شرح العقيدة الطحاوية [1]
اتفقت جميع الرسل على الدعوة إلى توحيد العبادة، وهو أول واجب على المكلف، ومعرفة صفات الله تدعو إلى عبادته، وتوحيد الربوبية يلزم منه توحيد العبادة، وقد اعتنى أهل العلم ببيان التوحيد بأنواعه، لا سيما توحيد العبادة.(1/1)
أهمية التوحيد
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد: فهذه العقيدة هي على مذهب أهل السنة والأئمة كلهم، ولكن الطحاوي ذكر أن هذا مذهب أبي حنيفة وصاحبيه؛ وذلك لأنه كتبها لتلاميذه المختصين به الذين في قلوبهم وقع وقدر لهؤلاء الأئمة الثلاثة، الذين هم أبو حنيفة ومحمد بن الحسن وأبو يوسف، وهما صاحباه اللذان دونا مذهبه، وهما اللذان كتبا المسائل التي سئل عنها ونشراها، فلأجل ذلك أصبحا مختصين به، فيقول: إن هذه العقيدة هي معتقد هؤلاء الثلاثة.
ولا ينافي هذا أن فيها معتقد الأئمة الآخرين كـ الشافعي ومالك وأحمد وبقية الأئمة؛ لأن العقيدة سالمة من الخلافات إلا خلاف المبتدعة، والمبتدعة لا يعتد بخلافهم.
قال الطحاوي رحمه الله: [نقول في توحيد الله معتقدين بتوفيق الله: إن الله واحد لا شريك له.
قال الشارح رحمه الله تعالى: اعلم أن التوحيد أول دعوة الرسل، وأول منازل الطريق، وأول مقام يقوم فيه السالك إلى الله عز وجل، قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:59] ، وقال هود عليه السلام لقومه: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:65] ، وقال صالح عليه السلام لقومه: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:73] ، وقال شعيب عليه السلام لقومه: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:85] ، وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36] ، وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25] ، وقال صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله) ، ولهذا كان الصحيح أن أول واجب يجب على المكلف شهادة أن لا إله إلا الله، لا النظر، ولا القصد إلى النظر، ولا الشك، كما هي أقوال لأرباب الكلام المذموم] .(1/2)
اتفاق دعوة الرسل على التوحيد
هذا الكلام يدل على أهمية التوحيد، والتوحيد الذي ذكره هو توحيد العبادة فإنه الذي دعت إليه الرسل واتفقت عليه دعوتهم، يقول: إن التوحيد هو أول ما يكلف به العباد.
فالتوحيد هو الذي تسأل عنه في الحشر في يوم المعاد، والتوحيد هو الذي يسأل عنه في القبور يسأل عنه المقبور، والتوحيد هو أول دعوة الرسل، التوحيد اتفقت عليه الرسالات، فنأخذ من هذه الأدلة أهميته، فشيء اتفقت عليه دعوة الرسل يدل على أهميته، شيء بدأ به كل رسول دعوته يدل على أهميته، فالرسل من أولهم إلى آخرهم بدؤوا دعوتهم بنوع من أنواع التوحيد وهو توحيد العبادة كما في هذه الآيات، فإن كل نبي يقول لقومه: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:59] ، وهذا هو توحيد العبادة، وجمعهم تعالى في قوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25] ، وهذا توحيد العبادة، يعني: نوحي إلى كل رسول ونقول له: {لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25] يعني: افعل ذلك وأمر أمتك وادعهم إلى ذلك.
وكذلك قوله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36] ، وهذا هو توحيد العبادة.
ويقول تعالى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} [الزخرف:45] ،
و
الجواب
لو سأل لقيل: ما جعل الله ولا أذن الله لرسول أن يدعو إلى عبادة إله مع الله.(1/3)
أول واجب على المكلفين
يذكر الشارح أن أول واجب على المكلف أن يأتي بالشهادتين، ولهذا الرسول عليه الصلاة والسلام مكث بمكة عشر سنين لا يدعو إلا إلى الشهادتين، يدعو إلى تحقيق لا إله إلا الله وإلى تصديقه أنه رسول من الله، عشر سنين وهو لا يدعو إلا إلى توحيد العبادة، أليس ذلك دليل أهميته؟ ما فرضت عليه العبادات حينئذ؛ لأنها متفرعة عن أصل وهو التوحيد، فالعبادات كلها ما تقبل إلا بهذا الأصل، فلو تعبد المشركون فصلوا وتصدقوا وحجوا وأنفقوا وجاهدوا وقرؤوا وهم لم يوحدوا الله بل يدعون غيره معه ما قُبلت منهم عباداتهم ولن تنفعهم؛ لأنهم فقدوا شرطها.
وأهل الكلام الذين نهى علماؤنا عن الخوض في كلامهم من المعتزلة ونحوهم يقولون: إن أول واجب النظر.
وبعضهم يقول: أول واجب قصد النظر.
وبعضهم يقول: أول واجب الشك.
وهذه أقوال باطلة، فصحيح أن الله تعالى أمرنا بالنظر لأجل الاعتبار، والآيات في ذلك كثيرة، كقوله تعالى: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ} [ق:6] {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ} [الغاشية:17-18] ، {أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الأعراف:185] ، {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا} [يوسف:109] فالنظر هنا لأجل الاقتناع، فمثلاً: إذا دعوت مسلماً وقلت له: أدعوك إلى الشهادتين.
فإذا توقف فادعه إلى النظر، قل له: انظر إلى هذه المخلوقات، انظر إلى هذه الأفلاك الثابتة وهذه الأفلاك الجارية وهذه المخلوقات المنبثة، هل خلقت عبثاً؟ انظر إلى نفسك وتقلب أحوالك، هل خلقت من غير خالق؟ فإذا نظر وتفكر فإنه عند ذلك يعتبر ويرجع إلى ما تدعوه إليه، فالنظر والقصد إلى النظر وسيلة ودلالة وحجة للمعاند، لا أن أول واجب هو النظر، بل يدعى من شك وتوقف إلى أن ينظر حتى يستيقن.
وأما معنى قولهم: إن أول واجب الشك فهم يقولون: إن أول ما يجب على الإنسان عندما يعقل أن يشك ثم يعمل بعد ذلك في إزالة ذلك الشك.
وهذا قول باطل، بل الواجب أولاً قبل كل شيء أن يأتي بالشهادتين، ثم بعد ذلك يعمل بمقتضاهما، والأعمال متفرعة عن الشهادتين.(1/4)
اتفاق السلف على أن أول ما يؤمر به العبد الشهادتان
قال رحمه الله: [بل أئمة السلف كلهم متفقون على أن أول ما يؤمر به العبد الشهادتان، ومتفقون على أن من فعل ذلك قبل البلوغ لم يؤمر بتجديد ذلك عقيب بلوغه، بل يؤمر بالطهارة والصلاة إذا بلغ أو ميز عند من يرى ذلك، ولم يوجب أحدٌ منهم على وليه أن يخاطبه حينئذٍ بتجديد الشهادتين، وإن كان الإقرار بالشهادتين واجباً باتفاق المسلمين، ووجوبه يسبق وجوب الصلاة، لكن هو أدى هذا الواجب قبل ذلك] .
معنى هذا الكلام أن الأطفال ينشئون بين آبائهم، ويلقنهم الأب معالم التوحيد من حين يميز، يلقنه معرفة ربه، ومعرفة نبيه، واستحقاق الله للعبادة، ووجوب العبادة، فينشأ على الإسلام وعلى قول (لا إله إلا الله) ويسمع ذلك من أبويه وهو صغير ما وجبت عليه الأحكام، فإذا بلغ استمر في العمل، ولا يحتاج عند البلوغ أن تقول له: الآن انطق الشهادتين.
الآن أصبحت مكلفاً فإنه يكفيه نطقه فيما سبق بتشهده في صلاته، وفي إجابته للمؤذن وما أشبه ذلك، فلا حاجة بعد ذلك عند البلوغ إلى تلقينه، ولا إلى تجديد إسلامه، بل هو مسلم بين أبويه المسلمين، ومن حين يعقل وهو يلقن.
والصحيح أيضاً أنه لو بلغ بعدما صلّى لا يؤمر بإعادة الصلاة، خلافاً لبعض العلماء، فبعضهم يقول: لو صلى الظهر قبل أن يبلغ ثم بلغ بعدها باحتلام أو نحوه فنأمره بإعادة الظهر؛ لأنه صلاها قبل أن يبلغ وهي في حقه غير واجبة، فبعدما بلغ تصير واجبة عليه، والصحيح أنه لا يؤمر؛ لأن الله ما أمر بالصلاة مرتين، وقد أداها ولو قبل البلوغ، فتصبح مجزئة، فكما لا يؤمر بإعادة الصلاة بعد البلوغ ولو كان الوقت باقياً فكذا لا يؤمر بعد البلوغ بتجديد الشهادتين، بل يكفيه أنه على الفطرة، وأنه قد تلقن وتعلم وفهم.
قال الشارح رحمه الله: [وهنا مسائل تكلم فيها الفقهاء، فمن صلى ولم يتكلم بالشهادتين، أو أتى بغير ذلك من خصائص الإسلام ولم يتكلم بهما هل يصير مسلماً أم لا؟ والصحيح أنه يصير مسلماً بكل ما هو من خصائص الإسلام، فالتوحيد أول ما يدخل به في الإسلام وآخر ما يخرج به من الدنيا، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من كان آخر كلامه: (لا إله إلا الله) دخل الجنة) وهو أول واجب وآخر واجب، فالتوحيد أول الأمر وآخره، أعني توحيد الإلهية] .
هذه مسألة نظرية ليست بصحيحة، وهي قولهم: قد يوجد من ينشأ ولم يتكلم بالشهادتين من أول أمره إلى أن يبلغ، فهل تصح عبادته؟ فنقول: هذا محال.
وذلك لأن النطق بالشهادتين قد يكون ركناً كما في التشهد، فالصلاة فيها تشهد، وفي آخره يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله.
ثم يأتي بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ثم يسلم، ولا تصح الصلاة إلا بهذا التشهد، فهو ركن من أركانها، فكيف يُتصور أن إنساناً يولد بين أبوين مسلمين ويبلغ وهو ما تكلم بكلمة (لا إله إلا الله محمد رسول الله) ؟ هذا غير واقع، وذلك لأن المسلم دائماً يسمع كلمة (لا إله إلا الله) في الأذان وفي الخطب وفي التشهد وعند الذكر وفي القرآن، فقد ذكرت في القرآن في عدة مواضع كقوله تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ} [آل عمران:18] ، فلا بد أن الصبي يقرأ من القرآن أو يسمع، وينطق بذلك، فيكون بذلك مسلماً، فلا بد أنه قد أتى بالشهادتين.(1/5)
أهمية توحيد العبادة
التوحيد الذي ذكرت أهميته هو توحيد العبادة، وهو أول ما يدخل به في الإسلام، فالكافر أول ما يدعى إليه، وأول ما ينطق به، يقال: قل: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.
وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة) إلى آخره، فإذا أسلم كافر يلقن الشهادتين، ويبين له معناهما، ويؤمر بالعمل بمقتضاهما، فأول ما يدخل العبد في الإسلام هو نطقه بالشهادتين واعتقاده مدلولهما.
وآخر ما يخرج العبد من هذه الدنيا يؤمر أن يختم حياته بـ (لا إله إلا الله) ؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: (من كان آخر كلامه (لا إله إلا الله) دخل الجنة) يعني: ختم له بالتوحيد، أو بما يدل على هذا المعنى، ففي هذه الحالة يكون مختوماً له بخاتمة حسنة، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه مسلم وغيره: (لقنوا موتاكم لا إله إلا الله) يعني: يكون آخر ما ينطقون به كلمة (لا إله إلا الله) حتى يختم لهم بما ابتدؤوا به، فيختم لهم بعقيدة سليمة وهي اعتقاد أن الله هو الإله الحق، وأن إلهية ما سواه باطلة، فبذلك يكون أول الأمر وآخره هو هذا التوحيد الذي هو توحيد العبادة.(1/6)
توحيد الصفات
قال رحمه الله: [إن التوحيد يتضمن ثلاثة أنواع: أحدها: الكلام في الصفات.
والثاني: توحيد الربوبية، وبيانه أن الله وحده خالق كل شيء.
والثالث: توحيد الإلهية، وهو استحقاقه سبحانه وتعالى أن يعبد وحده لا شريك له.
أما الأول فإن نفاة الصفات أدخلوا نفي الصفات في مسمى التوحيد كـ جهم بن صفوان ومن وافقه، فإنهم قالوا: إثبات الصفات يستلزم تعدد الواجب.
وهذا القول معلوم الفساد بالضرورة؛ فإن إثبات ذاته المجردة عن جميع الصفات لا يُتصور له وجود في الخارج، وإنما الذهن قد يفرض المحال ويتخيله، وهذا غاية التعطيل] .
نعرف -بل يعرف أطفال المسلمين والحمد لله- أن أقسام التوحيد ثلاثة: توحيد الربوبية، وتوحيد الإلوهية، وتوحيد الأسماء والصفات، ويجب أن يلقن الطفل هذه الأنواع، وأن يعرف مدلولها، والمتقدمون من هذه الأمة أكثروا من التأليف في توحيد الأسماء والصفات، وغالب كتبهم التي ألفوها في العقيدة تدور حول الأسماء والصفات، حتى ولو سموها بكتب التوحيد، كـ ابن خزيمة وغيره، فإن الخلاف في الأسماء والصفات مشتهر في القرون الأولى، فـ الجهم بن صفوان أحدث بدعته في أول القرن الثاني، ثم تبعه أتباع له سماهم السلف بالجهمية، وسموا أيضاً بالمعتزلة، وكثروا وانتشروا وتمكنوا، ومن عقيدتهم إنكار الصفات، وسبب إنكارهم للصفات وأدلتهم في ذلك أنهم اعتمدوا في الغالب على الفكر وعلى الخيال وعلى العقول، فأدلتهم على نفي الصفات أدلة تخمينية عقلية، ولهذا يقول كثير منهم: إن هذا الباب لا يكشفه إلا الخيال، وإنهم يعجزون عن أن يعبروا عنه.
والحاصل أن عقيدتهم نفي الصفات، فنفوا عن الله تعالى صفاته كلها.
ومنهم من أثبت سبع صفات كالأشعرية، ومنهم من نفى أسماء الله مع صفاته، والعلة التي نفوا لأجلها هذه الصفات هي ما ذكره الشارح رحمه الله من كونهم يقولون: إن إثبات الصفات يستلزم تعدد الواجب.
فهم يقولون: إن الواجب هو الله وحده، فالله تعالى واجب الوجود، وهذه لفظ من ألفاظ المتكلمين (واجب الوجود) ، ومثل: (ممكن الوجوب) و (ممتنع الوجود) ، وهذه من جملة ما تكلموا به وتوسعوا فيه، ومن أوصاف الله سبحانه عند المعتزلة القِدَم، أي أنه هو القديم، فيقولون: إذا أثبتنا أن الله قديم، وأثبتنا أن سمع الله قديم وقدرة الله قديمة وعلمه قديم وكلامه قديم ما صار القديم واحداً، بل صار عدداً، فلا جرم ننفي الصفات، ونجعل القِدَم لله وحده للذات.
فنفوا الصفات وأثبتوا القدم للذات، فكيف يُردُّ عليهم؟ الشارح يقول: [إن إثبات ذات مجردة عن الصفات لا يمكن في الوجود] ولو فرض العقل إثبات كذلك فإن العقل قد يفرض المحال، فهذا من المحال، أي: مستحيل أن توجد ذات مجردة عن صفات ومتصلة بالقدم.
فكما أنكم -يا معتزلة ويا مبتدعة! - تثبتون أن لله تعالى ذاتاً.
فلا بد أن تثبتوا له الصفات؛ فإن الصفات من جملة الذات، والوحدانية لا تنافيها، فالله تعالى واحد بصفاته، وذاته وصفاته شيء واحد، ولا يلزم من إثبات الصفات تعدد.
هذا هو الرد عليهم باختصار.(1/7)
الحلول والاتحاد أقبح من كفر النصارى
قال رحمه الله: [وهذا القول قد أفضى بقوم إلى القول بالحلول والاتحاد، وهو أقبح من كفر النصارى؛ فإن النصارى خصوه بالمسيح، وهؤلاء عموا جميع المخلوقات] هذا الكلام تقشعر منه الجلود، وهذه التفريعات فروع لمذهب أهل الوحدة، وهم طائفة يقال لهم: أهل وحدة الوجود.
أو يسمون (أهل الحلول والاتحاد) ، وهم الذين يقولون: إن ذات المخلوق حالة بذات الخالق، وإنه لا فرق عندهم بين خالق ومخلوق، بل الكل شيء واحد، لا فرق بين الخالق والمخلوق -تعالى الله عن قولهم-، وهذه الطائفة كانت منتشرة في القرون الوسطى، وأكثر من أشاع هذا القول في القرن الثالث رجل يقال له: الحسين الحلاج، وهو صوفي أظهر التصوف وأبطن هذا القول، ولكنه كان يظهره أحياناً، وحفظت عنه كلمات شنيعة تدل على هذه المعتقدات، وحفظت أيضاً عن بعض أهل زمانه، فهذا القول مع شناعته يؤدي إلى هذه الأقوال الشنيعة، وقد بين الشارح ذلك على وجه الاختصار، فذكر من فروع قولهم أن فرعون صادق حينما قال: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24] ؛ لأنه من جملة الرب، لكن أخطأ فرعون حيث خص نفسه، ولو قال: أنا وأنت وهذا وهذا كلنا الرب لكان مصيباً، فهو صادق في أنه من جملة الرب! وكذلك المشركون لما عبدوا هذا الصنم وهذا الوثن وهذا القبر فهم على صواب؛ لأنهم ما عبدوا إلا الله، ولكنهم أخطئوا لما خصصوا، ولو قالوا: إن الله في كل شيء وكل شيء من جملة الله لكانوا مصيبين، ولكنهم لما خصصوا أخطئوا.
وعلى قولهم لا يكون هناك حلال وحرام؛ لأن الجميع شيء واحد، فلا فرق عندهم بين نكاح الأم والأخت والأجنبية، كل ذلك من عين واحدة، بل هو العين الواحدة، تعالى الله عن قولهم.
وقد حفظت عن أكابرهم كلمات شنيعة يقشعر الجلد منها، فحفظ عن الحسين الحلاج أنه كان يقول: ما في الجبة إلا الله.
يعني نفسه، وعن بعضهم أنه قال: سبحاني سبحاني ما أعظم شأني وحفظ عنه أنهم كانوا يمشون خلفه فالتفت، فلما رآهم يمشون خلفه قال لهم: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي} [طه:14] تعالى الله عن قولهم! وكان بعض العلماء المتأخرين يذب عن الحلاج، ويدعي أنه من أهل العقيدة الصحيحة، وأنه موحد، ولما نقل له قوله في أبيات: سبحان من أظهر ناسوته سر سنا لاهوته الثاقب حتى بدا في خلقه ظاهراً في صورة الآكل والشارب قال: لعن الله من قال هذا.
فقيل: إنه الحلاج.
فظهر له بذلك كفره، وهذا القول المذكور من الكفر الصريح؛ فإن الناسوت الناس، واللاهوت هو الإله، يعني: أظهر ناسوته -أي: أظهر الناس- في صورة نفسه.
ويقول بعضهم -وقيل: إنه الحلاج -: الرب عبد والعبد رب يا ليت شعري من المكلف إن قلت عبد فذاك رب أو قلت رب أنّى يكلف تعالى الله عن قولهم، والذي أدى بهم إلى هذه الأقوال الشنيعة هو أنهم لما نفوا الصفات وجعلوا وجود الله وجوداً مطلقاً أدى بهم إلى أن يقولوا: إن ذات المخلوق حالة في ذات الخالق، وإنه عين وجود المخلوقات.
تعالى الله عن ذلك! فعلى المسلم أن يعرف نفسه، وأن يعرف أنه مخلوق، وأن الرب سبحانه وتعالى فوق عرشه بائن من خلقه، ليس في ذاته شيء من مخلوقاته، ولا في مخلوقاته شيء من ذاته، ويستحضر أنه سبحانه هو العليم بكل شيء، لا تخفى عليه من عباده خافية، وإذا استحضر عظمته وعلمه بكل شيء وعلمه بما توسوس به النفوس وما تكنه الصدور أوجب ذلك أن يعظمه حق التعظيم، وأن يخافه حق الخوف، ومعرفة صفات الله تعالى توجب للعارف بها أن يخاف من الله حق الخوف، وأن يعبده حق العبادة.(1/8)
توحيد الربوبية
قال رحمه الله: [وأما الثاني فهو توحيد الربوبية، كالإقرار بأنه خالق كل شيء، وأنه ليس للعالم صانعان متكافئان في الصفات والأفعال، وهذا التوحيد حق لا ريب فيه، وهو الغاية عند كثير من أهل النظر والكلام وطائفة من الصوفية، وهذا التوحيد لم يذهب إلى نقيضه طائفة معروفة من بني آدم، بل القلوب مفطورة على الإقرار به أعظم من كونها مفطورة على الإقرار بغيره من الموجودات، كما قالت الرسل فيما حكى الله عنهم: {قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [إبراهيم:10]] .
وتوحيد الربوبية يقرأه الأطفال في المدارس، وهو معرفة الله تعالى بأفعاله، فإذا قيل لك: بم عرفت ربك؟ فقل: بآياته ومخلوقاته.
هذا هو توحيد الربوبية، ويكون بالنظر في هذه المخلوقات وفي أفعال الله تعالى، وذكروا أنه لما نزل قول الله تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} [البقرة:163] سأل بعضهم فقال: ما هو الدليل على أن إلهنا إله واحد لا إله إلا هو؟ فنزلت الآية بعدها: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنْ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [البقرة:164] يعني: تفكروا في هذه الأشياء لتكون آية لكم على أي شيء.
فهي آية على أن الرب هو الإله الواحد، وكم في القرآن من آيات بمثل هذا، كقوله تعالى: {وَآيَةٌ لَهُمْ الأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبّاً} [يس:33] ، {وَآيَةٌ لَهُمْ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ} [يس:37] ، {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ} [الروم:20] ، {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً} [الروم:21] ، {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ} [الروم:22] ، وفي السور المكية الكثير من ذلك، كقوله في سورة المرسلات: {أَلَمْ نَجْعَلْ الأَرْضَ كِفَاتاً} [المرسلات:25] إلى آخره، ثم في السورة التي تليها: {أَلَمْ نَجْعَلْ الأَرْضَ مِهَاداً} [النبأ:6] إلى آخره، ثم في السورة التي تليها: {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ السَّمَاءُ بَنَاهَا} [النازعات:27] إلى آخره، ثم في السورة التي تليها: {فَلْيَنْظُرْ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ * أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبّاً} [عبس:24-25] إلى آخره، فإن هذه آيات تدل على توحيد الربوبية الذي يقصد منه تثبيت توحيد الإلهية.(1/9)
اعتراف جميع الأمم بتوحيد الربوبية
توحيد الربوبية يعترف به المشركون، ولكن هل يكفي؟ لا يكفي، لا بد من تحقيق ثمرته، وهذا التوحيد حجة عليهم في التوحيد الذي هو حق الله، يقال لهم: اعملوا لله ما دمتم أقررتم به.
يقول تعالى: {قُلْ لِمَنْ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [المؤمنون:84-85] يعني: أفلا تعبدونه؟! {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} [المؤمنون:86-87] يعني: أفلا تتقون الشرك وتعبدون الله وحده؟! {قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّا تُسْحَرُونَ} [المؤمنون:88-89] كيف تصرفون عن عبادته؟ فأصبح توحيد الربوبية حجة عليهم.
قال رحمه الله: [وأشهر من عرف تجاهله وتظاهره بإنكار الصانع فرعون، وقد كان مستيقناً به في الباطن، كما قال له موسى: {قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاء إِلاَّ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ} [الإسراء:102] ، وقال تعالى عنه وعن قومه: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً} [النمل:14] ، ولهذا لما قال: {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:23] على وجه الإنكار له تجاهل العارف قال له موسى: {قَالَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إنْ كُنتُمْ مُوقِنِينَ * قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ * قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمْ الأَوَّلِينَ * قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمْ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ * قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} [الشعراء:24-28] .
وقد زعم طائفة أن فرعون سأل موسى مستفهماً عن الماهية، وأن المسئول عنه لما لم تكن له ماهية عجز موسى عن الجواب.
وهذا غلط، وإنما هذا استفهام إنكار وجحد كما دلت سائر آيات القرآن على أن فرعون كان جاحداً لله نافياً له لم يكن مثبتاً له طالباً للعلم بماهيته، فلهذا بين لهم موسى أنه معروف، وأن آياته ودلائل ربوبيته أظهر وأشهر من أن يسأل عنه بـ (ما هو) ، بل هو سبحانه أعرف وأظهر وأبين من أن يجهل، بل معرفته مستقرة في الفطر أعظم من معرفة كل معروف] .
نلاحظ من هذا الكلام أن جميع الأمم معترفون بتوحيد الربوبية، أي: أن الله هو الخالق الرازق المدبر الذي أوجد الكائنات، لكن قد اشتهر عن فرعون أنه ادعى الربوبية، حيث قال: {أَنَا رَبُّكُمْ الأَعْلَى} [النازعات:24] ، والصحيح أنه كان معترفاً في الباطن بأن المخلوقات لها خالق؛ لأنه يعرف أنه كان معدوماً فوجد، ففرعون لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً ثم خُلق، فيقال له: من ربهم قبل أن توجد أنت؟ ومن ربهم بعد أن تموت؟ فلا بد من أن فرعون معترف بوجود رب خالق، والدليل على ذلك هذه الآية، وهي قول موسى: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاء إِلاَّ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الإسراء:102] ، فالله أيد موسى بتسع آيات، هي العصا، واليد، والطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، وفلق البحر، وتضليل الغمام، وما أشبهها، فلما أيده بها قال: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاء} يعني: الآيات {إِلاَّ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الإسراء:102] ، فأفاد بأن فرعون عالم بذلك، وقال الله عن آل فرعون: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ} [النمل:14] ، فدل هذا على كونهم مستيقنين.
وكذلك حكى الله عن ثمود قوله في قصتهم: {وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ} [العنكبوت:38] يعني: على بصيرة مما جاءتهم به الرسل، ولكن جحدهم كان عناداً.
ففرعون أظهر الإنكار، ولكنه كان في الباطن على يقين بما يقول موسى، ولكنه خاف أن يذهب عنه ملكه، ولهذا قال: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ * أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ} [الزخرف:51-52] يعني: موسى {وَلا يَكَادُ يُبِينُ} [الزخرف:52] ، فهو أراد أن يخدع قومه بما هو فيه {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ} [الزخرف:54] ، وأما جوابه لما قال موسى: {إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف:104] {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:23] فهذا على وجه العناد، وبعض المتكلمين يقول: إن فرعون سأل عن الماهية فقال: {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:23] يعني: من أي شيء رب العالمين؟ وما ماهيته؟ والصحيح أن سؤاله إنما هو تعنت، لا أنه كان يسأل عن الماهية، فموسى عليه السلام ذكر له الأدلة على إثبات الرب وقدرته وسيطرته، والآيات تدل على ذلك، قال تعالى: {رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} [مريم:65] ، {رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمْ الأَوَّلِينَ} [الشعراء:26] ، {قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا} [الشعراء:28] ، فاستدل عليه بهذه الأدلة الكونية التي لا يجحدها، كما استدل إبراهيم على النمرود بقوله: {رَبِّي الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ} [البقرة:258] ، ثم قال: {فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنْ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنْ الْمَغْرِبِ} [البقرة:258] ، فهذه أدلة تدل على أن الرب هو الموجد لهذه الكائنات، وهي أدلة يعترف بها أولو البصائر.
وقد ذكر الله عن المشركين أنهم يعبدون الله ويعبدون غيره في الرخاء، وأما في الشدة فإنهم لا يعبدون إلا الله، وذلك في قوله تعالى: {وَإِذَا مَسَّكُمْ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ} [الإسراء:67] ، فدل على أنهم في الرخاء يعبدون الله ويعبدون غيره، ولهذا قال تعالى في سورة الأنعام: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنْ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيباً فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا} [الأنعام:136] ، فدل على أنهم يعبدون الله ويعبدون معه غيره، ولكن شركهم هذا أحبط أعمالهم فأصبحت باطلة، فلا يعتبر بما تقربوا به؛ لأن المطلوب منهم أن يكون الدين لله، وأن لا يصرف منه شيء لغير الله.(1/10)
تقرير توحيد الربوبية
قال رحمه الله تعالى: [ولم يعرف عن أحد من الطوائف أنه قال: إن العالم له صانعان متماثلان في الصفات والأفعال، فإن الثنوية من المجوس والمنوية القائلين بالأصلين النور والظلمة وأن العالم صدر عنهما متفقون على أن النور خير من الظلمة، وهو الإله المحمود، وأن الظلمة شريرة مذمومة، وهم متنازعون في الظلمة هل هي قديمة أو محدثة، فلم يثبتوا ربين متماثلين] .
هذا تقرير لتوحيد الربوبية، يعني أن توحيد الربوبية هو الاعتراف بأن الله رب كل شيء، وهو الذي أقر به المشركون، كما ذكر الله ذلك عنهم: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف:87] ، وقال: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنْ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ} [يونس:31] ، فإذا كانوا مشركين ومع ذلك يعترفون بهذا النوع -وهو أن الله هو الذي خلق ورزق، وهو الذي يدبر الأمر ويملك السمع والأبصار- فإن هذا لم ينفعهم ولم يدخلهم في الإسلام.
يقول: ما عرفت أمة من الأمم يشركون في توحيد الربوبية إلا المجوس، ومع ذلك فليس شركهم شركاً ظاهراً، فهم يدعون أن العالم مخلوق من خالقين، يقولون: النور خلق الخير، والظلمة خلقت الشر.
فالعالم عندهم صادر عن النور والظلمة، ولأجل ذلك هم يعبدون النار، فمعبودهم المقدس النار، يشعلونها ويطوفون بها ويصلون أمامها ويستقبلونها، ولأجل ذلك نهي المسلمون أن يستقبلوا النار في الصلاة حذراً من التشبه بالمجوس، ومع ذلك ما قالوا: إن النور والظلمة سواء.
بل يقولون: إن الخيّر هو النور، وإن الظلمة شريرة لا يصدر منها خير.
فهم لا يجعلونهما سواء، وهم مختلفون: هل النور والظلمة كلاهما قديم، أم القديم هو النور والظلمة حادثة؟ وهذا الكلام قد ذكره شيخ الإسلام في الرسالة التدمرية، أشار إلى هذا وبيّن أنهم مختلفون: هل النور والظلمة كلاهما قديم، أم القدم خاص بالنور والظلمة حادثة؟ وعلى القول -عندهم- بأنهما قديمان فإنهم لا يجعلونهما سواء، وهذا دليل على أنه ليس في الوجود أحد يشرك في توحيد الربوبية شركاً ظاهراً.(1/11)
الرد على النصارى
قال رحمه الله: [وأما النصارى القائلون بالتثليث فإنهم لم يثبتوا للعالم ثلاثة أرباب ينفصل بعضهم عن بعض، بل متفقون على أن صانع العالم واحد، ويقولون: باسم الابن والأب وروح القدس إله واحد.
وقولهم في التثليث متناقض في نفسه، وقولهم في الحلول أفسد منه، ولهذا كانوا مضطربين في فهمه وفي التعبير عنه لا يكاد واحد منهم يعبر عنه بمعنى معقول، ولا يكاد اثنان يتفقان على معنى واحد، فإنهم يقولون: هو واحد بالذات ثلاثة بالأقنوم.
والأقانيم يفسرونها تارة بالخواص، وتارة بالصفات، وتارة بالأشخاص، وقد فطر الله العباد على فساد هذه الأقوال بعد التصور التام، وبالجملة فهم لا يقولون بإثبات خالقين متماثلين] هذا فيه رد على النصارى، قال تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [المائدة:73] ، فالنصارى يجعلون الله ثالث ثلاثة، فيجعلون عيسى ابن الله، كما قال الله عنهم: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ} [المائدة:17] ، {وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ} [التوبة:30] يعني: منهم من يقول: إن الله هو المسيح -تعالى الله عن قولهم-.
ومنهم من يقول: إنه ابن الله، وهذا أشهر وأكثر عندهم، ومنهم من يقول: إن الله ثالث ثلاثة.
وهو قولهم: بالأب والابن وروح القدس، والله يخاطب عيسى يوم القيامة فيقول: {يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [المائدة:116] ، وهذا دليل على أن المثلثة يقولون: إن الله إله، والمسيح إله، وأمه إله تعالى الله عن قولهم! فأنكر ذلك عيسى وقال: {سُبْحَانَكَ} [المائدة:116] ، وقال: {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنْ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} [المائدة:117] ، ومشهور في كتب النصارى أنهم يقولون بالأقانيم الثلاثة، وهم مختلفون في معنى الأقانيم، وكذلك هم مختلفون هل هي قديمة كلها أو بعضها حادث؟ ومشهور عند النصارى استعمال كلمة الأقنوم، ومنهم من يفسرها بالأرواح، ومنهم من يفسرها بالآلهة أو بالأشياء القديمة، والحاصل أنهم مضطربون فيها كما سمعنا، وقد ردّ عليهم الأئمة، ومن أراد تفصيل الرد عليهم فليقرأ كتاب شيخ الإسلام (الجواب الصحيح) الذي ضمنه الرد عليهم وفصّل في أجوبتهم، واستوفى ذلك رحمه الله، وكذلك غيره من العلماء حيث تتبعوا أدلتهم واستوفوا ما يدور حول ذلك من الشبه، وبينوا تناقضهم، ومع ذلك ما أُثر عنهم أنهم يقولون: إن العالم صادر من ثلاثة، بل هم يعترفون في نفس الأمر بأن العالم مخلوق من واحد قادر.(1/12)
توحيد الربوبية يوافق الفطرة
قال رحمه الله: [والمقصود هنا أنه ليس في الطوائف من يثبت للعالم صانعين متماثلين، مع أن كثيراً من أهل الكلام والنظر والفلسفة تعبوا في إثبات هذا المطلوب وتقريره، ومنهم من اعترف بالعجز عن تقرير هذا بالعقل، وزعم أنه يتلقى من السمع] .
هذا بيان لما عليه الفلاسفة ونحوهم، فالاعتراف بالخالق سبحانه وتعالى اعتراف فطري، ولكن الفلاسفة يريدون أن يعبروا عما فطروا عليه تعبيراً مقنعاً، فلأجل ذلك اختلفت التعبيرات عندهم، وسيأتينا بعض تعبيراتهم التي يستدلون بها على أن العالم لم يصدر إلا من خالق واحد، وأكثرهم لما لم يقدر على التعبير زعموا أن هذا متلقىً من السمع -أي: من الشرع-، وأن الاعتراف بالخالق مأخوذ من الشرع، ولا شك أنه أمر فطري، ولو ترك كل واحد والفطرة التي فطر عليها لعرف أن له رباً وأنه مخلوق.
ولأجل ذلك يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (كل مولود يولد على الفطرة) ، وقال تعالى: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [الروم:30] ، ولكن مع ذلك هناك أدلة عقلية صريحة تبين للإنسان أنه مخلوق، وقد احتج عليهم سبحانه وتعالى بالعقل في قوله تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمْ الْخَالِقُونَ} [الطور:35] فإذا عرفوا أنهم لم يخلقوا من غير شيء فلا بد لهم من خالق خلقهم.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(1/13)
شرح العقيدة الطحاوية [2]
أول واجب على الإنسان الإقرار به وعلمه هو شهادة التوحيد، ويجب على المسلم أن يعرف معناها ومؤداها ولوازمها؛ إذ لا تصح منه إلا أن يأتي بها سليمة مما يشوبها من صور الشرك، ولا فلاح له بدونها، وعليها يترتب سائر العمل.(2/1)
الدليل العقلي على وجود الخالق سبحانه
قال الشارح رحمه الله: [والمشهور عند أهل النظر إثباته بدليل التمانع، وهو أنه لو كان للعالم صانعان فعند اختلافهما -مثل أن يريد أحدهما تحريك جسم وآخر تسكينه، أو يريد أحدهما إحياءه والآخر إماتته- فإما أن يحصل مرادهما، أو مراد أحدهما، أو لا يحصل مراد واحد منهما، والأول ممتنع؛ لأنه يستلزم الجمع بين الضدين، والثالث ممتنع؛ لأنه يلزم خلو الجسم عن الحركة والسكون وهو ممتنع، ويستلزم أيضاً عجز كل منهما، والعاجز لا يكون إلهاً، وإذا حصل مراد أحدهما دون الآخر كان هذا هو الإله القادر والآخر عاجزاً لا يصلح للإلهية، وتمام الكلام على هذا الأصل معروف في موضعه] .
أتى الشارح بهذا ليبين أن هذا هو الدليل عند أهل الكلام على أن الخالق واحد، ويسمى دليلاً عقلياً، وتسمى دلالة التمانع، فيقولون: لو كان للعالم صانعان متكافئان كلاهما خالق مستقل مكافئ للآخر فأراد أحدهما تسكين شيء وأراد الآخر تحريكه، أو أراد أحدهما إحياء شخص وأراد الآخر إماتته لاختلفا، فإذا كان العالم له خالقان فقد يختلفان، يقول هذا: سنحيي هذا.
ويقول الآخر: سنميته.
تعالى الله! فإذا أراد هذا إحياءه وأراد هذا إماتته واختلفا، فماذا يحصل؟ هل يمكن أن يكون هذا الشخص حياً ميتاً؟! لا يمكن.
هل يمكن أن يكون متحركاً ساكناً في آن واحد؟! لا يمكن، فما يمكن أن يحصل مرادهما معاً؛ لأنه جمع بين الضدين، إذاً لا بد أن يحصل مراد واحد منهما، أو لا يحصل مراد أحد منهما، وكونه لا يحصل مراد كل منهما ممتنع أيضاً، فالجسم لا بد أن يكون إما متحركاً وإما ساكناً، إما حياً وإما ميتاً، فلا يمكن أن يكون خالياً من الحركة وخالياً من السكون، ولا يمكن أن يكون غير حي ولا ميت، إذاً لا بد أن يحصل مراد واحد منهما دون الآخر، فالذي يحصل مراده هو الإله، والذي لا يحصل مراده هو عاجز لا يصلح أن يكون إلهاً، وهذا يسمى عندهم دليل التمانع، وقد دل على ذلك القرآن في قول الله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء:22] يعني: لو كان مع الله آلهة مساوية له لفسدت المخلوقات، وذلك لما يلزم من اختلاف الأهواء واختلاف الإرادات، فهذا ونحوه مما يدل عقلاً على أن العالم خالقه واحد وهو الله تعالى، وهو المتصرف في هذا الكون كما يشاء.(2/2)
توحيد الألوهية هو الذي دعت إليه الرسل
قال رحمه الله: [وكثير من أهل النظر يزعمون أن دليل التمانع هو معنى قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء:22] لاعتقادهم أن توحيد الربوبية الذي قرروه هو توحيد الإلهية الذي بينه القرآن ودعت إليه الرسل عليهم السلام، وليس الأمر كذلك، بل التوحيد الذي دعت إليه الرسل ونزلت به الكتب هو توحيد الإلهية المتضمن توحيد الربوبية، وهو عبادة الله وحده لا شريك له؛ فإن المشركين من العرب كانوا يقرون بتوحيد الربوبية، وأن خالق السماوات والأرض واحد كما أخبر تعالى عنهم بقوله: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان:25] ، {قُلْ لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [المؤمنون:84-85]] .
كثير من المتكلمين يدعّون أن التوحيد الذي دلت عليه هذه الآية والذي دل عليه دلالة التمانع هو الذي دعت إليه الرسل، وهذا خطأ، بل الرسل إنما دعوا إلى توحيد العبادة، وذلك لأن توحيد الربوبية فطري لم ينكره المشركون الأولون، بل جميع الأمم معترفون بتوحيد الربوبية، كما ذكرنا في الآيات السابقة، ومنها قول الله تعالى: {قُلْ لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} [المؤمنون:84-85] ، وقوله: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [العنكبوت:61] ، {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [العنكبوت:63] ، فإذا كانوا معترفين بهذا النوع الذي هو توحيد الربوبية وأن الرب هو الخالق وحده فهذا يدل على أن الرسل إنما دعت إلى التوحيد القصدي الإرادي الذي هو توحيد الإلهية أو توحيد العبودية.(2/3)
المشركون يقرون بتوحيد الربوبية وينكرون توحيد الألوهية
قال رحمه الله: [ومثل هذا كثير في القرآن، ولم يكونوا يعتقدون في الأصنام أنها مشاركة لله في خلق العالم، بل كان حالهم فيها كحال أمثالهم من مشركي الأمم من الهند والترك والبربر وغيرهم، تارة يعتقدون أن هذه تماثيل قوم صالحين من الأنبياء والصالحين ويتخذونهم شفعاء ويتوسلون بهم إلى الله، وهذا كان أصل شرك العرب، قال تعالى حكاية عن قوم نوح: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} [نوح:23] ، وقد ثبت في صحيح البخاري وكتب التفسير وقصص الأنبياء وغيرها عن ابن عباس رضي الله عنهما وغيره من السلف أن هذه أسماء قوم صالحين في قوم نوح، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم ثم صوروا تماثيلهم، ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم، وأن هذه الأصنام بعينها صارت إلى قبائل العرب ذكرها ابن عباس رضي الله عنهما قبيلة قبيلة] .
معروف أن الرسل دعوا إلى توحيد العبادة الذي هو توحيد الطلب والقصد، وهو التوحيد الإرادي العملي الذي طلبه الله من عباده وأمرهم به، وضده الشرك الذي هو دعوة غير الله تعالى معه، والأمم السابقة متفقون -كما سمعنا- على أن الخالق لهذا العالم واحد هو الله، ومع ذلك يدعون آلهة غيره ويسمونها آلهة، كما حكى الله عن قوم إبراهيم أنهم قالوا: {نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ} [الشعراء:71] ، وأنهم قالوا لما كسرها: {مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:59] ، وقولهم: {أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ} [الأنبياء:62] ، وقولهم: {حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ} [الأنبياء:68] فسموها آلهة، ومعلوم أنهم يألهونها، أي: يحبونها ويعظمونها ويصرفون لها أنواع التأله، وهكذا فعل المشركون في العهد النبوي، فإن قصدهم إنما هو التقرب إليها.
وأما غرضهم منها فقد ذكره الله تعالى في قوله عنهم: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3] هذه مقالة المشركين، وكذلك حكى الله عنهم أنهم قالوا: {هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس:18] ، ورد عليهم كما حكى عن الرجل المؤمن بقوله: {أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلا يُنقِذُونِ} [يس:23] ، فأخبر بأنهم إنما يريدون شفاعتهم، وأنهم لا يشفعون ولا تغني شفاعتهم شيئاً، وهذا هو قصد المشركين الأولين والمعاصرين سواء، وهو أنهم يريدون شفاعتهم، ويريدون التوسل بهم، ويزعمون أنهم لهم وجاهة ولهم صلاح، فلكونهم ذوي صلاح يشفعون لهم شفاعة تفيدهم إما في العاجل وإما في الآجل.
وأول ما حدث هذا الشرك في قوم نوح، كما حكى الله عنهم بقوله: {لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا} [نوح:23] الخ، فروى البخاري عن ابن عباس قال: هذه أسماء قوم صالحين في قوم نوح.
كانوا رجالاً من أهل العلم ومن أهل العبادة ومن أهل الفضل، فلما ماتوا أسف تلامذتهم عليهم، فجاءهم الشيطان وقال: صوروهم وانسبوا صورهم حتى تتذكروا عبادتهم أو تتذكروا علومهم فتعملوا بها، فصوروا تماثيل وسموها بأسمائهم، هذا ود، وهذا سواع، وهذا يغوث، وهذا يعوق، وهذا نسر، ولما ذهب أولئك الذين صوروهم ونشأ أولاد لهم جهال وصاروا يرون هذه الصور جاءهم الشيطان وقال: آباؤكم ما صوروهم إلا ليعظموهم؛ فإنهم من أهل الصلاح.
فعند ذلك عظموهم، وزادوا من تعظيمهم شيئاً فشيئاً إلى أن صاروا يصرفون لهم حق الله، ثم جاء الطوفان وأغرق من على الأرض، ولكن بقيت صور أولئك مدفونة حتى العصر الجاهلي، وأول من أثارها عمرو بن لحي بن خندف الخزاعي، وهو الذي يقول عنه صلى الله عليه وسلم: (رأيت عمرو بن لحي يجر قصبه في النار؛ لأنه أول من سيب السوائب وغير دين إبراهيم) ، فذكروا أن الشيطان تمثل له في صورة كاهن، وكلام الكهنة يكون مسجوعاً، فقال له: ائت جدة، تجد بها أصناماً معدة، ثم ادع العرب إلى عبادتها تجب.
ففعل فأخبره بأسمائها، فتفرقت هذه الأصنام الخمسة في العرب، وصارت معبودة إلى العهد النبوي، وهي صور قديمة من عهد نوح احتفظ بها وبأمثالها وصارت تعبد إلى العهد النبوي، فهذا أول شرك وآخره، وهو الشرك بعبادة الصالحين، وبتسميتهم أولياء أو سادة أو أفاضل أو أشرافاً، وهذه التسمية أوجبت للناس أن يغلوا فيهم حتى صرفوا لهم خالص العبادة.(2/4)
أصل الشرك تعظيم القبور
قال رحمه الله: [وقد ثبت في صحيح مسلم عن أبي الهياج الأسدي قال: (قال لي علي بن أبي طالب رضي الله عنه: ألا أبعثك على ما بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أمرني ألا أدع قبراً مشرفاً إلا سويته، ولا تمثالاً إلا طمسته) ، وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في مرض موته: (لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) يحذر مما فعلوا قالت عائشة رضي الله عنها: ولولا ذلك لأبرز قبره، ولكن كره أن يتخذ مسجداً.
وفي الصحيحين أنه ذكر لرسول الله عليه الصلاة والسلام في مرض موته كنيسة بأرض الحبشة، وذكر من حسنها وتصاوير فيها فقال: (إن أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجداً وصوروا فيه تلك التصاوير، أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة) ، وفي صحيح مسلم عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال قبل أن يموت بخمس: (إن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك) ] .
هذه أحاديث تدل على أن أصل الشرك هو تعظيم القبور، سيما قبور الأولياء والسادة والصالحين، وبالطريق الأولى قبور الأنبياء والرسل، فالنبي عليه الصلاة والسلام عرف هذا، وعرف أنه أكبر سبب في حدوث الشرك في العالم، وأن قوم نوح لما مات أولئك الصالحون فعلوا ما يلي: أولاً: عكفوا على قبورهم.
ثانياً: صوروا تماثيلهم.
ثالثاً: طال عليهم الأمد فعبدوهم.
وكذلك وقع هذا في النصارى، وكذلك في اليهود، وكذلك في الأمم الأخرى، فسبب الشرك فيهم هو عبادة الأولياء والصالحين والأنبياء ونحوهم.
وفي هذه الأحاديث يقول صلى الله عليه وسلم: (إن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك) ، وكذلك يقول عليه الصلاة والسلام: (لعن الله اليهود والنصارى؛ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) تقول عائشة: يحذر مما صنعوا.
أي: يحذر فعلهم.
تقول: ولولا ذلك لأبرز قبره، أي: لجعل بارزاً، ولكن خشي أن يتخذ مسجداً.
وكذلك في مرض موته ذكرت له أم سلمة وأم حبيبة كنيسة رأتاها في أرض الحبشة يقال لها: (مارية) ، وفيها صور، فقال عليه الصلاة والسلام: (أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجداً وصوروا فيه تلك التصاوير، أولئك شرار الخلق عند الله) يخاطب أم سلمة أو أم حبيبة، فإنهم جمعوا بين الفتنتين: فتنة التماثيل، وفتنة القبور، فإذا مات فيهم الرجل الصالح صوروا صورته وهو (التمثال) ، ثم بعد ذلك بنوا على قبره، وقد يكون البناء على قبره يتقدم الصورة، فهم يبنون على قبره ويصورون صورته، فجمعوا بين فتنتين: فتنة الصور وفتنة القبور، وكلاهما من الأسباب الداعية إلى الشرك، وهذا هو الذي حصل في هذه الأمة، والنبي عليه الصلاة والسلام في آخر حياته قبل أن يموت بخمس حذر من ذلك على المنبر فقال: (ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك) ثم لما كان في سياق الموت اهتم بهذا الأمر، وكانت عليه قطيفة كلما تسجى بها واغتم كشفها، فأخذ يقول وهو في تلك الحال: (لعن الله اليهود والنصارى؛ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) كأنه يشير إلى أنكم لا تتخذوا قبري مسجداً كما فعل أولئك.
وقد بين العلماء أن معنى اتخاذها مساجد هو تحري تلك الأماكن للصلاة عندها، فمجرد قصدها لأجل الصلاة عندها اتخاذ لها ولو لم يكن هناك بناء، ولو لم يبنوا عليها بنياناً مثل هذا المسجد، بل ما دام أنه يقصد هذه البقعة التي يزعم أن فيها قبر ولي أو قبر نبي أو قبر سيد أو قبر رجل صالح، ويفضل الصلاة عندها ويجلس عندها، ويطيل الجلوس، ويتبرك بتربتها فقد اتخذها مسجداً شاء أم أبى ما دام أنه يتحراها للصلاة ويفضل الصلاة عندها على الصلاة في بيوت الله تعالى، فهو ممن اتخذها مسجدا، سواء أقيم عليها بناء أو لم يقم عليها.
ولما كانت القبور مظنة الفتنة حرص عليه الصلاة والسلام على أن لا يكون هناك ما يدعو إلى ذلك، فثبت أنه نهى أن ترفع القبور، وأن يبنى عليها، وأن تجصص، وأن يكتب عليها، وأن تسرج -يعني: تنور-؛ لأن هذه الأشياء تدفع الجهال إلى الاعتقاد فيها، فإذا رأوا هذا القبر على هذه الحال قالوا: هذا قبر ولي.
هذا قبر سيد.
هذا ممن يتبرك به.
هذا ممن يرجى تأثيره ونفعه.
فيقصدونه ويغلون فيه فيحصل الشرك، فنبينا عليه الصلاة والسلام حسم مادة الشرك، ومنع من الوسائل التي توقع فيه، وقد بعث علياً رضي الله عنه بقوله: (لا تدع صورة إلا طمستها، ولا قبراً مشرفاً إلا سويته) يعني: سويته بالقبور الأخرى.
وأمره بطمس الصور؛ لأن الصور أصل في عبادة غير الله، وأمره بتسوية القبور، أي: بتخفيض القبر المشرف الذي قد رفع على ما سواه من القبور حتى يسوى بغيره من القبور مخافة أن يعتقد فيه، فهذا دليل على أنه عليه الصلاة والسلام قد حرص كل الحرص على أن تكون أمته متمسكة بتوحيد الله تعالى.(2/5)
من الشرك عبادة الكواكب
قال رحمه الله: [ومن أسباب الشرك عبادة الكواكب، واتخاذ الأصنام بحسب ما يظن أنه مناسب للكواكب من طباعها، وشرك قوم إبراهيم عليه السلام كان -فيما يقال- من هذا الباب، وكذلك الشرك بالملائكة والجن واتخاذ الأصنام لهم] .
عبادة الكواكب أو الأفلاك كالشمس والقمر من جملة ما وقع فيه بعض الأمم، ولأجل ذلك نهى الله تعالى عن ذلك، وأخبر بضلال من يفعله، وحكى الله تعالى عن ملكة سبأ وقومها بقوله عن الهدهد: {وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ} [النمل:24] ، {أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ} [النمل:25] يعني: صدهم الشيطان عن سجودهم لله الذي خلقهم {الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [النمل:25] ، فهذا دليل على أن هناك أمماً عبدوا الشمس، وأخبر النبي عليه الصلاة والسلام بأن المشركين يسجدون لها، ونهى عن الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها فقال: (إن الشمس تطلع بين قرني شيطان وحينئذٍ يسجد لها المشركون) وهناك من شركهم بعبادة الكواكب.
وقيل: إن قوم إبراهيم شركهم بعبادة الكواكب، كانوا يعبدون الكواكب ويبنون لها الهياكل، وقد حكى الله عنهم أنهم يعبدون أصناماً، كقولهم: {نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ} [الشعراء:71] ، وكانت أصنامهم من حجارة أو من خشب، ولأجل ذلك قال لهم إبراهيم: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأَقْدَمُونَ * فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي} [الشعراء:75-77] وقال: {وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ} [الأنبياء:57] {فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ} [الأنبياء:58] وقال: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات:96] يعني: خلقكم وخلق ما عملتم بأيديكم.
فهذا دليل على أنهم كانوا يعبدون أصناماً منحوتة، ولكن مع ذلك كانوا يعبدون الكواكب، وقد قيل: إن من أدلة ذلك قوله تعالى: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي} [الأنعام:76] على وجه المناظرة، وكذلك قال للقمر: هذا ربي.
وقال للشمس (هذا ربي هذا أكبر) قيل: إن من أدلة ذلك أيضاً قوله تعالى: {فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ * فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات:88-89] ، مما يدل على أنهم كانوا ينظرون أيضاً في النجوم.
فعبادة الكواكب لا شك أنها شرك، وذلك لأن هذه الكواكب مخلوقة مسيرة، والله هو الذي يسيرها، وهو الذي سخرها، كما في قوله تعالى: {وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ} [الأعراف:54] .
والحاصل أن من جملة المعبودات عبادة الكواكب وبناء الهياكل لها، وكل ذلك مما نفاه الإسلام وحث المسلمين على أن تكون عبادتهم لله وحده.(2/6)
شبهة المشركين في عبادتهم لغير الله
قال رحمه الله: [وهؤلاء كانوا مقرين بالصانع وأنه ليس للعالم صانعان، ولكن اتخذوا هؤلاء شفعاء كما أخبر عنهم تعالى بقوله: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3] ، {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [يونس:18]] .
قد تقدم أن المشركين الأولين يعترفون بأن الخالق واحد وهو الله تعالى، حكى الله ذلك عن مشركي العرب في عدة آيات، ومنها قوله تعالى: {قُلْ لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ * قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ * قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} [المؤمنون:84-89] أي: هذا لله وحده، {سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} [المؤمنون:89] ، وهذا يبين أنهم يعترفون بهذا، وأنه صار حجة عليهم، فاعترافهم بتوحيد الربوبية حجة عليهم في التوحيد الذي جحدوه وهو توحيد الإلهية {فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} [المؤمنون:89] أي: كيف تصرفون عن عبادته وأنتم تعرفون أنه الذي يجير ولا يجار عليه، وأنه الذي بيده ملكوت كل شيء؟ وهو رب السماوات السبع، وهو رب العرش العظيم، وهو الذي له الأرض وله السماوات وله المخلوقات، ومع ذلك تعبدون غيره! أين عقولكم؟ فسئلوا لماذا تعبدون هذه المعبودات؟ فأخبر الله تعالى عنهم بأنهم يقولون: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3] أي: نريد أن يقربونا إليه.
وكذلك في قوله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس:18] أي: ما نريد إلا شفاعتهم.
هذه مقالتهم، وهي بعينها مقالة عباد القبور وعباد الأولياء ونحوهم الذين يقولون: إنهم أناس ذوو فضل ومنزلة، والله يقبل منهم ولا يقبل منا، فإذا تقربنا إليهم أدخلونا على الله، وقبلت أعمالنا بسببهم.
ويضربون لذلك مثلاً بملوك الدنيا، فيقولون: إن ملوك الدنيا لا يوصل إليهم إلا بالشفعاء، فإذا أردت حاجة عندهم فإنك تتوسل بأحد الوزراء أو أحد الكتاب أو أحد الخدم حتى يدخلك عليهم ويشفع لك عندهم.
وهذا قياس فاسد؛ فإن الملوك بشر لا يعرفون ما في الضمير، ولا يعرفون الصادق من الكاذب، فيحتاجون إلى أن يقبلوا شفاعة من يعرفونه، والرب سبحانه وتعالى ليس بحاجة إلى من يعرفه، فإنه يعلم ما في الضمائر، ويعلم ما توسوس به النفوس، وهو عليم بذات الصدور، فلا حاجة إلى أن يشفع عنده أحد، وإن كان في الآخرة يأذن في الشفاعة لبعض عباده ويقبل شفاعتهم تكريماً لهم، ولكن بإذنه، كما قال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة:255] .(2/7)
شرح العقيدة الطحاوية [3]
من رحمة الله عز وجل بخلقه أن أودع في فطرهم معرفته والإيمان بوجوده، فكل مخلوق يعرف أن له خالقاً بالفطرة، وهذه الحقيقة لم ينكرها إلا شواذ الخلق مع يقينهم بها في الباطن، ولذا أقيمت الحجة على الخلق بها حين دعوا إلى توحيد العبادة.(3/1)
توحيد الألوهية يتضمن توحيد الربوبية
من جملة ما حذر منه نبينا صلى الله عليه وسلم الشرك في العبادة، ومن أسبابه اتخاذ القبور مساجد، وهناك كثير من الأدلة في نهيه عليه الصلاة السلام عن الشرك، وذمه للذين يتخذون قبور أنبيائهم مساجد، وبيان ما آل إليه أمرهم بعد ذلك، وسيمر بنا -أيضاً- ما يحقق التوحيد، وأن توحيد الربوبية ينتج منه توحيد الإلهية.
قال الشارح رحمه الله: [وكذلك كان حال الأمم السالفة المشركين الذين كذبوا الرسل، كما حكى الله تعالى عنهم في قصة صالح عليه السلام عن التسعة الرهط الذين (تقاسموا بالله) أي: تحالفوا بالله (لنبيتنه وأهله) ، فهؤلاء المفسدون المشركون تحالفوا بالله على قتل نبيهم وأهله، وهذا بين أنهم كانوا مؤمنين بالله إيمان المشركين.
فعُلِم أن التوحيد المطلوب هو توحيد الإلهية الذي يتضمن توحيد الربوبية، قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [الروم:30] {مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الروم:31] {مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ * وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ * أَمْ أَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ * وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ} [الروم:32-36] .
وقال تعالى: {أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [إبراهيم:10] ، وقال صلى الله عليه وسلم: (كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه) ولا يقال: إن معناه: يولد ساذجاً لا يعرف توحيداً ولا شركاً.
كما قال بعضهم لما تلونا، ولقوله صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه عز وجل: (خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين) الحديث، وفي الحديث المتقدم ما يدل على ذلك حيث قال: (يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه) ولم يقل: ويسلمانه وفي رواية: (يولد على الملة) ، وفي أخرى: (على هذه الملة) ] .
قصة قوم صالح تدل على أنهم ولو كذبوا صالحاً فإنهم كانوا يعرفون الله ويعترفون بالربوبية، ولهذا تقاسموا بالله وهم كفار مكذبون للنبي، ومع ذلك يتقاسمون بالله، وما تقاسموا بغير الله، فيعرف من هذا أن الكفار المشركين الذين كذبوا الرسل كانوا يعرفون أن الله هو ربهم، وأن الله هو الخالق.
وهكذا الذين كذبوا نبينا صلى الله عليه وسلم كانوا معترفين بأن الله هو ربهم، كما قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف:87] ، ونحو ذلك من الآيات، فماذا جحدوا إذا كانوا يقرون بأن الله هو الخالق الرازق؟ جحدوا توحيد العبادة وهو حق الله، إنما عرفوا الله رباً ولكن ما عبدوه وحده، وما عظموه حق تعظيمه، بل أشركوا به وجعلوا معه آلهة أخرى، فكانوا بذلك مشركين، وكذلك كذبوا رسله الذين دعوهم إلى عبادته.
وقوم نوح كانوا يعرفون ربهم، ولكن احتقروا نوحاً وكذبوه، وهكذا قوم هود وقوم صالح وقوم إبراهيم إلى آخر الأمم، وهم مشركو العرب، فقد كذبوا نبينا عليه الصلاة والسلام أول الأمر وقالوا: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا} [ص:5] .(3/2)
معرفة الخالق سبحانه معرفة فطرية
معرفة الله عز وجل معرفة فطرية فطر الخلق عليها، ودين الإسلام الذي اختاره الله ديناً له وأرسل به الرسل دين فطري، بمعنى أن القلوب مفطورة على استحسانه، وعلى أنه الدين الصحيح، ولو فكر كل عاقل في هذا الدين لعرف أنه أصح الأديان، وأن من دان بغيره فهو خاسر {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران:85] ، وفي الآية الكريمة في سورة الروم: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم:30] يعني: فطرهم على معرفته وعلى استحقاقه لأن يعبد، ولكن أفسدت عليهم الشياطين تلك الفطرة، وأفسدتها عليهم البيئات والمجتمعات، وأفسدها عليهم الآباء والأجداد والأمهات والجدات، وأفسدها عليهم المربون والمعلمون والمنشئون، ولو تركوا وما تميل إليه فطرتهم لمالوا إلى الإسلام، ولعرفوا أنه الدين الحق، وإن كان لا بد من تنبيههم على تفاصيله، وهذا ما دل عليه الحديث: (كل مولود يولد على الفطرة) يعني: على معرفة أنه مخلوق وأن له خالقاً، وأن الخالق هو الذي يستحق أن يعبد.
وفي الحديث القدسي: (إني خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين) (حنفاء) يعني: مستقيمين على الدين.
ولكن سلطت عليهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم وأخرجتهم عن الحنيفية، وحرمت عليهم الحلال وأحلت لهم الحرام، وأوقعتهم في الشرك والضلال.
ومعلوم أن الإنسان بفطرته يفضل الدين الصحيح، وأن أصح الأديان هو هذا الدين، ولكن كثرة المنحرفين وكثرة النصارى وكثرة اليهود وكثرة المشركين وكثرة المبتدعين إنما هي بسبب الدعايات التي تصد عن الإسلام، ومعلوم أن الله سبحانه أوضح الحق، وأرسل به الرسل، وأنزل به الكتب، ولكن هناك أعداء للحق، وهؤلاء الأعداء يحرصون على أن يميلوا بالناس إلى ما هم عليه، فالمشركون يحبون أن يكثر أمثالهم، وكذلك المبتدعون، كل أهل بدعة يحبون أن الناس يكونون معهم على بدعتهم، والأصل الذي يدفعهم إلى ذلك هو الشيطان، فالشيطان لما كان عدو الإنسان زين له البدع، وزين له الشرك، وزين له الكفر، ثم أمره بأن يدعو الناس إلى ما ينتحله.(3/3)
الأدلة العقلية على معرفة الخالق
قال رحمه الله: [وهذا الذي أخبر به صلى الله عليه وسلم هو الذي تشهد الأدلة العقلية بصدقه، منها: أن يقال: لا ريب أن الإنسان قد يحصل له من الاعتقادات والإرادات ما يكون حقاً، وتارة ما يكون باطلاً، وهو حساس متحرك بالإرادات، ولا بد له من أحدهما، ولا بد له من مرجح لأحدهما، ونعلم أنه إذا عرض على كل أحد أن يصدق وينتفع، وأن يكذب ويتضرر مال بفطرته إلى أن يصدق وينتفع، وحينئذ فالاعتراف بوجود الصانع والإيمان به هو الحق أو نقيضه، والثاني فاسد قطعاً، فتعين الأول، فوجب أن يكون في الفطرة ما يقتضي معرفة الصانع والإيمان به، وبعد ذلك إما أن يكون في فطرته محبته -وهو أنفع للعبد أولا-، والثاني فاسد قطعا، فوجب أن يكون في فطرته محبة ما ينفعه] .
هذه أدلة على أن معرفة الخالق سبحانه معرفة فطرية يدركها الإنسان بفطرته، وهذا تقرير من تقارير المتكلمين ولكنه واضح، يقول: إن الإنسان لا بد أن يخطر بقلبه خواطر، وهذه الخواطر وهذه الإرادات قد تكون صحيحة وقد تكون فاسدة، ولا شك أنه متى فسر تلك الخواطر عرف ما يضره وما ينفعه، فمن ذلك أن يفكر في نفسه وفي الوجود الذي حوله، فيعترف حينئذٍ أنه مخلوق، وأن الوجود الذي حوله مخلوق، ويعترف بعد ذلك أن هذا المخلوق لا بد له من خالق متصرف، وأن التصرف للخالق وحده، ثم إذا اعترف بذلك انتفع بهذا الاعتراف، فكل عاقل يقول: إنه إذا خطر في قلبه هذه الخواطر فلا بد أن يفكر في نهايتها، فينظر هل هي حق أو باطل، وإذا كانت حقاً فإنه يؤثرها ولا يترك عليها ما يضادها، فكل عاقل يؤثر ما ينفعه ويترك ما يضره، فلو قيل لك مثلاً: اعترف بالبعث والجزاء في الآخرة ونحن نثيبك ونرفع منزلتك ونعطيك ونمكنك.
أو: أظهر الإنكار ونحن نحبسك ونضربك ونؤدبك ونحرمك فالعقل يقول: لماذا لا أعترف، وأنا أعرف ما في الاعتراف؟ ومما يدعوه إلى الاعتراف: أولاً: أن البعث عليه أدلة.
ثانياً: فيه منفعة.
ثالثاً: التكذيب فيه مضرة.
فكل عاقل يؤثر أن يعترف بالحق حتى يحصل له الانتفاع.
قال رحمه الله: [ومنها: أنه مفطور على جلب المنافع ودفع المضار بحسه، وحينئذ لم تكن فطرة كل واحد مستقلة بتحصيل ذلك، بل يحتاج إلى سبب معين للفطرة كالتعليم ونحوه، فإذا وجد الشرط وانتفى المانع استجابت لما فيها من المقتضي لذلك] .
وهذا أيضاً دليل عقلي، فمعلوم أن الله تعالى فطر العباد على معرفته {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم:30] ، ولكن هذه الفطرة قد لا تكفي لتفاصيل الحقوق، فالإنسان مثلاً لو نشأ في بادية ولم يسمع بالدين ولم يعرف شيئاً عنه فإنه يعرف أنه مخلوق، وأن هذا الكون مدبر مسخر، لكن يخفى عليه أشياء من تفاصيل العبادة، فيقول -مثلاً-: أنا مخلوق ولي خالق، وخالقي له حقوق علي، ولكن ما هي؟ وكيف أؤدي هذه الحقوق؟ وما الذي يحبه حتى أفعله؟ وما الذي يكرهه حتى أتركه؟ وهذا يرجع فيه إلى ما جاءت به الرسل، فالرسل هم الذين بينوا للناس حقوق الله على العباد فأمروهم أن يفعلوها وما حرمه فأمروهم أن يتركوه، فهذا يُتلقى من الرسل، وإلا فالإنسان لو ترك وفطرته دون أن تغير لمال إلى الحق ولآثره، ولكن تفاصيل الحق تؤخذ عن الرسل.(3/4)
حسن التصور ومعرفة فائدة أمر ما دافع إلى الإقدام عليه
قال الشارح رحمه الله: [ومنها: أن يقال: من المعلوم أن كل نفس قابلة للعلم وإرادة الحق، ومجرد التعليم والتحضيض لا يوجب العلم والإرادة لولا أن في النفس قوة تقبل ذلك، وإلا فلو علم الجهال والبهائم وحضِّضا لم يقبلا، ومعلوم أن حصول إقرارها بالصانع ممكن من غير سبب منفصل من خارج، وتكون الذات كافية في ذلك، فإذا كان المقتضي قائماً في النفس وقدر عدم المعارض فالمقتضي السالم عن المعارض يوجب مقتضاه، فعلم أن الفطرة السليمة إذا لم يحصل لها ما يفسدها كانت مقرة بالصانع عابدة له] .
صحيح أن مجرد التحريض لا يدفع الإنسان، فلو كان لك ولد وأنت تحرضه وتقول: يا ولدي! تعلم يا ولدي! اطلب العلم.
يا ولدي! احفظ القرآن.
وهو مع ذلك ليس له رغبة، بل نفسه مائلة عن هذا التعلم، فلو ضربته ولو أدبته ولو نصحته ولو علمته ما قبل إلا إذا أقبلت نفسه هوي ذلك وعرف فيه فائدة ومنفعة، وهذه المعرفة تتكون من التصور، وذلك لأن الإنسان له عقل، وعقله يهديه إلى تصور الأمر، فيتصور الشاب -مثلاً- أن الجهل مقت، فيقول: لماذا أبقى على الجهل وهو نقص ويتصور أن العلم شرف فيدفعه هذا التصور إلى التعلم، أما مجرد الضرب والترغيب والترهيب والتخويف ونحو ذلك إذا لم يكن هناك تصور وإقبال من النفس فإنه لا يفيد كما هو مشاهد.
فالذي يريد الخير لابد أن يعرف فوائده من قبل؛ حتى تدفعه تلك المعرفة إلى طلبه، فالعبد إذا عرف -مثلاً- أنه مخلوق، وعرف أن المخلوق عليه حقوق، وعرف أن أداء تلك الحقوق سبب للسعادة، فإنه سيحرص على أداء تلك الحقوق حتى تحصل له السعادة والحياة الطيبة في الدنيا، والجنة في الآخرة.
ولكن من أين يأخذ معرفة تلك الحقوق التي عليه؟ يأخذها من الشريعة، فيقول: الحقوق التي علي هي عبادة الله، دعاؤه وخوفه ورجاؤه والرغبة إليه وخشيته والخشوع له وترك التعلق بغيره وترك عبادة غيره بأي نوع من العبادة وطاعته وترك معصيته، وما أشبه ذلك.
فالعاقل عليه أن يعلم أولاً الفائدة، أي: إذا أردت أن ترغّب ولدك في أمر فإن عليك أن تعلمه بفائدته حتى يقبل إليه، فأنت -مثلاً- إذا أخذت تعلمه حرفة من الحرف أو صنعة يتكسب بها كبناء وغراسة أو تجارة أو أي صنعة من الصنائع، فلابد أنك سوف تخبره بفوائدها، وستقول له: تعلم هذه الحرفة فإنها صنعة مفيدة، يحتاج إليها الناس، وتكتسب كذا وكذا، فإذا اقتنع اندفع وطلبها، فكذلك إذا قلت: أنت محتاج إلى العلم، والعلم فائدته كذا وكذا، واقتنع فإنه يندفع إلى العلم، وهكذا إذا قلت للإنسان: أنت محتاج إلى ربك، حتى يثيبك ويعطيك، وربك غني عنك، وحق الله عليك أن تعبده، وعبادته كذا وكذا.
فإذا صدق واقتنع فإنه يندفع للعبادة.
فإذاً ننصح كل إنسان أراد إقناع آخر أن يخبره بفائدة ذلك الأمر الذي يدفعه إليه حتى يرغب فيه.(3/5)
ميل النفس إلى الصلاح بفطرتها عند انعدام العوامل الخارجية من مصلحات ومفسدات
قال الشارح رحمه الله: [ومنها: أن يقال: إنه إذا لم يحصل المفسد الخارج ولا المصلح الخارج كانت الفطرة مقتضية للصلاح؛ لأن المقتضي فيها للعلم والإرادة قائم والمانع منتف] .
هذا قد يتصور في إنسان نشأ وحده في برية أو في بلدة أو بين أناس لا يعرف كلامهم ولا يعرفون كلامه، فينشأ وليس هناك أحد يعلمه الخير ولا أحد يعلمه الشر، لكن معه الفطرة، وهي أن الله فطره على الإسلام، فلابد من أن يكون معه دافع يدفعه إلى أن يعرف الكون، ويعرف ماذا يراد بهذا الكون، فإذا قدر أنه ليس هناك مفسد ولا مصلح فإن الفطرة ميالة إلى طلب المصلح، فيندفع إلى طلب الخير.
أما إذا ولد المولود ونشأ في بلدة أهلها يعرفون الخير ولقنوه إياه، وقالوا: عبادة الله هي الأصلح، وأنت مخلوق لها -كما قال تعالى-: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] فإنه يعرف ذلك، ثم يتلقى العبادة.
وكذلك لو ولد بين أناس مشركين، وقالوا له: التعلق بهؤلاء الصالحين ينفع، وهؤلاء مقربون عند الله، ونحن ندعوهم حتى يكونوا شفعاءنا عند الله، ونحو ذلك، فصدقهم وفعل كفعلهم وذلك لأنه ساذج لا يدري إلا بما علموه.
كذلك إذا ولد ونشأ بين نصارى يقولون: المسيح هو الله أو ابن الله صدقهم واندفع إلى ما يقولونه، وهكذا، بخلاف ما إذا ولد ليس عنده من يعلمه لا بدعة ولا سنة، ولا إسلام ولا كفر، فإنه يبقى متحيراً ولكن فطرته تدفعه إلى معرفة الإسلام أو محبته وتفضيله على غيره.(3/6)
استخدام الأدلة العقلية للرد على من ينكرون وجود الخالق
قال رحمه الله: [ويحكى عن أبي حنيفة رحمه الله أن قوماً من أهل الكلام أرادوا البحث معه في تقرير توحيد الربوبية، فقال لهم: أخبروني قبل أن نتكلم في هذه المسألة عن سفينة في دجلة تذهب فتمتلئ من الطعام والمتاع وغيره بنفسها، وتعود بنفسها فترسي بنفسها، وتفرغ وترجع، كل ذلك من غير أن يدبرها أحد!! فقالوا: هذا محال، لا يمكن أبداً! فقال لهم: إذا كان هذا محالاً في سفينة فكيف في هذا العالم كله علوه وسفله؟! وتحكى هذه الحكاية أيضاً عن غير أبي حنيفة] .
هؤلاء قوم من الملاحدة عندهم شك في توحيد الربوبية وفي وجود الخالق سبحانه، فجاؤوا إلى أبي حنيفة العالم المشهور وأرادوا أن يمتحنوه، ولكنه امتحنهم قبل ذلك بهذا السؤال، ولا شك أنه شيء محسوس واقع، يقول: ما يصدق العاقل أن هناك سفينة تمشي بنفسها تحمّل نفسها من الذخائر وترسي في البلد المعين لا تخطئه، وتنزل حمولتها من نفسها، وترجع من حيث جاءت! فالسفينة خشبة وجماد ليس لها عقل ولا إدراك، فكيف يتصور أنها تسلك الطريق، وأنها ترسو في المكان المعد لها، وأنها تمتد إلى الأثاث والمتاع والأطعمة وتحملها، وأنها ترسي وتنزل المتاع عن ظهرها؟! لا يمكن تصور هذا.
ومثلها أيضاً المراكب الجديدة كالسيارة -مثلاً-؛ فإنها لا تتحرك بنفسها، ولو قيل لك: إن هناك سيارة أو طائرة أو باخرة تتحرك بنفسها، وإنها تذهب إلى البلد الذي تريده ولا تخطئ طريقها، وإنها إذا وقفت في الأسواق حملت نفسها من الأرزاق ومن الأكسية والأمتعة ونحوها وجاءت إلى البلد المحتاج ونزلت من نفسها!! فهل يصدق بهذا عاقل؟ هذا محال.
يقول: إذا كان هذا محالاً فإننا نشاهد هذا الكون مدبراً أتم تدبير، فهل يصدق عاقل أنه وجد بالصدفة من غير موجد؟ هذه الكواكب التي تطلع وتغرب في سير منتظم، لا يتقدم هذا عن وقته، ولا هذا عن وقته، وهذه الشمس وهذا القمر اللذان سيرهما في الشتاء له حد، وفي الصيف له حد، وهذه الرياح التي تثور أحياناً وتسكن أحياناً، وهذه البحار، وهذه الأنهار، وهذه الأشجار، وهذه المخلوقات المنبثة في البر وفي البحر، والحيوانات والجماد، هل يعقل أنها وجدت بالصدفة؟! لا يمكن، فإذا كان هذا لا يمكن فلابد لها من موجد، وكما أن السيارة لابد لها من محرك، فكذلك هذه الموجودات لابد لها من مسير وهو الخالق وحده الذي يقول: {وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَاراً وَسُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} [النحل:15-16] ، {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [يونس:22] ، هو الذي سخر ذلك، وهذه حجة عقلية تدمغ كل منكر وكل ملحد.(3/7)
الإقرار بتوحيد الربوبية لا يكفي صاحبه إذا لم يحقق توحيد العبادة
قال رحمه الله: [فلو أقر رجل بتوحيد الربوبية الذي يقر به هؤلاء النظار، ويفنى فيه كثير من أهل التصوف، ويجعلونه غاية السالكين، كما ذكره صاحب (منازل السائرين) وغيره، وهو مع ذلك إن لم يعبد الله وحده ويتبرأ من عبادة ما سواه، كان مشركاً من جنس أمثاله من المشركين] .
توحيد الربوبية هو الغاية عند أهل الكلام، وهو الذي يفنى فيه المتصوفون، أي: يجعلون أكبر مقصد وأكبر مطلب عندهم هو الاعتراف بأن الله موجود وبأنه خالق ورازق، وبأنه مدبر، هذا هو الغاية عندهم، ولكن ليس هو الغاية عند أهل الحق، بل الغاية والمطلب هو توحيد العبادة، الذي هو عبادة الله والقيام بحقه.
فالمتصوفة يفنون في توحيد الربوبية، ومعنى كونهم يفنون فيه: أنهم يبالغون في تعلمه إلى أن يأتي عليهم شيء يسمونه الفناء، وهذا هو الغاية عندهم.
والمتكلمون أيضاً كذلك، يجعلونه هو الغاية، حتى إنهم يقولون: معنى (لا إله إلا الله) : لا خالق إلا الله.
وهذا ليس بصحيح؛ فإن المشركين يعرفون أنه لا خالق إلا الله، ولكن لم ينفعهم حين عبدوا غيره معه، فلابد أن يكون الاعتراف بأنه لا إله يعني: (لا معبود بحق إلا الله) ، وهذا هو توحيد العبادة الذي يعتبر الغاية عند أهل الحق.
والمتكلمون يراد بهم أهل الكلام من المعتزلة ونحوهم، والمتصوفون يراد بهم الصوفية، والصوفية هم أهل العبادات السرية، فهم يبالغون في العبادات القلبية، ولكنهم يقعون في البدع، ومن جملة بدعهم أنهم ينعزلون عن المسلمين وعن العبادات ونحو ذلك، وأن أحدهم يبقى معتزلاً مدة طويلة حتى يحصل له حضور قلبه ومشاهداته، فيترك لذلك شهود الصلوات، ويقول: إني إذا ذهبت أصلي تفرق علي قلبي، فأنا الآن أفكر وأجمع همومي، وإذا قمت تفرقت هذه الهموم التي جمعتها.
والصوفية موجودون بكثرة في كثير من البلاد، ولهم تمكن، وقد انخدع بهم خلق كثير، ومع ذلك فإن متقدميهم في القرن الثالث كانوا على علم وعلى عبادة إلا أنهم زهاد، وأما المحدثون فإنهم وقعوا في عقائد سيئة وبدع عملية.(3/8)
الآيات المقررة لتوحيد الربوبية يقصد منها تقرير توحيد الألوهية
قال رحمه الله: [والقرآن مملوء من تقرير هذا التوحيد وبيانه، وضرب الأمثال له، ومن ذلك أنه يقرر توحيد الربوبية، ويبين أنه لا خالق إلا الله، وأن ذلك مستلزم أن لا يعبد إلا الله، فيجعل الأول دليلاً على الثاني؛ إذ كانوا يسلمون في الأول وينازعون في الثاني، فيبين لهم سبحانه أنكم إذا كنتم تعلمون أنه لا خالق إلا الله وحده، وأنه هو الذي يأتي العباد بما ينفعهم ويدفع عنهم ما يضرهم لا شريك له في ذلك فلم تعبدون غيره وتجعلون معه آلهة أخرى؟ كقوله تعالى: {قُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى أَاللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ * أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُمْ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ} [النمل:59-60] يقول الله تعالى في آخر كل آية: {أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} أي: أإله مع الله فعل هذا؟ وهذا استفهام إنكار يتضمن نفي ذلك، وهم كانوا مقرين بأنه لم يفعل ذلك غير الله، فاحتج عليهم بذلك، وليس المعنى أنه استفهام: هل مع الله إله؟ كما ظنه بعضهم؛ لأن هذا المعنى لا يناسب سياق الكلام، والقوم كانوا يجعلون مع الله آلهة أخرى، كما قال تعالى: {أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لا أَشْهَدُ} [الأنعام:19] ، وكانوا يقولون: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص:5] ، لكنهم ما كانوا يقولون: إن معه إلها {جَعَلَ الأَرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً} [النمل:61] ، بل هم مقرون بأن الله وحده فعل هذا، وهكذا سائر الآيات، وكذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:21] ، وكذلك قوله في سورة الأنعام: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ} [الأنعام:46] ، وأمثال ذلك] .
تقرير توحيد الربوبية في القرآن كثير، والقصد منه الإلزام لتوحيد الإلهية، فإن آية البقرة -وهي قوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ} [البقرة:21]- ذكر الله بها تقرير توحيد الربوبية بستة أدلة، وهي قوله: {الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة:21] {الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنْ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ} [البقرة:22] خَلْقهم، وخَلْق آبائهم، وخَلْق الأرض، وخَلْق السماء، وإنزال المطر، وإنبات النبات، يقول: اعبدوا الله الذي فعل هذه الأشياء، فأنتم تعترفون بأنه الذي خلقكم، وأنه الذي خلق من قبلكم؛ لأنه خالق السماوات والأرض وأنه مرسل السحاب ومنزل المطر ومنبت النبات، فلماذا تعبدون غيره؟ فيحتج عليهم بإقرارهم بهذا التوحيد على التوحيد الثاني، فما دام أنهم يقرون بتوحيد الربوبية فيلزمهم توحيد العبادة، وكذلك الآيات الأخرى في سورة النمل، قال تعالى: {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُمْ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ} [النمل:60] ، {أَمَّنْ جَعَلَ الأَرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً} [النمل:61] ، {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ} [النمل:62] ، {أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} [النمل:63] ، {أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [النمل:64] فيقول: بعد كل آية: {أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} [النمل:64] يعني: هل هناك أحد شارك الله في هذه الأشياء؟ فإذا كنتم تقرون بأن الله هو الذي أنشأها وحده فلماذا تعبدون غيره؟ لماذا تصرفون العبادة لغيره؟ ومعنى قوله: {أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} يعني: هل هناك أحد شريك لله في خلق هذه المخلوقات وهذه التصرفات؟ إذا كنتم تقرون بأنه ليس له شريك فلماذا جعلتم معه آلهة تعبدونها؟ فهم جعلوا معبودات وسموها آلهة وصرفوا لها العبادة، ولما دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم ليقولوا: (لا إله إلا الله) ؛ أنكروا ذلك، وقد جاء في حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم: (أريد منكم كلمة تدين لكم بها العرب، وتؤدي لكم الجزية العجم، قولوا: لا إله إلا الله) ، فقالوا: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً} [ص:5] ، وقالوا: {امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ} [ص:6] والإله عندهم هو المألوه المعبود، أي: تألهه القلوب.
فيحتج الله عليهم بالشيء الذي يعرفونه على الذي ينكرونه، إذ الذي ينكرونه هو العبادة، فيقولون: إن العبادة ليست لله وحده.
بل يجعلونها لغيره أو له ولغيره، وأما الخلق والتدبير فإنه لله وحده، يقول تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنْ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ} [يونس:31] ، فإذا كانوا يعترفون بهذا فإنه حجة عليهم في أن التوحيد المطلوب لا يستحقه إلا الله.(3/9)
وضوح الأدلة على توحيد الألوهية ناشئ عن شدة حاجة الناس إليه
قال رحمه الله: [وإذا كان توحيد الربوبية الذي يجعله هؤلاء النظار ومن وافقهم من الصوفية هو الغاية في التوحيد، داخلاً في التوحيد الذي جاءت به الرسل، ونزلت به الكتب، فليعلم أن دلائله متعددة، كدلائل إثبات الصانع، ودلائل صدق الرسول؛ فإن العلم كلما كان الناس إليه أحوج؛ كانت أدلته أظهر رحمة من الله بخلقه] .
يقول: توحيد الإلهية هو المطلوب، وتقدم أن كل رسول يبدأ دعوته بقوله: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:59] ؛ لأنه توحيد عملي وأفعال مشاهدة، وأما توحيد الربوبية فالغالب أنه اعتقادي وقد يكون خفياً، فإذا كانت الدعوة إلى التوحيد العملي فلابد أن الأدلة عليه واضحة.
يقول: إن كل شيء حاجة الناس إليه شديدة، فالأدلة عليه واضحة، والأدلة على توحيد الإلهية هي أوضح الأدلة، وهي الأدلة الكونية، فالذي كوّن هذا الكون هو الذي يكُون أهلاً للعبادة، يقول ابن كثير لما فسر قوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة:21] {الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنْ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ} [البقرة:22] يقول: الخالق لهذه الأشياء هو المستحق للعبادة، فالأدلة على توحيد العبادة واضحة وظاهرة، يعني أن توحيد الربوبية أقوى دليل وأقوى حجة على وجوب عبادة الله وحده، وظهورها من نواح: أولاً: أنه الخالق المالك المتصرف، فيكون هو المستحق للعبادة.
ثانياً: أنه المنعم، ونعم الله على عباده لا تنقطع، فيستحق أن يعبد وحده.
ثالثاً: أنه يثيب على هذه العبادة أعظم ثواب، ويعاقب على تركها أعظم عقاب، فيستحق العبادة لهذه الأمور، فالعاقل لا يخفى عليه هذا الدليل.(3/10)
طريقة القرآن في ضرب الأمثلة واضحة الدلالة على توحيد الألوهية
قال رحمه الله: [والقرآن قد ضرب الله للناس فيه من كل مثل، وهي المقاييس العقلية المفيدة للمطالب الدينية، لكن القرآن يبين الحق في الحكم والدليل {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلالُ} [يونس:32] ، وما كان من المقدمات معلومة ضرورية متفقاً عليها استدل بها ولم يحتج إلى الاستدلال عليها.
والطريقة الصحيحة في البيان أن تحذف، وهي طريقة القرآن، بخلاف ما يدعيه الجهال الذين يظنون أن القرآن ليس فيه طريقة برهانية، بخلاف ما قد يشتبه ويقع فيه نزاع فإنه يبينه ويدل عليه] .
طريقة القرآن ضرب الأمثلة، وكثيراً ما تأتي الأمثلة على معبودات المشركين، كقوله تعالى: {ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوْ اجْتَمَعُوا لَهُ} [الحج:73] إلى آخرها، وقوله تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ} [الزمر:29] هذا أيضاً مثل لمن يعبد إلهاً واحداً ومن يعبد آلهة متفرقين، ومثل ذلك قوله تعالى: {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ} [الروم:28] يقول: هل ترضى أن يكون مملوكك شريكاً لك في مالك وشريكاً لك في أهلك؟ إذا كنت لا ترضى فهذه الآلهة مملوكة لله، فكيف تكون شريكة له في العبادة؟! فالقرآن ضرب الأمثلة لأجل إقناع من يستمع ذلك، وطريقته هي إيضاح الحجج بهذه الأمثلة، بحيث يحذف المقدمات التي لا حاجة إليها اختصاراً ويقتصر على الشيء المهم، وبالجملة فكل من تأمل الأدلة اتضح له أن توحيد الإلهية أدلته واضحة الدلالة، فعليه أن يقتنع به ويقنع الخصم.(3/11)
امتناع شرك الربوبية عند عموم الخلق إلا من شذ منهم
قال رحمه الله: [ولما كان الشرك في الربوبية معلوم الامتناع عند الناس كلهم باعتبار إثبات خالقين متماثلين في الصفات والأفعال، وإنما ذهب بعض المشركين إلى أن ثم خالقاً خلق بعض العالم، كما يقوله الثنوية في الظلمة، وكما يقوله القدرية في أفعال الحيوان، وكما يقوله الفلاسفه الدهرية في حركة الأفلاك أو حركات النفوس أو الأجسام الطبيعية، فإن هؤلاء يثبتون أموراً محدثة بدون إحداث الله إياها، فهم مشركون في بعض الربوبية، وكثير من مشركي العرب وغيرهم قد يظن في آلهته شيئاً من نفع أو ضر بدون أن يخلق الله ذلك] .
يقول: إن الشرك في توحيد الربوبية قليل وجوده في الخلق، إلا أن هناك من يشرك شركاً جزئياً، مثل المجوس الذين أشركوا في توحيد الربوبية وجعلوا الخلق من اثنين من النور والظلمة، واعتبروا أن النور خلق الخير والظلمة خلقت الشر، ولم يجعلوهما سواء، بل النور خير والظلمة شريرة، وهم لا يعظمون إلا واحداً، ولهذا فهم يعبدون النار، ومثل بعض المعتزلة الذين يجعلون بعض المخلوقات من إيجاد الحيوانات، ويقولون في الأفعال: إن الإنسان يخلق أفعاله بدون قدرة الله؛ والمجوس يجعلون الوجود عن خالقين، والمعتزلة يجعلونه عن عدد، ولذلك سمي المعتزلة: مجوس هذه الأمة، ولو زعموا أنهم ينزهون الله تعالى عن الظلم؛ لأن عملهم نوع شرك في الربوبية، وإن كانوا لا يعبدون إلا الله، ولكن كونهم يسندون بعض الأفعال إلى غير الله ويقولون: إن الإنسان يخلق فعله، صدق أنهم مشركون نوع شرك في الربوبية.
وعلى كل حال: فالأصل أن الأمم كلهم يعترفون بتوحيد الربوبية، إلا من شذ، كفرعون الذي كان ينكر ذلك ولكنه كان في باطن الأمر يعترف بأنه مخلوق وأن له خالق، ويوجد في هذه الأزمنة من يسمون بالشيوعيين، وقديماً كانوا يسمون بالدهريين، وهم في الحقيقة معاندون مكابرون، وإلا فلو أعملوا تفكيرهم، ولو حكموا أذهانهم لما بقوا على هذه العقيدة السيئة، ولكن مع المكابرة قلدوا من يقول بها ومن يذهب إليها، فالأصل أن جميع طبقات العالم المكلفين يعترفون بأن للعالم خالقاً، حتى الفلاسفة وإن كانوا ينقسمون إلى دهريين وإلهيين؛ جلهم على الاعتراف بالخالق.(3/12)
شرح العقيدة الطحاوية [4]
توحيد الله تعالى في ربوبيته وإلاهيته وأسمائه وصفاته هو أقل ما يلزم العبد وأول ما يجب عليه أن يحققه، وبغير ذلك لا يقبل الله تعالى منه صرفاً ولا عدلاً.(4/1)
الشرك في توحيد الربوبية شرك جزئي
موضوعنا حول مقدمة الكتاب في تقرير التوحيد، ومعرفة وحدانية الله سبحانه وتعالى، وسبب تسمية هذا العلم بالتوحيد، وأهمية هذا النوع من العلم، والتوحيد الذي دعت إليه الرسل، والتوحيد الذي أقر به المشركون، والتوحيد الذي يقرره أهل الكلام والمتصوفة ويدورون حوله.
ولا شك أن معرفة هذه الأنواع تكسب الإنسان رسوخاً في الإيمان؛ فإن من عرف هذه الأنواع امتلأ قلبه بالإيمان، ومتى امتلأ القلب بالإيمان وباليقين انبعثت الجوارح بالأعمال الصالحة وتورع المؤمن عن السيئات، هذه فائدة معرفة هذه العقيدة، أنها إذا رسخت في القلب صارت سبباً لاستكثار المؤمن صحيح العقيدة من الأعمال الصالحة وبعده عن السيئات، فاستحق بذلك ثواب الله.
قال الشارح رحمه الله تعالى: [فلما كان الشرك في الربوبية معلوم الامتناع عند الناس كلهم باعتبار إثبات خالقين متماثلين في الصفات والأفعال، وإنما ذهب بعض المشركين إلى أن ثم خالقاً خلق بعض العالم كما يقوله الثنوية في الظلمة وكما يقوله القدرية في أفعال الحيوان، وكما يقوله الفلاسفه الدهرية في حركة الأفلاك أو حركات النفوس أو الأجسام الطبيعية، فإن هؤلاء يثبتون أموراً محدثة بدون إحداث الله إياها، فهم مشركون في بعض الربوبية، وكثير من مشركي العرب وغيرهم قد يظن في آلهته شيئاً من نفع أو ضر بدون أن يخلق الله ذلك] .
معنى هذا أن جميع الخلق يعترفون بتوحيد الربوبية، إلا بعض الأفراد أو بعض الطوائف، والذين ينكرونه إنما ذلك في الظاهر عناداً، كفرعون حيث قال: (أَنَا رَبُّكُمْ الأَعْلَى} [النازعات:24] ، فهو في الباطن معترف بصدق موسى، كما في قوله: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاء إِلاَّ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الإسراء:102] أما بقية الأمم فإنهم يعترفون بأن للوجود خالقاً، وهذا هو توحيد الربوبية، وأن هذا الكون مفتقر إلى من أوجده، وهذا هو توحيد الربوبية، وأن الموجد واحد، لكن هناك أنواع من الشرك في الربوبية جزئيات.
شرك المجوس الذين جعلوا الوجود صادراً عن اثنين، فجعلوا الخير من خلْق النور، وجعلوا الشرور من خلق الظلمة، أي: أنهم جعلوا خالقين: النور والظلمة، فهذا نوع من شركهم، ومع ذلك ما جعلوهما سواء، بل النور عندهم خير، والظلمة شريرة، وهذا شرك في الربوبية.
وهناك شرك آخر عند المعتزلة وإن لم يكن صريحاً، وهو أنهم يزعمون أن العباد يخلقون أفعالهم، وأن الله لا يقدر على خلق أفعال العباد، ولأجل هذا يسمون (مجوس هذه الأمة) ، وهذا شرك منهم وإن كانوا يدعون أنه من باب تنزيه الله تعالى -في زعمهم- عن أن يخلق المعصية ويعاقب عليها، ولعله يأتينا إن شاء الله الرد عليهم في موضعه.
وهناك بعض من المشركين من الفلاسفة ومن المتصوفة ونحوهم يشركون في أنواع من الربوبية، وأقوالهم في ذلك غريبة لا ينبغي أن يلتفت إليها.
والحاصل أن جميع خلق الله -إلا النادر الشاذ- يعترفون بأن الخالق واحد وهو الله.(4/2)
انتظام العالم وإحكام خلقه دليل على وحدانية خالقه
قال رحمه الله: [فلما كان هذا الشرك في الربوبية موجودا في الناس بيَّن القرآن بطلانه، كما في قوله تعالى: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} [المؤمنون:91] ، فتأمل هذا البرهان الباهر بهذا اللفظ الوجيز الظاهر، فإن الإله الحق لابد أن يكون خالقاً فاعلاً يوصل إلى عابده النفع ويدفع عنه الضر، فلو كان معه سبحانه إله آخر يشركه في ملكه لكان له خلق وفعل، وحينئذ فلا يرضى تلك الشركة، بل إن قدر على قهر ذلك الشريك وتفرده بالملك والإلهية دونه فعل، وإن لم يقدر على ذلك انفرد بخلقه وذهب بذلك الخلق، كما ينفرد ملوك الدنيا بعضهم عن بعض بملكه إذا لم يقدر المنفرد منهم على قهر الآخر والعلو عليه، فلابد من أحد ثلاثة أمور: أما أن يذهب كل إله بخلقه وسلطانه.
وإما أن يعلو بعضهم على بعض.
وإما أن يكونوا تحت قهر ملك واحد يتصرف فيهم كيف يشاء ولا يتصرفون فيه، بل يكون وحده هو الإله وهم العبيد المربوبون المقهورون من كل وجه.
وانتظام أمر العالم كله وإحكام أمره من أدل دليل على أن مدبره إله واحد وملك واحد ورب واحد لا إله للخلق غيره، ولا رب لهم سواه، كما قد دل دليل التمانع على أن خالق العالم واحد لا رب غيره ولا إله سواه، فذلك تمانع في الفعل والإيجاد، وهذا تمانع في العبادة والإلهية، فكما يستحيل أن يكون للعالم ربان خالقان متكافئان كذلك يستحيل أن يكون لهم إلهان معبودان] .
حين نتأمل الآيات التي جاءت في التدليل على توحيد الربوبية فإننا نجدها كثيرة، يقرر الله تعالى توحيد الربوبية، وذلك بذكر خلقه للمخلوقات، كقوله تعالى: {لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ} [غافر:57] ، وقوله: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ} [الشورى:29] ، وكقوله: {خَلَقَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ} [لقمان:10] إلى قوله: {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} [لقمان:11] تقرير هذه الآيات للتوحيد يتبين منه أن هذا يراد به نتيجته، وهي أن من عرف أن الله تعالى واحداً في ربوبيته لم يعبد معه غيره، وقد ذكرنا أن ابن كثير قال عند تفسير قوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة:21] قال: الخالق لهذه الأشياء هو المستحق للعبادة.
فمن ذلك قوله تعالى في سورة المؤمنون: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [المؤمنون:91] فالله تعالى ما اتخذ من ولد؛ إذ لو كان له ولد - تعالى عن ذلك- لكان الولد يشارك أو يشابه أباه، والله منزه عن ذلك، (وما كان معه من إله) فلو كان معه إله لزاحمه في الخلق، وفي التدبير، وفي التصرف، وفي الملكية، وهذا معنى قوله: (إذاً لذهب كل إله بما خلق) .
ومن المشاهد أن ملوك الدنيا يتنافسون، وكل منهم يحب أن يكون هو الأقوى وهو المسيطر، وقرأنا عن بعضهم أنه لما قتل قريباً له بسبب الملك قال: إن هذا من أحب الناس إلي ولكن الملك عقيم.
يعني: لا أريد من يزاحمني في الملك.
فإذا كان هذا في حق ملك من ملوك الدنيا فبطريق الأولى أن يقال: إن الله تعالى لا شريك له، فلو كان له شريك في الخلق والملك لزاحمه ولظهرت آثار هذه المزاحمة، وهو معنى قوله: (إذاً لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض) يعني: لو كان معه آلهة لكان كل إله ينفصل عن الآخر بخلقه ويعتزل، ويحاول أن يكون له السيطرة، وأن يكون له العلو على الآخر، وأن يكون هو المتمكن.
وإذا نظرنا فيما حولنا فإذا الأمر منتظم، وإذا هذا الخلق وهذا العالم يسير على هيئة وحالة واحدة لا يختل، ولا يقع فيه تغير، وهذا أكبر دليل على أن الذي خلقه ليس له شريك، وأنه ليس له مزاحم وليس معه إله آخر، وإلا لذهب كل خالق أو كل إله بخلقه وانفصل كما يحصل من ملوك الدنيا، فإن ملوك الدنيا -كما هو مشاهد- كل منهم ينفصل في مملكته -مع أنها ملكية مؤقتة- وكل يدبر مملكته خاصة، بل كل يحاول التغلب على الآخر، وهذا ونحوه دليل على أن الخالق واحد.
وتسمى هذه الآية دليل تمانع، ودلالة التمانع يقول بها المتكلمون، فيستدلون على أن الخالق واحد بدلالة التمانع، فقالوا: لو كان للعالم خالقان متساويان فأراد أحدهما تحريك الجسم وأراد الآخر تسكينه، أو أراد أحدهما إحياءه وأراد الآخر إماتته فإما أن يحصل مراد واحد دون واحد، فيكون أحدهما قادراً والآخر عاجزاً، وإما أن يحصل مرادهما جميعاً وهو محال، وإما أن لا يحصل مراد واحد منهما أيضاً وهو محال، فإذا حصل مراد واحد منهما فهو القاهر الغالب، والذي لم يحصل مراده عاجز لا يصلح أن يكون إلهاً ولا خالقاً، وكذلك ما جاء في الآية، فلو كان معه إله لاستقل كل إله بما خلق (ولعلا بعضهم على بعض) ، فلما لم يحصل ذلك دل على أن الخالق واحد.(4/3)
إثبات توحيد الربوبية يلزم منه إثبات توحيد الألوهية
قال رحمه الله: [فالعلم بأن وجود العالم عن صانعين متماثلين ممتنع لذاته مستقر في الفطر معلوم بصريح العقل بطلانه، فكذا تبطل إلهية اثنين، فالآية الكريمة موافقة لما ثبت واستقر في الفطر من توحيد الربوبية، دالة مثبتة مستلزمة لتوحيد الإلهية] .
يقول: إذا عرفنا توحيد الربوبية فإنه يلزم منه توحيد الإلهية، وقد ذكرنا أن بعض المشايخ يقولون في تقريرهم: اعرفوا الله بأفعاله ووحدوه بأفعالكم.
وأفعال الله هي خلقه وتدبيره، فإنها هي الدلالة على معرفته، فإذا قيل لك: بم عرفت ربك فقل: بآياته ومخلوقاته.
فتعرف الله بأفعاله، (ووحدوه بأفعالكم) يعني: خصوه بعبادات، فهذه الآية: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ} [المؤمنون:91] والآيات الأخرى تقرر توحيد الربوبية، وإذا استقر توحيد الربوبية أصبح دليلاً على توحيد الإلهية، أي أن الإله الخالق الرازق المدبر المتصرف في هذا الكون الذي يجري هذه الأشياء كما هي ويحيي ويميت، والذي ابتدع هذا الكون من غير سابق خلق لا شك أنه الذي يستحق أن يفرد بالعبادة، فيكون هذا دليلاً على توحيد العبادة.
قال رحمه الله: [وقريب من معنى هذه الآية قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء:22] ، وقد ظن طوائف أن هذا دليل التمانع الذي تقدم ذكره، وهو أنه لو كان للعالم صانعان إلخ، وغفلوا عن مضمون الآية، فإنه سبحانه أخبر أنه لو كان فيهما آلهة غيره، ولم يقل: أرباب.
وأيضاً فإن هذا إنما هو بعد وجودهما، وأنه لو كان فيهما وهما موجودتان آلهة سواه لفسدتا] .
هذه الآية في سورة الأنبياء {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء:22] هي من أوضح الأدلة على توحيد العبادة، وفيها أنه إذا قدر أن فيهما آلهة إلا الله فإن كل إله أو كل خالق يدبر ما من شأنه أن يستطيعه، ويحرص على أن يتغلب على من إلى جانبه، فلا تنتظم هذه الأفلاك ولا هذه المخلوقات، بل يحصل فيها شيء من الخلل، ويحصل فيها شيء من الاضطراب، ومثل ذلك مشاهد، فإنه لو قدر أن هناك شريكين في أمر فكل منهما يحب أن يكون هو المسيطر وهو المتسلط، ولكان كل منهما يهمل الذي في جانب الآخر، فيقع الإهمال والاختلال، فلما رأينا الأمور منتظمة عرفنا أنه ليس فيهما آلهة إلا الله وحده.
قال رحمه الله: [وأيضاً فإنه قال: (لفسدتا) ، وهذا فساد بعد الوجود، ولم يقل: لم يوجدا، ودلت الآية على أنه لا يجوز أن يكون فيهما آلهة متعددة، بل لا يكون الإله إلا واحداً، وعلى أنه لا يجوز أن يكون هذا الإله الواحد إلا الله سبحانه وتعالى، وأن فساد السموات والأرض يلزم من كون الآلهة فيهما متعددة، ومن كون الإله الواحد غير الله، وأنه لا صلاح لهما إلا بأن يكون الإله فيهما هو الله وحده لا غيره، فلو كان للعالم إلهان معبودان لفسد نظامه كله، فإن قيامه إنما هو بالعدل، وبه قامت السموات والأرض، وأظلم الظلم على الإطلاق الشرك وأعدل العدل التوحيد] .
الله تعالى يقول في هذه الآية: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ} [الأنبياء:22] ، وقد استنبط المؤلف أن هذه الآية دليل على إثبات توحيد الإلهية وليس توحيد الربوبية، فهو لم يقل: لو كان فيهما أرباب، ولا ملوك، ولا ملّاك، ولا خالقون.
بل قال: (آلهة) ، والإله هو المعبود المألوه كما سيأتي إن شاء الله.
وأيضاً فإن الله قال: (لو كان فيهما) ولم يقل: لو كان في الوجود.
وهذا دليل على أنه بعد إيجادهما، والله قال: (لفسدتا) ، ولم يقل: لم توجدا.
فالآية تقرر توحيد الإلهية ولكنه متوقف على توحيد الربوبية.
فيخبر تعالى بأن الإلهية لا تصلح إلا لإله واحد وهو الله، وأن من جعل معه آلهة أخرى فإنه قد ضل، وقد أخبر الله بأن المشركين يجعلون معه آلهة، كقوله تعالى: {أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لا أَشْهَدُ} [الأنعام:19] ، ولكن تلك الآلهة آلهة مخلوقة ضعيفة لا يصلح أن تتخذ آلهة، وهذا في شرك الأولين، وكذا في شرك الآخرين، وإن كانوا لا يعترفون بتسميتها آلهة.
والحاصل أن الإلهية الحقة إنما هي للخالق وحده، وهذه الآية في توحيد الإلهية: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ} [الأنبياء:22] ، ولكن توحيد الإلهية مسبوق بتوحيد الربوبية، ولا يعترف العبد بتوحيد الإلهية إلا بعدما يعترف بتوحيد الربوبية.(4/4)
تضمن توحيد الألوهية لتوحيد الربوبية دون العكس
قال رحمه الله: [وتوحيد الإلهية متضمن لتوحيد الربوبية دون العكس، فمن لا يقدر على أن يخلق يكون عاجزاً، والعاجز لا يصلح أن يكون إلهاً، قال تعالى: {أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ} [الأعراف:191] ، وقال تعالى: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [النحل:17] ، وقال تعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً} [الإسراء:42]] .
معنى كونه متضمناً لتوحيد الربوبية أنه لا يمكن أن يعترف بأن الإلهية الحقة لله تعالى وهو ينكر أن يكون هو رب العالمين، فمن اعترف بأن الله هو الإله الحق اعترف بأنه الخالق الرازق المدبر المتصرف، فتوحيد الربوبية في ضمن توحيد الإلهية دون العكس؛ إذ ليس كل من اعترف بتوحيد الربوبية يعترف بالإلهية، فهناك من يعترف بتوحيد الربوبية ويشرك في توحيد الإلهية.
والحاصل أن هذه الآيات ونحوها تقرر توحيد الإلهية، ولكن عرفنا أنه مسبوق بتوحيد الربوبية ومتوقف عليه.
وتوحيد الربوبية يعرف بالأدلة والآيات والفطرة كما تقدم، ولكن توحيد الإلهية هو الذي يحتاج إلى أدلة، ويحتاج إلى بيان، ويحتاج إلى تعليم، ولهذا جاءت الرسل بالتعليم لتوحيد الإلهية، بأن يقولوا للناس: وحدوا الله بالدعاء، ووحدوه بالرجاء، ووحدوه بالاستعانة به، ووحدوه بالخوف منه، ووحدوه بالخشية، ولا تستعينوا بغيره، ولا تستغيثوا بسواه.
إلى آخر أنواع العبادة، هذا هو توحيد الإلهية الذي يحتاج إلى تفصيل.(4/5)
افتقار سائر المخلوقات إلى الله يمنع من اتخاذها آلهة من دونه
قال رحمه الله: [وقال تعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً} [الإسراء:42] ، وفيها للمتأخرين قولان: أحدهما: لاتخذوا سبيلاً إلى مغالبته.
والثاني: -وهو الصحيح المنقول عن السلف كـ قتادة وغيره، وهو الذي ذكره ابن جرير ولم يذكر غيره-: لاتخذوا سبيلاً بالتقرب إليه كقوله تعالى: {إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً} [المزمل:19] ، وذلك أنه قال: (لو كان معه آلهة) {لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ} [الإسراء:42] ، وهم لم يقولوا: إن العالم له صانعان.
بل جعلوا معه آلهة اتخذوهم شفعاء وقالوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3] بخلاف الآية الأولى] .
في تفسيره لهذه الآية {لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً} [الإسراء:42] رجح أن السبيل هنا القربى، يعني: لو قدر أن هناك آلهة سوى الله لكانت تلك الآلهة تتقرب إلى الله، وتتوسل إليه وتبتغي السبيل إلى رضاه، وإذا كان كذلك فإن هذا هو الأولى بمن يتخذ تلك الآلهة.
وقد دل على ذلك أيضاً قول الله تعالى: {قُلْ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلا تَحْوِيلاً * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمْ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} [الإسراء:56-57] يخبر بأن أولئك الذين تدعونهم -أيها المشركون! - خير منكم؛ فإنهم يدعون الله تعالى ويتوسلون إليه بالأعمال الصالحة.
والحاصل أن الآية صريحة بأنه ليس هناك آلهة غير الله، فلو كان هناك آلهة إلا الله لكانت تلك الآلهة تتقرب إلى الله وتبتغي الوسيلة إليه وتعبده وتوحده.
والصحيح أنها لا تصلح إذا كانت كذلك لأن تكون آلهة؛ إذ كيف يكون إلهاً من هو عبد لغيره؟ كيف يصلح أن يعبد من هو عابد لغيره؟ إذا كانت تعبد الله فما لك -أيها الإنسان- تعبدها؟ اعبد الذي هي تعبده وحده.(4/6)
أنواع التوحيد الذي دعت إليه الرسل
قال رحمه الله: [ثم التوحيد الذي دعت إليه رسل الله ونزلت به كتبه نوعان: توحيد في الإثبات والمعرفة، وتوحيد في الطلب والقصد.
فالأول: هو إثبات حقيقة ذات الرب تعالى وصفاته وأفعاله وأسمائه، ليس كمثله شيء في ذلك كله، كما أخبر به عن نفسه، وكما أخبر رسوله صلى الله عليه وسلم، وقد أفصح القرآن عن هذا النوع كل الإفصاح، كما في أول (الحديد) و (طه) ، وآخر (الحشر) ، وأول (الم تنزيل السجدة) ، وأول (آل عمران) ، وسورة (الإخلاص) بكمالها، وغير ذلك.
والثاني: وهو توحيد الطلب والقصد، مثل ما تضمنته سورة {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون:1] و {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} [آل عمران:64] وأول سورة (تنزيل الكتاب) وآخرها، وأول سورة (يونس) وأوسطها وآخرها، وأول سورة (الأعراف) وآخرها، وجملة سورة (لأنعام) ] .
مشهور عند الطلاب حتى الأطفال منهم أن أنواع التوحيد ثلاثة: توحيد الإلهية، وتوحيد الربوبية، وتوحيد الأسماء والصفات.
والشارح هنا ذكر أن التوحيد نوعان: توحيد المعرفة والإثبات، وتوحيد الطلب والقصد.
وهذان النوعان يتضمنان الأقسام الثلاثة التي ذكرنا، فإن توحيد المعرفة هو توحيد الربوبية، وتوحيد الإثبات هو توحيد الصفات، وتوحيد الطلب والقصد هو توحيد العبادة أو الإلهية، هذه أقسام التوحيد.
فتوحيد الربوبية هو توحيد المعرفة، أي: معرفة الله، فإذا قيل لك: بم عرفت ربك فقل: بآياته ومخلوقاته التي يستدل بها على عظمة ذاته.
وهذا النوع هو توحيد الذات أو إثبات الذات، ويسمى توحيد الربوبية.
أما توحيد الإثبات فهو توحيد الصفات، وهو اعتقاد أن كل صفة لله تعالى فإنه منفرد بها، لا يشبه غيره في شيء من صفاته، فيقال -مثلاً-: صفاته الذاتية كوجهه ويده وسمعه وبصره لا تشبه صفات المخلوقين، نوحده بها ونقول: إنها لائقة به.
وكذلك الصفات الفعلية، فيقال: إن الله يحب، ويرحم، ويغضب، ويرضى، ويكره، ويمقت، وإن الله استوى، ويجيء، وينزل كما أخبر، وهو في كل ذلك لا يشبهه أحد من خلقه، فهو منفرد بذلك وحده، هذا توحيد الصفات.
وتوحيد الذات هو الاعتقاد أن الله واحد بذاته ليس معه شريك في الخلق.
وتوحيد الإثبات هو اعتقاد أن الله واحد في صفاته لا يشبهه أحد من مخلوقاته في شيء من خصائص صفاته.
وقد اجتهد السلف رحمهم الله في تقرير توحيد الصفات، وما ذاك إلا لأنهم ابتلوا في زمانهم بمن أنكره أو بمن غلا في إثباته, فقد أنكره قوم -وسموهم الجهمية والمعتزلة- حيث نفوا صفات الله تعالى ذاتية كانت أو فعلية، وغلا فيه قوم -وسموهم المشبهة- حيث زادوا في الإثبات حتى جعلوا صفاته كصفات خلقه، فاجتهد السلف رحمهم الله في إثبات ذلك، وقرروه أتم تقرير، وكتبهم بحمد الله موجودة ميسرة، وهي الكتب التي سموها (كتب السنة) ، أو (كتب التوحيد) ، أو (كتب الإيمان) ، أو (الاعتقاد) ، أو (الأسماء والصفات) ، أو ما أشبه ذلك من الأسماء، فإذا وجدت للسلف كتاباً باسم (كتاب السنة) فإنه يعني الصفات، أو وجدت كتاباً باسم (التوحيد) فإنه يعني توحيد الصفات، أو وجدت كتاباً باسم (الاعتقاد) فإنه يعني هذا الباب، أو وجدت كتاباً باسم (الأسماء والصفات) فإنه يعنى به هذا الأمر، أو وجدت كتاباً باسم (الإيمان) فإنه يعنى به هذا التوحيد.
وأما توحيد الطلب والقصد فهو توحيد الإلهية، ومعنى الطلب: السؤال.
والقصد: التوجه بالقلب إلى الله، فالسؤال يسمى طلباً، وهو من حق الله، والسائل هو الذي يقول -مثلاً-: أسألك رضاك.
أسألك ثوابك.
أسألك جنتك.
أسألك عطاءك.
هذا توحيد في الطلب، والتوحيد في القصد أن يكون قلبه متوجهاً إلى ربه.
فهذا النوع يسمى التوحيد الطلبي، ويسمى التوحيد القصدي والتوحيد الإرادي؛ لأنه مراد من العباد، ويسمى التوحيد العملي؛ لأنه أعمال يعملونها، ويسمى توحيد الإلهية وتوحيد العبادة.
أما الأول فيسمى التوحيد العلمي والتوحيد الخبري؛ لأنه يعتمد على الأخبار، ويسمى التوحيد الاعتقادي؛ لأنه عقيدة يعتقدها الإنسان، ويسمى توحيد الصفات أو توحيد الذات أو توحيد الربوبية، فهذه كلها أسماء لتوحيد واحد.
فإذا قيل: ما هو التوحيد العلمي الخبري الاعتقادي؟ فقل: هو توحيد الأسماء والصفات وتوحيد الربوبية.
وإذا قيل: ما هو التوحيد الطلبي الإرادي القصدي العملي؟ فقل: هو توحيد العبادة.
والأدلة على ذلك كثيرة، فإن القرآن قد وضح ذلك كثيراً، فسورة الإخلاص: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] في التوحيد العلمي الخبري الاعتقادي، وهو توحيد الأسماء والصفات.
وسورة {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون:1] في التوحيد الطلبي القصدي الإرادي، وهو توحيد العبادة أو الإلهية، والسور الأخرى متضمنة لهذا ولهذا، فأول سورة الحديد في الأسماء والصفات، وكذلك آخر سورة الحشر، وكذا آيات كثيرة متفرقة في القرآن.
وأول سورة الأعراف وآخرها وغيرها من السور في التوحيد العملي الذي هو توحيد الطلب والقصد.
فإذا تأملنا هذه الآيات وجدناها تبين هذا النوع وتحث عليه وترغب فيه، فتدعو إلى معرفة توحيد الربوبية حتى يرسخ في القلب، ثم ينبعث معه أو منه توحيد العبادة حتى يكثر العبد من أنواع القربات والعبادات.(4/7)
تضمن كل سور القرآن لنوعي التوحيد
قال رحمه الله: [وغالب سور القرآن متضمنة لنوعي التوحيد، بل كل سورة في القرآن، فإن القرآن إما خبر عن الله وأسمائه وصفاته وهو التوحيد العلمي الخبري، وإما دعوة إلى عبادته وحده لا شريك له وخلع ما يعبد من دونه فهو التوحيد الإرادي الطلبي، وإما أمر ونهي وإلزام بطاعته فذلك من حقوق التوحيد ومكملاته، وإما خبر عن إكرامه لأهل توحيده وما فعل بهم في الدنيا وما يكرمهم به في الآخرة فهو جزاء توحيده، وإما خبر عن أهل الشرك وما فعل بهم في الدنيا من النكال وما يحل بهم في العقبى من العذاب فهو جزاء من خرج عن حكم التوحيد.
فالقرآن كله في التوحيد وحقوقه وجزائه، وفي شأن الشرك وأهله وجزائهم، فـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2] توحيد {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة:3] توحيد {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4] توحيد {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] توحيد {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] توحيد متضمن لسؤال الهداية إلى طريق أهل التوحيد {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:7] الذين فارقوا التوحيد] .
يقول: إن جميع القرآن يدور حول التوحيد، فالإخبار عن الله تعالى في قوله: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ} [الحشر:22] {هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الحشر:24] يعتبر توحيداً، لكنه توحيد الذات أو الربوبية.
كذلك نقول في الأوامر، فقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:21] ، {اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ} [النساء:1] هذا توحيد، وهو توحيد عبادة؛ لأنه أمر بعبادة الله.
كذلك ما في القرآن من الأحكام، كالعبادات والصلوات والقربات هذه مكملات التوحيد وثمرات التوحيد، فإن العبد إذا علم أن الله هو الواحد عبده، فأمثلة العبادة هي الصلوات والصدقات والقربات، كذلك ما في القرآن من محظورات، ومن النهي عن المحرمات، والنهي عن الفواحش والمنكرات، فهذه اجتنابها يكمل التوحيد وفعلها ينقص ثواب التوحيد، فإن المعاصي تنقص ثواب التوحيد، فينهى عنها حتى يكمل التوحيد.
كما أن في القرآن قصصاً -كقصة نوح وقومه، وهود وقومه، وشعيب وقومه- يظهر فيها نجاة قوم لأجل التوحيد، وهلاك آخرين لأجل مخالفة التوحيد.
وفي القرآن ذكر الجنة وثوابها والدعوة إليها، والجنة هي ثواب أهل التوحيد، وفيه ذكر النار والعذاب والنكال والغضب وما أشبه ذلك عقوبة لأهل الشرك المبتعدين عن التوحيد.
والأمثلة التي ضربت في القرآن كلها لأجل تقرير التوحيد، مثل قوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً} [الحج:73] يعني: لا تدعوا إلا إلهاً واحداً، فإن هذه المخلوقات التي تعبدونها لا تخلق ذباباً؛ لأنها هي في نفسها مخلوقة، وإلى جانب ذلك فهي أيضاً ضعيفة.
فهذا في تقرير التوحيد.
ومثل قوله تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ} [الزمر:29] فيه تقرير التوحيد، فإن السلم هو الخالص، يقول: الذي يعبد الله تعالى هو مثل من يملك عبداً واحداً، والذي يعبد هذا وهذا وهذا لا شك أنه مثل العبد الذي بين شركاء، كل منهم ينتزعه لنفسه، وكل منهم يقول: أريده في خدمتي، وهم مع ذلك متشاكسون بينهم شيء من البغضاء وشيء من الاختلاف والجدال والاضطراب، ولا شك أن كل هذه الأمثلة تقرير للتوحيد.
فإذاً إن كانت الآيات قصصاً فهي في تقرير التوحيد، وإن كانت وعداً ووعيداً فهي في العقاب الذي يترتب على ترك التوحيد والثواب الذي يترتب على فعل التوحيد، وإن كانت أحكاماً وأوامر ونواهي وواجبات ومحرمات فهي من مكملات التوحيد أفعالاً أو صروفاً، وإن كانت أوامر بالعبادة ونحوها فهي أمثلة أنواع التوحيد، فأصبح القرآن دائراً على التوحيد، وذلك دليلٌ على أهميته.
ولأجل ذلك صار التوحيد شرطاً في قبول العبادات، فلا تقبل الصلاة إلا بشرط الإسلام، ولا تقبل الطهارة إلا بشرط الإسلام وهو التوحيد أصلاً، وكذا لا تقبل الصدقات ولا القربات ولا الصيام ولا الحج وما أشبه ذلك إلا إذا تقدمها شرط واحد وهو التوحيد.
والفاتحة -التي هي أكثر سورة نكررها في صلاتنا كل يوم- تفسيرها يدور حول التوحيد في أولها ووسطها وآخرها، وكذا بقية السور.(4/8)
شرح العقيدة الطحاوية [5]
شهد الله لنفسه بالوحدانية، وشهد له بذلك ملائكته وأولو العلم من خلقه، وهذه الشهادة تتضمن مراتب تؤدي إلى الأمر بعبادته وحده لا شريك، وأن ما سواه باطل.(5/1)
شواهد التوحيد في الفاتحة وآية: (شهد الله أنه لا إله إلا هو)
مر بنا أن التوحيد نوعان: توحيد في المعرفة والإثبات، وتوحيد في الطلب والقصد، وأن كلاً من النوعين قد بينه الله تعالى في كتابه، وبينته الرسل عليهم السلام حتى قامت الحجة وانقطعت المعذرة، وأن كلاً من النوعين ضروري وشرط في قبول العبادات، فمن لم يحقق هذين النوعين من التوحيد لم تقبل منه عباداته، وهذا هو السبب في أهمية هذا التوحيد الذي هو توحيد العقيدة وتوحيد العمل، ونقرأ الآن بقية الكلام على هذه الأنواع: قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فالقرآن كله في التوحيد وحقوقه وجزائه وفي شأن الشرك وأهله وجزائهم فـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2] توحيد {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة:3] توحيد {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4] توحيد {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] توحيد {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] توحيد متضمن لسؤال الهداية إلى طريق أهل التوحيد {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:7] الذين فارقوا التوحيد.
وكذلك شهد الله لنفسه بهذا التوحيد وشهدت له به ملائكته وأنبياؤه ورسله، قال تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران:18] {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران:19] فتضمنت هذه الآية الكريمة إثبات حقيقة التوحيد والرد على جميع طوائف الضلال، فتضمنت أجلّ شهادة وأعظمها وأعدلها وأصدقها، من أجلّ شاهد بأجلّ مشهود به] .
يقول: إن القرآن كله يدور حول تقرير التوحيد، كما تقدم أن الأوامر والنواهي في الأحكام تكميل للتوحيد أو أمر بالتوحيد، والقصص والوقائع فيها بيان حال أهل التوحيد ومن خالف التوحيد، فالله يذكر قصة المكذبين بالتوحيد وكيف أهلكهم، وقصة الرسل ومن نجا معهم؛ لأنهم من أهل التوحيد، وكذلك ذكر الثواب لأهل التوحيد، والعقاب لمن خالف التوحيد، فيقول: إن سورة الفاتحة تتضمن التوحيد، ففي كل آية منها توحيد.
فالآية الأولى فيها الحمد، أي: أنه المستحق للحمد وحده، فهو توحيد، لأنه تخصيص للحمد بمن يستحقه.
والآية الثانية فيها وصف الله تعالى بالرحمة وهذا توحيد الصفات، يعني أن من صفاته أنه المتوحد بصفة الرحمة.
والآية الثالثة فيها الملك، أي هو وحده المالك فلا يملك أحد ملكه.
والآية الرابعة فيها العبادة، أي: لا نعبد غيرك، فأنت المعبود وحدك وأنت المستعان به وحدك، وهذه هي حقيقة التوحيد، فـ (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) توحيد العبادة (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) توحيد العمل، أو توحيد المعرفة.
وكذلك سؤال الهداية، والهداية هي الدلالة على الصراط الذي هو صراط أهل التوحيد، والذين أنعم الله عليهم هم أهل التوحيد، والدعاء بأن يجنب الله السالك طريق الغاوين الذين خالفوا التوحيد، وهم أهل الغضب وأهل الضلال.
فتضمنت سورة الفاتحة من أولها إلى آخرها تقرير التوحيد.
وكذلك الآية التي في سورة آل عمران فإن الله ذكر أنه شهد بهذه الشهادة، يقول: تضمنت هذه الآية أجل شهادة، من أجل شاهد، بأجل مشهود به، فالشاهد هو الله والملائكة والعلماء {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ} [آل عمران:18] فجعل أهل الشهادة هم هؤلاء الثلاثة، شهد لنفسه، وشهدت له ملائكته، وشهد له أهل العلم به من خلقه.
وأولو العلم: هم الذين آتاهم الله معرفة بتوحيده، وهم الذين يخصونه بالتوحيد، أما المشركون فإنهم جهلة، وكل من أعطاه الله علماً بهذا النوع فهو من أهل العلم.
فالشاهد هو الله وملائكته وأهل العلم من خلقه، والشهادة معناها الإقرار والاعتراف بالمشهود به، والمشهود به هو الإلهية، ولهذا كرر: (لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ) مرتين، وأتبعها بأن الإسلام هو دين الحق، فهذه الآية في تقرير التوحيد.
وقد ذكرنا أن ابن القيم رحمه الله تكلم على هذه الآية في آخر مدارج السالكين، وأن الشارح لخص كلامه ونقل منه ما يدل على أن الآية تضمنت معاني جديدة مفيدة إذا تأملها المسلم عرف كيفية التوحيد، وكيف شهد الله به لنفسه، وشهدت له به ملائكته، وشهد له به العلماء.(5/2)
مراتب الشهادة
قال رحمه الله تعالى: [وعبارات السلف في (شهد) تدور على الحكم والقضاء والإعلام والبيان والإخبار، وهذه الأقوال كلها حق لا تنافي بينها، فإن الشهادة تتضمن كلام الشاهد وخبره، وتتضمن إعلامه وإخباره وبيانه] .
كلمة (شهد الله) قيل: معناها علم، وقيل: أخبر أو بيّن أو علّم خلقه، أو أمرهم وألزمهم به، والكلمة تحتمل ذلك كله، أي: علم بوحدانيته وهو أعلم بنفسه وبخلقه، وقيل: بين ذلك وأظهره، وقيل: أخبر به عباده وأعلمهم به، وقيل: أمر عباده وألزمهم بأن يوحدوه، وأن يخلصوا له العبادة، هذا هو حقيقة: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ} [آل عمران:18] .
قال المؤلف رحمه الله: [فلها أربع مراتب: فأول مراتبها: علم ومعرفة واعتقاد لصحة المشهود به وثبوته.
وثانيها: تكلمه بذلك، وإن لم يعلم به غيره، بل يتكلم بها مع نفسه ويتذكرها وينطق بها أو يكتبها.
وثالثها: أن يعلم غيره بما يشهد به ويخبره به ويبينه له.
ورابعها: أن يلزمه بمضمونها ويأمره به.
فشهادة الله سبحانه لنفسه بالوحدانية والقيام بالقسط تضمنت هذه المراتب الأربع: علمه بذلك سبحانه، وتكلمه به، وإعلامه وإخباره لخلقه به، وأمرهم وإلزامهم به] .
يقول: إن هذه الشهادة تضمنت هذه المراتب الأربع، تضمنت أن الله علم بذلك، وهو أعلم بنفسه، ثم بعد ذلك تكلم به، ثم بعد ذلك علّم به خلقه، ثم بعد ذلك أمرهم به.(5/3)
مرتبة العلم
قال رحمه الله: [فأما مرتبة العلم فإن الشهادة تضمنتها ضرورة وإلا كان الشاهد شاهداً بما لا علم له به، قال تعالى: {إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف:86] ، وقال صلى الله عليه وسلم: (على مثلها فاشهد) وأشار إلى الشمس.
وأما مرتبة التكلم والخبر فقال تعالى: {وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ} [الزخرف:19] فجعل ذلك منهم شهادة وإن لم يتلفظوا بلفظ الشهادة ولم يؤدوها عند غيرهم] .
يتكلم على معاني هذه الأشياء، يقول: إن الإنسان لا يشهد إلا بما علم، قال تعالى: {وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا} [يوسف:81] ، فأنت لا تؤمر بالشهادة إلا بعدما تعلمها، وتعتقد معناها وتتحققها، فلا بد من هذا الأمر.
ولا بد أن يكون العلم علم يقين لا علم شك وتردد، ولا بد أن يكون ذلك العلم قائماً على أدلة، فإن العلم الذي ليس له دليل قوي لا يؤمن أن يأتي دليل يبطله، ولا شك أن علم التوحيد قائم على أدلة قوية لا يمكن أن يأتي ما يبطل دلالتها.
فهذه المرتبة الأولى، وهي: أن الشاهد يعلم ما يشهد به علم يقين، ويكون علمه ناشئاً عن أدلة، وتكون تلك الأدلة صريحة الدلالة ليس فيها شك ولا تردد.(5/4)
مرتبة التكلم والإخبار
كذلك المرتبة الثانية وهي مرتبة التكلم والإخبار، أنت إذا شهدت بالتوحيد واعتقدته بقلبك فلا تسكت على ما في نفسك، بل عليك أن تخبر بما تقوله وبما تعتقده، فتخبر الناس بأنك على يقين بهذا التوحيد، وأنك على عقيدة راسخة ومعرفة تامة لما تعتقده، من إلهية الله وحده ومن استحقاقه لصفات الكمال وللأسماء الحسنى والصفات العلا، فالتكلم يسمى شهادة.
فإن هذه الآية في المشركين: {سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ} [الزخرف:19] هم ما قالوا: نشهد أن الملائكة بنات الله، وإنما تكلموا فيما بينهم، فلذلك قال تعالى: {وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا} [الزخرف:19] يعني: تكلموا فيما بينهم وقالوا: الملائكة إناث الملائكة بنات الله، فجعل ذلك شهادة فقال: {سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ} [الزخرف:19] هذا سبب تسميتها شهادة؛ لأنهم تكلموا بها.(5/5)
مرتبة الإعلام
قال رحمه الله: [وأما مرتبة الإعلام والإخبار فنوعان: إعلام بالقول وإعلام بالفعل، وهذا شأن كل معلم لغيره بأمر؛ تارة يعلمه به بقوله، وتارة بفعله، ولهذا كان من جعل داره مسجداً وفتح بابها وأبرزها بطريقها وأذن للناس بالدخول والصلاة فيها معلماً أنها وقف وإن لم يتلفظ به.
وكذلك من وجد متقرباً إلى غيره بأنواع المسار يكون معلماً له ولغيره أنه يحبه وإن لم يتلفظ بقوله، وكذلك بالعكس.
وكذلك شهادة الرب عز وجل وبيانه وإعلامه، يكون بقوله تارة وبفعله أخرى، فالقول ما أرسل به رسله وأنزل به كتبه، وأما بيانه وإعلامه بفعله فكما قال ابن كيسان: شهد الله بتدبيره العجيب وأموره المحكمة عند خلقه: {أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [آل عمران:18] ، وقال آخر: وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد ومما يدل على أن الشهادة تكون بالفعل قوله تعالى: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ} [التوبة:17] فهذه شهادة منهم على أنفسهم بما يفعلونه.
والمقصود أنه سبحانه يشهد بما جعل آياته المخلوقة دالة عليه، ودلالتها إنما هي بخلقه وجعله] .
هذه المرتبة الثالثة التي هي إعلام الغير، يقول: إن الله شهد لنفسه بالإلهية، ومن آثار الشهادة ومن تمامها أن أعلم غيره بأنه: (لا إله إلا هو) وهذا الإعلام ذكر أنه يكون بأمرين: إعلام بالفعل، وإعلام بالقول.
إعلام الله لخلقه بالقول هو ما تضمنه كلامه الذي أوحاه إلى رسله، فإنه أرسل الرسل وأوحى إلى كل منهم بهذا التوحيد، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25] .
فهذا إعلام بالقول حيث أعلم كل نبي بواسطة الملائكة بهذا النوع الذي هو توحيد العبادة، وكذلك أنزل إلى كل نبي كتباً أو صحفاً، وضمن تلك الكتب كلامه الذي يتضمن توحيده وشرعه.
وأما الإعلام بالفعل: فهو ما نصبه تعالى من الآيات والدلالات التي من تأملها عرف حقيقة التوحيد، وعرف الدين الحق، وعرف أن الله هو الواحد الأحد، فإنه سبحانه نصب الآيات، ولفت إليها الأنظار، فلأجل هذا يذكر عباده بالمخلوقات التي خلقها، فيخبرهم بخلقهم أنفسهم، وبخلق ما على الأرض من الدواب، ويخبرهم بخلق الأرض، واختلاف ما فيها من جبال ومن مهاد ومن بحار ومن أنهار ومن أشجار ومن ثمار وما أشبه ذلك، وهكذا يلفت أنظارهم إلى ما فوقهم من الرياح ومن السحب، ومن الأفلاك وما فيها من النجوم السيارة والثابتة وما أشبهها، كل ذلك من الآيات التي نصبها لعباده يعلمهم بها التوحيد، كأنه يقول: تعلموا من هذه الآيات دلالتها على أن الخالق لها هو الواحد الأحد، وهو المستحق بأن يعبد ويفرد.
فشهد بالقول بقوله: {لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25] .
وشهد بالفعل، بأن أعلم عباده بالفعل؛ فنصب الآيات والدلالات حتى يعلموا منها قدرته تعالى على كل شيء واستحقاقه لأن يؤله وحده، وأن لا يؤله معه غيره.
يذكر الشارح أن الإعلام يكون بالقول وبالفعل حتى منا، فالواحد منا عليه أن يعلم الناس بما يعتقده، نحن نعتقد أن لا إله إلا الله، فنخبر بأنا نعتقد ذلك، وهذا الإخبار يقتضي الإعلام، فنقول: اعلموا بأنا نعتقد أن الله هو الإله الحق، فهذا إعلام بالقول.
وأما الإعلام بالفعل فهو أفعال الإنسان، فأنت إذا رأيت المؤمن التقي الموحد يمد يديه إلى ربه يتضرع إليه، عرفت أنه يعبد إلهاً واحداً، وكذلك إذا رأيته يركع له ويسجد، يقوم له ويقعد، يخضع له ويتواضع، عرفت من ذلك أنه يعبد إلهاً واحداً، فأعلمك هذا العابد بقوله وأعلمك بفعله، فالإعلام يكون بالأمرين، بالقول وبالفعل.
فمثلاً: الذي بنى هذا المسجد ما قال للناس: أيها الناس هذا وقف، بل لما بناه على هيئة المسجد وفتح أبوابه وشرع للناس ليجتمعوا فيه وليقيموا فيه الصلوات، وليحضر فيه الخطب والحلقات، كان ذلك إعلاماً بالفعل وإن لم يكن إعلاماً بالقول.
فكذلك إذا أعلمك طالب العلم أو المسلم بفعله أنه يعبد الله وحده فإن ذلك كاف في الإعلام.(5/6)
مرتبة الأمر والإلزام
قال رحمه الله: [وأما مرتبة الأمر بذلك والإلزام به، وأن مجرد الشهادة لا يستلزمه، لكن الشهادة في هذا الموضع تدل عليه وتتضمنه؛ فإنه سبحانه شهد به شهادة من حكم به وقضى وأمر وألزم عباده به، كما قال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء:23] ، وقال الله تعالى: {لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ} [النحل:51] وقال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة:5] ، وقال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا} [التوبة:31] ، وقال تعالى: {لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} [الإسراء:22] ، وقال تعالى: {وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} [القصص:88] ، والقرآن كله شاهد بذلك] .
ذكر المرتبة الرابعة، وهي مرتبة الأمر والإلزام، بعد أن ذكر مرتبة العلم، ثم مرتبة التكلم، ثم مرتبة الإخبار، ثم مرتبة الإلزام.
فهذه المرتبة الرابعة التي هي مرتبة الأمر والإلزام بالمأمور به، وهو التوحيد، قال الله تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران:18-19] هذه الشهادة قد لا يكون فيها أمر صريح فهو لم يقل: اشهدوا بما شهدت به، ولا قال: ألزمتكم أيها الناس بأن تشهدوا بما شهدت به، ولكن العاقل يتفكر إذا قرأ أو قيل له: إن الله قد شهد لنفسه بالوحدانية، وملائكته شهدوا له بذلك، والعلماء من خلقه شهدوا له بذلك، فيفكر ويقول: كيف لا أكون مع العلماء؟! إذا لم أكن مع العلماء كنت مع الجهال، ولا أرضى أن أكون بين الجاهلين، فعند ذلك يشهد بما شهدوا به، فكأن ذلك أمر، وكأنه يقول: شهدت بذلك أنا وملائكتي والعلماء من خلقي فافعلوا ذلك واشهدوا به يا جميع الخلق.
هذا قد يؤخذ من هذه الشهادة، ولكن هناك أدلة صرحت بأمر الناس كلهم بهذه الشهادة، وبهذا التوحيد، مثل الآيات التي تقدمت، فالله تعالى يقول: {أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [يوسف:40] هذا أمر وإلزام، وكذلك في آيات كثيرة كقوله: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [النساء:36] ، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} [البقرة:21] ، {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ} [البقرة:83] ، {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء:23] ، {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا} [التوبة:31] ، {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة:5] فالأمر يقتضي الإلزام.
إذا أمرنا الله بهذا فقد ألزمنا به، فيجب امتثاله، فإن أمر الله هو الحق، وضده هو الباطل، فمن لم يمتثل هذا المأمور فإنه خاسر.(5/7)
بيان استلزام شهادة الله لنفسه بالإلهية للأمر بعبادته سبحانه من وجوه(5/8)
الوجه الأول في استلزام الشهادة للأمر بالعبادة
قال رحمه الله: [ووجه استلزام شهادته سبحانه لذلك: أنه إذا شهد أنه لا إله إلا هو فقد أخبر وبين وأعلم وحكم وقضى أن ما سواه ليس بإله، وأن إلهية ما سواه باطلة، فلا يستحق العبادة سواه، كما لا تصلح الإلهية لغيره، وذلك يستلزم الأمر باتخاذه وحده إلهاً، والنهي عن اتخاذ غيره معه إلهاً، وهذا يفهمه المخاطب من هذا النفي والإثبات، كما إذا رأيت رجلاً يستفتي رجلاً أو يستشهده أو يستطبه وهو ليس أهلا لذلك ويدع من هو أهل له، فتقول: هذا ليس بمفت ولا شاهد ولا طبيب، المفتي فلان والشاهد فلان والطبيب فلان، فإن هذا أمر منه ونهي] .
كأن الشارح يقول: إن كلمة: (شهد الله أنه لا إله إلا هو) قد يؤخذ منها الأمر، ولكن كيف يؤخذ الأمر؟ إذا أخبر الله بهذا الخبر فقد أخبر بإلهيته الحقة، ونفى عن غيره الإلهية، فنفى أن يكون غيره صالحاً لأن يكون إلهاً، وإذا لم يصلح غيره للإلهية فكأنه يأمر عباده بأن يؤلهوه، فيقول: الإله الحق هو الله، فإذا كنتم تريدون نجاتكم فاتخذوه إلهاً، واتركوا إلهية ما سواه، هذا وجه أخذ الأمر من قوله: (شَهِدَ اللَّهُ) .
كل من سمع ذلك يقول: هذه شهادة الله، وإذا شهد الله وملائكته والعلماء من خلقه بهذا الشيء فقد بطل ما عداه، وكل ما سوى هذا المشهود به فهو باطل، فلا يصح حينئذٍ أن يجعل معه آلهة، ولا أن يؤلِّه غيره، فمن ألَّه غيره فقد ضل سعيه في الحياة الدنيا وخسر عمله.
وضرب مثلاً بما إذا سمعت إنساناً أو رأيت إنساناً يسأل إنساناً أن يعالجه، فقلت له: هذا ليس بطبيب، الطبيب فلان، فكأنك تقول: اذهب إليه واترك هذا فإنه ليس بطبيب.
أو يستشهده يقول: اشهد معي، يعتقد أنه مقبول الشهادة، فإنك تقول: هذا ليس بشاهد ولكن الشاهد فلان، فكأنك تقول: اذهب إليه واستشهده فإنه الذي تقبل شهادته.
وكذلك إذا رأيته يستفتي جاهلاً قلت: هذا ليس بمفت، المفتي فلان، كأنك تقول: اذهب إليه.
فهذا الذي أنت تخاطبه يفهم بأنك تأمره بأن يذهب إلى ذلك الطبيب الشاهد المفتي، فكذلك إذا قال الله: الإلهية الحقة لله، كأنه يقول: فألهوه واتخذوه إلهاً، واتركوا إلهية ما سواه، هذا وجه الدلالة من الشهادة.(5/9)
الوجه الثاني في استلزام الشهادة للأمر بالعبادة
قال رحمه الله: [وأيضاً: فالآية دلت على أنه وحده المستحق للعبادة، فإذا أخبر أنه وحده المستحق للعبادة تضمن هذا الإخبار أمر العباد وإلزامهم بأداء ما يستحقه الرب تعالى عليهم، وأن القيام بذلك هو خالص حقه عليهم.
وأيضاً: فلفظ (الحكم) و (القضاء) يستعمل في الجملة الخبرية، ويقال للجملة الخبرية: قضية وحكم، وقد حكم فيها بكذا قال تعالى: {أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ * وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [الصافات:151-154] ، فجعل هذا الإخبار المجرد منهم حكماً وقال تعالى: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [القلم:35-36] لكن هذا حكم لا إلزام معه] .
وهذا أيضاً بيان أنه يؤخذ الحكم من هذا الأمر، فالأمر بالتوحيد هو الإلزام به، فإن الإنسان إذا سمع حكم الله تعالى فإنه يتبعه {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا} [المائدة:50] ، إذا عرف أن الله أخبر بهذا الشيء، وأنه أعلم خلقه بأنه الإله، فإنه يعرف أنه الإله الحق الذي يستحق أن يؤله، فكأنه يقول: إن الله يأمرنا بأن نتخذه إلهاً، ونترك التأله لغيره، هذا من جهة.
ومن جهة ثانية يقول: إذا فسرنا (شهد) بحكم، وأخبر، فإن الخبر والحكم يقتضي الإلزام، ومعلوم أن الحكم هو: إثبات أمر لأمر أو نفيه عنه، كما يقول ذلك الأصوليون، فإذا حكم الله لنفسه بالإلهية، وحكم لغيره بعدم الصلاحية للإلهية، فهذا حكم من الله، وحكم الله واجب الإتباع.
والحكم قد يطلق كما سمعنا على كل قضية، فكل قضية قد تسمى حكما، تقول: هذه قضية فلان وحكم فيها فلان بكذا وكذا، كما في هذه الآيات، التي أخبر الله بها بأن هذا الأمر حكم منه.
فعلى كل حال الآية صريحة في إبطال إلهية ما سوى الله تعالى، وإثبات الإلهية لله تعالى، والإثبات يستلزم الإلزام.
قال رحمه الله: [والحكم والقضاء بأنه: لا إله إلا هو متضمن الإلزام، ولو كان المراد مجرد شهادة لم يتمكنوا من العلم بها، ولم ينتفعوا بها، ولم تقم عليهم بها الحجة، بل قد تضمنت البيان للعباد ودلالتهم وتعريفهم بما شهد به، كما أن الشاهد من العباد إذا كانت عنده شهادة ولم يبينها بل كتمها، لم ينتفع بها أحد، ولم تقم بها حجة.
وإذا كان لا ينتفع بها إلا ببيانها فهو سبحانه قد بينها غاية البيان بطرق ثلاثة: السمع والبصر والعقل] .
يقول: إن مجرد الشهادة لا تتم إلا إذا كان معها إلزام، فالله تعالى عندما شهد كأنه ألزم، شهد لنفسه بأنه لا إله إلا هو، وهذه الشهادة تستلزم الأمر الذي ينتج منه الإيجاب، ومعلوم أن الشهادة لا ينتفع بها إلا إذا بينت؛ يقول: لو أن إنساناً عنده شهادة لك، وكتمها، ما حصل أنك تنتفع بها، فلا تنتفع بها إلا إذا بين وقال: لك عندي شهادة، فالله تعالى شهد لنفسه وبين هذه الشهادة بهذه الطرق.(5/10)
بيان هذه الشهادة بالسمع
قال رحمه الله تعالى: [أما السمع: فبسمع آياته المتلوة المبينة لما عرفنا إياه من صفات كماله كلها الوحدانية وغيرها، غاية البيان، لا كما يزعمه الجهمية ومن وافقهم من المعتزلة ومعطلة بعض الصفات من دعوى احتمالات توقع في الحيرة، تنافي البيان الذي وصف الله به كتابه العزيز ورسوله الكريم، كما قال تعالى: {حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ} [الزخرف:1-2] ، {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ} [يوسف:1] ، {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ} [الحجر:1] ، {هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران:138] ، {فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [المائدة:92] ، {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل:44] وكذلك السنة تأتي مبينة أو مقررة لما دل عليه القرآن، لم يحوجنا ربنا سبحانه وتعالى إلى رأي فلان، ولا إلى ذوق فلان، ووجده في أصول ديننا؛ ولهذا نجد من خالف الكتاب والسنة مختلفين مضطربين، بل قد قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3] ، فلا يحتاج في تكميله إلى أمر خارج عن الكتاب والسنة.
وإلى هذا المعنى أشار الشيخ أبو جعفر الطحاوي فيما يأتي من كلامه بقوله: (لا ندخل في ذلك متأولين بآرائنا، ولا متوهمين بأهوائنا، فإنه ما سلِم في دينه إلا من سلّم لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم) ] .
يقول: إن الله تعالى لما شهد هذه الشهادة بينها، وبيانه عن طريق السمع وعن طريق البصر وعن طريق العقل، وعن طريق النظر، يعني بكل أنواع البيان، فلم يبق طريق إلا وبينه من جهته أتم بيان.(5/11)
وضوح السمع وبيانه
فمن طريق السمع: سماعنا آيات الله التي هي القرآن والكتب التي أنزلها على رسله، وهي في غاية الإيضاح والبيان، وهذا هو الذي دعاه إلى أن يستشهد بالآيات التي فيها ذكر البيان، فإن قوله تعالى: {هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ} [آل عمران:138] ، لا شك أنه يبين المهم الذي يحتاجون إليه، وأهم ما يحتاجون إليه معرفة الله بآياته وبمخلوقاته، ومعرفة حقه: وهو عبادته وحده وترك عبادة ما سواه، وطاعته كما بين على ألسنة رسله.
وكذلك وصف القرآن في قوله: {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ} [يوسف:1] يعني المبين الذي بين الله فيه، فهو مبين من أوجه: أولاً: أنه بين واضح.
وثانياً: أنه مبيِّن مشتمل على بيان، وأي بيان أوضح من بيان كلام الله تعالى! وثالثاً: أن الله تعالى أمر رسوله بأن يوضحه، فالرسول صلى الله عليه وسلم بين معانيه بقوله وبفعله، امتثالاً لهذه الآيات التي سمعنا، وهي قول الله تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل:44] ، وقد كان الصحابة رضي الله عنهم يتعلمون المعاني مع الألفاظ، يقول عبد بن حبيب السلمي: حدثنا الذين كانوا يقرئوننا القرآن: أنهم كانوا إذا تعلموا عشر آيات لم يتجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها، يقول: فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعاً.
ولا شك أن هذا لإقامة الحجة، فما دام أن هذا القرآن قد بين للناس ما يحتاجون إليه، وبالأخص في أمر العقيدة والتوحيد، فإن الخلق واجب عليهم أن يقبلوا ذلك البيان وينتفعوا به ويعملوا به.
وما ظهر لهم فإنهم يقبلوه، وما خفي عنهم من الأمور الغيبية فإنهم يسلمون له، ويتوقفون عن البحث في حقيقته، وهذا معنى قوله: (لا ندخل في ذلك متأولين بآرائنا ولا متوهمين بأهوائنا) ، بل نتسلم ذلك على ما هو عليه.
أولاً: أنه واضح من حيث إنه مفهوم؛ لأنه بلسان عربي مبين.
ثانياً: أن ما فيه من الخفي قد بينه الرسول عليه الصلاة والسلام وتلقى ذلك عنه صحابته، وبينوا ذلك وشرحوه لتلامذتهم، ونقلت شروحهم وتفاسيرهم في كتب التفسير موضحة ظاهرة يجدها من طلبها، فما بقي لأحد حجة.
فالحاصل أن التوحيد قد بين أتم بيان.
{قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا} [فاطر:40] .(5/12)
شرح العقيدة الطحاوية [6]
الكون مليء بالآيات الدالة على وحدانية الله، وبينات الرسل وأحوالهم شواهد صدق على أن الله أرسلهم، وأسماء الله وصفاته من ألطف الأدلة على وحدانيته وصدق رسله.(6/1)
فضل العلم وشرفه
العلم في الأصل أفضل من الجهل، وكل يحب الانتماء والانتساب إلى العلم، ويهرب ويربأ بنفسه أن ينسب إلى الجهل، والعلوم تتفاوت في الأهمية، فأهم العلوم هو العلم الذي يفقه به العبد دينه، فيعرف كيف يعبد ربه؛ بل يعرف ربه ويعرف دينه، فهذا هو أشرف وأفضل العلوم.
وطريق تعلمه وتحصيله سهل ويسير على من يسره الله عليه، وذلك لأن الله سبحانه لما أقام الحجة على عباده ببعثة الرسل وإنزال الكتب، تكفل بحفظ ذلك حتى لا يكون للمتأخر حجة كما لم تكن للمتقدم.
فيسر الله حفظ ذلك العلم الذي هو ميراث الأنبياء، حتى وصل إلى المتأخرين كما هو عند المتقدمين، ولكن حيث كان هناك أعداء لهذا الدين ولهذا العلم، فإن أولئك الأعداء قد حرصوا على أن يشوهوا سمعة هذا العلم الصحيح، وأن يلبسوا على أهله، وأن يرموهم بالعيوب، ولكن الله سبحانه حفظ شريعته وقيض لأولئك من يدفع شبههم، ويبين ضلالهم وخطأهم، فقيض الله أهل السنة الذين ساروا على نهج الرسل، وساروا على نهج الصحابة، وعرفوا -حتى عند الأعداء- بأنهم السائرون على طريقة السلف، أو بأنهم المتمسكون بالسنة، والفضل ما شهدت به الأعداء.
ولا شك أن من جملة العلوم التي حصل فيها شيء من الاشتباه والاختلاف هو علم العقيدة، الذي هو موضوعنا في هذه الدروس، ونأمل -إن شاء الله- أن قد فقهنا في أصل هذا العلم الذي هو علم الاعتقاد.
وبلا شك أن أصله معرفة الله تعالى المعرفة التي ينتج منها عبادته، وأن يترك ويعرض عن عبادة ما سواه، فإذا عرف الإنسان أهمية هذا العلم استطاع بعد ذلك أن يعرف مفرداته، وتفاصيله، حيث إنها موجودة ميسرة في متناول الأيدي، وقد يسر الله لها من اعتنى بها، فما على المسلم الذي يريد العلم الصحيح إلا أن يتناولها بالتعلم والتفقه ليعبد ربه على بصيرة.(6/2)
دلالة النظر والتفكر على وحدانية الله
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وأما آياته العيانية الخلقية: فالنظر فيها والاستدلال بها يدل على ما تدل عليه آياته القولية السمعية، والعقل يجمع بين هذه وهذه فيجزم بصحة ما جاءت به الرسل، فتتفق شهادة السمع والبصر والعقل والفطرة] .
قد عرفنا أن أهم العلوم معرفة الله، ثم عبادته، ولكونها أهم من غيرها جاءت الشريعة ببيانها، فبينها الله عن طريق السمع وعن طريق البصر وعن طريق العقل.
فأما البيان السمعي فهو ما بلغه الرسل من كلام الله، ومن كلام الأنبياء الذين بينوه، فإن بيان هذه العقيدة يأخذه الناس عن طريق السمع، وتسمى الآيات السمعية، فالقرآن والأحاديث أدلة سمعية منقولة عن عالم بعد عالم، إلى أن تنتهي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، أو إلى الأنبياء قبله.
أما الأدلة النظرية فهي الآيات التي ترى بالعين ويقال لها المخلوقات؛ وذلك لأن النظر فيها يكسب الناظر عبرة وعظة، ويكسب الناظر معرفة وبصيرة، ولأجل ذلك كثيراً ما يرشد الله العباد إلى النظر في الآيات والبراهين، كقوله تعالى: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ} [ق:6] وكقوله تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [يوسف:109] ، وأشباه ذلك من الآيات كثيرة.
النظر في هذه المخلوقات هو الدليل النظري والبصري، وكلما كان العاقل فاهماً ذكياً كان نظره أتم، وأما إذا نقصت العقلية فإن النظر يكون أنقص؛ وذلك لأن مجرد النظر بالعين لا يفيد، حتى يكون نظراً في القلب، فالعين توصل إلى القلب، فإذا لم يكن هناك قلب واع حي لم ينفع النظر بالعين.
وقد يكون هناك من هو ضرير لا يبصر ولكن يعتبر بما يحسه، فيكون نظره بقلبه أقوى من نظر المبصرين، ويكون من المبصرين من يشاهد هذه الآيات والعجائب، ولكن قلوبهم في غي، وفي غفلة، وفي أغشية وفي أكنة قلوبهم غلف مقفل عليها والعياذ بالله، ولذلك قال تعالى: {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:46] والحاصل أن الله سبحانه بين هذه الآيات والبراهين بياناً واضحاً عن طريق السمع للآيات السمعية، وعن طريق النظر للآيات البصرية ومن رزقه الله حياة قلب انتفع بما يسمع وبما يرى، ومن فقد ذلك فالعمى خير له.(6/3)
من رحمة الله وإحسانه إقامة الحجج والبينات على صدقه وصدق رسله
قال المؤلف رحمه الله: [فهو سبحانه لكمال عدله ورحمته وإحسانه وحكمته ومحبته للعذر وإقامة الحجة، لم يبعث نبياً إلا ومعه آية تدل على صدقه فيما أخبر به، قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [الحديد:25] وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ * بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ} [النحل:43-44] وقال تعالى: {قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ} [آل عمران:183] وقال تعالى: {فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ} [آل عمران:184] وقال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ} [الشورى:17] حتى إن من أخفى آيات الرسل آيات هود، حتى قال له قومه: {يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ} [هود:53] ، ومع هذا فبينته من أوضح البينات لمن وفقه الله لتدبرها، وقد أشار إليها بقوله: {إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ * إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [هود:54-56] .
فهذا من أعظم الآيات: أن رجلاً واحداً يخاطب أمة عظيمة بهذا الخطاب، غير جزع ولا فزع ولا خوار، بل هو واثق بما قاله، جازم به، فأشهد الله أولاً على براءته من دينهم وما هم عليه إشهاد واثق به معتمد عليه، معلنٍ لقومه أنه وليه وناصره وغيرُ مسلِّط لهم عليه، ثم أشهدهم إشهاد مجاهر لهم بالمخالفة أنه بريء من دينهم وآلهتهم التي يوالون عليها ويعادون عليها، ويبذلون دماءهم وأموالهم في نصرتهم لها.
ثم أكد ذلك عليهم بالاستهانة لهم واحتقارهم وازدرائهم، ولو يجتمعون كلهم على كيده وشفاء غيظهم منه، ثم يعاجلونه ولا يمهلونه، لم يقدروا على ذلك إلا ما كتبه الله عليه، ثم قرر دعوتهم أحسن تقرير، وبين أن ربه تعالى وربهم الذي نواصيهم بيده هو وليه ووكيله القائم بنصره وتأييده، وأنه على صراط مستقيم، فلا يخذل من توكل عليه وأقر به، ولا يشمت به أعداءه.
فأي آية وبرهان أحسن من آيات الأنبياء عليهم السلام وبراهينهم وأدلتهم؟! وهي شهادة من الله سبحانه لهم بينها لعباده غاية البيان] .(6/4)
معجزات كل نبي تناسب أهل زمانه
قطع الله المعذرة ببينات الرسل، قال تعالى: {وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ} [النساء:164] إلى قوله: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء:165] أي: أرسلنا أولئك الرسل لتنقطع الحجة وينقطع العذر، لئلا يقولوا: {مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ} [المائدة:19] ، كما حكى الله ذلك عنهم وقال تعالى: {فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ} [القصص:48] فالله سبحانه أرسل الرسل، وجعل معهم بينات ترجح جانبهم، وجعل لهم معجزات يظهر بها صدقهم.
كل نبي فمعجزاته تناسبه وتعجز أهل زمنه، ومنهم من أخبرنا الله بمعجزاته، كما أخبر عن صالح أن من معجزاته تلك الناقة التي قال لهم عنها: {لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} [الشعراء:155] .
وعن معجزات موسى أنها تسع آيات، منها: اليد، والعصا، وفلق البحر، والطوفان، والقمل، والضفادع، والدم، وما أشبهها من الآيات المعجزة لأهل زمانه.
وعن معجزات عيسى: أنه يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن الله، ويخبرهم بما يأكلون وما يدخرون في بيوتهم.
وعن معجزات داود، منها قوله: {إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإِشْرَاقِ * وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ} [ص:18-19] .
ومعجزات سليمان: في قوله: {فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ * وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ * وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ} [ص:36-38] .
وكذلك معجزات نبينا ودلائل نبوته صلى الله عليه وسلم، ومنها هذا القرآن الذي تحدى به فصحاء العرب في زمانه فعجزوا عن معارضته، ومنها ما أجرى الله على يديه من الآيات التي منها إخباره بالأمور المغيبة، ومنها نصره وتأييده على أعدائه، ونحو ذلك من المعجزات.
ولا شك أن هذه المعجزات يراد منها ظهور صدق أولئك الرسل، وذلك أن الله تعالى يحب أن يقطع العذر عن العاصي والمفرط، ويحب العذر إلى العباد، ولذلك ورد في حديث: (لا أحد أحب إليه العذر من الله، من أجل ذلك أرسل الرسل) ، وقال في الحكمة من إرسالهم: {عُذْرًا أَوْ نُذْرًا} [المرسلات:6] يعني إعذاراً وإنذارا، فهذا دليل على أنه سبحانه قطع الحجة على الناس بقوله: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء:165] .
ومن تأمل آيات الرسل عرف صدقهم، ولكن إنما صد عنهم من أعمى الله بصيرته، ولأجل ذلك عاقب الله من كذبهم بأنواع من العقوبات، فأهلك قوم نوح بالغرق، ثم عاداً وهم قوم هود، فأرسل الله عليهم الريح، وقوم صالح وهم ثمود عاقبهم الله بالصيحة، وأشباه ذلك.(6/5)
عظم معجزة هود مع أنها أخفى معجزات الأنبياء
ذكر الشارح أن قوم هود كأنهم أنكروا رسالته لما لم يأتهم بآية ومعجزة بينة، ولكن قرر الشارح آية هود ومعجزته التي أخذت من هذه الآيات في سورة هود، وهي قول الله تعالى حكاية عنهم: {مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ} [هود:53] يعني بآية معجزة، ثم ظنوا أنه إنما به جنون! فقالوا: {إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ} [هود:54] يعني: أن آلهتنا تسلطت عليك فأصبتك بجنون.
ولكنه رد عليهم هذا الرد المتزن الذي يدل على ثباته، فقرر أنه لا يخافهم ولو حصل اجتماعهم كلهم، حيث قال: {فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ * إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [هود:55-56] وتقدم تفصيل الشارح وتفسيره لهذا، وأخذه من كونه فرداً يتحدى أمة من أقوى الأمم حتى إنهم قالوا: {مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً} [فصلت:15] وقد وصفهم الله بالجبروت في قوله: {وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ} [الشعراء:130] .
فهذا شخص واحد يتحداهم ويقول لهم: ائتوا بكل كيد، ائتوا بكل حيلة إن كنتم تستطيعون! ولكنكم لا تستطيعون؛ لأني معتمد على الله، متوكل على الله ربي وربكم، والذي يأخذ بنواصي جميع الدواب، فكل الدواب مسخرة مذللة بأمره، فهذا ونحوه دليل على أن الله قوى قلبه وثبته وذلك أعظم من بقية المعجزات.
وبلا شك أن الله أيده بمعجزات أخرى لا ندري ما هي، لكن بهذا تقوم الحجة على العباد.
إذاً: ما بقي لأحد على الله تعالى حجة بعد الرسل.(6/6)
تصديق الله لعباده وأنبيائه حجة على من خالفهم
قال رحمه الله: [ومن أسمائه تعالى (المؤمن) وهو في أحد التفسيرين: المصدق الذي يصدق الصادقين بما يقيم لهم من شواهد صدقهم، فإنه لا بد أن يري العباد من الآيات الأفقية والنفسية ما يبين لهم أن الوحي الذي بلغه رسله حق، قال تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت:53] أي: القرآن، فإنه هو المتقدم في قوله {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [فصلت:52] ثم قال: {أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [فصلت:53] فشهد سبحانه لرسوله بقوله إن ما جاء به حق، ووعد أنه يري العباد من آياته الفعلية الخلقية ما يشهد بذلك أيضا، ثم ذكر ما هو أعظم من ذلك كله وأجل، وهو شهادته سبحانه بأنه على كل شيء شهيد، فإن من أسمائه الشهيد الذي لا يغيب عنه شيء ولا يعزب عنه، بل هو مطلع على كل شيء مشاهد له، عليم بتفاصيله.
وهذا استدلال بأسمائه وصفاته، والأول استدلال بقوله وكلماته، واستدلاله بالآيات الأفقية والنفسية استدلال بأفعاله ومخلوقاته] .
كل هذا تفصيل لبيان أنه سبحانه أقام الحجة وقطع المعذرة.
وقوله: (ومن أسمائه المؤمن) قال تعالى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ} [الحشر:23] ، فهو الذي يصدق عباده، أي: رسله وعباده المؤمنين، فيصدق الرسل بما يظهر على أيديهم من المعجزات والبراهين، ويصدق المؤمنين بما يذكرهم به ويؤيدهم عند خصوماتهم للأعداء، أو عند قتالهم للكفار، فالنصر الذي يجريه على أيديهم هذا من التوفيق لهم، وكذلك الحجة التي يجريها على ألسنتهم من التوفيق لهم، يصدقهم حتى يعرف صدقهم، ويعرف ذلك من قصده الحق والصواب.
وأما من زاغ عقله فإنه لا تغني عنه النذر: {وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ} [يونس:101] .
كذلك من أسمائه تعالى (الشهيد) ، قال تعالى: {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [سبأ:47] ، والشهيد: الشاهد، والشاهد مأخوذ من المشاهدة، وذلك لأنه تعالى شاهد على عباده ومن جملتهم رسله، وشهادته على رسله سبحانه أنه شهد بصدق ما جاءوا به، وذلك بما أجرى على أيديهم من الآيات والبراهين، وبذلك كله يعرف أنه ما بقي لأحد حجة بعد الرسل وبعد الكتب، فما بقي إلا المعاندون الذين يخالفون الحق عناداً.(6/7)
بيان صحة الاستدلال بأسماء الله وصفاته على صحة رسالة أنبيائه
قال المؤلف رحمه الله: [فإن قلت: كيف يستدل بأسمائه وصفاته، فإن الاستدلال بذلك لا يعهد في الاصطلاح؟ ف
الجواب
أن الله تعالى قد أودع في الفطرة التي لم تتنجس بالجحود والتعطيل، ولا بالتشبيه والتمثيل، أنه سبحانه الكامل في أسمائه وصفاته، وأنه الموصوف بما وصف به نفسه ووصفه به رسله، وما خفي عن الخلق من كماله أعظم وأعظم مما عرفوه منه.
ومن كماله المقدس شهادته على كل شيء واطلاعه عليه، بحيث لا يغيب عنه ذرة في السماوات ولا في الأرض باطناً وظاهراً، ومن هذا شأنه كيف يليق بالعباد أن يشركوا به، وأن يعبدوا غيره ويجعلوا معه إلهاً آخر؟! وكيف يليق بكماله أن يقر من يكذب عليه أعظم الكذب، ويخبر عنه بخلاف ما الأمر عليه، ثم ينصره على ذلك ويؤيده، ويعلي شأنه، ويجيب دعوته، ويهلك عدوه، ويظهر على دينه من الآيات والبراهين ما يعجز عن مثله قوى البشر، وهو مع ذلك كاذب عليه مفتر؟! ومعلوم أن شهادته سبحانه على كل شيء، وقدرته وحكمته وعزته، وكماله المقدس يأبى ذلك، ومن جوز ذلك فهو من أبعد الناس عن معرفته] .(6/8)
تمكين الله لرسوله ونشر دينه وقهر أعدائه دليل على صحة الرسالة
ذكر ابن القيم رحمه الله في بعض كتبه أنه لقي بعض النصارى الذين يكذبون برسالة النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لهم: أنتم أيها النصارى! قد طعنتم في حكمة الله، وطعنتم في قدرته، وطعنتم في علمه واطلاعه! فاستغرب ذلك النصراني من هذا الكلام! فقال: إن تكذيبكم برسالة محمد صلى الله عليه وسلم طعن في الله، وذلك أننا وأنتم نشاهد أنه ادعى أنه نبي، وقامت على يديه هذه المعجزات وهذه الدلالات التي هي دلائل نبوة، فكيف يقيمها الله على يديه وهو كذاب؟! ثم نصره الله في مواطن كثيرة! فانتصر على الأعداء وهم كثيرون، والمسلمون قلة، فكيف ينصره على أولئك الأعداد وهو يكذب عليه ويقول عليه ما لم يقل؟! ثم مكن الله لدينه، وانتشر هذا الدين الذي هو في زعمكم دين باطل مكذوب! فهل يليق بحكمة الله أن يعلي هذا الدين وهو دين باطل، وأن يظهره وأن يمكن لأهله، وأن يسلطهم على الناس: يقتلون ويأسرون ويفتحون البلاد، ويدوخون العباد، وهم مع ذلك كذبة متبعون لنبي كذاب؟! لا شك أن هذا طعن في الله، فأنتم يا معشر النصارى قد طعنتم في ربكم من حيث لا تشعرون؛ حيث كذبتم هذا النبي الذي هو في زعمكم ليس بنبي.
وطعنتم في حكمة الله، فإن الله حكيم يضع الأشياء في مواضعها، فكيف يليق بالله أن ينصره وأن يعلي سلطانه وأن يؤيده، وأن يظهر على يديه هذه المعجزات وهو يسمع كلامه الذي هو افتراء عليه وكذب! كيف ينصره ويمكن له في الأرض؟! وكيف يهدي قلوب الناس إلى اتباعه؟! وكيف يقبل بقلوبهم عليه؟! وكيف يظهر من صفاته ما يكون سبباً في تصديقه؟! ولا شك أن هذا شيء واقعي حقيقي، فإن الذين يكذبون برسالته عليه الصلاة والسلام، وهم يشاهدون أن دينه الحق قد انتشر وتمكن حتى غطى ثلثي المعمورة، وحتى دان به أكثر العباد، وشهدوا بحسنه وبملائمته، حتى الأعداء بمجرد ما يسمعون دعوته، ويعرفون شريعته وطريقته، تنطلق ألسنتهم بحسن ما جاء به، وتشهد بذلك عقولهم ويتبعونه دون تلكؤ ودون توقف، فإن هذا كله دليل على صحة هذا الدين، ودليل على قبول النفوس له، وأن الذين أنكروه إنما انتكست فطرهم ولم يعرفوا الحق مع قيام الأدلة الواضحة عليه.
فعلى هذا يعتبر هذا التمكين من أكبر الآيات، وأكبر المعجزات التي تدل على صدق رسالته صلى الله عليه وسلم، حيث مكن الله له وحقق قول الله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ} [النور:55] ، وصدق الله هذا الوعد، فمكن لهم دينهم الذي ارتضى لهم، وفتح لهم القلوب، وهيَّأ لهم الأسباب ويسر لهم العسير وظهر دين الله تعالى، وتحقق قول الله عز وجل: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة:33] وقوله تعالى: {وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ} [التوبة:32] ، {وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ} [الصف:8] فتمم الله نوره الذي هو هذه الشريعة، وأظهر هذا الدين على سائر الأديان، ولا شك أن ذلك من أكبر المعجزات.
ولو لم يكن هناك من دلائل نبوته التي تدل على صدقه عليه الصلاة والسلام، وصحة ما جاء به إلا النصر والتمكين وفتح القلوب والبلاد له، وما أيده به من هذا التمكين حتى أقبلت قلوب الناس إليه، وكان أحدهم يصبح وهو عدو له، فإذا أسلم في أول النهار لم يأته الليل إلا والإسلام أحب إليه من الدنيا وما فيها؛ وذلك لما يشاهدونه في هذا الإسلام من سهولة ومحبة وصلاحية وانشراح صدر وفرح وانبساط، وقوة يقين، لا شك أن هذا من أكبر الآيات والمعجزات، ولو لم يكن هناك آيات أخرى لكان هذا كافياً لإثبات أن هذا الدين حق وأنه من عند الله سبحانه وتعالى، هذا ما قرره الشارح في هذا الموضع.(6/9)
عدم نزول العقوبة بمحمد صلى الله عليه وسلم دليل على صدقه وكذب أعدائه
قال رحمه الله: [والقرآن مملوء من هذه الطريق وهي: طريق الخواص، يستدلون بالله على أفعاله وما يليق به أن يفعل ولا يفعله قال تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} [الحاقة:44-47] وسيأتي لذلك زيادة بيان إن شاء الله تعالى.
ويُستدل أيضا بأسمائه وصفاته على وحدانيته وعلى بطلان الشرك، كما في قوله تعالى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الحشر:23] وأضعاف ذلك في القرآن، وهذه الطريق قليل سالكها لا يهتدي إليها إلا الخواص، وطريقة الجمهور الاستدلال بالآيات المشاهده؛ لأنها أسهل تناولا وأوسع، والله سبحانه يفضل بعض خلقه على بعض] .
قوله تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ} [الحاقة:44-46] حق وصحيح، فإن كل من كذب على الله فإن الله ينتقم منه ولو بعد حين، فإن فرعون لما كذب وادعى الربوبية عاقبه الله مع كون مصر قد أطاعت له، حتى قال لهم: {وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ * أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ ولا يكاد يبين} [الزخرف:51-52] يعني: موسى.
فماذا كانت عاقبته؟ انتقم الله منه وأغرقه وهم ينظرون.
كذلك الكذابون في زمن النبي عليه الصلاة والسلام لما ظنوا أن محمداً كاذب فقالوا: سوف ندعي مثلما ادعى، فتنبأ شخص يقال له: مسيلمة، فانخدع به بعض الجهلة من عشيرته، ولكن الله انتقم منه وسلط عليه المسلمين فقتل وضل أتباعه.
وكذلك تنبأ آخر في اليمن، فما متّع إلا ثلاثة أشهر حتى انتقم الله منه وأهلكه، وهكذا كل من ظهر منه اعتداء، يعرف ذلك من قرأ التاريخ.
فمن قرأ كتب التاريخ يجد أن هناك أناساً حاولوا التكبر والتجبر وحصل لهم شيء من الملك ومن القوة، فاستعملوا بطشهم وقوتهم، ثم أمهلوا مدة ولكن أخذهم الله أخذ عزيز مقتدر، قال النبي عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (إن الله ليمهل الظالم حتى إذا أخذه لم يفلته وقرأ قول الله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود:102] ) فكون هذا الإسلام باقياً، ومستمراً يزيد ويظهر، كلما ضعف في جهة مكن الله له في جهة أخرى، وأهله يحبونه ويقبلون عليه، ويتمسكون به، ويؤثرونه ولو قتلوا وعذبوا، دليل على أنه من الله تعالى، وأن ما يقولونه ويعتقدونه هو الدين الحق.
وكون الله جل وعلا يعجل العقوبة للكذابين والمفترين ويأخذهم وينتقم منهم، دليل على أن الله لا يؤيد الكذابين ولا يمكنهم، كيف يمكنهم وهم يفترون عليه؟! كيف يمكن لهم في الأرض وهم كذابون يقولون عليه ويضلون عباده؟! هذا لا يليق بحكمة الله تعالى، فإن من أسمائه الحكيم الذي يضع الأشياء في مواضعها.
فيستدل المرء على صحة هذا الدين وهذه العقيدة وهذا التوحيد بآيات الله، وبمخلوقاته، وبأسمائه وبصفاته، يعني: بآثار تلك الأسماء، وآثار تلك الصفات، فإن من أسماء الله تعالى الحكيم، وهو الذي يضع الأشياء في مواضعها، ومن أسمائه تعالى العزيز، وهو الغالب لكل من خرج عن طاعته، ومن أسمائه أنه عزيز ذو انتقام، يعني: ينتقم ممن خالف أمره، ويأخذه أخذ عزيز مقتدر، كذلك من أسمائه العليم، وهو أنه لا يخفى عليه علم شيء في الأرض ولا في السماء.
وهكذا يقال أيضاً في حكمته وفي خلقه وفي تدبيره وفيما قدره وقضاه في هذا الكون، لا شك أن هذا كله له آثار تدل على ما أعطاه الله تعالى لعباده من الفكر ومن العقل، الذي رزق ووفق به عباداً صالحين قبلوه وتقبلوه.(6/10)
بطلان قول من قسم التوحيد إلى: توحيد عامة، وخاصة، وخاصة الخاصة
قال رحمه الله: [فالقرآن العظيم قد اجتمع فيه ما لم يجتمع في غيره، فإنه الدليل والمدلول عليه، والشاهد والمشهود له، قال تعالى لمن طلب آية تدل على صدق رسوله: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [العنكبوت:51] الآيات.
وإذا عرف أن توحيد الإلهية هو التوحيد الذي أرسلت به الرسل وأنزلت به الكتب، كما تقدمت إليه الإشارة، فلا يلتفت إلى قول من قسم التوحيد إلى ثلاثة أنواع: وجعل هذا النوع: توحيد العامة.
والنوع الثاني: توحيد الخاصة، وهو الذي يثبت بالحقائق.
والنوع الثالث: توحيد قائم بالقدم، وهو توحيد خاصة الخاصة] .
يقول: إن القرآن الذي أنزله الله على قلب نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فيه الكفاية لمن اعتبر، فإن المشركين لما طلبوا آيات {وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ} [العنكبوت:50] قال الله: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ} [العنكبوت:51] أي: هذا الكتاب كاف عن جميع الآيات، لما فيه من الأخبار عن المتقدمين وعن المتأخرين، فمن نظر فيه واعتبر اكتفى بذلك.
والقرآن قد بين حقيقة التوحيد الذي أرسلت به الرسل غاية البيان، وهو توحيد العبادة.
والذين حكى عنهم المؤلف أنهم جعلوا هذا النوع توحيد العامة! هؤلاء هم غلاة الصوفية، أو أهل الوحدة، وجعلوا وراءه توحيدين: توحيد الخاصة، وتوحيد خاصة الخاصة.
وكل ذلك لا دليل عليه، وإنما الأصل أن التوحيد الذي هو حق الله على عباده هو التوحيد الأصلي الذي أمر الناس بأن يدينوا به ويتعلموه ويعبدوا الله تعالى بموجبه، وسيأتي بيان الأدلة على أنواع التوحيد، وعلى بقية أنواع العقيدة إن شاء الله تعالى.(6/11)
شرح العقيدة الطحاوية [7]
لقد ضل كثير من الناس في التوحيد، فمن ذلك ضلال الصوفية في الفناء والاتحاد، ومن ذلك ضلال المشبهة بغلوهم في إثبات الصفات، والمعطلة الغالين في نفي الصفات، وأهل السنة وسط بين الغلاة والجفاة.(7/1)
الأنبياء أكمل الناس توحيداً والصوفية مخالفون لهم(7/2)
توضيح معنى توحيد الخاصة وخاصة الخاصة عند الصوفية
مر بنا بيان شيء مما أوضحه الله تعالى من العلم الذي هو أهم العلوم، وأن الله بينه عن طريق السمع، وعن طريق البصر، وعن طريق العقل، فبينه بالآيات السمعية، وذلك بالقرآن والسنة التي تسمع وتتلى، وكذلك بالآيات النظرية وهي المخلوقات التي جعلها الله علامات ودلالات يعتبر بها أولو الألباب.
وهكذا بينه عن طريق العقل، حيث أعطى الإنسان فكراً وعقلاً وذكاء يعقل به ما أمامه وما بين يديه، وبكل ذلك ينتج نتيجة وهي معرفة المرء نفسه ومعرفة ربه، ومعرفة ما خلق له وما أمر به، جملة وتفصيلاً.
ونتيجة هذه المعرفة وثمرتها هي العبادة الخالصة لله وحده، وترك عبادة ما سواه، فهذه هي نتيجة هذه المعرفة ومدار كلمة الإخلاص التي هي كلمة: (لا إله إلا الله محمد رسول الله) ، فإن أول ما دعت إليه الرسل كلمة التوحيد، وهو ما جاءت به وما بلغته، وهو ما عليه جماهير الأمة، وهو ما تعلمه المسلمون قديماً وحديثاً، ولا عبرة بمن خالف في ذلك من الصوفية الذين جعلوا هذه الكلمة توحيد العامة.
وذلك أنهم قسموا الناس إلى: عامة، وخاصة، وخاصة خاصة.
وقالوا: إن كلمة (لا إله إلا الله) توحيد العامة، وكلمة (الله الله) توحيد الخاصة، وكلمة (هو هو) توحيد خاصة الخاصة، يعني خلاصة الخلاصة.
فعند هؤلاء -قبحهم الله- أن الأنبياء والرسل والصحابة وعلماء الأمة كلهم من العامة الذين لا يعرفون ولا يفقهون، وعندهم أن الصوفية هم الخاصة، يدخل في ذلك أفرادهم وعلماؤهم، والواصلون منهم إلى الذروة هم خاصة الخاصة، فلأجل ذلك تجدهم في ذكرهم لا يزيدون على كلمة (هو هو) ، مع أنها لا تدل على معنى، وأما كلمة الإخلاص فإنها دالة على معنى فهمه المدعوون، فدلت على إخلاص العبادة لله والتبرؤ مما سواه، ولهذا تشتمل على ولاء وبراء، فإن قوله: (لا إله) براء، (إلا الله) ولاء، فتشتمل على اتصال وانفصال، فـ (لا إله) انفصال عن المألوهات، (إلا الله) اتصال بالإله وحده.
فيقال: فيها نفي وإثبات، وفيها اتصال وانفصال، وفيها: ولاء وبراء، فلما كانت كذلك كانت جامعة لمعنى التوحيد الذي هو توحيد الرسل، ولكن كما هو معروف أنه لا بد من معرفة معناها، وذلك لأنه وجد من المتأخرين من يتكلم بها وهو لا يفهم مدلولها؛ فيجب على المسلم أن يفهم ما دلت عليه حتى يعبد الله تعالى بمقتضاها.(7/3)
كمال توحيد الرسل وبيان أكملهم في ذلك
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فإن أكمل الناس توحيداً الأنبياء صلوات الله عليهم، والمرسلون منهم أكمل في ذلك، وأولو العزم من الرسل أكملهم توحيدا، وهم: نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلى الله وسلم عليهم أجمعين.
وأكملهم توحيدا الخليلان: محمد وإبراهيم صلوات الله عليهما وسلامه، فإنهما قاما من التوحيد بما لم يقم به غيرهما علما ومعرفة وحالا ودعوة للخلق وجهادا، فلا توحيد أكمل من الذي قامت به الرسل، ودعوا إليه، وجاهدوا الأمم عليه.
ولهذا أمر سبحانه نبيه أن يقتدي بهم فيه، كما قال تعالى بعد ذكر مناظرة إبراهيم قومه في بطلان الشرك وصحة التوحيد، وذكر الأنبياء من ذريته: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام:90] .
فلا أكمل من توحيد من أُمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقتدي بهم.
وكان صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه إذا أصبحوا أن يقولوا: (أصبحنا على فطرة الإسلام، وكلمة الإخلاص، ودين نبينا محمد، وملة أبينا إبراهيم حنيفا مسلما وما كان من المشركين) ، فملة إبراهيم التوحيد، ودين محمد صلى الله عليه وسلم ما جاء به من عند الله قولاً وعملاً واعتقاداً، وكلمة الإخلاص هي شهادة أن لا إله إلا الله، وفطرة الإسلام هي ما فطر عليه عباده من محبته وعبادته وحده لا شريك له، والاستسلام له عبودية وذلاً وانقياداً وإنابة] .
إن أكمل التوحيد هو توحيد الأنبياء، وأكملهم الرسل، فإن الرسل هم الذين قاموا بالدعوة والجهاد، وكلفوا بالدعوة، وأكمل الرسل هم أولو العزم، وهم خمسة ذكرهم الله تعالى في قوله: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} [الأحزاب:7] ، وقوله: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ} [الشورى:13] ، هؤلاء هم أولو العزم الذين عناهم الله تعالى بقوله: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف:35] ؛ وذلك لأنهم هم الذين صبروا وصابروا ولهم مكانة ومقام، فهم أفضل الرسل.
وأفضل الخمسة الخليلان: إبراهيم ومحمد صلى الله عليهما وسلم، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الله اتخذه خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً، فالخليلان لهما مقام سام رفيع، وهما اللذان جاهدا في الله، ودعوا إلى التوحيد أتم دعوة، ولقيا في سبيل ذلك ما لقيا.
ومعلوم أن الرسل كلهم دعوا إلى التوحيد، وقد أمر الله نبيه بأن يقتدي بهم كلهم، كما في قوله تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ} [الأنعام:90] ، أي: فاقتدِ بهديهم وبما جاءك عنهم وبما بلغك.
ولا شك أن من هداهم التوحيد، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25] ، كل رسول يوحى إليه بهذا، فهذا من جملة هداهم الذي أُمِر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يهتدي به، وأمته تبع له، وكذلك هذا الدعاء الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلمه أصحابه يقول: (قولوا: أصبحنا على فطرة الإسلام وكلمة الإخلاص) إلى آخره، وذلك لأنه قول جامع؛ وذلك لأن فيه ذكر ملة إبراهيم، يعني: أن من جملة ما تمسكنا به ملة أبينا إبراهيم الذي أمرنا الله تعالى بأن نقتدي به، وملة الأنبياء الذين أُمِر نبينا بأن يقتدي بهم، فإذا تمسك المسلمون بذلك فإنهم إن شاء الله على طريق النجاة.(7/4)
توحيد الصوفية يفضي إلى الفناء والاتحاد
قال المؤلف رحمه الله: [فهذا توحيد خاصة الخاصة الذي من رغب عنه فهو من أسفه السفهاء، قال تعالى: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ * إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [البقرة:130-131] .
وكل من له حس سليم وعقل يميز به، لا يحتاج في الاستدلال إلى أوضاع أهل الكلام والجدل واصطلاحهم وطرقهم البتة، بل ربما يقع بسببها في شكوك وشبه يحصل له بها الحيرة والضلال والريبة، فإن التوحيد إنما ينفع إذا سلم قلب صاحبه من ذلك، وهذا هو القلب السليم الذي لا يفلح إلا من أتى الله به.
ولا شك أن النوع الثاني والثالث من التوحيد الذي ادعوا أنه توحيد الخاصة وخاصة الخاصة، ينتهي إلى الفناء الذي يشمّر إليه غالب الصوفية، وهو درب خطر يفضي إلى الاتحاد، انظر إلى ما أنشد شيخ الإسلام أبو إسماعيل الأنصاري رحمه الله تعالى حيث يقول شعراً: ما وحد الواحد من واحد إذ كل من وحده جاحد توحيد من ينطق عن نعته عارية أبطلها الواحد توحيده إياه توحيده ونعت من ينعته لاحد وإن كان قائله رحمه الله لم يرد به الاتحاد، لكن ذكر لفظاً مجملاً محتملاً جذبه به الاتحادي إليه، وأقسم بالله جهد أيمانه أنه معه، ولو سلك الألفاظ الشرعية التي لا إجمال فيها كان أحق، مع أن المعنى الذي حام حوله لو كان مطلوباً منا لنبه الشارع عليه، ودعا الناس إليه وبينه، فإن على الرسول البلاغ المبين، فأين قال الرسول: هذا توحيد العامة، وهذا توحيد الخاصة، وهذا توحيد خاصة الخاصة؟! أو ما يقرب من هذا المعنى، أو أشار إليه؟] .(7/5)
توحيد الصوفية ليس هو التوحيد الذي دعت إليه الرسل
نعرف أن التوحيد الذي دعت إليه الرسل -حقاً- توحيد واحد ليس فيه فروع، وليس هناك توحيد خاصة وخاصة خاصة وعامة، بل الرسول دعا الناس كلهم إلى شيء واحد، وأمرهم بأن يتمسكوا به، وهو الإخلاص لله تعالى، بحيث يعبدونه ويتركون عبادة ما سواه بعد المعرفة، فأما هذا التقسيم الذي تدّعيه هذه الطوائف فإنه مبتدع، فالطائفة التي ادعت ذلك -وهم الصوفية- قسموا التوحيد إلى ثلاثة أقسام: فجعلوا كلمة لا إله إلا الله، توحيد العامة.
والخاصة كلمة: الله.
وخاصة الخاصة كلمة: هو.
من الذي سبقهم من الرسل إلى هذا التقسيم؟! لو كان حقاً لبينته الرسل لأممهم، فهذا يدل على أنهم لم يسبقوا إليه ولا دليل عليه.
ومع كونه لا دليل عليه فإنه يئول بسالكيه إلى الهلاك المعنوي، بحيث يضل صاحبه ويتيه، ويؤدي به إلى الحيرة والريب.
كثير من الذين خاضوا في هذا العلم أدى بهم ذلك إلى الشك وإلى الحيرة، ويأتينا إن شاء الله لذلك أمثلة في هذا الكتاب.
كذلك يؤدي بهم إلى طريقة أخطر من ذلك وهي طريقة الاتحاد، وهو مذهب باطل، وقد أشار إليه الشارح فيما سبق وهو مذهب الذين يجعلون الخالق متحداً بالمخلوق! يقال لهم: ما الدليل على ذلك؟ ومن الذي سبقكم إلى ذلك؟ فلا يجدون دليلاً ولا سابقاً من أهل العلم.
ويؤدي بهم أيضاً إلى طريق يسمونها الفناء، والفناء عندهم هو غاية المنازل، وأعلى المراتب، متى وصل إليها العارف -عندهم- وصل إلى حضيرة القدس! وهو الذي -في نظرهم- يهنأ بعبادته عن معبوده يهنأ بوجوده عن موجوده، بحيث يتلاشى عن نفسه ويفنى لخالقه كما يقولون، ولهم عبارات بشعة لا حاجة بنا إلى أن نعرفها، والجهل بها أولى؛ وذلك لأن تلك المعارف وتلك الشطحات التي وقعوا فيها سببها هذا الخوض، وهو الحصول على رتبة خاصة الخاصة.
فذكر المؤلف أن هذا طريق خطر، وأنه لا يجوز سلوكه.(7/6)
أبيات الهروي موهمة وإن كان معتقده سليماً
ذكر المؤلف تلك الأبيات التي أنشدها أبو إسماعيل الهروي في آخر كتابه الذي سماه منازل السائلين، والذي شرحه ابن القيم في كتابه الذي سماه: مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين، وذكر هذه الأبيات في أول مدارج السالكين، وحرص على أن يحملها محملاً حسنا، ولكن فيها شيء من الإجمال، وفيها شيء من الإيهام؛ لأن ظاهرها أن الناس كلهم لم يوحدوا الله، ولا يقدر على توحيد الله إلا الله، فقوله: ما وحد الواحد من واحد إذ كل من وحده جاحد ظاهره أن كل الناس حتى الأنبياء لم يكونوا موحدين وإنما الله الذي وحد نفسه، ولكن حملوه على أن الإنسان لا يستطيع أن يعرف ذلك إلا بمعرفة من الله وتعريف منه، وحمله الاتحاديون على مذهبهم، واجتذبوا أبا إسماعيل رحمه الله إليهم، وأقسموا بالله جهد أيمانهم إنه لمنهم، وكلامه في الحقيقة موهم ولكن عقيدته سليمة وله مؤلفات تدل على أنه من أهل السنة، بينها العلماء في ترجمته.
وعلى كل حال فطريقة الرسل وأتباعهم والأئمة والعلماء هي معرفة الله تعالى بأسمائه وصفاته، وذكره بما ورد وبما أمر به وبما بلغته رسله، وبذلك يكون الإنسان من العارفين ومن الموحدين، دون أن يحتاج إلى معرفة الاصطلاحات الصوفية والشطحات، وتلك الكلمات التي ما أنزل الله بها من سلطان.(7/7)
بيان أن مصطلح الفناء ونحوه غلو في الدين
قال المؤلف رحمه الله: [هذه النقول والعقول حاضرة، فهذا كلام الله المنزل على رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذه سنة الرسول، وهذا كلام خير القرون بعد الرسول، وسادات العارفين من الأئمة، هل جاء ذكر الفناء فيها، وهذا التقسيم عن أحد منهم؟ وإنما حصل هذا من زيادة الغلو في الدين المشبه لغلو الخوارج، بل لغلو النصارى في دينهم، وقد ذم الله تعالى الغلو في الدين ونهى عنه فقال: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ} [النساء:171] ، {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} [المائدة:77] وقال صلى الله عليه وسلم: (لا تشددوا فيشدد الله عليكم، فإن من كان قبلكم شددوا فشدد الله عليهم، فتلك بقاياهم في الصوامع والديارات، رهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم) رواه أبو داود] .
أولاً: ذكر أن هذه الاصطلاحات لم يأت بها كتاب ولا سنة، يعني كلماتهم الاصطلاحية التي يتغالون فيها، كتقسيم التوحيد إلى ثلاثة، وتقسيم الفناء أيضاً إلى ثلاثة، وما أشبه ذلك، فكلها ليس عليها دليل، وإنما هي اصطلاحات من عندهم.
ثانياً: ذكر أن هذا بسبب الغلو والغلو هو الزيادة عن المطلوب أو على الوارد، والتشدد فيه، وقد حكى الله أن النصارى غلوا في عيسى حيث قالوا: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} [المائدة:17] أو ثالث ثلاثة: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ} [المائدة:73] أو ابن الله: {وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ} [التوبة:30] هذا من الغلو الذي ذمهم الله به، وقد وقع الغلو في هذه الأمة في العبادات وفي غيرها، كما فعلت الخوارج، فإنهم غلوا حتى كفروا بالذنوب.
ووقع الغلو في بعض الأشخاص كالرافضة حيث غلوا في أهل البيت، حتى اعتقدوا فيهم العصمة، وفضلوهم على كثير من الرسل، وأعطوهم شيئاً من حق الله.
وقد ذم الله تعالى الغلو ونهى عنه كما في سورة النساء: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ} [النساء:171] وفي سورة المائدة: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ} [المائدة:77] الآية.
وكذلك في الأحاديث؛ ففي هذا الحديث الذي ذكره النهي عن التشدد، وذم المتشددين فإن من المتشددين النصارى (فإن قوماً شددوا فشدد الله عليهم، فتلك بقاياهم في الصوامع والديارات رهبانية ابتدعوها) ، وكذلك جاء الذم بلفظ الغلو في قوله صلى الله عليه وسلم: (إياكم والغلو، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين) ، ذكر أنه أهلك من كان قبلنا، ودين الله تعالى وسط بين الغالي والجافي، والغالي هو الزائد، والجافي هو المقصر، ولعله يأتينا في الغلو ما هو أوسع من هذا البحث إن شاء الله.(7/8)
الرد على المشبهة والمعطلة بقوله تعالى: (ليس كمثله شيء)
قال المؤلف رحمه الله: [قوله: (ولاشيء مثله) اتفق أهل السنة على أن الله ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، ولكن لفظ التشبيه قد صار في كلام الناس لفظاً مجملاً يراد به المعنى الصحيح، وهو ما نفاه القرآن ودل عليه العقل، من أن خصائص الرب تعالى لا يوصف بها شيء من المخلوقات، ولا يماثله شيء من المخلوقات في شيء من صفاته: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] رد على الممثلة المشبهة، {وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] رد على النفاة المعطلة، فمن جعل صفات الخالق مثل صفات المخلوق فهو المشبه المبطل المذموم، ومن جعل صفات المخلوق مثل صفات الخالق فهو نظير النصارى في كفرهم.
ويُراد به أنه لا يثبت لله شيء من الصفات، فلا يقال: له قدرة، ولا علم، ولا حياة؛ لأن العبد موصوف بهذه الصفات! ولازم هذا القول أنه لا يقال له: حي، عليم، قدير؛ لأن العبد يسمى بهذه الأسماء، وكذا كلامه وسمعه وبصره وإرادته وغير ذلك] .
في هذه العبارة وهذه الجملة رد على المشبهة الذين غلوا في الإثبات حتى شبهوا الخالق بالمخلوق، فهناك مشبهة للخالق بالمخلوق، وهناك مشبهة لأفعال الخالق بأفعال المخلوق، وهناك مشبهة للمخلوق بالخالق، والكل ضالون.(7/9)
تشبيه الخالق بالمخلوق كفر
الذين شبهوا المخلوق بالخالق: كالنصارى الذين شبهوا عيسى بالله فـ {قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ} [المائدة:17] أو قالوا: {الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ} [التوبة:30] ومثلهم جميع الذين يعظمون المخلوقين ويعطونهم شيئاً من حق الله، فإن هؤلاء شبهوا المخلوق بالرب تعالى حيث رفعوا المخلوق وأعطوه ما لا يستحق، ومن هؤلاء أيضاً القبوريون، فإن القبوريين الذين غلوا في المخلوقين قد وصفوهم بصفات لا يستحقها إلا الخالق، ولا شك أن هؤلاء شبهوا المخلوق ورفعوا قدره حتى أعطوه شيئاً من خصائص الخالق سبحانه.(7/10)
تشبيه أفعال الخالق بالمخلوق ضلال
أما التشبيه في الأفعال: فهو أن تجعل أفعال الله كأفعال المخلوق، أو تجعل أفعال المخلوق كأفعال الخالق، وتفصيل ذلك والأمثلة عليه معروفة وتحتاج إلى توسع ليس هذا محله.
ولكن يجب أن نعرف أن الله تعالى موصوف ببعض الأفعال وقد يوصف بها العبد، مثل قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] فالله تعالى أخبر بأنه استوى على العرش، والإنسان موصوف أيضاً بالاستواء، قال تعالى: {لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ} [الزخرف:13] وليس الاستواء كالاستواء.
كذلك وصف الله تعالى نفسه بالمجيء في قوله: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً} [الفجر:22] وليس مجيء الله مثل مجيء الملائكة، بل مجيء الله يليق به، وكذلك وصف نفسه بالإتيان، قال تعالى: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمْ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} [الأنعام:158] وليس إتيان الله كإتيان الملائكة والملائكة مخلوقون، فلهذا نقول إنها من الأفعال، ولا يجوز التشبيه فيها.(7/11)
التشبيه في الصفات الذاتية ضلال
وكذلك لا يجوز أيضاً التشبيه بالصفات الذاتية التي أثبتها الله لنفسه، فإذا أثبت الله لنفسه اليدين في قوله: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة:64] ، نقول: لا كيدي المخلوقين، وإذا أثبت لنفسه الوجه في قوله: {يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الأنعام:52] ، وفي قوله: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} [القصص:88] ، وفي قول النبي صلى الله عليه وسلم: (حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه) وفي قوله صلى الله عليه وسلم: (وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن) وأشباه ذلك، فنقول: ليس كمثله شيء في ذلك، فأهل السنة يقولون: إنه وصف حقيقي، ولكن ليس مثل صفات المخلوقين وخصائصهم.
هذا هو معنى التشبيه، ولكن سمعنا أن هناك من استعمل التشبيه وأراد به نفي الصفات، وهذه الطريقة سلكتها المعتزلة أتباع جهم بن صفوان ونحوه، وجعلوا النفي مطلقاً، ونفوا عن الله كل صفة وجدت في المخلوق، وزعموا أن إثباتها تشبيه، فصاروا يتعلقون بهذه الآية: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] ولا يتمونها، أو لا يعملون بآخرها، فإن في آخرها رداً عليهم في نفيهم للصفات، وقد روي أن كبيراً من كبرائهم يقال له: ابن أبي دؤاد قال لأحد الخلفاء: أريد أن تكتب على الكعبة قوله: (ليس كمثله شيء وهو العزيز الحكيم) هرباً من إثبات السمع والبصر! فلا شك أن هؤلاء غلواً في النفي، ولازم قولهم أن كل صفة موجودة في أي مخلوق لا يجوز إثباتها للخالق، يعني نقول: يلزمكم أن تنفوا صفة الحياة، وأن تنفوا صفة الوجود، وصفة الذات، وما أشبه ذلك، وإذا قلتم: إن لله ذاتاً، قلنا: شبهتم، فالمخلوق له ذات، فإذا قالوا: لا تشبه ذواتنا، قلنا: لماذا لا تقولون: وسمعه لا يشبه سمع المخلوقين، وبصره لا يشبه بصر المخلوقين؟ وعلى كل حال فالآية دليل لأهل السنة، ولكن اتخذها المعتزلة دليلاً لهم ولم يعملوا بآخرها؛ لأن في آخرها رداً عليهم، يقول العلماء: قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] رد على المشبهة، {وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] رد على المعطلة، فهذا بعض آية فيه رد على طائفتين: طائفة غلت في النفي، وطائفة غلت في الإثبات.
{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] رد على الغلاة في الإثبات {وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] رد على الغلاة في النفي.(7/12)
الرد على المعطلة في غلوهم في نفي المشابهة بين الخالق والمخلوق(7/13)
ذكر بعض النصوص التي تذكر أسماء وصفات مشتركة بين الخالق والمخلوق
قال المؤلف رحمه الله: [وهم يوافقون أهل السنة على أنه موجود، عليم، قدير، حي، والمخلوق يقال له: موجود، حي، عليم، قدير، ولا يقال: هذا تشبيه يجب نفيه، وهذا مما دل عليه الكتاب والسنة وصريح العقل، ولا يخالف فيه عاقل؛ فإن الله سمى نفسه بأسماء، وسمى بعض عباده بها، وكذلك سمى صفاته بأسماء، وسمى ببعضها صفات خلقه، وليس المسمى كالمسمي.
فسمى نفسه: حياً عليماً قديراً رءوفاً رحيماً عزيزاً حكيماً سميعاً بصيراً ملكاً مؤمناً جباراً متكبراً، وقد سمى بعض عباده بهذه الأسماء فقال: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ} [الأنعام:95] {وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ} [الذاريات:28] {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ} [الصافات:101] {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128] {فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} [الإنسان:2] {قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ} [يوسف:51] {وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ} [الكهف:79] {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا} [السجدة:18] {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} [غافر:35] ومعلوم أنه لا يماثل الحي الحي ولا العليم العليم، ولا العزيز العزيز، وكذلك سائر الأسماء.
وقال تعالى: {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ} [البقرة:255] {أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ} [النساء:166] (وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ} [فاطر:11] {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات:58] {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً} [فصلت:15] وعن جابر رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها كما يعلمنا السورة من القرآن، يقول: إذا هم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة، ثم ليقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري - أو قال: عاجل أمري وآجله - فاقدره لي ويسره لي ثم بارك لي فيه، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري - أو قال: عاجل أمري وآجله- فاصرفه عني واصرفني عنه، واقدر لي الخير حيث كان، ثم رضني به، قال: ويسمي حاجته) رواه البخاري.
وفي حديث عمار بن ياسر الذي رواه النسائي وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يدعو بهذا الدعاء: (اللهم بعلمك الغيب، وقدرتك على الخلق، أحيني ما كانت الحياة خيرا لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيرا لي، اللهم إني أسألك خشيتك في الغيب والشهادة، وأسألك كلمة الحق في الغضب والرضى، وأسألك القصد في الغنى والفقر، وأسألك نعيماً لا ينفد، وقرة عين لا تنقطع، وأسألك الرضى بعد القضاء، وأسألك برد العيش بعد الموت، وأسألك لذة النظر إلى وجهك الكريم، والشوق إلى لقائك بغير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة، اللهم زينا بزينة الإيمان، واجعلنا هداة مهتدين) .
فقد سمى الله ورسوله صفات الله: علماً وقدرة وقوة، وقال تعالى: {ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً} [الروم:54] {وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ} [يوسف:68] ومعلوم أنه ليس العلم كالعلم، ولا القوة كالقوة، ونظائر هذا كثيرة، وهذا لازم لجميع العقلاء] .(7/14)
الرد على المعطلة النفاة
أراد بهذا الرد على أولئك الذين كلما جاءتهم صفة لله موجودة في المخلوق نفوها عن الله تعالى وجعلوها مجازاً، أو تأولوها بتأويلات بعيدة، وزعموا أن إثباتها فيه شيء من التشبيه، فيقال: يلزمكم على هذا أن تفرقوا بين صفات المخلوقين، وأن تجمعوا بين صفاتهم وصفات الخالق، ويرد عليهم بهذه الآيات.
وفيما تقدم من كلام المؤلف: أن الله سمى نفسه بعدة أسماء وسمى بها بعض خلقه، فمن أسمائه: العزيز، وسمى بعض خلقه بذلك بقوله: {قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ} [يوسف:51] ومن أسمائه: الملك، وسمى به أيضاً بعض خلقه في قوله: {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ} [يوسف:50] {وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ} [الكهف:79] ومن أسمائه: المؤمن، كما في سورة الحشر، وقد سمى به أيضاً بعض خلقه، وكثيراً ما يذكر المؤمن والمؤمنين والمؤمنات، ومن أسمائه الجبار المتكبر، وقد سمى به أيضاً بعض خلقه {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} [غافر:35] .
ومعلوم أنه ليس الاسم كالاسم، فليس الملك كالملك، وليس العزيز كالعزيز، وليس الجبار كالجبار، فملك الله ليس كملك المخلوق، وعزة الله ليست كعزة المخلوق، إذ عزة المخلوقين محدودة، وهكذا يقال في بقية الأسماء.
فكذلك إذا سمى الله نفسه السميع البصير {وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} [النساء:134] ، وسمى الإنسان بقوله: {فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} [الإنسان:2] ، عرف أنه ليس السمع كالسمع، وليس البصر كالبصر، وإن كان الاسم متحداً، فإن السمع هو: إدراك الأصوات، والبصر هو: إدراك المبصرات والمرئيات، ولكن بينهما تفاوت.
هذا في الأسماء.
وكذلك يقال في الصفات: إذا وصف الله نفسه بالعلم، ووصف به بعض خلقه، عرف أنه ليس العلم كالعلم، بل بينهما فرق، فعلم الله ليس كعلم المخلوق الذي هو حادث، والذي يعتريه نسيان وتغير، فالله وصف نفسه بالعلم وهو صفة ذاتية، فلا يعتريه جهل ولا تتغير معلوماته {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة:29] {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ} [فاطر:11] ووصف أيضاً بعض خلقه بالعلم: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف:76] وليس العلم كالعلم.
وكذلك القدرة كما في هذه الأحاديث في قوله: (بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق) وفي قوله: (إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي) وما أشبه ذلك، ولا شك أن هذا إثبات لهذه الصفة.
فإذا أثبتها المسلم فإن عليه أن يعتقد أنه ليس معناها كالمعنى الذي يثبت للمخلوق، بل صفة المخلوق تليق به، وصفة الخالق تليق به، وبهذا إن شاء الله يصير المؤمن موحدا، فإذا أثبت الصفات ولم يعتقد فيها شيئاً من التشبيه، لامتناع التشابه بين صفات الخالق وصفات المخلوق، ولم ينفها عن الخالق، واعتقد أنها حقيقة لائقة بالخالق سبحانه، وأن صفات المخلوق يعتريها التغير والنقص، وليس كذلك صفات الخالق فلا يكون هذا مشبهاً.
بل المشبه كما عرفنا هو الذي يبالغ فيقول: يد الله كأيدينا، وسمعه كأسماعنا، وذاته كذوات المخلوق؛ تعالى الله عن ذلك! وهؤلاء هم الذين رد الله عليهم بعدة آيات كما في قوله: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم:65] وفي قوله: {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ} [النحل:74] وفي قوله: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا} [البقرة:22] ، وقوله: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص:4] وأشباه ذلك، فإن هذا رد على الذين جعلوا المخلوق كالخالق، أو الخالق كالمخلوق، تعالى الله عن قولهم!(7/15)
شرح العقيدة الطحاوية [8]
يخالف في إثبات الصفات لله تعالى كثير من الفرق، وهم درجات في الإنكار، وقد رد عليهم أهل السنة، وألزموا من أثبت صفة بإثبات جميع الصفات، ومن أثبت الأسماء فقط بإثبات الصفات، بل ألزموا من أنكر الأسماء والصفات بإثباتها بناء على إثباته للذات، وليس هذا فحسب، فقد ألزموا الدهرية بإثبات خالق واجب الوجود له أسماء وصفات.(8/1)
وسطية أهل السنة بين المشبهة والنفاة
تقدم أن التوحيد قسمان: توحيد في المعرفة والإثبات، وهو توحيد الذات.
وتوحيد الأسماء والصفات.
يسمى الأول: توحيد الربوبية.
ويسمى الثاني: توحيد الصفات.
وتوحيد الطلب والقصد، وتوحيد الطلب والقصد هو توحيد العبادة.
وتوحيد الذات أو الربوبية قد أقر به المشركون، وإنما أنكره بعض الدهرية الذين يخالفون المعقول والمنقول، وهم الذين يقولون: {مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [الجاثية:24] .
وأما توحيد الصفات فقد تقدم أيضاً تعريفه، وأنه إفراد الله تعالى بصفات الكمال، واعتقاد أنه موصوف بكمال الصفات، وأنه منزه عن صفات النقص، وأن صفاته الثابتة له لا يشبهه فيها غيره، فينبني هذا النوع على النفي والإثبات، فالنفي هو نفي مماثلة المخلوقات، والإثبات هو إثبات صفات الكمال.
وسماه السلف توحيداً لكثرة من خالف فيه في زمانهم فقد كان الخلاف في إثبات الصفات شديداً، حيث دخل في الإسلام من أنكر حقيقة الصفات، ونفى صفات الكمال عن الرب سبحانه وتعالى، فاحتاج السلف أن يعتنوا بالأدلة التي تبين ثبوت تلك الصفات لله سبحانه، والأدلة التي تبين توحده، وعدم مشابهة المخلوقات للرب تعالى في خصائصه أو شيء من صفاته.
ثم ذكرنا عن السلف أنهم مع الإثبات ينفون التشبيه، ولكن المبالغة في النفي قد صارت سمة للمعطلة، ولذلك يقول بعض السلف: إذا رأيت الإنسان يبالغ في نفي التشبيه فاتهمه أنه من نفاة الصفات، وذلك لأن كثيراً من النفاة يرددون أن الله لا شبيه له {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] لا يشبهه شيء لا يشبه الأنام، ويقصدون بذلك نفي الصفات كلها، ويدعون أن كل صفة وجدت في المخلوق لا يجوز إثباتها للخالق، وهذا في الحقيقة تعطيل، وإنما الواجب أن تثبت على ما يليق بالخالق تعالى، وينفى عنها مشابهة المخلوق، هذه هي طريقة أهل السنة.
وقد قرأنا الآيات التي فيها أن الله وصف نفسه بصفات موجودة في المخلوق، وسمى نفسه بأسماء قد سمى بها بعض الخلق، وأنه لا يلزم التماثل، فنحن نقول: إن الله تعالى سميع بصير، والإنسان سميع بصير، ولكن ليس هذا كهذا، وهكذا يقال في بقية الأسماء والصفات كما تقدم، فنستحضر أن المبالغة في نفي الشبيه قد يتخذها النفاة ذريعة إلى نفي الصفات كما تقدم، وسيأتي الكلام على هذه الجملة وما بعدها.(8/2)
إلزام المخالفين لأهل السنة بإثبات إله متصف بما وصف به نفسه(8/3)
إلزام من أثبت بعض الصفات بإثبات الصفات الأخرى
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال تعالى: {ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً} [الروم:54] {وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ} [يوسف:68] ، ومعلوم أنه ليس العلم كالعلم، ولا القوة كالقوة، ونظائر هذا كثيرة.
وهذا لازم لجميع العقلاء، فإن من نفي صفة من صفاته التي وصف الله بها نفسه، كالرضى والغضب والحب والبغض ونحو ذلك، وزعم أن ذلك يستلزم التشبيه والتجسيم! قيل له: فأنت تثبت له الإرادة والكلام والسمع والبصر، مع أن ما تثبته له ليس مثل صفات المخلوقين، فقل فيما نفيته وأثبته الله ورسوله مثل قولك فيما أثبته، إذ لا فرق بينهما] .
هنا يرد على بعض النفاة، وهم من يدعون بالأشاعرة، فإنهم يثبتون أن الله يسمع ويبصر ويتكلم ويقدر ويعلم ويريد، ويثبتون له الحياة، ومع ذلك ينفون الصفات الفعلية، فنفوا أن الله يحب أو يبغض أو يفرح، وكذلك ينفون أن لله سبحانه وجهاً أو يداً كما أثبت لنفسه، وهكذا بقية الصفات.
فإذا طلب منهم سبب النفي قالوا: إن هذه موجودة في المخلوق، فالمخلوق يغضب ويرضى ويحب ويبغض، فلا يكون الرب مثله.
قيل لهم: عجباً لكم! إذاً: أنتم تقولون إن الله يريد ويعلم ويسمع ويتكلم ويقدر، والمخلوقون كذلك، لهم إرادة وسمع وبصر وعلم وقدرة، فما الفرق بين ما أثبتم وما نفيتم؟! ولا يجدون سبيلاً إلى الفرق، فتنقطع بذلك حجتهم، حيث فرقوا بين ما جمع الله بينه، فأثبتوا الإرادة ونفوا المحبة، ولا فرق بينهما.(8/4)
إلزام من أثبت الأسماء بإثبات الصفات
قال رحمه الله: [فإن قال: أنا لا أثبت شيئا من الصفات! قيل له: فأنت تثبت له الأسماء الحسنى مثل: عليم حي قادر، والعبد يسمى بهذه الأسماء، وليس ما يثبت للرب من هذه الأسماء مماثلا لما يثبت للعبد، فقل في صفاته نظير قولك في مسمى أسمائه] .
هذه طائفة أخرى من النفاة وهم المعتزلة الذين لا يثبتون شيئاً من الصفات، فلا يثبتون أن الله حي ولا سميع ولا بصير إلخ، تعالى الله عن قولهم، ولكنهم يثبتون الأسماء فيقولون: إن الله سميع بصير عليم قدير حي مريد ملك قدوس يثبتون هذه كأسماء، ولكنهم لا يجعلونها دالة على صفات.
فيقال لهم: المخلوق أيضاً يسمى حياً، ويسمى قديراً، ويسمى عليماً، فقد أثبتم أسماء موجودة في المخلوق، فإذا أثبتم الأسماء لزمكم إثبات الصفات فلا فرق.
ويقال لهم فيما نفوا مثل قولهم فيما أثبتوا، إذا قالوا: إننا نثبتها على أنها أسماء ينادى بها الرب تعالى، قلنا: المخلوق ينادى بها، فإذا كان لا يلزم التشبيه مع كونها ثابتة للمخلوق، فلماذا لا تثبتون الصفات وتجعلونها مناسبة للموصوف.(8/5)
إلزام من أثبت الذات بإثبات الأسماء والصفات
قال رحمه الله: [فإن قال: وأنا لا أثبت له الأسماء الحسنى، بل أقول هي مجاز، وهي أسماء لبعض مبتدعاته، كقول غلاة الباطنية والمتفلسفة! قيل له: فلا بد أن تعتقد أنه موجود وحق، قائم بنفسه، والجسم موجود قائم بنفسه، وليس هو مماثلا له] .
هذا قول طائفة أخرى أشد من المعتزلة، وأضل منهم، وهم غلاة الباطنية والملاحدة وغلاة الفلاسفة، يقولون: إنا لا نثبت الأسماء ولا نثبت الصفات وهذه الأسماء التي يسمى بها الله ليست حقيقة، وإنما هي مجاز، وهي أسماء لبعض المخلوقات أو المخترعات.
فيقال لهم: لا بد أنكم تثبتون أن الله موجود وقائم بنفسه، والمخلوق كذلك موجود وقائم بنفسه، فإذا أثبتم هذا الوصف الذي هو موصوف به المخلوق فقد وقعتم فيما فررتم منه، فإنكم فررتم من التشبيه ووقعتم فيه، فلا محيد لكم عن ذلك، فهذا يبين تناقض هؤلاء النفاة.(8/6)
إلزام الدهرية بإثبات إله واجب الوجود
قال رحمه الله: [فإن قال: أنا لا أثبت شيئا بل أنكر وجود الواجب.
قيل له: معلوم بصريح العقل أن الموجود إما واجب بنفسه، وإما غير واجب بنفسه، وإما قديم أزلي، وإما حادث كائن بعد أن لم يكن، وإما مخلوق مفتقر إلى خالق، وإما غير مخلوق ولا مفتقر إلى خالق، وإما فقير إلى ما سواه.
وإما غني عما سواه، وغير الواجب بنفسه لا يكون إلا بالواجب بنفسه، والحادث لا يكون إلا بقديم، والمخلوق لا يكون إلا بخالق، والفقير لا يكون إلا بغني عنه، فقد لزم على تقدير النقيضين وجود موجود واجب بنفسه، قديم أزلي خالق غني عما سواه، وما سواه بخلاف ذلك] .
هذه حجة على الدهرية والشيوعية ونحوهم الذين ينكرون واجب الوجود، فيحتج عليهم بحجة عقلية، فيقال لهم: إن هذه الموجودات حادثة، والحادث لا بد له من محدث، وإذا قلنا: إن المحدث الذي أحدثه يفتقر إلى محدث آخر لزم التسلسل، فيقال: إذاً هناك محدث لها وهو الله تعالى.
ويقال أيضاً: إن الموجودات قسمان: واجب الوجود، وممكن الوجود، وواجب الوجود هو الخالق، وممكن الوجود هو المخلوق؛ لأنه يمكن أن يوجد ولأنه يأتي عليه الفناء.
وتنقسم أيضاً إلى قسمين: غني بنفسه لا يحتاج إلى غيره وهو الخالق، وفقير بالذات مفتقر إلى غيره وهو المخلوق، فالمخلوق مفتقر ووصف الفقر لازم له، ولذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في قصيدة له: والفقر لي وصف ذات لازم أبداً كما الغنى أبداً وصف له ذاتي يقول: إن الفقر وصف ذاتي للمخلوقات، وأن الغنى الذاتي وصف للخالق تعالى، فالله غني بذاته، والمخلوق فقير بذاته: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر:15] .
وإذا سألنا العاقل عن هذه الأشياء، اضطر إلى الاعتراف بأن هناك خالقاً غنياً قائماً بنفسه، قديماً أزلياً غير مسبوق بعدم، ولا يأتي عليه الفناء، وذلك أخذاً بعين الاعتبار من هذه الموجودات التي وجدت وتفنى، أن الموجود لا بد له من موجد، قال تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} [الطور:35] فإذا لم يكونوا خلقوا من غير شيء، تعين أنهم مخلوقون من شيء، وإذا لم يكونوا هم الخالقين تعين أن لهم خالقاً خلقهم، فليس الإنسان يخلق نفسه، وإلا لحرص على أن يكمل خلقه، وكذلك ليس هو يخلق ولده، وإلا لحرص على أن يكون ولده على أحسن ما يكون، فنحن نشاهد أن الإنسان يولد له ولد مشلول، ويولد له أولاد ناقصو الخلقة، ويولد له من هم ناقصو العقلية، وكذلك قد يولد له ذكور، أو إناث، أو إناث وذكور، وذلك دليل على أنه ليس هو الذي يختار، وليس هو الذي يقدر لنفسه، بل هناك من يخلق هذا الخلق ويقدره، وهو الخالق وحده، فعرف بذلك أن هذا الوجود مفتقر إلى موجد واجب الوجود.
إذاً: ما دام أن هذا الوجود مفتقر إلى موجب، فيلزم أن يكون ذلك الموجد موصوفاً بصفات تناسبه لا تشبه صفات المخلوق، وإلا لأتى عليه ما يأتي على المخلوق من الفناء.
إذاً: فهناك فرق كبير بين الخالق والمخلوق، فالخالق حي لا يموت، والمخلوق يموت، والخالق قديم غير مسبوق بعدم، والمخلوق مسبوق بعدم، يخلق ثم يفنى، كما هو مشاهد، والخالق غني بنفسه، والمخلوق فقير بالذات لا غنى له عن ربه طرفة عين.
فهذا يحتج به على هؤلاء النفاة الذين ينكرون أن يكون للوجود موجد، ويسندون الأشياء إلى الطبائع، تعالى الله عن قولهم، والطبائع لا بد لها من طابع، فليس هناك معتمد يعتمدونه ويستندون إليه إلا عقول فاسدة، فلا يلتفت إلى ترهاتهم وأباطيلهم.(8/7)
وجود المخلوقات يدل بالضرورة على وجود خالقها
قال رحمه الله: [وقد علم بالحس والضرورة وجود موجود حادث كائن بعد أن لم يكن، والحادث لا يكون واجباً بنفسه، ولا قديماً أزلياً، ولا خالقاً لما سواه، ولا غنياً عما سواه، فثبت بالضرورة وجود موجودين: أحدهما واجب، والآخر ممكن، أحدهما قديم والآخر حادث، أحدهما غني والآخر فقير، أحدهما خالق والآخر مخلوق، وهما متفقان في كون كل منهما شيئاً موجوداً ثابتاً، ومن المعلوم أيضا أن أحدهما ليس مماثلا للآخر في حقيقته، إذ لو كان كذلك لتماثلا فيما يجب ويجوز ويمتنع، وأحدهما يجب قدمه وهو موجود بنفسه، والآخر لا يجب قدمه ولا هو موجود بنفسه، وأحدهما خالق والآخر ليس بخالق، وأحدهما غني عما سواه والآخر فقير.
فلو تماثلا للزم أن يكون كل منهما واجب القدم ليس بواجب القدم، موجوداً بنفسه غير موجود بنفسه، خالقاً ليس بخالق، غنياً غير غني، فيلزم اجتماع الضدين على تقدير تماثلهما، فعلم أن تماثلهما منتف بصريح العقل، كما هو منتف بنصوص الشرع] .
هذا تكميل للحجة العقلية في الرد على الشيوعيين والدهريين، فهو يقول: إننا نشاهد أن على الأرض هذا المخلوق، الذي هو الإنسان والحيوان والدواب والأشجار والنباتات ونحوها، ونعرف أنها كائنة حية، ونعرف أنها موجودة وأنها أشياء، ونعرف أنها حادثة مسبوقة بعدم، ونعرف أنه يأتي عليها الفناء والعدم، فتيبس الأشجار وتنقطع الثمار مثلاً، وتموت الدواب والحشرات ونحوها وتتوالد، ويموت الإنسان ويخلفه غيره وهكذا، فهذا الدليل يبين أنها حادثة، والحادث فقير، فلا بد أن يكون الذي أحدثه غني، والحادث عاجز، ولا بد أن يكون الذي أحدثه قادر كامل القدرة، والحادث مستجد ولا بد أن يكون الذي أحدثه قديم، فإذا كان كذلك فالذين ينكرون هذا الدليل العقلي قد أنكروا المحسوس.
ونعرف الفرق الكبير بين الحادث والمحدث بين المخلوق والخالق بين الغني والفقير بين واجب الوجود وممكن الوجود أو جائز الوجود بين الموجود بنفسه وبين الموجود بغيره، ففرق كبير بين هذا وهذا، فبهذا الدليل العقلي يرد على هذه الطوائف.
وأما الأدلة السمعية فإنها أشهر وأظهر، وكثيراً ما يحتج الله تعالى بالآيات الظاهرة على وجوده وعلى عظمة شأنه ونحو ذلك، وقد تقدم لنا شيء من الأدلة على ذلك.(8/8)
الاتفاق في التسمية بين ما للخالق والمخلوق لا يلزم منه المشابهة
قال رحمه الله: [فعلم بهذه الأدلة اتفاقهما من وجه واختلافهما من وجه، فمن نفى ما اتفقا فيه كان معطلا قائلا بالباطل، ومن جعلهما متماثلين كان مشبهاً قائلاً بالباطل والله أعلم؛ وذلك لأنهما وإن اتفقا في مسمى ما اتفقا فيه، فالله تعالى مختص بوجوده وعلمه وقدرته وسائر صفاته، والعبد لا يشركه في شيء من ذلك، والعبد أيضاً مختص بوجوده وعلمه وقدرته، والله تعالى منزه عن مشاركة العبد في خصائصه] .
أي: أن الخالق والمخلوق مشتركان في الأسماء، فالخالق شيء والمخلوق شيء، الخالق موجود والمخلوق موجود، الخالق ثابت والمخلوق ثابت، وكذلك في بعض الصفات، يقال مثلاً: الله حي، والإنسان حي، وما أشبه ذلك، لكن هذا الاتفاق لا يلزم منه التشابه، بل بينهما فرق كبير، إذا عرفنا دلالة العقل على وجود خالق قدير قديم أزلي قادر لا يعجزه شيء، ولا يخرج عن قدرته شيء، عرف بذلك أن المخلوق ينافي هذه الصفات، فهو محدث وفقير إلى آخر ما تقدم.
فيثبت بذلك وجود الخالق، واتصافه بالصفات التي يتصف بها المخلوق، ولكن لا يلزم التشابه بين صفة الخالق وصفة المخلوق، كما لا يلزم التشابه بين الذاتين.
قال رحمه الله: [وإذا اتفقا في مسمى الوجود والعلم والقدرة، فهذا المشترك مطلق كلي يوجد في الأذهان لا في الأعيان، والموجود في الأعيان مختص لا اشتراك فيه، وهذا موضع اضطرب فيه كثير من النظار، حيث توهموا أن الاتفاق في مسمى هذه الأشياء يوجب أن يكون الوجود الذي للرب كالوجود الذي للعبد] .
أي: وهذا خطأ، فإنه إذا اتفق اثنان في اسم لم يلزم أن يكون هذا كهذا، فإننا نسمي الشجر حياً، ونسمي الحيوان حياً، فالبعير حي والإنسان حي، والشجر حي، ولا يلزم أن يكون هذا كهذا، ويقال: موجود في هذه البلد جبال، فالجبال موجودة والحيوانات موجودة، فاتفقت في كلمة الوجود، ولا يلزم أن تكون الجبال كالحيوانات، بل بينها فرق، فما دام كذلك فلا يلزم إذا قلنا: الله حي والإنسان حي، أن يكون هناك تشابه بينهما، فليست هذه الحياة كهذه الحياة، ولا العلم كالعلم، ولا القدرة كالقدرة، وعرف بذلك ضلال هذه الطوائف في هذه التقديرات.
قال رحمه الله: [وطائفة ظنت أن لفظ الوجود يقال بالاشتراك اللفظي، وكابروا عقولهم؛ فإن هذه الأسماء عامة قابلة للتقسيم، كما يقال: الموجود ينقسم إلى واجب وممكن وقديم وحادث، ومورد التقسيم مشترك بين الأقسام، واللفظ المشترك كلفظ المشتري الواقع على المبتاع والكوكب، لا ينقسم معناه، ولكن يقال: لفظ المشتري يقال على كذا أو على كذا، وأمثال هذه المقالات التي قد بسط الكلام عليها في موضعه] .
وهذه طوائف من المتكلمين يبالغون في مثل هذه الأشياء، ويرد عليهم فيقال مثلاً: إن هناك وجوداً في الأعيان ووجوداً في الأذهان، والمعنى الموجود في الأذهان هو ما يتخيله الإنسان بعقله، ولكن قد يتخيل وقد يصور بعقله أشياء غير حقيقية، فعرف بذلك أن الوجود في الأذهان لا يلزم منه التماثل، فإذا مثل الإنسان في ذهنه شيئاً أو تخيل أشياء لم يلزم أن تكون واقعية.
وأما الذين قالوا إن الوجود لفظ مقول بالاشتراك اللفظي، فلا شك أن هؤلاء أيضاً أخطئوا، ومعلوم أن هناك كلمات تشترك فيها موجودات ولكن تختلف المسميات، فعندنا كلمة (المشتري) تقع على الذي يشتري منك سلعة، وتقع على الكوكب المشهور، فيقال: هذا الكوكب اسمه المشتري، ومعلوم أن هذا كوكب وهذا إنسان.
وأما قولهم إن كلمة (موجود) مشتركة لفظاً، فهذا خطأ، فإن اللسان الذي تكلمت به العرب تدل على أن الموجود هو الذي له وجود في الأعيان ويدرك بالعين.
ولا يقال للموجود في الذهن إنه موجود حيث إنه لا يدرك بالأعيان، فلا بد أن يكون الوجود مدركاً بالأعين لا مقدراً في الذهن، فظهر بذلك خطأ الذين يقولون إنه من باب الاشتراك اللفظي.(8/9)
بيان خطأ النفاة في توهمهم أن الأسماء الكلية يكون مسماها ثابتاً في الأعيان
قال رحمه الله: [وأصل الخطأ والغلط: توهمهم أن هذه الأسماء العامة الكلية، يكون مسماها المطلق الكلي، هو بعينه ثابتاً في هذا المعين وهذا المعين، وليس كذلك، فإن ما يوجد في الخارج لا يوجد مطلقاً كلياً، بل لا يوجد إلا معيناً مختصاً، وهذه الأسماء إذا سمي الله بها كان مسماها معيناً مختصاً به، فإذا سمي بها العبد كان مسماها مختصاً به، فوجود الله وحياته لا يشاركه فيها غيره، بل وجود هذا الموجود المعين لا يشركه فيه غيره، فكيف بوجود الخالق؟ ألا ترى أنك تقول: هذا هو ذاك، فالمشار إليه واحد لكن بوجهين مختلفين] .
إن الكلام على ما يتعلق بالوجود في الذهن وبالوجود في العين كلام يتعلق بالاحتجاج على الملاحدة ونحوهم، فهم يحتاجون إلى بسط في الكلام، وإلى إقناع لهم، لأجل ذلك نقل الشارح هذا الكلام من كتب شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره؛ ليبين أنهم يفرضون وجوداً في الذهن مخالفاً للوجود في العين، ثم يعتقدون أنه لو أطلق أنه موجود في العين لحصل بذلك تشابه، فلذلك نفوا الوجود في العين، وقدروا وجوداً في الذهن، وكل ذلك كلام لا طائل تحته، والمسلم على فطرته يعتقد أن كل صفة ثبتت للخالق فإنه لا يشبه فيها خلقه، وأن المخلوق بصفاته ناقص وحادث، وصفاته تناسبه، كما أن صفات الخالق تناسبه.
قال رحمه الله: [وبهذا ومثله يتبين لك أن المشبهة أخذوا هذا المعنى وزادوا فيه على الحق فضلوا، وأن المعطلة أخذوا نفي المماثلة بوجه من الوجوه، وزادوا فيه على الحق حتى ضلوا، وأن كتاب الله دل على الحق المحض الذي تعقله العقول السليمة الصحيحة، وهو الحق المعتدل الذي لا انحراف فيه.
فالنفاة أحسنوا في تنزيه الخالق سبحانه عن التشبيه بشيء من خلقه؛ ولكن أساءوا في نفي المعاني الثابتة لله تعالى في نفس الأمر، والمشبهة أحسنوا في إثبات الصفات ولكن أساءوا بزيادة التشبيه] .
أي: وكلا الطائفتين مخطئة ضالة، الذين غلوا في الإثبات حتى جعلوا صفات المخلوق كصفات الخالق، قالوا: لله يد كأيدينا، ووجه كوجوهنا، تعالى الله عن قولهم، نعم هم أحسنوا في إثبات الصفة ولكنهم أخطئوا في التشبيه.
وأما النفاة فهم الذين غلوا في النفي، فقالوا: كل صفة موجودة في المخلوق لا يمكن أن تثبت للخالق فإن إثباتها يئول إلى التشبيه، والله تعالى ليس كمثله شيء، فأحسنوا في نفي التشبيه ولكنهم أساءوا حيث نفوا الصفات الثابتة الموجودة.
والوسط أن يقال: صفات الخالق تليق به، وصفات المخلوق تليق به، وليست هذه كهذه، ويثبت ما أثبته الله لنفسه، وينفى ما نفاه عن نفسه.(8/10)
المخاطب لا يفهم معاني الألفاظ إلا بعد معرفة عينها أو ما يناسب عينها
قال رحمه الله: [واعلم أن المخاطب لا يفهم المعاني المعبر عنها باللفظ إلا أن يعرف عينها أو ما يناسب عينها، ويكون بينها قدر مشترك ومشابهة في أصل المعنى، وإلا فلا يمكن تفهيم المخاطبين بدون هذا قط، حتى في أول تعليم معاني الكلام بتعليم معاني الألفاظ المفردة، مثل تربية الصبي الذي يعلم البيان واللغة، ينطق له باللفظ المفرد ويشار له إلى معناه إن كان مشهوداً بالإحساس الظاهر أو الباطن؛ فيقال له: لبن خبز أم أب سماء أرض شمس قمر ماء، ويشار له مع العبارة إلى كل مسمى من هذه المسميات، وإلا لم يفهم معنى اللفظ ومراد الناطق به، وليس أحد من بني آدم يستغني عن التعليم السمعي، كيف وآدم أبو البشر وأول ما علمه الله تعالى أصول الأدلة السمعية وهي الأسماء كلها، وكلمه وعلمه بخطاب الوحي ما لم يعلمه بمجرد العقل] .
معلوم أن هذه المسميات لا تفهم إلا بعد التفهيم، فلو قدم إنسان أعجمي إلى هذه البلاد، ولا يعرف ما نتكلم به، احتاج إلى مدة وزمان حتى يعرف المسميات، فيسمع كلمة (رجل) ، ولا يدري ما تدل عليه حتى يقال له: هذا هو الرجل، ويسمع كلمة (كرسي) ولا يدري ما هو حتى يقال: هذا هو الكرسي، يسمع كلمة (مسجد) ولا يدري ما هو حتى يقال له: هذا هو المسجد، وهذا هو السقف، وهذا هو الفراش، وهذا هو العمود، وهذه هي الألواح، فيأخذها بالتدريج، كالصبي عندما يلقن كلمة كلمة، فيقال له مثلاً: هذا هو الأب، وهذه هي الأم، وهذا هو الخبز، فإذا سمع كلمة الخبز فقد لا يفهم حتى يشار إليه، وهذا هو اللبن، وهذا هو اللحم، فيأخذها بالتدريج.
فمعلوم أن هذه الأسماء لا بد أن تفهم بالتدريج، والله تعالى علّم آدم الأسماء كلها كما ورد في الحديث، اسم الإنسان، وأسماء الحيوانات والدواب والأدوات، والكواكب، والحشرات، والنباتات.
هذا التعليم لا شك أنه لقنه تلقيناً، قيل له: هذا اسمه كذا، هذا اسمه كذا، فكذلك هذه الكلمات التي نتكلم بها في هذه اللغة، وكذلك الأعاجم، لا نعرف اصطلاحاتهم حتى يسموها لنا، فتؤخذ بالتعلم وبالتدريج، فإذا كان معلوماً أن هذه المسميات لها معان، فكلمة (الحب) قد لا نستطيع أن نعبر عن معناها ولكن فهمت باصطلاحنا، والأعاجم لا يدرون ما معناها، حتى يشار لهم.
الله تعالى أثبت المحبة فنحن نفهمها ونقول: إن معناها كذا {فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [آل عمران:76] {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة:195] ونحو ذلك، وكلمة العجب أثبتها الله بقوله: {وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ} [الرعد:5] فنحن نفهمها بلغتنا، ونترجمها باللغات الأخرى، ونعرف مدلولها ومعناها، وكذا كلمة الغضب، وكلمة الرضا، وكلمة البغض، وكلمة الرحمة، وما أشبه ذلك.
هذه كلمات تدل على صفات، فلا بد أن العرب الذين نزلت عليهم يفهمون مدلولها، وإذا كان مدلولها واضحاً عندهم، عرف بذلك أنها مفهومة المعاني، وأنها دالة على صفات، وأن الذين قرئت عليهم فهموا مدلولها.
فهؤلاء الذين أنكروها يقال لهم: أنكرتم شيئاً مفهوماً معقولاً في عقولكم وفي عقول من قبلكم، فأنكرتم الحس والعقل والشرع، فيعرف بذلك أن الألفاظ التي تأولوها أو أنكروها، أو قالوا إنها ذهنية، أو إنها مشتركة اشتراكاً لفظاً، أو إنها مجاز، أو ما أشبه ذلك، لا حجة لهم في ذلك، وذلك كتأويلهم للرحمة وللغضب وللرضا، لليد وللعلو وللنزول وللاستواء وما أشبه ذلك، مع أنها كلمات مفهومة عند الذين نطقوا بها، ومعلوم معناها عندهم كما يعرفون مسمى الخبز ومسمى اللبن ومسمى اللحم وما أشبه ذلك، فيعرفون هذه ويعرفون هذه، فما الذي جعلكم تتأولون الصفات وتتكلمون فيها، ولا تؤولون كلمة الخبز وكلمة اللحم وكلمة التمر وما أشبه ذلك، فالذين تكلموا بهذا يفهمونه كالذين تكلموا بهذا.
فهذا يبين أن تأويلاتهم بعيدة عن العقل والفطرة.(8/11)
شرح العقيدة الطحاوية [9]
أرسل الله محمداً صلى الله عليه وسلم بلسان عربي مبين، فخاطب الناس بلسانهم، وعلمهم بالتدريج، وكان مما خاطبهم به التعريف بالله بأسمائه وصفاته، وذلك بألفاظ يفهمون معانيها، ويفهمون أن المخلوق وإن اتصف بمسمياتها لكن الحقائق تختلف، ولذلك لم يتوهموا تشبيهاً، ولا فروا منه إلى النفي والتعطيل، بل أثبتوا كلمة التوحيد، وثبتوا على ما جاء في التنزيل.(9/1)
وضوح البلاغ وحرص المبلغ يقتضي وجوب الإيمان بأسماء الله وصفاته
يعتقد المسلمون أن الله تعالى موصوف بصفات الكمال، ويعتقدون أن توحيد الصفات متلقىً عن الشرع، مأخوذ عن كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وذلك لأنه عليه الصلاة والسلام اختاره الله لحمل الرسالة لما فيه من الأهلية، فهو عليه الصلاة والسلام من أفصفح الخلق، وأنصحهم، يحب الخير لأمته، قال تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ} يعني: من جنسكم {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128] فإذا كان حريصاً على هداية الأمة، وإذا كان يحب لهم النجاة، وإذا رزقه الله وأعطاه الفصاحة، والقدرة على البلاغ والبيان، فلا بد أنه قد بلغ، ولا بد أنه قد بين، ومن اعتقد أنه كتم ما أنزل إليه كفر، ومن اعتقد أنه لبس على الأمة وأوقعهم في الحيرة كفر، بل نعتقد أنه بلغ ولم يكتم، وأوضح وبين.
وإذا رجعنا إلى بيانه وإلى ما بلغه وجدناه واضحاً.
ومعلوم أنه عليه الصلاة والسلام ظهر في أناس يتكلمون باللغة العربية ويفهمون كلامه، وإذا كان كذلك فلا بد أنه خاطبهم بما يفهمون، فنرجع إلى لغتهم.
ومعلوم أنه جاء بشيء لم يكونوا يعرفونه، فسماه بأسماء يفهمونها، فما كانوا يعرفون كلمة الإسلام، ولا كلمة الإيمان على مسماها الشرعي، ولا كانوا يعرفون الصلاة ولا الوضوء ولا الصوم على مسماها الشرعي، وكذلك لم يكونوا يعرفون مسمى النفاق، ولا مسمى الكفر، ولا الشرك، ولا الفسوق بمسماها الشرعي، لكن يعرفون الكلمات على معان أخرى، فاستعمل هذه المعاني التي تقارب ما يعرفونه.
وإذا كان هذا في هذه الأمور المعتادة فإنه أيضاً تكلم معهم في الصفات، فإنهم يعرفون السمع وما يطلق عليه، وكذلك البصر، والقدرة، والقوة، والعلم، والكلام، فلابد أنه خاطبهم بالأشياء التي يفهمونها، وأنهم فهموا ما بلغهم به.
على هذا: فإن الذين يتكلفون في صرف اللفظ عن ظاهره لا شك أنهم وقعوا في ضلال، ووقعوا في تخطئة النبي عليه الصلاة والسلام من حيث يشعرون أو من حيث لا يشعرون.(9/2)
بيان أن الشرع خاطب العرب بصفات الله وهم يفهمون معانيها
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [واعلم أن المخاطب لا يفهم المعاني المعبر عنها باللفظ إلا أن يعرف عينها، أو ما يناسب عينها، ويكون بينها قدر مشترك ومشابهة في أصل المعنى، وإلا فلا يمكن تفهيم المخاطبين بدون هذا قط، حتى في أول تعليم معاني الكلام بتعليم معاني الألفاظ المفردة، مثل تربية الصبي الذي يعلم البيان واللغة، ينطق له باللفظ المفرد ويشار له إلى معناه إن كان مشهوداً بالإحساس الظاهر أو الباطن، فيقال له: لبن، خبز، أم، أب، سماء، أرض، شمس، قمر، ماء، ويشار له مع العبارة إلى كل مسمى من هذه المسميات، وإلا لم يفهم معنى اللفظ ومراد الناطق به، وليس أحد من بني آدم يستغني عن التعليم السمعي، كيف وآدم أبو البشر، وأول ما علمه الله تعالى أصول الأدلة السمعية وهي الأسماء كلها، وكلمه وعلمه بخطاب الوحي ما لم يعلمه بمجرد العقل.
فدلالة اللفظ على المعنى هي بواسطة دلالته على ما عناه المتكلم وأراده، وإرادته وعنايته في قلبه، فلا يعرف باللفظ ابتداء ولكن لا يعرف المعنى بغير اللفظ، حتى يعلم أولاً أن هذا المعنى المراد هو الذي يراد بذلك اللفظ ويعنى به، فإذا عرف ذلك ثم سمع اللفظ مرة ثانية، عرف المعنى المراد بلا إشارة إليه.
وإن كانت الإشارة إلى ما يحس بالباطن مثل الجوع، والشبع، والري، والعطش، والحزن، والفرح، فإنه لا يعرف اسم ذلك حتى يجده من نفسه، فإذا وجده أشير له إليه، وعرف أن اسمه كذا، والإشارة تارة تكون إلى جوع نفسه أو عطش نفسه، مثل أن يراه أنه قد جاع فيقول له: جعت، أو: أنت جائع، فيسمع اللفظ ويعلم ما عينه بالإشارة أو ما يجري مجراها من القرائن التي تعين المراد، مثل نظر أمه إليه في حال جوعه، وإدراكه بنظرها أو نحوه أنها تعني جوعه، أو يسمعهم يعبرون بذلك عن جوع غيره] .
أورد الشارح هذا الكلام ليبين أن الرسول عليه الصلاة والسلام خاطبهم بكلمات يفهمونها، وإلا لما سكتوا حتى يستفهموا، فإن الإنسان الذي لا يفهم الكلمة لابد أن يسأل عنها، فأنت مثلاً لو لقيت رجلاً أعجمياً، ثم إنك خاطبته بمثل هذه الكلمات ولم يفهم، فإنه يضيق صدره حتى تفهمه، فتقول له: هذا اسمه كذا، وهذا اسمه كذا، هذه -تشير إليها- اسمها شاة، وهذه اسمها بقرة، وهذا اسمها ناقة، وهذا جمل، وهذا حصان، فحينئذ يفهم.
وهكذا أيضاً إذا عبرت له عن الأشياء العلوية، قلت مثلاً: هذه هي السماء، وهذه هي الأرض، وهذا اسمه جبل، وهذا اسمه واد، وهذه شجرة، وهذه نخلة، إلى أن يفهم.
وهكذا أيضاً تعبر له عن المعاني التي قد لا يكون مشاراً إليها، ولا يكون لها أشخاص؛ مثل الجوع، والعطش، والخوف، والفرح، والحزن، والضحك، والبكاء، فإنه لا يفهمها إلا إذا أحس بها.
فإذا كان الأمر كذلك فلاشك أنه عليه الصلاة والسلام عندما تكلم بالكلمات كانوا يفهمون معناها، فكانوا يفهمون أنه إذا أخبر بأن الله سميع بصير؛ أن معناه أنه يدرك الأصوات ويبصر المرئيات، وكذلك إذا أخبر بأنه متكلم، يفهمون أن الكلام هو ما يسمع وما يعبر به عن المعاني، ويفهمون أن العلم ضد الجهل، ويفهمون أن المحبة ضد الكراهية أو ضد البغض وهكذا.
فإذا كانوا يفهمون ذلك وهي لغتهم فكيف يقال: إنها غير معلومة، وإن هذه الكلمات بمنزلة الكلمات الأعجمية التي يسمعها الإنسان ولا يدري ما معناها؟! فأنت لو سمعت كلاماً أعجمياً أو كلاماً لم تفهمه، قلت: كلمني فلان بكلام غير معروف، فلا تشهد له بالبيان، ونحن نشهد بأن الرسول عليه الصلاة والسلام بين، وأن القرآن بيان، قال تعالى: {هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ} [آل عمران:138] ، وقال تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ} [النحل:44] فنشهد بأنه بين للناس، وأن الناس فهموا عنه، ولو كان ما يقوله النفاة والمبتدعة من التكلف في طرح تلك الكلمات لما كان قد بين، هم لا يقولون إنه بين، بل يعتقدون أنه لبس، وحاشاه عليه الصلاة والسلام من التلبيس.(9/3)
بيان انقسام المخاطبين في فهم الخطاب للتوصل إلى أن الصفات خطاب له معنى مفهوم
قال رحمه الله: [إذا عرف ذلك، فالمخاطب المتكلم إذا أراد بيان معان، فلا يخلو: إما أن تكون مما أدركها المخاطب المستمع بإحساسه وشهوده، أو بمعقوله، وإما أن لا تكون كذلك.
فإن كانت من القسمين الأولين لم يحتج إلى معرفة اللغة، بأن يكون قد عرف معاني الألفاظ المفردة، ومعنى التركيب، فإذا قيل له بعد ذلك: {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ} [البلد:8-9] ، أو قيل له: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمْ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل:78] ونحو ذلك، فهم المخاطب بما أدركه بحسه.
وإن كانت المعاني التي يراد تعريفه بها ليست مما أحسه وشهده بعينه، ولا بحيث صار له معقول كلي يتناولها حتى يفهم به المراد بتلك الألفاظ، بل هي مما لا يدركه بشيء من حواسه الباطنة والظاهرة، فلابد في تعريفه من طريق القياس، والتمثيل، والاعتبار بما بينه وبين معقولات الأمور التي شاهدها من التشابه والتناسب، وكلما كان التمثيل أقوى كان البيان أحسن، والفهم أكمل] .
الرسل عليهم السلام بينوا للناس أشياء يشاهدونها، وبينوا أشياء لم يشاهدوها ولكن شاهدوا ما يشهد لها، فمثلاً: العبادات وضحوها، فقالوا: هذا اسمه وضوء، وهذه كيفيته، وهذه الصلاة، وهذه كيفيتها، هذا من جملة البيان.
كذلك بلغوا أشياء لم نشاهدها، وعبروا عنها بعبارة نفهمها، فمثلاً: اليوم الآخر الذي هو يوم القيامة، ما شاهدناه، حيث إنه لم يقع بعد، ولكن ذكرت لنا أوصافه بكلمات مفردة وجمل نفهم المعنى منها، فأخبر بأن الناس يبعثون، وتعاد أرواحهم في أجسادهم، وهذا مفهوم معناه، وكذلك جمع الناس في يوم القيامة مفهوم معناه: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين:6] وكذلك نصب الموازين والوزن للأعمال: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} [الأنبياء:47] فالوزن معروف.
وكذلك الإخبار بنشر الكتب: {وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنشُوراً} [الإسراء:13] ، فنحن ما رأيناه ولكن نفهم معناه، وهذه الأمور التي أخبرنا بها ونحن لم نرها فهمنا معناها، حيث إن جنس هذه الكلمات معروف، فالوزن في الدنيا معروف، ولكن ليس الوزن في الدنيا كالوزن في الآخرة، بل بينهما فرق، إلا أن كلاً منهما فيه ميزان يرجح وينقص.
وكذلك الصراط الذي أخبر بأن الناس يمشون عليه، فالصراط في الدنيا معروف؛ وهو الطريق الواسع، ولكن أخبر في الآخرة بأن هذا الصراط منصوب وأخبر بصفته، فنؤمن بذلك، ولكن نعتقد أنه ليس كالذي نعرفه في الدنيا.
وهكذا أيضاً الكتب التي تنشر في الآخرة: {وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنشُوراً * اقْرَأْ كِتَابَكَ} [الإسراء:13-14] كل يقرأ كتابه؛ الأمي وغير الأمي، معلوم أن هذا ليس ككتاب الدنيا الذي لا يقرؤه إلا القارئ، فعرف بذلك أنهم أخبروا بأشياء من الغيب مفهوم معناها، وإن لم تفهم كيفيتها.
لذلك يعرف أن الإيمان بالأمور الغيبية لابد من فهم معناه، فلو أن الناس ما فهموا كلمة النار، وجهنم، وسقر، والسعير، ونار تلظى، ونار موقدة، ونار حامية، لما خافوا ولا بكوا، ولا حذروا ولا ابتعدوا عن المعاصي التي تدخلهم في هذه النار، ولكن فهموا أنها نار عذاب، وأنها عذاب وبيل، واعتقدوا صحة ما جاء فيها من الحميم والزقوم، والغساق، وما أشبهه.
ولو أن الناس ما فهموا معنى (جنات النعيم) و (دار السلام) وما أشبهها، وما فيها من الحبور، وما فيها من القصور والأنهار والأشجار والثمار، لما عملوا لأجلها، فلابد أنهم فهموها.
فإذاً: الذين آمنوا بالآخرة وآمنوا بالغيب، فهموا معنى ذلك، فيقاس على ذلك فهمهم لمدلول الصفات وإن لم يكن هناك تماثل حقيقي، ولهذا يقول ابن عباس: (ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء) يعني: أنها تتشابه في الأسماء، وتتشابه في المعنى العام، الله تعالى أخبر بأن في الجنة أنهاراً، ومع ذلك تجري في غير أخدود، هل يتصور أنها تجري في الدنيا على الأرض بغير أخدود؟! يعني: في غير حفر وسواق، هذا من آيات الله! وكذلك المنازل التي في الآخرة، أخبر في الحديث (بأنه يرى باطنها من ظاهرها، وظاهرها من باطنها) فهذا دليل على أننا نعرف أنها قصور، وأنها مبنية، وأنها من لؤلؤ ومن زبرجد، ولكن ليست مثلما ندركه، فهذا دليل على أن أمور الآخرة نفهم معناها، ولكن كيفيتها لا ندركها، فيقال مثل ذلك أيضاً في الصفات.(9/4)
طريقة إطلاق الألفاظ الشرعية على مسمياتها الحادثة المشاهدة
قال رحمه الله: [فالرسول صلوات الله وسلامه عليه لما بين لنا أموراً لم تكن معروفة قبل ذلك، وليس في لغتهم لفظ يدل عليها بعينها، أتى بألفاظ تناسب معانيها تلك المعاني، وجعلها أسماءً لها، فيكون بينها قدر مشترك، كالصلاة، والزكاة، والصوم، والإيمان، والكفر.
وكذلك لما أخبرنا بأمور تتعلق بالإيمان بالله وباليوم الآخر، وهم لم يكونوا يعرفونها قبل ذلك حتى يكون لهم ألفاظ تدل عليها بعينها، أخذ من اللغة الألفاظ المناسبة لتلك بما تدل عليه من القدر المشترك بين تلك المعاني الغيبية والمعاني الشهودية التي كانوا يعرفونها، وقرن بذلك من الإشارة ونحوها ما يعلم به حقيقة المراد، كتعليم الصبي، كما قال ربيعة بن أبي عبد الرحمن: الناس في حجور علمائهم كالصبيان في حجور آبائهم] .
فهمنا أن الرسول عليه الصلاة والسلام استعمل معاني لم تكن معروفة عند العرب، ولكن عبر عنها بما يقاربها من كلمات يفهمون معناها، فما كانوا يعرفون أن الشرك هو عبادة غير الله معه، ولكن يعرفون أن الشرك اشتراك اثنين في شيء، فتسمية عبادة غير الله مع الله مثل اشتراك اثنين في شيء، فسماه شركاً لما فيه من الاشتراك.
وكانوا يعرفون أن الكفر هو الستر والتغطية، فلما كان الكافر قد أنكر الإيمان وأنكر التوحيد وجحده وستره صدق عليه أنه كفر، فسماه الرسول بأمر الله كفراً.
وما كانوا يعرفون أن الإيمان هو الدخول في هذه الشريعة وتقبلها، بل يعرفون أن الإيمان هو تصديق الإنسان بقلبه بشيء، فلما جاء بهذه الكلمة جعلها اسماً للتصديق الكلي بما جاء في هذا الشرع، فهذا تصديق وذاك تصديق، ولكن هذا بشيء وذاك بشيء.
وكذلك ما كانوا يعرفون كلمة الإسلام إلا أنها الإذعان للشيء والاستسلام له، فاستعمل الإسلام في الإذعان للشرع والانقياد له، وما كانوا يعرفون أن الصلاة هي الركوع والسجود، فاستعملها في هذا؛ لأنهم كانوا يعرفون أن الصلاة هي الدعاء، وهذه فيها دعاء.
وهكذا علمهم عليه السلام أسماء هذه الأشياء، ثم علمهم كيفيتها، فلما سئل عن الإسلام فسره بالأركان الخمسة، ولما سئل عن الإيمان وعن الإحسان فسرها.
فإذا كان هذا تعليمه لأمته هذه الكلمات فيما يقاربها من اللغة التي يفهمونها، فهو بمنزلة المعلم، الذي يعلم تلاميذه ويبدأ معهم بصغار العلم قبل كباره، ويربيهم بذلك، والله تعالى قد أرشد إلى هذه الطريقة بقوله تعالى: {وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ} [آل عمران:79] فهكذا ينبغي أن يعرف ويعتقد أن الرسل بلغوا وبينوا للناس الأمور الغيبية والأمور الاصطلاحية الشرعية على حسب ما يفهمون، وأن أممهم فهموا منهم ذلك فهماً كاملاً.(9/5)
إخبار الرسول بالأمور الغيبية وطريقة التعليم فيها ترد على نفاة الصفات
قال رحمه الله: [وأما ما يخبر به الرسول من الأمور الغائبة، فقد يكون مما أدركوا نظيره بحسهم وعقلهم، كإخبارهم بأن الريح أهلكت عاداً، فإن عاداً من جنسهم والريح من جنس ريحهم وإن كانت أشد، وكذلك غرق فرعون في البحر، وكذا بقية الأخبار عن الأمم الماضية.
ولهذا كان الإخبار بذلك فيه عبرة لنا، كما قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ} [يوسف:111] .
وقد يكون الذي يخبر به الرسول مما لم يدركوا مثله الموافق له في الحقيقة من كل وجه، لكن في مفرداته ما يشبه مفرداتهم من بعض الوجوه، كما إذا أخبرهم عن الأمور الغيبية المتعلقة بالله واليوم الآخر، فلابد أن يعلموا معنًى مشتركاً وشبهاً بين مفردات تلك الألفاظ، وبين مفردات ما علموه في الدنيا بحسهم وعقلهم.
فإذا كان ذلك المعنى الذي في الدنيا لم يشهدوه بعد، ويريد أن يجعلهم يشهدونه مشاهدة كاملة ليفهموا به القدر المشترك بينه وبين المعنى الغائب، أشهدهم إياه، وأشار لهم إليه، وفعل فعلاً يكون حكاية له وشبهاً به، يعلم المستمعون أن معرفتهم بالحقائق المشهودة هي الطريق التي يعرفون بها الأمور الغائبة] .
سمعنا أن هذا من جملة ما بينه الله تعالى على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، وأخبرهم عن أمور لم يشاهدوها، فمن ذلك أمور قد سبقت ولكن يفهم معناها، فأخبر الله بأنه أغرق قوم نوح وأنجى نوحاً في السفينة، فنعرف أن قوم نوح بشر مثلنا، وأن السفينة مركب من المراكب يسبح في البحر، فأخبر بأنه نجى نوحاً ومن معه في السفينة، في قوله تعالى: {فَأَنجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ} [العنكبوت:15] وفي قوله: {فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ} [المؤمنون:27] هذا شيء مفهوم، سمعناه وفهمنا معناه.
وكذلك إخباره بأنه أهلك عاداً بالريح، فعاد بشر مثلنا إلا أنهم أشد خلقاً، كما في قولهم: {مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً} [فصلت:15] والريح من جنس الريح التي نعرفها إلا أنها أشد، وهكذا يقال في الأخبار عن الأمم السابقة، فمعناها مفهوم.
وأما الأمور الغيبية التي هي من الأمور الأخروية فقد أخبر الله تعالى على لسان رسوله عن أمور غيبية من الأمور المستقبلة، ولكن نصدق بها ونفهم مدلولها الإجمالي وإن لم نفهم الكيفية.
قد ضربنا مثلاً بالصراط وبالميزان، وكذلك الحوض في الآخرة، وهكذا حساب الله تعالى للخلق، وهكذا خلقتهم وكيفيتهم، وكذا ذكر الجنة والنار وما فيهما، فمعانيها مفهومة وإن لم يكن الذي نشاهده في الدنيا كالذي يحصل في الآخرة، بل بينهما تفاوت، فعرف بذلك أن الرسل بينوا للناس، وأن الناس فهموا المعنى العمومي الذي يحصل به إدراكهم وانتفاعهم.(9/6)
تقدير انتفاء المماثلة بين الخالق والمخلوق تغني عن إثبات الفارق عند ذكر الصفات
قال رحمه الله: [فينبغي أن تعرف هذه الدرجات: أولها: إدراك الإنسان المعاني الحسية المشاهدة.
وثانيها: عقله لمعانيها الكلية.
وثالثها: تعريف الألفاظ الدالة على تلك المعاني الحسية والعقلية.
فهذه المراتب الثلاث لابد منها في كل خطاب؛ فإذا أخبرنا عن الأمور الغائبة فلابد من تعريفنا المعاني المشتركة بينها وبين الحقائق المشهودة والاشتباه الذي بينهما، وذلك بتعريفنا الأمور المشهودة، ثم إن كانت مثلها لم يحتج إلى ذكر الفارق، كما تقدم في قصص الأمم، وإن لم يكن مثلها بين ذلك بذكر الفارق، بأن يقال: ليس ذلك مثل هذا، ونحو ذلك.
وإذا تقدر انتفاء المماثلة كانت الإضافة وحدها كافية في بيان الفارق، وانتفاء التساوي لا يمنع وجود القدر المشترك الذي هو مدلول اللفظ المشترك، وبه صرنا نفهم الأمور الغائبة، ولولا المعنى المشترك ما أمكن ذلك قط] .
يقول: لابد في معرفة المعاني من معرفة الألفاظ، فلو كنا لا نعرف كلمة (سمع) ما فهمنا قوله: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً} [النساء:58] ، ولو كنا لا نعرف المعنى الذي تفسر به الكلمة، وهو أن السمع إدراك الأصوات، ما فهمنا أيضاً المعنى الذي دلت عليه الجملة، ولو كنا نسمع كلمة (سمع) ونفسرها ولكن لا ندري ما مدلولها، ما فهمناها ولا انتفعنا بالكلام.
فيقال: أولاً: علينا أن نعرف أن المعاني واضحة تفهم بمجرد فهم اللغة، فيفهم المسلمون إذا قيل في أوصاف الله عز وجل إنه المهيمن، أنه رقيب على عباده، ويفهمون أنه يراهم إذ قال: {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} [الشعراء:218-219] ، وإذا قرءوا قوله تعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ * وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ} [ق:15-16] فهموا أن ذلك تخويف، وأنه لا يخفى عليه من أمورهم خافية، ولو كانوا لم يتصوروا هذا القرب وذلك لأنه من الأمور الغيبية، إنما القصد منه التخويف حتى يحذر الإنسان إذا عرف أنه عليه رقيب.
فإذا عرفنا مدلول الكلمة وعرفنا كيف تفسر، فإننا ندرك ثبوت الصفة، ولكن لا نفهم التشبيه، فلا نفهم أن صفة المخلوق كصفة الخالق، فلا نقول: إن الله يسمع كسمعنا، ويبصر كبصرنا، وله يد كأيدينا، ما الذي سبب معرفتنا لهذا الفرق؟
و
الجواب
أن صفات المخلوق إذا أضيفت إليه تناسبه، وصفات الخالق إذا أضيفت إليه تناسبه، فالإضافة كافية في إثبات الفرق، فيكتفى بها ويقال: إذا كانت ذات الرب تعالى ليست كذوات المخلوقين، فكذلك صفاته ليست كصفاتهم، سواء الصفات الفعلية أو الصفات الذاتية، فيعتقد المسلمون أن هذا كاف في إثبات الفرق بين صفة وصفة.(9/7)
مخالفة طريقة أهل البدع في باب الصفات لطريقة القرآن والسنة
قال المصنف رحمه الله تعالى: [قوله: (ولاشيء يعجزه) .
لكمال قدرته، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة:20] ، {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً} [الكهف:45] ، {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً} [فاطر:44] ، {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة:255] .
(لا يؤده) أي: لا يكرثه ولا يثقله ولا يعجزه.
فهذا النفي لثبوت كمال ضده، وكذلك كل نفي يأتي في صفات الله تعالى في الكتاب والسنة إنما هو لثبوت كمال ضده، كقوله تعالى: {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [الكهف:49] ، لكمال عدله، {لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ} [سبأ:3] لكمال علمه.
وقوله تعالى: {وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} [ق:38] لكمال قدرته، {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} [البقرة:255] لكمال حياته وقيوميته، {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} [الأنعام:103] لكمال جلاله وعظمته وكبريائه، وإلا فالنفي الصرف لا مدح فيه، ألا يرى أن قول الشاعر: قُبَيِّلة لا يغدرون بذمةٍ ولا يظلمون الناس حبة خردل لما اقترن بنفي الغدر والظلم عنهم ما ذكره قبل هذا البيت وبعده، وتصغيرهم بقوله: (قُبيلة) عُلم أن المراد عجزهم وضعفهم، لا كمال قدرتهم، وقول الآخر: لكن قومي وإن كانوا ذوي عدد ليسوا من الشر في شيء وإن هانا لما اقترن بنفي الشر عنهم ما يدل على ذمهم، عُلم أن المراد عجزهم وضعفهم أيضاً.
ولهذا يأتي الإثبات للصفات في كتاب الله مفصلاً، والنفي مجملاً، عكس طريقة أهل الكلام المذموم، فإنهم يأتون بالنفي المفصل والإثبات المجمل، يقولون: ليس بجسم ولا شبح ولا جثة ولا صورة ولا لحم ولا دم ولا شخص ولا جوهر ولا عرض ولا بذي لون ولا طعم، ولا رائحة، ولا مَجَسَّة، ولا بذي حرارة ولا برودة ولا رطوبة ولا يبوسة ولا طول ولا عرض ولا عمق ولا اجتماع ولا افتراق ولا يتحرك ولا يسكن، ولا يتبعض، وليس بذي أبعاض وأجزاء وجوارح وأعضاء، وليس بذي جهات، ولا بذي يمين ولا شمال وأمام وخلف وفوق وتحت، ولا يحيط به مكان ولا يجرى عليه زمان، ولا يجوز عليه المماسة ولا العزلة، ولا الحلول في الأماكن، ولا يوصف بشيء من صفات الخلق الدالة على حدوثهم، ولا يوصف بأنه متناه، ولا يوصف بمساحة ولا ذهاب في الجهات، وليس بمحدود، ولا والد ولا مولود، ولا تحيط به الأقدار ولا تحجبه الأستار إلى آخر ما نقله أبو الحسن الأشعري رحمه الله عن المعتزلة.
وفي هذه الجملة حق وباطل، ويظهر ذلك لمن يعرف الكتاب والسنة.
وهذا النفي المجرد مع كونه لا مدح فيه، فيه إساءة أدب، فإنك لو قلت للسلطان: أنت لست بزبال ولا كساح ولا حجام ولا حائك، لأدبك على هذا الوصف وإن كنت صادقاً، وإنما تكون مادحاً إذا أجملت النفي، فقلت: أنت لست مثل أحد من رعيتك، أنت أعلم منهم وأشرف وأجل، فإذا أجملت في النفي، أجملت في الأدب] [والتعبير عن الحق بالألفاظ الشرعية النبوية الإلهية، هو سبيل أهل السنة والجماعة، والمعطلة يعرضون عما قاله الشارع من الأسماء والصفات، ولا يتدبرون معانيها، ويجعلون ما ابتدعوه من المعاني والألفاظ هو المحكم الذي يجب اعتقاده واعتماده.
وأما أهل الحق والسنة والإيمان فيجعلون ما قاله الله ورسوله هو الحق الذي يجب اعتقاده واعتماده، والذي قاله هؤلاء إما أن يعرضوا عنه إعراضاً جملياً، أو يبينوا حاله تفصيلاً، ويحكم عليه بالكتاب والسنة، لا يحكم به على الكتاب والسنة] .
قال رحمه الله: [والمقصود أن غالب عقائدهم السلوب: ليس بكذا، ليس بكذا، وأما الإثبات فهو قليل؛ وهي: أنه عالم، قادر، حي.
وأكثر النفي المذكور ليس متلقى عن الكتاب والسنة، ولا عن الطرق العقلية التي سلكها غيرهم من مثبتة الصفات، فإن الله تعالى قال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] ففي هذا الإثبات ما يقرر معنى النفي.
ففهم أن المراد انفراده سبحانه بصفات الكمال، فهو سبحانه وتعالى موصوف بما وصف به نفسه، ووصفه به رسله، ليس كمثله شيء في صفاته، ولا في أسمائه، ولا في أفعاله، مما أخبرنا به من صفاته، وله صفات لم يطلع عليها أحد من خلقه، كما قال رسوله الصادق صلى الله عليه وسلم في دعاء الكرب: (اللهم إني أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني، وذهاب همي وغمي) وسيأتي التنبيه على فساد طريقتهم في الصفات إن شاء الله تعالى] .
أي أن هؤلاء النفاة ليس لهم دليل على هذا السلب: أن الله ليس بفوق ولا تحت، ولا يمين ولا شمال، ولا متحرك ولا ساكن إلى آخره، بماذا استدلوا؟ اعتمدوا على طرق الفلاسفة، والفلاسفة اعتمدوا في ذلك على طرق عقلية، ولكنها في الحقيقة خيالات تخيلوها، فهذه طريقتهم في النفي.
وأما في الإثبات فلم يثبتوا إلا قليلاً، فالأشعرية أثبتوا سبع صفات وأثبتوا الأسماء، والمعتزلة أثبتوا الأسماء ولكن نفوا دلالتها على الصفات، فقالوا: إن الله سميع بلا سمع، وبصير بلا بصر، وعليم بلا علم، وقدير بلا قدرة، وجعلوها أسماء مجردة عن الصفات تعالى الله عن قولهم.
ويرد عليهم بطريقة القرآن، فإن القرآن إذا نفى أتبع النفي بالإثبات، فإن قوله تعالى: {لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً} [الطلاق:12] إثبات لكمال القدرة، وإثبات للإحاطة بكل شيء، مع أنه قد نفى أن يحيط الناس به، في قوله: {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} [طه:110] {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ} [البقرة:255] فدل على أنه لكماله لا يستطيعون أن يطلعوا إلا على ما أطلعهم عليه، وكذلك جمع بين النفي والإثبات في الآية التي تقدمت، وهي قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] ، فجمع بين النفي والإثبات في بعض آية، ورد على الفئتين: الفئة التي غلت في الإثبات حتى شبهت صفاته بالمخلوقات، والفئة التي غلت في النفي حتى نفت عنه صفات الإثبات الكمالية.
فهذه هي طريقة الرسل، وطريقة الكتاب والسنة، هذه هي التي تروي الغليل، وتشفي العليل، فمن سار على نهج أهل السنة في النفي والإثبات وعلى طريقة الرسل، فلا يخشى من الملام، ولا يرد عليه كلام.(9/8)
النفي المتضمن إثبات كمال الضد طريقة شرعية في باب الصفات
قال المؤلف رحمه الله: [وليس قول الشيخ رحمه الله تعالى: (ولا شيء يعجزه) ، من النفي المذموم، فإن الله تعالى قال: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً} [فاطر:44] فنبه سبحانه وتعالى في آخر الآية على دليل انتفاء العجز، وهو كمال العلم والقدرة، فإن العجز إنما ينشأ إما من الضعف عن القيام بما يريده الفاعل، وإما من عدم علمه به، والله تعالى لا يعزب عنه مثقال ذرة، وهو على كل شيء قدير، وقد علم ببدائه العقول والفطر كمال قدرته وعلمه، فانتفى العجز؛ لما بينه وبين القدرة من التضاد، ولأن العاجز لا يصلح أن يكون إلهاً، تعالى الله عن ذكر ذلك علواً كبيراً] .
يعني: أن قول الماتن: (ولا يعجزه شيء) نفي، ولكن هذا النفي دليل على إثبات، وهو إثبات كمال القدرة، فنفى العجز ليدل على أنه كامل القدرة، وكامل القوة، ولهذا جمع الله بين النفي والإثبات في هذه الآية من سورة فاطر؛ وهي قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ} [فاطر:44] هذا نفي، ثم قال: {إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً} [فاطر:44] .
فأثبت العلم والقدرة ليدل على أنه قدير حيث لا يعجزه شيء، فعرف أن هذا نفي موافق للنفي الذي في القرآن، وهو النفي الذي يتضمن إثباتاً، وعلل بأن العاجز لا يصلح أن يكون إلهاً، وأنه يدخل في القدرة كل شيء، وإذا وصفنا الله تعالى بكمال القدرة فهو قادر على كل شيء، ولا يخرج عن قدرته شيء، لا من الأفعال ولا من الذوات، فيقدر على أن يجعل المؤمن كافراً والكافر مؤمناً، يقلب القلوب، ويحول بين المرء وقلبه.
وكذلك ورد في الحديث قول النبي عليه الصلاة والسلام: (يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على طاعتك) ، فدل على أن من جملة ما يملكه ويستطيعه ويقدر عليه الحيلولة بين الإنسان وبين قلبه، قال: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} [الأنفال:24] .
فهذه صفة من صفات الكمال، وهي إثبات كمال القدرة، وصفات الله وأسماؤه لا يحيط بها إلا هو، كما دل على ذلك الحديث الذي مضى؛ وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم علم أصحابه هذا الدعاء، وفيه قوله: (أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك) ، فدل على أنه استأثر بأسماء وبصفات لم يطلع عليها أحداً.
والحاصل: أن صفات الله تعالى كلها صفات كمال، إذا أثبتناها فإننا نعتقد أنها صفات كمال، ومعلوم أن الذي يثبت هذه الصفات يعظم قدر ربه في قلبه، ومن عظم قدر ربه في قلبه لم يقدم على معصيته، وهذه هي فائدة قراءتنا لبعض الصفات.
إذا عرف العبد أن الله مطلع على كل شيء لم يقدم على معصيته، وإذا عرف أنه عليم بكل شيء، لا تخفى عليه من أمره خافية، يعلم ما توسوس به النفس، وما يجول في القلب، وعرف كمال قدرته على أن يعذب من يشاء ويرحم من يشاء، فإن ذلك يحمله على الاستكثار من الطاعات، والابتعاد عن المحرمات.(9/9)
تقدير الخبر في كلمة التوحيد
قال المؤلف رحمه الله: [قوله: (ولا إله غيره) : هذه كلمة التوحيد التي دعت إليها الرسل كلها، كما تقدم ذكره، وإثبات التوحيد بهذه الكلمة باعتبار النفي والإثبات المقتضي للحصر، فإن الإثبات المجرد قد يتطرق إليه الاحتمال، ولهذا -والله أعلم- لما قال تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [البقرة:163] قال بعده: {لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} [البقرة:163] فإنه قد يخطر ببال أحد خاطر شيطاني: هب أن إلهنا واحد، فلغيرنا إله غيره! فقال تعالى: {لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} [البقرة:163] .
وقد اعترض صاحب المنتخب على النحويين في تقدير الخبر في: لا إله إلا هو، فقالوا: تقديره: لا إله في الوجود إلا الله، فقال: يكون ذلك نفياً لوجود الإله، ومعلوم أن نفي الماهية أقوى في التوحيد الصرف من نفي الوجود، فكان إجراء الكلام على ظاهره والإعراض عن هذا الإضمار أولى.
وقد أجاب أبو عبد الله محمد بن أبي الفضل المرسي في (ري الظمآن) فقال: هذا كلام من لا يعرف لسان العرب، فإن (إله) في موضع المبتدأ على قول سيبويه، وعند غيره اسم لا، وعلى التقديرين فلابد من خبر المبتدأ، وإلا فما قاله من الاستغناء عن الإضمار فاسد، وأما قوله: إذا لم يضمر يكون نفياً للماهية فليس بشيء؛ لأن نفي الماهية هو نفي الوجود، لا تتصور الماهية إلا مع الوجود، فلا فرق بين (لا ماهية) و (لا وجود) ، وهذا مذهب أهل السنة، خلافاً للمعتزلة، فإنهم يثبتون ماهية عارية عن الوجود، و (إلا الله) مرفوع بدل من (لا إله) لا يكون خبراً لـ (لا) ولا للمبتدأ، وذكر الدليل على ذلك.
وليس المراد هنا ذكر الإعراب، بل المراد رفع الإشكال الوارد على النحاة في ذلك، وبيان أنه من جهة المعتزلة وهو فاسد، فإن قولهم (في الوجود) ليس تقييداً؛ لأن العدم ليس بشيء، قال الله تعالى: {وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً} [مريم:9] .
ولا يقال: ليس قوله: (غيره) كقوله: (إلا الله) لأن غير تعرب بإعراب الاسم الواقع بعد إلا، فيكون التقدير للخبر فيهما واحداً، فلهذا ذكرت هذا الإشكال وجوابه هنا] .
قوله: (ولا إله غيره) هذه كلمة الإخلاص، وهي كلمة (لا إله إلا الله) ، ففي دعاء الاستفتاح يقول: (سبحانك الله وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك) ، وهو معنى: لا إله إلا أنت، أي: ليس هنا إله يصلح للإلهية غيرك، وهو معنى الاستثناء في قوله: إلا الله.
وقد تكررت هذه الكلمة بهذا اللفظ (لا إله إلا الله) ، كقوله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [محمد:19] وبلفظ: {لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ} [البقرة:163] كقوله تعالى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ} [الحشر:23] وبلفظ: (لا إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ) في دعاء ذي النون في قوله: {لا إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنْ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:87] ووردت من كلام الله، وفي قوله تعالى: {وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى * إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي} [طه:13-14] وكله معناه واحد، وهو: نفي الإلهية عن غير الله.
وأما الإعراب الذي ذكر عن النحويين أنهم قالوا: لا إله في الوجود إلا الله، فقد تعقبه العلماء وقالوا: إن هناك في الوجود من يسمى إلهاً، ولكن لا يصلح أن يكون إلهاً، فالصواب أن يقال: لا إله حق إلا الله، أو: لا إله بحق إلا الله؛ أي: لا أحد يستحق الإلهية إلا الله، فالتقدير (بحق) أولى؛ وذلك لكثرة من يسمى إلهاً مما تألهه القلوب، ويتخذه المشركون إلهاً.(9/10)
حب المشركين لآلهتهم وتعظيمها عبادة لها
إن كلمة الإله اسم لمن تألهه القلوب وتحبه، ومعلوم أن المشركين يألهون معبوداتهم، سواء المعبودات القديمة كالأصنام المنحوتة على صور المخلوقات كود وسواع إلى آخره، أو الخياليات: كالذين يألهون بعض السادة، أو بعض الأولياء، كالذين يألهون عبد القادر الجيلاني أو أحمد البدوي أو الحسين، أو علياً، أو العيدروس، أو ابن علوان أو نحوهم، فإنهم يألهونهم، بمعنى أن قلوبهم تحبهم، وتقدسهم، وتعظمهم، وتوقرهم، ويكون في قلوبهم لهم قدر، ولهم مكانة، وهذا هو حقيقة التأله.
أما المسلمون الموحدون فإنهم يألهون الله وحده، لا تأله قلوبهم غيره، فلا تحب سواه محبة العبادة، ولا تخاف من غيره، ولا تعظم إلا الله، ولا تخضع وتتواضع إلا له وهكذا.
هذه صفة أولياء الله، فأولياء الله هم الموحودون، هم الذين اتخذوه إلهاً، وصدوا بقلوبهم عما سواه.
ولما كانت كلمة التوحيد تتضمن الإخلاص؛ كانت أول دعوة الرسل، وتقدم في أول الكتاب أن أول ما بعث به الرسل هذه الكلمة، يقول نوح لقومه: {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:59] أي: لا يستحق غيره أن يكون إلهاً، وكذلك قاله هود وصالح وشعيب وبقية الأنبياء الذين ذكر الله أنه أوحى إليهم بذلك، وإذا عرف المسلم معنى هذه الكلمة، صار في حقيقة التوحيد الذي دعت إليه الرسل.
والمصيبة أن الذين يعبدون الأموات يقولون: لا إله إلا الله، ليلاً ونهاراًً، وسراً وجهاراً، لكن لا يعملون معناها، ولا يعرفون مضمونها، بل يقولونها ويخالفونها؛ لأنهم لم يفهموا معنى الإله، ولو عرفوا أن الإله هو الذي تألهه القلوب، فتحبه وتعظمه؛ لعلموا أنهم قد ألهوا هذه الأموات.
إذا قلنا: معنى (لا إله إلا الله) : لا معبود بحق إلا الله، قلنا لهم: أنتم الآن قد عبدتم غير الله من هؤلاء الأموات، فالعبادة هي التذلل والخضوع، وقد تذللتم وخضعتم لهؤلاء الأموات، فأصبحتم قد دعوتم غير الله، فلا ينفعكم التهليل.
فالحاصل: أن كلمة التوحيد (لا إله إلا الله) أو (لا إله غيره) هي التي يجب أن ندعو إليها، وهي التي دعت إليها الرسل ومنهم نبينا صلى الله عليه وسلم، حيث أقام عشر سنين بمكة يقول للناس: قولوا لا إله إلا الله تفلحوا، وكانوا يعرفون معناها، ولما قال لعمه أبي طالب: (قل لا إله إلا الله، كلمة أحاج لك بها عند الله) يعني: أحتج بها عند الله أنك مت على التوحيد، فهم أبو طالب وفهم الحاضرون أنها تتضمن البراءة من كل المألوهات، فذكروه الحجة الشيطانية، وهي: ملة أبيه عبد المطلب، فمات على قوله: هو على ملة عبد المطلب.
ولما قال لهم في مجتمعهم: (قولوا لا إله إلا الله، كلمة تدين لكم بها العرب، وتدفع لكم الجزية بها العجم) قالوا: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً} [ص:5] ، وقالوا: {أَنْ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ ُ} [ص:6] فهذا دليل على أن كل من يألهونه -يعني: يحبونه- فإنه يسمى إلهاً، يعني: يحبونه محبة تعظيم وتوقير واحترام.
وخفي هذا المعنى على القبوريين الذين عظموا القبور، فقيل لهم: تعظيمكم هذا هو التأله شئتم أم أبيتم، فقد اتخذتم الأموات آلهة، وكذلك أفعالكم؛ كحلفكم بالأموات، أو دعائهم أولئك الأموات، كقولكم: يا عيدروس! يا تاج! يا يوسف! وتعلق قلوبكم بهم هو تأله، قد اتخذتموهم آلهة شئتم أم أبيتم، وعبدتموهم وإن لم تسموا ذلك عبادة، فالعبرة بالحقائق لا بالأسماء، سموا أفعالكم: توسلاً، أو تودداً، أو تبركاً، أو تحبباً، أو استشفاعاً، أو تقرباً، فإن الحقائق لا تتغير بالتسميات.
نحن نحث كل مسلم على أن يعرف معنى لا إله إلا الله، وأنها تدعو إلى أن يكون الله هو الإله المعبود بحق، وأن يعبده حق عبادته، وأن يصد المسلم بقلبه عن عبادة وتعظيم كل ما سواه، فبذلك يكون محققاً لهذا التوحيد، الذي هو توحيد الرسل، والذي دعت إليه الرسل من أولهم إلى آخرهم.(9/11)
شرح العقيدة الطحاوية [10]
لما دخل علم الكلام على المسلمين أفسد على كثير منهم معتقداتهم في أسماء الله وصفاته وإرادته وقدره، فلم يفرقوا بين الإرادة الشرعية والقدرية، ولا أثبتوا له صفات الكمال.
والناس في الأسماء والصفات أقسام، فمن مثبتها مع التشبيه وهم المشبهة، ومن معطلها أو بعضها وهم المعطلة، وأهل السنة هم وسط بين ذلك، فهم يثبتون الأسماء والصفات دون تشبيه ولا تعطيل.(10/1)
معنى قوله: (قديم بلا ابتداء دائم بلا انتهاء)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [قوله: (قديم بلا ابتداء، دائم بلا انتهاء) .
قال الله تعالى: {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِر} [الحديد:3] ، وقال صلى الله عليه وسلم: (اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء) ، فقول الشيخ: (قديم بلا ابتداء، دائم لا انتهاء) هو معنى اسمه: الأول والآخر.
والعلم بثبوت هذين الوصفين مستقر في الفطر، فإن الموجودات لا بد أن تنتهي إلى واجب الوجود لذاته؛ قطعاً للتسلسل، فإنا نشاهد حدوث الحيوان، والنبات، والمعادن، وحوادث الجو، كالسحاب والمطر وغير ذلك، وهذه الحوادث وغيرها ليست ممتنعة، فإن الممتنع لا يوجد، ولا واجبة الوجود بنفسها، فإن واجب الوجود بنفسه لا يقبل العدم، وهذه كانت معدومة ثم وجدت، فعدمها ينفي وجوبها، ووجودها ينفي امتناعها.
وما كان قابلاً للوجود والعدم لم يكن وجوده بنفسه، كما قال تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} [الطور:35] ، يقول سبحانه: أحدثوا من غير محدث، أم هم أحدثوا أنفسهم؟ ومعلوم أن الشيء المحدث لا يوجد نفسه، فالممكن الذي ليس له من نفسه وجود ولا عدم، لا يكون موجوداً بنفسه، بل إن حصل ما يوجده وإلا كان معدوماً، وكل ما أمكن وجوده بدلاً عن عدمه، وعدمه بدلاً عن وجوده، فليس له من نفسه وجود ولا عدم لازم له.
وإذا تأمل الفاضل غاية ما يذكره المتكلمون والفلاسفة من الطرق العقلية، وجد الصواب منها يعود إلى بعض ما ذكر في القرآن من الطرق العقلية بأفصح عبارة وأوجزها، وفي طرق القرآن من تمام البيان والتحقيق ما لا يوجد عندهم مثله، قال تعالى: {وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} [الفرقان:33] .
ولا نقول: لا ينفع الاستدلال بالمقدمات الخفية، والأدلة النظرية، فإن الخفاء والظهور من الأمور النسبية، فربما ظهر لبعض الناس ما خفي على غيره، ويظهر للإنسان الواحد في حال ما خفي عليه في حال أخرى.
وأيضاً فالمقدمات وإن كانت خفية، فقد يسلمها بعض الناس وينازع فيما هو أجلى منها، وقد تفرح النفس بما علمته من البحث والنظر، ما لا تفرح بما علمته من الأمور الظاهرة، ولا شك أن العلم بإثبات الصانع ووجوب وجوده أمر ضروري فطري، وإن كان يحصل لبعض الناس من الشبه ما يخرجه إلى الطرق النظرية] .(10/2)
الأدلة العقلية والنقلية في إثبات الأولية والآخرية لله تعالى
نعرف أن هذا الوصف وهو قوله: (قديم بلا ابتداء، دائم بلا انتهاء) وصف ثابت للإله، ولكن العبارة التي في القرآن والسنة أوضح، وهي قول الله تعالى: {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ} [الحديد:3] ، وفسر ذلك النبي صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم بقوله: (أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء) ، وفسره أيضاً في حديث عمران بقوله: (كان الله ولم يكن شيء قبله) .
وهذا دليل على أن الله تعالى قديم ولم يسبق بعدم، وأنه دائم ولا يلحقه فناء، وأن المخلوقات حادثة معدومة ثم وجدت، ثم يأتي عليها العدم، ويستدل على هذا بحدوث الحوادث، فيقال: هذه الحوادث لا بد لها من محدث.
وهذا قد يعتبر دليلاً عقلياً، ولكن قيدته الآيات كهذه الآية التي في سورة الطور، وهي قوله تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} [الطور:35] ، يقول: فإذا تحققوا أنهم لم يكونوا هم الذين خلقوا أنفسهم وتحقق أنهم لم يخلقوا من غير شيء، تعين أنهم خلقوا من شيء وأن لهم خالقاً خلقهم، ويستدل بهذا على الطبائعيين الدهريين، والذين يسمون في هذه الأزمنة بالشيوعيين الذين ينكرون الخالق، وقديماً كانوا يسمون بالطبائعيين، ومنهم الفلاسفة الطبائعيون، فهناك فلاسفة يقرون بالخالق ويسمون الفلاسفة الإلهيين.
فهؤلاء جميعاً يحتج عليهم بالعقل فيقال: هذه الموجودات نشاهد أنها كانت معدومة ثم وجدت، فلا بد لها من موجد، نشاهد مثلاً: أن السماء ليس فيها سحاب ثم يتراكم فيها السحاب، فلا بد له من موجد، ونشاهد أن الأرض تكون يابسة ثم نشاهدها بعد ذلك تهتز خضراء وفيها أشجار وثمار، فلا بد لها من موجد، ونشاهد مثلاً أن الإنسان يكون صغيراً ثم نشاهده بعد ذلك قد حصل له أولاد وصاروا بجانبه، لقد كانوا معدومين ثم وجدوا، فلا بد لهم من موجد، وهكذا توالد الحيوانات والدواب ونحوها لا بد لها من موجد، فإن الإنسان ليس هو الذي يوجد نفسه، وليس هو الذي يخلق أولاده، ولو كان هو الذي يتصرف بنفسه لحرص على أن يكون خلقه أحسن من خلق غيره، ولو كان هو الذي يوجد ولده لحرص على أن يكون أولاده ذكوراً أو نحو ذلك، فتعين أن هناك خالقاً يتصرف في هذا الكون، فهو الذي يعطي ويمنع، يصل ويقطع، يخفض ويرفع، يسعد ويشقي، يفقر ويغني.
فإذاً لا بد أن هذه الموجودات تنتهي إلى موجد، وذلك الموجد لا بد أن يكون غنياً بنفسه، وأن ما سواه فقير إليه، وهذا الوصف هو وصف الخالق تعالى، قال عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ * إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ} [فاطر:15-17] ، أي: ليس ذلك شاقاً ولا صعباً على الله، بل هو سهل يسير: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82] .(10/3)
اعتقاد أهل السنة في أولية الله وأزليته
يعتقد أهل السنة أن رب هذا الكون واحد، وأنه الذي يتصرف في الكون، وأنه قديم ليس له بداية وأنه دائم ليس له نهاية، وقد ذكر الله تعالى أن كلامه لا ينفد بقوله: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي} [الكهف:109] ، وما ذاك إلا أن كلام الله ليس له بداية ولا نهاية، فالبحر ولو كان معه سبعة أبحر تمده، وكانت الأشجار من أول الدنيا إلى آخرها أقلاماً، فكتب بتلك الأقلام بمداد هذه البحار، لنفدت البحار ولتكسرت الأقلام ولم ينفد كلام الله؛ وذلك لأنه لا بداية له ولا نهاية، ولا شك أن هذه من الحجج العقلية التي تقطع مخاصمة أولئك.
وإذا عرف المسلمون أن لهم خالقاً خلقهم وخلق هذا الكون، عرفوا أنهم ما خلقوا عبثاً، فلا بد أن للخالق الذي خلقهم وأنعم عليهم حقاً عليهم، فيعرف العبيد حق الله عليهم وهو عبادته وحده لا شريك له، فيكون هذا دافعاً لهم إلى أن يقوموا بهذا الحق، ثم بعد ذلك يعلقون آمالهم راجين الثواب الذي رتب لهم على تلك العبادة.
والحاصل أن كل عاقل إذا فكر في هذا الكون ورأى تواجده ورأى أنه حدث بعد أن كان معدوماً، عرف أنه قد كان معدوماً وأنه لا بد له من محدث، وذلك المحدث لو كان مفتقراً إلى محدث آخر لكان فقيراً، ثم قد يقال أيضاً: من الذي أحدث المحدث الأول، وإذا كان له محدث فمن الذي أحدث الذي قبله؟ فيلزم من ذلك التسلسل.
فإذا قيل: إن المحدث واحد، وإنه غير مسبوق بعدم، وإنه الأول بلا بداية، انقطع التسلسل ولم يكن هناك تسلسل في الماضي ولا في المستقبل.
وهذه حجة عقلية، ولكن تكفي عنها هذه الآية النقلية وما يشابهها من الآيات التي يحتج الله بها على عباده، ففي قدرته وكمال تصرفه في هذا الكون، وما فيه من الآيات عبرة وعظة، ولكن تلك العبرة والعظة إنما ينتفع بها أهل العقول.(10/4)
إدخال المتكلمين لفظ (القديم) في أسماء الله تعالى
قال المؤلف رحمه الله: [وقد أدخل المتكلمون في أسماء الله تعالى (القديم) ، وليس هو من الأسماء الحسنى، فإن القديم في لغة العرب التي نزل بها القرآن هو المتقدم على غيره، فيقال: هذا قديم للعتيق، وهذا حديث للجديد، ولم يستعملوا هذا الاسم إلا في المتقدم على غيره، لا فيما لم يسبقه عدم، كما قال تعالى: {حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} [يس:39] ، والعرجون القديم: الذي يبقى إلى حين وجود العرجون الثاني، فإذا وجد الجديد قيل للأول قديم.
وقال تعالى: {وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ} [الأحقاف:11] أي: متقدم في الزمان، وقال تعالى: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأَقْدَمُونَ} [الشعراء:75-76] ، فالأقدم مبالغة في القديم، ومنه: القول القديم والجديد للشافعي رحمه الله تعالى.
وقال تعالى: {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ} [هود:98] أي: يتقدمهم، ويستعمل منه الفعل لازماً ومتعدياً، كما يقال: أخذت ما قدم وما حدث، ويقال: هذا قَدُمَ هذا وهو يقدمه، ومنه سميت القدم قدما؛ لأنها تقدم بقية بدن الإنسان.
وأما إدخال القديم في أسماء الله تعالى، فهو مشهور عند أكثر أهل الكلام، وقد أنكر ذلك كثير من السلف والخلف، منهم ابن حزم.
ولا ريب أنه إذا كان مستعملا في نفس التقدم، فإن ما تقدم على الحوادث كلها، فهو أحق بالتقدم من غيره، لكن أسماء الله تعالى هي الأسماء الحسنى التي تدل على خصوص ما يمدح به.
والتقدم في اللغة مطلق لا يختص بالتقدم على الحوادث كلها، فلا يكون من الأسماء الحسنى، وجاء الشرع باسمه (الأول) ، وهو أحسن من القديم؛ لأنه يشعر بأن ما بعده آيل إليه وتابع له بخلاف القديم، والله تعالى له الأسماء الحسنى لا الحسنة] .(10/5)
وصف المتكلمين لله بالقديم ومعناه عندهم
مشهور في كلام المتكلمين وصف الله بأنه قديم، بل عندهم أن القديم أخص أوصاف الله، ويعنون بذلك أنه الذي لم يتقدمه شيء، ولذلك فهم ينفون الصفات، ويقولون: إن تعدد الصفات يلزم منه تعدد القدماء، يعني: أن القديم واحد وهو الله، فلا يكون هناك قدماء غيره، فلو قيل: إن لله صفات لكانت أيضاً موصوفة بالقدم، أي فيقال: الله قديم وسمعه قديم وبصره قديم ونحو ذلك.
وقد أجاب أهل السنة عليهم بأجوبة منها: أولاً: أن لفظة القديم لا تدل على الأولية.
ثانياً: أن نفي الصفات لاستلزامها تعدد القدماء لا يلزم هذا الاستلزام؛ وذلك لأن القديم ليس بلفظ شرعي ولا لغوي، ولأن الله تعالى واحد بذاته وبصفاته، وأن الصفات من جملة الذات، فلا يكون في إثباتها تعدد.
وهاهو الشارح ينكر على هؤلاء الذين يقولون إن القديم من أسماء الله، ويذكر أن الاسم الصحيح الذي سمى الله به نفسه هو: {الأَوَّلُ وَالآخِرُ} [الحديد:3] ، فأما القديم أو الأزلي فهي أسماء اصطلاحية، لا يلزم من الاصطلاح عليها ثبوتها.
قصدهم بالقديم عدم تقدم شيء عليه، وقصدهم بالأزلي أو بالدائم عدم إتيان الفناء عليه، ولو أتوا على هذه الآية أو على هذين الاسمين في هذه الآية وهما قول الله تعالى: {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ} [الحديد:3] ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء) ، لكان ذلك كافياً، ولكان التفسير واضحاً، ولكانت الأسماء واقعة موقعها.(10/6)
معنى كلمة (القديم) في لغة العرب
يقول: إن كلمة القديم عند العرب لا تدل على تقدم الإنسان على غيره كله، وإنما تدل على تقدمه على جنسه، فإذا وجد له جنس جديد سمي الأول قديماً، ومنه قوله تعالى: {حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} [يس:39] ، فإن العراجين هي قنوان النخل، يعني: العذوق التي يكون فيها التمر، ومتى يكون قديماً؟ إذا حملت النخل مرة ثانية قيل للعراجين التي من العام الماضي: هذه عراجين قديمة.
وكذلك قوله تعالى: {أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأَقْدَمُونَ} [الشعراء:76] ، يعني: أن آباءكم قد تقدموا عليكم، ومعلوم أن الآباء قبلهم أجداد وقبل الأجداد أجداد وهلم جراً، فسمي الآباء القريبون أقدمين، فدل على أن القديم لا يدل على السبق المطلق، وإنما يدل على سبق بعض الجنس.
فالوصف بأن الله هو الأول أبلغ من الوصف بأنه القديم، وهذه الكلمة (الأول) تعطي معنى الأولية، و (الآخر) تعطي معنى الأزلية، يعني الأبدية والديمومة؛ وذلك لأن الله موصوف بأنه دائم أبدي وأزلي، لا يأتي عليه الفناء ولا التغير، وأنه هو كما وصف نفسه بأنه الحي الذي لا يموت: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ} [الفرقان:58] ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أنت الحي الذي لا يموت، والجن والإنس يموتون) ، يعني: بعد موت الناس في هذه الحياة وفناء المخلوقات يبقى الله تعالى، كما قال تعالى: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:27] ، وقال: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص:88] .
فإذا كان هو الباقي فإنه أيضاً هو الذي يبعث العباد.
وهو سبحانه لا يأتي عليه فناء أبداً، وذلك هو الأصل في الدوام، وهو الأصل في البقاء الذي هو وصف الله وحده.
فيعتقد المسلمون أن ربهم سبحانه الذي خلق هذا الكون لم يسبق بعدم بل هو قديم، وأنه لا يأتي عليه الفناء بل هو دائم، ولكن يعبرون بالأول والآخر، فهما أوضح من القديم والدائم أو الأزلي أو نحو ذلك.(10/7)
معنى قوله: (لا يفنى ولا يبيد)
قال المؤلف رحمه الله: [قوله: (لا يفنى ولا يبيد) .
إقرار بدوام بقائه سبحانه وتعالى، قال عز من قائل: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:26-27] ، والفناء والبيد متقاربان في المعنى، والجمع بينهما في الذكر للتأكيد، وهو أيضا مقرر ومؤكد لقوله: (دائم بلا انتهاء) ] .
أي: أن قوله: (لا يفنى ولا يبيد) مؤكد لقوله: (دائم بلا انتهاء) ، ودليله من القرآن قوله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص:88] ، وقوله: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:26-27] ، وقوله: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ} [الفرقان:58] ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أنت الحي الذي لا يموت، والجن والإنس يموتون) ، مثل بالجن والإنس لأنهم الثقلان المكلفان.
إذاً: كل شيء يفنى إلا وجه الله تعالى، وذلك دليل على الكمال، والذي يكون له الكمال يستحق أن يقدس وأن يعبد وحده، وأن يقوم عباده الذين هم خلقه وملكه بواجبهم نحوه، وذلك بالعبادة المستمرة له سبحانه.(10/8)
معنى قوله: (ولا يكون إلا ما يريد)
قال المؤلف رحمه الله: [قوله: (ولا يكون إلا ما يريد) .
هذا رد لقول القدرية والمعتزلة، فإنهم زعموا أن الله أراد الإيمان من الناس كلهم، والكافر أراد الكفر، وقولهم فاسد مردود؛ لمخالفته الكتاب والسنة، والمعقول الصحيح، وهي مسألة القدر المشهورة، وسيأتي لها زيادة بيان إن شاء الله تعالى.
وسموا قدرية لإنكارهم القدر، وكذلك تسمى الجبرية المحتجون بالقدر: (قدرية) أيضاً، والتسمية على الطائفة الأولى أغلب.
أما أهل السنة فيقولون: إن الله وإن كان يريد المعاصي قدراً، فهو لا يحبها ولا يرضاها ولا يأمر بها، بل يبغضها ويسخطها ويكرهها وينهى عنها، وهذا قول السلف قاطبة، فيقولون: ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن.
ولهذا اتفق الفقهاء على أن الحالف لو قال: والله لأفعلن كذا إن شاء الله لم يحنث إذا لم يفعله، وإن كان واجباً أو مستحباً، ولو قال: إن أحب الله حنث، إذا كان واجباً أو مستحباً] .
قوله: (ولا يكون إلا ما يريد) هذا مثل قول المسلمين: ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وقوله تعالى: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [هود:107] يعني: أن ما أراده تعالى فإنه لا بد أن يحصل وما لم يرده فإنه لا يكون، والمراد هنا الإرادة الكونية؛ وذلك لأن الإرادة تنقسم إلى قسمين: إرادة كونية، وإرادة شرعية.
فالله تعالى قدر الكائنات فلا يحدث في الوجود شيء إلا بإرادته، وهذا أكثر ما تطلق الإرادة عليه.
الإرادة الكونية: كما في قوله: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ} [الأنعام:125] ، (وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ) ، والآيات في هذه الإرادة كثيرة.
فأهل السنة يعتقدون أنه لا يكون شيء في الوجود إلا بإرادته، ولو شاء لهدى الناس جميعاً، ولكن لا يتخذون ذلك حجة في المعصية كما تفعله طائفة الجبرية الذين يزعمون أنهم لا اختيار لهم، وأن العباد مجبورون على المعاصي وعلى الكفر، وليس لهم أي اختيار.
ونقول: بل الإرادة الكاملة لله سبحانه فلا يُعصى قسراً ولا قهراً، ولا تكون إرادة الخلق أقوى من إرادة الله، ولكن قد منحهم سبحانه إرادة تناسبهم، وهي مغلوبة بقدرة الله، فللعباد قدرة على أفعالهم ولهم إرادة، ولكن إرادتهم وقدرتهم مسبوقة بإرادة الله تعالى وبقدرته.(10/9)
أقسام القدرية وحكم كل قسم
القدرية ينقسمون إلى قسمين: قدرية نفاة، وقدرية مجبرة، وكلاهما ضلال.
النفاة: هم الذين نفوا قدرة الله، وقالوا: إن الله لا يقدر على أفعال العباد.
والمجبرة: هم الذين يقولون: إن الله أجبر العباد على المعاصي وعلى الطاعات وقسرهم عليها، تعالى الله عن ذلك.
وهدى الله أهل السنة فقالوا: إن الله على كل شيء قدير، ولكن منح العبد قدرة يكلف بها، فإذا اعتقدنا ذلك سلمنا من الاعتراضات.(10/10)
أنواع الإرادة
قال المؤلف رحمه الله: [والمحققون من أهل السنة يقولون: الإرادة في كتاب الله نوعان: إرادة قدرية كونية خلقية، وإرادة دينية أمرية شرعية.
فالإرادة الشرعية هي المتضمنة للمحبة والرضا.
والكونية هي المشيئة الشاملة لجميع الموجودات، وهذا كقوله تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الأنعام:125] ، وقوله تعالى عن نوح عليه السلام: {وَلا يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ} [هود:34] ، وقوله تعالى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} [البقرة:253] .
وأما الإرادة الدينية الشرعية الأمرية: فكقوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة:185] ، وقوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [النساء:26] ، وقوله: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا * يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا} [النساء:27-28] ، وقوله تعالى: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ} [المائدة:6] ، وقوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب:33] .
فهذه الإرادة هي المذكورة في مثل قول الناس لمن يفعل القبائح: هذا يفعل ما لا يريده الله، أي: لا يحبه ولا يرضاه ولا يأمر به.
وأما الإرادة الكونية فهي الإرادة المذكورة في قول المسلمين: ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن.
والفرق ثابت بين إرادة المريد أن يفعل، وبين إرادته من غيره أن يفعل، فإذا أراد الفاعل أن يفعل فعلاً، فهذه الإرادة المعلقة بفعله، وإذا أراد من غيره أن يفعل فعلاً، فهذه الإرادة لفعل الغير، وكلا النوعين معقول للناس، والأمر يستلزم الإرادة الثانية دون الأولى.
فالله تعالى إذا أمر العباد بأمر، فقد يريد إعانة المأمور على ما أمر به، وقد لا يريد ذلك وإن كان مريداً منه فعله، وتحقيق هذا مما يبين فصل النزاع في أمر الله تعالى: هل هو مستلزم لإرادته أم لا؟ فهو سبحانه أمر الخلق على ألسن رسله عليهم السلام بما ينفعهم، ونهاهم عما يضرهم، ولكن منهم من أراد أن يخلق فعله، فأراد سبحانه أن يخلق ذلك الفعل، ويجعله فاعلاً له، ومنهم من لم يرد أن يخلق فعله، فجهة خلقه سبحانه لأفعال العباد وغيرها من المخلوقات غير جهة أمره للعبد على وجه البيان لما هو مصلحة للعبد أو مفسدة، وهو سبحانه إذ أمر فرعون وأبا لهب وغيرهما بالإيمان، كان قد بين لهم ما ينفعهم ويصلحهم إذا فعلوه، ولا يلزم إذا أمرهم أن يعينهم، بل قد يكون في خلقه لهم ذلك الفعل وإعانتهم عليه وجه مفسدة من حيث هو فعل له، فإنه يخلق ما يخلق لحكمة، ولا يلزم إذا كان الفعل المأمور به مصلحة للمأمور إذا فعله، أن يكون مصلحة للآمر إذا فعله هو، أو جعل المأمور فاعلاً له، فأين جهة الخلق من جهة الأمر؟! فالواحد من الناس يأمر غيره وينهاه مريداً النصيحة، ومبيناً لما ينفعه، وإن كان مع ذلك لا يريد أن يعينه على ذلك الفعل، إذ ليس كل ما كان مصلحتي في أن آمر به غيري وأنصحه يكون مصلحتي في أن أعاونه أنا عليه، بل قد تكون مصلحتي إرادة ما يضاده، فجهة أمره لغيره نصحاً غير جهة فعله لنفسه، وإذا أمكن الفرق في حق المخلوقين، فهو في حق الله أولى بالإمكان] .(10/11)
الفرق بين الإرادة الشرعية والإرادة الكونية
هذا الكلام يوضح ما قلنا: من أن الإرادة قسمان: إرادة دينية شرعية أمرية، وإرادية كونية قدرية خلقية.
والفرق بينهما: أن الإرادة الكونية لا بد من وجود المراد فيها، فكل شيء أراده الله كوناً وقدراً فلا بد من وجوده، ولكن قد يحبه وقد لا يحبه.
والذي يريده شرعاً وديناً قد لا يوجد، فالطاعات والأعمال الصالحة أرادها الله ديناً وشرعاً من جميع الخلق، وأحبها منهم، ولكن قد تحصل من بعضهم وقد لا تحصل من البعض الآخر.
فيقول: إن الله أراد من فرعون وأبي لهب أن يؤمنا؛ أراد ذلك ديناً وشرعاً وأمراً، ولكن ما أراد ذلك كوناً ولا قدراً ولا خلقاً، فلذلك لم يوجد منهما الإيمان والأعمال الصالحة.
وأراد من الأنبياء وأتباعهم الإيمان ديناً وشرعاً، وأراده منهم كوناً وقدراً فوجد.
فكل الأعمال الصالحة محبوبة عند الله، وإذا وقعت فإنها مرادة ديناً وشرعاً، ومرادة كوناً وقدراً، وكل الحوادث حتى المعاصي والكفر والمخالفات، فهي واقعة لإرادة الله الكونية القدرية الخلقية، ولكنها ليست محبوبة ولا مَرْضية ولو كان الله قد أرادها، قال تعالى: {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} [الزمر:7] ، فأخبر بأنه لا يرضى الكفر ولكن يرضى الشكر.(10/12)
ذكر الآيات الدالة على الفرق بين الإرادة الشرعية والقدرية
ذكر الشارح الأدلة من الآيات على الفرق بين الإرادتين، فإن قوله تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ} [الأنعام:125] ، هذه إرادة كونية، يعني: من قدر الله له كوناً أنه يهديه، فإنه يشرح صدره للإسلام، {وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ} [الأنعام:125] ، أي: من قدر الله له أنه يضل ولا يهتدي، فإنه يجعل صدره ضيقاً حرجاً، فهذه إرادة كونية قدرية.
ومثلها قوله تعالى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} [البقرة:253] ، وقوله: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [البروج:16] ، وقوله: {إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ} [هود:34] هذه إرادة كونية، يعني: إذا كان الله يريد كوناً وقدراً أن يغويكم فلا راد لما أراده، وهذا معنى قول المسلمين: ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن.
لكن إذا احتج بعض العصاة وقال: إن الله ما أراد هدايتي، فكيف أهتدي والله لم يرد؟ نقول له: اسأل الله الهداية حتى يستجيب لك وافعل السبب، فإن الله أعطاك قدرة وأعطاك استطاعة على الأسباب، وأقدرك على الأسباب المحسوسة، فافعلها حتى تكون أسباباً في حصول الإرادة ووجودها.
وإذا قال بعض العصاة مثلاً: هكذا أراد الله مني هذه المعصية، نقول: أرادها كوناً ولم يردها شرعاً، الله تعالى أراد منك الإيمان شرعاً وأمرك به، بل أمر الناس كلهم أن يتقوا الله، وأن يؤمنوا به، وأحب ذلك منهم: {فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ} [النحل:36] .
وبلا شك أن الخير دائماً ينسب إلى الله تعالى، وأما الشرور فلا يجوز نسبتها إليه، كما حكى الله عن مؤمني الجن أنهم قالوا: {وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا} [الجن:10] ، فالإرادة هنا في هذه الآية إرادة شرعية، يعني: أراد الله بهم الخير إرادة شرعية، والإرادة في الأولى: {أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ} [الجن:10] إرادة كونية، وبهذا يحصل للمؤمن معرفة الفرق بين الإرادتين.(10/13)
اجتماع الإرادة الشرعية والقدرية في إيمان المؤمن وعمله الصالح
هو يقول: كل ما في الوجود من الحوادث فهو مراد كوناً وقدراً، ولكن قد لا يكون محبوباً، قد يكون محبوباً كالطاعات وقد يكون مكروهاً كالمعاصي، وكل الطاعات التي تحدث من أهلها فإنها مرادة ديناً وشرعاً، أرادها الله ديناً وشرعاً، فهي مرادة ومحبوبة.
يعني: أن الله تعالى أراد الإيمان من الناس كلهم ديناً وشرعاً، ولكن تحقق ذلك في المؤمنين، فأصبح إيمان المؤمنين وأعمالهم الصالحة مجتمعاً فيها الإرادتان: الشرعية، والكونية القدرية، فإيمان المؤمنين وصلاتهم وعباداتهم مرادة كوناً وقدراً لوجودها، ومرادة ديناً وشرعاً للأمر بها ولمحبتها.
ومع ذلك فإن على المسلم أن يسأل ربه الهداية، حتى ييسر له هذه الأسباب ويجعله من أهلها، فإذا قام بالأسباب وفعلها رُجي بذلك أن يكون ممن أراد الله تعالى هدايته كوناً وقدراً، ووفقه لذلك ديناً وشرعاً، ولا يبقى على حاله التي هو عليها ويقول: ما أراد الله هدايتي، ويستمر على الضلال والعياذ بالله، فإن الذين يحتجون بالقدر يحتجون به في أمر دون أمر، حيث إنهم لا يسلمون ذلك في الأمور الدنيوية بل تراهم مجدين ومجتهدين ومشمرين، بخلاف أمورهم الدينية فإنهم يحتجون بالقضاء وبالقدر، ويحتجون بأن الله ما أراد منهم كذا وكذا، فيقال لهم: الباب واحد، فإذا اجتهدتم في أمور الدنيا فاجتهدوا في أمور الدين، والله تعالى هو الموفق لمن أراد الخير والعمل الصالح.(10/14)
وجه إنكار القدرية لقدرة الله والرد عليهم
قال المؤلف رحمه الله: [والقدرية تضرب مثلا بمن أمر غيره بأمره، فإنه لا بد أن يفعل ما يكون المأمور أقرب إلى فعله، كالبشر، والطلاقة، وتهيئة المساند، والمقاعد ونحو ذلك.
فيقال لهم: هذا يكون على وجهين: أحدهما: أن تكون مصلحة الأمر تعود إلى الآمر، كأمر الملك جنده بما يؤيد ملكه، وأمر السيد عبده بما يصلح ملكه، وأمر الإنسان شريكه بما يصلح الأمر المشترك بينهما ونحو ذلك.
الثاني: أن يكون الآمر يرى الإعانة للمأمور مصلحة له، كالأمر بالمعروف، وإذا أعان المأمور على البر والتقوى، فإنه قد علم أن الله يثيبه على إعانته على الطاعة، وأنه في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه.
فأما إذا قدر أن الآمر إنما أمر المأمور لمصلحة المأمور، لا لنفع يعود على الآمر من فعل المأمور كالناصح المشير، وقدر أنه إذا أعانه لم يكن ذلك مصلحة للآمر، وأن في حصول مصلحة المأمور مضرة على الآمر، مثل الذي جاء من أقصى المدينة يسعى وقال لموسى عليه السلام: {إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ} [القصص:20] ، فهذا مصلحته في أن يأمر موسى عليه السلام بالخروج، لا في أن يعينه على ذلك، إذ لو أعانه لضره قومه، ومثل هذا كثير.
وإذا قيل: إن الله أمر العباد بما يصلحهم، لم يلزم من ذلك أن يعينهم على ما أمرهم به، لاسيما وعند القدرية لا يقدر أن يعين أحداً على ما به يصير فاعلاً، وإذا عللت أفعاله بالحكمة فهي ثابتة في نفس الأمر، وإن كنا نحن لا نعلمها، فلا يلزم إذا كان نفس الآمر له حكمة في الأمر أن يكون في الإعانة على فعل المأمور به حكمة، بل قد تكون الحكمة تقتضي أن لا يعينه على ذلك، فإنه إذا أمكن في المخلوق أن يكون مقتضى الحكمة والمصلحة أن يأمر بأمر لمصلحة المأمور، وأن تكون الحكمة والمصلحة للآمر أن لا يعينه على ذلك، فإمكان ذلك في حق الرب أولى وأحرى] .
قد عرفنا أن المعتزلة ينكرون قدرة الله على أفعال العباد مع عموم قدرة الله، فيقولون: إن الله لا يقدر على أفعال العباد، فإذاً معنى خلقه لأفعال العباد عندهم تهيئة الأسباب، لا أنه يحرك جوارحهم أو يبعث فيهم البواعث التي تباشر الأفعال.
وعقيدة المسلمين أن الله تعالى هو الخالق للعبد ولما يعمل، قال تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات:96] ، ولكن قدرة الله عامة لكل شيء وتدخل فيها أفعال العباد، ومع ذلك فلا نجعل العبد آلة ليس له أية اختيار بل له قدرة وإرادة، وقدرة الله وإرادته غالبة على قدرة العبد وإرادته، وبحسب تلك القدرة التي مكنه الله بها وجعله فاعلاً بسببها يثاب ويعاقب، حيث بها يباشر العباد الأفعال خيراً وشراً، فيعصي العاصي ويطيع المطيع.
فالعبد هو المؤمن والكافر والبر والفاجر، والمصلي والصائم، أي: أنه تنسب إليه أفعاله؛ لأنه الذي باشرها وإن كانت مخلوقة لله تعالى في الأزل، فيقول الشارح: إن الآمر قد يعين المأمور وقد لا يعينه.
فمثلاً إذا أمر الملك أحد وزرائه فإنه يهيئ له الأسباب؛ لأن له مصلحة بهذا الأمر، وهكذا أيضاً إذا أمر الملك أحد خدمه فإنه يعينه ويساعده، وإذا أمر الشريك شريكه بأمر فيه مصلحة لهما فإنه يساعده، وإذا أمر السيد عبده بأمر فإن ذلك الفعل فيه مصلحة له، فهي مثل هذا يساعد الآمر المأمور.
وضرب أيضاً مثلاً لمن لا يحتاج أن يساعد، وهو إذا لم يكن فيه مصلحة، ومثل بذلك الرجل الذي نصح موسى بقوله: {فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ} [القصص:20] أمره بالخروج وليس من مصلحته أن يساعده على الخروج؛ لأن في ذلك مضرة على الآمر؛ لأنه من قوم فرعون، فأراد أن يحذر موسى فقال: {إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ} [القصص:20] ، هذا مثال.
فيقال: الله سبحانه وتعالى قد تقتضي حكمته أن يعين المؤمن على الأوامر ويهيئ له الأسباب ويمكنها له، فيعمل الأعمال الصالحة، ويكون ذلك فضلاً منه ومنَّة، وقد تقتضي حكمته أن يخذل بعض العباد ويخلي بينهم وبين أهوائهم وأعدائهم ولا يعينهم ولا يحميهم، فيعصون ويقعون في الكفر أو في مقدمات الكفر، وذلك فتنة منه وعدل ليس بظالم لهذا ولا بجائر مع هذا، بل هكذا تقتضي حكمة الله.
فلا اعتراض للمعتزلة والقدرية على أفعال الله، فإنه يفعل ما يشاء كما يشاء: {يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [فاطر:8] ، حكمة وعدلاً ونعمة وفضلاً.(10/15)
حكمة الله تعالى في إعانة العبد على ما أمره أو عدم إعانته
قال المؤلف رحمه الله: [والمقصود أنه يمكن في حق المخلوق الحكيم أن يأمر غيره بأمر ولا يعينه عليه، فالخالق أولى بإمكان ذلك في حقه مع حكمته، فمن أمره وأعانه على فعل المأمور كان ذلك المأمور به قد تعلق به خلقه وأمره نشأةً وخلقاً ومحبة، فكان مراداً بجهة الخلق ومراداً بجهة الأمر، ومن لم يعنه على فعل المأمور كان ذلك المأمور قد تعلق به أمره ولم يتعلق به خلقه؛ لعدم الحكمة المقتضية لتعلق الخلق به، ولحصول الحكمة المقتضية لخلق ضده.
وخلق أحد الضدين ينافي خلق الضد الآخر، فإن خلق المرض الذي يحصل به ذل العبد لربه، ودعاؤه، وتوبته، وتكفير خطاياه، ويرق به قلبه، ويذهب عنه الكبرياء والعظمة والعدوان، يضاد خلق الصحة التي لا تحصل معها هذه المصالح، ولذلك كان خلق ظلم الظالم الذي يحصل به للمظلوم من جنس ما يحصل بالمرض، يضاد خلق عدله الذي لا يحصل به هذه المصالح وإن كانت مصلحته هو في أن يعدل.
وتفصيل حكمة الله عز وجل في خلقه وأمره يعجز عن معرفتها عقول البشر، والقدرية دخلوا في التعليل على طريقة فاسدة، مثلوا الله فيها يخلقه ولم يثبتوا حكمة تعود إليه] .
يمثلون بهذا في أن حكمة الله تعالى قد تقتضي إعانة المأمور وقد تقتضي عدم إعانته، فالله تعالى أمر الجميع مؤمنهم وكافرهم بالتقوى في قوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ} [النساء:1] ، ولكن من الناس من اتقى ومنهم من لم يتق الله، فالذين اتقوا الله هؤلاء قد أراد الله بهم الخير وهداهم وأعانهم، فله عليهم نعمة الإعانة ونعمة الفضل، والذين لم يتقوه هؤلاء قد خذلهم وخلى بينهم وبين أهوائهم ولم يعنهم، حكمة منه وعدلاً، فهذا خلق فيه الإيمان وهذا خلق فيه الكفر، بمعنى: مكنه منه وأقدره عليه.
وله الحكمة في هذا وهذا؛ وذلك لأنه خلق ضدين مؤمناً وكافراً، وخلق دارين جنة وناراً، ولا بد لكل من الدارين من أهل يؤهلون لها، ولهذا يخبر تعالى بأنه لو شاء لهدى الناس جميعاً، ويخبر بأنه لو شاء لضلوا كلهم، فيقول تعالى: {وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ} [الزخرف:33] ، يعني: لولا أن يكونوا كلهم على الكفر لجعلنا للكفار هذه الأشياء؛ فينخدع الناس بهم ويعتقدون أنهم خصوا بذلك لشرفهم ولأهليتهم فيكفرون مثلهم، وهو واقع كثيراً.
وخلق تعالى المرض والصحة وله الحكمة في ذلك، ففي خلقه للمرض مصلحة، هذه المصلحة تكمن في أن المريض يشعر بالذل وبالضعف ويشعر بالحاجة، إذا مرض تذكر ضعفه وتذكر فاقته وحاجته، وتذكر مسكنته وتعلق قلبه بربه ودعاه واستكان إليه.
وإذا كان دائماً في صحة ونعمة ورفاهية ونشاط وثروة وشهوات متتابعة؛ فإنه لا يأمن أن يأخذه الأشر والبطر والكبرياء والإعجاب بالنفس، ويكون منطلقاً إلى الكفر وإلى المعاصي كما هو الواقع، ولهذا يخبر تعالى بأنه لو وسع على الناس لتجبروا، قال تعالى: {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لعباده لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ} [الشورى:27] ، يعني: لتكبروا ولتجبروا، فبذلك نعرف أنه عندما خلق هؤلاء واختار أن يكونوا مؤمنين، وهؤلاء وجعلهم كافرين، فذلك كما أنه خلق المرض وخلق الصحة وله الحكمة في خلق الضدين.(10/16)
عجز البشر عن معرفة كنه صفات الله وكنه ذاته سبحانه
قال المؤلف رحمه الله: [قوله: (لا تبلغه الأوهام ولا تدركه الأفهام) .
قال الله تعالى: {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه:110] ، قال في الصحاح: توهمت الشيء: ظننته، وفهمت الشيء: علمته.
فمراد الشيخ رحمه الله أنه لا ينتهي إليه وهم ولا يحيط به علم، قيل: الوهم ما يرجى كونه، أي: يظن أنه على صفة كذا، والفهم: هو ما يحصله العقل ويحيط به، والله تعالى لا يَعْلَمْ كيف هو إلا هو سبحانه وتعالى، وإنما نعرفه سبحانه بصفاته، وهو أنه أحد صمد لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواًَ أحد، {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} [البقرة:255] ، {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ * هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الحشر:23-24]] .
يعتقد المسلمون أن ربهم سبحانه وتعالى موصوف بصفات الكمال منزه عن صفات النقص، ويعتقدون أنه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] ، وأنهم لا يستطيعون معرفة كيفيته ولا كنه صفاته ولا كنه ذاته، ويقولون: الله أعلم بكيفية صفاته وبكيفية أفعاله، فلا يجوز أن يسأل عنه بكيف.
كما قال الإمام مالك لما سئل عن الاستواء: الاستواء معلوم والكيف مجهول، يعني: كيفية استوائه سبحانه مجهولة لا يعلمها سواه، وهذا أيضاً يقال في سائر الصفات كصفة النزول والمجيء والعلو والغضب والرحمة والمحبة وما أشبهها.
فالمسلمون يعتقدون ثبوت هذه الصفات، ولكن يعجزون عن إدراك كيفيتها، فكيفية ذات الله وكيفية صفاته لا يستطيع فهم أن يدركها ولا وهم أن يتخيلها، لو فكر الإنسان بفكره لما استطاع أن يصل إلى كيفية الخالق.
وقد عجز العباد عن إدراك أقرب شيء إليهم وهي الأرواح التي تحيا بها الأجساد، قال تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء:85] .
وقد أخبر الله أن ها هنا ملائكة ونحن نؤمن بهم وإن لم نرهم، ولا ندري مم خلقوا ولا كيفية خَلْقِهِم، خَلَقَهُم الله تعالى لعبادته ولكن ما تركيبهم؟ وما أعضاؤهم؟ وما أجسادهم؟ الله أعلم بذلك.
وهكذا فقد أخبرنا الله تعالى بأن هناك شياطين، وأخبر النبي عليه الصلاة والسلام بأن الشيطان يجري من ابن آدم مجري الدم، ولكن لا ندري ما كيفية هذا الشيطان؟! ولا نعرف ما مثاله؟! ولا ما وزنه؟! ولا غير ذلك؟!.
وأخبرنا تعالى بأن هناك جناً، وأن الجن ينفذون في الإنسان، وأنهم يدخلون في الأرض، وحُكيت عنهم الأقوال وسمعوا وشوهدوا، ومع ذلك لم ندر ماهيتهم؟! ولا ما كيفية خلقهم؟! وإذا عجزنا عن هؤلاء، فَعَجْزُ الإنسان عن كيفية وماهية الرب تعالى بطريق الأولى، فما عليه إلا أن يستسلم، ويعرف أن هذا الكون لا بد له من مكون، وأن المكون الذي كون هذه الكائنات أجرامها وأعلامها وعلويها وسفليها هو الواحد وحده، وهو الذي لا تبلغه الأفهام ولا تتوهمه الأوهام ولا تدركه العقول: {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} [البقرة:255] ، ولا يوصف إلا بما وصف به نفسه على وجه الكمال، كما في الآيات التي سمعنا، فإن الله وصف نفسه بهذه الصفات، لِيُعْتَقَدَ أنه الإله الحق، وأنه رب الأرباب، وأنه الخالق البارئ المصور، وأنه الملك القدوس السلام، وأنه الحي القيوم الذي لا تأخذه سنة ولا نوم.(10/17)
عقيدة أهل السنة في الصفات بين المعطلة والمشبهة
[قوله: (ولا يشبهه الأنام) .
هذا رد لقول المشبهة الذين يشبهون الخالق بالمخلوق سبحانه وتعالى، قال عز وجل: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] .
وليس المراد نفي الصفات كما يقول أهل البدع، فمن كلام أبي حنيفة رحمه الله في الفقه الأكبر: لا يشبه شيئاً من خلقه ولا يشبهه شيء من خلقه، ثم قال بعد ذلك: وصفاته كلها خلاف صفات المخلوقين، يعلم لا كعلمنا، ويقدر لا كقدرتنا، ويرى لا كرؤيتنا انتهى.
وقال نعيم بن حماد: من شبه الله بشيء من خلقه فقد كفر، ومن أنكر ما وصف الله به نفسه فقد كفر، وليس فيما وصف الله به نفسه ولا رسوله تشبيه.
وقال إسحاق بن راهويه: من وصف الله فشبه صفاته بصفات أحد من خلق الله فهو كافر بالله العظيم، وقال: علامة جهم وأصحابه دعواهم على أهل السنة والجماعة ما أولعوا به من الكذب أنهم مشبهة، بل هم المعطلة.
وكذلك قال خلق كثير من أئمة السلف: علامة الجهمية تسميتهم أهل السنة مشبهة، فإنه ما من أحد من نفاة شيء من الأسماء والصفات إلا يسمي المثبت لها مشبهاً، فمن أنكر أسماء الله بالكلية من غالية الزنادقة القرامطة والفلاسفة، وقال: إن الله لا يقال له عالم ولا قادر، يزعم أن من سماه بذلك فهو مشبه؛ لأن الاشتراك في الاسم يوجب الاشتباه في معناه، ومن أثبت الاسم وقال هو مجاز كغالية الجهمية، يزعم أن من قال إن الله عالم حقيقة قادر حقيقة فهو مشبه، ومن أنكر الصفات وقال: إن الله ليس له علم ولا قدرة ولا كلام، ولا محبة ولا إرادة، قال لمن أثبت الصفات إنه مشبه، وإنه مجسم.
ولهذا كُتُبُ نفاة الصفات من الجهمية والمعتزلة والرافضة ونحوهم كلها مشحونة بتسمية مثبتة الصفات مشبهة ومجسمة، ويقولون في كتبهم: إن من جملة المجسمة قوماً يقال لهم المالكية، ينسبون إلى رجل يقال له مالك بن أنس، وقوماً يقال لهم الشافعية، ينسبون إلى رجل يقال له محمد بن إدريس.
حتى الذين يفسرون القرآن منهم كـ عبد الجبار والزمخشري وغيرهما، يسمون كل من أثبت شيئا من الصفات وقال بالرؤية مشبهاً، وهذا الاستعمال قد غلب عند المتأخرين من غالب الطوائف] .
من عقيدة أهل السنة أنهم إذا أثبتوا الصفات نفوا التشبيه، فيقولون: نثبت لله صفات ولكن لا تشبه صفات المخلوق، كما أنهم يثبتون لله أفعالاً ويقولون: لا تشبه أفعال العباد.
فالصفات مثل صفة اليد والوجه يقولون: لله يد لا كأيدي المخلوقين، ولله وجه لا كوجه المخلوقين.
وصفات الأفعال: يثبتون أن الله يحب ويكره ويسخط ويغضب ويرضى وما أشبه ذلك، ويقولون: إن هذه أفعال حقيقية، ولكن ليس غضبه سبحانه كغضب المخلوق ولا رضاه كرضا المخلوق، ويثبتون أن الله يسمع وأنه يبصر ويقولون: ليس سمعه سبحانه كسمع المخلوق ولا بصره كبصر المخلوق؛ وذلك لأنه يوجد فرق كبير بين ما يثبت للخالق وما يثبت للمخلوق، فسمع المخلوق مثلاً لا يدرك إلا الأصوات القريبة، وسمع الخالق يدرك القريب والبعيد، سمع المخلوق تشتبه عليه الأصوات، لو تكلم عندك خمسة في حين واحد لما فهمت ما يقوله واحد منهم، الخالق لا يشغله شأن عن شأن بل يسمع الكل، ولا تغلطه كثرة المسائل مع اختلاف اللغات.
كذلك البصر فالمخلوق لا يخرق بصره الحيطان ونحوها ولا يبصر في الظلمات، والخالق تعالى يبصر كل شيء ولا يخفى عليه شيء، فيبصر النملة الصغيرة في حيالك الظُلَمْ، فأين هذا من هذا؟ كذلك سمعنا أن كثيراً من نفاة الصفات يسمون من أثبتها مشبهاً، مع أننا نصرح بنفي التشبيه، فيقولون: إنكم إذا قلتم إن الله على العرش فأنتم مشبهة، إذا قلتم إن الله ينزل كما يشاء فأنتم مشبهة، إذا أثبتم أن الله له سمع وله بصر فأنتم مشبهة.
وهذا خطأ من القول، كيف يصير أهل السنة مشبهة مع نفيهم للتشبيه؟! لكن أولئك النفاة يظنون أن مجرد الإثبات تشبيه، يقولون: مجرد إثبات فعل يوجد للخالق وللمخلوق تشبيه، إذا قلت: إن الخالق يسمع والمخلوق يسمع فقد شبهت، وليس كذلك، بل هناك فرق بين السمعين.
ويقولون: إذا قلت: إن لله يداً وللمخلوق يداً فقد شبهت، نقول: كلا ليس كذلك، بل هناك فرق بين اليدين، فكل له صفة تناسبه، وإلا فإنكم يا معتزلة إذا قلتم: إن للخالق ذاتاً، تصيرون مشبهين حسب عقيدتكم، وكذلك إذا قلتم: إن الخالق موجود والمخلوق موجود فكيف ترموننا بالتشبيه مع نفينا للتشبيه؟ هناك فرقة يقال لهم: الباطنية وغلاة القرامطة، هؤلاء ينفون الأسماء والصفات كلها، لا يثبتون لله أسماءً ولا صفات، فمن أثبتها عندهم يسمى مشبهاً.
وهناك فرقة يثبتون الأسماء وينفون الصفات ولا يجعلون لله صفات تؤخذ من تلك الأفعال، فيقولون: سميع بلا سمع، بصير بلا بصر، عليم بلا علم، قدير بلا قدرة، تعالى الله عن قولهم.
فيسمون من أثبت أن الله يسمع ويبصر مشبهاً، مع أن الذين يثبتونها يقولون: لا تشبه صفات المخلوق.
وهناك من المعتزلة من ينفي الصفات فينفون القدرة والعلم والكلام وما أشبهها، وينفون أن الله تعالى يرى، ويزعمون أن من أثبت شيئاً من ذلك فإنه مشبه.
ومنهم من المفسرين الزمخشري صاحب الكشاف -التفسير المطبوع- فإنه معتزلي ممن يقول بخلق القرآن، وممن يقول بأن الله لا يُرى في الآخرة، ولما كان أهل السنة يقولون: إن الله تعالى يرى بلا كيف، أو أنه ينزل بلا كيف، أو استوى على العرش بلا كيف، لم يوافقهم على ذلك وادعى أنهم مشبهة لهذا الفعل، وفي ذلك بيته المشهور الذي يقول فيه: قد شبهوه بخلقه فتخوفوا شنع الورى فتستروا بالبلكفة يعني تستروا بقولهم: بلا كيف وإلا فقد شبهوه، تعالى الله عن قوله.
وأما عبد الجبار فهو من المعتزلة المتقدمين، وبلا شك أن مثل هؤلاء لا يلتفت إليهم، ولو انتشرت مع الأسف كتبهم ولو حققت ولو قدست ولو وزعت وبيعت في المكتبات الكبيرة والصغيرة فلا يغتر بها، فمثلاً الكتاب الكبير المسمى بالمغني، لهذا القاضي، الذي هو أكبر مؤلف للمعتزلة، مطبوع في نحو أربعة عشر مجلداً ومحقق ومعتنىً به، وهو مع ذلك يصب في هذا المذهب الباطل، وله كتاب مطبوع في مجلدين أيضاً اسمه: متشابه القرآن تتبع فيه آيات الصفات وحرفها وصرفها عن ظاهرها، وزعم أنه بذلك أجاب عما هو متشابه، وهو في الحقيقة خلط في هذا الكتاب، فلا يغتر بكتبه، وله كتاب في أصول المعتزلة وهو شرح الأصول الخمسة، وأشباه ذلك من كتبهم الموجودة المطبوعة، فلا يغتر بهم، وفي كتب أهل السنة غنية وكفاية.(10/18)
نفي التشبيه غير مستلزم لنفي الصفات وإثبات الصفات غير مستلزم للتشبيه
قال المؤلف رحمه الله: [ولكن المشهور من استعمال هذا اللفظ عند علماء السنة المشهورين، أنهم لا يريدون بنفي التشبيه نفي الصفات، ولا يصفون به كل من أثبت الصفات، بل مرادهم أنه لا يشبه المخلوق في أسمائه وصفاته وأفعاله، كما تقدم من كلام أبي حنيفة رحمه الله: أنه تعالى يعلم لا كعلمنا، ويقدر لا كقدرتنا، ويرى لا كرؤيتنا، وهذا معنى قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] ، فنفى المثل وأثبت الوصف.
وسيأتي في كلام الشيخ إثبات الصفات، تنبيهاً على أنه ليس نفي التشبيه مستلزماً لنفي الصفات.
ومما يوضح هذا: أن العلم الإلهي لا يجوز أن يستدل فيه بقياس تمثيلي يستوي فيه الأصل والفرع، ولا بقياس شمولي يستوي أفراده، فإن الله سبحانه ليس كمثله شيء، فلا يجوز أن يمثل بغيره، ولا يجوز أن يدخل هو وغيره تحت قضية كلية يستوي أفرادها، ولهذا لما سلكت طوائف من المتفلسفة والمتكلمة مثل هذه الأقيسة في المطالب الإلهية، لم يصلوا بها إلى اليقين، بل تناقضت أدلتهم، وغلب عليهم بَعد التناهي الحيرة والاضطراب؛ لما يرونه من فساد أدلتهم أو تكافئها.
ولكن يستعمل في ذلك قياس الأولى، سواء كان تمثيلاً أو شمولاً، كما قال تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى} [النحل:60] ، مثل أن يعلم أن كل كمال ثبت للممكن أو للمحدث، لا نقص فيه بوجه من الوجوه، -وهو ما كان كمالاً للوجود غير مستلزم للعدم بوجه- فالواجب القديم أولى به.
وكل كمال لا نقص فيه بوجه من الوجوه ثبت نوعه للمخلوق المربوب المدبر، فإنما استفاده من خالقه وربه ومدبره، وهو أحق به منه، وأن كل نقص وعيب في نفسه، وهو ما تضمن سلب هذا الكمال، إذا وجب نفيه عن شيء من أنواع المخلوقات، والممكنات والمحدثات فإنه يجب نفيه عن الرب تعالى بطريق الأولى.
ومن أعجب العجب أن من غلاة نفاة الصفات الذين يستدلون بهذه الآية الكريمة على نفي الصفات والأسماء، ويقولون: واجب الوجود لا يكون كذا، ولا يكون كذا، ثم يقولون: أصل الفلسفة هي التشبه بالإله على قدر الطاقة، ويجعلون هذا غاية الحكمة ونهاية الكمال الإنساني، ويوافقهم على ذلك بعض من يطلق هذه العبارة، ويروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (تخلقوا بأخلاق الله) ، فإذا كانوا ينفون الصفات، فبأي شيء يتخلق العبد على زعمهم؟! وكما أنه لا يشبه شيئاً من مخلوقاته تعالى، لا يشبهه شيء من مخلوقاته، لكن المخالف في هذا النصارى والحلولية والاتحادية لعنهم الله تعالى.
ونفي مشابهة شيء من مخلوقاته له، مستلزم لنفي مشابهته لشيء من مخلوقاته، فلذلك اكتفى الشيخ رحمه الله بقوله: (ولا يشبهه الأنام) والأنام: الناس، وقيل: الخلق كلهم، وقيل: كل ذي روح، وقيل: الثقلان، وظاهر قوله تعالى: {وَالأَرْضَ وَضَعَهَا لِلأَنَامِ} [الرحمن:10] ، يشهد للأول أكثر من الباقي.
والله أعلم] .
يعني: أن مؤلف المتن ممن يقول بإثبات الصفات، ومن المعلوم أن من أثبت الصفة فإنه لا يقول بنفيها، مع كونه يصرح بنفي التشبيه، فـ الطحاوي الذي هو صاحب المتن يثبت صفات الأفعال كالكلام والعلم والقدرة وما أشبهها، وإذا كان يثبتها فقد صرح هنا بأنه ينفي مشابهة الخالق للمخلوق، وبذلك يعلم أنه لا تناقض بين إثبات الصفات ونفي التشبيه، فنحن أهل السنة نثبت أن الله تعالى موصوف بصفات الكمال، وأن مرجعها إلى خبره عن نفسه وخبر رسله عنه، ونعتقد مع ذلك أنها تختص به ولا تشبه غيرها، كما أن صفات المخلوق تختص به ولا تشبه صفات الخالق.
ويعتقد المسلمون أيضاً أن الله تعالى موصوف بكل كمال، كما في قوله تعالى: {وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى} [الروم:27] ، وهذا يسمونه قياس الأولى، وقياس الأولى: هو أن كل كمال ثبت للمخلوق فالخالق أولى به؛ وذلك لأن المخلوق لم يكتسبه إلا من الخالق سبحانه، فصفات الكمال التي لا نقص فيها بوجه من الوجوه، كيف توجد في المخلوق ويخلو عنها الخالق؟! تعالى الله، هذا هو قياس الأولى.
وأما قياس التمثيل وقياس الشمول الذي يستعمله القياسيون من أهل الكلام فلا يجوز استعماله، فلا يجوز مثلاً أن يقال: كل موصوف فإنه حادث، فصفات الخالق لا يقال: إنها حادثة، فهذا خطأ، بل الخالق بصفاته ليس بحادث، بل هو الأول بصفاته سواء كانت فعلية أو قولية أو ذاتيه.
وسيأتي أن الطحاوي يصف الرب سبحانه وتعالى حيث يقول: (ليس منذ خلق الخلق استفاد اسم الخالق) ، أي: ولا بعد رزقهم استفاد اسم الرازق، والمعنى أنه موصوف بأنه الخالق قبل أن ينشئ الخلق، وموصوف بأنه الرازق قبل أن يوجد الخلق الذين يرزقهم، وهكذا أيضاً الصفات التي لها أثر في العباد نحو (التواب) هو موصوف بأنه التواب وإن لم يكن هناك من يتوب عليهم، وموصوف بأنه الرحمن قبل أن يوجد من يرحمهم وهكذا.
صفات الله تعالى أولية أزلية ليست مسبوقة بعدم، وليست كصفات أي مخلوق، وكل كمال في المخلوق فإنما اكتسبه واستفاده من الخالق، فالله تعالى هو الذي أعطاه وهو الذي أيده وهو الذي سدده، وبالجملة لا يفهم كما تقول المتكلمة: إن إثبات الصفات تشبيه، بل يجتمع أن المسلم يصف الله بصفات الكمال ومع ذلك لا يكون مشبهاً، ولأجل ذلك جمع الله الرد على الطائفتين في قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] فإن قوله: (ليس كمثله شيء) رد على المشبهة، وقوله: (وهو السميع البصير) رد على المعطلة.
فالمشبهة هم الذين غلوا وأثبتوا الصفات حتى جعلوها كصفات المخلوق، والمعطلة هم الذين غلوا في النفي حتى عطلوا الخالق عن صفاته، وهاتان الطائفتان قد كفرهم كثير من العلماء، ولهذا يقول ابن القيم رحمه الله: لسنا نشبه ربنا بصفاتنا إن المشبه عابد الأوثان كلا ولا نخليه من أوصافه إن المعطل عابد البهتان يقول بعض السلف: المشبه يعبد صنماً، والمعطل يعبد عدماً، والموحد المثبت يعبد إلهاً واحداً فرداً صمداً، وهذا معنى قول بعض السلف: أن من شبه الله بخلقه فقد كفر، ومن جحد ما وصف الله به نفسه فقد كفر، وليس فيما وصف الله به نفسه تشبيه.(10/19)
شرح العقيدة الطحاوية [11]
يتميز الله تعالى بأسماء وصفات لا تطلق على المخلوق ولا يوصف بها؛ دلالة على عظمته وزيادة في إثبات استحقاقه للعبادة وحده دون غيره، فهو الخالق الرازق المحيي المميت الحي القيوم، الأول بلا ابتداء الآخر بلا انتهاء.(11/1)
الكلام على صفة الحياة والقيومة وما يتعلق بهما
يقول المؤلف رحمه الله تعالى: [قوله: (حي لا يموت، قيوم لا ينام) .
قال تعالى: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} [البقرة:255] ، فنفي السنة والنوم دليل على كمال حياته وقيوميته، وقال تعالى: {الم * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ * نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} [آل عمران:1-3] ، وقال تعالى: {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ} [طه:111] ، وقال تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ} [الفرقان:58] ، وقال تعالى: {هُوَ الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [غافر:65] ، وقال صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام) الحديث.
لما نفى الشيخ رحمه الله التشبيه أشار إلى ما تقع به التفرقة بينه وبين خلقه بما يتصف به تعالى دون خلقه، فمن ذلك: أنه حي لا يموت؛ لأن صفة الحياة الباقية مختصة به تعالى دون خلقه، فإنهم يموتون.
ومنه: أنه قيوم لا ينام، إذ هو مختص بعدم النوم والسنة دون خلقه، فإنهم ينامون، وفي ذلك إشارة إلى أن نفي التشبيه ليس المراد منه نفي الصفات، بل هو سبحانه موصوف بصفات الكمال؛ لكمال ذاته.
فالحي بحياة باقية لا يشبه الحي بحياة زائلة، ولهذا كانت الحياة الدنيا متاعاً ولهواً ولعباً: {وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ} [العنكبوت:64] ، فالحياة الدنيا كالمنام، والحياة الآخرة كاليقظة، ولا يقال: فهذه الحياة الآخرة كاملة، وهي للمخلوق؛ لأنا نقول: الحي الذي الحياة من صفات ذاته اللازمة لها، هو الذي وهب المخلوق تلك الحياة الدائمة، فهي دائمة بإدامة الله لها، لا أن الدوام وصف لازم لها لذاتها، بخلاف حياة الرب تعالى، وكذلك سائر صفاته، فصفات الخالق كما يليق به، وصفات المخلوق كما يليق به] .(11/2)
إثبات صفتي الحياة والقيومية لله ونفي ضدهما
هذه من الصفات الثبوتية، يعني: مما نثبت لله تعالى من الصفات صفة الحياة وصفة القيومية، كذلك ضدهما من الصفات السلبية، وهما: صفة الموت، وصفة النوم والسِنة، والسنة: هي النعاس أو مقدمات النوم، هذه صفات نقص، والرب سبحانه أثبت لنفسه صفات الكمال بقوله: {الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة:255] ، ونفى عن نفسه صفات النقص بقوله: {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ} [البقرة:255] أي: نعاس، {وَلا نَوْمٌ} [البقرة:255] النوم المعروف، ونفى الموت بقوله: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ} [الفرقان:58] فنفى الموت ونفى السنة ونفى النوم؛ وذلك لأن النوم نقص يحتاجه الإنسان والدواب؛ لأن فيه شيئاً من إراحة البدن بعد التعب، والرب سبحانه وتعالى منزه عن التعب ومنزه عن اللغوب.(11/3)
نفي اللغوب والتعب عن الله سبحانه وتعالى
وقيل: إن اليهود قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: أخبرنا عن خلق المخلوقات، فأخبرهم بأن الله خلق التربة يوم الأحد إلى أن انتهى من خلق المخلوقات يوم الجمعة، فقالوا: صدقت لو أكملت، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم، وعلم أنهم يريدون بذلك ما هم يعتقدونه من أن الله أكمل المخلوقات يوم الجمعة واستراح يوم السبت.
هكذا عندهم أن الله استراح يوم السبت، وكذبوا فإن الله تعالى لا يحتاج إلى إراحة، وأنزل الله رداً عليهم في سورة ق: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} [ق:38] أي: من تعب، فهو سبحانه نفى عن نفسه هذا اللغوب الذي هو نقص وعيب، وهذا يدل على أن الله موصوف بكل كمال.
وورد أيضاً: (أن نبي الله موسى سأل ربه، فقال: يا رب أتنام؟ فقال: يا موسى! خذ معك زجاجتين من ماء وقم بهما طوال الليل، فأخذهما فلما كان في أثناء الليل وهو قائم نعس فاضطربت يداه وضربت إحدى الزجاجتين الأخرى فانكسرتا، فقال الله: لو نمت لاختلت السموات والأرض كما فعلت هاتان الزجاجتان) أو كما في الأثر، ذكر ذلك ابن كثير في التاريخ وغيره.(11/4)
الحكمة من تسمية الله نفسه بالقيوم
الله سبحانه وتعالى قائم على هذه المخلوقات، ولأجل ذلك سمى نفسه بالقيوم، يعني: القائم على خلقه، ومعلوم أن القائم على خلقه هو الذي يراقبهم وهو الذي يرعاهم ويكلؤهم وهم نائمون، قال تعالى: {قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ} [الأنبياء:42] أي: الرحمن هو الذي يكلؤكم، يعني: يحفظكم ويراقبكم، فإذا كان كذلك فإنه الذي يرعى عباده، ولا يعتريه نوم ولا نقص ولا سنة ولا غير ذلك؛ لأنه الذي يمسك هذه المخلوقات، قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ} [الحج:65] ، إلى قوله: {وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [الحج:65] أي: هو الذي يمسكها بقوته وبخلقه وبتمكينه، وقال تعالى: {يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ} [فاطر:41] أي: هو الذي يمسكهما حتى لا يضطربا ولا يزولا، فإذا كان كذلك فإنه الحي الذي لا يموت، والجن والإنس يموتون، وقد حكم الله بالفناء على كل من سواه، فقال تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:26-27] ، هذا دليل الحياة التي لا يعتريها نقص ولا تغيير، وبلا شك أن النوم نقص، ولذلك يسمى: أخا الموت، النوم موتة صغرى، ولذلك قال تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} [الزمر:42] ، فذكر أنه يتوفاها في منامها، فالنوم شبه الموت، ولأجل ذلك نفاه عن نفسه ونفى أيضاً مقدماته؛ لقوله تعالى: {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ} [البقرة:255] والسنة: هي النعاس أو النوم الخفيف.
يعتقد المسلمون أن الله موصوف بصفات الكمال كالحياة الكاملة والقيومية الكاملة، وقد وافقت الأشاعرة على وصف الله تعالى بالحياة، ولكنهم رجعوا في إثباتها إلى العقل، يقولون: إنما أثبتناها لدلالة العقل عليها، وكأنهم لم يعتبروا دلالة الشرع الواضحة، دلالة النصوص من الآيات والأحاديث ونحوها.
الحديث الذي مر بنا حديث مشهور وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل النهار، وعمل النهار قبل الليل، حجابه النور -أو النار- لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه) ، فابتدأ الحديث بنفي هذا النقص وهو النوم عن الله سبحانه وأنه لا ينبغي له أن ينام، هذه عقيدة المسلمين، وبلا شك أن الذي يعتقد أن ربه حي لا يموت وأنه قيوم لا ينام وأنه لا يعتريه تغير، هو الذي يكون قد قدر ربه في قلبه وعظمه على كل شيء؛ فيعبده حق العبادة.(11/5)
معنى الحي القيوم وما يتضمنانه
قال المؤلف رحمه الله: [واعلم أن هذين الاسمين -أعني: الحي القيوم- مذكوران في القرآن معاً في ثلاث سور كما تقدم، وهما من أعظم أسماء الله الحسنى حتى قيل: إنهما الاسم الأعظم، فإنهما يتضمنان إثبات صفات الكمال أكمل تضمن وأصدقه، ويدل القيوم على معنى الأزلية والأبدية ما لا يدل عليه لفظ القديم، ويدل أيضاً على كونه موجوداً بنفسه، وهو معنى كونه واجب الوجود، والقيوم أبلغ من القيام؛ لأن الواو أقوى من الألف، ويفيد قيامه بنفسه باتفاق المفسرين وأهل اللغة، وهو معلوم بالضرورة، وهل يفيد إقامته لغيره وقيامه عليه؟ فيه قولان: أصحهما: أنه يفيد ذلك، وهو يفيد دوام قيامه وكمال قيامه؛ لما فيه من المبالغة، فهو سبحانه لا يزول ولا يأفل؛ فإن الآفل قد زال قطعاً، أي: لا يغيب ولا ينقص ولا يفنى ولا يعدم، بل هو الدائم الباقي الذي لم يزل ولا يزال، موصوفاً بصفات الكمال.
واقترانه بالحي يستلزم سائر صفات الكمال، ويدل على دوامها وبقائها، وانتفاء النقص والعدم عنها أزلاً وأبداً، ولهذا كان قوله: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة:255] ، أعظم آية في القرآن كما ثبت ذلك في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم.
فعلى هذين الاسمين مدار الأسماء الحسنى كلها، وإليهما ترجع معانيها.
فإن الحياة مستلزمة لجميع صفات الكمال، فلا يتخلف عنها صفة منها إلا لضعف الحياة، فإذا كانت حياته تعالى أكمل حياة وأتمها، استلزم إثباتها إثبات كل كمال يضاد نفيه كمال الحياة.
وأما القيوم فهو متضمن كمال غناه وكمال قدرته، فإنه القائم بنفسه، فلا يحتاج إلى غيره بوجه من الوجوه، المقيم لغيره، فلا قيام لغيره إلا بإقامته، فانتظم هذان الاسمان صفات الكمال أتم انتظام] .(11/6)
التوسل والدعاء بأسماء الله من مستلزمات الإيمان بها
الماتن يقول: (حي لا يموت قيوم لا ينام) والشارح ابتدأ شرحه بأول آية الكرسي وهي قوله تعالى: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} [البقرة:255] ، واستدل أيضاً بأول سورة آل عمران: {الم * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [آل عمران:1-2] ، وبالآية الثالثة في سورة طه: {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ} [طه:111] ، فالله عز وجل قرن هذين الاسمين في ثلاثة مواضع: في سورة البقرة في آية الكرسي، وفي أول سورة آل عمران، وفي سورة طه، ولما كان هذا شأنهما قال بعض العلماء: إنهما يتضمنان اسم الله الأعظم، الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى.
ولأجل ذلك يندب أن يكثر العبد من التوسل بأسماء الله إذا دعاه، وأن يكثر من التوسل بهذين الاسمين، وكان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول: (يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث: أصلح لي شأني كله، لا إله إلا أنت) ، فأفاد بأن هذين الاسمين يدعى الرب سبحانه وتعالى بهما كما يدعى ببقية الأسماء الحسنى، التي قال الله عنها: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف:180] أي: توسلوا بها في دعائه، فأنت مأمور أيها العبد عند الدعاء أن تتوسل بأسمائه سبحانه ومن جملتها: الحي القيوم، وبلا شك أن هذين الاسمين يتضمنان صفات الكمال، فإن الحي يتضمن إثبات الحياة، والحياة التي تثبتها لله تعالى هي أتم حياة وأكملها، وذلك بوصفها بأنها حياة مستقرة وأنها لا يعتريها نقص، فلا يعتريها النوم الذي هو أخو الموت، ولا يعتريها الموت كما في قوله: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ} [الفرقان:58] ، ومن هذا الوصف يستحق الرب تعالى أن يكون هو الإله، ولأجل ذلك بدأ الآية بإثبات الإلهية: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة:255] في آية الكرسي وفي أول سورة آل عمران، بدأ الآية بالإلهية، فكأنه يقول: الإلهية الحقة لا تصلح إلا لمن هو حي قيوم.
الحياة والقيومية الكاملة هي التي استحقها الرب واستلزمت جميع صفات الكمال، ومعنى كونها تستلزم صفات الكمال: أن من أثبتها لزمه أن يثبت بقية الصفات التي هي صفات الكمال.
فإن الحياة كلما كانت كاملة لزم أن يكون غيرها من الصفات تابعاً لها، وأما من نفى شيئاً من الصفات فإنه إنما أثبت حياة ناقصة، وقد وصف الله عز وجل نفسه بالسمع، والحياة تستلزم أن يكون سميعاً، وبالبصر، والحياة تستلزم أن يكون بصيراً، وبالكلام، والكلام لا بد أن يكون من حي، وكذلك بالقدرة وبالعلم وبالمشيئة والإرادة وما أشبه ذلك من الصفات التي يأتينا تفصيلها إن شاء الله تعالى.
فعلى هذا فالمسلم عليه أن يلح في دعاء الله تعالى ويتوسل إليه بأسمائه، بعد أن يعتقد دلالة تلك الأسماء، فدلالة الحي على إثبات الحياة، ودلالة القيوم على إثبات القيومية التي هي القيام على خلقه بحيث يوصف بأنه القائم على خلقه المدبر لشئونهم.(11/7)
الكلام على صفتي الخلق والرزق وما يتعلق بهما
قال المؤلف رحمه الله: [قوله: (خالق بلا حاجة، رازق بلا مئونة) .
قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات:56-58] ، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر:15] ، وقال تعالى: {وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ} [محمد:38] ، وقال تعالى: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ} [الأنعام:14] .
وقال صلى الله عليه وسلم من حديث أبي ذر رضي الله عنه: (يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني، فأعطيت كل إنسان مسألته، ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر) الحديث رواه مسلم، وقوله: بلا مئونة: بلا ثقل ولا كلفة] .(11/8)
انفراد الله سبحانه بالخلق والرزق
هذا من جملة ما وصف الله به نفسه وأخبر عن نفسه أنه الذي خلق الخلق ورزقهم، أي هو المنفرد بذلك وحده، فأما الخلق فليس له منازع، وأما الرزق فظاهر أنه الذي يسر أسباب الرزق، وأخبر بذلك ليعرفه العباد ويعبدوه وحده، فإذا علموا أنهم مخلوقون اعترفوا بأن لهم خالقاً، ذلك الخالق هو الله وحده، ما خلقهم لحاجته إليهم، ما خلقهم ليستكثر بهم من قلة، ولا ليتعزز بهم من ذلة، ولا ليستغني بهم من عيلة، ولا ليستأنس بهم من وحشة، بل هو الغني عنهم وهم الفقراء إليه، قال تعالى: {وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ} [محمد:38] ، وقال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ * إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ} [فاطر:15-17] .(11/9)
الحكمة من خلق الله للجن والإنس
وقد أخبر الله بالحكمة من خلقه لهذا الخلق، وهو أنه خلقهم لعبادته وأمرهم بطاعته، خلقهم ليعرفوه ويعبدوه وأمرهم بأن يوحدوه ويطيعوه، وهو الغني عنهم، ولهذا قال: {مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} [الذاريات:57] ، وقال تعالى في آية أخرى: {وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ} [الأنعام:14] ، فهو الغني وهم الفقراء.
إذا عرف العباد بأنهم مخلوقون وأن لهم خالقاً، عرفوا بأن ذلك الخالق غني عنهم وأنهم فقراء إليه، عرفوا بأنهم مملوكون وأن لهم مالكاً، عرفوا بأنهم مدبرون وأن هناك من يدبرهم ويسخرهم ويتصرف فيهم كما يشاء، ذلك الخالق والمالك والرب والمتصرف هو الذي يستحق أن يعبدوه، ولأجل هذا خاطبهم بذلك وذكرهم، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ} [البقرة:21] ، ابتدأ بنعمة الخلق بعدما أمرنا بأن نعبده، ومن أسباب أمره سبحانه بعبادته: أولاً: أنه خلقكم.
ثانياً: أنه خلق من قبلكم.
ثالثاً: أنه أنزل من السماء ماءً.
رابعاً: أنه جعل لكم الأرض فراشاً.
خامساً: أنه جعل السماء بناءً.
سادساً: أنه أنبت النبات.
كل ذلك من الأسباب التي هي منَّة ونعمة منه سبحانه.(11/10)
حقيقة انفراد الله تعالى بالرزق وتيسير أسبابه
أما قوله: (رازق) فمعلوم أنه الذي تفرد بالرزق وحده، وقد يقول قائل: بل العبد هو الذي يتكسب، والدواب هي التي تسعى في طلب الرزق، فإذاً كيف يكون ذلك رزقاً، ونحن نشاهد أن الإنسان هو الذي يكتسب الرزق؟! يقول هذا كثير من الناس، وأكثر من يقوله هم الملاحدة، حتى نقل لي بعض الإخوان عن بعض الملاحدة والعياذ بالله أنه لما قيل له: تذكر أن الله الذي يرزقك، فقال: كلا إنما ترزقني يميني والعياذ بالله، نسي أن الله حنن عليه أبويه في طفولته، نسي أن الله يسر له الرزق وهو في رحم أمه، حتى يأتيه الرزق من حيث لا يشعر.
فالإنسان في بطن أمه يكون له باب واحد يأتيه الرزق منه، وهو حبل السرة الذي يتغذى من الدم، فمن الذي يسر ذلك له؟ هل للأبوين تصرف في هذا الجنين حتى يتم خلقه؟ ليس لهما تصرف، إذاً فالذي دبره على هذه الهيئة هو الذي يرزق.
فلما خرج إلى هذه الدنيا من الذي فجر له هذين الثديين من صدر والدته، بهذا اللبن اللذيذ الذي يحصل به التغذي؟! من الذي ألهم هذا الطفل أن يمتص الثديين حتى يحصل على هذا اللبن الذي يتقوت به؟! عندما أخرجه الله إلى الدنيا فتح له بابين -وهما هذان الثديان- ليكون منهما رزقه وغذاؤه، لا يستطيع أن يحصل لنفسه هذا الرزق إلا أن ييسره الله له، من الذي حنن قلب أبويه عليه وجعل في قلوبهما الشفقة التامة إلى أن يحنوا عليه ويحدبا عليه ويحبا بقاءه ويسهرا ويتعبا في تحصيل راحته؟! لولا أن الله جعل ذلك في قلوبهما لما التفتا إليه ولما بقي على هذه الحياة مدة.
بعدما فطم وترعرع من ذينيك الثديين، فتح الله له أربعة أبواب من الرزق: شرابان، وطعامان، فالشرابان: اللبن مأخوذ من الحيوان، والأشربة من الماء، والطعامان: اللحم طعام من الحيوانات التي سخرها الله للإنسان ليأكل من لحومها، وسائر الأطعمة مما تنبته الأرض، والله تعالى هو الذي يسر له ذلك.
أولاً: باب واحد في بطن أمه.
ثانياً: بابان بعدما خرج إلى الدنيا وكان رضيعاً.
ثالثاً: أربعة أبواب بعدما فطم وأحس بالحاجة: طعامان، وشرابان.
من الذي يسر أسباب الرزق؟ من الذي أنبت هذا النبات حتى أثمر وحتى أينع وأصبح صالحاً للقوت لو شاء الله تعالى لجعل الأرض حجراً لا تنبت، ولو شاء لجعل الأرض كلها ماءً لم يحصل بها هذا النبات ولا هذا الاستقرار، ولو شاء لجعل هذه الأرض سبخة لا ينبت فيها أي نبات أصلاً، بل لو أن الله جعل الأرض كلها ذهباً أو كلها فضة، هل يحصل الانتفاع بها وتنبت ويأكل الناس ودوابهم ويتقوتون بها؟ لا، ما تنفعهم.
الله جعل الأرض رخوة صالحة للإنبات، فتبين بذلك أنه سبحانه هو الذي رزقنا، ولهذا يمتن علينا بأنه هو الذي رزقنا، ولسنا نحن الذي نرزق أنفسنا، ثم إذا كان الإنسان قد أعطي قوة حتى يتكسب ويجمع المال من هنا ومن هنا، فمن الذي أعطاه هذا العقل والفكر حتى يتسبب؟ ومن الذي أعطاه هذه الأدوات وهذه الآلات حتى يسير على قدميه وحتى يبطش بيديه وحتى يكتسب بهما؟ أليس هو الذي خلقه؟! إذاً فالله تعالى هو الخالق وهو الرازق، وإذا كان هو الخالق والرازق فهو الذي يستحق أن يعبد.(11/11)
الكلام على الإماتة والبعث(11/12)
حقيقة الموت ومآله يوم القيامة
قال المؤلف رحمه الله: [قوله: (مميت بلا مخافة باعث بلا مشقة) الموت صفة وجودية خلافاً للفلاسفة ومن وافقهم، قال تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك:2] ، والعدم لا يوصف بكونه مخلوقاً، وفي الحديث: (إنه يؤتى بالموت يوم القيامة على صورة كبش أملح فيذبح بين الجنة والنار) ، وهو وإن كان عرضاً، فالله تعالى يقلبه عيناً، كما ورد في العمل الصالح: (أنه يأتي صاحبه في صورة الشاب الحسن، والعمل القبيح على أقبح صورة) ، وورد في القرآن: (أنه يأتي على صورة الشاب الشاحب اللون) الحديث، أي: قراءة القارئ، وورد في الأعمال: أنها توضع في الميزان، والأعيان هي التي تقبل الوزن دون الأعراض، وورد في سورة البقرة وآل عمران: (أنهما يوم القيامة يظلان صاحبهما كأنهما غمامتان أو غيايتان أو فرقان من طير صواف) ، وفي الصحيح: (أن أعمال العباد تصعد الى السماء) ، وسيأتي الكلام على البعث والنشور إن شاء الله تعالى] .
يتكلم الشارح هنا على أن الموت مخلوق، رداً على الفلاسفة الذين يقولون: الموت أمر عدمي ليس له جرم، ويقولون: ليس هناك شيء مخلوق اسمه الموت، وكذبوا قول الله تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ} [الملك:2] قوله: (خلق الموت) فيه دليل على أن هناك شيئاً اسمه الموت، وأنه شيء محسوس، وقد أخبر النبي عليه الصلاة والسلام بما يدل على أن هذا الموت شيء محسوس، وهو قوله عن يوم القيامة: (إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار، جيء بالموت كأنه كبش فوقف بين الجنة والنار فيقال: يا أهل الجنة هل تعرفون هذا؟ فيشرئبون وينظرون ويقولون: نعم، هذا الموت، ويقال لأهل النار: يا أهل النار هل تعرفون هذا؟ فيشرئبون وينظرون ويقولون: نعم، هذا الموت، فيذبح بين الجنة والنار فيقال: يا أهل الجنة خلود ولا موت، ويا أهل النار خلود ولا موت) .
فيزداد أهل الجنة فرحاً، ويزداد أهل النار حزناً؛ وذلك لأن أهل الجنة أيقنوا بأنهم سيلقون حياة مستقرة ليس بعدها موت، وأن أهل النار كانوا يؤملون الموت، كانوا يرجون الموت ويقولون: العدم خير من هذا الوجود، ويقولون كما حكى الله عنهم: {يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} [الزخرف:77] أي: بالموت، والله تعالى يقول: {لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا} [فاطر:36] .(11/13)
حقيقة تحويل الأعراض إلى أجرام
والشاهد أنه أخبر في هذا الحديث بأن الموت شيء محسوس يرى ويعرف، يعلمون أنه هو الموت ولو كان عرضاً، فالله تعالى قادر أن يجعل العرض جسماً، ويجعل له جثة أو صورة كما في الأعمال التي هي أعراض، فقد أخبر في الأحاديث أن الله يجعلها أجساماً وأجراماً، وأنها توزن مع كونها أعراضاً.
فمثلاً الصلاة ورد في الحديث: (أنه إذا صلى العبد فأحسن صلاته صعدت ولها نور فتفتح لها أبواب السماء وتقول: حفظك الله كما حفظتني، وإذا صلى وأساء في صلاته صعدت ولها ظلمة، فتغلق دونها أبواب السماء وتلعن صاحبها وتقول: ضيعك الله كما ضيعتني، وتلف كما يلف الثوب الخلق ويضرب بها وجه صاحبها) .
في هذا بيان أن الأعراض يجعلها الله تعالى أجساماً، وكذلك الكلام قد يجعل الله تعالى له أجراماً، ولهذا في الحديث يقول عليه الصلاة والسلام: (الطهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن -أو تملأ- ما بين السماء والأرض) ، ومعلوم أن كلمة (الحمد لله) ، ليس لها جرم، ولكن يجعل الله لها جرماً وجثة حتى تملأ الميزان، وكذلك التسبيح والتكبير ونحو ذلك، وإذا كانت الأعمال توزن ولو كانت أعراضاً، فكذلك الموت ولو كان عرضاً يجعل الله له جرماً حتى يرى، فهو الذي خلق الموت وخلق الحياة.(11/14)
عقيدة أهل السنة في الصفات الفعلية لله تعالى
قال المؤلف رحمه الله: [قوله: (ما زال بصفاته قديماً قبل خلقه، لم يزدد بكونهم شيئاً لم يكن قبلهم من صفته، وكما كان بصفاته أزلياً، كذلك لا يزال عليها أبدياً) .
أي: أن الله سبحانه وتعالى لم يزل متصفاً بصفات الكمال: صفات الذات، وصفات الفعل، ولا يجوز أن يعتقد أن الله وصف بصفة بعد أن لم يكن متصفاً بها؛ لأن صفاته سبحانه صفات كمال، وفقدها صفة نقص، ولا يجوز أن يكون قد حصل له الكمال بعد أن كان متصفاً بضده، ولا يرد على هذه صفات الفعل والصفات الاختيارية ونحوها، كالخلق والتصوير، والإحياء الإماتة، والقبض والبسط والطي، والاستواء، والإتيان والمجيء والنزول، والغضب والرضا، ونحو ذلك مما وصف به نفسه ووصفه به رسوله، وإن كنا لا ندرك كنهه وحقيقته التي هي تأويله، ولا ندخل في ذلك متأولين بآرائنا، ولا متوهمين بأهوائنا، ولكن أصل معناه معلوم لنا، كما قال الإمام مالك رضي الله عنه، لما سئل عن قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الرعد:2] ، كيف استوى؟ فقال: الاستواء معلوم، والكيف مجهول.
وإن كانت هذه الأحوال تحدث في وقت دون وقت كما في حديث الشفاعة: (إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله) ؛ لأن هذا الحدوث بهذا الاعتبار غير ممتنع، ولا يطلق عليه أنه حدث بعد أن لم يكن، ألا ترى أن من تكلم اليوم وكان متكلماً بالأمس لا يقال: إنه حدث له الكلام، ولو كان غير متكلم لآفة كالصغر والخرس ثم تكلم يقال: حدث له الكلام، فالساكت لغير آفة يسمى: متكلماً بالقوة، بمعنى: أنه يتكلم إذا شاء، وفي حال تكلمه يسمى: متكلماً بالفعل، وكذلك الكاتب في حال الكتابة هو كاتب بالفعل، ولا يخرج عن كونه كاتباً في حال عدم مباشرته الكتابة.
وحلول الحوادث بالرب تعالى المنفي في علم الكلام المذموم، لم يرد نفيه ولا إثباته في كتاب ولا سنة، وفيه إجمال، فإن أريد بالنفي أنه سبحانه لا يحل في ذاته المقدسة شيء من مخلوقاته المحدثة، أو لا يحدث له وصف متجدد لم يكن، فهذا نفي صحيح، وإن أريد به نفي الصفات الاختيارية من أنه لا يفعل ما يريد، ولا يتكلم بما شاء إذا شاء، ولا أنه يغضب ويرضى لا كأحد من الورى، ولا يوصف بما وصف به نفسه من النزول والاستواء والإتيان كما يليق بجلاله وعظمته، فهذا نفي باطل] .
في الكلام الأول ذكر الماتن رحمه الله: أن صفات الرب تعالى أزلية، وأنه موصوف بها في الأزل قبل أن تحدث الأفعال التي ظهرت بها، فيعتقد المسلمون أن الله سبحانه وتعالى قديم بصفاته، ويردون بذلك على النفاة الذين ينفون الصفات ويقولون: إنه إذا أثبتناها لزمنا تعدد القديم، وهذا اللازم باطل، فالله تعالى قديم بصفاته سواء الصفات الذاتية أو الصفات الفعلية، ليس منها شيء متجدد بعد أن لم يكن، فصفاته الذاتية التي أخبر عنها كوجهه ويده والعين وما أشبه ذلك، هذه قديمة لم يحدث منها شيء.
أما صفات الفعل كالعلم والكلام والقدرة والإرادة والمحبة والبغض والكراهة وما أشبهها فهو موصوف بها أزلاً وإن لم تحدث أسبابها، يعني: وإن لم يحدث من يغضب عليه، فهو موصوف بأنه يغضب وبأنه يرضى قبل أن يوجد خلق يغضب عليه أو يرضى عنه، وهو موصوف بأنه يحب ويكره قبل أن يحدث الخلق الذين يحب منهم الصالحين ويكره أو يبغض غيرهم، وموصوف بأنه يعجب وبأنه يفرح وبأنه يضحك وبأنه يجيء وينزل وبأنه يستوي على العرش إلى غير ذلك من الصفات، فهو موصوف بذلك أزلاً قبل أن تحدث أسباب ذلك، هذه عقيدة أهل السنة.(11/15)
عقيدة أهل السنة في تجدد الصفات الفعلية لله تعالى
معلوم أن هذه الأفعال تسمى صفات فعلية، ومعلوم أنها تتجدد، ولأجل ذلك كانت عقيدة أهل السنة أن كلام الله قديم النوع متجدد الآحاد، يعني: أنه متكلم وأنه يتكلم بخلاف من يقول من المعتزلة ونحوهم: إن كلام الله قديم، ومعناه أنه لا يتكلم الآن، تعالى الله عن ذلك، وهكذا بقية الصفات فيقال: الله موصوف في الأزل بأنه يغضب ويرضى ولا يزال على ذلك حتى يوم القيامة، وقد أخبر الأنبياء بأنه يغضب وبأنه قد غضب، كما في حديث الشفاعة يقول آدم: (إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله) ، وكذلك يقول نوح وإبراهيم وموسى وعيسى إذا طلب منه الشفاعة، فيدل على أن الله موصوف بالغضب أزلاً وأنه يغضب إذا شاء.
ومعلوم أن المعاصي التي رتبت عليها العقوبات تحدث فتحدث آثارها.
فإذا كان الله تعالى يرضى عن المؤمن، فإذا وجد المؤمن وآمن وعمل صالحاً رضي الله عنه، وإذا كان يغضب على العاصي، فإذا وجد ذلك العاصي ووجدت منه معصية غضب الله عليه.
فإذاً هذه الأفعال تتجدد، ولا يقال إنها أتت مرة ثم انقطعت، هكذا صفات الله الفعلية، كذلك صفة النزول لم تكن حدثت مرة ثم انقطعت، وكذلك صفة المجيء يوم القيامة فقد أخبر الله بأنه يجيء يوم القيامة كما في قوله: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [الفجر:22] ، {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ} [الأنعام:158] يعني: يوم القيامة، فإذاً ذلك دليل على أن صفات الله التي هي أفعال أزلية وأبدية، وأنه لا يزال متصفاً بها.(11/16)
الفوائد المستفادة من إثبات أسماء الله وصفاته ومعرفتها
نستفيد من عقيدة إثبات أسماء الله تعالى وإثبات صفاته ومعرفة أسمائه التي سمى بها نفسه أو سماه بها نبيه صلى الله عليه وسلم، يستفيد منها المسلم فوائد منها: أن يدعوه بها، قال تعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ} [الأعراف:180] .
ومنها أن يعتقد مدلولها ويكون اعتقاده لمدلولها دافعاً له على الخوف والرجاء، وعلى أعلى أنواع العبادة، فإن من اعتقد أن الله تعالى لا إله غيره خصه بالإلهية، ومن اعتقد أنه حي لا ينام، قيوم لا يفنى ولا يبيد ولا يكون إلا ما يريد، وأنه أول وآخر أزلي لم يسبق بعدم وأنه لا يأتي عليه العدم، واعتقد أنه موصوف بصفات الكمال ومنزه عن صفات النقص؛ من اعتقد هذا الاعتقاد؛ عظم قدر ربه في قلبه، ومتى عظم الله بكونه الذي يحيي الموتى ويميت الأحياء، والذي لا تأخذه سنة ولا نوم، والذي هو الحي القيوم، والذي هو الأول والآخر، وهو الظاهر والباطن، والذي هو غني عما سواه، وكل ما سواه فقير إليه؛ لا شك أن من عرف ربه بهذه الصفات فإنه يدعوه بها، وكذلك يعظمه بموجبها، هذه فائدة معرفة هذه الأسماء والصفات.
وقد تقدم شرح (الحي القيوم) ، وكذا (الأول والآخر) ، وكذا (المحيي والمميت) ، وما أشبهها من أسماء الله، وكذلك من صفات النفي، كما في قوله: {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} [البقرة:255] ، ولا يشبه الأنام، ولا يعجزه شيء، وما أشبهها.
فالمسلم يعتقد ثبوت صفات الكمال، ويستفيد منها تعظيمه، وينتج من تعظيمه عبادته حق العبادة.(11/17)
حكم إطلاق نفي حلول الحوادث ومعناها عند أهل السنة وغيرهم
قال رحمه الله تعالى: [وأهل الكلام المذموم يطلقون نفي حلول الحوادث، فيسلم السني للمتكلم ذلك، على ظن أنه نفى عنه سبحانه ما لا يليق بجلاله، فإذا سلم له هذا النفي ألزمه نفي الصفات الاختيارية وصفات الفعل، وهو غير لازم له، وإنما أتي السني من تسليم هذا النفي المجمل، وإلا فلو استفسر واستفصل لم ينقطع معه.
وكذا مسألة الصفة: هل هي زائدة على الذات أم لا؟ لفظها مجمل، وكذلك لفظ الغير فيه إجمال فقد يراد به ما ليس هو إياه، وقد يراد به ما جاز مفارقته له.
ولهذا كان أئمة السنة رحمهم الله تعالى لا يطلقون على صفات الله وكلامه أنه غيره، ولا أنه ليس غيره؛ لأن إطلاق الإثبات قد يشعر أن ذلك مباين له، وإطلاق النفي قد يشعر بأنه هو هو، إذ كان لفظ الغير فيه إجمال، فلا يطلق إلا مع البيان والتفصيل، فإن أريد به أن هناك ذاتاً مجردة قائمة بنفسها، منفصلة عن الصفات الزائدة عليها، فهذا غير صحيح، وإن أريد به أن الصفات زائدة على الذات التي يفهم من معناها غير ما يفهم من معنى الصفة، فهذا حق، ولكن ليس في الخارج ذات مجردة عن الصفات، بل الذات الموصوفة بصفات الكمال الثابتة لها لا تنفصل عنها، وإنما يفرض الذهن ذاتاً وصفة كلا وحده، ولكن ليس في الخارج ذات غير موصوفة فإن هذا محال، ولو لم يكن إلا صفة الوجود، فإنها لا تنفك عن الموجود، وإن كان الذهن يفرض ذاتاً ووجوداً، يتصور هذا وحده، وهذا وحده، لكن لا ينفك أحدهما عن الآخر في الخارج.
وقد يقول بعضهم: الصفة لا عين الموصوف ولا غيره وهذا له معنى صحيح، وهو: أن الصفة ليست عين ذات الموصوف التي يفرضها الذهن مجردة بل هي غيرها، وليست غير الموصوف، بل الموصوف بصفاته شيء واحد غير متعدد.
فإذا قلت: أعوذ بالله، فقد عذت بالذات المقدسة الموصوفة بصفات الكمال المقدسة الثابتة التي لا تقبل الانفصال بوجه من الوجوه.
وإذا قلت: أعوذ بعزة الله، فقد عذت بصفة من صفات الله تعالى ولم أعذ بغير الله.
وهذا المعنى يفهم من لفظ الذات، فإن (ذات) في أصل معناها لا تستعمل إلا مضافة، أي: ذات وجود، ذات قدرة، ذات عز، ذات علم، ذات كرم، إلى غير ذلك من الصفات، فذات كذا بمعنى: صاحبة كذا، تأنيث (ذو) هذا أصل معنى الكلمة.
فعلم أن الذات لا يتصور انفصال الصفات عنها بوجه من الوجوه، وإن كان الذهن قد يفرض ذاتا مجردة عن الصفات كما يفرض المحال، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر) ، وقال صلى الله عليه وسلم: (أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق) ، ولا يعوذ صلى الله عليه وسلم بغير الله، وكذا قال صلى الله عليه وسلم: (اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك) ، وقال صلى الله عليه وسلم: (ونعوذ بعظمتك أن نغتال من تحتنا) وقال صلى الله عليه وسلم: (أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات) ] .(11/18)
شبهة نفي حلول الحوادث والرد عليها
تكلم أولاً: على بعض الشبهات التي يروجها نفاة صفات الله تعالى، فمن شبهاتهم قولهم: إن الله منزه عن حلول الحوادث، فإذا سمع ذلك الجاهل اعتقد أنهم صادقون واعتقد أن الله لا يجوز أن تحل به الحوادث، فإذا سلم ذلك ووافق عليه قالوا: لا يجوز أن يوصف بالكلام الحادث، ولا أن يوصف بأنه يحدث له غضب، ولا رضا، ولا أن يحدث له كراهية أو سخط وما أشبه ذلك، فينفون الأفعال الاختيارية بحجة أنها حادثة والحادث لا يوصف به الرب، وعندهم أن الرب قديم لم يحدث منه شيء، ولا يجوز أن يوصف بصفة تحدث، وموافقتهم على هذه القاعدة خطأ.
فإذا قالوا: القاعدة تنزيه الله عن حلول الحوادث، فيقال لهم: ماذا تريدون؟ إن أردتم أن الله لا يحدث له صفة لم تكن موجودة في الأزل فهذا صحيح، فإن الله تعالى يسمى خالقاً قبل وجود المخلوقين ورازقاً قبل أن يكون هناك من يرزقهم، وهو المحيي والمميت قبل أن يوجد الخلق الذين يحيي منهم من يشاء ويميت منهم من يشاء، يعني: أنه متصف بالفعل أزلاً وإن لم تكن المفعولات موجودة، فإن الذي يكون قادراً على الفعل يصح أن يوصف به ولو لم يزاوله، فإذا رأيت إنساناً ساكتاً صامتاً قلت: هذا الإنسان متكلم، أي أنه ليس أخرس، ولو كان في تلك الحال صامتاً، يعني أنه متكلم بالقوة، فكذلك يقال: الله يحيي ويميت، أي: أنه متصف بصفة القدرة على الإحياء والإماتة والخلق والرزق والتصرف والتدبير قبل أن توجد المخلوقات، ولكن بعد وجود هذه المخلوقات فإن الله تعالى يميت من يشاء ويحيي من يشاء، ويرزق هذا ويفقر هذا ويغني هذا، ويصح هذا ويسقم هذا، ويرفع هذا ويخفض هذا، وكل هذه صفات حادثة، فأصل الصفة موجود ليس بحادث ومفرداتها حادثة.
كذلك نقول: الله تعالى متكلم في الأزل ويتكلم إذا شاء، ليس معناه أنه تكلم أزلاً ثم انقطع كلامه، بل كلام الله قديم النوع حادث الآحاد.(11/19)
شبهة: أن صفات الله زائدة على ذاته والرد عليها
ومن شبهاتهم قولهم: إن صفات الله زائدة على ذاته، وهذه شبهة باطلة، فليست صفاته زائدة على ذاته بل صفات الله من ذاته، وهو واحد بصفاته، ولا يلزم من إحداث الصفات تعدد القدماء كما يقولون، فليس هناك تعدد.
وذلك أنهم يقولون: إن قولكم: ذات الرب قديمة وسمعه قديم وبصره قديم وعلمه قديم وقدرته قديمة، فأنتم لم تثبتوا واحداً بل أثبتم عدداً! وهذه شبهة باطلة، فإن الله تعالى واحد بصفاته، فليست الصفات خارجة عن الذات، ولا يتصور أن تكون هناك ذات مجردة عن جميع الصفات، ولو لم يكن إلا صفة الوجود فصفة الوجود ملازمة لكل موجود، فلا يمكن أن يُفْرَض شيء ليس له صفات، وهو مع ذلك له ذات، بل كل ذات يلزم أن يكون لها صفات.(11/20)
شبهة: أن صفات الله غيره والرد عليها
ومن شبهاتهم قولهم: إن صفات الله غيره، وهي أيضاً شبهة باطلة، فليست صفات الله تعالى غيره، بل صفاته من ذاته فنضرب مثلاً -ولله المثل الأعلى- المخلوق لا يقال: إن صفاته غيره، فإذا رأيت إنساناً فإنك لا تقول: جاء زيد ويداه ورجلاه ورأسه وبطنه وظهره وعيناه وأذناه، بل تقول: جاء زيد، وتدخل صفاته في ذاته وفي شخصه، فهو شيء واحد وشخص واحد بهذه الصفات، ولا يلزم من كونه ذا صفات أن يكون عدداً، فلا تقول: جاءني عشرة: عينان وأذنان ويدان ورجلان وشفتان، بل شخص واحد مسمى بهذا الاسم، فكذلك الله سبحانه وتعالى ليست صفاته زائدة على ذاته، بل صفاته من ذاته.
فإذا اعتقد المسلم أن الله موصوف بهذه الصفات التي هي صفات الكمال اعتقد مدلولها، فإذا اعتقد أن الله يغضب حذر من أسباب الغضب، وإذا اعتقد أنه يرضى فعل أسباب الرضا، وإذا اعتقد أنه الذي يحيي ويميت عبده وعرف حقه، وإذا اعتقد أنه هو الذي يفقر ويغني وأنه الذي يمنع ويعطي عرف أن العبادة لا تصلح إلا له، وهكذا، فمعرفة هذه الصفات تزيد العبد بصيرة في دينه، وتحمله على التمسك بدينه، وعلى الإكثار من التقرب إلى الله تعالى بحقوقه.(11/21)
الكلام على مسألة الاسم والمسمى
قال المؤلف رحمه الله: [وكذلك قولهم: الاسم عين المسمى أو غيره، وطالما غلط كثير من الناس في ذلك، وجهلوا الصواب فيه، فالاسم يراد به المسمى تارة، ويراد به اللفظ الدال عليه أخرى، فإذا قلت: قال الله كذا، أو (سمع الله لمن حمده) ونحو ذلك، فهذا المراد به المسمى نفسه، وإذا قلت: الله: اسم عربي، والرحمن: اسم عربي، والرحمن: من أسماء الله تعالى ونحو ذلك، فالاسم ها هنا هو المراد لا المسمى، ولا يقال غيره لما في لفظ الغير من الإجمال: فان أريد بالمغايرة أن اللفظ غير المعنى فحق، وإن أريد أن الله سبحانه كان ولا اسم له حتى خلق لنفسه أسماء، أو حتى سماه خلقه بأسماء من صنعهم، فهذا من أعظم الضلال والإلحاد في أسماء الله تعالى.
والشيخ رحمه الله أشار بقوله: (ما زال بصفاته قديماً قبل خلقه) إلى آخر كلامه إلى الرد على المعتزلة والجهمية ومن وافقهم من الشيعة، فإنهم قالوا: إنه تعالى صار قادراً على الفعل والكلام بعد أن لم يكن قادراً عليه، لكونه صار الفعل والكلام ممكناً بعد أن كان ممتنعاً، وأنه انقلب من الامتناع الذاتي إلى الإمكان الذاتي.
وعلى ابن كلاب والأشعري ومن وافقهما فإنهم قالوا: إن الفعل صار ممكناً له بعد أن كان ممتنعاً منه.
وأما الكلام عندهم فلا يدخل تحت المشيئة والقدرة، بل هو شيء واحد لازم لذاته.
وأصل هذا الكلام من الجهمية فإنهم قالوا: إن دوام الحوادث ممتنع، وإنه يجب أن يكون للحوادث مبدأ، لامتناع حوادث لا أول لها، فيمتنع أن يكون الباري عز وجل لم يزل فاعلاً متكلماً بمشيئته، بل يمتنع أن يكون قادراً على ذلك، لأن القدرة على الممتنع ممتنعة.
وهذا فاسد، فإنه يدل على امتناع حدوث العالم وهو حادث، والحادث إذا حدث بعد أن لم يكن محدثاً فلا بد أن يكون ممكناً، والإمكان ليس له وقت محدود، وما من وقت يقدر إلا والإمكان ثابت فيه، فليس لإمكان الفعل وجوازه وصحته مبدأ ينتهي إليه، فيجب أنه لم يزل الفعل ممكناً جائزاً صحيحاً، فيلزم أنه لم يزل الرب قادراً عليه، فيلزم جواز حوادث لا نهاية لأولها] .
معنى ذلك: أن صاحب المتن لما ذكر قدم أسماء الله التي هي في الأصل تتضمن صفات كالرازق الذي يستلزم أن يكون هناك مرزوقون، والخالق الذي يستلزم أن يكون هناك مخلوقون، وكذلك المحيي والمميت الذي يلزم منهما أن يكون هناك خلق يحييهم ويميتهم، وكذلك اسم العليم يلزم أن يكون هناك ما يعلمه، وهكذا المعز والمذل والخافض والرافع والمعطي والمانع، لا شك أنها أسماء لها آثار في الخلق، فآثارها كونه يعطي هذا ويمنع هذا ويحرم هذا ويميت هذا ويحيي هذا ويعز هؤلاء ويذل هؤلاء ويخفض قوماً ويرفع آخرين.
وهذه الصفات موصوف بها الرب تعالى في الأزل قبل أن يوجد الخلق، خلافاً لقول المعتزلة والجهمية والكلابية ونحوهم الذين يقولون: إنما حدثت بعد حدوث المخلوقات، وهذا خطأ، بل قولهم: بامتناع حوادث لا أول لها، الأولى بنا عدم الخوض في مثل ذلك، وأن نقول: الله أعلم بالمخلوقات التي خلقها أولاً، ومتى ابتدأ خلقه لها، لا نقول: إن المخلوقات ليس لها مبدأ، لكن نعلم أن ما سوى الرب تعالى حادث، والرب تعالى قديم أزلي أول، ونعلم أن حكمة الله تعالى في هذه الموجودات أنه أوجد هذا الكون بما فيه؛ ليعرف بذلك قدره ولتعرف بذلك أهليته للعبادة، وليعرف المسلمون بذلك أنهم مخلوقون لأداء حقوق ربهم سبحانه وتعالى الذي هذا خلقه وهذا تكوينه، قال تعالى: {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} [لقمان:11] ، هكذا يجب أن يعتقد المسلم.(11/22)
مسألة تسلسل الحوادث(11/23)
منع الجهمية من حوادث لا أول لها والرد عليهم
قال المؤلف رحمه الله: [قالت الجهمية ومن وافقهم: نحن لا نسلم أن إمكان الحوادث لا بداية له، لكن نقول: إمكان الحوادث بشرط كونها مسبوقة بالعدم لا بداية له؛ وذلك لأن الحوادث عندنا تمتنع أن تكون قديمة النوع بل يجب حدوث نوعها ويمتنع قدم نوعها، لكن لا يجب الحدوث في وقت بعينه، فإمكان الحوادث بشرط كونها مسبوقة بالعدم لا أول له بخلاف جنس الحوادث.
فيقال لهم: هب أنكم تقولون ذلك، لكن يقال: إمكان جنس الحوادث عندكم له بداية، فإنه صار جنس الحدوث عندكم ممكناً بعد أن لم يكن ممكناً، وليس لهذا الإمكان وقت معين، بل ما من وقت يفرض إلا والإمكان ثابت قبله، فيلزم دوام الإمكان، وإلا لزم انقلاب الجنس من الامتناع إلى الإمكان من غير حدوث شيء] .
شبهة أيضاً من شبهات المعتزلة أو الجهمية ونحوهم، ولا يحتاج المسلم إلى معرفة أصول الرد عليهم في قولهم بأن هذه حادثة في وقت كذا وكذا؛ وذلك لأنا لا نعلم وقت حدوث هذه المحدثات، ويمكن إذا قدرنا أنها حدثت مثلاً قبل مائة ألف سنة أن يقول قائل: يمكن أنها قبل مائتين، ويقول آخر: يمكن أنها قبل ألفين، ويقول آخر: قبل ذلك بألوف.
فإذاً ليس هناك وقت يلزم العباد بأنه حدثت فيه هذه المحدثات، لكن نعرف أنها حادثة، فالله تعالى ذكر أنه خلق الإنسان بعد أن لم يكن شيئاً مذكوراً: {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا} [الإنسان:1] يعني: كان معدوماً، وخلق الجن بعد أن كانوا معدومين، وخلق الملائكة بعد أن كانوا عدماً، وهكذا أيضاً خلق السموات والأرض في ستة أيام بعد أن لم تكن موجودة، وهكذا سائر المخلوقات الله الذي ابتدأ خلقها، ولا شك أنه أوجد هذه الموجودات وبث هذه الدواب مثلاً على هذه الأرض، وخلق هذه الأنهار وهذه البحار والأشجار والثمار والآبار ونحو ذلك، هو الذي ابتدأها بعد أن لم تكن موجودة، ويمكن أنه خلق قبلها مخلوقات لا ندركها ولا نعلمها، فالله تعالى هو المنفرد بالخلق والتصرف، وإنما علينا أن نعتبر بما نرى، نعرف أن هذه الموجودات التي خلقت خلقت لنا للاعتبار، نأخذ منها دلالة وعبرة على أن خالقها هو خالق كل شيء، وأن الذي هو خالق كل شيء هو المستحق لأن يعبد وحده؛ فنعبده ونخلص العبادة له ولا نتجاوز ذلك، هذا هو الأولى بالمسلم.
قال المؤلف رحمه الله: [ومعلوم أن انقلاب حقيقة جنس الحدوث، أو جنس الحوادث، أو جنس الفعل، أو جنس الأحداث، أو ما أشبه هذا من العبارات من الامتناع إلى الإمكان، وهو مصير ذلك ممكناً جائزاً بعد أن كان ممتنعاً، من غير سبب تجدد، وهذا ممتنع في صريح العقل، وهو أيضاً انقلاب الجنس من الامتناع الذاتي إلى الإمكان الذاتي، فإن ذات جنس الحوادث عندهم تصير ممكنة بعد أن كانت ممتنعة، وهذا الانقلاب لا يختص بوقت معين، فإنه ما من وقت يقدر إلا والإمكان ثابت قبله، فيلزم أنه لم يزل هذا الانقلاب ممكناً، فيلزم أنه لم يزل الممتنع ممكناً، وهذا أبلغ في الامتناع من قولنا: لم يزل الحادث ممكناً، فقد لزمهم فيما فروا إليه أبلغ مما لزمهم فيما فروا منه، فإنه يعقل كون الحادث ممكناً، ويعقل أن هذا الإمكان لم يزل، وأما كون الممتنع ممكناً فهو ممتنع في نفسه، فكيف إذا قيل: لم يزل إمكان هذا الممتنع؟! وهذا مبسوط في موضعه] .
الممكن: هو الذي يتصور وجوده وحدوثه، الممتنع: هو ما لا يتصور العقل وجوده، أو ما لا يمكن أن يحدث، الممتنعات: هي المستحيلات.
ومعلوم أن هذه المخلوقات كانت معدومة فوجدت لإمكان حدوثها، وأن هناك أشياء مستحيلة ولم تكن، وممتنعة ولم تحدث، مثل: الجمع بين الضدين، فلا يمكن مثلاً أن يكون المكان الضيق مظلماً ومنيراً في وقت واحد، فلا يجتمع فيه النور والظلمة لكونهما ضدين، ولا يجتمع في وجه إنسان كونه أبيض وأسود، ولا في ثوبه مثلاً أنه أحمر وأبيض؛ لأن اجتماع الضدين من الممتنعات، ومعلوم أن الله تعالى لا يعجزه شيء وأنه قادر على أن يجمع بين الضدين، وقادر على أن يخلق المستحيل، ولكن جرت العادة بامتناع هذا في التصور، وأخبر بأنه قد يوجد بعض الأشياء مثل الأمور الغيبية، كقوله تعالى: {لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا} [طه:74] ، كأن العاقل يقول: مستحيل أن يكون الشيء لا ميتاً ولا حياً، يقال: ليس بمستحيل بل يمكن في قدرة الله أن يكون ميتاً حياً في آن واحد، وإن كان المراد أنه لا يحيا حياة يستلذ بها في النار، ولا يموت موتاً يستريح منه، بل هو متألم يتمنى الموت ولا يحصل له؛ لهذا السبب نفيت عنه الحياة والموت، وعلى كل حال وصف الرب سبحانه بالأفعال عام في أنه على كل شيء قدير، وأنه لا يعجزه شيء، وأنه قادر على أن يجمع بين المختلفات، وأن يوجد المتضادات، ولكن جرت العادة بأن هذا الممتنع لم يحدث ولم نره مع قدرته على أن يحدثه.(11/24)
مذاهب الناس في تسلسل الحوادث
[فالحاصل أن نوع الحوادث هل يمكن دوامها في المستقبل والماضي أم لا، أو في المستقبل فقط، أو الماضي فقط؟ فيه ثلاثة أقوال معروفة لأهل النظر من المسلمين وغيرهم.
أضعفها: قول من يقول: لا يمكن دوامها لا في الماضي ولا في المستقبل كقول جهم بن صفوان وأبي الهذيل العلاف.
وثانيها: قول من يقول: يمكن دوامها في المستقبل دون الماضي، كقول كثير من أهل الكلام ومن وافقهم من الفقهاء وغيرهم.
والثالث: قول من يقول: يمكن دوامها في الماضي والمستقبل كما يقوله أئمة الحديث، وهي من المسائل الكبار، ولم يقل أحد: يمكن دوامها في الماضي دون المستقبل.
ولا شك أن جمهور العالم من جميع الطوائف يقولون: إن كل ما سوى الله تعالى مخلوق كائن بعد أن لم يكن وهذا قول الرسل وأتباعهم من المسلمين واليهود والنصارى وغيرهم.
ومن المعلوم بالفطرة أن كون المفعول مقارناً لفاعله لم يزل ولا يزال معه ممتنع محال، ولما كان تسلسل الحوادث في المستقبل لا يمنع أن يكون الرب سبحانه هو الآخر الذي ليس بعده شيء فكذا تسلسل الحوادث في الماضي لا يمنع أن يكون سبحانه وتعالى هو الأول الذي ليس قبله شيء؛ فإن الرب سبحانه وتعالى لم يزل ولا يزال، يفعل ما يشاء ويتكلم إذا يشاء، قال تعالى: {قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} [آل عمران:40] ، وقال تعالى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} [البقرة:253] ، وقال تعالى: {ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ * فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [البروج:15-16] ، وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} [لقمان:27] ، وقال تعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} [الكهف:109] .
والمثبت إنما هو الكمال الممكن الوجود، وحينئذٍ فإذا كان النوع دائماً فالممكن والأكمل هو التقدم على كل فرد من الأفراد بحيث لا يكون في أجزاء العالم شيء يقارنه بوجه من الوجوه، وأما دوام الفعل فهو أيضاً من الكمال؛ فإن الفعل إذا كان صفة كمال فدوامه دوام كمال] .
الأفعال التي ذكرها ودوامها في الماضي، أو دوامها في المستقبل، أو في الماضي والمستقبل هذه من الأمور الغيبية، ومعنى دوامها في الماضي أن الله تعالى قديم، وأنه لم يزل يخلق، لم يكن في زمن معطلاً عن الخلق، ولم يكن في زمن غير موجود خلْق يدبرهم ويتصرف فيهم، وكذلك في المستقبل، أي: أنه لا يزال موجوداً، وأنه بعدما يفنى هذا الخلق يحييهم مرة ثانية ويبقى متصرفاً فيهم، يعني: يعلم أحوالهم وما يصيرون إليه، ويعذب من يشاء ويرحم من يشاء، ويعطي ويمنع وتظهر آثار أفعاله على المخلوقات، فلا شك أن هذا ونحوه من جملة ما يعتقده المسلمون.(11/25)
التوقف عن القول بتسلسل الحوادث بالماضي
ولكن قد ذهب بعض الفلاسفة إلى أن هذا الوجود لم يسبق بعدم، وأن هذا النوع الإنساني قديم ليس له بداية وليس له أول، وأنكروا أن يكون هناك بشر اسمه آدم خلق من تراب، وأنكروا أن يكون لهذا الخلق نهاية، وأن تكون هناك الساعة التي تقوم، وأن يكون هناك النفخ في الصور وما أشبه ذلك، واعتقدوا أن هذا النوع لم يزل، وأن جنس هذا المخلوق أزلي قديم، وأنه مستمر بلا نهاية، ولا شك أن هذا فيه إنكار من وجوه: أولاً: إنكار للأمور الغيبية التي أخبر الله تعالى بها.
ثانياً: إنكار للجزاء على الأعمال التي أخبر الله بأنه يجازي عليها عباده في الآخرة.
ثالثاً: إنكار لشرع الله عز وجل وأمره ونهيه وأحكامه التي حكم بها على العباد.
وإنكار ذلك كله يخرج من الملة، والواجب على المسلم أن يكون معتقداً لما أخبر الله به من كونه هو الحي القيوم الذي لم يزل ولا يزال، ومن كونه هو المتصف بالخلق وبالتصرف وبالتدبير لشئون العباد، ويعتقد أيضاً أنه هو المتفرد بإيجادهم وحده ولم يكن هناك من أوجدهم غيره، وكونه يعتقد أن قبلهم خلقاً غيرهم، وقبل الخلق خلقاً، وقبل الأولين أولين، فهذا من الأمور الغيبية التي لم يطلعنا الله عليها.
ونقول: الله أعلم بمن كان قبل ذلك وبأفعاله قبل ذلك، إلا أننا نعتقد أنه موصوف بهذه الصفات وإن لم تظهر آثارها، كما ذكر في المتن أنه ليس بعد خلق الخلق استفاد اسم الخالق، ولا بعد وجود من يرزقهم استفاد اسم الرازق، بل اسمه الخالق قبل أن يبدأ الخلق، واسمه الرازق قبل أن يوجد الخلق الذين يرزقهم؛ لأنه خالق بالقوة قبل أن يخلق وإن لم يكن خالقاً بالفعل.
ونتوقف عن تسلسل الحوادث في الماضي، ونقول الأمر غيب، ولم يخبرنا الله تعالى بشيء من ذلك، وليس لنا التدخل في هذه الأمور؛ لأنها من الأمور التي لا يضر جهلها ولا يفيد علمها، وقد توقع في شيء من الحيرة ومن الاضطراب، والمسلم عليه أن يقتصر على ما فيه فائدة له في العقيدة، وأن يعتقد ما ينفعه وما يكون دافعاً له إلى معرفة ربه بأسمائه وبصفاته، وإلى التقرب إلى الله تعالى بموجب تلك الأسماء.(11/26)
الأسئلة(11/27)
أصل ديانة المجوس وأخذ الجزية منهم
السؤال
هل ثبت أنه كان المجوس أصحاب كتاب ثم رفع عنهم، وهل ورد ذلك في السنة أو في التاريخ؟ وهل يؤخذ بهذا القول؟ ولماذا أخذ الرسول صلى الله عليه وسلم من مجوس هجر الجزية التي لا تؤخذ إلا من أصحاب كتاب؟
الجواب
ورد ذلك في حديث عن علي أنه كان لهم كتاب، وأن أحد ملوكهم وجد يفجر بأمه أو ببعض محارمه، ثم إنهم لما أرادوا إقامة الحد عليه، احتج عليهم بأن آدم زوج أولاده بعضهم ببعض ذكورهم بإناثهم، وقال: نحن على شريعة آدم.
فلما فعل ذلك رفع كتابهم، ولكن الحديث في ذلك عن علي لم يصح، أشار إليه الشافعي في مسنده والطيالسي كذلك، ولكن لم يثبت هذا الحديث.
وأما كون الجزية أخذت منهم فتؤخذ منهم لكونهم دولة وأمة على شريعة أو على دين يدعون أنهم عليه أصلاً وإن لم يكن لهم كتاب سابق، ومع ذلك فقد ذهب بعض العلماء كشيخ الإسلام ابن تيمية إلى جواز أخذ الجزية من كل المشركين، وأنه ليس خاصاً بأهل الكتاب، وما دام الأمر كذلك فإن المجوس من جملة المشركين الذين تؤخذ منهم كغيرهم.(11/28)
طمس الصور ومعناه
السؤال
ما معنى الطمس الوارد في حديث علي رضي الله عنه الذي تبرأ به الذمة؟
الجواب
قوله: (لا تدع صورة إلا طمستها) المراد به طمس الوجه؛ لأن الوجه مجمع المحاسن، فإذا جعل على وجه الصورة ما تزول به خلقتها إذا كانت -مثلاً- منقوشة كفى ذلك، فإن كانت منحوتة فإنه لا بد من قطع رأسها أو ما لا يبقى معه حياة، فإذا كانت منحوتة -مثلاً- أو مصورة لها ظل ولها جرم فلا بد من قطع رأسها حتى تكون كهيئة الشجرة، وهكذا ورد ذلك، وإذا كانت في لباس فإنه يكتفى بقطعها، فإذا قطعت إلى ألا تبقى معها حياة اكتفي بذلك.(11/29)
الرد بطريق العقل والسمع على وجود صانعين للعالم
السؤال
كيف نرد على أهل النظر الزاعمين أن للعالم صانعين، عن طريق العقل والنقل؟
الجواب
أما عن طريق العقل فبدلالة السماع على العلة، وهي أنه لو كان للعالم إلهان أو ربان خالقان فأراد أحدهما تحريك شيء وأرد الآخر تسكينه فإما أن يحصل مرادهما وهو ممنوع، وإما أن لا يحصل مراد واحد منهما فيستلزم عجزهما، وإما أن يحصل مراد واحد، فالذي لم يحصل مراده عاجز لا يصلح أن يكون إلهاً ولا أن يكون خالقاً، فدل على أن الخالق واحد ليس معه من يزاحمه في هذا التصرف، فهذه الدلالة العقلية.
وأما الدلالة السمعية فالآية الكريمة: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء:22] ، ونحوها من الآيات.(11/30)
حكم تخصيص القبر بالزيارة
السؤال
هل يجوز أن يزار قبر شخص بعينه مع زيارة القبور الأخرى، وما حكم تعيين قبر بعلامة أو بإشارة من أجل معرفة صاحب هذا القبر؟
الجواب
زيارة القبور مشروعة لسببين: تذكر الآخرة، والدعاء للموتى.
وتجوز مثلاً كل أسبوع أو كل شهر أو نحو ذلك، أو إذا أحس بقسوة قلبه فزارهم حتى يتعظ وحتى يلين قلبه أو نحو ذلك، ويجوز أن يخص قبر أبيه أو قبر أخيه أو قريبه أو نسيبه، فيجوز أن يزور ذلك القبر ثم يسلم على القبور جميعاً، ويجوز أن يعلم القبر بعلامات يعرف بها، فقد ثبت أنه عليه السلام لما دفن عثمان بن مظعون جعل عند قبره حجراً وقال: (أعرف به قبر أخي وأدفن إليه من مات من أهلي) ، فيجوز أن يجعل علامة كحجر أو لبنة أو خشبة أو نحو ذلك يتميز بها هذا القبر حتى يزوره ويعرفه، أما أن يكتب عليه فقد نهي أن يكتب عليه حتى ولو كتب اسمه، وكذلك نهي أن يرفع رفعاً زائداً عن غيره، فيجوز أن يجعل عليه علامة كحديدة أو قطعة بلاط أو ما أشبه ذلك لأجل التمييز فقط.(11/31)
توضيح قوله: (بحسب ما يظن أنه مناسب للكواكب من طباعها)
السؤال
ذكر في كتاب العقيدة أن من أسباب الشرك عبادة الكواكب واتخاذ الأصنام بحسب ما يظن أنه مناسب للكواكب من طباعها، فما المقصود بقوله: (بحسب ما يظن أنه مناسب للكواكب من طباعها) ؟
الجواب
يقولون: إن هناك من يعبد الكواكب، والذين يعبدونها يبنون هياكل، والهيكل هو الصورة التي يظنونها على صورة نجم أو نوء من الأنواء، ثم ينظرون إلى حركة ذلك النجم فيسندون إليه بعض التأثير، فيقولون: من طبيعة هذا النجم الحرارة، أو: من طبيعته البرودة، أو: من طبيعته الرطوبة، أو: من طبيعته الجفاف واليبس، أو ما أشبه ذلك، فإذا مطروا مطراً قالوا: هذا صدق نجم أو نوء كذا وكذا فيجعلون المطر من طبيعته، وإذا أصابتهم رياح قالوا: أثارها النجم الفلاني أو النوء الفلاني، وإذا ثارت سحب نسبوها إلى الأنواء.
فالطبائع هي إما شدة البرد، أو شدة الحر أو الجفاف واليبس وقلة الأمطار ونحوها، أو كثرة الأمطار، أو هبوب الرياح، أو إثارة السحب أو ما أشبه ذلك، فيزعمون أنها هي التي تثيرها هذه الكواكب ونحوها، ونسوا أن الله تعالى هو الذي يتصرف في الكون: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} [الأعراف:57] ، وهو الذي سخرها كما في قوله تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ} [النحل:12] ، فإذا كانت كلها مسخرات فكيف يكون لها تأثير؟! وكيف يكون لها طبائع تلائمها؟!(11/32)
إطلاق لفظ (الصانع) على الله تعالى
السؤال
نجد أن الشارح ابن أبي العز رحمه الله يطلق كلمة الصانع على الخالق، فهل هذه تجوز في حق الله سبحانه وتعالى؟
الجواب
هذه تجوز على وجه الصفة، فنعتقد أن الله هو الصانع بمعنى أنه المبدع الذي صنع الكون بذاته وأبدعه، فلذلك يكثر إطلاقها في الكتب، كما ذكر ذلك ابن كثير في تفسير الآية التي ذكرنا، وهي قوله تعالى: {اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة:21] ، وذكر ذلك أو أطلق ذلك شيخ الإسلام في عدة مواضع من الجزء الثاني من مجموع الفتاوى ونحو ذلك، فإطلاق الصانع معناه أنه وصف لله بأنه مبدع الكون.(11/33)
حكم الأموات قبل وصول الرسالة والأطفال يموتون قبل البلوغ
السؤال
أناس ماتوا بعد مجيء الإسلام ولكن قبل أن تصلهم الرسالة، فهل يعاملون معاملة الكافرين يوم القيامة أم لا؟ وما هو القول الفصل فيمن مات قبل البلوغ، هل يعامل معاملة أبويه أم يدخل الجنة مباشرة؟
الجواب
السؤال الأول يدخل فيه أهل الفترات، فهؤلاء على الصحيح أنهم يمتحنون في الآخرة، أعني أهل الفترات الذين ما بلغتهم الرسالة أو كانوا في زمنها ولكنه ما وصل إليهم خبرها وتفاصيلها، وكذلك الذين في أطراف البلاد ولم تصل إليهم تفاصيل الشريعة، يقولون: يا ربنا! ما جاءتنا الشريعة ولا علمنا بتفاصيلها فبقينا على جهل! فيمتحنون في الآخرة، ويروى أن الله يخلق أمامهم شبه نار ويقول: ادخلوها، فمن علم الله أنه سعيد دخلها وكانت عليه برداً، ومن علم الله شقاوته امتنع، فيقول الله: عصيت أمري فكيف لو جاءتك رسلي؟ أدخلوه النار.
وتجد الأدلة على ذلك في تفسير ابن كثير عند قوله تعالى في سورة الإسراء: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:15] ، حيث أورد مثل هذه الأحاديث.
وأما الذي مات قبل البلوغ فإن كان من أولاد المشركين فحكمه حكم أهل الفترات، وإن كان من أولاد المسلمين فإنه من أهل الجنة؛ حيث إنه نشأ بين أبوين مسلمين وفطرته فطرة الإسلام، وهو على ما عليه آباؤه وأهله، فأولاد المسلمين يكونون أفراطاً لهم ويدخلون معهم الجنة ويرفعون إلى منازل آبائهم، والأدلة على أن أفراط المؤمنين يتقدمونهم كثيرة، وعلى رفع الأولاد حتى يكونوا مساوين للآباء قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الطور:21] ، يعني رفعنا الأولاد إلى مرتبة الآباء تكريماً لهم.(11/34)
معنى دلالة التضمن
السؤال
مر في كلام المصنف قول: فعلم أن التوحيد المطلوب هو توحيد الألوهية الذي يتضمن توحيد الربوبية.
فهلا بينتم لنا دلالة التضمن؟
الجواب
كون الشيء في ضمن غيره يسمى تضمناً، فنقول: إنه لا يمكن أن يعبد الله بتوحيد الإلهية إلا أن يعترف بأن الرب هو الخالق المتصرف، وهو توحيد الربوبية، وتوحيد الربوبية في ضمن توحيد الإلهية، وتوحيد الربوبية كأنه الدافع إلى توحيد الإلهية، فالتضمن معناه الاشتمال عليه وكونه في ضمنه، يعني أن الأصل في التكليف أن الله أمرنا بتوحيد الإلهية، ولكن جعل توحيد الربوبية دليلاً عليه.(11/35)
فطرة الطفل ومدى دلالتها له على الاستقامة
السؤال
الرأي فيمن قال: إنه من ترك طفلاً في مكان ليس فيه أحد فإنه لا يستدل على الطريق السليم عن طريق فطرته؛ لأنه إذا تركته شياطين الإنس لم تتركه شياطين الجن؟
الجواب
قد يكون هذا، ولكن إذا لم يكن عنده من يدفعه دفعاً إلى البدع وإلى الشركيات فيوقفه عليها من الإنس لم يفعلها، ولكن على كل حال فالإنسان مسلط عليه في هذه الحياة أعداء من شياطين الإنس وشياطين الجن، وعليه أن يدفع شياطين الإنس بالمكافحة والدفع وشياطين الجن بالاستعاذة، ولكن الغالب والأصل أن الذي يكون في بلدة أو في ناحية ليس عنده من يضله أنه يبقى متحيراً ولكن فطرته باقية على الاستقامة.(11/36)
قسم التوحيد الذي تدخل فيه شهادة التوحيد
السؤال
قول (أشهد أن لا إله إلا الله) من أي أنواع التوحيد؟ وأي توحيد يعصم الدم والمال؟
الجواب
شهادة أن لا إله إلا الله هي توحيد الإلهية الذي هو الاعتقاد، وشهادة أن محمداً رسول الله هي مكملة لها وفيها الاتباع، فهي من توحيد الإلهية أو من توحيد العبادة، أي أن النطق بالشهادة بلفظ الإلهية من تكميل توحيد العبادة.(11/37)
علم الله تعالى والنسخ في القرآن
السؤال
كيف نرد على من يقول: بما أن الله عز وجل يعلم الأمور، فكيف يكون هناك ناسخ ومنسوخ في القرآن والله يعلم ذلك كله؟
الجواب
الله تعالى حكيم بأمره ونهيه، فينزل الحكم لمناسبة، فإذا زالت تلك المناسبة أبدله بغيره مما يناسب في وقت آخر غير الوقت الأول، فمثلاً أمرهم باستقبال بيت المقدس تأليفاً لليهود؛ لأنه قبلة الأنبياء من بني إسرائيل، ولما ظهر عنادهم أمرهم باستقبال الكعبة؛ لأنه لم يبق في ذلك مصلحة، فهذا الاستقبال في حال مناسبة وهذا الاستقبال في حالة مناسبة، وهكذا بقية الأحوال في الناسخ والمنسوخ.(11/38)
حكم الصور في الستائر ونحوها
السؤال
ما حكم وجود الصور من الحيوانات والأطفال وغيرها في ستائر المنزل أو ملابس الأطفال أو السجاد، علماً بأن ذلك غير مقصود؟
الجواب
ورد الأمر بهتكه لما دخل عليه الصلاة والسلام وقد سترت عائشة فرجة أو نافذة بقرام فيه تماثيل، فغضب لذلك وأمر بهتكه فشققته وجعلته وسادتين منبوذتين، فهذا دليل على أنها إذا كانت كالمنبوذ المستعمل الذي يعطى ويمتهن ويجلس عليه فذلك أخف، بخلاف ما إذا كانت منصوبة أمام الناظر كما في الستائر التي على الأبواب أو على النوافذ فإن هذا لا يجوز، وعلى كل حال فالأولى أنها لا تترك في الثياب ولا في السراويلات ولا في الفرش ولا في اللحف، ولكن إذا وجدت ولم يستطع تغييرها في اللحف والفرش ونحو ذلك من الأشياء المستعملة فهو أخف، وأما كونها في المنصوب الذي أمام الناظر فهذا لا يجوز بحال كما في هذه الأحاديث.(11/39)
تفسير قوله تعالى: (شهد الله)
السؤال
ما معنى قول الشارح: (وعبارات السلف في (شهد) تدور على الحكم) ، فما معنى (على الحكم) ؟
الجواب
يقول: إن كثيراً من الصحابة فسروا قوله تعالى: (شهد الله) بـ (حَكم الله) ، وبعضهم فسر (شهد الله) بـ (أخبر الله) ، وبعضهم فسرها بـ (أعلم الله) ، وبعضهم فسرها بـ (أمر الله) ، فقال بعضهم: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [آل عمران:18] أمر أن لا إله إلا هو، وقيل: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [آل عمران:18] حكم أن لا إله إلا هو، وقيل: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [آل عمران:18] أخبر أن لا إله إلا هو، فهي تدور حول هذه الأشياء.
فبعضهم فسر بكذا، وبعضهم فسر بكذا، والمعنى أن الآية تشهد لذلك كله.(11/40)
الفرق بين الخبر والإخبار
السؤال
ما الفرق بين مرتبة التكلم والخبر وبين مرتبة الإعلام والإخبار؟
الجواب
التكلم معناه أن يتكلم حتى يسمعه غيره، فبعد ما يعلم بقلبه يتكلم حتى يسمعه غيره، وأما الإخبار والإعلام فمعناه أن يعلم غيره بقوله: اعلموا أن الأمر كذا وكذا، فهنا أمر زائد على التكلم، وقد يتكلم ولا يقول: اعلموا.
ثم بعد ذلك يعلم غيره، وهنا تكلم للتذكر أو للحفظ، وهنا إخبار للناس وإعلام لهم.(11/41)
توضيح قوله: (فلفظ الحكم والقضاء يستعمل في الجملة الخبرية)
السؤال
قال المؤلف رحمه الله تعالى: (فلفظ الحكم والقضاء يستعمل في الجملة الخبرية) ، فما معنى ذلك؟
الجواب
إذا فسر قوله: {شَهِدَ اللَّهُ} [آل عمران:18] بـ (حكم الله) ، و {شَهِدَ اللَّهُ} [آل عمران:18] بـ (قضى الله) ، فإنه في هذا جملة خبرية بمعنى أخبر الله بكذا، ويلزمكم أن تقبلوا خبره.(11/42)
زيادة (ولا يرقون) في حديث التوكل وحكمها
السؤال
قرأنا في (كتاب التوحيد) للشيخ محمد بن عبد الوهاب في حديث السبعين أنهم: (لا يرقون) ، وقرأنا في (زاد المعاد) لـ ابن القيم أن الرسول صلى الله عليه وسلم رقى أحد أصحابه وقال بعض الأدعية، فهل فعله صلى الله عليه وسلم نسخ لما ورد في الحديث، أم أنه من الأفعال الخاصة به؟
الجواب
أنا قرأت كتاب التوحيد ولم أجد فيه هذه الكلمة، وهي كلمة (لا يرقون) ، وهذا السائل إذا كان قد وجدها فيمكن أن هذه نسخة غير معتمدة، والرواية التي قرأناها في كتاب التوحيد فيها (لا يسترقون) ، في قوله صلى الله عليه وسلم: (هم الذين لا يسترقون ولا يكتوون ولا يتطيرون) ، وإذا كان في بعض النسخ (لا يرقون) فيمكن أنها أخذت من رواية ضعيفة؛ وذلك لأن الحديث موجود في الصحيحين في بعض رواياته: (لا يرقون ولا يسترقون) ، ولكن صحح العلماء أن كلمة: (لا يرقون) خطأ من بعض الرواة، وأن الصواب (لا يسترقون) .
فكونك ترقي غيرك وتنفع غيرك لا مضرة عليك في ذلك وقد نفعت غيرك، وأما كونك تطلب من غيرك أن يرقيك فإن ذلك دليل على ضعف التوحيد، ودليل على أنك ما وثقت بالتوكل على الله، والراقي يجوز أن يرقي غيره، ولكن يكره له أن يطلب من يرقيه.(11/43)
كيفية التقاء النبي صلى الله عليه وسلم بالأنبياء عليهم السلام في السماء
السؤال
جاء في حديث الإسراء والمعراج أن الرسول صلى الله عليه وسلم لقي بعض الأنبياء والرسل كموسى وهارون ويوسف وإبراهيم وعيسى، فهل لقيهم حقيقة، أو أنهم مثلوا له لكونهم أمواتاً؟ وماذا عن عيسى هل هو مثلهم في هذا؟
الجواب
لا شك أنهم مثلوا له، وأرواحهم -بلا شك- في السموات، ولكن قد ذكر في بعض الأحاديث أنهم قبروا في الأرض، وأخبر بقبر موسى، وأن موسى لما أتاه الموت سأل ربه أن يدنيه إلى الأرض المقدسة رمية بحجر، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فلو كنت ثم لأريتكم قبره) ، وتواتر أيضاً أن قبر إبراهيم الخليل عليه السلام موجود في (سيناء) أو قريباً منها، فهم مقبورون في الأرض، ولكن أرواحهم -بغير شك- في السماء، ومثلت أجسادهم له وقيل: هذا فلان وهذا فلان.
وأما عيسى فقد ذكر الله أنه رفعه ولم يذكر أنه دفن في الأرض، فلعل جسده في السماء، ولا يحسب ذلك من عمره، حيث ذكر في الأحاديث أنه سينزل حتى يتمم بقية عمره.(11/44)
أطفال المسلمين وحكمهم في الآخرة
السؤال
ما الرأي في حديث عائشة رضي الله عنها عندما مات أحد أطفال جيرانها فقالت: هنيئاً لكم من طيور الجنة، فقال لها الرسول صلى الله عليه وسلم: (وما يدريك أنه من أهلها؟) ، فهل فيه تناقض مع ما قلته من أن أطفال المسلمين يدخلون الجنة؟
الجواب
الحديث فيه أنه عليه الصلاة والسلام دعي للصلاة على طفل فقالت: (طوبى له عصفور من عصافير الجنة، فقال صلى الله عليه وسلم: وما يدريك! إن الله خلق للجنة أهلاً، خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم) إلى آخره.
فهو عليه الصلاة والسلام ينهى أن يجزم أحد لأحد بجنة أو نار، ويقول: إن العلم عند الله تعالى، فالله هو الذي يعلم مقادير الخلائق، وهو الذي يقدر آجالهم وهو الذي يعلم ما خلق له هذا، وماذا يكون عليه.
واعتقادنا أن أولاد المسلمين مع آبائهم لأنهم تبع لهم، ولكن حكمنا على الآباء هو الذي نتوقف فيه، فالله أعلم ماذا عليه الآباء، وعلى كل حال فلا ينافي هذا الحكم بأن أولاد المؤمنين مع آبائهم وأنهم الذين يجتذبونهم، كما ورد في كثير من الأحاديث أن أباه ينتظره أو أنه ينتظر أباه وأن الأطفال يرجحون ميزان آبائهم ونحو ذلك.(11/45)
الحلف والاستغاثة بغير الله تعالى
السؤال
إنسان يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويصلي ويصوم، ولكنه يحلف بغير الله، وقد يستغيث بغير الله إما بالشيوخ أو الأولياء والأنبياء، أينقض ذلك التوحيد ويدخله في الشرك الأكبر؟
الجواب
الحلف بغير الله من أنواع الشرك ولكنه من الشرك الأصغر، ويرجع إلى نية الحالف، فإذا كان يعتقد أن ذلك المحلوف يستحق التعظيم الذي يبجل به حتى يعظم ويحلف به كما يحلف بالله فهذا أكبر، وإذا كان له نوع تعظيم فهو من الأصغر.
أما الاستغاثة بغير الله فمعلوم أنها من الأكبر؛ وذلك لأن الاستغاثة دعاء من مكروب، فالدعاء من الإنسان إذا وقع في كرب وفي شدة يسمى استغاثة، والإنسان عندما يصيبه الكرب يلجأ إلى الرب تعالى، والمشركون إذا أصابهم الكرب في البحر لجئوا إليه، قال تعالى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء:67] ، فإذا كان المشركون في لجة البحر لا يذكرون إلا ربهم، فالذي يذكر غير الله ويستغيث بغير الله في حالة الشدائد أكبر شركاً من المشركين الأولين الذين نزل فيهم القرآن والذين كفرهم الله تعالى وقاتلهم النبي عليه الصلاة والسلام، فيسأل هذا المستغيث هل هو يقول: يا ولي الله! أغثني فأنا في ذمتك، ولا حول لي إلا أنت، ولا أحد ينجيني إلا أنت، وأنا معتمد عليك، يا ولي الله! أنجني مما أنا فيه، فمن الذي ينجيني؟ وإذا كان في البحر وتلاطمت به الأمواج أخذ يقول كقول الرافضة: يا علي أو: يا حسين نجنا! من الكرب.
أو ما أشبه ذلك، أو يقول: يا عبد القادر يا جيلاني، أو: يا بدوي، أو ما أشبه ذلك، فلا شك أن هذا شرك أكبر، فهذا معنى الاستغاثة، فإذا كان هذا المسئول عنه يفعل مثل هذا فهو من الشرك الأكبر.(11/46)
تفسير النظر والقصد بالنظر والشك
السؤال
أرجو شرح هذه العبارة شرحاً وافياً، وهي قول المؤلف: (ولهذا كان الصحيح أن أول واجب يجب على المكلف شهادة أن لا إله إلا الله لا النظر، ولا القصد إلى النظر، ولا الشك) ، فما المقصود بالنظر، والقصد إلى النظر، والشك؟
الجواب
هذه تقدمت في أول الكتاب، وذكرنا أن أول واجب العمل، ولكن العمل مسبوق بالعلم، فالعلم هو الشهادة بيقين ومعرفة، فأول واجب على الإنسان أن يعلم ثم يعمل، وذهبت الصوفية وبعض المتكلمين إلى أن أول واجب عليه النظر، والنظر أن يبدأ بالنظر فيما بين يديه وفيما خلفه من المخلوقات، أن ينظر بنفسه وينظر في الذي بين يديه من السماء والأرض ونحو ذلك، ثم بعد ذلك يظهر بنتيجة من هذا النظر، وهذا قول باطل، بل أول واجب العلم مع العمل.
وذهب بعضهم إلى أن أول واجب القصد إلى النظر، والقصد بمعنى نية النظر، أي: أن ينوي أن ينظر وينوي أنه سوف ينظر في هذه المخلوقات وفي دلالتها، وهذا أيضاً باطل، فالقصد يعني نية النظر، وليس بواجب، بل الواجب القبول والتقبل والعمل.
وذهب آخرون إلى أن أول واجب الشك، فإذا عقل وكلف وتم عقله يشك، ثم بعد ذلك يتحير في أمره، ثم بعد ذلك يطلب ما يزيل به ذلك الشك، فيقول: أنا أشك وأنا في حيرة من أمري، ولكن بأي وسيلة أدفع هذا الشك؟ فيسأل وينظر ويستدل إلى أن يتبدل الشك باليقين، وهذه مقامات ومقالات صوفية لا يلتفت إليها، بل أول واجب هو ما ذكره من العلم والعمل.(11/47)
معنى الآيات الأفقية والنفسية ومعنى اسم الله (المؤمن)
السؤال
نريد منكم توضيح هذه العبارة، (استدلاله بالآيات الأفقية والنفسية استدلال بأفعاله ومخلوقاته) ، وكذا في تفسير اسم الله (المؤمن) أنه: (المصدق الذي يصدق الصادقين بما يقيم لهم من شواهد صدقهم) ؟
الجواب
معلوم أن الاستدلال بالآيات مما يثبت الدليل، والله تعالى قد نصب الآيات ليستدل بها العباد على معرفة ربهم، والآيات هنا يراد بها الآيات الكونية والآيات النفسية.
فالآيات الكونية هي المخلوقات التي في الكون، يقول الله تعالى: انظروا في هذه الآيات لتعتبروا، انظروا في خلق السماء وارتفاعها، وانظروا في تصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض، وانظروا في هذه الأرض وما فيها من النبات وما فيها من الحيوانات، وانظروا في هذه البحار وما احتوت عليه، وما أشبه ذلك.
فالنظر يعني الاعتبار ليكون دليلاً إلى اليقين فيقوي الإيمان.
كذلك الآيات النفسية، الله تعالى يقول: {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذاريات:21] يعني: في أنفسكم آيات.
فإن الإنسان لو فكر في نفسه لزالت عنه الشكوك والتوهمات؛ فإن نفس الإنسان فيها أعظم عبرة وأعظم آية على أنه مخلوق مكون، فإذا فكر في أول أمره كيف كان نطفة ثم تقلبت به الأحوال إلى أن أصبح رجلاً سوياً، ثم ينظر إلى أن حواسه كاملة وحاجاته كاملة؛ فإن ذلك -بلا شك- مما يلفت نظره ويوضح له أمره أنه مخلوق وأن له خالقاً، قال تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} [الطور:35] .
وأما الاستدلال بأنه سبحانه من أسمائه (المؤمن) الذي يصدق عباده، فهذا التصديق يكون في يوم القيامة أو في الدنيا، فيصدق عباده الرسل بما يقيم على أيديهم من الآيات والمعجزات، ويصدق عباده المؤمنين في الآخرة بأن يثيبهم ويظهر بذلك صدقهم ونصحهم لأممهم.(11/48)
معنى الخواص
السؤال
يقول الشارح: [والقرآن مملوء من هذه الطريق، وهي طريق الخواص يستدلون بالله على أفعاله وما يليق به أن يفعله وما لا يفعله] ، فمن هم الخواص؟
الجواب
هم العارفون بالله وبآياته، وهم الذين رزقهم الله معرفة ثاقبة يستدلون بآيات الله على قدرته، ويستدلون بأفعاله على كماله، فينظرون في هذه المخلوقات ويأخذون منها القدرة على أنه سبحانه متصف بأتم الصفات، وبأن له الصفات العلى وله الأسماء الحسنى.(11/49)
حديث افتراق الأمة
السؤال
في حديث افتراق الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة، هل هذه الفرق تعد من المسلمين أو خارجة عن الإسلام؟
الجواب
ظاهر الحديث أنهم ليسوا من المسلمين، وأنهم فرق خارجة عن الإسلام، ولو حسبنا بعضهم بأنهم مسلمون؛ لأنه قال: (كلها في النار إلا واحدة) ، فدل على أن تلك الفرق ضالة مخطئة، وأن الفرقة الناجية واحدة، ولكن مع ذلك فإن في تلك الفرق من هو معذور، وهذا إذا جعلنا الفرق متفرعة عن أمة الدعوة.
وأما إذا جعلناها فرقاً لأمة الإجابة فإن الجميع يصيرون من المسلمين وتحت مشيئة الله تعالى ويكون هذا من أحاديث الوعيد.(11/50)
أيهما أضر بالإسلام الجهمية أم الرافضة؟
السؤال
أيهما أشد على الإسلام الجهمية أم الرافضة؟
الجواب
لكل من الجهمية والرافضة ميزة تتميز بها عن الأخرى: فالجهمية ميزتها التي وقعت فيها أن الجهم بن صفوان ابتدع ثلاث بدع: بدعة التعطيل، وبدعة الجبر، وبدعة الإرجاء، فهو يقول بأن العباد مجبرون على الأفعال، وهو يقول بالإرجاء، فيغلب جانب الرجاء، وهو مع ذلك ينفي الصفات، فكانت الجهمية قد جمعت هذه البدع الثلاث، ولا شك أن هذا أشد كفراً من كفر الرافضة، ولكن من قرأ كتب الرافضة وجد أغلبهم جهمية، فيكونون قد جمعوا بين البدعتين، فأخذوا بدعة الجهمية وزادوا عليها بسب الصحابة وبتكفير الخلفاء الراشدين وبتضليل الصحابة وتخطئتهم، وزادوا أيضاً -أو زاد متأخروهم- بعبادة أهل البيت ودعائهم مع الله تعالى زيادة على الغلو، فالذين يجمعون هذا مع هذا لا شك أنهم أشد كفراً، أخذوا بدعة الجهمية وزادوا عليها هذه البدعة.(11/51)
الاتفاق بين الخالق والمخلوق في الاسم والصفة ودلالته
السؤال
إذا اتفق اسم أو صفة للخالق مع المخلوق فهل نقول: إن الاتفاق في المسمى، والاختلاف في المعنى والمدلول؟
الجواب
متفقان في الاسم ومتفقان في المعنى العام، ومختلفان في الكيفية والمدلول، فإذا قلنا مثلاً: إن الله يسمع وإن المخلوق يسمع فالسمع هو إدراك الأقوال، وهذا فيه اتفاق، وإذا قلنا: إن الله تعالى له سمع وللمخلوق سمع فمعلوم أن سمع الله ليس كسمع المخلوق بل بينهما تفاوت، فهما متفقان في الاسم، ومتفقان في المعنى العام، وأما الكيفية والصفة فإن بينهما تفاوتاً.(11/52)
الإجمال في التشبيه
السؤال
ما معنى قول المؤلف رحمه الله: (ولكن لفظ التشبيه قد صار في كلام الناس لفظاً مجملاً يراد به المعنى الصحيح) ؟
الجواب
يعني كلمة (التشبيه) ، فأهل السنة يريدون بها المعنى الصحيح، والمعتزلة يريدون بها نفي الصفات، فأهل السنة يريدون بكلمة (ليس لله شبيه) أن ننفي عن الله التشبيه، وصحيح قصدهم، فيقولون: إن الله لا يشبه شيئاً من مخلوقاته ولا تشبهه المخلوقات، وهذا معنىً صحيح، وتارة يراد به المعنى الباطل وهو نفي الصفات؛ فإن المعتزلة يقولون: ليس لله سمع، فمن أثبته فهو مشبه، وليس لله علم، فمن أثبته فهو مشبه، فإثبات السمع عندهم تشبيه، وإثبات القدرة عندهم تشبيه، وإثبات الحياة تشبيه، وإثبات الكلام تشبيه، فصار لفظ التشبيه لفظاً مجملاً، فتارة يراد به المعنى الصحيح، وتارة يراد به المعنى الباطل.(11/53)
شرح العقيدة الطحاوية [12]
من المسائل التي اشتد الخلاف فيها مسألة وجود حوادث لا أول لها، والإعراض عن الكلام في مثل هذه المسألة خير من الخوض فيها، ولكن تعرض لها العلماء لبيان ضلال الفلاسفة والملحدين.(12/1)
الكلام على مسألة حوادث لا أول لها
قال تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ * فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران:18-20] .
نقرأ في هذه العقيدة التي كتبها هذا الإمام لبيان ما يجب أن يعتقده المسلم، وبيان الرد على بعض المبتدعة الذين أنكروا شيئاً من صفات الله تعالى أو أنكروا صفاته، وكذلك الرد على من أنكر القدر أو عموم قدرته، وسائر المبتدعين الذين أحدثوا بدعاً تتعلق بالعقيدة، والتي شرحها أو وفق لشرحها هذا العالم الذي تقيد بمذهب السلف واختار ما عليه أئمة العلم وعلماء المسلمين، وإن كان قد استطرد وذكر شيئاً من حجج أهل الكلام ومن شبهاتهم وما قصد إلا حكايتها ثم تعقيبها والرد عليها.
ويمر بنا في هذا الشرح عبارات من عبارات أهل الكلام قد يصعب فهمها لأول مرة، ولكن معلوم أن القصد من إيرادها مناقشة المستدلين بها حيث إنهم يعتقدونها أدلةً واضحة وبراهين قوية وحججاً قاطعة على ما هم عليه من إنكار الأمور التي جاءت بها السنة ونطق بها الكتاب وتتابع عليها أئمة العلم واعترفوا بها وأقروا بها، فجاء أولئك المبتدعة وضللوا من اعتقدها وصاروا يبدعونهم، ويحتجون على بدعهم بأنواع من الشبهات.
وذلك مثلما مر بنا من قولهم إنه لا تقوم به الحوادث، ويستدلون بذلك على أنه ليس له صفات، وأن صفات الفعل تحدث شيئاً فشيئاً.
ومثله كلامهم في التسلسل في القدم، والتسلسل في الأزل وفي الأبد وما أشبه ذلك، والقصد منها مناقشة أدلتهم، وسيمر بنا في أثناء الكتاب كلام فيه الفائدة إن شاء الله وفيه المعرفة، وبالأخص فيما يتعلق بعموم معتقد أهل السنة، سواء في الأسماء والصفات، أو في القرآن وكلام الله عز وجل، أو في البعث والنشور، أو في الإيمان والأحكام، أو في الصحابة وما يقال فيهم، أو في الأمور الغيبية وما أشبهها.
ويمر بنا -إن شاء الله- ما إذا اعتقده المسلم عرف نعمه الله عليه حيث وفقه لهذا المعتقد السليم الذي تؤيده السنة ودرج عليه السلف، والذي تقره العقول والفطر السليمة وإن أنكرته تلك الفطر الزائغة والقلوب المنحرفة، فلا عذر لمن أنكره واعتمد على العقل.
وكان من جملة ما مر بنا أن الله سبحانه وتعالى قديم بصفاته، وأنه لم يحدث له صفة قد كانت معدومة ولا اسم قد كان معدوماً، وأنه سبحانه لم يكن معطلاً عن الأفعال، بل هو فاعل في كل وقت وحال، وأن أسماءه قد تسمى بها قبل أن توجد الموجودات وبعدما وجدت الموجودات، فهو له اسم (الخالق) قبل أن يوجد الخلق الذين خلقهم، ومن أسمائه (البارئ) قبل أن يوجد من برأهم، ومن أسمائه (الرازق أو الرزاق) قبل أن يوجد خلق يرزقهم، ومن أسمائه (الرحيم) قبل أن يخلق من يرحمهم، ولكن يعرف بذلك أنه سبحانه لم يزل يرحم ويعطي ويمنع ويخلق ما يشاء ويحيي ويميت، فأسماؤه قديمة وأفعاله قديمه، وكذلك سائر صفاته.
والقصد من معرفة هذا كله أن يرغب الإنسان إليه ويدعوه بتلك الأسماء، فدعاؤه بتلك الأسماء كأن يدعوه باسم (الرزاق أو الرازق) ليرزقه، وباسم (الرحمن) ليرحمه، وباسم (العزيز) ليعزه أو لينتقم ممن عاداه؛ فإنه العزيز الذي لا يغالب، وهكذا بقية أسمائه، على أنه متى اعتقد مضمون تلك الأسماء وآثارها عظم قدر ربه في قلبه فعبده وحده وخافه ورجاه واعتمد عليه، واتخذه حسيباً ووكيلاً وأعرض بقلبه وقالبه عن غيره، فأصبح بذلك من الذين عرفوا ربهم حق المعرفة وعبدوه حق العبادة.
فهذه من نتائج معرفة هذه المعتقدات التي تتعلق بالأسماء والصفات.(12/2)
حديث عمران بن حصين ودلالته
[والقول بأن الحوادث لها أول، يلزم منه التعطيل قبل ذلك، وأن الله سبحانه وتعالى لم يزل غير فاعل، ثم صار فاعلاً.
ولا يلزم من ذلك قدم العالم، لأن كل ما سوى الله تعالى محدث ممكن الوجود، موجود بإيجاد الله تعالى له، ليس له من نفسه إلا العدم والفقر، والاحتياج وصف ذاتي لازم لكل ما سوى الله تعالى، والله تعالى واجب الوجود لذاته، غني لذاته، والغنى وصف ذاتي لازم له سبحانه وتعالى] .
[وللناس قولان في هذا العالم: هل هو مخلوق من مادة أم لا؟ واختلفوا في أول هذا العالم ما هو؟ وقد قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} [هود:7] .
وروى البخاري وغيره عن عمران بن حصين رضي الله عنه، قال: (قال أهل اليمن لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (جئناك لنتفقه في الدين، ولنسألك عن أول هذا الأمر، فقال: كان الله ولم يكن شيء قبله، -وفي رواية: (ولم يكن شيء معه) وفي رواية: (غيره) - وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر كل شيء، وخلق السموات والأرض) وفي لفظ: (ثم خلق السموات والأرض) ، فقوله: (كتب في الذكر) ، يعني: اللوح المحفوظ، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ} [الأنبياء:105] سمى ما يكتب في الذكر ذكراً، كما يسمى ما يكتب في الكتاب كتاباً.
والناس في هذا الحديث على قولين، منهم من قال: إن المقصود إخباره بأن الله كان موجوداً وحده، ولم يزل كذلك دائماً، ثم ابتدأ إحداث جميع الحوادث، فجنسها وأعيانها مسبوقة بالعدم، وأن جنس الزمان حادث لا في زمان، وأن الله صار فاعلاً بعد أن لم يكن يفعل شيئاً من الأزل إلى حين ابتداء الفعل ولا كان الفعل ممكناً.
والقول الثاني: المراد إخباره عن مبدأ خلق هذا العالم المشهود الذي خلقه الله في ستة أيام، ثم استوى على العرش، كما أخبر القرآن في غير موضع.
وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (قدر الله تعالى مقادير الخلق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء) .
فأخبر صلى الله عليه وسلم أن تقدير هذا العالم المخلوق في ستة أيام كان قبل خلقه بخمسين ألف سنة، وأن عرش الرب تعالى كان حينئذ على الماء] .
[ودليل صحة هذا القول الثاني من وجوه: أحدها: أن قول أهل اليمن: (جئناك لنسألك عن أول هذا الأمر) ، وهو إشارة إلى حاضر مشهود موجود، والأمر هنا بمعنى المأمور، أي: الذي كونه الله بأمره، وقد أجابهم النبي صلى الله عليه وسلم عن بدء هذا العالم الموجود، لا عن جنس المخلوقات، لأنهم لم يسألوه عنه، وقد أخبرهم عن خلق السموات والأرض حال كون عرشه على الماء، ولم يخبرهم عن خلق العرش، وهو مخلوق قبل خلق السموات والأرض.
وأيضاً فإنه قال: (كان الله ولم يكن شيء قبله) ، وقد روي (معه) ، وروي (غيره) ، والمجلس كان واحداً، فعلم أنه قال أحد الألفاظ، والآخران رويا بالمعنى، ولفظ (القَبْل) ثبت عنه في غير هذا الحديث.
ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول في دعائه: (اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء) الحديث.
واللفظان الآخران لم يثبت واحد منهما في موضع آخر، ولهذا كان كثير من أهل الحديث إنما يرويه بلفظ (القَبْل) ، كـ الحميدي والبغوي وابن الأثير.
وإذا كان كذلك لم يكن في هذا اللفظ تعرض لابتداء الحوادث، ولا لأول مخلوق.
وأيضاً فإنه قال: (كان الله ولم يكن شيء قبله -أو (معه) أو (غيره) - وكان عرشه على الماء وكتب في الذكر كل شيء) .
فأخبر عن هذه الثلاثة بالواو، و (خلق السموات والأرض) روي بالواو وبثم] .
قال رحمه الله تعالى: [فظهر أن مقصوده إخباره إياهم ببدء خلق السماوات والأرض وما بينهما، وهي المخلوقات التي خلقت في ستة أيام، لا ابتداء خلق ما خلقه الله قبل ذلك، وذكر السماوات والأرض بما يدل على خلقهما، وذكر ما قبلهما بما يدل على كونه ووجوده، ولم يتعرض لابتداء خلقه له، وأيضا فإنه إذا كان الحديث قد ورد بهذا وهذا فلا يجزم بأحدهما إلا بدليل، فإذا رجح أحدهما فمن جزم بأن الرسول أراد المعنى الآخر فهو مخطئ قطعا، ولم يأت في الكتاب ولا في السنة ما يدل على المعنى الآخر، فلا يجوز إثباته بما يظن أنه معنى الحديث، ولم يرد (كان الله ولا شيء معه) ، مجرداً، وإنما ورد على السياق المذكور، فلا يظن أن معناه الإخبار بتعطيل الرب تعالى دائما عن الفعل حتى خلق السماوات والأرض، وأيضا فقوله صلى الله عليه وسلم: (كان الله ولاشيء قبله أو معه أو غيره، وكان عرشه على الماء) ، لا يصح أن يكون المعنى أنه تعالى موجود وحده لا مخلوق معه أصلا؛ لأن قوله: (وكان عرشه على الماء) ، يرد ذلك؛ فإن هذه الجملة -وهي: (وكان عرشه على الماء) - إما حالية أو معطوفة، وعلى كلا التقديرين فهو مخلوق موجود في ذلك الوقت، فعلم أن المراد: ولم يكن شيء من هذا العالم المشهود] .
يتكلم المصنف على أحاديث عمران بن حصين لما جاء أهل اليمن يسألون عن أول هذا الأمر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (كان الله ولم يكن شيء قبله، وكان عرشه على الماء، ثم خلق السماوات والأرض وكتب في الذكر كل شيء) ، أخبر في هذا أن الله تعالى هو الأول ولم يكن شيء قبله، وذلك تحقيق للأولية المذكورة في الآية: {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ} [الحديد:3] ، فلم يكن شيء قبله، وهذا لا يدل على أنه تعالى كان معطلاً عن الأفعال لم يكن يخلق، بل يدل على أنه خالق، فإنه ذكر أن عرشه على الماء دليل على أنه قد خلق العرش، وأنه قد خلق الماء، وأنه قد خلق مخلوقات قد تكون موجودة وقد تكون معدومة، فلا بد أن يكون خالقاً، فالله تعالى لم يكن معطلاً عن الخلق، ويعتقد المسلمون أن الله تعالى قديم، وأنه قديم بأفعاله، وأنه الذي ليس قبله شيء، وأن من أعظم مخلوقاته العرش، وقد ورد في عظم العرش ما يدل على أنه أقدم وأعظم أو من أعظم المخلوقات، فقد ذكر الله سعة كرسيه في قوله تعالى: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ} [البقرة:255] ، وقيل: إن الكرسي كالمرقاة بين يدي العرش، فالكرسي قد وسع السماوات والأرض مع عظم السماوات ومع عظم الأرض.
وورد في بعض الآثار أن السماوات والأرض في الكرسي كدراهم سبعة ألقيت في ترس، والترس: هو المجن الذي يلبس على الرأس وما عسى أن تغطي الدراهم السبعة، فالدرهم قطعة من الفضة صغيرة بقدر الظفر أو نحوه، فماذا تغطي من ذلك الترس؟ فالسماوات السبع والأرضون السبع في الكرسي هذا مقدارها منه، والكرسي صغير أيضاً بالنسبة إلى العرش، كما ورد أن الكرسي نسبته إلى العرش كحلقه ملقاة بأرض فلاة، والحلقة: القطعة من الحديد ملتقية الطرفين.
فإذا ألقيت حلقة في فلاة فماذا تشغل من تلك الفلاة؟ فالكرسي صغير بالنسبة إلى العرش، فهو كحلقة ملقاة بأرض فلاة، فهذا دليل على عظم هذا الكرسي ثم عظم هذا العرش، وإذا كان هذا عظمه فإنه مخلوق، فالعرش مخلوق ليس قديماً، بل هو مخلوق، وإذا كان هذا عظم هذا المخلوق فما ظنك بعظمة الخالق؟ والله تعالى قد ذكر أنه يقبض المخلوقات في قوله تعالى: {وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر:67] ، وذكر ابن عباس أن السماوات والأرض في كف الرحمن كحبة خردل في يد العبد.
وماذا تشغل حبة الخردل في يد عبد؟ وكل ذلك دليل على عظمة الخالق، ولا شك أن من اعتقد عظمته وكبرياءه خافه وهابه وعبده حق العبادة، ولكن لا ينبغي الخوض في الأمور الغيبية التي ليس عليها دليل وبرهان، والتي يؤدي الخوض فيها إلى حيرة وإلى شك، وكثيراً ما يشتكي بعض النساء وبعض الرجال أنهم يلاقون حيرة ويلاقون شكاً وتأتيهم وساوس إذا بحثوا في مثل هذه الأمور، فقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر عند ذلك بالاستعاذة من الشيطان وبالإيمان بالله، فإذا وقعت في قلب الإنسان هذه الأوهام وهذه التشكيكات فإنما عليه أن يقول: آمنت بالله، وأن يستعيذ بالله من الشيطان، وأن يقبل كل ما جاءه عن الله، وأن يتقبل ذلك كله، ويبعد عنه كل ما يجلب حيرة أو وهماً أو وسوسة أو نحو ذلك، فيقطعها ويجعل حديث نفسه وخوضه وخوضها في الشيء الذي ينفعه، ويؤمن بالإجمالات التي أخبر الله بها عنه حتى يكون بذلك مطمئن القلب.(12/3)
اتصاف الله تعالى بالربوبية والخلق قبل وجود متعلقهما
قال المؤلف رحمه الله: [قوله: (له معنى الربوبية ولا مربوب ومعنى الخالق ولا مخلوق) .
يعني أن الله تعالى موصوف بأنه الرب قبل أن يوجد مربوب وموصوف بأنه خالق قبل أن يوجد مخلوق، قال بعض المشايخ الشارحين: وإنما قال: له معنى الربوبية ومعنى الخالق دون الخالقية؛ لأن الخالق هو المخرج للشيء من العدم إلى الوجود لا غير، والرب يقتضي معاني كثيرة، وهي: الملك والحفظ والتدبير والتربية وتبليغ الشيء كماله بالتدريج، فلا جرم أتى بلفظ يشمل هذه المعاني وهي الربوبية.
انتهى، وفيه نظر؛ لأن الخلق يكون بمعنى التقدير أيضاً] .
هذا مثل ما سبق قبله أن الله تعالى من أسمائه (الخالق) قبل أن يوجد المخلوقون، ومن أسمائه (الرازق) قبل أن يوجد المرزوقون، فمن صفاته (الربوبية) قبل أن يوجد المربوبون ومن صفة أسمائه (الخالق) قبل أن يأتي أو يوجد المخلوقون، وله معنى ذلك.
ولا شك أن الربوبية تقتضي أنه الرب بمعنى (المالك) ، وتقتضي أنه الرب بمعنى (المربي) الذي يربي خلقه بالنعم أو الذي يربيهم بالعلوم ويفتح عليهم المعارف، فالكل من حق الله تعالى أنه الرب، بمعنى المالك المنعم المتصرف المربي المتفضل على خلقه، وكذلك الخالق، فالخالق بمعنى المنشئ للخلق المبتدئ لهم على غير مثال سابق، وكل ذلك له وحده.(12/4)
اتصاف الله تعالى بإحياء الموتى وخلق الخلق
قال المؤلف رحمه الله: [قوله: (وكما أنه محيي الموتى بعد ما أحيا استحق هذا الاسم قبل إحيائهم، كذلك استحق اسم الخالق قبل إنشائهم) .
يعني أنه سبحانه وتعالى موصوف بأنه محيي الموتى قبل إحيائهم، فكذلك يوصف بأنه خالق قبل خلقهم، إلزاما للمعتزلة ومن قال بقولهم، كما حكينا عنهم فيما تقدم، وتقدم تقرير أنه تعالى لم يزل يفعل ما يشاء] .
ويعتقد المسلم أن الله تعالى يفعل ما يشاء، فإن من صفاته أنه يحيي ويميت، فمن شاء أحياه ومن شاء أماته، ومن شاء رزقه، ومن شاء أفقره ومن شاء أغناه، يعطي من يشاء ويمنع، ويخفض من يشاء ويرفع، ويعز من يشاء ويذل، وهذه الأوصاف التي هي من صفاته هي أيضاً قديمة، بمعنى أنه موصوف بها أزلاً، أي: أن من أسمائه المحيي قبل أن يخلق الذين يحييهم، وكذلك المميت، وكذلك المعطي والمانع والخافض والرافع وما أشبه ذلك.
والقصد من معرفة هذه الأسماء أن يعرف العبد أنها لله تعالى فيرغب إليه أن يعزه، ويعلم أن من أذله الله فلا معز له.
ويرغب إليه أن يرفع قدره، ويعرف أن من خفضه الله فلا رافع له.
ويرغب إليه بالهداية، ويعلم أن من يضلل الله فما له من هاد، وهكذا بقية الصفات.
وذلك أن هناك فرقاً من المبتدعة كالمعتزلة الذين يعتقدون أنه لا يفعل إلا ما يقدر عليه، وأن العبد يفعل بغير قدرة الله -تعالى الله عن قولهم-، وأن العبد هو الذي يفعل باختياره وهو الذي يهدي نفسه ويضل نفسه، ولا شك أن هذا فيه اعتراض على الله وحجر لصفته، وأنه لا يفعل أو لا يقدر إلا على ما يقدر عليه بدون بعض الأشياء التي لا يقدر عليها، فالله تعالى قد وصف نفسه بعموم القدرة في قوله تعالى: {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [المائدة:120] ، وسيأتينا هذا إن شاء الله.(12/5)
عموم قدرته تعالى وضلال المعتزلة
قال المؤلف رحمه الله: [قوله: (ذلك بأنه على كل شيء قدير، وكل شيء إليه فقير، وكل أمر عليه يسير، لا يحتاج إلى شيء {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] ) ] .
قال الشارح: (ذلك) إشارة إلى ثبوت صفاته في الأزل قبل خلقه والكلام على (كل) وشمولها، وشمول (كل) في كل مقام بحسب ما يحتف به من القرائن يأتي في مسألة الكلام إن شاء الله تعالى.
وقد حرفت المعتزلة المعنى المفهوم من قوله تعالى: {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة:284] ، فقالوا: إنه قادر على كل ما هو مقدور له، وأما نفس أفعال العباد فلا يقدر عليها عندهم، وتنازعوا: هل يقدر على مثلها أم لا؟! ولو كان المعنى على ما قالوا لكان هذا بمنزلة أن يقال: هو عالم بكل ما يعلمه وخالق لكل ما يخلقه ونحو ذلك من العبارات التي لا فائدة فيها، فسلبوا صفة كمال قدرته على كل شيء.
وأما أهل السنة فعندهم أن الله على كل شيء قدير، وكل ممكن فهو مندرج في هذا، وأما المحال لذاته مثل كون الشيء الواحد موجودا معدوما في حال واحدة فهذا لا حقيقة له ولا يتصور وجوده، ولا يسمى شيئا باتفاق العقلاء، ومن هذا الباب خلق مثل نفسه وإعدام نفسه وأمثال ذلك من المحال.
وهذا الأصل هو الإيمان بربوبيته العامة التامة؛ فإنه لا يؤمن بأنه رب كل شيء إلا من آمن أنه قادر على تلك الأشياء، ولا يؤمن بتمام ربوبيته وكمالها إلا من آمن بأنه على كل شيء قدير، وإنما تنازعوا في المعدوم الممكن هل هو شيء أم لا؟ والتحقيق: أن المعدوم ليس بشيء في الخارج، ولكن الله يعلم ما يكون قبل أن يكون ويكتبه، وقد يذكره ويخبر به، كقوله تعالى: {إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} [الحج:1] ، فيكون شيئا في العلم والذكر والكتاب لا في الخارج، كما قال تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82] ، قال تعالى: {وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا} [مريم:9] أي: لم تكن شيئا في الخارج وإن كان شيئا في علمه تعالى، وقال تعالى: {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا} [الإنسان:1]] .
يعتقد المسلمون ما أخبر الله به عن نفسه من عموم قدرته أنه على كل شيء قدير، وكلمة (شيء) يدخل فيها ما هو موجود وما هو معلوم مما يقدره الله تعالى، وتدخل فيها أعمال العباد، فيدخل فيها عمل العبد مثل عباداته وطاعاته وحسناته، وكذا سيئاته وخطاياه كلها داخلة في عموم (كل) في قوله تعالى: {عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة:20] ، فيدخل في ذلك كل الممكنات.
أما غير الممكن المستحيل فإنه لا يدخل في هذا العموم، مثل كون الشيء معدوماً موجوداً في آن واحد، فهذا من المستحيل أن يوجد ويعدم في آن واحد، أو يكون الشخص حياً ميتاً في آن واحد، ومثل ما يورده بعض المتعنتين فيقولون: هل يقدر الله أن يخلق مثل نفسه؟ نقول: هذا محال، ولا ينبغي الخوض فيه، فهو من المحال؛ حيث إنه تعالى هو المنفرد الذي ليس له شريك وليس له شبيه ولا معين.
والمعتزلة ينكرون هذا العموم (على كل شيء قدير) ، ويقولون: على ما يقدر عليه قدير.
ولا شك أن هذا فيه تنقص؛ فإنه بمعنى: قدير على ما يقدر عليه، ولا شك أن هذا لا فائدة فيه.
فقولهم: قدير على ما يقدر عليه، معناه أنه لا يقدر على كل شيء، وأن هناك أشياء لا يقدر عليها -تعالى الله عن قولهم- فيكون في هذا تنقص، فالآيات فيها العموم، فهو على كل شيء قدير عموماً لا يستثنى منه شيء مما يدخل في الإمكان.
وأما كلامهم في المعدوم هل هو شيء أو ليس بشيء، فالمعدوم -على الصحيح- لا يقال له شيء حتى يوجد، ولكن الله تعالى عالم بما يوجد من المعدومات التي توجد، وقادر على إيجاده في الوقت الذي قدر إيجاده، وإلا فقد نفى أن يكون المعدوم شيئاً في قوله تعالى: {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا} [الإنسان:1] ، وكذلك قوله تعالى مخاطباً لزكريا: {وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا} [مريم:9] يعني: لم تكن موجوداً، بل كنت معدوماً وقد خلقتك، فنفى أن يكون المعدوم شيئاً على الوجود، ولكن هو في علم الله شيء إذا قدر أنه سيوجد، فهو داخل في قول الله تعالى: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [النحل:40] .
فالله تعالى أخبر بأنه إذا قال للشيء كن وهو معدوم كان، فسماه شيئاً مع كونه معدوماً؛ لأنه يوجد إذا قال الله له: (كن) ، وهذا معنى أن أمره تعالى بين الكاف والنون، فخلقه للمعدومات التي قدر أنها توجد بقول: (كن) ، وهكذا حقق المحققون أن المعدوم شيء في علم الله، وليس شيئاً في الوجود فيما يرى ولا فيما يشاهد.(12/6)
التشبيه والتعطيل وموقف أهل السنة منهما
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] رد على المشبهة، وقوله تعالى: {وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] رد على المعطلة، فهو سبحانه وتعالى موصوف بصفات الكمال، وليس له فيها شبيه، فالمخلوق وإن كان يوصف بأنه سميع بصير فليس سمعه وبصره كسمع الرب وبصره، ولا يلزم من إثبات الصفة تشبيه؛ إذ صفات المخلوق كما يليق به وصفات الخالق كما يليق به، ولا تنف عن الله ما وصف به نفسه وما وصفه به أعرف الخلق بربه وما يجب له وما يمتنع عليه وأنصحهم لأمته وأفصحهم وأقدرهم على البيان؛ فإنك إن نفيت شيئا من ذلك كنت كافرا بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، وإذا وصفته بما وصف به نفسه فلا تشبهه بخلقه فليس كمثله شيء، فإذا شبهته بخلقه كنت كافرا به، قال نعيم بن حماد الخزاعي شيخ البخاري: من شبه الله بخلقه فقد كفر، ومن جحد ما وصف الله به نفسه فقد كفر، وليس ما وصف الله به نفسه ولا ما وصفه به رسوله تشبيها.
وسيأتي في كلام الشيخ الطحاوي رحمه الله: (ومن لم يتوق النفي والتشبيه زل ولم يصب التنزيه) ] .
بعض الآية الذي هو قول الله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] رد على طائفتين متقابلتين: إحداهما غلت في الإثبات، وهم الممثلة المشبهة.
والأخرى غلت في النفي وهم المعطلة النفاة.
فرد الله على الأولى {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] أي: لا تجعلوا لله مثلاً.
فليس له مثل في صفاته ولا في ذاته ولا في أفعاله، لا في صفاته الفعلية ولا في صفاته الذاتية، أي: لا يشبهه شيء.
وذلك لأن الذين غلوا في الإثبات وجعلوا يد الله كأيدينا وسمعه كأسماعنا.
أو قالوا: إنه يسمع بكذا وبكذا.
أو: إنه ينظر بكذا وما أشبه ذلك مما غلوا فيه إلى أن أثبتوا له خصائص المخلوقين لا شك أنهم قد وقعوا فيما هو كفر، ولهذا يقول نعيم: من شبه الله بخلقه فقد كفر.
ويقول آخر: المشبه يعبد صنماً، والمعطل يعبد عدماً، والموحد يعبد إلهاً واحداً فرداً صمداً, وهو الموحد الذي يثبت لله الصفات ويجعلها لله وحده لا يشبهه فيها شيء، وفي ذلك أيضاً يقول ابن القيم: لسنا نشبه ربنا بصفاتنا إن المشبه عابد الأوثان كلا ولا نخليه من أوصافه إن المعطل عابد البهتان والمعطل: هو الذي ينكر صفات الله، والذي ينفي أن الله متصف بصفات الكمال كالسمع والبصر والعلم المحبة والرحمة، وصفات الذات كاليد التي أثبتها لنفسه أو اليدين وكالعين والوجه وما أشبه ذلك من الصفات.
ولا شك أن من نفى ذلك فقد عطل الله تعالى، وتعطيل الصفات يلزم منه تعطيل الذات، فكأنه لم يثبت إلهاً يعبد.(12/7)
شرح العقيدة الطحاوية [13]
من عقائد أهل السنة والجماعة اعتقادهم أن الله تعالى قدر الأقدار وضرب الآجال، فكل ما يجري في الكون من خلق وإحياء وإماتة وأعمال العباد؛ كل ذلك بتقديره وبعلمه، ولم يخالف في ذلك إلا من أعمى الله بصيرته عن الهدى، فلم يوفق للتسليم بما جاء عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم.(13/1)
الكلام على الدعاء فيما سبق به القدر(13/2)
الكلام على آية: (وما يعمر من معمر)
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [واعلم أن الدعاء يكون مشروعا نافعاً في بعض الأشياء دون بعض، وكذلك هو، ولهذا لا يجيب الله المعتدين في الدعاء، وكان الإمام أحمد رحمه الله يكره أن يدعى له بطول العمر، ويقول: هذا أمر قد فرغ منه.
وأما قوله تعالى: {وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ} [فاطر:11] فقد قيل في الضمير المذكور في قوله تعالى: (مِنْ عُمُرِهِ) إنه بمنزلة قولهم: عندي درهم ونصفه، أي: ونصف درهم آخر فيكون المعنى: ولا ينقص من عمر معمر آخر، وقيل: الزيادة والنقصان في الصحف التي في أيدي الملائكة.
وحمل قوله تعالى: {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ * يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد:38-39] ، على أن المحو والإثبات من الصحف التي في أيدي الملائكة.
وأن قوله: {وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد:39] اللوح المحفوظ، ويدل على هذا الوجه سياق الآية، وهو قوله: {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ} [الرعد:38] ، ثم قال: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} [الرعد:39] أي: من ذلك الكتاب {وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد:39] أي: أصله وهو اللوح المحفوظ.
وقيل: يمحو الله ما يشاء من الشرائع وينسخه ويثبت ما يشاء فلا ينسخه، والسياق أدل على هذا الوجه من الوجه الأول، وهو قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ} [الرعد:38] ، فأخبر تعالى أن الرسول لا يأتي بالآيات من قبل نفسه بل من عند الله، ثم قال: {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ * يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} [الرعد:38-39] أي: أن الشرائع لها أجل وغاية تنتهي إليها ثم تنسخ بالشريعة الأخرى، فينسخ الله ما يشاء من الشرائع عند انقضاء الأجل ويثبت ما يشاء، وفي الآية أقوال أخرى، والله أعلم بالصواب] .
هذا يتعلق بعلم الله تعالى بالكائنات قبل وقوعها وبتحديدها وتقديرها، ومن ذلك أن الله تعالى حدد أجل كل إنسان وقدر عمره كما في هذه الآية، وهي قوله تعالى: {وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ} [فاطر:11] أي: الذي يعمر فيطول عمره هذا مكتوب، والذي ينقص من عمره فيموت وهو صغير أو وهو شاب أو وهو كهل لم يبلغ سن الشيخوخة أو الكبر، فذلك أيضاً مكتوب عمره ومحدد، وهو معنى الآيات التي فيها ذكر الآجال، كقوله تعالى: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف:34] أي: ساعة، وكقوله تعالى: {وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا} [المنافقون:11] أي: أجلها المحتوم المكتوب، فلا بد أن يكون موتها في الوقت الذي كتب الله.
ولما قال المنافقون في غزوة أحد: {لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا} [آل عمران:168]-يعنون إخوانهم- قال الله: {قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ} [آل عمران:168] يعني: أنتم سوف تموتون فادفعوا الموت عن أنفسكم، وفي آية أخرى قال لهم: {قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ} [آل عمران:154] يعني: الله تعالى قد كتب القتل على هؤلاء الذين قتلوا، فلو تحصنوا في بيوتهم لجعل الله لهم أسباباً يبرزون بها ويخرجون حتى يأتيهم الأجل الذي كتب عليهم ولا بد.
وهذا من حيث العموم، فيعتقد المسلمون أن الله سبحانه قدر الآجال وحددها.(13/3)
سبق القدر لا ينافي جواز الدعاء بطول العمر ونحو ذلك
واختلف في جواز الدعاء بطول العمر، كأن يقال: اللهم متعني بأولادي أو بأخي أو ما أشبه ذلك.
وقد مر بنا الحديث الذي فيه إنكار النبي صلى الله عليه وسلم على أم حبيبة في قولها: (اللهم متعني بزوجي رسول الله وبأبي أبي سفيان وبأخي معاوية.
فأنكر عليها وقال: لقد سألت الله لآجال مضروبة، وأعمار محدودة، وأرزاق مقسومة) وأخبرها أنها لو سألت الله تعالى أن يعيذها من عذاب النار وعذاب القبر لكان خيراً.
وذكر الشارح هنا أن الإمام أحمد كان يكره أن يدعى له بطول العمر، وقد اختلف في جواز ذلك، ولكن الصحيح أن ذلك جائز إن شاء الله، كما يدعى للإنسان بالجنة وبالمغفرة وبالرزق وبالحياة الطيبة وما أشبه ذلك، وكما يدعو الإنسان أيضاً لنفسه بهذه الأشياء، وقد سبق أن بينا أدلة ذلك، وأن هذا لا ينافي كونها مقدرة؛ فإن القدر عام لكل شيء حتى للجنة والنار، والله تعالى قد علم أهل الجنة ومع ذلك هم مأمورون بسؤالها.
فلا يقال: لا تسأل الجنة لأنك إن كنت مكتوباً من أهلها فإنك ستصير من أهلها، بل يقال: سل الله الجنة، وقد أمر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (تسألونه الجنة وتستعيذون به من النار) ، وأقر ذلك الأعرابي الذي قال: (إنما أسأل الله الجنة وأعوذ به من النار.
فقال: حولها ندندن) يعني: أننا ندندن ونسأل ونكثر من السؤال في طلب الجنة والنجاة من النار.
فإذا كان قد كتب على الإنسان مقعده من الجنة أو مقعده من النار، ولا ينافي ذلك أن يسأل الله الجنة؛ فكذلك قد كتب له رزقه الذي سوف يأتيه ولا ينافي ذلك أنه يطلبه ويعمل ويتكسب، وقد كتب له أيضاً ما سوف يكتسبه أو يحويه، ومع ذلك فهو مأمور بأن يسأل الله رزقاً واسعاً حلالاً، أو ما أشبه ذلك، ومأمور أيضاً بأن يسأل ربه حياة سعيدة وحياة طيبة ولو كان ذلك مكتوباً.
والحاصل أن كتابة الأعمار، وكتابة الأرزاق والآجال، وكتابة السعادة والشقاوة، وكتابة كل شيء يأتي الإنسان؛ لا تنافي أن يسأل ولا تنافي أن يعمل.
وهكذا أيضاً هو مأمور بالسؤال ومأمور بالعمل، ولكن مع كونه مكتوباً فقد يكون معلقاً على سبب، كأن يقول الله أو يكتب الله: إننا سنرزقه بسبب سؤاله، أو: نجعله من أهل الجنة بسبب كثرة إلحاحه بالدعاء، أو: نوسع عليه رزقه بسبب كثرة طلبه؛ فيكون هذا الدعاء سبباً أزلياً، فيقال: قد كتب الله أنه يسأل ويكون سؤاله من الأسباب التي يرزق بسببها ويسعد بسببها ويكتسب بسببها وما أشبه ذلك.
وهذا كما يفعل في الأشياء الحسية، فإن الإنسان مأمور بأن يأكل وبأن يشرب وبأن يتزوج وبأن يكتسي وبأن يبني سكناً وما أشبه ذلك، وإن كان ذلك أيضاً مكتوباً له.
فعلى كل حال كتابة الأشياء في الأزل وكتابة الأعمار في هذه الآية وغيرها لا تنافي أن يسأل الإنسان ربه وأن يدعوه، فالله تعالى قد أمر بدعائه، قال تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60] وغير ذلك من الآيات، وكما أمر بالعمل فقال تعالى: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ} [التوبة:105] .(13/4)
عموم علم الله بكل شيء ولو لم يكن
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قوله: (ولم يخف عليه شيء قبل أن يخلقهم، وعلم ما هم عاملون قبل أن يخلقهم) .
يعلم سبحانه ما كان وما يكون وما لم يكن أن لو كان كيف يكون، كما قال تعالى: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} [الأنعام:28] ، وإن كان يعلم أنهم لا يردون، ولكن أخبر أنهم لو ردوا لعادوا، وكما قال تعالى: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [الأنفال:23] ، وفي ذلك رد على الرافضة والقدرية الذين قالوا: إنه لا يعلم الشيء قبل أن يخلقه ويوجده، وهي من فروع مسألة القدر، وسيأتي لها زيادة بيان إن شاء الله تعالى] .
هذا من تمام الكلام على أن الله تعالى علم ما كان وما سوف يكون وعلم ما لم يكن لو كان كيف يكون، ولا شك أن علم الله تعالى واسع لما مضى ولما يأتي، فالأشياء التي لم تأت وهي سوف تأتي قد علمها سبحانه، بل قد كتبها، فعلم عدد المخلوقات وعلم أعمالهم ونحو ذلك.(13/5)
المحو والإثبات لما كتب
وقد ذكر في الحديث الصحيح أن الله تعالى يكتب أو يأمر الملك أن يكتب أعمال الإنسان وهو في الرحم، يكتب رزقه وعمله وأجله وشقي أو سعيد، وإن كانت هذه كتابة ثانية، مع أن ذلك مكتوب في أم الكتاب وهو اللوح المحفوظ، وهذا لا تتغير الكتابة الموجودة فيه.
وأما ما في أيدي الملائكة من الصحف فإن الله تعالى يمحو منها ما يشاء ويثبت، وهذا معنى الآية، وهي قوله تعالى: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد:39] ، والمراد: بأم الكتاب اللوح المحفوظ، فاللوح المحفوظ لا يتغير شيء مما كتب فيه، وأما ما في الصحف التي مع الملائكة فإنهم يكتبون أعمال الإنسان وأقواله: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18] .
وبما أنه قد يكون من تلك الأقوال ما لا ثواب فيه ولا عقاب، فيمكن أن هذا هو الذي يمحى، ويبقى ما فيه ثواب أو فيه عقاب، والجميع مكتوب في اللوح المحفوظ، وعلى كل حال فإن علم الله تعالى بالآجال وبالكائنات وبما سوف يحدث علم أزلي قديم.(13/6)
ذكر أول من أنكر علم الله وطريقة إفحامهم
وقد أنكر ذلك بعض المبتدعة، وكان أول من أنكره من القدرية معبد الجهمي وغيلان القدري وعمرو بن عبيد القدري وواصل بن عطاء القدري، وكل هؤلاء أدركوا زمن الصحابة أو آخر زمن الصحابة، ولكنهم -والعياذ بالله- تلقوا هذه البدع عن بعض النصارى أو نحوهم، فكان من عقيدتهم أن الله لا يعلم الأشياء إلا بعد وجودها، وأن الأمر أنف، أي: مستأنف.
وسئل عنهم ابن عمر فأنكر عليهم إنكاراً شديداً، كما في الحديث الذي ذكره مسلم في أول صحيحه فقال: (إذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم وهم برآء مني، والذي نفس ابن عمر بيده لو أنفق أحدهم مثل أحد ذهباً ما قبله الله منه حتى يؤمن بالقدر خيره وشره) ، يعني: أن يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطئه لم يكن ليصيبه.
وعلى هذه العقيدة أيضاً الرافضة ونحوهم، وغالب الرافضة معتزلة، فهم جمعوا بين بدعة الرفض التي هي تكفير الصحابة، وبدعة الاعتزال التي هي إنكار صفات الله، ومن أبرز الصفات صفة العلم، وهؤلاء الذين ينكرون أن الله يعلم الأشياء قبل وجودها هم الذين عناهم الإمام الشافعي رحمه الله بقوله: (ناظروهم بالعلم، فإن أقروا به خصموا، وإن جحدوه كفروا) يعني: إذا ابتليتم بأحدهم بمجادلته ومخاصمته ومناظرته فسلوهم عن صفة العلم لله، فإذا أقروا به خصموا، أي: يقال لهم: ما الفرق بين العلم الماضي وعلم المستقبل؟ فإنه إذا كان يعلم الماضي فهو يعلم المستقبل، وقولوا لهم أيضاً: هل تحدث هذه الكائنات بغير إرادته؟ فلا بد أن يقولوا: هو الذي يحدثها وهو الذي يوجدها، فيقال: كيف يوجدها وهو لا يعلم وقت وجودها؟ وناظروهم أيضاً بالأدلة كقوله تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ} [الحج:70] ، {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} [المجادلة:7] إلى آخر الآية، وأشباه ذلك، فإنهم بهذا سوف ينقطعون ولا يجدون حجة.(13/7)
غاية خلق الخلق وإيجادهم
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قوله: (وأمرهم بطاعته ونهاهم عن معصيته) .
ذكر الشيخ رحمه الله الأمر والنهي بعد ذكره الخلق والقدر، إشارة إلى أن الله تعالى خلق الخلق لعبادته، كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] ، وقال تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك:2]] .
أي: كما أن الله علم الأشياء قبل وجودها وقدرها وحددها وأرادها وشاءها فذلك لا ينافي الأمر والنهي، فهو الذي كلف العباد، ولا شك أنه ما كلفهم إلا وهم يقدرون، فلا يكلف من لا يقدر، دلت على ذلك الآيات: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] ، {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} [الطلاق:7] ، فالله تعالى أمرهم بأشياء أن يفعلوها ونهاهم عن فعل أشياء، ووعدهم على فعل المأمور وترك المنهي والمزجور بالسواء، وأنه توعدهم على المخالفة بالعقاب، ولا شك أنه ما أمرهم إلا وهم يستطيعون ويقدرون على مزاولة هذه الأشياء، وإلا فالعاجز لا يمكن أن يؤمر.
وعلى قول الجبرية: يعتبر أمرهم أمر تعجيز، مثل الأوامر التي يخاطب بها أهل النار أو الكفار، كقوله: {قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ} [آل عمران:119] هذا أمر تعجيز، وكقوله: {فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الطور:16] .
والصحيح أن أوامر الله تعالى في قوله: {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الحج:77] ، وبقوله: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [النور:56] أمر لمن يقدر على الامتثال، أما من لا يقدر فلا يمكن أن يؤمر، خلافاً للجبرية فإنهم يعتقدون أنه يجوز الأمر بشيء غير مقدور عليه وغير ممكن، بمنزلة من أمر الأعمى أن ينقط المصاحف أو يكتبها، ومعلوم أنه لا يبصر، فكذلك الأمر عندهم، حيث سلبوا الإنسان قدرته واختياره وجعلوا حركته غير اختيارية، ومثلوه بحركة الشجرة التي تحركها الرياح بدون اختيار، فلو كان الإنسان غير مستطيع لما كلفه الله؛ فإن الله لا يكلف إلا من هو قادر على ذلك، ولعله يأتي لهذا تكملة في الرد على الجبرية ونحوهم.(13/8)
الكلام على مشيئة الله ومشيئة العبد(13/9)
نفوذ مشيئة الله تعالى وتبعية مشيئة العبد لها
قال رحمه الله تعالى: [قوله: (وكل شيء يجري بتقديره ومشيئته، ومشيئته تنفذ لا مشيئة للعباد إلا ما شاء لهم، فما شاء لهم كان وما لم يشأ لم يكن) .
قال تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} [الإنسان:30] ، وقال تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير:29] ، وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الأنعام:111] ، وقال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ} [الأنعام:112] .
وقال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا} [يونس:99] ، وقال تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الأنعام:125] ، وقال تعالى حكاية عن نوح عليه الصلاة والسلام إذ قال لقومه: {وَلا يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ} [هود:34] ، وقال تعالى: {مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الأنعام:39] ، إلى غير ذلك من الأدلة على أنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن.
وكيف يكون في ملكه ما لا يشاؤه! ومن أضل سبيلا وأكفر ممن يزعم أن الله شاء الإيمان من الكافر والكافر شاء الكفر فغلبت مشيئة الكافر مشيئة الله؟! تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا] .
هذا الكلام على المشيئة والإرادة، والإرادة هنا هي الإرادة الكونية القدرية التي بمعنى (المشيئة) ، يعتقد المسلمون أن مشيئة الله عامة لكل ما في الوجود، فلا يكون في الوجود إلا ما يريد، سواء من الطاعات والأعمال والمعاصي ونحوها، أو من المخلوقات والموجودات والحوادث ونحوها، فكلها حصلت بمشيئته وبإرادته الكونية، والجملة التي ذكرها الطحاوي وردت في حديث في جملة الأدعية: (ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن) ، فقوله: (ما شاء الله كان) أي: ما أراده كوناً وقدراً فإنه سيوجد وسوف يحدث لأن الله أراده، وكل شيء أراده الله لا بد أن يكونه، وكذلك الله تعالى هو الذي يخلقه، وخلقه لهذه الأشياء أن يقول: (كن) فتكون، قال تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82] ، فمما يعتقده أهل السنة أن مشيئة الله تعالى عامة لكل ما في الوجود، سواء المخلوقات أو غيرها.
وفي حديث للنبي صلى الله عليه وسلم سأله بعض أصحابه عن العزل -والعزل يكون في الجماع مخافة أن تحمل المرأة، فإذا وطئها أنزل خارج الفرج حتى لا تحبل- فقال: (ما عليكم ألا تفعلوا؛ فإنه ما من نسمة كائنة إلا الله خالقها) ، وفي بعض الأحاديث أن رجلاً استأذنه في العزل فقال: (لا تقدر أن ترده، لو أراد الله أن يخلقه لم تقدر أن ترده) ، يعني: أن ترد ما قدر الله أنه سيوجد، ثم جاءه ذلك الرجل بعد أيام وأخبره بأن الأمة التي يعزل عنها قد حملت مع كونه يعزل عنها، فذكر أن من أراد الله أن يخلق له مخلوقاً أو ولداً فلا بد أن يكون.
فالله تعالى قدر ما يكون، وإن كان العزل سبباً من أسباب عدم الحمل فهو مكتوب عند الله أن هذا سيستعمل كذا وكذا من موانع الحمل ويحصل له كذا وكذا من الأولاد، وهذا سيقل أولاده وهذا سيكثرون، فكل ذلك مكتوب مقدر.
وهكذا أيضاً بالنسبة للدواب لا يستنكر مثلاً كثرتها أو توالدها أو ما أشبه ذلك، فيقال: الله الذي قدرها وقدر عددها وخلقها، وعلم بوقت خلقها وبعددها وبأعمارها وبأعمالها وما أشبه ذلك.
وهكذا أيضاً النبات ونحو ذلك، قدر الله عز وجل ما يكون منه وما يحصل، والأدلة على ذلك كثيرة، ومن ذلك الآيات التي ساقها الشارح، والآيات كثيرة فيما يتعلق بمشيئة الله تعالى وبقدرته وبإرادته، وببيان أن إرادة الإنسان مربوطة بإرادة الله، كما في الآيات الأول وهي قوله تعالى: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [التكوير:28-29] ، فقد يستدل بأول الآية المعتزلة في أن الإنسان حر في مشيئته، وأن له أن يشاء، ولكن تمام الآية رد لهذا الفهم ودليل لربط مشيئة الإنسان بمشيئة الله، ولهذا قال: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [التكوير:29] أي: لا تستطيعون شيئاً وتنفذونه ولو شئتموه وأردتموه إلا إذا كان الله قد شاءه وأراده وقدره وحدد وقته.
فإذا لم يشأ الإنسان شيئاً فلا يحصل، وهذا معنى قول شيخ الإسلام في أبيات مشهورة: فما شئتَ كان وإن لم أشأ وما شئتُ إن لم تشأ لم يكن وهو معنى هذا الحديث، فما شاء الله كان وإن لم يشأ الناس، وما لم يشأ لا يكون وإن شاء الناس، ومعنى قوله في الحديث: (واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك) .(13/10)
ذكر مذهب المعتزلة في المشيئة والرد عليه
وأما استدلال المعتزلة ببعض الآيات التي فيها إطلاق مشيئة العبد فإنه مقيد بالآيات الأخرى، فهم يستدلون بمثل قوله: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُر} [الكهف:29] ، ويقولون: إن الأمر مسند إليه إن شاء اختار كذا وإن شاء اختار كذا، فالأمر راجع إليه.
فهذا الإطلاق مقيد بالآيات الأخرى، ومنها آية الأنعام: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا} [الأنعام:125] ، فربط الله الهداية والإضلال بمشيئته وبإرادته، فدل على أنه هو الذي يملك ذلك، ودلت على ذلك الآيات الأخرى، كقوله تعالى: {وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ} [الزمر:37] ، {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الرعد:33] يعني: من قدر الله أن سيهتدي لم يقدر الخلق أن يضلوه، ومن قدر ضلاله لم يستطيعوا أن يهدوه وإن كان لذلك أسباب جعلها الله تعالى مؤثرة ومفيدة، ولكنها أيضاً أسباب أزلية، فقد كتب الله أن الولاية الصالحة والتربية الصالحة، والنصيحة وما أشبه ذلك من أسباب الهداية تؤثر بإذن الله، ولكن تأثيرها مكتوب وأزلي، وإلا فالآية على عمومها.
وهكذا في الحديث في خطبة الحاجة: (من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له) ، حكم بأن الأمر لا يقدر على التصرف فيه إلا الله تعالى وحده، فيعرف الإنسان أن المشيئة والإرادة أمرهما إلى الله تعالى، فهو الذي يتصرف في الكون وحده، وهو الذي يهدي من يشاء ويضل من يشاء.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فإن قيل: يشكل على هذا قوله تعالى: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا} [الأنعام:148] ، وقوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ} [النحل:35] ، وقوله تعالى: {وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} [الزخرف:20] ، فقد ذمهم الله تعالى حيث جعلوا الشرك كائنا منهم بمشيئة الله، وكذلك ذم إبليس حيث أضاف الإغواء إلى الله تعالى إذ قال: {رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [الحجر:39] ، قيل: قد أجيب على هذا بأجوبة، من أحسنها: أنه أنكر عليهم ذلك؛ لأنهم احتجوا بمشيئته على رضاه ومحبته، وقالوا: لو كره ذلك وسخطه لما شاءه فجعلوا مشيئته دليل رضاه، فرد الله عليهم ذلك.
أو أنه أنكر عليهم اعتقادهم أن مشيئة الله دليل على أمره به.
أو أنه أنكر عليهم معارضة شرعه وأمره الذي أرسل به رسله وأنزل به كتبه بقضائه وقدره، فجعلوا المشيئة العامة دافعة للأمر، فلم يذكروا المشيئة على جهة التوحيد، وإنما ذكروها معارضين بها لأمره دافعين بها لشرعه كفعل الزنادقة والجهال إذا أمروا أو نهوا احتجوا بالقدر.
وقد احتج سارق على عمر رضي الله عنه بالقدر فقال: (وأنا أقطع يدك بقضاء الله وقدره) ، يشهد لذلك قوله تعالى في الآية: {كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [يونس:39] ، فعلم أن مرادهم التكذيب، فهو من قبل الفعل من أين له أن الله لم يقدره؟ أطلع الغيب؟](13/11)
الكلام على محاجة آدم وموسى عليهما السلام
قال المؤلف رحمه الله: [فإن قيل: فما يقولون في احتجاج آدم على موسى عليهما السلام بالقدر إذ قال له: أتلومني على أمر قد كتبه الله علي قبل أن أخلق بأربعين عاما؟ وشهد النبي صلى الله عليه وسلم أن آدم حج موسى -أي: غلب عليه بالحجة-: قيل: نتلقاه بالقبول والسمع والطاعة لصحته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا نتلقاه بالرد والتكذيب لراويه كما فعلت القدرية، ولا بالتأويلات الباردة، بل الصحيح أن آدم لم يحتج بالقضاء والقدر على الذنب، وهو كان أعلم بربه وذنبه، بل آحاد بنيه من المؤمنين لا يحتج بالقدر؛ فإنه باطل، وموسى عليه السلام كان أعلم بأبيه وبذنبه من أن يلوم آدم على ذنب قد تاب منه وتاب الله عليه واجتباه وهداه.
وإنما وقع اللوم على المصيبة التي أخرجت أولاده من الجنة، فاحتج آدم بالقدر على المصيبة لا على الخطيئة؛ فإن القدر يحتج به عند المصائب لا عند المعائب، وهذا المعنى أحسن ما قيل في الحديث، فما قدر من المصائب يجب الاستسلام له، فإنه من تمام الرضا بالله ربا.
وأما الذنوب فليس للعبد أن يذنب، وإذا أذنب فعليه أن يستغفر ويتوب، فيتوب من المعائب ويصبر على المصائب، قال تعالى: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [غافر:55] ، وقال تعالى: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا} [آل عمران:120] .
وأما قول إبليس: {قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي} [الحجر:39] ، إنما ذم على احتجاجه بالقدر لا على اعترافه بالمقدر وإثباته له، ألم تسمع قول نوح عليه السلام: {وَلا يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [هود:34] ، ولقد أحسن القائل: فما شئتَ كان وإن لم أشأ وما شئتُ إن لم تشأ لم يكن وعن وهب بن منبه قال: نظرت في القدر فتحيرت، ثم نظرت فيه فتحيرت، ووجدت أعلم الناس بالقدر أكفهم عنه، وأجهل الناس بالقدر أنطقهم فيه] .
هناك من يحتج بالقدر كالمشركين الأولين وأتباعهم من الجبرية ونحوهم، فالمشركون احتجوا بمثل قولهم: {لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ} [الزخرف:20] ، كأنهم يقولون: الله هو الذي شاء عبادتنا لهم، وكذلك قولهم: {أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ} [يس:47] ، كأنهم يقولون: إذا شاء الله أغناهم، فكيف نغنيهم أو نطعمهم؟ ولا شك أن هذه حجة باطلة، ويجب على المسلم أن يعلم أن الله -وإن كان له المشيئة التامة- قد أعطى الإنسان مشيئة تناسبه فيكون بذلك ممتثلاً لأمر الله، وإن كانت مشيئة الله هي الأصل وهي الغالبة على مشيئة المخلوق، فالثواب والعقاب على المشيئة التي في وسعه وفي مقدرته.
ولكن لا يقال: إن مشيئة الإنسان تغلب مشيئة الله، كما تقول المعتزلة: إذا شاء الإنسان شيئاً وأراد الله غيره غلبت إرادةُ الإنسان إرادة الله، فهذا معناه: أن الله يعصى قسراً، وأنه يكون في ملكه ما لا يريد، وهذا كله باطل وضلال، والإنسان عليه أن يؤمن بمشيئة الله تعالى وإرادته.
كذلك احتجاج آدم بالقدر في قوله: (أتلومني على أمر قد كتبه الله علي) ، إنما لامه موسى على مصيبة حصلت، واحتج آدم عليه السلام بأن هذا مكتوب عليه، والاحتجاج على الأمر المكتوب على الإنسان قبل أن يوجد جائز؛ وذلك لأن الله سبحانه وتعالى قدر الأشياء قبل وجودها وحدد أزلها، فإذا علم الله تعالى آجال الأشياء وحددها، فلا بد من وجودها في الوقت الذي يحدده ويكونه.(13/12)
الرد على المعتزلة في إيجابهم الأصلح على الله تعالى
قال المؤلف رحمه الله: [قوله: (يهدي من يشاء ويعصم ويعافي فضلا ويضل من يشاء ويخذل ويبتلي عدلا) .
هذا رد على المعتزلة في قولهم بوجوب فعل الأصلح للعبد على الله، وهي مسألة الهدى والضلال.
قالت المعتزلة: الهدى من الله بيان طريق الصواب، والإضلال تسمية العبد ضالا، وحكمه تعالى على العبد بالضلال عند خلق العبد الضلال في نفسه.
وهذا مبني على أصلهم الفاسد: أن أفعال العباد مخلوقة لهم.
والدليل على ما قلناه قوله تعالى: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص:56] ، ولو كان الهدى بيان الطريق لما صح هذا النفي عن نبيه؛ لأنه صلى الله عليه وسلم بين الطريق لمن أحب وأبغض، وقوله تعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} [السجدة:13] ، وقوله: {يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [المدثر:31] ، ولو كان الهدى من الله البيان -وهو عام في كل نفس- لما صح التقييد بالمشيئة.
وكذلك قوله تعالى: {وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} [الصافات:57] ، وقوله تعالى: {مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الأنعام:39]] .
المعنى: نؤمن بأن الله تعالى يهدي من يشاء فضلاً منه ونعمة، ويضل من يشاء عدلاً منه وحكمة، فقد أنعم على من هداه وخذل من أضله، ولم يكن ظالماً لهذا، بل ذلك عدله وحكمه وخلقه يتصرف في الخلق كما يشاء.
وذكر الشارح أن هذا رد على المعتزلة الذين يقولون بوجوب فعل الأصلح على الله.
والمعتزلة فرقة انتسبت إلى الإسلام ثم انتحلت نحلاً، فمنهم من يقول: إن الله لا يقدر على الهدى والإضلال، فالله لا يقدر أن يضل أحداً ولا أن يهدي أحداً، بل العباد هم الذين يختارون بأنفسهم، فالعبد هو الذي يضل نفسه أو يهدي نفسه لا قدرة لله عليه.
وفي هذا تنقص لله سبحانه وتعالى، حيث جعلوا قدرة العبد أقوى من قدرة الله واختياره أقوى من اختيار ربه.
وقد يقولون: إننا ننزه الله عن الظلم، ويقولون: إذا قدر على العبد فأضله فكيف يعاقبه؟ فلو عاقبة وهو الذي أضله لكان ظالماً له، فنحن ننزه الله عن الظلم ونصفه بالعدل.
ويسمون هذا الأصل عدلاً، وهو أحد أصولهم الخمسة.
و
الجواب
نعترف أن الهدى فضل والإضلال عدل، ونقول: إن الله تعالى ما ظلم أحداً من خلقه، وإنما هذا فضله يؤتيه من يشاء، فمنَّ على أهل الهداية ويسر لهم الأسباب وبينها لهم، وقذف في قلوبهم الرحمة وأعانهم حتى اختاروا الهدى وساروا على الصراط المستقيم، فاستحقوا بذلك الثواب وإن كان هو الذي تفضل عليهم أولاً وآخراً.
فأولاً: تفضل عليهم بأن هداهم وسدد خطاهم وأقبل بقلوبهم على طاعته، وأمدهم بقوة منه وتأييد، وأعانهم على ذكره وشكره وحسن عبادته.
وتفضل عليهم ثانياً بأن أهلهم للثواب الذي أعده لعباده المطيعين، فجعلهم من أهله وأدخلهم دار كرامته، وأعطاهم ما وعدهم من النعيم المقيم، فذلك فضله يؤتيه من يشاء.
أما بالنسبة إلى الضُلال والكافرين فإنه ما ظلمهم، فقد بين لهم الحق وأوضحه لهم وأعطاهم قوة واستطاعة وقدرة يزاولون بها الأعمال، ولكنه حكم بعلمه في أنهم ليسوا أهلاً للقرب وليسوا أهلاً للهداية، فأضلهم وأصمهم وأعمى أبصارهم، وحال بينهم وبين أسباب الهداية حيث إنهم ليسوا أهلاً لذلك، فأصبحوا محرومين من الهداية، قال الله تعالى: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} [فصلت:17] .
فالله تعالى بين لهم الأسباب ولكنهم استحبوا العمى على الهدى، والمراد بالعمى هنا عمى البصيرة، يعني أنهم أصروا على العمى الذي هو عمى البصيرة والبعد عن الاستنارة بالحق، فلم يقبلوا ما جاءهم عن ربهم، بل ابتعدوا عنه فصاروا بذلك محرومين، ولم يظلمهم ربهم سبحانه بل هذا فضله يؤتيه من يشاء وهذا عدله يحكم به على من يشاء، وهو في كلا الحالين حكيم عليم يضع الأشياء في مواضعها اللائقة بها، فقد خلق هؤلاء وجعل في قلوبهم معرفة الحق وأهلهم لقبوله، وخلق هؤلاء وجعل فيهم إنكار الحق وأهلهم لرده، ولا خلاف أنه هو الذي أضلهم، أي: صرفهم عما لم يكونوا أهلاً له من الهداية.
فأنت -أيها المهتدي- وأنت -أيها المؤمن- وأنت -أيها الموقن- قد أنعم الله عليك، فعليك أن تتمسك بهذه النعمة وبأسبابها، وعليك ثانياً أن تسأل ربك الثبات عليها وتحمده وتشكره على ما أعطاك وخولك، وعليك ثالثاً أن تجتهد في ثمرتها التي هي العمل بما أمرت به.
وإذا رأيت القسم الثاني الذين صرفوا وحيل بينهم وبين الحق، فإن عليك شكر النعمة التي أنت فيها، ومعرفة أن هؤلاء محرومون ولو زعموا أنهم أهل معرفة وأن الصواب في جانبهم، فإنهم في الحقيقة مخذولون مصروفون عن صراط الله المستقيم.(13/13)
الخلق يتقلبون بين فضل الله تعالى وعدله
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قوله: (وكلهم يتقلبون في مشيئته بين فضله وعدله) .
فإنهم كما قال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} [التغابن:2] ، فمن هداه إلى الإيمان فبفضله وله الحمد، ومن أضله فبعدله وله الحمد، وسيأتي لهذا المعنى زيادة إيضاح إن شاء الله تعالى؛ فإن الشيخ رحمه الله لم يجمع الكلام في القدر في مكان واحد بل فرقه، فأتيت به على ترتيبه] .
قوله: (يتقلبون في مشيئته) يعني أن ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وأن الله تعالى شاء من هؤلاء الإيمان وأحبه، وشاء من هؤلاء المعصية والكفر وقدره ولم يحبه، فأعمال أهل الطاعة قد شاءها كوناً وقدراً، وأمر بها ديناً وشرعاً، وأحبها ورضيها ووعد عليها بالثواب.
وأما معاصي الكفار وذنوبهم فإنه قد قدرها وشاءها كوناً وقدراً، ولو شاء الله ما عصي، قال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا} [يونس:99] ، {لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا} [الرعد:31] ، {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} [السجدة:13] ، فلو شاء الله تعالى لأقبل بقلوبهم ولهداهم إلى الحق، ولكنه تعالى قدر أن هؤلاء محرومون وشاء منهم ما شاءه، فكلهم يتقلبون في مشيئته وفي إرادته، فإنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن.(13/14)
علو الله تعالى عن الضد والند
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: (وهو متعال عن الأضداد والأنداد) .
الضد: المخالف.
والند: المثل.
فهو سبحانه لا معارض له، بل ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، ولا مثل له، كما قال تعالى: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص:4] ، ويشير الشيخ رحمه الله بنفي الضد والند إلى الرد على المعتزلة في زعمهم أن العبد يخلق فعله] .
يعني أن المعتزلة جعلوا الإنسان ضداً لله أو نداً مع أنهم ما صرحوا بذلك، ولكنهم لما زعموا أن العبد يخلق فعله، وزعموا أن الله لا يخلق أفعال العباد، واعتقدوا أن الله يعصى قهراً -تعالى الله عن قولهم- فعند ذلك أصبحوا قد جعلوا أنفسهم بل جعلوا كل مخلوق ضداً لله ونداً له، ولأجل ذلك يسميهم الصحابة -كما في بعض الروايات- مجوس هذه الأمة.
وورد في بعض الأحاديث مرفوعاً وموقوفاً: (إن مجوس هذه الأمة الذين يقولون: لا قدر.
إن مرضوا فلا تعودوهم وإن ماتوا فلا تتبعوهم) من باب الإنكار الشديد عليهم، وإذا قلت: كيف جعلوا لله ضداً أو نداً؟ نقول: ما داموا قد جعلوا المخلوق مستقلاً بتصرفه وبفعله فقد جعلوه متصرفاً بهذا الكون، والتصرف في الحقيقة إنما هو للخالق سبحانه، وليس للمخلوق شيء من التصرف، أعني التصرف المطلق.
وسبب تسميتهم مجوساً أن المجوس ادعوا أن الكون صادر عن اثنين، وأن للعالم خالقين: النور والظلمة.
فالنور خالق الخير والظلمة خالقة الشر، فلما جعلوا العالم صادراً عن خالقين أشبههم المعتزلة حيث جعلوا العبد خالقاً لفعله، فجعلوا مع الله خَاَلِقِيِنَ ليس خَاَلِقَينِ فقط، بل جعلوا العالم صادراً عن عدد.
فالحاصل أن هذه الجملة تصلح رداً على المشركين وتصلح رداً على القدرية، ففيها الرد على المشركين الذين يجعلون لله نداً وضداً، سواء نداً في الخلق والتكوين أو نداً في استحقاق العبادة، فالله تعالى متعالٍ عن الأمرين، فهو الخالق وحده، فليس معه ندٌ يخلق كخلقه، وهو المستحق للعبادة وليس معه من يستحقها مثله.(13/15)
لا راد لقضاء الله ولا غالب لأمره
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قوله: (لا راد لقضائه ولا معقب لحكمه ولا غالب لأمره) .
أي: لا يرد قضاء الله راد، ولا يعقب -أي: لا يؤخر- حكمه مؤخر، ولا يغلب أمره غالب، بل هو الله الواحد القهار] .
يعني أنه هو المتصرف وحده بخلاف المخلوق فإن هناك من يتعقبه، فكثيراً ما يفعل الابن فعلاً ويتعقبه الوالد ويقول: هذا خطأ، لو قدمت كذا أو أخرت! وكثيراً ما يحكم الحاكم أو يقضي القاضي ثم يُرد قضاؤه ويتعقبه مَن فوقه وينكر عليه ويقول: حكمك خطأ.
ولو كان قد اجتهد وبذل وسعه، بخلاف الرب سبحانه فإنه إذا قضى أمراً فإنه لا يرد، وإذا حكم بحكم فإنه لا ينقض، وإذا أمر بأمر فإنه لا يتعقب.
ولأجل ذلك حكموا بكفر من يرد أحكام الله تعالى ويدعي أنها لا تلائم كل وقت وزمان ومكان، ويفضلون عليها القوانين الوضعية التي هي من وضع أذهان البشر الذين هم محل النقص والعيب، ويتعقبون أحكام الله بأنها إنما تناسب الوقت الذي نزلت فيه.
ولا شك أن هذا كفر؛ حيث إن الحكم -أي: الذي صدر من الله تعالى- أنزله لعباده وأمر به أمراً عاماً، وكلف به الخلق قاصيهم ودانيهم أولهم وآخرهم، فهو المناسب لهم، فمن رده أو ادعى عدم مناسبته فقد تعقب حكم الله وقد تنقص أمره، فهو شبيه بمن يرد العبادات التي كلف بها العباد ويدعي أنها إنما قصد منها أمر خاص أو نحو ذلك، والكلام على هذا لعل له محلاً يأتينا إن شاء الله.(13/16)
وجوب التسليم لأقدار الله وأحكامه
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قوله: (آمنا بذلك كله وأيقنا أن كلا من عنده) .
أما الإيمان فسيأتي الكلام عليه إن شاء الله تعالى، والإيقان: الاستقرار.
من يقن الماء في الحوض: إذا استقر.
والتنوين في (كلا) بدل الإضافة، أي: كل كائن محدث من عند الله.
أي: بقضائه وقدره وإرادته ومشيئته وتكوينه، وسيأتي الكلام على ذلك في موضعه إن شاء الله تعالى] .
بعدما ذكر القضاء والقدر، وذكر الحكم والأمر والشرع، وذكر التنزه عن الضد والند وما أشبه ذلك مما تقدم من الأحكام ذكر أن هذا مما يجب الإيمان به واليقين، وكأنه يقول: لا يجوز الشك ولا التردد في شيء من ذلك؛ لأنه مبني على أصل قوي ودليل راسخ معتمد، فلا بد أن تؤمن بذلك كله وأن توقن بأنه من عند الله، أو تجزم وتصدق بكل ما صدق وبكل ما يأتي، وتتحقق أنه عقيدة وأنه يقين، وأن من شك فيه فقد ضل سواء السبيل، وتوقن وتجزم بصحته وأنه حق لا تردد فيه.
هكذا ينبغي لكل مؤمن، ويعم ذلك كل ما جاء به الشرع، فمثلاً القرآن من أوله إلى آخره نؤمن به ونوقن به، والكلمتان إحداهما تقوي الأخرى: (آمنت، أيقنت) ، وهما متقاربتان.
فاليقين هو عدم الشك، أي: أن لا يتطرق إليك تردد ولا شك في اعتقادك لذلك الأمر، والإيمان هو جزمك وتصديقك بذلك واعتقادك لصحته.
فكل ما جاء عن الله تعالى في القرآن آمنا به وأيقنا به، وكل ما جاء وبلغه الرسول عليه الصلاة والسلام فإننا نؤمن به ونوقن به، وكذلك نوقن بكل ما جاءت به الرسل وبكل ما أخبروا به، وأنه حق ويقين على حقيقته، وأن من شك في شيء من ذلك أو تردد فيه فإنه ممن لم يؤمن بالله حق الإيمان، ولم يتقبل الشريعة كما أمر بأن يتقبلها.(13/17)
شرح العقيدة الطحاوية [14]
لا يتم إسلام العبد إلا بشهادته أن محمداً رسول الله مع شهادته أنه لا إله إلا الله، فالإيمان بالرسل -ومنهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم- واجب على كل إنسان، وقد أيدهم الله تعالى ببينات ومعجزات تشهد بصدقهم وصدق ما جاءوا به.(14/1)
الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم رسولاً
قال رحمه الله تعالى: [قوله: (وإن محمداً عبده المصطفى ونبيه المجتبى ورسوله المرتضى) .
الاصطفاء والاجتباء والارتضاء متقارب المعنى، واعلم أن كمال المخلوق في تحقيق عبوديته لله تعالى، وكلما ازداد العبد تحقيقاً للعبودية ازداد كماله وعلت درجته، ومن توهم أن المخلوق يخرج عن العبودية بوجه من الوجوه وأن الخروج عنها أكمل فهو أجهل الخلق وأضلهم، قال تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} [الأنبياء:26] ، إلى غير ذلك من الآيات.
وذكر الله نبيه صلى الله عليه وسلم باسم العبد في أشرف المقامات، فقال في ذكر الإسراء: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} [الإسراء:1] ، وقال تعالى: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ} [الجن:19] ، وقال تعالى: {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} [النجم:10] ، وقال تعالى: {وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} [البقرة:23] ، وبذلك استحق التقديم على الناس في الدنيا والآخرة، ولذلك يقول المسيح عليه السلام يوم القيامة إذا طلبوا منه الشفاعة بعد الأنبياء عليهم السلام: (اذهبوا إلى محمد عبد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر) ، فحصلت له تلك المرتبة بتكميل عبوديته لله تعالى] .
الكلام هنا على الشهادة الثانية، وهي شهادة أن محمداً رسول الله، فبعد أن ذكر بعضاً مما يتعلق بالإيمان بالله تطرق إلى الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم، وذلك لأن الشهادتين قرينتان لا تتم إحداهما إلا بالأخرى، فمن شهد أن لا إله إلا الله لزمته الشهادة بأن محمداً رسول الله، وذلك لأن الله سبحانه شهد له بذلك وسماه رسولاً، فقال تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ} [الفتح:29] ، وقال تعالى: {وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب:40] ، وأمره أن يخبر بأنه أرسله في قوله: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف:158] .
فإذا كان الله تعالى أخبر بأنه رسوله فمن كمال تصديق الله تصديق ما أخبر به من هذه الرسالة، وتصديق ما أخبر به من أنه مرسل من الله سبحانه وتعالى.
كذلك إذا شهدنا لمحمد صلى الله عليه وسلم بأنه رسول وصادق واعتقدنا صدقه، لزم من تصديقه الشهادة بأن الله هو الإله الحق؛ لأن جل دعوته إلى (لا إله الا الله) ، فأكثر ما دعا إليه تحقيق (لا إله إلا الله) .
فعرف بذلك أن الشهادتين متلازمتان وأن إحداهما مرتبطة بالأخرى، ولأجل ذلك اعتبرتا ركناً واحداً من أركان الإسلام الخمسة، وهو الركن الأساسي الذي تنبني عليه بقية الأركان، وهو شرط لها كلها، فلا يقبل ركن من الأربعة إلا بعد أن يتحقق الركن الأول وهو الشهادتان.(14/2)
شرف وصف العبودية للنبي صلى الله عليه وسلم
وهنا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم بثلاث صفات: الصفة الأولى: الاجتباء.
والثانية: الارتضاء.
والثالثة: الاختيار.
وقد وصفه أيضاً بالعبودية، وتكلم الشارح هنا على العبودية، ونحن نتكلم عليها توضيحاً لما قاله، وإن كان فيما ذكره كفاية، فنقول: وصف الله نبيه بالعبودية في هذه الآيات، كما في قوله في مقام التحدي: {وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} [البقرة:23] ، فما قال: على رسولنا.
وفي مقام الإسراء: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} [الإسراء:1] ، وفي مقام الدعوة: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ} [الجن:19] ، وفي مقام إنزال الكتاب: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ} [الكهف:1] ، {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ} [الفرقان:1] ، {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} [النجم:10] ، والآيات في ذلك كثيرة.
وكذلك ذكر الشارح أيضاً أن عيسى وصفه بذلك، فإذا طلب من عيسى الشفاعة قال: (اذهبوا إلى محمد عبد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر) ، ولم يقل: (رسول) ، وذلك لأن العبودية هي الصفة الأصلية للخلق.
وكذلك وصف بها أيضاً الأنبياء قبله، قال الله تعالى: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ} [ص:17] ، {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ} [ص:41] ، {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} [ص:45] ، كلهم وصفهم بأنهم عبيد وعباد وواحدهم عبد.
وكذلك حكى عن عيسى العبودية، وأنها أول ما تكلم به وهو في المهد، فقال: {إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا} [مريم:30] ، وقال عنه في آخر سورة النساء: {لَنْ يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ} [النساء:172] أي: لا يأنف من العبودية، بل يراها صفة شرف، وكذلك الملائكة: {لَنْ يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ} [النساء:172] ، فالملائكة أيضاً لا يستنكف أحدهم أن يكون عبداً لله، بل هم قد وصفوا بذلك في قوله تعالى: {بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} [الأنبياء:26-27] ، فأول ما وصفهم به أنهم عباد، يعني أنهم مملوكون لله.
وقد وصف الله جميع الخلق بذلك في قوله تعالى: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} [مريم:93] .(14/3)
أقسام العبودية
وقد ذكر العلماء أن العبودية لله تنقسم قسمين: عبودية عامة وعبودية خاصة.
فالعبودية العامة يدخل فيها جميع الخلق مؤمنهم وكافرهم وهي المذكورة في هذه الآية: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} [مريم:93] ، والعبودية هنا معناها أن كلهم خاضع لتصرف الرب سبحانه وكلهم مملوكون له، فإذاً هم عبيد لله سبحانه، وهو الذي يحكم فيهم ويعدل: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت:46] ، {وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [ق:29] يقوله الله يوم القيامة.
فالخلق عبيد لله بمعنى أنهم مملوكون، والله هو المالك لهم، فهم عبيده يتصرف فيهم، فهو الذي يميت من يشاء ويحيي من يشاء، ويمرض من يشاء ويشفي من يشاء، ويفقر هذا ويغني هذا، ويعز هذا ويذل هذا، ويمنع هذا ويعطي هذا، ويتصرف فيهم تصرف المالك في ملكه لا معقب له، فإذاً كلهم تحت تصرفه وتحت تقديره وفي قبضته، لا يخرج أحد منهم عن قبضته ولا يستقل بنفسه ولا بملكيته، بل إذا شاء الله انتزع ملكه من يده أو انتزع ما أعطاه له، فهذه عبودية عامة.
وأما العبودية الخاصة فهي التي ذكرت في حق النبي صلى الله عليه وسلم، وفي حق الملائكة، وفي حق الأنبياء وغيرهم، وكذلك ذكرت في مواضع أخرى في حق أولياء الله كقوله تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا} [الفرقان:63] هؤلاء عبوديتهم خاصة.
وذكروا في قول الله تعالى: {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا} [الإنسان:6] أن هذه عبودية خاصة، وهذه العبودية مقتضاها ومدارها الذل لله تعالى والخضوع، وذلك أن العبد العابد متى شعر بأنه عبد لله مملوك له، وأن ربه المالك له يتصرف فيه كما يشاء، وأنه لا يملك التصرف لنفسه، ومتى شعر بأنه مخلوق مربوب ليس هو الذي خلق نفسه، ومتى شعر بأن خالقه على كل شيء قدير، ومتى شعر بأن ربه صادق الوعد فيما وعده به، ومتى شعر بأن ربه سبحانه قد وعده على الطاعة بالجزاء الأوفر وتوعده على المعصية بالعقاب الأكبر، إذا شعر بذلك ونحوه خضع لربه وخشع له، إذ التعبد التذلل الخضوع.
فأصل العبودية الذل، ومنه سمي العبد المملوك عبداً؛ لأنه ذليل لمالكه وسيده، فالخلق كلهم يجب أن يظهروا هذا التذلل طوعاً واختياراً، أن يظهروا الذل لربهم، والخضوع له، والتواضع بين يديه، والاستكانة له، وأن يعترفوا بذلك لربهم، وأنه هو المستحق لذلك وحده.
وقد فسرت العبادة التي أمر بها العبد بأنها غاية الذل مع غاية الحب، وذكر ذلك ابن القيم في النونية بقوله: وعبادة الرحمن غاية حبه مع ذل عابده هما قطبان وعليهما فلك العبادة دائر ما دار حتى قامت القطبان ومداره بالأمر أمر رسوله لا بالهوى والنفس والشيطان فإذاً: العبد الحقيقي هو الذي يذل لربه ويخضع، وهو الذي يحب ربه غاية المحبة، وهو الذي يتعبد له غاية التعبد، والأنبياء كذلك، لاشك أنهم قاموا بهذا الوصف، ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم قام بهذا الوصف، واعتبر في حقه شرفاً، فإذاً ليس في كونه عبداً لله شيء من التنقص، بل العبودية لله غاية الشرف، والعبودية لله غاية العلم، والعبودية لله غاية الرفعة، والعبودية لله والرق له والذل له هي الأصل في الفضل وفي التمكين، فكذلك الأنبياء يعتزون بذلك؛ لأنهم يتعبدون لمالكهم، بل المالك الحقيقي التذلل له والرق له والانتماء إليه يعتبر شرفاً وفضلاً، كما قال ابن القيم على لسان العابد الذي يفتخر بالعبودية: إذا قيل هذا عبدهم ومحبهم تهلل بشراً ضاحكاً يتبسم يعني: يفتخر إذا نسب إلى أنه عبد للرب سبحانه وتعالى، وقد يفتخر أيضاً بعض المماليك بانتمائه إلى الرق لبعض الملوك، فيقول: أنا لي الفخر أن أكون عبداً للملك الفلاني أو مملوكاً له، فإذا كانوا يفتخرون بالرق وبالملكية لبعض من الخلق، فكيف لا تفتخر أيها الإنسان بالرق وبالملكية وبالعبودية لرب الأرباب ومسبب الأسباب، وخالق الكون سبحانه وتعالى.(14/4)
طرق معرفة صدق النبي صلى الله عليه وسلم(14/5)
أحوال الأنبياء الدالة على صدقهم
قال المؤلف رحمه الله: [وقوله: (وإن محمداً) بكسر الهمزة عطفاً على قوله: (إن الله واحد لا شريك له) ؛ لأن الكل معمول القول، أعني قوله: (نقول في توحيد الله) .
والطريقة المشهورة عند أهل الكلام والنظر تقرير نبوة الأنبياء بالمعجزات، لكن كثيراً منهم لا يعرف نبوة الأنبياء إلا بالمعجزات، وقرروا ذلك بطرق مضطربة، والتزم كثير منهم إنكار خرق العادات لغير الأنبياء، حتى أنكروا كرامات الأولياء والسحر ونحو ذلك.
ولا ريب أن المعجزات دليل صحيح، لكن الدليل غير محصور في المعجزات؛ فإن النبوة إنما يدعيها أصدق الصادقين أو أكذب الكاذبين، ولا يلتبس هذا بهذا إلا على أجهل الجاهلين، بل قرائن أحوالهما تعرب عنهما وتعرّف بهما، والتمييز بين الصادق والكاذب له طرق كثيرة فيما دون دعوى النبوة، فكيف بدعوى النبوة؟ وما أحسن ما قال حسان رضي الله عنه: لو لم يكن فيه آيات مبيِّنة كانت بديهته تأتيك بالخبر وما من أحد ادعى النبوة من الكذابين إلا وقد ظهر عليه من الجهل والكذب والفجور واستحواذ الشياطين عليه ما ظهر لمن له أدنى تمييز؛ فإن الرسول لابد أن يخبر الناس بأمور ويأمرهم بأمور، ولابد أن يفعل أموراً، والكاذب يظهر في نفس ما يأمر به وما يخبر عنه، وما يفعله ما يبين به كذبه من وجوه كثيرة، والصادق ضده، بل كل شخصين ادعيا أمراً أحدهما صادق والآخر كاذب، لابد أن يظهر صدق هذا وكذب هذا ولو بعد مدة؛ إذ الصدق مستلزم للبر، والكذب مستلزم للفجور، كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (عليكم بالصدق؛ فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً، وإياكم والكذب؛ فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً) ] .(14/6)
المعجزات والخوارق
عرف المسلمون نبوة نبيهم صلى الله عليه وسلم، وشهدوا له بالرسالة، والطريق إلى معرفته والتصديق له ما أيده الله تعالى به من المعجزات التي دلت على صدقه.
ومعروف أنه بشر، وأنه واحد من الناس، ولكن معلوم أن الله سبحانه يصطفي رسلاً من خلقه فينزل عليهم الآيات البينات بواسطة الملك، ويوحي إليهم من شرعه ما يشاء.
فإذاً الرسل الذين يرسلهم إلى خلقه ويؤيدهم بهذه المعجزات يعرف صدقهم لعدة أسباب: منها ما يأتون به من الآيات والمعجزات، كما حصل لكثير من الأنبياء، فإن كلاً من الأنبياء أتى بمعجزات دلت على صدقه.
فموسى أيده الله بعصاه التي تنقلب إلى حية، وبيده التي تخرج بيضاء، وبالطوفان، وبما أرسله على آل فرعون في قوله: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ} [الأعراف:133] ، وبالغمام الذي ينزل ليظللهم، وبالحجر الذي يتفجر منه الأنهار، وبإنزال المنِّ والسلوى، وغير ذلك من المعجزات.
وعيسى كذلك أخبر الله تعالى أنه يبرئ الأكمه والأبرص، ويحيي الموتى بإذن الله، ويخلق من الطين كهيئة الطير فينفخ فيها فتكون طيراً بإذن الله، وأخبر بأنه ينبئهم بما يأكلونه وما يدخرونه في بيوتهم، فيخبرهم بأشياء يخفونها، وأيد هذا بكتابه الذي هو الإنجيل.
ونبينا عليه الصلاة والسلام أيده الله تعالى بمعجزات، وقد استوفاها العلماء في كتب كثيرة تسمى (دلائل النبوة) من إخباره بمغيبات مما اعتمده من وحي الله سبحانه وتعالى، وكذلك ما يقع منه من بركة طعام وبركة شراب وبركة ماء، وما أشبه ذلك.
وهكذا ما يخبر به من الأمور التي لم تقع فتقع كما أخبر، وذلك كله اعتمادٌ على وحي الله عز وجل.
وهكذا ما وقع من المعجزات له، كحنين الجذع له، وتسبيح الحصى بين يديه، وسكون الجمل لما اضطرب وسكنه، وما أشبه ذلك.
ولو لم يكن إلا تأييده بهذا القرآن الذي أنزله، وجعله معجزاً، وتحداهم أن يأتوا بمثله لكفى، والكلام على هذا يطول.
ومما أيدهم الله تعالى به أيضاً أن جعل وجوههم دالة على صدقهم، كما في البيت: لو لم يكن فيه آيات مبينة كانت بديهته تأتيك بالخبر فلو لم يؤيده الله بهذه المعجزات لكان وجهه وبشره وطلاقته دليلاً على صدقه، فقد كان مأموناً قبل الإسلام، وكانوا يسمونه بالصادق الأمين، وكان أيضاً حسن الملاطفة، لا يأتي شيئاً من الذي ينكر في الجاهلية وذلك لأن الله حماه واصطفاه واختاره، وكان أيضاً موثوقاً عندهم بكلامه، لا يقول إلا الصدق ولا يتكلم إلا بالصدق، كما شهد له بذلك أعداؤه، فإنه لما سأل هرقل أبا سفيان بقوله: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فقال: لا.
قال: إنه لم يكن ليدع الكذب على الناس ويكذب على الله.(14/7)
الشريعة المحكمة
ومما يدل على صدقه ما جاء به من هذه الشريعة التي إذا تأملها العاقل عرف أنها ليست من قبل نفسه، بل هي من حكيم حميد يضع الأشياء في مواضعها.
فإنه لما أمر بهذه العبادات ونهى عن المحرمات، تأملها كل عاقل فعرف بذلك أنها صحيحة ملائمة للواقع؛ ولذلك روي أن بعض الأعراب لما أسلم ولامه بعض صحبه قال: إني تأملت ما جاء به محمد، فرأيته ما أمر بأمر فقال العقل: ليته نهى عنه، ولا نهى عن شيء فقال العقل: ليته أمر به.
بل العقل موافق لما جاء به، وكذلك الفطرة السليمة.
فهذا مما ميز الله تعالى به أنبياءه: أنه أيدهم بما يدل على صدقهم، حتى يكون ذلك دليلاً على أنهم جاءوا بالشرع الشريف من الله عز وجل، وأنهم صادقون ليسوا بكاذبين، ولو كان أحد منهم كاذباً على الله تعالى، لفضحه ولأظهر كذبه، فلا يجوز ذلك على الله سبحانه، فالله تعالى يتنزه أن ينصر من يكذب عليه، فلو كان كاذباً فيما جاء به لما قواه الله، بل لخذله كما خذل الكذابين، فقد ظهر في زمانه كذابون، ولكن كانت عاقبتهم المحو والاندحار، ظهر في اليمن كذاب يقال له: الأسود العنسي الذي استولى على أكثر اليمن من نجران إلى صنعاء، ثم لما ظهر أنه كاذب قام عليه بعض حشمه فقتلوه.
وكذلك مسيلمة الكذاب لما ادعى النبوة تبعه من اغتر به، ففضحه الله تعالى وسلط عليه من قتله.
وشريعة الله التي أوحاها إلى نبيه صلى الله عليه وسلم باقية إلى أن يأتي أمر الله تعالى.(14/8)
وضوح كذب الكهان ونحوهم
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ولهذا قال تعالى: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ * تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ * يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ * وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ} [الشعراء:221-226] .
فالكهان ونحوهم - وإن كانوا أحياناً يخبرون بشيء من الغيبيّات ويكون صدقاً - فمعهم من الكذب والفجور ما يبين أن الذي يخبرون به ليس عن مَلَك، وليسوا بأنبياء، ولهذا لما قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ ابن صياد: (قد خبأت لك خبيئاً، وقال: هو الدُّخ.
قال له النبي صلى الله عليه وسلم: اخسأ فلن تعدو قدرك) يعني: إنما أنت كاهن.
وقد قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (يأتيني صادق وكاذب) .
وقال: (أرى عرشاً على الماء) ، وذلك هو عرش الشيطان.
وبين أن الشعراء يتبعهم الغاوون، والغاوي: الذي يتبع هواه وشهوته، وإن كان ذلك مضراً له في العاقبة.
فمن عرف الرسول وصدقه ووفاءه ومطابقة قوله لعمله، علم علماً يقيناً أنه ليس بشاعر ولا كاهن، والناس يميزون بين الصادق والكاذب بأنواع من الأدلة، حتى في المدعي للصناعات والمقالات، كمن يدعي الفلاحة والنساجة والكتابة، أو علم النحو والطب والفقه وغير ذلك، والنبوة مشتملة على علوم وأعمال لابد أن يتصف الرسول بها، وهي أشرف العلوم وأشرف الأعمال، فكيف يشتبه الصادق فيها بالكاذب؟! ولا ريب أن المحققين على أن خبر الواحد والاثنين والثلاثة قد يقترن به من القرائن ما يحصل معه العلم الضروري، كما يعرف الرجل رضا الرجل وحبه وبغضه وفرحه وحزنه، وغير ذلك مما في نفسه بأمور تظهر على وجهه، قد لا يمكن التعبير عنها، كما قال تعالى: {وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ} [محمد:30] ، ثم قال: {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} [محمد:30]] .
هذا الكلام يتعلق برسالة نبينا عليه الصلاة والسلام، وكيف عرف أنه صادق، وذلك لأن المشركين رموه بالكذب، فمنهم من قال: ساحر كذاب، ومنهم من قال: كاهن، ومنهم من قال: شاعر.
ورد الله عليهم، قال تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ * قُلْ تَرَبَّصُوا} [الطور:29-30] يعني: انتظروا {فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنْ الْمُتَرَبِّصِينَ} [الطور:30] ، وأخبر بأنه ليس بشاعر فقال: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} [يس:69] .
وذم الشعراء في هذه الآية فقال: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمْ الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ} [الشعراء:224-227] ، فإن هذا تنزيه لنبيه أن يكون شاعراً أو يعلمه الشعر، وتنزيه لهذا القرآن أن يكون شعراً، ولهذا قال في آية أخرى: {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ * وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} [الحاقة:41-42] ، وذلك لأنهم يقولون عنه: إنه من الكهنة.
لما رأوا الكهنة وسجعهم وإخبارهم بأشياء من المغيبات، ادعوا بأنه كاهن، والكاهن في الأصل هو الذي يدعي علم الغيب، أو يخبر عن المغيبات، أو يخبر عمَّا في الضمير، أو يدل على مكان المسروق ومكان الضالة واللقطة، وذلك بتنزل الشياطين عليه؛ فإن الشياطين تختطف السمع وتسترقه من السماء وتوحيه إلى أوليائها الذين هم السحرة والكهنة، كما أخبرالله تعالى بذلك في قوله: {لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلإٍ الأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ * دُحُوراً وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ * إِلاَّ مَنْ خَطِف الْخَطْفَة} [الصافات:8-10] يعني: الكلمة يخطفها الشيطان من الملائكة فيستمعها، ثم يلقيها في أذن وليه الساحر أو الكاهن.
أخبر الله تعالى في هذه الآية أن الشياطين تنزل؛ على أولئك الجهلة: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ * تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} [الشعراء:221-222] يعني: الكاهن، فـ (أفاك) أي: كذاب.
و (أثيم) : أي: آثم.
أي أنه من أهل الإثم الذي هو الزور والذنب العظيم.
قال تعالى: {يُلْقُونَ السَّمْعَ} ، والسمع: ما يختطفونه من الملائكة ويلقونه إليهم، {وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ} [الشعراء:223] وقد وردفي الحديث قوله صلى الله عليه وسلم في صفة أخذ الكاهن الكلمة من السماء: (فيلقيها إلى من تحته -يعني: الذي يخطفها- ثم يلقيها الآخر إلى من تحته، حتى يلقيها على لسان الساحر أو الكاهن فيكذب معها مائة كذبة) ، فالكاهن يستمع الكلمة التي سمعت من السماء، ويضيف إليها كذباً، وهذا معنى قوله تعالى: {يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ} [الشعراء:223] ، فعرف بذلك أن الله تعالى نزه نبيه عن أن يكون بمتهم كالذين تتنزل عليهم الشياطين، وإنما أنزل عليه الملك بهذا الوحي المتتابع المشتمل على الحكم والأحكام مما يدل على أنه من حكيم حميد، {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ} [فصلت:42] .
وذكر أيضاً من الكهنة الذين في عهد النبي صلى الله عليه وسلم شاب من اليهود اسمه ابن صياد، ورد في شأنه أحاديث كثيرة في الصحيحين وغيرها، حتى ظن بعض الصحابة أنه المسيح الدجال، واستأذن عمر النبي صلى الله عليه وسلم في أن يقتله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن يكن هو فلن تسلط عليه، وإن لا يكن هو فلا خير لك في قتله) فإن كان الدجال فلا تستطيع أن تقتله؛ لأنه قد قدر الله أنه يخرج، وأنه يحصل منه ما سوف يحصل، فلن تسلط عليه.
أما إذا لم يكن هو فلا خير لك في قتله، ولكن القرائن دلت على أنه ليس هو الدجال، وإنما هو كاهن من الكهنة الذين تنزل عليهم الشياطين، وأخبر بأنه يرى عرشاً في الماء، وذلك هو عرش الشيطان، وأخبر بأنه يأتيه صادق وكاذب، يعني: يأتيه وسوسة من الشيطان أو وحي من الشيطان، فتارة يصدق وتارة يكذب.
وذلك وحي الشيطان، والشياطين يوحون كما في قوله تعالى: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ} [الأنعام:121] ، فهناك وحي شياطين تنزل به إلى أوليائها.
ومما يدل على تكهنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سأله فقال: قد خبأت لك خبيئاًً.
قال: هو الدخ.
وكان قد خبأ له سورة الدخان، وفيها قوله تعالى: {فَارتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ * يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الدخان:10-11] إلى آخره، فقال: (اخسأ فلن تعدو قدرك) .
فالحاصل أن النبي صلى الله عليه وسلم قد نزهه الله تعالى عن صفات هؤلاء وهؤلاء، وقد وصفه الله بصفات تدل على صدقه وصحة كلامه، وذلك لما يشتمل عليه كلامه من الانتظام ومن الإحكام، وكذلك موقع كلامه في القلوب؛ حيث إنه متى سمعه السامع أصغى إليه والتذ به، سواء كان من القرآن أو مما علمه الله تعالى.(14/9)
القرائن الدالة على التمييز بين الصادق والكاذب
ولاشك أن الناس يفرقون بين صادق الدعوى وكاذبها، فالناس يعرفون كل من يدعي وينتحل أمراً من الأمور وهو ليس من أهله، وذلك ليس يخفى على الفطن، فكل من أعطاه الله تعالى فطنة فإنه يميز بين الصادق والكاذب، فلو كان كاذباً -وحاشاه من ذلك- لما خفي كذبه على جمهرة الصحابة، سيما عقلاؤهم الذين صحبوه مدة طويلة قبل الرسالة وبعدها، وعرفوا صدقه، والتذوا باتباعه، وحمدوا العاقبة لما آمنوا به، وتمنوا أنهم مع السابقين الأولين الذين سبقوا إلى تصديقه واتباعه، وتفانوا في نصرته، وبذلوا في سبيل نصرته أموالهم وأنفسهم، وهجروا بلادهم وأولادهم وأزواجهم وعشائرهم، فلما وصل الإيمان إلى قلوبهم وذاقوا حلاوة العلم والإيمان رخصت عندهم الدنيا بأسرها، وبذلوا في ذلك نفوسهم قتلاً في سبيل الله، ذلك كله دليل على أنهم عرفوا صدقه كما يعرفون أولادهم وأحفادهم.
كذلك الكاذب في كل نحلة يعرف كذبه، فكل من انتحل شيئاً ليس له فإنه يظهر أمره ولا يخفى على فطناء الناس، وإذا عمل أي عمل وهو ليس من أهله وجرب ذلك وعرف منه، ابتعد عنه الناس وحذروا منه.
ومثَّل الشارح بالأعمال التي في زمنه، كالخياطة والكتابة والخرازة وما أشبهها، فهذه حرف يدوية قد يتعلمها الإنسان في زمن يسير، ولكن قد يتسمى الإنسان بأنه من أهلها، ويظهر بالتجربة أنه ليس من أهلها، حتى قال بعضهم: فدع عنك الكتابة لست منها ولو سودت ثوبك بالمداد يعني: إنك لست من أهل هذه الصنعة ولو فعلت ما فعلت.
وعرف بذلك أن كل من تعاطى شيئاً وهو ليس من أهله، فإن الناس يعرفون أنه كاذب ويظهر كذبه.
وهذه الدعوى التي جاء بها الأنبياء الذين أرسلهم الله تعالى إلى خلقه لاشك أنها دعوى كبيرة، فلو كانوا كاذبين لما أيدهم الله بما يدل على صدقهم، ولظهر كذبهم وفضحهم الله تعالى على رءوس الأشهاد ونكَّل بهم.
وساق الشارح هذه الآية، وهي قوله تعالى: (وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} [محمد:30] ، وقد أخبر الله تعالى بأن نبيه يعرف بعض المتسترين بأوصافهم الظاهرة، كما في قوله: {فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ} [محمد:30] يعني: بأمارات تظهر على وجوههم يعرف بها من هو صادق ممن هو كاذب.
فإذا كانت هذه الأعمال تعرف بالسيما أو بالأمارات الظاهرة، فلا شك أن أمارات النبوة تعرف لمن تأملها.(14/10)
تفصيل الأحوال الدالة على صدق محمد صلى الله عليه وسلم
قال رحمه الله تعالى: [وقد قيل: ما أسرَّ أحد سريرة إلا أظهرها الله على صفحات وجهه وفلتات لسانه.
فإذا كان صدق المخبر وكذبه يعلم بما يقترن من القرآئن، فكيف بدعوى المدعي أنه رسول الله؟ كيف يخفى صدق هذا من كذبه؟ وكيف لا يتميز الصادق في ذلك من الكاذب بوجوه من الأدلة؟.
ولهذا لما كانت خديجة رضي الله عنها تعلم من النبي صلى الله عليه وسلم أنه الصادق البار، قال لها لما جاءه الوحي: (إني قد خشيت على نفسي، فقالت: كلا والله لا يخزيك الله أبداً؛ إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكلّ، وتقري الضيف، وتكسب المعدوم، وتعين على نوائب الحق) .
فهو لم يخف من تعمد الكذب، فهو يعلم من نفسه صلى الله عليه وسلم أنه لم يكذب، وإنما خاف أن يكون قد عرض له عارض سوء، وهو المقام الثاني، فذكرت خديجة ما ينفي هذا، وهو ما كان مجبولاً عليه من مكارم الأخلاق ومحاسن الشيم، وقد علم من سنة الله أن من جبله على الأخلاق المحمودة ونزهه عن الأخلاق المذمومة فإنه لا يخزيه.
وكذلك قال النجاشي لما استخبرهم عما يخبر به، واستقرأهم القرآن فقرءوا عليه: إن هذا والذي جاء به موسى -عليه الصلاة السلام- ليخرج من مشكاة واحدة.
وكذلك ورقة بن نوفل لما أخبره النبي صلى الله عليه وسلم بما رآه، وكان ورقة قد تنصر، وكان يكتب الإنجيل بالعربية، قالت له خديجة: أي عم اسمع من ابن أخيك ما يقول.
فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم بما رأى، فقال: هذا هو الناموس الذي كان يأتي موسى.
وكذلك هرقل ملك الروم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما كتب إليه كتاباً يدعوه فيه إلى الإسلام طلب من كان هناك من العرب، وكان أبو سفيان قد قدم في طائفة من قريش في تجارة إلى الشام، فسألهم عن أحوال النبي صلى الله عليه وسلم، فسأل أبا سفيان وأمر الباقين إن كذب أن يكذبوه، فصاروا بسكوتهم موافقين له في الإخبار، سألهم: هل كان من آبائه من ملك؟ فقالوا: لا.
قال: هل قال هذا القول أحد قبله؟ فقالوا: لا.
وسألهم: أهو ذو نسب فيكم؟ فقالوا: نعم.
وسألهم: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فقالوا: لا، ما جربنا عليه كذباً.
وسألهم: هل اتبعه ضعفاء الناس أم أشرافهم؟ فذكروا أن الضعفاء اتبعوه، وسألهم: هل يزيدون أم ينقصون؟ فذكروا أنهم يزيدون، وسألهم: هل يرتد أحد منهم عن دينه سخطة له بعد أن يدخل فيه؟ فقالوا: لا.
وسألهم: هل قاتلتموه؟ قالوا: نعم.
وسألهم عن الحرب بينهم وبينه.
فقالوا: يدال علينا مرة ونُدال عليه أخرى.
وسألهم: هل يغدر؟ فذكروا أنه لا يغدر، وسألهم: بماذا يأمركم؟ فقالوا: يأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئاً، وينهانا عما كان يعبد آباؤنا، ويأمرنا بالصلاة والصدق والعفاف والصلة.
وهذه أكثر من عشر مسائل، ثم بين لهم ما في هذه المسائل من الأدلة فقال: سألتكم هل كان من آبائه من ملك؟ فقلتم: لا.
قلت: لو كان من آبائه من ملك لقلت: رجل يطلب ملك أبيه.
وسألتكم: هل قال هذا القول فيكم أحد قبله؟ فقلتم: لا.
فقلت: لو قال هذا القول أحد قبله لقلت: رجل ائتم بقول قيل قبله، وسألتكم: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فقلتم: لا.
فقلت: قد علمت أنه لم يكن ليدع الكذب على الناس، ثم يذهب فيكذب على الله تعالى، وسألتكم: أضعفاء الناس يتبعونه أم أشرافهم؟ فقلتم: ضعفاؤهم.
وهم أتباع الرسل -يعني: في أول أمرهم-، ثم قال: وسألتكم: هل يزيدون أم ينقصون؟ فقلتم: بل يزيدون.
وكذلك الإيمان حتى يتم، وسألتكم: هل يرتد أحد منهم عن دينه سخطة له بعد أن يدخل فيه.
فقلتم: لا، وكذلك الإيمان إذا خالطت بشاشته القلوب لا يسخطه أحد.
وهذا من أعظم علامات الصدق والحق، فإن الكذب والباطل لابد أن ينكشف في آخر الأمر، فيرجع عنه أصحابه ويمتنع عنه من لم يدخل فيه، والكذب لا يروج إلا قليلاً ثم ينكشف.
وسألتكم: كيف الحرب بينكم وبينه؟ فقلتم: إنها دول.
وكذلك الرسل تبتلى وتكون العاقبة لها، قال: وسألتكم: هل يغدر؟ فقلتم: لا.
وكذلك الرسل لا تغدر.
وهو لما كان عنده من علمه بعادة الرسل وسنة الله فيهم أنه تارة ينصرهم وتارة يبتليهم، وأنهم لا يغدرون علم أن هذه علامات الرسل، وأن سنة الله في الأنبياء والمؤمنين أن يبتليهم بالسراء والضراء لينالوا درجة الشكر والصبر، كما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (والذي نفسي بيده، لا يقضي الله للمؤمن قضاء إلا كان خيراً له، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له) .
والله تعالى قد بين في القرآن ما في إدالة العدو عليهم يوم أحد من الحكمة، فقال: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:139] ، وقال تعالى: {الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت:1-2] ، إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث الدالة على سنته في خلقه وحكمته التي بهرت العقول.
قال: وسألتكم عما يأمر به فذكرتم أنه يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً، وينهاكم عما كان يعبد آباؤكم، ويأمركم بالصلاة والصدق والعفاف والصلة، وينهاكم عما كان يعبد آباؤكم، وهذه صفة نبي، وقد كنت أعلم أن نبياً يبعث، ولم أكن أظنه منكم، ولوددت أني أخلص إليه، ولولا ما أنا فيه من الملك لذهبت إليه، وإن يكن ما تقول حقاً فسيملك موضع قدمي هاتين.
وكان المخاطب بذلك أبو سفيان بن حرب، وهو حينئذٍ كافر من أشد الناس بغضاً وعداوة للنبي صلى الله عليه وسلم، قال أبو سفيان بن حرب: فقلت لأصحابي ونحن خروج: لقد أَمِرَ أَمْرُ ابن أبي كبشة؛ إنه ليُعَظِّمه ملك بني الأصفر.
وما زلت موقناً بأن أمر النبي صلى الله عليه وسلم سيظهر حتى أدخل الله عليَّ الإسلام وأنا كاره] .
أرفق الشارح هذه القصص للاستدلال بها على صحة ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، فإن هؤلاء العقلاء الذين معهم معرفة وعلم استدلوا بهذه القرائن على صدقه وعلى صحة رسالته.
وذلك لأن الله تعالى أجرى العادة أن الكاذب يفضح ويظهر كذبه، فإذا أسر سريرة سيئة أظهرها الله تعالى على صفحات وجهه وفلتات لسانه، وعرف الناس ما يخفيه وما يضمره من كذب أو من حقد أو من نفاق أو نحو ذلك.
ولهذا كان المنافقون الذين في عهد النبي صلى الله عليه وسلم لا يخفى أمرهم بما يظهرونه من الكلمات السيئة التي فيها همز ولمز وعيب، فيعرفهم المؤمنون، فإذا عرفوا أن هذا يميل إلى المنافقين، ويجالسهم، ويتكلم معهم، ويلقاهم بوجه منبسط -ونحو ذلك- عرفوا أنه ليس بصادق الإيمان، ولو أنه يلاطف المؤمنين، ولو أنه يظهر لهم التصديق، كما ذكر الله ذلك عن المنافقين عموماً في قوله تعالى: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} [البقرة:14] ، ولكن فضحهم الله تعالى وأظهر سرائرهم، وعرفهم المسلمون وهجروهم، وحذر الله تعالى نبيه منهم فقال: {فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمْ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [المنافقون:4] ، أما صادق الإيمان فإنه يظهر صدقه ويظهر تصديقه بأعماله التي يعملها، فمن صار صادقاً من الصحابة عرفوا تصديقه بأقواله وبأعماله وبمحافظته.
وهكذا كل صادق فإن الله تعالى يؤيده ويظهر علامة صدقه.
وإذا كان هذا في الأمور العادية وفي أغراض الناس واحداً واحداً، حيث يعرف الصادق منهم من الكاذب، فيفضح الله الكاذب على رءوس الأشهاد في الدنيا وفي الآخرة، وإذا كان الناس يعرفون الصادق بالتجربة والكاذب بالتجربة؛ فكيف لا يعرف الكاذب المتنبئ؟ فلو أظهر ما أظهره من التحريف ومن التبديل ومن الكذب ومن السحر ومن الشعوذة وما أشبه ذلك، كما يجري على أيدي الكهنة والمتنبئين ونحوهم، فإن ذلك لا يخفى على الفطن.
وإذا جبل الله العبد على صفات حميدة عرف أنه لا يتقول على الله تعالى.(14/11)
شهادة خديجة رضي الله تعالى عنها
والقصص التي أوردها فيها قصة خديجة، وهي زوج النبي صلى الله عليه وسلم، وأول زوجاته، وأم أولاده كلهم إلا إبراهيم الذي هو من مارية القبطية التي هي أم ولده، وخديجة هي أول من آمن به من النساء.
ولما نزل عليه الوحي أول ما نزل وهو بغار حراء جاء إليها فزعاً وقال: (زملوني) فزملوه، أي: غطوه بغطاء حتى هدأ روعه.
ثم أخبر خديجة الخبر، وقال لها: (لقد خشيت على نفسي) يعني: خشيت أن يكون نزل بي مس من الجن أو نحو ذلك.
عند ذلك استدلت بصفات حميدة على أنه لا ينزل عليه هذا الأمر، ولا يسلط الله عليه شيئاً يفسد عليه عقله ويفسد عليه جسمه وعبادته، استدلت بالصفات التي جبله الله عليها، فقالت: (إنك لتصل الرحم) ، وصلة الرحم من الأقارب، تعتبر من الأمور التي يحمدها الله تعالى ويأمر بها.
(وتقري الضيف) ، فالطارق إذا نزل به أضافه فأشبعه وأطعمه.
(وتكسب المعدوم) والمعدوم الفقير ونحوه، تعني: تكتسب صداقته، أو تكسِّبه فتعطيه.
(وتعين على نوائب الحق) ، ولاشك أن هذه الصفات مما جبله الله تعالى عليها، فمن كان فيه هذا الوصف لا يخزيه الله تعالى، هكذا استدلت خديجة رضي الله عنها.(14/12)
شهادة ورقة بن نوفل
والقصة الثانية مع ورقة بن نوفل، ذكروا أن ثلاثة من قريش أنكروا ما عليه قريش من الضلال، وذهبوا يطلبون ديناً أحسن من ذلك الدين، فكان منهم ورقة الذي اتصل بالنصارى، وتعلم دينهم وتعلم لغتهم وكتابتهم وتنصر، ثم رجع إلى قومه ومعه الإنجيل يترجمه إلى اللغة العربية، وينسخ منه ما شاء الله، وكان معه معرفة بالكتب الأولى وبما اشتملت عليه، وبصفات النبي صلى الله عليه وسلم التي اشتمل عليها الإنجيل وغيره، فلما جاءت إليه أمرته أن يسمع ما يقوله النبي عليه الصلاة والسلام، فقص عليه ما رأى، فعرف من كلامه أنه ليس بكاذب، وأن هذا الذي نزل عليه هو الملك الذي نزل على موسى.
كيف عرف ذلك؟ عرفه بالأمارات التي قرأها في كتب أهل الكتاب، وعرف أيضاً صدقه فيما جاء عنه أنه ليس من أهل الكذب، وقال: (هذا الناموس الذي نزل على موسى، ليتني أكون حياً إذ يخرجك قومك، فقال: أومخرجيَّ هم؟ قال: نعم.
لم يأت أحد بمثل ما جئت به إلا أوذي، وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً) .
فآمن به وصدقه وشهد بأن ما جاء به هو الذي جاء به موسى -يعني: وسائر الأنبياء-، وأخبر بأنه سيناله ما نال الأنبياء من الأذى في ذات الله تعالى.
فهذا من أهل الكتاب شهد له بأنه جاء بما جاء به الأنبياء؛ لما عرف من الأمارات والدلالات على الصدق.(14/13)
شهادة النجاشي رحمه الله تعالى
والقصة الثالثة مع النجاشي ملك الحبشة، وكان نصرانياً، وكان أيضاً معه معرفة بالكتب، ومعرفة بصفة الأنبياء وغيرهم، فلما جاءه المهاجرون ونزلوا بالحبشة هرباً من أذى قريش وأقاموا عنده، أحضرهم وسمع ما قالوه في صفة النبي صلى الله عليه وسلم، وقرءوا عليه بعضاً من القرآن فبكى وخشع وآمن، وأقسم بأن ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم هو الحق، وأخبر أن مقالته في عيسى هي المقالة الصحيحة، وأنه لم يتجاوز ما هو عليه مثقال هذه - وأشار إلى عود كان بيده ينكب به-، مما يدل على أنه صدقه وصحح رسالته.
فعرف ذلك مع أنه ما رأى النبي عليه الصلاة والسلام، وإنما سمع ما جاء به، وسمع القرآن الذي أنزل عليه، وسمع بعض صفاته، فاستدل بها على صدقه وصحة رسالته، وآمن به، وكان يهدي إليه ويكاتبه، وأصدق عنه أم حبيبة لما تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم بعد موت زوجها، وأرسلها إليه عليه الصلاة والسلام، كل ذلك دليل على أنه قام معه وأنه صدقه، وصلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الغائب لما سمع بموته، وذلك كله دليل على أنه كان من المصدقين بهذا الرسول صلى الله عليه وسلم.
عرف ذلك مع أنه ما رآه، ولو رآه لازداد يقيناً بصحة ما جاء به وبصدقه.
فهذا دليل على أن الصادق يعرف الناس صدقه بأدنى ما يسمعون من خبره.(14/14)
شهادة هرقل ملك الروم
وأما القصة الأخيرة فهي مع ملك الروم وهو هرقل، والروم في الشام، وموطنهم في ذلك الوقت دمشق الشام، وكانوا يدينون بالنصرانية، فأرسل إليه النبي صلى الله عليه وسلم كتاباً يدعوه إلى الإسلام، ويقول فيه: (أسلم تسلم، يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين) ، وكتب إليه آية من سورة آل عمران، هي قول الله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران:64] .
فلما جاءه هذا الكتاب أرسل من يبحث عن أحد يعرف هذا الرجل الذي يدعي أنه نبي حتى يسأل عن أخلاقه وعن صفاته، فدل على أبي سفيان، وكان أبو سفيان قريباً للنبي صلى الله عليه وسلم في نسبه؛ لأنه من بني عبد مناف، وهو الجد الثالث من أجداد النبي صلى الله عليه وسلم؛ إذ هو صلى الله عليه وسلم ابن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف، فكلاهما يجتمع في عبد مناف، وهو أعرف به، وإن كان صده عن الدخول في أول الإسلام أول مرة الرئاسة والمنصب.
سأله هرقل عن هذه الأسئلة، واستدل بجوابها على صحة ما جاء به.
فالسؤال الأول عن نسبه، فأخبره أبو سفيان أنه ذو نسب، يعني أنه من أشرف الناس وليس من أطرافهم، ولا من أراذلهم.
فالأنبياء يبعثون في وسط القبائل وفي أشرفها، لا يبعثون من أطراف القبائل وأراذلها، فاعترف بأنه ذو نسب، يعني: أن آباءه وأجداده لهم شرف ولهم منصب.
السؤال الثاني: هل ملك أحد من آبائه؟ فلما أخبره بأنه لم يملك استدل على أنه لو كان أحد من آبائه قد ملك لكان طالباً ملك أبيه، فلما لم يكن كذلك عرف أنه ليس له غرض في ذلك.
والسؤال الثالث: هل كان كذاباً قبل أن يقول ما قال؟ فلما أخبره بأنه لم يجربوا عليه كذباً، قال: كيف يدع الكذب على الناس ويكذب على الله؟! هذا مستحيل، إذاً ليس هو كذاباً.
والسؤال الرابع: هل سبقه أحد إلى هذه المقالة؟ فلما أخبر بأنه ما سبق استدل بذلك على أنه صادق؛ لأنه لو قالها أحد قبله لكان مقتدياً به.
وسأله عن أتباعه فأخبر بأنهم ضعفاء الناس؛ وذلك لأن الضعفاء هم أرق قلوباً، وهم عادة الذين يتقبلون الحق، وهم أتباع الرسل، كما أخبر الله عن نوح في قوله: {قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ} [الشعراء:111] يعني: أراذل الناس، {وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا} [هود:27] ، ولكن في العاقبة وفي النهاية أسلم أشراف الناس واتبعوه.
وسأله: هل يزيدون أم ينقصون؟ ولما أخبره أنهم يزيدون عرف أن زيادتهم دليل على صدق ما هم عليه، وأنهم يتبعونه لاقتناعهم بأن ما جاء به حق، فكل من تبين له الحق اتبعه.
وسأله: هل يرتد أحد منهم؟ فلما أخبره بأنهم لا يرتدون، بل من دخل في الإسلام تمسك به ولم يرجع عنه أبداً، قال: هكذا الإيمان إذا خالطت بشاشته القلوب لا يسخطه أحد، فالإيمان الذي دخلوا فيه اطمأنت به قلوبهم، فلما اطمأنت به قلوبهم عرفوا صدقه وصحته فلم يسخطوه، بل تداعوا لنصرته.
وسأله: هل قاتلتموه؟ فأخبر بأنهم قاتلوه، وأنه ينصر عليهم وينصرون عليه، وذلك من الابتلاء الذي يبتلي الله تعالى به أنبياءه ثم تكون العاقبة لهم.
ويبتلي أيضاً أتباع أنبيائه كما في الآيات التي سردها الشارح، وقد علق الشارح على هذا تعليقاً حسناً، وذكر أن الله تعالى يبتلي الأنبياء ويبتلي الأولياء، ثم بعد ذلك يفرج عنهم ليظهر من يصدق ممن يكذب، كما قال تعالى: {وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ} [الحج:11] .
فالابتلاء الذي يبتلي به عباده إنما يكون لإظهار صدقهم من كذبهم، ليتميز من يكون مؤمناً صادق الإيمان ممن هو دعي ليس بصادق الإيمان.
وسأله: هل يغدر إذا عاهدوه؟ فأخبر بأنه لا يغدر.
وقد كان عليه الصلاة والسلام حريصاً على أن يفي بالمواعيد، ولا يؤثر عنه غدر، وقد أمره الله تعالى إذا أحس أو خاف من قوم خيانة أن ينبذ إليهم عهدهم على سواء، قال تعالى: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} [الأنفال:58] أي: عهدهم على سواء، وقل لهم: قد تبرأنا من العهد، ولا عهد بيننا وبينكم، فاستعدوا للحرب، ولا تأتهم بغتة وهم آمنون غافلون باقون على عهدهم وعلى مواثيقهم.
وأما السؤال العاشر والأخير فإنه يتضمن شرعه الذي جاء به، فقد اعترف أبو سفيان بأنه يأمرهم بعبادة الله وحده، وهو التوحيد، وأنه ينهاهم عما يعبد آباؤهم من الأصنام، وهو الشرك بالله، وأنه يأمرهم بالأشياء التي يشهد العقل بسلامتها وبملاءمتها، ألا وهي الصدق في الحديث، وصلة الرحم، والصبر على الضراء والسراء ونحوها، والعفاف ونحوه، فهذه الخصال التي يأمر بها يشهد العقل بملاءمتها وحسنها.
فالحاصل أن أبا سفيان لما أخبره بذلك عرف هرقل ملك الروم أنها صفات نبي، وصدَّق أبا سفيان في تلك الصفات، وصدقه أيضاً رفقاؤه ولم ينكروا عليه، وهي صفات صحيحة منقولة مشهورة متواترة عنه، فكان ذلك من الأدلة التي اتضح بها صدقه.
فالحاصل أن صدق الأنبياء يعرف بالأمارات التي يتميزون بها، بحيث لا يخفى أمرهم على ذي عقل سليم.(14/15)
الشهادة لمحمد صلى الله عليه وسلم بالرسالة تمام للشهادة لله تعالى بالوحدانية
فابتدأ الشارح رحمه الله بالكلام على الشهادة الثانية، وهي شهادة أن محمداً رسول الله، وذلك لأنها أحد جزأي الركن الأول من أركان الإسلام والذي هو كالأساس لبقية الأركان، وهو ركن الشهادتين.
ولا شك أن الشهادة للنبي صلى الله عليه وسلم بأنه رسول الله متممة لشهادة أن لا إله إلا الله، وذلك لأنه الذي دل على ربه، والذي بلغ رسالة ربه، والذي عرف بحق الله على عباده، والذي جاء مرسلاً بهذه الشريعة، فالشهادة له بأنه رسول الله تعتبر مكملة لشهادة أن لا إله إلا الله.
وقد فسرها الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في الثلاثة الأصول بقوله: معنى شهادة أن محمداً رسول الله طاعته فيما أمر، وتصديقه فيما أخبر، واجتناب ما نهى عنه وزجر، وأن لا يعبد الله إلا بما شرع.
وشرح هذه الكلمات وإيضاحها يحتاج إلى تطويل، ولكنها بحمد الله ظاهرة لكل متأمل، ولما تكلم أيضاً عن الشهادة في تفسيره للتشهد -أي: شهادة أن محمداً عبده ورسوله- فسرها بقوله: عبد لا يعبد، ورسول لا يكذب، بل يطاع ويتبع، هذا تفسير من الشيخ رحمه الله.
ولا شك أن هذه الرسالة التي جاء بها هي هذه الشريعة، وإذا كان رسولاً فإن الرسول معه رسالة، ورسالته هي الشريعة المحمدية والشريعة الدينية، قال تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنْ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا} [الجاثية:18] ، وهي هذا الدين الذي بينه وبلغه.(14/16)
من لوازم الشهادة للنبي صلى الله عليه وسلم بالرسالة(14/17)
محبته صلى الله عليه وسلم وطاعته
وقد ذكر العلماء للنبي صلى الله عليه وسلم حقوقاً على أمته، فمن تلك الحقوق محبته التي أمر الله بها في قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا} [التوبة:24] يعني: لا تقدموا محبة شيء على محبة الله ورسوله ومحبة الجهاد في سبيله.
وثبت في الصحيح قوله صلى الله عليه وسلم: (ثلاث من كن فيه وجد بهنَّ حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما) إلى آخره، بدأ بمحبة الله ورسوله وقدمهما على غيرهما، وثبت أيضاً قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ونفسه ووالده والناس أجمعين) .
ولاشك أن هذه المحبة لها علامات، ومن أظهر علاماتها الاتباع.
وقد أخبر الله تعالى أن اليهود ادعوا المحبة بقولهم: {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة:18] فأنزل الله آية تسمى آية المحنة، هي قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران:31] ، امتحن الله من ادعى محبته بهذه الآية، فجعل لمحبة الله علامة ظاهرة، وهي اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، وجعل لهذا الاتباع ثواباً، فقال: {يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران:31] أي: هذا ثوابكم، فإذا اتبعتم النبي صلى الله عليه وسلم أحبكم الله وغفر لكم ذنوبكم.
وقد ذكر الله عز وجل لاتباعه ثواباً آخر في قوله تعالى: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف:158] ، أمر بالإيمان به، ثم أمر باتباعه، ولذلك لا يكون صادقاً من لم يطعه، ولم يتبع سنته.
وقد ذكر شيخ الإسلام أن الله تعالى أمر بطاعته وطاعة رسوله في أكثر من أربعين موضعاً، إما أن يصرح بالفعل كقوله: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [المائدة:92] ، وإما أن يعطف بالواو كقوله: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ} [آل عمران:132] ، وإما أن يقتصر على طاعة الرسول؛ لأنه لا يأمر إلا بأمر الله، كقوله: {وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [النور:56] في عدة مواضع، ولاشك أن طاعته تستلزم اتباعه، فالأمر بالاتباع والأمر بالطاعة من متممات المحبة.(14/18)
الاقتداء والتأسي به صلى الله عليه وسلم
ويدخل في ذلك أيضاً الاقتداء والتأسِّي، دليله قوله: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ} [الأحزاب:21] ، وكلاهما علامة على صدق الإيمان به؛ فإن الله تعالى كما أمر بالإيمان بالله أمر بالإيمان بالرسول، ورتب عليه أجراً، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ} [الحديد:28] ، فأمر بتقوى الله والإيمان بالرسول، وجعل الثواب: {يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ} [الحديد:28] ، وكفى بذلك ثواباً.
وتقدم ذكر بعض الأدلة على ثبوت رسالة هذا النبي الكريم، فذكر الشارح قول خديجة لما أخبرها الخبر: (إنك لتصل الرحم، وتحمل الكلّ، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق) .
وذكر أيضاً قول ورقة بن نوفل لما قص عليه القصة: (هذا الناموس الذي أنزل على موسى، ليتني فيها حياً إذ يخرجك قومك، ثم قال: لم يأت أحد بمثل ما أتيت به إلا أوذي، وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً) .
وهذا لأنه كان قد قرأ الكتب وعرف ما فيها من صفة الأنبياء.
وذكر أيضاً شهادة ملك الحبشة النجاشي لما سمع كلام النبي صلى الله عليه وسلم وما أنزل عليه فقال: هذا والذي جاء به موسى ليخرج من إليم -يعني: من الله- أو: من مشكاة واحدة، فشهد له بأنه جاء بما جاء به موسى وعيسى والأنبياء قبلهما.
وذكر أيضاً قصة هرقل لما سأل أبا سفيان عن تلك الأسئلة التي استدل بها على أنه رسول من الله، وأنه صادق فيما جاء به، ولاشك أن هذه الشهادات تؤكد صحة ما جاء به، وأنه مرسل من الله تعالى.
وتأتي بقية الأدلة على هذه الشهادة عقلاً ونقلاً(14/19)
دلائل أخرى في إثبات نبوة الأنبياء(14/20)
الأحوال والقرائن الدالة على صدقهم
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ومما ينبغي أن يعرف أن ما يحصل في القلب بمجموع أمور قد لا يستقل بعضها به، بل ما يحصل للإنسان من شبع وري وشكر وفرح وغم بأمور مجتمعة لا يحصل ببعضها، ولكن ببعضها قد يحصل بعض الأمر، وكذلك العلم بخبر من الأخبار؛ فإن خبر الواحد يحصل للقلب نوع ظن، ثم الآخر يقويه، إلى أن ينتهي إلى العلم، حتى يتزايد ويقوى، وكذلك الأدلة على الصدق والكذب ونحو ذلك.
وأيضاً فإن الله سبحانه أبقى في العالم الآثار الدالة على ما فعله بأنبيائه والمؤمنين من الكرامة، وما فعله بمكذبيهم من العقوبة، كثبوت الطوفان، وإغراق فرعون وجنوده، ولما ذكر سبحانه قصص الأنبياء نبياً بعد نبي في سورة الشعراء كقصة موسى وإبراهيم ونوح ومن بعده يقول في آخر كل قصة: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَة وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الشعراء:67-68] .
وبالجملة فالعلم بأنه كان في الأرض من يقول: إنه رسول الله، وأن أقواماً اتبعوهم، وأن أقواماً خالفوهم، وأن الله نصر الرسل والمؤمنين، وجعل العاقبة لهم، وعاقب أعداءهم؛ هو من أظهر العلوم المتواترة وأجلاها.
ونقل أخبار هذه الأمور أظهر وأوضح من نقل أخبار من مضى من الأمم من ملوك الفرس وعلماء الطب كـ بقراط وجالينوس وبطليموس وسقراط وأفلاطون وأرسطو وأتباعه] .
يقول: بمجموع دلائل النبوة يقوى التصديق بنبوة ذلك النبي، فالله تعالى يؤيد الأنبياء بمعجزات بمجموعها يعرف به صدق كل واحد منهم، ولو لم يكن إلا معجزة واحدة لتوقف الناس أو بعضهم في الصدق، ولكن إذا تأيدت المعجزة بمعجزة أخرى ثم جاءت ثالثة ثم رابعة وهكذا، فمجموعها بلا شك يثير في النفس انتباهاً، ويكون سبباً في التصديق وقوة اليقين.
ثم ضرب لذلك مثلاً؛ بأن الإنسان لا يتأثر بكلمة، ولكن يتأثر بكلمات، وكذلك لا يشبع من لقمة واحدة، ولكن مجموع اللقم يشبعه، لا يروى عادة من جرعة واحدة حتى تجتمع جرعات.
وكذلك لا يصدق الإنسان في الأمور الكبيرة بخبر شخص واحد حتى يجتمع عنده أشخاص، فالخبر الأول يثير في النفس انتباهاً، والخبر الثاني يقوي ذلك الذي في النفس، ولا يزال يقوى إلى أن يصير كالشمس يقيناً، فهكذا معجزات الأنبياء بمجموعها يحصل اليقين والتصديق بأن ما جاءوا به من الله تعالى.(14/21)
بقاء الآيات الدالة على الأنبياء وأقوامهم
وقد ذكر الله أنه أرسل رسلاً من قبلنا، وأبقى آيات تدل على صدقهم، فقال تعالى: {وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ * وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [الصافات:137-138] يعني: أماكنهم وآثارهم.
وقال تعالى: {فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا} [النمل:52] ، وقال في آية أخرى: {فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ} [القصص:58] يعني أنهم أهلكوا وبقيت آثارهم، فتلك دلالة على أنه هلك قبلنا أمم كذبت، وأرسل إليها رسل، ونزلت عليها العقوبة، ونجى الله الرسل ومن آمن بهم، وأهلك المكذبين، وذكر الله أن من أولهم نوحاً عليه السلام، وأنه أنجاه في السفينة، فقال تعالى: {فَأَنجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ} [العنكبوت:15] يعني: أبقينا تلك السفينة تذكيراً وعبرة للناس إلى يوم الدين، يتذكرون بها تلك السفينة التي نجى فيها من آمن، وغرق من لم يؤمن.
ويذكر أنا نعلم يقيناً بأنه وجد في الأرض أنبياء جاءوا برسالات، فصدقهم من صدقهم ممن أراد الله هدايته، وكذبهم من كذبهم ممن كتب الله عليهم الشقاوة.
فنجى الله الأنبياء ومن آمن بهم، وأهلك الله المكذبين وانتقم منهم، نعلم ذلك يقيناً، ولو لم يقصه الله علينا.
فقص الله علينا قصة نوح وقصة هود وقصة إبراهيم وعاد وثمود وقوم شعيب وأصحاب الأيكة، وقصة فرعون، قص الله هذه القصص، وذكر الشارح أن الله تعالى أمر بالاعتبار بها، فبعد قصة موسى قال: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً) ، وهكذا بعد قصة إبراهيم وقصة نوح، إلى آخر القصص في سورة الشعراء يقول: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً) يعني: لعبرة وموعظة.
فالحاصل أنا نعلم يقيناً بأن الله تعالى أرسل رسلاً، وأن أولئك الرسل مرسلون من الله، وأنه تعالى أيدهم بالمعجزات التي أجراها على أيديهم، وأعجزت البشر، وأعجزت أهل زمانهم، وحاولوا أن يعارضوها كما حكى الله عن فرعون لما رأى تلك الآيات مع موسى فاعتبرها سحراً، فجاء بالسحرة الذين ألقوا حبالهم وعصيهم، فخيل إلى موسى أنها تسعى، ولكن لما ألقى عصاه التقمت ذلك كله، فعرف السحرة أن هذا ليس سحراً، وأنه من الله تعالى؛ فآمنوا واستجابوا لذلك، فعند ذلك بطش بهم وقال: {إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ} [طه:71] .
فهؤلاء لما كانوا ذوي معرفة بالسحر وعرفوا أن هذا لا يشبهه آمنوا.
فالحاصل أنا نعلم يقيناً أن أنبياء الله تعالى صادقون فيما بلغوه، وأنهم جاءوا بالشرائع الإلهية التي منها الشريعة المحمدية وأنها والشرائع التي قبلها كلها متفقة على أصل واحد، وهو العقيدة والتوحيد، قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36] أي: كل منهم جاء بهذه الرسالة، وإنما تنوعت الشرائع في الأوامر والنواهي.
فإذاً المسلم يعتقد صحة الرسالة، وأن الرسل صادقون، وذلك ركن من أركان الإيمان.(14/22)
إخبارهم بما سيكون ووقوعه
قال رحمه الله تعالى: [ونحن اليوم إذا علمنا بالتواتر من أحوال الأنبياء وأوليائهم وأعدائهم علمنا يقيناً أنهم كانوا صادقين على الحق من وجوه متعددة: منها: أنهم أخبروا الأمم بما سيكون من انتصارهم وخذلان أولئك وبقاء العاقبة لهم.
ومنها: ما أحدثه الله لهم من نصرهم وإهلاك عدوهم، إذا عرف الوجه الذي حصل عليه كغرق فرعون وغرق قوم نوح وبقية أحوالهم؛ عرف صدق الرسل.
ومنها: أن من عرف ما جاء به الرسل من الشرائع وتفاصيل أحوالها، تبين له أنهم أعلم الخلق، وأنه لا يحصل مثل ذلك من كذاب جاهل، وأن فيما جاءوا به من الرحمة والمصلحة والهدى والخير ودلالة الخلق على ما ينفعهم ومنع ما يضرهم، ما يبين أنه لا يصدر إلا عن راحم برٍ يقصد غاية الخير والمنفعة للخلق] .
زيادة على المعجزات التي أجراها الله تعالى على أيديهم هذه الآيات التي ذكرها، إذا تأملها المتأمل صدق بأنها من الله، وصدق بأنهم جاءوا من عند الله، وأنهم مرسلون صادقون فيما بلغوه.
فأخبروا بأن الله يهلك المكذبين وينجي المصدقين ووقع ما أخبروا به، فأهلك الله أعداءه وأنجى أولياءه، كما حكى الله تعالى ذلك.
وأخبروا بأن الله ينصر أولياءه ويخذل أعداءه، كما في قوله: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} [غافر:51] ، فوقع ما أخبروا به، وأخبروا بأمور مستقبلة لم تقع فوقعت ووافقت ما أخبروا به سواء بسواء، وذلك دليل صدقهم وصحة رسالتهم.
وأخبروا بأن هذه الشرائع من الله، وبالتأمل عرف صدقهم، حيث تواتر عن الأنبياء ما يدل على اتفاق شريعتهم، فصدق المتأخر منهم من قبله ووافق ما جاء به، وأيد المتقدم من يأتي بعده.
فحكى الله عن عيسى أنه قال: {وَمُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنْ التَّوْرَاةِ} [آل عمران:5] ، وحكى عنه أنه قال: {وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} [الصف:6] .
وهكذا الرسل يصدق الأول منهم من قبله، ويبشر بمن بعده، أو يأمر بأن يتبع.
ولاشك أن ذلك كله مع اجتماعه دليل صدق وصحة ما جاءوا به من الرسالة، وأنها من الله تعالى.
ونحن نعلم يقيناً أنه كان في الأرض رسل، وكان لهم أمم، وجاءوا بشرائع وبلغوها لأممهم، وصدقهم مصدقون وكذبهم مكذبون، وبقيت شرائعهم بعدهم، ونجى الله المؤمنين وأهلك المكذبين، نعلم ذلك بالتواتر زيادة على خبر الله تعالى.
ونعلم صدقهم بهذه المعجزات التي أجراها الله تعالى على أيديهم.(14/23)
شرح العقيدة الطحاوية [15]
بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين، وجعله خاتم النبيين وإمام المتقين وسيد المرسلين وحجة الله على جميع العالمين، وفضله على جميع خلقه، وأوجب على كل من سمع به أن يتبعه.(15/1)
الرسول صلى الله عليه وسلم وعموم رسالته
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ولذكر دلائل نبوة محمد صلى الله عليه وسلم من المعجزات وبسطها موضع آخر، وقد أفردها الناس بمصنفات كـ البيهقي وغيره.
بل إنكار رسالته صلى الله عليه وسلم طعن في الرب تبارك وتعالى، ونسبته إلى الظلم والسفه -تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً- بل جحد للرب بالكلية وإنكار، وبيان ذلك أنه إذا كان محمد عندهم ليس بنبي صادق، بل ملك ظالم، فقد تهيأ له أن يفتري على الله ويتقول عليه، ويستمر حتى يحلل ويحرم، ويفرض الفرائض، ويشرع الشرائع، وينسخ الملل، ويضرب الرقاب، ويقتل أتباع الرسل وهم أهل الحق، ويسبي نساءهم، ويغنم أموالهم وذراريهم وديارهم، ويتم له ذلك حتى يفتح الأرض، وينسب ذلك كله إلى أمر الله له به ومحبته له، والرب تعالى يشاهده وهو يفعل بأهل الحق، وهو مستمر في الافتراء عليه ثلاثاً وعشرين سنة، ومع ذلك كله يؤيده وينصره، ويعلي أمره، ويمكن له من أسباب النصر الخارجة عن عادة البشر.
وأبلغ من ذلك أنه يجيب دعواته، ويهلك أعداءه، ويرفع له ذكره، هذا وهو عندهم في غاية الكذب والافتراء والظلم؛ فإنه لا أظلم ممن كذب على الله، وأبطل شرائع أنبيائه، وبدلها وقتل أولياءه، واستمرت نصرته عليهم دائماً، والله تعالى يقره على ذلك، ولا يأخذ منه باليمين، ولا يقطع من الوتين.
فيلزمهم أن يقولوا: لا صانع للعالم ولا مدبر، ولو كان له مدبر قدير حكيم لأخذ على يديه، ولقابله أعظم مقابلة، وجعله نكالاً للصالحين؛ إذ لا يليق بالملوك غير ذلك، فكيف بملك الملوك وأحكم الحاكمين؟ ولا ريب أن الله تعالى قد رفع له ذكره، وأظهر دعوته والشهادة له بالنبوة على رءوس الأشهاد في سائر البلاد، ونحن لا ننكر أن كثيراً من الكذابين قام في الوجود وظهرت له شوكة، ولكن لم يتم أمره ولم تطل مدته، بل سلط الله عليه رسله وأتباعهم فقطعوا دابره واستأصلوه، فهذه سنة الله التي قد خلت من قبل، حتى إن الكفار يعلمون ذلك، قال تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ * قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ} [الطور:30-31] ، أفلا تراه يخبر أن كماله وحكمته وقدرته تأبى أن يقر من تقوَّل عليه بعض الأقاويل، فلابد أن يجعله عبرة لعباده كما جرت بذلك سنته في المتقولين عليه، وقال تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ} [الشورى:24] ، وهنا انتهى جواب الشرط، ثم أخبر خبراً جازماً غير معلق أنه يمحو الباطل ويحق الحق، وقال تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْء} [الأنعام:91] ، فأخبر سبحانه أن من نفى عنه الإرسال والكلام لم يقدره حق قدره] .
بدأ الشارح أولاً ببيان أن دلائل نبوة محمد صلى الله عليه وسلم كثيرة، وقد أفردت بالتآليف، وذكر منها ابن كثير في تاريخه في آخر السيرة الشيء الكثير، وتتبعها الكثيرون، ومن أوسع من توسع فيها البيهقي في (دلائل النبوة) الذي هو مطبوع، وكذلك أبو نعيم له أيضاً كتاب (دلائل النبوة) ، وهكذا غيرهم، وبمجموعها وبأكثرها يعلم ويتيقن أنه صلى الله عليه وسلم صادق فيما جاء به، فكيف بمجموعها مع كثرتها.
ثم إن الشارح ضرب مثلاً في أن المكذبين لنبينا صلى الله عليه وسلم كاليهود والنصارى، وكذلك سائر المكذبين، لا شك أنهم قد سبوا الله وتنقصوه غاية التنقص من حيث لا يشعرون، وذلك بأن منهم من يقول بأنه كذاب -قاتلهم الله- فكثير من اليهود يدعون أنه كذاب وأنه مفترٍ، وكذلك أيضاً كثير من النصارى ومن الوثنيين وغيرهم، وآخرون يقولون: إنه رسول إلى العرب فقط وليس برسول إلى غيرهم، فرسالته خاصة.
فيقال لهؤلاء -كما قال الشارح رحمه الله-: أنتم قد تنقصتم الله غاية التنقص، وذلك لأنكم ادعيتم أنه كذاب، والله تعالى ينصره وهو مع ذلك يتصرف هذه التصرفات وهو كذاب في زعمكم، ومع ذلك يدعي أنه مرسل من الله فيحلل أشياء ويحرم أشياء، ويبطش بالناس، ويقتل ويأسر ويوثق وينتقم، ويسبي الذراري، ويقتل الآباء، ويحبس، ويفتح البلاد، ويدوخ العباد، ويجول في الأرض كما هو الواقع، وهو مع ذلك كذاب مفترٍ بزعمكم، والله يؤيده ويقويه وينصره ويمده بالمعجزات ويمده بالملائكة التي تقويه، ويجيب دعواته، وينتصر له وهو يعلم أنه كذاب وأنه مفترٍ، فهذا بلا شك تنقص لله تعالى، وحكمة الله تأبى إلا أن ينتقم ممن كفر كما انتقم من الذين كذبوا الرسل فيما سبق وأحل بهم أنواع العقوبات، وأنزل بهم أنواع المثلات.
وقد ذكر الله تعالى أنه ينتقم منه لو كذب، قال تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ * لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ} [الحاقة:44-46] يعني: أنه لو كان متقولاً وكاذباً لانتقمنا منه وبطشنا به بطشاً شديداً، وأمتناه وقطعنا دابره كما فعلنا ذلك بمن كذب وافترى، فإنه ظهر في زمن النبي صلى الله عليه وسلم بعض المفترين والكذابين ولكن ما متعوا، ومنهم رجل تسمى بـ الأسود العنسي الذي تنبأ في اليمن، ولكن ما لبث إلا ثلاثة أشهر حتى قتل، ومنهم مسيلمة الكذاب الذي ادعى النبوة في آخر العهد النبوي وبعد موت النبي صلى الله عليه وسلم، وبايعه أكثر من مائة ألف، ولما غزاهم الصحابة في نحو عشرة آلاف أو أقل لم يقفوا دونهم، بل سلط عليه من قتله، فقتله عبد أسود، ثم بعد ذلك اضمحلت دعوته ولم يبق لها أثر، فهذه سنة الله فيمن كذب وافترى عليه.
لكن رسالة هذا النبي الكريم باقية مستمرة، وهي الآن في القرن الخامس عشر، وهي مع ذلك -والحمد لله- تزداد قوة وعلواً وظهوراً، وأتباعه الذين ينتمون وينتسبون إلى رسالته لهم التمكن ولهم القوة، فكلما حققوا السير على طريقته والتمسك بسنته يتحقق فيهم قول الله تعالى: {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ} [الحج:40] ، وقوله تعالى: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا} [غافر:51] وقوله تعالى: {إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ} [محمد:7] وقوله تعالى: {وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ} [آل عمران:139] وقوله تعالى: {وَإِنَّ جُندَنَا لَهُم الْغَالِبُونَ} [الصافات:173] وقوله تعالى: {أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمْ الْمُفْلِحُونَ} [المجادلة:22] .
وتحقق ذلك كله في أتباع هذا النبي الكريم، فدل ذلك يقيناً على أنه صادق مصدق شهدت برسالته العقول، وشهدت بصدقه القلوب، وعرف ذلك الخاص والعام، وأظهر الله دينه كما وعد بذلك في قوله: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة:33] ، فصدق الله هذا الوعد وأظهره على الدين كله حتى دخل دين الإسلام في أكثر المعمورة وفي أكثر بقاع الأرض، وبقي ظاهراً جلياً كلما تمسك أهله به أظهرهم الله تعالى وقواهم، ولا شك أن هذا دليل على أن هذه الشريعة من الله، وأن الذي جاء بها هو الصادق المصدوق عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم.(15/2)
الفرق بين النبوة والرسالة
قال المؤلف رحمه الله: [وقد ذكروا فروقاً بين النبي والرسول، وأحسنها أن من نبأه الله بخبر السماء إن أمره أن يبلغ غيره فهو نبي رسول، وإن لم يأمره أن يبلغ غيره فهو نبي وليس رسولاً، فالرسول أخص من النبي، فكل رسول نبي وليس كل نبي رسولاً، ولكن الرسالة أعم من جهة نفسها، فالنبوة جزء من الرسالة، إذاً الرسالة تتناول النبوة وغيرها، بخلاف الرسل فإنهم لا يتناولون الأنبياء وغيرهم، بل الأمر بالعكس، فالرسالة أعم من جهة نفسها وأخص من جهة أهلها.
وإرسال الرسل من أعظم نعم الله على خلقه، وخصوصاً محمداً صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَة وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [آل عمران:164] ، وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَة لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107]] .
ذكر أن هناك فرقاً بين الرسول والنبي، وقد عطف الله بعضهم على بعض في قوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ} [الحج:52] ، وأكثرهم على أن الرسول هو الذي يكلف بالتبليغ، فإذا لم يكلف بالتبليغ ولم يلزم بذلك فهو نبي وليس برسول.
فإذاً الرسالة أخص، والأنبياء أكثر من الرسل، ولذلك ورد في عددهم أنهم أكثر من مائة ألف نبي، وأن الرسل ثلاثمائة وثلاثة عشر رسولاً، وقد ذكر الله في القرآن عدداً منهم، قال تعالى: {مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} [غافر:78] ، ولا شك أن نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم هو خاتم الأنبياء ورسالته هي خاتمة الرسالات وشريعته هي آخر الشرائع.
ولا شك أن إرسال الرسل إلى أهل الأرض نعمة من الله؛ وذلك ليبلغوهم شرع الله عندما يعظم الجهل ويتراكم على القلوب، وتطول الغفلة، ويطول زمن الفترة، ويقع الناس في المعاصي والكفر، ويحق عليهم العذاب، عند ذلك يرسل الله إليهم رسلاً، فيرسل إليهم ذلك الرسول يبين لهم ما وقعوا فيه من الجهالات، وما أخطئوا فيه من الأعمال، ويدعوهم إلى الرجوع إلى ربهم وإلى ترك البدع والضلالات والشركيات، وإلى اتباع الشريعة والطاعة لله ولرسله، فإذا أصروا وعاندوا أهلكهم، وإذا آمنوا نصرهم وأيدهم وقواهم.
وقد ذكر الله أن رسالة نبينا محمد عليه الصلاة والسلام من أعظم المنن على هذه الأمة وأكبر النعم في موضعين في القرآن: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ} [آل عمران:164] ، وفي الموضع الآخر: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [الجمعة:2] ، فذكر أن ذلك منة من الله عليهم حيث أصبح سبباً في انتشالهم من الجهالات وإخراجهم من الظلمات إلى النور، كما في قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحديد:9] .
فإذاً هذه الرسالة نعمة من الله، وقبله كان الناس في جهالة لا يعرفون لماذا ولا بماذا أمروا، ولا بماذا كلفوا، فيعبدون الأوثان، ويشركون بالله، ويستحلون المحرمات، وليس عندهم إيمان بالبعث والجزاء والنشور، ولا معرفة لحلال ولا حرام، فهم جهلة في غاية الجهل، فلما جاءت هذه الشريعة أصبحوا عارفين حق المعرفة فيهم، وزالت عنهم تلك الأمور الجاهلية، وأصبحوا ذوي معرفة وذوي إيمان، وتلك منة الله على عباده، فما عليهم إلا أن يشكروا ربهم على ما أعطاهم الله ووهبهم.
قال الله تعالى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ} [البقرة:152] ، فبعدما أخبر بأنه أرسل هذا الرسول ليبين لهم ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة أمرهم بذكره وبشكره، ولا شك أن مظهره أن يطيعوا هذا الرسول وأن يتبعوه وأن يعملوا بشريعته، وفائدته ونتيجته هي أن ينصرهم الله تعالى ويؤيدهم ويقويهم، ويعزهم ويظهر دينهم على الدين كله ولو كره المشركون.(15/3)
ختم النبوة بمحمد صلى الله عليه وسلم
قال المؤلف رحمه الله: [وقوله: (وإنه خاتم الأنبياء) .
قال تعالى: {وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب:40] ، وقال صلى الله عليه وسلم: (مثلي ومثل الأنبياء كمثل قصر أُحسن بنيانه، وتُرك منه موضع لبنة، فطاف به النظار يتعجبون من حسن بنائه إلا موضع تلك اللبنة، لا يعيبون سواها، فكنت أنا سددت موضع تلك اللبنة، ختم بي البنيان وختم بي الرسل) أخرجاه في الصحيحين.
وقال صلى الله عليه وسلم: (إن لي أسماءً: أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الماحي يمحو الله بي الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي، وأنا العاقب، والعاقب الذي ليس بعده نبي) .
وفي صحيح مسلم عن ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وإنه سيكون من أمتي كذابون ثلاثون، كلهم يزعم أنه نبي، وأنا خاتم النبيين لا نبي بعدي) الحديث.
ولـ مسلم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (فضلت على الأنبياء بست: أعطيت جوامع الكلم، ونصرت بالرعب، وأحلت لي الغنائم، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، وأرسلت إلى الخلق كافة، وختم بي النبيون) ] .
فمن صفاته عليه الصلاة والسلام أنه خاتم الأنبياء، ولأجل ذلك صارت شريعته خاتمة الشرائع، وكذلك حكم ببقائها إلى أن تقوم الساعة لا تنسخها شريعة، ولا يأتي بعده نبي.
فهذه الأدلة تدل على أنه آخر الأنبياء، والأنبياء قبله كثير، قال تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خلا فِيهَا نَذِيرٌ} [فاطر:24] ، وقال تعالى: {قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ} [الملك:9] والنذر هم الأنبياء أو الرسل أو المنذرون لهم.(15/4)
صلاحية التشريع وعمومه دليل على ختم الرسالة
ولما علم الله تعالى فضيلة هذه الشريعة وميزتها وملاءمتها لكل زمان ولكل مكان، وصلاحيتها لكل جيل ولكل قطر ولكل أهل موطن، وعدم منافاتها للمصالح العامة والخاصة جعلها الله شريعة عامة، فكان من ضمن رسالة هذا النبي الكريم أن أرسل إلى الناس عامة قاصيهم ودانيهم، وأن جعلت رسالته خاتمة للرسالات بحيث لا ينسخها بعده من يأتي، وقد ذكر أنه يأتي بعده ابن مريم في قوله عليه الصلاة والسلام: (يوشك أن ينزل فيكم ابن مريم عليه السلام حكماً مقسطاً، فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويفيض المال حتى لا يقبله أحد، ولكنه يحكم بهذه الشريعة) فأصبحت هذه الشريعة من شرفها ومن صلاحيتها أنها هي آخر الشرائع، وأصبح هذا النبي لشرفه وميزته آخر الأنبياء، فهكذا نعتقد.(15/5)
كذب مدعي النبوة بعده صلى الله عليه وسلم
وكل من ادعى النبوة بعد محمد صلى الله عليه وسلم فإنه كذاب مهما كان، وفي الحديث الذي سبق أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه يأتي بعده ثلاثون كذاباً كلهم يزعم أنه نبي، ولكن سماهم كذابين، وهو عليه السلام آخر الأنبياء وخاتم الرسل.
وقد ذكر بعض العلماء أنه خرج من هؤلاء الثلاثين عدد كثير، فقيل: إنه خرج منهم سبعة وعشرون أو ثمانية وعشرون.
يعني: ما بقي إلا واحد أو اثنان، أي أن آخرهم المسيح الدجال الكذاب.
ومراده أن من هؤلاء الثلاثين من يأتي بشبهات ويصدقه بعض العوام، ويقع بسببه فتنة، ويغتر وينخدع به أناس، ويكون له أتباع ومن يؤيده وينتصر له، ومن آخر من خرج أو تنبأ في هذه القرون غلام أحمد القادياني الذي ادعى أنه نبي، وادعى أنه يأتيه الوحي في البلاد الشرقية في الهند، وقد عظمت الفتنة به وانتشر أتباعه وسموا بالقاديانية، ولا يزالون متمكنين إلى هذا اليوم، ولا يزال العلماء يضللونهم ويردون عليهم ويبدعونهم ويبينون ضلالاتهم وأكاذيبهم، ومع ذلك لا يزالون منتشرين، مع أن دعوى ذلك الذي ادعى لنفسه أنه يأتيه الوحي لا شك أنها دعوى باطلة يكذبها أدنى من يتأمل بعقل وبأدنى معرفة.
وقبله وقبله ولكن قد يجد من يتتبع التاريخ عدداً كثيراً قد يزيدون على المئات يدعون أنهم يأتيهم الوحي وأنهم أنبياء، حتى في زماننا هذا في الوقت القريب قد جاء أكثر من عشرة كلهم يدعون ذلك، ولكن غالب ذلك عن نقص في العقل، وعن وسواس يجعل في الرأس يخلف فكرة الإنسان، وعن وساوس شيطانية يخيل بها إلى ذلك الإنسان المدعي هذه الدعوى ويزين له الشيطان، ولا ينخدع الناس به ولا يعملون بقوله.
وقد وقع هذا في القرون المتقدمة كثيراً، فإخباره أنه يخرج في أمته ثلاثون كذاباً يدعون أنهم أنبياء المراد به من لهم شبهات، ومن لهم قوة يتمكنون بها ويتبعهم فئام من الناس، وليس المراد كل من ادعى أنه نبي، ولكن من انخدع به ومن اغتر بمقالته.
وعلى كل حال فالأدلة واضحة بأن محمداً عليه الصلاة والسلام هو خاتم الأنبياء والرسل، ولا عبرة بمن جاء بعده وادعى ذلك، كما ذكر أن رجلاً سمى نفسه (لا) ، وادعى أنه نبي، وقال: إن محمداً يقول: (لا نبي بعدي) ، يعني: الشخص الذي اسمه (لا) نبي بعدي، ويرد عليه بالآية الكريمة، وهي قوله تعالى: {وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب:40] .
وهكذا ذكروا في زمن قريب أن امرأة ادعت أنها نبية، وقالت: إن محمداً يقول: (لا نبي بعدي) ولم يقل: لا نبية بعدي.
ولا شك أن الرسالة جاءت في الرجال، كما في قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ} [يوسف:109] ، ولم يبعث الله النبوة إلا في الرجال، والصحيح أن مريم ابنة عمران إنما هي صديقة كما قال تعالى: {وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ} [المائدة:75] لم تصل إلى درجة النبوة ولم ينزل عليها الوحي، والوحي الذي أنزل على أمها إنما هو وحي إلهام، وكذلك الوحي الذي أنزل على أم موسى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى} [القصص:7] هذا وحي إلهام.
وعلى كل حال فنبوة محمد هي آخر النبوات، وشريعته هي آخر الشرائع، والمتمسك بها -إن شاء الله- على سبيل النجاة.(15/6)
إمامته صلى الله عليه وسلم للأتقياء
قال المؤلف رحمه الله: [وقوله: (وإمام الأتقياء) .
الإمام الذي يؤتم به أي: يقتدون به.
والنبي صلى الله عليه وسلم إنما بعث للاقتداء به؛ لقوله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:31] ، وكل من اتبعه واقتدى به فهو من الأتقياء] .
هذه من صفاته عليه الصلاة والسلام، لا شك أن الإمامة معناها: القدوة، فالإمام هو الذي يقتدى به، وقد وصف الله إبراهيم بالأمة في قوله: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً} [النحل:120] يعني: قدوة يقتدى به.
وقد امتدح الله عباده الذين يقولون: {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} [الفرقان:74] ، وكذلك قد جعل الله إبراهيم كذلك في قوله: {قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة:124] .
وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم إماماً فإنه يقتدى به، والاقتداء به يعم الاقتداء به وبكل ماجاء به، سواء في العادات أو في العبادات، فإن كان من العبادات ومن القربات فالعبد يفعلها على أنها طاعة يحتسب الأجر فيها، فالطاعات والعبادات هي ما جاء بها عن ربه بالحلال والحرام، وجاء بالطاعات والحسنات، فنفعلها على أنها من سنته، فنحافظ على الصلوات فرائضها ونوافلها؛ لأنها جاءت في شريعته، وكذلك على الطهارة سواء بالماء أو بالتراب أو نحو ذلك، فهذه من شريعته نتبعه ونقتدي به فيها، وكذلك سائر العبادات كالصيام والصدقة والحج والجهاد والدعوة إلى الله والذكر والقراءة وما أشبهها، فهذه تفعل على أنها من العبادة يتبع فيها شرع هذا النبي الكريم، وأما العادات فنفعلها إذا نقلت عنه عليه الصلاة والسلام على أنها أولى من غيرها وإن كان غيرها جائزاً، والمراد بالعادات: الأمور التي كانت معمولاً بها قبل الإسلام.
ومعلوم عنه عليه الصلاة والسلام أنه قبل الإسلام كان يأكل ويشرب ويلبس وينام ويتزوج، وكذلك كان يدخل ويخرج، ويركب وينزل، ويسافر ويرحل، ويقيل، فالعادات هي الأمور المعتادة، فهذه العادات إذا فعلها العبد اقتداء واتباعاً ومحبة فقد يثاب عليها وإن كانت مما قد تستدعيه النفس، كما أخبر عليه الصلاة والسلام بأن العبد إذا فعلها اقتداء واتباعاً بنية صادقة أثيب عليها، فيثاب على طلبه الرزق من أجل أن يعف نفسه، ولأجل أن يقوت من تحت يده، ويثاب على إعفافه لزوجته وإن كان ذلك من الأمور الطبيعية، ويثاب على نفقته على أهله؛ لقوله: (إنك لن تنفق نفقة تبتغي وجه الله إلا أجرت عليها) ، وإذا فعل ذلك على أنه عادة فلا ثواب ولا عقاب.
وعلى كل حال فكونه عليه الصلاة والسلام إماماً لأمته وبالأخص المتقين منهم، فهذا يعم كل ما جاء به من الشرع، ويكون أتباعه في ذلك لهم النصيب الأكبر على هذا الاتباع.(15/7)
سيادته صلى الله عليه وسلم المرسلين وفضله عليهم
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: (وسيد المرسلين) .
قال صلى الله عليه وسلم: (أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، وأول من ينشق عنه القبر، وأول شافع، وأول مشفع) رواه مسلم.
وفي أول حديث الشفاعة: (أنا سيد الناس يوم القيامة) ، وروى مسلم والترمذي عن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشاً من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم) .
فإن قيل: يشكل على هذا قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تفضلوني على موسى؛ فإن الناس يصعقون يوم القيامة فأكون أول من يفيق، فأجد موسى باطشاً بجانب العرش، فلا أدري هل أفاق قبلي، أو كان ممن استثنى الله) أخرجاه في الصحيحين، فكيف يجمع بين هذا وبين قوله صلى الله عليه وسلم: (أنا سيد ولد آدم ولا فخر) ؟ فالجواب أن هذا كان له سبب؛ فإنه كان قد قال يهودي: لا والذي اصطفى موسى على البشر فلطمه مسلم وقال: أتقول هذا ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا؟ فجاء اليهودي فاشتكى من المسلم الذي لطمه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم هذا؛ لأن التفضيل إذا كان على وجه الحمية والعصبية وهوى النفس كان مذموماً، بل نفس الجهاد إذا قاتل الرجل حمية وعصبية كان مذموماً؛ فإن الله حرم الفخر.
وقد قال تعالى: {وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ} [الإسراء:55] وقال تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} [البقرة:253] فعلم أن المذموم إنما هو التفضيل على وجه الفخر، أو على وجه الانتقاص بالمفضول، وعلى هذا يحمل أيضاً قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تفضلوا بين الأنبياء) إن كان ثابتاً، فإن هذا قد روي في نفس حديث موسى وهو في البخاري وغيره.
ولكن بعض الناس يقول: إن فيه علة؛ بخلاف حديث موسى فإنه صحيح لا علة فيه باتفاقهم، وقد أجاب بعضهم بجواب آخر، وهو أن قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تفضلوني على موسى) ، وقوله: (لا تفضلوا بين الأنبياء) نهي عن التفضيل الخاص، أي: لا تفضل بعض الرسل على بعض بعينه، بخلاف قوله: (أنا سيد ولد آدم ولا فخر) فإنه تفضيل عام فلا يمنع منه، وهذا كما لو قيل: فلان أفضل أهل البلد لا يصعب على أفرادهم، بخلاف ما لو قيل لأحدهم: فلان أفضل منك.
ثم إني رأيت الطحاوي رحمه الله قد أجاب بهذا الجواب في شرح معاني الآثار] .
وصف النبي صلى الله عليه وسلم بأنه سيد ولد آدم، وسيد الناس يوم القيامة وسيد المرسلين، ويطلق السيد على الشريف، وعلى المطاع، وعلى كبير القوم، وعلى أفضلهم أو من له حرمة فيهم الذي إذا أشار عليهم أطاعوه، والذي يحترمونه ويقدرونه، ويعرفون له ميزته وشرفه وفضله، وقد ورد ما يدل على النهي عن هذا الإطراء، ووردت أحاديث تدل على الإباحة.(15/8)
التوفيق بين إخباره صلى الله عليه وسلم عن فضله والنهي عن تفضيله
وسبق قوله صلى الله عليه وسلم في حديث الشفاعة: (أنا سيد الناس يوم القيامة) ، وكذلك قوله: (أنا سيد ولد آدم ولا فخر) يعني: لا أقول ذلك افتخاراً، وإنما هو من باب التحدث بنعم الله، عملاً بقوله: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى:11] ، وذكر السبب وهو أن الناس يوم القيامة يطلبون من يشفع لهم، فيأتون آدم ثم نوحاً ثم إبراهيم وموسى وعيسى يطلبون منهم الشفاعة فكلهم يعتذر، حتى يأتون إليه عليه الصلاة والسلام فيكون بذلك سيداً حيث شفع، ولا شك أن هذا السبب الذي هو الشرف والمنزلة تُوجب له فضلاً وشرفاً.
وأما دليل النهي فما ثبت أنه عليه الصلاة والسلام قيل له: (أنت سيدنا، قال: السيد الله) ، وفي حديث وفد بني عامر عن عبد الله بن الشخير قال: (أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا: يا سيدنا وابن سيدنا، فقال: السيد الله، فقالوا: أفضلنا فضلاً، وأعظمنا قولاً.
قال: قولوا بقولكم أو ببعض قولكم) إلى آخره.
ولعل الجمع بينهما أن نهيه عن قولهم: (سيد) هو مخافة أن يغلوا فيه؛ لأنهم كانوا حديثي عهد بالجاهلية، فخاف أنه إذا أقرهم على هذه اللفظة أعطوه من خالص حق الله فمنعهم وقال: (السيد الله) ، وأمرهم بأن يقولوا: (عبد الله ورسوله) ، ولا يتكلموا بألفاظ فيها من الزيادة والغلو، هكذا أخذ بعض العلماء، وهو جواب مقارب، وهو أنه فيمن يخاف عليهم الغلو، ومع ذلك فإن أفضل ما يوصف به اللفظ الذي اختاره لنفسه، وهو العبودية مع الرسالة والنبوة، وصفه الله بالعبودية وبالرسالة وبالنبوة، فهذه الأوصاف التي وردت له في القرآن، فنقول: نبي الله، وعبد الله، ورسول الله، وهذا ولا يمنع أن نقول: سيدنا وسيد ولد آدم.
وقد مر في كلام الشارح أنه قد يعتذر أحد ويقول: كيف يكون سيد المرسلين وأفضل النبيين، وهو عليه الصلاة والسلام قد اعترف بأن موسى أفضل منه، حيث قال: (لا تفضلوني على موسى) ؟ وأجاب الشارح كما سمعنا أن هذا في الرد على من يتعصب لشخص بعينه؛ فإن ذلك الأنصاري رضي الله عنه غار عندما سمع اليهودي يقول: والذي اصطفى موسى على البشر.
فغار ولطم اليهودي، وقال: تقول هذا ومحمد بين أظهرنا؟ يعني أنه أشرف، وأنه الذي اصطفاه الله على البشر، فأمر بألا يفاضل بين الأنبياء، وأمر بألا يفضل على موسى من باب الاعتراف بفضل موسى، ومن باب التواضع منه عليه الصلاة والسلام، وإلا فقد عرف بأنه أفضل من غيره، ولو لم يكن من فضله إلا أنه الذي يشفع، والذي يبعثه الله مقاماً محموداً، والذي تقبل شفاعته فيقال له: (ارفع رأسك، وقل يسمع، وسل تعطه، واشفع تشفع) .
وكذلك ذكر السبب، وهذا السبب قد يكون مبرراً ولكن لا يقصد الفضل، فكون الناس يصعقون يوم القيامة الصعقة المذكورة في قوله تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} [الزمر:68] فأخبر بأن الناس يصعقون وبأنه أول من يفيق ويرفع رأسه عليه الصلاة والسلام، لكن يجد موسى قد أفاق قبله وقد أخذ بقائمة العرش، فيقول: (لا أدري هل أفاق قبلي أم كان ممن استثنى الله، أم جوزي بصعقة الطور) ، وصعقة الطور في قوله تعالى: {وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً} [الأعراف:143] يعني: أن تلك الصعقة صارت حظه من الصعق، فلم يصعق لما صعقوا، أو هو ممن استثنى الله في قوله: {فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شَاءَ اللَّهُ} [الزمر:68] يعني: أنه ممن لم يصعق، أو أنه أفاق قبله، وإذا كان ممن أفاق قبله كان له مزية، أما إذا جوزي أو كان ممن استثنى الله فلا يدل ذلك على ميزة أو على فضل على محمد عليه الصلاة والسلام.
وبالجملة فمحمد عليه الصلاة والسلام أفضل الرسل، وأمته أفضل الأمم، بل وأكثرهم دخولاً الجنة، فالذين يدخلون من أمته الجنة أكثر من أمة موسى وغيره من الأنبياء.(15/9)
الكلام على المفاضلة بين محمد ويونس عليهما السلام
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وأما ما يروى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تفضلوني على يونس) وأن بعض الشيوخ قال: لا يفسر لهم هذا الحديث حتى يعطى مالاً جزيلاً، فلما أعطوه فسره بأن قرب يونس من الله وهو في بطن الحوت، كقربي من الله ليلة المعراج، وعدوا هذا تفسيراً عظيماً.
وهذا يدل على جهلهم بكلام الله وبكلام رسوله لفظاً ومعنى، فإن هذا الحديث بهذا اللفظ لم يروه أحد من أهل الكتب التي يعتمد عليها، وإنما اللفظ الذي في الصحيح: (لا ينبغي لعبد أن يقول: أنا خير من يونس بن متى) ، وفي رواية: (من قال: إني خير من يونس بن متى فقد كذب) ، وهذا اللفظ يدل على العموم، أي: لا ينبغي لأحد أن يفضل نفسه على يونس بن متى، وليس فيه نهي المسلمين أن يفضلوا محمداً على يونس؛ وذلك لأن الله تعالى قد أخبر عنه أنه التقمه الحوت وهو مليم، أي: فاعل ما يلام عليه.
وقال تعالى: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:87] .
فقد يقع في نفس بعض الناس أنه أكمل من يونس، فلا يحتاج إلى هذا المقام؛ إذ لا يفعل ما يلام عليه، ومن ظن هذا فقد كذب، بل كل عبد من عباد الله يقول ما قال يونس: {لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:87] ، كما قال أول الأنبياء وآخرهم، فأولهم آدم قد قال: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:23] .
وآخرهم وأفضلهم وسيدهم محمد صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الصحيح حديث الاستفتاح من رواية علي بن أبي طالب وغيره بعد قوله: (وجهت وجهي) إلى آخره قال: (اللهم أنت الملك لا إله إلا أنت، أنت ربي وأنا عبدك، ظلمت نفسي واعترفت بذنبي، فاغفر لي ذنوبي جميعاً، لا يغفر الذنوب إلا أنت) إلى آخر الحديث.
وكذا قال موسى عليه السلام: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [القصص:16] ، وأيضاً فيونس صلى الله عليه وسلم لما قيل فيه: {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ} [القلم:48] فنُهي نبينا صلى الله عليه وسلم عن التشبه به، وأمره بالتشبه بأولي العزم؛ حيث قيل له: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنْ الرُّسُلِ} [الأحقاف:35] ، فقد يقول من يقول: أنا خير منه، وليس للأفضل أن يفتخر على من دونه، فكيف إذا لم يكن أفضل؛ فإن الله لا يحب كل مختال فخور.
وفي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أوحي إليَّ أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد، ولا يبغي أحد على أحد) ، فالله تعالى نهى أن يفخر على عموم المؤمنين، فكيف على نبي كريم؟! فلهذا قال: (لا ينبغي لعبد أن يقول: أنا خير من يونس بن متى) ، فهذا نهي عام لكل أحد أن يتفضل ويفتخر على يونس.
وقوله: (من قال: إني خير من يونس بن متى فقد كذب) فإنه لو قدر أنه كان أفضل فهذا الكلام يصير نقصاً، فيكون كاذباً، وهذا لا يقوله نبي كريم، بل هو تقدير مطلق، أي: من قال هذا فهو كاذب وإن كان لا يقوله نبي كما قال تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر:65] ، وإن كان صلى الله عليه وسلم معصوماً من الشرك، لكن الوعد والوعيد لبيان مقادير الأعمال.
وإنما أخبر صلى الله عليه وسلم أنه سيد ولد آدم لأنا لا يمكننا أن نعلم ذلك إلا بخبره؛ إذ لا نبي بعده يخبرنا بعظيم قدره عند الله، كما أخبرنا هو بفضائل الأنبياء قبله صلّى الله عليهم وسلم أجمعين، ولهذا أتبعه بقوله: (ولا فخر) كما جاء في رواية، وهل يقول من يؤمن بالله واليوم الآخر: إن مقام الذي أسري به إلى ربه وهو مقرب معظم مكرم كمقام الذي ألقي في بطن الحوت وهو مليم؟! وأين المعظم المقرب من الممتحن المؤدب؟ فهذا في غاية التقريب، وهذا في غاية التأديب، فانظر إلى هذا الاستدلال؛ لأنه بهذا المعنى المحرف اللفظ لم يقله الرسول، وهل يقاوم هذا الدليل على نفي علو الله تعالى عن خلقه الأدلة الصحيحة الصريحة القطعية على علو الله تعالى على خلقه التي تزيد على ألف دليل، كما يأتي الإشارة إليها عند قول الشيخ رحمه الله: (محيط بكل شيء وفوقه) إن شاء الله تعالى] .
في هذا الشرح الطويل رد على بعض علماء الأشاعرة، وهو الجويني، ذكروا أنه استدل بقوله في الحديث: (لا تفضلوني على يونس) استدل به على مسألة نفي العلو، أن الله ليس فوق عرشه وليس فوق عباده، وفسر ذلك بأن يونس في وسط البحر ومحمد فوق السموات السبع، وكلاهما بالنسبة إلى الله سواء، يعني: كلاهما في القرب منه سواء، فالذي في لجة البحر والذي فوق سبع سماوات كلاهما في القرب من الله سواء، استدل الجويني بهذا على أنه ليس الرب تعالى فوق العرش ولا فوق السموات، كقولهم: إن الله في كل مكان -تعالى الله عن قولهم-، ورد عليهم الشارح بما سبق، وبين أن هذه مقالة شنيعة من وجوه: أولاً: أن الحديث لم يثبت بهذا اللفظ: (لا تفضلوني على يونس بن متى) ، وإنما الذي ثبت قوله: (لا ينبغي لعبد أن يقول: أنا خير من يونس بن متى) .
وسبب الحديث أنه قد يقول رجل: أنا خير من يونس، فيونس ذهب مغاضباً وظن ألن يُقدر عليه، ويونس نبذ بالعراء وهو مذموم، ويونس التقمه الحوت، فأنا خير منه إذا ما فعلت هذه الأفعال، فقد يقول ذلك بعض الناس، فنهاهم وقال: لا تقولوا؛ فإن يونس نبي من أنبياء الله أجرى الله على يديه هذه الآيات وهذه المعجزات؛ حيث إنه التقمه الحوت ولم يمت في بطن الحوت، ولبث في بطنه مدة ولم يمت، وكذلك أمر الله الحوت أن ينبذه على ساحل البحر، وأنبت الله عليه شجرة من يقطين، وأرسله إلى قومه وهم مائة ألف أو يزيدون فآمنوا، فله فضائل، ولو أنه قد اعترف بالظلم، نقول: هذا الظلم لا ينقصه، بل نبينا عليه السلام قد اعترف بالظلم، وكذلك أبوه آدم قد اعترف بقوله: {قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا} [الأعراف:23] إلى آخره، فلا ينبغي أن يغتر بهذه اللفظة المنقولة عن هذا الرجل الذي هو الجويني، ذكروا أنه قال: في هذه الآية دليل على أن الله ليس فوق العرش في هذا الحديث، ولا أفسره حتى تجمعوا لي مالاً، فجمعوا له أموالاً وأعطوه إياها، فلما فسرها لهم هذا التفسير أعجبوا به غاية الإعجاب، وهو تفسير بعيد عن الصواب.(15/10)
الكلام على المحبة والخلة وثبوتهما لمحمد عليه السلام
قال المؤلف رحمه الله: [قوله: (وحبيب رب العالمين) .
ثبت له صلى الله عليه وسلم أعلى مراتب المحبة وهي الخلة، كما صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً) ، وقال: (ولو كنت متخذاً من أهل الأرض خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً ولكن صاحبكم خليل الرحمن) ، والحديثان في الصحيح، وهما يبطلان قول من قال: الخلة لإبراهيم والمحبة لمحمد، فإبراهيم خليل الله ومحمد حبيبه.
وفي الصحيح أيضاً: (إني أبرأ إلى كل خليل من خلته) ، والمحبة قد ثبتت لغيره، قال تعالى: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران:134] ، وقال تعالى: {بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [آل عمران:76] ، وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة:222] ، فبطل قول من خص الخلة بإبراهيم والمحبة بمحمد، بل الخلة خاصة بهما، والمحبة عامة، وحديث ابن عباس رضي الله عنهما الذي رواه الترمذي الذي فيه: (إن إبراهيم خليل الله، ألا وأنا حبيب الله ولا فخر) لم يثبت.
] مشتهر عند غلاة الصوفية ونحوهم أن المحبة أعلى من الخلة، وأنها أعلى الصفات؛ ولأجل ذلك يبالغ أهل السلوك وأهل التصوف في وصف المحبة وفي آثار المحبة ونحو ذلك، ولهم فيها أقوال في تعريفاتها، وقد بحث معهم ابن القيم رحمه الله في بعض كتبه في تعريف المحبة، كما في كتابه الذي كتبه في المحبة واسمه (روضة المحبين) ، وكذلك في كتابه الذي سماه (مدارج السالكين) ، عند باب المحبة، وكذلك في كتاب (طريق الهجرتين وباب السعادتين) ، فإنه تكلم في هذه الكتب على المحبة ونقل عن أهل السلوك وأهل التعبد وأهل التصوف تعريفات لها حتى أوصلها إلى ثلاثين تعريفا، وانتهى إلى أن قال: إن المحبة كاسمها لا تحتاج إلى تعريف ولا تزيدها التعريفات إلا غموضاً، فالمحبة كلمة محبوبة لذيذة، وكلمة معروفة عند السامع لا تحتاج إلى تفكير.
ولا شك أن صفة المحبة تثبت بين المؤمنين في حق الله على المؤمنين، وفي حقهم من الله لهم، ومن بعضهم لبعض، فثبت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، ألا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم) .
وفي حقوق المسلم لأخيه: أن يحب المسلم لأخيه ما يحب لنفسه، وكما في قوله عليه الصلاة والسلام: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) ، فهذه هي المحبة من المؤمن لأخيه، ولكن لها آثار، وذلك لأنك إذا أحببت أخاك كان من آثار ذلك أن توده وأن تقترب منه، وأن تدله على خير ما تعلمه وتحذره عن شر ما تعلمه، هذه آثار تلك المحبة، فمن كان صادقاً فإنها تظهر عليه آثارها.
وأما محبة الله تعالى لعباده فهي المحبة المطلوبة، يقول في الحديث القدسي: (ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ويده التي يمشي بها) وكذلك الآيات التي سبقت فيها إثبات أن الله يحب من هذه صفته، ومثلها كثير، كقوله تعالى: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة:54] ، وقوله: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ} [الصف:4] ، وقوله: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [المائدة:42] وأشباه ذلك كثير، فإذاً الله تعالى يحب عباده المؤمنين الذين هذه صفاتهم، وآثار محبته أنه يوفقهم ويسددهم، فكل المؤمنين يحبون الله تعالى.
والرسول عليه الصلاة والسلام قد أخبر بأنه يحب أشخاصاً، ومن ذلك قوله في حق علي: (لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله) فأعطاها علياً.
ولا شك أن المؤمنين كلهم يعرفون أنهم يحبون الله حباً شديداً، وأن سبب محبتهم له أنه أعطاهم وخولهم وأنعم عليهم وهداهم، وأنه هو ربهم ومالكهم وسيدهم والمتصرف فيهم، وأنه المستحق لأن يعبد ويصلى له ويسجد، وأنه الذي بيده الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وهو الذي يثيب ويعاقب، فكانت هذه الأسباب لمن يحب ربه، وقد تكلمنا على محبته فيما سبق وأن لها آثاراً، وأن البعض من الناس يقولون: إنهم يحبون الرسول ويحبون الله، وأن هناك آية تفضحهم تسمى آية المحنة، وهي قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران:31] ، وهكذا قول الشاعر: تعصي الإله وأنت تزعم حبه هذا عجيب في الفعال بديع لو كان حبك صادقاً لأطعته إن المحب لمن يحب مطيع فإذاً: ليست المحبة خاصة بالأنبياء، بل الله يحب المؤمنين والمتقين، ولا يحب محمداً أو نبياً من الأنبياء فحسب، بل يحب عباده كلهم إذا كانوا صالحين مصلحين محسنين مؤمنين تائبين قانتين مطيعين له متطهرين مقاتلين في سبيله، وغير ذلك من الصفات التي رتب المحبة عليها.(15/11)
الخلة وموقعها من المحبة
وأما الخلة فهي أعلى أنواع المحبة، يقول الشاعر: قد تخللت مسلك الروح مني وبذا سمي الخليل خليلاً فالخلة أعلى أنواع المحبة، وقد أثبتها الله تعالى لإبراهيم في قوله: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً} [النساء:125] ، وثبت الحديث الذي سبق، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله قد اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً) ، فالخليلان هما محمد وإبراهيم حازا هذه المرتبة التي هي أعلى أنواع المحبة.
وقد تطلق الخلة فيما بين الآدميين، فقد حكى الله عن قول بعض الكفار وهو في النار: {لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً} [الفرقان:28] يعني: أحبه محبة قوية.
وكذلك أخبر عن أهل المحبة الدنيوية وسماهم أخلاء، قال تعالى: {الأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ} [الزخرف:67] ، وعلى هذا فالخلة أعلى أنواع المحبة، وقد ثبتت من الله تعالى لإبراهيم ثم لمحمد صلى الله عليه وسلم، فهما الخليلان.
فمن يقول: إن محمداً حبيب الله، وإن إبراهيم خليل الله، وإن المحبة أعلى من الخلة فقد أخطأ، بل الخلة أعلى من المحبة فهي أعلى صفاتها، وإبراهيم ومحمد كلاهما خليل الله تبارك وتعالى، وبقية المؤمنين والمتقين أحباء الله تعالى الذين يحبهم ويحبونه.(15/12)
مراتب المحبة وما يوصف الله تعالى به منها
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [والمحبة مراتب: أولها: العلاقة، وهي تعلق القلب بالمحبوب.
الثانية: الإرادة، وهي ميل القلب إلى محبوبه وطلبه له.
الثالثة: الصبابة، وهي انصباب القلب إليه بحيث لا يملكه صاحبه كانصباب الماء في الحدور.
الرابعة: الغرام، وهي الحب اللازم للقلب، ومنه الغريم لملازمته، ومنه: {إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً} [الفرقان:65] .
الخامسة: المودة والود، وهي صفو المحبة وخالصها ولبها، قال تعالى: {سَيَجْعَلُ لَهُمْ الرَّحْمَنُ وُدّاً} [مريم:96] .
السادسة: الشغف، وهي وصول المحبة إلى شغاف القلب.
السابعة: العشق، وهو الحب المفرط الذي يخاف على صاحبه منه، ولكن لا يوصف به الرب تعالى ولا العبد في محبة ربه، وإن كان قد أطلقه بعضهم.
واختلف في سبب المنع، فقيل: عدم التوقيف.
وقيل غير ذلك، ولعل امتناع إطلاقه أن العشق محبة مع شهوة.
الثامنة: التتيم.
وهي بمعنى (التعبد) .
التاسعة: التعبد.
العاشرة: الخلة، وهي المحبة التي تخللت روح المحب وقلبه.
وقيل في ترتيبها غير ذلك، وهذا الترتيب تقريب حسن لا يعرف حسنه إلا بالتأمل في معانيه.
واعلم أن وصف الله تعالى بالمحبة والخلة هو كما يليق بجلال الله تعالى وعظمته كسائر صفاته تعالى، وإنما يوصف الله تعالى من هذه الأنواع بالإرادة والود والمحبة والخلة حسبما ورد النص.
وقد اختلف في تحديد المحبة على أقوال نحو ثلاثين قولاً، ولا تحد المحبة بحد أوضح منها، فالحدود لا تزيدها إلا خفاء، وخفاء هذه الأشياء الواضحة لا تحتاج إلى تحديد كالماء والهواء والتراب والجوع والشبع ونحو ذلك] .
هذا من جملة كلام أهل السلوك الذين يتكلمون في العبادات القلبية، وقد أشرنا إلى أن ابن القيم رحمه الله قد أشار إلى ذلك في كتبه، في (روضة المحبين) ، وفي (طريق الهجرتين) ، وفي (مدارج السالكين) ، وذكر تعريفات للمحبة، وذكر أيضاً ترتيبات المحبة أو أقسامها، وهي هذه الأقسام العشرة التي أولها العلاقة، ثم الصبابة، إلى آخرها التي هي الخلة، وجعل هو وغيره هذا الترتيب تقريبياً، ومنهم من قدم بعضها على بعض، ولا شك أنها أسماء لأنواع من المحبة، أي: أن منها ما يكثر استعماله ومنها ما لا يكثر، ومنها ما لا يجوز إطلاقه على الله تعالى كالعشق، والصحيح ما علله به من أنه محبة مع شهوة.
والله تعالى يوصف بالمحبة وبالخلة وبالإرادة وبالمودة، يوصف بهذه الأربعة من العشرة، أما البقية فلم ترد، فلا يجوز أن تستعمل في حق الله تعالى، فالصبابة مثلاً والعلاقة والعشق وما أشبهها، هذه مستعملة اصطلاحياً في أنواع من المحبة.
ولا شك أن المحبة أمر قلبي يجده الإنسان من قلبه، حيث يميل إلى المحبوب بعض الميل، ويعرض محبوبه على نفسه أو يواسيه بنفسه، ويكون له من الأثر ذلك الميل، وهناك بعض الأسباب التي استدعت ذلك، وقد تكون أسباباً ظاهرة كإحسان ونحو ذلك؛ فإن القلوب تألف وتحب من أحسن إليها، والله تعالى هو الذي أحسن إلى عباده، وهو الذي خولهم وأعطاهم، فإذا أحبوه كان سبب المحبة هو الإحسان، كما أنك تحب من أحسن إليك.
وقد تكون المحبة لأسباب قاصرة غير متعدية، كأن تحب أي إنسان لصلاحه وإن لم ينلك منه نفع دنيوي، ولكن رأيته صالحاً وتقياً وزاهداً وورعاً وعابداً فأحببته لذلك، وجعلت محبتك له عبادة تؤمل الثواب عليها، حيث إنه يحب الله وأنت تحبه فتحب من يحبه.
وهكذا محبتنا لربنا لا شك أن أعظم أسبابها كونه الذي يملك العباد، وهو الذي يتصرف فيهم، فهذه من أسباب محبتهم له، وأنه هو الذي وعد من أحبه وعبده بالثواب، ومن لم يفعل ذلك توعده بالعقاب، فكان هو أهل المحبة وأهل المودة التي تحبه القلوب وتوده، ويكون لها آثار كما سبقت الإشارة إليه، وأن الذي يحب الله تعالى يطيعه ويعبده، وتظهر آثار ذلك على البدن في كثرة عبادته، وفي نضرة خلقته، وفي تأثره بذلك من كثرة العبادة ونحوها.(15/13)
حكم دعوى النبوة بعد النبي صلى الله عليه وسلم
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: (وكل دعوى النبوة بعده فغيّ وهوى) .
لما ثبت أنه خاتم النبيين علم أن من ادعى بعده النبوة فهو كاذب، ولا يقال: فلو جاء المدعي للنبوة بالمعجزات الخارقة والبراهين الصادقة كيف يقال بتكذيبه؟ لأنا نقول: هذا لا يتصور أن يوجد، وهو من باب فرض المحال؛ لأن الله تعالى لما أخبر أنه خاتم النبيين فمن المحال أن يأتي مدّع يدّعي النبوة ولا تظهر أمارة كذبه في دعواه.
والغي: ضد الرشاد، والهوى: عبارة عن شهوة النفس، أي أن تلك الدعوة بسبب هوى النفس لا عن دليل، فتكون باطلة] .
قد تقدم أنه صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين، أي: آخرهم، وبذلك نعرف أن كل من ادعى أنه نبي فدعواه غي، أي: خطأ ضد الرشد، فدعواه خطأ وباطل وضلال وبعيدة عن الصواب والصدق، فمن ادعى أنه نبي فهو كاذب ولو موه على الناس ولو أتى بما يخرق العادة، ولو أتى بما يعجز الناس ظاهراً، ولو فعل ما يفعله السحرة والمشعوذون ونحوهم وادعى أنه ينزل عليه الوحي، فنقول: هذه التي تراها من الشياطين، وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم، فالشياطين يوحي بعضهم إلى بعض، وقد تنزل إلى أوليائها، وقد تخدع العبد وتصور له أنها من الله وأن ما تجيء به حق وأنه نبي، فيخيل إليه أنه ينزل عليه الوحي كما ينزل على الأولياء.
وقد وقع ذلك لمن تنزلت عليهم الشياطين، فروي أن رجلاً قال لـ عبد الله بن عمر رضي الله عنه: إن المختار يزعم أنه يوحى إليه! قال: (صدق، قال الله تعالى: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ} [الأنعام:121] ) يعني أن الذي نزل عليه الشيطان، وهذا مع أنه صهره، إذ أخت المختار زوجة عبد الله، وهي صبية بنت أبي عبيد، فهذا مثال في أن الشياطين تنزل على بعض الناس، وتخدعهم بأنها وحي من الله، وأن ما تأتي به حق ونحو ذلك.
وقد ذكرنا الحديث في قوله عليه الصلاة والسلام: (إنه سيكون بعدي ثلاثون كذابون كلهم يزعم أنه نبي) ، وأن بعض العلماء ذكر أن الذي خرج منهم سبعة وعشرون، وأن من آخرهم الكذاب الذي خرج من بعض البلاد الهندية وسمى نفسه (غلام أحمد القادياني) ، وتبعه وصدقه واقتدى به خلق كثير، وادعى أنه نبي، وخلق كثير قبله وصلوا إلى هذا العدد، والبقية لابد أن يأتوا كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم، وآخرهم الدجال الكذاب الذي يدعي أنه رب، ويأتي بشعوذة خارقة يجريها الله تعالى على يديه فتنة، إلا من ثبته الله تعالى وعرفه بالحق.
وعلى هذا نقول: لو أتى بما أتى به الدجال من كونه -مثلاً- يمر على القرية الهامدة الميتة فيصيح بأهلها فيتبعونه كيعاسيب النحل -والنحل لها يعسوب وهو كبيرها.
فهذا من الفتنة، ومن الفتنة أيضاً كونه يقتل الرجل حتى يقطعه قطعتين ثم يقول له: قم، فيقوم حياً، ومع ذلك لا يزيده إلا بصيرة ومعرفة بأنه الدجال الكذاب.
بهذا نعرف أنه قد يجري على يد بعض الكذابين شيء من الشعوذة وذلك من الشيطان، فالشيطان يموه على الأعين حتى يري بعض الناس أشياء شبه خارقة للعادة تشبه معجزات الأنبياء، كما يفعله بعض السحرة من كونه مثلاً قد يجر سيارة بشعرة من الشعر، أو يقف تحت السيارة ويحملها بيده أمام الناس والناس ينظرون، أو تمر السيارة على رأسه ولا تضره، ولا شك أن ذلك شعوذة على أعين الناظرين، ولا عبرة بمن أقر ذلك أو رآه، وقد حدث ذلك في عهد الصحابة، كما ذكروا أن ساحراً كان عند بعض ملوك بني أمية وكان يموه على الحاضرين، فيقطع رأس الإنسان ثم يعيده، فعمد بعض الصحابة إلى سيف احتضنه، فقرب من ذلك الساحر فلما وصل إليه ضربه بالسيف حتى قطع رأسه، وقال له: أحي نفسك إن كنت صادقاً.
ثم قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (حد الساحر ضربه بالسيف) ، فهذا جزاؤه حيث موه على الأعين، ولم يقدر على ذلك الصحابي -وهو جندب بن عبد الله البجلي - لما استعاذ من الشيطان ولما تحصن بالله تعالى، فلم يرد عليه فعل ذلك المشعوذ ولم يكتشفه.
فهذا مثال على أن ما يظهر على يدي بعضهم من الشعوذة ومن التمويه على الناس فهو من الشياطين التي تظهر أمام الناظرين في صور مختلفة حتى توهمهم بأشياء خارجة عن قدرة البشر ولا حقيقة لها.(15/14)
عموم رسالته صلى الله عليه وسلم
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: (وهو المبعوث إلى عامة الجن وكافة الورى، بالحق والهدى، وبالنور والضياء) .
أما كونه مبعوثاً إلى عامة الجن فقد قال تعالى حكاية عن قول الجن: {يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِي اللَّهِ} [الأحقاف:31] وكذا سورة الجن تدل على أنه أرسل إليهم أيضاً، قال مقاتل: لم يبعث الله رسولاً إلى الإنس والجن قبله.
وهذا قولٌ بعيد، فقد قال تعالى: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} [الأنعام:130] الآية.
والرسل من الإنس فقط، وليس من الجن رسول، كذا قال مجاهد وغيره من السلف والخلف.
وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: الرسل من بني آدم، ومن الجن نذر.
وظاهر قوله تعالى حكاية عن الجن: {إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى} [الأحقاف:30] الآية تدل على أن موسى مرسل إليهم أيضاً.
والله أعلم.
وحكى ابن جرير عن الضحاك بن مزاحم أنه زعم أن في الجن رسلاً، واحتجّ بهذه الآية الكريمة، وفي الاستدلال بها على ذلك نظر؛ لأنها محتملة وليست بصريحة، وهي - والله أعلم - كقوله: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} [الرحمن:22] ، والمراد من أحدهما.
وأما كونه مبعوثاً إلى كافة الورى، فقد قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً} [سبأ:28] ، وقال تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً} [الأعراف:158] ، وقال تعالى: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام:19] أي: وأنذر من بلغه.
وقال تعالى: {وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً} [النساء:79] ، وقال تعالى: {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرْ النَّاسَ وَبَشِّرْ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [يونس:2] ، وقال تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً} [الفرقان:1] ، وقال تعالى: {وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدْ اهْتَدَوا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ} [آل عمران:20] .
وقال صلى الله عليه وسلم: (أعطيت خمساً لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة) أخرجاه في الصحيحين.
وقال صلى الله عليه وسلم: (لا يسمع بي رجل من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار) رواه مسلم، وكونه صلى الله عليه وسلم مبعوثاً إلى الناس كافة معلوم من دين الإسلام بالضرورة.(15/15)
بعثته إلى الجن
وفي هذا أنه صلى الله عليه وسلم أرسل إلى الجن والإنس، ورسالته إلى الجن واضحة من الأدلة، وقد ثبت في الحديث أنه صلى الله عليه وسلم ذهب إلى الجن وقرأ عليهم سورة الرحمن، فكان كل ما مر بهذه الآية: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن:13] قالوا: لا بشيء من آلائك ربنا نكذب، فلك الحمد.
هكذا ورد في الحديث.
وكذلك ثبت في حديث ابن مسعود أنه أخبر بأنه صلى الله عليه وسلم ذهب ليلة إلى الجن، وسمع ابن مسعود كلامه معهم، وذكر أنهم سألوه طعاماً وسألوه علفاً لدوابهم، فقال لهم: (لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه، وكل بعرة علف لدوابكم) ، ونهى عن الاستنجاء بهما، وروي أن الجن استمعوا إليه لما جاء من الطائف، فعجبوا من سماع ما أنزل إليه، ونزلت فيهم الآيات التي في آخر الأحقاف: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِنْ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ} [الأحقاف:29] ، ونزلت فيهم أول سورة الجن التي أنزلت باسمهم.
ولا شك أن كل ذلك دال على أنه صلى الله عليه وسلم بعث إليهم، والأنبياء الذين كانوا قبله كانوا يبعثون إليهم، وإنما في الجن نذر كما في الآية التي في الأحقاف، وهي قوله: {وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ} [الأحقاف:29] ، فليس في الجن رسل، وإنما فيهم نذر يأخذون العلم ويأخذون الرسالة عن الرسل من الإنس فينبئون قومهم، وقد ذكر في سورة الجن أن فيهم أخياراً وأشراراً في قولهم: {وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ} [الجن:11] ، وفي قولهم: {وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً * وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً} [الجن:14-15] ، فهذا دليل على أنه فيهم شقياً وسعيداً، ومقرباً وبعيداً، وأن فيهم مؤمناً وغير مؤمن.
ولا شك أن الرسالة التي بلغها النبي صلى الله عليه وسلم فيها أحكام تناسبهم، والله أعلم بما يناسبهم في صيامهم وصلاتهم، وغير ذلك من أحكامهم، وهكذا تناكحهم وغير ذلك، فلهم أحكام تخصهم، وهي واضحة فيما بينهم.(15/16)
رسالته إلى الإنس وعمومها
أما رسالته صلى الله عليه وسلم إلى الإنس، فلا شك أنه مرسل إلى الإنس وأنه رسول إليهم، وأنه عام الرسالة وليس خاصاً إلى قومه قريش، ولا إلى العرب، ولا إلى أهل جزيرة من الجزر، بل عام لكل من على وجه الأرض ممن بلغته الدعوة من الإنس، دل على ذلك النصوص التي فيها خطاب الناس جميعاً، فإن قوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ َ} [البقرة:21] فيه عام لكل إنسي، وكذلك: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ} [النساء:1] ، وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} [الحج:1] ، وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} [الحجرات:13] ، فالخطابات بـ (يا أيها الناس) تدل على أنه مأمور بأن يبلغ الناس كلهم ما أنزل إليه.
وهكذا قوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً} [الأعراف:158] ، يخاطب الناس كلهم ويقول: إني رسول الله إليكم جميعاً، وكذلك قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً} [سبأ:28] أي: للناس كلهم، وكذلك الآيات التي سبقت في قوله تعالى: {لأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام:19] ، وقوله تعالى: {لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً} [الفرقان:1] ، والعالمين: كل من على وجه الأرض من الخلق الذين لهم معرفة ولهم إدراك، وهم جنس بني آدم.
والدليل على ذلك أيضاً فعله، فهو عليه الصلاة والسلام لم يخص رسالته بقومه ولا بالعرب ولا بأهل الجزيرة، فإذاً ليست رسالته خاصة بالعرب كما يقول علماء النصارى، فالنصارى لما رأوا مميزاته، ولما رأوا أنه انتصر وظهر دينه وتأيد وتمكن وعلا على الأديان كلها وحقق الله قوله تعالى: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة:33] بهتوا، فلم يجدوا بداً من تصديقه، ولكنهم قالوا: هو رسول وهو صادق، ولكن ليس رسولاً إلينا، بل هو رسول إلى العرب.
و
الجواب
كذبتم، فلو كان رسولاً إلى العرب لما دعا غيرهم، فكيف يقول: إني رسول إلى الناس جميعاً وهو رسول إلى العرب، والرسول لا يكذب، ولا يرسل الله كذابا، فأنتم الآن كذبتموه وزعمتم أنه قال: إني رسول الله إلى الناس جميعاً، مع أنه ليس رسولاً إلا إلى العرب، فإذاً هو قد كذب، وإذا صدقتموه فصدقوه في كل شيء، فلا تؤمنون ببعض وتكفرون ببعض، ولا تصدقوه ببعض قوله دون بعض.
ثم سبق أيضاً أنه صلى الله عليه وسلم كان يبعث كتبه إلى ملوك زمانه، فبعث إلى النجاشي ملك الحبشة التي تعرف الآن بـ (أثيوبيا) ، وبعث إلى المقوقس ملك مصر ويمتد ملكه إلى بعض الدول الأفريقية ومع ذلك كانوا نصارى أيضاً، وبعث إلى ملك الروم الذي هو هرقل، وكان في دمشق الشام، ويملك الشام كله وما وراءه إلى بلاد تركيا وإلى ما وراءها، وبعث إلى ملك الفرس الذي هو كسرى، وكان الفرس آنذاك مجوساً، وكان يملك العراق وبلاد فارس كلها وما اتصل بها من وراء النهر، أي: البلاد الشرقية كلها، فبعث إليهم جميعاً يدعوهم إلى الإسلام، فدل على أنه مبعوث إلى كل الناس.
وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (بعثت إلى الأحمر والأسود) يعني: بعثت إلى جميع الخلق أحمرهم وأسودهم، والأحاديث كثيرة، فعلى هذا تكون رسالته عامة؛ لأنه خاتم الأنبياء، وإذا كان خاتم الأنبياء لزم أن يكون مرسلاً إلى الناس كلهم؛ لأنه ليس بعده نبي، فلا يليق أن تهمل الأمم الأخرى والدول الأخرى النائية التي في أطراف البلاد التي لا يأتيها رسول ولا يكون مرسلاً إليها.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: (وكافة الورى) في جر (كَافَّة) نظر؛ فإنهم قالوا: لم تستعمل (كافة) في كلام العرب إلا حالا، واختلفوا في إعرابها في قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّة لِلنَّاسِ} [سبأ:28] على ثلاثة أقوال: أحدها: أنها حال من (الكاف) في (أرسلناك) ، وهي اسم فاعل، والتاء فيها للمبالغة، أي: إلا كافاً للناس عن الباطل.
وقيل: هي مصدر (كف) ، فهي بمعنى (كفاً) أي: إلا أن تكف الناس كفاً، ووقوع المصدر حالاً كثير.
الثاني: أنها حال من (الناس) .
واعترض بأن حال المجرور لا يتقدم عليه عند الجمهور، وأجيب بأنه قد جاء عن العرب كثيراً فوجب قبوله، وهو اختيار ابن مالك رحمه الله، أي: وما أرسلناك إلا للناس كافة.
الثالث: أنها صفة لمصدر محذوف، أي: رسالة كافة.
واعترض بما تقدم أنها لم تستعمل إلا حالاً.
وقوله: (بالحق والهدى وبالنور والضياء) هذه أوصاف ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من الدين والشرع المؤيد بالبراهين الباهرة من القرآن وسائر الأدلة، والضياء أكمل من النور، قال تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُوراً} [يونس:5]] .
كلامه على قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ} [سبأ:28] قد بينه الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: (وبعثت إلى الناس كافة) والمراد عامة، فلا حاجة إلى كل تلك التقديرات، فـ (كافة) أي: عامة.
أي: إلى كل الناس.
وأما كلامه على وصف ما أرسل به النبي صلى الله عليه وسلم فإنه أرسل بالنور والهدى، فلا شك أن هذا وصف مطابق للشريعة التي جاء بها، وأنها مشتملة على الهدى، ومشتملة على الضياء وعلى النور وعلى البيان وعلى الحق، وذلك الوصف الذي جعلها صالحة لكل زمان ومكان، وصالحة لكل مخاطب ممن يعقل من المكلفين، فلا يصلح أن تكون الرسالة مؤقتة كما يقول بعض أهل هذا الزمان: إن الشرائع إنما تناسب البدائيين.
أو: إنها إنما تناسب أهل محمد التي أنزلت عليهم، فلا تناسب أهل هذا الزمان الذين قد تطوروا وقد فهموا، وقد تعلموا كذا وكذا.
وهذا كذب، بل شريعته عليه الصلاة والسلام لا يمكن أن يدخلها تغيير، ولا يمكن أن يكون فيها خلل، وهي تصلح لتطبيقها في هذا الزمان وفي الأزمنة التي قبله وفي الأزمنة التي بعده.(15/17)
شرح العقيدة الطحاوية [16]
تشعب الناس في الكلام على القرآن وكلام الله تعالى، وقد أخذتهم أهواؤهم فذهبت بهم كل مذهب، ولم يسلم إلا من اعتصم بالكتاب والسنة وفهم السلف الصالح، وقد بين العلماء تلك الاختلافات وما فيها من الباطل كما بينوا القول الحق بأدلته.(16/1)
القرآن الكريم والاعتقادات فيه
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قوله: (وإن القرآن كلام الله، منه بدا بلا كيفية قولاً، وأنزله الله على رسوله وحياً، وصدقه المؤمنون على ذلك حقاً، وأيقنوا أنه كلام الله تعالى بالحقيقة، ليس بمخلوق ككلام البرية، فمن سمعه فزعم أنه كلام البشر فقد كفر، وقد ذمه الله وعابه وأوعده بسقر، حيث قال تعالى: {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ} [المدثر:26] فلما أوعد الله بسقر لمن قال: {إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} [المدثر:25] علمنا وأيقنا أنه قول خالق البشر ولا يشبه قول البشر) .
هذه قاعدة شريفة، وأصل كبير من أصول الدين ضل فيه طوائف كثيرة من الناس، وهذا الذي حكاه الطحاوي رحمه الله هو الحق الذي دلت عليه الأدلة من الكتاب والسنة لمن تدبرهما، وشهدت به الفطرة السليمة التي لم تغير بالشبهات والشكوك والآراء الباطلة.(16/2)
مذاهب الفرق في القرآن الكريم
وقد افترق الناس في مسألة الكلام على تسعة أقوال: أحدها: أن كلام الله هو ما يفيض على النفوس من معانٍ، إما من العقل الفعال عند بعضهم، أو من غيره، وهذا قول الصابئة والمتفلسفة.
وثانيها: أنه مخلوق خلقه الله منفصلاً عنه.
وهذا قول المعتزلة.
وثالثها: أنه معنى واحد قائم بذات الله هو الأمر والنهي والخبر والاستخبار، وإن عبر عنه بالعربية كان قرآناً، وإن عبر عنه بالعبرانية كان توراة، وهذا قول ابن كلاب ومن وافقه كـ الأشعري وغيره.
ورابعها: أنه حروف وأصوات أزلية مجتمعة في الأزل، وهذا قول طائفة من أهل الكلام ومن أهل الحديث.
وخامسها: أنه حروف وأصوات، لكن تكلم الله بها بعد أن لم يكن متكلماً، وهذا قول الكرامية وغيرهم.
وسادسها: أن كلامه يرجع إلى ما يحدثه من علمه وإرادته القائم بذاته، وهذا يقوله صاحب المعتبر، ويميل إليه الرازي في المطالب العالية.
وسابعها: أن كلامه يتضمن معنى قائماً بذاته هو ما خلقه في غيره، وهذا قول أبي منصور الماتريدي رحمه الله.
وثامنها: أنه مشترك بين المعنى القديم القائم بالذات وبين ما يخلقه في غيره من الأصوات.
وهذا قول أبي المعالي ومن اتبعه.
وتاسعها: أنه تعالى لم يزل متكلماً إذا شاء ومتى شاء وكيف شاء، وهو يتكلم به بصوت يسمع، وأن نوع الكلام قديم وإن لم يكن الصوت المعين قديماً، وهذا المأثور عن أئمة الحديث والسنة.
وقول الشيخ رحمه الله: (إن القرآن كلام الله) ، (إنّ) بكسر الهمزة عطف على قوله: (إنّ الله واحد لا شريك له) ، ثم قال: (وإن محمداً عبده المصطفى) ، وكسر همزة (إنّ) في هذه المواضع الثلاثة؛ لأنه معمول القول، أعني قوله في أول كلامه: (نقول في توحيد الله) ] .
الكلام هنا على القرآن، وسبب ذلك أن مسألة القرآن من أقدم المسائل التي أنكرتها المبتدعة، أنكرت المبتدعة صفة الكلام، وكان أول من اشتهر بإنكار أن الله يتكلم هو الجعد شيخ الجهم، وقد قتله خالد القسري في يوم العيد، وجعله كالأضحية حيث قال: ضحوا تقبل الله ضحاياكم، فإني مضح بـ الجعد بن درهم؛ إنه زعم أن الله لم يكلم موسى تكليماً، ولم يتخذ إبراهيم خليلاً.
فأنكر الجعد وكذا تلميذه الجهم أن يكون الله متكلماً، وأن يكون القرآن كلام الله، وادعى أن الكلام لا يحصل إلا من المخلوقين، وأن الكلام يحتاج إلى لهوات وإلى نفس وإلى شفتين وأسنان ولثة ونحو ذلك، فادعى أن هذا لا يتصور إلا من المخلوق، وأن الخالق لا يمكن أن يتكلم.
فلما أنكر أن الله تعالى متكلم جيء بالقرآن، وقيل: هذا القرآن ماذا تقول فيه؟ أليس هو كلام الله كما قال تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ} [الفتح:15] ، وكما سماه قولاً في قوله: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنْ اللَّهِ قِيلاً} [النساء:122] ، وكما ينسب القول إليه بقوله: {قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ} [المائدة:119] ، وقوله تعالى: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى} [آل عمران:55] وغير ذلك من النصوص التي فيها إثبات أن الله قال، وأنه يقول الحق وهو يهدي السبيل، وأن الله كلم موسى تكليماً، وأن هذا القرآن كلام الله في قوله: {حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [التوبة:6] ، وأن كلمات الله قديمة النوع حادثة الآحاد، وأنها لا نهاية لها، كما في قوله تعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي} [الكهف:109] وكما في قوله: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً} [الأنعام:115] .
وغير ذلك من النصوص الكثيرة! فلما جيء بهذه النصوص تحير ماذا يقول، فلم يجد بداً من أن يقول: إن القرآن مخلوق خلقه الله كما خلق سائر المخلوقات، يعني: كما خلق الإنسان، وكما خلق الأجرام، وكما خلق الكواكب، وكما خلق الحيوانات والنباتات، وأنكر أن يكون كلام الله تعالى، وسيأتي مناقشة قوله وذكر ما استدل به، وبيان ضعف تلك الأدلة.
ولما تكلم الجعد ثم الجهم ثم تلميذ لهما أيضاً اسمه (بشر المريسي) ، ثم غيرهم من المبتدعة كانوا في أول الأمر ضعفاء مقهورين لا يلتفت إلى قولهم، ولا أحد ينخدع بهم، ولكن حدث في خلافة المأمون أنه قرب بعضهم، وأنه لما قرب بعضهم زينوا له مذهبهم، وبينوا له أنهم أولى بالصواب، وأن القرآن مخلوق، ودعوه إلى أن يمتحن الناس بذلك، فأطاعهم ووافقهم الخليفة المأمون، وحصلت بذلك فتن عظيمة وامتحن فيها أئمة الإسلام، ومنهم الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله، وهو الذي صمد أمام الفتنة وصبر وأوذي في ذات الله، ومات المأمون قبل أن يؤتى بالإمام أحمد، وتولى بعده أخوه المعتصم، وهو الذي تولى ضرب الإمام أحمد، فأمر بضربه بين يديه، وأطال حبسه، ولم يزل على ذلك إلى أن توفي المعتصم، وتولى بعده ابنه الواثق فخفت الفتنة في زمنه، ولكن لم يزل على عقيدة أبويه فيما يظهر، ثم بعده تولى ولد الواثق ويقال له: (المتوكل) ، وهو الذي نصر السنة، وقرب أهلها، وأبعد المبتدعة.(16/3)
الصحيح من أقوال الفرق في القرآن الكريم
والحاصل أن مسألة القرآن والقول فيه قديمة، حدثت في أول القرن الثاني، ثم استفحلت في أول القرن الثالث وتمكنت، وكثر الخوض في مسألة القرآن وما هو، وكذلك في مسألة كلام الله وكيف يتكلم، وتشعبت المذاهب -كما ذكر الشارح- إلى تسعة أقوال كلها فيما يتعلق بالقرآن، والصواب منها هو القول التاسع الأخير الذي هو قول أهل السنة، وهو إثبات أن الله تعالى متكلم، ويتكلم إذا شاء، وأن كلامه قديم النوع حادث الآحاد، وأن كلامه يسمعه من يشاء من خلقه، كما أسمعه موسى لما ناداه، قال تعالى: {وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى} [الشعراء:10] ، والنداء لابد أن يكون مسموعاً، وكما ناجاه في قوله: {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً} [مريم:52] ، ولابد أنه سمع مناجاة ربه.
وهكذا كلم نبينا صلى الله عليه وسلم لما أسري به وأوحى منه إليه.
إذاً يعتقد المسلمون بأن كلام الله قديم النوع حادث الآحاد، وأن هذا القرآن هو كلام الله حقاً حروفه ومعانيه، ليس كلامه الحروف دون المعاني، وليس المعاني دون الحروف، بل كلها كلام الله تعالى متى شاء، ويعتقدون بأنه لم يزل متكلماً، وما ذاك إلا أن الكلام صفة كمال، وتركها أو فقدها صفة نقص، ويلزم من فقدها أو نفيها نفي التشريع، فلو كان الله تعالى غير متكلم فمن أين يعرف أنه أمر أو نهى؟ ومن أين يعرف أنه يحب هذا ويبغض هذا؟ ومن يعرف أنه أنزل هذا أو لم ينزله؟ فإذاً لابد أنه متكلم، ويضطر كل عاقل إلى إثبات صفة الكلام لله تعالى؛ لأنه موصوف بصفات الكمال، ومنزه عن النقائص والعيوب.(16/4)
أقوال شاذة مخالفة وما يلزم منها
فأما قول غلاة الصابئة والفلاسفة ونحوهم: إنه ما يفيض من العقل الفياض، فالعقل الفياض عندهم كأنه عبارة عن الخالق، وما يفيض عنه: بمعنى: ما يقع في النفوس أو تتحرك به العقول.
يسمى ذلك فيضاً من العقل الفياض، فعندهم -على هذا- أن كل شيء في الوجود من قول الله ومن كلامه، ولهذا طبق ذلك أهل الاتحاد؛ حيث يقول قائلهم: وكل كلام في الوجود كلامه سواء علينا نثره ونظامه وهذا من أمحل المحال وأبطل الباطل؛ لأنه يلزم منه أن يكون كلام الكفار كلام الله، وكلام الإلحاد وكلام الكفر والزندقة والنفاق ونحو ذلك عند هؤلاء كلام الله.
وأما قول المعتزلة: إنه مخلوق، وإن الله خلقه كما خلق البشر وكما خلق حركات البشر، فهذا قول باطل ستأتي مناقشته.
وأما قول ابن كلاب وكذلك الأشعرية ونحوهم: إنه معنى واحد قائم بنفسه، إن عبر عنه بالعربية كان قرآناً، وإن عبر عنه بالعبرية كان توراة إلى آخره، فهذا أيضاً قول باطل، وذلك لأنه يلزم منه أن يكون معنى التوراة هو معنى القرآن، ومعنى القرآن هو معنى الإنجيل ليس بينهما فرق، وهذا معلوم بطلانه، فإن في التوراة أحكاماً ومواعظ لم ترد في القرآن بلفظها، وكذلك في التوراة أشياء ليست في الإنجيل، وفي الإنجيل أشياء ليست في التوراة، وهذا دليل على بطلان قول الذين يدعون أنه معنى واحد قائم بذات الله تعالى.
وأما الأقوال الأخرى كالذين يدعون أنه أزلي، فحروفه أصوات أزلية -أي: قديمة- فمقتضى ذلك أن الله لا يتكلم الآن، وأنه تكلم في وقت ثم انقطع من الكلام، تعالى الله عن ذلك وأشباهه من الأقوال.
فالحاصل أنا نعتقد أن هذا القرآن الذي أنزله الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم وحي من الله، وتلاه المسلمون، وقرءوه وتعبدوا بتلاوته، وصدقوا بأنه قول الله ليس قول البشر.
ونعتقد أن هذا كلام الله حقاً ليس كلام غيره، ويأتينا مناقشة أقوال المخالفين.(16/5)
نقض أدلة المعتزلة على أن القرآن مخلوق
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: (كلام الله منه بدا بلا كيفية قولاً) رد على المعتزلة وغيرهم؛ فإن المعتزلة تزعم أن القرآن لم يبدُ منه، كما تقدم حكاية قولهم، قالوا: وإضافته إليه إضافة تشريف، كبيت الله، وناقة الله، يحرفون الكلم عن مواضعه، وقولهم باطل؛ فإن المضاف إلى الله تعالى معانٍ وأعيان، فإضافة الأعيان إلى الله للتشريف، وهي مخلوقة له، كبيت الله، وناقة الله، بخلاف إضافة المعاني، كعلم الله، وقدرته، وعزته، وجلاله، وكبريائه، وكلامه، وحياته، وعلوه، وقهره؛ فإن هذا كله من صفاته، لا يمكن أن يكون شيء من ذلك مخلوقاً.
والوصف بالتكلم من أوصاف الكمال، وضده من أوصاف النقص، قال تعالى: {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً} [الأعراف:148] ، فكان عُبَّاد العجل مع كفرهم أعرف بالله من المعتزلة؛ فإنهم لم يقولوا لموسى: وربك لا يتكلم أيضاً.
وقال تعالى عن العجل أيضاً: {أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً} [طه:89] ، فعلم أن نفي رجوع القول، ونفي التكليم نقصٌ يستدل به على عدم ألوهية العجل.
وغاية شبهتهم أنهم يقولون: يلزم منه التشبيه والتجسيم! فيقال لهم: إذا قلنا إنه تعالى يتكلم كما يليق بجلاله انتفت شبهتهم، ألا ترى أنه تعالى قال: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ} [يس:65] ، فنحن نؤمن أنها تكَلَّم، ولا نعلم كيف تتكلم، وكذا قوله تعالى: {وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ} [فصلت:21] ، وكذلك تسبيح الحصى والطعام وسلام الحجر كل ذلك بلا فم يخرج منه الصوت الصاعد من الرئة المعتمد على مقاطع الحروف.
وإلى هذا أشار الشيخ رحمه الله بقوله: (منه بدا بلا كيفية قولاً) أي: ظهر منه ولا ندري كيفية تكلمه به، وأكد هذا المعنى بقوله: (قولاً) ، أتى بالمصدر المعرف للحقيقة، كما أكد الله تعالى التكليم بالمصدر المثبت للحقيقة النافي للمجاز في قوله: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} [النساء:164] ، فماذا بعد الحق إلا الضلال؟(16/6)
تحريف بعض المعتزلة للقرآن ليوافق معتقدهم
ولقد قال بعضهم لـ أبي عمرو بن العلاء - أحد القراء السبعة -: أريد أن تقرأ: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى} [النساء:164] بنصب اسم الله، ليكون موسى هو المتكلم لا الله، فقال أبو عمرو: هب أني قرأت هذه الآية كذا، فكيف تصنع بقوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} [الأعراف:143] فبهت المعتزلي!] .
عرفنا أن صفة الكلام صفة شرف وصفة كمال، ونفيها صفة نقص، واستدل الشارح بقوله تعالى في حكاية قصة العجل الذي عبده أصحاب موسى، قال تعالى: {أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ} [الأعراف:148] ، وقال في موضع آخر: {أَفَلا يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً} [طه:89] ، وبخهم موسى وكذلك هارون، وقالوا: كيف تعبدون من لا يتكلم؟ وكيف تعبدون من لا يكلمكم؟ فلم يقولوا كما قالت المعتزلة، فلو كان الله تعالى لا يتكلم لقال قوم موسى لموسى: وربك أيضاً لا يتكلم.
ولكنهم أعقل من المعتزلة، فعرف بذلك أن صفة الكلام صفة كمال وشرف، وأنها ثابتة لله تعالى عن طريق التواتر لكثرة الأدلة التي تبينها، والتي اتضحت دلالتها من تلك النصوص.
وفي هذا أن المعتزلة الذين ادعوا أن الكلام مخلوق، وأنه كسائر المخلوقات خلقه كخلق الإنسان ونحوه، أنهم لم يعتبروا بالأدلة التي بين أيديهم، ولم ينظروا في هذه النصوص التي دلالتها واضحة.
وقد سمعنا هذه القصة التي أوردها عن ذلك المعتزلي الذي جاء إلى أبي عمرو بن العلاء أحد القراء السبعة من أهل العراق وقال له: اقرأ هذه الآية: (وكلم اللهَ موسى تكليماً) ، ليكون موسى هو المكلم ولا يكون الله متكلماً، ولكن أبا عمرو رحمه الله بين له أن ذلك لا يفيدك، فلو قرأت أنا أو أنت هذه الآية: (وكلم الله) ، لجاءتنا آية لا يمكن أن نحرفها وهي قول الله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} [الأعراف:143] ، فإنها صريحة بأن الرب تعالى هو المكلم، (وكلمه ربه) ، ولهذا بهت ذلك المعتزلي ولم يرد شيئاً.
وقد اشتهر أن جمعاً من المعتزلة أولوا التكليم هنا بأنه التجريح، فقالوا: (كلم الله موسى تكليماً) يعني: جرحه، لأن الكلم: الجرح، كما في قوله: (ما من مكلوم يكلم-يعني: ما من مجروح يجرح-إلا وجاء يوم القيامة وكلمه يدمي) فادعوا أن قوله تعالى: (كلم الله موسى) يعني: جرحه بأظافير الحكمة، ولكن هذا قول باطل؛ فإن النصوص دالة على أنه هو الكلام المسموع؛ ولهذا أثبت الله أنه ناداه في قوله: {وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى} [الشعراء:10] ، وقوله تعالى: {إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى} [النازعات:16] ، وناجاه فقال تعالى: {وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً} [مريم:52] ، والمناجاة والنداء لا يكون إلا بنداء مسموع، فكيف يئولون ذلك ويحرفونه تحريفاً لفظياً أو معنوياً؟ كذلك ثبت أن الله تعالى خاطب موسى منه إليه، وذكر خطابه في آيات، كقوله: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى * قَالا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى * قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه:43-46] ؛ فالله تعالى خاطبه وأسمعه ذلك الخطاب، فلابد أن يكون ذلك الخطاب بكلام مسموع، فلا يستطيع المعتزلة أن يحرفوا ذلك.
فالحاصل أن تأويلاتهم وحرصهم على صرف الدلالات لا يفيدهم لكثرة الأدلة.(16/7)
تكليم الله لأهل الجنة يبطل قول المعتزلة
قال رحمه الله تعالى: [وكم في الكتاب والسنة من دليل على تكليم الله تعالى لأهل الجنة وغيرهم قال تعالى: {سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} [يس:58] ، فعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بينا أهل الجنة في نعيمهم إذ سطع لهم نور، فرفعوا أبصارهم فإذا الرب جل جلاله قد أشرف عليهم من فوقهم، فقال: السلام عليكم يا أهل الجنة.
وذلك قول الله تعالى: (سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ) قال: فينظر إليهم وينظرون إليه، فلا يلتفتون إلى شيء مما هم فيه من النعيم ما داموا ينظرون إليه حتى يحتجب عنهم، وتبقى بركته ونوره عليهم في ديارهم) رواه ابن ماجة وغيره.
ففي هذا الحديث إثبات صفة الكلام، وإثبات الرؤية، وإثبات العلو، وكيف يصح مع هذا أن يكون كلام الرب كله معنى واحداً، وقد قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَة وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ} [آل عمران:77] ، فأهانهم بترك تكليمهم، والمراد أنه لا يكلمهم تكليم تكريم وهو الصحيح؛ إذ قد أخبر في الآية الأخرى أنه يقول لهم في النار: {اخْسَأُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون:108] ، فلو كان لا يكلم عباده المؤمنين لكانوا في ذلك هم وأعداؤه سواء، ولم يكن في تخصيص أعدائه بأنه لا يكلمهم فائدة أصلاً، وقال البخاري في صحيحه: (باب كلام الرب تبارك وتعالى مع أهل الجنة) ، وساق فيه عدة أحاديث، فأفضل نعيم أهل الجنة رؤية وجهه تبارك وتعالى وتكليمه لهم، فإنكار ذلك إنكار لروح الجنة وأعلى نعيمها وأفضله الذي ما طابت لأهلها إلا به] .
هذا أيضاً نوع من الأدلة، وهو ما حكاه الله تعالى من كلامه لأهل الجنة في عدة آيات، فيذكر الله تعالى أنه يخاطب أهل الجنة، فيقول: {ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ} [الحجر:46] ، ويقول تعالى يخاطب عباده يوم القيامة: {مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ} [ق:29] .
كذلك يحكي الله بأنه إذا دخل أهل الجنة الجنة سمعوا كلام الله، وذلك معنى قول الله: {سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} [يس:58] ، والقول لابد أن يكون مسموعاً، فلابد أن أهل الجنة يسمعونه، ولا شك أن سماعهم لكلامه يعتبر نعمة ونعيماً، ولذة يلتذون بها، فيلتذون بسماع كلام ربهم كما يلتذون برؤية ربهم، ويتنعمون بذلك، ولكن أهل النار محرومون من الجميع، فحرموا من رؤية ربهم، كما في قوله تعالى: {كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين:15] ، فصار حجابهم عذاباً لهم، وحرموا من سماع كلامه الذي هو كلام نعيم وكلام رحمة لهم، كما في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُوْلَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ} [آل عمران:77] يعني: لا يكلمهم كلام رحمة وكلام نعمة، ففرق الله بين أهل الجنة وأهل النار بأن هؤلاء يكلمهم وهؤلاء لا يكلمهم، فدل على أن كلام الله تعالى حق وثابت، وأن تركه لكلام هؤلاء يعتبر عذاباً أليماً في حقهم.
ولا شك أن الكلام اسم لكل ما يسمعه المكلم والمنادى، وأهل الجنة ينادون فيرفعون أنظارهم فيسمعون كلام الله منه إليهم.
وكذلك موسى لما ناداه ربه سمع كلام الله تعالى، وكذلك ثبت أيضاً أن الصحابة قالوا: يا رسول الله! أربنا قريب فنناجيه، أم بعيد فنناديه؟ فنزل قوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِ} [البقرة:186] يعني: أسمعهم وأجيبهم إذا دعوني.
ونزل أيضاً في موسى في خصائصه أن الله خصه بإسماعه كلامه في قوله تعالى: {قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي} [الأعراف:144] ، فأخبر بأن كلامه الحق الذي أسمعه موسى أنه من خصائص موسى دون غيره من أهل زمانه، وكل ذلك دلائل وشواهد ظاهرة في أن الله متكلم ويتكلم إذا شاء، وأن ذلك من صفات الكمال.(16/8)
نقض استدلال المعتزلة بآية (الله خالق كل شيء)
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وأما استدلالهم بقوله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْء} [الرعد:16] والقرآن شيء فيكون داخلاً في عموم (كل) فيكون مخلوقاً، فمن أعجب العجب، وذلك أن أفعال العباد كلها عندهم غير مخلوقة لله تعالى، وإنما يخلقها العباد جميعها، ولا يخلقها الله، فأخرجوها من عموم (كل) وأدخلوا كلام الله في عمومها مع أنه صفة من صفاته به تكون الأشياء المخلوقة؛ إذ بأمره تكون المخلوقات، قال تعالى: {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْر} [الأعراف:54] ، ففرق بين الخلق والأمر، فلو كان الأمر مخلوقاً للزم أن يكون مخلوقاً بأمر آخر، والآخر بآخر إلى ما لا نهاية له، فيلزم التسلسل وهو باطل، وطرد باطلهم أن تكون جميع صفاته تعالى مخلوقة، كالعلم والقدرة وغيرهما، وذلك صريح الكفر؛ فإن علمه شيء، وقدرته شيء، وحياته شيء، فيدخل ذلك في عموم (كل) ، فيكون مخلوقاً بعد أن لم يكن، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً.
وكيف يصح أن يكون متكلماً بكلام يقوم بغيره؟ ولو صح ذلك للزم أن يكون ما أحدثه من الكلام في الجمادات كلامه، وكذلك أيضاً ما خلقه في الحيوانات، ولا يفرق حينئذ بين (نَطَق وأَنْطَق) وإنما قالت الجلود: {أَنطَقَنَا اللَّهُ} [فصلت:21] ، ولم تقل: نطق الله.
بل يلزم أن يكون متكلماً بكل كلام خلقه في غيره زوراً كان أو كذباً أو كفراً أو هذياناً! تعالى الله عن ذلك.
وقد طرد ذلك الاتحادية فقال ابن عربي: وكل كلام في الوجود كلامه سواء علينا نثره ونظامه ولو صح أن يوصف أحد بصفة قامت بغيره لصح أن يقال للبصير أعمى وللأعمى بصير؛ لأن البصير قد قام وصف العمى بغيره والأعمى قد قام وصف البصر بغيره، ولصح أن يوصف الله تعالى بالصفات التي خلقها في غيره من الألوان والروائح والطعوم والطول والقصر ونحو ذلك] .
نعرف من هذا أن هذه الآيات التي استدلوا بها واردة عليهم، استدلوا بهذه الآية وهي قوله: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الرعد:16] ، فقالوا: القرآن شيء، فيكون داخلاً في عموم (كل) ، فيكون مخلوقاً.
ورد عليهم الشارح بأن هذا من أعجب العجب! فأنتم تقولون: إن أفعال العباد ليست مخلوقة لله، فتخرجون أفعال العباد عن أن تكون مخلوقة لله، لماذا لم تدخلوها في عموم (كل) {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الرعد:16] ، وتدخلون في ذلك صفة من صفاته وهو القرآن وهو كلام الله؟ فتدخلون صفته في كونها مخلوقة ولا تدخلون أفعالكم ولا حركاتكم في كونها مخلوقة لله! وهذا من العجب.
ثم استدل بأنه يلزم من قولهم أن يوصف الله تعالى بالصفات التي قامت بالمخلوقات، وذلك لأنهم يقولون: خلقه في أفواه العباد.
فهذا القرآن خلقه في أفواه العباد، أو خلقه ثم تكلم العباد به، فهو ليس كلامه ولكنه خلقه، ومع ذلك يضاف إليه.
ولا شك أن هذا أيضاً قول باطل؛ لأنه يلزم منه أن يكون من تكلم بكلام يوصف به غير المتكلم، فالله تعالى -على زعمهم- ما تكلم، ولكن يقال: هو كلامه وإن لم يكن هو المتكلم به؛ حيث إن الكلام الذي قام بمخلوقاته يكون مضافاً إليه وإن لم يقم به، ويلزم على هذا أن يوصف الأعمى بأنه بصير؛ لأن البصر قد قام بغيره، والبصير يوصف بأنه أعمى؛ لأن العمى قد قام بغيره، وأن يوصف الله بصفات المخلوقات كلها، فيوصف المخلوق بأنه عاجز، وعلى هذا يقال: العجز لله؛ لأنه هو الذي خلقه، وكذلك يوصف المخلوق بأنه جاهل وبأنه مجنون مثلاً، وبالكفر، وبالفسوق، وبالزنا، وبالغصب، وبالإلحاد وما أشبه ذلك، فعلى منطوقهم تجوز إضافة هذه الأفعال كلها إلى الله تعالى، ويجوز -على قولهم- أن تكون الكلمات التي تجري في الخلق كلها من كلام الله حتى وإن كانت كفراً وزندقة وسباً وهجاء وكلاماً قذراً يتعلق بالأقذار والأوساخ ونحو ذلك.
ولا شك أن الجلود تقشعر من هذه الأقوال ومن حكايتها، فعرف بذلك بطلان قولهم، فأصبح القول الصحيح هو أنه كلام الله تعالى، وأن ما قالوه وما اعتمدوه لا دلالة لهم في ذلك.
فاعتقد -أيها المسلم- بأن هذا القرآن كلام الله حقاً تكلم به، منه بدأ وإليه يعود كما شاء، وإن لم نعرف كيفية تكلمه، وكيفية إنزاله وما يتعلق بذلك، بل نعرف ونتحقق أن الله متكلم بكلام يسمع، وأن من كلامه القرآن وسائر الكتب التي أنزلها على عباده، فإذا اعتقدنا بذلك قلنا بأن هذه الكتب التي أنزلها ضمنها شريعته وضمنها أمره ونهيه ونحو ذلك.
والله تعالى فرق بين الخلق والأمر في قوله تعالى: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} [الأعراف:54] ، فدل على أن الأمر ليس الخلق، فالأمر هو الكلام، والخلق إيجاد المخلوقات، والأمر هو الذي يخلقها به، يقول تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82] فالمخلوق يخلق بالكلام، بقوله: (كن) ، وهو أمره، فقوله: (كن) فعل أمر يخلق الله تعالى به المخلوقات، فـ (كن) ليست من مخلوقاته لكونها من كلام الله، وإنما المخلوق ما يحدثه بها، أي: ما يخلقه من المخلوقات بقوله: كن فيكون، هذا الصحيح.
وكل تشعباتهم وتأويلاتهم بعيدة عن العقل وعن الفطرة التي فطر الله عليها العباد.(16/9)
نقض عبد العزيز المكي لأدلة المعتزلة
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وبمثل ذلك ألزم الإمام عبد العزيز المكي بشراً المريسي بين يدي المأمون بعد أن تكلم معه ملتزماً أن لا يخرج عن نص التنزيل، وألزمه الحجة، فقال بشر: يا أمير المؤمنين! ليدع مطالبتي بنص التنزيل ويناظرني بغيره، فإن لم يدع قوله ويرجع عنه ويقر بخلق القرآن الساعة وإلا فدمي حلال.
قال عبد العزيز: تسألني أم أسألك؟ فقال بشر: (اسأل أنت) .
وطمع فيَّ، فقلت له: يلزمك واحدة من ثلاث لابد منها: إما أن تقول: إن الله خلق القرآن - وهو عندي أنا كلامه في نفسه-، أو: خلقه قائماً بذاته ونفسه، أو خلقه في غيره؟ قال: أقول: خلقه كما خلق الأشياء كلها.
وحاد عن الجواب، فقال المأمون: اشرح أنت هذه المسألة ودع بشراً فقد انقطع.
فقال عبد العزيز: إن قال: خلق كلامه في نفسه فهذا محال؛ لأن الله لا يكون محلاً للحوادث المخلوقة، ولا يكون منه شيء مخلوقاً، وإن قال: خلقه في غيره؛ فيلزم في النظر والقياس أن كل كلام خلقه الله في غيره، فهو كلامه فهو محال أيضاً؛ لأنه يلزم قائله أن يجعل كل كلام خلقه الله في غيره هو كلام الله، وإن قال: خلقه قائماً بنفسه وذاته فهذا محال؛ لا يكون الكلام إلا من متكلم، كما لا تكون الإرادة إلا من مريد، ولا العلم إلا من عالم، ولا يعقل كلام قائم بنفسه يتكلم بذاته، فلما استحال من هذه الجهات أن يكون مخلوقاً علم أنه صفة لله.
هذا مختصر من كلام الإمام عبد العزيز في الحيدة] .
هي رسالة مطبوعة اسمها (الحيدة) كتبها عبد العزيز الكناني، ذكر فيها أنه لما اشتهر عن بشر المريسي أنه يقول: إن القرآن كلام الله حاول أن يجادله، فذكر أنه لما صلى مرة الجمعة قدم ولده أمام الناس، فسأله بصوت رفيع وقال: يا بني! ما تقول في القرآن؟ فقال بصوت رفيع: القرآن كلام الله، فلما سمع قبض عليه؛ لأن ذلك في زمن فتنة قد افتتن بها خلق كثير، وقد انتشر القول بأن القرآن مخلوق، وقد هددوا وتوعدوا من يقول بأن القرآن كلام الله، عند ذلك أحضر بين يدي المأمون وهو أحد خلفاء بني العباس، وكان ممن دخله كلام المعتزلة وزينوا له حتى اعتقد ما يقولونه بأن القرآن مخلوق.
فلما حضر بين يديه أمره بأن يحضر من يناظره، فأحضر بشراً المريسي وهو رأس المعتزلة أو رأس الجهمية في ذلك الزمان، فتناظرا بين يدي المأمون، فكلما أتى بحجة قوية حاد عنها ذلك المعتزلي الجهمي، فسمى رسالته بالحيدة.
وفي هذه المقالة أنه ألزمه بإحدى ثلاث، قال له: إذا قلت بأن القرآن مخلوق فلابد من واحدة من ثلاث: إما أن تقول: إن الله خلق القرآن في ذاته، وإما أن تقول: خلقه في غيره.
وإما أن تقول: إنه خلقه مستقلاً بنفسه.
ولابد من واحدة، فحاد ولم يجب المريسي، ولم يستطع أن يتخلف، فشرحها الكناني رحمه الله وقال: إذا قلت: إن الله خلقه في ذاته، فهذا محال؛ لأنه يكون محلاً للحوادث، والله تعالى منزه عن أن يكون محلاً للحوادث، أي: أنه لم يحدث له صفة كانت مفقودة، بل هو قديم بصفاته كما تقدم في قول المؤلف: (رازق قبل خلق من يرزقه، خالق قبل وجود الخلق) ، فبطل أن يكون خلقه في ذاته.
وإذا قلت: إنه خلقه مستقلاً -أي أنه مخلوق مستقل اسمه القرآن- فيلزم بذلك أن نشاهد ذلك المخلوق، فالمخلوقات لابد أنها تشاهد، وأيضاً لا بد أنه يأتي عليه التغير.
وقد سمعت أيضاً حكاية أن أحد الذين امتحنوا في القرآن لما أحضروه مرة قالوا له: ماذا عندك؟ قال: رأيت رؤيا.
رأيت أني قمت في الليل لأصلي، فلما كبرت قرأت الفاتحة وقرأت سورة: {يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون:1] ، وفي الركعة الثانية قرأت الفاتحة وأردت أن أقرأ سورة الإخلاص فلم أستطع ولم أقدر، فرفعت رأسي فإذا القرآن مسجى، فقلت: ما هذا؟ قالوا: القرآن ميت، فأنزلته أنا ومن ومعي وغسلناه وكفناه وصلينا عليه، فقالوا له: القرآن يموت؟! قال: نعم، أنتم تقولون: إن القرآن مخلوق، وكل مخلوق يموت، فخاصمهم بذلك وبين لهم أن هذه وإن كانت رؤيا فإنها رد عليكم، فإذا قلتم: إن القرآن مخلوق منفصل مستقل يرى فلابد أنه يأتي عليه التغير، فيمرض ويشفى، ويكبر ويصغر، ويزيد وينقص، وينطق بنفسه، فهو مخلوق مستقل، فمن الذي لمسه؟ ومن الذي شاهده؟ القرآن إنما هو هذا الكلام الذي نقرؤه، فهو عرض من الأعراض، وإذا نطقنا به فإنا لا نشاهد الكلمات التي نتكلم بها تخرج ويراها من يراها، فهو عرض تكلم الله تعالى به ليس بمخلوق.
وإذا قلتم: إنه كلام خلقه الله في غيره، لزمكم أن كل ما يتكلم به الناس فهو كلام الله خلقه في غيره، يعني: خلقه في ألسنة الناس وخلقه في قلوبهم، فما ينطقون به فهو من كلام الله.
وقد طرد ذلك كثير من الملاحدة الذين يقال لهم: (أهل الاتحاد) ، حتى قال بعضهم: وكل كلام في الوجود كلامه سواء علينا نثره ونظامه فجعلوا كل ما ينطق به الناس كلام الله ولو كان كفراً، ولو كان هجاء، ولو كان شعراً، ولو كان سخرية أو ما أشبه ذلك، جعلوا كل ما تكلم به الناس من كلام الله تعالى، تعالى الله عن قولهم.
فإذاً لما بطلت هذه الثلاثة ما بقي إلا أنه كلام الله ليس بمخلوق.
قال المؤلف رحمه الله: [وعموم (كل) في كل موضع بحسبه، ويعرف ذلك بالقرائن، ألا ترى إلى قوله تعالى: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ} [الأحقاف:25] ومساكنهم شيء، ولم تدخل في عموم كل شيء دمرته الريح، وذلك لأن المراد: تدمر كل شيء يقبل التدمير بالريح عادة وما يستحق التدمير.
وكذا قوله تعالى حكاية عن بلقيس: {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} [النمل:23] المراد من كل شيء يحتاج إليه الملوك، وهذا القيد يفهم من قرائن الكلام؛ إذ مراد الهدهد أنها ملكة كاملة في أمر الملك غير محتاجة إلى ما يكمّل به أمر ملكها، ولهذا نظائر كثيرة.
والمراد من قوله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الرعد:16] أي: كل مخلوق وكل موجود سوى الله فهو مخلوق فدخل في هذا العموم أفعال العباد حتماً، ولم يدخل في العموم الخالق تعالى، وصفاته ليست غيره؛ لأنه سبحانه وتعالى هو الموصوف بصفات الكمال، وصفاته ملازمة لذاته المقدسة لا يتصور انفصال صفاته عنه، كما تقدم الإشارة إلى هذا المعنى عند قوله: (ما زال قديماً بصفاته قبل خلقه) ، بل نفس ما استدلوا به يدل عليهم، فإذاً: كان قوله تعالى: (اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) مخلوقاً لا يصح أن يكون دليلاً.
وأما استدلالهم بقوله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً} [الزخرف:3] فما أفسده من استدلال! فإن (جعل) إذا كان بمعنى (خلق) يتعدى إلى مفعول واحد، كقوله تعالى: {وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} [الأنعام:1] ، وقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ * وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجاً سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} [الأنبياء:30-31] .
وإذا تعدى إلى مفعولين لم يكن بمعنى (خلق) ، قال تعالى: {وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً} [النحل:91] ، وقال تعالى: {وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَة} [البقرة:224] ، وقال تعالى: {الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ} [الحجر:91] ، وقال تعالى: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَة إِلَى عُنُقِكَ} [الإسراء:29] ، وقال تعالى: {وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ} [الإسراء:39] ، وقال تعالى: {وَجَعَلُوا الْمَلائِكَة الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثاً} [الزخرف:19] ونظائره كثيرة، فكذا قوله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الزخرف:30]] .
هذا دليل مما استدلوا به، وذكر نقضه، فالدليل الأول -كما تقدم- استدلوا بعموم (كل) في قوله: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الرعد:16] ، قال بشر المريسي لـ عبد العزيز الكناني: إن قلت: إن كلام الله شيء خاصمناك؛ لأنه داخل في هذه الآية، وإن قلت: إنه ليس بشيء ضللت وكفرت، وذلك لأن المحسوسات كلها داخلة في كل شيء.
ولكن بشراً لما قال ذلك اعتقد أنه قد غلب الكناني، وأنه ظهر عليه بالحجة، فقال له الكناني: ما أمرتك بأن تجيب على الآية، دعني أتولى الجواب، فقال: إن القرآن شيء لا كالأشياء، القرآن شيء ولكن ليس كالأشياء التي في هذه الآية، والجواب الثاني هو ما سمعنا من أن كلمة (كل) قد ترد عامة، ولكن تأتي عامة بحسب ما يراد منها لا أنها يدخل فيها كل الأشياء.
واستدل الشارح بدليلين: أحدهما: قوله تعالى: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ} [الأحقاف:25] يحكي الله تعالى عن الريح التي أرسلها على عاد أنها تدمر كل شيء، ومع ذلك بقيت أشياء موجودة ما دمرتها، فدل على أن كلمة (كل شيء) يراد بها: كل شيء يقبل التدمير.
والدليل الثاني: قوله تعالى في قصة بلقيس ملكة اليمن: {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} [النمل:23] ، ومعلوم أن هناك أشياء لم تؤت منها كالذي أوتي سليمان، فإنه أوتي ذلك الصرح، وأوتي الريح التي غدوها شهر ورواحها شهر، وسخرت له الشياطين كل بناء وغواص، ومع ذلك ما أوتيت مثل ذلك، وهي في زمنه، ومع ذلك ملكها لم يتجاوز الجهة التي هي بها، فإذاً قوله تعالى: (أوتيت من كل شيء) عام، ولكنه مخصوص بما يؤتاه مثلها.(16/10)
نداء الله لموسى ودلالاته
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وما أفسد استدلالهم بقوله تعالى: {نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَة الْمُبَارَكَة مِنَ الشَّجَرَة} [القصص:30] على أن الكلام خلقه الله تعالى في الشجرة فسمعه موسى منها، وعموا عما قبل هذه الكلمة وما بعدها؛ فإن الله تعالى قال: {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَن} [القصص:30] ، والنداء هو الكلام من بعد، فسمع موسى عليه السلام النداء من حافة الوادي، ثم قال: {فِي الْبُقْعَة الْمُبَارَكَة مِنَ الشَّجَرَة} [القصص:30] أي أن النداء كان في البقعة المباركة من عند الشجرة.
كما يقول: سمعت كلام زيد من البيت، فيكون (من البيت) لابتداء الغاية، لا أن البيت هو المتكلم، ولو كان الكلام مخلوقاً في الشجرة لكانت الشجرة هي القائلة: {يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [القصص:30] ، وهل قال: (إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) غير رب العالمين؟ ولو كان هذا الكلام بدا من غير الله لكان قول فرعون {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات:24] صدقاً؛ إذ كل من الكلامين عندهم مخلوق قد قاله غير الله، وقد فرقوا بين الكلامين على أصلهم أن ذلك كلام خلقه في الشجرة، وهذا كلام خلقه فرعون، فحرفوا وبدلوا واعتقدوا خالقاً غير الله، وسيأتي الكلام على مسألة أفعال العباد إن شاء الله تعالى] .
مما استدلوا به -وهي شبهة داحضة- أن استدلوا بقوله تعالى: {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي مِنْ شَاطِئِ الْوَادِي الأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنْ الشَّجَرَةِ} [القصص:30] قالوا: إن موسى سمع الصوت من الشجرة، فالشجرة هي التي تكلمت، أو خلق الله الكلام في الشجرة.
فلذلك قالوا: إن كلام الله مخلوق، وهذا قول بعيد، ويقول المؤلف: إنهم عموا عما بعد الآية وعما قبلها، فإن قوله تعالى: (نودي) النداء يكون بصوت مسموع، وهذا مما استدلوا به على أن الله تعالى متكلم؛ حيث أثبت لنفسه النداء في عدة آيات، قال تعالى: {وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى} [الشعراء:10] وقال: {إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى} [النازعات:16] ، وقال: {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً} [مريم:52] وقال: {فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ} [الأعراف:22] ، وقال: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِي الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} [القصص:62] ونحو ذلك، فالنداء من الله بكلام مسموع، فإذاً: قوله (نودي) ، يعني ناده ربه بكلام سمعه.
وأما قوله تعالى: (في البقعة المباركة) يعني أنه نودي وهو في البقة المباركة التي ذكرها بقوله: {إِنَّكَ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى} [طه:12] ، هذه البقعة ذكر الله بها البركة فقال تعالى: {إِنَّكَ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى} [طه:12] ؟ ثم قال: (من الشجرة) سمع الصوت من جهة الشجرة لا أن الشجرة هي التي نطقت، وإنما سمع الصوت من جهتها، ورأى تلك النار التي قال عنها: {إِنِّي آنَسْتُ نَاراً} [طه:10] أي: رأى ضوءاً يشتعل عند تلك الشجرة فظن أنه نار، فذهب ليأتي بوقود لأهله لعلهم يصطلون، وكان ذلك في شدة برد، فقال: {أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} [النمل:7] ، فلما جاء إلى الشجرة سمع هذا النداء، وفي ذلك النداء قوله: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمْ الصَّلاةَ لِذِكْرِي * إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى * فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى * وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى} [طه:14-17] ، كل هذا تكلم الله به وسمعه، ولأجل ذلك يسمى موسى كليم الله، بمعنى أن الله كلمه وأسمعه كلامه، وليست هي الشجرة التي نطقت بذلك، وإنما سمع الصوت من جهة الشجرة، أي: جاء من تلك الجهة.
كما يقول القائل: كلمني زيد من الدار، بمعنى أن الصوت خرج من الدار، لا أن الدار هي التي نطقت.
فإذاً هذا دليل بعيد أن يتعلق به، وهذا من جملة أدلتهم الباطلة.(16/11)
علاقة الأمينين بالقرآن الكريم
قال المؤلف رحمه الله: [فإن قيل: فقد قال تعالى: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} [الحاقة:40] وهذا يدل على أن الرسول أحدثه، إما جبرائيل أو محمد صلى الله عليه وسلم! قيل: ِذكْرُ الرسول معرَّف أنه مبلِّغ عن مرسله؛ لأنه لم يقل إنه قول ملك أو نبي، فعلم أنه بلغه عمن أرسله به، لا أنه أنشأ من جهة نفسه، وأيضاً: فالرسول في إحدى الآيتين جبرائيل، وفي الأخرى محمد، فإضافته إلى كل منهما تبين أن الإضافة للتبليغ؛ إذ لو أحدثه أحدهما امتنع أن يحدثه الآخر، وأيضاً فقوله: {رَسُولٌ أَمِينٌ} [الشعراء:107] دليل على أنه لا يزيد في الكلام الذي أرسل بتبليغه ولا ينقص منه، بل هو أمين على ما أرسل به يبلغه عن مرسله، وأيضاً فإن الله قد كفَّر من جعله قول البشر، ومحمد صلى الله عليه وسلم بشر، فمن جعله قول محمد بمعنى أنه أنشأه فقد كفر، ولا فرق بين أن يقول: إنه قول بشر أو جني أو ملك، والكلام كلام من قاله مبتدئاً لا من قاله مبلغاً، ومن سمع قائلاً يقول: قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل قال هذا شعر امرئ القيس، ومن سمعه يقول: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى) قال هذا كلام الرسول، وإن سمعه يقول: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:2-5] قال: هذا كلام الله إن كان عنده خبر ذلك، وإلا قال: لا أدري مِن كلام مَن هذا؟ ولو أنكر عليه أحد ذلك لكذَّبه، ولهذا من سمع من غيره نظماً أو نثراً يقول له: هذا كلام مَن؟ أهذا كلامك أو كلام غيرك؟] .
يقول: قد يعترض معترض بهذه الآية التي في سورة الحاقة وفي سورة التكوير، وهي قوله: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ * وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} [الحاقة:40-42] وفي الآية الأخرى: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} [التكوير:19-21] ، فالرسول هاهنا هو جبريل الذي بلغه عن الله، فمعنى قوله: (قول رسول) تبليغ رسول.
ونأخذ من كلمة (رسول) أنه لم ينشئه، وأنه لم يقله من نفسه، وإنما بلغه حيث إنه مرسل.
فالرسول هو الذي يحمل رسالة من غيره، فكل من حمل كلاماً أو حمل كتاباً فإنه يسمى رسولاً، تقول: أرسلت غلامي بكذا وكذا، أو: يأتيكم رسولي.
أي: منتدبي.
وأرسلت ابني إلى فلان.
فالرسول بمعنى الذي يحمل رسالة، فهذا القرآن قول رسول، أي: قول جاء به رسول أرسل به، وذلك الرسول الذي ذكر في هذه الآيات هو جبريل عليه السلام، يبين ذلك قوله تعالى في سورة الشعراء: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنْ الْمُنذِرِينَ} [الشعراء:193-194] فهكذا قوله: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} [الحاقة:40] ، وقوله تعالى: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} [التكوير:19-21] ، فوصف بأنه أمين في الموضعين، فيؤخذ من ذلك أنه مأمون على ما أرسل به، لا يدخل فيه زيادة ولا أي نوع من التغيير، بل يبلغه كما هو دون أي تحريف أو تغيير.
إذاً لا متعلق في هذه الآية، بل الآية واضحة بأنه بلغه عمن أرسله، والذي أرسله به هو الله تعالى.
ثم يقول: الكلام إنما يضاف إلى من قاله لا إلى من بلغه، فهو كلام الله، والرسول الذي بلغه سواءٌ أكان جبريل أم محمداً إنما منه التبليغ، وقد ذكر الله ذلك في عدة آيات، كقوله تعالى: {إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ} [الشورى:48] ، وقوله تعالى: {مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ} [المائدة:99] ، وقوله تعالى: {بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [المائدة:67] ، وقوله تعالى: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ} [الأحزاب:39] ، فالتبليغ معناه إيصال ما بعث به إلى المرسل إليهم كما هو دون نقص أو تغيير.
فإذاًَ هو بلغه، ونشهد بأنه بلغ ما أرسل به إلى هذه الأمة، وأن الأمة قد حفظته.
ثم يقول: الكلام يضاف إلى من قاله مبتدئاً لا إلى من بلغه.
فنحن نقولك: كلام الله وتبليغ جبريل.
أي: نزل به جبريل، وقرأه وعلمه للأمة محمد عليه الصلاة والسلام، فهو كلام الله ولا يضاف إلى من بلغه، ويستدل على ذلك بأن الكلام يضاف إلى من ابتدعه بقولنا إذا سمعنا من ينشد: قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل هذا بيت في أول قصيدة من المعلقات، وهو لـ امرئ القيس.
فإذا سمعناه نقول: هذا كلام امرئ القيس، ولا نقول: هذا كلامك أيها المتكلم.
وإذا سمعناك تقول -مثلاً-: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى) هل نقول: هذا كلامك أيها المتكلم؟ نقول: هذا كلام الرسول عليه الصلاة والسلام.
ونعرف أنه أول من قال هذا، وإذا سمعنا من يقرأ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة:2-3] ونحن نعرف أنه كلام الله قلنا: هذا كلام الله، ليس كلامك أيها المتكلم الذي أسمعتنا، إنما أنت مبلغ.
فإذاً هو كلام الله وتبليغ رسل الله.(16/12)
شرح العقيدة الطحاوية [17]
القرآن كلام الله لفظاً ومعنى، وهو قديم النوع حادث الآحاد، اتفق على هذا السلف والأئمة، وتوافرت عليه أدلة الكتاب والسنة، ولكن خالف بعض المتأخرين من أتباع المذاهب متأثرين بغيرهم، فزعموه معنى واحداً وكلاماً نفسياً وزعموا أن الموجود عبارة عن كلام، وفي كلام الإمام الطحاوي ما يرد عليهم تصريحاً وتلويحاً.(17/1)
إثبات كلام الله والرد على المتأخرين المخالفين للسلف(17/2)
اتفاق أهل السنة على أن كلام الله غير مخلوق واختلاف المتأخرين
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وبالجملة فأهل السنة كلهم من أهل المذاهب الأربعة وغيرهم من السلف والخلف متفقون على أن كلام الله غير مخلوق، ولكن بعد ذلك تنازع المتأخرون في أن كلام الله هل هو معنى واحد قائم بالذات، أو أنه حروف وأصوات تكلم الله بها بعد أن لم يكن متكلماً، أو أنه لم يزل متكلماً إذا شاء ومتى شاء وكيف شاء، وأن نوع الكلام قديم.
وقد يطلق بعض المعتزلة على القرآن أنه غير مخلوق، ومرادهم أنه غير مختلق مفترىً مكذوب، بل هو حق وصدق.
ولا ريب أن هذا المعنى منتفٍ باتفاق المسلمين، والنزاع بين أهل القبلة إنما هو في كونه مخلوقاً خلقه الله، أو هو كلامه الذي تكلم به وقام بذاته، وأهل السنة إنما سألوا عن هذا، وإلا فكونه مكذوباً مفترى مما لا ينازع مسلم في بطلانه، ولا شك أن مشايخ المعتزلة وغيرهم من أهل البدع معترفون بأن اعتقادهم في التوحيد والصفات والقدر لم يتلقوه لا عن كتاب ولا سنة، ولا عن أئمة الصحابة والتابعين لهم بإحسان، وإنما يزعمون أن عقلهم دلهم عليه، وإنما يزعمون أنهم تلقوا من الأئمة الشرائع.
ولو ترك الناس على فطرهم السليمة وعقولهم المستقيمة لم يكن بينهم نزاع، ولكن ألقى الشيطان إلى بعض الناس أغلوطة من أغاليطه فرق بها بينهم {وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} [البقرة:176]] .
قد تقدم عند سياق اختلاف الأمة في كلام الله أن هناك فرقة قالوا: كلام الله معنىً واحد قائم بذاته، وهذا قول الأشعرية والماتريدية، ولهذا قالوا: إنه معنىً واحد يعبر به بالعبرية فيصير توراة، وبالسريانية فيصير إنجيلاً، وبالعربية فيصير قرآناً، وهو معنىً واحد.
وهذا قول باطل، ويقولون أيضاً: إن كلام الله تعالى هو المعنى لا اللفظ، ولهم أدلة ربما يأتي نقاش حولها.
وهناك قول ثانٍ للمبتدعة أيضاً أن كلام الله حروف وأصوات تكلم بها بعد أن لم يكن متكلماً.
وهذا أيضاً خطأ؛ فإن الله تعالى لم يزل موصوفاً بأنه متكلم ويتكلم إذا شاء.
وقول أهل السنة: إن كلام الله قديم النوع حادث الآحاد، وإنه لم يزل متكلماً ويتكلم إذا شاء، وإن القرآن من كلامه، وإن الكلام صفة مدح ليس هو مخلوق، فليس كلام الله مخلوقاً كما أن صفاته ليست مخلوقة، فليس شيء من صفاته مخلوقاً، فعلمه وقدرته وإرادته وحلمه ورحمته وصفاته الذاتية سمعه وبصره كل ذلك منسوب إليه ومضاف إليه، وليس شيء من ذلك مخلوقاً.
وهنا ذكر الشارح عن بعض المعتزلة أنهم قد يوافقون ويقولون: نحن نقول: القرآن غير مخلوق، ولا يقولون: القرآن كلام الله، بل يقولون: غير مخلوق، ولكن هذه العبارة يعبرون بها عن معنىً صحيح يوافق عليه كل أحد، وهو أنهم يعنون أنه غير مفترى ولا مختلق ولا مكذوب، أي: أن محمداً لم يكن اختلقه ولا افتراه، وهذا يتسترون به، وإلا فهم يعتقدون أنه كسائر المخلوقات خلقه الله كما خلق سائر المخلوقات.
فإذا عرفنا مثل هذه الأقوال بقي أن يعتقد كل مسلم بأن القرآن الذي أنزله الله تعالى هو كلامه، وأنه صفة كمال، وأنه معجز بذاته، وأنه ليس بمخلوق ولا شيء من صفات الله مخلوقة، ويعتقد أن أهل السنة مجمعون من عهد السلف والصحابة على أن القرآن كلام الله تكلم به، وأنه من جملة كلامه، وأنزله وحياً، وجعله معجزة لهذا النبي خالدة باقية ما شاء الله أن تبقى، ما دام يعمل به، وهو منزل غير مخلوق، منه بدأ قولاً وإليه يعود، أي: يرفع في آخر الزمان عندما يترك العمل به، هذا قول أهل السنة، ولا عبرة بالأقوال الشاذة المبتدعة التي خالفت هذا القول.(17/3)
كلام أبي حنيفة على كلام الله
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [والذي يدل عليه كلام الطحاوي رحمه الله أنه تعالى لم يزل متكلماً إذا شاء كيف شاء، وأن نوع كلامه قديم، وكذلك ظاهر كلام الإمام أبي حنيفة رحمه الله تعالى في الفقه الأكبر؛ فإنه قال: والقرآن كلام الله في المصاحف مكتوب، وفي القلوب محفوظ، وعلى الألسن مقروء، وعلى النبي صلى الله عليه وسلم وآله منزل، ولفظنا بالقرآن مخلوق وكتابتنا له مخلوقة، وقراءتنا له مخلوقة، والقرآن غير مخلوق.
وما ذكره الله في القرآن حكاية عن موسى وغيره من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وعن فرعون وإبليس فإن ذلك كله كلام الله تعالى إخباراً عنهم، وكلام الله غير مخلوق، وكلام موسى وغيره من المخلوقين مخلوق، والقرآن كلام الله لا كلامهم.
وسمع موسى عليه السلام كلام الله تعالى، فلما كلم موسى كلمه بكلامه الذي هو له صفة في الأزل، وصفاته كلها خلاف صفات المخلوقين، يعلم لا كعلمنا، ويقدر لا كقدرتنا، ويرى لا كرؤيتنا، ويتكلم لا ككلامنا.
انتهى.
فقوله: ولما كلم موسى كلمه بكلامه الذي هو صفة له في الأزل يعلم منه أنه حين جاء كلمه، لا أنه لم يزل ولا يزال أزلاً وأبداً يقول: يا موسى؛ ويفهم ذلك من قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} [الأعراف:143] ، ففهم منه الرد على من يقول من أصحابه: إنه معنىً واحد قائم بالنص لا يتصور أن يسمع، وإنما يخلق الله الصوت في الهواء، كما قال أبو منصور الماتريدي وغيره.
وقوله: (الذي هو له صفة في الأزل) رد على من يقول: إنه حدث له وصف الكلام بعد أن لم يكن متكلماً] .
نقل هنا كلام أبي حنيفة؛ لأن الشارح حنفي المذهب، والمصنف الذي هو الطحاوي حنفي أيضاً، والعقيدة مشهورة عند الحنفية، ولكن أكثر المتأخرين من الحنفية مالوا في باب الاعتقاد فيما يتعلق بالأسماء والصفات، وفيما يتعلق بالإيمان، وفيما يتعلق بالقرآن، وانحرفوا بسبب من قرءوا عليه من الأشاعرة ونحوهم، ولكن الشارح رحمه الله كان على عقيدة سلفية تلقاها عن مشايخه الذين اخلصوا له في التعليم فحسن اعتقاده، فاحتج على أهل ذلك المذهب بأقوال من يحترمونهم.
فهذا الطحاوي رحمه الله حنفي، وكلامه واضح في أن الرب سبحانه وتعالى لم يزل متكلماً إذا شاء، وهذا أبو حنيفة صريح قوله في إثبات صفة الكلام لله سبحانه وتعالى، وفي الاستدلال على ذلك بأن الله كلم موسى، وأن موسى سمع كلام الله منه إليه، قال تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء:164] ، وقال: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} [الأعراف:143] ، وقال: {إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي} [الأعراف:144] .
وكذلك ناداه وناجاه: {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا} [مريم:52] ، والنداء لا يكون إلا بكلام، والمناجاة التي هي كلام خفي بين اثنين لا تكون إلا بكلام، وكل ذلك استدل به أبو حنيفة على أن الله تعالى هو الذي تكلم بهذا القرآن، وأنه لم يزل متكلماً ويكلم من يشاء، واستدل أيضاً بأن ما في القرآن من حكاية كلام الأمم أو كلام الرسل أو غيرهم هو عين كلام الله.
فنحن نقول: قال الله تعالى عن فرعون: {يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا} [غافر:36-37] ، فهذا كلام الله حكاه عن فرعون.
كذلك نقول: قال الله تعالى عن إبليس: {فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [ص:82-83] ، وقال تعالى عنه: {لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ} [الأعراف:16] ، هذا كلام الله حكاه عن إبليس.
وكلام إبليس، وكلام فرعون، وكلام قوم نوح لنوح في قولهم: {قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [هود:32] ، وكذلك بقية الأمم كلامهم مخلوق؛ لأن الإنسان بجميع حركاته مخلوق، فالإنسان بجسمه مخلوق، وحركاته مخلوقة لله الذي خلقه وخلق حركاته، وكلماته أيضاً مخلوقة، فالله الذي يحرك شفتيه ويحرك لسانه، فهو الذي أنطقه بذلك كما أنطق في الآخرة الجلود والأيدي والأرجل ونحو ذلك.
فالإنسان بجميع ما ينسب إليه مخلوق، وأما الرب تعالى بجميع صفاته فإنه ليس بمخلوق، بل صفاته كلها مضافة إليه من ذاته، ولا يجوز القول بأن شيئاً من صفاته مخلوق، ولا أنه حادث بعد أن لم يكن.
وقد تقدم أن صفاته قديمة، لكن يقال: إن كلامه قديم النوع حادث الآحاد، أي: أنه لم يزل متكلماً ويتكلم إذا شاء.(17/4)
قبول ما جاء في كلام المعتزلة من حق
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وبالجمة فكل ما تحتج به المعتزلة مما يدل على أنه كلام متعلق بمشيئته وقدرته، وأنه يتكلم إذا شاء وأنه يتكلم شيئاً بعد شيء، فهو حق يجب قبوله، وما يقوله من يقول: إن كلام الله قائم بذاته، وإنه صفة له، والصفة لا تقوم إلا بالموصوف، فهو حق يجب قبوله والقول به، فيجب الأخذ بما في قول كل من الطائفتين من الصواب والعدول عما يرده الشرع والعقل من قول كل منها.
فإذا قالوا لنا فهذا يلزم أن تكون الحوادث قامت به قلنا: هذا القول مجمل، ومن أنكر قبلكم قيام الحوادث -بهذا المعنى- به تعالى من الأئمة؟ ونصوص القرآن والسنة تتضمن ذلك، ونصوص الأئمة أيضاً مع صريح العقل] .
يعني: أننا نقبل ما جاءوا به من الحق ونرد الباقي، فإذا قالوا: إن كلام الله تعالى صفة قائمة بذاته.
قلنا: هذا صحيح، ولكن قولهم: إنه معنىً واحد، هذا لا نوافقهم عليه، وذلك لأن فيه ذكر الجنة وفيه ذكر النار، فعلى أنه معنىً واحد لا يكون بين آية الوعد والوعيد فرق، وكذلك فيه ذكر العذاب وفيه ذكر الرحمة، وإذا كان معنىً واحداً لم يكن بين هذه الآية وهذه الآية فرق.
فإذاً لا يوافقون على قولهم: إنه معنىً واحد، ولكن يوافقون على أنه قائم بذاته، كما أن سائر الصفات قائمة بالموصوف، فلا تعقل صفة إلا وهي قائمة بالموصوف، فالبياض لابد أن يكون قائماً بشيء أبيض، ولا يوجد منفصلاً، ولا ينتزع البياض من الثوب ويقبض عليه ويقال: هذا البياض انتزع، وكذلك الحمرة -مثلاً- والسواد لابد أن تقوم بشيء يوصف بأنه أبيض أو أسود أو أحمر، فكذلك الصفات، فالسمع لابد أن يقوم بمن يسمع، والكلام لابد أن يقوم بمن يتكلم ولا يقوم بذاته.
فإذاً الصفات نوافق في أنها قائمة بذاته، ولكن نرفض قولهم: إننا إذا قلنا إنه يتكلم وإنه يعلم ويقدر يكون ذلك سبباً لكون الحوادث تقوم به.
وهذه أكبر شبهة يتشبثون بها، فيرمون أهل السنة بأنهم يقولون إن الحوادث تقوم بذات الله.
على معتقدهم أن الله تعالى قائم بذاته وبأفعاله، وأنه لا يحدث منه شيء بعد أن لم يكن، وهذا خطأ، بل الله تعالى يحدث ما يشاء، فيسمع ما يحدث بعد أن لم يكن حادثاً، يسمع الأصوات التي حدثت بعد أن لم تحدث، ويرى الأشخاص الذين تجدد خلقهم بعد أن لم يكن متجدداً.
والرؤية جنسها قديم وهي حادثة، فيقال: بصر الله تعالى وصفته بأنه يرى قديم، ولكن هذا الإبصار حادث، ولا يلزم قيام الحوادث بذات الله.(17/5)
اختلاف ما جاءت به الرسل عما عليه المبتدعة
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ولا شك أن الرسل الذين خاطبوا الناس وأخبروهم أن الله قال ونادى وناجى ويقول، لم يفهموهم أن هذه مخلوقات منفصلة عنه، بل الذي أفهموهم إياه أن الله نفسه هو الذي تكلم، والكلام قائم به لا بغيره، وأنه هو الذي تكلم به وقاله، كما قالت عائشة رضي الله عنها في حديث الإفك: ولشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله فيَّ بوحي يتلى.
ولو كان المراد من ذلك كله خلاف مفهومه لوجب بيانه؛ إذ تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز، ولا يعرف في لغة ولا عقل قائل متكلم لا يقوم به القول والكلام، وإن زعموا أنهم فروا من ذلك حذراً من التشبيه فلا يثبتوا صفةً غيره؛ فإنهم إذا قالوا: يعلم لا كعلمنا، قلنا: ويتكلم لا كتكلمنا.
وكذلك سائر الصفات، وهل يعقل قادر لا تقوم به القدرة، أو حي لا تقوم به الحياة، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (أعوذ بكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر) .
فهل يقول عاقل: إنه صلى الله عليه وسلم عاذ بمخلوق؟! بل هذا كقوله: (أعوذ برضاك من سخطك، وأعوذ بمعافاتك من عقوبتك) ، وكقوله: (أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر) ، وكقوله: (وأعوذ بعظمتك أن نغتال من تحتنا) ، كل هذه من صفات الله تعالى، وهذه المعاني مبسوطة في مواضعها، وإنما أشير إليها هنا إشارة] .
يتكلم هنا على قولهم: إنكم تقولون: إن الحوادث تقوم بذات الله.
وهذا تنقص لله؛ حيث جعلتم صفاته حادثة، أو جعلتم الحوادث تقوم به، وذلك لأن أخص الصفات عند المعتزلة هي صفة القدم، فهذه أخص ما يصفون الله بها، فيمتنعون عن إثبات شيء متجدد، فيقولون: إذا أثبتنا أن الله يتكلم الآن صار الكلام متجدداً، وصار قائماً بالذات، وإذا أثبتنا أنه يعلم صار هذا العلم جديداً بعد أن لم يكن موجوداً.
فيرد عليهم بأنه لا تعقل صفة قائمة بذاتها، بل لابد أن تكون الصفة قائمة بالموصوف، فلا تقوم صفة بغير موصوف أبداً.
ويوجد في هذه الأزمنة شيء قد يتعلقون به، ولكن لا تعلق لهم بذلك، وذلك في الأشرطة التي تحفظ الكلام أو تسجله، ومعلوم أنها لا تنطق بنفسها وإنما تحفظ كلاماً قد تكلم به إنسان فتعيده بلهجته، فيقال: هذا صوت فلان وهذا كلام فلان تكلم به وحفظ! فيقال: هذا الكلام قام بهذا الشريط بعد أن قام بالمتكلم، فالكلام صدر من متكلم ولم يكن الكلام صدر من غير متكلم.
وكذلك الأشرطة الضوئية أو الأفلام التي تسجل الأشخاص والحركات إذا رئي فيها شخص قيل: هذا فلان وهذه حركته، ولا يقال: إن هذه الحركة قامت بنفسها.
أو إنه ليس هناك متحرك؛ إذ لا تكون حركة إلا من متحرك، ولا يكون سمع إلا من سميع، ولا يكون قول إلا من قائل، فلهذا يعرف أن كلام الله ليس بمخلوق.
ومن الأدلة على ذلك أن الرسول عليه الصلاة والسلام استعاذ بكلام الله في قوله: (أعوذ بكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر من شر ما أجد وأحاذر) ، وكذلك قوله: (أعوذ بعزة الله) (أعوذ بعظمة الله) كل ذلك استعاذة بصفة من صفات الله، لا يلزم منه أنه استعاذ بمخلوق، فعرف بذلك أن هذه الصفات قائمة بالموصوف لا يمكن أن تنفصل بنفسها، ولا يمكن أن يوجد كلام إلا من متكلم قام به ذلك الكلام.
ولا يقال: إن قولهم: تقوم به الحوادث فيه محذور، بل يقال: هو الذي يفعل هذه الأشياء وتحدث بعد أن لم تكن حادثة، ولكن هو عالم بذلك كله قبل أن يوجد، فهو عالم بما سيحدث، ولا يقال: حدث له علم تجدد، وهو أيضاً عالم بما تكلم به وسوف يتكلم، ولا يقال: حدث له كلام بمعنى أنه لم يكن يعلمه، بل هو عالم بكل شيء، فعرف بذلك أن هذا لا متمسك لهم فيه.(17/6)
مخالفة متأخري الحنفية في كلام الله لما عليه السلف
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وكثير من متأخري الحنفية على أنه معنى واحد، والتعدد والتكثر والتجزؤ والتبعض حاصل في الدلالات لا في المدلول، وهذه العبارة مخلوقة، وسميت كلام الله لدلالتها عليه وتأديه بها، فإن عبر بالعربية فهو قرآن، وإن عبر بالعبرية فهو توراة، فاختلفت العبارات لا الكلام.
قالوا: وتسمى هذه العبارات كلام الله مجازاً.
وهذا الكلام فاسد؛ فإن لازمه أن معنى قوله: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى} [الإسراء:32] هو معنى قوله: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [البقرة:43] ، ومعنى آية الكرسي هو معنى آية الدين، ومعنى سورة الإخلاص هو معنى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد:1] ، وكلما تأمل الإنسان هذا القول تبين له فساده، وعلم أنه مخالف لكلام السلف] .
المؤلف حنفي، ولكن هو ممن وفقه الله لأخذ العلم عن مشايخ اعتقدوا عقيدة سلفية فتلقى تلك العقيدة عنهم، وتأثر بشيخه عماد الدين بن كثير صحاب التفسير رحمه الله، وابن كثير تأثر بـ ابن تيمية حيث إنه قرأ عليه فصلحت عقيدته وأصلح غيره، ولهذا ينقل الشارح كثيراً عن ابن تيمية وعن تلميذه ابن القيم وإن لم يصرح بالنقل عنهما؛ وذلك لأنه لو نقل عنهما بالصراحة لنبذ كلامه لكون كثير من الحنفية لا يقبلونهما لأسباب.
أولاً: لأنهما من الحنابلة.
وثانياً: لأنهما في نظر أكثر المتأخرين قد ارتكبا خطأً كبيراً بإظهار هذه العقيدة التي ليس عليها أحد في زمانهما.
فالشارح يحكي أن الحنفية يقولون بهذه المقالة التي ذكر، فاعتقادهم أن كلام الله معنىً واحد ليس متعدداً.
ورد عليهم بأن هذا القول قول فاسد، حيث جعلوه معنىً واحداً إن عبر عنه بالعربية فهو القرآن أو بالعبرية فهو التوراة أو بالسريانية فهو الإنجيل كما يقولون، وإلا فهو معنىً واحد، فيرد عليهم بأن هذا فيه إبطال لما تضمنه القرآن، وعلى قولهم تكون آية الكرسي مثل آية الدين، وهل يقول هذا عاقل؟ وهل يقول عاقل إن سورة {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} [المسد:1] كصورة الإخلاص {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] ، فهل المعنى الذي في هذه هو المعنى الذي في هذه؟ وكل عاقل يعرف أن هذه لها مدلول وهذه لها مدلول، وهكذا آية الرحمة غير آية العذاب، وآية ذكر الجنة غير آية ذكر النار، فالذي يتأمل هذه المقالة يعلم بعدها عن الصواب، ومع ذلك فقد قال بها جموع كثيرة، وجمع غفير انخدع بذلك واعتقد أنه هو القول الصواب، وتلقوه عن مشايخهم.
وشبهتهم التي اعتمدوا عليها هو خوفهم من أن يقولوا: إن الله متكلم، واعتقادهم أن الكلام لا يصدر إلى من ذات، وأنه يحدث، وأن الله منزه عن أن تقوم به الحوادث، وقد عرفت بطلان هذه المقالة.(17/7)
رد قول من يقول: إن القرآن عبارة عن كلام الله
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [والحق أن التوراة والإنجيل والزبور والقرآن من كلام الله حقيقة، وكلام الله تعالى لا يتناهى؛ فإنه لم يزل يتكلم بما شاء إذا شاء كيف شاء، ولا يزال كذلك، قال تعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} [الكهف:109] ، وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [لقمان:27] ، ولو كان ما في المصحف عبارة عن كلام الله وليس هو كلام الله لما حرم على الجنب والمحدث مسه، ولو كان ما يقرؤه القارئ ليس كلام الله لما حرم على الجنب قراءته.
بل كلام الله محفوظ في الصدور، مقروء بالألسن، مكتوب في المصاحف، كما قال أبو حنيفة في الفقه الأكبر، وهو الذي في هذه المواضع كلها حقيقة، وإذا قيل: المكتوب في المصحف كلام الله فهو منه معنى صحيح حقيقي، وإذا قيل: فيه خط فلان وكتابته فهم منه معنىً صحيح حقيقي، وإذا قيل: فيه مداد قد كتب به، فهم منه معنىً صحيح حقيقي، وإذا قيل: المداد في المصحف، كانت الظرفية فيه غير الظرفية المفهومة من قول القائل: فيه السماوات والأرض، وفيه محمد وعيسى ونحو ذلك، وهذان المعنيان مغايران لمعنى قول القائل: فيه كلام الله ومن لم يتنبه للفروق بين هذه المعاني ضل ولم يهتد للصواب] .
ينبه على أن كتب الله تعالى متضمنة لكلامه، وكل كتاب منها محتو على معاني غير المعاني التي في الكتب الأخرى، فالتوراة فيها أحكام، والإنجيل فيه أحكام أخرى، ولهذا قال عيسى: {وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} [آل عمران:50] ، فجاء بالتخفيف عن بني إسرائيل في أشياء قد حرمت في التوراة، وكذلك الزبور فيه مواعظ وفيه أذكار وفيه تنبيهات وفيه تذكير، وكذلك القرآن فيه أحكام -كما هو معروف- وفيه أوامر ونواه، وفيه قصص وأمثال ونحو ذلك.
فإذاًَ كيف يقول عاقل: إن المعنى الذي في التوراة هو المعنى الذي في الإنجيل، وهو المعنى الذي في الزبور، وهو المعنى الذي في القرآن، وأن هذا عين هذا إلا أنها اختلفت العبارة، فهذا عربي وهذا عبري وهذا سرياني؟ ونقول: هذا من أبعد البعيد، ومن أمحل المحال.
ثم ذكر أيضاً أن القرآن معروف أنه لا يمسه إلا المطهرون، وعلى قول هؤلاء الأشاعرة ونحوهم أنه عبارة، بمعنى أنه تعبير غير كلام الله، كأن الذي عبر به إما جبريل وإما محمدٌ أو غيرهما، فجعلوا كلام الله المعنى، وهما عبرا عنه بمنزلة المترجم الذي ينقل الكلام من لغة إلى لغة.
وأنت إذا سمعت إنساناً ينقل الكلام من العربية إلى الأوروبية تقول: هذا تعبير فلان المترجم، فعلى قولهم: القرآن تعبير محمد أو تعبير جبريل لا أنه نفس كلام الله، فإنه إذا كان تعبيراً لغير الله لم يكن له حرمة، وعلى هذا يجوز أن يقرأه الجنب، ويجوز أن تقرأه الحائض، ويجوز أن يمس المصحف من هو محدث ولو حدثاً أكبر؛ لأنه ليس فيه كلام الله، إنما فيه عبارة أو حكاية أو ترجمة لكلام الله، وأما الحروف والألفاظ فليست هي كلام الله، إذاً لا يبقى له حرمة، وهذا خطأ.
والمسلمون مجتمعون على أنهم يقولون: هذا كلام الله، وهذا المصحف فيه كلام الله.
فقولهم: فيه كلام الله معناه أنه مكتوب فيه، وإذا قالوا: في هذا المصحف مداد فالمعنى حبر كتب به، مداد أسود، ومداد أحمر، فالمراد أن المداد مخلوق؛ لأنه كتب به، ولكن المكتوب هو كلام الله، وأما المداد الذي كتب به فهو مخلوق، ولهذا يقول القحطاني في نونيته: ومدادنا والرق مخلوقان.
يعني: إن حبرنا والصحيفة مخلوقان، وأما الكلام فإنه ليس بمخلوق.
ويقول الشارح: أنت تقول: في هذا القرآن السماوات والأرض والأمم.
أي: أن ذلك مكتوب فيه، فموجود فيه ذكر السماوات، ولكن إذا قلت: فيه مداد وفيه حبر وفيه أوراق كان لك مقصد، وإذا قلت: في هذا المصحف السماوات والأرض والجنة والنار صدقت في أنها موجودة، أي: مكتوبة فيه، وإذا قلت: فيه كلام الله صدقت؛ لأنه مكتوب فيه كلام الله الذي كتب فيه.
فالحاصل أن اعتقاد المسلمين أنه كلام الله ينفي ويبطل ما يقول هؤلاء المبتدعة من أن القرآن الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم عبارة أو حكاية عن كلام الله لا أنه عين كلام الله.
وقد كتب شيخنا الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله في ذلك رسالة عندما استقدم بعض الأشاعرة للتدريس في هذه البلاد، وكأنهم أرادوا إظهار معتقدهم من أن القرآن حكاية أو عبارة عن كلام الله، فألف في ذلك رسالة طبعت ونشرت، وهي أيضاً موجودة في مجموع رسائله، قراءتها تبين منهج أهل السنة والرد على من يقول: إن القرآن حكاية أو عبارة عن كلام الله لا أنه نص أو غير كلام الله.
بل نحن نقول: هو كلام الله حروفه ومعانيه، ليس كلامه الحروف دون المعاني ولا المعاني دون الحروف.(17/8)
الفرق بين القراءة والمقروء في استعمال لفظ القرآن يبطل من جعل كلام الله معنى واحداً
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وكذلك الفرق بين القراءة التي هي فعل القارئ والمقروء الذي هو قول الباري، ومن لم يهتد له فهو ضال أيضاً، ولو أن إنساناً وجد في ورقة مكتوباً: (ألا كل شيء ما خلا الله باطل) من خط كاتب معروف لقال: هذا من كلام لبيد حقيقة، وهذا خط فلان حقيقة، وهذا (كل شيء) حقيقة، وهذا خبر حقيقة، ولا تشتبه هذه الحقيقة بالأخرى.
والقرآن في الأصل مصدر، فتارة يذكر ويراد به القراءة، قال تعالى: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء:78] ، وقال صلى الله عليه وسلم: (زينوا القرآن بأصواتكم) .
وتارة يذكر ويراد به المقروء، قال تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل:98] ، وقال تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف:204] ، وقال صلى الله عليه وسلم: (إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف) ، إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث الدالة على كل من المعنيين المذكورين.
فالحقائق لها وجود عيني وذهني ولفظي، ولكن الأعيان تعلم ثم تذكر ثم تكتب، فكتابتها في المصحف هي المرتبة الرابعة، وأما الكلام فإنه ليس بينه وبين المصحف واسطة، بل هو الذي يكتب بلا واسطة ذهن ولا لسان] .
معلوم أن هناك فرقاً بين القراءة والقارئ، أو بين القراءة والمقروء، فيكون عندنا قارئ وقراءة ومقروء، فالقارئ هو الإنسان الذي حرك شفتيه ولسانه، والقراءة هي الصوت الذي سمعناه، والمقروء هو الكلام الذي نطق به، فحركات لسانه وشفتيه مخلوقة، ولكن المقروء الذي قرأه ليس بمخلوق، ولهذا يقول العلماء إذا عرفوا ذلك: الصوت صوت القارئ والقول قول الباري.
فالصوت الذي تسمعه تضيفه إلى القارئ فتقول: هذه قراءة بصوت القارئ فلان، ولكن اللفظ -الكلام- المقروء الذي قرأه تقول عنه: هذا كلام الله، وسمعت كلام الله بصوت القارئ فلان الذي قراءته وصوته حسن، وفيه خشوع وفيه تذلل.
وتأتي القراءة بمعنى (المقروء) وتأتي كلمة (القرآن) بمعنى (القراءة) واستدل الشارح على ذلك بقوله تعالى: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء:78] ، فهنا المراد القراءة، وقراءة صلاة الفجر، أي: القراءة التي تقرأ في صلاة الفجر مشهودة تشهدها ملائكة الليل وملائكة النهار، فعبر عن القراءة بالقرآن.
وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (زينوا القرآن بأصواتكم) ، المراد القراءة، فهنا فسر أو عبر بالقرآن عن القراءة.
وأحياناً تستعمل كلمة (القرآن) ويراد بها (المقروء) أي: الكلام الذي يقرأ وهو كلام الله، كما في الآيات الأخرى، كقوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ} [الأعراف:204] {وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ} [طه:114] .
وقوله: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} [القيامة:16-17] .
يعني: قراءته.
فإذا عرفنا أنه حيثما قرئ وحيثما كتب فهو كلام الله نقول: إن كلام الله تعالى هو المعنى المكتوب في المصاحف المسموع بالآذان المقروء بالألسن.
ونقول أيضاً: إن كل هذه التصرفات لا تخرجه عن كونه كلام الله.
ونقول: إن المخلوق من ذلك هو ما للآدميين، فالأوراق مخلوقة، والمداد الذي يكتب به مخلوق، والأيدي التي كتبت أو الحروف التي يطبع بها مخلوقة، ولكن نفس الكلام غير مخلوق بل هو كلام الله تعالى، وكل ما يضاف إلى الله فليس بمخلوق.
فالحاصل أنه كيفما كتب وكيفما قرئ لن يخرج عن كونه كلام الله تكلم به حقيقة، ويمثل لذلك بأن كل من سمع كلاماً نسبه إلى صاحبه ونسبه إلى من تكلم به، فإذا سمع شعراً من شعر لبيد -مثلاً- قال: هذا كلام لبيد.
ولبيد أحد الشعراء المشهورين، وقد مدح النبي صلى الله عليه وسلم كلمته هذه فقال: (أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل) ، فإذا رأيت ورقة مكتوباً فيها شطر هذا البيت قلت: هذا كلام لبيد حقيقة، وهذا خط فلان حقيقة، وهذا كلمة (كل شيء) فـ (كل شيء) موجودة في هذه الورقة حقيقة، والثلاث الحقائق لا تنافي بينها، حقيقة وحقيقة وحقيقة.
فإذاً إذا سمعت في الإذاعة صوت قارئ من القراء قلت: هذا كلام الله حقيقة، وهذه إذاعة القرآن حقيقة، وهذه سورة القصص حقيقة، ولا تنافي بين هذه الحقائق، فكلام الله وقراءة فلان وإذاعة القرآن وما أشبه ذلك الجميع تقول فيه: إنه حقيقة، ولا تخالف بين الحقائق.
فإذاً كيف يدعون أنه لا يمكن أن يكون القرآن يعبر به عن شيئين ما دمنا نعرف أنه يعبر به عن القراءة في قوله: (زينوا القرآن بأصواتكم) ، يعني: القراءة، ويعبر به عن المقروء لقوله: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء:9] ! وكلا التعبيرين لا ينافي الآخر؛ فكذلك بقية الحقائق.(17/9)
الفرق بين كون القرآن في زبر الأولين وفي كتاب مكنون
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [والفرق بين قوله: {وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأَوَّلِينَ} [الشعراء:196] ، أو {فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ} [الطور:3] ، أو {فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} [البروج:22] ، أو {فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ} [الواقعة:78] واضح.
فقوله عن القرآن: {وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأَوَّلِينَ} [الشعراء:196] أي: ذكره ووصفه والإخبار عنه.
كما أن محمداً مكتوب عندهم في القرآن، وأنزله الله على محمد صلى الله عليه وسلم لم ينزله على غيره أصلاً، ولهذا قال: (في الزبر) ولم يقل: في الصحف.
ولا في الرق؛ لأن الزبر جمع زبور، والزبر هو الكتابة والجمع، فقوله: {وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأَوَّلِينَ} [الشعراء:196] أي: مزبور الأولين، ففي نفس اللفظ واشتقاقه ما يبين المعنى المراد، ويبين كمال بيان القرآن وخلوصه من اللبس، وهذا مثل قوله: {الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ} [الأعراف:157] أي: ذكره.
بخلاف قوله: {فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ} [الطور:3] و {لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} [البروج:22] و {كِتَابٍ مَكْنُونٍ} [الواقعة:78] ؛ لأن العامل في الظروف إما أن يكون من الأفعال العامة مثل: الكون والاستقرار والحصول ونحو ذلك، أو يقدر (مكتوب في كتاب) أو (في رق) .
والكتاب تارة يذكر ويراد به محل الكتابة، وتارة يذكر ويراد به الكلام المكتوب، ويجب التفريق بين كتابة الكلام في الكتاب وكتابة الأعيان الموجودة في الخارج فيه؛ فإن تلك إنما يكتب ذكرها، وكلما تدبر الإنسان هذا المعنى وضح له الفرق] .
هذا وصفٌ القرآن بمثل هذه الأشياء، قال تعالى: {وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأَوَّلِينَ} [الشعراء:196] فما معنى كون القرآن في زبر الأولين؟ هل المعنى أنه أنزل على الأولين؟ ليس كذلك، فما أنزل إلا على نبينا صلى الله عليه وسلم، إذاً هو مذكور في زبر الأولين، والزبر هي الصحف واحدها زبور، أي: ذكر هذا القرآن ومدحه موجود في تلك الصحف التي أنزلت على الأنبياء السابقين، فهذا معنى كونه (في زبر الأولين) ، مثل أن تقول: محمد صلى الله عليه وسلم في التوراة، أي: مذكور في التوراة.
وفي الإنجيل، أي: مذكور اسمه أو وصفه أو نبوته، كما قال تعالى: {الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ} [الأعراف:157] ، يعني: ذكره وصفته واسمه ونبوته وآياته ومعجزاته، فالذين قرءوا التوراة يعرفون وصفه، كما قال تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} [البقرة:146] .
فالقرآن في زبر الأولين معناه أنه مذكور فيها ذكره وليس نفس القرآن، ومحمد في كتب الأولين ذكره.
أما قول الله تعالى: {فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} [البروج:22] ، {فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ} [الواقعة:78] ، فهذا معناه: أن القرآن مكتوب في اللوح المحفوظ.
وذلك لأن الرب سبحانه لما خلق الخلق أمر القلم فجرى بما هو كائن، وكتب الكلام الذي تكلم به في ذلك اللوح المحفوظ الذي يسمى (أم الكتاب) ويسمى (الإمام) {فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} [يس:12] ، ويسمى (الكتاب المكنون) فالقرآن في الكتاب المكنون الذي هو اللوح المحفوظ، أي: مكتوب فيه سوره وآياته وحروفه وكلماته، وموجود في اللوح المحفوظ، وموجود في الكتاب المكنون الذي قال تعالى عنه: {لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة:79] ، والذي هو تنزيل من رب العالمين، فلا فرق بين هذا وبين هذا.
وليس كما يدعون أنه لم يكن موجوداً ثم خلق، أي: خلقه الله كما خلق الإنسان، وكما خلق سائر المخلوقات، ولو كان كذلك لما سماه تنزيلاً، والله قد أخبر بأنه منزل وبأنه تنزيل، ولم يذكر أنه مخلوق ولا أنه خلقه، ولو كان مخلوقاً لذكره في موضع واحد حتى يحمل عليه بقية الأماكن الذي فيها ذكر التنزيل.(17/10)
سماع كلام الله تعالى وتبليغه وما يفهم من ذلك
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وحقيقة كلام الله تعالى الخارجية هي ما يسمع منه أو من المبلغ عنه، فإذا سمعه السامع علمه وحفظه، فكلام الله مسموع له معلوم محفوظ، فإذا قاله السامع فهو مقروء له متلو، فإن كتبه فهو مكتوب له مرسوم، وهو حقيقة في هذه الوجوه كلها لا يصح نفيه، والمجاز يصح نفيه، فلا يجوز أن يقال: ليس في المصحف كلام الله، ولا ما قرأ القارئ كلام الله.
وقد قال تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [التوبة:6] ، وهو لا يسمع كلام الله من الله وإنما يسمعه من مبلغ عن الله، والآية تدل على فساد قول من قال: إن المسموع عبارة عن كلام الله وليس هو كلام الله، فإنه تعالى قال: {حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [التوبة:6] ، ولم يقل: حتى يسمع ما هو عبارة عن كلام الله.
والأصل الحقيقة، ومن قال إن المكتوب في المصاحف عبارة عن كلام الله أو حكاية كلام الله وليس فيها كلام الله، فقد خالف الكتاب والسنة وسلف الأمة، وكفى بذلك ضلالاً] .
في هذا الكلام بيان أن كلام الله تعالى هو الحروف والمعاني وأن الله تكلم به حقيقة، ولكن بلغه رسوله، فكلم به الرسول الملكي، ونزل به الملك على الرسول البشري، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في كيفية نزول الوحي في قوله: (أحياناً يأتيني الملك في صورة رجل فيكلمني فأعي ما يقول) يعني أن من الوحي ما يكون نزوله عليه أن يتمثل له الملك في صورة رجل.
ومعلوم أن كلام الله تعالى مسموع بالآذان، ولهذا قال تعالى في هذه الآية من سورة التوبة: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [التوبة:6] ، وقال تعالى: {سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ} [الفتح:15] ، فصرح بأنه كلام الله.
وفي آيات أخرى التصريح بذلك، قال تعالى: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} [البقرة:78] ، فـ (الكتاب) يعني: الكتابة (إلا أماني) أي: تلاوة دون فهم، وعبر بذلك عن القراءة، ثم قال: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ} [البقرة:79] .
والحاصل أن سماع كلام الله ممكن، ولكن هل المراد أنه يسمع كلام الله من الله؟ لا.
بل المراد ممن يقرؤه عليه ويخبره بأنه كلام الله، إنما الذي سمع كلام الله وصرح بأنه سمعه موسى عليه السلام، كما قال تعالى: {إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي} [الأعراف:144] ، وقال: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} [الأعراف:143] ، فأخبر الله بأن موسى سمع كلام الله منه إليه، وكذلك نبينا صلى الله عليه وسلم لما أسري به كلمه الله منه إليه.
فكل ذلك يفيد أن كلام الله تعالى مسموع، والمسموع هو هذا الصوت الذي نسمعه من القارئ، ومعلوم أننا لا نقول: إن الصوت هو صوت الله، تعالى الله، وإنما نقول: المتكلَم به هو كلام الله، والذي أسمعنا إياه هو هذا القارئ، فسمعنا كلام الله من هذا القارئ، فهذا الفرق في السماع بين القراءة والقارئ، بين المقروء والقارئ.(17/11)
رد الطحاوي على من زعم أن القرآن معنى واحد
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وكلام الطحاوي رحمه الله يرد قول من قال: إنه معنى واحد لا يتصور سماعه منه، وإن المسموع المنزل المقروء والمكتوب ليس كلام الله وإنما هو عبارة عنه، فإن الطحاوي رحمه الله يقول: (كلام الله منه بدأ) ، وكذلك قال غيره من السلف، ويقولون: منه بدأ وإليه يعود.
وإنما قالوا: (منه بدأ) لأن الجهمية من المعتزلة وغيرهم كانوا يقولون: إنه خلق الكلام في محل فبدأ الكلام من ذلك المحل، فقال السلف: (منه بدأ) أي: هو المتكلم به فمنه بدأ لا من بعض المخلوقات، كما قال تعالى: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [الزمر:1] ، {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي} [السجدة:13] ، {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} [النحل:102] .
ومعنى قولهم: (وإليه يعود) أنه يرفع من الصدور والمصاحف فلا يبقى في الصدور منه آية ولا في المصاحف، كما جاء ذلك في عدة آثار] .
قولهم: (منه بدأ وإليه يعود) صريح في رد قول المعتزلة الذين ادعوا أنه خلقه، وأن الذي تكلم به البشر فلا يكون كلام الله، إنما يكون كلام ذلك الذي ابتدأ الكلام منه، وإذا كان مخلوقاً فمعناه أن الله تعالى خلقه في غيره، وإذا خلقه غيره كان ذلك الغير هو الذي ابتدأ منه، وهو أول من تكلم به.
فإذاً السلف أصدق في قولهم في نص القرآن: إنه كلام الله، منه بدأ وإليه يعود، أي: ابتدأ الكلام من الله تعالى فهو الذي تكلم به، ويقول العلماء أيضاً -بل والبلغاء- إن الكلام إنما يضاف إلى من قاله ابتداء لا إلى من قاله مبلغاً مؤدياً، فالذي ابتدأ -مثلاً- رسالة وكتبها من إنشائه ثم أعطاها قارئاً يقرؤها يقال: هذه من كتابة أو من إنشاء زيد وسمعناها من عمرو، فالقارئ إنما بلغ، والمبتدئ بالكلام هو الذي أنشأ.
فهكذا نقول: سمعنا كلام الله من قراءة فلان.
وقد ورد في الأحاديث أن القرآن في آخر الزمان يرفع، وذلك عندما يقل العمل به، فعندما لا يبقى أحد يعمل به يرفع من الصدور وينسخ من المصاحف فتصبح المصاحف بيضاء ليس فيها شيء، وذلك علامة على انقضاء الدنيا وقرب زوالها، وذلك عندما يهان كلام الله ولا يبقى من يعمل به، وهذا معنى قولهم: (وإليه يعود) أي: يرد إليه سبحانه ويرفع من هذه الحياة، ولا شك أن رفعه مصيبة كبيرة، ولكن الذين يرفع من بين أيديهم لا يشعرون بالمصيبة، بل لا يهمهم، بل ربما يهينونه كما في بعض الدول، ففي بعض الدول هناك بعض الملاحدة والزنادقة والشيوعية والمنافقين يدوسون كلام الله بأحذيتهم -تعالى الله-، وعليهم ما يستحقونه من عقاب الله! فإذا انتشر هذا الكفر في الأرض وأطبق على البلاد كلها ولم يبق أحد يعرف حرمة كلام الله تعالى، عند ذلك يرفع هذا القرآن ولا يبقى منه حرف، وهذه منذرات أو أمارات على قرب انقضاء الحياة الدنيا، لكن نحن في هذه الحياة مازلنا نرى من يعظمه ويحترمه ويقرؤه ويتلوه، وإننا نؤمل خيراً إن شاء الله.(17/12)
معنى أن القرآن بدأ من الله بلا كيفية قولاً
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: (بلا كيفية) أي: لا تعرف كيفية تكلمه به (قولاً) ليس بالمجاز، (وأنزله على رسوله وحياً) أي: أنزله إليه على لسان الملك فسمعه الملك جبرائيل من الله، وسمعه الرسول صلى الله عليه وسلم من الملك وقرأه على الناس، قال تعالى: {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلًا} [الإسراء:106] ، وقال تعالى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء:193-195] ، وفي ذلك إثبات صفة العلو لله تعالى] .
يقول بعض العلماء: إنه تتبع ذكر القرآن فوجد ذكره في هذا المصحف في أكثر من خمسين موضعاً، وغالباً يذكر بلفظ الإنزال والتنزيل، ولم يذكر بلفظ (الخلق) وذكر بلفظ (الجعل) في قوله: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} [الزخرف:3] ، ولكن فسر الجعل بأنه التصيير، يعني: صيرناه عربياً، حيث إنه أنزل على قوم من العرب ليفهموه وليعلموه لمن بعدهم أو لغيرهم.
فهذا القرآن ذكر بلفظ الإنزال كقوله تعالى: {تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [غافر:2] ، {تَنزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [فصلت:2] ، {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [الزمر:1] ، {مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ} [الأنعام:114] ، {تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:42] ، وكل ذلك دليل على أنه منزل من الله، واستدلوا بذلك أيضاً على صفة العلو؛ لأن النزول لا يكون إلا من فوق.
فالقرآن منزل من الله تعالى، والله تعالى فوق سماواته كما يشاء والقرآن نزل منه، والذي نزل به هو الملك، والذي نزل عليه هو الرسول، وكذلك الرسل قبله أنزلت عليهم هذه الكتب التي هي مضمنة للشرائع التي شرعت لهم، فالتنزيل يدل على أنه نزل بعد أن كان تكلم الله تعالى به وكتبه في اللوح المحفوظ وأمر به الملك فأنزله على رسوله فأصبح متلواً مقروءاً مكتوباً، ولم يخرج بذلك كله عن كونه كلام الله سبحانه وتعالى.(17/13)
اختلاف إنزال القرآن عن إنزال المخلوقات المعبر به في القرآن
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد أورد على ذلك أن إنزال القرآن نظير إنزال المطر، وإنزاله الحديد، وإنزال ثمانية أزوج من الأنعام.
والجواب أن إنزال القرآن فيه مذكور أنه إنزال من الله، قال تعالى: {حم * تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [غافر:1-2] ، وقال تعالى: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [الزمر:1] ، وقال تعالى: {تَنزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [فصلت:2] ، وقال تعالى: {تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:42] ، وقال تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} [الدخان:3-5] ، وقال تعالى: {فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [القصص:49] ، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} [الأنعام:114] ، وقال تعالى: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} [النحل:102] .
وإنزال المطر مقيد بأنه منزل من السماء، قال تعالى: {وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} [الفرقان:48] ، والسماء العلو.
وقد جاء في مكان آخر أنه منزل من المزن، والمزن السحاب، وفي مكان آخر أنه منزل من المعصرات، وإنزال الحديد والأنعام مطلق، فكيف يشبه هذا الإنزال بهذا الإنزال؟ فالحديد إنما يكون من المعادن التي في الجبال وهي عالية على الأرض، وقد قيل: إنه كلما كان معدنه أعلى كان حديدة أجود، والأنعام تخلق بالتوالد المستلزم إنزال الذكور الماء من أصلابها إلى أرحام الإناث، ولهذا يقال: أنزل ولم ينزل.
ثم الأجنة تنزل من بطون الأمهات إلى وجه الأرض، ومن المعلوم أن الأنعام تعلو فحولها إناثها عند الوطء، وينزل ماء الفحل من علو إلى رحم الأنثى، وتلقي ولدها عند الولادة من علو إلى سفل، وعلى هذا فيحتمل قوله: {وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الأَنْعَامِ} [الزمر:6] وجهين: أحدهما: أن تكون (من) لبيان الجنس.
الثاني: أن تكون (من) لابتداء الغاية.
وهذان الوجهان يحتملان في قوله: {جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الأَنْعَامِ أَزْوَاجًا} [الشورى:11] ،] .
ذكر الشارح هذا الاعتراض على آيات التنزيل التي وصف الله بها القرآن، فالله تعالى كلما ذكر القرآن ذكره بلفظ الإنزال ولم يذكره بلفظ الخلق، فلم يقل: (خلقنا القرآن) ، وإنما يقول: (أنزلنا) ثم يزيد على ذلك أنه منزل من الله أو من عند الله، ولا شك أن هذا يدل على الاختصاص.
وكلمة الإنزال تعرف العرب أن معناها لا يكون إلا من الأعلى، فإذا قيل: أنزله فالمعنى: جاء به من بعد أن كان رفيعاً.
تقول: أنزلت الدلو في البئر أو نزلته إذا دليته من أعلى إلى أسفل، وتقول: نزل فلان من السطح ومن الجبل ومن ظهر المركوب الذي هو راكبه، أي: نزل منه بعد أن كان مرتفعاً.
فلما كان الإنزال من العلو فالقرآن كذلك نازل من العلو، نازل من السماء، نازل من الله تعالى، منزل من ربك، فهذا حقيقة ما ذكر الله عن القرآن.
وليس مثل إنزال المطر، فإنزال المطر مقيد بأنه من السماء، أو بأنه من المزن، أو بأنه من المعصرات ونحوها، وإن كان الله هو الذي أنشأه وخلقه فيها، وإنزال الحديد معناه خلقه وإيجاده ولكن أوجده في علو ثم نزل إلى سفل، فالمعادن والمناجم عادة تكون في جوف الأرض، فهي مخلوقة في الجبال ثم تذوب وتنزل إلى جوف الأرض أو نحو ذلك، وكذلك قد يعثر عليها وهي في رءوس الجبال فينزلونها من الجبال، ولا شك أن ذلك كله إنزال حقيقي، فهو إنزال، ولكن لم يقل: إنه من عند الله، فحصل بذلك الفرق الكبير بين إنزالها وإنزال القرآن.(17/14)
إثبات الطحاوي أن القرآن كلام الله حقيقة
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: (وصدقه المؤمنون على ذلك حقاً) الإشارة إلى ما ذكره من التكلم على الوجه المذكور وإنزاله، أي: هذا قول الصحابة والتابعين لهم بإحسان، وهم السلف الصالح، وأن هذا حق وصدق.
وقوله: (وأيقنوا أنه كلام الله تعالى بالحقيقة ليس بمخلوق ككلام البرية) رده على المعتزلة وغيرهم بهذا القول ظاهر، وفي قوله: (بالحقيقة) رد على من قال: إنه معنى واحد قام بذات الله لم يسمع منه، وإنما هو الكلام النفساني؛ لأنه لا يقال لمن قام به الكلام النفساني ولم يتكلم به: إن هذا كلام حقيقة، وإلا للزم أن يكون الأخرس متكلماً، ولزم ألا يكون الذي في المصحف عند الإطلاق هو القرآن ولا كلام الله، ولكن عبارة عنه ليست هي كلام الله.
كما لو أشار أخرس إلى شخص بإشارة فهم بها مقصوده، فكتب ذلك الشخص عبارته على المعنى الذي أوحاه إليه ذلك الأخرس، فالمكتوب هو عبارة ذلك الشخص عند ذلك المعنى.
وهذا المثل مطابق غاية المطابقة لما يقولونه، وإن كان الله تعالى لا يسميه أحد أخرس، لكن عندهم أن الملك فهم منه معنىً قائماً بنفسه لم يسمع منه حرفاً ولا صوتاً، بل فهم معنىً مجرداً ثم عبر عنه، فهو الذي أحدث نظم القرآن وتأليفه العربي، أو أن الله خلق في بعض الأجسام كالهواء الذي هو دون الملك هذه العبارة.
ويقال لمن قال إنه معنى واحد: هل سمع موسى عليه السلام جميع المعنى أو بعضه؟ فإن قال: سمعه كله فقد زعم أنه سمع جميع كلام الله، وفساد هذا ظاهر، وإن قال بعضه فقد قال: يتبعض، وكذلك كل من كلمه الله أو أنزل إليه شيئاً من كلامه.
ولما قال تعالى للملائكة: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة:30] ، ولما قال لهم: {اسْجُدُوا لِآدَمَ} [البقرة:34] وأمثال ذلك، هل هذا جميع كلامه أو بعضه؟ فإن قال: إنه جميعه، فهذا مكابرة، وإن قال: بعضه، فقد اعترف بتعدده] .
قوله في المتن: (وأيقنوا أنه كلام الله تعالى بالحقيقة) ، أكده بقوله: (حقيقة) ليبين أن عقيدة أهل السنة أن القرآن كلام الله حقيقة حروفه ومعانيه ليس أحدهما فقط، وفي ذلك رد على طائفتين: الطائفة الأولى: الذين قالوا إنه مخلوق، وهم المعتزلة الذين ورثوا الجهمية؛ فإنهم قالوا: إنه خلقه كما خلق السماوات والأرض والإنسان والحركات ونحوها.
الطائفة الثانية: الذين زعموا أن كلام الله هو المعنى ليس هو اللفظ، وعلى زعمهم لا يكون الله متكلماً، وإنما هذا الذي نقرؤه عبارة أو حكاية أو ترجمة لكلام الله، والذي عبر به هو الملك كأنه ألهمه إلهاماً، فالملك في زعمهم ألهم إلهاماً فعبر عما ألهم، وأنزل إلى الرسل ذلك المعنى، فهو الذي صاغ هذه العبارة، وعلى هذا نقول: إنه كلام الملك لأنه الذي صاغه، فهو كلام جبريل أو كلام الرسل، لا أنه كلام الله.
ولا شك أن هذا فيه إبطال النصوص، كقوله تعالى: {وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ} [البقرة:75] ، وقوله: {فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [التوبة:6] ، وقوله: {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ} [الفتح:15] ، وقوله: {لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ} [الأنعام:115] ، وقوله: {مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} [لقمان:27] ، وأشباه ذلك كثير.
ولو كان كذلك لكان الله تعالى موصوفاً بأنه لا يتكلم -تعالى الله عن قولهم- ويلزم على ذلك أن يكون ناقصاً؛ لأن عدم القدرة على الكلام نقص في حق كل عاقل، فكل عاقل يرى أن الكلام ميزة وأن نفيه نقيصة، وهؤلاء قد وصفوا الرب تعالى بالنقيصة.
ثم أجاب عليهم الشارح، فقال: أنتم تقولون: إن موسى سمع كلام الله، ولكنه لم يسمع إلا المعنى.
فهل سمع جميع ما ينسب إلى الله من الكلام أو سمع بعضه؟ وإذا قلتم: سمع بعضه.
فلابد أن يكون ذلك الذي سمعه سماعاً حقيقاً، لا أنه معنوي، ونقول بعد ذلك: إن الله تعالى كلم بعض خلقه، فقال تعالى: {وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا} [الأعراف:22] ، وقال تعالى: {وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} [البقرة:36] أخبر تعالى أنه كلم هؤلاء، ولا شك أن هذا صريح في أنه كلام مسموع، وأنه ليس هو كلام الله كله؛ لأن كلام الله تعالى لا يحصى، ودليله قول الله تعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي} [الكهف:109] ، وقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} [لقمان:27] .
فكلام الله لا نهاية له، فلو قدر أن أشجار الأرض كلها من أول ما خلقت الدنيا إلى نهايتها كلها أقلام، والبحار مع سعتها ومعها سبعة أمثالها من البحار انقلبت حبراً يكتب به، فكتب بذلك الحبر وبتلك الأقلام لتكسرت الأقلام، ولنفدت البحار قبل أن يفنى كلام الله.
هذا مفاد هذه الآيات، فإذاً كيف يقال: إن كلام الله له نهاية، وإنه هو المعنى فقط؟! هذا لا شك أنه تنقص للرب سبحانه وتعالى، وهكذا أيضاً وصفه بأنه لا يتكلم وأن الكلام إنما هو عبارة أو حكاية عنه.(17/15)
شرح العقيدة الطحاوية [18]
لا يخفى مذهب أهل السنة في كلام الله تعالى، لكن خالفهم فيه الأشاعرة والماتريدية وغيرهم، فزعموا أن القرآن عبارة عن كلام الله، واستدلوا بأدلة باطلة، مما جرهم إلى القول بما يبعدهم عن الصواب ويلحقهم بالمبتدعة.(18/1)
الرد على الأشاعرة في قولهم: إن كلام الله حديث نفس وإن القرآن عبارة عنه(18/2)
مسمى الكلام عند الفرق
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وللناس في مسمى الكلام والقول عند الإطلاق أربعة أقوال: أحدها: أنه يتناول اللفظ والمعنى جميعاً، كما يتناول لفظ الإنسان الروح والبدن معاً.
وهذا قول السلف.
الثاني: اسم اللفظ فقط، والمعنى ليس جزء مسماه، بل هو مدلول مسماه.
وهذا قول جماعة من المعتزلة وغيرهم.
الثالث: أنه اسم للمعنى فقط، وإطلاقه على اللفظ مجاز؛ لأنه دالٌ عليه.
وهذا قول ابن كلاب ومن اتبعه.
الرابع: أنه مشترك بين اللفظ والمعنى.
وهذا قول بعض المتأخرين من الكلابية.
ولهم قول يروى عن أبي الحسن أنه مجاز في كلام الله حقيقة في كلام الآدميين؛ لأن حروف الآدميين تقوم بهم، فلا يكون الكلام قائماً بغير المتكلم، بخلاف كلام الله فإنه لا يقوم عنده بالله، فيمتنع أن يكون كلامه، وهذا مبسوط في موضعه.
وأما من قال إنه معنى واحد واستدل عليه بقول الأخطل: إن الكلام لفي الفؤاد وإنما جعل اللسان على الفؤاد دليلا فاستدلال فاسد، ولو استدل مستدل بحديث في الصحيحين لقالوا: هذا خبر واحد.
ويكون مما اتفق العلماء على تصديقه وتلقيه بالقبول والعمل به، فكيف وهذا البيت قد قيل إنه موضوع منسوب إلى الأخطل وليس هو في ديوانه؟! وقيل: إنما قال: (إن البيان لفي الفؤاد) وهذا أقرب إلى الصحة.
وعلى تقدير صحته عنه فلا يجوز الاستدلال به، فإن النصارى قد ضلوا في معنى الكلام، وزعموا أن عيسى عليه الصلاة السلام نفس كلمة الله، واتحد اللاهوت بالناسوت، أي: شيء من الإله بشيء من الناس، أفيستدل بقول نصراني قد ضل في معنى الكلام على معنى الكلام ويترك ما يعلم من معنى الكلام في لغة العرب؟ وأيضاً فمعناه غير صحيح؛ إذ لازمه أن الأخرس يسمى متكلماً لقيام الكلام بقلبه وإن لم ينطق به ولم يسمع منه، والكلام على ذلك مبسوط في موضعه، وإنما أشير إليه إشارة] .
ذكر الشارح أن الفرق لها في مسمى الكلام عدة تعريفات: فمنهم من يقول: إن الكلام اسم للفظ وللمعنى جميعاً، اللفظ الذي هو الحروف، والمعنى الذي اشتملت عليه تلك الحروف وتلك الكلمات.
والنحويون عندهم تعريف الكلام يقولون: إنه ما أفاد وصيغ بالألفاظ العربية وتركب من كلمتين فأكثر، فأما إذا كان من كلمة واحدة فلا يسمى كلاماً، وهكذا إذا لم يفد فلا يسمى كلاماً، وهكذا إذا كان مركباً ولكن ليس بالألفاظ العربية فلا يسمى كلاماً.
وهناك من يقول: إن الكلام هو الحروف والكلمات التي ينطق بها، وأما المعاني التي اشتمل عليها فلا تدخل في مسمى الكلام.
وهذا قول المعتزلة.
وهناك قول ثالث بعكسه، وهو أن الكلام هو المعنى، وأما الحروف فإنما هي دالة عليه.
وهناك قول رابع أنه مشترك بينهما.
وعلى كل حال فهذه الأقوال كلها خطأ إلا القول الأول، وهو أن الكلام اسم للفظ وللمعنى جميعاً، لا يسمى كلاماً إلا إذا كان له معنى مفيد، وكان بالحروف التي يسمعها المتكلم، ولو كان الكلام مصوغاً بغير العربية سميناه كلاماً بلغة أهله، فهناك الأعاجم لهم عدة لغات، ونسمي لغاتهم كلاماً، فنقول: تكلم بلغته، ولا نفهم كلامه، ونقول له: فسر لنا كلامك، فنسميه كلاماً إذا فسره بلغة نفهمها.
فعلى هذا يكون الكلام العربي اسماً لموصوف بالحروف وبالكلمات التي استعملتها العرب إذا كانت ذات معان مفهومة عند الذين وضعوا اللغة وعند الذين تكلموا عليها.
فإذاً: القرآن كلمات وحروف، وجمل وآيات وسور، وكل جملة لها معنى مستقل، وقد تكون الآية فيها عدة جمل، كآية الكرسي، فقد اشتملت على عشر جمل: الجملة الأولى: قوله: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ} [البقرة:255] فيها إثبات الإلهية.
الجملة الثانية: قوله: {الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة:255] مشتملة على اسمين من أسماء الله مؤكدين لوصفه.
الجملة الثالثة: قوله: {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} [البقرة:255] نفي لهذين النقصين، والسنة النعاس، والنوم معروف إلى آخر ما في الآية.
ففيها عشر جمل كل جملة ذات معنى، فتسمى الجملة كلاماً، فيقال: هذه الجملة من كلام الله، ويقال كذلك في بقية القرآن: إنه مشتمل على كلمات وجمل ذات معانٍ، كل جملة دالة على معنى يفهمه من تعلمه وعرفه، ويترجم إلى لغة أخرى لمن لا يفهمه، وهذا القول هو الصحيح؛ فالكلام اسم للفظ والمعنى، وكلام الله اسم للحروف والكلمات مع المعاني التي دلت عليها تلك الكلمات.(18/3)
الرد على الأشاعرة في استدلالهم بشعر الأخطل
وذهبت الأشاعرة إلى أن الكلام هو المعنى، وأنه معنى قائم بنفس الله تعالى، وأنه فهمه الملك مما أشير له إشارة، وجعلوا ما يقوم بالنفس هو الكلام، واستدلوا بهذا البيت الذي نسبوه إلى الأخطل، وهو قوله: إن الكلام لفي الفؤاد وإنما جعل اللسان على الفؤاد دليلا وقد جعلوه عمدتهم، فتراهم دائماً يستدلون به في كتبهم، وهو استدلال فاسد.
ويحتج عليهم بالأحاديث التي في الصحيحين، فيردونها ويقولون: هذا خبر واحد، وخبر الواحد لا يفيد إلا الظن.
فيردونه، ويردون أحاديث النزول مع أنه رواها نحو عشرة من الصحابة، ويقولون: أخبار آحاد لا نقبلها ولو كانت في الصحيحين، ويردون أحاديث الاستواء والكتابة، كقوله: (إن الله كتب كتاباً فهو موضوع عنده على العرش: أن رحمتي سبقت غضبي) ، فيردون أحاديث الرحمة، ويردون أحاديث المحبة ونحو ذلك، ويقولون: إنها آحاد إنما تفيد الظن.
فيقال لهم: عجباً لكم! تردون أحاديث الصحيحين وتحتجون بهذا البيت؟! وهذا البيت هل هو متواتر أو هو خبر واحد؟ لم يخرج عن كونه خبر واحد، بل ربما لا أصل له، وما نقل هذا البيت بإسناد صحيح ولا بإسناد ضعيف، وإنما تتناقلونه وتنسبونه إلى الأخطل، وقد قال ابن القيم في نونيته: ودليله في ذاك بيت قاله فيما يقال الأخطل النصراني هذا دليلهم فيما يقال، ويقول شيخ الإسلام في قصيدته اللامية: قبحٌ لمن نبذ الكتاب وراءه وإذا استدل يقول قال الأخطل إنما دليلهم هذا البيت الذي نسب إلى الأخطل، ثم بحث عنه المحققون في ديوان الأخطل فلم يجدوه، فدل على أنه مصنوع مكذوب، قاله من نسبه إلى الأخطل , ورواه بعضهم بلفظ: (إن البيان لفي الفؤاد) بمعنى أن القلب هو الذي يملك صاحبه أن يقدر على البيان، وهذا هو الأليق على تقدير ثبوت هذا البيت.
ولو قدرنا أنه من كلام الأخطل فهل يكون كلام الأخطل حجة؟ فـ الأخطل نصراني ولو كان عربياً، وهو من نصارى العرب أصر على نصرانيته، وقد دعوه إلى الإسلام فامتنع أن يقبل الإسلام وبقي على نصرانيته، وقد وفد على عمر بن عبد العزيز وطلب أن يدخل عليه ليجيزه جائزة، فقال: أليس هو الذي يقول: ولست بقائد عيسي بكوراً إلى بطحاء مكة للنجاح ولست بقائم كالعير يدعو قبيل الصبح حي على الفلاح ولست بصائم رمضان طوعاً ولست بآكل لحم الأضاحي ولكني سأشربها شمولاً وأسجد عند منبلج الصباح هذه عقيدته، يتمدح بأنه سيشرب الخمر، ويسجد إذا طلعت الشمس أو غربت الشمس للشمس، ويتمدح بأنه لا يحج البيت، ويتمدح بأنه لا يأكل لحم الأضاحي، ويشبه المؤذن الذي يؤذن حي على الفلاح بأنه كالعير فيقول: ولست بقائم كالعير يدعو قبيل الصبح حي على الفلاح فهل يقبل مثل هذا؟ وهل يكون كلامه حجة؟(18/4)
صلة شعر الأخطل بعقيدة النصارى
ثم يحتج عليهم الشارح بأنه تكلم على عقيدة النصارى؛ وذلك لأن النصارى ضلوا في مسمى الكلام الذي نحن في تعريفه، فعندهم أن عيسى نفس كلمة الله، فيقولون: إنه نفس الكلمة، وإنه هو الكلمة.
والصحيح أنه خلق بها لا أنه هي.
يقولون: إن قوله: (كن) هو نفس الكلمة، فعيسى هو الكلمة، وهو (كن) في قوله تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران:59] ، فهو خلقه وقال له: (كن) ، كما خلق آدم وقال له: (كن) ، وسمي كلمة الله في قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ منه} [النساء:171] والكلمة التي ألقاها هي قوله: (كن) ، فـ (كن) كلام الله، خلق بها كما خلقت سائر المخلوقات بقول: (كن) {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82] .
فالنصارى ضلوا في هذا الباب، واعتقدوا أن عيسى نفس الكلمة، وإذا كان هذا شاعراً نصرانياً، فإنه تكلم بالبيت على عقيدة النصارى، فكيف نقلد النصارى فيما اعتقدوا؟ وهذا كله على تقدير أن البيت ثابت.
ثم لسنا بحاجة إلى الاستدلال بأقوال النصارى، وكتاب الله وسنة نبيه وكلام العرب واضح في أنه يسمى المتكلم متكلماً، والذي لا يتكلم يسمى أخرس، ومعلوم أنه قد يقوم بقلب الأخرس كلام، وقد يشير إليه، وإذا أشار إليه فهم منه، فمعناه أن الأخرس الذي لا ينطق- وهو الأبكم- يسمى متكلماً على قول هؤلاء الأشاعرة، فعرف بذلك أنه لا دلالة لهم في ذلك، وأن القول الثابت والصحيح أن الكلام هو اللفظ والمعنى جميعاً، ليس هو المعنى الذي يستشهد له بهذا البيت.
قال رحمه الله تعالى: [وهنا معنى عجيب، وهو أن هذا القول له شبه قوي بقول النصارى القائلين باللاهوت والناسوت؛ فإنهم يقولون: كلام الله هو المعنى القائم بذات الله الذي لا يمكن سماعه، وأما النظم المسموع فمخلوق.
فإفهام المعنى (القديم) بالنظم المخلوق يشبه امتزاج اللاهوت بالناسوت الذي قالته النصارى في عيسى عليه الصلاة السلام، فانظر إلى هذا الشبه ما أعجبه] .
اللاهوت عندهم الإله، والناسوت: الناس، والنصارى يدعون أن اللاهوت اتصل بالناسوت، فتكون منهما هذا الإنسان، وتبعهم على هذا الاعتقاد أيضاً ملاحدة يقال لهم: أهل الاتحاد وأهل الوحدة.
فعندهم أن اللاهوت متصل بالناسوت ومتحد معه، وفي ذلك يقول حلاجهم: سبحان من أظهر ناسوته سر سنا لاهوته الثاقب حتى بدا في خلقه ظاهراً في صورة الآكل والشارب هذا معناه لعنه الله، ولا شك أن هذا أكفر الكفر، ولا شك أن الله تعالى هو الخالق وما سواه المخلوق، وأنه ليس في ذاته شيء من مخلوقاته، ولا في مخلوقاته شيء من ذاته، فكلام النصارى في قولهم: إن عيسى هو عين الكلمة، وإن الكلمة جزء من ذات الرب سبحانه وتعالى شبيه بقول الاتحادية الذين يزعمون كزعم النصارى أن اللاهوت اتحد بالناسوت، وأصبح شيئاً واحداً، وأن من جملة ذلك عيسى، فإنه وجد من أنثى، ولكن بعد اتصال اللاهوت بالناسوت.
وجلود المؤمنين تقشعر من أن يتصور هذا التصور، ولكن قلوب أولئك صدت عن معرفة الحق وزين لهم هذا الباطل والعياذ بالله.(18/5)
عدم بطلان الصلاة بحديث يرد قول الأشاعرة
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ويرد قول من قال بأن الكلام هو المعنى القائم بالنفس قوله صلى الله عليه وسلم: (إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس) ، وقال: (إن الله يحدث من أمره ما يشاء، وإن مما أحدث ألا تكلموا في الصلاة) ، واتفق العلماء على أن المصلي إذا تكلم في الصلاة عامداً لغير مصلحتها بطلت صلاته، واتفقوا كلهم على أن ما يقوم بالقلب من تصديق بأمور دنيوية وطلب لا يبطل الصلاة، وإنما يبطلها التكلم بذلك، فعلم اتفاق المسلمين على أن هذا ليس بكلام] .
معلوم أن الكلام هو ما يسمع، فالساكت لا يقال إنه تكلم.
فإذا جلست إلى إنسان وهو يحدث نفسه، هل تقول: إنه تكلم بكذا وكذا؟ فما دام أنه صامت ما نطق بكلمة فإنك لا تقول: إنه تكلم، ولو أنه منذ جلست يحدث نفسه.
ثم مثل الشارح بقوله عليه السلام: (إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس) ، وهذا حديث معاوية بن الحكم رضي الله تعالى عنه: (أنه صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم، فعطس رجل في الصلاة، قال: فقلت: يرحمك الله، فرماني القوم بأبصارهم، فقلت وأنا في الصلاة: واثكل أمياه، ما لكم تنظرون إلي؟! فجعلوا يضربون أفخاذهم، ففهمت أنهم يسكتونني، فسكت، فلما خرجت دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو الذكر والدعاء وقراءة القرآن) ، فجعل هذا كلاماً يبطل الصلاة، ولكنه عذره بكونه جاهلاً لم يشعر بأن ما يقوله مبطل.
والحديث الثاني: (إن مما أحدث الله ألا تتكلموا في الصلاة) يعني: مما تجدد به الوحي أن لا تتكلم في الصلاة، وكانوا أول ما فرضت يكلم أحدهم أخاه بحاجته، فلما نزل قوله تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة:238] أمروا بالسكوت ونهوا عن الكلام، فالكلام الذي يبطل الصلاة هو اللفظ الذي يسمع، والكلمات التي ينطق بها الإنسان وتخرج من بين شفتيه، ويسمعها من حوله.
فلو أن إنساناً قال لآخر عمداً: أنصت، أو قم، أو تعال، أو نحو ذلك متعمداً وهو عالم أنه في صلاة بطلت صلاته، وإنما رخصوا في الكلام الذي من مصلحة الصلاة أو نحوها، أو من مكملاتها كأركان الصلاة، وكالتسبيح عندما ينوب الإمام شيء، أو ما أشبه ذلك.
فالكلام الذي يسمع وهو من غير أركان الصلاة يبطل الصلاة، وهل تبطل بحديث النفس؟
الجواب
لا تبطل.
فمعلوم أنا لا نسلم غالباً -نستغفر الله- من حديث النفس، وأينا لا يحدث نفسه؟! كما روي أن ابن سعد قال لأبيه: يا أبت! أرأيت قول الله تعالى: {الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} [الماعون:5] أينا لا يسهو؟ أينا لا يحدث نفسه؟ فقال: ليس بذاك، إنما سهوا عن وقتها.
يعني: يؤخرونها حتى يخرج وقتها؛ لأنه قال: (عن صلاتهم) ، ولم يقل: في صلاتهم، فالسهو في الصلاة وإن كان ينقص لكنه لا يبطلها، ولأجل ذلك يقع السهو كثيراً من المصلي، ولأجل ذلك شرع سجود السهو، علم الله أنه يحصل السهو فيزيد المرء في الصلاة بسبب اشتغال قلبه وبسبب حديث نفسه، وينقص منها، ويقدم أو يؤخر أو نحو ذلك؛ وذلك لأن قلبه قد يشتغل بشيء من حديثه أو من أموره الدنيوية، فيغفل عما هو مقبل عليه فيسهو، فحديث النفس لا يسمى كلاماً، ولو كان يسمى كلاماً لبطلت به الصلاة؛ لأنه عليه السلام قال: (إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس) ، فعلم أن حديث النفس لا يسمى كلاماً.
ولأجل ذلك يرد على هؤلاء الذين يقولون: إن الكلام هو ما يقوم بالنفس.
بل نقول: ليس كذلك، إنما الكلام هو ما يسمع وما ينطق به المتكلم، هذا هو حقيقة الكلام، وأما غير ذلك فإنه يسمى وسوسة، أو حديث نفس، أو سهواً، أو ما أشبه ذلك.(18/6)
صحة اعتقاد أهل السنة في كلام الله
فمن عقيدة أهل السنة أن القرآن كلام الله، وأن الكتب المنزلة على الأنبياء كلها كلام الله، وأن الله تعالى أقام بها الحجة على العباد، وأنه ضمنها شرائعه، وأنه أنزلها معجزة لأنبيائه، وأنها كلامه حقاً حروفاً ومعاني، هذه العقيدة الراسخة التي يعتقدها أهل السنة.
ولا عبرة بمن أنكر كلام الله، أو أنكر صفة من صفاته الثابتة، سواءٌ أكانت صفة فعلية أم صفة ذاتية، وذلك لما قام عندهم من الشبهات التي شككوا بها على من انتحل تلك النحل واعتقد تلك العقائد الزائغة؛ حيث إن عقيدة أهل السنة مبنية على الأصل الذي هو النقل الصحيح والفطرة السليمة، وقد أيدوا ذلك بأن هذا القرآن أنزله الله معجزة لأنبيائه، وأنه ضمنه شرائعه، وأنه بعث به رسله وأمرهم بأن يبلغوا ما نزل إليهم، وجعل وظيفتهم البلاغ، فقال: {إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاغُ} [الشورى:48] ، وقال تعالى: {مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ} [المائدة:99] ، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} [المائدة:67] ولأجل ذلك سموا رسلاً؛ لأنهم بعثوا من ربهم، أرسلهم وجعل شرائعهم رسائل، فالشرائع التي جاءوا بها سماها رسائل حيث إنهم حملوها من ربهم.
فالرسل هم الأنبياء، والرسائل هي الشرائع، والمرسل هو الله تعالى، والمتضمن لذلك هو القرآن الذي ضمن هذه الشريعة، فمن صدق به عرف أنه كلام الله الذي أرسل به رسله وقبله وعمل بما فيه، ومن شك فيه أو توقف فيه ولم يقبله حق القبول ويعمل به حق العمل فهو زائغ.
وقد أثبت أهل السنة أن صفة الكلام صفة كمال، وأن نفيها نقص، وردوا على المعتزلة الذين قالوا: إن الله لا يتكلم أصلاً، وإن هذا القرآن مخلوق.
وردوا أيضاً على من يقول: إن كلام الله هو المعنى دون اللفظ، وإن كلام الله نفسي.
أي: من يجعلون القرآن حروفاً مخلوقة أو عبارة عن كلام الله، وأن الكلام هو المعنى دون اللفظ، وهذا يقوله الأشاعرة، وتقدم أنهم يستدلون ببيت الأخطل الذي يقول فيه: إن الكلام لفي الفؤاد وإنما جعل اللسان على الفؤاد دليلا ورد عليهم الشارح بأن هذا بيت مختلق لا يصلح أن يكون دليلاً، لم يقله الأخطل وليس في ديوانه، وقيل إنه إنما قال: (إن البيان) ، ويتعجب الشارح من استدلالهم بهذا البيت الذي ليس له سند، ولا يروى بإسناد صحيح، مع أنهم يردون أحاديث الصحيحين، ويقولون: إنها أخبار آحاد، وهذا البيت أقل مرتبة من أخبار الآحاد.
ويرد عليهم أيضاً أنه على تقدير ثبوته فإنه بيت لرجل نصراني، والنصارى لا يقبل كلامهم في هذا الباب؛ وذلك لأنهم ضلوا في مسمى الكلمة، فادعوا أن عيسى هو نفس الكلمة تعالى الله عن قولهم، فعلى تقدير ثبوته عن الأخطل فقد قاله على معتقده، فلا يصير دليلاً لأهل السنة.(18/7)
حديث التجاوز عن حديث النفس يرد قول الأشاعرة
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وأيضاً: ففي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم به أو تعمل به) ، فقد أخبر أن الله عفا عن حديث النفس إلا أن تتكلم، ففرق بين حديث النفس وبين الكلام، وأخبر أنه لا يؤاخذ به حتى يتكلم به، والمراد: حتى ينطق به اللسان باتفاق العلماء، فعلم أن هذا هو الكلام في اللغة؛ لأن الشارع إنما خاطبنا بلغة العرب] .
هذا رد على الأشاعرة الذين يقولون: إن الكلام هو المعنى، أو: إن كلام الله هو ما يقوم بنفسه، وأما اللفظ فهو عبارة، وهم الذين استدلوا بالبيت السابق، حيث جعلوا الكلام هو ما يقوم بالقلب، وجعلوا اللسان دليلاً عليه.
يقول: من الرد عليهم هذا الحديث؛ إذ يقول عليه الصلاة والسلام: (إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم أو تعمل) .
وحديث النفس: هو الوساوس التي تخطر على القلب، فهذه مما عفا الله عنه، بل قد يكتبها حسنات، ففي الحديث: (إذا هم العبد بالحسنة ولم يعملها، كتبها الله عنده حسنة كاملة، وإذا هم بسيئة ولم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة قال الله تعالى: إنما تركها من جرائي) أي: من أجلي.
فالهم الذي هو حديث النفس معفو عنه، فالعبد لا يؤاخذ على ما يهم به ولا على ما يحدث به نفسه، إنما يؤاخذ على ما يتكلم به، فإذا تكلم وسمع كلامه ترتب عليه الثواب والعقاب، وهذا يصدق حتى على الأمور الحكمية، فلو أن إنساناً حدث نفسه أن يطلق امرأته وعزم على ذلك بقلبه، ولكنه لم يتكلم بكلمة فيما يتعلق بذلك، وإنما كان ذلك حديث نفس، ثم بعد ذلك رجع لم تطلق زوجته بمجرد عزمه بقلبه، فلا تطلق إلا إذا تكلم بذلك أو كتب أو أشهد.
فكذلك إذا حدث نفسه -مثلاً- بأنه سوف يزني، أو سوف يسرق، أو سوف يقتل فلاناً، أو سوف يشرب خمراً، أو يترك صلاة أو زكاة أو نحو ذلك، فحديث نفس طرأ عليه ولكنه ما فعله، فإن ذلك مما يعفى عنه، ولو كان حديث النفس يسمى كلاماً لما عفي عنه؛ فإن الله تعالى يؤاخذ على الكلام، وذلك لأنه عمل.
فإذاً حديث القلب ووسواس النفس وما يجري فيها من الخطرات ليس كلاماً، ولا يؤاخذ به العبد.(18/8)
حديث دخول الناس النار بسبب حصائد ألسنتهم يرد قول الأشاعرة
قال المؤلف رحمه الله: [وأيضاً في السنن أن معاذاً رضي الله عنه قال: (يا رسول الله! وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ فقال: وهل يكب الناس في النار على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم) ، فبين أن الكلام إنما هو باللسان، فلفظ القول والكلام وما تصرف منهما من فعل ماض ومضارع وأمر واسم فاعل إنما يعرف في القرآن والسنة وسائر كلام العرب إذا كان لفظاً ومعنى.
ولم يكن في مسمى الكلام نزاع بين الصحابة والتابعين لهم بإحسان، وإنما حصل النزاع بين المتأخرين من علماء أهل البدع ثم انتشر، ولا ريب أن مسمى الكلام والقول ونحوهما ليس هو مما يحتاج فيه إلى قول شاعر؛ فإن هذا مما تكلم به الأولون والآخرون من أهل اللغة، وعرفوا معناه كما عرفوا مسمى الرأس واليد والرجل ونحو ذلك] .
يعني أن لفظة الكلام معروفة لا تحتاج إلى أن يستشهد عليها، ولا أن يقال: إنها تؤخذ من قول الشاعر الأخطل أو نحوه، فإنها لفظة معروفة، ومعلوم أنه إذا قيل: تكلم فلان أنه نطق وقال وحرك لسانه وشفتيه، وظهر له صوت يفهمه من يعرف لغته، وكتب عليه ذلك الكلام إما في سجل حسناته أو في سجل سيئاته، قال تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18] أي: ما يتكلم من كلمة يتلفظ بها إلا وهناك ملكان يكتبانها: {عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ} [ق:17] ، ولم يذكر أنه يكتب ما خطر بالقلب، إنما يكتب ما تكلم به اللسان خيراً أو شراً.
وهكذا أيضاً هذا الحديث الذي ذكر، لما قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ معاذ: (ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟ قال: بلى.
فقال: كف عليك هذا، وأشار إلى لسانه، قال معاذ: يا رسول الله! وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟! قال: ثكلتك أمك يا معاذ! وهل يكب الناس في النار على وجوههم -أو قال: على مناخرهم- إلا حصائد ألسنتهم) ، فأخبر بأنهم إنما يعاقبون على ما تلفظوا به، لا على ما وسوست به النفس، ولا على ما تكلم به القلب.
فإذاً الكلام والقول إذا قيل: قال، يقول، قل، تكلم، يتكلم، تكلم، كلاماً، متكلم، فالعرب تعرف أن المراد أنه يختص بالنطق الذي هو صياغة الكلام بالحروف العربية، كما أنهم يعرفون أن الرأس هو مجمع الحواس الذي هو أعلى الجسد، وأن اليد اسم للكف والذراع والعضد التي يحصل بها القبض والبطش، والرجل اسم للقدم والساق والركبة والفخذ التي يحصل عليها القيام والمسير ونحو ذلك، فلا يحتاج إلى أن يقال: ما هي اليد؟ فإذا قيل: ما هي اليد -والذي يسأل عربي- نقول: أما تعرف يدك؟ أما تعرف رأسك؟ أتحتاج كلمة الرأس إلى تفسير؟ فكذلك كلمة (الكلام) و (القول) لا تحتاج إلى تفسير، ولا تحتاج إلى أن يستشهد عليها بقول الأخطل أو بغيره، بل هو معنى يعرفه كل عربي نشأ في بلاد العرب، ويترجم إلى اللغات الأخرى بالكلام الذي يفهمه أهل تلك اللغة.(18/9)
وقوع الأشاعرة في القول بخلق القرآن
قال المؤلف رحمه الله: [ولا شك أن من قال: إن كلام الله معنى واحد قائم بنفسه تعالى، وإن المتلو المحفوظ المكتوب المسموع من القارئ حكاية كلام الله وهو مخلوق؛ فقد قال بخلق القرآن وهو لا يشعر؛ فإن الله تعالى يقول: {قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ} [الإسراء:88] .
أفتراه سبحانه وتعالى يشير إلى ما في نفسه، أو إلى المتلو المسموع؟ ولا شك أن الإشارة إنما هي إلى هذا المتلو المسموع؛ إذ ما في ذات الله غير مشار إليه ولا منزل ولا متلو ولا مسموع، وقوله: {لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ} [الإسراء:88] أفتراه سبحانه يقول: (لا يأتون بمثل ما في نفسي مما لم يسمعوه ولم يعرفوه) ؟ وما في نفس الله عز وجل لا حيلة إلى الوصول إليه ولا إلى الوقوف عليه] .
قول الله تعالى: {قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} [الإسراء:88] ، وقوله تعالى: {فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ} [الطور:34] ، وقوله تعالى: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} [البقرة:23] وقوله تعالى: {فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ} [هود:13] الإشارة هل هي إلى المعنى أو إلى اللفظ؟ لا شك أن الإشارة إلى هذه الكلمات والآيات الموجودة في المصاحف، فهو الذي يسمى سوراً وآيات وكلمات وحروفاً، ومجموعه هو القرآن، أشار الله إليه بقوله: {بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ} [الإسراء:88] .
هل الإعجاز بالنسبة إلى المعنى الذي في نفس الرب تعالى الذي قام به؟ إنه يستحيل أن يعلم أحد ما يقوم في نفس الرب سبحانه، وقد حكى الله عن نبيه عيسى أنه قال: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} [المائدة:116] .
فإذاً: الذين يقولون إن كلام الله هو ما يقوم بنفسه، وإن هذا القرآن عبارة أو حكاية عنه، وليس هو عين كلام الله؛ لا شك أنهم قد جعلوا هذا القرآن مفترى ومخلوقاً، وجعلوا الإنسان قادراً على أن يأتي بمثله، فجعلوه إما من صياغة الملك، وإما من صياغة محمد صلى الله عليه وسلم، وحاشاه أن يكون منه ذلك، وحكى الله عنه أنه يقول: {قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ} [يونس:16] لبث فيهم قبله أربعين سنة، فكيف مع ذلك جاء به بعد هذه المدة وافتراه وقاله من قبل نفسه، ولو أنه أوحي إليه المعنى وقيل له وعليك صياغة اللفظ، وعليك صياغة الكلمات لكان ذلك من إنشائه لا من إنشاء الله سبحانه، فعلم بهذا أنه لما نزه نفسه عن أن يقول إنه كلامه، صدق عليه أن اللفظ والمعنى كله من كلام الله.
وهذا هو الصحيح، والإشارة بقوله: {فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ} [الطور:34] أي: على أن يأتوا بمثل هذا القرآن، والإشارة إلى الحروف والمعاني، لا على ما يقوم بذات الرب أو بنفسه سبحانه وتعالى؛ فإن ذلك غير ممكن الاطلاع عليه ولا معرفته.(18/10)
إلزام الأشاعرة بأشد مما لزم المعتزلة
قال المؤلف رحمه الله: [فإن قالوا: إنما أشار إلى حكاية ما في نفسه وعبارته، وهو المتلو المكتوب المسموع فأما أن يشير إلى ذاته فلا، فهذا صريح القول بأن القرآن مخلوق، بل هم في ذلك أكفر من المعتزلة، فإن حكاية الشيء مثله وشبهه، وهذا تصريح بأن صفات الله تعالى محكية، ولو كانت هذه التلاوة حكاية لكان الناس قد أتوا بمثل كلام الله، فأين عجزهم؟! ويكون التالي -في زعمهم- قد حكى بصوت وحرف ما ليس بصوت وحرف، وليس القرآن إلا سوراً مسورة، وآيات مسطرة، في صحف مطهرة، قال تعالى: {فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ} [هود:13] ، وقال: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلاَّ الظَّالِمُونَ} [العنكبوت:49] ، وقال: {فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ * مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ} [عبس:13-14] ، ويكتب لمن قرأ بكل حرف عشر حسنات، قال صلى الله عليه وسلم: (أما إني لا أقول (الم) حرف ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف) ، وهو المحفوظ في صدور الحافظين المسموع من ألسن التالين.
قال الشيخ حافظ الدين النسفي رحمه الله -في المنار-: إن القرآن اسم للنظم والمعنى.
وكذا قال غيره من أهل الأصول، وما ينسب إلى أبي حنيفة رحمه الله أن من قرأ في الصلاة بالفارسية أجزأه فقد رجع عنه وقال: لا تجوز القراءة مع القدرة بغير العربية.
وقالوا: لو قرأ بغير العربية فإما أن يكون مجنوناً فيداوى، أو زنديقاً فيقتل؛ لأن الله تكلم به بهذه اللغة، والإعجاز حصل بنظمه ومعناه] .
كل هذا رد على هؤلاء الذين يزعمون أن كلام الله هو المعنى دون الحروف، فيقول لهم: إذا كان كذلك؛ فإذاً ليس هو كلام الله، وإنما هو كلام من أنشأه ومن نظمه هذا النظم، وهذا الذي نظمه إما أنه في زعمكم الملك الذي أنزله، أي: أنه أخذ المعنى ونظمه بهذا النظم، وإما أنه الرسول، بمعنى أنه ألقي في قلبه وفي روعه المعاني فصاغ لها عبارات باللغة التي يحسنها، فعلى هذا لا يكون هذا القرآن كلام الله، وعلى هذا يجوز أن يقرأ بأي لغة، ويجوز أن يقرأ بالمعنى، ويترك اللفظ، ويكون الأجر على المعنى لا على الحروف، وهذا خلاف ما ورد، وذلك يتبين من وجوه.
أولاً: الإعجاز الذي أعجز هذا البشر أن يأتوا بمثله ليس هو بالمعنى؛ فإن المعاني يقدرون على أن يصوغوها، فإذا فهمت -مثلاً- معاني آية الكرسي استطعت أن تصوغ لها معاني مثلها وأن تعبر عنها، كما حصل في التفاسير، فإن أهل التفاسير صاغوا معانيها بعباراتهم، فلو كان الإعجاز هو الإتيان بالمعنى لم يكن هناك إعجاز، أي أن التلاوة التي فيها أجر إنما هي تلاوة هذه الحروف، لقوله عليه الصلاة والسلام: (من قرأ حرفاً من القرآن فله حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول (الم) حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف) ، فقد جعل هذه الحروف عين المتلو وعين كلام الله، وهي التي يكون عليها الأجر والحسنات، فلو كان المعنى هو المطلوب لأباح لنا أن نقرأ بالمعنى ونحصل على الأجر وعلى الحسنات.
ثانياً: القرآن نزل بلغة العرب، فلا يجوز أن يتعبد به بغير لغتهم، وقد روي عن أبي حنيفة أنه أجاز الصلاة باللغة الفارسية، يعني: أن تترجم الفاتحة إلى اللغة الفارسية، ثم يقرأ بها في الصلاة، ولكن أبا حنيفة قال ذلك أولاً ثم رجع عنه، ولم يوافقه على مقالته أحد من الأئمة، بل كلهم قالوا: لا تجزئ الصلاة إلا بالحروف العربية.
حتى قالوا: وكذلك في الخطب وفي الأذان وما أشبههما، لا تجوز إلا باللغة العربية، فمن صرفها إلى لغة أخرى لم يأت بالواجب، فإذا خطب بلغة أعجمية لم تجزئه خطبته، أو قرأ الفاتحة بلغة أعجمية لم تجزئه قراءته ولم تصح صلاته، أو قرأ التشهد بلغته التي ليست عربية لم يصح تشهده، أو أذن بغير اللغة العربية لم يصح أذانه، وهكذا سائر شرائع الإسلام.
فلما كان ذلك دل على أن هذه الألفاظ العربية الموجودة في المصاحف مطلوبة منا، وعلى هذا يكون لها مزية، ولماذا حصلت لها هذه المزية؟ لأنها عين كلام الله، ولو كانت عبارة أو حكاية عنه لما كان لها ميزة عن عبارة سائر الناس، فإذا كان عبارة محمد، أو عبارة جبرائيل، أو عبارة صحابي آخر لم يكن له ميزة عما نعبر به نحن، أو عما يعبر به فلان؛ لأن الجميع كله من إنشاء الإنسان لا من كلام الله، لا أنه عين كلام الله، تعالى الله عن ذلك.
فإذاً عرف بذلك أن هذا الكلام نفسه هو عين كلام الله حروفه ومعانيه.(18/11)
من قال: إن القرآن عبارة عن كلام الله فقد قال إنه قول البشر
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: (ومن سمعه وقال: إنه كلام البشر فقد كفر) ، لا شك في تكفير من أنكر أن القرآن كلام الله، بل قال: إنه كلام محمد أو غيره من الخلق، ملكاً كان أو بشراً.
وأما إذا أقر أنه كلام الله ثم أوَّل وحَرَّف فقد وافق قول من قال: {إِنْ هَذَا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ} [المدثر:25] في بعض ما به كفر، وأولئك الذين استزلهم الشيطان، وسيأتي الكلام عليه عند قول الشيخ: ولا نكفر أحداً من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله إن شاء الله تعالى] .
صاحب المتن -وهو الطحاوي - عبارته هنا تقتضي تكفير من يقول إن هذا القرآن قول البشر.
وما ذاك إلا أن الله كفر من قال ذلك، فقد حكى الله عن بعض المشركين قوله تعالى: {إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ * ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ * فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ * إِنْ هَذَا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ} [المدثر:18-25] ، فالشاهد قوله: {إِنْ هَذَا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ} [المدثر:25] ، فجعله أولاً سحراً يؤثر، ثم صرح بأنه قول البشر.
فهؤلاء الذين يقولون: إنه إنشاء محمد قد أشبهوا هذا الكافر الذي قال: إنه سحر يؤثر، إنه قول البشر، وتوعده الله فقال: {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ} [المدثر:26] ، وهذا وعيد شديد، وهو عام لكل من زعم أن هذا القرآن قول البشر لا أنه قول رب البشر، والذين يعتقدون أنه كلام الله يعرفون أن الله تعالى هو الذي تكلم بما شاء، وأنزله وحياً على نبيه، وأمر نبيه أن يبلغه إلى أمته باللفظ والمعنى، فعلى هذا يكون البشر جميعاً كلهم يقرءونه على أنه كلام الله، لا على أنه كلام لأحدهم.
فالحاصل أن من ادعى أنه ليس هو عين كلام الله، وأن كلام الله هو المعاني دون الألفاظ ودون الحروف، فقد أبطل هذه النصوص وادعى أن كلام الله إنما هو المعنى.
وهذه الطائفة هي طائفة الأشاعرة، وهم من أكثر الطوائف انتشاراً في القرون الوسطى؛ إما لأنهم تمكنوا وكثروا وصار الخلفاء يقربونهم، فصاروا يؤلفون وينصرون بذلك معتقدهم، واشتهر هذا القول وكثرت الكتابة فيه، وتستر الذين يقولون بقول الحق؛ لكونهم قلة وأذلاء فاستخفوا، ولم يستطيعوا أن يصرحوا بما يعتقدونه طوال أكثر القرون؛ في القرن الرابع والخامس والسادس وأغلب السابع، وفي آخر القرن الثامن ظهر من يقول بالحق ويصدع به، فقيض الله للأمة من انتصر انتصاراً شديداً لقول الحق، وهو شيخ الإسلام ابن تيمية، ومن قرأ عليه، ومن انتفع به من تلاميذه وأهل زمانه إلى أن وصل الأمر إلى مؤلف هذا الشرح.
فهؤلاء الذين في هذه القرون الكثيرة وكذلك من بعدهم لا شك أنهم ذوو منزلة، فلأجل ذلك توقف العلماء في الحكم عليهم، قالوا: هل نحكم على هؤلاء كلهم أنهم كفار؛ حيث إنهم يقولون: إن كلام الله هو المعنى، وليس كلام الله هو الحروف، ويقولون: إن كلام الله معنى قائم بنفسه.
ففي زعمهم أن الكلام إنما يخطر ممن تقوم به الحوادث كما يدعون ذلك، فعند ذلك توقفوا وقالوا: نعذرهم باجتهادهم ونكل أمرهم إلى الله تعالى ولا نكفرهم، ولكن من قامت عليه الحجة وانقطع عذره، ومات مصراً على ذلك، نتبرأ منه وأمره إلى الله تعالى، ولا نصرح بكفره.(18/12)
إعجاز القرآن في اللفظ والمعنى دليل على أنه كلام الله
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قوله: (ولا يشبه قول البشر) ، يعني: أنه أشرف وأفصح وأصدق، قال تعالى: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنْ اللَّهِ حَدِيثاً} [النساء:87] ، وقال تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ} [الإسراء:88] ، وقال تعالى: {قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ} [هود:13] ، وقال تعالى: {قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ} [يونس:38] ، فلما عجزوا -وهم فصحاء العرب مع شدة العداوة - عن الإتيان بسورة مثله، تبين صدق الرسول صلى الله عليه وسلم أنه من عند الله.
وإعجازه من جهة نظمه ومعناه لا من جهة أحدهما فقط، هذا مع أنه قرآن عربي غير ذي عوج بلسان عربي مبين، أي: باللغة العربية.
فنفي المشابهة من حيث التكلم ومن حيث النظم والمعنى لا من حيث الكلمات والحروف، وإلى هذا وقعت الإشارة بالحروف المقطعة في أوائل السور، أي أنه في أسلوب كلامهم وبلغتهم التي يتخاطبون بها، ألا ترى أنه يأتي بعد الحروف المقطعة بذكر القرآن، كما في قوله تعالى: {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة:1-2] ، {الم * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ * نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقَِّ} [آل عمران:1-3] الآية، {المص * كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ} [الأعراف:1-2] ، وقوله تعالى: {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ} [يونس:1] .
وكذلك الباقي، ينبههم أن هذا الرسول الكريم لم يأتكم بما لا تعرفونه بل خاطبكم بلسانكم.
ولكن أهل المقالات الفاسدة يتذرعون بمثل هذا إلى نفي تكلم الله به وسماع جبرائيل منه، كما يتذرعون بقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] إلى نفي الصفات، وفي الآية ما يرد عليهم قولهم، وهو قوله تعالى: {وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] ، كما أن في قوله تعالى: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ} [يونس:38] ما يرد على من ينفي الحرف؛ فإنه قال: ((فأتوا بسورة)) ولم يقل: (فأتوا بحرف أو بكلمة) وأقصر سورة في القرآن ثلاث آيات، ولهذا قال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله: إن أدنى ما يجزئ في الصلاة ثلاث آيات قصار أو آية طويلة؛ لأنه لا يقع الإعجاز بدون ذلك.
والله أعلم] .
هذا رد على هؤلاء الذين يدعون أن هذا القرآن ليس هو كلام الله إنما كلام الله هو المعنى دون اللفظ، وقد عرفنا أن الإعجاز الذي تحدى الله به البشر هو المعنى واللفظ، ففي قوله: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهَِ} [البقرة:23] ، وقوله تعالى: {فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ} [هود:13] يراد بذلك: ائتوا بما يحصل به الإعجاز، وذلك بأقل سور القرآن كسورة الكوثر، وسورة الإخلاص، ولا شك أن هذه السور تتركب من كلمات وحروف، وأن هذه الحروف التي تركبت منها هي من جنس ما يتكلم به العرب، والعرب ينطقون بهذه الحروف، لا ينطقون إلا بثمانية وعشرين حرفاً، وهي التي في لغتهم، والحروف التي ينطق بها الأعاجم زائدة عليها لم يعتبروها، وقد سجلوا هذه الحروف، وكتبوا كل حرف وجعلوا له هيكلاً وصورة حتى ينطقوا بهذه الكلمات إذا جمعت الحروف بعضها إلى بعض، وإذا كان كذلك فإن أكثر الكلام هو ما جمع اللفظ والمعنى.
وقد ذكر النحويون أن الكلام عبارة عما أفاد، وكان مشتملاً على بعض الحروف الهجائية، وكان ذا معنى مفيد، وكان مركباً من كلمتين فأكثر، وكانت الكلمات مما وضعته العرب، أي: مما تكلمت به، لا أنه بالكلمات الأعجمية، ولا بالحروف اللاتينية أو بالحروف الأردية أو غير ذلك من الكلمات التي لا تعرفها العرب، فلا شك أن هذه لا تسمى كلاماً.
ففي كتاب العقيدة في آخر الكلام على القرآن وأنه كلام الله تعالى الرد على من زعم أنه مفترى، وأن من قال ذلك فإنه كافر، وهكذا من زعم أنه من إنشاء أي بشر.
دليل ذلك قول الله تعالى حكاية عن بعض الكفار: {فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ * إِنْ هَذَا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ} [المدثر:24-25] ، فوعده الله فقال: {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ} [المدثر:26] يعني: من قال بهذه المقالة فإنه يستحق أن يصلى بسقر، وهي من أسماء النار، ولا شك أن ذلك إنكار لأن يكون القرآن من كلام الله، وإنكار أن يكون معجزة لنبيه عليه الصلاة والسلام، وادعاء أنه من كلام محمد أو من كلام غيره من البشر.
وقد حكى الله تعالى عن بعض الكفار أنهم قالوا: {إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ} [النحل:103] ادعوا أن الذي يتعلم منه إنسان بمكة كان أعجمياً، قال الله تعالى: {لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} [النحل:103] يعني: أن ذلك الذي يدعون أنه هو الذي علم محمداً هذا القرآن ليس فصيحاً بالعربية بل هو أعجمي، أما هذا القرآن فإنه كلام عربي فصيح واضح، ليس فيه شيء من العجمة ولا من اللكنة ولا من الوصمة أو العيب، بل هو كلام الله.
وكذلك أيضاً حكى الله عنهم أنهم قالوا: {إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ} [المائدة:110] ، وقالوا: إنه لقول شاعر، وقال بعضهم: بل هو قول كاهن.
{وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} [الفرقان:5] و (الأساطير) أي: الأكاذيب التي جمعها الأولون، والتي هي من كلام الأولين، ادعوا أن محمداً جمعها، وأن هناك من يأخذها منه فهي تملى عليه بكرة وعشياً، أي: أول النهار وآخره، فأخبر تعالى بأنه كلام الله حيث قال: {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} [الفرقان:5] ، ثم قال: {قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً} [الفرقان:6] .
وعلى كل حال فمهما قال الذين لفقوا هذه الأقاويل من الأولين والآخرين، فقد رد الله عليهم، وقد فضح أكاذيبهم، وما بقي إلا القول الحق وهو عقيدة كل مسلم أن يعتقد أن القرآن كلام الله، وأنه أنزله على أنبيائه، وأنه أرسل به رسله، فهو من جنس الكتب التي أنزل بها ملائكته على رسله، وجعلها معجزة لهم وآية لهم تدل على صدقهم، فآخر هذه الكتب هو هذا القرآن الذي من الله ببقائه على هذه الأمة، وجعله معجزة لهذا النبي الكريم، فعلينا أن نعتقد فيه أنه آية ودلالة ومعجزة لنبينا عليه الصلاة والسلام، وأن نتلوه حق تلاوته، وأن نتدبره ونعمل بما فيه حتى نكون من الذين يؤمنون به ويتبعونه ويتلونه حق تلاوته.(18/13)
وسطية الإثبات بين طرفي التشبيه والنفي
قال المؤلف رحمه الله الله تعالى: [قوله: (ومن وصف الله بمعنى من معاني البشر فقد كفر، ومن أبصر هذا اعتبر، وعن مثل قول الكفار انزجر، وعلم أن الله بصفاته ليس كالبشر) .
لما ذكر فيما تقدم أن القرآن كلام الله حقيقة منه بدا نبه بعد ذلك على أنه تعالى بصفاته ليس كالبشر، نفياً للتشبيه عقيب الإثبات.
يعني: أنه تعالى وإن وصف بأنه متكلم لكن لا يوصف بمعنى من معاني البشر التي يكون الإنسان بها متكلماً؛ فإن الله ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، وما أحسن المثل المضروب للمثبت للصفات من غير تشبيه ولا تعطيل باللبن الخالص السائغ للشاربين يخرج من بين فرث التعطيل ودم التشبيه، والمعطل يعبد عدماً، والمشبه يعبد صنماً، وسيأتي في كلام الشيخ: (ومن لم يتوق النفي والتشبيه زل ولم يصب التنزيه) .
وكذا قوله: (وهو بين التشبيه والتعطيل) .
أي: دين الإسلام.
ولا شك أن التعطيل شر من التشبيه لما سأذكره إن شاء الله تعالى، وليس ما وصف الله به نفسه ولا ما وصفه به رسوله تشبيهاً، بل صفات الخالق كما يليق به، وصفات المخلوق كما يليق به، وقوله: (فمن أبصر هذا اعتبر) أي: من نظر بعين بصيرته فيما قاله من إثبات الوصف ونفي التشبيه ووعيد المشبه، اعتبر وانزجر عن مثل قول الكفار] .
ذكر في هذا الكلام أن من الناس من غالى وجعل كلام الله ككلام البشر، ومنهم من جفا ونفى أن يكون لله كلام أصلاً، وادعى أن القرآن مخلوق.
ومنهم من أثبت لله تعالى كلاماً ونفى أن يكون مثل كلام المخلوقين، وهذا القول الوسط، وهو قول أهل السنة، ويقال كذلك في سائر الصفات، وهو أن كل صفة نثبتها لله تعالى، فإنا نعتقد أنها على ما يليق به، وننزه الله عز وجل عن أن يكون شبيهاً بالمخلوقين في أي صفة، كما ننزهه عن أن تسلب عنه صفات الكمال، فسلب الصفات يسمى تعطيلاً، وإثباتها واعتقاد أنها مثل صفات المخلوقين يسمى تشبيهاً، وكلاهما طرفا نقيض، وكلاهما باطل لا يجوز القول به.
والقول الوسط الذي هو قول أهل السنة اعتقاد أن صفات الله -سواءٌ كلام الله أو صفاته أو أفعاله -ثابتة وحق ويقين، وليست مماثلة لصفات المخلوقين، هكذا يجب أن نقول، ولأجل ذلك مثله كما ذكر باللبن الصافي الذي يخرج من فرث ودم، فجعل اللبن هو قول أهل السنة، والفرث والدم قول المعطلة والمشبهة.
وذكر أن بعض السلف كانوا يقولون: الممثل يعبد صنماً، والمعطل يعبد عدماً، والموحد يعبد إلهاً واحداً فرداً صمداً.
ويقول آخر: من شبه الله بخلقه فقد كفر، ومن نفى عنه ما أثبته لنفسه فقد كفر، وليس في صفات الله تعالى تشبيه، بل فيها إثبات صفات تليق بجلاله ينزه فيها عن أن يكون مشابهاً لشيء من المخلوقات، هكذا ينبغي أن نعتقد في صفات ربنا سبحانه وتعالى.
ولا شك أن كلا الطرفين يعتقده خلق، فطرف التشبيه يعتقده أناس، وطرف التعطيل عليه أمم، ولكن المعطلة أكثر؛ لما يروجونه من عقلياتهم التي يموهون بها في نفي الصفات، فلأجل ذلك يقول الشارح: (إن المعطلة أشد كفراً من المشبهة) ، وما ذاك إلا لكثرة ما ابتلي بهم الخلق، فلذلك يرجح كثير من الأئمة أن المعطل قد تنقص الله غاية التنقص، حتى سلب ربه سبحانه صفات الكمال وألحقه بالناقصات أو بالجمادات أو بالمعدومات أو بالمستحيلات الممتنعات، فمن لازم أقوالهم مثل هذا، فلذلك يقول ابن القيم في نونيته: لسنا نشبه ربنا بصفاتنا إن المشبه عابد الأوثان كلا ولا نخليه من أوصافه إن المعطل عابد البهتان يعني: كأنه لا يعبد شيئاً ولا يؤمن بشيء -تعالى الله عن قولهم-، ويأتي لذلك أيضاً زيادة بيان في الرد على الطائفتين.(18/14)
شرح العقيدة الطحاوية [19]
إن ألذ نعيم ينعم به أهل الجنة في الجنة هو رؤيتهم ربهم تبارك وتعالى، وهذه الرؤية ثابتة بنصوص الكتاب والسنة، وهي مما يعتقده أهل السنة، وقد خالف في ذلك بعض الفرق كالمعتزلة، ونأوا عن الصواب ظانين أنهم ينزهون الله تعالى عن الجهة والحيز، وما علموا أن من حرم هذا النعيم فقد حرم خيراً كثيراً.(19/1)
رؤية الله تعالى يوم القيامة(19/2)
رؤية أهل الجنة لله تعالى حق
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قوله: (والرؤية حق لأهل الجنة بغير إحاطة ولا كيفية كما نطق به كتاب ربنا: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22-23] ، وتفسيره على ما أراد الله تعالى وعلمه، وكل ما جاء في ذلك من الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو كما قال، ومعناه على ما أراد، لا ندخل في ذلك متأولين بآرائنا، ولا متوهمين بأهوائنا؛ فإنه ما سلم في دينه إلا من سلم لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم، ورد علم ما اشتبه عليه إلى عالمه) .
المخالف في الرؤية هم الجهمية والمعتزلة ومن تبعهم من الخوارج والإمامية، وقولهم باطل مردود بالكتاب والسنة، وقد قال بثبوت الرؤية الصحابة والتابعون وأئمة الإسلام المعروفون بالإمامة في الدين، وأهل الحديث وسائر طوائف أهل الكلام المنسوبون إلى السنة والجماعة.
وهذه المسألة من أشرف مسائل أصول الدين وأجلها، وهي الغاية التي شمَّر إليها المشمرون وتنافس المتنافسون، وحرمها الذين هم عن ربهم محجوبون وعن بابه مردودون] .
الكلام هنا على مسألة رؤية المؤمنين لربهم سبحانه وتعالى، والرؤية في الآخرة ثابتة عند أهل السنة، ثابتة في الجنة وفي الموقف أحياناً.
وهذه الرؤية من تمام نعيم أهل الجنة، ومن تمام كرامتهم، ومن تمام إتحافهم والإنعام عليهم، وذلك أن يروا ربهم، وأن يتجلى لهم ربهم كما يشاء، وأن يكشف الحجاب بينه وبينهم، وأن ينظروا إليه كما يشاءون، وإذا نظروا إليه لم يلتفتوا إلى غيره حتى يحتجب عنهم، فيزدادون بهجة وسروراً، وتسفر وجوههم وتزداد نضرة وفرحاً.
وقد أخبر العلماء والعباد والعارفون بأنه لولا يقينهم بأنهم سيرون ربهم تعالى لقتلوا أنفسهم، فلو عرفوا أنهم في الآخرة لا يتنعمون برؤيته لما قر لهم قرار، ولما سروا بذلك الموعد، لكن اطمأنوا إلى خبر ربهم والخبر عن نبيهم عليه أفضل الصلاة والسلام، وصدقوا بأنهم يوم القيامة وفي الجنة يتنعمون غاية التنعم برؤية الله سبحانه وتعالى، وذلك أنه في بعض الأحاديث يقول لهم: (اسألوني.
فيقولون: نسألك رضاك.
فيقول: رضائي أحلكم دار كرامتي، فيقول: سلوني.
فيجتمعون على أن يقولوا: اكشف لنا الحجاب- أو: أرنا وجهك- فإذا تجلى ورأوه لم يلتفتوا إلى غيره) .(19/3)
المعتزلة والجهمية والخوارج ينكرون الرؤية
ولا شك أن ذلك وارد في الأدلة الكثيرة، وفي النصوص الصحيحة الصريحة التي لا تحتاج إلى تقوية، والتي بلغت في كثرتها التواتر، ولكن أنكرها مع كثرتها من حرموا هذا النعيم، ومن صدوا بقلوبهم عن هذا الأمر العظيم، أولئك هم الجهمية والمعتزلة وأتباعهم من الخوارج والإمامية.
والجهمية: أتباع الجهم بن صفوان.
وهو أول من أنكر الصفات، ولما أنكر أن يكون الرب سبحانه وتعالى له صفات أنكر أن يرى، وقال: لا يمكن أن يرى إلا إذا كان في مقابلة أو كان في جهة.
فادعى أن رؤيته مستحيلة وغير ممكنة.
وتبعت المعتزلة الجهمية، والمعتزلة فرق كثيرة لا يزالون موجودين، ولهم مؤلفات ينكرون فيها الصفات، ومن جملة الصفات الرؤية، فينكرون أكبر نعيم وأكبر لذة لأهل الجنة، بل أهل الدنيا إذا تذكروها حداهم ما تذكروه إلى طلبها، وإلى التشمير في العبادة التي تؤهلهم لها، ولا شك أن الرؤية هي أجلّ نعيم يحصل لأهل الجنة.
وتبعهم على ذلك الخوارج، يعني: من المتأخرين، أما الخوارج المتقدمون فلم يُنقل عنهم إنكار ذلك، وأما الخوارج المتأخرون فإنهم على هذا المعتقد، وهو إنكار الرؤية والقول بأن القرآن مخلوق.
فهذه من عقائد المعتزلة التي وافقهم عليها بعض الخوارج، وقد اطلعت على كتاب لبعض المتأخرين سماه: (الحق الدامغ) أنكر فيه الصفات وركَّز على مسألة الرؤية، وتكلف في صرف الأدلة التي تدل عليها، وركَّز فيه أيضاً على مسألة القرآن وأنه مخلوق، وكذلك مسألة القدر، فأنكر قدرة الله على خلق أفعال العباد.
فينبغي أن نأخذ حذرنا، وهذا المؤلف موجود في دولة عمان، وقد ضل بسببه خلق كثير، ولكن الحق واضح، ويبشرنا كثير من الذين ذهبوا إلى تلك الدولة أن كثيراً من الشباب الذين تفتحت معارفهم قد أنكروا معتقدات أسلافهم وآبائهم في مثل هذا، وأنهم رجعوا إلى عقيدة أهل السنة وإن لم يتمكنوا من الإصلاح.
والذين هناك هم الإباضية -فرقة من الخوارج- لهم الدولة ولهم الصولة ولهم القوة، فهم من بقية الخوارج يعتقدون هذه العقيدة، وأكبر ما يعتقدونه وأشهره إنكارهم لهذه اللذة التي هي رؤية الله تعالى في الدار الآخرة.
وعلى كل حال فإن مسألة الرؤية هي من أجل المسائل ومن أفضلها، اعتقدها أهل السنة وآمنوا بها، ولا عبرة بمن أنكرها من هؤلاء؛ فقد أخبر الله تعالى بأن من خلقه من يُحجب عنه في قوله تعالى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين:15] ، وهؤلاء منهم بغير شك، فإذا كانوا ينكرون أن يكون الله تعالى يُرى في الآخرة، فمعناه أنهم لا يريدون رؤية الله، وأنهم سيحجبون عن الله تعالى، ولا يحجب عنه إلَّا الكافرون، فقد حرموا أنفسهم هذه اللذة وأنكروها، فيكونون معاقبين بمثل ما اعتقدوه والعياذ بالله.(19/4)
بيان دلالة آية سورة القيامة على ثبوت الرؤية
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد ذكر الشيخ رحمه الله من الأدلة قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22-23] ، وهي من أظهر الأدلة، وأما من أبى إلا تحريفها بما يسميه تأويلاً فتأويل نصوص المعاد والجنة والنار والحساب أسهل من تأويلها على أرباب التأويل، ولا يشاء مبطل أن يتأول النصوص ويحرفها عن مواضعها إلَّا وجد إلى ذلك من السبيل ما وجده متأول هذه النصوص، وهذا الذي أفسد الدنيا والدين.
وهكذا فعلت اليهود والنصارى في نصوص التوراة والإنجيل، وحذرنا الله أن نفعل مثلهم، وأبى المبطلون إلا سلوك سبيلهم، وكم جنى التأويل الفاسد على الدين وأهله من جناية! فهل قتل عثمان رضي الله عنه إلا بالتأويل الفاسد! وكذا ما جرى في يوم الجمل، وصفِّين، ومقتل الحسين، والحَرَّة! وهل خرجت الخوارج واعتزلت المعتزلة ورفضت الروافض وافترقت الأمة على ثلاث وسبعين فرقة إلا بالتأويل الفاسد.
وإضافة النظر إلى الوجه الذي هو محله في هذه الآية وتعديته بأداة (إلى) الصريحة في نظر العين وإخلاء الكلام من قرينةٍ تدل على خلاف حقيقته وموضوعه، صريح في أن الله أراد بذلك نظر العين التي في الوجه إلى الرب جلَّ جلاله] .
أوضح ما استدل به أهل السنة هذه الآية التي في سورة {لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} [القيامة:1] قال تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22-23] ، فالكلمة الأولى رُسمت بـ (الضاد) ، والمراد أنها وجوه مشرقة من النضارة التي هي البهاء والإشراق والسرور والابتهاج، يعني أنها منيرة.
وقد ذكر الله تعالى أن وجوه أهل الخير هكذا، فقال تعالى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} [آل عمران:106] ، فتبيض وجوه أهل السنة والجماعة، وتسود وجوه أهل الفرقة والابتداع.
وقال تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ} [عبس:38-39] ، وهذه وجوه أهل السعادة أيضاً.
فهكذا ذكر الله في هذه الآية أن هذه الوجوه ناضرة، يعني: بهية مشرقة مستنيرة مضيئة تغشاها الفرحة والسرور لأنها شعرت بالسعادة، ولأنها أيقنت بحسن العاقبة، ولأنها عرفت الفوز والظفر بالمطلوب، وعرفت أنها ستلقى الجزاء الذي وُعدت به، وهو الجزاء الأوفى الذي هو جزاء الحسنات بأضعافها.
والقول الثاني: إن المعنى: لما نظرت إلى الله سبحانه أشرقت من آثار ذلك النظر، {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} [القيامة:22] أي: مشرقة مضيئة بسبب رؤيتها لله سبحانه وتعالى.
وقوله: {إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:23] : لا شك أن هذا يراد به الوجوه، فتلك الوجوه إلى ربها ناظرة، وهذه كتبت بـ (الظاء) أخت (الطاء) ، يعني أنها تنظر إلى ربها نَظَرَ عيان ونَظَرَ معاينة، ولم يقل: إلى نعمة ربها، ولم يقل: إلى ثواب ربها ناظرة.
ولم يقل: إلى النعيم راضية.
ولا: إلى الجنة ناظرة.
بل قال: {إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:23] أي: تنظر إلى ربها.
وفرق بين من يقرؤها ويُمِرُّها كما جاءت ومن يتكلف في تأويلها.(19/5)
الرد على تأويل المعتزلة لآيات الرؤية وأحاديثها
والمعتزلة الذين أنكروا الصفات تأولوها تأويلات بعيدة، فبعضهم يقول: إن الـ (إلى) هي النعمة يعني: آلاء ربها أو نعم ربها ناظرة.
و (إلى) معروف أنه حرف جر، ولكن جعلوه اسماً مضافاً فقالوا: إلى ربها.
أي: نعمة ربها، أو واهب الآلاء.
ولا شك أن هذا تكلف بعيد.
وهكذا قال بعضهم: (إلى ربها ناظرة) أي: إلى ثواب ربها.
أو: إلى نعمة ربها.
أو: إلى جزاء ربها.
فجعلوا في الكلام مضمراً، وما الذي دلكم على أن في الكلام مضمراً أو كلاماً محذوفاً؟!
و
الجواب
لا دلالة عليه.
فلماذا تتركون الظاهر وتأتون بمضمر من قبل أنفسكم؟! وبعضهم قال: (ناظرة) أي: منتظرة.
إلى ربها.
أي: منتظرة ما يعطيها أو ما يهبها، مع أن هناك فرقاً بين (ناظرة) و (منتظرة) ! ومن أمثال هذه التأويلات تكلف يسمونه تأويلاً، وهو في الحقيقة تحريف وتغيير وتصحيف لكلام الله وصرف له عن ظاهره.
نقول: إذا تكلفتم هذا النص بالتأويل أمكن غيركم وأمكنكم أن تتأولوا آيات المعاد، فأنتم الآن -يا معتزلة- تكلفتم في التأول في آيات الصفات وحرفتم ما وصلكم، ففتحتم الباب لغيركم، فالفلاسفة أنكروا المعاد الحقيقي الجسماني، وقالوا: ليس هناك رد للأرواح في الأجساد، وليس هناك إحياء للأموات.
فقيل لهم: كيف تردون على هذه النصوص؟ فقالوا: نتأولها، وليس تأويلكم لآيات الصفات أصعب من تأويلنا لآيات المعاد! ثم جاءت فرقة أخرى من غلاة الفلاسفة وغلاة الصوفية فتأولوا نصوص الأحكام -الحلال والحرام والأوامر والنواهي- وصرفوها أيضاً عن ظاهرها وأبطلوها كل الإبطال، حتى قال بعضهم: المراد بالحج حج القلوب إلى علام الغيوب، أو قالوا مثلاً: الصلاة المراد بها اتصال القلب بالرب، واتصال القلب بالرب ليس معناه أن تجتمعوا في المساجد وتركعوا وتسجدوا، هذا ليس هو المراد منكم، فإذا صغت قلوبكم واتصلت بالملأ الأعلى فهذه هي الصلاة التي أمرتم بها.
هكذا يقول الصوفية ونحوهم.
نقول: إذاً بطَلَت بهذا التأويلِ الأحكامُ التي نُقلت بالفعل وبالقول الصريح بسببكم يا أشعرية ويا معتزلة لما تأولتم وفتحتم باب التأويل لآيات الصفات، فدخل من هذا الباب الفلاسفة والصوفية وأهل الوحدة وصاروا يتأولون.
بل حصل بالتأويل أعظم الفتن؛ فإن الفتن التي وقعت في عهد الصحابة إنما هي بسبب التأويلات الباطلة، فقتل عثمان، وكذلك قتل الحسين، وكذلك الفتن التي حصلت ووقعت في صفِّين ووقعت في الجمل ووقعت في الحَرَّة بسبب التأويلات البعيدة عن الصواب.
فلا تتأولوا النصوص، بل أجروها على ما يُفهم منها وفوضوا الكيفية، فإذا قصرت أنظاركم ومعرفتكم عن شيء فلتتوقف عن الكيفية، كيفية تلك الرؤية أو كيفية الصفة التي هي صفة ذات، وقولوا: الله أعلم بها، كما يقول مالك رحمه الله: الاستواء معلوم والكيف مجهول.
فهكذا نقول: الكلام معلوم والكيف مجهول، الرؤية معلومة وكيفيتها مجهولة لنا، والله أعلم بكيفيتها.
وإذا كان كذلك سلِمنا من أن نقع في هذا التحريف الذي سماه أهله تأويلاً، ترويجاً له حتى يُقبل عند السُّذَّج وقِصار الأفهام.(19/6)
الرد على المعتزلة في تأويل آية سورة القيامة
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فإن النظر له عدة استعمالات بحسب صلاته وتعديه بنفسه، فإن عُدِّي بنفسه فمعناه التوقف والانتظار، كقوله: {انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} [الحديد:13] ، وإن عُدِّي بـ (في) فمعناه التفكر والاعتبار، كقوله: {أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الأعراف:185] ، وإن عُدِّي بـ (إلى) فمعناه المعاينة بالأبصار، كقوله تعالى: {انظُرُوا إلى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ} [الأنعام:99] ، فكيف إذا أضيف إلى الوجه الذي هو محل البصر.
وروي ابن مردويه بسنده إلى ابن عمر قال: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} [القيامة:22] قال: من البهاء والحسن.
{إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:23] قال: في وجه الله عزَّ وجلَّ) .
عن الحسن قال: نظرت إلى ربها فنُضِّرت بنوره.
وقال أبو صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما: {إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:23] قال: تنظر إلى وجه ربها عزَّ وجلَّ.
وقال عكرمة: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} [القيامة:22] قال: من النعيم {إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:23] قال: تنظر إلى ربها نظراً.
ثم حكى عن ابن عباس مثله.
وهذا قول المفسرين من أهل السنة والحديث.
وقال تعالى: {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} [ق:35] قال الطبري: قال علي بن أبي طالب وأنس بن مالك: هو النظر إلى وجه الله عزَّ وجلَّ.
وقال تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:26] فالحسنى: الجنة.
والزيادة هي النظر إلى وجهه الكريم.
فسرها بذلك رسول الله والصحابة من بعده، كما روى مسلم في صحيحه عن صهيب قال: (قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:26] قال: إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار نادى منادٍ: يا أهل الجنة! إن لكم عند الله موعداً يريد أن ينجزكموه.
فيقولون: وما هو؟! ألم يثقل موازيننا، ويبيض وجوهنا ويدخلنا الجنة ويُنجِنا من النار؟! فيكشف الحجاب فينظرون إليه، فوالله ما أعطاهم شيئاً أحب إليهم من النظر إليه، وهي الزيادة) .
ورواه غيره بأسانيد متعددة وألفاظ أُخَر معناها أن الزيادة النظر إلى وجه الله عز وجل.
وكذلك فسرها الصحابة رضي الله عنهم، روى ابن جرير ذلك عن جماعة، منهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وحذيفة، وأبو موسى الأشعري، وابن عباس رضي الله عنهم] .
هنا ثلاث آيات من كتاب الله تعالى دالة على الرؤية أو مُفَسَّرة بها.
فالآية الأولى هي آية سورة القيامة قوله: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22-23] .
وسبق ذكر تفاسير الصحابة والتابعين أنهم قالوا: {إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:23] أي: إلى وجه ربها.
أو: تنظر إلى ربها صرح بذلك عدد من الصحابة كما مر، والمعتزلة حرفوا النظر فجعلوه الانتظار، أو حرفوا كلمة (إلى) فجعلوها النعمة، أو أضمروا مضافاً، أي: إلى نعمة ربها أو إلى ثواب ربها.
إن كلمة النظر تارةً تُعدَّى بنفسها، وتارةً تُعدَّى بحرف (في) وتارةً تُعدَّى بحرف (إلى) .
فتعديتها بنفسها في قول الله تعالى: {يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} [الحديد:13] فـ (انظرونا) هنا ليس معناه النظر بالعين، وإنما معناه: انتظروا.
أي: أمهلونا حتى نقتبس من نوركم، لأنه عُدِّي بنفسه.
وذكر تعديته بـ (في) في قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الأعراف:185] فالنظر هنا بمعنى الاعتبار، أي: ينظروا في الملكوت نَظَرَ اعتبار وتأمل ليستدلوا به على قدرة الخالق.
فإذا عدي بـ (في) فلا تحتمل إلا النظر بالاعتبار، وأما هنا فإن النظر مُعدَّىً بـ (إلى) ، فهو مثل قوله تعالى: {انظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ} [الأنعام:99] (انظروا) يعني: بأعينكم.
(إلى ثمره) ، ولا تحتمل غير المعاينة؟! كذلك قوله تعالى: {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ} [الغاشية:17] يعني أنهم ينظرون إليها معاينةً.
فكذلك قوله: {إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:23] لا يحتمل إلا أن النظر هو المعاينة.
فتبيَّن بذلك صراحة الآية في دلالتها على النظر إلى الله سبحانه وتعالى.(19/7)
دلالة آيتي المزيد على رؤية الله تعالى
والآية الثانية في سورة (ق) قوله تعالى: {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} [ق:35] ، فالله تعالى أخبر بأن لهم فيها ما يشاءون، فكل شيء يشاءونه وتتمناه نفوسهم أو يخطر على بالهم يُحضر إليهم.
ثم يقول بعد ذلك: (وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ) ، هذا المزيد زائدٌ عن النعيم الذين بين أيديهم، ولا بد أن يكون هذا الزائد له خصوصية، لذلك فُسِّر المزيد بأنه النظر إلى وجه ربهم، يعني: نعمة زائدة على ما يستحقونه هي النظر إلى ربهم أثابهم الله وأعطاهم ذلك.
هكذا فُسرت من قِبل السلف أن المزيد هو النظر إلى ربهم.
الآية الثالثة في سورة يونس قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ} [يونس:25-26] ، ودار السلام هي: الجنة، يدعو إليها ويدعو إلى العمل الذي يدخلها، ثم إذا دخلوها فماذا يستحقون؟ قال تعالى: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:25-26] والحسنى هي الجنة التي فيها جميع أنواع الحُسن.
وقوله: (وزيادة) : لا شك أن هذه الزيادة شيء زائد على الحسنى التي هي الجنة، لذلك فسرها رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنها نظرهم إلى وجه ربهم في الحديث الذي رواه مسلم عن صهيب، ورواه أيضاً غيره، وكذلك فسرها أبو بكر وغيره من الصحابة، واستدلوا بأنه قال بعدها: {وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ} [يونس:26] ، يعني أنهم بنظرهم إلى الله لا يلحقهم ملل ولا يلحق وجوههم كدر ولا يلحقها ذلة ولا مهانة ولا غير ذلك.
وعادة أنك لو نظرتَ -مثلاً- إلى الشمس في شدة وهجها فإن وجهك قد يعبس أو قد يتغير، وعينك قد تكل من قوة شعاعها وقوة نورها، وكذلك بعض الأنوار المشعة شديدة الإضاءة كالبرق ونحوه كما في قوله تعالى: {يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأَبْصَارِ} [النور:43] .
والله تعالى قد أخبر بأنه نور فقال تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [النور:35] .
وأخبر النبي عليه الصلاة والسلام بأن حجابه النور.
فهذا النظر إليه مع كثرة تلك الأنوار المشعة لا يرهق وجوه المؤمنين منه ذلة، بل تزداد وجوههم إشراقاً وتزداد بهجةً ونضارةً وسروراً، وما ذاك إلا أنهم يعدون ذلك غاية النعيم، ولذلك قال بعض العابدين: ولو أني استطعتُ غضضتُ طرفي فلا أنظر به حتى أراكا فمن شدة الشوق إلى الله تعالى يقول: لو استطعت لما نظرتُ إلى أي مخلوق حتى أنظر إليك -يا ربي- شوقاً إليك وارتياحاً إلى رؤيتي لربي.
هكذا حالة العارفين المشتاقين إلى ربهم، أما الذين أنكروا هذه الرؤية فإنهم محرومون من هذا النعيم كله، محرومون من هذه الزيادة، أو قد اعتقدوا حرمان أنفسهم والعياد بالله.
ومسألة الرؤية مسالةٌ كبيرة شريفة قد اهتم بها أهل السنة وقدموا الكلام فيها من وقت الإمام الشافعي وهم يجادلون فيها من أنكرها، ولا يزالون على ذلك.
وقد كتب فيها ابن القيم رحمه الله في كتابه المسمى (حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح) الذي يتعلق بصفة الجنة، فإنه في باب من أبوابه سرد آيات الرؤية، فجعل باباً خاصاً للرؤية وسرد فيه الآيات، ثم سرد فيه الأحاديث التي رُويت في ذلك، والتي يمكن الاستدلال بها، وإذا كان فيها ضعف فإن بعضها يتقوى ببعض، والأكثر قوي من حيث السند، وأعرضَ عن الأحاديث الضعيفة أو الموضوعة، فمن قرأه عرف بذلك كثرة ما ورد فيها من الأدلة، وهكذا أيضاً أتبعه بالنقولات، ثم رد على من أنكر ذلك من المعتزلة وبيَّن ما أجابوا به وناقشهم فيما استدلوا به.
وتبعه على ذلك حافظ بن أحمد الحكمي في كتابه الذي سماه (معارج القبول في شرح سلم الوصول) ، و (سلم الوصول) هذا منظومة نَظَمها من أول ما نظم وشرحها في هذا الكتاب الذي يقع في مجلدين، وأفاض في الشرح وتوسع، ولما أتى على الأدلة التي تدل على صفة الرؤية توسع أيضاً فيها.
ونحيل إلى هذين الشرحين -لمن أراد أن يتوسع- كتاب ابن القيم وكتاب الحكمي، وغيرهما أيضاً من الكتب الكثيرة التي اعتنت بمسائل التوحيد والعقيدة ومن جملتها مسألة الرؤية ومناقشة ما فيها من الخلافات وبيان الحق لأهله.(19/8)
آية نفي الإدراك تدل على ثبوت الرؤية
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال تعالى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين:15] احتج الشافعي رحمه الله وغيره من الأئمة بهذه الآية على الرؤية لأهل الجنة.
ذكر ذلك الطبري وغيره عن المزني عن الشافعي، قال الحاكم: حدثنا الأصم: حدثنا الربيع بن سليمان قال: حضرت محمد بن إدريس الشافعي وقد جاءته رقعة من الصعيد فيها: ما تقول في قول الله عزَّ وجلَّ: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين:15] ؟ فقال الشافعي: لما أن حُجب هؤلاء في السخط كان في هذا دليل على أن أولياءه يرونه في الرضا.
وأما استدلال المعتزلة بقوله تعالى: {لَنْ تَرَانِي} [الأعراف:143] وبقوله تعالى: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام:103] فالآيتان دليل عليهم.
أما الآية الأولى فالاستدلال منها على ثبوت رؤيته من وجوه: أحدها: أنه لا يُظن بكليم الله ورسوله الكريم وأعلمِ الناس بربه في وقته أن يسأل ما لا يجوز عليه، بل هو عندهم من أعظم المحال.
الثاني: أن الله لم ينكر عليه سؤاله، ولما سأل نوح ربه نجاة ابنه أنكر سؤاله وقال: {إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [هود:46] .
الثالث: أنه تعالى قال: (لن تراني) ، ولم يقل: إني لا أُرى.
أو: لا تجوز رؤيتي.
أو: لست بمرئي.
والفرق بين الجوابين ظاهر، ألا ترى أن من كان في كمه حجر فظنه رجلٌ طعاماً فقال: أطعمنيه فالجواب الصحيح: إنه لا يؤكل.
أما إذا كان طعاماً صح أن يقال: إنك لن تأكله.
وهذا يدل على أنه سبحانه مرئي، ولكن موسى لا تحتمل قواه رؤيتَه في هذه الدار لضعف قوى البشر فيها عن رؤيته تعالى، يوضحه.
الوجه الرابع: وهو قوله تعالى: {وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي} [الأعراف:143] ، فأعمله أن الجبل مع قوته وصلابته لا يثبت للتجلي في هذه الدار، فكيف بالبشر الذي خُلِق من ضعف.
الخامس: أن الله سبحانه قادر على أن يجعل الجبل مستقراً، وذلك ممكن، وقد علق به الرؤية، ولو كانت محالاً لكان نظير أن يقال: إن استقر الجبل فسوف آكل وأشرب وأنام، والكل عندهم سواء.
السادس: قوله تعالى: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً} [الأعراف:143] ، فإذا جاز أن يتجلى للجبل الذي هو جماد لا ثواب له ولا عقاب فكيف يمتنع أن يتجلى لرسله وأوليائه في دار كرامته؟! ولكن الله أعْلَمَ موسى أن الجبل إذا لم يثبت لرؤيته في هذه الدار فالبشر أضعف.
السابع: أن الله كلم موسى وناداه وناجاه، ومن جاز عليه التكلم والتكليم وأن يسمع مخاطِبَه كلامَه بغير واسطة فرؤيته أولى بالجواز، ولهذا لا يتم إنكار رؤيته إلا بإنكار كلامه، وقد جمعوا بينهما.
وأما دعواهم تأبيد النفي بـ (لن) وأن ذلك يدل على نفي الرؤية في الآخرة ففاسد؛ فإنها لو قُيِّدت بالتأبيد لا يدل على دوام النفي في الآخرة فكيف إذا أطلقت؟! قال تعالى: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً} [البقرة:95] مع قوله: {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} [الزخرف:77] ، ولأنها لو كانت للتأبيد المطلق لما جاز تحديد الفعل بعدها، وقد جاء ذلك، قال تعالى: {فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي} [يوسف:80] .
فثبت أن (لن) لا تقتضى المنفي المؤبد.
قال الشيخ جمال الدين ابن مالك رحمه الله: ومن رأى النفي بـ (لن) مؤبداً فقوله ارددْ وسواه فاعضُدا] .(19/9)
دلالة آية المطففين على ثبوت الرؤية للمؤمنين
الآية الأولى وهي قوله تعالى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين:15] أوضح دليل على أن أهل الجنة ليسوا محجوبين عن ربهم، وذلك لأن هذا وعيد لأعداء الله للكفار ووعيد للفجار الذين قال الله في حقهم: {كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ} [المطففين:7] ، فهؤلاء من وعيدهم أنهم عن ربهم يومئذ -أي: يوم القيامة وما بعده- محجوبون، وقد ذكر بعدهم الأبرار في قوله: {إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ} [المطففين:18] ، ولو كانوا لا يرون ربهم لكانوا أيضاً عن ربهم محجوبين، فلم يكن هناك فرق بين الأبرار والفجار.
ولا شك أن حجب هؤلاء يعتبر عذاباً، فيعتبرون قد عذبوا بحجبهم عن ربهم والحيلولة بينهم وبين نعمة الرؤية ونعيمها، ولا شك أن رؤية المؤمنين وعدم حجبهم نعمة ومنة وكرامة يزدادون بها نعيماً وبهجة، أما لو كانوا لا يرون ربهم لم يكن هناك فرق بين الأبرار والفجار، بل كلهم عن ربهم محجوبون.
فهذه آية استدل بها الشافعي ومن بعده من الأئمة على إثبات رؤية المؤمنين وحجب الكافرين.(19/10)
بيان دلالة قوله: (لن تراني) على ثبوت الرؤية والرد على المعتزلة
وأما الآية الثانية التي استدل بها المعتزلة على إنكار الرؤية فهي في قصة موسى، ذكر الله أن موسى سأل الرؤية، قال تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} [الأعراف:143] ، فاستدلوا بقوله: (لن تراني) على أنك لا تراني أبداً في الدنيا ولا في الآخرة، وهذا تأويل خاطئ، وذلك لأن الآية إنما نفت الرؤية في الدنيا، وذلك لأن الإنسان في الدنيا خلقته ضعيفة لا يستطيع أن يمثل أمام عظمة الرب سبحانه وتعالى؛ فإن خلقةً في هذه الدنيا على هذه الهيئة خلقة ضئيلة ضعيفة لا تثبت أمام تجلي ربنا ولا أمام أنواره وجلاله وكبريائه.
وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم أخبر بشيء من ذلك في قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه) إلى قوله: (حجابه النور -أو النار- لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه) يعني أن الحجاب في الدنيا حجاب النور أو النار لو كشفه لأحرق ذلك الضياء وذلك النور ما انتهى إليه من الخلق، فإذا كان كذلك فجميع الخلق في هذه الدنيا مخلوقون من هذا اللحم والدم على هذه الخِلْقة، فخِلْقتهم ضعيفة لا يستطيعون أن يمثلوا أمام هذه العظمة.
فهذا هو السبب في أن الله منع موسى الرؤية في الدنيا، ولكن هل يدل ذلك على أنه ممنوع من الرؤية في الآخرة؟ لا يدل على ذلك؛ لأن في الآخرة يعطي الله أولياءه من قوة الخلقة ومن عظمها ما يثبتون به أمام تلك الرؤية وأمام رؤية ربهم، فقد ورد أن كل من يدخل الجنة يوم القيامة على طول آدم، طوله ستون ذراعاً وعرضه سبعة أذرع، وإذا كانت هذه الزيادة في خِلقتهم في الطول والعرض فكذلك لا بد أنهم سيُزادون في قوة حواسهم وفي قوة أبصارهم وفي قوة أعضائهم حتى يتمكنوا من الثبوت أمام رؤيتهم لربهم، ولا يغشى وجوههم قتر ولا ذلة، ولا ينالهم شيء من الضعف ولا مما ينالهم في الدنيا.
هذا هو السبب في أن الله منع موسى من الرؤية في الدنيا، وكذلك كل أحد في الدنيا لا يستطيع أن يرى ذلك؛ لقوله في الحديث: (واعلموا أن أحداً منكم لن يرى ربه حتى يموت) ، هكذا ورد في حديث عنه صلى الله عليه وسلم، أثبت بأن أحداً لا يستطيع أن يمثل أمام عظمة ربه ولا يرى ربه حتى يموت، وذلك في حديث الدجال لما أخبر بأن الدجال يأتي ويقول: (أنا الرب، أنا الله) ، فأخبر بأنه كاذب، وأنه لا يمكن في الدنيا أن أحداً يرى ربه، إنما الرؤية في الآخرة.
واستدل الشارح -كما سبق- بأن هذه الآية دليل على إثبات الرؤية على أهلها.
ونقول: معلوم أن موسى نبي الله وكليمه الذي كلمه تكليماً، ومعلوم أنه اصطفاه، قال تعالى: {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} [طه:41] ، فاصطفاه واختاره وأخبر بأنه كلمه تكلمياً، فهو من خيار أولياء الله، ومن خيار أنبياء الله ورسله، وقد أرسله إلى فرعون، وأرسله إلى بني إسرائيل وقد كلمه تكليماً، وأنزل عليه التوراة وقربه نجياً، فهو أعرف بربه، وهو أعلم بما يستحيل على ربه، فكيف تكونون -يا معتزلة- أعلم من موسى؟! هل يقال: إنك -يا فلان ويا فلان المعتزلي أو الجهمي- أعلم من موسى؟! حاشا وكلا، فهل الذي هو أحد أولي العزم، والذي هو أحد رسل الله، والذي ذكره الله وأكثر من ذكره في كلامه يكون أجهل منك، وتكون أنت أعلم منه بما يستحيل على الله وبما يجوز على الله؟! هذا مما تحيله العقول، وهذا مما لا يجوز في شرع الله.
كذلك ما أنكر أيضاً الله تعالى عليه حين قال: {أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ} [الأعراف:143] لم ينكر عليه ولم يوبخه، وقد أنكر على نوح لما سأل نجاة ولده لما قال: {رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي} [هود:45] أنكر عليه وقال: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [هود:46] ، أنكر على نوح هذا السؤال، ولكن موسى لما سأل فقال: {رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ} [الأعراف:143] ما أنكر عليه، بل قال: {لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ} [الأعراف:143] ، فهل هذا دليل على أن هذا السؤال مستحيل؟ إنه ليس سؤال شيءٍ مستحيل.
وقال تعالى: {لَنْ تَرَانِي} [الأعراف:143] ، ولم يقل: إني لا أُرَى.
أو: إني لا تجوز رؤيتي.
أو: إني لستُ بمرئي بل قال: {لَنْ تَرَانِي} [الأعراف:143] ، والمعنى: لا تراني في الدنيا، ولا تستطيع رؤيتي في الدنيا، والفرق بين العبارتين واضح، ومثَّل لذلك المؤلف -كما سبق- بما إذا كان مع إنسان حجر وظننتَه رغيفاً فقلتَ: أطعمني من هذا فقال: لن تطعمه، فإنك تقول: إنه قد حَرَمني من هذا الطعام أما إذا قال: ليس بمطعوم أو ليس بمأكول أو لا يصح أكله أو ليس مما يؤكل، فهمتَ بذلك أنه اعتذر وأنه ليس من المأكولات.
فقوله: {لَنْ تَرَانِي} [الأعراف:143] يبين أن الرؤية جائزة؛ ولكنك لا تقدر عليها في الدنيا.
فهذا وجه قوله: {لَنْ تَرَانِي} [الأعراف:143] .
ثم قوله: {وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي} [الأعراف:143] علق رؤية موسى على استقرار الجبل، أليس استقرار الجبل ممكناً؟ إنه ممكنٌ أن يستقر الجبل، والله تعالى قادر على أن يثبت الجبل حتى يستقر إذا تجلى له الرب، والله تعالى قد علَّق رؤية موسى على استقرار الجبل، والمعلَّق على الممكن ممكن، فهذا دليل على إمكان الرؤية، وأن رؤية الله ليست بمستحيلة، فالتعليق على الممكن ممكن.
أما قوله تعالى: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً} [الأعراف:143] ، فقد تجلى الله كما شاء للجبل، ولما تجلى للجبل -وهو جبل الطور وهو من أكبر الجبال- انساخ الجبل، وذلك مع كونه جماداً، ومع كونه ليس به حركة، انساخ الجبل واندكَّ وخسف في الأرض، ولم يثبت، فعند ذلك صعق موسى، فالله تعالى تجلى للجبل، وإذا جاز أن يتجلى للجبل ألا يجوز أن يتجلى لعباده في الدار الآخرة، وأن يكرمهم بهذا التجلي وينعِّمهم ويزيد في كرامتهم؟! بلى فالقادر والممكن تجليه للجبل لا يستحيل عليه أن يتجلى كما يشاء لعباده في دار كرامته.
فعرفنا بذلك أن الآية دليل على إمكان الرؤية، ودليل على وقوعها، وأن الاستدلال بها على النفي استدلال عكسي، بل هي على الرؤية أدل منها على ضد الرؤية.
أما قوله: {لَنْ تَرَانِي} [الأعراف:143] فيقول: إن كلمة (لن) تدل على النفي المؤبد في الدنيا والآخرة، يعني: (لَنْ تَرَانِي) أبداً!
و
الجواب
أن كلمة (لن) لا تدل على النفي المؤبد حتى ولو أُكِّدت بـ (أبداً) ، فالله تعالى يقول: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً} [البقرة:95] نفى أنهم يتمنون الموت، وقد ذكر أنهم يتمنونه في النار فيقولون: {يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} [الزخرف:77] ، فهم يتمنون الموت، والله يقول: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً} [البقرة:95] ، إذاً المراد في الدنيا، فدل على أن النفي في الدنيا لا يعم النفي في الآخرة، فالنفي في قوله: (لَنْ تَرَانِي) نفي في الدنيا، فلا يعم النفي في الآخرة.
ولذلك يقول ابن مالك صاحب الألفية: ومن يرى النفي بـ (لن) مؤبداً فقوله اردد وسواه فاعضدا يعني: من يرى من النحاة أن النفي بلن يقتضي التأبيد فاردد قوله واعضد غيره من الأقوال، يعني: انصر القول الذي يرى أنها لا تقتضي النفي المؤبد.
ويقولون: إن الرؤية مستحيلة.
ويجاب عليهم بأنه لو كانت الرؤية محالة ما علقها على ممكن؛ فإن التعليق على شيء ممكن يدل على الإمكان، كما أن الله تعالى منزه عن الحاجة؛ لقوله تعالى: {وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ} [الأنعام:14] ، وقرأها بعضهم: {وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يَطْعَمُ} [الأنعام:14] ، وقال تعالى: {مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} [الذاريات:57] ، فبين أنه سبحانه منزه عن الحاجة إلى الطعام والشراب ونحو ذلك، وذكر من نقص عيسى وأمه الحاجة إلى ذلك في قوله تعالى: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ} [المائدة:75] يعني أنهما يحتاجان ويأكلان الطعام فدل على أن الله تعالى منزه عن الحاجة إلى ذلك.
فيقول الشارح: نحن والمعتزلة وغيرهم متفقون على أن الله ليس بحاجة إلى الأكل والشرب ونحو ذلك، وذلك من المستحيلات، فلا يمكن أن يُعَلَّق على شيء ممكن.(19/11)
الرد على المعتزلة في الاستدلال بقوله: (لا تدركه الأبصار) على نفي الرؤية
قال المؤلف رحمه الله تعالى: (وأما الآية الثانية وهي قوله: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام:103] ) .
فالاستدلال بها على الرؤية من وجه حسن لطيف، وهو أن الله تعالى إنما ذكرها في سياق التمدُّح، ومعلوم أن المدح إنما يكون بالصفات الثبوتية، وأما العدم المحض فليس بكمال فلا يُمدح به.
وإنما يُمدح الرب تعالى بالنفي إذا تضمن أمراً وجودياً، كمدحه بنفي السِّنَة والنوم المتضمن كمال القيُّومية، ونفي الموت المتضمن كمال الحياة، ونفي اللغوب والإعياء المتضمن كمال القدرة، ونفي الشريك والصاحبة والولد والظهير المتضمن كمال الربوبية والألوهية وقهره، ونفي الأكل والشرب المتضمن كمال صمديته وغناه، ونفي الشفاعة عنده إلَّا بإذنه المتضمن كمال توحده وغناه عن خلقه، ونفي الظلم المتضمن كمال عدله وعلمه وغناه، ونفي النسيان وعزوب شيء عن علمه المتضمن كمال علمه وإحاطته، ونفي المِثْل المتضمن لكمال ذاته وصفاته.
ولهذا لم يمتدح بعدمٍ محض لم يتضمن أمراً ثبوتياً؛ فإن المعدوم يشارك الموصوف في ذلك العدم، ولا يوصف الكامل بأمر يشترك هو والمعدوم فيه، فإذاً المعنى أنه يُرَى ولا يُدرَك ولا يُحاط به، فقوله: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام:103] يدل على كمال عظمته، وأنه أكبر من كل شيء، وأنه لكمال عظمته لا يُدرَك بحيث يحاط به؛ فإن الإدراك هو الإحاطة بالشيء وهو قدر زائد على الرؤية، كما قال تعالى: {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قال كلا} [الشعراء:61-62] ، فلم ينف موسى الرؤية، وإنما نفى الإدراك، فالرؤية والإدراك كل منهما يوجد مع الآخر وبدونه، فالرب تعالى يُرَى ولا يُدرَك، كما يُعلَم ولا يُحاط به علماً، وهذا هو الذي فهمه الصحابة والأئمة من الآية، كما ذُكرَت أقوالهم في تفسير الآية، بل هذه الشمس المخلوقة لا يتمكن رائيها من إدراكها على ما هي عليه] .
أكبر ما يستدل به المعتزلة هذه الآية من سورة الأنعام، وهي قوله تعالى: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ * لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الأنعام:102-103] ؛ فإن هذه الآية اعتبروها أوضح الأدلة في أن الله لا يُرَى، قالوا: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام:103] يعني: لا تراه الأبصار.
وقد ذكر الشارح أن أهل السنة استدلوا بها على إثبات الرؤية لا على نفيها، وذلك لأن الإدراك هو الإحاطة، أي: لا تحيط به فإذا رأته الأبصار لا تحيط به، فالفرق بينهما واضح، فليست الرؤية هي الإدراك، فالإدراك شيء زائد على الرؤية.
ولهذا روي أن ابن عباس سئل عن هذه الآية فقال للسائل: ألستَ ترى القمر؟ قال: بلى.
قال: أكله -يعني: أتراه كله-؟ قال: لا.
قال: فذلك الإدراك.
يعني أنك ترى القمر ولكنك لا تراه كله، إنما ترى منه ما قابلك، فأنت -مثلاً- إذا رأيت جبلاً بعيداً رأيت منه ما قابلك ولم تره كله، فرؤيته كله أعلاه وأسفله والخفي منه والمقابل وغير المقابل يقال لها: الإدراك.
فإدراك البصر معناه: رؤية المرئي كله وعدم خفاء شيء منه، والله تعالى لعظمته ولجلاله ولكبريائه إذا رأته الأبصار فلا تحيط به ولا ترى إلَّا ما يتجلى منه لها، وينظر إليهم وينظرون إليه، ولكن لا يحيطون بذاته، إنما يدركون منه ما تجلى، ففرق واضح بين الرؤية والإدراك.
وقد أخبر الله تعالى عن قوم موسى أنه لا يُدرَكون فقال تعالى: {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ} [الشعراء:61] يعني: قوم فرعون وقوم موسى {قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء:61] أخبر بأنهم يتراءون، هؤلاء يرون هؤلاء وهؤلاء يرون هؤلاء، فما معنى (مُدرَكون) ؟ أي: محاطون.
أي: سوف يحيطون بنا ويلحقوننا ويحدقون بها، هذا معنى الإدراك، فنفى ذلك موسى وقال: (كَلَّا) أي: لا تخافوا فلن يدركوكم {إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء:62] ، وقد وعده الله بأنهم لا يُدرَكون في قول تعالى: {لا تَخَافُ دَرَكاً وَلا تَخْشَى} [طه:77] ، فلما وعده بأنهم لا يُدرَكون وثق بوعد ربه وأنه لا يدركهم شيء.
فالحاصل أن هذه الآية دليل واضح على إثبات أن الله تعالى يُرَى، وذكرها في مجال التمدُّح، فالآية يتمدح بها الرب.
وقد ذكرنا أن الله لا يتمدَّح إلا بما هو ثبوتي، ولا يتمدح بالنفي المحض، فكونه لا يُرَى ليس فيه مدح، فالنفي المحض عدم والعدم ليس بشيء، والمعدوم لا يُمدَح به، وإنما مدح الله تعالى نفسه بالنفي الذي تضمن ثبوتاً.
وعلى كل حال يعتقد المسلم أن هذه الآية دليل على إثبات الرؤية لا على نفيها، ففيها أن الأبصار إذا نظرت إلى ربها لا تدركه أي: لا تحيط به، كما قال تعالى: {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} [طه:110] .(19/12)
الأحاديث الدالة على الرؤية
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وأما الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الدالة على الرؤية فمتواترة، رواها أصحاب الصحاح والمسانيد والسنن.
فمنها: حديث أبي هريرة أن ناساً قالوا: (يا رسول الله! هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وهل تضارُّون في القمر ليلة البدر؟ قالوا: لا يا رسول الله.
قال: هل تضارون في الشمس ليس دونها سحاب؟ قالوا: لا.
قال: فإنكم ترونه كذلك) الحديث أخرجاه في الصحيحين بطوله.
وحديث أبي سعيد الخدري أيضاً في الصحيحين نظيره.
وحديث جرير بن عبد الله البجلي قال: (كنا جلوساً عند النبي صلى الله عليه وسلم فنظر إلى القمر ليلة أربع عشرة فقال: إنكم سترون ربكم عياناً كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته) الحديث أخرجاه في الصحيحين.
وحديث صهيب المتقدم رواه مسلم وغيره.
وحديث أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما، وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم تبارك وتعالى إلَّا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن) أخرجاه في الصحيحين.
ومن حديث عدي بن حاتم: (ولَيَلْقَينَّ اللهُ أحدَكم يوم يلقاه وليس بينه وبينه حجاب ولا ترجمان يترجم له، فيقول: ألم أبعث إليك رسولاً فيبلغك؟ فيقول: بلى يا رب.
فيقول: ألم أعطِك مالاً وأُفْضِل عليك؟ فيقول: بلى يا رب) أخرجه البخاري في صحيحه.
وقد روى أحاديثَ الرؤية نحوُ ثلاثين صحابياً، ومن أحاط بها معرفةً يقطع بأن الرسول قالها، ولولا أني التزمت الاختصار لسقتُ ما في الباب من الأحاديث] .
هذا الدليل أو النوع الثاني من الأدلة السمعية وهو الدلالة من السنة، أي: من الأحاديث النبوية.
ومعلوم أن السنة تفسر القرآن وتبيِّنه وتدل عليه وتعبر عنه، ومعلوم أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يقول إلا حقاً، وذلك أنه أعلم بربه، وأعلم بمن أرسله، فلا يصفه إلا بما هو حق وبما هو وحي ومطابق للحق.
فإذا جاءتنا الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم مشتملة على وصف أو شيء من صفات الله تقبلناها، وكيف لا نتقبلها وهي من معدن الرسالة من الرسول عليه الصلاة والسلام؟! فإنه الذي دل على ربه، والذي هدى الأمة إلى الله وبين لهم حقوقه عليهم، وكذلك بين لهم أنواع التوحيد، ومن جملة ما بينه لهم توحيد الأسماء والصفات، ومن جملة الصفات صفات الله سبحانه، ولا شك أن من أجلِّها كونه يُرَى وكونه يتجلى لعباده.
والأحاديث كثيرة -كما ذكر- رواها نحو ثلاثين صحابياً، فثلاثون من الصحابة رووا إثبات الرؤية في جملة أحاديث أغلبها صحيح، ومنها ما هو حسن، ومنها ما فيه ضعف ينجبر بغيره ويتقوى ببقية الأحاديث، ومن أراد الاطلاع عليها يجدها مكتوبة في كتاب ابن القيم الذي سماه (حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح) الكتاب الذي جعله في الجنة وصفتها ونعيمها، فإنه جعل من جملة أبوابه باب الرؤية وأن المؤمنين يرون ربهم، ونقلها أيضاً كذلك الشيخ حافظ الحكمي في كتابه (معارج القبول في شرح سلم الوصول) ، وسردها أيضاً كما سردها ابن القيم، وإن كان اختصر منها بعض الأسانيد وبعض الألفاظ.
وذكر أيضاً منها جملة كثيرة ابن القيم في كتابه الصواعق المرسلة، وذكرت أيضاً متفرقة في كتب الحديث وفي كتب التفسير واضحةً دلالتُها، ولكثرتها يُحكم بأنها متواترة، وإن لم تتواتر أفرادها فهي متواترة أعدادها، والمتواتر: هو ما نقله العدد الكثير الذين تحيل العادة تواطؤهم على الكذب عن مثلهم إلى منتهاه، ويكون مستند انتهائهم الحس.
أي: ما يُدرك بالحواس الخمس أو بأحدها.(19/13)
حديث جرير رضي الله عنه
وسرد الشارح بعضاً منها، وأوضحها حديث جرير، يقول صلى الله عليه وسلم: (إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر) وفي رواية: (كما ترون القمر ليلة البدر) ، والقمر ليلة البدر من أوضح ما يُرى، وفي بعض الروايات: (أنه نظر إلى القمر ليلة أربع عشرة وقال: إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته) أي: لا يلحقكم ضيم ولا ضرر.
أو لا تتضامُّون ينضم بعضكم إلى بعض، بل ترونه بأماكنكم ولو كنتم على وجه الأرض، ولو كنتم في أقطار البلاد ترونه كما يشاء أحدكم.
وفي بعض الروايات أنه قال: (فإن استطعتم ألَّا تُغْلَبوا على صلاةٍ قبل طلوع الشمس وصلاةٍ قبل غروبها فافعلوا) ، والمراد بهاتين الصلاتين الفجر والعصر، وخصهما بالمحافظة عليهما لأن الرؤية لخواص المؤمنين تكون بكرةً وعشياً، فقد ورد أن خواص المؤمنين في الجنة يرون ربهم في أول النهار وفي آخره، وأن عوامهم سيرونه في كل أسبوع في مثل يوم الجمعة، ويسمى يومُ الجمعة يومَ المزيد، حيث يزورون ربهم ويتجلى لهم، ويكون الذين يتقدمون إلى صلاة الجمعة هم أقرب وهم أولى بأن يقدَّموا، فيدل ذلك على فضل التقدم لصلاة الجمعة، وأن ذلك يكون أكثر ثواباً وأبقى وأقدم رؤية وأكثر نعيماً.(19/14)
حديث أبي هريرة وأبي سعيد رضي الله عنهما
ومن الأدلة حديث أبي هريرة وأبي سعيد وهو حديث طويل في الصحيحين فيه قوله صلى الله عليه وسلم: (هل تضارُّون في رؤية القمر ليلة البدر؟ قالوا: لا.
هل تضارُّون في رؤية الشمس ليس دونها سحاب؟ قالوا: لا.
قال: فإنكم ترونه كذلك) أي: ترون ربكم ولا تضارُّون في رؤيته.
يعني: لا تتوهمون ولا يكون هناك ريب ولا شك، بل ترونه عياناً رؤيةً واضحة، كما لا تتوهمون في رؤية الشمس ولا في رؤية القمر ليلة البدر.
والحديث في سياقه طولٌ سيما حديث أبي سعيد ساقه مسلم بطوله في كتاب الإيمان الذي في أول الجزء الثالث، وبيَّن الرؤية في الموقف والرؤية في القيامة، وكذلك حديث أبي هريرة.(19/15)
حديث أبي موسى رضي الله عنه
كذلك أيضاً من الأحاديث حديث أبي موسى وهو حديث صحيح، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (جنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما، وجنتان من فضة آنيتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلَّا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن) ، وقد ذكر الله الجنتين الأوليين في قوله تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن:46] ، وذكر الجنتين الأخريين بقوله: {وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ} [الرحمن:62] ، وزاد في هذا الحديث أنه ليس بينهم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء، وذلك دليل على أنه تعالى يكشف ذلك الرداء وذلك الحجاب ويتجلى لعباده متى شاء، فليس بينهم وبين النظر إليه إلا ذلك الرداء، وهذا دليل على أنه إذا شاء تجلى كما يشاء.
كذلك أيضاً تقدم حديث صهيب الذي في صحيح مسلم في قوله صلى الله عليه وسلم في تفسير الزيادة: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:26] أنها النظر إلى ربهم، وأنهم ما أُعطوا شيئاً ألذ عندهم من النظر إلى ربهم عندما يقول: سلوني.
فيقولون: نسألك رضاك ثم يسألونه أن يتجلى فيكشف الحجاب، فما أُعطوا شيئاً أفضل عندهم من النظر إلى ربهم، وهي الزيادة، أي: المذكورة في قوله: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:26] .
وإذا عرفنا أن هذه الأحاديث وأمثالها صحيحة قد نطق بها النبي صلى الله عليه وسلم وتلقاها أهل السنة بالقبول فليس لأولئك المعتزلة أن يردوها، ولكن اعتمدوا في ردهم على أنها أخبار آحادية، وكذبوا، فليست أخبار آحاد ما دام أنه تلقاها جمع غفير عن مثلهم، رواها جمع غفير من الصحابة ثم مثلهم من التابعين أو أضعافهم، وهكذا إلى أن دُوِّنت، فكيف تكون أخبار آحاد؟! ثم لو قدر أنها أخبار آحاد فإنها تفيد العلم ويُستدل بها على العقائد، وذلك لأنهم يعملون بها في الشرائع، فكذلك يلزمهم أن يعملوا بها في العقائد.(19/16)
سماع الأحاديث يورث اليقين برؤية الله تعالى
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ومن أراد الوقوف عليها فليواظب سماع الأحاديث النبوية؛ فإن فيها مع إثبات الرؤية وأنه يكلم من شاء إذا شاء، وأنه يأتي لفصل القضاء يوم القيامة، وأنه فوق العالم، وأنه يناديهم بصوت يسمعه مَن بَعُد كما يسمعه مَن قَرُب، وأنه يتجلى لعباده، وأنه يضحك، إلى غير ذلك من الصفات التي سماعُها على الجهمية بمنزلة الصواعق، وكيف تُعلم أصول دين الإسلام من غير كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم؟! وكيف يُفسر كتاب الله بغير ما فسره به رسوله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضوان الله عليهم الذين نزل القرآن بلغتهم؟! وقد قال صلى الله عليه وسلم: (من قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار) وفي رواية: (من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار) ، وسئل أبو بكر رضي الله عنه عن قوله تعالى: {وَفَاكِهَةً وَأَبّاً} [عبس:31] : ما الأبُّ؟ فقال: أي سماء تظلني، وأي أرض تقلني إذا قلت في كتاب الله ما لا أعلم!] .
يعني أن الأحاديث التي وردت في الرؤية موجودة في كتب أهل السنة في المؤلفات التي ألفوها في بيان سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فمن أرادها فليواظب على سماع تلك الأحاديث وتلك الكتب، فهي في صحيح البخاري في (كتاب التوحيد) وفي صحيح مسلم في (كتاب الإيمان) وفي سنن أبي داود في آخره (كتاب السنة) وهكذا في بقية كتب أهل السنة.
ولا شك أن الذي يقرؤها يجد فيها وصف الله تعالى بأنه يتجلى لعباده، وبأنه يكشف الحجاب، وبأنهم ينظرون إلى وجهه، وفيها: (حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه من انتهى إليه بصره من خلقه) .
وفيها سؤال النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (وأسألك لذة النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك، في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة) ، وأشباه ذلك.
يقول الشارح: سماع هذه الأحاديث التي فيها أن الله يخاطب العباد، وأنه يتجلى لهم كما يشاء، وأنه يضحك إلى عباده، وأنه يكلمهم إلخ، سماعها على الجهمية والمعتزلة بمنزلة الصواعق، لذا كانوا يتمنون أنهم يحكّون آيات الاستواء من القرآن، فكذلك أحاديث الصفات يتمنون أنها لم ترد، ولأجل ذلك ينفِّرون من قراءة الكتب التي فيها هذه الأحاديث، وينهون عن جمعها في مكان واحد حتى لا تكون حجةً عليهم، أو حتى لا ينخدع بها تلامذتهم إذا رأوها مجتمعة وصعُب عليهم تأويلها والتكلف في ردها.
ومع ذلك كله فإنهم لم يتوقفوا عن الخوض فيما ما لا علم لهم به، بل بالغوا في رد الأحاديث وفي رد الآيات، وتكلفوا في الكلام حولها بكلام لا يليق أن يقوله مسلم فضلاً عن عاقل.
يقول الشارح: إن كلامهم هذا يعتبر من القول على الله بلا علم الذي هو أعظم من الشرك، ويعتبر من التخرص في القرآن، والتخرص في القرآن أيضاً ضلال لهذا الحديث الذي سبق: (من قال في القرآن برأيه أو بما لا يعلم فليتبوأ مقعده من النار) .
ومن هذا تأويلهم للآيات، وقولهم على الله بلا علم، وتكلفهم في رد الآيات، وقولهم في القرآن بالرأي، فيقولون في القرآن برأيهم، كقولهم: إن قوله: {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:23] معناه: منتظرةً للثواب أو معناه: منتظرةً إلى نعم ربها.
وهذا قول على الله بلا علم، وهذا قول في القرآن بالرأي، فيكونون داخلين في هذا الحديث: (من قال في القرآن برأيه) .
والصحابة رضي الله عنهم مع كونهم أعلم بالقرآن، وهم الذين شاهدوا نزوله، كانوا إذا لم يعلم أحدهم نفس الآية وتفسيرها توقف دون أن يفصح ولو كان عندهم علم، فهذا أبو بكر الذي هو الخليفة الأول للرسول صلى الله عليه وسلم لما سئل عن هذه الآية: {وَفَاكِهَةً وَأَبّاً} [عبس:31] : ما هو الأبُّ؟ يقول: أي سماء تظلني، وأي أرض تقلني إذا أنا قلت في كتاب الله ما لا أعلم؟! أتريدون أن أتجرأ وأقول في كلام الله بغير علم؟! هذا لا يليق.
فهؤلاء الذين يتخبطون في القرآن ويتكلفون في رد الآيات يقول أحدهم: إن كلام موسى ليس سؤالاً في قوله: {رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ} [الأعراف:143] ، فلا يريد أن يرى ربه، وإنما يريد أن يوبخ قومه الذين قالوا: {أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً} [النساء:153] ، أو قالوا: {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} [البقرة:55] ، فهو يريد بذلك توبيخ قومه ومن قال هذا قبلكم يا معتزلة أو يا أتباع المعتزلة؟! هذا هو التخرص في كلام الله بغير علم.(19/17)
إزالة شبهة التشبيه عن أحاديث الرؤية
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وليس تشبيه رؤية الله تعالى برؤية الشمس والقمر تشبيهاً لله، بل هو تشبيه الرؤية بالرؤية، لا تشبيه المرئي بالمرئي، ولكن فيه دليل على علو الله على خلقه، وإلَّا فهل تعقل رؤيةٌ بلا مقابلة؟! ومن قال: يُرى لا في جهة فليراجع عقله، فإما أن يكون مكابراً لعقله وفي عقله شيء، وإلَّا فإذا قال: يُرى لا أمام الرائي ولا خلفه ولا عن يمينه ولا عن يساره ولا فوقه ولا تحته رد عليه كل من سمعه بفطرته السليمة.
ولهذا ألزم المعتزلة مَن نفى العلو بالذات بنفي الرؤية وقالوا: كيف تعقل رؤية بلا مقابلة بغير جهة، وإنما لم نره في الدنيا لعجز أبصارنا لا لامتناع الرؤية، فهذه الشمس إذا حدَّق الرائي البصر في شعاعها ضعُف عن رؤيتها، لا لامتناعٍ في ذات المرئي، بل لعجز الرائي، فإذا كان في الدار الآخرة أكمل الله قوى الآدميين حتى أطاقوا رؤيته، ولهذا لما تجلى الله للجبل خر موسى صعقاً، فلما أفاق قال: سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين، بأنه لا يراك حي إلا مات، ولا يابس إلا تدهده، ولهذا كان البشر يعجزون عن رؤية الملَك في صورته إلا من أيده الله، كما أيد نبينا صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {وَقَالُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً لَقُضِيَ الأَمْرُ} [الأنعام:8] قال غير واحد من السلف: لا يطيقون أن يروا الملَك في صورته، فلو أنزلنا عليهم ملكاً لجعلناه في صورة بشر، وحينئذ يشتبه عليهم هل هو بشر أو ملَك، ومن تمام نعمة الله علينا أن بعث فينا رسولاً منا.
وما ألزمهم المعتزلة هذا الإلزام إلا لَمَّا وافقوهم على أنه لا داخل العالم ولا خارجه، لكن قول من أثبت موجوداً يُرى لا في جهة أقرب إلى العقل من قول من أثبت موجوداً قائماً بنفسه لا يُرى ولا في جهة] .
لا شك أن أقوال أولئك المعتزلة وكذلك غيرهم ممن نفى الرؤية أو أثبت رؤيةً غير حقيقية أنها أقوال مضطربة يردها كل عاقل.
وقد عرفنا أن المعتزلة ينكرون الرؤية، وهم لا يزالون موجودين، ينكرون الرؤية أصلاً، وأن طائفة الأشاعرة يثبتون الرؤية، ولكن لا يثبتون العلو ولا يثبوت الجهة، وينفون أن يكون الله تعالى فوق العالم، وينفون أن يكون الله فوق عرشه وفوق سماواته بائناً من خلقه، فيقولون: إنه يُرى لا في جهة، هذا قول الأشعرية، وحقيقة قولهم أن الرؤية مكاشفات قلبية ليست بصرية، فالرؤية عندهم مكاشفات قلبية وأنوار تسطع للقلب، لا أنهم ينظرون بأعينهم وبأبصارهم إلى ربهم، ويقولون: إن هذا يستلزم الرؤية التي هي المقابلة.
فرد عليهم الشارح ومن قبله بأن هذا قول باطل، وأن من قال: إن الله يُرى لا في جهة فليراجع عقله؛ لأن المرئي لا بد أن يكون في جهة، وإن لم تكن تلك الجهة تحصره فالله تعالى يتجلى لعباده من فوقهم، فينظرون إليه، ولكن لا يدل على أنه محصور في جانب أو في جهة أو في حيز -تعالى الله-، بل يرونه كما يشاء.
هذا هو القول الصحيح.
فقول هؤلاء المعتزلة ومثلهم الأشعرية الذين قالوا بهذه المقالة لا شك أن قولهم يستعبده العقل، وأنه قول على الله تعالى بلا علم.
والواجب أن المسلم إذا جاءته الأدلة يقبلها ويتقبلها، ويعرف أحقيتها وصحتها، ويؤمن بأنها كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، وأن الله أخبر بنفسه، وأن رسله أعلم بما يجوز على ربهم، وقد أخبروا بذلك، فليس لأحد أن يرد بعض خبرهم ويقبل بعضه، فيكون من الذين قال الله فيهم: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} [البقرة:85] ، بل إذا قبل ما يتعلق بالأعمال يقبل ما يتعلق بالعقائد من الأمور الأخروية والأمور الغيبية؛ حتى يكون بذلك سليم الفطرة وصحيح المعتقد مؤمناً بما جاء عن الله على مراد الله، كما نقل عن الإمام الشافعي رحمه الله أنه قال: آمنتُ بالله وبما جاء عن الله على مراد الله، وآمنت برسول الله وبما جاء عن رسول الله على مراد رسول الله.(19/18)
شرح العقيدة الطحاوية [20]
خاض كثير من أهل الإسلام في علم الكلام، فأخطئوا طريقة النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يستفيدوا من ذلك سوى ضياع الأوقات وكثرة الأوهام، وقد رجع كثير منهم عن ذلك في آخر حياته وكان يحذر من الوقوع فيما وقع فيه، فأحسن الله خاتمتهم بحسن نياتهم.(20/1)
التداوي بالقرآن لا بالفلسفة وكلام اليونان
سبق الكلام حول النهي عن علم الكلام الذي اشتغل به المتكلمون، ومنه قول الشافعي رحمه الله: حكمي في أهل الكلام أن يُضربوا بالجريد والنعال، وأن يُطاف بهم في العشائر والقبائل، يقال: هذا جزاء من ترك كتاب الله وأقبل على الكلام.
وذلك أيضاً قبل أن يشتهر علم الكلام، وقبل أن يتولد فيه ما تولَّد.
وقد مرَّ بنا ما تكلم فيه بعض العلماء وبيَّنوا أضراره ومفاسده، وأنه مبني على الجدل، وأن أكثر ما فيه كلمات مولَّدة مفروضة لا أهمية لها ولا حقيقة لها، كلٌّ مِن أهلها يدلي بشبهة ثم ينقضها الثاني بمثلها أو بأقوى منها، وهكذا فلا تثبت لأنها حجة كلامية.
وقد وضعوا في ذلك كتباً موسعة، ومن أوسعها كتابٌ للقاضي عبد الجبار المعتزلي اسمه (المغني) طُبع طبعةً جديدة في أربعة عشر مجلداً كله كلام وكله جدل، وكله توليدات لتلك الشبه التي هي شبه المعتزلة التي اعتمدوها في نفي الصفات، ووسعوا بها دائرة الكلام وشغلوا بها أوقات الناس وأضاعوا بها فراغهم، ونهايتهم عدم المعرفة، فلا يثبتون على حجة ثابتة مستمرة.
فلذلك ينهى علماء الإسلام عن قراءة كتبهم، فـ ابن القيم عندما ذكر بعض كتبهم قال: فانظر ترى لكن نرى لك تركها حذراً عليك مصائد الشيطانِ يقول: نختار لك تركها، فكتبهم متهافتة، وكتب أهل الكلام ينقض بعضُها بعضاً، وإن أردت فانظر إليها، ولكنا ننصحك ألَّا تقرأها وألَّا تقرب منها حذراً عليك أن تتبع وأن يقع لقلبك شيء من الزيغ، أو تعلق بقلبك شبهة من تلك الشبهات، فيصعب عليك بعد ذلك التخلص منها.
هذا خلاصة الكلام في النهي عن هذا الجدل عن تلك الخصومات التي يتنازع أهلها، فيثبت قومٌ شبهةً وينفيها آخرون ويبطلونها، بل الشخص الواحد يثبت شيئاً ثم ينتقض وينفيه، بل يعترضون عليه باعتراضات وبتوليدات يتضح منها أنه لا حقيقة لما يقولونه ولما يعتقدونه.
ويأتينا بقية الكلام حول هذا.(20/2)
ما ورد عن أهل الكلام يعرض على النص
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ومن المحال ألَّا يحصل الشفاء والهدى والعلم واليقين من كتاب الله وكلام رسوله ويحصل من كلام هؤلاء المتحيِّرين، بل الواجب أن يجعل ما قاله الله ورسوله هو الأصل، ويتدبر معناه ويعقله، ويعرف برهانه ودليله إما العقلي وإما الخبري السمعي، ويعرف دلالته على هذا وهذا، ويجعل أقوال الناس التي توافقه وتخالفه متشابهةً مجملة، فيقال لأصحابها: هذه الألفاظ تحتمل كذا وكذا، فإن أرادوا بها ما يوافق خبر الرسول قُبِل، وإن أرادوا بها ما يخالفه رُدَّ، وهذا مثل لفظ المركب والجسم والمتحيز والجوهر والجهة والحيز والعَرَض ونحو ذلك.
إن هذه الألفاظ لم تأتِ في الكتاب والسنة بالمعنى الذي يريد أهل هذا الاصطلاح بل ولا في اللغة، بل هم يختصون بالتعبير بها عن معانٍ لم يعبر غيرهم عنها بها، فتُفَسَّر تلك المعاني بعبارات أخر، ويُنظر ما دل عليه القرآن من الأدلة العقلية والسمعية، وإذا وقع الاستفسار والتفصيل تبين الحق من الباطل.
مثال ذلك في التركيب، فقد صار له معانٍ: أحدها: التركيب من متباينين فأكثر، ويسمى تركيب مزج، كتركيب الحيوان من الطبائع الأربع والأعضاء ونحو ذلك، وهذا المعنى منفي عن الله سبحانه وتعالى، ولا يلزم من وصف الله تعالى بالعلو ونحوه من صفات الكمال أن يكون مركباً بهذا المعنى المذكور.
الثاني: تركيب الجوار، كمصراعي الباب ونحو ذلك، ولا يلزم أيضاً من ثبوت صفاته تعالى إثبات هذا التركيب.
الثالث: التركيب من الأجزاء المتماثلة، وتسمى الجواهر المفردة.
الرابع: التركيب من الهيولى والصورة، كالخاتم مثلاً هيولاه الفضة وصورته معروفة، وأهل الكلام قالوا: إن الجسم يكون مركباً من الجواهر المفردة، ولهم كلام في ذلك يطول ولا فائدة فيه، وهو أنه هل يمكن التركيب من جزئين، أو من أربعة، أو من ستة، أو من ثمانية، أو ستة عشر؟ وليس هذا التركيب لازماً لثبوت صفاته تعالى وعلوه على خلقه، والحق أن الجسم غير مركب من هذه الأشياء، وإنما قولهم مجرد دعوى، وهذا مبسوط في موضعه.
الخامس: التركيب من الذات والصفات، هذا سمَّوه تركيباً لينفوا به صفات الرب تعالى، وهذا اصطلاح منهم لا يُعرف في اللغة ولا في استعمال الشارع، فلسنا نوافقهم على هذه التسمية ولا كرامة، ولئن سموا إثبات الصفات تركيباً فنقول لهم: العبرة للمعاني لا للألفاظ، سمُّوه بما شئتم، فلا يترتب على التسمية بدون المعنى حكم، فلو اصطُلح على تسمية اللبن خمراً لم يحرم بهذه التسمية.
السادس: التركيب من الماهية ووجودها، وهذا يفرضه الذهن أنهما غيران، وأما في الخارج هل يمكن ذات مجردة عن وجودها ووجودها مجرد عنها، هذا محال! فترى أهل الكلام يقولون: هل ذات الرب وجوده أم غير وجوده؟ ولهم في ذلك خبط كثير، وأمثلهم طريقةً رأي الوقف والشك في ذلك، وكم زال بالاستفسار والتفصيل كثير من الأضاليل والأباطيل] .
قد علمنا أن الشرع الشريف كامل في جميع ما يحتاج إليه البشر، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد بيَّن للأمة ما تحتاج إليه، وبالأخص ما يقولونه بألسنتهم وما يعتقدونه بقلوبهم في صفات ربهم، ولا يليق أنه علمهم الفروع وترك الأصول، بل الأصول أولى بالتعليم، فعلمهم الأصول التي هي العقائد ما يقولونه في ربهم بألسنتهم وما يعتقدونه بقلوبهم قبل أن يعلمهم الأوامر والنواهي ونحو ذلك، وذلك لأن العقيدة سبب الأعمال، والذي لا تكون معه عقيدة لا ينبعث جسمه بالعمل، فإذا رسخت العقيدة التي هي معرفة الرب سبحانه ومعرفة عظمته وكبريائه وجلاله في القلب أورثت أعمالاً، وأورثت الخوف منه ورجاءه ومحبته والخضوع والخشوع له والإخبات والإنابة والتوبة والرجوع إليه، وأورثت تعظيمه وتأليهه ودعاءه وعبادته.
فإذا انتفت هذه المعرفة من القلب انتفت العبادة، ونحن نعرف أن الصحابة رضي الله عنهم وتابعيهم بإحسان أكثر الناس أعمالاً وأتمهم خشوعاً وأتمهم تذللاً، فما الذي حملهم على ذلك؟ أليس هو قوة المعرفة؟ أليس هو قوة العقيدة؟ أليست العقيدة رسخت في قلوبهم وهي معرفة ربهم؟ إذاً فنحن نحث المسلم على أن يقوي عقيدته، فنقول قوِّ عقيدتك، وتعلم ما ترسخ به عقيدتُك في قلبك، وقوِّ العقيدة التي هي معرفة الله ومعرفة عظمته ومعرفة جلاله وكبريائه، واحرص على ترسيخ هذه العقيدة في قلوب أولادك وفي قلوب إخوتك وفي قلوب المسلمين؛ فإنها متى رسخت أثمرت، وآتت أكلها وأثمرت العبادات الكثيرة التي هي فعل الصالحات وترك المحرمات.(20/3)
السلامة في اتباع طريقة الرسل عليهم السلام وأتباعهم
ولو كان علم الكلام وتفاصيله من الشريعة ما أهملته الرسل، بل لعلمته الرسل لأممها، ونحن لم يُنقل لنا عن نبينا شيء من ذلك، ما نُقل عنه أنه خاض بأصحابه في هذا العلم الذي هو الجدل والخصومات والمنازعات ونحوها، ونعلم أنه ما تكلم فيها، بل كلامه في معرفة الله وفي عظمته وفي صفاته، وكلامه في أحكامه وأوامره ونواهيه وما إلى ذلك؛ هذا هو الذي بلغه لأمته، وبلغته أمته بعضها لبعض.
يقول بعض السلف: أنا أحلف لو حُلِّفتُ أن أبا بكر وعمر وعثمان وغيرهم من الصحابة ماتوا ولم يتكلموا في لفظ التركيبب ولا الحيز ولا الجهة ولا الجوهر ولا العَرَض بالمعنى الذي أراده المتكلمون.
وإذا لم يتكلم فيها هؤلاء الصحابة فلا خير فيها.
وقد ثبت أن بعض المتكلمين وهو ابن أبي دؤاد الذي زين للخلفاء أن يمتحنوا الناس في علم الكلام، ومنه القول بخلق القرآن.
جاءه أحد العلماء فقال له: أخبرنا عن هذا الذي تدعو الناس إليه، هل علمه نبي الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي أو ما علموه؟ فإذا قلتَ ما علموه قلنا: كيف تعلم شيئاً ولا يعلمونه؟ أأنت أعلم من الرسول؟ أأنت أعلم من الخلفاء الراشدين؟ حاشا وكلا، لا تكون أعلم منهم.
وإذا قلت: بل يعلمونه فهلَّا وسعك ما وسعهم، فهل دعوا إليه؟ وهل نشروه؟ وهل علَّموه الناس؟ وهل ألزموهم باعتقاده؟ وإذا لم يفعلوا فاتبعهم، ولا تنشره ولا تظهره، فإذا كان لك عقيدة فاكتمها في نفسك ولا تلزم غيرك بأن يعتقدها، فلماذا لا يسعك ما وسعهم؟ لا وسع الله على من لم يسعه ما وسع رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفاءه الراشدين وصحابته والتابعين وأئمة الدين.(20/4)
مثال التركيب وبعده
وسبق من أمثلة ما تكلم به المتكلمون كلامهم في التركيب وفي العَرَض وفي الجوهر وفي الحيز وفي الجهة وفي الأبعاض وفي الأعضاء ونحو ذلك، فيقولون: إن الله منزه عن التركيب، ومنزه عن الجسم، وعن الجوهر، وعن العَرَض، وعن البعض، وعن الجهة، وعن الحيز وما أشبه ذلك.
فيقولون: ننزه الله تعالى عن ذلك، ثم يشرحون هذه الكلمات ويتوسعون فيها، وسبق ما نقله عنهم الشارح في معنى التركيب.
ولا شك أن هذه الكلمة بدعية لم يتكلم بها السلف، واصطلاحاتهم هذه حيث جعلوا لها ستة معانٍ كما سمعنا، آخرها قولهم: التركيب هو التركيب من الصفات والذات، وأرادوا أن الله تعالى ليس له صفات، قيل: إذا إن الله ليس بمركب.
وقد بين العلماء رحمهم الله أن إثبات الصفات لله إثبات وجود لا إثبات تحديد، كما أن إثبات الذات إثبات وجود لا إثبات تحديد، ولا إثبات تكييف، وذلك لعجز البشر وقصورهم عن أن يصلوا بمعارفهم إلى تحديد الصفات وإلى تكييفها، وقد ذكروا أن علم الصفات ملحق بعلم الذات يحذو حذوه ويسير على مثاله، فإذا كنا نثبت لله تعالى ذاتاً ولا نكيفها فهكذا نثبت له صفاتاً ولا نكيفها.
وكثير من السلف يقولون في الصفات: أمِرُّوها كما جاءت بلا كيف.
وفي الأثر المشهور عن مالك بن أنس رحمه الله قوله: الاستواء معلوم، والكيف مجهول.
وفي أثر عن شيخه ربيعة قال: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول.
يعني: لا تصله العقول، له كيفية ولكنها محجوبة عنا، فنؤمن به ونتوقف عن تلك الكيفية.
وإذا سأل سائل وقال: ما كيفية الاستواء؟ قلنا: الكيف مجهول.
فإثبات الصفات إثبات وجود لا إثبات تكييف ولا إثبات تمثيل.
فهؤلاء الذين يقولون: إن الله تعالى غير مركب ثم يريدون بالتركيب التركيب من الصفات والذات يريدون بذلك نفي الصفات.
فيقال لهم: أنتم تثبتون الذات، فهل لها كيفية؟ فإذا قالوا: لا يعلم كيفية الذات إلا الله.
قلنا: كذلك الصفات لا يعلم كيفيتها إلا الله تعالى.
فالحاصل: أن كلامهم في التركيب وأنه الأقسام الستة التي سبقت لا يحتاج إلى البحث فيه، بل هو من علم الكلام، إنما أورده الشارح ليبين تهافتهم، وليبين أنهم خاضوا في شيء لا فائدة فيه ولا حاصل له.
وهذه التركيبات للأقسام الستة القصد منها هو القسم السادس كما سمعنا، وفي الأقسام الأولى من جملة ما ولَّدوه أن قالوا: التركيب من الأعضاء، والتركيب من الصورة والهيولي، ونحو ذلك، قالوا ذلك بالتتبُّع أو بعلم الكلام الذي ولَّدوه.
فنقول: لا يجوز الخوض في مثل هذا، بل يقال: الله منزه عن النقائص وموصوف بصفات الكمال.(20/5)
سبب الضلال واعترافات أهل الكلام
قال رحمه الله تعالى: [وسبب الضلال: الإعراض عن تدبر كلام الله وكلام رسوله، والاشتغال بكلام اليونان والآراء المختلفة، وإنما سمي هؤلاء أهل الكلام لأنهم لم يفيدوا علماً لم يكن معروفاً، وإنما أتوا بزيادة كلام قد لا يفيد، وهو ما يضربونه من القياس لإيضاح ما عُلِم بالحس، وإن كان هذا القياس وأمثاله يُنتفع به في موضع آخر ومع من ينكر الحس، وكل من قال برأيه أو ذوقه أو سياسته مع وجود النص أو عارض النص بالمعقول فقد ضاهى إبليس حيث لم يسلم لأمر ربه، بل قل: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف:12] .
وقال تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً} [النساء:80] .
وقال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران:31] .
وقال: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:65] أقسم سبحانه بنفسه أنهم لا يؤمنون حتى يحكموا نبيه ويرضوا بحكمه ويسلموا تسليماً.
قوله: (فيتذبذب بين الكفر والإيمان، والتصديق والتكذيب، والإقرار والإنكار، مُوَسوِساً تائهاً شاكَّاً زائغاً، لا مؤمناً مصدقاً ولا جاحداً مكذباً) .
يتذبذب: يضطرب ويتردد، وهذه الحالة التي وصفها الشيخ رحمه الله حال كل من عدل عن الكتاب والسنة إلى علم الكلام المذموم أو أراد أن يجمع بينه وبين الكتاب والسنة، وعند التعارض يتأول النص ويرده إلى الرأي والآراء المختلفة، أمره إلى الحيرة والضلال والشك، كما قال ابن رشد الحفيد -وهو من أعلم الناس بمذهب الفلاسفة ومقالاتهم- في كتابه تهافت التهافت: ومن الذي قال في الإلهيات شيئاً يعتد به؟! وكذلك الآمدي أفضل أهل زمانه واقفٌ في المسائل الكبار حائر، وكذلك الغزالي رحمه الله انتهى آخر أمره إلى الوقف والحيرة في المسائل الكلامية، ثم أعرض عن تلك الطرق وأقبل على أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم فمات و (البخاري) على صدره، وكذلك أبو عبد الله محمد بن عمر الرازي قال في كتابه الذي صنفه في أقسام اللذات: نهاية إقدام العقول عقال وغاية سعي العالمين ضلال وأرواحنا في وحشة من جسومنا وحاصل دنيانا أذىً ووبال ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا فكم قد رأينا من رجال ودولة فبادوا جميعاً مسرعين وزالوا وكم من جبال قد علت شرفاتها رجالٌ فزالوا والجبال جبال لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية فما رأيتها تشفي عليلاً ولا تروي غليلاً، ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن.
أقرأ في الإثبات: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] ، {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} [فاطر:10] .
وأقرأ في النفي: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] ، {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} [طه:110] .
ثم قال: ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي] .
أورد هذا الكلام ليبين أن هؤلاء نهايتهم الحيرة والتذبذب، وذلك لأنهم ليسوا على عقيدة راسخة، فكلامهم الذي يولدونه سبب الشك؛ لأنه لا يأتي ببرهان، بل بعضه يرد بعضاً، ويكذب بعضه بعضاً، فيأتي أحدهم بمسائل جدلية ويجمعها في مؤلفاته، ثم يأتي آخر أشد جدلاً منه فينقضها واحدة واحدة، فلا يبقى معه شيء، فيقول: كما أنك تولِّد كذا فأنا أولِّد مثله.
وقد تعلمها كثير من العلماء ليردُّوا عليها، ومن جملة من عرفها وأتقنها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، فإنه درس علومهم وإن لم يصرف فيها وقتاً، ولكن ما أعطيه من الذكاء ومن الفطنة ومن قوة الذاكرة كان سبباً في كونه يفهمها بمجرد ما يقرؤها، فناقش كتبهم ورد عليها رداً متقناً.
وتجد في أول كتابه الرد على الشيعة الرافضة الذي سمي (منهاج السنة) ويكاد يكون ثلثه في مناقشة المتكلمين فيما يتعلق بالصفات وبنفيها ونحو ذلك.
وهكذا كتابه الذي يسمى بالعقل والنقل أو يعرف بـ (درء تعارض العقل والنقل) مطبوع أيضاً في عشر مجلدات، وهو أيضاً مناقشة لهم في تلك الشبهات وبيان ما وقعوا فيه من التناقضات.
وهكذا أيضاً كتابه الذي يسمى بـ (نقض التأسيس) و (التأسيس) كتاب لأحد المتكلمين، وهو للرازي صاحب هذه الأبيات، اسمه (تأسيس التقديس) رد عليه وإن لم يرد عليه كله، أو لم يوجد رده كله كاملاً وطبع الموجود منه، فناقشه كأنه درس كلامهم وتوغل فيه.
وكل ذلك ليعرف المسلمون أنهم لا يثبتون على حالة، بل نهايتهم الحيرة ونهايتهم التذبذب، كما سبق عن أولئك منهم.
فهذا ابن رشد -ويسمى الحفيد - له كتاب في الانتصار للفلاسفة، وذلك لأن الغزالي صنف كتاباً سماه (تهافت الفلاسفة) ولما صنفه رد عليه ابن رشد انتصاراً لهم، وسمى رده (تهافت التهافت) انتصاراً للفلاسفة ورداً على الغزالي.
وقد سبق أن نقل الشارح بعض كلام الغزالي من كتابه إحياء علوم الدين.
فالحاصل: أن الغزالي يبين أنهم ليسوا على عقيدة راسخة، بل إنهم متهافتون مضطربون متذبذبون، ولا عبرة بمن انتصر لهم من أضرابهم؛ فإن ابن رشد فيلسوف.
فالحاصل أن هذا المؤلف لم يكن على عقيدة راسخة، بل ينقل عنهم أنهم متذبذبون، وأنهم مهما وصلوا إليه من المعرفة لا يثبتون أيضاً على طريقة.
وثانيهم أبو الحسن الآمدي صاحب كتاب (الإحكام في أصول الأحكام) من علماء المتكلمين، ولكن من الذين تكلموا في هذا العلم وتكلموا أيضاً في العلوم الأخرى كأصول الفقه، ومع ذلك فهو قد اعترف أنهم في الحيرة والشك والاضطراب.
وثالثهم الغزالي صاحب الإحياء، يقولون: إن الإحياء من خير كتبه.
وإن كان فيه شيء من البدع، فـ (إحياء علوم الدين) من أحكم كتبه، ولكنه لم يكن من المحدِّثين، فحشد فيه أحاديث موضوعة لا أصل لها، وإن كان جاء فيه بأفكار وبفوائد مهمة، وهو كان في أول أمره مشتغلاً بعلم الكلام ومشتغلاً بالجدل ومشتغلاً بعلم الفكر وما أشبه ذلك، ولأجل ذلك قدم في أول كتابه (المستصفى) مقدمة في المنطق، وفي آخر حياته ندم على أنه أضاع حياته في شيء لا فائدة فيه، فأقبل على الحديث وجعل يقرؤه فوافاه الأجل و (البخاري) على صدره، كأنه يقول: ندمتُ على إعراضي عن كتب الحديث فأنا الآن أشتغل بها في آخر حياتي.
ولعله خُتم له بخاتمة حسنة.
رابعهم: أبو عبد الله الرازي صاحب التفسير الكبير الذي هو أكبر التفاسير الموجودة لهذا العالم الكبير أبي عبد الله، ويسمى (فخر الدين الرازي) ، وصنف كتاباً له وسماه: (أقسام اللذات) وجاء فيه بهذه الأبيات، وكأنه ينتقد أكثر عمله، فحياته ذهبت في شيء لا فائدة فيه من علم الجدل.
رُوي أنه مرةً كان يمشي في طريق وخلفه تلاميذ له أكثر من مائة أو مائتين، فمروا على عجوز فاستغربته وقالت: من هذا؟ قالوا: هذا أبو عبد الله الرازي العالم الجليل يحفظ ألف دليل على وجود الله تعالى.
قالت العجوز: أفي الله شك.
عجوز على فطرتها تقول: هذا الذي حرص على جمع هذه الأدلة في قلبه شك، وفي قلبه توقف، فلا يحرص على تتبعها إلا من هو في حيرة أو في شك، فهو يقول في الأبيات التي سبق ذكرها: نهاية إقدام العقول عقال وغاية سعي العالمين ضلال فـ (إقدامهم) : تقدمهم.
يعني: نهايته هذا الأمر.
وسعيهم يعني: عملهم، أكثره ضلال.
ثم يقول في أثنائها: ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا أي: ما استفدنا من جمعنا ومن تأليفاتنا إلا قال فلان، وقيل كذا، وقالوا كذا، فهذه فائدتنا.
ثم يقول بعد هذه الأبيات: لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية.
يعني: طرق أهل الكلام ومناهج الفلاسفة.
يقول عنها: فما تروي غليلاً -الغليل: الظمآن- ولا تشفي عليلاً يعني: مريضاً.
ثم يقول: ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن، أقرأ في الإثبات: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] ، {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} [فاطر:10] .
وأقرأ في النفي: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] ، {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} [طه:110] ، ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي.
فهذا كلامه في هذا الكتاب (أقسام اللذات) ، أليس ذلك دليلاً على أنه اعترف على نفسه وعلى بني جنسه أن سعيهم ضلال وأنهم في حيرة وأن عملهم تافه؟! إذاً نقول: هذه نهايتهم، أما أهل العقيدة الراسخة التي هي معرفة الله بصفاته وتفويض كيفيتها فهؤلاء -والحمد لله- لم يقعوا في شيء من هذا التزلزل.(20/6)
قصص أخرى عن أهل الكلام
قال رحمه الله تعالى: [وكذلك قال الشيخ أبو عبد الله محمد بن عبد الكريم الشهرستاني: إنه لم يَرِد عن الفلاسفة والمتكلمين إلا الحيرة والندم، حيث قال: لَعَمري لقد طفت المعاهد كلها وسيرت طرفي بين تلك المعالم فلم أر إلا واضعاً كف حائر على ذقن أو قارعاً سن نادم وكذلك قال أبو المعالي الجويني -رحمه الله-: يا أصحابنا! لا تشتغلوا بالكلام، فلو عرفتُ أن الكلام يبلغ بي إلى ما بلغ ما اشتغلت به.
وقال عند موته: لقد خضت البحر الخضم وخليت أهل الإسلام وعلومهم ودخلت في الذي نهوني عنه، والآن فإن لم يتداركني ربي برحمته فالويل لـ ابن الجويني، وهأنذا أموت على عقيدة أمي أو قال: على عقيدة عجائز نيسابور.
وكذلك قال شمس الدين الخسروشاهي -وكان من أجل تلامذة فخر الدين الرازي - لبعض الفضلاء وقد دخل عليه يوماً فقال: ما تعتقد؟ قال: ما يعتقده المسلمون.
فقال: وأنت منشرح الصدر لذلك مستيقن به -أو كما قال-؟ فقال: نعم.
فقال: اشكر الله على هذه النعمة، لكني والله ما أدري ما أعتقد، والله ما أدري ما أعتقد، والله ما أدري ما أعتقد، وبكى حتى أخضل لحيته.
ولـ ابن أبي الحديد الفاضل المشهور بالعراق: فيك يا أغلوطة الفكر حار أمري وانقضى عمري سافرَت فيك العقول فما ربحت إلا أذى السفر فلَحَى الله الأُلى زعموا أنك المعروف بالنظر كذبوا إن الذي ذكروا خارج عن قوة البشر وقال الخونجي عند موته: ما عرفت مما حصلته شيئاً سوى أن الممكن يفتقر إلى المرجِّح ثم قال: الافتقار وصف سلبي، أموت وما عرفت شيئاً.
وقال آخر: أضطجع على فراشي وأضع الملحفة على وجهي وأقابل بين حجج هؤلاء وهؤلاء حتى يطلع الفجر ولم يترجح عندي منها شيء.
ومن يصل إلى مثل هذه الحال إن لم يتداركه الله برحمته وإلا تزندق، كما قال أبو يوسف -رحمه الله-: من طلب الدين بالكلام تزندق، ومن طلب المال بالكيمياء أفلس، ومن طلب غريب الحديث كذب.
وقال الشافعي رحمه الله تعالى: حكمي في أهل الكلام أن يُضرَبوا بالجريد والنعال ويطاف بهم في القبائل والعشائر ويقال: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأقبل على الكلام.
وقال: لقد اطلعت من أهل الكلام على شيء ما ظننت مسلماً يقوله، ولَأَن يُبتلى العبد بكل ما نهى الله عنه -ما خلا الشرك بالله- خير له من أن يبتلى بالكلام.
انتهى وتجد أحد هؤلاء عند الموت يرجع إلى مذهب العجائز، فيقر بما أقروا به، ويعرض عن تلك الدقائق المخالفة لذلك التي كان يقطع بها ثم تبين له فسادها أو لم يتبين له صحتها، فيكونون في نهاياتهم -إذا سلموا من العذاب- بمنزلة أتباع أهل العلم من الصبيان والنساء والأعراب.
والدواء النافع لمثل هذا المرض ما كان طبيب القلوب صلوات الله عليه وسلامه يقوله إذا قام من الليل يفتتح صلاته: (اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون! اهدني لما اختُلِف فيه من الحق بإذنك؛ إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم) خرَّجه مسلم.
توسل صلى الله عليه وسلم إلى ربه بربوبيته جبريل وميكائيل وإسرافيل أن يهديه لما اختُلِف فيه من الحق بإذنه؛ إذ حياة القلب بالهداية، وقد وكل الله سبحانه هؤلاء الثلاثة بالحياة، فجبريل موكل بالوحي الذي هو سبب حياة القلوب، وميكائيل بالقطر الذي هو سبب حياة الأبدان وسائر الحيوان، وإسرافيل بالنفخ في الصور الذي هو سبب حياة العالم وعود الأرواح إلى أجسادها، فالتوسل إلى الله سبحانه بربوبيته هذه الأرواح العظيمة المُوْكَلة بالحياة له تأثير عظيم في حصول المطلوب، والله المستعان] .
ذكر أولاً بقية كلام هؤلاء الذين عُرف عنهم الحيرة، منهم الشهرستاني صاحب الملل والنحل.
ومنهم: الجويني صاحب (الإرشاد) ، ويسمى (إمام الحرمين) له أيضاً مؤلفات، وكلامه في (الإرشاد) دليل على أنه متوغل في علم الكلام، وعرفنا ما تكلم به هنا.
ومنهم هذا العالم المشهور الذي يسمى: (الخسروشاهي) الذي يحلف -كما ذكر الشارح- أنه لا يدري ما يعتقد، ويغبط العامة بعقيدتهم.
هذه الكلمات المنقولة عنهم وكذلك عن غيرهم لا شك أنها دليل واضح على أن هذا النوع من علم الكلام نهايته الحيرة وأنهم لا يثبتون على طريقة، بل حجج هؤلاء ترد حجج هؤلاء.
ذكر أحدهم -كما سبق- أنه يبيت الليلة من أولها إلى آخرها وهو يقابل حجة هؤلاء بحجة هؤلاء، ويصبح وما ترجح عنده منها واحدة، أي فائدة من العلم بها؟! وأي فائدة من معرفتها؟! إذاً أسلم الطرق البُعد عن هذه الطريقة التي هي علم الكلام، وهجر أهله والبُعد عنهم، بل عقوبتهم بما قال الشافعي رحمه الله.(20/7)
علاج القلوب عند الاختلاف
والعلاج مثل ما في هذا الحديث، وهو قوله صلى الله عليه وسلم في توسله بالله رب الموكلين من الملائكة بالحياة: (اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون! اهدني لما اختُلِف فيه من الحق بإذنك؛ إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم) .
كأنك ترغب إلى الله وتقول: اختلفوا فهؤلاء يقولون، وهؤلاء يقولون، وأنا لا أدري مع من الحق، فإذا هديتني ووفقتني ودللتني على الصواب فإنني أنا المهتدي، وأنت الذي تهدي من تشاء وتضل من تشاء.
إذا رغب العبد وتوسل بربوبيته تعالى هؤلاء الملائكة فإن الله تعالى يقبل دعاءه ويجيبه لما طلب، ويصرفه عن المحظورات وعن أضرارها وشرورها.(20/8)
لزوم الإيمان برؤية الله تعالى دون توهم أو تأويل
قال المؤلف رحمه الله تعالى [قوله: (ولا يصح الإيمان بالرؤية لأهل دار السلام لمن اعتبرها منهم بوهم أو تأوَّلها بفهم؛ إذ كان تأويل الرؤية وتأويل كل معنى يضاف إلى الربوبية ترك التأويل ولزوم التسليم، وعليه دين المسلمين، ومن لم يتوق النفي والتشبيه زل ولم يصب التنزيه) .
يشير الشيخ رحمه الله إلى الرد على المعتزلة ومن يقول بقولهم في نفي الرؤية، وعلى من يشبه الله بشيء من مخلوقاته، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنكم ترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر) الحديث، أدخل (كاف التشبيه) على (ما) المصدرية أو الموصولة بـ (ترون) التي تؤول مع صلتها إلى المصدر الذي هو الرؤية، فيكون التشبيه في الرؤية لا في المرئي، وهذا بيِّن واضح في أن المراد إثبات الرؤية وتحقيقها ودفع الاحتمالات عنها، وماذا بعد هذا البيان وهذا الإيضاح؟! فإذا سلط التأويل على مثل هذا النص كيف يُستدل بنص من النصوص؟! وهل يحتمل هذا النص أن يكون معناه: إنكم تعلمون ربكم كما تعلمون القمر ليلة البدر؟! ويستشهد لهذا التأويل الفاسد بقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ} [الفيل:1] ، ونحو ذلك مما استعمل فيه (رأى) التي من أفعال القلوب، ولا شك أن (ترى) تارةً تكون بصرية وتارةً قلبية وتارة تكون من رؤيا الحلم وغير ذلك، ولكن ما يخلو الكلام من قرينة تخلِّص أحد معانيه من الباقي وإلا لو أخلى المتكلمُ كلامَه من القرينة المخلِّصة لأحد المعاني لكان مجمَلاً مُلْغَزاً لا مبيَّناً موضَّحاً، وأي بيان وقرينة فوق قوله: (ترون ربكم كما ترون الشمس في الظهيرة ليس دونها سحاب) ؟! فهل مثل هذا مما يتعلق برؤية البصر أو برؤية القلب؟! وهل يخفى مثل هذا إلا على من أعمى الله قلبه؟! فإن قالوا: ألجأَنا إلى هذا التأويل حكمُ العقل بأن رؤيته تعالى مُحال لا يُتصور إمكانها، فالجواب أن هذه دعوى منكم، خالفكم فيها أكثر العقلاء، وليس في العقل ما يحيلها، بل لو عُرض على العقل موجودٌ قائم بنفسه لا يمكن رؤيته لحُكم بأن هذا محال وقوله: (لمن اعتبرها منهم بوهم) أي: توهم أن الله تعالى يرى على صفة كذا فيتوهم تشبيهاً، ثم بعد هذا التوهم إن أثبت ما توهمه من الوصف فهو مشبِّه، وإن نفى الرؤية من أصلها لأجل ذلك التوهم فهو جاحد معطِّل، بل الواجب دفع ذلك الوهم وحده، ولا يعم بنفيه الحق والباطل، فينفيهما رداً على من أثبت الباطل، بل الواجب رد الباطل وإثبات الحق] .(20/9)
دلالة ألفاظ الكتاب توجب الإيمان بما دلت عليه
الواجب علينا أن نقبل الصفة التي جاءتنا على ظاهرها، سيما إذا كانت صريحة بعيدة عن التوهمات، وأن نحملها على المحمل الذي يمكن أن تتحمله، وأن ننزه كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم عن الاحتمالات البعيدة التي فيها شيء من التكلف، وفيها صرف للفظ عن متبادرٍ منه وعما يفهمه المخاطَب لأول وهلة.
وذلك أن كلام الله تعالى أفصح الكلام وأوضحه وأجلاه معنىً، وأقرب إلى أن يُفهم، ولا يحتاج إلى إيضاح زائد، وليس ككلام أهل الألغاز وأهل الإشارات القوية، وهكذا أيضاً كلام نبيه صلى الله عليه وسلم، فإنه أفصح الخلق وأنصحهم، وإذا كان فصيحاً فلا بد أنه سيتكلم بما يعرفه ويفهمه المخاطَبون، وكذلك إذا كان أنصح الخلق وأحبهم لمعرفة الأمة وأحبهم لمنجاتها وأحبهم لإبعادها عن الأشياء الوهمية.
فإذا كان كذلك فلا بد أنه يوضح لهم ولا يسوق لهم الكلام ملتبساً، ولا يتكلم بالكلام المُبهِم، حاشاه أن يتكلم بكلام يُفهم منه غير الذي أراد، والصحابة رضي الله عنهم تقبلوا كلامه وحملوه على ما هو عليه دون أن يسألوه ويناقشوه، ودون أن يفسروا كلامه بما لا يحتمله، حتى جاء الخلف المتأخرون الذين هم كما قال في قوله تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ} [الأعراف:169] ، يعني أنهم قاموا مقامهم في وراثة الكتاب، ولكنهم لم يعملوا به، فهؤلاء الخلف الذين جاءوا بعد السلف هم الذين عملوا هذه الأعمال، وهي التأويلات البعيدة، التي تكلفوا فيها وصرفوها عما هو مقصود بها.
فقد تقدم قول الله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22-23] ، والوجوه معروف أنها محل العيون، فالعينان مركبتان في الوجه، فإذا كان الوجه مقابلاً فإن العين تنظر.
فالله قال: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} [القيامة:22] ، وقال تعالى: {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ} [القيامة:24] ، وفي سورة أخرى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ} [الغاشية:2] ، {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ} [الغاشية:8] .
فجعل الوجوه علامة على الشقاء أو السعادة، كما في آية أخرى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} [آل عمران:106] ، فالوجه هو الذي تكون فيه علامة الإشراق والسعادة، أو علامة الاسوداد والشقاوة.
فإذاً قال الله: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22-23] ، وأيُّ كلام أفصح من هذا الذي يُفهم منه أن الوجوه تنظر إلى ربها؟! ثم جاء هؤلاء الخلف وسلطوا التأويل عليه وقالوا: إن المراد بالنظر هنا الانتظار، أو المراد نظر الثواب لا نظر الرب تعالى، فقالوا: (إلى ربها) يعني: إلى ثواب ربها.
وما الدليل على هذا المقدر؟ وهل في الكلام محذوف؟ إن الله تعالى أعلى من أن يوهِم في كلامه أو يجعلَه خفياً ليس بجلي، فكيف يقال: ناظرة إلى ثواب الله أو إلى آلائه أو إلى نعمه؟!(20/10)
وضوح كلام النبي صلى الله عليه وسلم في الصفات
وإذا عرفنا ذلك فإن كلام النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً فصيح، بعثه الله باللغة الفصحى، وهو أفصح من نطق بالضاد وأفصح العرب، وكلامه أيضاً في غاية الوضوح وفي غاية الفصاحة وفي غاية البيان.
فمثلاً: قوله صلى الله عليه وسلم في حديث جرير: (إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر -أو كما ترون هذا القمر- لا تضامون في رؤيته) .
ويقول في حديث آخر: (هل تضارُّون في رؤية القمر ليلة البدر؟! هل تضارُّون في رؤية الشمس صحواً ليس دونها سحاب؟! فإنكم ترونه كذلك) ، أليس هذا واضحاً في أن المراد النظر والمعاينة بالعين؟ فجاء الخلف وسلطوا عليه التأويل وقالوا: المراد ألم تعلم، فالمراد العلم، فقوله: (فإنكم سترون ربكم) يعني: ستعلمون ربكم.
هم يعلمونه في الدنيا، فكيف قالوا ستعلمون، وكأنهم ما علموا؟! إذ (السين) للاستقبال، ولو كان هذا مراده لقالوا: نحن نعلم ربنا، ونحن نعلم أنه ربنا.
ولكنه قال: (سترون ربكم) يعني: يوم القيامة في الآخرة وفي الجنة.
ثم لماذا قال: (كما ترون القمر) ؟! هل هم كانوا يرون القمر في تلك الساعة؟! وإذا كانوا يرونه هل يشكون في أن هذا هو القمر؟! وكيف يقاس على قوله: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ} [الفيل:1] يعني: ألم تعلم؟! أو: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً} [إبراهيم:24] يعني: ألم تعلم؟! وكذلك قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا} [المجادلة:8] ؟ وقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ} [المجادلة:7] ؟! وقوله تعالى: {أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا} [الحشر:11] ؟! فالمراد هنا الرؤية العلمية، يعني: ألم ترَ بقلبك؟! فلا مناسبة بين هذه وبين قوله: (سترون ربكم) ، فهنا دخلت السين، يعني أنه في المستقبل، وهنا أكد بقوله: (كما ترون القمر ليلة البدر) ، (كما ترون هذا القمر لا تضامون) أي: لا تشكون في رؤيته.
وبينهما فرق، فعرف بذلك أن هذه تأويلات بعيدة لا يحتاج إليها ولا يصدقها عاقل.(20/11)
بعد تأويل أهل الكلام
وأما قولهم: حملنا على ذلك أن الرؤية لله فيها تشبيه، فإذا قلنا إنه يُرى فإنه يكون مشابهاً لخلقه -تعالى الله عن قولهم- ف
الجواب
ما الذي أشعركم؟ فلو رأوه كلهم هل يلزم أن يكون مشابهاً لخلقه؟! حاشا وكلا؛ فالله سبحانه ليس كمثله شيء، ولا يلزم إذا رأوه أن يكون مماثلاً لشيء من مخلوقاته، بل هو كما يشاء، وقد أكد النبي عليه الصلاة والسلام هذه الرؤية وأخبر بأنها من أعلى نعيم أهل الجنة وأنها غاية مقصدهم ومرامهم، حتى يقول بعضهم: ولو أني استطعتُ غضضتُ طرفي فلم أنظر به حتى أراكا فعلى كل حال لا يُغتر ولا يُلتفت إلى تلك التأويلات، والمؤمن يتقبل هذه النصوص ثم يعرف الفائدة، والفائدة رسوخ عقيدته في قلبه وأنه مؤمن بالله وبما جاء عن الله، ويقينه أو تصديقه بأن المؤمنين يرون ربهم في دار كرامته، وبأن المؤمنين يتنعمون ويلتذون بهذه الرؤية، وأنها من جملة نعيمهم، وقبوله للأدلة التي دلت على ذلك وعدم تسليطه للتأويلات، وإعراضه عن تأويلات المتكلمين وعدم الإصغاء إلى أقوالهم، وإعراضه عن الأدلة العقلية التي ولَّدوها والتي زعموا أنها براهين وهي في الحقيقة شبهات وضلالات.(20/12)
البعد عن التأويل سبب للسلامة
قال رحمه الله تعالى: [وإلى هذا المعنى أشار الشيخ رحمه الله تعالى بقوله: (ومن لم يتوق النفي والتشبيه زل ولم يصب التنزيه) ، فإن هؤلاء المعتزلة يزعمون أنهم ينزهون الله بهذا النفي، وهل يكون التنزيه بنفي صفة الكمال؟! فإن نفي الرؤية ليس بصفة كمال؛ إذ المعدوم لا يُرى، وإنما الكمال في إثبات الرؤية ونفي إدراك الرائي له إدراكَ إحاطة كما في العلم؛ فإن نفي العلم به ليس بكمال، وإنما الكمال في إثبات العلم ونفي الإحاطة به علماً، فهو سبحانه لا يحاط به رؤيةً كما لا يحاط به علماً وقوله: (أو تأولها بفهم) أي: ادعى أنه فهم لها تأويلاً يخالف ظاهرها وما يفهمه كل عربي من معناها.
فإنه قد صار اصطلاح المتأخرين في معنى التأويل أنه (صرف اللفظ عن ظاهره) ، وبهذا تسلط المحرفون على النصوص وقالوا: نحن نؤوِّل ما يخالف قولنا فسموا التحريف تأويلاً تزييناً له وزخرفةً ليُقبل.
وقد ذم الله الذين زخرفوا الباطل، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً} [الأنعام:112] ، والعبرة للمعاني لا للألفاظ، فكم من باطل قد أقيم عليه دليل مزخرف عورض به دليل الحق، وكلامه هنا نظير قوله فيما تقدم: (لا ندخل في ذلك متأوِّلين بآرائنا ولا متوهمين بأهوائنا) .
ثم أكد هذا المعنى بقوله: (إذ كان تأويل الرؤية وتأويل كل معنى يضاف إلى الربوبية ترك التأويل ولزوم التسليم وعليه دين المسلمين) ، ومراده ترك التأويل الذي يسمونه تأويلاً وهو تحريف، ولكن الشيخ رحمه الله تعالى تأدب وجادل بالتي هي أحسن، كما أمر الله تعالى بقوله: {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125] ، وليس مراده ترك كل ما يسمى تأويلاً، ولا ترك شيء من الظواهر لبعض الناس بدليل راجح من الكتاب والسنة، وإنما مراده ترك التأويلات الفاسدة المبتدعة المخالفة لمذهب السلف، التي يدل الكتاب والسنة على فسادها، وترك القول على الله بلا علم.
فمن التأويلات الفاسدة تأويل أدلة الرؤية وأدلة العلو، وأنه لم يكلم موسى تكليماً، ولم يتخذ إبراهيم خليلاً] .
نعرف أن هؤلاء المعتزلة ونحوهم هم الذين توسعوا في هذا المجال وحملوا غيرهم على أن يتوسعوا، ولم يكن السلف رحمهم الله يتوسعون في هذا الكلام، بل يقبلونه على ما هو عليه، ولا ينقبون ولا يبحثون عن شيء من الإيرادات التي يوردها عليهم أهل التشبيه، فكان كلام السلف رحمهم الله قليلاً ولكن معناه كثير، وكانوا يقبلون النصوص ويعرفون معناها ويفهمونه ويعلمون ما قُصد منها، فيقرءون -مثلاً- الآيات التي في الصفات ويعلمون أنها صفات ثابتة، ولكن يعلمون أنها تخالف صفات المخلوق؛ لأن الله ليس كمثله شيء، ويعلمون أن من تلك الصفات صفة العلم وصفة الرؤية، وأنها حقيقية، ولكنها ليست كصفات المخلوقين في رؤيةِ بعضهم لبعض أو علمِ بعضهم ببعض، ويعلمون أن الله تعالى ما نفى عن نفسه إلا النقائص، فكل شيء فيه نقص فإنه قد نفاه.
فمثلاً: يقول تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] أي: لا يماثله شيء.
لأن المخلوق يأتي عليه الفناء والله ليس كذلك.
ويقول تعالى: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} [مريم:65] أي: لا أحد يستحق أن يسمى (الله) أو (الإله) أو نحو ذلك، وذلك لنقص المخلوقات التي تسمى بذلك.
وقال تعالى: {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} [البقرة:255] نفى ذلك عن نفسه لأنه نقص، فالنوم أخو الموت.
وقد نفى الموت أيضاً عن نفسه فقال: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ} [الفرقان:58] ، فالموت نقص فنفاه عن نفسه.
ونفى أيضاً عن نفسه عزوب شيء أو نسيانه فقال: {وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ} [يونس:61] فقوله تعالى: {وَمَا يَعْزُبُ} [يونس:61] يعني: ما يغيب عنه وما ينسى شيئاً؛ وذلك لأن النسيان نقص فنفاه عن نفسه.
ونفى عن نفسه اللغوب فقال: {وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} [ق:38] و (اللغوب) : التعب والسآمة والنصب، وذلك أيضاً نقص.
فكل النقائص نزه الله نفسه عنها، وذلك لما يرد عليها من التغيير.(20/13)
رؤية الله تعالى كمال له عز وجل
ولم ينفِ عن نفسه الرؤية ولو كان نقصاً لنفى ذلك عن نفسه، وذلك لأن الرؤية كمال، فكونه يُرى صفة كمال، وعدمها صفة نقص، وذلك لأن المعدوم لا يُرى، فالذي لا يُرى معدوم، والمعدوم ليس بشيء، والذي ليس بشيء هو كاسمه ليس بشيء، فأثبت الله تعالى أنه يُرى، ولكن نفى عن نفسه إحاطة الأبصار به في قوله: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام:103] يعني: إذا رأته فإنها لا تحيط به، فترى ما يبدو وما يتجلى منه ولا تحيط به، {وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ} [الأنعام:103] ، وقد تقدم أن الرؤية غير الإدراك، فالله ما نفى إلا الإدراك، والإدراك هو الإحاطة.
وقد تقدم أن ابن عباس قيل له: أرأيت قول الله: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام:103] ؟! فقال للسائل: ألستَ ترى القمر؟ قال: بلى.
قال: أكُلَّه؟ قال: لا.
قال: كذلك الإدراك.
نحن نرى السماء، ولكن لا ندركها ولا ندري ما ماهيتها، ونحن نرى هذه الشمس وهذا القمر، ولكن لا ندرك ماهيته ولا من أي شيء هو، ونحن نرى هذا السحاب وهذه النجوم، ولكن تضعُف أبصارنا أن تحيط بها، وعن أن تعلم ماهيتها.
فإذاً الرؤية شيء غير الإدراك، فالإدراك زائد على الرؤية.
فمن تعظيم الله تعالى أنه يُرى ولا يُدرك.
كذلك من تعظيم الله تعالى أن يُعلم ولا يُحاط به، قال تعالى: {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} [البقرة:255] .
وقال تعالى: {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} [طه:110] أي: لا يعلمون إلا ما أعلمَهم، وذلك لنقص المخلوقين وعظمة الخالق سبحانه وتعالى، فهم مهما علموا لا يعلمون تفاصيل ذات الله تعالى ولا ما هو عليه إلا ما أطلعهم عليه، فهذا هو بيان الفرق بين ما يقوله هؤلاء وما يقوله أهل السنة.(20/14)
الواجب على أهل التأويل
أما كونهم سلطوا على ذلك التأويل فقالوا -مثلاً- إن الرؤية تدل على إثبات تشبيه أو نحو ذلك فنحن نقول: لا حاجة لنا إلى تأويلكم، ولا حاجة بنا إلى هذا التأويل، بل انفوا عنها التشبيه وتَسلَمون.
والتأويل اصطلحوا على أنه (صرف اللفظ عن ظاهره) ، فقالوا -مثلاً-: ظاهر قوله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص:88] أن لله وجهاً، ولكن نصرفه فنقول: الوجه الذات، فنقول: كل شيء هالك إلا ذاته، فهذا أيضاً تأويل.
ويقولون: ظاهر قوله تعالى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} [المائدة:64] أن لله يدين، وفي إثباتهما تشبيه، فنحن نفر من التشبيه، فلأجل ذلك نسلط عليهما التأويل، فنقول: المراد باليدين النعمة.
أو: المراد باليدين القدرة وهذا بعيد، فالله تعالى قال: (بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ) يعني: مبسوطتان بالعطاء، وقد أكد ذلك النبي عليه الصلاة والسلام، بقوله: (يمين الله ملأى، لا تغيضها نفقة، سحاء الليل والنهار، أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماوات والأرض؟! فإنه لم يغِض ما في يمينه، وبيده الأخرى القسط يخفظ ويرفع) ، وقد أثبت الله تعالى لنفسه اليمين بقوله تعالى: {وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر:67] ، فكيف تقولون: اليد القدرة؟! هذا من التأويل البعيد.
وهكذا قولهم: إن كلام الله المعنى لا اللفظ.
هذا أيضاً من التأويل.
وهكذا قولهم: إن رحمة الله إرادة الإحسان.
أو: غضبه إرادة الانتقام.
كل ذلك يسمونه تأويلاً، فأهل السنة لا يدخلون في باب التأويل.
والواجب عليهم أن يقتصروا على نفي التشبيه، وهذا معنى قول الطحاوي رحمه الله تعالى: (من لم يتوق النفي والتشبيه زل ولم يصب التنزيه) .
وكان كثير من السلف إذا رأوا الإنسان يبالغ في النفي فيقول: ليس لله كذا وليس لله كذا اتهموه بأنه جهمي؛ لأن الذين يبالغون في النفي، فإنهم أقرب إلى أن يكونوا مشبِّهة من غيرهم، وقد بين شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في بعض كتبه أن هؤلاء مشبِّهة، ولو ادعوا أنهم يهربون من التشبيه.
وذلك أنه ارتسم في قلوبهم أن تلك الصفات دالة على التشبيه، فما فهموا من النصوص إلا التشبيه، فهذا أولاً.
ثانياً: أنهم لما نفوا الصفات نفياً كلياً وقعوا في تشبيه آخر وهو التشبيه بالجمادات أو التشبيه بالمعدومات أو التشبيه بالمستحيلات، فأصبحوا بذلك مشبِّهين، مع أنهم يقولون: نهرب من التشبيه، فقيل لهم: أنتم مشبهة.
فعلى كل حال: تأويلاتهم التي يتأولون بها النصوص يردها كل ذي عقل سليم.(20/15)
معاني التأويل
قال رحمه الله تعالى: [وقد صار لفظ التأويل مستعملاً في غير معناه الأصلي، فالتأويل في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم هو الحقيقة التي يئول إليها الكلام.
فتأويل الخبر هو عين المخبَر به، وتأويل الأمر نفس الفعل المأمور به، كما قالت عائشة رضي الله عنها: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في ركوعه: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم! اغفر لي، يتأول القرآن) .
وقال تعالى: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} [الأعراف:53] .
ومنه تأويل الرؤيا وتأويل العمل كقوله: {هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ} [يوسف:100] ، وقوله: {وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ} [يوسف:6] ، وقوله: {ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [النساء:59] ، وقوله: {سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً} [الكهف:78] إلى قوله: {ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً} [الكهف:82] .
فمن ينكر وقوع مثل هذا التأويل والعلم بما تعلق بالأمر والنهي منه؟! وأما ما كان خبراً كالإخبار عن الله واليوم الآخر فهذا قد لا يُعلم تأويلُه الذي هو حقيقته؛ إذ كانت لا تُعلم بمجرد الإخبار؛ فإن المخبَر إن لم يكن قد تصور المخبَر به أو ما يعرفه قبل ذلك لم يعرف حقيقته -التي هي تأويله- بمجرد الإخبار.
وهذا هو التأويل الذي لا يعلمه إلا الله، لكن لا يلزم من نفي العلم بالتأويل نفي العلم بالمعنى الذي قَصَد المخاطِب إفهام المخاطَب إياه، فما في القرآن آية إلا وقد أمر الله بتدبرها، وما أنزل آية إلا وهو يحب أن يُعلم ما عنى بها، وإن كان من تأويله ما لا يعلمه إلا الله.
فهذا معنى التأويل في الكتاب والسنة وكلام السلف، وسواء كان هذا التأويل موافقاً للظاهر أو مخالفاً له.
والتأويل في كلام كثير من المفسرين كـ ابن جرير ونحوه يريدون به تفسير الكلام وبيان معناه سواءً وافق ظاهره أو خالفه، وهذا اصطلاح معروف، وهذا التأويل كالتفسير يُحمد حقُّه ويُرَد باطلُه.
وقوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} [آل عمران:7] فيها قراءتان: قراءة من يقف على قوله: (إلا الله) ، وقراءة من لا يقف عندها، وكلتا القراءتين حق.
ويراد بالأولى: المتشابه في نفسه الذي استأثر الله بعلم تأويله.
ويراد بالثانية: المتشابه الإضافي الذي يعرف الراسخون تفسيره، وهو تأويله.
ولا يريد من وقف على قوله: (إلا الله) أن يكون التأويل بمعنى التفسير للمعنى؛ فإن لازم هذا أن يكون الله أنزل على رسوله كلاماً لا يعلم معناه جميعُ الأمة ولا الرسول، ويكون الراسخون في العلم لا حظَّ لهم في معرفة معناها سوى قولهم: {آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عمران:7] .
وهذا القدر يقوله غير الراسخ في العلم من المؤمنين، والراسخون في العلم يجب امتيازهم على عوام المؤمنين في ذلك، وقد قال ابن عباس رضي الله عنهما: أنا من الراسخين في العلم الذين يعلمون تأويله.
ولقد صدق رضي الله عنه؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم دعا له وقال: (اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل) رواه البخاري وغيره.
ودعاؤه صلى الله عليه وسلم لا يرد.
قال مجاهد: عرضت المصحف على ابن عباس من أوله إلى آخره أقِفُه عند كل آية وأسأله عنها.
وقد تواترت النقول عنه أنه تكلم في جميع معاني القرآن، ولم يقل عن آية: إنها من المتشابه الذي لا يعلم أحد تأويله إلا الله] ذكر أن المبتدعة من المعتزلة ونحوهم يستعملون كلمة التأويل بمعنى صرف اللفظ عن ظاهره، كما ذكرنا قريباً.
كقولهم في {اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف:54] : استولى عليه، فهذا صرف اللفظ عن ظاهره.
وقولهم في {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك:16] أي: في السماء علمه، أو: في السماء ملائكته، فهذا صرف للفظ عن ظاهره.
وقولهم: {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} [المعارج:4] أي: تصعد إلى ملائكته أو إلى علمه أو نحو ذلك.
ولا شك أن هذا تأويل باطل ما أنزل الله عليه دلالة ولا أوضحه ولا أمر به، فهذا هو التأويل الذي هو مذموم، والذي يذمه السلف ويقولون: لا تتأولوا، أو لا تستمعوا إلى هذا التأويل ويراد به صرف اللفظ عن ظاهره، مع أن كلمة التأويل تأتي بمعنى التفسير، وكان ابن جرير رحمه الله في تفسيره يقول: (القول في تأويل قوله تعالى) ، ومراده: في تفسير الآية ويقول: (اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك) ، ويقول: (وبمثل الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل) والمراد: أهل التفسير.
أما في لغة القرآن فقد وردت كلمة (التأويل) ، وكذلك في لغة الصحابة، والمراد بها حقيقة الشيء وماهيته وما يئول إليه، وذلك مثل قوله تعالى: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ} [الأعراف:53] فالمراد: حقيقته، أي: هل ينتظرون إلا أن يقع الأمر الذي أُخْبِروا به؟! وتأويله يعني وقوع ما فيه، فمثلاً: تأويل قوله تعالى: {وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ} [الأعراف:44] وقوع المناداة، من كون هؤلاء في الجنة وهؤلاء في النار وهؤلاء ينادون هؤلاء، إذا وقع ذلك فهذا هو التأويل، أي: وقوعه.
فيقال مثلاً: هذا تأويل الآية التي أخبرنا بها، أي: حقيقة ما وقع.
وكذلك مرجع الشيء يسمى تأويلاً، ومنه قوله تعالى: {ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [النساء:59] يعني: أحسن حقيقةً وأحسن مظهراً ومرجِعاً.
ومنه أيضاً تأويل الرؤيا، كما حكى الله عن يوسف أنه قال: {إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} [يوسف:4] ، ثم بعد أن جاء إخوتُه وأبواه ودخلوا عليه قال تعالى عنه: {وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ * وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ} [يوسف:99-100] يعني: هذه حقيقتها، فقد وقع ما تُؤَوَّلُ به.
ولما دخل اثنان معه السجن قالا كما حكى الله تعالى عنهما: {قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَقَالَ الآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ} [يوسف:36] أي: بحقيقته وما يئول إليه وما يقع.
وفي نفس السورة يقول الله تعالى: {وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ} [يوسف:6] يعني: حقائقها وما تئول إليه، يعني: ترجع إليه.
فالتأويل الذي في قوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران:7] المراد: ابتغاء معرفة وقوعه وكيفيته تصوُّره، وذلك غيب ولا يعلمه إلا الله، فإذا وقع علموه، ولا يقع إلا في يوم القيامة، فمثلاً: آيات الوزن كقوله تعالى: {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ} [الأعراف:8] ، وقوله: {فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ} [القارعة:6] ، {وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ} [القارعة:8] قد يقولون: نريد تأويل هذا الميزان، وما مقداره؟ وما سعة الكفة؟ وكيف تميل؟ وكيف تَخِفُّ بهذا وتَثْقُل بهذا؟ فهذا تأويله لا يعلمه إلا الله، فنحن لا نعلم حقيقة ذلك الوزن، ولا نعلم كيف تكون الأعمال أعراضاً حتى توزن، فإنما يظهر إذا بدت.
فإذا ظهرت الموازين ووزنت فيها الأعمال فعند ذلك نقول: هذا تأويل قوله تعالى: {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ} [الأعراف:8] ، هذا تأويل قوله تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} [الأنبياء:47] ، هذا تأويله، أي: هذا هو حقيقته.
وإذا تطايرت الصحف في الأيمان والشمائل نقول: هذا تأويل قوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ} [الحاقة:19] ، {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ} [الحاقة:25] أي: وقع ذلك فقبل ذلك لا ندري ما هو الكتاب، وكيف يكون الكتاب الذي هو كتاب كبير يحصي الأعمال كلها، كما في قوله تعالى: {مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا} [الكهف:49] ، وكما في قوله: {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} [الإسراء:14] ، وكيف يقبض ذلك الكتاب باليد.
فهذا ما لا يعلمه إلا الله، فإذا وقع وأخذت الكتب بالأيمان والشمائل فعند ذلك نقول: هذا تأويل تلك الآيات التي أخبر الله فيها بأنه سيقع كذا، وأن صورته وكيفيته كذا.(20/16)
شرح العقيدة الطحاوية [21]
الإيمان بالله تعالى كما وصف به نفسه ووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم نفياً وإثباتاً هو تمام الإيمان وكماله، ولا يتم ذلك إلا بالوقوف مع دلالات النصوص والبعد عن مقالات أهل الكلام.(21/1)
المتشابه في القرآن والمراد به
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقول الأصحاب رحمهم الله في الأصول: إن المتشابه الحروف المقطعة في أوائل السور ويروى هذا عن ابن عباس، مع أن هذه الحروف قد تكلم في معناها أكثر الناس، فإن كان معناها معروفاً فقد عرف معنى المتشابه، وإن لم يكن معروفاً وهي المتشابه كان ما سواها معلوم المعنى وهذا المطلوب.
وأيضا فإن الله قال: {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آل عمران:7] ، وهذه الحروف ليست آيات عند جمهور العادين.
والتأويل في كلام المتأخرين من الفقهاء والمتكلمين هو صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح لدلالة توجب ذلك، وهذا هو التأويل الذي يتنازع الناس فيه في كثير من الأمور الخبرية والطلبية، فالتأويل الصحيح منه الذي يوافق ما دلت عليه نصوص الكتاب والسنة، وما خالف ذلك فهو التأويل الفاسد، وهذا مبسوط في موضعه.
وذكر في التبصرة أن نصير بن يحيى البلخي روى عن عمرو بن إسماعيل بن حماد بن أبي حنيفة عن محمد بن الحسن رحمهم الله أنه سئل عن الآيات والأخبار التي فيها من صفات الله تعالى ما يؤدي ظاهره إلى التشبيه فقال: نمرها كما جاءت ونؤمن بها، ولا نقول: كيف وكيف.
ويجب أن يعلم أن المعنى الفاسد الكفري ليس هو ظاهر النص ولا مقتضاه، وأن من فهم ذلك منه فهو لقصور فهمه ونقص علمه، وإذا كان قد قيل في قول بعض الناس: وكم من عائب قولاً صحيحاً وآفته من الفهم السقيم وقيل: عليَّ نحت القوافي من أماكنها وما عليَّ إذا لم تفهم البقر فكيف يقال في قول الله الذي هو أصدق الكلام وأحسن الحديث، وهو الكتاب الذي {أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [هود:1] .
إن حقيقة قولهم أن ظاهر القرآن والحديث هو الكفر والضلال، وأنه ليس فيه بيان لما يصلح من الاعتقاد، ولا فيه بيان التوحيد والتنزيه، هذا حقيقة قول المتأولين، والحق أن ما دل عليه القرآن فهو حق، وما كان باطلاً لم يدل عليه، والمنازعون يدعون دلالته على الباطل الذي يتعين صرفه، فيقال لهم: هذا الباب الذي فتحتموه، وإن كنتم تزعمون أنكم تنتصرون به على إخوانكم المؤمنين في مواضع قليلة حقيقة، فقد فتحتم عليكم باباً لأنواع المشركين والمبتدعين لا تقدرون على سده.
فإنكم إذا سوغتم صرف القرآن عن دلالته المفهومة بغير دليل شرعي، فما الضابط فيما يسوغ تأويله وما لا يسوغ؟ فإن قلتم: ما دل القاطع العقلي على استحالته تأولناه وإلا أقررناه، قيل لكم: وبأي عقل نزن القاطع العقلي؟ فإن القرمطي الباطني يزعم قيام القواطع على بطلان ظواهر الشرع، ويزعم الفيلسوف قيام القواطع على بطلان حشر الأجساد، ويزعم المعتزلي قيام القواطع على امتناع رؤية الله تعالى، وعلى امتناع قيام علم أو كلام أو رحمة به تعالى، وباب التأويلات التي يدعي أصحابها وجوبها بالمعقولات أعظم من أن تنحصر في هذا المقام.
ويلزم حينئذ محذوران عظيمان: أحدهما: أن لا نقر بشيء من معاني الكتاب والسنة حتى نبحث قبل ذلك بحوثاً طويلة عريضة في إمكان ذلك بالعقل، وكل طائفة من المختلفين في الكتاب يدعون أن العقل يدل على ما ذهبوا إليه، فيئول الأمر إلى الحيرة.
المحذور الثاني: أن القلوب تنحل عن الجزم بشيء تعتقده مما أخبر به الرسول؛ إذ لا يوثق بأن الظاهر هو المراد، والتأويلات مضطربة، فيلزم عزل الكتاب والسنة عن الدلالة والإرشاد إلى ما أنبأ الله به العباد، وخاصةُ النبي هي الإنباء، والقرآن هو النبأ العظيم، ولهذا نجد أهل التأويل إنما يذكرون نصوص الكتاب والسنة للاعتضاد لا للاعتماد إن وافقت ما ادعوا أن العقل دل عليه، وإن خالفته أولوه، وهذا فتح باب الزندقة والانحلال، نسأل الله العافية] .
قد تقدم أن الله ذكر في القرآن: {آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آل عمران:7] ، ومعلوم أن المفسرين قد تكلموا على الآيات كلها، وعلى القرآن كله، ولم يسكتوا عن آية أو آيات فقالوا: هذه من المتشابه، إلا أن بعضهم لا يتكلمون على الحروف المقطعة التي في أوائل السور، وكثير منهم تكلموا عليها، وقالوا: يراد بهذا كذا وكذا، وإن اختلفت الآراء فيها.
وما دام أن القرآن قد فسر كله فهذه الآيات المتشابهات يظهر أنها الكيفيات للأمور الغيبية، أعني الأشياء التي أخبر فيها عن أمور غيبية ولكنا لا نعلم كيفيتها، فإذا أخبر الله أن في الجنة أنهاراً تجري فإنا لا ندري ما كيفية تلك الأنهار كقوله تعالى: {فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ} [محمد:15] إلى آخر الآية، وفي الحديث أنها: (تجري في غير أخدود) أي: تجري على وجه الأرض ومع ذلك لا تسيح، وهذا من علم الغيب الذي نقول: الله أعلم بكيفيته.
وهكذا أيضاً الأشجار التي في الجنة، وكذلك الأشجار التي في النار، ذكر الله أن في النار شجرة الزقوم، فلا ندري ما كيفية تلك الشجرة، وكيف لا تحترق بالنار، وكل هذا نقول فيه: الله أعلم، فهو من المتشابه.
فالكيفيات الغيبية هي التي يتوقف عنها، ويقال: الله أعلم بكيفيتها فهي من المتشابه.
ويقال أيضاً كذلك في كيفيات صفات الله، فنحن لا ندري ما كيفيتها إلا أنَّ نتحقق معانيها، فنتحقق أن الله متكلم بكلام يسمع، ونتحقق أن الله يعلم الخفي والجلي ويسمع القريب والبعيد وهكذا، ولكن كيفية تلك الصفات نفوضها ونقول: الله أعلم بها.
وهذا أقرب الأقوال في الآيات المتشابهات، أي: أنها كيفيات الأمور الغيبية.(21/2)
نقد التأويل
أما التأويل الذي ذكروه، وهو صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح بدليل يقترن به، أو لقرينة تؤيد المرجوح وترجحه، فهذا اصطلاح جديد للمتأخرين، لم يكن عند السلف ولا يعرفون هذا، وهو في الحقيقة تحريف وتكلف، وفي الحقيقة إذا جمعنا الأدلة عرفنا أنه يصعب صرفها، سيما وقد اجتمعت الدلالة من كل من مفرداتها.
بعد ذلك قد يقولون: إن ظاهر هذه النصوص يوهم التشبيه، فيوهم أن الله مثل خلقه، وإنا إذا أثبتنا الرؤية أو أثبتنا الكلام أو ما أشبه ذلك أثبتنا أنه مثل الخلق والله تعالى يقول: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] ، وقال تعالى: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص:4] ، فيقولون: إن هذه النصوص أو هذه الأدلة يفهم منها التشبيه؛ هكذا قالوا.
ونحن نقول: لا يفهم ذلك، وحاشا وكلا أن تكون صفات الله دالة على شيء باطل، أو تكون نصوص القرآن والحديث دالة على ما هو كفر، بل كلام الله أفصح الكلام، وكلام نبيه صلى الله عليه وسلم أوضح، وهو عليه الصلاة والسلام أنصح الخلق لأمته، وإذا اجتمعت فصاحته ونصحه، والبيان الذي أعطيه، وأضيف إلى ذلك أن كلام الله واضح الدلالة، فلا يجوز أن يقال: إن ظاهره غير مراد، أو: إن ظاهره يقتضي كفراً أو نحو ذلك.
وكثيراً ما يقول المتكلمون: ظاهر النصوص غير مراد.
ونقول: ما مرادكم بظاهرها؟ هل تريدون: أن ظاهرها ما يليق بالمخلوق؟ وأنا إذا قلنا -مثلاً-: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [القمر:14] فالمعنى أن الله له عينان كعيني المخلوق؟! أو له يدان كأيدي المخلوق؟! فهذا ليس بمراد، ولكن أخطأتم في قولكم: إنه ظاهرها.
ولا يمكن أن يفهم من نصوص الصفات ما هو ضلال، بل معروف أن صفات الله تعالى تليق به، وإذا كنتم تقولون: إن لله ذاتاً لا تشبه غيره فكذلك له صفات لا تشبه غيره، فإن القول في الصفات كالقول في الذات، يحذو حذوه ومثاله، وإذا كان الكلام واضحاً وفصيحاً فلا عبرة بمن خفي عليه وبمن لم يظهر له، كما قال القائل: عليَّ نحت القوافي من أماكنها وما عليَّ إذا لم تفهم البقر يقول هذا الشاعر: أنا عليَّ أن آتي بالكلام الفصيح، وأختار الكلام البليغ، ولكن إذا لم يفهموا فلست بملوم، فيقال: كذلك كلام الله واضح، وإذا لم تفهموا فالنقص في أذهانكم أنتم وليس النقص في كلام الله، فكلام الله سبحانه واضح، وكلام رسوله عليه الصلاة والسلام واضح وفصيح، ولكن ما أتيتم إلا من سوء أفهامكم ومن سوء تفكيركم، وإلا فلو أعطيتم الكلام حقه لقلتم بأنه لا يدل على محذور.
وعلى كل حال معلوم أنهم ما خابوا في ذلك إلا لما ارتسم في أذهانهم وأفكارهم أن صفات الله كصفات المخلوق، وأن النصوص دالة على ما هو تشبيه، فعند ذلك أكثروا من البحث ومن التنقيب حتى وقعوا فيما وقعوا فيه مما هو تحريف.(21/3)
أمراض القلوب الناشئة من التشبيه والتعطيل
قال رحمه الله تعالى: [قوله: (ومن لم يتوق النفي والتشبيه زل ولم يصب التنزيه) النفي والتشبيه مرضان من أمراض القلوب، فإن أمراض القلوب نوعان: مرض شبهة، ومرض شهوة.
وكلاهما مذكور في القرآن، قال تعالى: {فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} [الأحزاب:32] ، فهذا مرض الشهوة، وقال تعالى: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا} [البقرة:10] ، وقال تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ} [التوبة:125] ، فهذا مرض الشبهة وهو أردأ من مرض الشهوة؛ إذ مرض الشهوة يرجى له الشفاء بقضاء الشهوة، ومرض الشبهة لا شفاء له إن لم يتداركه الله برحمته.
والشبهة التي في مسألة الصفات نفيها وتشبيهها، وشبهة النفي أردأ من شبهة التشبيه، فإن شبة النفي رد وتكذيب لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وشبهة التشبيه غلو ومجاوزة للحد فيما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم.
وتشبيه الله بخلقه كفر؛ فإن الله تعالى يقول: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] ، ونفي الصفات كفر؛ فإن الله تعالى يقول: {وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] ، وهذا أحد نوعي التشبيه، فإن التشبيه نوعان: تشبيه الخالق بالمخلوق، وهذا الذي يتعب أهل الكلام في رده وإبطاله، وأهله في الناس أقل من النوع الثاني الذين هم أهل تشبيه المخلوق بالخالق، كعباد المسيح وعزير والشمس والقمر والأصنام والملائكة والنار والماء والعجل والقبور والجن وغير ذلك، وهؤلاء هم الذين أرسلت إليهم الرسل يدعونهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له] .
قول الطحاوي: (ومن لم يتوق النفي والتشبيه زل ولم يصب التنزيه) .
يريد بالنفي نفي الصفات أو المبالغة في نفيها، ويريد بالتشبيه إثبات أن صفات الله كصفاتنا، فيكون بذلك مشبهاً، ومذهب الأئمة وأهل السنة وسط بين المذهبين، فإنهم يقولون: إن من شبه الله بخلقه فقد كفر، ومن نفى ما وصف الله به نفسه فقد كفر، وليس في إثبات صفات الله تشبيه.
ويقول بعضهم: المشبه يعبد صنماً، والمعطل يعبد عدماً، والموحد -يعني: المثبت- يعبد إلهاً واحداً فرداً صمداً، وأخذ ذلك ابن القيم في النونية بقوله: لسنا نشبه ربنا بصفاتنا إن المشبه عابد الأوثان كلا ولا نخليه من أوصافه إن المعطل عابد البهتان فالذين شبهوا يقال فيهم: قد غلوا في الإثبات، فقالوا: لله يد كأيدينا، ولله وجه كوجوهنا، وما أشبه ذلك، فوقعوا في تشبيه الخالق بخلقه -تعالى الله- وهذا فيه أنهم عبدوا الأوثان والأصنام.
أما الذين نفوا فإنهم في الحقيقة لم يثبتوا خالقاً، أي: الذين نفوا هذه الصفات ونفوا كل الصفات، فقالوا: الله تعالى لا يعلم، ولا يتكلم، ولا يسمع، ولا يرى، وليس له يد، وليس له وجه، وليس له كذا وكذا، آل بهم الأمر إلى أن صاروا يعبدون عدماً، ولا يثبتون خالقاً.
ثم قد عرفنا أنهم لما جاءتهم هذه النصوص صارت مخالفة لما في أفكارهم، فسلطوا عليها التأويلات، وفتحوا باب التأويل لغيرهم ممن أنكروا حقيقة المعاد كالفلاسفة، وفتحوا باب التأويل للذين أنكروا الأحكام والأوامر والنواهي كغلاة الصوفية وكالباطنية ونحوهم، فأصبحوا في الحقيقة هم الذين جلبوا الشر وفتحوا بابه على الإسلام والمسلمين.
فالذي يريد السلامة هو الذي يتوقى مرض التشبيه ومرض التعطيل، مرض النفي ومرض الإثبات الزائد الذي هو غلو في الإثبات، جعلهما الشارح كالأمراض، والمعروف أن المرض هو الذي ينهك الجسم حتى يلزم صاحبه الفراش، هذا هو المرض المعروف، ولكن هذا مرض الأبدان؛ لأن المرض نوعان: مرض قلب، ومرض بدن.
فمرض البدن يعالج عند الأطباء وله أدوية، ففي الحديث: (ما أنزل الله داءً إلا أنزل له شفاء) ، ولكن المرض الشديد هو مرض القلب، ومرض القلب أيضاً نوعان: مرض الشبهة، ومرض الشهوة.
ومرض الشهوة هو الشهوة إلى الزنا أو إلى المعاصي ونحوها، كما قال تعالى: {فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} [الأحزاب:32] ، نهى الله المرأة أن ترقق كلامها، فإنه إذا سمعها الفاسق طمع في الاتصال بها، هذا مرض شهوة الزنا ونحوه.
أما مرض الشبهة فهو أشد، فمرض الشهوة قد يزول بالعفة أو بالنكاح الحلال، أما مرض الشبهة فإنه الذي يتمكن في القلب، فهذان المرضان من أشد أمراض الشبهة، أعني مرض التشبيه، ومرض التعطيل.
وذكر أن مرض التعطيل أشد، وذلك لأن المشبه غلا به الإثبات إلى أن وقع في أن الله كخلقه -تعالى الله عن ذلك- ولكن الذي يقول ذلك فئة قليلة، فالذين يذهبون إلى التشبيه قليلون بالنسبة إلى المعطلة فإنهم كثيرون.(21/4)
السلامة في البراءة من مرضي التشبيه والتعطيل
وعلى كل حال فنحن نبرأ إلى الله ونحذر من كلا المرضين، فمرض التعطيل أشد لأن أهله أكثر، ولأن الدعايات إليه أكثر، وقد يتكرر كثير في كلام العلماء النهي عن التعطيل وعن التشبيه، فيقولون في آيات الصفات وأحاديثها: أمروها كما جاءت بلا كيف.
ويقولون: نقبلها ونتقبلها من غير تحريف ولا تأويل، ومن غير تشبيه ولا تمثيل، ومن غير تكييف ولا تعطيل.
فينفون عنها هذه الأشياء.
وكذلك ينفون عنها الإلحاد الذي هو الميل بها عما قصد بها، فإن الله تعالى ذم فاعل ذلك، قال تعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف:180] يعني: بالأسماء الحسنى، {وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ} [الأعراف:180] يعني: اتركوهم وابتعدوا عنهم.
والإلحاد في أسمائه إنكار حقائقها أو إنكار دلالاتها، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا} [فصلت:40] .
فعلينا أن نتجنب هذه الأشياء، ومن أهمها الإلحاد في أسماء الله، والإلحاد في آياته، فإذا قرأنا القرآن وسمعنا الأحاديث وقلنا: نمرها كما جاءت وننزه ربنا عما لا يليق به، سلمنا من هذه الأمراض كلها إن شاء الله.(21/5)
تنزيه الله عن الشبيه والكفؤ
قال رحمه الله تعالى: [قوله: (فإن ربنا جل وعلا موصوف بصفات الوحدانية منعوت بنعوت الفردانية ليس في معناه أحد من البرية) .
يشير الشيخ رحمه الله إلى أن تنزيه الرب تعالى هو وصفه كما وصف نفسه نفياً وإثباتاً، وكلام الشيخ هنا مأخوذ من معنى سورة الإخلاص، وقوله: موصوف بصفات الوحدانية مأخوذ من قوله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] .
وقوله: (منعوت بنعوت الفردانية) من قوله تعالى: {اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} [الإخلاص:2-3] .
وقوله: (ليس في معناه أحد من البرية) من قوله تعالى: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص:4] ، وهو أيضاً مؤكد لما تقدم من إثبات الصفات ونفي التشبيه.
والوصف والنعت مترادفان، وقيل: متقاربان، فالوصف للذات والنعت للفعل، وكذلك الوحدانية والفردانية، وقيل في الفرق بينهما: إن الوحدانية للذات، والفردانية للصفات، فهو تعالى موحد في ذاته متفرد بصفاته، وهذا المعنى حق ولم ينازع فيه أحد، ولكن في اللفظ نوع تكرير، وللشيخ رحمه الله نظير هذا التكرير في مواضع من العقيدة، وهو بالخطب والأدعية أشبه منه بالعقائد، والتسجيع بالخطب أليق.
و {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] ، أكمل في التنزيه من قوله: (ليس في معناه أحد من البرية) ] .
قصد الطحاوي رحمه الله بذلك الزيادة في التوضيح والإثبات؛ فإن قوله: (فإن ربنا جل وعلا موصوف بصفات الوحدانية، منعوت بنعوت الفردانية، ليس في معناه أحد من البرية) يؤكد بذلك ما تقدم من إثبات الصفات ونفي التشبيه، فالله سبحانه وتعالى هو الواحد الأحد، موصوف بأنه هو الواحد، وقد ذكر ذلك في قوله: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [البقرة:163] ، وفي قوله: {وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ} [المائدة:73] .
فالوحدانية لا شك أنها خاصة به، فهو الواحد في صفاته، وهو الواحد في ذاته، ومعناه أنه لا يصلح أن يكون معه خالق غيره ولا معبود سواه.
كذلك هذا دل عليه قول الله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] ؛ فإن الأحد يراد به المتوحد بجميع الخصائص، وكذلك قوله: (منعوت بنعوت الفردانية) دل عليه كونه لم يلد ولم يولد؛ فإن الله تعالى نزه نفسه عن الولد في عدة آيات رداً على من جعل لله ولداً، كالنصارى الذين قالوا المسيح ابن الله، واليهود في قولهم عزير ابن الله.
وكفار العرب في جعلهم الملائكة بنات الله، رد الله عليهم ذلك وأنكر عليهم في قوله تعالى: {أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ} [الصافات:153] ، وفي قوله تعالى: {وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ} [الزخرف:19] .(21/6)
واجب المسلم مع ربه تعالى في صفاته
فواجب المسلم أن ينزه ربه تعالى عن الصفات المحدثات، وعن صفات الخلق التي تختص بهم، وأن يعتقد أن لله سبحانه صفات الكمال التي يعرف منها أنه هو الواحد الأحد المنزه عن النقص وعن العيب، وأن صفاته تختص بذاته، وأنه منزه عما لا يليق به، فإذا عرف ذلك عرف بذلك أنه تم بذلك توحيده -إن شاء الله- وصلحت عقيدته، فصلاحها بهذين الأمرين: فالواجب إثبات ما يليق بالله، وتنزيهه عن مشابهة المخلوقين، سواءٌ في الذات أو في الصفات أو في الأفعال، فبذلك يرد على الطوائف المنحرفة الذين غلوا في الإثبات والذين زادوا في النفي.
فمن لم يتوق النفي والتشبيه زل ولم يصب التنزيه، وهو سبحانه موصوف بصفات الكمال منزه عن صفات النقص، وقوله: (وليس في معناه أحد من البرية) أي: لا يشبهه أحد من مخلوقاته، هذه خلاصة العقيدة، ومن أقر بها عصمه الله تعالى من الأخطاء.(21/7)
مصطلحات أهل الكلام وكيفية التعامل معها
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قوله: (وتعالى عن الحدود والغايات والأركان والأعضاء والأدوات، لا تحويه الجهات الست كسائر المبتدعات) .
أذكر بين يدي الكلام على عبارة الشيخ رحمه الله مقدمة، وهي أن للناس في إطلاق مثل هذه الألفاظ ثلاثة أقوال، فطائفة تنفيها، وطائفة تثبتها، وطائفة تفصل وهم المتبعون للسلف، فلا يطلقون نفيها ولا إثباتها إلا إذا بين ما أثبت بها فهو ثابت، وما نفي بها فهو منفي؛ لأن المتأخرين قد صارت هذه الألفاظ في اصطلاحهم فيها إجمال وإبهام كغيرها من الألفاظ الاصطلاحية، فليس كلهم يستعملها في نفس معناها اللغوي، ولهذا كان النفاة ينفون بها حقاً وباطلاً، ويذكرون عن مثبتها ما لا يقولون به، وبعض المثبتين لها يدخل فيها معنى باطلاً مخالفاً لقول السلف ولما دل عليه الكتاب والميزان، ولم يرد نص من الكتاب ولا من السنة بنفيها ولا إثباتها.
وليس لنا أن نصف الله تعالى بما لم يصف به نفسه ولا وصفه به رسوله نفياً ولا إثباتاً، وإنما نحن متبعون لا مبتدعون، فالواجب أن ينظر في هذا الباب -أعني باب الصفات- فما أثبته الله ورسوله أثبتناه، وما نفاه الله ورسوله نفيناه.
والألفاظ التي ورد بها النص يعتصم بها في الإثبات والنفي، فنثبت ما أثبته الله ورسوله من الألفاظ والمعاني، وننفي ما نفته نصوصهما من الألفاظ والمعاني، وأما الألفاظ التي لم يرد نفيها ولا إثباتها فلا تطلق حتى ينظر في مقصود قائلها، فإن كان معنى صحيحاً قبل، لكن ينبغي التعبير عنه بألفاظ النصوص دون الألفاظ المجملة إلا عند الحاجة مع قرائن تبين المراد والحاجة، مثل أن يكون الخطاب مع من لا يتم المقصود معه إن لم يخاطب بها ونحو ذلك.
والشيخ رحمه الله تعالى أراد الرد بهذا الكلام على المشبهة كـ داود الجواربي وأمثاله القائلين إن الله جسم، وإنه جثة وأعضاء، وغير ذلك -تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً- فالمعنى الذي أراده الشيخ رحمه الله من النفي الذي ذكره هنا حق، ولكن حدث بعده من أدخل في عموم نفيه حقاً وباطلاً، فيحتاج إلى بيان ذلك، وهو أن السلف متفقون على أن البشر لا يعلمون لله حداً، وأنهم لا يحدون شيئاً من صفاته] .
الطريقة في هذا هي ما ذكر في باب الأسماء والصفات أن الرجوع إلى النقل، ولا دخل للعقل.
والنقل: هو الكتاب والسنة، أي: النقل الصحيح؛ لأنه منقول لنا بنقل ثابت وليس فيه تشكيك، فنقتصر على النقل، وذلك لأن العقول لا تستطيع أن تتدخل في هذا الأمر، ولا أن تعرف حقائقه، ولا أن تفكر تفكيراً تتدخل فيه، فإذا قال المتكلمون: إن هذا الوصف لا يقره العقل أو لا يثبته، فالجواب أن نقول: ما للعقول ولأمر الغيب؟ هذا من أمر الغيب، والعقول محجوزة عن هذا الأمر.
نقول بعد ذلك: إن الطحاوي الذي هو صاحب المتن رحمه الله عاش في أواخر عهد السلف، وبعدما أحدث كثيرٌ من المبتدعة، وبعدما انتشر أهل البدع وتمكنوا، فهناك مبتدعة المشبهة الذين بالغوا في الإثبات حتى شبهوا الخالق بالمخلوقين، ومنهم هذا الذي حكى عنه، وهو داود الجواربي.
وطائفة أخرى هم المعطلة، ومنهم أكابر المعتزلة، كـ أبي الهذيل العلاف، وأبي علي الجبائي، وكذلك الجاحظ، وسائر المعتزلة بالغوا في النفي، فعطلوا الله تعالى عن صفات الكمال، واشتهرت أقوال هؤلاء وأقوال هؤلاء، إلا أن المعطلة أكثر من المشبهة؛ لأن النفوس تنفر من إثبات التشبيه، فلما كان كذلك ألف الطحاوي هذه الرسالة وقصد بذلك الرد على هؤلاء وهؤلاء، فأثبت فيها الصفات كما يليق بالله، ورد فيها على المشبهة الذين بالغوا في الإثبات، وتكلم بهذه الكلمات، وإن كان الأفضل تركها، أعني: الحدود والغايات والأركان والأعضاء والأدوات والجهات الست، فالأولى تركها؛ لأن المتكلمين الذين هم النفاة صاروا ينفون بها حقاً وباطلاً، فلما أدخلوا فيها حقاً كان الأولى أن ينفى الباطل بعبارة كريمة ليس فيها شيء من الشبهة.
كذلك ذكر أن للناس في استعمالها ثلاثة أقوال: قول أنه لا يجوز إثباتها، وقول أنه لا يجوز نفيها، وقول بالتفصيل.
ويمكن أن يكون هناك قول رابع، وهو التوقف عنها، فلا إثبات ولا نفي، فيقال: هذه من الأمور المبتدعة، فنحن لا نثبتها إطلاقاً ولا ننفيها، ولكن التفصيل أولى، وهو أن يقال: ماذا تريدون بالحدود؟ وماذا تريدون بالأعضاء والأدوات؟ وماذا تريدون بالجهات؟ ففي كلامكم هذا حق وباطل.
فالحق الذي تنفونه عبروا عنه بعبارة كريمة، والباطل الذي تنفونه أيضاً عبروا عنه بعبارة كريمة حتى نوافقكم على نفي الباطل ونخالفكم في نفي الحق، ونتحقق أن الصواب مع من أثبت لا مع من نفى، أو نحو ذلك.
قال: (تعالى عن الحدود) ، فنقول: الأولى عدم إطلاق هذه اللفظة، ولكن الذين أطلقوها لهم عذر، أي: الذين قالوا إنه يتعالى عن الحدود؛ لأن الحد له تفسيران كما سيأتي.
وكذلك الغايات والأركان والأعضاء والأدوات إلى آخرها، فالأولى التوقف عن ذلك، فنقتصر على ما أثبته الله، حيث إننا نقول: إن الله تعالى بذاته فوق سماواته على عرشه عليٌّ على خلقه، وأنه سبحانه قريب من عباده يطلع عليهم ولا يخفى عليه منهم خافية، وأنه موصوف بصفات الكمال منزه عن النقائص، فإذا أثبتنا ذلك لم يدخل علينا أهل البدع بحجة، ولم يجدوا علينا قولاً أننا ممثلة أو نحو ذلك.(21/8)
بيان أن أهل السنة لا يحدون الله تعالى
قال رحمه الله تعالى: [قال أبو داود الطيالسي: كان سفيان وشعبة وحماد بن زيد وحماد بن سلمة وشريك وأبو عوانة لا يحدون ولا يشبهون ولا يمثلون، يروون الحديث ولا يقولون: كيف؟ وإذا سئلوا قالوا بالأثر.
وسيأتي في كلام الشيخ: (وقد أعجز عن الإحاطة خلقه) فعلم أن مراده أن الله يتعالى عن أن يحيط أحد بحده، لا أن المعنى أنه غير متميز عن خلقه منفصل عنهم مباين لهم، سئل عبد الله بن المبارك: بم نعرف ربنا؟ قال: بأنه على العرش بائن من خلقه.
قيل: بحد؟ قال: بحد.
انتهى.
ومن المعلوم أن الحد يقال على ما ينفصل به الشيء ويتميز به عن غيره، والله تعالى غير حال في خلقه ولا قائم بهم، بل هو القيوم القائم بنفسه المقيم لما سواه، فالحد بهذا المعنى لا يجوز أن يكون فيه منازعة في نفس الأمر أصلاً؛ فإنه ليس وراء نفيه إلا نفي وجود الرب، ونفي حقيقته.
وأما الحد بمعنى: (العلم والقول) ، وهو أن يحده العباد فهذا منتف بلا منازعة بين أهل السنة، قال أبو القاسم القشيري في رسالته: سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي: سمعت منصور بن عبد الله: سمعت أبا الحسن العنبري: سمعت سهل بن عبد الله التستري، يقول وقد سئل عن ذات الله فقال: ذات الله موصوفة بالعلم غير مدركة بالإحاطة ولا مرئية بالأبصار في دار الدنيا، وهي موجودة بحقائق الإيمان من غير حد ولا إحاطة ولا حلول، وتراه العيون في العقبى ظاهراً في ملكه وقدرته، قد حجب الخلق عن معرفة كنه ذاته، ودلهم عليه بآياته، فالقلوب تعرفه، والعيون لا تدركه، ينظر إليه المؤمنون بالأبصار من غير إحاطة ولا إدراك نهاية.
] .
عرفنا أن الأولى ترك الخوض في ذكر الحد، ولكن السلف رحمهم الله قصدوا بالإثبات بيان أن الرب تعالى متميز عن خلقه، فإنه فوق سماواته، وعلى عرشه، وعلي على خلقه، وهذا معنى قولهم: بائن من خلقه.
وقولهم: إنه ليس في ذاته شيء من مخلوقاته، ولا في مخلوقاته شيء من ذاته، يردون بذلك على الحلولية الذين تقدم قولهم بأول الكتاب، فيقصدون بذلك الجواب الواضح بأن الرب سبحانه وتعالى بذاته فوق سماواته على عرشه، وأنه بائن من خلقه، ومعنى قولهم: (بحد) أي: بينه وبين الخلق حد وهو معنى البينونة، ويتوقفون عند هذا.(21/9)
إثبات صفة اليد ونحوها وبيان أنها ليست أعضاء ولا أدوات
قال رحمه الله تعالى: [وأما لفظ الأركان والأعضاء والأدوات فيتسلط بها النفاة على نفي بعض الصفات الثابتة بالأدلة القطعية، كاليد والوجه، قال أبو حنيفة رضي الله عنه في الفقه الأكبر: له يد ووجه ونفس، كما ذكر تعالى في القرآن من ذكر اليد والوجه والنفس، فهو له صفة بلا كيف، ولا يقال: إن يده قدرته ونعمته لأن فيه إبطال الصفة.
انتهى.
وهذا الذي قاله الإمام رضي الله عنه ثابت بالأدلة القاطعة، قال تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75] ، وقال تعالى: {وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر:67] ، وقال تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص:88] ، {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:27] ، وقال تعالى: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} [المائدة:116] ، وقال تعالى: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام:54] ، وقال تعالى: {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} [طه:41] ، وقال تعالى: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} [آل عمران:28] .
وقال صلى الله عليه وسلم في حديث الشفاعة لما يأتي الناس آدم فيقولون له: (خلقك الله بيده، وأسجد لك ملائكته، وعلمك أسماء كل شيء) الحديث.
ولا يصح تأويل من قال: إن المراد باليد القدرة، فإن قوله: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75] ، لا يصح أن يكون معناه: بقدرتي مع تثنية اليد، ولو صح ذلك لقال إبليس: وأنا أيضاً خلقتني بقدرتك فلا فضل له عليَّ بذلك، فإبليس مع كفره كان أعرف بربه من الجهمية.
ولا دليل لهم في قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ} [يس:71] ؛ لأنه تعالى جمع الأيدي لما أضافها إلى ضمير الجمع ليتناسب الجمعان اللفظيان للدلالة على الملك والعظمة، ولم يقل: (أيدي) مضافاً إلى ضمير المفرد، ولا (يدينا) بتثنية اليد مضافة إلى ضمير الجمع، فلم يكن قوله: {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} [يس:71] نظير قوله: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75] ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه عز وجل: (حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه) .
ولكن لا يقال لهذه الصفات: إنها أعضاء أو جوارح أو أدوات أو أركان، لأن الركن جزء الماهية، والله تعالى هو الأحد الصمد لا يتجزأ سبحانه وتعالى، والأعضاء فيها معنى التفريق والتعضية -تعالى الله عن ذلك- ومن هذا المعنى قوله تعالى: {الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ} [الحجر:91] .
والجوارح فيها معنى الاكتساب والانتفاع، وكذلك الأدوات هي الآلات التي ينتفع بها في جلب المنفعة ودفع المضرة، وكل هذه المعاني منتفية عن الله تعالى، ولهذا لم يرد ذكرها في صفات الله تعالى، فالألفاظ الشرعية صحيحة المعاني سالمة من الاحتمالات الفاسدة، فلذلك يجب أن لا يعدل عن الألفاظ الشرعية نفياً ولا إثباتاً لئلا يثبت معنىً فاسد أو ينفى معنىً صحيح، وكل هذه الألفاظ المجملة عرضة للمحق والمبطل] .
قوله: (تعالى عن الحدود والغايات والأركان والأعضاء والأدوات) يقول: هذا النفي تسلط به النفاة على الصفات، فقالوا: نحن ننفي عن الله تعالى الأعضاء والأركان والأدوات، وهذا قول السلف ومنهم الإمام الطحاوي، فتسلطوا بذلك على نفي الصفات الثابتة بالأدلة، فنفوا صفة الوجه لله، ونفوا صفة النفس، ونفوا صفة اليد التي أثبتها، وصفة العين أو الأعين التي أثبتها، وغير ذلك من الصفات الواردة في القرآن والسنة نفوها بهذه الجملة، وقالوا: إنها أعضاء، وإنها أركان، وإنها أدوات.
والشارح رحمه الله بين أن الصفات ثابتة عن السلف، أعني الصفات التي أثبتها الله تعالى، فأثبت الله لنفسه صفة اليد أو اليدين في قوله تعالى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة:64] ، {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} [الملك:1] ، {بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران:26] ، وكذلك قوله مخاطباً إبليس: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75] ، فأضاف الله تعالى لنفسه صفة اليدين، فدل على أنها صفة ثابتة وإن كانت لا تشبه صفة المخلوق، ولا يدي المخلوق، ويقال: الله أعلم بكيفيتها.
ويستدل على إثبات صفة اليد بأن الله تعالى ذكرها في هذه الآيات، فذكرها مفردة في قوله: {بِيَدِهِ الْمُلْكُ} [الملك:1] ، وذكرها مثناة مضافة إلى ضمير المفرد كما في قوله: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة:64] ، وفي قوله: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75] .
وذكرها بصيغة الجمع ولكن مضافة إلى ضمير الجمع في قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا} [يس:71] ، فهنا ذكرها مضافة إلى ضمير الجمع (نا) الذي يؤتى به للتعظيم، فالله تعالى يذكر نفسه بضمير الجمع للدلالة على التعظيم، كما يقول أحد الملوك: نحن أمرنا بكذا، ونحن فعلنا كذا، وهو واحد لكن يريد بذلك التعظيم.
فالله تعالى يعظم نفسه بضمير الجمع، كما في قوله تعالى: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ} [الكوثر:1] ، {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ} [الفتح:1] ، {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ} [الحجر:9] ، {نَحْنُ قَسَمْنَا} [الزخرف:32] ، فكذلك قوله: {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} [يس:71] ، الضمير للجمع للدلالة على العظمة وأنه المستحق لأن يعظم، فهذا معنى ضمير الجمع هنا؛ لأنه قال: {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} [يس:71] جمع اليد وجمع الضمير كل ذلك لأجل العظمة.
وأثبت النبي صلى الله عليه وسلم لربه صفة اليدين في قوله صلى الله عليه وسلم: (يمين الله ملأى لا تغيضها نفقة، سحاء الليل والنهار، أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماوات والأرض؟! فإنه لم يغض ما في يمينه، وبيده الأخرى القسط يخفض ويرفع) ، وفي قوله صلى الله عليه وسلم: (المقسطون عند الله يوم القيامة عن يمين الرحمن، وكلتا يديه يمين مباركة) ، وفي قوله صلى الله عليه وسلم: (يقبض الله السماوات بيمينه ويقبض الأرض بشماله -وفي رواية: بيده الأخرى- ثم يهزهن ويقول: أنا الملك، أين ملوك الأرض؟ أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ وقرأ قوله تعالى: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غافر:16] ) ، وقرأ أيضاً لما سئل عن ذلك قول الله تعالى: {وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر:67] .
ولاشك أن هذه أدلة دالة على إثبات هذه الصفة، فيثبتها أهل السنة كما يليق بالله سبحانه وتعالى.
وقد أورد ابن كثير رحمه الله أدلة كثيرة في إثبات صفة اليد عند تفسير قوله: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ} [الزمر:67] .(21/10)
أدلة إثبات صفة الوجه والنفس
أما صفة الوجه فذكرت في الآيات كثيراً، كقوله تعالى: {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الأنعام:52] ، وقوله تعالى: {إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى} [الليل:20] ، وقوله: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص:88] ، ونحوها من الآيات.
وكذلك الحديث النبوي في قوله صلى الله عليه وسلم: (حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه) ، وفي قوله: (جنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما، وجنتان من فضة آنيتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن) ، ونحو ذلك من الأدلة، فهذه أدلة واضحة من الكتاب والسنة على إثبات هذه الصفة.
وكذلك صفة النفس، ذكر الله ذلك بقوله: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام:54] ، وقوله عن عيسى: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} [المائدة:116] ، وقوله في آيات كثيرة يذكر الله تعالى فيها إثبات هذه الصفة، فصفة النفس ذكرها الله تعالى وأثبتها وهو أعلم بنفسه، ورسوله أعلم بمرسله، فيقتصر على ما جاء في الكتاب والسنة.(21/11)
السلامة في ترك مصطلحات أهل الكلام
ثم اعتذر الشارح عن الطحاوي في استعماله لهذه الكلمات، وذكر أنه قصد حقاً، وأن هذه الصفات لا تسمى أركاناً ولا تسمى أدواتاً، ولا تسمى أعضاءً، واستدل بأن الأعضاء واحدها عضو وهو ما يتجزأ وما يمكن أن يتجزأ، والله منزه عن ذلك، وقرأ قول الله تعالى: {الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ} [الحجر:91] يعني: أقساماً وأجزاءً.
وعلى كل حال كان الأولى أن لا تذكر هذه الأشياء؛ لأن فيها حقاً وباطلاً، فينفى بها حق وباطل؛ فإن النفاة الذين هم الجهمية ونحوهم نفوا بها جميع الصفات، وتسلطوا على ما ورد في النصوص فنفوه، وقالوا: إنه أعضاء، وإنه أركان، وإنه أدوات، فلما تسلطوا بها احتاج أهل السنة إلى أن يبينوا أن الصفات لا تدخل في هذا المعنى، فقالوا: الصفات لو أثبتناها لا يصدق عليها أنها أركان ولا أنها أدوات ولا أنها أعضاء ونحو ذلك.(21/12)
لفظ الجهة ودلالته
قال رحمه الله تعالى: [وأما لفظ الجهة فقد يراد به ما هو موجود وقد يراد به ما هو معدوم، ومن المعلوم أنه لا موجود إلا الخالق والمخلوق، فإذا أريد بالجهة أمر موجود غير الله تعالى كان مخلوقاً، والله تعالى لا يحصره شيء، ولا يحيط به شيء من المخلوقات تعالى الله عن ذلك، وإن أريد بالجهة أمر عدمي وهو ما فوق العالم فليس هناك إلا الله وحده، فإذا قيل: إنه في جهة بهذا الاعتبار فهو صحيح، فمعناه أنه فوق العالم حيث انتهت المخلوقات، فهو فوق الجميع عال عليه.
ونفاة لفظ الجهة الذين يريدون بذلك نفي العلو يذكرون من أدلتهم أن الجهات كلها مخلوقة، وأنه كان قبل الجهات، وأن من قال: إنه في جهة يلزمه القول بقدم شيء من العالم، أو أنه كان مستغنياً عن الجهة ثم صار فيها، وهذا الألفاظ ونحوها إنما تدل على أنه ليس في شيء من المخلوقات، سواءٌ سمى جهة أو لم يسم، وهذا حق، ولكن الجهة ليست أمراً وجودياً بل أمر اعتباري، ولا شك أن الجهات لا نهاية لها، وما لا يوجد فيها لا نهاية له، فليس بموجود] .
هذا تفسير أو إيضاح لما ذكره الطحاوي من أنه (لا تحيط به الجهات الست كسائر المبتدعات) وقصد الطحاوي صحيح، وهو أن الرب سبحانه وتعالى لا يحيط به شيء من خلقه؛ لأن الجهات مخلوقة، فلا تحيط به جهة بمعنى (تحويه أو تحصره) وقد قال تعالى: {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه:110] ، وقال: {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} [البقرة:255] ، فإذا كانوا لا يحيطون به علماً فكذلك المخلوقات لا تحيط به، أي: لا تحصره أو تحويه، تعالى الله؛ هذا هو قصده.
والجهات الست معروفة، وهي الفوق والتحت واليمين واليسار والأمام والخلف، فمعنى أنها لا تحيط به، أي: لا يحصره جهة منها، بل هو أعظم من ذلك كما يشاء.
ثم لا ينافي ذلك أن يوصف الله تعالى بأنه فوق عباده في جهة العلو، ولكن لا يلزم من ذلك حصر ولا إحاطة ولا غير ذلك، وقد دلت الأدلة الشرعية على وصف الرب سبحانه وتعالى بصفة العلو، وسيتكلم الشارح على ذلك بتوسع في أثناء الكتاب، ويذكر الأدلة الدالة على أنه تعالى فوق مخلوقاته كما يشاء، قال الله تعالى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام:18] ، وقال: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل:50] ، وكذلك غيرها من الأدلة.(21/13)
استدراك على المصنف رحمه الله تعالى
قال رحمه الله تعالى: [وقول الشيخ رحمه الله تعالى: (لا تحويه الجهات الست كسائر المبتدعات) هو حق باعتبار أنه لا يحيط به شيء من مخلوقاته، بل هو محيط بكل شيء وفوقه، وهذا المعنى هو الذي أراده الشيخ رحمه الله لما يأتي في كلامه أنه تعالى محيط بكل شيء وفوقه.
فإذا جمع بين كلاميه وهو قوله: (لا تحويه الجهات الست كسائر المبتدعات) وبين قوله: (محيط بكل شيء وفوقه) علم أن مراده أن الله تعالى لا يحويه شيء ولا يحيط به شيء كما يكون لغيره من المخلوقات، وأنه تعالى هو المحيط بكل شيء العالي على كل شيء.
لكن بقي في كلامه شيئان: أحدهما: أن إطلاق مثل هذا اللفظ مع ما فيه من الإجمال والاحتمال كان تركه أولى، وإلا تسلط عليه وألزم بالتناقض في إثبات الإحاطة والفوقية ونفي جهة العلو، وإن أجيب عنه بما تقدم من أنه إنما نفى أن يحويه شيء من مخلوقاته، فالاعتصام بالألفاظ الشرعية أولى.
الثاني: أن قوله: (كسائر المبتدعات) يفهم منه أنه ما من مبتدع إلا وهو محوي، وفي هذا نظر؛ فإنه إن أراد أنه محوي بأمر وجودي فممنوع؛ فإن العالم ليس في عالم آخر وإلا لزم التسلسل، وإن أراد أمراً عدمياً فليس كل مبتدع في العدم، بل منها ما هو داخل في غيره كالسماوات والأرض في الكرسي ونحو ذلك، ومنها ما هو منتهى المخلوقات كالعرش، فسطح العالم ليس في غيره من المخلوقات قطعاً للتسلسل كما تقدم] .
لاحظ الشارح على صاحب المتن هاتين الملاحظتين: الأولى: يقول: إن الأولى عدم استعمال هذه الألفاظ لما فيها من الإبهام، ولما فيها من العموم الذي تسلط به الأعداء أو المبتدعة على نفي ما هو حق؛ فإنهم تسلطوا بقوله: (لا تحويه الجهات الست) على نفي جهة العلو، وبنفي الأعضاء والأركان والأدوات على نفي صفات الكمال، وجعلوا هذا دليلاً لهم، مع أن هذا غير مراد للطحاوي رحمه الله، بل مراده حق كما بينه واعتذر عنه الشارح.
الثانية: لاحظ أن قوله: (كسائر المبتدعات) يفهم منه أن المبتدعات -يعني: المخلوقات- تحويها جهة من الجهات، وهذا ليس بصحيح، فيقول: ليس كل الموجودات محوية حوتها جهة من الجهات، ومثل بالعالم وما أشبهه.
وعلى كل حال فالاقتصار على السنة والاقتصار على ما ورد في الأدلة الشرعية هو الصحيح الواضح، وهو الذي ليس فيه توقع ولا شك، وفيه كفاية، فالاقتصار على الأدلة الصحيحة والسنة الصريحة فيه الكفاية والمقنع، وكذلك الاستدلال بعبارات السلف، فالسلف رحمهم الله يعبرون بعبارات واضحة، ففيها الكفاية عن التعبير بعبارات موهمة استعملها المتأخرون وأدخلوا فيها حقاً وباطلاً.
قال رحمه الله تعالى: [ويمكن أن يجاب عن هذا الإشكال بأن (سائر) بمعنى: (البقية) لا بمعنى: (الجميع) هذا أصل معناها، ومنه السؤر، وهو ما يبقيه الشارب في الإناء.
فيكون مراده غالب المخلوقات لا جميعها؛ إذ السائر على (الغالب) أدل منه على (الجميع) ، فيكون المعنى أن الله تعالى غير محوي كما يكون أكثر المخلوقات محوياً، بل هو غير محوي بشيء -تعالى الله عن ذلك- ولا يظن بالشيخ رحمه الله تعالى أنه ممن يقول: إن الله ليس داخل العالم ولا خارجه بنفي النقيضين كما ظنه بعض الشارحين، بل مراده أن الله تعالى منزه عن أن يحيط به شيء من مخلوقاته، أو أن يكون مفتقراً إلى شيء منها، العرش أو غيره، وفي ثبوت هذا الكلام عن الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه نظر؛ فإن أضداده قد شنعوا عليه بأشياء أهون منه، فلو سمعوا مثل هذا الكلام لشاع عنهم تشنيعهم عليه به، وقد نقل أبو مطيع البلخي عنه إثبات العلو كما سيأتي ذكره إن شاء الله تعالى.
وظاهر هذا الكلام يقتضي نفيه، ولم يرد بمثله كتاب ولا سنة، فلذلك قلت: إن في ثبوته عن الإمام نظراً، وإن الأولى التوقف في إطلاقه؛ فإن الكلام بمثله خطر، بخلاف الكلام بما ورد عن الشارح كالاستواء والنزول ونحو ذلك، ومن ظن من الجهال أنه إذا نزل إلى سماء الدنيا كما أخبر الصادق صلى الله عليه وسلم يكون العرش فوقه، ويكون محصوراً بين طبقتين من العالم، فقوله مخالف لإجماع السلف مخالف للكتاب والسنة] .
لما كان بعض المنتميين إلى أبي حنيفة قد دخلهم شيء من التفسير في العقيدة نسبوا إليه أنه ممن يقول: إن الله تعالى لا داخل العالم ولا خارجه، وهذا لا شك أنه لا يقوله أبو حنيفة، بل أبو حنيفة قد أثبت الاستواء، وأثبت أن الله تعالى فوق عرشه، وأنه يدعى من أعلى، وأن العباد إذا دعوه رفعوا إليه أيديهم متضرعين إليه، واستدل بذلك كله على أن الله تعالى فوق عباده، ولم يقل هذه المقالة الشنيعة التي يستعملها النفاة.
فعلى هذا لا يظن بأحد من أئمة الإسلام كـ أبي حنيفة ولا غيره من الأئمة المتبعين المقتدى بهم أنهم يدخلون في هذه الأمور المبتدعة التي فيها تعطيل الله تعالى ونفي في صفات كماله؛ وذلك لأن صفات الكمال ثابتة لله سبحانه وتعالى عقلاً ونقلاً، والصفات التي أثبتها كلها صفات كمال، والتي نفاها لأنها تشتمل على نقص فنفاها، ونفي النقص كمال، هذه هي طريقة أهل السنة، أنهم ينفون عن الله الصفات التي نفاها عن نفسه؛ لأن في نفيها إثباتاً لأضدادها، وذلك كله من صفات الكمال.
ولا شك أن المسلم إذا اعتقد أن ربه تعالى قريب مجيب، واعتقد أنه عليم حكيم، واعتقد أنه سميع بصير، واستحضر ذلك في كل حالاته عظم قدر ربه في قلبه وأكثر من دعائه، وتعلق قلبه برجائه وخافه حق الخوف واستعد للقائه وعظمه غاية التعظيم، وهذا هو السر في تقرير أهل السنة لهذه الصفات حتى يعرف المسلمون صفات ربهم فيعبدوه حق عبادته.(21/14)
شرح العقيدة الطحاوية [22]
قد تواترت الأدلة الشرعية والعقلية على علو الله تعالى على خلقه، فيجب الإيمان به دون النظر إلى اللوازم الباطلة.
وأيضاً يجب الإيمان بالإسراء والمعراج، وهو من الغيب الذي ثبت للصديق منزلة الصديقية الإيمان به، فعلى المؤمن أن يثبت عقيدته ويصدق بكل ما صح به الدليل.(22/1)
دين الله تعالى أصله وثمرته
نحمد الله على كل حال، ونعوذ به من حال أهل النار، ونحمد الله أن جعلنا مسلمين وأعاذنا من شر البدع والمبتدعين، ونحمد الله أن اختار لنا دين الإسلام ورضيه لنا ديناً، وأتم علينا نعمته وأكمل لنا الدين، ونحمد الله أن ثبتنا على دينه، نسأله سبحانه أن يثبتنا عليه إلى الممات.
دين الإسلام الذي اختاره الله لهذه الأمة هو دينه الباقي، وهو دين الأنبياء كلهم أولهم وآخرهم، وأصله معرفة العبد ربه ودينه ونبيه، أصله الاعتراف بالله تعالى رباً وإلهاً ومدبراً، أصله التوحيد الذي هو إفراد الله بالعبادة، فبعد أن يعترف العبد بأنه سبحانه رب الأرباب ومسبب الأسباب لا إله غيره ولا رب سواه يعقد على ذلك قلبه عقداً محكماً، فيحمله هذا الاعتقاد على أن يبادر إلى الطاعة وأن يبتعد عن المعصية، ويحمله هذا الاعتقاد على أن يتفانى في خدمة ربه وفي عبادته، ويحمله هذا الاعتقاد على أن يرخص عنده كل شيء في سبيل رضا ربه سبحانه وتعالى.
ويحمله هذا الاعتقاد على أن يهجر في ذات الله كل قريب وكل بعيد، وعلى أن يرضي الله بسخط الناس كائناً من كان، وعلى أن يلتمس رضا الله بجميع ما ينفق وبجميع ما يملك ولو طلب منه ربه أن يبذل نفسه وأن يبذل ماله لكان ذلك سهلاً رخيصاً عنده؛ ذلك لأنه يعلم أن رضا ربه فيه الفوز وفيه السعادة، وفيه تحصيل خيري الدنيا والآخرة.
ولكن ذلك كله يتوقف على عقيدة القلب العقيدة السليمة الصحيحة التي هي معرفة الله تعالى بكامل صفاته، معرفته بما يستحقه من صفات الكمال ونعوت الجلال، وإثبات الأسماء الحسنى والصفات العلى التي يستحق بها أن يعظم حق التعظيم، وأن يطاع فلا يعصى، وأن يذكر فلا ينسى، وأن يشكر فلا يكفر، ويستحق أن يعبد حق عبادته ويطاع حق طاعته، وتلك العقيدة إذا رسخت في القلب وتمكنت منه فلن تزعزعها شبهة، ولن يزيلها مزيل مهما كانت العوائق ومهما كانت الظروف.
ولاشك أن هذه العقيدة لما رسخت في قلوب الصحابة رضي الله عنهم رأينا لها الآثار، ونزل فيهم قول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ} [التوبة:111] .
إلى آخر الآيات.
ونتذكر أن كل من اعتقد هذه العقيدة وثبتت في قلبه ثبوتاً ورسخت رسوخ الجبال أنه يعرف بذلك بعمله، ويعرف بتفانيه بحيث لا تأخذه في الله لومة لائمة، ولو دعي إلى أن يخرج من ماله ونفسه لما توقف في ذلك، فهذه علامة الصدق وعلامة الصادق في هذه العقيدة.
روي عن ابن عباس رضي الله عنه في قول الله تعالى: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ} [النساء:66] يقول: أنا من ذلك القليل، لو كتب الله علينا أن نقتل أنفسنا لفعلنا، أو أن نخرج من أموالنا وديارنا لخرجنا.
وهكذا كل مؤمن، ولكن كل مؤمن صادق وكل مؤمن مصدق وكل مؤمن سليم الإيمان كامل الإيمان يؤمن بأن ما عند الله خير وأبقى، ويؤمن بأن ربه هو الذي أعطاه، وهو الذي يملكه، وهو الذي طلب منه سبحانه وتعالى هذا الطلب، فيهون عليه ذلك الطلب.
إذاً فمعرفة العقيدة الإسلامية التي هي عقيدة المسلمين مهمة غاية الأهمية، وأصل هذه العقدية -كما قلنا- هو معرفة الله سبحانه وتعالى بأسمائه وصفاته، وهذا هو السبب في أن الرب سبحانه تعرف إلى عباده، فإذا قيل لك: بم عرفت ربك؟ فقل: بآياته ومخلوقاته، قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ} [فصلت:37] ، وأكبر مخلوقاته السماوات والأرض، بل ومن مخلوقاته خلقك بنفسك، خلق جنس الإنسان، وخلق الأرض وما بث فيها من دابة، ولا شك أن هذه من أكبر الآيات الدالة على أنه خالق وعلى كل شيء قدير، وإذا كان هو الخالق لهذا الخلق فإنه كما قال ابن كثير المستحق للعبادة.
فيعرفه العباد ويصفونه بصفات الكمال، فيصفونه بأنه هو السميع الذي لا يحجب سمعه شيء، ولا تشتبه عليه الأصوات، وبأنه البصير الذي لا يستر بصره حجاب، وبأنه يرى عباده مهما كان ويرى كل شيء ولا تخفى عليه من عباده خافية، وبأنه العليم الذي يعلم كل ما دق وجل، وكل ما قدم وحدث، وكل كبيرة وصغيرة وبأنه الرحيم بعباده، وبأنه عزيز ذو انتقام، وبأنه صادق الوعد، وبأنه مالك الملك، وبأنه كامل الصفات له الصفات الكاملة التي أثنى بها على نفسه سبحانه ووصفه بها رسوله، فيصفونه بذلك.
فيتعلمون هذه الصفات وأدلتها، وإذا عرفوا أدلتها لا شك أنها يكون لها تأثير في قلوبهم، وتأثيرها في قلوبهم بعد رسوخها بأن تنطق ألسنتهم بذكره، وتخشع قلوبهم لهيبته، وتشتغل أبدانهم كلها بطاعته سبحانه، ويعرفون ما يحبه فيتقربون إليه بكل محبوب، ويعرفون ما يكرهه ويبغضه فيبتعدون عنه غاية البعد، ويعرفون أسباب رضاه فيأتون بها، فذلك هو السبب في التركيز على علم العقيدة.
إذاً فاهتم -أيها الأخ المسلم- بعلم العقيدة حتى ترسخها في قلبك وفي قلب كل مسلم، وتعرف بذلك صادق العقيدة من غيره الذي يعبد الله على شفا جرف.(22/2)
المعصية دليل على نقص قدر الرب في القلب
واعلم أن كل من رأيته مقصراً في الطاعة، أو كل من رأيته مرتكباً لشيء من المعاصي، فإن ذلك لنقص قدر ربه في قلبه، فقدر الله تعالى وعظمة الرب في القلب لا شك أن لها تأثيرها، فإذا نقص قدرها في القلب ظهرت المعاصي، وظهر التقصير في الطاعات، وظهر ارتكاب شيء من المكروهات أو من المحرمات، فهذه علامة واضحة على كمال الإيمان وثبوته ورسوخه في القلب وعلى نقصه، وهذا هو السبب في تركيزنا على علم العقيدة في هذا الدرس، وكذلك غيرنا من الذين يهتمون به في هذه العقيدة الطحاوية، وفي غيرها من كتب العقائد، فليهتم المسلمون بأمر عقيدتهم، وليعرفوا فوائدها، وليتعبدوا ربهم بموجبها.(22/3)
إثبات صفة علو الله تعالى على خلقه
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال شيخ الإسلام أبو عثمان إسماعيل بن عبد الرحمن الصابوني: سمعت الأستاذ أبا منصور بن حمشاذ -بعد روايته حديث النزول- يقول: سئل أبو حنيفة فقال: ينزل بلا كيف.
انتهى.
وإنما توقف من توقف في نفي ذلك لضعف علمه بمعاني الكتاب والسنة وأقوال السلف، ولذلك ينكر بعضهم أن يكون فوق العرش، بل يقول: لا مباين ولا محايث، ولا داخل العالم ولا خارجه.
فيصفونه بصفة العدم والممتنع، ولا يصفونه بما وصف به نفسه من العلو والاستواء على العرش.
ويقول بعضهم بحلوله في كل موجود، أو يقول: هو وجود كل موجود، ونحو ذلك، تعالى الله عما يقول الظالمون والجاحدون علواً كبيراً.
وسيأتي لإثبات صفة العلو لله تعالى زيادة بيان عند الكلام على قول الشيخ رحمه الله: (محيط بكل شيء وفوقه) إن شاء الله تعالى] .
من صفات الله سبحانه وتعالى أنه القاهر فوق عباده، قال تعالى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} [الأنعام:18] ، وقال تعالى: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل:50] ، فيؤمن العباد بهذا القهر الذي مقتضاه الغلبة والإحاطة، والقهر: هو قوة الغلبة، بمعنى أنه غالب متصرف في العباد ليس لهم قدرة على التصرف في أنفسهم بدون اختيار الله وقضائه وتدبيره.
ومن صفاته سبحانه أنه هو العلي بجميع أنواع العلو، علو القدر وعلو القهر وعلو الذات، وكذلك فوقية القدر وفوقية القهر وفوقية الذات، ولا شك أن هذه الصفات قد دلت عليها الأدلة السمعية من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي هي مرجع الإسلام في الاستدلال، فمرجع المسلمين في استدلالهم على صفات ربهم هذه النصوص الثابتة المنقولة عن نبيهم نقلاً ثابتاً متواتراً.
ولاشك أن هذا الإثبات للفوقية بجميع أنواعها يستلزم أن يكون الرب سبحانه وتعالى بكل شيء عليم؛ فإنه إذا كان قاهراً لعباده وقادراً عليهم وعالماً بهم ومطلعاً عليهم، ويرى صغيرهم وكبيرهم وخفيهم وجليهم، كان ذلك دالاً على عظمته وعلى إحاطته.
والمخلوقون حقيرون بالنسبة إلى عظمة ربهم، فالمخلوق الذي هو الإنسان جزء صغير من مخلوقات الله، والأرض التي نحن عليها والسماوات التي فوقنا ومحيطة بنا جزء صغير أيضاً من مخلوقات الله سبحانه وتعالى، قال تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر:67] ، فإذا كانت الأرض قبضته، والسماوات مطويات بيمينه فما مقدار الإنسان؟! وما قدره في هذا الكون؟! قال ابن عباس رضي الله عنهما: ما السماوات والأرض في كف الرحمن إلا كحبة خردل في يد أحدكم، وحبة الخردل هي أصغر ما يُتَصَوَّر من الحبوب، فالخردل شجر معروف وحبه صغير جداً، فيقول: إذا قبض أحدكم حبة خردل في كفه هل يحس بأنها تشغل مكاناً؟! كذلك السماوات السبع والأرضون السبع يقبضها الله وكأنها حبة خردل في يد أحدكم.
فإذاً هذا دليل على العظمة، وأن علوه سبحانه وتعالى فوق عباده لا ينافي علمه، ولا ينافي اطلاعه، ولا ينافي علمه بعباده، ولا ينافي رؤيته لهم وقربه منهم وهيمنته عليهم ونظره إليهم وعلمه بأحوالهم وبأقوالهم وسماعه لأصواتهم، وما أشبه ذلك، ألا يكون العبد مستحضراً لذلك في كل حالاته حتى يعبد ربه غاية العبادة، وحتى يخافه غاية الخوف، إذاً فمن أصل عقيدة أهل السنة الاعتقاد بالفوقية لله، وأن ذلك لا ينافي علمه وقربه واطلاعه على عباده.
كذلك عليه أن يعرف العقائد الفاسدة فيجتنبها، أو يركز على عقيدة السلف والأئمة وأهل السنة ويعرض عما سواها من عقائد المبتدعة، كوحدة الوجود والحلوليين ونحوهم من الفرق الضالة الذين أنكروا علو الله وقالوا: إنه لا فوق ولا تحت، ولا مباين ولا محايث.
أو: إن وجوده هو وجود الكون، أو: إنه حال في المخلوقات بذاته -تعالى الله عما يقولون-، فكل أولئك لم يثبت الإيمان في قلوبهم ولم ترسخ معرفة الله وعقيدة الإسلام في أفئدتهم، فوسوس إليهم الشيطان أن ذات الله حالة فيكم أو في كل مكان، أو أن وجوده هو وجود الكون أو ما أشبه ذلك، يريدون بذلك أن يبرروا مذاهبهم، فعلى المسلم أن يعرف العقيدة السليمة وأن يعتقدها ويتعبد لله تعالى بموجبها.(22/4)
الإسراء والمعراج وما ورد فيهما
قال رحمه الله تعالى: [قوله: (والمعراج حق، وقد أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم وعرج بشخصه في اليقظة إلى السماء، ثم إلى حيث شاء الله من العلا، وأكرمه الله بما شاء، وأوحى إليه ما أوحى {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم:11] ، فصلى الله عليه في الآخرة والأولى.
المعراج: مفعال من العروج.
أي: الآلة التي يُعرج فيها أي: يصعد، وهو بمنزلة السلَّم، لكن لا نعلم كيف هو، وحكمه كحكم غيره من المغيَّبات نؤمن به ولا نشتغل بكيفيته.
وقوله: (وقد أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم وعرج بشخصه في اليقظة) اختلف الناس في الإسراء: فقيل: كان الإسراء بروحه ولم يُفْقد جسده، نقله ابن إسحاق عن عائشة ومعاوية رضي الله عنهما، ونقل عن الحسن البصري نحوه.
لكن ينبغي أن يعرف الفرق بين أن يقال: كان الإسراء مناماً، وبين أن يقال: كان بروحه دون جسده، وبينهما فرق عظيم، فـ عائشة ومعاوية رضي الله عنهما لم يقولا: كان مناماً، وإنما قالا: أسري بروحه ولم يُفْقد جسده.
وفرقٌ ما بين الأمرين؛ إذ ما يراه النائم قد يكون أمثالاً مضروبة للمعلوم في الصورة المحسوسة، فيرى كأنه قد عرج به إلى السماء وذُهِب به إلى مكة وروحه لم تصعد ولم تذهب، وإنما ملك الرؤيا ضرب له المثال، فما أرادا أن الإسراء كان مناماً، وإنما أرادا أن الروح ذاتها أسري بها ففارقت الجسد ثم عادت إليه، ويجعلان هذا من خصائصه؛ فإن غيره لا تنال ذات روحه الصعود الكامل إلى السماء إلا بعد الموت وقيل: كان الإسراء مرتين: مرة يقظةً ومرة مناماً، وأصحاب هذا القول كأنهم أرادوا الجمع بين حديث شريك وقوله: (ثم استيقظت) وبين سائر الروايات.
وكذلك منهم من قال: بل كان مرتين: مرة قبل الوحي ومرة بعده.
ومنهم من قال: بل ثلاث مرات: مرة قبل الوحي ومرتين بعده.
وكلما اشتبه عليهم لفظ زادوا مرة للتوفيق، وهذا يفعله ضعفاء أهل الحديث، وإلا فالذي عليه أئمة النقل أن الإسراء كان مرة واحدة بمكة بعد البعثة قبل الهجرة بسنة، وقيل: بسنة وشهرين، ذكره ابن عبد البر] .(22/5)
إثبات الإسراء والمعراج من عقائد أهل السنة
من عقائد أهل السنة الإيمان بأن النبي صلى الله عليه وسلم عرج به إلى السماء وفرضت عليه الصلوات الخمس في ليلة المعراج، وأن ذلك كان بمكة قبل الهجرة بثلاث سنين أو نحوها، وكذلك من عقائدهم ثبوت الإسراء.
وقد ذكر الله تعالى الإسراء، قال تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلَاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} [الإسراء:1] أخبر في الحديث أنه أسري به، يعني: ذُهب به من مكة إلى أن وصل إلى المسجد الأقصى الذي هو مسجد إيلياء، المسجد الأقصى الذي هو الآن معروف.
هذا المسجد هو أحد المساجد الثلاثة، ويُعرف بالمسجد الأقصى، وهو قبلة النبي صلى الله عليه وسلم قبل الهجرة، وبعد الهجرة أيضاً ظل يستقبله ستة عشر أو سبعة عشر شهراً، فلذلك يقال: إنه أولى القبلتين.
ويقال: إنه مسرى النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أحد المساجد الثلاثة التي تشد إليها الرحال، قال صلى الله عليه وسلم: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى) بمعنى أنه يجوز أن يسافر إليه لأجل فضل الصلاة فيه، فالصلاة فيه تعدل خمسمائة صلاة في غيره، والصلاة في المسجد النبوي تعدل ألف صلاة في غيره إلا المسجد الحرام، والصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف كما ورد ذلك في الأحاديث، فهذه الثلاثة هي التي يُشد إليها الرحال.
فمسجد إيلياء يسمى مسجد بيت المقدس أو البيت المقدس الذي بناه سليمان عليه السلام، وقد قيل: إنه جدَّده.
وقيل: إنه أول من بناه.
والصحيح أنه بُني قديماً، ثبت في الحديث أنه عليه السلام سئل: (أي المساجد بُني أولاً؟ قال: المسجد الحرام.
قيل: ثم ماذا؟ قال: المسجد الأقصى.
قيل: كم بينهما؟ قال: أربعون عاماً) ، فدل على أنه بُني قديماً؛ لأن المسجد الحرام بناه إبراهيم، وقيل: إن إبراهيم جدَّده، فعلى هذا يكون المسجد الأقصى قديماً.
فالحاصل أنه عليه الصلاة والسلام أسري به ليلاً من المسجد الحرام، أي: من مكة إلى المسجد الأقصى، وأنه جُمع له الأنبياء هناك، وأنه أَمَّهم كما في بعض الروايات.
فأنكرت كفار قريش لما أخبرهم بأنه أسري به وكذبوه وقالوا: إن المسافر إلى بيت المقدس يذهب شهراًَ ويرجع شهراً، وأنت تذهب في ليلة وترجع في ليلتك؟! هذا كذب وهذا محال! حتى إن بعض من كان قد أسلم رجع عن الإسلام، ولكن لما قيل لـ أبي بكر: إن صاحبك زعم أنه الليلة وصل إلى الشام ورجع! فقال: صدق، إني أصدقه فيما هو أبعد من ذلك، أصدقه أن خبر السماء ينزل عليه صباحاً ومساءً، فكيف لا أصدقه إذا أسري به إلى المسجد الأقصى ثم رُجِع به؟! وفي بعض الأحاديث أنه أتاه جبريل ومعه دابة يقال لها البراق، هذه الدابة هي كما خلق الله، وكان البراق يضع حافره عند منتهى طرْفه، فخطوته الواحدة مد البصر، يضع حافره عند منتهى طرْفه، أي أن سيره أسرع من لمحة البصر، فقطع هذه المسافة في هذه اللحظات، ووصل إلى هناك ثم رجع، وهذا هو الإسراء.(22/6)
الإسراء والمعراج بروحه وجسده صلى الله عليه وسلم
والصحيح أنه أسري ببدنه وبروحه، وأن الإسراء كان يقظةً لا مناماً، وذلك لأن قريشاً أنكرت هذا الإسراء واستبعدته، ولم تكن تنكر المنامات، فلو قال: إن ذلك منام، أو إن ذلك أحلام أو رؤيا لصدقوه؛ لأن الإنسان يرى في منامه أنه قطع مسافات وأنه وصل إلى كذا وكذا وهو نائم على فراشه لم يفارقه، فيعترفون بذلك، ولكن لما أخبرهم بهذا كذبوه، فدل على أن الإسراء كان بجسده، وأنه ركب البراق حقيقةً وذهب ورجع، وأخبرهم بآيات وبدلالات، واستوصفوا منه بيت المقدس، واستوصفوا المسجد الأقصى، فعند ذلك وصفه لهم وصفاً دقيقاً، وفي بعض الروايات أن الله تعالى جلَّاه له لما التبس عليه بعض الأشياء، فكشفه له وصوره أمامه فصار يصفه وهم يسألونه فيقول: هذا مكان كذا وهذا مكان كذا، مع أنه لم يأته إلا تلك اللحظة أو تلك اللحظات، فاعترفوا بأن الوصف مطابق لما هو عليه في الحقيقة.
فالإسراء كان يقظةًَ لا مناماً، بجسده وبروحه.
وهناك من يقول: إن الإسراء بالروح فقط، أي أن روحه خرجت وفارقت جسده، وأن الجسد بقي ليس فيه روح، وأن الروح صارت لخفتها فوصلت إلى ذلك المكان، ولكن هذا قول من الأقوال قد استدلوا عليه بقول الله تعالى في سورة الإسراء: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ} [الإسراء:60] ، ولكن الرؤيا ليست مطلق الحلم، بل الرؤيا كل شيء يُرى ويراه الإنسان يسمى رؤيا، فرؤية الأشخاص، قد تسمى في اللغة رؤيا.(22/7)
الأدلة على المعراج
أما المعراج فالمعراج هو الصعود إلى السماء، وقد دل عليه من القرآن آيات كريمات في أول سورة النجم، في قوله سبحانه وتعالى: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى * مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم:5-11] إلخ الآيات.
فإن هذا دليل على أنه رفع جسده حتى كان قاب قوسين أو أدنى، والقوس معروف، وهو الآلة التي يُرمى بها، يعني أنه دنا من ربه فتدلى، يعني: هبط.
فهذه الآيات ونحوها دلالتها على أنه رُفع وأنه أسري به وأنه رأى الملَك في قوله: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى} [النجم:13-15] .
وقوله: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى * لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} [النجم:17-18] .
وقوله: {أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى} [النجم:12] .
كل ذلك كان في المعراج حين عُرِج به، والآيات فيها إجمال ذلك، والأحاديث فيها التفصيل لذلك كله، كما هو معروف في كتب الحديث.
فالأحاديث التي في الإسراء في الصحيحين وفي غيرهما، وقد أورد ابن كثير في أول تفسير سورة الإسراء جملة كثيرة من أحاديث الإسراء والمعراج، وأفردها كثير من العلماء بالتأليف وتوسعوا فيها.
فنقول: من العلماء من يقول إن الإسراء كان بالروح كما روي ذلك عن عائشة وغيرها أن الجسد لم يُفقد.
ومنهم -وهو الصحيح- من يقول: إنه كان يقظة لا مناماً، وإنه بالجسد والروح معاً، وإن جسده عُرج به بحيث اخترق السبع السماوات سماءً سماءً، ووجد الأنبياء في السماء وسلم على من وجد منهم، وفُرضت عليه الصلوات، وكلمه الله منه إليه وخاطبه، وخفف عنه عشراً عشراً إلى أن استقرت خمس صلوات، فقال الله تعالى: (لا يُبَدَّل القول لدي، أمضيتُ فريضتي وخففت عن عبادي) يعني: عندما خففت الصلوات إلى خمس فرائض.
كل ذلك كان ليلة الإسراء، فالذين قالوا: إن الإسراء تكرر هؤلاء كأنهم يريدون الجمع بين الروايات، ولكن الصحيح أن الإسراء والمعراج لم يتكرر، وإنما هو مرة واحدة، وفي ليلة واحدة، عُرج به من بيت المقدس إلى السماء ثم نزل في ليلته، وما ذلك على الله بعزيز.(22/8)
حديث الإسراء والمعراج
قال رحمه الله تعالى: [قال الشيخ شمس الدين ابن القيم: يا عجباً لهؤلاء الذين زعموا أنه كان مراراً! وكيف ساغ لهم أن يظنوا أنه في كل مرة تُفرض عليهم الصلوات خمسين، ثم يتردد بين ربه وبين موسى حتى تصير خمساً، فيقول: (أمضيتُ فريضتي وخففت عن عبادي) ، ثم يعيدها في المرة الثانية إلى خمسين، ثم يحطها إلى خمس؟! وقد غَلَّط الحفاظ شريكاً في ألفاظ من حديث الإسراء، ومسلم أورد المسند منه ثم قال: (فقدَّم وأخَّر وزاد ونقص) ولم يسرد الحديث، فأجاد رحمه الله.
انتهى كلام الشيخ شمس الدين رحمه الله.
وكان من حديث الإسراء أنه صلى الله عليه وسلم أسري بجسده في اليقظة -على الصحيح- من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى راكباً على البراق صحبةَ جبريل عليه السلام، فنزل هناك، وصلى بالأنبياء إماماً، وربط البراق بحلقة باب المسجد، وقد قيل: إنه نزل ببيت لحم وصلى فيه، ولا يصح عنه ذلك البتة.
(ثم عُرج به من بيت المقدس تلك الليلة إلى السماء الدنيا، فاستفتح له جبريل ففُتِح له، فرأى هناك آدم أبا البشر فسلم عليه فرحب به ورد عليه السلام وأقر بنبوته، ثم عرج به إلى السماء الثانية فاستفتح له، فرأى فيها يحيى بن زكريا وعيسى بن مريم فلقيهما فسلم عليهما، فردا عليه السلام ورحبا به وأقرا بنبوته، ثم عرج به إلى السماء الثالثة، فرأى فيها يوسف فسلم عليه، فرد عليه السلام ورحب به، وأقر بنبوته، ثم عرج به إلى السماء الرابعة، فرأى فيها إدريس فسلم عليه، ورحب به، وأقر بنبوته، ثم عرج به إلى السماء الخامسة، فرأى فيها هارون بن عمران فسلم عليه، ورحب به، وأقر بنبوته، ثم عرج إلى السماء السادسة، فلقي فيها موسى فسلم عليه، ورحب به، وأقر بنبوته، فلما جاوزه بكى موسى، فقيل له: ما يبكيك؟ قال: أبكي لأن غلاماً بُعث بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر مما يدخلها من أمتي، ثم عرج به إلى السماء السابعة، فلقي فيها إبراهيم فسلم عليه، ورحب به، وأقر بنبوته، ثم رُفع إلى سدرة المنتهى، ثم رُفع له البيت المعمور، ثم عرج به إلى الجبار جل جلاله وتقدست أسماؤه، فدنا منه حتى كان قاب قوسين أو أدنى فأوحى إلى عبده ما أوحى، وفرض عليه خمسين صلاة.
فرجع حتى مر على موسى فقال: بم أمرت؟ قال: بخمسين صلاة، فقال: إن أمتك لا تطيق ذلك، ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك، فالتفت إلى جبريل كأنه يستشيره في ذلك، فأشار أن نعم إن شئتَ، فعلا به جبريل حتى أتى به الجبار تبارك وتعالى وهو في مكانه -هذا لفظ البخاري في صحيحه، وفي بعض الطرق- فوضع عنه عشراً، ثم نزل حتى مر بموسى فأخبره فقال: ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف، فلم يزل يتردد بين موسى وبين الله تبارك وتعالى حتى جعلها خمساً، فأمره موسى بالرجوع وسؤال التخفيف فقال: قد استحييت من ربي، ولكن أرضَى وأسلم، فلما نفذ نادى منادٍ: قد أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي) ] : هكذا سرد الشارح مجمل حديث الإسراء والمعراج، وهذا على وجه الاختصار، ومن أراد التوسع فليراجعه في صحيح مسلم (باب الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم) وفي صحيح البخاري في آخره في كتاب التوحيد، وفي كتب أهل السنة.
وقد ذكرنا أن ابن كثير في أول تفسير سورة الإسراء أورد أكثر الروايات وساقها بنصها كما هي، وملخصها ما ذكر من أنه صلى الله عليه وسلم أتاه الملَك وهو في مكة في بيت أم هانئ، وأتى به إلى المسجد، وفي بعض الروايات أنه غسل قلبه، وملأه حكمةً وإيماناً، غسله من ماء زمزم وملأه، ثم ركب معه على البراق الذي هو دابة الله أعلم بكيفيتها، يضع حافره عند منتهى طرفه، لسرعة سيره، فوصل إلى بيت المقدس في لحظات، ثم صلى بالأنبياء هناك، وبعد ذلك عُرج به إلى السماء.
والعروج لا شك أنه الرُّقِي والصعود، ولا يُعلم كيفية ذلك، ولا شك أنه عُرج بجسده وروحه، إما على نفس الدابة التي هي البراق، وإما أن جبريل حمله فخرق هذا الجو الواسع في لحظات حتى أتى إلى باب السماء الدنيا، فاستفتح الباب فقيل: من هذا؟ قال: جبريل.
قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم.
قيل: مرحباً بك وبمن جاء معك، ففتح له، فوجد في السماوات أولئك الأنبياء في سماء بعد سماء، فوجد آدم في السماء الدنيا، فسلم عليه، وفي بعض الروايات أنه رآه وعنده أسْوِدَة عن يمينه وأسْوِدَة عن يساره، فإذا نظر إلى مَن عن يساره بكى، وإذا نظر إلى من عن يمينه ضحك، فالذي عن يمينه نَسَم أهل الجنة، والذي عن يساره نَسَم أهل النار، أي: أرواح تعرض عليه من أهل الجنة ومن أهل النار، وهي نَسَم بنيه.
فقيل: إن هذا روحه أي: روح آدم تمثلت هناك، وكذلك أرواح الأنبياء الآخرين مُثِّلت هناك، ويمكن أن تكون جُعلت في أجساد تناسبها وتلائمها، والله أعلم بكيفية تلك الأجساد.(22/9)
لزوم الإيمان بالإسراء والمعراج دون اعتراض
والحاصل أنه عليه الصلاة والسلام -كما أخبر الله- عُرج به حتى كان قاب قوسين أو أدنى، وأوحى الله تعالى إليه، ورفعه إلى مستوىً سمع فيه صريف الأقلام، ومر على البيت المعمور الذي في السماء السابعة، وأخبر بأنه يدخله كل يوم سبعون ألف ملَك من تلك السماء، ثم لا يعودون إليه، وكل يوم يدخل فيه غيرهم، وذلك هو البيت الذي ذكره الله في قوله: {وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ} [الطور:4] .
ثم فرضت عليه هذه الصلوات أولاً خمسين صلاة، وخففها الله حتى صارت خمساً، فقال الله: (أمضيت فريضتي، وخففت عن عبادي) ، ورجع في ليلته إلى الأرض وأصبح في مكة، وذلك يسير في قدرة الله سبحانه وتعالى.
فيؤمن أهل السنة بذلك، ولو استنكر ذلك من استنكره من المبتدعة ونحوهم، وذلك أن من لا علم عنده، أو من لا يؤمن إلا بالمحسوسات ونحوها قد يستبعد ويقول: إن الإنسان على هذه الأرض، وإنه لا يمكن أن يعيش إذا فارقها، وإنه إنما يعيش بهذا الأكسجين الذي يعيش به.
نقول: كيف لا يجوز أن يكون أهل السماء يعيشون كما يعيش أهل الأرض، وأن يكون عندهم مثلما يكون عند أهل الأرض، والله تعالى على كل شيء قدير؟ وعلى كل حال فالذين يستبعدون ذلك ويقولون: إنه مستحيل أن يفارق الإنسان هذه الأرض أو يرتفع إلى غيرها أو ما أشبه ذلك؛ كل ذلك تخبطات وتخرصات.
وكذلك الذين استنكروه للبعد وقالوا: كيف يقطع هذه المسافات ونحوها؟! وقد سبق أن أبا بكر رضي الله عنه صدقه وقال: كيف لا أصدقه وهو يأتيه خبر السماء؟ ينزل عليه الملك في لحظات ويصعد في لحظات كطرف العين، فلماذا لا نصدقه؟ وما دمنا عرفنا أنه قد صدق في دعواه أنه مرسل من ربه فكذلك دعواه أنه بُعث وأنه جاء بهذه الشريعة، وهكذا أيضاً ما جاء به من هذا الإسراء والمعراج.
لا شك أيضاً أن هذا يعتبر شرفاً، ويعتبر ميزةً له، ويعتبر فضيلةً من فضائله عليه الصلاة والسلام أنه عُرج به في الحياة، وأنه صعد إلى السماء السابعة، وأنه كلمه ربه منه إليه، وأنه وصل إلى مكان سمع فيه صريف الأقلام، وأن الله خاطبه منه إليه كما يشاء.
فهذا من فضائله، ويذكر مع فضائله أنه جاوز السبع الطباق، أي: السبع السماوات، ورفعه الله فوقها.
فهذا أدخلوه في العقيدة، وذلك لأنه من حقوق النبي صلى الله عليه وسلم وميزته وخصائصه، مما يقد يكذِّب به مَن قَصُر علمُه عن معرفة المغيَّبات واقتصر على ما يظن أنه ظاهر، أو اقتصر على ما تدركه حواسه دون أن يؤمن بقدرة الله على كل شيء، ومن آمن بأن الله تعالى على كل شيء قدير لم يستبعد مثل هذا الحادث العظيم.(22/10)
رؤيته صلى الله عليه وسلم ربه في المعراج
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد تقدم ذكر اختلاف الصحابة في رؤيته صلى الله عليه وسلم ربَّه عز وجل بعين رأسه، وأن الصحيح أنه رآه بقلبه، ولم يرَه بعين رأسه، وقوله: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم:11] ، {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} [النجم:13] صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن هذا المرئي جبريل، رآه مرتين على صورته التي خُلِق عليها.
وأما قوله تعالى في سورة النجم: {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى} [النجم:8] فهو غير الدنو والتدلِّي المذكورَين في قصة الإسراء؛ فإن الذي في سورة النجم هو دنو جبريل وتدليه، كما قالت عائشة وابن مسعود رضي الله عنهما؛ فإنه قال: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى} [النجم:5-8] ، فالضمائر كلها راجعة إلى هذا المعلِّم الشديدِ القُوَى.
وأما الدنو والتدلي الذي في حديث الإسراء فذلك صريحٌ في أنه دنوُّ الرب تعالى وتدليه، وأما الذي في سورة النجم أنه {رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى} [النجم:13-14] فهذا هو جبريل، رآه مرتين: مرةً في الأرض ومرةً عند سدرة المنتهى] .(22/11)
الدليل على أن الإسراء كان بجسده صلى الله عليه وسلم
وقال المؤلف: [ومما يدل على أن الإسراء بجسده في اليقظة قوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلَاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى} [الإسراء:1] ، والعبد عبارة عن مجموع الجسد والروح، كما أن الإنسان اسم لمجموع الجسد والروح، هذا هو المعروف عند الإطلاق وهو الصحيح، فيكون الإسراء بهذا المجموع، ولا يمتنع ذلك عقلاً، ولو جاز استبعاد صعود البشر لجاز استبعاد نزول الملائكة، وذلك يؤدي إلى إنكار النبوة وهو كفر.
فإن قيل: فما الحكمة في الإسراء إلى بيت المقدس أولاً؟ فالجواب -والله أعلم- أنه كان ذلك إظهاراً لصدق دعوى الرسول صلى الله عليه وسلم المعراج حين سألته قريش عن نعت بيت المقدس، فنعته لهم وأخبرهم عن عِيرهم التي مر عليها في طريقه، ولو كان عروجه إلى السماء من مكة لما حصل ذلك؛ إذ لا يمكن إطْلاعهم على ما في السماء لو أخبرهم عنه، وقد اطلعوا على بيت المقدس فأخبرهم بنعته.
وفي حديث المعراج دليل على ثبوت صفة العلو لله تعالى من وجوه لمن تدبره.
وبالله التوفيق] .(22/12)
تفسير آيات سورة النجم في المعراج
هذه الآيات من سورة النجم، وهي قول الله تعالى: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} [النجم:5] المعلَّم هو النبي صلى الله عليه وسلم، والمعلِّم شديد القوى هو الملك، أي: جبريل عليه السلام.
وقوله: (ذُو مِرَّةٍ) أي: ذو قوة.
(فَاسْتَوَى) : الاستواء هنا: الارتفاع.
(وَهُوَ بِالأُفُقِ) : أي ارتفع بالأفق الأعلى، والأفق: واحد الآفاق، وهي الجهات المتقابلة، فعلَّمه واستوى وارتفع {وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى} [النجم:7] .
(ثُمَّ دَنَا) أي: قرُب منه، وذلك أيضاً بعدما عُرج به إلى السماء.
{ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى} [النجم:8] : التدلي والدنو هنا للملَك الذي هو جبريل، أي: قرب منه وتدلى.
يعني: انحدر إليه ونزل إليه.
{ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} [النجم:8-9] القوس: هو الآلة التي يُرمى بها، كانوا يرمون به بالسهام قبل وجود الأسلحة.
فيقول: إنه دنا منه وقرُب منه وهو يراه، حتى كان منه قدر قوسين أو أقرب من القوسين، هذا معنى {دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} [النجم:8-9] .
وأما قوله: {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} [النجم:10] فلا شك أن الوحي من الله تعالى، فهو الذي أوحى إلى عبده، وسواءٌ أكان العبد هو الملَك أم البشر فالوحي من الله إلى الملَك الذي هو جبريل، ومن الملك إلى البشر الذي هو محمد عليهما الصلاة والسلام، أوحى إليه الشيء الذي أوحى، {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} [النجم:10] .
أما قوله: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم:11] فالرؤية هنا قلبية، أي: ما كذَّب الفؤاد بالرؤية التي رآها، وهذا دليل على أنه صلى الله عليه وسلم كُشف له وأعطي مكاشفات وأنواراً وفتوحات فُتحت على قلبه فاستنار قلبه، فأصبح كأنه يرى ربه رأي عين وإن كان مع ذلك إنما رآه رؤية بالقلب.
وهذا معنى قول السلف: إنه صلى الله عليه وسلم رآى ربه بقلبه.
أي: بتلك الكشوفات والفتوحات والواردات التي ترد على قلبه مما يطمئن به ويقوى بذلك يقينه، فهذا دليل على أنه لم يَرَ ربه رؤيةً بصرية؛ لقوله في الحديث السابق لما قيل له: هل رأيت ربك؟ فقال: (نورٌ أنى أراه؟!) أي: دونه أنوار فكيف أراه؟! وفي رواية: (رأيت نوراً) ، فإذاً الرؤية هنا رؤية قلبية.
{مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ} [النجم:11] ، وفي قراءة: {مَا كَذَّبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم:11] أي: لم يكذِّب بما رآه من الكشوفات والإلهامات والواردات التي وردت عليه، {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم:11] .
وأما قوله: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} [النجم:13] فالرؤية هنا أيضاً للملك، أي: ولقد رأى جبريل عليه السلام نزله أخرى أي: مرةً أخرى.
فهذه مرة رأى فيها جبريل عليه السلام وهو في السماء على الهيئة والصورة التي خلق عليها وقد سد الأفق، وله ستمائة جناح، والمرة الأولى ذُكرت في سورة {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} [التكوير:1] في قوله تعالى: {وَلَقَدْ رَآهُ بِالأُفُقِ الْمُبِينِ} [التكوير:23] ، فرآه بالأفق الأعلى، ورآه بالأفق المبين، قد سد ما بين الأفقين، له ستمائة جناح ينزل منها من الدر والياقوت ما الله به عليم، كما ورد ذلك في حديث.
فإذاًَ ثبت أن عائشة لما سئلت عن قوله تعالى: {وَلَقَدْ رَآهُ بِالأُفُقِ الْمُبِينِ} [التكوير:23] ، وقوله: {ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى * مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى * أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى * وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} [النجم:6-13] ، فذكرت أنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبر بأنه رأى جبريل عليه السلام مرتين في صورته التي خلق عليها، {نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى} [النجم:13-14] ، رآه هذه المرة بالأفق الأعلى عند سدرة المنتهى، وهي سدرة عظيمة في الجنة، وقد أخبر صلى الله عليه وسلم بأن (أوراقها مثل آذان الفيلة، وأن نبقها -يعني: حملها- مثل قلال هجر) ، والقِلال: جمع قلة، وهي أواني الفخار الكبيرة التي تُعمل للمياه ونحوها.
هذه هي سدرة المنتهى التي عندها جنة المأوى.(22/13)
لزوم الإيمان بمثل هذه الغيوب
ففي هذه الآيات من هذه السورة الدليل على أنه صلى الله عليه وسلم عُرج به فرأى جبريل وهو بالأفق الأعلى، ودنا منه، وأن الله تعالى (أوحى إلى عبده) يعني: محمداً صلى الله عليه وسلم (ما أوحى) من فرض الصلوات الخمس.
فهذا مثال للإيمان بالغيب أو الأشياء التي لا تدركها الحواس أو يستغربها الإنسان إذا سمعها فيقول: بشر خُلق من الأرض، فكيف مع ذلك رُفع إلى السماء، وادعى أنه خرق السماوات سماءً فوق سماء، ثم نزل وهو على هيئته أو بحياته التي هو عليها، والإنسان خُلق من الأرض ولا يستطيع أن يفارقها؟ نقول: إن ذلك خلق الله وتقديره، وهو الذي يدبر الأشياء كما يشاء، فهو الذي خلق الإنسان وأعطاه الحياة على هذه الأرض، وأنزل عليها آدم وذريته وقال: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} [طه:55] ، وقال: {فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ} [الأعراف:25] .
فمعلوم أن الإنسان خلق من هذه الأرض، ولكن لا مانع من أن يُرفع إلى السماء إذا شاء الله تعالى ثم يهبط منها، ويكون مأواه ومماته على الأرض، ومنها يُبعث كما حصل له عليه الصلاة والسلام وللرسل من قبله.(22/14)
شرح العقيدة الطحاوية [23]
الحوض أمر غيبي ذكر الله أنه في الآخرة يرده المؤمنون، ويذاد عنه الكافرون والمنافقون، وقد وردت صفاته وفضيلته في السنة مفصلة متواترة، فالإيمان به من عقائد أهل السنة، ومن أنكره فهو خليق بأن يذاد عنه.(23/1)
الحوض وما ورد فيه ووجوب الإيمان به
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قوله: (والحوض الذي أكرمه الله تعالى به غياثاً لأمته حق) .
الأحاديث الواردة في ذكر الحوض تبلغ حد التواتر، رواها من الصحابة بضع وثلاثون صحابياًَ، ولقد استقصى طرقها شيخنا الشيخ عماد الدين بن كثير تغمده الله برحمته في آخر تاريخه الكبير المسمى بـ (البداية والنهاية) ، فمنها ما رواه البخاري رحمه الله تعالى عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن قدر حوضي كما بين أيلة إلى صنعاء من اليمن، وإن فيه من الأباريق كعدد نجوم السماء) .
وعنه أيضاً عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليَردن علي ناس من أصحابي الحوضَ حتى إذا عرفتهم اختُلجوا دوني فأقول: أصيحابي! فيقول: لا تدري ما أحدثوا بعدك) رواه مسلم.
وروى الإمام أحمد عن أنس بن مالك قال: (أغفى رسول الله صلى الله عليه وسلم إغفاة فرفع رأسه متبسماً -إما قال لهم، وإما قالوا له-: لم ضحكت؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنه نزلت علي آنفاً سورة.
فقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [الكوثر:1] حتى ختمها، ثم قال: هل تدرون ما الكوثر؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: هو نهر أعطانيه ربي عز وجل في الجنة، عليه خير كثير، ترد عليه أمتي يوم القيامة، آنيته عدد الكواكب، يُختلج العبد منهم فأقول: يا رب إنه من أمتي! فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك) ، ورواه مسلم ولفظه: (هو نهر وعدنيه ربي عليه خير كثير، هو حوض ترِد عليه أمتي يوم القيامة) ، والباقي مثله.
ومعنى ذلك أنه يشخب فيه ميزابان من ذلك الكوثر إلى الحوض، والحوض في العرصات قبل الصراط؛ لأنه يُختلج عنه ويُمنع منه أقوام قد ارتدوا على أعقابهم، ومثل هؤلاء لا يجاوزون الصراط.
وروى البخاري ومسلم عن جندب بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (أنا فَرَطكم على الحوض) ، والفَرَط: الذي يسبق إلى الماء.
وروى البخاري عن سهل بن سعد الأنصاري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إني فرطكم على الحوض، من مَرَّ علي شرب، ومن شرب لم يظمأ أبداً، ليرِدن عليَّ أقوام أعرفهم ويعرفوني، ثم يحال بيني وبينهم) ، قال أبو حازم: فسمعني النعمان بن أبي عياش وأنا أحدثهم هذا فقال: هكذا سمعتَ من سهل؟ فقلت: نعم، فقال: أشهد على أبي سعيد الخدري لسمعتُه وهو يزيد فيها: (فأقول: إنهم من أمتي! فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك فأقول: سحقاً سحقاً لمن غيَّر بعدي) سحقاً أي: بُعداً] .
هذا من الإيمان بالغيب أيضاً، وهو الإيمان بيوم القيامة وما يكون فيه، وقد أخبر الله تعالى بالبعث بعد الموت وبحشر الأجساد، وبإعادة الأرواح إلى أجسامها، وبجمع الناس كلهم ليوم لا ريب فيه.
يقول تعالى: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين:6] يعني: يقوم أولهم وآخرهم.
ويقول تعالى: {قُلْ إِنَّ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ * لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} [الواقعة:49-50] .
فالإيمان بالبعث بعد الموت ركن من أركان الإيمان بالله تعالى، ويؤمن العبد بما يكون في ذلك اليوم مما أخبر الله به، وأخبر به رسوله صلى الله عليه وسلم، وتفاصيل ذلك مذكورة في أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، ومجملها وارد في كلام الله سبحانه وتعالى.
فمن ذلك ذكر الحوض الذي ذكر، وقد ورد فيه أحاديث كثيرة بلغت حد التواتر حيث زادت على رواية أربعين صحابياً، رووا ذكر الحوض عن النبي صلى الله عليه وسلم، ورواها أئمة السنة وعلماء الأمة في مؤلفاتهم بألفاظ متعددة، وطرق كثيرة وروايات مجموعُها يُقطع بأنه صلى الله عليه وسلم أخبر بذلك، فيُقبل خبره ولا يُلتفت إلى من أنكره.
وقد ورد أيضاً دليل ذلك في القرآن في سورة الكوثر، وقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم الكوثر في هذا الحديث بأنه نهر في الجنة أعطاه الله نبيه صلى الله عليه وسلم، ماؤه أشد بياضاً من اللبن، وأحلى من العسل، وكذلك أخبر بأنه أعطي هذا الحوض في الأرض في يوم القيامة، وهو جزء أو فرع أو امتداد للكوثر الذي أعطيه في الجنة.
والحوض عند العرب هو الإناء الذي يتخذ من الجلود تسقى به الإبل والغنم ونحوها، وعادةً يحملونه على ظهور الإبل، فإذا وردوا أو أقبلوا على المياه أرسلوا وارداً يصلح لهم الورد، ويسمى ذلك الوارد الذي يتقدمهم (الفَرَط) ، فيقولون: أنت فَرَطنا يا فلان.
أي: أنت الذي تتقدم أمامنا إلى ذلك المورد وتصلح لنا الورد، فإذا وردوا بدوابهم إذا هو قد ملأ الحوض ماءً وقد ركب البكرة التي يُستقى عليها وقد انتزع من الماء بقدره، فيبدءون في سقي دوابهم إلى أن تنهل وتروى، فتشرب من ذلك الحوض.(23/2)
سعة الحوض وبعض أوصافه
والحوض الذي أعطاه الله نبينا صلى الله عليه وسلم في الآخرة هو نهر ليس مصنوعاً من جلود ولا من أوانٍ، والله أعلم بما صُنع منه، ولكنه ممتد، وقد روي أنه (مسيرة شهر في شهر) يعني: طوله مسيرة شهر وعرضه مسيرة شهر بالسير المعروف في ذلك الزمان، وقُدِّر في بعض الروايات بأنه من صنعاء إلى أيلة، وصنعاء عاصمة اليمن، وأيلة مدينة في الشام، يعني: طوله من ذلك المكان إلى ذلك المكان، وفي بعض الروايات أنه (من صنعاء إلى عدن) ، وكلتاهما معروفتان في اليمن، ولعل ذلك باختلاف جهاته.
وعلى كل حال فإنه على هذا حوضٌ واسع ممتلئ ماءً، وورد في هذه الروايات أنه يشخب فيه ميزابان من الجنة أو من الكوثر، أي: يصب فيه ميزابان من الجنة، وأن فيه آنية -الآنية الكئوس التي يُشرب بها- وآنيته عدد نجوم السماء في الكثرة، ولا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى.
يرد عليه المؤمنون، ويُذاد عنه المنافقون، وأخبر بأنه يرِد عليه أناس فيعرفهم، فإذا أقبلوا إليه وعرفهم اختلجوا دونه، وحيل بينه وبينهم، فيقول: أصحابي -يعني: ممن أسلموا معي وعرفتهم- فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك.
يعني أنهم إما من المرتدين، وإما من المنافقين، وإما من المتسمين بالإسلام وليسوا بمسلمين، أما المؤمن حقاً الذي ثبت على الإيمان سواءٌ من الصحابة أو ممن بعد الصحابة فإنه يرد على ذلك الحوض ويشرب منه شربة هنيئة لا يظمأ بعدها حتى يدخل الجنة، وذلك لما جعل الله في ذلك الماء من الشفاء، ولما جعل فيه من اللذة، إذ كان ماؤه أشد بياضاً من اللبن، وأحلى من العسل الذي هو غاية في الحلاوة وفي اللذة، وأن الشربة منه لا يعدلها شيء، فيؤمن العبد المؤمن بذلك.
وورد في بعض الروايات أن لكل نبي حوضاً، ولكن نبينا صلى الله عليه وسلم أكثرهم وارداً، أي: أوسعهم حوضاً وأكثرهم وروداً.
يعني: أمته المتبعون له أكثر من غيرهم من الأمم، وذلك لأن الذين صدقوه واتبعوه وحققوا اتباعه لا يحصيهم إلا الله سبحانه وتعالى.(23/3)
مكان الحوض ووقت وروده
والصحيح أن الحوض في عرصات القيامة قبل أن يعبروا الصراط، لكن ورد في بعض الروايات أنهم (إذا نزلوا من الصراط نزلوا ظمأى، فيرِدون عليه كورود الناس التي على حوضها) ، ولعله يمتد أيضاً إلى طرف الصراط، فلا مانع من أن يكون معظمه في عرصات القيامة وقبل أن يركبوا الصراط، ثم بعدما ينزلون من الصراط يجدون له طرفاً، ثم بعد ذلك يشربون منه ويدخلون الجنة كما أخبر الله تعالى.
فيؤمن العباد بذلك وإن لم تدركه عقولهم، ويؤمنون بما أخبر به نبيهم صلى الله عليه وسلم، ولا شك أن هذا من كرامة هذا النبي عليه الصلاة والسلام، ومعلوم أنه يقف على الحوض وينظر من يرد عليه، وكذلك يكون معه ملائكة يأذنون في ورود بعض أمته، ويردُّون الذين ليسوا من الأمة حقاً.
فالذي يُردُّ يبقى على ظمئه وعلى جهده وعلى ما يلاقيه من الشقاوة.
والذين يردون يطمئنون بالشرب ويسعدون بذلك ويَعرفون أنهم من أهل السعادة ومن أهل الخير.
ولا شك أيضاً أن أهله الذين يردون عليه هم أهل السنة والجماعة، أهل الاتباع لا أهل الابتداع، ولأجل ذلك يُرد المبتدعة والمرتدون الذين أحدثوا، (إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك) ، فالذي يرجو أن يكون من أصحاب الحوض المورود ويرجو أن ينهل منه عليه باتباع السنة، وعليه بالتصديق بما جاء عن نبي الأمة، وعليه بالعمل الصالح، وتحقيق التصديق الذي التزمه، فبذلك يكون من أهل السعادة إن شاء الله.(23/4)
أوصاف الحوض ومن يستحق وروده
قال رحمه الله تعالى: [والذي يتلخص من الأحاديث الواردة في صفة الحوض أنه حوض عظيم ومورد كريم، يُمد من شراب الجنة من نهر الكوثر الذي هو أشد بياضاً من اللبن وأبرد من الثلج وأحلى من العسل وأطيب ريحاً من المسك، وهو في غاية الاتساع عرضه وطوله سواء، كل زاوية من زواياه مسيرة شهر، وفي بعض الأحاديث أنه كلما شُرِب منه وهو في زيادة واتساع، وأنه ينبت في حالٍ من المسك، والرضراض من اللؤلؤ وقضبان الذهب، ويثمر ألوان الجواهر، فسبحان الخالق الذي لا يعجزه شيء! وقد ورد في أحاديث أن لكل نبي حوضاً، وأن حوض نبينا صلى الله عليه وسلم أعظمها وأجلها وأكثرها وارداً، جعلنا الله منهم بفضله وكرمه.
قال العلامة أبو عبد الله القرطبي رحمه الله تعالى في التذكرة: واختُلف في الميزان والحوض: أيهما يكون قبل الآخر؟ فقيل: الميزان، وقيل: الحوض.
قال أبو الحسن القابسي: والصحيح أن الحوض قبل.
قال القرطبي: والمعنى يقتضيه؛ فإن الناس يخرجون عطاشاً من قبورهم كما تقدم فيقدم قبل الميزان والصراط.
قال أبو حامد الغزالي رحمه الله في كتاب كشف علم الآخرة: حكى بعض السلف من أهل التصنيف أن الحوض يورد بعد الصراط، وهو غلط من قائله.
قال القرطبي: هو كما قال.
ثم قال القرطبي: ولا يخطر ببالك أنه في هذه الأرض، بل في الأرض المبدلة، أرض بيضاء كالفضة، لم يُسفك فيها دم، ولم يُظلم على ظهرها أحد قط، تظهر لنزول الجبار جل جلاله لفصل القضاء.
انتهى.
فقاتل الله المنكرين لوجود الحوض، وأخْلَق بهم أن يحال بينهم وبين وروده يوم العطش الأكبر!] .
في هذا ملخص صفة الحوض المورود، فله أربع زوايا، أي: أنه مربع، وكل زاوية منه مسيرة شهر، ماؤه أشد بياضاً من اللبن- واللبن في غاية البياض- وأحلى من العسل الذي هو أشد الأشياء حلاوةً، وأطيب ريحاً من المسك، أي: أنه مع ذلك له رائحة عبقة طيبة.
وذكر أيضاً أنه ينبت في جوانبه وفي رضراضه من النبات الذي يكون مبهجاً للنفوس من اللؤلؤ والمرجان وأنواع الجواهر ما الله تعالى به عليم، والله على كل شيء قدير، وأنه يرِده المؤمنون ويذاد عنه الكافرون والمكذبون والمنافقون، وأنه يكون قبل الميزان وقبل الصراط، وذلك لأن الناس عندما يُبعثون من قبورهم حفاةً عراة غرلاً بُهماً يكونون في تلك الحال شديدٌ عطشهم، فهم بلا شك بحاجة إلى ما يدفعون به ذلك العطش، فيرِدون لينهلوا من ذلك الحوض، حتى إذا رووا واطمأنوا عند ذلك يُفصل بينهم، فتنصب الموازين، وينصب الصراط، وتوزن الأعمال، وتتطاير الصحف، ويُعرف بذلك أهل السعادة من أهل الشقاوة حتى يفصل الله بينهم.
والذين أنكروا هذه الأمور الواردة خليق بهم وحري أن يحال بينهم وبين وروده كما أنهم كذبوه، وكما أن الذين كذبوا برؤية الله تعالى حري أن يكونوا عن ربهم محجوبين.
فالذين أنكروا الأمور التي أخبر الله بها أو أخبر بها رسوله، لا شك أنهم مكذبون، لم يصدقوا التصديق اللازم عليهم، ولم يأتوا بما يجب عليهم، إنما صدقوا بما يناسب أهواءهم، والواجب على المسلم أن يصدق بكل ما جاءه من الله تعالى، سواءٌ أدركه عقله أم لا، فيكون بذلك حقاً من الذين يؤمنون بالغيب، ومن الذين يصدقون الله تعالى ويصدقون رسله، ومن الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه.(23/5)
شرح العقيدة الطحاوية [24]
من رحمة الله تعالى بعباده أن جعل لهم أملاً في الشفاعة، وأعظم الخلق شفاعة هو سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وقد خصه الله بشفاعات كثيرة لأمته، وقد ثبتت الشفاعة في القرآن والسنة، فالإيمان بها واجب، والتسليم بها فرض على كل مؤمن.(24/1)
الشفاعة يوم القيامة(24/2)
ذكر الشفاعة العظمى
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قوله: (والشفاعة التي ادخرها لهم حق كما روي في الأخبار) .
الشفاعة أنواع، منها ما هو متفق عليه بين الأمة، ومنها ما خالف فيه المعتزلة ونحوهم من أهل البدع.
النوع الأول: الشفاعة الأولى، وهي العظمى الخاصة بنبينا صلى الله عليه وسلم من بين سائر إخوانه من الأنبياء والمرسلين صلوات الله عليهم أجمعين.
وفي الصحيحين وغيرهما عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين أحاديث الشفاعة.
منها: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بلحم فدُفع إليه منها الذراع وكانت تعجبه، فنهس منها نهسة ثم قال: أنا سيد الناس يوم القيامة، وهل تدرون مم ذاك؟ يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد يسمعهم الداعي وينفذهم البصر، وتدنو الشمس فيبلغ الناس من الغم والكرب ما لا يطيقون ولا يحتملون، فيقول بعض الناس لبعض: ألا ترون ما أنتم فيه؟! ألا ترون ما قد بلغكم؟! ألا تنظرون من يشفع لكم إلى ربكم؟! فيقول بعض الناس لبعض: أبوكم آدم فيأتون آدم فيقولون: يا آدم! أنت أبو البشر خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأمر الملائكة فسجدوا لك، فاشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه؟! ألا ترى ما قد بلغنا؟! فيقول آدم: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإنه نهاني عن الشجرة فعصيت، نفسي نفسي نفسي! اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى نوح.
فيأتون نوحاً فيقولون: يا نوح! أنت أول الرسل إلى أهل الأرض، وسماك الله عبداً شكوراً، فاشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه؟! ألا ترى ما قد بلغنا؟! فيقول نوح: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإنه كانت لي دعوة دعوتُ بها على قومي، نفسي نفسي نفسي! اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى إبراهيم.
فيأتون إبراهيم فيقولون: يا إبراهيم! أنت نبي الله وخليله من أهل الأرض، ألا ترى ما نحن فيه؟! ألا ترى ما قد بلغنا؟! فيقول: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله -وذَكَرَ كذباته- نفسي نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى موسى.
فيأتون موسى فيقولون: يا موسى! أنت رسول الله، اصطفاك الله برسالاته وبتكليمه على الناس، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه؟! ألا ترى ما قد بلغنا؟! فيقول لهم موسى: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإني قتلت نفساً لم أومر بقتلها، نفسي نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى عيسى.
فيأتون عيسى فيقولون: يا عيسى! أنت رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه -قال: هكذا هو- وكلمتَ الناس في المهد، فاشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه؟! ألا ترى ما قد بلغنا؟! فيقول لهم عيسى: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله -ولم يذكر ذنباً- اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى محمد صلى الله عليه وسلم.
فيأتوني فيقولون: يا محمد! أنت رسول الله وخاتم الأنبياء، غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، فاشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه؟! ألا ترى ما قد بلغنا؟! فأقوم فآتي تحت العرش فأقع ساجداً لربي عز وجل، ثم يفتح الله علي ويلهمني من محامده وحسن الثناء عليه ما لم يفتحه على أحد قبلي، فيقال: يا محمد! ارفع رأسك، سل تعطه، اشفع تُشَفَّع، فأقول: يا رب أمتي أمتي! يا رب! أمتي أمتي! يا رب أمتي أمتي! فيقال: أدخل من أمتك من لا حساب عليه من الباب الأيمن من أبواب الجنة وهم شركاء الناس فيما سواه من الأبواب، ثم قال: والذي نفسي بيده لما بين مصراعين من مصاريع الجنة كما بين مكة وهجر، أو كما بين مكة وبصرى) .
أخرجاه في الصحيحين بمعناه، واللفظ للإمام أحمد] .
هذا أيضاً من كرامات النبي صلى الله عليه وسلم وهو الإيمان بالشفاعة التي هي شفاعته لأهل الموقف في إراحتهم من الموقف، فيؤمن بذلك أهل السنة.
وقد أنكرت ذلك الخوارج، وكذلك أنكرته المعتزلة، وقد غلا بعض المشركين وأثبت الشفاعة بدون إذن الله سبحانه وتعالى، وقول أهل السنة هو الوسط، وهو أنه يشفع وكذلك غيره، ولكن لا يشفع أحد عند الله إلا بإذنه، فالشفاعة عند الله تعالى في الآخرة بإذنه.
وقد ورد في هذا الحديث أنه يقول: (اشفع تشفع) ، فلا يبدأ بالشفاعة أولاًَ حتى يأذن الله تعالى له بأن يشفع، وكذلك غيره من الأنبياء لا يشفعون، وكذلك الملائكة لا يشفعون إلا بعد إذن الله سبحانه وتعالى.(24/3)
إيراد الشارح للرواية التي فيها الشفاعة العظمى
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [والعجب كل العجب من إيراد الأئمة لهذا الحديث من أكثر طرقه لا يذكرون أمر الشفاعة الأولى في أن يأتي الرب تعالى لفصل القضاء، كما ورد هذا في حديث الصور؛ فإنه المقصود في هذا المقام ومقتضى سياق أول الحديث، فإن الناس إنما يستشفعون إلى آدم، فمن بعده من الأنبياء في أن يفصل بين الناس، ويستريحوا من مقامهم، كما دلت عليه سياقاته من سائر طرقه، فإذا وصلوا إلى المحز إنما يذكرون الشفاعة في عصاة الأمة وإخراجهم من النار.
وكأن مقصود السلف -في الاقتصار على هذا المقدار من الحديث هو الرد على الخوارج ومن تابعهم من المعتزلة الذين أنكروا خروج أحد من النار بعد دخولها، فيذكرون هذا القدر من الحديث الذي فيه النص الصريح في الرد عليهم فيما ذهبوا إليه من البدعة المخالِفة للأحاديث، وقد جاء التصريح بذلك في حديث الصور، ولولا خوف الإطالة لسقته بطوله؛ لكن من مضمونه: (أنهم يأتون آدم، ثم نوحاً، ثم إبراهيم، ثم موسى، ثم عيسى، ثم يأتون رسول الله محمداً صلى الله عليه وسلم، فيذهب فيسجد تحت العرش في مكان يقال له: الفحص، فيقول الله: ما شأنك -وهو أعلم-؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فأقول: يا رب! وعدتني الشفاعة فشفعني في خلقك، فاقض بينهم، فيقول سبحانه وتعالى: شفَّعتك، أنا آتيكم فأقضي بينكم، قال: فأرجع فأقف مع الناس -ثم ذكر انشقاق السماوات وتنزُّل الملائكة بالغمام- ثم يجيء الرب سبحانه وتعالى لفصل القضاء، والكروبيون والملائكة المقربون يسبحونه بأنواع التسبيح.
قال: فيضع الله كرسيه حيث شاء من أرضه، ثم يقول: إني أنصت لكم منذ خلقتكم إلى يومكم هذا أسمع أقوالكم وأرى أعمالكم، فأنصتوا لي، فإنما هي أعمالكم وصحفكم تُقرأ عليكم، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه إلى أن قال: فإذا أفضى أهل الجنة إلى الجنة قالوا: من يشفع لنا إلى ربنا فندخل الجنة؟ فيقولون: مَن أحق بذلك من أبيكم؟ إنه خلقه الله بيده ونفخ فيه من روحه وكلمه قُبُلاً، فيأتون آدم فيُطلب ذلك إليه، وذكر نوحاً، ثم إبراهيم، ثم موسى، ثم عيسى، ثم محمداً صلى الله عليه وسلم، إلى أن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فآتي الجنة فآخذ بحلقة الباب، ثم أستفتح فيُفتح لي فأُحَيَّا ويُرَحَّب بي، فإذا دخلتُ الجنة فنظرت إلى ربي عز وجل خررتُ له ساجداً، فيأذن لي من حمده وتمجيده بشيء ما أذن به لأحد من خلقه، ثم يقول الله لي: ارفع يا محمد، واشفع تشفع، وسل تعطه، فإذا رفعتُ رأسي قال الله وهو أعلم: ما شأنك؟ فأقول: يا رب! وعدتني الشفاعة فشفعني في أهل الجنة يدخلون الجنة، فيقول الله عز وجل: قد شفَّعتك وأذنت لهم في دخول الجنة) الحديث رواه الأئمة ابن جرير في تفسيره، والطبراني، وأبو يعلى الموصلي، والبيهقي وغيرهم] .(24/4)
شرح حديث الشفاعة العظمى
ذكر العلماء أن أكبر أنواع الشفاعات التي اختُص بها النبي صلى الله عليه وسلم هي الشفاعة في يوم القيامة لأجل إراحة الناس من طول الموقف، ولأجل فصل القضاء بينهم، وذلك لأن الموقف يوم القيامة قد ذُكر من طوله ومن هوله وما يكون فيه من الغم والكرب ومن العذاب والألم ما الله تعالى به عليم.
فأما طوله فقد ذكر الله أنه {كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [الحج:47] ، وفي آية أخرى أنه {مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج:4] ، ولعل ذلك لاختلاف تقديره عند الناس، أو في ظن الكثير من الناس، ولكنه لا يحس بطوله أهل التوحيد والعقيدة وأهل الأعمال الصالحة، وذلك لأنهم ينعمون في ذلك الموقف.
كذلك من الهول الذي ينالهم في الموقف شدة الحر، كما روي أنها تدنو الشمس من رءوس الخلائق حتى يكون بينها وبينهم قدر ميل، ويُزاد في حرها، وأنهم يلجمهم العرق من شدة الحر، ومنهم من يبلغ العرق إلى ركبتيه، ومنهم من يبلغ إلى حقويه، ومنهم من يبلغ إلى ثدييه، ومنم من يلجمه العرق إلجاماً.
كذلك أيضاً شدة الهول الذي يشاهدونه، فمن طول هذا الموقف وما هم فيه من الكرب يقول بعضهم لبعض: ألا تطلبون من يشفع لكم حتى يريحكم الله من هذا الموقف، وحتى تتخلصوا منه إما إلى جنة وإما إلى نار؟ فعند ذلك يطلبون من يشفع لهم، فذُكر في الحديث أنهم يأتون أولاًَ إلى أبيهم آدم وهو أبو البشر، فيقولون: يا آدم! أنت أبو البشر، خلقك الله بيده، وأسجد لك ملائكته، وأسكنك جنته -أي: خصك بهذه الخصائص- ألا ترى إلى ما نحن فيه؟! ألا ترى إلى ما قد أصابنا؟! اشفع لنا إلى ربك ليريحنا من طول الموقف.
فيعتذر آدم فيقول: وهل أخرجكم من الجنة إلَّا ذنب أو خطيئة أبيكم؟! يعترف بأنه أخطأ وأنه هو الذي بسببه خرجتم من الجنة وقد كنتم من أهلها، فإنه لما أُسكن فيها وأخطأ تلك الخطيئة التي هي أكله من تلك الشجرة، أُخرج منها إلى دار الشقاء وهي الدنيا.
وفي هذا تحذير من الأعمال السيئة التي تحرم من دخول الجنة، قال بعض السلف: أُخرج آدم من الجنة بذنب واحد، وأنتم تعملون الذنوب وتكثرون منها، وترجون أن تدخلوا معه الجنة! ويقول بعضهم: يا ناظراً يرنو بعينَي راقد ومشاهداً للأمر غير مشاهد تصل الذنوب إلى الذنوب وترتجي دَرَج الجنان بها وفوز العابد أنسيت أن الله أخرج آدَماً منها إلى الدنيا بذنب واحد والحاصل أن أباهم آدم يعترف بخطيئته ويعتذر عن الشفاعة، ويقول: كيف أشفع وأنا مذنب؟ ثم يحيلهم إلى نبي الله نوح عليه السلام، فيأتون إليه ويقولون: يا نوح! أنت أول الرسل بُعث إلى أهل الأرض، وسماك الله عبداً شكوراً، اشفع لنا إلى ربك.
ونوح عليه السلام له ميزة وفضيلة، ولكن لم يقبل أن يشفع لهم تواضعاً، وتعلل واعتذر بأنه قد دعا على قومه بقوله: {رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارَاً} [نوح:26] ، فاعتذر بذلك، وإن كان ما دعا إلَّا على الكفار الذين يستحقون الغرق، فاستجاب الله دعوته فأغرق أهل الأرض إلَّا أهل السفينة.
وبعد نوح يأتون إلى إبراهيم فيعتذر، ويأتون بعد إبراهيم إلى موسى، فيعتذر أيضاً، ثم إلى عيسى فيعتذر.
ثم يأتون إلى النبي محمد صلى الله عليه وعليهم وسلم، فعند ذلك يقول: (أنا لها) ، فإذا التزم أن يشفع سجد لربه، ثم إذا أذن له ربه تكلم بما يفتح الله عليه من المحامد ومن الثناء ما لا يحسنه الآن، يعني أن الله يلهمه من تمجيد ربه وتحميده والثناء عليه ما الله به عليم، فبعد ذلك يرغب إلى ربه أن يفصل بين العباد، وأن يريحهم من ذلك الموقف.(24/5)
ذكر ما يقع بعد فصل القضاء
بعد ذلك يستجيب الله دعوته فيفصل بينهم، ويقول -كما في هذا الحديث-: (إني أنصتُ لكم منذ خلقتُ السماوات والأرض إلى هذا اليوم، فأنصتوا لي لأحكم بينكم) ، فعند ذلك تنصب الموازين، وتنشر الدواوين، ويأتي دور الحساب، ويحاسب الله كل أحد، وتتفرق الكتب وتتطاير الصحف بالأيمان وبالشمائل، فآخذٌ كتابه بيمينه، وآخذٌ كتابه بشماله، فيُسعد الله أقواماً ويُشقي أخرين، يسعد أهل الدين وأهل التقوى وأهل الصلاح، ويشقى أهل الفساد وأهل الكفر والعناد.
بعد ذلك يكون ما أخبر الله به من كونه يميز هؤلاء من هؤلاء، فتُفَرَّق عليهم أنوار، فيمشون في أنوارهم فينطفئ نور المنافق ونور الكافر، ثم يتأخر فيُضرب بينهم بسور له باب، وذلك تمهيد وفصل بين أهل التقوى وأهل الشقاوة -والعياذ بالله- حتى يميز الله بينهم.
ثم بعدما يتميزون ويركبون الصراط ويسلكونه وهو جسر على متن جهنم يمرون عليه بقدر أعمالهم، كما ذُكر في بعض الأحاديث أنه أحر من الجمر وأحد من السيف وأدق من الشعرة، وأنهم يسيرون عليه بأعمالهم، فمنهم من يمر عليه كالبرق، ومنهم من يمر كالريح، ومنهم من يمر كأجاود الخيل والركاب، ومنهم من يعدو عدواً، ومنهم من يمشي مشياً، ومنهم من يزحف زحفاً، وعلى جنبتي الصراط كلاليب مثل شوك السعدان تخطف من أُمرت بخطفه، فناجٍ مُسَلَّم، ومخدوش، ومكردس في النار تختطفه تلك الكلاليب التي ذكر أنها مثل شوك السعدان إلا أنه لا يُعلم قدرها إلَّا الله تعالى.
فإذ نجوا من الصراط وسلكوه وكانوا قد وُعدوا بأنهم يرِدون النار في قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [مريم:71] قالوا: أين النار التي وعدنا الله بأنا سوف نردها؟ فيقال: إنكم مررتم عليها وهي خامدة.
يعني: عندما مروا على الصراط وكان منصوباً على متن جهنم، وذلك لأنه إذا مر المؤمن لم يحس بلهبها، بل تقول: جُز يا مؤمن، فقد أطفأ نورُك لهبي.
عند ذلك يوقفون على قنطرة بين الجنة والنار، ويُقتص من بعضهم لبعض مظالم كانت بينهم، فإذا هُذِّبوا ونُقُّوا أُذِن لهم بدخول الجنة، ولا يدخلونها أيضاً إلا بعد أن يستأذن لهم أو يشفع لهم نبينا صلى الله عليه وسلم، وهذه من خصائصه ومن مميزاته.(24/6)
ذكر الشارع أنواعاً أخرى من الشفاعة
قال رحمه الله: [النوع الثاني والثالث من الشفاعة شفاعته صلى الله عليه وسلم في أقوام قد تساوت حسناتهم وسيئاتهم، فيشفع فيهم ليدخلوا الجنة، وفي أقوام آخرين قد أُمِر بهم إلى النار ألَّا يدخلوها.
النوع الرابع: شفاعته صلى الله عليه وسلم في رفع درجات من يدخل الجنة فيها فوق ما كان يقتضيه ثواب أعمالهم.
وقد وافقت المعتزلة على هذه الشفاعة خاصة، وخالفوا فيما عداها من المقامات مع تواتر الأحاديث فيها.
النوع الخامس: الشفاعة في أقوام أن يدخلوا الجنة بغير حساب، ويحسُن أن يُستشهد لهذا النوع بحديث عكاشة بن محصن حين دعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجعله من السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنة بغير حساب، والحديث مُخَرَّج في الصحيحين.
النوع السادس: الشفاعة في تخفيف العذاب عمن يستحقه، كشفاعته في عمه أبي طالب أن يخفف عنه عذابه.
ثم قال القرطبي في (التذكرة) بعد ذكر هذا النوع: فإن قيل: فقد قال تعالى: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} [المدثر:48] قيل له: لا تنفعه في الخروج من النار كما تنفع عصاة الموحدين الذين يُخرَجون منها ويُدخَلون الجنة.
النوع السابع: شفاعته أن يؤذن لجميع المؤمنين في دخول الجنة كما تقدم، وفي صحيح مسلم عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أنا أول شفيع في الجنة) ] .(24/7)
تفصيل ما خص به النبي صلى الله عليه وسلم من الشفاعات(24/8)
الشفاعة العظمى
هذه من أنواع الشفاعات التي خُص بها النبي صلى الله عليه وسلم، وهي تبع النوع الأول، أعني شفاعته لأهل الموقف أن يريحهم الله من طول الموقف، وأن ينزل الله ليفصل القضاء بينهم حتى يدخل هؤلاء دارهم وهؤلاء دارهم، فأشهرها هو النوع الأول.(24/9)
الشفاعة في قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم
النوع الثاني: شفاعته في قوم تساوت حسناتهم وسيئاتهم في أن يدخلهم الله الجنة.
أي: قوم لهم طاعات ولهم معاصٍِ متساوية كأنه لم تترجح كفة هذه ولا كفة هذه، ولكن كتب الله على نفسه أن (رحمتي تغلب غضبي) ، فيتلافاهم برحمته، ويقبل فيهم شفاعة نبيه، فيدخلهم الجنة، مع أن لهم سيئات تساوي أو تقدر بقدر حسناتهم.
وقد ورد في بعض الأحاديث أنه إذا حاسب الله العبد فإنه يُقتص من سيئاته لحسناته، فإذا بقي له حسنة واحدة؛ ضاعفها وأدخله بها الجنة، كما في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا} [النساء:40] يعني: يجعلها أضعافاً مضاعفةً حتى يستحق بها الثواب.(24/10)
الشفاعة فيمن استحق العذاب
أما النوع الثالث من أنواع الشفاعة فهو شفاعته صلى الله عليه وسلم في قوم استحقوا النار أو أُمِر بهم إلى النار فيدخلون الجنة بعدما أُمِر بهم، وكأنهم من أهل التوحيد، ولكن معهم سيئات ومعهم ذنوب من الكبائر التي تُوُعِّد عليها بالعذاب أو التي تُوُعِّد عليها بنفي الإيمان، أو بعدم دخول الجنة، ولكن فضل الله تعالى ورحمته تعم عباده الذين يشملهم اسم الإيمان واسم التوحيد واسم الاستجابة، فيشفع لهم لكونهم من أمته، فيدخلون الجنة، فهذا نوع ثالث من أنواع الشفاعة.(24/11)
الشفاعة في دخول أهل الجنة الجنة
أما النوع الرابع فهو الشفاعة لأهل الجنة في أن يدخلوها، عندما يقفون عند أبواب الجنة لا يدخلونها حتى يستفتح لهم النبي صلى الله عليه وسلم، فأول من يستفتح باب الجنة محمد صلى الله عليه وسلم، وأول من يدخل الجنة من الأمم أمته، فيقول خازن الجنة: (بك أُمرت ألَّا أفتح لأحد قبلك) ، فهو يستأذن ويشفع إلى ربه في أن يفتح أبواب الجنة فيدخلها أهلها مع سعة أبواب الجنة، فقد ذُكر أن للجنة ثمانية أبواب، ولكن ما سعة الباب؟ ورد في الحديث: (ما بين مصراعي الباب مسيرة أربعين سنة، وليأتين عليه يوم وهو كظيظ من الزحام) من كثرة من يدخل من تلك الأبواب الثمانية، فالباب الواحد سعته مسيرة أربعين سنة، ليس أربعين يوماً ولا أربعين شهراً، بل أربعين سنة، ما مقدار ذلك؟ الله أعلم بمنتهاه، ومع ذلك يأتي عليه يوم -والله أعلم بمقدار ذلك اليوم- وهو كظيظ من الزحام من كثرة من يدخل منه، من هذه الأمة ومن غيرها.(24/12)
الشفاعة في دخول قوم الجنة بغير حساب
أما النوع الخامس من الشفاعة فهو شفاعته صلى الله عليه وسلم لقوم أن يدخلوا الجنة بغير حساب، ومنهم عكاشة بن محصن، لَمَّا أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأن من أهل الجنة من يدخلونها بغير حساب ولا عذاب، وهم سبعون ألفاً، لما قال الله له: (هذه أمتك ومعهم سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب، قام عكاشة بن محصن فقال: ادعُ الله أن يجعلني منهم، فقال: أنت منهم) يعني: كأنه شفع له أن يكون من الذين يدخلون الجنة بغير حساب، ومنهم أيضاً غيره.(24/13)
الشفاعة في الجنة وهي التي أقر بها المعتزلة
أما النوع السادس من أنواع الشفاعة فهو الشفاعة لقوم من أهل الجنة أن يُزاد في ثوابهم وقد دخلوا الجنة، ولكن مراتبهم نازلة، فيشفع لهم أن تُرفع مراتبهم وأن يُعطَوا أجراً وأن يُزاد لهم في الثواب وفي مضاعفة الجزاء.
وهذا النوع من الشفاعة اعترفت به المعتزلة الذين أنكروا بقية الشفاعة، وذلك لأنهم إنما أنكروا شفاعة من يُخرج من النار أو من يستحق النار، أما أهل الجنة فأقروا بأنه يكون فيها شفاعة في رفع المنازل ونحوها.(24/14)
الشفاعة في تخفيف العذاب عن بعض من استحقه
أما النوع السابع من الشفاعة، وهو آخر الشفاعات الخاصة به صلى الله عليه وسلم؛ فهو الشفاعة في قوم استحقوا النار ودخلوها بأن يُخفف عنهم من عذابها.
ومن ذلك شفاعته لعمه أبي طالب أن يخفف الله عنه من العذاب، ذكر في الحديث أنه يستحق أن يكون في الدرك الأسفل من النار؛ لأنه عرف التوحيد ولكنه لم يقبله، وعرف صدق النبي صلى الله عليه وسلم ولكنه لم يتبعه، ولكن بسبب نصرته للنبي صلى الله عليه وسلم وحياطته له، وبسبب أنه مكَّنه من أن يدعو إلى الله وقال له: اجهر بما تريد فأنا أنصرك، فنصره وآواه حتى بلغ الرسالة، ولم يتجرأ المشركون على النيل من النبي صلى الله عليه وسلم في حياة أبي طالب، فبسبب نصرته خُفِّف عنه العذاب، فأصبح في ضحضاح من نار.
ولكن ليس ذلك بهيِّن، بل قد ذكر أن ذلك الضحاح يغلي منه دماغه، ويرى أنه لا أحد أشد منه عذاباً وهو أخفهم، وقد ورد: (أخف أهل النار من يكون له شراك من نار يغلي منه دماغه) ، والشراك: السير الذي تربط به النعل، فهو سير من النار في رجله، ومن شدة حرارته يحمى جسده كله، حتى إن دماغه يكون له غليان من شدة حره، وما يرى أن أحداً أشد عذاباً منه وإنه لأخفهم.(24/15)
سرد ما اختص به محمد صلى الله عليه وسلم من الشفاعات
فنأخذ من هذه الأنواع ميزةً وفضيلةً لنبينا صلى الله عليه وسلم؛ حيث خُصَّ بأنه الذي يشفع هذه الأنواع من الشفاعات: الأولى: الشفاعة العظمى التي هي لإراحة الناس من الموقف.
والشفاعة الثانية: التي هي في قوم تساوت حسناتهم وسيئاتهم أن يدخلوا الجنة.
والشفاعة الثالثة: التي هي في قوم استحقوا النار أو أُمِر بهم إلى النار ألَّا يدخلوها.
والشفاعة الرابعة: التي هي في أهل الجنة أن يُفتح لهم وأن يدخلوها.
والشفاعة الخامسة: التي هي في بعض أهل الجنة أن تُرفع مراتبهم، وأن يُزاد في ثوابهم.
والشفاعة السادسة: التي هي في قوم أن يدخلوا الجنة بغير حساب.
والسابعة: في بعض أهل النار أن يُخفف عنهم من عذابها.
هذه أنواع من الشفاعة خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم.
وبقيت شفاعةٌ أو نوعٌ من الشفاعة ليس خاصاً به بل يشفع به الملائكة وغيرهم، وهو أعم أنواع الشفاعة.(24/16)
شرح العقيدة الطحاوية [25]
انحرف كثير من الناس في باب الدعاء، فصاروا يدخلون فيه ما ليس بمشروع، ومن ذلك التوسل بالمخلوقين والاستشفاع بالصالحين والقسم على الله بهم، وقد بين العلماء السنة في الدعاء وحرموا التوسل الممنوع، وردوا على شبهات المخالفين.(25/1)
الكلام على الاستشفاع والتوسل(25/2)
النهي عن الاستشفاع بالمخلوق في الدنيا
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وأما الاستشفاع بالنبي صلى الله عليه وسلم وغيره في الدنيا إلى الله تعالى في الدعاء ففيه تفصيل؛ فإن الداعي تارةً يقول: بحق نبيك، أو بحق فلان، يقسم على الله بأحد من مخلوقاته، فهذا محذور من وجهين: أحدهما: أنه أقسم بغير الله.
والثاني: اعتقاده أن لأحد على الله حقاً، ولا يجوز الحلف بغير الله، وليس لأحد على الله حق إلَّا ما أحقه على نفسه، كقوله تعالى: {وَكَانَ حَقَّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم:47] ، وكذلك ما ثبت في الصحيحين من قوله صلى الله عليه وسلم لـ معاذ رضي الله عنه وهو رديفه: (يا معاذ! أتدري ما حق الله على عباده؟ قال: قلت: الله ورسوله أعلم، قال: حقه عليهم أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، أتدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: حقهم عليه ألَّا يعذبهم) .
فهذا حق وجب بكلماته التامة ووعده الصادق، لا أن العبد نفسه يستحق على الله شيئاً كما يكون للمخلوق على المخلوق؛ فإن الله هو المنعم على العباد بكل خير، وحقهم الواجب بوعده هو ألَّا يعذبهم، وترك تعذيبهم معنى لا يصلح أن يُقسم به ولا أن يُسأل بسببه ويُتَوسل به؛ لأن السبب هو ما نصبه الله سبباً.
وكذلك الحديث الذي في المسند من حديث أبي سعيد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في قول الماشي إلى الصلاة: (أسألك بحق ممشاي هذا وبحق السائلين عليك) ، فهذا حق السائلين هو أوجبه على نفسه، فهو الذي أحق للسائلين أن يجيبهم وللعابدين أن يثيبهم، ولقد أحسن القائل: ما للعباد عليه حق واجب كلا ولا سعي لديه ضائع إن عُذبوا فبعدله أو نعِّموا فبفضله وهو الكريم الواسع فإن قيل: فأي فرق بين قول الداعي: بحق السائلين عليك وبين قوله: بحق نبيك أو نحو ذلك؟ فالجواب أن معنى قوله: (بحق السائلين عليك) أنك وعدت السائلين بالإجابة وأنا من جملة السائلين، فأجب دعائي، بخلاف قوله: (بحق فلان) ؛ فإن فلاناً وإن كان له حق على الله بوعده الصادق فلا مناسبة بين ذلك وبين إجابة دعاء هذا السائل، فكأنه يقول: لكون فلان من عبادك الصالحين أجب دعائي وأي مناسبة في هذا؟! وأي ملازمة؟! وإنما هذا من الاعتداء في الدعاء! وقد قال تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعَاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [الأعراف:55] .
وهذا ونحوه من الأدعية المبتدعة، ولم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن الصحابة ولا عن التابعين ولا عن أحد من الأئمة رضي الله عنهم، وإنما يوجد مثل هذا في الحروز والهياكل التي يكتبها الجهال والطرقية، والدعاء من أفضل العبادات، والعبادات مبناها على السنة والاتباع، لا على الهوى والابتداع] .(25/3)
لا يحق لأحد أن يحلف على الله ولا بغير الله
هاهنا رد على الذين يسألون الله تعالى بحق المخلوقين، ويقولون: إن المخلوق إذا كان مقرباً عند الله فله منزلة، وله حق على الله، وله رفعة، فهو إذا سألناه بحق نبيه أو بحق الولي فلان يجيب دعاءنا، فيقول أحدهم: أسألك بحق نبيك أسألك بحق الولي فلان أسألك بحق عبدك فلان عليك.
وهذا اعتداء في الدعاء، فالله تعالى يقول: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعَاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [الأعراف:55] ، والمعتدون في الدعاء هم الذين يدعون بإثم أو يدعون بذنب أو يدعون بشيء لم يُشرع لهم، ولا شك أن هذا لم يُنقل، فما نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن صحابته أنهم سألوا بحق مخلوق، أو توسلوا بحق مخلوق، لا بحق فلان ولا بجاه فلان ولا بغير ذلك، فالمحذور فيه أنه حلف بحق مخلوق، والحلف بغير الله شرك، ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك) ، فإذا قال: بحق فلان أو بالنبي أو بالولي أو بجاه فلان، أو بشرفي أو بحياتي أو بحياتك يا فلان، أو ما أشبه ذلك على وجه التأكيد؛ اعتُبر قد حلف بمخلوق، فيكون هذا تعظيماً لذلك المحلوف به، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت) ، وقال: (لا تحلفوا بآبائكم ولا بالأصنام، ولا تحلفوا بالله إلا وأنتم صادقون) .
فأمرنا أن نتجنب الحلف بالآباء كما كان المشركون يحلفون بآبائهم أو بأمهاتهم أو بأصنامهم في قولهم: واللات والعُزَّى، ونحو ذلك.
وثبت أنه قال: (من حلف باللات والعزى فليقل: لا إله إلا الله) ، كأنه أشرك فأُمر بأن يجدد التوحيد؛ ليبطل الاعتقاد بأن اللات والعزى معظمتان أو أنهما تستحقان التعظيم.
فكذلك إذا حلف بالولي فلان، أو بـ علي، أو بـ حسن، أو بـ حسين، أو بـ عيدروس، أو بـ ابن علوان، أو بكذا وكذا؛ فإن هؤلاء مخلوقون لا يجوز الحلف بهم.
كذلك أيضاً سؤال الله تعالى بحق المخلوقين أو بجاه المخلوقين، هذا أيضاً شرك، وذلك لأنه ليس لأحد حق على الله تعالى إلا ما أحقه على نفسه.(25/4)
حديث السؤال بجاه النبي مكذوب
ويتكرر في كتب هؤلاء القبوريين وعلى ألْسُن دعاتهم حديث مكذوب، يقولون: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا سألتم الله فاسألوه بجاهي؛ فإن جاهي عند الله عظيم) .
وهذا مكذوب لا أصل له، ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم، وحاشاه أن يأمرهم بأن يسألوا الله بجاهه وهو الذي يحب التواضع والذي يعرف أن ربه هو الذي يستحق التعظيم، ولما قال له رجل: ما شاء الله وشئتَ.
قال: (أجعلتني لله نداً؟! قل ما شاء الله وحده) ، فكيف يقول: اسألوا الله بجاهي؛ فإن جاهي عند الله عظيم؟! فإذاً: الذين يقولون: أسألك بجاه نبيك، أو بحق نبيك، أو بحق الولي فلان، أو بجاه الولي فلان؛ هؤلاء قد أشركوا، لماذا؟ لأنهم عظَّموا هذا المخلوق وحلفوا به، وجعلوا له حقاً على الله، ومعلوم أن الله تعالى هو الذي يتفضل على العباد، وليس أحد يملك من الله شيئاً، وليس على الله حق لأي مخلوق، بل هو الذي له الحق عليهم.(25/5)
حق العباد على الله تفضل منه وتكرم لا واجب
أما حديث معاذ الذي ذكر فالحق فيه حق تفضل وحق تكرم، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً) ، فحقٌّ علينا وعلى العباد كلهم لله تعالى أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً.
وحق العباد على الله ألَّا يعذب من لا يشرك به شيئاً، فهذا ليس حق وجوب، بل هو حق تفضل وحق تكرم، وذلك لأنه الذي وفقهم وأنعم عليهم، ثم هو وعدهم -وهو لا يخلف الميعاد- أن من وحده فإنه يثيبه وينعِّمه، وأنه لا يعذبه إذا مات على التوحيد الصحيح الصادق، فهذا حق تكرم.
وإذا كان كذلك فليس خاصاً بنبي ولا بولي ولا بغيره، ويقال: إذا كان للنبي صلى الله عليه وسلم حق على الله فأنت كذلك لك حق، فائت بسببه، أنت لك حق تكرم على الله فائت بسببه، وهو أن توحد الله ولا تشرك به شيئاً، ولا تلتفت بقلبك إلى أي مخلوق، ولا تتعلق بسيد ولا ولي ولا شفيع ولا غيرهم، وتعلق بربك حتى يرحمك وحتى ينعِّمك ولا يعذِّبك، فبذلك تكون من الذين استحقوا على الله حق تكرم.
والبيت الذي ذكر يؤيد أن هذا حق تكرم، وهو قولهم: ما للعباد عليه حق واجب كلا ولا سعي لديه ضائع إن عُذبوا فبعدله أو نعموا فبفضله وهو الكريم الواسع فيقول هذا الشاعر: إن العباد ليس لهم عليه حق -يعني: حق وجوب- وإن سعيهم وأعمالهم الصالحة لا تضيع، بل هي محفوظة يحصيها ثم يوفيهم إياها، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه، فهذا حق تكرم.
ولا يعذبهم ظلماً، إنما يعذبهم عدلاً لكونهم يستحقون العذاب.
يعني: هو الذي تفضل عليهم وهداهم، فهدايته لهم نعمة، ولو أن الله تعالى عذَّب أهل سماواته وأهل أرضه لعذبهم وهم يستحقون العذاب، ولا يكون ظالماً لهم، ولو أنه أنعم عليهم لكانت نعمته عليهم أفضل من أعمالهم.(25/6)
الرد على المستدلين بحديث: (أسألك بحق السائلين)
فإذاً: يبقى علينا هذا الحديث الذي يكثر أن يستدل به القبوريون، وهو الحديث الذي رُوي عن أبي سعد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لو أن أحدكم إذا خرج من بيته يقول: اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك وبحق ممشاي هذا؛ فإني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا رياءً ولا سمعةً، خرجت اتقاء سخطك وابتغاء مرضاتك، أسألك أن تنقذني من النار وأن تغفر لي ذنوبي جميعاً؛ إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت) يقوله في طريقه إلى المسجد.
والجواب أن هذا الحديث فيه ضعف، حيث إن في طريقه أو في إسناده عطية بن سعد العوفي، وهو ضعيف، ثم على تقدير صحته لا دلالة فيه، فليس معنى (حق السائلين) جاههم، فجاه الناس كلهم سواء، ولو كان كذلك لقال: أسألك بحق النبيين، أو: بحق الأولياء، أو: بحق، فلان أو فلان من الأولياء، كـ عبد القادر أو البدوي أو نحوهما، ولكن قال: بحق السائلين، وما هو حق السائلين؟ هو ما وعد الله من سأله بالثواب، فحق السائلين على الله أن يجيبهم، وحق العاملين أن يثيبهم، فهذا هو حقهم الذي يسألون الله به، فكأنك تقول: يا رب أسألك بما جعلته حقاً على نفسك لمن سألك أن تجيب فأنا من جملة السائلين فأجب سؤالي وأثبني على أعمالي، فلما كان هذا حق السائلين كلهم كنت أنت من السائلين.
يقول: يا رب أنا من جملة السائلين، وقد جعلت للسائلين عليك حقاً بقولك: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60] ، وبقولك: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة:186] ، فإذاً: أنا من السائلين، فأسألك بما جعلته حقاً على نفسك وبما وعدت السائلين أن تجيبهم.
فهل في ذلك توسُّلٌ بالجاه؟! وهل في هذا توسل بحق مخلوق؟ ليس فيه توسلٌ في حق مخلوق.
إذاً: فكيف يتعلق بهذا القبوريون الذين يدعون فلاناً وفلاناً ويقولون: إن هؤلاء من جملة الذين أمرنا بأن نتوسل بحقهم، وأن نسأل الله بحقهم.
فلا يُغتر بمن يستدل بهذا الحديث على أنه دليل في جواز السؤال بحق الأموات أو بحق الأولياء أو غير ذلك، فليس فيه أي دليل، وقد أورد العلماء هذا الحديث في الرد على من استدل به من القبوريين، وفي الرد على المشركين الذين جعلوه طعناً على الشيخ محمد بن عبد الوهاب الذي يمنع من السؤال بحق المخلوق، وبجاه مخلوق أياً كان.
فكل من دعا معه أحدا أشرك بالله ولو محمدا فيقولون: هذا دليل على أنه يجوز السؤال بحق المخلوق.
فأين السؤال فيه بحق المخلوق؟ إنما فيه السؤال بما جعل الله، كأنه يقول: أنت وعدت السائلين أن تجيبهم فأنا من جملة السائلين فأجب سؤالي فلا دلالة فيه على شيء مما يتعلقون به.(25/7)
لا يجوز الإقسام بالمخلوق ولا التوسل به
قال رحمه الله تعالى: [وإن كان مراده الإقسام على الله بحق فلان فذلك محذور أيضاً؛ لأن الإقسام بالمخلوق على المخلوق لا يجوز، فكيف على الخالق؟! وقد قال صلى الله عليه وسلم: (من حلف بغير الله فقد أشرك) .
ولهذا قال أبو حنيفة وصاحباه رضي الله عنهم: يُكره أن يقول الداعي: أسألك بحق فلان أو بحق أنبيائك ورسلك، وبحق البيت الحرام والمشعر الحرام ونحو ذلك.
حتى كره أبو حنيفة ومحمد رضي الله عنهما أن يقول الرجل: اللهم إني أسألك بمعقد العز من عرشك، ولم يكرهه أبو يوسف رحمه الله لَمَّا بلغه الأثر فيه.
وتارة يقول: بجاه فلان عندك، أو يقول: أتوسل إليك بأنبيائك ورسلك وأوليائك، ومراده: لأن فلاناً عندك ذو وجاهة وشرف ومنزلة فأجب دعاءنا، وهذا أيضاً محذور؛ فإنه لو كان هذا هو التوسل الذي كان الصحابة يفعلونه في حياة النبي صلى الله عليه وسلم لفعلوه بعد موته، وإنما كانوا يتوسلون في حياته بدعائه، يطلبون منه أن يدعو لهم وهم يؤمِّنون على دعائه، كما في الاستسقاء وغيره، فلما مات صلى الله عليه وسلم قال عمر رضي الله عنه لما خرجوا يستسقون: (اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا) ، معناه: بدعائه هو ربه وشفاعته وسؤاله، ليس المراد أنا نقسم عليك به، أو نسألك بجاهه عندك؛ إذ لو كان ذلك مراداً لكان جاه النبي صلى الله عليه وسلم أعظم وأعظم من جاه العباس.
وتارةً يقول: باتباعي لرسولك ومحبتي له وإيماني به وبسائر أنبيائك ورسلك وتصديقي لهم ونحو ذلك.
فهذا من أحسن ما يكون من الدعاء والتوسل والاستشفاع.
فلفظ التوسل بالشخص والتوجه به فيه إجمال غلط بسببه من لم يفهم معناه، فإن أريد به التسبب به لكونه داعياً وشافعاً وهذا في حياته يكون، أو لكون الداعي محباً له مطيعاً لأمره مقتدياً به وذلك أهل للمحبة والطاعة والاقتداء، فيكون التوسل إما بدعاء الوسيلة وشفاعته، وإما بمحبة السائل واتباعه، أو يراد به الإقسام به والتوسل بذاته، فهذا الثاني هو الذي كرهوه ونهوا عنه] .
قد ذكر العلماء الدليل على أنه لا يجوز الإقسام بمخلوق على الله تعالى، كما في كتاب التوحيد للشيخ محمد بن عبد الوهاب: (باب ما جاء في الإقسام على الله) .
الإقسام على الله معناه: إلزام الله تعالى بشيء، كأن يقول: أقسمت عليك يا رب أن تفعل كذا.
ولا شك أن هذا جرأة كبيرة على الله، فكيف تلزم ربك بشيء، وكيف تقسم عليه بأن يفعل شيئاً وهو الذي يتصرف في العباد؟! وما ورد في ذلك إنما هو على وجه المثل، فالحديث الذي يقول فيه صلى الله عليه وسلم: (رب أشعث أغبر مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره) ، هذا بيان أن هناك من هو متواضع لله تعالى لو قدر أنه طلب ربه وألح في طلبه لأجاب دعوته، ولكن ليس فيه أنكم تقسمون على الله، فتقول: أقسمت عليك أن تنزل المطر، أقسمت عليك أن تشفي المريض، أقسمت عليك أن تنبت النبات، هذا لا يجوز لما فيه من التصرف في الله ومن إلزام الرب سبحانه بما لا يملكه العبد، فالعبد لا يملك إلا الدعاء، فيسأل ربه ما يحبه، فيقول: يا رب! نحن الفقراء وأنت الغني فأنزل علينا غيثك، يا رب! نحن المذنبون وأنت العفو فاعفُ عنا، وما أشبه ذلك.
فهذا المراد بالنهي عن الإقسام على الله.
ومن أراد التوسع في الأدلة فليقرأ في الباب الذي في آخر كتاب التوحيد، وكذلك في شرحه: (فتح المجيد) و (تيسير العزيز الحميد) باب ما جاء في الإقسام على الله تعالى.(25/8)
أشياء يجوز التوسل بها
أما سؤال الله تعالى بحق مخلوق فإن هذا أيضاً قد ذكرنا أنه لا يجوز، وأن المخلوق ليس له أن يتحكم على الله، ولكن قد يكون السائل أراد بذلك محبة ذلك العبد، فيكون سأل الله تعالى وتوسل إليه بعمل صالح، والتوسل إلى الله بالأعمال الصالحة من الأسباب لإجابة الدعاء ولقبوله.
وقد ذكروا لذلك أمثلة، فمثلاً: إذا قلت: يا رب! أسألك بأني عبدك الذليل، أسألك بأني مصدق بوعدك ووعيدك، أسألك بما عملته لك من الصالحات، فهذه توسلات مباحة يُرجى بذلك قبول الدعاء بها، وكذلك إذا توسلت بمحبة أولياء الله، فإن ذلك فيه أيضاً وسيلة لإجابة الدعاء، كأن تقول: أسألك بأني أحبك وأحب نبيك وأحب عبادك الصالحين، أسألك بمحبتي لك ومحبتي لهم أن تجيب دعوتي، أو تقيل عثرتي، أو ما أشبه ذلك، أو تقول: أسألك بإيماني بك وتصديقي لنبيك واتباعي لشريعته، وإيماني بما جاء به وتصديقي بكتابك وعملي به، ونحو ذلك، تتوسل إلى الله تعالى بأعمال صالحة قد عملتها وأنت صادق فيها، فإن هذا فيه وسيلة إلى الله بأعمال خيرية، والله تعالى يجيب من هو أهل للإجابة إذا كان صادقاً فيما قاله بقلبه أو فيما قاله بلسانه.
فالسؤال بحق فلان المخلوق لا يجوز كما تقدم.
وأما السؤال بحبه، أو باتباعه، أو بالسير على نهجه، أو بتصديق النبي صلى الله عليه وسلم، أو بعمل من الأعمال الصالحة، فذلك أيضاً من الوسائل التي تكون مؤثرة في إجابة دعاء الداعي، فإذا توسل بها العبد رُجي إجابة دعوته، ولكن عليه مع ذلك أن يجتهد في الأدعية النبوية، وفي الأعمال الصالحة.
والأدعية النبوية فيها كثير من ذكر الأعمال الصالحة، فمثلاً: إذا قلت: (اللهم أنت ربي لا إله إلَّا أنت خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت) ، فتوسلت بأنك ملتزم بعهد الله وبوعده ما استطعت؛ فذلك من الأسباب، كذلك إذا قلت: أسألك حبك وحب من يحبك والعمل الذي يقربنا إلى حبك، كأنك تقول: أسألك أن ترزقني عملاً صالحاً أكون به محبوباً لك ومحباً لك.
وما أشبه ذلك.
فهذه أدعية نبوية وأدعية فيها توسل بأعمال صالحة ودعاء بالأعمال الصالحة أو بالتوفيق لها.
ولم يرد عن السلف رحمهم الله أنهم قالوا: أسألك بحق فلان.
أو: بحق عبد القادر.
أو: بحق السيد البدوي.
أو: بحق ابن عباس.
أو ما أشبه ذلك.(25/9)
الكلام على توسل عمر بالعباس
ويبقى ما ذكر من توسل عمر رضي الله عنه بـ العباس، وكثيراً ما يستدل به القبوريون فيقولون: كيف تعيبون علينا أن نتوسل بالصالحين وهذا عمر توسل بـ العباس؟! نقول: تأملوا قصة عمر حتى تعرفوا ما فعله وما تفعلونه، والفرق الكبير بين فعلكم وفعله! فقد كان العباس بن عبد المطلب كبيرَ السن تقياً زاهداً، قريبَ الصلة بالنبي صلى الله عليه وسلم.
فلأجل هذه الأسباب قدموه ليدعو، فقال عمر: (اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبيك فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبيك فاسقنا) .
يعني: نتوسل بدعائه، وهو حي بين أيديهم، فقدموه ليؤمنوا على دعائه ليسأل الله تعالى، فكأنهم يقولون: اللهم تقبل دعاءه فإنه من عبادك الصالحين.
ويجوز في كل وقت إذا خرجنا نطلب المطر أن نختار أتقانا ونقدمه يدعو ونؤمِّن على دعائه، فإنه أولى وأقرب إلى إجابة دعائنا، ونقول: يا ربنا! هذا عبدك الصالح قدمناه، ونحن نؤمِّن على دعائه، نسألك أن تجيب دعوته لنا، نسألك أن ترحمنا بدعائه وبدعائنا.
فهذا ليس فيه محذور، وأي توسل بغير الله فيه؟! وهؤلاء القبوريون يتوسلون بالأموات، ولو كان جائزاً لما عدل عمر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا عن أبي بكر، وكيف يعدل عنهما وهما أفضل من العباس؟ فلما عدل عنهما إلى العباس دل على أنه استقر في علمه أنه لا يجوز التوسل بالأموات، ولا بالغائبين حتى ولو كانوا أنبياء، وحتى ولو كانوا أولياء، وحتى ولو كانوا شهداء أو صالحين.
ومعلوم أن حمزة بن عبد المطلب أفضل من العباس وأقدم منه إسلاماً، وقتل شهيداً في سبيل الله وهو مقبور عندهم بالمدينة، فلماذا لم يذهبوا إلى قبره؟! ولماذا لم يتوسلوا به ويقولون: نتوسل إليك بـ حمزة بن عبد المطلب؟! ولماذا لم يأتوا إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم ويقولون: يا محمد استسقِ لنا؟! فإذاً لا دلالة في أنه يجوز الاستسقاء بالولي الميت أو الولي الغائب، بخلاف الحي السوي الفاضل الذي يدعو ويؤمِّنون على دعائه ويسألون ربهم أن يجيب دعاءهم معه، فهذا لا محذور فيه، وهذا هو الذي فعله العباس.(25/10)
الرد على شبهة القبوريين في حديث التوسل بالعباس
وقد رأينا وقرأنا لكثير من القبوريين الذين يؤيدون دعاء المخلوق أو التوسل بالمخلوق الميت، كـ النبهاني -مثلاً- في كتابه الذي يسمى (شواهد الحق) ، وكذلك ابن علوي المالكي الموجود الآن، وغيره من الذين يغالون في دعاء الأموات أو يزينونه.
يقولون: إن عمر عدل عن النبي صلى الله عليه وسلم مخافة أنهم إذا لم يُجابوا بدعائه وبتوسله يسوء ظنهم فيه، ويكذبونه ويدَّعون أنه لا يُستجاب دعاؤه، ويدَّعون أنه لا ينفع التوسل به، وما أشبه ذلك من التلفيقات.
هكذا يعلل النبهاني ونحوه.
نقول: إذا كان كذلك في عهد عمر فلماذا لا يكون هذا في عهدكم؟! لماذا تعدلون عن الأحياء إلى الأموات؟! ألا تخافون أنكم إذا عدلتم عنه، وإذا طلبتم النبي ولم يجبكم ولم يُستَجب دعاؤكم أن الناس -وكذلك العامة- يسيئون الظن بالنبي صلى الله عليه وسلم ويقولون: إنه لا يُستجاب دعاؤه؟! إذا كان هذا محذوراً في عهد عمر فهو محذور في عهدكم.
وعلى كل حال فلا يُغتر بما يلفقونه مما يستدلون به على أنه يجوز دعاء الأموات أو التوسل بهم أو الاستشفاع بهم، ويستدلون بمثل هذه، ولا دلالة فيها.(25/11)
التوسل بالأعمال الصالحة توسل مشروع
قال رحمه الله تعالى: [وكذلك السؤال بالشيء قد يراد به التسبب به لكونه سبباً في حصول المطلوب، وقد يراد به الإقسام به.
ومن الأول: حديث الثلاثة الذين آوَوا إلى الغار، وهو حديث مشهور في الصحيحين وغيرهما، فإن الصخرة انطبقت عليهم فتوسلوا إلى الله بذكر أعمالهم الصالحة الخالصة، وكل واحد منهم يقول: فإن كنتُ فعلتُ ذلك ابتغاء وجهك فأفرج عنا ما نحن فيه.
فانفرجت الصخرة، فخرجوا يمشون.
فهؤلاء دعوا الله بصالح الأعمال؛ لأن الأعمال الصالحة هي أعظم ما يتوسل به العبد إلى الله ويتوجه به إليه ويسأله به؛ لأنه وعد أن يستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله.
فالحاصل أن الشفاعة عند الله ليست كالشفاعة عند البشر؛ فإن الشفيع عند البشر كما أنه شافع للطالب شفعه في الطلب، بمعنى أنه صار به شفعاً فيه بعد أن كان وتراً، فهو أيضاً قد شفع المشفوع إليه وبشفاعته صار فاعلاً للمطلوب، فقد شفع الطالب والمطلوب منه، والله تعالى وتر لا يشفعه أحد، فلا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، فالأمر كله إليه، فلا شريك له بوجه، فسيد الشفعاء يوم القيامة إذا سجد وحمد الله تعالى فقال له الله: (ارفع رأسك، وقل يُسمع، وسَل تعطَ، واشفع تشفَّع) فيُحَد له حداً، فيدخلهم الجنة، فالأمر كله لله، كما قال تعالى: {قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ} [آل عمران:154] ، وقال تعالى: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} [آل عمران:128] ، وقال تعالى: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} [الأعراف:54] .
فإذا كان لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه لمن يشاء ولكن يكرم الشفيع بقبول شفاعته كما قال صلى الله عليه وسلم: (اشفعوا تؤجروا، ويقضي الله على لسان نبيه ما يشاء) .
وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يا بني عبد مناف! لا أملك لكم من الله من شيء، يا صفية عمة رسول الله! لا أملك لكِ من الله من شيء، يا عباس عم رسول الله! لا أملك لك من الله من شيء) .
وفي الصحيح أيضاً: (لا ألفين أحدكم يأتي يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء أو شاة لها يعار أو رقاع تخفق فيقول: أغثني أغثني! فأقول: قد أبلغتك، لا أملك لك من الله من شيء) .
فإذا كان سيد الخلق وأفضل الشفعاء يقول لأخص الناس به: (لا أملك لكم من الله من شيء) فما الظن بغيره؟! وإذا دعاه الداعي وشفع عنده الشفيع فسمع الدعاء وقبل الشفاعة، لم يكن هذا هو المؤثر فيه كما يؤثر المخلوق في المخلوق؛ فإنه سبحانه وتعالى هو الذي جعل هذا يدعو ويشفع، وهو الخالق لأفعال العباد، فهو الذي وفق العبد للتوبة ثم قبلها، وهو الذي وفقه للعمل ثم أثابه، وهو الذي وفقه للدعاء ثم أجابه، وهذا مستقيم على أصول أهل السنة المؤمنين بالقدر، وأن الله خالق كل شيء] .
الكلام الأول يتعلق بقول الإنسان: أسألك بكذا، فإذا كان الذي سألت به عملاً صالحاً فهو وسيلة والله تعالى قد أمر بها، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} [المائدة:35] أي: اجعلوا بينكم وبينه وسيلة، والوسيلة ما يوصل إليه، وقد فُسِّرت بأنها الأعمال الصالحة يتوصل بها العبد إلى ثواب ربه وإلى جزيل وعظيم أجره.
فإذا قلت مثلاً: أسألك يا رب بحق أعمالي أو بحق إيماني أو بحق تصديقي، فستجعل ذلك وسيلة تقربك إلى رضا الله، فهذا جائز.
وإذا قلت مثلاً: أسألك بإيماني بنبيك، أو: بمحبتي لك، أو: بمحبتي لعبادك الصالحين، فأنت تتوسل بأعمالك الصالحة، فهذا توسل بأعمال صالحة عملتها تكون سبباً في فوزك وسعادتك.
أما إذا توسلت بمخلوق بأن قلت: أسألك بحق عبدك، أو: بحق رسولك، أو: بحق آبائي أو أجدادي أو أسلافي، فهذا توسل بمخلوق.
فالتوسل الذي أمر الله به في قوله: {وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} [المائدة:35] هو السؤال بالأعمال الصالحة.
ومن هذا قصة الثلاثة الذين آواهم المبيت إلى غار، فانحدرت صخرة فسدت باب الغار عليهم، فعرفوا أنه لا ينجيهم إلا التوسل بأعمالهم الصالحة ودعاء الله فتوسلوا.
توسل أحدهم بكونه براً بوالديه، وقال بعد ذلك: (اللهم إن كنتُ فعلت ذلك ابتغاء وجهك -يعني: مخلصاً لك- فأفرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة غير أنهم لا يستطيعون الخروج) .
وتوسل الثاني بعفافه، بكونه تمكن من فعل الحرام ولكنه تركه خوفاً من الله، وذهب ما دفعه من المال، وقال بعد ذلك: (إن كنتُ فعلت ذلك ابتغاء وجهك أو ابتغاء مرضاتك فأفرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة قليلاً) .
وتوسل الثالث بأمانته، وبكونه مؤتَمناً على مال غيره بحيث لم يأخذ من أجرة ذلك الأجير شيئاً رغم أنه تصرف فيها، فدفعها إلى أهلها أو إلى صاحبها، وذلك دليل الأمانة، وقال: (إن كنتُ فعلت ذلك ابتغاء وجهك فأفرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة وخرجوا يمشون) .
ففي هذا أجاب الله دعاءهم لما توسلوا، فهل قالوا: نسألك بحق أوليائك؟! وهل قالوا: نسألك بحق عبدك فلان؟! وبينهم عباد صالحون ورسل وأنبياء كموسى وعيسى وأيوب وهارون، فما سألوا الله إلَّا بحق أعمالهم.
فيجوز أن تسأل الله بإيمانك وبتصديقك وما أشبه ذلك، هذا هو التوسل المطلوب أو التوسل المشروع، وأما التوسل بحق مخلوق أو بجاه مخلوق -ولو كان نبياً أو ولياً- فهو ممنوع، وهو من وسائل الشرك.(25/12)
الشفاعة كلها لله فلا تطلب من غيره
والحاصل أن الشفاعة ملك لله كما عرفنا، وإذا كانت ملكاً لله فلا تُطلب من مخلوق، فلا تُطلب من النبي صلى الله عليه وسلم ولا غيره، فنبينا صلى الله عليه وسلم هو سيد الشفعاء، ومع ذلك لا يشفع أولاً حتى يستأذن على ربه فيسجد ويطيل سجود، فيقال له: (ارفع رأسك، وقل تُسمع، وسل تعطَه، واشفع تشفع) .
فيبدأ بحمد الله كما تقدم في حديث أنس، فيحمده بمحامد يفتحها الله تعالى عليه، فذلك لا شك أنه لأجل أن يمجد ربه، فيبدأ بتمجيد الله تعالى حتى يأذن له.
ومرت بنا الأدلة التي تدل على أن الملك ملك الله، وأنه عليه الصلاة والسلام -مع ما خصه الله به- ليس له ملك وليس له تصرف، ومن ذلك الاستدلال بقوله سبحانه وتعالى: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} [آل عمران:128] نزلت لما أنه صلى الله عليه وسلم شُج وجهه يوم أحد وكسرت رباعيته وهشمت البيضة على رأسه فقال: (كيف يفلح قوم شجوا وجه نبيهم؟!) فأنزل الله: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} [آل عمران:128] يعني: أن الأمر ليس لك، وإذا لم يكن له من الأمر شيء في الدنيا، فكذلك الأمر في الآخرة.
وكذلك قوله تعالى في الآية الثانية رداً على المنافقين الذين يقولون: {لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا} [آل عمران:154] قال الله: {قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ} [آل عمران:154] ، فالأمر كله لله، ليس لمحمد ولا لـ حسن ولا لـ عيدروس ولا لغيرهم من المخلوقين، الأمر كله لله، وإذا كان لله فليُطلب ممن هو له.
كذلك أيضاً الاستدلال بهذه الأحاديث في أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يغني عن أقاربه شيئاً، يقول في هذا الحديث لـ عباس ولـ فاطمة ولـ صفية ولبني هاشم ولبني عبد مناف: أنقذوا أنفسكم من النار، لا أغني عنكم من الله شيئاً، لا أملك لكم من الله من شيء، يقول لابنته: (يا فاطمة بنت محمد! أنقذي نفسك من النار، سليني من مالي ما شئت، لا أغني عنك من الله شيئاً) .
إذا كان لا يغني عنهم من الله شيئاً، وإذا كان لا يملك لعمه ولا لعمته ولا لأعمامه ولا لأعمام أبيه أو أبناء أعمامه ولا لابنته من الله شيئاً، وأن الملك كله لله، فكيف يُطلب وكيف يُدعى؟! وإذا بطل هذا في حق النبي صلى الله عليه وسلم فكيف بالـ عباس؟! وكيف بـ علي؟! وكيف بـ ابن عباس؟! وكيف بفلان وفلان ممن هم دونهم ودونهم بمراتب؟! فإذاً: الملك لله، وطلب الشفاعة من الله، وطلب الوسيلة وطلب الملك كله من الله، فإذا طلب العبد ربه عند ذلك أجاب الله تعالى دعوته.(25/13)
شرح العقيدة الطحاوية [26]
لقد أخذ الله الميثاق على بني آدم وهم في ظهر أبيهم آدم، وركز فيهم الفطرة التي تبعث على الإقرار بالخالق، ثم أقام عليهم الحجة بالرسل، وقد تكلم العلماء كثيراً على النصوص الواردة في ذلك وفي تأويلها.(26/1)
الكلام على الميثاق المأخوذ على بني آدم المذكور في سورة الأعراف
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قوله: (والميثاق الذي أخذه الله تعالى من آدم وذريته حق) .
قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} [الأعراف:172] .
يخبر سبحانه أنه استخرج ذرية بني آدم من أصلابهم شاهدين على أنفسهم أن الله ربهم ومليكهم، وأنه لا إله إلَّا هو، وقد وردت أحاديث في أخذ الذرية من صلب آدم عليه السلام وتمييزهم إلى أصحاب اليمين وإلى أصحاب الشمال، وفي بعضها الإشهاد عليهم بأن الله ربهم: فمنها ما رواه الإمام أحمد عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله أخذ الميثاق من ظهر آدم عليه السلام بنعمان -يعني: عرفة- فأخرج من صلبه كل ذرية ذرأها فنثرها بين يديه، ثم كلمهم قُبُلاًَ قال: ((أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا)) [الأعراف:172] إلى قوله: {الْمُبْطِلُونَ} [الأعراف:173] ) .
ورواه النسائي أيضاً وابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم في المستدرك وقال: صحيح الإسناد ولم يخرِّجاه.
وروى الإمام أحمد أيضاً عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (أنه سئل عن هذه الآية فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عنها فقال: إن الله خلق آدم عليه السلام ثم مسح ظهره بيمينه فاستخرج منه ذرية قال: خلقت هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون، ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية قال: خلقت هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون، فقال رجل: يا رسول الله! ففيم العمل؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله عزَّ وجلَّ إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة فيدخل به الجنة، وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار فيدخل به النار) .
ورواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن أبي حاتم وابن جرير وابن حبان في صحيحه.
وروى الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لما خلق الله آدم مسح على ظهره فسقط من ظهره كل نسمة هو خالقها من ذريته إلى يوم القيامة، وجعل بين عينَي كل إنسان منهم وبيصاً من نور، ثم عرضهم على آدم فقال: أي رب! مَن هؤلاء؟ قال: هؤلاء ذريتك، فرأى رجلاً منهم فأعجبه وبيص ما بين عينيه، فقال: أي رب! مَن هذا؟ قال: هذا رجل من آخر الأمم من ذريتك يقال له: داوُد.
قال: رب! كم عمره؟ قال: ستون سنة.
قال: أي رب! زده من عمري أربعين سنة.
فلما انقضى عمر آدم جاء ملك الموت قال: أوَلم يبق من عمري أربعون سنة؟ قال: أوَلم تعطها ابنك داوُد؟! قال: فجحد فجحدت ذريته، ونسي آدم فنسيت ذريته، وخطئ آدم فخطئت ذريته) ، ثم قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
ورواه الحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرِّجاه.
وروى الإمام أحمد أيضاً عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يقال للرجل من أهل النار يوم القيامة: أرأيت لو كان لك ما على الأرض من شيء أكنت مفتدياً به؟ قال: فيقول: نعم.
قال: فيقول: قد أردت منك أهون من ذلك، قد أخذت عليك في ظهر آدم أن لا تشرك بي شيئاً، فأبيت إلا أن تشرك بي) وأخرجاه في الصحيحين أيضاً.
وفي ذلك أحاديث أُخَر أيضاً كلها دالة على أن الله استخرج ذرية آدم من صلبه وميَّز بين أهل النار وأهل الجنة] .
يؤمن أهل السنة بالميثاق الذي ذكره الله تعالى في هذه الآية، وهي قوله تعالى في سورة الأعراف: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ} [الأعراف:172-173] .
فهذه الآية فيها أن الله أخذ من ظهور بني آدم ذريتهم.(26/2)
ذكر قول من قال بأن الذرية مأخوذة من ظهور بني آدم
وقد اختُلف في المراد بالذرية المأخوذين هل هم مأخوذون من ظهر كل إنسان، أو كلهم من آدم؟ وظاهر الآية أنهم من ظهور بني آدم، فقد قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ} [الأعراف:172] أي: من كل إنسان أخرج ذريته.
ثم كلمهم وخاطبهم وقال: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف:172] ، ويكون هذا هو الفطرة التي فطر الله عليها الخلق، كما في قوله تعالى: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [الروم:30] .
وكما في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهوِّدانه أو ينصِّرانه أو يمجِّسانه، كما تنتج البَهِيْمَة بُهَيْمَةً جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء؟) ، فأخبر بأن الآدمي يولد على الفطرة، وإنما تتغير فطرته بسبب ما يتلقاه من أبويه أو من أقاربه أو من بيئته ومن ينشأ بينهم، وإلا فلو ترك كل أحد على فطرته لعرف ما خلق له، ولعرف أنَّ له رباً، ولعرف أنه مكلف ولبحث بعد ذلك عن التكاليف التي أُمر بها.
ويؤيد هذا أن الفطرة هي الخلقة والابتداء، كما في قوله تعالى: {فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلَاً} [فاطر:1] : و (فاطرها) : منشئها ومبدئها وموجدها، فالله تعالى هو الذي فطر الخلق، أي: ابتدأ خلقهم وأوجدهم على غير مثال سبق.(26/3)
فطرة الله تعالى في خلقه وما يصرفها
فلما فطر الله الناس على الإسلام كانوا بذلك مستعدين لمعرفته ولمعرفة ما خلق له، ولكن صرفتهم الصوارف وصدتهم الصدود، واجتذبتهم الأهواء والأديان الباطلة التي تلقوها، هذا قول في هذه الآية.
وصحيح أن الله تعالى جعل للإنسان عقلاً وفكراً، وبدون هذا العقل والفكر يسقط عنه التكليف، فإذا سقط عقله وإذا سلب تفكيره وإدراكه سقطت عنه التكاليف، وما دام أن معه فطرته ومعه عقليته فإنه مكلف، حتى ولو لم تأتِه الشريعة، حتى ولو لم يسمع بها، ولكن إذا نشأ عاقلاً عرف أنه ليس بمُهمل، وأن هذا الكون كله لا بد له من موجِد، وأن الذي أوجده لا بد له من حقوق على عباده، فيبحث بعد ذلك.
ولما كانت الفطرة والعقليات لا يُمكن أن تفصل الحقوق التي لله سبحانه بعث الله الرسل وأنزل الكتب ليبينوا تلك الحقوق، فكأنه يقول: أنتم بفطركم وعقولكم تعرفون أنكم مخلوقون وأن لكم خالقاً وأن لخالقكم عليكم حقوقاً، ولكن هذه الحقوق نحن نبينها لكم ونفصلها لكم، فنقول: من حقوق الله كذا، ومن حقوقه كذا، ومما أمركم به كذا، ومما نهاكم عنه كذا، فامتثِلوا، وإذا امتثلتم فإن لكم الثواب على كذا، وإذا لم تمتثلوا بل خالفتم فإن عليكم العقاب.
وهذه وظيفة الرسل، جاءوا مبينين لما في فطرة الإنسان من العلوم مفصلين لها.
فهذا قولٌ من الأقوال في هذه الآية.
وقد دلت الأدلة على أن الله سبحانه جعل للإنسان معرفة بها يدرك ما أمامه وما خلفه، ولكن تلك الأدلة تتغير بتغير ما يفسدها وما يمازجها، إما من العلوم وإما من الأعمال وإما من الأشخاص.
فكثير من العلوم تصرف الفطرة، حتى يرى الحسن قبيحاً والقبيح حسناً، وكثير من المجتمعات والمخالَطات تصرف الفطرة، فزملاؤه وأخلاؤه وإخوته ومعاشروه يفسدون عليه عقله ويفسدون عليه فطرته، وينكسون معرفته ويبقى لا يعرف إلا ما يألفه، فلا يعرف أن الخير خير ولا أن الشر شر، فيستحسن القبيح ويستقبح الحسن.
وكثير من الشبهات التي يروجها أهلها تفسد الفطرة أيضاً، فينقلب فيها الحق باطلاً والباطل حقاً، ولو سلم الناس من هذه الأشياء لبقوا على فطرتهم.
وعلى هذا فيقال: إن دين الإسلام هو دين الفطرة، هو الدين الذي تشهد العقول السليمة بحسنه وملاءمته، ولقد روي أن أعرابياً أسلم لأول ما دُعي وقال: إني رأيت هذا الدين ما أمر بشيء فقال العقل ليته نهى عنه! ولا نهى عن شيء فقال العقل ليته أمر به.
وقد ذهب بعض المبتدعة إلى أن العقل له دخل في التحسين والتقبيح، وجعلوه مقدماً على الشرع، وهذا قول خطأ، ولو قيل بالتحسين والتقبيح العقليين، ولكن لا دخل للعقل فيما يخالف الشرع، إذا جاء الشرع وجاءت النصوص قدمت على ما تستحسنه العقول مهما كانت تلك العقول، فليس للعقل مدخل ما دام أن الشرع وُجِد ناصاً على حكم من الأحكام، فيقدم حكم الشرع على جميع العقول.
ومع ذلك فإن العقول الصريحة لا يمكن أن تخالف النقول والأدلة الواضحة الصحيحة، وقد ألف في ذلك ابن تيمية كتاباً مشهوراً سماه: (موافقة صحيح المنقول لصريح المعقول) فـ (صحيح المنقول) يعني الأحاديث والأدلة الصحيحة، و (صريح المعقول) هو العقول السليمة؛ يعني أن العقول السليمة لا تخالف النقول الصحيحة.(26/4)
ذكر قول من قال بأن الذرية مأخوذة من ظهر آدم
أما القول الثاني -وهو ما ذكر في هذه الأحاديث- فهو قول من الأقوال في معنى الآية، وإن كانت الآية بينها وبينه نوع مخالفة، فهو ينص في هذه الأحاديث على أن الله لما أخرج آدم مسح ظهره واستخرج منه كل نسمة هو خالقها إلى يوم القيامة، والله تعالى قادر على كل شيء، ولا يُعجزه شيء، ولما استخرجهم عرضهم على آدم، فعرفهم وأخبره بأنهم ذريته، وأنهم سوف يُخلقون من صلبه وأصلاب أبنائه إلى يوم القيامة.
وفي بعض الروايات أن الله استخرج أهل الخير وقال: (هؤلاء للجنة خلقتهم وبعمل أهل الجنة يعملون، وهؤلاء خلقتهم للنار وبعمل أهل النار يعملون) ، فميزهم وهم في صلب آدم، وبيَّن مَن هم السعداء ومَن هم الأشقياء، وعلم أهلَ الجنة مِن أهل النار، وعلم من يعمل لهذه ومن يعمل لهذه.(26/5)
علم الله بالسعداء والأشقياء لا يعني ترك العمل
وأشكل ذلك على بعض الصحابة فقالوا: ما دام أن الله قد كتب علينا ونحن في صلب أبينا من هو من أهل الجنة أو من أهل النار فلماذا نعمل؟ لأنه لا نحصل إلا على ما كُتب لنا، فأجيبوا: بأنكم مكلفون ومأمورون بالعمل، مأمورون بأن تعملوا، والله تعالى هو الذي يوفق كل إنسان لما خلقه له ولما كتبه عليه قبل أن يخلقه، وقرأ -في رواية- قول الله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} [الليل:5-10] .
فأهل الخير يُيَسرون لعمل يكونون به سعداء، وأهل الشر يخذلهم ويصرفهم فيعملون بعمل أهل الشر وأهل الشقاوة والعياذ بالله، ولكن مع ذلك كله فإنهم مأمورون ومنهيون، ومكلفون بأن يمتثلوا هذا الفعل، وبأن يتركوا هذا الفعل، ويعتبرون إذا فعلوا ذلك مطيعين، وإذا لم يفعلوه يعتبرون عصاة.
وعلى كل حال لا يُستبعد أن الله سبحانه عندما خلق آدم أخرج ذريته كالذر لا يُحصي عددهم إلا الله، وكل من على وجه الأرض اليوم، وكل من على وجه الأرض فيما سبق، وكل من سيولد فيما بعد، كلهم قد علم الله تعالى عددهم، وقد علم أعمارهم، وقد كتب آجالهم، كما في قوله تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [الحج:70] ، وكما في قوله تعالى: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14] ، وكما في قوله: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} [الحديد:22] .
وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الله أول ما خلق القلم قال له: اكتب، وأن القلم كتب ما هو كائن إلى يوم القيامة، فقوله: (ما هو كائن) يعني: كل موجود وكل من سوف يوجد، فإنه خلقهم وخلق أعمالهم وعرف آجالهم وعرف أزمنتهم، فهو على ذلك قدير، وعلى كل شيء قدير، لا يعجزه شيء ولا يعزب عن علمه مثقال ذرة.
فيؤمن الإنسان بالأمرين: يؤمن بأن الله خلق الخلق واستخرج ذرية آدم قبل أن يوجدهم، ويؤمن بأن كل إنسان رزق فطرةً وعقلاً بحيث يعرف الخير ويعرف الشر، وأن تلك الفطرة إما غَيَّرتها الأهواء والشهوات والمجتمعات، إما بقيت على حالتها وفطرتها، ولا يحمله ذلك على أن يعتمد على القضاء والقدر ويستسلم ويدع العمل، بل عليه أن يعمل، (فكل ميسر لما خلق له) .(26/6)
الكلام على معنى الميثاق المأخوذ وعلى خلق الروح والجسد
قال رحمه الله تعالى: [ومن هنا قال من قال: إن الأرواح مخلوقة قبل الأجساد، وهذه الآثار لا تدل على سبق الأرواح الأجساد سبقاً مستقراً ثابتاً، وغايتها أن تدل على أن بارئها وفاطرها سبحانه صوَّر النسَمة وقدَّر خلقها وأجلها وعملها، واستخرج تلك الصور من مادتها ثم أعادها إليها وقدَّر خروج كل فرد من أفرادها في وقته المقدر له، ولا يدل على أنها خلقت خلقاً مستقراً واستمرت موجودةً ناطقةً كلها في موضع واحد ثم يرسل منها إلى الأبدان جملةً بعد جملة كما قاله ابن حزم، فهذا لا تدل الآثار عليه.
نعم.
الرب سبحانه يخلق منها جملة بعد جملة على الوجه الذي سبق به التقدير أولاً، فيجيء الخلق الخارجي مطابقاً للتقدير السابق، كشأنه سبحانه في جمع مخلوقاته، فإنه قدر لها أقداراً وآجالاً وصفاتٍ وهيئاتٍ، ثم أبرزها إلى الوجود مطابقةً لذلك التقدير السابق.
فالآثار المروية في ذلك إنما تدل على القدر السابق، وبعضها يدل على أنه سبحانه استخرج أمثالهم وصورهم، وميز أهل السعادة من أهل الشقاوة، وأما الإشهاد عليهم هناك فإنما هو في حديثين موقوفين على ابن عباس وابن عمرو رضي الله عنهما، ومن ثم قال قائلون من السلف والخلف: إن المراد بهذا الإشهاد إنما هو فطرهم على التوحيد كما تقدم في حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
ومعنى قوله: (شَهِدْنَا) أي: قالوا: بلى، شهدنا أنك ربنا، وهذا قول ابن عباس وأبي بن كعب.
وقال ابن عباس أيضاً: أشهد بعضَهم على بعض.
وقيل: (شَهِدْنَا) من قول الملائكة، والوقف على قوله: ((بَلَى)) وهذا قول مجاهد والضحاك والسدي.
وقال السدي أيضاً: هو خبر من الله تعالى عن نفسه وملائكته أنهم شهدوا على إقرار بني آدم.
والأول أظهر، وما عداه احتمال لا دليل عليه، وإنما يشهد ظاهر الآية للأول.
واعلم أن من المفسرين من لم يذكر سوى القول بأن الله استخرج ذرية آدم من ظهره وأشهدهم على أنفسهم ثم أعادهم، كـ الثعلبي والبغوي وغيرهما.
ومنهم من لم يذكره، بل ذكر أنه نصب لهم الأدلة على ربوبيته ووحدانيته، وشهدت بها عقولهم وبصائرهم التي ركَّبها الله فيهم، كـ الزمخشري وغيره.
ومنهم من ذكر القولين، كـ الواحدي والرازي والقرطبي وغيرهم، لكن نسب الرازي القول الأول إلى أهل السنة والثاني إلى المعتزلة] .
في هذه الأحاديث أو في بعضها ما يُفهم أن الله خلق الأرواح قبل الأجساد، وأن الذي خاطبها بقوله: (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ) هي الأرواح.
ومن عقيدة أهل السنة أن الأرواح مخلوقة، فليست قديمة كما يقول الفلاسفة ونحوهم، بل هي مخلوقة خلقها الله بعد أن لم تكن، وذلك لأن الإنسان مركب من جسد وروح، والروح هي التي تحيا بها الأجساد، وإذا خرجت الروح مات الجسد، فهل الروح مخلوقة قبل الجسد أم مخلوقة مع الجسد؟ والصحيح أنها مخلوقة عندما خلق الله الجسد، فكلما خلق جسداً خلق له روحاً، وكلما مات ذلك الجسد بقيت روحه إما معذبة وإما منعمة إلى أن ترجع إليه في الآخرة.
وربما يأتينا شيء يتعلق بخلق الأرواح.
وعلى كل حال فالآية الكريمة وهي قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ} [الأعراف:172] هناك من يقول فيها: إن الله أخرجهم من آدم، وأخذ عليهم العهد، وأشهدهم على أنفسهم، وإنهم قالوا: بلى.
ولعلك أن تقول: إننا لا نتذكر هذا الميثاق، ولا ندري ولا نعرف متى أُخرجنا، ولا ندري هل قيل لنا ذلك القول أم لا؟ فلذلك يقال: إن هذه هي الفطرة، وإن هذا الإشهاد هو ما فطروا عليه من المعرفة، وإن قولهم: (بَلَى شَهِدْنَا) يعني: شهدنا أن ربنا هو الذي خلقنا، فيكون ذلك خطاباً للأرواح قبل خلق الأجساد.
ومن العلماء من قال: إن هذا وإن لم يتذكره كل إنسان، لكنه حق وواقع، وإن لم يكن هناك ذاكرة عند كل إنسان.
ولعل القول الأول أن ذلك هو الفطرة التي فطروا عليها هو الأقرب.
ومن المفسرين من اقتصر على مدلول الأحاديث، فجعل الآية مفسَّرة بالأحاديث، فمعناها: أخرجهم من آدم، وأشهدهم على أنفسهم، وردهم في صلب آدم، وأخرج منه أولاده، وأخرج من أولاده أحفاده -أي: أولادهم- وهكذا تسلسلت الولادة إلى ما شاء الله تعالى، إلى أن يحصل وجود من قدر الله خلقه إلى يوم القيامة.
ومن العلماء المفسرين من اقتصر على ذكر الفطرة، وأن المراد بالإشهاد هنا هو ما قذف في قلوبهم من المعرفة ومن الفطرة التي فطر الناس عليها.
ومنهم من ذكر القولين، والكل مجتهد، وكلٌّ اختار ما يناسبه.
فالذين تخصصوا في النقول وفي الحكايات ونحوها اقتصروا على الميثاق الذي ورد في الأحاديث.
والذي فسروا بالرأي أو فسروا بالاستنتاج ذكروا أيضاً الفطرة.
والرواية التي فيها أن الله تعالى أشهدهم وأنهم قالوا: شهدنا وتكلموا، يقول الشارح عنها: إنها موقوفة ليست مرفوعة، ويمكن أنها مما نُقل من كتب بني إسرائيل التي لا تُصدَّق ولا تكذَّب، إنما تقبل إذا وافقت النقل الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم، أو ما جاء في كتاب الله تعالى.
فعلى هذا نحن نعتقد معنى الآية إجمالاً، وإذا ثبتت لنا الأحاديث اعتقدناها ووكلنا كيفيتها إلى الله سبحانه.(26/7)
آية أخذ الميثاق لا تدل على أخذ الذرية من ظهر آدم
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ولا ريب أن الآية لا تدل على القول الأول، أعني أن الأخذ كان من ظهر آدم، وإنما فيها أن الأخذ من ظهور بني آدم، وإنما ذكر الأخذ من ظهر آدم والإشهاد عليهم هناك في بعض الأحاديث، وفي بعضها الأخذ والقضاء بأن بعضهم إلى الجنة وبعضهم إلى النار، كما في حديث عمر رضي الله عنه، وفي بعضها الأخذ وإراءة آدم إياهم من غير قضاء ولا إشهاد، كما في حديث أبي هريرة.
والذي فيه الإشهاد -على الصفة التي قالها أهل القول الأول- موقوف على ابن عباس وابن عمرو، وتكلم فيه أهل الحديث، ولم يخرِّجه أحد من أهل الصحيح غير الحاكم في المستدرك على الصحيحين، والحاكم معروف تساهله رحمه الله.
والذي فيه القضاء بأن بعضهم إلى الجنة وبعضهم إلى النار دليل على مسألة القدر، وذلك شواهده كثيرة ولا نزاع فيه بين أهل السنة، وإنما يخالف فيه القدرية المبطلون المبتدعون.
وأما الأول فالنزاع فيه بين أهل السنة من السلف والخلف، ولولا ما التزمته من الاختصار لبسطت الأحاديث الواردة في ذلك، وما قيل من الكلام عليها، وما ذكر فيها من المعاني المعقولة ودلالة ألفاظ الآية الكريمة.
قال القرطبي: وهذه الآية مشكلة، وقد تكلم العلماء في تأويلها، فنذكر ما ذكروه من ذلك حسب ما وقفنا عليه.
فقال قوم: معنى الآية أن الله أخرج من ظهر بني آدم بعضهم من بعض، قالوا: ومعنى {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} [الأعراف:172] دلهم بخلقه على توحيده؛ لأن كل بالغ يعلم ضرورة أن له رباً واحداً، {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} [الأعراف:172] أي: قال: فقام ذلك مقام الإشهاد عليهم والإقرار منهم، كما قال تعالى في السماوات والأرض: {قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت:11] ، ذهب إلى هذا القفال وأطنب.
وقيل: إنه سبحانه أخرج الأرواح قبل خلق الأجساد، وإنه جعل فيها من المعرفة ما علمت به ما خاطبها.
ثم ذكر القرطبي بعد ذلك الأحاديث الواردة في ذلك.
إلى آخر كلامه] .
هذه أيضاً أقوال في معنى الآية: قولٌ: أن قوله: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الأعراف:172] معناه: كلما ولد مولود أخذ الله عليه العهد واستشهده بما فُطِر عليه ليعرف أن له رباً وأنه مربوب وأن عليه تكاليف، فكلما وُلد مولود أخذ عليه العهد، وذلك لأن الله قال: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ} [الأعراف:172] ، وبنو آدم جمع، يعني: كل آدمي من البشر أخذ الله من ظهره، يعني: استخرج ما في ظهره من ولد ثم استنطقهم واستشهدهم، ويكون ذلك ما علموه أو ما أقام أمامهم من البينات والبراهين على أنه ربهم، وعلى أنهم مربوبون والمربوب له رب، وعلى أنهم مخلوقون والمخلوق له خالق.
وأما القول بأنهم استُنْطِقوا لما أُخرجوا من آدم وشهدوا على أنفسهم و (قَالُوا بَلَى) لما قال الله لهم: ((أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ)) فهذا قول اعتُمد فيه على حديثين، ولكن الحديثين فيهما مقال.
ويقول: إن حديث ابن عباس الذي تقدم وحديث عبد الله بن عمرو لم يخرجا في الصحيح، وإنما أخرجهما الحاكم والحاكم رحمه الله يتساهل في تخريج الأحاديث، فلا يعتمد تصحيحه إذا انفرد به.
لذلك لعل الآية عامة في أنها أخذت العهود من بني آدم، وأن تلك العهود هي إما المعرفة التي ركبت في قلوبهم حيث يعرفون أنهم مخلوقون، وإما الفطرة التي فطر الناس عليها، يعني: جعل في فطرتهم ميلاً ومعرفةً، وهو ما تقدم من قوله صلى الله عليه وسلم: (كل مولود يولد على الفطرة) .(26/8)
تضعيف الشارح للقول باستخراج الذرية من ظهر آدم وإشهادها
قال رحمه الله تعالى: [وأقوى ما يشهد لصحة القول الأول حديث أنس المخرَّج في الصحيحين الذي فيه: (قد أردت منك ما هو أهون من ذلك، قد أخذت عليك في ظهر آدم أن لا تشرك بي شيئاً فأبيت إلا أن تشرك بي) ولكن قد روي من طريق أخرى: (قد سألتك أقل من ذلك وأيسر فلم تفعل، فيُرَد إلى النار) وليس فيه (في ظهر آدم) وليس في الرواية الأولى إخراجهم من ظهر آدم على الصفة التي ذكرها أصحاب القول الأول.
بل القول الأول متضمن لأمرين عجيبين: أحدهما: كون الناس تكلموا حينئذ وأقروا بالإيمان، وأنه بهذا تقوم الحجة عليهم يوم القيامة.
والثاني: أن الآية دلت على ذلك.
والآية لا تدل عليه لوجوه: أحدها: أنه قال: (مِنْ بَنِي آدَمَ) ، ولم يقل: من آدم.
الثاني: أنه قال: (مِنْ ظُهُورِهِمْ) ، ولم يقل: من ظهره، وهذا بدل بعض أو بدل اشتمال وهو أحسن.
الثالث: أنه قال: (ذُرِّيَّتَهُمْ) ، ولم يقل: ذريته.
الرابع: أنه قال: (وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ) ، أي: جعلهم شاهدين على أنفسهم، ولا بد أن يكون الشاهد ذاكراً لما شهد به، وهو إنما يذكر شهادته بعد خروجه إلى هذه الدار -كما تأتي الإشارة إلى ذلك- لا يذكر شهادة قبله.
الخامس: أنه سبحانه أخبر أن حكمة هذا الإشهاد إقامة الحجة عليهم لئلا يقولوا يوم القيامة: (إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ) ، والحجة إنما قامت عليهم بالرسل والفطرة التي فطروا عليها كما قال تعالى: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء:165] .
السادس: تذكيرهم بذلك لئلا يقولوا يوم القيامة: (إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ) ، ومعلوم أنهم غافلون عن الإخراج لهم من صلب آدم كلهم وإشهادهم جميعاً ذلك الوقت، فهذا لا يذكره أحد منهم.
السابع: قوله تعالى: {أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ} [الأعراف:173] ، فذكر حكمتين في هذا الإشهاد: ألا يدعوا الغفلة، أو يدعوا التقليد، فالغافل لا شعور له، والمقلد متبع في تقليده لغيره، ولا تترتب هاتان الحكمتان إلا على ما قامت به الحجة من الرسل والفطرة.
الثامن: قوله: {أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ} [الأعراف:173] أي: لو عذبهم بجحودهم وشركهم لقالوا ذلك، وهو سبحانه إنما يهلكهم لمخالفة رسله وتكذيبهم، فلو أهلكهم بتقليد آبائهم في شركهم من غير إقامة الحجة عليهم للرسل لأهلكهم بما فعل المبطلون، أو أهلكهم مع غفلتهم عن معرفة بطلان ما كانوا عليه، وقد أخبر سبحانه أنه لم يكن ليهلك القرى بظلم وأهلها غافلون، وإنما يهلكهم بعد الإعذار والإنذار بإرسال الرسل.
التاسع: أنه سبحانه أشهد كل واحد على نفسه أنه ربه وخالقه، واحتج عليه بهذا الإشهاد في غير موضع من كتابه كقوله: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان:25] ، فهذه هي الحجة التي أشهدهم على أنفسهم بمضمونها وذكرتهم بها رسله بقولهم: {أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [إبراهيم:10] .
العاشر: أنه جعل هذا آية، وهي الدلالة الواضحة البينة المستلزمة لمدلولها بحيث لا يتخلف عنها المدلول، وهذا شأن آيات الرب تعالى، فإنها أدلة معينة على مطلوب معين مستلزمة للعلم به، فقال تعالى: {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الأعراف:174] ، وإنما ذلك بالفطرة التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله، فما من مولود إلا يولد على الفطرة، لا يولد مولود على غير هذه الفطرة، هذا أمر مفروغ منه لا يتبدل ولا يتغير، وقد تقدمت الإشارة إلى هذا.
والله أعلم.
وقد تفطن لهذا ابن عطية وغيره، ولكن هابوا مخالفة ظاهر تلك الأحاديث التي فيها التصريح بأن الله أخرجهم وأشهدهم على أنفسهم ثم أعادهم، وكذلك حكى القولين الشيخ أبو منصور الماتريدي في شرح التأويلات، ورجح القول الثاني وتكلم عليه ومال إليه] .
ويمكن أن يجمع بينهما بأن الآية في ميثاق والأحاديث في ميثاق، فالآية يظهر أن المراد بها الميثاق الذي يأخذه على كل مولود يولد على الفطرة، وذلك الميثاق هو المعرفة التي فطر عليها، والأحاديث في خلق الأرواح أن الأرواح خلقت أولاً ثم أعيدت في صلب آدم وتكلمت، وأنها شهدت وإن لم تكن الأجساد موجودة.
وبكل حال فإن هذه الآية تؤيد أن الميثاق الذي فيها غير الميثاق الذي في الأحاديث من هذه الوجوه العشرة التي ذكرها، فإن الله تعالى قال: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ) لم يقل: من آدم، والأحاديث فيها أنهم أخرجوا من ظهر آدم، فدل على الفرق بين ما في الآية وما في الأحاديث.
والآية فيها قوله: (مِنْ ظُهُورِهِمْ) والأحاديث فيها أنهم كلهم ذرية آدم.
والآية فيها أنه (أَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ) وهذا الإشهاد قد لا يتذكرونه لأنه هو الفطرة، فلو كان هو الإشهاد عند خلق الأرواح لم يكن حجة عليهم، فدل على أن المراد أنهم فطروا على الإسلام، وأنه لا مانع من أن الله سبحانه أخرج أرواحهم وأنفاسهم من صلب آدم، وعرضهم عليه، وجعل بين عيني كل إنسان وبيصاً، وأن منهم نبي الله داود وأنه وهبه من عمره أربعين إلى آخر ما تقدم.
لا مانع من أن نؤمن بأن الله استخرج الأرواح قبل أن يخلق الأجساد، وأنه أخذ الميثاق على الأجساد، وأن الميثاق الذي أخذه على الأجساد في الآية هو المعرفة والفطرة التي فطروا عليها، فبذلك لا يحصل اختلاف بين الآية والحديث، فيعتقد المسلم أن الله فطر الناس على المعرفة وعلى الديانة: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم:30] ، وأن تلك الفطرة تتغير بتغير البيئة: (فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه) ، ويعتقد مع ذلك بناء على الأحاديث أن الله استخرج ذرية آدم وعلم أهل الجنة وعلم أهل النار وقال: هؤلاء للجنة ولا أبالي، وهؤلاء للنار ولا أبالي، وذلك يبين سابق القدر لله تعالى، وسابق علمه بالأشياء قبل وجودها، والله تعالى بكل شيء عليم.(26/9)
الإقرار بالربوبية أمر فطري
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ولا شك أن الإقرار بالربوبية أمر فطري، والشرك حادث طارئ والأبناء تقلدوه عن الآباء، فإذا احتجوا يوم القيامة بأن الآباء أشركوا ونحن جرينا على عادتهم كما يجري الناس على عادة آبائهم في المطاعم والملابس والمساكن، يقال لهم: أنتم كنتم معترفين بالصانع مقرين بأن الله ربكم لا شريك له، وقد شهدتم بذلك على أنفسكم، فإن شهادة المرء على نفسه هي إقراره بالشيء ليس إلا، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ} [النساء:135] ، وليس المراد أن يقول: أشهد على نفسي بكذا، بل من أقر بشيء فقد شهد على نفسه به، فلم عدلتم عن هذه المعرفة والإقرار الذي شهدتم به على أنفسكم إلى الشرك؟ بل عدلتم عن المعلوم المتيقن إلى ما لا يعلم له حقيقة، تقليداً لمن لا حجة معه.
بخلاف اتباعهم في العادات الدنيوية؛ فإن تلك لم يكن عندكم ما يعلم به فسادها وفيه مصلحة لكم، بخلاف الشرك فإنه كان عندكم من المعرفة والشهادة على أنفسكم ما يبين فساده وعدولكم فيه عن الصواب.(26/10)
قيام الحجة في توحيد الربوبية بالفطرة والعقل
فإن الدين الذي يأخذه الصبي عن أبويه هو: دين التربيه والعادة، وهو لأجل مصلحة الدنيا، فإن الطفل لا بد له من كافل، وأحق الناس به أبواه، ولهذا جاءت الشريعة بأن الطفل مع أبويه على دينهما في أحكام الدنيا الظاهرة، وهذا الدين لا يعاقبه الله عليه - على الصحيح - حتى يبلغ ويعقل وتقوم عليه الحجة، وحينئذ فعليه أن يتبع دين العلم والعقل، وهو الذي يعلم بعقله هو أنه دين صحيح؛ فإن كان آباؤه مهتدين كيوسف الصديق مع آبائه قال: {وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} [يوسف:38] وقال ليعقوب بنوه: {نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ} [البقرة:133] ، وإن كان الآباء مخالفين للرسل كان عليه أن يتبع الرسل كما قال تعالى: {وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا} [العنكبوت:8] الآية.
فمن اتبع دين آبائه بغير بصيرة وعلم، بل يعدل عن الحق المعلوم إليه؛ فهذا اتبع هواه كما قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ} [البقرة:170]] .
يقول الله تعالى: {أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ} [الأنعام:156] ، ويقول: {أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ} [الأعراف:173] ، فمقالة المشركين لابد أن تكون إحدى هاتين المقالتين.
والطائفتان هم اليهود والنصارى الذين أنزلت عليهم التوراة والإنجيل، والمشركون يقولون: أشرك آباؤنا واتبعناهم، فكأنهم يقولون: العذاب عليهم لا علينا.
والجواب أولاً: أن الله فطركم على التوحيد وعلى معرفته، ورتب فيكم العقول بحيث تعرفون أن لكم خالقاً، وأن خالقكم له عليكم حقوق.
وثانياً: إذا عرفتم أن هذا الدين الذي عليه آباؤكم -وهو الشرك- باطل، فلا بد أن تبحثوا عن الدين الصحيح وهو الذي خلقتكم له، ولكنكم لم تفعلوا، بل اتبعتم آباءكم وأطعتم كبراءكم، وكنتم بذلك مستحقين للعذاب، قال الله تعالى عن أهل النار: {قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولاهُمْ} [الأعراف:38] أي: قال الأبناء للآباء: {رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ} [الأعراف:38] أي: لا ينفعكم كونهم الذين أضلوكم، فكان يجب عليكم ألا تقبلوا هذا الضلال.
ويقول تعالى في آية أخرى: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ * قَالُوا إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ} [الصافات:27-28] يعني: تضلوننا وتسعون في إضلالنا، إلى قوله: {فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} [الصافات:33] مع أن الآباء هم السبب في ضلال الأبناء؛ ولأجل ذلك كان الواجب على الآباء أن يفكروا وألا يضلوا بعد أن أعطاهم الله فكراً وعقلاً، وعلى الأبناء أيضاً أن يستعملوا فطرتهم وعقلهم وألّا يقبلوا كل ضلالة أو كل بدعة.
وقد حكى الله تعالى أنهم يوم القيامة يتبرأ بعضهم من بعض؛ فالمتبوع يتبرأ من التابع، {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا} [البقرة:166-167] ، الأتباع هم الذين تبرأ منهم المتبوعون ولكن لا ينفعهم ذلك بعد أن أضلوهم.(26/11)
قيام الحجة على الإنسان بوجوب اتباع الرسل كما يرشد إليه العقل
وعلى كل حال فحجة الله قائمة، {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ} [الأنعام:149] ؛ وذلك لأنه أرسل الرسل وأنزل الكتب؛ ولأنه فطر الناس على العبادة ولكن أضلتهم الأهواء وأضلتهم الشياطين، وأضلتهم المجتمعات ونحوها.
ومعلوم أن العادة -كما قلنا- أن الابن ينشأ على دين أبويه، بل إنه يختم له باتباعه في دينه؛ لكن في الشرع يكون تبعاً لخير أبويه، إذا كان أحد الأبوين مسلماً والآخر كافراً، حكمنا أنه يتبع خير أبويه في الدين، ولكن يحكم عليهم ما حكم على آبائهم، (سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن القوم يبيتون فيصاب الأطفال) ، فقال: هم منهم يعني: إذا بيتنا المشركين في بيوتهم وقتلنا أطفالاً دون أن نتعمد؛ فما الحكم؟ فقال: (هم منهم) .
والمعنى: أننا نحكم بأنهم تبع لآبائهم، فما دام أن آباءهم يحاربوننا ويقاتلوننا ونقتلهم، فكذلك الأبناء يكونون تبعاً لهم؛ وذلك لأنهم غالباً ينشئون على نشأتهم كما حكى الله عن نوح بقوله: {وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا} [نوح:27] أي: كلما ولد لهم أولاد نشئوا على ما نشأ عليه آباؤهم من الفجور ومن الكفر، ومع ذلك فإن الله تعالى قد يخرج من أصلاب الكفار من يعبد الله ويعرفه، وإذا أراد به خيراً أدخله في الدين أو أدخل الدين عليه.
وعلى كل حال: فإن على الإنسان أن يحرص على أولاده، فيربيهم ويعلمهم، وعلى الولد أن ينظر فيما فيه والده وفيما عليه أهله؛ فإذا كان حقاً وصواباً قبله وعمل به، وإلّا سأل عن الحق واتبعه، ولم يعمل بالباطل ولو كان عليه أهله، أو مجتمعه، أو قبيلته، وأسرته، أو نحو ذلك.(26/12)
لا يعذر الإنسان في كفره باتباع آبائه وعليه أن ينظر بعقله
قال المؤلف: [وهذه حال كثير من الناس من الذين ولدوا على الإسلام، يتبع أحدهم أباه فيما كان عليه من اعتقاد ومذهب وإن كان خطأ ليس هو فيه على بصيرة، بل هو من مسلمة الدار لا مسلمة الاختيار، وهذا إذا قيل له في قبره: من ربك؟ قال: هاه هاه لا أدري، سمعت الناس يقولون شيئا فقلته.
فليتأمل اللبيب هذا المحل، ولينصح نفسه، وليقم لله، ولينظر من أي الفريقين هو؟ والله الموفق.
فإن توحيد الربوبية لا يحتاج إلى دليل، فإنه مركوز في الفطر، وأقرب ما ينظر فيه المرء أمر نفسه لما كان نطفة، وقد خرج من بين الصلب والترائب -والترائب: عظام الصدر- ثم صارت تلك النطفة في قرار مكين في ظلمات ثلاث، وانقطع عنها تدبير الأبوين وسائر الخلائق، ولو كانت موضوعة على لوح أو طبق واجتمع حكماء العالم على أن يصوروا منها شيئاً لم يقدروا، ومحال توهم عمل الطبائع فيها لأنها موات عاجزة ولا توصف بحياة، ولن يتأتى من الموات فعل وتدبير.
فإذا تفكر في ذلك، وانتقال هذه النطفة من حال إلى حال؛ علم بذلك توحيد الربوبية، فانتقل منه إلى توحيد الإلهية، فإنه إذا علم بالعقل أن له رباً أوجده؛ كيف يليق به أن يعبد غيره؟ وكلما تفكر وتدبر ازداد يقيناً وتوحيداً، والله الموفق؛ لا رب غيره ولا إله سواه!] .(26/13)
وجوب البحث عن الحق على كل عاقل
ذكر أن الإنسان عادة ما يتبع ما عليه آباؤه ومجتمعه، ولكن لا يكون ذلك حجة له، ولا يكون معذوراً بذلك، فالذين قالوا: {إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ} [الأعراف:173] يقال: لا نهلككم بفعلهم، بل كلٌ يعذب بذنبه؛ فآباؤكم عليهم ذنوب وأنتم عليكم ذنوب، وأبناؤكم عليهم ذنوبهم التي اقترفوها وعملوها، ولو كان السبب أو المضل هو الأول.
وذلك لأن الله تعالى فطر العباد على معرفته، والواجب عليهم أن يتأملوا ما فطروا عليه، وأن يتعقلوا خلقه، وأن يتعقلوا هذا الكون الذي بين أيديهم، وأن يتفكروا في مخلوقات الله تعالى، ومنه يخرجون إلى نتيجة وهي توحيد الربوبية، وهو أن هذا الكون له رب خالق مدبر، وأنه لم يخلق عبثاً كما في قوله تعالى: {أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى} [القيامة:36] يعني: مهملاً {أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى * ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى * فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى * أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} [القيامة:37-40] .
يعني: يتدبر الإنسان مبدأ أمره ومبدأ تكوينه، وهو أنه قد كان في صلب أبيه، ثم خرج واستقر في رحم أمه، كما في قوله تعالى: {أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ * فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ} [المرسلات:20-22] جعله الله في قرار مستقر لا تصل إليه الأيدي، ولا تعمل فيه الطبائع، ولا تقدر عليه الحيل.
انقطعت عنه التدابير، فأخرجه الله بعد أن كوّنه بشراً سوياً كما في قوله تعالى: {أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا} [الكهف:37] وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا} [غافر:67] يعني: أطفالاً {ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا} [غافر:67] ، فهذا التدبير وهذا التنقل ليس للطبيعة فيه مجال، بل الترتيب والتربية هي خلق الله وتدبيره وتكوينه.
فإذا عرف الإنسان هذا الكون وأنه لا بد له من مدبر وخالق ومتصرف، استقر بذلك توحيد الربوبية في عقله، وعرف أن له رباً، ثم بعد ذلك يتنقل من تفكير إلى تفكير فيقول: ما دام أن لهذا الكون رباً وخالقاً ومدبراً فإن لهذا الرب الخالق المدبر حقوقاً علينا! فما هي تلك الحقوق؟ هي أن نعبده وحده، وأن نقر به إلهاً، وأن نصرف له حقوقه التي فرضها علينا وبعد أن يسأل عن هذه الحقوق ويعرفها، فإذا عرف التزم بالتقرب بها، والتزم بأن يعبد الله بها، وأن يحرص على الاستسلام لله، وبذلك يكون من أهل السعادة.
فكونه يقنع بما كان عليه آباؤه من الكفر والضلال والبدع والشرك والخرافات التي تمجها الأسماع وتنكرها الطباع ويقول: هكذا وجدت أبي! يقال: هذا خطأ! لماذا لم تسأل عن الحق؟ أترضى أن تكون مقلداً لا تدري ما الناس فيه؟! هؤلاء الذين يتبعون الناس ويتبعون ما هم عليه من خطأ؛ هم الذين إذا سئلوا في القبر: من ربك؟ ما دينك؟ من نبيك؟ يقول أحدهم: هاه هاه لا أدري، سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته، فيعذبون في قبورهم على هذه المقالة، ولا ينفعهم أنهم سمعوا الناس وأنهم قلدوا الناس، بل الواجب على العاقل من حيث هو أن يستعمل عقله في معرفة خالقه ومدبره، وألّا يرضى بما الناس عليه دون أن يمحص تلك الأقوال والأعمال التي يعملها الناس، ودون أن يعرف الحق أو يبحث عنه؛ فإنه إذا بحث عن الحق عرفه، وإذا عرفه لزمه العمل به، وإذا لزمه العمل به وأداه كما ينبغي سعد وأصبح من أهل الخير.(26/14)
شرح العقيدة الطحاوية [27]
لقد خلق الله الخلق، وعلم ما هم عاملون، وقدر ما يكون منهم، وقدر من يدخل الجنة ومن يدخل النار، وهذا دليل على كمال علم الله، ولا حجة للعصاة في ذلك، فكل ميسر لما خلق له.(27/1)
إثبات صفة العلم لله تعالى وتقديره لأعمال الخلائق
قال المصنف رحمه الله تعالى: [قوله: (وقد علم الله تعالى فيما لم يزل عدد من يدخل الجنة، وعدد من يدخل النار جملة واحدة، فلا يزاد في ذلك العدد ولا ينقص منه، وكذلك أفعالهم فيما علم منهم أن يفعلوه) .
قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الأنفال:75] {وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} [الأحزاب:40] ؛ فالله تعالى موصوف بأنه بكل شيء عليم أزلاً وأبداً، لم يتقدم علمه بالأشياء جهالة {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم:64] .
وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: كنا في جنازة في بقيع الغرقد، فأتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقعد وقعدنا حوله، ومعه مخصرة، فنكس رأسه فجعل ينكت بمخصرته ثم قال: ما من نفس منفوسة إلا قد كتب الله مكانها من الجنة والنار وإلا قد كتبت شقية أو سعيدة.
قال: فقال رجل: يا رسول الله! أفلا نمكث على كتابنا وندع العمل؟ فقال: من كان من أهل السعادة فسيصير إلى عمل أهل السعادة، ومن كان من أهل الشقاوة فسيصير إلى عمل أهل الشقاوة.
ثم قال: اعملوا فكل ميسر لما خلق له: أما أهل السعادة فييسرون لعمل أهل السعادة، وأما أهل الشقاوة فييسرون لعمل أهل الشقاوة، ثم قرأ: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} [الليل:5-10] ، خرجاه في الصحيحين.(27/2)
عموم علم الله بكل شيء
هنا: صفة من صفات الله تعالى وهي العلم العام، وفي هذا رد على طائفة من غلاة المعتزلة الذين يقولون: إن الله لا يعلم بالأشياء حتى تقع، ولم يعلم بها قبل أن يوجدها، يردون بذلك النصوص ويتنقصون الرب سبحانه وتعالى، وهؤلاء هم غلاة القدرية قديماً كـ معبد الجهني وغيره، يقولون: إن الأمر أنف يعني: أنه يستقبل ويستأنف ولا يعلم الشيء الذي قد مضى.
من عقيدة أهل السنة أن الله تعالى علم ما الخلق عاملون بعلمه القديم، فلا يعزب عن علمه شيء: {وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ} [يونس:61] يعلم ما كان وما يكون، وما لم يكن لو كان كيف يكون، ويعلم الخفي والجلي: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر:19] ، ويعلم السر وأخفى من السر، والسر هو: ما يضمره الإنسان في نفسه ولا يبديه لأحد، وأخفى منه ما لم يخطر بباله إذا علم الله أنه سيخطر بباله، فيعلم الله أنه سيخطر له كذا وكذا مما لم يكن يظن أنه يخطر.
والأدلة على صفة العلم وقدمه كثيرة مشهورة، وقد جمعها العلماء الذين كتبوا في الصفات واستوفوا ما ورد فيها من الآيات ومن الأحاديث، وإذا عرف المؤمن أن الله تعالى موصوف بالعلم، اعتقد دخول أعمال العباد، وهو أنه علم من هو سعيد ومن هو شقي، ومن هو فاجر ومن هو تقي، ومن هو مخلط ومن هو نقي، وعلم من هو فقير ومن هو غني، ومن هو من أهل الخير ومن هو من أهل الشر؛ كل ذلك قد أحاط الله به علماً، كما قال تعالى: في هذه الآيات {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [العنكبوت:62] ، {وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} [الأحزاب:40] ، فيدخل في (كل شيء) ما لم يكن مما سيكون كما علمه الله.(27/3)
كتابة الله ما علمه في اللوح المحفوظ
كذلك بعد أن علمه الله تعالى فإنه قد أثبته وكتبه في الذكر -اللوح المحفوظ- فأول ما خلق الله تعالى القلم فقال له: اكتب، فجرى بما هو كائن إلى يوم القيامة مما سيوجد، وممن سيولد، ومن أعمال العباد ونحو ذلك، يقول الله تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحج:70] يعني: علم ذلك وصفاته هو يسير على الله.
ويقول تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} [الحديد:22] ، أي: من قبل أن نبرأ تلك المصيبة، بل من قبل أن نبرأ الخليقة كلهم، كتب ذلك في اللوح المحفوظ كما يشاء الله، وذلك يسير على الله، ليس فيه صعوبة؛ لأنه هو الذي يبدل الخلائق، وهو الذي يعلم أحوالهم ولا يخفى عليه شيء منهم.
فإذاً: ما داموا خلقه وأنه هو الذي يتصرف فيهم؛ فهم لا يخرجون عما علمه فيهم، وقد علم من سيصير إلى الخير، ومن سيصير إلى الشر، ولكن كلفهم وأمرهم بالإيمان بذلك الغيب.
وكذلك أعان هؤلاء وخذل هؤلاء، وله الحجة البالغة، وهدى من شاء وأضل من شاء وله الحجة البالغة على عباده، ولا يقول قائل: إن هذا يتخذ حجة للكافر بأن يقول: إذا كان الله كتب عليّ الشقاء فليس لي حيلة في أن أرد ما كتب الله؟ نقول: ومن أدراك بذلك؟ أنت مأمور بأن تفعل الأسباب، وقد يكون فعلك سبباً من الأسباب التي قدر الله بها أنك من أهل السعادة أو من أهل الشقاوة.(27/4)
أنواع التقدير
ذكر العلماء أن القدر على أربعة أنواع: القدر العام يعني: العلم بالكائنات قبل وجودها، وكتابتها في اللوح المحفوظ.
والثاني: العلم السنوي: وهو أن الله يكتب في ليلة القدر ما يكون في تلك السنة من الحوادث، وهذه كتابة جزئية، حيث يقدر في ليلة القدر ويكتب فيها ما يكون على وجه الأرض من تلك الليلة إلى مثلها من السنة القابلة، فهذا تقدير أو كتابة أو علم خاص، وهو السنوي.
والثالث: تقدير عمري وهو أن المولود إذا علقت به أمه في الرحم، أرسل الله تعالى إليه الملك فقال: يا رب مخلقة أو غير مخلقة؟ يعني: هل يتم خلقه ويولد سوياً أو تسقطه الرحم وتقذفه منياً؟ فإذا قال الله: مخلقة، قال: يا رب! ذكر أم أنثى؟ فيكتب ذلك، ويسأل عن رزقه فيخبره الله بأن رزقه يكون بكذا وكذا، ويكتب أجله بأنه طويل الأجر أو قصير الأجل، يقدر الله ذلك كله له.
وفي حديث ابن مسعود المشهور: (إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل الله إليه الملك فيؤمر بأربع كلمات؛ بكتب رزقه وأجله وعمله، وشقي أو سعيد) أي: يكتب ذلك كله وهو في رحم أمه، فالمؤمن الذي يؤمن بذلك يؤمن بسعة علم الله تعالى، ولكن لا يتخذ ذلك حجة في ترك العمل، بل يعمل فكل ميسر لما خلق له كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فمن كان سعيداً فإن الله يسهل له الأسباب التي يكون بها سعيداً وعليه أن يبذل السبب، وإن كان شقياً فإنه محروم ولو بذلت الأسباب.
فهذا هو واسع علم الله، يعني: أن الله تعالى عليم بكل شيء وعلمه قد وسع الخلائق كلها.
وفائدة الإيمان بالعلم المراقبة، وهو أنك إذا علمت أن الله عليم بما يجول في نفسك، وبما تهم به من طاعة أو معصية، وأنه يطلع على ضميرك، ويعلم ما في قلبك؛ حملك ذلك على ألا تعمل إلا خيراً، وعلى ألا تحدث نفسك إلا بخير، فبذلك تكون من أهل الخير.
أما الإنسان الذي يتجاهل أو يظن أن الله لا يعلمه ولا يعلم أحواله؛ فإن هذا التجاهل أو الجهل هو الذي يوقعه في العصيان ويجرئه على المخالفات، فكأنه يعتقد أنه لا يراه ربه وأنه سيختفي.
ذكر ابن أم عبد أن ثلاثة من قريش جلسوا في المسجد الحرام يقول: قليل فقه قلوبهم كثير شحم بطونهم، فقال أحدهم: أترون الله يسمع ما نقول؟ فقال أحدهم: يسمع إن جهرنا ولا يسمع إن أخفينا، وقال الثاني: إن كان يسمع إن جهرنا سمع إذا أخفينا، فأنزل الله تعالى قوله: {وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ * وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [فصلت:22-23] ، فهؤلاء الذين ظنوا أن الله لا يعلم أعمالهم حصل لهم أنهم أكثروا من السيئات وتجرءوا على المحرمات، ووقعوا في الذنوب؛ فكان ذلك سبباً في شقائهم وإن كان ذلك مكتوباً عليهم في الأزل؛ لكن وقع منهم سبب وافق ما قدره الله عليهم.
فعلى العبد إذا علم أن الله تعالى عليم بأحواله وبوساوسه وبخطرات قلبه وبأعماله؛ أن يحمله هذا الاعتقاد على أن يراقب ربه، وعلى ألا يخالفه طرفة عين.(27/5)
علم وكتابة مآل الإنسان من السعادة والشقاوة وهو في رحم أمه
قال المؤلف: [وكل ميسر لما خلق له، والأعمال بالخواتيم، والسعيد من سعد بقضاء الله، والشقي من شقي بقضاء الله] .
تقدم حديث علي رضي الله عنه وقوله صلى الله عليه وسلم فيه: (اعملوا فكل ميسر لما خلق له) وعن زهير عن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: (جاء سراقة بن مالك بن جعشم فقال: يا رسول الله! بين لنا ديننا كأنا خلقنا الآن، فيم العمل اليوم: أفيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير أم فيما يستقبل؟ قال: لا.
بل فيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير، قال: ففيم العمل؟ قال زهير: ثم تكلم أبو الزبير بشيء لم أفهمه فسألت ما قال؟ فقال: اعملوا فكل ميسر) رواه مسلم.
وعن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الرجل ليعمل عمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار، وإن الرجل ليعمل عمل أهل النار فيما يبدو للناس وهو من أهل الجنة) خرجاه في الصحيحين، وزاد البخاري: (وإنما الأعمال بالخواتيم) .
وفي الصحيحين أيضاً عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم - وهو الصادق المصدوق -: (إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات: يكتب رزقه وأجله وعمله، وشقي أم سعيد؛ فوالذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها) .
والأحاديث في هذا الباب كثيرة، وكذلك الآثار عن السلف، قال أبو عمر بن عبد البر في التمهيد: قد أكثر الناس من تخريج الآثار في هذا الباب، وأكثر المتكلمون من الكلام فيه، وأهل السنة مجتمعون على الإيمان بهذه الآثار واعتقادها، وترك المجادلة فيها، وبالله العصمة والتوفيق] .(27/6)
الأعمال بالخواتيم
معناه أن الله تعالى علم السعيد والشقي، ولكن قد يعمل الإنسان بعمل أهل الخير ثم يرتد في آخر عمره، ويكون من أهل الشر، حيث إن الله كتب عليه الشقاوة، وبالعكس: قد يحيا الإنسان مع أهل الكفر ويمضي عمره كله على الكفر والضلال، ثم يأتيه الله قرب الموت فيموت وقد اهتدى، وقد ذكروا أن الأصيرم من الأنصار، كان على دين قومه المشركين، ولم يسلم إلا قبيل معركة أحد، فأسلم ودخل المعركة واستشهد مع من استشهد، فجعله النبي صلى الله عليه وسلم من الشهداء ودعا له.
هذا توفي هو ولم يصل لله ركعة، ولكنه أسلم إسلاماً يقينياً وجاهد في سبيل الله، وضده رجل كان يظهر أنه مسلم، ويجتهد في الأعمال، ولما حضر المعركة قاتل قتالاً شديداً حتى قتل ستة أو سبعة، فلما ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنه من أهل النار) ، فختم له بخاتمة سيئة، وهو أنه لما أحس بالألم قتل نفسه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار) ، وبالعكس أيضاً، فالأعمال بالخواتيم، والإنسان عليه أن يسأل الله حسن الختام؛ وذلك لأنه إذا ختم له بخاتمة حسنة انتهت بها حياته كان من أهل السعادة، فإذا استمر على العمل السيئ حرم الخير، وختم له بعمل الشقاوة والعياذ بالله.(27/7)
ينبغي على الإنسان الحرص على حسن الختام
فنعرف بذلك معنى: أن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار، أو يعمل بعمل أهل الجنة حتى يقرب من الموت فيعمل بعمل أهل النار ويرتد ما بين عشية وضحاها، كما ذكر ذلك النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الفتن، فقال: (يصبح فيها الرجل مؤمناً ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً) يعني: أنه يكفر بين عشية وضحاها.
فهذا يحث الإنسان على أن يتمسك بدينه، وأن يحرص على حسن الخاتمة، ويعرف أن الله تعالى يختم للإنسان بالعمل الذي قدره له والذي كتبه من أهله، ولكن له في ذلك سبب، وإذا أكثر من سؤال الله تعالى أجاب الله دعوته، وإن كان ذلك مكتوباً عليه قبل أن يخلقه.(27/8)
أهمية تعلم العقيدة بتفاصيلها
والعقيدة ما يعقد عليه القلب، وإذا انعقد القلب على أمر فإنه لا يتخلى عنه، ولا شك أن من آثار الاعتقاد قوة العمل، فإذا اعتقد العبد أمراً فإنه يلازمه ويتمسك به، ويتشبث به بكل قواه، ويتفانى في العمل به، على ما يناله من أذى أو من تعذيب، ويبذل في تحقيق ما يعتقده كل غالٍ ورخيص ولو بذل نفسه، كما حصل للمؤمنين الذين بذلوا نفوسهم رخيصة في سبيل الله، وفي سبيل إعلاء كلمة الله، كل ذلك لأجل قوة العقيدة.(27/9)
الإيمان بالله ورسوله وما جاء به جملة وتفصيلاً
من العقيدة التي نحن نقرأ فيها الشهادتان: شهادة أن لا إله إلا الله، ويدخل فيها الإيمان بأسماء الله تعالى وبصفاته، ويظهر على من اعتقدها أثرها، ويدخل فيها أيضاً الإيمان بوحدانية الله تعالى وتفرده، ويدخل في ذلك أيضاً الإيمان بقوته وبقهره وبجبروته وبخلقه وبتقديره وبقدرته على كل شيء، وآثار ذلك عبادته وحده وترك عبادة ما سواه.
ويدخل في الشهادة الثانية -شهادة أن محمداً رسول الله- الإيمان بصدق النبي صلى الله عليه وسلم وبأمانته، والإيمان بتبليغه للرسالة وبيانها، والإيمان بصحة ما جاء به وما بلغه، وكونه كله من عند ربه.
ويدخل في ذلك وجوب طاعته، ووجوب محبته واتباعه والتأسي به والسير على نهجه، وتحكيمه والرضى بحكمه، وعدم الميل عن سنته، ومتى تحقق ذلك ظهر أنه من قوة العقيدة.
ويدخل في ذلك الإيمان بفضائله وبمزاياه، وكان منها أنه عليه الصلاة والسلام سيد الخلق يوم القيامة، وأنه الشفيع المشفع، وأنه صاحب المقام المحمود والحوض المورود والشفاعة في الآخرة، وكل ذلك يستدعي ممن قاله واعتقده أن يتبعه بالعمل.
ويدخل في ذلك: الإيمان بكل ما جاء العبد من الله تعالى وبلغته رسل الله تعالى.
وبلا شك أن الرسل عليهم الصلاة والسلام -وخاتمهم وأفضلهم محمد عليه الصلاة والسلام- مكلفون من الله تعالى بتبليغ الرسالة، وأنهم بلغوا ما أرسلوا به، فأدوا الأمانة وبلغوا الرسالة ونصحوا لأممهم، فكل ما بلغوه وكل ما جاءوا به، فالعبد يلتزم به ويصدقه، سواءٌ كان مجملاً أو مفصلاً.
التفصيل: جاءنا في كتابنا الذين أنزله الله على قلب محمد صلى الله عليه وسلم، فيه تفصيل أحوال الآخرة وما يكون بعد الموت، وما يكون في الدار الآخرة، فيؤمن العبد بذلك ويصدق بتفاصيله.
والإجمال بالكتب السابقة، فنؤمن بها إيماناً مجملاً، فنصدق بأنها كلام الله، وبأنها من الله، وبأنها حق، وبأن الله كلف الأمم الذين نزلت عليهم بالعمل بتفاصيلها، ولكن نحن ما كلفنا بالعمل ولا بالعلم بتفاصيلها، وإنما نؤمن بها مجملة، وهي تدخل في الإيمان بكتب الله.
وأدلة ذلك واضحة والحمد لله، فإذا آمن العبد بكل ذلك وبغيره من تفاصيل العقيدة، صدق عليه أنه من أهل العقيدة الراسخة الذين يعملون عن عقيدة، ويعملون عن يقين، ويعملون عن إيمان، ولا يردهم عن العمل شبهة ولا شك، ولا يعتريهم توقف ولا ريب.(27/10)
ظهور آثار العقيدة على العمل
فإذا اعتقد العبد العقيدة التي هي متلقاة عن الله تعالى وعن رسله، ظهرت آثارها على أعماله.
وإذا رأيت المبتدعة الذين يخالفون الأدلة، دل ذلك على ضعف عقيدتهم، وعلى تزعزها وكونها على شفا جرف هار، وأنها لم تكن راسخة في قلوبهم.
وهكذا إذا رأيت الذين يتهاونون بالسيئات ويرتكبون المحرمات، ويتركون الطاعات الواجبة، فإن ذلك دليل على ضعف معتقدهم، بحيث إنها لم ترسخ العقيدة في قلوبهم، ولم يطمئنوا بالإيمان، ولو اطمئنوا به لما أقدموا على هذه المخالفات، ولو استحضروا عظمة ربهم وأنه يراهم ويعلم سرائرهم وضمائرهم، لما أقدموا على المعاصي وهم يعرفون أنها معاص.
فإذاً: يتفقد الإنسان نفسه، ويتفقد بني جنسه، ويعرف بذلك سليم العقيدة وضعيف العقيدة، يعرف بذلك من هو قوي في الإيمان متمكن منه قد رسخ الإيمان في سويداء قلبه، فيقول: هذا من أهل العقيدة، عرفته بقوة إيمانه، وعرفته بآثار إيمانه، وعرفته بقوة تصديقه، وعرفته بالعمل، وعرفته بالبعد عن الحرام، وعرفته بالبعد عن المشتبهات.
وهذا ضعيف العقيدة: عرفته بتساهله في الإيمان، عرفته بتساهله بالمعاصي، عرفته بتساهله في ترك الطاعات، وما أشبه ذلك.
فهذه هي النتيجة والفائدة الصحيحة لعلم هذه العقيدة، وتفاصيلها التي فصلت في الطحاوية، وكذلك في غيرها من عقائد أهل السنة، فتفاصيلها لا شك أنها تزيد العبد قوة وإيماناً، سواء منها ما يتعلق بالعقود أو ما يتعلق بالمواثيق، أو ما يتعلق بدخول الأعمال في مسمى الإيمان، أو ما يتعلق بالقضاء والقدر، أو ما يتعلق بعلم الغيب، أعني: العلوم الغيبية السابقة واللاحقة، أو ما يتعلق بالإيمان بالبعث وبما بعد البعث، أو ما يتعلق بالقبر وفتنته ونعيمه وما أشبه ذلك، أو ما يتعلق بالإيمان بالجنة والنار والثواب والعقاب والوعد والوعيد، أو ما يتعلق بالإيمان بالله وبملائكته وبكتبه وبرسله وما أشبه ذلك، كل ذلك يعتبر تفاصيل لأصل هذه العقيدة، ولكن الأصل كما قلنا: الإيمان بالله سبحانه وتعالى وبما جاء عن الله على مراد الله.
وقد مضى الكلام حول المواثيق والعهود التي أخذها الله تعالى على عباده، بقوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ} [الأعراف:172] وعرفنا أن هذا إما أنه -كما ورد في الأحاديث- العهد الذي أخذه الله على بني آدم وهم في أصلاب آدم، أو أنه العهد الذي فطر الله عليه العباد وجبلهم عليه، وهذا هو الأقرب والأمثل، يبينه قول الله تعالى: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم:30] ، وقوله في الحديث القدسي: (إني خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين، فأخرجتهم عن دينهم) ، فكونهم حنفاء، أي: على الفطرة والحنيفية التي هي معرفة الله ومعرفة ما خلقوا له، فهذا هو الأقرب.
ولكن نؤمن أيضاً بالحديث الذي فيه (أن الله تعالى استخرج ذرية آدم من ظهره، وعرف منهم من هو من أهل الجنة ومن هو من أهل النار، وقال: هؤلاء إلى الجنة ولا أبالي، وهؤلاء إلى النار ولا أبالي!) ، فنؤمن بذلك وإن كنا لا نتذكر ذلك العهد، ولكن خبر الله أوثق.
والأصل أن أدلة معرفة الله تعالى لو ترك عليها الإنسان لعرف أنه مخلوق، وأن له خالقاً، وأن خالقه له عليه حقوق، فيؤمن العباد بذلك من جملة الإيمان بالغيب، ومن جملة العقيدة التي يعتقدونها.(27/11)
شرح العقيدة الطحاوية [28]
القدر غيب لا يطلع عليه أحد من الخلق، وقد كتب الله تعالى ما سيعمله العبد، ولكن جعل له قدرة واختياراً يزاول بها ما أراد من خير أو شر، وهذا هو الذي يحاسب عليه.(28/1)
القدر سر الله تعالى في خلقه
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: (وأصل القدر سر الله تعالى في خلقه، لم يطلع على ذلك ملك مقرب ولا نبي مرسل، والتعمق والنظر في ذلك ذريعة الخذلان، وسلم الحرمان، ودرجة الطغيان، فالحذر كل الحذر من ذلك نظراً وفكراً ووسوسة، فإن الله تعالى طوى علم القدر عن أنامه، ونهاهم عن مرامه، كما قال تعالى في كتابه: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23] فمن سأل: لم فعل؟ فقد رد حكم الكتاب، ومن رد حكم الكتاب كان من الكافرين) .
أصل القدر سر الله في خلقه، وهو كونه أوجد وأفنى، وأفقر وأغنى، وأمات وأحيا، وأضل وهدى، قال علي رضي الله عنه: (القدر سر الله فلا تكشفه) ، والنزاع بين الناس في مسألة القدر مشهور والذي عليه أهل السنة والجماعة: أن كل شيء بقضاء الله وقدره، وأن الله تعالى خالق أفعال العباد، قال تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:49] ، وقال تعالى: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} [الفرقان:2] ، وأن الله تعالى يريد الكفر من الكافر ويشاؤه، ولا يرضاه ولا يحبه، فيشاؤه كوناً ولا يرضاه ديناً.
وخالف في ذلك القدرية والمعتزلة: وزعموا أن الله شاء الإيمان من الكافر، ولكنّ الكافر شاء الكفر؛ فروا إلى هذا لئلا يقولوا: شاء الكفر من الكافر وعذبه عليه! ولكن صاروا كالمستجير من الرمضاء بالنار! فإنهم هربوا من شيء فوقعوا فيما هو شر منه! فإنه يلزمهم أن مشيئة الكافر غلبت مشيئة الله تعالى فإن الله قد شاء الإيمان منه - على قولهم -والكافر شاء الكفر، فوقعت مشيئة الكافر دون مشيئة الله تعالى! هذا من أقبح الاعتقاد، وهو قول لا دليل عليه، بل هو مخالف للدليل: روى اللالكائي من حديث بقية عن الأوزاعي حدثنا العلاء بن الحجاج عن محمد بن عبيد المكي: عن ابن عباس: (أن رجلاً قدم علينا يكذب بالقدر، فقال: دلوني عليه -وهو يومئذ أعمى- فقالوا له: ما تصنع به؟ فقال: والذي نفسي بيده لئن استمكنت منه لأعضن أنفه حتى أقطعه، ولئن وقعت رقبته بيدي لأدقنها، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: كأني بنساء بني فهر يطفن بالخزرج تصطك ألياتهن مشركات، هذا أول شرك في الإسلام، والذي نفسي بيده لينتهين بهم سوء رأيهم حتى يخرجوا الله من أن يقدر الخير، كما أخرجوه من أن يقدر الشر) .
قوله: (وهذا أول شرك في الإسلام) إلى آخره من كلام ابن عباس وهذا يوافق قوله: (القدر نظام التوحيد، فمن وحد الله وكذب بالقدر نقض تكذيبه توحيده) ] .(28/2)
لا يسأل عما يفعل
هذا يتعلق بالقضاء والقدر، ويذكر المؤلف أن القدر سر الله تعالى في كونه وفي أمره، ووجه كونه سراً لا يعلمه البشر أن الرب سبحانه له الحكمة في كونه هدى هذا وأضل هذا، ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون، ولا يجوز للعباد أن يسألوا عن الأسباب في أفعال الله تعالى، فلا يقال: لماذا حبس الله الخير؟ لماذا أنزل الله العذاب؟ لماذا خلق الله الأمراض؟ لماذا خلق الله الحشرات والأضرار؟ لماذا خلق الله السباع؟ لماذا سلط الله على المؤمنين الأمراض والعاهات والفقر؟ لماذا سلط عليهم الكفار؟ لماذا أفقر هذا وأغنى هذا؟! قال تعالى: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23] ، لكن مع ذلك نعرف أنه سبحانه حكيم يضع الأشياء في مواضعها اللائقة بها، فلا يفعل شيئاً عبثاً: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا} [المؤمنون:115] وليس شيء من خلقه موجوداً إلا لحكمة، ولم يسلط عقوبة ولم يخلق مرضاً إلا لمصلحة ولحكمة، سواء علمنا تلك الحكمة أو حجبت عنا؛ لأن هذا مقتضى اسمه الحكيم، أي: ذي الحكمة التي هي غاية المصلحة، ولكن ليس لنا الاعتراض على تصرفه، فهو سبحانه يتصرف في خلقه كيف يشاء فيهدي هذا فضلاً منه، ويضل هذا عدلاً منه، ويغني ويفقر، ويميت ويحيي، ويسعد ويشقي، ويمنع ويعطي، لا راد لقضائه ولا معقب لحكمه.
وليس لنا أن نعترض على الله تعالى، بل نؤمن بذلك كله ونقول: لا نعلم الحكمة في ذلك ولا نعلم السر في ذلك، فالقدر سر الله في خلقه، هذا من ناحية خلقه الأشياء النافعة والضارة معاً.(28/3)
خلق الخير والشر دليل على كمال القدرة ولكن لا ينسب الشر إلى الله
ولا شك أن خلق الخير والشر، وخلق النفع والضر المتضادين، دليل على كمال القدرة، فإننا إذا رأينا أنه فرق بين الأخوين: هذا غني وهذا فقير، هذا سليم وهذا مريض، هذا سعيد وهذا شقي، هذا مهتد وهذا ضال؛ فلا شك أن هذا يدل على كمال التصرف، وأنه تصرف في خلقه كيفما شاء، وذلك دليل كمال القدرة.
فالظلمة ضدها النور، والليل ضده النهار، وكذلك المزدوجات كما في قوله تعالى: {وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الذاريات:49] يعني: ذكراً وأنثى، فهكذا أيضا المتضادات: الصحة والمرض ضدان، والخير والشر، والغنى والفقر، والسعادة والشقاوة، الله تعالى هو الذي خلقها وقدرها، ولكن نعرف أن كل ما صدر عن الله تعالى فإنه بالنسبة إلى إيجاده هو خير، ولذلك ورد في حديث الاستفتاح: (لبيك وسعديك، والخير كله بيديك، والشر ليس إليك) .
معلوم أن الله يقدر الأمراض، وهو الذي قدر الفقر والمصائب، وهو الذي يقدر العاهات على العباد ونحوها، ولكن هل يقال: إنها شر بالنسبة إلى الله؟ ليست شراً، بل هي لحكمة ومحض مصلحة، فهذا معنى قوله: (والشر ليس إليك) .
وإذا تتبعت القرآن والأدلة تجد أن كل ما فيه شر ينسب إلى الإنسان وإن كان الله هو الذي أوجده وكونه وقدره، حكى الله عن إبراهيم أنه قال: {وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء:79-80] لم يقل: وإذا أمرضني، مع أن الله تعالى هو الذي ينزل المرض ويقدره، ولكن لا يضاف إليه الشر المحض.
وحكى الله عن مؤمني الجن أنهم قالوا: {وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا} [الجن:10] فالشر قالوا: أريد، والخير قالوا: (أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ) وذلك: حتى ينزه الله تعالى عن أن يصدر منه الشر المحض، وإن كان هو الذي قدر الشر، وخلقه وكونه، فإنه لا يكون في الوجود إلا ما يريد، فيعتقد العبد أن صدورها من الله تعالى خير ومحض مصلحة، وليس فيها أية ضرر بالنسبة إلى الله، ولو كان فيها كراهية للعباد وضرر عليهم حسياً، لكن ما خلقها وقدرها إلا لحكمة ومصلحة، فهي خير، فلا يضاف الشر إلى الله تعالى؛ هذا هو قول أهل السنة.(28/4)
مذهب المعتزلة في أفعال العباد
سمعنا أن طائفة المعتزلة أنكروا أن يكون الله تعالى يخلق أفعال العباد، وجعلوا العبد هو الذي يخلق فعله، وجعلوا العباد هم الذي يهدون أنفسهم، ويضلون أنفسهم، وكذبوا بالنصوص الواردة في مثل إضافة الأفعال إلى الله تعالى، كقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ} [النحل:37] وكقوله تعالى: {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الزمر:23] ، {وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ} [الزمر:37] .
وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم في خطبة الحاجة: (من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له) ، أي: أن الله هو الذي هدى هذا وأقبل بقلبه إلى الخير، وأضل هذا وصرفه إلى الشر، وله المنة والنعمة على المهتدين، وهو العادل في صرف هؤلاء المعتدين الظالمين، ولكن ما عذبهم وهو ظالم لهم، ولو عذب أهل سماواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم لكانت رحمته أفضل من أعمالهم.(28/5)
الرد على المعتزلة في المشيئة
فعلى هذا نقول: إن الله تعالى هو الذي خلق أفعال العباد، ولو شاء لما فعلوها، فلو شاء لما ضل هذا ولما اهتدى هذا، فهو الذي من على هذا وهداه، وهو الذي أضل هذا وصرفه، قال الله تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا} [الأنعام:125] .
وقد حكى الله عن المشركين أنهم يتعلقون بعموم المشيئة، ولا متعلق لهم في ذلك، فإذا قال المشركون مثلا: ً {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:148] ، {أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ} [يس:47] ، نقول: حقاً أن الله لو شاء ما أشركتم، ولكنه سبحانه خذلكم عدلاً منه، ولم يقدر لكم الهداية؛ لكن أعطاكم قوة وأعطاكم اختياراً، وأعطاكم ميلاً صرتم به مائلين إلى أفعال الشر وإلى الكفر وإلى المعاصي، فميلكم هذا واختياركم -وإن كان مسبوقاً بقضاء الله وقدره- هو الذي تستحقون عليه العقوبة.
فلذلك يقول أهل السنة: إن الله تعالى تغلب قدرته قدرة العباد، ولكن أعطانا قوة وأعطانا قدرة وأعطانا استطاعة نتمكن بها من مزاولة الأعمال، وقدرة الله ومشيئته غالبة على قدرة العبادة ومشيئتهم وإرادتهم، ولأجل ذلك يقول الله تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان:30] ، ويقول النبي عليه الصلاة والسلام في الدعاء المأثور: (ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن) .
المعتزلة ما اتسعت نفوسهم لهذا، فقالوا: إن قدرة العبد غلبت قدرة الله، وعلى قولهم يكون في الوجود ما لا يريد، فإنه أراد من الناس كلهم أن يؤمنوا، ولكن غلبت قدرة هؤلاء الكفار قدرة الله، فاختاروا الكفر، فكان في الكون من يخلق مع الله؛ لأنهم خلقوا أفعال العباد مستقلين بها، دون أن يكون لله تصرف بها ولا قدرة عليها، فكانوا بذلك كالمستجير من الرمضاء بالنار، كأنهم يقولون: لو أنه خلق فيهم ذلك وعذبهم لكان ظالماً لهم، إذ كيف يعذبهم وهو الذي خلق فيهم الكفر وخلق فيهم المعاصي وأقدرهم عليها.
نقول: أنتم فررتم من شيء ووقعتم في شر منه، حيث جعلتم الله مغلوباً على أمره، حيث قلتم: إنه يعصى قسراً، وإن قدرتهم تغلب قدرته؛ تعالى الله عن ذلك.(28/6)
المعتزلة مجوس هذه الأمة
ولأجل ذلك الاعتقاد الذي هو قولهم: إن الله معه من يخلق، سموا مجوس هذه الأمة، لأن المجوس يجعلون الأمر صادراً عن خالقين: النور والظلمة، فالنور هو الذي يخلق الخير والظلمة هي التي تخلق الشر، والقدرية الذين ينكرون قدرة الله يجعلون العباد يخلقون أفعالهم مستقلين بها، ولا يجعلون لله قدرة على الهداية ولا على الإضلال.
وبكل حال فعقيدة أهل السنة أن لله تعالى قدرة تغلب قدرة العباد، ولكن يثيب العباد ويعاقبهم على ما أوجد فيهم من القدرة والاستطاعة التي يتمكنون بها من مزاولة الأعمال، فثواب العباد وعقابه على طاعته، كما في قوله: {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:17] ، {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ} [آل عمران:182] ، {بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى:30] .
فما دام أنهم أضيفت إليهم الأعمال، فلا بد أن لهم استطاعة ولهم قدرة يتمكنون بها من إيجاد الإيمان والكفر، وإيجاد الطاعات والمعاصي، ولكن كل ذلك مسبوق بقدرة الخالق تعالى وباختياره وبقهره، ولو شاء لما حصل ذلك الإثم.
{قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنعام:149] ، فله الحجة على خلقه، فهو الذي يقدر على أن يعطي هذا الهداية منا منه وكرماً، ويخذل هذا.
وهذا بحث واسع يتعلق بالقضاء والقدر، وقد أطال فيه العلماء حتى يبطلوا شبهة طائفتين: طائفة غلت في الإثبات، وطائفة غلت في النفي.
فالذين غلوا في النفي نفوا قدرة الله، وهؤلاء يسمون قدرية، وهم نفاة القدر، وهم عموم المعتزلة.
والذين غلوا في الإثبات يسمون المجبرة أو الجبرية، فإنهم غلوا في الإثبات حتى سلبوا العبد قدرته واختياره وجعلوه كشجرة تحركها الرياح ليس له أي اختيار، وجعلوا تعذيبهم على المعاصي ظلماً من الله لهم، تعالى الله عن قولهم! وتوسط أهل السنة والجماعة وجعلوا للعبد قدرة وإرادة، والله خالقه وخالق قدرته وإرادته، وجعلوا العباد فاعلين حقيقة تضاف إليهم أعمالهم، فالعبد المؤمن والكافر، والبر والفاجر، والمصلي والصائم تسند إليه هذه الأعمال، وإن كانت بقضاء الله وقدره وبخلقه وبإرداته، حيث لا يخرج شيء عن إرادة الله تعالى.(28/7)
قصتان لمجوسي وأعرابي مع المعتزلة
قال المؤلف: [وروى عمر بن الهيثم قال: خرجنا في سفينة وصحبنا فيها قدري ومجوسي، فقال القدري للمجوسي: أسلم! قال المجوسي: حتى يريد الله فقال القدري: إن الله يريد ولكن الشيطان لا يريد! قال المجوسي: أراد الله وأراد الشيطان، فكان ما أراد الشيطان! هذا شيطان قوي! وفي رواية أنه قال: فأنا مع أقواهما!!.
ووقف أعرابي على حلقة فيها عمرو بن عبيد فقال: يا هؤلاء! إن ناقتي سرقت فادعوا الله أن يردها عليّ، فقال عمرو بن عبيد: اللهم إنك لم ترد أن تسرق ناقته فسرقت فارددها عليه! فقال الأعرابي: لا حاجة لي في دعائك! قال: ولم؟ قال: أخاف -كما أراد أن لا تسرق فسرقت- أن يريد ردها فلا ترد! وقال رجل لـ أبي عصام القسطلاني: أرأيت إن منعني الهدى وأوردني الضلال ثم عذبني؛ أيكون منصفاً؟ فقال له أبو عصام: إن يكن الهدى شيئا هو له، فله أن يعطيه من يشاء ويمنعه من يشاء.
وأما الأدلة من الكتاب والسنة: فقد قال تعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [السجدة:13] ، وقال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [يونس:99] ، وقال تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير:29] ، وقال تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} [الإنسان:30] ، وقال تعالى: {مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الأنعام:39] ، وقال تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الأنعام:125] .
ومنشأ الضلال: من التسوية بين المشيئة والإرادة، وبين المحبة والرضا، فسوى بينهما الجبرية والقدرية ثم اختلفوا: فقالت الجبرية: الكون كله بقضائه وقدره فيكون محبوباً مرضياً، وقالت القدرية النفاة: ليست المعاصي محبوبة لله ولا مرضية له، فليست مقدرة ولا مقضية؛ فهي خارجة عن مشيئته وخلقه] .
في هذه القصص التي سمعنا ما يبطل قول المعتزلة، ففي القصة الأولى مجوسي وقدري، والمجوس معلوم أنهم يجعلون الكون صادراً عن خالقين: خالق للخير وخالق للشر، وهذا المجوسي باق على مجوسيته، فهذا القدري دعاه إلى الإسلام، فقال المجوسي: لا أسلم حتى يريد الله أن أسلم، فقال ذلك القدري: الله يريد الإسلام منك، ولكن الشيطان هو الذي يريد منك الكفر، فتعجب ذلك المجوسي، وقال: هذا شيطان قوي، وقوة الشيطان غلبت قوة الله! فالله أراد أن أؤمن والشيطان أراد أن أكفر، فغلبت إرادة الشيطان إرادة الله.
فخصم ذلك المعتزلي، ولو أنه قال: إن الله تعالى أراد كل شيء، فأراد منك الإيمان وأحبه منك، ولكن جعل لك قدرة وميلاً واستطاعة تزاول بها العمل، لكان ذلك أقرب أن يتقبل، فهذه لا شك أنها دالة على أن المعتزلة متذبذبين في شبهاتهم وفي حججهم.
أما القصة الثانية فهي قصة صاحب البعير مع المعتزلي، وهذا من أول من أظهر الاعتزال، فأول من أظهر الاعتزال في عهد السلف هو واصل بن عطاء، وتبعه عمرو بن عبيد، فلما دعا الله ذلك المعتزلي بقوله: اللهم إنك لم ترد أن يسرق البعير فاردده، فطن الأعرابي وقال: الله أراد ألا يسرق فسرق، إذاً: لو أراد أن يرده لم يقدر، فلا حاجة لي بدعائك.
الله تعالى هو الذي يريد كل شيء ولا يكون في الوجود إلا ما يريد، ولكنه يقدر هذه الأشياء كما يشاء.
وبكل حال فالأدلة واضحة الدلالة في أن مشيئة الله تعالى وقدرته عامة، وأنه لا يكون في الوجود إلا ما يريد، فإن قوله تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان:30] ، أي: مشيئتكم التي تزاولون بها الأعمال مرتبطة بمشيئة الله.
وقوله: {مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الأنعام:39] ؛ فإضلاله لهؤلاء عدل منه، ولكنه معلوم أنه مكنهم من الأعمال، فزاولوا الأعمال السيئة من الكفر والذنوب، فعذبوا على تلك المزاولة التي صاروا بها كفاراً مقدمين للكفر ومقدمين للمعاصي، وهدى المؤمنين وأقبل بقلوبهم ومكنهم وأعطاهم قدرة يزاولون بها الطاعات والإيمان، فصاروا بذلك مؤمنين مطيعين، فعذب هؤلاء على معاصيهم وكفرهم وإن كان بقضاء وقدر، وأثيب هؤلاء على إيمانهم وطاعتهم وإن كان بقضاء وبقدر.(28/8)
شرح العقيدة الطحاوية [29]
لقد ضل في باب القدر طائفتان وهما الجبرية والقدرية، ومنشأ ضلالهم من التسوية بين المشيئة الكونية والإرادة الشرعية، وقد نشأت لهم من ذلك تساؤلات وأوهام قد توصل بعضهم إلى الانحلال من التكاليف، وقد أجاب السلف عن تلك الشبهات ودمغوها بالكتاب والسنة.(29/1)
مراتب القدر
من أركان الإيمان بالله: الإيمان بقضائه وقدره، فهو ركن من أركان الإيمان الستة، ذكره النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره) ، وذكره الله تعالى بقوله: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:49] ، وبقوله تعالى: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} [الفرقان:2] .(29/2)
العلم والكتابة
والإيمان بالقدر على درجتين، كل درجة تتضمن شيئين: أولاً: العلم، وثانياً: الكتابة، وقد دل على ذلك قوله تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا} ، هذا دليل على العلم، {وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ} [الأنعام:59] ، هذا دليل على الكتابة.
كذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (أول ما خلق الله القلم فقال له: اكتب، فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة) أي: أنه تعالى علم ما سوف يحدث من أول الدنيا إلى آخرها، وأثبت ذلك، وليس في ذلك صعوبة على الله، قال تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحديد:22] يعني: علمه وكتابته للأشياء قبل وقوعها يسير عليه ليس فيه صعوبة؛ لأنه هو الذي أوجد الكائنات، فلا يكون في الوجود إلا ما يريد، وحيث إنها تكون بإرادته سبحانه وتعالى، فإنها كذلك كائنة بعد خلقه وبعد إيجاده لها، فهو علمها قبل أن توجد وأثبتها في اللوح المحفوظ كما أخبر بذلك.
وقد كان غلاة القدرية قديماً ينكرون هذا النوع ويقولون: إن الله لا يعلم بالأشياء حتى تقع، وبعضهم يقول: إنه يعلم الكليات ولا يعلم الجزئيات، بمعنى: أنه لا يعلم مفردات الأشياء وإن كان يعلم عموماتها، وقد ورد في حديث: (أن ثلاثة من أهل مكة اجتمعوا في مكان فقال بعضهم: أترون أن الله يسمع ما نقول، فقال الثاني: يسمع إذا جهرنا ولا يسمع إذا أخفينا، وقال الثالث مستنكراً: إن كان يسمع جهرنا فإنه يسمع سرنا، فأنزل الله تعالى قوله تعالى: {وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ * وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ} [فصلت:22-23]-يعني: أهلككم- {فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [فصلت:23] ) فهكذا ظن هؤلاء الذين يظنون أن الله لا يعلم أعمالهم، أو أنه يخفى عليه شيء من أحوالهم، أو أنهم يكونون في مكان أو موضع لا يراهم ربهم أو نحو ذلك.
وفائدة العبد إذا آمن بأن الله عالم بسره وعالم بنجواه، وعالم بأحواله، وعالم بما هو عامل، وإذا علم وآمن بأنه قد كتب أعماله قبل أن يوجده، وقد كتب ما هو كائن، ويعلم ما توسوس به نفسه، ويتحدث به قلبه؛ لا شك أن فائدة ذلك أنه يخاف الله حق الخوف، فإن من علم أن أعماله محصاة عليه، وعلم أنها مكتوبة لا تضيع؛ دقيقها وجليلها، كبيرها وصغيرها، وأنه سوف يحاسب عليها، وأنه سيوقف عليها كما في قوله تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء:47] ؛ فإنه سيخاف الله.
فهذه درجة من درجات القدر، وهي الإيمان بأن الله عالم بالأعمال وبالمخلوقات، وعالم بعددها، وكتب ذلك وأثبته قبل أن توجد المخلوقات بأسرها، وأنه لا يحدث إلا ما علم الله أنه سوف يحدث، في الوقت الذي قدر أنه يحدث فيه دون تقدم أو تأخر.(29/3)
الإرادة والخلق
وأما الدرجة الثانية فهي الإيمان بإرادة الله تعالى وبخلقه، هذه الدرجة تتضمن أن الله أراد ما في الكون وخلقه.
والإرادة عامة لا يكون شيء في الوجود خارجاً عنها، وهي الإرادة الكونية القدرية التي بمعنى المشيئة، فلهذا يقول المسلمون: ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، ويقولون: لا حول ولا قوة إلا بالله، فلا يكون في الوجود حركة إلا بإرادة الله ومشيئته، ولا يكون لإنسان حول إلا بإذن الله، ولا يكون له قوة ولا قدرة ولا استطاعة على أمر من الأمور إلا بالله تعالى، فما شاءه كان وإن لم يشأ العباد، وما شاءه العباد لا يكون إذا لم يشأ الله كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في أبيات له: فما شئتَ كان وإن لم أشأ وما شئتُ إن لم تشأ لم يكن فيؤمن العبد بأن ما شاء الله كان وإن لم يشأ الخلق، وما لم يشأ الله لم يكن وإن شاء الخلق، ومصداق ذلك في قول النبي صلى الله عليه وسلم لـ ابن عباس: (واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، ولو اجتمعوا على أن ينفعون بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، رفعت الأقلام وجفت الصحف) ، ومع ذلك فإنا إذا آمنّا بكتابة هذه المخلوقات وبإيجاد الله لها، لم يكن ذلك عذراً لنا في ترك الأعمال، بل يزيدنا ذلك نشاطاً في العمل وجداً واجتهاداً، وما ذاك إلا أننا خلقنا للعمل، وأعطينا من القوة ما نستطيع به مزاولة الأعمال.
فهذا هو الجمع بين كون الله تعالى خالق ما في الوجود، وأنه يريد ما في الكون، وبين كونه أراد من العباد أفعالهم التي هي الطاعة والإيمان، أراد ذلك ديناً وشرعاً وأمرهم بما هم قادرون على امتثاله، وأعطاهم من القوة ما يزاولون به تلك الأعمال وما يصح أن تنسب إليهم، ويثابون عليها ويعاقبون عليها، فعلى هذا يجتمع إيمان أهل السنة بما ذكرنا، ويكون هذا من السر الذي لا يعلم كيفيته إلا الله، كما تقدم لنا أن القدر سر الله تعالى في خلقه.(29/4)
التسوية بين المشيئة والمحبة هي منشأ الضلال في القدر
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ومنشأ الضلال: من التسوية بين المشيئة والإرادة وبين: المحبة والرضا، فسوى بينهما الجبرية والقدرية ثم اختلفوا: فقالت الجبرية: الكون كله بقضائه وقدره، فيكون محبوباً مرضياً.
وقالت القدرية النفاة: ليست المعاصي محبوبة لله ولا مرضية له، فليست مقدرة ولا مقضية، فهي خارجة عن مشيئته وخلقه.
وقد دل على الفرق بين المشيئة والمحبة الكتاب والسنة والفطرة الصحيحة، أما نصوص المشيئة والإرادة من الكتاب فقد تقدم ذكر بعضها.
وأما نصوص المحبة والرضا فقال تعالى: {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة:205] {وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} [الزمر:7] ، وقال تعالى عقب ما نهى عنه من الشرك والظلم والفواحش والكبر: {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا} [الإسراء:38] .
وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله كره لكم ثلاثا: قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال) ، وفي المسند: (إن الله يحب أن يؤخذ برخصه كما يكره أن تؤتى معصيته) ، وكان من دعائه صلى الله عليه وسلم: (اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وأعوذ بمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك) .
فتأمل ذكر استعاذته بصفة الرضا من صفة السخط، وبفعل المعافاة من فعل العقوبة، فالأول للصفة والثاني لأثرها المترتب عليها، ثم ربط ذلك كله بذاته سبحانه وأن ذلك كله راجع إليه وحده لا إلى غيره؛ فما أعوذ منه واقع بمشيئتك وإرادتك، وما أعوذ به من رضاك ومعافاتك هو بمشيئتك وإرادتك، إن شئت أن ترضى عن عبدك وتعافيه، وإن شئت أن تغضب عليه وتعاقبه، فإعاذتي مما أكره ومنعه أن يحل بي هي بمشيئتك أيضاً، فالمحبوب والمكروه كله بقضائك ومشيئتك، فعياذي بك منك، فعياذي بحولك وقوتك ورحمتك مما يكون بحولك وقوتك وعدلك وحكمتك، فلا أستعيذ بغيرك من غيرك، ولا أستعيذ بك من شيء صادر عن غير مشيئتك، بل هو منك.
فلا يعلم ما في هذه الكلمات من التوحيد والمعارف والعبودية إلا الراسخون في العلم بالله ومعرفته ومعرفة عبوديته] .(29/5)
الفرق بين المشيئة والإرادة
يقول: إن الذين ضلوا في هذا الباب سووا بين المشيئة والإرادة، والصحيح أن بينهما فرقاً: فإن الإرادة تنقسم إلى قسمين: إرادة شرعية وإرادة قدرية.
فالإرادة القدرية هي بمعنى المشيئة، والإرادة الشرعية بمعنى المحبة، فالله تعالى أراد الطاعات شرعاً وأحبها، وأراد المعاصي كوناً وكرهها ولم يحبها، ولكنه قدرها وأرادها وشاءها، ولو لم يشأها لم تكن، ولكنه ما رضيها ولا أحبها، بل كرهها وتوعد عليها ولو كانت بمشيئته وبقدرته وبإرادته الكونية حتى لا يكون في الوجود ما لا يريد، وحتى لا يعصى ربنا قسراً عليه.
فنعرف بذلك أن هناك فرقاً بين المشيئة والإرادة، أي: الإرادة الشرعية، فالإرادة الشرعية هي كونه تعالى يريد الطاعات، يعني: شرعها وأرادها وأحبها.
وقد ذكر الله هذه الإرادة في مواضع كقوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة:185] ، فهذه إرادة شرعية، وكذلك قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ} [النساء:26] {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا} [النساء:27] {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ} [النساء:28] ، فهذه الإرادات شرعية.
نقول: إن الله تعالى أراد الطاعات شرعاً، فأراد من الخلق كلهم الإيمان شرعاً، وأراد منهم الطاعات، فأراد منهم أن يصلوا، وأراد منهم الصيام، والصدقات، والزكوات، والجهاد، والحج، والعمرة، والذكر، والقراءة، والبر والتقوى، أراد هذا منهم شرعاً، وأحب هذه الطاعات، وأراد منهم ترك المعاصي شرعاً، وكره منهم تلك المعاصي؛ فهذه إرادة شرعية وهي تستلزم المحبة للمراد.
فإذا شرع الله شيئاً وأراده شرعاً فإنه يحبه ولو لم يكن، فيحب الإيمان من الخلق كلهم ولو لم يحصل إلا من بعضهم، ويحب الصلوات من الناس كلهم ولو أن بعضهم ما حصلت منه الصلاة، ويحب الصوم، ويحب الصدقات، ويحب الجهاد، ويحب التوبة، ويحب الاستغفار، ويحب الأذكار، ويحب التلاوة، يحب ذلك منهم وقد أراده شرعاً، ولكنه لم يحصل إلا من البعض وهم المسلمون المؤمنون.
فهذه إرادة شرعية، وهي التي ذكرنا أن الله تعالى يحب ما يترتب عليها، ولكنها لا تستلزم وجود المراد، فقد يريد شرعاً أمراً ولكنه لا يحصل لكونه ما أراده قدراً، فمثلاً: أراد من الكفار الإيمان شرعاً ولم يرده قدراً، فلذلك لم يحصل، وأراد من العصاة أن يطيعوه ولكنه لم يرده قدراً ولم يشأه، فلذلك لم يحصل، هذا معنى الإرادة الشرعية.
أما الإرادة الكونية: فهي التي لا بد أن يقع مرادها، وقد ذكرت في آيات كثيرة كقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} [المائدة:1] وقوله: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ} [الأنعام:125] {وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ} [الأنعام:125] ، فهذه إرادة كونية، أي: مكتوبة في الكون وفي الأزل، وهي القدرية، وهي التي يقع المراد بها، وإن لم يكن محبوباً، فليس كل ما يريده الله من هذه الكائنات يكون محبوباً، فلذلك نقول: إنه أراد المعاصي كوناً ولكنه لا يحبها، وأراد الكفر كوناً ولكنه لا يحبه ولم يرده شرعاً، ومع ذلك لو لم يشأه لما حصل، فإنه لا يكون في الوجود إلا ما يريد ولمّا لم يحبه ولم يأمر به شرعاً بل كرهه، كان مترتباً عليه العقاب!(29/6)
القدرية والجبرية لا يثبتون إلا الإرادة الكونية
هذا هو المراد بكونه سبحانه لا يكون في الوجود إلا ما يريد؛ ولكن غلا في هذه الإرادة قوم ونفاها قوم، وتقابل الطرفان والطائفتان، فطائفة جبرية جعلوا كل الموجودات مخلوقة لله ولم يجعلوا للإنسان أي تصرف، بل جعلوه مجبوراً ليس له أي اختيار، وقالوا: إن عقوبته على المعاصي ظلم، حيث إنه مقسور ومجبور عليها؛ فهذه الطائفة هم الجبرية.
والطائفة الثانية التي قابلتهم: هم نفاة القدر أو نفاة قدرة الله، وهم الذي يقولون: ننزه الله عن الظلم فنقول: إنه لو خلق هذه المعاصي وعاقب عليها لكان ظالماً، فهذه الطائفة غلت في النفي فقالت: إن أعمال العباد ومعاصيهم وطاعاتهم ليست من خلق الله، بل من خلقهم ومن إيجادهم، وإن العباد هم الذي يوجدون أفعالهم، فهذه الطائفة غلت في النفي، وجعلت الإنسان يخلق فعله، ونفت أن يكون لله أي قدرة على أفعال العبد، وزعموا بذلك أنهم أهل العدل والتوحيد.
وكلا الطائفتين ضال؛ فالطائفة الأولى جعلت القدر عذراً للعصاة، حيث إنهم يقولون: كيف يخلقنا ويخلق فينا المعاصي ثم يعاقبنا عليها؟ والطائفة الثانية: جعلت مع الله من يخلق، وجعلت كل إنسان خالقاً مستقلاً بأفعاله، وكذبت الأدلة التي تثبت أن الأمر بيد الله تعالى يضل من يشاء ويهدي من يشاء.(29/7)
مذهب أهل الحق في خلق أفعال العباد
وتوسط أهل الحق وقالوا: إن الكائنات حاصلة بقدرة الله كلها طاعات ومعاصي، ولكن تنسب إلى العبد من حيث إن الله أعطى العبد قدرة يزاول بها الأعمال ويصح نسبتها إليه؛ ولأجل ذلك يقولون: إن العباد فاعلون حقيقة والله خالقهم وخالق أفعالهم، فالعبد هو المؤمن والكافر، والبر والفاجر، والمصلي والصائم؛ تنسب أعماله إليه وإن كانت بقضاء الله تعالى وبقدره، وبإرداته الكونية، وبمشيئته التي حصلت بإرادة الله، ولكنها تنسب إلى العبد.
ولو سلبنا العبد هذه القدرة لبطلت الشريعة، وفي بطلان الشريعة بطلان الحكمة من إرسال الرسل ومن إنزال الكتب، ومن الأوامر والنواهي، ومن خلق الثواب والعقاب، والله تعالى منزه عن ذلك.
فلو لم يكن للعباد قدرة على مزاولة أعمالهم لما أمروا؛ ولأجل ذلك تتوجه إليهم الإرشادات فيقول الله تعالى: {اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} [التوبة:105] ، فأخبر بأنهم لهم أعمال، ولو لم يكن لهم قدرة لما أمروا، ولكن الله تعالى خالقهم وخالق قدرتهم، وقدرتهم مسبوقة بقدرة الله.
أما أدلة الرضا فقد مر بنا الآيات والأحاديث في إثبات أن الله تعالى يرضى ويسخط، وللرضا والسخط أسباب ذكر في هذه الآيات بعضها، فتارة يثبته وتارة ينفيه، يقول الله تعالى: {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} [الزمر:7] ، فأخبر بأنه لا يرضى الكفر، ومعناه أنه يكرهه، وأخبر بأنه يرضى بالشكر {وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} [الزمر:7] ، وأضاف هنا الكفر إليهم؛ لأنه الذي صدر بأفعالهم وإن كانت مقدرة، والشكر إليه تشكره، وهكذا الحديث: (إن الله يرضى لكم ثلاثاً ويسخط ثلاثاً) ، فأثبت الرضا وأثبت السخط، وأثبت الكراهية: (وكره لكم ثلاثاً) ، أثبت أن هذه المعاصي يكرهها الله.
ومعلوم أنه نهى العباد، وما نهاهم إلا ولهم قدرة على الانتهاء، وعلى أن ينزجروا ويتركوا الأعمال السيئة التي منها الكفر.
والحاصل: أن من عقيدة أهل السنة إثبات أن الله يرضى ويسخط ويحب ويكره، وأن الأعمال التي يحبها قد أمر بها عباده، وما أمرهم إلا وهم قادرون، وأن الأعمال التي نهى عنها يسخطها ويكرهها، ولا ينهاهم إلا عن شيء يقدرون على فعله، فإن العاجز لا يُنهى عما يعجز عن فعله، فلا يقال مثلاً للإنسان: لا تحي الموتى؛ لأنه عاجز عن إحيائهم فلا ينهى عنه، ولا يقال له: لا تصعد إلى السماء؛ لأنه عاجز عن أن يصل إلى السماء، ولا يقال له مثلا: ً لا تخرق الأرض؛ لأنه عاجز عن أن يخرقها، بخلاف ما إذا قيل له: لا تقتل النفس التي حرم الله، فإنه في إمكانه أن يقتل، وكذلك: لا تزن أو لا تأكل الحرام فلا ينهى إلا عن شيء هو قادر على أن يفعله.
وهكذا أيضاً الأفعال: لا يؤمر بشيء مستحيل، فلا يقال له مثلاً: رد أمس، ولا يقال له: اقلب الحجر ذهباً، فلا يؤمر بشيء لا يستطيعه، بخلاف ما يستطيعه، فيقال له مثلاً: احمل هذا الكرسي أو: انقل هذا المصحف من مكان إلى مكان، أو يقال له: قم واركع ركعتين، لأن هذه في استطاعته، فيؤمر بما يستطيع وينهى عما هو ممكن أن يفعل، ولا يؤمر بالمستحيل أن يفعله ولا ينهى عن الشيء الذي يستحيل فعله.(29/8)
حكمة الله في خلقه ومشيئته لما يكرهه ولا يرضاه
قال المؤلف: [فإن قيل: كيف يريد الله أمراً ولا يرضاه ولا يحبه؟ وكيف يشاؤه ويكونه؟ وكيف يجتمع إرادته له وبغضه وكراهته؟ قيل: هذا السؤال هو الذي افترق الناس لأجله فرقاً وتباينت طرقهم وأقوالهم، فاعلم أن المراد نوعان: مراد لنفسه، ومراد لغيره فالمراد لنفسه مطلوب محبوب لذاته، وما فيه من الخير فهو مراد إرادة الغايات والمقاصد.
والمراد لغيره قد لا يكون مقصوداً للمريد ولا فيه مصلحة له بالنظر إلى ذاته، وإن كان وسيلة إلى مقصوده ومراده؛ فهو مكروه له من حيث نفسه وذاته، مراد له من حيث إفضاؤه وإيصاله إلى مراده، فيجتمع فيه الأمران: بغضه وإرادته، ولا يتنافيان لاختلاف متعلقهما.
وهذا كالدواء الكريه إذا علم المتناول له أن فيه شفاءه، وقطع العضو المتآكل إذا علم أن في قطعه بقاء جسده، وكقطع المسافة الشاقة إذا علم أنها توصل إلى مراده ومحبوبه.
بل العاقل يكتفي في إيثار هذا المكروه وإرادته بالظن الغالب وإن خفيت عنه عاقبته، فكيف بمن لا يخفى عليه خافية، فهو سبحانه يكره الشيء، ولا ينافي ذلك إرادته لأجل غيره وكونه سبباً إلى أمر هو أحب إليه من فوته، من ذلك: أنه خلق إبليس الذي هو مادة لفساد الأديان والأعمال والاعتقادات والإرادات، وهو سبب لشقاوة كثير من العباد وعملهم بما يغضب الرب تبارك وتعالى، وهو الساعي في وقوع خلاف ما يحبه الله ويرضاه، ومع هذا فهو وسيلة إلى محاب كثيرة للرب تعالى تترتب على خلقه، ووجودها أحب إليه من عدمها: منها: أنه تظهر للعباد قدرة الرب تعالى على خلق المتضادات المتقابلات، فخلق هذا الذات التي هي أخبث الذوات وشرها وهي سبب كل شر، في مقابلة ذات جبرائيل التي هي من أشرف الذوات وأطهرها وأزكاها، وهي مادة كل خير، فتبارك خالق هذا وهذا! كما ظهرت قدرته في خلق الليل والنهار، والداء والدواء، والحياة والموت، والحسن والقبيح، والخير والشر.
وذلك من أدل دليل على كمال قدرته وعزته وملكه وسلطانه، فإنه خلق هذه المتضادات وقابل بعضها ببعض، وجعلها محال تصرفه وتدبيره، فخلو الوجود عن بعضها بالكلية تعطيل لحكمته وكمال تصرفه وتدبير مملكته.
ومنها: ظهور آثار أسمائه القهرية مثل: القهار، والمنتقم، والعدل، والضار، والشديد العقاب، والسريع الحساب، وذي البطش الشديد، والخافض، والمذل؛ فإن هذه الأسماء والأفعال كمال لا بد من وجود متعلقها، ولو كان الجن والإنس على طبيعة الملائكة لم يظهر أثر هذه الأسماء] .(29/9)
ابتلاء المؤمنين بمجاهدة الشرور وبغض أهلها
نعم هذا الاعتراض كثيراً ما يردده العصاة ويقولون إذا نصحناهم عن المعصية: إن الله ما هدانا، إن الله قدر هذا علينا، لو أنه هدانا لما خرجنا عن الطاعة، نتوقف حتى يهدينا الله، فيستمرون في المعاصي ويحتجون بمثل هذه الحجج.
ويقول بعضهم: كيف يقدر علينا أن نكفر أو نفسق أو نعصي، ثم مع ذلك يعاقبنا ويعذبنا، لو كان يعذب على ذلك ما قدره ولا أوجده ولا أراده كوناً وقدراً! فدائماً يحتجون بهذه الأمور المقدرة، ونقول: صحيح أن الله أرادها كوناً وأنه قدرها، وأنه لو شاء لما حصلت، ولكن لا يلزم من إرادته لبعضها أنه يحبها، فهو أراد الكفر كوناً وهو يكرهه ويكره أهله شرعاً، وأراد الطاعات وهو يحبها وإن لم تحصل من البعض، فالكائنات التي أرادها وقدرها وخلقها حتى ولو كانت كفراً ومعصية وبدعة ونحو ذلك، ولكن هذه الإرادة لغرض خفي، قد لا نتفطن له.
وفي كلام الشارح أن المرادات إما أن تكون مرادة لنفسها وإما أن تكون مرادة لغيرها، فالإيمان، الطاعة، السنن، الصالحات، الحسنات، وسائر الطاعات مرادة لنفسها، أرادها الله من المؤمنين وحصلت لأنه يحبها، وأما المعاصي فإنه أرادها ولكن لغيرها ولم يردها لذاتها، وإنما أرادها لمصلحة قد تظهر وقد تخفى على البعض.
وقد ذكر الشارح بعض الحكم في إيجاد هذه المخلوقات الشريرة، وكذلك في إيجاد المعاصي وإرادة المعاصي، وتقدير الكفر والبدع وفشوها وانتشارها وما أشبه ذلك، فمن ذلك أنه شاء هذه الأشياء كوناً وقدرها حتى يمتحن ويبتلي عباده المؤمنين بمجاهدتها وببغضها وببغض أهلها، وبمعرفة ما يجب عليهم نحوها، فلو كان الناس كلهم مؤمنين ما حصل بغض في الله، ولو كان الناس كلهم مؤمنين ما حصل جهاد في سبيل الله، ولو كان الناس كلهم مؤمنين ما حصل البراء، وهو أن نتبرأ من الكفار ونحوهم.(29/10)
إظهار كمال قدرة الله تعالى
ثم أيضاً من حكمة الله في إيجاد هذا الكفر إظهار قدرة الله، فالله تعالى قد أظهر قدرته العامة ووجدت آثارها، فمن آثارها عقوبات العصاة وما أنزل بهم من المثلات، ولو كان الناس كلهم مؤمنين ما أغرق هؤلاء، ولا أهلك هؤلاء بصيحة، ولا أرسل على هؤلاء الريح العقيم، ولا أهلك هؤلاء بعذاب يوم الظلة، ولا كذا ولا كذا.
فمن حكمة الله في إيجاد ذلك أن تعرف قدرة الله، حيث إنه ينتقم ممن عصاه ويعاقبه ويعجل له العذاب في الدنيا، ليكون ذلك دليلاً على العذاب في الآخرة، ولو كان الناس كلهم مؤمنين لما كان في الآخرة إلا دار واحدة وهي الجنة، ولكنه تعالى قدر في الدنيا معاصي حتى يكون للدار الآخرة نصيب، فإنه خلق الجنة والنار، وهما صنوان، كما خلق في الدنيا الخير والشر، والإيمان والكفر، وكذلك سائر المتضادات، فجعل في الدنيا أضداداً وأزواجاً، وكل واحد مضاد للآخر، فمثلا الليل يقابله النهار، والنور تقابله الظلمة، والخير يقابله الشر، والذكر يقابله الأنثى، والبياض يقابله السواد مثلاً.
كذلك الطاعة مع المعصية، والكفر مع الإيمان، والعقوبة مع الثواب، والوعد مع الوعيد، فخلق الضدين دليل على كمال القدرة، فإذا رأى العبد خلق المتضادات آمن بكمال قدرة القادر حيث خلق هذه الأشياء.
ثم مع ذلك نحن نؤمن بأنه ما خلق شيئاً إلا وله فيه حكمة، ولا يجوز أن نعترض على الله بخلقه لشيء من مخلوقاته.
سمعت أو قرأت حكاية أن إنساناً رأى دابة الخنفساء فقال: لماذا خلق الله هذه الخنفسة التي لا فائدة فيها، وليس لها خلق جميل أو نحو ذلك؟ فاعترض على الله في خلقها، فابتلي بقرحة خرجت فيه، ولم يوجد لها علاج إلا خنفساء أحرقت وذر عليها رمادها فبرأ، فعرف بذلك أن الله ما خلق شيئاً إلا وله حكمة في ذلك، فلا يجوز أن تقول: ليس الله من خلق السباع، ليس الله من خلق هذه الحيات، ولا هذه الهوام التي ليس فيها إلا مضرة على العباد.
نقول: إنه خلقها لتعلم بذلك قدرته، ويعلم أنه قادر على خلق الأضداد، وليكون ذلك أيضاً آية من آياته: وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد فهذه المخلوقات كبيرها وصغيرها دالة على كمال قدرته، إذا تأملها الإنسان عرف بذلك كمال قدرة القادر، مع أن مخلوقاته لا تحصى دواب البر من طيور ومن دواب تدب على الأرض لا يحصيها إلا الله تعالى، وفي خلقها عجائب من عجائب الله.
دواب البحر مع كثرتها وتفاوتها وما أشبه ذلك؛ فيها عجائب من قدرة الله تعالى، فخلقها ليس عبثاً، حتى البعوضة والنملة والذرة ونحو ذلك من الدواب الصغيرة خلقها وله في ذلك حكمة , ولو كان على الناس مضرة من هذه السباع التي تأكل دوابهم، أو من هذه الحيات والهوام ونحوها، أو من هذا الذباب الذي يقع على طعامهم أو عليهم، أو من هذا البعوض الذي يقرصهم أو نحو ذلك، فإن الله تعالى حكيم.
وأيضاً فإنه له الحكمة حتى فيما يجلبه من الأمراض ونحوها، فهذه الأمراض التي يسلطها على من يشاء لا يجوز أيضاً أن يعترض على الله بها، ولا يقال: ليس الله من خلق الحمى ولا من خلق المرض، بل الله له الحكمة في خلقه وفي أمره.
وبكل حال: فإن هذه الأشياء مرادة، ولكن لأجل الحكمة ولأجل إظهار القدرة وكمالها.
فيقال أيضاً: كذلك في الحكمة في خلق إبليس، والحكمة في خلق أعوان إبليس الذي هو مادة الشر ونحوه، والحكمة من خلق الكفار وانتشارهم، وكذلك في تقويتهم وإمدادهم بالقوات وبالذخائر ونحو ذلك، والحكمة مثلاً في تمكينهم من الأعمال التي عملوها، ومن تسليطهم أحياناً على المؤمنين؛ لا شك أن الله تعالى له الحكمة في ذلك، فلا يعترض على الله، بل يؤمن العبد بأنه هو القادر على كل شيء، وأن ذلك دليل على كمال قدرته وتمام تصرفه.(29/11)
ظهور آثار أسماء الحكمة والخبرة
قال المؤلف: [ومنها: ظهور آثار أسماء الحكمة والخبرة، فإنه الحكيم الخبير الذي يضع الأشياء مواضعها، وينزلها منازلها اللائقة بها، فلا يضع الشيء في غير موضعه، ولا ينزله في غير منزلته التي يقتضيها كمال علمه وحكمته وخبرته، فهو أعلم حيث يجعل رسالاته، وأعلم بمن يصلح لقبولها ويشكره على انتهائها إليه، وأعلم بمن لا يصلح لذلك.
فلو قدر عدم الأسباب المكروهة لتعطلت حكم كثيرة ولفاتت مصالح عديدة، ولو عطلت تلك الأسباب لما فيها من الشر لتعطل الخير الذي هو أعظم من الشر الذي في تلك الأسباب، وهذا كالشمس والمطر والرياح التي فيها من المصالح ما هو أضعاف أضعاف ما يحصل بها من الشر.
ومنها: حصول العبودية المتنوعة التي لولا خلق إبليس لما حصلت؛ فإن عبودية الجهاد من أحب أنواع العبودية إليه سبحانه، ولو كان الناس كلهم مؤمنين لتعطلت هذه العبودية وتوابعها من الموالاة لله سبحانه وتعالى والمعاداة فيه، وعبودية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعبودية الصبر ومخالفة الهوى وإيثار محاب الله تعالى، وعبودية التوبة والاستغفار، وعبودية الاستعاذة بالله أن يجيره من عدوه ويعصمه من كيده وأذاه، إلى غير ذلك من الحكم التي تعجز العقول عن إدراكها] .
يعني: من الحكمة في أنه أوجد المعاصي والطاعات، وأوجد في الدنيا عصاة ومطيعين، وأوجد أسباباً يتمكن بها البعض من مزاولة المعاصي أو تكون سبباً لانتشار بعضها، وبعضها تكون سبباً في الطاعات ونحوها، ويطول البحث فيها.
فمثلاً: العصاة أسباب معاصيهم كثيرة، فمنها الشهوات التي تتزين لهم، ومنها الدنيا التي تبسط على كثير منهم فيتمادون في المعصية، ومنها الهوى الذي يميل بكثير منهم، ومنها دعاة الضلال الذين يدعون إلى الباطل ويزينونه، ومنها وساوس الشيطان التي هي سبب للضلال والكفران ونحو ذلك.
كذلك أيضا أسباب الطاعة التي منها إرسال الرسل ودعاتهم، ومنها قراءة كتب الله، وما يكون بها من الاهتداء، ومنها دعوة المؤمنين إخوانهم إلى الله وترغيبهم في الخير وتعليمهم إياه، وذكر الطرق التي يتوصلون بها إلى الطاعات ونحو ذلك، فوجد في الحياة الدنيا طاعات ومعاص، ووجد فيها كفر وإيمان، ولو كان الناس كلهم مؤمنين لما ظهرت آثار أسماء الله.
فمن أسماء الله العزيز، الجبار، المنتقم، شديد العقاب، هذه الأسماء لو لم يكن هناك من يُعاقَب لم يظهر أثر اسم الله شديد العقاب، فلو كان الناس كلهم مطيعين ما حصل أنه ينتقم من العاصي ولا حصل أنه يعاقب الباغي، فهذه من أسماء الله الحسنى، والتي تدل على كماله، فمن حكمة الله في إيجاد المعاصي ظهور آثار هذه الأسماء.
من أسماء الله: الرءوف، الرحيم، المعطي، المتفضل، ولو كان الناس كلهم على الإيمان الكامل ما حصل أنه رحم هؤلاء وعفا عن هؤلاء، وغفر لهؤلاء وتاب على هؤلاء؛ فإنه ليس هناك معاص ليتوب هذا منها، ولا يستغفر هذا منها فيغفر له، ونحو ذلك كما في الحديث: (من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له) ، ولو كان الناس كلهم مطيعين ما حصلت آثار ذلك.
كذلك أيضاً من أسمائه الحكيم، والحكيم هو الذي يضع الأشياء في مواضعها اللائقة بها، فلو كان الناس كلهم مطيعين ما حصلت آثار الحكمة، فمن حكمته أنه يعاقب هذا عقوبة في موضعها، ومن حكمته أنه يثيب هذا، من حكمته أن يعطي هذا ويمنع هذا، ويرفع هذا ويخفض هذا، ويعز هذا ويذل هذا، ونحو ذلك، فلا بد أن تظهر آثار هذه الأسماء، فقدر الله وجود هذه المعاصي حتى تظهر آثار هذه الأسماء التي هي من أسماء الله تعالى الحسنى.
هذا الكلام ونحوه استنبطه العلماء من وجود الطاعات والمعاصي، وكون الناس كلهم ليسوا على إيمان ولا على كفر، بل فيهم مؤمن وكافر، ومطيع وعاص، فقالوا: إن آثار هذه إنما ظهرت بوجود من يتوب الله عليهم بعد أن كانوا عصاة فالله هو التواب، ويقبل توبة عبده ويفرح بها.
كذلك هؤلاء يستغفرون فيغفر لهم، والله تعالى غفور رحيم، وهؤلاء يرحمهم ويتجاوز عنهم، والله غفور رحيم، وغير ذلك من الحكم في أسماء الله تعالى.(29/12)
الشرور المرادة لله نظراً لما تفضي إليه من الحكمة هل تكون محبوبة له من هذا الوجه؟
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فإن قيل: فهل كان يمكن وجود تلك الحكم بدون هذه الأسباب؟ فهذا سؤال فاسد! وهو فرض وجود الملزوم بدون لازمه، كفرض وجود الابن بدون الأب، والحركة بدون المتحرك، والتوبة بدون التائب.
فإن قيل: فإذا كانت هذه الأسباب مرادة لما تفضي إليه من الحكم؛ فهل تكون مرضية محبوبة من هذا الوجه أم هي مسخوطة من جميع الوجوه؟ قيل: هذا السؤال قالوا يرد على وجهين: أحدهما: من جهة الرب تعالى، وهل يكون محباً لها من جهة إفضائها إلى محبوبه وإن كان يبغضها لذاتها؟ والثاني: من جهة العبد وهو أنه هل يسوغ له الرضا بها من تلك الجهة أيضاً؟ فهذا سؤال له شأن.(29/13)
الشر يرجع إلى عدم الخير وهو من هذه الجهة شر لا من جهة وجوده المحض
فاعلم أن الشر كله يرجع إلى العدم، أعني: عدم الخير وأسبابه المفضية إليه، وهو من هذه الجهة شر، وأما من جهة وجوده المحض فلا شر فيه؛ مثاله: أن النفوس الشريرة وجودها خير من حيث هي موجودة، وإنما حصل لها الشر بقطع مادة الخير عنها، فإنها خلقت في الأصل متحركة، فإن أعينت بالعلم وإلهام الخير تحركت به، وإن تركت تحركت بطبعها إلى خلافه، وحركتها من حيث هي حركة خير، وإنما تكون شراً بالإضافة لا من حيث هي حركة.
والشر كله ظلم، وهو وضع الشيء في غير محله، فلو وضع في موضعه لم يكن شراً، فعلم أن جهة الشر فيه نسبية إضافية، ولهذا كانت العقوبات الموضوعة في محالها خيراً في نفسها وإن كانت شراً بالنسبة إلى المحل الذي حلت به، لما أحدثت فيه من الألم الذي كانت الطبيعة قابلة لضده من اللذة مستعدة له، فصار ذلك الألم شراً بالنسبة إليها، وهو خير بالنسبة إلى الفاعل حيث وضعه في موضعه.
فإنه سبحانه لم يخلق شراً محضاً من جميع الوجوه والاعتبارات، فإن حكمته تأبى ذلك، فلا يمكن في جناب الحق تعالى أن يريد شيئاً يكون فساداً من كل وجه لا مصلحة في خلقه بوجه ما؛ هذا من أبين المحال، فإنه سبحانه الخير كله بيديه، والشر ليس إليه، بل كل ما إليه فخير، والشر إنما حصل لعدم هذه الإضافة والنسبة إليه، فلو كان إليه لم يكن شراً فتأمله! فانقطاع نسبته إليه هو الذي صيره شراً.
فإن قيل: لم تنقطع نسبته إليه خلقاً ومشيئة؟ قيل: هو من هذه الجهة ليس بشر، فإن وجوده هو المنسوب إليه، وهو من هذه الجهة ليس بشر، والشر الذي فيه من عدم إمداده بالخير وأسبابه، والعدم ليس بشيء حتى ينسب إلى من بيده الخير] .(29/14)
كل ما أوجده الله فهو خير بالنسبة إليه تعالى
هذا الاعتراض الذي يعترض به بعض غلاة القدرية على خلق الله تعالى للشرور وللأشرار، قد يعترض بذلك فيقال: لماذا خلق الله إبليس مع أنه كله شر؟! ولماذا خلق الله الكفرة والمشركين الذين ليس فيهم خير، بل هم شر وجودهم ضرر على المسلمين؟! ولماذا خلق الله أو أوجد هذه المعاصي والأسباب التي يستعان بها عليها؟ لماذا وجدت المسكرات مثلاً وما يتصل بها؟! ولماذا وجدت العاهرات والفاسقات؟! ولماذا وجد المفسدون الذي يعيثون في الأرض فساداً؟! ولماذا وجدت المعاصي؟! قد يعترضون ويقولون: هذا شر، فكيف أوجده الله وكيف أراده وكيف خلقه، مع أنه لا يحصل به إلا شر وضرر على الأمم الدينية، فيتضررون بوجود هؤلاء الكفار حيث إنهم يصدونهم عن الهدى، ويحاولون ردهم إلى الكفر وإخراجهم من ملة الإسلام، ويلقون عليهم الشبهات والشكوك، ويظهرون الفساد والمعاصي ونحو ذلك، فلماذا أوجدوا ولماذا خلقهم الله، ولماذا مكنهم الله؟! أليس في هذا إعانة على المعاصي؟ أليس في هذا تمكين للعصاة وتقوية لشأنهم؟ هذا خلاصة هذا الاعتراض على حكم الله سبحانه وتعالى.
وقد تقدم أنه سبحانه خلق الجنة والنار، فمن حكمته أن جعل داراً للثواب وداراً للعقاب، فلا بد أن لهذه من يسكنها ولهذه من يدخلها، حكمة الله لا بد أن تتم لذلك، فلما كان كذلك لم يكن بد من أن يكون الخلق فريقين: {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} [الشورى:7] .
وتقدم أن من أسماء الله تعالى الذي سمى بها نفسه وامتدح بها، أسماء تدل على مثل هذه الأفعال، كاسمه المنتقم، واسمه الجبار، واسمه العزيز، وذي القوة المتين، وكذلك أسماؤه المزدوجة مثل: الخافض الرافع، المعز المذل، المعطي المانع، فلا بد أن تظهر مدلولات هذه الأسماء، ولا تظهر إلا إذا وجد من يذلهم الله ومن يمنعهم ومن يخفضهم.
ولا بد أن يوجد من يقهرهم باسمه القهار، ومن يقدر على عقوبتهم بموجب اسمه القادر، ومن يرحمهم ويغفر لهم بموجب اسمه الغفور الرحيم، ولو كان الناس كلهم أتقياء بررة لم تظهر آثار أسمائه: الغفور الرحيم، وهكذا بقية أسماء الله سبحانه وتعالى.
بعد ذلك الجواب عن هذا الاعتراض، والجواب أن نقول: كل ما أوجده الله وأراده فإنه خير بالنسبة إلى الله تعالى وإن كان شراً بالنسبة إلى العبد الذي صدر منه ذلك الشر، وذلك لأن الله تعالى ما أوجده إلا لمصلحة، وهي الاختبار والابتلاء للعباد، ولكي يظهر من يصبر ومن يجزع، ومن يطيع ومن يعصي، ويظهر من يمتثل ومن يأبى، ولكي يظهر من يكون صالحاً أو يكون فاسداً.
هذا من اختبار الله لعباده، فهو سلط عليهم هؤلاء الأعداء، فسلط عليهم إبليس الرجيم حتى يكون منهم مقاومة وشدة تمسك رغم ما يلقيه من الدعوات إلى الفساد وإلى المعاصي، فيثابون ويزداد ثوابهم إذا تمسكوا، كذلك سلط عليهم الشهوات التي تدفعهم إلى المحرمات، وأظهرها أمامهم فتنة، فيثبت الله أولياءه ويخذل أعداءه، فالذي يستمسك بالدين ويصبر عليه هو الذي يعظم ثوابه، وهذا أيضاً يصدق على المصائب التي تحصل للعباد، وقد يكون حصولها للأتقياء أكثر من حصولها للفسقة ونحوهم، فالمصائب التي ذكرها الله تعالى بقوله: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ} [البقرة:155] ، هذه قد يكون الابتلاء بها للمؤمنين أشد.
الكفار قد يمتعون بالقوة ويمتعون بالأموال ونحو ذلك، كما حكى الله عنهم أنهم قالوا: {نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلادًا} [سبأ:35] ، فهذا الابتلاء الذي يبتلي الله تعالى به المؤمنين ليكون أعظم لأجرهم إذا صبروا واحتسبوا، فهكذا خلقه لهذه الشرور ليكون أعظم للأجر، فإذا عرف العبد أنه قد سلط عليه الأعداء فصبر عد مجاهداً غاية الجهاد، فهو يجاهد الشيطان الرجيم الذي يسول له ويوسوس له، وهو يجاهد النفس الأمارة بالسوء التي تتخيل له دائماً وتدفعه، وهو يجاهد الهوى الذي يعمي ويصم، وهو يجاهد الشهوات التي تتجلى له وتندفع نفسه إليها وتتزين له، ولكنه يمسك نفسه ويقمعها، فيعتبر بذلك مجاهداً غاية الجهاد.
وهو يجاهد قرناء السوء وجلساء السوء الذين يدفعونه إلى الشرور ويدعونه إليه، هذا يدعوه إلى زنا، وهذا يدعوه إلى ربا، وهذا يدعوه إلى شرك، وهذا يدعوه إلى غش، وهذا يدعوه إلى تكاسل عن عبادة، وهذا يدعوه إلى شرب مسكر، وهذا يدعوه إلى كذا وإلى كذا، ولكنه يمسك زمام نفسه ويجاهد هؤلاء الدعاة، ويرد عليهم دعايتهم، فلو كان الناس كلهم مفطورين على الإسلام ما ظهر هذا الجهاد، زيادة على الجهاد الحسي الذي هو جهاد الكفار الذي أمر الله به وأكده وكرر ذكره بعدد من الآيات.
لا شك أن الإنسان متى قاوم هذه المقاومة وصبر هذه المصابرة، فإنه يعد ناجحاً في هذا الابتلاء والاختبار، ويعد مثاباً غاية الثواب، فيجزل الله له الأجر على ذلك فهذا من حكمة الله! إذاً: فلا يعترض على الله ولا يقال: لماذا سلط الأشرار؟ ولماذا قواهم؟ ولماذا أعطاهم الدنيا، وأعطاهم النعم، وأعطاهم العدد والعدة ونحو ذلك؟ لا يعترض على الله بشيء من ذلك، كما لا يقال: لماذا خلق الله إبليس؟ ولماذا خلق الله هذه الشهوات المحرمة؟ ولماذا أوجد الله هذه المسكرات وهذه المخدرات وما أشبهها؟ لا يعترض على الله تعالى، لأنه أوجد ذلك ليظهر من يصبر ممن يجزع، وليظهر من يقوى على نفسه ومن لا يقوى، فيثاب هذا على مقاومته، ويعرف بذلك عدم صبر هؤلاء الذين لم يصبروا على قمع نفوسهم الأمارة بالسوء، فلله تعالى الحكمة في ذلك.
فهو خير بالنسبة إلى خلق الله تعالى وإيجاده، وشر بالنسبة إلى فعل العبد، فالعبد مثلاً إذا زنا قيل: هذا الزنا شر، حيث إنه صدر منه، ولكن الله تعالى هو الذي قدر ذلك وأحدثه، فهو خير بالنسبة إلى إيجاد الله تعالى، حيث إنه اختبر العباد بذلك وجعل أسبابه ظاهرة.
كذلك العبد إذا سكر مثلاً، والمرأة إذا تبرجت وتجملت وفعلت ما لا يحل لها فعله عند الأجانب، والرجل إذا تعاطى غشاً في معاملة أو غصباً أو سرقة أو اختلاساً أو ما أشبه ذلك.
كذلك إذا سولت له نفسه ترك الصلوات أو تخلفاً عن جماعات أو ما أشبه ذلك من ترك الطاعات؛ فالله تعالى هو الذي قدر أسباب ذلك، ولكنه جعل ذلك اختباراً للعباد وابتلاءً لهم، ليظهر بذلك أهل طاعته الذين أراد الله بهم الخير فقويت نفوسهم وأعطاهم قوة، والذين خذلهم وخلى بينهم وبين نفوسهم، وقوى عليهم أعداءهم فلم يتمكنوا من مقاومة أولئك الأعداء، فأصبحوا من الخاسرين.(29/15)
إيضاح أن خلق الشرور ليس شراً بالنسبة إلى الله
قال المؤلف: [فإن أردت مزيد إيضاح لذلك، فاعلم أن أسباب الخير ثلاثة: الإيجاد والإعداد والإمداد، فإيجاد هذا خير وهو إلى الله، وكذلك إعداده وإمداده، فإذا لم يحدث فيه إعداد ولا إمداد حصل فيه الشر بسبب هذا العدم الذي ليس إلى الفاعل وإنما إليه ضده.
فإن قيل: هلا أمده إذ أوجده؟ قيل: ما اقتضت الحكمة إيجاده وإمداده وإنما اقتضت إيجاده وترك إمداده، فإيجاده خير والشر وقع من عدم إمداده.
فإن قيل: فهلا أمد الموجودات كلها؟ فهذا سؤال فاسد يظن مورده أن التسوية بين الموجودات أبلغ في الحكمة! وهذا عين الجهل! بل الحكمة في هذا التفاوت العظيم الذي بين الأشياء، وليس في خلق كل نوع منها تفاوت، فكل نوع منها ليس في خلقه تفاوت، والتفاوت إنما وقع لأمور عدمية لم يتعلق بها الخلق وإلا فليس في الخلق من تفاوت، فإن اعتاص عليك هذا ولم تفهمه حق الفهم فراجع قول القائل: إذا لم تستطع شيئاً فدعه وجاوزه إلى ما تستطيع] .(29/16)
الحكمة من تقدير الشر بخذلان المنافقين عن الخروج للجهاد
قال رحمه الله تعالى: [فإن قيل: كيف يرضى لعبده شيئا ولا يعينه عليه؟ قيل: لأن إعانته عليه قد تستلزم فوات محبوب له أعظم من حصول تلك الطاعة التي رضيها له، وقد يكون وقوع تلك الطاعة منه يتضمن مفسدة هي أكره إليه سبحانه من محبته لتلك الطاعة، وقد أشار تعالى إلى ذلك في قوله: {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ} [التوبة:46] .
فأخبر سبحانه أنه كره انبعاثهم إلى الغزو مع رسوله وهو طاعة، فلما كرهه منهم ثبطهم عنه، ثم ذكر سبحانه بعض المفاسد التي كانت تترتب على خروجهم مع رسوله، فقال: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا} [التوبة:47] أي: فساداً وشرّاً، {وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ} [التوبة:47] أي: سعوا بينكم بالفساد والشر، {يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} [التوبة:47] أي: قابلون منهم مستجيبون لهم، فيتولد من سعي هؤلاء وقبول هؤلاء من الشر ما هو أعظم من مصلحة خروجهم، فاقتضت الحكمة والرحمة أن أقعدهم عنه.
فاجعل هذا المثال أصلاً وقس عليه] .
يكثر إيرادات هؤلاء المجبرة، وهم الذين يعذرون العبد على فعل المعاصي ويزعمون أن له عذراً في ذلك، حيث لم يكن له اختيار ولا قدرة على أية مزاولة، فيكثرون من إيراد مثل هذه الشبهات، فيقولون مثلاً: كيف يريد الله هذه المعاصي وهو يكرهها؟ فيقال: الله تعالى أرادها كوناً وكرهها شرعاً، ويقولون: كيف لا يسوي بين عباده ما دام أنه قد خلقهم كلهم لعبادته، فكيف لا يسوي بينهم فيهديهم جميعاً ويرشدهم؟
و
الجواب
أنه سبحانه خلقهم ومكنهم، ولكنه علم أن فيهم نفوساً شريرة تختار الشر فخذلها، ونفوساً خيرة تختار الخير فوثقها، فله الحكمة في توفيق هذا وفي خذلان هذا، وإن كان الجميع كلهم عبيده وتحت تصرفه، وهم الذين كلفوا جميعاً بعبادته وبالإنابة إليه.
وضرب المؤلف مثلاً لما حكى الله تعالى عن المنافقين في سورة التوبة في قوله تعالى: {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ * لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} [التوبة:46-47] ، هؤلاء ممن كانوا أسلموا ولكن لم يدخل الإيمان في قلوبهم، لا شك أن الله تعالى خذلهم وخلى بينهم وبين أهوائهم وشهواتهم، ولم يوفقهم لما وفق إليه صفوته وخيرته من خلقه من المهاجرين والأنصار الذين اصطفاهم والذين مكن لهم في دينهم.
فهؤلاء المنافقون لما كان في غزوة تبوك تخلفوا عن القتال وتخلفوا عن الخروج، وأتوا بأعذار لا فائدة فيها وليست صادقة، بل حلفوا وهم كاذبون، كما في قوله تعالى: {يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [التوبة:96] ، {سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [التوبة:95-96] .
فأخبر تعالى بأنهم لم يريدوا الخروج أصلاً ولم يستعدوا له، ولو كانوا يريدون الخروج ويرغبون في الغزو لأعدوا العدة ولهيئوا أنفسهم، فهم قادرون على أن يخرجوا وعندهم استطاعه وتمكن ولكنهم لم يفعلوا، فلما لم يفعلوا دل على أنهم ما أرادوه ولا أعدوا له عدة، مع أن الله تعالى هو الذي خذلهم؛ لأنه علم أن في خروجهم مفسدة كبيرة حيث إنه لا يكون منهم إلا ضرر، فلذلك كره الله خروجهم وانبعاثهم فثبطهم، أي: سكنهم وصرف أنفسهم عن الخروج لمصلحة عظيمة؛ فإنهم لو خرجوا ما زادوا المسلمين إلا خبالاً، أي: ضعفاً وتخذيلاً وتثبيطاً عن القتال وعن العدو، (وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ) يعني: أوقعوا فيما بين المسلمين الفتن والتشكيكات ونحو ذلك، فكان هذا من حكمة الله في أن خذلهم ولم يبعث عزائمهم إلى القتال، وبذلك يعرف أنه تعالى حكيم يضع الأشياء في موضعها اللائقة بها.
فعلى المسلم أن يرضى ويسلم بما جاءه من شرع الله تعالى وأمره ودينه، وأن يعترف بأنه ما خلق إلا ما فيه مصلحة، سواء كانت مخلوقات جوهرية أو عرضية، وسواء كانت أشخاصاً أو أعراضاً وأعمالاً، كل ذلك له فيه الحكمة، فهو الحكيم العليم.
وعلى الإنسان أن يلح في سؤاله لربه، وأن يكثر من الدعاء، والله تعالى قد قدر له ما هو مقدر وجعل سبب ذلك هو كثرة الإلحاح في الدعاء، فيكون سبباً من أسباب تيسير اليسرى وتجنيب العسرى، وليس مغيراً لما في قدر الله تعالى.(29/17)
هل يحب العبد الشر ويرضى به من جهة أنه مراد لله واقع بمشيئته
قال المؤلف: [وأما الوجه الثاني وهو الذي من جهة العبد: فهو أيضاً ممكن بل واقع، فإن العبد يسخط الفسوق والمعاصي ويكرهها من حيث هي فعل العبد، واقعة بكسبه وإرادته واختياره، ويرضى بعلم الله وكتابته ومشيئته وإرادته وأمره الكوني، فيرضى بما من الله ويسخط ما هو منه؛ فهذا مسلك طائفة من أهل العرفان.
وطائفة أخرى كرهتها مطلقاً، وقولهم يرجع إلى هذا القول؛ لأن إطلاقهم للكراهة لا يريدون به شموله لعلم الرب وكتابته ومشيئته.
وسر المسألة: أن الذي إلى الرب منها غير مكروه والذي إلى العبد مكروه.
فإن قيل: ليس إلى العبد شيء منها، قيل: هذا هو الجبر الباطل الذي لا يمكن صاحبه التخلص من هذا المقام الضيق، والقدري المنكر أقرب إلى التخلص منه من الجبري، وأهل السنة المتوسطون بين القدرية والجبرية أسعد بالتخلص من الفريقين.
فإن قيل: كيف يتأتى الندم والتوبة مع شهود الحكمة في التقدير، ومع شهود القيومية والمشيئة النافذة؟ قيل: هذا هو الذي أوقع من عميت بصيرته في شهود الأمر على خلاف ما هو عليه، فرأى تلك الأفعال طاعات لموافقته فيها المشيئة والقدر، وقال: إن عصيت أمره فقد أطعت إرادته! وفي ذلك قيل: أصبحت منفعلاً لما تختاره مني ففعلي كله طاعات! وهؤلاء أعمى الخلق بصائر، وأجهلهم بالله وأحكامه الدينية والكونية، فإن الطاعة هي موافقة الأمر الديني الشرعي لا موافقة القدر والمشيئة، ولو كان موافقة القدر طاعة لكان إبليس من أعظم المطيعين له، ولكان قوم نوح وهود وصالح ولوط وشعيب وقوم فرعون كلهم مطيعين! وهذا غاية الجهل.
لكن إذا شهد العبد عجز نفسه ونفوذ الأقدار فيه، وكمال فقره إلى ربه، وعدم استغنائه عن عصمته وحفظه طرفة عين؛ كان بالله في هذه الحال لا بنفسه، فوقوع الذنب منه لا يتأتى في هذه الحال البتة، فإن عليه حصناً حصيناً من: (فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي) ، فلا يتصور منه الذنب في هذه الحال.
فإذا حجب عن هذا المشهد وبقي بنفسه استولى عليه حكم النفس، فهنالك نصبت عليه الشباك والأشراك، وأرسلت عليه الصيادون، فإذا انقشع عنه ضباب ذلك الوجود الطبعي، فهنالك يحضره الندم والتوبة والإنابة، فإنه كان في المعصية محجوباً بنفسه عن ربه، فلما فارق ذلك الوجود صار في وجود آخر، فبقي بربه لا بنفسه] .(29/18)
شبهة من يقول: إذا خالفت أمر الله فقد وافقت مراده
كثيراً ما يحتجون بأن هذه المعاصي مرادة لله تعالى، فيقول أحدهم: أنا خالفت أمر الله ولكن وافقت إرادة الله، الله تعالى أراد مني هذا الفعل وهذه المعصية.
ف
الجواب
أن هذه الإرادة إرادة كونية، وقد أراد منك إرادة شرعية أن تطيعه، فلا تحتج بالإرادة الكونية وتترك الإرادة الشرعية، الله تعالى أراد كل ما في الكون إرادة كونية ولكنه أراد الطاعات إرادة شرعية، وهذه الطاعات التي أرادها قد تقع وقد لا تقع، لأنه خلق كل الخلق للعبادة، فمنهم من عبد ومنهم من لم يعبد، فهذه إرادة شرعية.
فالذي يقول: ليس للعبد أي اختيار، نقول له: هذه مقالة الجبرية الذين يزعمون أن العبد مسلوب الاختيار أصلاً، وأنه بمنزلة الشجرة التي تحركها الرياح، ففي ذلك إبطال شرع الله وإبطال أحكامه وقضائه وقدره، والواجب على المسلم أن يعترف بشرع الله وأن يدين له بالطاعة، وأن يسلم لقضائه وقدره، ولا يرد عليه شيئاً من أمره، فبذلك يصبح مستسلماً لأمره، فأما هؤلاء الذين يقولون: إن جميع حركاتنا ولو كانت معاصي، ولو كانت غير محبوبة لله؛ فهي طاعة حيث إنها وافقت مراد الله القدري، حتى قال قائلهم في هذا البيت الذي ذكره المؤلف: أصبحت منفعلاً لما تختاره مني ففعلي كله طاعات فهذا عين المحادة لله لأنه لا شك أن الطاعات إنما تكون بالعبادات التي فرضها، فكونه يقول: أفعالي كلها طاعات، حتى ولو كانت فجوراً وزوراً، ولو كانت كذباً، ولو كانت معاصي وكفراً وشركاً، فكيف تكون طاعات وقد حرمها الله تعالى وسماها معاصي؟! فهذه معاص بالنسبة إلى صدورها من العبد، وهي مرادة لله كوناً وقدراً، حيث إنها وقعت بخلقه وتكوينه، فما شاءه كان وما لم يشأه لم يكن، فإذا علم العبد أولاً أن الله تعالى أراد جميع ما في الكون كوناً وقدراً، وما هو حادث، ولكنه أحب الطاعات وكره المحرمات، وأمر بالطاعات أمراً شرعياً، ونهى عن المحرمات نهياً شرعياً، وعلم أيضاً بأن مزاولة العبد لها باختيار منه لهذا الذي اختاره إن خيراً فخير وإن شراً فشر، وأن الثواب والعقاب يترتب على هذا الاختيار وعلى هذا الفعل، وعلى الجد والاجتهاد في الطاعة، أو الجد والاجتهاد في المعصية، وهو الذي يكون عليه الثواب والعقاب، فمتى علم العبد واستسلم لذلك فهو من أهل الخير.(29/19)
على العبد أن يستحضر أنه مكلف مختار
ولا شك أن من استحضر دائماً أنه مكلف، واستحضر أن الله تعالى يوفق العبد الذي يستحضر عظمة ربه، واستحضر دائماً أنه ليس بمهمل، بل خلق للعبادة ولم يخلق هملاً ولا سدى؛ من كان كذلك وفقه الله.
وإذا استحضر أيضاً أن ربه لما كلفه ولما أمره ونهاه، كان في مرأى ومسمع من ربه لا تخفى عليه منه خافية، واستحضر أيضاً أنه في كل حالاته عنده الدافع الذي يدفعه إلى الخير، وهو قوة الإيمان وقوة هذا الاستحضار؛ لا شك أن من تمت معه هذه الاستحضارات فإنه لا يقدم على معصية، وكيف يقدم عليها وهو يستحضر عظمة الله تعالى وكأنه واقف بين يدي ربه؟ كيف يقدم عليها وهو يعلم أنه يترتب عليها عقوبة وإثم شديد؟ كيف يقدم عليها وهو يعلم أن ربه يكرهها؟ ولا شك أن العبد الذي يكثر من العبادات سواء كانت قلبية أو قولية أو بدنية، ثم يثق بالثواب عليها؛ أن ذلك يحجزه عن أن يأتي بضدها، ولا يجتمع أنه في آن واحد يطيع الله ويطيع الشيطان، ولا يجتمع أنه في آن واحد يعبد الله ويعبد الأصنام مثلاً، ولا يجتمع أنه في آن واحد يكون مستحضراً لعظمة الله تعالى وغافلاً عنه مقبلاً على هواه، بل متى تمت له هذه الاستحضارات عبد ربه وأكثر من عبادته وأقبل عليه إقبالاً كلياً، ومتى كان كذلك فإن ربه تعالى يسدد خطاه ويوفقه، ويحبب إليه العبادة ويحميه عن المعصية، كما في قوله في الحديث القدسي الذي سمعنا بعضه: (ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها) ، وفي بعض الروايات: (فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي) .
والمعنى: أن الله تعالى يحفظه ويحوطه ويحرسه، فتكون حركاته في إرادة الله وفي طاعة الله، وما ذاك إلا أن قلبه امتلأ بعظمة الله وامتلأ بالإيمان به، وامتلأ بحب الخير، وامتلأ بالأعمال الخيرية الصالحة والميل إليها، ولما امتلأ القلب ظهر آثار ذلك على السمع وعلى البصر وعلى اليد وعلى الرجل، فصار نظره كله بالله، وسمعه كله لله، ومشيه وحركاته كلها لله، فصار بالله ومن الله وفي الله، فهذا هو الذي لا يمكن أنه يقدم على معصية مع ما يقوم به من هذه الحال.
فالعبد الذي يكون بهذه المثابة لا شك -أنه إن شاء الله- لا يقدم على معصية، وإنما يؤتى من نقص في ذلك، يعني من نقص في استحضاره بقلبه لهذه الأشياء، فإن العوائق التي تعوقه عن هذه الاستحضارات كثيرة، فالشهوات من زينة الحياة الدنيا ومتاعها، والشغل بها كثيراً، والانهماك في المحرمات؛ كل ذلك يجلب إلى قلبه شيئاً من الغفلة، فيوجب له بذلك صدوداً عن الخير، وإقبالاً على الشرور والفساد، نعوذ بالله من الخذلان.(29/20)
ما يرضى به من قضاء الله وما لا يرضى به
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فإن قيل: إذا كان الكفر بقضاء الله وقدره، ونحن مأمورون أن نرضى بقضاء الله، فكيف ننكره ونكرهه؟ ! ف
الجواب
أن يقال أولاً: نحن غير مأمورين بالرضا بكل ما يقضيه الله ويقدره، ولم يرد بذلك كتاب ولا سنة، بل من المقضي ما يرضى به، ومنه ما يسخط ويمقت كما لا يرضى به القاضي لأقضيته سبحانه، بل من القضاء ما يسخط كما أن من الأعيان المقضية ما يغضب عليه ويمقت ويلعن ويذم.
ويقال ثانياً: هنا أمران: قضاء الله، وهو فعل قائم بذات الله تعالى، ومقضي: وهو المفعول المنفصل عنه، فالقضاء كله خير وعدل وحكمة ويرضى به كله، والمقضي قسمان: منه ما يرضى به، ومنه ما لا يرضى به.
ويقال ثالثاً: القضاء له وجهان: أحدهما: تعلقه بالرب تعالى ونسبته إليه، فمن هذا الوجه يرضى به.
والوجه الثاني: تعلقه بالعبد ونسبته إليه، فمن هذا الوجه ينقسم إلى: ما يرضى به وإلى ما لا يرضى به.
مثال ذلك: قتل النفس له اعتباران: فمن حيث قدره الله وقضاه وكتبه وشاءه، وجعله أجلاً للمقتول ونهاية لعمره؛ نرضى به، ومن حيث صدر من القاتل وباشره وكسبه وأقدم عليه باختياره، وعصى الله بفعله؛ نسخطه ولا نرضى به.
وقوله: (والتعمق والنظر في ذلك ذريعة الخذلان إلى آخره) .
التعمق: هو المبالغة في طلب الشيء، والمعنى: أن المبالغة في طلب القدر والغوص في الكلام فيه ذريعة الخذلان الذريعة: الوسيلة، والذريعة والدرجة والسلم متقاربة المعنى، وكذلك الخذلان والحرمان والطغيان متقارب المعنى أيضا، لكن الخذلان في مقابلة النصر، والحرمان في مقابلة الظفر، والطغيان في مقابلة الاستقامة] .(29/21)
نرضى بقضاء الله ولا يلزم الرضا بكل مقضي
الكلام الأول يتعلق بالرضا بالقضاء والرضا بالمقضي، فنقول: يلزمنا أن نرضى بالقضاء، وأما المقضي الذي يقع بذلك القضاء فلا يلزمنا الرضا به، بل قد ننكره ونستبشعه، فمثل الشارح بقتل النفس ظلماً، نقول: هذا الذي قُتِل قد بلغ أجله الذي كتب له، ولم يقطع عليه أجله، فالله تعالى قضى وقدر وكتب أن عمره لا يزيد ولا ينقص، فالمقتول مات بأجله المحدد له، لأن الله تعالى يقول: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف:34] ، ويقول تعالى: {قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ} [آل عمران:154] أي: لو تحصنتم في بيوتكم والله قد كتب على بعضكم القتل، لخرجوا إلى أن يصلوا المكان الذي قدر الله أنهم يموتون أو يقتلون فيه ولا بد.
وقد ذكر الله تعالى أن الموت محتوم على الإنسان مهما تحصن، كما في قوله تعالى: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَة} [النساء:78] ، يعني: ولو تحصنتم في أحصن الأماكن، فإنه يصل إليكم الموت الذي قدره الله لكم سواء بسبب ظاهر أو بسبب خفي.
فمن حيث حصول الموت لهذه النفس نؤمن بأن هذا قضاء وقدر، وأنه مهما تحصن هذا المقتول فلن يحصل له التحصن أبداً مهما تحصن، ولا بد أن يحصل له ما قدر الله تعالى عليه، ولكن مع ذلك ننكر هذا الذنب على القاتل ونلومه عليه ونسخطه، والله تعالى أنكره عليه وتوعده على هذا القتل بوعيد شديد، وتوعده النبي صلى الله عليه وسلم وأخبر بأنه يستحق العقوبة، والله تعالى كتب القصاص في قوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة:178] وفي قوله: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة:45] .
فهذا دليل على أنه من حيث إنه قضاء وقدر نرضى به، ومن حيث صدوره من ذلك الظالم القاتل نسخطه وننكره، ونلوم القاتل، وهكذا بقية الحوادث التي تحدث في الدنيا، منها ما نرضاه ومنها ما نسخطه من حيث الظاهر، أما من حيث القضاء والقدر فجميعه مرضي لله سبحانه وتعالى مقضي له، ومرضي للعباد.(29/22)
الاحتجاج بالقدر لا يمنع من أخذ الحق
فعلى كل حال يلزمنا الرضا بكل ما قضاه الله وقدره، ولا يلزمنا الرضا بكل مقضي ومخلوق ومقدر وجوده في العالم، بل نسخط المعاصي ولو كانت قضاء وقدراً، وننكر على من فعلها ونلومه، وإذا احتج بالقدر لم يمنعنا ذلك من أخذ الحق منه، كما ذكر أن عمر رضي الله عنه لما رفع إليه سارق وأمر بقطع يده فقال: هذا قدر الله، فقال: (سرقت بقدر الله ونقطع يدك بقدر الله) ، فهو بذلك يعرف أن هذا مأمور به، فنحن مأمورون بكذا وأنت فعلت كذا وكذا.
ولما خرج عمر رضي الله عنه إلى الشام وأقبل على أذرعات الشام، ذكروا له أن الطاعون قد وقع في الشام، فشاور الصحابة هل يقدم الشام أو لا يقدم؟ فاختلفوا، فمنهم من قال: لا تذهب إلى الشام ومعك هؤلاء الذين هم صفوة الصحابة فتعرضهم للموت، ومنهم من قال: إن هذا شيء مكتوب فلا تفر بهم ولا ترجع، ولكنه عزم على الرجوع، فقال له أبو عبيدة بن الجراح: أفراراً من قدر الله؟ فقال عمر: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة! نعم.
نفر من قدر الله إلى قدر الله.
أي: نقول إن الله تعالى قدر لنا أن نرجع وما كتب لنا أن نذهب، فنحن إذا رجعنا ففي قدر الله أننا نفر من قدر الله إلى قدر الله، ثم ضرب مثلاً وقال: أرأيت لو كان لك إبل وذكر لك واديان: أحدهما مخصب والآخر مجدب، ثم إنك اخترت واحداً منهما، أليس بقدر الله؟ أي: لو دخلت الوادي المجدب المقحط الذي ليس فيه رعي، ثم قيل لك: إن هاهنا وادياً أخصب وشعباً مخضراً، وفيه أعشاب وفيه رعي؛ فذهبت إليه، أليس ذهابك إليه بقضاء الله وبقدره؟ الله تعالى هو الذي قدر لك أن تسلك هذا، ثم اختار لك أن تسلك هذا، فهكذا إذا رجعت من مكان مخوف، فليس ذلك هرباً من قضاء، بل الله هو الذي قدر عليك هذا القضاء والقدر، وقدر عليك أنك ترجع أو لا ترجع، وإذا كان الله تعالى قد كتب على الإنسان أنه يموت بسبب، فلا بد أن يصل إليه الموت في أي مكان.
روي أن إنساناً وقع الطاعون في بلاده، فلما ذكر له ذلك ركب حماراً وتوجه إلى بلاد أخرى، وفي أثناء الطريق سمع هاتفاً يقول: لن يسبق الله على حماري قد يصبح الله أمام الساري فتوقف واستمع قليلاً ثم إنه نزل في ذلك المكان وأصابه الطاعون فمات، ولم يغنه فراره ولا هربه.(29/23)
الأخذ بالأسباب
الله تعالى قد ذكر قوماً هربوا من الموت ثم إن الله أماتهم، في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ} [البقرة:243] ألوف: جمع ألف، يعني: آلافاً مؤلفة، (حذر الموت) : ما أخرجهم إلا حذر الموت، ولكن هل سلموا؟ {فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ} [البقرة:243] ، أي: أن قدرة الله تعالى تأتي على كل شيء، فأماتهم الله ليريهم أن الخروج والهرب لا ينجيهم، ثم أحياهم بقدرته ليريهم كامل قدرته.
وعلى كل حال نحن نقول: إن الإنسان مأمور بأن يتحصن وبأن يفعل الأسباب وبأن يأخذ حذره، ولكن ذلك لا يرد عنه ما قد كتب الله عليه من الآجال والأمراض والعاهات ونحو ذلك، وإنما هذه أسباب ظاهرة، ولا يجوز مع ذلك تركها.
الله سبحانه أمر بأخذ الحذر في حالة صلاة الخوف، فلما أمر بصلاة الخوف أمر بأخذ الحذر، معلوم أن المسلمين قد يقول قائلهم: سوف نصلي جماعة والله تعالى يحرسنا ويحفظنا، ولكن الله تعالى أخبر بأن المشركين يتحينون الفرص ويحتالون في أن يجدوا غفلة من المؤمنين فيقتلونهم، فقال تعالى: {وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً} [النساء:102] ، هكذا أخبر عنهم ثم أمرهم بأن يأخذوا الحذر في قوله تعالى: {وَخُذُوا حِذْرَكُمْ} [النساء:102] ، {وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ} [النساء:102] يعني في حالة صلاتهم للخوف، {وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ} [النساء:102] أي: ليكونوا حذرين.
فكل ذلك دليل على أن فعل السبب لا يمنع في التوكل وأنه لا يرد ما قدر الله، مع أن فعل الأسباب مأمور به وتركها إلقاء باليد إلى التهلكة، وأن التعرض أو فعل الأسباب التي يحصل بها الموت عمداً يصير ذنباً كبيراً، ولهذا ورد الوعيد الشديد على من قتل نفسه بفعل ظاهر، كما في صحيح مسلم وغيره أنه صلى الله عليه وسلم قال: (من تحسى سماً فسمه في يده يتحساه في نار جهنم) تحساه، أي: التهمه، فمن التهم سماً فإنه يدخل جهنم ويجعل السم في يديه يتحساه دائماً في نار جهنم والعياذ بالله (ومن تردى من شاهق) يعني: رأس جبل حتى يموت (فهو يتردى في نار جهنم) والعياذ بالله، فهذا دليل على أنه إذا فعل سبباً يعوقه أو يصل إلى أنه يقتل به نفسه فإنه معرض لهذا الوعيد.
ولو قال مثلاً: إن هذا مكتوب علي وإن هذا مقدر، نقول: الله تعالى هو الذي قدر كل شيء ولكنه نهاك عن شيء أنت تستطيعه، فنهاك أن تلقي بيدك إلى التهلكة ونهاك عن هذه المعاصي، ونهاك عن هذه المخالفات وأمرك بأضدادها، وما أمرك إلا بأمر أنت مستطيع له، ولو كان كل ذلك واقع بقضاء وبقدر.(29/24)
التحذير من الوسوسة والتشكك في القدر
قال المؤلف رحمه الله: [وقوله: (فالحذر كل الحذر من ذلك نظراً وفكراً ووسوسة) ] .
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (جاء ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسألوه: إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به، قال: أوقد وجدتموه؟ قالوا: نعم.
قال: ذلك صريح الإيمان!) رواه مسلم، الإشارة بقوله: (ذلك صريح الإيمان) إلى تعاظمهم أن يتكلموا به.
ولـ مسلم أيضا عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوسوسة؟ فقال: تلك محض الإيمان) ، فهو بمعنى حديث أبي هريرة، فإن وسوسة النفس أو مدافعة وسواسها بمنزلة المحادثة الكائنة بين اثنين، فمدافعة الوسوسة الشيطانية واستعظامها صريح الإيمان ومحض الإيمان.
هذه طريقة الصحابة رضي الله عنهم والتابعين لهم بإحسان، ثم خلف من بعدهم خلف سودوا الأوراق بتلك الوساوس التي هي شكوك وشبه، بل سودوا القلوب وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق، ولذلك أطنب الشيخ رحمه الله في ذم الخوض في الكلام في القدر والفحص عنه.
وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم) ، وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو معاوية حدثنا داود بن أبي هند عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: (خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم والناس يتكلمون في القدر قال: فكأنما تفقأ في وجهه حب الرمان من الغضب؛ قال: فقال لهم: ما لكم تضربون كتاب الله بعضه ببعض؟ بهذا هلك من كان قبلكم، قال: فما غبطت نفسي بمجلس فيه رسول الله لم أشهده بما غبطت نفسي بذلك المجلس أني لم أشهده) ورواه ابن ماجة أيضاً] .
يقول: إن عندنا شيئين: الأمر الأول: ما يجول في النفس وما يحدث من الوساوس والأوهام، ولكن لا يخرجها الإنسان بل يزيلها أو يحرص على إزالتها، فهذه مما يعفى عنه.
والأمر الثاني: ما ابتلي به المتكلمون من إظهار تلك الوساوس والتكلم بها وكتابتها وإشاعتها، وهذا مذموم.
فكان في عهد الصحابة وكذلك في عهد التابعين وتلاميذهم، إذا خطرت في أنفسهم خطرات وشكوك لم يبدوها، بل استمروا على ما هم عليه من العقيدة، وآمنوا بالله وبما جاء عن الله سبحانه وتعالى، فلم تضرهم تلك الوساوس ولا تلك الهواجس ونحوها.
كثيراً ما يحصل على قلب الإنسان وسوسة في أمور من الغيب؛ إما مثلاً في طبقات السماء وطبقات الأرض وكيفية العرش وذات الرب تعالى وصفاته، وكذلك أمور البعث وأمور البرزخ، قد يتوارد على نفسه شيء من التشكيكات في هذه، وكيف تتصور؟ وكيف يتحقق ما ذكر من وصفها في هذه النصوص؟ فإن في ذلك شيئاً من الاستبعاد ومن الاستغراب.
فإذا تواردت هذه الشكوك على هذه النفوس، ولكن أحرقتها النفس المطمئنة ولم تلتفت إليها ولم يتكلم بها الإنسان، فإن ذلك مما يعفى عنه، وسماه النبي صلى الله عليه وسلم صريح الإيمان، يعني: ما دمتم تقتصرون على هذه الوسوسة دون أن تتكلموا بها فإن ذلك معفو عنه، ثبت بالحديث قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم أو تعمل) ، فحديث النفس معفو عنه، أي عن الخواطر التي تخطر في القلب والتي تكون خواطر ووساوس وأوهاماً وتشكيكات ولكن يغلبها الإنسان بقوة إيمانه، وبما قام عنده من الأدلة الصريحة في صدق الرسل وما جاءوا به من الأمور الغيبية، فلم تؤثر فيه تلك الشكوك والأوهام ونحوها، بل اضمحلت تلك الوساوس ولم تضره.
فعليك أن تؤمن بالحق الذي أنت عليه وتثق به، دون أن تلتفت إلى شيء من تلك الأوهام أو تتمادى معها، هكذا أخبر عليه الصلاة والسلام.(29/25)
شرح العقيدة الطحاوية [30]
يصر القدرية على إنكار خلق الله لأفعال العباد، وهم بذلك يشابهون المجوس المشركين، وقد جاءت الآثار بذمهم والحث على هجرهم وزجرهم، وقد رد العلماء على شبهاتهم وبينوا لهم الصواب.(30/1)
الإيمان والإسلام والإحسان وضدها مسميات شرعية
قد عرفنا أن من عقيدة المسلمين الإيمان، وأركانه ستة: الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، والإيمان بالقدر خيره وشره، وأن الإيمان تدخل فيه الأعمال، فهي من مسمى الإيمان، ولأجل ذلك يقوى الإيمان ويضعف، ويزيد وينقص، فيزيد بسبب زيادة الأعمال وينقص بسبب نقص الأعمال، أو بسبب ارتكاب الذنوب، وذلك مما يحمل المسلم على أن يتعاهد إيمانه بالزيادة ويحذر من النقصان، لأنه إذا تغافل وصار ينقص إيمانه شيئاً فشيئاً لم يأمن أن يضعف، وإذا ضعف لم يكن زاجراً له عن اقتراف السيئات، ولم يكن دافعاً له إلى التكاثر من الحسنات.
كذلك قد يصير ضعف الإيمان سبباً لأن يقوى ضده، وهو الكفر أو الذنب أو المعصية، فإنه كلما قوي الإيمان ضعفت دوافع الكفر والفسوق والمعاصي، وكلما ضعف الإيمان قويت أضداده، فيحرص المسلم على أن يجدد هذا الإيمان، وأن يكون مجداً مجتهداً في الحرص على تقوية إيمانه، وعلى البعد عن الأسباب التي تضعفه.
وقد بين العلماء مسمى هذه الأشياء، وذلك لأنها مسميات شرعية، فالإيمان وإن كان أصله لغوياً ولكنه أصبح مسمى شرعياً، استعمله الشرع في الانقياد لأوامر الله تعالى واتباع ما جاء عنه، واستعمله في تكميل هذا الاتباع بامتثال الطاعات وترك المحرمات، فأصبح مسمى شرعياً.
كذلك الإسلام مسمى شرعي وإن كان أصله في اللغة: أنه الإذعان والاستسلام، ولكنه أصبح اسماً شرعياً يراد به الدخول في هذا الدين والانتماء إليه والالتزام بتعاليمه، فهو مسمى شرعي بعد أن كان لغوياً.
كذلك الإحسان مسمى شرعي، وقد بينه النبي عليه الصلاة والسلام ووصف أهله وقسمهم، فأصبح هذا الاسم مسمى شرعياً.
فالإسلام والإيمان والإحسان، وكذلك أضدادها؛ مسميات شرعية؛ فالكفر مسمى شرعي وإن كان أصله في اللغة الستر التغطية والشرك مسمىً شرعي وإن كان أصله في اللغة: الاشتراك في شيئين أو التشريك بين اثنين.
والنفاق مسمىً شرعي وإن كان له أصل في اللغة، ولكنه أصبح مستعملاً في هذا الاستعمال الشرعي.
فهذه الأشياء جاءت الشرعية باستعمالها، فمنها ما هو مأمور به: كالإسلام والإيمان والإحسان والدين والاستقامة وما أشبهها، ومنها ما هو منهي عنه ومحذر منه: كالكفر والشرك والنفاق والسيئات والخطايا والذنوب وما أشبهها، فهذه مسميات شرعية، ودخولها في العقيدة من حيث إن على المسلم أن يعتقد تقبل ما جاءت به الشريعة قبولاً كلياً فيقول: هذا الإسلام تضمنته هذه الشريعة فأنا أدين بالإسلام، سواء فيما يتعلق بالعقائد أو ما يتعلق بالأعمال، فيدين لله تعالى به، ويعتقد أنه سفينة النجاة، وأنه سبيل الوصول إلى السلامة، فيعتقد صحته وسلامة من سار عليه، ويعتقد خطأ من ضل عنه وابتعد عنه، أو أخذ منه بعضاً دون بعض، فهذا وجه دخوله في العقيدة.
أما أركان الإسلام فهي مشهورة، ولم يدخلوها في العقيدة ما عدا الركن الأساسي الذي هو الشهادتان، فإنهما أساس العقيدة وأساس التوحيد، بخلاف الأركان العملية كالصلاة والزكاة والصوم والحج والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وما أشبهها، فهذه من الأعمال فجعلوها من الفروع، ولكن هي في الحقيقة من العقيدة لأنها أسس للعقيدة، ولأن إنكارها إنكار لشيء معلوم من الدين بالضرورة، فيخرج المنكر له من الملة ويدخل في الكفر والعياذ بالله، وذلك لأنها لما كانت أدلتها واضحة، والمسلمون تلقوها بالقبول؛ لم يكن هناك مجال لإنكارها.
ولو وجد من ينكرها، فإن أولئك الذين أنكروها قد خالفوا المعقول والمنقول، وكذلك الذين تأولوها كالفلاسفة وبعض الصوفية الذين قالوا إن الصلاة ليست هي هذه الأفعال، إنما المراد بها اتصال القلب بالرب، وفسروا الحج بأنه حج القلوب إلى علام الغيوب وأسقطوا بذلك هذه الأركان الظاهرة التي تعلمها المسلمون من نبيهم صلى الله عليه وسلم، ولكن نفرة المسلمين من هذه الأقوال واستبشاعهم لها أوجب أنها لا تذكر في العقائد، فاقتصر أهل العقائد على أركان الإيمان الستة، وأصلها كما تقدم وتكرر أصلان: الإيمان بالله والإيمان باليوم الآخر، فإذا اجتمع هذان تبعتهما بقية الأركان، ولكنهم فصلوا في كثير منها وأجملوا في بعض منها لقلة الخلاف، وإذا حققها المسلم أصبح من أهل العقيدة السليمة، وأصبح من أهل الاستقامة الذين هم على سبيل النجاة.(30/2)
الإيمان بعلم الله الأزلي
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قوله: (وعلى العبد أن يعلم أن الله قد سبق علمه في كل كائن من خلقه فقدر ذلك تقديراً محكماً مبرماً، ليس فيه ناقض ولا معقب ولا مزيل، ولا مغير ولا محول، ولا ناقص ولا زائد من خلقه في سماواته وأرضه) .
هذا بناء على ما تقدم من أن الله تعالى قد سبق علمه بالكائنات وأنه قدر مقاديرها قبل خلقها، كما قال صلى الله عليه وسلم: (قدر الله مقادير الخلق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وعرشه على الماء) ، فيعلم أن الله قد علم أن الأشياء تصير موجودة لأوقاتها على ما اقتضته حكمته البالغة فكانت كما علم، فإن حصول المخلوقات على ما فيها من غرائب الحكم لا يتصور إلا من عالم قد سبق علمه على إيجادها، قال تعالى: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14] .
وأنكر غلاة المعتزلة أن الله كان عالماً في الأزل، وقالوا: إن الله تعالى لا يعلم أفعال العباد حتى يفعلوا، تعالى الله عما يقولون علوّاً كبيراً، قال الإمام الشافعي رضي الله عنه: (ناظروا القدرية بالعلم، فإن أقروا به خصموا، وإن أنكروا كفروا) .
فالله تعالى يعلم أن هذا مستطيع يفعل ما استطاعه فيثيبه، وهذا مستطيع لا يفعل ما استطاعه فيعذبه، فإنما يعذبه لأنه لا يفعل مع القدرة وقد علم الله ذلك منه، ومن لا يستطيع لا يأمره ولا يعذبه على ما لم يستطعه.(30/3)
لا منافاة بين قدرة العبد وسبق علم الله بما هو عامل
وإذا قيل: فيلزم أن يكون العبد قادراً على تغيير علم الله، لأن الله علم أنه لا يفعل، فإذا قدر على الفعل قدر على تغيير علم الله؟ قيل: هذه مغلطة، وذلك أن مجرد مقدرته على الفعل لا تستلزم تغيير العلم، وإنما يظن من يظن تغيير العلم إذا وقع الفعل، ولو وقع الفعل لكان المعلوم وقوعه لا عدم وقوعه، فيمتنع أن يحصل وقوع الفعل مع علم الله بعدم وقوعه، بل إن وقع كان الله قد علم أنه يقع، وإن لم يقع كان الله قد علم أنه لا يقع، ونحن لا نعلم علم الله إلا بما يظهر، وعلم الله مطابق للواقع، فيمتنع أن يقع شيء يستلزم تغيير العلم، بل أي شيء وقع كان هو المعلوم، والعبد الذي لم يفعل لم يأت بما يغير العلم، بل هو قادر على فعل لم يقع، ولو وقع لكان الله قد علم أنه يقع لا أنه لا يقع.
وإذا قيل: فما انعدم وقوعه يعلم الله أنه لا يقع، فلو قدر العبد على وقوعه قدر على تغيير العلم.
قيل: ليس الأمر كذلك، بل العبد يقدر على وقوعه وهو لم يوقعه، ولو أوقعه لم يكن المعلوم إلا وقوعه، فمقدور العبد إذا وقع لم يكن المعلوم إلا وقوعه، وهؤلاء فرضوا وقوعه مع العلم بعدم وقوعه، وهو فرض محال، وذلك بمنزلة من يقول: افرض وقوعه مع عدم وقوعه وهو جمع بين النقيضين.
فإن قيل: فإذا كان وقوعه مع علم الرب بعدم وقوعه محالاً لم يكن مقدوراً.
قيل: لفظ المحال مجمل، وهذا ليس محالا لعدم استطاعته له ولا لعجزه عنه ولا لامتناعه في نفسه، بل هو ممكن مقدور مستطاع، ولكن إذا وقع كان الله عالماً بأنه سيقع، وإذا لم يقع كان عالماً بأنه لا يقع، فإذا فرض وقوعه مع انتفاء لازم الوقوع صار محالاً من جهة إثبات الملزوم بدون لازمه، وكل الأشياء بهذا الاعتبار هي محال.
مما يلزم هؤلاء: أن لا يبقى أحد قادراً على شيء لا الرب ولا الخلق، فإن الرب إذا علم من نفسه أنه سيفعل كذا لا يلزم من علمه ذلك انتفاء قدرته على تركه، وكذلك إذا علم من نفسه أنه لا يفعله لا يلزم منه انتفاء قدرته على فعله، فكذلك ما قدره من أفعال عباده، والله تعالى أعلم] .
الكلام الأول يتعلق بعلم الله تعالى بالأشياء قبل وقوعها ويسمى هذا: التقدير العام، وهو أن الله تعالى علم أن الخلق عاملون بعلمه القديم الذي سبق كل شيء، علم أعمالهم وعلم عددهم وعلم عدد المخلوقات، وأحصى ذلك قبل أن يوجدوا، وخلق القلم وأمره أن يكتب، وجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة، هذا ما يؤمن به المسلمون.
دليل ذلك من القرآن ظاهر مثل قول الله تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} [الحديد:22] ، ومثل قوله تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحج:70] ، ومثل قوله تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام:59] ، والآيات في هذا كثيرة تفيد سعة علم الله بالأشياء قبل وجودها.(30/4)
غلاة المعتزلة ينكرون علم الله في الأزل
ذكر أن غلاة المعتزلة المتقدمين أنكروا هذا النوع وزعموا أن الله لا يعلم الأشياء حتى توجد، وقال بعضهم: إنه يعلم الكليات ولا يعلم الجزئيات، أي: يعلم عموم الأشياء ولا يعلم تفاصيلها، ومقتضى هذا أنه يعلم عدد الخلق ولكن لا يعلم تفاصيل أعمالهم، فإذا علم أن هذه القبيلة يبلغ عددها كذا وكذا، فلا يعلم أعمال هذا الإنسان حتى يعملها.
وهذا يعتبر تنقصاً لعلم الله: {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة:282] ، {وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} [التوبة:78] ، فيلزم التنقص إذا وصف بأنه لا يعلم الأشياء إلا بعد حدوثها.
هؤلاء الذين أنكروا العلم السابق الأزلي هم الذين عناهم الإمام الشافعي في هذه الكلمة: (ناظروهم بالعلم، فإن أقروا به خُصموا، وإن أنكروا كفروا) ، يعني: هل تقرون بأن الله بكل شيء عليم؟ هل تقرون بأن الله عالم بكل شيء؛ لأن الله علام الغيوب، وأن الله يعلم ما كان وما سيكون وما لم يكن لو كان كيف يكون؟ هل تقرون بسعة علم الله تعالى؟ فإن أقروا خُصموا، فإن العلم بالتفاصيل داخل في ذلك، وإن جحدوا كفروا، وذلك لأنهم إذا جحدوا علم الله تعالى لزمهم أن يصفوه بالعجز وبالجهل، وبأنه يكون في الوجود ما لا يريد، فيلزم من ذلك التنقص، ولا شك أنه إنكار للأدلة، فيكونون بذلك كفاراً جاحدين لصفات الله تعالى.
وقد أقر الأشعرية بوصف الله تعالى بأنه بكل شيء عليم، ولكنهم أنكروا بعض الصفات الفعلية، أما المعتزلة فأنكروا صفة العلم لله سبحانه وتعالى، ووصفوه بأنه لا يجهل؛ هكذا في معتقداتهم!(30/5)
شبهات القدرية حول علم الله السابق
بعد ذلك أخذوا يوردون شبهات ويقولون: إذا علم الله أن هذا الإنسان يعمل كذا وأنه يعمل كذا، فلا بد أن يكون قادراً على أن يرده أو غير قادر على أن يرده.
فإذا كان قادراً على أن يرده فلم يرده، أصبح قد رضي بأفعاله التي هي المعاصي.
وإذا لم يكن قادراً، أصبح موصوفاً بالعجز، وما أشبه ذلك من هذه التشكيكات التي يوردونها على أهل السنة الذين يصفون الله تعالى بالعلم القديم.
وقد ذكر المؤلف جواب أهل السنة عن ذلك، فإن أهل السنة يقولون: إن كل ما وقع فإنه مراد، ولكن من ذلك ما هو مراد ومحبوب كالطاعات، ومنه ما هو مراد ومقدر كالمعاصي، فمن المراد المقدر ما علمه الله وقدره وقضاه على العبد، ولكنه كرهه شرعاً ولم يحبه، وتوعد عليه، والعبد عندما زاوله يوصف بأنه كافر أو عاص أو مجرم أو فاسق أو خاطئ أو مذنب، حيث ارتكب هذا وفعله بقدرة واختيار مستطاع له، فهو الذي يعاتب ويعاقب عليه، هذا هو معتقد أهل السنة في هذا، ولا يلزم من إرادته كوناً أن يحبه وأن يقدره وأن يريده شرعاً.
والله تعالى كما تقدم قد أعطى العبد قدرة يستطيع بها مزاولة أعماله، فالعبد هو المؤمن والكافر، والبر والفاجر، والمصلي والصائم، وللعباد قدرة على أفعالهم ولهم إرادة، ولكن الله تعالى هو الذي خلقهم وخلق قدرتهم وإرادتهم ولو شاء لهداهم، ولكنه لحكمته البالغة أضل قوماً بعدله، وهدى قوماً بفضله، فله النعمة على من هداه، وله الحكمة على من أضله.
وأعطى كلاً منهم من الاستطاعة ما يزاول به أعماله، وهذا قد تكرر معنا في الرد على هؤلاء الذين يطيلون الجدل في مثل علم الله تعالى وإرادته، فنحن إذا قلنا: إن جميع ما في الوجود مراد قدراً، وكل ما هو حادث فهو معلوم لله قبل أن توجد المخلوقات ومراد كوناً وقدراً؛ بحيث إن الله قدره وإنه لو شاء ما حصلت هذه الأشياء، فإنه سبحانه لقدرته لا يمكن أن توجد معصية قسراً عليه بدون رضاه أو بدون تقديره، ولكنه لحكمته جعل هؤلاء من أهل الذنوب وهؤلاء من أهل الحسنات لحكمة منه، ولا شك أن الذين اختاروا هذا والذين اختاروا هذا لهم نوع من هذا الاختيار ليستحقوا ثواباً أو عقاباً، وحكمة الله تعالى خفية لا يطلع عليها العباد.
فهذه الدرجة التي ذكرنا وهذه المنزلة التي هي العلم السابق هو الذي لا يتغير، يعني يقال: ما كتبه الله في اللوح المحفوظ لا يمكن تغييره، يقول الله تعالى: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا} [التوبة:51] ، هذا في المصائب، ويقول: {لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} [الحديد:23] .
ويقول علقمة في قوله تعالى: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} [التغابن:11] هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم، يعني: يستسلم لما أصابه بقضاء الله تعالى وبقدره، فيكون بذلك قد اتقى الله حق تقاته، وقد علم أن ما حدث فهو بأمر الله تعالى وبتقديره، وفعل ما يقدر عليه وما هو مأمور به، واستسلم لأمر الله تعالى.
وقد تقدم لنا وتكرر أن إيماننا بالقضاء والقدر لا يستلزم أن نترك الأسباب والأفعال والأعمال التي نعملها، كما أننا لا نترك الأسباب الحسية في طلب المعاش؛ فكذلك في طلب الأجر الأخروي والحسنات الأخروية، فالعبد مأمور بأن يفعلها مع إيمانه بأنها مقدرة وأنها ستأتيه، ويؤمن بأن المصائب التي وقعت عليه لا بد منها، لقوله تعالى: {قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ} [آل عمران:154] ، ولقوله: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} [النساء:78] ، وهذا في الذين قالوا: {رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ} [النساء:77] ، فتبين أن التحصن لا يدفع قدر الله تعالى الذي قدره.
فعلى كل حال فإن الإيمان بسعة علم الله تعالى وواسع علمه بتفاصيل المخلوقات، لا ينافي فعل الأسباب وحدوث المسببات بعد أسبابها.(30/6)
الإيمان بالقدر وسبق علم الله من عقد الإيمان والاعتراف بربوبية الله
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قوله: (وذلك من عقد الإيمان وأصول المعرفة، والاعتراف بتوحيد الله تعالى وربوبيته، كما قال تعالى في كتابه: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} [الفرقان:2] ، وقال تعالى: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا} [الأحزاب:38] ) .
الإشارة إلى ما تقدم من الإيمان بالقدر وسبق علمه بالكائنات قبل خلقها، قال صلى الله عليه وسلم في جواب السائل عن الإيمان: (أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره) ، وقال صلى الله عليه وسلم في آخر الحديث: (يا عمر؛ أتدري من السائل؟ قال: الله ورسوله أعلم، قال: فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم) رواه مسلم] .(30/7)
أحاديث ذم القدرية
قال المؤلف رحمه الله: [وقوله: (والاعتراف بتوحيد الله وربوبيته) أي: لا يتم التوحيد والاعتراف بالربوبية إلا بالإيمان بصفاته تعالى، فإن من زعم خالقاً غير الله فقد أشرك، فكيف بمن يزعم أن كل أحد يخلق فعله؟! ولهذا كانت القدرية مجوس هذه الأمة، وأحاديثهم في السنن.
روى أبو داود عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (القدرية مجوس هذه الأمة؛ إن مرضوا فلا تعودوهم، وإن ماتوا فلا تشهدوهم) .
وروى أبو داود أيضا عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لكل أمة مجوس، ومجوس هذه الأمة الذين يقولون: لا قدر، من مات منهم فلا تشهدوا جنازته، ومن مرض منهم فلا تعودوهم، وهم شيعة الدجال، وحق على الله أن يلحقهم بالدجال) .
وروى أبو داود أيضا عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تجالسوا أهل القدر ولا تفاتحوهم) .
وروى الترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (صنفان من بني آدم ليس لهما في الإسلام نصيب: المرجئة والقدرية) ، لكن كل أحاديث القدرية المرفوعة ضعيفة وإنما يصح الموقوف منها.
فعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (القدر نظام التوحيد، فمن وحد الله وكذب بالقدر نقض تكذيبه توحيده) ، وهذا لأن الإيمان بالقدر يتضمن الإيمان بعلم الله القديم وما أظهر من علمه بخطابه وكتابة مقادير الخلائق، وقد ضل في هذا الموضع خلائق من المشركين والصابئين والفلاسفة وغيرهم ممن ينكر علمه بالجزئيات أو بغير ذلك، فإن ذلك كله مما يدخل في التكذيب بالقدر] .(30/8)
الإيمان بالصفات متوقف على الإيمان بالقدر
ذكر أن الإيمان بالقدر من تمام الإيمان بصفات الله تعالى، وأنه واجب على الإنسان أن يؤمن بصفات الله، فيؤمن بأنه الخالق وحده، ويؤمن بأنه العليم والحكيم، وبأنه المدبر والمتصرف في الخلق، وذلك كله يتوقف على الإيمان بالقدر؛ لأن القدر إذا قلنا إنه يدخل فيه قدرة الله ويدخل فيه علم الله، فإنكار قدرة الله تعالى إنكار لصفاته ووصف له بالعجز سبحانه وتعالى، وبأنه يكون معه من يتصرف في الكون بدون رضاه، وذلك شرك.
كذلك إنكار علم الله وصف له تعالى بالجهل، وذلك أيضاً غاية التنقص، فمن آمن بأن الله على كل شيء قدير، وبأن الله بكل شيء عليم، آمن بأنه عزيز حكيم، وبأنه هو الذي نظم الخلق وهو الذي يتصرف في الكون وحده، وهو الذي يعلم السعيد والشقي والفاجر والتقي، وهو الذي قدر المقادير وأوجدها، فيلزمه والحال هذه أن يعلم أن هذه المصائب التي تحدث تحدث بعلم الله، وأنها متى وقعت فليس منها مفر ولا محيد، ولأجل ذلك أمر النبي عليه الصلاة والسلام بالإيمان بهذا الأمر بقوله: (وأن تؤمن بالقدر خيره وشره وحلوه ومره) ، وقال لـ ابن عباس في حديثه المشهور: (واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف) ، يعني يبست الصحف مما كتب فيها، ورفعت الأقلام فلم يبق كتابة، بل الأمر قد فرغ منه وقد عرف أهل الجنة من أهل النار.
فالإيمان بالقدر من تمام الإيمان بالله، والذين أنكروه صنفان: صنف أنكروا العلم وصنف أنكروا القدرة، فالذين أنكروا العلم هم الغلاة الذين يقولون: إن الله لا يعلم الأشياء حتى توجد أو إنه يعلم الكليات دون الجزئيات، وهم غلاة المعتزلة قديماً؛ منهم عمرو بن عبيد ومنهم غيلان القدري ومنهم معبد الجهني، فهؤلاء موصوفون بأنهم من غلاة القدرية.
ثم جاء بعدهم المعتزلة الذين أخذوا منهم بعض الأشياء فأنكروا قدرة الله عموماً، ومنهم أبو الهذيل العلاف المعتزلي وأبو هاشم الجبائي ومنهم القاضي عبد الجبار الهمداني ومنهم الجاحظ المشهور وأشباههم، هؤلاء من المعتزلة الذين أنكروا قدرة الله، ولأجل ذلك قال الإمام أحمد رحمه الله: (القدر قدرة الله) ، يعني أن الإيمان بقدرة الله إيمان بالقدر.(30/9)
مشابهة القدرية للمجوس في إثبات خالق غير الله
وعلى قول هؤلاء المعتزلة يكون هناك من يخلق مع الله، ولا يكون الله هو الذي يخلق وحده، وعقيدة المعتزلة أن كل إنسان يخلق فعله، وأن الله لا يقدر على أفعال العباد، وأنه لا يستطيع أن يهدي هذا ولا يضل هذا، وأن قدرة العبد تغلب قدرة الله، فإذا أراد العبد أن يعصي وأراد الله ألا يعصي غلبت قدرة العبد على قدرة الخالق تعالى، فهذا هو معتقدهم في أن العبد يخلق أفعاله دون أن يكون لله قدرة على رده.
ويزعمون أن هذا هو العدل فيقولون: إنه لو خلق الأفعال في العبد ثم عذبه عليها لاعتبر ظالماً له، وهذا هو سبب غلوهم في القدر حتى جعلوا هنالك من يخلق مع الله تعالى، ولم يجعلوا الخلق والأمر لله، فخالفوا قول الله تعالى: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} [الأعراف:54] ، فالخلق لله وحده والأمر الذي هو الشرع لله وحده.
ولأجل ذلك وردت هذه الأحاديث في أن: (القدرية مجوس هذه الأمة) ، وهذه الأحاديث مروية في السنن ولكن فيها مقال فلا يثبت رفعها، وإنما الصحيح أنها موقوفة، يعني: أنها من كلام الصحابة.
ولا شك أن كلام الصحابة معتبر؛ وذلك لأنهم هم الذين شاهدوا نزول الوحي، وهم الذين نقلوا لنا الشرع عن النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا حذرونا من هؤلاء القدرية وقالوا: إنهم يجعلون مع الله من يخلق وإنهم مجوس هذه الأمة؛ لم يقولوا ذلك إلا عن توقيف، ولا بد أنهم عرفوا ذلك عن طريق الرسول صلى الله عليه وسلم وعن طريق شريعته، هذا هو السبب في كون أقوالهم أصبحت معتبرة.
ومعنى كونهم مجوس هذه الأمة أن المجوس كما تقدم في أول الكتاب -ويسمون الثانوية- يدعون أن الخلق صدر عن اثنين: النور خلق الخير، والظلمة خلقت الشر، فيدعون أن الخلق صادر عن خالقين.
القدرية يقولون: الله هو الذي خلق الإنسان ولكن الإنسان يخلق أعماله وأفعاله، فيجعلون مع الله من يخلق ولا يجعلون الأفعال مخلوقة لله تعالى، ويخالفون قول الله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات:96] ، وقد تقدم أنهم يخشون بذلك أن يحتج محتج بالقدر على المعاصي.
يقول العلماء: إنهم لما اعتقدوا هذا الاعتقاد السيئ، وهو أن العبد هو المستقل بفعله، وأن الله ليس بقادر على أن يخلق أفعال العباد لا خيراً ولا شراً، خلى الشيطان بينهم وبين الأعمال فأصبحوا يتعبدون ويكثرون من التمسك، ويأتون بأنواع التنفلات والقربات، ويبتعدون عن المحرمات صغائرها وكبائرها، لأن من عقيدتهم أن الإصرار على الصغيرة يصيرها كبيرة، وأن الكبيرة توجب الخلود في النار، ويسمون ذلك إنفاذ الوعيد، فالوعيد الذي ورد في الشرع لا بد أن ينفذ، ومن توعده الله بأية عذاب فإنه يحكم بخلوده في النار.
فأهل المعاصي عندهم مخلدون في النار لا يخرجون منها، ويستدلون بمثل قول الله تعالى: {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} [البقرة:167] ، وبقوله: {يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا} [المائدة:37] ، وبقوله: {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا} [الحج:22] ، وما علموا أن هذه الآيات في الكفار الذين حكم بأنهم مخلدون فيها، أما العصاة الذين أذنبوا ذنوباً فسيأتينا أنهم يخرجون من هذه بشفاعة الشافعين، وبرحمة أرحم الراحمين، وبكل حال فهؤلاء مجوس هذه الأمة، وهذا هو قولهم.
وأما مخافتهم أن يحتج محتج بالقدر على فعل المعاصي، فقد ذكرنا أن من عقيدة أهل السنة: أن المعاصي إذا صدرت عن العبد نسبت إليه مباشرة ونسبت إلى الله تعالى تقديراً، ولما كانت تنسب إلى العبد مباشرة وإيجاداً استحق ذلك العبد أن يعاتب عليها وأن يعاقب، وكذلك الطاعات تنسب إلى العبد مباشرة وتنسب إلى الله خلقاً وتقديراً، وإذا كان كذلك فلا حجة للمجبرة على فعل الذنوب، ونعرف بذلك أن كلتا الطائفتين خاطئة: أعني القدرية الذين ينفون قدرة الله على أفعال العباد، والمجبرة الذين يعذرون العبد في الأفعال ويقولون إن تعذيبه على أفعاله ظلم، حيث إنه ليس له أية اختيار، فنقول: إن له اختياراً لكن اختياره مسبوق باختيار الله تعالى، وله قدرة ولكن قدرته مغلوبة بقدرة الله.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وأما قدرة الله على كل شيء فهو الذي يكذب به القدرية جملة، حيث جعلوه لم يخلق أفعال العباد فأخرجوها عن قدرته وخلقه، والقدر الذي لا ريب في دلالة الكتاب والسنة والإجماع عليه، وأن الذي جحدوه هم القدرية المحضة بلا نزاع هو: ما قدره الله من مقادير العباد، وعامة ما يوجد من كلام الصحابة والأئمة في ذم القدرية يعنى به هؤلاء، كقول ابن عمر رضي الله عنهما لما قيل له يزعمون أن لا قدر وأن الأمر أنف: (أخبرهم أني منهم بريء وأنهم مني برآء) ] .(30/10)
الأصول التي يقتضيها الإيمان بالقدر المطابق للعلم
قال المؤلف: [والقدر الذي هو التقدير المطابق للعلم يتضمن أصولاً عظيمة: أحدها: أنه عالم بالأمور المقدرة قبل كونها، فيثبت علمه القديم، وفي ذلك الرد على من ينكر علمه القديم.
الثاني: أن التقدير يتضمن مقادير المخلوقات، ومقاديرها هي صفاتها المعينة المختصة بها، فإن الله قد جعل لكل شيء قدراً قال تعالى: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} [الفرقان:2] ، فالخلق يتضمن تقدير الشيء في نفسه بأن يجعل له قدراً، وتقديره قبل وجوده، فإذا كان قد كتب لكل مخلوق قدره الذي يخصه في كميته وكيفيته، كان ذلك أبلغ في العلم بالأمور الجزئية المعينة، خلافاً لمن أنكر ذلك وقال: إنه يعلم الكليات دون الجزئيات! فالقدر يتضمن العلم القديم والعلم بالجزئيات.
الثالث: أنه يتضمن أنه أخبر بذلك وأظهره قبل وجود المخلوقات إخباراً مفصلاً، فيقتضي أنه يمكن أن يعلم العباد الأمور قبل وجودها علماً مفصلاً، فيدل ذلك بطريق التنبيه على أن الخالق أولى بهذا العلم، فإنه إذا كان يعلم عباده بذلك فكيف لا يعلمه هو؟! الرابع: أنه يتضمن أنه مختار لما يفعله محدث له بمشيئته وإرادته، ليس لازماً لذاته.
الخامس: أنه يدل على حدوث هذا المقدور وأنه كان بعد أن لم يكن، فإنه يقدره ثم يخلقه] .
الاستدلال بهذه الآيات على القدر: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} [الفرقان:2] ، {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:49] ، والقدر معناه: تحديد الشيء وتقدير مدته وتقدير زمانه، ومعناه: أن الله قدر الأعمال، أي: متى تحدث هذه الطاعة، ومتى تنتهي، وقدر الأعمار، فعمر الإنسان لا يزيد عما قدره الله وكتبه ولا ينقص، وقدر الوفيات وأسبابها وجعلها مكتوبة؛ بأن هذا الإنسان لا بد أن يموت بكذا وكذا، وليس له مفر مما كتبه الله عليه وما أشبه ذلك.
وورد أيضاً: (أن رجلاً قال: يا رسول الله! أرأيت أدوية نتداوى بها ورقى نسترقي بها، هل ترد من قدر الله شيئاً؟ فقال: هي من قدر الله) أي: هي مكتوبة، يعني قدر الله أن هذا يصاب بمرض وأن المرض يعالج بكذا وكذا، فهو مقدر ومكتوب أن يزول المرض بهذا السبب، ولأجل ذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتداوي في قوله: (تداووا عباد الله ولا تتداووا بالحرام، فإن الله لم ينزل داء إلا أنزل له شفاء) ، فتعاطي هذه الأسباب لا ينافي أن العبد مكتوب عليه ما هو فاعل، ولا يقول إنسان: أنا سوف أترك هذا الفعل ولا بد لي من حصول ما كتب لي! لأن ترك الأسباب كلياً نقص في العقل.
لو رأيت إنساناً عزم على ترك الأكل والشرب واللباس ونحو ذلك، وقال: إذا قدر الله أني أتغذى فسأتغذى بدون ذلك، وإذا كان الله قد قدر لي ذلك فلا حاجة إلى أن أطعم وإلى أن أشرب وإلى أن ألبس وإلى غير ذلك! نقول: هذا نقص في العقل؛ لأن هذه الأشياء جعلها الله أسباباً حسية وأمر بتعاطيها وأباحها، فلا يكون شبع إلا بواسطة الأكل، ولا ري إلا بواسطة الشرب، ولا ولد إلا بواسطة النكاح، وكذلك الأرزاق التي أمر بالاكتساب لها، فإنه أمر بفعل هذه الأسباب حتى يحصل من آثارها الرزق، ولو كان هو الذي قدرها وهو الذي يسرها، كما في قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ * أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ} [الواقعة:63-64] ، فذكر أنهم يزرعون، أي: يغرسون الأشجار ويسقونها ويبذرون الحبوب وينبتونها، فأضاف إليهم الفعل، ولكن أخبر بأنه هو الذي جعل هذه الأرض قابلة لذلك حتى تصير منبتة ومثمرة ونحو ذلك، وهو الذي أوجد هذا الماء الذي به هذا الشراب، ولو شاء لغيره كما في قوله تعالى: {لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا} [الواقعة:70] يعني ملحاً أجاجاً لا يصلح للشرب ولا للسقي ولا لغير ذلك.
فأصبح الإيمان بهذا القدر يقتضي أن نعلم بأن تفاصيل الأشياء معلومة وموجودة لله تعالى، ولكن لا تترك الأسباب الحسية، بل يفعلها الإنسان ويعلم أنها مقدرة من الله، وأنه هو الذي أمر بها ويسرها.(30/11)
شرح العقيدة الطحاوية [31]
التكذيب بالقدر والتشكيك في علم الله مرض من الأمراض الخبيثة التي تسيطر على القلب، فعلى المؤمن أن يتخذ أسباب الوقاية من ذلك، وإذا طرأ عليه مرض فعليه أن يعالجه بكتاب الله وسنة رسوله كما ذكر العلماء.(31/1)
أهل السنة في القدر وسط بين القدرية والجبرية
لا نزال في أحد أركان الإيمان، وهو ركن الإيمان بالقضاء والقدر، وقد توسع فيه صاحب المتن وصاحب الشرح؛ وذلك لأن الخلاف فيه مع طائفتين مشهورتين: طائفة تغلو في الإثبات وطائفة تغلو في النفي، والذين يغلون في النفي طائفتان أيضاً، منهم من ينفي العلم ومنهم من ينفي القدرة، وكل هذه الطوائف مبتدعة ضلال.
وقد هدى الله أهل السنة فتوسطوا في باب القدر بين الجبرية والقدرية، فالجبرية نفوا قدرة العبد وجعلوه مجبوراً ليس له أي اختيار، وجعلوه يعاقب على ما لم يفعل ويثاب على ما ليس له فيه اختيار، فجعلوا حركته كحركة الشجر الذي تحركه الرياح.
وأما القدرية فإنهم نفوا قدرة الله عز وجل على أفعال العباد، ووصفوا ربهم تعالى بالعجز عن الهداية وعن التصرف في الخلق كما يريد، فلأجل ذلك كانوا -كما سبق- شبيهين بالمجوس، ووردت فيهم آثار وأحاديث -وإن لم يصح رفعها- تذكر أنهم مجوس هذه الأمة، وأنهم لخصلتهم هذه ينبغي مقاطعتهم، كما في تلك الأحاديث: (إن مرضوا فلا تعودوهم وإن ماتوا فلا تشهدوهم) .
فهذا يدل على أن على أهل السنة مقاطعتهم، ومعلوم أن عيادة المريض من حق المسلم على المسلم وكذلك أن يتبع جنازته إذا مات، ولكن قاطع الصحابة وتلامذتهم هؤلاء؛ وذلك لأنهم أتوا بأمر شنيع، وهو تعجيز الله عز وجل واتهامه بعدم القدرة، وتفضيل قدرة العباد على قدرته، ولو كانوا -في زعمهم- يريدون أن ينزهوا ربهم عن الظلم، أي: عن أن يخلق المعصية ثم يعاقب عليها! وقد ذكرنا أن أهل السنة وسط في باب القدر بين الجبرية والقدرية، وذلك لأنهم آمنوا بقدرة الله على كل شيء، ثم مع ذلك اعتقدوا أن العبد له قدرة مغلوبة بقدرة الله، وأن الله تعالى أعطى العباد قدرة يزاولون بها أعمالهم، فبتلك القدرة يفعلون الأعمال التي يثاب العبد عليها أو يعاقب ولو كانت مغلوبة بقدرة الله! فيقال: للعبد قدرة وله إرادة، وقدرة الله وإرادته غالبة على قدرة العبد وعلى إرادته، وتلك القدرة هي التي يستحق عليها أن يثاب على الطاعة ويعاقب على المعاصي، ولولا تلك القدرة لبطلت حكمة الله ولبطل شرع الله، وذلك لأن الله تعالى قد شرع الشرائع، وقد أرسل الرسل وأنزل الكتب وضمنها أوامر ونواهي، فلا بد أن يكون هذا الأمر والنهي موجهاً إلى من يستطيع مزاولته، وإذا آمنا بذلك آمنا بأن الله تعالى أقدر العباد على ما هم قادرون عليه وأعطاهم القدرة التي تناسبهم، فبها يثابون وبها يعاقبون.(31/2)
أمراض القلوب في باب القدر
يقول المؤلف رحمه الله تعالى: [قوله: (فويل لمن ضاع له في القدر سقيماً -وفي نسخة: فويل لمن صار قلبه في القدر قلباً سقيماً- لقد التمس بوهمه في فحص الغيب سرّا كتيماً وعاد بما قال فيه أفاكاً أثيماً) .
القلب له حياة وموت ومرض وشفاء، وذلك أعظم مما للبدن قال تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام:122] أي: كان ميتاً بالكفر فأحييناه بالإيمان، فالقلب الصحيح الحي إذا عرض عليه الباطل والقبائح نفر منها بطبعه وأبغضها ولم يلتفت إليها، بخلاف القلب الميت فإنه لا يفرق بين الحسن والقبيح، كما قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (هلك من لم يكن له قلب يعرف به المعروف والمنكر) ، وكذلك القلب المريض بالشهوة فإنه لضعفه يميل إلى ما يعرض له من ذلك بحسب قوة المرض وضعفه] .(31/3)
مرض القلب ناتج إما عن شهوة أو شبهة
قال المؤلف رحمه الله: [ومرض القلب نوعان كما تقدم: مرض شهوة ومرض شبهة، وأردؤها مرض الشبهة، وأردأ الشبه ما كان من أمر القدر، وقد يمرض القلب ويشتد مرضه ولا يعرف به صاحبه لاشتغاله وانصرافه عن معرفة صحته وأسبابها، بل قد يموت وصاحبه لا يشعر بموته.
وعلامة ذلك أنه لا تؤلمه جراحات القبائح ولا يوجعه جهله بالحق وعقائده الباطلة، فإن القلب إذا كان فيه حياة تألم بورود القبيح عليه، وتألم بجهله بالحق بحسب حياته: وما لجرح بميت إيلام.
وقد يشعر بمرضه ولكن يشتد عليه تحمل مرارة الدواء والصبر عليها، فيؤثر بقاء ألمه على مشقة الدواء، فإن دواءه في مخالفة الهوى، وذلك أصعب شيء على النفس وليس له أنفع منه.
وتارة يوطن نفسه على الصبر ثم ينفسخ عزمه ولا يستمر معه لضعف علمه وبصيرته وصبره، كمن دخل في طريق مخوف مفض إلى غاية الأمن، وهو يعلم أنه إن صبر عليه انقضى الخوف وأعقبه الأمن، فهو محتاج إلى قوة صبر وقوة يقين بما يصير إليه، ومتى ضعف صبره ويقينه رجع من الطريق ولم يتحمل مشقتها، ولا سيما إن عدم الرفيق واستوحش من الوحدة وجعل يقول: أين ذهب الناس فلي أسوة بهم؟! وهذه حال أكثر الخلق، وهي التي أهلكتهم.
فالبصير الصادق لا يستوحش من قلة الرفيق ولا من فقده إذا استشعر قلبه مرافقة الرعيل الأول: {الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا} [النساء:69]] .(31/4)
الأمر بلزوم الجماعة هو لزوم الحق لا الكثرة
قال المؤلف رحمه الله: [وما أحسن ما قال أبو محمد عبد الرحمن بن إسماعيل المعروف بـ أبي شامة -في كتاب الحوادث والبدع: حيث جاء الأمر بلزوم الجماعة فالمراد لزوم الحق واتباعه، وإن كان المتمسك به قليلاً والمخالف له كثيراً، لأن الحق هو الذي كانت عليه الجماعة الأولى من عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم، ولا نظر إلى كثرة أهل الباطل بعدهم.
وعن الحسن البصري رحمه الله أنه قال: (السنة - والذي لا إله إلا هو- بين الغالي والجافي، فاصبروا عليها رحمكم الله، فإن أهل السنة كانوا أقل الناس فيما مضى وهم أقل الناس فيما بقي؛ الذين لم يذهبوا مع أهل الإتراف في إترافهم ولا مع أهل البدع في بدعهم، وصبروا على سنتهم حتى لقوا ربهم، فكذلك فكونوا) ] .(31/5)
تفصيل أمراض القلوب
الكلام يتعلق بمرض القلب وصحته، ومناسبته أن هؤلاء المبتدعة ما أتوا إلا من زيغ القلوب، وما صرفوا عن الحق إلى بسبب مرضها.
ولا شك أن أسباب المرض كثيرة، ومنها تلقي الشبهات، فالله تعالى قد ذكر أن القلوب تمرض فقال تعالى: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا} [البقرة:10] .
فذكر المؤلف أن مرض القلوب نوعان: مرض شهوة ومرض شبهة، وقد ذكر الله مرض الشهوة في قوله تعالى: {فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} [الأحزاب:32] ، هذا مرض الشهوة، وهو الذي يميل إلى الفواحش ويطمع في الأجنبية إذا خضعت بالقول، فلذلك قال: {فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ} [الأحزاب:32] ، ينهى نساء النبي عن هذا.
وأما مرض الشبهة فهو أشد، وهو الذي يصد القلب عن الحق، ومتى صد القلب عنه ابتلي بالباطل، وقد ذكر الله للقلوب أنواعاً من الأمراض فمنها الطبع، قال تعالى حكاية عن اليهود: {وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا} [النساء:155] ، فالطبع عليها معناه: أنه ختم عليها بحيث لا يصل إليها الخير ولا تعرفه ولا تطمئن إليه، وهذا الطبع هو أشد الأمراض.
كذلك مرض ثان وهو الختم، وهو بمعنى الطبع، قال تعالى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} [البقرة:7] ، وقال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً} [الجاثية:23] ، ومعلوم أن الختم هو تغطية الشيء بحيث لا يصل إليه شيء، كما في الظروف المختومة التي لا تصل إليها الأيدي، فالقلب الذي قد ختم عليه لا يصل إليه الخير ولا ينتبه للمواعظ ولا يتذكر، وسبب ذلك هو الشبهات.
وكذلك ذكر الله من أمراض القلوب: الزيغ، قال تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف:5] .
والزيغ معناه: الانحراف والميل، ولا شك أن سببه الشبهات والتشكيكات التي تجعل الحق عنده باطلاً والباطل حقاً، فيميل عن الحق إلى الباطل وذلك هو الزيغ، وقد ذكر الله أيضاً أسبابه: فذكر من أسبابه أنهم زاغوا بأنفسهم فزادهم الله من ذلك: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف:5] .
وذكر أيضاً من أسبابه تتبع المتشابهات، فقال تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ} [آل عمران:7] إلى قوله عن الراسخين: {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} [آل عمران:8] ، فالزيغ: معناه الانحراف والميل عن الاستقامة، وسببه هذه المعاصي والمخالفات.
وذكر الله أيضاً من أمراض القلوب: القسوة، التي هي قسوة معنوية، بحيث إن القلب لا يصل إليه الخير ولا يلين، قال تعالى: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} [البقرة:74] ، وقال تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ} [الحديد:16] .
فعابهم بأنهم قست قلوبهم، وأبعد القلوب من الله تعالى القلب القاسي، وهو الذي لا يلين لموعظة ولا يتأثر بتذكير ولا يقبل ذكراً، ولا يتأثر بتخويف، وتأتيه الإرشادات والنصائح وهو يصد عن كل ذلك صدوداً، ولا يزيده ذلك الأمر إلا نفوراً، وما ذاك إلا أنه ممتلئ من الانحراف وممتلئ من الشبهات، ولم يبق فيه محل للمواعظ ولا محل للاعتبار ولا لقبول الحق، فكان بذلك قلباً قاسياً لا يلين، وشبه بحجارة أو أشد من الحجارة.
وقد ذكر الله أيضاً من أمراض القلوب: الران، الذي ذكره بقوله: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين:14] ، والران أو الرين: هو الغطاء الذي يحجب القلب عن الاعتبار ويحجبه عن التذكر ولا يصل إليه الخير، ولا شك أن سببه كثرة الذنوب؛ فكلما كثرت الذنوب صارت أغلفة على القلب؛ غلافاً فوق غلاف وغطاء فوق غطاء، إلى أن يشق اختراقها وتعسر تنقيتها وإزالتها! وأشد الأمراض كما ذكر بعض العلماء هو: الإقفال الذي ذكره الله بقوله: {أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24] ، ولا شك أن القفل هو ما يغلق به الباب ويوصد ولا يمكن فتحه إلا بمفتاحه الذي صنع له، فالقلب إذا كان قد أقفل ولم يكن له ما يفتح به، فإنه يبقى محجوباً ومحجوزاً لا يصل إليه خير.(31/6)
أسباب الوقاية من أمراض القلوب
نقول: لا شك أن هذه الأمراض التي ذكرنا لها أسباب، وقد ورد من أسباب أمراض القلوب: الشبهات والشهوات والتشكيكات وما أشبهها، وكلما عظمت تلك الشكوك تراكمت على القلب فحصل الزيغ والانحراف والميل عن الاستقامة، وكلما لان القلب وقبل الحق فإنه يلين ويتأثر، كما ذكر الله تعالى ذلك عن أوليائه المؤمنين بقوله تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر:23] .
والقلب اللين: هو الذي إذا سمع موعظة تأثر، ومن علامة تأثره أنه يقبل على الله ويعرض عما سواه، ومن علامة تأثره -أيضاً- أنه يحدث فيه خشوع وخوف، ويحدث فيه زيادة في الطاعات وانصراف عن الآثام والمحرمات؛ فهذه من علامة لين القلب.
وكذلك أيضاً اطمئنانه إلى الخير، وقد ذكر الله ذلك في قوله تعالى: {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28] ، فقلوب المؤمنين هي التي تطمئن بذكر الله وهي التي تلين لكلام الله، وأما قلوب الفسقة ونحوهم فإنها قاسية مقفلة لا يصل إليها الخير مهما تكلم الإنسان ومهما وعظ، كما وصفوا بأنهم: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ} [البقرة:18] .
وعلى كل حال: فأسباب ذلك في هؤلاء المبتدعة هي الشبهات، فعلى العبد أولاً أن يكثر الاستعاذة بالله عز وجل من زيغ القلب، لقوله: {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} [آل عمران:8] ونحو ذلك من الأدعية، كذلك يتجنب تلك الشبهات التي تصل إلى القلب فتقسيه، كذلك يتجنب المعاصي التي لها تأثير أيضاً في القلوب ولها تأثير في إعراضها عن الحق وعدم تقبله.
وبعد أن عرفنا أن الأسباب في قسوة القلب هو هذه الشبهات، نقول: إن هذه الشبهات كثيراً ما يثيرها أولئك المشبهون الذين زاغت قلوبهم؛ فهم يثيرونها حتى يزيغوا غيرهم، فعلى الإنسان أن يحذر من شبهاتهم.
وشبهاتهم وتشكيكاتهم يشككون بها في قدرة الله عز وجل وفي آثار علمه ومعلوماته، ويشككون بها أيضاً في عذابه وفي ثوابه وما أشبه ذلك، فإذا عرف العبد أن هذه من تشكيكات الذين قست قلوبهم تجنبها حتى يبقى قلبه ليناً خاشعاً خاضعاً متواضعاً.
معلوم أيضاً أن هذه المواعظ ونحوها لها أثار على عباد الله، وأن العبد إذا قبلها استقام على الخير واستمر عليه وقبله، وإذا أكثر من حضور مجالس الذكر ومجالس العلماء ومجالس العباد، وقبل مناصحاتهم وإرشاداتهم تأثر بذلك أيضاً ولان قلبه؛ زيادة على ما يحصل له من كثرة العبادات وكثرة المعلومات؛ فإن السبب في أن قسماً من الناس لا يتأثرون بخير ولا يقبلون إرشاداً ولا نصحاً ولا غير ذلك، أنهم عاشوا على البعد عن الخير وعدم تقبله.
وقسم آخر إذا تكلم معهم إنسان بكلمة أو كلمتين لانت قلوبهم وخشعوا ودمعت أعينهم، وأقبلوا على الله وتابوا إليه وأنابوا؛ وسبب ذلك محبتهم للخير وإقبالهم عليه، فعلى العبد أن يكون من الذين يحبهم الله والذين يقبلونه ويقبلون كلامه.(31/7)
أعراض مرض القلب وعلاجه
قال المؤلف رحمه الله: [وعلامة مرض القلب عدوله عن الأغذية النافعة الموافقة إلى الأغذية الضارة، وعدوله عن دوائه النافع إلى دوائه الضار، فهاهنا أربعة أشياء: غذاء نافع، ودواء شاف، وغذاء ضار، ودواء مهلك.
فالقلب الصحيح يؤثر النافع الشافي على الضار المؤذي والقلب المريض بضد ذلك.
وأنفع الأغذية غذاء الإيمان وأنفع الأدوية دواء القرآن، وكل منهما فيه الغذاء والدواء، فمن طلب الشفاء في غير الكتاب والسنة فهو من أجهل الجاهلين وأضل الضالين؛ فإن الله تعالى يقول: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} [فصلت:44] ، وقال تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا} [الإسراء:82] ، و (من) في قوله: (من القرآن) لبيان الجنس لا للتبعيض.
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [يونس:57] .
فالقرآن هو الشفاء التام من جميع الأدواء القلبية والبدنية وأدواء الدنيا والآخرة، وما كل أحد يؤهل للاستشفاء به، وإذا أحسن العليل التداوي به ووضعه على دائه بصدق، وإيمان وقبول تام، واعتقاد جازم، واستيفاء شروطه لم يقاوم الداء أبداً، وكيف تقاوم الأدواء كلام رب الأرض والسماء الذي لو نزل على الجبال لصدعها أو على الأرض لقطعها؟! فما من مرض من أمراض القلوب والأبدان إلا وفي القرآن سبيل الدلالة على دوائه وسببه والحمية منه لمن رزقه الله فهماً في كتابه.
وقوله: (لقد التمس بوهمه في فحص الغيب سرّاً كتيماً) أي: طلب بوهمه في البحث عن الغيب سرّاً مكتوماً، إذ القدر سر الله في خلقه، فهو يروم ببحثه الاطلاع على الغيب، وقد قال تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا} [الجن:26] إلى آخر السورة.
وقوله: (وعاد بما قال فيه) أي: في القدر (أفاكاً) : كذاباً (أثيماً) أي: مأثوماً] .(31/8)
علاج أمراض القلوب بكتاب الله وسنة رسوله
ذكر أن القلوب تمرض وأن لها شفاء، وأنها بحاجة إلى علاج وبحاجة إلى غذاء، فالبدن إذا مرض احتاج إلى الدواء، وإذا جاع احتاج إلى الغذاء، وغذاء البدن الأكل والطعام، وعلاجه الأدوية والعقاقير وما أشبهها وهذا غذاء ودواء حسي، ولكن لا يفيد ذلك في مرض القلوب.
فالقلوب لها غذاء هي بحاجة إليه أشد من حاجة الأبدان إلى غذائها، وهو غذاء معنوي؛ هذا الغذاء هو ما يستنبط من العلوم الشرعية، هذا الغذاء هو كلام الله وكلام رسوله والعمل به.
فما دام القلب مستقيماً وما دام سليماً، فإنه بحاجة إلى أن يستمر معه هذا الغذاء، يستمر العبد على قراءة كلام الله وعلى تعلمه، وعلى تعلم السنة النبوية وعلى العمل بها، حتى يبقى قلبه سليماً ويبقى على العمل وعلى الفطرة والاستقامة.
أما إذا أحس بمرض من الأمراض التي ذكرنا، فإن لديه العلاج النافع، وليس علاجه عند الأطباء وفي الصيدليات ونحوها، بل علاجه معنوي، وهو أن يتعاطى هذا الكتاب وأن يعالج به قلبه، فإذا كان المرض من الشبهات فإنه يزيلها بما يبطلها، فإذا ورد إلى القلب شبه التشكيك في المعاد وجد في القرآن علاجاً يزيل هذه الشبهة.
وإذا مرض القلب بشبهة التشكيك مثلاً في الإيمان بالغيب وجد في القرآن علاجاً ودواءً لهذا المرض، وإذا مرض القلب بشبهة الشك في المعاد أو في المبدأ أو في أول الخلق أو في آخره، أو بشبهة الشك -مثلاً- في الأسماء والصفات، أو بشبه الشك في العبادات والمعاملات، أو بشبهة الشك في الأوامر والنواهي، أو ما أشبه ذلك؛ وجد علاج ذلك علاجاً كاملاً في كلام الله وكلام رسوله، ولكن ذلك يحتاج إلى قلب حي واع فطن، يحتاج إلى تأمل؛ فيقرأ كتاب الله عز وجل ويتتبع السنة النبوية، وعند ذلك يحيا قلبه بعد أن كان ميتاً، ويصح بعد أن كان مريضاً، ويزول ما فيه من الوهن، وتزول الأمراض الكثيرة التي ذكرنا، فيزول الإقفال، وتزول الأكنة، ويزول الختم، ويزول الطبع، وتزول القسوة، ويزول الرين إذا استعمل كتاب الله كعلاج ودواء لهذه الأمراض القلبية.(31/9)
الآيات التي تصف القرآن بأنه شفاء
وقد توسع العلماء رحمهم الله في أمراض القلوب وفي بيان علاجها، وقد ذكر من ذلك جملة كثيرة ابن القيم رحمه الله في أول كتابه الذي سماه (إغاثة اللهفان في مصائد الشيطان) ، وغيره من العلماء الذين تكلموا على أمراض القلوب وعلاجها، وذكروا أن علاجها بكتاب الله تعالى وبسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وأنه أيضاً هو غذاؤها، واستدلوا بالآيات التي تصف القرآن بأنه شفاء، كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ} [يونس:57] ، والذي في الصدور هو الشكوك؛ فمن وقع في قلبه شك أو وقع في قلبه شيء من التردد أو ما أشبه ذلك، فليعالج قلبه بكتاب الله عز وجل، وبذلك يزول ذلك الشك ويزول ذلك المرض.
كذلك قول الله تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا} [الإسراء:82] ، فالمؤمنون هم الذين إذا قرءوا القرآن شفوا؛ سواء شفاء حسياً وهو إزالة الأمراض، أو شفاء معنوياً وهو تصفية القلوب وإزالة ما فيها من الصدأ، فإن القلب يصدأ كما يصدأ الحديد وجلاؤه بكتاب الله وبسنة رسوله، وبالعمل بالشريعة، فبذلك يصفو القلب ويستنير ويصير نوره محرقاً لتلك الأمراض التي يأتي بها أولئك المشبهون.
فعلى العبد أن يقبل على هذا العلاج النافع حتى يؤثر فيه، ولا يؤثر فيه إلا إذا كان صادق الرغبة في إقباله على الله، وصادقاً في محبته لكلام الله وكلام رسوله، ومصدقاً بما وصف به هذا القرآن من قوله تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الإسراء:82] ، وفي الآية الأخرى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ للمؤمنين} [يونس:57] فوصف بأربع صفات، وكل واحدة منها لها أهميتها.
كذلك قول الله تعالى: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} [فصلت:44] .(31/10)
القرآن علاج للأمراض الحسية والمعنوية المستعصية بشرط الإيمان
وقد جرب كثير من العلماء هذه الآيات في أنها تشفي شفاءً حسياً الأمراض الحسية التي يبتلى بها بعض الناس، فقالوا: إن المسلم إذا استعمل هذه الآيات وعمل بها وعالج بها قلبه شفي، وكذلك إذا عالج بها بدنه شفي، فتزول الأمراض العارضة التي تعرض للإنسان ولا يستطيع علاجها الأطباء، كمرض الشياطين الذي هو مرض السحرة ونحوهم، والصرف والعقل.
وكذلك مرض الجان والإصابات بالجنون وملامسات وملابسات الجان، لا يستطيعها أيضاً الأطباء ولا يعالجونها، ومرض الإصابات بالنظرة وبالعين ونحوها، لا يستطيعها أيضاً الأطباء؛ ولكن علاجها الصحيح هو القرآن الذي فيه هذا الشفاء الذي مدحه الله بهذه الآيات في قوله: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى} [فصلت:44] ، أي: غير المؤمنين، وذلك: أولاً: أنهم لا يعترفون بأنه كلام الله.
ثانياً: أن أمراضهم مستعصية، وهم التي قست قلوبهم فهم لا يتأثرون به.
ثالثاً: أن الله ما جعله إلا لأهل ذكره ولأهل عبادته شفاءً، أما غير المؤمنين فحرمهم من الانتفاع به.
فهذا علاج حسي، فإذا أراد الإنسان أن ينتفع بالقرآن وأن تزول به أمراضه، فعليه أن يحقق الإيمان، وأن يحقق التصديق به، وأن يحقق العمل بالشريعة، وأن يصدق بأنه كلام الله الذي جعله شفاء، وأن يعمل منه بكل ما يستطيع من العمل، فبذلك إذا عالج به صدقاً نفعه واستفاد منه، هكذا ذكر كثير من المحققين من العلماء.
كذلك أيضاً نقول: وجد أيضاً بالتجربة أن هناك أمراضاً مستعصية على الأطباء، كمرض السرطان ونحوه من الأمراض التي استعصت، ومع ذلك عولجت بكلام الله فشفاها الله، ولكن ما حصل الشفاء إلا لأناس، وذلك إذا اجتمع أمران: إيمان المريض وتصديقه بأن القرآن شفاء وكان أمله به، وكذلك إيمان الراقي وتصديقه بذلك واستعماله له، فاجتمع الأمران فحصل بذلك الشفاء.
وعولج به الفسقة والعصاة وأهل الشبهات والمبتدعة ونحوهم، فلم يتأثروا لا في الأمراض الحسية ولا في الأمراض المعنوية، وذلك كله تحقيق لقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} [فصلت:44] .(31/11)
شرح العقيدة الطحاوية [32]
العرش أعظم المخلوقات، وهو غير الكرسي، وقد جاء وصفه في كثير من الآيات والأحاديث، وأهل السنة يؤمنون به كما جاءت به الأدلة، ولا يصغون إلى شبهات المبطلين.(32/1)
الكلام على العرش
قال الشارح رحمه الله: [قوله: (والعرش والكرسي حق) .
كما بين تعالى في كتابه، قال تعالى: {ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ * فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [البروج:15-16] ، {رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ} [غافر:15] ، {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] ، {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الفرقان:59] ، في غير ما آية من القرآن: {لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [المؤمنون:116] ، {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [النمل:26] ، {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ} [غافر:7] ، {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} [الحاقة:17] ، {وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} [الزمر:75] .
وفي دعاء الكرب المروي في الصحيح: (لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السماوات ورب الأرض ورب العرش الكريم) .
وروى الإمام أحمد في حديث الأوعال عن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هل تدرون كم بين السماء والأرض؟ قال: قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: بينهما مسيرة خمسمائة سنة، ومن كل سماء إلى سماء مسيرة خمسمائة سنة، وكثف كل سماء مسيرة خمسمائة سنة، وفوق السماء السابعة بحر بين أسفله وأعلاه كما بين السماء والأرض، ثم فوق ذلك العرش بين أسفله وأعلاه كما بين السماء والأرض، والله فوق ذلك، ليس يخفى عليه من أعمال بني آدم شيء) ورواه أبو داود والترمذي وابن ماجة.
وروى أبو داود وغيره بسنده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث الأطيط أنه صلى الله عليه وسلم قال: (إن عرشه على سماواته كهكذا، وقال بأصابعه مثل القبة) الحديث، وفي صحيح البخاري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا سألتم الله الجنة فاسألوه الفردوس، فإنه أوسط الجنة، وفوقه عرش الرحمن) ، يروى: (وفوقه) بالنصب على الظرفية وبالرفع على الابتداء، أي: وسقفه.
وذهب طائفة من أهل الكلام إلى أن العرش فلك مستدير من جميع جوانبه محيط بالعالم من كل جهة وربما سموه: الفلك الأطلس والفلك التاسع! وهذا ليس بصحيح؛ لأنه قد ثبت في الشرع أن له قوائم تحمله الملائكة كما قال صلى الله عليه وسلم: (فإن الناس يصعقون فأكون أول من يفيق، فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش، فلا أدري أفاق قبلي أم جوزي بصعقة الطور؟) ] .(32/2)
عظمة العرش
ابتدأ في الإيمان بالغيب، ومن جملة ما أخبر الله به من الأمور الغيبية: العرش والكرسي، فذكر الله العرش في هذه المواضع في القرآن، وذكره النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الأحاديث، وذكر الكرسي في قوله تعالى: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ} [البقرة:255] ، وذكر الله تعالى أنه استوى على العرش في سبع آيات من القرآن: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الفرقان:59] .
وقد أنكر حقيقة العرش بعض المبتدعة، فقال بعضهم: العرش: هو الملك، فقوله: (استوى على العرش) أي: استوى على الملك.
وهذا باطل، بل العرش هو السرير الذي يجلس عليه الملوك، ولهذا ذكر الله عن ملكة سبأ هذا العرش في قوله تعالى: {وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} [النمل:23] ؛ وقوله تعالى: {أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا} [النمل:38] ؛ وقوله: {أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ} [النمل:42] ، فدل أن العرش هو السرير الذي يجلس عليه الملك.
أما العرش الذي خصه الله تعالى بالاستواء فهو من الأمور الغيبية لا يحيط بوصفه إلا الله عز وجل، ورد في بعض الآثار في تفسير قوله تعالى: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ} [البقرة:255] ، قال بعض الصحابة: (ما السماوات السبع والأرضون السبع في الكرسي إلا كدراهم سبعة ألقيت في ترس) ، الترس: هو المجن الذي يقي المقاتل به ضربات السلاح، والدراهم: واحدها درهم، قطعة من الفضة صغيرة كانوا يتعاملون بها، ماذا تشغل سبعة دراهم إذا جعلت في الترس؟ وماذا تغطي منه؟! لا شك أن هذا دليل على عظمة هذا الكرسي، فالسماوات السبع؟ والأرضون السبع من يحيط بها إلا الله عز وجل! كذلك ورد أيضاً أن الكرسي صغير بالنسبة إلى العرش، جاء في بعض الأحاديث: (الكرسي في العرش كحلقة ألقيت بأرض فلاة) ، الحلقة: هي الحديدة المتلاقية الطرفين، إذا ألقيت بأرض فلاة فماذا تشغل من تلك الأرض؟ هذا الكرسي الذي وسع السماوات والأرض هو بالنسبة إلى العرش كما ذكر، فإذا كانت هذه عظمة العرش فكيف بعظمة الخالق الذي هو رب العرش ورب كل شيء؟! وقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (ما السماوات السبع والأرضون السبع في كف الرحمن إلا كحبة خردل في يد أحدكم) ، والخردل حبه صغير في غاية الصغر؟! فكل هذا دليل على عظمة الله عز وجل، وأن هذه المخلوقات حقيرة بالنسبة لعظمته وجلاله وكبريائه، والعبد إذا استحضر عظمة الله فإنه يمتنع أن يقدم على معصيته، ويمتنع أن يغفل عن ذكره، ويحمله هذا الاستحضار على أن يعظم ربه غاية التعظيم، وأن يخافه غاية الخوف، وأن يجله ويبجله، وأن يصغر كل مخلوق عنده، فكل مخلوق -مهما كان قدره- يكون حقيراً وصغيراً بالنسبة إلى عظمة الخالق وجلاله وكبريائه.
هذا هو السبب في كون الله تعالى وصف نفسه بالعظم، ووصف أيضاً العرش الذي خصه بالاستواء بالعظم في قوله تعالى: {ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ} [البروج:15] ، وفي قوله: {رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [التوبة:129] ، وفي قوله: {رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [المؤمنون:116] .
وذكر الله العرش في عدة آيات مما يدل على أنه عرش حقيقي تطوف به الملائكة، قال تعالى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} [غافر:7] ، وقال تعالى: {وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ} [الزمر:75] ، وقال تعالى: {رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ} [غافر:15] أي: رب العرش، أي: مالكه وخالقه.
فهذه الأدلة تدل على أنه ليس كما تقول المعتزلة: إن العرش هو الملك، بل العرش مخلوق قد خلقه الله كما خلق سائر المخلوقات، ولكنه عظيم لا يحيط به إلا الله عز وجل، ولا يعلم قدره إلا الله، والمخلوقات كلها صغيرة وحقيرة بالنسبة إليه، والله تعالى أعلم بحقيقته، وإنما على المؤمن أن يؤمن بما أخبر الله به، وأن يفوض علم الغيب إلى الله.(32/3)
معنى العرش في اللغة
قال الشارح رحمه الله تعالى: [والعرش في اللغة: عبارة عن السرير الذي للملك، كما قال تعالى عن بلقيس: {وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} [النمل:23] ، وليس هو فلكاً، ولا تفهم منه العرب كذلك، والقرآن إنما نزل بلغة العرب؛ فهو: سرير ذو قوائم تحمله الملائكة، وهو كالقبة على العالم، وهو سقف المخلوقات، فمن شعر أمية بن أبي الصلت: مجدوا الله فهو للمجد أهل ربنا في السماء أمسى كبيرا بالبناء العالي الذي بهر النا س وسوى فوق السماء سريرا شرجعاً لا يناله بصر العين ترى حوله الملائك صورا الصور هنا: جمع أصور، وهو: المائل العنق لنظره إلى العلو، والشرجع: هو العالي المنيف، والسرير: هو العرش في اللغة.
ومن شعر عبد الله بن رواحة رضي الله عنه الذي عرض به عن القراءة لامرأته حين اتهمته بجاريته: شهدت بأن وعد الله حق وأن النار مثوى الكافرينا وأن العرش فوق الماء طافٍ وفوق العرش رب العالمينا وتحمله ملائكة شداد ملائكة الإله مسومينا ذكره ابن عبد البر وغيره من الأئمة.
وروى أبو داود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أذن لي أن أحدث عن ملك من ملائكة الله عز وجل من حملة العرش: إن ما بين أذنيه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام) ورواه ابن أبي حاتم ولفظه: (مخفق الطير سبعمائة عام) .
وأما من حرف كلام الله وجعل العرش عبارة عن الملك، كيف يصنع بقوله تعالى: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} [الحاقة:17] ، وقوله: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} [هود:7] ، أيقول: ويحمل ملكه يومئذ ثمانية؟! وكان ملكه على الماء! ويكون موسى عليه السلام آخذاً بقائمة من قوائم الملك؟! هل يقول هذا عاقل يدري ما يقول؟ !] .
الله تعالى قد أخبر بأنه خلق العرش وأنه رب العرش في قوله تعالى: {ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ} [البروج:15] ، وفي قوله: {رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [المؤمنون:116] ، {وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [التوبة:129] .
والعرش في اللغة: هو سرير الملك، وقال الله عن بلقيس -وهي امرأة كانت ملكة في بلاد سبأ-: {وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} [النمل:23] .
كذلك أخبر تعالى عن عرشه العظيم بأخبار واضحة تدل على أنه مخلوق، وأنه محمول، وأن حوله الملائكة، فقال تعالى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} [غافر:7] ، فالذين يحملونه بعض من الملائكة، وقال تعالى: {وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ} [الزمر:75] ، والحفوف بمعنى: الاستدارة حول العرش، وذلك دليل على أنه مخلوق وأنه محمول.
وأخبر أنه: {رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ} [غافر:15] أي: صاحب العرش، وأخبر بأنه في يوم القيامة يحمل، في قوله: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} [الحاقة:17] .
وأخبر أيضاً بأنه استوى على العرش في سبعة مواضع من القرآن، في قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف:54] ، في سورة الأعراف وفي سورة يونس، وفي سورة طه، وفي سورة الفرقان، وفي سورة السجدة، وفي سورة الحديد، وأخبر في سورة هود بأن العرش على الماء بقوله تعالى: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} [هود:7] أي: قبل أن يخلق السماوات كان عرشه على الماء.
وسئل ابن عباس فقيل: (على أي شيء الماء؟ فقال: على متن الريح) ، فالله قادر على أن يجعل الماء على الريح، أو يجعله في هواء، فهو قادر على كل شيء: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82] ) .
ولما ذكر الله تعالى أنه استوى على العرش في آيات كثيرة، صعب تصديق ذلك على النفاة الذين ينفون علو الله تعالى واستواءه على عرشه، فقالوا: العرش: الملك، وقالوا في قوله: {عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] أي: على الملك استوى! وهذا خطأ بعيد، كيف يكون للملك هذه الأوصاف؟ فإن الله ذكر أن العرش تحمله الملائكة؛ فهل الملائكة تحمل الملك؟! والله ذكر أن العرش على الماء: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} [هود:7] فكيف يكون الملك على الماء؟ لا شك أن هذا قول تنكره الطباع.
العرب تعرف مسمى العرش، العرش في اللغة هو: السرير الذي يكون للملك، ذكر ذلك العرب في شعرهم، كما ذكر المؤلف الأبيات التي نقلت عن أمية بن أبي الصلت، وكان من شعراء العرب، فهو يقول: مجدوا الله فهو للمجد أهل ربنا في السماء أمسى كبيرا بالبناء العالي الذي بهر النا س وسوى فوق السماء سريرا شرجعاً لا يناله بصر العين ترى حوله الملائك صورا فوصفه بأنه سرير بالبناء الأعلى الذي بهر الناس، وسوى فوق السماء سريراً، فأطلق عليه أنه سرير كما هو في لغة العرب، وجعله في البناء الأعلى الذي هو السموات العلى، وأخبر بأنه فوق السموات.
هذا الشعر قاله هذا الإنسان الذي هو عارف وعالم ببعض الأحكام، وقد أنشد بعض العرب شعره للنبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث عمرو بن الشريد أنه قال: (ردفت مع النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هل معك من شعر أمية بن أبي الصلت شيء؟ قلت: نعم، فقال، هيه! فأنشدته بيتاً، فقال: هيه! ثم أنشدته بيتاً، فقال: هيه! حتى أنشدته مائة بيت، فقال: آمن شعره وكفر قلبه) أي: كما في أوصافه هذه حيث وصف الله تعالى بأنه الأعلى، وبأنه فوق السماء، وبأنه فوق العرش، وبأن العرش سرير كما في هذه الأبيات.
كذلك أيضاً الأبيات التي نظمها عبد الله بن رواحة أحد شعراء الصحابة من الأنصار، لما وطئ أمة له بملك اليمين، فرأته زوجته فأنكرت عليه، فأنكر وقال: ما فعلت؟ وهي تعرف أن الذي عليه جنابة لا يقرأ القرآن، فقالت: إن كنت صادقاً فاقرأ القرآن، فأنشد هذه الأبيات واعتقدت أنها من القرآن، يقول فيها: شهدت بأن وعد الله حق وأن النار مثوى الكافرينا وأن العرش فوق الماء طافٍ وفوق العرش رب العالمينا وتحمله ملائكة شداد ملائكة الإله مسومينا فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم وأقره على ذلك، والشاهد منه ذكر العرش في قوله: وأن العرش فوق الماء طاف، والطافي: هو السابح الراكد فوق الماء.
وقوله: وفوق العرش رب العالمينا، وقد أخذ ذلك من قوله تعالى: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} [هود:7] ، والمراد أنه فوق الماء وفوق المخلوقات.
وبكل حال فالعرش هو هذا السرير الذي لا يعلم قدره إلا الله.
وقد ذكر العلماء: أن الكرسي غير العرش، وهو الذي قال الله: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ} [البقرة:255] ، فالكرسي قيل: إنه كالمرقاة بين يدي العرش، هذا الكرسي وسع السماوات والأرض، أي: اتسع للسماوات السبع وللأرضين السبع، وقد ذكرنا فيما مضى الحديث الذي فيه: (ما السماوات السبع والأرضون السبع في الكرسي إلا كدراهم سبعة ألقيت في ترس) الترس: هو المجن، والدراهم: هي قطع من الفضة صغيرة، ماذا تشغل السبعة الدراهم من هذا الترس؟! الترس قد يتسع لسبعمائة أو لألف أو أكثر من ألف، ثم هذا الكرسي صغير بين يدي العرش! ورد أيضاً في بعض الآثار: (الكرسي في العرش كحلقة ملقاة بأرض فلاة) ، الحلقة: هي القطعة من الحديد المتلاقية الطرفين، إذا ألقيت في أرض فلاة ماذا تشغل منها؟! هل تشغل ربعها أو عشرها أو عشر عشرها أو ربع عشر من أعشار عشرها؟! ما تشغل منها إلا جزءاً يسيراً، فهكذا نسبه الكرسي إلى العرش، وإذا كانت هذه عظمة العرش فكيف بعظمة رب العرش، الذي خلقه والذي خلق جميع الخلق؟! إذا عرف العباد عظمة هذه المخلوقات فإنهم يعظمون رب العرش.
الملائكة الذين يحملون العرش ذكر الله عددهم في قوله: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} [الحاقة:17] .
ولكن ماذا نقول في أولئك الملائكة الذين لا يعلم قدر وصفهم إلا الله؟ في هذا الحديث أخبر أن منهم ملكاً: (ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام) ، وفي رواية: (مخفق الطير سبعمائة عام) متى تقدر هذه المسافة القليلة منه؟ فكيف ببقية جسده؟ هذا من حملة العرش، ومع ذلك لا يحملون العرش بقوتهم إنما يحملونه بذكر الله، جاء في الأثر أنهم يقولون: (كيف نحمل العرش وأنت رب العرش، وهذه عظمة العرش؟ فقال: (احملوه بالتسبيح) أو كما ورد، فلولا أن الله أعان الملائكة بالتسبيح لما حملوه، مع أن هذه عظمتهم وهذه صورهم وعظم خلقهم.
وقد تقدم أن العرش سقف المخلوقات، وأنه سقف الفردوس، يقول صلى الله عليه وسلم: (إذا سألتم الله الجنة فاسألوه الفردوس، فإنه أعلى الجنة، وأوسط الجنة، وسقفه عرش الرحمن) ، فهذا دليل على أنه سقف المخلوقات وأنه محيط بالمخلوقات ولا يعلم قدره إلا الله، ومع ذلك فإن الرب تعالى مستغن عن العرش وما دونه، وهو تعالى محيط بخلقه وقريب منهم وعالم بأعمالهم لا تخفى عليه منهم خافية، ومع ذلك فإنه مطلع على الأعمال، وقادر على أن يثيب هذا ويعاقب هذا، وقادر على أن يسع خلقه رحمة وعلماً وحكمة وعزة وتصرفاً.
ومعنى هذا أنه إذا كانت هذه عظمة المخلوقات فعظموا رب المخلوقات.(32/4)
العرش غير الكرسي
قال الشارح رحمه الله: [وأما الكرسي فقال تعالى: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ} [البقرة:255] ، وقد قيل: هو العرش، والصحيح أنه غيره، نقل ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما وغيره، روى ابن أبي شيبة في كتابه صفة العرش والحاكم في مستدركه وقال: إنه على شرط الشيخين ولم يخرجاه، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله تعالى: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ} [البقرة:255] أنه قال: (الكرسي موضع القدمين، والعرش لا يقدر قدره إلا الله تعالى) ، وقد روي مرفوعاً، والصواب أنه موقوف على ابن عباس.
وقال السدي: السماوات والأرض في جوف الكرسي، والكرسي بين يدي العرش.
وقال ابن جرير: قال أبو ذر رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما الكرسي في العرش إلا كحلقة من حديد ألقيت بين ظهري فلاة من الأرض) .
وقيل: كرسيه علمه، وينسب إلى ابن عباس، والمحفوظ عنه ما رواه ابن أبي شيبة كما تقدم، ومن قال غير ذلك فليس له دليل إلا مجرد الظن، والظاهر أنه من جراب الكلام المذموم، كما قيل في العرش وإنما هو كما قال غير واحد من السلف: بين يدي العرش كالمرقاة إليه] .
هذا الكلام على الكرسي الذي ذكر الله أنه وسع السماوات والأرض، وهو كالمرقاة بين يدي العرش أو أن الكرسي موضع القدمين، وبكل حال فهو مخلوق، وقد ذكر الله أنه وسع السماوات بأكملها: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ} [البقرة:255] ، فإذا كان الكرسي قد وسع السماوات والأرض فكيف بالعرش؟ هذا هو القول الصحيح: وهو أن الكرسي مخلوق، وأنه غير العرش، وهناك قول بأن الكرسي هو العرش، والصحيح أنه غيره؛ هذا هو المشهور، فالكرسي مقدمة العرش أو مرقاة بين يديه.
وهناك قول ثالث ولكنه ضعيف: وهو أن الكرسي هو العلم، (وسع كرسيه) أي: علمه، وهذا القول -وإن روي عن ابن عباس - فإنه لا يثبت عنه، والصحيح القول الأول عنه، ولعل هذا من أقوال بعض المبتدعة الذين يريدون أن يئولوا الأشياء بغير ظواهرها، فلما أولوا العرش بأنه الملك أولوا الكرسي بأنه العلم؛ حتى يبطلوا الصفات التي وردت في النصوص، والتي تتعلق بالعرش والكرسي، والتي الإيمان بها من الإيمان بالغيب.(32/5)
استغناء الله عن العرش وما دونه
قال الشارح رحمه الله: [قوله: (وهو مستغن عن العرش وما دونه، محيط بكل شيء وفوقه، وقد أعجز عن الإحاطة خلقة) .
أما قوله: (وهو مستغن عن العرش وما دونه) فقال تعالى: {فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران:97] ، وقال تعالى: {وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر:15] ، وإنما قال الشيخ رحمه الله هذا الكلام هنا؛ لأنه لما ذكر العرش والكرسي ذكر بعد ذلك غناه سبحانه عن العرش وما دون العرش؛ ليبين أن خلقه العرش لاستوائه عليه ليس لحاجته إليه، بل له في ذلك حكمة اقتضته، وكون العالي فوق السافل لا يلزم أن يكون السافل حاوياً للعالي محيطاً به حاملاً له، ولا أن يكون الأعلى مفتقراً إليه، فانظر إلى السماء كيف هي فوق الأرض وليست مفتقرة إليها؟ فالرب تعالى أعظم شأناً وأجل من أن يلزم من علوه ذلك، بل لوازم علوه من خصائصه، وهي حمله بقدرته للسافل، وفقر السافل، وغناه هو سبحانه عن السافل، وإحاطته عز وجل به، فهو فوق العرش مع حمله بقدرته للعرش وحملته، وغناه عن العرش، وفقر العرش إليه، وإحاطته بالعرش، وعدم إحاطة العرش به، وحصره للعرش، وعدم حصر العرش له، وهذه اللوازم منتفية عن المخلوق.
ونفاة العلو أهل التعطيل لو فصلوا بهذا التفصيل لهدوا إلى سواء السبيل، وعلموا مطابقة العقل للتنزيل، ولسلكوا خلف الدليل، ولكن فارقوا الدليل فضلوا عن سواء السبيل، والأمر في ذلك كما قال الإمام مالك رحمه الله لما سئل عن قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف:54] ، كيف استوى؟ فقال: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، ويروى هذا الجواب عن أم سلمة رضي الله عنها موقوفاً ومرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم] .
قوله: (إن الله مستغن عن العرش ومستغن عما دون العرش) يفيد أن العرش هو سقف المخلوقات، وأنه أعظمها فيما أخبرنا الله به، وأن هذه المخلوقات كلها حقيرة بالنسبة إلى هذا العرش، ومع ذلك فإن الرب الذي خلقه وخلق غيره مستغن عن العرش ومستغن عن غيره، ولا يحتاج إليه ليحمله، ولا إلى الملائكة لتحمله، بل هو بقدرته الذي يمسك المخلوقات، يقول الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ} [الحج:65] {وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [الحج:65] ، وأخبر بأنه: {خَلَقَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ} [لقمان:10] ، {خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا} [الملك:3] ، سبعاً شداداً بناها فوق الأرض، ومع ذلك ثبتها فهي مستغنية عن عمد تعتمد عليه.
المخلوق إذا رفع سقفاً فلا بد أن يثبته بعمد يعتمد عليها ذلك السقف، والله تعالى ذكر أن السماء سقف في قوله: {وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا} [الأنبياء:32] ، ومع ذلك ليس لها عمد، يقول تعالى: {خَلَقَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} [لقمان:10] أي: تشاهدونها، فهي مستغنية عن ذلك لكون الله تعالى هو الذي أمسكها بقوته، وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ} [فاطر:41] ، فمع كونه فوق العالم وفوق الخلق وعال على عباده، فإن جميع المخلوقات بحاجة إليه، وهو مستغن عنها، وعن العباد وطاعاتهم، وعن الملائكة وعبادتهم، وكذلك مستغن عن السماوات وعن العرش وعن الكرسي، هو غني عن ذلك، وكل شيء فقير إليه، بل هو الذي يمسكها وهو الذي يحملها وهو الذي يثبتها كما يشاء.
فالنفاة توهموا في هذه المخلوقات أنه إذا كان الله فوقها فيلزم أن تكون هناك حاجة وضرورة إليها!
و
الجواب
أن هذا خطأ، بل الله أخبر بأنه عال على هذه المخلوقات، ومع ذلك فإنه الغني عما سواه، وكل ما سواه فقير إليه، فلا يحتاج إلى خلقه في شيء من خصائصهم، بل هو الغني وهم الفقراء إليه سبحانه وتعالى.
فلا يغتر بما يقوله الذين يردون بعض النصوص، فيعتقدون أن في إثباتها لزوم حاجة أو نحو ذلك، أو يقولون -كما يذكر عن النفاة-: إن هذا يلزم منه حلول الحوادث في ذات الله تعالى، ونحو ذلك من الكلمات التي هي من توليدات المتكلمين.(32/6)
العرش فوق المخلوقات، والله مستو عليه محيط بكل شيء
قال الشارح رحمه الله: [وأما قوله: (محيط بكل شيء وفوقه) وفي بعض النسخ: (محيط بكل شيء فوقه) بغير واو من قوله: (فوقه) ، والنسخة الأولى هي الصحيحة، ومعناها: أنه تعالى محيط بكل شيء وفوق كل شيء، ومعنى الثانية: أنه محيط بكل شيء فوق العرش، وهذا -والله أعلم- إما أن يكون أسقطها بعض النساخ سهواً ثم استنسخ بعض الناس من تلك النسخة، أو أن بعض المحرفين الضالين أسقطها قصداً للفساد، وإنكاراً لصفة الفوقية! وإلا فقد قام الدليل على أن العرش فوق المخلوقات، وليس فوقه شيء من المخلوقات، فلا يبقى لقوله: محيط بكل شيء فوق العرش -والحالة هذه- معنى، إذ ليس فوق العرش من المخلوقات ما يحاط به، فتعين ثبوت الواو.
ويكون المعنى: أنه سبحانه محيط بكل شيء، وفوق كل شيء.
أما كونه محيطاً بكل شيء، فقال تعالى: {وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ} [البروج:20] ، {أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ} [فصلت:54] ، {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا} [النساء:126] ، وليس المراد من إحاطته بخلقه أنه كالفلك، وأن المخلوقات داخل ذاته المقدسة، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً! وإنما المراد: إحاطة عظمة وسعة وعلم وقدرة، وأنها بالنسبة إلى عظمته كالخردلة، كما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (ما السماوات السبع، والأرضون السبع وما فيهن، وما بينهن في يد الرحمن إلا كخردلة في يد أحدكم) ] .
كل هذا يؤخذ منه عظمة الرب سبحانه وتعالى، وأنه محيط بكل شيء، والإحاطة هي العلم بها والاستيلاء عليها والتصرف فيها، فالله قد أحاط علماً بها كما في قوله: {وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ} [البروج:20] وقوله: {وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً} [النساء:126] بمعنى: أنه أحصاها وعلمها، واستولى عليها، وعلى جميع المخلوقات، فالله محيط بكل شيء، ومن جملة ذلك العباد، فالله محيط بهم، فهو محيط بعلومهم التي يعلمونها، فهو الذي فتحها عليهم، ومحيط بأعمالهم التي يعملونها لا يخفى عليه شيء من أعمالهم، قال سبحانه: {وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق:16] ، وكذلك الله محيط بالمخلوقات كلها سواء الجماد منها والمتحرك، والحيوان والنبات وغير ذلك، كله قد أحاط به، واستولى عليه، وتصرف فيه، فهو المستولي على خلقه.
والفائدة من معرفة ذلك التعظيم، فإن العبد إذا تصور أن الله تعالى قد أحاط بكل شيء علماً عظّمه حق التعظيم، وعبده حق العبادة، وابتعد عما يسخطه، وعما نهى عنه، واستفاد من ذلك تعظيم شرعه والتصديق بخبره، وطلب الثواب الذي رتبه على العبادة، فكل ذلك من فوائد معرفة إحاطته بكل شيء من المخلوقات، وهذه عقيدة المسلمين؛ فلذلك أصبح أهل العقيدة السليمة هم الذين يعظمون حرمات الله وشرائعه، وأما الذين أنكروا علم الله أو أنكروا عظمته أو نحو ذلك فهم الذين وقعوا فيما وقعوا فيه من المخالفات والمعاصي والعقائد المنحرفة.(32/7)
شرح العقيدة الطحاوية [33]
من عقائد أهل السنة أن الله فوق مخلوقاته، والأدلة على ذلك أكثر من أن تحصر، وقد بينها أهل العلم، وردوا على من أنكر هذه الصفة من المبتدعة.(33/1)
وجوب الإيمان بصفة العلو لله تعالى
يجب على المسلم أن يدين بعظمة ربه، وأن يستحضر جلاله وكبرياءه، وأن يكون ذلك حاملاً له على تعظيمه، وعلى خوفه وإجلاله، وعلى الرغبة في ثوابه، والرهبة من عقابه، ويكون ذلك بمعرفة الأدلة على ذلك، فالأدلة على عظمة الله سبحانه تعظيم الله لنفسه، فقد ورد في الحديث: (لا أحد أحب إليه المدح من الله، من أجل ذلك مدح نفسه) ، وورد أيضاً وصف الله بالكبرياء والعظمة، واختصاصه بذلك، كما في قوله في الحديث القدسي: (العظمة إزاري، والكبرياء ردائي) يعني: أن ذلك من خصائصه التي لا يجوز أن ينازعه فيها أحد، فإذا كان ذلك من خصائصه سبحانه فمنازعته ومشاقته في شيء مما هو خاص به يعتبر اعتراضاً على الله.
ومعلوم أن الإنسان إذا وجب عليه أمر تعين أن يعرف الدليل عليه، فالله تعالى قد أقام الأدلة على عظمته وجلاله، وعلى استحقاقه للتبجيل والإعظام، ووصف نفسه بقوله: {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة:255] {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً} [النساء:34] فيجب أن نعتقد أن أنواع العظمة لله، فهو المستحق للتعظيم وأنواع الكبرياء، وأنواع العلو لله وحده.
قد يقول قائل: ما الفائدة التي أحصل عليها إذا وصلت إلى هذه العقيدة؟
و
الجواب
أن نقول: لا شك أنك متى قمت بهذا واعتقدته عقيدة صحيحة عظم قدر ربك في قلبك، فصعب عليك أن تعصيه، وعظم عليك أن تدين لغيره بالعظمة، وكذلك كبر عليك أن تترك طاعته، وعرفت أن له عليك حقوقاً كثيرة لابد أن تدين بها، ولابد أن تحرص على أدائها، وهذه من فوائد هذه المعرفة.
وقد مر بنا أن من صفات الله تعالى الغنى، فهو غني ومستغنٍ عن العرش وما دونه، فهو الذي خلق الخلق وليس بحاجة إلى عبادة الخلق، وليس بحاجة إلى شيء من المخلوقات، بل هو الغني عنهم: {وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ} [محمد:38] (وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} [التغابن:6] فإذا دان العبد لله بالغنى، علم أن هذا الغنى عام، وأن الله مستغنٍ عن العرش، ومستغنٍ عن السماوات، ومستغن عن الأرض، ومستغنٍ عن المخلوقات كلها، ومستغنٍ عن جميع ما في الكون، فهو الخالق وحده، وقد وصف الله نفسه بأنه استوى على العرش، وبأنه علا على خلقه، ولا يدل ذلك على حاجته إلى أي مخلوق.(33/2)
إحاطة الله بكل شيء لا تنافي فوقيته وعلوه
من صفات الله أنه محيط بكل شيء وفوقه، والإحاطة بها هو الاستيلاء عليها، بمعنى: أنه محيط بالأشياء، وكلها تحت سيطرته وتصرفه، فلا شيء يتحرك إلا بإرادته، ولا يتصرف إلا بعلمه، وهو المتصرف فيها وحده، وهذا يدل على كماله وعظمته، فالذي يعتقد ذلك لا شك أنه يعظم قدر ربه في قلبه، ويصعب عليه أن يتخلف عن طاعته، أو يرتكب معصيته، أو يفعل إثماً أو جرماً، أو يبارز ربه بالعصيان؛ لأنه يستحضر عظمته وكبرياءه وجلاله وغناه عن خلقه، ثم يستحضر ضعف الخلق كلهم، وفقرهم وفاقتهم، وحاجتهم الشديدة إلى ربهم، فبعد ذلك يقول: ما أنا وما قدري حتى أظهر الغنى عن الله، وحتى أبارزه بالذنوب، وأعصي أمره وأرتكب نهيه؟! وهل أتحمل شيئاً من سخطه أو أصبر على شيء من عذابه؟ فيكون استحضاره ذلك زاجراً له عن اقتراف المآثم.
ودليل إحاطته بكل شيء قوله تعالى: {وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً} [الطلاق:12] ونفى ذلك عن المخلوقين بقوله: {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ} [البقرة:255] ، وقال: {وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ} [البروج:20] ، وقال: {وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً} [النساء:126] فالإحاطة: هي السيطرة والاستيلاء التام، والولاية الكاملة التي لا ينقصها شيء، وهي لله وحده، فهو محيط بالأشياء كلها علويها وسفليها، وعالم بها ومتصرف فيها، ولا يخفى عليه شيء من أمرها، وذلك لأنها مخلوقة، وهو الخالق وحده.
قال الشارح رحمنا الله تعالى وإياه: [ومن المعلوم -ولله المثل الأعلى- أن الواحد منا إذا كان عنده خردلة، إن شاء قبضها وأحاطت قبضته بها، وإن شاء جعلها تحته، وهو في الحالين مباين لها، عال عليها، فوقها من جميع الوجوه، فكيف بالعظيم الذي لا يحيط بعظمته وصف واصف؟! فلو شاء لقبض السماوات والأرض اليوم، وفعل بها كما يفعل بها يوم القيامة، فإنه لا يتجدد له إذ ذاك قدرة ليس عليها الآن، فكيف يستبعد العقل مع ذلك أنه يدنو سبحانه من بعض أجزاء العالم وهو على عرشه فوق سماواته أو يدني إليه من يشاء من خلقه؟ فمن نفى ذلك لم يقدره حق قدره.
وفي حديث أبي رزين المشهور الذي رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم في رؤية الرب تعالى، فقال له أبو رزين: (كيف يسعنا -يا رسول الله - وهو واحد ونحن جميع؟ فقال: سأنبئك بمثل ذلك في آلاء الله: هذا القمر آية من آيات الله، كلكم يراه مخلياً به، والله أكبر من ذلك) ، وإذا قد تبين أنه أعظم وأكبر من كل شيء، فهذا يزيل كل إشكال، ويبطل كل خيال.
وأما كونه فوق المخلوقات، فقال تعالى: (وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ) [الأنعام:18] {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل:50] وقال صلى الله عليه وسلم في حديث الأوعال المتقدم: (والعرش فوق ذلك، والله فوق ذلك كله) .
وقد أنشد عبد الله بن رواحة شعره المذكور بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، وأقره على ما قال وضحك منه.
وكذا أنشده حسان بن ثابت رضي الله عنه قوله: شهدت بإذن الله أن محمداً رسول الذي فوق السماوات من عَلُ وأن أبا يحيى ويحيى كلاهما له عمل من ربه متقبل وأن الذي عادى اليهود ابن مريم رسول أتى من عند ذي العرش مرسل وأن أخا الأحقاف إذ قام فيهم يجاهد في ذات الإله ويعدل فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (وأنا أشهد) .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لما قضى الله الخلق كتب في كتاب فهو عنده فوق العرش: إن رحمتي سبقت غضبي، وفي رواية: تغلب غضبي) رواه البخاري وغيره.
وروى ابن ماجة عن جابر يرفعه قال: (بينا أهل الجنة في نعيمهم إذ سطع لهم نور، فرفعوا إليه رءوسهم، فإذا الجبار جل جلاله قد أشرف عليهم من فوقهم، وقال: يا أهل الجنة! سلام عليكم، ثم قرأ قوله تعالى: {سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} [يس:58] فينظر إليهم، وينظرون إليه، فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم ما داموا ينظرون إليه) .
وروى مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم في تفسير قوله تعالى: (هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ) [الحديد:3] بقوله: (أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء) ] .
الكلام الأول يتعلق بإحاطة الله بالمخلوقات، وقد تقدم الاستدلال على عظمة العرش والكرسي، وصغر المخلوقات بالنسبة إليهما، وأن السماوات السبع والأرضين السبع للكرسي كدراهم سبعة ألقيت في ترس، وما الكرسي بالنسبة إلى العرش إلا كحلقة ألقيت في أرض فلاة، فماذا تشغل الحلقة من هذه الفلاة؟! وذكر ابن كثير أحاديث عند قوله تعالى: {وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر:67] ، وأن هذه السماوات والأرضين صغيرة بالنسبة إلى قبضة الرب عز وجل، فهي مطويات بيمينه، والأحاديث التي فسرت ذلك فيها الدلالة على أن الله يقبض المخلوقات كما يشاء، وقد ورد في الأحاديث أنه يقبض السماوات والأرض، وأنه يهزهن ويقول: أنا الملك، أين ملوك الأرض؟ أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ ذكر ذلك ابن كثير عند تفسير قوله تعالى: {لِمَنْ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غافر:16] .
وكذلك نقل عن ابن عباس رضي الله عنهما -وهو من أجل علماء الصحابة- أنه قال: (ما السماوات السبع والأرضون السبع في كف الرحمن إلا كحبة خردل في يد أحدكم) كمثل حبة خردل في يد العبد، وماذا تشغل حبة الخردل من اليد؟! معلوم أن الحبة صغيرة وحقيرة في القبضة، فقد يقبض ألفاً أو أكثر من ألف في كفه ولا يمتلئ الكف بذلك، فكيف بحبة واحدة؟ فهذه المخلوقات التي نشاهد عظمتها، ولا يعلم سعتها إلا الله تعالى، قد أخبرنا الله ورسوله بأنها سبع شداد، وأنها سبع طباق، وأن المسافات التي بين كل سماء وسماء مسيرة خمسمائة سنة، ومتى تقطع هذه المسافة؟ وكل ذلك صغير بالنسبة إلى عظمة الرب تعالى!! فهذا ونحوه دليل على عظمته، ودليل على إحاطته بكل شيء.(33/3)
ذكر الأدلة على إثبات صفة الفوقية لله تعالى
قول صاحب المتن: (محيط بكل شيء وفوقه) المراد: أننا نعتقد أن الله فوق كل شيء، قد ذكر الشارح أن في بعض النسخ: (محيط بكل شيء فوقه) ، بدون واو، والواو لا معنى لها هنا؛ لأن الله إحاطته ليست بما فوق العرش، بل بكل شيء، بالعرش وبما فوقه وبما تحته، ومعلوم أن العرش هو سقف المخلوقات، وهو أعلاها، وفوقه الرب سبحانه، وهو قريب من عباده.
والأدلة على الفوقية كثيرة، فمنها ما هو صريح لا يحتمل التأويل، فالآية التي سمعنا في سورة النحل لا تحتمل التأويل: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل:50] قيدت بـ (من) حتى لا يتأولها المتأول، وأما الآية الثانية في سورة الأنعام وهي قوله تعالى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام:18] في موضعين، فهذه الآية قد يقال: إن المراد بالفوقية: فوقية الغلبة، وفوقية القهر، كما قال فرعون: {وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ} [الأعراف:127] يعني: فوقية القهر، ولكن يؤخذ منها فوقية الذات، وفوقية الغلبة، فهي دالة على المعنيين؛ فتكون من الآيات الدالة على وصف الله تعالى بالفوقية، وهو العلو الذي يقتضي العظمة.
أما الأحاديث فمنها قوله صلى الله عليه وسلم في حديث الأوعال: (والعرش فوق ذلك، والله فوق العرش) فالفوقية هنا صريحة، ومن ذلك قوله: (إن الله كتب كتاباً فهو مكتوب عنده فوق العرش: إن رحمتي تغلب غضبي) وهذا دليل واضح على أن الرب تعالى فوق العباد، وفوق العرش.
كذلك الحديث الذي فيه تفسير الآية الكريمة من سورة الحديد: {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ} [الحديد:3] وهو الدعاء المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء، اقض عنا الدين، وأغننا من الفقر) فسر قوله تعالى: (هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ) بأنه العالي الذي ليس فوقه شيء، فهو فوق المخلوقات، ومع ذلك هو قريب منها؛ ولذلك فسر الباطن بالقريب الذي ليس دونه شيء، فعلوه سبحانه وتعالى وفوقيته لا تنافي قربه ومعيته، فيستحضر المؤمن الوصفين معاً القرب والعلو.
وذكر المؤلف شعر أمية وشعر عبد الله بن رواحة وشعر حسان، وكلها تذكر العلو والفوقية، فيقول ابن رواحة: شهدت بأن وعد الله حق وأن النار مثوى الكافرينا وأن العرش فوق الماء طافٍ وفوق العرش رب العالمينا فصرح بالفوقية وأقره النبي صلى الله عليه وسلم، وهكذا أيضاً في البيت الذي لـ حسان: شهدت بإذن الله أن محمداً رسول الذي فوق السماوات من عَلُ يعني: فوق السماوات وفوق العرش، ثم وصفه بأنه من علُ، فهذا دليل على أن الصحابة كلهم يدينون بهذه الفوقية، وأنهم قد تلقوها من نبيهم صلى الله عليه وسلم.(33/4)
الرد على منكري العلو
أدلة الفوقية نوع من أنواع الأدلة على صفة العلو، وقد أوصلها بعضهم إلى واحد وعشرين نوعاً، وقد ذكر ذلك ابن القيم في نونيته، وابتدأها بالآيات التي تدل على الاستواء.
وكل نوع تحته مفردات.
ولما كانت مسألة العلو من المسائل الاعتقادية بالغ أئمة السلف في إثباتها، وكتبوا فيها الأدلة التي توضح قول السلف، وقول من سار على طريق السلف، فنجد في كتب المتقدمين من السلف أنهم أوفوها حقها، ككتاب التوحيد لـ ابن خزيمة الذي هو شجىً في حلوق الأشاعرة والمعتزلة ونحوهم، حتى قرأت لبعضهم أنه يسميه: كتاب الشرك، مع أنه استدل بآيات وأحاديث صحيحة رواها بالأسانيد، ولكن لما خالف معتقدهم أساءوا به وصاروا يحذرون منه.
كذلك كتب السنة التي كتبها أئمة السلف كالإبانة، وكتاب التوحيد، وكتاب الإيمان، وكتاب السنة وغيرها من كتب السلف، فمنهم من رد على الجهمية، وسمى كل من خالف ذلك جهمياً، ومن السلف الذين كتبوا في ذلك ابن مندة وعثمان بن سعيد الدارمي وابن أبي عاصم، وكذلك القاضي أبو يعلى، والإمام الذهبي له كتاب العلو للعلي الغفار، وصفه بهذا الوصف، وكأنه لما رأى كثرة الذين دانوا بعقائد باطلة ممن سموا أنفسهم أشاعرة، أراد أن يفصح بما يعتقده ولو خالف مشايخه، ولو خالف زملاءه، ولو خالف المنتمين إلى مذهبه، لا يبالي بذلك ما دام أنه يعتمد الدليل، ويقول الحق.
مسألة العلو لم ينكرها في المائة المتأخرة إلا أفراد قلة كالأشاعرة والمعتزلة والشيعة والخوارج والجبرية ونحوهم، كلهم ينكرون هذه الصفة، ولا عبرة بإنكار من أنكرها مادامت الأدلة واضحة صريحة في إثباتها، فلا يعتبر بمن أنكر الحق مع وضوحه.
وأهل السنة يثبتونها على ما يليق بالله تعالى، ويذكرون الأدلة ويعتمدونها، ثم يجمعون بينها وبين آيات القرب وأدلة المعية ونحو ذلك، ولا يفهمون منها تجسيماً ولا تشبيهاً، ولا جهة ولا حصراً، ولا تحيزاً ولا غير ذلك، أما أولئك المنكرون فيقولون: إن هذه الكلمات تدل على حصر الخالق، وأنه متحيز، إلى غير ذلك، ولا عبرة بتلك الأقوال التي يموهون بها، وعلى المسلم أن يعتقد الحق ولو خالفه من خالفه.(33/5)
ذكر بعض الأدلة على إثبات صفة العلو
قال الشارح رحمه الله: [والمراد بالظهور هنا: العلو، ومنه قوله تعالى: {فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ} [الكهف:97] ، أي: يعلوه.
فهذه الأسماء الأربعة متقابلة: اسمان منها لأزلية الرب سبحانه وتعالى وأبديته، واسمان لعلوه وقربه.
وروى أبو داود عن جبير بن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه عن جده قال: (أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم أعرابي، فقال: يا رسول الله! جهدت الأنفس، ونهكت الأموال؛ فاستسق لنا، فإنا نستشفع بك على الله، ونستشفع بالله عليك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ويحك! أتدري ما تقول؟ وسبح رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما زال يسبح حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه، ثم قال: ويحك! إنه لا يستشفع بالله على أحد من خلقه، شأن الله أعظم من ذلك، ويحك! أتدري ما الله؟ إن الله فوق عرشه، وعرشه فوق سماواته، وقال بأصابعه مثل القبة عليه، وإنه ليئط به أطيط الرحل الجديد بالراكب) .
وفي قصة سعد بن معاذ يوم بني قريظة، لما حكم فيهم أن تقتل مقاتلتهم، وتسبى ذراريهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لقد حكمت فيهم بحكم الملك من فوق سبع سماوات) وهو حديث صحيح، أخرجه الأموي في مغازيه، وأصله في الصحيحين.
وروى البخاري عن زينب رضي الله عنها أنها كانت تفخر على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وتقول: (زوجكن أهاليكن، وزوجني الله من فوق سبع سماوات) .
وعن عمر رضي الله عنه: (أنه مر بعجوز فاستوقفته، فوقف معها يحدثها، فقال رجل: يا أمير المؤمنين! حبست الناس بسبب هذه العجوز؟ فقال: ويلك! أتدري من هذه؟ امرأة سمع الله شكواها من فوق سبع سماوات، هذه خولة التي أنزل الله فيها.
{قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ} [المجادلة:1] ) أخرجه الدارمي.
وروى عكرمة عن ابن عباس في قوله: {ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ} [الأعراف:17] قال: (ولم يستطع أن يقول من فوقهم، لأنه قد علم أن الله سبحانه من فوقهم) .
ومن سمع أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم وكلام السلف، وجد منه في إثبات الفوقية ما لا ينحصر.
ولا ريب أن الله سبحانه لما خلق الخلق لم يخلقهم في ذاته المقدسة، تعالى الله عن ذلك، فإنه الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد، فتعين أنه خلقهم خارجاً عن ذاته، ولو لم يتصف سبحانه بفوقية الذات، مع أنه قائم بنفسه غير مخالط للعالم، لكان متصفاً بضد ذلك؛ لأن القابل للشيء لا يخلو منه أو من ضده، وضد الفوقية: السفول، وهو مذموم على الإطلاق؛ لأنه مستقر إبليس وأتباعه وجنوده] .
سرد المصنف رحمه الله هذه الأدلة التي تدل على الفوقية، فذكر حديث الأعرابي لما قال: (نستشفع بالله عليك) ، ولا شك أن هذا تنقص لله، فكأنه يقول: نجعل الله شافعاً عندك، وهل الله يشفع عند الخلق؟! هذا فيه شيء من التنقص، أما قوله: (نستشفع بك على الله) ، فهذا لم يستنكره، لأنه يقول: اشفع لنا إلى ربك، فأنكر عليه الأمر الثاني وهو الاستشفاع بالله؛ فشأن الله أعظم، وذاته أجل، ووصفه وجلاله وكبرياؤه أعظم من أن يكون شفيعاً عند أحد من خلقه، بل هو الذي يشفع إليه، ولا يشفع إلى أحد، بل لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، كما ذكر ذلك في القرآن: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} [البقرة:255] {وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنْ ارْتَضَى} [الأنبياء:28] ولما أنكر عليه ذلك بين له عظمة الرب تعالى فقال: (أتدري ما الله؟) يعني: أنك ما عرفت قدر ربك، وما استحضرت عظمته، ولو استحضرت ذلك لما قلت هذه المقالة، شأن الله أعظم، وذكر أن الله تعالى فوق العرش، وأن العرش يئط به أطيط الرحل، وهذا من باب التمثيل يعني: أن الله تعالى فوق العرش، وأن العرش مع كبره وعظمته وإحاطته بهذه المخلوقات، فإنه يسمع له هذا الأطيط، فيقال: إن هذا من ثقل الرب تعالى، وقد ذكر الله أن العرش محمول، وأن حملة العرش ما حملوه بقوتهم وإنما حملوه بقوة ربهم، ومع ذلك فإن الرب تعالى غني عن العرش، وغني عن حملة العرش، ولكن ذلك كله من باب إظهار العظمة والكبرياء ونحو ذلك.
ومن الأدلة قوله صلى الله عليه وسلم لـ سعد بن معاذ: (لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع سماوات) يعني: وافقت حكم الله، والله فوق سماواته.
وكذلك قول زينب: (زوجني الله من فوق سبع سماوات) تريد قوله تعالى: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا} [الأحزاب:37] أي: أن الله تعالى هو الذي زوجها، فصرحت بالفوقية، وأن الله تعالى فوق سماواته.
وبالجملة فهذه أمثلة من الأدلة التي تثبت صفة الفوقية لله سبحانه.
فإذا قيل: إن هذه أدلة نقلية، والمخالفون لا يقبلون الأدلة النقلية التي في زعمهم أنها تخالف العقل، ويزعمون أنهم ما عرفوا صدق الرسل إلا بالعقول، فإذا جاء الرسل بما ينافي العقول لم يقبلوه، هكذا عللوا.
و
الجواب
إن العقول التي ردت هذه النقول عقول فاسدة مضطربة، لا تصلح أن تكون ميزاناً لقبول شيء دون شيء، فعقولكم التي رددتم بها هذه النصوص، ورددتم بها هذه الصفات، وزعمتم أن هذا مستنكر ومستبشع على النفوس ولا تقبله العقول، نقول: هذه العقول كثيراً ما يكون فيها الاضطراب، وكثيراً ما تأتي بشبهات لا تثبت عند الحق، وكثيراً ما يبطل بعضهم شبهة الآخر التي يدلي بها، وكثيراً ما يبطل أحدهم دليله بنفسه، فيذكر دليلاً ثم يأتي بما يناقضه، وكذلك يأتي الآخر بدليل يناقض دليل شيخه ونحو ذلك، فكيف يعتمدون ذلك ويقولون: إنها أدلة عقلية؟! وقد ذكر لهم الشارح دليلاً عقلياً فقال: هب أنه ليس هناك دليل نقلي، أو هب أنكم تأولتم تلك النصوص، وقلتم مثلاً: الفوقية هنا: فوقية العظمة أو فوقية الغلبة، أو فوقية القهر، وأنها لا تدل على أن الله تعالى فوق المخلوقات، بل إنه ليس فوق العرش ولا فوق السماوات، وجميع الأماكن بالنسبة إليه سواء، وليس له مكان، تعالى الله عما يقولون! نقول لكم: العقول السليمة تشهد بإقرار الفوقية؛ لأن من لم يثبت الفوقية لزمه أن يثبت ضدها، فمن لم يوصف بالفوقية لابد أن يوصف بالسفل، وهذه صفة نقص، والله تعالى أحق أن يوصف بالفوقية، وقد ذكر أن السفل والتحتية أماكن الشياطين، وأن إبليس وجنوده هم الذين يوصفون بأنهم في السفل لا في الفوقية، وقد دان أهل السنة والمسلمون عموماً بوصف الله تعالى بالفوقية، وأقروا بذلك في عقولهم، ووافقوا على ذلك الأدلة الصريحة الصحيحة، وعلموا أن من لم يكن موصوفاً بالعلو فهو موصوف بالسفل، ومن لم يكن موصوفاً بالفوق فهو موصوف بالتحت، واستدلوا على ذلك بهذه النصوص، وأقروا على ذلك بعقولهم.
ولا عبرة بمن خالفهم في ذلك ولو كثر عددهم، وقد قرأت لبعض هؤلاء المبتدعة لما نقل أثراً يخالف معتقده في تفسير قوله تعالى في سورة الشورى: {تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ} [الشورى:5] فنقل عن ابن عباس أنه قال: (تتفطر السماوات من ثقل الرب) فكبرت هذه الكلمة عند هذا المبتدع، فقال: المراد: من هيبته.
انظروا كيف صرف هذا الأثر عن ابن عباس وجعل المراد أنها تتفطر من هيبته؛ لأنه لا يدين بأن الله فوق السماوات، وأن السماوات تتفطر من ثقله، وكذلك العرش، ويكذب ما ذكر في الحديث من أن العرش يئط به ونحو ذلك.
فعلى كل حال: يقال لهم: العقول السليمة تدل على أن من لم يتصف بالعلو اتصف بالسفل، ومن لم يتصف بالفوقية اتصف بالتحتية، فأنتم يلزمكم إذا نفيتم الفوق أن تثبتوا التحت، وذلك وصف نقص، وهذا لا يجوز.
فأصبح العقل والنقل كلاهما متفقان على وصف الله تعالى بالفوقية وهي وصف كمال، وأصبحت عقلياتهم متهافتة كما وصفها شيخ الإسلام بالبيت الذي استشهد به: ججج تهافت كالزجاج تخالها حقاً وكلٌ كاسر مكسور شبهها بالزجاجتان إذا ضربت إحداهما بالأخرى تكسرت الزجاجتان، فهكذا شبه هؤلاء وشبه هؤلاء.(33/6)
الرد بالأدلة العقلية على نفاة صفة الفوقية
قال الشارح رحمه الله: [فإن قيل: لا نسلم أنه قابل للفوقية حتى يلزم من نفيها ثبوت ضدها.
قيل: لو لم يكن قابلاً للعلو والفوقية لم يكن له حقيقة قائمة بنفسها، فمتى أقررتم بأنه ذات قائم بنفسه، غير مخالط للعالم، وأنه موجود في الخارج، ليس وجوده ذهنياً فقط، بل وجوده خارج الأذهان قطعاً، وقد علم العقلاء كلهم بالضرورة أن ما كان وجوده كذلك فهو: إما داخل العالم، وإما خارج عنه، وإنكار ذلك إنكار ما هو أجلى وأظهر من الأمور البديهيات الضرورية بلا ريب، فلا يستدل على ذلك بدليل إلا كان العلم بالمباينة أظهر منه، وأوضح وأبين.
وإذا كان صفة العلو والفوقية صفة كمال، لا نقص فيه، ولا يستلزم نقصاً، ولا يوجب محذوراً، ولا يخالف كتاباً، ولا سنة، ولا إجماعاً، فنفي حقيقته يكون عين الباطل والمحال الذي لا تأتي به شريعة أصلاً.
فكيف إذا كان لا يمكن الإقرار بوجوده وتصديق رسله، والإيمان بكتابه وبما جاء به رسوله إلا بذلك؟ فكيف إذا انضم إلى ذلك شهادة العقول السليمة، والفطر المستقيمة، والنصوص الواردة المتنوعة المحكمة على علو الله على خلقه، وكونه فوق عباده، التي تقرب من عشرين نوعاً؟!] .
هذه مجادلة مع أصحاب البدع بالعقليات، ويستحسن عدم التوسع فيها؛ وذلك لأن التوسع فيها قد يؤدي إلى عدة مفاسد، منها: أولاً: فيه مضيعة للوقت.
ثانياً: فيه إثارة لشبهات لا ينبغي الخوض فيها.
ثالثاً: لا شك أنه يسبب التشويش على الإنسان والتفكر في أشياء لا يحتاج إلى التفكر فيها، وقد ورد في بعض الآثار: (تفكروا في المخلوق، ولا تفكروا في الخالق) يعني: انظروا في مخلوقات الله عز وجل فإنكم تأخذون منها عبرة على عظمة خالقها، وأما ذات الخالق وكيفية ذاته وصفاته فاصرفوا عنها الأفكار، واستحضروا بأذهانكم عظمته وكبرياءه، وجلاله وعلوه على خلقه، وتفرده بالملك، وتفرده بالتصرف، واستحقاقه للعبادة على خلقه، فإذا اعتقدتم ذلك كفيتم عن الخوض في الأشياء الباطلة.
ومعلوم أن كلامهم في وصف الله تعالى يفيد أنه ليس له حقيقة ولا وجود إلا في الأذهان، فهم يقسمون الوجود إلى وجودين: وجود في الأذهان، ووجود في الأعيان، وهو الذي يمكن للعيان أن يصل إليه، وإذا تأملنا ما يقوله المعتزلة وما يقوله سلفهم -وهم الفلاسفة- من ذلك المحض الذي لا أتجرأ أن آتي به، إذا تأملناه وجدناه يقود إلى النفي المحض، وعدم الاعتراف بخالق مدبر متصرف في الخلق، فيقال لهم: إما أن تعترفوا بوجود رب خارج الأذهان -ليس مجرد وجود في الأذهان- أو لا تعترفوا، فإذا كنتم معترفين لزمكم لزوماً لا محيد لكم عنه أن تعترفوا بأنه ولابد فوق العباد أو تحت أو عن يمين أو عن يسار، وجهة الفوقية أشرف الجهات فاعتمدوها واعتقدوها، ولا يلزم منها محذور، ولا يقال: إنها تدل على حصر أو إنها تدل على تحيز أو على تجسيم، أو على غير ذلك من المحذورات التي يلتزمون بها.
فالواجب أن ندين بذلك، ونترك الخوض فيما يقولونه مما هو في الحقيقة نفي محض، ولا فرق بين ما يقولونه ويعتقدونه وبين العدم المحض، الذي هو حقيقة المعدوم الذي لا مدح له ولا وجود له أصلاً فيمدح.
هذا هو معتقد أهل السنة، وتلك هي أقوال الفلاسفة التي أخذها عنهم المعتزلة.
ومن أقوالهم أن الله إنما يتصف بالسفل لو كان قابلاً للعلو، فإذا لم يكن قابلاً للعلو لم يلزم اتصافه بالسفل، ويقولون: إنه لا يقبل السمع ولا البصر، فلا يوصف بها، فهم يلتزمون نفي صفة السمع والبصر، وإذا قيل لهم: إذا نفيتم عنه السمع والبصر فقد لزمكم أن تشبهوه بفاقد السمع وهو الأصم، وفاقد البصر وهو الأعمى، فيقولون: هذا لو كان قابلاً، أما إذا لم يكن قابلاً فلا، ثم يقولون: الجدار مثلاً لا يقبل الاتصاف بهما، فلا يقال للجدار: حي ولا ميت؛ لأنه لا يقبلهما، ولا يقال للجدار: إنه أصم ولا سميع ولا أعمى ولا بصير؛ لأنه ليس بقابل لواحد منهما، وهذا ليس بصحيح بل هو قابل لهما، فيوصف بأنه جماد، ويوصف بأنه ميت لا حركة فيه، فهو يقبل ذلك، فهم يتمسكون بهذه الشبهة التي تلقوها من الفلاسفة، وهي شبهة باطلة ضالة.(33/7)
أنواع الأدلة الدالة على إثبات صفة العلو لله تعالى
قال الشارح رحمه الله تعالى: [أحدها: التصريح بالفوقية مقروناً بأداة: (من) المعينة للفوقية بالذات: كقوله تعالى: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل:50] .
الثاني: ذكرها مجردة عن الأداة: كقوله تعالى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام:18] .
الثالث: التصريح بالعروج إليه: نحو {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} [المعارج:4] ، وقوله صلى الله عليه وسلم: (فيعرج الذين باتوا فيكم فيسألهم) .
الرابع: التصريح بالصعود إليه: كقوله تعالى: (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ) [فاطر:10] .
الخامس: التصريح برفعه بعض المخلوقات إليه: كقوله تعالى: (بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ) [النساء:158] ، وقوله: (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ) [آل عمران:55] .
السادس: التصريح بالعلو المطلق، الدال على جميع مراتب العلو، ذاتاً وقدراً وشرفاً، كقوله تعالى: (وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) [البقرة:255] (وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) [سبأ:23] {إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ} [الشورى:51] .
السابع: التصريح بتنزيل الكتاب منه: كقوله تعالى: (تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنْ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) [غافر:2] (تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنْ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) [الزمر:1] (تَنزِيلٌ مِنْ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) [فصلت:2] (تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) [فصلت:42] (قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ) [النحل:102] {حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَة مُبَارَكَة إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْراً مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} [الدخان:5] .
الثامن: التصريح باختصاص بعض المخلوقات بأنها عنده، وأن بعضها أقرب إليه من بعض، كقوله: (إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ) [الأعراف:206] (وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ) [الأنبياء:19] ففرق بين (من له) عموماً وبين (من عنده) من مماليكه وعبيده خصوصاً.
وقول النبي صلى الله عليه وسلم في الكتاب الذي كتبه الرب تعالى على نفسه: (أنه عنده فوق العرش) .
التاسع: التصريح بأنه تعالى في السماء، وهذا عند المفسرين من أهل السنة على أحد وجهين: إما أن تكون (في) بمعنى (على) ، وإما أن يراد بالسماء العلو، لا يختلفون في ذلك، ولا يجوز الحمل على غيره.
العاشر: التصريح بالاستواء مقروناً بأداة (على) مختصاً بالعرش، الذي هو أعلى المخلوقات، مصاحباً في الأكثر لأداة: (ثم) الدالة على الترتيب والمهلة] .
أنواع الأدلة على علو الله تعالى كثيرة، ويمكن أن تصل فروع بعضها وأفرادها إلى أكثر من مائة أو مائتين.(33/8)
ذكر الفوقية مقرونة بـ (من)
النوع الأول من أنواع الفوقية: الفوقية المقرونة بـ (من) ، وقد ورد في قوله تعالى في سورة النحل: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل:50] ، وهذا صريح في أن ربهم من فوقهم، فهذا دليل على العلو.(33/9)
ذكر العلو مجرداً عن (من)
النوع الثاني: ذكر العلو مجرداً عن (من) ، وهو عام لأنواع الفوقية، كقوله: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} [الأنعام:18] يعم ذلك أنه فوقهم بقهره، وفوقهم بذاته فوقية تليق بجلاله.(33/10)
التصريح بالعروج إليه
النوع الثالث: التصريح بالعروج إليه، والعروج هو: الرقي.
وقد ذكر في قوله تعالى في سورة السجدة: {يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ} [السجدة:5] ، وفي قوله تعالى في سورة المعارج: {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} [المعارج:4] ، ولا شك أن العروج يكون من أسفل إلى أعلى، وهذا دليل على أنه هو العلي الأعلى.(33/11)
التصريح بالصعود إليه
النوع الرابع: التصريح بالصعود إليه، والصعود: هو الرقي -أيضاً- وقد ذكر في قوله تعالى في سورة فاطر: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} [فاطر:10] فدل على إثبات صفة العلو.(33/12)
التصريح برفعه بعض المخلوقات إليه
النوع الخامس: ذكر الرفع، ومعلوم أن الرفع يكون من مكان منخفض إلى مكان مرتفع، وقد ذكر في قوله تعالى: {وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر:10] ، وذكر في قوله عن عيسى في سورة آل عمران: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} [آل عمران:55] ، وفي سورة النساء: {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} [النساء:158] ، وقد كان عيسى في الأرض، فرفعه الله إليه إلى السماوات، فهذا دليل على صفة العلو.(33/13)
التصريح بالعلو المطلق
النوع السادس: ذكر كلمة (العلو) وقد وردت بثلاث صيغ: وردت بصيغة (العلي) كقوله تعالى: {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة:255] ، وقوله {إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ} [الشورى:51] ، وقوله {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا} [النساء:34] .
ووردت بصيغة (الأعلى) كقوله تعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى:1] ، وكقوله: {إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى} [الليل:20] .
ووردت بصيغة (كان) كقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا} [النساء:34] ، ولا شك أن العلو يلتزم ثلاثة أنواع: علو القدر، وعلو القهر، وعلو الذات.(33/14)
التصريح بأنه تعالى في السماء
النوع السابع: التصريح بذكر أنه في السماء في موضعين من سورة الملك: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ} [الملك:16] ، وقوله: {أَمْ أَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا} [الملك:17] .
وأما في الأحاديث فكثير جداً، كقوله صلى الله عليه وسلم: (ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء؟) وكقوله: (ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء) ، وقوله للجارية: (أين الله؟ قالت: في السماء.
فقال: اعتقها فإنها مؤمنة) .
وتفسر (في) هنا بتفسيرين: التفسير الأول: أن (في) بمعنى (على) ، (في السماء) يعني: على السماء، ولا يلزم أن تكون السماء تحيط به أو تحصره تعالى الله، فيكون معنى (في السماء) : على السماء، قال تعالى عن فرعون: {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه:71] أي: على جذوع النخل، وقال تعالى: {فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ} [التوبة:2] أي: على الأرض، فكذلك (في السماء) يعني: على السماء.
التفسير الثاني: أن السماء اسم للعلو، وكل ما علا وارتفع فهو سماء، فيكون قوله: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك:16] أي: من في العلو.(33/15)
التصريح بالنزول من عند الله
النوع الثامن من الأدلة: ذكر النزول من الله تعالى في عدة من المواضع، كقوله: {مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ} [الأنعام:114] ، وقوله: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ} [الزمر:1] والنزول معناه: الهبوط، فدل على أن الملائكة تنزل من عند الله، وكذلك الكتاب نزل من الله، فهذا يستدعي أن يكون النزول من أعلى، فدل على إثبات صفة العلو.(33/16)
التصريح باختصاص بعض المخلوقات أنها عنده
النوع التاسع: تخصيص بعض المخلوقات بأنها عند الله، قال تعالى عن امرأة فرعون: {قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ} [التحريم:11] ، وقال تعالى: {فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} [فصلت:38] ، وقال تعالى: {وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ} [الأنبياء:19] ، وقال صلى الله عليه وسلم: (إن الله كتب كتاباً، فهو عنده فوق العرش: إن رحمتي سبقت غضبي) فالتصريح بأنها عنده دليل على صفة العلو، ولا شك أن الله أخبر بأن بعض المخلوقات أقرب إليه من بعض، والقرب قد يكون حسياً، وقد يكون معنوياً، وإن كان الجميع بالنسبة إلى قدرة الله وعظمته سوياً.(33/17)
ذكر الاستواء مقروناً بأداة (على)
النوع العاشر: ذكر الاستواء، وقد ورد في سبعة مواضع: في سورة الأعراف: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف:54] ، وكذا في سورة يونس، وفي سورة الرعد، وفي سورة طه: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] ، وفي سورة الفرقان: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ} [الفرقان:59] ، وفي سورة السجدة، وفي سورة الحديد، وكلها ذكر فيها لفظ (استوى) ، والعرب إذا ذكرت الاستواء متعدياً بـ (على) فإنها تقصد بذلك العلو.
ودليل ذلك قوله تعالى في سفينة نوح: {وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ} [هود:44] يعني: استقرت مرتفعة عليه، وقوله تعالى في الإبل: {لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ} [الزخرف:13] يعني: تركبوها مرتفعين على ظهورها، فهذا الاستواء بمعنى الارتفاع، وهكذا قوله: (ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ) ، وقد فسرها السلف رحمهم الله، وإن كانوا يفوضون حقيقتها وكيفيتها، كما ذكر عن مالك أنه قال: (الاستواء معلوم، والكيف مجهول) ، وصف الاستواء بأنه معلوم، أي: معروف من جهة اللغة، فالقرآن كلام عربي فصيح، نزل على قوم يعرفونه ويفهمونه، فهو معروف، ولكن الكيفية هي المجهولة والخفية، وهذا تفسير السلف رحمهم الله، والإمام مالك إمام دار الهجرة، وشيخه ربيعة بن أبي عبد الرحمن، وأم سلمة رضي الله عنها إحدى أمهات المؤمنين، كلهم روي عنهم هذا التفسير.
أما المعتزلة والنفاة فقد حرفوا هذه اللفظة، وجعلوها بمعنى: الاستيلاء.
فقالوا: (استوى) أي: استولى.
ورد عليهم بعض علماء أهل السنة فقالوا: الاستيلاء عام، وليس خاصاً، فالله مستول على جميع المخلوقات لا على العرش وحده، وإنما خص الله الاستواء بالعرش، وأنتم تجعلون الاستواء بمعنى الاستيلاء، ولا خصوصية للعرش بذلك، وبذلك يبطل تأويلهم، فعرفنا بذلك أن هذه الأنواع صريحة بأن الله سبحانه وتعالى فوق عباده كما أخبر في هذه الأنواع من الأدلة، وغيرها كثير.(33/18)
التصريح برفع الأيدي إلى الله تعالى
قال الشارح رحمه الله: [الحادي عشر: التصريح برفع الأيدي إلى الله تعالى: كقوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله يستحيي من عبده إذا رفع إليه يديه أن يردهما صفراً) ، والقول بأن العلو قبلة الدعاء فقط باطل بالضرورة والفطرة، وهذا يجده من نفسه كل داع كما يأتي إن شاء الله تعالى.
الثاني عشر: التصريح بنزوله كل ليلة إلى سماء الدنيا: والنزول المعقول عند جميع الأمم إنما يكون من علو إلى سفل.
الثالث عشر: الإشارة إليه حساً إلى العلو: كما أشار إليه من هو أعلم بربه، وبما يجب له ويمتنع عليه من جميع البشر، لما كان بالمجمع الأعظم الذي لم يجتمع لأحد مثله في اليوم الأعظم، في المكان الأعظم، قال لهم: (أنتم مسئولون عني، فماذا أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت، فرفع أصبعه الكريمة إلى السماء رافعاً لها إلى من هو فوقها وفوق كل شيء، قائلاً: اللهم اشهد) فكأنا نشاهد تلك الأصبع الكريمة وهي مرفوعة إلى الله، وذلك اللسان الكريم وهو يقول لما رفع أصبعه إليه: (اللهم اشهد) ، ونشهد أنه بلغ البلاغ المبين، وأدى رسالة ربه كما أُمر، ونصح أمته غاية النصيحة، فلا يحتاج مع بيانه وتبليغه وكشفه وإيضاحه إلى تنطع المتنطعين، وحذلقة المتحذلقين! والحمد لله رب العالمين.
الرابع عشر: التصريح بلفظ: (الأين) : كقول أعلم الخلق به، وأنصحهم لأمته، وأفصحهم بياناً عن المعنى الصحيح، بلفظ لا يوهم باطلاً بوجه: (أين الله؟) في غير موضع.
الخامس عشر: شهادته صلى الله عليه وسلم لمن قال: إن ربه في السماء.
بالإيمان.
السادس عشر: إخباره تعالى عن فرعون أنه رام الصعود إلى السماء؛ ليطلع إلى إله موسى، فيكذبه فيما أخبره من أنه سبحانه فوق السماوات، فقال: {يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِباً} [غافر:36-37] ، فمن نفى العلو من الجهمية فهو فرعوني، ومن أثبته فهو موسوي محمدي.
السابع عشر: إخباره صلى الله عليه وسلم أنه تردد بين موسى عليه السلام وبين ربه ليلة المعراج؛ بسبب تخفيف الصلاة، فيصعد إلى ربه ثم يعود إلى موسى عدة مرار.
الثامن عشر: النصوص الدالة على رؤية أهل الجنة له تعالى من الكتاب والسنة، وإخبار النبي صلى الله عليه وسلم أنهم يرونه كرؤية الشمس والقمر ليلة البدر ليس دونه سحاب، ولا يرونه إلا من فوقهم، كما قال صلى الله عليه وسلم: (بينا أهل الجنة في نعيمهم، إذ سطع لهم نور، فرفعوا رءوسهم، فإذا الجبار جل جلاله قد أشرف عليهم من فوقهم، وقال: يا أهل الجنة! سلام عليكم، ثم قرأ قوله تعالى: {سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} [يس:58] ثم يتوارى عنهم وتبقى رحمته وبركته عليهم في ديارهم) رواه الإمام أحمد في المسند وغيره من حديث جابر رضي الله عنه] .
هذه -أيضاً- أنواع من الأدلة على علو الله وفوقيته، وكل نوع قد يكون تحته عدة أسرار، فمنها: النوع الحادي عشر: رفع الأيدي، وقد ورد في أكثر من ستين موضعاً أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا دعا رفع يديه، وكذلك صرح بذلك في قوله: (إن ربكم حيي كريم يستحيي من عبده إذا رفع إليه يديه أن يردهما صفراً) .
ولا شك أن الذي يرفع يديه إنما يرفعهما إلى الله؛ لأنه بذلك يستعطي ويستجدي ويسأل ويطلب، فلو لم يكن ربه فوقه لما رفع يديه، فهذا دليل على ذلك.(33/19)
الإشارة بالأصبع إلى الله
النوع الثاني عشر: الإشارة بالإصبع إليه في التشهد وفي الخطب ونحو ذلك، فالنبي صلى الله عليه وسلم لما خطب في حجة الوداع، وبلغهم وعلمهم، رفع إصبعه يشهد ربه، ويقول: (اللهم اشهد اللهم اشهد) يحرك إصبعه فيرفعها إلى السماء، ثم ينكبها مراراً، ولا شك أن ذلك استشهاد بربه الذي هو فوق العباد، ولا شك أن هذا من الأدلة الواضحة على مسألة العلو والفوقية.(33/20)
التصريح بلفظ (أين)
النوع الثالث عشر: السؤال بكلمة (أين) : كما في قوله للجارية: (أين الله؟) ، وقاله في غير ما حديث، وذلك دليل على أنه سبحانه وتعالى فوق العباد، حيث اعترف من سأله بالفوقية.
وكذلك أيضاً لما قالت الجارية: (في السماء) شهد لها بالإيمان، فأفاد أن أهل الإيمان هم الذين يعترفون بأن الرب تعالى فوقهم، وأنهم يعتقدون ذلك، وأن هذه فطرة الله.(33/21)
النصوص الدالة على رؤية أهل الجنة لربهم
من أنواع الأدلة على علو الله: رؤية المؤمنين لربهم في الجنة، ولا شك أنها من المسائل التي اعترف بها أهل السنة، ووافق عليها الأشاعرة، ونفتها المعتزلة، ولكن موافقة الأشاعرة حجة عليهم، وهم مع ذلك لا يؤمنون بها إيماناً حقيقياً؛ وذلك لأنهم ينكرون مسألة العلو، ولما أنكروا العلو وجاءتهم الأدلة بأن المؤمنين يرون ربهم لم يجدوا بداً من أن يقولوا بالرؤية اتباعاً للأئمة الذين ينتسبون إليهم، ومن جملتهم الأشعري الذي يقولون: إنهم على معتقده، ولكن فسروا الرؤية بالمكاشفات القلبية، أو بالرؤية القلبية، أو برؤية أنواره، أو ما أشبه ذلك، فلم يثبتوا رؤية حقيقية؛ وذلك لأنها ترد على مذهبهم في نفي صفة العلو، وقد تكاثرت الأدلة على إثبات الرؤية، وأن المؤمنين يرون ربهم، وهي معروفة مشهورة، وقد تقدم بعضها.
وبكل حال: فالأدلة التي سمعنا وغيرها كثيرة، وهي دالة على أن الله تعالى موصوف بأنه فوق عباده، وبأنه هو العلي الأعلى، ومتى اعتقد المسلم هذا الاعتقاد -الذي هو علو الله تعالى وفوقيته- فإنه يستحضر دائماً أنه فوق عباده، وأنه مع ذلك يسمعهم ويراهم ويطلع عليهم، ويعلم مناجاتهم وأحوالهم؛ فبذلك يعرف كيف يطيعه، ويعرف أنه أهل التقوى وأهل المغفرة.(33/22)
شرح العقيدة الطحاوية [34]
تأول أهل البدع استواء الله على عرشه بالاستيلاء، وقد بين العلماء فساد تأويلهم هذا، وردوا عليهم بردود نقلية وعقلية تبين بطلان ما ذهبوا إليه.(34/1)
الرد على من أنكر صفة العلو لله سبحانه
قال الشارح رحمه الله تعالى: [ولا يتم إنكار الفوقية إلا بإنكار الرؤية، ولهذا طرد الجهمية النفيين، وصدق أهل السنة بالأمرين معاً، وأقروا بهما، وصار من أثبت الرؤية ونفى العلو مذبذباً بين ذلك، لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء! وهذه الأنواع من الأدلة لو بسطت أفرادها لبلغت نحو ألف دليل، فعلى المتأول أن يجيب عن ذلك كله! وهيهات له بجواب صحيح عن بعض ذلك! وكلام السلف في إثبات صفة العلو كثير جداً، فمنه: ما روى شيخ الإسلام أبو إسماعيل الأنصاري في كتابه الفاروق بسنده إلى مطيع البلخي: أنه سأل أبا حنيفة عمن قال: لا أعرف ربي في السماء أم في الأرض؟ فقال: قد كفر؛ لأن الله يقول: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] وعرشه فوق سبع سماوات.
قلت: فإن قال: إنه على العرش، ولكن يقول: لا أدري العرش في السماء أم في الأرض؟ قال: هو كافر؛ لأنه أنكر أنه في السماء، فمن أنكر أنه في السماء فقد كفر.
وزاد غيره: لأن الله في أعلى عليين، وهو يدعى من أعلى لا من أسفل.
انتهى.
ولا يلتفت إلى من أنكر ذلك ممن ينتسب إلى مذهب أبي حنيفة، فقد انتسب إليه طوائف معتزلة وغيرهم مخالفون له في كثير من اعتقاداته، وقد ينتسب إلى مالك والشافعي وأحمد من يخالفهم في بعض اعتقاداتهم، وقصة أبي يوسف في استتابته لـ بشر المريسي لما أنكر أن يكون الله عز وجل فوق العرش مشهورة، رواها عبد الرحمن بن أبي حاتم وغيره.
ومن تأول (فوق) بأنه خير من عباده وأفضل منهم، وأنه خير من العرش وأفضل منه كما يقال: الأمير فوق الوزير، والدينار فوق الدرهم، فذلك مما تنفر عنه العقول السليمة، وتشمئز منه القلوب الصحيحة! فإن قول القائل ابتداءً: الله خير من عباده، وخير من عرشه.
من جنس قوله: الثلج بارد، والنار حارة، والشمس أضوأ من السراج، والسماء أعلى من سقف الدار، والجبل أثقل من الحصى، ورسول الله أفضل من فلان اليهودي، والسماء فوق الأرض!! وليس في ذلك تمجيد ولا تعظيم ولا مدح، بل هو من أرذل الكلام وأسمجه وأهجنه! فكيف يليق بكلام الله الذي لو اجتمع الإنس والجن على أن يأتوا بمثله لما أتوا بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً!! بل في ذلك تنقص كما قيل في المثل السائر: ألم تر أن السيف ينقص قدره إذا قيل إن السيف أمضى من العصا ولو قال قائل: الجوهر فوق قشر البصل وقشر السمك! لضحك منه العقلاء؛ للتفاوت الذي بينهما، فالتفاوت الذي بين الخالق والمخلوق أعظم وأعظم، بخلاف ما إذا كان المقام يقتضي ذلك، بأن كان احتجاجاً على مبطل، كما في قول يوسف الصديق عليه السلام: {أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [يوسف:39] ، وقوله تعالى: {آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ} [النمل:59] ، و {وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه:73]] .
يبين الشارح بهذا الرد على هؤلاء المتأولين لهذه الأدلة التي يقول المصنف: إنها لو بسطت أفرادها لبلغت ألف دليل، وهم يعجزون عن أن يجيبوا عنها دليلاً دليلاً، ولذلك سلكوا في التخلص منها مسالك رديئة، فقالوا: إن معنى قوله: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام:18] أي: خير من عباده، كما يقال مثلاً: هذا الطعام فوق هذا الطعام.
يعني: خيراً منه، أو: هذه الشاة فوق هذا الشاة.
يعني: أفضل منها، وما أشبه ذلك، فتأولوا قوله: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} بمعنى: خير من عباده.
ولا شك أن هذا من الكلام الذي لا فائدة فيه، ومثلها الأمثلة التي ذكرها الشارح، فلا شك أنه لا مناسبة بين الخالق والمخلوق حتى يقال: إن الله خير من عباده لأمور منها: أولاً: أنه سماهم (عباده) {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} فكيف يقال: وهو القاهر الذي هو خير منهم؟! ثانياً: ولله المثل الأعلى لا يقال في ملك يملك الكثير من البلاد: هذا الملك خير من هذا المملوك الذي هو عبد ذليل؛ لأنه لا مناسبة بينهما، لو قال ذلك أحد لاستحق التأديب، كيف يقال: إن هذا خير من هذا مع أنه لا مناسبة ولا مقاربة بينهما؟! فكذلك لا يقال: (فوق عباده) أي: خير من عباده.
وكذلك بقية الكلام الذي سمعنا، لا شك أنه كلام بارد سامج، كقولهم: السماء فوقنا، والأرض تحتنا، والشمس حارة، أو الشمس أضوأ من السراج، لا مناسبة بينهما حتى يقال ذلك.
وضرب المصنف المثل بهذا البيت: ألم تر أن السيف ينقص قدره إذا قيل إن السيف أمضى من العصا صحيح أن السيف أمضى من العصا، ولكن ينقص قدر السيف إذا قيل ذلك، فلا مناسبة بينهما، فالسيف له قدره، والعصا أنقص قدرة منه.
وكذلك لو قال قائل: الجوهر -الذي هو من أنفس ما يدخر- خير من قشر البصل، أو من قشر السمك.
هذا صحيح، ولكن من سمع هذا استهزأ بقائله، وقال: لا مناسبة بينهما؛ فبذلك يعرف أن هذا الكلام كلام رديء، وأنه لا مناسبة له.
ويجب أن تفسر هذه الآيات بالمعاني التي تناسبها، فيقال في الفوقية: إنها فوقية القدر، وفوقية الذات، وفوقية القهر والغلبة.
ويقال أيضاً في العلو: إن الله تعالى عالٍ بجميع أنواع العلو، ومن ذلك علو الذات.
ويقال في بقية الأدلة مثل ذلك، وهذه الأدلة بأنواعها التي لو بسطت لبلغت أفرادها ألف دليل، فلو اجتمع منها عشرة فقط لصعب التخلص منها فكيف إذا اجتمع مائة دليل؟! فكيف إذا اجتمع ما يقرب من ألف دليل؟! كيف يجيبون عنها ويتخلصون منها؟!! إذاً: ليس لهم إلا أن يسلموا بهذه الصفة التي هي صفة العلو لله سبحانه وتعالى، ويؤمنون بأن الله هو العلي الأعلى، ويعترفون بصفاته التي منها: أنه قريب منهم، وأنه مطلع عليهم، وأن علوه وارتفاعه على خلقه لا يلزم منه غيبة ولا بعد، ولا خفاء شيء عليه كما أخبر بذلك في كتابه في قوله تعالى: {وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ} [يونس:61] يعني: وما يغيب عنه ويذهب عليه مثقال ذرة مما في السماوات ومما في الأرض، وكذلك قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ} [الأعراف:7] أي: أنه تعالى ليس غائباً عن عباده، بل هو مطلع عليهم، سأل بعض الصحابة النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: (يا رسول الله! أقريب ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه؟ فأنزل الله: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة:186] ) فعند ذلك أمرهم أن يناجوا ربهم، وأن يسألوه سراً، ولما رفع الصحابة أصواتهم مرة بالتكبير، وكانوا في سفر، فقال لهم صلى الله عليه وسلم: (أيها الناس! إنكم لا تدعون أصماً ولا غائباً، إنما تدعون سميعاً قريباً، إن الذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته) فأمرهم أن يدعوا ربهم سراً، وأن يناجوا ربهم، ويذكروه، ويستحضروا عظمته، فإنه يعلم سرهم ونجواهم، ومتى استشعر العبد هذه الصفة التي هي صفة الفوقية والقهر والغلبة، واستشعر صفة القرب والمناجاة ونحو ذلك؛ حمله ذلك على أن يعظم ربه، وأن يعبده حق عبادته.(34/2)
الأدلة العقلية على علو الله سبحانه
قال الشارح رحمه الله تعالى: [وإنما يثبت هذا المعنى من الفوقية في ضمن ثبوت الفوقية المطلقة من كل وجه، فله سبحانه وتعالى فوقية القهر، وفوقية القدر، وفوقية الذات، ومن أثبت البعض ونفى البعض فقد تنقص.
وعلوه تعالى مطلق من كل الوجوه، فإن قالوا: بل علو المكانة لا المكان، فالمكانة: تأنيث المكان، والمنزلة: تأنيث المنزل، فلفظ (المكانة والمنزلة) تستعمل في المكانات النفسانية والروحانية، كما يستعمل لفظ المكان والمنزل في الأمكنة الجسمانية، فإذا قيل: لك في قلوبنا منزلة، ومنزلة فلان في قلوبنا، وفي نفوسنا أعظم من منزلة فلان، كما جاء في الأثر: (إذا أحب أحدكم أن يعرف كيف منزلته عند الله، فلينظر كيف منزلة الله في قلبه، فإن الله ينزل العبد من نفسه حيث أنزله العبد من قلبه) ، فقوله: (منزلة الله في قلبه) : هو ما يكون في قلبه من معرفة الله ومحبته وتعظيمه وغير ذلك، فإذا عرف أن (المكانة والمنزلة) تأنيث المكان والمنزل، والمؤنث فرع على المذكر في اللفظ والمعنى، وتابع له، فعلو المثل الذي يكون في الذهن يتبع علو الحقيقة، إذا كان مطابقاً كان حقاً، وإلا كان باطلاً.
فإن قيل: المراد علوه في القلوب، وأنه أعلى في القلوب من كل شيء.
قيل: وكذلك هو، وهذا العلو مطابق لعلوه في نفسه على كل شيء، فإن لم يكن عالياً بنفسه على كل شيء كان علوه في القلوب غير مطابق، كمن جعل ما ليس بأعلى أعلى.
وعلوه سبحانه وتعالى كما هو ثابت بالسمع، ثابت بالعقل والفطرة، أما ثبوته بالعقل فمن وجوه: أحدها: العلم البديهي القاطع بأن كل موجودين، إما أن يكون أحدهما سارياً في الآخر، قائماً به كالصفات، وإما أن يكون قائماً بنفسه بائناً من الآخر.
الثاني: أنه لما خلق العالم، فإما أن يكون خلقه في ذاته أو خارجاً عن ذاته، والأول باطل.
أما أولاً: فبالاتفاق، وأما ثانياً: فلأنه يلزم أن يكون محلاً للخسائس والقاذورات تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
والثاني: يقتضي كون العلم واقعاً خارج ذاته، فيكون منفصلاً، فتعينت المباينة؛ لأن القول بأنه غير متصل بالعالم وغير منفصل عنه غير معقول.
الثالث: أن كونه تعالى لا داخل العالم ولا خارجه يقتضي نفي وجوده بالكلية؛ لأنه غير معقول، فيكون موجوداً إما داخله وإما خارجه، والأول باطل، فتعين الثاني، فلزمت المباينة] .
العلو على ثلاثة أنواع: علو الذات، وعلو القدر، وعلو القهر.
وكذلك الفوقية: فوقية القدر، وفوقية القهر، وفوقية الذات.
وفوقية القدر مثل أن يقال: الذهب فوق الفضة.
يعني: فوقها قدراً، هذه فوقية القدر، وفوقية القهر: كأن يقال: الأمير فوق الرعية.
يعني: فوقية قهر، أي: قاهراً لهم.
وفوقية الذات كأن يقال: الأمير فوق الكرسي.
يعني: أنه فوقه بذاته، فنثبت لله تعالى الفوقية بأنواعها، والعلو بأنواعه، وإذا أثبتنا لله فوقية الذات فإننا نثبت مع ذلك قربه ومعيته ومراقبته لعباده، وكونه لا تخفى عليه خافية، بل هو قريب منهم كما أخبر عن نفسه بقوله: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} [البقرة:186] .
فالذين تأولوا أن قوله تعالى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام:18] ، وقالوا: المراد: فوقية الغلبة، واستدلوا بكلمة (القهر) ، يرد عليهم بأن هذا نوع من أنواع الفوقية، وقد دل على النوع الثاني قوله تعالى: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [النحل:50] فإن هذه الآية لا تحتمل أنها فوقية القهر، بل هي فوقية الذات.
يعني: أنهم يخافون ربهم، وربهم فوقهم، ومع ذلك فهو مطلع عليهم وقريب منهم.
كذلك (العلو) قد يستعمل بمعنى: الغلبة، كما حكى الله عن فرعون أنه قال: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24] ، فأراد بالعلو هنا: الغالب.
يعني: أنا الغالب، وأنا القاهر، وأنا المتصرف، وأنا المالك، فهذا نوع من أنواع العلو، فالله تعالى وصف نفسه بقوله: {إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى} [الليل:20] ، فنقول: (الأعلى) علو غلبة، وعلو قهر، وعلو قدر وذات، فله أنواع العلو كلها، ولا يلزم من ذلك أن يكون محتاجاً إلى شيء من مخلوقاته، بل هو غني عن العرش وما دونه كما تقدم.
وصفة العلو دل عليها العقل والفطرة، كما دل عليها النقل، فالنصوص التي وردت فيها أكثر من أن تحصر، وكلها دالة على صفة العلو، والفطرة والعقل تدل على صفة العلو عند كل عاقل، أما صفة الاستواء فدل عليها النقل، فدلت عليها النصوص والآيات الصريحة التي لا تحتمل التأويل، وقد ذكر العلماء في تفسير آيات الاستواء ما يدل على أنهم متفقون على دلالتها على العلو، حيث إنها عديت بـ (على) كما في قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] فكلمة (على) تدل على الفوقية، أي: فوق العرش.(34/3)
معاني قوله تعالى: (ثم استوى على العرش)
فسروا كلمة (استوى) بعشرة تفاسير: قال بعضهم: {اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف:54] يعني: استقر عليه.
وقال بعضهم: (استوى على العرش) : ارتفع عليه.
وقال آخرون: (استوى) يعني: علا.
وقال آخرون: (استوى) يعني: صعد.
كما نظم ذلك ابن القيم في النونية بقوله لما ذكر أدلة الاستواء، وأنها سبع آيات فيها ثبوت الاستواء على العرش يقول: وكذلك اطردت بلا (لام) ولو كانت بمعنى (اللام) في الأذهان لأدت بها في موضع كي يحمل الباقي عليها وهو ذو إمكان اطردت في السبع الآيات بلفظ: (استوى) ، وما منها موضع واحد جاء بـ (اللام) استولى، فالسلف فسروها بأربعة تفاسير، وذكر ذلك بقوله: ولهم عبارات عليها أربع قد حررت للفارس الطعان وهي استقر وقد علا وكذلك ارتفع الذي ما فيه من نكران وكذاك قد صعد الذي هو رابع وأبو عبيدة صاحب الشيباني يختار هذا القول في تفسيره أدرى من الجهمي بالقرآن وأبو عبيدة هو معمر بن المثنى من علماء اللغة فسر قوله: (استوى على العرش) أي: صعد، وكان من علماء اللغة، وذكروا أنه طرق عليه بعض أصحابه الباب، وكان في غرفة في أعلى بيته، فأطل عليهم من تحت وقال: استووا.
أي: اصعدوا إلي.
فدل على أن كلمة (استوى) تأتي بمعنى: صعد.
وعلى كل حال: فالاستواء دل عليه النقل، ولا يخالف العقل، وكل الأدلة تؤيد العقل، وعرف بذلك أن الاستواء قد دل عليه السمع، وأن العلو قد دل عليه النقل والعقل وهو الفطرة.
وأما تأويلات المتأولين بأن المراد: علو المكانة، أو علو المنزلة، وأن هذا مثل قولهم: فلان له مكانة في قلبي، أو له منزلة في نفسي، وفسروا العلو بعلو المكانة؛ فهذا خلاف الظاهر، وإذا قلنا: إن الله فوق عباده فلا يلزم أن يكون محتاجاً إلى شيء من مخلوقاته، بل هو {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] .
يقول الشارح: كلمة (المكانة والمنزلة) تأنيث المكان والمنزل، وعلى هذا يكونون قد أثبتوا مكاناً ومنزلاً، وسواء كان ذلك المكان في قلوب العباد أو فوق العباد فلابد أنهم قد أثبتوه.
وذكر الشارح أن العقل دل على انفصال الخالق عن المخلوق وتميزه عنه، وأنه لا يمكن أن يكون الخالق مختلطاً بالمخلوق، فإن ذلك يلزم منه أنه محل لحلول الحوادث.
وأما قول الفلاسفة: أنه لا داخل العالم ولا خارجه، فهو قول بالنفي المحض، فالشيء الذي لا داخل العالم ولا خارجه هو المعدوم حقاً، فكأنهم لا يثبتون إلهاً تعالى الله عن قولهم، بخلاف أهل السنة الذين أثبتوا أنه فوق العالم، وأنه ليس في ذاته شيء من مخلوقاته، ولا في مخلوقاته شيء من ذاته، وأنه خلق خلقه متميزين عنه، والجميع خلقه، وهو الذي ابتدأ خلقهم وأنشأهم وقال لأحدهم: {كُنْ فَيَكُونُ} [البقرة:117] ، كما أخبر بذلك، فالخلق خلقه، والأمر أمره، والعباد عليهم أن يعبدوه وأن يصفوه بصفاته التي هي صفات الكمال.(34/4)
الرد العقلي على من أنكر صفة العلو
قال الشارح رحمه الله: [وأما ثبوته بالفطرة، فإن الخلق جميعاً بطباعهم وقلوبهم السليمة يرفعون أيديهم عند الدعاء، ويقصدون جهة العلو بقلوبهم عند التضرع إلى الله تعالى.
وذكر محمد بن طاهر المقدسي أن الشيخ أبا جعفر الهمذاني حضر مجلس الأستاذ أبي المعالي الجويني المعروف بإمام الحرمين، وهو يتكلم في نفي صفة العلو، ويقول: كان الله ولا عرش، وهو الآن على ما كان! فقال الشيخ أبو جعفر: أخبرنا يا أستاذ عن هذه الضرورة التي نجدها في قلوبنا؛ فإنه ما قال عارف قط: يا ألله! إلا وجد في قلبه ضرورة طلب العلو، لا يلتفت يمنة ولا يسرة، فكيف ندفع هذه الضرورة عن أنفسنا؟! قال: فلطم أبو المعالي على رأسه ونزل! وأظنه قال: وبكى! وقال: حيرني الهمذاني حيرني الهمذاني! أراد الشيخ: أن هذا أمر فطر الله عليه عباده، ومن غير أن يتلقوه من المعلمين، يجدون في قلوبهم طلباً ضرورياً يتوجه إلى الله ويطلبه في العلو.
وقد اعترض على الدليل العقلي بإنكار بداهته؛ لأنه أنكره جمهور العقلاء، فلو كان بديهياً لما كان مختلفاً فيه بين العقلاء، بل هو قضية وهمية خيالية.
والجواب عن هذا الاعتراض مبسوط في موضعه، ولكن أشير إليه هنا إشارة مختصرة، وهو أن يقال: إن العقل إن قبل قولكم فهو لقولنا أقبل، وإن رد العقل قولنا فهو لقولكم أعظم رداً، فإن كان قولنا باطلاً في العقل، فقولكم أبطل، وإن كان قولكم حقاً مقبولاً في العقل، فقولنا أولى أن يكون مقبولاً في العقل، فإن دعوى الضرورة مشتركة.
فإنا نقول: نعلم بالضرورة بطلان قولكم، وأنتم تقولون كذلك، فإذا قلتم: تلك الضرورة التي تحكم ببطلان قولنا هي من حكم الوهم لا من حكم العقل، قابلناكم بنظير قولكم، وعامة فطر الناس -ليسوا منكم ولا منا- يوافقونا على هذا، فإن كان حكم فطر بني آدم مقبولاً ترجحنا عليكم، وإن كان مردوداً غير مقبول بطل قولكم بالكلية، فإنكم إنما بنيتم قولكم على ما تدعون أنه مقدمات معلومة بالفطرة الآدمية، وبطلت عقلياتنا أيضاً، وكان السمع الذي جاءت به الأنبياء معنا لا معكم، فنحن مختصون بالسمع دونكم، والعقل مشترك بيننا وبينكم.
فإن قلتم: أكثر العقلاء يقولون بقولنا.
قيل: ليس الأمر كذلك، فإن الذين يصرحون بأن صانع العالم ليس هو فوق العالم وليس فوق العالم شيء موجود، وأنه لا مباين للعالم ولا حال في العالم طائفة من النظار، وأول من عرف عنه ذلك في الإسلام جهم بن صفوان وأتباعه] .
سمعنا هذه الدلالة العقلية على إثبات صفة العلو، وذكروا أن صفة الاستواء دل عليها الكتاب والسنة، وأما صفة العلو فدل عليها الكتاب والسنة والفطرة: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم:30] ، فالناس مفطورون وقلوبهم موجهة إلى السماء، لا يقدرون أن ينكروا ذلك، إذا دعا أحدهم ربه رفع رأسه، حتى ذكروا أن الدواب إذا أجدبت ترفع رءوسها إلى السماء، وهذا أيضاً دليل على أن هذه الفطرة فطرة عامة، الخلق المكلف وغيره قد فطر على الخوف والرغبة من الله تعالى وأنه فوقه، وهذا دليل فطري.(34/5)
الفطرة السليمة تدل على علو الله
قصة أبي المعالي الجويني وأبي جعفر الهمذاني مشهورة، والجويني من علماء الشافعية، ولكنه من الأشاعرة الذين ينكرون صفة العلو، وإن كانوا يقرون بكثير من الصفات، لكن صفة العلو التزموا إنكارها، وحجته في إنكارها أن الله كان قبل أن يخلق العرش، وهو الآن على ما كان قبل خلق العرش، وهذه الحجة وهمية ليست بلازمة ولا مقنعة، صحيح أن الله تعالى كان قبل كل شيء، وأنه هو الذي خلق العرش وما دون العرش، وأنه مستغن عن العرش وما دونه، ولا يلزم من استوائه على العرش أنه محتاج إلى العرش أو غيره، فهو لما تكلم بهذا في هذا الجمع الكبير اعترض عليه الهمذاني بهذا الاعتراض، وقال: دعنا من هذا، نحن مضطرون إلى أن نرفع رغباتنا إلى السماء عند الدعاء، إذا دعا أحدنا ربه وجد من قلبه ميلاً إلى العلو، لا يلتفت يمنة ولا يسرة، ولا فوق ولا تحت، هذه الضرورة التي نجدها في قلوبنا كيف ندفعها؟! ولما تكلم بهذا حير الجويني، ولم يجد بداً من أن يستسلم وقال: حيرني الهمذاني حيرني الهمذاني! فهذه فطرة الله التي فطر الخلق عليها، ولا يستطيعون إنكارها، لكن هؤلاء الذين أنكروها بعد أن كانوا مفطورين عليها إنما أنكروها عناداً، وإلا فلا شك أن قلوبهم تميل إلى أن الله فوق، ولكنهم لما تلقوا هذه العقيدة عن أكابرهم ومشايخهم لم يجدوا بداً من الاستسلام لها وعدم الاعتراض عليها، فهذا هو السبب في كونهم ينكرون ما هو ظاهر وما هو مشهور.
وقولهم: لو كانت فطرية لاستوى الناس فيها وفي الإقرار بها، فإن الناس كلهم ذوو عقول.
الجواب
أنه قد أقر بها من بقي على فطرته، وأما من تغيرت فطرته فلا يلتفت إلى إنكاره، فهؤلاء المنكرون تغيرت فطرتهم؛ بسبب تأثير البيئة أو المجتمع أو التربية السيئة.
فصار لهم حالتان: إما أنهم مقرون بقلوبهم، ومنكرون بألسنتهم ما في قلوبهم من الميل إلى الفوقية، وإما أنهم تغيرت فطرتهم فلم يبق في قلوبهم ذلك الميل الذي كانوا عليه عندما ولدوا، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأن الفطرة تتغير بالمجتمعات في قوله صلى الله عليه وسلم: (ما من مولود يولد إلا على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه) يعني: أنه مولود على الفطرة التي هي معرفة ربه، ومعرفة خالقه، والإقرار بفوقيته، ولكن أبواه ومجتمعه ومعلموه ومدربوه ومدرسوه هم الذين يغيرون تلك الفطرة إلى ما يعتقدونه، حتى يصير يهودياً أو نصرانياً أو مجوسياً أو وثنياً أو مبتدعاً جهمياً أو غيره، فالله تعالى فطر الناس على هذه الفطرة، ولكن هؤلاء أنكروا بزعمهم، وادعوا أن عقولهم لا تدل على هذه الفطرة.
والجواب: أن يقال: قد أقر بهذه الفطرة الخلق الكثير الذين بقوا على عقيدتهم، وأنتم على ما أنتم عليه من إنكارها، فنقابل إقرار هؤلاء وإقرار هؤلاء فننظر أيهما أرجح، فنجد أن هؤلاء المقرين في جانبهم النقل وهو الكتاب والسنة، فيجتمع العقل والنقل فيكون أرجح من الذين ليس معهم إلا العقل.
جواب آخر وهو: أن عقول هؤلاء دائماً تتغير، وتختلف اختلافاً كثيراً، فتجد اثنين يتعلمان على معلم واحد ثم يختلفان، فهذا يقول: أنكر عقلي كذا.
وهذا يقول: لم ينكره عقلي.
ويبقى الواحد منهم برهة من الزمان قد تصل إلى أربعين سنة أو خمسين سنة وهو يقر ويعترف بهذا الأمر، ثم تغلب عليه بعض الأمور فتصرفه وينقلب ويقول: أنكره قلبي! بقيت أربعين أو خمسين سنة وقلبك مقر به، ثم بعد ذلك أنكره! قد يكون بالعكس أيضاً: يتربى عشرين أو ثلاثين سنة وهو منكر له؛ تقليداً لمجتمعه ولمدرسيه ومعلميه، ثم بعد ذلك يمن الله عليه ويرجع إلى العقل السليم فيوافق عليه، فإذاً: اختلاف عقولهم دليل على عدم اتزانها.
وكذلك تفاوتهم وكون هذا يقر وهذا ينكر، أو هذا يقر زماناً ثم ينكر؛ دليل على أنها ليست معياراً، فالمعيار هو الشرع، وكذلك العقول السليمة.(34/6)
من أدلة علو الله: رفع الأيدي عند الدعاء إلى جهة السماء
يقول الشارح رحمه الله: [واعترض على الدليل الفطري: أن ذلك إنما كان لكون السماء قبلة للدعاء، كما أن الكعبة قبلة للصلاة، ثم هو منقوض بوضع الجبهة على الأرض، مع أنه ليس في جهة الأرض.
وأجيب عن هذا الاعتراض من وجوه: أحدها: أن قولكم: إن السماء قبلة الدعاء.
لم يقله أحد من سلف الأمة، ولا أنزل الله به من سلطان، وهذا من الأمور الشرعية الدينية، فلا يجوز أن يخفى على جميع سلف الأمة وعلمائها.
الثاني: أن قبلة الدعاء هي قبلة الصلاة، فإنه يستحب للداعي أن يستقبل القبلة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يستقبل القبلة في دعائه في مواطن كثيرة، فمن قال: إن للدعاء قبلة غير قبلة الصلاة، أو إن له قبلتين؛ إحداهما: الكعبة، والأخرى السماء.
فقد ابتدع في الدين، وخالف جماعة المسلمين.
الثالث: أن القبلة: هي ما يستقبله العابد بوجهه، كما تستقبل الكعبة في الصلاة والدعاء، والذكر، والذبح، وكما يوجه المحتضر والمدفون؛ ولذلك سميت (وجهة) ، والاستقبال خلاف الاستدبار، فالاستقبال بالوجه، والاستدبار بالدبر، فأما ما حاذاه الإنسان برأسه أو يديه أو جنبه فهذا لا يسمى قبلة، لا حقيقة ولا مجازاً، فلو كانت السماء قبلة الدعاء، لكان المشروع أن يوجه الداعي وجهه إليها، وهذا لم يشرع، والموضع الذي ترفع اليد إليه لا يسمى قبلة، لا حقيقة ولا مجازاً، ولأن القبلة في الدعاء أمر شرعي تتبع فيه الشرائع، ولم تأمر الرسل أن الداعي يستقبل السماء بوجهه، بل نهوا عن ذلك، ومعلوم أن التوجه بالقلب، واللجأ والطلب الذي يجده الداعي من نفسه أمر فطري، يفعله المسلم والكافر، والعالم والجاهل، وأكثر ما يفعله المضطر والمستغيث بالله، كما فطر على أنه إذا مسه الضر يدعو الله، مع أن أمر القبلة مما يقبل النسخ والتحويل، كما تحولت القبلة من الصخرة إلى الكعبة.
وأمر التوجه في الدعاء إلى الجهة العلوية مركوز في الفطر، والمستقبل للكعبة يعلم أن الله تعالى ليس هناك، بخلاف الداعي، فإنه يتوجه إلى ربه وخالقه، ويرجو الرحمة أن تنزل من عنده.
وأما النقض بوضع الجبهة فما أفسده من نقض! فإن واضع الجبهة إنما قصده الخضوع لمن فوقه بالذل له، لا بأن يميل إليه إذ هو تحته! هذا لا يخطر في قلب ساجد.
لكن يحكى عن بشر المريسي أنه سمع وهو يقول في سجوده: سبحان ربي الأسفل!! تعالى الله عما يقول الظالمون والجاحدون علواً كبيراً! وإن من أفضى به النفي إلى هذه الحال لحري أن يتزندق، إن لم يتداركه الله برحمته، وبعيد من مثله الصلاح، قال تعالى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّة} [الأنعام:110] ، وقال تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف:5] فمن لم يطلب الاهتداء من مظانه يعاقب بالحرمان، نسأل الله العفو والعافية.
وقوله: (وقد أعجز عن الإحاطة خلقه) .
أي: لا يحيطون به علماً ولا رؤية، ولا غير ذلك من وجوه الإحاطة، بل هو سبحانه محيط بكل شيء، ولا يحيط به شيء] .(34/7)