسه في طاعة مولاه فلا يعصي له أمرا ولا يرد له خبرا، كما قال - جل جلاله -: { وَجَاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَل عَليْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ المُسْلمِينَ مِنْ قَبْل وَفِي هَذَا ليَكُونَ الرَّسُول شَهِيداً عَليْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ المَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ } [الحج:78]، فالمسلم الموحد كيف يخبره مولاه بأنه العلي في سماه على العرش استوى، ويقول العبد له: ظاهر كلامك باطل ومحال يا مولاي فإنه تشبيه وتمثيل؟ فمن وحد الله في اسمه المولى أثبت ما أثبته الله لنفسه وما أثبته رسوله - صلى الله عليه وسلم - فصدق بخبره ولم يحد عن أمره، وهذا مقتضى تعظيم العبد لربه في اسمه المولى .(2/21)
ومن دعاء العبادة أيضا تقوى الله فيمن ولاه عليهم من خدمه أو عماله أو شركائه أو إخوانه، روى مسلم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( إِذَا صَنَعَ لأَحَدِكُمْ خَادِمُهُ طَعَامَهُ ثُمَّ جَاءَهُ بِهِ وَقَدْ وَلي حَرَّهُ وَدُخَانَهُ فَليُقْعِدْهُ مَعَهُ فَليَأْكُل، فَإِنْ كَانَ الطَّعَامُ مَشْفُوهًا قَليلاً فَليَضَعْ فِي يَدِهِ مِنْهُ أُكْلةً أَوْ أُكْلتَيْنِ ) (1)، وروى أيضا من حديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( اللهمَّ مَنْ وَليَ مِنْ أَمْرِ أمتي شَيْئًا فَشَقَّ عَليْهِمْ فَاشْقُقْ عَليْهِ، وَمَنْ وَلي مِنْ أَمْرِ أمتي شَيْئًا فَرَفَقَ بِهِمْ فَارْفُقْ بِهِ ) (2) .
__________
(1) مسلم في الأيمان، باب إطعام المملوك مما يأكل وإلباسه مما يلبس ولا يكلفه ما يغلبه 3/284 (1663) ومعنى مشفوها أي تكاثرت عليه الشفاة فأصبح قليلا .
(2) مسلم في الإمارة، باب فضيلة الإمام العادل وعقوبة الجائر 3/ 1458 (1828) .(2/22)
وعند أحمد وصححه الألباني من حديث أبي قتادة - رضي الله عنه - قال: ( سَمِعْتُ رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُول عَلى المِنْبَرِ للأَنْصَارِ: أَلاَ إِنَّ النَّاسَ دِثَارِى وَالأَنْصَارَ شِعَارِى، لوْ سَلكَ النَّاسُ وَادِياً وَسَلكَتِ الأَنْصَارُ شُعْبَةً لاَتَّبَعْتُ شُعْبَةَ الأَنْصَارِ، وَلوْلاَ الهِجْرَةُ لكُنْتُ رَجُلاً مِنَ الأَنْصَارِ فَمَنْ وَلي أَمْرَ الأَنْصَارِ فَليُحْسِنْ إِلى مُحْسِنِهِمْ وَليَتَجَاوَزْ عَنْ مُسِيئِهِمْ، وَمَنْ أَفْزَعَهُمْ فَقَدْ أَفْزَعَ هَذَا الذِي بَيْنَ هَاتَيْنِ وَأَشَارَ إِلى نَفْسِهِ ) (1)، وروى أبو داود وصححه الألباني من حديث مريم الأزدي أنه قال: ( دَخَلتُ عَلى مُعَاوِيَةَ فَقَال: مَا أَنْعَمَنَا بِكَ أَبَا فُلاَنٍ، وَهِي كَلمَةٌ تَقُولهَا العَرَبُ، فَقُلتُ: حَدِيثًا سَمِعْتُهُ أُخْبِرُكَ بِهِ سَمِعْتُ رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُول: مَنْ وَلاَّهُ اللهُ - عز وجل - شَيْئًا مِنْ أَمْرِ المُسْلمِينَ فَاحْتَجَبَ دُونَ حَاجَتِهِمْ وَخَلتِهِمْ وَفَقْرِهِمُ احْتَجَبَ اللهُ عَنْهُ دُونَ حَاجَتِهِ وَخَلتِهِ وَفَقْرِهِ، قَال فَجَعَل رَجُلاً عَلى حَوَائِجِ النَّاسِ ) (2)، وعند مسلم من حديث عوف بن مالك - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( خِيَارُ أَئِمَّتِكُمُ الذِينَ تُحِبُّونَهُمْ وَيُحِبُّونَكُمْ وَيُصَلونَ عَليْكُمْ وَتُصَلونَ عَليْهِمْ، وَشِرَارُ أَئِمَّتِكُمُ الذِينَ تُبْغِضُونَهُمْ وَيُبْغِضُونَكُمْ، وَتَلعَنُونَهُمْ وَيَلعَنُونَكُمْ، قِيل: يَا رَسُول اللهِ أَفَلاَ نُنَابِذُهُمْ بِالسَّيْفِ؟ فَقَال: لاَ، مَا أَقَامُوا فِيكُمُ
__________
(1) المسند 5/ 307 (22668)، السلسلة الصحيحة (917) .
(2) أبو داود في الخراج والإمارة، باب فيما يلزم الإمام من أمر الرعية والحجبة عنه 3/135 (2948)، وانظر صحيح الترغيب والترهيب (2208) .(2/23)
الصَّلاَةَ وَإِذَا رَأَيْتُمْ مِنْ وُلاَتِكُمْ شَيْئًا تَكْرَهُونَهُ فَاكْرَهُوا عَمَلهُ وَلاَ تَنْزِعُوا يَدًا مِنْ طَاعَةٍ ) (1) .
ومن جهة التسمية بعبد المولى فقد تسمى به أبو روح عبد المولى بن عبد الباقي بن محمد بن زيد الأزدي الواعظ، أخو عبد الواسع من أهل هراة، كان والده سبط عبد الله الأنصاري، وكان واعظا له نوبة في جامع هراة (2) .
********************************
21- الله - جل جلاله - النصيرُ
********************************
الدليل على ثبوت الاسم وإحصائه .
ورد الاسم مطلقا معرفا مرادا به العلمية ودالا على كمال الوصفية ومقرونا باسم الله المولى في موضعين من القرآن، قال تعالى: { وَإِنْ تَوَلوْا فَاعلموا أَنَّ اللهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَولى وَنِعْمَ النَّصِيرُ } [الأنفال:40]، وقال - عز وجل -: { وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَولى وَنِعْمَ النَّصِيرُ } [الحج:78] .
وقد ورد الاسم مقيدا في غير موضع كقوله: { وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ } [التوبة:116]، وقوله - عز وجل -: { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً } [الفرقان:31]، وعند أبي داود وصححه الألباني من حديث أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رضي الله عنه - أن رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ إِذَا غَزَا قَالَ: ( اللهُمَّ أَنْتَ عَضُدِي وَنَصِيرِي، بِكَ أَحُولُ وَبِكَ أَصُولُ وَبِكَ أُقَاتِلُ ) (3) .
شرح الاسم وتفسير معناه .
__________
(1) مسلم في الإمارة، باب خيار الأئمة وشرارهم 3/ 1481 (1855) .
(2) التحبير في المعجم الكبير للسمعاني 1/510 .
(3) أبو داود في الجهاد، باب ما يدعى ثم اللقاء 3/42 (2632)، صحيح أبي داود 2 /499 (2291) .(2/24)
والنصير في اللغة من صيغ المبالغة، فعيل بمعنى فاعِل أَو مفعول لأَن كل واحد من المتَناصِرَيْن ناصِر ومَنْصُور، وقد نصَره ينصُره نصْرا إِذا أَعانه على عدُوّه، واسْتَنْصَرَهُ على عدوه سأله أن ينصره عليهم، وتَنَاصَرَ القوم نصر بعضهم بعضا، وانْتَصَرَ منه انتقم منه (1)، وعند البخاري من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: ( انْصُرْ أَخَاكَ ظالِمًا أَوْ مَظْلُومًا، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ هَذَا نَنْصُرُهُ مَظْلُومًا، فَكَيْفَ نَنْصُرُهُ ظَالِمًا؟ قَالَ: تَأْخُذُ فَوْقَ يَدَيْهِ ) (2) .
__________
(1) لسان العرب 5/ 212 .
(2) البخاري في المظالم، باب يمين الرجل لصاحبه 6/2550 (6552) .(2/25)
والنصير سبحانه هو الذي ينصر رسله وأنبياءه وأولياءه على أعدائهم في الدنيا ويوم يقوم الأشهاد في الآخرة، قال تعالى: { إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالذِينَ آمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ } [غافر:51]، وهو الذي ينصر المستضعفين ويرفع الظلم عن المظلومين ويجير المضطر إذا دعاه، قال تعالى: { أُذِنَ لِلذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِير } [الحج:39]، والنصير هو الذي يؤيد بنصره من يشاء ولا غالب لمن نصره ولا ناصر لمن خذله، كما قال - عز وجل -: { إِنْ يَنْصُرْكُمُ الله فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكمْ فَمَنْ ذَا الذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ } [آل عمران:160]، فهو سبحانه حسب من توكل عليه وكافي من لجأ إليه، وهو الذي يؤمن خوف الخائف ويجبر المستجير وهو نعم المولى ونعم النصير، فمن تولاه واستنصر به وتوكل عليه وانقطع بكليته إليه تولاه وحفظه وحرسه وصانه، ومن خافه واتقاه آمنه مما يخاف ويحذر، وجلب إليه كل ما يحتاج إليه من المنافع (1)، قال ابن القيم في معنى قوله تعالى: { وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ هُوَ مَوْلاكمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ } [الحج:78]: ( أي متى اعتصمتم به تولاكم ونصركم على أنفسكم وعلى الشيطان، وهما العدوان اللذان لا يفارقان العبد، وعداوتهما أضر من عداوة العدو الخارج، فالنصر على هذا العدو أهم، والعبد إليه أحوج، وكمال النصرة على العدو بحسب كمال الاعتصام بالله ) (2) .
دلالة الاسم على أوصاف الله .
__________
(1) انظر بدائع الفوائد 2/ 463 بتصرف .
(2) مدارج السالكين 1/180 .(2/26)
اسم الله النصير يدل على ذات الله وعلى صفة النصرة بدلالة المطابقة وعلى ذات الله وحدها بالتضمن، وعلى الصفة وحدها بالتضمن، فالنصير هو الذي ينصر من يشاء من عباده، قال تعالى: { وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ المُؤْمِنُون بِنَصْرِ الله يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ العَزِيزُ الرَّحِيمُ } [الروم:4/5]:، وقال: { وَيَنْصُرَكَ الله نَصْراً عَزِيزاً } [الفتح:3]، وقال سبحانه: { يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا الله يَنْصُرْكُمْ } [محمد:7]، وقال: { قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ الله بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ } [التوبة:14]، واسم الله النصير يدل باللزوم على الحياة والقيومية والعلم والقدرة والغنى والقوة والعلو والعظمة والعدل والحكمة والكبرياء والعزة وغير ذلك من صفات الكمال، واسم الله النصير دل على صفة من صفات الأفعال .
الدعاء باسم الله النصير دعاء مسألة .
ورد الدعاء بالاسم المضاف في حديث أنس - رضي الله عنه - مرفوعا: (اللهمَّ أَنْتَ عَضُدِي وَنَصِيرِي بِكَ أَحُولُ وَبِكَ أَصُولُ وَبِكَ أُقَاتِلُ ) (1)، وورد الدعاء بالوصف في قول الله تعالى: { وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ } [البقرة:250]، وكذلك في قوله سبحانه: { وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ } [آل عمران:147]، وقال تعالى عن نبيه نوح - عليه السلام -: { قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ } [المؤمنون:26]، وكذلك نبي الله لوط - عليه السلام -: { قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ } [العنكبوت:30] .
__________
(1) انظر ص334.(2/27)
وورد دعاء المسألة بالوصف عند مسلم من حديث عبد الله بن أبي أوفى - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ لاَ تَتَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ وَاسْأَلُوا الله الْعَافِيَةَ، فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاصْبِرُوا وَاعْلَمُوا أَنَّ الْجَنَّةَ تَحْتَ ظِلاَلِ السُّيُوفِ ثُمَّ قَامَ النبي - صلى الله عليه وسلم - وَقَالَ: اللهمَّ مُنْزِلَ الْكِتَابِ وَمُجْرِي السَّحَابِ وَهَازِمَ الأَحْزَابِ اهْزِمْهُمْ وَانْصُرْنَا عَلَيْهِمْ ) (1)، وروى الحاكم وصححه الألباني من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: ( كَانَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يَدْعُو فَيَقُولُ: اللهمَّ مَتِّعْنِي بِسَمْعِي وَبَصَرِي وَاجْعَلْهُمَا الْوَارِثَ مِنِّي، وَانْصُرْنِي عَلَى مَنْ يَظْلِمُنِي وَخُذْ مِنْهُ بِثَأْرِي ) (2) .
وروى أبو داود وصححه الشيخ الألباني من حديث ابن عباس - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يدعو: ( رَبِّ أَعِنِّي وَلاَ تُعِنْ عَلَي وَانْصُرْنِي وَلاَ تَنْصُرْ عَلَي وَامْكُرْ لِي وَلاَ تَمْكُرْ عَلَي وَاهْدِنِي وَيَسِّرْ هُدَاي إِلَي، وَانْصُرْنِي عَلَى مَنْ بَغَى عَلَي .. الحديث ) (3) .
__________
(1) مسلم في الجهاد والسير، باب كراهة تمني لقاء العدو والأمر بالصبر 3/1362 (1742) .
(2) الحاكم في المستدرك 1/704 (1918)، السلسلة الصحيحة (3170) .
(3) أبو داود في الصلاة، باب ما يقول الرجل إذا سلم 2/83 (1510)، صحيح الجامع (3485) .(2/28)
وعند البخاري من حديث أنس - رضي الله عنه - قال: ( وَجَعَلُوا يَنْقُلُونَ الصَّخْرَ وَهُمْ يَرْتَجِزُونَ وَرَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - مَعَهُمْ وَهُمْ يَقُولُونَ: اللهمَّ لاَ خَيْرَ إِلاَّ خَيْرُ الآخِرَةِ، فَانْصُرِ الأَنْصَارَ وَالْمُهَاجِرَةَ ) (1)، وروى الترمذي وحسنه الألباني أن ابن عمر - رضي الله عنه - قال: قلما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقوم من مجلس حتى يدعو بهؤلاء الدعوات لأصحابه: ( اللهمَّ اقْسِمْ لَنَا مِنْ خَشْيَتِكَ مَا يَحُولُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ مَعَاصِيكَ، وَمِنْ طَاعَتِكَ مَا تُبَلِّغُنَا بِهِ جَنَّتَكَ، وَمِنَ الْيَقِينِ مَا تُهَوِّنُ بِهِ عَلَيْنَا مُصِيبَاتِ الدُّنْيَا، وَمَتِّعْنَا بِأَسْمَاعِنَا وَأَبْصَارِنَا وَقُوَّتِنَا مَا أَحْيَيْتَنَا وَاجْعَلْهُ الْوَارِثَ مِنَّا، وَاجْعَلْ ثَأْرَنَا عَلَى مَنْ ظَلَمَنَا، وَانْصُرْنَا عَلَى مَنْ عَادَانَا وَلاَ تَجْعَلْ مُصِيبَتَنَا في دِينِنَا، وَلاَ تَجْعَلِ الدُّنْيَا أَكْبَرَ هَمِّنَا وَلاَ مَبْلَغَ عِلْمِنَا، وَلاَ تُسَلِّطْ عَلَيْنَا مَنْ لاَ يَرْحَمُنَا ) (2) .
الدعاء باسم الله النصير دعاء عبادة .
أثر الاسم على العبد أن ينصر الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - ودينه وحزبه لعلمه أن الله هو النصير الذي ينصر من نصره، ويجب على الموحد أن يكون نصره مع صبره مقترنان وألا ييأس من النصر مهما طال الصبر قال تعالى: { مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لنْ يَنْصُرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ فَليَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلى السَّمَاءِ ثُمَّ ليَقْطَعْ فَليَنْظُرْ هَل يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ } [الحج:15] .
__________
(1) البخاري في الصلاة، باب هل تنبش قبور مشركي الجاهلية ويتخذ مكانها مساجد؟ 1/165 (418) .
(2) الترمذي في الدعوات 5/528 (3502)، صحيح الجامع (1268) .(2/29)
وقد روي البخاري أن قريشا في صلح الحديبية ألزمت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأشياء لم يرغب فيها عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فقال للنبي- صلى الله عليه وسلم -? : ( أَلسْتَ نَبِيَّ اللهِ حَقًّا؟ قَال: بَلى قُلتُ: أَلسْنَا على الحَقِّ وَعَدُوُّنَا على البَاطِل؟ قَال: بَلي، قُلتُ: فَلمَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا إِذًا؟ قَال: إِنِّي رَسُول اللهِ وَلسْتُ أَعْصِيهِ وَهُوَ نَاصِرِي، قُلتُ: أَوَليْسَ كُنْتَ تُحَدِّثُنَا أَنَّا سَنَأْتِي البَيْتَ فَنَطُوفُ بِهِ؟ قَال: بَلي لكن هل أَخْبَرْتُكَ أَنَّا سنَأْتِيهِ هذا العَامَ؟ فقَال: لا، قَال: فَإِنَّكَ آتِيهِ وَمُطَّوِّفٌ بِهِ، قَال: فَأَتَيْتُ أَبَا بَكْرٍ فَقُلتُ: يَا أَبَا بَكْرٍ أَليْسَ هَذَا نَبِيَّ اللهِ حَقًّا؟ فقَال أبو بكر: بَلي، قال: أَلسْنَا على الحَقِّ وَعَدُوُّنَا على البَاطِل؟ قَال: بَلي، قُلتُ: فَلمَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا إِذًا؟ قَال: أَيُّهَا الرَّجُل إِنَّهُ لرَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَليْسَ يعصي رَبَّهُ وَهُوَ نَاصِرُهُ فَاسْتَمْسِكْ بِغَرْزِهِ فَوَاللهِ إِنَّهُ على الحقِّ قُلتُ: أَليْسَ كَانَ يُحَدِّثُنَا أَنَّا سَنَأْتِي البَيْتَ وَنَطُوفُ بِهِ؟ قَال: بَلي أَفَأَخْبَرَكَ أَنَّكَ ستَأْتِيهِ هذا العَامَ؟ قُلتُ: لا، قَال: فَإِنَّكَ آتِيهِ وَمُطَّوِّفٌ بِه ) (1) .
والحديث يدل على توحيد الله في اسمه النصير توحيدا اعتقاديا عمليا، فعمر - رضي الله عنه - حريص على العزة والنصر وأبو بكر واثق في النصر مع الصبر، وأن الله - عز وجل - سينصر نبيه ومن أطاعه ولو بعد حين، قال تعالى: { كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ } [المجادلة:21] .
__________
(1) البخاري في الشروط، باب الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب2/977(2581) .(2/30)
ومن جهة التسمية بعبد النصير، قال أبو المعالي السلامي في وفيات سنة اثنتين وأربعين وسبع مئة: ( وفي ليلة الحادي والعشرين من شعبان توفي الصدر الكبير المحدث رشيد الدين أبو الفتوح عبد النصير بن محمد بن يعقوب بن محمد بن نسيم ببلبيس ودفن بها، سمع من العز الحراني وغيره ) (1) .
********************************
22- الله - جل جلاله - العَفُوُّ
********************************
الدليل على ثبوت الاسم وإحصائه .
سمى الله - عز وجل - نفسه العفو على سبيل الإطلاق في قوله تعالى: { إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللهَ كَانَ عَفُوّاً قَدِيراً } [النساء:149]، وقوله: { فَأُولَئِكَ عَسَي اللهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللهُ عَفُوّاً غَفُوراً } [النساء:99]، وقوله: { ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللهُ إِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ } [الحج:60] .
__________
(1) الوفيات 1/408 .(2/31)
وعند الترمذي وصححه الألباني من حديث عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: ( يَا رَسُولَ اللهِ أَرَأَيْتَ إِنْ وَافَقْتُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ مَا أَدْعُو؟ قَالَ: تَقُولِينَ: اللهُمَّ إِنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ الْعَفْوَ فَاعْفُ عَنِّي ) (1)، وعند أحمد وحسنه الألباني من حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: ( إِنَّ أَوَّلَ رَجُلٍ قُطِعَ فِي الإِسْلاَمِ أَوْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ رَجُلٌ أُتِي بِهِ إلى النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ هَذَا سَرَقَ، فَكَأَنَّمَا أُسِفَّ وَجْهُ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - رَمَاداً، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَي؟ يَقُولُ مَا لَكَ؟ فَقَالَ: وَمَا يَمْنَعُنِي وَأَنْتُمْ أَعْوَانُ الشَّيْطَانِ عَلَي صَاحِبِكُمْ وَاللهُ - عز وجل - عَفْوٌّ يُحِبُّ الْعَفْوَ وَلاَ يَنْبَغِي لِوَالِي أَمْرٍ أَنْ يُؤْتَي بِحَدٍّ إِلاَّ أَقَامَهُ ثُمَّ قَرَأَ: { وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلاَ تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } [النور:22] ) (2) .
شرح الاسم وتفسير معناه .
__________
(1) الترمذي في كتاب الدعوات 5/534 (3513) وانظر صحيح الجامع (4423) .
(2) أحمد في المسند 1/419 (3977)، وانظر السلسلة الصحيحة 4/181(1638) .(2/32)
العَفوُّ في اللغة على وزن فعُول من العَفوِ، وهو من صيغ المبالغةِ، يقال: عَفا يَعْفو عَفوا فهو عاف وعَفوٌّ، والعفو هو التجاوُزُ عن الذنب وتَرْك العِقاب عليه، وأَصله المَحْوُ والطمْس، مأْخوذ من قولهم عَفَت الرياحُ الآثارَ إِذا دَرَسَتْها ومَحَتْها، وكل من اسْتَحقَّ عندك عُقوبة فتَرَكتَها فقد عَفَوْتَ عنه (1)، وعند أبي داود وصححه الألباني من حديث عَبْدَ اللهِ بْنَ عَمْرٍو - رضي الله عنه - قال: ( جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ كَمْ نَعْفُو عَنِ الْخَادِمِ؟ فَصَمَتَ، ثُمَّ أَعَادَ عَلَيْهِ الْكَلاَمَ، فَصَمَتَ، فَلَمَّا كَانَ فِي الثَّالِثَةِ قَالَ: اعْفُوا عَنْهُ فِي كُل يَوْمٍ سَبْعِينَ مَرَّة ) (2)، فالعفو هو ترك الشيء وإزالته، وقوله تعالى: { عَفَا الله عَنْكَ َ } [التوبة:43]، أي مَحا الله عنك هذا الأمر وغفر لك .
والعفو يأتي أيضا على معنى الكثرة والزيادة، فعَفوُ المالِ هو ما يَفضُل عن النَّفقة كما في قوله تعالى: { وَيَسْأَلونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ } [البقرة:219]، وعَفا القوم كثرُوا وعَفا النَّبتُ والشَّعَرُ وغيرُه يعني كثرَ وطال، ومنه الأَمَرَ بإِعْفاءِ اللحَى (3) .
والعفوُّ سبحانه هو الذي يحب العفو والستر، ويصفح عن الذنوب مهما كان شأنها ويستر العيوب ولا يحب الجهر بها، يعفو عن المسيء كَرَمًا وإحسانًا، ويفتح واسع رحمته فضلا وإنعاما، حتى يزول اليأس من القلوب وتتعلق في رجائها بمقلب القلوب (4) .
__________
(1) انظر لسان العرب 15/75، الغريب لابن قتيبة 2/361 .
(2) أبو داود في الأدب، باب في حق المملوك 4/341 (5164)، صحيح أبي داود (4301) .
(3) اشتقاق أسماء الله للزجاج ص 134.
(4) الأسماء والصفات للبيهقي ص75، وتفسير أسماء الله للزجاج ص82، وشرح أسماء الله للرازي ص339 .(2/33)
قال القرطبي: ( العَفْوُ، عفو الله جل وعز عن خلقه، وقد يكون بعد العقوبة وقبلها بخلاف الغفران فإنه لا يكون معه عقوبة البتة، وكل من استحق عقوبة فتركت له فقد عفي عنه، فالعفو محو الذنب ) (1)، والمقصود بمحو الذنب محو الوزر الموضوع على فعل الذنب؛ فتكون أفعال العبد مخالفات أو كبائر ومحرمات ثم بالتوبة الصادقة يبدل الله - عز وجل - سيئاته حسنات، قال تعالى: { إِلا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً } [الفرقان:70]، ومن ثم تمحى السيئات عفوا وتستبدل بالحسنات، أما الأفعال فهي في كتاب العبد حتى يلقي ربه، فيدنيه منه ويعرفه بذنبه وسوء فعله، ثم يسترها عليه .
__________
(1) تفسير القرطبي 1/397 .(2/34)
ورى البخاري من حديث ابن عمر - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( إِنَّ اللهَ يُدْنِى الْمُؤْمِنَ فَيَضَعُ عَلَيْهِ كَنَفَهُ وَيَسْتُرُهُ فَيَقُولُ: أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا؟ أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا؟ فَيَقُولُ نَعَمْ أَيْ رَبِّ، حَتَّى إِذَا قَرَّرَهُ بِذُنُوبِهِ، وَرَأَى فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ هَلَكَ قَالَ: سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا، وَأَنَا أَغْفِرُهَا لَكَ الْيَوْمَ، فَيُعْطَى كِتَابَ حَسَنَاتِهِ، وَأَمَّا الْكَافِرُ وَالْمُنَافِقُونَ فَيَقُولُ الأَشْهَادُ: هَؤُلاَءِ الذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ، أَلاَ لَعْنَةُ الله عَلَى الظَّالِمِينَ ) (1)، فالوزر أو عدد السيئات هو الذي يعفى ويمحى ويبدل في الكتاب، أما الفعل ذاته المحسوب بالحركات والسكنات، أو مقياسه في مثقال الذرات وأوزانها فهذا على الدوام مسجل مكتوب ومرصود محسوب، ومحدد بالزمان والمكان ومقدار الإرادة والعلم ومدى الاستطاعة لدى كل إنسان، قال تعالى: { وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً } [الكهف:49] (2) .
دلالة الاسم على أوصاف الله .
__________
(1) البخاري في المظالم، باب قول الله تعالى ألا لعنة الله على الظالمين 2/862 (2309) .
(2) اتظر كتاب توحيد العبادة ومفهوم الإيمان للمؤلف ص77، مطبعة التقدم، القاهرة سنة1991م .(2/35)
العفو في أسماء الله يدل على ذات الله وعلى صفة العفو بدلالة المطابقة، وعلى ذات الله وحدها بالتضمن، وعلى صفة العفو بدلالة التضمن، قال تعالى في دلالة الاسم على الوصف: { وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ } [الشورى:30]، وقال: { وَهُوَ الذِي يَقْبَلُ التَّوبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ } [الشورى:25]، وقال: { ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلكُمْ تَشْكُرُونَ } [البقرة:52]، وقال عن بني إسرائيل: { ثُمَّ اتَّخَذُوا العِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ البَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ } [النساء:153]، فالعفو - عز وجل - هو المتصف بالعفو، واسم الله العفو يدل باللزوم على الحياة والقيومية والسمع والبصر والحلم والعلم والقدرة والعدل واللطف والرحمة، وغير ذلك من أوصاف الكمال، والاسم دل على صفة من صفات الأفعال .
الدعاء باسم الله العفو دعاء مسألة .
ورد دعاء المسألة بالاسم المطلق في حديث عائشة رضي الله عنها الذي تقدم وفيه أنها قالت: ( يَا رَسُولَ اللهِ: أَرَأَيْتَ إِنْ وَافَقْتُ لَيْلَةَ القَدْرِ، مَا أَدْعُو؟ قَالَ: تَقُولِينَ اللهُمَّ إِنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ العَفْوَ فَاعْفُ عَنِّي ) (1)، وورد الدعاء بالوصف في قوله تعالى: { وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ } [البقرة:286]، وعند أحمد وصححه الألباني أن أبا بكر الصديق - رضي الله عنه - قال وهو يخطب الناس حين استخلف: ( إِنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَامَ عَامَ الأَوَّلِ مَقَامِي هَذَا، وَبَكَى أَبُو بَكْرٍ، فَقَالَ: أَسْأَلُ اللهَ العَفْوَ وَالعَافِيَةَ، فَإِنَّ النَّاسَ لَمْ يُعْطَوْا بَعْدَ اليَقِينِ شَيْئاً خَيْراً مِنَ العَافِيَةِ ) (2) .
__________
(1) انظر ص338 .
(2) أحمد في المسند 1/7 ( 34)، مشكاة المصابيح (2489) .(2/36)
وعند أبي داود وصححه الشيخ الألباني من حديث عبد الله بن عمر - رضي الله عنه - أنه قال: لم يكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدع هؤلاء الدعوات حين يمسي وحين يصبح: ( اللهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ العَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، اللهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ العَفْوَ وَالعَافِيَةَ فِي دِينِي وَدُنْيَاي وَأَهْلِي وَمَالِي .. الحديث ) (1)، وروى النسائي وصححه الألباني من حديث عوف بن مالك - رضي الله عنه - أنه قال: ( سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي عَلَى مَيِّتٍ فَسَمِعْتُ مِنْ دُعَائِهِ وَهُوَ يَقُولُ: اللهُمَّ اغْفِرْ لَهُ وَارْحَمْهُ، وَعَافِهِ وَاعْفُ عَنْهُ وَأَكْرِمْ نُزُلَهُ، وَأَوْسِعْ مُدْخَلَهُ، وَاغْسِلْهُ بِالْمَاءِ وَالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ، وَنَقِّهِ مِنَ الْخَطَايَا كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الأَبْيَضُ مِنَ الدَّنَسِ ) (2).
الدعاء باسم الله العفو دعاء عبادة .
__________
(1) أبو داود في الأدب، باب ما يقول إذا أصبح 4/318 رقم (5074)، الأدب المفرد (1200) .
(2) مسلم في الجنائز، باب الدعاء للميت في الصلاة 2/662 (963) .(2/37)
دعاء العبادة هو أثر الاسم على سلوك العبد وتوحيد الله فيه، فيعفوا عن الظالمين ويعرض عن الجاهلين، وييسر علي المعسرين طلبا لعفو الله عند لقائه، وقد كان أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - يتصدق على مسطح بن أثاثة لقرابته منه، فلما شارك المنافقين في اتهام أم المؤمنين عائشة بالإفك وبرأها الله - عز وجل -، قال أبو بكر - رضي الله عنه -: ( وَاللهِ لاَ أُنْفِقُ عَلى مِسْطَحٍ شَيْئًا أَبَدًا بَعْدَ مَا قَال لعَائِشَةَ، فَأَنْزَل اللهُ - سبحانه وتعالى -: { وَلا يَأْتَل أُولو الفَضْل مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولي القُرْبَي وَالمَسَاكِينَ وَالمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيل اللهِ وَليَعْفُوا وَليَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } [النور:22]، فَقَال أَبُو بَكْرٍ: بَلى، وَاللهِ إِنِّي لأُحِبُّ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لي، فَرَجَعَ إِلى مِسْطَحٍ الذِي كَانَ يُجْرِي عَليْهِ ) (1) .
__________
(1) البخاري في المغازي، باب تعديل النساء بعضهن بعضا 2/945 (2518) .(2/38)
وقد وجه النبي - صلى الله عليه وسلم - أئمة المسلمين وحكامهم إلى درء الشبهة عن المحكومين لأن الخطأ في العفو خير من الخطأ في العقوبة، روى البخاري من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: ( قَدِمَ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنِ بْنِ حُذَيْفَةَ فَنَزَل عَلي ابْنِ أَخِيهِ الحُرِّ بْنِ قَيْسٍ وَكَانَ مِنَ النَّفَرِ الذِينَ يُدْنِيهِمْ عُمَرُ، وَكَانَ القُرَّاءُ أَصْحَابَ مَجَالسِ عُمَرَ وَمُشَاوَرَتِهِ كُهُولاً كَانُوا أَوْ شُبَّانًا، فَقَال عُيَيْنَةُ لاِبْنِ أَخِيهِ: يَا ابْنَ أَخِي، لكَ وَجْهٌ عِنْدَ هَذَا الأَمِيرِ فَاسْتَأْذِنْ لي عَليْهِ، قَال: سَأَسْتَأْذِنُ لكَ عَليْهِ، قَال ابْنُ عَبَّاسٍ: فَاسْتَأْذَنَ الحُرُّ لعُيَيْنَةَ فَأَذِنَ لهُ عُمَرُ، فَلمَّا دَخَل عَليْهِ قَال: هِي يَا ابْنَ الخَطَّابِ فَوَاللهِ مَا تُعْطِينَا الجَزْل وَلاَ تَحْكُمُ بَيْنَنَا بِالعَدْل، فَغَضِبَ عُمَرُ حَتَّى هَمَّ بِهِ، فَقَال لهُ الحُرُّ: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ إِنَّ اللهَ تَعَالي قَال لنَبِيِّهِ - صلى الله عليه وسلم - : { خُذِ العَفْوَ وَأْمُرْ بِالعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الجَاهِلينَ } [الأعراف:199]، وَإِنَّ هَذَا مِنَ الجَاهِلينَ، وَاللهِ مَا جَاوَزَهَا عُمَرُ حِينَ تَلاَهَا عَليْهِ، وَكَانَ وَقَّافًا عِنْدَ كِتَابِ اللهِ ) (1) .
لم أجد بالبحث الحاسوبي أحدا سمي عبد العفو في مجال ما أجرينا عليه، وإن كانت محركات البحث علي الإنترنت أظهرته كوالد لأردني وإماراتية .
********************************
23- الله - جل جلاله - القَدِيرُ
********************************
الدليل على ثبوت الاسم وإحصائه .
__________
(1) البخاري في التفسير، باب خذ العفو وأمر بالعرف 4/1702 (4366) .(2/39)
ورد اسم الله القدير في القرآن والسنة، قال تعالى: { يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ العَلِيمُ القَدِيرُ } [الروم:54]، فالاسم ورد في الآية معرفا مطلقا مقترنا باسم الله العليم، وهو الموضع الوحيد في القرآن الذي ورد معرفا بالألف واللام، وقد ورد مطلقا منونا في ثلاثة مواضع، منها قوله تعالى: { عَسَى اللهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللهُ قَدِيرٌ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } [الممتحنة:7] .
أما بقية المواضع في القرآن الكريم والتي تزيد على ثلاثين موضعا فقد ورد الاسم مقرونا بالعلو والفوقية المطلقة على كل شيء، مما يزيد الإطلاق كمالا على كمال كما ذكرنا ذلك في ضوابط الإحصاء، قال تعالى: { قُلِ اللهُمَّ مَالِكَ المُلكِ تُؤْتِي المُلكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ المُلكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [آل عمران:26]، وفي صحيح البخاري من حديث مُعَاوِيَةَ - رضي الله عنه - أَنَّ النَّبِيَ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَقُولُ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلاَةٍ مَكْتُوبَةٍ: ( لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ لَهُ المُلكُ وَلَهُ الحَمْدُ، وَهْوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، اللهُمَّ لاَ مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ، وَلاَ مُعْطِي لِمَا مَنَعْتَ وَلاَ يَنْفَعُ ذَا الجَدِّ مِنْكَ الجَدُّ ) (1) .
شرح الاسم وتفسير معناه .
__________
(1) البخاري في كتاب الدعوات، باب الذكر بعد الصلاة 1/289 (808) .(2/40)
القدير في اللغة من صيغ المبالغة، فعيل من القادر، فعله قدر يقدر تقديرا، قال ابن منظور: ( القادر والقَدِيرُ من صفات الله - عز وجل - يكونان من القُدْرَة ويكونان من التقدير، وقوله تعالى: { إِنَّ اللهَ عَلَى كُل شَيْء قَديرٌ } [البقرة:148] من القُدْرة، فالله عز وجل على كل شيء قدير، والله سبحانه مُقَدِّرُ كُلِّ شيء وقاضيه ) (1) .
قال ابن الأثير: ( في أسماء الله تعالى القادِرُ والمُقْتَدِرُ والقَدِيرُ، فالقادر اسم فاعل من قَدَرَ يَقْدِرُ والقَدِير فعيل منه، وهو للمبالغة، والمقتدر مُفتَعِل من اقتَدَرَ، وهو أبلغ ) (2)، وقال الزجاج: ( القدير أبلغ في الوصف من القادر، لأن القادر اسم الفاعل من قدر يقدر فهو قادر، وقدير فعيل، وفعيل من أبنية المبالغة ) (3) .
__________
(1) لسان العرب 5/74، ومفردات ألفاظ القرآن ص657، والفائق 3/8 .
(2) النهاية في غريب الحديث 4/22 .
(3) اشتقاق أسماء الله ص48 .(2/41)
والقدير سبحانه وتعالى هو الذي يتولى تنفيذ المقادير ويخلقها على ما جاء في سابق التقدير؛ فمراتب القدر أربع مراتب، العلم والكتابة والمشيئة والخلق، والمقصود بهذه المراتب المراحل التي يمر بها المخلوق من كونه معلومة في علم الله في الأزل إلى الواقع المشهود، وهذه المراحل تسمى مراتب القدر، فلا بد لخلق الشيء وصناعته من العلم والكتابة والمشيئة ثم التصنيع والفعل، ولله المثل الأعلى إذا كان المُصَنِّعَ الذي يشيد البنيان لا بد أن يبدأ مشروعه أولا بفكرة في الأذهان ومعلومات مدروسة بدقة وإتقان درسها جيدا وقام بتقدير حساباته وضبط أموره وإمكانياته، ثم يقوم بكتابة هذه المعلومات ويخط لها في بضع ورقات أنواعا من الرسومات التي يمكن أن يخاطب من خلالها مختلف الجهات، ثم يتوقف الأمر بعد ذلك على مشيئته أو إرادته في التنفيذ وتوقيت الفعل إن توفرت لديه القدرة والإمكانيات، ثم يبدأ في التنفيذ إلى أن ينتهي البنيان كما قدر له في الأذهان، فإذا كانت هذه مراحل تصنيع الأشياء بين المخلوقات بحكم العقل والفطرة، فالله سبحانه وله المثل الأعلى منفرد بمراتب القضاء والقدر من باب أولى، وهي عند السلف المراحل التي يمر بها المخلوق من العلم الأزلي إلى أن يصبح واقعا مخلوقا مشهودا، أو من التقدير إلى المقدور، وهي عندهم أربع مراتب تشمل كل صغيرة وكبيرة في الوجود (1) .
__________
(1) انظر تفصيل هذه المراتب في شفاء العليل ص29 وما بعدها .(2/42)
فالقادر سبحانه هو الذي يقدر المقادير في علمه، وعلمه المرتبة الأولى من قضائه وقدره، حيث قدر كل شيء قبل تصنيعه وتكوينه، ونظم أمور الخلق قبل إيجاده وإمداده، فالقادر يدل على التقدير في المرتبة الأولى، أما القدير فيدل على القدرة وتنفيذ المقدر في المرتبة الرابعة، فالقدير هو الذي يخلق وفق سابق التقدير، والقدر من التقدير والقدرة معا، فبدايته في التقدير ونهايته في القدرة وتحقيق المقدر، قال تعالى: { وَكَانَ أَمْرُ اللهِ قَدَرا مَقْدُورا } [الأحزاب:38]، فالقدير هو المتصف بالقدرة .
ويذكر ابن القيم أن القضاء والقدر منشؤه عن علم الرب وقدرته، ولهذا قال الإمام أحمد: ( القدر قدرة الله ) (1) ، واستحسن ابن عقيل هذا الكلام من الإمام أحمد غاية الاستحسان، ولهذا كان المنكرون للقدر فرقتين: فرقة كذبت بالعلم السابق ونفته وهم غلاتهم الذين كفرهم السلف والأئمة وتبرأ منهم الصحابة - رضي الله عنهم -، وفرقة جحدت كمال القدرة وأنكرت أن تكون أفعال العبادة مقدورة لله تعالى، وصرحت بأن الله - عز وجل - لا يقدر عليها ولا يخلقها، فأنكر هؤلاء كمال قدرة الرب وتوحيده في اسمه القدير، وأنكرت الأخرى كمال علمه وتوحيده في اسمه القادر (2) .
دلالة الاسم على أوصاف الله .
__________
(1) السابق ص28 .
(2) السابق ص28، وانظر أيضا: طريق الهجرتين ص163، وشرح قصيدة ابن القيم 1/257، ومنهاج السنة النبوية لشيخ الإسلام ابن تيمية 3/254 .(2/43)
اسم الله القدير يدل على ذات الله وصفة القدرة بدلالة المطابقة، وعلى ذات الله وحدها بالتضمن، وعلى القدرة وحدها بالتضمن، روى الحاكم حسنه الألباني من حديث ابن عباس - رضي الله عنه - مرفوعا في الحديث القدسي، قال الله تعالى: ( مَنْ عَلِمَ مِنْكُمْ أَنِّي ذُو قُدْرَةٍ عَلَى مَغْفِرَةِ الذنُوب غَفَرْتُ لَهُ وَلاَ أُبَالِي ما لم يُشْرك بي شَيْئا ) (1)، واسم الله القدير يدل باللزوم على الحياة والقيومية والعزة والأحدية والسمع والبصر والعلم والحكمة والغنى والقوة وغير ذلك من صفات الكمال، وقد اقترن اسم الله القدير باسمه العليم في غير موضع من القرآن لأن العلم من لوازم القدرة، قال تعالى: { أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ } [الشورى:50] .
الدعاء باسم الله القدير دعاء مسألة .
__________
(1) الحاكم في المستدرك 4/291 (7676)، وانظر صحيح الجامع حديث (4330) .(2/44)
ورد الدعاء بالاسم المقيد بالإضافة في قوله تعالى: { قُلِ اللهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [آل عمران:26]، وعند البخاري من حديث عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - أنِ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( مَنْ تَعَارَّ مِنَ الليْلِ فَقَالَ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ الله وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلكُ، وَلَهُ الحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ؛ الحَمْدُ للهِ، وَسُبْحَانَ الله، وَلاَ إِلَهَ إِلاَّ الله وَالله أَكْبَرُ، وَلاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِالله؛ ثُمَّ قَالَ، اللهمَّ اغْفِرْ لِي، أَوْ دَعَا اسْتُجِيبَ، فَإِنْ تَوَضَّأَ وَصَلى قُبِلَتْ صَلاَتُهُ ) (1) .
__________
(1) البخاري في التهجد، باب فضل من تعار من الليل فصلى 1/387 ( 1103) .(2/45)
وعند البخاري من حديث أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يدعو بهذا الدعاء: ( رَبِّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي وَجَهْلِي، وَإِسْرَافِي فِي أَمْرِي كُلِّهِ، وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي، اللهُمَّ اغْفِرْ لِي خَطَايَاي وَعَمْدِي وَجَهْلِي وَهَزْلِي، وَكُلُّ ذَلِكَ عِنْدِي، اللهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ، وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ أَنْتَ المُقَدِّمُ وَأَنْتَ المُؤَخِّرُ، وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) (1)، وعند مسلم من حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - أن رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أمسى قال: ( أَمْسَيْنَا وَأَمْسَى المُلكُ للهِ، وَالحَمْدُ للهِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلكُ وَلَهُ الحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، اللهُمَّ أَسْأَلُكَ خَيْرَ هَذِهِ الليْلَةِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ هَذِهِ الليْلَةِ وَشَرِّ مَا بَعْدَهَا، اللهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الكَسَلِ وَسُوءِ الكِبَرِ، اللهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابٍ فِي النَّارِ وَعَذَابٍ في القَبْرِ ) (2) .
__________
(1) البخاري في الدعوات، باب قول النبي S اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت 5/2350 (6035) .
(2) مسلم في الذكر والدعاء والتوبة، باب التعوذ من شر ما عمل ومن شر ما لم يعمل 4/2088 (2723) .(2/46)
وورد دعاء المسألة بالوصف الذي تضمنه الاسم فيما رواه النسائي وصححه الألباني من حديث عطاء بن السائب عن أبيه - رضي الله عنه - أنه قال: ( صَلى بِنَا عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ صَلاَةً فَأَوْجَزَ فِيهَا، فَقَالَ لَهُ بَعْضُ الْقَوْمِ: لَقَدْ خَفَّفْتَ أَوْ أَوْجَزْتَ الصَّلاَةَ، فَقَالَ: أَمَّا عَلَى ذَلِكَ، فَقَدْ دَعَوْتُ فِيهَا بِدَعَوَاتٍ سَمِعْتُهُنَّ مِنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ؛ فَلَمَّا قَامَ تَبِعَهُ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ ـ هُوَ أَبِي غَيْرَ أَنَّهُ كَنَي عَنْ نَفْسِهِ ـ فَسَأَلَهُ عَنِ الدُّعَاءِ ثُمَّ جَاءَ فَأَخْبَرَ بِهِ الْقَوْمَ اللهمَّ بِعِلْمِكَ الْغَيْبَ وَقُدْرَتِكَ عَلَى الْخَلْقِ، أحيني مَا عَلِمْتَ الْحَيَاةَ خَيْرًا لي، وتوفني إِذَا عَلِمْتَ الْوَفَاةَ خَيْرًا لي، اللهمَّ وَأَسْأَلُكَ خَشْيَتَكَ في الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، وَأَسْأَلُكَ كَلِمَةَ الْحَقِّ في الرِّضَا وَالْغَضَبِ، وَأَسْأَلُكَ الْقَصْدَ في الْفَقْرِ وَالْغِنَى، وَأَسْأَلُكَ نَعِيمًا لاَ يَنْفَدُ، وَأَسْأَلُكَ قُرَّةَ عَيْنٍ لاَ تَنْقَطِعُ، وَأَسْأَلُكَ الرِّضَاءَ بَعْدَ الْقَضَاءِ، وَأَسْأَلُكَ بَرْدَ الْعَيْشِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَأَسْأَلُكَ لَذَّةَ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِكَ وَالشَّوْقَ إِلَى لِقَائِكَ في غَيْرِ ضَرَّاءَ مُضِرَّةٍ وَلاَ فِتْنَةٍ مُضِلةٍ، اللهمَّ زَيِّنَّا بِزِينَةِ الإِيمَانِ، وَاجْعَلْنَا هُدَاةً مُهْتَدِينَ ) (1) .
__________
(1) النسائي في كتاب السهو 3/54 (1305)، صحيح الجامع (1301) .(2/47)
وعند البخاري من حديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول في الاستخارة: ( اللهمَّ إِنِّي أَسْتَخِيرُكَ بِعِلمِكَ وَأَسْتَقْدِرُكَ بِقُدْرَتِكَ، وَأَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ العَظِيمِ، فَإِنَّكَ تَقْدِرُ وَلاَ أَقْدِرُ وَتَعْلَمُ وَلاَ أَعْلَمُ وَأَنْتَ عَلاَّمُ الغُيُوبِ .. الحديث ) (1) .
الدعاء باسم الله القدير دعاء عبادة .
دعاء العبادة يتجلى في فهم العبد للعلاقة بين قدرة الله وحكمته، وكيف أن القضاء والقدر أمر واقع محتوم، وأن الإنسان مخير في فعله غير مجبور أو مقهور، ومحاسبته على فعله لا تعني أنه مظلوم؛ فالله - عز وجل - ابتلاه في هذه الدار، والابتلاء له وجهان: وجه يتعلق بقدرة الله وفعله بنا، ووجه يتعلق بفعلنا تجاه فعله ومدى التزامنا بدينه وأمره، فإذا أيقن العبد بذلك ظهرت آثار الإيمان بالاسم على حركاته وسكناته وسائر حياته، فلن يحتج بالقدر على عصيانه ومخالفاته، لعمله ويقينه أن التقدير المحكم لا بد بالضرورة أن يسبق التخليق والتصنيع، وأن الله - عز وجل - أحكم للمخلوقات غاياتها وقضى في اللوح أسبابها ومعلولاتها، فلن يتغير بنيان الخلق إلا بعد استكماله وتمامه، ولن يتبدل سابق الحكم في سائر الملك إلا بقيامه وكماله، وتلك مشيئة الله في خلقه وما قضاه وقدره في ملكه .
__________
(1) البخاري في الدعوات، باب الدعاء بكثرة الولد مع البركة، 5/2345 ( 6018) .(2/48)
والله - عز وجل - على عرشه في السماء يفعل ما يشاء وبيده أحكام التدبير والقضاء، حكم بعدله أن يقوم الخلق على علة الابتلاء ثم يتحول بعدها إلى دار المحاسبة والجزاء، ولذلك ينبهنا الله في بعض المواطن إلى هذه الحقيقة، وأنه - عز وجل - قادر على أن يفعل ما يشاء لولا ما سبق في الكتاب من أحكام القضاء، فقال سبحانه وتعالى: { لوْلا كِتَابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ } [الأنفال:68]، وقال - جل جلاله -: { وَلوْلا كَلمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لكَانَ لزَاماً وَأَجَل مُسَمّىً } [طه:129]، وقال: { وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلفُوا وَلوْلا كَلمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلفُونَ } [يونس:19] .
والعقلاء يعلمون أن العلماء من البشر لو اجتمعوا على وضع خطة محكمة لبناء مشروع عملاق أو أي مشروع من المشروعات، درسوا فيها جميع الجوانب بمختلف المقاييس والدراسات، وراعوا في خطتهم مختلف الموازنات، ثم وضعوا تخطيطا محكما لا مجال فيه للإضافات، ثم انتهوا إلى تقرير شامل دونوه في مجموعة من الملفات، ثم قدموا هذا المكتوب لإدارة التنفيذ والمشروعات، فإنه لا يصح لعامل جاهل ينقصه العلم والفهم أن يعترض أو يغير أو يبدل في هذا المشروع الضخم، ولا يصح أن يعبث فيه بهواه، أو يغير في تخطيطه على ما يراه؛ فالله - عز وجل - وله المثل الأعلى كتب مقادير كل شيء ورفعت الأقلام وجفت الصحف حتى يتم الخلق على ما قضى به الحق، قال ابن القيم: ( إنه سبحانه حكيم لا يفعل شيئا عبثاً ولا لغير معنىً ومصلحة، وحكمته هي الغاية المقصودة بالفعل، بل أفعاله سبحانه صادرةٌ عن حكمة بالغة لأجلها فعل ) (1) .
__________
(1) شفاء العليل ص190 .(2/49)
ومن ثم لا بد للموحد الذي وحد الله في اسمه القدير أن يؤمن بأن الله - عز وجل - من فوق عرشه يقلب الأمور في خلقه بقدرته، وأن معيته لهم معية عامة وخاصة، معية عامة بطلاقة القدرة وأوصاف الربوبية، بمعنى أنه مطلع على خلقه شهيد مهيمن عليهم يتابعهم ويراهم ويسمعهم ويتولى بنفسه من فوق عرشه الخلق والتدبير والرزق والتقدير، وإنزال المقادير على أوقاتها من اللوح المحفوظ في التقدير الأزلي، ثم ما دبره في التقدير الميثاقي ثم ما أمر به الملائكة في التقدير العمري والسنوي، ثم متابعتهم لحظة بلحظة في التقدير اليومي، وهذه العقيدة تجعل المسلم في ثقة دائمة بربه يعترف له بنعمته وفضله، وأنه مهما حدث متمسك بدينه وشرعه وواثق في وعده ونصره .
لم أجد بالبحث الحاسوبي أحدا من السلف أو الخلف سمي عبد القدير، وأظهرت محركات البحث علي الإنترنت هذا الاسم لعالم معاصر له تميز مخصوص، وهو عبد القدير خان الذي صنع أول قنبلة ذرية للمسلمين في باكستان فسبحان القدير - جل جلاله - .
********************************
24- الله - جل جلاله - اللَّطِيفُ
********************************
الدليل على ثبوت الاسم وإحصائه .
ورد الاسم مطلقا معرفا ومنونا مرادا به العلمية ودالا على كمال الوصفية في كثير من النصوص القرآنية، قال تعالى: { أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللطِيفُ الْخَبِيرُ } [الملك:14] وقال - عز وجل -: { وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللهَ كَانَ لَطِيفا خَبِيرا } [الأحزاب34]، ولم يقترن اسم الله اللطيف إلا باسمه الخبير .
وورد الاسم مقيدا في قول الله تعالى: { إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ } [يوسف:100]، وكذلك قوله: { اللهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ } [الشورى:19] .(2/50)
وقد ورد الاسم في السنة في صحيح مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لها: ( لَتُخْبِرِينِي أَوْ لَيُخْبِرَنِّي اللطِيفُ الْخَبِيرُ ) (1) .
شرح الاسم وتفسير معناه .
اللطيف في اللغة صفة مشبهة للموصوف باللطف فعله لطف يلطف لطفا، ولطف الشيء رقته واستحسانه وخفته على النفس أو احتجابه وخفاؤه (2)، وعند البخاري من حديث عائشة رضي الله عنها قالت حين قال لها أهل الإفك ما قالوا: ( وَيَرِيبُنِي فِي وَجَعِي أَنِّي لاَ أَرَى مِنَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - اللُّطْفَ الذِي كُنْتُ أَرَى مِنْهُ حِينَ أَمْرَضُ ) (3)، فاللطف الرقة والحنان والرفق .
__________
(1) مسلم في كتاب الجنائز، باب ما يقال ثم دخول القبور والدعاء لأهلها 2/670 (974) .
(2) اشتقاق أسماء الله ص138، والنهاية في غريب الحديث 4/251 .
(3) البخاري في الشهادات، باب تعديل النساء بعضهن بعضا 2/943 (2518) .(2/51)
واللطيف سبحانه هو الذي اجْتَمع له العلمُ بدَقائق المصَالح وإيصَالها إلى مَن قدرها له مِن خَلقه مع الرفق في الفِعْل والتنفيذ، يقال: لطف به وله، فقوله: { اللهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ } [الشورى:19] لطف بهم، وقوله: { إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ } [يوسف:100] لطف لهم، والله لطيف بعباده رفيق بهم قريبٌ منهم، يعامل المؤمنين بعطف ورأفة وإحسان، ويدعو المخالفين إلى التوبة والغفران مهما بلغ بهم العصيان، فهو لطيف بعباده يعلم دقائق أحوالهم، ولا يخفى عليه شيء مما في صدورهم، قال تعالى: { أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللطِيفُ الْخَبِيرُ } [الملك:14]، وقال لقمان لابنه وهو يعظه: { يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الأرْضِ يَأْتِ بِهَا اللهُ إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ } [لقمان16]، واللطيف أيضا هو الذي ييسر للعباد أمورهم ويستجيب منهم دعائهم فهو المحسن إليهم في خفاء وستر من حيث لا يعلمون، فنعمه عليهم سابغة ظاهرة لا يحصيها العادُّون ولا ينكرها إلا الجاحدون، وهو الذي يرزقهم بفضله من حيث لا يحتسبون: { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ } [الحج63]، وقال سبحانه: { اللهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ } [الشورى19]، كما أنه يحاسب المؤمنين حسابا يسيرا بفضله ورحمته، ويحاسب غيرهم من المخالفين وفق عدله وحكمته (1) .
__________
(1) انظر تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان للسعدي 5/301، وتفسير أسماء الله الحسنى ص44 وتفسير القرطبي 9/267، وفتح القدير للشوكاني 3/57 .(2/52)
ومن المعاني اللغوية للطيف هو الذي لطف عن أن يدرك كما في قوله: { فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَي طَعَاما فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدا } [الكهف19] .
وهي أيضا من المعاني التي يشملها اسمه اللطيف فقد دل على لطف الحجاب لكمال الله وجلاله، فإن الله لا يرى في الدنيا لطفا وحكمة ويرى في الآخرة إكراما ومحبة، وإن لم يدرك بإحاطة من قبل خلقه، ولو رآه الناس في الدنيا جهارا لبطلت الحكمة وتعطلت معاني العدل والرحمة، ولذلك قال عن رؤية الناس له في الدنيا: { وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلاَّ وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ } ، وقال سبحانه: { لاَ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللطِيفُ الْخَبِيرُ } [الأنعام:103] .
وعند مسلم أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : ( تَعَلمُوا أَنَّهُ لَنْ يَرَى أَحَدٌ مِنْكُمْ رَبَّهُ عَزَّ وَجَل حَتَّى يَمُوتَ ) (1)، لأن الدنيا خلقت للابتلاء، أما الآخرة فهي دار الحساب الجزاء حيث يكشف فيها الغطاء، ويرفع فيها الحجاب، ويلطف الله بالموحدين عند الحساب قال تعالى: { فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ } [قّ:22]، وقال عن لطفه وإكرامه وإحسانه وإنعامه: { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } (2) .
دلالة الاسم على أوصاف الله .
__________
(1) مسلم في كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب ذكر بن صياد 4/2245 (169) .
(2) انظر هذا المعنى في زاد المسير 3/99، وانظر في معنى الاسم أيضا: شرح أسماء الله الحسنى للرازي ص254 والمقصد الأسنى ص92، والأسماء والصفات للبيهقي ص83 .(2/53)
اسم الله اللطيف يدل على ذات الله وعلى صفة اللطف بدلالة المطابقة، وعلى أحدهما بالتضمن، قال تعالى عن يوسف - عليه السلام -: { إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ } [يوسف:100]، أما دلالة اللزوم فالاسم يدل على الحياة والقيومية والعلم والحكمة والقوة والعزة والإحسان والرحمة والرفق والرأفة والجود والمنة، وغير ذلك من أوصاف الكمال، واسم الله اللطيف دل على صفة من صفات الأفعال .
الدعاء باسم الله اللطيف دعاء مسألة .
لم أجد دعاءً مأثورا بالاسم أو الوصف إلا ما ورد عند الطبراني وضعفه الألباني من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعا: ( اللهم الطف بي في تيسير كل عسير؛ فإن تيسير كل عسير عليك يسير، وأسألك اليسر والمعافاة في الدنيا والآخرة ) (1)، ويمكن الدعاء بمقتضى ما ورد في قوله تعالى عن يوسف - عليه السلام -: { وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ } [يوسف:100]، كأن يقول: اللهم إنك لطيف لما تشاء وأنت العليم الحكيم، ارفع عني البلاء والشقاء وأعذني من الشيطان الرجيم .
__________
(1) الطبراني في المعجم الأوسط 2/61 (1250)، انظر ضعيف الجامع حديث رقم 1181، والحديث الضعيف عند بعض المحدثين يروى في القصص وفضائل الأعمال والمواعظ وغيرها مما لا تعلق له بالعقائد والأحكام وعلى ضوابط ذكروها، انظر تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي للسيوطي 1/ 298 .(2/54)
وتجد الإشارة إلى ما اشتهر بين العامة في دعائهم: اللهم إني لا أسألك رد القضاء ولكن أسألك اللطف فيه، فهذا الدعاء ليس دعاءا مأثورا ولكنه مما اشتهر على ألسنة الناس، وقد منعه البعض وقال ببطلانه وفي ذلك نظر؛ لأن قول القائل: لا أسألك رد القضاء لو كان محمولا على اعتقاده في عدم نفع الدعاء لتعارضه مع القضاء لكان ذلك باطلا، ولكنه دعا الله بطلب اللطف فيه ولن يدعو بذلك إلا إذا اعتقد النفع فيه .
ويتضح الأمر بشكل جلي لو علمنا أن أنواع التقدير منها ما لا يقبل المحو والإثبات والتغيير ومنها ما يقبل ذلك؛ فالتقدير الأزلي والميثاقي لا يقبلان محوا ولا تغيرا، ولا يعلمهما ملك مقرب ولا نبي مرسل، وقد ضن ربنا بهما إلا أن يُطلِع نبيا من الأنبياء لحكمة ما، كما أخبر نبينا - صلى الله عليه وسلم - أن أبا لهب سيصلى نارا ذات لهب، وهذا القضاء قضاء مبرم لا يرد، أما بقية أنوع التقدير التي تتعلق بالأسباب الغيبية أو الأسباب المشهودة فهي تقبل المحو والتعديل وتقبل التغير والتبديل؛ لأن الأسباب يدفع بعضها بعضا كالتقدير العمري والتقدير السنوي والتقدير اليومي، أو كل ما تعلق بالأسباب من أنواع التقدير فهي من القضاء المعلق، فلما كانت الأسباب يدفع بعضها بعضا، والدعاء من الأسباب فإن سؤال الله اللطف من أنواع الدعاء، فإن كان القائل يقصد بدعائه طلب التلطف في ترابط الأسباب وتدافعها من قبل مقلبها اعتقادا منه أن الله وحده هو الذي يقلبها وأنه سيسلم من المكروه إذا دعاه بها، مع إيمانه بأن كل شيء بقضاء وقدر، وأن ما كتبه الله سوف يكون؛ فهذا لا بأس به كأن يدعوا باسمه اللطيف أن يلطف به من موت محقق كادت أن تصطدم فيه سيارتان، أو هلاك ظاهر في الوجه تذهب فيه العينان، أو ما شابه ذلك مما يحدث لكل إنسان، فليس في ذلك سوء أدب مع الله كما أشار البعض والله أعلم .
الدعاء باسم الله اللطيف دعاء عبادة .(2/55)
دعاء العبادة هو عمل العبد بمقتضى توحيده لاسم الله اللطيف حيث يتلطف للمسلمين ويحنو على اليتامى والمساكين، ويسعى للوفاق بين المتخاصمين، وينتقي لطائف القول في حديثه مع الآخرين، ويبش في وجوههم، ويحمل قولهم على ما يتمناه من المستمعين؛ فإن الظن أكذب الحديث، وقد ذم الله أناسا من المنافقين اتهموا أم المؤمنين رضي الله عنها بفرية باطلة، وقد رفع الله قدرها ورد كيديهم لها، وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - لطيفا بها، لكنه تأثر بقولهم وتغير لها، وهو - صلى الله عليه وسلم - بشر ربما يتأثر بمثل هذا الخبر، روي البخاري من حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت في حادثة الإفك: ( فَقَدِمْنَا المَدِينَةَ فَاشْتَكَيْتُ حِينَ قَدِمْتُ شَهْرًا، وَالنَّاسُ يُفِيضُونَ فِي قَوْل أَصْحَابِ الإِفْكِ، لاَ أَشْعُرُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلكَ، وَهْوَ يَرِيبُنِي فِي وَجَعِي أَنِّي لاَ أَعْرِفُ مِنْ رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - اللطْفَ الذِي كُنْتُ أَرَى مِنْهُ حِينَ أَشْتَكِي إِنَّمَا يَدْخُل عَليَّ رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَيُسَلمُ ثُمَّ يَقُول: كَيْفَ تِيكُمْ؟ ثُمَّ يَنْصَرِفُ، فَذَلكَ يَرِيبُنِي وَلاَ أَشْعُرُ بِالشَّرِّ ) (1) ، وفي رواية أخري: ( إلا أني قد أنكرت مِنْ رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بعض لطفه بي، كُنْتُ إذا اشتكيت رحمني ولطف بي فلم يفعل ذلك في شكواي تلك ) (2) .
__________
(1) البخاري في المغازى، باب حديث الإفك 4/1518 (3910) .
(2) تاريخ الطبري 2/112، وانظر فقه السيرة بتحقيق الألباني ص292 .(2/56)
وعند مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها أن رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال لها: ( يَا عَائِشَةُ إِنَّ اللهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ وَيُعْطِي عَلى الرِّفْقِ مَا لاَ يُعْطِي عَلى العُنْفِ وَمَا لاَ يُعْطِي عَلى مَا سِوَاهُ ) (1)، وعند الترمذي وصححه الألباني من حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - أن رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: ( أَلاَ أُخْبِرُكُمْ بِمَنْ يَحْرُمُ عَلى النَّارِ أَوْ بِمَنْ تَحْرُمُ عَليْهِ النَّارُ عَلى كُل قَرِيبٍ هَيِّنٍ ليِّنٍ سَهْل ) (2)، وروى أيضا من حديث عبد اللهِ بن الحارث - رضي الله عنه - قال: ( مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَكْثَرَ تَبَسُّمًا مِنْ رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ) (3) .
وممن تسمى عبد اللطيف أبو محمد الهروي عبد اللطيف بن عبد الرشيد بن الحسين الأديب الهروي (ت:546هـ) كان فقيها أديبا حسن السيرة له سمت وسكون، وكان أكابر هراة يختلفون إليه ويتعلمون منه اللغة والأدب (4) .
********************************
25- الله - جل جلاله - الخَبِيرُ
********************************
الدليل على ثبوت الاسم وإحصائه .
__________
(1) مسلم في البر والصلة والأدب، باب فضل الرفق 4/2003 (2593) .
(2) الترمذي في صفة القيامة 4/654 (2488)، صحيح الترغيب والترهيب (2676) .
(3) الترمذي في المناقب، باب في بشاشة النبي S 5/601 (3641) .
(4) التحبير في المعجم الكبير للسمعاني 1/482 .(2/57)
اسم الله الخبير ورد في الكتاب والسنة على سبيل الإطلاق والإضافة مرادا به العلمية ودالا على الوصفية وكمالها في نصوص كثيرة، ففي القرآن ورد مطلقا معرفا مقترنا بثلاثة أسماء هي الحكيم في قوله تعالى: { وَهُوَ القَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الحَكِيمُ الخَبِيرُ } [الأنعام:18]، واللطيف كما في قوله: { لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللطِيفُ الخَبِيرُ } [الأنعام:103]، ومقترنا باسم الله العليم في قوله - عز وجل -: { فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ العَلِيمُ الخَبِيرُ } [التحريم:3]، وورد الاسم مطلقا منونا في نصوص كثيرة منها قوله تعالى: { وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللهَ كَانَ لَطِيفاً خَبِيراً } [الأحزاب:34]، وقد ورد الاسم في السنة عند مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي قال لها: ( لَتُخْبِرِينِي أَوْ لَيُخْبِرَنِّي اللطِيفُ الْخَبِيرُ ) (1) .
شرح الاسم وتفسير معناه .
__________
(1) تقدم تخريجه ص348 .(2/58)
الخبير في اللغة من مباني المبالغة، فعله خَبَرَ يَخْبُر خُبْرا، وخَبُرْتُ بالأَمر أَي علمته وخبَرْتُ الأَمرَ أَخْبُرُهُ إِذا عرفته على حقيقته، وعند مسلم من حديث أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - أنه قال لعائشة رضي الله عنها: ( فَمَا يُوجِبُ الْغُسْلَ؟ قَالَتْ: عَلَى الْخَبِيرِ سَقَطْتَ ) (1)، تعني أته سأل من يعلم الجواب بتمامه فالخَبِيرُ الذي يَخبُرُ الشيء بعلمه (2)، والخبرة أبلغ من العلم لأنها علم وزيادة، فالخبير بالشيء من عَلِمَه وقام بمعالجته وبيانه وتجربته وامتحانه فأحاط بتفاصيله الدقيقة وألم بكيفية وصفه على الحقيقة (3) .
والخبير سبحانه هو العَالِم بما كَان وما هو كائن وما سيكون وما لو كان كيف يكون وليس ذلك إلا لله - عز وجل -، فهو الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء ولا يتحرك متحرك ولا يسكن إلا بعلمه، ولا تستقيم حياته إلا بأمره وإذنه قال تعالى: { وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلا عَلَى اللهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِين } [هود:6] .
__________
(1) مسلم في كتاب الحيض، باب نسخ الماء من الماء 1/271 (349) .
(2) انظر تفصيل المعنى اللغوي في لسان العرب 4/226، ومفردات ألفاظ القرآن ص273، واشتقاق أسماء الله ص127، والنهاية في غريب الحديث 2/6 .
(3) انظر بتصرف الفروق اللغوية لأبي الهلال العسكري ص74 .(2/59)
والله - عز وجل - خبير له جنود السماوات والأرض يخبرونه بالوقائع لتحقيق الحكمة في الخلق وهو عليم بالأشياء قبل إخبار الملائكة عنها وبعد الإخبار عنها، ورد في صحيح البخاري من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ مَلاَئِكَةٌ بِالليْلِ وَمَلاَئِكَةٌ بِالنَّهَارِ وَيَجْتَمِعُونَ فِي صَلاَةِ الفَجْرِ وَصَلاَةِ العَصْرِ، ثُمَّ يَعْرُجُ الذِينَ بَاتُوا فِيكُمْ فَيَسْأَلُهُمْ وَهْوَ أَعْلَمُ بِهِمْ كَيْفَ تَرَكْتُمْ عِبَادِي؟ فَيَقُولُونَ: تَرَكْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ، وَأَتَيْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ ) (1)، فسؤاله سبحانه لهم ليس طلبا للعلم فهو السميع البصير العليم الخبير ولكن لإظهار شرف المؤمن عند ربه، وبيان فضله بين ملائكته وحملة عرشه، قال ابن حجر رحمه الله: ( قيل الحكمة فيه استدعاء شهادتهم لبني آدم بالخير واستنطاقهم بما يقتضي التعطف عليهم، وذلك لإظهار الحكمة في خلق نوع الإنسان في مقابلة من قال من الملائكة: { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ } [البقرة:30]، أي وقد وجد فيهم من يسبح ويقدس مثلكم بنص شهادتكم ) (2) .
دلالة الاسم على أوصاف الله .
__________
(1) البخاري في كتاب مواقيت الصلاة، باب فضل صلاة العصر 1/203 (530) .
(2) فتح الباري 2/36، وانظر الأسماء والصفات للبيهقي ص264، وتفسير أسماء الله للزجاج ص45 .(2/60)
اسم الله الخبير يدل على ذات الله وعلى صفة الخبرة بدلالة المطابقة، وعلى ذات الله وحدها بالتضمن، وعلى صفة الخبرة بالتضمن، قال تعالى: { كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْراً } [الكهف:90/91]، والاسم يدل باللزوم على الحياة والقيومية والسمع والبصر والعلم والإحاطة واللطف والحكمة وغير ذلك من صفات الكمال، وقد ذكر الله كمال علمه بخلقه وإحاطته بهم ثم عقب باسمه الخبير فقال: { أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللطِيفُ الخَبِيرُ } [الملك14]، وقال سبحانه أيضا: { لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللطِيفُ الخَبِيرُ } [الأنعام103]، ليبين أن من لوازم الخبرة العلم والإحاطة فلا يكون خبيرا بغير ذلك .
وفي دلالة الخبرة على اللطف قال تعالى: { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ } [الحج:63]، فهو سبحانه يعلم أن العباد مع إعراض أكثرهم عن طاعته لا قوام لهم ولا بقاء إلا بأسباب رحمته؛ فالخبير بهم لا بد أن يلطف بهم وإلا تعطلت حكمته في خلقهم، وفي دلالة الخبرة على صفة البصر والحكمة قال الله تعالى: { وَلَوْ بَسَطَ الله الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ } [الشورى27]، واسم الله الخبير دل على صفة من صفات الذات .
الدعاء باسم الله الخبير دعاء مسألة .(2/61)
لم أجد دعاء المسألة بالاسم أو الوصف، ولكن ورد الدعاء بالمعنى الذي دل عليه الاسم كما ورد عند مسلم من حديث عبد الله بن عمرو - رضي الله عنه -: ( أَنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - تَلاَ قَوْلَ اللهِ - عز وجل - في إِبْرَاهِيمَ: { رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } [إبراهيم:36]، وَقَالَ عِيسَى - عليه السلام -: { إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } [المائدة:118]، فَرَفَعَ يَدَيْهِ وَقَالَ: اللهُمَّ أمتي أمتي وَبَكَى، فَقَالَ اللهُ - عز وجل -: يَا جِبْرِيلُ اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ فَسَلْهُ مَا يُبْكِيكَ، فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ فَسَأَلَهُ فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بِمَا قَالَ وَهُوَ أَعْلَمُ، فَقَالَ اللهُ: يَا جِبْرِيلُ اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ فَقُلْ إِنَّا سَنُرْضِيكَ في أُمَّتِكَ وَلاَ نَسُوءُكَ ) (1) .
__________
(1) مسلم في الإيمان، باب دعاء النبي S لأمته وبكائه شفقة عليهم 1/191 (202) .(2/62)
وكذلك دعاء الاستخارة الذي رواه البخاري من حديث جابر - رضي الله عنه - قال: ( كَانَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يُعَلِّمُنَا الاِسْتِخَارَةَ فِي الأُمُورِ كَمَا يُعَلِّمُنَا السُّورَةَ مِنَ القُرْآنِ، يَقُولُ: إِذَا هَمَّ أَحَدُكُمْ بِالأَمْرِ فَليَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ الفَرِيضَةِ ثُمَّ لِيَقُلِ اللهمَّ إِنِّي أَسْتَخِيرُكَ بِعِلمِكَ وَأَسْتَقْدِرُكَ بِقُدْرَتِكَ، وَأَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ العَظِيمِ، فَإِنَّكَ تَقْدِرُ وَلاَ أَقْدِرُ وَتَعْلَمُ وَلاَ أَعْلَمُ وَأَنْتَ عَلاَّمُ الغُيُوبِ، اللهمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الأَمْرَ خَيْرٌ لِي فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي أَوْ قَالَ عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ فَاقْدُرْهُ لي وَيَسِّرْهُ لي ثُمَّ بَارِكْ لي فِيهِ، وَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الأَمْرَ شَرٌّ لي في ديني وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي أَوْ قَالَ في عَاجِلِ أمري وَآجِلِهِ، فَاصْرِفْهُ عَنِّي وَاصْرِفْنِي عَنْهُ، وَاقْدُرْ لِي الخَيْرَ حَيْثُ كَانَ ثُمَّ أَرْضِنِي، وَيُسَمِّي حَاجَتَهُ ) (1) .
ويمكن الدعاء أيضا بمقتضى قوله تعالى: { وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً } [الفرقان:58]، وقوله: { قُلْ كَفَى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً } [الإسراء:96]، يقول في دعائه: اللهم يا خبير يا بصير سبحانك وبحمدك توكلت عليك في مسألتي وأنت عليم بذنبي، فاغفر لي وعافني وارزقني واقض حاجتي ويسر أمري، ويسمي ما يشاء من حوائجه .
الدعاء باسم الله الخبير دعاء عبادة .
__________
(1) البخاري في التوحيد، باب ما جاء في التطوع 1/391 ( 1109) .(2/63)
أثر الاسم في سلوك العبد اعتماده على اختيار ربه في كل صغيرة وكبيرة من أمره فطالما آمن العبد بأن الله هو الخبير، سلم له في جميع شئونه مطلق التدبير، وهذا شأن أهل التوحيد واليقين ألا يخالفوا مراد الله وتدبيره، بل يسلموا إليه أمورهم ثقة في كمال تدبيره، سواء كان تدبيرا يتعلق بتوحيد الربوبية وتصريف أمور الخلق كالإيجاد والإمداد والمنع والعطاء على مقتضى حكمته في ترتيب الابتلاء، أو كان تدبيرا شرعيا يتعلق بتوحيد العبودية وما أمرهم به أو نهاهم أو ندبهم أو دعاهم، فلا ينازعون الله في تدبيره وشرعه أو قضائه وقدره ليقينهم أنه الملك الخبير القادر القدير، القابض على نواصي الخلق والمتولي شئون الملك، وتيقنهم مع ذلك أنه الحكيم في أفعاله وأنه لا تخرج عن العدل والحكمة والفضل والرحمة، فلم يدخلوا أنفسهم معه في تدبيره لملكه وتصريفه لأمور خلقه، ولم يتسخطوا على دينه أو يتمنوا سواه، بل همهم كله في إقامة حدوده والتزام حقه عليهم، فالذي وحد الله في اسمه الخبير يختار الله وكيلا كفيلا، والله - عز وجل - إذا تولى أمر عبد بجميل عنايته كفاه وأغناه وأسعده في الدنيا والآخرة .(2/64)
ومهما طلب العبد من مولاه فإنه لا يستكثر حوائجه على الله، لعلمه أن مولاه كافيه ومعطيه فهو الغني بذاته عمن سواه، ومن جعل الله - عز وجل - وكيله لزمه أن يكون وكيلا لله على نفسه في إقامة حقوقه وفرائضه، فيخاصم نفسه في ذلك ليلا ونهارا، لا يفتر لحظة ولا يقصر طرفه، والذي يرضى بربه خبيرا لأمره هاديا لعمله وكيلا على نفسه قد وحد الله حقا في اسمه الخبير، ووثق أن ما كتب في اللوح سوف يدركه في أنواع التقدير ومن ثم تهون عليه الأمور ويركن بإيمانه إلي اللطيف الخبير، وعند البخاري من حديث البراء - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: ( إِذَا أَتَيْتَ مَضْجَعَكَ فَتَوَضَّأْ وُضُوءَكَ للصَّلاَةِ، ثُمَّ اضْطَجِعْ عَلى شِقِّكَ الأَيْمَنِ، ثُمَّ قُل: اللهُمَّ أَسْلمْتُ وجهي إِليْكَ، وَفَوَّضْتُ أمري إِليْكَ، وَأَلجَأْتُ ظهري إِليْكَ، رَغْبَةً وَرَهْبَةً إِليْكَ، لاَ مَلجَأَ وَلاَ مَنْجَا مِنْكَ إِلاَّ إِليْكَ اللهُمَّ آمَنْتُ بِكِتَابِكَ الذي أَنْزَلتَ، وَبِنَبِيِّكَ الذي أَرْسَلتَ، فَإِنْ متَّ مِنْ ليْلتِكَ فَأَنْتَ عَلى الفِطْرَةِ، وَاجْعَلهُنَّ آخِرَ مَا تَتَكَلمُ بِهِ ) (1) .
ومن جهة التسمية بعبد الخبير فقد تسمى به من رواة الحديث عبد الخبير بن قيس بن ثابت الأنصاري من الطبقة السادسة الذين عاصروا صغار التابعين، وإن كان مجهول الحال عند ابن حجر، وحديثه ليس بقائم عند البخاري، روى عنه أبو داود في سننه (2) .
********************************
26- الله - جل جلاله - الوترُ
********************************
الدليل على ثبوت الاسم وإحصائه .
__________
(1) البخاري في الوضوء، باب فضل من بات على الوضوء 1/97 (244) .
(2) انظر ترجمته في تهذيب الكمال 16/467، والكاشف للذهبي 1/619، وتهذيب التهذيب 6/113 .(2/65)
لم يرد الاسم في القرآن ولكن سماه به النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه البخاري من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( لِلهِ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ اسْمًا، مِائَةٌ إِلاَّ وَاحِدًا، لاَ يَحْفَظُهَا أَحَدٌ إِلاَّ دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَهْوَ وَتْرٌ يُحِبُّ الْوَتْرَ ) (1)، فقد ورد الاسم هنا مطلقا منونا مرادا به العلمية ودالا على الوترية وكمال الوصفية، وقد ورد المعنى في قوله: يحب الوتر محمولا على الاسم مسندا إليه، وورد أيضا عند مسلم من حديث أَبِى هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - مرفوعا: ( وَإِنَّ اللهَ وِتْرٌ يُحِبُّ الْوِتْرَ ) (2)، وعند أبي داود والترمذي وابن ماجة والنَسائي وصححه الألباني من حديث عَلِي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قَالَ: أَوْتَرَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ثُمَّ قَالَ: ( يَا أَهْلَ الْقُرْآنِ أَوْتِرُوا، فَإِنَّ اللهَ - عز وجل - وِتْرٌ يُحِبُّ الْوِتْرَ ) (3) .
شرح الاسم وتفسير معناه .
__________
(1) البخاري في كتاب الدعوات، باب لله مائة إلا واحدة 5/2354 (6047) .
(2) مسلم في الذكر والدعاء والتوبة، باب في أسماء الله تعالى 4/2062 (2677) .
(3) النسائي في كتاب قيام الليل وتطوع النهار 1/171 (440)، والترمذي في كتاب الصلاة، باب ما جاء أن الوتر ليس بحتم 2/316 (453)، وأبو داود في كتاب الوتر، باب استحباب الوتر 2/61 (1416)، وابن ماجه في كتاب إقامة الصلاة والسنة، باب ما جاء في الوتر 1/370 (1169) وأحمد في المسند، مسند علي بن أبي طالب 1/144 (1224)، وانظر صحيح ابن ماجة1/193(959) .(2/66)
الوِتْرُ في اللغة هو الفرْدُ أَو ما لم يَتَشَفعْ من العَدَدِ، و التواتر التتابع، وقيل هو تتابع الأشياء وبينها فجوات وفترات، وتواترت الإبل والقطا وكل شيء إذا جاء بعضه في إثر بعض غير مصطفة (1)، وقوله: { وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ } [الفجر:3]، قيل الوتر آدم - عليه السلام - والشَّفع أنه شُفِعَ بزوجته، وقيل الشفع يوم النحر والوتر يوم عرفة، وقيل الأَعداد كلها شفع ووتر كثرت أَو قلت، وقيل الوتر هو الله الواحد، والشفع جميع الخلق خلقوا أَزواجاً، وكان القوم وتِرا فشَفعْتهم وكانوا شَفعا فوَتَرْتهم (2) .
وعند البخاري من حديث ابن عمر - رضي الله عنه - أن رجلا سَأَل النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - وَهْوَ عَلَى المِنْبَرِ: مَا تَرَى فِي صَلاَةِ الليْلِ؟ قَالَ: ( مَثْنَى مَثْنَى فَإِذَا خَشِيَ الصُّبْحَ صَلى وَاحِدَةً فَأَوْتَرَتْ لَهُ مَا صَلى ) (3)، وعند الترمذي وصححه الألباني من حديث سَلَمَة بْنِ قيْسٍ - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( إِذَا تَوَضَّأتَ فَانْتَثِرْ وَإِذَا اسْتَجْمَرْتَ فَأَوْتِرْ ) (4)، أي اجعل الحجارة التي تستنجي بها فرداً استنج بثلاثة أَحجار أَو خمسة أَو سبعة ولا تستنج بالشفع .
__________
(1) لسان العرب 5/275 .
(2) التبيان في تفسير غريب القرآن ص 461، والتبيان في أقسام القرآن ص20، وانظر السابق 5/273 .
(3) البخاري في كتاب الصلاة، باب الحلق والجلوس في المسجد 1/179 (460) .
(4) الترمذي في الطهارة، باب ما جاء في المضمضة 1/40 (27)، والسلسلة الصحيحة 3/291 (1305) .(2/67)
والله تعالى وتر انفرد عن خلقه فجعلهم شفعا، وقد خلق الله المخلوقات بحيث لا تعتدل ولا تستقر إلا بالزوجية ولا تهنأ على الفردية والأحدية، يقول تعالى: { وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلكُمْ تَذَكرُونَ } [الذاريات:49]، فالرجل لا يهنأ إلا بزوجته ولا يشعر بالسعادة إلا مع أسرته والتوافق بين محبتهم ومحبته، فيراعى في قراره ضروريات أولاده وزوجته، ولا يمكن أن تستمر الحياة التي قدرها الله على خلقه بغير الزوجية حتى في تكوين أدق المواد الطبيعية، فالمادة تتكون من مجموعة من العناصر والمركبات وكل عنصر مكون من مجموعة من الجزيئات، وكل جزيء مكون من مجموعة من الذرات وكل ذرة لها نظام في تركيبها، تتزاوج فيه مع أخواتها، سواء كانت الذرةُ سالبةً أو موجبةً، فالعناصر في حقيقتها عبارة عن أخوات من الذرات متزاوجات متفاهمات متكاتفات ومتماسكات، ومن المعلوم أنه لا يتكون جزئُ الماء إلا إذا اتحدت ذرتان من الهيدروجين مع ذرة واحدة من الأكسجين، فالذرات متزاوجة، سالبها يرتبط بموجبها ولا تهدأ ولا تستقر إلا بالتزاوج بين بعضها البعض، فهذه بناية الخلق بتقدير الحق بنيت على الزوجية والشفع، أما ربنا - عز وجل - فذاته صمدية وصفاته فردية، فهو المنفرد بالأحدية والوترية، وقد ثبت عند مسلم كما تقدم مرفوعا: ( إِن اللهَ - عز وجل - وِتْرٌ يُحِبُّ الوِتْرَ ) (1) .
وقد قيل أيضا في معنى الشفع والوتر أن الشفع تنوع أوصاف العباد بين عز وذل وعجز وقدرة، وضعف وقوة، وعلم وجهل، وموت وحياة، والوتر انفراد صفات الله عز وجل فهو العزيز بلا ذل، والقدير بلا عجز، والقوي بلا ضعف، والعليم بلا جهل وهو الحي الذي لا يموت، والقيوم الذي لا ينام، ومن أساسيات التوحيد والوترية إفراد الله عمن سواه في ذاته وصفاته وأفعاله وعبوديته (2) .
دلالة الاسم على أوصاف الله .
__________
(1) تقدم تخريجه .
(2) تفسير القرطبي 20/41، الأسماء والصفات للبيهقي ص30 .(2/68)
اسم الله الوتر يدل على ذات الله وعلى صفة الوترية بدلالة المطابقة، وعلى ذات الله وحدها بالتضمن، وعلى الصفة وحدها بالتضمن، وعند أبي داود وصححه الألباني من حديث علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أن رسول الله - رضي الله عنه - قال: ( يَا أَهْلَ القُرْآنِ أَوْتِرُوا فَإِنَّ اللهَ وِتْرٌ يُحِبُّ الوِتْرَ ) (1)، والاسم يدل باللزوم على الحياة والقيومية، والتفرد والأحدية والسيادة والصمدية، وكل ما يلزم من صفات الكمال، واسم الله الوتر دل على صفة من صفات الذات .
الدعاء باسم الله الوتر دعاء مسألة .
لم أجد دليلا على الدعاء بالاسم أو الوصف، ويمكن الدعاء بمقتضى الاسم ومعناه فالوتر سبحانه هو المنفرد عن الشريك والمثلية وكل معاني الزوجية من الصاحبة والولد ومن أن يكون له كفوا أحد، وقد أمر الله نبيه أن يحمد الله على اتصافه بالوترية، وأن يكبره تكبيرا في كل أوصاف الأحدية، قال الله - عز وجل -: { وَقُلِ الْحَمْدُ لِلهِ الذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً } [الإسراء:111]، وروى الإمام مسلم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( لأَنْ أَقُولَ سُبْحَانَ اللهِ وَالْحَمْدُ لِلهِ وَلاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَاللهُ أَكْبَرُ أَحَبُّ إِلَي مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ ) (2) .
__________
(1) أبو داود في الصلاة، باب استحباب الوتر 2/61 (1416) .
(2) مسلم في الذكر والدعاء والتوبة، باب فضل التهليل والتسبيح والدعاء 4/2072 (2695) .(2/69)
وروى النسائي وصححه الألباني من حديث محجن بن الأدرع - رضي الله عنه - أنه قال: ( دَخَلَ رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - المَسْجِدَ إذَا رَجُلٌ قَدْ قَضَى صَلاَتَهُ وَهُوَ يَتَشَهَّدُ، فَقَال: اللهُمَّ إنِّي أَسْأَلُكَ يَا أَللهُ بِأَنَّكَ الوَاحِدُ الأَحَدُ الصَّمَدُ الذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ أَنْ تَغْفِرَ لِي ذُنُوبِي، إنَّكَ أَنْتَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : قَدْ غُفِرَ لَهُ ثَلاَثاً ) (1) .
الدعاء باسم الله الوتر دعاء عبادة .
أثر الاسم على العبد يتجلى في محبته للتوحيد والوترية في كل قول أو فعل، فيغتسل وترا، ويستجمر وترا، ويستنثر وترا، ويجعل آخر صلاته بالليل وترا، وإذا اكتحل فليكتحل وترا، ويغسل الميت وترا، روى الحاكم وصححه الشيخ الألباني من حديث أبي بن كعب - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( لما تُوفي آدَم غَسَلتْهُ المَلاَئِكَةُ بالماء وتْرا وألحَدوا له وقَالوا: هَذه سُنّة آدَم في وَلدِه ) (2)، وعند البخاري من حديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( اجْعَلوا آخِرَ صَلاَتِكُمْ بِالليْل وِتْرًا ) (3) .
__________
(1) النسائي في السهو، باب الدعاء بعد الذكر 1/386 (1224)، صحيح أبي داود 2/185(869) .
(2) المستدرك 2/595 (4004)، صحيح الجامع (5207) .
(3) البخاري في الوتر، باب ليجعل آخر صلاته وترا 1/339 (953) .(2/70)
وروى البخاري أيضا من حديث أم عطية رضي الله عنها قالت: ( تُوُفِّيَتْ إِحْدَى بَنَاتِ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - فَأَتَانَا النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - فَقَال: اغْسِلنَهَا بِالسِّدْرِ وِتْرًا، ثَلاَثًا أَوْ خَمْسًا أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلكَ إِنْ رَأَيْتُنَّ ذَلكَ، وَاجْعَلنَ فِي الآخِرَةِ كَافُورًا أَوْ شَيْئًا مِنْ كَافُورٍ، فَإِذَا فَرَغْتُنَّ فَآذِنَّنِي فَلمَّا فَرَغْنَا آذَنَّاهُ، فَأَلقَى إِليْنَا حِقْوَهُ، فَضَفَرْنَا شَعَرَهَا ثَلاَثَةَ قُرُونٍ وَأَلقَيْنَاهَا خَلفَهَا ) (1) .
وعند مسلم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( إِذَا اسْتَجْمَرَ أَحَدُكُمْ فَليَسْتَجْمِرْ وِتْرًا وَإِذَا تَوَضَّأَ أَحَدُكُمْ فَليَجْعَل فِي أَنْفِهِ مَاءً ثُمَّ ليَنْتَثِرْ ) (2)، وعند أحمد وحسنه الألباني من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( إِذَا اكْتَحَل أَحَدُكُمْ فَليَكْتَحِل وِتْراً، وَإِذَا اسْتَجْمَرَ فَليَسْتَجْمِرْ وِتْراً ) (3) .
__________
(1) البخاري في الجنائز، باب يلقى شعر المرأة خلفها 1/425 (1204) .
(2) مسلم في الطهارة، باب الإيتار في الاستنثار والاستجمار 1/212 (237) .
(3) المسند 2/ 351 (8596)، السلسلة الصحيحة (1260) .(2/71)
وروى البخاري من حديث أنس - رضي الله عنه - قال: ( كَانَ رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لاَ يَغْدُو يَوْمَ الفِطْرِ حَتَّى يَأْكُل تَمَرَاتٍ وَيَأْكُلهُنَّ وِتْرًا ) (1)، وروى الترمذي وصححه الشيخ الألباني من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال له: ( إِذَا اشْتَكَيْتَ؛ فَضَعْ يَدَكَ حَيْثُ تَشْتَكِي وَقُل: بِسْمِ الله أَعُوذُ بِعِزَّةِ الله وَقُدْرَتِهِ مِنْ شَرِّ مَا أَجِدُ مِنْ وجعي هَذَا، ثُمَّ ارْفَعْ يَدَكَ ثُمَّ أَعِدْ ذَلكَ وِتْرًا ) (2) .
ولم أجد بالبحث الحاسوبي أحدا سمي عبد الوتر في مجال ما أجرينا عليه البحث وكذلك جميع محركات البحث على الإنترنت، وهنا دعوة لمن أراد أن يسمي نفسه أو ولده بذلك الاسم لأنه لم يسبقه أحد من السلف أو الخلف فيما نعلم والله أعلم .
********************************
27- الله - جل جلاله - الجَمِيلُ
********************************
الدليل على ثبوت الاسم وإحصائه .
__________
(1) البخاري في العيدين، باب الأكل يوم الفطر قبل الخروج 1/325 (910) .
(2) الترمذي في الدعوات، باب في الرقية إذا اشتكى 5/574 (3588)، والسلسلة الصحيحة (1258) .(2/72)
ورد الاسم عند مسلم من حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - أن النَّبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( لاَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ، قَالَ رَجُلٌ: إِنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا وَنَعْلُهُ حَسَنَةً، قَالَ: إِنَّ اللهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ، الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ وَغَمْطُ النَّاسِ ) (1)، والحديث ورد الاسم فيه مطلقا منونا محمولا عليه المعنى مسندا إليه مرادا به العلمية ودالا على الوصفية وكمالها، وورد في رواية أحمد في مسند ابن مسعود - رضي الله عنه -: ( فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي لَيُعْجِبُنِي أَنْ يَكُونَ ثَوْبِي غَسِيلاً وَرَأْسِي دَهِيناً وَشِرَاكُ نَعْلِي جَدِيداً، وَذَكَرَ أَشْيَاءَ حَتَّى ذَكَرَ عِلاَقَةَ سَوْطِهِ أَفَمِنَ الْكِبْرِ ذَاكَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: لاَ، ذَاكَ الْجَمَالُ، إِنَّ اللهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ وَلَكِنَّ الْكِبْرَ مَنْ سَفِهَ الْحَقَّ وَازْدَرَى النَّاسَ ) (2) .
شرح الاسم وتفسير معناه .
الجميل في اللغة من الجمال هو الحسن في الخلقة والخلق، جمل يجمل فهو جميل ككرم فهو كريم، وتجمل تزين، وجمله تجميلا زينه، وأجمل الصنيعة عند فلان يعني أحسن إليه، والمجاملة هي المعاملة بالجميل، والتجمل تكلف الجميل، وقد جمل الرجل جمالا فهو جميل والمرأة جميلة (3)، وقال الأَحْنَفَ بْنَ قَيْسٍ:
وَإِذَا جَمِيلُ الْوَجْهِ لَمْ يَأْتِ الْجَمِيلَ فَمَا جَمَالُهُ
مَا خَيْرُ أَخْلاَقِ الْفَتَى إِلاَّ تُقَاهُ وَاحْتِمَالُهُ (4) .
__________
(1) مسلم في كتاب الإيمان، باب تحريم الكبر وبيانه 1/93 (91) .
(2) أحمد في المسند، مسند عبد الله بن مسعود 1/399 (3789) .
(3) لسان العرب 11/126.
(4) سنن البيهقي الكبرى 10/195 .(2/73)
والصبر الجميل هو الذي لا شكوى معه ولا جزع فيه قال تعالى: { فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً } [المعارج:5]، وقوله: { فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ } [الحجر: 85]، أي أعرض عنهم إعراضا لا جزع فيه (1) .
والله - عز وجل - هو الجميل، جماله سبحانه على أربع مراتب جمال الذات وجمال الصفات وجمال الأفعال وجمال الأسماء فأسماؤه كلها حسنى، وصفاته كلها صفات كمال، وأفعاله كلها حكمة ومصلحة وعدل ورحمة، وأما جمال الذات وكيفية ما هو عليه فأمر لا يدركه سواه ولا يعلمه إلا الله، وليس عند المخلوقين منه إلا تعريفات تعرف بها إلى من أكرمه من عباده (2) .
وعند مسلم من حديث أَبِي مُوسَى - رضي الله عنه - أن النَّبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( حِجَابُهُ النُّورُ لَوْ كَشَفَهُ لأَحْرَقَ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ ) (3)، قال عبد الله بن عباس - رضي الله عنه -: ( حجب الذات بالصفات وحجب الصفات بالأفعال، فما ظنك بجمال حجب بأوصاف الكمال، وستر بنعوت العظمة والجلال ) (4)، ومن هذا المعنى يفهم بعض معاني جمال ذاته، فإن العبد يترقى من معرفة الأفعال إلى معرفة الصفات ومن معرفة الصفات إلى معرفة الذات، فإذا شاهد شيئا من جمال الأفعال استدل به على جمال الصفات، ثم استدل بجمال الصفات على جمال الذات، ومن ههنا يتبين أنه سبحانه له الحمد كله، وأن أحدا من خلقه لا يحصي ثناء عليه، بل هو كما أثنى على نفسه (5) .
دلالة الاسم على أوصاف الله .
__________
(1) تفسير الطبري 12/165، وتفسير ابن كثير 2/472 .
(2) الفوائد لابن القيم ص 182 .
(3) مسلم في الإيمان، باب في قوله عليه السلام إن الله لا ينام 1/161 (179) .
(4) السايق ص 182 .
(5) السايق ص 182 .(2/74)
اسم الجميل يدل على ذات الله وعلى صفة الجمال بدلالة المطابقة وعلى أحدهما بالتضمن، والجمال أحد أركان الجلال، والجلال منتهى الحسن والعظمة في الذات والصفات والأفعال، وهو يقوم على ركنين اثنين: الكمال والجمال، فالكمال بلوغ الوصف أعلاه، والجمال بلوغ الحسن منتهاه، قال تعالى: { كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الجَلالِ والإكرام } [الرحمن:26/27]، وقال سبحانه: { تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الجَلالِ والإكرام } [الرحمن:78]، وعند ابن ماجة وصححه الألباني من حديث النعمان بن بشر - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( إِنَّ مِمَّا تَذْكُرُونَ مِنْ جَلاَلِ الله التَّسْبِيحَ وَالتَّهْلِيلَ وَالتَّحْمِيدَ يَنْعَطِفْنَ حَوْلَ العَرْشِ، لَهُنَّ دَوِي كَدَوِي النَّحْلِ تُذَكِّرُ بِصَاحِبِهَا، أَمَا يُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَوْ لاَ يَزَالَ لَهُ مَنْ يُذَكِّرُ بِهِ ) (1)، واسم الله الجميل يدل باللزوم على الحياة والقيومية والحسن والعظمة والعلو والعزة وغير ذلك من صفات الكمال والجلال، واسم الله الجميل دل على صفة من صفات الذات .
الدعاء باسم الله الجميل دعاء مسألة .
__________
(1) ابن ماجة في الأدب، باب فضل التسبيح 2/ 1252 (3809)، وانظر السلسلة الصحيحة (3358) .(2/75)
لم أجد دليلا في دعاء المسألة بالاسم، وورد الدعاء بالمعنى فيما رواه النسائي من حديث عمار بن ياسر - رضي الله عنه - في دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي فيه: ( وَأَسْأَلُكَ لَذَّةَ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِكَ وَالشَّوْقَ إِلَى لِقَائِكَ في غَيْرِ ضَرَّاءَ مُضِرَّةٍ وَلاَ فِتْنَةٍ مُضِلةٍ، اللهمَّ زَيِّنَّا بِزِينَةِ الإِيمَانِ وَاجْعَلْنَا هُدَاةً مُهْتَدِينَ ) (1)، وورد الدعاء بالوصف في فيما روى عن عبد الله بن عمر وقيل عن الحسن بن علي - رضي الله عنهم - أنه قال في دعائه: ( اللهم اغنني بالعلم وزيني بالحلم وأكرمني بالتقوى وجملني بالعافية ) (2) .
__________
(1) النسائي في كتاب السهو 3/54 (1305)، صحيح الجامع (1301) .
(2) الفردوس بمأثور الخطاب 1/ 469 (1906) وفي رفعه ضعف، انظر ضعيف الجامع (1179) .(2/76)
ويمكن أن يستشهد بما تجمل يعقوب - عليه السلام - من الصبر الجميل في دعائه بمقتضى الاسم حيث قال: { فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَالله المُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ } [يوسف:18]، وأيضا ما ورد في قوله تعالى: { قَالَ بَل سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى الله أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ العَلِيمُ الحَكِيمُ } [يوسف:83]، وعند البخاري في حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت للنبي - صلى الله عليه وسلم - في حادثة الإفك: ( إِنِّي وَالله لَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّكُمْ سَمِعْتُمْ مَا يَتَحَدَّثُ بِهِ النَّاسُ، وَوَقَرَ في أَنْفُسِكُمْ وَصَدَّقْتُمْ بِهِ، وَلَئِنْ قُلتُ لَكُمْ: إِنِّي بَرِيئَةٌ وَالله يَعْلَمُ إِنِّي لَبَرِيئَةٌ لاَ تُصَدِّقُونِي بِذَلِكَ، وَلَئِنِ اعْتَرَفْتُ لَكُمْ بِأَمْرٍ وَالله يَعْلَمُ أَنِّي بَرِيئَةٌ لَتُصَدِّقُنِّي، وَالله مَا أَجِدُ لِي وَلَكُمْ مَثَلاً إِلاَّ أَبَا يُوسُفَ إِذْ قَالَ: { فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَالله المُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ } ) (1).
الدعاء باسم الله الجميل دعاء عبادة .
دعاء العبادة بالاسم يتجلى فيه المسلم بالجمال الظاهر والباطن، فظاهره كما ورد في صحيح الجامع من حديث أبي سعيد - رضي الله عنه - مرفوعا: ( إن الله تعالى جميل يحب الجمال ويحب أن يرى أثر نعمته على عبده ويبغض البؤس والتباؤس ) (2)، وقد تقدمت رواية ابن مسعود - رضي الله عنه - عن أحمد: ( قَال رَجُل: يَا رَسُول اللهِ، إِنِّي ليُعْجِبُنِي أَنْ يَكُونَ ثَوْبِي غَسِيلاً وَرَأْسِي دَهِيناً وَشِرَاكُ نَعْلي جَدِيداً، وَذَكَرَ أَشْيَاءَ حَتَّى ذَكَرَ عِلاَقَةَ سَوْطِهِ أَفَمِنَ الكِبْرِ ذَاكَ يَا رَسُول اللهِ؟ قَال: لاَ، ذَاكَ الجَمَال ) (3) .
__________
(1) البخاري في الشهادات، باب تعديل النساء بعضهن بعضا 2/945 (2518) .
(2) صحيح الجامع (1742) .
(3) تقدم تخريجه .(2/77)
أما جمال الجوهر فله الأسبقية على المظهر وهو حسن الاعتقاد في الله، وأن الجمال الحقيقي أن يفهم العبد حقيقة الحياة، فيستعين بالله في كمال العبودية ويرضى بما قسمه في باب الربوبية، وأن الجلال المطلق إنما هو لله وحده في أسمائه وصفاته وأفعاله وقد تقدم عند الحديث عن جلال الأسماء الحسنى أن الجلال يقوم على ركنين: الكمال والجمال؛ فالكمال هو بلوغ الوصف أعلاه والجمال بلوغ الحسن منتهاه، فإذا نظر العبد إلى حكمة الله وانفراده عمن سواه سيجد أن الله - عز وجل - إن أعطى أحدا من عباده كمالا ابتلاه في الجمال، وإن أعطاه جمالا ابتلاه في الكمال، وإن أعطاه كمالا وجمالا ابتلاه في دوام الحال، فهو سبحانه الملك الجميل، له في ملكه الكمال والجمال، ملكه دائم وهو في ملكه عليم قدير يفعل ما يشاء، له مطلق الخلق والتدبير وهذا هو الكمال .
أما الجمال في الملك فقيامه على الحق، لا يظلم فيه أحدا ولا يشرك في حكمه أحدا ولا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، يقبل التوبة عن عباده وهو قادر على إهلاكهم، لكن ملوك الدنيا إن استتب لهم كمال الملك وأحكموا قبضتهم على الخلق، ضيعوا الجمال في الملك بظلم الخلق وضياع الحق، وإن جمعوا بين الكمال والجمال سلبهم دوام الحال ودوام الحال من المحال، فالوحيد الذي اتصف بالكمال والجمال هو رب العزة والجلال، وكل اسم من أسمائه له فيه مطلق الكمال والجمال كما قال سبحانه: { تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الجَلال والإكرام } [الرحمن:78] .(2/78)
ومن ثم فإن جمال المسلم في عبوديته لربه، ومهما تقلبت به الأسباب فإنه في خير دائم كما ورد عند مسلم من حديث صهيب - رضي الله عنه - أن رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: ( عَجَبًا لأَمْرِ المُؤْمِنِ، إِنَّ أَمْرَهُ كُلهُ خَيْرٌ وَليْسَ ذَاكَ لأَحَدٍ إِلاَّ للمُؤْمِنِ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لهُ وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لهُ ) (1) .
أما بخصوص التسمية بعبد الجميل فلم أجد بالبحث الحاسوبي أحدا سمي به في مجال ما أجرينا عليه البحث، وكذلك جميع محركات البحث علي الإنترنت، وهذه دعوة لمن أراد أن يسمي نفسه أو ولده بذلك الاسم لأنه لم يسبقه أحد من السلف أو الخلف فيما نعلم والله أعلم .
********************************
28- الله - جل جلاله - الحَيِيُّ
********************************
الدليل على ثبوت الاسم وإحصائه .
لم يرد الاسم في القرآن ولكن سماه به النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه أبو داود وصححه الألباني من حديث يَعْلَى بن أمية - رضي الله عنه -: ( أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - رَأَى رَجُلاً يَغْتَسِلُ بِالْبَرَازِ بِلاَ إِزَارٍ، فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ - صلى الله عليه وسلم - : إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَل حَيِىٌّ سِتِّيرٌ يُحِبُّ الْحَيَاءَ وَالسَّتْرَ فَإِذَا اغْتَسَلَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْتَتِرْ ) (2) .
__________
(1) مسلم في الزهد والرقائق، باب المؤمن أمره كله خير4/2295 (2999) .
(2) أبو داود في كتاب الحمام، باب النهي عن التعري 4/39 (4012)، والبراز هو الفضاء الواسع من الأرض الذي يتخذ مكانا لقضاء الحاجة، صحيح أبي داود 2/758 (3387) .(2/79)
والشاهد أن اسم الحيي ورد مطلقا منونا محمولا عليه المعنى مسندا إليه مرادا به العلمية ودالا على كمال الوصفية، وفي سنن أبى داود وصححه الألباني من حديث سَلْمَانَ الفارسي - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( إِنَّ رَبَّكُمْ تَبَارَكَ وَتَعَالَى حَيِيٌ كَرِيمٌ يَسْتَحْيِي مِنْ عَبْدِهِ إِذَا رَفَعَ يَدَيْهِ إِلَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُمَا صِفْرًا ) (1) .
شرح الاسم وتفسير معناه .
الحيي في اللغة هو المتصف بالحياء، يقال: حَيِيَ منه حياء واستحيا منه واستحى منه، وهو حَيِي ذو حياء كغني ذو غنى (2)، والحياء صفة خلقية رقيقة وسجية لطيفة دقيقة تمنع النفس من تجاوز أحكام العرف أو من تجاوز أحكام الشرع؛ وأحكام العرف يقصد بها كل ما تعرفه النفوس وتستحسنه العقول من مكارم الأخلاق ومحاسن الشيم وهي التي كانت ولم تزل مستحسنة في كل زمان ومكان (3)، وعند البخاري من حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( إِنَّ مِمَّا أَدْرَكَ النَّاسُ مِنْ كَلاَمِ النُّبُوَّةِ الأُولَى إِذَا لَمْ تَسْتَح فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ ) (4) .
__________
(1) أبو داود في سجود القرآن، باب الدعاء 2/78 (1488)، صحيح ابن ماجة 2/331 (3117) .
(2) لسان العرب 14/ 218، والمغرب في ترتيب المعرب للمطرزي 1/238 .
(3) انظر فتح الباري 1/75 وفيض القدير للمناوي 3/ 427، والجواب الكافي ص46 .
(4) البخاري في أحاديث الأنبياء، باب أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم 3/1284 (3296) .(2/80)
والمقصود أن الحياء لم يزل مستحسنا في شرائع الأنبياء وأنه لم ينسخ في جملة ما نسخ من شرائعهم (1)، وعند البخاري من حديث أبي سفيان - رضي الله عنه - قال: ( فَوَاللهِ لَوْلا الْحَيَاءُ مِنْ أَنْ يؤثروا عَليَّ كَذِبًا لَكَذَبْتُ عَنْهُ ) (2)، وعند البخاري من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( إِنَّ موسى كَانَ رَجُلا حَيِيًّا سِتِّيرًا لاَ يُرَى مِنْ جِلْدِهِ شَيْءٌ اسْتِحْيَاءً مِنْهُ ) (3)، والله - عز وجل - قال: { فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا } [القصص:25]، فالحياء صفة أخلاقية وسجية نفسية تراعي مكارم الأخلاق ومحاسن الشيم وهي كلها خير .
أما حياء الشرع فهو الحياء الذي يحفظ به العبد حدود الله ومحارمه، وربما يتطلب ذلك ورعا واتقاء للشبهة مما يحيف على الحيي بعض الشيء (4) .
والله - عز وجل - هو الحيي الذي تكفل بعباده وأرزاقهم لأنه ليس لهم أحد سواه فهو الذي يقبل توبتهم ويوفق محسنهم ويسمع دعاءهم ولا يخيب رجاءهم، وحياء الرب تعالى لا تدركه الأفهام ولا تكيفه العقول فإنه حياء كرم وبر وجود وجلال (5) .
__________
(1) عون المعبود شرح سنن أبي داود 13/106.
(2) البخاري في بدء الوحي، باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله S 1/7 (7) .
(3) البخاري في أحاديث الأنبياء، باب حديث الخضر مع موسى عليهما السلام 3/1249 (3223) .
(4) صحيح مسلم بشرح النووي 2/5 .
(5) مدارج السالكين 2/ 261 .(2/81)
والحياء وصف كمال لله - عز وجل - لا يعارض الحكمة، ولا يعارض بيان الحق والحجة كما قال تعالى: { إِن اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَة فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ الله بِهَذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيرا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِل بِهِ إِلا الْفَاسِقِينَ } [البقرة:26] .
دلالة الاسم على أوصاف الله .
اسم الله الحيي يدل على ذات الله وعلى صفة الحياء بدلالة المطابقة، وعلى ذات الله وحدها بالتضمن، وعلى صفة الحياء وحدها بدلالة التضمن، قال تعالى: { إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا } [البقرة:26]، وقال: { إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَالله لا يَسْتَحْيِي مِنَ الحَقِّ } [الأحزاب:53]، وقد ورد الاسم والوصف معا في حديث سلمان الفارسي - رضي الله عنه - الذي تقدم، والاسم يدل باللزوم على الحياة والقيومية والسمع والبصر والعلم والكرم والحكمة واللطف والرأفة والرحمة وغير ذلك من أوصاف الكمال، واسم الله الحيي دل على صفة من صفات الأفعال .
الدعاء باسم الله الحيي دعاء مسألة .(2/82)
ورد دعاء المسألة بالاسم المطلق بلسان الحال في حديث سلمان الفارسي - رضي الله عنه - مرفوعا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( إِنَّ رَبَّكُمْ تَبَارَكَ وَتَعَالَى حَيِيٌ كَرِيمٌ يَسْتَحْيِي مِنْ عَبْدِهِ إِذَا رَفَعَ يَدَيْهِ إِلَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُمَا صِفْرًا خائبتين ) (1)، وورد الدعاء بمقتضى الاسم عند مسلم من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( فَنَزَلْتُ حَتَّى انْتَهَيْتُ إِلَى مُوسَى - صلى الله عليه وسلم - فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ: ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقُلْتُ: قَدْ رَجَعْتُ إِلَى رَبِّي حَتَّى اسْتَحْيَيْتُ مِنْهُ ) (2) .
وعند الطبراني وصححه الألباني من حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - مرفوعا في شأن الذي يمر على الصراط، وقد أعطي نوره على إبهام قدميه، يحبو على وجهه ويديه ورجليه، تخر رجل وتعلق رجل ويصيب جوانبه النار، فلا يزال كذلك حتى يخلص؛ يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في شأنه: ( قال: رب أعطني ذلك المنزل، فيقول الله تبارك وتعالى له: فلعلك إن أعطيتكه تسأل غيره؟ فيقول: لا وعزتك يا رب، وأي منزل أحسن منه، فيعطاه فينزله ثم يسكت، فيقول لله جل ذكره: ما لك لا تسأل؟ فيقول: رب قد سألتك حتى استحييتك، وأقسمت حتى استحييتك، فيقول الله جل: ذكره: ألم ترض أن أعطيك مثل الدنيا منذ خلقتها إلى يوم أفنيتها وعشرة أضعافه؟ فيقول: أتهزأ بي وأنت رب العزة فيضحك الرب تبارك وتعالى من قوله ) (3) .
الدعاء باسم الله الحيي دعاء عبادة .
__________
(1) أبو داود في الطهارة، باب الدعاء 2/78 (1488)، صحيح الجامع (7157) .
(2) مسلم في الإيمان، باب الإسراء برسول الله S إلى السماوات وفرض الصلوات1/146 (162) .
(3) المعجم الكبير 9/357 (9763)، الترغيب والترهيب (3591) .(2/83)
دعاء العبادة باسم الله الحيي ومقتضى توحيد الله فيه أن تكون حلية العبد وزينته ولباسه بعد تقوى الله الحياء، روى الترمذي وصححه الشيخ الألباني من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: ( مَا كَانَ الفُحْشُ فِي شَيْءٍ إِلاَّ شَانَهُ، وَمَا كَانَ الحَيَاءُ فِي شَيْءٍ إِلاَّ زَانَهُ ) (1)، وعند البخاري من حديث عمران بن حصين - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قَال: ( الحَيَاءُ لاَ يَأْتِي إِلاَّ بِخَيْرٍ ) (2) .
وفي رواية مسلم من حديث أبي قتادة - رضي الله عنه - قال: ( كُنَّا عِنْدَ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ فِي رَهْطٍ مِنَّا وَفِينَا بُشَيْرُ بْنُ كَعْبٍ؛ فَحَدَّثَنَا عِمْرَانُ يَوْمَئِذٍ أن رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: الحَيَاءُ خَيْرٌ كُلهُ أَوْ قَال: الحَيَاءُ كُلهُ خَيْرٌ، فَقَال بُشَيْرُ بْنُ كَعْبٍ إِنَّا لنَجِدُ فِي بَعْضِ الكُتُبِ أَوِ الحِكْمَةِ أَنَّ مِنْهُ سَكِينَةً وَوَقَارًا للهِ وَمِنْهُ ضَعْف، قَال فَغَضِبَ عِمْرَانُ حَتَّى احْمَرَّتَا عَيْنَاهُ وَقَال: أَلاَ أُرَانِي أُحَدِّثُكَ عَنْ رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَتُعَارِضُ فِيهِ، قَال: فَأَعَادَ عِمْرَانُ الحَدِيثَ، قَال: فَأَعَادَ بُشَيْرٌ فَغَضِبَ عِمْرَانُ، قَال: فَمَا زِلنَا نَقُول فِيهِ إِنَّهُ مِنَّا يَا أَبَا نُجَيْدٍ إِنَّهُ لاَ بَأْسَ بِهِ ) (3) .
__________
(1) الترمذي في البر والصلة، باب ما جاء في الفحش4/349 (1974)، صحيح الجامع (5655) .
(2) البخاري في كتاب الأدب، باب الحياء 5/ 2267 (5766) .
(3) مسلم في الإيمان، باب في الحياء 13/105 (151) .(2/84)
وعند الترمذي وحسنه الشيخ الألباني من حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - أن رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: ( اسْتَحْيُوا مِنَ اللهِ حَقَّ الحَيَاءِ، قَال: قُلنَا يَا رَسُول اللهِ إِنَّا لنَسْتَحْيِي وَالحَمْدُ للهِ، قَال: ليْسَ ذَاكَ وَلكِنَّ الاِسْتِحْيَاءَ مِنَ اللهِ حَقَّ الحَيَاءِ أَنْ تَحْفَظَ الرَّأْسَ وَمَا وَعَى، وَتَحْفَظَ البَطْنَ وَمَا حَوَى، وَتَتَذَكَّرَ المَوْتَ وَالبِلى، وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ تَرَكَ زِينَةَ الدُّنْيَا، فَمَنْ فَعَل ذَلكَ فَقَدِ اسْتَحْيَا مِنَ اللهِ حَقَّ الحَيَاءِ ) (1) . وروى أيضا وصححه الألباني من حديث أَبِي أمامة - رضي الله عنه - أن رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: ( الحَيَاءُ وَالعِيُّ شُعْبَتَانِ مِنَ الإِيمَانِ، وَالبَذَاءُ وَالبَيَانُ شُعْبَتَانِ مِنَ النِّفَاقِ ) (2) .
أما من جهة التسمية بعبد الحيي فلم أجد بالبحث الحاسوبي أحدا سمي به في مجال ما أجرينا عليه البحث، وكذلك جميع محركات البحث علي الإنترنت، وهنيئا لمن سمى نفسه أو ولده بذلك لأنه لم يسبقه أحد من السلف أو الخلف فيما نعلم والله أعلم .
********************************
29- الله - جل جلاله - السِّتيرُ
********************************
الدليل على ثبوت الاسم وإحصائه .
__________
(1) الترمذي في صفة القيامة 4/637 (2458)، صحيح الجامع (935) .
(2) الترمذي في البر والصلة، باب ما جاء في العي 4/375 (2027)، وقَالَ: َالْعِيُّ قِلةُ الْكَلاَمِ وَالْبَذَاءُ هُوَ الْفُحْشُ فِي الْكَلاَمِ وَالْبَيَانُ هُوَ كَثْرَةُ الْكَلاَمِ مِثْلُ هَؤُلاَءِ الْخُطَبَاءِ الذِينَ يَخْطُبُونَ فَيُوَسِّعُونَ فِي الْكَلاَمِ وَيَتَفَصَّحُونَ فِيهِ مِنْ مَدْحِ النَّاسِ فِيمَا لاَ يُرْضِى اللهَ، وانظر صحيح الجامع (3201) .(2/85)
ورد الاسم في السنة مقرونا باسم الله الحيي، وقد اشتهر اسم الستار بين الناس بدلا من الستير، وهو خطأ لأنه لم يرد في القرآن أو السنة، أما الستير فقد ورد مطلقا منونا محمولا عليه المعنى مسندا إليه مرادا به العلمية ودالا على كمال الوصفية في الحديث الذي دل على اسمه الحيي، وعند النسائي وصححه الألباني: ( إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَل حَلِيمٌ حَيِيٌّ سِتِّيرٌ، يُحِبُّ الْحَيَاءَ وَالسَّتْرَ، فَإِذَا اغْتَسَلَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْتَتِرْ ) (1)، وفي سنن البيهقي عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضي الله عنه -: ( أَنَّ رَجُلَيْنِ سَأَلاَهُ عَنْ الاِسْتِئْذَانِ فِي الثَّلاَثِ عَوْرَاتٍ التِي أَمَرَ اللهُ بِهَا في الْقُرْآنِ، فَقَالَ لَهُمُ: إِنَّ اللهَ سِتِّيرٌ يُحِبُّ السَّتْرَ ... الحديث ) (2) .
شرح الاسم وتفسير معناه .
الستير في اللغة على وزن فعِيل من صيغ المبالغة، فعله ستر الشيء يَسْتُرُه سَترا أَخفاه، والستير هو الذي من شأْنه حب الستر والصَّوْن والحياء، والسُّتْرةُ ما يُستَر به كائنا ما كان، وكذا السِّتَارة والجمع السَّتَائِرُ، وسَتَر الشيء غطاه، وتَسَتَّر أي تغطى وجارية مُستَّرة يعني مستورة في خدرها، قال تعالى: { وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَاباً مَسْتُوراً } [الإسراء:45]، أي حجابا على حجاب، فالأول مستور بالثاني، أراد بذلك كثافة الحجاب لأنه جعل على قلوبهم أكنة وفي آذانهم وقرا (3) .
__________
(1) النسائي في الغسل، باب الاستتار ثم الاغتسال 1/200 (406)، صحيح أبي داود 2/758 (3387) .
(2) البيهقي في السنن الكبرى، كتاب النكاح 7/97 (13337)، وأبو داود في كتاب الأدب، باب الاستئذان في العورات الثلاث 4/349 (5192) ولفظه: ( إِنَّ اللَّهَ حَلِيمٌ رَحِيمٌ بِالْمُؤْمِنِينَ يُحِبُّ السَّتْرَ ) .
(3) لسان العرب 4/ 344، وتفسير الطبري 15/ 94 .(2/86)
والستر يأتي أيضا بمعنى المنع والابتعاد عن الشيء، روى البخاري من حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت: ( جَاءَتْنِي امْرَأَة مَعَهَا ابْنَتَانِ تَسْأَلنِي، فَلَمْ تَجِدْ عِنْدِي غَيْرَ تَمْرَةٍ وَاحِدَةٍ، فأعْطيْتُهَا فَقَسَمَتْهَا بَيْنَ ابْنَتَيْهَا، ثُمَّ قَامَتْ فَخَرَجَتْ، فَدَخَلَ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - فَحَدَّثتُهُ فَقَال: مَنْ يَلِي مِنْ هَذِهِ البَنَاتِ شَيْئا فَأَحْسَنَ إِلَيْهِنَّ كنَّ لَهُ سِتْرًا مِنَ النَّارِ ) (1)، وعند البخاري من حديث أبي سعِيدٍ - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( إِذَا صَلى أَحَدُكمْ إِلَى شَيءٍ يَسْتُرُهُ مِنَ النَّاسِ فَأَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَجْتَازَ بَيْنَ يَدَيْهِ فَلْيَدْفَعْهُ، فَإِنْ أَبَى فَلْيُقَاتِلْهُ، فَإِنَّمَا هُوَ شَيْطَانٌ ) (2) .
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الأدب، باب رحمة الولد وتقبيله ومعانقته 5/2234 (5649) .
(2) البخاري كتاب الصلاة، باب يرد المصلي من مر بين يديه 1/191(487) .(2/87)
والستير سبحانه هو الذي يحب الستر ويبغض القبائح، ويأمر بستر العورات ويبغض الفضائح، يستر العيوب على عباده وإن كانوا بها مجاهرين، ويغفر الذنوب مهما عظمت طالما أن عبده من الموحدين، وإذا ستر الله عبدا في الدنيا ستره يوم القيامة روى مسلم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( لاَ يَسْتُرُ الله عَلَى عَبْدٍ في الدُّنْيَا إِلاَّ سَتَرَهُ الله يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) (1)، وروى البخاري من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ( كُلُّ أُمَّتِي مُعَافى إِلا المجَاهِرِينَ، وَإِن مِنَ المجَانَةِ أَن يَعْمَلَ الرَّجُلُ بِالليْلِ عَمَلاً، ثُمَّ يُصْبِحَ وَقَدْ سَتَرَهُ الله، فَيَقُولَ يَا فُلاَنُ عَمِلْتُ الْبَارِحَةَ كَذَا وَكَذَا، وَقَدْ بَاتَ يَسْتُرُهُ رَبُّهُ وَيُصْبِحُ يَكْشِفُ سِتْرَ اللهِ عَنْهُ ) (2)، وعند البخاري من حديث ابن عمر - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( إِنَّ اللهَ يُدْنِي الْمُؤْمِنَ فَيَضَعُ عَلَيْهِ كَنَفَهُ وَيَسْتُرُهُ فَيَقُولُ: أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا؟ أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ أَيْ رَبِّ، حَتَّى إِذَا قَرَّرَهُ بِذُنُوبِهِ وَرَأَى في نَفسِهِ أَنَّهُ هَلَك، قال: سَتَرْتُهَا عَلَيْك في الدُّنْيَا، وَأَنَا أَغفِرُهَا لَك اليَوْمَ، فَيُعْطَى كِتَابَ حَسَنَاتِهِ، وَأَمَّا الكافِرُ وَالمُنَافِقُونَ فَيَقُولُ الأَشْهَادُ هَؤُلاَءِ الذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ، أَلاَ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ) (3) .
دلالة الاسم على أوصاف الله .
__________
(1) مسلم في البر والصلة والأدب، وانظر فيض القدير 2/228، وعون المعبود 11/34 .
(2) البخاري في الأدب، باب ستر المؤمن على نفسه 5/2254 (5721) .
(3) البخاري في المظالم، باب قول الله تعالى ألا لعنة الله على الظالمين 2/862 (2309) .(2/88)
اسم الستير يدل على ذات الله وعلى صفة الستر بدلالة المطابقة، وعلى أحدهما بالتضمن، فالستير هو المتصف بالستر، روى البخاري من حديث ابن عمر - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ الله يَوْمَ القِيَامَةِ ) (1)، وفي رواية مسلم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: ( لاَ يَسْتُرُ الله عَلَى عَبْدٍ في الدُّنْيَا إِلاَّ سَتَرَهُ الله يَوْمَ القِيَامَةِ ) (2)، وعند البخاري من حديث عبادة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا ثُمَّ سَتَرَهُ الله فَهُوَ إِلَى الله إِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ وَإِنْ شَاءَ عَاقَبَهُ ) (3)، وكثير من الأحاديث التي تقدمت فيها شواهد على ذكر الوصف الذي دل عليه الاسم، واسم الله الستير يدل باللزوم على ما دل عليه اسمه الحيي والاسم دل على صفة من صفات الأفعال .
الدعاء باسم الله الستير دعاء مسألة .
__________
(1) الموضع السابق، باب لا يظلم المسلم المسلم ولا يسلمه 2/862 (2310) .
(2) مسلم في البر والصلة والأدب، وانظر فيض القدير 2/228، وعون المعبود 11/34 .
(3) البخاري في الإيمان، باب علامة الإيمان حب الأنصار 1/15 (18) .(2/89)
ورد دعاء المسألة بالوصف الذي تضمنه الاسم عند أبي داود وصححه الألباني من حديث ابن عمر - رضي الله عنه - أنه قال: ( لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَدَعُ هَؤُلاَءِ الدَّعَوَاتِ حِينَ يُمْسِي وَحِينَ يُصْبِحُ: اللهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ العَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، اللهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ العَفْوَ وَالعَافِيَةَ فِي دِينِي وَدُنْيَاي وَأَهْلِي وَمَالِي، اللهُمَّ اسْتُرْ عَوْرَتِي أو عَوْرَاتِي، وَآمِنْ رَوْعَاتِي، اللهُمَّ احْفَظْنِي مِنْ بَيْنِ يَدَي وَمِنْ خَلفِي، وَعَنْ يَمِينِي وَعَنْ شِمَالِي وَمِنْ فَوْقِي، وَأَعُوذُ بِعَظَمَتِكَ أَنْ أُغْتَالَ مِنْ تَحْتِي ) (1)، وعند الطبراني وحسنه الشيخ الألباني من حديث خباب الخزاعي - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ( اللهم استر عورتي وآمن روعتي واقض عني ديني ) (2) .
وعند أحمد من حديث أَبِي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أنه قال: ( قُلْنَا يَوْمَ الْخَنْدَقِ: يَا رَسُولَ اللهِ هَلْ مِنْ شيء نَقُولُهُ فَقَدْ بَلَغَتِ الْقُلُوبُ الحَنَاجِرَ؟ قَالَ: نَعَمْ، اللهُمَّ اسْتُرْ عَوْرَاتِنَا وَآمِنْ رَوْعَاتِنَا، قَالَ: فَضَرَبَ اللهُ - عز وجل - وُجُوهَ أَعْدَائِهِ بِالرِّيحِ، فَهَزَمَهُمُ اللهُ عَزَّ وَجَل بِالرِّيحِ ) (3) .
الدعاء باسم الله الستير دعاء عبادة .
__________
(1) أبو داود في كتاب الأدب، باب ما يقول إذا أصبح 4/318 (5074)، صحيح الجامع (1274) .
(2) المعجم الكبير 4/81 (3710)، صحيح الجامع (1262) .
(3) أحمد في المسند 3/3 (11009)، قال الألباني: ضعيف، وله شاهد صحيح من رواية ابن عمر فيما كان يقوله S حين يمسي وحين يصبح، السلسلة الصحيحة 5/29 (2018) .(2/90)
أثر الاسم على العبد أن يستر على نفسه وغيره الحرمة، وأن يكثر من الطاعة والتهجد في الظلمة، روى الترمذي وحسنه الشيخ الألباني من حديث موسى بن طلحة عن أبي اليسر كعب بن عمرو - رضي الله عنه - قال: ( أَتَتْنِي امْرَأَةٌ تَبْتَاعُ تَمْرًا فَقُلتُ: إِنَّ فِي البَيْتِ تَمْرًا أَطْيَبَ مِنْهُ، فَدَخَلتْ مَعِي فِي البَيْتِ، فَأَهْوَيْتُ إِليْهَا فَقَبَّلتُهَا، فَأَتَيْتُ أَبَا بَكْرٍ فَذَكَرْتُ ذَلكَ لهُ، قَال: اسْتُرْ عَلى نَفْسِكَ وَتُبْ وَلاَ تُخْبِرْ أَحَدًا، فَلمْ أَصْبِرْ فَأَتَيْتُ عُمَرَ فَذَكَرْتُ ذَلكَ لهُ؛ فَقَال: اسْتُرْ عَلى نَفْسِكَ وَتُبْ وَلاَ تُخْبِرْ أَحَدًا، فَلمْ أَصْبِرْ، فَأَتَيْتُ رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَذَكَرْتُ ذَلكَ له، فَقَال لهُ: أَخَلفْتَ غَازِيًا فِي سَبِيل اللهِ فِي أَهْلهِ بِمِثْل هَذَا، حَتَّى تَمَنَّى أَنَّهُ لمْ يَكُنْ أَسْلمَ إِلاَّ تِلكَ السَّاعَةَ، حَتَّى ظَنَّ أَنَّهُ مِنْ أَهْل النَّارِ، قَال: وَأَطْرَقَ رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - طَوِيلاً حَتَّى أَوْحَى اللهُ إِليْهِ: { وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلفاً مِنَ الليْل إِنَّ الحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلكَ ذِكْرَى للذَّاكِرِينَ } [هود:114]، قَال أَبُو اليَسَرِ: فَأَتَيْتُهُ فَقَرَأَهَا عَلي رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَال أَصْحَابُهُ: يَا رَسُول اللهِ: أَلهَذَا خَاصَّةً أَمْ للنَّاسِ عَامَّةً؟ قَال: بَل للنَّاسِ عَامَّةً ) (1) .
__________
(1) الترمذي في تفسير القرآن، باب ومن سورة هود 5/292 (3115) .(2/91)
وعند البخاري من حديث ابن عمر - رضي الله عنه - أن رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: ( المُسْلمُ أَخُو المُسْلمِ، لاَ يَظْلمُهُ وَلاَ يُسْلمُهُ، وَمَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللهُ فِي حَاجَتِهِ، وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلمٍ كُرْبَةً فَرَّجَ اللهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرُبَاتِ يَوْمِ القِيَامَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلمًا سَتَرَهُ اللهُ يَوْمَ القِيَامَةِ ) (1)، وعنده من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعا: ( كُل أُمَّتِي مُعَافًى إِلاَّ المُجَاهِرِينَ وَإِنَّ مِنَ المَجَانَةِ أَنْ يَعْمَل الرَّجُل بِالليْل عَمَلاً، ثُمَّ يُصْبِحَ وَقَدْ سَتَرَهُ اللهُ، فَيَقُول يَا فُلاَنُ عَمِلتُ البَارِحَةَ كَذَا وَكَذَا، وَقَدْ بَاتَ يَسْتُرُهُ رَبُّهُ وَيُصْبِحُ يَكْشِفُ سِتْرَ اللهِ عَنْهُ ) (2) .
أما من جهة التسمية بعبد الستير فلم أجد بالبحث الحاسوبي أحدا سمي به في مجال ما أجرينا عليه البحث، وكذلك جميع محركات البحث علي الإنترنت، وأنبه على أن الستار ليس من أسماء الله الحسنى ولم يسم الله نفسه به، ومن تسمى بعبد الستار فليغيره إلى عبد الستير .
********************************
30- الله - جل جلاله - الكَبِيرُ
********************************
الدليل على ثبوت الاسم وإحصائه .
ورد اسم الله الكبير مقترنا باسمه المتعال في قوله تعالى: { عَالِمُ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الكَبِيرُ المُتَعَالِ } [الرعد:9]، ومقترنا بالعلي في عدة مواضع منها قوله: { ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ البَاطِلُ وَأَنَّ اللهَ هُوَ العَلِيُّ الكَبِيرُ } [لقمان:30] .
__________
(1) البخاري في المظالم، باب لا يظلم المسلم المسلم ولا يسلمه 2/862 (2310) .
(2) البخاري في كتاب الأدب، باب ستر المؤمن على نفسه 5/2254 (5721) .(2/92)
والشاهد أن الاسم ورد في هذه المواضع مطلقا معرفا مرادا به العلمية ودالا على كمال الوصفية، وقد ورد في السنة عند البخاري من حديث أَبِى هريرة - رضي الله عنه - أن النبي- صلى الله عليه وسلم - قال: ( إِذَا قَضَى اللهُ الأَمْرَ في السَّمَاءِ ضَرَبَتِ المَلاَئِكَةُ بِأَجْنِحَتِهَا خُضْعَانًا لِقَوْلِهِ كَالسِّلسِلَةِ عَلَى صَفْوَانٍ، فَإِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا: مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟ قَالُوا لِلذِي قال: الحَقَّ وَهْوَ العَلِىُّ الكَبِيرُ ) (1) .
شرح الاسم وتفسير معناه .
الكبير في اللغة من صيغ المبالغة فعله كَبُرَ كِبَراً وكُبْراً فهو كبير، والكبر نقيض الصغر كبر بالضم يكبر أي عظم، والكبير والصغير من الأسماء المتضايقة التي تقال عند اعتبار بعضها ببعض، فالشيء قد يكون صغيرا في جنب شيء وكبيرا في جنب غيره ويستعملان في الكمية المتصلة كالكثير والقليل والمنفصلة كالعدد (2) .
ويكون الكبر في اتساع الذات وعظمة الصافات نحو قوله تعالى: { فَجَعَلَهُمْ جُذَاذا إِلا كَبِيراً لَهُمْ لَعَلهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ } [الأنبياء:58]، وقوله: { فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبِيراً } [الفرقان:52]، وأيضا في التعالي بالمنزلة والرفعة كقوله: { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا } [الأنعام:123] .
__________
(1) البخاري في التفسير، باب تفسير سورة الحجر 4/1736 (4424) .
(2) لسان العرب 5/125، ومفردات ألفاظ القرآن ص 696 .(2/93)
والكبير سبحانه هو العظيم في كل شيء، عظمته عظمة مطلقة، وهو الذي كبر وعلا في ذاته، قال تعالى: { وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ } [البقرة:255]، روي عن عبد الله بن عباس - رضي الله عنه - أنه قال: ( ما السماوات السبع والأرضون السبع في يد الله إلا كخردلة في يد أحدكم ) (1)، وهو الكبير في أوصافه فلا سمي له ولا مثيل، ولا شبيه ولا نظير، قال تعالى: { هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً } [مريم:65]، وهو الكبير في أفعاله فعظمة الخلق تشهد بكماله وجلاله، قال تعالى: { لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ } [غافر:57]، وهو سبحانه المتصف بالكبرياء ومن نازعه في ذلك قسمه وعذبه، روى مسلم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( الْعِزُّ إِزَارُهُ وَالْكِبْرِيَاء رِدَاؤُهُ فَمَنْ يُنَازِعُنِي عَذَّبْتُهُ ) (2)، فهو سبحانه الكبير الموصوف بالجلال وعظم الشأن، وهو المنفرد بذاته وصفاته وأفعاله عن كل من سواه فله جميع أنواع العلو المعروفة بين السلف (3) .
دلالة الاسم على أوصاف الله .
اسم الله الكبير يدل على ذات الله وعلى صفة الكِبَر بدلالة المطابقة، وعلى ذات الله وحدها بالتضمن، وعلى صفة الكِبَر وحدها بدلالة التضمن، وعند البخاري من حديث أنس - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( اللهُ أَكْبَرُ، اللهُ أَكْبَرُ، خَرِبَتْ خَيْبَرُ، إِنَّا إِذَا نَزَلنَا بِسَاحَةِ قَوْمٍ فَسَاءَ صَبَاحُ المُنْذَرِينَ ) (4) .
__________
(1) تفسير الطبري 24/25 .
(2) مسلم البر والصلة والأدب، باب تحريم الكبر 4/2023 (2620) .
(3) شرح أسماء الله الحسنى للرازي ص267 والمقصد الأسنى ص299، والأسماء والصفات للبيهقي ص52 .
(4) البخاري في الأذان، باب ما يذكر في الفخذ 1/145 (364) .(2/94)
وعند مسلم في الصلاة من حديث عمر - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( إِذَا قَالَ المُؤَذِّنُ الله أَكْبَرُ الله أَكْبَر، فَقَالَ أَحَدُكُمُ: الله أَكْبَرُ الله أَكْبَرُ، ثُمَّ قَالَ أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ الله ... ثُمَّ قال: الله أَكْبَرُ، الله أَكْبَرُ، قال: الله أَكْبَرُ، الله أَكْبَرُ، ثُمَّ قال: لاَ إِلَهَ إِلاَّ الله، قال: لاَ إِلَهَ إِلاَّ الله مِنْ قَلبِهِ دَخَلَ الجَنَّةَ ) (1) .
وقال تعالى: { وَقُلِ الحَمْدُ للهِ الذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي المُلكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً } [الإسراء:111]، وقال: { سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوّاً كَبِيراً } [الإسراء:43]، واسم الله الكبير يدل باللزوم على الحياة والقيومية والقدرة والصمدية وعلو الشأن والقهر والفوقية والسعة والعظمة، وغير ذلك من صفات الكمال، والاسم دل على صفة من صفات الذات .
الدعاء باسم الله الكبير دعاء مسألة .
ورد دعاء المسألة بالاسم المطلق فيما دل عليه مقتضى قوله تعالى في الرد على أهل النار وطلبهم الخروج منها: { ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ } [غافر:12]، فالواجب على الموحدين أن يدعوا الله العلي الكبير الذي له الحكم في الدنيا والآخرة قبل أن يقفوا هذا الموقف الأليم، وهذا الدعاء يشمل دعاء المسألة والعبادة معا .
__________
(1) مسلم في الصلاة، باب استحباب القول مثل قول المؤذن لمن سمعه 1/289 (385) .(2/95)
وورد الدعاء بالوصف الذي تضمنه الاسم عند مسلم من حديث مصعب بن سعد - رضي الله عنه - عن أَبِيهِ أنه قال: ( جَاءَ أعرابي إِلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ علمني كَلاَمًا أَقُولُهُ، قَالَ: قُل لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ اللهُ أَكْبَرُ كَبِيرًا، وَالحَمْدُ للهِ كَثِيرًا، سُبْحَانَ اللهِ رَبِّ العَالَمِينَ لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللهِ العَزِيزِ الحَكِيمِ، قال: فَهَؤُلاَءِ لِرَبِّي فَمَا لي؟ قال: قُلِ اللهُمَّ اغْفِرْ لي وارحمني وَاهْدِنِي وَارْزُقْنِي ) (1)، وروى أيضا من حديث ابن عمر - رضي الله عنه - أنه قال: ( بَيْنَمَا نَحْنُ نُصَلِّي مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذْ قَالَ رَجُلٌ مِنَ القَوْمِ: اللهُ أَكْبَرُ كَبِيرًا وَالحَمْدُ لِلهِ كَثِيرًا وَسُبْحَانَ اللهِ بُكْرَةً وَأَصِيلا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : مَنِ القَائِلُ كَلِمَةَ كَذَا وَكَذَا؟، قَالَ رَجُلٌ مِنَ القَوْمِ: أَنَا يَا رَسُولَ اللهِ، قال: عَجِبْتُ لَهَا، فُتِحَتْ لَهَا أَبْوَابُ السَّمَاءِ، قَالَ ابْنُ عُمَرَ فَمَا تَرَكْتُهُنَّ مُنْذُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ ذَلِكَ ) (2) .
__________
(1) مسلم في الذكر والدعاء والتوبة، باب فضل التهليل والتسبيح والدعاء 4/2072 (2696) .
(2) مسلم في كتاب المساجد، باب ما يقال بين تكبيرة الإحرام والقراءة 1/420 (601) .(2/96)
وعند البخاري من حديث أبي صالح عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال: ( جَاءَ الفُقَرَاءُ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالُوا: ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ - الأغنياء - مِنَ الأَمْوَالِ بِالدَّرَجَاتِ العُلاَ وَالنَّعِيمِ المُقِيمِ يُصَلُّونَ كَمَا نُصَلِّي وَيَصُومُونَ كَمَا نَصُومُ، وَلَهُمْ فَضْلٌ مِنْ أَمْوَالٍ يَحُجُّونَ بِهَا وَيَعْتَمِرُونَ وَيُجَاهِدُونَ وَيَتَصَدَّقُونَ، قال: أَلاَ أُحَدِّثُكُمْ بِأَمْرٍ إِنْ أَخَذْتُمْ بِهِ أَدْرَكْتُمْ مَنْ سَبَقَكُمْ وَلَمْ يُدْرِكْكُمْ أَحَدٌ بَعْدَكُمْ، وَكُنْتُمْ خَيْرَ مَنْ أَنْتُمْ بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِ إِلاَّ مَنْ عَمِلَ مِثْلَهُ، تُسَبِّحُونَ وَتَحْمَدُونَ، وَتُكَبِّرُونَ خَلفَ كُلِّ صَلاَةٍ ثَلاَثًا وَثَلاَثِينَ، فَاخْتَلَفْنَا بَيْنَنَا، فَقَالَ بَعْضُنَا نُسَبِّحُ ثَلاَثًا وَثَلاَثِينَ وَنَحْمَدُ ثَلاَثًا وَثَلاَثِينَ وَنُكَبِّرُ أَرْبَعًا وَثَلاَثِينَ، فَرَجَعْتُ إِلَيْهِ فَقال: تَقُولُ سُبْحَانَ اللهِ وَالحَمْدُ للهِ وَاللهُ أَكْبَرُ حَتَّى يَكُونَ مِنْهُنَّ كُلِّهِنَّ ثَلاَثًا وَثَلاَثِينَ، قَالَ أَبُو صَالِحٍ: فَرَجَعَ فُقَرَاءُ المُهَاجِرِينَ إِلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالُوا: سَمِعَ إِخْوَانُنَا أَهْلُ الأَمْوَالِ بِمَا فَعَلنَا فَفَعَلُوا مِثْلَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ ) (1) .
الدعاء باسم الله الكبير دعاء عبادة .
__________
(1) البخاري في الأذان، باب الذكر بعد الصلاة 1/289 ( 807) .(2/97)
أثر الاسم على سلوك العبد يتجلى في توحيد الله بالعبودية، وأن يخلع عن نفسه أوصاف الربوبية، ولا ينازع ربه أو يتشبه به في الكبرياء والفوقية، فيرى ضآلة نفسه ووصفه مهما بلغت به الرياسة والحاكمية، ولا يغضب لأموره الشخصية، بل يغار إذا انتهكت حرمات الله، ويتقبل النصح من آحاد الرعية، وأن يكون أمينا راعيا على قدر الأمانة والمسئولية، وإذا أخذته العزة بأنه الكبير في أرضه والأمير على بلده يتذكر أن الله - عز وجل - متوحد في اسمه ووصفه؛ وأنه الكبير الذي لم يتخذ ولدا، ولم يكن له شريك في الملك، قال تعالى: { وَقُل الحَمْدُ للهِ الذِي لمْ يَتَّخِذْ وَلداً وَلمْ يَكُنْ لهُ شَرِيكٌ فِي المُلكِ وَلمْ يَكُنْ لهُ وَليٌّ مِنَ الذُّل وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً } [الإسراء:111]، وقال - عز وجل -: { ذَلكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالحُكْمُ للهِ العَليِّ الكَبِيرِ } [غافر:12]، وروى مسلم من حديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( لا يَدْخُل الجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلبِهِ مِثْقَال ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ ) (1) .
__________
(1) مسلم في الإيمان، باب تحريم الكبر وبيانه 1/93 (91) .(2/98)
وممن تسمى بالتعبد لاسم الله الكبير أبو بكر الحنفي البصري عبد الكبير بن عبد المجيد (ت:204هـ)، وقد روى عنه مسلم قال: ( حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ العَبْدِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الكَبِيرِ بْنُ عَبْدِ المَجِيدِ أَبُو بَكْرٍ الحَنَفِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الحَمِيدِ بْنُ جَعْفَرٍ قَال: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الحَكَمِ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِ - صلى الله عليه وسلم - قَال: لاَ تَذْهَبُ الأَيَّامُ وَالليَالي حَتَّى يَمْلكَ رَجُل يُقَال لهُ: الجَهْجَاهُ ) (1) .
********************************
31- الله - جل جلاله - المتَعَالُ
********************************
الدليل على ثبوت الاسم وإحصائه .
ورد اسم الله المتعال في القرآن في موضع واحد على سبيل الإطلاق معرفا مرادا به العلمية ودالا على كمال الوصفية، وذلك في قوله تعالى: { عَالِمُ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الكَبِيرُ المُتَعَالِ } [الرعد:9]، وفي السنة عند أحمد بسند صحيح من حديث عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ - رضي الله عنه - أنه قال: ( قَرَأَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - هَذِهِ الآيَةَ وَهُوَ عَلَى المِنْبَرِ: { وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ } قَالَ - صلى الله عليه وسلم -: ( يَقُولُ اللهُ - عز وجل -: أَنَا الجَبَّارُ أَنَا المُتَكَبِّرُ، أَنَا المَلِكُ أَنَا المُتَعَالِ، يُمَجِّدُ نَفْسَهُ، قَالَ فَجَعَلَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يُرَدِّدُهَا حَتَّى رَجَفَ بِهِ المِنْبَرُ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيَخِرُّ بِهِ ) (2) .
شرح الاسم وتفسير معناه .
__________
(1) مسلم في الفتن وأشراط الساعة، باب لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل فيتمنى أن يكون مكان الميت من البلاء 4/ 2232 (2911) .
(2) مسند أحمد بن حنبل 2/87 (5608) وقال شعيب الأرنؤوط: إسناده صحيح على شرط مسلم .(2/99)
المتعالي اسم فاعل من تعالى، والمتعالي فعله تعالى يتعالى فهو متعال، وهو أبلغ من الفعل علا، لأن الألفاظ لما كانت أدلة المعاني ثم زيد فيها شيء أوجبت زيادة المعنى فزيادة المبنى دليل على زيادة المعنى (1)، والتعالي هو الارتِفاع، قال الأَزهري: ( تقول العرب في النداء للرجل تَعال بفتح اللام، وللاثنين تَعالا، وللرجال تَعالوْا، وللمرأَة تَعالي، وللنساء تَعَاليْنَ، ولا يُبالونَ أَين يكون المدعو في مكان أَعْلى من مكان الداعي أَو مكان دونه ) (2) .
والمتعَالي سبحانه هو القاهرُ لخلقِهِ بقدرتِهِ التَّامَّةِ، وأغلب المفسرين جعلوا الاسم دالا على علو القهر، وهو أحد معاني العلو، فالمتعالي هو المستعلي على كل شيء بقدرته، قال ابن كثير: ( المتعال على كل شيء قد أحاط بكل شيء علما وقهر كل شيء فخضعت له الرقاب ودان له العباد طوعا وكرها ) (3) ، وقال أيضا: ( وهو الكبير المتعال، فكل شيء تحت قهره وسلطانه وعظمته، لا إله إلا هو، ولا رب سواه لأنه العظيم الذي لا أعظم منه ) (4) .
__________
(1) الخصائص لأبي الفتح عثمان بن جني 3/ 268 .
(2) لسان العرب 15/90، ومفردات ألفاظ القرآن ص 582، واشتقاق أسماء الله للزجاج ص162.
(3) تفسير القرآن العظيم 2/504 .
(4) السابق 3/ 233 .(2/100)
فالمتعالي سبحانه هو الذي ليس فوقه شيء في قهره وقوته، فلا غالب له ولا منازع بل كل شيء تحت قهره وسلطانه، قال تعالى: { وَهُوَ القَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الحَكِيمُ الخَبِيرُ } [الأنعام:18]، وقد جمع الله في هذه الآية بين علو الذات وعلو القهر، وكذلك قوله تعالى: { وَهُوَ القَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً } [الأنعام:61]، فاجتماع علو القهر مع علو الفوقية يعني أنه الملك من فوق عرشه الذي علا بذاته فوق كل شيء والذي قهر كل شيء، وخضع لجلاله كل شيء، وذل لعظمته وكبريائه كل شيء (1) .
دلالة الاسم على أوصاف الله .
__________
(1) انظر في معنى الاسم شرح أسماء الله الحسنى للرازي ص335، والأسماء والصفات للبيهقي ص64 .(2/101)
اسم الله المتعال يدل على ذات الله وعلى علو القهر بدلالة المطابقة، وعلى أحدهما بالتضمن، قال تعالى: { مَا اتَّخَذَ الله مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ الله عَمَّا يَصِفُون } [المؤمنون:91]، وقد ذكر ابن القيم في الآية أن الإله الحق لا بد أن يكون خالقا فاعلا، يوصل إلى عابده النفع ويدفع عنه الضر، فلو كان معه سبحانه إله لكان له خلق وفعل، وحينئذ فلا يرضى بشركة الإله الآخر معه، بل إن قدر على قهره وتفرده بالإلهية دونه فعل، وإن لم يقدر على ذلك انفرد بخلقه وذهب به كما ينفرد ملوك الدنيا عن بعضهم بعضا بممالكهم، إذا لم يقدر المنفرد على قهر الآخر والعلو عليه فلا بد من أحد أمور ثلاثة: إما أن يذهب كل إله بخلقه وسلطانه، وإما أن يعلو بعضهم على بعض، وإما أن يكون كلهم تحت قهر إله واحد وملك واحد يتصرف فيهم ولا يتصرفون فيه، ويمتنع من حكمهم عليه، ولا يمتنعون من حكمه عليهم، فيكون وحده هو الإله الحق وهم العبيد المربوبون المقهورون (1) .
واسم الله المتعال يدل باللزوم على الحياة والقيومية والأحدية والصمدية والعزة والكبرياء والهيمنة والجبروت، وغير ذلك من أوصاف الكمال، واسم الله المتعال دل على صفة من صفات الذات والأفعال .
الدعاء باسم الله المتعال دعاء مسألة .
__________
(1) الصواعق المرسلة 2/464، وانظر حز الغلاصم في إفحام المخاصم ص31، وشرح الطحاوية ص79 .(2/102)
لم أجد دليلا في دعاء المسألة بالاسم، ويمكن الدعاء بالمعنى فالمتعَالي سبحانه هو القاهرُ لخلقِهِ بقدرتِهِ التَّامَّةِ الذي ليس فوقه شيء في قهره وقوته، فلا غالب له ولا منازع، وكل شيء تحت سلطانه وعظمته، وقد دعا موسى - عليه السلام - فقال: { إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الحِسَاب } [غافر:27]، وعند أبي داود وصححه الشيخ الألباني من حديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا خاف قوما قال: ( اللهمَّ إِنَّا نَجْعَلُكَ فِي نُحُورِهِمْ وَنَعُوذُ بِكَ مِنْ شُرُورِهِمْ ) (1) .
وعند ابن ماجة وصححه الألباني من حديث ابن عمر - رضي الله عنه - أنه قال: لم يكن الله - صلى الله عليه وسلم - يدع هؤلاء الدعوات حين يمسي وحين يصبح: ( اللهمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ العَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، اللهمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ العَفْوَ وَالعَافِيَةَ فِي دِينِي وَدُنْيَاي وَأَهْلِي وَمَالِي، اللهمَّ اسْتُرْ عَوْرَاتِي وَآمِنْ رَوْعَاتِي، اللهمَّ احْفَظْنِي مِنْ بَيْنِ يَدَي وَمِنْ خَلفِي، وَعَنْ يَمِينِي وَعَنْ شِمَالِي وَمِنْ فَوْقِي، وَأَعُوذُ بِعَظَمَتِكَ أَنْ أُغْتَالَ مِنْ تَحْتِي ) (2) .
والمسلم يذكر هذا الاسم في دعائه بما يناسب حاجته ومطلوبه، كأن يدعو به لطلب العزة إن كان ذليلا مقهورا، وأن يفرج الله كربه إن كان مظلوما .
الدعاء باسم الله المتعال دعاء عبادة .
__________
(1) أبو داود في الصلاة، باب ما يقول إذا خاف قوما 2/89 ( 1537)، صحيح الجامع (4706) .
(2) أبو داود في كتاب الأدب، باب ما يقول إذا أصبح 4/318 (5074)، صحيح الجامع (1274) .(2/103)
دعاء العبادة هو مظهر يخضع فيه العبد الفقير لربه المتعال، فهو لله ذليل خاضع وفي جناب عزه مسكين متواضع، لعلمه أن المتعال لا يدفعه عن مراده دافع، وليس له شريك ولا منازع، هو القادر الذي بهر أبصار الخلائق جلاله وبهاؤه، وحصر ألسن الأنبياء وصفه وثناؤه، وارتفع عن حد قدرتهم إحصاؤه واستقصاؤه، فالعظمة إزاره والكبرياء رداؤه، ومن نازعه فيهما قصمه بداء الموت فأعجزه دواؤه، جل جلاله وتقدست أسماؤه (1)، فوجب على الموحد لله في اسمه المتعال ألا يخلع عن نفسه رداء العبودية لينازع ربه في علو القهر والشأن والفوقية أو يشاركه في العلو والكبرياء وعظمة الأوصاف والأسماء، فالكبرياء والعظمة والعلو والعزة كل ذلك لا يليق إلا بالمتوحد المتعال، أما العبد المملوك الضعيف العاجز الذي لا يقدر على شيء فمن أين يليق بحاله التعالي؟ .
وممن تسمى بالتعبد للاسم عبد المتعال بن طالب الأنصاري شيخ ثقة (2)، روى عنه البخاري قال: ( حَدَّثَنَا عَبْدُ المُتَعَال بْنُ طَالبٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَال: أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الحَارِثِ أَنَّ قَتَادَةَ حَدَّثَهُ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالكٍ - رضي الله عنه - أَنَّ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - صَلى الظُّهْرَ وَالعَصْرَ وَالمَغْرِبَ وَالعِشَاءَ، وَرَقَدَ رَقْدَةً بِالمُحَصَّبِ ثُمَّ رَكِبَ إِلى البَيْتِ فَطَافَ بِهِ ) (3) .
********************************
32- الله - جل جلاله - الواحد
********************************
الدليل على ثبوت الاسم وإحصائه .
__________
(1) إحياء علوم الدين 3/336 بتصرف .
(2) تهذيب التهذيب 6/380 .
(3) البخاري في الحج، باب من صلى العصر يوم النفر بالأبطح2/626 (1675) .(2/104)
ورد اسم الله الواحد معرفا بالألف واللام ومنونا، مطلقا يفيد المدح والثناء على الله بنفسه كما ورد ذلك في قوله تعالى: { يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا للهِ الوَاحِدِ القَهَّار } [إبراهيم:48]، وقال تعالى: { إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ } [النحل:22]، وقوله: { قُل اللهُ خَالقُ كُل شَيْءٍ وَهُوَ الوَاحِدُ القَهَّار } [الرعد:16]، ودائما ما يقترن اسم الله الواحد باسمه القهار لأن علو القهر من لوازم الوحدانية، كما قال تعالى: { لوْ أَرَادَ اللهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلداً لاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللهُ الوَاحِدُ القَهَّار } [الزمر:4] .
والاسم في هذه المواضع وغيرها مراد به العلمية ودال على كمال الوصفية، وعند النسائي وصححه الألباني من حديث حَنْظَلة بْن عَلِيٍّ أَنَّ مِحْجَنَ بْنَ الأَدْرَعِ - رضي الله عنه - حَدَّثَهُ: ( أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - دَخَلَ المَسْجِدَ إذَا رَجُلٌ قَدْ قَضَى صَلاَتَهُ وَهُوَ يَتَشَهَّدُ فَقَال: اللهُمَّ إنِّي أَسْأَلُكَ يَا أَللهُ بِأَنَّكَ الوَاحِدُ الأَحَدُ الصَّمَدُ الذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ أَنْ تَغْفِرَ لِي ذُنُوبِي إنَّكَ أَنْتَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : قَدْ غُفِرَ لَهُ ثَلاَثاً ) (1) .
__________
(1) النسائي في السهو، باب الدعاء بعد الذكر1/386 (1224)، صحيح أبي داود 2/185(869) .(2/105)
وروى البخاري من حديث أَبي سعيد - رضي الله عنه - أنه قال: ( قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - لأَصْحَابِهِ: أَيَعْجِزُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَقْرَأَ ثُلُثَ الْقُرْآنِ فِي لَيْلَةٍ، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ وَقَالُوا: أَيُّنَا يُطِيقُ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللهِ فَقال: اللهُ الْوَاحِدُ الصَّمَدُ ثُلُثُ الْقُرْآنِ ) (1)، وعند مسلم وأحمد من حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت: ( قُلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ: إِذَا بُدِّلَتِ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ أَيْنَ النَّاسُ يَوْمَئِذٍ؟ قال: عَلَى الصِّرَاطِ ) (2) .
شرح الاسم وتفسير معناه .
الواحد في اللغة اسم فاعل للموصوف بالواحدية أو الوحدانية، فعله وحد يوحد وحادة وتوحيدا، ووحده توحيدا جعله واحدا، والواحدُ أَول عدد الحساب، وهو يدل على الإثبات، فلو قيل في الدار واحد لكان فيه إثبات واحد منفرد مع إثبات ما فوق الواحد مجتمعين ومفترقين (3) .
والواحد سبحانه هو القائم بنفسه المنفرد بوصفه الذي لا يفتقر إلى غيره أزَلا وأبَدا وهو الكامل في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله، فهو سبحانه كان ولا شيء معه، ولا شيء قبله، ومازال بأسمائه وصفاته واحد أولا قبل خلقه، فوجود المخلوقات لم يزده كمالا كان مفقودا أو يزيل نقصا كان موجودا، فالوحدانية قائمة على معنى الغنى بالنفس والانفراد بكمال الوصف، قال ابن الأَثير: ( الواحد في أَسماء الله تعالى هو الفرد الذي لم يزل وحده ولم يكن معه آخر ) (4) .
__________
(1) البخاري في كتاب فضائل القرآن، باب فضل قل هو الله أحد 4/1916(4727) .
(2) مسلم في كتاب صفة القيامة والجنة والنار، باب في البعث والنشور وصفة الأرض يوم القيامة 4/2150 (2791)، ومسند أحمد 6/35 (24115) واللفظ له .
(3) لسان العرب 3/446 .
(4) القاموس المحيط للفيروز آبادي ص414، المفردات ص66 .(2/106)
روى البخاري من حديث عمران - رضي الله عنه - أنه قال: ( إني عندَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - إذ جاءهُ قومٌ من بني تميم، فقال: اقبَلوا البُشرى يا بنِي تميم، قالوا: بشَّرْتنا فأعطِنا، فدخلَ ناسٌ من أهل اليمن فقال: اقبلوا البُشرَى يا أهل اليمن إذ لم يقبلها بنو تميم، قالوا: قبلنا جئناك لنتفقه في الدِّين، ولنسألك عن أولِ هذا الأمر ما كان؟ قال: كان اللهَ ولم يكن شيء قبلهُ وكان عرشه على الماء ثم خلقَ السماواتِ والأرضَ وكتب في الذكر كل شيء ) (1) .
وقال تعالى: { مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلا خَلقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ المُضِلِّينَ عَضُداً } [الكهف:51]، فهو سبحانه وحده الذي خلق الخلق بلا معين ولا ظهير، ولا وزير ولا مشير، ومن ثم فإنه وحده المنفرد بالملك، وليس لأحد في ملكه شرك كما قال تعالى: { قُلِ ادْعُوا الذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ } [سبأ:22] .
__________
(1) البخاري في بدء الخلق، باب ما جاء في قوله: ( وَهُوَ الَّذِي يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُه ) 3/1166 (3019) .(2/107)
ومن الأدلة العقلية في إثبات وحدانية الإله وتفرده بالربوبية دليل التمانع الذي أشار إليه ابن القيم فيما سبق، وملخصه أنا لو قدرنا وجود إلهين اثنين وفرضنا أمرين متضادين وقدرنا إرادة أحدهما لأحد الضدين، وإرادة الثاني للثاني فلا يخلو من أمور ثلاثة، إما أن تنفذ إرادتهما أو لا تنفذ أو تنفذ إرادة أحدهما دون الآخر، ولما استحال أن تنفذ إرادتهما لاستحالة اجتماع الضدين، واستحال أيضا ألا تنفذ إرادتهما لتمانع الإلهين، وخلو المحل عن كِلا الضدين فإن الضرورة تقتضي أن تنفذ إرادة أحدهما دون الآخر، فالذي لا تنفذ إرادته هو المغلوب المقهور المستكره، والذي نفذت إرادته هو الإله المنفرد الواحد القادر على تحصيل ما يشاء، قال تعالى: { مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ } [المؤمنون:91] .(2/108)
ومن ثم لا يجوز أن يكون في السماوات والأرض آلهة متعددة، بل لا يكون الإله إلا واحدا وهو الله - عز وجل -، ولا صلاح لهما بغير الوحدانية، فلو كان للعالم إلهان ربان معبودان لفسد نظامه واختلت أركانه، قال تعالى: { لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلا اللهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ } [الأنبياء:22]، فأساس قيام الخلق وبقاء السماوات والأرض وحدانية الله وانفراده عمن سواه قال تعالى: { إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً } [فاطر:41]، وقال أيضا: { وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إِلا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَءوفٌ رَحِيمٌ } [الحج:65] (1) .
دلالة الاسم على أوصاف الله .
__________
(1) انظر في هذه القضية: دقائق التفسير الجامع لتفسير شيخ الإسلام ابن تيمية 2 /364، واقتضاء الصراط المستقيم لابن تيمية 1 /459، كتاب المواقف لعضد الدين الإيجي 3/306، ولمع الأدلة في قواعد أهل السنة والجماعة ص99، والغنية في أصول الدين ص67، وشرح العقيدة الطحاوية ص 87.(2/109)
اسم الله الواحد يدل على ذات الله وعلى صفة الوحدانية بدلالة المطابقة، وعلى ذات الله وحدها بالتضمن، وعلى الصفة وحدها بالتضمن، ويدل باللزوم على الحياة والقيومية والسمع والبصر والعلم والمشيئة والقدرة والغنى والقوة والعلو والقهر والعظمة والهيمنة والكبرياء والعزة، وغير ذلك من أوصاف الكمال، وقد اقترن اسم الله الواحد باسمه القهار فقال: { قُل اللهُ خَالقُ كُل شَيْءٍ وَهُوَ الوَاحِدُ القَهَّار } [الرعد:16]، وذلك لأن معاني العلو من لوازم الوحدانية، فالذي علا بذاته وارتفع ارتفاعا مطلقا فوق الكل ينفرد بالوحدانية والعلو والعظمة والمجد بدلالة اللزوم، والله - عز وجل - من جهة علو الفوقية متوحد في علوه، مستو على عرشه بائن من خلقه، لا شيء من ذاته في خلقه ولا خلقه في شيء من ذاته، يعلم أعمالهم ويسمع أقوالهم ويرى أفعالهم ولا تخفى عليه منهم خافية، ومن جهة علو الشأن منفرد بكل معاني الكمال متوحد منزه عن النقائص والعيوب التي تنافي معاني الألوهية والربوبية، فتعالى في أحديته عن الشريك والظهير والولي والنصير، وتعالى في صمديته عن الصاحبة والولد وأن يكون له كفوا أحد، وتعالى في كمال حياته وقوميته ومشيئته وقدرته، وتعالى في كمال حكمته وحجته، وتعالى في كمال علمه عن الغفلة والنسيان، وعن ترك الخلق سدى دون غاية لخلق الجن والإنسان، ومن جهة علو القهر فقد تقدم تفصيل ذلك عند الحديث عن اسم الله المتعال، واسم الله الواحد دل على صفة من صفات الذات .
الدعاء باسم الله الواحد دعاء مسألة .(2/110)
ورد دعاء المسألة بالاسم المطلق في مقتضى قوله تعالى: { قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدا } [الكهف:110]، والشاهد أن الرجاء دعاء وهو لازم لمن أراد المعبود الواحد، وكذلك قوله - عز وجل -: { قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ } [فصلت:6] .
وقد تقدم حديث محجن بن الأدرع عند النسائي وصححه الألباني في دعاء الصحابي الذي قال: ( اللهُمَّ إنِّي أَسْأَلُكَ يَا أَللهُ بِأَنَّكَ الوَاحِدُ الأَحَدُ الصَّمَدُ الذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ أَنْ تَغْفِرَ لِي ذُنُوبِي إنَّكَ أَنْتَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : قَدْ غُفِرَ لَهُ ثَلاَثاً ) (1)، وورد عند ابن حبان وصححه الألباني من حديث عن عائشة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا تضور من الليل قال: ( لا إله إلا الله الواحد القهار، رب السماوات والأرض وما بينهما العزيز الغفار ) (2) .
__________
(1) النسائي في السهو، باب الدعاء بعد الذكر 1/386 (1224)، صحيح أبي داود 2/185(869) .
(2) ابن حبان 12/340 (5530)، صحيح الجامع (4693) .(2/111)
وورد الدعاء بالوصف عند البخاري من حديث المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول في دبر كل صلاة إذا سلم: ( لاَ إِلَهَ إِلاَّ الله وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلكُ وَلَهُ الحَمْدُ وَهْوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، اللهمَّ لاَ مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ وَلاَ مُعْطِي لِمَا مَنَعْتَ وَلاَ يَنْفَعُ ذَا الجَدِّ مِنْكَ الجَدُّ ) (1) .
الدعاء باسم الله الواحد دعاء عبادة .
أثر الاسم في على العبد يظهر في اعتقاده وسلوكه، فأكبر همه الدعوة إلي توحيد الواحد، مبتدأ بأمر نبيه - صلى الله عليه وسلم - في توحيد الله قبل كل شيء، روي البخاري من حديث ابن عباس - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما بعث معاذ بن جبل - رضي الله عنه - نحو اليمن قال له: ( إِنَّكَ تَقْدَمُ عَلى قَوْمٍ مِنْ أَهْل الكِتَابِ فَليَكُنْ أَوَّل مَا تَدْعُوهُمْ إِلى أَنْ يُوَحِّدُوا اللهَ تعالى ) (2) .
__________
(1) البخاري في الدعوات، باب الدعاء بعد الصلاة، 5/2332 ( 5971) .
(2) البخاري في التوحيد، باب لا تؤخذ كرائم أموال الناس في الصدقة 2/529 (1389) .(2/112)
ومن وحد الله - عز وجل - في اسمه الواحد تجلى توحيده في كل قول له أو فعل، فيكثر من ترديد الشهادة والذكر عملا بما ورد عند البخاري من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: ( مَنْ قَال لاَ إِلهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لهُ، لهُ المُلكُ وَلهُ الحَمْدُ وَهْوَ عَلى كُل شَيْءٍ قَدِيرٌ فِي يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ، كَانَتْ لهُ عَدْل عَشْرِ رِقَابٍ وَكُتِبَ لهُ مِائَةُ حَسَنَةٍ وَمُحِيَتْ عَنْهُ مِائَةُ سَيِّئَةٍ، وَكَانَتْ لهُ حِرْزًا مِنَ الشَّيْطَانِ يَوْمَهُ ذَلكَ حَتَّى يُمْسِي، وَلمْ يَأْتِ أَحَدٌ بِأَفْضَل مِمَّا جَاءَ بِهِ إِلاَّ رَجُل عَمِل أَكْثَرَ مِنْهُ ) (1) .
وكذلك يكون ثابتا في الحق لا يخاف في الله لومة لائم، اعتقادا منه أن أموره ترجع إلى الله - عز وجل - وحده لا شريك له، فيتوكل عليه ويلجأ إليه، ويستعين به ويعتمد عليه، قال تعالى: { قُل إِنِّي لنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللهِ أَحَدٌ وَلنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلتَحَدا } [الجن:22]، فالله - عز وجل - هو المنفرد بالوحدانية وعلو القهر، وله كمال القدرة والحكم والأمر، فمن وحد الله في هذا الاسم أدرك الغاية من خلقه وأحسن التوكل على ربه، ولا يضره إعراض الخلق ثقة في وعد الله تعالى كما قال لنبيه - صلى الله عليه وسلم - : { فَإِنْ تَوَلوْا فَقُل حَسْبِيَ اللهُ لا إِلهَ إِلا هُوَ عَليْهِ تَوَكَّلتُ وَهُوَ رَبُّ العَرْشِ العَظِيم } [التوبة:129] .
__________
(1) البخاري في الدعوات، باب فضل التهليل5/2351 (6040) .(2/113)
أما من تسمى بالتعبد لاسم الله الواحد فكثير، منهم عبد الواحد بن زياد العبدي بصري ثقة حسن الحديث (ت:176هـ) (1)، روى عنه البخاري الكثير، ومن ذلك حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: ( كَانَ رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَسْكُتُ بَيْنَ التَّكْبِيرِ وَبَيْنَ القِرَاءَةِ إِسْكَاتَةً فَقُلتُ: بِأَبِي وَأُمِّي يَا رَسُول اللهِ، إِسْكَاتُكَ بَيْنَ التَّكْبِيرِ وَالقِرَاءَةِ مَا تَقُول؟ قَال أَقُول: اللهُمَّ بَاعِدْ بَيْنِي وَبَيْنَ خَطَايَايَ كَمَا بَاعَدْتَ بَيْنَ المَشْرِقِ وَالمَغْرِبِ، اللهُمَّ نَقِّنِي مِنَ الخَطَايَا كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الأَبْيَضُ مِنَ الدَّنَسِ، اللهُمَّ اغْسِل خَطَايَايَ بِالمَاءِ وَالثَّلجِ ) (2) .
********************************
33- الله - جل جلاله - القَهَّارُ
********************************
الدليل على ثبوت الاسم وإحصائه .
سمى الله - عز وجل - نفسه القهار على سبيل الإطلاق مرادا به العلمية ودالا على كمال الوصفية في كثير من النصوص القرآنية، كما في قوله تعالى: { يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ } [يوسف:39]، وقوله: { قُلِ اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ } [الرعد:16] .
__________
(1) معرفة الثقات لأبي الحسن الكوفي 2/107.
(2) البخاري في الأذان، باب ما يقول بعد التكبير 1/259 (710) .(2/114)
أما عن ورود الاسم في السنة فقد تقدم في الاسم السابق حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت: ( قُلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ: إِذَا بُدِّلَتِ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ أَيْنَ النَّاسُ يَوْمَئِذٍ؟ قال: عَلَى الصِّرَاطِ ) (1)، وورد أيضا في الجامع الصغير وصححه الشيخ الألباني من حديثها رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا تضور من الليل قال: ( لا إله إلا الله الواحد القهار، رب السماوات والأرض وما بينهما العزيز الغفار ) (2) .
شرح الاسم وتفسير معناه .
القهار صيغة مبالغة، فعال من اسم الفاعل القاهر، والفرق بين القاهر والقهار أن القاهر هو الذي له علو القهر الكلي المطلق باعتبار جميع المخلوقات وعلى اختلاف تنوعهم فهو قاهر فوق عباده، له علو القهر مقترنا بعلو الشأن والفوقية، فلا يقوى ملك من الملوك أن ينازعه في علوه مهما تمادى في سلطانه وظلمه وإلا قهره القاهر، ومعلوم أن المقهور يحتمي من ملك بملك ويخرج بخوفه من سلطان أحدهما ليتقوى بالآخر، لكن الملوك جميعا إذا كان فوقهم ملك قاهر قادر فإلى من يخرجون وإلى جوار من يلجئون؟ .
__________
(1) انظر ص381 .
(2) تقدم تخريجه عند ابن حبان ص384، وانظر الجامع الصغير للسيوطي 1/107 (146)، وانظر أيضا السلسلة الصحيحة 5/98 (2066)، ومعنى تضور أي تقلب وتلوى من شدة الألم .(2/115)
قال تعالى: { قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } [المؤمنون:88]، وعند البخاري من حديث البراء بن عازب - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( اللهُمَّ أَسْلَمْتُ وَجْهِي إِلَيْكَ، وَفَوَّضْتُ أَمْرِي إِلَيْكَ، وَأَلْجَأْتُ ظَهْرِي إِلَيْكَ رَغْبَةً وَرَهْبَةً إِلَيْكَ، لاَ مَلْجَأَ وَلاَ مَنْجَا مِنْكَ إِلاَّ إِلَيْكَ ) (1)، فلا ملجأ ولا منجا من الله إلا إليه، فالقاهر هو الذي له علو القهر الكلي المطلق .
أما القهار فهو الذي له علو القهر باعتبار الكثرة والتعيين في الجزء، أو باعتبار نوعية المقهور، فالله - عز وجل - أهلك قوم نوح وقهرهم، وقهر قوم هود وثمود، وقهر فرعون وهامان والنمرود، قال تعالى: { وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً الأُولَى وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى وَقَوْمَ نُوح مِّن قبْل إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أظلمَ وَأطغَى وَالمؤْتَفِكة أهْوَى فغَشَّاهَا مَا غشَّى فبِأيِّ آلاء رَبِّكَ تَتَمَارَى هَذا نَذِيرٌ مِّنَ النُّذرِ الأولَى } [النجم:56:50]، وقهر أيضا قوم لوط، وقهر أبا جهل والمشركين وقهر الفرس والصليبيين، والله سبحانه قهار لكل متكبر جبار، والدنيا فيها المتكبرون وما أكثرهم وفيها المجرمون، والمستضعفون كثيرون عاجزون يفتقرون إلى معين قهار وملك قادر جبار، فالواحد القهار هو ملجأهم، وهو بالمرصاد لكل متكبر جبار قال - عز وجل -: { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَاد إِرَمَ ذَاتِ العِمَادِ التِي لَمْ يُخْلقْ مِثلهَا فِي البِلادِ وَثمودَ الذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالوَادِ وَفِرْعَوْنَ ذي الأوْتَادِ الذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ فَأَكثرُوا فِيهَا الفَسَادَ فَصَبَّ عَليْهِمْ رَبكَ سَوْطَ عَذَابٍ إِن رَبَّكَ لَبِالمِرْصَادِ } [الفجر:6/13] .
__________
(1) البخاري في كتاب الوضوء، باب فضل من بات على الوضوء 1/97 (244) .(2/116)
ومن ثم فإن القهار هو كثير القهر للظالمين، وقهره عظيم أليم، يقصم ظهر الجبابرة من أعدائه فيقهرهم بالإماتة والإذلال، ويقهر من نازعه في ألوهيته وعبادته، وربوبيته وحاكميته وأسمائه وصفاته (1) .
دلالة الاسم على أوصاف الله .
اسم الله القهار يدل على ذات الله وعلى صفة القهر بدلالة المطابقة، وعلى أحدهما بالتضمن، ويدل باللزوم على الحياة والقيومية والعلم الأحدية والقدرة والصمدية والغنى والعزة والكبرياء والقوة، وغير ذلك من صفات الكمال، واسم الله القهار دل على صفة من صفات الأفعال، قال ابن قيم الجوزية عن دلالة اللزوم:
وكذلك القهار من أوصافه : فالخلق مقهورون بالسلطان
لو لم يكن حيا عزيزا قادرا : ما كان من قهر ولا سلطان (2) .
الدعاء باسم الله القهار دعاء مسألة .
ورد دعاء المسألة بالاسم المطلق في الحديث الذي تقدم عن عائشة رضي الله عنها في دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا تضور من الليل قال: ( لا إله إلا الله الواحد القهار رب السماوات والأرض وما بينهما العزيز الغفار ) (3) .
وقال تعالى عن يوسف - عليه السلام -: { يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ } [يوسف:39]، وهو استفهام تقريري يدل على دعاء المسألة والعبادة معا أراد به يوسف - عليه السلام - دعاء الله وحده لا شريك له وعبادته وخلع ما سواه من الأوثان التي يعبدها قومهما، فهل دعاء الذي ذل كل شيء لعز جلاله وعظمة سلطانه خير أم التي يعبدونها ويسمونها آلهة من تلقاء أنفسهم والتي تلقاها خلفهم عن سلفهم؟ (4) .
الدعاء باسم الله القهار دعاء عبادة .
__________
(1) انظر المقصد الأسنى ص77، وشرح أسماء الله للرازي ص229، والأسماء والصفات للبيهقي ص82 .
(2) شرح قصيدة ابن القيم 2/232 .
(3) انظر ص381 .
(4) تفسير ابن كثير 2/480 بتصرف .(2/117)
دعاء العبادة بالاسم هو قهر النفس بالاستغفار والتوبة، وقهر وسواس الشيطان بالاستعاذة، وقهر الشبهة والجهل باليقين ونور العلم، وقهر كل ظالم جبار بالاستعاذة بالله الواحد القهار، قال تعالى: { وَقَال المَلأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ ليُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلهَتَكَ قَال سَنُقَتِّل أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُون قَال مُوسَى لقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ للهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالعَاقِبَةُ للمُتَّقِينَ } [الأعراف:128] .
ومن دعاء العبادة أيضا أن يلين المسلم للفقراء والمستضعفين ويحنوا على اليتامى والمساكين، ويعفو عند المقدرة عن المسيئين، قال - عز وجل -: { فَأما اليَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ وَأَمَّا السَّائِل فَلا تَنْهَرْ } [الضحى:10] .
وروى الإمام أحمد وقال الشيخ الألباني: صحيح لغيره من حديث عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( ثَلاَثٌ وَالذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ إِنْ كُنْتُ لحَالفاً عَليْهِنَّ، لاَ يَنْقُصُ مَال مِنْ صَدَقَةٍ فَتَصَدَّقُوا، وَلاَ يَعْفُو عَبْدٌ عَنْ مَظْلمَةٍ يَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللهِ إِلاَّ رَفَعَهُ اللهُ بِهَا عِزًّا يَوْمَ القِيَامَةِ، وَلاَ يَفْتَحُ عَبْدٌ بَابَ مَسْأَلةٍ إِلاَّ فَتَحَ اللهُ عَليْهِ بَابَ فَقْرٍ ) (1) .
أما التسمي بالتعبد لاسم الله القهار، فقد تسمى بع عبد القهار بن سعيد بن يحيي الأموي من أهل دانية سمع من أبي عمرو المقرئ سنة عشرين وأربع مائة (2) .
********************************
34- الله - جل جلاله - الحَقُ
********************************
__________
(1) أحمد في المسند 1/193(1674)، صحيح الترغيب والترهيب (814) .
(2) التكملة لكتاب الصلة لأبي بكر القضاعي 4/113، وانظر الكنى للبخاري ص53، 215 .(2/118)
الدليل على ثبوت الاسم وإحصائه .
اسم الله الحق ورد في القرآن والسنة مطلقا معرفا محمولا عليه المعنى مسندا إليه مرادا به العلمية ودالا على كمال الوصفية، كما جاء في قوله تعالى: { فَتَعَالَى اللهُ المَلِكُ الحَقُّ لا إِلَهَ إِلا هُوَ رَبُّ العَرْشِ الكَرِيم } [المؤمنون:116]، وقوله: { ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الحَقِّ أَلا لَهُ الحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الحَاسِبِينَ } [الأنعام:62]، وقوله - عز وجل -: { ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي المَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير } [الحج:6]، وفي الصحيحين من حديث عبد الله بن عباس - رضي الله عنه - في دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - إِذَا قَامَ إِلَى الصَّلاَةِ مِنْ جَوْفِ الليْلِ قال: ( أَنْتَ الحَقُّ، وَوَعْدُكَ الحَقُّ، وَقَوْلُكَ الحَقُّ، وَلِقَاؤُكَ حَقٌّ، وَالجَنَّةُ حَقٌّ وَالنَّارُ حَقٌّ، وَالسَّاعَةُ حَقٌّ .. الحديث ) (1) .
شرح الاسم وتفسير معناه .
__________
(1) البخاري في كتاب الدعوات، باب الدعاء إذا انتبه بالليل 5/2328 (5958)، ومسلم في كتاب صلاة المسافرين 1/532 (769)، واللفظ لمسلم .(2/119)
الحق في اللغة اسم فاعل، فعله حَقَّ يَحِق حقا، يقال: حققت الشيء أحقه حقا إذا تيقنت كونه ووجوده ومطابقته للحقيقة، والحق بمعنى المطابقة والموافقة والثبات وعدم الزوال، وكذلك بمعنى العدل خلاف الباطل والظلم، والحق يقال للاعتقاد في الشيء المطابق لما عليه في الحقيقة، كقولك: اعتقد أن البعث والثواب والعقاب والجنة والنار حق (1)، والحق له استعمالات كثيرة في القرآن، منها الإسلام والعدل والحكمة والصدق والوحي والقرآن والحقيقة، ومنها أيضا الحساب والجزاء كقوله: { يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللهُ دِينَهُمُ الحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ هُوَ الحَقُّ المُبِينُ } [النور:25] .
والحق سبحانه هو المتصف بالوجود الدائم والحياة والقيومية والبقاء، فلا يلحقه زوال أو فناء، وكل أوصاف الحق كاملة جامعة للكمال والجمال والعظمة والجلال، قال تعالى: { ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ } [الحج:62]، والحق - عز وجل - هو الذي يحق الحق بكلماته، ويقول الحق، وإذا وعد فوعده الحق، ودينه حق، وكتابه حق، وما أخبر عنه حق، وما أمر به حق كما قال: { وَيُحِقُّ الله الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ } [يونس:82]، وقال: { وَهُوَ الذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ } [الأنعام:73]، وقال تعالى: { يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللهُ دِينَهُمُ الحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ هُوَ الحَقُّ المُبِينُ } [النور:25] (2) .
__________
(1) لسان العرب 10/49، والنهاية في غريب الحديث 1/413، واشتقاق أسماء الله ص178، ومعجم مقاييس اللغة 2/15، ومفردات ألفاظ القرآن ص 246.
(2) انظر المقصد الأسنى ص112، والأسماء والصفات للبيهقي ص26 .(2/120)
دلالة الاسم على أوصاف الله .
الاسم يدل على ذات الله وعلى صفة الحق بدلالة المطابقة، وعلى ذات الله وحدها بالتضمن، وعلى الصفة وحدها بالتضمن، قال تعالى: { وَيَمْحُ الله البَاطِلَ وَيُحِقُّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ } [الشورى:24]، فالحق سبحانه هو الذي يحق الحق بكلماته، واسم الله الحق يدل باللزوم على الحياة والقيومية والسمع والبصر والعلم والخبرة والعزة والقدرة والمشيئة والحكمة والعدل والقوة والكبرياء والعظمة، وغير ذلك من صفات الكمال .
ولذلك لما ذكر الله اسمه الحق ذكر من لوازم ذلك العلو والكبرياء والقدرة، فقال تعالى: { ذَلِكَ بِأَنَّ الله هُوَ الحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ البَاطِلُ وَأَنَّ الله هُوَ العَلِيُّ الكَبِيرُ } [الحج:62]، وقال: { ذَلِكَ بِأَنَّ الله هُوَ الحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي المَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [الحج:6]، ولما ذكر فعله المبني على الحق ذكر من لوازم ذلك انتفاء الظلم واتصافه بكمال العدل والعزة: { أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلقٍ جَدِيدٍ وَمَا ذَلِكَ عَلَى الله بِعَزِيزٍ } [إبراهيم:20]، وقال - عز وجل -: { وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ } [الزمر:69]، وقال: { وَخَلَقَ الله السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ } [الجاثية:22]، واسم الله الحق دل على وصف ذات وفعل معا، فباعتبار أن الحق وصف لازم له يستحيل وصفه بضده فهو وصف ذات، وباعتبار إحقاقه الحق وتعلقه بالممكنات فهو وصف فعل .
الدعاء باسم الله الحق دعاء مسألة .(2/121)
وورد دعاء المسألة بالاسم المطلق في حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إِذَا قام من الليل يتهجد قال: ( اللهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ قَيِّمُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَلَكَ الْحَمْدُ، لَكَ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَلَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ، وَلَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ الْحَقُّ .. الحديث ) (1) .
ومن دعاء المسألة بمقتضى الاسم في قوله تعالى: { قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ المُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ } [الأنبياء:112]، وقوله تعالى عن دعاء شعيب - عليه السلام - وقومه: { رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الفَاتِحِينَ } [الأعراف:89]، وعند مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت: كان نبي الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قام من الليل افتتح صلاته: ( اللهمَّ رَبَّ جِبْرَائِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَإِسْرَافِيلَ، فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ عَالِمَ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ، اهْدِنِي لِمَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِنَ الحَقِّ بِإِذْنِكَ، إِنَّكَ تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ) (2) .
الدعاء باسم الله الحق دعاء عبادة .
__________
(1) تقدم تخريجه ص 389 .
(2) مسلم في صلاة المسافرين وقصرها، باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه 1/534 (770) .(2/122)
أثر الاسم على سلوك العبد التزامه بالحق في أموره كلها، وأولها التزامه بحق الله عليه وهو توحيد العبادة لله، روى البخاري من حديث معاذ - رضي الله عنه - قال: كنت ردف النبي - صلى الله عليه وسلم - على حمار، فقال: ( يَا مُعَاذُ، هَل تَدْرِي حَقَّ اللهِ عَلى عِبَادِهِ وَمَا حَقُّ العِبَادِ عَلى اللهِ؟ قُلتُ: اللهُ وَرَسُولهُ أَعْلمُ، قَال: فَإِنَّ حَقَّ اللهِ عَلى العِبَادِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلاَ يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَحَقَّ العِبَادِ عَلى اللهِ أَنْ لاَ يُعَذِّبَ مَنْ لاَ يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، فَقُلتُ: يَا رَسُول اللهِ، أَفَلاَ أُبَشِّرُ بِهِ النَّاسَ قَال: لاَ تُبَشِّرْهُمْ فَيَتَّكِلوا ) (1) .
والله - عز وجل - وعد عباده تفضلا منه وتكرما ألا يعذب من وفى منهم حقه، أما العباد فليس لهم حق على ربهم لأنه لا فضل لأحد عليه، لكن الله - عز وجل - حق وقوله حق ووعده صدق، فإذا آمن العبد ودان دين الحق فقد نال الفضل وأزيد من العدل .
__________
(1) البخاري في الجهاد، باب اسم الفرس والحمار3/1049 (2701) .(2/123)
ومن دعاء العبادة أن يقول الحق وأن يشهد بالصدق ولا يكذب أبدا، وكذلك يصبر على الحق ويتواصى به ثقة وتوحيدا في اسم الله الحق كما قال تعالى: { والعصر إِنَّ الإنسان لفِي خُسْرٍ إِلا الذِينَ آمَنُوا وَعَمِلوا الصَّالحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْر } [العصر:1/3]، وعند مسلم عن ثوبان - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( لاَ تَزَال طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلى الحَقِّ، لاَ يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلهُمْ حَتَّى يَأْتِي أَمْرُ اللهِ وَهُمْ كَذَلكَ ) (1)، ومن دعاء العبادة أيضا أن يصدع بالحق ولا يستحيي منه ولا يخشى في الله لومة لائم، قال - عز وجل -: { قُل إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالحَقِّ عَلامُ الغُيُوبِ } [سبأ:48]، وعند البخاري من حديث أم سلمة رضي الله عنها أنها قالت: ( جَاءَتْ أُمُّ سُليْمٍ إِلي رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالتْ: يَا رَسُول اللهِ، إِنَّ اللهَ لاَ يَسْتَحْيِي مِنَ الحَقِّ، فَهَل عَلى المَرْأَةِ مِنْ غُسْل إِذَا احْتَلمَتْ؟ قَال النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : إِذَا رَأَتِ المَاءَ، فَغَطَّتْ أُمُّ سَلمَةَ وَجْهَهَا وَقَالتْ: يَا رَسُول اللهِ وَتَحْتَلمُ المَرْأَةُ؟ قَال: نَعَمْ تَرِبَتْ يَمِينُكِ فَبِمَ يُشْبِهُهَا وَلدُهَا؟ ) (2) .
وممن تسمي عبد الحق، أبو محمد عبد الحق بن أبي بكر بن غالب بن عطية الغرناطي (ت:546هـ)، صاحب كتاب المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (3) .
********************************
35- الله - جل جلاله - المُبِينُ
********************************
الدليل على ثبوت الاسم وإحصائه .
__________
(1) مسلم في الإمارة، باب قوله S لا تزال طائفة من أمتي3/1523(1920) .
(2) البخارى في العلم، باب الحياء في العلم 1/60 (130) .
(3) كشف الظنون 2/ 1613، وانظر أيضا التقييد لمعرفة رواة السنن والمسانيد ص388 (503) .(2/124)
اسم الله المبين ورد في القرآن معرفا مرادا به العلمية، مطلقا يفيد المدح والثناء على الله بنفسه، ودالا على كمال الوصفية كما في قوله تعالى: { يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللهُ دِينَهُمُ الحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ هُوَ الحَقُّ المُبِينُ } [النور:25]، ولم يذكر الاسم إلا في هذه الآية فقط، ولم يرد في حديث صحيح، لكن الآية دليل صريح على أن الله سمى نفسه به .
وقد ورد هذا الاسم في أعقاب اتهام المنافقين لأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في حادثة الإفك، فأظهر الله براءتها وأبان للمسلمين طهارتها ومكانتها .
شرح الاسم وتفسير معناه .
المبين اسم فاعل من الفعل بان أو أبان، وأصل البَينُ التميز والظهور، والبُعْد والانفصال، يقال بانَ الحقُّ يَبينُ بَيانا فهو بائنٌ أو أَبان يُبينُ إِبانة فهو مُبينٌ، فمن الأول تَبَايَنَ الرجُلانِ أي بان كل واحد منهما عن صاحبه وكذلك في الشركة إِذا انفصلا، وبانَت المرأَة عن زوجها يعني انفصلت عنه بتَطليقةٌ بائنة (1)، والبائن أيضا بمعنى الظاهر المبين الواضح كما في قوله تعالى: { فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ } [الأعراف:107]، وقوله - عز وجل -: { فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاء بِدُخَانٍ مُبِينٍ } [الدخان:10] .
__________
(1) لسان العرب 13/68 .(2/125)
ومن الثاني أبان القول بيانا يعني أظهره بفصاحة، والبَيان الفصاحة واللسَن والإِفصاح مع ذكاء، والبَيِّن من الرجال السَّمْح اللسان الفصيح الظريف، العالي الكلام القليل الرتَج، وفلانٌ أَبْيَن من فلان أَي أَفصح منه وأَوضح كلاماً، وعند البخاري من حديث ابن عمر - رضي الله عنه - أَنَّهُ قَدِمَ رَجُلانِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَخَطَبَا فَعَجِبَ النَّاسُ لِبَيَانِهِمَا، فقال رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : ( إِنَّ مِنَ الْبَيَانِ لَسِحْرًا، أَوْ إِنَّ بَعْضَ الْبَيَانِ لَسِحْرٌ ) (1)، فالبَيان إِظهار المقصود بأَبلغ لفظٍ وأَصلُه الكَشْفُ والظهورُ (2) .
والمبين هو المنفرد بوصفه المباين لخلقة الظاهر فوق كل شيء، له مطلق العلو والفوقية، وليس كما قالت الجهمية أنه بذاته في كل مكان، بل هو سبحانه بائن من خلقه، ليس خلقه في شيء من ذاته، ولا ذاته في شيء من مخلوقاته، وقد ذكر ابن تيمية أن الأئمة من الصحابة والتابعين والأئمة الأربعة وسائر أئمة الدين اتفقوا على أن قوله تعالى: { وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } [الحديد:4]، ليس معناه أنه مختلط بالمخلوقات وحال فيها، ولا أنه بذاته في كل مكان، بل هو سبحانه وتعالى على عرشه ومع كل شيء بعلمه وقدرته، فالله سبحانه مع العبد أينما كان، يسمع كلامه ويرى أفعاله ويعلم سره ونجواه، رقيب على خلقه مهيمن عليهم (3) .
__________
(1) البخاري في كتاب الطب، باب إن من البيان سحرا 5/2176 (5434) .
(2) المغرب للمطرزي 1/98، ولسان العرب 13/68، و كتاب العين 8/381 .
(3) أقاويل الثقات في تأويل الأسماء والصفات والآيات المحكمات والمشتبهات ص102 .(2/126)
وقال ابن منده: ( فهو سبحانه موصوف غير مجهول وموجود غير مدرك، ومرئي غير محاط به، لقربه كأنك تراه، وهو يسمع ويرى وهو بالمنظر الأعلى، وعلى العرش استوى، فالقلوب تعرفه والعقول لا تكيفه وهو بكل شيء محيط ) (1)، ومن معاني المبين أيضا الغني عن العالمين الذي لا يفتقر لأحد من خلقه (2) .
والمبين - عز وجل - هو الذي أبان لكل مخلوق علة وجوده وغايته، وأبان لهم طلاقة قدرته مع بالغ حكمته، وأبان لهم الأدلة القاطعة على وحدانيته، وأبان لهم دينهم بأحكام شريعته ولا يعذب أحدا من خلقه إلا بعد بيان حجته، قال - عز وجل -: { وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِل وَنَخْزَى } [طه:134] .
وقد خاطب المبين - عز وجل - عباده بكل أنواع البيان، وأقام حجته بكل أنواع البرهان قال تعالى: { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ الله مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيم } [إبراهيم:4]، قال البيهقي: ( المبين له معان منها أنه بين لذوي العقول، ومنها أن الفضل يقع به، ومنها أن التحقيق والتمييز إليه، ومنها أن الهداية به ) (3) .
دلالة الاسم على أوصاف الله .
__________
(1) العلو للعلي الغفار ص235 .
(2) انظر تفسير الرازي للمبين في شرح أسماء الله الحسنى ص229 .
(3) شعب الإيمان 1/ 119، وانظر مفردات ألفاظ القرآن ص 157، واشتقاق أسماء الله للزجاج ص180.(2/127)
المبين اسم من أسماء الله يدل على ذات الله وعلى البيان والإبانة بدلالة المطابقة وعلى ذات الله وحدها بالتضمن، وعلى الصفة وحدها بالتضمن، أما دلالة الاسم على صفة الذات، فالصفة لم ترد إلا ضمن الاسم في قوله تعالى: { يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ } [النور:25] .
وأما دلالة الاسم على صفة الفعل فالأدلة كثيرة كقوله تعالى: { كَذَلِكَ يُبَيِّنُ الله آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلهُمْ يَتَّقُونَ } [البقرة:187]، وقال سبحانه: { كَذَلِكَ يُبَيِّنُ الله لَكُمْ آيَاتِهِ وَالله عَلِيمٌ حَكِيم } [النور:59]، وقال: { وَمَا كَانَ الله لِيُضِل قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ } [التوبة:115] .
والاسم يدل باللزوم على الحياة والقيومية والسمع والبصر والعلم والقدرة والحكمة والخبرة والهداية والرحمة واللطف والرأفة، وغير ذلك من صفات الذات والأفعال، وقد ختمت أغلب الآيات التي فيها صفة البيان بلوازم الوصف كالعلم والحكمة في قوله الله تعالى: { يُرِيدُ الله لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَالله عَلِيمٌ حَكِيمٌ } [النساء:26]، والهداية والرحمة في قوله: { وَنَزَّلنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلمُسْلِمِينَ } [النحل:89]، وكذلك في قوله - عز وجل -: { هُوَ الذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ الله بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ } [الحديد:9]، واسم الله المبين دل على وصف ذات وفعل معا، فعلى تقدير أن الاسم من الفعل بان بمعنى ظهر فهو وصف ذات، وعلى تقدير أن الفعل أبان فهو وصف فعل .
الدعاء باسم الله المبين دعاء مسألة .(2/128)
ورد الدعاء بالوصف الذي تضمنه الاسم في قول الله تعالى عن بعض قوم موسى - عليه السلام -: { قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ } [البقرة:68] .
وعند البخاري من حديث ابن عباس - رضي الله عنه -: ( أَنَّهُ ذُكِرَ التَّلاَعُنُ عِنْدَ النبي - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ عَاصِمُ بْنُ عَدِي في ذَلِكَ قَوْلاً ثُمَّ انْصَرَفَ، فَأَتَاهُ رَجُلٌ مِنْ قَوْمِهِ يَشْكُو إِلَيْهِ أَنَّهُ وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلاً، فَقَالَ عَاصِمٌ: مَا ابْتُلِيتُ بِهَذَا إِلاَّ لقولي، فَذَهَبَ بِهِ إِلَى النبي - صلى الله عليه وسلم - فَأَخْبَرَهُ بالذي وَجَدَ عَلَيْهِ امْرَأَتَهُ، وَكَانَ ذَلِكَ الرَّجُلُ مُصْفَرًّا قَلِيلَ اللحْمِ سَبْطَ الشَّعَرِ وَكَانَ الذي ادَّعَى عَلَيْهِ أَنَّهُ وَجَدَهُ عِنْدَ أَهْلِهِ خَدْلاً آدَمَ كَثِيرَ اللحْمِ، فَقَالَ النبي - صلى الله عليه وسلم - : اللهُمَّ بَيِّنْ فَجَاءَتْ شَبِيهًا بِالرَّجُلِ الذي ذَكَرَ زَوْجُهَا أَنَّهُ وَجَدَهُ، فَلاَعَنَ النبي - صلى الله عليه وسلم - بَيْنَهُمَا، قَالَ رَجُلٌ لاِبْنِ عَبَّاسٍ في الْمَجْلِسِ: هي التي قَالَ النبي - صلى الله عليه وسلم - : لَوْ رَجَمْتُ أَحَدًا بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ رَجَمْتُ هَذِهِ؟ فَقال: لاَ تِلْكَ امْرَأَةٌ كَانَتْ تُظْهِرُ في الإِسْلاَمِ السُّوءَ ) (1) .
__________
(1) البخاري في الطلاق، باب قول النبي S لو كنت راجما بغير بينة 5/ 2034 (5004) .(2/129)
وروى أبو داود وصححه الشيخ الألباني من حديث عمر - رضي الله عنه - أنه قال: ( لَمَّا نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ، قَالَ عُمَرُ: اللهُمَّ بَيِّنْ لَنَا في الْخَمْرِ بَيَانًا شِفَاءً؛ فَنَزَلَتِ الآيَةُ التي في الْبَقَرَةِ: { يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الآياتِ لَعَلكُمْ تَتَفَكَّرُونَ } [البقرة:219]، قال: فَدُعِيَ عُمَرُ؛ فَقُرِئَتْ عَلَيْهِ، قال: اللهُمَّ بَيِّنْ لَنَا في الْخَمْرِ بَيَانًا شِفَاءً فَنَزَلَتِ الآيَةُ التي في النِّسَاءِ: { يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ } [النساء:43]، فَكَانَ مُنَادِي رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلاَةُ يُنَادِي: أَلاَ لاَ يَقْرَبَنَّ الصَّلاَةَ سَكْرَانُ فَدُعِيَ عُمَرُ فَقُرِئَتْ عَلَيْهِ، فَقال اللهُمَّ بَيِّنْ لَنَا في الْخَمْرِ بَيَانًا شِفَاءً؛ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: { إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ } [المائدة:91]، قَالَ عُمَرُ: انْتَهَيْنَا ) (1) .
__________
(1) أبو داود في كتاب الأشربة، باب في تحريم الخمر 3/325 (3670) .(2/130)
ومن الدعاء بالمعنى أيضا قوله تعالى: { رَبَّنَا وَاجْعَلنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } [البقرة:128]، فالمسلم يدعو بما شاء مما يناسب اسم الله المبين، لاسيما إن كان مظلوما ولا يجد دليلا لبراءته أو كان عاجزا عن بيان حجته؛ فدعاء المسألة أن يذكر الاسم في دعائه يتقرب به إلى ربه طلبا لحاجته كقوله: اللهم أنت الحق المبين فرج كربي وارفع الظلم عني، ومن دعاء ابن الجوزي: ( لا اله إلا الله توحيدا يباين عقائد المشركين، لا اله إلا الله تنزيها يناقض دعاوى المبطلين، لا اله إلا الله إقرارا بما أنكرته عقول الجاحدين، لا اله إلا الله إيقانا لا يشوبه تردد الشاكين، لا اله إلا الله الملك الحق المبين ) (1) .
الدعاء باسم الله المبين دعاء عبادة .
أثر الاسم يظهر على اعتقاد العبد وسلوكه، ويتجلى ذلك في مجاهدته لنفسه ليبقى باديا بسمت الإيمان وأخلاق القرآن، كما أنه يصدع بالحق ولا يخاف جائرا ولا سلطان لأن غير الله أيا كان بقاؤه بإبقاء الله وقدرته، وقد ذم الله أهل الكتاب الذين باعوا دينهم ونبذوه وراء ظهورهم وكتموا الحق وخانوا العهد فقال - عز وجل -: { وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ الذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ لتُبَيِّنُنَّهُ للنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَليلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ } [آل عمران:187] .
__________
(1) التذكرة في الوعظ لابن الجوزي ص 47 .(2/131)
وروى البيهقي بسنده أن الأوزاعي قال: دخلت على الخليفة المنصور فقال لي: ما الذي بطأ بك عني؟ قلت: يا أمير المؤمنين وما الذي تريده مني؟ فقال: الاقتباس منك، قلت: انظر ماذا تقول؟ فإن مكحولا حدثني عن عطية بن بشير - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( من بلغه عن الله نصيحة في دينه فهي رحمة من الله سيقت إليه فإن قبلها من الله بشكر وإلا كانت حجة من الله عليه، ليزداد إثما وليزداد عليه غضبا، وإن بلغه شيء من الحق فرضي فله الرضا وإن سخط فله السخط، ومن كرهه فقد كره الله لأن الله هو الحق المبين ) (1)، فلا تجهلن، قال: وكيف أجهل؟ قال: تسمع ولا تعمل بما تسمع، قال الأوزاعي: فسل على الربيع السيف وقال: تقول لأمير المؤمنين هذا، فانتهره المنصور وقال: أمسك، ثم واصل فقال: إنك قد أصبحت من هذه الخلافة بالذي أصبحت به، والله سائلك عن صغيرها وكبيرها وفتيلها ونقيرها، ولقد حدثني عروة بن رويم - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( ما من راع يبيت غاشا لرعيته إلا حرم الله عليه رائحة الجنة ) (2)، فحقيق على الوالي أن يكون لرعيته ناظرا وبالقسط قائما، ولما استطاع من عوراتهم ساترا
__________
(1) القريب من هذا الحديث ما رواه الحاكم وصححه الألباني من حديث عياض بن غنم أنه قال لهشام بن حكيم ألم تسمع يا هشام رسول الله S إذ يقول: ( من كانت عنده نصيحة لذي سلطان فليأخذ بيده فليخلوا به فإن قبلها قبلها وإن ردها كان قد أدى الذي عليه ) المستدرك 3/ 329 (5269)، وانظر تحقيق الألباني في ظلال الجنة في تخريج السنة لابن أبي عاصم (1098) .
(2) الحديث كما ذكر الشيخ الألباني حسن صحيح ونصه: ( ما من إمام ولا وال بات ليلة سوداء غاشا لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة )، رواه الطبراني في الكبير 20/ 207، وابن الجعد في مسنده ص 458، وانظر مسند الروياني 2/93 (883)، وانظر حكم الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (2207) .(2/132)
(1) .
وقال الإمام الشافعي: ما ناظرت أحدا وأحببت أن يخطئ، بل أن يوفق ويسدد ويعان ويكون عليه من الله رعاية وحفظ، وما كلمت أحدا قط وأنا أبالي أن يظهر الحق على لساني أو لسانه (2) .
أما من جهة التسمية بعبد المبين فلم أجد أحدا سمي به من السلف أو الخلف في مجال ما أجرينا عليه البحث، وإن كانت نتيجة محركات البحث على الإنترنت أظهرت اسما واحدا فقط لرجل من الأردن .
********************************
36- الله - جل جلاله - القَويُّ
********************************
الدليل على ثبوت الاسم وإحصائه .
سمى الله نفسه القوي على سبيل الإطلاق مرادا به العلمية ودالا على كمال الوصفية في كثير من النصوص القرآنية، وقد ورد معرفا بالألف واللام مقترنا باسم الله العزيز في موضعين، قال تعالى: { إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ } [هود:66]، وقال: { اللهُ لطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ } [الشورى:19] .
وورد منونا في خمسة مواضع منها قوله تعالى: { كَتَبَ اللهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ } [المجادلة:21]، وقوله - عز وجل -: { مَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللهَ لقَوِيٌّ عَزِيز } [الحج:74]، وفي مسند الإمام أحمد وحسنه الألباني من حديث عَائِشَة رضي الله عنها أنها قَالتْ عن يوم الخندق: ( وَبَعَثَ اللهُ - عز وجل - الرِّيحَ عَلى الْمُشْرِكِينَ، فَكَفَى اللهُ - عز وجل - الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَال وَكَانَ اللهُ قَوِيًّا عَزِيزاً ) (3) .
شرح الاسم وتفسير معناه .
__________
(1) شعب الإيمان 6/29 (7409) .
(2) حلية الأولياء 9/ 118، وفيض القدير شرح الجامع الصغير 3/90 .
(3) انظر السلسلة الصحيحة 1/143 (67) .(2/133)
القوي في اللغة صفة مشبهة للموصوف بالقوة، وقد قوِيَ وتَقوَّى فهو قوي، يقال قوَّى الله ضعفك أَي أَبدَلك مكان الضعف قوة، فالقوة نقيض الضعف والوهن والعجز وهي الاستعداد الذاتي والقدرة على الفعل، وعدم العجز عن القيام به، قال تعالى لموسى - عليه السلام - عن الأَلواح: { فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ } [الأعراف:145]، أَي خذها بقُوَّة في دينك وحُجَّتك، وقال ليحي - عليه السلام -: { يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ } [مريم:12]، أَي بِجِد وعَوْن من الله تعالى (1) .
والقوي سبحانه هو الموصوف بالقوة، وصاحب القدرة المطلقة، لا يغلبه غالب ولا يرد قضاءه راد، ولا يمنعه مانع، ولا يدفعه دافع، وهو القوي في بطشه القادر على إتمام فعله، له مطلق المشيئة والأمر في مملكته، والقوي سبحانه قوي في ذاته لا يعتريه ضعف أو قصور، قيوم لا يتأثر بوهن أو فتور، ينصر من نصره، ويخذل من خذله كما قال - عز وجل -: { وَلَيَنْصُرَنَّ الله مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ } [الحج:40]، والقوي سبحانه هو الذي كتب الغلبة لنفسه ورسله فقال: { كَتَبَ الله لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِن الله قَوِيٌّ عَزِيزٌ } [المجادلة:21]، فالقوي هو الكامل القدرة على الشيء الذي لا يستولي عليه العجز في حال من الأحول، الموصوف بالقوة المطلقة، قال تعالى: { مَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ } [الحج:74] (2) .
دلالة الاسم على أوصاف الله .
اسم الله القوي يدل على ذات الله وعلى صفة القوة بدلالة المطابقة، وعلى أحدهما بالتضمن، قال تعالى: { إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو القُوَّةِ المَتِينُ } [الذريات:58] .
__________
(1) لسان العرب 15/206، وكتاب العين 5/237 .
(2) تفسير أسماء الله للزجاج ص54، وجامع البيان 10/17، وشرح أسماء الله الحسنى للرازي ص297 .(2/134)
وقال: { فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ الله الذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآياتِنَا يَجْحَدُونَ } [فصلت:15]، وقال - عز وجل -: { وَلَوْ يَرَى الذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ العَذَابَ أَنَّ القُوَّةَ لِلهِ جَمِيعاً وَأَنَّ الله شَدِيدُ العَذَابِ } [البقرة:165]، وقال تعالى: { وَلَوْلا إِذْ دَخَلتَ جَنَّتَكَ قُلتَ مَا شَاءَ الله لا قُوَّةَ إِلا بِالله } [الكهف:39]، وعند البخاري من حديث أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: ( يَا عَبْدَ اللهِ بْنَ قَيْسٍ قُل لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللهِ فَإِنَّهَا كَنْزٌ مِنْ كُنُوزِ الجَنَّةِ ) (1)، واسم الله القوي يدل باللزوم على الحياة والقيومية والملك والصمدية والعظمة والأحدية والسمع والبصر والعلم والقدرة والحكمة والعزة، وغير ذلك من صفات الكمال، واسم الله القوي دل على صفة من صفات الذات .
الدعاء باسم الله القوي دعاء مسألة .
ورد دعاء المسألة بالوصف في قول الله تعالى: { وَلوْلا إِذْ دَخَلتَ جَنَّتَكَ قُلتَ مَا شَاءَ اللهُ لا قُوَّةَ إِلا بِاللهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَل مِنْكَ مَالاً وَوَلداً فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَاناً مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً } [الكهف:39/40]، وكذلك قوله عن نبيه هود - عليه السلام -: { وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلوْا مُجْرِمِينَ } [هود:52] .
__________
(1) البخاري في كتاب الدعوات، باب الدعاء إذا علا عقبة 5/2346 (6021) .(2/135)
وروى مسلم من حديث مصعب بن سعد - رضي الله عنه - عن أبيه أنه قال: جاء أعرابي إِلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال علمني كلاما أقوله، قال: ( قُل لاَ إِلهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لهُ، اللهُ أَكْبَرُ كَبِيرًا، وَالحَمْدُ لِلهِ كَثِيرًا سُبْحَانَ اللهِ رَبِّ العَالمِينَ لاَ حَوْل وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللهِ العَزِيزِ الحَكِيمِ قَال: فَهَؤُلاَءِ لِرَبِّي فَمَا لي؟ قَال: قُلِ اللهُمَّ اغْفِرْ لي وارحمني وَاهْدِنِي وَارْزُقْنِي ) (1) .
وصححه الألباني من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: ( كَانَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ في سُجُودِ الْقُرْآنِ بِالليْلِ يَقُولُ في السَّجْدَةِ مِرَارًا: سَجَدَ وجهي للذي خَلَقَهُ وَشَقَّ سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ بِحَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ ) (2).
__________
(1) مسلم في الذكر والدعاء والتوبة، باب فضل التهليل والتسبيح والدعاء 4/2072 (2696) .
(2) أبو داود في الصلاة، باب ما يقول إذا سجد 2/60 (1414)، مشكاة المصابيح (1035) .(2/136)
وروى البخاري من حديث عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - أنِ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( مَنْ تَعَارَّ مِنَ الليْلِ فَقال: لاَ إِلَهَ إِلاَّ الله وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلكُ، وَلَهُ الحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ؛ الحَمْدُ للهِ، وَسُبْحَانَ الله، وَلاَ إِلَهَ إِلاَّ الله، وَالله أَكْبَرُ، وَلاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِالله، ثُمَّ قال: اللهمَّ اغْفِرْ لِي، أَوْ دَعَا اسْتُجِيبَ، فَإِنْ تَوَضَّأَ وَصَلى قُبِلَتْ صَلاَتُهُ ) (1)، وعند أبي داود وحسنه الألباني من حديث أنس - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( مَنْ أَكَلَ طَعَامًا ثُمَّ قال: الْحَمْدُ لِلهِ الذي أطعمني هَذَا الطَّعَامَ وَرَزَقَنِيهِ مِنْ غَيْرِ حَوْلٍ مِنِّي وَلاَ قُوَّةٍ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ، وَمَنْ لَبِسَ ثَوْبًا فَقال: الْحَمْدُ لِلهِ الذي كساني هَذَا الثَّوْبَ وَرَزَقَنِيهِ مِنْ غَيْرِ حَوْلٍ مِنِّي وَلاَ قُوَّةٍ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ ) (2) .
ويمكن الدعاء بمقتضى الاسم كما ورد عند أبي داود وحسنه الألباني من حديث عائشة رضي الله عنها في دعاء الاستسقاء: ( اللهمَّ أَنْتَ الله لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ الْغَنِي وَنَحْنُ الْفُقَرَاءُ، أَنْزِلْ عَلَيْنَا الْغَيْثَ وَاجْعَلْ مَا أَنْزَلْتَ لَنَا قُوَّةً وَبَلاَغًا إِلَى حِينٍ ) (3) .
الدعاء باسم الله القوي دعاء عبادة .
__________
(1) البخاري في التهجد، باب فضل من تعار من الليل فصلى 1/387 ( 1103) .
(2) أبو داود في كتاب اللباس 4/42 (4023)، صحيح الجامع (6086) .
(3) أبو داود في الصلاة، باب رفع اليدين في الاستسقاء 1/304 (1173)، صحيح الجامع (2310) .(2/137)
دعاء العبادة أن يتعزز المؤمن بقوة الله فيصدع بالحق ولا يخاف في الله لومة لائم وأن يسخر قوته في طاعة الله ومحبته، ويأخذ أحكام الكتاب بمنتهى عزمه واستطاعته وألا يظلم أحدا وكله الله برعايته، وأن يعتبر بفعل الله وقدرته فيمن أهلكهم بعدله وحكمته، قال - عز وجل -: { أَوَلمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الذِينَ مِنْ قَبْلهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللهُ ليُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَليماً قَدِيرا } [فاطر:44] .
وعند مسلم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( المُؤْمِنُ القَوِي خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلى اللهِ مِنَ المُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، وَفِي كُل خَيْرٌ، احْرِصْ عَلى مَا يَنْفَعُكَ وَاسْتَعِنْ بِاللهِ وَلاَ تَعْجِزْ، وَإِنْ أَصَابَكَ شَيءٌ، فَلاَ تَقُل: لوْ أَنِّي فَعَلتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا وَلكِنْ قُل: قَدَرُ اللهِ وَمَا شَاءَ فَعَل، فَإِنَّ لوْ تَفْتَحُ عَمَل الشَّيْطَانِ ) (1) .
__________
(1) مسلم في القدر، باب في الأمر بالقوة وترك العجز 4/2052 (2663) .(2/138)
وعند النسائي وصححه الألباني من حديث أبي عقرب - رضي الله عنه - أنه قَال: سألت رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عن الصوم فقال: ( صُمْ يَوْمًا مِنَ الشَّهْرِ، قُلتُ: يَا رَسُول اللهِ زِدْنِي، زِدْنِي إِنِّي أَجِدُنِي قَوِيًّا، فَسَكَتَ رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ ليَرُدُّنِي قَال: صُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ مِنْ كُل شَهْرٍ ) (1)، وروى ابن ماجه وصححه الشيخ الألباني من حديث عبد اللهِ بن عمرو - رضي الله عنه - أنه قال: ( جَمَعْتُ القُرْآنَ فَقَرَأْتُهُ كُله فِي ليْلةٍ فَقَال رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : إِنِّي أَخْشَى أَنْ يَطُول عَليْكَ الزَّمَانُ وَأَنْ تَمَل فَاقْرَأْهُ فِي شَهْرٍ، فَقُلتُ دَعْنِي أَسْتَمْتِعْ مِنْ قُوَّتِي وَشَبَابِي، قَال: فَاقْرَأْهُ فِي عَشْرَةٍ، قُلتُ: دَعْنِي أَسْتَمْتِعْ مِنْ قُوَّتِي وَشَبَابِي، قَال فَاقْرَأْهُ فِي سَبْعٍ، قُلتُ:دَعْنِي أَسْتَمْتِعْ مِنْ قُوَّتِي وَشَبَابِي فَأَبَى ) (2) .
وعند ابن ماجة وصححه الألباني من حديث جابر - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( كَيْفَ يُقَدِّسُ الله أُمَّةً لاَ يُؤْخَذُ لضَعِيفِهِمْ مِنْ شَدِيدِهِمْ ) (3) .
__________
(1) النسائي في الصيام 2/138(2740)، الأدب المفرد (731) .
(2) ابن ماجه في إقامة الصلاة والسنة، باب في كم يستحب يختم القرآن 1/428 (1346) .
(3) ابن ماجة في الفتن، باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر 2/1329 (4010)، وانظر تصحيح الشيخ الألباني في ظلال الجنة في تخريج السنة (582) .(2/139)
ومن جهة التسمية بإضافة التعبد للاسم فقد تسمى به الفقيه أبو محمد عبد القوي بن عزون بن داوود بن عزون بن الليث بن منصور الأنصاري (ت:640هـ)، المصري المولد والدار، المقرئ الشافعي، قرأ القرآن الكريم بالقراءات علي الشيخ أبي الجود غياث بن فارس اللخمي وتفقه على مذهب الإمام الشافعي (1) .
********************************
37- الله - جل جلاله - المتِينُ
********************************
الدليل على ثبوت الاسم وإحصائه .
سمى الله نفسه المتين على سبيل الإطلاق مرادا به العلمية ودالا على كمال الوصفية في آية واحدة من القرآن، فقد ورد معرفا بالألف واللام في قوله: { إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ } [الذاريات:58]، وفي سنن أبى داود وصححه الألباني من حديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - أنه قال: ( أَقْرَأَنِي رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: إِنِّي أَنَا الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ) (2) .
شرح الاسم وتفسير معناه .
المتين في اللغة صفة مشبهة للموصوف بالمتانة، والمتين هو الشيء الثابت في قوته الشديد في عزمه وتماسكه، والواسع في كماله وعظمته، متن يمتن متانة أي قوي مع صلابة واشتداد، ويلحق بمعنى المتون الثبات والامتداد، فيكون المتين بمعنى الواسع قال ابن منظور: ( المتنُ من كل شيء ما صَلُبَ ظَهْرُه والجمع مُتُون ) (3) .
__________
(1) تكملة إكمال الإكمال ص95.
(2) أبو داود في أول كتاب الحروف والقراءات 4/35 (3993)، صحيح أبي داود 2/755 (3377) .
(3) لسان العرب 13/398 .(2/140)
والمتين سبحانه هو القوي في ذاته الشديد الواسع الكبير المحيط، فلا تنقطع قوته ولا تتأثر قدرته، فالمتين هو القوي الشديد المتناهي في القوة والقدرة، الذي لا تتناقص قوته ولا تضعف قدرته، والذي لا يلحقه في أَفعاله مشقة ولا كلفة ولا تعَبٌ (1)، قال تعالى: { إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ } [الذاريات:58]، فالله - عز وجل - من حيث إنه بالغ القدرة تامها قوي، ومن حيث إنه شديد القوة متِينٌ (2) .
وقال تعالى: { وَأُمْلِي لهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ } [القلم:45]، الكيد على إطلاقه هو التدبير في الخفاء بقصد الإساءة أو الابتلاء أو المعاقبة والجزاء، وقد يكون عيبا مذموما إذا كان بالسوء في الابتداء، وقد يكون محمودا مرغوبا إذا كان مقابلا لكيد الكافرين والسفهاء، فإذا كان الكيد عند الإطلاق كمالا في موضع ونقصا في آخر فلا يصح إطلاقه في حق الله دون تخصيص .
قال تعالى: { إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً وَأَكِيدُ كَيْداً } [الطارق:16]، وقال: { وَأُمْلِي لهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ } [الأعراف:183] (3)، فوصف الله كيده للكافرين بأنه كيد شديد قوي متين، لا يمكن لأحد منهم رده أو صده، والله - عز وجل - غالب على أمره، كتب الغلبة لنفسه ورسله وحزبه .
دلالة الاسم على أوصاف الله .
__________
(1) السابق 13/399 .
(2) السابق 13/399، وانظر تفسير أسماء الله للزجاج ص55، وشرح أسماء الله الحسنى للرازي ص298 .
(3) انظر هذا المعنى في المواضع الآتية: الحقيقة والمجاز لابن تيمية 20 /471، وانظر له أيضا: الرسالة التدمرية ص14، والمحلى لابن حزم 1/34، وإعلام الموقعين لابن القيم 3/218، وحز الغلاصم في إفحام المخاصم عند جريان النظر في أحكام القدر لابن حيدرة 2/39 .(2/141)
الاسم يدل على ذات الله وعلى صفة المتانة والشدة بدلالة المطابقة، وعلى ذات الله وحدها بالتضمن، وعلى الصفة وحدها بالتضمن، ولم يذكر الوصف بنصه في القرآن والسنة وإنما ذكر بالمعنى، قال تعالى: { وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ القُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ } [هود:102]، وقال سبحانه: { وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي الله وَهُوَ شَدِيدُ المِحَالِ } [الرعد:13]، وقال: { الله الذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ } [إبراهيم:2]، والاسم يدل باللزوم على الحياة والقيومية والقدرة والقوة والعزة والعظمة وغير ذلك من صفات الكمال، واسم الله المتين دل على صفة من صفات الذات .
الدعاء باسم الله المتين دعاء مسألة .
المتين سبحانه هو القوي الشديد القدير المحيط المتناهي في القوة والقدرة، ولم يرد دعاء المسألة بالاسم أو الوصف، ولكن ورد الدعاء بالمعنى الذي دل عليه الاسم كما ورد في قوله تعالى: { وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ } [يونس:88]، وقوله عن موسى - عليه السلام - أيضا: { قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي وَاجْعَل لِّي وَزِيراً مِّنْ أَهْلِي هَارُونَ أَخِي اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً إِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيراً قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى } [طه:25/35] .(2/142)
ودعاء المسألة باسم الله المتين يدعو به كل مؤمن ضعيف أو مهزوم أو مقهور أو مظلوم أن يعينه الله ويقويه، ويمنحه ويعطية، وأن يفرغ عليه صبرا، ويخرجه من كل بلاء شديد وقع فيه، روى الترمذي وصححه الشيخ الألباني من حديث شداد بن أوس - رضي الله عنه - أنه قال: ( كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يُعَلِّمُنَا أَنْ نَقُول: اللهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الثَّبَاتَ فِي الأَمْرِ وَأَسْأَلُكَ عَزِيمَةَ الرُّشْدِ، وَأَسْأَلُكَ شُكْرَ نِعْمَتِكَ وَحُسْنَ عِبَادَتِكَ، وَأَسْأَلُكَ لِسَانًا صَادِقًا، وَقَلبًا سَلِيمًا، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا تَعْلمُ، وَأَسْأَلُكَ مِنْ خَيْرِ مَا تَعْلمُ وَأَسْتَغْفِرُكَ مِمَّا تَعْلمُ، إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الغُيُوبِ ) (1).
الدعاء باسم الله المتين دعاء عبادة .
دعاء العبادة باسم الله المتين هو ثبات المؤمن على إيمانه وعقيدته، ويقينه أن توحيد العبودية لله هو سبيل سعادته، فلا يحيد أبدا عن توجيه النبي - صلى الله عليه وسلم - وسنته، مهما تعددت به أنواع البلاء، ومهما تقلبت أحواله بين السراء والضراء .
روى مسلم من حديث صهيب الرومي - رضي الله عنه - أن رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: ( عَجَبًا لأَمْرِ المُؤْمِنِ، إِنَّ أَمْرَهُ كُلهُ خَيْرٌ، وَليْسَ ذَاكَ لأَحَدٍ إِلاَّ للمُؤْمِنِ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ، فَكَانَ خَيْرًا لهُ ) (2) .
__________
(1) الترمذي في الدعوات 5/476 ( 3407)، السلسلة الصحيحة (3228) .
(2) مسلم في الزهد والرقائق، باب المؤمن أمره كله خير4/2295 (2999) .(2/143)
ومن ثم فإن المسلم الذي وحد الله - عز وجل - في اسمه المتين قوي العزيمة في الأخذ بالأحكام ذو نظرة حكيمة في قضايا الإسلام، وقد أمر الله موسى - عليه السلام - وقومه أن يأخذوا وحيه بعزيمة وقوة فقال - عز وجل -: { وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لعَلكُمْ تَتَّقُونَ ً } [البقرة:63]، فأولى بالمسلمين الصادقين أن يتمسكوا بحبل الله المتين، وأن يتبعوا نهج الصحابة والتابعين وأن يفخروا به بين الأمم أجمعين، ولا عليهم من دعاوي المنحلين المتحررين الذين لا يرغبون في طاعة أو دين، ويصفون المتمسكين بسنة محمد - صلى الله عليه وسلم - بالرجعيين أو الظلاميين المتخلفين، فقد أخبرنا نبينا عنهم وحذرنا منهم .
روى الإمام مسلم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( بَادِرُوا بِالأَعْمَال فِتَنًا كَقِطَعِ الليْل المُظْلمِ، يُصْبِحُ الرَّجُل مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا، أَوْ يُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا، يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا ) (1) .
وفي رواية الترمذي من حديث أنس - رضي الله عنه - مرفوعا: ( تَكُونُ بَيْنَ يَدَي السَّاعَةِ فِتَنٌ كَقِطَعِ الليْل المُظْلمِ، يُصْبِحُ الرَّجُل فِيهَا مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا، وَيُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا، يَبِيعُ أَقْوَامٌ دِينَهُمْ بِعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا ) (2) .
__________
(1) مسلم في الإيمان، باب الحث على المبادرة بالأعمال قبل تظاهر الفتن1/110 (118) .
(2) الترمذي في الفتن، باب ما جاء ستكون فتن كقطع الليل 4/488 (2197)، صحيح الجامع (2993) .(2/144)
وروى الترمذي وصححه الألباني من حديث العرباض بن سارية - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ فَإِنَّهَا ضَلاَلةٌ، فَمَنْ أَدْرَكَ ذَلكَ مِنْكُمْ، فَعَليْهِ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الخُلفَاءِ الرَّاشِدِينَ المَهْدِيِّينَ عَضُّوا عَليْهَا بِالنَّوَاجِذِ ) (1) .
وينبغي على المسلم مع متانته في الدين أن يكون حكيما حليما لينا وسطا في دعوته للآخرين، فدين الله دين متين سيبقى بإذنه تعالى إلى يوم الدين، روى أحمد وحسنه الألباني من حديث أنس - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قَال: ( إِنَّ هَذَا الدِّينَ مَتِينٌ فَأَوْغِلوا فِيهِ بِرِفْقٍ ) (2) .
أما من جهة التسمية بعبد المتين فلم أجد أحدا سمي به من السلف أو الخلف في مجال ما أجرينا عليه البحث، وإن كانت نتيجة محركات البحث على الإنترنت أظهرت اسما واحدا فقط لأستاذ جامعي مصري .
********************************
38- الله - جل جلاله - الحَيُّ
********************************
الدليل على ثبوت الاسم وإحصائه .
__________
(1) الترمذي في العلم، باب ما جاء في الأخذ بالسنة 5/44 (2676)، السلسلة الصحيحة (2735) .
(2) أحمد في المسند 3/198 (13074)، صحيح الجامع (2246) .(2/145)
اسم الله الحي تحققت فيه شروط الإحصاء، فقد ورد مطلقا يفيد المدح والثناء على الله بنفسه، معرفا بالألف واللام مرادا به العلمية ومحمولا عليه المعنى مسندا إليه ودالا على كمال الوصفية، قال تعالى: { وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الذِي لا يَمُوتُ ً } [الفرقان:58]، وقال - عز وجل -: { هُوَ الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ } [غافر:65]، ولم يقترن الحي إلا باسمه القيوم لأن جميع الأسماء الحسنى تدل عليهما باللزوم، قال تعالى: { اللهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ } [البقرة:255] .
وعند مسلم من حديث أبي - رضي الله عنه - أن رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - سأله: ( يَا أَبَا الْمُنْذِرِ، أَتَدْرِى أي آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللهِ مَعَكَ أَعْظَمُ؟ قال: قُلْتُ اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قال: يَا أَبَا الْمُنْذِرِ أَتَدْرِي أي آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللهِ مَعَكَ أَعْظَمُ؟ قَالَ قُلْتُ: اللهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَي الْقَيُّومُ قال: فَضَرَبَ فِي صدري، وَقال: وَاللهِ لِيَهْنِكَ الْعِلْمُ أَبَا الْمُنْذِرِ ) (1) .
وعند أبي داود وحسنه الألباني منْ حديث أسماء بنت يزيد رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( اسْمُ اللهِ الأَعْظَمُ فِي هَاتَيْنِ الآيَتَيْنِ: { وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ } ، وَفَاتِحَةُ آلِ عِمْرَانَ: { ألم اللهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَي الْقَيُّومُ } ) (2) .
شرح الاسم وتفسير معناه .
__________
(1) مسلم في صلاة المسافرين، باب فضل سورة الكهف وآية الكرسي 1/556 (810) .
(2) أبو داود في الصلاة، باب الدعاء 2/80 (1496) وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (1642) .(2/146)
الحي في اللغة صفة مشبهة للموصوف بالحياة، فعله حَيَّ يَحَيُّ حياة، قال الله تعالى: { وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ } [الأنفال:42]، والحَيُّ من كل شيء نقيضُ الميت، والجمع أَحْياء، والحَي يطلق أيضا على كل متكلم ناطق، والحيُّ من النبات ما كان أخضرا طريا يهتز، والحَيُّ هو الواحد من أَحْياءِ العَربِ، يقع على بَنِي أَبٍ كثروا أم قلوا وعلى شَعْبٍ يجمَعُ القبائل، والحي أيضا البطن من بطون العرب (1) .
والحي - عز وجل - هو الدائم في وجوده الباقي حيا بذاته على الدوام أزلا وأبدا، لا تأخذه سنة ولا نوم، وهذا الوصف ليس لسواه، فأي طاغوت عبد من دون الله إن كان حيا فحياته تغالبها الغفلة والسنات، وإن قاومها وأراد البقاء عددا من الساعات فإن النوم يراوده ويأتيه، فضلا عن كون الموت يوافيه، فلا ينفرد بكمال الحياة ودوامها باللزوم إلا الحي القيوم (2)، قال ابن جرير الطبري: ( وأما قوله الحي فإنه يعني الذي له الحياة الدائمة والبقاء، الذي لا أول له يحد ولا آخر له يمد، إذ كان كل ما سواه فإنه وإن كان حيا فلحياته أول محدود، وآخر مأمود، ينقطع بانقطاع أمدها وينقضي بانقضاء غايتها ) (3) .
__________
(1) انظر لسان العرب 14/211، والمفردات للأصفهاني ص 269، والنهاية في غريب الحديث 1/472 .
(2) جامع البيان 3/5 بتصرف .
(3) السابق 3/4، واشتقاق أسماء الله ص 102 .(2/147)
والحي سبحانه هو المتصف بالحياة كوصف ذات لله لا يتعلق بمشيئته، وإن تعلق بها فالإحياء وصف فعله، ولما كان كل ما سوى الله حياته قائمة على إحياء الله، وإحياؤه يدل بالضرورة على وصف الحياة؛ على اعتبار أن الحياة الذاتية لله هي الحياة الحقيقية وكل من سواه يفنى أو قابل للفناء بمشيئة الله، فإن اسم الله الحي دال على الوصفين معا، الحياة كوصف ذات والإحياء كوصف فعل، ومن هنا كانت دعوة الموحدين إلى الاعتماد على الله - عز وجل - لأنه الحي الذي لا يموت كما قال: { وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الذِي لا يَمُوتُ } [الفرقان:58]، والله - عز وجل - من أسمائه المقيدة المحي فلم يرد في القرآن والسنة إلا مضافا كما في قوله: { إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [الروم:50]، فالمحي اسم مقيد يدل على صفة الحياة باللزوم والإحياء بالتضمن والله - عز وجل - هو الحي الذي يحي ويميت، إن تعلق وصف الحياة بالمشيئة كان الإحياء وصف فعله، وإن لم يتعلق بها كانت الحياة وصف ذاته (1) .
دلالة الاسم على أوصاف الله .
اسم الله الحي يدل على ذات الله وعلى الحياة كوصف ذات والإحياء كوصف فعل بالمطابقة، ويدل على ذات الله وحدها بالتضمن، وعلى الصفة وحدها بالتضمن أما دلالته على الحياة كوصف ذات فقد تضمها الاسم، وأما دلالته على الإحياء كوصف فعل فقد ورد في قوله تعالى: { كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } [البقرة:28]، وقال سبحانه: { فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلكُمْ تَعْقِلُونَ } [البقرة:73] واسم الله الحي يدل باللزوم على الوجود والبقاء والغنى بالنفس وغير ذلك من أوصاف الكمال .
__________
(1) انظر في معنى الاسم: تفسير أسماء الله للزجاج ص56، والمقصد الأسنى ص117 .(2/148)
وتجدر الإشارة إلى أن جميع الأسماء الحسنى تدل باللزوم على صفة الحياة ما عدا اسم الله الحي فإنه يدل عليها بالتضمن، ولولا صفة الحياة ما كملت بقية أسمائه وصفاته وأفعاله، فجميع أسماء الله تدل على صفة الحياة التي تضمنها اسمه الحي، وهذه قضية عقلية نقلية كما تقدم وشرحناها عند الحديث عن اسم الله الأعظم، وما يدل عليه اقتران الأسماء من أنواع الكمال .
الدعاء باسم الله الحي دعاء مسألة .
ورد دعاء المسألة بالاسم المطلق في قوله تعالى: { هُوَ الحَيُّ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الحَمْدُ لِلهِ رَبِّ العَالَمِينَ } [غافر:65]، وعند أبي داود وصححه الألباني عن يسار بن زيد عن أبيه - رضي الله عنه - أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: ( مَنْ قالَ: أسْتَغْفِرُ الله الذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الحَيُّ القَيُّومُ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ، غُفِرَ لَهُ وَإِن كَانَ فَرَّ مِنَ الزَّحْف ) (1) .
__________
(1) أبو داود في الصلاة، باب في الاستغفار 2/85 ( 1517)، صحيح الترغيب والترهيب (1622) .(2/149)
وعند مسلم من حديث ابن عباس - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقولُ: ( اللهمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ وَبِكَ آمَنْتُ، وَعَلَيْكَ تَوَكَّلتُ، وَإِلَيْكَ أَنَبْتُ، وَبِكَ خَاصَمْتُ، اللهمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِعِزَّتِكَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ أَنْ تُضلنِي، أَنْتَ الحَيُ الذِي لاَ يَمُوتُ وَالجِنُّ وَالإِنْسُ يَمُوتُونَ ) (1)، وروى النسائي وصححه الألباني من حديث أنس - رضي الله عنه - قال: ( كُنْتُ مَعَ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - جَالِسًا وَرَجُلٌ قَائِمٌ يُصَلِّي فَلَمَّا رَكَعَ وَسَجَدَ وَتَشَهَّدَ دَعَا فَقَالَ فِي دُعَائِهِ: اللهمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِأَنَّ لَكَ الحَمْدَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ المَنَّانُ بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَا ذَا الجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ إِنِّي أَسْأَلُكَ، فَقَالَ النَّبِيُ - صلى الله عليه وسلم - لأَصْحَابِهِ: تَدْرُونَ بِمَا دَعَا؟ قَالُوا: الله وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قال: وَالذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ دَعَا الله بِاسْمِهِ العَظِيمِ الذِي إِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ وَإِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى ) (2)، وقد ثبت من حديث أَنَسِ - رضي الله عنه - أيضا أنه قال: ( كَانَ النبي - صلى الله عليه وسلم - إِذَا كَرَبَهُ أَمْرٌ، وفي رواية أخرى إذا حزبه أمر قال: يَا حَيُ يَا قَيُّومُ بِرَحْمَتِكَ أَسْتَغِيث ) (3) .
__________
(1) مسلم في الذكر والدعاء والتوبة، باب التعوذ من شر ما عمل، 4/ 2086 ( 2717) .
(2) النسائي في السهو، باب الدعاء بعد الذكر 2/52 (1300)، مشكاة المصابيح (2290) .
(3) الترمذي في الدعوات، باب يا حي يا قيوم 5/539 (3524)، صحيح الجامع (4777) .(2/150)
وقد ورد الدعاء بالوصف في قوله تعالى عن إبراهيم - عليه السلام -: { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى .. الآية } [البقرة:260]، وروى ابن ماجة وصححه الألباني من حديث جابر - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( يَا جَابِرُ، أَلاَ أُخْبِرُكَ مَا قَالَ اللهُ - عز وجل - لأَبِيكَ؟ قُلْتُ: بَلَى، قال: مَا كَلمَ اللهُ أَحَدًا إِلاَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ، وَكَلمَ أَبَاكَ كِفَاحًا فَقال: يَا عبدي، تَمَنَّ عَلَي أُعْطِكَ، قال: يَا رَبِّ تحييني فَأُقْتَلُ فِيكَ ثَانِيَةً، قال: إِنَّهُ سَبَقَ مِنِّي أَنَّهُمْ إِلَيْهَا لاَ يُرْجَعُونَ، قال: يَا رَبِّ فَأَبْلِغْ مَنْ ورائي ) (1) .
وعند مسلم من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( لاَ يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدُكُمُ الْمَوْتَ لِضُرٍّ نَزَلَ بِهِ؛ فَإِنْ كَانَ لاَ بُدَّ مُتَمَنِّيًا فَلْيَقُلِ: اللهُمَّ أحيني مَا كَانَتِ الْحَيَاةُ خَيْرًا لي وتوفني إِذَا كَانَتِ الْوَفَاةُ خَيْرًا لي ) (2)، وعند أبي داود وصححه الألباني من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على جنازة فقال: ( اللهُمَّ اغْفِرْ لِحَيِّنَا وَمَيِّتِنَا وَصَغِيرِنَا وَكَبِيرِنَا، وَذَكَرِنَا وَأُنْثَانَا، وَشَاهِدِنَا وَغَائِبِنَا، اللهُمَّ مَنْ أَحْيَيْتَهُ مِنَّا فَأَحْيِهِ عَلَى الإِيمَانِ، وَمَنْ تَوَفَّيْتَهُ مِنَّا فَتَوَفَّهُ عَلَى الإِسْلاَمِ، اللهُمَّ لاَ تَحْرِمْنَا أَجْرَهُ وَلاَ تُضِلنَا بَعْدَهُ ) (3) .
__________
(1) ابن ماجة، باب فيما أنكرت الجهمية 1/68 (190)، صحيح الجامع (7905) .
(2) مسلم في الذكر والدعاء والتوبة، باب تمني كراهة الموت لضر نزل به 4/2064 (2680) .
(3) أبو داود في الجنائز، باب الدعاء للميت 3/211 (3201)، مشكاة المصابيح (1675) .(2/151)
الدعاء باسم الله الحي دعاء عبادة .
أثر الاسم في اعتقاد العبد وسلوكه أن يوجه حياته على أنه في دار ابتلاء سيعقبها سؤال وجزاء، وأن الملك لله في البدء عند إنشاء الخلق فلم يكن من الإحياء سواه وكذلك في المنتهى عند زوال الأرض لأن البقاء لله - عز وجل -، فالموحد لا ينسب الملك لغيره إلا على سبيل الأمانة والابتلاء، ويستعين بربه في السراء والضراء، ولا يشرك به في الدعاء أو المحبة والخوف والرجاء؛ لأن الدعاء يستلزم إثبات الحياة، والحياة أصل لوصف العلم والغنى القدرة والسمع والبصر والقوة والمشيئة والعزة والعظمة، وغير ذلك مما هو لازم لإجابة الدعاء، وقد نفي الله ذلك عن الأنداد جميعها لأنها أموات غير أحياء فقال - عز وجل -: { وَالذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ لاَ يَخْلقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلقُونَ أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ } [النحل:20/21] .
ومن دعاء العبادة عدم الاعتداء على حق الله في الإماتة والإحياء، وذلك بتعظيم النفس التي حرم الله قتلها إلا بالحق، فالاعتداء على شخص اعتداء على سائر الجنس قال - عز وجل - بعد ذكره لأول نفس قتلت: { مِنْ أَجْل ذَلكَ كَتَبْنَا عَلى بَنِي إِسْرائيل أَنَّهُ مَنْ قَتَل نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَل النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً } [المائدة:32]، وقال تعالى: { وَمَنْ يَقْتُل مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالداً فِيهَا وَغَضِبَ اللهُ عَليْهِ وَلعَنَهُ وَأَعَدَّ لهُ عَذَاباً عَظِيماً } [النساء:93] .(2/152)
ومن أعظم الجرم أن يقتل المسلم نفسه يئسا من الحياة، وقد علم أن المنفرد بالإحياء والإماتة هو الله، بل قد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن مجرد تمني الموت، فكيف بعظم الإثم في الانتحار، وعند البخاري من حديث أنس - رضي الله عنه - أن رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: ( لاَ يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمُ المَوْتَ لضُرٍّ نَزَل بِهِ، فَإِنْ كَانَ لاَ بُدَّ مُتَمَنِّيًا للمَوْتِ فَليَقُل: اللهُمَّ أَحْيِنِي مَا كَانَتِ الحَيَاةُ خَيْرًا لي، وَتَوَفَّنِي إِذَا كَانَتِ الوَفَاةُ خَيْرًا لي ) (1)، وروى أيضا من حديث قيس - رضي الله عنه - أنه قال: ( أَتَيْتُ خَبَّابًا - رضي الله عنه - وَقَدِ اكْتَوَى سَبْعًا فِي بَطْنِهِ فَسَمِعْتُهُ يَقُول: لوْلاَ أَنَّ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - نَهَانَا أَنْ نَدْعُوَ بِالمَوْتِ لدَعَوْتُ بِهِ ) (2) .
وعند البخاري من حديث أَبِي هريرة - رضي الله عنه - أنِ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( مَنْ تَرَدَّى مِنْ جَبَل فَقَتَل نَفْسَهُ، فَهْوَ في نَارِ جَهَنَّمَ يَتَرَدَّى فِيهِ خَالدًا مُخَلدًا فِيهَا أَبَدًا، وَمَنْ تَحَسَّي سَمًّا فَقَتَل نَفْسَهُ فَسَمُّهُ فِي يَدِهِ يَتَحَسَّاهُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالدًا مُخَلدًا فِيهَا أَبَدًا، وَمَنْ قَتَل نَفْسَهُ بِحَدِيدَةٍ فَحَدِيدَتُهُ فِي يَدِهِ يَجَأُ بِهَا فِي بَطْنِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالدًا مُخَلدًا فِيهَا أَبَدًا ) (3) .
وممن تسمى عبد الحي، أبو يحيي عبد الحي بن سويد، روى عن أبي هشام الرفاعي وروى عنه ابن ماجة (4) .
********************************
39- الله - جل جلاله - القَيُّومُ
__________
(1) البخاري في الدعوات، باب الدعاء بالموت والحياة 5/ 2337 (5990) .
(2) الموضع السابق حديث رقم (5989) .
(3) البخارى في الطب، باب شرب السم والدواء به 5/ 2179 (5442) .
(4) تهذيب التهذيب 12/ 305 .(2/153)
********************************
الدليل على ثبوت الاسم وإحصائه .
ورد الاسم مقترنا باسم الله الحي كما في الآيات السابقة وأيضا في قوله: { وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْما } [طه:111]، وتقدم أيضا حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - أَنَّهُ كَانَ مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - جَالِسًا وَرَجُلٌ يُصَلِّي ثُمَّ دَعَا: ( اللهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِأَنَّ لَكَ الْحَمْدَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ الْمَنَّانُ بَدِيعُ السَّماَوَاتِ وَالأَرْضِ يَا ذَا الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ، يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: ( لَقَدْ دَعَا اللهَ بِاسْمِهِ الْعَظِيمِ الذِي إِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ وَإِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى ) (1)، وقد اعتبر بعض العلماء القائم والقيم والقيام من الأسماء الحسنى (2)، وليست كذلك لأنها وردت مضافة مقيدة، وورد الإطلاق في القيام فقط لكن في قراءة شاذة عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - (3) .
شرح الاسم وتفسير معناه .
__________
(1) أبو داود في كتاب الصلاة، باب الدعاء 2/79 (1495)، صحيح أبي داود 1/279 (1326) .
(2) القائم ذكره ابن ماجة في رواية عبد الملك الصنعاني، كتاب الدعاء، باب أسماء الله، 2/ 1269 (3861) والزجاج في اشتقاق أسماء الله ص126، وابن حجر في تلخيص الحبير 4/ 174، أما القيام فقد ذكره ابن منده وابن العربي، وأما القيم فذكره ابن العربي، انظر أسماء الله الحسنى للغصن ص 353 .
(3) البخاري في كتاب التفسير، تفسير سورة نوح 4/ 1872 .(2/154)
القيوم في اللغة من صيغ المبالغة، فعله قام يَقوم قوْما وقِياما، ويأتي الفعل على معنيين، الأول القيام بالذات والبقاء على الوصف، والثاني إقامة الغير والإبقاء عليه لأن غيره مفتقر إليه، فالأول على اعتبار صفة الذات، والثاني على اعتبار صفة الفعل وعلى هذين المعنيين دارت عبارات اللغويين، فالقيوم هو القائم بنفسه مطلقاً لا بغيره الباقي أزلا وأبدا، أو القائم بتدبير أُمور الخلق وتدبير العالم بجميع أَحواله، فهو القائم بأَمور خلقه في إِنشائهم وتولي أرزاقهم وتحديد آجالهم وأَعمالهم، وهو العليم بمُسْتَقرِّهم ومستودعهم، وهو الذي يقوم به كل موجود حتى لا يتصور وجود شيء ولا دوام وجوده إِلا بقيوميته وإقامته له (1) .
__________
(1) لسان العرب 12/496، واشتقاق أسماء الله ص 105، ومفردات ألفاظ القرآن ص690 .(2/155)
والقيوم سبحانه هو القائم بنفسه الذي بلغ مطلق الكمال في وصفه، والباقي بكماله ووصفه على الدوام دون تغيير أو تأثير، فقد يكون الحي سميعا لكن يتأثر سمعه مع مرور الوقت، فيفتقر إلى وسيلة إضافية للسماع، يضع سماعة أو آلة يستعين بها لإكمال سمعه، فيلزم لاتصافه بكمال السمع أن يكون قيوما في سمعه، له البقاء والكمال فيه على الدوام، وقد يكون الحي بصيرا لكن بصره يتأثر مع مرور الوقت فيفتقر إلى وسيلة إضافية للإبصار، فيضع زجاجة أو نظارة يستعين بها، فيلزم لاتصافه بكمال البصر والإبصار أن يكون قيوما في بصره له البقاء والكمال فيه على الدوام، والحي قد يكون متصفا بالصفات لكنه يتأثر بالغفلة والسنات، فتتأثر صفاته وتضمحل وربما ينام أو يموت فتزول وتنعدم، فلو كان قائما دائما لكملت حياته وبقيت صفاته، ولذلك قال تعالى: { اللهُ لا إِلهَ إِلا هُوَ الحَيُّ القَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ } [البقرة:255]، فأثبت الحياة والقيومية اللازمة لكمال أسمائه وصفاته وأفعاله، وهذا المعنى كله في دلالة القيوم على صفة الذات، أما دلالته على صفة الفعل فالقيومية هنا مردها إلى معنى الربوبية فالقيم في اللغة هو السيد الذي يسوس الأمور ويدبرها، فقيم البلدة سيدها وأمينها ومدبرها ومنه قوله: { أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ } [الرعد:33] (1) وعند البخاري مرفوعا: ( أَنْتَ قَيِّمُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ ) (2) .
دلالة الاسم على أوصاف الله .
اسم القيوم يدل على ذات الله وعلى صفة القيومية بدلالة المطابقة، ويدل على ذات الله وحدها بالتضمن وعلى الصفة وحدها بالتضمن، قال ابن القيم:
هذا ومن أوصافه القيوم والقيوم في أوصافه أمران
أحداهما القيوم قام بنفسه والكون قام به هما الأمران
__________
(1) تفسير البيضاوي 1/555، وتفسير القرطبي 3/272، وتفسير ابن كثير 1/309 .
(2) البخاري في كتاب التهجد 5/2328 (5958) .(2/156)
فالأول استغناؤه عن غيره والفقر من كل إليه الثاني
والوصف بالقيوم ذو شأن عظيم هكذا موصوفه أيضا عظيم الشان (1) .
واسم الله القيوم يدل باللزوم على الوجود والبقاء والغنى بالنفس وسائر أنواع الكمال في الذات والصفات والأفعال، وكما ذكرنا في اسم الله الحي أن جميع الأسماء الحسنى تدل على صفة الحياة باللزوم ما عدا الحي فإنه يدل عليها بالتضمن كذلك القول في اسم الله القيوم؛ فإن جميع الأسماء الحسنى تدل على صفة القيومية باللزوم ما عدا القيوم فإنه يدل عليها بالتضمن، ولولا صفة الحياة والقيومية ما كملت بقية أسمائه وصفاته وأفعاله فدوام الحياة والقيومية من دلائل دوام والملك والربوبية وكمال الصفات الإلهية، وقد أحسن ابن قيم الجوزية حين وصف ذلك في النونية فقال:
وله الحياة كمالها فلأجل ذا ما للممات عليه من سلطان
وكذلك القيوم من أوصافه ما للمنام لديه من غشيان
وكذاك أوصاف الكمال جميعها ثبتت له ومدارها الوصفان
فمصحح الأوصاف والأفعال والأسماء حقا ذانك الوصفان
ولأجل ذا جاء الحديث بأنه في آية الكرسي وذي عمران
اسم الإله الأعظم اشتملا على اسم الحي والقيوم مقترنان
فالكل مرجعها إلى الاسمين يدري ذاك ذو بصر بهذا الشان (2) .
الدعاء باسم الله القيوم دعاء مسألة .
__________
(1) شرح قصيدة ابن القيم 2/236 .
(2) توضيح المقاصد وتصحيح القواعد في شرح قصيدة الإمام ابن القيم 1/ 259 .(2/157)
ورد دعاء المسألة بالاسم المطلق مقترنا باسم الله الحي في الأحاديث السابقة، أما دعاء المسألة بالوصف فقد ورد عند البخاري من حديث ابن عباس - رضي الله عنه - قال: ( كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا قَامَ مِنَ الليْلِ يَتَهَجَّدُ قال: اللهمَّ لَكَ الحَمْدُ أَنْتَ قَيِّمُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ وَلَكَ الحَمْدُ .. اللهمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ، وَبِكَ آمَنْتُ وَعَلَيْكَ تَوَكَّلتُ، وَإِلَيْكَ أَنَبْتُ وَبِكَ خَاصَمْتُ، وَإِلَيْكَ حَاكَمْتُ، فَاغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ، وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ أَنْتَ المُقَدِّمُ وَأَنْتَ المُؤَخِّرُ، لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ أَوْ لاَ إِلَهَ غَيْرُكَ ) (1) .
وروى أحمد وصححه الألباني من حديث البراء بن عازب - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال عن الميت المؤمن في قبره: ( وَيَأْتِيهِ رَجُلٌ حَسَنُ الْوَجْهِ حَسَنُ الثِّيَابِ طَيِّبُ الرِّيحِ فَيَقُولُ: أَبْشِرْ بالذي يَسُرُّكَ، هَذَا يَوْمُكَ الذي كُنْتَ تُوعَدُ فَيَقُولُ لَهُ: مَنْ أَنْتَ فَوَجْهُكَ الْوَجْهُ يجيء بِالْخَيْرِ؟ فَيَقُولُ: أَنَا عَمَلُكَ الصَّالِحُ، فَيَقُولُ: رَبِّ أَقِمِ السَّاعَةَ حَتَّى أَرْجِعَ إِلَى أهلي ومالي ) (2).
الدعاء باسم الله القيوم دعاء عبادة .
__________
(1) البخاري في التهجد، باب التهجد بالليل 1/377 ( 1069) .
(2) أحمد في المسند 4/ 287، وانظر صحيح الجامع (1676) .(2/158)
إذا علم العبد الذليل أن الله - عز وجل - قيوم قائم بالقسط والتدبير ومنفرد بالمشيئة والتقدير عنده خزائن كل شيء، لا ينزله إلا بقدر معلوم، وأنه كفيل بأمره ورزقه، اعتمد على ربه في كل شيء، ووثق به دون كل شيء، وقنع منه بأدنى شيء، وصبر على ما ابتلاه به، فلا يطمع في سواه، ولا يرجو إلا إياه، ولا يشهد في العطاء إلا مشيئته ولا يرى في المنع إلا حكمته، ولا يعاين في القبض والبسط إلا قدرته وقيوميته، فيكثر من دعائه وذكره لاسيما إذا حزبه هم أو لحقه كرب، وتقدم من حديث من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - أنه قال: ( كَانَ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - إِذَا كَرَبَهُ أَمْرٌ، وفي رواية أخري إذا حزبه أمر قَال: يَا حَيُ يَا قَيُّومُ بِرَحْمَتِكَ أَسْتَغِيثُ ) (1) .
__________
(1) تقدم تخريجه ص409 .(2/159)
وقد ثبت في السنة أن أعظم آية في كتاب الله هي آية الكرسي، ومن أسرار عظمتها اشتمالها على اسم الله الأعظم وهو الحي القيوم، فمن قرأها قبل نومه تكفل الله بحفظه فلا يقربه شيطان حتى يصبح، روى الإمام البخاري من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال: ( وكلني رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بِحِفْظِ زَكَاةِ رَمَضَانَ (1)، فأتاني آتٍ فَجَعَل يَحْثُو مِنَ الطَّعَامِ (2) ، فَأَخَذْتُهُ وَقُلتُ: وَاللهِ لأَرْفَعَنَّكَ إِلى رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - (3)، قَال: إني مُحْتَاجٌ وَعَلى عِيَال وَلي حَاجَةٌ شَدِيدَةٌ، قَال: فَخَليْتُ عَنْهُ، فَأَصْبَحْتُ؛ فَقَال النبي - صلى الله عليه وسلم - : يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، مَا فَعَل أَسِيرُكَ البَارِحَةَ؟، قُلتُ: يَا رَسُول اللهِ شَكَا حَاجَةً شَدِيدَةً وَعِيَالا فَرَحِمْتُهُ فَخَليْتُ سَبِيلهُ، قَال: أَمَا إِنَّهُ قَدْ كَذَبَكَ وَسَيَعُودُ، فَعَرَفْتُ أَنَّهُ سَيَعُودُ لقَوْل رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إِنَّهُ سَيَعُودُ فَرَصَدْتُهُ (4)، فَجَاءَ يَحْثُو مِنَ الطَّعَامِ، فَأَخَذْتُهُ فَقُلتُ: لأَرْفَعَنَّكَ إلى رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، قَال: دعني فإني مُحْتَاجٌ وعلى عيال لا أَعُودُ فَرَحِمْتُهُ فَخَليْتُ سَبِيلهُ، فَأَصْبَحْتُ، فَقَال لي رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : يَا أَبَا هُرَيْرَةَ مَا فَعَل أَسِيرُكَ؟ قُلتُ: يَا رَسُول اللهِ شَكَا
__________
(1) كان أبو هريرة - رضي الله عنه - حارسا على تمر الصدقة فوجد التمر قد أخذ منه ملء كف فترقب السارق، انظر السنن الكبرى للنسائي 5/13 .
(2) الحثي ما رفعت به يديك، انظر لسان العرب 14/164 والمعنى: أخذ يرفع من التمر بيديه ليسرقه .
(3) لأَرْفَعَنَّكَ يعنى لأشكونك، ومنها المرافعة يرفع كل خصم صاحبة إلى السلطان، المغرب 1/339 .
(4) ترقبت مجيئه لأمسك به، فالترصد: الترقب، انظر لسان العرب 3/177 .(2/160)
حَاجَةً شَدِيدَةً وَعِيَالا فَرَحِمْتُهُ فَخَليْتُ سَبِيلهُ، قَال: أَمَا إِنَّهُ قَدْ كَذَبَكَ وَسَيَعُودُ، فَرَصَدْتُهُ الثَّالثَةَ، فَجَاءَ يَحْثُو مِنَ الطَّعَامِ، فَأَخَذْتُهُ فَقُلتُ لأَرْفَعَنَّكَ إلى رسول اللهِ، وَهَذَا آخِرُ ثَلاثِ مَرَّاتٍ أَنَّكَ تَزْعُمُ لا تَعُودُ ثُمَّ تَعُودُ .
قَال: دعني أُعَلمْكَ كَلمَاتٍ يَنْفَعُكَ اللهُ بِهَا، قُلتُ: مَا هُوَ؟، قَال إِذَا أَوَيْتَ إِلى فِرَاشِكَ فَاقْرَأْ آيَةَ الكرسي: { اللهُ لا إِلهَ إِلا هُوَ الحي القَيُّومُ } حَتَّى تَخْتِمَ الآيَةَ فَإِنَّكَ لنْ يَزَال عَليْكَ مِنَ اللهِ حَافِظٌ وَلا يَقْرَبَنَّكَ شَيْطَانٌ حَتَّى تُصْبِحَ، فَخَليْتُ سَبِيلهُ فَأَصْبَحْتُ، فَقَال لي رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : مَا فَعَل أَسِيرُكَ البَارِحَةَ؟، قُلتُ: يَا رَسُول اللهِ زَعَمَ أَنَّهُ يعلمني كَلمَات ينفعني اللهُ بِهَا فَخَليْتُ سَبِيلهُ، قَال: مَا هي؟ قُلتُ: قَال لي إِذَا أَوَيْتَ إِلى فِرَاشِكَ فَاقْرَأْ آيَةَ الكُرْسِي مِنْ أَوَّلهَا حَتَّى تَخْتِمَ الآيَةَ، وَقَال لي لنْ يَزَال عَليْكَ مِنَ اللهِ حَافِظٌ وَلا يَقْرَبَكَ شَيْطَانٌ حَتَّى تُصْبِحَ، وَكَانُوا أَحْرَصَ شَيْءٍ عَلى الخَيْرِ، فَقَال النبي - صلى الله عليه وسلم - : أَمَا إِنَّهُ قَدْ صَدَقَكَ وَهُوَ كَذُوبٌ، تَعْلمُ مَنْ تُخَاطِبُ مُنْذُ ثَلاثِ ليَال يَا أَبَا هُرَيْرَةَ؟ قَلت: لا قَال: ذَاكَ شَيْطَانٌ ) (1) .
ويؤخذ من هذا الحديث أن الشيطان قد يعلم ما ينتفع به المؤمن، وأن الكذاب قد يصدق، وأن الحكمة قد يتلقاها الفاجر فلا ينتفع بها، وتؤخذ عنه فينتفع بها، وقد علم الشيطان أن استعانة الإنسان بالحي القيوم يبقيه قائما بربه فلا يقدر على القرب منه .
__________
(1) البخارى في الوكالة، باب إذا وكل رجلا فترك الوكيل شيئا فأجازه الموكل فهو جائز 2/812 (2187) .(2/161)
وبخصوص من تسمى عبد القيوم، قال ابن عبد البر: ( عبد الرحمن أبو راشد الأزدي، وفد على النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال له: ما اسمك؟ فقال: عبد العزي، قال: أبو من؟ قال: أبو مغوية، قال: كلا، ولكنك عبد الرحمن أبو راشد، قال: فمن هذا معك؟ قال: مولاي، قال: ما اسمه؟ قال: قيوم، قال: كلا ولكنه عبد القيوم ) (1)، وقال الذهبي: ( عبد القيوم له وفادة مع مولاه أبي راشد ) (2) .
********************************
40- الله - جل جلاله - العَلِيُّ
********************************
الدليل على ثبوت الاسم وإحصائه .
ورد اسم الله العلي مقرونا بالعظيم في موضعين من القرآن قال تعالى: { وَهُوَ العَلِيُّ العَظِيمُ } [البقرة:255]، وقال أيضا: { لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَهُوَ العَلِيُّ العَظِيمُ } [الشورى:4]، واقترن باسمه الكبير في أربعة مواضع من كتاب الله منها قوله تعالى: { ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ البَاطِلُ وَأَنَّ اللهَ هُوَ العَلِيُّ الكَبِير } [الحج:62]، وعن أبي داود وابن ماجه وصححه الألباني من حديث عبادة - رضي الله عنه - أن رسول - صلى الله عليه وسلم - قال: ( مَنْ تَعَارَّ مِنَ الليْلِ فَقَالَ حِينَ يَسْتَيْقِظُ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلكُ وَلَهُ الحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شيء قَدِيرٌ، سُبْحَانَ اللهِ وَالحَمْدُ للهِ وَلاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَاللهُ أَكْبَرُ وَلاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللهِ العَلِىِّ العَظِيمِ، ثُمَّ دَعَا رَبِّ اغْفِرْ لي، غُفِرَ لَهُ ) (3) .
__________
(1) الاستيعاب في معرفة الأصحاب 2/ 832 (1408) .
(2) المقتنى في سرد الكنى للذهبي 1/380 (3963) .
(3) ابن ماجه في كتاب الدعاء 2/1276 (3878)، وانظر صحيح أبي داود 1/335 (3128) .(2/162)
وفي سنن ابن ماجه أيضا وصححه الألباني من حديث عبد الله بْنِ عَبَّاسٍ - رضي الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَقُولُ عِنْدَ الكَرْبِ: ( لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ العَلِىُّ العَظِيمُ، لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ الحَلِيمُ الكَرِيمُ، لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ رَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ، لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَرَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ ) (1) .
شرح الاسم وتفسير معناه .
العلي في اللغة فعِيل بمعنى فاعِل، صفة مشبهة للموصوف بالعلو، فعله علا يعلو علوا، والعلو ارتفاع المكان أو ارتفاع المكانة، فمن علو المكان ما رواه مسلم عن َزُهَيْرِ - رضي الله عنه - أنه قال: ( لَمَّا نَزَلَتْ: { وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقرَبِينَ } [الشعراء:214]، انْطَلَقَ نَبِي اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إِلَى رَضْمَةٍ مِنْ جَبَلٍ فَعَلاَ أَعْلاَهَا حَجَرًا، ثُمَّ نَادَى: يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافَاهْ إِنِّي نَذِيرٌ ) (2)، وعند البخاري من حديث أنس - رضي الله عنه - مرفوعا: ( فَعَلاَ بِهِ إِلَى الْجَبَّارِ فَقَالَ وَهْوَ مَكَانَهُ: يَا رَبِّ خَفِّف عَنَّا؛ فَإِن أمَّتِي لاَ تَسْتَطِيعُ هَذَا ) (3) .
أما العلو بمعنى علو الرفعة والمجد أو الشرف والمكانة فكقوله تعالى: { فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ } [محمد:35]، وعَلا في الأرض واسْتَعْلَى الرجل علا وتكبر، والعَليَاء كل مكان مشرف، والعَلاء والعُلا الرفعة والشرف (4) .
__________
(1) السابق 2/1278 (3883)، صحيح ابن ماجة 2/336 (3133) .
(2) مسلم في الإيمان، باب في قوله تعالى وأنذر عشيرتك الأقربين 1/193 (207)، والرضمة صخور عظام بعضها فوق بعض، انظر لسان العرب 12/245 .
(3) البخاري في التوحيد، باب قوله وكلم الله موسى تكليما 6/ 2731 (7079) .
(4) لسان العرب 15/84، وكتاب العين 2/245 .(2/163)
والعلي في أسماء الله هو الذي على بذاته فوق جميع خلقه، فاسم الله العلي دل على علو الذات والفوقية، وكثير من الذين شرحوا الأسماء حاولوا بكل سبيل تفسير العلو الذي دل عليه اسمه العلي بعلو المكانة والمنزلة فقط؛ إما هربا من إثبات علو الذات والفوقية أو تعطيلا خفيا له بالتأويلات العقلية (1) .
والذي عليه السلف الصالح من الصحابة والتابعين والأئمة الأجلاء المتبعين أن الله - عز وجل - عال على عرشه بذاته، وبكيفية حقيقية معلومة لله مجهولة لنا، لا ينازع أحد منهم في ذلك، ولا يمنع أن يسأل عن ربه أين هو؟ وأدلة الكتاب والسنة تشهد بلا لبس أو غموض على ذلك .
__________
(1) انظر على سبيل المثال: المقصد الأسنى في شرح معاني أسماء الله الحسنى ص 106 .(2/164)
ودائما ما يقترن اسم الله العلي باسمه العظيم، وكذلك عندما يذكر العرش والكرسي ففي آية الكرسي ـ أعظم آية في كتاب الله ـ بعد أن قال: { وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا } قال: { وَهُوَ العَلِيُّ العَظِيم } [البقرة:255]، ولما ذكر علوه فقال: { فَتَعَالَى الله المَلِكُ الحَقُّ } ذكر بعده العرش بكرمه وسعته فقال: { لا إِلَهَ إِلا هُوَ رَبُّ العَرْشِ الكَرِيم } [المؤمنون:116]، ولما ذكر إعراض الخلق عن عبادته أعلم نبيه - صلى الله عليه وسلم - في أعقاب ذلك أنه الملك الذي لا يزول عن عرشه بإعراض الرعية في مملكته كشأن الملوك من خلقه، لأنه المستغني بذاته الملك في استوائه، لا يفتقر إلى أحد في قيام ملكه أو استقراره، فقال لنبيه - صلى الله عليه وسلم - : { فَإِنْ تَوَلوْا فَقُل حَسْبِيَ الله لا إِلَهَ إِلا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلتُ وَهُوَ رَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ } [التوبة:129]، وقال تعالى: { قُل لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لابْتَغَوْا إِلَى ذِي العَرْشِ سَبِيلا } [الإسراء:42] فلو كانت هذه آلهة على الحقيقة لنازعوا الحق في عليائه حتى يتحقق مراد الأقوى منهم وينفرد بالعلو كإله واحد، وهذا معلوم بدليل التمانع (1)، أو لو أنه اتخذهم آلهة واصطفاهم لطلبوا قربه والعلو عنده لعلمهم أنه العلي على خلقه (2) .
__________
(1) دليل التمانع دليل مشهور بين المتكلمين وهو حق في إثبات توحيد الربوبية، انظر لمع الأدلة في قواعد أهل السنة ص 99، والغنية في أصول الدين ص67، وشرح العقيدة الطحاوية ص87 .
(2) انظر: تفسير ابن جرير 15/91، والدر المنثور 5/288، وتفسير الواحدي 2/ 635 .(2/165)
فهذه الآيات واضحة في إثبات علو الذات والفوقية وغيرها كثير، لكن كثيرا من المفسرين لاسم الله العلي جعلوه دالا على معنيين فقط من معاني العلو، وهما علو الشأن وعلو القهر، واستبعدوا المعنى الثالث وهو علو الذات والفوقية، والثابت الصحيح أن معاني العلو عند السلف ثلاثة معان دلت عليها أسماء الله المشتقة من صفة العلو، فاسم الله العلي دل على علو الذات، واسمه الأعلى دل على علو الشأن، واسمه المتعال دل على علو القهر .
والمتكلمون أصحاب الطريقة العقلية والأقيسة المنطقية في وصف الذات الإلهية ينفون عن الله علو الذات والفوقية لأنه عندهم يدل على إثبات المكان لله، وما كان في مكان فهو محصور فيه، ولذلك لا يجوز عندهم بحال من الأحوال أن يسأل عن الله بأين؟ وهذا مخالف لصريح السنة فقد ثبت في حديث الجارية الذي رواه مسلم من حديث معاوية بن الحكم - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لها: ( يا جارية أَيْنَ الله؟ قَالَتْ: فِي السَّمَاء، قال: مَنْ أَنَا؟ قَالَتْ: أَنْتَ رَسُولُ اللهِ قال: أَعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ ) (1) .
وهذا الحديث مع وضوحه كالشمس في أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - سأل عن الله بأين سؤالا لا لبس فيه ولا غموض إلا أن الكثيرين من المتكلمين تأبى أنفسهم إثباته، لأن أين هنا يتصورون منها المكان الذي في عالم الشهادة، والذي يخضع للأقيسة التمثيلية والشمولية أما المكان ذو الكيفية الغيبية الذي لا يعلم خصائصه إلا الله فهذا لا اعتبار له عندهم ولا خطر ببالهم أن يكون المراد، ولذلك فإن عقيدة السلف تفرق بين نوعين من المكان:
__________
(1) مسلم في كتاب المساجد، باب تحريم الكلام في الصلاة 1/ 381 (537) .(2/166)
الأول: ما كان محصورا بالمحاور الفراغية المعروفة في محيط المخلوقات المشهودة والذي يخضع لأحكامنا العقلية ولأقيستنا المنطقية، فمكان الشيء يحدد في المقاييس الحديثة باعتبار ثلاثة محاور رئيسية متعامدة، اثنان يمثلان المستوى الأفقي الموازي لسطح الأرض والثالث يمثل الارتفاع عن ذلك المستوى، وأجسام الدنيا يحدد مكانها بمدى الارتفاع في المحور الرأسي عن مستوى المحورين الأفقيين، ولاشك أن تلك المقاييس المكانية لا تصلح بحال ما في قياس ما هو خارج عن محيط العالم، فضلا عن قياس الأشياء الدقيقة كالإلكترون في دورانه حول نواة الذرة، فقد ثبت أن محاوره أكثر من ثلاثة بكثير .
الثاني: يراد به المكان الغيبي الذي يخرج عن مداركنا ولا نعلم خصائصه لصعوبة ذلك علينا، والمكان بهذا الاعتبار حق موجود ولا يخضع بحال من الأحوال لمقاييس المكان في حسابات المخلوقين، فلا يمكن للمتكلمين أن يطبقوا هذه المقاييس على ملك الموت عندما يأتي لقبض الأرواح مع أنه مخلوق له ذات وكينونة منفصلة، وهو مع ذلك لا يحجبه باب ولا جدار، ولا يمنعه جب أو قرار كما قال رب العزة والجلال: { أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ المَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ } [النساء:78]، فملك الموت مخلوق باتفاق ولا يخضع في مكانه وزمانه لمقاييسنا التي يريدون بها الحكم على استواء الله على عرشه، ومن ثم لا يصلح أن نمنع دلالة الآيات والأحاديث ونحول معنى اسم الله العلي من علو الفوقية إلى علو الرتبة والمنزلة بحجة أننا لو أثبتناها لكان الله في مكان، فعلو الشأن ثابت بدلالة اسمه الأعلى، وعلو القهر ثابت بدلالة اسمه المتعال .(2/167)
والرسول - صلى الله عليه وسلم - لما قال للجارية: أين الله؟ علم - صلى الله عليه وسلم - أن أين للمكان، ويعلم لوازم قوله ولو كان في ذلك خطأ وتشبيه وتجسيم كما يدعي البعض ما سأل الجارية بلفظ يحتمل معناه الخلاف ودواعي الاختلاف، والجارية لما قالت: الله في السماء، تعني العلو وشهد لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالإيمان، فلا إشكال عند الموحدين العقلاء في فهم حديث الجارية، وقولها: إن الله في السماء، والأمر واضح جلي ظاهر، فأي اعتراض على ذلك إنما هو اعتراض على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
وعلو الفوقية أو علو الذات الذي دل عليه اسمه العلي ثابت على الحقيقة بالكتاب والسنة وإجماع الأنبياء والمرسلين وأتباعهم، فهو سبحانه وتعالى مستو على عرشه بائن من خلقه، لا خلقه في شيء من ذاته، ولا ذاته في شيء من خلقه، وهو من فوق عرشه يعلم أعمالهم ويسمع أقوالهم ويرى أفعالهم، لا تخفى منهم خافية، والأدلة في ذلك أكثر من أن تحصى وأجل من أن تستقصى، والفطرة السليمة والنفوس المستقيمة مجبولة على الإقرار بذلك، وجل الأدلة بقرائنها تجعل المعنى الذي دل عليه اسم الله العلي هو علو الذات والفوقية، قال ابن خزيمة: ( والله قد وصف نفسه في غير موضع من تنزيله ووحيه وأعلمنا أنه العلي العظيم، أفليس العلي يا ذوي الحجا ما يكون عليا لا كما تزعم المعطلة الجهمية أنه أعلى وأسفل ووسط ومع كل شيء وفي كل موضع من أرض وسماء وفي أجواف جميع الحيوان، ولو تدبروا آية من كتاب الله ووفقهم الله لفهمها؛ لعقلوا أنهم جهال لا يفهمون ما يقولون، وبان لهم جهل أنفسهم وخطأ مقالتهم ) (1) .
دلالة الاسم على أوصاف الله .
__________
(1) كتاب التوحيد وإثبات صفات الرب عز وجل، ص 257 .(2/168)
اسم الله العلي يدل على ذات الله وعلى علو الذات والفوقية بدلالة المطابقة، وعلى ذات الله وحدها بالتضمن، وعلى الصفة وحدها بالتضمن، قال تعالى: { الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى } [طه:5]، وقال: { إِنَّ رَبَّكُمُ الله الذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى العَرْشِ } [لأعراف:54]، واسم الله العلي يدل باللزوم على الحياة والقيومية والملك والأحدية والسيادة والصمدية والكبرياء والعظمة والهيمنة والعزة والقوة والقدرة، وغير ذلك من أوصاف الكمال .
وتجدر الإشارة إلى الفرق بين العلو والاستواء، فالعلو وصف ذاتي لله - عز وجل - على الدوام، سواء قبل وجود العرش أو حال وجوده، فالله - عز وجل - فوق جميع الخلق بذاته تنزه عن الحلول والاتحاد والممازجة والاختلاط، فهو بائن من خلقه والخلق بائنون منه وهو عال على عرشه بوصف ذاته قبل خلق السماوات والأرض، أما بعد خلقهما فهو عال على عرشه بوصف ذاته وفعله، لأن الاستواء على العرش وصف فعل يتعلق بمشيئة الله - عز وجل - تم بعد خلق السماوات والأرض، ولذلك ورد في ستة مواضع من القرآن التعبير بقوله ثم استوى على العرش، وهي لغويا تفيد الترتيب والتراخي (1) .
قال تعالى: { الذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى العَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَل بِهِ خَبِيراً } [الفرقان:59] (2)، وعلى ذلك فإن العلو الذي دل عليه اسمه العلي وصف ذاتي من لوازم الذات الإلهية، وهو أعم من الاستواء، فكل استواء علو وليس كل علو استواء (3) .
الدعاء باسم الله العلي دعاء مسألة .
__________
(1) انظر الفصول المفيدة في الواو المزيدة، لأبي سعيد خليل بن عبد الله العلائي ص95 .
(2) وانظر أيضا:سورة الأعراف:54، ويونس:3، والرعد:2، والسجدة:4، والحديد:4 .
(3) انظر حول هذا المعنى: اجتماع الجيوش الإسلامية 1/93، 1/107، ومجموع الفتاوى 5/54 .(2/169)
دعاء المسألة أن يثني على الله ويمدحه بالاسم أو الوصف في حاجته ومطلبه، وقد ورد الدعاء بالاسم المطلق في أحاديث كثيرة تقد ذكرها في كحديث عبادة - رضي الله عنه - مرفوعا وفيه: ( مَنْ تَعَارَّ مِنَ الليْلِ فَقَالَ حِينَ يَسْتَيْقِظُ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ الله وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ لَهُ المُلكُ وَلَهُ الحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شيء قَدِيرٌ، سُبْحَانَ الله، وَالحَمْدُ للهِ، وَلاَ إِلَهَ إِلاَّ الله، وَالله أَكْبَرُ، وَلاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِالله العَلِي العَظِيمِ، ثُمَّ دَعَا: رَبِّ اغْفِرْ لي، غُفِرَ لَهُ ) (1)، ومن حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( من قال حين يأوي إلى فراشه: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر غفرت له ذنوبه أو خطاياه، وإن كانت مثل زبد البحر ) (2)، وقد سبق أيضا في دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - عند الكرب: ( لاَ إِلَهَ إِلاَّ الله العَلِي العَظِيمُ، لاَ إِلَهَ إِلاَّ الله الحَلِيمُ الكَرِيمُ، لاَ إِلَهَ إِلاَّ الله رَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ الله رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَرَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ ) (3) .
الدعاء باسم الله العلي دعاء عبادة .
__________
(1) ابن ماجة في الدعاء، باب ما يدعو به إذا انتبه من الليل 2/1276(3878)، والكلم الطيب (43) .
(2) صحيح الترغيب والترهيب (607) .
(3) الترمذي في الدعوات 4/495 ( 3435)، والسلسلة الصحيحة 5/73 (2045) .(2/170)
اعتقاد الموحد في اسم الله العلي وإيمانه بعلو الله على خلقه يدفعه إلى توحيده وتعظيمه والدعوة إليه، لاسيما إذا أيقن أن النفع في ذلك يعود عليه، وأن الله غني في علوه لا يفتقر إلى أحد من خلقه، وأنه مهما مدحناه وأثنينا عليه فهو أعلى من وصفنا وأجل من مدحنا، لا نحصي ثناء عليه هو كما أثنى على نفسه، هو أهل الثناء والمجد ومدحه وتوحيده أحق ما قال العبد، قال تعالى: { ذَلكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ البَاطِل وَأَنَّ اللهَ هُوَ العَليُّ الكَبِير } [الحج:62] .
وإذا كانت الملائكة في السماء تخشع عند سماع قوله وتفزع عن إلقاء وحيه كما جاء ذلك في قوله: { حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلوبِهِمْ قَالوا مَاذَا قَال رَبُّكُمْ قَالوا الحَقَّ وَهُوَ العَليُّ الكَبِيرُ } [سبأ:23]، إذا كان هذا أمرها وهذا قولها وفعلها، فحري بالعبد أن يخشع لسماع قوله، ويطمئن قلبه عند ذكره، وأن يتذلل بين يدي مولاه، فيركن إليه ويعتمد عليه ثقة في أنه العلى ولا علي على الإطلاق سواه، وقد ورد عند الترمذي وصححه الألباني من حديث علي - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال له: ( أَلاَ أُعَلمُكَ كَلمَاتٍ إِذَا قُلتَهُنَّ غَفَرَ الله لكَ وَإِنْ كُنْتَ مَغْفُورًا لكَ، قَال قُل: لاَ إِلهَ إِلاَّ الله العَلي العَظِيمُ، لاَ إِلهَ إِلاَّ الله الحَليمُ الكَرِيمُ، لاَ إِلهَ إِلاَّ الله، سُبْحَانَ الله ربِّ السَّماوات السَّبْع وربِّ العَرشِ العَظِيمِ، الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالمِينَ ) (1) .
__________
(1) الترمذي في الدعوات 5/529 (3504)، وانظر صحيح الجامع (2621) .(2/171)
وممن عبد لله بإضافته لهذا الاسم عبد العلي بن أحمد بن عبد الله بن الفضل الحميدي، روى عنه الطبراني في معجمه من حديث عمران بن حصين - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( لاَ تُقْبَل صَلاَةٌ بِغَيْرِ طُهُورٍ وَلاَ صَدَقَةٌ مِنْ غُلول ) (1) .
********************************
41- الله - جل جلاله - العظِيمُ
********************************
الدليل على ثبوت الاسم وإحصائه .
اسم الله العظيم ورد في القرآن والسنة مطلقا معرفا مرادا به العلمية ودالا على كمال الوصفية، وقد ورد منفردا ومقترنا باسم الله العلي، قال تعالى: { إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللهِ العَظِيمِ } [الحاقة:33]، وورد في ثلاثة مواضع الأمر بالتسبيح به خاصة وبنص واحد في قوله تعالى: { فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ العَظِيمِ } موضعان في سورة الواقعة والثالث في سورة الحاقة (2)، أما اقترانه باسمه العلي فقد ورد في موضعين كما تقدم .
وقد ورد الاسم في السنة في كثير من المواضع منها ما ورد عند البخاري من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ، ثَقِيلَتَانِ فِي المِيزَانِ حَبِيبَتَانِ إِلَى الرَّحْمَنِ، سُبْحَانَ اللهِ العَظِيمِ سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ ) (3) .
__________
(1) المعجم الكبير 18/ 206 (509)، والحديث صحيح رواه مسلم في كتاب الطهارة، باب وجوب الطهارة للصلاة 1/204 (224)، وورد أيضا عند غيره .
(2) الواقعة:74، 96، والحاقة:52 .
(3) البخاري في كتاب الدعوات، باب فضل التسبيح 5/2352 (6043) .(2/172)
وفي سنن أبي داود وصححه الألباني من حديث عبد الله بن عمرو - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان إذا دخل المسجد قال: ( أَعُوذُ بِاللهِ العَظِيمِ وَبِوَجْهِهِ الكَرِيمِ وَسُلطَانِهِ القَدِيمِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ) (1) .
شرح الاسم وتفسير معناه .
العَظِيمُ في اللغة صفة مشبهة لمن اتصف بالعظمة، فعله عَظمَ يَعْظم عِظما يعني كبرَ واتسع وعلا شأنه وارتفع، ولفلان عَظمة عندَ النَّاسِ أَي حُرْمة يُعظمُ لها، وأَعْظمَ الأَمْرَ وعَظمَه فخَّمه، والتعظِيم التَّبْجِيل، والعَظِيمة النازلة الشديدة والملِمَّة إِذا أَعْضَلتْ والعَظمَة الكِبْرِياء، وعَظمَة العبدِ كِبْرُه المذمومُ وتَجَبره، وإِذا وُصِفَ العبد بالعَظمة فهو ذمٌّ لأَن العظمة في الحقيقةِ لله - عز وجل - (2)، وعند البخاري في الأدب المفرد وصححه الألباني من حديث ابن عمر - رضي الله عنه - أن رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: ( مَنْ تَعَظمَ فِي نَفْسِهِ أَوِ اخْتَالَ فِي مِشْيَتِهِ لَقِيَ اللهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ ) (3) .
__________
(1) أبو داود في كتاب الصلاة، باب فيما يقوله الرجل ثم دخوله المسجد 1/127 (466) .
(2) لسان العرب 12/410 .
(3) الأدب المفرد للبخاري ص193 (549)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (6157) .(2/173)
والله - عز وجل - هو العظيم الذي جاوَزَ قدْرُه حدود العقل، وجل عن تَصور الإِحاطةُ بكنْهِه وحَقِيقتِه، فهو العظيم الواسع، الكبير في ذاته وصفته، فعظمة الذات دل عليها كثير من النصوص، منها ما ورد عند ابن حبان وصححه الألباني من حديث أبي ذر - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( ما السماوات السبع في الكرسي إلا كحلقة بأرض فلاة، وفضل العرش على الكرسي كفضل تلك الفلاة على تلك الحلقة ) (1) .
وقد صح عن ابن عباس - رضي الله عنه - موقوفا: ( الكرسي موضع القدمين والعرش لا يقدر قدره إلا الله تعالى ) (2) .
أما عظمة الصفات فالله - عز وجل - له علو الشأن كما قال في كتابه: { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ } [الشورى:11]، وقال أيضا: { رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَل تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً } [مريم:65]، وإذا كان عرشه قد وصفه بالعظمة وخصه بالإضافة إليه والاستواء عليه، فما بالك بعظمة من استوى عليه وعلا فوقه، وينبغي أن نعلم أن عَظمة اللهِ في ذاته لا تُكَيَّفُ ولا تُحدُّ، لطلاقة الوصف وعجزنا عن معرفته، فنحن لم نره ولم نر له مثيل، فالله عظيمٌ في ذاته ووصفه وجلال قدره كما أخبر عن نفسه (3) .
دلالة الاسم على أوصاف الله .
__________
(1) صحيح ابن حبان بترتيب ابن بلبان 2/77 (361)، وقال الشيخ الألباني: لا يصح في صفة الكرسي غير هذا الحديث، انظر السلسلة الصحيحة 1/223 (109) .
(2) انظر تعليق الألباني علي الرواية في شرح العقيدة الطحاوية ص45 .
(3) المقصد الأسنى ص94، وشرح أسماء الله للرازي ص339، والأسماء والصفات للبيهقي ص75 .(2/174)
اسم الله العظيم يدل على ذات الله وعلى صفة العظمة بدلالة المطابقة، وعلى أحدهما بالتضمن، وعند البخاري من حديث أنس - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( ثُمَّ أَخِرُّ لَهُ سَاجِدًا فَيُقَالُ: يَا مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَكَ وَقُل يُسْمَعْ وَسَل تُعْطَهْ وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، فَأَقُولُ: يَا رَبِّ ائْذَنْ لي فِيمَنْ قَالَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ الله، فَيَقُولُ: وعزتي وجلالي وكبريائي وعظمتي لأُخْرِجَنَّ مِنْهَا مَنْ قَالَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ الله ) (1)، وعند أبي داود وصححه الألباني من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( قَالَ الله - عز وجل -: الكِبْرِيَاءُ رِدَائِي، وَالعَظَمَةُ إِزَارِي، فَمَنْ نَازَعَنِي وَاحِدًا مِنْهُمَا قَذَفْتُهُ في النَّارِ ) (2) .
وقد ورد وصف العظمة أيضا عند أبي داود وصححه الشيخ الألباني من حديث عوف بن مالك - رضي الله عنه - أنه قال: ( ثُمَّ رَكَعَ - صلى الله عليه وسلم - بِقَدْرِ قِيَامِهِ يَقُولُ فِي رُكُوعِهِ: سُبْحَانَ ذِي الجَبَرُوتِ وَالمَلَكُوتِ وَالكِبْرِيَاءِ وَالعَظَمَةِ ) (3) .
__________
(1) البخاري في التوحيد باب ذرية من حملنا مع نوح 4/1746 (4435) .
(2) أبو داود في اللباس، باب ما جاء في الكبر 4/59 (4090)، وانظر صحيح الجامع ( 1908) .
(3) أبو داود في كتاب الصلاة، باب ما يقول الرجل في ركوعه وسجوده 1/230 (873) .(2/175)
أما دلالة الاسم على وصف الفعل المتعلق بالمشيئة فكما ورد في قوله تعالى: { ذَلِكَ أَمْرُ الله أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ الله يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً } [الطلاق:5]، وفي المسند وصححه الألباني من حديث أنس - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُعَظمَ الله رِزْقَهُ، وَأَنْ يَمُدَّ فِي أَجَلِهِ؛ فَليَصِل رَحِمَهُ ) (1) .
واسم الله العظيم يدل باللزوم على الحياة والقيومية والسيادة والصمدية والعزة والأحدية وانتفاء الشبيه والمثلية، وكذلك يدل على السمع والبصر والعلم والحكمة والمشيئة والقدرة، وغير ذلك من صفات الكمال، والاسم دل على صفة من صفات الذات والأفعال .
الدعاء باسم الله العظيم دعاء مسألة .
دعاء المسألة بالاسم المطلق ورد مقرونا باسم الله العلي فيما سبق، وورد الدعاء بالوصف عند مسلم من حديث ابن عباس - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( اللهُمَّ اجْعَلْ فِي قَلْبِي نُورًا، وَفِي بَصَرِي نُورًا، وَفِي سَمْعِي نُورًا، وَعَنْ يَمِينِي نُورًا، وَعَنْ يَسَارِي نُورًا وَفَوْقِي نُورًا، وَتَحْتِي نُورًا، وَأَمَامِي نُورًا وَخَلْفِي نُورًا، وَعَظِّمْ لِي نُورًا ) (2)، وفي رواية أبي داود وصححها الألباني: ( اللهم وأعظم لي نورا ) (3) .
__________
(1) مسند الإمام أحمد 3/ 156 (12610)، وانظر صحيح الجامع (6291) .
(2) مسلم في صلاة المسافرين، باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه 1/525 (763) .
(3) أبو داود 2/44 (1353) وصحيح الجامع (1259) .(2/176)
وروى أبو داود وصححه الألباني من حديث ابن عمر - رضي الله عنه - قال: ( لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَدَعُ هَؤُلاَءِ الدَّعَوَاتِ حِينَ يُمْسِي وَحِينَ يُصْبِحُ: اللهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، اللهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ فِي دِينِي وَدُنْيَاي وَأَهْلِي وَمَالِي اللهُمَّ اسْتُرْ عَوْرَاتِي وَآمِنْ رَوْعَاتِي، اللهُمَّ احْفَظْنِي مِنْ بَيْنِ يَدَي وَمِنْ خَلْفِي وَعَنْ يَمِينِي وَعَنْ شِمَالِي وَمِنْ فَوْقِي، وَأَعُوذُ بِعَظَمَتِكَ أَنْ أُغْتَالَ مِنْ تَحْتِي ) (1) .
وروى النسائي وصححه الألباني من حديث ابن عباس - رضي الله عنه - قال: ( كَشَفَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - السِّتْرَ وَرَأْسُهُ مَعْصُوبٌ فِي مَرَضِهِ الذِي مَاتَ فِيهِ فَقال: اللهُمَّ قَدْ بَلغْتُ ـ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ ـ إِنَّهُ لَمْ يَبْقَ مِنْ مُبَشِّرَاتِ النُّبُوَّةِ إِلاَّ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ يَرَاهَا الْعَبْدُ أَوْ تُرَى لَهُ، أَلاَ وَإِنِّي قَدْ نُهِيتُ عَنِ الْقِرَاءَةِ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، فَإِذَا رَكَعْتُمْ فَعَظِّمُوا رَبَّكُمْ، وَإِذَا سَجَدْتُمْ فَاجْتَهِدُوا فِي الدُّعَاءِ فَإِنَّهُ قَمِنٌ أَنْ يُسْتَجَابَ لَكُمْ ) (2) .
__________
(1) أبو داود في الأدب، باب ما يقول إذا أصبح 4/318 (5074)، صحيح الترغيب والترهيب (659) .
(2) النسائي في التطبيق، باب الأمر بالاجتهاد في الدعاء في السجود 2/217 (1120) .(2/177)
وعند مسلم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( إِذَا دَعَا أَحَدُكُمْ فَلاَ يَقُلِ: اللهُمَّ اغْفِرْ لِي إِنْ شِئْتَ وَلَكِنْ لِيَعْزِمِ الْمَسْأَلَةَ، وَلْيُعَظِّمِ الرَّغْبَةَ؛ فَإِن اللهَ لاَ يَتَعَاظَمُهُ شيء أَعْطَاهُ ) (1) .
وكذلك ورد الدعاء بمقتضى الاسم والوصف كالدعاء بذكر فضل الله العظيم وعرشه العظيم، فإن الله استوى على عرشه وأضافه إليه، كما أن فضله على الخلائق فضل عظيم؛ فلا يضاف العظيم إلا إلى العظيم، روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أراد أن ينام يضطجع على شقه الأيمن ثم يقول: ( اللهمَّ رَبَّ السَّمَوَاتِ وَرَبَّ الأَرْضِ وَرَبَّ العَرْشِ العَظِيمِ، رَبَّنَا وَرَبَّ كُلِّ شَيْءٍ فَالِقَ الحَبِّ وَالنَّوَى، وَمُنْزِلَ التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالفُرْقَانِ .. إلى قوله - صلى الله عليه وسلم - .. اقْضِ عَنَّا الدَّيْنَ وَاغْنِنَا مِنَ الفَقْرِ ) (2)، وعند البخاري من حديث جابر - رضي الله عنه - قال: ( كَانَ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - يُعَلِّمُنَا الاِسْتِخَارَةَ فِي الأُمُورِ كُلِّهَا كَالسُّورَةِ مِنَ القُرْآنِ: إِذَا هَمَّ بِالأَمْرِ فَليَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ يَقُولُ: اللهمَّ إِنِّي أَسْتَخِيرُكَ بِعِلمِكَ، وَأَسْتَقْدِرُكَ بِقُدْرَتِكَ، وَأَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ العَظِيمِ فَإِنَّكَ تَقْدِرُ وَلاَ أَقْدِرُ وَتَعْلَمُ وَلاَ أَعْلَمُ، وَأَنْتَ عَلاَّمُ الغُيُوبِ .. الحديث ) (3) .
__________
(1) مسلم في الذكر والدعاء والتوبة، باب العزم بالدعاء ولا يقل إن شئت 4/2063 (2679) .
(2) الموضع السابق، باب ما يقول ثم النوم 4/2084 ( 2713) .
(3) البخاري في الدعوات، باب الدعاء بكثرة الولد مع البركة 5/2345 ( 6018) .(2/178)
وعند البخاري في الأدب المفرد وصححه الألباني من حديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: ( إذا كان على أحدكم إمام يخاف تغطرسه أو ظلمه فليقل: اللهم رب السماوات السبع ورب العرش العظيم كن لي جارا من فلان بن فلان وأحزابه من خلائقك أن يفرط علي أحد منهم أو يطغى، عز جارك وجل ثناؤك ولا اله إلا أنت ) (1)، وروى ابن ماجة وصححه الألباني من حديث أسماء بنت يزيد رضي الله عنها أنها قالت: ( لَمَّا تُوُفِّي ابْنُ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إِبْرَاهِيمُ بَكَى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ لَهُ الْمُعَزِّي ـ إِمَّا أَبُو بَكْرٍ وَإِمَّا عُمَرُ: أَنْتَ أَحَقُّ مَنْ عَظَّمَ اللهَ حَقَّهُ، قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : تَدْمَعُ الْعَيْنُ وَيَحْزَنُ الْقَلْبُ وَلاَ نَقُولُ مَا يُسْخِطُ الرَّبَّ، لَوْلاَ أَنَّهُ وَعْدٌ صَادِقٌ وَمَوْعُودٌ جَامِعٌ وَأَنَّ الآخِرَ تَابِعٌ لِلأَوَّلِ لَوَجَدْنَا عَلَيْكَ يَا إِبْرَاهِيمُ أَفْضَلَ مِمَّا وَجَدْنَا، وَإِنَّا بِكَ لَمَحْزُونُونَ ) (2) .
الدعاء باسم الله العظيم دعاء عبادة .
__________
(1) البخاري في الأدب المفرد، باب إذا خاف السلطان 1/247 ( 707) .
(2) ابن ماجة في الجنائز، باب البكاء على الميت1/506 (1589)، السلسلة الصحيحة (1732) .(2/179)
دعاء العبادة هو أثر الاسم على اعتقاد العبد وسلوكه، أما الاعتقاد فهو تعظيم الله حق تعظيمه، وذلك باتباع النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك؛ لأنه ليس بعد تعظيم النبي - صلى الله عليه وسلم - لربه تعظيم، فالصحابة الذين عاصروه هم سلفنا الصالح وهم الذين آمنوا بخبر الله وصدقوه ونفذوا أمره وأحبوه، ففي باب الصفات وسائر الغيبيات أثبتوا ما أثبته الله لنفسه وما أثبته رسوله - صلى الله عليه وسلم - من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، لأن الله عظم نفسه فقال: { ليْسَ كَمِثْلهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ } [الشورى:11]، فبدأ بالتوحيد أولا فقال: { ليْسَ كَمِثْلهِ شَيْءٌ } ثم اتبع ذلك بإثبات الصفات التي تليق به فقال - عز وجل -: { وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ } ، فالتوحيد يستلزم إثبات الصفات، وهذا ما يناسب الفطرة السليمة والعقول المستقيمة؛ فالمتوحد المنفرد عن غيره لابد أن ينفرد بشيء يتميز به .
أما الذي لا يتميز بشيء ولا يوصف بوصف يلفت النظر إليه؛ فهذا لا يكون منفردا ولا متوحدا ولا عظيما ولا متميزا، فلو قلت: فلان لا نظير له، سيقال لك: في ماذا؟ تقول: في سمعه وبصره أو علمه وحكمه، أو لا نظير له في قوته أو استوائه وفوقيته أو أي صفة تدل على عظمته، فلا بد من ذكر الوصف الذي يتميز به، لكن من العبث أن يقال لك: فلان لا نظير له في ماذا؟ فتقول: في لا شيء ، أو تقول لا صفة له أصلا أو لا صفة له عندي، فالله - عز وجل - وله المثل الأعلى أثبت لنفسه أوصاف العظمة والكمال التي انفرد بها دون غيره، ونفى عن نفسه في المقابل أوصاف النقص ليثبت انفراده وتوحيده، فأثبت لنفسه الوحدانية في استوائه على عرشه فقال - عز وجل -: { الرَّحْمَنُ على العَرْشِ اسْتَوَي } [طه:5]، فاستواؤه له كيفية تليق به لا نعلمها ولا مثيل له فيها .(2/180)
وأثبت الوحدانية في كلامه فقال: { وَكَلمَ الله مُوسَي تَكْليمًا } [النساء:164]، فكلامه بكيفية تليق به وليس كمثله شيء فيها ولا علم لنا بها، فمداركنا وإن استوعبت معنى كلامه، فإنها لا تستوعب كيفية أداء الكلام، وهكذا في سائر أوصاف الكمال .
أما الممثل لأوصاف الله بأوصافه فهو ظالم لنفسه متقول على ربه، إذ قد تخيل في ذهنه أن صفات الله الواردة في الكتاب والسنة كصورة إنسان، ثم عظمها له الشيطان فعبدها على أنها المقصود عند ذكر أوصاف الله - عز وجل - وهو في الحقيقة إنما يعبد صنما .
أما المعطل الذي رد نصوص السمع في الصفات ورفض محتواها فقد اعتقد أن إثبات الصفات التي وردت في هذه النصوص ظاهرها يلزم منه التمثيل والتشبيه، وحقيقة الأمر أنه جسد صورة لربه في ذهنه تشبه صورة الإنسان، ثم زعم أن ظاهر النصوص دل على ذلك ثم أحس بالرفض التلقائي لهذه الصورة والرغبة في تنزيه الله عنها، وبدلا من أن يعيب فهمه السيئ وظنه الآثم في كلام الله وجه العيب إلي نصوص الكتاب والسنة، وبدأ في التحامل عليها بالباطل؛ فادعى أولا أن ظاهرها غير مراد في كلام الله - عز وجل -، ثم حاول محو ما دلت عليه بأي طريقة، وتعطيلها عن مدلولها الذي يطابق الحقيقة، فأراد أن يستر جناية التعطيل حتى لا يقال في حقه إنه يكذب بالقرآن والسنة، فأخفى ذلك تحت شعار التأويل وادعاء البلاغة في فهم النصوص بالمجاز ودعا إلى استبدال المعنى المراد من النصوص بمعنى بديل لا يقصده المتكلم في خطابه .(2/181)
ولو قيل له: إن النص لا يحتمل التأويل وتأويلك بلا دليل، لقال: وأنا أعظم الله وأنفي عنه التشبيه والتمثيل ويا عجبا لتعظيمه، فمن الذي أدخل في اعتقاده أصلا أن النصوص ظاهرها باطل حامل للتشبيه والتمثيل؟ فهو إذا يحاول بكل سبيل أن يرد الصفة الحقيقية لله ويعطلها عن مدلولها حتى لا يكاد يثبت لله وصف حقيقيا، ويجعل دلالة النصوص دلالة عدمية محضة، فطريقة السلف هي التي تقتضي تعظيم الله حقا وهي إثبات بلا تعطيل وتنزيه بلا تمثيل، فالممثل يعبد صنما، والمعطل يعبد عدما، والموحد انتهج طريقة وسطا، وهي طريقة محمد - صلى الله عليه وسلم - في تعظيم ربه (1) .
ومن دعاء العبادة تعظيم أمر الله - عز وجل - والغيرة إذا انتهكت حرماته، فالموحد يسارع إلى مرضاته ما استطاع، يؤدي الواجبات ويسارع في المندوبات حتى تصبح المباحات طاعات وقربات تشهد بتوحيد لله وعبوديته وتعظيمه .
وممن تسمى عبد العظيم والد الحافظ عباس بن عبد العظيم بن إسماعيل أبو الفضل العنبري البصري (ت:246هـ)، روى عنه الإمام ومسلم وغيره (2) .
********************************
42- الله - جل جلاله - الشَّكُورُ
********************************
الدليل على ثبوت الاسم وإحصائه .
__________
(1) انظر تفصيل هذه القضية في مختصر القواعد السلفية للمؤلف ص 5 وما بعدها .
(2) انظر في ترجمته الثقات لأبي حاتم 8/511، وطبقات الحفاظ للسيوطي ص232، والمقصد الأرشد في ذكر أصحاب الإمام أحمد لابن مفلح 2/276، وتقريب التهذيب لابن حجر ص293 .(2/182)
سمى الله نفسه الشكور علي سبيل الإطلاق فقد ورد الاسم منونا مرادا به العلمية ودالا علي كمال الوصفية قال تعالى: { لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ } [فاطر:30]، وقد ورد الاسم مقترنا باسمه الغفور في موضعين من القرآن تقدم الأول منهما، والثاني قوله تعالى: { وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلهِ الذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ } [فاطر:34]، وورد مقترنا بالحليم في قوله تعالى: { إِنْ تُقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ } [التغابن:17] .
شرح الاسم وتفسير معناه .
الشكور في اللغة فعول من صيغ المبالغة، فعله شكر يشكر شكرا وشكورا وشكرانا فالشكور فعول من الشكر، وأصل الشكر الزيادة والنماء والظهور، وحقيقة الشكر الثناء على المحسن بذكر إحسانه (1) .
وشكر العبد على الحقيقة إنما هو إقرار القلب بإنعام الرب ونطق اللسان عن اعتقاد الجنان وعمل الجوارح والأركان، قال تعالى: { اعْمَلوا آلَ دَاوُدَ شُكرا وَقَلِيل مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ } [سبأ:13]، وفي صحيح البخاري من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( فَيَأْتُونَ نُوحًا فَيَقُولُونَ: يَا نُوحُ أَنْتَ أَوَّلُ الرُّسُلِ إِلَى أَهْلِ الأَرْضِ وَسَمَّاكَ الله عَبْدًا شَكُورًا، أَمَا تَرَى إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ .. الحديث ) (2) .
والشكور سبحانه هو الذي يزكو عنده القليل من أعمال العباد، ويضاعف لهم الجزاء فيثيب الشاكر على شكره، ويرفع درجته ويضع عنه وزره، فشكر العبد لله تعالى ثناؤه عليه بذكر إحسانه إليه، وشكر الحق للعبد ثناؤه عليه بذكر طاعته له .
__________
(1) لسان العرب 4/424 .
(2) البخاري في أحاديث الأنبياء، باب قول الله - عز وجل - ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه 3/1215 (3162) .(2/183)
ويذكر ابن القيم أن الشكور سبحانه هو أولى بصفة الشكر من كل شكور، بل هو الشكور على الحقيقة؛ فإنه يعطي العبد ويوفقه لما يشكره عليه، ويشكر القليل من العمل والعطاء فلا يستقله أن يشكره، ويشكر الحسنة بعشر أمثالها إلى أضعاف مضاعفة، ويشكر عبده بأن يثني عليه بين ملائكته وفي ملئه الأعلى، ويلقي له الشكر بين عباده، ويشكره بفعله، فإذا ترك له شيئا أعطاه أفضل منه، وإذا بذل له شيئا رده عليه أضعافا مضاعفة، وهو الذي وفقه للترك والبذل وشكره على هذا وذاك، ولما بذل الشهداء أبدانهم له حتى مزقها أعداؤه شكر لهم ذلك بأن أعاضهم منها طيرا خضرا أقر أرواحهم فيها، ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها إلى يوم البعث، فيردها عليهم أكمل ما تكون وأجمله وأبهاه، ومن شكره سبحانه أنه يجازي عدوه بما يفعله من الخير والمعروف في الدنيا ويخفف به عنه يوم القيامة، فلا يضيع عليه ما يعمله من الإحسان وهو من أبغض خلقه إليه، ومن شكره أنه غفر للمرأة البغي بسقيها كلبا كان قد جهده العطش حتى أكل الثرى (1) .
__________
(1) عدة الصابرين ص240 .(2/184)
قال ابن القيم: ( الشكور يوصل الشاكر إلى مشكوره، بل يعيد الشاكر مشكورا وهو غاية الرب من عبده، وأهله هم القليل من عباده، قال تعالى: { وَاشْكُرُوا لله إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ } [البقرة:172] .. وسمى نفسه شاكرا وشكورا وسمى الشاكرين بهذين الاسمين فأعطاهم من وصفه وسماهم باسمه وحسبك بهذا محبة للشاكرين وفضلا، وإعادته للشاكر مشكورا كقوله: { إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً } [الإنسان:22]، ورضى الرب عن عبده كقوله: { وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ } [الزمر:7]، وقلة أهله في العالمين تدل على أنهم هم خواصه كقوله: { وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ } [سبأ:13] ) (1) .
دلالة الاسم على أوصاف الله .
الشكور يدل على ذات الله وعلى صفة الشكر بدلالة المطابقة، وعلى أحدهما بالتضمن، روى البخاري من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( أَنَّ رَجُلاً رَأَى كَلبًا يَأْكُلُ الثَّرَى مِنَ العَطَشِ، فَأَخَذَ الرَّجُلُ خُفَّهُ؛ فَجَعَلَ يَغْرِفُ لَهُ بِهِ حَتَّى أَرْوَاهُ فَشَكَرَ الله لَهُ؛ فَأَدْخَلَهُ الجَنَّةَ ) (2) .
__________
(1) مدارج السالكين 2/242، وانظر في تفسير الاسم الأسماء والصفات ص91، وتفسير أسماء الله الحسنى للزجاج ص47، والمقصد الأسنى ص95، وشرح أسماء الله الحسنى للرازي ص260 .
(2) البخاري في الوضوء، باب الماء الذي يغسل به شعر الإنسان 1/75 (171) .(2/185)
وروى أيضا من حديثه - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِى بِطَرِيقٍ وَجَدَ غُصْنَ شَوْكٍ عَلَى الطَّرِيقِ فَأَخَّرَهُ، فَشَكَرَ الله لَهُ؛ فَغَفَرَ لَهُ ) (1)، واسم الله الشكور يدل باللزوم على الحياة والقيومية والعلم السمع والبصر والقدرة والكرم والسعة والرأفة الغنى واللطف والرحمة، وغير ذلك من صفات الكمال، واسم الله الشكور دل على صفة من صفات الأفعال .
الدعاء باسم الله الشكور دعاء مسألة .
لم يرد دعاء المسألة بالاسم المطلق ولكن ورد بمقتضاه في نصوص كثيرة منها قوله تعالى عن سليمان - عليه السلام -: { فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ التِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَدْخِلنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ } [النمل:19]، وقال تعالى: { وَوَصَّيْنَا الإنسان بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ التِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ المُسْلِمِينَ } [الأحقاف:15]، وقال: { وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ } [إبراهيم:7] .
__________
(1) البخاري في الأذان، باب فضل التهجير إلى الظهر 1/233 (624) .(2/186)
وعند أبي داود وصححه الألباني من حديث معاذ - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخذ بيده وقال: ( يا معاذ والله إني لأحبك، والله إني لأحبك فقال: أُوصِيكَ يَا مُعَاذُ لاَ تَدَعَنَّ في دُبُرِ كُلِّ صَلاَةٍ تَقُولُ: اللهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ ) (1) .
وعند الترمذي وصححه الألباني من حديث شداد بن أوس - رضي الله عنه - قال: ( كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يُعَلِّمُنَا أَنْ نَقُولَ: اللهُمَّ إني أَسْأَلُكَ الثَّبَاتَ في الأَمْرِ، وَأَسْأَلُكَ عَزِيمَةَ الرُّشْدِ، وَأَسْأَلُكَ شُكْرَ نِعْمَتِكَ وَحُسْنَ عِبَادَتِكَ، وَأَسْأَلُكَ لِسَانًا صَادِقًا وَقَلْبًا سَلِيمًا، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا تَعْلَمُ وَأَسْأَلُكَ مِنْ خَيْرِ مَا تَعْلَمُ، وَأَسْتَغْفِرُكَ مِمَّا تَعْلَمُ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ ) (2) .
وروى أبو يعلى وحسنه الشيخ الألباني من حديث أبي سعيد - رضي الله عنه - قال: ( رأيت فيما يرى النائم كأني تحت شجرة، وكأن الشجرة تقرأ ص، فلما أتت على السجدة سجدت، فقالت في سجودها: اللهم اغفر لي بها، اللهم حط عني بها وزرا، وأحدث لي بها شكرا، وتقبلها مني كما تقبلت من عبدك داود سجدته، فغدوت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبرته فقال: سجدت يا أبا سعيد؟ قلت: لا، قال: فأنت أحق بالسجود من الشجرة، ثم قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سورة ص، ثم أتى على السجدة، فسجد وقال في سجوده: ما قالت الشجرة في سجودها ) (3) .
الدعاء باسم الله الشكور دعاء عبادة .
__________
(1) أبو داود في كتاب الصلاة، باب في الاستغفار 2/86 (1522)، صحيح الجامع (7969) .
(2) الترمذي في الدعوات، السلسلة الصحيحة (3228) .
(3) مسند أبي يعلى 2/330 (1069)، وانظر صحيح الترغيب والترهيب (1442) .(2/187)
دعاء العبادة هو شكر الله بالقلب واللسان والجوارح، فشكر القلب هو تصور النعمة والاعتراف بها إلى المنعم، والعزم على تصديق خبره وطاعة أمره، وعند مسلم من حديث صهيب الرومي - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( عَجَبًا لأَمْرِ المُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلهُ خَيْرٌ وَليْسَ ذَاكَ لأَحَدٍ إِلاَّ للمُؤْمِنِ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لهُ ) (1) .
وشكر اللسان هو الثناء على المنعم بذكر فضله ومنته وحمده على نعمته، وعند مسلم من حديث ابن عباس - رضي الله عنه - أنه قال: مطر الناس على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ( أَصْبَحَ مِنَ النَّاسِ شَاكِرٌ، وَمِنْهُمْ كَافِرٌ، قَالوا: هَذِهِ رَحْمَةُ اللهِ وَقَال بَعْضُهُمْ: لقَدْ صَدَقَ نَوْءُ كَذَا وَكَذَا، قَال: فَنَزَلتْ هَذِهِ الآيَةُ: { فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُوم ... حَتَّى بَلغَ ... وَتَجْعَلونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ } [الواقعة:75/82] ) (2)، وأما شكر الجوارح فهو خضوعها وانقيادها واستسلامها بالاستجابة لأحكام العبودية، قال تعالى: { اعْمَلوا آل دَاوُدَ شُكْراً وَقَليل مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ } [سبأ:13]، وذلك يشمل شكر القلب واللسان والجوارح، وقوله أيضا: { يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا كُلوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا للهِ إِنْ كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ } [البقرة:172]، وقال - عز وجل - في شأن لقمان: { وَلقَدْ آتَيْنَا لقْمَانَ الحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ للهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ } [لقمان:12] .
__________
(1) مسلم في الزهد، باب المؤمن أمره كله خير 4/2295 (2999) .
(2) مسلم في الإيمان، باب بيان كفر من قال مطرنا بالنوء 1/84 (73) .(2/188)
وعند البخاري من حديث المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه - قال: ( كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - ليَقُومُ ليُصَلي حَتَّى تَرِمُ قَدَمَاهُ أَو سَاقَاهُ، فَيُقَال لهُ فَيَقُول: أَفَلاَ أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا ) (1) .
وعنده أيضا من حديث ابن عباس - رضي الله عنه -: ( أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ وَجَدَهُمْ يَصُومُونَ يَوْمًا يَعْنِي عَاشُورَاءَ، فَقَالُوا: هَذَا يَوْمٌ عَظِيمٌ، وَهْوَ يَوْمٌ نَجَّى اللهُ فِيهِ مُوسَى وَأَغْرَقَ آلَ فِرْعَوْنَ فَصَامَ مُوسَى شُكْرًا للهِ، فَقال: أَنَا أَوْلَى بِمُوسَى مِنْهُمْ، فَصَامَهُ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ ) (2)، وعند الترمذي وصححه الألباني من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( الطَّاعِمُ الشَّاكِرُ مِثْل الصَّائِمِ الصَّابِرِ ) (3) .
ومن تسمى عبد الشكور جد الحافظ الإمام البطل الكرار أبي الفضل البخاري محدث بخاري عبيد الله بن واصل بن عبد الشكور، استشهد في وقعة خوكنجة سنة اثنتين وسبعين ومائتين، وقيل بل في سنة ست وسبعين (4) .
********************************
43- الله - جل جلاله - الحَلِيمُ
********************************
الدليل على ثبوت الاسم وإحصائه .
__________
(1) البخاري في التهجد، باب قيام النبي S حتى ترم قدماه 1/380 (1078) .
(2) البخاري في أحاديث الأنبياء، باب قول الله تعالى وهل أتاك حديث موسى 3/1244(3216) .
(3) الترمذي في صفة القيامة 4/653 (2486)، صحيح الجامع (3943) .
(4) طبقات الحفاظ للسيوطي ص273، وتذكرة الحفاظ 2/ 604 .(2/189)
اسم الله الحليم ورد في آيات كثيرة مطلقا منونا مقترنا باسم الله الغفور كما في قوله تعالى: { وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ } [البقرة:225]، وورد مقترنا بالغني في قوله - عز وجل -: { قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذىً وَاللهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ } [البقرة:263]، واقترن بالشكور كما تقدم في الاسم السابق، واقترن بالعليم في قوله - عز وجل -: { وَاللهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللهُ عَلِيماً حَلِيماً } [الأحزاب:51] .
وعند صحيح البخاري من حديث ابن عباس - رضي الله عنه - قال: ( كَانَ النَّبيُ - صلى الله عليه وسلم - يَدْعُو عِنْدَ الكَرْبِ، لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ العَظِيمُ الحَلِيمُ، لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ ) (1) .
شرح الاسم وتفسير معناه .
الحليم في اللغة صفة مشبهة للموصوف بالحلم، فعله حَلِم يَحلِم حِلما، وصفة الحلم تعني الأناة ومعالجة الأمور بصبر وعلم وحكمة، وفي مقابلها العجلة المفسدة لأمور الدين والدنيا، والحليم هو الذي يرغب في العفو ولا يسارع بالعقوبة، قال تعالى في وصف إبراهيم - عليه السلام -: { إِن إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ } [التوبة:114]، ويدخل في معنى الحِلم بلوغ الصبي الحُلم أو مبلغ الرجال الحكماء العقلاء كما قال تعالى: { وَإِذَا بَلَغَ الأَطفَال مِنْكمُ الحلمَ } [النور:59]، أما قوله تعالى: { فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ } [الصافات:101]، يعني لديه أناة وبصيرة وحكمة من صغره (2) .
__________
(1) البخاري في كتاب الدعوات، باب الدعاء ثم الكرب 5/2336 (5985) .
(2) لسان العرب 12/146، وكتاب العين 3/ 246، زاد المسير 1/ 255 .(2/190)
والحليم - عز وجل - هو الصبور المتصف بالحلم، يتمهل ولا يتعجل، بل يتجاوز عن الزلات ويعفو عن السيئات، فهو سبحانه يمهل عباده الطائعين ليزدادوا من الطاعة والثواب ويمهل العاصين لعلهم يرجعون إلى الطاعة والصواب، ولو أنه عجل لعباده الجزاء ما نجا أحد من العقاب، ولكن الله - عز وجل - هو الحليم ذو الصَّفحِ والأناةِ، استخلف الإنسان في أرضه واسترعاه في ملكه، واستبقاه إلى يوم موعود وأجل محدود، فأجل بحلمه عقاب الكافرين، وعجل بفضله ثواب المؤمنين (1) .
وخلاصة المعاني في تفسير الحليم أنه الذي لا يعجل بالعقوبة والانتقام، ولا يحبس عن عباده بذنوبهم والفضل والإنعام، بل يرزق العاصي كما يرزق المطيع، وإن كان بينهما تفاضل على مقتضى الحكمة، وهو ذو الصفح مع القدرة على العقاب (2) .
دلالة الاسم على أوصاف الله .
اسم الله الحليم يدل على ذات الله وعلى صفة الحلم بدلالة المطابقة، وعلى ذات الله وحدها بالتضمن وعلى الصفة وحدها بالتضمن، ولم يرد وصف الحلم نصا إلا في روايات ضعيفة، والحلم صفة كريمة تقوم على الحكمة والعلم والصبر، والاسم يدل باللزوم على الحياة والقيومية والسمع والبصر والعلم والقدرة والغنى والعزة والرأفة والرحمة وعلو الشأن والعظمة، وغير ذلك من صفات الكمال، وقد ورد الاسم مقترنا باسم الله الغنى في قوله: { وَاللهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ } [البقرة:263]، واقترن أيضا بالعليم في قوله: { وَكَانَ اللهُ عَلِيماً حَلِيماً } [الأحزاب:51]، فالصفات التي دلت عليها من لوازم الحلم، فالفقير حلمه عن اضطرار، ولا حيلة له في الحلم، كما أنه لا بد للحليم من صفة العلم، واسم الله الحليم دل على صفة من صفات الأفعال .
الدعاء باسم الله الحليم دعاء مسألة .
__________
(1) تفسير أسماء الله الحسنى ص45، الدر المنثور 4/ 637 .
(2) الأسماء والصفات للبيهقي ص72، وتفسير أسماء الله الحسنى للزجاج ص 45، والمقصد الأسنى ص94 .(2/191)
ورد دعاء المسألة بالاسم المطلق عند البخاري عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: ( كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَدْعُو عِنْدَ الكَرْبِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ الله العَظِيمُ الحَلِيمُ، لاَ إِلَهَ إِلاَّ الله رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ ) (1)، وروى الترمذي وحسنه عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قالت كان رسول - صلى الله عليه وسلم - يقول: ( اللهُمَّ عَافِنِي فِي جَسَدِي وَعَافِنِي فِي بَصَرِي وَاجْعَلهُ الوَارِثَ مِنِّي، لاَ إِلهَ إِلاَّ اللهُ الحَلِيمُ الكَرِيمُ، سُبْحَانَ اللهِ رَبِّ العَرْشِ العَظِيمِ وَالحَمْدُ لِلهِ رَبِّ العَالمِينَ ) (2) .
__________
(1) البخاري في الدعوات، باب الدعاء ثم الكرب 5/2336 (5985) .
(2) الترمذي في الدعوات 5/518 (3480)، وقد ضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة 6/419 (2917) .(2/192)
ومن دعاء المسألة الدعاء بمقتضى الاسم كما ورد في قوله - عز وجل -: { تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً } [الإسراء:44]، فيقول المسلم: اللهم يا حليم يا غفور سبحانك وبحمدك أسألك حلمك ومغفرتك، وروى النسائي وصححه الألباني من حديث سليمان بن يسار - رضي الله عنه - عن رجل من الأنصار أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( قال نوح لابنه: إني موصيك بوصية وقاصرها لكي لا تنساها، أوصيك باثنتين وأنهاك عن اثنتين، أما اللتان أوصيك بهما فيستبشر الله بهما وصالح خلقه، وهما يكثران الولوج على الله: أوصيك بلا إله إلا الله، فإن السماوات والأرض لو كانتا حلقة قصمتهما، ولو كانتا في كفة وزنتهما، وأوصيك بسبحان الله وبحمده فإنهما صلاة الخلق، وبهما يرزق الخلق، وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليما غفورا، وأما اللتان أنهاك عنهما، فيحتجب الله منهما وصالح خلقه أنهاك عن الشرك والكبر ) (1) .
الدعاء باسم الله الحليم دعاء عبادة .
__________
(1) النسائي في السنن الكبرى 6/208 (10667)، صحيح الترغيب والترهيب (1543) .(2/193)
توحيد الله في اسمه الحليم مقتضاه أن يكون الموحد حليما صبورا يتأنى في رأيه وحكمه وقوله وفعله، ويتخير ما هو أنفع له وللآخرين، ويبادر بالتوبة إلى الله الحليم، روى مسلم من حديث ابن عباس - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لأشج بن عبد القيس: ( إِنَّ فِيكَ خَصْلتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللهُ الحِلمُ وَالأَنَاةُ ) (1)، وفي روية أخرى عند أبي داود وحسنها الألباني: ( إِنَّ فِيكَ خَلتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللهُ الحِلمُ وَالأَنَاةُ، قَال: يَا رَسُول اللهِ أَنَا أَتَخَلقُ بِهِمَا أَمِ اللهُ جَبَلنِي عَليْهِمَا؟ قَال: بَل اللهُ جَبَلكَ عَليْهِمَا، قَال الحَمْدُ للهِ الذِي جَبَلنِي عَلى خَلتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللهُ وَرَسُولهُ ) (2)، وروى البزار وقال الألباني: صحيح لغيره من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( إن الله يحب الغني الحليم المتعفف ويبغض البذيء الفاجر السائل الملح ) (3) .
وممن تسمى عبد الحليم والد شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم ابن تيمية، توفي معتقلا بقلعة دمشق في العشرين من ذي القعدة سنة ثمان وعشرين وسبعمائة (4) .
********************************
44- الله - جل جلاله - الواسِعُ
********************************
الدليل على ثبوت الاسم وإحصائه .
__________
(1) مسلم في الإيمان، باب الأمر بالإيمان بالله تعالى ورسوله S1/48 (17) .
(2) أبو داود في الأدب، باب في قبلة الجسد 4/357 (5225)، صحيح الترغيب والترهيب (2678) .
(3) صحيح الترغيب والترهيب (819) .
(4) المعجم المختص بالمحدثين للذهبي ص25 .(2/194)
اسم الله الواسع ورد في القرآن مطلقا منونا مرادا به العلمية ودالا على كمال الوصفية، وقد اقترن باسمه العليم في عدة مواضع منها قوله تعالى: { وَلِلهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ إِنَّ اللهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } [البقرة:115]، وقد ورد مقيدا في قوله تعالى: { إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَة } [النجم:32]، ولم يرد الاسم في السنة إلا في حديث سرد الأسماء عند الترمذي وليس بحجة كما سبق .
شرح الاسم وتفسير معناه .
والواسع في اللغة اسم فاعل للموصوف بالوسع، فعله وَسِعَ الشَّيء يَسَعُه سِعَة فهو وَاسِع، وأَوْسَعَ الله عليك أَي أَغناك، ورجل مُوسِعٌ يعني مَلِيء بالمال والثراء، يقال إناء واسع وبيت واسع، ثم قد يستعمل في الغنى فيقال: فلان يعطي من سعة، أو هو وواسع الرحل يعني غنيا، قال تعالى: { لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ } [الطلاق:7] وتَوَسَّعُوا في المجلس أَي تَفَسَّحُوا، والسَّعة الغِنى والرفاهِية، والسعة تكون في العلم والإحسان وبسط النعم (1) .
__________
(1) لسان العرب 8/392، وكتاب العين 2/203 .(2/195)
والواسع - عز وجل - هو الذي وسع علمه جميع المعلومات، ووسعت قدرته جميع المقدورات ووسع سمعه جميع المسموعات، ووسع رزقه جميع المخلوقات، فله مطلق الجمال والكمال في الذات والصفات والأفعال، وعند البخاري من حديث عائشة رضي الله أنها قالت: ( الْحَمْدُ للهِ الذِي وَسِعَ سَمْعُهُ الأَصْوَاتَ فَأَنْزَلَ الله تَعَالَى عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - : { قَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ التِي تُجَادلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلى الله وَالله يَسْمَعُ تَحَاوُرَكمَا إِن الله سَمِيعٌ بَصِيرٌ } [المجادلة:1] ) (1)، فالله - عز وجل - واسِع، وَسِعَ غِنَاه كل فقِير، وهو الكثيرُ العطاءِ يده سحاء الليل والنهار، وسعت رَحْمَته كل شَيء، وهو المحيط بكل شيء (2) .
وقد اقترن اسم الله الواسع باسمه العليم في غير موضع من كتاب الله كما ورد في قوله تعالى: { مَثَلُ الذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ الله كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُل سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَالله يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاء وَالله وَاسِعٌ عَلِيمٌ } [البقرة:261] .
ذكر ابن القيم في بيان العلة في اقتران الاسمين ألا يستبعد العبد مضاعفة الأجر، ولا يضيق عنها عطاؤه، فإن المضاعف واسع العطاء واسع الغنى واسع الفضل، ومع ذلك فلا يظن أن سعة عطائه تقتضي حصولها لكل منفق، فإنه عليم بمن تصلح له هذه المضاعفة وهو أهل لها، ومن لا يستحقها ولا هو أهل لها، فإن كرمه وفضله تعالى لا يناقض حكمته بل يضع فضله مواضعه لسعته ورحمته، ويمنعه من ليس من أهله بحكمته (3) .
دلالة الاسم على أوصاف الله .
__________
(1) أخرجه البخاري في التوحيد، باب قول الله تعالى وكان الله سميعا بصيرا 6/2689 (6951) .
(2) تفسير أسماء الله الحسنى للزجاج ص 51، والأسماء والصفات للبيهقي ص59، والمقصد الأسنى ص106.
(3) طريق الهجرتين ص540 .(2/196)
اسم الله الواسع يدل على ذات الله وعلى السعة كوصف ذات والتوسيع على الغير كوصف فعل بدلالة المطابقة، وعلى ذات الله وحدها بالتضمن، وعلى الصفة وحدها بدلالة التضمن، أما دلالته على وصف الذات فلقوله تعالى: { وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ } [البقرة:255]، والكرسي عند السلف موضع القدمين، فما بالك بعظمة عرشه ثم ما بالك بعظمة من استوى عليه، وقال سبحانه: { إِنَّمَا إِلَهُكُمُ الله الذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَسِعَ كُل شَيْءٍ عِلماً } [طه:98]، وقد تقدم حديث عائشة رضي الله عنها الذي رواه البخاري أنها قالت: ( الحَمْدُ لِلهِ الذِي وَسِعَ سَمْعُهُ الأَصْوَاتَ .. ) .(2/197)
وأما دلالة الاسم على وصف الفعل فلقوله تعالى: { وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ } [الذاريات:47]، وعند البخاري من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: ( أن رجلا قام إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فَسَأَلَهُ عَنِ الصَّلاَةِ فِي الثَّوْبِ الوَاحِدِ فَقَالَ: أَوَكُلُّكُمْ يَجِدُ ثَوْبَيْنِ؟ ثُمَّ سَأَلَ رَجُلٌ عُمَرَ فَقال: إِذَا وَسَّعَ الله فَأَوْسِعُوا .. الحديث ) (1)، وعند مسلم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( وَرَجُلٌ وَسَّعَ الله عَلَيْهِ وَأَعْطَاهُ مِنْ أَصْنَافِ المَالِ كُلِّهِ فَأُتِىَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا قال: فَمَا عَمِلتَ فِيهَا؟ .. الحديث ) (2)، وعند أحمد وصححه الألباني عن رجل من بني سليم مرفوعا: ( إنَّ الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَبْتَلِي عَبْدَهُ بِمَا أَعْطَاهُ، فَمَنْ رضي بِمَا قَسَمَ الله - عز وجل - لَهُ، بَارَكَ الله لَهُ فِيهِ وَوَسَّعَهُ، وَمَنْ لَمْ يَرْضَ لَمْ يُبَارِكْ لَهُ فيه ) (3) .
واسم الله الواسع يدل باللزوم على الحياة والقيومية والسيادة والصمدية والعظمة والأحدية والعلم والقدرة والعزة والغنى والجود والكرم، وغير ذلك من صفات الكمال والجمال، واسم الله الواسع دل على وصف الذات والأفعال .
الدعاء باسم الله الواسع دعاء مسألة .
__________
(1) البخاري في الصلاة، باب الصلاة في القميص والسراويل 1/143 (358) .
(2) مسلم في الإمارة، باب من قاتل للرياء والسمعة استحق النار 3/ 1513 (1905) .
(3) مسند أحمد 10/257، والسلسلة الصحيحة (1658)، وصحيح الجامع (1869) .(2/198)
ورد دعاء المسألة والثاء على الله بالوصف الذي دل عليه الاسم في قوله تعالى عن نبيه شعيب - عليه السلام -: { قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللهِ كَذِباً إِنْ عُدْنَا فِي مِلتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلا أَنْ يَشَاءَ اللهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُل شَيْءٍ عِلْماً عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ } [الأعراف:89]، وقوله تعالى: { الذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُل شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ } [غافر:7] .
وعند مسلم من حديث عوف بن مالك - رضي الله عنه - أنه قال: صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على جنازة فحفظت من دعائه وهو يقول: ( اللهمَّ اغْفِرْ لَهُ وَارْحَمْهُ، وَعَافِهِ وَاعْفُ عَنْهُ، وَأَكْرِمْ نُزُلَهُ وَوَسِّعْ مُدْخَلَهُ، وَاغْسِلهُ بِالمَاءِ وَالثَّلجِ وَالبَرَدِ .. الحديث ) (1)، وروى أيضا من حديث ابن عباس رضي الله عنهما عن عمر - رضي الله عنه - أنه قال: ( قلت: يا رسول الله، ادْعُ الله يَا رَسُولَ الله أَنْ يُوَسِّعَ عَلَى أُمَّتِكَ، فَقَدْ وَسَّعَ عَلَى فَارِسَ وَالرُّومِ وَهُمْ لاَ يَعْبُدُونَ الله فَاسْتَوَى جَالِسًا ثُمَّ قال: أَفِي شَكٍّ أَنْتَ يَا ابْنَ الخَطَّابِ؟ أُولَئِكَ قَوْمٌ عُجِّلَتْ لَهُمْ طَيِّبَاتُهُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا، فَقُلتُ: اسْتَغْفِرْ لِي يَا رَسُولَ الله ) (2) .
الدعاء باسم الله الواسع دعاء عبادة .
__________
(1) مسلم في الجنائز، باب الدعاء للميت 2/662 (963) .
(2) مسلم في الطلاق، باب في الإبلاء واعتزال النساء 2/1112 (1479) .(2/199)
توحيد الله في اسمه الواسع مقتضاه أن يوسع العبد على نفسه وعلى إخوانه، ويسأل الله بواسع كرمه أن يوسع عليه بنعمه وإحسانه، وأن يثق في سعة الرزق مهما طالت أيام بلائه وامتحانه، روى الترمذي وصححه الشيخ الألباني من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( وَيُؤْتَى بِصَاحِبِ المَال فَيَقُول اللهُ لهُ: أَلمْ أُوَسِّعْ عَليْكَ حَتَّى لمْ أَدَعْكَ تَحْتَاجُ إِلى أَحَدٍ؟ قَال: بَلى يَا رَبِّ، قَال: فَمَاذَا عَمِلتَ فِيمَا آتَيْتُكَ؟ قَال: كُنْتُ أَصِل الرَّحِمَ وَأَتَصَدَّقُ، فَيَقُول اللهُ لهُ: كَذَبْتَ، وَتَقُول لهُ المَلاَئِكَةُ: كَذَبْتَ وَيَقُول اللهُ: بَل أَرَدْتَ أَنْ يُقَال فُلاَنٌ جَوَادٌ، فَقَدْ قِيل ذَاكَ ) (1) .
وورد عند البخاري من حديث أَبِي سعِيدٍ - رضي الله عنه -: ( أَنَّ نَاسًا مِنَ الأَنْصَارِ سَأَلوا رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَأَعْطَاهُمْ، ثُمَّ سَأَلوهُ فَأَعْطَاهُمْ، حَتَّى نَفِدَ مَا عِنْدَهُ، فَقَال: مَا يَكُونُ عِنْدِي مِنْ خَيْرٍ فَلنْ أَدَّخِرَهُ عَنْكُمْ وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللهُ، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللهُ وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللهُ، وَمَا أُعْطِىَ أَحَدٌ عَطَاءً خَيْرًا وَأَوْسَعَ مِنَ الصَّبْرِ ) (2) .
__________
(1) الترمذي في الزهد، باب ما جاء في الرياء والسمعة 4/591 (2381)، صحيح الجامع (1713) .
(2) البخاري في الزكاة، باب الاستعفاف عن المسألة 2/534 (1400) .(2/200)
ومن دعاء العبادة تمني السعة طلبا للجهاد ودعوة العباد إلى توحيد الله، روى ابن ماجة وصححه الألباني من حديث أَبِي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَال: ( وَالذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لوْلاَ أَنْ يَشُقَّ عَلى المُسْلمِينَ، مَا قَعَدْتُ خِلاَفَ سَرِيَّةٍ تَغْزُو فِي سَبِيل اللهِ أَبَدًا، وَلكِنْ لاَ أَجِدُ سَعَةً فَأَحْمِلهُمْ، وَلاَ يَجِدُونَ سَعَةً، وَيَشُقُّ عَليْهِمْ أَنْ يَتَخَلفُوا عَنِّي، وَالذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لوَدِدْتُ أَنِّي أَغْزُو في سَبِيل اللهِ، فَأُقْتَل ثُمَّ أَغْزُو فَأُقْتَل، ثُمَّ أَغْزُو فَأُقْتَل ) (1)، وقال تعالى: { لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ إنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ } [التوبة:91/93] .
ومن جهة التسمية بإضافة التعبد للاسم فقد تسمى به أبو الموفق عبد الواسع بن عبد الرحمن بن الموفق بن عبد الله السري السقطي من أهل هراة، كان واعظا متميزا من أهل الخير والعلم، وكانت وفاته سنة تسع وأربعين وخمسمائة (2) .
********************************
45- الله - جل جلاله - العَليمُ
********************************
__________
(1) ابن ماجة في الجهاد، باب فضل الجهاد 2/920 (2753)، صحيح الترغيب والترهيب (1266) .
(2) التحبير في المعجم الكبير للسمعاني 1/500 .(2/201)
الدليل على ثبوت الاسم وإحصائه .
ورد اسم الله العليم في كتاب الله معرفا ومنونا مطلقا ومقيدا مرادا به العلمية ودالا على الوصفية وكمالها، قال تعالى: { فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ وَهُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ } [البقرة:137] .
وقد ورد الاسم مقرونا في الكتاب والسنة بأسماء أخرى كثيرة تحمل في اقترانها معان كبيرة، فاقترن بالسميع والحكيم والعزيز والحليم والخلاق والقدير والفتاح والخبير .
وورد في السنة في نصوص كثيرة منها ما رواه أبو داود وصححه الألباني من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( أَعُوذُ بِاللهِ السَّمِيعِ العَلِيمِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ مِنْ هَمْزِهِ وَنَفْخِهِ وَنَفْثِهِ ) (1)، وتجد الإشارة هنا إلى أن ما انطبقت عليه شروط الإحصاء من الأسماء التي تدل على صفة العلم اسم الله العليم فقط، ولم تنطبق على العالم والعلام والأعلم لأنها جميعا لم ترد في القرآن والسنة إلا مضافة مقيدة .
شرح الاسم وتفسير معناه .
العليم في اللغة من أَبنية المبالغة، عَلِيمٌ على وزن فعِيل، فعله عَلِم يعلم علما، ورجل عالم وعَلِيمٌ، والعِلمُ نقيضُ الجهل، ويجوز أن يقال للإِنسان الذي عَلمه الله عِلما من العُلوم عَلِيم، كما قال يوسف - عليه السلام - للملك: { اجْعَلنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظ عَلِيمٌ } [يوسف:55]، وهو - عليه السلام - عليم على اعتبار محدودية علمه ومناسبته لقدره فهو ذو علم وموصوف بالعلم كما قال - عز وجل -: { وَإِنَّهُ لَذو عِلمٍ لِمَا عَلمْنَاهُ } [يوسف:68] .
__________
(1) أبو داود في كتاب الصلاة، باب من رأى الاستفتاح بسبحانك اللهم وبحمدك 1/206 (775)، وانظر صحيح أبي داود 1/148 (701) .(2/202)
لكن شتان بين علم مقيد محدود وعلم مطلق بلا حدود، سبحانه وتعالى في كمال علمه وطلاقة وصفه، فعلمه فوق كل ذي علم كما قال - عز وجل -: { نَرْفَعُ دَرَجَات مَنْ نَشَاء وَفَوْقَ كُل ذِي عِلمٍ عَلِيمٌ } [يوسف:76]، فالله - عز وجل - عليمُ بما كان وما هو كائن وما سيكونُ، لم يَزَل عالِما ولا يَزال عالما بما كان وما يكون، ولا يخفى عليه خافية في الأَرض ولا في السماء، سبحانه أَحاط عِلمُه بجميع الأَشياء ظاهرها وباطِنِها، دقِيقها وجليلها (1)، فاسم الله العليم اشتمل على مراتب العلم الإلهي وهي أنواع:
أولها: علمه بالشيء قبل كونه وهو سر الله في خلقه، ضن به على عباده لا يعلمه ملك مقرب ولا نبي مرسل، وهذه المرتبة من العلم هي علم التقدير ومفتاح ما سيصير من هم أهل الجنة ومن هم أهل السعير؟ فكل أمور الغيب قدرها الله في الأزل ومفتاحها عنده وحده ولم يزل، كما قال تعالى: { إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الغَيْثَ وَيَعْلمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللهَ عَليمٌ خَبِيرٌ } [لقمان:34]، وقال سبحانه: { قُل لا يَعْلمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الغَيْبَ إِلا اللهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ } [النمل:65] .
__________
(1) انظر المعنى اللغوي في لسان العرب 12/421، والنهاية في غريب الحديث 3/292، ومفردات ألفاظ القرآن ص580، واشتقاق أسماء الله للزجاج ص50 .(2/203)
المرتبة الثانية: علمه بالشيء وهو في اللوح المحفوظ بعد كتابته وقبل إنفاذ أمره ومشيئته، فالله - عز وجل - كتب مقادير الخلائق في اللوح المحفوظ قبل أن يخلقهم بخمسين ألف سنة، والمخلوقات في اللوح قبل إنشائها عبارة عن كلمات، وتنفيذ ما في اللوح من أحكام تضمنتها الكلمات مرهون بمشيئة الله في تحديد الأوقات التي تناسب أنواع الابتلاء في خلقه، وكل ذلك عن علمه بما في اللوح من حساب وتقدير، وكيف ومتى يتم الإبداع والتصوير؟ كما قال تعالى: { أَلمْ تَعْلمْ أَنَّ اللهَ يَعْلمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلك عَلى اللهِ يَسِيرٌ } [الحج:70]، وقال أيضا: { مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْل أَن نَبْرَأَهَا } [الحديد:23] .
المرتبة الثالثة: علمه بالشيء حال كونه وتنفيذه ووقت خلقه وتصنيعه كما قال: { اللهُ يَعْلمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَار ٍعَالمُ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الكَبِيرُ المُتَعَال } [الرعد:8]، وقال تعالى: { يَعْلمُ مَا يَلجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الغَفُورُ } [سبأ:2] .(2/204)
المرتبة الرابعة: علمه بالشيء بعد كونه وتخليقه، وإحاطته بالفعل بعد كسبه وتحقيقه فالله - عز وجل - بعد أن ذكر مراتب العلم السابقة في قوله: { وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ } [الأنعام:59]، ذكر بعدها المرتبة الأخيرة فقال: { وَهُوَ الذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِالليْل وَيَعْلمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ ليُقْضَي أَجَلٌ مُسَمّىً ثُمَّ إِليْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } [الأنعام:60]، وقال: { قَدْ عَلمْنَا مَا تَنْقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ } [ق:4]، وقال: { أَلمْ يَعْلمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَن اللهَ عَلامُ الغُيُوبِ } [التوبة:78]، فالله - عز وجل - عالم بما كان وما هو كائن، وما سيكون، وما لو كان كيف يكون على ما اقتضته حكمته البالغة (1) .
دلالة الاسم على أوصاف الله .
__________
(1) هذه المراتب يتعلق بها العلم الإلهي، ويتضمنها اسمه العليم بخلاف مراتب العلم به سبحانه التي ذكرها ابن القيم وحصرها في خمس مراتب، انظر مدارج السالكين 1/107، وانظر في تفسير الاسم: المقصد الأسنى ص 126 وشرح أسماء الله الحسنى للرازي 240، والأسماء والصفات للبيهقي ص91 .(2/205)
اسم الله العليم يدل على ذات الله وعلى العلم كوصف ذات والتعليم كوصف فعل بدلالة المطابقة، وعلى ذات الله وحدها بالتضمن، وعلى الصفة وحدها بالتضمن، وقد بين الله - عز وجل - أن العليم هو المتصف بالعلم، فقال: { إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلمُ السَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلا بِعِلمِهِ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ } [فصلت:47]، وقال سبحانه : { لَكِنِ الله يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلمِهِ وَالمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِالله شَهِيداً } [النساء:166] .
أما دلالته على التعليم كوصف فعل فكما قال تعالى عن يعقوب - عليه السلام -: { وَإِنَّهُ لَذُو عِلمٍ لِمَا عَلمْنَاهُ } [يوسف:68]، وقال عن عيسى - عليه السلام -: { وَيُعَلِّمُهُ الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ والإنجيل } [آل عمران:48]، وقال عن نبينا - عليه السلام -: { وَمَا عَلمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ } [يس:69] .(2/206)
وفي الدلالة على وصف الذات والفعل معا ورد عند البخاري من حديث ابن عباس - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في قصة موسى والخضر عليهما السلام: ( قَالَ موسى: هَل أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تعلمني مِمَّا عُلِّمْتَ رَشَدًا، قال: إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ معي صَبْرًا، يَا مُوسَى إني عَلَى عِلمٍ مِنْ عِلمِ اللهِ عَلمَنِيهِ لاَ تَعْلَمُهُ أَنْتَ، وَأَنْتَ عَلَى عِلمٍ عَلمَكَهُ لاَ أَعْلَمُهُ قال: ستجدني إِنْ شَاءَ الله صَابِرًا، وَلاَ أَعْصِي لَكَ أَمْرًا، فَانْطَلَقَا يَمْشِيَانِ عَلَى سَاحِلِ البَحْرِ لَيْسَ لَهُمَا سَفِينَةٌ، فَمَرَّتْ بِهِمَا سَفِينَةٌ، فَكَلمُوهُمْ أَنْ يَحْمِلُوهُمَا فَعُرِفَ الخَضِرُ، فَحَمَلُوهُمَا بِغَيْرِ نَوْلٍ، فَجَاءَ عُصْفُورٌ فَوَقَعَ عَلَى حَرْفِ السَّفِينَةِ، فَنَقَرَ نَقْرَةً أَوْ نَقْرَتَيْنِ في البَحْرِ، فَقَالَ الخَضِرُ: يَا مُوسَى مَا نَقَصَ علمي وَعِلمُكَ مِنْ عِلمِ اللهِ إِلاَّ كَنَقْرَةِ هَذَا العُصْفُورِ في البَحْرِ ) (1) .
__________
(1) البخاري في العلم ، باب ما يستحب للعالم إذا سئل 1/57 (122) .(2/207)
والاسم يدل باللزوم على الحياة والقيومية، والمتصف بالعلم يلزم أن يكون سميعا بصيرا عزيزا قديرا حكيما خبيرا؛ لأن انتفاء هذه الأوصاف يؤدي إلى انعدام العلم أو انعدام كماله، ومن هنا جاء اسمه العليم مقترنا بالسميع في قوله تعالى: { وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي الليْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ } [الأنعام:13]، وفي مرة أخرى ورد الاسم مقترنا باسم الله العزيز كقوله: { فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ الليْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالقَمَرَ حُسْبَاناً ذَلِكَ تَقْدِيرُ العَزِيزِ العَلِيمِ } [الأنعام:96]، وكذلك ورد اسم الله العليم مقترنا باسمه القدير كقوله: { يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ العَلِيمُ القَدِيرُ } [الروم:54]، واجتمع اسمه العليم مع اسمه الحكيم كما في قوله تعالى: { وَهُوَ الذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الحَكِيمُ العَلِيمُ } [الزخرف:84]، وورد الاسم مقترنا باسم الله الخبير كقوله تعالى: { قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ العَلِيمُ الخَبِيرُ } [التحريم:3] .
وكل هذه المعاني من دلالات الالتزام المتعلقة بالصفات والأفعال؛ فالخلق والتكوين لا بد أن يكون عن علم وقدرة، فقرن بين اسمه العليم والخلاق ووصف القدرة في آية واحدة فقال: { أَوَلَيْسَ الذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الخَلاقُ العَلِيمُ } [يّس:81]، والمتصف بالعلم الكامل لديه مفتاح الهداية إلى الصلاح، ولذلك اقترن اسمه العليم باسمه الفتاح فقال - عز وجل -: { قُل يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالحَقِّ وَهُوَ الفَتَّاحُ العَلِيمُ } [سبأ:26] .
الدعاء باسم الله العليم دعاء مسألة .(2/208)
ورد دعاء المسألة بالاسم المطلق في قوله تعالى عن إبراهيم وإسماعيل عليهما الصلاة والسلام: { وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } [البقرة:127]، وقوله: { إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } [آل عمران:35]، وكذلك في قوله تعالى لسيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - : { وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } [الأعراف:200]، وقول يعقوب - عليه السلام -: { قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ } [يوسف:83]، وكذلك ورد في قوله تعالى عن دعاء يوسف - عليه السلام - والاستجابة له: { فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } [يوسف:34] .
وعند أبي داود وصححه الألباني من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أنه قال: ( كَانَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إِذَا قَامَ مِنَ الليْلِ كَبَّرَ ثُمَّ يَقُولُ: سُبْحَانَكَ اللهمَّ وَبِحَمْدِكَ، وَتَبَارَكَ اسْمُكَ، وَتَعَالَى جَدُّكَ وَلاَ إِلَهَ غَيْرُكَ، ثُمَّ يَقُولُ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ الله، ثَلاَثًا، ثُمَّ يَقُولُ: الله أَكْبَرُ كَبِيرًا ثَلاَثًا، أَعُوذُ بِالله السَّمِيعِ الْعَلِيمِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ مِنْ هَمْزِهِ وَنَفْخِهِ وَنَفْثِهِ ثُمَّ يَقْرَأُ ) (1) .
__________
(1) أبو داود في الصلاة، باب من رأى الاستفتاح بسبحانك 1/206(775)، مشكاة المصابيح (1217) .(2/209)
ومن دعاء المسألة بالوصف ما ورد في حديث الاستخارة: ( إِذَا هَمَّ أَحَدُكُمْ بِالأَمْرِ فَليَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ الفَرِيضَةِ ثُمَّ لِيَقُلِ اللهمَّ إِنِّي أَسْتَخِيرُكَ بِعِلمِكَ وَأَسْتَقْدِرُكَ بِقُدْرَتِكَ وَأَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ العَظِيمِ؛ فَإِنَّكَ تَقْدِرُ وَلاَ أَقْدِرُ، وَتَعْلَمُ وَلاَ أَعْلَمُ، وَأَنْتَ عَلاَّمُ الغُيُوبِ .. الحديث ) (1) .
وعند مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت: ( كَانَ النبي - صلى الله عليه وسلم - إِذَا قَامَ مِنَ الليْلِ افْتَتَحَ صَلاَتَهُ: اللهمَّ رَبَّ جِبْرَائِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَإِسْرَافِيلَ، فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ عَالِمَ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ، اهْدِنِي لِمَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِنَ الحَقِّ بِإِذْنِكَ إِنَّكَ تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ) (2)، وعند البخاري من حديث ابن عباس - رضي الله عنه - قال: ( ضمني النبي - صلى الله عليه وسلم - إِلَى صَدْرِهِ وَقال: اللهُمَّ عَلِّمْهُ الْحِكْمَةَ ) (3) .
الدعاء باسم الله العليم دعاء عبادة .
__________
(1) البخاري في التوحيد، باب ما جاء في التطوع 1/391 ( 1109) .
(2) مسلم في صلاة المسافرين، باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه 1/534 (770) .
(3) البخاري في فضائل الصحابة، باب ذكر بن عباس رضي الله عنهما 3/1371 (3546) .(2/210)
أثر توحيد الله في اسمه العليم تقديم هدي الله على ما يراه باجتهاده وهواه، وتقديم حكمه على حكم من سواه؛ لأن العاقل يعلم أن القانون الموضوع من قبل المشرعين في المجالس الشعبية مهما بلغ في كماله فلن يصل إلى كمال المنهج في الشريعة الإسلامية، وسبب ذلك من الأمور البديهية؛ فشتان بين علم البشر ومقارنته بعلم خالقهم؛ فالإنسان مهما بلغ علمه أو علا شأنه في سن القوانين عندما يضع تشريعا أو تعديلا له لا يراعي المصلحة في الدنيا على وجه الكمال، ولا ينظر بأي حال من الأحوال إلى المصير الذي لم يقسم عليه رب العزة والجلال، لأنه لا يحتاج في حقيقته ووقوعه إلى قسم، قال - عز وجل -: { لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ القِيَامَةِ وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللوَّامَةِ أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَلن نَجْمَعَ عِظَامَهُ بَلى قَادِرِينَ عَلى أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ } [القيامة:1/10]، فلا يدري صاحب المدارك المحدودة مصير الناس بعد موتهم؛ ولا يراعي في حسبانه أو عند وضع قوانينه قضية النعيم الأبدي أو العذاب الحتمي .(2/211)
ومن ثم لا يمكن للقوانين الوضعية أن تحقق السعادة البشرية، أما القوانين الإلهية التي حملتها الآيات القرآنية والأحاديث النبوية فهي صادرة عن المتوحد في الأسماء والصفات الإلهية الذي أحاط بكل شيء علما، وأحصى كل شيء عددا، ولا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، قال تعالى: { يَعْلمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلماً } [طه:110]، وقال سبحانه: { أَلا يَعْلمُ مَنْ خَلقَ وَهُوَ اللطِيفُ الخَبِيرُ } [الملك:14]، وقال - جل جلاله -: { يَعْلمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَعْلمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلنُونَ وَاللهُ عَليمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ } [التغابن:4]، فمن دعاء العبادة أن يتخير العبد منهج الله منهجا له في الحياة؛ فإن القوانين الوضعية فضلا عن كونها لا تحقق السعادة الإنسانية هي حكم بغير ما أنزل الله، وقد قال - عز وجل -: { إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الذِينَ أَسْلَمُوا لِلذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ } [المائدة:44] .(2/212)
ومن دعاء العبادة أيضا تواضع العالم لربه حيث يتصاغر في نفسه مقدار علمه توحيدا لله في علمه، وأنه مهما بلغ علمه فإنه فوق كل ذي علم عليم، قال - عز وجل -: { نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُل ذِي عِلمٍ عَليمٌ } [يوسف:76]، ومن ثم يحرص العالم على دوام التذلل والافتقار إلى العليم، ويبلغ نعمة العلم ولا يكتمها أو يجحدها عند السؤال، ويزداد بعلمه قربة لربه لأن التقوى مفتاح العلم بالله - عز وجل - كما قال: { وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلمُكُمُ اللهُ وَاللهُ بِكُل شَيْءٍ عَليمٌ } [البقرة:282] .(2/213)
وإن لم يخلص العالم في علمه ويتقي الله في عمله، فعلمه سبب هلكته وكسبه سبب تعاسته، روى مسلم من حديث أَبِي هريرة - رضي الله عنه - أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول في أول الناس يقضى عليه يوم القيامة: ( وَرَجُل تَعَلمَ العِلمَ وَعَلمَهُ وَقَرَأَ القُرْآنَ فَأُتِي بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَال: فَمَا عَمِلتَ فِيهَا؟ قَال: تَعَلمْتُ العِلمَ وَعَلمْتُهُ، وَقَرَأْتُ فِيكَ القُرْآنَ، قَال: كَذَبْتَ وَلكِنَّكَ تَعَلمْتَ العِلمَ ليُقَال عَالمٌ، وَقَرَأْتَ القُرْآنَ ليُقَال هُوَ قَارِئٌ، فَقَدْ قِيل، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلى وَجْهِهِ حَتَّى أُلقِي فِي النَّارِ .. ) (1)، وقد ورد عند الترمذي وصححه الألباني من حديث أبي أمامة الباهلي - رضي الله عنه - أنه قال: ( ذُكِرَ لرَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - رَجُلاَنِ، أَحَدُهُمَا عَابِدٌ، وَالآخَرُ عَالمٌ، فَقَال: فَضْل العَالمِ عَلى العَابِدِ كَفَضْلي عَلى أَدْنَاكُمْ، ثُم قَال رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : إِنَّ اللهَ وَمَلاَئِكَتَهُ وَأَهْل السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ حَتَّى النَّمْلةَ فِي جُحْرِهَا، وَحَتَّى الحُوتَ ليُصَلونَ عَلى مُعَلمِ النَّاسِ الخَيْرَ ) (2) .
ومن دعاء العبادة أيضا أن يسأل المسلم عند جهله بالحكم حتى لا يكون متسببا في الجهل الذي وقع فيه، لأن الإنسان مسئول عند الله - عز وجل - عن السبب في جهله، فإن كان الجهل من كسبه وفعله وإعراضه وكبره، فهو محاسب على كل معصية وقع فيها بجهله، سواء كانت المخالفة مخالفة عظيمة تؤدي إلي الخلود في النار، أو كانت المخالفة كبيرة تحت مشيئة الله وبين عدله وفضله إن شاء غفرها لعبده وإن شاء عذبه بذنبه .
__________
(1) مسلم في الإمارة، باب من قاتل للرياء والسمعة استحق النار 3/1513(1905) .
(2) الترمذي في العلم، باب فضل الفقه على العبادة 5/50 (2685)، صحيح الجامع (4213) .(2/214)
أما إذا انقطعت به الأسباب وانسدت في وجهه الأبواب، ولم يتمكن من العلم بعد البحث والسؤال، ولم يعص الله - عز وجل - فيما قال: { فَاسْأَلوا أَهْل الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلمُونَ } [النحل:43]، فهو باتفاق معذور بجهله، ولا يؤاخذ على ذنبه؛ لأن الجهل ليس من كسبه، بل هو من تقدير الله وفعله، وقد قال تعالى: { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولا } [الإسراء:15]، وطالما عقد العبد نيته أن يطيع الله إذا علم أمره وأن يصدقه إذا علم خبره فهو على الإيمان المجمل، كما ورد عند البخاري من حديث عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يقول: ( إِنَّمَا الأَعْمَال بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لكُل امْرِئٍ مَا نَوَى ) (1) .
__________
(1) البخاري في كتاب بدء الوحي، باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله S 1/3 (1) .(2/215)
كما أنه لا أحد أحب إليه العذر من الله، فمن حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - أن رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: ( ليْسَ أَحَدٌ أَحَبَّ إِليْهِ المَدْحُ مِنَ اللهِ - عز وجل -، مِنْ أَجْل ذَلكَ مَدَحَ نَفْسَهُ وَليْسَ أَحَدٌ أَغْيَرَ مِنَ اللهِ، مِنْ أَجْل ذَلكَ حَرَّمَ الفَوَاحِشَ، وَليْسَ أَحَدٌ أَحَبَّ إِليْهِ العُذْرُ مِنَ اللهِ، مِنْ أَجْل ذَلكَ أَنْزَل الكِتَابَ وَأَرْسَل الرُّسُل ) (1)، وفي رواية البخاري من حديث المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه -: ( وَلا أَحَدَ أَحَبُّ إِليْهِ العُذْرُ مِنَ اللهِ، وَمِنْ أَجْل ذَلكَ بَعَثَ المُبَشِّرِينَ وَالمُنْذِرِينَ ) (2)، ومن ثم فإن الجاهل من المسلمين بعد الطلب والسؤال إن لم يصل إلى العلم بالحكم في مسألة ما فهو معذور بجهله في هذه المسألة فقط، وإن كان محاسبا على غيرها مما ألم بحكمها .
وبخصوص التسمية بعبد العليم فلم أجد أحدا من علماء السلف الصالح أو رواة الحديث سمى به، ولكن تسمى به كثير من المتأخرين، منهم شرف الدين أبي القاسم عبد العليم بن عبد العليم اليمني الحنفي، صاحب كتاب قلائد عقود الدرر والعقيان في مناقب أبي حنيفة النعمان (3) .
********************************
46- الله - جل جلاله - التَّواب
********************************
الدليل على ثبوت الاسم وإحصائه .
__________
(1) مسلم في التوبة، باب غيرة الله تعالى وتحريم الفواحش 4/2113 (2760) .
(2) البخاري في التوحيد، باب قول النبي S لا شخص أغير من الله 6/2698 (6980) .
(3) كشف الظنون 2/ 1353، وانظر عجائب الآثار في التراجم والأخبار للجبرتي 2/355 .(2/216)
ورد اسم الله التواب في القرآن في ستة مواضع معرفا بالألف واللام مطلقا مسندا إليه المعنى محمولا عليه مرادا به العلمية ودالا على كمال الوصفية كما في قوله - عز وجل -: { فَتَلَقَّي آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيم } [البقرة/37]، وورد في خمسة مواضع منونا كما في قول الله تعالى: ( وَلَوْلا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللهَ تَوَّابٌ حَكِيم } [النور10] .
وعند الترمذي وابن ماجة وصححه الشيخ الألباني من حديث عبد الله بن عمر - رضي الله عنه - أنه قال: ( كَانَ يُعَدُّ لِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي الْمَجْلِسِ الْوَاحِدِ مِائَةُ مَرَّةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَقُومَ: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَتُبْ عَلَي إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الْغَفُورُ ) (1) .
شرح الاسم وتفسير معناه .
__________
(1) أخرجه الترمذي في كتاب الدعوات، باب ما يقول إذا قام من المجلس 5/494 (3434)، وانظر صحيح ابن ماجة 2/321 (3075) .(2/217)
التواب في اللغة من صيغ المبالغة، فعله تاب يتوب توبا وتوبة، والتوبة الرجوع عن الشيء إلى غيره، وترك الذنب على أجمل الوجوه، وهو أبلغ وجوه الاعتذار، فإن الاعتذار على ثلاثة أوجه: إما أن يقول المعتذر لم أفعل، أو يقول فعلت لأجل كذا أو يقول: فعلت وأسأت وقد أقلعت ولا رابع لذلك وهذا الأخير هو التوبة (1)، والتائب يقال لباذل التوبة ولقابل التوبة فالعبد تائب إلى الله والله تائب على عبده (2)، والتوبة لازمة لجميع المذنبين والعاصين صغر الذنب أو كبر، وليس لأحد عذر في ترك التوبة بعد ارتكاب المعصية لأن المعاصي كلها توعد الله عليها أهلها (3) .
والتواب سبحانه هو الذي يقبل التوبة عن عباده حالا بعد حال، فما من عبد عصاه وبلغ عصيانه مداه ثم رغب في التوبة إليه إلا فتح له أبواب رحمته، وفرح بعودته وتوبة ما لم تغرغر النفس أو تطلع الشمس من مغربها، فعند مسلم من حديث أب موسى - رضي الله عنه - مرفوعا: ( إِنَّ اللهَ - عز وجل - يَبْسُطُ يَدَهُ بِالليْلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ، وَيَبْسُطُ يَدَهُ بِالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ الليْلِ حتى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا ) (4)، وعند الترمذي وصححه الألباني من حديث ابن عمر - رضي الله عنه - أن رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: ( إِنَّ اللهَ يَقْبَلُ تَوْبَةَ الْعَبْدِ مَا لَمْ يُغَرْغِرْ ) (5) .
__________
(1) المفردات ص76، ولسان العرب 1/233، التعاريف ص74، وزاد المسير 1/70 .
(2) السابق ص76، وكتاب العين للخليل بن أحمد 8/138، وتفسير أسماء الله الحسنى ص 62 .
(3) انظر الرعاية لحقوق الله للمحاسبي ص68، وإحياء علوم الدين 4/2، وعوارف المعارف ص487 .
(4) مسلم في التوبة، باب قبول التوبة 4/2113 (2759) .
(5) الترمذي في الدعوات، باب في فضل التوبة والاستغفار 5/547 (3537)، وانظر حكم الشيخ الألباني على الحديث في صحيح الجامع (4338) .(2/218)
ولو أن إنسانا اتبع هواه أو استجاب لشيطانه وتمادى في جرمه وعصيانه فقتل مائة نفس وارتكب كل إثم ثم أراد التوبة والغفران تاب عليه التواب - عز وجل -، وبدل له عدد ما فات من السيئات بنفس أعدادها حسنات، قال تعالى: { فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ الله سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ الله غَفُورًا رَحِيمًا } [الفرقان:71]، وروى الترمذي وحسنه الألباني من حديث أَنَس - رضي الله عنه - قال: ( سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: قَالَ الله: يَا ابْنَ آدَمَ إِنَّكَ مَا دَعَوْتَنِي وَرَجَوْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ عَلَى مَا كَانَ فِيكَ وَلاَ أُبَالِي، يَا ابْنَ آدَمَ لَوْ بَلَغَتْ ذُنُوبُكَ عَنَانَ السَّمَاءِ ثُمَّ اسْتَغْفَرْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ وَلاَ أُبَالِي، يَا ابْنَ آدَمَ إِنَّكَ لَوْ أَتَيْتَنِي بِقُرَابِ الأَرْضِ خَطَايَا ثُمَّ لَقِيتَنِي لاَ تُشْرِكُ بِي شَيْئًا لأَتَيْتُكَ بِقُرَابِهَا مَغْفِرَةً ) (1) .
هذا فضلا عن فرح التواب بتوبة عبده وعودته إلى ربه، فعند مسلم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( لَلهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ أَحَدِكُمْ مِنْ أَحَدِكُمْ بِضَالتِهِ إِذَا وَجَدَهَا ) (2)، إن المذنب مخطئ في جنب الله وعظم الذنب يقاس بعظم من أخطأ في حقه، فلو قبل الله توبة المذنب فإن مجرد القبول فقط كرم بالغ، ومنة من الله على عبده، فما بالنا وهو يقبل توبة المذنب بعفو جديد وفرح شديد، ويجعل في مقابل الذنوب بالتوبة أجرا كبيرا .
__________
(1) الموضع السابق 5/548 (3540) .
(2) مسلم في التوبة، باب في الحض على التوبة والفرح بها 4/2102 (2675) .(2/219)
ويذكر ابن القيم أن توبة العبد إلى ربه محفوفة بتوبة من الله عليه قبلها وتوبة منه بعدها فتوبته بين توبتين من الله، سابقة ولاحقة، فإنه تاب عليه أولا إذنا وتوفيقا وإلهاما فتاب العبد فتاب الله عليه ثانيا قبولا وإثابة، قال تعالى: { وَعَلَى الثلاثَةِ الذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَن لا مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إِلا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِن اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } [التوبة:118]، فأخبر - عز وجل - أن توبته عليهم سبقت توبتهم، وأنها هي التي جعلتهم تائبين، فكانت سببا ومقتضيا لتوبتهم فدل على أنهم ما تابوا حتى تاب الله عليهم، والحكم ينتف لانتفاء علته، فالعبد تواب والله تواب، فتوبة العبد رجوعه إلى سيده بعد الإباق، وتوبة الله نوعان: إذن وتوفيق وقبول وإمداد (1)، قال ابن القيم:
وكذلك التواب من أوصافه : والتوب في أوصافه نوعان
إذن بتوبة عبده وقبولها : بعد المتاب بمنة المنان (2) .
قال أبو حامد: ( التواب هو الذي يرجع إليه تيسير أسباب التوبة لعباده مرة بعد أخرى، بما يظهر لهم من آياته، ويسوق إليهم من تنبيهاته، ويطلعهم عليه من تخويفاته وتحذيراته، حتى إذا اطلعوا بتعريفه على غوائل الذنوب استشعروا الخوف بتخويفه فرجعوا إلى التوبة فرجع إليهم ) (3) .
دلالة الاسم على أوصاف الله .
__________
(1) مدارج السالكين1/ 312 .
(2) شرح قصيدة ابن القيم 2/231 .
(3) المقصد الأسنى ص 139 .(2/220)
اسم التواب يدل على ذات الله وعلى صفة التوبة بدلالة المطابقة وعلى أحدهما بالتضمن، قال تعالى: { ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ الله هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيم } [التوبة/118]، فالآية تضمنت الاسم والوصف معا، وقبول التوبة من صفات الأفعال لأنها تتعلق بالمشيئة قال - عز وجل -: { وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ الله إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَالله عَلِيمٌ حَكِيم } [التوبة:106]، وقال: { إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلا الذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً } [النساء:17/18] .
وعند البخاري من حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لها: ( يَا عَائِشَةُ إِنَّهُ بلغني عَنْكِ كَذَا وَكَذَا، فَإِنْ كُنْتِ بَرِيئَةً فَسَيُبَرِّئُكِ الله، وَإِنْ كُنْتِ أَلمَمْتِ بِذَنْبٍ فاستغفري الله وتوبي إِلَيْهِ فَإِنَّ العَبْدَ إِذَا اعْتَرَفَ ثُمَّ تَابَ تَابَ الله عَلَيْهِ ) (1)، وعند مسلم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( مَنْ تَابَ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا تَابَ الله عَلَيْهِ ) (2) .
__________
(1) البخاري في المغازي، باب حديث الإفك 4/ 1521 (3910) .
(2) مسلم في الذكر والدعاء والتوبة، باب استحباب الاستغفار والاستكثار منه 4/ 2076 (2703) .(2/221)
واسم الله التواب يدل باللزوم على الحياة والقيومية والسمع والبصر والعلم والقدرة والعزة والرأفة والعفو والرحمة والعدل والحكمة، وغير ذلك من أوصاف الكمال، واسم الله التواب دل على صفة من صفات الأفعال .
الدعاء باسم الله التواب دعاء مسألة .
ورد الدعاء بالاسم المطلق في قوله تعالى: { رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } [البقرة:128] .(2/222)
وقد تقدم حديث ابن عمر - رضي الله عنه - مرفوعا: ( كُنَّا لَنَعُدُّ لِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - في الْمَجْلِسِ الْوَاحِدِ مِائَةَ مَرَّةٍ: رَبِّ اغْفِرْ لي وَتُبْ عَلَي إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ) (1)، وعند النسائي وصححه الألباني من حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت: ( صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الضحى ثم قال: اللهم اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الرحيم، حتى قالها مائة مرة ) (2)، وروى أبو داود وصححه الألباني من حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( اللهُمَّ أَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِنَا، وَأَصْلِحْ ذَاتَ بَيْنِنَا وَاهْدِنَا سُبُلَ السَّلاَمِ، وَنَجِّنَا مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ، وَجَنِّبْنَا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَبَارِكْ لَنَا في أَسْمَاعِنَا وَأَبْصَارِنَا وَقُلُوبِنَا وَأَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا، وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ وَاجْعَلْنَا شَاكِرِينَ لِنِعْمَتِكَ مُثْنِينَ بِهَا قَابِلِيهَا وَأَتِمَّهَا عَلَيْنَا ) (3) .
__________
(1) أبو داود في الصلاة، باب في الاستغفار 2/85 (1516)، السلسلة الصحيحة (2603) .
(2) النسائي 6/32 (9935)، وانظر الأدب المفرد 1/217 (619) .
(3) أبو داود في الصلاة، باب التشهد 1/254 (969)، تمام المنة ص225.(2/223)
وورد الدعاء بمقتضى الوصف عند الترمذي وصححه الألباني من حديث عمر - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( مَنْ تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الوُضُوءَ ثُمَّ قال: أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ الله وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، اللهمَّ اجْعَلنِي مِنَ التَّوَّابِينَ وَاجْعَلنِي مِنَ المُتَطَهِّرِينَ فُتِحَتْ لَهُ ثَمَانِيَةُ أَبْوَابِ الجَنَّةِ يَدْخُلُ مِنْ أَيِّهَا شَاءَ ) (1) .
الدعاء باسم الله التواب دعاء عبادة .
أثر الاسم في سلوك العبد أن يسارع بالتوبة دون تأخيرها، فيقلع عن الذنب ندما على تفريط النفس بسوء أدبها وتقصيرها، ويعزم عزما أكيدا ألا يعود إلى مخالفة باريها فحينئذ يرجع إلى العبودية التي خلق لتنفيذها، فالله - عز وجل - تواب يعيد العبد الصادق في توبته إلى سابق وده ومحبته، إذا أقلع وندم واعتذر وعزم، وكان حاله ينطق بالضعف والمسكنة، وأن الذنب إنما كان غلبة من الشيطان، وقوة من وسواس النفس بالعصيان وأنه لم يكن منه ما كان عن استهانة بحقه - سبحانه وتعالى - ولا جهلا بقدره، ولا إنكارا لاطلاعه ولا استهانة بوعيده، وإنما كان من غلبة الهوى والشهوة واقترانها بضعف القوة، وطمعا في مغفرته واتكالا على عفوه، وحسن ظنه به، ورجاء لكرمه، وطمعا في سعة حلمه وأنه قد غره بالله الغرور والنفس الأمارة بالسوء، وستره المرخي على عبده بمعاونة من جهله ولا سبيل إلى الاعتصام له إلا به، ولا معونة على طاعته إلا بتوفيقه، وغير ذلك من أنواع التذلل والاستعطاف والافتقار والاعتراف بأنه عاجر نادم عازم على تجديد العهد له بتوحيد العبودية، فهذا مقتضى التوبة الصادقة وتوحيد الله في اسمه التواب (2) .
__________
(1) الترمذي في الطهارة، باب فيما يقال بعد الوضوء 1/78 (55)، صحيح الجامع (6167) .
(2) انظر المزيد عن التوبة في مدارك السالكين 1/ 181.(2/224)
وروى الطبراني وصححه الشيخ الألباني من حديث ابن عباس - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( ما من عبد مؤمن إلا وله ذنب يعتاده الفينة بعد الفينة أو ذنب هو مقيم عليه لا يفارقه حتى يفارق الدنيا، إن المؤمن خلق مفتنا توابا نسيا، إذا ذكر ذكر ) (1)، وعند الترمذي وحسنه الألباني من حديث أنس - رضي الله عنه - أن رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : ( كُل بَنِي آدَمَ خَطَّاءٌ وَخَيْرُ الخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ ) (2).
أما من جهة التسمية بعبد التواب فلم أجد أحدا سمي به من السلف أو الخلف في مجال ما أجرينا عليه البحث، وإن كانت نتيجة محركات البحث علي الإنترنت أظهرت الكثير ممن تسمى به في عصرنا .
********************************
47- الله - جل جلاله - الحَكَيمُ
********************************
الدليل على ثبوت الاسم وإحصائه .
__________
(1) الطبراني في المعجم الكبير 11/304 (11810)، صحيح الجامع (5735) .
(2) الترمذي في صفة القيامة 4/659 (2499)، مشكاة المصابيح (2341) .(2/225)
ورد اسم الله الحكيم في كثير من النصوص القرآنية والنبوية، قال تعالى: { رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ } [البقرة:129]، والاسم ورد مقترنا في أغلب المواضع باسمه العزيز كقوله تعالى: { لا إِلَهَ إِلا هُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ } [آل عمران:6]، وورد أيضا مقترنا باسمه الخبير وكذلك العليم، وعند البخاري من حديث ابن عباس - رضي الله عنه - مرفوعا: ( .. فَأَقُولُ كَمَا قَالَ العَبْدُ الصَّالِحُ: { وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شيء شَهِيدٌ إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ العَزِيزُ الحَكِيم } قال: فَيُقَالُ لِي إِنَّهُمْ لَمْ يَزَالُوا مُرْتَدِّينَ عَلَى أَعْقَابِهِمْ مُنْذُ فَارَقْتَهُمْ ) (1) .
شرح الاسم وتفسير معناه .
الحكيم في اللغة صيغة مبالغة على وزن فعِيل بمعنى فاعِلٍ، فعله حكم يحكم حكما وحكومة، والحكيم يأتي على عدة معان منها الإحاطة والمنع، فحكم الشيء يعني منعه وسيطر عليه وأحاط به، ومنها حكمة اللجام وهي الحديدة المانعة للدابة عن الخروج ويشهد لذلك قول حسان بن ثابت - رضي الله عنه -:
فنحكم بالقوافي من هجانا : ونضربُ حين تختلط الدماء (2) .
أي نمنع بالقوافي من هجانا وقول الآخر:
أبني حنيفة حكموا سفهاءكم : إني أخاف عليكمو أن أغضبا(3) .
__________
(1) البخاري في أحاديث الأنبياء، باب وكنت عليهم كلاهما ما دمت فيهم 4/1691 (4349) .
(2) اشتقاق أسماء الله ص62، ولسان العرب 12/141 .
(3) السابق ص61، وطبقات الشافعية 3/ 358 .(2/226)
أي امنعوا سفهاءكم، ويأتي الحكيم على معنى المدقق في الأمور المتقن لها، فالحكيم هو الذي يُحْكِمُ الأَشياء ويُحْسِنُ دقائق الصِّناعات ويُتقنها، ويقال للرجل إِذا كان حكيماً قد أَحْكَمَتْه التجاربُ (1) .
والحكيم أيضا هو الذي يُحْكِم الأمر ويقضي فيه ويفصل دقائقه ويبين أسبابه ونتائجه فالحَكِيمُ يجوز أَن يكون بمعنى حاكِمِ مثل قَدِير بمعنى قادر وعَلِيمٍ بمعنى عالِمٍ، واسْتَحْكَمَ الرجلُ إِذا تناهى عما يضره في دينه أَو دُنْياه (2) .
والحكيم سبحانه هو المتصف بحكمة حقيقية عائدة إليه وقائمة به كسائر صفاته، والتي من أجلها خلق فسوى وقدر فهدى وأسعد وأشقى، وأضل وهدى ومنع وأعطى، فهو المحكم لخلق الأشياء على مقتضى حكمته، وهو الحكيم في كل ما فعله وخلقه حكمة تامة اقتضت صدور هذا الخلق، ونتج عنها ارتباط المعلول بعلته والسبب بنتيجته، وتيسير كل مخلوق لغايته، وإذا كان الله - عز وجل - يفعل ما يشاء ولا يرد له قضاء، ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، إلا أنه الحكيم الذي يضع الأشياء في مواضعها، ويعلم خواصها ومنافعها ويرتب أسبابها ونتائجها (3) .
__________
(1) لسان العرب 12/143 .
(2) مفردات ألفاظ القرآن ص 248، وكتاب العين 3/67 .
(3) الاعتقاد والهداية إلى سبيل الرشاد ص60 .(2/227)
قال ابن القيم: ( الحكيم من أسمائه الحسنى، والحكمة من صفاته العلى، والشريعة الصادرة عن أمره، مبناها على الحكمة، والرسول المبعوث بها مبعوث بالكتاب والحكمة والحكمة هي سنة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، وهي تتضمن العلم بالحق والعمل به والخبر عنه والأمر به فكل هذا يسمى حكمة، وفي الأثر الحكمة ضالة المؤمن، وفي الحديث إن من الشعر حكمة، فكما لا يخرج مقدور عن علمه وقدرته ومشيئته فهكذا لا يخرج عن حكمته وحمده، وهو محمود على جميع ما في الكون من خير وشر، حمدا استحقه لذاته وصدر عنه خلقه وأمره، فمصدر ذلك كله عن الحكمة ) (1) .
دلالة الاسم على أوصاف الله .
اسم الله الحكيم يدل على ذات الله وعلى صفة الحكمة بدلالة المطابقة، وعلى أحدهما بالتضمن، ولم ترد الصفة مستقلة إلا في روايات ضعيفة لا يعتد بها، وقد ورد وصف الحكمة في قوله تعالى: { حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ } [القمر:5] على أنه وصف للقرآن والقرآن من كلام الله غير مخلوق (2) .
__________
(1) طريق الهجرتين ص161، وانظر أيضا الصواعق المرسلة 4/ 1565 .
(2) انظر زاد المسير 8/89، وفتح القدير 5/121 .(2/228)
واسم الله الحكيم يدل باللزوم على الحياة والقيومية والعلم والقدرة والخبرة والعزة والسعة والعظمة وغير ذلك من صفات الكمال، وقد قرن الله - عز وجل - بين اسمه الحكيم والعليم، وكذلك العزيز والواسع والخبير والتواب والعلي والحميد؛ فقال تعالى: { قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلا مَا عَلمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ } [البقرة:32]، وقال: { رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } [البقرة:129]، وقال أيضا: { وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللهُ كُلاً مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللهُ وَاسِعاً حَكِيماً } [النساء:130]، وقال سبحانه: { وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ } [الأنعام:18]، وقال: { وَلَوْلا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ } [النور:10]، وقال - عز وجل -: { لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ } [فصلت:42]، وقال: { إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ } [الشورى:51]، وكل تلك الأسماء المقترنة يمكن أن يستنبط منها دلالات اللزوم أو الالتزام المتعلقة باسم الله الحكيم، والاسم دل على صفة من صفات الذات .
الدعاء باسم الله الحكيم دعاء مسألة.(2/229)
ورد دعاء المسألة بالاسم المطلق في قوله تعالى: { رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } [الممتحنة:5]، وقوله - عز وجل -: { رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ التِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } [غافر:8]، وقوله: { رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } [البقرة:129]، وقوله: { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } [البقرة:260]، وقوله عن الملائكة: { قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلا مَا عَلمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ } [البقرة:32]، وقوله تعالى عن نبيه يعقوب - عليه السلام -: { قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ } [يوسف:83] .(2/230)
وعند مسلم من حديث عبد الله بن عمرو - رضي الله عنه -: ( أَنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - تَلاَ قَوْلَ اللهِ - عز وجل - في إِبْرَاهِيمَ: { رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } [إبراهيم:36]، وَقَالَ عِيسَى - عليه السلام -: { إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } [المائدة:118]، فَرَفَعَ يَدَيْهِ وَقال: اللهُمَّ أمتي أمتي وَبَكَى، فَقَالَ اللهُ - عز وجل -: يَا جِبْرِيلُ اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ، وَرَبُّكَ أَعْلَمُ، فَسَلْهُ مَا يُبْكِيكَ؟ فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ، سَأَلَهُ فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بِمَا قَالَ، وَهُوَ أَعْلَمُ، فَقَالَ اللهُ: يَا جِبْرِيلُ اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ فَقُلْ: إِنَّا سَنُرْضِيكَ في أُمَّتِكَ وَلاَ نَسُوءُكَ ) (1)، وعنده من حديث مصعب بن سعد - رضي الله عنه - عن أبيه أنه قال: ( جَاءَ أعرابي إِلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقال: عَلِّمْنِي كَلاَمًا أَقُولُهُ، قال: قُل لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، اللهُ أَكْبَرُ كَبِيرًا، وَالحَمْدُ للهِ كَثِيرًا، سُبْحَانَ اللهِ رَبِّ العَالَمِينَ لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللهِ العَزِيزِ الحَكِيمِ، قال: فَهَؤُلاَءِ لِرَبِّي، فَمَا لي؟ قال: قُلِ اللهُمَّ اغْفِرْ لي وارحمني وَاهْدِنِي وَارْزُقْنِي ) (2).
الدعاء باسم الله الحكيم دعاء عبادة .
__________
(1) مسلم في الإيمان، باب دعاء النبي S لأمته وبكائه شفقة عليهم 1/191 (202) .
(2) مسلم في الذكر والدعاء والتوبة، باب فضل التهليل والتسبيح والدعاء4/2072 ( 2696) .(2/231)
دعاء العبادة هو اختيار العبد لمنهج الله هاديا دليلا، ويسعد به ولا يرضى عنه بديلا، لعلمه ويقينه أنه الأعلى شأنا والأسمى كمالا، بل لا وجه للمقارنة بين منهج من وضع العبد وآخر من وحي خالقه، فالذي وحد الله في اسمه الحكيم هو العبد الرباني المؤمن النقي التقي الولي الذي يسمع بسمع الله، ولا يسمع إلا ما يرضيه، ويبصر بنور الله، فلا يرى إلا ما يرضيه .
روى البخاري من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: ( إِنَّ اللهَ قَال: مَنْ عَادَى لي وَليًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلي عَبْدِي بِشَيءٍ أَحَبَّ إِلي مِمَّا افْتَرَضْتُ عَليْهِ، وَمَا يَزَال عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلي بِالنَّوَافِل حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ التِي يَبْطُشُ بِهَا وَرِجْلهُ التِي يَمْشِي بِهَا وَإِنْ سَأَلنِي لأُعْطِيَنَّهُ وَلئِنِ اسْتَعَاذَنِي لأُعِيذَنَّهُ، وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيءٍ أَنَا فَاعِلهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ المُؤْمِنِ، يَكْرَهُ المَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ ) (1)، فأي حكمة يحقق بها العبد توحيد الله في اسمه الحكيم أفضل من أن يعصمه من الزلل ويعطيه إن سأل .
قال الله - عز وجل -: { يُؤْتِي الحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُولو الأَلبَابِ } [البقرة:269]، وقال تعالى: { لقَدْ مَنَّ اللهُ عَلى المُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلو عَليْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلمُهُمُ الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْل لفِي ضَلال مُبِينٍ } [آل عمران:164] .
__________
(1) البخاري في الرقاق، باب التواضع 5/2384 (6137) .(2/232)
ومن دعاء العبادة أن يدعو المسلم إلى ربه بالحكمة والموعظة الحسنة، وأن يتصف بالبصيرة والوسطية في دعوته للكتاب والسنة، قال تعالى: { ادْعُ إِلى سَبِيل رَبِّكَ بِالحِكْمَةِ وَالمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلهُمْ بِالتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلمُ بِمَنْ ضَل عَنْ سَبِيلهِ وَهُوَ أَعْلمُ بِالمُهْتَدِينَ } [النحل:125]، وقال: { قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ } [يوسف:108] .
ومن جهة التسمية بعبد الحكيم فقد روى الترمذي في سننه وصححه الشيخ الألباني قال: ( حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ بَزِيعٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الحَكِيمِ بْنُ مَنْصُورٍ الوَاسِطِيُّ عَنْ عَبْدِ المَلكِ بْنِ عُمَيْرٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ أَبِيهِ قَال: قَال رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : قِتَال المُسْلمِ أَخَاهُ كُفْرٌ وَسِبَابُهُ فُسُوقٌ ) (1) .
********************************
48- الله - جل جلاله - الغَنيُّ
********************************
الدليل على ثبوت الاسم وإحصائه .
__________
(1) الترمذي في الإيمان، باب ما جاء سباب المؤمن فسوق 5/21 (2634)، صحيح الجامع (4358) .(2/233)
اسم الله الغني ورد في القرآن مطلقا معرفا ومنونا مرادا به العلمية ودالا على الوصفية وكمالها، وقد ورد المعنى محمولا عليه مسندا إليه كما في قوله تعالى: { وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ } [الأنعام:133]، وقوله تعالى: { قَالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلداً سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ } [يونس:68]، وغالبا ما يقترن باسمه الحميد، كقوله: { لهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِنَّ اللهَ لهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ } [الحج:64]، واقترن اسم الله الغني بالحليم والكريم .
وفي سنن أبي داود وحسنه الألباني والحاكم في المستدرك وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، من حديث عروة عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها مرفوعا: ( اللهُمَّ أَنْتَ اللهُ لاَ إِلهَ إِلاَّ أَنْتَ، أَنْتَ الْغَنِىُّ وَنَحْنُ الْفُقَرَاءُ أَنْزِلْ عَليْنَا الْغَيْثَ، وَاجْعَلْ مَا أَنْزَلْتَ لنَا قُوَّةً وَبَلاَغًا إِلى حِينٍ ) (1) .
شرح الاسم وتفسير معناه .
الغني في اللغة صفة مشبهة لمن اتصف بالغنى فعله غنِي غِنىً، واسْتَغْنَى واغتَنَى فهو غنِيّ، والغنى في حقنا قلة الاحتياج وهو مقيد نسبي، ويتحقق غالبا بالأسباب التي استُؤمِن عليها الإنسان واستخلفه الله فيها كالأموال والأقوات التي يدفع بها عن نفسه الحاجات ومختلف الضروريات (2)، قال تعالى: { إِنَّمَا السَّبِيل عَلَى الذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ } [التوبة:93] .
__________
(1) أبو داود في كتاب الاستسقاء باب رفع اليدين في الاستسقاء1/304 (1173)، والحاكم في المستدرك كتاب الاستسقاء 1/476 (1225)، صحيح أبي داود 1/217 .
(2) انظر المعنى اللغوي في كتاب العين 7/450 . والمغرب 2/115، لسان العرب 15/135 .(2/234)
والغِنى إن تعلق بالمشيئة فهو وصف فعل كقوله - عز وجل -: { وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَة فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ الله مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِن اللهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } [التوبة:28]، وقوله: { وَأَنَّهُ هُوَ أَغنَى وَأَقْنَى } [النجم:48]، وإن لم يتعلق بالمشيئة فهو وصف ذات كقوله: { وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ } [آل عمران:97]، وكقوله: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ } [فاطر:15] .
والغني سبحانه هو المستغني عن الخلق بذاته وصفاته وسلطانه، والخلق جميعا فقراء إلى إنعامه وإحسانه، فلا يفتقر إِلى أَحدٍ في شيءٍ، وكلُّ مخلوق مفتقر إِليه، وهذا هو الغنى المُطْلَق ولا يُشارِك اللهَ تعالى فيه غيرُه، والغني أيضا هو الذي يُغني من يشاءُ من عِباده على قدر حكمته وابتلائه، وأي غني سوى الله فغناه نسبي مقيد، أما غنى الحق سبحانه فهو كامل مطلق .(2/235)
ومهما بلغ المخلوق في غناه فهو فقير إلى الله لأنه المنفرد بالخلق والتقدير والملك والتدبير، فهو المالك لكل شيء المتصرف بمشيئته في خلقه أجمعين، يعطي من يشاء ما يشاء من فضله، وقسم لكل مخلوق ما يخصه من حياته ورزقه، عطاؤه لا يمتنع ومدده لا ينقطع، وخزائنه ملأى لا تنفد، روى البخاري من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( يَدُ اللهِ مَلأَى لاَ يَغِيضُهَا نَفَقَة سَحَّاء الليْلَ وَالنَّهَارَ، أرَأيْتُمْ مَا أَنْفَقَ مُنْذ خَلقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ فَإِنَّهُ لَمْ يَغِضْ مَا في يَدهِ عَرْشُهُ عَلَى المَاءِ، وَبِيَدِهِ الأخْرَى المِيزَان يَخْفِضُ وَيَرْفَعُ ) (1) .
وعند مسلم من حديث أَبِي ذرٍّ الغفاري - رضي الله عنه - أن النبِي - صلى الله عليه وسلم - قال فيمَا رَوَى عَنِ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالى: ( يَا عِبَادِي لوْ أَن أَوَّلكمْ وَآخِرَكمْ وَإِنْسَكمْ وَجِنَّكمْ قامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِد فسَألونِي فأعْطيْتُ كل إِنْسَانٍ مَسْألتَهُ مَا نَقصَ ذلِكَ مِمَّا عِنْدي إلا كمَا يَنْقصُ المِخْيَط إِذا أخِل البَحْرَ، يَا عِبَادِي إِنَّمَا هِي أَعْمَالكمْ أُحْصِيهَا لكمْ تم أوفيكمْ إِيَّاهَا، فمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَليَحْمَدِ اللهَ، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فلا يَلومَنَّ إِلا نَفسَهُ ) (2) .
__________
(1) البخاري في التوحيد، باب قول الله تعالى لما خلقت بيدي 6/ 2697 (6976)، باب معنى لا يغيضها أي لا ينقصها نفقة، ومعنى سحاء أي كثرة السح والعطاء وهو إنزال الخير المتواصل، انظر فتح الباري 13/ 395 .
(2) مسلم في البر والصلة والأدب، باب تحريم الظلم 4/1994 (2577) .(2/236)
ومن ثم فالغني على سبيل الإطلاق والقيام بالنفس هو الله، وليس ذلك لأحد سواه فهو الغني بذاته عن العالمين المستغني عن الخلائق أجمعين، واتصاف غير الله بالغنى لا يمنع كون الحق متوحدا في غناه، لأن الغنى في حق غيره مقيد وفي حق الله مطلق وهذا واضح معلوم، وذلك مضطرد في جميع أوصافه بدلالة اللزوم (1) .
دلالة الاسم على أوصاف الله .
اسم الله الغني يدل على ذات الله وعلى الغنى كوصف ذات والإغناء كوصف فعل بدلالة المطابقة، وعلى ذات الله وحدها بالتضمن وعلى الصفة وحدها بالتضمن، أما دلالته على وصف الذات فكما ورد في قوله تعالى: { وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ العَالَمِينَ } [آل عمران:97]، وعند مسلم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعا: ( قَالَ الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى: أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ مَنْ عَمِلَ عَمَلاً أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ ) (2)، وأما دلالة الاسم على وصف الفعل فكما في قوله: { وَليَسْتَعْفِفِ الذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ الله مِنْ فَضْلِه } [النور:33]، وقول الله تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم - : { وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى } [الضحى:8] .
__________
(1) انظر في معنى الغني تفسير الطبري 3/58، وتفسير أسماء الله ص63، والمقصد الأسنى ص91 .
(2) مسلم في الزهد والرقاق، باب من أشرك في الله 4/ 2289 (2985) .(2/237)
وعند البخاري من حديث حكيم بن حزام - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( اليَدُ العُليَا خَيْرٌ مِنَ اليَدِ السُّفْلَى وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ، وَخَيْرُ الصَّدَقَةِ عَنْ ظَهْرِ غِنًى، وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ الله، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ الله ) (1)، واسم الله الغني يدل باللزوم على الحياة والقيومية والقوة والأحدية والقدرة والصمدية والعزة والكبرياء، وغير ذلك من صفات الكمال، واسم الله الغني دل على صفة من صفات الذات والأفعال .
الدعاء باسم الله الغني دعاء مسألة .
ورد دعاء المسألة بالاسم المطلق عند أبي داود وحسنه الألباني من حديث عائشة رضي الله عنها أَن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( وَقَدْ أَمَرَكُمُ اللهُ - عز وجل - أَنْ تَدْعُوهُ وَوَعَدَكُمْ أَنْ يَسْتَجِيبَ لكُمْ، ثُمَّ قَال: الحَمْدُ لِلهِ رَبِّ العَالمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ، لاَ إِلهَ إِلاَّ اللهُ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ، اللهُمَّ أَنْتَ اللهُ لاَ إِلهَ إِلاَّ أَنْتَ الغَنِي وَنَحْنُ الفُقَرَاءُ أَنْزِل عَليْنَا الغَيْثَ وَاجْعَل مَا أَنْزَلتَ لنَا قُوَّةً وَبَلاَغًا إِلى حِينٍ ) (2) .
__________
(1) البخاري في الزكاة، باب لا صدقة إلا عن ظهر غنى 2/519 (1362) .
(2) أبو داود في الصلاة، باب رفع اليدين في الاستسقاء 1/304 (1173)، وصحيح الجامع (2310) .(2/238)
ومن الدعاء بالوصف ما رواه أبو داود وصححه الألباني من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول إذا أوى إلى فراشه: ( اللهُمَّ رَبَّ السَّمَاوَاتِ وَرَبَّ الأَرْضِ وَرَبَّ كُلِّ شيء، فَالِقَ الْحَبِّ وَالنَّوَى، مُنَزِّلَ التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ كُلِّ ذِي شَرٍّ أَنْتَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهِ، أَنْتَ الأَوَّلُ فَلَيْسَ قَبْلَكَ شيء، وَأَنْتَ الآخِرُ فَلَيْسَ بَعْدَكَ شيء وَأَنْتَ الظَّاهِرُ فَلَيْسَ فَوْقَكَ شيء وَأَنْتَ الْبَاطِنُ فَلَيْسَ دُونَكَ شيء، زَادَ وَهْبٌ في حَدِيثِهِ، اقْضِ عَنِّي الدَّيْنَ وَأَغْنِنِي مِنَ الْفَقْرِ ) (1)، وعند البخاري من حديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: ( اللهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الكَسَلِ وَالهَرَمِ وَالمَأْثَمِ وَالمَغْرَمِ، وَمِنْ فِتْنَةِ القَبْرِ وَعَذَابِ القَبْرِ، وَمِنْ فِتْنَةِ النَّارِ وَعَذَابِ النَّارِ، وَمِنْ شَرِّ فِتْنَةِ الغِنَى وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الفَقْرِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ المَسِيحِ الدَّجَّالِ، اللهُمَّ اغْسِل عَنِّي خَطَايَاي بِمَاءِ الثَّلجِ وَالبَرَدِ، وَنَقِّ قلبي مِنَ الخَطَايَا كَمَا نَقَّيْتَ الثَّوْبَ الأَبْيَضَ مِنَ الدَّنَسِ، وَبَاعِدْ بَيْنِي وَبَيْنَ خَطَايَايَ كَمَا بَاعَدْتَ بَيْنَ المَشْرِقِ وَالمَغْرِبِ ) (2) .
الدعاء باسم الله الغني دعاء عبادة .
__________
(1) أبو داود في كتاب الأدب، باب ما يقال عند النوم 4/312 (5051)، وصحيح الجامع (4424) .
(2) البخاري في الدعوات، باب التعوذ من عذاب القبر 5/2341 ( 6007) .(2/239)
توحيد العبد لاسم الله الغني يقتضي فهمه لمعنى الغنى، وأن الله - عز وجل - هو المنفرد به وكيف ينعكس ذلك على سلوكه؟، فأثره على من أغناه الله من فضله أن يخضع لربه ويتواضع لإخوانه لعلمه أن الله متوحد في غناه، وأثره على من ابتلاه بالمنع أن يظهر بمظهر الغنى تعففا من سؤال غير الله، كما قال تعالى: { للفُقَرَاءِ الذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيل اللهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الجَاهِل أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لا يَسْأَلونَ النَّاسَ إِلحَافاً وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَليمٌ } [البقرة:273] .
روى البخاري من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قَال: ( ليْسَ الغِنَى عَنْ كَثْرَةِ العَرَضِ وَلكِنَّ الغِنَى غِنَى النَّفْسِ ) (1) ، وروى أيضا من حديث عمرو بن تغلب - رضي الله عنه - أنه قال: ( أُتِي رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بِمَال أَوْ سَبْي فَقَسَمَهُ، فَأَعْطَى رِجَالاً وَتَرَكَ رِجَالاً فَبَلغَهُ أَنَّ الذِينَ تَرَكَ عَتَبُوا، فَحَمِدَ اللهَ ثُمَّ أَثْنَى عَليْهِ، ثُمَّ قَال: أَمَّا بَعْدُ فَوَاللهِ إِنِّي لأُعْطِي الرَّجُل وَأَدَعُ الرَّجُل وَالذِي أَدَعُ أَحَبُّ إِلي مِنَ الذِي أُعْطِي، وَلكِنْ أُعْطِي أَقْوَامًا لمَا أَرَى فِي قُلوبِهِمْ مِنَ الجَزَعِ وَالهَلعِ، وَأَكِل أَقْوَامًا إِلى مَا جَعَل اللهُ فِي قُلوبِهِمْ مِنَ الغِنَى وَالخَيْرِ، فِيهِمْ عَمْرُو بْنُ تَغْلبَ، فَوَاللهِ مَا أُحِبُّ أَنَّ لي بِكَلمَةِ رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - حُمْرَ النَّعَمِ ) (2).
__________
(1) البخاري في الرقاق، باب الغنى غنى النفس5/2368 (6081) .
(2) البخاري في كتاب الجمعة، باب من قال في الخطبة بعد الثناء 1/312 (881) .(2/240)
ولا يمنع التعفف أن يأخذ الموحد بالأسباب طلبا للغنى، أو حفاظا على النعمة وتقوية النفس والأمة على جهادها في الدعوة، فأجر الصدقة عند الله عظيم، والله - عز وجل - إنما أمر بالنفقة لإظهار التوحيد في اسمه الغني، روى مسلم من حديث عامر بن سعد - رضي الله عنه - قَال: ( كَانَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ - رضي الله عنه - فِي إِبِلهِ، فَجَاءَهُ ابْنُهُ عُمَرُ، فَلمَّا رَآهُ سَعْدٌ قَال: أَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شَرِّ هَذَا الرَّاكِبِ، فَنَزَل فَقَال لهُ: أَنَزَلتَ فِي إِبِلكَ وَغَنَمِكَ وَتَرَكْتَ النَّاسَ يَتَنَازَعُونَ المُلكَ بَيْنَهُمْ، فَضَرَبَ سَعْدٌ فِي صَدْرِهِ، فَقَال: اسْكُتْ سَمِعْتُ رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُول: ( إِنَّ اللهَ يُحِبُّ العَبْدَ التَّقِيَّ الغَنِيَّ الخَفِيَّ ) (1) .
وعند البخاري من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال: ( جَاءَ رَجُل إِلى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَال يَا رَسُول اللهِ: أَيُّ الصَّدَقَةِ أَعْظَمُ أَجْرًا قَال: أَنْ تَصَدَّقَ وَأَنْتَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ تَخْشَى الفَقْرَ وَتَأْمُل الغِنَى، وَلاَ تُمْهِل حَتَّى إِذَا بَلغَتِ الحُلقُومَ قُلتَ لفُلاَنٍ كَذَا، وَلفُلاَنٍ كَذَا وَقَدْ كَانَ لفُلاَنٍ ) (2) .
__________
(1) مسلم في الزهد والرقائق 1/287 (751) .
(2) مصنف عبد الرزاق كتاب الوصايا، باب كيف تكتب الوصية 9/54 .(2/241)
وروى البخاري أيضا من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَال: ( قَال رَجُل لأَتَصَدَّقَنَّ بِصَدَقَةٍ، فَخَرَجَ بِصَدَقَتِهِ فَوَضَعَهَا في يَدِ سَارِقٍ، فَأَصْبَحُوا يَتَحَدَّثُونَ تُصُدِّقَ عَلى سَارِقٍ، فَقَال: اللهُمَّ لكَ الحَمْدُ لأَتَصَدَّقَنَّ بِصَدَقَةٍ؛ فَخَرَجَ بِصَدَقَتِهِ فَوَضَعَهَا فِي يَدَي زَانِيَةٍ، فَأَصْبَحُوا يَتَحَدَّثُونَ تُصُدِّقَ الليْلةَ عَلى زَانِيَةٍ، فَقَال: اللهُمَّ لكَ الحَمْدُ عَلى زَانِيَةٍ، لأَتَصَدَّقَنَّ بِصَدَقَةٍ، فَخَرَجَ بِصَدَقَتِهِ فَوَضَعَهَا في يدي غَنِيٍّ فَأَصْبَحُوا يَتَحَدَّثُونَ تُصُدِّقَ عَلى غَنِي، فَقَال: اللهُمَّ لكَ الحَمْدُ، عَلى سَارِقٍ وَعَلى زَانِيَةٍ وَعَلى غَنِي، فَأُتِىَ فَقِيل لهُ: أَمَّا صَدَقَتُكَ عَلى سَارِقٍ فَلعَلهُ أَنْ يَسْتَعِفَّ عَنْ سَرِقَتِهِ، وَأَمَّا الزَّانِيَةُ فَلعَلهَا أَنْ تَسْتَعِفَّ عَنْ زِنَاهَا، وَأَمَّا الغَنِي فَلعَلهُ يَعْتَبِرُ فَيُنْفِقُ مِمَّا أَعْطَاهُ اللهُ ) (1) .
__________
(1) البخاري في الزكاة، باب إذا تصدق على غني وهو لا يعلم 2/516 (1355) .(2/242)
وعنده أيضا من حديث سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - أن رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَال له: ( إِنَّكَ أَنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ، وَإِنَّكَ لنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللهِ إِلاَّ أُجِرْتَ بِهَا حَتَّى مَا تَجْعَل في فيّ امْرَأَتِكَ ) (1)، وروى البخاري أيضا من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( مَطْل الغَنِي ظُلمٌ، فَإِذَا أُتْبِعَ أَحَدُكُمْ عَلى مَلىٍّ فَليَتْبَعْ ) (2) .
وممن تسمى بالتعبد لله بإضافته للاسم، الحافظ عبد الغني بن سعيد المصري، قال السيوطي: ( النوع التاسع والخمسون المبهمات أي معرفة من أبهم ذكره في المتن أو الإسناد من الرجال والنساء، صنف فيه الحافظ عبد الغني بن سعيد المصري ) (3) .
********************************
49- الله - جل جلاله - الكَرِيمُ
********************************
الدليل على ثبوت الاسم وإحصائه .
سمى الله نفسه الكريم على سبيل الإطلاق معرفا ومنونا مرادا به العلمية ودالا على كمال الوصفية في كثير من النصوص القرآنية والنبوية، وقد ورد المعنى محمولا عليه مسندا إليه نحو قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الكَرِيمِ الَّذِي خَلَقكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ } [الانفطار:6/7]، واقترن باسمه الغني في قوله: { وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ } [النمل:40] .
__________
(1) البخاري في الدعوات، باب رثى النبي S سعد بن خولة 1/435 (1233) .
(2) البخاري في الحوالات، باب في الحوالة وهل يرجع في الحوالة2/799 (2166) .
(3) تدريب الراوي 2/342.(2/243)
وعند الترمذي وصححه الألباني من حديث عَلِىٍّ - رضي الله عنه - أنه قال: ( قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : أَلاَ أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ إِذَا قُلتَهُنَّ غَفَرَ اللهُ لَكَ وَإِنْ كُنْتَ مَغْفُورًا لَكَ، قال: قُل لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ العَلِىُّ العَظِيمُ، لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ الحَلِيمُ الكَرِيمُ، لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ سُبْحَانَ اللهِ رَبِّ العَرْشِ العَظِيمِ ) (1)، وعند أبي داود وصححه الألباني من حديث سَلمَان - رضي الله عنه - أن رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: ( إِنَّ رَبَّكُمْ تَبَارَكَ وَتَعَالَى حَيِيٌ كَرِيمٌ يَسْتَحْيِي مِنْ عَبْدِهِ إِذَا رَفَعَ يَدَيْهِ إِلَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُمَا صِفْرًا ) (2)، وعند الترمذي وقال حَسَنٌ صَحِيحٌ من حديث عَائِشَةَ رضي الله عنها في الدعاء الذي أمر به النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلة القدر: ( اللهُمَّ إِنَّكَ عَفُوٌّ كَرِيمٌ تُحِبُّ العَفْوَ فَاعْفُ عَنِّى ) (3) .
شرح الاسم وتفسير معناه .
__________
(1) الترمذي في كتاب الدعوات 5/529 (3504) وانظر صحيح الجامع (2621) .
(2) أبو داود في كتاب الوتر، باب الدعاء2/78 (1488)، صحيح أبي داود 1/278 (1320) .
(3) الترمذي في كتاب الدعوات 5/534 (3513)، وانظر صحيح الجامع (4423) .(2/244)
الكريم صفة مشبهة للموصوف بالكرم، والكرَم نقيض اللؤم يكون في الرجل بنفسه وإِن لم يكن له آباء، ويستعمل في الخيل والإِبل والشجر وغيرها، كرُمَ الرجل كرَما وكَرَامة فهو كَرِيم وكرِيمة، وجمع الكَرِيم كرَماء، والكريم هو الشيء الحسن النفيس الواسع السخي، والفرق بين الكريم والسخي أن الكريم هو كثير الإحسان بدون طلب والسخي هو المعطى عند السؤال، والكرم السعة والعظمة والشرف والعزة والسخاء عند العطاء (1)، وعند الترمذي وصححه الألباني من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( الْمُؤْمِنُ غِرّ كَرِيمٌ وَالْفَاجِرُ خِبٌّ لَئِيمٌ ) (2) .
__________
(1) لسان العرب 12/510، والمفردات ص707.
(2) الترمذي في البر والصلة، باب ما جاء في البخيل 4/344 (1964)، وانظر حكم الألباني على الحديث في الأدب المفرد حديث رقم (418)، ومعنى غر كريم أي ليس بذي مكر فهو ينخدع لانقياده ولينه وهو ضد الخب هو المخادع الذي يسعى بين الناس بالفساد، انظر عون المعبود 13/102 .(2/245)
والله سبحانه هو الكريم الواسع في ذاته وصفاته وأفعاله، من سعته وسع كرسيه السماوات والأرض، كما قال: { وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ } [البقرة:255]، ووصف عرشه بالكرم فقال: { فَتَعَالَى الله الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ } [المؤمنون:116]، وهو الكريم له المجد والعزة والرفعة والعظمة والعلو والكمال فلا سميَّ له كما قال: { رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً } [مريم:65]، وهو الذي كرَّم الإنسان لما حمل الأمانة وشرفه واستخلفه في أرضه وأستأمنه في ملكه وفضله على كثير من خلقه كما قال: { وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً } [الإسراء:70] .
وهو الذي بشر عباده المؤمنين بالأجر الكريم الواسع، والمغفرة الواسعة، والرزق الواسع، قال تعالى: { أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } [الأنفال:4]، وهو الجواد المعطي الذي لا ينفد عطاؤه ولا ينقطع سحاؤه، الذي يعطي ما يشاء لمن يشاء وكيف يشاء بسؤال وغير سؤال، وهو الذي لا يمن إذا أعطى فيكدر العطية بالمن، وهو سبحانه يعفو عن الذنوب ويستر العيوب ويجازي المؤمنين بفضله ويجازي المعرضين بعدله (1) .
دلالة الاسم على أوصاف الله .
__________
(1) انظر تفسير الطبري 19/104، والمفردات ص 707، والأسماء والصفات للبيهقي ص73 .(2/246)
اسم الله الكريم دل على ذات الله وعلى الكرم كوصف ذات والإكرام كوصف فعل بدلالة المطابقة، وعلى ذات الله وحدها بالتضمن، وعلى الصفة وحدها بالتضمن، أما دلالته على وصف الذات فقد تضمنه الاسم على اعتبار أن الكرم بمعنى السعة في الذات والصفات، وأما وصف الفعل فقد ورد في نصوص كثيرة كقوله تعالى: { وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ } [الإسراء:70]، وقوله: { فَأَمَّا الإنسان إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ } [الفجر:15]، وقال تعالى: { قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلا قَلِيلاً } [الإسراء:62] .
وعند البخاري من حديث زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ - رضي الله عنه - أَنَّ أُمَّ العَلاَء رضي الله عنها قالت عند موت عثمان بن مظعون - رضي الله عنه -: ( رَحْمَةُ الله عَلَيْكَ أَبَا السَّائِبِ فشهادتي عَلَيْكَ لَقَدْ أَكْرَمَكَ الله، فَقَالَ النبي - صلى الله عليه وسلم - : وَمَا يُدْرِيكِ أَنَّ الله قَدْ أَكْرَمَهُ، فَقُلتُ: بأبي أَنْتَ يَا رَسُولَ الله فَمَنْ يُكْرِمُهُ الله؟ فَقال: أَمَّا هُوَ فَقَدْ جَاءَهُ اليَقِينُ، وَالله إني لأَرْجُو لَهُ الخَيْرَ، وَالله مَا أَدْرِي وَأَنَا رَسُولُ الله مَا يُفْعَلُ بِي؟ قَالَتْ: فَوَالله لاَ أُزَكِّي أَحَدًا بَعْدَهُ أَبَدًا ) (1) .
وعند مسلم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن سعد بن عبادة - رضي الله عنه - قال: ( يَا رَسُولَ الله أَرَأَيْتَ الرَّجُلَ يَجِدُ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلاً أَيَقْتُلُهُ؟ قَالَ رَسُولُ الله: لاَ، قَالَ سَعْدٌ: بَلَى والذي أَكْرَمَكَ بِالحَقِّ، فَقَالَ رَسُولُ الله: اسْمَعُوا إِلَى مَا يَقُولُ سَيِّدُكُمْ ) (2) .
__________
(1) البخاري في الجنائز، باب الدخول على الميت 1/419 (1186) .
(2) مسلم في اللعان 2/1135 (1498) .(2/247)
واسم الله الكريم يدل باللزوم على الحياة والقيومية والغنى والصمدية والعلو والفوقية والسعة والأحدية، وغير ذلك من صفات الكمال، والاسم دل على صفة من صفات الذات والأفعال .
الدعاء باسم الله الكريم دعاء مسألة .
دعاء المسألة بالاسم المطلق ورد عند الترمذي من حديث علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - الذي تقدم، وكذلك حديث عَائِشَةَ رضي الله عنها في الدعاء الذي أمر به النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلة القدر، ومن الدعاء بالوصف ما رواه أبو داود وصححه الشيخ الألباني من حديث عمرو بن العاص - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا دخل المسجد قال: ( أَعُوذُ بِالله العَظِيمِ وَبِوَجْهِهِ الكَرِيمِ، وَسُلطَانِهِ القَدِيمِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، فَإِذَا قَالَ ذَلِكَ قَالَ الشَّيْطَانُ حُفِظَ مِنِّي سَائِرَ اليَوْم ) (1) .
وعند مسلم من حديث عوف بن مالك - رضي الله عنه - أنه قال: صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على جنازة فحفظت من دعائه وهو يقول: ( اللهُمَّ اغْفِرْ لَهُ وَارْحَمْهُ، وَعَافِهِ وَاعْفُ عَنْهُ وَأَكْرِمْ نُزُلَهُ، وَوَسِّعْ مُدْخَلَهُ، وَاغْسِلْهُ بِالْمَاءِ وَالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ، وَنَقِّهِ مِنَ الْخَطَايَا كَمَا نَقَّيْتَ الثَّوْبَ الأَبْيَضَ مِنَ الدَّنَسِ ) (2) .
الدعاء باسم الله الكريم دعاء عبادة .
__________
(1) أبو داود في الصلاة، باب يقوله عند دخول المسجد 1/127 (466) صحيح الترغيب (1606) .
(2) مسلم في الجنائز، باب الدعاء للميت في الصلاة 2/662 (963) .(2/248)
دعاء العبادة يتحلى فيه المسلم بوصف الكرم والسخاء والجود والعطاء، لعلمه أن الكريم هو الله وأن التوفيق إلى الفضل بيده هو لا بيد من سواه، ولذلك ينفق ابتغاء وجهه ولا يخش على نفسه الفقر أبدا، قال تعالى: { إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لوَجْهِ اللهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورا } [الإنسان:9]، وقال - عز وجل -: { مَنْ ذَا الذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لهُ وَلهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ } [الحديد:11]، وقال - جل جلاله -: { إِنَّ المُصَّدِّقِينَ وَالمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعَفُ لهُمْ وَلهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ } [الحديد:18] .
وعند ابن ماجة وصححه الألباني من حديث ابن عمر - رضي الله عنه - أن رسول - صلى الله عليه وسلم - قال: ( إِذَا أَتَاكُمْ كَرِيمُ قَوْمٍ فَأَكْرِمُوهُ ) (1)، وعند مسلم من حديث أنس - رضي الله عنه -: ( أَنَّ رَجُلاً سَأَل النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - غَنَمًا بَيْنَ جَبَليْنِ؟ فَأَعْطَاهُ إِيَّاهُ؛ فَأَتَى قَوْمَهُ فَقَال: أَيْ قَوْمِ أَسْلمُوا فَوَاللهِ إِنَّ مُحَمَّدًا ليُعْطِي عَطَاءً مَا يَخَافُ الفَقْرَ؛ فَقَال أَنَسٌ: إِنْ كَانَ الرَّجُل ليُسْلمُ مَا يُرِيدُ إِلاَّ الدُّنْيَا فَمَا يُسْلمُ حَتَّى يَكُونَ الإِسْلاَمُ أَحَبَّ إِليْهِ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا عَليْهَا ) (2) .
__________
(1) ابن ماجه كتاب الأدب، باب إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه 2/1223(3712) .
(2) مسلم في الفضائل، باب ما سئل رسول الله S4/1806(2312) .(2/249)
أما من جهة التسمية بعبد الكريم فقد تسمى به عبد الكريم بن مالك أبو سعيد الجزري (ت:127)، أخرج له البخاري قال: ( حَدَّثَنَا يَحْيَى حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ عَبْدِ الكَرِيمِ الجَزَرِيِّ عَنْ عِكْرِمَةَ قَال ابْنُ عَبَّاسٍ: قَال أَبُو جَهْل: لئِنْ رَأَيْتُ مُحَمَّدًا يُصَلى عِنْدَ الكَعْبَةِ لأَطَأَنَّ عَلى عُنُقِهِ، فَبَلغَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَال: لوْ فَعَلهُ لأَخَذَتْهُ المَلاَئِكَةُ ) (1) .
********************************
50- الله - جل جلاله - الأحَدُ
********************************
الدليل على ثبوت الاسم وإحصائه .
اسم الله الأحد ثبت في القرآن والسنة على سبيل الإطلاق، وقد ورد مرادا به العلمية ودالا على كمال الوصفية في قول الله تعالى: { قُل هُوَ اللهُ أَحَد اللهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَد } [الإخلاص:1/4]، فالاسم ورد في السورة مطلقا منونا، وقد أسند إليه تفسير معناه بما ورد بعده، كما ورد معرفا بالألف واللام عند البخاري من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: ( قال الله تعالى كذَّبني ابنُ آدمَ ولم يكُن له ذلك، وشَتَمني ولم يكن له ذلك فأَما تكذيُبهُ إيايَ فقوله: لن يعيدني كما بدأنِي وليس أوَّلُ الخلقِ بأَهونَ عليَّ من إعادته، وأما شتمُهُ إيايَ فقولُه: اتَّخَذَ اللهُ ولداً وأَنا الأَحدُ الصمدُ، لم أَلِدْ ولم أُولَد ولم يكُن لي كُفواً أحد ) (2) .
__________
(1) البخاري في التفسير، باب كلا لئن لم ينته لنسفعن بالناصية ناصية كاذبة خاطئة4/1896 (4675) .
(2) البخاري في باب تفسير قوله قل هو الله أحد 4/1903 (4690) .(2/250)
وورد عند ابن ماجة أيضا وصححه الألباني من حديث عَبْدِ اللهِ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ - رضي الله عنه - قال: ( سَمِعَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - رَجُلاً يَقُولُ: اللهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِأَنَّكَ أَنْتَ اللهُ الأَحَدُ الصَّمَدُ الذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ: لَقَدْ سَأَلَ اللهَ بِاسْمِهِ الأَعْظَمِ الذِي إِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى وَإِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ ) (1) .
شرح الاسم وتفسير معناه .
الأحد في اللغة اسم فاعل، أو صفة مشبهة للموصوف بالأحدية، فعله أحَّد يأحِّد تأحيدا وتوحيدا، أي حقق الوحدانية لمن وحده، وهو اسم بني لنفى ما يذكر معه من العدد، تقول: ما جاء بي أحد، والهمزة فيه بدل من الواو، وأصله وحد لأنه من الوحدة، والفرق اللغوي بين الواحد والأحد أن الأحد شيء بني لنفي ما يذكر معه من العدد، والواحد اسم لمفتتح العدد، وأحد يصلح في الكلام في موضع الجحود والنفي وواحد يصلح في موضع الإثبات، يقال: ما أتاني منهم أحد فمعناه لا واحد أتاني ولا اثنان، وإذا قلت: جاءني منهم واحد فمعناه أنه لم يأتني منهم اثنان، فهذا حد الأحد ما لم يضف، فإذا أضيف قرب من معنى الواحد، وذلك أنك تقول: قال أحد الثلاثة كذا وكذا، وأنت تريد واحدا من الثلاثة (2) .
__________
(1) ابن ماجه في الدعاء، باب اسم الله الأعظم 2/1267 (3857)، صحيح ابن ماجة 2/329 (3111) .
(2) لسان العرب1/227، النهاية في غريب الحديث 1/27، والمفردات ص 66 .(2/251)
والأحد سبحانه وتعالى هو المنفرد بذاته ووصفه المباين لغيره، كما قال تعالى في معنى الأحدية: { وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَد } [الإخلاص:4]، فالأحدية هي الانفراد ونفي المثلية، وتعني انفراده سبحانه بذاته وصفاته وأفعاله عن الأقيسة والقواعد والقوانين التي تحكم ذوات المخلوقين وصفاتهم وأفعالهم، كما قال تعالى: { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ } [الشورى:11]، فبين سبحانه انفراده عن كل شيء من أوصاف المخلوقين بجميع ما ثبت له من أوصاف الكمال، فالأحد هو المنفرد الذي لا مثيل له فنحكم على كيفية أوصافه من خلاله، ولا يستوي مع سائر الخلق فيسري عليه قانون أو قياس أو قواعد تحكمه كما تحكمهم، لأنه المتصف بالتوحيد المنفرد عن أحكام العبيد وقال تعالى: { هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً } [مريم:65]، أي شبيها مناظرا يدانيه أو يساويه أو يرقى إلى سمو ذاته وصفاته وأفعاله (1) .
وليس الأحد هو المجرد عن الصفات أو الذي لا ينقسم كما فسره بعض المتكلمين لأن ذلك تأويل لا يحتمله اللفظ في أصل وضعه، أو كما جرت به عادة الخطاب بين العرب فهو أقرب إلى التحريف من كونه تأويلا (2)، لأنه لا مدح في نفي الصفات عن الله تفصيلا، ولا مدح في النفي إن لم يتضمن كمالا .
__________
(1) انظر المزيد في مختصر القواعد السلفية في الصفات الربانية للمؤلف ص9 .
(2) انظر في أنواع التأويلات الباطلة مقدمة في أصول التفسير لابن تيمية ص 43 وما بعدها .(2/252)
ولذلك فإن طريقة الكتاب والسنة في إثبات الصفات هي النفي المجمل والإثبات المفصل بعكس طريقة المتأخرين من المتكلمين، فالله - عز وجل - نفى عن نفسه كل صفات النقص إجمالا فقال: { ليْسَ كَمِثْلِهِ شَيْء } [الشورى:11]، وقال: { وَلمْ يَكُنْ لهُ كُفُوًا أَحَدٌ } [الإخلاص:4]، وأثبت لنفسه صفات الكمال تفصيلا، فقال: { هُوَ اللهُ الذِي لا إِلهَ إِلا هُوَ المَلِكُ القُدُّوسُ السَّلامُ المُؤْمِنُ المُهَيْمِنُ العَزِيزُ الجَبَّارُ المُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ } [الحشر:22/24]، وغير ذلك من الآيات التي عدد الله فيها أسماءه وأوصافه مثبتا لها ولكمالها ومفصلا في ذلك .
أما المتكلمون فإنهم يجملون في الإثبات ويفصلون في النفي، حيث أثبت بعضهم أسماء الله مفرغة من الأوصاف، وبعضهم أثبت سبع صفات فقط ونازع في بقيتها، وأما التفصيل في النفي الذي يبررون به معنى الأحدية فكقولهم عن ذات الله ومعنى الأحدية فيها، ليس بجسم ولا شبح ولا صورة ولا لحم ولا دم ولا عظم ولا بذي لون ولا طعم ولا رائحة، ولا بذي حرارة ولا رطوبة ولا يبوسة ولا طول ولا عرض ولا عمق ولا شخص ولا جوهر ولا عرض، ولا يتحرك ولا يسكن ولا ينقص ولا يزداد .. إلى غير ذلك من أنواع اللاءات والنفي الذي يملأ العديد من الصفحات .
وهذه طريقة سقيمة في إثبات التفرد والأحدية تنافى الفطرة وتبعث على الاشمئزاز فهي تماثل قول القائل في مدح ما تميز به الأمير: لست بزبال ولا كناس ولا حمار ولا نسناس، ولست حقيرا ولا فقيرا ولا غبيا ولا ضريرا، وكان يغنى عن ذلك أن يجمل في النفي ويقول: ليس لك نظير فيما رأت عيناي .(2/253)
ومما ينبغي أن يعلم أن النفي الذي يثبت معنى الأحدية ليس فيه مدح ولا كمال إلا إذا تضمن وصفا وإثباتا، فنفى السنة والنوم عن الله يتضمن الأحدية في كمال الحياة والقيومية، ونفى الظلم يتضمن كمال العدل، وهكذا في سائر ما نفى الله عن نفسه من أوصاف النقص، وكل نفى لا يستلزم ثبوتا لم يصف الله به نفسه، أما الذي يقول عن الله: ليس بجسم فهل يعنى أنه عرض؟، فيقول: وليس عرضا، فماذا يكون إذا؟ هل يكون شبحا؟ يقول: ولا شبحا، فإن سئل هل هو داخل العالم؟ فيقول: ولا داخل العالم، فخارجه إذاً؟ يقول: ولا خارجه، ولا ولا ولا .. إلى غير ذلك من سفسطة القول ومهاترات النفي، ينفي الصفات من غير إثبات ويظن أن ذلك معنى اسم الله الأحد، وهذا ليس فيه صفة مدح ولا أحدية، بل هو ذم بما يشبه المدح تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا (1) .
دلالة الاسم على أوصاف الله .
اسم الله الأحد يدل على ذات الله وعلى صفة الأحدية بدلالة المطابقة، وعلى أحدهما بالتضمن، قال تعالى: { وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَد } [الإخلاص:4]، ويدل على علو الشأن في الحياة والقيومية وسائر الصفات الإلهية بدلالة اللزوم، ولا يلزم من أحدية الحق نفي الصفات عنه كما يتوهم البعض، أو عدم اتصاف الخلق بما يليق بهم لأن الأحد هو المنفرد بوصفه المباين لغيره، فكونه متوحدا في الغنى لا يلزم نفي الغنى المحدود عمن سواه، لأن انفراده وأحديته في الغنى بناء على إطلاق الوصف في مقابل التقييد والنسبية عند غيره، أما تفسير الأحد بأنه الذي لا ينقسم، ثم ترتيب نفي الصفات الإلهية الذاتية والفعلية على هذا المعنى فهذا اصطلاح كلامي باطل كما تقدم ذكره .
__________
(1) انظر في تفسير اسم الله الأحد زاد المسير 9/268، الأسماء والصفات للبيهقي ص29، وتفسير أسماء الله الحسنى للزجاج ص57 .(2/254)
قال ابن تيمة رحمه الله: ( الاستدلال بالقرآن إنما يكون على لغة العرب التي أنزل بها، بل قد نزل بلغة قريش كما قال تعالى: { وَمَا أَرْسَلنَا مِنْ رَسُولٍ إِلا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ } [إبراهيم:4]، وقال: { بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ } [الشعراء:195]، فليس لأحد يحمل ألفاظ القرآن على غير ذلك من عرف عام واصطلاح خاص، بل لا يحمله إلا على معاني عنوها بها، إما من المعنى اللغوي أو أعم أو مغايرا له، لم يكن له أن يضع القرآن على ما وضعه هو، بل يضع القرآن على مواضعه التي بينها الله لمن خاطبه بالقرآن بلغته ومتى فعل غير ذلك كان ذلك تحريفا للكلام عن مواضعه، ومن المعلوم أنه ما من طائفة إلا وقد تصطلح على ألفاظ يتخاطبون بها، كما أن من المتكلمين من يقول الأحد هو الذي لا ينقسم، وكل جسم منقسم، ويقول الجسم هو مطلق المتحيز القابل للقسمة حتى يدخل في ذلك الهواء وغيره، لكن ليس له أن يحمل كلام الله وكلام رسوله إلا على اللغة التي كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يخاطب بها أمته وهي لغة العرب ) (1)، والاسم دل على صفة ذات .
الدعاء باسم الله الأحد دعاء مسألة .
__________
(1) بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية 1/493 .(2/255)
ورد دعاء المسألة بالاسم المطلق في حديث بريدة بن الحصيب - رضي الله عنه - الذي تقدم، وعند ابن ماجة وحسنه الشيخ الألباني من حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: ( كَانَ أَوَّلَ مَنْ أَظْهَرَ إِسْلاَمَهُ سَبْعَةٌ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَأَبُو بَكْرٍ وَعَمَّارٌ وَأُمُّهُ سُمَيَّةُ وَصُهَيْبٌ وَبِلاَلٌ وَالْمِقْدَادُ، فَأَمَّا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَمَنَعَهُ اللهُ بِعَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ، وَأَمَّا أَبُو بَكْرٍ فَمَنَعَهُ اللهُ بِقَوْمِهِ، وَأَمَّا سَائِرُهُمْ فَأَخَذَهُمُ الْمُشْرِكُونَ وَأَلْبَسُوهُمْ أَدْرَاعَ الْحَدِيدِ وَصَهَرُوهُمْ في الشَّمْسِ؛ فَمَا مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ وَقَدْ وَاتَاهُمْ عَلَى مَا أَرَادُوا إِلاَّ بِلاَلاً فَإِنَّهُ قَدْ هَانَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ في اللهِ، وَهَانَ عَلَى قَوْمِهِ فَأَخَذُوهُ فَأَعْطَوْهُ الْوِلْدَانَ؛ فَجَعَلُوا يَطُوفُونَ بِهِ في شِعَابِ مَكَّةَ وَهُوَ يَقُولُ: أَحَدٌ أَحَدٌ ) (1)، ومن الدعاء بالوصف ما ورد عند أبي داود وصححه الألباني من حديث سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - قال: ( مَرَّ عَلَىَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - وَأَنَا أَدْعُو بِأُصْبُعَيَّ فَقال: أَحِّدْ أَحِّدْ، وَأَشَارَ بِالسَّبَّابَةِ ) (2)، ومعنى أحد أحد، أي أشر بواحدة ليوافق التوحيد المطلوب بالإشارة فهو تكرار للتأكيد في التوحيد، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - يأمره أن يشر بأصبع واحدة لأن الذي يدعوه واحد سبحانه (3) .
الدعاء باسم الله الأحد دعاء عبادة .
__________
(1) ابن ماجة في المقدمة، باب فضل سلمان وأبي ذر والمقداد 1/53 (150) .
(2) أبو داود في كتاب الصلاة، باب الدعاء 2/80 (1499)، صحيح الجامع (189) .
(3) عون المعبود شرح سنن أبي داود 4/256، وتحفة الأحوذي 9/ 382 .(2/256)
دعاء العبادة هو أثر الإيمان بالاسم في اعتقاد المسلم وتوحيده لله في أسمائه وصفاته وأفعاله، فتعظيم العبد لربه يدعوه إلى تنفيذ أمره وتصديق خبره، ولا يقدم على قول الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - ما استحسنه برأيه وعقله، فيعتقد أن ما أخبر الله به عنه نفسه ظاهر في حقه يخصه وحده دون غيره، فالسلف الصالح فهموا معنى الأحدية وفرقوا بين النصوص التي تدل على المخلوق وتلك التي تدل على الخالق؛ فالنصوص التي تدل على المخلوق تليق به وظاهرها مراد في حقه، وهي معلومة المعنى لورودها في القرآن والسنة بلغة عربية، وكذلك معلومة الكيفية لأننا نراها أو نرى نظيرها فنحكم عليها بالتشابه أو المثلية، لكن من البلاهة العقلية أن نطبق قوانين الجاذبية الأرضية على استواء الله على عرشه أو على حملة العرش أو على نزوله إلى السماء الدنيا في الثلث الأخير من الليل، لأن ذلك ينطبق على الخلق ولا ينطبق على الخالق، فهو سبحانه أحد متوحد منفرد عن قوانين البشر وأحكامهم، ومعلوم أننا لم نر الله - عز وجل - ولم نر له شبيها أو مثيلا والشيء لا يعرف إلا برؤيته أو برؤية نظيره .
أما النصوص التي تدل على الخالق فهي معلومة المعنى أيضا لأن الله - عز وجل - خاطبنا بلغة عربية وليست أعجمية، فلا يمكن القول إن كلام الله بلا معنى أو إنه ككلام الأعاجم أو هو من قبيل الألغاز والإشارات، أما الكيفية الغيبية للصفات الإلهية التي دلت عليها هذه النصوص فهي كيفية حقيقية، لها وجود يعلمه الله ونجهله نحن، لأننا ما رأينا الله وما رأينا له مثيلا .(2/257)
وعند مسلم من حديث ابن عمر - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( تَعَلمُوا أَنَّهُ لنْ يَرَى أَحَدٌ مِنْكُمْ رَبَّهُ عَزَّ وَجَل حتى يَمُوتَ ) (1)، وكذلك ما رأينا لكيفيته نظيرا نحكم عليها من خلاله إذ يقول - عز وجل -: { ليْسَ كَمِثْلهِ شَيْءٌ } [الشورى:11] .
والتوحيد أيضا تنعكس أثاره على المسلم في سلوكياته حتى في أقل حركاته وسكناته ولا عجب أن يدعو النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى ما هو أدق من ذلك، فيأمر سعدا - رضي الله عنه - كما تقدم أن يأحد بأصبع واحدة .
أما من جهة التسمية بعبد الأحد، فقد تسمى أبو زرعة عبد الأحد بن الليث بن عاصم بن كليب (ت:211هـ)، وكان رجلا صالحا من رواة الحديث (2) .
********************************
51- الله - جل جلاله - الصَّمَدُ
********************************
الدليل على ثبوت الاسم وإحصائه .
اسم الله الصمد ورد مع اسمه الأحد في سورة الإخلاص فقط: { قُل هُوَ اللهُ أَحَد اللهُ الصَّمَدُ } [الإخلاص:1/2]، وقد ورد في السنة في عدة مواضع منها حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عند البخاري وقد تقدم (3) .
وعنده أيضا من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أنه قال: ( قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لأصحابِهِ: أَيعجِزُ أحدُكم أن يقرَأَ ثلثَ القرآن في ليلة؟ فشقَّ ذلك عليهم وقالوا: أَيُّنا يطيقُ ذلك يا رسول الله؟ فقال: اللهُ الواحِدُ الصَّمَدُ ثلث القرآنِ ) (4) .
__________
(1) مسلم في الفتن وأشراط الساعة، باب ذكر بن صياد 4/2245 (169) .
(2) مولد العلماء ووفياتهم لابن زبر الربعي 2/506، وانظر ذيل التقييد لأبى الطيب المكي 2/114 .
(3) انظر ص467 .
(4) البخاري في فضائل القرآن، باب فضل قل هو الله أحد 4/1916 (4727) .(2/258)
وعند مسلم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: ( خرج إلينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: أقرأ عليكم ثلث القرآن فقرأ: { قل هو الله أحد الله الصمد } حتى ختمها ) (1)، وروى أبو داود وصححه الشيخ الألباني من حديث أبي بن كعب - رضي الله عنه - قال: ( كَانَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يُوتِرُ بِسَبِّحِ اسْمَ رَبَّكَ الأَعْلَى، وَقُلْ لِلذِينَ كَفَرُوا، وَالله الْوَاحِدُ الصَّمَدُ ) (2) .
شرح الاسم وتفسير معناه .
الصمد في اللغة صفة مشبهة للموصوف بالصمدية، فعله صَمَدَ يَصْمِدُ صَمْدا، وهو يأتي على عدة معان: منها السَّيِّدُ المُطاع الذي لا يُقضى دونه أَمر، ومنها الذي يطعم ولا يَطعَم، ومنها الصَمد السيِّد الذي ينتهي إِليه السُّؤدَد في كل شيء فله الصمدية المطلقة، وقيل: الصمد الدائم الباقي بعد فناء خَلقه، وقيل: هو الذي يُصمَد إِليه الأَمر فلا يُقضَى دونه وليس فوقه أَحد، وقيل: الصمد الذي صَمَدَ إِليه كل شيء أي الذي خَلق الأَشياء كلها لا يَسْتَغني عنه شيء، وكلها تلك المعاني تدل على وحدانية الله (3) .
__________
(1) مسلم في صلاة المسافرين وقصرها، باب فضل قراءة قل هو الله أحد 1/557 (812) .
(2) أبو داود في الوتر، باب ما يقرأ في الوتر 2/63 (1423)، صحيح أبي داود1/267 (1261) .
(3) لسان العرب 3/259، النهاية في غريب الحديث 3/52 .(2/259)
وقال البخاري: ( باب قولِهِ الله الصَّمَدُ، والعَرَبُ تُسمِّي أشرافَها الصَّمَدَ، قال أبو وائِل: هو السيّدُ الذي انتهى سُؤدَدُه ) (1)، وقال ابن تيمية: ( والاسم الصمد فيه للسلف أقوال متعددة قد يظن أنها مختلفة وليست كذلك، بل كلها صواب، والمشهور منها قولان: أحدهما أن الصمد هو الذي لا جوف له، والثاني أنه السيد الذي يصمد إليه في الحوائج ) (2)، وقال ابن الجوزي: ( وفي الصمد أربعة أقوال: أحدها أنه السيد الذي يصمد إليه في الحوائج .. والثاني أنه لا جوف له .. والثالث أنه الدائم والرابع الباقي بعد فناء الخلق .. وأصح الوجوه الأول لأن الاشتقاق يشهد له، فإن أصل الصمد القصد، يقال اصمد فلان أي اقصد فلان، فالصمد السيد الذي يصمد إليه في الأمور ويقصد في الحوائج ) (3) .
وخلاصة المعاني في الصمدية أن الصمد هو السيد الذي له الكمال المطلق في كل شيء، وهو المستغني عن كل شيء، وكل من سواه مفتقر إليه، يصمد إليه ويعتمد عليه، وهو الكامل في جميع صفاته وأفعاله، لا نقص فيه بوجه من الوجوه، وليس فوقه أحد في كماله، وهو الذي يصمد إليه الناس في حوائجهم وسائر أمورهم، فالأمور أصمدت إليه وقيامها وبقاؤها عليه لا يقضي فيها غيره، وهو المقصود إليه في الرغائب والمستغاث به عند المصائب، الذي يطعم ولا يَطعَم، ولم يلد ولم يولد (4) .
دلالة الاسم على أوصاف الله .
__________
(1) البخاري في التفسير، باب وامرأته حمالة الحطب 4/1903 .
(2) بيان تلبيس الجهمية 1/511 .
(3) زاد المسير 9/268 .
(4) الأسماء والصفات للبيهقي ص78، وتفسير أسماء الله الحسنى للزجاج ص57، والمقصد الأسنى ص 199.(2/260)
اسم الله الصمد يدل على ذات الله وعلى صفة الصمدية بدلالة المطابقة، وعلى ذات الله وحدها بالتضمن، وعلى الصفة وحدها بدلالة التضمن، ويدل باللزوم على الحياة والقيومية والسيادة والأحدية وكمال السمع والبصر والعلم، ومطلق المشيئة وتدبير الأمر والقدرة والعزة والقوة والحكمة والكبرياء والعظمة وكمال العدل والحكم، وغير ذلك من صفات الكمال، واسم الله الصمد دل على صفة من صفات الذات .
الدعاء باسم الله الصمد دعاء مسألة .
ورد دعاء المسألة بالاسم المطلق مقرونا باسم الله الأحد في غير موضع كحديث بريدة بن الحصيب - رضي الله عنه - الذي تقدم (1)، وهو دعاء مسألة لأنه أثنى على الله بذكر أسمائه في طلبه ودعائه، وقد أقره النبي - صلى الله عليه وسلم - ومدحه بذلك .
وعند النسائي وصححه الشيخ الألباني من حديث حنظلة بن علي - رضي الله عنه - أن محجن بن الأدرع حدثه: ( أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - دَخَلَ المَسْجِدَ إذَا رَجُلٌ قَدْ قَضَى صَلاَتَهُ وَهُوَ يَتَشَهَّدُ، فَقَال: اللهُمَّ إنِّي أَسْأَلُكَ يَا أَللهُ بِأَنَّكَ الوَاحِدُ الأَحَدُ الصَّمَدُ الذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ أَنْ تَغْفِرَ لِي ذُنُوبِي إنَّكَ أَنْتَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : قَدْ غُفِرَ لَهُ ثَلاَثاً ) (2) .
الدعاء باسم الله الصمد دعاء عبادة .
دعاء العبادة هو صدق المسلم في اعتماده على الصمد وحسن التوكل عليه، فيعتمد على الله قبل الحركة والسكون، ثم يأخذ بالأسباب حيث ما يكون، ويرضى بما قسمه الله ليقينه أن تقسيم المقادير بيديه، وأن المبتدأ منه والمنتهى إليه، فلا حول له ولا قوة إلا بحول الله وقوته، ولا وصول إلى مراده إلا بمشيئة الله وقدرته .
__________
(1) انظر ص465 .
(2) النسائي في السهو، باب الدعاء بعد الذكر1/386 (1224)، صحيح أبي داود 2/185(869) .(2/261)
روى البخاري من حديث البراء - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: ( إِذَا أَتَيْتَ مَضْجَعَكَ فَتَوَضَّأْ وُضُوءَكَ للصَّلاَةِ، ثُمَّ اضْطَجِعْ عَلى شِقِّكَ الأَيْمَنِ، ثُمَّ قُل: اللهُمَّ أَسْلمْتُ وجهي إِليْكَ، وَفَوَّضْتُ أمري إِليْكَ، وَأَلجَأْتُ ظهري إِليْكَ، رَغْبَةً وَرَهْبَةً إِليْكَ، لاَ مَلجَأَ وَلاَ مَنْجَا مِنْكَ إِلاَّ إِليْكَ، اللهُمَّ آمَنْتُ بِكِتَابِكَ الذي أَنْزَلتَ، وَبِنَبِيِّكَ الذي أَرْسَلتَ، فَإِنْ مُتَّ مِنْ ليْلتِكَ فَأَنْتَ عَلى الفِطْرَةِ، وَاجْعَلهُنَّ آخِرَ مَا تَتَكَلمُ بِهِ، قَال فَرَدَّدْتُهَا عَلى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، فَلمَّا بَلغْتُ: اللهُمَّ آمَنْتُ بِكِتَابِكَ الذِي أَنْزَلتَ، قُلتُ وَرَسُولكَ، قَال: لاَ، وَنَبِيِّكَ الذِي أَرْسَلتَ ) (1) .
وبخصوص التسمية بعبد الصمد فكثير من رواة الحديث تسمى به، منهم عبد الصمد بن سليمان بن أبي مطر العتكي، من أوساط الطبقة الحادية عشرة الآخذين عن تبع الأتباع، وهو ثقة حافظ كما ذكر ابن حجر، مات سنة مائتين وست وأربعين، روى عنه الترمذي في سننه (2) .
********************************
52- الله - جل جلاله - القَريبُ
********************************
الدليل على ثبوت الاسم وإحصائه .
__________
(1) البخاري في الدعوات، باب فضل من بات على الوضوء 5/2326 (5952) .
(2) تهذيب الكمال للمزي 18/96، وتهذيب التهذيب لابن حجر 6/326، والثقات للبستي 8/415 .(2/262)
ورد اسم الله القريب في القرآن مطلقا منونا مرادا به العلمية ودالا على كمال الوصفية ومقترنا باسم الله المجيب كما في قوله تعالى: { فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ } [هود:61]، واقترن باسمه السميع في قوله: { قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ } [سبأ:50] .
وورد الاسم مفردا في قوله تعالى: { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلهُمْ يَرْشُدُونَ } [البقرة:186] .
روى البخاري من حديث أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ، ارْبَعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ، فَإِنَّكُمْ لاَ تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلاَ غَائِبًا، إِنَّهُ مَعَكُمْ، إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ، تَبَارَكَ اسْمُهُ وَتَعَالَى جَدُّهُ ) (1) .
شرح الاسم وتفسير معناه .
القريب في اللغة فعيل بمعنى اسم الفاعل يدل على صفة القرب، والقُرْبُ في اللغة نقيضُ البُعْد، قرُبَ الشيء يَقرُبُ قرْبا وقرْبانا أَي دَنا فهو قريبٌ، والقرب في اللغة على أنواع، منه قرب المكان كقوله تعالى: { إِنَّمَا الْمُشْرِكونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا } [التوبة:28]، وقرب الزمان نحو قوله: { وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ } [الأنبياء:109] وقد يكون القرب في النسب نحو قوله: { لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأقْرَبُونَ } [النساء:7] .
__________
(1) البخاري في الجهاد، باب ما يكره من رفع الصوت في التكبير 3/1091 (2830) .(2/263)
وكذلك من معاني القرب قرب الحظوة والمنزلة نحو قوله - عز وجل -: { فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ الْمُقَرَّبِين فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ } [الواقعة:88/89] (1) .
والقريب سبحانه هو الذي يقرب من خلقه كما شاء وكيف شاء، وهو القريب من فوق عرشه، أقرب إلى عباده من حبل الوريد كما قال تعالى: { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ } [ق:16]، وقال سبحانه أيضا: { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ } [الواقعة:85] .
والقرب في الآيتين إما أن يكون على حقيقته باعتبار ما ورد عن عبد الله بن عباس - رضي الله عنه - حيث قال: ( ما السماوات السبع والأرضون السبع في يد الله إلا كخردلة في يد أحدكم ) (2)، وروى ابن حبان وصححه الشيخ الألباني من حديث أبي ذر - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( ما السماوات السبع في الكرسي إلا كحلقة بأرض فلاة، وفضل العرش على الكرسي كفضل تلك الفلاة على تلك الحلقة ) (3) ، فهذا قرب مطلق بالنسبة لله عز وجل، لأنه قريب غير ملاصق، والمخلوقات كلها بالنسبة إليه تتقارب من صغرها إلى عظمة ذاته وصفاته، وهو بعيد غير منقطع بالنسبة لمقاييسنا، فلا يقدر أحد على إحاطة بُعد ما بين العرش والأرض من سعته وامتداده، قال ابن منده في وصف قرب الله: ( لقربه كأنك تراه قريب غير ملاصق، وبعيد غير منقطع، وهو يسمع ويرى وهو بالمنظر الأعلى، وعلى العرش استوى ) (4) .
__________
(1) لسان العرب 1/662، والمفردات ص 663، واشتقاق أسماء الله ص146.
(2) تفسير ابن كثير 3/296 .
(3) صحيح ابن حبان بترتيب ابن بلبان 2/77 (361)، انظر السلسلة الصحيحة 1/223 (109) .
(4) مختصر العلو ص 264 .(2/264)