اعتقاد أئمة أهل الحديث
... "قال ابن قدامة أخبرنا(1) الشريف أبو العباس مسعود بن عبد الرحمن بن مطر الهاشمي(2) قال: أنبأنا الحافظ(3) أبو العلا(4) صاعد بن يسار(5) الهروي (6) (7) أنبأ أبو الحسن(8) علي بن محمد الجرجاني، أنبأ أبو القاسم(9) حمزة(10) بن يوسف السهمي، أنبأ أبو بكر أحمد بن إبراهيم الإسماعيلي(11) قال:
["أصول الاعتقاد عند أهل الحديث"] :
(1) ... اعلموا رحمنا(12) الله وإيّاكم أن مذهب أهل الحديث أهل السُّنَّة والجماعة: الإقرار بالله وملائكته وكتبه ورسله، وقبول ما نطق به كتاب الله تعالى(13).
وصحّت(14) به الرواية عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، لا معدّل عن ما ورد به ولا سبيل إلى ردّه إذ كانوا مأمورين باتباع الكتاب والسُّنَّة، مضمونًا لهم الهدى فيهما، مشهودًا لهم بأن نبيهم -صلى الله عليه وسلم-، يهدي إلى صراط مستقيم، محذّرين في مخالفته الفتنة والعذاب الأليم(15).
["القول في الأسماء والصفات"] :
__________
(1) في كتاب العلو: (أنبأنا).
(2) في كتاب العلو: (مسعود بن عبد الرحمن الهاشمي).
(3) سقطت كلمة: (الحافظ من كتاب العلو).
(4) سقطت كلمة: (أبو العلا) من كتاب العلو.
(5) في كتاب العلو: (سيار).
(6) سقطت كلمة: (الهروي) من كتاب العلو.
(7) في كتاب العلو: (الحافظ).
(8) سقطت كلمة: (أبو الحسن) من كتاب العلو.
(9) سقطت كلمة: (أبو القاسم) من كتاب العلو.
(10) في كتاب العلو (يوسف بن حمزة الحافظ).
(11) في كتاب العلو: (الإسماعيلي بكتاب اعتقاد السُّنة له).
(12) في كتاب العلو: (رحمكم الله).
(13) سقطت كلمة: (تعالى) من كتاب العلو.
(14) في كتاب العلو: (وما صحت).
(15) سقط ما بين كلمة: (ولا سبيل إلى رده) إلى كلمة: (العذاب الأليم) من كتاب العلو.(1/1)
(2) ... ويعتقدون أن الله تعالى مدعو بأسمائه الحسنى وموصوف(1) بصفاته التي سمّى(2) و(3) وصف بها نفسه ووصفه بها نبيه صلى الله عليه وسلم(4) ، خلق آدم بيده، ويداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء(5) بلا اعتقاد كيف، وأنه عزّ وجلّ(6) استوى على العرش(7)، بلا كيف، فإن(8) الله تعالى(9) انتهى(10) من ذلك(11) إلى أنه استوى على العرش، ولم يذكر كيف كان استواؤه.
["ذكر بعض خصائص الربوبية"] :
(3) ... وأنه مالك خلقه وأنشأهم لا عن حاجة إلى خلق ما خلق ولا لمعنى دعاه إلى أن خلقهم، لكنه فعّال لما يشاء ويحكم ما يريد لا يُسأل عمّا يفعل، والخلق مسؤولون عما يفعلون.
["إثبات أسماء الله الحسنى وصفاته العلا"] :
(4) ... وأنه مدعو بأسمائه، موصوف بصفاته التي سمّى ووصف بها نفسه، وسمّاه ووصفه بها نبيه -عليه الصلاة والسلام-، لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، ولا يوصف بما فيه نقص أو عيب أو آفة، فإنه عزّ وجلّ تعالى عن ذلك.
["إثبات صفة اليدين"] :
(5) ... وخلق آدم -عليه السلام- بيده ويداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء، بلا اعتقاد كيف يداه، إذا لم ينطق كتاب الله -تعالى- فيه بكيف.
__________
(1) في كتاب العلو: (الحسنى موصوف).
(2) سقطت كلمة: (سمى) من كتاب العلو.
(3) الواو ساقطة من كتاب العلو.
(4) سقطت كلمة: (صلى الله عليه وسلم من كتاب العلو).
(5) ينفق كيف يشاء) سقطت من كتاب العلو.
(6) وأنه عز وجل): سقطت من كتاب العلو.
(7) المثبت ما بين القوسين من كتاب ذم التأويل لابن قدامة.
(8) في كتاب العلو (فإنه).
(9) سقطت كلمة: (الله تعالى) من كتاب العلو.
(10) في كتاب ذم التأويل: (انتهى).
(11) سقطت من كتاب ذم التأويل وكتاب العلو.(1/2)
(6) ... ولا يعتقد فيه الأعضاء، والجوارح، ولا الطول، والعرض، والغلظ، والدقة(1) مثله في الخلق، وأنه ليس كمثله شيء تبارك وجه ربنا ذو الجلال والإكرام.
__________
(1) هذه الكلمات ليست من الألفاظ المعروفة عند أهل السُّنة والجماعة من سلف هذه الأمة، بل هي من الكلمات المخترعة المبتدعة، والتعبير عن الحق بالألفاظ الشرعية هو سبيل أهل السُّنة والجماعة، فلا ينبغي لطالب الحق الالتفات إلى مثل هذه الألفاظ ولا التعويل عليها، وما كان أغنى الإمام المصنف -رحمه الله تعالى- عن مثل هذه الكلمات المبتدعة فإن الله -سبحانه وتعالى- موصوف بصفات الكمال، منعوت بنعوت العظمة والجلال، وعلى كل حال فالباطل مردود على قائله كائنًا من كان، والقاعدة السلفية في مثل هذه الكلمات أنه لا يجوز نفيها ولا إثباتها إلا بعد التفصيل، وتبين مراد قائلها، وكان على المؤلف أن يجمل في النفي غير أنه أراد بهذا النفي أن يسد الطريق على المعطلة، لئلا يكون لهم مدخل في رمي أهل الحديث بالتشبيه، ولكنه بهذه العبارات فتح الباب لهم ليلزموا من أطلقها بموافقتهم على نفي بعض الصفات الذاتية كالوجه واليدين، فلو أمسك -رحمه الله- عن هذه العبارات لكان أجدى.(1/3)
(7) ولا يقولون: إن أسماء الله -عزّ وجلّ-، كما تقول المعتزلة(1) والخوارج(2)
__________
(1) المعتزلة فرقة كلامية إسلامية ظهرت في أول القرن الثاني الهجري، وبلغت شأنها في العصر العباسي الأول؛ يرجع اسمها إلى اعتزال إمامها واصل بن عطاء مجلس الحسن البصري، لقول واصل: بأن مرتكب الكبيرة ليس كافرًا ولا مؤمنًا، بل هو في منزلة بين المنزلتين، ولما اعتزل واصل مجلس الحسن وجلس عمرو بن عبيد إلى واصل وتبعهما أنصارهما قيل لهم: معتزلة أو معتزلون، وهذه الفرقة تعتد بالعقل وتغلو فيه، وتقدمه على النقل، ولهذه الفرقة مدرستان رئيسيتان: إحداهما بالبصرة، ومن أشهر رجالها: واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد وأبو الهذيل العلاف إبراهيم النظام والجاحظ، وأخرى ببغداد، ومن أشهر رجالها: بشر بن المعتمر وأبو موسى المردار وثمامة بن الأشرس وأحمد بن أبي داود.
وللمعتزلة أصول خمسة يدور عليها مذهبهم هي: العدل، والتوحيد، والمنزلة بين المنزلتين، والوعد والوعيد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ولهم في هذه الأصول معانٍ عندهم خالفوا فيها موجب الشريعة وجمهور المسلمين.
الفرق بين الفرق ص117-120، التبصير في أصول الدين ص37 ، الملل والنحل (1/46-49) الخطط للمقريزي (2/245-346).
(2) الخوارج جمع خارجة أي فرقة خارجة: هم كل من خرج على الإمام الحق الذي اتفقت عليه الجماعة، واشتهر بهذا اللقب جماعة خرجوا على علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- ممن كان معه في حرب صفين، وحملوه على قبول التحكيم، ثم قالوا له: لمَ حكمت بين الرجال؟ لا حكم إلا الله.
وسموا حرورية لانحيازهم إلى حروراء بعد رجوعهم من صفين، وعددهم يومئذ اثنا عشر ألفًا، وقد ناظرهم عليّ -رضي الله عنه- فرجع بعضهم، وقاتل الباقين حتى هزمهم.
وقد افترق الخوارج إلى عدة فرق يجمعهم القول بتكفير عليّ بن أبي طالب وعثمان بن عفان وأصحاب الجمل، ومن رضي بالتحكيم وصوب الحكمين أو أحدهما، وتكفير صاحب الكبائر، والقول بالخروج على الإمام إذا كان جائرًا.
انظر الملل والنحل (1/114)، والفرق بين الفرق ص72-73. ومقالات الإسلاميين (1/167) ومجموع الفتاوى (3/279)(1/4)
وطوائف من أهل الأهواء: مخلوقة(1)
__________
(1) هذه من حماقات الجهمية والمعتزلة ومن تابعهم وهي مبنية على قولهم بخلق القرآن، قال الدارمي في الرد على المريسي ص366: (وقد كان للإمام المريسي في أسماء الله مذهب كمذهبه في القرآن؛ كان القرآن عنده مخلوقًا من قول البشر لم يتكلم الله بحرف منه في دعواه، وكذلك أسماء الله عنده من ابتداع البشر من غير أن يقول: (إنني أنا الله رب العالمين) إلى أن قال: (فهذا الذي ادعوا في أسماء الله أصل كبير من أصول الجهمية التي بنوا عليها محنتهم، وأسسوا بها ضلالاتهم، غالطوا بها الأعمار والسفهاء) وشبهتهم: (إنهم لو أثبتوا لله تسعة وتسعين اسمًا لأثبتوا تسعة وتسعين إلهًا) انظر شرح أصول الاعتقاد 2/215، وقال في الرد عليهم: (أرأيتم قولكم: إن أسماء الله مخلوقة ممن خلقها؟ أو كيف خلقها؟ أجعلها أجسامًا وصورًا تشغل أعيانها أمكنة دونه من الأرض والسماء؟ أم موضعًا دونه في الهواء؟ فإن قلتم: لها أجسام دونه فهذا ما تنقمه عقول العقلاء، وإن قلتم: خلقها على ألسنة العباد فدعوه بها، وأعاروها إياه، فهو ما ادعينا عليكم: إن الله كان بزعمكم مجهولًا لا اسم له حتى أحدث الخلق، وأحدثوا له أسماء من مخلوق كلامهم، فهذا هو الإلحاد بالله والتكذيب بها) قال: (الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين). كما يضيفه إلى (رب العالمين)، ولو كان كما ادعيتم لقيل: الحمد لله رب المسمى الرحمن الرحيم. مالك يوم الدين؛ لذا كفرهم جماعة من السلف، يقول إسحاق بن راهويه: (أفضوا: الجهمية إلى أن قالوا: أسماء الله مخلوقة.. وهذا الكفر المحض..) شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (2/214). وقال الإمام أحمد بن حنبل: (من زعم أن أسماء الله مخلوقة فهو كافر) شرح أصول اعتقاد أهل السنة (2/214) وقال خلف بن هشام المقري: (من قال: إن أسماء الله مخلوقة فكفره عندي أوضح من هذه الشمس) وشرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (2/207).(1/5)
["قولهم في صفة الوجه والسمع والبصر والعلم والقدرة والكلام"] :
(8) ... ويثبتون أن له وجهًا، وسمعًا، وبصرًا، وعِلْمًا، وقدرةً، وقوةً، وعِزّةً، وكلامًا، لا على ما يقول أهل الزيغ من المعتزلة(1) وغيرهم، ولكن كما قال تعالى: { ويبقى وجه ربك } (2)، وقال: { أنزله بعلمه } (3) وقال: { ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء } (4)، وقال: { فلله العزة جميعًا } (5)، وقال: { والسماء بنيناها بأيدٍ } (6)، وقال: { أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة } (7)، وقال: { إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين } (8).
... فهو تعالى ذو العلم، والقوة، والقدرة، والسمع، والبصر، والكلام، كما قال تعالى: { ولتصنع على عيني } (9) { واصنع الفلك بأعيننا ووحينا } (10)، وقال: { حتى يسمع كلام الله } (11) ، وقال: { وكلم الله موسى تكليمًا } (12)، وقال: { إنما أمره إذا أراد شيئًا أن يقول له كن فيكون } (13)
["إثبات المشيئة"] :
(9) ... ويقولون: ما يقوله المسلمون بأسرهم: (ما شاء الله كان وما لا يشاء لا يكون)، كما قال تعالى: { وما يشاءون إلا أن يشاء الله } (14)
["علم الله"] :
(10) ويقولون: لا سبيل لأحد أن يخرج عن عِلْم الله، ولا أن يغلب فعله وإرادته مشيئة الله، ولا أن يبدّل عِلم الله فإنه العالم لا يجهل ولا يسهو والقادر لا يغلب.
["القرآن كلام الله"] :
__________
(1) انظر مذهبهم في كتاب نهاية الأقدام ص180-183 وشرح الأصول الخمسة 201 وتلبيس الجهمية 1/605
(2) سورة الرحمن، الآية: 27.
(3) سورة النساء، الآية: 166.
(4) سورة البقرة، الآية: 255.
(5) سورة فاطر، الآية: 10.
(6) سورة الذاريات، الآية: 47.
(7) سورة فصلت، الآية: 15.
(8) سورة الذاريات، الآية: 58.
(9) سورة طه، الآية: 39.
(10) سورة هود، الآية: 37.
(11) سورة التوبة، الآية: 6.
(12) سورة النساء، الآية: 164.
(13) سورة يس، الآية: 82.
(14) سورة التكوير، الآية: 29.(1/6)
(11) ويقولون: القرآن كلام الله غير مخلوق، وأنه كيفما يُصَرَّف بقراءة القارئ له وبلفظه ومحفوظًا في الصدور، متلوًا بالألسن، مكتوبًا في المصاحف، غير مخلوق، ومن قال(1) بخلق(2)
__________
(1) في كتاب عقيدة السلف أصحاب الحديث (من زعم).
(2) مسألة اللفظ بالقرآن اضطرب فيها أقوام من أهل الحديث والسُّنة قال ابن قتيبة في كتاب الاختلاف في اللفظ ص245: (ثم انتهى بنا القول إلى ذكر غرضنا من هذا الكتاب غايتنا من اختلاف أهل الحديث في اللفظ بالقرآن وتشانئهم وإكفار بعضهم بعضًا. وليس ما اختلفوا فيه مما يقطع الألفة ولا ما يوجب الوحشة؛ لأنهم مجموعون على أصل واحد وهو القرآن كلام الله غير مخلوق) وقال ابن القيم: (وأئمة السُّنة والحديث يميزون بين ما قام بالعبد وما قام بالرب، والقرآن عندهم جميعه كلام الله حروفه ومعانيه، وأصوات العباد وحركاتهم وأداؤهم وتلفظهم كل ذلك مخلوق بائن عن الله) إلى أن قال: (البخاري أعلم بهذه المسألة وأولى بالصواب فيها من جميع من خالفه، وكلامه أوضح وأمتن من كلام أبي عبد الله؛ فإن الإمام أحمد سد الذريعة حيث منع إطلاق لفظ المخلوق نفيًا وإثباتًا على اللفظ) إلى أن قال: (والذي قصده أحمد أن اللفظ يراد به أمران: أحدهما: الملفوظ نفسه وهو غير مقدور للعبد ولا فعل له. الثاني: التلفظ به والأداء له وفعل العبد. فإطلاق الخلق على اللفظ قد يوهم المعنى الأول وهو خطأ وإطلاق نفي الخلق عليه قد يوهم المعنى الثاني فمنع الإطلاقين، وأبو عبد الله البخاري ميز وفصل وأشبع الكلام في ذلك، وفرق بين ما قام بالرب وما قام بالعبد، وأوقع المخلوق على تلفظ العباد وأصواتهم وحركاتهم وأكسابهم، ونفى اسم الخلق عن الملفوظ وهو القرآن الذي سمعه جبرائيل من الله وسمعه محمد من جبرائيل). مختصر الصواعق (2/306، 310-311).
تنبيه: لقد زعم كثير من أهل الأهواء أن الإمام البخاري قال لفظي بالقرآن مخلوق ولكن بعد التحقيق تبين أن نسبة هذا القول للإمام البخاري -رحمه الله- من قبل شهادة الزور عليه، وأنه براء من هذه المقالة، ولقد صرح الإمام البخاري نفسه أن من قال: إني قلت لفظي بالقرآن مخلوق فقد كذب علي. قال محمد بن نصر: سمعت محمد بن إسماعيل البخاري يقول: (من زعم أني قلت: (لفظي بالقرآن مخلوق فهو كذاب فإني لم أقله. فقلت له: يا أبا عبد الله قد خاض الناس في هذا وأكثروا فيه. فقال: ليس إلا ما أقول). طبقات الحنابلة (1/277)، سير أعلام النبلاء (12/457) وقال أبو عمرو الخفاف. (أتيت البخاري فَناظرتُهُ في الأحاديث حتى طابت نفسه. فقلت: يا أبا عبد الله ها هنا أحد يحكي عنك أنك قلت هذه المقالة فقال: يا أبا عمرو احفظ ما أقول لك: من زعم من أهل نيسابور وقومس والري وهمذان وحلوان وبغداد والكوفة والبصرة ومكة والمدينة أني قلت: لفظي بالقرآن مخلوق فهو كذاب فإني لم أقله إلا أني قلت: أفعال العباد مخلوقة) تاريخ بغداد (2/32)، مقدمة فتح الباري (492) سير أعلام النبلاء (12/457-458). إذن الثابت عنه أنه قال أفعالنا مخلوقة فيدخل في هذا تلفظ القارئ بالقرآن، وكتابة الكاتب لألفاظ القرآن، وحفظ الحافظ للقرآن، وجهر القارئ بالقرآن، وحسن صوته وتغنيه بالقرآن فهي أمور مخلوقة؛ لأنها من أفعال العباد، فهذا ما ذهب إليه -رحمه الله-، وهذا تفصيله في المسألة فتأمل.(1/7)
اللفظ(1) بالقرآن(2) يريد به القرآن، فهو قد قال بخلق القرآن.
["أفعال العباد مخلوقه لله"]:
(12) ويقولون: إنه لا خالق على الحقيقة إلا الله عزّ وجلّ، وأن أكساب (3) العباد كلها مخلوقة لله، وأن الله يهدي من يشاء ويُضل من يشاء، لا حجة لمن أضله الله عزّ وجلّ، ولا عذر كما قاله الله عزّ وجلّ: { قُل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين } (4) وقال: { كما بدأكم تعودون فريقًا هدى وفريقًا حق عليهم الضلالة } (5)، وقال: { ولقد ذرأنا لجهنم كثيرًا من الجنس والإنس } (6)، وقال: { ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها } (7)، ومعنى "نبرأها" أي نخلقها وبلا خلاف في اللغة، وقال مخبرًا عن أهل الجنة: { الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله } (8)، وقال: { أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعًا } (9)، وقال: { ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك } (10)
["الخير والشر بقضاء الله"] :
__________
(1) في كتاب عقيدة السف أصحاب الحديث (أن لفظه).
(2) في كتاب عقيدة السلف أصحاب الحديث (بالقرآن مخلوق).
(3) جمع كسب، والكسب في اللغة بمعنى الجمع، والكسب: طلب الرزق، قال ابن فارس: (وهو يدل على ابتغاء وطلب وإصابة) وقال سيبويه: (كسبه: جمعه) أما معنى الكسب عند أئمة السُّنة فهو الفعل الذي يعود على فاعله بنفع أو ضر، كما قال تعالى: (لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت) فبين سبحانه أن كسب النفس لها أو عليها.
انظر مجموع الفتاوى (8/387) ومعجم مقاييس اللغة (5/179) وتهذيب اللغة (10/79) والصحاح (1/212) وتاج العروس (1/455)
(4) سورة الأنعام، الآية: 149.
(5) سورة الأعراف، الآية: 30.
(6) سورة الأعراف، الآية: 179.
(7) سورة الحديد، الآية: 22.
(8) سورة الأعراف، الآية: 43.
(9) سورة الرعد، الآية: 32.
(10) سورة هود، الآية: 118.(1/8)
(13) ويقولون: إن الخير والشر والحلو والمُرّ، بقضاء من الله عزّ وجلّ، أمضاه وقدّره؛ لا يملكون لأنفسهم ضرًا ولا نفعًا إلا ما شاء الله، وإنهم فقراء إلى الله عزّ وجلّ لا غنى لهم عنه في كل وقت.
["النزول إلى السماء الدنيا"] :
(14) وأنه(1) عزّ وجلّ ينزل إلى السماء الدنيا على ما صحّ به الخبر(2) عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بلا اعتقاد كيف فيه (3)
["رؤية المؤمنين ربهم في الآخرة"] :
(15) ويعتقدون جواز الرؤية من العباد المتقين لله عزّ وجلّ في القيامة دون الدنيا، ووجوبها لمن جعل الله ذلك ثوابًا له في الآخرة، كما قال: { وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة } (4)
__________
(1) في كتاب عقيدة السلف أصحاب الحديث (إن الله سبحانه).
(2) في كتاب عقيدة السلف أصحاب الحديث (على ما صح به الخبر عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد قال الله عز وجل: (هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام) وقال: (وجاء ربك والملك صفًا صفا) ومؤمن بذلك كله على ما جاء.
(3) في كتاب عقيدة السلف أصحاب الحديث (بلا كيف فلو شاء سبحانه أن يبين لنا كيفية ذلك فعل فانتهينا إلى ما أحكم وكففنا عن الذي يتشابه، إذ كنا قد أمرنا به في قوله تعالى: (هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولو الألباب..).
(4) سورة القيامة الآيتان: 22،23.(1/9)
فلو كان المؤمنون كلهم والكافرون كلهم لا يرونه كانوا جميعهم عنه محجوبين، وذلك من غير اعتقاد التجسيم(1) في الله عزّ وجلّ، ولا التحديد له، ولكن يرونه عزّ وجلّ بأعينهم على ما يشاء هو بلا كيف.
["حقيقة الإيمان"] :
(16) ويقولون: إن الإيمان قول وعمل(2) ومعرفة؛ يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية، من كثرت طاعته أزْيدُ إيمانًا ممن هو دونه في الطاعة.
["قولهم في مرتكب الكبيرة"] :
(17) ويقولون: إن أحدًا من أهل التوحيد ومن يصلي إلى قبلة المسلمين، لو ارتكب ذنبًا، أو ذنوبًا كثيرة، صغائر، أو كبائر مع الإقامة على التوحيد لله والإقرار بما التزمه وقبله عن الله فإنه لا يُكفّر به، ويرجون له المغفرة. قال تعالى: { ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } (3)
["حكم تارك الصلاة عمدًا"] :
__________
(1) التجسيم: من الألفاظ المجملة المحدثة التي أحدثها أهل الكلام فلم ترد في الكتاب والسُّنة، ولم تعرف عن أحد من الصحابة والتابعين وأئمة الدين، وما كان أغنى الإمام المصنف -رحمه الله تعالى- عن مثل هذه الكلمات المبتدعة فلذلك لا يجوز إطلاقها نفيًا ولا إثباتًا فإن الله لا يوصف إلا بما وصف به نفسه أو وصفه رسوله نفيًا وإثباتًا.
(2) العمل قسمان: عمل القلب وهو الإخلاص والنية، وعمل الجوارح وهي الأعضاء، ويدخل في ذلك اللسان، وإن كان عمله غير عملها فإن عمله الذكر والدعاء، والثناء على الله
(3) سورة النساء، الآية: 48.(1/10)
(18) واختلفوا في متعمد ترك الصلاة المفروضة حتى يذهب وقتها من غير عذر، فكفّره جماعة(1) لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: "بين العبد وبين الكُفر ترك الصلاة"(2)
__________
(1) منهم عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- ومعاذ بن جبل وابن مسعود وابن عباس وجابر بن عبد الله وأبو الدرداء، ومن التابعين إبراهيم النخعي وعبد الله بن المبارك وأيوب السختياني وإسحاق بن راهويه وأحمد بن حنبل وأبو بكر بن أبي شيبة وغيرهم. انظر المحلى لابن جزم (2/242) ومعالم السنن للخطابي (5/58) وكتاب الصلاة لابن القيم ص37.
(2) أخرجه أبو داود كتاب السُّنة باب في رد الأرجاء (5/58) ح (4678) والترمذي كتاب الإيمان باب ما جاء في ترك الصلاة (5/13) ح (2620) وابن ماجة كتاب إقامة الصلاة والسُّنة فيها باب ما جاء فيمن ترك الصلاة (1/342) ح (1078). جميعهم من طريق أبي الزبير عن جابر -رضي الله عنه-. قال الترمذي: (هذا حديث حسن صحيح).(1/11)
، وقوله: "من ترك الصلاة فقد كفر"(1)، "ومن ترك الصلاة فقد برأت منه ذمة الله"(2) وتأول جماعة(3) منهم..(4) بذلك من تركها جاحدًا لها، كما قال يوسف -عليه السلام-: { إني تركت ملّة قومٍ لا يؤمنون بالله } (5) ترك(6) جحود الكُفر.
["أقوال أهل العلم في الفرق بين الإسلام والإيمان"] :
__________
(1) أخرجه الطبراني في الأوسط كما في مجمع الزوائد (1/295) من حديث أنس بن مالك ولفظه: (من ترك الصلاة متعمدًا فقد كفر جهارًا). قال الهيثمي: (رجاله موثوقون إلا محمد بن داود فإني لم أجد من ترجمه فقد ذكر ابن حبان في الثقات محمد بن أبي داود البغدادي فلا أدري هل هو هذا أم لا؟). وأورده السيوطي في الجامع الصغير (58912) وقال عنه: (حديث صحيح) وضعفه الألباني في ضعيف الجامع (5/184).
(2) أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (12/253) ح (3023) من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس ولفظه: (من ترك الصلاة متعمدًا فقد برأت منه ذمة الله ورسوله) قال محقق الكتاب: (هو منقطع) وأخرجه أحمد كما في مجمع الزوائد (1/295) من طريق مكحول عن أم أيمن ولفظه: (من ترك الصلاة متعمدًا فقد برأت منه ذمة الله ورسوله). قال الهيثمي عنه: (رجاله رجال الصحيح إلا أن مكحولًا لم يسمع من أم أيمن) ورواه الطبراني في الكبير كما في مجمع الزوائد (1/295) من حديث معاذ بن جبل -رضي الله عنه- ولفظه: (من ترك الصلاة متعمدًا فقد برأت منه ذمة الله -عز وجل-). قال الهيثمي عنه: (فيه بقية بن الوليد وهو مدلس وقد عنعنه).
(3) كالشافعي وجماعة من أصحابه. انظر كتاب عقيدة السلف أصحاب الحديث ص75.
(4) بياض في النسخة الخطية قدر كلمة.
(5) سورة يوسف، الآية: 37.
(6) معلوم أن نبي الله يوسف -عليه السلام- لم يكن تلبس بملة الكفر، ولكن أعرض عن الكفر، جاحدًا له ومعلوم أن ترك الشيء لا يستلزم الوقوع فيه أولًا.(1/12)
(19) وقال(1) (2) منهم: إن الإيمان قول وعمل، والإسلام فعل ما فرض على الإنسان أن يفعله إذا ذكر كل اسم على حدته مضمومًا إلى الآخر فقيل: المؤمنون والمسلمون جميعًا مفردين أريد بأحدهما معنى لم يرد بالآخر، وإن(3) ذكر أحد الاسمين شمل الكل وعمّهم.
وكثير منهم(4) قالوا: الإسلام والإيمان واحد.
قال الله عزّ وجلّ: { ومن يبتغ غير الإسلام دينًا فلن يُقبل منه } (5).
فلو أن الإيمان غيرهُ لم يُقبل، وقال: { فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين فما وجدها فيها غير بيت من المسلمين } (6)، ومنهم من ذهب إلى أن الإسلام مختصّ بالاستسلام لله والخضوع له والانقياد لحكمه فيما هو مؤمن به، كما قال: { قالت الأعراب آمنا قُل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولمّا يدخل الإيمان في قلوبكم } (7)، وقال: { يمنون عليك أن أسلموا قُل لا تمنوا عليَّ إسلامكم بل الله يمنّ عليكم أن هداكم للإيمان } (8). وهذا أيضًا دليل لمن قال: هما واحد.
["الشفاعة والحوض والمعاد والحساب"] :
(20) ويقولون: إن الله يخرج من النار قومًا من أهل التوحيد بشفاعة الشافعين، وأن الشفاعة حق، والحوض حق، والمعاد حق، والحساب حق.
["ترك الشهادة لأحد من الموحدين بالجنة أو النار"] :
__________
(1) في كتاب جامع العلوم والحكم (قال كثير من أهل السُّنة والجماعة).
(2) كالخطابي وغيره.
(3) في كتاب جامع العلوم والحكم: (وإذا ذكر).
(4) منهم محمد بن نصر المروزي وسفيان الثوري والبخاري والمزني وابن عبد البر. انظر جامع العلوم والحكم ص170 وروي عن الشافعي انظر فتح الباري (1/114-115).
(5) سورة آل عمران، الآية: 85.
(6) سورة الذاريات، الآية: 35-36.
(7) سورة الحجرات، الآية: 14.
(8) سورة الحجرات، الآية: 17.(1/13)
(21) ولا يقطعون على أحد من أهل الملّة أنه من أهل الجنة أو من أهل النار؛ لأن علم ذلك يغيب عنهم لا يدرون على ماذا الموت؟ أعلى الإسلام؟ أم على الكفر؟ .. ولكن يقولون: إن مَنْ مات على الإسلام مجتنبًا للكبائر والأهواء والآثام، فهو من أهل الجنة لقوله تعالى: { إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات } (1) ، ولم يذكر عنهم ذنبًا: { أولئك هم خير البرية جزاؤهم عند ربهم جنات عدن } (2)، ومن شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بعينه وصحّ له ذلك عنه، فإنهم يشهدون له بذلك اتباعًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وتصديقًا لقوله:
["عذاب القبر"] :
(22) ويقولون: إن عذاب القبر حق، يُعذّب الله من استحقه إن شاء، وإن شاء عفا عنه، لقوله تعالى: { النار يعرضون عليها غدوًا وعشيًا ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب } (3).
فأثبت لهم ما بقيت الدنيا عذابًا بالغدو والعشي دون ما بينهما، حتى إذا قامت القيامة عُذِّبوا أشدَّ العذاب بلا تخفيف عنهم كما كان في الدنيا. وقال: { ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكًا } (4) يعني قبل فناء الدنيا، لقوله تعالى بعد ذلك { ونحشره يوم القيامة أعمى } (5) بيَّن أن المعيشة الضنك قبل يوم القيامة، وفي معاينتنا اليهود والنصارى والمشركين في العيش الرغد والرفاهية في المعيشة ما يعلم به أنه لم يرد به ضيق الرزق في الحياة الدنيا لوجود مشركين(6) في سعة من أرزاقهم، وإنما أراد به بعد الموت قبل الحشر.
["سؤال منكر ونكير"] :
__________
(1) سورة البينة، الآية: 7.
(2) سورة البينة، الآية: 8.
(3) سورة غافر، الآية: 46.
(4) سورة طه، الآية: 124.
(5) سورة طه، الآية: 124.
(6) في النسخة الخطية (يا مشركين).(1/14)
(23) ويؤمنون بمسألة منكر ونكير على ما ثبت به الخير عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع قول الله تعالى: { يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء } (1). وما ورد تفسيره(2) عن النبي صلى الله عليه وسلم.
["ترك الخصومات والمراء في الدين"] :
(24) ويرون ترك الخصومات والمراء في القرآن وغيره لقول الله عزّ وجلّ: { ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا } (3) ، يعني يجادل فيها تكذيبًا بها، والله أعلم.
["خلافة الخلفاء الراشدين"] :
(25) ويثبتون خلافة أبي بكر -رضي الله عنه- بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، باختيار الصحابة إيّاه، ثم خلافة عمر بعد أبي بكر -رضي الله عنه- باستخلاف (4) أبي بكر إيّاه، ثم خلافة عثمان -رضي الله عنه- باجتماع أهل الشورى، وسائر(5) المسلمين عليه عن أمر عمر، ثم خلافة علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-- بيعة من بايع من البدريين عمّار بن ياسر، وسهل بن حنيف، ومن تبعهما من سائر الصحابة مع سابقه وفضله.
[" المفاضلة بين الصحابة"] :
__________
(1) سورة إبراهيم، الآية: 27.
(2) قال النبي صلى الله عليه وسلم في تفسير هذه الآية: (المسلم إذا سئل في القبر يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله فذلك قول الله تعالى: (يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة.. ) أخرجه البخاري كتاب التفسير باب يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت (8/378) ح (4699) من طريق سعد بن عبيدة عن البراء بن عازب.
(3) سورة غافر، الآية: 4.
(4) قيل كلمة (باستخلاف) كلمات مطموسة هي: (لاجتماع أهل الشورى).
(5) في الأصل: (ساير).(1/15)
(26) ويقولون: بتفضيل الصحابة -رضي الله عنهم- لقوله: { لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة } (1)، وقوله: { والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم } (2)
ومن أثبت الله رضاه عنه لم يكن منهم بعد ذلك ما يوجب سخط الله عزّ وجلّ، ولم يوجب ذلك للتابعين إلا بشرط الإحسان، فمن كان من التابعين من بعدهم يتنقصهم لم يأت بالإحسان، فلا مدخل له في ذلك.
["قولهم فيمن يبغض الصحابة"] :
__________
(1) سورة الفتح، الآية: 18.
(2) سورة التوبة، الآية: 100.(1/16)
(27) ومن غاظه مكانهم من الله فهو مخوف عليه ما لا شيء أعظم منه لقوله عزّ وجلّ: { محمد رسول الله والذين معه } (1) إلى قوله: { ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآذره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار } (2)، فأخبر أنه جعلهم غيظًا للكافرين، وقالوا: بخلافتهم لقول الله عزّ وجلّ: { وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات } (3) ، فخاطب بقوله: "منكم" من ولد الآن وهو مع النبي صلى الله عليه وسلم، على دينه فقال بعد ذلك: { ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن(4) لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنّهم من بعد خوفهم أمنًا يعبدونني لا يشركون بي شيئًا } (5)، فمكّن الله بأبي بكر وعمر وعثمان الدين، وعد الله آمنين يَغزون، يُخيفون العدو ولا يُخيفهم العدو. وقال عزّ وجلّ للذين تخلّفوا عن نبيه في الغزوة التي ندبهم الله عزّ وجلّ بقوله: { فإن رجعك الله إلى طائفة منهم فاستأذنوك للخروج فقل لن تخرجوا معي أبدًا ولن تقاتلوا معي عدوًا إنكم رضيتم بالقعود أول مرة فاقعدوا مع الخالفين } (6)، فلما لقوا النبي صلى الله عليه وسلم، يسألونه الإذن في الخروج للعدو فلم يأذن لهم، أنزل الله عزّ وجلّ: { سيقول المخلّفون إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها ذرونا نتبعكم يريدون أن يبدلوا كلام الله قل لن تتبعونا كذلكم قال الله من قبل فسيقولون بل تحسدوننا بل كانوا لا يفقهون إلا قليلًا } (7)، وقال لهم { قل للمخلّفين من الأعراب ستدعون إلى قومٍ أولي بأسٍ شديد تقاتلونهم أو يسلمون فإن تطيعوا يؤتكم الله أجرًا حسنًا وإن تتولوا كما توليتم من قبل يُعذبكم عذابًا أليما } (8)،
__________
(1) سورة الفتح، الآية: 29.
(2) سورة الفتح، الآية: 29.
(3) سورة النور، الآية: 55.
(4) وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم) سقطت من النسخة الخطية.
(5) سورة النور، الآية: 55.
(6) سورة التوبة، الآية: 83.
(7) سورة الفتح، الآية: 15.
(8) سورة الفتح، الآية: 16.(1/17)
والذين كانوا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، أحياء خوطبوا بذلك لما تخلفوا عنه، وبقي منهم في خلافة أبي بكر وعمر وعثمان -رضي الله عنهم- ما أوجب لهم بطاعتهم إيّاهم الأجر، وبترك طاعتهم العذاب الأليم إيذانًا من الله عزّ وجلّ بخلافتهم -رضي الله عنهم-، ولا جعل في قلوبنا غلًّا لأحدٍ منهم فإذا أثبتت خلافة واحد منهم انتظم منها خلافة الأربعة.
["الجمعة خلف كل إمام مسلم برًا كان أو فاجرًا"] :
(28) ويرون الصلاة –الجمعة وغيرها- خلف كل إمام مسلم برًا كان أو فاجرًا، فإن الله عزّ وجلّ فرض الجمعة وأمر بإتيانها فرضًا مطلقًا، مع علمه -تعالى- بأن القائمين يكون منهم الفاجر والفاسق، ولم يستثن وقتًا دون وقت، ولا أمرًا بالنداء للجمعة دون أمر.
["الجهاد مع الأئمة وإن كان جورة"] :
(29) ويرون جهاد الكفار معهم، وإن كانوا جورة، ويرون الدعاء لهم بالإصلاح والعطف إلى العدل، ولا يرون الخروج بالسيف عليهم، ولا قتال الفتنة، ويرون قتال الفئة الباغية مع الإمام العادل، إذا كان ووجد على شرطهم في ذلك.
["دار الإسلام"] :
(30) ويرون الدار دار الإسلام لا دار الكفر، كما رأته المعتزلة ما دام النداء بالصلاة والإقامة ظاهرين وأهلها ممكنين منها آمنين.
["أعمال العباد لا توجب لهم الجنة إلا بفضل الله"] :
(31) ويرون أن أحدًا لا يخلص له الجنة وإن عمل أي عمل إلا بفضل الله ورحمته الله يخصّ بهما من يشاء، فإن عمله للخير وتناوله الطاعات إنما كان عن فضل الله الذي لو لم يتفضل به عليه لم يكن لأحد على الله حجة ولا عذر، كما قال الله: { ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبدًا ولكن الله يُزكي من يشاء } (1)، { ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلًا } (2)، وقال: { يختص برحمته من يشاء } (3).
["تقدير الآجال"] :
__________
(1) سورة النور، الآية: 21.
(2) سورة النساء، الآية: 83.
(3) سورة آل عمران، الآية: 74.(1/18)
(32) ويقولون: إن الله عزّ وجلّ أجَّل لكل حي مخلوق أجلًا هو بالغه، { فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون } ، وإن مات أو قُتل فهو عند انتهاء أجله المسمى له، كما قال الله عزّ وجلّ: { قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم } (1).
["الرازق الله"] :
(33) وإن الله -تعالى- يرزق كل حي مخلوق رزق الغذاء الذي به قوام الحياة، وهو يضمنه الله لمن أبقاه من خلقه، وهو الذي رَزَقَهُ من حلال أو من حرام، وكذلك رزق الزينة الفاضل عمّا يحيا به.
["الله خالق الشياطين ووساوسهم"] :
(34) ويؤمنون بأن الله -تعالى- خلق الشياطين توسوس للآدميين ويخدعونهم ويغرونهم، وأن الشيطان يتخبط الإنسان(2).
["السحر والسحرة"] :
(35) وأن في الدنيا سحرًا وسحرة، وأن السحر واستعماله كفر من فاعله، معتقدًا له، نافعًا ضارًا بغير إذن الله.
["مجانبة البدعة"] :
(36) ويرون مجانبة البدعة والآثام، والفخر، والتكبّر، والعجب، والخيانة، والدغل(3) ، والسعاية(4)، ويرون كفّ الأذى وترك الغيبة إلا لمن أظهر بدعة وهوى يدعو إليها، فالقول فيه ليس بغيبة عندهم.
["تعلم العلم"] :
(37) ويرون تعلّم العلم وطلبه من مظانه، والجد في تعلّم القرآن وعلومه، وتفسيره، وسماع سُنن الرسول صلى الله عليه وسلم، وجمعها والتفقه فيها، وطلب آثار أصحابه.
["الكف عن الصحابة"] :
(38) والكفّ عن الوقيعة فيهم وتأول القبيح عليهم، ويكلونهم فيما جرى بينهم على التأويل إلى الله -عزّ وجلّ-.
["لزوم الجماعة"] :
__________
(1) سورة آل عمران، الآية: 154.
(2) كما قال تعالى: (الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس) سورة البقرة: 275.
(3) هو الذي يبغي الشر. انظر تهذيب اللغة (8/71).
(4) الوشاية والنميمة بين الناس.(1/19)
(39) مع لزوم الجماعة والتعفف في المأكل والمشرب والملبس، والسعي في عمل الخير، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والإعراض عن الجاهلين حتى يعلموهم ويبيّنوا لهم الحق، ثم الإنكار والعقوبة من بعد البيان، وإقامة العذر بينهم ومنهم.
["وجوب لزوم مذهب أهل الحديث الفرقة الناجية"] :
(40) هذا أصل الدين والمذهب، اعتقاد أئمة أهل الحديث، الذين لم تشنهم بدعة، ولم تلبسهم فتنة، ولم يخفوا إلى مكروه في دين، فتمسّكوا معتصمين بحبل الله جميعًا، ولا تفرقوا عنه، واعلموا أن الله -تعالى- أوجب محبته ومغفرته لمتبعي رسوله صلى الله عليه وسلم في كتابه، وجعلهم الفرقة الناجية والجماعة المتبعة، فقال عزّ وجلّ لمن ادّعى أنه يحب الله عزّ وجلّ: { قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم } (1) نفعنا الله وإياكم بالعلم، وعصمنا بالتقوى من الزيغ والضلالة بمَنِّه ورحمته.
__________
(1) سورة آل عمران، الآية: 31.(1/20)