الإيمانُ بالجِنِّ بينَ الحقيقةِ والتَّهْويلِ
جمع وإعداد
الباحث في القرآن والسنة
علي بن نايف الشحود
الطبعة الأولى
1432 هـ - 2010 م
((ماليزيا))
((بهانج- دار المعمور))
((حقوق الطبع لكل مسلم))(/)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإن الإيمان بالغيب جزء لا يتجزأ من عقيدة المؤمن، قال تعالى: {الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3)} [البقرة:1 - 3]
ومن ذلك الإيمان بوجود الله تعالى، والإيمان بالملائكة، والإيمان بالجن، والإيمان بيوم القيامة، والإيمان بالحساب والجنة والنار ...
"إنَّ الإيمان بالغيب هو العتبة التي يجتازها الإنسان، فيتجاوز مرتبة الحيوان الذي لا يدرك إلا ما تدركه حواسه، إلى مرتبة الإنسان الذي يدرك أن الوجود أكبر وأشمل من ذلك الحيِّز الصغير المحدد الذي تدركه الحواس - أو الأجهزة التي هي امتداد للحواس - وهي نقلة بعيدة الأثر في تصور الإنسان لحقيقة الوجود كله ولحقيقة وجوده الذاتي، ولحقيقة القوى المنطلقة في كيان هذا الوجود، وفي إحساسه بالكون وما وراء الكون من قدرة وتدبير." (1)
" لقد كان الإيمان بالغيب هو مفرق الطريق في ارتقاء الإنسان عن عالم البهيمة. ولكن جماعة الماديين في هذا الزمان - كجماعة الماديين في كل زمان - يريدون أن يعودوا بالإنسان القهقرى .. إلى عالم البهيمة، الذي لا وجود فيه لغير المحسوس! ويسمون هذا «تقدمية»! وهو النكسة التي وقى اللّه المؤمنين إياها. فجعل صفتهم المميزة هي صفة: «الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ» ... والحمد للّه على نعمائه والنكسة للمنتكسين والمرتكسين" (2)
__________
(1) - في ظلال القرآن للسيد قطب - ت- علي بن نايف الشحود (ص:231)
(2) - في ظلال القرآن للسيد قطب - ت- علي بن نايف الشحود (ص:1548)(1/1)
" وَخَصَّ بِالذِّكْرِ الْإِيمَانَ بِالْغَيْبِ دُونَ غَيْرِهِ مِنْ مُتَعَلِّقَاتِ الْإِيمَانِ لِأَنَّ الْإِيمَانَ بِالْغَيْبِ أَيْ مَا غَابَ عَنِ الْحِسِّ هُوَ الْأَصْلُ فِي اعْتِقَادِ إِمْكَانِ مَا تُخْبِرُ بِهِ الرُّسُلَ عَنْ وُجُودِ اللَّهِ وَالْعَالَمِ
الْعُلْوِيِّ، فَإِذَا آمَنَ بِهِ الْمَرْءُ تَصَدَّى لِسَمَاعِ دَعْوَةِ الرَّسُولِ وَلِلنَّظَرِ فِيمَا يُبَلِّغُهُ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى فَسَهُلَ عَلَيْهِ إِدْرَاكُ الْأَدِلَّةِ، وَأَمَّا مَنْ يَعْتَقِدُ أَنْ لَيْسَ وَرَاءَ عَالَمِ الْمَادِّيَّاتِ عَالَمٌ آخَرُ وَهُوَ مَا وَرَاءَ الطَّبِيعَةِ فَقَدْ رَاضَ نَفْسَهُ عَلَى الْإِعْرَاضِ عَنِ الدَّعْوَةِ إِلَى الْإِيمَانِ بِوُجُودِ اللَّهِ وَعَالَمِ الْآخِرَةِ كَمَا كَانَ حَالُ الْمَادِّيِّينَ وَهُمُ الْمُسَمَّوْنَ بِالدَّهْرِيِّينَ الَّذِينَ قَالُوا: مَا يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ [الجاثية:24] وَقَرِيبٌ مِنَ اعْتِقَادِهِمُ اعْتِقَادُ الْمُشْرِكِينَ وَلِذَلِكَ عَبَدُوا الْأَصْنَامَ الْمُجَسَّمَةَ وَمُعْظَمُ الْعَرَبِ كَانُوا يُثْبِتُونَ مِنَ الْغَيْبِ وُجُودَ الْخَالِقِ وَبَعْضُهُمْ يُثْبِتُ الْمَلَائِكَةَ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِسِوَى ذَلِكَ." (1)
" إن الإيمان بالغيب عندئذ يكون هو الثمرة الطبيعية لإزالة الحجب الساترة، واتصال الروح بالغيب والاطمئنان إليه. ومع التقوى والإيمان بالغيب عبادة اللّه في الصورة التي اختارها، وجعلها صلة بين العبد والرب. ثم السخاء بجزء من الرزق اعترافا بجميل العطاء، وشعورا بالإخاء. ثم سعة الضمير لموكب الإيمان العريق، والشعور بآصرة القربى لكل مؤمن ولكل نبي ولكل رسالة. ثم اليقين بالآخرة بلا تردد ولا تأرجح في هذا اليقين .. وهذه كانت صورة الجماعة المسلمة التي قامت في المدينة يوم ذاك، مؤلفة من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار. وكانت هذه الجماعة بهذه الصفات شيئا عظيما. شيئا عظيما حقا بتمثل هذه الحقيقة الإيمانية فيها. ومن ثم صنع اللّه بهذه الجماعة أشياء عظيمة في الأرض، وفي حياة البشر جميعا .. " (2)
ولا يقبل من المسلم إيمان ما لم يؤمن بهذه الغيبيات التي ذكرت في القرآن الكريم وصحيح السنة النبوية المطهرة.
وأهل السنَّة والجماعة يؤمنون بكل ما ورد به الوحي، ومن ذلك الإيمان بالجن والشياطين.
__________
(1) - التحرير والتنوير (1/ 230) والتحرير والتنوير - مؤسسة التاريخ العربي، بيروت (1/ 227)
(2) - في ظلال القرآن للسيد قطب - ت- علي بن نايف الشحود (ص:233)(1/2)
وقد اضطربت عقائدُ الناس الذين ابتعدوا عن الوحي في الإيمان بالجن ما بين مؤمن بهم، وما بين منكر لهم، وفي عصرنا هذا كثرت الدعوات التي يزعم أصحابها أنهم يتبعون الحقائق العلمية، والتي تنكر وجود هذه المغيبات عنا لأنها لا تُرى بوسائل الحس والمشاهدة، ونسي هؤلاء أن كثيرا مما يؤمنون به لا يُرى بوسائل الحسِّ والمشاهدة، ولكنه الاستكبار وإنكار حقائق الدين الحق.
وانتشرت بين المسلمين كثيرٌ من الأوهام والخرافات حول الجن والشياطين، والعلاقة بينهم وبين الإنسان، وكثرت الكهانة والعرافة والسحر والشعوذة والتي تعتمد على الجنِّ.
وقد ألفت كتبٌ قليلة في هذا الموضوع، وأهمها كتاب ((آكام المرجان في أحكام الجان)) للشبلي، وهو كتاب جامع، وفيه كثير من الفوائد، ولكنه – رحمه الله -قد ملأه بالأحاديث والروايات الواهية والمنكرة. ومع هذا فقد أفدت منه كثيرا ...
وقد تكلم عنهم طويلا وعن علاقتهم بالإنس شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، في مجموع الفتاوى ....
ومن الكتب المعاصرة كتاب ((عالم الجن والشياطين)) للدكتور عمر سليمان الأشقر حفظه الله، وهو كتاب قيِّمٌ ونافعٌ ... ولكنه مختصر، وفاته أشياء كثيرة، وقدت أفدت منه كثيرا.
وفي كتاب ((الجامع الصحيح للسنن والمسانيد)) الجزء الأول بحث عن الإيمان بالجن، وهو بحث قيِّم، ولكن الأحاديث فيه متداخلة ... وقد أفدت منه ..
وفي كتابي هذا جمعتُ ما تناثر في هذا الموضوع الجلل، من مصادره الأساسية.
وقد اشتمل كتابنا هذا على عشرين مبحثا وهي:
المبحث الأول-وجوب الإيمان بالغيب
المبحث الثاني-وجوب الإيمان بالجن
المبحث الثالث-أنواعُ الجن وطوائفهم، وفيه تفصيل عن الشياطين
المبحث الرابع-قدرات الجن(1/3)
المبحث الخامس-مساكنُ الجن
المبحث السادس-طعامُ الجنِّ
المبحث السابع-الجن كالإنس يموتون
المبحث الثامن-الجنُّ مكلَّفون كالإنس
المبحث التاسع-العلاقة بين الجن والإنس
المبحث العاشر-الصراع بين الحق والباطل والإنسان والشيطان
المبحث الحادي عشر-أهداف الشيطان في إغواء الإنسان، وفيه تفصيل ..
المبحث الثاني عشر-أساليب الشيطان في إضلال الإنسان، وهي كثيرة جدا ..
المبحث الثالث عشر-كيف يصلُ الشيطان بوسوسته إلى نفس الإنسان، وفيه كلام أيضا عن تمثل الشياطين وعن رجال الغيب، وحكم الاستعانة بالجن في الطب وغيره، وتحضير الأرواح، والتنويم المغناطيسي ...
المبحث الرابع عشر-كيف نقي أنفسُنا من كيد الشيطان؟ وفيه أمور كثيرة ...
المبحث الخامس عشر-الجن وعلم الغيب، وفيه تفصيل عن العرافة والكهانة، والتنجيم، والأطباق الطائرة.
المبحث السادس عشر-النهي عن التشبه بالجن
المبحث السابع عشر-تلبس الجان ببدن الإنسان، وذكرت الأدلة على وقوع ذلك، وأسباب الصرع، وحكم قتل حيات البيوت ...
المبحث الثامن عشر-علاجُ المسِّ والصرع بالوسائل الشرعية ..
المبحث التاسع عشر-حكم التزاوج بين الإنس والجن ..
المبحث العشرون-الحكمة من خلق الشيطان ...
هذا وقد ذكرت الآيات القرآنية، وقمت بتفسيرها بشكل مختصر اعتمادا على كتب التفسير المعتبرة. وقد حاولت استقصاء الأحاديث الواردة في هذا الموضوع، وقمت بتخريجها من مظانها، والحكم عليها صحة وضعفا إذا لم تكن في الصحيحين أو أحدهما، وقمت بشرح الغريب، والتعليق على بعضها حسب مقتضى الحال.(1/4)
وكلُّ قولٍ في هذا الكتاب معزوٌّ لمصدره الأساسي، وهو مبين في هوامش هذا الكتاب، حتى لا يقع خطأ في النقل أو العزو كما وقع عند الكثيرين اليوم ..
قال تعالى على لسان مؤمني الجن: {يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأحقاف:31]
أسأل الله تعالى أن ينفع به كاتبه وقارئه وناقله وناشره والدال عليه في الدارين.
الباحث في القرآن والسنَّة
علي بن نايف الشحود
في فجر يوم الثلاثاء في 22 محرم 1432 هـ الموافق ل 28/ 12/2010 م(1/5)
المبحث الأول
وجوب الإيمان بالغيب
إن الإيمان بالغيب هو العتبة التي يجتازها الإنسان، فيتجاوز مرتبة الحيوان الذي لا يدرك إلا ما تدركه حواسه، إلى مرتبة الإنسان الذي يدرك أن الوجود أكبر وأشمل من ذلك الحيز الصغير المحدد الذي تدركه الحواس - أو الأجهزة التي هي امتداد للحواس - وهي نقلة بعيدة الأثر في تصور الإنسان لحقيقة الوجود كله ولحقيقة وجوده الذاتي، ولحقيقة القوى المنطلقة في كيان هذا الوجود، وفي إحساسه بالكون وما وراء الكون من قدرة وتدبير. كما أنها بعيدة الأثر في حياته على الأرض فليس من يعيش في الحيز الصغير الذي تدركه حواسه كمن يعيش في الكون الكبير الذي تدركه بديهته وبصيرته ويتلقى أصداءه وإيحاءاته في أطوائه وأعماقه، ويشعر أن مداه أوسع في الزمان والمكان من كل ما يدركه وعيه في عمره القصير المحدود. وأن وراء الكون ظاهره وخافيه، حقيقة أكبر من الكون، هي التي صدر عنها، واستمد من وجودها وجوده .. حقيقة الذات الإلهية التي لا تدركها الأبصار ولا تحيط بها العقول.
وعندئذ تصان الطاقة الفكرية المحدودة المجال عن التبدد والتمزق والانشغال بما لم تخلق له، وما لم توهب القدرة للإحاطة به، وما لا يجدي شيئا أن تنفق فيه. إن الطاقة الفكرية التي وهبها الإنسان، وهبها ليقوم بالخلافة في هذه الأرض، فهي موكلة بهذه الحياة الواقعة القريبة، تنظر فيها، وتتعمقها وتتقصاها، وتعمل وتنتج، وتنمي هذه الحياة وتجملها، على أن يكون لها سند من تلك الطاقة الروحية التي تتصل مباشرة بالوجود كله وخالق الوجود، وعلى أن تدع للمجهول حصته في الغيب الذي لا تحيط به العقول. فأما محاولة إدراك ما وراء الواقع بالعقل المحدود الطاقة بحدود هذه الأرض والحياة عليها، دون سند من الروح الملهم والبصيرة المفتوحة، وترك حصة للغيب لا ترتادها العقول .. فأما هذه المحاولة فهي محاولة فاشلة أولا، ومحاولة عابثة أخيرا. فاشلة لأنها تستخدم أداة لم تخلق لرصد هذا المجال. وعابثة لأنها تبدد طاقة العقل التي لم تخلق لمثل هذا المجال .. ومتى سلم(1/6)
العقل البشري بالبديهية العقلية الأولى، وهي أن المحدود لا يدرك المطلق، لزمه - احتراما لمنطقه ذاته - أن يسلم بأن إدراكه للمطلق مستحيل و. ن عدم إدراكه للمجهول لا ينفي وجوده في ضمير الغيب المكنون وأن عليه أن يكل الغيب إلى طاقة أخرى غير طاقة العقل وأن يتلقى العلم في شأنه من العليم الخبير الذي يحيط بالظاهر والباطن، والغيب والشهادة .. وهذا الاحترام لمنطق العقل في هذا الشأن هو الذي يتحلى به المؤمنون، وهو الصفة الأولى من صفات المتقين.
لقد كان الإيمان بالغيب هو مفرق الطريق في ارتقاء الإنسان عن عالم البهيمة. ولكن جماعة الماديين في هذا الزمان، كجماعة الماديين في كل زمان، يريدون أن يعودوا بالإنسان القهقرى .. إلى عالم البهيمة الذي لا وجود فيه لغير المحسوس! ويسمون هذا «تقدمية» وهو النكسة التي وفى اللّه المؤمنين إياها، فجعل صفتهم المميزة، صفة: «الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ» والحمد للّه على نعمائه، والنكسة للمنتكسين والمرتكسين! «وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ» .. فيتجهون بالعبادة للّه وحده، ويرتفعون بهذا عن عبادة العباد، وعبادة الأشياء.
يتجهون إلى القوة المطلقة بغير حدود، ويحنون جباههم للّه لا للعبيد والقلب الذي يسجد للّه حقا، ويتصل به على مدار الليل والنهار، يستشعر أنه موصول السبب بواجب الوجود، ويجد لحياته غاية أعلى من أن تستغرق في الأرض وحاجات الأرض، ويحس أنه أقوى من المخاليق لأنه موصول بخالق المخاليق .. وهذا كله مصدر قوة للضمير، كما أنه مصدر تحرج وتقوى، وعامل هام من عوامل تربية الشخصية، وجعلها ربانية التصور، ربانية الشعور، ربانية السلوك." (1)
" نقف لنقول كلمة عن «الغيب» و «مفاتحه» واختصاص اللّه - سبحانه - «بالعلم» بها .. ذلك أن حقيقة الغيب من «مقومات التصور الإسلامي» الأساسية لأنها من مقومات العقيدة الإسلامية الأساسية ومن قواعد «الإيمان» الرئيسية .. وذلك أن كلمات «الغيب» و «الغيبية» تلاك في هذه الأيام كثيرا - بعد ظهور المذهب المادي - وتوضع في مقابل «العلم» و «العلمية» .. والقرآن الكريم يقرر أن هناك «غيبا» لا يعلم «مفاتحه»
__________
(1) - في ظلال القرآن للسيد قطب - ت- علي بن نايف الشحود (ص:231) وانظر (ص:233)(1/7)
إلا اللّه. ويقرر أن ما أوتيه الإنسان من العلم قليل .. وهذا القليل إنما آتاه اللّه له بقدر ما يعلم هو - سبحانه - من طاقته ومن حاجته. وأن الناس لا يعلمون - فيما وراء العلم الذي أعطاهم اللّه إياه - إلا ظنا، وأن الظن لا يغني من الحق شيئا .. كما يقرر - سبحانه - أن اللّه قد خلق هذا الكون، وجعل له سننا لا تتبدل وأنه علم الإنسان أن يبحث عن هذه السنن ويدرك بعضها ويتعامل معها - في حدود طاقته وحاجته - وأنه سيكشف له من هذه السنن في الأنفس والآفاق ما يزيده يقينا وتأكدا أن الذي جاءه من عند ربه هو الحق .. دون أن يخل هذا الكشف عن سنن اللّه التي لا تبديل لها، بحقيقة «الغيب» المجهول للإنسان، والذي سيظل كذلك مجهولا، ولا بحقيقة طلاقة مشيئة اللّه وحدوث كل شيء بقدر غيبي خاص من اللّه، ينشىء هذا الحدث ويبرزه للوجود .. في تناسق تام في العقيدة الإسلامية، وفي تصور المسلم الناشئ من حقائق العقيدة ..
فهذه الحقائق بجملتها - على هذا النحو المتعدد الجوانب المتناسق المتكامل - تحتاج منا هنا - في الظلال - إلى كلمة نحاول بقدر الإمكان أن تكون مجملة، وألا تخرج عن حدود المنهج الذي اتبعناه في الظلال أيضا (1).
إن اللّه سبحانه يصف المؤمنين في مواضع كثيرة من القرآن بأنهم الذين يؤمنون بالغيب فيجعل هذه الصفة قاعدة من قواعد الإيمان الأساسية: «الم. ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ، هُدىً لِلْمُتَّقِينَ: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ، وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ، وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ، وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ. أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ، وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» .. (البقرة:1 - 5).
والإيمان باللّه - سبحانه - هو إيمان بالغيب. فذات اللّه - سبحانه - غيب بالقياس إلى البشر فإذا آمنوا به فإنما يؤمنون بغيب، يجدون آثار فعله، ولا يدركون ذاته، ولا كيفيات أفعاله.
__________
(1) - يراجع بتوسع كتاب: «خصائص التصور الإسلامي ومقوماته» بقسميه. «دار الشروق».(1/8)
والإيمان بالآخرة كذلك، هو إيمان بالغيب. فالساعة بالقياس إلى البشر غيب، وما يكون فيها من بعث وحساب وثواب وعقاب كله غيب يؤمن به المؤمن، تصديقا لخبر اللّه سبحانه.
والغيب الذي يتحقق الإيمان بالتصديق به يشمل حقائق أخرى يذكرها القرآن الكريم في وصف واقع المؤمنين وعقيدتهم الشاملة: «آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ. كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ. لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ. وَقالُوا: سَمِعْنا وَأَطَعْنا. غُفْرانَكَ رَبَّنا، وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ» .. (البقرة:285).
فنجد في هذا النص أن رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين كذلك، كلٌّ آمن باللّه - وهو غيب - وآمن بما أنزل اللّه على رسوله - وما أنزل اللّه على رسوله فيه جانب من اطلاعه - صلى الله عليه وسلم - على جانب من الغيب بالقدر الذي قدره اللّه - سبحانه - كما قال في الآية الأخرى: «عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ» .. (الجن:26 - 27).
وآمن بالملائكة - وهي غيب - لا يعرف عنه البشر إلا ما يخبرهم به اللّه، على قدر طاقتهم وحاجتهم (1).
ويبقى من الغيب الذي لذا لا يقوم الإيمان إلا بالتصديق به: قدر اللّه - وهو غيب لا يعلمه الإنسان حتى يقع - كما جاء في حديث الإيمان: «يَا مُحَمَّدُ، مَا الإِيمَانُ؟ قَالَ: أَنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ، وَمَلائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الآخِرِ، وَالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ» ... (أخرجه الشيخان) (2) ..
على أن الغيب في هذا الوجود يحيط بالإنسان من كل جانب .. غيب في الماضي وغيب في الحاضر، وغيب في المستقبل .. غيب في نفسه وفي كيانه، وغيب في الكون كله من حوله .. غيب في نشأة هذا الكون وخط سيره، وغيب في طبيعته وحركته .. غيب في نشأة الحياة وخط سيرها، وغيب في طبيعتها وحركتها .. غيب فيما يجهله الإنسان، وغيب فيما
__________
(1) - يراجع ما جاء عن الملائكة في هذا الجزء ص 1039 - 1042
(2) - أخرجه الجماعة المسند الجامع [13/ 964] (10441)(1/9)
يعرفه كذلك! ويسبح الإنسان في بحر من المجهول .. حتى ليجهل اللحظة ما يجري في كيانه هو ذاته فضلا على ما يجري حوله في كيان الكون كله وفضلا عما يجري بعد اللحظة الحاضرة له وللكون كله من حوله: ولكل ذرة، وكل كهرب من ذرة وكل خلية وكل جزئي من خلية! إنه الغيب .. إنه المجهول .. والعقل البشري - تلك الذبالة القريبة المدى - إنما يسبح في بحر المجهول.
فلا يقف إلا على جزر طافية هنا وهنالك يتخذ منها معالم في الخضم. ولولا عون اللّه له، وتسخير هذا الكون، وتعليمه هو بعض نواميسه، ما استطاع شيئا .. ولكنه لا يشكر .. «وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ» .. بل إنه في هذه الأيام ليتبجح بما كشف اللّه له من السنن، وبما آتاه من العلم القليل .. يتبجح فيزعم أحيانا أن «الإنسان يقوم وحده» (1) ولم يعد في حاجة إلى إله يعينه! ويتبجح أحيانا فيزعم أن «العلم» يقابل «الغيب» وأن «العلمية» في التفكير والتنظيم تقابل «الغيبية» وأنه لا لقاء بين العلم والغيب كما أنه لا لقاء بين العقلية العلمية والعقلية الغيبية! فلنلق نظرة على وقفة «العلم» أمام «الغيب» .. في بحوث وأقوال «العلماء» من بني البشر أنفسهم - بعد أن نقف أمام كلمة الفصل التي قالها العليم الخبير عن علم الإنسان القليل - «وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا» ... الإسراء:85) «إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى» .. (النجم:29) وأن الغيب كله للّه: «وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ» ... (الأنعام:59) وأن الذي يعلم الغيب هو الذي يرى: «أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى؟» .. (النجم:35) ... وهي ناطقة بذاتها عن مدلولاتها ..
فلنلق نظرة على وقفة «العلم» أمام «الغيب» في بحوث وأقوال العلماء من بني الإنسان لا لنصدق بها كلمة الفصل من اللّه سبحانه - فحاشا للمؤمن أن يصدق قول اللّه بقول البشر - ولكننا نقف هذه الوقفة لنحاكم الذين يلوكون كلمات العلم والغيب، والعلمية والغيبية، إلى ما يؤمنون هم به من قول البشر! ليعلموا أن عليهم هم أن يحاولوا «الثقافة» و «المعرفة» ليعيشوا في زمانهم ولا يكونوا متخلفين عن عقليته ومقررات تجاربه!
__________
(1) - عنوان كتاب للملحد جوليان هاكسلي(1/10)
وليستيقنوا أن «الغيب» هو الحقيقة «العلمية» الوحيدة المستيقنة من وراء كل التجارب والبحوث والعلم الإنساني ذاته! وأن «العلمية» في ضوء التجارب والنتائج الأخيرة مرادفة تماما «للغيبية» .. أما الذي يقابل الغيبية حقا فهو «الجهلية»!!! الجهلية التي تعيش في القرن السابع عشر والثامن عشر والتاسع عشر - ربما - ولكنها لا تعيش في القرن العشرين!!! عالم معاصر - من أمريكا - يقول عن «الحقائق» التي يصل إليها «العلم» بجملتها:
«إن العلوم حقائق مختبرة ولكنها مع ذلك تتأثر بخيال الإنسان وأوهامه ومدى بعده عن الدقة في ملاحظاته وأوصافه واستنتاجاته. ونتائج العلوم مقبولة داخل هذه الحدود. فهي بذلك مقصورة على الميادين الكمية في الوصف والتنبؤ. وهي تبدأ بالاحتمالات، وتنتهي بالاحتمالات كذلك .. وليس باليقين .. ونتائج العلوم بذلك تقريبية، وعرضة للأخطاء المحتملة في القياس والمقارنات ونتائجها اجتهادية، وقابلة للتعديل بالإضافة والحذف، وليست نهائية. وإننا لنرى أن العالم عندما يصل إلى قانون أو نظرية يقول: إن هذا هو ما وصلنا إليه حتى الآن، ويترك الباب مفتوحا لما قد يستجد من التعديلات» (1).
وهذه الكلمة تلخص حقيقة جميع النتائج التي وصل إليها العلم، والتي يمكن أن يصل إليها كذلك، فطالما أن «الإنسان» بوسائله المحدودة، بل بوجوده المحدود بالقياس إلى الأزل والأبد هو الذي يحاول الوصول إلى هذه النتائج فإنه من الحتم أن تكون مطبوعة بطابع هذا الإنسان، ولها مثل خصائصه من كونها محدودة المدى وقابلة للخطأ والصواب، والتعديل والتبديل ..
على أن الوسيلة التي يصل بها الإنسان إلى أية نتيجة هي التجربة والقياس. فهو يجرب، ثم يعمم النتيجة التي يصل إليها عن طريق القياس والقياس - باعتراف العلم وأهله - وسيلة تؤدي إلى نتيجة ظنية ولا يمكن أبدا أن تكون قطعية ولا نهائية. والوسيلة الأخرى
__________
(1) - من مقال: «درس من شجيرة الورد» لماريت ستانلي كونجدن، العالم الطبيعي الفيلسوف .. عن كتاب: «اللّه يتجلى في عصر العلم» ترجمة الدكتور الدمرداش عبد المجيد سرحان.(1/11)
- وهي التجربة والاستقصاء بمعنى تعميم التجربة على كل ما هو من جنس ما وقعت عليه التجارب في جميع الأزمنة وفي جميع الظروف - وسيلة غير مهيأة للإنسان.
وهي إحدى الوسائل الموصلة إلى نتائج قطعية. ولا سبيل إلى نتيجة قطعية وحقيقة يقينية إلا عن طريق هدى اللّه الذي يبينه للناس. ومن ثم يبقى علم الإنسان فيما وراء ما قرره اللّه له، علما ظنيا لا يصل إلى مرتبة اليقين بحال! على أن «الغيب» ضارب حول الإنسان فيما وراء ما يصل إليه علمه الظني ذاك ...
هذا الكون من حوله .. إنه ما يزال يضرب في الفروض والنظريات حول مصدره ونشأته وطبيعته وحول حركته، وحول «الزمان» ما هو وحول «المكان» وارتباطه بالزمان وارتباط ما يجري في الكون بالزمان والمكان.
والحياة. ومصدرها. ونشأتها. وطبيعتها. وخط سيرها. والمؤثرات فيها. وارتباطها بهذا الوجود «المادي»! إن كان هناك في الكون مادة على الإطلاق ذات طبيعة غير طبيعة «الفكر» وغير طبيعة الطاقة على العموم! «والإنسان» ما هو؟ ما الذي يميزه من المادة؟ وما الذي يميزه عن بقية الأحياء؟ وكيف جاء إلى هذه الأرض وكيف يتصرف؟ وما «العقل» الذي يتميز به ويتصرف؟ وما مصيره بعد الموت والانحلال؟ ..
بل هذا الكيان الإنساني ذاته، ما الذي يجري في داخله من تحليل وتركيب في كل لحظة؟ وكيف يجري؟ (1) ..
إنها كلها ميادين للغيب، يقف العلم على حافاتها، ولا يكاد يقتحمها، حتى على سبيل الظن والترجيح.
وإن هي إلا فروض واحتمالات! ولندع ما لا يشغل العلم به نفسه - إلا قليلا في هذا القرن - من حقيقة الألوهية، وحقيقة العوالم الأخرى من ملائكة وجن وخلق لا يعلمه إلا اللّه. ومن حقيقة الموت، وحقيقة الآخرة. وحقيقة الحساب والجزاء ..
لندع هذا كله لحظة ففي «الغيب» القريب، الكفاية، ومن هذا الغيب يقف العلم وقفة التسليم، الذي لا يخرج عنه إلا من يؤثرون المراء على «العلم» والتبجح على الإخلاص!
__________
(1) - «الإنسان ذلك المجهول» لأليكسيس كاريل.(1/12)
ونضرب بعض الأمثال ..
1 - في قاعدة بناء الكون وسلوكه:
الذرة - فيما يقول العلم الحديث - قاعدة بناء الكون. وليست هي أصغر وحدة في بناء هذا العالم. فهي مؤلفة من بروتونات (طاقة كهربية موجبة) والكترونات (طاقة كهربية سالبة) ونيوترونات (طاقة محايدة مكونة من طاقة كهربائية موجبة وطاقة كهربائية سالبة متعادلتين ساكنتين) وحين تحطم الذرة تتحرر الكهارب (الإلكترونات) ولكنها لا تسلك في المعمل سلوكا حتميا موحدا. فهي تسلك مرة كأنها أمواج ضوئية ومرة كأنها قذائف. ولا يمكن تحديد سلوكها المقبل مقدما. وإنما هي تخضع لقانون آخر - غير الحتمية - هو قانون الاحتمالات. وكذلك تسلك الذرة نفسها، والمجموعة المحدودة من الذرات (في صورة جزئيات) هذا السلوك.
يقول سير جيمس جيننر - الإنجليزي - الأستاذ في الطبيعيات والرياضيات:
«لقد كان العلم القديم يقرر تقرير الواثق، أن الطبيعة لا تستطيع أن تسلك إلا طريقا واحدا: وهو الطريق الذي رسم من قبل، لتسير فيه من بداية الزمن إلى نهايته، وفي تسلسل مستمر بين علة ومعلول، وألا مناص من أن الحالة (ا) تتبعها الحالة (ب) أما العلم الحديث فكل ما يستطيع أن يقوله حتى الآن هو: أن الحالة (ا) يحتمل أن تتبعها (ب) أو (ج) أو (د) أو غيرها من الحالات الأخرى التي يخطئها الحصر. نعم إن في استطاعته أن يقول: إن حدوث الحالة (ب) أكثر احتمالا من حدوث الحالة (ج) وإن الحالة (ج) أكثر احتمالا من الحالة (د) .. وهكذا. بل إن في مقدوره أن يحدد درجة احتمال كل حالة من الحالات (ب) و (ج) و (د) بعضها بالنسبة إلى بعض. ولكنه لا يستطيع أن يتنبأ عن يقين: أي الحالات تتبع الأخرى.
لأنه يتحدث دائما عما يحتمل. أما ما يجب أن يحدث فأمره موكول إلى الأقدار - مهما تكن حقيقة هذه الأقدار!».
فماذا يكون «الغيب» وماذا يكون قدر اللّه المغيب عن علم الإنسان، إن لم يكن هو هذا الذي تنتهي إليه تجارب العلم الإنساني، وتقف على عتباته في صلب الكون وذراته؟(1/13)
ويضرب مثلا لذلك إشعاع ذرات الراديوم، وتحولها إلى رصاص وهليوم .. وهي خاضعة تماما لقدر مجهول، وغيب مستور، يقف دونه علم الإنسان:
«ولنضرب لذلك مثلا ماديا يزيده وضوحا: من المعروف أن ذرات الراديوم وغيره من المواد ذات النشاط الإشعاعي، تتفكك بمجرد مرور الزمن عليها، وتخلف وراءها ذرات من الرصاص والهليوم. ولهذا فإن كتلة من الراديوم ينقص حجمها باستمرار، ويحل مكانها رصاص وهليوم. والقانون العام الذي يتحكم في معدل التناقص غريب غاية الغرابة. ذلك أن كمية من الراديوم تنقص بنفس الطريقة التي ينقص بها عدد من السكان، إذا لم تجد عليهم مواليد، وكانت نسبة تعرض كل منهم للوفاة واحدة بغض النظر عن السن أو أنها تنقص كما ينقص عدد أفراد كتيبة من الجند معرضين لنيران ترسل عليهم اعتباطا، ومن غير أن يكون أحدهم مقصودا لذاته. ومجمل القول إنه ليس لكبر السن أثر ما في ذرة الراديوم الواحدة. فإنها لا تموت لأنها قد استوفت حظها من الحياة، بل لأن المنية قد أصابتها خبط عشواء (1).
«ولنوضح هذه الحقيقة بمثل مادي فنقول: إذا فرض أن بحجرتنا ألفين من ذرات الراديوم. فإن العلم لا يستطيع أن يقول: كم منها يبقى حيا بعد عام. بل كل ما يستطيعه هو أن يذكر فقط الاحتمالات التي ترجح بقاء 2000 أو 1999 أو 1998،وهكذا. وأكثر الأمور احتمالا في الواقع هو أن يكون العدد 1999،أي أن أرجح الاحتمالات هو أن ذرة واحدة لا أكثر من الألفي ذرة، هي التي تتحلل في العام التالي.
«ولسنا ندري بأية طريقة تختار تلك الذرة المعينة من بين هذه الألفي ذرة. وقد نشعر في بادىء الأمر بميل إلى افتراض أن هذه الذرة ستكون هي التي تتعرض للاصطدام أكثر من غيرها، أو التي تقع في أشد الأمكنة حرارة، أو التي يصادفها غير هذا أو ذاك من
__________
(1) - هكذا يقول الرجل .. ونحن نأخذ من قوله النتيجة العلمية التي وصلت إليها التجربة ووصف الظاهرة الطبيعية. أما تعبيره بأنها خبط عشواء فلا يهمنا! فنحن نعلم أنها قد استوفت حظها، وأن المنية أصابتها بقدر من اللّه يعلم هو حكمته. وأنه «لكل أجل كتاب» لا فرق بين ذرة الراديوم وأي شيء وأي حي من الأحياء. والناس هكذا يموتون عند استيفاء الأجل المغيب عن العيون!(1/14)
الأسباب في العام التالي. ولكن هذا كله غير صحيح، لأنه إذا كان في استطاعة الصدمات أو الحرارة أن تفكك ذرة واحدة، فإن في استطاعتها أيضا أن تفكك ال 1999 ذرة الباقية، ويكون في استطاعتنا أن نعجل بتفكيك الراديوم بمجرد ضغطه أو تسخينه ولكن كل عالم من علماء الطبيعة يقرر أن ذلك مستحيل بل هو يعتقد على الأرجح أن الموت يصيب في كل عام ذرة واحدة من كل 2000 من ذرات الراديوم، ويضطرها إلى أن تتفكك. وهذه هي نظرية «التفكك التلقائي» التي وضعها «رذرفورد» و «سدي» في عام 1903.
فكيف إذن يكون القدر الغيبي إن لم يكن هو هذا الذي تتشعع به الذرات على غير اختيار منها ولا من أحد.
وعلى غير علم منها ولا من أحد؟! إن الرجل الذي يقول هذا الكلام، لا يريد أن يثبت به القدر الإلهي المغيب عن الناس. بل إنه ليحاول جاهدا أن يهرب من ضغط النتائج التي ينتهي إليها العلم البشري ذاته. ولكن حقيقة الغيب تفرض نفسها عليه فرضا على النحو الذي نراه!
2 - وكما تفرض حقيقة «الغيب» نفسها على قاعدة بناء الكون وحركته، فهي كذلك تفرض نفسها على قاعدة انبثاق الحياة وحركتها بنفس القوة في النتائج التي ينتهي إليها العلم البشري. يقول عالم الأحياء والنبات «رسل تشارلز إرنست» الأستاذ بجامعة فرانكفورت بألمانيا:
«لقد وضعت نظريات عديدة لكي تفسر نشأة الحياة من عالم الجمادات فذهب بعض الباحثين إلى أن الحياة قد نشأت من البروتوجين، أو من الفيروس، أو من تجمع بعض الجزئيات البر وتينية الكبيرة. وقد يخيل إلى بعض الناس أن هذه النظريات قد سدت الفجوة التي تفصل بين عالم الأحياء وعالم الجمادات. ولكن الواقع الذي ينبغي أن نسلم به هو أن جميع الجهود التي بذلت للحصول على المادة الحية من غير الحية، قد باءت بفشل وخذلان ذريعين. ومع ذلك فإن من ينكر وجود اللّه لا يستطيع أن يقيم الدليل المباشر للعالم المتطلع على أن مجرد تجمع الذرات والجزئيات عن طريق المصادفة، يمكن أن(1/15)
يؤدي إلى ظهور الحياة وصيانتها وتوجيهها بالصورة التي شاهدناها في الخلايا الحية. وللشخص مطلق الحرية في أن يقبل هذا التفسير لنشأة الحياة، فهذا شأنه وحده! ولكنه إذ يفعل ذلك، فإنما يسلم بأمر أشد إعجازا وصعوبة على العقل من الاعتقاد بوجود اللّه، الذي خلق الأشياء ودبرها.
«إنني أعتقد أن كل خلية من الخلايا الحية قد بلغت من التعقد درجة يصعب علينا فهمها. وأن ملايين الملايين من الخلايا الحية الموجودة على سطح الأرض تشهد بقدرته شهادة تقوم على الفكر والمنطق. ولذلك فإنني أؤمن بوجود اللّه إيمانا راسخا» (1).
والذي يهمنا هنا من هذه الشهادة هو أن سر الحياة ونشأتها غيب من غيب اللّه، كنشأة الكون وحركته وأن ليس لدى البشر عن ذلك إلا الاحتمالات. وصدق اللّه العظيم: «ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ» ...
3 - ونخطو خطوة واسعة لنصل إلى الإنسان .. إن الدفقة الواحدة من ماء الرجل تحتوي على نحوستين مليونا من الحيوانات المنوية .. كلها تدخل في سباق لتلحق بالبويضة في رحم المرأة .. ولا يعلم أحد من الذي يسبق! فهو غيب، أو هو قدر غيبي لا علم للبشر به - بما فيهم الرجل والمرأة صاحبا الدور في هذا الأمر! - ثم يصل السابق من بين ستين مليونا! ويلتحم مع البويضة ليكوّنا معا خلية واحدة ملقحة هي التي ينتج منها الجنين.
ولما كانت كل كروموسومات البويضة مؤنثة، بينما كروموسومات الحيوان المنوي بعضها مذكر وبعضها مؤنث فإن غلبة عدد كروموسومات التذكير أو كروموسومات التأنيث في الحيوان المنوي الذي يلتحم بالبويضة، هو الذي يقرر مصير الجنين - ذكرا أو أنثى - وهذا خاضع لقدر اللّه الغيبي لا علم به ولا دخل للبشر - بما فيهم أبوا الجنين أنفسهما: «اللَّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ. وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ. عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ» ... (الرعد:8 - 9) «لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ
__________
(1) - من مقال: «الخلايا الحية تؤدي رسالتها» في كتاب: «اللّه يتجلى في عصر العلم» .. ونحب أن ننبه أننا إذ نقتطف ما نقتطف إنما نخاطب الماديين «العلميين» بلغتهم .. وليس هذا إقرارا منا بصحة كل ما نستشهد به وسلامة منهجه التفكيري والتعبيري في القضية التي نعرضها ..(1/16)
وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ ما يَشاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ. أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً، إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ» ... (الشورى:49 - 50) «يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ، لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ؟» ... (الزمر:6).
هذا هو «الغيب» الذي يقف أمامه «العلم» البشري ويواجهه في القرن العشرين .. بينما الذين يعيشون على فتات القرون الماضية يزعمون أن «الغيبية» تنافي «العلمية».وأن المجتمع الذي يريد أن يعيش بعقلية علمية ينبغي له أن يتخلص من العقلية الغيبية! ذلك بينما العلم البشري ذاته .. علم القرن العشرين .. يقول: إن كل ما يصل إليه من النتائج هو «الاحتمالات»! وإن الحقيقة المستيقنة الوحيدة هي أن هنالك «غيبا» لا شك فيه! على أننا قبل أن نغادر هذه الوقفة المجملة أمام حقيقة الغيب، ينبغي أن نقول كلمة عن طبيعة «الغيب» في العقيدة الإسلامية، وفي التصور الإسلامي، وفي العقلية الإسلامية.
إن القرآن الكريم - وهو المصدر الأساسي للعقيدة الإسلامية التي تنشئ التصور الإسلامي والعقلية الإسلامية - يقرر أن هناك عالما للغيب وعالما للشهادة. فليس كل ما يحيط بالإنسان غيبا، وليس كل ما يتعامل معه من قوى الكون مجهولا ..
إن هنالك سننا ثابتة لهذا الكون يملك «الإنسان» أن يعرف منها القدر اللازم له، حسب طاقته وحسب حاجته، للقيام بالخلافة في هذه الأرض. وقد أودعه اللّه القدرة على معرفة هذا القدر من السنن الكونية وعلى تسخير قوى الكون وفق هذه السنن للنهوض بالخلافة، وتعمير الأرض، وترقية الحياة، والانتفاع بأقواتها وأرزاقها وطاقاتها ..
وإلى جانب هذه السنن الثابتة - في عمومها - مشيئة اللّه الطليقة لا تقيدها هذه السنن وإن كانت من عملها.
وهناك قدر اللّه الذي ينفذ هذه السنن في كل مرة تنفذ فيها. فهي ليست آلية بحتة، فالقدر هو المسيطر على كل حركة فيها وإن جرت وفق السنة التي أودعها اللّه إياها. وهذا القدر الذي ينفذ هذه السنن في كل مرة تنفذ فيها «غيب» لا يعلمه أحد(1/17)
علم يقين وأقصى ما يصل إليه الناس هو الظنون و «الاحتمالات» .. وهذا ما يعترف به العلم البشري أيضا ..
وإن ملايين الملايين من العمليات لتتم في كيان الإنسان في اللحظة الواحدة وكلها «غيب» بالقياس إليه، وهي تجري في كيانه! ومثلها ملايين ملايين العمليات التي تتم في الكون من حوله وهو لا يعلمها! وإن الغيب ليحيط بماضيه وماضي الكون. وحاضره وحاضر الكون. ومستقبله ومستقبل الكون .. وذلك مع وجود السنن الثابتة، التي يعرف بعضها، وينتفع بها انتفاعا علميا منظما في النهوض بعبء الخلافة.
وإن «الإنسان» ليجيء إلى هذا العالم على غير رغبة منه ولا علم بموعد قدومه! وإنه ليذهب عن هذا العالم على غير رغبة منه ولا علم بموعد رحيله! .. وكذلك كل شيء حي .. ومهما تعلم ومهما عرف، فإن هذا لن يغير من هذا الواقع شيئا! إن العقلية الإسلامية عقلية «غيبية علمية» لأن «الغيبية» هي «العلمية» بشهادة «العلم» والواقع .. أما التنكر للغيب فهو «الجهلية» التي يتعالم أصحابها وهم بهذه الجهالة! وإن العقلية الإسلامية لتجمع بين الاعتقاد بالغيب المكنون الذي لا يعلم مفاتحه إلا اللّه وبين الاعتقاد بالسنن التي لا تتبدل، والتي تمكن معرفة الجوانب اللازمة منها لحياة الإنسان في الأرض، والتعامل معها على قواعد ثابتة .. فلا يفوت المسلم «العلم» البشري في مجاله، ولا يفوته كذلك إدراك الحقيقة الواقعة وهي أن هنالك غيبا لا يطلع اللّه عليه أحدا، إلا من شاء، بالقدر الذي يشاء ..
والإيمان بالغيب هو العتبة التي يجتازها «الفرد» فيتجاوز مرتبة «الحيوان» الذي لا يدرك إلا ما تدركه حواسه، إلى مرتبة «الإنسان» الذي يدرك أن الوجود أكبر وأشمل من ذلك الحيز الصغير المحدود الذي تدركه الحواس - أو الأجهزة التي هي امتداد للحواس - وهي نقلة بعيدة الأثر في تصور الإنسان لحقيقة الوجود كله، ولحقيقة وجوده الذاتي، ولحقيقة القوى المنطلقة في كيان هذا الوجود وفي إحساسه بالكون، وما وراء الكون من قدرة وتدبير. كما أنها بعيدة الأثر في حياته على الأرض. فليس من يعيش في الحيز الصغير الذي تدركه حواسه كمن يعيش في الكون الكبير الذي تدركه بديهته(1/18)
وبصيرته ويتلقى أصداءه وإيحاءاته في أطوائه وأعماقه ويشعر أن مداه أوسع في الزمان والمكان من كل ما يدركه وعيه في عمره القصير المحدود وأن وراء الكون .. ظاهره وخافيه .. حقيقة أكبر من الكون، هي التي صدر عنها، واستمد من وجودها وجوده .. حقيقة الذات الإلهية التي لا تدركها الأبصار، ولا تحيط بها العقول.
«لقد كان الإيمان بالغيب هو مفرق الطريق في ارتقاء الإنسان عن عالم البهيمة. ولكن جماعة الماديين في هذا الزمان - كجماعة الماديين في كل زمان - يريدون أن يعودوا بالإنسان القهقرى .. إلى عالم البهيمة، الذي لا وجود فيه لغير المحسوس! ويسمون هذا «تقدمية»! وهو النكسة التي وقى اللّه المؤمنين إياها. فجعل صفتهم المميزة هي صفة: «الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ» ... والحمد للّه على نعمائه والنكسة للمنتكسين والمرتكسين» (1).
والذين يتحدثون عن «الغيبية» و «العلمية» يتحدثون كذلك عن «الحتمية التاريخية» كأن كل المستقبل مستيقن! و «العلم» في هذا الزمان يقول: إن هناك «احتمالات» وليست هنالك «حتميات»! ولقد كان ماركس من المتنبئين «بالحتميات»! ولكن أين نبوءات ماركس اليوم؟
لقد تنبأ بحتمية قيام الشيوعية في انجلترا، نتيجة بلوغها قمة الرقي الصناعي ومن ثم قمة الرأسمالية في جانب والفقر العمالي في جانب آخر .. فإذا الشيوعية تقوم في أكثر الشعوب تخلفا صناعيا .. في روسيا والصين وما إليها .. ولا تقوم قط في البلاد الصناعية الراقية! ولقد تنبأ لينين وبعده ستالين بحتمية الحرب بين العالم الرأسمالي والعالم الشيوعي. وها هو ذا خليفتهما «خروشوف» يحمل راية «التعايش السلمي»! ولا نمضي طويلا مع هذه «الحتميات» التنبؤية! فهي لا تستحق جدية المناقشة! إن هنالك حقيقة واحدة مستيقنة هي حقيقة الغيب، وكل ما عداها احتمالات. وإن هنالك حتمية واحدة هي وقوع ما يقضي به اللّه ويجري به قدره. وقدر اللّه غيب لا يعلمه إلا هو. وإن هنالك - مع هذا وذلك - سننا للكون ثابتة، يملك الإنسان أن يتعرف إليها، ويستعين بها في خلافة
__________
(1) - عن الجزء الأول من ظلال القرآن من 39 - 40.(1/19)
الأرض، مع ترك الباب مفتوحا لقدر اللّه النافذ وغيب اللّه المجهول .. وهذا قوام الأمر كله .. «إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ». (1).
ويقول السيد رحمه الله في مقدمة تفسير سورة الجن:" هذه السورة تبده الحس - قبل أن ينظر إلى المعاني والحقائق الواردة فيها - بشيء آخر واضح كل الوضوح فيها .. إنها قطعة موسيقية مطردة الإيقاع، قوية التنغيم، ظاهرة الرنين مع صبغة من الحزن في إيقاعها، ومسحة من الأسى في تنغيمها، وطائف من الشجى في رنينها، يساند هذه الظاهرة ويتناسق معها صور السورة وظلالها ومشاهدها، ثم روح الإيحاء فيها. وبخاصة في الشطر الأخير منها بعد انتهاء حكاية قول الجن، والاتجاه بالخطاب إلى رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - هذا الخطاب الذي يثير العطف على شخص الرسول في قلب المستمع لهذه السورة، عطفا مصحوبا بالحب وهو يؤمر أن يعلن تجرده من كل شيء في أمر هذه الدعوة إلا البلاغ، والرقابة الإلهية المضروبة حوله وهو يقوم بهذا البلاغ: «قُلْ: إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً .. قُلْ: إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً .. قُلْ: إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً، إِلَّا بَلاغاً مِنَ اللَّهِ وَرِسالاتِهِ، وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً، حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً .. قُلْ: إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً، عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً، إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً، لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ، وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ، وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً» ..
وذلك كله إلى جانب الإيقاع النفسي للحقائق التي وردت في حكاية قول الجن، وبيانهم الطويل المديد. وهي حقائق ذات ثقل ووزن في الحس والتصور والاستجابة لها تغشى الحس بحالة من التدبر والتفكير، تناسب مسحة الحزن ورنة الشجى المتمشية في إيقاع السورة الموسيقي!
__________
(1) - في ظلال القرآن للسيد قطب - ت- علي بن نايف الشحود (ص:1539) فما بعدها(1/20)
وقراءة هذه السورة بشيء من الترتيل الهادئ، توقع في الحس هذا الذي وصفناه من المسحة الغالبة عليها .. فإذا تجاوزنا هذه الظاهرة التي تبده الحس إلى موضوع السورة ومعانيها واتجاهها فإننا نجدها حافلة بشتى الدلالات والإيحاءات.
إنها ابتداء شهادة من عالم آخر بكثير من قضايا العقيدة التي كان المشركون يجحدونها ويجادلون فيها أشد الجدل، ويرجمون في أمرها رجما لا يستندون فيه إلى حجة، ويزعمون أحيانا أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - يتلقى من الجن ما يقوله لهم عنها!
فتجيء الشهادة من الجن أنفسهم بهذه القضايا التي يجحدونها ويجادلون فيها وبتكذيب دعواهم في استمداد محمد من الجن شيئا. والجن لم يعلموا بهذا القرآن إلا حين سمعوه من محمد - صلى الله عليه وسلم - فهالهم وراعهم ومسهم منه ما يدهش ويذهل، وملأ نفوسهم وفاض حتى ما يملكون السكوت على ما سمعوا، ولا الإجمال فيما عرفوا، ولا الاختصار فيما شعروا. فانطلقوا يحدثون في روعة المأخوذ، ووهلة المشدوه، عن هذا الحادث العظيم، الذي شغل السماء والأرض والإنس والجن والملائكة والكواكب. وترك آثاره ونتائجه في الكون كله! .. وهي شهادة لها قيمتها في النفس البشرية حتما.
ثم إنها تصحيح لأوهام كثيرة عن عالم الجن في نفوس المخاطبين ابتداء بهذه السورة، وفي نفوس الناس جميعا من قبل ومن بعد ووضع حقيقة هذا الخلق المغيب في موضعها بلا غلو ولا اعتساف. فقد كان العرب المخاطبون بهذا القرآن أول مرة يعتقدون أن للجن سلطانا في الأرض، فكان الواحد منهم إذا أمسى بواد أو قفر، لجأ إلى الاستعاذة بعظيم الجن الحاكم لما نزل فيه من الأرض، فقال: أعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه .. ثم بات آمنا!
كذلك كانوا يعتقدون أن الجن تعلم الغيب وتخبر به الكهان فيتنبأون بما يتنبأون. وفيهم من عبد الجن وجعل بينهم وبين اللّه نسبا، وزعم له سبحانه وتعالى زوجة منهم تلد له الملائكة!
والاعتقاد في الجن على هذا النحو أو شبهه كان فاشيا في كل جاهلية، ولا تزال الأوهام والأساطير من هذا النوع تسود بيئات كثيرة إلى يومنا هذا!!!(1/21)
وبينما كانت الأوهام والأساطير تغمر قلوب الناس ومشاعرهم وتصوراتهم عن الجن في القديم، وما تزال .. نجد في الصف الآخر اليوم منكرين لوجود الجن أصلا، يصفون أي حديث عن هذا الخلق المغيب بأنه حديث خرافة .. وبين الإغراق في الوهم، والإغراق في الإنكار، يقرر الإسلام حقيقة الجن، ويصحح التصورات العامة عنهم، ويحرر القلوب من خوفها وخضوعها لسلطانهم الموهوم:
فالجن لهم حقيقة موجودة فعلا وهم كما يصفون أنفسهم هنا: «وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً» .. ومنهم الضالون المضلون ومنهم السذج الأبرياء الذين ينخدعون: «وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا عَلَى اللَّهِ شَطَطاً، وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً» .. وهم قابلون للهداية من الضلال، مستعدون لإدراك القرآن سماعا وفهما وتأثرا: «قُلْ: أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا: إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ، وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً» .. وأنهم قابلون بخلقتهم لتوقيع الجزاء عليهم وتحقيق نتائج الإيمان والكفر فيهم: «وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى آمَنَّا بِهِ، فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً. وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ، فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً، وَأَمَّا الْقاسِطُونَ، فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً» .. وأنهم لا ينفعون الإنس حين يلوذون بهم بل يرهقونهم: «وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً» .. وأنهم لا يعلمون الغيب، ولم تعد لهم صلة بالسماء: «وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً، وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ، فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً، وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً» .. وأنهم لا صهر بينهم وبين اللّه - سبحانه وتعالى - ولا نسب: «وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً» ..
وأن الجن لا قوة لهم مع قوة اللّه ولا حيلة: «وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً».
وهذا الذي ذكر في هذه السورة عن الجن بالإضافة إلى ما جاء في القرآن من صفات أخرى كتسخير طائفة من الشياطين لسليمان - وهم من الجن - وأنهم لم يعلموا بموته(1/22)
إلا بعد فترة، فدل هذا على أنهم لا يعلمون الغيب: {فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ (14)} [سبأ:14] ..
ومثل قوله تعالى عن خصيصة من خصائص إبليس وقبيله - وهو من الجن - غير أنه تمحض للشر والفساد والإغراء: {يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (27)} [الأعراف:27] .. وما يدل عليه من أن كيان الجن غير مرئي للبشر، في حين أن كيان الإنس مرئي للجن.
هذا بالإضافة إلى ما قرره في سورة الرحمن عن المادة التي منها كيان الجن والمادة التي منها كيان الإنسان في قوله: «خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ، وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ» .. يعطي صورة عن ذلك الخلق المغيب، تثبت وجوده، وتحدد الكثير من خصائصه وفي الوقت ذاته تكشف الأوهام والأساطير، العالقة بالأذهان عن ذلك الخلق، وتدع تصور المسلم عنه واضحا دقيقا متحررا من الوهم والخرافة، ومن التعسف في الإنكار الجامح كذلك!
وقد تكفلت هذه السورة بتصحيح ما كان مشركو العرب وغيرهم يظنونه عن قدرة الجن ودورهم في هذا الكون. أما الذين ينكرون وجود هذا الخلق إطلاقا، فلا أدري علام يبنون هذا الإنكار، بصيغة الجزم والقطع، والسخرية من الاعتقاد بوجوده، وتسميته خرافة! ألأنهم عرفوا كل ما في هذا الكون من خلائق فلم يجدوا الجن من بينها؟! إن أحدا من العلماء لا يزعم هذا حتى اليوم. وإن في هذه الأرض وحدها من الخلائق الحية لكثيرا مما يكشف وجوده يوما بعد يوم، ولم يقل أحد إن سلسلة الكشوف للأحياء في الأرض وقفت أو ستقف في يوم من الأيام! ألأنهم عرفوا كل القوى المكنونة في هذا الكون فلم يجدوا الجن من بينها؟! إن أحدا لا يدعي هذه الدعوى.
فهناك قوى مكنونة تكشف كل يوم وهي كانت مجهولة بالأمس. والعلماء جادون في التعرف إلى القوى الكونية، وهم يعلنون في تواضع قادتهم إليه كشوفهم العلمية ذاتها، أنهم(1/23)
يقفون على حافة المجهول في هذا الكون، وأنهم لم يكادوا يبدأون بعد! ألأنهم رأوا كل القوى التي استخدموها، فلم يروا الجن من بينها؟! ولا هذه. فإنهم يتحدثون عن الكهرب بوصفه حقيقة علمية منذ توصلوا إلى تحطيم الذرة. ولكن أحدا منهم لم ير الكهرب قط. وليس في معاملهم من الأجهزة ما يفرزون به كهربا من هذه الكهارب التي يتحدثون عنها! ففيم إذن هذا الجزم بنفي وجود الجن؟ ومعلومات البشر عن هذا الكون وقواه وسكانه من الضآلة بحيث لا تسمح لإنسان يحترم عقله أن يجزم بشيء؟ ألأن هذا الخلق المسمى الجن تعلقت به خرافات شتى وأساطير كثيرة؟ إن طريقنا في هذه الحالة هو إبطال هذه الخرافات والأساطير كما صنع القرآن الكريم، لا التبجح بنفي وجود هذا الخلق من الأساس، بلا حجة ولا دليل! ومثل هذا الغيب ينبغي تلقي نبئه من المصدر الوحيد الموثوق بصحته، وعدم معارضة هذا المصدر بتصورات سابقة لم تستمد منه. فما يقوله هو كلمة الفصل في مثل هذا الموضوع.
والسورة التي بين أيدينا - بالإضافة إلى ما سبق - تساهم مساهمة كبيرة في إنشاء التصور الإسلامي عن حقيقة الألوهية، وحقيقة العبودية، ثم عن هذا الكون وخلائقه، والصلة بين هذه الخلائق المنوعة.
وفي مقالة الجن ما يشهد بوحدانية اللّه، ونفي الصاحبة والولد، وإثبات الجزاء في الآخرة وأن أحدا من خلق اللّه لا يعجزه في الأرض ولا يفلت من يديه ويفوته، فلا يلاقي جزاءه العادل. وتتكرر بعض هذه الحقائق فيما يوجه للرسول - صلى الله عليه وسلم - من الخطاب: «قُلْ: إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً» ... «قُلْ: إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً» .. وذلك بعد شهادة الجن بهذه الحقيقة شهادة كاملة صريحة.
كما أن تلك الشهادة تقرر أن الألوهية للّه وحده، وأن العبودية هي أسمى درجة يرتفع إليها البشر: «وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً» .. ويؤكد السياق هذه الحقيقة فيما يوجه للرسول - صلى الله عليه وسلم - من خطاب: «قُلْ: إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً» ..(1/24)
والغيب موكول للّه وحده لا تعرفه الجن: «وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً» .. ولا تعرفه الرسل إلا ما يطلعهم اللّه عليه منه لحكمة يعلمها: «قُلْ: إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً. عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً، إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ، فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً ... » ..
أما العباد والعبيد في هذا الكون، فقد علمتنا السورة أن بين بعضها والبعض الآخر مشاركات ومنافذ، ولو اختلف تكوينها، كالمشاركات التي بين الجن والإنس، مما حكته السورة وحكاه القرآن في مواضع أخرى.
فالإنسان ليس بمعزل - حتى في هذه الأرض - عن الخلائق الأخرى. وبينه وبينها اتصال وتفاعل في صورة من الصور. وهذه العزلة التي يحسها الإنسان بجنسه - بله العزلة الفردية أو القبلية أو القومية - لا وجود لها في طبيعة الكون ولا في واقعه. وأحرى بهذا التصور أن يفسح في شعور الإنسان بالكون وما يعمره من أرواح وقوى وأسرار. قد يجهلها الإنسان، ولكنها موجودة بالفعل من حوله، فهو ليس الساكن الوحيد لهذا الكون كما يعن له أحيانا أن يشعر!!
ثم إن هناك ارتباطا بين استقامة الخلائق على الطريقة، وتحركات هذا الكون ونتائجها، وقدر اللّه في العباد: «وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ. وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً» .. وهذه الحقيقة تؤلف جانبا من التصور الإسلامي للارتباطات بين الإنسان والكون وقدر اللّه." (1)
__________
(1) - في ظلال القرآن للسيد قطب - ت- علي بن نايف الشحود (ص:4619) فما بعدها(1/25)
المبحث الثاني
وجوب الإيمان بالجن
قال ابن حزم رحمه الله:" إِنَّ الْجِنَّ حَقٌّ وَهُمْ خَلْقٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ؛ فِيهِمْ الْكَافِرُ وَالْمُؤْمِنُ؛ يَرَوْنَنَا وَلَا نَرَاهُمْ؛ يَأْكُلُونَ وَيَنْسِلُونَ وَيَمُوتُونَ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ} [الأنعام:130] وَقَالَ تَعَالَى: {وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ} [الحجر:27] وَقَالَ تَعَالَى حَاكِيًا عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا {وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا} [الجن:14] {وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا} [الجن:15] وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ} [الأعراف:27] وَقَالَ تَعَالَى: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي} [الكهف:50] وَقَالَ تَعَالَى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} [الرحمن:26] وَقَالَ تَعَالَى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران:185]." (1)
لقد سمي الجن بهذا الاسم لاجتنانهم عن العيون أي استتارهم، قال تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ} [الأعراف:27]
يا بني آدم لا يخدعنَّكم الشيطان، فيزين لكم المعصية، كما زيَّنها لأبويكم آدم وحواء، فأخرجهما بسببها من الجنة، ينزع عنهما لباسهما الذي سترهما الله به; لتنكشف لهما عوراتهما. إن الشيطان يراكم هو وذريته وجنسه وأنتم لا ترونهم فاحذروهم. إنَّا جعلنا الشياطين أولياء للكفار الذين لا يوحدون الله، ولا يصدقون رسله، ولا يعملون بهديه. (2)
__________
(1) - المحلى بالآثار (1/ 33)
(2) - التفسير الميسر [2/ 488](1/26)
والجنُّ من مخلوقات الله -عز وجل- والمسلم يؤمن بأن الجنَّ خلقوا من النار، قال تعالى: {خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ (14) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ (15)} سورة الرحمن.
لَقَدْ خَلَقَ اللهُ آدمَ أبَا البَشَرِ مِنْ طِينٍ يابِسٍ، لَهُ صَلْصَلةٌ إذا نُقِرَ بِاليَدِ. وَخَلَقَ الجِنَّ مِنْ خَالِصِ النَّارِ، وَمِنْ لَهَبِهَا المُخْتَلِطِ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ، الذِي لاَ دُخَانَ فيهِ (1).
وقال تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (26) وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ (27) وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28)} [الحجر:26 - 28]
لَقَدْ خَلَقْنَا آدَمَ أَبَا البَشَرِ مِنْ طِينٍ يَابِسٍ لَهُ صَلْصَلَةٌ إِذَا نُقِرَ بِاليَدِ (صَلْصَالٍ)،وَكَانَ قَبْلاً طِيناً رَطْباً (حَمَأٍ) مَُغَيِّرَ اللَّوْنِ مُسْوَدَّةُ (مَسْنُونٍ).
وَخَلَقْنَا الجَانَّ قَبْلَ الإِنْسَانِ (مِنْ قَبْلُ) مِنَ النَّارِ ذَاتِ الحَرَارَةِ الشَّدِيدَةِ التِي تَنْفُذُ فِي مَسَامِّ الجِسْمِ. (2)
وعَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «خُلِقَتِ الْمَلَائِكَةُ مِنْ نُورٍ، وَخُلِقَ الْجَانُّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ، وَخُلِقَ آدَمُ مِمَّا وُصِفَ لَكُمْ» (أخرجه مسلم) (3).
وهذا الحديث يردُّ على الذين لا يفرقون بين الجن والملائكة.
قال ابن عبد البر:" وَالْجِنُّ عِنْدَ أَهْلِ الْكَلَامِ وَأَهْلِ الْعِلْمِ بِاللِّسَانِ يَنْزِلُونَ عَلَى مَرَاتِبَ فَإِذَا ذَكَرُوا الْوَاحِدَ مِنَ الْجِنِّ خَالِصًا قَالُوا جِنِّيٌّ فَإِنْ أَرَادُوا أَنَّهُ مِمَّنْ يَسْكُنُ مَعَ النَّاسِ قَالُوا عَامِرٌ وَالْجَمْعُ عُمَّارٌ وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يَعْرِضُ لِلصِّبْيَانِ قَالُوا أَرْوَاحٌ فَإِنْ خَبُثَ وَتَعَرَّمَ فَهُوَ شَيْطَانٌ فَإِنْ زَادَ على ذَلِكَ فَهُوَ مَارِدٌ فَإِنْ زَادَ عَلَى ذَلِكَ وَقَوِيَ أَمْرُهُ قَالُوا عِفْرِيتٌ وَالْجُمَعُ عَفَارِيتٌ .. " (4).
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1/ 4794)
(2) - أيسر التفاسير لأسعد حومد [ص 1829]
(3) - صحيح مسلم (4/ 2294) 60 - (2996) [ش (الجان) الجن (مارج) المارج اللهب المختلط بسواد النار]
(4) - التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد (11/ 117)(1/27)
وقد خلق الله -عز وجل- الجن قبل الإنس، قال تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (26) وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ (27) [الحجر/26،27].
ولقد خلقنا آدم أبا البشر من طين يابس له صلصلة إذا نقر باليد (صلصال)،وكان قبلا طينا رطبا (حمأ) مغير اللون مسودة (مسنون).
وخلقنا الجان قبل الإنسان (من قبل) من النار ذات الحرارة الشديدة التي تنفذ في مسام الجسم (1).
والمسلمُ يؤمن بأن الجنَّ مأمورٌ مثل الإنسان بطاعة الله، وأن يجعلوا حياتهم كلَّها طبقًا لما أراده الله، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58)} سورة الذاريات.
هذه الغاية، التي خلق الله الجن والإنس لها، وبعث جميع الرسل يدعون إليها، وهي عبادته، المتضمنة لمعرفته ومحبته، والإنابة إليه والإقبال عليه، والإعراض عما سواه، وذلك يتضمن معرفة الله تعالى، فإن تمام العبادة، متوقف على المعرفة بالله، بل كلما ازداد العبد معرفة لربه، كانت عبادته أكمل، فهذا الذي خلق الله المكلفين لأجله، فما خلقهم لحاجة منه إليهم.
فما يريد منهم من رزق وما يريد أن يطمعوه، تعالى الله الغني المغني عن الحاجة إلى أحد بوجه من الوجوه، وإنما جميع الخلق، فقراء إليه، في جميع حوائجهم ومطالبهم الضرورية وغيرها، ولهذا قال: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ} أي: كثير الرزق، الذي ما من دابة في الأرض ولا في السماء إلا على الله رزقها، ويعلم مستقرها ومستودعها، {ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} أي: الذي له القوة والقدرة كلها، الذي أوجد بها الأجرام العظيمة، السفلية والعلوية، وبها تصرف في الظواهر والبواطن، ونفذت مشيئته في جميع البريات، فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، ولا يعجزه هارب، ولا يخرج عن سلطانه أحد، ومن قوته، أنه أوصل رزقه
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1/ 1829)(1/28)
إلى جميع العالم، ومن قدرته وقوته، أنه يبعث الأموات بعد ما مزقهم البلى، وعصفت بترابهم الرياح، وابتلعتهم الطيور والسباع، وتفرقوا وتمزقوا في مهامه القفار، ولجج البحار، فلا يفوته منهم أحد، ويعلم ما تنقص الأرض منهم، فسبحان القوي المتين (1).
إن هذا النص الصغير ليحتوي حقيقة ضخمة هائلة، من أضخم الحقائق الكونية التي لا تستقيم حياة البشر في الأرض بدون إدراكها واستيقانها. سواء كانت حياة فرد أم جماعة. أم حياة الإنسانية كلها في جميع أدوارها وأعصارها.
وإنه ليفتح جوانب وزوايا متعددة من المعاني والمرامي، تندرج كلها تحت هذه الحقيقة الضخمة، التي تعد حجر الأساس الذي تقوم عليه الحياة.
وأول جانب من جوانب هذه الحقيقة أن هنالك غاية معينة لوجود الجن والإنس. تتمثل في وظيفة من قام بها وأداها فقد حقق غاية وجوده ومن قصر فيها أو نكل عنها فقد أبطل غاية وجوده وأصبح بلا وظيفة، وباتت حياته فارغة من القصد، خاوية من معناها الأصيل، الذي تستمد منه قيمتها الأولى. وقد انفلت من الناموس الذي خرج به إلى الوجود، وانتهى إلى الضياع المطلق، الذي يصيب كل كائن ينفلت من ناموس الوجود، الذي يربطه ويحفظه ويكفل له البقاء.
هذه الوظيفة المعينة التي تربط الجن والإنس بناموس الوجود. هي العبادة للّه. أو هي العبودية للّه .. أن يكون هناك عبد ورب. عبد يعبد، ورب يعبد. وأن تستقيم حياة العبد كلها على أساس هذا الاعتبار.
ومن ثم يبرز الجانب الآخر لتلك الحقيقة الضخمة، ويتبين أن مدلول العبادة لا بد أن يكون أوسع وأشمل من مجرد إقامة الشعائر. فالجن والإنس لا يقضون حياتهم في إقامة الشعائر واللّه لا يكلفهم هذا. وهو يكلفهم ألوانا أخرى من النشاط تستغرق معظم حياتهم. وقد لا نعرف نحن ألوان النشاط التي يكلفها الجن ولكننا نعرف حدود النشاط المطلوب من الإنسان. نعرفها من القرآن من قول اللّه تعالى: «وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً» .. فهي الخلافة في الأرض إذن عمل هذا الكائن الإنساني. وهي
__________
(1) - تفسير السعدي - (1/ 813)(1/29)
تقتضي ألوانا من النشاط الحيوي في عمارة الأرض، والتعرف إلى قواها وطاقاتها، وذخائرها ومكنوناتها، وتحقق إرادة اللّه في استخدامها وتنميتها وترقية الحياة فيها. كما تقتضي الخلافة القيام على شريعة اللّه في الأرض لتحقيق المنهج الإلهي الذي يتناسق مع الناموس الكوني العام. ومن ثم يتجلى أن معنى العبادة التي هي غاية الوجود الإنساني أو التي هي وظيفة الإنسان الأولى، أوسع وأشمل من مجرد الشعائر وأن وظيفة الخلافة داخلة في مدلول العبادة قطعا. وأن حقيقة العبادة تتمثل إذن في أمرين رئيسيين:
الأول: هو استقرار معنى العبودية للّه في النفس. أي استقرار الشعور على أن هناك عبدا وربا. عبدا يعبد، وربّا يعبد. وأن ليس وراء ذلك شيء وأن ليس هناك إلا هذا الوضع وهذا الاعتبار. ليس في هذا الوجود إلا عابد ومعبود وإلا رب واحد والكل له عبيد.
والثاني: هو التوجه إلى اللّه بكل حركة في الضمير، وكل حركة في الجوارح، وكل حركة في الحياة.
التوجه بها إلى اللّه خالصة، والتجرد من كل شعور آخر ومن كل معنى غير معنى التعبد للّه.
بهذا وذلك يتحقق معنى العبادة ويصبح العمل كالشعائر، والشعائر كعمارة الأرض، وعمارة الأرض كالجهاد في سبيل اللّه، والجهاد في سبيل اللّه كالصبر على الشدائد والرضى بقدر اللّه .. كلها عبادة وكلها تحقيق للوظيفة الأولى التي خلق اللّه الجن والإنس لها وكلها خضوع للناموس العام الذي يتمثل في عبودية كل شيء للّه دون سواه.
عندئذ يعيش الإنسان في هذه الأرض شاعرا أنه هنا للقيام بوظيفة من قبل اللّه تعالى، جاء لينهض بها فترة، طاعة للّه وعبادة له لا أرب له هو فيها، ولا غاية له من ورائها، إلا الطاعة، وجزاؤها الذي يجده في نفسه من طمأنينة ورضى عن وضعه وعمله، ومن أنس برضى اللّه عنه، ورعايته له. ثم يجده في الآخرة تكريما ونعيما وفضلا عظيما.(1/30)
وعندئذ يكون قد فر إلى اللّه حقا. يكون قد فر من أوهاق هذه الأرض وجواذبها المعوقة ومغرياتها الملفتة.
ويكون قد تحرر بهذا الفرار. تحرر حقيقة من الأوهاق (1) والأثقال. وخلص للّه، واستقر في الوضع الكوني الأصيل: عبدا للّه. خلقه اللّه لعبادته. وقام بما خلق له. وحقق غاية وجوده. فمن مقتضيات استقرار معنى العبادة أن يقوم بالخلافة في الأرض، وينهض بتكاليفها، ويحقق أقصى ثمراتها وهو في الوقت ذاته نافض يديه منها خالص القلب من جواذبها ومغرياتها. ذلك أنه لم ينهض بالخلافة ويحقق ثمراتها لذاته هو ولا لذاتها.
ولكن لتحقيق معنى العبادة فيها، ثم الفرار إلى اللّه منها! ومن مقتضياته كذلك أن تصبح قيمة الأعمال في النفس مستمدة من بواعثها لا من نتائجها. فلتكن النتائج ما تكون. فالإنسان غير معلق بهذه النتائج. إنما هو معلق بأداء العبادة في القيام بهذه الأعمال ولأن جزاءه ليس في نتائجها، إنما جزاؤه في العبادة التي أداها ..
ومن ثم يتغير موقف الإنسان تغيرا كاملا تجاه الواجبات والتكاليف والأعمال. فينظر فيها كلها إلى معنى العبادة الكامن فيها. ومتى حقق هذا المعنى انتهت مهمته وتحققت غايته. ولتكن النتائج ما تكون بعد ذلك.
فهذه النتائج ليست داخلة في واجبه ولا في حسابه، وليست من شأنه. إنما هو قدر اللّه ومشيئته. وهو وجهده ونيته وعمله جانب من قدر اللّه ومشيئته.
ومتى نفض الإنسان قلبه من نتائج العمل والجهد وشعر أنه أخذ نصيبه، وضمن جزاءه، بمجرد تحقق معنى العبادة في الباعث على العمل والجهد، فلن تبقى في قلبه حينئذ بقية من الأطماع التي تدعو إلى التكالب والخصام على أعراض هذه الحياة. فهو من جانب يبذل أقصى ما يملك من الجهد والطاقة في الخلافة والنهوض بالتكاليف.
ومن جانب ينفض يده وقلبه من التعلق بأعراض هذه الأرض، وثمرات هذا النشاط. فقد حقق هذه الثمرات ليحقق معنى العبادة فيها لا ليحصل عليها ويحتجزها لذاته.
__________
(1) - الْأَوْهَاقُ: جَمْع وَهَق- بالتَّحريك- وَقَدْ يُسَكَّن، وَهُوَ حَبْلٌ كالطِّوَل تُشَدُّ بِهِ الإبِلُ والخَيْل، لِئلا تَنِدَّ. النهاية في غريب الحديث والأثر (5/ 233) ولسان العرب (10/ 386)(1/31)
والقرآن يغذي هذا الإحساس ويقويه. بإطلاق مشاعر الإنسان من الانشغال بهمّ الرزق ومن شح النفس.
فالرزق في ذاته مكفول. تكفل به اللّه تعالى لعباده. وهو لا يطلب إليهم بطبيعة الحال أن يطعموه - سبحانه - أو يرزقوه. حين يكلفهم إنفاق هذا المال لمحتاجيه، والقيام بحق المحرومين فيه: «ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ. إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ» ..
وإذن لا يكون حافز المؤمن للعمل وبذل الجهد في الخلافة هو الحرص على تحصيل الرزق. بل يكون الحافز هو تحقيق معنى العبادة، الذي يتحقق ببذل أقصى الجهد والطاقة. ومن ثم يصبح قلب الإنسان معلقا بتحقيق معنى العبادة في الجهد، طليقا من التعلق بنتائج الجهد .. وهي مشاعر كريمة لا تنشأ إلا في ظل هذا التصور الكريم.
وإذا كانت البشرية لا تدرك هذه المشاعر ولا تتذوقها، فذلك لأنها لم تعش - كما عاش جيل المسلمين الأول - في ظلال هذا القرآن. ولم تستمد قواعد حياتها من ذلك الدستور العظيم.
وحين يرتفع الإنسان إلى هذا الأفق. أفق العبادة. أو أفق العبودية. ويستقر عليه، فإن نفسه تأنف حتما من اتخاذ وسيلة خسيسة لتحقيق غاية كريمة. ولو كانت هذه الغاية هي نصر دعوة اللّه وجعل كلمته هي العليا.
فالوسيلة الخسيسة من جهة تحطم معنى العبادة النظيف الكريم. ومن جهة أخرى فهو لا يعني نفسه ببلوغ الغايات، إنما يعني نفسه بأداء الواجبات، تحقيقا لمعنى العبادة في الأداء. أما الغايات فموكولة للّه، يأتي بها وفق قدره الذي يريده. ولا داعي لاعتساف الوسائل والطرق للوصول إلى غاية أمرها إلى اللّه، وليست داخلة في حساب المؤمن العابد للّه.
ثم يستمتع العبد العابد براحة الضمير، وطمأنينة النفس، وصلاح البال، في جميع الأحوال. سواء رأى ثمرة عمله أم لم يرها. تحققت كما قدرها أم على عكس ما قدرها. فهو قد أنهى عمله، وضمن جزاءه، عند تحقق معنى العبادة. واستراح. وما يقع بعد(1/32)
ذلك خارج عن حدود وظيفته .. وقد علم هو أنه عبد، فلم يعد يتجاوز بمشاعره ولا بمطالبه حدود العبد. وعلم أن اللّه رب، فلم يعد يتقحم فيما هو من شؤون الرب.
واستقرت مشاعره عند هذا الحد، ورضي اللّه عنه، ورضي هو عن اللّه.
وهكذا تتجلى جوانب من تلك الحقيقة الضخمة الهائلة، التي تقررها آية واحدة قصيرة: «وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ» .. وهي حقيقة كفيلة بأن تغير وجه الحياة كلها عند ما تستقر حقا في الضمير .. (1).
وقال سبحانه مخاطبًا الجن والإنس: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُواْ شَهِدْنَا عَلَى أَنفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ} (130) سورة الأنعام.
أيها المشركون من الجن والإنس، ألم يأتكم رسل من جملتكم -وظاهر النصوص يدلُّ على أنَّ الرسل من الإنس فقط-،يخبرونكم بآياتي الواضحة المشتملة على الأمر والنهي وبيان الخير والشر، ويحذرونكم لقاء عذابي في يوم القيامة؟ قال هؤلاء المشركون من الإنس والجن: شَهِدْنا على أنفسنا بأن رسلك قد بلغونا آياتك، وأنذرونا لقاء يومنا هذا، فكذبناهم، وخدعت هؤلاء المشركين زينةُ الحياة الدنيا، وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا جاحدين وحدانية الله تعالى ومكذبين لرسله عليهم السلام (2).
والمسلم يؤمن بأن الله -عز وجل- أرسل نبيَّه محمدًا - صلى الله عليه وسلم - إلى كلٍّ من الإنس والجن، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:" فُضِّلْتُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ بِسِتٍّ: أُعْطِيتُ جَوَامِعَ الْكَلِمِ، وَنُصِرْتُ بِالرُّعْبِ، وَأُحِلَّتْ لِيَ الْغَنَائِمُ، وَجُعِلَتْ لِيَ الْأَرْضُ طَهُورًا وَمَسْجِدًا، وَأُرْسِلْتُ إِلَى الْخَلْقِ كَافَّةً، وَخُتِمَ بِيَ النَّبِيُّونَ " (مسلم) (3).
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (6/ 3386)
(2) - التفسير الميسر - (2/ 425)
(3) - صحيح مسلم (1/ 371) 5 - (523) [ش (أعطيت جوامع الكلم) وفي رواية الأخرى بعثت بجوامع الكلم قال الهروي يعني به القرآن جمع الله تعالى في الألفاظ اليسيرة منه المعاني الكثيرة وكلامه - صلى الله عليه وسلم - كان بالجوامع قليل اللفظ كثير المعاني](1/33)
وقوله تعالى: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآَنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29) قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (30) يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآَمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (31) وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (32) [الأحقاف/29 - 32].
واذكر -أيها الرسول- حين بعثنا إليك، طائفة من الجن يستمعون منك القرآن، فلما حضروا، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ، قال بعضهم لبعض: أنصتوا; لنستمع القرآن، فلما فرغ الرسول من تلاوة القرآن، وقد وعَوه وأثَّر فيهم، رجعوا إلى قومهم منذرين ومحذرين لهم بأس الله، إن لم يؤمنوا به.
قالوا: يا قومنا إنا سمعنا كتابًا أنزل من بعد موسى، مصدقًا لما قبله من كتب الله التي أنزلها على رسله، يهدي إلى الحق والصواب، وإلى طريق صحيح مستقيم.
يا قومنا أجيبوا رسول الله محمدًا إلى ما يدعوكم إليه، وصدِّقوه واعملوا بما جاءكم به، يغفر الله لكم من ذنوبكم وينقذكم من عذاب مؤلم موجع.
ومن لا يُجِبْ رسول الله إلى ما دعا إليه فليس بمعجز الله في الأرض إذا أراد عقوبته، وليس له من دون الله أنصار يمنعونه من عذابه، أولئك في ذَهاب واضح عن الحق (1).
وإذا كنا لا نرى الجن فإنّ بعض الأحياء يرونهم كالحمار والكلب ففي الصحيحين عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم -،قَالَ: «إِذَا سَمِعْتُمْ صِيَاحَ الدِّيَكَةِ فَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ، فَإِنَّهَا رَأَتْ مَلَكًا، وَإِذَا سَمِعْتُمْ نَهِيقَ الحِمَارِ فَتَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ، فَإِنَّهُ رَأَى شَيْطَانًا» (2).
__________
(1) - التفسير الميسر - (9/ 156)
(2) - صحيح البخاري (4/ 128) (3303) وصحيح مسلم (4/ 2092) 82 - (2729) - (نهيق الحمار) صوته المنكر(1/34)
وعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «أَقِلُّوا الْخُرُوجَ بَعْدَ هُدُوءٍ، فَإِنَّ لِلَّهِ دَوَابَّ يَبُثُّهُنَّ، فَمَنْ سَمِعَ نُبَاحَ الْكَلْبِ، أَوْ نُهَاقَ حِمَارٍ، فَلْيَسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، فَإِنَّهُمْ يَرَوْنَ مَا لَا تَرَوْنَ» (1).
وعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -:إِذَا سَمِعْتُمْ نُبَاحَ الْكِلاَبِ، وَنُهَاقَ الْحَمِيرِ مِنَ اللَّيْلِ، فَتَعَوَّذُوا بِاللَّهِ، فَإِنَّهَا تَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ، وَأَقِلُّوا الْخُرُوجَ إِذَا هَدَأَتِ الرِّجْلُ، فَإِنَّ اللَّهَ يَبُثُّ فِي لَيْلِهِ مِنْ خَلْقِهِ مَا شَاءَ، وَأَجِيفُوا الأَبْوَابَ، وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهَا، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لاَ يَفْتَحُ بَابًا أُجِيفَ، وَذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ، وَأَوْكُوا الأَسْقِيَةَ، وَغَطُّوا الْجِرَارَ، وَأَكْفِئُوا الآنِيَةَ. (2).
ورؤية الحيوان لما لا نرى ليس غريباً، فقد تحقق العلماء من قدرة بعض الأحياء على رؤية ما لا نراه، فالنحل يرى الأشعة فوق البنفسجية، ولذلك فإنّه يرى الشمس حال الغيم، والبومة ترى الفأر في ظلمة الليل البهيم ...
الأدلة الدالة على وجود الجن
1 - وجودهم معلوم من الدين بالضرورة:
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:" لَمْ يُخَالِفْ أَحَدٌ مِنْ طَوَائِفِ الْمُسْلِمِينَ فِي وُجُودِ الْجِنِّ وَلَا فِي أَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَ مُحَمَّدًا - صلى الله عليه وسلم - إلَيْهِمْ وَجُمْهُورُ طَوَائِفِ الْكُفَّارِ عَلَى إثْبَاتِ الْجِنِّ أَمَّا أَهْلُ الْكِتَابِ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، فَهُمْ مُقِرُّونَ بِهِمْ كَإِقْرَارِ الْمُسْلِمِينَ وَإِنْ وُجِدَ فِيهِمْ مَنْ يُنْكِرُ ذَلِكَ، وَكَمَا يُوجَدُ فِي الْمُسْلِمِينَ مَنْ يُنْكِرُ ذَلِكَ كَمَا يُوجَدُ فِي طَوَائِفِ الْمُسْلِمِينَ الغالطون وَالْمُعْتَزِلَةِ مَنْ يُنْكِرُ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ جُمْهُورُ الطَّائِفَةِ وَأَئِمَّتُهَا مُقِرِّينَ بِذَلِكَ. وَهَذَا لِأَنَّ وُجُودَ الْجِنِّ تَوَاتَرَتْ بِهِ أَخْبَارُ الْأَنْبِيَاءِ تَوَاتُرًا مَعْلُومًا بِالِاضْطِرَارِ وَمَعْلُومٌ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّهُمْ أَحْيَاءٌ عُقَلَاءُ فَاعِلُونَ بِالْإِرَادَةِ، بَلْ مَأْمُورُونَ مَنْهِيُّونَ لَيْسُوا صِفَاتٍ وَأَعْرَاضًا قَائِمَةً بِالْإِنْسَانِ أَوْ غَيْرِهِ كَمَا يَزْعُمُهُ بَعْضُ الْمَلَاحِدَةِ، فَلَمَّا كَانَ أَمْرُ الْجِنِّ مُتَوَاتِرًا
__________
(1) - الأدب المفرد مخرجا (ص:422) (1233) صحيح
(2) - مسند أحمد (عالم الكتب) (5/ 42) (14283) 14334 صحيح
قوله:"هدأت الرجل" قال السندي: أي: بعد انقطاع الأرجل عن المشي في الطريق ليلاً."يبث" من البث بتشديد المثلثة، أي: ينشر.(1/35)
عَنِ الْأَنْبِيَاءِ تَوَاتُرًا ظَاهِرًا تَعْرِفُهُ الْعَامَّةُ وَالْخَاصَّةُ لَمْ يُمْكِنْ طَائِفَةٌ كَبِيرَةٌ مِنَ الطَّوَائِفِ الْمُؤْمِنِينَ بِالرُّسُلِ أَنْ تُنْكِرَهُمْ ". (1).
وقال أيضاً:"جَمِيعَ طَوَائِفِ الْمُسْلِمِينَ يُقِرُّونَ بِوُجُودِ الْجِنِّ، وَكَذَلِكَ جُمْهُورُ الْكُفَّارِ كَعَامَّةِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَكَذَلِكَ عَامَّةُ مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَغَيْرُهُمْ مِنْ أَوْلَادِ الهذيل وَالْهِنْدِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَوْلَادِ حَامٍ، وَكَذَلِكَ جُمْهُورُ الْكَنْعَانِيِّينَ واليونانيين وَغَيْرُهُمْ مِنْ أَوْلَادِ يافث. فَجَمَاهِيرُ الطَّوَائِفِ تُقِرُّ بِوُجُودِ الْجِنِّ، بَلْ يُقِرُّونَ بِمَا يَسْتَجْلِبُونَ بِهِ مُعَاوَنَةَ الْجِنِّ مِنِ الْعَزَائِمِ وَالطَّلَاسِمِ سَوَاءٌ أَكَانَ ذَلِكَ سَائِغًا عِنْدَ أَهْلِ الْإِيمَانِ أَوْ كَانَ شِرْكًا " (2).
وقَالَ إِمَام الْحَرَمَيْنِ:"والتمسك بالظواهر والآحاد تكلّفٌ منا مَعَ إِجْمَاع كَافَّة الْعلمَاء فِي عصر الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ على وجود الْجِنّ وَالشَّيَاطِين، والاستعاذة بِاللَّه تَعَالَى من شرورهم، وَلَا يراغم مثل هَذَا الِاتِّفَاق متدين متشبث بمسكه من الدّين ثمَّ سَاق عدَّة أَحَادِيث، ثمَّ قَالَ: فَمن لم يرتدع بِهَذَا وَأَمْثَاله فَيَنْبَغِي أَن يتهم فِي الدّين ويعترفَ بالانسلال مِنْهُ، على أَنه لَيْسَ فِي إِثْبَات الشَّيَاطِين ومردة الْجِنّ مَا يقْدَحُ فِي أصل من أصُول الْعقلِ وَقَضِيَّةِ من قضاياهُ ". (3).
وقال ابن حجر الهيتمي:" وَأما الجان فَأهل السّنة يُؤمنُونَ بوجودهم، وإنكار الْمُعْتَزلَة لوجودهم فِيهِ مُخَالفَة للْكتاب وَالسّنة وَالْإِجْمَاع، بل ألزموا بِهِ كفرا لِأَن فِيهِ تَكْذِيب النُّصُوص القطعية بوجودهم، ومِنْ ثُمَّ قَالَ بعض الْمَالِكِيَّة: الصَّوَاب كفر من أنكر وجودهم، لِأَنَّهُ جحد نَص الْقُرْآن وَالسّنَن المتواترة وَالْإِجْمَاع الضَّرُورِيّ .. " (4).
2 - النصوص القرآنية والحديثية:
جاءَت نصوص كثيرة تقرر وجودهم كقوله تعالى: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا (2) وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا (3) وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ
__________
(1) - مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية- دار الوفاء (19/ 10)
(2) - مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية- دار الوفاء (19/ 13)
(3) - آكام المرجان في أحكام الجان (ص:19)
(4) - الفتاوى الحديثية لابن حجر الهيتمي (ص:89)(1/36)
شَطَطًا (4) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (5) وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا (6) وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا (7) وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا (8) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا (9) وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا (10) وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا (11) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا (12) وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا (13)} [الجن:1 - 13].
وهي نصوص كثيرة ذكرنا غالبها في ثنايا هذه الرسالة، وإن كانت كثرتها وشهرتها تغني عن ذكرها. وهناك نصوص حديثية متواترة سوف تمرُّ معنا في ثنايا هذا الموضوع، ونكتفي بالخبر التالي:
وعَنْ عَبْدِ اللهِ، {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ} [الإسراء:57] قَالَ:" كَانَ قَوْمٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعْبُدُونَ قَوْمًا مِنَ الْجِنِّ فَأَسْلَمُوا، وَبَقِيَ الَّذِينَ كَانُوا يَعْبُدُونَهُمْ عَلَى عِبَادَتِهِمْ، فَقَالَ: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ} [الإسراء:57] (1).
وعَنْ عَبْدِ اللهِ، قَالَ:" كَانَ نَفَرٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعْبُدُونَ الْجِنِّ، فَأَسْلَمَ الْجِنُّ وَثَبَتَ الْإِنْسُ عَلَى عِبَادَتِهِمْ، فَأَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ} [الإسراء:57] (2).
وعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، فِي قَوْلِهِ: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ} [الإسراء:57] قَالَ: نَزَلَتْ فِي نَفَرٍ مِنَ الْعَرَبِ كَانُوا يَعْبُدُونَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ، فَأَسْلَمَ الْجِنِّيُّونَ، وَالْإِنْسُ الَّذِينَ كَانُوا يَعْبُدُونَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ بِإِسْلَامِهِمْ، فَأُنْزِلَتْ {الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} [الإسراء:57] (3).
__________
(1) - السنن الكبرى للنسائي (10/ 151) (11224) صحيح
(2) - السنن الكبرى للنسائي (10/ 150) (11223) صحيح
(3) - تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (14/ 628) صحيح(1/37)
وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ:" نَزَلَتْ بِنَفَرٍ مِنَ الْعَرَبِ كَانُوا يَعْبُدُونَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ، فَأَسْلَمَ الْجِنِّيُّونَ، وَالنَّفَرُ مِنَ الْعَرَبِ لَا يَشْعُرُونَ بِذَلِكَ، يَعْنِي قَوْلَهُ عَزَّ وَجَلَّ: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا، أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} [الإسراء:57]. (1).
3 - المشاهدة والرؤية:
كثيرٌ من الناس في عصرنا وقبل عصرنا شاهد شيئاً من ذلك، وإنَّ كان كثير من الذين يشاهدونهم ويسمعونهم لا يعرفون أنهم جنّ؛ إذ يزعمون أنّهم أرواح، أو رجال الغيب، أو رجال الفضاء ...
وأصدقُ ما يروى في هذا الموضع رؤية الرسول - صلى الله عليه وسلم - للجن، وحديثه معهم، وحديثهم معه، وتعليمه إياهم، وتلاوته القرآن عليهم، وسيأتي ذكر ذلك في مواضعه. (2).
وقال بعض العلماء: عالم الجن من العوالم الكونية، كعالم الملائكة وقد أخبر الله- تعالى- أنه خلقه من مارج من نار، أي: أن عنصر النار فيه هو الغالب، وأنه يرى الأناسي وهم لا يرونه، أي: بصورته الجبلية، وإن كان يرى حين يتشكل بأشكال أخرى، كما رئي جبريل حين تشكل بشكل آدمي.
وأخبر- سبحانه- بأن الجن قادرون على الأعمال الشاقة. وأن الله سخر الشياطين لسليمان يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل ...
وأخبر بأن من الجن مؤمنين، وأن منهم شياطين متمردين، ومن هؤلاء إبليس اللعين.
ولم يختلف أهل الملل في وجودهم، بل اعترفوا به كالمسلمين، وإن اختلفوا في حقيقتهم، ولا تلازم بين الوجود والعلم بالحقائق، ولا بينه وبين الرؤية بالحواس، فكثير من الأشياء الموجودة لا تزال حقائقها مجهولة، وأسرارها محجوبة، وكثير منها لا يرى
__________
(1) - شرح مشكل الآثار (6/ 115) (2336) صحيح
(2) - عالم الجن والشياطين (ص:14)(1/38)
بالحواس. ألا ترى الروح- وهي مما لا شك في وجودها في الإنسان والحيوان- لم يدرك كنهها أحد ولم يرها أحد، وغاية ما علم من أمرها بعض صفاتها وآثارها ..
وقد بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الجن، كما بعث إلى الإنس، فدعاهم إلى التوحيد، وأنذرهم وبلغهم القرآن، وسيحاسبون على الأعمال يوم الحساب كما يحاسب الناس، فمؤمنهم كمؤمنهم، وكافرهم ككافرهم وكل ذلك جاء صريحا في القرآن والسنة .. " (1)
__________
(1) -التفسير الوسيط لطنطاوي (15/ 130) وصفوة البيان ج 2 ص 470 فضيلة الشيخ حسنين مخلوف.(1/39)
المبحث الثالث
أنواعُ الجن وطوائفهم
أولا-طوائف الجنِّ:
المسلمُ يؤمن بأن الجن طوائفُ كثيرة مثل الإنس تمامًا، فمنهم المؤمنون ومنهم الكافرون، ومنهم الصالحون ومنهم المفسدون، ومنهم الشياطين، ومنهم العفاريت، قال تعالى: {وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا} (14) سورة الجن.
وأنا منا الخاضعون لله بالطاعة، ومنا الجائرون الظالمون الذين حادوا عن طريق الحق، فمن أسلم وخضع لله بالطاعة، فأولئك الذين قصدوا طريق الحق والصواب، واجتهدوا في اختياره فهداهم الله إليه، وأما الجائرون عن طريق الإسلام فكانوا وَقودًا لجهنم (1).
وقال أيضًا: {وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا} (11) سورة الجن.
وأنا منا الأبرار المتقون، العاملون بطاعة الله، ومنا قوم دون ذلك وأنا كنا مذاهب وأهواء مختلفة، وفرقا شتى: فمنا المؤمنون ومنا الفاسقون ومنا الكافرون (2).
وقال: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} (112) سورة الأنعام.
وكما جعلنا هؤلاء وأمثالهم أعداء لك يا محمد، يخالفونك ويعاندونك، ويعادونك، كذلك جعلنا لكل نبي من قبلك أعداء من شياطين الإنس والجن (شياطين الإنس هم الكبراء ومن يضلون الناس عن الهدى بالوسوسة والإغراء والمخادعة)،ويلقي بعض هؤلاء الشياطين من الإنس والجن إلى بعض القول المموه الذي يظنون أنهم يسترون به قبح باطلهم، ويؤدونه بطرق خفية لا يفطن إلى باطلها كل واحد، حتى يغروا الناس
__________
(1) - التفسير الميسر - (10/ 285)
(2) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1/ 5336)(1/40)
ويخدعوهم ويميلوهم إلى ما يريدون، كما وسوس الشيطان لآدم وحواء للأكل من الشجرة التي نهاهما الله عنها، وكما يوسوس شياطين الإنس لمن يجترحون السيئات، فيزينون لهم ما فيها من عظيم اللذة، والتمتع بالحرية، ويمنونهم بعفو الله.
ولو شاء الله أن لا يفعلوا ذلك لما فعلوه ولكنه تعالى لم يشأ ذلك إذ خلق الناس على استعداد لقبول الحق والباطل، والخير والشر (1).
ونعلم أن لهم قلوباً قال تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف:179].
لَقَدْ خَلَقْنَا كَثيراً مِنَ الإِنْسِ وَالجِنِّ لِيَكُونُوا وَقُوداً لِجَهَنََّمَ، لأنَّهُمْ يَعْمَلُونَ عَمَلَ أهْلِهَا، وَلاَ يَنْتَفِعُونَ بِشَيءٍ مِنْ جَوَارِحِهِمْ التِي جَعَلَها اللهُ سَبِيلاً لِلْهِدَايَةِ، فَلاَ يَسْمَعُونَ الحَقَّ بِآذَانِهِم، وَلا يَفْقَهُونَهُ بِقُلُوبِهِمْ، وَلا يَرَوْنَ النُّورَ بِعُيُونِهِمْ، فَهُمْ كَالبَهَائِمِ وَالأنْعَامِ السَّارِحَةِ، لاَ تَنْتَفِعُ بِحَوَاسِّهَا إلا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِمَعَاشِهَا وَبَقَائِهَا، أوْ هُمْ شَرٌّ مِنَ الدَّوَابِّ وَأكْثَرُ ضَلالاً، لأنَّ الدَّوَابَّ قَدْ تَسْتَجِيبُ لِراعِيها إذا أنِسَتْ بِهِ، وَإنْ لَمْ تَفْقَهْ كَلاَمَهُ، بِخِلافِ هَؤُلاءِ. ولأنَّ الدَّوَابَّ تَفْعَلُ مَا خُلِقَتْ لَهُ، إمَّا بِطَبْعِهَا وَإمَّا بِتَسْخِيرِهَا. أمَّا الكَافِرُونَ فِإِنَّهُمْ خُلِقُوا لِيَعْبُدُوا اللهَ وَيُوَحِّدُ هُ، فَكَفَرُوا بِاللهِ، وَأشْرَكُوا بِهِ فَهُمُ الغَافِلُونَ (2).فقد صرح - تبارك وتعالى - بأن للجن قلوباً، وأعيناً وآذاناً، وللشيطان صوتاً، لقوله تعالى: {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا} [الإسراء:64].وثبت في الأحاديث أن للشيطان لساناً، وأن الجان يأكلون، ويشربون، ويضحكون ..
والجنُّ أنواعٌ مختلفة، لكل نوع ميزات يتميز بها عن غيره، فهناك الجنُّ الطيار والغواصُ وغير ذلك.
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1/ 902)
(2) - أيسر التفاسير لأسعد حومد (ص:1134،بترقيم الشاملة آليا)(1/41)
عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:"خَلَقَ اللَّهُ الْجِنَّ ثَلَاثَةَ أَصْنَافٍ: صِنْفٌ حَيَّاتٌ وَعَقَارِبُ وَخَشَاشُ الْأَرْضِ، وَصِنْفٌ كَالرِّيحِ فِي الْهَوَاءِ، وَصِنْفٌ عَلَيْهِمُ الْحِسَابُ وَالْعِقَابُ، وَخَلَقَ اللَّهُ الْإِنْسَ ثَلَاثَةَ أَصْنَافٍ: صِنْفٌ كَالْبَهَائِمِ، قَالَ اللَّهُ- عَزَّ وَجَلَّ: (لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يسمعون بها) الْآيَةَ، وَصِنْفٌ أَجْسَادُهُمْ أَجْسَادُ بَنِي آدَمَ وَأَرْوَاحُهُمْ أَرْوَاحُ الشَّيَاطِينِ، وَصِنْفٌ فِي ظِلِّ اللَّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ". (1)
وعَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:" الْجِنُّ ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ: صِنْفُ لَهُمْ أَجْنِحَةٌ يَطِيرُونَ فِي الْهَوَاءِ، وَصِنْفٌ حَيَّاتٌ وَكِلَابٌ، وَصِنْفٌ يَحِلُّونَ وَيَظْعَنُونَ ". (2)
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «الْحَيَّاتُ مِنْ مَسْخِ الْجَانِّ كَمَا مُسِخَتِ الْخَنَازِيرُ وَالْقِرَدَةُ» (3)
قلت: قد ثبت في صحيح مسلم عَنْ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: قَالَتْ أُمُّ حَبِيبَةَ زَوْجُ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -:اللهُمَّ أَمْتِعْنِي بِزَوْجِي رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -،وَبِأَبِي أَبِي سُفْيَانَ، وَبِأَخِي مُعَاوِيَةَ قَالَ: فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «قَدْ سَأَلْتِ اللهَ لِآجَالٍ مَضْرُوبَةٍ، وَأَيَّامٍ مَعْدُودَةٍ، وَأَرْزَاقٍ مَقْسُومَةٍ، لَنْ يُعَجِّلَ شَيْئًا قَبْلَ حِلِّهِ، أَوْ يُؤَخِّرَ شَيْئًا عَنْ حِلِّهِ، وَلَوْ كُنْتِ سَأَلْتِ اللهَ أَنْ يُعِيذَكِ مِنْ عَذَابٍ فِي النَّارِ، أَوْ عَذَابٍ فِي الْقَبْرِ، كَانَ خَيْرًا وَأَفْضَلَ» قَالَ: وَذُكِرَتْ عِنْدَهُ الْقِرَدَةُ، قَالَ مِسْعَرٌ: وَأُرَاهُ قَالَ: وَالْخَنَازِيرُ مِنْ
__________
(1) - إتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة (6/ 170) (5600) ضعيف
(2) - الأسماء والصفات للبيهقي (2/ 264) (827) والمستدرك على الصحيحين للحاكم (2/ 495) (3702) صحيح
الظَّعْنُ: سَيْرُ البادية لنُجْعَةٍ أَو حُضُور ماءٍ، أَو طَلَبِ مَرْبَعٍ, أَو تَحَوُّلٍ من ماء إلى ماء, أَو من بلد إلى بلد, وقد يقال لكل شاخص لسفر في حج أَو غزو أَو مَسير من مدينة إلى أُخرى ظاعِنٌ, ويقال: أَظاعِنٌ أَنت أَم مُقيم؟ والظَّعِينَة: الجمل يُظْعَنُ عليه, والظَّعِينة الهَوْدج تكون فيه المرأَة, وقيل: هو الهودج كانت فيه أَو لم تكن, والظَّعِينة: المرأَة في الهودج, سميت به على حَدِّ تسمية الشيء باسم الشيء لقربه منه. لسان العرب (ج13ص 270)
(3) - صحيح ابن حبان - مخرجا (12/ 458) (5640) صحيح(1/42)
مَسْخٍ، فَقَالَ: «إِنَّ اللهَ لَمْ يَجْعَلْ لِمَسْخٍ نَسْلًا وَلَا عَقِبًا، وَقَدْ كَانَتِ الْقِرَدَةُ وَالْخَنَازِيرُ قَبْلَ ذَلِكَ» (1)
وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: قَالَتْ أُمُّ حَبِيبَةَ: اللهُمَّ مَتِّعْنِي بِزَوْجِي رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -،وَبِأَبِي أَبِي سُفْيَانَ، وَبِأَخِي مُعَاوِيَةَ، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّكِ سَأَلْتِ اللهَ لِآجَالٍ مَضْرُوبَةٍ، وَآثَارٍ مَوْطُوءَةٍ، وَأَرْزَاقٍ مَقْسُومَةٍ، لَا يُعَجِّلُ شَيْئًا مِنْهَا قَبْلَ حِلِّهِ، وَلَا يُؤَخِّرُ مِنْهَا شَيْئًا بَعْدَ حِلِّهِ، وَلَوْ سَأَلْتِ اللهَ أَنْ يُعَافِيَكِ مِنْ عَذَابٍ فِي النَّارِ، وَعَذَابٍ فِي الْقَبْرِ لَكَانَ خَيْرًا لَكِ» قَالَ فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ الْقِرَدَةُ وَالْخَنَازِيرُ، هِيَ مِمَّا مُسِخَ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يُهْلِكْ قَوْمًا، أَوْ يُعَذِّبْ قَوْمًا، فَيَجْعَلَ لَهُمْ نَسْلًا، وَإِنَّ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ» (2)
ثانيا- التعريف بالشيطان:
الشيطان الذي حدثنا الله عنه كثيراً في القرآن من عالم الجنّ، كان يعبد الله في بداية أمره، وسكن السماء مع الملائكة، ودخل الجنة، ثمّ عصى ربه عندما أمره أن يسجد لآدم، استكباراً وعلواً، فطرده الله من رحمته.
والشيطانُ في لغة العرب يطلق على كل عاتٍ متمرد، وقد أطلق على هذا المخلوق لعتوّه وتمرده على ربّه (شيطان).وأطلق عليه لفظ (الطاغوت): {الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي
__________
(1) - مسلم (4/ 2050) (32 - (2663)
[ش (حله) ضبطناه بوجهين فتح الحاء وكسرها في المواضع الخمسة من هذه الروايات وذكر القاضي أن جميع الروايات على الفتح ومراده رواة بلادهم وإلا فالأشهر عند رواة بلادنا الكسر وهما لغتان ومعناه وجوبه وحينه يقال حل الأجل يحل حلا وحلا وهذا الحديث صريح في أن الآجال والأرزاق مقدرة لا تتغير عما قدره الله تعالى وعلمه في الأزل فيستحيل زيادتها ونقصها حقيقة عن ذلك (وقد كانت القردة والخنازير قبل ذلك) أي قبل مسخ بني إسرائيل فدل ذلك على أنها ليست من المسخ]
(2) - صحيح مسلم (4/ 2051) 33 - (2663)
قال الإمام النووي في " شرح مسلم " 16/ 214:أي قبل مسخ بني إسرائيل، فدل على أنها ليست من المسخ. وانظر " فتح الباري " 6/ 407 في شرح حديث أبي هريرة (3305):" فقدت أمة ... "
وقال الألباني رحمه الله:"واعلم أن الحديث لَا يعني أن الحيات الموجودة الآن هي من الجن الممسوخ، وإنما يعني أن الجن وقع فيهم مسخ إلى الحيات كما وقع في اليهود مسْخُهُم قردة وخنازير، ولكنهم لم ينسلوا كما في الحديث الصحيح:"إن الله لم يجعل لمسخ نسلا ولا عقبا، وقد كانت القردة والخنازير قبل ذلك " الصَّحِيحَة:1824(1/43)
سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا} [النساء:76].
وهذا الاسم معلومٌ عند غالبية أمم الأرض باللفظ نفسه، كما يذكر العقاد في كتابه (إبليس)،وإنما سمي طاغوتاً لتجاوزه حده، وتمرده على ربه، وتنصيبه نفسه إلهاً يعبد.
وقد يئس هذا المخلوق من رحمة الله، ولذا أسماه الله (إبليس).والَبَلَس في لغة العرب: من لا خير عنده، وأبلس: يئس وتحيّر.
والذي يطالع ما جاء في القرآن والحديث عن الشيطان يعلم أنه مخلوق يعقل ويدرك ويتحرك و .... ،وليس كما يقول بعض الذين لا يعلمون:" إنه روح الشّر متمثلة في غرائز الإنسان الحيوانية التي تصرفه - إذا تمكنت من قلبه - عن المثل الروحية العليا ". (1)
ثالثا- أصل الشيطان:
سبق القول أن الشيطان من الجن، وقد نازع في هذه المسألة بعض المتقدمين والمتأخرين، وحجتهم في ذلك قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [البقرة:34].وهذه الآية وأمثالها يستثني الله فيها إبليس من الملائكة، والمستثنى لا يكون إلا من جنس المستثنى منه عادة. والدليل قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا} [الكهف:50]
وقد نقلت لنا كتب التفسير والتاريخ أقوال عدد من العلماء، يذكرون أن إبليس كان من الملائكة، وأنه كان خازناً للجنة، أو للسماء الدنيا، وأنه كان من أشرف الملائكة، وأكرمهم قبيلة .... إلى آخر تلك الأقوال التي لا دليل عليها، قال ابن كثير:" وَقَدْ رُوي فِي هَذَا آثَارٌ كَثِيرَةٌ عَنِ السَّلَفِ، وَغَالِبُهَا مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ الَّتِي تُنْقَلُ لِيُنْظَرَ فِيهَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِحَالِ كَثِيرٍ مِنْهَا. وَمِنْهَا مَا قَدْ يُقْطَعُ بِكَذِبِهِ لِمُخَالَفَتِهِ لِلْحَقِّ الَّذِي
__________
(1) - دائرة المعارف الحديثة: ص357.(1/44)
بِأَيْدِينَا، وَفِي الْقُرْآنِ غُنْيَةٌ عَنْ كُلِّ مَا عَدَاهُ مِنَ الْأَخْبَارِ الْمُتَقَدِّمَةِ؛ لِأَنَّهَا لَا تَكَادُ تَخْلُو مِنْ تَبْدِيلٍ وَزِيَادَةٍ وَنُقْصَانٍ، وَقَدْ وُضِعَ فِيهَا أَشْيَاءٌ كَثِيرَةٌ، وَلَيْسَ لَهُمْ مِنَ الْحُفَّاظِ الْمُتْقِنِينَ الَّذِينَ يَنْفُون عَنْهَا تَحْرِيفَ الْغَالِينَ وَانْتِحَالَ الْمُبْطِلِينَ، كَمَا لِهَذِهِ [الْأُمَّةِ مِنْ] الْأَئِمَّةِ وَالْعُلَمَاءِ، وَالسَّادَةِ الْأَتْقِيَاءِ وَالْأَبْرَارِ وَالنُّجَبَاءِ مِنَ الْجَهَابِذَةِ النُّقَّادِ، والحفاظ الْجِيَادِ، الَّذِينَ دَوَّنُوا الْحَدِيثَ وَحَرَّرُوهُ، وَبَيَّنُوا صَحِيحَهُ مَنْ حَسَنِهِ، مِنْ ضَعِيفِهِ، مِنْ مُنْكَرِهِ وَمَوْضُوعِهِ، وَمَتْرُوكِهِ وَمَكْذُوبِهِ، وَعَرَفُوا الْوَضَّاعِينَ وَالْكَذَّابِينَ وَالْمَجْهُولِينَ، وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ أَصْنَافِ الرِّجَالِ، كُلُّ ذَلِكَ صِيَانَةً لِلْجَنَابِ النَّبَوِيِّ وَالْمَقَامِ الْمُحَمَّدِيِّ، خَاتَمِ الرُّسُلِ، وَسَيِّدِ الْبَشَرِ [عَلَيْهِ أَفْضَلُ التَّحِيَّاتُ وَالصَّلَوَاتُ وَالتَّسْلِيمَاتُ]،أَنْ يُنْسَبَ إِلَيْهِ كَذِبٌ، أَوْ يُحَدَّثَ عَنْهُ بِمَا لَيْسَ [مِنْهُ، فَرَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَأَرْضَاهُمْ، وَجَعَلَ جَنَّاتِ الْفِرْدَوْسِ مَأْوَاهُمْ، وَقَدْ فَعَلَ." (1)
وما احتجوا به من أن الله استثنى إبليس من الملائكة ... ليس دليلاً قاطعاً، لاحتمال أن يكون الاستثناء منقطعاً، بل هو كذلك حقا، للنصّ على أنّه من الجن في قوله تعالى: ({وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا} [الكهف:50].
قال الشنقيطي رحمه الله:"وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ [18\ 50]،ظَاهِرٌ فِي أَنَّ سَبَبَ فِسْقِهِ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ كَوْنُهُ مِنَ الْجِنِّ، وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ فِي «مَسْلَكِ النَّصِّ» وَفِي «مَسْلَكِ الْإِيمَاءِ وَالتَّنْبِيهِ»:أَنَّ الْفَاءَ مِنَ الْحُرُوفِ الدَّالَّةِ عَلَى التَّعْلِيلِ، كَقَوْلِهِمْ: سَرَقَ فَقُطِعَتْ يَدُهُ، أَيْ: لِأَجْلِ سَرِقَتِهِ. وَسَهَا فَسَجَدَ، أَيْ: لِأَجْلِ سَهْوِهِ، وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا [5\ 38] أَيْ: لِعِلَّةِ سَرِقَتِهِمَا. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ هُنَا كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ [18\ 50] أَيْ: لِعِلَّةِ كَيْنُونَتِهِ مِنَ الْجِنِّ ; لِأَنَّ هَذَا الْوَصْفَ فَرَّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَلَائِكَةِ ; لِأَنَّهُمُ امْتَثَلُوا الْأَمْرَ وَعَصَا هُوَ ; وَلِأَجْلِ ظَاهِرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ ذَهَبَتْ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ إِبْلِيسَ
__________
(1) - تفسير ابن كثير ت سلامة (5/ 168)(1/45)
لَيْسَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ فِي الْأَصْلِ بَلْ مِنَ الْجِنِّ، وَأَنَّهُ كَانَ يَتَعَبَّدُ مَعَهُمْ، فَأُطْلِقَ عَلَيْهِمُ اسْمُهُمْ لِأَنَّهُ تَبَعٌ لَهُمْ، كَالْحَلِيفِ فِي الْقَبِيلَةِ يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُهَا. وَالْخِلَافُ فِي إِبْلِيسَ هَلْ هُوَ مَلَكٌ فِي الْأَصْلِ وَقَدْ مَسَخَهُ اللَّهُ شَيْطَانًا، أَوْ لَيْسَ فِي الْأَصْلِ بِمَلَكٍ، وَإِنَّمَا شَمَلَهُ لَفْظُ الْمَلَائِكَةِ لِدُخُولِهِ فِيهِمْ وَتَعَبُّدُهُ مَعَهُمْ مَشْهُورٌ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَحُجَّةُ مَنْ قَالَ: إِنَّ أَصْلَهُ لَيْسَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ أَمْرَانِ: أَحَدُهُمَا عَصْمَةُ الْمَلَائِكَةِ مِنِ ارْتِكَابِ الْكُفْرِ الَّذِي ارْتَكَبَهُ إِبْلِيسُ. كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْهُمْ: لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [66\ 6]،وَقَالَ تَعَالَى: لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ [21\ 27]،وَالثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ صَرَّحَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ بِأَنَّهُ مِنَ الْجِنِّ، وَالْجِنُّ غَيْرُ الْمَلَائِكَةِ. قَالُوا: وَهُوَ نَصٌّ قُرْآنِيٌّ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ. وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ مَلَكٌ فِي الْأَصْلِ بِمَا تَكَرَّرَ فِي الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ مِنْ قَوْلِهِ: فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ [15\ 30 - 31]،قَالُوا: فَإِخْرَاجُهُ بِالِاسْتِثْنَاءِ مِنْ لَفْظِ الْمَلَائِكَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ مِنْهُمْ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: وَالظَّوَاهِرُ إِذَا كَثُرَتْ صَارَتْ بِمَنْزِلَةِ النَّصِّ. وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الِاسْتِثْنَاءِ الِاتِّصَالُ لَا الِانْقِطَاعُ، قَالُوا: وَلَا حُجَّةَ لِمَنْ خَالَفَنَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى كَانَ مِنَ الْجِنِّ [18\ 50] ; لِأَنَّ الْجِنَّ قَبِيلَةٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، خُلِقُوا مِنْ بَيْنِ الْمَلَائِكَةِ مِنْ نَارِ السَّمُومِ كَمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسِ، وَالْعَرَبُ تَعْرِفُ فِي لُغَتِهَا إِطْلَاقَ الْجِنِّ عَلَى الْمَلَائِكَةِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْأَعْشَى فِي سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ:
وَسُخِّرَ مِنْ جِنِّ الْمَلَائِكِ تِسْعَةٌ ... قِيَامًا لَدَيْهِ يَعْمَلُونَ بِلَا أَجْرِ
قَالُوا: وَمِنْ إِطْلَاقِ الْجِنِّ عَلَى الْمَلَائِكَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا [37\ 158]،عِنْدَ مَنْ يَقُولُ: بِأَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ قَوْلُهُمْ: الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّهِ. سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْ كُلِّ مَا لَا يَلِيقُ بِكَمَالِهِ وَجَلَالِهِ عُلُوًّا كَبِيرًا! وَمِمَّنْ جَزَمَ بِأَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ فِي الْأَصْلِ لِظَاهِرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَقَصَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ، وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ «الْبَقَرَةِ»:إِنَّ كَوْنَهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ هُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ: ابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ جُرَيْجٍ، وَابْنِ الْمُسَيِّبِ، وَقَتَادَةَ وَغَيْرِهِمْ. وَهُوَ اخْتِيَارُ الشَّيْخِ أَبِي الْحَسَنِ، وَرَجَّحَهُ الطَّبَرِيُّ، وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِهِ «إِلَّا إِبْلِيسَ» اهـ. وَمَا يَذْكُرُهُ الْمُفَسِّرُونَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ السَّلَفِ كَابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ: مِنْ أَنَّهُ كَانَ مِنْ أَشْرَافِ الْمَلَائِكَةِ، وَمِنْ خُزَّانِ(1/46)
الْجَنَّةِ، وَأَنَّهُ كَانَ يُدَبِّرُ أَمْرَ السَّمَاءِ الدُّنْيَا، وَأَنَّهُ كَانَ اسْمُهُ عَزَازِيلُ كُلُّهُ مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ الَّتِي لَا مُعَوَّلَ عَلَيْهَا.
وَأَظْهَرُ الْحُجَجِ فِي الْمَسْأَلَةِ حُجَّةُ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ غَيْرُ مَلَكٍ. لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ الْآيَةَ [18\ 50]،وَهُوَ أَظْهَرُ شَيْءٍ فِي الْمَوْضُوعِ مِنْ نُصُوصِ الْوَحْيِ. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى." (1)
وقال العلامة محمد عزت دروزة رحمه الله تعليقا على الآية:" ويلحظ أن الآية هنا تقرر بصراحة أن إبليس من الجن في حين أن آيات قصة إبليس وآدم الأخرى احتوت فقط حكاية قول إبليس إنه خلق من نار وإنه أفضل من آدم الذي خلق من طين وتراب.
ولقد أورد المفسرون في سياق الآية روايات وأقوالا متنوعة ليس شيء منها واردا في كتب الصحاح. منها أن الجنّ جيل من الملائكة ومنها أن كلمة الجنّ يصح إطلاقها لغة على الملائكة لأنها من الاجتنان وهو الاستتار والخفاء. والذين قالوا هذا تفادوا به مما وهموا أنه تناقض في مفهوم القرآن لأن مقتضى جميع القصة في السور الأخرى أن يكون إبليس من الملائكة لأنه استثني منهم حيث جاءت الجملة: وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ [50] ولا نرى طائلا ولا ضرورة إلى ذلك. فالآية صريحة بأن إبليس شيء والملائكة شيء آخر. والذين قالوا إن الجنّ جيل من الملائكة وإن كلمة الجنّ يصح أن تطلق على الملائكة وإن إبليس من الملائكة قد غفلوا فيما يتبادر لنا عن تقريرات القرآن الصريحة الأخرى بأن الجان قد خلقوا من نار. وعن حكاية قول إبليس أنه خلق من نار مما فيه حسم في قصد تقرير كون إبليس من الجنّ الناري. وكذلك غفلوا عن جمع الجنّ والملائكة في سياق واحد وهو آيات سورة سبأ هذه: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ (40) قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (41)،مما فيه حسم بأن كلا منهم غير الآخر.
__________
(1) - أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (3/ 290)(1/47)
ولقد روى مسلم عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «خُلِقَتِ الْمَلَائِكَةُ مِنْ نُورٍ، وَخُلِقَ الْجَانُّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ، وَخُلِقَ آدَمُ مِمَّا وُصِفَ لَكُمْ» (1)
والنبي - صلى الله عليه وسلم - وحده هو المعتمد فيما فيه توضيح لما أجمله القرآن أو أطلقه أو سكت عنه وهذا الحديث من الأحاديث الصحيحة وقد انطوى على حسم آخر.
ولقد قال الزمخشري إن الفاء في كلمة فَفَسَقَ سببية لتقرير كون إبليس إنما فسق لأنه من الجن وليس من الملائكة." (2)
وقال قبل ذلك:" ومن غريب ما عزي إلى ابن عباس وبعض التابعين مثل قتادة والضحاك أن إبليس كان من الملائكة بل كان من أشرافهم وكان خازنا للسماء وللجنة. وأنه لو لم يكن من الملائكة لما أمر بالسجود لأن الله أمر الملائكة بالسجود فسجدوا وتمرد إبليس. أي أمر معهم بالسجود لأنه منهم وعزي إليهم إزاء آية الكهف التي تصف إبليس بأنه من الجنّ وهي: وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ ... [50] أن الجنّ الذين منهم إبليس هم قبيلة من الملائكة مع أن في سورة سبأ آية جمعت بين الجنّ والملائكة كخلقين مختلفين بل متعاكسين وهي: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ (40) قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (41) ومع أن القرآن جمع إبليس مع الجنّ في أصل الخلقة حيث قرر في الآيات التي نحن في صددها وأمثالها أن إبليس خلق من نار وقرر في آيات عديدة أن الجنّ خلقوا من النار أيضا مثل آية سورة الرحمن هذه: وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ (15) وآية سورة الحجر هذه وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ (27) في حين أن هناك حديثا رواه مسلم عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «خُلِقَتِ الْمَلَائِكَةُ مِنْ نُورٍ، وَخُلِقَ الْجَانُّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ، وَخُلِقَ آدَمُ مِمَّا وُصِفَ لَكُمْ».
__________
(1) - صحيح مسلم (4/ 2294) 60 - (2996) [ش (الجان) الجن (مارج) المارج اللهب المختلط بسواد النار]
(2) - التفسير الحديث (5/ 75)(1/48)
ونلاحظ أولا: أن القرآن في صدد ماهية إبليس قد قرر بعض التقريرات التي منها أنه كان من الجنّ كما جاء في آية سورة الكهف التي أوردناها آنفا. مع تقرير أن الجنّ خلقوا من النار كما جاء في آيات سورتي الحجر والرحمن التي أوردناها وغيرها. وحكى قول إبليس أنه هو نفسه خلق من نار كما جاء في آيات قصته التي نحن في صددها وفي السور الأخرى. وقد ذكره بمفرده كما في آيات القصة وأحيانا هو وذريته كما في آية سورة الكهف المذكورة آنفا وأحيانا هو وجنوده كما في آية سورة الشعراء هذه: وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (95) وذكر الشيطان مرادفا له بصيغة المفرد كما في آية سورة الأعراف [11] التي أوردناها آنفا، وبصيغة الجمع كما في نفس الآية، وذكره هو وقبيله كما في نفس الآية. وعزا إلى إبليس والشيطان وفروعهما إغواء الناس وإضلالهم وتزيينهم لهم الفساد والكفر والإثم كما ورد في الآيات التي أوردناها وكثير غيرها وحكى ما جرى من حوار في صدد ذلك بين الله تعالى وإبليس وبين إبليس وآدم، ووقف عند هذا الحدّ.
وثانيا: أن القرآن في صدد ماهية آدم وخلقه كرر ما قرره في الآيات التي نحن في صددها بشيء من الخلاف الأسلوبي، وذكر مع ذلك في بعض الآيات خلق الإنسان من طين بدون ذكر آدم وسجود الملائكة كما جاء في آيات سورة المؤمنون هذه: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ (13) ووقف عند هذا الحد.
وثالثا: أن القرآن أورد كل ما أورده في صدد آدم وإبليس بأسلوب التذكير والعظة لا بأسلوب تقرير واقعة لذاتها. وتكرار القصة مع تنوّع صيغتها وسياقها في كل مرة وردت فيها مما يدل على ذلك فضلا عن الأسلوب. فالأولى- فيما نرى من وجهة التفسير القرآني- الوقوف عند الحد الذي وقف عنده القرآن أو اقتضت حكمة التنزيل إيحاءه في صددها بدون تزيد ولا تخمين مع الإيمان بما احتوته الآيات القرآنية من صور وعدم التورط في تخمين الكيفيات التي لم تقتض حكمة التنزيل بيانها ومع ملاحظة أن هذه القصة هي مثل سائر القصص من قسم القرآن الثاني الذي سميناه بالوسائل، والذي يمكن(1/49)
أن يدخل في نطاق المتشابهات اللاتي ذكرت في آية سورة آل عمران مقابل الآيات المحكمات اللاتي هن أمّ الكتاب والتي ليست الإحاطة بماهيتها من الضرورات الدينية وأن هدفها هو التدعيم والعبرة والعظة، وأنه ليس في التخمين والتزيد طائل كما أنهما لا ينسجمان مع الهدف القرآني، ونرى في الوقت نفسه أن ما نقله المفسرون من الروايات دليل على أن أشياء كثيرة حول آدم وإبليس كانت متداولة في بيئة النبي - صلى الله عليه وسلم - وعهده، منها ما مصدره أسفار العهد القديم ومنها ما كان يتناقله الكتابيون على هامشها من شروح وحواش من الجائز أن تكون وردت في قراطيس كانت عندهم ولم تصل إلينا وبكلمة أخرى إن هذه القصة كانت معلومة عند السامعين، فأوحى الله بها في القرآن استهدافا للعظة والإنذار والتدعيم.
ثم قال أخيرا:" ونقول فيما جاء فيها من أمور مغيّبة وماهيات إن من واجب المسلم أن يؤمن بما يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الأمر ويقف عنده ولو لم يدرك حكمته ومداه ويفوض الأمر إلى الله ورسوله كما هو الشأن بالنسبة للآيات القرآنية والأحاديث النبوية الثابتة في شؤون أخرى مماثلة مرّت أمثلة لها وسيأتي أمثلة عديدة لها. ولاسيما إن هذه المسألة وأمثالها ليست من أركان الدين المحكمة التي يجب على المسلم معرفتها والعمل بها. ويكفي أن يؤمن بما جاء في القرآن والحديث الثابت فيها والله تعالى أعلم.
وما قلناه آنفا ينسحب على هذا. فالقصة وحواشيها إنما جاءت في معرض العظة وليس من طائل في التوسع ولا ضرورة. ولا يتصل بجوهر الهدف القرآني.
والأولى أن يوقف منها عند ما وقف القرآن والإيمان به مع ملاحظة الهدف الذي استهدفه منها." (1)
وفي التفسير الوسيط:" " وللعلماء في كون إبليس من الملائكة، أم لا، قولان:
أحدهما: أنه كان منهم، لأنه- سبحانه- أمرهم بالسجود لآدم، ولولا أنه كان منهم لما توجه إليه الأمر بالسجود، ولو لم يتوجه إليه الأمر بالسجود لما كان عاصيا، ولما استحق الطرد واللعنة، ولأن الأصل في المستثنى أن يكون داخلا تحت اسم المستثنى منه، حتى يقوم
__________
(1) - التفسير الحديث -دار إحياء الكتب العربية القاهرة (2/ 348)(1/50)
دليل على أنه خارج عنه. وعلى هذا الرأى الذي اختاره ابن عباس وابن مسعود وغيرهما يكون الاستثناء متصلا.
والثاني: أنه لم يكن من الملائكة، لقوله- تعالى-:وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ، فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ .. «الكهف» فهو أصل الجن، كما أن آدم أصل الإنس، ولأنه خلق من نار، والملائكة خلقوا من نور، ولأن له ذرية، والملائكة لا ذرية لهم ..
وعلى هذا الرأى الذي اختاره الحسن وقتادة وغيرهما يكون الاستثناء منقطعا.
قال الشيخ القاسمى: «وقد حاول الإمام ابن القيم- رحمه الله- أن يجمع بين الرأيين فقال: والصواب التفصيل في هذه المسألة، وأن القولين في الحقيقة قول واحد. فإن إبليس كان مع الملائكة بصورته وليس منهم بمادته وأصله فإن أصله من نار وأصل الملائكة من نور، فالنافي كونه من الملائكة والمثبت كونه منهم لم يتواردا على محل واحد». (1)
والذي نميل إليه في هذه المسألة أن إبليس لم يكن من الملائكة، بدليل الحديث الصحيح الذي يقول فيه النبي - صلى الله عليه وسلم -: «خُلِقَتِ الْمَلَائِكَةُ مِنْ نُورٍ، وَخُلِقَ الْجَانُّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ، وَخُلِقَ آدَمُ مِمَّا وُصِفَ لَكُمْ» (2)
والآية الكريمة- وهي قوله- تعالى- إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ صريحة في أنه كان من الجن ولم يكن من الملائكة.
ومع هذا فإن الأمر بالسجود يشمله، بدليل قوله- تعالى- قالَ ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ ... «سورة الأعراف الآية 12.».
فهذه الآية تدل دلالة صريحة على أن الله- تعالى- قد أمر إبليس بالسجود لآدم ...
ووجود إبليس مع الملائكة لا يستلزم أن يكون منهم، ومثل ذلك كمثل أن تقول: حضر بنو فلان إلا محمدا، ومحمد ليس من بنى فلان هؤلاء، وإنما هو معهم بالمجاورة أو
__________
(1) - تفسير القاسمي = محاسن التأويل (1/ 291)
(2) - صحيح مسلم (4/ 2294) 60 - (2996) [ش (الجان) الجن (مارج) المارج اللهب المختلط بسواد النار](1/51)
المصاحبة أو غير ذلك. هذا ما نختاره ونميل إليه، استنادا إلى ظاهر الآيات وظاهر الأحاديث، والله- تعالى- أعلم." (1)
قلت: لقد ثبت لدينا بالنص الصحيح أن الجن غير الملائكة والإنس، فعَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «خُلِقَتِ الْمَلَائِكَةُ مِنْ نُورٍ، وَخُلِقَ الْجَانُّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ، وَخُلِقَ آدَمُ مِمَّا وُصِفَ لَكُمْ» (2)
وعَنِ الْحَسَنِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ: «لَمْ يَكُنْ إِبْلِيسُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ طَرْفَةَ عَيْنٍ وَكَانَ أَبَا الْجِنِّ كَمَا أَنَّ آدَمَ أَبُو الْإِنْسِ» (3)
والذي حققه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:" وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهُ كَانَ مِنْهُمْ بِاعْتِبَارِ صُورَتِهِ وَلَيْسَ مِنْهُمْ بِاعْتِبَارِ أَصْلِهِ وَلَا بِاعْتِبَارِ مِثَالِهِ وَلَمْ يَخْرُجْ مِنْ السُّجُودِ لِآدَمَ أَحَدٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ: لَا جبرائيل وَلَا ميكائيل وَلَا غَيْرُهُمَا " (4)
رابعا- هل الشيطان أصل الجن أم واحد منهم؟
ليس لدينا نصوص صريحة تدلنا على أن الشيطان أصل الجن، أو واحد منهم، وإن كان هذا الأخير أظهر لقوله: (إلاَّ إبليس كان من الجن) [الكهف:50].
وابن تيمية رحمه الله يذهب إلى أن الشيطان أصل الجن، كما أنّ آدم أصل الإنس.
"فقد سُئِلَ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -:عَنْ قَوْله تَعَالَى {إنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ} الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ. هَلْ ذَلِكَ عَامٌّ لَا يَرَاهُمْ أَحَدٌ أَمْ يَرَاهُمْ بَعْضُ النَّاسِ دُونَ بَعْضٍ؟ وَهَلْ الْجِنُّ وَالشَّيَاطِينُ جِنْسٌ وَاحِدٌ وَلَدُ إبْلِيسَ أَمْ جِنْسَيْنِ: وَلَدُ إبْلِيسَ وَغَيْرُ وَلَدِهِ؟.
فَأَجَابَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَد بْنُ تَيْمِيَّة - رَحِمَهُ اللَّهُ وَرَضِيَ عَنْهُ آمِينَ - فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، الَّذِي فِي الْقُرْآنِ أَنَّهُمْ يَرَوْنَ الْإِنْسَ مِنْ حَيْثُ لَا يَرَاهُمْ الْإِنْسُ وَهَذَا حَقٌّ يَقْتَضِي أَنَّهُمْ يَرَوْنَ الْإِنْسَ فِي حَالٍ لَا يَرَاهُمْ الْإِنْسُ فِيهَا وَلَيْسَ فِيهِ أَنَّهُمْ لَا يَرَاهُمْ أَحَدٌ مِنْ
__________
(1) - التفسير الوسيط لطنطاوي (8/ 40)
(2) - صحيح مسلم (4/ 2294) 60 - (2996) [ش (الجان) الجن (مارج) المارج اللهب المختلط بسواد النار]
(3) - العظمة لأبي الشيخ الأصبهاني (5/ 1690) صحيح
(4) - مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية- دار الوفاء (4/ 346)(1/52)
الْإِنْسِ بِحَالِ؛ بَلْ قَدْ يَرَاهُمْ الصَّالِحُونَ وَغَيْرُ الصَّالِحِينَ أَيْضًا؛ لَكِنْ لَا يَرَوْنَهُمْ فِي كُلِّ حَالٍ وَالشَّيَاطِينُ هُمْ مَرَدَةُ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ وَجَمِيعُ الْجِنِّ وَلَدُ إبْلِيسَ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ." (1)
وعَنِ الْحَسَنِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ: «آدَمُ أَصْلُ الْإِنْسِ وَإِبْلِيسُ أَصْلُ الْجِنِّ» (2)
وعن حَرْمَلَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ الشَّافِعِيَّ يَقُولُ:" مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ يَرَى الْجِنَّ أَبْطَلْنَا شَهَادَتَهُ، يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي كِتَابِهِ: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ} [الأعراف:27] " (3)
وعَنِ الْحَسَنِ قَالَ: الْجِنُّ وَلَدُ إِبْلِيسَ، وَالْإِنْسُ وَلَدُ آدَمَ، وَمِنْ هَؤُلَاءِ مُؤْمِنُونَ وَمِنْ هَؤُلَاءِ مُؤْمِنُونَ، وَهُمْ شُرَكَاؤُهُمْ فِي الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، ومَنْ كَانَ مِنْ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مُؤْمِنًا فَهُوَ وَلِيُّ اللَّهِ، ومَنْ كَانَ مِنْ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ كَافِرًا فَهُوَ شَيْطَانٌ." (4)
وعَنِ الْحَسَنِ، قَالَ: «مَا كَانَ إِبْلِيسُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ طَرْفَةَ عَيْنٍ قَطُّ، وَإِنَّهُ لَأَصْلُ الْجِنِّ كَمَا أَنَّ آدَمَ أَصْلُ الْإِنْسِ» (5)
وقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: «إِبْلِيسُ أَبُو الْجِنِّ، كَمَا آدَمُ أَبُو الْإِنْسِ» (6)
__________
(1) - مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية- دار الوفاء (15/ 7) وانظر مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية- دار الوفاء (4/ 235)
(2) - العظمة لأبي الشيخ الأصبهاني (5/ 1573) ضعيف
(3) - حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (9/ 141) صحيح
وهذا حق يقتضي أنهم يرون الإنس في حال لا يراهم الإنس فيها، وليس في الآية أنهم لا يراهم أحد من الإنس بحال، بل قد يراهم كثير من الإنس، لكن لا يرونهم في كل حال من أحوال الجن، فقد يتشكل لهم الجن بأشكال مختلفة وصور متنوعة، كما حصل في الجني الذي رآه أبو هريرة والجني الذي رآه أبي بن كعب وغيرهما من الصحابة، وكما أتى الشيطان قريشاً في صورة سراقة بن مالك لما أرادوا الخروج إلى بدر، وكما روي أنه تصور في صورة شيخ نجدي لما اجتمعوا بدار الندوة. فتاوى الشبكة الإسلامية (1/ 4051)
(4) - أخرجه ابن أبي حاتم، تفسير ابن كثير ت سلامة (6/ 500) وفيه ضعف
(5) - تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (1/ 540) صحيح
(6) - صحيح إلى ابن زيد ولكنه ضعيف في نفسه
وقال الطبري معللا ذلك:"وَعِلَّةُ مَنْ قَالَ هَذِهِ الْمَقَالَةَ، أَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَخْبَرَ فِي كِتَابِهِ أَنَّهُ خَلَقَ إِبْلِيسَ مِنْ نَارِ السَّمُومِ وَمِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ، وَلَمْ يُخْبِرْ عَنِ الْمَلَائِكَةِ أَنَّهُ خَلَقَهَا مِنْ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ. وَأَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَخْبَرَ أَنَّهُ مِنَ الْجِنِّ. فَقَالُوا: فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُنْسَبَ إِلَى غَيْرِ مَا نَسَبَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ. قَالُوا: وَلِإِبْلِيسَ نَسْلٌ وَذُرِّيَّةٌ، وَالْمَلَائِكَةُ لَا تَتَنَاسَلُ وَلَا تَتَوَالَدُ"تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (1/ 541)(1/53)
وقَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ} [الكهف:50] وَهُوَ أَبُو الْجِنِّ كَمَا آدَمُ أَبُو الْإِنْسِ وَقَالَ: قَالَ اللَّهُ لِإِبْلِيسَ: إِنِّي لَا أَذْرَأُ لِآدَمَ ذُرِّيَّةً إِلَّا ذَرَأْتُ لَكَ مِثْلَهَا، فَلَيْسَ مِنْ وَلَدِ آدَمَ أَحَدٌ إِلَّا لَهُ شَيْطَانٌ قَدْ قُرِنَ بِهِ" (1)
وعَنْ عُقَيْلٍ حَدَّثَنِي ابْنُ شِهَابٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ " {إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} [الكهف:50]،فَإِبْلِيسُ أَبُو الْجِنِّ كَمَا أَنَّ آدَمَ أَبُو الْإِنْسِ وَآدَمُ مِنَ الْإِنْسِ وَهُوَ أَبُوهُمْ، وَإِبْلِيسُ مِنَ الْجِنِّ وَهُوَ أَبُوهُمْ، وَقَدْ تَبَيَّنَ لِلنَّاسِ ذَلِكَ حِينَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إِلَّا إِبْلِيسَ .. {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي} [الكهف:50] " (2)
وعَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ السَّلَمِيِّ، أَنَّهُ: قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -،فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَسْأَلَكَ عَنْ أَمْرٍ لَا أَسْأَلُ عَنْهُ أَحَدًا بَعْدَكَ: مَنْ أَبُونَا؟ قَالَ: «آدَمُ» قَالَ: مَنْ أُمُّنَا؟ قَالَ: «حَوَّاءُ» قَالَ: مَنْ أَبُو الْجِنِّ؟ قَالَ: «إِبْلِيسُ» قَالَ: فَمَنْ أُمُّهُمْ؟ قَالَ: «امْرَأَتُهُ» (3)
وقال ابن باز رحمه الله:" الجن ثقل عظيم، خلقهم الله لعبادته، {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (الذاريات الآية 56)،والصحيح أنهم أولاد إبليس يقال لهم الجن، هو أبوهم، كما أن آدم أبو الإنس .. " (4)
وقال أيضاً:" والشيطان هو أبو الجن عند جمع من أهل العلم، وهو الذي عصى ربه واستكبر عن السجود ... " (5)
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله:" وإِذا ثَبَتَ وُجُودهم فَقَد اُختُلِفَ فِي أَصلهم فَقِيلَ: إِنَّ أَصلهم مِن ولَدِ إِبلِيس، فَمَن كانَ مِنهُم كافِرًا سُمِّيَ شَيطانًا، وقِيلَ: إِنَّ الشَّياطِين خاصَّة أَولاد إِبلِيس ومَن عَداهُم لَيسُوا مِن ولَدِهِ. وحَدِيث ابنِ عَبّاس الآتِي فِي تَفسِير سُورَة
__________
(1) - تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (15/ 293) صحيح إلى ابن زيد ولكنه ضعيف قوي في التفسير
(2) - تفسير ابن أبي حاتم - محققا (7/ 2366) (12846) والدر المنثور في التفسير بالمأثور (5/ 402) والعظمة لأبي الشيخ الأصبهاني (5/ 1645) ومكائد الشيطان (ص:52) (32) صحيح لغيره
(3) - المعجم الأوسط (6/ 197) (6174) وهو ضعيف جدا لا يحتج به
(4) - فتاوى نور على الدرب لابن باز بعناية الشويعر (1/ 219)
(5) - فتاوى نور على الدرب لابن باز بعناية الشويعر (1/ 222)(1/54)
الجِنّ يُقَوِّي أَنَّهُم نَوع واحِد مِن أَصل واحِد، واختَلَفَ صِنفه فَمَن كانَ كافِرًا سُمِّيَ شَيطانًا وإِلاَّ قِيلَ لَهُ جِنِّيّ." (1)
وَفِي تَفْسِيرِ الْقُرْطُبِيِّ:" وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ، فِي أَصْلِ الْجِنِّ، فَرَوَى إِسْمَاعِيلُ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ: أَنَّ الْجِنَّ وَلَدُ إِبْلِيسَ، وَالْإِنْسَ وَلَدُ آدَمَ، وَمِنْ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مُؤْمِنُونَ وَكَافِرُونَ، وَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ. فَمَنْ كَانَ مِنْ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مُؤْمِنًا فَهُوَ وَلِيُّ اللَّهِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ كَافِرًا فَهُوَ شَيْطَانٌ. وَرَوَى الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ الْجِنَّ هُمْ وَلَدُ الْجَانِّ وَلَيْسُوا بِشَيَاطِينَ، وَهُمْ يُؤْمِنُونَ، وَمِنْهُمُ الْمُؤْمِنُ وَمِنْهُمُ الْكَافِرُ، وَالشَّيَاطِينُ هُمْ وَلَدُ إِبْلِيسَ لَا يَمُوتُونَ إِلَّا مَعَ إِبْلِيسَ." (2)
وقال ابن عليش:"وَفِي حَيَاةِ الْحَيَوَانِ الْمَشْهُورُ أَنَّ جَمِيعَ الْجِنِّ مِنْ ذُرِّيَّةِ إبْلِيسَ وَبِذَلِكَ يُسْتَدَلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ الْمَلَائِكَةِ لِأَنَّهُمْ لَا يَتَنَاسَلُونَ وَلَيْسَ فِيهِمْ إنَاثٌ وَقِيلَ الْجِنُّ جِنْسٌ وَإِبْلِيسُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ انْتَهَى. أَفَادَ ذَلِكَ كُلَّهُ سَيِّدِي مُحَمَّدٌ الزَّرْقَانِيُّ فِي أَجْوِبَتِهِ وَفِي الْمِعْيَارِ .. " (3)
وفي فتاوى واستشارات الإسلام اليوم سؤال: الجن والشياطين سلالة من؟
" " الذي يظهر والله أعلم أن إبليس هو أبو الجن وذلك هو ظاهر القرآن ولا معارض له مقبول فإن الله سبحانه قد أخبر في كتابه عن إبليس أنه اعترض على السجود بقوله: {قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف:12]،فهو يتحدث عن خلقه هو لا عن غيره من أب أو جد فأول الجن خلقا هو إبليس وهو أبوهم {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا} [الكهف:50]،كما أن أول الإنس خلقا هو آدم وهو أبوهم وإبليس قد خلق قبل آدم
__________
(1) - فتح الباري شرح صحيح البخاري- ط دار المعرفة (6/ 344)
(2) - تفسير القرطبي (19/ 5)
(3) - فتح العلي المالك في الفتوى على مذهب الإمام مالك (1/ 29) وانظر: التحفة المهدية شرح العقيدة التدمرية (2/ 137) وعالم الجن والشياطين (ص:18) والتفسير الوسيط لطنطاوي (1/ 99) والتفسير الوسيط لطنطاوي (5/ 251) والتفسير الوسيط لطنطاوي (8/ 40) والتفسير الوسيط لطنطاوي (15/ 130) وتفسير القاسمي = محاسن التأويل (1/ 290) وفتاوى الأزهر (10/ 146) إبليس والجن والشياطين(1/55)
{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (26) وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ (27)} [الحجر:26 - 27]
قال الحسن البصري رحمه الله:" مَا كَانَ إِبْلِيسُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ طَرْفَةَ عَيْنٍ قَط، وَإِنَّهُ لَأَصْلُ الْجِنِّ، كَمَا أَنَّ آدَمَ أَصْلُ الْإِنْسِ."قال ابن كثير:" وهذا إسناد صحيح عن الحسن " (1)
قال ابن القيم_رحمه الله_: (2)
واسأل أبا الجن اللعين أتعرف الخلاق أم أصبحت ذا نكران
وقال ابن حجر في الفتح:" إِبلِيسُ لأَنَّهُ أَبُو الجِنّ كُلّهم " (3)
وكل قول غير هذا غير فإنه معارض لظاهر القرآن كما أن مستنده النقل عن بني إسرائيل فمرة ينسب إلى حي من الملائكة وأخرى إلى الجن ولكن اصطفى فكان بين الملائكة ... إلى غير ذلك من الأقوال، والمسألة سمعية لا مجال للرأي فيها، ومثلها لا يستند فيه على الإسرائيليات، وتجدر الإشارة إلى أنها قد وردت مجموعة من الروايات عن المتقدمين في إبليس وكيفية نسبته إلى الجن، وتحديد مهمته، وذكر عبادته، وكيفية انتقاله، إلى السماء وتسميته، وغير ذلك، ومصدر ذلك والله أعلم الإسرائيليات.
قال ابن كثير في تفسيره:" َقَدْ رُوي فِي هَذَا آثَارٌ كَثِيرَةٌ عَنِ السَّلَفِ، وَغَالِبُهَا مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ الَّتِي تُنْقَلُ لِيُنْظَرَ فِيهَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِحَالِ كَثِيرٍ مِنْهَا. وَمِنْهَا مَا قَدْ يُقْطَعُ بِكَذِبِهِ لِمُخَالَفَتِهِ لِلْحَقِّ الَّذِي بِأَيْدِينَا، وَفِي الْقُرْآنِ غُنْيَةٌ عَنْ كُلِّ مَا عَدَاهُ مِنَ الْأَخْبَارِ الْمُتَقَدِّمَةِ؛ لِأَنَّهَا لَا تَكَادُ تَخْلُو مِنْ تَبْدِيلٍ وَزِيَادَةٍ وَنُقْصَانٍ، وَقَدْ وُضِعَ فِيهَا أَشْيَاءٌ كَثِيرَةٌ". (4)
وحينئذ فلا داعي للعدول عن ظاهر القرآن.
وبهذا القول يزول الإشكال عن كيفية وجود إبليس بين الملائكة وهو ليس منهم، فالله قد خلقه وجعله بينهم، كما أنه خلق آدم وجعله في الجنة ثم أنزل الجميع إلى الأرض جزاءا وابتلاء، هذا بالنسبة لأبي الجن.
__________
(1) - تتفسير ابن كثير ت سلامة (1/ 231)
(2) - نونية ابن القيم = الكافية الشافية (ص:9)
(3) - فتح الباري شرح صحيح البخاري- ط دار المعرفة (6/ 369)
(4) - تفسير ابن كثير ت سلامة (5/ 168)(1/56)
وأما بالنسبة لأبي الشياطين فلا بد من مقدمة لبيان ذلك، فإن لفظ (شيطان) يطلق على إبليس ويطلق على جنس من الجن وهم المرة من ذرية إبليس، ويطلق على المتمرد من الإنس على أوامر ربه.
فأما إطلاقه على إبليس ففي مثل قوله تعالى (فأزلهما الشيطان عنها) وقوله تعالى (فوسوس لهما الشيطان) وقوله تعالى (لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة) وهذا غالب إطلاقه، فالشيطان علم في الغالب على إبليس.
وأما إطلاقه على جنس من الجن ففي مثل قوله تعالى (وما تنزلت به الشياطين) وقوله تعالى (هل أنبئكم على من تنزل الشياطين) (والشياطين كل بناء وغواص) (وجعلناها رجوما للشياطين) وهو ههنا وصف لهم.
وأما إطلاقه على متمردي الإنس ففي مثل قوله تعالى (وكذلك جعلنا لكل نبي عدو شياطين الجن والإنس يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا) وهو هنا وصف لهم أيضا.
وحينئذ فلا يمكن أن يقال: أبو الشياطين هو فلان إذ منهم جن ومنهم بشر، إلا أن يكون الحكم أغلبي، فيقال إبليس أبو الشياطين لأن غالب الشياطين منهم ولأنه مصدر شيطنتهم والله أعلم." (1)
خامسا - قبح صورة الشيطان:
الشيطان قبيح الصورة، وهذا مستقر في الأذهان، وقد شبه الله ثمار شجرة الزقوم التي تنبت في أصل الجحيم برؤوس الشياطين، لما علم من قبح صورهم وأشكالهم {أَذَلِكَ
__________
(1) - تفسير فتاوى واستشارات الإسلام اليوم (1/ 5):الجن والشياطين سلالة من؟
وانظر أيضا: أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (7/ 499) وتفسير الألوسي = روح المعاني (7/ 279) وفتاوى الرملي (4/ 242) وفتاوى السبكي (2/ 620) وفتاوى الشبكة الإسلامية (1/ 1042):الفرق بين الملائكة والجن، والشياطين والجن وفتاوى الشبكة الإسلامية (1/ 4084):سبب تسمية (إبليس) بهذه التسمية ومجموع فتاوى ورسائل العثيمين (11/ 112) وموقع الإسلام سؤال وجواب (1/ 556):هل إبليس أبٌ للجن كلهم؟ وموقع الإسلام سؤال وجواب (1/ 611):هل الجن يعاونون الإنس على بعض الأشياء(1/57)
خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (62) إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (63) إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (64) طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ (65)} [الصافات:62 - 65].
أَذَلِكَ الرِّزْقُ الكَرِيمُ الوَفِيرُ الذِي مَنَّ اللهُ بِهِ عَلَى أَهْلِ الجَنَّةِ، وَهَذَا المَنْزِلُ الطَّيِّبُ الذِي أَنْزَلَهُم اللهُ فِيهِ فِي رِحَابِ الجَنَّةِ خَيْرٌ، أمْ مَا وَعَدَ اللهُ بِهِ أَهْلَ النَّارِ مِنَ الأَكْلِ مِنْ شَجَرَةِ الزَّقُّومِ، ذَاتِ الثَّمْرِ الكَرِيهِ المَذَاقِ؟
وَقَدْ أَخْبَرَ اللهُ تَعَالَى رَسُولَهُ الكَرِيمَ عَنْ وُجُودِ شَجَرَةِ الزُّقُومِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ، ابْتِلاَءً مِنْهُ واخْتِبَاراً لِيَرَى مَنْ يُصَدِّقُ بِهَا، مِمَّنْ يُكَذِّبُ، وَجَعَلَهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ الكَافِرِينَ.
حِينَمَا ذَكَرَ اللهُ تَعَالَى أَنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ مِنْ وَسَطِ نَارِ جَهَنَّمَ، قَالَ الكَافِرُونَ: كَيْفَ يَكُونُ هَذَا والنَّارُ تَحْرُقُ الشَّجَرَ؟
كَأَنَّ ثَمَرَهَا (طَلْعِهَا)،فِي قُبْحِ مَنْظَرِهِ، رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ: (وَالعَرَبُ كَانَتْ تَعْتَقِدُ أَنَّ الشَّيَاطِينَ قَبِيحَةُ المَنْظَرِ، فَأَرَادَ اللهُ تَعَالَى تَقْبِيحَ شَجَرَةِ الزُّقُّومِ، وَتَكْرِيهَ السَّامِعِينَ بِهَا). (1)
وقد كان النصارى في القرون الوسطى يصورون الشيطان على هيئة رجل أسود ذي لحية مدببة، وحواجب مرفوعة، وفم ينفث لهباً، وقرون وأظلاف وذيل. (2)
سادسا- الشيطان له قرنان:
عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لَا تَحَرَّوْا بِصَلَاتِكُمْ طُلُوعَ الشَّمْسِ، وَلَا غُرُوبَهَا، فَإِنَّهَا تَطْلُعُ بِقَرْنَيْ الشَّيْطَانِ» (3)
وعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إِذَا طَلَعَ حَاجِبُ الشَّمْسِ فَدَعُوا الصَّلاَةَ حَتَّى تَبْرُزَ، وَإِذَا غَابَ حَاجِبُ الشَّمْسِ فَدَعُوا الصَّلاَةَ حَتَّى تَغِيبَ، وَلاَ
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد (ص:3729،بترقيم الشاملة آليا)
(2) - دائرة المعارف الحديثة:357.
(3) - صحيح مسلم (1/ 567) 290 - (828)
[ش (فإنها تطلع بقرني شيطان) هكذا هو في الأصول بقرني شيطان في حديث ابن عمر وفي حديث عمرو بن عبسة بين قرني شيطان قيل المراد بقرني الشيطان حزبه وأتباعه وقيل قوته وغلبته وانتشار فساده وقيل القرنان ناحيتا الرأس وإنه على ظاهره وهذا هو الأقوى وسمي شيطانا لتمرده وعتوه وكل مارد عات شيطان والأظهر أنه مشتق من شطن إذا بعد لبعده من الخير والرحمة وقيل مشتق من شاط إذا هلك واحترق](1/58)
تَحَيَّنُوا بِصَلاَتِكُمْ طُلُوعَ الشَّمْسِ وَلاَ غُرُوبَهَا، فَإِنَّهَا تَطْلُعُ بَيْنَ قَرْنَيْ شَيْطَانٍ، أَوِ الشَّيْطَانِ» (1)
والمعنى أن طوائف المشركين كانوا يعبدون الشمس، ويسجدون لها عند طلوعها، وعند غروبها، فعند ذلك ينتصب الشيطان في الجهة التي تكون فيها الشمس، حتى تكون عبادتهم له. فعَنْ أَبِي أُمَامَةَ، قَالَ: قَالَ عَمْرُو بْنُ عَبَسَةَ السُّلَمِيُّ: كُنْتُ وَأَنَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَظُنُّ أَنَّ النَّاسَ عَلَى ضَلَالَةٍ، وَأَنَّهُمْ لَيْسُوا عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَعْبُدُونَ الْأَوْثَانَ، فَسَمِعْتُ بِرَجُلٍ بِمَكَّةَ يُخْبِرُ أَخْبَارًا، فَقَعَدْتُ عَلَى رَاحِلَتِي، فَقَدِمْتُ عَلَيْهِ، فَإِذَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مُسْتَخْفِيًا جُرَءَاءُ عَلَيْهِ قَوْمُهُ، فَتَلَطَّفْتُ حَتَّى دَخَلْتُ عَلَيْهِ بِمَكَّةَ، فَقُلْتُ لَهُ: مَا أَنْتَ؟ قَالَ: «أَنَا نَبِيٌّ»،فَقُلْتُ: وَمَا نَبِيٌّ؟ قَالَ: «أَرْسَلَنِي اللهُ»،فَقُلْتُ: وَبِأَيِّ شَيْءٍ أَرْسَلَكَ، قَالَ: «أَرْسَلَنِي بِصِلَةِ الْأَرْحَامِ، وَكَسْرِ الْأَوْثَانِ، وَأَنْ يُوَحَّدَ اللهُ لَا يُشْرَكُ بِهِ شَيْءٌ»،قُلْتُ لَهُ: فَمَنْ مَعَكَ عَلَى هَذَا؟ قَالَ: «حُرٌّ، وَعَبْدٌ»،قَالَ: وَمَعَهُ يَوْمَئِذٍ أَبُو بَكْرٍ، وَبِلَالٌ مِمَّنْ آمَنَ بِهِ، فَقُلْتُ: إِنِّي مُتَّبِعُكَ، قَالَ: «إِنَّكَ لَا تَسْتَطِيعُ ذَلِكَ يَوْمَكَ هَذَا، أَلَا تَرَى حَالِي وَحَالَ النَّاسِ، وَلَكِنِ ارْجِعْ إِلَى أَهْلِكَ فَإِذَا سَمِعْتَ بِي قَدْ ظَهَرْتُ فَأْتِنِي»،قَالَ: فَذَهَبْتُ إِلَى أَهْلِي وَقَدِمَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - الْمَدِينَةَ، وَكُنْتُ فِي أَهْلِي فَجَعَلْتُ أَتَخَبَّرُ الْأَخْبَارَ، وَأَسْأَلُ النَّاسَ حِينَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ، حَتَّى قَدِمَ عَلَيَّ نَفَرٌ مِنْ أَهْلِ يَثْرِبَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةَ، فَقُلْتُ: مَا فَعَلَ هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي قَدِمَ الْمَدِينَةَ؟ فَقَالُوا النَّاسُ: إِلَيْهِ سِرَاعٌ وَقَدْ أَرَادَ قَوْمُهُ قَتْلَهُ فَلَمْ يَسْتَطِيعُوا ذَلِكَ، فَقَدِمْتُ الْمَدِينَةَ فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ أَتَعْرِفُنِي؟ قَالَ: «نَعَمْ، أَنْتَ الَّذِي لَقِيتَنِي بِمَكَّةَ»،قَالَ: فَقُلْتُ: بَلَى فَقُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللهِ أَخْبِرْنِي عَمَّا عَلَّمَكَ اللهُ وَأَجْهَلُهُ، أَخْبِرْنِي عَنِ الصَّلَاةِ، قَالَ: «صَلِّ صَلَاةَ الصُّبْحِ، ثُمَّ أَقْصِرْ عَنِ الصَّلَاةِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ حَتَّى تَرْتَفِعَ، فَإِنَّهَا تَطْلُعُ حِينَ تَطْلُعُ بَيْنَ قَرْنَيْ شَيْطَانٍ، وَحِينَئِذٍ يَسْجُدُ لَهَا الْكُفَّارُ، ثُمَّ صَلِّ فَإِنَّ الصَّلَاةَ مَشْهُودَةٌ مَحْضُورَةٌ حَتَّى يَسْتَقِلَّ الظِّلُّ بِالرُّمْحِ، ثُمَّ أَقْصِرْ عَنِ الصَّلَاةِ، فَإِنَّ حِينَئِذٍ تُسْجَرُ جَهَنَّمُ، فَإِذَا أَقْبَلَ الْفَيْءُ فَصَلِّ، فَإِنَّ الصَّلَاةَ مَشْهُودَةٌ مَحْضُورَةٌ حَتَّى تُصَلِّيَ
__________
(1) - صحيح البخاري (4/ 122) (3272 و3273)
[ش (تبرز) تظهر. (تحينوا) من التحين وهو طلب وقت معلوم. (قرني الشيطان) جانبي رأسه](1/59)
الْعَصْرَ، ثُمَّ أَقْصِرْ عَنِ الصَّلَاةِ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ، فَإِنَّهَا تَغْرُبُ بَيْنَ قَرْنَيْ شَيْطَانٍ، وَحِينَئِذٍ يَسْجُدُ لَهَا الْكُفَّارُ»
قَالَ: فَقُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللهِ فَالْوُضُوءَ حَدِّثْنِي عَنْهُ، قَالَ: «مَا مِنْكُمْ رَجُلٌ يُقَرِّبُ وَضُوءَهُ فَيَتَمَضْمَضُ، وَيَسْتَنْشِقُ فَيَنْتَثِرُ إِلَّا خَرَّتْ خَطَايَا وَجْهِهِ، وَفِيهِ وَخَيَاشِيمِهِ، ثُمَّ إِذَا غَسَلَ وَجْهَهُ كَمَا أَمَرَهُ اللهُ، إِلَّا خَرَّتْ خَطَايَا وَجْهِهِ مِنْ أَطْرَافِ لِحْيَتِهِ مَعَ الْمَاءِ، ثُمَّ يَغْسِلُ يَدَيْهِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ، إِلَّا خَرَّتْ خَطَايَا يَدَيْهِ مِنْ أَنَامِلِهِ مَعَ الْمَاءِ، ثُمَّ يَمْسَحُ رَأْسَهُ، إِلَّا خَرَّتْ خَطَايَا رَأْسِهِ مِنْ أَطْرَافِ شَعْرِهِ مَعَ الْمَاءِ، ثُمَّ يَغْسِلُ قَدَمَيْهِ إِلَى الْكَعْبَيْنِ، إِلَّا خَرَّتْ خَطَايَا رِجْلَيْهِ مِنْ أَنَامِلِهِ مَعَ الْمَاءِ، فَإِنْ هُوَ قَامَ فَصَلَّى، فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَمَجَّدَهُ بِالَّذِي هُوَ لَهُ أَهْلٌ، وَفَرَّغَ قَلْبَهُ لِلَّهِ، إِلَّا انْصَرَفَ مِنْ خَطِيئَتِهِ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ».
فَحَدَّثَ عَمْرُو بْنُ عَبَسَةَ بِهَذَا الْحَدِيثِ أَبَا أُمَامَةَ صَاحِبَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -،فَقَالَ لَهُ أَبُو أُمَامَةَ: «يَا عَمْرَو بْنَ عَبَسَةَ، انْظُرْ مَا تَقُولُ فِي مَقَامٍ وَاحِدٍ يُعْطَى هَذَا الرَّجُلُ»،فَقَالَ عَمْرٌو: «يَا أَبَا أُمَامَةَ، لَقَدْ كَبِرَتْ سِنِّي، وَرَقَّ عَظْمِي، وَاقْتَرَبَ أَجَلِي، وَمَا بِي حَاجَةٌ أَنْ أَكْذِبَ عَلَى اللهِ وَلَا عَلَى رَسُولِ اللهِ، لَوْ لَمْ أَسْمَعْهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إِلَّا مَرَّةً، أَوْ مَرَّتَيْنِ، أَوْ ثَلَاثًا حَتَّى عَدَّ سَبْعَ مَرَّاتٍ، مَا حَدَّثْتُ بِهِ أَبَدًا، وَلَكِنِّي سَمِعْتُهُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ» (1)
وعَنْ عَبْدِ اللهِ الصُّنَابِحِيُّ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «الشَّمْسُ تَطْلُعُ، وَمَعَهَا قَرْنُ الشَّيْطَانِ فَإِذَا ارْتَفَعَتْ فَارَقَهَا فَإِذَا اسْتَوَتْ قَارَنَهَا فَإِذَا زَالَتْ فَارَقَهَا فَإِذَا دَنَتْ لِلْغُرُوبِ قَارَنَهَا فَإِذَا غَرَبَتْ فَارَقَهَا، وَنَهَى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -،عَنِ الصَّلَاةِ فِي تِلْكَ السَّاعَاتِ» " (2)
"فالنَّهي حِينَئِذٍ لِتَركِ مُشابَهَة الكُفّار، وقَد اعتَبَرَ ذَلِكَ الشَّرع فِي أَشياء كَثِيرَة وفِي هَذا تَعَقُّبٌ عَلَى أَبِي مُحَمَّد البَغَوِيِّ حَيثُ قالَ: إِنَّ النَّهي عَن ذَلِكَ لا يُدرَكُ مَعناهُ، وجَعَلَهُ مِن قَبِيلِ التَّعَبُّد الَّذِي يَجِبُ الإِيمان بِهِ." (3)
قال ابن عبد البر:" وَتَطْلُعُ بَيْنَ قَرْنَيِ الشَّيْطَانِ وَنَحْوُ هَذَا فَإِنَّ لِلْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ ذَلِكَ اللَّفْظَ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَإِنَّهَا تَغْرُبُ وَتَطْلُعُ عَلَى قَرْنِ شَيْطَانٍ وَعَلَى
__________
(1) - صحيح مسلم (1/ 570) 294 - (832)
(2) - السنن الكبرى للنسائي (2/ 212) (1554) والسنن الكبرى للبيهقي (2/ 637) (4384) صحيح
(3) - فتح الباري شرح صحيح البخاري- ط دار المعرفة (2/ 60)(1/60)
رَأْسِ شَيْطَانٍ وَبَيْنَ قَرْنَيْ شَيْطَانٍ عَلَى ظَاهِرِ الْحَدِيثِ حَقِيقَةً لا مجازا من غير تَكَيَّفَ لِأَنَّهُ لَا يُكَيَّفُ مَا لَا يُرَى .....
وَقَالَ قَوْمٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ: وَجْهُ هَذَا الْحَدِيثِ وَمَعْنَاهُ عِنْدَنَا حَمْلُهُ عَلَى مَجَازِ اللَّفْظِ وَاسْتِعَارَةِ الْقَوْلِ وَاتِّسَاعِ الْكَلَامِ وَقَالُوا أَرَادَ بِذِكْرِهِ - صلى الله عليه وسلم - قَرْنَ الشَّيْطَانِ أُمَّةً تَعْبُدُ الشمس وَتَسْجُدُ لَهَا وَتُصَلِّي فِي حِينِ طُلُوعِهَا وَغُرُوبِهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَكَانَ - صلى الله عليه وسلم - يَكْرَهُ التَّشَبُّهَ بِالْكُفَّارِ وَيُحِبُّ مُخَالَفَتَهُمْ وَبِذَلِكَ وَرَدَتْ سُنَّتُهُ - صلى الله عليه وسلم - وَكَأَنَّهُ أَرَادَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنْ يَفْصِلَ دِينَهُ مِنْ دِينِهِمْ إِذْ هُمْ أَوْلِيَاءُ الشَّيْطَانِ وَحِزْبُهُ فَنَهَى عَنِ الصَّلَاةِ فِي تِلْكَ الْأَوْقَاتِ لِذَلِكَ وَهَذَا التَّأْوِيلُ جَائِزٌ فِي اللُّغَةِ مَعْرُوفٌ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ لِأَنَّ الْأُمَّةَ تُسَمَّى عِنْدَهُمْ قَرْنًا وَالْأُمَمُ قُرُونًا ...
وَجَائِزٌ أَنْ يُضَافَ الْقَرْنُ إِلَى الشَّيْطَانِ لِطَاعَتِهِمْ فِي ذَلِكَ لشيطان وَقَدْ سَمَّى اللَّهُ الْكُفَّارَ حِزْبَ الشَّيْطَانِ وَهَذَا أَعْرَفُ فِي اللُّغَةِ مِنْ أَنْ يَحْتَاجَ فِيهِ إِلَى إِكْثَارٍ ... وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ فِي ظَاهِرِهَا حُجَّةٌ لِلْقَوْلَيْنِ جَمِيعًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ لِقَوْلِهِ فِيهَا بَيْنَ قَرْنَيْ شَيْطَانٍ عَلَى مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي تَأْوِيلِهِ .. " (1)
وقد نهينا عن الصلاة في هذين الوقتين، والصحيح أن الصلاة في هذين الوقتين جائزة، إذا كان لها سبب كتحية المسجد، ولا تجوز بلا سبب كالنفل المطلق؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (لا تَحَيّنوا)؛أي لا تتقصدوا.
ومما ورد فيه ذكر قرن الشيطان حديث البخاري عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُشِيرُ إِلَى المَشْرِقِ فَقَالَ: «هَا إِنَّ الفِتْنَةَ هَا هُنَا، إِنَّ الفِتْنَةَ هَا هُنَا مِنْ حَيْثُ يَطْلُعُ قَرْنُ الشَّيْطَانِ» (2)
وعَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: ذَكَرَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: «اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي شَامِنَا، اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي يَمَنِنَا» قَالُوا: وَفِي نَجْدِنَا، قَالَ: «اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي شَامِنَا، اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي يَمَنِنَا»
__________
(1) - التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد (4/ 6)
(2) - صحيح البخاري (4/ 123) (3279) والمراد بقوله: (حين يطلع قرن الشيطان)؛أي جهة الشرق.(1/61)
قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَفِي نَجْدِنَا، فَأَظُنُّهُ قَالَ فِي الثَّالِثَةِ: «هُنَاكَ الزَّلَازِلُ، وَالْفِتَنُ، وَبِهَا يَطْلُعُ قَرْنُ الشَّيْطَانِ» (1)
وعن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: صَلَّى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - صَلَاةَ الْفَجْرِ، ثُمَّ انْفَتَلَ، فَأَقْبَلَ عَلَى الْقَوْمِ، فَقَالَ: «اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي مَدِينَتِنَا، وَبَارِكْ لَنَا فِي مُدِّنَا وَصَاعِنَا، اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي شَامِنَا ويَمَنِنَا» فَقَالَ رَجُلٌ: وَالْعِرَاقُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَسَكَتَ، ثُمَّ قَالَ: «اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي مَدِينَتِنَا، وَبَارِكْ لَنَا فِي مُدِّنَا وَصَاعِنَا، اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي حَرَمِنَا، وَبَارِكْ لَنَا فِي شَامِنَا ويَمَنِنَا» فَقَالَ رَجُلٌ: وَالْعِرَاقُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: «مِنْ ثَمَّ يَطْلُعُ قَرْنُ الشَّيْطَانِ، وَتَهِيجُ الْفِتَنُ» (2)
وعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَمْرٍو أَبِي مَسْعُودٍ، قَالَ: أَشَارَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِيَدِهِ نَحْوَ اليَمَنِ فَقَالَ «الإِيمَانُ يَمَانٍ هَا هُنَا، أَلاَ إِنَّ القَسْوَةَ وَغِلَظَ القُلُوبِ فِي الفَدَّادِينَ، عِنْدَ أُصُولِ أَذْنَابِ الإِبِلِ، حَيْثُ يَطْلُعُ قَرْنَا الشَّيْطَانِ فِي رَبِيعَةَ، وَمُضَرَ» (3)
قالَ المُهَلَّب: إِنَّما تَرَكَ - صلى الله عليه وسلم - الدُّعاء لأَهلِ المَشرِق لِيَضعُفُوا عَن الشَّرّ الَّذِي هُو مَوضُوع فِي جِهَتهم لاستِيلاءِ الشَّيطان بِالفِتَنِ وأَمّا قَولُه:"قَرن الشَّمس " فَقالَ الدّاوُدِيُّ: لِلشَّمسِ قَرن
__________
(1) - صحيح البخاري (2/ 33) (1037) و (9/ 54) (7094) والسنن الواردة في الفتن للداني (1/ 251) (46)
[ش الحديث في صورة الموقوف على ابن عمر رضي الله عنه وهو في الحكم المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم لأن مثله لا يقال بالرأي وقد جاء مرفوعا في الرواية التي ستأتي في كتاب الفتن (بارك) من البركة وهي الزيادة والنماء وكثرة الخير. (شامنا ويمننا) هي البلدان المعروفة ببلاد الشام وبلاد اليمن. (نجدنا) ما ارتفع من بلاد العرب إلى أرض العراق. (قرن الشيطان) جماعته وحزبه]
(2) - صحيح البخاري (4/ 128) (3302) وصحيح مسلم (1/ 71) 81 - (51)
[(عند أصول أذناب الإبل) أي إنهم يبعدون عن المدن لرعي إبلهم فيجهلون معالم دينهم. (قرنا الشيطان) جانبا رأسه والمراد ظهور ما لا يحمد من الأمور والمزيد من تسلط الشيطان وانتشار الكفر. أو المراد أن الشيطان ينتصب في محاذاة الشمس عند طلوعها فتطلع بين جانبي رأسه فإذا سجد عبدة الشمس لها عند الشروق كان السجود له. (ربيعة ومضر) بدل من الفدادين]
(3) - صحيح البخاري (4/ 128) (3302)
[ش (عند أصول أذناب الإبل) أي إنهم يبعدون عن المدن لرعي إبلهم فيجهلون معالم دينهم. (قرنا الشيطان) جانبا رأسه والمراد ظهور ما لا يحمد من الأمور والمزيد من تسلط الشيطان وانتشار الكفر. أو المراد أن الشيطان ينتصب في محاذاة الشمس عند طلوعها فتطلع بين جانبي رأسه فإذا سجد عبدة الشمس لها عند الشروق كان السجود له. (ربيعة ومضر) بدل من الفدادين](1/62)
حَقِيقَة ويَحتَمِل أَن يُرِيد بِالقَرنِ قُوَّة الشَّيطان وما يَستَعِين بِهِ عَلَى الإِضلال، وهَذا أَوجَه، وقِيلَ إِنَّ الشَّيطان يَقرِن رَأسه بِالشَّمسِ عِندَ طُلُوعها لِيَقَع سُجُود عَبَدَتِها لَهُ قِيلَ ويَحتَمِل أَن يَكُون لِلشَّمسِ شَيطان تَطلُع الشَّمس بَينَ قَرنَيهِ، وقالَ الخَطّابِيُّ: القَرن الأُمَّة مِنَ النّاس يَحدُثُونَ بَعدَ فِناء آخَرِينَ، وقَرن الحَيَّة أَن يُضرَب المَثَل فِيما لا يُحمَد مِنَ الأُمُور.
وقالَ غَيره كانَ أَهل المَشرِق يَومَئِذٍ أَهل كُفر فَأَخبَرَ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّ الفِتنَة تَكُون مِن تِلكَ النّاحِيَة فَكانَ كَما أَخبَرَ، وأَوَّل الفِتَن كانَ مِن قِبَل المَشرِق فَكانَ ذَلِكَ سَبَبًا لِلفُرقَةِ بَينَ المُسلِمِينَ وذَلِكَ مِمّا يُحِبّهُ الشَّيطان ويَفرَح بِهِ، وكَذَلِكَ البِدَع نَشَأَت مِن تِلكَ الجِهَة، وقالَ الخَطّابِيُّ: نَجِد مِن جِهَة المَشرِق ومَن كانَ بِالمَدِينَةِ كانَ نَجده بادِيَة العِراق ونَواحِيها وهِيَ مَشرِق أَهل المَدِينَة، وأَصل النَّجد ما ارتَفَعَ مِنَ الأَرض، وهُو خِلاف الغَور فَإِنَّهُ ما انخَفَضَ مِنها وتِهامَة كُلُّها مِنَ الغَور ومَكَّة مِن تِهامَة انتَهَى. (1)
__________
(1) - فتح الباري شرح صحيح البخاري- ط دار المعرفة (13/ 46)(1/63)
المبحث الرابع
قدرات الجن
المسلمُ يؤمن بأن الله -عز وجل- منح الجنَّ قدرات خاصة لم يمنحها للإنس جميعًا، ومن هذه القدرات سرعة التنقل الفائق، والقوة العظيمة التي تدل على عظمة الخالق -سبحانه-،كما جاء فى قصة سليمان عليه السلام، عندما أراد أن يثبت لملكة سبأ عظم ما أعطاه الله -عز وجل- له من نعم عظيمة وآلاء جليلة، قال تعالى: {قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (38) قَالَ عِفْريتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آَتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (39) قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آَتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآَهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40) [النمل/38 - 40].
قال سليمان مخاطبًا من سَخَّرهم الله له من الجن والإنس: أيُّكم يأتيني بسرير ملكها العظيم قبل أن يأتوني منقادين طائعين؟
قال مارد قويٌّ شديد من الجن: أنا آتيك به قبل أن تقوم من مجلسك هذا، وإني لقويٌّ على حَمْله، أمين على ما فيه، آتي به كما هو لا أُنقِص منه شيئًا ولا أبدله.
قال الذي عنده علم من الكتاب: أنا آتيك بهذا العرش قبل ارتداد أجفانك إذا تحرَّكَتْ للنظر في شيء. فأذن له سليمان فدعا الله، فأتى بالعرش. فلما رآه سليمان حاضرًا لديه ثابتًا عنده قال: هذا مِن فضل ربي الذي خلقني وخلق الكون كله؛ ليختبرني: أأشكر بذلك اعترافًا بنعمته تعالى عليَّ أم أكفر بترك الشكر؟ ومن شكر لله على نعمه فإنَّ نَفْعَ ذلك يرجع إليه، ومن جحد النعمة وترك الشكر فإن ربي غني عن شكره، كريم يعم بخيره في الدنيا الشاكر والكافر، ثم يحاسبهم ويجازيهم في الآخرة (1).
__________
(1) - التفسير الميسر - (6/ 487)(1/64)
والمسلمُ يؤمن بأن الجن يستطيعون التحليق في الفضاء الخارجي، وكانوا يستمعون إلى السماء، وينقلون أخبارها إلى الكهنة بعد إضافة كثير من الأكاذيب إليها، فلما بعث الله -عز وجل- النبي - صلى الله عليه وسلم - حُرِسَت السماء بالشهب والملائكة، يقول الله -عز وجل- على لسان أحد الجن: {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا (8) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآَنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا (9) [الجن/8،9].
وأنَّا- معشر الجن- طلبنا بلوغ السماء؛ لاستماع كلام أهلها، فوجدناها مُلئت بالملائكة الكثيرين الذين يحرسونها، وبالشهب المحرقة التي يُرمى بها مَن يقترب منها.
وأنا كنا قبل ذلك نتخذ من السماء مواضع; لنستمع إلى أخبارها، فمن يحاول الآن استراق السمع يجد له شهابًا بالمرصاد، يُحرقه ويهلكه. وفي هاتين الآيتين إبطال مزاعم السحرة والمشعوذين، الذين يدَّعون علم الغيب، ويغررون بضعفة العقول؛ بكذبهم وافترائهم (1).
وعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، زَوْجِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -،أَنَّهَا سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -،يَقُولُ:" إِنَّ المَلاَئِكَةَ تَنْزِلُ فِي العَنَانِ: وَهُوَ السَّحَابُ، فَتَذْكُرُ الأَمْرَ قُضِيَ فِي السَّمَاءِ، فَتَسْتَرِقُ الشَّيَاطِينُ السَّمْعَ فَتَسْمَعُهُ، فَتُوحِيهِ إِلَى الكُهَّانِ، فَيَكْذِبُونَ مَعَهَا مِائَةَ كَذْبَةٍ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ " (أخرجه البخاري) (2).
وعَنْ عَائِشَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - نَاسٌ عَنِ الكُهَّانِ، فَقَالَ: «لَيْسَ بِشَيْءٍ» فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّهُمْ يُحَدِّثُونَا أَحْيَانًا بِشَيْءٍ فَيَكُونُ حَقًّا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ
__________
(1) - التفسير الميسر - (10/ 279)
(2) - صحيح البخاري (4/ 111) (3210)
[ش (فتسترق) تختلس وتستمع ستخفية كالسارق. (فتوحيه) فتلقيه. (الكهان) جمع كاهن وهو الذي يتعاطى الإخبار عن الكائنات في المستقبل ويدعي معرفة الأسرار]
العَنان بالفتح: السَّحاب , والواحِدة عَنَانة , والعِنان: سَيْر اللّجَام = السَّحَابُ: يُحْتَمَل أَنْ يُرِيد بِالسَّحَابِ السَّمَاء ,كَمَا أَطْلَقَ السَّمَاء عَلَى السَّحَاب، وَيُحْتَمَل أَنْ يَكُون عَلَى حَقِيقَته , وَأَنَّ بَعْض الْمَلَائِكَة إِذَا نَزَلَ بِالْوَحْيِ إِلَى الْأَرْض تَسْمَع مِنْهُمْ الشَّيَاطِين، أَوْ الْمُرَاد الْمَلَائِكَة الْمُوَكَّلَة بِإِنْزَالِ الْمَطَر. فتح الباري لابن حجر - (ج 16 / ص 294)(1/65)
- صلى الله عليه وسلم -: «تِلْكَ الكَلِمَةُ مِنَ الحَقِّ، يَخْطَفُهَا مِنَ الجِنِّيِّ، فَيَقُرُّهَا فِي أُذُنِ وَلِيِّهِ، فَيَخْلِطُونَ مَعَهَا مِائَةَ كَذْبَةٍ» (1).
والمسلمُ يؤمن بأن الله -عز وجل- قد سخر الجنَّ لسليمان، يغوصون في البحر، ويستخرجون له من خيراته، ويبنون له القصور الشامخات، وقد جعلهم الله -عز وجل- من جنود سليمان عليه السلام، قال تعالى: {وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ} (17) سورة النمل.
وجُمِع لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير في مسيرة لهم، فهم على كثرتهم لم يكونوا مهمَلين، بل كان على كل جنس من يَرُدُّ أولهم على آخرهم; كي يقفوا جميعًا منتظمين (2).
وقال تعالى: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ (12) يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آَلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (13) [سبأ/12،13].
وسخَّرنا لسليمان الريح تجري من أول النهار إلى انتصافه مسيرة شهر، ومن منتصف النهار إلى الليل مسيرة شهر بالسير المعتاد، وأسلنا له النحاس كما يسيل الماء، يعمل به ما يشاء، وسخَّرنا له من الجن من يعمل بين يديه بإذن ربه، ومن يعدل منهم عن أمرنا الذي أمرناه به من طاعة سليمان نذقه من عذاب النار المستعرة.
يعمل الجن لسليمان ما يشاء من مساجد للعبادة، وصور من نحاس وزجاج، وقِصَاع كبيرة كالأحواض التي يجتمع فيها الماء، وقدور ثابتات لا تتحرك من أماكنها
__________
(1) - صحيح البخاري (7/ 136) (5762)
[ش (عن الكهان) أي قولهم وهل يصدقون في هذا. (ليس بشيء) يعتمد عليه لأنه لا أصل له. (حقا) واقعا وثابتا. (تخطفها) من الخطف وهو الأخذ بسرعة. (الجني) واحد الجن وهم خلق من خلق الله تعالى مكلفون كالإنس وإن اختلفوا عنهم في صفاتهم. (فيقرها) يصبها. (وليه) أي الكاهن الذي يواليه.]
(2) - التفسير الميسر - (6/ 472)(1/66)
لعظمهن، وقلنا يا آل داود: اعملوا شكرًا لله على ما أعطاكم، وذلك بطاعته وامتثال أمره، وقليل من عبادي من يشكر الله كثيرًا، وكان داود وآله من القليل (1).
وقال تعالى: {وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَن يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ} (82) سورة الأنبياء.
وسخَّرنا لسليمان من الشياطين شياطين يستخدمهم فيما يَعْجِز عنه غيرهم، فكانوا يغوصون في البحر يستخرجون له اللآلئ والجواهر، وكانوا يعملون كذلك في صناعة ما يريده منهم، لا يقدرون على الامتناع مما يريده منهم، حفظهم الله له بقوته وعزه سبحانه وتعالى (2).
"ولا شكّ أن الْجِنّ يتطورون ويتشكلون فِي صور الْإِنْس والبهائم، فيتصورون فِي صور الْحَيَّات والعقارب وَفِي صور الْإِبِل وَالْبَقر وَالْغنم وَالْخَيْل وَالْبِغَال وَالْحمير وَفِي صور الطير وَفِي صور بني آدم " (3).
فالمسلمُ يؤمن أن للجنِّ قدرةً على تغيير أشكالهم، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: وَكَّلَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِحِفْظِ زَكَاةِ رَمَضَانَ، فَأَتَانِي آتٍ فَجَعَلَ يَحْثُو مِنَ الطَّعَامِ فَأَخَذْتُهُ، وَقُلْتُ: وَاللَّهِ لَأَرْفَعَنَّكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -،قَالَ: إِنِّي مُحْتَاجٌ، وَعَلَيَّ عِيَالٌ وَلِي حَاجَةٌ شَدِيدَةٌ، قَالَ: فَخَلَّيْتُ عَنْهُ، فَأَصْبَحْتُ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، مَا فَعَلَ أَسِيرُكَ البَارِحَةَ»،قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، شَكَا حَاجَةً شَدِيدَةً، وَعِيَالًا، فَرَحِمْتُهُ، فَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ، قَالَ: «أَمَا إِنَّهُ قَدْ كَذَبَكَ، وَسَيَعُودُ»،فَعَرَفْتُ أَنَّهُ سَيَعُودُ، لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِنَّهُ سَيَعُودُ، فَرَصَدْتُهُ، فَجَاءَ يَحْثُو مِنَ الطَّعَامِ، فَأَخَذْتُهُ، فَقُلْتُ: لَأَرْفَعَنَّكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -،قَالَ: دَعْنِي فَإِنِّي مُحْتَاجٌ وَعَلَيَّ عِيَالٌ، لاَ أَعُودُ، فَرَحِمْتُهُ، فَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ، فَأَصْبَحْتُ، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، مَا فَعَلَ أَسِيرُكَ»،قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ شَكَا حَاجَةً شَدِيدَةً، وَعِيَالًا، فَرَحِمْتُهُ، فَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ، قَالَ: «أَمَا إِنَّهُ قَدْ كَذَبَكَ وَسَيَعُودُ»،فَرَصَدْتُهُ الثَّالِثَةَ، فَجَاءَ يَحْثُو مِنَ الطَّعَامِ، فَأَخَذْتُهُ، فَقُلْتُ: لَأَرْفَعَنَّكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ، وَهَذَا آخِرُ ثَلاَثِ
__________
(1) - التفسير الميسر - (7/ 389)
(2) - آكام المرجان في أحكام الجان (ص:40)
(3) - التفسير الميسر - (5/ 498)(1/67)
مَرَّاتٍ، أَنَّكَ تَزْعُمُ لاَ تَعُودُ، ثُمَّ تَعُودُ قَالَ: دَعْنِي أُعَلِّمْكَ كَلِمَاتٍ يَنْفَعُكَ اللَّهُ بِهَا، قُلْتُ: مَا هُوَ؟ قَالَ: إِذَا أَوَيْتَ إِلَى فِرَاشِكَ، فَاقْرَأْ آيَةَ الكُرْسِيِّ: {اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلَّا هُوَ الحَيُّ القَيُّومُ} [البقرة:255]،حَتَّى تَخْتِمَ الآيَةَ، فَإِنَّكَ لَنْ يَزَالَ عَلَيْكَ مِنَ اللَّهِ حَافِظٌ، وَلاَ يَقْرَبَنَّكَ شَيْطَانٌ حَتَّى تُصْبِحَ، فَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ، فَأَصْبَحْتُ فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَا فَعَلَ أَسِيرُكَ البَارِحَةَ»،قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، زَعَمَ أَنَّهُ يُعَلِّمُنِي كَلِمَاتٍ يَنْفَعُنِي اللَّهُ بِهَا، فَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ، قَالَ: «مَا هِيَ»،قُلْتُ: قَالَ لِي: إِذَا أَوَيْتَ إِلَى فِرَاشِكَ فَاقْرَأْ آيَةَ الكُرْسِيِّ مِنْ أَوَّلِهَا حَتَّى تَخْتِمَ الآيَةَ: {اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلَّا هُوَ الحَيُّ القَيُّومُ} [البقرة:255]،وَقَالَ لِي: لَنْ يَزَالَ عَلَيْكَ مِنَ اللَّهِ حَافِظٌ، وَلاَ يَقْرَبَكَ شَيْطَانٌ حَتَّى تُصْبِحَ - وَكَانُوا أَحْرَصَ شَيْءٍ عَلَى الخَيْرِ - فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «أَمَا إِنَّهُ قَدْ صَدَقَكَ وَهُوَ كَذُوبٌ، تَعْلَمُ مَنْ تُخَاطِبُ مُنْذُ ثَلاَثِ لَيَالٍ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ»،قَالَ: لاَ، قَالَ: «ذَاكَ شَيْطَانٌ» (أخرجه البخارى) (1).
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ «إِنَّ عِفْرِيتًا مِنَ الْجِنِّ تَفَلَّتَ عَلَىَّ الْبَارِحَةَ - أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا - لِيَقْطَعَ عَلَىَّ الصَّلاَةَ، فَأَمْكَنَنِى اللَّهُ مِنْهُ، فَأَرَدْتُ أَنْ أَرْبِطَهُ إِلَى سَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِى الْمَسْجِدِ، حَتَّى تُصْبِحُوا وَتَنْظُرُوا إِلَيْهِ كُلُّكُمْ، فَذَكَرْتُ قَوْلَ أَخِى سُلَيْمَانَ: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ} (35) سورة ص». (أخرجه البخاري) (2).ذعته: خنقة. والذعت: أشد الخنق.
__________
(1) - صحيح البخاري (3/ 101) (2311) معلقا وشعب الإيمان (4/ 53) (2170) موصولا صحيح
[ش (آت) اسم فاعل من أتى وأصله آتي فحذفت الياء لالتقاء الساكنين. (يحثو) يأخذ بكفيه. (علي عيال) نفقة عيال وهم الزوجة والأولاد ومن في نفقة المرء. (أسيرك) سمي أسيرا لأنه ربطه بحبل وكانت عادة العرب أن تربط الأسير إذا أخذته بحبل. (البارحة) أقرب ليلة مضت. (فرصدته) ترقبته. (آية الكرسي) الآية التي يذكر فيها كرسي الرحمن جل وعلا وهي قوله تعالى {الله لا إله إلا هو الحي القيوم}.إلى آخر الآية / البقرة 255 /. (وكانوا) أي الصحابة يحرصون على تعلم الخير فيأخذونه حيثما صدر ويبذلون في سبيله كل شيء من متاع الدنيا. (قد صدقك) أخبرك بما يوافق الواقع والحق. (وهو كذوب) من شأنه وخلقه كثرة الكذب]
(2) - برقم (461 و 1210 و 3284 و 3423 و 4808)(1/68)
وعن يسير بن عمرو قال: ذَكَرْنَا الْغِيلانَ عِنْدَ عُمَرَ فَقَالَ::إِنَّ أَحَدًا لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَتَغَيَّرَ عَنْ صُورَتِهِ الَّتِي خلقه الله تعالى عليه، وَلَكِنْ لَهُمْ سَحَرَةٌ كَسَحَرَتِكُمْ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ مِنْ ذلك شيئا فآذنوه. (1).
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ، قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عن الغيلان؟ قال: هم سحرة الجن. (2).
والجنّ يُشاهد ويُسمع ويتشكل في عدة أشكال وكثير من الناس في عهدنا وقبل عهدنا شاهد وسمع شيئاً من ذلك. وهناك بعض الأحياء من غير الإنس يرون الجن كالحمار والكلب.
فعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -،قَالَ يَزِيدُ فِي حَدِيثِهِ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: إِذَا سَمِعْتُمْ نُبَاحَ الْكِلاَبِ، وَنُهَاقَ الْحَمِيرِ مِنَ اللَّيْلِ، فَتَعَوَّذُوا بِاللَّهِ، فَإِنَّهَا تَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ، وَأَقِلُّوا الْخُرُوجَ إِذَا هَدَأَتِ الرِّجْلُ، فَإِنَّ اللَّهَ يَبُثُّ فِي لَيْلِهِ مِنْ خَلْقِهِ مَا شَاءَ، وَأَجِيفُوا الأَبْوَابَ، وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهَا، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لاَ يَفْتَحُ بَابًا أُجِيفَ، وَذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ، وَأَوْكُوا الأَسْقِيَةَ، وَغَطُّوا الْجِرَارَ، وَأَكْفِئُوا الآنِيَةَ. (3)
والشيطان كما هو مستقر في الأذهان أنه قبيح الصورة، وهذا حق، فإن الله عز وجل شبه ثمار شجرة الزقوم التي تنبت في أصل الجحيم برؤوس الشياطين، لما علم من قبح صورهم وأشكالهم. كما قال تعالى: {أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (62) إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (63) إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (64) طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ (65)} [الصافات:62 - 65]
__________
(1) - مكائد الشيطان (ص:24) (2) صحيح موقوف
(2) - الجامع لابن وهب ت مصطفى أبو الخير (ص:725) (632) ومكائد الشيطان (ص:24) (3) صحيح مرسل
إِنَّ الْغِيلانَ سَحَرَةُ الْجِنِّ، تَسْحَرُ النَّاسَ، وَتَفْتِنُهُمْ بِالإِضْلالِ عَنِ الطَّرِيقِ، وَالْغَوْلُ وَالْغُولُ يَقَعَانِ عَلَى مَعْنَيَيْنِ مُتَقَارِبَيْنِ، أَحَدُهُمَا: الْبُعْدُ، وَالآخَرُ: الإِهْلاكُ، فَالْغَوْلُ: الْمَصْدَرُ، وَالْغُولُ: الاسْمُ. شرح السنة للبغوي (12/ 173)
(3) - مسند أحمد (عالم الكتب) [5/ 42] (14283) 14334 صحيح(1/69)
قِيلَ: هُوَ شَجَرٌ مِنْ أَخْبَثِ الشَّجَرِ يَكُونُ بِتُهَامَةَ وَبِالْبِلَادِ الْمُجْدِبَةِ الْمُجَاوِرَةِ لِلصَّحَرَاءِ كَرِيهَةُ الرَّائِحَةِ صَغِيرَةُ الْوَرَقِ مَسْمُومَةٌ ذَاتُ لَبَنٍ إِذَا أَصَابَ جِلْدَ الْإِنْسَانِ تَوَرَّمَ وَمَاتَ مِنْهُ فِي الْغَالِبِ. قَالَهُ قُطْرُبٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ.
ورُؤُسُ الشَّياطِينِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مرَادا بهَا رُؤُوس شَيَاطِينِ الْجِنِّ جَمْعِ شَيْطَانٍ بِالْمَعْنَى الْمَشْهُور ورؤوس هَذِهِ الشَّيَاطِينِ غَيْرُ مَعْرُوفَةٍ لَهُمْ، فَالتَّشْبِيهُ بِهَا حَوَالَةٌ عَلَى مَا تُصَوِّرُ لَهُمُ الْمُخَيِّلَةُ، وَطَلْعُ شَجَرَةِ الزَّقُّومِ غَيْرُ مَعْرُوفٍ فَوُصِفَ لِلنَّاسِ فَظِيعًا بَشِعًا، وَشُبِّهَتْ بشاعته ببشاعة رُؤُوس الشَّيَاطِينِ، وَهَذَا التَّشْبِيهُ مِنْ تَشْبِيهِ الْمَعْقُولِ بِالْمَعْقُولِ كَتَشْبِيهِ الْإِيمَانِ بِالْحَيَاةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لِتُنْذَرَ مَنْ كانَ حَيًّا [يس:70] وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ هُنَا تَقْرِيبُ حَالِ الْمُشَبَّهِ فَلَا يَمْتَنِعُ كَوْنُ الْمُشَبَّهِ بِهِ غَيْرَ مَعْرُوفٍ وَلَا كَوْنُ الْمُشَبَّهِ كَذَلِكَ.
وَنَظِيرُهُ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ: وَمَسْنُونَةٌ زُرْقٌ كَأَنْيَابِ أَغْوَالِ
وَقيل: أُرِيد برؤوس الشَّيَاطِينِ ثَمَرُ الْأَسْتَنِ، وَالْأَسْتَنُ (بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ السِّينِ وَفتح التَّاء) شَجَرَة فِي بَادِيَةِ الْيَمَنِ يُشْبِهُ شُخُوصَ النَّاسِ وَيُسمى ثمره رُؤُوس الشَّيَاطِينِ، وَإِنَّمَا سَمَّوْهُ كَذَلِكَ لِبَشَاعَةِ مَرْآهِ ثُمَّ صَارَ مَعْرُوفًا، فَشُبِّهَ بِهِ فِي الْآيَةِ. (1)
وقد يظهر بشكل الإنسان، ويحدِّثُ الناس، فيظنون أنه من الإنس، فعَنْ عَامِرِ بْنِ عَبْدَةَ، قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللهِ:" إِنَّ الشَّيْطَانَ لِيَتَمَثَّلُ فِي صُورَةِ الرَّجُلِ، فَيَأْتِي الْقَوْمَ، فَيُحَدِّثُهُمْ بِالْحَدِيثِ مِنَ الْكَذِبِ، فَيَتَفَرَّقُونَ، فَيَقُولُ الرَّجُلُ مِنْهُمْ: سَمِعْتُ رَجُلًا أَعْرِفُ وَجْهَهُ، وَلَا أَدْرِي مَا اسْمُهُ يُحَدِّثُ " (2)
وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، قَالَ: «إِنَّ فِي الْبَحْرِ شَيَاطِينَ مَسْجُونَةً، أَوْثَقَهَا سُلَيْمَانُ، يُوشِكُ أَنْ تَخْرُجَ، فَتَقْرَأَ عَلَى النَّاسِ قُرْآنًا» (3)
__________
(1) -التحرير والتنوير [23/ 122]
(2) -صحيح مسلم (1/ 12)
(3) -صحيح مسلم (1/ 12)
[ش (العاص) أكثر ما يأتي في كتب الحديث والفقه بحذف الياء وهي لغة والفصيح الصحيح العاصي بإثبات الياء (يوشك) معناه يقرب ويستعمل أيضا ماضيا فيقال أوشك كذا أي قرب](1/70)
وعن مُسْلِمَ بْنِ يَسَارٍ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ، يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «يَكُونُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ دَجَّالُونَ كَذَّابُونَ، يَأْتُونَكُمْ مِنَ الْأَحَادِيثِ بِمَا لَمْ تَسْمَعُوا أَنْتُمْ، وَلَا آبَاؤُكُمْ، فَإِيَّاكُمْ وَإِيَّاهُمْ، لَا يُضِلُّونَكُمْ، وَلَا يَفْتِنُونَكُمْ» (1)
وعَنْ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -:لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَطُوفَ إِبْلِيسُ فِي الْأَسْوَاقِ وَيَقُولُ: حَدَّثَنَا فُلَانُ ابْنُ فُلَانٍ بِكَذَا وَكَذَا. (2)
وعَنْ سُفْيَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَنْ رَأَى قَاصًّا يَقُصُّ فِي مَسْجِدِ الْخَيْفِ أَوْ نَحْوِهِ قَالَ: فَطَلَبْتُهُ فَإِذَا هُوَ شَيْطَانُ. (3)
وعن عِيسَى بْنُ أَبِي فَاطِمَةَ الْفَزَارِيِّ قال: كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ شَيْخٍ فِي مَسْجِدِ الْحَرَامِ أَكْتُبُ عَنْهُ، فَقَالَ الشَّيْخُ الشَّيْبَانِيُّ فَقَالَ رَجُلٌ: حَدَّثَنِي الشَّيْبَانِيُّ فَقَالَ عَنِ الشَّعْبِيِّ فَقَالَ: حَدَّثَنِي الشَّعْبِيُّ فَقَالَ عَنِ الْحَارِثِ فَقَالَ قَدْ وَاللهِ رَأَيْتُ الْحَارِثَ وَسَمِعْتُ مِنْهُ قَالَ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: قَدْ وَاللهِ رَأَيْتُ عَلِيًّا وَشَهِدْتُ مَعَهُ صِفِّينَ فَلَمَّا رَأَيْتُ ذَلِكَ قَرَأْتُ آيَةَ الْكُرْسِيِّ فَلَمَّا قُلْتُ وَلَا يؤوده حِفْظُهُمَا الْتَفَتُّ فَلَمْ أَرَ شَيْئًا. (4)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:"وَالْجِنُّ يَتَصَوَّرُونَ فِي صُوَرِ الْإِنْسِ وَالْبَهَائِمِ فَيَتَصَوَّرُونَ فِي صُوَرِ الْحَيَّاتِ وَالْعَقَارِبِ وَغَيْرِهَا وَفِي صُوَرِ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ وَالْخَيْلِ وَالْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ وَفِي صُوَرِ الطَّيْرِ وَفِي صُوَرِ بَنِي آدَمَ كَمَا أَتَى الشَّيْطَانُ قُرَيْشًا فِي صُورَةِ سُرَاقَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ لَمَّا أَرَادُوا الْخُرُوجَ إلَى بَدْرٍ قَالَ تَعَالَى: {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال:48]
فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ:" جَاءَ إِبْلِيسُ يَوْمَ بَدْرٍ فِي جُنْدٍ مِنَ الشَّيَاطِينِ مَعَهُ رَأَيْتُهُ فِي صُورَةِ رَجُلٍ مِنْ بَنِي مُدْلِجٍ فِي صُورَةِ سُرَاقَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ، فَقَالَ الشَّيْطَانُ لِلْمُشْرِكِينَ: لَا
__________
(1) -صحيح مسلم (1/ 12) 7 - (7)
(2) -دلائل النبوة للبيهقي محققا (6/ 551) حسن
(3) -دلائل النبوة للبيهقي محققا (6/ 551)
(4) -دلائل النبوة للبيهقي محققا (6/ 551)(1/71)
غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ، فَلَمَّا اصْطَفَّ النَّاسُ، أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَبْضَةً مِنَ التُّرَابِ، فَرَمَى بِهَا فِي وُجُوهِ الْمُشْرِكِينَ، فَوَلَّوْا مُدْبِرِينَ. وَأَقْبَلَ جِبْرِيلُ إِلَى إِبْلِيسَ، فَلَمَّا رَآهُ، وَكَانَتْ يَدُهُ فِي يَدِ رَجُلٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، انْتَزَعَ إِبْلِيسُ يَدَهُ، فَوَلَّى مُدْبِرًا هُوَ وَشِيعَتُهُ، فَقَالَ الرَّجُلُ: يَا سُرَاقَةُ تَزْعُمُ أَنَّكَ لَنَا جَارٌ؟ قَالَ: {إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال:48] وَذَلِكَ حِينَ رَأَى الْمَلَائِكَةَ " (1)
وقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ، فِي قَوْلِهِ:" {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ} [الأنفال:48] فَذَكَرَ اسْتِدْرَاجَ إِبْلِيسَ إِيَّاهُمْ وَتَشَبُّهَهُ بِسُرَاقَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ حِينَ ذَكَرُوا مَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ بَنِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ مَنَاةَ بْنِ كِنَانَةَ مِنَ الْحَرْبِ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَهُمْ. يَقُولُ اللَّهُ: {فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ} [الأنفال:48] وَنَظَرَ عَدُوُّ اللَّهِ إِلَى جُنُودِ اللَّهِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ قَدْ أَيَّدَ اللَّهُ بِهِمْ رَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ عَلَى عَدُوِّهِمْ {نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ} [الأنفال:48] وَصَدَقَ عَدُوُّ اللَّهِ أَنَّهُ رَأَى مَا لَا يَرَوْنَ. وَقَالَ: {إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال:48]،فَأَوْرَدَهُمْ ثُمَّ أَسْلَمَهُمْ. قَالَ: فَذُكِرَ لِي أَنَّهُمْ كَانُوا يَرَوْنَهُ فِي كُلِّ مَنْزِلٍ فِي صُورَةِ سُرَاقَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ لَا يُنْكِرُونَهُ، حَتَّى إِذَا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ وَالْتَقَى الْجَمْعَانِ، كَانَ الَّذِي رَآهُ حِينَ نَكَصَ الْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ أَوْ عُمَيْرُ بْنُ وَهْبٍ الْجُمَحِيُّ، فَذَكَرَ أَحَدُهُمَا فَقَالَ: أَيْنَ سُرَاقَةُ؟ أَسْلَمَنَا عَدُوُّ اللَّهِ وَذَهَبَ " (2)
وَكَمَا رُوِيَ أَنَّهُ تَصَوَّرَ فِي صُورَةِ شَيْخٍ نَجْدِيٍّ لَمَّا اجْتَمَعُوا بِدَارِ النَّدْوَةِ هَلْ يَقْتُلُوا الرَّسُولَ أَوْ يَحْبِسُونَهُ أَوْ يُخْرِجُونَهُ؟ فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ نَفَرًا مِنْ قُرَيْشٍ وَمِنْ أَشْرَافِ كُلِّ قَبِيلَةٍ، اجْتَمَعُوا لِيَدْخُلُوا دَارَ النَّدْوَةِ وَاعْتَرَضَهُمْ إِبْلِيسُ فِي صُورَةِ شَيْخٍ جَلِيلٍ، فَلَمَّا رَأَوْهُ قَالُوا: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: شَيْخٌ مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ، سَمِعْتُ بِمَا اجْتَمَعْتُمْ لَهُ فَأَرَدْتُ أَنْ أَحْضَرَكُمْ وَلَنْ يَعْدِمَكُمْ مِنِّي رَأْيٌ وَنُصْحٌ قَالُوا: أَجَلْ فَادْخُلْ فَدَخَلَ مَعَهُمْ قَالَ: انْظُرُوا فِي شَأْنِ هذا الرجل فو الله لَيُوشِكَنَّ أَنْ يُوَاثِبَكُمْ فِي أَمْرِكُمْ بِأَمْرِهِ فَقَالَ قَائِلٌ: احْبِسُوهُ فِي وَثَاقٍ ثُمَّ
__________
(1) - تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (11/ 221) حسن
(2) - تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (11/ 222) وسيرة ابن هشام ت السقا (1/ 663) بلا سند(1/72)
تَرَبَّصُوا بِهِ الْمَنُونَ حَتَّى يَهْلِكَ كَمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَهُ مِنَ الشُّعَرَاءِ زُهَيْرُ وَنَابِغَةُ، فَإِنَّمَا هُوَ كَأَحَدِهِمْ، فَقَالَ عَدُوُّ اللَّهِ- الشَّيْخُ النَّجْدِيُّ: لَا وَاللَّهِ، مَا هَذَا لَكُمْ بِرَأْي وَاللَّهِ لَيُخْرِجَنَّ رَأْيَهُ مِنْ مَحْبَسِهِ إِلَى أَصْحَابِهِ فَلَيُوشِكَنَّ أَنْ يَثِبُوا عَلَيْهِ حَتَّى يَأْخُذُوهُ مِنْ أَيْدِيكُمْ، ثُمَّ يَمْنَعُوهُ مِنْكُمْ فَمَا آمَنَ عَلَيْكُمْ أَنْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ بِلادِكُمْ، فَانْظُرُوا فِي غَيْرِ هَذَا الرَّأْي، فَقَالَ قَائِلٌ: فَأَخْرِجُوهُ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِكُمْ فَاسْتَرِيحُوا مِنْهُ فَإِنَّهُ إِذَا خَرَجَ لَمْ يَضُرُّكُمْ مَا صَنَعَ وَأَيْنَ وَقَعَ وَإِذَا غَابَ عَنْكُمْ أَذَاهُ اسْتَرَحْتُمْ مِنْهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فِي غَيْرِكُمْ فَقَالَ الشَّيْخُ النَّجْدِيُّ: وَاللَّهِ مَا هَذَا لَكُمْ بِرَأْي، أَلَمْ تَرَوْا حَلاوَةَ قَوْلِهِ وَطَلاقَةَ لِسَانِهِ وَأَخْذَهُ لِلْقُلُوبِ بِمَا يَسْتَمِعُ مِنْ حَدِيثِهِ؟ وَاللَّهِ لَئِنْ فَعَلْتُمْ ثُمَّ اسْتَعْرَضَ الْعَرَبَ لِيَجْتَمِعُنَّ عَلَيْهِ ثُمَّ لَيَسِيرَنَّ إِلَيْكُمْ حَتَّى يُخْرِجَكُمْ مِنْ بِلادِكُمْ وَيَقْتُلَ أَشْرَافَكُمْ، قَالُوا: صَدَقَ وَاللَّهِ، فَانْظُرُوا رَأْيًا غَيْرَ هَذَا، فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: وَاللَّهِ لأَشِيرَنَّ عَلَيْكُمْ بِرَأْي مَا أَرَى أَبْصَرْتُمُوهُ بَعْدُ مَا أَرَى غَيْرَهُ، قَالُوا: وَمَا هَذَا؟ قَالَ: نَأْخُذُ مِنْ كُلِّ قَبِيلَةٍ غُلامًا سَبِطًا شَابًّا نَهْدًا، ثُمَّ نُعْطِي كُلَّ غُلامٍ مِنْهُمْ سَيْفًا صَارِمًا، ثُمَّ يَضْرِبُونَهُ يَعْنِي: ضَرْبَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ، فَإِذَا قَتَلْتُمُوهُ تَفَرَّقَ دَمُهُ فِي الْقَبَائِلِ كُلِّهَا فَلا أَظُنُّ هَذَا الْحَيُّ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ يَقْوُونَ عَلَى حَرْبِ قُرَيْشٍ كُلِّهُمْ، وَأَنَّهُمْ إِذَا رَأَوْا ذَلِكَ قَبِلُوا الْعَقْلَ وَاسْتَرَحْنَا وَقَطَعْنَا عَنَّا أَذَاهُ، فَقَالَ الشَّيْخُ النَّجْدِيُّ: هَذَا وَاللَّهِ هُوَ الرَّأْي الْقَوْلُ، مَا قَالَ الْفَتَى لَا رَأْيَ غَيْرَهُ فَتَفَرَّعُوا عَلَى ذَلِكَ وَهُمْ مُجْمِعُونَ لَهُ، قَالَ: فَأَتَى جِبْرِيلُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَأَمَرَهُ أَنْ لَا يَبِيتَ فِي مَضْجَعِهِ الَّذِي كَانَ يَبِيتُ، وَأَخْبَرَهُ بِمَكْرِ الْقَوْمِ فَلَمْ يَبِتْ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي بَيْتِهِ تِلْكَ اللَّيْلَةِ وَأَذِنَ اللَّهُ لَهُ عِنْدَ ذَلِكَ فِي الْخُرُوجِ، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ بَعْدَ قُدُومِهِ الْمَدِينَةَ فِي الأَنْفَالِ يَذْكُرُ نِعْمَتَهُ عَلَيْهِ وَبَلاءَهُ عِنْدَهُ {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال:30] (1)
فَإِذَا كَانَ حَيَّاتُ الْبُيُوتِ قَدْ تَكُونُ جِنًّا فَتُؤْذَنُ ثَلَاثًا فَإِنْ ذَهَبَتْ وَإِلَّا قُتِلَتْ، فَإِنَّهَا إنْ كَانَتْ حَيَّةً قُتِلَتْ وَإِنْ كَانَتْ جِنِّيَّةً فَقَدْ أَصَرَّتْ عَلَى الْعُدْوَانِ بِظُهُورِهَا لِلْإِنْسِ فِي صُورَةِ
__________
(1) - تفسير ابن أبي حاتم - محققا (5/ 1686) (8994) حسن موقوف(1/73)
حَيَّةٍ تُفْزِعُهُمْ بِذَلِكَ، وَالْعَادِي هُوَ الصَّائِلُ الَّذِي يَجُوزُ دَفْعُهُ بِمَا يَدْفَعُ ضَرَرَهُ وَلَوْ كَانَ قَتْلًا، وَأَمَّا قَتْلُهُمْ بِدُونِ سَبَبٍ يُبِيحُ ذَلِكَ فَلَا يَجُوزُ.
وَأَهْلُ الْعَزَائِمِ وَالْأَقْسَامِ يُقْسِمُونَ عَلَى بَعْضِهِمْ لِيُعِينَهُمْ عَلَى بَعْضٍ تَارَةً يَبِرُّونَ قَسَمَه، وَكَثِيرًا لَا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْجِنِّيُّ مُعَظَّمًا عِنْدَهُمْ وَلَيْسَ لِلْمُعَزِّمِ وَعَزِيمَتِهِ مِنَ الْحُرْمَةِ مَا يَقْتَضِي إعَانَتَهُمْ عَلَى ذَلِكَ إذْ كَانَ الْمُعَزِّمُ قَدْ يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الَّذِي يُحَلِّفُ غَيْرَهُ وَيُقْسِمُ عَلَيْهِ بِمَنْ يُعَظِّمُهُ، وَهَذَا تَخْتَلِفُ أَحْوَالُهُ فَمَنْ أَقْسَمَ عَلَى النَّاسِ لِيُؤْذُوا مَنْ هُوَ عَظِيمٌ عِنْدَهُمْ لَمْ يَلْتَفِتُوا إلَيْهِ وَقَدْ يَكُونُ ذَاكَ مَنِيعًا، فَأَحْوَالُهُمْ شَبِيهَةٌ بِأَحْوَالِ الْإِنْسِ لَكِنَّ الْإِنْسَ أَعْقَلُ وَأَصْدَقُ وَأَعْدَلُ وَأَوْفَى بِالْعَهْدِ؛ وَالْجِنُّ أَجْهَلُ وَأَكْذَبُ وَأَظْلَمُ وَأَغْدَرُ.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ أَرْبَابَ الْعَزَائِمِ مَعَ كَوْنِ عَزَائِمِهِمْ تَشْتَمِلُ عَلَى شِرْكٍ وَكُفْرٍ لَا تَجُوزُ الْعَزِيمَةُ وَالْقَسَمُ بِهِ فَهُمْ كَثِيرًا مَا يَعْجِزُونَ عَنْ دَفْعِ الْجِنِّيِّ وَكَثِيرًا مَا تَسْخَرُ مِنْهُمْ الْجِنُّ إذَا طَلَبُوا مِنْهُمْ قَتْلَ الْجِنِّيِّ الصَّارِعِ لِلْإِنْسِ أَوْ حَبْسَهُ فَيُخَيِّلُوا إلَيْهِمْ أَنَّهُمْ قَتَلُوهُ أَوْ حَبَسُوهُ، وَيَكُونُ ذَلِكَ تَخْيِيلًا وَكَذِبًا هَذَا إذَا كَانَ الَّذِي يَرَى مَا يُخَيِّلُونَهُ صَادِقًا فِي الرُّؤْيَةِ فَإِنَّ عَامَّةَ مَا يَعْرِفُونَهُ لِمَنْ يُرِيدُونَ تَعْرِيفَهُ إمَّا بِالْمُكَاشَفَةِ وَالْمُخَاطَبَةِ إنْ كَانَ مِنْ جِنْسِ عِبَادِ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ وَمُبْتَدِعَةِ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ تُضِلُّهُمْ الْجِنُّ وَالشَّيَاطِينُ، وَأَمَّا مَا يُظْهِرُونَهُ لِأَهْلِ الْعَزَائِمِ وَالْأَقْسَامِ أَنَّهُمْ يُمَثِّلُونَ مَا يُرِيدُونَ تَعْرِيفَهُ فَإِذَا رَأَى الْمِثَالَ أَخْبَرَ عَنْ ذَلِكَ وَقَدْ يَعْرِفُ أَنَّهُ مِثَالٌ وَقَدْ يُوهِمُونَهُ أَنَّهُ نَفْسُ الْمَرْئِيِّ، وَإِذَا أَرَادُوا سَمَاعَ كَلَامِ مَنْ يُنَادِيهِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ مِثْلَ مَنْ يَسْتَغِيثُ بِبَعْضِ الْعِبَادِ الضَّالِّينَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ وَأَهْلِ الْجَهْلِ مِنْ عِبَادِ الْمُسْلِمِينَ إذَا اسْتَغَاثَ بِهِ بَعْضُ مُحِبِّيهِ فَقَالَ: يَا سَيِّدِي فُلَانُ فَإِنَّ الْجِنِّيَّ يُخَاطِبُهُ بِمِثْلِ صَوْتِ ذَلِكَ الْإِنْسِيِّ فَإِذَا رَدَّ الشَّيْخُ عَلَيْهِ الْخِطَابَ أَجَابَ ذَلِكَ الْإِنْسِيُّ بِمِثْلِ ذَلِكَ الصَّوْتِ وَهَذَا وَقَعَ لِعَدَدٍ كَثِيرٍ أَعْرِفُ مِنْهُمْ طَائِفَةً.
وَكَثِيرًا مَا يَتَصَوَّرُ الشَّيْطَانُ بِصُورَةِ الْمَدْعُوِّ الْمُنَادَى الْمُسْتَغَاثِ بِهِ إذَا كَانَ مَيِّتًا. وَكَذَلِكَ قَدْ يَكُونُ حَيًّا وَلَا يَشْعُرُ بِاَلَّذِي نَادَاهُ؛ بَلْ يَتَصَوَّرُ الشَّيْطَانُ بِصُورَتِهِ فَيَظُنُّ الْمُشْرِكُ الضَّالُّ(1/74)
الْمُسْتَغِيثُ بِذَلِكَ الشَّخْصِ أَنَّ الشَّخْصَ نَفْسَهُ أَجَابَهُ وَإِنَّمَا هُوَ الشَّيْطَانُ، وَهَذَا يَقَعُ لِلْكُفَّارِ الْمُسْتَغِيثِينَ بِمَنْ يُحْسِنُونَ بِهِ الظَّنَّ مِنَ الْأَمْوَاتِ وَالْأَحْيَاءِ كَالنَّصَارَى الْمُسْتَغِيثِينَ بجرجس وَغَيْرِهِ مِنْ قَدَادِيسِهِمْ، وَيَقَعُ لِأَهْلِ الشِّرْكِ وَالضَّلَالِ مِنَ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى الْإِسْلَامِ الَّذِينَ يَسْتَغِيثُونَ بِالْمَوْتَى وَالْغَائِبِينَ، يَتَصَوَّرُ لَهُمْ الشَّيْطَانُ فِي صُورَةِ ذَلِكَ الْمُسْتَغَاثِ بِهِ وَهُوَ لَا يَشْعُرُ. وَأَعْرِفُ عَدَدًا كَثِيرًا وَقَعَ لَهُمْ فِي عِدَّةِ أَشْخَاصٍ يَقُولُ لِي كُلٌّ مِنَ الْأَشْخَاصِ: أَنِّي لَمْ أَعْرِفْ أَنَّ هَذَا اسْتَغَاثَ بِي وَالْمُسْتَغِيثُ قَدْ رَأَى ذَلِكَ الَّذِي هُوَ عَلَى صُورَةِ هَذَا وَمَا اعْتَقَدَ أَنَّهُ إلَّا هَذَا. وَذَكَرَ لِي غَيْرُ وَاحِدٍ أَنَّهُمْ اسْتَغَاثُوا بِي كُلٌّ يَذْكُرُ قِصَّةً غَيْرَ قِصَّةِ صَاحِبِهِ فَأَخْبَرْت كُلًّا مِنْهُمْ أَنِّي لَمْ أُجِبْ أَحَدًا مِنْهُمْ وَلَا عَلِمْت بِاسْتِغَاثَتِهِ فَقِيلَ: هَذَا يَكُونُ مَلَكًا فَقُلْت: الْمَلَكُ لَا يُغِيثُ الْمُشْرِكَ إنَّمَا هُوَ شَيْطَانٌ أَرَادَ أَنْ يُضِلَّهُ. (1)
وَكَذَلِكَ يَتَصَوَّرُ بِصُورَتِهِ وَيَقِفُ بِعَرَفَاتِ فَيَظُنُّ مَنْ يُحْسِنُ بِهِ الظَّنَّ أَنَّهُ وَقَفَ بِعَرَفَاتِ، وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ حَمَلَهُ الشَّيْطَانُ إلَى عَرَفَاتٍ أَوْ غَيْرِهَا مِنَ الْحَرَمِ فَيَتَجَاوَزُ الْمِيقَاتَ بِلَا إحْرَامٍ وَلَا تَلْبِيَةٍ وَلَا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ وَلَا بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَفِيهِمْ مَنْ لَا يَعْبُرُ مَكَّةَ وَفِيهِمْ مَنْ يَقِفُ بِعَرَفَاتِ وَيَرْجِعُ وَلَا يَرْمِي الْجِمَارَ إلَى أَمْثَالِ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي يُضِلُّهُمْ بِهَا الشَّيْطَانُ حَيْثُ فَعَلُوا مَا هُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ فِي الشَّرْعِ إمَّا مُحَرَّمٌ وَإِمَّا مَكْرُوهٌ لَيْسَ بِوَاجِبٍ وَلَا مُسْتَحَبٍّ، وَقَدْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَنَّ هَذَا مِنْ كَرَامَاتِ الصَّالِحِينَ، وَهُوَ مِنْ تَلْبِيسِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُعْبَدُ إلَّا بِمَا هُوَ وَاجِبٌ أَوْ مُسْتَحَبٌّ، وَكُلُّ مَنْ عَبَدَ عِبَادَةً لَيْسَتْ وَاجِبَةً وَلَا مُسْتَحَبَّةً وَظَنَّهَا وَاجِبَةً أَوْ مُسْتَحَبَّةً فَإِنَّمَا زَيَّنَ ذَلِكَ لَهُ الشَّيْطَانُ وَإِنْ قُدِّرَ أَنَّهُ عَفَا عَنْهُ لِحُسْنِ قَصْدِهِ وَاجْتِهَادِهِ لَكِنْ لَيْسَ هَذَا مِمَّا يُكْرِمُ اللَّهُ بِهِ أَوْلِيَاءَهُ الْمُتَّقِينَ، إذْ لَيْسَ فِي فِعْلِ الْمُحَرَّمَاتِ وَالْمَكْرُوهَاتِ إكْرَامٌ بَلِ الْإِكْرَامُ حِفْظُهُ مِنْ ذَلِكَ وَمَنْعُهُ مِنْهُ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ يُنْقِصُهُ لَا يُزِيدُهُ وَإِنْ لَمْ يُعَاقَبْ عَلَيْهِ بِالْعَذَابِ فَلَا بُدَّ أَنْ يُخْفِضَهُ عَمَّا كَانَ وَيُخْفِضَ أَتْبَاعَهُ الَّذِينَ يَمْدَحُونَ هَذِهِ الْحَالَ وَيُعَظِّمُونَ صَاحِبَهَا، فَإِنَّ مَدْحَ الْمُحَرَّمَاتِ
__________
(1) - قلت: مفهومه المخالف أن الملك يغيث المؤمن الطائع عند الاضطرار، ولا يجوز إلحاقه بمن يستغيث بالمشركين أو الضالين كما هو معلوم.(1/75)
وَالْمَكْرُوهَاتِ وَتَعْظِيمَ صَاحِبِهَا هُوَ مِنَ الضَّلَالِ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُلَّمَا ازْدَادَ الْعَبْدُ فِي الْبِدَعِ اجْتِهَادًا ازْدَادَ مِنَ اللَّهِ بُعْدًا؛ لِأَنَّهَا تُخْرِجُهُ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ؛ سَبِيلِ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ إلَى بَعْضِ سَبِيلِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَالضَّالِّينَ". (1)
__________
(1) - مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية- دار الوفاء (19/ 44) فما بعدها(1/76)
المبحث الخامس
مساكنُ الجن
المسلمُ يؤمن بأن للجنِّ مساكنَ يسكنون فيها، مثل: الأماكن الخربة، والصحارى، والأماكن النجسة، كالحمامات والمزابل، والأماكن المظلمة. فعَنْ صَيْفِيٍّ - وَهُوَ عِنْدَنَا مَوْلَى ابْنِ أَفْلَحَ - أَخْبَرَنِي أَبُو السَّائِبِ، مَوْلَى هِشَامِ بْنِ زُهْرَةَ أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ فِي بَيْتِهِ، قَالَ: فَوَجَدْتُهُ يُصَلِّي، فَجَلَسْتُ أَنْتَظِرُهُ حَتَّى يَقْضِيَ صَلَاتَهُ، فَسَمِعْتُ تَحْرِيكًا فِي عَرَاجِينَ فِي نَاحِيَةِ الْبَيْتِ، فَالْتَفَتُّ فَإِذَا حَيَّةٌ فَوَثَبْتُ لِأَقْتُلَهَا، فَأَشَارَ إِلَيَّ أَنِ اجْلِسْ فَجَلَسْتُ، فَلَمَّا انْصَرَفَ أَشَارَ إِلَى بَيْتٍ فِي الدَّارِ، فَقَالَ: أَتَرَى هَذَا الْبَيْتَ؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: كَانَ فِيهِ فَتًى مِنَّا حَدِيثُ عَهْدٍ بِعُرْسٍ، قَالَ: فَخَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إِلَى الْخَنْدَقِ فَكَانَ ذَلِكَ الْفَتَى يَسْتَأْذِنُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بِأَنْصَافِ النَّهَارِ فَيَرْجِعُ إِلَى أَهْلِهِ، فَاسْتَأْذَنَهُ يَوْمًا، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - خُذْ عَلَيْكَ سِلَاحَكَ، فَإِنِّي أَخْشَى عَلَيْكَ قُرَيْظَةَ، فَأَخَذَ الرَّجُلُ سِلَاحَهُ، ثُمَّ رَجَعَ فَإِذَا امْرَأَتُهُ بَيْنَ الْبَابَيْنِ قَائِمَةً فَأَهْوَى إِلَيْهَا الرُّمْحَ لِيَطْعُنَهَا بِهِ وَأَصَابَتْهُ غَيْرَةٌ، فَقَالَتْ لَهُ: اكْفُفْ عَلَيْكَ رُمْحَكَ وَادْخُلِ الْبَيْتَ حَتَّى تَنْظُرَ مَا الَّذِي أَخْرَجَنِي، فَدَخَلَ فَإِذَا بِحَيَّةٍ عَظِيمَةٍ مُنْطَوِيَةٍ عَلَى الْفِرَاشِ فَأَهْوَى إِلَيْهَا بِالرُّمْحِ فَانْتَظَمَهَا بِهِ، ثُمَّ خَرَجَ فَرَكَزَهُ فِي الدَّارِ فَاضْطَرَبَتْ عَلَيْهِ، فَمَا يُدْرَى أَيُّهُمَا كَانَ أَسْرَعَ مَوْتًا الْحَيَّةُ أَمِ الْفَتَى، قَالَ: فَجِئْنَا إِلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -،فَذَكَرْنَا ذَلِكَ لَهُ وَقُلْنَا ادْعُ اللهَ يُحْيِيهِ لَنَا فَقَالَ: «اسْتَغْفِرُوا لِصَاحِبِكُمْ» ثُمَّ قَالَ: «إِنَّ بِالْمَدِينَةِ جِنًّا قَدْ أَسْلَمُوا، فَإِذَا رَأَيْتُمْ مِنْهُمْ شَيْئًا، فَآذِنُوهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَإِنْ بَدَا لَكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ، فَاقْتُلُوهُ، فَإِنَّمَا هُوَ شَيْطَانٌ» (أخرجه مسلم) (1).
__________
(1) - صحيح مسلم (4/ 1756):139 - (2236)
[ش (عراجين) أراد بها الأعواد التي في سقف البيت شبهها بالعراجين والعراجين مفرده عرجون وهو العود الأصفر الذي فبه شماريخ العذق وهو فعلون من الانعراج والانعطاف والواو والنون زائدتان (بأنصاف النهار) أي منتصفه وكأنه وقت لآخر النصف الأول وأول النصف الثاني فجمعه (فآذنوه) هو من الإيذان بمعنى الإعلام (فإن بدا لكم بعد ذلك فاقتلوه) قال العلماء معناه وإذا لم يذهب بالإنذار علمتم أنه ليس من عوامر البيت ولا ممن أسلم من الجن بل هو شيطان فلا حرمة عليكم فاقتلوه ولن يجعل الله له سبيلا للانتصار عليكم](1/77)
وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -:الأَرْضُ كُلُّهَا مَسْجِدٌ إِلاَّ الْحَمَّامَ وَالْمَقْبَرَةَ. (1)
ويكثر تواجد الشياطين في الأماكن التي يستطيعون أن يفسدوا فيها كالأسواق. فعَنْ سَلْمَانَ، قَالَ: لَا تَكُونَنَّ إِنِ اسْتَطَعْتَ، أَوَّلَ مَنْ يَدْخُلُ السُّوقَ وَلَا آخِرَ مَنْ يَخْرُجُ مِنْهَا، فَإِنَّهَا مَعْرَكَةُ الشَّيْطَانِ، وَبِهَا يَنْصِبُ رَايَتَهُ. (2).
فليحذر الذين يقضون جُلّ أوقاتهم في الأسواق من طلوع الشمس حتى غروبها أن لا يكونوا من الذين قد نصب لهم الشيطان رايته.
__________
(1) - صحيح ابن حبان [4/ 598] (1699) صحيح رغم إعلاله بالإرسال
(إِلَّا الْحَمَّام وَالْمَقْبَرَة):الْمَقْبَرَة وَهِيَ الْمَحَلّ الَّذِي يُدْفَن فِيهِ الْمَوْتَى، وَالْحَمَّام بِتَشْدِيدِ الْمِيم الْأُولَى هُوَ الْمَوْضِع الَّذِي يُغْتَسَل فِيهِ بِالْحَمِيمِ، وَهُوَ فِي الْأَصْل الْمَاء الْحَارّ، ثُمَّ قِيلَ: لِلِاغْتِسَالِ بِأَيِّ مَاء كَانَ. وَحِكْمَة الْمَنْع مِنْ الصَّلَاة فِي الْمَقْبَرَة. قِيلَ: هُوَ مَا تَحْت الْمُصَلِّي مِنْ النَّجَاسَة، وَقِيلَ لِحُرْمَةِ الْمَوْتَى، وَحِكْمَة الْمَنْع مِنْ الصَّلَاة فِي الْحَمَّام أَنَّهُ يَكْثُر فِيهِ النَّجَاسَات، وَقِيلَ: إِنَّهُ مَأْوَى الشَّيْطَان. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: وَاخْتَلَفَ أَهْل الْعِلْم فِي تَأْوِيل هَذَا الْحَدِيث، فَقَالَ الشَّافِعِيّ إِذَا كَانَتْ الْمَقْبَرَة مُخْتَلِطَة التُّرَاب بِلُحُومِ الْمَوْتَى وَصَدِيدهمْ وَمَا يَخْرُج مِنْهُمْ لَمْ تَجُزْ الصَّلَاة فِيهَا لِلنَّجَاسَةِ، فَإِنْ صَلَّى الرَّجُل فِي مَكَان طَاهِر مِنْهَا أَجْزَأَتْهُ صَلَاته، قَالَ: وَكَذَلِكَ الْحَمَّام إِذَا صَلَّى فِي مَوْضِع نَظِيف مِنْهُ طَاهِر فَلَا إِعَادَة عَلَيْهِ. وَعَنْ مَالِك بْن أَنَس قَالَ: لَا بَأْس بِالصَّلَاةِ فِي الْمَقْبَرَة. وَقَالَ أَبُو ثَوْر: لَا يُصَلَّى فِي حَمَّام وَلَا فِي مَقْبَرَة عَلَى ظَاهِر الْحَدِيث. وَكَانَ أَحْمَد وَإِسْحَاق يَكْرَهَانِ ذَلِكَ وَرُوِيَتْ الْكَرَاهِيَة فِيهِ عَنْ جَمَاعَة مِنْ السَّلَف. وَاحْتَجَّ بَعْض مَنْ لَمْ يُجِزْ الصَّلَاة فِي الْمَقْبَرَة وَإِنْ كَانَتْ طَاهِرَة التُّرْبَة بِقَوْلِ رَسُول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - " صَلُّوا فِي بُيُوتكُمْ وَلَا تَتَّخِذُوهَا مَقَابِر " قَالَ: فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمَقْبَرَة لَيْسَتْ بِمَحَلِّ لِلصَّلَاةِ. اِنْتَهَى. قُلْت: وَذَهَبَ الثَّوْرِيّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَة إِلَى كَرَاهَة الصَّلَاة فِي الْمَقْبَرَة، وَلَمْ يُفَرِّقُوا كَمَا فَرَّقَ الشَّافِعِيّ وَهُوَ الْأَشْبَه، وَأَمَّا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مَالِك فَالْأَحَادِيث تَرُدّ عَلَيْهِ " عون المعبود [2/ 18]
(2) - صحيح مسلم (4/ 1906) 100 - (2451) وروي مرفوعا مسند البزار = البحر الزخار (6/ 502) (2541) صحيح
[ش (فإنها معركة الشيطان) قال أهل اللغة المعركة موضع القتال لمعاركة الأبطال بعضهم بعضا فيها ومصارعتهم فشبه السوق وفعل الشيطان بأهله ونيله منهم بالمعركة لكثرة ما يقع فيها من أنواع الباطل كالغش والخداع والأيمان الخائنة والعقود الفاسدة والنجش والبيع على بيع أخيه والشراء على شرائه والسوم على سومه وبخس المكيال والميزان والسوق تؤنث وتذكر وسميت بذلك لقيام الناس فيها على سوقهم (وبها ينصب رايته) إشارة إلى ثبوته هناك واجتماع أعوانه إليه للتحريش بين الناس وحملهم على هذه المفاسد المذكورة ونحوها فهي موضعه وموضع أعوانه](1/78)
وكذلك فإن الشياطين تبيت في البيوت التي يسكنها الناس، وهذا ليس بالغريب. ولكن الغريب أن يغفل الناس عما أرشدنا إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما يُطرد الشيطان من بيوتنا. فقد أخبرنا المصطفى عليه أفضل الصلاة والسلام في غير ما حديث أن التسمية وذكر الله، وقراءة القرآن، خاصة سورة البقرة، وآية الكرسي منها تطرد الشياطين من البيوت.
فعَنْ أُمَيَّةَ بْنِ مَخْشِىٍّ - وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - - قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - جَالِسًا وَرَجُلٌ يَأْكُلُ فَلَمْ يُسَمِّ حَتَّى لَمْ يَبْقَ مِنْ طَعَامِهِ إِلاَّ لُقْمَةٌ فَلَمَّا رَفَعَهَا إِلَى فِيهِ قَالَ بِسْمِ اللَّهِ أَوَّلَهُ وَآخِرَهُ فَضَحِكَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - ثُمَّ قَالَ «مَا زَالَ الشَّيْطَانُ يَأْكُلُ مَعَهُ فَلَمَّا ذَكَرَ اسْمَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ اسْتَقَاءَ مَا فِى بَطْنِهِ» (1).
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ «لاَ تَجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ مَقَابِرَ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْفِرُ مِنَ الْبَيْتِ الَّذِى تُقْرَأُ فِيهِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ» (2).
وعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -:إِنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ سَنَامًا، وَإِنَّ سَنَامَ الْقُرْآنِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ، مَنْ قَرَأَهَا فِي بَيْتِهِ لَيْلاً لَمْ يَدْخُلِ الشَّيْطَانُ بَيْتَهُ ثَلاَثَ لَيَالٍ، وَمَنْ قَرَأَهَا نَهَارًا لَمْ يَدْخُلِ الشَّيْطَانُ بَيْتَهُ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ. (3)
وعَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، أَنَّ نَبِيَّ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ يَوْمًا:" إِنَّ اللهَ كَتَبَ كِتَابًا قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بِأَلْفَيْ سَنَةٍ، وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: بِأَلْفَيْ عَامٍ، فَهُوَ عِنْدَهُ عَلَى الْعَرْشِ، وَأَنَّهُ أَنْزَلَ مِنْ ذَلِكَ الْكِتَابِ آيَتَيْنِ خَتَمَ بِهِمَا سُورَةَ الْبَقَرَةِ، وَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَلِجُ بَيْتًا قُرِئَتَا فِيهِ ثَلَاثَ لَيَالٍ " (4)
__________
(1) - سنن أبي داود - المكنز [3/ 407] (3770) فيه ضعف وله شواهد بمعناه
(2) -صحيح مسلم- المكنز [5/ 178] (1860)
(3) - صحيح ابن حبان [3/ 59] (780) صحيح
قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: قَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم -:لَمْ يَدْخُلِ الشَّيْطَانُ بَيْتَهُ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ، أَرَادَ بِهِ مَرَدَةَ الشَّيَاطِينِ دُونَ غَيْرِهِمْ.
(4) - السنن الكبرى للنسائي (9/ 354) (10736 و10737) صحيح(1/79)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَن َّرَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -،قَالَ: سُورَةُ الْبَقَرَةِ فِيهَا آيَةٌ سَيِّدَةُ آيِ الْقُرْآنِ، لاَ تُقْرَأُ فِي بَيْتٍ وَفِيهِ شَيْطَانٌ، إِلاَّ خَرَجَ مِنْهُ آيَةُ الْكُرْسِيِّ " (1)
وعَنِ ابْنِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، أَنَّ أَبَاهُ أَخْبَرَهُ؛ أَنَّهُ كَانَ لَهُمْ جُرْنٌ فِيهِ تَمْرٌ، وَكَانَ أَبِي يَتَعَاهَدُهُ، فَوَجَدَهُ يَنْقُصُ، فَحَرَسَهُ، فَإِذَا هُوَ بِدَابَّةٍ تُشْبِهُ الْغُلاَمَ الْمُحْتَلِمَ، قَالَ: فَسَلَّمْتُ، فَرَدَّ السَّلاَمَ، فَقُلْتُ: مَنْ أَنْتَ؟ أَجِنٌّ أَمْ إِنْسٌ؟ قَالَ: جِنٌّ، قَالَ: فَنَاوِلْنِي يَدَكَ، فَنَاوَلَنِي يَدَهُ، فَإِذَا يَدُ كَلْبٍ، وَشَعْرُ كَلْبٍ، قَالَ: هَكَذَا خَلْقُ الْجِنِّ، قَالَ: لَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنُّ مَا فِيهِمْ أَشَدُّ مِنِّي، قَالَ لَهُ أُبَيٌّ: مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا صَنَعْتَ؟ قَالَ: بَلَغَنَا أَنَّكَ رَجُلٌ تُحِبُّ الصَّدَقَةَ، فَأَحْبَبْنَا أَنْ نُصِيبَ مِنْ طَعَامِكَ، قَالَ أُبَيٌّ: فَمَا الَّذِي يُجِيرُنَا مِنْكُمْ؟ قَالَ: هَذِهِ الآيَةُ، آيَةُ الْكُرْسِيِّ، ثُمَّ غَدَا أُبَيٌّ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -،فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ: صَدَقَ الْخَبِيثُ. (2)
وعَنْ أَبِي أَيُّوبَ الأَنْصَارِيِّ، أَنَّهُ كَانَتْ لَهُ سَهْوَةٌ فِيهَا تَمْرٌ، فَكَانَتْ تَجِيءُ الغُولُ فَتَأْخُذُ مِنْهُ قَالَ: فَشَكَا ذَلِكَ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:" فَاذْهَبْ فَإِذَا رَأَيْتَهَا فَقُلْ: بِسْمِ اللَّهِ أَجِيبِي رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - " قَالَ: فَأَخَذَهَا فَحَلَفَتْ أَنْ لَا تَعُودَ فَأَرْسَلَهَا، فَجَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - َقَالَ: «مَا فَعَلَ أَسِيرُكَ»؟ قَالَ: حَلَفَتْ أَنْ لَا تَعُودَ: فَقَالَ: «كَذَبَتْ، وَهِيَ مُعَاوِدَةٌ لِلْكَذِبِ»،قَالَ: فَأَخَذَهَا مَرَّةً أُخْرَى فَحَلَفَتْ أَنْ لَا تَعُودَ فَأَرْسَلَهَا، فَجَاءَ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: «مَا فَعَلَ أَسِيرُكَ»؟ قَالَ: حَلَفَتْ أَنْ لَا تَعُودَ. فَقَالَ: «كَذَبَتْ وَهِيَ مُعَاوِدَةٌ لِلْكَذِبِ»،فَأَخَذَهَا. فَقَالَ: مَا أَنَا بِتَارِكِكِ حَتَّى أَذْهَبَ بِكِ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -:فَقَالَتْ: إِنِّي ذَاكِرَةٌ لَكَ شَيْئًا آيَةَ الكُرْسِيِّ اقْرَأْهَا فِي بَيْتِكَ فَلَا يَقْرَبُكَ شَيْطَانٌ وَلَا غَيْرُهُ، قَالَ: فَجَاءَ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: «مَا فَعَلَ أَسِيرُكَ»؟ قَالَ: فَأَخْبَرَهُ بِمَا قَالَتْ، قَالَ: «صَدَقَتْ وَهِيَ كَذُوبٌ» .. (3)
__________
(1) - المستدرك للحاكم مشكلا [3/ 82] (3026) حسن لغيره
(2) - أخرجه النَّسَائِي، في "عمل اليوم والليلة" (960 و961و962) صحيح
(3) - سنن الترمذي ت شاكر (5/ 158) (2880) صحيح لغيره
السهوة: تشبه الرف أو الخزانة الصغيرة يوضع فيها الشيء(1/80)
وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لَا أَلْفَيَنَّ أَحَدَكُمْ يَضَعُ إِحْدَى رِجْلَيْهِ عَلَى الْأُخْرَى، يَتَغَنَّى وَيَدَعُ سُورَةَ الْبَقَرَةِ يَقْرَؤُهَا، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْفُرُ مِنَ الْبَيْتِ تُقْرَأُ فِيهِ الْبَقَرَةُ، وَإِنَّ أَصْفَرَ الْبُيُوتِ الْجَوْفُ الصِّفْرُ مِنْ كِتَابِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ» (1)
وقَالَ عَبْدُ اللهِ: «جَرِّدُوا الْقُرْآنَ لِيَرْبُوَ فِيهِ صَغِيرُكُمْ، وَلَا يَنْأَى عَنْهُ كَبِيرُكُمْ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَفِرُّ مِنَ الْبَيْتِ يُسْمَعُ تُقْرَأُ فِيهِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ»» (2)
__________
(1) - السنن الكبرى للنسائي (9/ 353) (10733) حسن
(2) - السنن الكبرى للنسائي (9/ 353) (10734) صحيح(1/81)
المبحث السادس
طعامُ الجنِّ
الجن يأكلون ويشربون، والمسلم ُيؤمن بما أخبر به الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن طعام الجنِّ، وهو العظم والروثة، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّهُ كَانَ يَحْمِلُ مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - إِدَاوَةً لِوَضُوئِهِ وَحَاجَتِهِ، فَبَيْنَمَا هُوَ يَتْبَعُهُ بِهَا، فَقَالَ: «مَنْ هَذَا؟» فَقَالَ: أَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ، فَقَالَ: «ابْغِنِي أَحْجَارًا أَسْتَنْفِضْ بِهَا، وَلاَ تَأْتِنِي بِعَظْمٍ وَلاَ بِرَوْثَةٍ».فَأَتَيْتُهُ بِأَحْجَارٍ أَحْمِلُهَا فِي طَرَفِ ثَوْبِي، حَتَّى وَضَعْتُهَا إِلَى جَنْبِهِ، ثُمَّ انْصَرَفْتُ حَتَّى إِذَا فَرَغَ مَشَيْتُ، فَقُلْتُ: مَا بَالُ العَظْمِ وَالرَّوْثَةِ؟ قَالَ: «هُمَا مِنْ طَعَامِ الجِنِّ، وَإِنَّهُ أَتَانِي وَفْدُ جِنِّ نَصِيبِينَ، وَنِعْمَ الجِنُّ، فَسَأَلُونِي الزَّادَ، فَدَعَوْتُ اللَّهَ لَهُمْ أَنْ لاَ يَمُرُّوا بِعَظْمٍ، وَلاَ بِرَوْثَةٍ إِلَّا وَجَدُوا عَلَيْهَا طَعَامًا» (أخرجه البخاري) (1).
وعَنْ عَامِرٍ، قَالَ: سَأَلْتُ عَلْقَمَةَ هَلْ كَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ شَهِدَ مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لَيْلَةَ الْجِنِّ؟ قَالَ: فَقَالَ عَلْقَمَةُ، أَنَا سَأَلْتُ ابْنَ مَسْعُودٍ فَقُلْتُ: هَلْ شَهِدَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لَيْلَةَ الْجِنِّ؟ قَالَ: لَا وَلَكِنَّا كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللهِ ذَاتَ لَيْلَةٍ فَفَقَدْنَاهُ فَالْتَمَسْنَاهُ فِي الْأَوْدِيَةِ وَالشِّعَابِ. فَقُلْنَا: اسْتُطِيرَ أَوِ اغْتِيلَ. قَالَ: فَبِتْنَا بِشَرِّ لَيْلَةٍ بَاتَ بِهَا قَوْمٌ فَلَمَّا أَصْبَحْنَا إِذَا هُوَ جَاءٍ مِنْ قِبَلَ حِرَاءٍ. قَالَ: فَقُلْنَا يَا رَسُولَ اللهِ فَقَدْنَاكَ فَطَلَبْنَاكَ فَلَمْ نَجِدْكَ فَبِتْنَا بِشَرِّ لَيْلَةٍ بَاتَ بِهَا قَوْمٌ. فَقَالَ: «أَتَانِي دَاعِي الْجِنِّ فَذَهَبْتُ مَعَهُ فَقَرَأْتُ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ» قَالَ: فَانْطَلَقَ بِنَا فَأَرَانَا آثَارَهُمْ وَآثَارَ نِيرَانِهِمْ وَسَأَلُوهُ الزَّادَ فَقَالَ:" لَكُمْ كُلُّ عَظْمٍ ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ يَقَعُ فِي أَيْدِيكُمْ أَوْفَرَ مَا يَكُونُ لَحْمًا وَكُلُّ بَعْرَةٍ عَلَفٌ لِدَوَابِّكُمْ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «فَلَا تَسْتَنْجُوا بِهِمَا فَإِنَّهُمَا طَعَامُ إِخْوَانِكُمْ» (أخرجه مسلم) (2).
__________
(1) - صحيح البخاري (5/ 47) (3860)
[ش (ما بال العظم والروثة) أي نهيتني عن الإتيان بها للاستنجاء. (وجدوا عليها طعاما) حقيقة بخلق الله تعالى أو أنها هي تكون طعاما أو العظم طعام لهم والروث علف لدوابهم كما ورد والله تعالى ورسوله أعلم]
(2) - صحيح مسلم (1/ 332) 150 - (450)
[ش (الأودية والشعاب) في المصباح الأودية جمع الوادي وهو كل منفرج بين جبال يكون منفذا للسيل والشعاب جمع شعب بالكسر وهو الطريق وقيل الطريق في الجبل (استطير أو اغتيل) معنى استطير طارت به الجن ومعنى اغتيل قتل سرا والغيلة بالكسر هي القتل خفية](1/82)
وعَنْ سَعِيدِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: كَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ يَتْبَعُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بِإِدَاوَةٍ لِوُضُوئِهِ وَحَاجَتِهِ وَقَالَ: فَأَدْرَكَهُ يَوْمًا فَقَالَ:" مَنْ هَذَا؟ ".قَالَ: أَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ:" ابْغِنِي أَحْجَارًا أَسْتَنْفِضْ بِهَا، وَلَا تَأْتِنِي بِعَظْمٍ، وَلَا رَوْثٍ ".فَأَتَيْتُهُ بِأَحْجَارٍ فِي ثَوْبِي، فَوَضَعْتُهَا إِلَى جَنْبِهِ حَتَّى إِذَا فَرَغَ وَقَامَ تَبِعْتُهُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ مَا بَالُ الْعَظْمِ وَالرَّوْثِ؟ فَقَالَ:" أَتَانِي وَفْدُ نَصِيبِينَ فَسَأَلُونِي الزَّادَ، فَدَعَوْتُ اللهَ لَهُمْ أَنْ لَا يَمُرُّوا بِرَوْثَةٍ وَلَا بِعَظْمٍ إِلَّا وَجَدُوا عَلَيْهِ طَعَامًا " (1)
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -:لا تَسْتَنْجُوا بِالرَّوْثِ، وَلا بِالْعِظَامِ، فَإِنَّهُ زَادُ إِخْوَانِكُمْ مِنَ الْجِنِّ" (2)
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -:" قَالَ إِبْلِيسُ: يَا رَبِّ كُلُّ خَلْقِكِ قَدْ سَبَّبْتَ أَرْزَاقَهُمْ فَمَا رِزْقِي؟ قَالَ: كُلُّ مَا لَمْ يُذْكَرِ اسْمِي عَلَيْهِ " (3)
ولكي يحترسَ المسلم ُمن وجود الشيطان معه عند الطعام، فعليه أن يلتزم بآداب الإسلام في تناول الطعام بأن يبدأ باسم الله -تعالى-،ويأكل بيمينه، ولا يأكل بشماله؛ حتى لا يشاركه الشيطان في أكله، فعَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -،قَالَ: «لَا يَأْكُلَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمْ بِشِمَالِهِ، وَلَا يَشْرَبَنَّ بِهَا، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَأْكُلُ بِشِمَالِهِ، وَيَشْرَبُ بِهَا»،قَالَ: وَكَانَ نَافِعٌ يَزِيدُ فِيهَا: «وَلَا يَأْخُذُ بِهَا، وَلَا يُعْطِي بِهَا» (أخرجه مسلم) (4).
وفي هذين الحديثين يا عباد الله نهي من الرسول - صلى الله عليه وسلم - من أن يستنجى أحدنا بالروث والعظام لأنهما طعام إخواننا من الجن المسلمين بدعوة الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
__________
(1) - السنن الكبرى للبيهقي (1/ 174) (524) صحيح
(2) - مسند أبي عوانة مشكلا [1/ 116] (4479 صحيح
(3) - العظمة لأبي الشيخ الأصبهاني (5/ 1683) صحيح
(4) - صحيح مسلم (3/ 1599) 106 - (2020)
"فالقائلون إِن الْجِنّ لَا تَأْكُل وَلَا تشرب إِن أَرَادوا أَن جَمِيع الْجِنّ لَا يَأْكُلُون وَلَا يشربون فَهَذَا قَول سَاقِط لمصادمته الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة وَإِن أَرَادوا أَن صنفا مِنْهُم لَا يَأْكُلُون وَلَا يشربون فَهُوَ مُحْتَمل غير أَن العمومات تَقْتَضِي أَن الْكل يَأْكُلُون وَيَشْرَبُونَ " آكام المرجان في أحكام الجان (ص:56)(1/83)
قال ابن عبد البر:" وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الشَّيَاطِينَ يَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ، وَقَدْ حَمَلَ قَوْمٌ هَذَا الْحَدِيثَ وَمَا كَانَ مِثْلَهُ عَلَى الْمَجَازِ فَقَالُوا فِي قَوْلِهِ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَأْكُلُ بِشِمَالِهِ إِنَّ الْأَكْلَ بِالشِّمَالِ أَكْلٌ يُحِبُّهُ الشَّيْطَانُ كَمَا قَالَ فِي الْخَمْرَةِ زِينَةُ الشَّيْطَانِ وَفِي الِاقْتِعَاطِ بِالْعِمَامَةِ عِمَامَةُ الشَّيْطَانِ أَيْ إِنَّ الْخَمْرَةَ وَمِثْلَ تِلْكَ الْعِمَّةِ يُزَيِّنُهَا الشَّيْطَانُ وَيَدْعُو إِلَيْهَا وَكَذَلِكَ يَدْعُو إِلَى الْأَكْلِ بِالشِّمَالِ وَيُزَيِّنُهُ وَهَذَا عِنْدِي لَيْسَ بِشَيْءٍ وَلَا مَعْنَى لِحَمْلِ شَيْءٍ مِنَ الْكَلَامِ عَلَى الْمَجَازِ إِذَا أَمْكَنَتْ فِيهِ الْحَقِيقَةُ بِوَجْهٍ مَا وَقَالَ آخَرُونَ أَكْلُ الشَّيْطَانِ صَحِيحٌ وَلَكِنَّهُ تَشَمُّمٌ وَاسْتِرْوَاحٌ لَا مَضْغٌ وَلَا بَلْعٌ وَإِنَّمَا الْمَضْغُ وَالْبَلْعُ لِذَوِي الْجُثَثِ وَيَكُونُ اسْتِرْوَاحُهُ وَشَمُّهُ مِنْ جِهَةِ شِمَالِهِ وَيَكُونُ بِذَلِكَ مُشَارِكًا فِي الْمَالِ، قَالَ أَبُو عُمَرَ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالتَّأْوِيلِ يَقُولُونَ فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ قَالُوا الْإِنْفَاقُ فِي الْحَرَامِ وَالْأَوْلَادِ قَالُوا الزِّنَا وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ الشَّيَاطِينَ مِنَ الْجِنِّ يَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ قَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم - فِي الْعَظْمِ وَالرَّوْثَةِ فِي حَدِيثِ الِاسْتِنْجَاءِ هِيَ زَادُ إِخْوَانِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَفِي غَيْرِ هَذَا الْحَدِيثِ إِنَّ طَعَامَهُمْ مَا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَمَا لَمْ يُغْسَلْ مِنَ الْأَيْدِي وَالصِّحَافِ وَشَرَابُهُمُ الْجَدَفُ وَهِيَ الرغوة والزبد وهذا أَشْيَاءُ لَا تُدْرَكُ بِعَقْلٍ وَلَا تُقَاسُ عَلَى أَصْلٍ وَإِنَّمَا فِيهِ التَّسْلِيمُ لِمَنْ آتَاهُ اللَّهُ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يُؤْتِنَا وَهُوَ نَبِيُّنَا - صلى الله عليه وسلم - وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ حديث ابن عمر المذكور في هذا الباب مَا يَرْفَعُ الْإِشْكَالَ قَوْلُهُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَأْكُلُ بِشِمَالِهِ وَيَشْرَبُ بِشِمَالِهِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْجِنُّ كُلُّهُمْ يَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ بَعْضُهُمْ جِنْسٌ مِنْهُمْ " (1).
وإذا كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهانا عن أن نفسد طعام الجن وذلك باستخدام الروث والعظام في الاستنجاء، فإفساد طعام الإنس يحرم من باب أولى. فما بالنا أيها الإخوة لا نبالي في هذه المسألة، وما بالنا لا نشكر نعم الله التي أغرقنا بها. لقد تساهل الناس في قضية إفساد الطعام إلى حد التفريط. فلا تحرموا أنفسكم نعم الله بأنفسكم، ولا تقابلوها بالكفر. قال تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم:7]
__________
(1) - التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد (11/ 114) فما بعد(1/84)
إن شكر النعمة دليل على استقامة المقاييس في النفس البشرية. فالخير يشكر لأن الشكر هو جزاؤه الطبيعي في الفطرة المستقيمة ..
هذه واحدة .. والأخرى أن النفس التي تشكر اللّه على نعمته، تراقبه في التصرف بهذه النعمة. بلا بطر، وبلا استعلاء على الخلق، وبلا استخدام للنعمة في الأذى والشر والدنس والفساد.
وهذه وتلك مما يزكي النفس، ويدفعها للعمل الصالح، وللتصرف الصالح في النعمة بما ينميها ويبارك فيها ويرضي الناس عنها وعن صاحبها، فيكونون له عونا ويصلح روابط المجتمع فتنمو فيه الثروات في أمان. إلى آخر الأسباب الطبيعية الظاهرة لنا في الحياة. وإن كان وعد اللّه بذاته يكفي لاطمئنان المؤمن، أدرك الأسباب أولم يدركها، فهو حق واقع لأنه وعد اللّه.
والكفر بنعمة اللّه قد يكون بعدم شكرها. أو بإنكار أن اللّه واهبها، ونسبتها إلى العلم والخبرة والكد الشخصي والسعي! كأن هذه الطاقات ليست نعمة من نعم اللّه! وقد يكون بسوء استخدامها بالبطر والكبر على الناس واستغلالها للشهوات والفساد .. وكله كفر بنعمة اللّه .. والعذاب الشديد قد يتضمن محق النعمة. عينا بذهابها. أو سحق آثارها في الشعور. فكم من نعمة تكون بذاتها نقمة يشقى بها صاحبها ويحسد الخالين! وقد يكون عذابا مؤجلا إلى أجله في الدنيا أو في الآخرة كما يشاء اللّه. ولكنه واقع لأن الكفر بنعمة اللّه لا يمضي بلا جزاء.
ذلك الشكر لا تعود على اللّه عائدته. وهذا الكفر لا يرجع على اللّه أثره. فاللّه غني بذاته محمود بذاته، لا بحمد الناس وشكرهم على عطاياه. (1)
__________
(1) - في ظلال القرآن للسيد قطب - ت- علي بن نايف الشحود (ص:2733)(1/85)
المبحث السابع
الجن كالإنس يموتون
قد يتوهم بعض الناس من أن الجن والشياطين لا يموتون، وهذا وهم فاسد لأنهم داخلون في قوله تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (27)} [الرحمن:26 - 27]
جَميعُ مَنْ عَلَى ظَهْرِ الأرْضِ مِنْ مَخْلُوقَاتٍ سَيَمُوتُونَ، وَكَذَلِكَ سَيَمُوتُ أهْلُ السَّمَاوَاتِ إِلاَ مَنْ شَاءَ اللهُ.
وَلاَ يَبْقَى حَيّاً إلا وَجْهُ اللهِ العَليِّ العَظِيمِ الكَرِيمِ، فَإِنَّهُ باقٍ حَيٌّ لاَ يَمُوتُ، وَ أهْلٌ لأنْ يُجَلَّ فلاَ يُعصَى، وَأنَ يُطَاعَ فَلاَ يُخالفَ. (1)
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَقُولُ «أَعُوذُ بِعِزَّتِكَ الَّذِى لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ، الَّذِى لاَ يَمُوتُ وَالْجِنُّ وَالإِنْسُ يَمُوتُونَ» (2).
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَقُولُ «اللَّهُمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ وَبِكَ آمَنْتُ وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْكَ أَنَبْتُ وَبِكَ خَاصَمْتُ اللَّهُمَّ إِنِّى أَعُوذُ بِعِزَّتِكَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ أَنْ تُضِلَّنِى أَنْتَ الْحَىُّ الَّذِى لاَ يَمُوتُ وَالْجِنُّ وَالإِنْسُ يَمُوتُونَ» (3).
وعَنْ زُرْعَةَ بْنِ ضَمْرَةَ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ لِابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا:" أَتَمُوتُ الْجِنُّ؟ قَالَ: نَعَمْ غَيْرَ إِبْلِيسَ قَالَ: فَمَا هَذِهِ الْحَيَّةُ الَّتِي تُدْعَى الْجَانَّ؟ قَالَ: هِيَ صِغَارُ الْجِنِّ " (4).
أما مقدار أعمارهم فلا نعلمها إلا ما أخبرنا الله عن إبليس اللعين أنه سيبقى حياً إلى أن تقوم الساعة: قال تعالى: {قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14) قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (15)} [الأعراف:14،15]
__________
(1) -أيسر التفاسير لأسعد حومد [ص 4806]
(2) - صحيح البخارى- المكنز [24/ 215] (7383)
(3) - صحيح مسلم- المكنز [17/ 363] (7074)
(4) - العظمة لأبي الشيخ الأصبهاني (5/ 1691) صحيح(1/86)
لقد اسْتَدْرَكَ إِبْلِيسُ، وَسَأَلَ رَبَّهُ أَنْ يُمْهِلَهُ وَلاَ يُمِيتَهُ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ، وَهُوَ اليَوْمَ الذِي سَيَبْعَثُ فِيهِ اللهُ الخَلائِقَ لِلْحِسَابِ. وَقَدْ أَرَادَ إِبْلِيسُ بِذَلِكَ أَنْ يَجِدَ فُسْحَةً مِنَ الوَقْتِ لإِغْوَاءِ بَنِي آدَمَ وَإِضْلاَلِهِمْ.
فَأَجَابَهُ اللهُ تَعَالَى إلَى سُؤَالِهِ لِحِكْمَةٍ اقْتَضَتْهَا إِرَادَتُهُ وَمَشِيئَتُهُ التِي لاَ تُخَالَفُ وَلا تُعَارَضُ. وَقَدْ أَنْظَرَهُ اللهُ إلَى يَوْمِ الوَقْتِ المَعْلُومِ، يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ كَمَا جَاءَ فِي آيَةٍ أُخْرَى (1).
وقال تعالى: {قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (37) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (38)} [الحجر:36 - 38]
لَمَّا تَحَقَّقَ إِبْلِيسُ مِنَ الغَضَبِ الذِي لاَ مَصرفَ لَهُ عَنْهُ، سَأَلَ الرَّبَّ الكَرِيمَ النَّظِرَةَ وَالإِمْهَالَ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ، وَأَنْ يُؤَخِّرَ مَوْتَهُ إِلَى ذَلِكَ اليَوْمِ، وَذَلِكَ مِنْ شِدَّةِ حَسَدِهِ لآدَمَ وَذُرِّيَتِهِ.
فَأَجَابَهُ الرَّبُّ تَعَالَى شَأْنُهُ إِلَى مَا سَأَلَهُ، وَقَالَ لَهُ: إِنَّهُ سَيَكُونُ مِنَ المُمْهَلِينَ، اسْتِدْرَاجاً لَهُ. إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ، وَهُوَ الوَقْتُ المَعْلُومُ. (2) ..
أما غيره فلا ندري مقدار أعمارهم. والذي يجب على المسلم أن يقف في أمثال هذه المسائل على الكتاب والسنة.
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد [ص 969]
(2) - أيسر التفاسير لأسعد حومد [ص 1839](1/87)
المبحث الثامن
الجنُّ مكلَّفون كالإنس
قال ابن عبد البر:"وَهُمْ عِنْدَ الْجَمَاعَةِ مُكَلَّفُونَ مخاطبون لقوله تعالى يا معشر الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَقَوْلِهِ تَعَالَى فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ وَقَوْلِهِ سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلَانِ وَقَوْلِهِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ وَلَا يَخْتَلِفُونَ أَنَّ مُحَمَّدًا - صلى الله عليه وسلم - رَسُولٌ إِلَى الْإِنْسِ وَالْجِنِّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ هَذَا مِمَّا فُضِّلَ بِهِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ أَنَّهُ بُعِثَ إِلَى الْخَلْقِ كَافَّةً الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَغَيْرُهُ لَمْ يُرْسَلْ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ - صلى الله عليه وسلم - وَدَلِيلُ ذَلِكَ مَا نَطَقَ بِهِ الْقُرْآنُ مِنْ دُعَائِهِمْ إِلَى الْإِيمَانِ بِقَوْلِهِ فِي مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِهِ يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ." (1) ..
فالمسلمُ يؤمن بأن مصيرَ الكافرين من الجنِّ هو نفس مصير الكافرين من الإنس، فهم مكلفون بالإيمان بالله وطاعته، وسوف يحاسبون على ما يعملون فى الدنيا، قال تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} (179) سورة الأعراف.
ولقد خلقنا للنار -التي يعذِّب الله فيها مَن يستحق العذاب في الآخرة - كثيرًا من الجن والإنس، لهم قلوب لا يعقلون بها، فلا يرجون ثوابًا ولا يخافون عقابًا، ولهم أعين لا ينظرون بها إلى آيات الله وأدلته، ولهم آذان لا يسمعون بها آيات كتاب الله فيتفكروا فيها، هؤلاء كالبهائم التي لا تَفْقَهُ ما يقال لها، ولا تفهم ما تبصره، ولا تعقل بقلوبها الخير والشر فتميز بينهما، بل هم أضل منها; لأن البهائم تبصر منافعها ومضارها وتتبع راعيها، وهم بخلاف ذلك، أولئك هم الغافلون عن الإيمان بالله وطاعته (2).
وقال تعالى:: {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} (13) سورة السجدة
__________
(1) - التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد (11/ 117)
(2) - التفسير الميسر - (3/ 140)(1/88)
لو شاء اللّه لجعل لجميع النفوس طريقا واحدا. هو طريق الهدى، كما وحد طريق المخلوقات التي تهتدي بإلهام كامن في فطرتها، وتسلك طريقة واحدة في حياتها من الحشرات والطير والدواب أو الخلائق التي لا تعرف إلا الطاعات كالملائكة. لكن إرادة اللّه اقتضت أن يكون لهذا الخلق المسمى بالإنسان طبيعة خاصة، يملك معها الهدى والضلال ويختار الهداية أو يحيد عنها ويؤدي دوره في هذا الكون بهذه الطبيعة الخاصة، التي فطره اللّه عليها لغرض ولحكمة في تصميم هذا الوجود. ومن ثم كتب اللّه في قدره أن يملأ جهنم من الجنة ومن الناس الذين يختارون الضلالة، ويسلكون الطريق المؤدي إلى جهنم. (1)
وقوله تعالى: «وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها .. وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ».هو ردّ ضمنى على ما طلب المجرمون من أن يعودوا إلى الحياة الدنيا مرة أخرى ..
والمعنى: أن الهدى بيد اللّه، وفي قيد مشيئته .. وأنه سبحانه لو شاء لهدى الناس جميعا، ولكنه سبحانه جعل للجنة أهلها ولها يعملون، وجعل للنار أهلها ولها يعملون .. وأن مما قضى اللّه به في خلقه أن يملأ النار ويعمرها بمن جعلهم من أهلها، من الجنة والناس!
وأن هؤلاء المجرمين الذين رأوا مشاهد القيامة، وعاينوا أهوالها، وتمنوا العودة إلى الدنيا، ليستقيموا على طريق الحق والهدى ـ هؤلاء المجرمون، لو ردوا إلى الدنيا لعادوا لما نهوا عنه، ولركبوا نفس الطريق الذي كانوا عليه من قبل، ولماتوا على الكفر والضلال، ولكانوا في أصحاب النار، وذلك لأن قضاء اللّه فيهم قد سبق، وأنهم لن يخرجوا عما قضى اللّه فيهم! (2)
وعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبُّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} [الحج:1] وَنَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي سَفَرٍ وَقَدْ نَعَسَ بَعْضُ
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (5/ 2811)
(2) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (11/ 616)(1/89)
الْقَوْمِ، وَتَفَرَّقَ بَعْضُهُمْ، فَرَفَعَ بِهَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - صَوْتَهُ، فَاجْتَمَعُوا إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَقَالُوا: إِنَّ السَّاعَةَ قَدْ قَامَتْ، فَقَرَأَهَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَقَالَ: «أَتَدْرُونَ أَيُّ يَوْمٍ ذَلِكُمْ؟» قَالُوا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ:" ذَلِكَ حِينَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ لِآدَمَ: قُمْ يَا آدَمُ فَابْعَثْ بَعْثَ النَّارِ قَالَ: يَقُولُ: وَمَا بَعْثُ النَّارِ؟ قَالَ: ابْعَثْ مِنْ كُلِّ أَلْفٍ تِسْعَمِائةٍ وَتِسْعَةً وَتِسْعِينَ إِلَى النَّارِ، وَوَاحِدًا إِلَى الْجَنَّةِ "،فَأَبْلَسَ الْقَوْمُ فَمَا مِنْهُمْ أَحَدٌ يُبْدِي عَنْ وَاضِحَةٍ فَقَالَ: «اعْمَلُوا وَأَبْشِرُوا، فَمَا أَنْتُمْ فِي النَّاسِ إِلَّا كَالشَّامَةِ فِي ظَهْرِ الْبَعِيرِ أَوْ كَالرَّقْمَةِ فِي ذِرَاعِ الدَّابَّةِ»،ثُمَّ قَالَ: «اعْلَمُوا أَنَّكُمْ مَعَ خَلِيقَتَيْنِ لَمْ يَكُونُوا فِي شَيْءٍ إِلَّا كَثَّرَتَاهُ، يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ مَعَ مَنْ هَلَكَ مِنْ وَلَدِ إِبْلِيسَ» (1)
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: نَزَلَتْ {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} [الحج:1] عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -،وَهُوَ فِي مَسِيرٍ لَهُ، فَرَفَعَ بِهَا صَوْتَهُ حَتَّى ثَابَ إِلَيْهِ أَصْحَابُهُ، ثُمَّ قَالَ: «أَتَدْرُونَ أَيُّ يَوْمٍ هَذَا؟ يَوْمَ يَقُولُ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا لِآدَمَ: يَا آدَمُ، قُمْ فَابْعَثْ بَعْثَ النَّارِ مِنْ كُلِّ أَلْفٍ تِسْعَ مِائَةٍ وَتِسْعَةً وَتِسْعِينَ»،فَكَبُرَ ذَلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «سَدِّدُوا، وَقَارِبُوا، وَأَبْشِرُوا، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا أَنْتُمْ فِي النَّاسِ إِلَّا كَالشَّامَةِ فِي جَنْبِ الْبَعِيرِ، أَوْ كَالرَّقْمَةِ فِي ذِرَاعِ الدَّابَّةِ، وَإِنَّ مَعَكُمْ لَخَلِيقَتَيْنِ مَا كَانَتَا مَعَ شَيْءٍ قَطُّ إِلَّا كَثَّرَتَاهُ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ وَمَنْ هَلَكَ مِنْ كَفَرَةِ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ» (2)
قال ابن كثير عند قوله تعالى: {يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأحقاف:31]
" وَقَدِ اسْتَدَلَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ مَنْ ذَهَبَ مِنَ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ الْجِنَّ الْمُؤْمِنِينَ لَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ، وَإِنَّمَا جَزَاءُ صَالِحِيهِمْ أَنْ يُجَارُوا مِنْ عَذَابِ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؛ وَلِهَذَا قَالُوا هَذَا فِي
__________
(1) - المعجم الكبير للطبراني (18/ 155) (340) صحيح
(2) - صحيح ابن حبان - مخرجا (16/ 352) (7354) صحيح
ثاب: اجتمع وجاء = سددوا: الزموا السداد وهو الصواب بلا إفراط وبلا تفريط = قارب: اقتصد وحاول الوصول إلى الكمال = الشامة والشأمة: العلامة في الجسد وتعرف بالخال ومنه: جميل الخال والقوام =البعير: ما صلح للركوب والحمل من الإبل، وذلك إذا استكمل أربع سنوات، ويقال للجمل والناقة = الرقمة: الهَنَة الناتِئة في ذِراع الدابة من داخِل، وهما رَقْمتان في ذراعَيها(1/90)
هَذَا الْمَقَامِ، وَهُوَ مَقَامُ تَبَجُّحٍ وَمُبَالَغَةٍ فَلَوْ كَانَ لَهُمْ جَزَاءٌ عَلَى الْإِيمَانِ أَعْلَى مِنْ هَذَا لَأَوْشَكَ أَنْ يَذْكُرُوهُ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي قَالَ: حُدِّثْتُ عَنْ جَرِيرٍ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: إِنَّ «الْجِنَّ لَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ إِنَّمَا يَنْجُو مُؤْمِنُهُمْ مِنَ الْعَذَابِ؛ لِأَنَّهُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْلِيسَ، وَلَا يَدْخُلُ ذُرِّيَّةُ إِبْلِيسَ الْجَنَّةَ». (1)
وَالْحُقُّ أَنَّ مُؤمِنَهم كَمُؤْمِنِي الْإِنْسِ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ، كَمَا هُوَ مَذْهَبُ جَمَاعَةٍ مِنَ السَّلَفِ، وَقَدِ اسْتَدَلَّ بَعْضُهُمْ لِهَذَا بِقَوْلِهِ: {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ} [الرَّحْمَنِ:74]،وَفِي هَذَا الِاسْتِدْلَالِ نَظَرٌ، وَأَحْسَنُ مِنْهُ قوله تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرَّحْمَنِ:46،47]،فَقَدِ امْتَنَّ تَعَالَى عَلَى الثَّقَلَيْنِ بِأَنْ جَعَلَ جَزَاءَ مُحْسِنِهِمُ الْجَنَّةَ، وَقَدْ قَابَلَتِ الجِنّ هَذِهِ الْآيَةَ بِالشُّكْرِ الْقَوْلِيِّ أَبْلَغَ مِنَ الْإِنْسِ، فَقَالُوا:"وَلَا بِشَيء مِنْ آلَائِكَ رَبَّنَا نُكَذِّبُ، فَلَكَ الْحَمْدُ" فَلَمْ يَكُنْ تَعَالَى لِيَمْتَنَّ عَلَيْهِمْ بِجَزَاءٍ لَا يَحْصُلُ لَهُمْ، وَأَيْضًا فَإِنَّهُ إِذَا كَانَ يُجَازِي كَافِرَهُمْ بِالنَّارِ -وَهُوَ مَقَامُ عَدْلٍ-فَلأنْ يُجَازِيَ مُؤْمِنَهُمْ بِالْجَنَّةِ -وَهُوَ مَقَامُ فَضْل-بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى. وَمِمَّا يَدُلُّ أَيْضًا عَلَى ذَلِكَ عمومُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نزلا} [الكهف:107]،وما أَشْبَهُ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَقَدْ أَفْرَدْتُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي جُزْءٍ عَلَى حِدَةٍ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ". (2)
قلت: والرسول - صلى الله عليه وسلم - مبعوث للإنس والجن، وقد نزلت عليه سورة الجن بهذا الخصوص، قال تعالى: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا (2) وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا (3) وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا (4) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (5) وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا (6) وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا (7) وَأَنَّا لَمَسْنَا
__________
(1) تفسير ابن أبي حاتم، الأصيل - مخرجا (8/ 2786) (15757) ضعيف لا يحتج به في هذا المقام، فيه ضعف وجهالة
(2) - تفسير ابن كثير ت سلامة (7/ 303)(1/91)
السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا (8) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا (9) وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا (10) وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا (11) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا (12) وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا (13) وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا (14) وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا (15)} [الجن:1 - 15]
قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِقَوْمِكَ: إِنَّ اللهَ أَوْحَى إِلَيَّ أَنَّ جَمَاعَةً مِنَ الجِنِّ اسْتَمَعُوا إِلَى القُرْآنِ فآمَنُوا بِهِ، وَصَدَّقُوهُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: إِنَّنَا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً بَدِيعاً.
وَهَذَا القُرْآنُ يَهْدِي إِلَى الحَقِّ، وَإِلَى طَرِيقِ الهُدَى والرَّشَادِ، فَصَدَّقْنَا بِهِ، وَلَنْ نَعُودَ إِلَى مَا كُنّا عَلَيْهِ مِنَ الإِشْرَاكِ بِعِبَادَةِ رَبِّنَا أَحَداً. وَنَزَّهُوا رَبَّهُمُ العَظِيمَ عَنِ الزَّوْجَةِ والصَّاحِبَةِ وَالوَلَدِ، لأَنَّ الصَّاحِبَةَ تُتَخَذُ لِلْحَاجَةِ إِلَيْهَا، وَلأَنَّهَا مِنْ جِنْسِ الزَّوْجِ، وَالوَلَدُ يُتَّخَذُ لِلاسْتِئْنَاسِ بِهِ، وَلِلْحَاجَةِ إِلَيْهِ فِي الكِبَرِ وَفِي الشَّدَّةِ، وَلِبَقَاءِ الذِّكْرِ. وَاللهُ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ، فَهُوَ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ، وَهُوَ لاَ يَحْتَاجُ إِلَى نَصِيرٍ وَلاَ إِلَى مُعِينٍ، وَهُوَ بَاقٍ دَائِمٌ أَبَداً
وَأَنَّ الجُهَّالَ مِنَ الجِنِّ كَانُوا يَقُولُونَ قَوْلاً بَعِيداً عَنِ الحَقِّ وَالصَّوَابِ، بِنِسْبَةِ الصَّاحِبَةِ وَالوَلَدِ إِلَيْهِ تَعَالَى. وَأَنَّنَا كُنَّا نَظُنُّ أَنَّهُ لَنْ يَكْذِبَ أَحَدٌ عَلَى اللهِ تَعَالَى مِنَ الإِنْسِ وَالجِنَّ فَيَنْسبَ إِلَيْهِ تَعَالَى الصَّاحِبَةَ وَالوَلَدَ، وَمِنْ ثَمَّ اعْتَقَدْنَا صِحَّةَ قَوْلِ السَّفِيهِ، فَلَمَّا سَمِعْنَا القُرْآنَ عَلَى اللهِ فِي ذَلِكَ. وَأَنَّ رِجَالاً مِنَ الإِنْسِ كَانُوا يَسْتَعِيذُونَ، وَهُمْ فِي القِفَارِ، بِرِجَالٍ مِنَ الجِنِّ، فَزَادُوا الجِنَّ بِذَلِكَ طُغْيَاناً وَغَيّاً، بِأَنْ أَضَلُّوهُمْ حَتَّى اسْتَعَاذُوا بِهِمْ.
وَأَنَّ الجِنَّ ظَنُّوا، كَمَا ظَنَنْتُمْ يَا مَعْشَرَ الإِنْسِ، أَنَّ اللهَ لَنْ يَبْعَثَ رَسُولاً مِنَ البَشَرِ إِلَى خَلْقِهِ يَدْعُوهُمْ إِلَى الإِيْمَانِ بِاللهِ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَإِلَى الإِيْمَانِ بِالرُّسُلِ، وَاليَوْمِ الآخِرِ. (أَوْ أَنَّ اللهَ لَنْ يَبْعَثَ أَحَداً مِنْ قَبْرِهِ فِي الآخِرَةِ لِيُحَاسِبَهُ عَلَى أَعْمَالِهِ).
يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى أَنَّهُ حِينَ بَعَثَ مُحَمَّداً - صلى الله عليه وسلم - رَسُولاً، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ القُرْآنَ، حَفِظَ اللهُ القُرْآنَ مِنَ الجِنِّ إِذْ مُلِئَتِ السَّمَاءُ حَرَساً شَدِيداً، وَحُفِظَتْ مِنْ جَمِيعِ أَرْجَائِهَا، وَطُرِدَتِ الشَّيَاطِينُ(1/92)
مِنْ مَقَاعِدِهَا لِئَلاَّ يَسْتَرِقُوا سَمْعَ شَيءٍ مِنَ القُرْآنِ، فَأَخْبَرَ اللهُ تَعَالَى أَنَّ الجِنَّ قَالُوا: لَقَدْ طَلَبنَا خَبَرَ السَّمَاءِ (لَمَسْنَا السَّمَاءَ) كَمَا جَرَتْ عَادَتُنَا بِذَلِكَ فَوَجَدْنَاهَا قَدْ مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً، وَشُهُباً تَحْرُسُهَا مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، وَتَمْنَعُنَا مِنِ اسْتِرَاقِ السَّمْعِ. وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ قَبْلَ ذَلِكَ فِيهَا مَقَاعِدَ خَالِيَةً مِنَ الحَرَسِ والشُّهُبِ لِنَسْتَرِقَ السَّمْعَ، فَطُرِدْنَا مِنْهَا لِكَيْلاَ نَسْتَمِعَ إِلى شَيءٍ مِنْ خَبَرِ السَّمَاءِ عَنِ القُرْآنِ، لِنُلْقِيَهُ إِلَى الكُهَّانِ، فَمَنْ يُرِدْ أْنْ يَسْتَرِقَ الآنَ السَّمْعَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً مُرْصَداً يُهْلِكُهُ لِسَاعَتِهِ. وَأَنَّا لاَ نَدْرِي مَا هَذَا الأَمْرُ الذِي حَدَثَ فِي السَّمَاءِ، أَهُوَ شَرٌ أَرَادَ اللهُ إِنْزَالَهُ بِأَهْلِ الأَرْضِ، أَمْ أَرَادَ اللهُ بِهِ خَيْراً وَرَشَداً. وَأَنَّا مِنّا الأَبْرَارُ المُتَّقُونَ، العَامِلُونَ بِطَاعَةِ اللهِ، وَمِنَّا قَوْمٌ دُونَ ذَلِكَ وَأَنَّا كُنَّا مَذَاهِبَ وَأَهْوَاءً مُخْتَلِفَةً، وَفِرَقاً شَتَّى: فَمِنَّا المُؤْمِنُونَ وَمِنَّا الفَاسِقُونَ وَمِنَّا الكَافِرُونَ.
وَأَنَّا لَنَعْلَمُ يَقِيناً أَنَّ قُدْرَةَ اللهِ حَاكِمَةٌ عَلَيْنَا، وَأَنَّا لَنْ نُعْجِزَهُ تَعَالَى، وَلَوْ أَمْعَنَّا فِي الهَرَبِ، فَإِنَّهُ عَلَيْنَا قَادِرٌ، وَلاَ يُعْجِزُهُ أَحَدٌ مِنَّا. وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا القُرْآنَ الذِي يَهْدِي إِلَى الطَّرِيقِ المُسْتَقِيمِ صَدَّقْنَا بِهِ، وَأَقْرَرْنَا بِأَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللهِ تَعَالَى. وَمَنْ يُصَدِّقْ بِاللهِ وَبِمَا أَنْزَلَهُ عَلَى رُسُلِهِ فَلاَ يَخَافُ نَقْصاً مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَلاَ ذَنْباً يُحْمَلُ عََلَيْهِ مِنْ سَيِّئَاتِ غَيْرِهِ.
وَأَنَّا مِنَّا المُؤْمِنُونَ، الذِينَ أَطَاعُوا اللهَ وَاَخْبَتُوا إِلَيْهِ، وَعَمِلُوا صَالِحاً يَرْضَاهُ، وَمِنَّا الجَائِرُونَ عَنِ النَّهْجِ القَوِيمِ، الخَارِجُونَ عَنْ طَاعَةِ اللهِ، وَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَأَطَاعَهُ، فَقَدْ اجْتَهَدَ فِي سُلُوكِ الطَّرِيقِ المُوصِلِ لِلسَّعَادَةِ. وَأَمَّا الجَائِرُونَ عَنْ سُنَنِ الإِسْلاَمِ فَإِنَّهُمْ سَيَكُونُونَ حَطَباً لِجَهَنَّمَ، تُوقَدُ بِهِمْ كَمَا تُوقَدُ بِكَفَرَةِ الإِنْسِ. (1)
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَا قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى الْجِنِّ وَلا رَآهُمْ انْطَلَقَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ عَامِدِينَ إِلَى سُوقِ عُكَاظَ، وَقَدْ حِيلَ بَيْنَ الشَّيْطَانِ وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ، وَأُرْسِلَ عَلَيْهِمُ الشُّهُبُ، فَرَجَعَتِ الشَّيَاطِينُ إِلَى قَوْمِهِمْ، قَالُوا: مَا لَكُمْ؟ قَالُوا: حِيلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ، وَأُرْسِلَتْ عَلَيْنَا الشُّهُبُ، قَالُوا: مَا حَالَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ إِلا شَيْءٌ حَدَثَ، فَانْطَلَقُوا يَضْرِبُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا، فَانْصَرَفَ أُولَئِكَ النَّفَرُ الَّذِينَ تَوَجَّهُوا نَحْوَ تِهَامَةَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ عَامِدٌ إِلَى سُوقِ عُكَاظَ وَهُوَ يُصَلِّي
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد (ص:5326،بترقيم الشاملة آليا)(1/93)
بِأَصْحَابِهِ صَلاةَ الْفَجْرِ، فَلَمَّا سَمِعُوا الْقُرْآنَ اسْتَمَعُوا لَهُ وَقَالُوا: هَذَا وَاللَّهِ الَّذِي حَالَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ، قَالَ: فَهُنَالِكَ رَجَعُوا إِلَى قَوْمِهِمْ، فَقَالُوا: يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى نَبِيِّهِ - صلى الله عليه وسلم -: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ} [سورة الجن آية 1]،وَإِنَّمَا أُوحِيَ إِلَيْهِ قَوْلُ الْجِنِّ (1).
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضى الله عنهما - قَالَ انْطَلَقَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - فِى طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ عَامِدِينَ إِلَى سُوقِ عُكَاظٍ، وَقَدْ حِيلَ بَيْنَ الشَّيَاطِينِ وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ، وَأُرْسِلَتْ عَلَيْهِمُ الشُّهُبُ، فَرَجَعَتِ الشَّيَاطِينُ إِلَى قَوْمِهِمْ. فَقَالُوا مَا لَكُمْ فَقَالُوا حِيلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ، وَأُرْسِلَتْ عَلَيْنَا الشُّهُبُ. قَالُوا مَا حَالَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ إِلاَّ شَىْءٌ حَدَثَ، فَاضْرِبُوا مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا، فَانْظُرُوا مَا هَذَا الَّذِى حَالَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ فَانْصَرَفَ أُولَئِكَ الَّذِينَ تَوَجَّهُوا نَحْوَ تِهَامَةَ إِلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - وَهْوَ بِنَخْلَةَ، عَامِدِينَ إِلَى سُوقِ عُكَاظٍ وَهْوَ يُصَلِّى بِأَصْحَابِهِ صَلاَةَ الْفَجْرِ، فَلَمَّا سَمِعُوا الْقُرْآنَ اسْتَمَعُوا لَهُ فَقَالُوا هَذَا وَاللَّهِ الَّذِى حَالَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ. فَهُنَالِكَ حِينَ رَجَعُوا إِلَى قَوْمِهِمْ وَقَالُوا يَا قَوْمَنَا (إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِى إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا) فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى نَبِيِّهِ - صلى الله عليه وسلم - (قُلْ أُوحِىَ إِلَىَّ) وَإِنَّمَا أُوحِىَ إِلَيْهِ قَوْلُ الْجِنِّ (2).
وعَنْ عَامِرٍ، قَالَ: سَأَلْتُ عَلْقَمَةَ هَلْ كَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ شَهِدَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لَيْلَةَ الْجِنِّ؟ قَالَ: فَقَالَ عَلْقَمَةُ، أَنَا سَأَلْتُ ابْنَ مَسْعُودٍ فَقُلْتُ: هَلْ شَهِدَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لَيْلَةَ الْجِنِّ؟ قَالَ: لَا وَلَكِنَّا كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ذَاتَ لَيْلَةٍ فَفَقَدْنَاهُ فَالْتَمَسْنَاهُ فِي الْأَوْدِيَةِ وَالشِّعَابِ. فَقُلْنَا: اسْتُطِيرَ أَوِ اغْتِيلَ. قَالَ: فَبِتْنَا بِشَرِّ لَيْلَةٍ بَاتَ بِهَا قَوْمٌ فَلَمَّا أَصْبَحْنَا إِذَا هُوَ جَاءٍ مِنْ قِبَلَ حِرَاءٍ. قَالَ: فَقُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَدْنَاكَ فَطَلَبْنَاكَ فَلَمْ نَجِدْكَ فَبِتْنَا بِشَرِّ لَيْلَةٍ بَاتَ بِهَا قَوْمٌ. فَقَالَ:" أَتَانِي دَاعِي الْجِنِّ فَذَهَبْتُ مَعَهُ فَقَرَأْتُ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ " قَالَ: فَانْطَلَقَ بِنَا فَأَرَانَا آثَارَهُمْ وَآثَارَ نِيرَانِهِمْ وَسَأَلُوهُ الزَّادَ فَقَالَ:" لَكُمْ كُلُّ عَظْمٍ ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ
__________
(1) - مسند أبي عوانة مشكلا [2/ 274] (3078) صحيح
(2) - صحيح البخارى- المكنز [3/ 302] (773) وصحيح مسلم- المكنز [3/ 246] (1034)(1/94)
يَقَعُ فِي أَيْدِيكُمْ أَوْفَرَ مَا يَكُونُ لَحْمًا وَكُلُّ بَعْرَةٍ عَلَفٌ لِدَوَابِّكُمْ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:" فَلَا تَسْتَنْجُوا بِهِمَا فَإِنَّهُمَا طَعَامُ إِخْوَانِكُمْ " (1)
وعَنْ عَلْقَمَةَ، قَالَ: قُلْنَا لِعَبْدِ اللَّهِ: هَلْ صَحِبَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - مِنْكُمْ أَحَدٌ لَيْلَةَ الْجِنِّ؟ , قَالَ: لَمْ يَصْحَبْهُ مِنَّا أَحَدٌ إِلَّا أَنَا، بِتْنَا بِشَرِّ لَيْلَةٍ بَاتَ بِهَا قَوْمٌ، إِنَّا افْتَقَدْنَاهُ , فَقُلْنَا: اسْتُطِيرَ أَوِ اغْتِيلَ، فَتَفَرَّقْنَا فِي الشِّعَابِ وَالْأَوْدِيَةِ نَطْلُبُهُ، فَلَقِيتُهُ مُقْبِلًا مِنْ نَحْوِ حِرَاءَ، فَقُلْتُ: بِأَبِي وَأُمِّي، بِتْنَا بِشَرِّ لَيْلَةٍ بَاتَ بِهَا قَوْمٌ، فَقَالَ:" إِنَّهُ أَتَانِي دَاعِي الْجِنِّ فَأَجَبْتُهُمْ أُقْرِئُهُمُ الْقُرْآنَ " , وَأَرَانِي آثَارَهَمْ وَآثَارَ نِيرَانِهِمْ " (2).
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: هَبَطُوا عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ بِبَطْنِ نَخْلَةَ فَلَمَّا سَمِعُوهُ، قَالُوا: أَنْصِتُوا، قَالُوا: صَهٍ، وَكَانُوا تِسْعَةً أَحَدُهُمْ زَوْبَعَةُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا إِلَى ضَلالٍ مُبِينٍ " (3).
وقَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَحَدّثَنِي يَزِيدُ بْنُ زِيَادٍ، عَنْ مُحَمّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيّ، قَالَ لَمّا انْتَهَى رَسُولُ اللّهِ - صلى الله عليه وسلم - إلَى الطّائِفِ، عَمَدَ إلَى نَفَرٍ مِنْ ثَقِيفٍ، هُمْ يَوْمَئِذٍ سَادَةُ ثَقِيفٍ وَأَشْرَافُهُمْ وَهُمْ إخْوَةٌ ثَلَاثَةٌ عَبْدُ يَالَيْل بْنُ عَمْرِو بْنِ عُمَيْرٍ، وَمَسْعُودُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عُمَيْرٍ، وَحَبِيبُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عُمَيْرِ بْنِ عَوْفِ بْنِ عُقْدَةَ بْنِ غِيرَةَ بْنِ عَوْفِ بْنِ ثَقِيفٍ، وَعِنْدَ أَحَدِهِمْ امْرَأَةٌ مِنْ قُرَيْشٍ مِنْ بَنِي جُمَحٍ فَجَلَسَ إلَيْهِمْ رَسُولُ اللّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَدَعَاهُمْ إلَى اللّهِ وَكَلّمَهُمْ بِمَا جَاءَهُمْ لَهُ مِنْ نُصْرَتِهِ عَلَى الْإِسْلَامِ وَالْقِيَامِ مَعَهُ عَلَى مَنْ خَالَفَهُ مِنْ قَوْمِهِ فَقَالَ لَهُ أَحَدُهُمْ هُوَ يَمْرُطُ ثِيَابَ الْكَعْبَةِ إنْ كَانَ اللّهُ أَرْسَلَك، وَقَالَ الْآخَرُ أَمَا وَجَدَ اللّهُ أَحَدًا يُرْسِلُهُ غَيْرَك وَقَالَ الثّالِثُ وَاَللّهِ لَا أُكَلّمُك أَبَدًا. لَئِنْ كُنْتَ رَسُولًا مِنْ اللّهِ كَمَا تَقُولُ لَأَنْتَ أَعْظَمُ خَطَرًا مِنْ أَنْ أَرُدّ عَلَيْك الْكَلَامَ وَلَئِنْ كُنْت تَكْذِبُ عَلَى اللّهِ مَا يَنْبَغِي لِي أَنْ أُكَلّمَك. فَقَامَ رَسُولُ اللّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ عِنْدِهِمْ وَقَدْ يَئِسَ مِنْ خَيْرِ ثَقِيفٍ، وَقَدْ قَالَ لَهُمْ - فِيمَا
__________
(1) - صحيح مسلم- المكنز [3/ 247] (1035)
(2) - السُّنَنُ الْكُبْرَى لِلنَّسَائِي (10243)
(3) - المستدرك للحاكم مشكلا [3/ 202] (3701) صحيح(1/95)
ذُكِرَ لِي -:إذَا فَعَلْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ فَاكْتُمُوا عَنّي، وَكَرِهَ رَسُولُ اللّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يَبْلُغَ قَوْمَهُ عَنْهُ فَيُذْئِرَهُمْ ذَلِكَ عَلَيْهِ. قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: قَالَ عَبِيدُ بْنُ الْأَبْرَصِ:
وَلَقَدْ أَتَانِي عَنْ تَمِيمٍ أَنّهُمْ ذَئِرُوا لِقَتْلَى عَامِرٍ وَتَعَصّبُوا
فَلَمْ يَفْعَلُوا، وَأَغْرَوْا بِهِ سُفَهَاءَهُمْ وَعَبِيدَهُمْ يَسُبّونَهُ وَيَصِيحُونَ بِهِ حَتّى اجْتَمَعَ عَلَيْهِ النّاسُ وَأَلْجَئُوهُ إلَى حَائِطٍ لِعُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ وَشَيْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَهُمَا فِيهِ وَرَجَعَ عَنْهُ مِنْ سُفَهَاءِ ثَقِيفٍ مَنْ كَانَ يَتْبَعُهُ فَعَمَدَ إلَى ظِلّ حَبَلَةٍ مِنْ عِنَبٍ فَجَلَسَ فِيهِ. وَابْنَا رَبِيعَةَ يَنْظُرَانِ إلَيْهِ وَيَرَيَانِ مَا لَقِيَ مِنْ سُفَهَاءِ أَهْلِ الطّائِفِ، وَقَدْ لَقِيَ رَسُولُ اللّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِيمَا ذُكِرَ لِي - الْمَرْأَةَ الّتِي مِنْ بَنِي جُمَحٍ فَقَالَ لَهَا: مَاذَا لَقِينَا مِنْ أَحْمَائِك؟
فَلَمّا اطْمَأَنّ رَسُولُ اللّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ - فِيمَا ذُكِرَ لِي -:اللّهُمّ إلَيْك أَشْكُو ضَعْفَ قُوّتِي، وَقِلّةَ حِيلَتِي، وَهَوَانِي عَلَى النّاسِ يَا أَرْحَمَ الرّاحِمِينَ أَنْتَ رَبّ الْمُسْتَضْعَفِينَ وَأَنْتَ رَبّي، إلَى مَنْ تَكِلُنِي؟ إلَى بَعِيدٍ يَتَجَهّمُنِي؟ أَمْ إلَى عَدُوّ مَلّكْتَهُ أَمْرِي؟ إنْ لَمْ يَكُنْ بِك عَلَيّ غَضَبٌ فَلَا أُبَالِي، وَلَكِنّ عَافِيَتَك هِيَ أَوْسَعُ لِي، أَعُوذُ بِنُورِ وَجْهِك الّذِي أَشْرَقَتْ لَهُ الظّلُمَاتُ وَصَلُحَ عَلَيْهِ أَمْرُ الدّنْيَا وَالْآخِرَةِ مِنْ أَنْ تُنْزِلَ بِي غَضَبَك، أَوْ يَحِلّ عَلَيّ سُخْطُكَ لَك الْعُتْبَى حَتّى تَرْضَى، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوّةَ إلّا بِك قَالَ فَلَمّا رَآهُ ابْنَا رَبِيعَةَ، عُتْبَةُ وَشَيْبَةُ وَمَا لَقِيَ تَحَرّكَتْ لَهُ رَحِمُهُمَا، فَدَعَوْا غُلَامًا لَهُمَا نَصْرَانِيّا، يُقَالُ لَهُ عَدّاسٌ فَقَالَا لَهُ خُذْ قِطْفًا (مِنْ هَذَا) الْعِنَبِ فَضَعْهُ فِي هَذَا الطّبَقِ ثُمّ اذْهَبْ بِهِ إلَى ذَلِكَ الرّجُلِ فَقُلْ لَهُ يَأْكُلُ مِنْهُ. فَفَعَلَ عَدّاسٌ ثُمّ أَقْبَلَ بِهِ حَتّى وَضَعَهُ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللّهِ - صلى الله عليه وسلم - ثُمّ قَالَ لَهُ كُلْ فَلَمّا وَضَعَ رَسُولُ اللّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِيهِ يَدَهُ قَالَ بِاسْمِ اللّهِ ثُمّ أَكَلَ فَنَظَرَ عَدّاسٌ فِي وَجْهِهِ ثُمّ قَالَ وَاَللّهِ إنّ هَذَا الْكَلَامَ مَا يَقُولُهُ أَهْلُ هَذِهِ الْبِلَادِ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَمِنْ أَهْلِ أَيّ الْبِلَادِ أَنْتَ يَا عَدّاسُ وَمَا دِينُك؟ قَالَ نَصْرَانِيّ، وَأَنَا رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ نِينَوَى، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ قَرْيَةِ الرّجُلِ الصّالِحِ يُونُسَ بْنِ مَتّى، فَقَالَ لَهُ عَدّاسٌ وَمَا يُدْرِيك مَا يُونُسُ بْنُ مَتّى؟ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ - صلى الله عليه وسلم - ذَاكَ أَخِي، كَانَ نَبِيّا وَأَنَا نَبِيّ، فَأَكَبّ عَدّاسٌ عَلَى رَسُولِ اللّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُقَبّلُ رَأْسَهُ وَيَدَيْهِ وَقَدَمَيْهِ قَالَ يَقُولُ ابْنَا رَبِيعَةَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ أَمّا غُلَامُك فَقَدْ أَفْسَدَهُ عَلَيْك. فَلَمّا جَاءَهُمَا عَدّاسٌ قَالَا لَهُ وَيْلَك يَا عَدّاسُ مَالَكَ تُقَبّلُ رَأْسَ هَذَا الرّجُلِ(1/96)
وَيَدَيْهِ وَقَدَمَيْهِ؟ قَالَ يَا سَيّدِي مَا فِي الْأَرْضِ شَيْءٌ خَيْرٌ مِنْ هَذَا، لَقَدْ أَخْبَرَنِي بِأَمْرِ مَا يَعْلَمُهُ إلّا نَبِيّ، قَالَا لَهُ وَيْحَك يَا عَدّاسُ لَا، يَصْرِفَنّك عَنْ دِينِك، فَإِنّ دِينَك خَيْرٌ مِنْ دِينِهِ.
قَالَ ثُمّ إنّ رَسُولَ اللّهِ - صلى الله عليه وسلم - انْصَرَفَ مِنْ الطّائِفِ رَاجِعًا إلَى مَكّةَ، يَئِسَ مِنْ خَيْرِ ثَقِيفٍ، حَتّى إذَا كَانَ بِنَخْلَةَ قَامَ مِنْ جَوْفِ اللّيْلِ يُصَلّي، فَمَرّ بِهِ النّفَرُ مِنْ الْجِنّ الّذِينَ ذَكَرَهُمْ اللّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَهُمْ - فِيمَا ذُكِرَ لِي - سَبْعَةُ نَفَرٍ مِنْ جِنّ أَهْلِ نَصِيبِينَ فَاسْتَمَعُوا لَهُ فَلَمّا فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ وَلّوْا. إلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ قَدْ آمَنُوا وَأَجَابُوا إلَى مَا سَمِعُوا. فَقَصّ اللّهُ خَبَرَهُمْ عَلَيْهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ اللّهُ عَزّ وَجَلّ {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ} إلَى قَوْلِهِ تَعَالَى {وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} وَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيّ أَنّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنّ} إلَى آخِرِ الْقِصّةِ مِنْ خَبَرِهِمْ فِي هَذِهِ السّورَةِ " (1) ..
ويعقب ابن كثير في التفسير على رواية ابن إسحاق بقوله: «وَهَذَا صَحِيحٌ، وَلَكِنَّ قَوْلَهُ:"إِنَّ الْجِنَّ كَانَ اسْتِمَاعُهُمْ تِلْكَ اللَّيْلَةَ".فِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ الْجِنَّ كَانَ اسْتِمَاعُهُمْ فِي ابْتِدَاءِ الْإِيحَاءِ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمَذْكُورُ، وَخُرُوجُهُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، إِلَى الطَّائِفِ كَانَ بَعْدَ مَوْتِ عَمِّهِ، وَذَلِكَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِسَنَةٍ أَوْ سَنَتَيْنِ، كَمَا قَرَّرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: هَبَطُوا عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ بِبَطْنِ نَخْلَةَ، فَلَمَّا سَمِعُوهُ قَالُوا: أَنْصِتُوا. قَالَ صَهٍ، وَكَانُوا تِسْعَةً أَحَدُهُمْ زَوْبَعَةُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ} إلى: {ضَلالٍ مُبِينٍ}.» (2).
فَهَذَا مَعَ الْأَوَّلِ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ يَقْتَضِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لَمْ يَشْعُرْ بِحُضُورِهِمْ فِي هَذِهِ الْمَرَّةِ وَإِنَّمَا اسْتَمَعُوا قِرَاءَتَهُ، ثُمَّ رَجَعُوا إِلَى قَوْمِهِمْ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ وَفَدُوا إِلَيْهِ أَرْسَالًا قَوْمًا بَعْدَ قَوْمٍ، وَفَوْجًا بَعْدَ فَوْجٍ، كَمَا سَيَأْتِي بِذَلِكَ الْأَخْبَارُ فِي مَوْضِعِهَا وَالْآثَارُ، مِمَّا سَنُورِدُهَا هَاهُنَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَبِهِ الثِّقَةُ ..
__________
(1) - سيرة ابن هشام [1/ 419] صحيح مرسل
(2) - المستدرك على الصحيحين -دار المعرفة بيروت (2/ 456) (3701)(1/97)
وذكر الروايات الكثيرة وغالبها يدور بين الصحة والحسن، ثم قال في نهاية هذه الأحاديث:" فَهَذِهِ الطُّرُقُ كُلُّهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ - صلى الله عليه وسلم - ذَهَبَ إِلَى الْجِنِّ قَصْدًا، فَتَلَا عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ، وَدَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، وَشَرَعَ اللَّهُ لَهُمْ عَلَى لِسَانِهِ مَا هُمْ مُحْتَاجُونَ إِلَيْهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ. وَقَدْ يُحْتَمَلُ أَنَّ أَوَّلَ مَرَّةٍ سَمِعُوهُ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ [وَ] لَمْ يَشْعُرْ بِهِمْ، كَمَا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ وَفَدُوا إِلَيْهِ كَمَا رَوَاهُ ابْنُ مَسْعُودٍ. وَأَمَّا ابْنُ مَسْعُودٍ فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حَالَ مُخَاطَبَتِهِ الْجِنَّ وَدُعَائِهِ إِيَّاهُمْ، وَإِنَّمَا كَانَ بَعِيدًا مِنْهُ، وَلَمْ يَخْرُجْ مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَحَدٌ سِوَاهُ، وَمَعَ هَذَا لَمْ يَشْهَدْ حَالَ الْمُخَاطَبَةِ، هَذِهِ طَرِيقَةُ الْبَيْهَقِيِّ.
وَقَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَوَّلَ مَرَّةٍ خَرَجَ إِلَيْهِمْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ وَلَا غَيْرُهُ، كَمَا هُوَ ظَاهِرُ سِيَاقِ الرِّوَايَةِ الْأُولَى مِنْ طَرِيقِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَهِيَ عِنْدَ مُسْلِمٍ. ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ خَرَجَ مَعَهُ لَيْلَةً أُخْرَى، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، كَمَا رَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي تَفْسِيرِ: {قُلْ أُوحِيَ}،مِنْ حَدِيثِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: قَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عُمَرَ: أَمَّا الْجِنُّ الَّذِينَ لَقُوهُ بِنَخْلَةَ فَجِنُّ نِينَوَى، وَأَمَّا الْجِنُّ الَّذِينَ لَقُوهُ بِمَكَّةَ فَجِنُّ نَصِيبِينَ، وَتَأَوَّلَهُ الْبَيْهَقِيُّ عَلَى أَنَّهُ يَقُولُ:"فَبِتْنَا بِشَرِّ لَيْلَةٍ بَاتَ بِهَا قَوْمٌ"،عَلَى غَيْرِ ابْنِ مَسْعُودٍ مِمَّنْ لَمْ يَعْلَمْ بِخُرُوجِهِ - صلى الله عليه وسلم - إِلَى الْجِنِّ، وَهُوَ مُحْتَمَلٌ عَلَى بُعْدٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .. (1).
قلت: وهو الصواب، فطالما أن الجمع ممكن فالإعمال أولى من الإهمال.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
" وَقَدْ ثَبَتَ بِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ أَنَّهُ خَاطَبَ الْجِنَّ وَخَاطَبُوهُ وَقَرَأَ عَلَيْهِمْ الْقُرْآنَ وَأَنَّهُمْ سَأَلُوهُ الزَّادَ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: إنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - لَمْ يَرَ الْجِنَّ وَلَا خَاطَبَهُمْ وَلَكِنْ أَخْبَرَهُ أَنَّهُمْ سَمِعُوا الْقُرْآنَ وَابْنُ عَبَّاسٍ قَدْ عَلِمَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ مِنْ ذَلِكَ وَلَمْ يَعْلَمْ مَا عَلِمَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَغَيْرُهُمَا مِنْ إتْيَانِ الْجِنِّ إلَيْهِ وَمُخَاطَبَتِهِ إيَّاهُمْ وَأَنَّهُ أَخْبَرَهُ بِذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ وَأَمَرَهُ أَنْ يُخْبِرَ بِهِ وَكَانَ ذَلِكَ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ لَمَّا حُرِسَتْ السَّمَاءُ وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ وَمُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَكَانَ
__________
(1) - تفسير ابن كثير - دار طيبة [7/ 290 - 296](1/98)
فِي ذَلِكَ مِنْ دَلَائِلَ النُّبُوَّةِ مَا فِيهِ عِبْرَةٌ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ وَبَعْدَ هَذَا أَتَوْهُ وَقَرَأَ عَلَيْهِمْ الْقُرْآنَ وَرُوِيَ أَنَّهُ قَرَأَ عَلَيْهِمْ سُورَةَ الرَّحْمَنِ وَصَارَ كُلَّمَا قَالَ: {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} قَالُوا: وَلَا بِشَيْءٍ مِنْ آلَائِك رَبَّنَا نُكَذِّبُ فَلَك الْحَمْدُ. وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ مِنْ خِطَابِ الثَّقَلَيْنِ مَا يُبَيِّنُ هَذَا الْأَصْلَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا} وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْ الْجِنِّ أَنَّهُمْ قَالُوا: {وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا} أَيْ: مَذَاهِبَ شَتَّى: مُسْلِمُونَ وَكُفَّارٌ؛ وَأَهْلُ سُنَّةٍ وَأَهْلُ بِدْعَةٍ وَقَالُوا: {وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا} {وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا} وَالْقَاسِطُ: الْجَائِرُ يُقَالُ: قَسَطَ إذَا جَارَ وَأَقْسَطَ إذَا عَدَلَ. وَكَافِرُهُمْ مُعَذَّبٌ فِي الْآخِرَةِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ. وَأَمَّا مُؤْمِنُهُمْ فَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُ فِي الْجَنَّةِ وَقَدْ رُوِيَ:" أَنَّهُمْ يَكُونُونَ فِي رُبَضِ الْجَنَّةِ تَرَاهُمْ الْإِنْسُ مِنْ حَيْثُ لَا يَرَوْنَهُمْ ".وَهَذَا الْقَوْلُ مَأْثُورٌ عَنْ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ. وَقِيلَ: إنَّ ثَوَابَهُمْ النَّجَاةُ مِنْ النَّارِ وَهُوَ مَأْثُورٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَدْ احْتَجَّ الْجُمْهُورُ بِقَوْلِهِ: {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ} قَالُوا: فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى تَأَتِّي الطَّمْثِ مِنْهُمْ لِأَنَّ طَمْثَ الْحُورِ الْعِينِ إنَّمَا يَكُونُ فِي الْجَنَّةِ." (1).
__________
(1) - مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية- دار الوفاء (19/ 37) وانظر دلائل النبوة للبيهقي محققا (2/ 227) وانظر آكام المرجان في أحكام الجان (ص:75) و (ص:88):الْبَاب الثانى وَالْعشْرُونَ فى ثَوَاب الْجِنّ على أَعْمَالهم و (ص:91) الْبَاب الثَّالِث وَالْعشْرُونَ فِي دُخُول كفار الْجِنّ النَّار والْبَاب الرَّابِع وَالْعشْرُونَ فِي دُخُول مؤمنيهم الْجنَّة (ص:92)(1/99)
المبحث التاسع
العلاقة بين الجن والإنس
المسلمُ يؤمن بأن الكافرين من الجن يوسوسون إلى الإنسان، ويزينون له المعاصي، ويشككون المسلم في الله -عز وجل- فعن أبي هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه -قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «يَأْتِى الشَّيْطَانُ أَحَدَكُمْ فَيَقُولُ مَنْ خَلَقَ كَذَا مَنْ خَلَقَ كَذَا حَتَّى يَقُولَ مَنْ خَلَقَ رَبَّكَ فَإِذَا بَلَغَهُ فَلْيَسْتَعِذْ بِاللَّهِ، وَلْيَنْتَهِ» (متفق عليه) (1).
والمسلمُ يؤمن بأن الله -سبحانه- يحفظه من مسِّ الجن وإيذائه، بالتزام الطاعات، قال تعالى: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللّهِ ... } (11) سورة الرعد.
أي: للإنسان {مُعَقِّبَاتٌ} من الملائكة يتعاقبون في الليل والنهار. {مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} أي: يحفظون بدنه وروحه من كل من يريده بسوء، ويحفظون عليه أعماله، وهم ملازمون له دائما، فكما أن علم الله محيط به، فالله قد أرسل هؤلاء الحفظة على العباد، بحيث لا تخفى أحوالهم ولا أعمالهم، ولا ينسى منها شيء (2).
أما الذين يبتعدون عن طريق الله، فمن السهل على الجن أن يؤذوهم بالصرع والجنون، فعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِى لَيْلَى حَدَّثَنِى أُبَىُّ بْنُ كَعْبٍ قَالَ كُنْتُ عِنْدَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فَجَاءَ أَعْرَابِىٌّ فَقَالَ يَا نَبِىَّ اللَّهِ إِنَّ لِى أَخاً وَبِهِ وَجَعٌ. قَالَ «وَمَا وَجَعُهُ».قَالَ بِهِ
__________
(1) - صحيح البخارى برقم (3276) ومسلم برقم (361 و362)
وفي شرح النووي على مسلم - (ج 1 / ص 253)
قَالَ الْإِمَام الْمَازِرِيُّ رَحِمَهُ اللَّه: ظَاهِر الْحَدِيث أَنَّهُ - صلى الله عليه وسلم - أَمَرَهُمْ أَنْ يَدْفَعُوا الْخَوَاطِر بِالْإِعْرَاضِ عَنْهَا، وَالرَّدّ لَهَا مِنْ غَيْر اِسْتِدْلَال وَلَا نَظَر فِي إِبْطَالهَا. قَالَ: وَاَلَّذِي يُقَال فِي هَذَا الْمَعْنَى أَنَّ الْخَوَاطِر عَلَى قِسْمَيْنِ: فَأَمَّا الَّتِي لَيْسَتْ بِمُسْتَقِرَّةٍ وَلَا اِجْتَلَبَتْهَا شُبْهَة طَرَأَتْ فَهِيَ الَّتِي تُدْفَع بِالْإِعْرَاضِ عَنْهَا، وَعَلَى هَذَا يُحْمَل الْحَدِيث، وَعَلَى مِثْلهَا يَنْطَلِق اِسْم الْوَسْوَسَة؛ فَكَأَنَّهُ لَمَّا كَانَ أَمْرًا طَارِئًا بِغَيْرِ أَصْل دُفِعَ بِغَيْرِ نَظَر فِي دَلِيل إِذْ لَا أَصْل لَهُ يُنْظَر فِيهِ. وَأَمَّا الْخَوَاطِر الْمُسْتَقِرَّة الَّتِي أَوْجَبَتْهَا الشُّبْهَة فَإِنَّهَا لَا تُدْفَع إِلَّا بِالِاسْتِدْلَالِ وَالنَّظَر فِي إِبْطَالهَا. وَاَللَّه أَعْلَم.
(2) - تفسير السعدي - (1/ 414)(1/100)
لَمَمٌ. قَالَ «فَائْتِنِى بِهِ».فَوَضَعَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَعَوَّذَهُ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَأَرْبَعِ آيَاتٍ مِنْ أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَهَاتَيْنِ الآيَتَيْنِ (وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ) وَآيَةِ الْكُرْسِىِّ وَثَلاَثِ آيَاتٍ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَآيَةٍ مِنْ آلِ عِمْرَانَ (شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ) وَآيَةٍ مِنَ الأَعْرَافِ (إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِى خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ) وَآَخِرِ سُورَةِ الْمُؤْمِنِينَ (فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ) وَآيَةٍ مِنْ سُورَةِ الْجِنِّ (وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا) وَعَشْرِ آيَاتٍ مِنْ أَوَّلِ سُورَةِ (وَالصَّافَّاتِ) وَثَلاَثِ آيَاتٍ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْحَشْرِ وَ (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) وَالْمُعَوِّذَتَيْنِ فَقَامَ الرَّجُلُ كَأَنَّهُ لَمْ يَشْتَكِ قَطُّ. (أخرجه أحمد) (1).
ومن ذلك ما روي عَنْ يَعْلَى بْنِ مُرَّةَ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتْ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - مَعَهَا صَبِيٌّ لَهَا بِهِ لَمَمٌ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -:" اخْرُجْ عَدُوَّ اللهِ، أَنَا رَسُولُ اللهِ " قَالَ: فَبَرَأَ. فَأَهْدَتْ إِلَيْهِ كَبْشَيْنِ، وَشَيْئًا مِنْ أَقِطٍ، وَشَيْئًا مِنْ سَمْنٍ، قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -:" خُذِ الْأَقِطَ وَالسَّمْنَ وَأَحَدَ الْكَبْشَيْنِ، وَرُدَّ عَلَيْهَا الْآخَرَ " (أخرجه أحمد في مسنده) (2).
وقال تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (275) سورة البقرة.
والمسلمُ يعلم أنه في معركة مستمرة ٍمع الشياطين وأعوانهم من شياطين الإنس والجن، الذين يفسدون فى الأرض ولا يطيعون الله -عز وجل-.
والمسلمُ يعرف أعداءه جيدًا، وأول عدو يجب أن يحترس منه هو الشيطان، قال تعالى: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} (6) سورة فاطر
إن الشَّيطَانَ عَدُوٌّ لَكُمْ يَا أَيَّها النَّاسُ، وَهُوَ يُوَسْوِسُ لَكُمْ لِيُضِلَّكُمْ وَيَدْفَعَ بِكُمْ إِلى هَاوِيةِ الجَحِيمِ، فَاحْذَرُوا مِنْهُ وَكُونُوا أَنْتُمْ أَعْدَاءَهُ، وَخَالِفُوهُ وَكَذِّبُوهُ فِيما يَغُرَّكُمْ بِهِ، وَهُوَ يَدْعُو
__________
(1) برقم (21774) وفيه ضعف = اللمَم: طرف من الجنون يعترى الإنسان
(2) - مسند أحمد ط الرسالة (29/ 92) (17549) والسلسلة الصحيحة برقم (485) والمستدرك للحاكم برقم (4232) وصححه ووافقه الذهبي وهو حسن = الأقط: اللبن المحمض يجمد حتى يستحجر ويطبخ أو يطبخ به(1/101)
حِزْبَهُ وَأَوْليَاءَهُ وَشِيعَتَهُ، إِلى اتِّبَاعِ الهَوى، والرُّكُونِ إِلى اللذَّاتِ، وَالتَّسْوِيفِ بِالتَّوْبَةِ، لِيُضِلهُمْ وَيُلْقِيَهمْ فِي العَذَابِ الدَّائِمِ، فِي سَعيرِ جَهَنَّمَ. (1)
وقال: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} (60) سورة يس.
أَلَمْ أُوْصِكُم يَا بَني آدَمَ أَنْ تَتْرُكُوا طَاعَةَ الشَّيْطَانِ فِيمَا يُوَسْوِسُ لَكُمْ مِنْ مَعْصِيَةِ رَبِّكُمْ، وَمُخَالَفَةِ أَمْرِهِ، لأَنَّهُ عَدُوٌّ لَكُمْ ظَاهِرُ العَدَاوَةِ، وَكَانَ عَدُواً لأَبِيكُم آدَمَ مِنْ قَبْلُ. فَقَدْ خَلَقْتُ لَكُمُ العُقُولُ لِتُدْرِكُوا بِهَا الأَشْيَاءَ، وَتَفَرِّقُوا بَيْنَ الخَيْرِ والشَّرِّ، والحَسَنِ والقَبِيحِ، وَنَصَبْتُ لَكُم الأَدْلَّةَ، فِي الأَنْفِسِ والآفَاقِ عَلَى وُجُودِ خَالِقِكُم، وَعَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ، وَأَرْسَلْتُ لَكُم الأَنْبِيَاءَ، وَأَنْزَلْتُ عَلِيْكُمْ الكُتُبَ وَفِيهَا الشَّرَائِعُ وَأُمُورُ الدِّينِ، لِيَعِظُوكُمْ بِهَا، وَلِيَدْعُوكُم إِلَى مَا فِيهِ خَيْرٌ لَكُمْ (2).
فالمسلمُ لا يتبع الشيطان في طريق غوايته، بل يحذر دائمًا من وسوسته؛ لأنه سبب الضلال فب كل وقت وفي أي مكان، فهو الذي زين للأمم السابقة طرق الشرك بالله -تعالى-،ودعاهم إلى تكذيب الرسل، وقد أخذ على نفسه العهد أن يضلَّ الناس جميعًا إلا المخلصين المؤمنين، فقال: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83) [ص/82،83]}
بَعْدَ أَنْ اسْتَوثَقَ إِبْلِيسُ مِنْ وَعْدِ اللهِ تَعَالَى لَهُ بِالنَّظِرَةِ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ، كَشَفَ عَمَّا كَانَ يَسْتَهِدفُهُ مِنْ سُؤَالِهِ رَبَّهُ النَّظِرَةَ والإِمْهَالَ، فَأَقْسَمَ بِعَزَّةِ اللهِ تَعَالَى وَجَلاَلِهِ عَلَى أَنَّهُ سَيُضِلُّ جَمِيعَ ذُرِّيَةِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ وَيُغُوِيهمْ.
وَلاَ يَسْتَثْنِي إِبْلِيسُ مِنَ الذِينَ سَيُحَاوِلُ إِغْوَاءَهُمْ إِلاَّ عِبَادَ اللهِ المُخْلَصِينَ المُتَّقِينَ، لأَنَّهُ لاَ سُلْطَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ. (3)
وقال -سبحانه- عن إضلال إبليس للأمم السابقة: {وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد [ص 3547]
(2) - أيسر التفاسير لأسعد حومد [ص 3645]
(3) - أيسر التفاسير لأسعد حومد [ص 3931](1/102)
يَهْتَدُونَ} (24) سورة النمل، وقال تعالى: {وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَد تَّبَيَّنَ لَكُم مِّن مَّسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ} (38) سورة العنكبوت
يُخِبِرُ اللهُ تَعَالَى عَنِ الأُمَمِ المُكَذِّبَةِ، وَكَيْفَ أَهْلَكَهُمْ وانْتَقَمَ مِنْهُمْ بِأَنْواعٍ مِنَ العَذَابِ، فَعَادٌ، قومُ هُودٍ (وَكَانُوا يَسْكُنُونَ في الأحْقَافِ، في مِنْطَقَةِ حَضرَمَوتَ)،أًهْلَكَهُمُ اللهُ بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيةٍ، سَخَّرَهَا عَلَيهِمْ سَبْعَ لِيالٍ مُتَواصِلَةٍ فَلَمْ يَتْرُكْ لَهُمْ مِنْ بَاقِيةٍ.
وثَمُودُ قُومُ صَالحٍ (وَكَانُوا يَسْكُنُونَ الحِجْرَ قُربَ وَادي القُرَى) أَهْلَكَهُمُ اللهُ جَمِيعاً بالصِّيْحَةِ، وبزَلزَلَةِ الأَرْضِ بِهِمْ، لَمَّا عَقَرُوا النَّاقَةَ التي أَخْرَجَهَا اللهُ لَهُم، بِنَاءً عَلَى طَلَبِهِمْ مِنْ صَخْرَةٍ صَمَّاءَ.
وَكَانَتِ العَرَبُ تَعرِفُ مَسَاكِنَ قَومِ عَادٍ، وَقَومِ ثَمُودَ، وَتَمُرُّ بِها في تَرْحَالِها، وَتَرى آثَارَ الدَّمَارِ والهَلاَكِ الذي نَزَلَ بِهَا وبأَهلها. وَكَانَ سَبَبُ إِهْلاكِهِمْ هُوَ مَا زَيَّنهُ لَهُم الشَّيْطَانُ مِنْ أعمالٍ سَيِّئةٍ، وَعِبَادَةٍ غيرِ اللهِ تَعَالى، مَعَ أَنَّهُمْ كَانُوا قَادِرِينَ عَلى الإِدِراكِ والاستبْصَارِ، والتَّميِيز بَيْنَ الحَقِّ والبَاطِلِ، وَلِذَلِكَ فَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ عُذْرٌ في الغَفْلَةِ، وَعَدَمِ التَّبَصُّرِ في العَواقِبِ. (1)
والشيطان يلازم الإنسان في كل حركاته وسكناته، فكلَّما همَّ بطاعة الله صرفه عنها، وكلما ابتعد عن معصية الله قَرَّبَهُ منها، فهو يكره أن يرى الإنسان في طاعة لله -عز وجل-،ويوسوس للإنسان في صلاته ودعائه وقراءة القرآن، بل وفي كل طاعة.
فعلى المسلم أن يتعوذ بالله من الشيطان حينما يشعر بوسوسة منه، قال تعالى: {وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (200) سورة الأعراف.
فَإِذَا مَا اسْتَثَارَ الشَّيْطَانُ غَضَبَكَ لِيَصُدَّكَ عَنِ الإِعْرَاضِ عَنِ الجَاهِلِينَ، وَيَحْمِلَكَ عَلَى مُجَارَاتِهِمْ وَمُجَازَاتِهِمْ، فَاسْتَعِذْ بِاللهِ، وَاسْتَجِرْ بِهِ مِنْ نَزْغَ الشَّيْطَانِ، إِنَّهُ سَميعٌ لِجَهْلِ الجَاهِلِينَ عَلَيْكَ، عَلِيمٌ بِمَا يُذْهِبُ عَنْكَ نَزْغَ الشَّيطَانِ. (2)
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد [ص 3260]
(2) - أيسر التفاسير لأسعد حومد [ص 1155](1/103)
والمسلمُ يعلم أن الشيطان يحاول أن يوقعه في الشرك بالله، وهى أكبر جريمة يرتكبها الإنسان في حق الله، فإن لم يستطع أن يوقعه في الشرك أوقعه في كبائر الذنوب، والبدع، وإن لم يستطع حاول أن يوقعه في صغائر الذنوب، فهو لا يمل أبدًا من إضلال الإنسان، قال تعالى: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاء وَاللّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (268) سورة البقرة].وقال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168) إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (169) [البقرة/168،169].
والشيطانُ يسعى بين الناس بالفساد، وتقطيع الأرحام، ونشر الحقد والحسد والضغينة بينهم، قال تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ} (91) سورة المائدة.
والمسلمُ يعلم أن إبليس يبعث جنوده من الشياطين للفساد في الأرض، ويكون أكثرهم فسادًا أقربهم إليه منزلة. عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -:" إِنَّ إِبْلِيسَ يَضَعُ عَرْشَهُ عَلَى الْمَاءِ، ثُمَّ يَبْعَثُ سَرَايَاهُ، فَأَدْنَاهُمْ مِنْهُ مَنْزِلَةً أَعْظَمُهُمْ فِتْنَةً، يَجِيءُ أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ: فَعَلْتُ كَذَا وَكَذَا، فَيَقُولُ: مَا صَنَعْتَ شَيْئًا، قَالَ ثُمَّ يَجِيءُ أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ: مَا تَرَكْتُهُ حَتَّى فَرَّقْتُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ، قَالَ: فَيُدْنِيهِ مِنْهُ وَيَقُولُ: نِعْمَ أَنْتَ " قَالَ الْأَعْمَشُ: أُرَاهُ قَالَ: «فَيَلْتَزِمُهُ» (أخرجه مسلم) (1).
فالشيطان يفرح بخراب البيوت العامرة، وتشريد النفوس الآمنة.
والمسلمُ يعلم ملازمة الشيطان له وإصراره على غوايته، فعليه أن يذكر الله عند دخوله إلى بيته حتى لا يدخل الشيطان معه، وعند طعامه حتى لا يأكل الشيطان معه، وفى كل أمور حياته ليبعد عنه الشيطان، والمسلم ُ يعلم أنه إن لم يفعل ذلك أكل وشرب ونام معه الشيطان، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ «إِذَا دَخَلَ الرَّجُلُ بَيْتَهُ فَذَكَرَ اللَّهَ عِنْدَ دُخُولِهِ وَعِنْدَ طَعَامِهِ قَالَ الشَّيْطَانُ لاَ مَبِيتَ لَكُمْ وَلاَ عَشَاءَ. وَإِذَا دَخَلَ
__________
(1) - صحيح مسلم (4/ 2167) 67 - (2813) [ش (فيلتزمه) أي يضمه إلى نفسه ويعانقه](1/104)
فَلَمْ يَذْكُرِ اللَّهَ عِنْدَ دُخُولِهِ قَالَ الشَّيْطَانُ أَدْرَكْتُمُ الْمَبِيتَ. وَإِذَا لَمْ يَذْكُرِ اللَّهَ عِنْدَ طَعَامِهِ قَالَ أَدْرَكْتُمُ الْمَبِيتَ وَالْعَشَاءَ» (أخرجه مسلم) (1).
والمسلمُ يعلم أن الشيطان عدوٌّ للأنبياء والمرسلين. قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} (112) سورة الأنعام.
وَكَمَا جَعَلْنَا هؤُلاَءِ وَأَمْثَالَهُمْ أَعْدَاءً لَكَ يَا مُحَمَّدُ، يُخَالِفُونَكَ وَيُعَانِدُونَكَ، وَيُعَادُونَكَ، كَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ مِنْ قَبْلِكَ أَعْدَاءً مِنْ شَيَاطِينِ الإِنْسِ وَالجِنِّ (شَيَاطِينُ الإِنْسِ هُمُ الكُبُرَاءُ وَمَنْ يُضِلُّونَ النَّاسَ عَنِ الهُدَى بِالوَسْوَسَةِ وَالإِغْرَاءِ وَالمُخَادَعَةِ)،وَيُلْقِي بَعْضُ هَؤُلاَءِ الشَّيَاطِينِ مِنَ الإِنْسِ وَالجِنِّ إلى بَعْضِ القَوْلِ المُمَوَّهَ الذِي يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ يَسْتُرُونَ بِهِ قُبْحَ بَاطِلِهِمْ، وَيُؤَدُّونَهُ بِطُرُقٍ خَفِيَّةٍ لاَ يَفْطَنُ إلَى بَاطِلِهَا كُلُّ وَاحِدٍ، حَتَّى يَغُرُّوا النَّاسَ وَيَخْدَعُوهُمْ وَيُمِيلُوهُمْ إلَى مَا يُرِيدُونَ، كَمَا وَسْوَسَ الشَّيْطَانُ لآدَمَ وَحَوْاءَ لِلأَكْلِ مِنَ الشَّجَرَةِ التِي نَهَاهُمَا اللهُ عَنْهَا، وَكَمَا يُوَسْوِسُ شَيَاطِينُ الإِنْسِ لِمَنْ يَجْتَرِحُونَ السَّيِّئَاتِ، فَيُزَيِّنُونَ لَهُمْ مَا فِيهَا مِنْ عَظِيمِ اللَّذَّةِ، وَالتَّمَتُّعِ بِالحُرِّيَّةِ، وَيُمَنُّونَهُمْ بِعَفْوِ اللهِ. وَلَوْ شَاءَ اللهُ أَنْ لاَ يَفْعَلُوا ذَلِكَ لَمَا فَعَلُوهُ وَلَكِنَّهُ تَعَالَى لَمْ يَشَأْ ذَلِكَ إِذْ خَلَقَ النَّاسُ عَلَى اسْتِعْدَادٍ لِقُبُولِ الحَقِّ وَالبَاطِلِ، وَالخَيْرِ وَالشَّرِّ. (2)
كذلك .. كالذي قدرناه من أن أولئك المشركين الذين يعلقون إيمانهم بمجيء الخوارق، ويعرضون عن دلائل الهدى وموحياته في الكون والنفس، لا يقع منهم الإيمان ولو جاءتهم كل آية
كذلك الذي قدرناه في شأن هؤلاء، قدرنا أن يكون لكل نبي عدوهم شياطين الإنس والجن. وقدرنا أن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول ليخدعوهم به ويغروهم بحرب الرسل وحرب الهدى. وقدرنا أن تصغي إلى هذا الزخرف أفئدة الذين لا يؤمنون
__________
(1) - برقم (5381)
(2) - أيسر التفاسير لأسعد حومد [ص 902](1/105)
بالآخرة، ويرضوه، ويقترفوا ما يقترفونه من العداوة للرسل وللحق ومن الضلال والفساد في الأرض ..
كل ذلك إنما جرى بقدر اللّه وفق مشيئته. ولو شاء ربك ما فعلوه. ولمضت مشيئته بغير هذا كله ولجرى قدره بغير هذا الذي كان. فليس شيء من هذا كله بالمصادفة. وليس شيء من هذا كله بسلطان من البشر كذلك أو قدرة! فإذا تقرر أن هذا الذي يجري في الأرض من المعركة الناشبة التي لا تهدأ بين الرسل والحق الذي معهم، وبين شياطين الإنس والجن وباطلهم وزخرفهم وغرورهم .. إذا تقرر أن هذا الذي يجري في الأرض إنما يجري بمشيئة اللّه ويتحقق بقدر اللّه، فإن المسلم ينبغي أن يتجه إذن إلى تدبر حمكة اللّه من وراء ما يجري في الأرض بعد أن يدرك طبيعة هذا الذي يجري والقدرة التي وراءه ..
بإرادتنا وتقديرنا، جعلنا لكل نبي عدوا .. هذا العدو هو شياطين الإنس والجن .. والشيطنة وهي التمرد والغواية والتمحض للشر صفة تلحق الإنس كما تلحق الجن. وكما أن الذي يتمرد من الجن ويتمحض للشر والغواية يسمى شيطانا فكذلك الذي يتمرد من الإنس ويتمحض للشر والغواية .. وقد يوصف بهذه الصفة الحيوان أيضا إذا شرس وتمرد واستشرى أذاه!
هؤلاء الشياطين - من الإنس والجن - الذين قدر اللّه أن يكونوا عدوا لكل نبي، يخدع بعضهم بعضا بالقول المزخرف، الذي يوحيه بعضهم إلى بعض - ومن معاني الوحي التأثير الداخلي الذي ينتقل به الأثر من كائن إلى كائن آخر - ويغر بعضهم بعضا، ويحرض بعضهم بعضا على التمرد والغواية والشر والمعصية ..
وشياطين الإنس أمرهم معروف ومشهود لنا في هذه الأرض، ونماذجهم ونماذج عدائهم لكل نبي، وللحق الذي معه، وللمؤمنين به، معروفة يملك أن يراها الناس في كل زمان.
فأما شياطين الجن - والجن كله - فهم غيب من غيب اللّه، لا نعرف عنه إلا ما يخبرنا به من عنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو .. ومن ناحية مبدأ وجود خلائق أخرى في هذا الكون غير الإنسان وغير الأنواع والأجناس المعروفة في الأرض من الأحياء .. نقول(1/106)
من ناحية المبدأ نحن نؤمن بقول اللّه عنها، ونصدق بخبره في الحدود التي قررها. فأما أولئك الذين يتترسون «بالعلم» لينكروا ما يقرره اللّه في هذا الشأن، فلا ندري علام يرتكنون؟ إن علمهم البشري لا يزعم أنه أحاط بكل أجناس الأحياء، في هذا الكوكب الأرضي! كما أن علمهم هذا لا «يعلم» ماذا في الأجرام الأخرى! وكل ما يمكن أن «يفترضه» أن نوع الحياة الموجود في الأرض يمكن أولا يمكن أن يوجد في بعض الكواكب والنجوم .. وهذا لا يمكن أن ينفي - حتى لو تأكدت الفروض - أن أنواعا أخرى من الحياة وأجناسا أخرى من الأحياء يمكن أن تعمر جوانب أخرى في الكون لا يعلم هذا «العلم» عنها شيئا! فمن التحكم والتبجح أن ينفي أحد باسم «العلم» وجود هذه العوالم الحية الأخرى.
وأما من ناحية طبيعة هذا الخلق المسمى بالجن والذي يتشيطن بعضه ويتمحض للشر والغواية - كإبليس وذريته - كما يتشيطن بعض الإنس .. من ناحية طبيعة هذا الخلق المسمى بالجن، نحن لا نعلم عنه إلا ما جاءنا الخبر الصادق به عن اللّه - سبحانه - وعن رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم -.
ونحن نعرف أن هذا الخلق مخلوق من مارج من نار. وأنه مزود بالقدرة على الحياة في الأرض وفي باطن الأرض وفي خارج الأرض أيضا. وأنه يملك الحركة في هذه المجالات بأسرع مما يملك البشر. وأن منه الصالحين المؤمنين، ومنه الشياطين المتمردين. وأنه يرى بني آدم وبنو آدم لا يرونه - في هيئته الأصلية - وكم من خلائق ترى الإنسان ولا يراها الإنسان! وأن الشياطين منه مسلطون على بني الإنسان يغوونهم ويضلونهم، وهم قادرون على الوسوسة لهم والإيحاء بطريقة لا نعلمها. وأن هؤلاء الشياطين لا سلطان لهم على المؤمنين الذاكرين.
وأن الشيطان مع المؤمن إذا ذكر اللّه خنس وتوارى، وإذا غفل برز فوسوس له! وأن المؤمن أقوى بالذكر من كيد الشيطان الضعيف. عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ(1/107)
تَعَالَى: {الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ} [الناس:4] قَالَ: الشَّيْطَانُ جَاثِمٌ عَلَى قَلْبِ ابْنِ آدَمَ، فَإِذَا سَهَى وَغَفَلَ وَسْوَسَ، فَإِذَا ذَكَرَ اللَّهَ خَنَسَ. (1)
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْله {الوسواس الخناس} هُوَ الشَّيْطَان يوله الْمَوْلُود والوسواس على قبله فَهُوَ يُصَرِّفُهُ حَيْثُ شَاءَ فَإِذَا ذَكَرَ اللَّهَ خَنَسَ وَإِذَا غَفَلَ جَثَمَ عَلَى قَلْبِهِ فَوَسْوَسَ " (2)
وعَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ قَالَ: «مَا مِنْ عَبْدٍ إِلَّا وَلَهُ شَيْطَانٌ مُتَبَطِّنٌ فِقَارَ ظَهْرِهِ، لَاوٍ عُنُقَهُ عَلَى عَاتِقِهِ، فَاغِرٌ فَاهُ عَلَى قَلْبِهِ، فَإِذَا ذَكَرَ اللهَ خَنَسَ، وَإِذَا غَفَلَ وَسْوَسَ» (3)
وعَنْ عُرْوَةَ: أَنَّ عِيسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ دَعَا رَبَّهُ، فَقَالَ: يَا رَبِّ، أَرِنِي مَوْضِعَ الشَّيْطَانِ مِنِ ابْنِ آدَمَ فَجَلَّى لَهُ ذَلِكَ، فَإِذَا لَهُ رَأْسٌ كَرَأْسِ الْحَيَّةِ وَاضِعٌ رَأْسَهُ عَلَى ثَمَرَةِ الْقَلْبِ فَإِنْ ذَكَرَ اللهَ خَنَسَ، وَإِنْ تَرَكَ الذِّكْرَ مَنَّاهُ وَحَدَّثَهُ قَالَ: فَذَلِكَ قَوْلُهُ {مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ} [الناس:4] (4)
وأن عالم الجن يحشر مع عالم الإنس ويحاسب ويجازى بالجنة وبالنار كالجنس الإنساني. وأن الجن حين يقاسون إلى الملائكة يبدون خلقا ضعيفا لا حول له ولا قوة! وفي هذه الآية نعرف أن اللّه سبحانه قد جعل لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن ..
ولقد كان اللّه - سبحانه - قادرا - لو شاء - ألا يفعلوا شيئا من هذا .. ألا يتمردوا وألا يتمحضوا للشر وألا يعادوا الأنبياء وألا يؤذوا المؤمنين وألا يضلوا الناس عن سبيل اللّه .. كان اللّه سبحانه قادرا أن يقهرهم قهرا على الهدى أو أن يهديهم لو توجهوا للهدى أو أن يعجزهم عن التصدي للأنبياء والحق والمؤمنين به ..
ولكنه سبحانه ترك لهم هذا القدر من الاختيار. وأذن لهم أن تمتد أيديهم بالأذى لأولياء اللّه - بالقدر الذي تقضي به مشيئته ويجري به قدره - وقدر أن يبتلي أولياءه بأذى
__________
(1) - الزهد لأبي داود (ص:295) (337) صحيح موقوف ومثله لا يقال بالرأي
أي نشب فيه وسوسته ويحدثه بالأفكار الرديئة لأنه يجري منه مجرى الدم كما في الحديث الصحيح، ويدل عليه قوله تعالى: {الَّذِى يُوَسْوِسُ فِى صُدُورِ النَّاسِ} [الناس:5] وبه يرد على من أنكر سلوكه في بدن الإنسان كالمعتزلة.
(2) - الأحاديث المختارة (10/ 175) (172) صحيح لغيره
(3) - حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (5/ 213) صحيح مقطوع
(4) - حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (6/ 123) حسن مقطوع(1/108)
أعدائه كما يبتلي أعداءه بهذا القدر من الاختيار والقدرة الذي أعطاهم إياه. فما يملك هؤلاء أن يوقعوا بأولياء اللّه من الأذى إلا ما قدره اللّه: «وَلَوْ شاءَ اللَّهُ ما فَعَلُوهُ» ..
فما الذي يخلص لنا من هذه التقريرات؟
يخلص لنا ابتداء: أن الذين يقفون بالعداوة لكل نبي ويقفون بالأذى لأتباع الأنبياء .. هم «شياطين»!.
شياطين من الإنس ومن الجن .. وأنهم يؤدون جميعا - شياطين الإنس والجن - وظيفة واحدة! وأن بعضهم يخدع بعضا ويضله كذلك مع قيامهم جميعا بوظيفة التمرد والغواية وعداء أولياء اللّه ..
ويخلص لنا ثانيا: أن هؤلاء الشياطين لا يفعلون شيئا من هذا كله، ولا يقدرون على شيء من عداء الأنبياء وإيذاء أتباعهم بقدرة ذاتية فيهم. إنما هم في قبضة اللّه. وهو يبتلي بهم أولياءه لأمر يريده. من تمحيص هؤلاء الأولياء، وتطهير قلوبهم، وامتحان صبرهم على الحق الذي هم عليه أمناء. فإذا اجتازوا الامتحان بقوة كف اللّه عنهم الابتلاء. وكف عنهم هؤلاء الأعداء. وعجز هؤلاء الأعداء أن يمدوا إليهم أيديهم بالأذى وراء ما قدر اللّه. وآب أعداء اللّه بالضعف والخذلان وبأوزارهم كاملة يحملونها على ظهورهم: «وَلَوْ شاءَ اللَّهُ ما فَعَلُوهُ» ..
ويخلص لنا ثالثا: أن حكمة اللّه الخالصة هي التي اقتضت أن يترك لشياطين الإنس والجن أن يتشيطنوا - فهو إنما يبتليهم في القدر الذي تركه لهم من الاختيار والقدرة - وأن يدعهم يؤذون أولياءه فترة من الزمان - فهو إنما يبتلي أولياءه كذلك لينظروا: أيصبرون؟ أيثبتون على ما معهم من الحق بينما الباطل ينتفش عليهم ويستطيل؟ أيخلصون من حظ أنفسهم في أنفسهم ويبيعونها بيعة واحدة للّه، على السراء وعلى الضراء سواء.
وفي المنشط والمكره سواء؟ وإلا فقد كان اللّه قادرا على ألا يكون شيء من هذا الذي كان! ويخلص لنا رابعا: هو أن الشياطين من الإنس والجن، وهو أن كيدهم وأذاهم. فما يستطيلون بقوة ذاتية لهم وما يملكون أن يتجاوزوا ما أذن اللّه به على أيديهم .. والمؤمن الذي يعلم أن ربه هو الذي يقدر، وهو الذي يأذن، خليق أن يستهين بأعدائه من(1/109)
الشياطين مهما تبلغ قوتهم الظاهرة وسلطانهم المدّعى. ومن هنا هذا التوجيه العلوي لرسول اللّه الكريم: «فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ» ..
دعهم وافتراءهم. فأنا من ورائهم قادر على أخذهم، مدخر لهم جزاءهم ..
وهناك حكمة أخرى غير ابتلاء الشياطين، وابتلاء المؤمنين .. لقد قدر اللّه أن يكون هذا العداء، وأن يكون هذا الإيحاء، وأن يكون هذا الغرور بالقول والخداع .. لحكمة أخرى:
«وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ، وَلِيَرْضَوْهُ، وَلِيَقْتَرِفُوا ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ» أي لتستمع إلى ذلك الخداع والإيحاء قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة .. فهؤلاء يحصرون همهم كله في الدنيا. وهم يرون الشياطين في هذه الدنيا يقفون بالمرصاد لكل نبي، وينالون بالأذى أتباع كل نبي، ويزين بعضهم لبعض القول والفعل.
فيخضعون للشياطين، معجبين بزخرفهم الباطل، معجبين بسلطانهم الخادع. ثم يكسبون ما يكسبون من الإثم والشر والمعصية والفساد. في ظل ذلك الإيحاء، وبسبب هذا الإصغاء ..
وهذا أمر أراده اللّه كذلك وجرى به قدره. لما وراءه من التمحيص والتجربة. ولما فيه من إعطاء كل أحد فرصته ليعمل لما هو ميسر له ويستحق جزاءه بالعدل والقسطاس.
ثم لتصلح الحياة بالدفع ويتميز الحق بالمفاصلة ويتمحض الخير بالصبر ويحمل الشياطين أوزارهم كاملة يوم القيامة .. وليجري الأمر كله وفق مشيئة اللّه .. أمر أعدائه وأمر أوليائه على السواء .. إنها مشيئة اللّه، واللّه يفعل ما يشاء .. (1)
وعن عُرْوَةَ أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - حَدَّثَتْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - خَرَجَ مِنْ عِنْدِهَا لَيْلاً. قَالَتْ فَغِرْتُ عَلَيْهِ فَجَاءَ فَرَأَى مَا أَصْنَعُ فَقَالَ «مَا لَكِ يَا عَائِشَةُ أَغِرْتِ».فَقُلْتُ وَمَا لِى لاَ يَغَارُ مِثْلِى عَلَى مِثْلِكَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «أَقَدْ جَاءَكِ شَيْطَانُكِ».قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوَمَعِىَ شَيْطَانٌ قَالَ «نَعَمْ».قُلْتُ وَمَعَ كُلِّ إِنْسَانٍ قَالَ «نَعَمْ».قُلْتُ وَمَعَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ «نَعَمْ وَلَكِنْ رَبِّى أَعَانَنِى عَلَيْهِ حَتَّى أَسْلَمَ» (أخرجه مسلم) (2).
__________
(1) - في ظلال القرآن كاملا مدققا تدقيق نهائي [ص 1618]
(2) - برقم (7288)(1/110)
والمسلمُ يعلم أنَّ السحرَ حقيقةٌ لا ريب فيها، يقول الله في سحرة فرعون: {قَالَ أَلْقُوْاْ فَلَمَّا أَلْقَوْاْ سَحَرُواْ أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} (116) سورة الأعراف، وقال سبحانه: {وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ} (102) سورة البقرة.
وقد سُحِرَ الرسولُ - صلى الله عليه وسلم - على يد لبيد بن الأعصم اليهودي، فعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ سُحِرَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى كَانَ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ يَفْعَلُ الشَّىْءَ وَمَا يَفْعَلُهُ، حَتَّى كَانَ ذَاتَ يَوْمٍ دَعَا وَدَعَا، ثُمَّ قَالَ «أَشَعَرْتِ أَنَّ اللَّهَ أَفْتَانِى فِيمَا فِيهِ شِفَائِى أَتَانِى رَجُلاَنِ، فَقَعَدَ أَحَدُهُمَا عِنْدَ رَأْسِى وَالآخَرُ عِنْدَ رِجْلَىَّ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِلآخَرِ مَا وَجَعُ الرَّجُلِ قَالَ مَطْبُوبٌ. قَالَ وَمَنْ طَبَّهُ قَالَ لَبِيدُ بْنُ الأَعْصَمِ. قَالَ فِى مَاذَا قَالَ فِى مُشُطٍ وَمُشَاقَةٍ وَجُفِّ طَلْعَةٍ ذَكَرٍ. قَالَ فَأَيْنَ هُوَ قَالَ فِى بِئْرِ ذَرْوَانَ».فَخَرَجَ إِلَيْهَا النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ لِعَائِشَةَ حِينَ رَجَعَ «نَخْلُهَا كَأَنَّهَا رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ».فَقُلْتُ اسْتَخْرَجْتَهُ فَقَالَ «لاَ أَمَّا أَنَا فَقَدْ شَفَانِى اللَّهُ، وَخَشِيتُ أَنْ يُثِيرَ ذَلِكَ عَلَى النَّاسِ شَرًّا، ثُمَّ دُفِنَتِ الْبِئْرُ» (أخرجه البخاري) (1).
فالمسلمُ يدعو ربه دائمًا ويستغفره، ويتعوذ به من شرور الشياطين، قال تعالى: {وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (97) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (98) [المؤمنون/97 - 99]
__________
(1) - برقم (3268 و 3175 و 5763 و5765 و 5766 و 6063 و 6391)
قلت: وهذا السحر لاينافي عصمة الرسول - صلى الله عليه وسلم -،فالعصمة هي في تبليغ الوحي الإلهي، وهي مصونة لم يؤثر عليها السحر بشيء، بل كان تأثيره في أمور دنيوية جبلية عادية، وهذا جائزة في حقِّ الرسل، فهم بشر يعتريهم ما يعتري البشر، خلا معصية الله تعالى(1/111)
وهو يعلمُ أن الله -عز وجل- يحمى عباده المؤمنين من مكائد الشيطان، وأنه قد بشرهم بالحفظ من كيد الشيطان فقال: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} (42) سورة الحجر.
وقال تعالى: فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآَنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100) [النحل/98 - 101].
وقد كان عمر بن الخطاب رضى الله عنه، حينما يسير فى طريق، يلتمس الشيطان طريقًا آخر خوفًا من عمر، لأنه كان عبدًا مخلصًا لله، فعن سَعْدِ بْنِ أَبِى وَقَّاصٍ قَالَ اسْتَأْذَنَ عُمَرُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -،وَعِنْدَهُ نِسَاءٌ مِنْ قُرَيْشٍ يُكَلِّمْنَهُ وَيَسْتَكْثِرْنَهُ، عَالِيَةً أَصْوَاتُهُنَّ، فَلَمَّا اسْتَأْذَنَ عُمَرُ، قُمْنَ يَبْتَدِرْنَ الْحِجَابَ، فَأَذِنَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -،وَرَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَضْحَكُ، فَقَالَ عُمَرُ أَضْحَكَ اللَّهُ سِنَّكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ «عَجِبْتُ مِنْ هَؤُلاَءِ اللاَّتِى كُنَّ عِنْدِى، فَلَمَّا سَمِعْنَ صَوْتَكَ ابْتَدَرْنَ الْحِجَابَ».قَالَ عُمَرُ فَأَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ كُنْتَ أَحَقَّ أَنْ يَهَبْنَ. ثُمَّ قَالَ أَىْ عَدُوَّاتِ أَنْفُسِهِنَّ، أَتَهَبْنَنِى وَلاَ تَهَبْنَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قُلْنَ نَعَمْ، أَنْتَ أَفَظُّ وَأَغْلَظُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -.قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ مَا لَقِيَكَ الشَّيْطَانُ قَطُّ سَالِكًا فَجًّا إِلاَّ سَلَكَ فَجًّا غَيْرَ فَجِّكَ» (أخرجه الشيخان) (1).
والمسلمُ يعلم أن الجنَّ لا تقدر على شيء إلا بإرادة الله، كما أنها لا تعلمُ من غيب الله شيئًا، قال تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (27) [الجن/26،27]،وقال تعالى عن وفاة النبي سليمان عليه السلام: {فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَن لَّوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ} (14) سورة سبأ. فعلى المسلم أن يكون دائم الصلة بالله -عز وجل-،فمن كان في كنف الله -عز وجل- حماه الله من شياطين الإنس والجن فهو نعم المولى ونعم
__________
(1) - البخارى برقم (3294) ومسلم برقم (6355) -الفج: الطريق الواسع(1/112)
النصير. قال تعالى: {إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ غَرَّ هَؤُلاء دِينُهُمْ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَإِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (49) سورة الأنفال
والمسلمُ يعلم أن إبليس تكبَّرَ على أمر الله -عز وجل- عندما أمره بالسجود لآدم تكريمًا له، وقال: {قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ} (12) سورة الأعراف، فغضب الله عليه، وأنزله من السماء، وأخرجه من رحمته: {قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْؤُومًا مَّدْحُورًا لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ} (18) سورة الأعراف. وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «إِذَا قَرَأَ ابْنُ آدَمَ السَّجْدَةَ اعْتَزَلَ الشَّيْطَانُ يَبْكِى يَقُولُ يَا وَيْلَهُ أُمِرَ بِالسُّجُودِ فَسَجَدَ فَلَهُ الْجَنَّةُ وَأُمِرْتُ بِالسُّجُودِ فَعَصَيْتُ فَلِىَ النَّارُ» (أخرجه أحمد) (1).
والجنُّ مكلفون بالعبادة والطاعة لله -عز وجل- مثل الإنس، يدل على ذلك خطاب الله -عز وجل- لهم في القرآن قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (56) سورة الذاريات، وعَنْ جَابِرٍ رضى الله عنه قَالَ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى أَصْحَابِهِ فَقَرَأَ عَلَيْهِمْ سُورَةَ الرَّحْمَنِ مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا فَسَكَتُوا فَقَالَ «لَقَدْ قَرَأْتُهَا عَلَى الْجِنِّ لَيْلَةَ الْجِنِّ فَكَانُوا أَحْسَنَ مَرْدُودًا مِنْكُمْ كُنْتُ كُلَّمَا أَتَيْتُ عَلَى قَوْلِهِ (فَبِأَىِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) قَالُوا لاَ بِشَىْءٍ مِنْ نِعَمِكَ رَبَّنَا نُكَذِّبُ فَلَكَ الْحَمْدُ» (أخرجه الترمذي) (2).
لقد علمَ إبليسُ أن الله خلقه، وكلَّفه وأمره، ولكنه استكبر على أمر الله. والمسلم لا يفعل هذا أبدًا، فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «لاَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِى قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ كِبْرٍ وَلاَ يَدْخُلُ النَّارَ مَنْ كَانَ فِى قَلْبِهِ مِثْقَالُ خَرْدَلَةٍ مِنْ إِيمَانٍ» (أخرجه أبو داود والترمذي) (3).
والمسلمُ يجب أن يعلم أن الشيطان سوف يتبرأ من أوليائه يوم القيامة، قال تعالى: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ
__________
(1) - برقم (9964) وهو صحيح
(2) - برقم (3602) والصحيحة (2150) وهو حديث حسن
(3) - أبو داود برقم (4093) والترمذى برقم (2129) وهو صحيح(1/113)
عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (22) سورة إبراهيم.
وَبَعْدَ أَنْ يُتِمَّ اللهُ تَعَالَى قَضَاءَهُ بَيْنَ العِبَادِ، وَيُدْخِلَ أَهْلَ الجَنَّةِ الجَنَّةَ، وَيُدْخِلَ أَهْلَ النَّارِ النَّارَ، يَقُومُ إِبْلِيسُ خَطِيباً فِي أَهْلِ النَّارِ، لِيَزِيدَهُمْ حُزْناً إِلَى حُزْنِهِمْ، وَحَسْرَةً إِلَى حَسْرَتِهِمْ، فَيَقُولُ لَهُمْ: إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الحَقِّ عَلَى لِسَانِ رُسُلِهِ، وَوَعَدَكُمْ بِالنَّجَاةِ وَالسَّلاَمَةِ إِنْ آمَنْتُمْ بِهِ، وَصَدَّقْتُمْ رُسُلَهُ، وَكَانَ وَعْدُهُ حَقّاً. أَمّا أَنَا فَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ، وَلَمْ يَكُنْ لِي دَلِيلٌ وَلاَ حُجَّةٌ فِيمَا وَعَدْتُكُمْ بِهِ، وَدَعَوْتُكُمْ إِلَيْهِ، وَقَدْ اسَتْجَبْتُمْ لِي بِمُجَرَّدِ أَنْ دَعَوْتُكُمْ وَوَسْوَسْتُ لَكُمْ، وَقَدْ أَقَامَتِ الرُّسُلُ عَلَيْكُمُ الحُجَجَ وَالأَدِلَّةَ الصَّحِيحَةَ عَلَى صِدْقِ مَا جَاؤُوكُمْ بِهِ، فَخَالَفْتُمُوهُمْ وَاتَّبَعْتُمُونِي فَصِرْتُمْ إِلَى مَا أَنْتُمْ فِيهِ مِنَ العَذَابِ، فَلاَ تَلُومُونِي اليَوْمَ، وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ لأَنَّ الذَّنْبَ ذَنْبُكُمْ، فَمَا أَنَا اليَوْمَ بِمِغِيثِكُمْ (مُصْرِخِكُمْ)، وَلاَ مُنْقِذِكُمْ مِمَّا أَنْتُمْ فِيهِ، وَمَا أَنْتُمْ بِنَافِعِيَّ وَلاَ مُنْقِذِيَّ وَلاَ مُغِيثِيَّ (مُصْرِخِيَّ) مِمَّا أَنَا فِيهِ، مِنَ العَذَابِ وَالنَّكَالِ، وَإِنِّي جَحَدْتُ (كَفَرْتُ) أَنْ أَكُونَ شَرِيكاً للهِ عَزَّ وَجَلَّ فِيمَا أَشْرَكْتُمُونِي فِيهِ فِي الدُّنْيا. ثُمَّ يَقُولُ لَهُمْ إِبْلِيسُ: إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي إِعْرَاضِهِمْ عَنِ الحِقِّ، وَاتِّبَاعِهِمْ البَاطِلَ، لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ.
وَقَدْ قَصَّ اللهُ تَعَالَى عَلَى النَّاسِ مَا سَيَكُونُ عَلَيْهِ يَوْمَ القِيَامَةِ حَالَ إِبْلِيسَ مَعَ الذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي الدُّنْيَا لِيَكُونَ ذَلِكَ تَنْبِيهاً لَهُمْ، وَحَضّاً لَهُمْ عَلَى التَّبَصُّرِ فِي عَاقِبَةِ أَمْرِهِمْ. (1)
والذينَ ينكرون الجنَّ ليس لهم حجة ولا سند، فإن كانوا لا يؤمنون بالغيب، فإن هناك أشياء من الغيب لا ندركها، ولكن ندرك تأثيرها، فالكهرباء -مثلا- لا نراها، ولكن ندرك تأثيرها، وكذلك الجاذبية والروح، فإن كانوا ينكرون هذه الأشياء، فليمسك أحدهم بسلك من الكهرباء، ويزعم أنه غير موجود لأنه لا يراه، هذا إن أرادوا دليلا عقليًّا، فإن أرادوا دليلا من الشرع، فيكفيهم أن الله -عز وجل- أنزل سورة كاملة، وسماها سورة الجن، وذكرهم في أكثر من موضع في القرآن الكريم.، فهم أشبه
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد [ص 1773](1/114)
الناس بقوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (10) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (11) كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (12) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (13) وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (15)} [الحجر/10 - 15]
يُسَلِّي اللهُ تَعَالَى رَسُولَهُ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ تَكْذِيبِ الكُفَّارِ لَهُ، وَيَقُولُ لَهُ: إِنَّ اللهَ تَعَالَى قَدْ أَرْسَلَ رُسُلاً إِلَى الأُمَمِ الخَالِيَةِ التِي كَانَتْ تَكْفُرُ بِرَبِّهَا، وَتُكْذِّبُ رُسُلَهُ، وَقَدْ أًَهْلَكَهُمُ اللهُ، لأَنَّهُمْ أَصَرُّوا عَلَى كُفْرِهِمْ وَتَكْذِيبِهِمْ رُسُلَ رَبِّهِمْ. وَلَمْ يَأْتِ أُمَّةً رَسُولٌ إِلاَّ اسْتَهْزَؤُوا بِهِ وَكَذَّبُوهُ، لأنَّ حَمْلَ النَّفْسِ عَلَى فِعْلِ الطَّاعَاتِ، وَتَرْكِ المُحَرَّمَاتِ، مُسْتَثْقَلٌ عَلَى النُّفُوسِ، كَمَا أَنَّ حَمْلَ النَّاسِ عَلَى تَرْكِ مَا أَلِفُوهُ مِنَ المُعْتَقَدَاتِ هُوَ ثَقيلٌ أَيْضاً.
وَكَذَلِكَ يُلْقِي اللهُ تَعَالَى القُرْآنَ فِي قُلُوبِ المُجْرِمِينَ، وَيَسْلُكُهُ فِيها مُكَذَّباً بِمَا فِيهِ، مُسْتَهْزَأً بِهِ غَيْرَ مَقْبُولٍ لَدَيْهِمْ لأنَّهُ لَيْسَ فِي نُفُوسُهُمْ اسْتِعْدَادٌ لِتَلَقِّي الحَقِّ، وَلاَ تُضِيءُ نُفُوسُهُمْ بِمَصَابِيحِ هِدَايَتِهِ الرَّبَّانِيَّةِ كَمَا فَعَلَ الذِينَ مِنَ قَبْلِهِمْ مَعَ أَنْبِيَائِهِمْ فَأَهْلَكَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ وَتَكْذِيبِهِمْ، فَلَكَ يَا مُحَمَّدُ أُسْوَةٌ بِمَنْ سَبَقَكَ مِنَ الرُّسُلِ.
وَقَوْمُكَ، يَا مُحَمَّدُ، لاَ يُؤْمِنُونَ بِهَذا القُرْآنِ مَعَ أَنَّهُمْ عَلِمُوا بِمَا فَعَلَهُ اللهُ بِمَنْ كَذَّبَ رُسُلَهُ مِنَ العَذَابِ وَالاسْتِئْصَالِ، وَكَيْفَ نَجَّى رُسُلَهُ وَالذِينَ آمَنُوا لَهُمْ، وَهَذِهِ هِيَ سُنَّةُ اللهِ، وَسَيَحِلُّ بِهؤُلاَءِ الذِينَ يُكَذِّبُونَكَ مَا حَلَّ بِالمُكَذِّبِينَ السَّابِقِينَ، وَنَنْصُرُكَ عَلَيْهِمْ بَعْدَ حِينٍ.
إِنَّ هؤُلاَءِ الكَفَرَةَ المُعَانِدِينَ يَطْلُبُونَ أَنْ تَنْزِلَ عَلَيْهِمُ المَلائِكَةُ لِيُؤْمِنُوا لَكَ، وَلَكِنَّهُمْ لَنْ يُؤْمِنُوا، حَتَّى إِنَّنا لَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَاباً مِنْ أَبْوَابِ السَّمَاءِ فَظَلُّوا يَصْعَدُونَ فِي ذَلكَ البَابِ فَيَرَوْنَ مَنْ فِي السَّمَاءِ مِنَ المَلائِكَةِ، وَمَا فِيهَا مِنَ العَجَائِبِ لِمَا صَدَّقُوا بِذَلِكَ.(1/115)
وَلَقَالُوا: لَقَدْ سُدَّتْ أَبْصَارُنا، وَحُبِسَتْ عَنِ النَّظَرِ، وَشُبِّهَ عَلَيْنَا (سُكِّرَتْ أَبْصَارُنا)، وَسُحِرْنَا، فَمَا نَرَاهُ هُوَ تَخَيُّلٌ لاَ حَقِيقَةَ لَهُ، وَقَدْ سَحَرَنَا مُحَمَّدُ بِمَا يَظْهَرُ عَلى يَدَيْهِ مِنَ الآيَاتِ. فَإِذَا كَانَ الأَمْرُ كَذَلِكَ، فَكَيْفَ يَقْتَرِحُ عَلَيْكَ هَؤُلاَءِ الآيَاتِ؟ (1)
يعزي الله سبحانه نبيه - صلى الله عليه وسلم - فيخبره أنه ليس بدعا من الرسل الذين لقوا الاستهزاء والتكذيب، فهكذا المكذبون دائما في عنادهم الذميم: «وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ. وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ» ..
وعلى هذا النحو الذي تلقى به المكذبون أتباع الرسل ما جاءهم به رسلهم، يتلقى المكذبون المجرمون من أتباعك ما جئتهم به. وعلى هذا النحو نجري هذا التكذيب في قلوبهم التي لا تتدبر ولا تحسن الاستقبال، جزاء ما أعرضت وأجرمت في حق الرسل المختارين: «كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ. لا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ» .. نسلكه في قلوبهم مكذّبا بما فيه مستهزأ به لأن هذه القلوب لا تحسن أن تتلقاه إلا على هذا النحو. سواء في هذا الجيل أم في الأجيال الخالية أم في الأجيال اللاحقة فالمكذبون أمة واحدة، من طينة واحدة: «وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ» ..
وليس الذي ينقصهم هو توافر دلائل الإيمان، فهم معاندون ومكابرون، مهما تأتهم من آية بينة فهم في عنادهم ومكابرتهم سادرون.
وهنا يرسم السياق نموذجا باهرا للمكابرة المرذولة والعناد البغيض: «وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ، لَقالُوا: إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا، بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ» ..
ويكفي تصورهم يصعدون في السماء من باب يفتح لهم فيها. يصعدون بأجسامهم، ويرون الباب المفتوح أمامهم، ويحسون حركة الصعود ويرون دلائلها .. ثم هم بعد ذلك يكابرون فيقولون: لا. لا. ليست هذه حقيقة. إنما أحد سكّر أبصارنا وخدّرها فهي لا ترى إنما تتخيل: «إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ» .. سكر أبصارنا مسكر وسحرنا ساحر، فكل ما نراه وما نحسه وما نتحركه تهيؤات مسكّر
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد [ص 1814](1/116)
مسحور! يكفي تصورهم على هذا النحو لتبدو المكابرة السمجة ويتجلى العناد المزري. ويتأكد أن لا جدوى من الجدل مع هؤلاء. ويثبت أن ليس الذي ينقصهم هو دلائل الإيمان. وليس الذي يمنعهم أن الملائكة لا تنزل.
فصعودهم هم أشد دلالة وألصق بهم من نزول الملائكة. إنما هم قوم مكابرون. مكابرون بلا حياء وبلا تحرج وبلا مبالاة بالحق الواضح المكشوف!
إنه نموذج بشري للمكابرة والاستغلاق والانطماس يرسمه التعبير، مثيرا لشعور الاشمئزاز والتحقير ..
وهذا النموذج ليس محليا ولا وقتيا، ولا هو وليد بيئة معينة في زمان معين .. إنه نموذج للإنسان حين تفسد فطرته، وتستغلق بصيرته، وتتعطل في كيانه أجهزة الاستقبال والتلقي، وينقطع عن الوجود الحي من حوله، وعن إيقاعاته وإيحاءاته.
هذا النموذج يتمثل في هذا الزمان في الملحدين وأصحاب المذاهب المادية التي يسمونها «المذاهب العلمية!» وهي أبعد ما تكون عن العلم بل أبعد ما تكون عن الإلهام والبصيرة ..
إن أصحاب المذاهب المادية يلحدون في الله ويجادلون في وجوده- سبحانه - وينكرون هذا الوجود.
ثم يقيمون على أساس إنكار وجود الله، والزعم بأن هذا الكون موجود هكذا بذاته، بلا خالق، وبلا مدبر، وبلا موجّه .. يقيمون على أساس هذا الزعم وذلك الإنكار مذاهب اجتماعية وسياسية واقتصادية و «أخلاقية!» كذلك. ويزعمون أن هذه المذاهب القائمة على ذلك الأساس، والتي لا تنفصل عنه بحال .. «علمية» .. هي وحدها «العلمية»! وعدم الشعور بوجود الله سبحانه، مع وجود تلك الشواهد والدلائل الكونية، هو دلالة لا تنكر على تعطل أجهزة الاستقبال والتلقي في تلك الجبلّات النّكدة. كما أن اللجاجة في هذا الإنكار لا تقل تبجحا عن تبجح ذلك النموذج الذي ترسمه النصوص القرآنية السابقة: «وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ. لَقالُوا: إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا، بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ!» ..(1/117)
فالشواهد الكونية أظهر وأوضح من عروجهم إلى السماء. وهي تخاطب كل فطرة غير معطلة خطابا هامسا وجاهرا، باطنا وظاهرا، بما لا تملك هذه الفطرة معه إلا المعرفة والإقرار.
إن القول بأن هذا الكون موجود بذاته وفيه كل تلك النواميس المتوافقة لحفظه وتحريكه وتدبيره كما أن فيه كل تلك الموافقات لنشأة الحياة في بعض أجزائه .. وهي موافقات لا تحصى .. إن هذا القول بذاته يرفضه العقل البشري، كما ترفضه الفطرة من أعماقها. وكلما توغل «العلم» في المعرفة بطبيعة هذا الكون وأسراره وموافقاته رفض فكرة التلقائية في وجود هذا الكون وفي حركته بعد وجوده واضطر اضطرارا إلى رؤية اليد الخالقة المدبرة من ورائه .. هذه الرؤية التي تتم للفطرة السوية بمجرد تلقي إيقاعات هذا الكون وإيحاءاته. قبل جميع البحوث العلمية التي لم تجئ إلا أخيرا!
إن الكون لا يملك أن يخلق ذاته، ثم يخلق في الوقت نفسه قوانينه التي تصرف وجوده. كما أن نشأة الحياة لا يفسرها وجود الخالي من الحياة. وتفسير نشأة الكون ونشأة الحياة بدون وجود خالق مدبر تفسير متعسف ترفضه الفطرة كما يرفضه العقل أيضا .. كما أخذ يرفضه العلم المادي نفسه أخيرا:
يقول عالم الأحياء والنبات «رسل تشارلز إرنست» الأستاذ بجامعة فرانكفورت بألمانيا: «لقد وضعت نظريات عديدة لكي تفسر نشأة الحياة من عالم الجمادات فذهب بعض الباحثين إلى أن الحياة قد نشأت من البروتوجين، أو من الفيروس، أو من تجمع بعض الجزئيات البروتينية الكبيرة. وقد يخيل إلى بعض الناس أن هذه النظريات قد سدت الفجوة التي تفصل بين عالم الأحياء وعالم الجمادات. ولكن الواقع الذي ينبغي أن نسلم به هو أن جميع الجهود التي بذلت للحصول على المادة الحية من غير الحية، قد باءت بفشل وخذلان ذريعين. ومع ذلك فإن من ينكر وجود الله لا يستطيع أن يقيم الدليل المباشر للعالم المتطلع على أن مجرد تجمع الذرات والجزئيات عن طريق المصادفة، يمكن أن يؤدي إلى ظهور الحياة وصيانتها وتوجيهها بالصورة التي شاهدناها في الخلايا الحية. وللشخص مطلق الحرية في أن يقبل هذا التفسير لنشأة الحياة، فهذا شأنه وحده!(1/118)
ولكنه إذ يفعل ذلك، فإنما يسلم بأمر أشد إعجازا وصعوبة على العقل من الاعتقاد بوجود الله، الذي خلق الأشياء ودبرها.
«إنني أعتقد أن كل خلية من الخلايا الحية قد بلغت من التعقد درجة يصعب علينا فهمها. وأن ملايين الملايين من الخلايا الحية الموجودة على سطح الأرض تشهد بقدرته شهادة تقوم على الفكر والمنطق. ولذلك فإنني أو من بوجود الله إيمانا راسخا» (1)
وهذا الذي يكتب هذا التقرير لم يبدأ بحثه من التقريرات الدينية عن نشأة الحياة. إنما بدأ بحثه من النظر الموضوعي لنواميس الحياة. والمنطق السائد في بحثه هو منطق «العلم الحديث» - بكل خصائصه - لا منطق الإلهام الفطري، ولا منطق الحس الديني. ومع ذلك فقد انتهى إلى الحقيقة التي يقررها الإلهام الفطري، كما يقررها الحس الديني. ذلك أن الحقيقة متى كان لها وجود، اعترض وجودها كل سالك إليها من أي طريق يسلكه إليها أما الذين لا يجدون هذه الحقيقة فهم الذين تعطلت فيهم أجهزة الإدراك جميعا!
والذين يجادلون في الله - مخالفين عن منطق الفطرة وعن منطق العقل، وعن منطق الكون ... أولئك كائنات تعطلت فيها أجهزة الاستقبال والتلقي جميعا .. إنهم العمي الذين يقول الله تعالى فيهم: «أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى».
وإذا كانت هذه حقيقتهم فإن ما ينشئونه من مذاهب «علمية!» اجتماعية وسياسية واقتصادية وما ينشئون من نظريات عن الكون والحياة والإنسان والحياة الإنسانية والتاريخ الإنساني يجب أن ينظر إليها المسلم كما ينظر إلى كل تخبط، صادر عن أعمى، معطل الحواس الأخرى، محجوبا عن الرؤية وعن الحس وعن الإدراك جميعا - على الأقل فيما يتعلق بالحياة الإنسانية وتفسيرها وتنظيمها. وما ينبغي لمسلم أن يتلقى عن هؤلاء شيئا فضلا على أن يكيّف نظرته، ويقيم منهج حياته، على شيء مقتبس من أولئك العمي أصلا! إن هذه قضية إيمانية اعتقادية، وليست قضية رأي وفكر! إن الذي يقيم تفكيره، ويقيم مذهبه في الحياة، ويقيم نظام حياته كذلك، على أساس أن هذا الكون
__________
(1) - من مقال «الخلايا الحية تؤدي رسالتها» في كتاب: «الله يتجلى في عصر العلم» ونحب أن ننبه أننا إذ نقتطف ما نقتطف إنما نخاطب الماديين «العلميين» بلغتهم .. وليس هذا إقرارا منا بصحة كل ما نستشهد به وسلامة منهجه التفكيري والتعبيري في القضية التي نعرضها.(1/119)
المادي هو منشئ ذاته، ومنشئ الإنسان أيضا .. إنما يخطئ في قاعدة الفكرة والمذهب والنظام فكل التشكيلات والتنظيمات والإجراءات القائمة على هذه القاعدة لا يمكن أن تجيء بخير ولا يمكن أن تلتحم في جزئية واحدة مع حياة مسلم، يقيم اعتقاده وتصوره، ويجب أن يقيم نظامه وحياته على قاعدة ألوهية الله للكون وخلقه وتدبيره.
ومن ثم يصبح القول بأن ما يسمى «الاشتراكية العلمية» منهج مستقل عن المذهب المادي مجرد جهالة أو هراء! ويصبح الأخذ بما يسمى «الاشتراكية العلمية» - وتلك قاعدتها ونشأتها ومنهج تفكيرها وبناء أنظمتها - عدولا جذريا عن الإسلام: اعتقادا وتصورا ثم منهجا ونظاما .. حيث لا يمكن الجمع بين الأخذ بتلك «الاشتراكية العلمية» واحترام العقيدة في الله بتاتا. ومحاولة الجمع بينهما هي محاولة الجمع بين الكفر والإسلام .. وهذه هي الحقيقة التي لا محيص عنها ..
إن الناس في أي أرض وفي أي زمان إما أن يتخذوا الإسلام دينا، وإما أن يتخذوا المادية دينا. فإذا
اتخذوا الإسلام دينا امتنع عليهم أن يتخذوا «الاشتراكية العلمية» المنبثقة من «الفلسفة المادية»، والتي لا يمكن فصلها عن الأصل الذي انبثقت منه، نظاما .. وعلى الناس أن تختار .. إما الإسلام، وإما المادية، منذ الابتداء! إن الإسلام ليس مجرد عقيدة مستكنة في الضمير. إنما هو نظام قائم على عقيدة .. كما أن «الاشتراكية العلمية» - بهذا الاصطلاح - ليست قائمة على هواء، إنما هي منبثقة انبثاقا طبيعيا من «المذهب المادي» الذي يقوم بدوره على قاعدة مادية الكون وإنكار وجود الخالق المدبر أصلا، ولا يمكن الفصل بين هذا التركيب العضوي .. ومن ثم ذلك التناقض الجذري بين الإسلام وما يسمى «الاشتراكية العلمية» بكل تطبيقاتها!
ولا بد من الاختيار بينهما .. ولكل أن يختار وأن يتحمل عند الله تبعة ما يختار!!! (1)
__________
(1) - في ظلال القرآن كاملا مدققا تدقيق نهائي [ص 2770](1/120)
الجن يشهدون للمؤذنين يوم القيامة:
عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ الأَنْصَارِيِّ ثُمَّ المَازِنِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ الخُدْرِيَّ، قَالَ لَهُ: إِنِّي أَرَاكَ تُحِبُّ الغَنَمَ وَالبَادِيَةَ، فَإِذَا كُنْتَ فِي غَنَمِكَ، أَوْ بَادِيَتِكَ، فَأَذَّنْتَ بِالصَّلاَةِ فَارْفَعْ صَوْتَكَ بِالنِّدَاءِ، فَإِنَّهُ: «لاَ يَسْمَعُ مَدَى صَوْتِ المُؤَذِّنِ، جِنٌّ وَلاَ إِنْسٌ وَلاَ شَيْءٌ، إِلَّا شَهِدَ لَهُ يَوْمَ القِيَامَةِ»، قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - (1)
وقَالَ أَبُو سَعِيدٍ: إِذَا كُنْتَ فِي الْبَوَادِي فَارْفَعْ صَوْتَكَ بِالنِّدَاءِ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «لَا يَسْمَعُ صَوْتَهُ شَجَرٌ، وَلَا مَدَرٌ، وَلَا حَجَرٌ، وَلَا جِنٌّ، وَلَا إِنْسٌ إِلَّا شَهِدَ لَهُ» (2)
__________
(1) - صحيح البخاري (1/ 125) (609)
[ش (باديتك) هي الصحراء التي لا عمارة فيها حيث ترعى الغنم وغيرها. (مدى الصوت) آخر ما يصل إليه الصوت ينتهي]
"قَوْله جِنٌّ وَلَا إِنْسٌ وَلَا شَيْءٌ ظَاهِرُهُ يَشْمَلُ الْحَيَوَانَاتِ وَالْجَمَادَاتِ فَهُوَ مِنَ الْعَامِّ بَعْدَ الْخَاصِّ، وَقَالَ التُّورِبِشْتِيُّ الْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الشَّهَادَةِ اشْتِهَارُ الْمَشْهُودِ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِالْفَضْلِ وَعُلُوِّ الدَّرَجَةِ وَكَمَا أَنَّ اللَّهَ يَفْضَحُ بِالشَّهَادَةِ قَوْمًا فَكَذَلِكَ يُكْرِمُ بِالشَّهَادَةِ آخَرِينَ، وَفِي الْحَدِيثِ اسْتِحْبَابُ رَفْعِ الصَّوْتِ بِالْأَذَانِ لِيَكْثُرَ مَنْ يَشْهَدُ لَهُ مَا لَمْ يُجْهِدْهُ أَوْ يَتَأَذَّى بِهِ وَفِيهِ أَنَّ حُبَّ الْغَنَمِ وَالْبَادِيَةِ وَلَا سِيَّمَا عِنْدَ نُزُولِ الْفِتْنَةِ مِنْ عَمَلِ السَّلَفِ الصَّالِحِ وَفِيهِ جَوَازُ التَّبَدِّي وَمُسَاكَنَةِ الْأَعْرَابِ وَمُشَارَكَتِهِمْ فِي الْأَسْبَاب بِشَرْط حَظّ من الْعلم وَأمن غَلَبَةِ الْجَفَاءِ وَفِيهِ أَنَّ أَذَانَ الْفَذِّ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ وَلَوْ كَانَ فِي قَفْرٍ وَلَوْ لَمْ يُرْتَجَ حُضُورُ مَنْ يُصَلِّي مَعَهُ لِأَنَّهُ إِنْ فَاتَهُ دُعَاءُ الْمُصَلِّينَ فَلَمْ يَفُتْهُ اسْتِشْهَادُ مَنْ سَمعه من غَيرهم"فتح الباري لابن حجر (2/ 88)
(2) - صحيح ابن خزيمة (1/ 203) (389) صحيح(1/121)
المبحث العاشر
الصراع بين الحق والباطل والإنسان والشيطان
إنَّ الذي يرسمه القرآن الكريم للمعركة بين شياطين الإنس والجن من ناحية، وكل نبي وأتباعه من ناحية أخرى ومشيئة الله المهيمنة وقدره النافذ من ناحية ثالثة .. هذا المشهد بكل جوانبه جدير بأن نقف أمامه وقفة قصيرة:
إنها معركة تتجمع فيها قوى الشر في هذا الكون .. شياطين الإنس والجن .. تتجمع في تعاون وتناسق لإمضاء خطة مقررة .. هي عداء الحق الممثل في رسالات الأنبياء وحربه .. خطة مقررة فيها وسائلها .. «يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا» .. يمد بعضهم بعضا بوسائل الخداع والغواية وفي الوقت ذاته يغوي بعضهم بعضا! وهي ظاهرة ملحوظة في كل تجمع للشر في حرب الحق وأهله .. إن الشياطين يتعاونون فيما بينهم ويعين بعضهم بعضا على الضلال أيضا! إنهم لا يهدون بعضهم البعض إلى الحق أبدا. ولكن يزين بعضهم لبعض عداء الحق وحربه والمضي في المعركة معه طويلا! ولكن هذا الكيد كله ليس طليقا .. إنه محاط به بمشيئة الله وقدره .. لا يقدر الشياطين على شيء منه إلا بالقدر الذي يشاؤه الله وينفذه بقدره. ومن هنا يبدو هذا الكيد - على ضخامته وتجمع قوى الشر العالمية كلها عليه - مقيدا مغلولا! إنه لا ينطلق كما يشاء بلا قيد ولا ضابط. ولا يصيب من يشاء بلا معقب ولا مراجع - كما يحب الطغاة أن يلقوا في روع من يعبدونهم من البشر، ليعلقوا قلوبهم بمشيئتهم وإرادتهم .. كلا! إن إرادتهم مقيدة بمشيئة الله. وقدرتهم محدودة بقدر الله. وما يضرون أولياء الله بشيء إلا بما أراده الله - في حدود الابتلاء - ومرد الأمر كله إلى الله.
ومشهد التجمع على خطة مقررة من الشياطين جدير بأن يسترعي وعي أصحاب الحق ليعرفوا طبيعة الخطة ووسائلها .. ومشهد إحاطة مشيئة الله وقدره بخطة الشياطين وتدبيرهم جدير كذلك بأن يملأ قلوب أصحاب الحق بالثقة والطمأنينة واليقين، وأن يعلق قلوبهم وأبصارهم بالقدرة القاهرة والقدر النافذ، وبالسلطان الحق الأصيل في هذا(1/122)
الوجود، وأن يطلق وجدانهم من التعلق بما يريده أولا يريده الشياطين! وأن يمضوا في طريقهم يبنون الحق في واقع الخلق، بعد بنائه في قلوبهم هم وفي حياتهم. أما عداوة الشياطين، وكيد الشياطين، فليدعوهما للمشيئة المحيطة والقدر النافذ. «وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ. فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ» ... (1)
فالعداء بين الإنسان والشيطان عداء بعيد الجذور، يعود تاريخه إلى اليوم الذي صور الله فيه آدم، قبل أن ينفخ فيه الروح، فأخذ الشيطان يطيف به، ففي صحيح مسلم عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لَمَّا صَوَّرَ اللهُ آدَمَ فِي الْجَنَّةِ تَرَكَهُ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَتْرُكَهُ، فَجَعَلَ إِبْلِيسُ يُطِيفُ بِهِ، يَنْظُرُ مَا هُوَ، فَلَمَّا رَآهُ أَجْوَفَ عَرَفَ أَنَّهُ خُلِقَ خَلْقًا لَا يَتَمَالَكُ» (2)
فلما نفخ الله في آدم الروح، وأمر الملائكة بالسجود لآدم، وكان إبليس يتعبد الله مع ملائكة السماء، فشمله الأمر، ولكنه تعاظم في نفسه واستكبر، وأبى السجود لآدم: {قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف: 12].
لقد سَأَلَ اللهُ تَعَالَى إِبْلِيسَ فَقَالَ لَهُ: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ بِالسُّجُودِ؟ فَرَدَّ عَلَى خَالِقِهِ قَائِلاً: إِنَّهُ خَيْرٌ مِنْ آدَمَ، لأَنَّهُ مَخْلُوقٌ مِنْ نَارٍ، وَآدَمُ مَخْلُوقٌ مِنْ طِينٍ، وَالنَّارُ أَفْضَلُ مِنَ الطِّينِ فِي رَأْيِ إِبْلِيسَ، لِذَلِكَ لَمْ يَسْجُدْ لآدَمَ، وَالأَفْضَلُ لاَ يَسْجُدُ لِلْمَفْضُولِ. (3)
لقد فتح أبونا آدم عينيه، فإذا به يجد أعظم تكريم، يجد الملائكة ساجدين له، ولكنّه يجد عدواً رهيباً يتهدده وذريته بالهلاك والإضلال.
__________
(1) - في ظلال القرآن للسيد قطب - ت- علي بن نايف الشحود (ص: 1621)
(2) - صحيح مسلم (4/ 2016) 111 - (2611)
[ش (يطيف به) قال أهل اللغة طاف بالشيء يطوف طوفا وطوافا وأطاف يطيف - إذا استدار حواليه (فلما رآه أجوف) الأجوف صاحب الجوف وقيل هو الذي داخله خال ومعنى لا يتمالك - لا يملك نفسه ويحبسها عن الشهوات وقيل لا يملك دفع الوسواس عنه وقيل لا يملك نفسه عند الغضب والمراد جنس بني آدم]
(3) - أيسر التفاسير لأسعد حومد (ص: 967، بترقيم الشاملة آليا)(1/123)
وطرد الله الشيطان من جنة الخلد بسبب استكباره، وحصل على وعد من الله بإبقائه حيّاً إلى يوم القيامة: {قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14) قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (15)} [الأعراف: 14، 15]
لقد اسْتَدْرَكَ إِبْلِيسُ، وَسَأَلَ رَبَّهُ أَنْ يُمْهِلَهُ وَلاَ يُمِيتَهُ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ، وَهُوَ اليَوْمَ الذِي سَيَبْعَثُ فِيهِ اللهُ الخَلائِقَ لِلْحِسَابِ. وَقَدْ أَرَادَ إِبْلِيسُ بِذَلِكَ أَنْ يَجِدَ فُسْحَةً مِنَ الوَقْتِ لإِغْوَاءِ بَنِي آدَمَ وَإِضْلاَلِهِمْ. فَأَجَابَهُ اللهُ تَعَالَى إلَى سُؤَالِهِ لِحِكْمَةٍ اقْتَضَتْهَا إِرَادَتُهُ وَمَشِيئَتُهُ التِي لاَ تُخَالَفُ وَلا تُعَارَضُ. وَقَدْ أَنْظَرَهُ اللهُ إلَى يَوْمِ الوَقْتِ المَعْلُومِ، يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ كَمَا جَاءَ فِي آيَةٍ أُخْرَى. (1)
وقد قطع اللعين على نفسه عهداً بإضلال بني آدم: {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17) قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (18)} [الأعراف: 16 - 18].
لَمَّا اسْتَوثَقَ إِبْلِيسُ مِنْ وَعْدِ اللهِ لَهُ بِإِبْقَائِهِ إِلى يَوْمِ الوَقْتِ المَعْلُومِ، أَخَذَ فِي المُعَانَدَةِ وَالتَّمَرُّدِ فَقَالَ لِرَبِّهِ: كَمَا أَغْوَيْتَنِي (فَبِمَا أَغْوَيتَنِي) وَأَضْلَلْتَنِي وَأَهْلَكْتَنِي فَإِنَّنِي سَأُحَاوِلُ فِتْنَةَ ذُرِّيَّةِ آدَمَ، وَسَأَعْتَرِضُ سَبِيلَهُمْ مُحَاوِلاً إِبْعَادَهُمْ عَنْ طَرِيقِ اللهِ المُسْتَقِيمِ، طَرِيقِ الحَقِّ وَالهُدَى، بِأَنْ أُزَيِّنَ لَهُمْ طُرُقاً أُخْرى حَتَّى يَضِلُّوا. ثُمَّ سَأُحَأوِلُ تَشْكِيكَهُمْ فِي آخِرَتِهِمْ (مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ) وَأُرَغِّبُهُمْ فِي دُنْيَاهُمْ (مِنْ خَلْفِهِمْ)، وَسَأُشَبِّهُ عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ (عَنْ أَيْمَانِهِمْ)، وَسَأُزَيِّنَ لَهُم المَعَاصِيَ، وَأُحَسِّنُها لَهُمْ (عَنْ شَمَائِلِهِمْ) وَسَأَفْتِنُهُمْ، مَا اسْتَطَعْتُ، حَتَّى لاَ تَجِدَ يَا رَبِّ بَيْنَ بَنِي آدَمَ كَثيراً مِنَ المُطِيعِينَ الشَّاكِرِينَ لأَنْعُمِكَ عَلَيْهِمْ. ثُمَّ أَكَّدَ اللهُ تَعَالَى لَعْنَتَهُ عَلَى إِبْلِيسَ وَطَرْدَهُ لَهُ، وَإِبْعَادَهُ عَنِ المَلأِ الأَعْلَى، وَهُوَ مَقِيتٌ مَعِيبٌ (مَذْؤُومٌ) مُقْصىً مُبْعَدٌ، وَقَالَ لَهُ مُهَدِّداً: إِنَّهُ وَمَنْ يَتَّبِعُهُ مِنْ بَنِي آدَمَ سَيَكُونُ مَصِيرُهُمْ جَهَنَّمَ، وَسَيَمْلَؤُهَا مِنْهُمْ جَمِيعاً. (2)
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد (ص: 969، بترقيم الشاملة آليا)
(2) - أيسر التفاسير لأسعد حومد (ص: 971، بترقيم الشاملة آليا)(1/124)
وقوله هذا يصور مدى الجهد الذي يبذله لإضلال بني آدم، فهو يأتيه من كل طريق، عن اليمين وعن الشمال، ومن الأمام ومن الخلف؛ أي من جميع الجهات، قال الزمخشري في تفسير هذه الآية: " ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ من الجهات الأربع التي يأتى منها العدوّ في الغالب. وهذا مثل لوسوسته إليهم وتسويله ما أمكنه وقدر عليه، كقوله تعالى: {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا} [الإسراء: 64] (1)
وعَنْ سَبْرَةَ بْنِ أَبِي فَاكِهٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: " إِنَّ الشَّيْطَانَ قَعَدَ لِابْنِ آدَمَ بِأَطْرُقِهِ فَقَعَدَ لَهُ بِطَرِيقِ الْإِسْلَامِ فَقَالَ: تُسْلِمُ وَتَذَرُ دِينَكَ وَدِينَ آبَائِكَ وَآبَاءِ أَبِيكَ، فَعَصَاهُ فَأَسْلَمَ، ثُمَّ قَعَدَ لَهُ بِطَرِيقِ الْهِجْرَةِ، فَقَالَ: تُهَاجِرُ وَتَذَرُ أَرْضَكَ وَسَمَاءَكَ، وَإِنَّمَا مَثَلُ الْمُهَاجِرِ كَمَثَلِ الْفَرَسِ فِي الطِّوَلِ فَعَصَاهُ فَهَاجَرَ، ثُمَّ قَعَدَ لَهُ بِطَرِيقِ الْجِهَادِ فَقَالَ: تُجَاهِدُ فَهُوَ جَهْدُ النَّفْسِ وَالْمَالِ فَتُقَاتِلُ فَتُقْتَلُ فَتُنْكَحُ الْمَرْأَةُ وَيُقْسَمُ الْمَالُ فَعَصَاهُ فَجَاهَدَ " فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ كَانَ حَقًّا عَلَى اللهِ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، وَمَنْ قُتِلَ كَانَ حَقًّا عَلَى اللهِ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، قَالَ: وَإِنْ غَرِقَ كَانَ حَقًّا عَلَى اللهِ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ أَوْ وَقَصَتْهُ دَابَّةٌ كَانَ حَقًّا عَلَى اللهِ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ " (2)
وعَنْ سَبْرَةَ بْنِ أَبِي فَاكِهٍ وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: إنَّ الشَّيْطَانَ قَعَدَ لاِبْنِ آدَمَ بِأَطْرُقِهِ فَقَعَدَ لَهُ بِطَرِيقِ الإِسْلاَمِ، فَقَالَ: تُسْلِمُ وَتَدَعُ دِينَك وَدِينَ آبَائِكَ؟ , ثُمَّ قَعَدَ لَهُ بِطَرِيقِ الْهِجْرَةِ، فَقَالَ: تُهَاجِرُ , وَتَدَعُ مَوْلِدَك فَتَكُونُ كَالْفَرَسِ فِي طِوَلِهِ , ثُمَّ قَعَدَ لَهُ بِطَرِيقِ الْجِهَادِ، فَقَالَ: تُجَاهِدُ، فَتُقْتَلُ، فَتَتَزَوَّجُ امْرَأَتُكَ، وَيُقْسَمُ ميراثك؟
__________
(1) - تفسير الكشاف -دار الكتاب العربي ـ بيروت (2/ 93)
(2) - السنن الكبرى للنسائي (4/ 283) (4327) صحيح
إن الشيطان قعد: قد جاء في لفظ الحديث، قال: «قعد الشيطان لابن آدم بأطرقه» يريد جمع طريق، والمعروف في جمع طريق: أطرقة، وهو جمع قلة، والكثرة: طرق، فأما «أطرق» في جمع طريق فلم أسمعه ولا رأيته، وأما أفعلة في جمع فعيل، فقد جاء كثيرا، قالوا: رغيف وأرغفة، وجريب وأجربة، وكثيب وأكثبة، وسرير وأسرة، فأما أفعل في جمع فعيل: فلم يجيء إلا فيما كان مؤنثا نحو: يمين وأيمن، فإن كان نظر في جمع طريق إلى جواز تأنيثها، فجمعها جمع المؤنث، فقال: طريق وأطرق، فيجوز، فإن الطريق يذكر ويؤنث، تقول: الطريق الأعظم، والطريق العظمى. =الطِّوَل: الحبلى. جامع الأصول في أحاديث الرسول ط مكتبة الحلواني الأولى (9/ 541)(1/125)
قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ ضَمِنَ اللَّهُ لَهُ الْجَنَّةَ إِنْ قُتِلَ، أَوْ مَاتَ غَرَقًا، أَوْ حَرْقًا، أَوْ أَكَلَهُ السَّبُعُ. (1)
ورد في الحديث الاستعاذة من تسلط الشيطان على الإنسان من جهاته كلها، فعن عَبْدِ اللهِ بْنَ عُمَرَ قالَ: لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَدَعُ هَؤُلاَءِ الدَّعَوَاتِ حِينَ يُصْبِحُ وَحِينَ يُمْسِي: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ فِي دِينِي وَدُنْيَايَ وَأَهْلِي وَمَالِي، اللَّهُمَّ اسْتُرْ عَوْرَاتِي، وَآمِنْ رَوْعَاتِي، اللَّهُمَّ احْفَظْنِي مِنْ بَيْنِ يَدَيَّ، وَمِنْ خَلْفِي، وَعَنْ يَمِينِي، وَعَنْ شِمَالِي، وَمِنْ فَوْقِي، وَأَعُوذُ بِعَظَمَتِكَ أَنْ أُغْتَالَ مِنْ تَحْتِي، قَالَ: يَعْنِي الْخَسْفَ. " (2)
وعن جُبَيْرَ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، أَنَّهُ كَانَ جَالِسًا مَعَ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ فِي دُعَائِهِ حِينَ يُمْسِي وَحِينَ يُصْبِحُ حَتَّى فَارَقَ الدُّنْيَا، أَوْ حَتَّى مَاتَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «اللَّهُمَّ إِنَّى أَسْأَلُكَ الْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، اللَّهُمَّ إِنَّى أَسْأَلُكَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ فِي دِينِي، وَدُنْيَايَ، وَأَهْلِي، وَمَالِي، اللَّهُمَّ اسْتُرْ عَوْرَاتِي، وَآمِنْ رَوْعَاتِي، اللَّهُمَّ احْفَظْنِي مِنْ بَيْنِ يَدَيَّ، وَمِنْ خَلْفِي، وَعَنْ يَمِينِي، وَعَنْ شِمَالِي، وَمِنْ فَوْقِي» وَأَعُوذُ بِعَظَمَتِكَ أَنْ أُغْتَالَ مِنْ تَحْتِي " قَالَ جُبَيْرٌ: هُوَ الْخَسْفُ. قَالَ عُبَادَةُ: فَلَا أَدْرِي قَوْلُ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَوْ قَوْلُ جُبَيْرٍ ". (3)
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَدْعُو: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْعَافِيَةَ فِي دِينِي وَأَهْلِي، وَاسْتُرْ عَوْرَتِي، وَآمِنْ رَوْعَتِي، وَاحْفَظْنِي مِنْ بَيْنَ يَدَيَّ، وَمِنْ خَلْفِي، وَعَنْ يَمِينِي، وَعَنْ يَسَارِي، وَمِنْ فَوْقِي، وَأَعُوذُ بِكَ أَنْ أُغْتَالَ مِنْ تَحْتِي» (4)
__________
(1) - مصنف ابن أبي شيبة -طبعة الدار السلفية الهندية (5/ 293) (19675) صحيح
(2) - مسند أحمد (عالم الكتب) (2/ 279) (4785) صحيح
قال السندي: قوله: "وآمن روعاتي " أصله: آمني من روعاتي، أي: مخاوفي ومهالكي، كما في قوله تعالى: (وآمنهم من خوف). =احفظني من بين يديَّ: أي: ادفع عني البلاء من الجهات الست، فإن ما يصل الإنسان يصله من إحداها، وبالغ في جهة السفل لرداءة الآفة منها. =والاغتيال: الأخذ غيلة، واغتال: مبني للمفعول من المتكلم، والله تعالى أعلم.
(3) - الدعوات الكبير (1/ 90) (32) صحيح
(4) - الأدب المفرد مخرجا (ص: 243) (698) صحيح لغيره(1/126)
وقد أطال القرآن في تحذيرنا من الشيطان لعظم فتنته، ومهارته في الإضلال، ودأبه وحرصه على ذلك: {يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 27].
يُحَذِّرُ اللهُ تَعَالَى المُؤْمِنِينَ مِنْ إِبْلِيسَ وَجَمَاعَتِهِ (قَبِيلِهِ)، وَيُذَكِّرُهُمْ بِعَدَاوَتِهِ القَدِيمَةِ لآدَمَ وَزَوْجِهِ، حِينَمَا سَعَى فِي إِخْرَاجِهِمَا مِنَ الجَنَّةِ، دَارِ السَّعَادَةِ وَالهَنَاءِ، إلَى الأَرْضِ دَارِ الشَّقَاءِ، وَتَسَبَّبَ فِي هَتْكِ سِتْرِهِمَا، وَكَشْفِ عَوْرَاتِهِمَا، بَعْدَ أَنْ كَانَتْ مَسْتُورَةً عَنْهُمَا، وَلِذَلِكَ فَإنَّ بَنِي آدَمَ عَلَيْهِمْ ألاَّ يُمَكِّنُوا إِبْلِيسَ مِنْ خِدَاعِهِمْ، وَإِيقَاعِهِمْ فِي المَعَاصِي بِوَسْوَسَتِهِ، فَإِبْلِيسُ يَرَى البَشَرَ فِي حِينِ أَنَّهُمْ لاَ يَرَوْنَهُ هُمْ. وَالشَّيَاطِينُ هُمْ أَوْلِيَاءُ وَأَخِلاَّءُ وَأَصْحَابٌ لِلْكُفَّارِ الذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ مِنَ الإِنْسِ، لاسْتِعْدَادِهِمْ لِتَقَبُّلِ وَسْوَسَةِ الشَّيَاطِينِ وَإِغْوَائِهِمْ. أَمَّا المُؤْمِنُونَ المُخْلِصُونَ فَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيْسَ لَهُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ. (1)
وقال تعالى: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر: 6]
قال الطبري: " يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: {إِنَّ الشَّيْطَانَ} [الأعراف: 22] الَّذِي نَهَيْتُكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ أَنْ تَغْتَرُّوا بِغُرُورِهِ إِيَّاكُمْ بِاللَّهِ {لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا} [فاطر: 6] يَقُولُ: فَأَنْزِلُوهُ مِنْ أَنْفُسِكُمْ مَنْزِلَ الْعَدُوِّ مِنْكُمْ، وَاحْذَرُوهُ بِطَاعَةِ اللَّهِ وَاسْتِغْشَاشِكُمْ إِيَّاهُ، حَذَّرَكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمُ الَّذِي تَخَافُونَ غَائِلَتَهُ عَلَى أَنْفُسِكُمْ، فَلَا تُطِيعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِهِ، فَإِنَّهُ إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ، يَعْنِي شِيعَتَهُ، وَمَنْ أَطَاعَهُ إِلَى طَاعَتِهِ وَالْقُبُولِ مِنْهُ، وَالْكُفْرِ بِاللَّهِ {لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر: 6] يَقُولُ: لِيَكُونُوا مِنَ الْمُخَلَّدِينِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ الَّتِي تَتَوَقَّدُ عَلَى أَهْلِهَا" (2)
إن الشَّيطَانَ عَدُوٌّ لَكُمْ يَا أَيَّها النَّاسُ، وَهُوَ يُوَسْوِسُ لَكُمْ لِيُضِلَّكُمْ وَيَدْفَعَ بِكُمْ إِلى هَاوِيةِ الجَحِيمِ، فَاحْذَرُوا مِنْهُ وَكُونُوا أَنْتُمْ أَعْدَاءَهُ، وَخَالِفُوهُ وَكَذِّبُوهُ فِيما يَغُرَّكُمْ بِهِ، وَهُوَ يَدْعُو
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد (ص: 982، بترقيم الشاملة آليا)
(2) - تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (19/ 331)(1/127)
حِزْبَهُ وَأَوْليَاءَهُ وَشِيعَتَهُ، إِلى اتِّبَاعِ الهَوى، والرُّكُونِ إِلى اللذَّاتِ، وَالتَّسْوِيفِ بِالتَّوْبَةِ، لِيُضِلهُمْ وَيُلْقِيَهمْ فِي العَذَابِ الدَّائِمِ، فِي سَعيرِ جَهَنَّمَ. (1)
" والشيطان قد أعلن عداءه لكم وإصراره على عدائكم «فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا» لا تركنوا إليه، ولا تتخذوه ناصحا لكم، ولا تتبعوا خطاه، فالعدو لا يتبع خطى عدوه وهو يعقل! وهو لا يدعوكم إلى خير، ولا ينتهي بكم إلى نجاة: «إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ»! فهل من عاقل يجيب دعوة الداعي إلى عذاب السعير؟! إنها لمسة وجدانية صادقة. فحين يستحضر الإنسان صورة المعركة الخالدة بينه وبين عدوه الشيطان، فإنه يتحفز بكل قواه وبكل يقظته وبغريزة الدفاع عن النفس وحماية الذات. يتحفز لدفع الغواية والإغراء ويستيقظ لمداخل الشيطان إلى نفسه، ويتوجس من كل هاجسة، ويسرع ليعرضها على ميزان الله الذي أقامه له ليتبين، فلعلها خدعة مستترة من عدوه القديم! وهذه هي الحالة الوجدانية التي يريد القرآن أن ينشئها في الضمير. حالة التوفز والتحفز لدفع وسوسة الشيطان بالغواية كما يتوفز الإنسان ويتحفز لكل بادرة من عدوه وكل حركة خفية! حالة التعبئة الشعورية ضد الشر ودواعيه، وضد هواتفه المستسرة في النفس، وأسبابه الظاهرة للعيان. حالة الاستعداد الدائم للمعركة التي لا تهدأ لحظة ولا تضع أوزارها في هذه الأرض أبدا. " (2)
وقال تعالى: {إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا (117) لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (118) وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا (119) يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (120) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا (121)} [النساء: 117 - 121].
إنَّ الكَافِرِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثَاناً صَوَّرُوهَا، وَقَالُوا إِنَّهَا تُشْبِهُ المَلاَئِكَةَ التِي زَعَمُوا أَنَّها بَنَاتُ اللهِ، لِذَلِكَ عَبَدُوهَا، وَسَمّوهَا بِأَسْمَاءِ الإِنَاثِ (مِثْلِ اللاَّتِ وَالعُزَّى وَمَنَاةَ .. )
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد (ص: 3547، بترقيم الشاملة آليا)
(2) - في ظلال القرآن للسيد قطب - ت- علي بن نايف الشحود (ص: 3695)(1/128)
وَالذِي أَمَرَهُمْ بِذَلِكَ هُوَ الشَّيْطَانُ، وَهُوَ الذِي حَسَّنَ لَهُمْ ذَلِكَ، وَزَيَّنَهُ فِي أَعْيُنِهِمْ، فَكَانَتْ طَاعَتُهُمْ لَهُ عِبَادَةً. وَالشَّيْطَانُ الذِي أَضَلَّ هَؤُلاءِ الكُفَّارَ قَدْ طَرَدَهُ اللهُ مِنْ رَحْمَتِهِ، وَأَخْرَجَهُ مِنْ جِوَارِهِ (لَعَنَهُ).وَقَالَ الشَّيْطَانُ لِرَبِهِ: إِنَّهُ سَيَفْتِنُ عِبَادَ اللهِ، وَسَيَتَّخِذُ مِنْهُمْ نَصِيباً مُعَيّناً يَجْعَلُهُمْ مِنْ أَنْصَارِهِ وَأَتْبَاعِهِ.
وَيُتَابعُ الشَّيْطَانُ قَوْلَهُ للهِ: إنَّهُ سَيَعْمَلُ عَلَى إِضْلاَلِ عِبَادِ اللهِ عَنِ الحَقِّ، وَعَلَى صَرْفِهِمْ عَنِ الهُدَى، وَإنَّهُ سَيُزَيِّنُ لَهُمُ الاسْتِعْجَالَ بِاللَّذَّاتِ الحَاضِرَةِ، وَالتَّسْوِيفَ بِالتَّوْبَةِ وَالعَمَلِ الصَّالِحِ، وَسَيَعِدُهُمُ الأمَانِيَ، وَإنَّهُ سَيَأمُرهُمْ بِتَشْقِيقِ آذَانِ البَهَائِمِ السَّائِمَةِ، وَجَعْلِهَا سِمَةً وَعَلاَمَةً لِلبَحيَرةِ وَالسَّائِبَةِ وَالوَصِيلَةِ، وَسَيأمُرُهُمْ بِتَغْييرِ خَلْقِ اللهِ مِنَ النَّاحِيةِ المَادِيَّةِ كَخَصْيِ الدَّوَابِّ وَالوَشَم، وَمِنَ النَّاحِيةِ المَعْنَوِيَّةِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ بِتَغْييرِ الفِطْرَةِ الإِنْسَانِيَّةِ عَمَّا فُطِرَتْ عَلَيهِ مِنَ المَيْلِ إلى النَّظَرِ وَالاسْتِدْلاَلِ وَطَلَبِ الحَقِّ، وَتَرِبِيَتِها وَتَْويدِهَا عَلَى الأَبَاطِيلِ وَالرَّذَائِلِ وَالمُنْكَرَاتِ، فَاللهُ تَعَالَى قَدْ أَحْسَنَ كُلَّ شَيءٍ خَلَقَهُ، وَهَؤُلاءِ يُفْسِدُونَ مَا خَلَقَ اللهُ، وَيَطْمِسُونَ عُقُولَ النَّاسِ. وَمَنْ يَتَّخِذَ الشَّيْطَانَ وَلِياً لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ يَخْسَرِ الدُّنيا وَالآخِرَةِ وَتِلْكَ خَسَارَةٌ لاَ جَبْرَ لَهَا، وَلاَ اسْتِدْرَاكَ لِفائِتِهَا.
يُخَوِّفُ الشَّيْطَانُ النَّاسَ مِنَ الفَقْرِ إذَا هُمْ أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَيُوَسْوِسُ لَهُمْ بِأَنَّ أَمْوَالَهُمُ تَنْفَدُ أَوْ تَنْقُصُ، وَيُصْبحُونَ فُقَرَاءَ أَذِلاَّءَ، وَيَعِدُهُمْ بِالغِنَى وَالثَّرْوَةِ حِينَ يُغْرِيهِمْ بِلَعبِ القِمَارِ وَيُمَنِّيهِمْ بِأنَّهُمُ الفَائِزُونَ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَقَدْ كَذَبَ وَافْتَرَى فِي ذَلِكَ فَوُعُودُهُ بَاطِلَةٌ.
وَهَؤُلاءِ المُسْتَحْسِنُونَ لِمَا وَعَدَهُمْ بِهِ الشَّيْطَانُ، وَمَنَّاهُمْ بِهِ، سَيَكُونُ مَأْوَاهُمْ وَمَصِيرُهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ فِي جَهَنَّمَ، وَلَنْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفاً وَلاَ خَلاَصاً. (1)
" لقد كان العرب - في جاهليتهم - يزعمون أن الملائكة بنات اللّه. ثم يتخذون لهذه الملائكة تماثيل يسمونها أسماء الإناث: «اللَّاتَ. وَالْعُزَّى. وَمَناةَ» وأمثالها ثم يعبدون هذه الأصنام - بوصفها تماثيل لبنات اللّه - يتقربون بها إلى اللّه زلفى .. كان هذا على الأقل
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد (ص:610،بترقيم الشاملة آليا)(1/129)
في مبدأ الأمر .. ثم ينسون أصل الأسطورة، ويعبدون الأصنام ذاتها، بل يعبدون جنس الحجر، كما بينا ذلك في الجزء الرابع.
كذلك كان بعضهم يعبد الشيطان نصا .. قال الكلبي: كانت بنو مليح من خزاعة يعبدون الجن ..
على أن النص هنا أوسع مدلولا، فهم في شركهم كله إنما يدعون الشيطان، ويستمدون منه: هذا الشيطان صاحب القصة مع أبيهم آدم الذي لعنه اللّه، بسبب معصيته وعدائه للبشر. والذي بلغ من حقده بعد طرده ولعنته، أن يأخذ من اللّه - سبحانه - إذنا بأن يغوي من البشر كل من لا يلجأ إلى حمى اللّه: «إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِناثاً، وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطاناً مَرِيداً، لَعَنَهُ اللَّهُ وَقالَ: لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً» - عدوهم القديم - ويسوحونه ويستمدون منه هذا الضلال. ذلك الشيطان الذي لعنه اللّه. والذي صرح بنيته في إضلال فريق من أبناء آدم، وتمنيتهم بالأمنيات الكاذبة في طريق الغواية، من لذة كاذبة، وسعادة موهومة، ونجاة من الجزاء في نهاية المطاف! كما صرح بنيته في أن يدفع بهم إلى أفعال قبيحة، وشعائر سخيفة، من نسج الأساطير. كتمزيق آذان بعض الأنعام، ليصبح ركوبها بعد ذلك حراما، أو أكلها حراما - دون أن يحرمها اللّه - ومن تغيير خلق اللّه وفطرته بقطع بعض أجزاء الجسد أو تغيير شكلها في الحيوان أو الإنسان، كخصاء الرقيق، ووشم الجلود .. وما إليها من التغيير والتشويه الذي حرمه الإسلام.
وشعور الإنسان بأن الشيطان - عدوه القديم - هو الذي يأمر بهذا الشرك وتوابعه من الشعائر الوثنية، يثير في نفسه - على الأقل - الحذر من الفخ الذي نصبه العدو. وقد جعل الإسلام المعركة الرئيسية بين الإنسان والشيطان. ووجه قوى المؤمن كلها لكفاح الشيطان والشر الذي ينشئه في الأرض والوقوف تحت راية اللّه وحزبه، في مواجهة الشيطان وحزبه: وهي معركة دائمة لا تضع أوزارها. لأن الشيطان لا يمل هذه الحرب التي أعلنها منذ لعنه وطرده. والمؤمن لا يغفل عنها، ولا ينسحب منها. وهو يعلم أنه إما أن يكون وليا للّه، وإما أن يكون وليا للشيطان وليس هنالك وسط .. والشيطان يتمثل في(1/130)
نفسه وما يبثه في النفس من شهوات ونزوات ويتمثل في أتباعه من المشركين وأهل الشر عامة. والمسلم يكافحه في ذات نفسه، كما يكافحه في أتباعه .. معركة واحدة متصلة طوال الحياة.
ومن يجعل اللّه مولاه فهو ناج غانم. ومن يجعل الشيطان مولاه فهو خاسر هالك: «وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً» ..
ويصور السياق القرآني فعل الشيطان مع أوليائه، في مثل حالة الاستهواء. «يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ، وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً».إنها حالة استهواء معينة هي التي تنحرف بالفطرة البشرية عن الإيمان والتوحيد، إلى الكفر والشرك. ولولا هذا الاستهواء لمضت الفطرة في طريقها، ولكان الإيمان هو هادي الفطرة وحاديها. وإنها حالة استهواء معينة هي التي يزين فيها الشيطان للإنسان سوء عمله، فيراه حسنا! ويعده الكسب والسعادة في طريق المعصية، فيعدو معه في الطريق! ويمنيه النجاة من عاقبة ما يعمل فيطمئن ويمضي في طريقه إلى المهلكة! «وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً» ..
وحين يرتسم المشهد على هذا النحو، والعدو القديم يفتل الحبال، ويضع الفخ، ويستدرج الفريسة، لا تبقى إلا الجبلات الموكوسة المطموسة هي التي تظل سادرة لا تستيقظ، ولا تتلفت ولا تحاول أن تعرف إلى أي طريق تساق، وإلى أية هوة تستهوى! وبينما هذه اللمسة الموقظة تفعل فعلها في النفوس، وتصور حقيقة المعركة، وحقيقة الموقف، يجيء التعقيب ببيان العاقبة في نهاية المطاف: عاقبة من يستهويهم الشيطان، ويصدق عليهم ظنه، وينفذ فيهم ما صرح به من نيته الشريرة .. وعاقبة من يفلتون من حبالته، لأنهم آمنوا باللّه حقاً. والمؤمنون باللّه حقا في نجوة من هذا الشيطان لأنه - لعنة اللّه عليه - وهو يستأذن في إغواء الضالين، لم يؤذن له في المساس بعباد اللّه المخلصين. فهو إزاءهم ضعيف ضعيف كلما اشتدت قبضتهم على حبل اللّه المتين: «وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً. يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ، وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً. أُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ، وَلا يَجِدُونَ عَنْها مَحِيصاً. وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ(1/131)
جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ، خالِدِينَ فِيها أَبَداً، وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا، وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا؟» ..
فهي جهنم ولا محيص عنها لأولياء الشيطان .. وهي جنات الخلد لا خروج منها لأولياء اللّه .. وعد اللّه: «وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا»؟ والصدق المطلق في قول اللّه هنا يقابل الغرور الخادع، والأماني الكاذبة في قول الشيطان هناك! وشتان بين من يثق بوعد اللّه، ومن يثق بتغرير الشيطان! " (1)
وعداوة الشيطان لا تحول ولا تزول؛ لأنه يرى أن طرده ولعنه وإخراجه من الجنة كان بسبب أبينا آدم، فلا بدّ أن ينتقم من آدم وذريته من بعده: {قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا (62) قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا (63) وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (64) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا (65)} [الإسراء:62 - 65].
وَقَالَ إِبْلِيسُ لِلرَّبِّ الكَرِيمِ مُتَوَاقِحاً: أَلاَ تَرَى إلَى هَذا الَّذِي شَرَّفْتَهُ وَكَرَّمْتَهُ عَلَيَّ فَإِنْ أَخَرْتَنِي وَأَنْظَرْتَنِي إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ، لأُضِلَّنَّ ذُرِّيَّتَهُ، وَلأُسَيْطِرَنَّ عَلَيْهِمْ، وَلأَحْتَوِيَنَّهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ.
ولَمَّا سَأَلَ إِبْلِيسُ النَّظِرَةَ، قَالَ اللهُ تَعَالَى لَهُ: اذْهَبْ لِشَأْنِكَ الذِي اخْتَرْتَهُ، فَقَدْ أَنْظَرْتُكَ. ثُمَّ أَوْعَدَهُ وَمَنْ تَبِعَهُ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ، نَارَ جَهَنَّمَ، وَأَنَّهَا سَتَكُونُ جَزَاءً لَهُمْ، جَزَاءً وَافِياً كَافِياً لاَ يَنْقُصُ لَهُمْ مِنْهُ شَيءٌ. (جَزَاءً مَوْفُوراً).وَقَالَ اللهُ تَعَالَى لإِبْلِيسَ: وَادْعُ مِنْهُمْ مَنِ اسْتَطَعْتَ إِلَى مَعْصِيَةِ اللهِ، وَاسْتَخِفَّهُ وَأَزْعِجْهُ (اسْتَفْزِزْ) وَاحْمِلْ عَلَيْهِمْ بِجُنُودِكَ: خَيَّالَتِهِمْ وَرَجَّالَتِهِمْ (بِخَيْلِكِ وَرَجِلِكِ)،وَحَاوِلْ إِغْوَاءَهُمْ بِكُلِّ مَا اسْتَطَعْتَ، وَادْعُهْمِ إِلَى كَسْبِ أَمْوَالِهِمْ مِنْ غَيْرِ السَّبِيلِ المَشْرُوعِ، وَإِنْفَاقِهَا فِي غَيْرِ الطُّرُقِ التِي أَبَاحَهَا اللهُ، وَاحْمِلُهُمْ عَلَى عِصْيَانِ اللهِ فِي أَوْلاَدِهِمْ بِتَسْمِيَّتِهِمْ بِمَا يَكْرَهُ اللهُ (كَعَبْدِ اللاَّتِ وَعَبْدِ العِزَّى)،وَبِالزِّنَى
__________
(1) - في ظلال القرآن للسيد قطب - ت- علي بن نايف الشحود (ص:1123)(1/132)
بِأُمْهَاتِهِمْ، أَوْ بِإِدْخَالِهِمْ فِي غَيْرِ دِينِ اللهِ، (وَهذَا كُلُّهُ مُشَارَكَةٌ مِنْ إِبْلِيسَ فِي الأَوْلاَدِ)،وَعِدْهُمْ بِاطِلاً بِالنُّصْرَةِ وَالعَوْنِ ... فَإِنَّكَ فِي كُلِّ ذَلِكَ لَنْ تُضِلَّ غَيْرَ الضَّالِّينَ، وَهؤُلاَءِ الضَّالُّونَ هُمْ وَحْدَهُمُ الَّذِينَ تَسْتَطِيعُ إِغْوَاءَهُمْ. ثُمَّ يَقُولُ تَعَالَى: إِنَّ الشَّيْطَانَ لاَ يَعِدُ أَوْلِيَاءَهُ إِلاَّ كَذِباً وَبَاطِلاً وَغُرُوراً، لأَنَّهُ لاَ يُغْنِي عَنْهُمْ شَيْئاً مِنْ عِقَابِ اللهِ إِذَا نَزَلَ بِهِمْ.
وَيَقُولُ تَعَالَى لإِبْلِيسَ: أَمَّا عِبَادِي الَّذِينَ أَطَاعُونِي فَاتَّبَعُوا أَمْرِي وَعَصَوْكَ، فَلَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ، وَلِذَلِكَ فَإِنَّكَ لاَ تَسْتَطِيعُ إِضْلاَلَهُمْ وِلاَ إِغْوَاءَهُمْ، فَهُمْ فِي حِفْظِي، وَحِرَاسَتِي، وَرِعَايَتِي، وَكَفَى بِاللهِ حَافِظاً وَمُؤَيِّداً وَنَصِيراً. (1)
" إن السياق يكشف عن الأسباب الأصيلة لضلال الضالين، فيعرض هذا المشهد هنا، ليحذر الناس وهم يطلعون على أسباب الغواية، ويرون إبليس عدوهم وعدو أبيهم يتهددهم بها، عن إصرار سابق قديم! «وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ: اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قالَ: أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً؟» إنه حسد إبليس لآدم يجعله يذكر الطين ويغفل نفخة اللّه في هذا الطين! ويعرض إبليس بضعف هذا المخلوق واستعداده للغواية، فيقول في تبجح: «أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ؟» أترى هذا المخلوق الذي جعلته أكرم مني عندك؟
«لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا» .. فلأستولين عليهم وأحتويهم وأملك زمامهم وأجعلهم في قبضة يدي أصرف أمرهم.
ويغفل إبليس عن استعداد الإنسان للخير والهداية استعداده للشر والغواية. عن حالته التي يكون فيها متصلا باللّه فيرتفع ويسمو ويعتصم من الشر والغواية، ويغفل عن أن هذه هي مزية هذا المخلوق التي ترفعه على ذوي الطبيعة المفردة التي لا تعرف إلا طريقا واحدا تسلكه بلا إرادة. فالإرادة هي سر هذا المخلوق العجيب.
وتشاء إرادة اللّه أن يطلق لرسول الشر والغواية الزمام، يحاول محاولته مع بني الإنسان: «قالَ: اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً» .. اذهب فحاول محاولتك. اذهب مأذونا في إغوائهم. فهم مزودون بالعقل والإرادة، يملكون أن
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد (ص:2092،بترقيم الشاملة آليا)(1/133)
يتبعوك أو يعرضوا عنك «فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ» مغلبا جانب الغواية في نفسه على جانب الهداية، معرضا عن نداء الرحمن إلى نداء الشيطان، غافلا عن آيات اللّه في الكون، وآيات اللّه المصاحبة للرسالات، «فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ» أنت وتابعوك «جَزاءً مَوْفُوراً».
«وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ».
وهو تجسيم لوسائل الغواية والإحاطة، والاستيلاء على القلوب والمشاعر والعقول. فهي المعركة الصاخبة، تستخدم فيها الأصوات والخيل والرجل على طريقة المعارك والمبارزات. يرسل فيها الصوت فيزعج الخصوم ويخرجهم من مراكزهم الحصينة، أو يستدرجهم للفخ المنصوب والمكيدة المدبرة. فإذا استدرجوا إلى العراء أخذتهم الخيل، وأحاطت بهم الرجال! «وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ» ..
وهذه الشركة تتمثل في أوهام الوثنية الجاهلية، إذ كانوا يجعلون في أموالهم نصيبا للآلهة المدعاة - فهي للشيطان - وفي أولادهم نذورا للآلهة أو عبيدا لها - فهي للشيطان - كعبد اللات وعبد مناة. وأحيانا كانوا يجعلونها للشيطان رأسا كعبد الحارث! كما تتمثل في كل مال يجبى من حرام، أو يتصرف فيه بغير حق، أو ينفق في إثم. وفي كل ولد يجيء من حرام. ففيه شركة للشيطان.
والتعبير يصور في عمومه شركة تقوم بين إبليس وأتباعه تشمل الأموال والأولاد وهما قوام الحياة! وإبليس مأذون في أن يستخدم وسائله كلها، ومنها الوعود المغرية الخادعة: «وَعِدْهُمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً» كالوعد بالإفلات من العقوبة والقصاص. والوعد بالغنى من الأسباب الحرام. والوعد بالغلبة والفوز بالوسائل القذرة والأساليب الخسيسة ...
ولعل أشد الوعود إغراء الوعد بالعفو والمغفرة بعد الذنب والخطيئة وهي الثغرة التي يدخل منها الشيطان على كثير من القلوب التي يعز عليه غزوها من ناحية المجاهرة بالمعصية والمكابرة. فيتلطف حينئذ إلى تلك النفوس المتحرجة، ويزين لها الخطيئة وهو يلوح لها بسعة الرحمة الإلهية وشمول العفو والمغفرة! اذهب مأذونا في إغواء من يجنحون(1/134)
إليك. ولكن هنالك من لا سلطان لك عليهم، لأنهم مزودون بحصانة تمنعهم منك ومن خيلك ورجلك! «إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ. وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلًا» ..
فمتى اتصل القلب باللّه، واتجه إليه بالعبادة. متى ارتبط بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها. متى أيقظ في روحه النفخة العلوية فأشرقت وأنارت .. فلا سلطان حينئذ للشيطان على ذلك القلب الموصول باللّه، وهذا الروح المشرق بنور الإيمان .. «وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلًا» يعصم وينصر ويبطل كيد الشيطان. وانطلق الشيطان ينفذ وعيده، ويستذل عبيده، ولكنه لا يجرؤ على عباد الرحمن، فما له عليهم من سلطان." (1)
فإبليس بما معه من كيد ومكر، هو مدحور مخذول أمام الإرادة الصادقة، والعزم الوثيق، فهو أضعف من الإنسان، الذي يعرف قدر إنسانيته، ويحترم وجوده كإنسان كرّمه الله، ورفع بين العالمين قدره .. والله سبحانه وتعالى يقول بعد هذا: «وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ، وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلًا» (70:الإسراء):ويقول عن الشيطان: «إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً» (76:النساء).فليعلن الشيطان الحرب على أبناء آدم، وليأت بكل ما معه من عدد وعدّة .. وليجلب بخيله ورجله، وليشاركهم فى أموالهم وأولادهم، وذلك بما يفسد عليهم من أموال وبنين .. ثم إذا لم يجد فى ذلك ما يمكنه منهم، فليأتهم متلطفا، متودّدا، بعد أن جاءهم مهددا، متوعدا، مفسدا .. وليمدّ لهم فى حبل الأمانىّ، وليكثر لهم من الوعود المعسولة الكاذبة .. فذلك كلّه لن يبلّغه شيئا من أبناء آدم الذين جعلهم الله من أهل طاعته، وأرادهم لجنته، كما يقول سبحانه وتعالى: «إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ» فهؤلاء هم أبناء آدم، ليس لإبليس سلطان عليهم، إلا من كان من أهل الشّقوة والضلال .. فهؤلاء- بما سبق فيهم من قضاء الله- هم مستجيبون للشيطان موالون له ..
إذ كانت أهواؤهم متفقة مع هواه، ووجهتهم قائمة على وجهته .. إنهم، وهو، من أهل الشقاء والبلاء.
__________
(1) - في ظلال القرآن للسيد قطب - ت- علي بن نايف الشحود (ص:2910)(1/135)
وفى قوله تعالى: «وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً» تحذير من الشيطان، وأمانيه ومغرياته التي يمنّى بها الناس، ويغريهم بها، فما هى إلا ضلال فى ضلال، وأباطيل لا تجىء إلا بالأباطيل! وتحذير الناس من الشيطان ومغرياته، وإن كان لا يردّ شيئا مما قضى به الله فى عباده، فإنه تحذير من الشر، وترغيب فى الخير .. وعلى التحذير والترغيب يعتدل ميزان الناس، حيث يجدون القانون الذي يحتكمون إليه .. وهنا يصحّ الابتلاء، ويقع الاختبار .. فمن كان من أهل السعادة، اهتدى بهدى الله، وعمل بأوامره، واجتنب نواهيه، ومن كان من أهل الشقاء، أخذ طريقه مع الشيطان، فضلّ بضلاله، وغوى بغوايته .. وكل ميسّر لما خلق له ..
قوله تعالى «إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلًا».
فعباد الله، هم أولئك الذين سبقت لهم من الله الحسنى، وهؤلاء لا سبيل للشيطان إليهم، إنهم فى عصمة منه بهذا القضاء الأزلىّ من الله فيهم .. وهو قضاء خفىّ لا يعلمه أحد، ولا يدرى مخلوق إن كان من أهل السعادة أو أهل الشقاء .. ومن هنا كان السعى والعمل، والتسابق إلى الإحسان- من مطلوبات الناس، ومن مبتغياتهم .. لأن الإحسان هو الأمارة الدالة على الفوز والنجاة. فمن كان من أهل السعادة، عمل عمل المحسنين، ومن كان من أهل الشقاء عمل عمل المسيئين .. وفى الحديث عَنْ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ " إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ يَكُونُ فِي ذَلِكَ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَكُونُ فِي ذَلِكَ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يُرْسَلُ الْمَلَكُ فَيَنْفُخُ فِيهِ الرُّوحَ، وَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ: بِكَتْبِ رِزْقِهِ، وَأَجَلِهِ، وَعَمَلِهِ، وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ، فَوَالَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ إِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلَّا ذِرَاعٌ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ، فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ، فَيَدْخُلُهَا، وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ، حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلَّا ذِرَاعٌ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ، فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَيَدْخُلُهَا " (1)
__________
(1) - صحيح البخاري (9/ 135) (7454) وصحيح مسلم (4/ 2036) 1 - (2643)
[ش (الصادق المصدوق) معناه الصادق في قوله المصدوق فيما يأتيه من الوحي الكريم (ذراع) المراد بالذراع التمثيل للقرب من موته ودخوله عقبه وإن تلك الدار ما بقي بينه وبين أن يصلها إلا كمن بقي بينه وبين موضع من الأرض ذراع والمراد بهذا الحديث أن هذا قد يقع في نادر من الناس لا أنه غالب فيهم ثم إنه من لطف الله تعالى وسعة رحمته انقلاب الناس من الشر إلى الخير في كثرة وأما انقلابهم من الخير إلى الشر ففي غاية الندور ونهاية القلة](1/136)
وهكذا نحن فى الحياة .. طلاب العلم مثلا:
العاقلون المجدّون منهم، هم على طريق النجاح عند الامتحان، والمهملون الغافلون، هم على طريق الإخفاق ..
وقد يجدّ للعامل المجدّ ما يصرفه عن العمل والجدّ، فيخفق، ويجدّ للكسول المهمل ما يدفعه إلى الجدّ والتحصيل، فينجح. وكل سائر إلى القدر المقدور له .. ولكن سنّة الله قائمة فى الناس: أن لا ثمرة بغير عمل، ولا حصاد إلا بعد زرع!
وفى قوله تعالى: «وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلًا» .. فى هذا ما يسأل عنه، وهو: كيف يخاطب إبليس بهذا الخطاب الذي يشعر بالقرب: «كَفى بِرَبِّكَ»؟
والجواب على هذا،- والله أعلم- أن هذا الخطاب ليس لإبليس، وإنما هو التفات إلى الإنسان، الذي هو داخل فى عموم قوله تعالى: «إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ» وكأنهم بمشهد من هذا الخطاب .. ثم إنه بدلا من أن يجىء النظم بصيغة الجمع هكذا: «وكفى بربكم» جاء النظم القرآنى بصيغة المفرد «وَكَفى بِرَبِّكَ» .. وذلك لينظر كل إنسان إلى خاصة نفسه، وليعمل ما وسعه العمل على أن يتوقّى هذا الشيطان المترصد له، والمتربص به، وليكن مما يستعين به على ذلك أن يتوكل على الله، وأن يستعين به، وليجعل فى يقينه أنه من عباد الله، الذين لا سلطان للشيطان عليهم ..
ويجوز أن يكون الخطاب للشيطان، قهرا له: وإلزاما له بسلطان الربوبية، الذي خرج بكفره عن سلطانه .. وأنه مقهور مخذول، ليس له على عباد الله سلطان، وهو سبحانه وتعالى وكيلهم الذي يدفع عنهم كيده. (1)
وكثير من أرباب السلوك اعتنوا بذكر النفس وعيوبها وآفاتها، ولكنهم قصّروا في التعرف على عدوهم اللدود.
__________
(1) - التفسير القرآني للقرآن (8/ 519)(1/137)
المبحث الحادي عشر
أهداف الشيطان في إغواء الإنسان
أولا- الهدف البعيد
هناك هدف وحيد يسعى الشيطان لتحقيقه في نهاية الأمر، هو أن يلقي الإنسان في الجحيم، ويحرمه من الجنّة، {إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر:6].فهذا غايته ومقصوده ممن تبعه، أن يهان غاية الإهانة بالعذاب الشديد. (1)
ثانيا- الأهداف القريبة:
ذلك هو هدف الشيطان البعيد، أما أهدافه القريبة فإنها كثيرة منها:
1 - إيقاع العباد في الشرك والكفر:
فَالْأولى مرتبَة الْكفْر والشرك ومعاداة الله تَعَالَى وَرَسُوله فَإِذا ظفر بذلك من ابْن آدم برد أنينه واستراح من تَعبه مَعَه هَذَا أول مَا يُريدهُ من العَبْد (2)
فهو يدعوتهم إلى عبادة غير الله، والكفر بالله وبشريعته: {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الحشر:16].
وَمَثَلُ هَؤُلاَءِ المُنَافِقِينَ الذِينَ وَعَدُوا اليَهُودَ بِالنُّصْرَةِ إِنْ قُوتِلُوا وَبِالخُرُوجِ مَعَهُمْ إِنْ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ، كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ الذِي غَرَّ الإِنْسَانَ، وَوَعَدَهُ بِالنَّصْرِ عِنْدَ الحَاجَةِ إِلَيهِ، إِذَا أَطَاعَهُ وَكَفَرَ بِاللهِ، فَلَمَّا احْتَاجَ الإِنْسَانُ إِليهِ، وَطَلَبَ مِنْهُ النُّصْرَةَ، تَبَرَّأَ الشَّيْطَانُ مِنْهُ، وَخَذَلَهُ وَتَرَكَهُ لِمَصْيرِهِ، وَقَالَ لَهُ: إِنِّي أَخَافُ اللهَ إِنْ نَصْرْتُكَ أَنْ يُشْرِكَنِي رَبُّ العَالَمِينَ مَعَكَ فِي العَذَابِ. (3)
__________
(1) - تفسير السعدي = تيسير الكريم الرحمن (ص:685)
(2) - آكام المرجان في أحكام الجان (ص:225)
(3) - أيسر التفاسير لأسعد حومد (ص:5020،بترقيم الشاملة آليا)(1/138)
أي أن مثل المنافقين مع إخوانهم هؤلاء من اليهود، كمثل الشيطان، الذي يدعو الإنسان إلى الكفر، فيستجيب له، ويتقبل دعوته، ويأخذ بنصيحته، حتى إذا كفر هذا الإنسان، ولبس الكفر ظاهرا وباطنا، وأحاطت به خطيئته، وحلّت به النقمة- تركه الشيطان لمصيره، ونفض يديه منه، وتبرأ من الجناية التي جناها عليه، وتنكر له، بل ورماه بالجهل والغفلة، ليزيد فى آلامه وحسرته، وقال له: «إنى أخاف الله رب العالمين» .. وبهذا يريه أنه قد أضله، وخدعه، وصرفه عن الله، وعن الخوف منه، على حين أنه هو لم يصرف عن الله، وعن خشيته والخوف منه .. !!
والسؤال هنا: ماذا يريد الشيطان بقوله: «إنى أخاف الله رب العالمين»؟
وهل هو صادق فيما يقول؟ وإذا كان صادقا فكيف يتفق هذا مع دعوة غيره إلى الكفر بالله والمحادة لله؟
والجواب على هذا- والله أعلم- أن الشيطان يعلم ما لله سبحانه وتعالى من جلال وقدرة، وأنه على خوف من جلال الله وقدرته، ولكنه- وقد غلبت عليه شقوته، وأعماه حسده لأبناء آدم وعداوته لهم- ذهل عن هذا، فى سبيل الانتقام لنفسه، وما يحمل للإنسان من عداوة وحسد، لما كان من تكريم الله لآدم، وأمر الملائكة بالسجود له، واستعلاء إبليس واستكباره عن أن يكون من الساجدين، فلعنه الله وطرده من عالم الملائكة .. فخرج بهذه اللعنة، وهو على عزيمة بأن ينتقم من آدم ومن ذريته، ولو كان فى ذلك هلاكه!! وكم من الناس من يعلم الحق ويأخذ نفسه بخلافه، ويعرف الطريق القويم، ويسلك المعوج؟.وهل كان موقف المشركين من النبي إلا عن حسد وكبر واستعلاء؟ إنهم كانوا يعرفون صدق النبي، ومع هذا فقد بهتوه، وكذبوه، وأبوا أن يقبلوا هذا النور الذي بين يديه، وآثروا أن يعيشوا بما هم فيه من عمى وضلال .. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ». (33:الأنعام) وفى هذا التشبيه، يمثل المنافقون دور الشيطان، فهم يعرفون طريق الحق ويتجنبونه، وهم يزينون الشر لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب، ويدعونهم إلى المحادة لله ولرسوله، ويشدون ظهرهم فى كيدهم للنبى وخلافهم(1/139)
له .. حتى إذا وقعت الواقعة بهم، نظر إليهم هؤلاء المنافقون نظر الشيطان إلى صاحبه الذي استجاب له، وأروهم أنهم لا يستطيعون أن يخفّوا إلى نجدتهم، وأنهم يخافون النبي والمسلمين، كما يخاف الشيطان الله رب العالمين .. وهنا نذكر قول الله للمؤمنين عن المنافقين: «لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ».
ففى هذا التشبيه ثلاثة أطراف .. الشيطان، والإنسان الذي أضله الشيطان، والله، الذي يخافه الشيطان ..
وفى مقابل هذه الأطراف: المنافقون، وإخوانهم اليهود، والنبي وأصحابه الذين يخافهم المنافقون ..
قوله تعالى: «فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ» .. تلك هى عاقبة الشيطان وصاحبه .. لقد هلك الشيطان، وهلك معه من استجاب له .. وتلك هى عاقبة المنافقين، وإخوانهم من اليهود .. إنهم جميعا إلى النار خالدين فيها .. وذلك جزاء الظالمين .. لا جزاء لهم إلا جهنم وبئس المصير .. (1)
وصورة الشيطان هنا ودوره مع من يستجيب له من بني الإنسان، تتفقان مع طبيعته ومهمته. فأعجب العجب أن يستمع إليه الإنسان. وحاله هو هذا الحال! وهي حقيقة دائمة ينتقل السياق القرآني إليها من تلك الواقعة العارضة. فيربط بين الحادث المفرد والحقيقة الكلية، في مجال حي من الواقع ولا ينعزل بالحقائق المجردة في الذهن. فالحقائق المجردة الباردة لا تؤثر في المشاعر، ولا تستجيش القلوب للاستجابة. وهذا فرق ما بين منهج القرآن في خطاب القلوب، ومنهج الفلاسفة والدارسين والباحثين! (2)
وعَنْ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ الْمُجَاشِعِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -،قَالَ ذَاتَ يَوْمٍ فِي خُطْبَتِهِ:" أَلَا إِنَّ رَبِّي أَمَرَنِي أَنْ أُعَلِّمَكُمْ مَا جَهِلْتُمْ، مِمَّا عَلَّمَنِي يَوْمِي هَذَا، كُلُّ مَالٍ نَحَلْتُهُ عَبْدًا حَلَالٌ، وَإِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ، وَإِنَّهُمْ أَتَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ فَاجْتَالَتْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ، وَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أَحْلَلْتُ لَهُمْ، وَأَمَرَتْهُمْ أَنْ يُشْرِكُوا بِي مَا لَمْ أُنْزِلْ بِهِ
__________
(1) - التفسير القرآني للقرآن (14/ 874)
(2) - في ظلال القرآن للسيد قطب - ت- علي بن نايف الشحود (ص:4397)(1/140)
سُلْطَانًا، وَإِنَّ اللهَ نَظَرَ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ، فَمَقَتَهُمْ عَرَبَهُمْ وَعَجَمَهُمْ، إِلَّا بَقَايَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَقَالَ: إِنَّمَا بَعَثْتُكَ لِأَبْتَلِيَكَ وَأَبْتَلِيَ بِكَ، وَأَنْزَلْتُ عَلَيْكَ كِتَابًا لَا يَغْسِلُهُ الْمَاءُ، تَقْرَؤُهُ نَائِمًا وَيَقْظَانَ، وَإِنَّ اللهَ أَمَرَنِي أَنْ أُحَرِّقَ قُرَيْشًا، فَقُلْتُ: رَبِّ إِذًا يَثْلَغُوا رَأْسِي فَيَدَعُوهُ خُبْزَةً، قَالَ: اسْتَخْرِجْهُمْ كَمَا اسْتَخْرَجُوكَ، وَاغْزُهُمْ نُغْزِكَ، وَأَنْفِقْ فَسَنُنْفِقَ عَلَيْكَ، وَابْعَثْ جَيْشًا نَبْعَثْ خَمْسَةً مِثْلَهُ، وَقَاتِلْ بِمَنْ أَطَاعَكَ مَنْ عَصَاكَ، قَالَ: وَأَهْلُ الْجَنَّةِ ثَلَاثَةٌ ذُو سُلْطَانٍ مُقْسِطٌ مُتَصَدِّقٌ مُوَفَّقٌ، وَرَجُلٌ رَحِيمٌ رَقِيقُ الْقَلْبِ لِكُلِّ ذِي قُرْبَى وَمُسْلِمٍ، وَعَفِيفٌ مُتَعَفِّفٌ ذُو عِيَالٍ، قَالَ: وَأَهْلُ النَّارِ خَمْسَةٌ: الضَّعِيفُ الَّذِي لَا زَبْرَ لَهُ، الَّذِينَ هُمْ فِيكُمْ تَبَعًا لَا يَبْتَغُونَ أَهْلًا وَلَا مَالًا، وَالْخَائِنُ الَّذِي لَا يَخْفَى لَهُ طَمَعٌ، وَإِنْ دَقَّ إِلَّا خَانَهُ، وَرَجُلٌ لَا يُصْبِحُ وَلَا يُمْسِي إِلَّا وَهُوَ يُخَادِعُكَ عَنْ أَهْلِكَ وَمَالِكَ «وَذَكَرَ» الْبُخْلَ أَوِ الْكَذِبَ وَالشِّنْظِيرُ الْفَحَّاشُ " (1)
__________
(1) - صحيح مسلم (4/ 2197) 63 - (2865)
[ش (كل مال نحلته عبدا حلال) في الكلام حذف أي قال الله تعالى كل مال الخ ومعنى نحلته أعطيته أي كل مال أعطيته عبدا من عبادي فهو له حلال والمراد إنكار ما حرموا على أنفسهم من السائبة والوصيلة والبحيرة والحامي وغير ذلك وأنها لم تصر حراما بتحريمهم وكل مال ملكه العبد فهو له حلال حتى يتعلق به حق (حنفاء كلهم) أي مسلمين وقيل طاهرين من المعاصي وقيل مستقيمين منيبين لقبول الهداية (فاجتالتهم) هكذا هو في نسخ بلادنا فاجتالتهم وكذا نقله القاضي عن رواية الأكثرين أي استخفوهم فذهبوا بهم وأزالوهم عما كانوا عليه وجالوا معهم في الباطل وقال شمر اجتال الرجل الشيء ذهب به واجتال أموالهم ساقها وذهب بها (فمقتهم) المقت أشد البغض والمراد بهذا المقت والنظر ما قبل بعثة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (إلا بقايا من أهل الكتاب) المراد بهم الباقون على التمسك بدينهم الحق من غير تبديل (إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك) معناه لأمتحنك بما يظهر منك من قيامك بما أمرتك به من تبليغ الرسالة وغير ذلك من الجهاد في الله حق جهاده والصبر في الله تعالى وغير ذلك وأبتلي بك من أرسلتك إليهم فمنهم من يظهر إيمانه ويخلص في طاعته ومن يتخلف وينابذ بالعداوة والكفر ومن ينافق (كتابا لا يغسله الماء) معناه محفوظ في الصدور لا يتطرق إليه الذهاب بل يبقى على ممر الزمان (إذا يثلغوا رأسي) أي يشدخوه ويشجوه كما يشدخ الخبز أي يكسر (نغزك) أي نعينك (لا زبر له) أي لا عقل له يزبره ويمنعه مما لا ينبغي وقيل هو الذي لا مال له وقيل الذي ليس عنده ما يعتمده (لا يتبعون) مخفف ومشدد من الاتباع أي يتبعون ويتبعون وفي بعض النسخ يبتغون أي يطلبون (والخائن الذي لا يخفى له طمع) معنى لا يخفى لا يظهر قال أهل اللغة يقال خفيت الشيء إذا أظهرته وأخفيته إذا سترته وكتمته هذا هو المشهور وقيل هما لغتان فيهما جميعا (وذكر البخل أو الكذب) هكذا هو في أكثر النسخ أو الكذب وفي بعضها والكذب والأول هو المشهور في نسخ بلادنا (الشنظير) فسره في الحديث بأنه الفحاش وهو السيئ الخلق](1/141)
وعَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ نَهِيكٍ، قَالَ: سَمِعْتُ عَلِيًّا، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ: إِنَّ رَاهِبًا تَعَبَّدَ سِتِّينَ سَنَةً، وَإِنَّ الشَّيْطَانَ أَرَادَهُ فَأَعْيَاهُ، فَعَمَدَ إِلَى امْرَأَةٍ فَأَجَنَّهَا، وَلَهَا إِخْوَةٌ، فَقَالَ لِإِخْوَتِهَا: عَلَيْكُمْ بِهَذَا الْقِسِّ فَيُدَاوِيهَا، فَجَاءُوا بِهَا، قَالَ: فَدَاوَاهَا، وَكَانَتْ عِنْدَهُ، فَبَيْنَمَا هُوَ يَوْمًا عِنْدَهَا إِذْ أَعْجَبَتْهُ، فَأَتَاهَا فَحَمَلَتْ، فَعَمَدَ إِلَيْهَا فَقَتَلَهَا، فَجَاءَ إِخْوَتُهَا، فَقَالَ الشَّيْطَانُ لِلرَّاهِبِ: أَنَا صَاحِبُكُ، إِنَّكَ أَعْيَيْتَنِي، أَنَا صَنَعْتُ بِكَ هَذَا فَأَطِعْنِي أُنْجِكَ مِمَّا صَنَعْتُ بِكَ، اسْجُدْ لِي سَجْدَةً، فَسَجَدَ لَهُ؛ فَلَمَّا سَجَدَ لَهُ قَالَ: إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ فَذَلِكَ قَوْلُهُ: {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الحشر:16] (1)
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، فِي هَذِهِ الْآيَةِ {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الحشر:16] قَالَ: كَانَتِ امْرَأَةٌ تَرْعَى الْغَنَمَ، وَكَانَ لَهَا أَرْبَعَةُ إِخْوَةٍ، وَكَانَتْ تَأْوِي بِاللَّيْلِ إِلَى صَوْمَعَةِ رَاهِبٍ، قَالَ: فَنَزَلَ الرَّاهِبُ فَفَجَرَ بِهَا، فَحَمَلَتْ، فَأَتَاهُ الشَّيْطَانُ، فَقَالَ لَهُ: اقْتُلْهَا ثُمَّ ادْفَعْهَا، فَإِنَّكَ رَجُلٌ مُصَدَّقٌ يُسْمَعُ كَلَامُكَ، فَقَتَلَهَا ثُمَّ دَفَنَهَا؛ قَالَ: فَأَتَى الشَّيْطَانُ إِخْوَتَهَا فِي الْمَنَامِ، فَقَالَ لَهُمْ: إِنَّ الرَّاهِبَ صَاحِبَ الصَّوْمَعَةِ فَجَرَ بِأُخْتِكُمْ؛ فَلَمَّا أَحْبَلَهَا قَتَلَهَا، ثُمَّ دَفَنَهَا فِي مَكَانِ كَذَا وَكَذَا، فَلَمَّا أَصْبَحُوا قَالَ رَجُلٌ مِنْهُمْ: وَاللَّهِ لَقَدْ رَأَيْتُ الْبَارِحَةَ رُؤْيَا وَمَا أَدْرِي أَقُصُّهَا عَلَيْكُمْ أَمْ أَتْرُكُ؟ قَالُوا: لَا، بَلْ قُصَّهَا عَلَيْنَا؛ قَالَ: فَقَصَّهَا، فَقَالَ الْآخَرُ: وَأَنَا وَاللَّهِ لَقَدْ رَأَيْتُ ذَلِكَ؛ قَالُوا: فَمَا هَذَا إِلَّا لِشَيْءٍ، فَانْطَلَقُوا فَاسْتَعْدَوْا مَلِكَهُمْ عَلَى ذَلِكَ الرَّاهِبِ، فَأَتَوْهُ فَأَنْزَلُوهُ، ثُمَّ انْطَلَقُوا بِهِ، فَلَقِيَهُ الشَّيْطَانُ فَقَالَ: إِنِّي أَنَا الَّذِي أَوْقَعْتُكَ فِي هَذَا وَلَنْ يُنْجِيَكِ مِنْهُ غَيْرِي فَاسْجُدْ لِي سَجْدَةً وَاحِدَةً وَأَنَا أُنْجِيكَ مِمَّا أَوْقَعْتُكَ فِيهِ؛ قَالَ: فَسَجَدَ لَهُ؛ فَلَمَّا أَتَوْا بِهِ مَلِكَهُمْ تَبَرَّأَ مِنْهُ، وَأَخَذَ فَقُتِلَ" (2)
__________
(1) - تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (22/ 541) حسن موقوف ومثله لا يقال بالرأي
(2) - تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (22/ 542) حسن لغيره
وَكَذَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَطَاوُسٍ، وَمُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ، نَحْوُ ذَلِكَ. وَاشْتُهِرَ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ أَنَّ هَذَا الْعَابِدَ هُوَ بَرْصِيصَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. تفسير ابن كثير ت سلامة (8/ 75 - 76)(1/142)
2 - إيقاعهم في الذنوب والمعاصي:
وَهِي الْكَبَائِر على اخْتِلَاف أَنْوَاعهَا فَإِذا عجز عَن ذَلِك انْتقل إِلَى الصَّغَائِر الَّتِي إِذا اجْتمعت رُبمَا أهلكت صَاحبهَا (1)،فعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: إِيَّاكُمْ وَمُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ، فَإِنَّهُنَّ يَجْتَمِعْنَ عَلَى الرَّجُلِ حَتَّى يُهْلِكْنَهُ وَإِنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ضَرَبَ لَهُنَّ مَثَلاً: كَمَثَلِ قَوْمٍ نَزَلُوا أَرْضَ فَلاَةٍ، فَحَضَرَ صَنِيعُ الْقَوْمِ، فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَنْطَلِقُ، فَيَجِيءُ بِالْعُودِ، وَالرَّجُلُ يَجِيءُ بِالْعُودِ، حَتَّى جَمَعُوا سَوَادًا، فَأَجَّجُوا نَارًا، وَأَنْضَجُوا مَا قَذَفُوا فِيهَا. (2)
وعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:" إِيَّاكُمْ وَمُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ، فَإِنَّمَا مَثَلُ مُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ كَمَثَلِ قَوْمٍ نَزَلُوا بِبَطْنِ وَادٍ، فَجَاءَ ذَا بِعُودٍ، وَجَاءَ ذَا بِعُودٍ، حَتَّى جَمَعُوا مَا أَنْضَجَ خُبْزَهُمْ، وَإِنَّ مُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ مَتَى يَأْخُذُهَا صَاحِبُهَا تُهْلِكُهُ " (3)
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ:" لَمَّا افْتَتَحَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - مَكَّةَ رَنَّ إِبْلِيسُ رَنَّةً اجْتَمَعَتْ إِلَيْهِ جُنُودُهُ، فَقَالَ: ايْئَسُوا أَنْ نُرِيدَ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ عَلَى الشِّرْكِ بَعْدَ يَوْمِكُمْ هَذَا، وَلَكِنِ افْتُنُوهُمْ فِي دِينِهِمْ، وَأَفْشُوا فِيهِمُ النَّوْحَ " (4)
__________
(1) - آكام المرجان في أحكام الجان (ص:226)
(2) - مسند أحمد (عالم الكتب) (2/ 72) (3818) فتح الباري شرح صحيح البخاري- ط دار المعرفة (11/ 329) صحيح لغيره
قال السندي: قوله: ومحقرات الذنوب: بفتح القاف المشددة، أي: صغائرها. يهلكنه: إما لأن اعتيادها يؤدي إلى ارتكاب الكبائر، من حام حول الحمى يوشِك أن يقع فيه، فيكون الهلاك بالكبائر التي تؤدي إليها الصغائر.=وإما لأن تكفير الصغائرِ عند اجتناب الكبائر جائز لا واجب، كما ذكر كثير من أهل العلم، وإن كان ظاهر القرآن يقتضي خلافه، فبين الحديث أنهن إذا كثرن يخاف عدم المغفرة. وإما لأن اعتيادها يؤدي إلى قِلةِ المبالاة بها، أو هو يوجب الهلاك. وإما لأن الإصرار على الصغيرة كبيرة، وهو محمل الحديث. والأقرب أن الحديث يدل على أن الإصرار على نوع الصغيرة أيضاً كبيرة، وإن لم يصر على صغيرة واحدة بعينها، وهذا هو ظاهر المثل المذكور. صنيع القوم: فسر في "النهاية" الصنيع بالطعام. مسند أحمد ط الرسالة (6/ 369)
(3) - شعب الإيمان (9/ 406) (6881) صحيح لغيره
(4) - المعجم الكبير للطبراني (12/ 11) (12318) ولأحاديث المختارة = المستخرج من الأحاديث المختارة مما لم يخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما (10/ 105) (101) حسن
قوله: (رن إبليس) أي: صاح: وا ويلاه! والرنة والرنين: المنكر يقال: رن فهو رانٌّ، وأرنّ فهو مرن.(1/143)
فالشيطان إذا لم يستطع إيقاعهم في الشرك والكفر، فإنه لا ييأس، ويرضى بما دون ذلك من إيقاعهم في الذنوب والمعاصي، وغرس العداوة والبغضاء في صفوفهم، فعَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ يَقُولُ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ - ثَلَاثَ مَرَّاتٍ - أَيُّ يَوْمٍ هَذَا؟» قَالُوا: يَوْمُ النَّحْرِ، يَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ، قَالَ: «فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ، وَأَمْوَالَكُمْ، وَأَعْرَاضَكُمْ، بَيْنَكُمْ حَرَامٌ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، أَلَا لَا يَجْنِي جَانٍ عَلَى وَلَدِهِ، وَلَا مَوْلُودٌ عَلَى وَالِدِهِ، أَلَا وَإِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ أَيِسَ أَنْ يُعْبَدَ فِي بَلَدِكُمْ هَذَا أَبَدًا، وَلَكِنْ سَيَكُونُ لَهُ طَاعَةٌ فِي بَعْضِ مَا تَحْتَقِرُونَ مِنْ أَعْمَالِكُمْ فَيَرْضَى، أَلَا وَإِنَّ كُلَّ رِبَا الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ، لَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ، لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ، أَلَا وَإِنَّ كُلَّ دَمٍ مِنْ دِمَاءِ الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ، وَأَوَّلُ مَا أَضَعُ مِنْهَا دَمُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ» كَانَ مُسْتَرْضَعًا فِي بَنِي لَيْثٍ فَقَتَلَتْهُ هُذَيْلٌ «أَلَا يَا أُمَّتَاهُ هَلْ بَلَّغْتُ؟» ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: «اللهُمَّ اشْهَدْ» (1)
وعَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ عَمْرِو بْنِ الأَحْوَصِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ فِي حَجَّةِ الوَدَاعِ لِلنَّاسِ: «أَيُّ يَوْمٍ هَذَا؟» قَالُوا: يَوْمُ الحَجِّ الأَكْبَرِ، قَالَ: «فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ بَيْنَكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا، أَلَا لَا يَجْنِي جَانٍ إِلَّا عَلَى نَفْسِهِ، أَلَا لَا يَجْنِي جَانٍ عَلَى وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ عَلَى وَالِدِهِ، أَلَا وَإِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ أَيِسَ مِنْ أَنْ يُعْبَدَ فِي بِلَادِكُمْ هَذِهِ أَبَدًا وَلَكِنْ سَتَكُونُ لَهُ طَاعَةٌ فِيمَا تَحْتَقِرُونَ مِنْ أَعْمَالِكُمْ فَسَيَرْضَى بِهِ» (2)
وفي صحيح مسلم عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم -،يَقُولُ: «إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ أَيِسَ أَنْ يَعْبُدَهُ الْمُصَلُّونَ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَلَكِنْ فِي التَّحْرِيشِ بَيْنَهُمْ» (3)
__________
(1) - السنن الكبرى للنسائي (10/ 111) (11149) صحيح
(2) - سنن الترمذي ت شاكر (4/ 461) (2159) صحيح
(3) - صحيح مسلم (4/ 2166) 65 - (2812)
[ش (ولكن في التحريش بينهم) أي ولكنه يسعى في التحريش بينهم بالخصومات والشحناء والحروب والفتن وغيرها](1/144)
أي بإيقاع العداوة والبغضاء بينهم، وإغراء بعضهم ببعض، كما قال تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة:91].
إنَّ الشَّيْطَانَ يُرِيدُ لَكُمْ شُرْبَ الخَمْرِ، وَلَعِبَ المَيْسِرِ، لِيُعَادِيَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً، وَيَبْغُضَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً، فِيِتَشَتَّتَ أمْرُكُمْ بَعْدَ أنْ ألَّفَ اللهُ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ بِالإيمَانِ، وَجَمَعَ بِأخُوَّةِ الإسْلاَمِ، ويُرِيدُ الشَّيْطَانُ أنْ يَصْرِفَكُمْ بِالسُّكْرِ وَالاشْتِغَالِ بِالمَيْسِرِ عَنْ ذِكْرِ اللهِ الذِي بِهِ صَلاَحُ أمْرِكُمْ، فِي دُنْيَاكُمْ وَآخِرَتِكُمْ، وَعَنِ الصَّلاَةِ التِي فَرَضَهَا اللهُ عَلَيْكُمْ، تَزْكِيَةً لِنُفُوسِكُمْ، وَتَطْهِيراً لِقُلُوبِكُمْ.
وَالخَمْرُ تٌفْقِدُ الإِنْسَانَ عَقْلَهُ الذِي يَمْنَعُهُ عَنْ إتْيَانِ الأفْعَالِ القَبِيحَةِ، وَعَنْ تَوْجِيهِ الأقْوَالِ الشَّائِنَةِ إلى النَّاسِ، فَإِذَا شَرِبَهاَ الإِنْسَانُ أقْدَمَ عَلَى مَا لاَ يُقْدِمُ عَلَيهِ وَهُوَ صَاحٍ مَتَمَالِكٌ قِواهُ فَيُسِيءُ إلى أصْحَابِهِ وَإِخْوَانِهِ، وَيُؤذِيهِمْ فَيُؤَدِّي ذَلِكَ إلى الشَّحْنَاءِ وَالبَغْضَاءِ. وَالمَيْسِرُ يُثِيرُ البَغْضَاءَ وَالشَحْنَاءَ بَيْنَ اللاعِبِينَ وَالحَاضِرِينَ، وَكَثِيراً مَا يُفرِّطُ المُقَامِرُ فِي حُقُوقِ الوَالِدَيْنِ وَالزَّوْجِ وَالأوْلاَدِ، حَتَّى يُوشِكُ أنْ يَمْقُتَهُ كُلُّ وَاحِدٍ. ثُمَّ يَأمُرُ اللهُ تَعَالَى المُؤْمِنِينَ بِأنْ يَنْتَهُوا عَنْ هَذِهِ المُنْكَرَاتِ ليُفَوِّتُوا عَلَى إبْلِيسَ غَرَضَهُ. (1)
قال الخطيب:"وقوله تعالى: «إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ» هو بيان لما يبغيه الشيطان من وراء هذه المنكرات التي عرضها للناس، فى معارض مغوياته، ومفسداته .. إنه يريد أن يوقع العداوة والبغضاء بين الناس فى مواطن الخمر والميسر، حيث يفقد الإنسان عقله بالخمر، فلا يدارى قولة سوء، ولا يمسك كلمة شر، وحيث يستنزف الميسر أموال الناس، ويريهم أن بعضهم أكل بعضا، وهم- فى الواقع- مأكولون جميعا، فيقع بينهم الشر، وتشتعل نار العداوة والبغضاء .. وبهذا تتمزق وحدة المجتمع، ويصبح الإنسان فى مجتمعه إما طالبا أو مطلوبا، لا يبيت على أمن، ولا يستقرّ على حال ..
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد (ص:761،بترقيم الشاملة آليا)(1/145)
ثم إن هذه المنكرات من خمر وميسر وأنصاب وأزلام، مع ما تزرع بين الناس من أشواك العداوة والبغضاء .. تصدّ عن ذكر الله، وعن الصلاة، حيث تلهى أصحابها، وتمسك بهم فى مجالها، فلا يخطر ببال أحدهم ذكر الله، وقد استولى عليه هذا الرجس، ولا يجيب داعى الله إلى الصلاة، إن هو وجد أذنا تستمع إلى هذا الداعي.
وقوله تعالى: «فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ» يحمل تحريضا قويا على الانخلاع عن هذه المنكرات، ومجاهدة النفس فى اجتنابها، ومغالبة الأهواء الداعية إليها ..
فهذه المنكرات لها سلطانها المتسلط على النفوس، بما فيها من مغويات تدعو الإنسان إلى التحلل من سلطان العقل، وما يدعو إليه من وقار، وجدّ، لتحمله على أجنحة الخلاعة والعبث والمجون .. ومن وراء ذلك شيطان يستحثّ أهواء النفس، ويثير غرائزها الحيوانية الخسيسة .. فإذا لم يأخذ الإنسان حذره ويتجرد لحرب هذه المغويات المتسلطة عليه، ويلقاها بإيمان وثيق وعزم ثابت، غلبته على أمره، وأخذته من مقوده، وأقامته على هذا المرعى الوبيل، ليطعم منه، ويعيش عليه ..
ففى قوله تعالى «فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ» استفهام مطلوب الجواب عليه، ولن يعطى الجواب الذي ينبغى أن يجيب به المؤمن إلّا من نظر إلى نفسه، وإلى موقفه من ربه الذي يدعوه إليه، فإن استجاب لله، وانتهى عن هذه المنكرات واجتنبها، كان له أن يلقى الله بوجهه، وأن يدخل فى عباده المؤمنين، وإلا اختطفه الشيطان، وألقى به بين ضحاياه وصرعاه! " (1)
وبهذا ينكشف لضمير المسلم هدف الشيطان، وغاية كيده، وثمرة رجسه .. إنها إيقاع العداوة والبغضاء في الصف المسلم - في الخمر والميسر - كما أنها هي صد «الذين آمنوا» عن ذكر اللّه وعن الصلاة .. ويا لها إذن من مكيدة! وهذه الأهداف التي يريدها الشيطان أمور واقعة يستطيع المسلمون أن يروها في عالم الواقع بعد تصديقها من خلال القول الإلهي الصادق بذاته. فما يحتاج الإنسان إلى طول بحث حتى يرى أن الشيطان يوقع العداوة والبغضاء - في الخمر والميسر - بين الناس. فالخمر بما تفقد من الوعي وبما
__________
(1) - التفسير القرآني للقرآن (4/ 20)(1/146)
تثير من عرامة اللحم والدم، وبما تهيج من نزوات ودفعات. والميسر الذي يصاحبها وتصاحبه بما يتركه في النفوس من خسارات وأحقاد إذ المقمور لا بد أن يحقد على قامره الذي يستولي على ماله أمام عينيه، ويذهب به غانما وصاحبه مقمور مقهور .. إن من طبيعة هذه الأمور أن تثير العداوة والبغضاء، مهما جمعت بين القرناء في مجالات من العربدة والانطلاق اللذين يخيل للنظرة السطحية أنهما أنس وسعادة! وأما الصد عن ذكر اللّه وعن الصلاة، فلا يحتاجان إلى نظر .. فالخمر تنسي، والميسر يلهي، وغيبوبة الميسر لا تقل عن غيبوبة الخمر عند المقامرين وعالم المقامر كعالم السكير لا يتعدى الموائد والأقداح والقداح! وهكذا عند ما تبلغ هذه الإشارة إلى هدف الشيطان من هذا الرجس غايتها من إيقاظ قلوب «الذين آمنوا» وتحفزها، يجيء السؤال الذي لا جواب له عندئذ إلا جواب عمر رضي اللّه عنه وهو يسمع: «فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ»؟ فيجيب لتوه: «انتهينا. انتهينا» (1) .... (2)
وهو يأمر بكل شر، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168) إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (169)} [البقرة:168،169].
يَمْتَنُّ اللهُ تَعَالَى جَدُّهُ عَلَى النَّاسِ بِمَا أَبَاحَ لَهُمْ مِنَ الأَكْلِ مِمَّا فِي الأَرْضِ مِنْ أَصْنَافِ المَأْكُولاَتِ حَلاَلاً طَيِّباً وَيَنْهَاهُمْ عَنِ اتِّبَاعِ سِيرَةِ الشَّيطَانِ فِي الإِغْوَاءِ وَالإِضْلاَلِ، وَالوَسْوَسَةِ بِالسُّوءِ وَالفَحْشَاءِ، وَعَنِ اتِّبَاعِ مَسْلَكِهِ وَطَرَائِقِهِ فِيمَا أَضَلَّ بِهِ أَتْبَاعَهُ مِنْ تَحْرِيمِ البَحَائرِ وَالسَّوائِبِ وَالوَصَائِلِ وَغَيرِهَا مِمَّا كَانَ زَيَّنَهُ لِلْمُشْرِكِينَ فِي الجَاهِلِيَّةِ، لأَنَّ الشَّيطَانَ عَدُوٌّ مُبِينُ العَدَاوَةِ للإِنْسَانِ.
__________
(1) - عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، قَالَ: لَمَّا نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ، قَالَ: اللَّهُمَّ بَيِّنْ لَنَا فِي الْخَمْرِ بَيَانًا شَافِيًا، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ الَّتِي فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ}،قَالَ: فَدُعِيَ عُمَرُ فَقُرِئَتْ عَلَيْهِ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ بَيِّنْ لَنَا فِي الْخَمْرِ بَيَانًا شِفَاءً، فَنَزَلَتِ الآيَةُ الَّتِي فِي سُورَةِ النِّسَاءِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} فَكَانَ مُنَادِي رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا أَقَامَ الصَّلاةَ نَادَى: أَنْ لاَ يَقْرَبَنَّ الصَّلاةَ سَكْرَانُ فَدُعِيَ عُمَرُ فَقُرِئَتْ عَلَيْهِ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ بَيِّنْ لَنَا فِي الْخَمْرِ بَيَانًا شِفَاءً، فَنَزَلَتِ الآيَةُ الَّتِي فِي الْمَائِدَةِ، فَدُعِيَ عُمَرُ فَقُرِئَتْ عَلَيْهِ، فَلَمَّا بَلَغَ {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} قَالَ: فَقَالَ عُمَرُ انْتَهَيْنَا انْتَهَيْنَا - مسند أحمد (عالم الكتب) [1/ 189] (378) صحيح ...
(2) - في ظلال القرآن للسيد قطب - ت- علي بن نايف الشحود (ص:1373)(1/147)
والشَّيطَانُ العَدُوُّ يُوَسْوِسُ لِلْكَفَرَةِ وَالمُشْرِكِينَ، وَيَحثُّهُمْ عَلَى الإِتيانِ بِالأَعْمَالِ السَّيِّئَةِ المُنْكَرَةِ، وَالفَوَاحِشِ، وَالقَوْلِ عَلَى اللهِ في دِينِهِ مَا لا يُعْلَمُ عِلْمَ اليَقِين أَنَّهُ شَرَعَهُ للناَّسِ، مِنْ عَقَائِدَ وَشَعَائِرَ دِينِيَّةٍ، أَوْ تَحْلِيلِ مَا الأَصْلُ فِيهِ التَّحْرِيمُ. (1)
وخلاصة الأمر: أن كل عبادة محبوبة لله بغيضة إلى الشيطان، وكل معصية مكروهة للرحمن محبوبة للشيطان.
3 - إيقاعهم في البدعة:
وهي أحبُّ إلى الشيطان من الفسوق والمعاصي؛ لأن ضررها في الدين، عَنْ عُمَرَ، أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ لِعَائِشَةَ: «إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ، وَكَانُوا شِيَعًا، هُمْ أَيصْحَابُ الْبِدَعِ، وَالْأَهْوَاءِ، إِنَّ لِكُلِّ ذَنْبٍ تَوْبَةً إِلَّا أَصْحَابَ الْبِدَعِ لَيْسَتْ لَهُمْ تَوْبَةٌ، هُمْ مِنِّي بَرَاءُ، وَأَنَا مِنْهُمْ بَرِيءٌ» (2)
وعَنْ عُمَرَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -،قَالَ لِعَائِشَةَ:" يَا عَائِشَةُ {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا} [الأنعام:159]،هُمْ أَصْحَابُ الْأَهْوَاءِ وَالْبِدَعِ «،» يَا عَائِشَةُ: إِنَّ لِكُلِّ صَاحِبِ ذَنْبٍ تَوْبَةً إِلَّا أَصْحَابُ الْبِدَعِ لَيْسَتْ لَهُمْ تَوْبَةٌ، فَهُمْ مِنِّي بُرَاءُ، وَأَنَا مِنْهُمْ بَرِيءٌ " (3)
وقَالَ يَحْيَى بْنَ يَمَانٍ: سَمِعْتُ سُفْيَانَ يَقُولُ: «الْبِدْعَةُ أَحَبُّ إِلَى إِبْلِيسَ مِنَ الْمَعْصِيَةِ، الْمَعْصِيَةُ يُتَابُ مِنْهَا، وَالْبِدْعَةُ لَا يُتَابُ مِنْهَا» (4)
4 - صدّه العباد عن طاعة الله:
وهو لا يكتفي بدعوة الناس إلى الكفر والذنوب والمعاصي، بل يصدهم عن فعل الخير، فلا يترك سبيلاً من سبل الخير، يسلكه عبد من عباد الله إلا قعد فيه، يصدّهم ويميل
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد (ص:175،بترقيم الشاملة آليا)
(2) - الإبانة الكبرى لابن بطة (1/ 303) (140) حسن
(3) - تفسير ابن أبي حاتم، الأصيل - مخرجا (5/ 1430) (8157) حسن
(4) - مسند ابن الجعد (ص:272) (1809) صحيح وآكام المرجان في أحكام الجان (ص:226)
البدعة بِدْعَتَان: بدعة هُدًى، وبدعة ضلال، فما كان في خلاف ما أمَر اللّه به ورسوله - صلى الله عليه وسلم - فهو في حَيِّز الذّم والإنكار، وما كان واقعا تحت عُموم ما نَدب اللّه إليه وحَضَّ عليه اللّه أو رسوله فهو في حيز المدح، وما لم يكن له مثال موجود كنَوْع من الجُود والسخاء وفعْل المعروف فهو من الأفعال المحمودة، ولا يجوز أن يكون ذلك في خلاف ما وَردَ الشرع به.(1/148)
بهم، فعَنْ سَبْرَةَ بْنِ أَبِي فَاكِهٍ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ:" إِنَّ الشَّيْطَانَ قَعَدَ لِابْنِ آدَمَ بِأَطْرُقِهِ، فَقَعَدَ لَهُ بِطَرِيقِ الْإِسْلَامِ، فَقَالَ: تُسْلِمُ وَتَذَرُ دِينَكَ وَدِينَ آبَائِكَ وَآبَاءِ أَبِيكَ، فَعَصَاهُ فَأَسْلَمَ، ثُمَّ قَعَدَ لَهُ بِطَرِيقِ الْهِجْرَةِ، فَقَالَ: تُهَاجِرُ وَتَدَعُ أَرْضَكَ وَسَمَاءَكَ، وَإِنَّمَا مَثَلُ الْمُهَاجِرِ كَمَثَلِ الْفَرَسِ فِي الطِّوَلِ، فَعَصَاهُ فَهَاجَرَ، ثُمَّ قَعَدَ لَهُ بِطَرِيقِ الْجِهَادِ، فَقَالَ: تُجَاهِدُ فَهُوَ جَهْدُ النَّفْسِ وَالْمَالِ، فَتُقَاتِلُ فَتُقْتَلُ، فَتُنْكَحُ الْمَرْأَةُ، وَيُقْسَمُ الْمَالُ، فَعَصَاهُ فَجَاهَدَ،" فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، وَمَنْ قُتِلَ كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، وَإِنْ غَرِقَ كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، أَوْ وَقَصَتْهُ دَابَّتُهُ كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ» (1)
ومصداق ذلك في كتاب الله ما حكاه الله عن الشيطان أنه قال لرب العزة: ({قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17)} [الأعراف:16،17].
وقوله: (لأقعدنَّ لهم صراطك) أي: على صراطك، فهو منصوب بنزع الخافض، أو هو منصوب بفعل مضمر، أي: لألزمنّ صراطك، أو لأرصدَنّه، أو لأعوجنه.
وعبارات السف في تفسير الصراط متقاربة، فقد فسر ابن عباس: بأنه الدين الواضح، وابن مسعود: بأنه كتاب الله، وقال جابر: هو الإسلام، وقال مجاهد: هو الحق. (2)
فالشيطان لا يدع سبيلاً من سبل الخير إلا قعد فيه يصد الناس عنه.
5 - إفساد الطاعات:
إذا لم يستطع الشيطان أن يصدهم عن الطاعات، فإنه يجتهد في إفساد العبادة والطاعة، كي يحرمهم الأجر والثواب، ومن ذلك:
__________
(1) - سنن النسائي (6/ 21) (3134) صحيح -الطول: حبل يشد به قائمة الدابة =وقصت: كسرت عنقه
(2) - انظر تفسير ابن كثير ت سلامة (3/ 393 - 394)(1/149)
التلبيس في قراءة المصلي:
عَنْ أَبِي الْعَلَاءِ، أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ أَبِي الْعَاصِ، أَتَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ حَالَ بَيْنِي وَبَيْنَ صَلَاتِي وَقِرَاءَتِي يَلْبِسُهَا عَلَيَّ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «ذَاكَ شَيْطَانٌ يُقَالُ لَهُ خَنْزَبٌ، فَإِذَا أَحْسَسْتَهُ فَتَعَوَّذْ بِاللهِ مِنْهُ، وَاتْفِلْ عَلَى يَسَارِكَ ثَلَاثًا» قَالَ: فَفَعَلْتُ ذَلِكَ فَأَذْهَبَهُ اللهُ عَنِّي". (1)
إشغاله بأمور الدنيا أثاء الصلاة حتى لا يدري كم صلَّى:
فإذا دخل العبد صلاته أجلب عليه الشيطان يوسوس له، ويشغله عن طاعة الله، ويذكِره بأمور الدنيا؛ ففي صحيح البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ أَدْبَرَ الشَّيْطَانُ، وَلَهُ ضُرَاطٌ، حَتَّى لاَ يَسْمَعَ التَّأْذِينَ، فَإِذَا قَضَى النِّدَاءَ أَقْبَلَ، حَتَّى إِذَا ثُوِّبَ بِالصَّلاَةِ أَدْبَرَ، حَتَّى إِذَا قَضَى التَّثْوِيبَ أَقْبَلَ، حَتَّى يَخْطِرَ بَيْنَ المَرْءِ وَنَفْسِهِ، يَقُولُ: اذْكُرْ كَذَا، اذْكُرْ كَذَا، لِمَا لَمْ يَكُنْ يَذْكُرُ حَتَّى يَظَلَّ الرَّجُلُ لاَ يَدْرِي كَمْ صَلَّى ". (2)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ أَدْبَرَ الشَّيْطَانُ لَهُ ضُرَاطٌ، حَتَّى لَا يَسْمَعَ التَّأْذِينَ، فَإِذَا قُضِيَ التَّأْذِينُ أَقْبَلَ حَتَّى إِذَا ثُوِّبَ بِالصَّلَاةِ أَدْبَرَ حَتَّى إِذَا قُضِيَ التَّثْوِيبُ، أَقْبَلَ حَتَّى يَخْطُرَ بَيْنَ الْمَرْءِ وَنَفْسِهِ يَقُولُ لَهُ: اذْكُرْ كَذَا وَاذْكُرْ كَذَا لِمَا لَمْ يَكُنْ يَذْكُرُ مِنْ قَبْلُ حَتَّى يَظَلَّ الرَّجُلُ مَا يَدْرِي كَمْ صَلَّى " (3)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: " إِذَا نُودِيَ بِالصَّلاَةِ أَدْبَرَ الشَّيْطَانُ، وَلَهُ ضُرَاطٌ حَتَّى لاَ يَسْمَعَ الأَذَانَ، فَإِذَا قُضِيَ الأَذَانُ أَقْبَلَ، فَإِذَا ثُوِّبَ بِهَا أَدْبَرَ، فَإِذَا
__________
(1) - صحيح مسلم (4/ 1728) 68 - (2203)
[ش (يلبسها) أي يخلطها ويشككني فيها= حال: حجز وفرق ومنع = الخنزب: قطعة اللحم المنتنة، وهو اسم لشيطان الصلاة]
(2) - صحيح البخاري (1/ 125) (608)
(وله ضراط) تمثيل لشدة خوفه عند إدباره أو يكون ذلك حقيقة لشدة خوفه أيضا. (ثوب) أقم للصلاة وهو المراد هنا. (النداء) الأذان. (يخطر) يوسوس ويشغل المصلي عما هو فيه]
(3) - صحيح مسلم (1/ 291) 19 - (389)
[ش (ثوب) المراد بالتثويب الإقامة وأصله من ثاب إذا رجع ومقيم الصلاة راجع إلى الدعاء إليها فإن الأذان دعاء إلى الصلاة والإقامة دعاء إليها (يخطر) هو بضم الطاء وكسرها حكاهما القاضي عياض في المشارق قال والكسر هو الوجه ومعناه يوسوس وهو من قولهم خطر الفحل بذنبه إذا حركه فضرب فخذيه وأما بالضم فمن السلوك والمرور أي يدنو منه فيمر بينه وبين قلبه فيشغله عما هو فيه](1/150)
قُضِيَ التَّثْوِيبُ، أَقْبَلَ حَتَّى يَخْطِرَ بَيْنَ المَرْءِ وَنَفْسِهِ، يَقُولُ: اذْكُرْ كَذَا وَكَذَا، مَا لَمْ يَكُنْ يَذْكُرُ، حَتَّى يَظَلَّ الرَّجُلُ إِنْ يَدْرِي كَمْ صَلَّى، فَإِذَا لَمْ يَدْرِ أَحَدُكُمْ كَمْ صَلَّى ثَلاَثًا أَوْ أَرْبَعًا، فَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ وَهُوَ جَالِسٌ " (أخرجه البخاري) (1).
وفي رواية مثله ثم قَالَ: «فَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ ثُمَّ لِيُسَلِّمْ» (2).
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " إِذَا نُودِيَ بِالصَّلَاةِ أَدْبَرَ الشَّيْطَانُ وَلَهُ ضُرَاطٌ حَتَّى لَا يَسْمَعَ الْأَذَانَ، فَإِذَا قُضِيَ الْأَذَانُ أَقْبَلَ، فَإِذَا ثُوِّبَ بِهَا أَدْبَرَ، فَإِذَا قُضِيَ التَّثْوِيبُ أَقْبَلَ حَتَّى يَخْطِرَ بَيْنَ الْمَرْءِ وَنَفْسِهِ يَقُولُ: اذْكُرْ كَذَا لِمَا لَمْ يَكُنْ يَذْكُرُ حَتَّى يَظَلَّ الرَّجُلُ لَا يَدْرِي كَمْ صَلَّى، فَإِذَا لَمْ يَدْرِ كَمْ صَلَّى ثَلَاثًا أَمْ أَرْبَعًا فَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيِ السَّهْوِ وَهُوَ جَالِسٌ " (3).
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إِذَا أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ أَدْبَرَ الشَّيْطَانُ وَلَهُ ضُرَاطٌ، فَإِذَا سَكَتَ أَقْبَلَ حَتَّى يَخْطِرَ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ، حَتَّى يُذَكِّرَهُ مَا لَمْ يَكُنْ يَذْكُرُهُ، حَتَّى يُوَهَمَ فِي صَلَاتِهِ فَلَا يَدْرِي كَمْ صَلَّى فَإِذَا لَقِيَ أَحَدُكُمْ ذَلِكَ فَلَمْ يَدْرِ كَمْ صَلَّى؟ زَادَ أَمْ نَقَصَ فَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيِ السَّهْوِ بَعْدَمَا يُسَلِّمُ، فَإِنَّهُمَا الْمُرْغِمَتَانِ» (4).
__________
(1) - صحيح البخاري (2/ 69) (1231) [(يخطر) بكسر الطاء يوسوس وبضمها يدنو فيمر. (إن يدري) ما يدري]
(2) - سنن أبي داود (1/ 271) (1032) صحيح
(3) - مستخرج أبي عوانة (1/ 509) (1902) صحيح
(4) - المعجم الأوسط (4/ 350) (4402) صحيح
وفيه دليل على أن السهو في الصلاة لَا يُبطلها، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكر أن الشيطان يفعل بالإنسان ذلك كلما أراد أن يصلي ثم هو - أي النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يأمر من وجد الوسوسة بإعادة الصلاة، ولم يقل ببطلانها، وكأن السهو أمر يكاد يكون خارجاً عن الإرادة البشرية، فلم يَعْرَ منه حتى النبي - صلى الله عليه وسلم - نفسه، عندما سها في صلاته -كما في حديث ذي اليدين -وعندما استمع لأصحابه وهم يحققون مع العبد القرشي يوم بدر وهو يصلي - صلى الله عليه وسلم -، وإنما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - من شك في صلاته بإتمام الصلاة والبناء على اليقين, أمَّا من يقول: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لَا يسهو، وإنما كان سهوه بتقدير من الله ليُشَرِّع للأمة .. فنقول له: نعم، ولكن, ماذا شرَّع النبي - صلى الله عليه وسلم - لِأُمَّتِه حين يسهو المرء في صلاته؟ ,هل أعاد النبي - صلى الله عليه وسلم - صلاته لأنه سها فيها؟ ,أم أنه أكمل بقيتها وسلم؟ الجامع الصحيح للسنن والمسانيد 1 (1/ 146)(1/151)
إيهامه المصلي أنه قد أحدث ولم يحدث:
فعَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، قَالَ: قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا كَانَ فِي الصَّلَاةِ جَاءَ الشَّيْطَانُ، فَأَبَسَ بِهِ كَمَا يَأْبِسُ الرَّجُلُ بِدَابَّتِهِ، فَإِذَا سَكَنَ لَهُ، أَضْرَطَ بَيْنَ أَلْيَتَيْهِ لِيَفْتِنَهُ عَنْ صَلَاتِهِ، فَإِذَا وَجَدَ أَحَدُكُمْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، فَلَا يَنْصَرِفْ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا، أَوْ يَجِدَ رِيحًا لَا يُشَكُّ فِيهِ " قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: " فَأَنْتُمْ تَرَوْنَ ذَلِكَ، أَمَّا الْمَزْنُوقُ فَتَرَاهُ مَائِلًا كَذَا، لَا يَذْكُرُ اللهَ، وَأَمَّا الْمَلْجُومُ فَفَاتِحٌ فَاهُ لَا يَذْكُرُ اللهَ " (1).
وعَنْ قَيْسِ بْنِ السَّكَنِ، قَالَ: قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: «إِنَّ الشَّيْطَانَ لَيُطِيفُ بِالرَّجُلِ في صَلَاتِهِ لِيَقْطَعَ عَلَيْهِ صَلَاتَهُ، فَإِذَا أَعْيَاهُ نَفَخَ فِي دُبُرِهِ، فَإِذَا أَحَسَّ أَحَدُكُمْ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَلَا يَنْصَرِفَنَّ حَتَّى يَجِدَ رِيحًا أَوْ يَسْمَعَ صَوْتًا» (2)
وعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: «إِنَّ الشَّيْطَانَ لَيُطِيفُ بِالرَّجُلِ فِي الصَّلَاةِ لِيَقْطَعَ عَلَيْهِ صَلَاتَهُ، فَإِذَا أَعْيَا نَفَخَ فِي دُبُرِهِ لِيُرِيَهُ أَنَّهُ قَدْ أَحْدَثَ، فَإِذَا وَجَدَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَلَا يَنْصَرِفَنَّ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا أَوْ يَجِدَ رِيحًا» (3)
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: إنَّ الشَّيْطَانَ يَطِيفُ بِالْعَبْدِ لِيَقْطَعَ عَلَيْهِ صَلاَتَهُ فَإِذَا أَعْيَاهُ نَفَخَ فِي دُبُرِهِ فَلاَ يَنْصَرِفْ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا، أَوْ يَجِدَ رِيحًا، وَيَأْتِيهِ فَيَعْصِرُ ذَكَرَهُ فَيُرِيهِ أَنَّهُ أُخْرِجَ مِنْهُ شَيْءٌ فَلاَ يَنْصَرِفْ حَتَّى يَسْتَيْقِنَ. (4)
دفع الشيطان الإنسان للمرور بين يدي المصلي:
قَالَ أَبُو صَالِحٍ السَّمَّانُ: رَأَيْتُ أَبَا سَعِيدٍ الخُدْرِيَّ فِي يَوْمِ جُمُعَةٍ يُصَلِّي إِلَى شَيْءٍ يَسْتُرُهُ مِنَ النَّاسِ، فَأَرَادَ شَابٌّ مِنْ بَنِي أَبِي مُعَيْطٍ أَنْ يَجْتَازَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَدَفَعَ أَبُو سَعِيدٍ فِي صَدْرِهِ، فَنَظَرَ الشَّابُّ فَلَمْ يَجِدْ مَسَاغًا إِلَّا بَيْنَ يَدَيْهِ، فَعَادَ لِيَجْتَازَ، فَدَفَعَهُ أَبُو سَعِيدٍ أَشَدَّ مِنَ الأُولَى، فَنَالَ مِنْ أَبِي سَعِيدٍ، ثُمَّ دَخَلَ عَلَى مَرْوَانَ، فَشَكَا إِلَيْهِ مَا لَقِيَ مِنْ أَبِي سَعِيدٍ، وَدَخَلَ
__________
(1) - مسند أحمد ط الرسالة (14/ 105) (8369و8370) صحيح
قوله: "فأبس به"، قال السندي: من الإبساس: وهو التلطُّف بالدابة بأن يقال لها: بَسْ بَسْ، تسكيناً لها. قوله: "زنقه"، قال الزمخشري في "الفائق" 2/ 127: هو من الزَنَقَة: وهي ميل قي جدار في سِكًة أو عرقوب وادٍ.
(2) - المعجم الكبير للطبراني (9/ 249) (9231) صحيح موقوف
(3) - المعجم الكبير للطبراني (9/ 250) (9232) صحيح موقوف
(4) - مصنف ابن أبي شيبة -طبعة الدار السلفية الهندية (2/ 430) (8091) صحيح موقوف(1/152)
أَبُو سَعِيدٍ خَلْفَهُ عَلَى مَرْوَانَ، فَقَالَ: مَا لَكَ وَلِابْنِ أَخِيكَ يَا أَبَا سَعِيدٍ؟ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ إِلَى شَيْءٍ يَسْتُرُهُ مِنَ النَّاسِ فَأَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَجْتَازَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَلْيَدْفَعْهُ فَإِنْ أَبَى فَلْيُقَاتِلْهُ فَإِنَّمَا هُوَ شَيْطَانٌ» (1)
وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إِذَا كَانَ أَحَدُكُمْ يُصَلِّي فَلَا يَدَعْ أَحَدًا يَمُرُّ بَيْنَ يَدَيْهِ فَإِنْ أَبَى فَلْيُقَاتِلْهُ فَإِنَّ مَعَهُ الْقَرِينَ» (2)
وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي وَأَرَادَ ابْنٌ لِمَرْوَانَ أَنْ يَمُرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ فَدَرَأَهُ فَلَمْ يَرْجِعْ فَضَرَبَهُ فَخَرَجَ الْغُلَامُ يَبْكِي حَتَّى أَتَى مَرْوَانَ، فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ: مَرْوَانُ لِأَبِي سَعِيدٍ: لِمَ ضَرَبْتَ ابْنَ أَخِيكَ؟ قَالَ: مَا ضَرَبْتُهُ إِنَّمَا ضَرَبْتُ الشَّيْطَانَ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «إِذَا كَانَ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاتِهِ فَأَرَادَ إِنْسَانٌ يَمُرُّ بَيْنَ يَدَيْهِ فَلْيَدْرَأْهُ مَا اسْتَطَاعَ، فَإِنْ أَبَى فَلْيُقَاتِلْهُ فَإِنَّهُ شَيْطَانٌ» (3)
وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إِذَا كَانَ أَحَدُكُمْ يُصَلِّي فَلَا يَدَعْ أَحَدًا يَمُرُّ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَإِنْ أَبَى فَلْيُقَاتِلْهُ، فَإِنَّ مَعَهُ الْقَرِينَ» (4)
مسابقة الإمام في الركوع والسجود:
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إِنَّ الَّذِي يَسْجُدُ قَبْلَ الْإِمَامِ، وَيَرْفَعُ رَأْسَهُ قَبْلَهُ، إِنَّمَا نَاصِيَتُهُ بِيَدِ الشَّيْطَانِ» (5)
__________
(1) - صحيح البخاري (1/ 108) (509)
(يستره) يحجز بينه وبين الناس. (شاب) قيل الوليد بن عقبة وقيل غيره. (يجتاز) يمر. (مساغا) طريقا يمكنه المرور منها. (فنال) تكلم عليه وشتمه. (ولابن أخيك) أي في الإسلام أو لأنه أصغر منه. (فليقاتله) الجمهور على أن معناه الدفع بالقهر لا جواز قتله. (هو شيطان) فعله فعل شيطان]
(2) - السنن الكبرى للنسائي (1/ 410) (835) صحيح
(3) - السنن الكبرى للنسائي (6/ 377) (7038) صحيح
(4) - صحيح مسلم (1/ 363) 260 - (506)
[ش (القرين) في النهاية قرين الإنسان هو مصاحبه من الملائكة والشياطين فقرينه من الملائكة يأمره بالخير ويحثه عليه وقرينه من الشياطين يأمره بالشر ويحثه عليه]
(5) - فوائد تمام (1/ 99) (226) حسن(1/153)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: الَّذِي يَرْفَعُ رَأْسَهُ وَيَخْفِضُ قَبْلَ الإِمَامِ، فَإِنَّمَا نَاصِيَتُهُ بِيَدِ الشَيْطَانٍ. (1)
كل مخالفة للرحمن فهي طاعة للشيطان:
يقول تعالى: {إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا (117) لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (118) وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا (119) يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (120) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا (121)} [النساء: 117 - 121].
فكل من عبد غير الله من صنم أو وثن، أو شمس وقمر، أو هوى، أو إنسان، أو مبدأ، فهو عابد للشيطان، رضي أم أبى؛ لأن الشيطان هو الآمر بذلك والمرغب فيه، ولذلك فإن عبّاد الملائكة يعبدون الشيطان في الحقيقة: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (40) قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (41) فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (42)} [سبأ: 40 - 42].
وَاذْكُرْ يَا مُحَمَّدُ لِقَوْمِكَ ذَلِكَ اليومَ الذِي يَحْشُرُ اللهُ فِيهِ المُسْتَكْبِرينَ مِنْهُمْ والمُسْتَضْعَفينَ مَعَ المَلائِكةِ، الذينَ كَانَ المُشْرِكُونَ يَعْبُدُونَهُمْ طَمَعاً فِي شَفَاعَتِهِمْ، وَلِيُقرِّبُوهُمْ إِلى اللهِ زُلْفَى، ثُمَّ يَسْأَلُ اللهُ تَعَالى المَلاَئِكَةَ قَائلاً: هَلْ أَنْتُمْ أَمَرْتُمْ هُؤلاءِ بِعِبَادَتِكُمْ؟
فَتَرُدُّ المَلاَئِكَةُ عَلَى سُؤَالِ الرَّبِّ العَظِيمِ قَائِلِينَ: تَعَالَيتَ رَبَّنَا، وَتَقَدَّسْتَ، وَتَنَزَّهَتْ أَسْمَاؤُكَ عَنْ أَنْ يَكُونَ مَعَكَ إِلهٌ، نَحْنُ نَعْبُدُكَ، وَنَبْرأُ إِليكَ مِنْ هَؤْلاءِ، وَأَنْتَ الذِي نَوَالِيهِ مِنْ دُونِهِمْ، فَلا مُوَلاَةَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُم، وَهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَعْبُدُونَنا، بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الجِنَّ لأَنَّهُمْ هُمُ الذِينَ زَيَّنُوا لَهُمُ الشِّرْكَ، وِعِبَادَةَ الأَصْنَامِ، وأَضَلُّوهُمْ فَأَطَاعُوهُمْ فِي ذَلِكَ، وَأَكْثَرُهُمْ بِهِمْ يُؤْمِنُونَ وَيُصَدِّقُونَ.
__________
(1) - موطأ مالك رواية أبي مصعب الزهري (1/ 190) (492) حسن - الناصية: مقدمة الشعر والجبهة من الرأس(1/154)
فَيَقُولُ لَهُمُ اللهُ تَعَالَى: اليَوْمَ لاَ يَنْتَفِعُ أَحَدٌ مِنْكُم بِشَيءٍ مِنَ الأًَصْنَامِ وَالأًَوْثَانِ التي عَبَدْتُمُوهَا وَأَشْرَكْتُمُوهَا بِالعبادة مع الله، طمعاً في نَفْعِهَا وَاتِّقَاءً لِضَرِّهَا. ثُمَّ يقولُ لَهُمْ تَعَالى مُقَرِّعاً وَمُوَبِّخاً: ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ التِي كُنْتُمْ تُكَذِّبُونَ بِهَا فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنيا، فَهَا أَنْتُمْ قَدْ عَايَنْتُموهَا، وأَدْرَكْتُمْ أَنَّهُ لا مَحِيصَ لَكُمْ عَنْهَا، فَلُومُوا أَنفُسَكُمْ عَلَى مَا قَدَّمَتْ أَيِديكُمْ. (1)
يعني أن الملائكة لم تأمرهم بذلك، وإنما أمرتهم بذلك الجن، ليكونوا عابدين للشياطين الذين يتمثلون لهم، كما يكون للأصنام شياطين.
الخلاصة:
والشيء الذي نخلص إليه أن الشيطان يأمر بكل شرّ، ويحث عليه، وينهى عن كلّ خير، ويخوف منه؛ كي يرتكب الأول، ويترك الثاني. كما قال تعالى: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 268].
فالشَّيطَانُ يُخَوّفُ المُتَصَدِّقِينَ مِنْكُمْ مِنَ الفَقْرِ، لِتمْسِكُوا مَا بِأيدِيكُمْ، وَلا تُنْفِقُوهُ فِي سَبِيلِ مَرْضَاةِ اللهِ، وَيَأمُرُكُمْ بِارْتِكَابِ المَعَاصِي وَالمَآثِمِ، وَمُخَالَفَةِ الأَخْلاَقِ، وَاللهُ يَعِدُكُمْ بِالخَيْرِ وَالمَغْفِرَةِ وَالرِّزْقِ، عَلَى لِسَانِ نَبِيِّكُمْ، وَبِمَا أَوْدَعَهُ اللهُ فِي الفِطَرِ السَّلِيمَةِ مِنْ حُبِّ الخَيْرِ. وَاللهُ وَاسعُ الرِّزْقِ وَالعَطَاءِ وَالمَغْفِرَةِ. عَليمٌ بِأحْوَالِكُمْ وَمَا فِيهِ خَيْرُكُمْ. (2)
وتخويفه إيانا الفقر بأن يقول: إن أنفقتم أموالكم افتقرتم، والفحشاء التي يأمرنا بها: هي كل فعلة فاحشة خبيثة من البخل والزنا وغير ذلك.
6 - إشغاله بالمباحات عن الطاعات وبالعمل المفضول عن الفاضل:
اشْتِغَاله بالمباحات الَّتِي لَا ثَوَاب فِيهَا وَلَا عِقَاب بل عقابها فَوَات الثَّوَاب الَّذِي فَاتَ عَلَيْهِ باشتغاله بهَا فَإِن عجز عَن ذَلِك نَقله إِلَى الْمرتبَة التي تليها وَهُوَ أَن يشْغلهُ بِالْعَمَلِ
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد (ص: 3527، بترقيم الشاملة آليا)
(2) - أيسر التفاسير لأسعد حومد (ص: 275، بترقيم الشاملة آليا)(1/155)
الْمَفْضُول عَمَّا هُوَ أفضل مِنْهُ ليستريح عَلَيْهِ الفضلة ويفوته ثَوَاب الْعَمَل الْفَاضِل فنعوذ بِاللَّه من الشَّيْطَان وَحزبه (1)
قَالَ ابْنُ عَطَاءٍ اجْتِهَادُك فِيمَا ضُمِنَ لَك وَتَقْصِيرُك فِيمَا طُلِبَ مِنْك دَلِيلٌ عَلَى انْطِمَاسِ بَصِيرَتِك.
والاجتهاد في الشيء استفراغ الجهد والطاقة في طلبه والتقصير هو التفريط، ولتضييع والبصيرة ناظر القلب كما أن البصر ناظر القالب، فالبصيرة لا ترى إلا المعاني والبصر لا يرى إلا المحسوسات، أو تقول البصيرة لا ترى إلا اللطيف والبصر لا يرى إلا الكثيف، أو تقول البصيرة لا ترى إلا القديم والبصر لا يرى إلا الحادث، أو تقول البصيرة لا ترى إلا المكوِّن والبصر لا يرى إلا الكون، فإذا أراد الله فتح بصيرة العبد أشغله في الظاهر بخدمته وفي الباطن بمحبته، فكلما عظمت المحبة في الباطن والخدمة في الظاهر قوي نور البصيرة حتى يستولى على البصر فيغيب نور البصر في نور البصيرة، فلا يرى إلا ما تراه البصيرة من المعاني اللطيفة والأنوار القديمة" (2)
فهؤلاء قد أقاموا الدُّنْيَا فهدمتهم، واغتروا بها من دون الله فأذلتهم، أكثروا فيها من الآمال وأحبوا طول الآجال ونسوا الموت وَمَا بعده من الشدائد فِي الدُّنْيَا والآخِرَة، قَالَ تَعَالَى: {قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الزمر: 15]. (3)
7 - الإيذاء البدني والنفسي:
كما يهدف الشيطان إلى إضلال الإنسان بالكفر والذنوب، فإنه يهدف إلى إيذاء المسلم في بدنه ونفسه، قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: " لا شك أن الجن لهم تأثير على الإنس بالأذية التي قد تصل إلى القتل، وربما يؤذونه يرمي الحجارة، وربما يروعون الإنسان، إلى غير ذلك من الأشياء التي ثبتت بها السنَّة ودلَّ عليها الواقع، وذكر قصة الصحابي الذي
__________
(1) - آكام المرجان في أحكام الجان (ص: 226)
(2) - إيقاظ الهمم شرح متن الحكم (ص: 12، بترقيم الشاملة آليا) وانظر بريقة محمودية في شرح طريقة محمدية وشريعة نبوية (4/ 192)
(3) - موارد الظمآن لدروس الزمان (2/ 174)(1/156)
قتل الحية في داره فقتلته الجن بها، ثم قال: " وهذا دليل على أن الجن قد يعتدون على الإنس، وأنهم قد يؤذونهم، كما أن الواقع شاهدٌ بذلك، فإنه قد تواترت الأخبار واستفاضت بأن الإنسان قد يأتي إلى الخربة فيرمي بالحجارة وهو لا يرى أحداً من الإنس في هذه الخِربة، وقد يسمع أصواتاً وقد يسمع حفيفاً كحفيف الأشجار وما أشبه ذلك مما يستوحش به ويتأذى به، وكذلك أيضاً قد يدخل الجني إلى جسد الآدمي إما بعشق أو بقصد الإيذاء أو لسبب آخر من الأسباب، ويشير إلى هذا قوله تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} [البقرة: 275].
وفي هذا النوع قد يتحدث الجني من باطن الإنسي نفسه ويخاطب من يقرأ عليه آيات من القرآن الكريم، وربما يأخذ القارئ عليه عهداً أن لا يعود، إلى غير ذلك من الأمور الكثيرة التي استفاضت بها الأخبار وانتشرت بين الناس. وعلى هذا فإن الوقاية المانعة من شر الجن أن يقرأ الإنسان ما جاءت به السنَّة مما يتحصن به منهم مثل آية الكرسي، ففي الحديث الصحيح .. إِذَا أَوَيْتَ إِلَى فِرَاشِكَ فَاقْرَأْ آيَةَ الْكُرْسِيِّ {اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة: 255] حَتَّى تَخْتِمَ الْآيَةَ، فَإِنَّهُ لَنْ يَزَالَ عَلَيْكَ مِنَ اللهِ حَافِظٌ، وَلَا يَقْرَبُكَ شَيْطَانٌ حَتَّى تُصْبِحَ. " (1)
ونحن نسوق ما ورد في السنة من هذا الإيذاء:
أ- مهاجمة الرسول - صلى الله عليه وسلم -:
ذكرنا في غير هذا الموضع الحديث الذي يخبر فيه الرسول - صلى الله عليه وسلم - بمهاجمة الشيطان له، ومجيء الشيطان بشهاب من نار ليرميه في وجه الرسول - صلى الله عليه وسلم -. فعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، قَالَ: قَامَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَسَمِعْنَاهُ يَقُولُ: «أَعُوذُ بِاللهِ مِنْكَ» ثُمَّ قَالَ «أَلْعَنُكَ بِلَعْنَةِ اللهِ» ثَلَاثًا، وَبَسَطَ يَدَهُ كَأَنَّهُ يَتَنَاوَلُ شَيْئًا، فَلَمَّا فَرَغَ مِنَ الصَّلَاةِ قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ قَدْ سَمِعْنَاكَ تَقُولُ فِي الصَّلَاةِ شَيْئًا لَمْ نَسْمَعْكَ تَقُولُهُ قَبْلَ ذَلِكَ، وَرَأَيْنَاكَ بَسَطْتَ يَدَكَ، قَالَ: " إِنَّ عَدُوَّ اللهِ إِبْلِيسَ، جَاءَ بِشِهَابٍ مِنْ نَارٍ لِيَجْعَلَهُ فِي وَجْهِي، فَقُلْتُ: أَعُوذُ بِاللهِ مِنْكَ، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ
__________
(1) - مجموع فتاوى الشيخ ابن عثيمين " (1/ 287، 288) وموقع الإسلام سؤال وجواب (1/ 543)(1/157)
قُلْتُ: أَلْعَنُكَ بِلَعْنَةِ اللهِ التَّامَّةِ، فَلَمْ يَسْتَأْخِرْ، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ أَرَدْتُ أَخْذَهُ، وَاللهِ لَوْلَا دَعْوَةُ أَخِينَا سُلَيْمَانَ لَأَصْبَحَ مُوثَقًا يَلْعَبُ بِهِ وِلْدَانُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ " (1)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «بَيْنَا أَنَا قَائِمٌ أُصَلِّي اعْتَرَضَ لِي الشَّيْطَانُ، فَأَخَذْتُ بِحَلْقِهِ فَخَنَقْتُهُ حَتَّى إِنِّي لَأَجِدُ بَرْدَ لِسَانِهِ عَلَى إِبْهَامِي، فَرَحِمَ اللهُ سُلَيْمَانَ لَوْلَا دَعَوْتُهُ أَصْبَحَ مَرْبُوطًا تَنْظُرُونَ إِلَيْهِ» (2)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «اعْتَرَضَ لِي الشَّيْطَانُ فِي مُصَلَّايَ فَأَخَذْتُ بِحَلْقِهِ فَخَنَقْتُهُ، حَتَّى وَجَدْتُ بَرْدَ لِسَانِهِ عَلَى كَفَّيَّ، وَلَوْلَا مَا كَانَ مِنْ دَعْوَةِ أَخِي سُلَيْمَانَ، لَأَصْبَحَ مَرْبُوطًا تَنْظُرُونَ إِلَيْهِ» (3)
ب- الحلم من الشيطان:
للشيطان قدرة على أن يرى الإنسان في منامه أحلاماً تزعجه وتضايقه، بهدف إحزانه وإيلامه. فقد أخبر الرسول - صلى الله عليه وسلم -: أن الرؤى التي يراها المرء في منامه ثلاثة أنواع، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: الرُّؤْيَا ثَلاَثٌ: فَبُشْرَى مِنَ اللهِ، وَحَدِيثُ النَّفْسِ، وَتَخْوِيفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ، فَإِذَا رَأَى أَحَدُكُمْ رُؤْيَا تُعْجِبُهُ فَلْيَقُصَّهَا، إِنْ شَاءَ، وَإِنْ رَأَى شَيْئًا يَكْرَهُهُ، فَلاَ يَقُصَّهُ عَلَى أَحَدٍ، وَلْيَقُمْ يُصَلِّي". (4)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " الرُّؤْيَا ثَلَاثٌ: فَرُؤْيَا حَقٍّ، وَرُؤْيَا يُحَدِّثُ بِهَا الرَّجُلُ نَفْسَهُ، وَرُؤْيَا تَحْزِينٍ مِنَ الشَّيْطَانِ، فَمَنْ رَأَى مَا يَكْرَهُ فَلْيَقُمْ فَلْيُصَلِّ " (5)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " الرُّؤْيَا عَلَى ثَلَاثَةٍ: بُشْرَى مِنَ اللهِ، وَتَحْزِينٌ مِنَ الشَّيْطَانِ، وَالشَّيْءُ يُحَدِّثُ بِهِ الْإِنْسَانُ فَيَرَاهُ فِي مَنَامِهِ " (6)
__________
(1) - صحيح مسلم (1/ 385) 40 - (542)
(2) - السنن الكبرى للنسائي (1/ 294) (555) صحيح
(3) - السنن الكبرى للنسائي (1/ 295) (556) صحيح
(4) - سنن ابن ماجة- طبع مؤسسة الرسالة (5/ 62) (3906) صحيح
(5) - السنن الكبرى للنسائي (9/ 334) (10680) صحيح
(6) - السنن الكبرى للنسائي (9/ 332) (10673) صحيح(1/158)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «الرُّؤْيَا مِنَ اللهِ، وَالْحُلُمُ مِنَ الشَّيْطَانِ، فَمَنْ رَأَى مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا يَكْرَهُهُ فَلْيَتَعَوَّذْ بِاللهِ مِنْهَا، وَلْيَنْفِثْ عَنْ يَسَارِهِ ثَلَاثًا، وَلَا يَذْكُرْهَا لِأَحَدٍ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَضُرُّهُ» (1)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ» وَقَالَ: «الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ مِنَ اللهِ، وَالْحُلُمُ مِنَ الشَّيْطَانِ، فَإِذَا حَلَمَ أَحَدُكُمْ حُلُمًا يَخَافُهُ فَلْيَبْصُقْ عَنْ يَسَارِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَلْيَسْتَعِذْ بِاللهِ مِنْ شَرِّهِ، فَإِنَّهُ لَنْ يَضُرَّهُ» (2)
وعَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: " إِنَّ الرُّؤْيَا ثَلَاثٌ: مِنْهَا أَهَاوِيلُ مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ بِهَا ابْنَ آدَمَ، وَمِنْهَا مَا يَهُمُّ بِهِ الرَّجُلُ فِي يَقَظَتِهِ، فَيَرَاهُ فِي مَنَامِهِ، وَمِنْهَا جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ " (3)
وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ: أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «إِذَا رَأَى أَحَدُكُمْ رُؤْيَا يُحِبُّهَا، فَإِنَّمَا هِيَ مِنَ اللَّهِ، فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ عَلَيْهَا وَلْيُحَدِّثْ بِهَا، وَإِذَا رَأَى غَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا يَكْرَهُ، فَإِنَّمَا هِيَ مِنَ الشَّيْطَانِ، فَلْيَسْتَعِذْ مِنْ شَرِّهَا، وَلاَ يَذْكُرْهَا لِأَحَدٍ، فَإِنَّهَا لاَ تَضُرُّهُ» (4)
وعَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا سَلَمَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا قَتَادَةَ، يَقُولُ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «الرُّؤْيَا مِنَ اللَّهِ، وَالحُلْمُ مِنَ الشَّيْطَانِ، فَإِذَا رَأَى أَحَدُكُمْ شَيْئًا يَكْرَهُهُ فَلْيَنْفِثْ حِينَ يَسْتَيْقِظُ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، وَيَتَعَوَّذْ مِنْ شَرِّهَا، فَإِنَّهَا لاَ تَضُرُّهُ» وَقَالَ أَبُو سَلَمَةَ: «وَإِنْ كُنْتُ لَأَرَى الرُّؤْيَا أَثْقَلَ عَلَيَّ مِنَ الجَبَلِ، فَمَا هُوَ إِلَّا أَنْ سَمِعْتُ هَذَا الحَدِيثَ فَمَا أُبَالِيهَا» (5)
__________
(1) - السنن الكبرى للنسائي (9/ 332) (10672) صحيح
(2) - السنن الكبرى للنسائي (9/ 332) (10674) صحيح
(3) - سنن ابن ماجه (2/ 1285) (3907) صحيح - (أهاويل) جمع أهوال. كأقاويل جمع أقوال جمع قول
(4) - صحيح البخاري (9/ 30) (6985)
[ش (من الله) الإضافة إلى الله تعالى تشريف. (لا تضره) لا يصيبه أذى بسببها]
(5) - صحيح البخاري (7/ 133) (5747) وصحيح مسلم (4/ 1771) 1 - (2261)
[(فلينفث) يبصق بصاقا خفيفا عن يساره وقيل هو البصاق بلا ريق يفعل ذلك طردا للشيطان واحتقارا له واستقذارا منه. (فما أباليها) أي لا أكترث بالرؤيا التي يتوقع منها الشر لتحصني بما يحفظني منه](1/159)
وعَنْ أَبِي سَلَمَةَ، قَالَ: كُنْتُ أَلْقَى مِنَ الرُّؤْيَا شِدَّةً غَيْرَ أَنِّي لَا أُزَمِّلُ حَتَّى حَدَّثَنِي أَبُو قَتَادَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «الرُّؤْيَا مِنَ اللَّهِ، وَالْحُلْمُ مِنَ الشَّيْطَانِ، فَإِذَا حَلَمَ أَحَدُكُمْ حُلْمًا يَكْرَهُهُ فَلْيَبْصُقْ عَنْ يَسَارِهِ ثَلَاثَ بَصَقَاتٍ وَلْيَسْتَعِذْ مِنَ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهَا لَنْ تَضُرَّهُ» (1)
وعَنْ أَبِي قَتَادَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: " الرُّؤْيَا عَلَى ثَلَاثَةِ مَنَازِلَ: فَمِنْهَا مَا يُحَدِّثُ بِهَا الرَّجُلُ نَفْسَهُ فَلَيْسَ ذَلِكَ بِشَيْءٍ، وَمِنْهَا مَا يَكُونُ مِنَ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهَا لَنْ تَضُرَّهُ، وَمِنْهَا رُؤْيَا مِنَ اللهِ، فَإِذَا رَأَى أَحَدُكُمُ الشَّيْءَ يُعْجِبُهُ فَلْيَعْرِضْهُ عَلَى ذِي رَأْيٍ نَاصِحٍ، فَلْيَتَأَوَّلْ خَيْرًا وَلْيَقُلْ خَيْرًا، فَإِنَّ رُؤْيَا الْعَبْدِ الصَّالِحِ جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ " (2)
وعَنْ جَابِرٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إِذَا حَلَمَ أَحَدُكُمْ فَلَا يُخْبِرْ أَحَدًا بِتَلَعُّبِ الشَّيْطَانِ بِهِ فِي الْمَنَامِ» (3)
وعَنْ جَابِرٍ عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ لِأَعْرَابِيٍّ جَاءَهُ قَالَ: إِنِّي حَلَمْتُ أَنَّ رَأْسِي قُطِعَ، فَأَنَا أَتْبَعَهُ؟ فَزَجَرَهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: «لَا تُخْبِرْ بِتَلَعُّبِ الشَّيْطَانِ بِكَ فِي الْمَنَام" (4)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: رَأَيْتُ رَأْسِي فِي الْمَنَامِ ضُرِبَ فَرَأَيْتُهُ يَتَدَهْدَهُ؟ فَضَحِكَ وَقَالَ: «يَعْمِدُ الشَّيْطَانُ إِلَى أَحَدِكُمْ فَيَتَهَوَّلُهُ، ثُمَّ يَغْدُو يُخْبِرُ بِهِ النَّاسَ؟» (5)
وعَنْ جَابِرٍ عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ: «إِذَا رَأَى أَحَدُكُمْ رُؤْيَا يَكْرَهُهَا فَلْيَبْزُقْ عَنْ يَسَارِهِ ثَلَاثًا، وَلْيَسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ ثَلَاثًا، وَلْيَتَحَوَّلْ عَنْ جَنْبِهِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ» (6)
__________
(1) - الدعاء للطبراني (ص: 380) (1271) صحيح
(2) - السنن الكبرى للنسائي (9/ 334) (10679) صحيح
(3) - السنن الكبرى للنسائي (7/ 119) (7609) صحيح
(4) - السنن الكبرى للنسائي (9/ 335) (10682) صحيح
(5) - السنن الكبرى للنسائي (9/ 335) (10683) صحيح
(6) - السنن الكبرى للنسائي (9/ 334) (10681) صحيح(1/160)
"وقالَ المازِرِيّ، كَثُرَ كَلام النّاس فِي حَقِيقَة الرُّؤيا، وقالَ فِيها غَير الإِسلامِيِّينَ أَقاوِيلَ كَثِيرَةً مُنكَرَة، لأَنَّهُم حاولُوا الوُقُوف عَلَى حَقائِق لا تُدرَك بِالعَقلِ ولا يَقُوم عَلَيها بُرهان، وهُم لا يُصَدِّقُونَ بِالسَّمعِ فاضطَرَبَت أَقوالهم، فَمَن يَنتَمِي إِلَى الطِّبّ يَنسُب جَمِيعَ الرُّؤيا إِلَى الأَخلاطِ فَيَقُول مَن غَلَبَ عَلَيهِ البَلغَم رَأَى أَنَّهُ يَسبَح فِي الماء ونَحو ذَلِكَ لِمُناسَبَةِ الماء طَبِيعَةَ البَلغَم، ومَن غَلَبَت عَلَيهِ الصَّفراء رَأَى النِّيران والصُّعُود فِي الجَوّ، وهَكَذا إِلَى آخِره، وهَذا وإِن جَوَّزَهُ العَقل وجازَ أَن يُجرِيَ اللَّهُ العادَة بِهِ لَكِنَّهُ لَم يَقُم عَلَيهِ دَلِيل ولا اطَّرَدَت بِهِ عادَة، والقَطع فِي مَوضِع التَّجوِيز غَلَطٌ.
ومَن يَنتَمِي إِلَى الفَلسَفَة يَقُول: إِنَّ صُورَ ما يَجرِي فِي الأَرض هِيَ فِي العالَم العُلوِيّ كالنُّقُوشِ فَما حاذَى بَعض النُّقُوش مِنها انتَقَشَ فِيها، قالَ: وهَذا أَشَدُّ فَسادًا مِنَ الأَوَّل لِكَونِهِ تَحَكُّمًا لا بُرهان عَلَيهِ والانتِقاش مِن صِفات الأَجسام، وأَكثَرُ ما يَجرِي فِي العالَم العُلوِيّ الأَعراض، والأَعراض لا يُنتَقَش فِيها
والصَّحِيح ما عَلَيهِ أَهل السُّنَّة أَنَّ الله يَخلُق فِي قَلب النّائِم اعتِقاداتٍ كَما يَخلُقها فِي قَلب اليَقظان فَإِذا خَلَقَها فَكَأَنَّهُ جَعَلَها عَلَمًا عَلَى أُمُور أُخرَى يَخلُقها فِي ثانِي الحال، ومَهما وقَعَ مِنها عَلَى خِلاف المُعتَقَد فَهُو كَما يَقَع لِليَقظانِ، ونَظِيره أَنَّ الله خَلَقَ الغَيم عَلامَة عَلَى المَطَر وقَد يَتَخَلَّف، وتِلكَ الاعتِقادات تَقَع تارَة بِحَضرَةِ المَلَك فَيَقَع بَعدها ما يَسُرّ أَو بِحَضرَةِ الشَّيطان فَيَقَع بَعدها ما يَضُرّ والعِلم عِند الله تَعالَى.
وقالَ القُرطُبِيّ: سَبَب تَخلِيط غَير الشَّرعِيِّينَ إِعراضُهُم عَمّا جاءَت بِهِ الأَنبِياء مِنَ الطَّرِيق المُستَقِيم، وبَيان ذَلِكَ أَنَّ الرُّؤيا إِنَّما هِيَ مِن إِدراكات النَّفس وقَد غُيِّبَ عَنّا عِلمُ حَقِيقَتها أَي النَّفس، وإِذا كانَ كَذَلِكَ فالأَولَى أَن لا نَعلَم عِلم إِدراكاتها، بَل كَثِير مِمّا انكَشَفَ لَنا مِن إِدراكات السَّمع والبَصَر إِنَّما نَعلَم مِنهُ أُمُورًا جُمَلِيَّة لا تَفصِيلِيَّة. " (1)
"قَالَ الْمَازرِيّ: وَأما قَوْله - صلى الله عليه وسلم - فَإِنَّهَا لن تضره فَقيل مَعْنَاهُ أَن الروع يذهب بِهَذَا النفث الْمَذْكُور، وَفِي الحَدِيث إِذا كَانَ فَاعله مُصدقا بِهِ متكلا على الله جلت قدرته فِي دفع الْمَكْرُوه، وَقيل يحْتَمل أن يُرِيد أَن هَذَا الْفِعْل مِنْهُ يمْنَع من نُفُوذ مَا دلّ عَلَيْهِ الْمَنَام من
__________
(1) - فتح الباري شرح صحيح البخاري- ط دار المعرفة (12/ 353) وشرح النووي على مسلم (15/ 17)(1/161)
الْمَكْرُوه، وَيكون ذَلِك سَببا فِيهِ كَمَا تكون الصَّدَقَة تدفع الْبلَاء، إِلَى غير ذَلِك من النَّظَائِر الْمَذْكُورَة عِنْد أهل الشَّرِيعَة وَالله تَعَالَى أعلم" (1)
رؤيا النبي - صلى الله عليه وسلم - في المنام حق:
فعَنِ الزُّهْرِيِّ، حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «مَنْ رَآنِي فِي المَنَامِ فَسَيَرَانِي فِي اليَقَظَةِ، وَلاَ يَتَمَثَّلُ الشَّيْطَانُ بِي» (2)
وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ، سَمِعَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «مَنْ رَآنِي فَقَدْ رَأَى الحَقَّ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لاَ يَتَكَوَّنُنِي» (3)
وعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ رَآنِي فِي المَنَامِ فَقَدْ رَآنِي، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لاَ يَتَخَيَّلُ بِي، وَرُؤْيَا المُؤْمِنِ جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ» (4)
قال البغوي: " وَرُؤْيَةُ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فِي الْمَنَامِ حَقٌّ، وَلا يَتَمَثَّلُ الشَّيْطَانُ بِهِ، وَكَذَلِكَ جَمِيعُ الأَنْبِيَاءِ، وَالْمَلائِكَةِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ، وَكَذَلِكَ الشَّمْسُ، وَالْقَمَرُ، وَالنُّجُومُ الْمُضِيئَةُ، وَالسَّحَابُ الَّذِي فِيهِ الْغَيْثُ، لَا يَتَمَثَّلُ الشَّيْطَانُ بِشَيْءٍ مِنْهَا.
__________
(1) - آكام المرجان في أحكام الجان (ص: 244)
(2) - صحيح البخاري (9/ 33) (6993) وصحيح مسلم (4/ 1775) 11 - (2266)
[في الحديث أن رؤية النبي صلى الله عليه وسلم في المنام صحيحة لا تنكر وليست بأضغاث أحلام ولا من تشبيهات الشيطان. وقيل إذا رئي على الصفات الحميدة دل ذلك على الخصب والأمطار الكثيرة وكثرة الرحمة ونصرة المجاهدين وظهور الدين وظفر الغزاة والمقاتلين ودمار الكفار وظفر المسلمين بهم وصحة الدين. وإذا رئي على صفات مكروهة ربما دل ذلك على الحرارة وظهور الفتن والبدع وضعف الدين (فسيراني في اليقظة) قيل المراد أهل عصره أي من رآه في المنام وفقه الله تعالى للهجرة إليه والتشرف بلقائه صلى الله عليه وسلم. أو يرى تصديق تلك الرؤيا في الدار الاخرة أو يراه فيها رؤية خاصة في القرب منه والشفاعة. (لا يتمثل الشيطان بي) لا يحصل له مثال صورتي ولا يتشبه بي. (إذا رآه في صورته) أي أن رؤيته للنبي صلى الله عليه وسلم لا تعتبر إلا إذا رآه على صفته التي وصف بها]
(3) - صحيح البخاري (9/ 33) (6997) وصحيح مسلم (4/ 1776) 11 - (2267)
[ش (لا يتكونني) لا يتشكل بشكلي]
(4) - صحيح البخاري (9/ 33) (6994)
[ش (فقد رآني) أي إن رؤياه صحيحة لا تكون أضغاثا ولا من تشبيهات الشيطان. (لا يتخيل بي) لا يتمثل ولا يتصور](1/162)
وَمَنْ رَأَى نُزُولَ الْمَلائِكَةِ بِمَكَانٍ، فَهُوَ نُصْرَةٌ لأَهْلِ ذَلِكَ الْمَكَانِ، وَفَرَجٌ إِنْ كَانُوا فِي كَرْبٍ، وَخِصْبٌ إِنْ كَانُوا فِي ضِيقٍ وَقَحْطٍ، وَكَذَلِكَ رُؤْيَةُ الأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ.
وَمَنْ رَأَى مَلَكًا يُكَلِّمُهُ بِبِرٍّ، أَوْ بِعِظَةٍ، أَوْ بِصِلَةٍ، أَوْ يُبَشِّرُهُ، فَهُوَ شَرَفٌ فِي الدُّنْيَا، وَشَهَادَةٌ فِي الْعَاقِبَةِ.
وَرُؤْيَةُ الأَنْبِيَاءِ مِثْلُ رُؤْيَةِ الْمَلائِكَةِ إِلا فِي الشَّهَادَةِ، لأَنَّ الأَنْبِيَاءَ كَانُوا يُخَالِطُونَ النَّاسَ، وَالْمَلائِكَةُ عِنْدَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَا يَرَاهُمُ النَّاسُ، كَمَا قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ} [الْأَعْرَاف:206]،وَقَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي الشُّهْدَاءِ: {وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ} [الْحَدِيد:19].
وَرُؤْيَةُ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فِي مَكَانٍ سَعَةٌ لأَهْلِ ذَلِكَ الْمَكَانِ إِنْ كَانُوا فِي ضِيقٍ، وَفَرَجٌ إِنْ كَانُوا فِي كَرْبٍ، وَنُصْرَةٌ إِنْ كَانُوا فِي ظُلْمٍ، وَكَذَلِكَ رُؤْيَةُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ، وَرُؤْيَةُ أَهْلِ الدِّينِ بَرَكَةٌ وَخَيْرٌ عَلَى قَدْرِ مَنَازِلِهِمْ فِي الدِّينِ، وَمَنْ رَأَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَثِيرًا فِي الْمَنَامِ، لَمْ يَزَلْ خَفِيفَ الْحَالِ، مُقِلا فِي دُنْيَاهُ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ قَادِحَةٍ، وَلا خِذْلانٍ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ الْفَقْرَ أَسْرَعُ إِلَى مِنْ يُحِبُّنِي مِنَ السَّيْلِ إِلَى مُنْتَهَاهُ» (1).
وَرُؤْيَةُ الإِمَامِ إِصَابَةُ خَيْرٍ وَشَرَفٍ." (2)
" قالَ المازِرِيّ: اختَلَفَ المُحَقِّقُونَ فِي تَأوِيل هَذا الحَدِيث فَذَهَبَ القاضِي أَبُو بَكر بن الطَّيِّب إِلَى أَنَّ المُراد بِقَولِهِ:"مَن رَآنِي فِي المَنام فَقَد رَآنِي " أَنَّ رُؤياهُ صَحِيحَة لا تَكُون أَضغاثًا ولا مِن تَشبِيهات الشَّيطان، قالَ: ويُعَضِّدهُ قَولُهُ فِي بَعض طُرُقه " فَقَد رَأَى الحَقّ" قالَ وفِي قَولُه:"فَإِنَّ الشَّيطان لا يَتَمَثَّل بِي " إِشارَة إِلَى أَنَّ رُؤياهُ لا تَكُون أَضغاثًا.
ثُمَّ قالَ المازِرِيّ: وقالَ آخَرُونَ بَل الحَدِيث مَحمُول عَلَى ظاهِره والمُراد أَنَّ مَن رَآهُ فَقَد أَدرَكَهُ ولا مانِع يَمنَع مِن ذَلِكَ ولا عَقل يُحِيلهُ حَتَّى يَحتاج إِلَى صَرف الكَلام عَن ظاهِره، وأَمّا كَونه قَد يُرَى عَلَى غَير صِفَته أَو يُرَى فِي مَكانَينِ مُختَلِفَينِ مَعًا فَإِنَّ ذَلِكَ
__________
(1) - صحيح ابن حبان - مخرجا (7/ 185) (2922) صحيح
(2) - شرح السنة للبغوي (12/ 228)(1/163)
غَلَطٌ فِي صِفَته وتَخَيُّل لَها عَلَى غَير ما هِيَ عَلَيهِ، وقَد يُظَنُّ بَعضُ الخَيالات مَرئِيّاتٍ لِكَونِ ما يُتَخَيَّل مُرتَبِطًا بِما يُرَى فِي العادَة فَتَكُون ذاته - صلى الله عليه وسلم - مَرئِيَّة وصِفاته مُتَخَيَّلَة غَير مَرئِيَّة، والإِدراك لا يُشتَرَط فِيهِ تَحدِيق البَصَر ولا قُرب المَسافَة ولا كَون المَرئِيّ ظاهِرًا عَلَى الأَرض أَو مَدفُونًا، وإِنَّما يُشتَرَط كَونه مَوجُودًا، ولَم يَقُم دَلِيل عَلَى فَناء جِسمه - صلى الله عليه وسلم -،بَل جاءَ فِي الخَبَر الصَّحِيح ما يَدُلّ عَلَى بَقائِهِ وتَكُون ثَمَرَة اختِلاف الصِّفات اختِلاف الدَّلالات كَما قالَ بَعض عُلَماء التَّعبِير إِنَّ مَن رَآهُ شَيخًا فَهُو عام سِلم أَو شابًّا فَهُو عام حَرب.
ويُؤخَذ مِن ذَلِكَ ما يَتَعَلَّق بِأَقوالِهِ كَما لَو رَآهُ أَحَد يَأمُرهُ بِقَتلِ مَن لا يَحِلّ قَتله فَإِنَّ ذَلِكَ يُحمَل عَلَى الصِّفَة المُتَخَيَّلَة لا المَرئِيَّة.
وقالَ القاضِي عِياض: يَحتَمِل أَن يَكُون مَعنَى الحَدِيث إِذا رَآهُ عَلَى الصِّفَة الَّتِي كانَ عَلَيها فِي حَياته لا عَلَى صِفَة مُضادَّة لِحالِهِ، فَإِن رُئِيَ عَلَى غَيرها كانَت رُؤيا تَأوِيل لا رُؤيا حَقِيقَة، فَإِنَّ مِنَ الرُّؤيا ما يُخَرَّج عَلَى وجهه ومِنها ما يَحتاج إِلَى تَأوِيل." (1)
ج- إحراق المنازل بالنار:
وذلك بوساطة بعض الحيوانات التي يغريها بذلك، ففي سنن أبي داود عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: جَاءَتْ فَأْرَةٌ فَأَخَذَتْ تَجُرُّ الْفَتِيلَةَ فَجَاءَتْ بِهَا فَأَلْقَتْهَا بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى الْخُمْرَةِ الَّتِي كَانَ قَاعِدًا عَلَيْهَا فَأَحْرَقَتْ مِنْهَا مِثْلَ مَوْضِعِ الدِّرْهَمِ فَقَالَ: «إِذَا نِمْتُمْ فَأَطْفِئُوا سُرُجَكُمْ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَدُلُّ مِثْلَ هَذِهِ عَلَى هَذَا فَتُحْرِقَكُمْ» (2)
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: جَاءَتْ فَأْرَةٌ فَأَخَذَتْ تَجُرُّ الْفَتِيلَةَ، فَذَهَبَتِ الْجَارِيَةُ تَزْجُرُهَا، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «دَعِيهَا»،فَجَاءَتْ بِهَا فَأَلْقَتْهَا عَلَى الْخُمْرَةِ الَّتِي كَانَ قَاعِدًا عَلَيْهَا، فَاحْتَرَقَ مِنْهَا
__________
(1) - فتح الباري شرح صحيح البخاري- ط دار المعرفة (12/ 386)
الفتيلة: الخيط الذي يضيء به المصباح =الخُمْرَة: هي مقدارُ ما يَضَع الرجُل عليه وجْهه في سجوده من حَصِير أو نَسِيجة خُوص ونحوه من النَّباتِ = السراج: المصباح
(2) - الأدب المفرد مخرجا (ص:419) (1222) صحيح
الفتيلة: الخيط الذي يضيء به المصباح =الخُمْرَة: هي مقدارُ ما يَضَع الرجُل عليه وجْهه في سجوده من حَصِير أو نَسِيجة خُوص ونحوه من النَّباتِ = السراج: المصباح(1/164)
مِثْلُ مَوْضِعِ دِرْهَمٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إِذَا نِمْتُمْ فَأَطْفِئُوا سُرُجَكُمْ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَدُلُّ مِثْلَ هَذِهِ عَلَى مِثْلِ هَذَا فَتَحْرِقُكُمْ» (1)
د- تخبط الشيطان الإنسان عند الموت:
وقد كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «اللهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكْ مِنَ التَّرَدِّي، وَالْهَدْمِ وَالْغَرِقِ وَالْحَرِيقِ، وَأَعُوذُ بِكَ أَنْ يَتَخَبَّطَنِي الشَّيْطَانُ عِنْدَ الْمَوْتِ، وَأَعُوذُ بِكَ أَنْ أَمُوتَ فِي سَبِيلِكِ مُدْبِرًا، وَأَعُوذُ بِكَ أَنْ أَمُوتَ لَدِيغًا» (2).
هـ- إيذاؤه الوليد حين يولد:
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -،أَنَّهُ قَالَ: «كُلُّ بَنِي آدَمَ يَمَسُّهُ الشَّيْطَانُ يَوْمَ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ، إِلَّا مَرْيَمَ وَابْنَهَا». (3)
وعَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ المُسَيِّبِ، قَالَ: قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -،يَقُولُ: «مَا مِنْ بَنِي آدَمَ مَوْلُودٌ إِلَّا يَمَسُّهُ الشَّيْطَانُ حِينَ يُولَدُ، فَيَسْتَهِلُّ
__________
(1) - صحيح مسلم (1/ 363) 260 - (506)
(2) - السنن الكبرى للنسائي (7/ 238) (7917) صحيح
التَّرَدِّي: السُّقُوط مِنْ مَكَان عَالٍ كَالْجَبَلِ وَالسَّطْح أَوْ الْوُقُوع فِي مَكَان سَافِل كَالْبِئْرِ.= الْهَدْم):سُقُوطُ الْبِنَاء وَوُقُوعُهُ عَلَى الشَّيْء.= التَّخَبُّطُ: الْإِفْسَادُ , وَالْمُرَاد إِفْسَاد الْعَقْل وَالدِّين، وَتَخْصِيصه بِقَوْلِهِ (عِنْد الْمَوْت) لِأَنَّ الْمَدَار عَلَى الْخَاتِمَة. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: اِسْتِعَاذَتُهُ مِنْ تَخَبُّطِ الشَّيْطَانِ عِنْد الْمَوْت هُوَ أَنْ يَسْتَوْلِيَ عَلَيْهِ الشَّيْطَان عِنْد مُفَارَقَته الدُّنْيَا , فَيَضِلَّهُ وَيَحُولُ بَيْنه وَبَيْن التَّوْبَة , أَوْ يُعَوِّقُهُ عَنْ إِصْلَاح شَأْنه , وَالْخُرُوج مِنْ مَظْلِمَة تَكُونُ قَبْله , أَوْ يُؤَيِّسُهُ مِنْ رَحْمَة اللَّه تَعَالَى , أَوْ يَكْرَهُ الْمَوْت وَيَتَأَسَّفُ عَلَى حَيَاة الدُّنْيَا , فَلَا يَرْضَى بِمَا قَضَاهُ اللَّه مِنْ الْفَنَاء وَالنَّقْلَة إِلَى دَار الْآخِرَة , فَيُخْتَمُ لَهُ بِسُوءٍ , وَيَلْقَى اللَّه وَهُوَ سَاخِطٌ عَلَيْهِ , وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَكُونُ فِي حَال أَشَدّ عَلَى اِبْن آدَم مِنْهُ فِي حَال الْمَوْت , يَقُولُ لِأَعْوَانِهِ: دُونَكُمْ هَذَا , فَإِنَّهُ إِنْ فَاتَكُمْ الْيَوْم لَمْ تَلْحَقُوهُ بَعْد الْيَوْم , نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ شَرّه وَنَسْأَلُهُ أَنْ يُبَارِكَ لَنَا فِي ذَلِكَ الْمَصْرَع وَأَنْ يَخْتِمَ لَنَا وَلِكَافَّةِ الْمُسْلِمِينَ , وَأَنْ يَجْعَلَ خَيْر أَيَّامِنَا لِقَاءَهُ. عون المعبود - (ج 3 / ص 474)
(3) - صحيح مسلم (4/ 1838) 147 - (2366)
فيستهل صارخا الاستهلال: صياح المولود عند الولادة، والصراخ: الصياح والبكاء.=فطعن في الحجاب: في المشيمة، وهي التي يكون فيها المولود.=نزغة: النزغ: النخس.=الفطرة: الخلقة، وأراد به: ملة الإسلام. جامع الأصول في أحاديث الرسول ط مكتبة الحلواني الأولى (8/ 522)(1/165)
صَارِخًا مِنْ مَسِّ الشَّيْطَانِ، غَيْرَ مَرْيَمَ وَابْنِهَا» ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ: {وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [آل عمران:36] " (1)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - «كُلُّ بَنِي آدَمَ يَطْعُنُ الشَّيْطَانُ فِي جَنْبَيْهِ بِإِصْبَعِهِ حِينَ يُولَدُ، غَيْرَ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، ذَهَبَ يَطْعُنُ فَطَعَنَ فِي الحِجَابِ» (2)
فلما كانت أم مريم - عليها السلام - صادقة في طلبها استجاب الله لها، فأجار مريم وابنها من الشيطان الرجيم.
وممن أجاره الله أيضاً عمار بن ياسر، فعَنْ عَلْقَمَةَ، قَالَ: قَدِمْتُ الشَّأْمَ، فَقُلْتُ: مَنْ هَا هُنَا؟ قَالُوا أَبُو الدَّرْدَاءِ، قَالَ: «أَفِيكُمُ الَّذِي أَجَارَهُ اللَّهُ مِنَ الشَّيْطَانِ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ - صلى الله عليه وسلم -؟» وفي رواية: الَّذِي أَجَارَهُ اللَّهُ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَعْنِي عَمَّارًا " .. (3)
وعَنْ عَلْقَمَةَ، قَالَ:" قَدِمْتُ الشَّامَ، فَصَلَّيْتُ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ قُلْتُ: اللَّهُمَّ يَسِّرْ لِي جَلِيسًا صَالِحًا، فَأَتَيْتُ قَوْمًا، فَجَلَسْتُ إِلَيْهِمْ، فَإِذَا شَيْخٌ قَدْ جَاءَ حَتَّى جَلَسَ إِلَى جَنْبِي، قُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قَالُوا: أَبُو الدَّرْدَاءِ، قُلْتُ: إِنِّي دَعَوْتُ اللَّهَ أَنْ يُيَسِّرَ لِي جَلِيسًا صَالِحًا، فَيَسَّرَكَ لِي، فَقَالَ: مَنْ أَنْتَ؟ قُلْتُ: مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ، قَالَ: أَوَلَيْسَ عِنْدَكُمُ ابْنُ أُمِّ عَبْدٍ صَاحِبُ النَّعْلَيْنِ وَالْوِسَادِ وَالْمِطْهَرَةِ، أَفِيكُمُ الَّذِي أَجَارَهُ اللَّهُ مِنَ الشَّيْطَانِ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ، أَوَلَيْسَ فِيكُمْ صَاحِبُ سِرِّ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - الَّذِي لَا يَعْلَمُ أَحَدٌ غَيْرُهُ، ثُمَّ قَالَ: كَيْفَ يَقْرَأُ عَبْدُ اللَّهِ وَاللَّيْلِ إِذَا
__________
(1) - صحيح البخاري (4/ 164) (3431) وصحيح مسلم (4/ 1838) 146 - (2366)
[(يمسه الشيطان) يناله بيده من غير حاجز. (فيستهل) يصوت عند ولادته. (أعيذها) أجيرها وأحصنها. (الرجيم) الطريد من رحمة الله تعالى، (إلا ابن مريم وأمه) هذه فضيلة ظاهرة وظاهر الحديث اختصاصها بعيسى وأمه واختار القاضي عياض أن جميع الأنبياء يتشاركون فيها]
(2) - صحيح البخاري (4/ 125) (3286)
[ش (يطعن) يضرب. (الحجاب) الجلدة التي فيها الجنين وتسمى المشيمة. وقيل الحجاب الثوب الذي يلف فيه المولود]
(3) - صحيح البخاري (4/ 125) (3287)
[ش (قال) أي أبو الدرداء رضي الله عنه. (أفيكم) أي في العراق. (الذي أجاره الله) منعه وحماه والظاهر أن أبا الدرداء رضي الله عنه سمع هذا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -]
قلت: لا يدلُّ هذا على عصمته، بل هو يخطأ ويصيب رضي الله عنه(1/166)
يَغْشَى وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى وَالذَّكَرَ وَالأُنْثَى، قَالَ: وَاللَّهِ لَقَدْ أَقْرَأَنِيهَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ فِيهِ إِلَى فِيَّ ". (1)
و- مرض الطاعون من الجن:
عَنْ أَبِى مُوسَى قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «فَنَاءُ أُمَّتِى بِالطَّعْنِ وَالطَّاعُونِ».فَقِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا الطَّعْنُ قَدْ عَرَفْنَاهُ فَمَا الطَّاعُونُ قَالَ «وَخْزُ أَعْدَائِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَفِى كُلٍّ شُهَدَاءُ». (2)
وعن مُعَاذَةَ بِنْتِ عَبْدِ اللهِ الْعَدَوِيَّةِ، قَالَتْ: دَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ، فَقَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -:لاَ تَفْنَى أُمَّتِي إِلاَّ بِالطَّعْنِ وَالطَّاعُونِ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، هَذَا الطَّعْنُ قَدْ عَرَفْنَاهُ، فَمَا الطَّاعُونُ؟ قَالَ: غُدَّةٌ كَغُدَّةِ الْبَعِيرِ، الْمُقِيمُ بِهَا كَالشَّهِيدِ، وَالْفَارُّ مِنْهَا كَالْفَارِّ مِنَ الزَّحْفِ. (3)
وعَنْ عَائِشَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّ فَنَاءَ أُمَّتِي بِالطَّعْنِ وَالطَّاعُونِ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا الطَّعْنُ قَدْ عَرَفْتُهُ فَمَا الطَّاعُونُ؟ فَقَالَ: غُدَّةٌ تَأْخُذُهُمْ فِي مُرَافَقَتِهِمْ، الْمَيِّتُ فِيهِ شَهِيدٌ، وَالْقَائِمُ الْمُحْتَسِبُ فِيهِ كَالْمُرَابِطِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَالْفَارُّ مِنْهُ كَالْفَارِّ مِنَ الزَّحْفِ". (4)
وعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «الطَّاعُونُ شَهَادَةٌ لِأُمَّتِي، وَخْزُ أَعْدَائِكُمْ مِنَ الْجِنِّ، غُدَّةٌ كَغُدَّةِ الْبَعِيرِ تَخْرُجُ بَيْنَ الْآبَاطِ وَالْمَرَاقِّ، مَنْ مَاتَ مِنْهُ مَاتَ شَهِيدًا، وَمَنْ أَقَامَ مِنْهُ كَانَ كَالْمُرَابِطِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَمَنْ فَرَّ مِنْهُ كَانَ كَالْفِرَارِ مِنَ الزَّحْفِ» (5)
__________
(1) - شرح السنة للبغوي (14/ 150) (3949) صحيح
(2) - مسند أحمد - المكنز (42/ 355،بترقيم الشاملة آليا) 20055 وصحيح الجامع (4231) صحيح لغيره
قال السندي: قوله: بالطعن: أراد القتل بالسلاح أعم من أن يكون بالرمح، أو بالسيف، أو غيرهما.= وخز: الوخز بفتح واو وسكون خاء معجمة، بعدها زاي معجمة: طعن بالرمح أو غيره، ليس بنافذ.
وفي قوله: أعدائكم، إشارة إلى أن الطاعنين من الجن كفرة= وفي كُل: من الطعن والطاعون. مسند أحمد ط الرسالة (32/ 294)
(3) - مسند أحمد (عالم الكتب) (8/ 264) (25118) 25631 صحيح
(4) - مسند إسحاق بن راهويه (3/ 761) (1376) صحيح
(5) - معجم ابن الأعرابي (3/ 1140) (2391) صحيح لغيره
الطعن: القتل بالرماح = الطاعون: المرض العام، والوباء الذي يفسد له الهواء فتفسد به الأمزجة والأبدان(1/167)
وقد حاول الشيطان الوسوسة لزوجة النبي أيوب عليه السلام، قال تعالى: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ} [ص:41]
وَاذْكُرْ يَا مُحَمَّدُ قِصَّةَ نَبِيِّ اللهِ وَعَبْدِهِ أَيُّوبَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ، إِذ ابْتَلاَهُ اللهُ بِجَسَدِهِ حَتَّى أَرْهَقَهُ المَرَضُ، وَابْتَلاَهُ بِأَوْلاَدِهِ فَمَاتَ مِنْهُمْ مَنْ مَاتَ، وَتَفَرَّقَ مَنْ تَفَرَّقَ، وَابْتَلاَهُ بِهَلاَكِ مَالِهِ، حَتَّى لَمْ يَعُدْ عِنْدَهُ مَا يَكْفِي لِعَيْشِهِ، فَصَبَرَ صَبْراً جَمِيلاً. وَلَمَّا طَالَ بِهِ البِلاَءُ دَعَا رَبَّهُ مُتَضَرِّعاً: {أَنِّي مَسَّنِيَ الضر وَأَنتَ أَرْحَمُ الراحمين} كَمَا جَاءَ فِي آيَةٍ أُخْرَى. وَهُنَا قَالَ: لَقَدْ مَسَّنِي الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ، إِذْ أَنَّ أَيُّوبَ لَمَّا طَالَ بَلاَؤُهُ تَخَلَّى عَنْهُ أَهْلُهُ وَأَصْدِقَاؤُهُ إِلاَّ زَوْجَتهُ، وَقِلَّة قَلِيلَة مِنَ الأَصْحَابِ. فَأَخَذَ الشَّيْطَانُ يُوَسْوِسُ لِهَؤُلاَءِ المُقِيمِينَ عَلَى الإِخْلاَصِ لأَيُّوبَ لِيُنَفِّرَهُمْ مِنْهُ، وَكَانَ يَقُولُ لَهُمْ: لَوْ أَنَّ اللهَ كَانَ يُحِبُّ أَيُّوبَ مَا ابْتَلاَهُ. فَاسْتَجَابَ اللهُ تَعَالَى لِدُعَاءِ أَيُّوبَ لَمَّا رَأَى إِخْلاَصَهُ لِرَبِّهِ، وَنُفُورَهُ مِنْ وَسَاوِسِ الشَّيْطَانِ. (1)
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: إِنَّ إِبْلِيسَ قَعَدَ عَلَى الطَّرِيقِ فَاتَّخَذَ تَابُوتًا يُدَاوِي النَّاسَ فَقَالَتِ امْرَأَةُ أَيُّوبَ: يَا عَبْدَ اللَّهِ إِنَّ هَاهُنَا مُبْتَلًى، مِنْ أَمْرِهِ كَذَا وَكَذَا .. فَهَلْ لَكَ أَنْ تُدَاوِيَهُ؟ قَالَ: نَعَمْ. بِشَرْطِ إِنْ أَنَا شَفَيْتُهُ أَنْ يَقُولَ: أَنْتَ شَفَيْتَنِي لَا أُرِيدُ مِنْهُ أَجْرًا غَيْرَهُ. فَأَتَتْ أَيُّوبَ عَلَيْهِ السَّلامُ فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ: وَيْحَكِ ... !
ذَاكَ الشَّيْطَانُ، لِلَّهِ عَلَيَّ إِنْ شَفَانِي اللَّهُ تَعَالَى أَنْ أَجْلِدَكَ مِائَةَ جَلْدَةٍ فَلَمَّا شَفَاهُ اللَّهُ تَعَالَى أَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ ضغثا فأخذ عِذْقًا فِيهِ مَائَةُ شِمْرَاخٍ، فَضَرَبَ بِهَا ضَرْبَةً وَاحِدَةً." (2)
ز- بعض الأمراض الأخرى:
عَنْ حَمْنَةَ بِنْتِ جَحْشٍ قَالَتْ: كُنْتُ أُسْتَحَاضُ حَيْضَةً كَثِيرَةً شَدِيدَةً، فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَسْتَفْتِيهِ وَأُخْبِرُهُ، فَوَجَدْتُهُ فِي بَيْتِ أُخْتِي زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي امْرَأَةٌ أُسْتَحَاضُ حَيْضَةً كَثِيرَةً شَدِيدَةً، فَمَا تَرَى فِيهَا قَدْ مَنَعَتْنِي الصَّلَاةَ
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد (ص:3890،بترقيم الشاملة آليا)
(2) - تفسير ابن أبي حاتم - محققا (10/ 3245) (18361) وتاريخ دمشق لابن عساكر (10/ 67) حسن موقوف(1/168)
وَالصَّوْمَ. فَقَالَ: «أَنْعَتُ لَكِ الْكُرْسُفَ، فَإِنَّهُ يُذْهِبُ الدَّمَ».قَالَتْ: هُوَ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ. قَالَ: «فَاتَّخِذِي ثَوْبًا».فَقَالَتْ: هُوَ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ إِنَّمَا أَثُجُّ ثَجًّا. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «سَآمُرُكِ بِأَمْرَيْنِ أَيَّهُمَا فَعَلْتِ أَجْزَأَ عَنْكِ مِنَ الْآخَرِ، وَإِنْ قَوِيتِ عَلَيْهِمَا فَأَنْتِ أَعْلَمُ».قَالَ لَهَا: «إِنَّمَا هَذِهِ رَكْضَةٌ مِنْ رَكَضَاتِ الشَّيْطَانِ فَتَحَيَّضِي سِتَّةَ أَيَّامٍ أَوْ سَبْعَةَ أَيَّامٍ فِي عِلْمِ اللَّهِ، ثُمَّ اغْتَسِلِي حَتَّى إِذَا رَأَيْتِ أَنَّكِ قَدْ طَهُرْتِ، وَاسْتَنْقَأْتِ فَصَلِّي ثَلَاثًا وَعِشْرِينَ لَيْلَةً أَوْ أَرْبَعًا وَعِشْرِينَ لَيْلَةً وَأَيَّامَهَا وَصُومِي، فَإِنَّ ذَلِكَ يَجْزِيكِ، وَكَذَلِكَ فَافْعَلِي فِي كُلِّ شَهْرٍ كَمَا تَحِيضُ النِّسَاءُ، وَكَمَا يَطْهُرْنَ مِيقَاتُ حَيْضِهِنَّ وَطُهْرِهِنَّ، وَإِنْ قَوِيتِ عَلَى أَنْ تُؤَخِّرِي الظُّهْرَ وَتُعَجِّلِي الْعَصْرَ فَتَغْتَسِلِينَ وَتَجْمَعِينَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ، وَتُؤَخِّرِينَ الْمَغْرِبَ وَتُعَجِّلِينَ الْعِشَاءَ، ثُمَّ تَغْتَسِلِينَ وَتَجْمَعِينَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ فَافْعَلِي، وَتَغْتَسِلِينَ مَعَ الْفَجْرِ فَافْعَلِي، وَصُومِي إِنْ قَدِرْتِ عَلَى ذَلِكَ».قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «وَهَذَا أَعْجَبُ الْأَمْرَيْنِ إِلَيَّ» (1)
ح- مشاركته لبني آدم في طعامهم وشرابهم ومسكنهم:
ومن الأذى الذي يجلبه الشيطان للإنسان أن يعتدي على طعامه وشرابه فيشركه فيهما، ويشركه في المبيت في منزله، ويكون ذلك منه إذا خالف العبد هدي الرحمن، أو غفل عن ذكر الله، أمّا إذا كان ملتزماً بالهدى الذي هدانا الله إليه، لا يغفل عن ذكر الله، فإن الشيطان لا يجد سبيلاً إلى أموالنا وبيوتنا.
فالشيطان لا يستحل الطعام إلا إذا تناول منه أحد بدون أن يُسَمّي، فإذا ذكر اسم الله عليه، فإنّه يحرم على الشيطان، روى مسلم في صحيحه عَنْ حُذَيْفَةَ، قَالَ: كُنَّا إِذَا حَضَرْنَا مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - طَعَامًا لَمْ نَضَعْ أَيْدِيَنَا حَتَّى يَبْدَأَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَيَضَعَ يَدَهُ، وَإِنَّا حَضَرْنَا مَعَهُ مَرَّةً طَعَامًا، فَجَاءَتْ جَارِيَةٌ كَأَنَّهَا تُدْفَعُ، فَذَهَبَتْ لِتَضَعَ يَدَهَا فِي الطَّعَامِ، فَأَخَذَ رَسُولُ
__________
(1) - سنن أبي داود (1/ 76) (287) وصحيح الجامع (3585) حسن
قال السندي: قوله:"فاتخذي ثوباً"،كأنها فهمت أن الثوب يوضع حيث يوضع الكُرْسُف، فقالت: هو أكثر من ذلك، فبيّن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن تلجَّمي بالثوب.="سآمرك بأمرين ":الظاهر أن الأمر الأول إذا كان هناك علامة لمعرفة الحيض من الاستحاضة، والثاني عند عدمها، والجمع أن تجد علامة، فتجعل أيام العلامة حيضاً وتغتسل مع ذلك في بقية الأيام وتصلي جمعاً، والله أعلم. مسند أحمد ط الرسالة (45/ 468)(1/169)
اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بِيَدِهَا، ثُمَّ جَاءَ أَعْرَابِيٌّ كَأَنَّمَا يُدْفَعُ فَأَخَذَ بِيَدِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ الشَّيْطَانَ يَسْتَحِلُّ الطَّعَامَ أَنْ لَا يُذْكَرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ، وَإِنَّهُ جَاءَ بِهَذِهِ الْجَارِيَةِ لِيَسْتَحِلَّ بِهَا فَأَخَذْتُ بِيَدِهَا، فَجَاءَ بِهَذَا الْأَعْرَابِيِّ لِيَسْتَحِلَّ بِهِ فَأَخَذْتُ بِيَدِهِ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنَّ يَدَهُ فِي يَدِي مَعَ يَدِهَا» (1)
وعَنْ جَابِرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «إِنَّ الشَّيْطَانَ يَحْضُرُ أَحَدَكُمْ عِنْدَ كُلِّ شَيْءٍ مِنْ شَأْنِهِ، حَتَّى يَحْضُرَهُ عِنْدَ طَعَامِهِ، فَإِذَا سَقَطَتْ مِنْ أَحَدِكُمُ اللُّقْمَةُ، فَلْيُمِطْ مَا كَانَ بِهَا مِنْ أَذًى، ثُمَّ لِيَأْكُلْهَا، وَلَا يَدَعْهَا لِلشَّيْطَانِ، فَإِذَا فَرَغَ فَلْيَلْعَقْ أَصَابِعَهُ، فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي فِي أَيِّ طَعَامِهِ تَكُونُ الْبَرَكَةُ» (2)
وقد أمرنا الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن نحفظ أموالنا من الشيطان وذلك بإغلاق الأبواب، وتخمير الآنية، وذكر اسم الله؛ فإن ذلك حرز لها من الشيطان، ففي صحيح مسلم عن عَطَاءَ، أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ، يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إِذَا كَانَ جُنْحُ اللَّيْلِ - أَوْ أَمْسَيْتُمْ - فَكُفُّوا صِبْيَانَكُمْ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْتَشِرُ حِينَئِذٍ، فَإِذَا ذَهَبَ سَاعَةٌ مِنَ اللَّيْلِ فَخَلُّوهُمْ، وَأَغْلِقُوا الْأَبْوَابَ، وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَفْتَحُ بَابًا مُغْلَقًا، وَأَوْكُوا قِرَبَكُمْ، وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ، وَخَمِّرُوا آنِيَتَكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ، وَلَوْ أَنْ تَعْرُضُوا عَلَيْهَا شَيْئًا، وَأَطْفِئُوا مَصَابِيحَكُمْ» (3)
__________
(1) - صحيح مسلم (3/ 1597) 102 - (2017)
[ش (كأنها تدفع) وفي الرواية الأخرى كأنها تطرد يعني لشدة سرعتها (إن يده في يدي مع يدها) هكذا هو في معظم الأصول يدها وفي بعضها يدهما فهذا ظاهر والتثنية تعود إلى الجارية والأعرابي ومعناه أن يدي في يد الشيطان مع يد الجارية والأعرابي أما على رواية يدها بإفراد فيعود الضمير على الجارية وقد حكى القاضي عياض رضي الله عنه أن الوجه التثنية والظاهر أن رواية الإفراد أيضا مستقيمة فإن إثبات يدها لا ينفي يد الأعرابي وإذا صحت الرواية بالإفراد وجب قبولها وتأويلها على ما ذكرناه]
(2) - صحيح مسلم (3/ 1607) 135 - (2033)
فليمط ما كان بها من أذى: الإماطة: الإزالة، والأذى: ما ينال اللقمة إذا سقطت من تراب وتلويث وغيره.
(3) - صحيح مسلم (3/ 1595) 97 - (2012) وصحيح البخاري (4/ 128) (3304)
[ش (إذا كان جنح الليل) هذا الحديث فيه جمل من أنواع الخير والآداب الجامعة لمصالح الآخرة والدنيا فأمر - صلى الله عليه وسلم - بهذه الآداب التي هي سبب للسلامة من إيذاء الشيطان وجعل الله عز وجل هذه الأسباب أسبابا للسلامة من إيذائه فلا يقدر على كشف إناء ولا حل سقاء ولا فتح باب ولا إيذاء صبي وغيره إذا وجدت هذه الأسباب وجنح الليل بضم الجيم وكسرها لغتان مشهورتان وهو ظلامه ويقال أجنح الليل أي أقبل ظلامه وأصل الجنوح الميل (فكفوا صبيانكم) أي امنعوهم من الخروج ذلك الوقت (فإن الشيطان ينتشر) أي جنس الشيطان ومعناه أنه يخاف على الصبيان ذلك الوقت من إيذاء الشياطين لكثرتهم حينئذ](1/170)
وعَنْ جَابِرٍ، عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ: «غَطُّوا الْإِنَاءَ، وَأَوْكُوا السِّقَاءَ، وَأَغْلِقُوا الْبَابَ، وَأَطْفِئُوا السِّرَاجَ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَحُلُّ سِقَاءً، وَلَا يَفْتَحُ بَابًا، وَلَا يَكْشِفُ إِنَاءً، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ أَحَدُكُمْ إِلَّا أَنْ يَعْرُضَ عَلَى إِنَائِهِ عُودًا، وَيَذْكُرَ اسْمَ اللهِ، فَلْيَفْعَلْ، فَإِنَّ الْفُوَيْسِقَةَ تُضْرِمُ عَلَى أَهْلِ الْبَيْتِ بَيْتَهُمْ» (1)
ويشرب الشيطان مع الإنسان إذا شرب واقفاً، فعَنْ أَبِي زِيَادٍ الطَّحَّانُ، مَوْلَى الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: رَأَى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - رَجُلًا يَشْرَبُ قَائِمًا فَقَالَ: " أَيَسُرُّكُ أَنْ يَشْرَبَ مَعَكَ الْهِرُّ؟ " قَالَ: لَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " قَدْ شَرِبَ مَعَكَ الشَّيْطَانُ فِي مَا شَرِبْتَ " (2)
وكي تطرد الشياطين من المنزل لا تنس أن تذكر اسم الله عند دخول المنزل، وقد أرشدنا الرسول - صلى الله عليه وسلم - لذلك، فعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: " إِذَا دَخَلَ الرَّجُلُ بَيْتَهُ، فَذَكَرَ اللهَ عِنْدَ دُخُولِهِ وَعِنْدَ طَعَامِهِ، قَالَ الشَّيْطَانُ: لَا مَبِيتَ لَكُمْ، وَلَا عَشَاءَ، وَإِذَا دَخَلَ، فَلَمْ يَذْكُرِ اللهَ عِنْدَ دُخُولِهِ، قَالَ الشَّيْطَانُ: أَدْرَكْتُمُ الْمَبِيتَ، وَإِذَا لَمْ يَذْكُرِ اللهَ عِنْدَ طَعَامِهِ، قَالَ: أَدْرَكْتُمُ الْمَبِيتَ وَالْعَشَاءَ ". (3)
__________
(1) - صحيح مسلم (3/ 1594) 96 - (2012)
[ش (الفويسقة) المراد بالفويسقة الفارة لخروجها من جحرها على الناس وإفسادها
(تضرم) أي تحرق سريعا قال أهل اللغة ضرمت النار وتضرمت وأضرمت أي التهبت وأضرمتها أنا وضرمتها]
(2) - شعب الإيمان (8/ 120) (5579) حسن وفيه كلام، قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ (البيهقي) رَحِمَهُ اللهُ: " يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ النَّهْيُ عَنِ الشَّرَابِ قَائِمًا عَلَى الْإِحْسَانِ وَالْأَدَبِ فِي الشُّرْبِ قَاعِدًا أَوْ لِمَا فِيهِ مِنَ الدَّاءِ فِيمَا زَعَمَ أَهْلُ الطِّبِّ وَخُصُوصًا لِمَنْ كَانَتْ فِي أَسَافِلِهِ عِلَّةٌ يَشْكُوهَا مِنْ بَرْدٍ أَوْ رُطُوبَةٍ لَا عَلَى التَّحْرِيمِ فَقَدْ "
وصح الشرب واقفا انظر صحيح ابن حبان - محققا (12/ 138) (5318 - 5326)
(3) - صحيح مسلم (3/ 1598) 103 - (2018) [ش (قال الشيطان) معناه قال الشيطان لإخوانه وأعوانه ورفقته](1/171)
ط-أول داخل إلى السوق وآخر من يخرج منها:
عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ قَالَ: قَالَ سَلْمَانُ رَحِمَهُ اللَّهُ: لاَ تَكُنْ أَوَّلَ دَاخِلٍ السُّوقَ وَآخِرَ خَارِجٍ مِنْهَا، فَإِنَّ بِهَا مَعْرَجَ الشَّيْطَانِ وَمَرْكَزَ رَايَتِهِ: قَالَ يَحْيَى: مَعْرَكَةُ الشَّيْطَانِ. (1)
وعَنْ سَلْمَانِ: " لَا تَكُنْ أَوَّلَ أَهْلِ السُّوقِ دُخُولًا وَآخِرَهُمْ خُرُوجًا، فَإِنَّ فِيهَا بَاضَ الشَّيْطَانُ وَفَرَّخَ ". (2)
وعَنْ أَبِي عُثْمَانَ، قَالَ: قَالَ لِي سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ: إنَّ السُّوقَ مَبْيَضُ الشَّيْطَانِ وَمَفْرَخُهُ، فَإِنَ اسْتَطَعْت أَنْ لاَ تَكُونَ أَوَّلَ مَنْ يَدْخُلُهَا، وَلاَ آخِرَ مَنْ يَخْرُجُ مِنْهَا فَافْعَلْ. (3)
ظ- مس الشيطان للإنسان (الصرع):
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله (4): " وُجُودُ الْجِنِّ ثَابِتٌ بِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ وَاتِّفَاقِ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا. وَكَذَلِكَ دُخُولُ الْجِنِّيِّ فِي بَدَنِ الْإِنْسَانِ ثَابِتٌ بِاتِّفَاقِ أَئِمَّةِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} [البقرة: 275]، وفي الصحيح عَنْ عَلِيِّ بْنِ الحُسَيْنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أَنَّ صَفِيَّةَ، زَوْجَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَخْبَرَتْهُ ح وحَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الحُسَيْنِ: كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فِي المَسْجِدِ وَعِنْدَهُ أَزْوَاجُهُ فَرُحْنَ، فَقَالَ لِصَفِيَّةَ بِنْتِ حُيَيٍّ لاَ تَعْجَلِي حَتَّى أَنْصَرِفَ مَعَكِ، وَكَانَ بَيْتُهَا فِي دَارِ أُسَامَةَ، فَخَرَجَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - مَعَهَا، فَلَقِيَهُ رَجُلاَنِ مِنَ الأَنْصَارِ فَنَظَرَا إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، ثُمَّ أَجَازَا، وَقَالَ لَهُمَا النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «تَعَالَيَا إِنَّهَا صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيٍّ»، قَالاَ: سُبْحَانَ اللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: «إِنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنَ الإِنْسَانِ مَجْرَى الدَّمِ، وَإِنِّي خَشِيتُ أَنْ يُلْقِيَ فِي أَنْفُسِكُمَا شَيْئًا». (5)
__________
(1) - الزهد لأحمد بن حنبل-دار ابن رجب (1/ 279) (821) صحيح
(2) - شعب الإيمان (13/ 193) (10172) صحيح
(3) - مصنف ابن أبي شيبة -دار القبلة (19/ 206) (35820) صحيح
(4) -مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية- دار الوفاء (24/ 276)
(5) - صحيح البخاري (3/ 50) (2038)
[ش (فرحن) أي أزواجه من الرواح وهو الرجوع آخر النهار. (أجازا) مضيا](1/172)
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنِ الْإِمَامِ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ قُلْت لِأَبِي: إنَّ أَقْوَامًا يَقُولُونَ: إنَّ الْجِنِّيَّ لَا يَدْخُلُ فِي بَدَنِ الْمَصْرُوعِ فَقَالَ: يَا بُنَيَّ يَكْذِبُونَ هَذَا يَتَكَلَّمُ عَلَى لِسَانِهِ. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ أَمْرٌ مَشْهُورٌ فَإِنَّهُ يَصْرَعُ الرَّجُلَ فَيَتَكَلَّمُ بِلِسَانٍ لَا يَعْرِف مَعْنَاهُ وَيُضْرَبُ عَلَى بَدَنِهِ ضَرْبًا عَظِيمًا لَوْ ضُرِبَ بِهِ جَمَلٌ لَأَثَّرَ بِهِ أَثَرًا عَظِيمًا. وَالْمَصْرُوعُ مَعَ هَذَا لَا يُحِسُّ بِالضَّرْبِ وَلَا بِالْكَلَامِ الَّذِي يَقُولُهُ وَقَدْ يَجُرُّ الْمَصْرُوعَ وَغَيْرَ الْمَصْرُوعِ وَيَجُرُّ الْبِسَاطَ الَّذِي يَجْلِسُ عَلَيْهِ وَيُحَوِّلُ آلَاتٍ وَيَنْقُلُ مِنْ مَكَانٍ إلَى مَكَانٍ وَيُجْرِي غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ الْأُمُورِ مَنْ شَاهَدَهَا أَفَادَتْهُ عِلْمًا ضَرُورِيًّا بِأَنَّ النَّاطِقَ عَلَى لِسَانِ الْإِنْسِيِّ وَالْمُحَرِّكَ لِهَذِهِ الْأَجْسَامِ جِنْسٌ آخَرُ غَيْرُ الْإِنْسَانِ. وَلَيْسَ فِي أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ مَنْ يُنْكِرُ دُخُولَ الْجِنِّيِّ فِي بَدَنِ الْمَصْرُوعِ وَغَيْرِهِ وَمَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ وَادَّعَى أَنَّ الشَّرْعَ يُكَذِّبُ ذَلِكَ فَقَدْ كَذَبَ عَلَى الشَّرْعِ وَلَيْسَ فِي الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ مَا يَنْفِي ذَلِكَ. (1)
ع- قائد المعركة في الصراع الدائر بين عالم الشياطين وعالم البشر:
إبليس هو الذي يخطط للمعركة مع بني الإنسان ويقودها، ومن قاعدته يرسل البعوث والسرايا في الاتجاهات المختلفة، ويعقد مجالس يناقش جنوده وجيوشه فيما صنعوه، ويثني على الذين أحسنوا وأجادوا في الإضلال وفتنة الناس.
روى الإمام مسلم في صحيحه عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " إِنَّ إِبْلِيسَ يَضَعُ عَرْشَهُ عَلَى الْمَاءِ، ثُمَّ يَبْعَثُ سَرَايَاهُ، فَأَدْنَاهُمْ مِنْهُ مَنْزِلَةً أَعْظَمُهُمْ فِتْنَةً، يَجِيءُ أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ: فَعَلْتُ كَذَا وَكَذَا، فَيَقُولُ: مَا صَنَعْتَ شَيْئًا، قَالَ ثُمَّ يَجِيءُ أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ: مَا تَرَكْتُهُ حَتَّى فَرَّقْتُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ، قَالَ: فَيُدْنِيهِ مِنْهُ وَيَقُولُ: نِعْمَ أَنْتَ " قَالَ الْأَعْمَشُ: أُرَاهُ قَالَ: «فَيَلْتَزِمُهُ» (2)
__________
(1) - مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية- دار الوفاء (24/ 277)
(2) - صحيح مسلم (4/ 2167) 67 - (2813)
الْعَرْش: سَرِير الْمُلْك، وَمَعْنَاهُ: أَنَّ مَرْكَزه الْبَحْر، وَمِنْهُ يَبْعَث سَرَايَاهُ فِي نَوَاحِي الْأَرْض. =يَلْتَزِمُهُ: أَيْ: يَضُمّهُ إِلَى نَفْسه وَيُعَانِقهُ. =نِعْمَ أَنْتَ: أَيْ: يَمْدَحهُ لِإِعْجَابِهِ بِصُنْعِهِ، وَبُلُوغه الْغَايَة الَّتِي أَرَادَهَا "شرح النووي على مسلم - (ج 9 / ص 193)(1/173)
وفي صحيح مسلم عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، قَالَ: لَقِيَهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ فِي بَعْضِ طُرُقِ الْمَدِينَةِ، (وكان يشك - صلى الله عليه وسلم - أنّه الدجال) فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «أَتَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللهِ؟» فَقَالَ هُوَ: أَتَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «آمَنْتُ بِاللهِ، وَمَلَائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، مَا تَرَى؟» قَالَ: أَرَى عَرْشًا عَلَى الْمَاءِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «تَرَى عَرْشَ إِبْلِيسَ عَلَى الْبَحْرِ، وَمَا تَرَى؟» قَالَ: أَرَى صَادِقَيْنِ وَكَاذِبًا - أَوْ كَاذِبَيْنِ وَصَادِقًا - فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لُبِسَ عَلَيْهِ، دَعُوهُ». (1)
والشيطان له خبرة طويلة مديدة في مجال الإضلال، ولذلك فإنّه يجيد وضع خططه، ونصب مصايده وأحابيله، فهو لم يزل حيّاً يضل الناس منذ وجد الإنسان إلى اليوم وإلى أن تقوم الساعة: {قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (37) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (38)} [الحجر: 36 - 38].
وهو دؤوب على القيام بالشر الذي نذر نفسه له، لا يكل ولا يمل، فعَنْ أَبِي سَعِيدٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " إِنَّ الشَّيْطَانَ قَالَ: وَعِزَّتِكَ يَا رَبِّ لَا أَبْرَحُ أُغْوِي عِبَادَكَ مَا دَامَتْ أَرْوَاحُهُمْ فِي أَجْسَادِهِمْ، فَقَالَ الرَّبُّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: وَعِزَّتِي وَجَلَالِي لَا أَزَالُ أَغْفِرُ لَهُمْ مَا اسْتَغْفَرُونِي". (2)
غ- جنود الشيطان من الجن والإنس:
والشيطان له فريقان من الجنود: فريق من الجان، وفريق من بني الإنسان.
وقد سبق ذكر حديث إرساله سراياه من الشياطين لإضلال الناس، وفي القرآن: {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا} [الإسراء: 64].
فله جنود يهاجمون راكبين راجلين، يرسلهم على العباد، يحركونهم إلى الشر تحريكاً: {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا} [مريم: 83]
__________
(1) - صحيح مسلم (4/ 2241) 87 - (2925) [ش (لبس عليه) أي خلط عليه أمره]
(2) - المستدرك على الصحيحين للحاكم (4/ 290) (7672) وصحيح الجامع (1650) حسن(1/174)
أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ سَلَّطَ الشَّيَاطِينَ عَلَى الكَافِرِينَ وَالمُشْرِكِينَ، لِيَغْوُوهُمْ، وَيُغْرُوهُمْ بِارْتِكَابِ المَعَاصِي، وَيَهِيجُوهُمْ لِلْوُقُوعِ فِيهَا؟ (1)
ف- لكل إنسان قرين:
وكل إنسان له شيطان يلازمه لا يفارقه، كما في صحيح مسلم عَنِ ابْنِ قُسَيْطٍ، حَدَّثَهُ أَنَّ عُرْوَةَ حَدَّثَهُ، أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، حَدَّثَتْهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - خَرَجَ مِنْ عِنْدِهَا لَيْلًا، قَالَتْ: فَغِرْتُ عَلَيْهِ، فَجَاءَ فَرَأَى مَا أَصْنَعُ، فَقَالَ: «مَا لَكِ؟ يَا عَائِشَةُ أَغِرْتِ؟» فَقُلْتُ: وَمَا لِي لَا يَغَارُ مِثْلِي عَلَى مِثْلِكَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «أَقَدْ جَاءَكِ شَيْطَانُكِ» قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ أَوْ مَعِيَ شَيْطَانٌ؟ قَالَ: «نَعَمْ» قُلْتُ: وَمَعَ كُلِّ إِنْسَانٍ؟ قَالَ: «نَعَمْ» قُلْتُ: وَمَعَكَ؟ يَا رَسُولَ اللهِ قَالَ: «نَعَمْ، وَلَكِنْ رَبِّي أَعَانَنِي عَلَيْهِ حَتَّى أَسْلَمَ». (2)
وعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الْوَلِيدِ بْنِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، أَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ: الْتَمَسْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَأَدْخَلْتُ يَدِي فِي شَعْرِهِ، فَقَالَ: «قَدْ جَاءَكِ شَيْطَانُكِ» فَقُلْتُ: أَمَا لَكَ شَيْطَانٌ؟ فَقَالَ: «بَلَى، وَلَكِنَّ اللَّهَ أَعَانَنِي عَلَيْهِ فَأَسْلَمَ» (3)
وعَنْ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ وَقَدْ وُكِّلَ بِهِ قَرِينُهُ مِنَ الْجِنِّ، وَقَرِينُهُ مِنَ الْمَلاَئِكَةِ قَالُوا: وَإِيَّاكَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: وَإِيَّايَ، وَلَكِنَّ اللَّهَ أَعَانَنِي عَلَيْهِ، فَلاَ يَأْمُرُنِي إِلاَّ بِحَقٍّ. (4)
وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ، إِلَّا وَقَدْ وُكِّلَ بِهِ قَرِينُهُ مِنَ الْجِنِّ» قَالُوا: وَإِيَّاكَ؟ يَا رَسُولَ اللهِ قَالَ: «وَإِيَّايَ، إِلَّا أَنَّ اللهَ أَعَانَنِي عَلَيْهِ فَأَسْلَمَ، فَلَا يَأْمُرُنِي إِلَّا بِخَيْرٍ» (5)
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد (ص: 2333، بترقيم الشاملة آليا)
(2) - صحيح مسلم (4/ 2168) 70 - (2815)
ولكن الله أعانني عليه حتى أسلم: قوله: ولكن الله أعانني عليه حتى أسلم، أي: انقاد وأذعن، وصار طوعي، فلا يكاد يعرض لي بما لا أريده، فأنا أقوى عليه، وليس من الإسلام الذي هو بمعنى الإيمان.
(3) - سنن النسائي (7/ 72) (3960) صحيح
(4) - مسند أحمد (عالم الكتب) (2/ 32) 3648 صحيح
(5) -صحيح مسلم (4/ 2167) 69 - (2814)
[ش (فأسلم) برفع الميم وفتحها وهما روايتان مشهورتان فمن رفع قال معناه أسلم أنا من شره وفتنته ومن فتح قال إن القرين أسلم من الإسلام وصار مؤمنا لا يأمرني إلا بخير واختلفوا في الأرجح منهما فقال الخطابي الصحيح المختار الرفع ورجح القاضي عياض الفتح وهو المختار لقوله - صلى الله عليه وسلم - فلا يأمرني إلا بخير واختلفوا على رواية الفتح قيل أسلم بمعنى استسلم وانقاد وقد جاء هكذا في غير صحيح مسلم فاستسلم وقيل معناه صار مسلما مؤمنا وهذا هو الظاهر -مَعْنَاهُ: أَنَّ الْقَرِين أَسْلَمَ وَصَارَ مُؤْمِنًا لَا يَأْمُرنِي إِلَّا بِخَيْرٍ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّة مُجْتَمِعَة عَلَى عِصْمَة النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ الشَّيْطَان فِي جِسْمه وَخَاطِره وَلِسَانه , وَفِي هَذَا الْحَدِيث: إِشَارَة إِلَى التَّحْذِير مِنْ فِتْنَة الْقَرِين وَوَسْوَسَته وَإِغْوَائِهِ، فَأَعْلَمَنَا بِأَنَّهُ مَعَنَا لِنَحْتَرِز مِنْهُ بِحَسَبِ الْإِمْكَان. شرح النووي على مسلم - (ج 9 / ص 195)](1/175)
وفي القرآن: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37)} [الزخرف: 36 - 37]
وَمَنْ يَتَغَافَلْ وَيَتَعَامَ عَنِ القُرْآنِ، وَعَنْ ذِكْرِ اللهِ تَعَالَى، وَيَنْهَمِك فِي المَعَاصِي، وَلَذَّاتِ الدُّنْيَا وَشَهَوَاتِهَا .. فَإِنَّ اللهَ يُسَلِّطُ عَلَيْهِ شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالجِنِّ فَيَكُونُونَ لَهُ قُرْنَاءَ، يُزَيِّنُونَ لَهُ ارْتِكَابَ المَعَاصِي، وَالاشْتِغَالَ بِاللَّذَّاتِ، فَيَسْتَرْسِلُ فِيهَا فَيَحِقُّ عَلَيْهِ غَضَبُ اللهِ وَعِقَابُهُ.
وَهَؤُلاَءِ القُرنَاءُ مِن شَيَاطِينِ الإِنْسِ والجِنِّ، الذِينَ يُقَيِّضُهُم اللهُ لِكُلِّ مَنْ يَعْشُوا عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ، يُحَاوِلُونَ صَرْفَهُ عَنِ الحَقِّ إِلَى البَاطِلِ، وَيُوسْوِسُونَ لَهُ أَنَّهُ عَلَى جَادَّةِ الهُدَى والحَقِّ والصَّوَابِ، وَأَنَّ غَيْرَهُ عَلَى البَاطِلِ، وَيُكَرِّهُونَ إِلَيهِ الإِيْمَانَ فَيُطِيعُهُمْ. (1)
وفي الآية الأخرى: {وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ} [فصلت: 25]
وفي الآية الأخرى: {وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ} [فصلت: 25]
وَيَسَّرَ اللهُ تَعَالَى لِهَؤُلاَءِ الكَافِرِينَ أَخْدَاناً وَأَقْرَاناً مِنْ شَيَاطِينِ الجِنِّ وَالإِنْسِ، فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَينَ أَيْدِيهِمْ مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا مِنَ الضَّلاَلَةِ وَالكُفْرِ واتِّبَاعِ الشَّهَوَاتِ، وَمَا خَلْفَهُمْ مِنْ أَمْرِ الآخِرَةِ، فَحَسَّنُوا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَلَمْ يَرَوْا أَنْفُسَهُمْ إِلاَ مُحْسِنِينَ، وَأَوْحَوْا إِلَيْهِمْ إِنَّهُ لاَ جَنَّةَ وَلاَ نَارَ وَلاَ حِسَابَ، فَوَجَبَ عَلَيهِمْ مِنَ العَذَابِ مَا وَجَبَ عَلَى الذِينَ كَفَرُوا مِنْ ٌَقَبْلِهِمْ
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد (ص: 4240، بترقيم الشاملة آليا)(1/176)
مِمَّنْ فَعَلُوا مِثْلَ أَفْعَالِِهِمْ، فَكَانُوا جَمِيعاً فِي الخَسَارِ والدَّمَارِ، وَاسْتَحَقُّوا اللَّعْنَ والخِزْيَ فِي الدُّنْيَا والآخِرَةِ. (1)
وللشيطان أتباع من الإنس اتخذوه وليّاً، يسيرون على خطاه، ويرضون بفكره، مع أنه العدو الأول الذي يسعى في إهلاكهم، وقبيح بالإنسان العاقل أن يتخذ عدوه وليّاً: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا} [الكهف: 50].
يُنَبِّهُ اللهُ تَعَالَى بَنِي آدَمَ إِلَى عَدَاوَةِ إِبْلِيسَ لَهُمْ، وَلأَبِيهِمْ آدَمَ، قَبْلَهُمْ، وَيُقَرِّعُهُمْ عَلَى اتِّبَاعِ إِبْلِيسَ، وَمُخَالَفَةِ الخَالِقِ. وَيَقُولُ تَعَالَى لِرَسُولِهِ الكَرِيمِ: اذْكُرْ لِقَوْمِكَ إِذْ قَالَ اللهُ لِلْمَلاَئِكَةِ: اسْجُدُوا لآدَمَ، اعْتِرَافاً بِفَضْلِهِ، وَاعْتِذَاراً عَمَّا قَالُوهُ بِحَقِّهِ: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدمآء}. فَامْتَثَلُوا جَمِيعاً لأَمْرِ رَبِّهِمِ الكَرِيمِ، إِلاَّ إِبْلِيسَ، الَّذِي كَانَ مِنَ الجِنِّ، فَامْتَنَعَ عَنِ السُّجُودِ، وَخَرَجَ عَنْ أَمْرِ اللهِ (فَسَقَ)، وَقَالَ اللهُ تَعَالَى: إِنَّ اللهَ خَلَقَهُ مِنْ نَارٍ، وَلِذَلِكَ فَإِنَّهُ لَنْ يَسْجُدَ لِمَخْلُوقٍ خَلَقَهُ اللهُ مِنَ الطِّين، وَإِنَّهُ أَفْضَلُ مِنْ آدَمَ. فَكَيْفَ تَتَّخِذُونَ، يَا بَنِي آدَمَ، هَذا العَدُوَّ لَكُمْ، هُوَ وَذُرِّيَتَهُ، أَوْليَاءَ لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ، وَتُطِيعُونَ أَوَامِرَهُمْ، وَهُمْ عَلَى مَا عَرَفْتُمُوهُمْ عَلَيْهِ مِنَ العَدَاوَةِ لآدَمَ وَذُرِّيَّتِهِ، فَبِئْسَ مَا فَعَلْتُمْ {بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً}. (2)
ولقد خسروا باتخاذه ولياً خسراناً مبيناً: {وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا} [النساء: 119]. خسروا لأن الشيطان سيدسّي نفوسهم ويفسدها، ويحرمهم من نعمة الهداية، ويرمي بهم في الضلالات والشبهات: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 257]
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد (ص: 4122، بترقيم الشاملة آليا)
(2) -أيسر التفاسير لأسعد حومد (ص: 2190، بترقيم الشاملة آليا)(1/177)
وخسروا لأنه سيقودهم إلى النار: (إنَّما يدعوا حزبه ليكونوا من أصحاب السَّعير) [فاطر: 6]، وهؤلاء أولياء الشيطان يتخذهم الشيطان مطية وجنوداً، ينفذ بهم مخططاته وأهدافه.
ق- دُخُولُ الْجِنِّ فِي الْإنْسَانِ مِنْ حِينِ وِلَادَتِه:
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - «كُلُّ بَنِي آدَمَ يَطْعُنُ الشَّيْطَانُ فِي جَنْبَيْهِ بِإِصْبَعِهِ حِينَ يُولَدُ، غَيْرَ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، ذَهَبَ يَطْعُنُ فَطَعَنَ فِي الحِجَابِ» (1)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: " كُلُّ إِنْسَانٍ تَلِدُهُ أُمُّهُ يَلْكُزُهُ الشَّيْطَانُ فِي حِضْنَيْهِ، إِلَّا مَا كَانَ مِنْ مَرْيَمَ وَابْنِهَا، أَلَمْ تَرَوْا إِلَى الصَّبِيِّ حِينَ يَسْقُطُ كَيْفَ يَصْرُخُ؟ " قَالُوا: بَلَى، يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: "ذَلِكَ حِينَ يَلْكُزُهُ الشَّيْطَانُ بِحِضْنَيْهِ " (2)
وعَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ المُسَيِّبِ، قَالَ: قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، يَقُولُ: «مَا مِنْ بَنِي آدَمَ مَوْلُودٌ إِلَّا يَمَسُّهُ الشَّيْطَانُ حِينَ يُولَدُ، فَيَسْتَهِلُّ صَارِخًا مِنْ مَسِّ الشَّيْطَانِ، غَيْرَ مَرْيَمَ وَابْنِهَا» ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ: {وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [آل عمران: 36] " (3)
ك- كيده وخذلانه لأوليائه:
يتولى كثير من الناس الشيطان، ولكنه يكيد لهم ويوردهم الموارد التي فيها هلاكهم وعطبهم، ويتخلى عنهم، ويسلمهم، ويقف يشمت بهم، ويضحك منهم، فيأمرهم بالقتل
__________
(1) -صحيح البخاري (4/ 125) (3286)
[ش (يطعن) يضرب. (الحجاب) الجلدة التي فيها الجنين وتسمى المشيمة. وقيل الحجاب الثوب الذي يلف فيه المولود]
الْمُرَاد بِالْحِجَابِ: الْجِلْدَة الَّتِي فِيهَا الْجَنِين , أَيْ: فِي الْمَشِيمَة الَّتِي فِيهَا الْوَلَد , أَوْ الثَّوْب الْمَلْفُوف عَلَى الطِّفْل , قَالَ الْقُرْطُبِيّ: هَذَا الطَّعْن مِنْ الشَّيْطَان هُوَ اِبْتِدَاء التَّسْلِيط، فَحَفِظَ اللَّهُ مَرْيَم وَابْنهَا مِنْهُ بِبَرَكَةِ دَعْوَة أُمّهَا حَيْثُ قَالَتْ: (إِنِّي أُعِيذُهَا بِك وَذُرِّيَّتَهَا مِنْ الشَّيْطَان الرَّجِيم) , وَلَمْ يَكُنْ لِمَرْيَم ذُرِّيَّة غَيْرُ عِيسَى. فتح الباري لابن حجر - (ج 10 / ص 231)
(2) -مسند أحمد ط الرسالة (14/ 412) (8815) صحيح
اللكز: هو الوَكْز، وهو الدفع والطعن والضرب بجمع الكَف. =والحِضْن: الجَنْب.
(3) -صحيح البخاري (4/ 164) (3431)
[(يمسه الشيطان) يناله بيده من غير حاجز. (فيستهل) يصوت عند ولادته. (أعيذها) أجيرها وأحصنها. (الرجيم) الطريد من رحمة الله تعالى / آل عمران 36 /](1/178)
والسرقة والزنا، ويدلُّ عليهم، ويفضحهم، فعل ذلك بالمشركين في معركة بدر، عندما جاءَهم متمثلاً في صورة سراقة بن مالك، ووعدهم بالنصر والغلب: (وقال لا غالب لكم اليوم من النَّاس وإني جارٌ لَّكم) [الأنفال:48]،فلما رأى عدو الله الملائكة نزلت لنصرة المؤمنين، ولى هارباً وأسلمهم، فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: جَاءَ إِبْلِيسُ فِي جُنْدٍ مِنَ الشَّيَاطِينَ وَمَعَهُ رَايَةٌ فِي صُوَرِ رِجَالٍ مِنْ بَنِي مُدْلِجٍ، وَالشَّيْطَانُ فِي صُورَةِ سُرَاقَةِ بْنِ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ فَقَالَ الشَّيْطَانُ: لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ وَأَقْبَلَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ عَلَى إِبْلِيسَ، فَلَمَّا رَآهُ وَكَانَتْ يَدُهُ فِي يَدِ رَجُلٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ انْتَزَعَ إِبْلِيسُ يَدَهُ وَوَلَّى مُدْبِرًا وَشِيعَتُهُ، فَقَالَ الرَّجُلُ: يَا سُرَاقَةُ، أَتَزْعُمُ أَنَّكَ لَنَا جَارٌ؟ فَقَالَ: إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ" (1)
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَقَالَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ: (2)
قَوْمِي الَّذِينَ هُمُ آوَوْا نَبِيَّهُمُ ... وَصَدَّقُوهُ وَأَهْلُ الْأَرْضِ كُفَّارُ
إِلَّا خَصَائِصَ أَقْوَامٍ هُمُ سَلَفٌ ... لِلصَّالِحِينَ مِنَ الْأَنْصَارِ أَنْصَارُ
مُسْتَبْشِرِينَ بِقَسْمِ اللَّهِ قَوْلُهُمُ ... لَمَّا أَتَاهُمْ كَرِيمُ الْأَصْلِ مُخْتَارُ
أَهْلًا وَسَهْلًا فَفِي أَمْنٍ وَفِي سَعَةٍ ... نِعْمَ النَّبِيُّ وَنِعْمَ الْقَسْمُ وَالْجَارُ
فَأَنْزَلُوهُ بِدَارٍ لَا يَخَافُ بِهَا ... مَنْ كَانَ جَارَهُمُ دَارًا هِيَ الدَّارُ
وَقَاسَمُوهُ بِهَا الْأَمْوَالَ إِذْ قَدِمُوا ... مُهَاجِرِينَ وَقِسْمُ الْجَاحِدِ النَّارُ
سِرْنَا وَسَارُوا إِلَى بَدْرٍ لِحَيْنِهِمُ ... لَوْ يَعْلَمُونَ يَقِينَ الْعِلْمِ مَا سَارُوا
دَلَّاهُمُ بِغُرُورٍ ثُمَّ أَسْلَمَهُمْ ... إِنَّ الْخَبِيثَ لِمَنْ وَالَاهُ غَرَّارُ
وَقَالَ إِنِّي لَكُمْ جَارٌ فَأَوْرَدَهُمْ ... شَرَّ الْمَوَارِدِ فِيهِ الْخِزْيُ وَالْعَارُ
ثُمَّ الْتَقَيْنَا فَوَلَّوْا عَنْ سَرَاتِهِمُ .... مِنْ مُنْجِدِينَ وَمِنْهُمْ فِرْقَةٌ غَارُوا
وكذلك فعل بالراهب الذي قتل المرأة وولدها، فإنه أمره بالزنا، ثمّ بقتلها، ثمّ دلّ أهلها عليه، وكشف أمره لهم، ثمّ أمره بالسجود له، فلما فعل فرّ عنه وتركه، كما مرَّ.
__________
(1) - تفسير ابن أبي حاتم - محققا (5/ 1715) (9157) حسن
(2) - البداية والنهاية ط هجر (5/ 157)(1/179)
وفي يوم القيامة يقول لأوليائه بعد دخوله ودخولهم النار: (إِنِّي كفرت بما أشركتمون من قبل) [إبراهيم:22]،فأوردهم شرّ الموارد، ثمّ تبرأ منهم كل البراءةَ.
ل- الشيطان يجند أولياءَه لخدمته ومحاربة المؤمنين:
الناس فريقان: أولياء الرحمن، وأولياء الشيطان. وأولياء الشيطان هم الكَفَرَة على اختلاف مللهم ونحلهم: {يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ} [الأعراف:27].
يا بني آدم لا يخدعنَّكم الشيطان، فيزين لكم المعصية، كما زيَّنها لأبويكم آدم وحواء، فأخرجهما بسببها من الجنة، ينزع عنهما لباسهما الذي سترهما الله به; لتنكشف لهما عوراتهما. إن الشيطان يراكم هو وذريته وجنسه وأنتم لا ترونهم فاحذروهم. إنَّا جعلنا الشياطين أولياء للكفار الذين لا يوحدون الله، ولا يصدقون رسله، ولا يعملون بهديه. (1)
والشيطان يسخّر هؤلاء لتضليل المؤمنين بما يلقونه من الشبه: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام:121].
وما هذه الشبهات التي يقوم بها المستشرقون والصليبيون واليهود والملحدون إلا من هذا القبيل.
ويدفع الشيطان أولياءَه لإيذاء نفوس المؤمنين: {إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [المجادلة:10].فقد كان يدفع المشركين للتناجي حين وجود المسلمين على مقربة منهم، فيظن المسلم أنه يتآمرون عليه ...
بل يدفعهم إلى حرب المسلمين وقتالهم: {الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا} [النساء:76].
__________
(1) - التفسير الميسر (1/ 153)(1/180)
وهو دائماً يخوف المؤمنين أولياءَه: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 175]، وأولياؤه جمع كبير: {) وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20) وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (21)} [سبأ: 20، 21].
وَلَقَدْ ظَنَّ إِبلِيسُ أَنًّ هؤلاءِ الذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيِهِمْ سقَدْ يَتْبَعُونَهُ، وَأَنَّهُ قَدْ يَستَطِيعُ غَوَايَتَهُمْ وإِضْلاَلَهُمْ، فَدَعَاهُمْ إِلى الكُفْرِ وَالبَطَر، فَأَطَاعُوهُ وَعَصوا رَبَّهُمْ فَدَمَّرَهُمْ، فَصَدَق ظَنُّ إِبليسَ فِيهِمْ. وَلَمْ يَشُذَّ مِنْهُمْ عَنْ إِطَاعَةِ إِبليسَ إِلاّ فِئَةٌ قَلِيلَةٌ مُؤْمِنَةٌ ثَبَتَتْ عَلَى الإِيمَانِ.
وَلَمْ يَكُنْ لإِبلِيسَ عَلَيهِمْ مِنْ سُلْطَةٍ يَحْمِلُهُمْ بِها كَرْهاً عَلى الكُفْرِ، والبَطَرِ، والعِصْيَانِ، وَإنمَا دَعَاهُمْ فأَطَاعُوهُ وَقَدْ سَلَّطَهُ الله عَلَيهِمْ، لَيَخْتَبِرَهُمْ، لِيُظْهِرَ حَالَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالآخِرَةِ، وَيُصَدِّقُ بالثَّوابِ والعِقَابِ، مِمَّن هُوَ فِي شَكٍّ مِنْها، فَلاَ يُؤْمِنُ بِمَعَادٍ وَلا حَشْرٍ وَلاَ ثَوَابٍ وَلا عِقَابٍ. وَرَبُّكَ يَا مُحَمَّدُ حَفِيظٌ عَلَى أَعمالِ العِبَادِ، لاَ يَعْزُبُ عَنْ عِلْمِهِ شيءٌ، وَهُوَ يُحْصِيهَا عَلَيهِمْ ثُمَّ يُجَازِيِهِمْ بِها فِي الآخِرَةِ إِنْ خَيْراً فَخَيْراً وَإِنْ شَرّاً فَشَرّاً. (1)
م- أذاه لعباد الله الصالحين:
عَنِ الرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذِ بْنِ عَفْرَاءَ , قَالَتْ: بَيْنَا أَنَا قَائِلَةٌ , قَدْ أُلْقِيَتْ عَلَيَّ مِلْحَفَةٌ لِي إِذْ جَاءَنِي أَسْوَدُ يُعَالِجُنِي عَنْ نَفْسِي فَبَيْنَمَا هُوَ يُعَالِجُنِي إِذْ أَقْبَلَتْ صَحِيفَةٌ مِنْ رَقٍّ تَهْوِي مِنَ السَّمَاءِ حَتَّى وَقَعَتْ عِنْدَهُ فَقَرَأَهَا فَإِذَا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ: مِنْ رَبٍّ أَكْبَرَ إِلَى أَكْبَرَ أَمَّا بَعْدُ: فَدَعْ أَمَتِي بِنْتَ عَبْدِ الصَّالِحِ فَإِنِّي لَمْ أَجْعَلْ لَكَ عَلَيْهَا سَبِيلًا فَانْتَهَرَنِي بِقَرْصَةٍ ثُمَّ قَالَ: أَوَلَا لَكَ قَالَتْ: فَمَا زَالَتِ الْقَرْصَةُ فِيهَا حَتَّى لَقِيتُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ. (2)
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد (ص: 3507، بترقيم الشاملة آليا)
(2) - الآحاد والمثاني لابن أبي عاصم (6/ 115) (3334) حسن لغيره
الملحفة: اللحاف والملحف والملحفة اللباس الذي فوق سائر اللباس من دثار البرد، وكل شيء تغطيت به فقد التحفت به، واللحاف اسم ما يلتحف به =انتهره: زجره ونهاه وعنفه(1/181)
وعن أَنَسَ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: كانت ابنة عوف بن عَفْرَاءَ، مُسْتَلْقِيَةً عَلَى فِرَاشِهَا، فَمَا شَعُرَتْ إِلَّا بِزِنْجِيٍّ، قَدْ وَثَبَ عَلَى صَدْرِهَا، وَوَضَعَ يَدَهُ فِي حَلْقِهَا، فَإِذَا صَحِيفَةٌ صَفْرَاءُ، تَهْوِي بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، حَتَّى وَقَعَتْ عَلَى صَدْرِي. فَأَخَذَهَا- تَعْنِي الزَّنْجِيُّ- فَقَرَأَهَا، فَإِذَا فِيهَا: مِنْ رَبِّ لَكِينٍ إِلَى لكين: اجتنب ابن الْعَبْدِ الصَّالِحِ، فَإِنَّ لَا سَبِيلَ لَكَ عَلَيْهَا، فَقَامَ وَأَرْسَلَ يَدَهُ مِنْ حَلْقِي، وَضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى رُكْبَتِي، فَاسْوَدَّتْ، حَتَّى صَارَتْ مِثْلَ رَأْسِ الشَّاةِ. قَالَتْ: فَأَتَيْتُ عَائِشَةَ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهَا. فَقَالَتْ: يَا ابْنَةَ أَخِي إِذَا حِضْتِ، فَاجْمَعِي عَلَيْكِ ثِيَابَكِ، فَإِنَّهُ لَنْ يَضُرَّكِ بإن شَاءَ اللهُ- قَالَ: فَحَفِظَهَا اللهُ بِأَبِيهَا، إِنَّهُ عَلِيٌّ كَانَ قُتِلَ يَوْمَ بَدْرٍ شَهِيدًا. (1)
وعَنْ حَسَنِ بْنِ حَسَنٍ قَالَ:: دَخَلْتُ عَلَى الرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوَّذِ بْنِ عَفْرَاءَ أَسْأَلُهَا عَنْ بَعْضِ الشَّيْءِ، فَقَالَتْ: بَيْنَمَا أَنَا فِي مَجْلِسِي إِذِ انْشَقَّ سَقْفُ بَيْتِي، فَهَبَطَ عَلَيَّ مِنْهُ أَسْوَدُ، مِثْلُ الْجَمَلِ، أَوْ مِثْلُ الْحِمَارِ، لَمْ أَرَ مِثْلَ سَوَادِهِ، وَخَلْقِهِ، وَفَظَاعَتِهِ، قَالَتْ: فَدَنَا مِنِّي يُرِيدُنِي، وَتَبِعَتْهُ صَحِيفَةٌ صَغِيرَةٌ فَفَتَحْتُهَا فَقَرَأْتُهَا فَإِذَا فِيهَا: مِنْ رَبِّ عكب إِلَى عكب، أَمَّا بَعْدُ فَلا سَبِيلَ لَكَ إِلَى الْمَرْأَةِ الصَّالِحَةِ بِنْتِ الصَّالِحِينَ. قَالَ: فَرَجَعَ مِنْ حَيْثُ جَاءَ، وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَيْهِ، قَالَ حَسَنُ بْنُ حَسَنٍ: فَأَرَتْنِي الْكِتَابَ، وَكَانَ عِنْدَهُمْ. (2)
وعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، أَنَّ رَجُلًا مِنْ قَوْمِهِ خَرَجَ لِيُصَلِّيَ مَعَ قَوْمِهِ صَلَاةَ الْعِشَاءِ فَفُقِدَ فَانْطَلَقَتِ امْرَأَتُهُ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَحَدَّثَتْهُ بِذَلِكَ فَسَأَلَ عَنْ ذَلِكَ قَوْمَهَا فَصَدَّقُوهَا فَأَمَرَهَا أَنْ تَتَرَبَّصَ أَرْبَعَ سِنِينَ فَتَرَبَّصَتْ ثُمَّ أَتَتْ عُمَرَ فَأَخْبَرَتْهُ بِذَلِكَ فَسَأَلَ عَنْ ذَلِكَ قَوْمَهَا فَصَدَّقُوهَا فَأَمَرَهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ ثُمَّ إِنَّ زَوْجَهَا الْأَوَّلَ قَدِمَ فَارْتَفَعُوا إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَقَالَ عُمَرُ: «يَغِيبُ أَحَدُكُمُ الزَّمَانَ الطَّوِيلَ لَا يَعْلَمُ أَهْلُهُ حَيَاتَهُ» قَالَ: إِنَّ لِي عُذْرًا قَالَ: «وَمَا عُذْرُكَ؟» قَالَ: خَرَجْتُ أُصَلِّي مَعَ قَوْمِي صَلَاةَ الْعِشَاءِ فَسَبَتْنِي الْجِنُّ أَوْ قَالَ: أَصَابَتْنِي الْجِنُّ فَكُنْتُ فِيهِمْ زَمَانًا طَوِيلًا فَغَزَاهُمْ جِنٌّ مُؤْمِنُونَ فَقَاتَلُوهُمْ فَظَهَرُوا عَلَيْهِمْ وَأَصَابُوا سَبَايَا فَكُنْتُ فِيمَنْ أَصَابُوا فَقَالُوا مَا دِينُكَ؟ قُلْتُ: مُسْلِمٌ قَالُوا: أَنْتَ عَلَى
__________
(1) - دلائل النبوة للبيهقي محققا (7/ 116) صحيح
وَرُوِيَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ الرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذِ بن عَفْرَاءَ، وَهِيَ صَاحِبَةُ الْقِصَّةِ.
(2) - مكائد الشيطان (ص: 26) (6) فيه جهالة ويشهد له ما قبله(1/182)
دِينِنَا، لَا يَحِلُّ لَنَا سِبَاؤُكَ فَخَيَّرُونِي بَيْنَ الْمُقَامِ وَبَيْنَ الْقُفُولِ فَاخْتَرْتُ الْقُفُولَ فَأَقْبَلُوا مَعِي، بِاللَّيْلِ بَشَرٌ يُحَدِّثُونَنِي، وَبِالنَّهَارِ إِعْصَارُ رِيحٍ أَتْبَعُهَا قَالَ: فَمَا كَانَ طَعَامُكَ؟ قَالَ: قُلْتُ: كُلُّ مَا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ قَالَ: فَمَا شَرَابُكَ؟ قَالَ: الْجَدَفُ الْجَدَفُ مَا لَمْ يُخَمَّرْ مِنَ الشَّرَابِ قَالَ: فَخَيَّرَهُ عُمَرُ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَبَيْنَ الصَّدَاقِ" وفي رواية:" فَخَيَّرَهُ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ بَيْنَ الصَّدَاقِ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ فَاخْتَارَ الصَّدَاقَ " قَالَ حَمَّادٌ: وَأَحْسَبُهُ قَالَ: فَأَعْطَاهُ الصَّدَاقَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ". (1)
ن- النعاس في الصلاة من الشيطان:
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ:" النُّعَاسُ فِي الْقِتَالِ: أَمَنَةٌ، يَعْنِي مِنَ اللَّهِ، وَالنُّعَاسُ فِي الصَّلَاةِ مِنَ الشَّيْطَانِ " (2)
و- التثاؤب في الصلاة:
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «التَّثَاؤُبُ فِي الصَّلَاةِ مِنَ الشَّيْطَانِ، فَإِذَا تَثَاءَبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَكْظِمْ مَا اسْتَطَاعَ» (3)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «إِنَّ التَّثَاؤُبَ فِي الصَّلَاةِ مِنَ الشَّيْطَانِ، فَإِذَا وَجَدَ أَحَدُكُمْ ذَلِكَ فَلْيَكْظِمْ». (4)
وعَنْ عَلِيٍّ، قَالَ: التَّثَاؤُبُ فِي الصَّلاَة مِنَ الشَّيْطَانِ وَشِدَّةُ الْعُطَاسِ وَالنُّعَاسُ عِنْدَ الْمَوْعِظَةِ. (5)
وعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: التَّثَاؤُبُ فِي الصَّلاَة وَالْعُطَاسُ مِنَ الشَّيْطَانِ فَتَعَوَّذُوا بِاَللَّهِ مِنْهُ. (6)
__________
(1) - الهواتف = هواتف الجنان لابن أبي الدنيا (ص:108) (113) والسنن الكبرى للبيهقي (7/ 733) (5570) صحيح موقوف
(2) - تفسير ابن أبي حاتم، الأصيل - مخرجا (5/ 1664) صحيح
(3) - سنن الترمذي ت شاكر (2/ 207) (370) صحيح
(4) - صحيح ابن حبان - مخرجا (6/ 123) (2359) صحيح
(5) - مصنف ابن أبي شيبة -دار القبلة (5/ 317) (8068) صحيح موقوف
(6) - مصنف ابن أبي شيبة -طبعة الدار السلفية الهندية (2/ 427) (8069) صحيح(1/183)
لا- تقليبُ الحصا في الصلاة:
عَنْ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمُعَاوِيِّ، أَنَّهُ قَالَ: رَآنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ وَأَنَا أَعْبَثُ بِالْحَصَى فِي الصَّلَاةِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ نَهَانِي فَقَالَ: اصْنَعْ كَمَا كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَصْنَعُ، فَقُلْتُ: وَكَيْفَ كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَصْنَعُ؟ قَالَ: «كَانَ إِذَا جَلَسَ فِي الصَّلَاةِ وَضَعَ كَفَّهُ الْيُمْنَى عَلَى فَخِذِهِ الْيُمْنَى، وَقَبَضَ أَصَابِعَهُ كُلَّهَا وَأَشَارَ بِإِصْبَعِهِ الَّتِي تَلِي الْإِبْهَامَ، وَوَضَعَ كَفَّهُ الْيُسْرَى عَلَى فَخِذِهِ الْيُسْرَى» (1)
وعَنْ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ: صَلَّيْتُ إِلَى جَنْبِ ابْنِ عُمَرَ، وَإِنِّي أُقَلِّبُ الْحَصَى فِي الصَّلَاةِ، فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ: «إِنَّ تَقْلِيبَ الْحَصَى فِي الصَّلَاةِ مِنَ الشَّيْطَانِ، وَلَكِنْ كَمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَصْنَعُ إِذَا جَلَسَ فِي الصَّلَاةِ وَضَعَ كَفَّهُ الْيُسْرَى عَلَى فَخِذِهِ الْيُسْرَى، وَوَضَعَ كَفَّهُ الْيُمْنَى عَلَى فَخِذِهِ الْيُمْنَى، وَقَبَضَ أَصَابِعَهُ» وَأَشَارَ بِإِصْبَعِهِ الَّتِي تَلِي الْإِبْهَامَ". (2)
قال ابن عبد البر رحمه الله:" وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنَ الْفِقْهِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْعَبَثُ فِي الصَّلَاةِ بِالْحَصْبَاءِ (وَهُوَ أَمْرٌ مُجْتَمَعٌ عَلَيْهِ (وَكَذَلِكَ غَيْرُ الْحَصْبَاءِ) أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْعَبَثُ فِي الصَّلَاةِ بِالْحَصْبَاءِ) وَلَا غَيْرِهَا وَإِنَّ ذَلِكَ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ كَانَ إِذَا كَثُرَ وَطَالَ وَشُغِلَ عَنِ الصَّلَاةِ أَفْسَدَ الصَّلَاةَ وَإِنَّمَا لَمْ يَأْمُرِ ابْنُ عُمَرَ عَلِيًّا هَذَا بِالْإِعَادَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ لِأَنَّهُ كَانَ ذَلِكَ مِنْهُ يَسِيرًا وَقَدْ جَاءَ فِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ أَنَّهُ كَرِهَ مَسْحَ الْحَصْبَاءِ فِي الصَّلَاةِ إِلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً كَرَاهِيَةَ الْعَمَلِ فِي الصَّلَاةِ فَكَيْفَ الْعَبَثُ بِهَا فِي الصَّلَاةِ ". (3)
ي- من خلال العجلة في الأمور:
عَنْ أَنَسٍ، عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ، قَالَ:" التَّأَنِّي مِنَ اللهِ، وَالْعَجَلَةُ مِنَ الشَّيْطَانِ، وَمَا شَيْءٌ أَكْثَرُ مَعَاذِيرَ مِنَ اللهِ وَمَا مِنْ شَيْءٍ أَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنَ الْحَمْدِ " (4)
__________
(1) - صحيح مسلم (1/ 408) 116 - (580)
عبث: لعب وعمل ما لا فائدة فيه = الإبهام: الأصبع الغليظة الخامسة من أصابع اليد والرجل
(2) - مصنف عبد الرزاق الصنعاني (2/ 195) (3048) صحيح
(3) - التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد (13/ 196)
(4) - شعب الإيمان (6/ 211) (4058) حسن(1/184)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «كُلُّ مُسْلِمٍ عَلَى مُسْلِمٍ مُحَرَّمٌ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّ الشَّيْطَانَ لَيَخْرُجُ مِنَ الْبَيْتِ يَسْمَعُ سُورَةَ الْبَقَرَةِ، تُقْرَأُ فِيهِ»،وَقَالَ: «التَّأَنِّي مِنَ اللَّهِ وَالْعَجَلَةُ مِنَ الشَّيْطَانِ» (1)
وعَنِ الْحَسَنِ، أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إِنَّ التَّبَيُّنَ مِنَ اللَّهِ، وَالْعَجَلَةَ مِنَ الشَّيْطَانِ؛ فَتَبَيَّنُوا» (2)
__________
(1) - مسند إسحاق بن راهويه (1/ 428) (494) ضعيف
(2) - مكارم الأخلاق للخرائطي (ص:228) (687) حسن مرسل(1/185)
المبحث الثاني عشر
أساليب الشيطان في إضلال الإنسان
عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: «لَمَّا أُهْبِطَ إِبْلِيسُ قَالَ: أَيْ رَبِّ، قَدْ لَعَنْتَهُ فَمَا عَمَلُهُ؟ قَالَ: السِّحْرُ، قَالَ: فَمَا قِرَاءَتُهُ؟ قَالَ: الشِّعْرُ، قَالَ: فَمَا كِتَابُهُ؟ قَالَ: الْوَشْمُ، قَالَ: فَمَا طَعَامُهُ؟ قَالَ: كُلُّ مَيْتَةٍ وَمَا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ، قَالَ: فَمَا شَرَابُهُ؟ قَالَ: كُلُّ مُسْكِرٍ، قَالَ: فَأَيْنَ مَسْكَنُهُ؟ قَالَ: الْحَمَّامُ، قَالَ: فَأَيْنَ مَجْلِسُهُ؟ قَالَ: الْأَسْوَاقُ، قَالَ: فَمَا صَوْتُهُ؟ قَالَ: الْمِزْمَارُ، قَالَ: فَمَا مَصَايِدُهُ؟ قَالَ: النِّسَاءُ» (1)
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِي اللهُ عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -:" قَالَ إِبْلِيسُ لِرَبِّهِ: يَا رَبِّ قَدْ أُهْبِطَ آدَمُ وَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّهُ سَيَكُونُ كِتَابٌ وَرُسُلٌ، فَمَا كِتَابُهُمْ وَرُسُلُهُمْ؟ قَالَ: قَالَ رُسُلُهُمْ: الْمَلَائِكَةُ وَالنَّبِيُّونَ مِنْهُمْ، وَكُتُبُهُمْ: التَّوْرَاةُ وَالزَّبُورُ وَالْإِنجيلُ وَالْفُرْقَانُ، قَالَ: فَمَا كِتَابِي؟ قَالَ: كِتَابُكَ: الْوَشْمُ، وَقُرآنُكَ: الشِّعْرُ، وَرُسُلُكَ: الْكَهَنَةُ، وَطعامُكَ: مَا لَا يُذْكَرُ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ، وَشَرابُكَ: كُلُّ مُسْكِرٍ، وَصِدْقُكُ: الْكَذِبُ، وَبيتُكَ: الْحَمَّامُ، وَمصائدُكَ: النِّسَاءُ، وَمُؤَذِّنُكَ: الْمِزْمارُ، وَمَسْجِدُكَ: الْأَسْوَاقُ " (2)
وعَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ:" إِنَّ إِبْلِيسَ لَمَّا نَزَلَ الْأَرْضَ قَالَ: يَا رَبِّ، أَنْزَلْتَنِي الْأَرْضَ وَجَعَلْتَنِي رَجِيمًا، أَوْ كَمَا ذَكَرَ، فَاجْعَلْ لِي بَيْتًا. قَالَ: الْحَمَّامُ. قَالَ: فَاجْعَلْ لِي مَجْلِسًا. قَالَ: الْأَسْوَاقُ وَمَجَامِعُ الطُّرُقِ قَالَ: اجْعَلْ لِي طَعَامًا. قَالَ: مَا لَمْ يَذْكُرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ. قَالَ: اجْعَلْ لِي شَرَابًا. قَالَ: كُلُّ مُسْكِرٍ. قَالَ: اجْعَلْ لِي مُؤَذِّنًا. قَالَ: الْمَزَامِيرُ. قَالَ: اجْعَلْ لِي قُرْآنًا. قَالَ: الشِّعْرُ. قَالَ: اجْعَلْ لِي
__________
(1) - جامع معمر بن راشد (11/ 268) (20511) صحيح مقطوع
(2) - المعجم الكبير للطبراني (11/ 103) (11181) ضعيف ويشهد له ما بعده(1/186)
كِتَابًا. قَالَ: الْوَشْمُ. قَالَ: اجْعَلْ لِي حَدِيثًا. قَالَ: الْكَذِبُ. قَالَ: اجْعَلْ لِي رُسُلًا. قَالَ: الْكُهَّانُ. قَالَ: اجْعَلْ لِي مَصَايِدَ. قَالَ: النِّسَاءُ " (1)
وعَنْ سَمُرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لِلشَّيْطَانِ كُحْلًا وَلَعُوقًا، فَإِذَا كَحَّلَ الْإِنْسَانَ مِنْ كُحْلِهِ نَامَتْ عَيْنَاهُ عَنِ الذِّكْرِ، وَإِذَا لَعَّقَهُ مِنْ لَعُوقِهِ ذَرَبَ لِسَانُهُ بِالشَّرِّ» (2)
وعَنْ أَنَسٍ، قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -:" إِنَّ لِلشَّيْطَانِ كُحْلًا، وَلَعُوقًا، وَنُشُوقًا. أَمَّا لَعُوقُهُ: فَالْكَذِبُ، وَأَمَّا نُشُوقُهُ: فَالْغَضَبُ، وَأَمَّا كُحْلُهُ: فَالنَّوْمُ " (3)
وعَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: لإِبْلِيسَ خَمْسَةٌ مِنْ وَلَدِهِ قَدْ جَعَلَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى شَيْءٍ مِنْ أَمْرِهِ ثُمَّ سَمَّاهُمْ فَذَكَرَ: ثَبْرَ، وَالأَعْوَرَ، وَمِسْوَطَ، وَدَاسِمَ، وَزَلَنْبُورَ.
فَأَمَّا ثَبْرُ فَهُوَ صَاحِبُ الْمُصِيبَاتِ الَّذِي يَأْمُرُ بِالثُّبُورِ، وَشَقِّ الْجُيُوبِ، وَلَطْمِ الْخُدُودِ، وَدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ.
وَأَمَّا الأَعْوَرُ فَهُوَ صَاحِبُ الزِّنَا الَّذِي يَأْمُرُ به ويزنيه.
وَأَمَّا مِسْوَطُ هُوَ صَاحِبُ الْكَذِبِ الَّذِي يَسْمَعُ فَيَلْقَى الرَّجُلَ فَيُخْبِرُهُ بِالْخَبَرِ، فَيَذْهَبُ الرَّجُلُ إِلَى الْقَوْمِ فَيَقُولُ لَهُمْ: قَدْ رَأَيْتُ رَجُلا أَعْرِفُ وَجْهَهُ، وَمَا أَدْرِي مَا اسْمُهُ حَدَّثَنِي بِكَذَا وَكَذَا.
وَأَمَّا دَاسِمُ فَهُوَ الَّذِي يَدْخُلُ مَعَ الرَّجُلِ إِلَى أَهْلِهِ يُرِيهِ الْعَيْبَ فِيهِمْ وَيُغْضِبُهُ عَلَيْهِمْ.
وَأَمَّا زَلَنْبُورُ فَهُوَ صَاحِبُ السُّوقِ، الَّذِي يَرْكِزُ رَايَتَهُ فِي السُّوقِ. (4)
وعن بَكَّارَ بْنِ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: سَمِعْتُ وَهْبَ بْنَ مُنَبِّهٍ، يَقُولُ:" كَانَ رَجُلٌ عَابِدٌ مِنَ السُّيَّاحِ أَرَادَهُ الشَّيْطَانُ مِنْ قِبَلِ الشَّهْوَةِ، وَالرَّغْبَةِ، وَالْغَضَبِ، فَلَمْ يَسْتَطِعْ لَهُ شَيْئًا، فَمُثِّلَ لَهُ بِحَيَّةٍ وَهُوَ يُصَلِّي فَالْتَوَى بِقَدَمِهِ وَجَسَدِهِ، ثُمَّ أَطْلَعَ رَأْسَهُ عِنْدَ رَأْسِهِ، فَلَمْ يَلْتَفِتْ مِنْ صَلَاتِهِ وَلَمْ يَسْتَأْخِرْ مِنْهَا، فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَسْجُدَ الْتَوَى فِي مَوْضِعِ سَجْدَتِهِ، فَلَمَّا وَضَعَ رَأْسَهُ لِيَسْجُدَ
__________
(1) - تهذيب الآثار مسند عمر (2/ 645) (953) ومكائد الشيطان (ص:63) (43) والمعجم الكبير للطبراني (8/ 207) (7837) ضعيف ويشهد له ما قبله
(2) - المعجم الكبير للطبراني (7/ 206) (6855) ومسند البزار = البحر الزخار (10/ 431) (4583) صحيح
(3) - شعب الإيمان (6/ 460) (4478) ضعيف
(4) - مكائد الشيطان (ص:54) (35) حسن مقطوع(1/187)
فَتَحَ فَاهُ لِيَلْتَقِمَ رَأْسَهُ فَوَضَعَ رَأْسَهُ فَجَعَلَ يَعْرُكُهُ حَتَّى اسْتَمْكَنَ مِنَ الْأَرْضِ لِسَجْدَتِهِ، فَقَالَ لَهُ الشَّيْطَانُ: إِنِّي أَنَا صَاحِبُكَ الَّذِي كُنْتَ أُخَوِّفُكَ، فَأَتَيْتُكَ مِنْ قِبَلِ الشَّهْوَةِ وَالرَّغْبَةِ وَالْغَضَبِ، وَأَنَا الَّذِي كُنْتُ أَتَمَثَّلُ لَكَ بِالسِّبَاعَ وَالْحَيَّةِ، فَلَمْ أَسْتَطِعْ لَكَ شَيْئًا، وَقَدْ بَدَا لِي أَنْ أُصَادِقَكَ، وَلَا أَرَاكَ فِي صَلَاتِكَ بَعْدَ الْيَوْمِ. فَقَالَ لَهُ: لَا يَوْمَ خَوَّفْتَنِي بِحَمْدِ اللهِ خِفْتُكَ، وَلَا الْيَوْمَ فِي حَاجَةٍ مِنْ فَضْلِهِ. قَالَ: أَلَا تَسْأَلُنِي عَمَّا شِئْتَ أُخْبِرْكَ. قَالَ: مَا عَسَيْتُ أَنْ أَسْأَلَكَ عَنْهُ؟ قَالَ: أَلَا تَسْأَلُنِي عَنْ مَالِكَ مَا فَعَلَ بَعْدَكَ؟ قَالَ: لَوْ أَرَدْتُ ذَلِكَ مَا فَارَقْتُهُ. قَالَ: أَفَلَا تَسْأَلُنِي عَنْ أَهْلِكَ مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ؟ قَالَ: أَنَا مُتُّ قَبْلَهُمْ. قَالَ: أَفَلَا تَسْأَلُنِي عَمَّا أُضِلُّ بِهِ بَنِي آدَمَ؟ قَالَ: بَلَى، فَأَخْبِرْنِي، مَا أَوْثَقُ مَا فِي نَفْسِكَ أَنْ تُضِلَّهُمْ بِهِ؟ قَالَ: ثَلَاثَةُ أَخْلَاقٍ مَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ بِشَيْءٍ مِنْهَا غَلَبْنَاهُ: بِالشُّحِّ وَالْحِدَّةِ وَالسُّكْرِ، فَإِنَّ الرَّجُلَ إِذَا كَانَ شَحِيحًا قَلَّلْنَا مَالَهُ فِي عَيْنِهِ، وَرَغَّبْنَاهُ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ، وَإِذَا صَارَ حَدِيدًا تَزَاوَرْنَاهُ كَمَا يَتَزَاوَرُ الصِّبْيَانُ الْكُرَةَ، وَلَوْ كَانَ يُحْيِي الْمَوْتَى بِدَعْوَتِهَ لَمْ نَيْأَسْ مِنْهُ، فَإِنَّ مَا يَبْنِي يَهْدِمُهُ لَنَا بِكَلِمَةٍ، وَإِذَا سَكِرَ اقْتَدْنَاهُ إِلَى كُلِّ شَهْوَةٍ كَمَا يُقْتَادُ مَنْ أَخَذَ الْعَنْزَ بِأُذُنِهَا حَيْثُ شَاءَ " (1)
وعن سَالِمَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: لَمَّا رَكِبَ نُوحٌ السَّفِينَةَ رَأَى فِيهَا شَيْخًا لَمْ يَعْرِفْهُ، قَالَ لَهُ نُوحٌ: مَا أَدْخَلَكَ؟ قَالَ: دَخَلْتُ لأُصِيبَ قُلُوبَ أَصْحَابِكَ فَتَكُونَ قُلُوبُهُمْ مَعِي، وَأَبْدَانُهُمْ مَعَكَ.
قَالَ نُوحٌ: اخْرُجْ يَا عَدُوَّ اللَّهِ.
فَقَالَ: خَمْسٌ أُهْلِكُ بِهِنَّ النَّاسَ، وَسَأُحَدِّثُكَ مِنْهُنَّ بِثَلاثٍ، وَلا أُحَدِّثُكَ بِاثْنَتَيْنِ، فَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ لا حَاجَةَ بِكَ إِلَى الثَّلاثِ، مُرْهُ يُحَدِّثُكَ بِالاثْنَتَيْنِ، فَإِنَّ بِهِمَا أَهْلَكَ النَّاسَ فَقَالَ هُمَا: الْحَسَدُ، وَبِالْحَسَدِ لُعِنْتُ، وَجُعِلْتُ شَيْطَانًا رَجِيمًا، وَالْحِرْصُ أَبَاحَ لآدَمَ الْجَنَّةَ كُلَّهَا فَأَصَبْتُ حَاجَتِي مِنْهُ بِالْحِرْصِ.
__________
(1) - الزهد والرقائق لابن المبارك والزهد لنعيم بن حماد (1/ 518) (1472) وحلية الأولياء وطبقات الأصفياء (4/ 53) صحيح مقطوع(1/188)
قَالَ: وَلَقِيَ إِبْلِيسُ مُوسَى فَقَالَ: يَا مُوسَى أَنْتَ الَّذِي اصْطَفَاكَ اللَّهُ بِرِسَالَتِهِ، وَكَلَّمَكَ تَكْلِيمًا، وَأَنَا مِنْ خَلْقِ اللَّهِ أَذْنَبْتُ، وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أَتُوبَ، فَاشْفَعْ لِي عِنْدَ رَبِّكَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَتُوبَ عَلَيَّ، فَدَعَا مُوسَى رَبَّهُ.
فَقِيلَ يَا مُوسَى قَدْ قَضَيْتُ حَاجَتَكَ، فَلَقِيَ مُوسَى إِبْلِيسَ، فَقَالَ: قَدْ أُمِرْتَ أَنْ تَسْجُدَ لِقَبْرِ آدَمَ وَيُتَابَ عَلَيْكَ، فَاسْتَكْبَرَ وَغَضِبَ، وَقَالَ: لَمْ أَسْجُدْ لَهُ حَيًّا، أَأَسْجُدُ لَهُ مَيِّتًا؟ ثُمَّ قَالَ إِبْلِيسُ: يَا مُوسَى إِنَّ لَكَ عَلَيَّ حَقًّا بِمَا شَفَعْتَ لِي رَبَّكَ، فَاذْكُرْنِي عِنْدَ ثَلاثٍ وَلا هَلاكَ إِلا فِيهِنَّ:
اذْكُرْنِي حِينَ تَغْضَبُ فَإِنَّ وَحْيِي فِي قَلْبِكَ، وَعَيْنِي فِي عَيْنِكَ، وَأَجْرِي مِنْكَ مَجْرَى الدَّمِ.
اذْكُرْنِي حِينَ تَلْقَى الزَّحْفَ فَإِنِّي آتِي ابْنَ آدَمَ، حِينَ يَلْقَى الزَّحْفَ فَأُذَكِّرُهُ وَلَدَهُ وَزَوْجَتَهُ وَأَهْلَهُ حَتَّى يُوَلِّيَ.
وَإِيَّاكَ أَنْ تُجَالِسَ امْرَأَةً لَيْسَتْ بِذَاتِ مَحْرَمٍ، فَإِنِّي رَسُولُهَا إِلَيْكَ وَرَسُولُكَ إِلَيْهَا. (1)
وعَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ قَالَ: لَمَّا رَسَتِ السَّفِينَةُ سَفِينَةُ نُوحٍ إِذَا هُوَ بِإِبْلِيسَ عَلَى كَوْثَلِ السَّفِينَةِ، فَقَالَ لَهُ نُوحٌ: وَيْلَكَ قَدْ غَرِقَ أَهْلُ الأَرْضِ مِنْ أَجْلِكَ وَقَدْ أَهْلَكْتَهُمْ؟ قَالَ إِبْلِيسُ، فَمَا أَصْنَعُ؟ قَالَ لَهُ: تَتُوبُ.
قَالَ: فَسَلْ رَبَّكَ عَزَّ وَجَلَّ، هَلْ لِي مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَدَعَا نُوحٌ رَبَّهُ فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ أَنَّ تَوْبَتَهُ أَنْ يَسْجُدَ لِقَبْرِ آدَمَ.
فَقَالَ لَهُ نُوحٌ: قَدْ جُعِلَتْ لَكَ تَوْبَةٌ.
قَالَ: وَمَا هِيَ؟ قَالَ: أَنْ تَسْجُدَ لِقَبْرِ آدَمَ.
قَالَ: تَرَكْتُهُ حَيًّا وَأَسْجُدُ لَهُ مَيِّتًا!!. (2)
فلا يأتي الشيطان إلى الإنسان ويقول له: اترك هذه الأمور الخيرة، وافعل هذه الأمور السيئة؛ كي تشقى في دنياك وأخراك؛ لأنه لو فعل ذلك فلن يطيعه أحد، ولكنه يسلك سبلاً كثيرة، يغرر بها بعباد الله.
__________
(1) - مكائد الشيطان (ص:65) (44) ضعيف
(2) - مكائد الشيطان (ص:66) (45) صحيح مقطوع(1/189)
1 - تزيين الباطل:
هذا هو السبيل الذي كان الشيطان، ولا يزال، يسلكه لإضلال العباد، فهو يظهر الباطل في صورة الحق، والحق في صورة الباطل، ولا يزال بالإنسان يحسن له الباطل، ويكرهه بالحق، حتى يندفع إلى فعل المنكرات، ويعرض عن الحق، كما قال اللعين لربّ العزة: {قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40)} [الحجر:39،40].
يقول ابن القيم في هذا الصدد:"ومن مكايده أنه يسحر العقل دائما حتى يكيده، ولا يسلم من سحره إلا من شاء الله، فيزين له الفعل الذى يضره حتى يخيل إليه أنه من أنفع الأشياء، وينفر من الفعل الذى هو أنفع الأشياء له، حتى يخيل له أنه يضره، فلا إله إلا الله. كم فتن بهذا السحر من إنسان، وكم حال به بين القلب وبين الإسلام والإيمان والإحسان؟ وكم جلا الباطل وأبرزه فى صورة مستحسنة، وشنع الحق وأخرجه فى صورة مستهجنة؟ وكم بهرج من الزيوف على الناقدين، وكم روّج من الزغل على العارفين؟ فهو الذى سحر العقول حتى ألقى أربابها فى الأهواء المختلفة والآراء المتشعبة، وسلك بهم فى سبل الضلال كل مسلك وألقاهم من المهالك فى مهلك بعد مهلك، وزين لهم عبادة الأصنام، وقطيعة الأرحام، ووأد البنات، ونكاح الأمهات، ووعدهم الفوز بالجنات مع الكفر والفسوق والعصيان، وأبرز لهم الشرك فى صورة التعظيم، والكفر بصفات الرب تعالى وعلوه على عرشه وتكلمه بكتبه فى قالب التنزيه، وترك الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر فى قالب التودد إلى الناس، وحسن الخلق معهم، والعمل بقوله: {عَلَيْكُمْ أنْفُسَكُمْ} [المائدة:105].
والإعراض عما جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام فى قالب التقليد، والاكتفاء بقول من هو أعلم منهم، والنفاق والإدهان فى دين الله فى قالب العقل المعيشى الذى يندرج به العبد بين الناس.
فهو صاحب الأبوين حين أخرجهما من الجنة، وصاحب قابيل حين قتل أخاه، وصاحب قوم نوح حين أغرقوا، وقوم عاد حين أهلكوا بالريح العقيم، وصاحب قوم صالح حين(1/190)
أهلكوا بالصيحة، وصاحب الأمة اللوطية حين خسف بهم وأتبعوا بالرجم بالحجارة، وصاحب فرعون وقومه حين أخذوا الأخذة الرابية، وصاحب عباد العجل حين جرى عليهم ما جرى، وصاحب قريش حين دعوا يوم بدر، وصاحب كل هالك ومفتون." (1)
وبهذا السبيل كاد إبليس اللعين آدم عليه السلام؛ إذ زين له الأكل من الشجرة التي حرمها الله عليه، فما زال به يزعم له أن هذه هي شجرة الخلد، وأن الأكل منها يجعله خالداً في الجنة، أو ملكاً من الملائكة، حتى أطاعه، فخرج من الجنة.
وانظر إلى أولياء الشيطان اليوم كيف يستخدمون هذا السبيل في إضلال العباد. فهذه الدعوات إلى الشيوعية والاشتراكية .... ،يزعمون أنها هي المذاهب التي تخلص البشرية من الحيرة والقلق والضياع والجوع، ... وهذه الدعوات التي تدعو إلى خروج المرأة كاسية عارية باسم الحرية، وتدعو إلى هذا التمثيل السخيف الذي تداس فيه الأعراض والأخلاق، وتنتهك فيه الحرمات باسم الفن.
وتلك الأفكار المسمومة التي تدعو إلى إيداع المال في البنوك بالربا؛ لتحقيق الأرباح باسم التنمية والربح الوفير.
وتلك الدعوات التي تزعم أن التمسك بالدين رجعية وجمود وتأخر، والتي تسم دعاة الإسلام بالجنون والعمالة لدول الشرق والغرب ... إلخ.
كل ذلك امتداد لسبيل الشيطان الذي كاد به آدم منذ عهد بعيد، وهو تزيين الباطل وتحسينه، وتقبيح الحق وتكريه الناس به: {تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النحل:63].
يَذْكُرُ اللهُ تَعَالَى أَنَّهُ أَرْسَلَ إِلَى الأُمَمِ الخَالِيَّةِ رُسُلاً يَدْعُونَهُمْ إِلَى الإِيمَانِ بِاللهِ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَيَقُولُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ - صلى الله عليه وسلم - مُعَزِيّاً وَمُسَلِيّاً: لَقَدْ كَذَبَّتْ الأُمَمُ رُسُلَهَا فَلَكَ يَا مُحَمَّدُ بِالمُرْسَلِينَ قَبْلِكَ أُسْوَةٌ، فَلاَ يُهِمَّنَّكَ تَكْذِيبُ قَوْمِكَ لَكَ. وَالذِينَ كَذَّبُوا بِالرُّسُلِ إِنَّمَا حَمَلَهُمْ عَلَى ذَلِكَ الشَّيْطَانُ الذِي زَيَّنَ لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ، وَمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ كُفْرٍ
__________
(1) - إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان (1/ 110)(1/191)
وَضَلاَلٍ، وَعِبَادَةِ أَوْثَانٍ وَأَصْنَامٍ وَفَسَادٍ فِي الأَرْضِ. وَيَوْمَ القِيَامَةِ يُجَازِي اللهُ أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ جَزَاءً عَادِلاً عَلَى مَا كَذَّبُوا وَكَفَرُوا، وَيُلْقَوْنَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ، وَلاَ يَمْلِكُ الشَّيْطَانُ لَهُمْ خَلاَصاً، وَلاَ نَصْراً فَيَذُوقُونَ العَذَابَ الأَلِيمَ. (1)
وهو - والله - سبيل خطر؛ لأن الإنسان إذا زين له الباطل فرآه اندفع بكل قواه؛ لتحقيق ما يراه حقاً، وإن كان فيه هلاكه: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104) أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا (105)} [الكهف:103 - 105].
وهؤلاء يندفعون لصدّ الناس عن دين الله ومحاربة أولياء الله، وهم يظنون أنفسهم على الحقّ والهدى، {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37)} [الزخرف:36،37].
وَمَنْ يَتَغَافَلْ وَيَتَعَامَ عَنِ القُرْآنِ، وَعَنْ ذِكْرِ اللهِ تَعَالَى، وَيَنْهَمِك فِي المَعَاصِي، وَلَذَّاتِ الدُّنْيَا وَشَهَوَاتِهَا .. فَإِنَّ اللهَ يُسَلِّطُ عَلَيْهِ شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالجِنِّ فَيَكُونُونَ لَهُ قُرْنَاءَ، يُزَيِّنُونَ لَهُ ارْتِكَابَ المَعَاصِي، وَالاشْتِغَالَ بِاللَّذَّاتِ، فَيَسْتَرْسِلُ فِيهَا فَيَحِقُّ عَلَيْهِ غَضَبُ اللهِ وَعِقَابُهُ.
وَهَؤُلاَءِ القُرنَاءُ مِن شَيَاطِينِ الإِنْسِ والجِنِّ، الذِينَ يُقَيِّضُهُم اللهُ لِكُلِّ مَنْ يَعْشُوا عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ، يُحَاوِلُونَ صَرْفَهُ عَنِ الحَقِّ إِلَى البَاطِلِ، وَيُوسْوِسُونَ لَهُ أَنَّهُ عَلَى جَادَّةِ الهُدَى والحَقِّ والصَّوَابِ، وَأَنَّ غَيْرَهُ عَلَى البَاطِلِ، وَيُكَرِّهُونَ إِلَيهِ الإِيْمَانَ فَيُطِيعُهُمْ. (2)
وهذا أسوأ ما يصنعه قرين بقرين. أن يصده عن السبيل الواحدة القاصدة ثم لا يدعه يفيق، أو يتبين الضلال فيثوب، إنما يوهمه أنه سائر في الطريق القاصد القويم! حتى يصطدم بالمصير الأليم.
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد (ص:1964،بترقيم الشاملة آليا)
(2) - أيسر التفاسير لأسعد حومد (ص:4240،بترقيم الشاملة آليا)(1/192)
والتعبير بالفعل المضارع: «لَيَصُدُّونَهُمْ» .. «وَيَحْسَبُونَ» .. يصور العملية قائمة مستمرة معروضة للأنظار يراها الآخرون، ولا يراها الضالون السائرون إلى الفخ وهم لا يشعرون.
ثم تفاجئهم النهاية وهم سادرون: «حَتَّى إِذا جاءَنا قالَ: يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ. فَبِئْسَ الْقَرِينُ»! وهكذا ننتقل في ومضة من هذه الدنيا إلى الآخرة. ويطوى شريط الحياة السادرة، ويصل العمي (الذين يعشون عن ذكر الرحمن) إلى نهاية المطاف فجأة على غير انتظار. هنا يفيقون كما يفيق المخمور، ويفتحون أعينهم بعد العشى والكلال وينظر الواحد منهم إلى قرين السوء الذي زين له الضلال، وأوهمه أنه الهدى!
وقاده في طريق الهلاك، وهو يلوح له بالسلامة! ينظر إليه في حنق يقول: «يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ»! يا ليته لم يكن بيننا لقاء. على هذا البعد السحيق! ويعقب القرآن على حكاية قول القرين الهالك للقرين بقوله: «فَبِئْسَ الْقَرِينُ»! (1)
وهذا هو السبب الذي من أجله آثر الكفار الدنيا، وأعرضوا عن الآخرة، كما قال تعالى: {وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (25)} [فصلت:25].
يَسَّرَ اللهُ تَعَالَى لِهَؤُلاَءِ الكَافِرِينَ أَخْدَاناً وَأَقْرَاناً مِنْ شَيَاطِينِ الجِنِّ وَالإِنْسِ، فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَينَ أَيْدِيهِمْ مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا مِنَ الضَّلاَلَةِ وَالكُفْرِ واتِّبَاعِ الشَّهَوَاتِ، وَمَا خَلْفَهُمْ مِنْ أَمْرِ الآخِرَةِ، فَحَسَّنُوا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَلَمْ يَرَوْا أَنْفُسَهُمْ إِلاَ مُحْسِنِينَ، وَأَوْحَوْا إِلَيْهِمْ إِنَّهُ لاَ جَنَّةَ وَلاَ نَارَ وَلاَ حِسَابَ، فَوَجَبَ عَلَيهِمْ مِنَ العَذَابِ مَا وَجَبَ عَلَى الذِينَ كَفَرُوا مِنْ ٌَقَبْلِهِمْ مِمَّنْ فَعَلُوا مِثْلَ أَفْعَالِِهِمْ، فَكَانُوا جَمِيعاً فِي الخَسَارِ والدَّمَارِ، وَاسْتَحَقُّوا اللَّعْنَ والخِزْيَ فِي الدُّنْيَا والآخِرَةِ. (2)
__________
(1) - في ظلال القرآن للسيد قطب - ت- علي بن نايف الشحود (ص:3986)
(2) - أيسر التفاسير لأسعد حومد (ص:4122،بترقيم الشاملة آليا)(1/193)
فالقرناء هم الشياطين، زينوا لهم ما بين أيديهم من أمر الدنيا حتى آثروها، ودعوهم إلى التكذيب بالآخرة، وزينوا لهم ذلك حتى أنكروا البعث والحساب والجنّة والنار.
تسمية الأمور المحرمة بأسماء محببة:
ومن تغرير الشيطان بالإنسان وتزيينه الباطل أن يسمّي الأمور المحرمة، التي هي معصية لله، بأسماء محببة للنفوس خداعاً للإنسان وتزويراً للحقيقة، كما سمّى الشجرة المحرمة بشجرة الخلد، كي يزين لآدم الأكل منها: {قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى} [طه:120].
يقول ابن القيم:" ومنه ورث أتباعه تسمية الأمور المحرمة بالأسماء التى تحب النفوس مسمياتها، فسموا الخمر: أم الأفراح، وسموا أخاها بلقيمة الراحة، وسموا الربا بالمعاملة، وسموا المكوس بالحقوق السلطانية، وسموا أقبح الظلم وأفحشه شرع الديوان، وسموا أبلغ الكفر، وهو جحد صفات الرب، تنزيها، وسموا مجالس الفسوق مجالس الطيبة .... ". (1)
واليوم يسمون الربا الفائدة، والرقص والغناء والتمثيل وصناعة التماثيل فناً.
2 - الإفراط والتفريط:
يقول ابن القيم في هذه المسألة:" وما أمر الله عز وجل بأمر إلا وللشيطان فيه نزغتان: إما تقصير وتفريط، وإما إفراط وغلو. فلا يبالي بما ظفر من العبد من الخطيئتين، فإنه يأتي إلى قلب العبد فيستامه، فإن وجد فيه فتوراً وتوانياً وترخيصاً أخذه من هذه الخطة فثبطه وأقعده وضربه بالكسل والتواني والفتور، وفتح له باب التأويلات والرجاء وغير ذلك، حتى ربما ترك العبد المأمور جملة.
وإن وجد عنده حذرا وجداً وتشميراً ونهضة وأيس أن يأخذه من هذا الباب أمره بالاجتهاد الزائد وسول له أن هذا لا يكفيك وهمتك فوق هذا، وينبغي لك أن تزيد على العاملين، وأن لا ترقد إذا رقدوا، ولا تفطر إذا أفطروا، وأن لا تفتر إذا فتروا، وإذا غسل أحدهم يديه ووجهه ثلاث مرات فاغسل أنت سبعاً، وإذا توضأ للصلاة فاغتسل أنت لها، ونحو ذلك من الإفراط والتعدي، فيحمله على الغلو والمجاوزة وتعدي الصراط
__________
(1) - إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان (1/ 112)(1/194)
المستقيم، كما يحمل الأول على التقصير دونه وأن لا يقربه، ومقصود من الرجلين إخراجهما عن الصراط المسقيم: هذا بأن لا يقربه ولا يدلو منه، وهذا بأن يجاوزه ويتعداه. وقد فتن بهذا أكثر الخلق، ولا ينجي من ذلك إلا علم راسخ وإيمان وقوة على محاربته ولزوم الوسط. والله المستعان." (1)
3 - تثبيطه العباد عن العمل ورميهم بالتسويف والكسل:
وله في ذلك أساليب وطرق، ففي صحيح البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «يَعْقِدُ الشَّيْطَانُ عَلَى قَافِيَةِ رَأْسِ أَحَدِكُمْ إِذَا هُوَ نَامَ ثَلاَثَ عُقَدٍ يَضْرِبُ كُلَّ عُقْدَةٍ عَلَيْكَ لَيْلٌ طَوِيلٌ، فَارْقُدْ فَإِنِ اسْتَيْقَظَ فَذَكَرَ اللَّهَ، انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ، فَإِنْ تَوَضَّأَ انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ، فَإِنْ صَلَّى انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ، فَأَصْبَحَ نَشِيطًا طَيِّبَ النَّفْسِ وَإِلَّا أَصْبَحَ خَبِيثَ النَّفْسِ كَسْلاَنَ». (2)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -،قَالَ: «إِذَا اسْتَيْقَظَ أُرَاهُ أَحَدُكُمْ مِنْ مَنَامِهِ فَتَوَضَّأَ فَلْيَسْتَنْثِرْ ثَلاَثًا، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَبِيتُ عَلَى خَيْشُومِهِ» (3)
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: ذُكِرَ عِنْدَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - رَجُلٌ نَامَ لَيْلَهُ حَتَّى أَصْبَحَ، قَالَ:" ذَاكَ رَجُلٌ بَالَ الشَّيْطَانُ فِي أُذُنَيْهِ، أَوْ قَالَ: فِي أُذُنِهِ " (4)
وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: سُئِلَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَنِ الَّذِي يَنَامُ مِنْ أَوَّلِ اللَّيْلِ إِلَى آخِرِهِ، قَالَ:" ذَاكَ الَّذِي بَالَ الشَّيْطَانُ فِي أُذُنِهِ " (5)
__________
(1) - الوابل الصيب من الكلم الطيب (ص:14)
(2) - صحيح البخاري (2/ 52) (1142) وصحيح مسلم (1/ 538) 207 - (776)
[ش (يعقد) يربط فيثقل عليه النومه. (قافية) مؤخرة العنق أو القفا. (يضرب كل عقدة) يحكم عقدة ويؤكده. (فارقد) فنم ولا تعجل بالقيام. (طيب النفس) مرتاح النفس لما وفقه الله تعالى إليه من القيام. (خبيث النفس) مكتئبا يلوم نفسه على تقصيره في ترك الخير والقيام في الليل]
(3) - صحيح البخاري (4/ 126) (3295)
[ش (فليستنثر) من الاستنثار وهو إخراج ما في الأنف بنفس. (خيشومه) هو الأنف وقيل أقصى الأنف. والله تعالى - ورسوله - أعلم بحقيقة هذه البيتوتة ونحن نؤمن بما قاله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إيمانا جازما ونمتثل ما أمرنا به مع تسليمنا أنه - صلى الله عليه وسلم - قد خصه الله تعالى بعلوم وأسرار تقصر عن فهمها وإدراك كهنها عقول عامة البشر]
(4) - صحيح البخاري (4/ 122) (3270)
(5) - شرح مشكل الآثار (10/ 192) (4020) صحيح(1/195)
وعَنْ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: ذَكَرْتُ عِنْدَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - رَجُلًا، فَقُلْتُ: إِنَّ فُلَانًا نَامَ اللَّيْلَةَ حَتَّى أَصْبَحَ لَمْ يُصَلِّ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -:" ذَاكَ رَجُلٌ بَالَ الشَّيْطَانُ فِي أُذُنِهِ، أَوْ فِي أُذُنَيْهِ " (1)
قال الطحاوي:"كَانَ النَّوْمُ الْمَذْكُورُ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي بَدَأْنَا بِذِكْرِهِ فِي هَذَا الْبَابِ نَوْمًا كَانَ مِنْ نَائِمِهِ تَضْيِيعُهُ فَرْضَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي الْعِشَاءِ، ثُمَّ خِلَافُهُ لِمَا كَرِهَهُ لَهُ نَبِيُّهُ - صلى الله عليه وسلم - مِنَ النَّوْمِ قَبْلَهَا الَّذِي كَانَ سَبَبًا لِتَضْيِيعِهَا، وَلِتَرْكِ أَدَاءِ فَرْضِهَا فِي الْوَقْتِ الَّذِي أَوْجَبَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهِ أَدَاءَهُ فِيهِ، فَكَانَ فِي ذَلِكَ مُخَالِفًا لِرَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ، مُطِيعًا لِلشَّيْطَانِ فِيمَا يُرِيدُهُ مِنْهُ، فَضَرَبَ عَلَى أُذُنَيْهِ بِذَلِكَ النَّوْمِ، وَهُوَ مَا أُلْقِيَ فِيهِمَا مِنْ ثِقَلِ النَّوْمِ، وَالْعَرَبُ تُسَمِّي مِثْلَ ذَلِكَ ضَرْبًا عَلَى الْأُذُنِ وَمِنْهُ قَوْلُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي أَهْلِ الْكَهْفِ: {فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا} [الكهف:11]،وَأُضِيفَ ذَلِكَ الْفِعْلُ بِهِ إِلَى الشَّيْطَانِ، لِأَنَّهُ مِمَّا يَرْضَاهُ الشَّيْطَانُ مِنْهُ، وَذَكَرَ فِيهِ بَوْلَ الشَّيْطَانِ فِي أُذُنِهِ، أَيْ: فَعَلَ بِهِ أَقْبَحَ مَا يُفْعَلُ بِالنُّوَّامِ وَلَيْسَ ذَلِكَ عَلَى حَقِيقَةِ الْبَوْلِ مِنْهُ فِي أُذُنِهِ، وَلَكِنْ عَلَى الْمَثَلِ وَالِاسْتِعَارَةِ فِي الْمَعْنَى كَمَثَلِ مَا قَالَ - صلى الله عليه وسلم - مِمَّا قَدْ ذَكَرْنَاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ مِنَّا فِي كِتَابِنَا هَذَا مِنْ عَقْدِ الشَّيْطَانِ عِنْدَ رَأْسِ مَنْ نَامَ ثَلَاثَ عُقَدٍ لَا يُرِيدُ بِذَلِكَ ثَلَاثَ عُقَدٍ مِنَ الْعُقَدِ الَّتِي يَعْقِدُ بِهَا بَنُو آدَمَ، وَلَكِنْ مَثَلًا لَهَا وَاسْتِعَارَةً لِمَعْنَاهَا، لِأَنَّ الْعُقَدَ الَّتِي يَعْقِدُهَا بَنُو آدَمَ تَمْنَعُ مَنْ يَعْقِدُونَهُ بِهَا مِنَ التَّصَرُّفِ لِمَا يُحَاوِلُ التَّصَرُّفَ فِيهِ، فَكَانَ مِثْلُهُ مَا يَكُونُ مِنَ الشَّيْطَانِ لِلنَّائِمِ الَّذِي لَا يَقُومُ مِنْ نَوْمِهِ إِلَى مَا يَنْبَغِي أَنْ يَقُومَ إِلَيْهِ النُّوَّامُ مِنْ ذِكْرِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَمِنَ الصَّلَاةِ لَهُ، فَهَذَا أَحْسَنُ مَا حَضَرَنَا مِمَّا يَحْتَمِلُهُ هَذَا الْحَدِيثُ، وَاللهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ بِمَا أَرَادَهُ رَسُولُهُ - صلى الله عليه وسلم - فِي ذَلِكَ، وَإِيَّاهُ نَسْأَلُهُ التَّوْفِيقَ" (2)
وهذا الذي ذكرناه تكسيل وتثبيط من الشيطان بفعله، وقد يثبط الإنسان بالوسوسة، وسبيله في ذلك أن يحبب للإنسان الكسل، ويسوّف العمل، ويسند الأمر إلى طول الأمل، يقول ابن الجوزي في هذا:"
__________
(1) - شرح مشكل الآثار (10/ 192) (4021) صحيح
(2) - شرح مشكل الآثار (10/ 193)(1/196)
كم قد خطر على قلب يهودي ونصراني حب الإسلام فلا يزال إبليس يثبطه ويقول لا تعجل وتمهل في النظر فيسوفه حتى يموت على كفره وكذلك يسوف العاصي بالتوبة فيجعل له غرضه من الشهوات ويمنيه الإنابة كما قال الشاعر:
لا تعجل الذنب لما تشتهي ... وتأمل التوبة ما قابل
وكم من عازم على الجد سوفه وكم ساع إلى فضيلة ثبطه فلربما عزم الفقيه على إعاده درسه فقال استرح ساعة أو انتبه العابد في الليل يصلي فقال له عليك وقت ولا يزال يحبب الكسل ويسوف العمل ويسند الأمر إلى طول الأمل فينبغي للحازم أن يعمل على الحزم والحزم تدارك الوقت وترك التسوف والإعراض عن الأمل فإن المخوف لا يؤمن والفوات لا يبعث وسبب كل تقصير في خير أو ميل أن شر طول الأمل فان الإنسان لا يزال يحدث نفسه بالنزوع عن الشر والإقبال على الخير إلا أنا يعد نفسه بذلك ولا ريب أنه من الأمل أن يمشي بالنهار سار سيرا فاترا ومن أمل أن يصبح عمل في الليل عملا ضعيفا ومن صور الموت عاجلا جد وَقَدْ قَالَ - صلى الله عليه وسلم -:"صل صلاة مودع". (1)
وقال بعض السلف أنذركم سوف فإنها أكبر جنود إبليس ومثل العامل على الحزم والساكن لطول الأمل كمل قوم في سفر فدخلوا قرية فمضى الحازم فاشترى ما يصلح لتمام سفره وجلس متأهبا للرحيل وقال المفرط سأتأهب فربما أقمنا شهرا فضرب بون الرحيل في الحال فاغتبط المحترز واغتبط الآسف المفرط فهذا مثل الناس في الدنيا مهم المستعد المستيقظ فإذا جاء ملك الموت لم يندم ومنهم المغرور المسوف يتجرع مرير الندم وقت الرحلة فإذا كان في الطبع حب التواني وطول الأمل ثم جاء إبليس يحث على العمل بمقتضى ما في الطبع صعبت المجاهدة إلا أنه من أنتبه لنفسه علم أنه في صف حرب وأن عدوه لا يفتر عنه فإن افتر في الظاهر بطن له مكيدة وأقام له كمينا ونحن نسأل الله عز وجل السلامة من كيد العدو وفتن الشيطان وشر النفوس والدنيا انه قريب مجيب جعلنا الله من أولئك المؤمنين." (2)
__________
(1) - مسند أحمد (عالم الكتب) (7/ 764) (23498) 23894 صحيح
(2) - تلبيس إبليس (ص:356)(1/197)
4 - الوعد والتمنية:
وهو يعد الناس بالمواعيد الكاذبة، ويعللهم بالأماني المعسولة؛ كي يوقعهم في وهدة الضلال: {إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا (117) لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (118) وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا (119) يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (120) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا (121)} [النساء:117 - 121]
إنَّ الكَافِرِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثَاناً صَوَّرُوهَا، وَقَالُوا إِنَّهَا تُشْبِهُ المَلاَئِكَةَ التِي زَعَمُوا أَنَّها بَنَاتُ اللهِ، لِذَلِكَ عَبَدُوهَا، وَسَمّوهَا بِأَسْمَاءِ الإِنَاثِ (مِثْلِ اللاَّتِ وَالعُزَّى وَمَنَاةَ .. ) وَالذِي أَمَرَهُمْ بِذَلِكَ هُوَ الشَّيْطَانُ، وَهُوَ الذِي حَسَّنَ لَهُمْ ذَلِكَ، وَزَيَّنَهُ فِي أَعْيُنِهِمْ، فَكَانَتْ طَاعَتُهُمْ لَهُ عِبَادَةً. وَالشَّيْطَانُ الذِي أَضَلَّ هَؤُلاءِ الكُفَّارَ قَدْ طَرَدَهُ اللهُ مِنْ رَحْمَتِهِ، وَأَخْرَجَهُ مِنْ جِوَارِهِ (لَعَنَهُ).
وَقَالَ الشَّيْطَانُ لِرَبِهِ: إِنَّهُ سَيَفْتِنُ عِبَادَ اللهِ، وَسَيَتَّخِذُ مِنْهُمْ نَصِيباً مُعَيّناً يَجْعَلُهُمْ مِنْ أَنْصَارِهِ وَأَتْبَاعِهِ. وَيُتَابعُ الشَّيْطَانُ قَوْلَهُ للهِ: إنَّهُ سَيَعْمَلُ عَلَى إِضْلاَلِ عِبَادِ اللهِ عَنِ الحَقِّ، وَعَلَى صَرْفِهِمْ عَنِ الهُدَى، وَإنَّهُ سَيُزَيِّنُ لَهُمُ الاسْتِعْجَالَ بِاللَّذَّاتِ الحَاضِرَةِ، وَالتَّسْوِيفَ بِالتَّوْبَةِ وَالعَمَلِ الصَّالِحِ، وَسَيَعِدُهُمُ الأمَانِيَ، وَإنَّهُ سَيَأمُرهُمْ بِتَشْقِيقِ آذَانِ البَهَائِمِ السَّائِمَةِ، وَجَعْلِهَا سِمَةً وَعَلاَمَةً لِلبَحيَرةِ وَالسَّائِبَةِ وَالوَصِيلَةِ، وَسَيأمُرُهُمْ بِتَغْييرِ خَلْقِ اللهِ مِنَ النَّاحِيةِ المَادِيَّةِ كَخَصْيِ الدَّوَابِّ وَالوَشَم، وَمِنَ النَّاحِيةِ المَعْنَوِيَّةِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ بِتَغْييرِ الفِطْرَةِ الإِنْسَانِيَّةِ عَمَّا فُطِرَتْ عَلَيهِ مِنَ المَيْلِ إلى النَّظَرِ وَالاسْتِدْلاَلِ وَطَلَبِ الحَقِّ، وَتَرِبِيَتِها وَتَْويدِهَا عَلَى الأَبَاطِيلِ وَالرَّذَائِلِ وَالمُنْكَرَاتِ، فَاللهُ تَعَالَى قَدْ أَحْسَنَ كُلَّ شَيءٍ خَلَقَهُ، وَهَؤُلاءِ يُفْسِدُونَ مَا خَلَقَ اللهُ، وَيَطْمِسُونَ عُقُولَ النَّاسِ. وَمَنْ يَتَّخِذَ الشَّيْطَانَ وَلِياً لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ يَخْسَرِ الدُّنيا وَالآخِرَةِ وَتِلْكَ خَسَارَةٌ لاَ جَبْرَ لَهَا، وَلاَ اسْتِدْرَاكَ لِفائِتِهَا.
يُخَوِّفُ الشَّيْطَانُ النَّاسَ مِنَ الفَقْرِ إذَا هُمْ أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَيُوَسْوِسُ لَهُمْ بِأَنَّ أَمْوَالَهُمُ تَنْفَدُ أَوْ تَنْقُصُ، وَيُصْبحُونَ فُقَرَاءَ أَذِلاَّءَ، وَيَعِدُهُمْ بِالغِنَى وَالثَّرْوَةِ حِينَ يُغْرِيهِمْ(1/198)
بِلَعبِ القِمَارِ وَيُمَنِّيهِمْ بِأنَّهُمُ الفَائِزُونَ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَقَدْ كَذَبَ وَافْتَرَى فِي ذَلِكَ فَوُعُودُهُ بَاطِلَةٌ. (1)
ويعد الكفرة في قتالهم المؤمنين بالنصر والتمكين والعزة والغلبة، ثم يتخلى عنهم، ويولي هاربا: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (47) وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (48)} [الأنفال:47،48]
وَعَلَيْكُمْ، أَيُّها المُؤْمِنُونَ، أَنْ تَمْتَثِلُوا لِمَا أَمَرَكُمْ بِهِ رَبُّكُمْ مِنْ طَاعَتِهِ تَعَالَى، وَطَاعَةِ رَسُولِهِ الكَرِيمِ - صلى الله عليه وسلم -،وَالتِزَامِ أَوَامِرِهِمَا، وَلاَ تَكُونُوا كَأَعْدَائِكُمْ المُشْرِكِينَ الذِينَ خَرَجُوا مِنْ مَكَّةَ بَطَراً بِمَا أوتُوا مِنَ النَّعْمَةِ، وَمُرَاءَاةً لِلنَّاسِ لِيُعْجَبُوا بِهِمْ، وَيُثْنُوا عَلَيْهِمْ بِالغِنَى وَالقُوَّةِ وَالشَّجَاعَةِ .. وَهُمْ إِنَّمَا يَقْصِدُونَ بِخُرُوجِهِم الصَّدَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ، وَمَنْعَ النَّاسِ مِنَ الدُّخُولِ فِي الإِسْلاَمِ، وَالحَدَّ مِنْ انْتِشَارِ الإِسْلاَمِ، وَاللهُ مُحِيطٌ بِأَعْمَالِهِمْ، وَلاَ يَعْزُبُ عَنْ عِلْمِهِ شَيءٌ، وَسَوْفَ يُجَازِيهِمْ فِي الدُّنْيا وَالآخِرَةِ.
وَاذْكُرْ يَا مُحَمَّدُ لِقَوْمِكَ إِذْ زَيَّنَ الشَّيْطَانُ لِكُفَّارِ قُرَيْشٍ أَعْمَالَهُمْ بِوَسْوَسَتِهِ، وَإِذْ حَسَّنَ فِي أَعْيُنِهِمْ مَا جَاؤُوا لَهُ، وَمَا هَمُّوا بِهِ، وَأَطْمَعَهُمْ بِأنَّهُمْ مَنْصُورُونَ، وَأَنَّهُمْ لاَ غَالِبَ لَهُمْ مِنَ النَّاسِ، وَطَمْأَنَهُمْ إلَى أَنَّهُمْ لَنْ يُؤْتَوْا فِي دِيَارِهِمْ أَثْنَاءَ غَيْبَتِهِمْ فِي قِتَالِ المُسْلِمِينَ فِي بَدْرٍ، لأَنَّهُ جَارٌ لَهُمْ وَمُجِيرٌ، فَلَمَّا التَقَى المُسْلِمُونَ بِالمُشْرِكِينَ، وَرَأَى الشَّيْطَانُ مَلاَئِكَةَ اللهَ يَحْمُونَ المُسْلِمِينَ، وَلَّى هَارِباً {نَكَصَ على عَقِبَيْهِ}،وَقَالَ لأَوْلِيَائِهِ مِنَ الكُفَّارِ: إِنَّهُ بَرِيءٌ مِنْهُمْ لأَنَّهُ يَرَى مَا لاَ يَرَوْنَ، إِنَّهَ يَرَى المَلاَئِكَةَ يِنْصُرُونَ المُسْلِمِينَ، وَإِنَّهُ يَعْلَمُ مِنْ عَظَمَةِ اللهِ وَقُوَّتِهِ وَسَطْوَّتِهِ، مَا لاَ يَعْلَمُهُ أَوْلِيَاؤُهُ، وَلِذَلِكَ فَإِنَّهُ يَخَافُ اللهَ، وَيَعْرِفُ أَنَّهَ تَعَالَى شَدِيدُ العِقَابِ. (2)
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد (ص:610، بترقيم الشاملة آليا)
(2) - أيسر التفاسير لأسعد حومد (ص:1208، بترقيم الشاملة آليا)(1/199)
وعَنْ قَتَادَةَ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ فَقَالَ: ذَكَرَ لَنَا أَنَّهُ رَأَى جِبْرِيلَ - صلى الله عليه وسلم - يَنْزِلُ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ، فَعَلِمَ عَدُوُّ اللَّهِ أَنَّهُ لَا يَدَانِ لَهُ بِالْمَلائِكَةِ، وَقَالَ: إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَكَذَبَ عَدُوُّ اللَّهِ، مَا بِهِ مَخَافَةُ اللَّهِ وَلَكِنْ عَلِمَ أَنْ لَا قُوَّةَ لَهُ بِهِ، وَلا مَنَعَةَ لَهُ وَتِلْكَ عَادَةُ عَدُوِّ اللَّهِ لِمَنْ أَطَاعَهُ وَانْقَادَ لَهُ حَتَّى إِذَا الْتَقَى الْحَقُّ وَالْبَاطِلُ أَسْلَمَهُمْ شَرَّ مُسَلَّمٍ وَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ عِنْدَ ذَلِكَ. (1)
ويعد الأغنياء الكفرة بالثروة والمال في الآخرة بعد الدنيا، فيقول قائلهم: {وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا} [الكهف: 36]
فقد َقَادَهُ غُرُورُهُ إِلَى الكُفْرِ بِاللهِ، وَبِالآخِرَةِ وَبِالمِعَادِ، فَقَالَ: إِنَّهُ لاَ يَظُنُّ أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ حَشْرٌ، وَلاَ مَعَادٌ، وَلاَ حِسَابٌ. وَأَرْدَفَ قَائِلاً: إِنَّهُ إِنْ كَانَ هُنَاكَ سَاعَةٌ وَحَشْرٍ وَمَعَادٍ إِلَى اللهِ، فَإِنَّهُ سَيَجِدُ عِنْدَ اللهِ خَيْراً مِنْ هَذا البُسْتَانِ، لأَنَّهُ لَولاَ كَرَامَتُهُ عَلَى اللهِ لَمَا أَعْطَاهُ هَذا الرِّزْقَ الوَفِيرَ فِي الدُّنْيَا. (2)
ولكن خاب ظنه، فقد دمَّر الله كل ما بناه، قال تعالى: {وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا (42) وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا (43) هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا (44)} [الكهف: 42 - 44]
ويشغل الإنسان بالأماني المعسولة، التي لا وجود لها في واقع الحياة، فيصده عن العمل الجاد المثمر، ويرضى بالتخيل والتمني، وهو لا يفعل شيئاً.
وَهَذِهِ هِيَ عَادَةُ الشَّيْطَانِ مَعَ الْإِنْسَانِ كَمَا بَيَّنَهُ تَعَالَى فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، كَقَوْلِهِ: كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ الْآيَةَ [59\ 16]. وَقَوْلِهِ: وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ
__________
(1) - تفسير ابن أبي حاتم - محققا (5/ 1716) (9164) وتفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (11/ 223) صحيح مرسل
وانظر تعليقا قيما على الآيات في التفسير القرآني للقرآن (5/ 630) فما بعدها وفي ظلال القرآن للسيد قطب - ت- علي بن نايف الشحود (ص: 2065
(2) - أيسر التفاسير لأسعد حومد (ص: 2177، بترقيم الشاملة آليا)(1/200)
[14\ 22]، إِلَى قَوْلِهِ: إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِي مِنْ قَبْلُ. وَكَقَوْلِهِ: يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا [4\ 120]، وَقَدْ قَالَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: [الْبَسِيطُ]
سِرْنَا وَسَارُوا إِلَى بَدْرٍ لِحِينِهِمُ لَوْ يَعْلَمُونَ يَقِينَ الْأَمْرِ مَا سَارُوا
دَلَّاهُمُ بِغُرُورٍ ثُمَّ أَسْلَمَهُمْ إِنَّ الْخَبِيثَ لِمَنْ وَلَّاهُ غَرَّارُ (1)
5 - إظهار النصح للإنسان:
يدعو الشيطان المرء إلى المعصية، يزعم أنه ينصح له ويريد خيره، وقد أقسم لأبينا على أنه ناصح له: {وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ} [الأعراف: 21].
وَحَلَفَ لَهُمَا بِاللهِ إِنَّهُ نَاصِحٌ لَهُمَا فِيمَا رَغَّبَهُمَا فِيهِ مِنَ الأَكْلِ مِنَ الشَّجَرَةِ، وَأَكَّدَ ذَلِكَ بِالأَيْمَانِ المُغَلَّظَةِ، إذْ كَانَ عِنْدَهُمَا مَحَلَّ الشَّكِّ وَالظِّنَّةِ لأنَّ اللهَ تَعَالَى كَانَ قَدْ أَخْبَرَهُمَا أَنَّهُ عَدُوٌّ لَهُمَا. (2)
عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: " كَانَ رَاهِبٌ يَتَعَبَّدُ فِي صَوْمَعَةٍ وَامْرَأَةٌ زَيَّنَتْ لَهُ نَفْسَهَا فَوَقَعَ عَلَيْهَا فَحَمَلَتْ فَجَاءَهُ الشَّيْطَانُ، فَقَالَ: اقْتُلْهَا فَإِنَّهُمْ إِنْ ظَهَرُوا عَلَيْكَ افْتَضَحْتَ فَقَتَلَهَا فَدَفَنَهَا، فَجَاءُوهُ فَأَخَذُوهُ فَذَهَبُوا بِهِ فَبَيْنَمَا هُمْ يَمْشُونَ إِذْ جَاءَهُ الشَّيْطَانُ، فَقَالَ: أَنَا الَّذِي زَيَّنْتُ لَكَ فَاسْجُدْ لِي سَجْدَةً أُنْجِيكَ فَسَجَدَ لَهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الحشر: 16] (3)
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الحشر: 16]، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ رَاهِبٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ يَعْبُدُ اللَّهَ فَيُحْسِنُ عِبَادَتَهُ، وَكَانَ يُؤْتَى مِنْ كُلِّ أَرْضٍ فَيُسْأَلَ عَنِ الْفِقْهِ، وَكَانَ عَالِمًا، وَإِنَّ ثَلَاثَةَ إِخْوَةٍ كَانَتْ لَهُمْ أُخْتٌ حَسَنَةٌ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ، وَإِنَّهُمْ
__________
(1) - أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (2/ 103)
(2) - أيسر التفاسير لأسعد حومد (ص: 976، بترقيم الشاملة آليا)
(3) - المستدرك على الصحيحين للحاكم (2/ 526) (3801) صحيح موقوف ومثله لا يقال بالرأي(1/201)
أَرَادُوا أَنْ يُسَافِرُوا، فَكَبُرَ عَلَيْهِمْ أَنْ يُخَلِّفُوهَا ضَائِعَةً، فَجَعَلُوا يَأْتَمِرُونَ مَا يَفْعَلُونَ بِهَا؛ فَقَالَ أَحَدُهُمْ: أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ تَتْرُكُونَهَا عِنْدَهُ؟ قَالُوا: مَنْ هُوَ؟ قَالَ: رَاهِبُ بَنِي إِسْرَائِيلَ، إِنْ مَاتَتْ قَامَ عَلَيْهَا. وَإِنْ عَاشَتْ حَفِظَهَا حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَيْهِ؛ فَعَمَدُوا إِلَيْهِ فَقَالُوا: إِنَّا نُرِيدُ السَّفَرَ، وَلَا نَجِدُ أَحَدًا أَوْثَقَ فِي أَنْفُسِنَا، وَلَا أَحْفَظَ لِمَا وَلِيَ مِنْكَ لِمَا جُعِلَ عِنْدَكَ، فَإِنْ رَأَيْتَ أَنْ نَجْعَلَ أُخْتَنَا عِنْدَكَ فَإِنَّهَا ضَائِعَةٌ شَدِيدَةُ الْوَجَعِ، فَإِنْ مَاتَتْ فَقُمْ عَلَيْهَا، وَإِنْ عَاشَتْ فَأَصْلِحْ إِلَيْهَا حَتَّى نَرْجِعَ، فَقَالَ: أَكْفِيكُمْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ؛ فَانْطَلَقُوا فَقَامَ عَلَيْهَا فَدَاوَاهَا حَتَّى بَرَأَتْ، وَعَادَ إِلَيْهَا حُسْنُهَا، فَاطَّلَعَ إِلَيْهَا فَوَجَدَهَا مُتَصَنِّعَةً، فَلَمْ يَزَلْ بِهِ الشَّيْطَانُ يُزَيِّنُ لَهُ أَنْ يَقَعَ عَلَيْهَا حَتَّى وَقَعَ عَلَيْهَا، فَحَمَلَتْ، ثُمَّ نَدَّمَهُ الشَّيْطَانُ فَزَيَّنَ لَهُ قَتْلَهَا؛ قَالَ: إِنْ لَمْ تَقْتُلْهَا افْتُضِحْتَ وَعُرِفَ شَبَهُكَ فِي الْوَلَدِ، فَلَمْ يَكُنْ لَكَ مَعْذِرَةٌ، فَلَمْ يَزَلْ بِهِ حَتَّى قَتَلَهَا، فَلَمَّا قَدِمَ إِخْوَتُهَا سَأَلُوهُ مَا فَعَلَتْ؟ قَالَ: مَاتَتْ فَدَفَنْتُهَا، قَالُوا: قَدْ أَحْسَنْتَ، ثُمَّ جَعَلُوا يَرَوْنَ فِي الْمَنَامِ، وَيُخْبَرُونَ أَنَّ الرَّاهِبَ هُوَ قَتَلَهَا، وَأَنَّهَا تَحْتَ شَجَرَةِ كَذَا وَكَذَا، فَعَمَدُوا إِلَى الشَّجَرَةِ فَوَجَدُوهَا تَحْتَهَا قَدْ قُتِلَتْ، فَعَمَدُوا إِلَيْهِ فَأَخَذُوهُ، فَقَالَ لَهُ الشَّيْطَانُ: أَنَا زَيَّنْتُ لَكَ الزِّنَا وَقَتْلَهَا بَعْدَ الزِّنَا، فَهَلْ لَكَ أَنْ أُنْجِيَكَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: أَفَتُطِيعُنِي؟ قَالَ: نَعَمْ قَالَ: فَاسْجُدْ لِي سَجْدَةً وَاحِدَةً، فَسَجَدَ لَهُ ثُمَّ قُتِلَ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الحشر:16] (1)
وقد روى هَذَا الحديث عَلَى صفة أخرى عَنْ وهب بْن منبه رَضِيَ اللَّهُ عنه أَنَّ عَابِدًا كَانَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَانَ مِنْ أَعْبَدِ أَهْلِ زَمَانِهِ وَكَانَ فِي زَمَانِهِ ثَلاثَةُ أُخْوَةٍ لَهُمْ أُخْتٌ وَكَانَتْ بِكْرًا لَيْسَ لَهُمْ أُخْتٌ غَيْرُهَا فَخَرَجَ الْبَعْثُ عَلَى ثُلاثَتِهِمْ فَلَمْ يَدْرُوا عِنْدَ مَنْ يَخْلُفُونَ أُخْتَهُمْ وَلا مَنْ يَأْمَنُونَ عَلَيْهَا وَلا عِنْدَ مَنْ يَضَعُونَهَا قَالَ فَأَجْمَعَ رَأْيُهُمْ عَلَى أَنْ يَخْلُفُوهَا عِنْدَ عَابِدِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَانَ ثِقَةً فِي أَنْفُسِهِمْ فَأَتَوْهُ فَسَأَلُوهُ أَنْ يَخْلُفُوهَا عِنْدَهُ فَتَكُونُ فِي كَنَفِهِ وَجِوَارِهِ إِلَى أن يرجعوا مِنْ غَزَاتِهِمْ فَأَبَى ذَلِكَ وَتَعَوَّذَ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْهُمْ وَمِنْ أُخْتِهِمْ قَالَ فَلَمْ يَزَالُوا بِهِ حَتَّى أَطَاعَهُمْ فَقَالَ أَنْزِلُوهَا فِي بَيْتٍ حِذَاءَ صَوْمَعَتِي
__________
(1) - شعب الإيمان (8/ 120) (5579) حسن وفيه كلام(1/202)
قَالَ فَأَنْزَلُوهَا فِي ذَلِكَ الْبَيْتِ ثُمَّ انْطَلَقُوا وَتَرَكُوهَا فَمَكَثَتْ فِي جِوَارِ ذَلِكَ الْعَابِدِ زَمَانًا يَنْزِلُ إِلَيْهَا بِالطَّعَامِ مِنْ صَوْمَعَتِهِ فَيَضَعُهُ عِنْدَ بَابِ الصَّوْمَعَةِ ثُمَّ يَغْلِفُ بَابَهُ وَيَصْعَدُ إِلَى صَوْمَعَتِهِ ثُمَّ يَأْمُرُهَا فَتَخْرُجُ مِنْ بَيْتِهَا فَتَأْخُذُ مَا وَضَعَ لَهَا مِنَ الطَّعَامِ قَالَ فَتَلَطَّفَ لَهُ الشَّيْطَانُ فَلَمْ يَزَلْ يُرَغِّبُهُ فِي الْخَيْرِ وَيُعَظِّمُ عَلَيْهِ خُرُوجَ الْجَارِيَةِ مِنْ بَيْتِهَا نَهَارًا وَيُخَوِّفُهُ أَنْ يَرَاهَا أَحَدٌ فَيُعَلِّقُهَا فَلَوْ مَشَيْتَ بِطَعَامِهَا حَتَّى تَضَعَهُ عَلَى بَابِ بَيْتِهَا كَانَ أَعْظَمَ لأَجْرِكَ قَالَ فَلَمْ يَزَلْ بِهِ حَتَّى مَشَى إِلَيْهَا بِطَعَامِهَا وَوَضَعَهُ عَلَى بَابِ بَيْتِهَا وَلَمْ يُكَلِّمْهَا قَالَ فَلَبِثَ عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ زَمَانًا ثُمَّ جَاءَ إِبْلِيسُ فَرَغَّبَهُ فِي الْخَيْرِ وَالأَجْرِ وَحَضَّهُ عَلَيْهِ وَقَالَ لَوْ كُنْتَ تَمْشِي إِلَيْهَا بِطَعَامِهَا حَتَّى تَضَعَهُ فِي بَيْتِهَا كَانَ أَعْظَمَ لأَجْرِكَ قَالَ فَلَمْ يَزَلْ بِهِ حَتَّى مَشَى إِلَيْهَا بِالطَّعَامِ ثُمَّ وَضَعَهُ فِي بَيْتِهَا فَلَبِثَ عَلَى ذَلِكَ زَمَانًا ثُمَّ جَاءَهْ إِبْلِيسُ فَرَغَّبَهُ فِي الْخَيْرِ وَحَضَّهُ عَلَيْهِ فَقَالَ لَوْ كُنْتَ تُكَلِّمُهَا وَتُحَدِّثُهَا فَتَأْنَسُ بِحَدِيثِكَ فَإِنَّهَا قَدِ اسْتَوْحَشَتْ وَحْشَةً شَدِيدَةً قَالَ فَلَمْ يَزَلْ بِهِ حَتَّى حَدَّثَهَا زَمَانًا يَطْلُعُ إِلَيْهَا مِنْ فَوْقِ صَوْمَعَتِهِ قَالَ ثُمَّ أَتَاهُ إِبْلِيسُ بَعْدَ ذَلِكَ فَقَالَ لَوْ كُنْتَ تَنْزِلُ إِلَيْهَا فَتَقْعُدُ عَلَى بَابِ صَوْمَعَتِكَ وَتُحَدِّثُهَا وَتَقْعُدُ هِيَ عَلَى بَابِ بَيْتِهَا فَتُحَدِّثُكَ كَانَ آنَسَ لَهَا فَلَمْ يَزَلْ بِهِ حَتَّى أَنْزَلَهُ وَأَجْلَسَهُ عَلَى بَابِ صَوْمَعَتِهِ يُحَدِّثُهَا وَتُحَدِّثُهُ وَتَخْرُجُ الْجَارِيَةُ مِنْ بَيْتِهَا حَتَّى تَقْعُدَ عَلَى بَابِ بَيْتِهَا قَالَ فَلَبِثَا زَمَانًا يَتَحَدَّثَانِ ثُمَّ جَاءَهْ إِبْلِيسُ فَرَغَّبَهُ فِي الْخَيْرِ وَالثَّوَابِ فِيمَا يَصْنَعُ بِهَا وَقَالَ لَوْ خَرَجْتَ مِنْ بَابِ صَوْمَعَتِكَ ثُمَّ جَلَسْتَ قَرِيبًا مِنْ بَابِ بَيْتِهَا فَحَدَّثْتَهَا كَانَ آنَسَ لَهَا فَلَمْ يَزَلْ بِهِ حَتَّى فَعَلَ قَالَ فَلَبِثَا زَمَانًا ثُمَّ جَاءَهُ إِبْلِيسُ فَرَغَّبَهُ فِي الْخَيْرِ وَفِيمَا لَهُ عِنْدَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مِنْ حُسْنِ الثَّوَابِ فِيمَا يَصْنَعُ بِهَا وَقَالَ لَهُ لَوْ دَنَوْتَ مِنْهَا وَجَلَسْتَ عِنْدَ بَابِ بَيْتِهَا فَحَدَّثْتَهَا وَلَمْ تَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهَا فَفَعَلَ فَكَانَ يَنْزِلُ مِنْ صَوْمَعَتِهِ فَيَقِفُ عَلَى بَابِ بَيْتِهَا فَيُحَدِّثُهَا فَلَبِثَا عَلَى ذَلِكَ حِينًا ثُمَّ جَاءَهُ إِبْلِيسُ فَقَالَ لَوْ دَخَلْتَ الْبَيْتَ مَعَهَا فَحَدَّثْتَهَا وَلَمْ تَتْرُكْهَا تُبْرِزُ وَجْهَهَا لأَحَدٍ كَانَ أَحْسَنَ بِكَ فَلَمْ يَزَلْ بِهِ حَتَّى دَخَلَ الْبَيْتَ فَجَعَلَ يُحَدِّثُهَا نَهَارَهَا كُلَّهُ فَإِذَا مَضَى النَّهَارُ صَعَدَ إِلَى صَوْمَعَتِهِ قَالَ ثُمَّ أَتَاهُ إِبْلِيسُ بَعْدَ ذَلِكَ فَلَمْ يَزَلْ يُزَيِّنُهَا لَهُ حَتَّى ضَرَبَ الْعَابِدُ عَلَى فَخْذِهَا وَقَبَّلَهَا فَلَمْ يَزَلْ بِهِ إِبْلِيسُ يُحَسِّنُهَا فِي عَيْنَيْهِ وَيُسَوِّلُ لَهُ حَتَّى وَقَعَ عَلَيْهَا فَأَحْبَلَهَا فَوَلَدَتْ لَهُ غُلامًا فَجَاءَ(1/203)
إِبْلِيسُ فَقَالَ أَرَأَيْتَ إِنْ جَاءَ أُخْوَةُ الْجَارِيَةِ وَقَدْ وَلَدَتْ مِنْكَ كَيْفَ تَصْنَعُ لا آمَنُ أَنْ تَفْتَضِحَ أَوْ يَفْضَحُوكَ فَاعْمَدْ إِلَى ابْنِهَا فَاذْبَحْهُ وَادْفِنْهُ فَإِنَّهَا سَتَكْتُمُ ذَلِكَ عَلَيْكَ مَخَافَةَ إِخْوَتِهَا أَنْ يَطَّلِعُوا عَلَى مَا صَنَعْتَ بِهَا فَفَعَلَ فَقَالَ لَهُ أَتُرَاهَا تَكْتُمُ إِخْوَتَهَا مَا صَنَعْتَ بِهَا وَقَتَلْتَ ابْنَهَا قَالَ خُذْهَا وَاذْبَحْهَا وَادْفِنْهَا مَعَ ابْنِهَا فَلَمْ يَزَلْ بِهِ حَتَّى ذَبَحَهَا وَأَلْقَاهَا فِي الْحُفْرَةِ مَعَ ابْنِهَا وَأَطْبَقَ عَلَيْهِمَا صَخْرَةً عَظِيمَةً وَسَوَّى عَلَيْهِمَا وَصَعَدَ إِلَى صَوْمَعَتِهِ يَتَعَبَّدُ فِيهَا فَمَكَثَ بِذَلِكَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَمْكُثَ حَتَّى أَقْبَلَ إِخْوَتُهَا مِنَ الْغَزْوِ فَجَاءُوا فَسَأَلُوهُ عَنْهَا فَنَعَا لَهُمْ وَتَرَحَّمَ عَلَيْهَا وَبَكَاهَا وَقَالَ كَانَتْ خَيْرَ امْرَأَةٍ وَهَذَا قَبْرُهَا فَانْظُرُوا إِلَيْهِ فَأَتَى إِخْوَتُهَا الْقَبْرَ فَبَكَوْا أُخْتَهُمْ وَتَرَحَّمُوا عَلَيْهَا فَأَقَامُوا عَلَى قَبْرِهَا أَيَّامًا ثُمَّ انْصَرَفُوا إِلَى أَهَالِيهِمْ فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِمُ اللَّيْلُ وَأَخَذُوا مَضَاجِعَهُمْ جَاءَهُمُ الشَّيْطَانُ فِي النَّوْمِ عَلَى صُورَةِ رَجُلٍ مُسَافِرٍ فَبَدَأَ أَكْبَرَهُمْ فَسَأَلُهْ عَنْ أُخْتِهِمْ فَأَخْبَرَهُ بِقَوْلِ الْعَابِدِ وَمَوْتِهَا وَتَرَحُّمِهِ عَلَيْهَا وَكَيْفَ أَرَاهُمْ مَوْضِعَ قَبْرِهَا فَكَذَّبَهُ الشَّيْطَانُ وَقَالَ لَمْ يَصْدُقْكُمْ أَمْرَ أُخْتِكُمْ إِنَّهُ قَدْ أَحْبَلَ أُخْتَكُمْ وَوَلَدَتْ مِنْهُ غُلامًا فَذَبَحَهُ وَذَبَحَهَا مَعَهُ فَزَعًا مِنْكُمْ وَأَلْقَاهَا فِي حُفَيْرَةٍ احْتَفَرَهَا خَلْفَ بَابِ الْبَيْتِ الَّذِي كَانَتْ فِيهِ عَنْ يَمِينِ مَنْ دَخَلَهُ فَانْطَلِقُوا فَادْخُلُوا الْبَيْتِ الَّذِي كَانَتْ فِيهِ عَنْ يَمِينِ مَنْ دَخَلَهُ فَإِنَّكُمْ سَتَجِدُونَهُمَا كَمَا أَخْبَرْتُكُمْ هَنَاكَ جَمِيعًا وَأَتَى الأَوْسَطَ فِي مَنَامِهِ فَقَالَ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ ثُمَّ أَتَى أَصْغَرَهُمْ فَقَالَ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ الْقَوْمُ أَصْبَحُوا مُتَعَجِّبِينَ مِمَّا رَأَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَقُولُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ لَقَدْ رَأَيْتُ اللَّيْلَةَ عَجَبًا فَأَخْبَرَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِمَا رَأَى فَقَالَ كَبِيرُهُمْ هَذَا حُلُمٌ لَيْسَ بِشَيْءٍ فَامْضُوا بِنَا وَدَعُوا هَذَا عَنْكُمْ قَالَ أَصْغَرُهُمْ وَاللَّهِ لا أَمْضِي حَتَّى آتِيَ إِلَى هَذَا الْمَكَانِ فَأَنْظُرَ فِيهِ قَالَ فَانْطَلَقُوا جَمِيعًا حَتَّى أَتَوُا الْبَيْتَ الَّذِي كَانَتْ فِيهِ أُخْتُهُمْ فَفَتَحُوا الْبَابَ وَبَحَثُوا الْمَوْضِعَ الَّذِي وُصِفَ لَهُمْ فِي مَنَامِهِمْ فَوَجَدُوا أُخْتَهُمْ وَابْنَهَا مَذْبُوحَيْنِ فِي الْحُفَيْرَةِ كَمَا قِيلَ لَهُمْ فَسَأَلُوا عَنْهَا الْعَابِدَ فَصَدَّقَ قَوْلَ إِبْلِيسَ فِيمَا صَنَعَ بِهِمَا فَاسْتَعْدُوا عَلَيْهِ مَلِكَهُمْ فَأُنْزِلَ مِنْ صَوْمَعَتِهِ وَقُدِّمَ لِيُصْلَبَ فَلَمَّا أَوْثَقُوهُ عَلَى الْخَشَبَةِ أَتَاهُ الشَّيْطَانُ فَقَالَ لَهُ قَدْ عَلِمْتَ أَنِّي أَنَا صَاحِبُكَ الَّذِي فَتَنْتُكَ بِالْمَرْأَةِ حَتَّى أَحْبَلْتَهَا وَذَبَحْتَهَا وَابْنَهَا فَإِنْ أَنْتَ أَطَعْتَنِي الْيَوْمَ وَكَفَرْتَ بِاللَّهِ الَّذِي خَلَقَكَ وَصَوَّرَكَ خَلَّصْتُكَ(1/204)
مِمَّا أَنْتَ فِيهِ قَالَ فَكَفَرَ الْعَابِدُ فَلَمَّا كَفَرَ بِاللَّهِ تَعَالَى خَلَّى الشَّيْطَانُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَصْحَابِهِ فَصَلَبُوهُ قَالَ فَفِيهِ نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الحشر:16] (1)
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، فِي هَذِهِ الْآيَةِ {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الحشر:16] قَالَ: كَانَتِ امْرَأَةٌ تَرْعَى الْغَنَمَ، وَكَانَ لَهَا أَرْبَعَةُ إِخْوَةٍ، وَكَانَتْ تَأْوِي بِاللَّيْلِ إِلَى صَوْمَعَةِ رَاهِبٍ، قَالَ: فَنَزَلَ الرَّاهِبُ فَفَجَرَ بِهَا، فَحَمَلَتْ، فَأَتَاهُ الشَّيْطَانُ، فَقَالَ لَهُ: اقْتُلْهَا ثُمَّ ادْفَعْهَا، فَإِنَّكَ رَجُلٌ مُصَدَّقٌ يُسْمَعُ كَلَامُكَ، فَقَتَلَهَا ثُمَّ دَفَنَهَا؛ قَالَ: فَأَتَى الشَّيْطَانُ إِخْوَتَهَا فِي الْمَنَامِ، فَقَالَ لَهُمْ: إِنَّ الرَّاهِبَ صَاحِبَ الصَّوْمَعَةِ فَجَرَ بِأُخْتِكُمْ؛ فَلَمَّا أَحْبَلَهَا قَتَلَهَا، ثُمَّ دَفَنَهَا فِي مَكَانِ كَذَا وَكَذَا، فَلَمَّا أَصْبَحُوا قَالَ رَجُلٌ مِنْهُمْ: وَاللَّهِ لَقَدْ رَأَيْتُ الْبَارِحَةَ رُؤْيَا وَمَا أَدْرِي أَقُصُّهَا عَلَيْكُمْ أَمْ أَتْرُكُ؟ قَالُوا: لَا، بَلْ قُصَّهَا عَلَيْنَا؛ قَالَ: فَقَصَّهَا، فَقَالَ الْآخَرُ: وَأَنَا وَاللَّهِ لَقَدْ رَأَيْتُ ذَلِكَ؛ قَالُوا: فَمَا هَذَا إِلَّا لِشَيْءٍ، فَانْطَلَقُوا فَاسْتَعْدَوْا مَلِكَهُمْ عَلَى ذَلِكَ الرَّاهِبِ، فَأَتَوْهُ فَأَنْزَلُوهُ، ثُمَّ انْطَلَقُوا بِهِ، فَلَقِيَهُ الشَّيْطَانُ فَقَالَ: إِنِّي أَنَا الَّذِي أَوْقَعْتُكَ فِي هَذَا وَلَنْ يُنْجِيَكِ مِنْهُ غَيْرِي فَاسْجُدْ لِي سَجْدَةً وَاحِدَةً وَأَنَا أُنْجِيكَ مِمَّا أَوْقَعْتُكَ فِيهِ؛ قَالَ: فَسَجَدَ لَهُ؛ فَلَمَّا أَتَوْا بِهِ مَلِكَهُمْ تَبَرَّأَ مِنْهُ، وَأَخَذَ فَقُتِلَ ". (2)
وهذه القصة يذكرها المفسرون عند قوله تعالى: (كمثل الشَّيطان إذ قال للإنسان اكفر فلمَّا كفر قال إنَّي بريءٌ منك) [الحشر:16]،ويذكرون أن المعنيّ بالإنسان هذا العابد وأمثاله. والله أعلم.
6 - التدرج في الإضلال:
ومن القصة السابقة نعلم أسلوباً من أساليب الشيطان في الإضلال، وهو أن يسير بالإنسان خطوة خطوة، لا يكل ولا يملّ، كلما روّضه على معصية ما، قاده إلى معصية أكبر منها، حتى يوصله إلى المعصية الكبرى، فيوبقه ويهلكه، وتلك سنة الله في عباده، أنهم
__________
(1) - تلبيس إبليس (ص:26) وذم الهوى (ص:159) وهو من الإسرائيليات ولكنه يصلح للعبرة
(2) - تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (22/ 542) فيه ضعف(1/205)
إذا زاغوا سلط عليم الشيطان، وأزاغ قلوبهم: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [الصف:5].
7 - إنساؤه العبد ما فيه خيره وصلاحه:
ومن ذلك ما فعله بآدم، فما زال يوسوس له حتى أنساه ما أمره به ربّه: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا (115) وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى} [طه:115،116]،وقال صاحب موسى لموسى: {فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا} [الكهف:63].
ونهى الله رسوله أن يجلس هو أو واحد من أصحابه في المجالس التي يستهزأ فيها بآيات الله، ولكن الشيطان قد ينسي الإنسان أمر ربه، فيجالس هؤلاء المستهزئين: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأنعام:68].
كَانَ المُشْرِكُونَ يَجْلِسُونَ إلى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - يُحِبُّونَ أَنْ يَسْمَعُوا مِنْهُ، فَإِذَا سَمِعُوا اسْتَهْزَؤُوا فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فَجَعَلَ النَّبِيُّ إذَا اسْتَهْزَؤُوا قَامَ مِنْ مَجْلِسِهِمْ فَحَذِرُوا، وَقَالُوا لاَ تَسْتَهْزِئُوا فَيَقُومُ. وَالمُخَاطَبُ بِهَذِهِ الآيَةِ الرَّسُولُ - صلى الله عليه وسلم - وَالمُؤْمِنُونَ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ، فَإِذَا رَأَى المُؤْمِنُ الذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِ اللهِ المُنْزَلَةِ، مِنَ الكُفَّارِ المُكَذِّبِينَ، وَأَهْلَ الأَهْوَاءِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَصُدَّ عَنْهُمْ بِوَجْهِهِ، وَأَنْ لاَ يَجْلِسَ مَعَهُمْ حَتَّى يَأْخُذُوا فِي حَدِيثٍ آخَرَ غَيْرَ حَدِيثِ الكُفْرِ وَالاسْتِهْزَاءِ بِآيَاتِ اللهِ أَوْ تَأْوِيلِهَا بِالبَاطِلِ مِنْ جَانِبِ أَهْلِ الأَهْوَاءِ، وَإِذَا أَنْسَاكَ الشَّيْطَانُ، أَيُّهَا المُؤْمِنُ، هَذَا النَّهْيَ، وَقَعَدْتَ مَعَهُمْ، وَهُمْ عَلَى تِلْكَ الحَالِ، ثُمَّ ذَكَرْتَ فَقُمْ عَنْهُمْ، وَلاَ تَقْعُدْ مَعَ هؤُلاَءِ الظَّالِمِينَ لأَنْفُسِهِمْ بِالتَّكْذِيبِ بِآيَاتِ اللهِ، وَالاسْتِهْزَاءِ بِهَا. (1)
وطلب نبي الله يوسف إلى السجين الذي ظنّ بأنه سينجو من القتل، ويعود لخدمة الملك أن يذكره عند مليكه، فأنسى الشيطان هذا الإنسان أن يذكر لملكه نبي الله يوسف، فمكث يوسف في السجن بضع سنين: {وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد (ص:858،بترقيم الشاملة آليا)(1/206)
اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (} [يوسف:42].
وإذا تمكن الشيطان من الإنسان تمكناً كلياً، فإنه ينسيه الله بالكلية: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ (18) اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (19)} [المجادلة:18 - 20].
وَاذْكُرْ لَهُمْ يَا مُحَمَّدُ حَالَهُمْ، يَوْمَ القِيَامَةِ، حِينَمَا يَبْعَثُهُم اللهُ جَمِيعاً مِنْ قُبُورِهِمْ، فَلاَ يُغَادِرُ مِنْهُمْ أَحَداً، فَيَحْلِفُونَ لَهُ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا عَلَى الهُدَى، وَأَنَّهُمْ لَمْ يُشْرِكُوا بِعِبَادَتِهِ شَيئاً، فَيَقُولُونَ {والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ اليَوْمَ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا، عَلَى أَنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ، وَهُمْ يَظُنُّونَ أَنَّ حَلْفَهُمْ أَمَامَ اللهِ نَافِعُهُمْ عِنْدَهُ، كَمَا كَانَ يَنْفَعُهُمْ عِنْدَ العِبَادِ حَلْفُهُمْ عَلَى أَنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ.
وَيَرُدُّ اللهُ تَعَالَى عَلَى هَؤُلاَءِ المُنَافِقِينَ مُنْكِراً تَصَرُّفَهُمْ هَذَا، فَيَقُولُ: أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ الكَاذِبُونَ فِيمَا يَحْلِفُونَ عَلَيْهِ، وَفِيمَا يَظُنُّونَهُ مِنْ أَنَّ أَيْمَانَهُمُ الكَاذِبَةَ تَرُوجُ عِنْدَ اللهِ، وَتُنْقِذُهُمْ مِنْ بَأْسِ اللهِ وَعَذَابِهِ.
استَوْلَى الشَّيْطَانُ عَلَى قُلُوبِهِمْ، وَسَيْطَرَ عَلَيهَا بِوَسْوَسَتِهِ، حَتَّى أَنْسَاهُمْ أَنْ يَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ، وَأَنْ يَتَّبِعُوا أَوَامِرَهُ، وَأَنْ يَجْتَنِبُوا نَوَاهِيَهُ، بِمَا زَيِّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مِنَ الشَّهَوَاتِ، فَهَؤُلاَءِ هُمْ جُنُودُ الشَّيْطَانِ وَحِزْبُهُ وَحِزْبُ الشَّيْطَانِ هُمْ الخَاسِرُونَ لأَنَّهُمْ فَوَّتُوا عَلَى أَنْفُسِهِم النَّعِيمَ، وَأَوْصَلُوهَا إِلَى الجَحِيمِ وَعَذَابِهِ. (1)
وسبيل التذكر هو ذكر الله؛ لأنه يطرد الشيطان: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} [الكهف:24].
8 - تخويف المؤمنين أولياءَه:
ومن وسائله أن يخوف المؤمنين من جنده وأوليائه، فلا يجاهدونهم، ولا يأمرونهم بالمعروف، ولا ينهونهم عن المنكر، وهذا من أعظم كيده بأهل الإيمان، وقد أخبرنا سبحانه
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد (ص:5000،بترقيم الشاملة آليا)(1/207)
عن هذا فقال: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:175].
يُبَيِّنُ اللهُ تَعَالَى لِلْمُؤْمِنِينَ، أنَّ الشَّيْطَانَ هُوَ الذِي يُخَوِّفُكُمْ مِنْ أَوْلِيَائِهِ المُشْرِكِينَ، وَيُوهِمُكُمْ أَنَّهُمْ ذَوُو بَأْسٍ وَقُوَّةٍ، وَهُوَ الذِي قَالَ لَكُمْ إنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ، فَلاَ تَخَافُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ، وَتَوَكَّلُوا عَلَى اللهِ، وَالْجَؤُوا إِلَيهِ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ حَقّاً، فَإِنَّهُ كَافِيكُمْ إِيَّاهُمْ، وَنَاصِرُكُمْ عَلَيْهِمْ. وَخَافُوهُ هُوَ فَهُوَ القَادِرُ عَلَى النَّصْرِ وَعَلَى الخُذْلاَنِ، وَعَلَى الضَّرِّ وَالنَّفْعِ. (1)
فكلما قوي إيمان العبد زال من قلبه خوف أولياء الشيطان، وكلما ضعف إيمانه قوي خوفه منهم.
9 - دخوله إلى النفس من الباب الذي تحبه وتهواه:
يقول ابن القيم في هذا الموضوع:" إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، حتى يصادف نفسه ويخالطها، ويسألها عمّا تحبه وتؤثره، فإذا عرفه استعان بها على العبد، ودخل عليه من هذا الباب، وكذلك عَلّم إخوانه وأولياءَه من الإنس، إذا أرادوا أغراضهم الفاسدة من بعضهم بعضاً أن يدخلوا عليهم من الباب الذي يحبونه ويهوونه، فإنّه باب لا يخذل عن حاجته من دخل منه، ومن رام الدخول من غيره، فالباب عليه مسدود، وهو عن طريق مقصده مصدود " (2).
ومن مكايد عدو الله أنه يسحر العقل دائما حتى يتغلب عليه ولا يسلم من سحره هذا إلا من شاء الله، فتراه يزين ويحسن له الفعل الذي يضره حتى يخيل إليه أنه من أنفع الأشياء، وتراه يقبح له الفعل الذي ينفعه حتى يخيل إليه أنه يضره. فكم فتن بهذا السحر من إنسان، وكم حيل به بين القلب وبين الإسلام، وكم أظهر الباطل في صورة حسنة، وأخرج الحق في صورة قبيحة، فهو الذي سحر العقول حتى ألقى أصحابها في البدع والخرافات، بل زين لهم عبادة الأصنام والقبور وقطع الأرحام ووعدهم الفوز
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد (ص:468،بترقيم الشاملة آليا)
(2) - إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان (1/ 112)(1/208)
بالجنات مع الكفر والفسوق والعصيان، فهو صاحب قابيل حين قتل أخاه، وصاحب قوم نوح حين أغرقوا، وقوم عاد حين أهلكوا بالريح العقيم. وصاحب قوم صالح حين أهلكوا بالصيحة، وصاحب قوم لوط حين خسف بهم، وأتبعوا بالرجم بالحجارة، وصاحب فرعون وقومه حين أخذوا فأغرقوا، وصاحب بني إسرائيل عبّاد العجل حين جرى عليهم ما جرى، وصاحب قريش حين أخرجهم الله يوم بدر، وهكذا لا يزال عدوا الله يصاحب كل هالك ومفتون إلى قيام الساعة. (1)
ومن هاهنا دخل الشيطان على آدم وحواء كما قال تعالى: {وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ} [الأعراف:20].يقول ابن القيم:" فشام عدو الله الأبوين، فأحس منهما إيناساً وركوناً إلى الخلد في تلك الدار في النعيم المقيم، فعلم أنّه لا يدخل عليهما من غير هذا الباب، فقاسمهما بالله إنّه لهما لمن الناصحين، وقال: {وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ} [الأعراف:20] ". (2)
10 - إلقاء الشبهات:
ومن أساليبه في إضلال العباد زعزعة العقيدة بما يلقيه من شكوك وشبهات، وقد حذرنا الرسول - صلى الله عليه وسلم - من بعض هذه الشبهات التي يلقيها، ففي حديث البخاري ومسلم عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:" يَأْتِي الشَّيْطَانُ أَحَدَكُمْ فَيَقُولُ: مَنْ خَلَقَ كَذَا، مَنْ خَلَقَ كَذَا، حَتَّى يَقُولَ: مَنْ خَلَقَ رَبَّكَ؟ فَإِذَا بَلَغَهُ فَلْيَسْتَعِذْ بِاللَّهِ وَلْيَنْتَهِ ". (3)
__________
(1) - موسوعة خطب المنبر (ص:966)
(2) - إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان (1/ 112)
(3) - صحيح البخاري (4/ 123) (3276) وصحيح مسلم (1/ 120) 214 - (134)
[(بلغه) بلغ قوله من خلق ربك. (فليستعذ بالله) من وسوسته بأن يقول أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. (ولينته) عن الاسترسال معه في هذه الوسوسة](1/209)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم -،قَالَ:" يَأْتِي الشَّيْطَانُ أَحَدَكُمْ فَيَقُولُ مَنْ خَلَقَ السَّمَاءَ؟،وَمَنْ خَلَقَ الْأَرْضَ؟،فَيَقُولُ: اللَّهُ، فَيَقُولُ: مَنْ خَلَقَ اللَّهَ؟،فَمَنْ وَجَدَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا، فَلْيَقُلْ: آمَنْتُ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ " (1)
ولم يسلم الصحابة - رضوان الله عليهم - من شبهاته وشكوكه، وجاء بعضهم إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - يشكون ما يعانونه من شكوكه ووساوسه، ففي صحيح مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: جَاءَ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -،فَسَأَلُوهُ: إِنَّا نَجِدُ فِي أَنْفُسِنَا مَا يَتَعَاظَمُ أَحَدُنَا أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ، قَالَ: «وَقَدْ وَجَدْتُمُوهُ؟» قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: «ذَاكَ صَرِيحُ الْإِيمَانِ». (2)
وصريح الإيمان دفعهم وسوسة الشيطان وكراهيتهم واستعظامهم لها، فعَنْ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: سُئِلَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَنِ الْوَسْوَسَةِ، قَالَ: «تِلْكَ مَحْضُ الْإِيمَانِ». (3)
وانظر إلى شدّة ما كان يعانيه الصحابة من شكوكه، روى أبو داود في سننه عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -،فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أَحَدَنَا يَجِدُ فِي نَفْسِهِ، يُعَرِّضُ بِالشَّيْءِ، لَأَنْ يَكُونَ حُمَمَةً أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ، فَقَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ، الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي رَدَّ كَيْدَهُ إِلَى الْوَسْوَسَةِ». (4)
__________
(1) - الإيمان لابن منده (1/ 478) (353) صحيح
(2) - صحيح مسلم (1/ 119) 209 - (132)
[ش (إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم) أي يجد أحدنا التكلم به عظيما لاستحالته في حقه سبحانه وتعالى (ذاك صريح الإيمان) معناه سبب الوسوسة محض الإيمان أو الوسوسة علامة محض الإيمان]
(3) - صحيح مسلم (1/ 119) 211 - (133)
أَيْ: اِسْتِعْظَامُكُمْ الْكَلَام بِهِ هُوَ صَرِيح الْإِيمَان، فَإِنَّ اِسْتِعْظَام هَذَا وَشِدَّة الْخَوْف مِنْهُ وَمِنْ النُّطْق بِهِ فَضْلًا عَنْ اِعْتِقَاده إِنَّمَا يَكُون لِمَنْ اِسْتَكْمَلَ الْإِيمَان اِسْتِكْمَالًا مُحَقَّقًا, وَانْتَفَتْ عَنْهُ الرِّيبَة وَالشُّكُوك, وَقِيلَ: مَعْنَاهُ أَنَّ الشَّيْطَان إِنَّمَا يُوَسْوِس لِمَنْ أَيِسَ مِنْ إِغْوَائِهِ, فَيُنَكِّد عَلَيْهِ بِالْوَسْوَسَةِ لِعَجْزِهِ عَنْ إِغْوَائِهِ، وَأَمَّا الْكَافِر فَإِنَّهُ يَأْتِيه مِنْ حَيْثُ شَاءَ, وَلَا يَقْتَصِر فِي حَقّه عَلَى الْوَسْوَسَة, بَلْ يَتَلَاعَب بِهِ كَيْف أَرَادَ, فَعَلَى هَذَا مَعْنَى الْحَدِيث: سَبَبُ الْوَسْوَسَة مَحْض الْإِيمَان، أَوْ الْوَسْوَسَة عَلَامَةُ مَحْضِ الْإِيمَان, وَهَذَا الْقَوْل اِخْتِيَار الْقَاضِي عِيَاض. شرح النووي على مسلم - (ج 1 / ص 251)
(4) - سنن أبي داود (4/ 330) (5112) صحيح
ربما كان ذلك شكاً في وجود الله, وربما كان تساؤلاً عن بدء الخلق، وأين كان الله قبل بدء الخلق، وربما كان شكاً في صدق نبوة النبي، أو في صدق بعض الأخبار التي يُخبِر بها مما سيحدث في الدنيا والآخرة، وربما كان التساؤل في القدر: لماذا خلق اللهُ بعضَ الناس وكتب عليهم الخلود في النار وهم في بطون أمهاتهم، ولماذا كتب اللهُ الخطيئة على الإنسان، وإلى ذلك مما لَا يستطيع إنسان مؤمن النطق به أو ينجوَ من التفكير فيه.(1/210)
وربما كان ذلك شكاً في وجود الله, قَالَ أَبُو زُمَيْلٍ: سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ فَقُلْتُ: مَا شَيْءٌ أَجِدُهُ فِي صَدْرِي؟ قَالَ: مَا هُوَ؟ قُلْتُ: وَاللَّهِ مَا أَتَكَلَّمُ بِهِ، قَالَ: فَقَالَ لِي: «أَشَيْءٌ مِنْ شَكٍّ؟» قَالَ: وَضَحِكَ، قَالَ: «مَا نَجَا مِنْ ذَلِكَ أَحَدٌ»،قَالَ: حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} [يونس:94] (1)،قَالَ: فَقَالَ لِي: «إِذَا وَجَدْتَ فِي نَفْسِكَ شَيْئًا فَقُلْ» {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الحديد:3]. (2)
وربما كان تساؤلاً عن بدء الخلق، وأين كان الله قبل بدء الخلق، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:" إِنَّ الشَّيْطَانَ يَأْتِي أَحَدَكُمْ فَيَقُولُ: مَنْ خَلَقَ السَّمَاءَ؟
__________
(1) - فَإِنَّهُ كَانَ فِي نَفْسِكَ شَكٌّ، مِمَّا أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ، مِنَ القُرْآنِ، وَمَا جَاءَ فِيهِ مِنَ الشَّوَاهِدِ، مِنْ قِصَّةِ هُودٍ وَنُوحٍ وَمُوسَى وَغَيْرِهِمْ فَرْضاً وَتَقْدِيراً، فَاسْأَلْ مَنْ لَهُمْ عِلْمٌ بِالكُتُبِ التِي جَاءَتْ قَبْلَكَ، فَهُمْ يَعْلَمُونَ مَا جَاءَ فِي هَذِه ِالكُتُبِ مِنَ البِشَارَةِ بِبَعْثِكِ رَسُولاً مِنَ اللهِ إِلَى النَّاسِ، وَحِينَئِذٍ تَعْلَمُ يَقِيناً أَنَّ الذِي جَاءَكَ مِنْ رَّبِكِ هُوَ الحَقُّ، فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ المُتَشَكِّكِينَ.
لَقَدْ جَاءَكَ الحَقُّ الوَاضِحُ بِأَنَّكَ رَسُولُ اللهِ، وَأَنَّ هَؤُلاَءِ اليَهُودَ وَالنَّصَارَى يَعْلَمُونَ صِحَّةَ ذَلِكَ، وَيَجِدُونَ نَعْتَكَ وَصِفَتَكَ فِي كُتُبِهِمْ، فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ المُتَشَكِّكِينَ فِي صِحَّةِ ذَلِكَ، فَتَكُونَ مِنَ الخَاسِرِينَ الذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ. أيسر التفاسير لأسعد حومد (ص:1459،بترقيم الشاملة آليا)
وَفِي مَعَالِم التَّنْزِيل: قَوْله تَعَالَى {فَإِنْ كُنْت فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْك} يَعْنِي الْقُرْآن, فَاسْأَلْ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَاب مِنْ قَبْلك, فَيُخْبِرُونَك أَنَّك مَكْتُوب عِنْدهمْ فِي التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل, قِيلَ: هَذَا خِطَاب لِلرَّسُولِ - صلى الله عليه وسلم - ,وَالْمُرَاد بِهِ غَيْره عَلَى عَادَة الْعَرَب, فَإِنَّهُمْ يُخَاطِبُونَ الرَّجُل وَيُرِيدُونَ بِهِ غَيْره ,كَقَوْلِهِ تَعَالَى {يَا أَيّهَا النَّبِيّ اِتَّقِ اللَّه} خَاطَبَ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - وَأَرَادَ بِهِ الْمُؤْمِنِينَ، وَقِيلَ: كَانَ النَّاس عَلَى عَهْد النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - بَيْن مُصَدِّق وَمُكَذِّب وَشَاكِّ, فَهَذَا الْخِطَاب مَعَ أَهْل الشَّكِّ, وَمَعْنَاهُ إِنْ كُنْت يَا أَيّهَا الْإِنْسَان فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْك مِنْ الْهُدَى عَلَى لِسَان رَسُولنَا مُحَمَّد, فَاسْأَلْ الَّذِينَ إِلَخْ.
" وما شك رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - ولا امترى. ولقد ورد أنه - صلى الله عليه وسلم - عند ما نزل اللّه عليه: «فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ. لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ، فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ» .. عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ قَالَ: بَلَغَنَا أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:" لَا أَشُكُّ، وَلَا أَسَأَلُ " (مُصَنَّفُ عَبْدِ الرَّزَّاقِ (9922) صحيح مرسل)
ولكن هذا التوجيه وأمثاله وهذا التثبيت على الحق ونظائره تدل على ضخامة ما كان يلقاه - صلى الله عليه وسلم - والجماعة المسلمة معه من الكيد والعنت والتكذيب والجحود ورحمة اللّه - سبحانه - به وبهم بهذا التوجيه والتثبيت .. "في ظلال القرآن للسيد قطب - ت- علي بن نايف الشحود (ص:1626)
(2) - سنن أبي داود (4/ 329) (5110) حسن(1/211)
فَيَقُولُ: اللَّهُ، فَيَقُولُ: مَنْ خَلَقَ الْأَرْضَ؟ فَيَقُولُ: اللَّهُ، فَيَقُولُ: مَنْ خَلَقَ اللَّهَ؟ فَإِذَا أَحَسَّ أَحَدُكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فَلْيَقُلْ: آمَنْتُ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَبِرُسُلِهِ " (1)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:" يَأْتِي الشَّيْطَانُ أَحَدَكُمْ فَيَقُولُ: مَنْ خَلَقَ السَّمَاءَ؟ فَيَقُولُ: اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، فَيَقُولُ: مَنْ خَلَقَ الْأَرْضَ؟ فَيَقُولُ: اللَّهُ، فَيَقُولُ: مَنْ خَلَقَ اللَّهَ؟ فَمَنْ وَجَدَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَلْيَقُلْ: آمَنَّا بِاللَّهِ " (2)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:" لَا يَزَالُونَ يَسْأَلُونَ حَتَّى يُقَالَ لِأَحَدِكُمْ: هَذَا اللَّهُ خَلَقَنَا، فَمَنْ خَلَقَ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى؟ ".قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: وَإِنِّي لَجَالِسٌ ذَاتَ يَوْمٍ إِذْ قَالَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ هَذَا اللَّهُ خَلَقَنَا، فَمَنْ خَلَقَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى؟ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَوَضَعْتُ أُصْبُعَيَّ فِي أُذُنِي، وَصَرَخْتُ: صَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، اللَّهُ الْوَاحِدُ الْأَحَدُ الصَّمَدُ: {لَمْ يَلِدْ، وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص:4] (3)
وعَنِ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:" يَأْتِي الشَّيْطَانُ الْعَبْدَ فَيَقُولُ لَهُ: مَنْ خَلَقَ كَذَا وَكَذَا؟ حَتَّى يَقُولَ لَهُ: مَنْ خَلَقَ رَبَّكَ؟ فَلْيَسْتَعِذْ بِاللَّهِ وَلْيَنْتَهِ " (4)
__________
(1) - الدعاء للطبراني (ص:379) (1268) والإيمان لابن منده (1/ 478) (353) صحيح
(2) - الرد على الجهمية للدارمي (ص:28) (27) صحيح
(3) - الرد على الجهمية للدارمي (ص:26) (25) حسن
(4) - صحيح البخاري (4/ 123) (3276) وصحيح مسلم (1/ 120) 214 - (134) و الرد على الجهمية للدارمي (ص:27) (26)
[ش (فليستعذ بالله ولينته) معناه إذا عرض له الوسواس فيلجأ إلى الله تعالى في دفع شره وليعرض عن الفكر في ذلك وليعلم أن هذا الخاطر من وسوسة الشيطان وهو إنما يسعى بالفساد والإغراء فليعرض عن الإصغاء إلى وسوسته وليبادر إلى قطعها بالاشتغال بغيرها والله أعلم]
أَيْ: وَلْيَنْتَهِ عَنْ الِاسْتِرْسَال مَعَهُ فِي ذَلِكَ، بَلْ يَلْجَأ إِلَى اللَّه فِي دَفْعه، وَيَعْلَم أَنَّهُ يُرِيد إِفْسَاد دِينه وَعَقْله بِهَذِهِ الْوَسْوَسَة، فَيَنْبَغِي أَنْ يَجْتَهِد فِي دَفْعهَا بِالِاشْتِغَالِ بِغَيْرِهَا، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: وَجْه هَذَا الْحَدِيث أَنَّ الشَّيْطَان إِذَا وَسْوَسَ بِذَلِكَ فَاسْتَعَاذَ الشَّخْص بِاللَّهِ مِنْهُ وَكَفّ عَنْ مُطَاوَلَته فِي ذَلِكَ اِنْدَفَعَ، قَالَ: وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ تَعَرَّضَ أَحَد مِنْ الْبَشَر بِذَلِكَ، فَإِنَّهُ يُمْكِن قَطْعه بِالْحُجَّةِ وَالْبُرْهَان، قَالَ: وَالْفَرْق بَيْنهمَا أَنَّ الْآدَمِيّ يَقَع مِنْهُ الْكَلَام بِالسُّؤَالِ وَالْجَوَاب، وَالْحَال مَعَهُ مَحْصُور، فَإِذَا رَاعَى الطَّرِيقَة وَأَصَابَ الْحُجَّة اِنْقَطَعَ، وَأَمَّا الشَّيْطَان فَلَيْسَ لِوَسْوَسَتِهِ اِنْتِهَاء، بَلْ كُلَّمَا أُلْزِمَ حُجَّة زَاغَ إِلَى غَيْرهَا إِلَى أَنْ يُفْضِيَ بِالْمَرْءِ إِلَى الْحِيرَة، نَعُوذ بِاللَّهِ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: عَلَى أَنَّ قَوْله (مَنْ خَلَقَ رَبّك) كَلَام مُتَهَافِت يَنْقُض آخِرُهُ أَوَّلَهُ، لِأَنَّ الْخَالِق يَسْتَحِيل أَنْ يَكُون مَخْلُوقًا، ثُمَّ لَوْ كَانَ السُّؤَال مُتَّجِهًا لَاسْتَلْزَمَ التَّسَلْسُل وَهُوَ مُحَال، وَقَدْ أَثْبَتَ الْعَقْل أَنَّ الْمُحْدَثَات مُفْتَقِرَة إِلَى مُحْدِث، فَلَوْ كَانَ هُوَ مُفْتَقِرًا إِلَى مُحْدِث لَكَانَ مِنْ الْمُحْدَثَات، اِنْتَهَى، وَالَّذِي نَحَا إِلَيْهِ مِنْ التَّفْرِقَة بَيْن وَسْوَسَة الشَّيْطَان وَمُخَاطَبَة الْبَشَر فِيهِ نَظَر، لِأَنَّهُ ثَبَتَ فِي مُسْلِم مِنْ طَرِيق هِشَام بْن عُرْوَة عَنْ أَبِيهِ فِي هَذَا الْحَدِيث " لَا يَزَال النَّاس يَتَسَاءَلُونَ حَتَّى يُقَال هَذَا خَلْق اللَّه الْخَلْق فَمَنْ خَلَقَ اللَّه؟،فَمَنْ وَجَدَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَلْيَقُلْ آمَنْت بِاللَّهِ "،فَسَوَّى فِي الْكَفّ عَنْ الْخَوْض فِي ذَلِكَ بَيْن كُلّ سَائِل عَنْ ذَلِكَ مِنْ بَشَر وَغَيْره، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: إِنَّمَا أَمَرَ بِالِاسْتِعَاذَةِ وَالِاشْتِغَال بِأَمْر آخَر وَلَمْ يَأْمُر بِالتَّأَمُّلِ وَالِاحْتِجَاج لِأَنَّ الْعِلْم بِاسْتِغْنَاءِ اللَّه جَلَّ وَعَلَا عَنْ الْمُوجِد أَمْر ضَرُورِيّ لَا يَقْبَل الْمُنَاظَرَة، وَلِأَنَّ الِاسْتِرْسَال فِي الْفِكْر فِي ذَلِكَ لَا يَزِيد الْمَرْء إِلَّا حِيرَة، وَمَنْ هَذَا حَالُهُ فَلَا عِلَاج لَهُ إِلَّا الْمَلْجَأ إِلَى اللَّه تَعَالَى وَالِاعْتِصَام بِهِ. فتح الباري لابن حجر - (ج 10 / ص 60)(1/212)
وعَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:" إِنَّ أَحَدَكُمْ يَأْتِيهِ الشَّيْطَانُ فَيَقُولُ: مَنْ خَلَقَكَ؟ فَيَقُولُ: اللهُ، فَيَقُولُ: فَمَنْ خَلَقَ اللهَ؟ فَإِذَا وَجَدَ ذَلِكَ أَحَدُكُمْ، فَلْيَقْرَأْ: آمَنْتُ بِاللهِ وَرُسُلِهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ يُذْهِبُ عَنْهُ " (1)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ:" يُوشِكُ النَّاسُ أَنْ يَسْأَلُوا نَبِيَّهُمْ حَتَّى يَقُولَ قَائِلُهُمْ: هَذَا اللَّهُ خَالِقُ الْخَلْقِ، فَمَنْ خَلَقَ اللَّهَ؟ فَإِذَا قَالُوا ذَلِكَ فَقُلِ: {اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا} [الإخلاص:2] أَحَدٌ، ثُمَّ لِيَتْفُلْ عَنْ يَسَارِهِ، وَلْيَسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ " (2)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:" لَا يَزَالُ النَّاسُ يَسْأَلُونَكُمْ عَنِ الْعِلْمِ حَتَّى يَقُولُوا: هَذَا اللهُ خَلَقَنَا، فَمَنْ خَلَقَ اللهَ؟ " قَالَ: وَهُوَ آخِذٌ بِيَدِ رَجُلٍ، فَقَالَ: صَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ، قَدْ سَأَلَنِي اثْنَانِ وَهَذَا الثَّالثُ، أَوْ قَالَ: سَأَلَنِي وَاحِدٌ وَهَذَا الثَّاني"
وفي رواية عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -:" لَا يَزَالُونَ يَسْأَلُونَكَ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ حَتَّى يَقُولُوا: هَذَا اللهُ، فَمَنْ خَلَقَ اللهَ؟ " قَالَ: فَبَيْنَا أَنَا فِي الْمَسْجِدِ إِذْ جَاءَنِي نَاسٌ مِنَ الْأَعْرَابِ، فَقَالُوا: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، هَذَا اللهُ، فَمَنْ خَلَقَ اللهَ؟ قَالَ: فَأَخَذَ حَصًى بِكَفِّهِ فَرَمَاهُمْ، ثُمَّ قَالَ: قُومُوا قُومُوا صَدَقَ خَلِيلِي" (3)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -:" لَا يَزَالُونَ يَسْأَلُونَ حَتَّى يُقَالُ: هَذَا اللهُ خَلَقَنَا، فَمَنْ خَلَقَ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ؟ " قَالَ: فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ:" فَوَاللهِ، إِنِّي لَجَالِسٌ يَوْمًا إِذْ قَالَ
__________
(1) - مسند أحمد ط الرسالة (43/ 271) (26203) صحيح
(2) - السنة لابن أبي عاصم (1/ 294) (653) صحيح
(3) - صحيح مسلم (1/ 120و121) 215 - (135)(1/213)
لِي رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ: هَذَا اللهُ خَلَقَنَا، فَمَنْ خَلَقَ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ؟ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَجَعَلْتُ أُصْبُعَيَّ فِي أُذُنَيَّ، ثُمَّ صِحْتُ، فَقُلْتُ: صَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ، اللهُ الْوَاحِدُ الصَّمَدُ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ " (1)
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:لاَ يَزَالُ النَّاسُ يَسْأَلُونَ يَقُولُونَ: مَا كَذَا مَا كَذَا، حَتَّى يَقُولُوا: اللَّهُ خَالِقُ النَّاسِ، فَمَنْ خَلَقَ اللَّهَ؟ فَعِنْدَ ذَلِكَ يَضِلُّونَ. (2)
وعَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ قَالَ: لَمَّا اسْتَعْمَلَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى الطَّائِفِ جَعَلَ يَعْرِضُ لِي شَيْءٌ فِي صَلَاتِي حَتَّى مَا أَدْرِي مَا أُصَلِّي، فَلَمَّا رَأَيْتُ ذَلِكَ رَحَلْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: «ابْنُ أَبِي الْعَاصِ؟» قُلْتُ: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: «مَا جَاءَ بِكَ؟» قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، عَرَضَ لِي شَيْءٌ فِي صَلَوَاتِي حَتَّى مَا أَدْرِي مَا أُصَلِّي قَالَ: «ذَاكَ الشَّيْطَانُ ادْنُهْ» فَدَنَوْتُ مِنْهُ، فَجَلَسْتُ عَلَى صُدُورِ قَدَمَيَّ، قَالَ: فَضَرَبَ صَدْرِي بِيَدِهِ، وَتَفَلَ فِي فَمِي وَقَالَ: «اخْرُجْ عَدُوَّ اللَّهِ» فَفَعَلَ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ قَالَ: «الْحَقْ بِعَمَلِكَ» قَالَ: فَقَالَ عُثْمَانُ: «فَلَعَمْرِي مَا أَحْسِبُهُ خَالَطَنِي بَعْدُ» (3)
__________
(1) - مسند أحمد ط الرسالة (15/ 10) (9027) صحيح لغيره
(2) - ... السنة لابن أبي عاصم 287 (1/ 293) (647) صحيح
(3) - سنن ابن ماجه (2/ 1174) (3548) صحيح
وقال الألباني رحمه الله في الصحيحة:"وفي الحديث دلالة صريحة على أن الشيطان قد يتلبس الإنسان ويدخل فيه ولو كان مؤمنا صالحا، وفي ذلك أحاديث كثيرة، وقد كنت خرجت أحدها فيما تقدم برقم (485) يَعْلَى بْنِ مُرَّةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: سَافَرْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَرَأَيْتُ مِنْهُ شَيْئًا عَجَبًا، نَزَلْنَا مَنْزِلاً فَقَالَ: انْطَلِقْ إِلَى هَاتَيْنِ الشَّجَرَتَيْنِ فَقُلْ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ لَكُمَا أَنْ تَجْتَمِعَا فَانْطَلَقْتُ فَقُلْتُ لَهُمَا ذَلِكَ: فَانْتُزِعَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مِنْ أَصْلِهَا فَمَرَّتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ إِلَى صَاحِبَتِهَا فَالْتَقَيَا جَمِيعًا فَقَضَى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - حَاجَتَهُ مِنْ وَرَائِهِمَا ثُمَّ قَالَ: انْطَلِقْ فَقُلْ لَهُمَا لِتَعُودَ كُلُّ وَاحِدَةٍ إِلَى مَكَانِهَا فَأَتَيْتُهُمَا فَقُلْتُ ذَلِكَ لَهُمَا فَعَادَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ إِلَى مَكَانِهَا. وَأَتَتْهُ امْرَأَةٌ فَقَالَتْ: إِنَّ ابْنِي هَذَا بِهِ لَمَمٌ مُنْذُ سَبْعِ سِنِينَ يَأْخُذُهُ كُلَّ يَوْمٍ مَرَّتَيْنِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -:أَدْنِيهِ فَأَدْنَتْهُ مِنْهُ فَتَفَلَ فِي فِيهِ وَقَالَ: اخْرُجْ عَدُوَّ اللهِ أَنَا رَسُولُ اللهِ ثُمَّ قَالَ لَهَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -:إِذَا رَجَعْنَا فَأَعْلِمِينَا مَا صَنَعَ فَلَمَّا رَجَعَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - اسْتَقْبَلَتْهُ وَمَعَهَا كَبْشَانِ وَأَقِطٌ وَسَمْنٌ، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -:خُذْ هَذَا الْكَبْشَ فَاتَّخِذْ مِنْهُ مَا أَرَدْتَ فَقَالَتْ: وَالَّذِي أَكْرَمَكَ مَا رَأَيْنَا بِهِ شَيْئًا مُنْذُ فَارَقْتَنَا. ثُمَّ أَتَاهُ بَعِيرٌ فَقَامَ بَيْنَ يَدَيْهِ فَرَأَى عَيْنَيْهِ تَدْمَعَانِ فَبَعَثَ إِلَى أَصْحَابِهِ فَقَالَ: مَا لِبَعِيرِكُمْ هَذَا يَشْكُوكُمْ؟ فَقَالُوا: كُنَّا نَعْمَلُ عَلَيْهِ فَلَمَّا كَبِرَ وَذَهَبَ عَمَلُهُ تَوَاعَدْنَا عَلَيْهِ لِنَنْحَرَهُ غَدًا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -:لاَ تَنْحَرُوهُ وَاجْعَلُوهُ فِي الإِبِلِ يَكُونُ مَعَهَا."المستدرك على الصحيحين -دار المعرفة بيروت (2/ 617) (4232) " .. وبالجملة فالحديث بهذه المتابعات جيد والله أعلم \ولكنني من جانب آخر أُنكِر أشد الإنكار على الذين يستغلون هذه العقيدة، ويتخذون استحضار الجن ومخاطبتهم مهنة لمعالجة المجانين والمصابين بالصرع، ويتخذون في ذلك من الوسائل التي تزيد على مجرد تلاوة القرآن مما لم ينزِّل الله به سلطانا، كالضرب الشديد الذي قد يترتب عليه أحيانا قتل المصاب، كما وقع هنا في عمَّان، وفي مصر، مما صار حديث الجرائد والمجالس، لقد كان الذين يتولون القراءة على المصروعين أفرادا قليلين صالحين فيما مضى، فصاروا اليوم بالمئات، وفيهم بعض النسوة المتبرجات، فخرج الأمر عن كونه وسيلة شرعية لَا يقوم بها إِلَّا الأطباء عادة إلى أمور ووسائل أخرى لَا يعرفها الشرع ولا الطب معا، فهي عندي نوع من الدجل والوساوس يوحي بها الشيطان إلى عدوه الإنسان {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} [الأنعام:112]،وهو نوع من الاستعاذة بالجن التي كان عليها المشركون في الجاهلية المذكورة في قوله تعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} [الجن:6]،فمن استعان بهم على فك سحر - زعموا - أو معرفة هوية الجني المتلبس بالإنسي أذكر هو أم أنثى؟ ,مسلم أم كافر؟ ,وصدقه المستعين به ثم صدق هذا الحاضرون عنده، فقد شملهم جميعا وعيد قوله - صلى الله عليه وسلم - فعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ أَتَى عَرَّافًا أَوْ كَاهِنًا فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ».السنن الكبرى للبيهقي - دائرة المعارف النظامية (8/ 135) (16938) صحيح
وفي حديث آخرعنْ بَعْضِ أَزْوَاجِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَنْ أَتَى عَرَّافًا فَسَأَلَهُ عَنْ شَىْءٍ لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلاَةٌ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً».السنن الكبرى للبيهقي - دائرة المعارف النظامية (8/ 138) (16952) صحيح
فينبغي الانتباه لهذا، فقد علمتُ أن كثيرا ممن ابتُلُوا بهذه المهنة هم من الغافلين عن هذه الحقيقة، فأنصحهم - إن استمروا في مهنتهم - أن لَا يزيدوا في مخاطبتهم على قول النبي - صلى الله عليه وسلم -:" اخْرُجْ عَدُوَّ اللَّهِ "،مذكرا لهم بقوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:63] ,والله المستعان, ولا حول ولا قوة إِلَّا بالله " سلسلة الأحاديث الصحيحة وشيء من فقهها وفوائدها (6/ 1002) (2918)(1/214)
ومن جملة ما يلقيه في النفوس مشككاً ما حدثنا الله عنه في قوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52) لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (53) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (54)} [الحج:52 - 54].
لَمْ يُرْسِل الله رَسُولاً نَبيّاً إلى قَوْمٍ إلاَّ وتَمنَّى أَنْ يَتَّبعهُ قَوْمُهُ وأنْ يَسْتَجيبُوا لِمَا يَدْعُوهُم إلَيْهِ. وَلَكِنَّ مَا تَمَنَّى نَبَيّ وَلاَ رَسُولٌ هَذِهِ الأمْنِيَة السَّامِيَة إلاّ ألْقَى الشَّيْطَانُ في سَبيلِهِ العَوائِق وأثار الشكوك وَوَسْوسَ في صُدُور النَّاس، لَسْلِبَهُم القُدْرَةَ عَلَى الانْتِفَاع بما وُهِبُوهُ مِنْ قُوَّةِ العَقْل، وسَلاَمَة الفِكرِ، فَثَاروا في وَجْهِ النَّبيِّ وصَدّوهُ عَنْ غَايَتِهِ. فإذَا ظَهَروُوا في(1/215)
بادِئ الأمر ظَنّوا أنَّهُمْ عَلَى الحَقْ، وَلَكِنَّ كَلِمَةَ الله سَتَكُون دَائماً هِي العُلْيا، وَكَلِمِةُ الشَيْطَانُ وأعوانِهِ هِيَ السُفْلى دائماً.
فَأَمَّا الذينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَشَكٌّ وِنَفَاقٌ، أَوْ انْحِرافٌ (مِنْ المُنافِقِينَ)،والقاسِيةُ قُلُوبُهُمْ مِنَ اليَهُود والكُفَّارِ والمعانِدِينَ فَيَجِدُونَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الحَالِ مَادَّةً للجَدَلِ واللَّجَاجِ والشِّقَاقِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ فِتْنَةً لَهُمْ.
وَأَمَّا الذينَ أُوتُوا العِلْمَ والمَعْرِفَةَ فَتَطَمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ إِلَى بَيَانِ اللهِ، وَحُكْمِهِ الفَاصِلِِ، لأَنَّهُمْ يُفَرِّقُونَ بالعِلْمِ الذي أُوتُوهُ بَيْنَ الحَقِّ والبَّاطِلِ، فَيُؤمِنُونَ بالحَقِّ وَيُصَدّقُونَه، وَيَنْقَادُونَ إِلَيْهِ، وَتَخْضَعُ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَتَذِلُّ فَتُخْبِتُ، واللهُ يَهدي الذين آمنوا في الدُّنيا والآخِرَةِ إِلى الطَّريقِ القَوِيمِ.
أمَّا فِي الدُّنْيا فَيُرْشِدُهُمُ إِلَى الحَقِّ وإِلَى اتِّبَاعِهِ، وَيُوفِّقُهم إِلى مُخَالَفَةِ البَّاطِلِ وإِلَى اجْتِنَابِهِ، وفِي الآخِرَةِ يَهْدِيهِم إِلَى الطَّرِيقِ المُوْصِلِ إِلَى الجَنَّةٍ، ويُجَنِّبُهم نَارَ جَهَنَّمَ. (1)
والمراد بالتمني هنا حديث النفس، والمراد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا حدَّث نفسه ألقى الشيطان في حديثه على جهة الحيلة، فيقول: لو سألت الله - عز وجل - أن يغنمك ليتسع المسلمون، أو يتمنى إيمان الناس جميعاً .... فينسخ الله ما يلقيه الشيطان بوسواسه في أمنية النبي - صلى الله عليه وسلم -،وذلك بتنبيهه إلى الحق، وتوجيهه إلى مراد الله ... ،وما قيل من أن مراد الآية أن الشيطان يدخل في القرآن ما ليس منه فكذب بيقين، ويرده أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - معصوم في التبليغ.
قال شقيق:"ما من صباح إلا قعد لى الشيطان على أربعة مراصد: من بين يدي، ومن خلفى، وعن يمينى، وعن شمالي، فيقول: لا تخف فإن الله غفور رحيم، فأقرأ: {وَإِنِّى لَغَفَّارٌ لِمنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى} [طه:82].
وأما من خلفي فيخوفنى الضيعة على من أخلفه، فأقرأ: {وَمَا مِنْ دَابّةٍ فى الأرْضِ إلا عَلَى اللهِ رِزْقُهَا} [هود:6].
ومن قبل يميني يأتيني من قبل النساء، فأقرأ: {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتّقِينَ} [الأعراف:128].
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد (ص:2527،بترقيم الشاملة آليا)(1/216)
ومن قبل شمالى فيأتيني من قبل الشهوات، فأقرأ: {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ} [سبأ:54].
قلت: السبل التى يسلكها الإنسان أربعة لا غير، فإنه تارة يأخذ على جهة يمينه، وتارة على شماله، وتارة أمامه، وتارة يرجع خلفه، فأي سبيل سلكها من هذه وجد الشيطان عليها رصدا له، فإن سلكها فى طاعة وجده عليها يُثبِّطه عنها ويقطعه، أو يعوقه ويبطئه، وإن سلكها لمعصية وجده عليها حاملا له وخادما ومعينا وممنيا، ولو اتفق له الهبوط إلى أسفل لأتاه من هناك. (1)
11 ـ 14 الخمر والميسر والأنصاب والأزلام:
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91)} [المائدة:90 - 91].
يَنْهَى اللهُ تَعَالَى عِبَادَهُ المُؤْمِنِينَ عَنْ تَعَاطِي الخَمْرِ وَلَعْبِ القِمَارِ (المَيْسِر)،وَعَنْ ذَبْحِ القَرَابِينِ عِنْدَ الأَنْصَابِ، (وَهِيَ حِجَارَةٌ كَانَتْ تُحِيطُ بِالْكَعْبَةِ)،كَمَا يَنْهَاهُمْ عَنِ الاسْتِقْسَامِ بِالأَزْلاَمِ (وَالأَزْلاَمِ ثَلاَثَةُ قِدَاحٍ أَوْ سِهَامٍ يُجِيلُونَهَا ثُمَّ يُلْقُونَهَا، وَقَدْ كُتِبَ عَلَى أَحَدِهَا (افْعَلْ)،وَعَلى الأخَرِ (لاَ تَفْعَلْ)،وَالثَّالِثُ غُفْلٌ مِنَ الكِتَابَةِ. فَإِذَا خَرَجَ السَّهْمُ الذِي كُتِبَ عَلَيْهِ (افْعَلْ) فَعَلَ. وَإذَا خَرَجَ السَّهْمُ الذِي كُتِبَ عَلَيْهِ (لاَ تَفْعَلْ) لَمْ يَفْعَلْ. وَإذا خَرَجَ السَّهْمُ الغُفْلُ مِنَ الكِتَابَةِ أَعَادَ الاسْتِقْسَامَ.
وَيَقُولُ تَعَالَى لِعِبَادِهِ المُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ إنَّ هَذِهِ المُنْكَرَاتِ: الخَمْرَ وَالمَيْسِرَ .. إنَّمَا هِيَ شَرٌّ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ (رِجْسٌ) فَاجْتَنِبُوا هَذَا الرِّجْسَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَتَفُوزُونَ بِرِضْوَانِ اللهِ.
إنَّ الشَّيْطَانَ يُرِيدُ لَكُمْ شُرْبَ الخَمْرِ، وَلَعِبَ المَيْسِرِ، لِيُعَادِيَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً، وَيَبْغُضَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً، فِيِتَشَتَّتَ أمْرُكُمْ بَعْدَ أنْ ألَّفَ اللهُ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ بِالإيمَانِ، وَجَمَعَ بِأخُوَّةِ الإسْلاَمِ، ويُرِيدُ الشَّيْطَانُ أنْ يَصْرِفَكُمْ بِالسُّكْرِ وَالاشْتِغَالِ بِالمَيْسِرِ عَنْ ذِكْرِ اللهِ الذِي بِهِ
__________
(1) - إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان (1/ 104)(1/217)
صَلاَحُ أمْرِكُمْ، فِي دُنْيَاكُمْ وَآخِرَتِكُمْ، وَعَنِ الصَّلاَةِ التِي فَرَضَهَا اللهُ عَلَيْكُمْ، تَزْكِيَةً لِنُفُوسِكُمْ، وَتَطْهِيراً لِقُلُوبِكُمْ.
وَالخَمْرُ تٌفْقِدُ الإِنْسَانَ عَقْلَهُ الذِي يَمْنَعُهُ عَنْ إتْيَانِ الأفْعَالِ القَبِيحَةِ، وَعَنْ تَوْجِيهِ الأقْوَالِ الشَّائِنَةِ إلى النَّاسِ، فَإِذَا شَرِبَهاَ الإِنْسَانُ أقْدَمَ عَلَى مَا لاَ يُقْدِمُ عَلَيهِ وَهُوَ صَاحٍ مَتَمَالِكٌ قِواهُ فَيُسِيءُ إلى أصْحَابِهِ وَإِخْوَانِهِ، وَيُؤذِيهِمْ فَيُؤَدِّي ذَلِكَ إلى الشَّحْنَاءِ وَالبَغْضَاءِ.
وَالمَيْسِرُ يُثِيرُ البَغْضَاءَ وَالشَحْنَاءَ بَيْنَ اللاعِبِينَ وَالحَاضِرِينَ، وَكَثِيراً مَا يُفرِّطُ المُقَامِرُ فِي حُقُوقِ الوَالِدَيْنِ وَالزَّوْجِ وَالأوْلاَدِ، حَتَّى يُوشِكُ أنْ يَمْقُتَهُ كُلُّ وَاحِدٍ.
ثُمَّ يَأمُرُ اللهُ تَعَالَى المُؤْمِنِينَ بِأنْ يَنْتَهُوا عَنْ هَذِهِ المُنْكَرَاتِ ليُفَوِّتُوا عَلَى إبْلِيسَ غَرَضَهُ. (1)
والخمر: كل ما يسكر، والميسر: القمار، والأنصاب: كل ما نصب كي يعبد من دون الله، من حجر، أو شجر، أو وثن، أو قبر، أو علم. والأزلام: القداح كانوا يستقسمون بها الأمور؛ أي: يطلبون بها علم ما قسم لهم.
وهذه قد تكون أقداحاً أو سهاماً أو حُصَيّات أو غير ذلك، يكون مكتوباً على واحد منها أمرني ربي، وعلى الآخر نهاني ربي، فإذا شاء أحدهم زواجاً أو سفراً أو نحو ذلك، أدخل يده في الشيء الذي فيه هذه القداح أو السهام، فإن خرج الذي فيه الأمر بالفعل فعل، وإن خرج الآخر ترك.
فالشيطان يحض الناس على هذه الأربع؛ لأنها ضلال في نفسها، وتؤدي إلى نتائج وخيمة، وآثار سيئة، فالخمر تفقد شاربها عقله، فإذا فقد عقله فعل الموبقات، وارتكب المحرمات، وترك الطاعات، وآذى عباد الله.
وعَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: سَمِعْتُ عُثْمَانَ يَقُولُ:" اجْتَنِبُوا الْخَمْرَ فَإِنَّهَا أُمُّ الْخَبَائِثِ، إِنَّهُ كَانَ رَجُلٌ مِمَّنْ خَلَا قَبْلَكُمْ يَتَعَبَّدُ فَعَلِقَتْهُ امْرَأَةٌ غَوِيَّةٌ، فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ جَارِيَتَهَا فَقَالَتْ لَهُ: أَنَا أَدْعُوكَ لِلشَّهَادَةِ فَانْطَلَقَ مَعَ جَارِيَتِهَا، فَطَفِقَتْ كُلَّمَا دَخَلَ بَابًا أَغْلَقَتْهُ دُونَهُ حَتَّى أَفْضَى إِلَى امْرَأَةٍ وَضِيئَةٍ عِنْدَهَا غُلَامٌ وَبَاطِيَةُ خَمْرٍ، فَقَالَتْ: إِنِّي وَاللهِ مَا دَعْوَتُكَ لِلشَّهَادَةِ، وَلَكِنْ دَعْوَتُكَ لِتَقَعَ عَلَيَّ أَوْ تَشْرَبَ مِنْ هَذِهِ
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد (ص:760،بترقيم الشاملة آليا)(1/218)
الْخَمْرِ كَأْسًا أَوْ تَقْتُلَ هَذَا الْغُلَامَ، قَالَ: فَاسْقِينِي مِنْ هَذَا الْخَمْرِ كَأْسًا، فَسَقَتْهُ كَأْسًا، فَقَالَ: زِيدُونِي فَلَمْ يَرِمْ حَتَّى وَقَعَ عَلَيْهَا وَقَتَلَ النَّفْسَ، فَاجْتَنِبُوا الْخَمْرَ؛ فَإِنَّهَا وَاللهِ لَا يَجْتَمِعُ الْإِيمَانُ وَإِدْمَانُ الْخَمْرِ إِلَّا أَوْشَكَ أَنْ يُخْرِجَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ " (1)
وعَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ، أَنَّ أَبَاهُ، قَالَ: سَمِعْتُ عُثْمَانَ، يَقُولُ:" اجْتَنِبُوا الْخَمْرَ فَإِنَّهَا أُمُّ الْخَبَائِثِ؛ فَإِنَّهُ كَانَ رَجُلٌ مِمَّنْ خَلَا قَبْلَكُمْ يَتَعَبَّدُ، وَيَعْتَزِلُ النَّاسَ فَذَكَرَ مِثْلَهُ، قَالَ: فَاجْتَنِبُوا الْخَمْرَ فَإِنَّهُ وَاللهِ لَا يَجْتَمِعُ وَالْإِيمَانُ أَبَدًا إِلَّا أَوْشَكَ أَنْ يُخْرِجَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ " (2)
وعَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ، وَعُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَنَاسًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - جَلَسُوا بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَذَكَرُوا أَعْظَمَ الْكَبَائِرِ فَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ فِيهَا عِلْمٌ يَنْتَهُونَ إِلَيْهِ فَأَرْسَلُونِي إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، أَسْأَلُهُ عَنْ ذَلِكَ فَأَخْبَرَنِي أَنَّ أَعْظَمَ الْكَبَائِرِ شُرْبُ الْخَمْرِ فَأَتَيْتُهُمْ فَأَخْبَرْتُهُمْ فَأَنْكَرُوا ذَلِكَ وَوَثَبُوا إِلَيْهِ جَمِيعًا حَتَّى أَتَوْهُ فِي دَارِهِ فَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إِنَّ مَلِكًا مِنْ مُلُوكِ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَخَذَ رَجُلًا فَخَيَّرَهُ بَيْنَ أَنْ يَشْرَبَ الْخَمْرَ أَوْ يَقْتُلَ نَفْسًا أَوْ يَزْنِيَ أَوْ يَأْكُلَ لَحْمَ الْخِنْزِيرِ أَوْ يَقْتُلُوهُ إِنْ أَبَى فَاخْتَارَ أَنْ يَشْرَبَ الْخَمْرَ وَأَنَّهُ لَمَّا شَرِبَهَا لَمْ يَمْتَنِعْ مِنْ شَيْءٍ أَرَادُوهُ مِنْهُ» وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ لَنَا مُجِيبًا: «مَا مِنْ أَحَدٍ يَشْرَبُهَا فَيَقْبَلَ اللَّهُ لَهُ صَلَاةً أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَلَا يَمُوتُ وَفِي مَثَانَتِهِ مِنْهَا شَيْءٌ إِلَّا حُرِّمَتْ عَلَيْهِ بِهَا الْجَنَّةُ، فَإِنْ مَاتَ فِي أَرْبَعِينَ لَيْلَةً مَاتَ مَيْتَةً جَاهِلِيَّةً» (3)
وعن مُصْعَبَ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ نَزَلَتْ فِيهِ آيَاتٌ مِنَ الْقُرْآنِ قَالَ: حَلَفَتْ أُمُّ سَعْدٍ أَنْ لَا تُكَلِّمَهُ أَبَدًا حَتَّى يَكْفُرَ بِدِينِهِ، وَلَا تَأْكُلَ وَلَا تَشْرَبَ، قَالَتْ: زَعَمْتَ أَنَّ اللهَ وَصَّاكَ بِوَالِدَيْكَ، وَأَنَا أُمُّكَ، وَأَنَا آمُرُكَ بِهَذَا. قَالَ: مَكَثَتْ ثَلَاثًا حَتَّى غُشِيَ عَلَيْهَا مِنَ الْجَهْدِ، فَقَامَ
__________
(1) - السنن الكبرى للنسائي (5/ 101) (5156) صحيح
أغوته: الإغواء: الإضلال، والغي ضد الرشاد.=وضيئة: امرأة وضيئة، أي: جميلة حسنة.=فلم يرم: لم يرم فلان عن موضعه، أي: لم يبرح. جامع الأصول في أحاديث الرسول ط مكتبة الحلواني الأولى (5/ 104)
(2) - السنن الكبرى للنسائي (5/ 101) (5157) صحيح
(3) - المستدرك على الصحيحين للحاكم (4/ 163) (7236) صحيح(1/219)
ابْنٌ لَهَا يُقَالُ لَهُ عُمَارَةُ، فَسَقَاهَا، فَجَعَلَتْ تَدْعُو عَلَى سَعْدٍ، فَأَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي الْقُرْآنِ هَذِهِ الْآيَةَ: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي} وَفِيهَا {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان: 15] قَالَ: وَأَصَابَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - غَنِيمَةً عَظِيمَةً، فَإِذَا فِيهَا سَيْفٌ فَأَخَذْتُهُ، فَأَتَيْتُ بِهِ الرَّسُولَ - صلى الله عليه وسلم -، فَقُلْتُ: نَفِّلْنِي هَذَا السَّيْفَ، فَأَنَا مَنْ قَدْ عَلِمْتَ حَالَهُ، فَقَالَ: «رُدُّهُ مِنْ حَيْثُ أَخَذْتَهُ» فَانْطَلَقْتُ، حَتَّى إِذَا أَرَدْتُ أَنْ أُلْقِيَهُ فِي الْقَبَضِ لَامَتْنِي نَفْسِي، فَرَجَعْتُ إِلَيْهِ، فَقُلْتُ: أَعْطِنِيهِ، قَالَ فَشَدَّ لِي صَوْتَهُ «رُدُّهُ مِنْ حَيْثُ أَخَذْتَهُ» قَالَ فَأَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ} [الأنفال: 1] قَالَ: وَمَرِضْتُ فَأَرْسَلْتُ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَأَتَانِي، فَقُلْتُ: دَعْنِي أَقْسِمْ مَالِي حَيْثُ شِئْتُ، قَالَ فَأَبَى، قُلْتُ: فَالنِّصْفَ، قَالَ فَأَبَى، قُلْتُ: فَالثُّلُثَ، قَالَ فَسَكَتَ، فَكَانَ، بَعْدُ الثُّلُثُ جَائِزًا. قَالَ: وَأَتَيْتُ عَلَى نَفَرٍ مِنَ الْأَنْصَارِ وَالْمُهَاجِرِينَ، فَقَالُوا: تَعَالَ نُطْعِمْكَ وَنَسْقِكَ خَمْرًا، وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ تُحَرَّمَ الْخَمْرُ، قَالَ فَأَتَيْتُهُمْ فِي حَشٍّ - وَالْحَشُّ الْبُسْتَانُ - فَإِذَا رَأْسُ جَزُورٍ مَشْوِيٌّ عِنْدَهُمْ، وَزِقٌّ مِنْ خَمْرٍ. قَالَ فَأَكَلْتُ وَشَرِبْتُ مَعَهُمْ، قَالَ فَذَكَرْتُ الْأَنْصَارَ وَالْمُهَاجِرِينَ عِنْدَهُمْ. فَقُلْتُ: الْمُهَاجِرُونَ خَيْرٌ مِنَ الْأَنْصَارِ. قَالَ فَأَخَذَ رَجُلٌ أَحَدَ لَحْيَيِ الرَّأْسِ فَضَرَبَنِي، بِهِ فَجَرَحَ بِأَنْفِي فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَأَخْبَرْتُهُ فَأَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ فِيَّ - يَعْنِي نَفْسَهُ - شَأْنَ الْخَمْرِ: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} [المائدة: 90] (1)
__________
(1) -صحيح مسلم (4/ 1877) 43 - (1748)
نفلني: نفلته كذا، أي: أعطيته نافلة وزيادة على سهمه من الغنيمة. =القبض: بسكون الباء: مصدر قبضت الشيء قبضا: أخذته إليك، فصار في قبضتك، أي: في يدك وتحت تصرفك، وبفتح الباء: الشيء المقبوض، وأراد به: ما يجمع من الغنائم ويحرز، وهو المراد في الحديث. =الجزور: البعير، ذكرا كان أو أنثى، وأصله: البعير ينحر ويقطع لحمه، إلا أن اللفظة مؤنثة. =الميسر: القمار. =الأنصاب: الأصنام أو الحجارة التي كانوا يذبحون عليها لآلهتهم. =والأزلام: القداح، واحدها: زلم، وزلم - بفتح الزاي وضمها -وهي سهام بلا نصول ولا ريش، كانوا يضربون بها في القمار ليعرفوا نصيب كل واحد منهم، وكانوا يضربون بها أيضا عند الشروع في الأمر يعرض لهم من سفر أو زواج أو بيع أو نحو ذلك، يعرفون بها في زعمهم ما هو الأصلح لهم، فإن خرج لهم افعل فعلوا، وإن خرج لا تفعل لم يفعلوا. =رجس: الرجس: النجس. =شجروا فاها: أي: فتحوه كرها. =أوجرت: الدواء في فيه: إذا ألقيته فيه، فشبه إلقاء الطعام في فيها كرها بإلقاء الدواء عن غير اختيار. جامع الأصول في أحاديث الرسول ط مكتبة الحلواني الأولى (9/ 13)(1/220)
وفي رواية عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ قَالَ: أُنْزِلَتْ فِيَّ أَرْبَعُ آيَاتٍ، وَسَاقَ الْحَدِيثَ، وَزَادَ قَالَ فَكَانُوا إِذَا أَرَادُوا أَنْ يُطْعِمُوهَا شَجَرُوا فَاهَا بِعَصًا، ثُمَّ أَوْجَرُوهَا، وَفِي حَدِيثِهِ أَيْضًا: فَضَرَبَ بِهِ أَنْفَ سَعْدٍ، فَفَزَرَهُ وَكَانَ أَنْفُ سَعْدٍ مَفْزُورًا". (1)
وعَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ سَعْدٍ، أَنَّهُ قَالَ:" صَنَعَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ طَعَامًا فَدَعَانَا، قَالَ: فَشَرِبْنَا الْخَمْرَ حَتَّى انْتَشَيْنَا، فَتَفَاخَرَتِ الْأَنْصَارُ وَقُرَيْشٌ، فَقَالَتِ الْأَنْصَارُ: نَحْنُ أَفْضَلُ مِنْكُمْ. قَالَ: فَأَخَذَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ لَحْيَ جَمَلٍ فَضَرَبَ بِهِ أَنْفَ سَعْدٍ فَفَزَرَهُ، فَكَانَ سَعْدٌ أَفْزَرَ الْأَنْفِ. قَالَ: فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} [المائدة:90] إِلَى آخِرِ الْآيَةِ " (2)
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَبِيبٍ: أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ , صَنَعَ طَعَامًا وَشَرَابًا , فَدَعَا نَفَرًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - , فَأَكَلُوا وَشَرِبُوا حَتَّى ثَمِلُوا , فَقَدَّمُوا عَلِيًّا يُصَلِّي بِهِمُ الْمَغْرِبَ , فَقَرَأَ: «قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ , أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ , وَأَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ , وَأَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ , لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ».فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ: {لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء:43] (3)
وعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ قَيْسٍ، قَالَ:" لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الْمَدِينَةَ أَتَاهُ النَّاسُ، وَقَدْ كَانُوا يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ وَيَأْكُلُونَ الْمَيْسِرَ، فَسَأَلُوهُ عَنْ ذَلِكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [البقرة:219]،فَقَالُوا: هَذَا شَيْءٌ قَدْ جَاءَ فِيهِ رُخْصَةٌ، نَأْكُلُ الْمَيْسِرَ وَنَشْرَبُ الْخَمْرَ، وَنَسْتَغْفِرُ مِنْ ذَلِكَ. حَتَّى أَتَى رَجُلٌ صَلَاةَ الْمَغْرِبِ، فَجَعَلَ يَقْرَأُ: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ، أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ، وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ. فَجَعَلَ لَا يَجَوِّدُ ذَلِكَ وَلَا يَدْرِي مَا
__________
(1) - صحيح مسلم (4/ 1878) 44 - (1748)
[ش (شجروا فاها بعصا ثم أوجروها) أي فتحوه ثم صبوا فيه الطعام وإنما شجروه بالعصا لئلا تطبقه فيمتنع وصول الطعام جوفها وهكذا صوابه شجروا وهكذا في جميع النسخ قال القاضي ويروى شحوا ومعناه قريب من الأول أي أوسعوه وفتحوه والشحو التوسعة ودابة شحو واسعة الخطو ويقال أوجره ووجره لغتان الأولى أفصح وأشهر (ففزره) يعني شقه وكان أنفه مفزورا أي مشقوقا]
(2) - تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (8/ 659) صحيح
(3) - تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (7/ 46) صحيح(1/221)
يَقْرَأُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} [النساء:43]،فَكَانَ النَّاسُ يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ حَتَّى يَجِيءَ وَقْتُ الصَّلَاةِ فَيَدَعُونَ شُرْبَهَا، فَيَأْتُونَ الصَّلَاةَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ مَا يَقُولُونَ. فَلَمْ يَزَالُوا كَذَلِكَ حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ} [المائدة:90] إِلَى قَوْلِهِ: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة:91]،فَقَالُوا: انْتَهَيْنَا يَا رَبُّ " (1)
وقد رأينا الرجل الذي بلغ من الكبر عِتّياً عندما يشرب الخمر يتصرف تصرفات المجانين، ويضحك منه الكبار والصغار، ويفترش الطريق تدوسه الناس بأقدامها.
والميسر مرض خطير كالخمر، إذا تأصل في نفس الإنسان صعب الشفاء منه، وهو سبيل لضياع الوقت والمال، والميسر ينشئ الأحقاد، ويدفع الحرام.
والشيطان يدعو إلى إقامة النصب كي تتخذ بعد ذلك آلهة تُعبد من دون الله، وقد انتشرت عبادة الأنصاب قديماً وحديثاً، والشياطين تلازم هذه الأصنام، وتخاطب عبادها في بعض الأحيان، وتريهم بعض الأمور التي تجعل عابديها يثقون بها، فيقصدونها بالحاجات، ويدعونها في الكربات، ويستنصرون بها في الحروب، ويقدمون لها الذبائح والهدايا، ويرقصون حولها ويطربون، ويقيمون لها الأعياد والاحتفالات، وقد أضلّ بهذا الكثير، كما قال إبراهيم داعياً ربه: ({وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ (35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ} [إبراهيم:35،36].
ولا تزال عبادة القبور منتشرة بين المسلمين، يقصدونها بالدعاء والألطاف والذبائح ... وانتشرت بدعة جديدة اليوم - يضحك بها الشيطان على بني الإنسان - تلك هي نصب الجندي المجهول، يزعمون أنه رمز الجندي المقاتل، ويكرمونه بالهدايا والورود والتعظيم، وكلما زار البلاد التي فيها مثل هذه النصب زعيم، جاء هذا النصب وقدم له هدية، وكل هذا من عبادة الأنصاب، التي هي من عمل الشيطان. وشرٌّ من هذا النصب التي توضع للزعماء والملوك في كل مكان من أجل تعظيمها، وهي بلا ريب أشدُّ تحريما، وأكثر شركاً والعياذ بالله.
__________
(1) - تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (8/ 658) فيه ضعف(1/222)
الاستقسام بالأزلام:
الأمور المستقبلية من مكنون علم الله، ولذلك شرع لنا الرسول - صلى الله عليه وسلم - الاستخارة، إذا أردنا سفراً أو زواجاً أو غير ذلك، نرجو من الله أن يختار لنا خير الأمور.
وأبطل الاستقسام بالأزلام، فإن السهام والقداح لا تعلم أين الخير ولا تدريه، فاستشارتها خلل في العقل، وقصور في العلم.
ومثل ذلك زجر الطير: كان من يريد سفراً، إذا خرج من بيته، ومرّ بطائر زجره، فإن تيامن، كان سفراً ميموناً، وإن مرّ عن شماله، كان سفراً مشؤوماً ... ،وكل ذلك من الضلال.
15 - السحر:
ومما يضل به الشيطان أبناء آدم السحر، فهم يعلمونهم هذا العلم، الذي يضر ولا ينفع، ويكون هذا العلم سبيلاً للتفريق بين المرء وزوجه، والتفريق بين الزوجين: يعدّه الشيطان من أعظم الأعمال التي يقوم بها جنوده كما سبق أن ذكرنا.
قال تعالى: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [البقرة:102].
وَلَقَدْ صَدَّقُوا مَا تَتَقَوَّلُه الشَّيَاطِينُ وَالفَجَرَةُ مِنُهُمْ عَلَى مَلْكِ سُلَيْمَانَ، إِذْ زَعَمُوا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ نَبِيّاً وَلاَ رَسُولاً يَنْزِلُ عَلَيهِ الوَحْيُ مِنَ اللهِ، بَلْ كَانَ سَاحِراً يَسْتَمِدُّ العَوْنَ مِن سِحْرِهِ، وَأنَّ سِحْرَهُ هَذا هُوَ الذِي وَطَّدَ لَهُ المُلْكَ، وَجَعَلَهُ يُسَيْطِرُ عَلَى الجِنِّ وَالطَّيْرِ وَالرِّيَاحِ، فَنَسَبُوا بِذَلِكَ الكُفْرَ لِسُلَيْمَانَ، وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ، وَلَكِنَّ هَؤُلاءِ الشَّيَاطِينَ الفَجَرَةَ هُمُ الذِينَ كَفَرُوا، إِذْ تَقَوَّلُوا عَلَيْهِ الأَقَاوِيلَ، وَأَخَذُوا يُعَلِمُونَ النَّاسَ السِحْرَ مِنْ عِنْدِهِمْ، وَمِنْ آثَارِ مَا أُنْزِلَ بِبَابِلَ عَلَى المَلَكِين هَارُوتَ وَمَارُوتَ. مَعَ أنَّ هذينِ المَلَكِينِ مَا كَانَا يُعَلِّمَانِ(1/223)
أَحَداً حَتَّى يَقُولا لَهُ: إِنَّمَا نُعَلِّمُكَ مَا يُؤَدِّي إلَى الفِتْنَةِ وَالكُفْرِ فَاعْرِفْهُ وَاحْذَرْهُ، وَتَوَقَّ العَمَلَ بِهِ. وَلَكِنَّ النَّّاسَ لَمْ يَأْخُذُوا بِهَذِهِ النَّصِيِحَةِ، فَاسْتَخْدَمُوا، مِمَّا تَعَلَّمُوهُ مِنْهُمَا، مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ المْرِءِ وَزَوْجِهِ. لَقَدْ كَفَرَ هَؤُلاءِ الشَّياطِينُ الفَجَرَةُ إِذْ تَقَوَّلُوا هَذِهِ الأقَاوِيلَ، وَاتَّخَذُوا مِنْ أَقَاوِيلِهِمْ وَأَسَاطِيرِهِمْ ذَرِيعَةً لِتَعْلِيمِ اليَهُودِ السِّحْرَ، وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِسِحْرِهِمْ هذا أحَداً، وَلَكِنَّ اللهَ تَعَالَى هُوَ الذِي يَأْذَنُ بِالضَّرَرِ إنْ شَاءَ، وَأنَّ مَا يُؤَخَذُ عَنْهُمْ مِنْ سِحْرٍ لَيَضُرُّ مَنْ تَعَلَّمَهُ في دِينِهِ وَدُنْيَاهُ، وَلاَ يُفِيدُهُ شَيْئاً، وَهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَعْلَمُونَ حَقَّ العِلْمِ أَنَّ مَنِ اتَّجَهَ هذا الاتِّجَاهَ لَنْ يَكُونَ لَهُ حَظٌّ أوْ نَصِيبٌ فِي نَعِيمِ الآخِرَةِ، وَلَبِئْسَ مَا اخْتَارَهُ هُؤُلاءِ لأنْفُسِهِمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ. (1)
هل للسحر حقيقة؟
اختلف العلماء في ذلك فمن قائل: إنّه تخييل لا حقيقة له: {فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} [طه:66]،ومن قائل: إن له حقيقة كما دلت عليه آية البقرة، والصحيح أنّه نوعان: نوعٌ هو تخييل، يعتمد على الحيل العلمية وخفة الحركة، ونوعٌ له حقيقة، يفرِّق به بين المرء وزوجه، ويؤذى به ...
سحر اليهود للرسول - صلى الله عليه وسلم -:
عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: سُحِرَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -،وَقَالَ اللَّيْثُ: كَتَبَ إِلَيَّ هِشَامٌ أَنَّهُ سَمِعَهُ وَوَعَاهُ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشةَ قَالَتْ: سُحِرَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -،حَتَّى كَانَ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ يَفْعَلُ الشَّيْءَ وَمَا يَفْعَلُهُ، حَتَّى كَانَ ذَاتَ يَوْمٍ دَعَا وَدَعَا، ثُمَّ قَالَ:" أَشَعَرْتِ أَنَّ اللَّهَ أَفْتَانِي فِيمَا فِيهِ شِفَائِي، أَتَانِي رَجُلاَنِ: فَقَعَدَ أَحَدُهُمَا عِنْدَ رَأْسِي وَالآخَرُ عِنْدَ رِجْلَيَّ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِلْآخَرِ مَا وَجَعُ الرَّجُلِ؟ قَالَ: مَطْبُوبٌ، قَالَ: وَمَنْ طَبَّهُ؟ قَالَ لَبِيدُ بْنُ الأَعْصَمِ، قَالَ: فِيمَا ذَا، قَالَ: فِي مُشُطٍ وَمُشَاقَةٍ وَجُفِّ طَلْعَةٍ ذَكَرٍ، قَالَ فَأَيْنَ هُوَ؟ قَالَ: فِي بِئْرِ ذَرْوَانَ " فَخَرَجَ إِلَيْهَا النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -،ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ لِعَائِشَةَ حِينَ رَجَعَ: «نَخْلُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ» فَقُلْتُ اسْتَخْرَجْتَهُ؟
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد (ص:109،بترقيم الشاملة آليا)(1/224)
فَقَالَ: «لاَ، أَمَّا أَنَا فَقَدْ شَفَانِي اللَّهُ، وَخَشِيتُ أَنْ يُثِيرَ ذَلِكَ عَلَى النَّاسِ شَرًّا» ثُمَّ دُفِنَتِ البِئْرُ " (1)
وعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: سُحِرَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -،سَحَرَهُ رَجُلٌ مِنْ يَهُودِ بَنِي زُرَيْقٍ يُقَالُ لَهُ: لَبِيدُ بْنُ الْأَعْصَمِ، حَتَّى كَانَ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ فَعَلَ الشَّيْءَ، وَلَمْ يَفْعَلْهُ، حَتَّى إِذَا كَانَ ذَاتَ يَوْمٍ أَوْ لَيْلَةٍ، قَالَ: «يَا عَائِشَةُ أَشَعُرْتِ أَنَّ اللَّهَ أَفْتَانِي فِيمَا اسْتَفْتَيْتُهُ، أَتَانِي مَلَكَانِ فَقَعَدَ أَحَدُهُمَا عِنْدَ رَأْسِي، وَالْآخَرُ عِنْدَ رِجْلَيَّ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: مَا وَجَعُ الرَّجُلِ؟ فَقَالَ الْآخَرُ: مَطْبُوبٌ، فَقَالَ: وَمَنْ طَبَّهُ؟ قَالَ: لَبِيدُ بْنُ الْأَعْصَمِ، قَالَ: فِي أَيِّ شَيْءٍ؟ قَالَ: فِي مُشْطٍ وَمُشَاطَةٍ وَجُفِّ طَلْعِ نَخْلَةٍ ذَكَرٍ، قَالَ: وَأَيْنَ هُوَ؟ قَالَ: فِي بِئْرِ ذَرْوَانَ» قَالَتْ: وَأَتَاهَا نَبِيُّ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي نَاسٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، فَقَالَ: «يَا عَائِشَةُ كَأَنَّ مَاءَهَا نُقَاعَةُ الْحِنَّاءِ، وَكَأَنَّ رَأْسَ نَخْلِهَا رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ»،فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَفَلَا اسْتَخْرَجْتَهَا؟ قَالَ: «قَدْ عَافَانِيَ اللَّهُ، وَكَرِهْتُ أَنْ أُثِيرَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْهُ شَرًّا» (2)
وعَنِ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ: كَانَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ يُحَدِّثَانِ: أَنَّ يَهُودَ بَنِي زُرَيْقٍ، عَقَدُوا عَقْدَ سِحْرٍ لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -،فَجَعَلُوهَا فِي بِئْرِ حَزْمٍ حَتَّى كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُنْكِرُ بَصَرَهُ ودَلَّهُ اللَّهُ عَلَى مَا صَنَعُوا، فَأَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِلَى بِئْرِ حَزْمٍ الَّتِي فِيهَا الْعَقْدُ فَانْتَزَعَهَا، فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «سَحَرَتْنِي يَهُودُ بَنِي زُرَيْقٍ» وَأَنْكَرَ قَائِلُ
__________
(1) - صحيح البخاري (4/ 122) (3268)
[ش (وعاه) حفظه. (أفتاني) أخبرني. (أتاني) أي في المنام. (رجلان) أي ملكان في صورة رجلين. (مطبوب) مسحور. (مشاقة) ما يخرج من الكتان حين يمشق والمشق جذب الشيء ليمتد ويطول. وقيل المشاقة ما يغزل من الكتان. (جف الطلعة) وعاء الطلع وغشاؤه إذا جف. (بئر ذروان) بئر في المدينة في بستان لأحد اليهود. (رؤوس الشياطين) أي شبيه لها لقبح منظره. (شرا) أي في إظهاره كتذكر السحر وتعلمه. (دفنت البئر) طمت بالتراب حتى استوت مع الأرض]
(2) - صحيح ابن حبان - مخرجا (14/ 547) (6584) صحيح
قلت: والسحر الذي أصيب به - صلى الله عليه وسلم - هو من قبيل الأمراض التي تعرض للبدن دون أن تؤثِّر على شيء من العقل، ولا يعدو أن يكون نوعاً من أنواع العقد عن النساء، وهو الذي يسمونه (رباطاً)،فكان - صلى الله عليه وسلم - يُخَيَّلُ إليه أن عنده قدرةً على إتيان إحدى نسائه، فإذا ما هم بحاجةٍ، عجز عن ذلك، وهذا غير مخل بمقام النبوة، فقولُه فى الحديث:"حَتَّى كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُخيل إِلَيْهِ أَنَّهُ يَفْعَلُ الشَّيْءَ وَمَا يَفْعَلُهُ" من العام المخصوص، ففي رواية ابن عيينة عند البخاري (5765)."حتى كان يرى أنه يأتي النساء ولا يأتيهِن".وانظر "الفتح" 10/ 226 - 227.(1/225)
هَذِهِ الْمَقَالَةِ أَنْ يَكُونَ السَّاحِرُ يَقْدِرُ بِسِحْرِهِ عَلَى قَلْبِ شَيْءٍ عَنْ حَقِيقَتِهِ، وَاسْتِسْخَارِ شَيْءٍ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ إِلَّا نَظِيرَ الَّذِي يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ سَائِرُ بَنِي آدَمَ، أَوْ إِنْشَاءِ شَيْءٍ مِنَ الْأَجْسَامِ سِوَى الْمَخَارِيقِ وَالْخِدَعِ الْمُتَخَيَّلَةِ لِأَبْصَارِ النَّاظِرِينَ بِخِلَافِ حَقَائِقِهَا الَّتِي وَصَفْنَا. وَقَالُوا: لَوْ كَانَ فِي وُسْعِ السَّحَرَةِ إِنْشَاءَ الْأَجْسَامِ وَقَلْبَ الْحَقَائِقِ الْأَعْيَانِ عَمَّا هِيَ بِهِ مِنَ الْهَيْئَاتِ، لَمْ يَكُنْ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ فَصْلٌ، وَلَجَازَ أَنْ تَكُونَ جَمِيعُ الْمَحْسُوسَاتِ مِمَّا سَحَرَتْهُ السَّحَرَةُ فَقَلَبَتْ أَعْيَانَهَا. قَالُوا: وَفِي وَصْفِ اللَّهِ جَلَّ وَعَزَّ سَحَرَةُ فِرْعَوْنَ بِقَوْلِهِ: {فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيِّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} [طه:66].وَفِي خَبَرِ عَائِشَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ كَانَ إِذَا سُحِرَ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ يَفْعَلُ الشَّيْءَ وَلَا يَفْعَلُهُ، أَوْضَحُ الدَّلَالَةِ عَلَى بُطُولِ دَعْوَى الْمُدَّعِينَ: أَنَّ السَّاحِرَ يُنْشِئُ أَعْيَانَ الْأَشْيَاءِ بِسِحْرِهِ، وَيَسْتَسْخِرُ مَا يَتَعَذَّرُ اسْتِسْخَارُهُ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ بَنِي آدَمَ، كَالْمَوَاتِ وَالْجَمَادِ وَالْحَيَوَانِ، وَصِحَّةِ مَا قُلْنَا.
وَقَالَ آخَرُونَ: قَدْ يَقْدِرُ السَّاحِرُ بِسِحْرِهِ أَنْ يُحَوِّلَ الْإِنْسَانَ حِمَارًا، وَأَنْ يَسْحَرَ الْإِنْسَانَ وَالْحِمَارَ وَيُنْشِيءُ أَعْيَانًا وَأَجْسَامًا. وَاعْتَلُّوا فِي ذَلِكَ بِمَا حَدَّثَنَا بِهِ الرَّبِيعُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: ثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ أَبِي الزِّنَادِ، قَالَ: حَدَّثَنِي هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، زَوْجِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهَا قَالَتْ:" قَدِمَتْ عَلَيَّ امْرَأَةٌ مِنْ أَهْلِ دُومَةِ الْجَنْدَلِ، جَاءَتْ تَبْتَغِي رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بَعْدَ مَوْتِهِ حَدَاثَةَ ذَلِكَ، تَسْأَلُهُ عَنْ شَيْءٍ دَخَلَتْ فِيهِ مِنْ أَمْرِ السِّحْرِ وَلَمْ تَعْمَلْ بِهِ. قَالَتْ عَائِشَةُ لِعُرْوَةَ: يَا ابْنَ أُخْتِي، فَرَأَيْتُهَا تَبْكِي حِينَ لَمْ تَجِدْ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَيَشْفِيَهَا، كَانَتْ تَبْكِي حَتَّى إِنِّي لَأَرْحَمُهَا، وَتَقُولُ: إِنِّي لَأَخَافُ أَنْ أَكُونَ قَدْ هَلَكْتُ، كَانَ لِي زَوْجٌ فَغَابَ عَنِّي، فَدَخَلَتْ عَلَيَّ عَجُوزٌ فَشَكَوْتُ ذَلِكَ إِلَيْهَا، فَقَالَتْ: إِنْ فَعَلْتِ مَا آمُرُكِ بِهِ فَأَجْعَلُهُ يَأْتِيكِ، فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ جَاءَتْنِي بِكَلْبَيْنِ أَسْوَدَيْنِ، فَرَكِبَتْ أَحَدَهُمَا وَرَكِبْتُ الْآخَرَ، فَلَمْ يَكُنْ كَشَيْءٍ حَتَّى وَقَفْنَا بِبَابِلَ، فَإِذَا بِرَجُلَيْنِ مُعَلَّقَيْنِ بِأَرْجُلِهِمَا، فَقَالَا: مَا جَاءَ بِكِ؟ فَقُلْتُ: أَتَعَلَّمُ السِّحْرَ؟ فَقَالَا: إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرِي وَارْجِعِي، فَأَبَيْتُ وَقُلْتُ: لَا، فَقَالَا: اذْهَبِي إِلَى ذَلِكَ التَّنُّورِ فَبُولِي فِيهِ. فَذَهَبْتُ فَفَزِعْتُ فَلَمْ أَفْعَلْ، فَرَجَعْتُ إِلَيْهِمَا، فَقَالَا: أَفَعَلْتِ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، فَقَالَا: فَهَلْ رَأَيْتِ شَيْئًا؟(1/226)
قُلْتُ: لَمْ أَرَ شَيْئًا، فَقَالَا لِي: لَمْ تَفْعَلِي، ارْجِعِي إِلَى بِلَادِكَ وَلَا تَكْفُرِي. فَأَبَيْتُ، فَقَالَا: اذْهَبِي إِلَى ذَلِكَ التَّنُّورِ فَبُولِي فِيهِ. فَذَهَبْتُ، فَاقْشَعْرَرْتُ وَخِفْتُ. ثُمَّ رَجَعْتُ إِلَيْهِمَا، فَقُلْتُ: قَدْ فَعَلْتُ، فَقَالَا: فَمَا رَأَيْتِ؟ فَقُلْتُ: لَمْ أَرَ شَيْئًا، فَقَالَا: كَذَبْتِ لَمْ تَفْعَلِي، ارْجِعِي إِلَى بِلَادِكَ وَلَا تَكْفُرِي، فَإِنَّكِ عَلَى رَأْسِ أَمْرِكِ. فَأَبَيْتُ، فَقَالَا: اذْهَبِي إِلَى ذَلِكَ التَّنُّورِ فَبُولِي فِيهِ. فَذَهَبْتُ إِلَيْهِ فَبُلْتُ فِيهِ، فَرَأَيْتُ فَارِسًا مُتَقَنِّعًا بِحَدِيدٍ خَرَجَ مِنِّي حَتَّى ذَهَبَ فِي السَّمَاءِ وَغَابَ عَنِّي حَتَّى مَا أُرَاهُ، فَجِئْتُهُمَا فَقُلْتُ: قَدْ فَعَلْتُ، فَقَالَا: مَا رَأَيْتِ؟ فَقُلْتُ: فَارِسًا مُتَقَنِّعًا خَرَجَ مِنِّي فَذَهَبَ فِي السَّمَاءِ حَتَّى مَا أُرَاهُ، فَقَالَا: صَدَقْتِ، ذَلِكَ إِيمَانُكِ خَرَجَ مِنْكِ اذْهَبِي. فَقُلْتُ لِلْمَرْأَةِ: وَاللَّهِ مَا أَعْلَمُ شَيْئًا وَمَا قَالَا لِي شَيْئًا، فَقَالَتْ: بَلَى، لَنْ تُرِيدِي شَيْئًا إِلَّا كَانَ، خُذِي هَذَا الْقَمْحَ فَابْذُرِي، فَبَذَرْتُ، فَقُلْتُ: أطْلِعِي، فَأَطْلَعَتْ، وَقُلْتُ: أَحْقِلِي، فَأَحْقَلَتْ، ثُمَّ قُلْتُ: أَفْرِكِي. فَأَفْرَكَتْ، ثُمَّ قُلْتُ: أَيْبِسِي، فَأَيْبَسَتْ، ثُمَّ قُلْتُ: أَطْحِنِي. فَأَطْحَنَتْ، ثُمَّ قُلْتُ: أَخْبِزِي، فَأَخْبَزَتْ. فَلَمَّا رَأَيْتُ أَنِّيَ لَا أُرِيدُ شَيْئًا إِلَّا كَانَ سُقِطَ فِي يَدِي وَنَدِمْتُ وَاللَّهِ يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ، وَاللَّهِ مَا فَعَلْتُ شَيْئًا قَطُّ وَلَا أفْعَلُهُ أَبَدًا " (1)
قَالَ أَهْلُ هَذِهِ الْمَقَالَةِ بِمَا وَصَفْنَا وَاعْتَلُّوا بِمَا ذَكَرْنَا، وَقَالُوا: لَوْلَا أَنَّ السَّاحِرَ يَقْدِرُ عَلَى فِعْلِ مَا ادَّعَى أَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى فِعْلِهِ مَا قَدَرَ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ، قَالُوا: وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ يَتَعَلَّمُونَ مِنَ الْمَلَكَيْنِ مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ، وَذَلِكَ لَوْ كَانَ عَلَى غَيْرِ الْحَقِيقَةِ، وَكَانَ عَلَى وَجْهِ التَّخْيِيلِ وَالْحُسْبَانِ، لَمْ يَكُنْ تَفْرِيقًا عَلَى صِحَّةٍ، وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ يُفَرِّقُونَ عَلَى صِحَّةٍ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلِ السِّحْرُ أَخْذٌ بِالْعَيْنِ .. " (2)
ولا يقال: إن سحر الرسول - صلى الله عليه وسلم - يوجب له لبساً في النبوة والرسالة؛ لأن أثر السحر لم يتجاوز ظاهر الجسم الشريف، فلم يصل إلى القلب والعقل. فهو كسائر الأمراض التي قد تعرض له، والتشريع محفوظ بحفظ الله تعالى، قال الله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9].
__________
(1) - وإسناده صحيح
(2) - تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (2/ 352) صحيح مرسل(1/227)
16 - ضعف الإنسان:
في الإنسان نقاط ضعف كثيرة، هي في الحقيقة أمراض، والشيطان يعمق هذه الأمراض في نفس الإنسان، بل تصبح مداخله إلى النفس الإنسانية، ومن هذه الأمراض: الضعف، واليأس، والقنوط، والبطر، والفرح، والعجب، والفخر، والظلم، والبغي، والجحود، والكنود، والعجلة، والطيش، والسفه، والبخل، والشح، والحرص، والجدل، والمراء، والشك، والريبة، والجهل، والغفلة، واللدد في الخصومة، والغرور، والادعاء الكاذب، والهلع، والجزع، والمنع، والتمرد، والطغيان، وتجاوز الحدود، وحب المال، والافتتان بالدنيا.
فالإسلام يدعو إلى إصلاح النفس، والتخلص من أمراضها، وهذا يحتاج إلى جهد يبذل، كما يحتاج إلى صبر على مشقّات الطريق.
أمّا اتباع الهوى، وما تميله النفس الأمارة بالسوء، فإنه سهل ميسور، فالأول مثله مثل من يصعد بصخرة إلى أعلى الجبل، ومثل الثاني كمن يهوي من أعلى الجبل إلى أسفله، ولذلك كانت الاستجابة للشيطان كثيرة، وَوَجد دعاة الحق صعوبة، وأي صعوبة في الدعوة إلى الله تعالى.
ونحن نسوق إليك بعض كلام السلف؛ لنوضح كيف يستغل الشيطان نقاط الضعف في الإنسان.
َقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ} قَالَ: الشَّيْطَانُ جَاثِمٌ عَلَى قَلْبِ ابْنِ آدَمَ، فَإِذَا سَهَا وَغَفَلَ وَسْوَسَ، فَإِذَا ذَكَرَ اللَّهُ خَنَس. وَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ.
وَقَالَ الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبِيهِ: ذُكرَ لِي أَنَّ الشَّيْطَانَ، أَوِ: الْوَسْوَاسَ يَنْفُثُ فِي قَلْبِ ابْنِ آدَمَ عِنْدَ الْحُزْنِ وَعِنْدَ الْفَرَحِ، فَإِذَا ذَكَرَ اللَّهُ خَنَسَ.
وَقَالَ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {الْوَسْوَاس} قَالَ: هُوَ الشَّيْطَانُ يَأْمُرُ، فَإِذَا أُطِيعَ خَنَسَ. (1)
__________
(1) - تفسير ابن كثير ت سلامة (8/ 540)(1/228)
وعن الْحَسَنَ بْنِ صَالِحٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَّ الشَّيْطَانَ قَالَ لِلْمَرْأَةِ: أَنْتِ نِصْفُ جُنْدِي، وَأَنْتِ سهمي الذي أرمي به فلا أخطأ، وَأَنْتِ مَوْضِعُ سِرِّي وَأَنْتِ رَسُولِي فِي حَاجَتِي. (1)
وَعَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -:أَنَّ رَاهِبًا فِي صَوْمَعَتِهِ أَرَادَ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُ فَعَجَزَ عَنْهُ فَنَادَاهُ لِيَفْتَحَ لَهُ فَسَكَتَ، فَقَالَ: إنْ ذَهَبْت نَدِمْت فَسَكَتَ، فَقَالَ: أَنَا الْمَسِيحُ، فَأَجَابَهُ وَقَالَ: إنْ كُنْتَ الْمَسِيحَ فَمَا أَصْنَعُ بِك؟ أَلَسْتَ قَدْ أَمَرْتَنَا بِالْعِبَادَةِ وَالِاجْتِهَادِ وَوَعَدْتنَا الْقِيَامَةَ، فَلَوْ جِئْتنَا الْيَوْمَ بِغَيْرِ ذَلِكَ لَمْ نَقْبَلْهُ مِنْك، فَأَخْبَرَ أَنَّهُ الشَّيْطَانُ جَاءَ لِيُضِلَّهُ فَلَمْ يَسْتَطِعْ، ثُمَّ قَالَ: لَهُ سَلْنِي عَمَّا شِئْت أُخْبِرْك، قَالَ: مَا أُرِيدُ أَنْ أَسْأَلَك عَنْ شَيْءٍ فَوَلَّى الشَّيْطَانُ مُدْبِرًا، فَقَالَ لَهُ الرَّاهِبُ: أَلَا تَسْمَعُ قَالَ: بَلَى. قَالَ: أَخْبِرْنِي أَيُّ أَخْلَاقِ بَنِي آدَمَ أَعْوَنُ لَك عَلَيْهِمْ؟ قَالَ: الْحِدَّةُ (الغضب) إنَّ الرَّجُلَ إذَا كَانَ حَدِيدًا قَلَّبْنَاهُ كَمَا يُقَلِّبُ الصِّبْيَانُ الْكُرَةَ. (2)
وعن بَكَّارَ بْنِ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: سَمِعْتُ وَهْبَ بْنَ مُنَبِّهٍ، يَقُولُ:" كَانَ رَجُلٌ عَابِدٌ مِنَ السُّيَّاحِ أَرَادَهُ الشَّيْطَانُ مِنْ قِبَلِ الشَّهْوَةِ، وَالرَّغْبَةِ، وَالْغَضَبِ، فَلَمْ يَسْتَطِعْ لَهُ شَيْئًا، فَمُثِّلَ لَهُ بِحَيَّةٍ وَهُوَ يُصَلِّي فَالْتَوَى بِقَدَمِهِ وَجَسَدِهِ، ثُمَّ أَطْلَعَ رَأْسَهُ عِنْدَ رَأْسِهِ، فَلَمْ يَلْتَفِتْ مِنْ صَلَاتِهِ وَلَمْ يَسْتَأْخِرْ مِنْهَا، فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَسْجُدَ الْتَوَى فِي مَوْضِعِ سَجْدَتِهِ، فَلَمَّا وَضَعَ رَأْسَهُ لِيَسْجُدَ فَتَحَ فَاهُ لِيَلْتَقِمَ رَأْسَهُ فَوَضَعَ رَأْسَهُ فَجَعَلَ يَعْرُكُهُ حَتَّى اسْتَمْكَنَ مِنَ الْأَرْضِ لِسَجْدَتِهِ، فَقَالَ لَهُ الشَّيْطَانُ: إِنِّي أَنَا صَاحِبُكَ الَّذِي كُنْتَ أُخَوِّفُكَ، فَأَتَيْتُكَ مِنْ قِبَلِ الشَّهْوَةِ وَالرَّغْبَةِ وَالْغَضَبِ، وَأَنَا الَّذِي كُنْتُ أَتَمَثَّلُ لَكَ بِالسِّبَاعَ وَالْحَيَّةِ، فَلَمْ أَسْتَطِعْ لَكَ شَيْئًا، وَقَدْ بَدَا لِي أَنْ أُصَادِقَكَ، وَلَا أَرَاكَ فِي صَلَاتِكَ بَعْدَ الْيَوْمِ. فَقَالَ لَهُ: لَا يَوْمَ خَوَّفْتَنِي بِحَمْدِ اللهِ خِفْتُكَ، وَلَا الْيَوْمَ فِي حَاجَةٍ مِنْ فَضْلِهِ. قَالَ: أَلَا تَسْأَلُنِي عَمَّا شِئْتَ أُخْبِرْكَ. قَالَ: مَا عَسَيْتُ أَنْ أَسْأَلَكَ عَنْهُ؟ قَالَ: أَلَا تَسْأَلُنِي عَنْ مَالِكَ مَا فَعَلَ بَعْدَكَ؟ قَالَ: لَوْ أَرَدْتُ ذَلِكَ مَا فَارَقْتُهُ. قَالَ: أَفَلَا تَسْأَلُنِي عَنْ أَهْلِكَ مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ؟ قَالَ: أَنَا مُتُّ قَبْلَهُمْ. قَالَ: أَفَلَا تَسْأَلُنِي عَمَّا أُضِلُّ بِهِ بَنِي آدَمَ؟ قَالَ: بَلَى، فَأَخْبِرْنِي، مَا أَوْثَقُ مَا فِي نَفْسِكَ أَنْ تُضِلَّهُمْ بِهِ؟ قَالَ: ثَلَاثَةُ
__________
(1) - مكائد الشيطان (ص:59) (37) صحيح مقطوع
(2) - آفات على الطريق كامل (2/ 17) وإحياء علوم الدين ومعه تخريج الحافظ العراقي (4/ 29) والزواجر عن اقتراف الكبائر (1/ 86) وتلبيس إبليس (ص:30)(1/229)
أَخْلَاقٍ مَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ بِشَيْءٍ مِنْهَا غَلَبْنَاهُ: بِالشُّحِّ وَالْحِدَّةِ وَالسُّكْرِ، فَإِنَّ الرَّجُلَ إِذَا كَانَ شَحِيحًا قَلَّلْنَا مَالَهُ فِي عَيْنِهِ، وَرَغَّبْنَاهُ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ، وَإِذَا صَارَ حَدِيدًا تَزَاوَرْنَاهُ كَمَا يَتَزَاوَرُ الصِّبْيَانُ الْكُرَةَ، وَلَوْ كَانَ يُحْيِي الْمَوْتَى بِدَعْوَتِهَ لَمْ نَيْأَسْ مِنْهُ، فَإِنَّ مَا يَبْنِي يَهْدِمُهُ لَنَا بِكَلِمَةٍ، وَإِذَا سَكِرَ اقْتَدْنَاهُ إِلَى كُلِّ شَهْوَةٍ كَمَا يُقْتَادُ مَنْ أَخَذَ الْعَنْزَ بِأُذُنِهَا حَيْثُ شَاءَ " (1)
وعَنْ ثَابِتٍ قَالَ:: لَمَّا بُعِثَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - جَعَلَ إِبْلِيسُ لَعَنَهُ اللَّهُ يُرْسِلُ شَيَاطِينَهُ إِلَى أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فجيئون إِلَيْهِ بِصُحُفِهِمْ لَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ، فَيَقُولُ لَهُمْ: مَا لَكُمْ لا تُصِيبُونَ مِنْهُمْ شَيْئًا؟ فَقَالُوا: مَا صَحِبْنَا قَوْمًا مِثْلَ هَؤُلاءِ. فَقَالَ: رُوَيْدًا بِهِمْ، فَعَسَى أَنْ تُفْتَحَ لَهُمُ الدُّنْيَا، هُنَالِكَ تُصِيبُونَ حَاجَتَكُمْ مِنْهُمْ. (2)
وعَنْ أَبِي مُوسَى، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: «إِذَا أَصْبَحَ إِبْلِيسُ بَثَّ جُنُودَهُ، فَيَقُولُ: مَنْ أَضَلَّ الْيَوْمَ مُسْلِمًا أَلْبَسْتُهُ التَّاجَ، قَالَ: فَيَخْرُجُ هَذَا، فَيَقُولُ: لَمْ أَزَلْ بِهِ حَتَّى طَلَّقَ امْرَأَتَهُ، فَيَقُولُ: أَوْشَكَ أَنْ يَتَزَوَّجَ، وَيَجِيءُ هَذَا فَيَقُولُ: لَمْ أَزَلْ بِهِ حَتَّى عَقَّ وَالِدَيْهِ، فَيَقُولُ: أَوْشَكَ أَنْ يَبَرَّ، وَيَجِيءُ هَذَا، فَيَقُولُ: لَمْ أَزَلْ بِهِ حَتَّى أَشْرَكَ فَيَقُولُ: أَنْتَ أَنْتَ، وَيَجِيءُ، فَيَقُولُ: لَمْ أَزَلْ بِهِ حَتَّى زَنَى فَيَقُولُ: أَنْتَ أَنْتَ، وَيَجِيءُ هَذَا، فَيَقُولُ: لَمْ أَزَلْ بِهِ حَتَّى قَتَلَ فَيَقُولُ: أَنْتَ أَنْتَ، وَيُلْبِسُهُ التَّاجَ» (3)
وعَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: إِذَا أَصْبَحَ إِبْلِيسُ بَثَّ جُنُودَهُ فِي الأَرْضِ فَيَقُولُ: مَنْ أَضَلَّ مُسْلِمًا أَلْبَسْتُهُ التَّاجَ. فَيَقُولُ لَهُ الْقَائِلُ: لَمْ أَزَلْ بِفُلانٍ حَتَّى طَلَّقَ امْرَأَتَهُ، قَالَ: يُوشِكُ أَنْ يَتَزَوَّجَ. وَيَقُولُ آخَرُ: لَمْ أَزَلْ بِفُلانٍ حَتَّى عَقَّ، قَالَ: يُوشِكُ أَنْ يَبَرَّ. وَيَقُولُ آخَرُ: لَمْ أَزَلْ بِفُلانٍ حَتَّى زَنَى، قَالَ: أَنْتَ. وَيَقُولُ آخَرُ: لَمْ أَزَلْ بِفُلانٍ حَتَّى شَرِبَ الْخَمْرَ. قَالَ: أَنْتَ. قَالَ: وَيَقُولُ آخَرُ لَمْ أَزَلْ بِفُلانٍ حتى قتل. فيقول: أنت أنت. (4)
__________
(1) - حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (4/ 52) حسن مقطوع
(2) - مكائد الشيطان (ص: 60) (39) صحيح مرسل
(3) - صحيح ابن حبان - مخرجا (14/ 68) (6189) صحيح
(4) - مكائد الشيطان (ص: 55) (36) صحيح موقوف(1/230)
وعَنِ الْحَسَنِ قَالَ::كَانَتْ شَجَرَةٌ تُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَجَاءَ إِنْسَانٌ إِلَيْهَا فَقَالَ: لأَقَطْعَنَّ هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَجَاءَ لِيَقْطَعَهَا غَضَبًا للَّهِ فَلَقِيَهُ الشَّيْطَانُ فِي صُورَةِ إِنْسَانٍ، فَقَالَ: مَا تُرِيدُ؟ قَالَ: أُرِيدُ أَنْ أَقْطَعَ هَذِهِ الَّتِي تُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ.
قَالَ: إِذَا أَنْتَ لَمْ تَعْبُدْهَا فَمَا يَضُرُّكَ مِنْ عَبْدِهَا؟ قَالَ: لأَقْطَعَنَّهَا.
فَقَالَ لَهُ الشَّيْطَانُ: هَلْ لَكَ فِيمَا هُوَ خَيْرٌ لَكَ، لا تَقْطَعْهَا وَلَكَ دِينَارَانِ كُلَّ يَوْمٍ إِذَا أَصْبَحْتَ عِنْدَ وِسَادَتِكَ.
قَالَ: فَمَنْ لِي بِذَلِكَ؟ قَالَ: أَنَا لَكَ.
فَرَجَعَ فَأَصْبَحَ فَوَجَدَ دِينَارَيْنِ عِنْدَ وِسَادَتِهِ، ثُمَّ أَصْبَحَ فَلَمْ يَجِدْ شَيْئًا فَقَامَ غَضَبًا لِيَقْطَعَهَا، فَتَمَثَّلَ لَهُ الشَّيْطَانُ فِي صُورَتِهِ، فَقَالَ: مَا تُرِيدُ؟ قَالَ: أُرِيدُ أَنْ أَقْطَعَ هَذِهِ الشَّجَرَةَ الَّتِي تُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ.
قَالَ: كَذَبْتَ، مَا لَكَ إِلَى ذَلِكَ مِنْ سَبِيلٍ، فَذَهَبَ لِيَقْطَعَهَا فَضَرَبَ بِهِ الأَرْضَ وَخَنَقَهُ حَتَّى كَادَ يَقْتُلُهُ.
قَالَ: أَتَدْرِي مَنْ أَنَا؟ أَنَا الشَّيْطَانُ، جِئْتَ أَوَّلَ مَرَّةٍ غَضَبًا للَّهِ فَلَمْ يَكُنْ لِي سَبِيلٌ فَخَدَعْتُكَ بِالدِّينَارَيْنِ فَتَرَكْتَهَا، فَلَمَّا جِئْتَ غَضَبًا لِلدِّينَارَيْنِ سلطت عليك." (1)
وعن سَالِمَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ::لَمَّا رَكِبَ نُوحٌ السَّفِينَةَ رَأَى فِيهَا شَيْخًا لَمْ يَعْرِفْهُ، قَالَ لَهُ نُوحٌ: مَا أَدْخَلَكَ؟ قَالَ: دَخَلْتُ لأُصِيبَ قُلُوبَ أَصْحَابِكَ فَتَكُونَ قُلُوبُهُمْ مَعِي، وَأَبْدَانُهُمْ مَعَكَ.
قَالَ نُوحٌ: اخْرُجْ يَا عَدُوَّ اللَّهِ.
فَقَالَ: خَمْسٌ أُهْلِكُ بِهِنَّ النَّاسَ، وَسَأُحَدِّثُكَ مِنْهُنَّ بِثَلاثٍ، وَلا أُحَدِّثُكَ بِاثْنَتَيْنِ، فَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ لا حَاجَةَ بِكَ إِلَى الثَّلاثِ، مُرْهُ يُحَدِّثُكَ بِالاثْنَتَيْنِ، فَإِنَّ بِهِمَا أَهْلَكَ النَّاسَ فَقَالَ
__________
(1) - مكائد الشيطان (ص:79) (60) والترغيب والترهيب لقوام السنة (1/ 126) (125) حسن مقطوع(1/231)
هُمَا: الْحَسَدُ (1)،وَبِالْحَسَدِ لُعِنْتُ، وَجُعِلْتُ شَيْطَانًا رَجِيمًا، وَالْحِرْصُ أَبَاحَ لآدَمَ الْجَنَّةَ كُلَّهَا فَأَصَبْتُ حَاجَتِي مِنْهُ بِالْحِرْصِ (2).
قَالَ: وَلَقِيَ إِبْلِيسُ مُوسَى فَقَالَ: يَا مُوسَى أَنْتَ الَّذِي اصْطَفَاكَ اللَّهُ بِرِسَالَتِهِ، وَكَلَّمَكَ تَكْلِيمًا، وَأَنَا مِنْ خَلْقِ اللَّهِ أَذْنَبْتُ، وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أَتُوبَ، فَاشْفَعْ لِي عِنْدَ رَبِّكَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَتُوبَ عَلَيَّ، فَدَعَا مُوسَى رَبَّهُ.
فَقِيلَ يَا مُوسَى قَدْ قَضَيْتُ حَاجَتَكَ، فَلَقِيَ مُوسَى إِبْلِيسَ، فَقَالَ: قَدْ أُمِرْتَ أَنْ تَسْجُدَ لِقَبْرِ آدَمَ وَيُتَابَ عَلَيْكَ، فَاسْتَكْبَرَ وَغَضِبَ، وَقَالَ: لَمْ أَسْجُدْ لَهُ حَيًّا، أَأَسْجُدُ لَهُ مَيِّتًا؟ ثُمَّ قَالَ إِبْلِيسُ: يَا مُوسَى إِنَّ لَكَ عَلَيَّ حَقًّا بِمَا شَفَعْتَ لِي رَبَّكَ، فَاذْكُرْنِي عِنْدَ ثَلاثٍ وَلا هَلاكَ إِلا فِيهِنَّ: اذْكُرْنِي حِينَ تَغْضَبُ فَإِنَّ وَحْيِي فِي قَلْبِكَ، وَعَيْنِي فِي عَيْنِكَ، وَأَجْرِي مِنْكَ مَجْرَى الدَّمِ.
اذْكُرْنِي حِينَ تَلْقَى الزَّحْفَ فَإِنِّي آتِي ابْنَ آدَمَ، حِينَ يَلْقَى الزَّحْفَ فَأُذَكِّرُهُ وَلَدَهُ وَزَوْجَتَهُ وَأَهْلَهُ حَتَّى يُوَلِّيَ.
وَإِيَّاكَ أَنْ تُجَالِسَ امْرَأَةً لَيْسَتْ بِذَاتِ مَحْرَمٍ، فَإِنِّي رَسُولُهَا إِلَيْكَ وَرَسُولُكَ إِلَيْهَا. (3)
وعَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ::لإِبْلِيسَ خَمْسَةٌ مِنْ وَلَدِهِ قَدْ جَعَلَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى شَيْءٍ مِنْ أَمْرِهِ ثُمَّ سَمَّاهُمْ فَذَكَرَ: ثَبْرَ، وَالأَعْوَرَ، وَمِسْوَطَ، وَدَاسِمَ، وَزَلَنْبُورَ.
فَأَمَّا ثَبْرُ فَهُوَ صَاحِبُ الْمُصِيبَاتِ الَّذِي يَأْمُرُ بِالثُّبُورِ، وَشَقِّ الْجُيُوبِ، وَلَطْمِ الْخُدُودِ، وَدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ.
وَأَمَّا الأَعْوَرُ فَهُوَ صَاحِبُ الزِّنَا الَّذِي يَأْمُرُ به ويزنيه.
__________
(1) - الحسد أن يرى الرجل لأخيه نعمة فيتمنى أن تزول عنه وتكون له دونه والغبطة أن يتمنى أن يكون له مثلها ولا يتمنى زوالها عنه والأول مذموم والثاني محمود وعليه قوله - صلى الله عليه وسلم -:"لا حسد إلا في اثنتين".
(2) - الحرص شدة الإرادة والشره إلى المطلوب وهو نوعان: حرص فاجع وحرص نافع فالأول حرص المرء على الدنيا وهو مشغول معذب بها فلا يفرغ من محبتها الثاني: حرصه على طاعة الله تعالى خوف أن تفوت.
(3) - مكائد الشيطان (ص:65) (44) وتلبيس إبليس (ص:28) ضعيف(1/232)
وَأَمَّا مِسْوَطُ هُوَ صَاحِبُ الْكَذِبِ الَّذِي يَسْمَعُ فَيَلْقَى الرَّجُلَ فَيُخْبِرُهُ بِالْخَبَرِ، فَيَذْهَبُ الرَّجُلُ إِلَى الْقَوْمِ فَيَقُولُ لَهُمْ: قَدْ رَأَيْتُ رَجُلا أَعْرِفُ وَجْهَهُ، وَمَا أَدْرِي مَا اسْمُهُ حَدَّثَنِي بِكَذَا وَكَذَا.
وَأَمَّا دَاسِمُ فَهُوَ الَّذِي يَدْخُلُ مَعَ الرَّجُلِ إِلَى أَهْلِهِ يُرِيهِ الْعَيْبَ فِيهِمْ وَيُغْضِبُهُ عَلَيْهِمْ.
وَأَمَّا زَلَنْبُورُ فَهُوَ صَاحِبُ السُّوقِ، الَّذِي يَرْكِزُ رَايَتَهُ فِي السُّوقِ. (1)
وليس بعيداً عنّا ما فعله الشيطان بيوسف وإخوته، وكيف أوغر صدور الإخوة على أخيهم، وقد قال يوسف: {وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [يوسف:100].
وَقَدْ أَكْرَمَنِي رَبِّي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ بَعْدَ أَنْ أَظَهَرَ بَرَاءَتِي، وَسَمَا بِي إَلَى عَرْشِ المُلْكِ، وَإِذْ جَاءَ بِكُمْ مِنَ البَادِيَّةِ حَيْثُ كُنْتُمْ تَعِيشُونَ عِيشَةَ الشَّظَفِ وَالخُشُونَةِ، فَاجْتَمَعَ شَمْلُنَا مِنْ جَدِيدٍ، بَعْدَ أَنْ أَفْسَدَ الشَّيْطَانُ الأَمْرَ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي، وَقَطَعَ مَا بَيْنَنَا مِنْ وَشَائِجِ الرَّحِمِ. وَإِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ، فَإِذَا قَضَى أمْراً وَأَرَادَهُ هَيَّأَ لَهُ أَسْبَابَهُ، وَقَدَّرَهُ وَيَسَّرَهُ، وَهُوَ العَلِيمُ بِمَصَالِحِ العِبَادِ، الحَكِيمُ فِي أَفْعَالِهِ وَقَضَائِهِ. (2)
17 - النساء وحب الدنيا:
أما فتنة النساء:
فقد أخبرنا الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنه ما ترك بعده فتنة أشد على الرجال من النساء، ولذلك أمرت المرأة بستر جسدها كله إلا الوجه والكفين (3)
،وأمر الرجال بغض أبصارهم، قال تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [النور:30]
__________
(1) - مكائد الشيطان (ص:54) (35) صحيح مقطوع، ولكن لا نستطيع الجزم به، وإنما سقناه للعبرة
(2) - أيسر التفاسير لأسعد حومد (ص:1697،بترقيم الشاملة آليا)
(3) - هناك خلاف طويل حول وجوب ستر الوجه، ولا خلاف في مشروعيته واستحبابه، وأوجبه بعض أهل العلم إذا خشيت المرأة الفتنة على نفسها(1/233)
يَأْمُرُ اللهُ عِبَادَه المُؤْمِنِيِنَ بِأَنْ يَغُضُوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ عَنِ النَّظَرِ إِلَى مَا حَرَّمَ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِم، فَإِذَا اتَّفَقَ أَنْ وَقَعَ البَصَرُ عَلَى مُحَرِّم عَلَيْهِمْ عَنْ غَيْرِ قَصْدٍ فَعَلى المُؤْمِن أَنْ يَصْرِفَ عَنْهُ بَصَرَهُ سَرِيعاً، كَمَا يَأَمُرُ اللهُ المُؤْمِنِينَ بِحِفْظِ فُرُوجِهم عَنِ الزِّنَى، وبِحِفْظِها مِنَ النَّظَرِ إِلَيْهَا، فَذَلِكَ أَطْهَرُ لِقُلُوبِهِمْ وَأَزَكَى لِدِيِنهِم. (1)
وأمر النساء بغض أبصارهن وحفظ فروجهن، قال تعالى: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور:31]
وَقُلْ يَا مُحَمَّدُ لِلمُؤْمِنَاتِ أَنْ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبَصَارِهِنَّ عَنِ النَّظَرِ إِلَى مَا لاَ يَحِلُّ لَهُنَّ النَّظَرُ إِلَيْهِ مِنْ عَوْرَاتِ الرِّجَالِ والنِّسَاءِ، وأَنْ يَغْضُضْنَ بَصَرَهُنَّ عَنِ النَّظَرِ إِلى الرِّجَالِ الأَجَانِبِ عَنْهُنَّ، لأَنَّهُ أَوَلى بِهِنَّ وَأَلْيَقُ، وَأَنْ يَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ عَنْ الفَوَاحِشِ، وَعَمَّا لاَ يَحِلُّ لَهُنَّ، وَعَنْ أن، يَراهُنَّ، أَحَدٌ، وَأَنْ لاَ يُظْهِرْنَ شَيئْاً مِنَ الزِّينَةِ للأَجَانِبِ إِلاَّ مَا لاَ يُمْكِنُ إِخْفَاؤُهُ كالرِّدَاءِ والثِّيَابِ والخلخَالِ (وَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ: الوَجْهِ والكَفَّيْنِ والخَاتَمِ)،وأَنْ يُلْقِينَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى فَتْحَاتِ ثِيَابِهِنَّ عِنْدَ الصُّدُورِ (جُيُوبِهِنَّ) لِيَسْتُرْنَ بِذَلِكَ شُعُورَهُنَّ وَأَعْنَاقُهُنَّ وَصُدُورَهُنَّ حَتَّى لاَ يُرى مِنْهَا شَيءٌ، وَأَنْ لاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ (كالسِّوارِ والخَاتَمِ والكُحْلِ والخِصَابِ ... ) إِلاَّ للأَزْوَاجِ وآبَاءِ الأَزْوَاجِ والإخْوَةِ وأَبْنَائِهِمْ، وَأبْنَاءِ الأَخَوَاتِ، وأَبْنَاءِ الأَزْوَاجِ، وَبَقِيةِ المَحَارِمِ الذينَ عَدَّدهُمْ اللهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الآيَةِ، أو لِلنِّسَاءِ المُسْلِمَاتِ (نِسَائِهِنَّ - وَقِيلَ إِنَّ نِسَاءَهُنَّ تَعْنِي النِّسَاءَ المَخْتَصَّاتِ بِصُحْبَتِهِنَّ وخِدْمَتِهِنَّ)،أو لِمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ مِنْ عَبِيدَ مُسْلِمِينَ (وَقِيلَ حَتَّى لِغَيْرِ المُسْلِمِينَ)،أو الأتْبَاعِ المُغَفَّلِينَ وَفِي عُقُولِهِمْ وَلَهٌ، وَلاَ يَشْتَهُونَ النِّسَاءَ (وَهُمْ التَّابِعُونَ غَيْرُ أوْلِي الإِرْبَةِ مِن
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد (ص:2703،بترقيم الشاملة آليا)(1/234)
الرِّجَالِ)،أو لِلأَطْفَالِ الصِّغَارِ الذين لاَ يَفْهَمُونَ أَحْوَالَ النِّسَاءِ وَعَوْرَاتِهِنَّ، أَمَّا إذَا كانَ الطِّفْلُ مُرَاهِقاً أَوْ قَرِيباً مِنْهُ، يَعْرِفُ ذَلِكَ وَيَدْرِيهِ، وَيُفَرِّقُ بَيْنَ الشَّوْهَاءِ والحَسْنَاءِ فَلاَ يُسْمَحُ لَهُ بالدُّخُولِ عَلَى النِّسَاءِ).
كَمَا أَمَرَهُنَّ بِأَنْ لاَ يَمْشِينَ فِي الطُّرُقَاتِ وَفِي أَرْجُلِهِنَّ الخَلاَخِيلُ فَيَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ الأَرْضَ ليُسمَعَ صَوْتُ مِشْيَتِهِنَّ، وَلِتَلْتَفِتَ الأَنْظَارُ إِلَيْهِنَّ، كَمَا كَانَتْ تَفْعَلُ نِسَاءُ الجَاهِلِيَّةِ.
وارْجِعُوا تَائِبينَ إِلَى طَاعَةِ اللهِ يا أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ، وافْعَلُوا مَا أَمَرَكُمْ بِهِ ربُّكُم مِنَ التَّخَلُّقِ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ الجَمِيلَةِ والأَخْلاقِ الحَمِيدَةِ، واتْرُكُوا مَا كَانَ عَلَيْهِ أهلُ الجَاهِلِيَّةِ مِنَ الصِّفَاتِ والأْخْلاقِ الذَّمِيمَةِ، فإِنَّ الفَلاَحَ فِي فِعْلِ ما أَمَرَ اللهَ وَرَسُولُه بِهِ، وَتَرْكِ مَا نَهَيا عَنْهُ. (1)
ونهى الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن الخلوة بالمرأة، فعَنْ أَبِي أُمَامَةَ، عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إِيَّاكُمْ وَالْخَلْوَةَ بِالنِّسَاءِ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، مَا خَلَا رَجُلٌ وَامْرَأَةٌ إِلَّا دَخَلَ الشَّيْطَانُ بَيْنَهُمَا، وَلَيَزْحَمُ رَجُلٌ خِنْزِيرًا مُتَلَطِّخًا بِطِينٍ، أَوْ حَمْأَةٍ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَزْحَمَ مَنْكِبِهِ مَنْكِبَ امْرَأَةٍ لَا تَحِلُّ لَهُ» (2)
وعَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: خَطَبَنَا عُمَرُ بِالْجَابِيَةِ، فَقَالَ: إِنِّي قُمْتُ فِيكُمْ كَمَقَامِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِينَا، فَقَالَ: «أُوصِيكُمْ بِأَصْحَابِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ يَفْشُو الْكَذِبُ حَتَّى يَحْلِفَ الرَّجُلُ وَلَا يُسْتَحْلَفُ، وَيَشْهَدَ وَلَا يُسْتَشْهَدُ، فَمَنْ أَرَادَ مِنْكُمْ بُحْبُوحَةَ الْجَنَّةِ فَلْيَلْزَمِ الْجَمَاعَةَ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ مَعَ الْوَاحِدِ وَهُوَ مِنَ الِاثْنَيْنِ أَبْعَدُ، أَلَا لَا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ إِلَّا كَانَ ثَالِثَهُمَا الشَّيْطَانُ - قَالَهَا ثَلَاثًا - وَعَلَيْكُمْ بِالْجَمَاعَةِ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ مَعَ الْوَاحِدِ وَهُوَ مِنَ الِاثْنَيْنِ أَبْعَدُ، أَلَا وَمَنْ سَرَّتْهُ حَسَنَتُهُ وَسَاءَتْهُ سَيِّئَتُهُ فَهُوَ مُؤْمِنٌ». (3)
__________
(1) -أيسر التفاسير لأسعد حومد (ص:2704،بترقيم الشاملة آليا)
(2) - المعجم الكبير للطبراني (8/ 205) (7830) حسن لغيره
(3) - المستدرك على الصحيحين للحاكم (1/ 197) (387) صحيح
يفشو: فشا الشيء إذا ظهر وانتشر.=بُحْبُوحَة: بحبوحة الجنة: وسطها، وبحبوحة كل شيء وسطه وخياره. جامع الأصول في أحاديث الرسول ط مكتبة الحلواني الأولى (6/ 670)(1/235)
وعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زِيَادِ بْنِ أَنْعُمَ قَالَ: بَيْنَمَا مُوسَى جَالِسٌ فِي بَعْضِ مَجَالِسِهِ إِذْ أَقْبَلَ إِبْلِيسُ وَعَلَيْهِ بُرْنُسٌ لَهُ يَتَلَوَّنُ فِيهِ أَلْوَانًا، فَلَمَّا دَنَا مِنْهُ خَلَعَ الْبُرْنُسَ فَوَضَعَهُ ثُمَّ أَتَاهُ فَقَالَ لَهُ: السَّلامُ عَلَيْكَ يَا مُوسَى.
قَالَ لَهُ مُوسَى: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: إِبْلِيسُ.
قَالَ: فَلا حَيَّاكَ اللَّهُ، مَا جَاءَ بِكَ؟ قَالَ: جِئْتُ لأُسَلِّمَ عَلَيْكَ لِمَنْزِلَتِكَ عِنْدَ اللَّهِ وَمَكَانَتِكَ مِنْهُ.
قَالَ: مَاذَا الَّذِي رَأَيْتُ عَلَيْكَ؟ قَالَ: بِهِ أَخْتَطِفُ قُلُوبَ بَنِي آدم.
قال: فماذا إذا صَنَعَهُ الإِنْسَانُ اسْتَحْوَذْتَ عَلَيْهِ؟ قَالَ: إِذَا أَعْجَبَتْهُ نَفْسُهُ وَاسْتَكْثَرَ عَمَلُهُ، وَنَسِيَ ذُنُوبَهُ، وَأُحَذِّرُكَ ثَلاثًا: لا تَخْلُ بِامْرَأَةٍ لا تَحِلُّ لَكَ، فَإِنَّهُ مَا خَلا رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ لا تَحِلُّ لَهُ إِلا كُنْتَ صَاحِبَهُ دُونَ أَصْحَابِي، حَتَّى أَفْتِنَهُ بِهَا، وَلا تُعَاهِدِ اللَّهَ عَهْدًا إِلا وَفَّيْتَ بِه، فَإِنَّهُ مَا عَاهَد اللَّهَ أَحَدٌ عَهْدًا إِلا وَكُنْتُ صَاحِبَهُ حَتَّى أَحُولَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْوَفَاءِ بِهِ، وَلا تُخْرِجَنَّ صَدَقَةً إِلا أَمْضَيْتَهَا فَإِنَّهُ مَا أَخْرَجَ رَجُلٌ صَدَقَةٌ فَلَمْ يُمْضِهَا إِلا كُنْتُ دُونَ أَصْحَابِي حَتَّى أَحُولَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْوَفَاءِ بِهَا.
ثُمَّ وَلَّى وَهُوَ يَقُولُ: يَا وَيْلَهُ ثَلاثًا، عَلِمَ مُوسَى مَا يُحَذِّرُ بِهِ بَنِي آدَمَ." (1)
ونحن اليوم نشاهد عظم فتنة خروج النساء كما وصفهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - كاسيات عاريات، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «صِنْفَانِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ لَمْ أَرَهُمَا، قَوْمٌ مَعَهُمْ سِيَاطٌ كَأَذْنَابِ الْبَقَرِ يَضْرِبُونَ بِهَا النَّاسَ، وَنِسَاءٌ كَاسِيَاتٌ عَارِيَاتٌ مُمِيلَاتٌ مَائِلَاتٌ، رُءُوسُهُنَّ كَأَسْنِمَةِ الْبُخْتِ الْمَائِلَةِ، لَا يَدْخُلْنَ الْجَنَّةَ، وَلَا يَجِدْنَ رِيحَهَا، وَإِنَّ رِيحَهَا لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ كَذَا وَكَذَا» (2)
__________
(1) - مكائد الشيطان (ص:71) (47) فيه ضعف
(2) - صحيح مسلم (3/ 1680) 125 - (2128)
[ش (صنفان الخ) هذا الحديث من معجزات النبوة فقد وقع هذان الصنفان وهما موجودان وفيه ذم هذين الصنفين (كاسيات عاريات) قيل معناه تستر بعض بدنها وتكشف بعضه إظهارا لجمالها ونحوه وقيل معناه تلبس ثوبا رقيقا يصف لون بدنها (مميلات) قيل يعلمن غيرهن الميل وقيل مميلات لأكتافهن (مائلات) أي يمشين متبخترات وقيل مائلات يمشين المشية المائلة وهي مشية البغايا ومميلات يمشين غيرهن تلك المشية
(البخت) قال في اللسان البخت والبخيتة دخيل في العربية أعجمي معرب وهي الإبل الخراسانية تنتج من بين عربية وفالج (والفالج البعير ذو السنامين وهو الذي بين البختي والعربي سمي بذلك لأن سنامه نصفان) الواحد بختي جمل بختي وناقة بختية ومعنى رؤسهن كأسنمة البخت أي يكبرنها ويعظمنها بلف عمامة أو عصابة أو نحوها](1/236)
وعن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، قالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «سَيَكُونُ فِي آخِرِ أُمَّتِي رِجَالٌ يَرْكَبُونَ عَلَى سُرُوجٍ كَأَشْبَاهِ الرِّحالِ، يَنْزِلُونَ عَلَى أَبْوَابِ الْمَسَاجِدِ، نِسَاؤُهُمْ كَاسِيَاتٌ عَارِيَاتٌ، عَلَى رُءُوسِهِنَّ كَأَسْنِمَةِ الْبُخْتِ الْعِجَافِ الْعَنُوهُنَّ فَإِنَّهُنَّ مَلْعُونَاتٌ، لَوْ كَانَ وَرَاءَكُمْ أُمَّةٌ مِنَ الْأُمَمِ خَدَمَهُنَّ نِسَاؤُكُمْ، كَمَا خَدَمَكُمْ نِسَاءُ الْأُمَمِ قَبْلَكُمْ» (1)
وعَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -:" مَا تَرَكْتُ بَعْدِي فِتْنَةً هِيَ أَضَرُّ عَلَى الرِّجَالِ مِنَ النِّسَاءِ ". (2)
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «الْمَرْأَةُ عَوْرَةٌ، وَإِنَّهَا إِذَا خَرَجَتِ اسْتَشْرَفَهَا الشَّيْطَانُ، وَإِنَّهَا لَا تَكُونُ إِلَى وَجْهِ اللَّهِ أَقْرَبَ مِنْهَا فِي قَعْرِ بَيْتِهَا» (3)
وعَنِ أَبِي الأَحْوَصِ، قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللهِ: احْبِسُوا النِّسَاءَ فِي الْبُيُوتِ فَإِنَّ النِّسَاءَ عَوْرَةٌ وَإِنَّ الْمَرْأَةَ إذَا خَرَجَتْ مِنْ بَيْتِهَا اسْتَشْرَفَهَا الشَّيْطَانُ وَقَال لَهَا: إنَّك لاَ تَمُرِّينَ بِأَحَدٍ إلاَّ أُعْجِبَ بِك. (4)
وعن الْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ قَالَ::سَمِعْتُ أَنَّ الشَّيْطَانَ قَالَ لِلْمَرْأَةِ: أَنْتِ نِصْفُ جُنْدِي، وَأَنْتِ سهمي الذي أرمي به فلا أخطأ، وَأَنْتِ مَوْضِعُ سِرِّي وَأَنْتِ رَسُولِي فِي حَاجَتِي." (5)
__________
(1) - صحيح ابن حبان - مخرجا (13/ 64) (5753) ومسند أحمد (عالم الكتب) (2/ 722) (7083) حسن
وقوله:"كأشباه الرحال" بالحاء المهملة، جمع رحْل، وهو للبعير كالسرج للفرس، قوله: «كاسيات عاريات»،وصف للنساء، وقيل في معناه: إنهن كاسيات من نعم الله، عاريات من الشكر، وقيل: هو أن يكشفن بعض جسدهن ويسدلن الخُمر من ورائهن؛ فهن كاسيات كعاريات. وقيل: أراد أنهن يلبسن ثيابًا رقاقًا يصفْنَ ما تحتها من أجسامهن؛ فهن كاسيات في الظاهر، عاريات في المعنى."النهاية" لابن الأثير (4/ 317).
(2) - شرح مشكل الآثار (11/ 99) (4322) وأخرجه الجماعة المسند الجامع (1/ 140) (160)
(3) - صحيح ابن حبان - مخرجا (12/ 412) (5598) صحيح
(4) - مصنف ابن أبي شيبة -دار القبلة (9/ 501) (18006) صحيح موقوف
(5) - مكائد الشيطان (ص:59) (37) صحيح مقطوع(1/237)
وعَنْ جَابِرٍ، قَالَ: بَيْنَمَا النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - جَالِسٌ مَعَ أَصْحَابِهِ إِذْ مَرَّتْ بِهِ امْرَأَةٌ، فَأَعْجَبَتْهُ، فَقَامَ فَدَخَلَ الْبَيْتَ، فَقَضَى حَاجَتَهُ، ثُمَّ خَرَجَ، فَقَالَ:" إِذَا رَأَى أَحَدُكُمْ مِثْلَ هَذَا فَلْيَأْتِ أَهْلَهُ؛ فَإِنَّ الْمَرْأَةَ تُقْبِلُ فِي صُورَةِ الشَّيْطَانِ، وَتُوَلِّي فِي صُورَةِ الشَّيْطَانِ " (1)
وَلَا رَيْبَ أَنَّ تَمْكِينَ النِّسَاءِ مِنْ اخْتِلَاطِهِنَّ بِالرِّجَالِ: أَصْلُ كُلِّ بَلِيَّةٍ وَشَرٍّ، وَهُوَ مِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ نُزُولِ الْعُقُوبَاتِ الْعَامَّةِ، كَمَا أَنَّهُ مِنْ أَسْبَابِ فَسَادِ أُمُورِ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ، وَاخْتِلَاطُ الرِّجَالِ بِالنِّسَاءِ سَبَبٌ لِكَثْرَةِ الْفَوَاحِشِ وَالزِّنَا، وَهُوَ مِنْ أَسْبَابِ الْمَوْتِ الْعَامِّ، وَالطَّوَاعِينِ الْمُتَّصِلَةِ. (2)
وقد قامت مؤسسات في الشرق والغرب تستخدم جيوشاً من النساء والرجال لترويج الفاحشة بالصورة المرئية، والقصة الخليعة، والأفلام التي تحكي الفاحشة وتدعو لها!
أما حبّ الدنيا فهو رأس كل خطيئة، وما سفكت الدماء، وهتكت الأعراض، وغصبت الأموال، وقطعت الأرحام، ... إلا لأجل حيازة الدنيا، والصراع على حطامها الفاني، وحرصاً على متعها الزائدة.
وأما حب الدنيا
فقد ورد ذمه في القرآن والسنَّة، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [لقمان:33]
يُحَذِّرُ اللهُ تَعالَى النَّاسَ مِنْ أَهوالِ يومِ القِيَامَةِ، وَيَأْمُرُهُمْ بِتَقْوَاهُ لِينُقِذُوا أَنفُسَهُمْ مِنْ أَهْوَالِهِ، فَهُوَ يومٌ لا يستَطِيعُ فِيهِ أحدٌ نَفْعَ أحدٍ، فَلا الوَالِدُ يستَطيعُ أنْ يَفْدِيَ ابنَهُ، وَلا المَولُودُ يَستَطِيعُ أَنْ يَفْدِيَ وَالِدَهُ، أَوْ أَنْ يَنْفَعَهُ بشيءٍ، أَوْ أَنْ يَحْمِلَ مِنْ ذُنُوبِهِ شَيئاً، وَلاَ يَنْفَعُ الإِنسانَ فِي ذَلِكَ اليومِ إِلا إِيمَانُهُ برَبِّهِ، وإِخلاصُهُ العِبَادَة لَهُ، وَعَمَلُهُ الصَّالِحُ. ثُمَّ يأمرُ اللهُ تَعَالى العِبَادَ بِأَلاَّ تُلْهِيَهُمُ الحَيَاةُ الدُّنيا بِزُخْرُفِها، وَزِينَتِهَا، وَمَتَاعِهَا، عَنِ العَمَلِ النَّافِعِ لِيَومِ
__________
(1) - معرفة الصحابة لأبي نعيم (4/ 1794) (4544) صحيح
قضى حاجته: المراد معاشرة وجماع النساء =وَلّى الشيءُ وتَولّى: إذا ذَهَب هاربا ومُدْبراً، وتَولّى عنه، إذا أعْرَض
(2) - الطرق الحكمية (ص:239)(1/238)
القِيَامَةِ، وَيومُ القِيَامةِ هوَ وعدٌ حَقٌّ مِنَ اللهِ، واللهُ لا يُخْلِفُ وَعْدَهُ أَبَداً. كَمَا يَأْمُرُهُمْ بأَلاّ يَغُرَّهُمُ الشَّيْطَانُ فَيَحْمِلَهُمْ على المَعَاصي بِتَزْيِينِها لَهُمْ. (1)
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (5) إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ (6)} [فاطر:5 - 6]
يَا أَيُّها النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللهِ بِالبَعْثِ وَالنُّشُورِ وَالحِسَابِ وَالجَزَاء .. هُوَ وَعْدٌ حَقٌّ لاَ شَكَّ فِيهِ وَلاَ مِرْيَة، فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الحَيَاةُ الدُّنيا، وَلاَ تُلْهِيَنَّكُمْ بِزُخْرُفِها وَزينتِها، عَنْ طَلَبِ مَا يَنْفَعُكُمْ يَوْمَ حُلُولِ مَوْعِدِ الحَشْرِ، وَبَعْثِ الخَلائِقِ، وَلاَ تَدَعُوا الشَّيطَانَ يَغُرَّكُمْ، وَيَفْتِنْكُمْ، وَيَصرِفْكُمْ عَن اتِّبَاعِ رُسُلِ اللهِ، وَتَصْدِيقِ كَلِمَاتِهِ، فَإِنهُ غَرَّارٌ كَذَّابٌ فَلاَ تَغُرَّنَّكُمْ - فَلاَ تَخْدَعَنَّكُمْ وَلاَ تُلْهِيَنَّكُمْ.
إن الشَّيطَانَ عَدُوٌّ لَكُمْ يَا أَيَّها النَّاسُ، وَهُوَ يُوَسْوِسُ لَكُمْ لِيُضِلَّكُمْ وَيَدْفَعَ بِكُمْ إِلى هَاوِيةِ الجَحِيمِ، فَاحْذَرُوا مِنْهُ وَكُونُوا أَنْتُمْ أَعْدَاءَهُ، وَخَالِفُوهُ وَكَذِّبُوهُ فِيما يَغُرَّكُمْ بِهِ، وَهُوَ يَدْعُو حِزْبَهُ وَأَوْليَاءَهُ وَشِيعَتَهُ، إِلى اتِّبَاعِ الهَوى، والرُّكُونِ إِلى اللذَّاتِ، وَالتَّسْوِيفِ بِالتَّوْبَةِ، لِيُضِلهُمْ وَيُلْقِيَهمْ فِي العَذَابِ الدَّائِمِ، فِي سَعيرِ جَهَنَّمَ. (2)
وبين مثل الحياة الدنيا بسرعة زوالها، فقال تعالى: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [يونس:24]
ضَرَبَ اللهُ تَعَالَى مَثَلاً لِلْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي جَمَالِهَا وَبَهْجَتِهَا، ثُمَّ فِي سُرْعَةِ فَنَائِهَا، بِالنَّبَاتِ الذِي أَخْرَجَهُ اللهُ تَعَالَى مِنَ الأَرْضِ بِمَا أَنْزَلَهُ عَلَيْهَا مِنَ المَطَرِ، مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ مِنْ زُرُوعٍ وَثِمَارٍ عَلَى اخْتِلاَفِ أَنْوَاعِهَا وَأَصْنَافِهَا، وَمِمَّا تَأْكُلُ الحَيَوَانَاتُ (الأَنْعَامُ) حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الأَرْضُ زِينَتَهَا الفَانِيَةَ (زُخْرُفَها) وَازَّيَّنَتْ بِمَا خَرَجَ فِي رُبَاهَا مِنْ زُهُورٍ نَضِرَةٍ
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد (ص:3383، بترقيم الشاملة آليا)
(2) - أيسر التفاسير لأسعد حومد (ص:3546، بترقيم الشاملة آليا)(1/239)
مُخْتَلِفَةِ الأَشْكَالِ وَالأَلْوَانِ، كَمَا تَتَزَيَّنُ العَرُوسُ لَيْلَةَ زَفَافِهَا، وَظَنَّ أَهْلُهَا، الذِينَ زَرَعُوهَا وَغَرَسُوهَا، أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَى جَزَازِهَا وَحَصَادِهَا، وَجَنْيِ ثِمَارِهَا، وَالتَّمَتُّعِ بِهَا، فَبَيْنَمَا هُمْ يَأْمُلُونَ ذَلِكَ إِذْ جَاءَتْهَا صَاعِقَةٌ، أَوْ رِيحٌ شَدِيدَةٌ بَارِدَةٌ فَأَيْبَسَتْ أَوْرَاقَها، وَأَتْلَفَتْ ثِمَارَها، فَأَصْبَحَتْ كَأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ حِيناً قَبْلَ ذَلِكَ، وَهَكَذا يُبَيَّنُ اللهُ الحُجَجَ وَالآيَاتِ، لِقَومٍ يَتَفَكَّرُونَ، فَيَعْتَبِرُونَ بِهَذَا المَثَلِ، فِي زَوَالِ الدُّنْيَا عَنْ أَهْلِهَا سَرِيعاً، مَعَ اغْتِرَارِهِمْ بِهَا. (1)
وبين مواد الخداع فيها حيث قال تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14) قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (15)} [آل عمران: 14، 15]
يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى أنَّهُ فَطَرَ النَّاسَ عَلَى حُبِّ الشَّهَواتِ فِي هَذِهِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا، مِنْ أنْواعٍ المَلَذَّاتِ مِنَ النِّسِاءِ وَالبَنِينَ، وَالأَمْوَالِ وَالخَيْلِ وَالأنْعَامِ وَالحَرْث، وَهِيَ زَهْرَةُ الحَيَاةِ الدُّنيا الفَانِيَةِ، وَزِينَتُهَا الزَّائِلَةُ، وَهِيَ لاَ تُقَاسُ بِمَا ادَّخَرَهُ اللهُ لِعِبَادِهِ المُؤْمِنينَ الصَّالِحِينَ فِي الآخِرَةِ، وَعِنْدَ اللهِ حُسْنُ المَرْجِعِ، وَعِنْدَهُ حُسْنُ الثَّواب.
قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِلنَّاسِ أتُرِيدُونَ أنْ أُخْبِرَكُمْ بِخَيْرٍ مِمّا زُيِّنَ للنَّاسِ فِي الحَيَاةِ الدُّنيا مِنْ نَعِيمِها الزَّائِلِ؟ هُوَ مَا أعَدَّهُ اللهُ تَعَالَى لِلْمُتَّقِينَ مِنْ عِبَادِهِ، الذِينَ أخْبَتُوا إلى رَبِّهِمْ وَأنَابُوا إليهِ، مِنْ جَنَّاتٍ تَتَفَجَّرُ فِي أرْضِها الأنْهَارُ، مُخَلَّدِينَ فِيها لا تَزُولُ عَنْهُمْ أبداً، وَلاَ يَبْغُونَ عَنْهَا تَحَوُّلاً، وَلَهُمْ فِيها أزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ مِنَ الدَّنَسِ وَالخُبْثِ وَالكَيْدِ وَسُوءِ الخُلُقِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمّا يَعْتَرِي النِّسَاءَ. وَيَغْمُرُهُمْ رِضْوَانُ اللهِ فَلاَ يَسْخَطُ عَلَيهِمْ رَبُّهُمْ أبداً، وَاللهُ بَصِيرٌ بِالعِبَادِ، يُعْطِي كُلَّ وَاحِدٍ بِحَسَبِ مَا يَسْتَحِقُّ مِنَ العَطَاءِ. (2)
وعَنِ الْحَسَنِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «حُبُّ الدُّنْيَا رَأْسُ كُلِّ خَطِيئَةٍ» (3)
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد (ص: 1389، بترقيم الشاملة آليا)
(2) - أيسر التفاسير لأسعد حومد (ص: 308، بترقيم الشاملة آليا)
(3) - الزهد لابن أبي الدنيا (ص: 27) (9) صحيح مرسل(1/240)
وعَنْ مَالِكِ بْنِ دِينَارٍ، قَالَ: «حُبُّ الدُّنْيَا رَأْسُ كُلِّ خَطِيئَةٍ، وَالنِّسَاءُ حِبَالَةُ الشَّيْطَانِ، وَالْخَمْرُ دَاعِيَةُ كُلِّ شَرٍّ» (1)
وحذر الرسول - صلى الله عليه وسلم - من فتنتها وخداعها، فعَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، أَنَّ المِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ، أَخْبَرَهُ أَنَّ عَمْرَو بْنَ عَوْفٍ، وَهُوَ حَلِيفٌ لِبَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ، وَكَانَ شَهِدَ بَدْرًا مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: بَعَثَ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الجَرَّاحِ إِلَى البَحْرَيْنِ يَأْتِي بِجِزْيَتِهَا، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - هُوَ صَالَحَ أَهْلَ البَحْرَيْنِ وَأَمَّرَ عَلَيْهِمُ العَلاَءَ بْنَ الحَضْرَمِيِّ، فَقَدِمَ أَبُو عُبَيْدَةَ بِمَالٍ مِنَ البَحْرَيْنِ، فَسَمِعَتِ الأَنْصَارُ بِقُدُومِ أَبِي عُبَيْدَةَ، فَوَافَوْا صَلاَةَ الفَجْرِ مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فَلَمَّا انْصَرَفَ تَعَرَّضُوا لَهُ، فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حِينَ رَآهُمْ، ثُمَّ قَالَ: «أَظُنُّكُمْ سَمِعْتُمْ أَنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ قَدِمَ بِشَيْءٍ» قَالُوا: أَجَلْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: «فَأَبْشِرُوا وَأَمِّلُوا مَا يَسُرُّكُمْ، فَوَاللَّهِ مَا الفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ، وَلَكِنِّي أَخْشَى أَنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا، وَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ» (2)
وعَنْ كَعْبِ بْنِ عِيَاضٍ، عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ: " لِكُلِّ أُمَّةٍ فِتْنَةٌ، وَفِتْنَةُ أُمَّتِي الْمَالُ " (3)
وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ: «إِنَ الدُّنْيَا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ، وَإِنَّ اللَّهَ مُسْتَخْلِفَكُمْ فِيهَا، فَيَنْظُرُ كَيْفَ تَعْمَلُونَ؟ فَاتَّقُوا فِتْنَةَ الدُّنْيَا، وَفِتْنَةَ النِّسَاءِ، فَإِنَّ فِتْنَةَ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَتْ فِي النِّسَاءِ» (4)
__________
(1) - الزهد لابن أبي الدنيا (ص: 212) (497)
(2) - صحيح البخاري (5/ 85) (4015) وصحيح مسلم (4/ 2273) 6 - (2961)
(3) - شرح مشكل الآثار (11/ 101) (4325) صحيح
قَالَ الطحاوي: فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ فِتْنَةَ أُمَّتِهِ الْمَالُ، فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ فِتْنَةُ النِّسَاءِ أَعْظَمَ مِنْ ذَلِكَ؟ فَكَانَ جَوَابَنَا لَهُ فِي ذَلِكَ: أَنَّ قَوْلَهُ - صلى الله عليه وسلم -: " مَا تَرَكْتُ بَعْدِي فِتْنَةً أَضَرَّ عَلَى الرِّجَالِ مِنْ فِتْنَةِ النِّسَاءِ " هُوَ عَلَى الْفِتْنَةِ الَّتِي تَلْحَقُ الرِّجَالَ دُونَ النِّسَاءِ، وَفِي ذَلِكَ مَا قَدْ دَلَّ أَنَّهُ تَرَكَ - صلى الله عليه وسلم - فِي أُمَّتِهِ فِتَنًا سِوَى النِّسَاءِ، وَكَانَ قَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم -: " فِتْنَةُ أُمَّتِي الْمَالُ " عَلَى فِتْنَةٍ تَعُمُّ الرِّجَالَ وَالنِّسَاءَ مِنْ أُمَّتِهِ، فَكَانَتْ تِلْكَ الْفِتْنَةُ أَوْسَعَ وَأَكْثَرَ أَهْلًا مِنَ الْفِتْنَةِ الْأُخْرَى، وَكُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا فَأَهْلُهَا الْأَهْلُ الَّذِينَ قَدْ دَلَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ عَلَيْهِمْ مَنْ هُمْ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ تَحْذِيرِهِ مِنْ فِتْنَةِ الدُّنْيَا وَمِنْ فِتْنَةِ النِّسَاءِ.
(4) - مستخرج أبي عوانة (3/ 15) (4027) صحيح - خضرة: غضَّة ناعِمَة طريَّة نضرة كالثمرة الطيبة(1/241)
وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: " إِنَّ الدُّنْيَا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ، وَإِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ مُسْتَخْلِفُكُمْ فِيهَا، فَيَنْظُرُ كَيْفَ تَعْمَلُونَ، فَاتَّقُوا فِتْنَةَ الدُّنْيَا وَفِتْنَةَ النِّسَاءِ، فَإِنَّ أَوَّلَ فِتْنَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِالنِّسَاءِ " (1)
بل تعوذ النبي - صلى الله عليه وسلم - من فتنة الدنيا، فعَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: تَعَوَّذُوا بِكَلِمَاتٍ كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَتَعَوَّذُ بِهِنَّ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الجُبْنِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ البُخْلِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ أَنْ أُرَدَّ إِلَى أَرْذَلِ العُمُرِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الدُّنْيَا، وَعَذَابِ القَبْرِ» (2)
وعَنْ ثَابِتٍ قَالَ: لَمَّا بُعِثَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - جَعَلَ إِبْلِيسُ لَعَنَهُ اللَّهُ يُرْسِلُ شَيَاطِينَهُ إِلَى أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فجيئون إِلَيْهِ بِصُحُفِهِمْ لَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ، فَيَقُولُ لَهُمْ: مَا لَكُمْ لا تُصِيبُونَ مِنْهُمْ شَيْئًا؟ فَقَالُوا: مَا صَحِبْنَا قَوْمًا مِثْلَ هَؤُلاءِ. فَقَالَ: رُوَيْدًا بِهِمْ، فَعَسَى أَنْ تُفْتَحَ لَهُمُ الدُّنْيَا، هُنَالِكَ تُصِيبُونَ حَاجَتَكُمْ مِنْهُمْ. (3)
ولم تتكالب أمم الأرض على المسلمين إلا بسبب حب الدنيا وكراهية الموت، فعَنْ ثَوْبَانَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «يُوشِكُ الْأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ كَمَا تَدَاعَى الْأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا»، فَقَالَ قَائِلٌ: وَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: «بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ، وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ، وَلَيَنْزَعَنَّ اللَّهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمُ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ، وَلَيَقْذِفَنَّ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمُ الْوَهْنَ»، فَقَالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا الْوَهْنُ؟ قَالَ: «حُبُّ الدُّنْيَا، وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ» (4)
وعَنْ ثَوْبَانَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «يُوشِكُ الْأُمَمُ أَنْ تَتَدَاعَى عَلَيْكُمْ كَمَا تَتَدَاعَى عَلَى الْقَصْعَةِ أَكَلَتُهَا». قِيلَ: أَوَ مِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: «لَا بَلْ أَنْتُمْ أَكْثَرُ وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ , وَلَيَنْزَعَنَّ اللَّهُ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ , وَلَيَقْذِفَنَّ فِي قُلُوبِكُمُ الْوَهْنَ» , قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الْوَهْنُ؟ قَالَ: «حُبُّ الدُّنْيَا وَكَرَاهِيَةُ الْآخِرَةِ» (5)
__________
(1) - شرح مشكل الآثار (11/ 102) (4326) صحيح
(2) - صحيح البخاري (8/ 80) (6374)
(3) - مكائد الشيطان (ص: 60) (39) صحيح مقطوع
(4) - سنن أبي داود (4/ 111) (4297) صحيح
تداعى: التداعي: التتابع، أي: يدعو بعضها بعضا فتجيب. =الأكلة: جمع آكل. =غثاء: الغثاء: ما يلقيه السيل.
(5) - مسند الشاميين للطبراني (1/ 344) (600) صحيح(1/242)
18 - الغناء والموسيقى:
الغناء والموسيقى طريقان يفسد الشيطان بهما القلوب، ويخرب النفوس، يقول ابن القيم: " ومن مكايد عدو الله ومصايده، التى كاد بها من قل نصيبه من العلم والعقل والدين، وصاد بها قلوب الجاهلين والمبطلين، سماع المكاء، والتصدية، والغناء بالآلات المحرمة، الذى يصد القلوب عن القرآن، ويجعلها عاكفة على الفسوق والعصيان، فهو قرآن الشيطان، والحجاب الكثيف عن الرحمن، وهو رقية اللواط والزنا، وبه ينال العاشق الفاسق من معشوقة غاية المنى، كاد به الشيطان النفوس المبطلة، وحسنه لها مكراً منه وغروراً، وأوحى إليها الشبه الباطلة على حسنه فقبلت وحيه واتخذت لأجله القرآن مهجوراً، فلو رأيتهم عند ذياك السماع وقد خشعت منهم الأصوات، وهدأت منهم الحركات، وعكفت قلوبهم بكليتها عليه، وانصبت انصبابة واحدة إليه، فتمايلوا له ولا كتمايل النشوان، وتكسروا فى حركاتهم ورقصهم، أرأيت تكسر المخانيث والنسوان؟ ويحق لهم ذلك، وقد خالط خمارة النفوس، ففعل فيها أعظم ما تفعله حُمَّيه الكؤوس، فلغير الله، بل الشيطان، قلوب هناك تمزق، وأثواب تشقق، وأموال فى غير طاعة الله تنفق، حتى إذا عمل السكر فيهم عمله، وبلغ الشيطان منهم أمنيته وأمله، واستفزهم بصوته وحيله، وأجلب عليهم برجله وخيله، وخَزَ فى صدورهم وخزاً. وأزَّهم إلى ضرب الأرض بالأقدام أزا، فطورا يجعلهم كالحمير حول المدار، وتارة كالذباب ترقص وسُيَطْ الديار. فيا رحمتا للسقوف والأرض من دك تلك الأقدام، ويا سوأتا من أشباه الحمير والأنعام، وياشماتة أعداء الإسلام، بالذين يزعمون أنهم خواص الإسلام قضوا حياتهم لذة وطرباً، واتخذوا دينهم لهواً ولعباً، مزامير الشيطان أحب إليهم من استماع سور القرآن، لو سمع أحدهم القرآن من أوله إلى آخره لما حرك له ساكناً، ولا أزعج له قاطنا، ولا أثار فيه وجداً، ولا قدح فيه من لواعج الشوق إلى الله زنداً، حتى إذا تلي عليه قرآن الشيطان، وولج مزمور سمعه، تفجرت ينابيع الوجد من قلبه على عينه فجرت، وعلى أقدامه فرقصت، وعلى يديه فصفقت، وعلى سائر أعضائه فاهتزت وطربت، وعلى أنفاسه فتصاعدت، وعلى زفراته فتزايدت، وعلى نيران أشواقه فاشتعلت، فيا أيها الفاتن(1/243)
المفتون، والبائع حظه من الله بنصيبه من الشيطان صفقة خاسر مغبون، هلا كانت هذه الأشجان، عند سماع القرآن؟ وهذه الأذواق والمواجيد، عند قراءة القرآن المجيد؟ وهذه الأحوال السنيات، عند تلاوة السور والآيات؟ ولكن كل امرئ يصبو إلى ما يناسبه، ويميل إلى ما يشاكله، والجنسية علة الضم قدراً وشرعاً، والمشاكلة سبب الميل عقلاً وطبعاً، فمن هذا أين الإخاء والنسب؟ لولا التعلق من الشيطان بأقوى سبب، ومن أين هذه المصالحة التى أوقعت فى عقد الإيمان وعهد الرحمن خللاً؟
{أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُريتَهُ أَوْلِياَءَ مِنْ دُونِى وَهُمْ لكُمْ عَدُو بِئْسَ لِلظّالمِينَ بَدَلا} [الكهف: 50].
ولقد أحسن القائل:
تُلِيَ الْكِتَابُ فَأَطْرَقُوا لَا خِيفَةً ... لَكِنَّهُ إِطْرَاقُ سَاهٍ لَاهِي
وَأَتَى الْغِنَاءُ فَكَالَذُّبَابِ تَرَاقَصُوا ... وَاللَّهِ مَا رَقَصُوا مِنْ أَجْلِ اللَّهِ
دُفٌّ وَمِزْمَارٌ وَنَغْمَةُ شَاهِدٍ ... فَمَتَى شَهِدْتَ عِبَادَةً بِمَلَاهِي
ثَقُلَ الْكِتَابُ عَلَيْهِمُ لَمَّا رَأَوْا ... تَقْيِيدَهُ بِأَوَامِرٍ وَنَوَاهِي
وَعَلَيْهِمُ خَفَّ الْغِنَا لَمَّا رَأَوْا ... إِطْلَاقَهُ فِي اللَّهْوِ دُونَ مَنَاهِي
يَا فِرْقَةً مَا ضَرَّ دِينَ مُحَمَّدٍ ... وَجَنَى عَلَيْهِ وَمَلَّهُ إِلَّا هِي
سَمِعُوا لَهُ رَعْدًا وَبَرْقًا إِذْ حَوَى ... زَجْرًا وَتَخْوِيفًا بِفِعْلِ مَنَاهِي
وَرَأَوْهُ أَعْظَمَ قَاطِعٍ لِلنَّفْسِ عَنْ ... شَهَوَاتِهَا يَا وَيْحَهَا الْمُتَنَاهِي
وَأَتَى السَّمَاعُ مُوَافِقًا أَغْرَاضَهَا ... فَلِأَجْلِ ذَاكَ غَدًا عَظِيمَ الْجَاهِ
أَيْنَ الْمُسَاعِدُ لِلْهَوَى مِنْ قَاطَعٍ ... أَسْبَابَهُ عِنْدَ الْجَهُولِ السَّاهِي
إِنْ لَمْ يَكُنْ خَمْرَ الْجُسُومِ فَإِنَّهُ ... خَمْرُ الْعُقُولِ مُمَاثِلٌ وَمُضَاهِي
فَانْظُرْ إِلَى النَّشْوَانِ عِنْدَ شَرَابِهِ ... وَانْظُرْ إِلَى النَّشْوَانِ عِنْدَ تَلَاهِي
وَانْظُرْ إِلَى تَمْزِيقِ ذَا أَثْوَابَهُ ... مِنْ بَعْدِ تَمْزِيقِ الْفُؤَادِ اللَّاهِي
فَاحْكُمْ بِأَيِّ الْخَمْرَتَيْنِ أَحَقُّ بِال ... تَّحْرِيمِ وَالتَّأْثِيمِ عِنْدَ اللَّهِ
وقال آخر:
برِئْنَا إِلَى اللهِ منْ مِعْشَرٍ ... يهِمْ مَرَضٌ مِنْ سَمَاعِ الغِنَا(1/244)
وكم قلْتُ يَاقَوْمُ، أَنْتُمْ عَلَى ... شَفَا جُرُفٍ مَابِهِ مِنْ بِنَا
شَفَا جُرُفٍ تحْتَهُ هُوَّة ... إِلى دَرَكٍ، كم بِهِ مِنْ عَنا
وتَكْرَارُ النُّصْحِ مِنا لهم ... لنُعْذِرَ فِيهِمْ إِلى ربَّنا
فَلمَّا اسْتَّهانُوا بَتَنْبِيهنا ... رَجَعْنَا إِلى اللهِ فى أَمْرِنا
فعِشْنَا عَلَى سُنَّةِ المُصْطَفَى ... وَمَاتوُا عَلَى تِنْتِنَا تِنْتِنا
ولم يزل أنصار الإسلام وأئمة الهدى، تصيح بهؤلاء من أقطار الأرض، وتحذر من سلوك سبيلهم، واقتفاء آثارهم من، جميع طوائف الملة. " .... (1)
ومن عجب أن بعض الناس، الذين يدّعون التعبد، يتخذون الغناء والرقص والتمايل طريقاً للتعبد، يتركون السماع الرحماني، ويذهبون إلى السماع الشيطاني، وقد عدّ ابن القيم رحمه الله لهذا السماع بضعة عشر اسماً: اللهو، واللغو، والباطل، والزور، والمكاء، والتصدية، ورقية الزنا، وقرآن الشيطان، ومنبت النفاق فى القلب، والصوت الأحمق، والصوت الفاجر، وصوت الشيطان، ومزمور الشيطان، والسمود" (2)
وأطال النفس في بيان تحريمه، وما فيه من زور وبهتان، فراجعه إن شئت. (3)
وقال أيضا رحمه الله (4): " فَأَمَّا الْمَسْمُوعُ فَعَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ:
أَحَدُهَا: مَسْمُوعٌ يُحِبُّهُ اللَّهُ وَيَرْضَاهُ، وَأَمَرَ بِهِ عِبَادَهُ، وَأَثْنَى عَلَى أَهْلِهِ، وَرَضِيَ عَنْهُمْ بِهِ.
الثَّانِي: مَسْمُوعٌ يُبْغِضُهُ وَيَكْرَهُهُ، وَنَهَى عَنْهُ، وَمَدَحَ الْمُعْرِضِينَ عَنْهُ.
الثَّالِثُ: مَسْمُوعٌ مُبَاحٌ مَأْذُونٌ فِيهِ، لَا يُحِبُّهُ وَلَا يُبْغِضُهُ، وَلَا مَدَحَ صَاحِبَهُ وَلَا ذَمَّهُ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ سَائِرِ الْمُبَاحَاتِ مِنَ الْمَنَاظِرِ، وَالْمَشَامِّ، وَالْمَطْعُومَاتِ، وَالْمَلْبُوسَاتِ الْمُبَاحَةِ، فَمَنْ
__________
(1) - إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان (1/ 224 - 226) وموسوعة مواقف السلف في العقيدة والمنهج والتربية (8/ 334)
(2) - إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان (1/ 237)
(3) - انظر حول أحكام الغناء الموسوعة الفقهية الكويتية (31/ 294 - 298): غِنَاءٌ وانظر الموسوعة الفقهية الكويتية - وزارة الأوقاف الكويتية (37/ 107) مِزْمَارٌ والموسوعة الفقهية الكويتية - وزارة الأوقاف الكويتية (38/ 167 - 181): مَعَازِفُ، ففيها تفصيل حول ما يحل وما يحرم من ذلك وكذلك حول حكم الاستماع الموسوعة الفقهية الكويتية (4/ 85 - 97): اسْتِمَاع
(4) - مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (1/ 479) فما بعدها(1/245)
حَرَّمَ هَذَا النَّوْعَ الثَّالِثَ فَقَدْ قَالَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا يَعْلَمُ، وَحَرَّمَ مَا أَحَلَّ اللَّهُ، وَمَنْ جَعَلَهُ دِينًا وَقُرْبَةً يَتَقَرَّبُ بِهِ إِلَى اللَّهِ، فَقَدْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ، وَشَرَعَ دِينًا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ، وَضَاهَأَ بِذَلِكَ الْمُشْرِكِينَ.
فَأَمَّا النَّوْعُ الْأَوَّلُ فَهُوَ السَّمَاعُ الَّذِي مَدَحَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ، وَأَمَرَ بِهِ وَأَثْنَى عَلَى أَصْحَابِهِ، وَذَمَّ الْمُعْرِضِينَ عَنْهُ وَلَعَنَهُمْ، وَجَعَلَهُمْ أَضَلَّ مِنَ الْأَنْعَامِ سَبِيلًا، وَهُمُ الْقَائِلُونَ فِي النَّارِ {لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك: 10] وَهُوَ سَمَاعُ آيَاتِهِ الْمَتْلُوَّةِ الَّتِي أَنْزَلَهَا عَلَى رَسُولِهِ، فَهَذَا السَّمَاعُ أَسَاسُ الْإِيمَانِ الَّذِي يَقُومُ عَلَيْهِ بِنَاؤُهُ، وَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ، سَمَاعِ إِدْرَاكٍ بِحَاسَّةِ الْأُذُنِ، وَسَمَاعِ فَهْمٍ وَعَقْلٍ، وَسَمَاعِ فَهْمٍ وَإِجَابَةٍ وَقَبُولٍ، وَالثَّلَاثَةُ فِي الْقُرْآنِ.
فَأَمَّا سَمَاعُ الْإِدْرَاكِ فَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ مُؤْمِنِي الْجِنِّ قَوْلَهُمْ {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ} [الجن: 1] وَقَوْلِهِ: {يَاقَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى} [الأحقاف: 30] الْآيَةَ، فَهَذَا سَمَاعُ إِدْرَاكٍ اتَّصَلَ بِهِ الْإِيمَانُ وَالْإِجَابَةُ، وَأَمَّا سَمَاعُ الْفَهْمِ فَهُوَ الْمَنْفِيُّ عَنْ أَهْلِ الْإِعْرَاضِ وَالْغَفْلَةِ، بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ} [الروم: 52] وَقَوْلِهِ: {إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [فاطر: 22].
فَالتَّخْصِيصُ هَاهُنَا لِإِسْمَاعِ الْفَهْمِ وَالْعَقْلِ، وَإِلَّا فَالسَّمْعُ الْعَامُّ الَّذِي قَامَتْ بِهِ الْحُجَّةُ لَا تَخْصِيصَ فِيهِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [الأنفال: 23] أَيْ لَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِي هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ قَبُولًا وَانْقِيَادًا لَأَفْهَمَهُمْ، وَإِلَّا فَهُمْ قَدْ سَمِعُوا سَمْعَ الْإِدْرَاكِ {وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [الأنفال: 23] أَيْ وَلَوْ أَفْهَمَهُمْ لَمَا انْقَادُوا وَلَا انْتَفَعُوا بِمَا فَهِمُوا; لِأَنَّ فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ دَاعِي التَّوَلِّي وَالْإِعْرَاضِ مَا يَمْنَعُهُمْ عَنِ الِانْتِفَاعِ بِمَا سَمِعُوهُ.
وَأَمَّا سَمَاعُ الْقَبُولِ وَالْإِجَابَةِ فَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهُمْ قَالُوا {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [البقرة: 285] فَإِنَّ هَذَا سَمْعُ قَبُولٍ وَإِجَابَةٍ مُثْمِرٌ لِلطَّاعَةِ. وَالتَّحْقِيقُ: أَنَّهُ مُتَضَمِّنٌ لِلْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ، وَأَنَّهُمْ أَخْبَرُوا بِأَنَّهُمْ أَدْرَكُوا الْمَسْمُوعَ وَفَهِمُوهُ، وَاسْتَجَابُوا لَهُ.(1/246)
وَمِنْ سَمْعِ الْقَبُولِ: قَوْلُهُ تَعَالَى {وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} [التوبة: 47] أَيْ قَابِلُونَ مِنْهُمْ مُسْتَجِيبُونَ لَهُمْ، هَذَا أَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ فِي الْآيَةِ.
وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ: عُيُونٌ لَهُمْ وَجَوَاسِيسُ فَضَعِيفٌ، فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ أَخْبَرَ عَنْ حِكْمَتِهِ فِي تَثْبِيطِهِمْ عَنِ الْخُرُوجِ بِأَنَّ خُرُوجَهُمْ يُوجِبُ الْخَبَالَ وَالْفَسَادَ، وَالسَّعْيَ بَيْنَ الْعَسْكَرِ بِالْفِتْنَةِ، وَفِي الْعَسْكَرِ مَنْ يَقْبَلُ مِنْهُمْ، وَيَسْتَجِيبُ لَهُمْ، فَكَانَ فِي إِقْعَادِهِمْ عَنْهُمْ لُطْفًا بِهِمْ وَرَحْمَةً، حَتَّى لَا يَقَعُوا فِي عَنَتِ الْقَبُولِ مِنْهُمْ.
أَمَّا اشْتِمَالُ الْعَسْكَرِ عَلَى جَوَاسِيسَ وَعُيُونٍ لَهُمْ فَلَا تَعَلُّقَ لَهُ بِحِكْمَةِ التَّثْبِيطِ وَالْإِقْعَادِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ جَوَاسِيسَهُمْ وَعُيُونَهُمْ مِنْهُمْ، وَهُوَ سُبْحَانُهُ قَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ أَقْعَدَهُمْ لِئَلَّا يَسْعَوْا بِالْفَسَادِ فِي الْعَسْكَرِ، وَلِئَلَّا يَبْغُوهُمُ الْفِتْنَةَ، وَهَذِهِ الْفِتْنَةُ إِنَّمَا تَنْدَفِعُ بِإِقْعَادِهِمْ، وَإِقْعَادِ جَوَاسِيسِهِمْ وَعُيُونِهِمْ.
وَأَيْضًا فَإِنَّ الْجَوَاسِيسَ إِنَّمَا تُسَمَّى عُيُونًا هَذَا الْمَعْرُوفُ فِي الِاسْتِعْمَالِ لَا تُسَمَّى سَمَّاعِينَ.
وَأَيْضًا فَإِنَّ هَذَا نَظِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي إِخْوَانِهِمُ الْيَهُودِ {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} [المائدة: 42] أَيْ قَابِلُونَ لَهُ.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ سَمَاعَ خَاصَّةِ الْخَاصَّةِ الْمُقَرَّبِينَ هُوَ سَمَاعُ الْقُرْآنِ بِالِاعْتِبَارَاتِ الثَّلَاثَةِ: إِدْرَاكًا وَفَهْمًا، وَتَدَبُّرًا، وَإِجَابَةً. وَكُلُّ سَمَاعٍ فِي الْقُرْآنِ مَدَحَ اللَّهُ أَصْحَابَهُ وَأَثْنَى عَلَيْهِمْ، وَأَمَرَ بِهِ أَوْلِيَاءَهُ فَهُوَ هَذَا السَّمَاعُ.
وَهُوَ سَمَاعُ الْآيَاتِ، لَا سَمَاعَ الْأَبْيَاتِ، وَسَمَاعُ الْقُرْآنِ، لَا سَمَاعَ مَزَامِيرِ الشَّيْطَانِ، وَسَمَاعُ كَلَامِ رَبِّ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ لَا سَمَاعَ قَصَائِدِ الشُّعَرَاءِ، وَسَمَاعُ الْمَرَاشِدِ، لَا سَمَاعَ الْقَصَائِدِ، وَسَمَاعُ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ، لَا سَمَاعَ الْمُغَنِّينَ وَالْمُطْرِبِينَ.
فَهَذَا السَّمَاعُ حَادٍ يَحْدُو الْقُلُوبَ إِلَى جِوَارِ عَلَّامِ الْغُيُوبِ، وَسَائِقٌ يَسُوقُ الْأَرْوَاحَ إِلَى دِيَارِ الْأَفْرَحِ، وَمُحَرِّكٌ يُثِيرُ سَاكِنَ الْعَزَمَاتِ إِلَى أَعْلَى الْمَقَامَاتِ وَأَرْفَعِ الدَّرَجَاتِ، وَمُنَادٍ يُنَادِي لِلْإِيمَانِ، وَدَلِيلٌ يَسِيرُ بِالرَّكْبِ فِي طَرِيقِ الْجِنَانِ، وَدَاعٍ يَدْعُو الْقُلُوبَ بِالْمَسَاءِ وَالصَّبَاحِ، مِنْ قِبَلِ فَالِقِ الْإِصْبَاحِ حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ، حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ.(1/247)
فَلَمْ يُعْدَمْ مَنِ اخْتَارَ هَذَا السَّمَاعَ إِرْشَادًا لِحُجَّةٍ، وَتَبْصِرَةً لِعِبْرَةٍ، وَتَذْكِرَةً لِمَعْرِفَةٍ، وَفِكْرَةً فِي آيَةٍ، وَدَلَالَةً عَلَى رُشْدٍ، وَرَدًّا عَلَى ضَلَالَةٍ، وَإِرْشَادًا مِنْ غَيٍّ، وَبَصِيرَةً مِنْ عَمًى، وَأَمْرًا بِمَصْلَحَةٍ، وَنَهْيًا عَنْ مَضَرَّةٍ وَمَفْسَدَةٍ، وَهِدَايَةً إِلَى نُورٍ، وَإِخْرَاجًا مِنْ ظُلْمَةٍ، وَزَجْرًا عَنْ هَوًى، وَحَثًّا عَلَى تُقًى، وَجَلَاءً لِبَصِيرَةٍ، وَحَيَاةً لِقَلْبٍ، وَغِذَاءً وَدَوَاءً وَشِفَاءً، وَعِصْمَةً وَنَجَاةً، وَكَشْفَ شُبْهَةٍ، وَإِيضَاحَ بُرْهَانٍ، وَتَحْقِيقَ حَقٍّ، وَإِبْطَالَ بَاطِلٍ.
وَنَحْنُ نَرْضَى بِحُكْمِ أَهْلِ الذَّوْقِ فِي سَمَاعِ الْأَبْيَاتِ وَالْقَصَائِدِ، وَنُنَاشِدُهُمْ بِالَّذِي أَنْزَلَ الْقُرْآنَ هُدًى وَشِفَاءً وَنُورًا وَحَيَاةً هَلْ وَجَدُوا ذَلِكَ أَوْ شَيْئًا مِنْهُ فِي الدُّفِّ وَالْمِزْمَارِ؟ وَنَغَمَةِ الشَّادِنِ وَمُطْرِبَاتِ الْأَلْحَانِ؟. وَالْغِنَاءُ الْمُشْتَمِلُ عَلَى تَهْيِيجِ الْحُبِّ الْمُطْلَقِ الَّذِي يَشْتَرِكُ فِيهِ مُحِبُّ الرَّحْمَنِ، وَمُحِبُّ الْأَوْطَانِ، وَمُحِبُّ الْإِخْوَانِ، وَمُحِبُّ الْعِلْمِ وَالْعِرْفَانِ، وَمُحِبُّ الْأَمْوَالِ وَالْأَثْمَانِ، وَمُحِبُّ النِّسْوَانِ وَالْمُرْدَانِ، وَمُحِبُّ الصُّلْبَانِ، فَهُوَ يُثِيرُ مِنْ قَلْبِ كُلِّ مُشْتَاقٍ وَمُحِبٍّ لِشَيْءٍ سَاكِنَهُ، وَيُزْعِجُ قَاطِنَهُ، فَيَثُورُ وَجْدُهُ، وَيَبْدُو شَوْقُهُ، فَيَتَحَرَّكُ عَلَى حَسَبِ مَا فِي قَلْبِهِ مِنَ الْحُبِّ وَالشَّوْقِ وَالْوَجْدِ بِذَلِكَ الْمَحْبُوبِ كَائِنًا مَا كَانَ، وَلِهَذَا تَجِدُ لِهَؤُلَاءِ كُلِّهِمْ ذَوْقًا فِي السَّمَاعِ، وَحَالًا وَوَجْدًا وَبُكَاءً.
وَيَا لَلَّهِ الْعَجَبُ! أَيُّ إِيمَانٍ وَنُورٍ وَبَصِيرَةٍ وَهُدًى وَمَعْرِفَةٍ تَحْصُلُ بِاسْتِمَاعِ أَبْيَاتٍ بِأَلْحَانٍ وَتَوْقِيعَاتٍ، لَعَلَّ أَكْثَرَهَا قِيلَتْ فِيمَا هُوَ مُحَرَّمٌ يُبْغِضُهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَيُعَاقِبُ عَلَيْهِ مِنْ غَزَلٍ وَتَشْبِيبٍ بِمَنْ لَا يَحِلُّ لَهُ مَنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى؟ فَإِنَّ غَالِبَ التَّغَزُّلِ وَالتَّشْبِيبِ إِنَّمَا هُوَ فِي الصُّوَرِ الْمُحَرَّمَةِ، وَمِنْ أَنْدَرِ النَّادِرِ تَغَزُّلُ الشَّاعِرِ وَتَشْبِيبُهُ فِي امْرَأَتِهِ، وَأَمَتِهِ وَأُمِّ وَلَدِهِ، مَعَ أَنَّ هَذَا وَاقِعٌ لَكِنَّهُ كَالشَّعْرَةِ الْبَيْضَاءِ فِي جِلْدِ الثَّوْرِ الْأَسْوَدِ، فَكَيْفَ يَقَعُ لِمَنْ لَهُ أَدْنَى بَصِيرَةٍ وَحَيَاةِ قَلْبٍ أَنْ يَتَقَرَّبَ إِلَى اللَّهِ، وَيَزْدَادَ إِيمَانًا وَقُرْبًا مِنْهُ وَكَرَامَةً عَلَيْهِ، بِالْتِذَاذِهِ بِمَا هُوَ بَغِيضٌ إِلَيْهِ، مَقِيتٌ عِنْدَهُ، يَمْقُتُ قَائِلَهُ وَالرَّاضِيَ بِهِ؟ وَتَتَرَقَّى بِهِ الْحَالُ حَتَّى يَزْعُمَ أَنَّ ذَلِكَ أَنْفَعُ لِقَلْبِهِ مِنْ سَمَاعِ الْقُرْآنِ وَالْعِلْمِ النَّافِعِ، وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ - صلى الله عليه وسلم -؟!.
يَا لَلَّهِ! إِنَّ هَذَا الْقَلْبَ مَخْسُوفٌ بِهِ، مَمْكُورٌ بِهِ مَنْكُوسٌ، لَمْ يَصْلُحْ لِحَقَائِقِ الْقُرْآنِ وَأَذْوَاقِ مَعَانِيهِ، وَمُطَالَعَةِ أَسْرَارِهِ، فَبَلَاهُ بِقُرْآنِ الشَّيْطَانِ، كَمَا فِي مُعْجَمِ الطَّبَرَانِيِّ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، أَنَّهُ قَالَ: " إِنَّ إِبْلِيسَ لَمَّا أُنْزِلَ إِلَى الْأَرْضِ قَالَ: يَا رَبِّ أَنْزَلْتَنِي(1/248)
إِلَى الْأَرْضِ، وَجَعَلْتَنِي رَجِيمًا أَوْ كَمَا ذَكَرَ فَاجْعَلْ لِي بَيْتًا، قَالَ: الْحَمَّامُ. قَالَ: فَاجْعَلْ لِي مَجْلِسًا، قَالَ: الْأَسْوَاقُ، وَمَجَامِعُ الطُّرُقِ. قَالَ: اجْعَلْ لِي طَعَامًا. قَالَ: مَا لَا يُذْكَرُ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ قَالَ: اجْعَلْ لِي شَرَابًا، قَالَ: كُلُّ مُسْكِرٍ. قَالَ: اجْعَلْ لِي مُؤَذِّنًا، قَالَ: الْمَزَامِيرُ. قَالَ: اجْعَلْ لِي قُرْآنًا. قَالَ: الشِّعْرُ. قَالَ: اجْعَلْ لِي كِتَابًا، قَالَ: الْوَسْمُ. قَالَ: اجْعَلْ لِي حَدِيثًا، قَالَ: الْكَذِبُ. قَالَ: اجْعَلْ لِي مَصَايِدَ، قَالَ: النِّسَاءُ " (1)
الجرس مزامير الشيطان:
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: «الْجَرَسُ مَزَامِيرُ الشَّيْطَانِ» (2)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لَا تَصْحَبُ الْمَلَائِكَةُ رُفْقَةً فِيهَا كَلْبٌ وَلَا جَرَسٌ» (3)
وعن عَامِرَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ مَوْلَاةً لَهُمْ ذَهَبَتْ بِابْنَةِ الزُّبَيْرِ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَفِي رِجْلِهَا أَجْرَاسٌ، فَقَطَعَهَا عُمَرُ، ثُمَّ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «إِنَّ مَعَ كُلِّ جَرَسٍ شَيْطَانًا» (4)
وعَنْ مَعْمَرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ رَجُلًا يُحَدِّثُ هِشَامَ بْنَ عُرْوَةَ، قَالَ: دَخَلَتْ جَارِيَةٌ عَلَى عَائِشَةَ وَفِي رِجْلِهَا جَلَاجِلُ فِي الْخَلْخَالِ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: «أَخْرِجُوا عَنِّي مُفَرِّقَةَ الْمَلَائِكَةِ» (5)
وعَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي سُلَيْمَانُ بْنُ بَابَيْهِ مَوْلَى أَبِي نَوْفَلٍ أَنَّ أُمَّ سَلَمَةَ، زَوْجَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «لَا تَدْخُلُ الْمَلَائِكَةُ بَيْتًا فِيهِ جَرَسٌ وَلَا تَصْحَبُ رُفْقَةً فِيهَا جَرَسٌ» (6)
__________
(1) - المعجم الكبير للطبراني (8/ 207) (7837) ضعيف
(2) - صحيح مسلم (3/ 1672) 104 - (2114)
(3) - صحيح مسلم (3/ 1672) 103 - (2113)
(4) - سنن أبي داود (4/ 92) (4230) فيه جهالة
(5) - جامع معمر بن راشد (10/ 459) (19699) فيه جهالة
(6) - السنن الكبرى للنسائي (8/ 388) (9483) صحيح(1/249)
وعَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: بَيْنَمَا هِيَ عِنْدَهَا إِذْ دُخِلَ عَلَيْهَا بِجَارِيَةٍ وَعَلَيْهَا جَلَاجِلُ يُصَوِّتْنَ، فَقَالَتْ: لَا تُدْخِلْنَهَا عَلَيَّ إِلَّا أَنْ تَقْطَعُوا جَلَاجِلَهَا، وَقَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «لَا تَدْخُلُ الْمَلَائِكَةُ بَيْتًا فِيهِ جَرَسٌ» (1)
19 - تهاون المسلمين في تحقيق ما أمروا به:
إذا التزم المسلم بإسلامه فإن الشيطان لا يجد سبيلاً لإضلاله والعبث به، فإذا تهاون وتكاسل في بعض الأمور، فإن الشيطان يجد فرصة، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (208) فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (209)} [البقرة: 208، 209].
يَدْعُو اللهُ المُؤْمِنينَ إِلَى الأَخْذِ بِجَمِيعِ عُرَى الإِسْلاَمِ وَشَرَائِعِهِ، وَالعمَلِ بِجَمِيعِ أَوَامِرِهِ، وَتَرْكِ زَوَاجِرِهِ، وَيُرشِدُهُمْ تَعَالَى إِلَى أَنَّهُ مِنْ شَأنِ المُؤْمِنينَ الاتِّفَاقُ والاتِّحَادُ، لاَ التَّفَرُّقُ وَالانْقِسَامُ. ثُمَّ يَأْمُرُ اللهُ تَعَالَى المُؤْمِنينَ بِأَنْ يَجْتَنِبُوا مَا يَأْمُرُهُمْ بِهِ الشَّيْطَانُ لأَنَّهُ يَأْمُرُ بِالسُّوءِ وَالفَحْشَاءِ، وَيَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ، وَلِهذَا كَانَ الشَّيْطَانُ عَدُوّاً بَيِّنَ العَدَاوَةِ لِلإِنْسَانِ. فََإِنْ عَدَلْتُمْ عَنِ الحَقِّ، وَحِدْتُمْ عَنِ الصِّراطِ المُسْتَقِيمِ الذِي دَعَاكُمُ اللهُ إِلَيهِ، وَهُوَ السِّلْمُ، وَسِرْتُمْ فِي طَرِيقِ الشَّيْطَانِ، وَهُوَ طَرِيقُ الخِلاَفِ وَالافْتِرَاقِ، بَعْدَمَا قَامَتِ الحُجَّةُ عَلَى أَنّ صِرَاطَ اللهِ هُوَ طَرِيقُ الحَقِّ، فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ فِي انتِقَامِهِ، لاَ يَفُوتُهُ هَارِبٌ، وَلاَ يَغْلِبُهُ غَالِبٌ، حَكِيمٌ فِي أَحْكَامِهِ، وَفِي نَقْضِهِ وَإِبْرَامِهِ. (2)
فالدخول في الإسلام في كل الأمور هو الذي يخلص من الشيطان، فمثلاً إذا كانت صفوف المصلين مرصوصة، فإن الشياطين لا تستطيع أن تتخلل المصلين، فإذا تُركت فُرجٌ بين الصفوف، فإن الشياطين تتراقص بين صفوف المصلين؛ فعَنِ الْبَرَاءِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ
__________
(1) - سنن أبي داود (4/ 92) (4231) حسن-الجلاجل: جمع الجلجل وهو الجرس الصغير وقد يتخذ إناء
(2) - أيسر التفاسير لأسعد حومد (ص: 215، بترقيم الشاملة آليا)(1/250)
- صلى الله عليه وسلم -: " أَقِيمُوا صُفُوفَكُمْ لَا يَتَخَلَّلُكُمْ كَأَوْلَادِ الْحَذَفِ " قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، وَمَا أَوْلَادُ الْحَذَفِ؟ قَالَ: " سُودٌ جُرْدٌ، تَكُونُ بِأَرْضِ الْيَمَنِ " (1)
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «رَاصُّوا الصُّفُوفَ؛ فَإِنِّي رَأَيْتُ الشَّيَاطِينَ تَخَلَّلُكُمْ كَأَنَّهَا أَوْلَادُ الْحَذَفِ» (2)
وعَنْ أَنَسٍ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: أَقِيمُوا صُفُوفَكُمْ، وَتَرَاصُّوا، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنِّي لأَرَى الشَّيَاطِينَ بَيْنَ صُفُوفِكُمْ كَأَنَّهَا غَنْمٌ عُفْرٌ. (3)
__________
(1) - مسند أحمد ط الرسالة (30/ 583) (18618) صحيح
قال السندي: قوله: كأولاد الحَذَف. بفتح حاء مهملة وذال معجمة: هي الغنم الصغار الحجازية، جمع حَذَفة، بفتحتين أيضاً، والمراد الشياطين، فإنها تدخل في أوساط الصفوف، كأولاد الحَذَف. =جُرد، أي: ليس على جلدها شعر، والله تعالى أعلم.
(2) - مسند أبي يعلى الموصلي (4/ 474) (2607) صحيح لغيره
(3) - مسند أبي الطيالسي -طبعة دار هجر - مصر (4/ 28) (2222) وصحيح الجامع (1194) صحيح لغيره
"تراصوا": تلاصقوا بغير خلل. "غنم عفر": أى بيض ليس بياضها بناصع.(1/251)
المبحث الثالث عشر
كيف يصل الشيطان بوسوسته إلى نفس الإنسان
1 - الوسوسة:
الشيطان يستطيع أن يصل إلى فكر الإنسان وقلبه بطريقة لا ندركها، ولا نعرفها، يساعده على ذلك طبيعته التي خلق عليها، وهذا هو الذي نسميه بالوسوسة، وقد أخبرنا الله بذلك إذ سماه: {الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ (4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6)} [الناس: 4 - 6].
أي مِنْ شَرِّ الشَّيْطَانِ المُوَسْوِسِ، الكَثِيرِ الاخْتِفَاءِ عَنْ أَعْيُنِ النَّاسِ، الذِي يَذْهَبُ بالنَّفْسِ إِلَى أَسْوَإِ مَصِيرٍ إِذَا أَطَاعَتْ وَسْوَسَتَهُ، وَانْسَاقَتْ مَعَهُ. وَهَذَا الوَسْوَاسُ الخَنَّاسُ يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ، وَيُزَيِّنُ لَهُم الشَّرَّ وَالسُّوءَ لِيَصْرِفَهُمْ عَنْ سَبِيلِ الهُدَى وَالإِيْمَانِ. وَقَدْ يَكُونُ هَذَا المُوَسْوِسُ مِنَ الجِنِّ، وَقَدْ يَكُونُ مِنَ البَشَرِ. (1)
قال ابن كثير في تفسيره: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ} قَالَ: الشَّيْطَانُ جَاثِمٌ عَلَى قَلْبِ ابْنِ آدَمَ، فَإِذَا سَهَا وَغَفَلَ وَسْوَسَ، فَإِذَا ذَكَرَ اللَّهُ خَنَس. وَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ.
وَقَالَ الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبِيهِ: ذُكرَ لِي أَنَّ الشَّيْطَانَ، أَوِ: الْوَسْوَاسَ يَنْفُثُ فِي قَلْبِ ابْنِ آدَمَ عِنْدَ الْحُزْنِ وَعِنْدَ الْفَرَحِ، فَإِذَا ذَكَرَ اللَّهُ خَنَسَ.
وَقَالَ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {الْوَسْوَاس} قَالَ: هُوَ الشَّيْطَانُ يَأْمُرُ، فَإِذَا أُطِيعَ خَنَسَ.
وَقَوْلُهُ: {الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ} هَلْ يَخْتَصُّ هَذَا بِبَنِي آدَمَ -كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ -أَوْ يَعُمُّ بَنِي آدَمَ وَالْجِنَّ؟ فِيهِ قَوْلَانِ، وَيَكُونُونَ قَدْ دَخَلُوا فِي لَفْظِ النَّاسِ تَغْلِيبًا.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَقَدِ اسْتَعْمَلَ فِيهِمْ (رجَالٌ منَ الجنَ) فَلَا بِدَعَ فِي إِطْلَاقِ النَّاسِ عَلَيْهِمْ.
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد (ص: 6111، بترقيم الشاملة آليا)(1/252)
وَقَوْلُهُ: {مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} هَلْ هُوَ تَفْصِيلٌ لِقَوْلِهِ: {الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ} ثُمَّ بَيَّنَهُمْ فَقَالَ: {مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} وَهَذَا يُقَوِّي الْقَوْلَ الثَّانِيَ. وَقِيلَ قَوْلُهُ: {مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} تَفْسِيرٌ لِلَّذِي يُوسوس فِي صُدُورِ النَّاسِ، مِنْ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} [الْأَنْعَامِ: 112] (1)
وعَنْ عَلِيِّ بْنِ الحُسَيْنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّ صَفِيَّةَ بِنْتَ حُيَيٍّ، أَخْبَرَتْهُ أنها أَتَتِ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ مُعْتَكِفٌ، فَلَمَّا رَجَعَتْ مَشَى مَعَهَا، فَأَبْصَرَهُ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ، فَلَمَّا أَبْصَرَهُ دَعَاهُ فَقَالَ: " تَعَالَ هِيَ صَفِيَّةُ - وَرُبَّمَا قَالَ سُفْيَانُ: هَذِهِ صَفِيَّةُ -، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنَ ابْنِ آدَمَ مَجْرَى الدَّمِ " (2)
وعَنِ الْمِقْدَادِ، قَالَ: أَقْبَلْتُ أَنَا وَصَاحِبَانِ لِي، وَقَدْ ذَهَبَتْ أَسْمَاعُنَا وَأَبْصَارُنَا مِنَ الْجَهْدِ، فَجَعَلْنَا نَعْرِضُ أَنْفُسَنَا عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْهُمْ يَقْبَلُنَا، فَأَتَيْنَا النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَانْطَلَقَ بِنَا إِلَى أَهْلِهِ، فَإِذَا ثَلَاثَةُ أَعْنُزٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «احْتَلِبُوا هَذَا اللَّبَنَ بَيْنَنَا»، قَالَ: فَكُنَّا نَحْتَلِبُ فَيَشْرَبُ كُلُّ إِنْسَانٍ مِنَّا نَصِيبَهُ، وَنَرْفَعُ لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - نَصِيبَهُ، قَالَ: فَيَجِيءُ مِنَ اللَّيْلِ فَيُسَلِّمُ تَسْلِيمًا لَا يُوقِظُ نَائِمًا، وَيُسْمِعُ الْيَقْظَانَ، قَالَ: ثُمَّ يَأْتِي الْمَسْجِدَ فَيُصَلِّي، ثُمَّ يَأْتِي شَرَابَهُ فَيَشْرَبُ، فَأَتَانِي الشَّيْطَانُ ذَاتَ لَيْلَةٍ وَقَدْ شَرِبْتُ نَصِيبِي، فَقَالَ: مُحَمَّدٌ يَأْتِي الْأَنْصَارَ فَيُتْحِفُونَهُ، وَيُصِيبُ عِنْدَهُمْ مَا بِهِ حَاجَةٌ إِلَى هَذِهِ الْجُرْعَةِ، فَأَتَيْتُهَا فَشَرِبْتُهَا، فَلَمَّا أَنْ وَغَلَتْ فِي بَطْنِي، وَعَلِمْتُ أَنَّهُ لَيْسَ إِلَيْهَا سَبِيلٌ، قَالَ: نَدَّمَنِي الشَّيْطَانُ، فَقَالَ: وَيْحَكَ، مَا صَنَعْتَ أَشَرِبْتَ شَرَابَ مُحَمَّدٍ، فَيَجِيءُ فَلَا يَجِدُهُ فَيَدْعُو عَلَيْكَ فَتَهْلِكُ فَتَذْهَبُ دُنْيَاكَ وَآخِرَتُكَ، وَعَلَيَّ شَمْلَةٌ إِذَا وَضَعْتُهَا عَلَى قَدَمَيَّ خَرَجَ رَأْسِي، وَإِذَا وَضَعْتُهَا عَلَى رَأْسِي خَرَجَ قَدَمَايَ، وَجَعَلَ لَا يَجِيئُنِي النَّوْمُ، وَأَمَّا صَاحِبَايَ فَنَامَا وَلَمْ يَصْنَعَا مَا صَنَعْتُ، قَالَ: فَجَاءَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -، فَسَلَّمَ كَمَا كَانَ يُسَلِّمُ، ثُمَّ أَتَى
__________
(1) - تفسير ابن كثير ت سلامة (8/ 540) وانظر الدر المنثور في التفسير بالمأثور (8/ 694)
(2) - صحيح البخاري (3/ 50) (2039)
[ش (يدرأ) يدفع عن نفسه ما يوجه إليه من سوء بالقول أو الفعل. (وهل هو إلا ليل) فهل الإتيان منها في وقت إلا في الليل لأنهن ما كن يخرجن في النهار](1/253)
الْمَسْجِدَ فَصَلَّى، ثُمَّ أَتَى شَرَابَهُ فَكَشَفَ عَنْهُ، فَلَمْ يَجِدْ فِيهِ شَيْئًا، فَرَفَعَ رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ، فَقُلْتُ: الْآنَ يَدْعُو عَلَيَّ فَأَهْلِكُ، فَقَالَ: «اللهُمَّ، أَطْعِمْ مَنْ أَطْعَمَنِي، وَأَسْقِ مَنْ أَسْقَانِي»،قَالَ: فَعَمَدْتُ إِلَى الشَّمْلَةِ فَشَدَدْتُهَا عَلَيَّ، وَأَخَذْتُ الشَّفْرَةَ فَانْطَلَقْتُ إِلَى الْأَعْنُزِ أَيُّهَا أَسْمَنُ، فَأَذْبَحُهَا لِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -،فَإِذَا هِيَ حَافِلَةٌ، وَإِذَا هُنَّ حُفَّلٌ كُلُّهُنَّ، فَعَمَدْتُ إِلَى إِنَاءٍ لِآلِ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - مَا كَانُوا يَطْمَعُونَ أَنْ يَحْتَلِبُوا فِيهِ، قَالَ: فَحَلَبْتُ فِيهِ حَتَّى عَلَتْهُ رَغْوَةٌ، فَجِئْتُ إِلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -،فَقَالَ: «أَشَرِبْتُمْ شَرَابَكُمُ اللَّيْلَةَ»،قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، اشْرَبْ، فَشَرِبَ، ثُمَّ نَاوَلَنِي، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، اشْرَبْ، فَشَرِبَ، ثُمَّ نَاوَلَنِي، فَلَمَّا عَرَفْتُ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَدْ رَوِيَ وَأَصَبْتُ دَعْوَتَهُ، ضَحِكْتُ حَتَّى أُلْقِيتُ إِلَى الْأَرْضِ، قَالَ: فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «إِحْدَى سَوْآتِكَ يَا مِقْدَادُ»،فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، كَانَ مِنْ أَمْرِي كَذَا وَكَذَا وَفَعَلْتُ كَذَا، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «مَا هَذِهِ إِلَّا رَحْمَةٌ مِنَ اللهِ، أَفَلَا كُنْتَ آذَنْتَنِي فَنُوقِظَ صَاحِبَيْنَا فَيُصِيبَانِ مِنْهَا»،قَالَ: فَقُلْتُ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ، مَا أُبَالِي إِذَا أَصَبْتَهَا وَأَصَبْتُهَا مَعَكَ مَنْ أَصَابَهَا مِنَ النَّاسِ" (1)
وعَنِ الْمِقْدَادِ بْنِ الْأَسْوَدِ، قَالَ: قَدِمْتُ أَنَا وَصَاحِبَانِ لِي عَلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -،فَأَصَابَنَا جُوعٌ شَدِيدٌ، فَتَعَرَّضْنَا لِلنَّاسِ فَلَمْ يُضِفْنَا أَحَدٌ، فَانْطَلَقَ بِنَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إِلَى مَنْزِلِهِ وَعِنْدَهُ أَرْبَعُ
__________
(1) - صحيح مسلم (3/ 1625) 174 - (2055)
[ش (الجهد) بفتح الجيم هو الجوع والمشقة (فليس أحد منهم يقبلنا) هذا محمول على أن الذين عرضوا أنفسهم عليهم كانوا مقلين ليس عندهم شيء يواسون به (ما به حاجة إلى هذه الجرعة) هي بضم الجيم وفتحها حكاهما ابن السكيت وغيره والفعل منه جرعت (وغلت في بطني) أي دخلت وتمكنت منه (حافلة) الحفل في الأصل الاجتماع قال في القاموس الحفل والحفول والحفيل الاجتماع يقال حفل الماء واللبن حفلا وحفولا وحفيلا إذا اجتمع وكذلك يقال حفله إذا جمعه ويقال للضرع المملوء باللبن ضرع حافل وجمعه حفل ويطلق على الحيوان كثير اللبن حافلة بالتأنيث (رغوة) هي زبد اللبن الذي يعلوه وهي بفتح الراء وضمها وكسرها ثلاث لغات مشهورات ورغاوة بكسر الراء وحكي ضمها ورغاية بالضم وحكى الكسر وارتغيت شربت الرغوة (فلما عرفت الخ) معناه أنه كان عنده حزن شديد خوفا من أن يدعو عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - لكونه أذهب نصيب النبي - صلى الله عليه وسلم - وتعرض لأذاه فلما علم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد روي وأجيبت دعوته فرح وضحك حتى سقط إلى الأرض من كثرة ضحكه لذهاب ما كان به من الحزن وانقلابه مسرورا بشرب النبي - صلى الله عليه وسلم - وإجابة دعوته لمن أطعمه وسقاه وجريان ذلك على يد المقداد وظهور هذه المعجزة (إحدى سوءاتك) أي أنك فعلت سوأة من الفعلات فما هي (ما هذه إلا رحمة من الله) أي إحداث هذا اللبن في غير وقته وخلاف عادته وإن كان الجميع من فضل الله](1/254)
أَعْنُزٍ، فَقَالَ لِي:" يَا مِقْدَادُ، جَزِّئْ أَلْبَانَهَا بَيْنَنَا أَرْبَاعًا "،فَكُنْتُ أُجَزِّئُهُ بَيْنَنَا أَرْبَاعًا، فَاحْتَبَسَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ذَاتَ لَيْلَةٍ، فَحَدَّثْتُ نَفْسِي أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَدْ أَتَى بَعْضَ الْأَنْصَارِ، فَأَكَلَ حَتَّى شَبِعَ، وَشَرِبَ حَتَّى رَوِيَ، فَلَوْ شَرِبْتُ نَصِيبَهُ، فَلَمْ أَزَلْ كَذَلِكَ حَتَّى قُمْتُ إِلَى نَصِيبِهِ فَشَرِبْتُهُ، ثُمَّ غَطَّيْتُ الْقَدَحَ، فَلَمَّا فَرَغْتُ أَخَذَنِي مَا قَدُمَ وَمَا حَدُثَ، فَقُلْتُ: يَجِيءُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - جَائِعًا وَلَا يَجِدُ شَيْئًا فَتَسَجَّيْتُ، وَجَعَلْتُ أُحَدِّثُ نَفْسِي، فَبَيْنَا أَنَا كَذَلِكَ، إِذْ دَخَلَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَسَلَّمَ تَسْلِيمَةً يُسْمِعُ الْيَقْظَانَ، وَلَا يُوقِظُ النَّائِمَ، ثُمَّ أَتَى الْقَدَحَ فَكَشَفَهُ فَلَمْ يَرَ شَيْئًا فَقَالَ:" اللهُمَّ أَطْعِمْ مَنْ أَطْعَمَنِي، وَاسْقِ مَنْ سَقَانِي "،وَاغْتَنَمْتُ الدَّعْوَةَ، فَقُمْتُ إِلَى الشَّفْرَةِ فَأَخَذْتُهَا، ثُمَّ أَتَيْتُ الْأَعْنُزَ فَجَعَلْتُ أَجَسُّهَا أَيُّهَا أَسْمَنُ، فَلَا تَمُرُّ يَدَيَّ عَلَى ضَرْعِ وَاحِدَةٍ إِلَّا وَجَدْتُهَا حَافِلًا، فَحَلَبْتُ حَتَّى مَلَأْتُ الْقَدَحَ، ثُمَّ أَتَيْتُ بِهِ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقُلْتُ: اشْرَبْ يَا رَسُولَ اللهِ، فَرَفَعَ رَأْسَهُ إِلَيَّ فَقَالَ:" بَعْضُ سَوْآتِكَ يَا مِقْدَادُ، مَا الْخَبَرُ؟ " قُلْتُ: اشْرَبْ، ثُمَّ الْخَبَرَ، فَشَرِبَ حَتَّى رَوِيَ، ثُمَّ نَاوَلَنِي فَشَرِبْتُ، فَقَالَ:" مَا الْخَبَرُ؟ " فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ:" هَذِهِ بَرَكَةٌ نَزَلَتْ مِنَ السَّمَاءِ، فَهَلَّا أَعْلَمْتَنِي حَتَّى نَسْقِيَ صَاحِبَيْنَا " فَقُلْتُ: إِذَا أَصَابَتْنِي وَإِيَّاكَ الْبَرَكَةُ فَمَا أُبَالِي مَنْ أَخْطَأَتْ". (1)
النهي عن البول في المغتسل:
عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مُغَفَّلٍ أَنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ الْبَوْلَ فِي الْمُغْتَسَلِ وَقَالَ:" إِنَّ مِنْهُ الْوَسْوَاسَ ". (2)
وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مُغَفَّلٍ، قَالَ: نُهِيَ أَوْ زُجِرَ أَنْ يُبَالَ فِي الْمُغْتَسَلِ. (3)
وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مُغَفَّلٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الرَّجُلِ يَبُولُ فِي مُغْتَسَلِهِ؟ قَالَ:" يُخَافُ مِنْهُ الْوَسْوَاسُ ". (4)
وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مُغَفَّلٍ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لَا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي مُسْتَحَمِّهِ، فَإِنَّ عَامَّةَ الْوَسْوَاسِ مِنْهُ» (5)
__________
(1) - مسند أحمد ط الرسالة (39/ 228) (23809) صحيح
(2) - السنن الكبرى للبيهقي (1/ 160) (475) صحيح
(3) - المستدرك على الصحيحين -دار المعرفة بيروت (1/ 185) (663) صحيح
(4) - السنن الكبرى للبيهقي (1/ 160) (477) صحيح
(5) -السنن الكبرى للنسائي (1/ 85) (33) صحيح وآخره موقوف
مستحمه: المستحم: موضع الاستحمام، وهو الاغتسال، وسمي مستحما باسم الحميم، وهو الماء الحار الذي يغتسل به، وإنما ينهى عن ذلك إذا كان المكان صلبا، أو لم يكن له مسلك يذهب فيه البول ويسيل، فيوهم المغتسل أنه أصابه شيء من قطره ورشاشه، فيحصل منه الوسواس، (والوسواس) ما يحصل في النفس من الأحاديث والأفكار التي تزعجه، ولا تدعه يستقر على حال. جامع الأصول في أحاديث الرسول ط مكتبة الحلواني الأولى (7/ 118)(1/255)
وبهذه الوسوسة أضل آدم وأغواه بالأكل من الشجرة: {فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى} [طه: 120].
فَجَاءَهُ الشَّيْطَانُ فِي صُورَةِ نَاصِحٍ مُشْفِقٍ، وَحَاوَلَ إِغْرَاءَهُ وَإِضْلاَلَهُ لِيُخَالِفَ مَا عَهِدَ إِلَيْهِ رَبُّهُ، وَقَالَ لَهُ إِنَّ الشَّجَرَةَ الَّتِي نَهَاكُمَا اللهُ عَنِ الأَكْلِ مِنْهَا هِيَ شَجَرَةُ الخُلُودِ، مَنْ أَكَلَ مِنْهَا أَصْبَحَ مِنَ الخَالِدِينَ، وَأَصْبَحَ ذَا سُلْطَانٍ، وَمُلْكٍ لاَ يَبْلَى وَلاَ يَنْتَهِي، فَضَعُفَ آدَمُ وَزَوْجُهُ تِجَاهَ هَذا الإِغْرَاءِ بِالمُلْكِ، وَالعُمْرِ المَدِيدِ، وَنَسِيَا مَا عَهَدَ اللهُ بِهِ إِلَيْهِمَا، فَأَكَلاَ مِنَ الشَّجَرَةِ. (1)
وقد تتمثل الشياطين في صورة بشر، وقد يحدّثون الإنسان، ويُسمِعونه، ويأمرونه، وينهونه، بمرادهم ...
وقال ابن تيمية رحمه الله: "الْوَسْوَاسُ نَوْعَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يَمْنَعُ مَا يُؤْمَرُ بِهِ مِنْ تَدَبُّرِ الْكَلِمِ الطَّيِّبِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ الَّذِي فِي الصَّلَاةِ بَلْ يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْخَوَاطِرِ فَهَذَا لَا يُبْطِلُ الصَّلَاةَ؛ لَكِنْ مَنْ سَلِمَتْ صَلَاتُهُ مِنْهُ فَهُوَ أَفْضَلُ مِمَّنْ لَمْ تَسْلَمْ مِنْهُ صَلَاتُهُ. الْأَوَّلُ شِبْهُ حَالِ الْمُقَرَّبِينَ وَالثَّانِي شِبْهُ حَالِ الْمُقْتَصِدِينَ.
وَأَمَّا الثَّانِي: فَهُوَ مَا مَنَعَ الْفَهْمَ وَشُهُودَ الْقَلْبِ بِحَيْثُ يَصِيرُ الرَّجُلُ غَافِلًا فَهَذَا لَا رَيْبَ أَنَّهُ يَمْنَعُ الثَّوَابَ كَمَا رَوَي عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ، صَلَّى رَكْعَتَيْنِ، فَخَفَّفَهُمَا، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْحَارِثِ: يَا أَبَا الْيَقْظَانِ، أَرَاكَ قَدْ خَفَّفْتَهُمَا، قَالَ: إِنِّي بَادَرْتُ بِهِمَا الْوَسْوَاسَ، وَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «إِنَّ الرَّجُلَ لِيُصَلِّي الصَّلَاةَ، وَلَعَلَّهُ لَا يَكُونُ لَهُ مِنْهَا إِلَّا عُشْرُهَا، أَوْ تُسْعُهَا، أَوْ ثُمُنُهَا، أَوْ سُبُعُهَا، أَوْ سُدْسُهَا» حَتَّى أَتَى عَلَى الْعَدَدِ. " (2)
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد (ص: 2435، بترقيم الشاملة آليا)
(2) - صحيح ابن حبان - مخرجا (5/ 210) (1889) صحيح(1/256)
فَأَخْبَرَ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَدْ لَا يُكْتَبُ لَهُ مِنْهَا إلَّا الْعُشْرُ ... وَلَكِنْ هَلْ يُبْطِلُ الصَّلَاةَ وَيُوجِبُ الْإِعَادَةَ؟ فِيهِ تَفْصِيلٌ. فَإِنَّهُ إنْ كَانَتْ الْغَفْلَةُ فِي الصَّلَاةِ أَقَلَّ مِنَ الْحُضُورِ وَالْغَالِبُ الْحُضُورُ لَمْ تَجِبْ الْإِعَادَةُ، وَإِنْ كَانَ الثَّوَابُ نَاقِصًا فَإِنَّ النُّصُوصَ قَدْ تَوَاتَرَتْ بِأَنَّ السَّهْوَ لَا يُبْطِلُ الصَّلَاةَ وَإِنَّمَا يُجْبَرُ بَعْضُهُ بِسَجْدَتَيْ السَّهْوِ، وَأَمَّا إنْ غَلَبْت الْغَفْلَةُ عَلَى الْحُضُورِ فَفِيهِ لِلْعُلَمَاءِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَا تَصِحُّ الصَّلَاةُ فِي الْبَاطِنِ وَإِنْ صَحَّتْ فِي الظَّاهِرِ كَحَقْنِ الدَّمِ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَ الصَّلَاةِ لَمْ يَحْصُلْ فَهُوَ شَبِيهُ صَلَاةِ الْمُرَائِي، فَإِنَّهُ بِالِاتِّفَاقِ لَا يَبْرَأُ بِهَا فِي الْبَاطِنِ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ ابْنِ حَامِدٍ وَأَبِي حَامِدٍ الْغَزَالِيِّ وَغَيْرِهِمَا.
وَالثَّانِي: تَبْرَأُ الذِّمَّةُ فَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ وَإِنْ كَانَ لَا أَجْرَ لَهُ فِيهَا وَلَا ثَوَابَ بِمَنْزِلَةِ صَوْمِ الَّذِي لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ فَلَيْسَ لَهُ مِنْ صِيَامِهِ إلَّا الْجُوعُ وَالْعَطَشُ. وَهَذَا هُوَ الْمَأْثُورُ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ مِنْ الْأَئِمَّةِ وَاسْتَدَلُّوا بِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: " إِذَا نُودِيَ بِالصَّلاَةِ أَدْبَرَ الشَّيْطَانُ، وَلَهُ ضُرَاطٌ حَتَّى لاَ يَسْمَعَ الأَذَانَ، فَإِذَا قُضِيَ الأَذَانُ أَقْبَلَ، فَإِذَا ثُوِّبَ بِهَا أَدْبَرَ، فَإِذَا قُضِيَ التَّثْوِيبُ، أَقْبَلَ حَتَّى يَخْطِرَ بَيْنَ المَرْءِ وَنَفْسِهِ، يَقُولُ: اذْكُرْ كَذَا وَكَذَا، مَا لَمْ يَكُنْ يَذْكُرُ، حَتَّى يَظَلَّ الرَّجُلُ إِنْ يَدْرِي كَمْ صَلَّى، فَإِذَا لَمْ يَدْرِ أَحَدُكُمْ كَمْ صَلَّى ثَلاَثًا أَوْ أَرْبَعًا، فَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ وَهُوَ جَالِسٌ " (1)
فَقَدْ أَخْبَرَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّ الشَّيْطَانَ يُذَكِّرُهُ بِأُمُورِ حَتَّى لَا يَدْرِيَ كَمْ صَلَّى، وَأَمَرَهُ بِسَجْدَتَيْنِ لِلسَّهْوِ، وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِالْإِعَادَةِ وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ. وَهَذَا الْقَوْلُ أَشْبَهُ وَأَعْدَلُ؛ فَإِنَّ النُّصُوصَ وَالْآثَارَ إنَّمَا دَلَّتْ عَلَى أَنَّ الْأَجْرَ وَالثَّوَابَ مَشْرُوطٌ بِالْحُضُورِ لَا تَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الْإِعَادَةِ لَا بَاطِنًا وَلَا ظَاهِرًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. (2)
__________
(1) - صحيح البخاري (2/ 69) (1231) وصحيح مسلم (1/ 291) 16 - (389)
(وله ضراط) تمثيل لشدة خوفه عند إدباره أو يكون ذلك حقيقة لشدة خوفه أيضا. (ثوب) أقم للصلاة وهو المراد هنا. (النداء) الأذان. (يخطر) يوسوس ويشغل المصلي عما هو فيه]
(2) - مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية- دار الوفاء (22/ 611)(1/257)
هل يعلم الشيطان بما توسوس به نفس الإنسان؟
لقد ذكر صاحب كتاب آكام المرجان بابا سماه" إِخْبَار الوسواس بِمَا وَقع فِي قلب ابْن آدم" (1) وساق بعض الأخبار التي يصح منها خبر واحد عن المعصوم ولا عمن روى عنهم، بين في هذه الأخبار أن الجن قد تعلم ما يوسوس به الإنسان في نفسه ثم تخبر الناس فيه، وهو أمر في غاية الخطورة، والفساد، ولا يجوز تصديق ذلك بتاتاً لأنه يفضي إلى كشف أسرار الناس والإيقاع بينهم، والفتن والحروب، بل وفساد والمجتمعات الإنسانية.
وهذا أمر لم يعطه الله تعالى لأحد من خلقه إلا على سبيل المعجزة الخارقة للعادة لبعض الرسل كما في حديث وابصة ونحوه .... (2)
وقد بين تعالى أنه يعلم كل شيء عن الإنسان، بما في وسوسة النفس، قال تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17) مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18)} [ق: 16 - 18]
يُؤَكِّدُ اللهُ تَعَالى قُدْرَتَهُ عَلَى بَعْثِ الأمْواتِ مِنَ القُبُورِ يَوْمَ القيَامَةِ، بأنَّهُ الذِي خَلَقَ الإنسَانَ، وأنْشَأهُ مِنْ عَدَمٍ، وَأنَّهُ عَالِم بِجَمِيعِ أحْوَالِهِ وَأعْمَالِهِ وَأمُورِهِ، حَتَّى إنَّه لَيَعْلَمُ مَا يَتَرَدَّدُ في نَفْسِهِ مِنْ فِكْرٍ، وَمَا تُحَدَّثُهُ بِهِ نَفْسَهُ مِنْ عَمَلٍ، خَيْراً كَانَ أوْ شَرّاً. ثُمَّ يَقُولُ تَعَالى: إنَّ الإِنسَانَ تَحْتَ سُلْطَانِ اللهِ وَقَهْرِهِ، وَإِنَّ مَلاَئِكَةَ الرَّحْمَنِ المُكَلَّفِينَ بِحِفْظِ الإِنسَانِ وَإِحْصَاءِ أعْمَالِهِ هُمْ مُلازِمُونَ لَهُ دَائماً، حَتَّى إنَّهم بِالنِّسْبَةِ إليهِ أقْرَبُ مِنَ الوَرِيدِ الذِي يَمْتَدُّ في عُنُقهِ. إنَّ اللهَ تَعَالى عَالِمٌ بِجَمِيعِ أحْوَالِ الإِنْسَانِ. وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ وَكَّلَ بِهِ مَلَكِينِ عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ يَرْقُبَانِهِ وَيَتَرَصَّدَانِهِ، وَيُحْصِيَانِ عَليهِ كُلَّ قَوْلٍ أوْ عَمَلٍ وَيْكْتُبَانِهِ. مَلكٌ عَنِ اليَمِينِ يَكْتُبُ الحَسَنَاتِ، وَمَلكُ عَنِ الشِّمالِ يَكْتُبُ السَّيِّئاتِ. وَلاَ يَصْدُرُ عَن
__________
(1) -آكام المرجان في أحكام الجان (ص: 224)
(2) -انظر دلائل النبوة للبيهقي مخرجا (6/ 292) بَابُ مَا رُوِيَ فِي إِخْبَارِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - السَّائِلَ بِمَا أَرَادَ أَنْ يَسْأَلَهُ عَنْهُ قَبْلَ سُؤَالَهَ(1/258)
الإِنسَانِ لَفْظ أوْ كَلمَةٌ إلاَّ وَلَديهِ مَلكٌ حَاضِرٌ مَعَهُ، مُرَاقِبٌ لأعْمالِه يُثبتُها في صَحِيفَتِهِ. (1)
بل إن صحابة رضي الله عنهم أصابهم خوف شديد إذا كان يسجل عليهم حديث النفس ويحاسبون به، وذلك عندما نزل قول الله تعالى: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 284]
يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى عِبَادَهُ أنَّهُ مَالِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، لا شَرِيكَ لَهُ فِي شَيءٍ مِنْهُنَّ، وَأنَّهُ مُطَّلِعٌ عَلَى مَا فِيهنَّ، لاَ تَخْفَى عَليهِ السَّرَائِرُ وَلاَ الظَّوَاهِرُ، وَأنَّهُ سَيُحَاسِبُ عِبَادَهُ عَلَى مَا فَعَلُوهُ، وَمَا أَخْفَوْهُ فِي صُدُورِهِمْ، فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ، وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى كُلِّ شَيءٍ، سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى (2)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 284]، قَالَ: فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَأَتَوْا رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ثُمَّ بَرَكُوا عَلَى الرُّكَبِ، فَقَالُوا: أَيْ رَسُولَ اللهِ، كُلِّفْنَا مِنَ الْأَعْمَالِ مَا نُطِيقُ، الصَّلَاةَ وَالصِّيَامَ وَالْجِهَادَ وَالصَّدَقَةَ، وَقَدِ اُنْزِلَتْ عَلَيْكَ هَذِهِ الْآيَةُ وَلَا نُطِيقُهَا، قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " أَتُرِيدُونَ أَنْ تَقُولُوا كَمَا قَالَ أَهْلُ الْكِتَابَيْنِ مِنْ قَبْلِكُمْ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا؟ بَلْ قُولُوا: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ "، قَالُوا: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ، فَلَمَّا اقْتَرَأَهَا الْقَوْمُ، ذَلَّتْ بِهَا أَلْسِنَتُهُمْ، فَأَنْزَلَ اللهُ فِي إِثْرِهَا: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة: 285]، فَلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ نَسَخَهَا اللهُ تَعَالَى، فَأَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: {لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد (ص: 4525، بترقيم الشاملة آليا)
(2) - أيسر التفاسير لأسعد حومد (ص: 4525، بترقيم الشاملة آليا)(1/259)
أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286] " قَالَ: نَعَمْ " {رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} [البقرة: 286] " قَالَ: نَعَمْ " {رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} [البقرة: 286] " قَالَ: نَعَمْ " {وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 286] " قَالَ: نَعَمْ " (1)
وقد بين النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الله تعالى عفا عن الوسوسة وحديث النفس ما لم يتبعه قول أو عمل، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِي مَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا، مَا لَمْ تَعْمَلْ أَوْ تَتَكَلَّمْ» قَالَ قَتَادَةُ: «إِذَا طَلَّقَ فِي نَفْسِهِ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ» (2)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ , أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " إنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِي كُلَّ شَيْءٍ حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ تَتَكَلَّمْ أَوْ تَعْمَلْ " (3)
قَالَ: أَبُو جَعْفَرٍ: وَكَانَ الَّذِي حَدَّثَنَا هَؤُلَاءِ جَمِيعًا هَذَا الْحَدِيثَ عَلَيْهِ هُوَ: حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا بِالنَّصْبِ , فَكَانَ ذَلِكَ عَلَى مَعْنَى حَدِيثِهَا بِهِ أَنْفُسَهَا , وَأَهْلُ اللُّغَةِ يُخَالِفُونَهُمْ فِي ذَلِكَ , وَيَذْكُرُونَ أَنَّهُ حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسُهَا بِالرَّفْعِ , وَأَنَّ أَنْفُسَهَا حَدِيثُهَا بِهِ عَنْ غَيْرِ اخْتِيَارِهَا إيَّاهُ , وَلَا اجْتِلَابِهَا لَهُ مِنْهَا , قَالُوا: وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق: 16] قَالُوا: وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ فَذَكَرُوا عَنْ عَبْدِ اللهِ , قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - , فَقَالَ: إنِّي أُحَدِّثُ نَفْسِي بِالشَّيْءِ ; لَأَنْ أَخِرَّ مِنَ السَّمَاءِ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أَتَكَلَّمَ بِهِ فَقَالَ: " ذَاكَ مَحْضُ الْإِيمَانِ أَوْ قَالَ: صَرِيحُ الْإِيمَانِ " (صحيح)
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ, أَنَّ أَصْحَابَ النَّبِيِّ , - صلى الله عليه وسلم -، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ إنَّ أَحَدَنَا يُحَدِّثُ نَفْسَهُ بِالشَّيْءِ , لَأَنْ يَكُونَ حُمَمَةً أَحَبُّ إلَيْهِ مِنْ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ , فَقَالَ: " الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَقْدِرْ مِنْكُمْ إلَّا عَلَى الْوَسْوَسَةِ " (صحيح)
__________
(1) - صحيح مسلم (1/ 115) 199 - (125)
(2) - صحيح البخاري (7/ 46) (5269) وصحيح مسلم (1/ 116) 201 - (127)
(3) - شرح مشكل الآثار (4/ 322) (1635) صحيح(1/260)
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ , قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ كُنَّا نُحَدِّثُ أَنْفُسَنَا بِالشَّيْءِ لَأَنْ نَكُونَ حُمَمَةً أَحَبُّ إلَيْنَا مِنْ أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهِ , فَقَالَ أَحَدُهُمَا: " الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَقْدِرْ مِنْكُمْ إلَّا عَلَى الْوَسْوَسَةِ " (صحيح)
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ , قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - , فَقَالَ: إنِّي أُحَدِّثُ نَفْسِي بِشَيْءٍ وَلَأَنْ أَكُونَ حُمَمَةً أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أَتَكَلَّمَ بِهِ فَقَالَ: " اللهُ أَكْبَرُ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي رَدَّ أَمَرَهُ إلَى الْوَسْوَسَةِ " (صحيح)
قَالُوا: وَهَذَا الْحَدِيثُ وَإِنْ كَانَ قَدْ قِيلَ فِيهِ: وَإِنَّ أَحَدَنَا يُحَدِّثُ نَفْسَهُ , وَهُوَ مِمَّا ذَكَرَهُ عَنْهُ ابْنُ مَسْعُودٍ ذَلِكَ صَرِيحُ الْإِيمَانِ أَوْ مَحْضُ الْإِيمَانِ , أَوْ لِتَوَقِّيكُمْ أَنْ تَقُولُوا ذَلِكَ بِأَلْسِنَتِكُمْ فَتُؤْخَذُونَ بِهِ , فَكَانَ تَوَقِّيكُمْ ذَلِكَ وَمَنْعُ أَنْفُسِكُمْ مِنْهُ إيمَانًا وَمَا ذَكَرَهُ عَنْهُ ابْنُ عَبَّاسٍ , وَهُوَ: " الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَقْدِرْ عَلَيْكُمْ إلَّا عَلَى الْوَسْوَسَةِ , أَوِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي رَدَّ أَمْرَهُ إلَى الْوَسْوَسَةِ , الَّتِي لَا تُؤَاخَذُونَ بِهَا بَلْ تُثَابُونَ عَلَى تَوَقِّيكُمْ أَنْ تُطْلِقُوهَا " قَالُوا: وَهَذَا الْحَدِيثُ , وَإِنْ كَانَ قَدْ قِيلَ فِيهِ: إنَّ أَحَدَنَا تُحَدِّثُهُ نَفْسُهُ , أَوْ إنَّا نُحَدِّثُ أَنْفُسَنَا , فَإِنَّ جَوَابَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إيَّاهُمْ فِي ذَلِكَ هُوَ الْمُعْتَمَدُ عَلَيْهِ، وَإِلَيْهِ قَصَدَ بِهِ , وَهُوَ: " الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَقْدِرْ مِنْكُمْ إلَّا عَلَى الْوَسْوَسَةِ " أَوِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي رَدَّ أَمْرَهُ إلَى الْوَسْوَسَةِ " فَعَادَ ذَلِكَ إلَى وَسْوَاسِهِ أَنْفُسَهُمْ بِمَا تُوَسْوِسُهُمْ بِهِ قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: فَتَأَمَّلْنَا نَحْنُ هَذَا الْحَدِيثَ وَهَلْ يَحْتَمِلُ خِلَافَ مَا قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ فِيهِ , مِمَّا يُوَافِقُ مَا كَانَ الَّذِينَ أَخَذْنَاهُ عَنْهُمْ حَدَّثُونَا بِهِ , مِمَّا يَعُودُ إلَى مَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا بِالنَّصْبِ أَمْ لَا , فَوَجَدْنَا مِنْهُ ذِكْرَ التَّجَاوُزِ مِنَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ لِنَبِيِّهِ فِي أُمَّتِهِ عَمَّا تَجَاوَزَ لَهَا عَنْهُ , فَكَانَ التَّجَاوُزُ لَا يَكُونُ إلَّا عَنْ مَا لَوْ لَمْ يَتَجَاوَزْ عَنْهُ , لَكَانُوا مُعَاقَبِينَ عَلَيْهِ , وَذَلِكَ مِمَّا قَدْ عَقَلْنَاهُ أَنَّهُ لَا يَكُونُ مِنَ الْخَوَاطِرِ الْمَعْفُوِّ عَنْهَا , وَأَنَّهُ إنَّمَا يَكُونُ مِنَ الْأَشْيَاءِ الْمُجْتَلَبَةِ بِالْهُمُومِ بِهَا , فَكَانَ وَجْهُ ذَلِكَ عِنْدَنَا , وَاللهُ أَعْلَمُ , عَلَى مَا يَهُمُّ بِهِ مِنَ الْمَعَاصِي لِيَعْمَلَهَا , فَتَجَاوَزَ اللهُ لِنَبِيِّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْهُمْ ذَلِكَ , فَلَمْ يُؤَاخِذْهُمْ بِهِ وَلَمْ يُعَاقِبْهُمْ عَلَيْهِ وَمِنْ ذَلِكَ ما جاء عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ , عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - , قَالَ: " قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ إذَا هَمَّ عَبْدِي بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا(1/261)
فَاكْتُبُوهَا حَسَنَةً، فَإِنْ عَمِلَهَا فَاكْتُبُوهَا عَشْرًا , وَإِذَا هَمَّ عَبْدِي بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا فَلَا تَكْتُبُوهَا، فَإِنْ عَمِلَهَا فَاكْتُبُوهَا بِمِثْلِهَا، وَإِنْ هُوَ تَرَكَهَا فَاكْتُبُوهَا حَسَنَةً " (صحيح)
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: سَمِعْتُ يُونُسَ يَقُولُ: ثُمَّ قَرَأْتُ هَذَا الْحَدِيثَ عَلَى سُفْيَانَ , بَعْدَ أَنْ حَدَّثَنَا بِهِ , فَزَادَنِي فِي الْحَسَنَةِ:" فَاكْتُبُوهَا إلَى سَبْعِ مِائَةِ ضِعْفٍ " , وَزَادَنِي فِي السَّيِّئَةِ:" فَإِنْ تَرَكَهَا مِنْ خَشْيَتِي " فَانْتَفَى بِذَلِكَ مَا ادَّعَاهُ أَهْلُ اللُّغَةِ عَلَى الْمُحَدِّثِينَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ , مِمَّا قَدْ ذَكَرْنَاهُ مَعَهُمْ , وَعَادَ الْحَدِيثُ إلَى مَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا بِالنَّصْبِ , كَمَا نَقَلُوهُ إلَيْنَا , لَا بِالرَّفْعِ , وَاللهَ عَزَّ وَجَلَّ نَسْأَلُهُ التَّوْفِيقَ" (1)
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله:" قالَ الكَرمانِيُّ: فِيهِ أَنَّ الوُجُود الذِّهنِيّ لا أَثَر لَهُ وإِنَّما الاعتِبار بِالوُجُودِ القَولِيّ فِي القَولِيّات والعَمَلِيّ فِي العَمَلِيّات، وقَد احتَجَّ بِهِ مَن لا يَرَى المُؤاخَذَةَ بِما وقَعَ فِي النَّفس ولَو عَزَمَ عَلَيهِ، وانفَصَلَ مَن قالَ يُؤاخَذ بِالعَزمِ بِأَنَّهُ نَوع مِنَ العَمَل يَعنِي عَمَل القَلب.
قُلت: وظاهِر الحَدِيث أَنَّ المُراد بِالعَمَلِ عَمَل الجَوارِح لأَنَّ المَفهُوم مِن لَفظ " ما لَم يَعمَل " يُشعِرُ بِأَنَّ كُلّ شَيء فِي الصَّدر لا يُؤاخَذُ بِهِ سَواءٌ تَوطَّنَ بِهِ أَم لَم يَتَوطَّن، وقَد تَقَدَّمَ البَحثُ فِي ذَلِكَ فِي أَواخِر الرِّقاق فِي الكَلام عَلَى حَدِيث " مَن هَمَّ بِسَيِّئَةٍ لا تُكتَب عَلَيهِ.
وفِي الحَدِيث إِشارَة إِلَى عَظِيم قَدر الأُمَّة المُحَمَّدِيَّة لأَجلِ نَبِيّها - صلى الله عليه وسلم - لِقَولِهِ:"تَجاوزَ لِي " وفِيهِ إِشعار بِاختِصاصِها بِذَلِكَ، بَل صَرَّحَ بَعضهم بِأَنَّهُ كانَ حُكم النّاسِي كالعامِدِ فِي الإِثم، وأَنَّ ذَلِكَ مِنَ الإِصرِ الَّذِي كانَ عَلَى مَن قَبلنا. (2)
2 - تمثل الشياطين:
أحياناً تأتي الشياطين لا بطريق الوسوسة؛ بل تتراءى له في صورة إنسان، وقد يسمع الصوت، ولا يرى الجسم، وقد تتشكل بصور غريبة ... وهي أحياناً تأتي الناس وتعرفهم
__________
(1) - شرح مشكل الآثار (4/ 323) فما بعد
(2) - فتح الباري شرح صحيح البخاري- ط دار المعرفة (11/ 552)(1/262)
بأنها من الجن، وفي بعض الأحيان تكذب في قولها، فتزعم أنها من الملائكة، وأحياناً تسمي نفسها برجال الغيب، أو تدعي أنها من عالم الأرواح ....
وهي في كل ذلك تحدث بعض الناس، وتخبرهم بالكلام المباشر، أو بوساطة شخص منهم يسمى الوسيط، تتلبس وتتحدث على لسانه، وقد تكون الإجابة بوساطة الكتابة
وقد تقوم بأكثر من ذلك، فتحمل الإنسان، وتطير به في الهواء، وتنقله من مكان إلى مكان، وقد تأتي له بأشياء يطلبها، ولكنها لا تفعل هذا إلا بالضالين، الذين يكفرون بالله ربّ الأرض والسماوات، أو يفعلون المنكرات والموبقات ....
وقد يتظاهر هؤلاء بالصلاح والتقوى، ولكنهم في حقيقة أمرهم من أضلّ الناس وأفسقهم، وقد ذكر القدامى والمحدثون من هذا شيئاً كثيراً، لا مجال لتكذيبه والطعن فيه؛ لبلوغه مبلغ التواتر.
فمن ذلك ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية عن الحلاج قال:" وَكَانَ مِنْ " مخاريقه " أَنَّهُ بَعَثَ بَعْضَ أَصْحَابِهِ إلَى مَكَانٍ فِي الْبَرِيَّةِ يُخَبِّئُ فِيهِ شَيْئًا مِنَ الْفَاكِهَةِ وَالْحَلْوَى ثُمَّ يَجِيءُ بِجَمَاعَةِ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا إلَى قَرِيبٍ مِنْ ذَلِكَ الْمَكَانِ فَيَقُولُ لَهُمْ: مَا تَشْتَهُونَ أَنْ آتِيَكُمْ بِهِ مِنْ هَذِهِ الْبَرِيَّةِ؟ فَيَشْتَهِي أَحَدُهُمْ فَاكِهَةً أَوْ حَلَاوَةً فَيَقُولُ: اُمْكُثُوا؛ ثُمَّ يَذْهَبُ إلَى ذَلِكَ الْمَكَانِ وَيَأْتِي بِمَا خَبَّأَ أَوْ بِبَعْضِهِ فَيَظُنُّ الْحَاضِرُونَ أَنَّ هَذِهِ كَرَامَةٌ لَهُ وَكَانَ صَاحِبُ سِيمَا وَشَيَاطِينَ تَخْدِمُهُ أَحْيَانًا كَانُوا مَعَهُ عَلَى جَبَل أَبِي قبيس فَطَلَبُوا مِنْهُ حَلَاوَةً فَذَهَبَ إلَى مَكَانٍ قَرِيبٍ مِنْهُمْ وَجَاءَ بِصَحْنِ حَلْوَى فَكَشَفُوا الْأَمْرَ فَوَجَدُوا ذَلِكَ قَدْ سُرِقَ مِنْ دُكَّانِ حلاوي بِالْيَمَنِ حَمَلَهُ شَيْطَانٌ مِنْ تِلْكَ الْبُقْعَةِ. وَمِثْلُ هَذَا يَحْصُلُ كَثِيرًا لِغَيْرِ الْحَلَّاجِ مِمَّنْ لَهُ حَالٌ شَيْطَانِيٌّ وَنَحْنُ نَعْرِفُ كَثِيرًا مِنْ هَؤُلَاءِ فِي زَمَانِنَا وَغَيْرِ زَمَانِنَا: مِثْلَ شَخْصٍ هُوَ الْآنَ بِدِمَشْقَ كَانَ الشَّيْطَانُ يَحْمِلُهُ مِنْ جَبَلِ الصالحية إلَى قَرْيَةٍ حَوْلَ دِمَشْقَ فَيَجِيءُ مِنْ الْهَوَى إلَى طَاقَةِ الْبَيْتِ الَّذِي فِيهِ النَّاسُ فَيَدْخُلُ وَهُمْ يَرَوْنَهُ. وَيَجِيءُ بِاللَّيْلِ إلَى " بَابِ الصَّغِيرِ " فَيَعْبُرُ مِنْهُ هُوَ وَرُفْقَتُهُ وَهُوَ مِنْ أَفْجَرِ النَّاسِ. وَآخَرُ كَانَ بالشويك فِي قَرْيَةٍ يُقَالُ لَهَا:" الشَّاهِدَةُ " يَطِيرُ فِي الْهَوَاءِ إلَى رَأْسِ الْجَبَلِ وَالنَّاسُ يَرَوْنَهُ وَكَانَ شَيْطَانٌ يَحْمِلُهُ وَكَانَ يَقْطَعُ الطَّرِيقَ. وَأَكْثَرُهُمْ شُيُوخُ الشَّرِّ يُقَالُ لِأَحَدِهِمْ " الْبَوَّيْ " أَيْ الْمُخْبَثُ(1/263)
يَنْصِبُونَ لَهُ حَرَكَاتٍ فِي لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ وَيَصْنَعُونَ خُبْزًا عَلَى سَبِيلِ الْقُرُبَاتِ فَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ وَلَا يَكُونُ عِنْدَهُمْ مَنْ يَذْكُرُ اللَّهَ وَلَا كِتَابٌ فِيهِ ذِكْرُ اللَّهِ؛ ثُمَّ يَصْعَدُ ذَلِكَ الْبَوَاء فِي الْهَوَى وَهُمْ يَرَوْنَهُ. وَيَسْمَعُونَ خِطَابَهُ لِلشَّيْطَانِ وَخِطَابَ الشَّيْطَانِ لَهُ وَمَنْ ضَحِكَ أَوْ شَرَقَ بِالْخُبْزِ ضَرَبَهُ الدُّفُّ. وَلَا يَرَوْنَ مَنْ يَضْرِبُ بِهِ. ثُمَّ إنَّ الشَّيْطَانَ يُخْبِرُهُمْ بِبَعْضِ مَا يَسْأَلُونَهُ عَنْهُ وَيَأْمُرُهُمْ بِأَنْ يُقَرِّبُوا لَهُ بَقَرًا وَخَيْلًا وَغَيْرَ ذَلِكَ وَأَنْ يَخْنُقُوهَا خَنْقًا وَلَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا فَإِذَا فَعَلُوا قَضَى حَاجَتَهُمْ. وَشَيْخٌ آخَرُ أَخْبَرَ عَنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ كَانَ يَزْنِي بِالنِّسَاءِ ويتلوط بِالصِّبْيَانِ الَّذِينَ يُقَالُ لَهُمْ " الْحِوَارَات " وَكَانَ يَقُولُ: يَأْتِينِي كَلْبٌ أَسْوَدُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ نُكْتَتَانِ بَيْضَاوَانِ فَيَقُولُ لِي: فُلَانٌ إنَّ فُلَانًا نَذَرَ لَك نَذْرًا وَغَدًا يَأْتِيك بِهِ وَأَنَا قَضَيْت حَاجَتَهُ لِأَجْلِك فَيُصْبِحُ ذَلِكَ الشَّخْصُ يَأْتِيهِ بِذَلِكَ النَّذْرِ؛ وَيُكَاشِفُهُ هَذَا الشَّيْخُ الْكَافِرُ. قَالَ: وَكُنْت إذَا طَلَبَ مِنِّي تَغْيِيرَ مِثْلِ اللَّاذَنِ أَقُولُ حَتَّى أَغِيبَ عَنْ عَقْلِي؛ وَإِذْ بِاللَّاذَنِ فِي يَدِي أَوْ فِي فَمِي وَأَنَا لَا أَدْرِي مَنْ وَضَعَهُ قَالَ: وَكُنْت أَمْشِي وَبَيْنَ يَدَيَّ عَمُودٌ أَسْوَدُ عَلَيْهِ نُورٌ. فَلَمَّا تَابَ هَذَا الشَّيْخُ وَصَارَ يُصَلِّي وَيَصُومُ وَيَجْتَنِبُ الْمَحَارِمَ: ذَهَبَ الْكَلْبُ الْأَسْوَدُ وَذَهَبَ التَّغْيِيرُ؛ فَلَا يُؤْتَى بِلَاذَنِ وَلَا غَيْرِهِ. وَشَيْخٌ آخَرُ كَانَ لَهُ شَيَاطِينُ يُرْسِلُهُمْ يَصْرَعُونَ بَعْضَ النَّاسِ فَيَأْتِي أَهْلُ ذَلِكَ الْمَصْرُوعِ إلَى الشَّيْخِ يَطْلُبُونَ مِنْهُ إبْرَاءَهُ فَيُرْسِلُ إلَى أَتْبَاعِهِ فَيُفَارِقُونَ ذَلِكَ الْمَصْرُوعَ وَيُعْطُونَ ذَلِكَ الشَّيْخَ دَرَاهِمَ كَثِيرَةً. وَكَانَ أَحْيَانًا تَأْتِيهِ الْجِنُّ بِدَرَاهِمَ وَطَعَامٍ تَسْرِقُهُ مِنْ النَّاسِ حَتَّى إنَّ بَعْضَ النَّاسِ كَانَ لَهُ تِينٌ فِي كوارة فَيَطْلُبُ الشَّيْخُ مِنْ شَيَاطِينِهِ تِينًا فَيُحْضِرُونَهُ لَهُ فَيَطْلُبُ أَصْحَابُ الْكُوَّارَةِ التِّينَ فَوَجَدُوهُ قَدْ ذَهَبَ. وَآخَرُ كَانَ مُشْتَغِلًا بِالْعِلْمِ وَالْقِرَاءَةِ فَجَاءَتْهُ الشَّيَاطِينُ أَغْرَتْهُ وَقَالُوا لَهُ: نَحْنُ نُسْقِطُ عَنْك الصَّلَاةَ وَنُحْضِرُ لَك مَا تُرِيدُ. فَكَانُوا يَأْتُونَهُ بِالْحَلْوَى وَالْفَاكِهَةِ حَتَّى حَضَرَ عِنْدَ بَعْضِ الشُّيُوخِ الْعَارِفِينَ بِالسُّنَّةِ فَاسْتَتَابَهُ وَأَعْطَى أَهْلَ الْحَلَاوَةِ ثَمَنَ حَلَاوَتِهِمْ الَّتِي أَكَلَهَا ذَلِكَ الْمَفْتُونُ بِالشَّيْطَانِ. فَكُلٌّ مَنْ خَرَجَ عَنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَكَانَ لَهُ حَالٌ: مِنْ مُكَاشَفَةٍ أَوْ تَأْثِيرٍ؛ فَإِنَّهُ صَاحِبُ حَالٍ نَفْسَانِيٍّ؛ أَوْ شَيْطَانِيٍّ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَالٌ بَلْ هُوَ يَتَشَبَّهُ بِأَصْحَابِ الْأَحْوَالِ فَهُوَ صَاحِبُ حَالٍ بهتاني. وَعَامَّةُ أَصْحَابِ الْأَحْوَالِ الشَّيْطَانِيَّةِ يَجْمَعُونَ بَيْنَ الْحَالِ الشَّيْطَانِيِّ وَالْحَالِ البهتاني كَمَا قَالَ تَعَالَى: {هَلْ(1/264)
أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ (223)} [الشعراء:221 - 223].و " الْحَلَّاجُ " كَانَ مِنْ أَئِمَّةِ هَؤُلَاءِ: أَهْلُ الْحَالِ الشَّيْطَانِيِّ وَالْحَالِ البهتاني. وَهَؤُلَاءِ طَوَائِفُ كَثِيرَةٌ." (1)
وبين شيخ الإسلام بعض طرق الشيطان في الإغواء، فقال:"وَلَمَّا كَانَتْ الْخَوَارِقُ كَثِيرًا مَا تَنْقُصُ بِهَا دَرَجَةُ الرَّجُلِ كَانَ كَثِيرٌ مِنْ الصَّالِحِينَ يَتُوبُ مِنْ مِثْلِ ذَلِكَ وَيَسْتَغْفِرُ اللَّهَ تَعَالَى كَمَا يَتُوبُ مِنْ الذُّنُوبِ: كَالزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَتَعْرِضُ عَلَى بَعْضِهِمْ فَيَسْأَلُ اللَّهَ زَوَالَهَا وَكُلُّهُمْ يَأْمُرُ الْمُرِيدَ السَّالِكَ أَنْ لَا يَقِفَ عِنْدَهَا وَلَا يَجْعَلَهَا هِمَّتَهُ وَلَا يَتَبَجَّحَ بِهَا؛ مَعَ ظَنِّهِمْ أَنَّهَا كَرَامَاتٌ فَكَيْفَ إذَا كَانَتْ بِالْحَقِيقَةِ مِنْ الشَّيَاطِينِ تُغْوِيهِمْ بِهَا فَإِنِّي أَعْرِفُ مَنْ تُخَاطِبُهُ النَّبَاتَاتُ بِمَا فِيهَا مِنْ الْمَنَافِعِ وَإِنَّمَا يُخَاطِبُهُ الشَّيْطَانُ الَّذِي دَخَلَ فِيهَا وَأَعْرِفُ مَنْ يُخَاطِبُهُمْ الْحَجَرُ وَالشَّجَرُ وَتَقُولُ: هَنِيئًا لَك يَا وَلِيَّ اللَّهِ فَيَقْرَأُ آيَةَ الْكُرْسِيِّ فَيَذْهَبُ ذَلِكَ. وَأَعْرِفُ مَنْ يَقْصِدُ صَيْدَ الطَّيْرِ فَتُخَاطِبُهُ الْعَصَافِيرُ وَغَيْرُهَا وَتَقُولُ: خُذْنِي حَتَّى يَأْكُلَنِي الْفُقَرَاءُ وَيَكُونُ الشَّيْطَانُ قَدْ دَخَلَ فِيهَا كَمَا يَدْخُلُ فِي الْإِنْسِ وَيُخَاطِبُهُ بِذَلِكَ وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ فِي الْبَيْتِ وَهُوَ مُغْلَقٌ فَيَرَى نَفْسَهُ خَارِجَهُ وَهُوَ لَمْ يَفْتَحْ وَبِالْعَكْسِ وَكَذَلِكَ فِي أَبْوَابِ الْمَدِينَةِ وَتَكُونُ الْجِنُّ قَدْ أَدْخَلَتْهُ وَأَخْرَجَتْهُ بِسُرْعَةِ أَوْ تَمُرُّ بِهِ أَنْوَارٌ أَوْ تَحْضُرُ عِنْدَهُ مَنْ يَطْلُبُهُ وَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْ الشَّيَاطِينِ يَتَصَوَّرُونَ بِصُورَةِ صَاحِبِهِ فَإِذَا قَرَأَ آيَةَ الْكُرْسِيِّ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ ذَهَبَ ذَلِكَ كُلُّهُ. وَأَعْرِفُ مَنْ يُخَاطِبُهُ مُخَاطِبٌ وَيَقُولُ لَهُ أَنَا مِنْ أَمْرِ اللَّهِ وَيَعِدُهُ بِأَنَّهُ الْمَهْدِيُّ الَّذِي بَشَّرَ بِهِ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - وَيَظْهَرُ لَهُ الْخَوَارِقُ مِثْلُ أَنْ يَخْطُرَ بِقَلْبِهِ تَصَرُّفٌ فِي الطَّيْرِ وَالْجَرَادِ فِي الْهَوَاءِ؛ فَإِذَا خَطَرَ بِقَلْبِهِ ذَهَابُ الطَّيْرِ أَوْ الْجَرَادِ يَمِينًا أَوْ شَمَالًا ذَهَبَ حَيْثُ أَرَادَ وَإِذَا خَطَرَ بِقَلْبِهِ قِيَامُ بَعْضِ الْمَوَاشِي أَوْ نَوْمُهُ أَوْ ذَهَابُهُ حَصَلَ لَهُ مَا أَرَادَ مِنْ غَيْرِ حَرَكَةٍ مِنْهُ فِي الظَّاهِرِ وَتَحْمِلُهُ إلَى مَكَّةَ وَتَأْتِي بِهِ وَتَأْتِيه بِأَشْخَاصِ فِي صُورَةٍ جَمِيلَةٍ وَتَقُولُ لَهُ هَذِهِ الْمَلَائِكَةُ الكروبيون أَرَادُوا زِيَارَتَك فَيَقُولُ فِي نَفْسِهِ: كَيْفَ تَصَوَّرُوا بِصُورَةِ المردان فَيَرْفَعُ رَأْسَهُ فَيَجِدُهُمْ بِلِحَى وَيَقُولُ لَهُ عَلَامَةُ
__________
(1) - مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية- دار الوفاء (35/ 111 - 114)(1/265)
إنَّك أَنْتَ الْمَهْدِيُّ إنَّك تَنْبُتُ فِي جَسَدِك شَامَةٌ فَتَنْبُتُ وَيَرَاهَا وَغَيْرُ ذَلِكَ وَكُلُّهُ مِنْ مَكْرِ الشَّيْطَانِ. وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ لَوْ ذَكَرْت مَا أَعْرِفُهُ مِنْهُ لَاحْتَاجَ إلَى مُجَلَّدٍ كَبِيرٍ". (1)
وبين رحمه الله ذلك بقوله:" وَالْمَقْصُودُ أَنَّ أَهْلَ الضَّلَالِ وَالْبِدَعِ الَّذِينَ فِيهِمْ زُهْدٌ وَعِبَادَةٌ عَلَى غَيْرِ الْوَجْهِ الشَّرْعِيِّ وَلَهُمْ أَحْيَانًا مُكَاشَفَاتٌ وَلَهُمْ تَأْثِيرَاتٌ يَأْوُونَ كَثِيرًا إلَى مَوَاضِعِ الشَّيَاطِينِ الَّتِي نَهَى عَنْ الصَّلَاةِ فِيهَا؛ لِأَنَّ الشَّيَاطِينَ تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمْ بِهَا وَتُخَاطِبُهُمْ الشَّيَاطِينُ بِبَعْضِ الْأُمُورِ كَمَا تُخَاطِبُ الْكُهَّانَ وَكَمَا كَانَتْ تَدْخُلُ فِي الْأَصْنَامِ وَتُكَلِّمُ عَابِدِي الْأَصْنَامِ وَتُعِينُهُمْ فِي بَعْضِ الْمَطَالِبِ كَمَا تُعِينُ السَّحَرَةَ وَكَمَا تُعِينُ عُبَّادَ الْأَصْنَامِ وَعُبَّادَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالْكَوَاكِبِ إذَا عَبَدُوهَا بِالْعِبَادَاتِ الَّتِي يَظُنُّونَ أَنَّهَا تُنَاسِبُهَا مِنْ تَسْبِيحٍ لَهَا وَلِبَاسٍ وَبَخُورٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ. فَإِنَّهُ قَدْ تَنْزِلُ عَلَيْهِمْ شَيَاطِينُ يُسَمُّونَهَا رُوحَانِيَّةَ الْكَوَاكِبِ وَقَدْ تَقْضِي بَعْضَ حَوَائِجِهِمْ إمَّا قَتْلَ بَعْضِ أَعْدَائِهِمْ أَوْ إمْرَاضَهُ وَإِمَّا جَلْبَ بَعْضِ مَنْ يَهْوُونَهُ وَإِمَّا إحْضَارَ بَعْضِ الْمَالِ وَلَكِنَّ الضَّرَرَ الَّذِي يَحْصُلُ لَهُمْ بِذَلِكَ أَعْظَمُ مِنْ النَّفْعِ بَلْ قَدْ يَكُونُ أَضْعَافَ أَضْعَافِ النَّفْعِ." (2)
الذين تخدمهم الشياطين يتقربون إليها بالمعاصي:
هؤلاء الذين يزعمون الولاية - والحقيقة أن الشياطين تخدمهم - لا بدّ أن يتقربوا إلى الشياطين بما تحبه من الكفر والشرك؛ كي يقضوا بعض أغراضه، ويذكر ابن تيمية رحمه الله:" " وَالْإِنْسَان إِذا فَسدتْ نَفسه أَو مزاحه يشتهى مَا يضرّهُ ويلتذ بِهِ بل يعشق ذَلِك عشقا يفْسد عقله وَدينه وخلقه وبدنه وَمَاله والشيطان هُوَ نَفسه خَبِيث فَإِذا تقرب صَاحب العزائم والأقسام وَكتب الروحانيات السحرية وأمثال ذَلِك إِلَيْهِم بِمَا يحبونه من الْكفْر والشرك صَار ذَلِك كالرشوة والبرطيل لَهُم فيقضون بعض أغراضه كمن يعْطى غَيره مَالا ليقْتل لَهُ من يُرِيد قَتله أَو يُعينهُ على فَاحِشَة أَو ينَال مَعَه فَاحِشَة وَلِهَذَا كثير من هَذِه الْأُمُور يَكْتُبُونَ فِيهَا كَلَام الله تَعَالَى بِالنَّجَاسَةِ وَقد يقلبون حُرُوف {قل هُوَ الله أحد} أَو غَيرهَا بِنَجَاسَة إِمَّا دم وَإِمَّا غَيره وَإِمَّا بِغَيْر نَجَاسَة ويكتبون غير ذَلِك
__________
(1) - مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية- دار الوفاء (11/ 300) فما بعد
(2) - مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية- دار الوفاء (19/ 41)(1/266)
مِمَّا يرضاه الشَّيْطَان أَو يَتَكَلَّمُونَ بذلك فَإِذا قَالُوا أَو كتبُوا مَا ترضاه الشَّيَاطِين أعانتهم على بعض أغراضهم إِمَّا تغوير مَاء من الْمِيَاه وَإِمَّا أَن يحمل فِي الْهَوَاء إِلَى بعض الْأَمْكِنَة وَإِمَّا أَن يَأْتِيهِ بِمَال من أَمْوَال بعض النَّاس كَمَا تسرقه الشَّيَاطِين من أَمْوَال الخائنين وَمن لم يذكر اسْم الله عَلَيْهِ ويأتى بِهِ وَإِمَّا غير ذَلِك وَلَو سقنا فِي كل نوع من هَذِه الْأَنْوَاع من الْأُمُور الْمعينَة وَمن وَقعت لَهُ مِمَّن عَرفْنَاهُ وَمن لم نعرفه لطال ذَلِك جدا ". (1)
وقال ابن تيمية رحمه الله:" وَالَّذين يستخدمون الْجِنّ بِهَذِهِ الْأُمُور يزْعم كثير مِنْهُم أَن سُلَيْمَان كَانَ يستخدم الْجِنّ بِهَذِهِ الْأُمُور، فَإِنَّهُ قد ذكر غير وَاحِد من عُلَمَاء السّلف أَن سُلَيْمَان عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام لما مَاتَ كتبت الشَّيَاطِين كتب سحر وَكفر وجعلتها تَحت كرسيه وَقَالُوا: كَانَ سُلَيْمَان عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام يعْمل ليستخدم الْجِنّ بِهَذِهِ، فطعن طَائِفَة من أهل الْكتاب فِي سُلَيْمَان عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام بِهَذَا السَّبَب، وَآخَرُونَ قَالُوا: لَوْلَا أَن هَذَا حق جَائِز لما فعله سُلَيْمَان عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فضَلَّ الْفَرِيقَانِ هَؤُلَاءِ بقدحهم فِي سُلَيْمَان عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَهَؤُلَاءِ باتبَاعهمْ السحر فَأنْزل الله تَعَالَى فِي ذَلِك قَوْله تَعَالَى: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101) وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (102) وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (103)} [البقرة:101 - 102]،فَبين الله تَعَالَى أَن هَذَا يضرُّ وَلَا ينفعُ، إِذْ كَانَ النَّفْعُ هُوَ الْخَيْر
__________
(1) - مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية- دار الوفاء (19/ 34) وآكام المرجان في أحكام الجان (ص:150)(1/267)
الْخَالِصُ أَو الرَّاجِحُ، وَالضَّرَرُ هُوَ الشَّرُّ الْخَالِصُ أَو الرَّاجِحُ، وَشرُّ هَذَا إِمَّا خَالصٌ أَو رَاجِحٌ". (1).
من رجال الغيب؟:
1 - معنى رجال الغيب في اللغة:
قال الخليل:"هذا رَجُل أي ليس بأنثى، وهذا رجل أي كامل" (2).
وقال الجوهري:"والرَجُل خلاف المرأة، والجمع رِجَال ورِجَالات، مثل جمال وجمالات، وأَرَاجِل"2.فالرجال في اللغة جمع رجل وهو خلاف المرأة، أي ليس بأنثى.
وأما الغيب، فيقول ابن فارس:"الغين والياء والباء أصل صحيح يدل على تستر الشيء عن العيون، ثم يقاس. من ذلك الغيب ما غاب، مما لايعلمه إلا الله. ويقال غابت الشمس تغيب غيبة وغيوباً وغيباً" (3).
فرجال الغيب في اللغة هم الرجال المستترون عن العيون.
2 - معنى رجال الغيب في الاصطلاح:
يعتقد بعض العوام والصوفية أن رجال الغيب أولياء الله من الإنس، وهم غائبون عن أبصار الناس، وكلهم الله بتصريف الأمر (4) ..
والحقيقة أن ما يسمونه رجال الغيب هم جن تمثلت بصور الإنس، أو رؤيت في غير صور الإنس، والجن يسمون رجالاً، قال - تعالى -: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنْ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنْ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً} [الجن - 6] (5) ...
والجن تفعل ذلك كي تلبس على الإنس، ليعظموهم. قال شيخ الإسلام - رحمه الله -:"ورجال الغيب هم الجن، وهو يحسب أنه أنسي، وقد يقول له أنا الخضر، أو إلياس، بل أنا محمد، أو إبراهيم الخليل، أو المسيح، أو أبو بكر، أو عمر، أو أنا الشيخ فلان، أو الشيخ
__________
(1) - آكام المرجان في أحكام الجان (ص:151) ومجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية- دار الوفاء (19/ 42)
(2) - العين 6/ 101.الصحاح 4/ 1705.
(3) - معجم مقايس اللغة 4/ 403،وانظر: العين 8/ 454 - 456،الصحاح 1/ 196.
(4) - انظر: مجموع الفتاوى 1/ 362،13/ 217.
(5) - انظر: المرجع السابق 11/ 443،منهاج السنة 3/ 380.(1/268)
فلان، ممن يحسن بهم الظن. وقد يطير به في الهواء، أو يأتيه بطعام أو شراب أو نفقة، فيظن هذا كرامة، بل آية ومعجزة، تدل على أن هذا من رجال الغيب، أو من الملائكة، ويكون ذلك شيطاناً لبس عليه" (1).
وليس في أولياء الله المتقين، ولا عباد الله المخلصين الصالحين، ولا أنبيائه المرسلين، من كان غائب الجسد دائماً عن أبصار الناس (2) ..
3 - الناس في رجال الغيب أحزاب مختلفة (3):
حزب يكذبون بوجود رجال الغيب، ولكن قد عاينهم الناس، وثبت عمن عاينهم، أو حدثه الثقات بما رأوه، وهؤلاء إذا رأوهم وتيقنوا وجودهم قد يخضعون لهم.
وحزب عرفوهم، ورجعوا إلى القدر، واعتقدوا أن ثم في الباطن طريقاً إلى الله غير طريقة الأنبياء. وهؤلاء ضُلال.
وحزب ما أمكنهم أن يجعلوا ولياً خارجاً عن دائرة الرسول، فقالوا يكون الرسول هو ممداً للطائفتين. فهؤلاء معظمون للرسول جاهلون بدينه وشرعه.
والحق أن هؤلاء من أتباع الشياطين وأن رجال الغيب هم الجن، وإلا فالإنس يؤنسون أي يشهدون، ويرون، ومن ظنهم أنهم من الإنس فمن غلطه وجهله، وسبب الضلال فيهم وافتراق هذه الأحزاب الثلاثة، عدم الفرقان بين أولياء الشيطان وأولياء الرحمن.
فرجال الغيب إذاً ليسوا من الأنس بل هم جن يلبسون على الجهال والعوام، فيحسبونهم من أولياء الله وليسوا كذلك." (4)
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمنه الله:" فَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَسْمَعُ خِطَابًا أَوْ يَرَى مَنْ يَأْمُرُهُ بِقَضِيَّةِ وَيَكُونُ ذَلِكَ الْخِطَابُ مِنْ الشَّيْطَانِ وَيَكُونُ ذَلِكَ الَّذِي يُخَاطِبُهُ الشَّيْطَانُ وَهُوَ يَحْسَبُ أَنَّهُ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ مِنْ رِجَالِ الْغَيْبِ. وَرِجَالُ الْغَيْبِ هُمْ الْجِنُّ وَهُوَ يَحْسَبُ أَنَّهُ إنْسِيٌّ وَقَدْ يَقُولُ لَهُ: أَنَا الْخَضِرُ أَوْ إلْيَاسُ بَلْ أَنَا مُحَمَّدٌ أَوْ إبْرَاهِيمُ الْخَلِيلُ أَوْ الْمَسِيحُ
__________
(1) - مجموع الفتاوى 13/ 71.
(2) - انظر: المرجع السابق 11/ 443.
(3) - انظر: شرح العقيدة الطحاوية 2/ 766 - 767.
(4) - الألفاظ والمصطلحات المتعلقة بتوحيد الربوبية (ص:453)(1/269)
أَوْ أَبُو بَكْرٍ أَوْ عُمَرُ أَوْ أَنَا الشَّيْخُ فُلَانٌ أَوْ الشَّيْخُ فُلَانٌ مِمَّنْ يُحْسِنُ بِهِمْ الظَّنَّ وَقَدْ يَطِيرُ بِهِ فِي الْهَوَاءِ أَوْ يَأْتِيهِ بِطَعَامِ أَوْ شَرَابٍ أَوْ نَفَقَةٍ فَيَظُنُّ هَذَا كَرَامَةً؛ بَلْ آيَةً وَمُعْجِزَةً تَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا مِنْ رِجَالِ الْغَيْبِ أَوْ مِنْ الْمَلَائِكَةِ وَيَكُونُ ذَلِكَ شَيْطَانًا لَبَّسَ عَلَيْهِ فَهَذَا وَمِثْلُهُ وَاقِعٌ كَثِيرًا أَعْرِفُ مِنْهُ وَقَائِعَ كَثِيرَةً كَمَا أَعْرِفُ مِنْ الْغَلَطِ فِي السَّمْعِيَّاتِ وَالْعَقْلِيَّاتِ. فَهَؤُلَاءِ يَتَّبِعُونَ ظَنًّا لَا يُغْنِي مِنْ الْحَقِّ شَيْئًا وَلَوْ لَمْ يَتَقَدَّمُوا بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ؛ بَلْ اعْتَصَمُوا بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ لَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ هَذَا مِنْ الشَّيْطَانِ .. " (1)
وقال أيضا:" وَلِمَا ظَهَرَ أَنَّ مَعَ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ خُفَرَاءُ لَهُمْ مِنْ الرِّجَالِ الْمُسْلِمِينَ بِرِجَالِ الْغَيْبِ وَأَنَّ لَهُمْ خَوَارِقَ تَقْتَضِي أَنَّهُمْ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ صَارَ النَّاسُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ ثَلَاثَةَ أَحْزَابٍ. حِزْبٌ يُكَذِّبُونَ بِوُجُودِ هَؤُلَاءِ؛ وَلَكِنْ عَايَنَهُمْ النَّاسُ وَثَبَتَ ذَلِكَ عَمَّنْ عَايَنَهُمْ أَوْ حَدَّثَهُ الثقاة بِمَا رَأَوْهُ وَهَؤُلَاءِ إذَا رَأَوْهُمْ أَوْ تَيَقَّنُوا وُجُودَهُمْ خَضَعُوا لَهُمْ. وَحِزْبٌ عَرَفُوهُمْ وَرَجَعُوا إلَى الْقَدَرِ وَاعْتَقَدُوا أَنَّ ثَمَّ فِي الْبَاطِنِ طَرِيقًا إلَى اللَّهِ غَيْرَ طَرِيقَةِ الْأَنْبِيَاءِ. وَحِزْبٌ مَا أَمْكَنَهُمْ أَنْ يَجْعَلُوا أَوْلِيَاءَ اللَّهِ خَارِجِينَ عَنْ دَائِرَةِ الرَّسُولِ فَقَالُوا: يَكُونُ الرَّسُولُ هُوَ مُمِدًّا لِلطَّائِفَتَيْنِ لِهَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ فَهَؤُلَاءِ مُعَظِّمُونَ لِلرَّسُولِ جَاهِلُونَ بِدِينِهِ وَشَرْعِهِ وَاَلَّذِينَ قَبْلَهُمْ يُجَوِّزُونَ اتِّبَاعَ دِينٍ غَيْرِ دِينِهِ وَطَرِيقٍ غَيْرِ طَرِيقِهِ. وَكَانَتْ هَذِهِ الْأَقْوَالُ الثَّلَاثَةُ بِدِمَشْقَ لَمَّا فُتِحَتْ عَكَّا ثُمَّ تَبَيَّنَ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّ هَؤُلَاءِ مِنْ أَتْبَاعِ الشَّيَاطِينِ وَأَنَّ رِجَالَ الْغَيْبِ هُمْ الْجِنُّ وَأَنَّ الَّذِينَ مَعَ الْكُفَّارِ شَيَاطِينُ وَأَنَّ مَنْ وَافَقَهُمْ مِنْ الْإِنْسِ فَهُوَ مِنْ جِنْسِهِمْ شَيْطَانٌ مِنْ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ أَعْدَاءِ الْأَنْبِيَاءِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا}.وَكَانَ سَبَبُ الضَّلَالِ عَدَمَ الْفُرْقَانِ بَيْنَ أَوْلِيَاءِ الرَّحْمَنِ وَأَوْلِيَاءِ الشَّيْطَانِ .. " (2)
وقال أيضا:" وَلَيْسَ فِي أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُتَّقِينَ؛ وَلَا عُبَّادِ اللَّهِ الْمُخْلِصِينَ الصَّالِحِينَ وَلَا أَنْبِيَائِهِ الْمُرْسَلِينَ؛ مَنْ كَانَ غَائِبَ الْجَسَدِ دَائِمًا عَنْ أَبْصَارِ النَّاسِ بَلْ هَذَا مِنْ جِنْسِ قَوْلِ الْقَائِلِينَ
__________
(1) - مجموع الفتاوى (13/ 71)
(2) - مجموع الفتاوى (13/ 215)(1/270)
إنَّ عَلِيًّا فِي السَّحَابِ وَإِنَّ مُحَمَّدَ بْنَ الْحَنَفِيَّةِ فِي جِبَالِ رضوى وَإِنَّ مُحَمَّدَ بْنَ الْحَسَنِ بِسِرْدَابِ سَامِرِيٍّ وَإِنَّ الْحَاكِمَ بِجَبَلِ مِصْرَ وَإِنَّ الْأَبْدَالَ الْأَرْبَعِينَ رِجَالُ الْغَيْبِ بِجَبَلِ لُبْنَانَ فَكُلُّ هَذَا وَنَحْوُهُ مِنْ قَوْلِ أَهْلِ الْإِفْكِ وَالْبُهْتَانِ؛ نَعَمْ قَدْ تُخْرَقُ الْعَادَةُ فِي حَقِّ الشَّخْصِ فَيَغِيبُ تَارَةً عَنْ أَبْصَارِ النَّاسِ إمَّا لِدَفْعِ عَدُوٍّ عَنْهُ وَإِمَّا لِغَيْرِ ذَلِكَ وَإِمَّا أَنَّهُ يَكُونُ هَكَذَا طُولَ عُمْرِهِ فَبَاطِلٌ نَعَمْ يَكُونُ نُورُ قَلْبِهِ وَهُدَى فُؤَادِهِ وَمَا فِيهِ مِنْ أَسْرَارِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَمَانَتِهِ وَأَنْوَارِهِ وَمَعْرِفَتِهِ غَيْبًا عَنْ أَعْيُنِ النَّاسِ وَيَكُونُ صَلَاحُهُ وَوِلَايَتُهُ غَيْبًا عَنْ أَكْثَرِ النَّاسِ فَهَذَا هُوَ الْوَاقِعُ وَأَسْرَارُ الْحَقِّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَوْلِيَائِهِ وَأَكْثَرُ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ .. " (1)
قال شارح الطحاوية:"وَلَا يَجُوزُ الِاسْتِعَاذَةُ بِالْجِنِّ، فَقَدْ ذَمَّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ عَلَى ذَلِكَ، فَقَالَ تَعَالَى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} [الْجِنِّ:6].قَالُوا: كَانَ الْإِنْسِيُّ إِذَا نَزَلَ بِالْوَادِي يَقُولُ: أَعُوذُ بِعَظِيمِ هَذَا الْوَادِي مِنْ سُفَهَائِهِ، فَيَبِيتُ فِي أَمْنٍ وجوار حتى يصبح، {فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} [الجن:6]،يعني الإنس للجن، بِاسْتِعَاذَتِهِمْ بِهِمْ، رَهَقًا، أَيْ إِثْمًا وَطُغْيَانًا وَجَرَاءَةً وَشَرًّا، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ قَالُوا: قَدْ سُدْنَا الْجِنَّ، وَالْإِنْسَ! فَالْجِنُّ تَعَاظَمُ فِي أَنْفُسِهَا وَتَزْدَادُ كُفْرًا إِذَا عَامَلَتْهَا الْإِنْسُ بِهَذِهِ الْمُعَامَلَةِ, وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ، قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} [سَبَأٍ:40, 41].فَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يَدْعُونَ الْمَلَائِكَةَ وَيُخَاطِبُونَهُمْ بِهَذِهِ الْعَزَائِمِ، وَأَنَّهَا تَنَزَّلُ عَلَيْهِمْ ضَالُّونَ، وَإِنَّمَا تَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الشَّيَاطِينُ، وقد قال تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} [الْأَنْعَامِ:128].فَاسْتِمْتَاعُ الْإِنْسِيُّ بِالْجِنِّيِّ: فِي قَضَاءِ حَوَائِجِهِ، وَامْتِثَالِ أَوَامِرِهِ، وَإِخْبَارِهِ بِشَيْءٍ مِنَ الْمُغَيَّبَاتِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَاسْتِمْتَاعُ الْجِنِّ بِالْإِنْسِ: تَعْظِيمُهُ إِيَّاهُ، وَاسْتِعَانَتُهُ بِهِ، وَاسْتِغَاثَتُهُ وَخُضُوعُهُ لَهُ.
__________
(1) - مجموعة الرسائل والمسائل لابن تيمية - رشيد رضا (1/ 51) ومجموع الفتاوى (11/ 443)(1/271)
ونوع منهم بالأحوال الشيطانية، والكشوف ومخاطبته رِجَالِ الْغَيْبِ، وَأَنَّ لَهُمْ خَوَارِقَ تَقْتَضِي أَنَّهُمْ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ! وَكَانَ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُعِينُ الْمُشْرِكِينَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ! وَيَقُولُ: إِنَّ الرَّسُولَ أَمَرَهُ بِقِتَالِ الْمُسْلِمِينَ مَعَ الْمُشْرِكِينَ، لِكَوْنِ الْمُسْلِمِينَ قَدْ عَصَوْا! وَهَؤُلَاءِ فِي الْحَقِيقَةِ إِخْوَانُ الْمُشْرِكِينَ. وَالنَّاسُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ فِيهِمْ [عَلَى] ثَلَاثَةِ أَحْزَابٍ: حِزْبٌ يُكَذِّبُونَ بِوُجُودِ رِجَالِ الْغَيْبِ، وَلَكِنْ قَدْ عَايَنَهُمُ [النَّاسُ]، [وَثَبَتَ عَمَّنْ عَايَنَهُمْ] أَوْ حَدَّثَهُ الثِّقَاتُ بِمَا رَأَوْهُ، وَهَؤُلَاءِ إِذَا رَأَوْهُمْ وَتَيَقَّنُوا وُجُودَهُمْ خَضَعُوا لَهُمْ, وَحِزْبٌ عَرَفُوهُمْ، وَرَجَعُوا إِلَى الْقَدَرِ، وَاعْتَقَدُوا أَنَّ ثَمَّ فِي الْبَاطِنِ طَرِيقًا إِلَى اللَّهِ غَيْرَ طَرِيقَةِ الْأَنْبِيَاءِ! وَحِزْبٌ مَا أَمْكَنَهُمْ أَنْ يَجْعَلُوا وَلِيًّا خَارِجًا عَنْ دَائِرَةِ الرَّسُولِ، فَقَالُوا: يَكُونُ الرَّسُولُ هُوَ مُمِدًّا لِلطَّائِفَتَيْنِ, فَهَؤُلَاءِ مُعَظِّمُونَ لِلرَّسُولِ جَاهِلُونَ بِدِينِهِ وَشَرْعِهِ، وَالْحَقُّ: أَنَّ هَؤُلَاءِ [مِنْ] أَتْبَاعِ الشَّيَاطِينِ، وَأَنَّ رِجَالَ الْغَيْبِ هُمُ الْجِنُّ، وَيُسَمَّوْنَ رِجَالًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} [الْجِنِّ:6].وَإِلَّا فَالْإِنْسُ يُؤْنَسُونَ، أَيْ يُشْهَدُونَ وَيُرَوْنَ، وَإِنَّمَا يَحْتَجِبُ الْإِنْسِيُّ أَحْيَانًا، لَا يَكُونُ دَائِمًا مُحْتَجِبًا عَنْ أبصار الإنس، ومن ظنهم أَنَّهُمْ مِنَ الْإِنْسِ فَمِنْ غَلَطِهِ وَجَهْلِهِ, وَسَبَبُ الضلال فِيهِمْ، وَافْتِرَاقِ هَذِهِ الْأَحْزَابِ الثَّلَاثَةِ, عَدَمُ الْفُرْقَانِ بَيْنَ أَوْلِيَاءِ الشَّيْطَانِ وَأَوْلِيَاءِ الرَّحْمَنِ. (1)
فلا بد أن يكون عند العبد الميزان الذي يفرق به بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، والصالحين والطالحين، وإلا ضّل وزاغ، وظن أعداء الله أولياءَه، هذا الميزان هو الكتاب والسنة، فإذا كان العبد ملتزماً بهما فنعم، وإلا فإنّه ليس على شيء، ولو رأيناه يحي الأموات، ويحول المعادن الخسيسة إلى معادن نفيسة.
يقول ابن تيمية:"وَمَنْ لَمْ يُمَيِّزْ بَيْنَ الْأَحْوَالِ الرَّحْمَانِيَّةِ والنفسانية اشْتَبَهَ عَلَيْهِ الْحَقُّ بِالْبَاطِلِ وَمَنْ لَمْ يُنَوِّرْ اللَّهُ قَلْبَهُ بِحَقَائِقِ الْإِيمَانِ وَاتِّبَاعِ الْقُرْآنِ لَمْ يَعْرِفْ طَرِيقَ الْمُحِقِّ مِنَ
__________
(1) - شرح الطحاوية - ط دار السلام (ص:505) وشرح الطحاوية - ط الأوقاف السعودية (ص:520)(1/272)
الْمُبْطِلِ؛ وَالْتَبَسَ عَلَيْهِ الْأَمْرُ وَالْحَالُ كَمَا الْتَبَسَ عَلَى النَّاسِ حَالُ مُسَيْلِمَةَ صَاحِبِ الْيَمَامَةِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْكَذَّابِينَ فِي زَعْمِهِمْ أَنَّهُمْ أَنْبِيَاءُ؛ وَإِنَّمَا هُمْ كَذَّابُونَ .. " (1)
وقال العلامة البراك:
" من العوالم التي خلقها الله الملائكة والإنس والجن، فأما الملائكة فهم من عالم الغيب وقد يتمثلون فيما يشاء الله، كما تمثل جبريل لمريم بشراً سوياً، والملائكة أضيافا لإبراهيم - عليه السلام -،وكان جبريل يأتي أحياناً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بصورة رجل غريب أو بصورة دحية الكلبي، وأما الجن فهم كذلك من عالم الغيب، إلا أنهم يسكنون مع الناس في هذه الأرض، وقد يتمثلون بصور مختلفة تارة بصورة إنسان، وتارة بصورة حيوان، وأما إذا كانوا على خلقتهم فإن الناس لا يرونهم كما قال سبحانه وتعالى:"إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ " [الأعراف:27]،وأما الإنس فهم من عالم الشهادة فهم محسوسون مشاهدون، ولا يكون أحداً من الناس غائباً بحيث لا يرى في حال من الأحوال، وعلى هذا فرجال الغيب ليسوا من الإنس بل هم من الجن، ومن الجن رجال، كما قال سبحانه وتعالى:"وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً" [الجن:6]،وأما من ورد فيهم حديث "إذا أضل أحدكم دابته في فلاة فليقل: يا عباد الله احبسوا " فيحتمل أن يكون - إن صح الحديث المراد بهم الملائكة، ويحتمل أن يكون المراد بهم الجن، وفي الجن الصالحون ومن دونهم، كما قال تعالى:"وأنا منا الصالحون ومنا دون ذلك كنا طرائق قددا"،ومنهم المسلم والكافر، كما قال سبحانه وتعالى:"وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخَافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً " [الجن:13 - 14]،فالاعتقاد أن رجال الغيب من الإنس اعتقاد باطل، والله أعلم." (2)
حكم الاستعانة بالجن في العلاج الطبي وغيره:
يقول الدكتور حسام الدين بن موسى عفانة حفظه الله:
__________
(1) - مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية- دار الوفاء (35/ 117)
(2) - فتاوى واستشارات الإسلام اليوم (2/ 276):رجال الغيب -المجيب عبد الرحمن بن ناصر البراك
عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية(1/273)
" الجن خلق من خلق الله عز وجل وقد أخبرنا الله جل جلاله أنه قد خلقهم من نار فقال تعالى: {وَخَلَقَ الْجَانَّ مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ} سورة الرحمن الآية 15،وقال تعالى: {وَالْجَآنَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السَّمُومِ} سورة الحجر الآية 27،وطبيعة الجن وخصائصهم وقدراتهم تخالف الإنس، قال تعالى مخبراً عن الجن: {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاء فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً، وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَّصَداً} سورة الجن الآيتان 8 - 9.
وأخبر عز وجل عن تسخير الجن لسليمان عليه السلام فقال تعالى: (وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ، يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (سورة سبأ الآيتان 12 - 13.
والجن مكلفون بعبادة الله سبحانه وتعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (سورة الذاريات 56 وقال تعالى: (يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُواْ شَهِدْنَا عَلَى أَنفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ (سورة الأنعام الآية 130
وقد أسلمت طائفة من الجن، قال تعالى: (وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ (سورة الأحقاف الآية 29.
وقال تعالى: (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً (سورة الجن الآية 1.فالجن منهم المسلمون ومنهم الكفار كما قال تعالى: (وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَداً (سورة الجن الآية 11.
إذا تقرر هذا فإن مسألة استعانة الإنسان بالجان من المسائل التي أثيرت قديماً وحديثاً، بل إن الناس في الجاهلية كانوا يستعينون بالجن كما قال تعالى: (وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً (سورة الجن الآية 6.(1/274)
وقد فصلَّ شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله استعانة الإنس بالجن حيث قال: [وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ الْجِنَّ مَعَ الْإِنْسِ عَلَى أَحْوَالٍ:
فَمَنْ كَانَ مِنْ الْإِنْسِ يَأْمُرُ الْجِنَّ بِمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ مِنْ عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ وَطَاعَةِ نَبِيِّهِ وَيَأْمُرُ الْإِنْسَ بِذَلِكَ فَهَذَا مِنْ أَفْضَلِ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ فِي ذَلِكَ مِنْ خُلَفَاءِ الرَّسُولِ وَنُوَّابِهِ.
وَمَنْ كَانَ يَسْتَعْمِلُ الْجِنَّ فِي أُمُورٍ مُبَاحَةٍ لَهُ فَهُوَ كَمَنْ اسْتَعْمَلَ الْإِنْسَ فِي أُمُورٍ مُبَاحَةٍ لَهُ وَهَذَا كَأَنْ يَأْمُرَهُمْ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ وَيَنْهَاهُمْ عَمَّا حَرَّمَ عَلَيْهِمْ وَيَسْتَعْمِلُهُمْ فِي مُبَاحَاتٍ لَهُ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْمُلُوكِ الَّذِينَ يَفْعَلُونَ مِثْلَ ذَلِكَ وَهَذَا إذَا قُدِّرَ أَنَّهُ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ تَعَالَى فَغَايَتُهُ أَنْ يَكُونَ فِي عُمُومِ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ مِثْلِ النَّبِيِّ الْمَلِكِ مَعَ الْعَبْدِ الرَّسُولِ: كَسُلَيْمَانَ وَيُوسُفَ مَعَ إبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى وَمُحَمَّدٍ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ أجْمَعِينَ.
وَمَنْ كَانَ يَسْتَعْمِلُ الْجِنَّ فِيمَا يَنْهَى اللَّهُ عَنْهُ وَرَسُولُهُ إمَّا فِي الشِّرْكِ وَإِمَّا فِي قَتْلِ مَعْصُومِ الدَّمِ أَوْ فِي الْعُدْوَانِ عَلَيْهِمْ بِغَيْرِ الْقَتْلِ كَتَمْرِيضِهِ وَإِنْسَائِهِ الْعِلْمَ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ الظُّلْمِ وَإِمَّا فِي فَاحِشَةٍ كَجَلْبِ مَنْ يُطْلَبُ مِنْهُ الْفَاحِشَةُ فَهَذَا قَدْ اسْتَعَانَ بِهِمْ عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ثُمَّ إنِ اسْتَعَانَ بِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ فَهُوَ كَافِرٌ وَإِنْ اسْتَعَانَ بِهِمْ عَلَى الْمَعَاصِي فَهُوَ عَاصٍ: إمَّا فَاسِقٌ وَإِمَّا مُذْنِبٌ غَيْرُ فَاسِقٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ تَامَّ الْعِلْمِ بِالشَّرِيعَةِ فَاسْتَعَانَ بِهِمْ فِيمَا يُظَنُّ أَنَّهُ مِنَ الْكَرَامَاتِ: مِثْلُ أَنْ يَسْتَعِينَ بِهِمْ عَلَى الْحَجِّ أَوْ أَنْ يَطِيرُوا بِهِ عِنْدَ السَّمَاعِ الْبِدْعِيِّ أَوْ أَنْ يَحْمِلُوهُ إلَى عَرَفَاتٍ وَلَا يَحُجُّ الْحَجَّ الشَّرْعِيَّ الَّذِي أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ وَأَنْ يَحْمِلُوهُ مِنْ مَدِينَةٍ إلَى مَدِينَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَهَذَا مَغْرُورٌ قَدْ مَكَرُوا بِهِ. وَكَثِيرٌ مِنْ هَؤُلَاءِ قَدْ لَا يَعْرِفُ أَنَّ ذَلِكَ مِنَ الْجِنِّ بَلْ قَدْ سَمِعَ أَنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَهُمْ كَرَامَاتٌ وَخَوَارِقُ لِلْعَادَاتِ وَلَيْسَ عِنْدَهُ مِنْ حَقَائِقِ الْإِيمَانِ وَمَعْرِفَةِ الْقُرْآنِ مَا يُفَرِّقُ بِهِ بَيْنَ الْكَرَامَاتِ الرَّحْمَانِيَّةِ وَبَيْنَ التَّلْبِيسَاتِ الشَّيْطَانِيَّةِ فَيَمْكُرُونَ بِهِ بِحَسَبِ اعْتِقَادِهِ ... "] (1)
__________
(1) - مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية- دار الوفاء (11/ 307) وما بدها(1/275)
وقد اعتمد كثير من الناس على كلام شيخ الإسلام ابن تيمية السابق في جواز الاستعانة بالجن في العلاج، ولكن المحققين من العلماء يرون أن كلام ابن تيمية لا يفيد ذلك، قال العلامة العثيمين: [وقد اتخذ بعض الرقاة كلام شيخ الإسلام رحمه الله متكئاً على مشروعية الاستعانة بالجن المسلم في العلاج بأنه من الأمور المباحة، ولا أرى في كلام شيخ الإسلام ما يسوغ لهم هذا فإذا كان من البدهيات المسلّم بها أن الجن من عالم الغيب يرانا ولا نراه الغالب عليه الكذب معتد ظلوم غشوم مجهولة عدالته لذا روايته للحديث ضعيفة فما هو المقياس الذي نحكم به على أن هذا الجني مسلم وهذا منافق وهذا صالح وذاك طالح؟] عن شبكة الإنترنت.
والذي تطمئن إليه نفسي أنه لا يجوز شرعاً الاستعانة بالجن في الطب والعلاج ولا في إجراء العمليات الجراحية لما يلي:
أولاً: سلمنا أن للجن قدرات خارقة، وهذا ثابت بالكتاب والسنة، ولكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو قدوتنا وأسوتنا - لم يستعن بالجن في هذه الأمور ولا في غيرها مع أنه - صلى الله عليه وسلم - مرَّ في ظروف عصيبة هو وأصحابه الكرام فلم يثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - استعان بالجن، فمن ذلك حادثة الهجرة فقد كان - صلى الله عليه وسلم - بأمس الحاجة للمساعدة لينجو من كفار قريش، وكذلك فلم يستعن بالجن في غزواته - صلى الله عليه وسلم -،وكذلك عندما مرض - صلى الله عليه وسلم - أو عندما سحر، أو عندما مرض أو جرح عدد من الصحابة رضوان الله عليهم في الغزوات وغيرها فلم يثبت أنهم استعانوا بالجن. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: [والنوع الثالث أن يستعملهم في طاعة الله ورسوله، كما يستعمل الإنس في مثل ذلك، فيأمرهم بما أمر الله به ورسوله وينهاهم عما نهاهم الله عنه ورسوله كما يأمر الإنس وينهاهم، وهذا حال نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -،وحال من اتبعه واقتدى به من أمته وهم أفضل الخلق، فإنهم يأمرون الإنس والجن بما أمرهم الله به ورسوله، وينهون الإنس والجن عما نهاهم الله عنه ورسوله ... ] (1)
__________
(1) - مجموع فتاوى شيخ الإسلام 13/ 88.(1/276)
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية أيضاً: [فلم يستخدم الجن أصلاً - أي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لكن دعاهم إلى الإيمان بالله، وقرأ عليهم القرآن، وبلَّغهم الرسالة، وبايعهم كما فعل بالإنس] (1)
ثانياً: إن الإسلام قد شرع التداوي، فإذا مرض الإنسان فعليه أن يذهب إلى الأطباء للمعالجة وهذا من باب الأخذ بالأسباب ولا ينافي التوكل على الله، وقد جاء في حديث أُسَامَةَ بْنِ شَرِيكٍ، قَالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -،وَعِنْدَهُ أَصْحَابُهُ كَأَنَّمَا عَلَى رُءُوسِهِمُ الطَّيْرُ فَسَلَّمْتُ وَقَعَدَتْ، قَالَ: فَجَاءَتِ الْأَعْرَابُ، وَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، عَلَيْنَا حَرَجٌ فِي كَذَا أَشْيَاءَ، لَا بَأْسَ بِهَا؟ قَالَ:" عِبَادَ اللهِ، وَضَعَ اللهُ الْحَرَجَ إِلَّا امْرَءًا أَقْرَضَ امْرَأً مُسْلِمًا ظُلْمًا، فَذَلِكَ الَّذِي حُرِجَ وَأَهْلَكَ "قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا خَيْرُ مَا أُعْطِيَ الْإِنْسَانُ؟ قَالَ:" خُلُقٌ حُسْنٌ "قالوا: يَا رَسُولَ اللهِ، نَتَدَاوَى؟ قَالَ:" تَدَاوَوْا، فَإِنَّ اللهَ لَمْ يَضَعْ دَاءً فِي الْأَرْضِ إِلَّا وَضَعَ لَهُ دَوَاءً إِلَّا الْهَرَمَ " قَالَ: فَكَانَ هَذَا الشَّيْخُ يَقُولُ: هَلْ تَعْلَمُونَ لِي مِنْ دَوَاءٍ؟ قَالَ:" ثُمَّ قَامَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -،وَقَامَ النَّاسُ فَجَعَلُوا يُقَبِّلُونَ يَدَهُ، فَأَخَذْتُهَا فَوَضَعْتُهَا عَلَى وَجْهِي، فَإِذَا هِيَ أَطْيَبُ مِنَ الْمِسْكِ، وَأَبيض مِنَ الْثلج " (2)
وقد قرر العلماء أن الذي يتولى المداواة لا بد أن يكون من أهل الطب والخبرة فعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَنْ تَطَبَّبَ، وَلَا يُعْلَمُ مِنْهُ طِبٌّ، فَهُوَ ضَامِنٌ» (3)
وفي رواية أخرى قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «أَيُّمَا طَبِيبٍ تَطَبَّبَ عَلَى قَوْمٍ، لَا يُعْرَفُ لَهُ تَطَبُّبٌ قَبْلَ ذَلِكَ فَأَعْنَتَ فَهُوَ ضَامِنٌ» قَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ: «أَمَا إِنَّهُ لَيْسَ بِالنَّعْتِ إِنَّمَا هُوَ قَطْعُ الْعُرُوقِ وَالْبَطُّ، وَالْكَيُّ» (4)
ولا يجوز اللجوء إلى المشعوذين أو الدجالين ونحوهم للمعالجة وإن تحقق على أيديهم شفاء بعض الحالات المرضية فلا يجوز أن ننخدع بصدقهم فإنهم دجالون كذبة.
__________
(1) - مجموع فتاوى شيخ الإسلام13/ 89.
(2) - شعب الإيمان (3/ 107) (1435) صحيح وقال العلامة الألباني: حديث صحيح.
(3) - سنن أبي داود (4/ 195) (4586) حسن
(4) - سنن أبي داود (4/ 195) (4587) حسن لغيره(1/277)
ثالثاً: لو كان الأمر كما يزعم هؤلاء المستعينين بالجن في إجراء العمليات الجراحية، لما كان هنالك حاجة لدراسة الطب، ولا حاجة لإنشاء كليات الطب ولا المستشفيات ولا العيادات ونحوها، ولَكان الناس في غنىً عن كل ذلك، وإذا كان الأمر كما يزعمون فلماذا لا يستعينون بالجن في أمور أعظم من ذلك!!!
رابعاً: إن زعم هؤلاء أنهم يستعينون بالجن المسلم، كلام غير مقبول ولا يقوم على دليل صحيح، لأنهم يعتمدون على خبر الجن بأنهم مسلمون، وخبرهم محتمل للصدق وللكذب، فما الذي يدرينا أنهم مسلمون حقاً؟
خامساً: لو سلمنا جدلاً بصحة زعم هؤلاء، فيجب إغلاق هذا الباب من باب سد الذرائع، لما قد يترتب عليه من المفاسد، كإيقاع بعض الناس في الشرك، فمن المعلوم عند أهل العلم أن الجن في الغالب لا يقدمون خدمة للإنسان إلا إذا أشرك بالله عز وجل.
سادساً: [الجن خلق من خلق الله يعتريهم الجهل والقصور، ولا يعلمون ما غاب عنهم إلا بالطريقة الخلقية من خبرٍ أو نظر، فكيف تستطيع الجن أن تعرف خبر علة خفية، أو عينٍ نفسية، وهي التي مكثت سنة كاملة بين يدي سليمان عليه السلام تخدمه بكل تعب وعناء، وما علمت بموته؟! قال تعالى: (فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ (سورة سبأ الآية 14] (1)
وأخيراً أنبه على أن كثيراً من أهل العلم المعاصرين قد أفتوا بتحريم الذهاب إلى من يدَّعون العلاج عن طريق الاستعانة بالجن فقد جاء في فتاوى اللجنة الدائمة للإفتاء في السعودية ما يلي: [لا يجوز لذلك الرجل أن يستخدم الجن، ولا يجوز للناس أن يذهبوا إليه طلباً لعلاج الأمراض عن طريق ما يستخدمه من الجن ولا لقضاء المصالح عن ذلك الطريق. وفي العلاج عن طريق الأطباء من الإنس بالأدوية المباحة مندوحة وغنية عن ذلك مع السلامة من كهانة الكهَّان. وقد صحَّ عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنه قال (من أتى عرَّافاً فسأله عن شيء: لم تُقبل له صلاة أربعين ليلة) رواه مسلم. وخرَّج أهل السنن الأربعة
__________
(1) - تحذير أهل الإيمان من إباحة العبيكان الاستعانة بالجان ص 22.(1/278)
والحاكم وصححه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال (من أتى كاهناً فصدَّقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد).وهذا الرجل وأصحابه من الجن يعتبرون من العرَّافين والكهنة، فلا يجوز سؤالهم ولا تصديقهم] (1)
وخلاصة الأمر أنه لا يجوز شرعاً الذهاب إلى من يدَّعي أنه يقوم بإجراء العمليات الجراحية وغيرها من وسائل العلاج عن طريق الجن، وأن هذا باب شرٍ يجب سده. (2)
قلت: وهذا الذي أذهب إليه فلا يجوز الاستعانة بالجن في مثل هذه الأمور، لأنها خطيرة جدا، أما فيما سوى ذلك من أمور واجبة أو مستحبة أو مباحة فهي موضع خلاف ..
وقد استفاض ابن تيمية رحمه الله في مجموع الفتاوى حول تسخير الإنس الكفار للجنِّ الكفار، بما يشتبه على كثير من الناس أنه نوع من الكرامة، وإذا صحَّ هذا مع كفر الفريقين، فيصحُّ عكسه مع إيمان الفريقين بالله تعالى والاعتماد عليه، واستمداد الحول القوة منه، وسأنقل شيئا من كلام ابن تيمية رحمه الله بما يدلُّ على الجواز والمراد، قال رحمه الله:"وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَخْدِمُهُمْ فِي أُمُورٍ مُبَاحَةٍ إمَّا إحْضَارِ مَالِهِ أَوْ دَلَالَةٍ عَلَى مَكَانٍ فِيهِ مَالٌ لَيْسَ لَهُ مَالِكٌ مَعْصُومٌ أَوْ دَفْعِ مَنْ يُؤْذِيهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَهَذَا كَاسْتِعَانَةِ الْإِنْسِ بَعْضِهِمْ بِبَعْضِ فِي ذَلِكَ". (3)
ثم يقول:" النَّوْعُ الثَّالِثُ: أَنْ يَسْتَعْمِلَهُمْ فِي طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ كَمَا يُسْتَعْمَلُ الْإِنْسُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ فَيَأْمُرَهُمْ بِمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ وَيَنْهَاهُمْ عَمَّا نَهَاهُمْ اللَّهُ عَنْهُ وَرَسُولُهُ كَمَا يَأْمُرُ الْإِنْسَ وَيَنْهَاهُمْ. وَهَذِهِ حَالُ نَبِيِّنَا - صلى الله عليه وسلم - وَحَالٌ مَنِ اتَّبَعَهُ وَاقْتَدَى بِهِ مِنْ أُمَّتِهِ وَهُمْ أَفْضَلُ الْخَلْقِ، فَإِنَّهُمْ يَأْمُرُونَ الْإِنْسَ وَالْجِنَّ بِمَا أَمَرَهُمْ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ، وَيَنْهَوْنَ الْإِنْسَ وَالْجِنَّ عَمَّا نَهَاهُمْ اللَّهُ عَنْهُ وَرَسُولُهُ؛ إذْ كَانَ نَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ - صلى الله عليه وسلم - مَبْعُوثًا بِذَلِكَ إلَى الثَّقَلَيْنِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ لَهُ:"قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ
__________
(1) - فتاوى اللجنة الدائمة 1/ 408 - 409.
(2) - فتاوى يسألونك (13/ 29) فما بعدها
(3) - ابن تيمية، دقائق التفسير، ج 2 ص 139 - 141.(1/279)
اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ" (يوسف:108)،وَقَالَ:" قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ " (31) سورة آل عمران.
"وَعُمَرُ - رضي الله عنه - لَمَّا نَادَى: يَا سَارِيَةُ الْجَبَلَ قَالَ: إنَّ لِلَّهِ جُنُودًا يُبَلِّغُونَ صَوْتِي (1).وَجُنُودُ اللَّهِ هُمْ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَمِنْ صَالِحِي الْجِنِّ، فَجُنُودُ اللَّهِ بَلَّغُوا صَوْتَ عُمَرَ إلَى سَارِيَةَ، وَهُوَ أَنَّهُمْ نَادَوْهُ بِمِثْلِ صَوْتِ عُمَرَ، وَإِلَّا نَفْسُ صَوْتِ عُمَرَ لَا يَصِلُ نَفْسُهُ فِي هَذِهِ الْمَسَافَةِ الْبَعِيدَةِ (2)،وَهَذَا كَالرَّجُلِ يَدْعُو آخَرَ وَهُوَ بَعِيدٌ عَنْهُ فَيَقُولُ: يَا فُلَانُ، فَيُعَانُ عَلَى ذَلِكَ فَيَقُولُ الْوَاسِطَةُ بَيْنَهُمَا: يَا فُلَانُ، وَقَدْ يَقُولُ لِمَنْ هُوَ بَعِيدٌ عَنْهُ: يَا فُلَانُ احْبِسِ الْمَاءَ، تَعَالَ إلَيْنَا، وَهُوَ لا يَسْمَعُ صَوْتَهُ، فَيُنَادِيهِ الْوَاسِطَةُ بِمِثْلِ ذَلِكَ يَا فُلَانُ احْبِسْ الْمَاءَ أَرْسِلْ الْمَاءَ؛ إمَّا بِمِثْلِ صَوْتِ الْأَوَّلِ إنْ كَانَ لَا يَقْبَلُ إلَّا صَوْتَهُ وَإِلَّا فَلَا يَضُرُّ بِأَيِّ صَوْتٍ كَانَ إذَا عَرَفَ أَنَّ صَاحِبَهُ قَدْ نَادَاهُ" (3).
قلتُ: لقد أَثْبَتَ في كلامه أن استخدام الجن في المباحات مباحٌ، وفي المستحبات مستحبٌّ، وبيَّن أن الذي أوصل صوت عمر هو أحد صالحي الجنِّ!!
وهو قول العديد من أهل العلم المعاصرين (4).
__________
(1) - قول عمر:"إنَّ لِلَّهِ جُنُودًا يُبَلِّغُونَ صَوْتِي"لم أجده بهذا اللفظ.
(2) - قلت: طالما أنها كرامة، والكرامة خرق للعادة، فهل يعجز الله تعالى عن إيصال صوت عمر - رضي الله عنه - للمجاهدين أينما كانوا دون وسائط؟ فهذا التعليل فيه نظر؛ لأنه يكاد يمنع الكرامة.
(3) - ابن تيمية، دقائق التفسير، ج2،ص139 – 141.
(4) -انظر تفاصيل هذه المسألة http://www.alraqi.org/?page_id=99، فقد أجاز العلامة ابن عثيمين التعامل مع الجن في الأمور المباحة والواجبة شرعا إذا كان الجن مسلما صالحا عملا بفتوى لابن تيمية يرحمه الله (12/ 05 /2008):
http://www.ibnothaimeen.com/all/noor/article_694.shtml، وكذلك (12/ 05 /2008)
http://www.ibnothaimeen.com/all/noor/article_800.shtml،
وكذلك أجاز الشيخ مقبل الوادعي التعامل معهم إذا كان الجن صالحين مسلمين. كتاب غارة الأشرطة على أهل الجهل والسفسطة، ج2،ص236 - 237، منشورات دار الحرم.
وموقع الشيح المشيقح، رقم25530،تاريخ الفتوى 28/ 4/1429هـ- 4/ 5/2008م، (13/ 05 /2008م):
http://www.almoshaiqeh.com/index.php?option=com_ftawa&task=view&id=25530&catid=&Itemid=35(1/280)
قلت:
" والذي نراه راجحا في هذه المسألة هو أن طلب المعونة من الجن محرم شرعا لأن الجن عالم من الغيب، ولما يترتب على فتح باب الاستعانة بهم في أوجه الخير من الفساد العريض، والذي رأينا كثيرا منه في بلاد المسلمين، فقد اتخذ كثير من السحرة والمشعوذين فتوى بعض أفاضل العلماء بجواز الاستعانة بالمسلم من الجن في المباحات تكأة لبسوا بها على عوام الناس وأوهموهم أن ما يفعلونه من الدجل والكهانة أمر جائز شرعا, ولو لم يكن إلّا سد ذريعة هذا الشر لكفى مقتضيا لتحريم هذا الفعل، فكيف وقد انضاف إليه أوجه أخرى تقضي بالمنع منها أن هذا الفعل محدث، فإن السلف رحمهم الله من الصحابة ومن بعدهم لم ينقل عنهم أنهم استخدموا هذا الطريق، ولا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، فهذا النبي - صلى الله عليه وسلم - تمر عليه أحلك الظروف وأصعب المواقف في أحد والأحزاب، وغيرها ومع ذلك لم يعلق قلبه إلا بالله ولم يستعمل من الأسباب إلا ما كان في مقدور البشر.
وقد استدل بعض أهل العلم على منع التعامل معهم بقوله تعالى: هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ {الشعراء: 221، 222}.
وبقوله تعالى: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الأِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ {الأنعام: 128}، وبقوله: وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقا ً {الجن: 6}.
فدلت الآية بوضوح على أن استعانة الأنسي بالجني لا تزيد الإنسي إلّا رهقا وذلا والعياذ بالله، ثم إن الغالب في الجن أنهم لا يخدمون الإنس إلا إذا تقربوا إليهم بأنواع من القربات المحرمة: كأن يذبح لهم، أو يكتب كلام الله تعالى بالنجاسات وغير ذلك.
وبينّ شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن الجن لا ينفع الإنس إلا أن يستمتع به كما قال تعالى حكاية عنهم: ربنا استمتع بعضنا ببعض، وبيّن رحمه الله بعض أوجه هذا الاستمتاع فقال: ومن استمتاع الإنس بالجن استخدامهم في الإخبار بالأمور الغائبة كما يخبر الكهان، فإن في الإنس من له غرض في هذا، لما يحصل به من الرياسة والمال وغير(1/281)
ذلك، فإن كان القوم كفاراً كما كانت العرب لم تبال بأن يقال: إنه كاهن كما كان بعض العرب كهانا، وقدم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة وفيها كهان، وكان المنافقون يطلبون التحاكم إلى الكهان وكان أبو أبرق الأسلمي أحد الكهان قبل أن يسلم، وإن كان القوم مسلمين لم يظهر أنه كاهن، بل يجعل ذلك من باب الكرامات وهو من جنس الكهان، فإنه لا يخدم الإنسي بهذه الأخبار إلا لما يستمتع به من الإنسي بأن يطيعه الإنسي في بعض ما يريده، إما في شرك وإما في فاحشة وإما في أكل حرام وإما في قتل نفس بغير حق، فالشياطين لهم غرض فيما نهى الله عنه من الكفر والفسوق والعصيان، ولهم لذة في الشر والفتن يحبون ذلك وإن لم يكن فيه منفعة لهم، وهم يأمرون السارق أن يسرق ويذهبون إلى أهل المال فيقولون: فلان سرق متاعكم. اهـ. (1)
فدل هذا وغيره على أن الواجب على المسلمين سد هذا الباب وأن يجتنبوا هذا المنزلق الخطير من منزلقات الشيطان التي استزل فيها كثيرا من المسلمين والله المستعان.
وبهذا يتبين جواب سؤالك وتعلم أن الاستعانة بالجن لا تجوز مطلقا، والله أعلم. (2)
وقال العلامة عبد الرحمن حسن حبنكه الميداني رحمه الله:
" هل يلقي الجنُّ للإنس علوماً وأخباراً؟
أما العلوم والأخبار التي يمكن أن يلقيها الجنُّ إلى قرنائهم من الكهان، فهي بحسب مواضيع هذه العلوم التي يلقونها:
أ- فإن كانت من العلوم التي تتعلق بالأمور المشهودة، أو الإخبار عن الوقائع الماضية، فإنها أخبار تحتمل الصدق والكذب، وليس ببعيد أن يوجد في الجن كذابون، وقد أثبت
__________
(1) - مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية- دار الوفاء (13/ 82)
(2) - انظر للتوسع: فتاوى الشبكة الإسلامية (1/ 4151):حكم الاستعانة بالجن في أعمال الخير و (1/ 4301):الاستعانة بالجن في أعمال الخير و (1/ 4311):عدم جواز الاستعانة بالجن ولو في أعمال الخير وفتاوى موقع الألوكة (/ 1):العنوان: حكم الاستعانة بالجن، وكيفية تحضيرهم وفتاوى واستشارات الإسلام اليوم (2/ 252):استخدام الجنّ في العلاج و (2/ 509):الاستعانة بالجن وموقع الإسلام سؤال وجواب (1/ 855):هل يجوز أن يتعالج عند من يزعم أنه يتعامل مع طبيب من الجن المسلم؟(1/282)
الله تعالى أنَّ منهم العصاة والكافرين، ومن جهة ثانية فإنه لا يصحُّ الثقة بشيء من أخبارهم، لانعدام مقاييس تحديد الصادقين، والكاذبين فيهم بالنسبة إلينا.
ب- وإن كانت من المغيبات فهي:
إما أن تكون من المغيبات التي استأثر الله بعلمها، وهذه لا يمكن لإنس ولا جن معرفة شيء منها، ولا يكون التحدث بشيء منها إلا كذباً وافتراً على الله، ورارداً على لسان أحد القرينين من الإنس والجن.
وإما أن تكون من المغيبات التي قضيَ أمرُها في السماء، وأصبحت معلومة لذوي الاختصاص من الملائكة، كما أصبحت معدة لتبليغها للملائكة الموظفين بتنفيذ أمر الله فيها، وهذه قد جاء فيها عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما يلي:
عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، زَوْجِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -،أَنَّهَا سَمِعَتْ رَسُولَ - صلى الله عليه وسلم -،يَقُولُ: " إِنَّ المَلاَئِكَةَ تَنْزِلُ فِي العَنَانِ: وَهُوَ السَّحَابُ، فَتَذْكُرُ الأَمْرَ قُضِيَ فِي السَّمَاءِ، فَتَسْتَرِقُ الشَّيَاطِينُ السَّمْعَ فَتَسْمَعُهُ، فَتُوحِيهِ إِلَى الكُهَّانِ، فَيَكْذِبُونَ مَعَهَا مِائَةَ كَذْبَةٍ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ " (1)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، يَبْلُغُ بِهِ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:" إِذَا قَضَى اللَّهُ الأَمْرَ فِي السَّمَاءِ، ضَرَبَتِ المَلاَئِكَةُ بِأَجْنِحَتِهَا خُضْعَانًا لِقَوْلِهِ، كَالسِّلْسِلَةِ عَلَى صَفْوَانٍ - قَالَ عَلِيٌّ: وَقَالَ غَيْرُهُ: صَفْوَانٍ يَنْفُذُهُمْ ذَلِكَ - فَإِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ، قَالُوا: مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ، قَالُوا لِلَّذِي قَالَ: الحَقَّ، وَهُوَ العَلِيُّ الكَبِيرُ، فَيَسْمَعُهَا مُسْتَرِقُو السَّمْعِ، وَمُسْتَرِقُو السَّمْعِ هَكَذَا وَاحِدٌ فَوْقَ آخَرَ - وَوَصَفَ سُفْيَانُ بِيَدِهِ، وَفَرَّجَ بَيْنَ أَصَابِعِ يَدِهِ اليُمْنَى، نَصَبَهَا بَعْضَهَا فَوْقَ بَعْضٍ - فَرُبَّمَا أَدْرَكَ الشِّهَابُ المُسْتَمِعَ قَبْلَ أَنْ يَرْمِيَ بِهَا إِلَى صَاحِبِهِ فَيُحْرِقَهُ، وَرُبَّمَا لَمْ يُدْرِكْهُ حَتَّى يَرْمِيَ بِهَا إِلَى الَّذِي يَلِيهِ، إِلَى الَّذِي هُوَ أَسْفَلَ مِنْهُ، حَتَّى يُلْقُوهَا إِلَى الأَرْضِ - وَرُبَّمَا قَالَ سُفْيَانُ: حَتَّى تَنْتَهِيَ إِلَى الأَرْضِ - فَتُلْقَى عَلَى فَمِ السَّاحِرِ، فَيَكْذِبُ مَعَهَا مِائَةَ كَذْبَةٍ،
__________
(1) - صحيح البخاري (4/ 111) (3210)
[ش (فتسترق) تختلس وتستمع ستخفية كالسارق. (فتوحيه) فتلقيه. (الكهان) جمع كاهن وهو الذي يتعاطى الإخبار عن الكائنات في المستقبل ويدعي معرفة الأسرار](1/283)
فَيُصَدَّقُ فَيَقُولُونَ: أَلَمْ يُخْبِرْنَا يَوْمَ كَذَا وَكَذَا، يَكُونُ كَذَا وَكَذَا، فَوَجَدْنَاهُ حَقًّا؟ لِلْكَلِمَةِ الَّتِي سُمِعَتْ مِنَ السَّمَاءِ " (1)
وعَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ, - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:" إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِذَا قَضَى الْأَمْرَ فِي السَّمَاءِ ضَرَبَتِ الْمَلَائِكَةُ بِأَجْنِحَتِهَا خُضْعَانًا لِقَوْلِهِ كَصَوْتِ السِّلْسِلَةِ عَلَى الصَّفْوَانِ، فَإِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ, قَالُوا: مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟ قَالُوا الْحَقَّ قَالَ الَّذِي قَالُوا لَهُ الْحَقَّ: قَالَ الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ قَالَ: فَيَسْمَعُهَا مُسْتَرِقُو السَّمْعِ وَهُمْ هَكَذَا وَاحِدٌ فَوْقَ وَاحِدٍ، وَاحِدٌ فَوْقَ وَاحِدٍ، وَاحِدٌ فَوْقَ وَاحِدٍ، وَاحِدٌ فَوْقَ وَاحِدٍ «، وَأَشَارَ سُفْيَانُ بِأُصْبُعِهِ نَصَبَهَا بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ وَفَرَجَهَا،» فَيَسْمَعُ الْكَلِمَةَ فَيُلْقِيهَا إِلَى مَنْ تَحْتَهُ قَالَ فَرُبَّمَا أَدْرَكَهُ الشِّهَابُ قَبْلَ أَنْ يَرْمِيَ بِهَا إِلَى صَاحِبِهِ فَيَرْمِي بِهَا إِلَى هَذَا، وَهَذَا إِلَى هَذَا، وَهَذَا إِلَى هَذَا حَتَّى تُلْقَى عَلَى فَمِ سَاحِرٍ أَوْ كَاهِنٍ قَالَ: فَيَكْذِبُ مَعَهَا مِائَةَ كِذْبَةٍ فَيُصَدَّقُ، فَيُقَالُ: أَلَمْ يُخْبِرْنَا يَوْمَ كَذَا بِكَذَا، وَيَوْمَ كَذَا بِكَذَا، فَوَجَدْنَاهُ حَقًّا؟ وَهِيَ الْكَلِمَةُ الَّتِي سُمِعَتْ مِنَ السَّمَاءِ " (2)
وهذا هو استراق الشياطين السمع من الملائكة بعد نزولها إلى جو الأرض، وليس هو استراقها السمع من السماء، كما كان دأبهم قبل بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي منعوا به بالشهب.
وفي تكذيب مَن يلقي سمعه للشياطين، وإثمه الكبير قال الله تعالى: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ (223)} [الشعراء: 221 - 224] " (3).
__________
(1) - صحيح البخاري (6/ 80) (4701) وهذا أشار إليه الشيخ ولم يذكر نصَّه.
[ش (خضعانا) مصدر من خضع أي طاعة وانقيادا. (كالسلسة على صفوان) لها صوت كصوت السلسة على الحجر الأملس. (علي) بن عبد الله شيخ البخاري. (غيره) أي غير سفيان الذي روى عنه علي. (ينفذهم ذلك) ينفذ الله إلى الملائكة الأمر الذي قضاه وهذه الجملة زيادة غير سفيان. (فزع عن قلوبهم) زال عنها الخوف والفزع. (قالوا) أي سأل عامة الملائكة خاصتهم. (قالوا) أي الخاصة كجبريل وميكائيل عليهما السلام. (للذي قال) لأجل ما قضاه الله تعالى وقاله أو قالوا للذي سأل. (مسترقو السمع) وهم مردة الشياطين. (الساحر) المنجم.]
(2) - التوحيد لابن منده (1/ 147) (34) صحيح - زيادة مني
(3) - (العقيدة الإسلامية وأسسها - 290) ط 2(1/284)
وفي فتاوى أستاذنا الزحيلي حفظه الله:" هل يجوز الاستعانه بالجن المسلم؟ وما حكم من استعان بالجن المسلم لخدمة المسلمين؟ وما حكم الاستعانة بالجن بشكل عام؟.
الجواب:
يحرم الاستعانة بالجن أياً كانوا، فهو مذموم شرعاً لقوله تعالى في سورة الجن: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} [الجن:6]." (1)
3 - تحضير الأرواح:
انتشر في عصرنا القول بتحضير الأرواح، وصدّق بهذه الفِرية كثير من الذين يعدّهم الناس عقلاء وعلماء.
وتحضير الأرواح المزعوم سبيله ليس واحداً، فمنه ما هو كذب صراح، يستعمل فيه الإيحاء النفسي، والمؤثرات المختلفة، والحيل العلمية، ومنه ما هو استخدام للجنّ والشياطين.
وقد كشف الأستاذ الدكتور محمد محمد حسين في كتابه (الروحية الحديثة) كثيراً من خداع هؤلاء وتزويرهم للحقيقة، فهم لا يجرون تجاربهم كلها إلا في ضوء أحمر خافت، هو أقرب إلى الظلام، وظواهر التجسيد، والصوت المباشر، ونقل الأجسام، وتحريكها تجرى في الظلام الدامس، ولا يستطيع المراقب أن يتبين مواضع الجالسين، ولا مصدر الصوت، ولا يستطيع كذلك أن يميز شيئاً من تفاصيل المكان، كجدرانه أو أبوابه أو نوافذه.
وتكلم الدكتور محمد عن (الخباء) وهو حجرة جانبية معزولة عن الحاضرين أو جزء من الحجرة التي يجلسون فيها تفصل بحجاب كثيف، وهذا المكان المنفصل معدّ لجلوس الوسيط الذي تجرى على يديه ظواهر التجسد المزعوم. ومن هذا المكان المحجوب بستار يضاف إلى حجاب الظلام السابق تخرج الأرواح المزعومة متجسدة، وإليه تعود بعد قليل، ولا يسمح للحاضرين بلمس الأشباح.
__________
(1) - فتاوى الزحيلي (2/ 373) وهي في موقعه على النت(1/285)
ويرى الدكتور أن الروحيين لا يعْدِمون في مثل هذا الجو المظلم قوالب علمية يصبون فيها حيلهم.
والتدليس على الناس بالحيل طريقة قديمة معروفة، يضلّ بها شياطين الإنس عباد الله، يطلبون الوجاهة عند الناس، كما يطلبون مالهم، فقد ذكر ابن تيمية عن فرقة في عصره كانت تسمى (البطائحية):" وَبَلَغَنِي بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّهُمْ طَافُوا عَلَى عَدَدٍ مِنْ أَكَابِرِ الْأُمَرَاءِ وَقَالُوا أَنْوَاعًا مِمَّا جَرَتْ بِهِ عَادَتُهُمْ مِنْ التَّلْبِيسِ وَالِافْتِرَاءِ الَّذِي اسْتَحْوَذُوا بِهِ عَلَى أَكْثَرِ أَهْلِ الْأَرْضِ مِنْ الْأَكَابِرِ وَالرُّؤَسَاءِ مِثْلِ زَعْمِهِمْ أَنَّ لَهُمْ أَحْوَالًا لَا يُقَاوِمُهُمْ فِيهَا أَحَدٌ مِنْ الْأَوْلِيَاءِ وَأَنَّ لَهُمْ طَرِيقًا لَا يَعْرِفُهَا أَحَدٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ. وَأَنَّ شَيْخَهُمْ هُوَ فِي الْمَشَايِخِ كَالْخَلِيفَةِ وَأَنَّهُمْ يَتَقَدَّمُونَ عَلَى الْخَلْقِ بِهَذِهِ الْأَخْبَارِ المنيفة وَأَنَّ الْمُنْكِرَ عَلَيْهِمْ هُوَ آخِذٌ بِالشَّرْعِ الظَّاهِرِ غَيْرُ وَاصِلٍ إلَى الْحَقَائِقِ وَالسَّرَائِرِ. وَأَنَّ لَهُمْ طَرِيقًا وَلَهُ طَرِيقٌ. وَهُمْ الْوَاصِلُونَ إلَى كُنْهِ التَّحْقِيقِ وَأَشْبَاهِ هَذِهِ الدَّعَاوَى ذَاتِ الزُّخْرُفِ وَالتَّزْوِيقِ. وَكَانُوا لِفَرْطِ انْتِشَارِهِمْ فِي الْبِلَادِ وَاسْتِحْوَاذِهِمْ عَلَى الْمُلُوكِ وَالْأُمَرَاءِ وَالْأَجْنَادِ لِخَفَاءِ نُورِ الْإِسْلَامِ وَاسْتِبْدَالِ أَكْثَرِ النَّاسِ بِالنُّورِ الظَّلَامَ، وَطُمُوسِ آثَارِ الرَّسُولِ فِي أَكْثَرِ الْأَمْصَارِ وَدُرُوسِ حَقِيقَةِ الْإِسْلَامِ فِي دَوْلَةِ التَّتَارِ لَهُمْ فِي الْقُلُوبِ مَوْقِعٌ هَائِلٌ وَلَهُمْ فِيهِمْ مِنْ الِاعْتِقَادِ مَا لَا يَزُولُ بِقَوْلِ قَائِلٍ. قَالَ الْمُخْبِرُ: فَغَدَا أُولَئِكَ الْأُمَرَاءُ الْأَكَابِرُ وَخَاطَبُوا فِيهِمْ نَائِبَ السُّلْطَانِ بِتَعْظِيمِ أَمْرِهِمْ الْبَاهِرِ وَذَكَرَ لِي أَنْوَاعًا مِنْ الْخِطَابِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِحَقِيقَةِ الصَّوَابِ وَالْأَمِيرُ مُسْتَشْعِرٌ ظُهُورَ الْحَقِّ عِنْدَ التَّحْقِيقِ فَأَعَادَ الرَّسُولَ إلَيَّ مَرَّةً ثَانِيَةً فَبَلَغَهُ أَنَّا فِي الطَّرِيقِ وَكَانَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ الْأَضْدَادِ كَطَوَائِفَ مِنْ الْمُتَفَقِّهَةِ وَالْمُتَفَقِّرَةِ وَأَتْبَاعِ أَهْلِ الِاتِّحَادِ. مُجِدِّينَ فِي نَصْرِهِمْ بِحَسَبِ مَقْدُورِهِمْ مُجَهِّزِينَ لِمَنْ يُعِينُهُمْ فِي حُضُورِهِمْ. فَلَمَّا حَضَرْت وَجَدْت النُّفُوسَ فِي غَايَةِ الشَّوْقِ إلَى هَذَا الِاجْتِمَاعِ مُتَطَلِّعِينَ إلَى مَا سَيَكُونُ طَالِبِينَ لِلِاطِّلَاعِ. فَذَكَرَ لِي نَائِبُ السُّلْطَانِ وَغَيْرُهُ مِنْ الْأُمَرَاءِ بَعْضَ مَا ذَكَرُوهُ مِنْ الْأَقْوَالِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى الِافْتِرَاءِ. وَقَالَ إنَّهُمْ قَالُوا: إنَّك طَلَبْت مِنْهُمْ الِامْتِحَانَ وَأَنْ يَحْمُوا الْأَطْوَاقَ نَارًا وَيَلْبَسُوهَا فَقُلْت هَذَا مِنْ الْبُهْتَانِ. وَهَا أَنَا ذَا أَصِفُ مَا كَانَ. قُلْت لِلْأَمِيرِ: نَحْنُ لَا نَسْتَحِلُّ أَنْ نَأْمُرَ أَحَدًا بِأَنْ يَدْخُلَ نَارًا وَلَا تَجُوزُ طَاعَةُ مَنْ يَأْمُرُ(1/286)
بِدُخُولِ النَّارِ. وَفِي ذَلِكَ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ. وَهَؤُلَاءِ يَكْذِبُونَ فِي ذَلِكَ وَهُمْ كَذَّابُونَ مُبْتَدِعُونَ قَدْ أَفْسَدُوا مِنْ أَمْرِ دِينِ الْمُسْلِمِينَ وَدُنْيَاهُمْ مَا اللَّهُ بِهِ عَلِيمٌ. وَذَكَرْت تَلْبِيسَهُمْ عَلَى طَوَائِفَ مِنْ الْأُمَرَاءِ وَأَنَّهُمْ لَبَّسُوا عَلَى الْأَمِيرِ الْمَعْرُوفِ بالأيدمري. وَعَلَى قفجق نَائِبِ السَّلْطَنَةِ وَعَلَى غَيْرِهِمَا وَقَدْ لَبَّسُوا أَيْضًا عَلَى الْمَلِكِ الْعَادِلِ كتغا فِي مُلْكِهِ وَفِي حَالَةِ وِلَايَةِ حُمَّاهُ وَعَلَى أَمِيرِ السِّلَاحِ أَجَلِّ أَمِيرٍ بِدِيَارِ مِصْرَ وَضَاقَ الْمَجْلِسُ عَنْ حِكَايَةِ جَمِيعِ تَلْبِيسِهِمْ. فَذَكَرْت تَلْبِيسَهُمْ عَلَى الأيدمري وَأَنَّهُمْ كَانُوا يُرْسِلُونَ مِنْ النِّسَاءِ مَنْ يَسْتَخْبِرُ عَنْ أَحْوَالِ بَيْتِهِ الْبَاطِنَةِ ثُمَّ يُخْبِرُونَهُ بِهَا عَلَى طَرِيقِ الْمُكَاشَفَةِ وَوَعَدُوهُ بِالْمُلْكِ وَأَنَّهُمْ وَعَدُوهُ أَنْ يُرُوهُ رِجَالَ الْغَيْبِ فَصَنَعُوا خَشَبًا طِوَالًا وَجَعَلُوا عَلَيْهَا مَنْ يَمْشِي كَهَيْئَةِ الَّذِي يَلْعَبُ بِأُكَرِ الزُّجَاجِ فَجَعَلُوا يَمْشُونَ عَلَى جَبَلِ الْمَزَّةِ وَذَاكَ يَرَى مِنْ بَعِيدٍ قَوْمًا يَطُوفُونَ عَلَى الْجَبَلِ وَهُمْ يَرْتَفِعُونَ عَنْ الْأَرْضِ وَأَخَذُوا مِنْهُ مَالًا كَثِيرًا ثُمَّ انْكَشَفَ لَهُ أَمْرُهُمْ. قُلْت لِلْأَمِيرِ: وَوَلَدُهُ هُوَ الَّذِي فِي حَلْقَةِ الْجَيْشِ يَعْلَمُ ذَلِكَ وَهُوَ مِمَّنْ حَدَّثَنِي بِهَذِهِ الْقِصَّةِ. وَأَمَّا قفجق فَإِنَّهُمْ أَدْخَلُوا رَجُلًا فِي الْقَبْرِ يَتَكَلَّمُ وَأَوْهَمُوهُ أَنَّ الْمَوْتَى تَتَكَلَّمُ وَأَتَوْا بِهِ فِي مَقَابِرِ بَابِ الصَّغِيرِ إلَى رَجُلٍ زَعَمُوا أَنَّهُ الرَّجُلُ الشعراني الَّذِي بِجَبَلِ لُبْنَانَ وَلَمْ يُقَرِّبُوهُ مِنْهُ بَلْ مِنْ بَعِيدٍ لِتَعُودَ عَلَيْهِ بَرَكَتُهُ وَقَالُوا إنَّهُ طَلَبَ مِنْهُ جُمْلَةً مِنْ الْمَالِ؛ فَقَالَ قفجق الشَّيْخُ يُكَاشِفُ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ خَزَائِنِي لَيْسَ فِيهَا هَذَا كُلُّهُ وَتَقَرَّبَ قفجق مِنْهُ وَجَذَبَ الشَّعَرَ فَانْقَلَعَ الْجِلْدُ الَّذِي أَلْصَقُوهُ عَلَى جِلْدِهِ مِنْ جِلْدِ الْمَاعِزِ." (1)
وقد بين الدكتور محمد محمد حسين أن الوسيط - وهو شخص يزعم أهل هذا المذهب الروحيون أن فيه استعداداً فطرياً يؤهله لأن يكون أداة يجري عن طريقها التواصل - غالباً ما يكون دجالاً كبيراً، وغشاشاً مدلساً، وبين كيف أن كثيراً من هؤلاء الوسطاء لا يكون على خلق ولا دين، بل إن الروحانيين لا يشترطون في الوسيط شيئاً من ذلك، وقد ذكر حادثة جرت معه شخصياً تبين له بعد تحقيق منه في الموضوع أن الوسيط كان دجالاً كاذباً.
__________
(1) - مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية- دار الوفاء (11/ 456) فما بعدها(1/287)
وبين كيف أن بعض الحضور يكونون متواطئين مع المحضرين، وكيف يحترس في انتقاء الذين يسمح لهم بحضور مثل هذه الجلسات، وكيف يعللون إخفاقهم إذا وجد في الحضور بعض الأذكياء النبهاء.
وقد أفاض الدكتور محمد محمد حسين في الكشف عن الطريق الأولى التي يزعم الروحانيون أنهم يحضرون بها الأرواح، وهي طريق الدجل والكذب، واستعمال المؤثرات النفسية والحيل العلمية.
وأشار مجرد إشارة إلى الطريق الثانية وهي استخدام الجن، وأرى أن غالب الدعوات التي يزعم أصحابها تحضير الأرواح هي من هذا القبيل.
تحضير الأرواح دعوة قديمة:
دعوى تحضير الأرواح ليست جديدة، بل هي قديمة، وقديمة جداً، وقد نقلنا فيما سبق كيف كان بعض الناس يتصلون بالجن، بل حفظت لنا كتب الثقات أن بعض الناس كانوا يزعمون أن أرواح الموتى تعود إلى الحياة بعد الموت، يقول ابن تيمية رحمه الله:" وَمِنْ هَؤُلَاءِ (أي أهل الحال الشيطاني من الكفرة والمشركين والسحرة ونحوهم) مَنْ إذَا مَاتَ لَهُمْ مَيِّتٌ يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُ يَجِيءُ بَعْدَ الْمَوْتِ؛ فَيُكَلِّمُهُمْ وَيَقْضِي دُيُونَهُ وَيَرُدُّ وَدَائِعَهُ وَيُوصِيهِمْ بِوَصَايَا فَإِنَّهُمْ تَأْتِيهِمْ تِلْكَ الصُّورَةُ الَّتِي كَانَتْ فِي الْحَيَاةِ وَهُوَ شَيْطَانٌ يَتَمَثَّلُ فِي صُورَتِهِ؛ فَيَظُنُّونَهُ إيَّاهُ. وَكَثِيرٌ مِمَّنْ يَسْتَغِيثُ بِالْمَشَايِخِ فَيَقُولُ: يَا سَيِّدِي فُلَانٌ أَوْ يَا شَيْخُ فُلَانٍ اقْضِ حَاجَتِي. فَيَرَى صُورَةَ ذَلِكَ الشَّيْخِ تُخَاطِبُهُ وَيَقُولُ: أَنَا أَقْضِي حَاجَتَك وَأُطَيِّبُ قَلْبَك فَيَقْضِي حَاجَتَهُ أَوْ يَدْفَعُ عَنْهُ عَدُوَّهُ وَيَكُونُ ذَلِكَ شَيْطَانًا قَدْ تَمَثَّلَ فِي صُورَتِهِ لَمَّا أَشْرَكَ بِاَللَّهِ فَدَعَا غَيْرَهُ. وَأَنَا أَعْرِفُ مِنْ هَذَا وَقَائِعُ مُتَعَدِّدَةٌ؛ حَتَّى إنَّ طَائِفَةً مِنْ أَصْحَابِي ذَكَرُوا أَنَّهُمْ اسْتَغَاثُوا بِي فِي شَدَائِدَ أَصَابَتْهُمْ. أَحَدُهُمْ كَانَ خَائِفًا مِنَ الْأَرْمَنِ وَالْآخَرُ كَانَ خَائِفًا مِنَ التتر: فَذَكَرَ كُلٌّ مِنْهُمْ أَنَّهُ لَمَّا اسْتَغَاثَ بِي رَآنِي فِي الْهَوَاءِ وَقَدْ دَفَعْت عَنْهُ عَدُوَّهُ. فَأَخْبَرْتهمْ أَنِّي لَمْ أَشْعُرْ بِهَذَا وَلَا دَفَعْت عَنْكُمْ شَيْئًا؛ وَإِنَّمَا هَذَا الشَّيْطَانُ تَمَثَّلَ لِأَحَدِهِمْ فَأَغْوَاهُ لَمَّا أَشْرَكَ بِاَللَّهِ تَعَالَى. وَهَكَذَا جَرَى لِغَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِنَا الْمَشَايِخِ مَعَ أَصْحَابِهِمْ؛ يَسْتَغِيثُ أَحَدُهُمْ بِالشَّيْخِ فَيَرَى الشَّيْخَ قَدْ جَاءَ وَقَضَى حَاجَتَهُ وَيَقُولُ ذَلِكَ(1/288)
الشَّيْخُ: إنِّي لَمْ أَعْلَمِ بِهَذَا فَيَتَبَيَّنُ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ شَيْطَانًا. وَقَدْ قُلْت لِبَعْضِ أَصْحَابِنَا لَمَّا ذَكَرَ لِي أَنَّهُ اسْتَغَاثَ بِاثْنَيْنِ كَانَ يَعْتَقِدُهُمَا وَأَنَّهُمَا أَتَيَاهُ فِي الْهَوَاءِ؛ وَقَالَا لَهُ طَيِّبِ قَلْبَك نَحْنُ نَدْفَعُ عَنْك هَؤُلَاءِ وَنَفْعَلُ وَنَصْنَعُ. قُلْت لَهُ: فَهَلْ كَانَ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ؟ فَقَالَ: لَا. فَكَانَ هَذَا مِمَّا دَلَّهُ عَلَى أَنَّهُمَا شَيْطَانَانِ؛ فَإِنَّ الشَّيَاطِينَ وَإِنْ كَانُوا يُخْبِرُونَ الْإِنْسَانَ بِقَضِيَّةِ أَوْ قِصَّةٍ فِيهَا صِدْقٌ فَإِنَّهُمْ يَكْذِبُونَ أَضْعَافَ ذَلِكَ كَمَا كَانَتْ الْجِنُّ يُخْبِرُونَ الْكُهَّانَ. وَلِهَذَا مَنْ اعْتَمَدَ عَلَى مُكَاشَفَتِهِ الَّتِي هِيَ مِنْ أَخْبَارِ الْجِنِّ كَانَ كَذِبُهُ أَكْثَرَ مِنْ صِدْقِهِ؛ كَشَيْخِ كَانَ يُقَالُ لَهُ:" الشياح " توبناه وَجَدَّدْنَا إسْلَامَهُ كَانَ لَهُ قَرِينٌ مِنَ الْجِنِّ يُقَالُ لَهُ:" عَنْتَرٌ " يُخْبِرُهُ بِأَشْيَاءَ فَيَصْدُقُ تَارَةً وَيَكْذِبُ تَارَةً فَلَمَّا ذَكَرْت لَهُ أَنَّك تَعْبُدُ شَيْطَانًا مِنْ دُونِ اللَّهِ اعْتَرَفَ بِأَنَّهُ يَقُولُ لَهُ: يَا عَنْتَرُ لَا سُبْحَانَك؛ إنَّك إلَهٌ قَذِرٌ وَتَابَ مِنْ ذَلِكَ فِي قِصَّةٍ مَشْهُورَةٍ. وَقَدْ قَتَلَ سَيْفُ الشَّرْعِ مَنْ قَتَلَ مِنْ هَؤُلَاءِ مِثْلَ الشَّخْصِ الَّذِي قَتَلْنَاهُ سَنَةَ خَمْسَ عَشْرَةَ وَكَانَ لَهُ قَرِينٌ يَأْتِيهِ وَيُكَاشِفُهُ فَيَصْدُقُ تَارَةً وَيَكْذِبُ تَارَةً وَقَدْ انْقَادَ لَهُ طَائِفَةٌ مِنَ الْمَنْسُوبِينَ إلَى أَهْلِ الْعِلْمِ وَالرِّئَاسَةِ فَيُكَاشِفُهُمْ حَتَّى كَشَفَهُ اللَّهُ لَهُمْ. وَذَلِكَ أَنَّ الْقَرِينَ كَانَ تَارَةً يَقُولُ لَهُ: أَنَا رَسُولُ اللَّهِ وَيَذْكُرُ أَشْيَاءَ تُنَافِي حَالَ الرَّسُولِ فَشَهِدَ عَلَيْهِ أَنَّهُ قَالَ: إنَّ الرَّسُولَ يَأْتِينِي وَيَقُولُ لِي كَذَا وَكَذَا مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي يَكْفُرُ مَنْ أَضَافَهَا إلَى الرَّسُولِ؛ فَذَكَرْت لِوُلَاةِ الْأُمُورِ أَنَّ هَذَا مِنْ جِنْسِ الْكُهَّانِ وَأَنَّ الَّذِي يَرَاهُ شَيْطَانًا؛ وَلِهَذَا لَا يَأْتِيهِ فِي الصُّورَةِ الْمَعْرُوفَةِ لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - بَلْ يَأْتِيهِ فِي صُورَةٍ مُنَكَّرَةٍ وَيَذْكُرُ عَنْهُ أَنَّهُ يَخْضَعُ لَهُ؛ وَيُبِيحُ لَهُ أَنْ يَتَنَاوَلَ الْمُسْكِرَ وَأُمُورًا أُخْرَى. وَكَانَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ يَظُنُّونَ أَنَّهُ كَاذِبٌ فِيمَا يُخْبِرُ بِهِ مِنْ الرُّؤْيَةِ؛ وَلَمْ يَكُنْ كَاذِبًا فِي أَنَّهُ رَأَى تِلْكَ الصُّورَةَ؛ لَكِنْ كَانَ كَافِرًا فِي اعْتِقَادِهِ أَنَّ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ. وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ. وَلِهَذَا يَحْصُلُ لَهُمْ تنزلات شَيْطَانِيَّةٌ بِحَسَبِ مَا فَعَلُوهُ مِنْ مُرَادِ الشَّيْطَانِ؛ فَكُلَّمَا بَعُدُوا عَنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ - صلى الله عليه وسلم - وَطَرِيقِ الْمُؤْمِنِينَ قَرُبُوا مِنْ الشَّيْطَانِ. فَيَطِيرُونَ فِي الْهَوَاءِ؛ وَالشَّيْطَانُ طَارَ بِهِمْ. وَمِنْهُمْ مِنْ يَصْرَعُ الْحَاضِرِينَ وَشَيَاطِينُهُ صَرَعَتْهُمْ. وَمِنْهُمْ مَنْ يُحْضِرُ طَعَامًا وَإِدَامًا وَمَلَأَ الْإِبْرِيقَ مَاءً مِنَ الْهَوَاءِ وَالشَّيَاطِينُ فَعَلَتْ ذَلِكَ فَيَحْسَبُ الْجَاهِلُونَ أَنَّ هَذِهِ كَرَامَاتُ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُتَّقِينَ؛ وَإِنَّمَا هِيَ مِنْ جِنْسِ أَحْوَالِ السَّحَرَةِ وَالْكَهَنَةِ وَأَمْثَالِهِمْ. وَمَنْ لَمْ يُمَيِّزْ بَيْنَ الْأَحْوَالِ الرَّحْمَانِيَّةِ(1/289)
والنفسانية اشْتَبَهَ عَلَيْهِ الْحَقُّ بِالْبَاطِلِ وَمَنْ لَمْ يُنَوِّرِ اللَّهُ قَلْبَهُ بِحَقَائِقِ الْإِيمَانِ وَاتِّبَاعِ الْقُرْآنِ لَمْ يَعْرِفْ طَرِيقَ الْمُحِقِّ مِنَ الْمُبْطِلِ؛ وَالْتَبَسَ عَلَيْهِ الْأَمْرُ وَالْحَالُ كَمَا الْتَبَسَ عَلَى النَّاسِ حَالُ مُسَيْلِمَةَ صَاحِبِ الْيَمَامَةِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْكَذَّابِينَ فِي زَعْمِهِمْ أَنَّهُمْ أَنْبِيَاءُ؛ وَإِنَّمَا هُمْ كَذَّابُونَ، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -،قَالَ: «لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَقْتَتِلَ فِئَتَانِ فَيَكُونَ بَيْنَهُمَا مَقْتَلَةٌ عَظِيمَةٌ، دَعْوَاهُمَا وَاحِدَةٌ، وَلاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُبْعَثَ دَجَّالُونَ كَذَّابُونَ، قَرِيبًا مِنْ ثَلاَثِينَ، كُلُّهُمْ يَزْعُمُ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّه (1) ِ» .... " (2)
تجربة معاصرة:
هذه تجربة حصلت مع الكاتب أحمد عز الدين البيانوني، ذكرها في كتاب الإيمان بالملائكة، حرصت على نقلها بنصها في هذا الموضوع يقول الكاتب:
" لقد شغل (استحضار الأرواح) المزعوم أفكار الناس في الشرق والغرب، فكُتبت فيه مقالات، بلغات مختلفات، نُشرت في مجلات عربية وغير عربية، وألفت فيه مؤلفات، وبحث فيه باحثون، وجربه مجربون، اهتدى بعد ذلك العقلاء منهم إلى أنه كذب وبهتان، ودعوة إلى كفر وطغيان.
إن استحضار الأرواح، الذي يزعمه الزاعمون، كذبٌ ودجل وخداع، وما الأرواح المزعومة إلا شياطين تتلاعب بالإنسان، وتخادعه.
وليس في استطاعة أحد أن يستحضر روح أحد؛ فالأرواح بعد أن تفارق الأجساد، تصير إلى عالم البرزخ.
ثم هي إما في نعيم وإما في عذاب، وهي في شغل شاغل عما يدعيه مستحضرو الأرواح.
وقد دُعيتُ أنا إلى ذلك، من قبل هذه الأرواح، وجربته بنفسي تجربة طويلة، وظهر لي أنه كذب ودجل وخداع، علي أيدي شياطين تتلاعب، غرضهم من ذلك تضليل الناس وخداعهم، وموالاة من يواليهم .... ".
بدء التجربة:
__________
(1) - صحيح البخاري (4/ 200) (3609)
(2) - مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية- دار الوفاء (35/ 115)(1/290)
ويتابع أحمد عزّ الدين كلامه قائلاً:
" عرفت منذ أكثر من عشر سنوات تقريباً رجلاً، يزعم أنه يستخدم الجن في أمور صالحة في خدمة الإنسان، وذلك بوساطة وسيط من البشر.
ويزعم أنه توصّل إلى ذلك بتلاوات وأذكار طويلة، قضى فيها زمناً طويلاً، دلّه عليها بعض من يزعم أنه على معرفة بهذا العلم!
جاءني الوسيط ذات يوم يبلغني دعوة فلانٍ وفلانة من الجن، لحديث هامّ، لي فيه شأن عظيم. فذهبت في الموعد المحدد، متوكلاً على الله، فرحاً بذلك، لأطلع في هذه التجربة على جديد ".
كيف بدأت المخادعة؟
" من أول أساليب الخداع التي سُلكت معي، أن طريقة الاستحضار، استغفار وتهليل وأذكار، مما يجعل الإنسان لأول وهلة، يظن أنه يتحدث مع أرواح علوية صادقة طاهرة.
دخلت بيت الوسيط، وخلونا معاً في غرفة، وجلس هو على فراش، وبدأنا - بدلالته طبعاً نستغفر ونهلل - حتى أخذته إغفاءة، فَأضجعته أنا على فراشه، وسجيته بغطاء، كما علمني أن أفعل، وإذا بصوت خافت، يسلم صاحبه عليّ، ويظهر حفاوته بي وحبه، ويعرفني بنفسه، إنه مخلوق، يزعم أنه ليس من الملائكة، ولا من الجنّ، ولكنه خلق آخر، من نوع آخر، وُجد بقوله تعالى " كن " فكان.
وهذا على زعمه أنّ الجن لا يصدرون إلا عن أمره، وأن بينه وبين الله تعالى في تلقي الأوامر خمس وسائط فقط، خامسهم جبريل عليه السلام.
وأخذ يثني عليّ، ويقول: إنهم سيقطعون كل علاقة لهم بالبشر، وسيكتفون بلقائي، لأني على زعمهم صاحب الخصوصية في هذا العصر، وموضع العناية من الله تعالى، وأن الله تعالى هو الذي اختارني لذلك.
ووعدني بوعود رائعة، فيها العجب العجاب.(1/291)
واستسلمت لهذه التجربة الجديدة، والدعوة الخادعة، متوكلاً على الله عزّ وجلّ، سائلاً الله تعالى أن يعصمني من الزلل، وأن يهديني إلى الحقّ المبين، مستضيئاً بنور العلم، سالكاً سبيل الاستقامة، والحمد لله تعالى.
ولما انقضى اللقاء الأول، دعاني إلى لقاء آخر، في موعد آخر، ثم دلني هو نفسه على تلاوة خاصة؛ لإيقاظ الوسيط من غيبوبته.
وكان ذلك، وجلس الوسيط، وعرك عينيه، كأنه انتبه من نوم عميق، ولا علم له بشيء مما جرى.
ورجعت في الموعد المحدد أيضاً، وتم بيننا بعد لقاءات مدة طويلة، وفي كل لقاء، تتجدد الوعود الحسنة، ويوصف لي المستقبل الرائع الذي ينتظرني، والنفع العظيم الذي تلقاه الأمة على يديّ.
تطور الموضوع:
وتطور الأمر، فأخذ كثير من الأرواح يزورونني في كل لقاء، بمقدمات من الأذكار، وبغير مقدمات، فقد أكون مع الوسيط على طعام، أو على تناول كأس من الشاي، فتأخذه الإغفاءة المعهودة، فيميل رأسه إلى الأمام، وتلتصق ذقنه بصدره، ويحدثني الزائر الذي يزعم أنه من الملائكة، أو من الجن، أو من الصحابة، أو من الأولياء، حديثاً يغلب عليه طابع الاحترام والإجلال، والتبرك بزيارتي، وتبشيري بالمستقبل الزاهر المبارك، ثم ينصرف، ويجيء غيره وغيره ... ".
من الزائرون؟
" زارني فيما زعموا أفراد من الملائكة، وأفراد من الجن، وأبو هريرة رضي الله عنه من الصحابة، وطائفة من الأولياء، أمثال أبي الحسن الشاذلي رضي الله عنه، وطائفة من أهل العلم والفضل، المشهود لهم بالعلم والولاية، أمثال الشيخ أحمد الترمانيني رحمه الله تعالى، وبعض من أدركتهم من أهل العلم والفضل، ثم أدركتهم الوفاة، ومنهم والدي رحمه الله تعالى.(1/292)
وبشروني بزيارة والدي إياي، في وقت عينوه، وانتظرت الموعد بلهف، ولما كان الموعد المنتظر، كلفوني أن أقرأ سورة ((الواقعة)) جهراً، فقرأتها، ولما فرغت من قراءَتها، قالوا: سيحضر والدك بعد لحظات، فاسمع ما يقول، ولا تسأله عن شيء!!! ".
بدء انتباهي:
" وبعد دقائق جاءني، جاء من يزعم أنه أبي، فسلم علي، وأظهر سروره بلقائي، وفرحه بي على صلتي بهذه الأرواح، وأوصاني أن أعتني بالوسيط وأهله! وأن أرعاه رعاية عطف وإحسان، إذ لا مورد له من المال إلا من هذا الطريق.
وختم حديثه بالصلاة الإبراهيمية، وأنا أعلم أنه رحمه الله تعالى، كان شديد الولع بالصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -،ولاسيما الإبراهيمية.
وكان من العجب أن لهجة المتحدث شبيهة إلى حدّ ما بلهجة الوالد. ثم سلم وانصرف.
وأخذت أتسائل في نفسي: لم أوصوني أن لا أسأله عن شيء؟!
في الأمر سرٌّ ولا شك!
السِّرُّ الخفي الذي انكشف لي آنذاك، أنه ليس بوالدي، ولكنه قرينه من الجن، الذي صحبه مدة حياته، فجاءني يمثل لي صوته، ويتشبه بخصوصية من خصوصياته.
أوصوني أن لا أسأله عن شيء؛ لأن القرين من الجن، مهما عرف من شأن والدي وحفظ من أحواله، فلن يستطيع أن يحفظ كل جزئية يعرفها الولد من أبيه، فحذروا أن أسأله عن شيء من ذلك، فلا يجيبني، فيفتضح الأمر.
ثم سلكوا معي في لقائي مع الآخرين، أن لا يعرفوني بأسمائهم إلا عند انصرافهم، فيقول أحدهم: أنا فلان، ويسلم، وينصرف على الفور.
وفي ذلك من السرِّ ما ذكرت: فلو أخبرني واحد منهم عن نفسه، وهو مشهود له بالعلم، فبحثت معه في إشكال علمي، لعجز عن الجواب، وانكشف الأمر.
وقد أتاني آتٍ مرة يناقشني في إباحة كشف وجه المرأة، وأنه ليس بعورة، فرددت عليه، ورد عليّ رداً ليس فيه رائحة العلم، واحتدم الجدال بيننا.
فقلت له: وماذا تجيب عن أقوال الفقهاء الذي قالوا:(1/293)
إن وجه المرأة عورة، أو يجب ستره خشية الفتنة؟
وانتهى الجدال إلى غير جدوى، ثم أخبرني أنه الشيخ أحمد الترمانيني، وانصرف.
فانكشف لي أنه الكذب لا شك فيه، لأن الشيخ المذكور من كبار فقهاء الشافعية، والسادة الشافعية يقولون: المرأة كلها عورة، ولو عجوزاً شمطاء.
فلو أنه كان هو الشيخ المذكور، وانكشف له من العلم جديد، وهو في عالم البرزخ، لأخبرني بذلك، وأرشدني إلى دليله.
ولكنه الكذب والخداع، وإرادة التضليل. وأبى الله تعالى - والحمد لله - إلا هداي، وثباتي على الحق والهدى.
فكشفُ المرأة وجهها، ولاسيما في هذا الزمان الفاسد والمجتمع المريض، أمر لا يُقره ذو عقل ودين ".
انكشاف الحقيقة!
" ولم تزل تنكشف لي الحقيقة على وجهها مرة بعد مرة، وفي تجربة بعد تجربة، حتى تحقق عندي أن الأمر كله كذب وبهتان، ودجل وطغيان، لا أساس له من تقوى، ولا قائمة له على دين.
فالوسيط الذي يعتنون بشأنه، ويوصون بحسن رعايته وإكرامه، تارك صلاة، ولا يأمرونه بها.
وهو يحلق لحيته، ولا يأمرونه بإِطلاقها.
ثم هو يأكل أموال الناس بالباطل، وبالوعود الخادعة، ولا مورد له إلا من هذا الطريق الخبيث.
جاءني رجل بعدما عرف صلتي بهذا الوسيط، يشكو إليّ أنه خدعه، فأخذ منه ثلاثمائة ليرة سورية، وهو فقير، وفي أشد الحاجة إليها.
فألزمت الوسيط بردّها إليه، فاستجاب لذلك حرصاً منه ومن شياطينه على بقاء صلتي بهم.
والوسيط وأسرته تقوم حياتهم على الكذب في أكثر شؤونهم).(1/294)
الخاتمة:
وختم الشيخ أحمد عز الدين كلامه على هذه التجربة بقوله:
" حاولت هذه الأرواح بعدما انكشف لي أمرها أن تسلك معي مسلك التهديد، فلم يزلزل ذلك من قلبي شيئاً، والحمد لله.
وقد كنت كتبت في هذه المدة الطويلة مما حدثوني به ما ملأ دفترين كبيرين، جمعت فيهما أكثر ما حدثوني به.
ولما ظهر الباطل ظهوراً لا يحتمل التأويل، قطعت الصلة بهم، وحكمت عليهم بما حكمت، وأحرقت الدفترين اللذين امتلأا بالكذب والخداع.
فهذه الأرواح التي تدّعي أنها أرواح رجال من الصحابة والأولياء والصالحين، كلها شياطين، لا ينبغي لمؤمن عاقل أن ينخدع بها. وجميع الصور التي اعتادها مستحضرو الأرواح كذب وباطل.
سواء في ذلك طريقة الوسيط التي ذكرتها وجربتها، وطريقة المنضدة والفناجين التي ذكرها لي بعض من جربها، ووصل إلى النتيجة التي وصلت إليها.
ومن عجيب الأمر أني قرأت بعد ذلك كتباً مؤلفةً في هذا الموضوع، فإذا بالمجربين العاقلين وصلوا إلى مثل ما وصلت إليه، وحكموا على تلك الأرواح، أنها قرناء بني آدم من الجن، كما هداني الله تعالى إلى ذلك من قبل، والحمد لله.
وقد أديت بكلمتي هذه النصح الواجب، والله الهادي والموفق ".
خطر هذه الدعوات:
هذه الدعوات التي تزعم أن بإمكانها تحضير الأرواح اتخذها شياطين الجن والإنس سبيلاً لإفساد الدين، فهذه الأرواح التي تُحضّر، وهي في الحقيقة شياطين تتكلم بكلام يحطم الدين وينسفه، وتقر مبادئ ومثلاً جديدة تعارض الحق كل المعارضة، ففي واحدة من هذه الجلسات زعمت الروح (الشيطان) على لسان الوسيط أن جبريل قد حضر هذه الجلسة، ولما كان الحضور لا يعرفون جبريل قالت:" ألا تعرفون جبريل الذي كان ينزل بالقرآن على محمد؟! إنه يبارك هذا الاجتماع ".(1/295)
وينقل الدكتور محمد محمد حسين عن مجلة (عالم الروح) من مقال لها بعنوان (حديث الروح الكبير هوايت هوك) ما يأتي: (يجب أن نتحد في هذه الحركة، في هذا الدين الجديد، يجب أن تسودنا المحبة، ويجب أن تكون لنا قدرة على الاحتمال والتفاهم ...
رسالتي (المتحدث هنا الروح أي الشيطان) أي أواسي المحروم، وأساعد الإنسان على تحرره في نفسه من الله تعالى، (وصدق وهو كذوب فهذه رسالته، أي يجعله يكفر بالله) الإنسان إله مكسو بعناصر الأرض (هكذا ينفخ في الإنسان، ويكذب عليه ليضله)،وهو لن يدرك ما في مقدوره ما لم يحس بجزئه الملائكي الإلهي ... ،الروحية ستكون أقدر من غيرها على تأسيس دين جديد واسع للعالم كله ".
وينقل عن هذه المجلة أيضاً تعريفاً بالمنظمة التي أسست لهذه الغاية " إن هذه المنظمة ستكون لكل البشرية، وعن طريقها سوف يوضح لنا سكان العالم الروحي طريقة جديدة للحياة، ويعطوننا فكرة جديدة عن الله ومشيئته، إنهم سوف يأتون لنا بالسلام والطمأنينة الروحية وبسعادة النفس والقلب، سوف يحطمون الحواجز بين الشعوب والأفراد، وبين العقائد والأديان (هكذا) ... إنّ العضوية في هذه المنظمة بدون نظر للوطن أو اللون أو الدين أو المذهب السياسي ".
وقد تزعم الأرواح أنها مرسلة من عند الله، فالدكتور محمد محمد حسين يذكر أن محمد فريد وجدي نقل عن هذه الأرواح (الشياطين) قولها:" نحن مرسلون من عند الله كما أرسل المرسلون قبلنا، غير أن تعاليمنا أرقى من تعاليمهم، فإلهنا هو إلههم، إلا أن إلهنا أظهر من إلههم، وأقل صفات بشرية وأكثر صفات إلهية ... ،لا تخضع لأي عقيدة مذهبية، ولا تقبل بلا بصر ولا روية تعاليم لا تستند إلى العقل ".
وهم يزعمون أنّ الرسل والأنبياء ما هم إلا وسطاء على درجة عالية من الوساطة، وأن المعجزات التي جرت على أيديهم ليست إلا ظواهر روحية، كالظواهر التي تحدث في حجرة تحضير الأرواح، ويزعمون أنهم يستطيعون أن يعيدوا أحداث ما نسب للمسيح عن طريق الأرواح.(1/296)
وقد قامت بعض الصحف بحملة دعائية كبيرة، زعمت أن أحد محضري الأرواح في أمريكا يستطيع أن يقوم بمثل معجزات المسيح، فهو يعيد البصر إلى الأعمى، والنطق إلى الأبكم، والحركة للمشلول، بقي أن تعلم أن الطبيب المزعوم طفل في العاشرة من عمره يدعى (ميشيل).وعندما يأتيه المريض يضع أنامله عليه، ويتمتم ببعض الأدعية والكلمات فتحدث المعجزة. ويقولون: إن هذا الطفل ورث الموهبة الروحانية عن والده، وهو لا يتقاضى شيئاً من المال عما يقوم به من أعمال (1).
ووراثة هذا الطفل الأعمال من أبيه تذكرنا بقصة تروى في بعض نواحي فلسطين، يقول الرواة: إن أحد الرجال الذين كانوا يظهرون الصلاح والتقى، كان يفعل عجباً، فقد كان - في ذلك الوقت الذي لم تظهر فيه الطائرة والسيارة -ينطلق إلى الحج في ليلة عرفة، فيشهد ذلك اليوم مع الحجيج، ويسلمهم رسائل من أقاربهم وذويهم، ويأخذ منهم رسائل إلى أقاربهم وذويهم، ويعود في الليلة الأخرى، وكان كثير من الناس يعتقد فيه الصلاح والخير، على الرغم من أنه ما كان يقوم بمناسك الحج، ولا يمكث في منى المدة المقررة، ولا يرمي الجمرات.
ثم شاء الله أن يكشف باطله، ويظهر أمره للناس، فعندما جاءَه الموت استدعى ابنه الأكبر، وأخبره أن جملاً سيأتيه ليلة عرفة، ويحمله إلى عرفات في كل عام، ولما جاء الجمل وركبه الابن، وسار مسافة وقف، وتحدث إلى الابن وأخبره أنه شيطان، وأن أباه كان يعبده، ويسجد له، وفي مقابل ذلك يخدمه مثل هذه الخدمات، ولما رفض الابن السجود له، واستعاذ بالله منه، تركه في الصحراء، وقدر الله له الرجوع، وكشف حقيقة أبيه الكافر.
وقد أشار إلى هذه القصة البيانوني في كتابه (الملائكة) بأخصر مما أثبتناه هنا.
هل يمكن استحضار الأرواح؟
لقد وضعت مجلة (سينتفيك أمريكان) جائزة مالية ضخمة لمن يقيم الحجة على صدق الظواهر الروحية، ولا تزال الجائزة قائمة لم يظفر بها أحد على الرغم من انتشار
__________
(1) - ملحق جريدة القبس الكويتية:17/ 10/1977م.(1/297)
الروحيين ونفوذهم وبراعتهم في أمريكا، وقد ضم إلى هذه الجائزة جائزة أخرى تبرع بها الساحر الأمريكي دننجر للغرض نفسه، ولم يظفر بها أحد أيضاً.
حكم الشريعة في تحضير الأرواح:
ما موقف الإسلام من إمكان إحضار روح المتوفى؟ إن التأمل في النصوص التي وردت في هذا تجعل الباحث يعطي حكماً جازماً أن ذلك مستحيل، فقد أخبرنا الله أن الروح من عالم الغيب الذي لا سبيل إلى إدراكه: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء:85].
وأخبر الحقّ - تبارك وتعالى - أنه يتوفى الأنفس، وأنه يمسك النفوس عند موتها: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الزمر:42]
وقد وكّل الله بالأنفس ملائكة يعذبونها إن كانت شقية كافرة، وينعمونها إن كانت صالحة تقية.
وقد بين لنا الرسول - صلى الله عليه وسلم - كيف يقبض ملك الموت الأرواح وما يفعل بها بعد ذلك.
والأرواح إذا كانت مُمْسكة عند ربها وكل الله بها حفظة أقوياء مهرة، فلا يمكن أن تتفلت منهم، وتهرب لتأتي إلى هؤلاء الذين يتلاعبون بعقول العباد.
وبعض هؤلاء يزعم أنه حضّر روح عبد من عبيد الله الصالحين من الأنبياء والشهداء، فكيف يتركون جنان الخلد إلى حجرة التحضير المظلمة، فقد أخبرنا الله أن الشهداء أحياء عند ربهم: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران:169].
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: أَمَا إِنَّا قَدْ سَأَلْنَا عَنْ ذَلِكَ، يَعْنِي أَرْوَاحَ الشُّهَدَاءِ، فَقِيلَ:" جُعِلَتْ فِي أَجْوَافِ طَيْرٍ خُضْرٍ تَأْوِي إِلَى قَنَادِيلَ تَحْتَ الْعَرْشِ تَسْرَحُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ شَاءَتْ، فَاطَّلَعَ إِلَيْهِمْ رَبُّكَ اطِّلَاعَةً، فَقَالَ: هَلْ تَسْتَزِيدُونِي فَأَزِيدُكُمْ؟ "،قَالُوا: وَمَا نَسْتَزِيدُكَ فِي الْجَنَّةِ نَسْرَحُ فِيهَا حَيْثُ نَشَاءُ، ثُمَّ اطَّلَعَ إِلَيْهِمْ رَبُّكَ اطِّلَاعَةً، فَقَالَ: هَلْ تَسْتَزِيدُونِي شَيْئًا(1/298)
فَأَزِيدُكُمْ، فَلَمَّا رَأَوْا أَنَّهُ لَابُدَّ أَنْ يَسْأَلُوهُ، قَالُوا: تُرَدُّ أَرْوَاحُنَا فِي أَجْسَادِنَا فَنُقْتَلُ فِي سَبِيلِكَ مَرَّةً أُخْرَى " (1)
فكيف يزعم دجالو العصر أنهم يحضرون أرواح هؤلاء؟ كيف؟ {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا} [الكهف:5].
شبهة وجوابها:
يقولون: فكيف تعللون معرفة الأرواح بأخلاق وأعمال الرجل الذي تزعم أنها كانت تسكنه؟
قلنا: هذا الذي يزعم أنه روح إنما هو شيطان، ولعل هذا الشيطان هو القرين الذي كان يلازم الإنسان، وقد ذكرنا النصوص التي تدلّ على أن لكل إنسان شيطاناً، فهذا القرين الملازم للإنسان يعلم عنه الكثير من أخلاقه وعاداته وصفاته، ويعرف أقاربه وأصدقاءه. فعندما يُخْتَبَرُ ما أسهل أن يجيب؛ لأنه على علم ودراية، فإن قيل: كيف تفسرون الإجابات العلمية التي قد نحصل عليها من الأرواح؟ نقول: سبق أن بينا أن الشياطين والجن لديهم القدرات العلمية التي تمكنهم من الإجابة والإفادة.
ولكنها إفادة تحمل في طياتها الإضلال العظيم، فهم لا يفيدوننا إلا بمقدار، كي نثق بهم، ثم يوجهوننا الوجهة الضالة السيئة، التي توبقنا في دنيانا وأخرانا. (2)
قلت: وقد كثرت الفتاوى والبحوث حول هذا الموضوع الخطير أكتفي باثنين منها
جاء في فتاوى الأزهر، هل تحضير الأرواح صحيح؟
وأجاب على ذلك بالتفصيل الدكتور عطية صقر رحمه الله بقوله:
" تقرر الرسالات السماوية كلها أن الإنسان مادة وروح. قال تعالى: {إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ (71) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (72)} [ص:71 - 72] وأنه أحد العوالم الثلاثة التى كلفها الله
__________
(1) - مستخرج أبي عوانة (4/ 470) (7370) صحيح
(2) - انظر كتاب عالم الجن والشياطين (ص:100) فما بعد(1/299)
بعبادته، وهي: الملائكة والإنس والجن، وكلها مادة وروح وإن كانت مادة الملائكة هي النور، ومادة الإنس هي الطين، ومادة الجن هي النار.
والروح سرُّها عجيب لا يدرك الإنسان منه إلا قليلا، على الرغم من إدراكه الكثير من سر المادة، قال تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: 85]، واهتم علماء المسلمين بدراستها وبيان أثرها فى الحياة وفى الفكر وفى السلوك وفى مصيرها بعد خروجها من البدن بالموت. ومن الكتب المؤلفة فى ذلك كتاب الروح لابن القيم.
وعلى الرغم من الاتجاه المادي للعالم الغربي نشطت أخيرا الدراسات الروحية، في كليات أو معاهد خاصة، وتكونت جمعيات تمارس أنشطة متصلة بالروح، كبعض الأنشطة التي مارسها بعض المسلمين وغيرهم، باسم السحر وتحضير الأرواح، وما إلى ذلك، ونريد هنا أن نبين موقف الإسلام من تحضير الأرواح.
إن الأرواح هي لثلاثة أصناف من العوالم، الملائكة، والإنس ومعهم الحيوانات والطيور وكل ما يدب على الأرض، والجن.
فما هي صلة الإنسان بهذه الأرواح؟.
1 - الملائكة عالم شفاف مخلوق من نور، يعطيهم الله القدرة على التشكل بالأشكال المختلفة، ولئن كان الله سخَّرهم لصالح البشر فى مهمات وكلها إليهم كتبليغ الوحي وتسجيل ما يقع من الناس من أقوال وأفعال، ومعونة المؤمنين في الحرب وغيرها، فإن كل أنشطتهم بأمر الله وتوجيهه، لا سلطان لأحد غيره عليهم، ولا يستطيع إنسان أن يتسلط عليهم ولا أن يستعين بهم مباشرة، إلا بأمر الله سبحانه، ولما فتر الوحي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يشتاق لنزول جبريل عليه، فلم ينزل إلا عندما أذن الله له. فقد روى البخاري عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لِجِبْرِيلَ: «مَا يَمْنَعُكَ أَنْ تَزُورَنَا أَكْثَرَ مِمَّا تَزُورُنَا»، فَنَزَلَتْ: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا} [مريم: 64] (1)
__________
(1) - صحيح البخاري (6/ 94) (4731)(1/300)
ومن هنا لا يمكن لبشر أن يحضر ملكا أو يحضر روحه.
2 - الإنسان عندما تفارق روحه جسده لا يعرف بالضبط مكانها إلا الله سبحانه، وإن جاءت الأخبار بأن لها صلة بالميت بقدر ما يسمع ويجيب على سؤال الملكين، ويحسُّ بالنعيم والعذاب ويردُّ السلام على من سلَّم عليه، أو بقدر أكبر من ذلك كما قيل عن الأنبياء فى قبورهم، وكما قيل عن الشهداء فى قوله تعالى {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (170)} [آل عمران:169 - 170]،فقد روى مسلم عَنْ مَسْرُوقٍ، قَالَ: سَأَلْنَا عَبْدَ اللهِ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران:169] قَالَ: أَمَا إِنَّا قَدْ سَأَلْنَا عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: «أَرْوَاحُهُمْ فِي جَوْفِ طَيْرٍ خُضْرٍ، لَهَا قَنَادِيلُ مُعَلَّقَةٌ بِالْعَرْشِ، تَسْرَحُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ شَاءَتْ، ثُمَّ تَأْوِي إِلَى تِلْكَ الْقَنَادِيلِ، فَاطَّلَعَ إِلَيْهِمْ رَبُّهُمُ اطِّلَاعَةً»،فَقَالَ:" هَلْ تَشْتَهُونَ شَيْئًا؟ قَالُوا: أَيَّ شَيْءٍ نَشْتَهِي وَنَحْنُ نَسْرَحُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ شِئْنَا، فَفَعَلَ ذَلِكَ بِهِمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَلَمَّا رَأَوْا أَنَّهُمْ لَنْ يُتْرَكُوا مِنْ أَنْ يُسْأَلُوا، قَالُوا: يَا رَبِّ، نُرِيدُ أَنْ تَرُدَّ أَرْوَاحَنَا فِي أَجْسَادِنَا حَتَّى نُقْتَلَ فِي سَبِيلِكَ مَرَّةً أُخْرَى، فَلَمَّا رَأَى أَنْ لَيْسَ لَهُمْ حَاجَةٌ تُرِكُوا " (1)
وستظل الأرواح محبوسة عند الله لا ترد إلى الأجساد إلا عند البعث من القبور للحساب. قال تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100)} [المؤمنون:99 - 100]،ولا يمكن لبشر أن يتسلَّط على روح الميت ويحضرها ويتحدث إليها لتخبره بما هي فيه من نعيم أو عذاب، أو بأحداث في الكون غائبة عنه، وقد يحدث الاتصال بها-دون تسلط عليها-في الرؤى والأحلام، ويقول المهتمون بتعبير الرؤيا: إن أحوال الميت وما يقوله ويخبر به حق، لأنه انتقل من دار الباطل إلى دار الحق. وقد سبق بيان قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه البخارى ومسلم "عَنِ
__________
(1) - صحيح مسلم (3/ 1502) 121 - (1887)(1/301)
الزُّهْرِيِّ، حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «مَنْ رَآنِي فِي المَنَامِ فَسَيَرَانِي فِي اليَقَظَةِ، وَلاَ يَتَمَثَّلُ الشَّيْطَانُ بِي» قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: قَالَ ابْنُ سِيرِينَ: «إِذَا رَآهُ فِي صُورَتِهِ» (1) لكن هذه الرؤى ليست باختيار الإنسان، وليس فيها تسلط على الأرواح.
3 - الجن عالم شفاف خلق من نار، يعطيهم الله القدرة على التشكل بالأشكال المختلفة، وكما لا ترى الملائكة فى حالتها النورانية، إلا بإعجاز من الله تعالى كما قيل في رؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - لجبريل فى الغار وليلة المعراج، لا يرى الجن في حالتهم الشفافة، كما قال تعالى: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ} [الأعراف:27]،ولهم عالمهم الخاص من الأكل والشرب والتزاوج، وسائر الأنشطة التي تنظم حياتهم ومنهم الصالحون وغير الصالحين، كما قال سبحانه: {وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا} [الجن:11]،.وقد التقى النبي - صلى الله عليه وسلم - ببعضهم واستمعوا القرآن وآمنوا، كما جاء في قوله تعالى: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29) قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (30) يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (31) وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (32)} [الأحقاف:29 - 33]
__________
(1) - صحيح البخاري (9/ 33) (6993) وصحيح مسلم (4/ 1775) 11 - (2266)
[في الحديث أن رؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - في المنام صحيحة لا تنكر وليست بأضغاث أحلام ولا من تشبيهات الشيطان. وقيل إذا رئي على الصفات الحميدة دل ذلك على الخصب والأمطار الكثيرة وكثرة الرحمة ونصرة المجاهدين وظهور الدين وظفر الغزاة والمقاتلين ودمار الكفار وظفر المسلمين بهم وصحة الدين. وإذا رئي على صفات مكروهة ربما دل ذلك على الحرارة وظهور الفتن والبدع وضعف الدين (فسيراني في اليقظة) قيل المراد أهل عصره أي من رآه في المنام وفقه الله تعالى للهجرة إليه والتشرف بلقائه - صلى الله عليه وسلم -.أو يرى تصديق تلك الرؤيا في الدار الاخرة أو يراه فيها رؤية خاصة في القرب منه والشفاعة. (لا يتمثل الشيطان بي) لا يحصل له مثال صورتي ولا يتشبه بي. (إذا رآه في صورته) أي أن رؤيته للنبي - صلى الله عليه وسلم - لا تعتبر إلا إذا رآه على صفته التي وصف بها](1/302)
وتسلط الإنس على الجن لم يكن لأحد إلا لسيدنا سليمان عليه السلام بأمر ربه، حيث سخَر الله له الريح والشياطين كما في قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (35) فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ (36) وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (37) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (38) هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (39)} [ص:35 - 39]،وقد روى البخارى ومسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:" إِنَّ عِفْرِيتًا مِنَ الجِنِّ تَفَلَّتَ عَلَيَّ البَارِحَةَ - أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا - لِيَقْطَعَ عَلَيَّ الصَّلاَةَ، فَأَمْكَنَنِي اللَّهُ مِنْهُ، فَأَرَدْتُ أَنْ أَرْبِطَهُ إِلَى سَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي المَسْجِدِ حَتَّى تُصْبِحُوا وَتَنْظُرُوا إِلَيْهِ كُلُّكُمْ، فَذَكَرْتُ قَوْلَ أَخِي سُلَيْمَانَ: رَبِّ هَبْ لِي مُلْكًا لاَ يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي ". (1)
__________
(1) -صحيح البخاري (1/ 99) (461) وصحيح مسلم (1/ 384) 39 - (541)
[(تفلت) عرض لي فلتة أي بغتة في سرعة. (البارحة) هي أقرب ليلة مضت. (سارية) أسطوانة ودعامة. (فذكرت .. ) أي فتركته ولم أربطه لما ذكرت ذلك. (لا ينبغي لأحد) لا يكون لأحد من البشر / ص 35 /. (خاسئا) مطرودا ذليلا]
وكان سليمان عليه السلام يراهم ويخاطبهم، ويجزي المحسن منهم بإحسانه ويعاقب المسيء منهم، قال ابن كثير في تفسيره: وقوله: وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ أي: منهم من هو مستعمل في الأبنية الهائلة من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات إلى غير ذلك من الأعمال الشاقة التي لا يقدرعليها البشر وطائفة غواصون في البحار يستخرجون مما فيها من اللآلئ والجواهر والأشياء النفيسة التي لا توجد إلا فيها وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الأصْفَادِ أي: موثقون في الأغلال والأكبال ممن قد تَمَرّد وعصى وامتنع من العمل وأبى أو قد أساء في صنيعه واعتدى.
وليس سليمان عليه السلام وحده هوالذي كان يرى الجن، بل إن العلماء ذكروا أن أصحابه أيضا كانوا يرون الجن على هيئتهم، واستدلوا بحدث الباب، قال البغوي في شرحه للحديث: وفيه دليل على أن رؤية الجن غير مستحيلة، وفيه دليل على أن أصحاب سليمان - صلى الله عليه وسلم - كانوا يرون الجن وتصرفهم. شرح السنة للبغوي.3ـ270.
وقال العيني: فيه دليل على أن أصحاب سليمان كانوا يرون الجن وهو من دلائل نبوته ولولا مشاهدتهم إياهم لم تكن تقوم الحجة له لمكانته عليهم. عمدة القاري شرح صحيح البخاري.4ـ346.
وقال الحافظ ابن حجر: واستدل الخطابي بهذا الحديث على أن أصحاب سليمان كانوا يرون الجن في أشكالهم وهيئتهم حال تصرفهم. فتح الباري 6ـ459.
وحتى على قول من نفى رؤية الناس للجن، فإن الأنبياء مستثنون من ذلك، قال الشافعي في أحكام القرآن.2 ـ194:من زعم من أهل العدالة أنه يرى الجن أبطلت شهادته، لأن الله عز وجل يقول: إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ {سورة الأعراف:27}.إلا أن يكون نبيا.
ونقل ابن حجر كلام الشافعي ثم قال: هذا محمول على من يدعي رؤيتهم على صورهم التي خلقوا عليها، وأما من ادعى أنه يرى شيئا منهم بعد أن يتطور على صور شتى من الحيوان فلا يقدح فيه، وقد تواردت الأخبار بتطورهم في الصور. فتح الباري 6 ـ344.وفتاوى الشبكة الإسلامية (1/ 4026):رؤية سليمان للجن وهل يمكن لغير الأنبياء رؤيتهم(1/303)
وجاء في رواية مسلم عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، قَالَ: قَامَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَسَمِعْنَاهُ يَقُولُ: «أَعُوذُ بِاللهِ مِنْكَ» ثُمَّ قَالَ «أَلْعَنُكَ بِلَعْنَةِ اللهِ» ثَلَاثًا، وَبَسَطَ يَدَهُ كَأَنَّهُ يَتَنَاوَلُ شَيْئًا، فَلَمَّا فَرَغَ مِنَ الصَّلَاةِ قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ قَدْ سَمِعْنَاكَ تَقُولُ فِي الصَّلَاةِ شَيْئًا لَمْ نَسْمَعْكَ تَقُولُهُ قَبْلَ ذَلِكَ، وَرَأَيْنَاكَ بَسَطْتَ يَدَكَ، قَالَ:" إِنَّ عَدُوَّ اللهِ إِبْلِيسَ، جَاءَ بِشِهَابٍ مِنْ نَارٍ لِيَجْعَلَهُ فِي وَجْهِي، فَقُلْتُ: أَعُوذُ بِاللهِ مِنْكَ، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ قُلْتُ: أَلْعَنُكَ بِلَعْنَةِ اللهِ التَّامَّةِ، فَلَمْ يَسْتَأْخِرْ، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ أَرَدْتُ أَخْذَهُ، وَاللهِ لَوْلَا دَعْوَةُ أَخِينَا سُلَيْمَانَ لَأَصْبَحَ مُوثَقًا يَلْعَبُ بِهِ وِلْدَانُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ " (1)
وفي رواية النسائى عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يُصَلِّي، فَأَتَاهُ الشَّيْطَانُ فَأَخَذَهُ فَصَرَعَهُ فَخَنَقَهُ، قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «حَتَّى وَجَدْتُ بَرْدَ لِسَانِهِ عَلَى يَدِي، وَلَوْلَا دَعْوَةُ أَخِي سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ , لَأَصْبَحَ مُوثَقًا حَتَّى يَرَاهُ النَّاسُ» (2)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «اعْتَرَضَ لِي الشَّيْطَانُ فِي مُصَلَّايَ فَأَخَذْتُ بِحَلْقِهِ فَخَنَقْتُهُ، حَتَّى وَجَدْتُ بَرْدَ لِسَانِهِ عَلَى كَفَّيَّ، وَلَوْلَا مَا كَانَ مِنْ دَعْوَةِ أَخِي سُلَيْمَانَ، لَأَصْبَحَ مَرْبُوطًا تَنْظُرُونَ إِلَيْهِ» (3)
وعن أبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَامَ فَصَلَّى صَلَاةَ الصُّبْحِ، وَهُوَ خَلْفَهُ، فَقَرَأَ، فَالْتَبَسَتْ عَلَيْهِ الْقِرَاءَةُ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ قَالَ:" لَوْ رَأَيْتُمُونِي وَإِبْلِيسَ، فَأَهْوَيْتُ بِيَدِي، فَمَا زِلْتُ أَخْنُقُهُ حَتَّى وَجَدْتُ بَرْدَ لُعَابِهِ بَيْنَ إِصْبَعَيَّ هَاتَيْنِ -
__________
(1) - صحيح مسلم (1/ 385) 40 - (542)
أَيْ: بِقَوْلِهِ: {رَبّ هَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} , ومَعْنَاهُ أَنَّهُ مُخْتَصّ بِهَذَا , فَامْتَنَعَ نَبِيّنَا - صلى الله عليه وسلم - مِنْ رَبْطه، إِمَّا أَنَّهُ لَمْ يَقْدِر عَلَيْهِ لِذَلِكَ، وَإِمَّا لِكَوْنِهِ لَمَّا تَذَكَّرَ ذَلِكَ لَمْ يَتَعَاطَ ذَلِكَ تَوَاضُعًا وَتَأَدُّبًا. شرح النووي على مسلم - (ج 2 / ص 303)
(2) - السنن الكبرى للنسائي (10/ 234) (11375) صحيح
(3) - السنن الكبرى للنسائي (1/ 295) (556) صحيح(1/304)
الْإِبْهَامِ وَالَّتِي تَلِيهَا - وَلَوْلَا دَعْوَةُ أَخِي سُلَيْمَانَ، لَأَصْبَحَ مَرْبُوطًا بِسَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ، يَتَلَاعَبُ بِهِ صِبْيَانُ الْمَدِينَةِ، فَمَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ لَا يَحُولَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ أَحَدٌ فَلْيَفْعَلْ " (1)
وقال أَبُو عُبَيْدٍ، حَاجِبُ سُلَيْمَانَ: رَأَيْتُ عَطَاءَ بْنَ يَزِيدَ اللَّيْثِيَّ قَائِمًا يُصَلِّي، مُعْتَمًّا بِعِمَامَةٍ سَوْدَاءَ، مُرْخٍ طَرَفَهَا مِنْ خَلْفِهِ، مُصْفَرَّ اللِّحْيَةِ، فَذَهَبْتُ أَمُرُّ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَرَدَّنِي: ثُمَّ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَامَ فَصَلَّى صَلَاةَ الصُّبْحِ، وَهُوَ خَلْفَهُ، فَقَرَأَ، فَالْتَبَسَتْ عَلَيْهِ الْقِرَاءَةُ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ قَالَ:" لَوْ رَأَيْتُمُونِي وَإِبْلِيسَ، فَأَهْوَيْتُ بِيَدِي، فَمَا زِلْتُ أَخْنُقُهُ حَتَّى وَجَدْتُ بَرْدَ لُعَابِهِ بَيْنَ إِصْبَعَيَّ هَاتَيْنِ - الْإِبْهَامِ وَالَّتِي تَلِيهَا - وَلَوْلَا دَعْوَةُ أَخِي سُلَيْمَانَ، لَأَصْبَحَ مَرْبُوطًا بِسَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ، يَتَلَاعَبُ بِهِ صِبْيَانُ الْمَدِينَةِ، فَمَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ لَا يَحُولَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ أَحَدٌ فَلْيَفْعَلْ " (2)
وعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ، قَالَ: صَلَّيْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - صَلَاةً مَكْتُوبَةً فَضَمَّ يَدَيْهِ فِي الصَّلَاةِ، فَلَمَّا قَضَى الصَّلَاةَ قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ أَحَدَثَ فِي الصَّلَاةِ شَيْءٌ؟ قَالَ: «لَا إِلَّا أَنَّ الشَّيْطَانَ أَرَادَ أَنْ يَمُرَّ بَيْنَ يَدَيَّ فَخَنَقْتُهُ حَتَّى وَجَدْتُ بَرْدَ لِسَانِهِ عَلَى يَدَيَّ، وَأَيْمُ اللهِ لَوْلَا مَا سَبَقَنِي إِلَيْهِ أَخِي سُلَيْمَانُ لَنِيطَ إِلَى سَارِيَةِ مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ حَتَّى يَطِيفَ بِهِ وِلْدَانُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ». (3)
ومن هنا لا يمكن لبشر أن يتسلط على الجن بتحضيره وقهره على عمل معين، لكن الجن يتسلطون على الأنس ويقهرونهم على سلوك معين، إلا من أعطاه الله القوة فنجاه منهم، قال تعالى على لسان إبليس: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83)} [ص:82،83].
كما أن المتمردين منهم يمكنهم بغير الوسوسة والإغواء أن يضرُّوا الإنس بأي نوع من الضرر، حيث لا دليل يمنع من ذلك.
__________
(1) - مسند أحمد ط الرسالة (18/ 302) (11780) صحيح
(2) - مسند أحمد ط الرسالة (18/ 302) (11780) حسن - هذا الحديث زيادة مني
(3) - المعجم الكبير للطبراني (2/ 251) (2053) صحيح - زيادة مني(1/305)
وقد صحَّ أن كل واحد من بني آدم له قرين يلازمه من يوم ميلاده إلى أن يموت، روى مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَا مِنْ مَوْلُودٍ يُولَدُ إِلَّا نَخَسَهُ الشَّيْطَانُ، فَيَسْتَهِلُّ صَارِخًا مِنْ نَخْسَةِ الشَّيْطَانِ، إِلَّا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ» ثُمَّ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: اقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ: {وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [آل عمران:36]. (1)
ويتسلط هذا القرين على صاحبه يحاول إفساد حياته عليه، إلا العباد المخلصين كما التزم وهو أمام الله بقضاء منه سبحانه {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الحجر:42].وروى مسلم عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ، إِلَّا وَقَدْ وُكِّلَ بِهِ قَرِينُهُ مِنَ الْجِنِّ» قَالُوا: وَإِيَّاكَ؟ يَا رَسُولَ اللهِ قَالَ: «وَإِيَّايَ، إِلَّا أَنَّ اللهَ أَعَانَنِي عَلَيْهِ فَأَسْلَمَ، فَلَا يَأْمُرُنِي إِلَّا بِخَيْرٍ» (2)
غير أن الإنسان إذا لم يستطع التسلط على الجن إلا بإذن الله، فليس ذلك بمانع أن يتصل به ويتعاون معه ليحقق له بعض الأغراض وهذا الاتصال يتم بعدة أساليب، ووقع ذلك لبعض الناس في القديم والحديث، وعرف منهم الكهان والعرافون والسحرة. وكان من هذا الاتصال ما يسمَّى الآن بتحضير الأرواح. وهذا التحضير كما سبق ذكره لا يكون لأرواح الملائكة ولا الآدميين بعد موتهم، وإنما هو لهذه الأرواح المعروفة بالجن. والقرين من الجن له قدرة على تقليد صاحبه فى صوته وقد يتشكل بشكله، وهو
__________
(1) - صحيح مسلم (4/ 1838) 146 - (2366)
[ش (إلا ابن مريم وأمه) هذه فضيلة ظاهرة وظاهر الحديث اختصاصها بعيسى وأمه واختار القاضي عياض أن جميع الأنبياء يتشاركون فيها]
(2) - صحيح مسلم (4/ 2167) 69 - (2814)
[ش (فأسلم) برفع الميم وفتحها وهما روايتان مشهورتان فمن رفع قال معناه أسلم أنا من شره وفتنته ومن فتح قال إن القرين أسلم من الإسلام وصار مؤمنا لا يأمرني إلا بخير واختلفوا في الأرجح منهما فقال الخطابي الصحيح المختار الرفع ورجح القاضي عياض الفتح وهو المختار لقوله - صلى الله عليه وسلم - فلا يأمرني إلا بخير واختلفوا على رواية الفتح قيل أسلم بمعنى استسلم وانقاد وقد جاء هكذا في غير صحيح مسلم فاستسلم وقيل معناه صار مسلما مؤمنا وهذا هو الظاهر، قال القاضي واعلم أن الأمة مجتمعة على عصمة النبي - صلى الله عليه وسلم - من الشيطان في جسمه وخاطره ولسانه وفي هذا الحديث إشارة إلى التحذير من فتنة القرين ووسوسته وإغوائه فأعلمنا بأنه معنا لنحترز منه بحسب الإمكان](1/306)
على دراية واسعة بحاله الظاهرة، وقد يكون بحاله الباطنة أيضا مما تدلُّ عليه الظواهر، وللقرناء صلةٌ ببعضهم يعرفون عن طريقها الأخبار التى تحدث للناس، فيمكن لقرين سعد مثلا أن يعرف أحوال سعيد عن طريق سؤال قرينه، ومن هنا يمكن لقرين سعد أن يخبر سعدا بحال سعيد، إما بصوت يسمعه ولا يرى صاحبه، وهو ما يعرف باسم الهاتف، وإما بطريق آخر من طرق الأخبار، وقد يكون هذا القرين مساعدا لصاحبه في بعض الأعمال فتسهل عليه، وقد يكون على العكس مشاكسا فيضع العراقيل فى طريقه فيحسُّ بالضيق والألم وقد يحصل غير ذلك، فإن عالم الجن عالم غريبٌ يخفى علينا الكثير من أحواله. وكلُّ هذه التصرفات فى دائرة الإمكان.
فإذا قام إنسان -على مواصفات معينة وبطرق مختلفة-بتحضير روح إنسان فهو يحضِّر روح قرينه، الذي يستطيع أن يقلِّد صوته ويخبر عن كثير من أحواله، وعن أمور غائبة عرفها القرناء وتبادلوا أخبارها، فيحسب الإنسان أن الروح التي تتكلم هي روح آدمي، وهي روح قرينه، التي لا تستطيع أبدا أن تخبر عن المستقبل فمجالها هو الحاضر الذى يخفى على بعض الناس. ذلك أن الجن لا يعلمون الغيب أبدا، قال تعالى: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} [النمل:65]،وقال عن جن النبي سليمان عليه السلام بعد موته: {فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ} [سبأ:14]،وقد يكذب القرناء في أخبارهم، فيقول قرين الكافر مثلا إنه في نعيم، وهو بنص القرآن في عذاب أليم، والروح الحقيقيةُ لأيِّ إنسان لا تكذب بعد الموت، فهو في دار الحق التي لا كذب فيها، ولم يحدث أن ادَّعى من يزاولون تحضير الأرواح أنهم أحضروا روح نبي من الأنبياء، وذلك لأن الشياطين لا تتمثل بهم ولا تستطيع تقليد أصواتهم، كما يحدث من القرناء مع بقية البشر.
فالخلاصة أن تحضير الأرواح هو تحضير لأرواح الجِنِّ وليس لأرواح الملائكة أو البشر، ولا يجوز الاعتماد على ما تخبر به هذه الأرواح، فقد تكون صادقة وقد تكون(1/307)
كاذبة فيما تقول. وتحضيرُ أرواح الجنِّ أمرٌ ممكنٌ غير مستحيل، لعدم ورود ما يمنعه، ولحدوثه واقعا والذي لا يمكن ويسمَّى خرافة هو تحضير أرواح الملائكة وأرواح بني آدم.
ومن الواجب ألا يستغلَّ إمكان تحضير الجن استغلالا سيئا، كما يفعل الدجالون والمشعوذون، كما أن من الواجب ألا يخرج بنا الحماس في مقاومة الدجل والشعوذة إلى حد الإنكار لوجود الجن، فهم موجودون ومكلفون مثل البشر، وهم يستطيعون الإضرار بالناس بإذن الله، كما يضرُّ الناس بعضهم بعضا، وليس هذا الإضرار قاصرا فقط على الوسوسة والإغواء، بل منه ما يكون في الماديات التي تتعلق بالإنسان فى مأكله ومشربه وملبسه، بل وفي جسمه، فليس هناك دليل على منعه، والأمرُ بالتسمية لطرد الشيطان معروفٌ.
والواجبُ أن نتحصن بقوة الإيمان والثقة بالله، والإقبال على طاعته والبعد عن معصيته ما استطعنا إلى ذلك سبيلا، وأن نزنَ أمورنا بميزان العقل الذي كرمنا الله به، وأن نحكِّمه فيما لم يرد فيه نص من كتاب أو سنَّة، وما استعصى علينا فهمه ينبغي ألا نبادر بإنكاره، بل علينا التريث والتدبُّر حتى تتضح الأمور وتظهر الأدلة القاطعة على صدقه أو كذبه". (1)
وفي فتاوى الألوكة (2): ما حكم ما يُسمَّى بعلم تحضير الأرواح والتنويم المغناطيسي؟
" لقد شاع بين كثير من الناس من الكتَّاب وغيرهم ما يسمى بعلم تحضير الأرواح، وزعموا أنهم يستحضرون أرواح الموتى بطريقة اخترعها المشتغلون بهذه الشعوذة يسألونها عن أخبار الموتى من نعيم وعذاب وغير ذلك من الشؤون التي يظن أن عند الموتى علمًا بها في حياتهم، ولقد تأملت هذا الموضوع كثيرًا فاتضح لي أنه علم باطل وأنه شعوذة شيطانية يراد منها إفساد العقائد والأخلاق والتلبيس على المسلمين
__________
(1) - فتاوى الأزهر (10/ 148):تحضير الأرواح- المفتي عطية صقر. مايو 1997
(2) - فتاوى موقع الألوكة العنوان: حكم ما يُسمَّى بعلم تحضير الأرواح والتنويم المغناطيسي -رقم الفتوى:1772 المفتي: سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز(1/308)
والتوصل إلى دعوى علم الغيب في أشياء كثيرة؛ ولهذا رأيت أن أكتب في ذلك كلمة موجزة لإيضاح الحق والنصح للأمة وكشف التلبيس عن الناس.
فأقول: لا ريب أن هذه المسألة مثل جميع المسائل يجب ردها إلى كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -؛فما أثبتاه أو أحدهما أثبتناه، وما نفياه أو أحدهما نفيناه - كما قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء:59].
ومسألة الروح من الأمور الغيبية التي اختص الله سبحانه وتعالى بعلمها ومعرفة كنهها؛ فلا يصح الخوض فيها إلا بدليل شرعي - قال الله تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (27)} [الجن:26 - 27]،وقال سبحانه في سورة النمل: {قُلْ لاَ يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَْرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ} [النَّمل:65].
وقد اختلف العلماء رحمهم الله في المراد بالروح في قوله تعالى في سورة الإسراء: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء:85]،فقال بعضهم: إنه الروح الذي في الأبدان؛ وعلى هذا فالآية دليل على أن الروح أمر من أمر الله لا يعلم الناس عنه شيئًا إلا ما علمهم الله إياه؛ لأن ذلك أمر من الأمور التي اختص الله سبحانه بعلمها وحجب ذلك عن الخلق.
قد دلَّ القرآن الكريم والأحاديث الصحيحة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أن أرواح الموتى تبقى بعد موت الأبدان؛ ومما يدل على ذلك قوله تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَْنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُْخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً} [الزُّمَر:42].
وثبت عَنْ أَبِي طَلْحَةَ، أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَمَرَ يَوْمَ بَدْرٍ بِأَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ رَجُلًا مِنْ صَنَادِيدِ قُرَيْشٍ، فَقُذِفُوا فِي طَوِيٍّ مِنْ أَطْوَاءِ بَدْرٍ خَبِيثٍ مُخْبِثٍ، وَكَانَ إِذَا ظَهَرَ عَلَى قَوْمٍ أَقَامَ بِالعَرْصَةِ ثَلاَثَ لَيَالٍ، فَلَمَّا كَانَ بِبَدْرٍ اليَوْمَ الثَّالِثَ أَمَرَ بِرَاحِلَتِهِ فَشُدَّ عَلَيْهَا رَحْلُهَا، ثُمَّ مَشَى(1/309)
وَاتَّبَعَهُ أَصْحَابُهُ، وَقَالُوا: مَا نُرَى يَنْطَلِقُ إِلَّا لِبَعْضِ حَاجَتِهِ، حَتَّى قَامَ عَلَى شَفَةِ الرَّكِيِّ، فَجَعَلَ يُنَادِيهِمْ بِأَسْمَائِهِمْ وَأَسْمَاءِ آبَائِهِمْ: «يَا فُلاَنُ بْنَ فُلاَنٍ، وَيَا فُلاَنُ بْنَ فُلاَنٍ، أَيَسُرُّكُمْ أَنَّكُمْ أَطَعْتُمُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، فَإِنَّا قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا، فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا؟» قَالَ: فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا تُكَلِّمُ مِنْ أَجْسَادٍ لاَ أَرْوَاحَ لَهَا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ لِمَا أَقُولُ مِنْهُمْ» .. (1)
وفي رواية عَنْ أَنَسٍ قَالَ: سَمِعَ الْمُسْلِمُونَ، مِنَ اللَّيْلِ بِبِئْرِ بَدْرٍ قال وَرَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَائِمٌ يُنَادِي يَا أَبَا جَهْلِ بْنَ هِشَامٍ يَا شَيْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ يَا عُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ يَا أُمَيَّةَ بْنَ خَلَفٍ " هَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا؟ فَإِنِّي وَجَدْتُ مَا وَعَدَنِي رَبِّي حَقًّا قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ أَتُنَادِي قَوْمًا قَدْ جَيَّفُوا؟ قَالَ: «مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ لِمَا أَقُولُ مِنْهُمْ وَلَكِنَّهُمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يُجِيبُوا» (2)
وثبت عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّهُ حَدَّثَهُمْ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " إِنَّ العَبْدَ إِذَا وُضِعَ فِي قَبْرِهِ وَتَوَلَّى عَنْهُ أَصْحَابُهُ، وَإِنَّهُ لَيَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالِهِمْ، أَتَاهُ مَلَكَانِ فَيُقْعِدَانِهِ، فَيَقُولاَنِ: مَا كُنْتَ تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ لِمُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم -، فَأَمَّا المُؤْمِنُ، فَيَقُولُ: أَشْهَدُ أَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، فَيُقَالُ لَهُ: انْظُرْ إِلَى مَقْعَدِكَ مِنَ النَّارِ قَدْ أَبْدَلَكَ اللَّهُ بِهِ مَقْعَدًا مِنَ الجَنَّةِ، فَيَرَاهُمَا جَمِيعًا - قَالَ قَتَادَةُ: وَذُكِرَ لَنَا: أَنَّهُ يُفْسَحُ لَهُ فِي قَبْرِهِ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى حَدِيثِ أَنَسٍ - قَالَ: وَأَمَّا المُنَافِقُ وَالكَافِرُ فَيُقَالُ لَهُ: مَا كُنْتَ تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ؟ فَيَقُولُ: لاَ أَدْرِي كُنْتُ أَقُولُ مَا يَقُولُ النَّاسُ، فَيُقَالُ: لاَ دَرَيْتَ وَلاَ تَلَيْتَ، وَيُضْرَبُ بِمَطَارِقَ مِنْ حَدِيدٍ ضَرْبَةً، فَيَصِيحُ صَيْحَةً يَسْمَعُهَا مَنْ يَلِيهِ غَيْرَ الثَّقَلَيْنِ " (3)
__________
(1) - صحيح البخاري (5/ 76) (3976)
[ش (صناديد) جمع صنديد وهو السيد الشجاع. (طوي) هي البئر التي بنيت جدرانها بالحجارة. (خبيث) غير طيب. (مخبث) من قوله أخبث إذا اتخذ أصحابا خبثا أي زاد خبثه بإلقاء هؤلاء الخبيثين فيه. (شفة الركي) طرف البئر. (أنكم أطعتم) أي لو أنكم أطعتم. (نقمة) وفي نسخة (نقيمة) وهي المكافأة بالعقوبة]
(2) - السنن الكبرى للنسائي (2/ 482) (2213) صحيح
(3) - صحيح البخاري (2/ 99) (1374) وصحيح مسلم (4/ 2200) 70 - (2870)
[ش (ما كنت تقول في هذا الرجل) يعني بالرجل النبي - صلى الله عليه وسلم - وإنما يقوله بهذه العبارة التي ليس فيها تعظيم امتحانا للمسئول لئلا يتلقى تعظيمه من عبارة السائل ثم يثبت الله الذين آمنوا (يفسح له في قبره سبعون ذراعا ويملأ عليه خضرا) الخضر ضبطوه بوجهين أصحهما بفتح الخاء وكسر الضاد والثاني بضم الخاء وفتح الضاد والأول أشهر ومعناه يملأ نعما غضة ناعمة وأصله من خضرة الشجرة هكذا فسروه قال القاضي يحتمل أن يكون هذا الفسح له على ظاهره وأنه يرفع عن بصره ما يجاوره من الحجب الكثيفة بحيث لا تناله ظلمة القبر ولا ضيقه إذا ردت إليه روحه قال ويحتمل أن يكون على ضرب المثل والاستعارة للرحمة والنعيم كما يقال سقى الله قبره والاحتمال الأول أصح](1/310)
قال العلامة ابن القيم رحمه الله (1):" والسلف مجمعون على، هذا وقد تواترت الآثار عنهم بأن الميت يعرف زيارة الحي له ويستبشر به.
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} [الزمر:42] قَالَ: «تَلْتَقِي أَرْوَاحُ الْأَحْيَاءِ وَالْأَمْوَاتِ فِي الْمَنَامِ، فَيَتَسَاءَلُونَ بَيْنَهُمْ، فَيُمْسِكُ اللَّهُ أَرْوَاحَ الْمَوْتَى وَيُرْسِلُ أَرْوَاحَ الْأَحْيَاءِ إِلَى أَجْسَادِهَا» (2)
وعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، فِي قَوْلِهِ: {اللَّهُ يُتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} [الزمر:42] الْآيَةَ، قَالَ: «يَجْمَعُ بَيْنَ أَرْوَاحِ الْأَحْيَاءِ، وَأَرْوَاحِ الْأَمْوَاتِ، فَيَتَعَارَفُ مِنْهَا مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَتَعَارَفَ، فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ، وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجْسَادِهَا» (3)
وعَنِ السُّدِّيِّ، فِي قَوْلِهِ: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} [الزمر:42] قَالَ:" تُقْبَضُ الْأَرْوَاحُ عِنْدَ نِيَامِ النَّائِمِ، فَتُقْبَضُ رُوحُهُ فِي مَنَامِهِ، فَتَلْقَى الْأَرْوَاحُ بَعْضُهَا بَعْضًا أَرْوَاحُ الْمَوْتَى وَأَرْوَاحُ النِيَامِ، فَتَلْتَقِي فَتَسَاءَلُ، قَالَ: فَيُخْلَى عَنْ أَرْوَاحِ الْأَحْيَاءِ، فَتَرْجِعُ إِلَى أَجْسَادِهَا، وَتُرِيدُ الْأُخْرَى أَنْ تَرْجِعَ، فَيَحْبِسُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ، وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى، قَالَ: إِلَى بَقِيَّةِ آجَالِهَا " (4)
__________
(1) - في كتابه «الروح» ص (5).
(2) - المعجم الأوسط (1/ 45) (122) حسن، وذكره الشيخ بالمعنى وانظر كتاب «الروح»،ص (20).
(3) - تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (20/ 215) حسن مرسل - زيادة من عندي
(4) - تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (20/ 216) حسن مرسل - زيادة من عندي
قال المفسرون: إن أرواح الأحياء والأموات تلتقي في المنام فتتعارف ما شاء الله، فإذا أرادت جميعها الرجوع الى أجسادها امسك الله أرواح الأموات عنده، وحبسها، وأرسل أرواح الأحياء حتى ترجع الى أجسادها. دلائل النبوة للبيهقي محققا الهامش (7/ 11) وفتاوى ابن الصلاح (1/ 94)(1/311)
ثم قال ابن القيم رحمه الله: وقد دل على التقاء أرواح الأحياء والأموات أن الحي يرى الميت في منامه فيستخبره ويخبره الميت بما لا يعلم الحي فيصادف خبره كما أخبره. (1)
فهذا هو الذي عليه السلف من أن أرواح الأموات باقية إلى ما شاء الله وتسمع، ولكن لم يثبت أنها تتصل بالأحياء في غير المنام.
كما أنه لا صحة لما يدعيه المشعوذون من قدرتهم على تحضير أرواح من يشاؤون من الأموات ويكلمونها ويسألونها؛ فهذه ادعاءات باطلة ليس لها ما يؤيدها من النقل ولا من العقل؛ بل إن الله سبحانه وتعالى هو العالم بهذه الأرواح والمتصرف فيها وهو القادر على ردها إلى أجسامها متى شاء ذلك؛ فهو المتصرف وحده في ملكه وخلقه لا ينازعه منازع، أما من يدَّعي غير ذلك فهو يدعي ما ليس له به علم ويكذب على الناس فيما يروجه من أخبار الأرواح: إما لكسب مال، أو لإثبات قدرته على ما لا يقدر عليه غيره، أو للتلبيس على الناس لإفساد الدين والعقيدة.
وما يدعيه هؤلاء الدجالون من تحضير الأرواح إنما هي أرواح شياطين يخدمها بعبادتها وتحقيق مطالبها، وتخدمه بما يطلب منها كذبًا وزورًا في انتحالها أسماء من يدعونه من الأموات - كما قال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112) وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ (113)} [الأنعام:112 - 113]
" وَكَمَا جَعَلْنَا هؤُلاَءِ وَأَمْثَالَهُمْ أَعْدَاءً لَكَ يَا مُحَمَّدُ، يُخَالِفُونَكَ وَيُعَانِدُونَكَ، وَيُعَادُونَكَ، كَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ مِنْ قَبْلِكَ أَعْدَاءً مِنْ شَيَاطِينِ الإِنْسِ وَالجِنِّ (شَيَاطِينُ الإِنْسِ هُمُ الكُبُرَاءُ وَمَنْ يُضِلُّونَ النَّاسَ عَنِ الهُدَى بِالوَسْوَسَةِ وَالإِغْرَاءِ وَالمُخَادَعَةِ)،وَيُلْقِي بَعْضُ هَؤُلاَءِ الشَّيَاطِينِ مِنَ الإِنْسِ وَالجِنِّ إلى بَعْضِ القَوْلِ المُمَوَّهَ الذِي يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ يَسْتُرُونَ بِهِ قُبْحَ بَاطِلِهِمْ، وَيُؤَدُّونَهُ بِطُرُقٍ خَفِيَّةٍ لاَ يَفْطَنُ إلَى بَاطِلِهَا كُلُّ وَاحِدٍ، حَتَّى يَغُرُّوا النَّاسَ وَيَخْدَعُوهُمْ وَيُمِيلُوهُمْ إلَى مَا يُرِيدُونَ، كَمَا وَسْوَسَ الشَّيْطَانُ
__________
(1) - في كتابه «الروح»،ص (21).(1/312)
لآدَمَ وَحَوْاءَ لِلأَكْلِ مِنَ الشَّجَرَةِ التِي نَهَاهُمَا اللهُ عَنْهَا، وَكَمَا يُوَسْوِسُ شَيَاطِينُ الإِنْسِ لِمَنْ يَجْتَرِحُونَ السَّيِّئَاتِ، فَيُزَيِّنُونَ لَهُمْ مَا فِيهَا مِنْ عَظِيمِ اللَّذَّةِ، وَالتَّمَتُّعِ بِالحُرِّيَّةِ، وَيُمَنُّونَهُمْ بِعَفْوِ اللهِ. وَلَوْ شَاءَ اللهُ أَنْ لاَ يَفْعَلُوا ذَلِكَ لَمَا فَعَلُوهُ وَلَكِنَّهُ تَعَالَى لَمْ يَشَأْ ذَلِكَ إِذْ خَلَقَ النَّاسُ عَلَى اسْتِعْدَادٍ لِقُبُولِ الحَقِّ وَالبَاطِلِ، وَالخَيْرِ وَالشَّرِّ.
وَيُوحِي هَؤُلاَءِ الشَّيَاطِينُ، بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ، القَوْلَ المُمَوَّهَ لِيَغُرُّوا بِهِ المُؤْمِنِينَ، وَيَصْرِفُوهُمْ عَنِ اتِّبَاعِ الرُّسُلِ، وَيَفْتِنُوهُمْ عَنْ دِينِهِمْ، وَلِتَمِيلَ إِلَيهِ قُلُوبُ الكَافِرِينَ الذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ، لأنَّهُ المُوَافِقُ لأَنْفُسِهِمْ إذْ هُمْ يَمِيلُونَ إلَى حُبِّ الشَّهَوَاتِ التِي مِنْ جُمْلَتِهَا الأَقَاوِيلُ المُزَخْرَفَةُ، وَالأَبَاطِيلُ المُمَوَّهَةُ، فَيَرْضَوْنَ ذَلِكَ لأَنْفُسِهِمْ بِلاَ بَحْثٍ وَلاَ تَمْحِيصٍ فِيهِ، وَيَرْتَكِبُونَ مِنَ المَآثِمِ وَالمَعَاصِي مَا هُمْ مُرْتَكِبُونَ بِغُرُورِهِمْ." (1)
وقال تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (128) وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (129)} [الأنعام:128،129].
" وَاذْكُرْ يَا مُحَمَّدُ، فِيمَا تَقُصُّهُ عَلى هَؤُلاَءِ، وَتُنْذِرُهُمْ بِهِ، مَا يَجْرِي يَوْمَ القِيَامَةِ، يَوْمَ يَحْشُرُ اللهُ الجِنَّ وَأَوْلِيَاءَهُمْ مِنَ الإِنْسِ الذِينَ كَانُوا يَعْبُدُونَهُمْ فِي الدُّنْيا، وَيَعُوذُونَ بِهِمْ، إذْ يَقُولُ تَعَالَى لَهُمْ: يَا مَعْشَرَ الجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنْ إِغْوَاءِ الإِنْسِ وَإِضْلاَلِهِمْ، فَأَوْرَدْتُمُوهُمُ النَّارَ. وَقَالَ أَوْلِيَاءُ الجِنِّ مِنَ الإِنْسِ يُجِيبُونَ اللهَ تَعَالَى: رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ، بِمَا كَانَ لِلْجِنِّ مِنَ اللذَّةِ فِي إِغْوَائِنا بِالأَبَاطِيلِ، وَأَهْوَاءِ الأَنْفُسِ وَشَهَوَاتِهَا، وَبِمَا كَانَ لَنَا فِي طَاعَتِهِمْ وَوَسْوَسَتِهِمْ مِنَ المُتْعَةِ، وَاتِّبَاعِ الهَوَى، وَالانْغَمَاسِ فِي اللَّذَّاتِ، وَبَلَغْنَا، بَعْدَ اسْتِمْتَاعِ بَعْضِنَا بِبَعْضٍ، إلَى الأَجَلِ الذِي قَدَّرْتَهُ لَنَا وَهُوَ المَوْتُ (أَوْ هُوَ يَوْمَ البَعْثِ وَالنُّشُورِ).
فَيَرُدُّ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ قَائِلاً: النَّارُ مَثْوَاكُمْ وَمَنْزِلُكُمْ، أَنْتُمْ وَأَوْلِيَاؤُكُمْ، مَاكِثِينَ فِيهَا سَرْمَداً، إِلاَّ مَنْ شَاءَ اللهُ أَنْ يُنْقِذَهُ، وَاللهُ حَكِيمٌ فِي شَرْعِهِ وَقَدَرِهِ وَحُكْمِهِ، عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُ النَّاسُ. وَكَمَا جَعَلْنَا هَؤُلاَءِ الخَاسِرِينَ مِنَ الإِنْسِ أَنْصَاراً وَأَوْلِياءَ لِتِلْكَ الطَّائِفَةِ التِي أَغْوَتْهُمْ
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد (ص:902،بترقيم الشاملة آليا) وهذا التفسير زيادة مني(1/313)
مِنَ الجِنِّ، كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالظَّالِمِينَ، نُسَلِّطُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَنُهْلِكُ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ، وَنَنْتَقِمُ مِنْ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ، جَزَاءً لَهُمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَبَغْيِهِمْ." (1)
وذكر علماء التفسير أن استمتاع الجن بالإنس بعبادتهم إياهم بالذبائح والنذور والدعاء، وأن استمتاع الإنس بالجن في قضاء حوائجهم التي يطلبونها منهم وإخبارهم ببعض المغيبات التي يطلع عليها الجن في بعض الجهات النائية أو يسترقونها من السمع، أو يكذبون وهو الأكثر. ولو فرضنا أن هؤلاء الإنس لا يتقربون إلى الأرواح التي يستحضرونها بشيء من العبادة فإن ذلك لا يوجب حِلَّ ذلك وإباحته؛ لأن سؤال الشياطين والعرافين والكهنة والمنجمين ممنوع شرعًا، وتصديقهم فيما يخبرون به أعظم تحريمًا وأكبر إثمًا؛ بل هو من شعب الكفر، فعَنْ بَعْضِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَنْ أَتَى عَرَّافًا فَسَأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ، لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلَاةٌ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً» (2)
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: «مَنْ أَتَى كَاهِنًا فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم -» (3)
وعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: مَنْ أَتَى كَاهِنًا فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم -. (4)
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد (ص:918،بترقيم الشاملة آليا) وهذا التفسير زيادة مني
(2) - صحيح مسلم (4/ 1751) 125 - (2230)
[ش (عرافا) العراف من جملة أنواع الكهان قال ابن الأثير العراف المنجم أو الحازي الذي يدعي علم الغيب وقد استأثر الله تعالى به وقال الخطابي وغيره العراف هو الذي يتعاطى معرفة مكان المسروق ومكان الضالة ونحوهما]
فَالْكَاهِنُ: هُوَ الَّذِي يُخْبِرُ عَنِ الْكَوَائِنِ فِي مُسْتَقْبَلِ الزَّمَانِ، وَيَدَّعِي مَعْرِفَةَ الأَسْرَارِ، وَمُطَالَعَةَ عِلْمَ الْغَيْبِ، وَكَانَ فِي الْعَرَبِ كَهَنَةٌ يَدَّعُونَ مَعْرِفَةَ الأُمُورِ، فَمِنْهُمْ مِنْ كَانَ يَزْعُمُ أَنَّ لَهُ رَئِيسًا مِنَ الْجِنِّ، وَتَابِعةً تَلْقِي إِلَيْهِ الأَخْبَارَ، وَمِنْهُمْ مِنْ كَانَ يَدَّعِي أَنَّهُ يَسْتَدْرِكُ الأُمُورَ بِفَهْمٍ أُعْطِيهِ.
وَالْعَرَّافُ هُوَ الَّذِي يَدَّعِي مَعْرِفَةَ الأُمُورَ بِمُقَدِّمَاتِ أَسْبَابٍ يُسْتَدَلُّ بِهَا عَلَى مَوَاقِعِهَا، كَالْمَسْرُوقِ مِنَ الَّذِي سَرَقَهَا، وَمَعْرِفَةُ مَكَانِ الضَّالَّةِ، وَتُتَّهَمُ الْمَرْأَةُ بِالزِّنَى، فَيَقُولُ: مِنْ صَاحِبِهَا؟ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنَ الأُمُورِ.
وَمِنْهُمْ مِنْ يُسَمِّي الْمُنَجِّمَ كَاهِنًا. شرح السنة للبغوي (12/ 182)
(3) - مسند أبي داود الطيالسي (1/ 300) (381) صحيح
(4) -كشف الأستار عن زوائد البزار- مؤسسة الرسالة (3/ 400) (3045) صحيح – زيادة مني(1/314)
وقد جاء في هذا المعنى أحاديث وآثار كثيرة، ولا شك أن هذه الأرواح التي يستحضرونها بزعمهم داخلة فيما منع منه النبي - صلى الله عليه وسلم -؛لأنها من جنس الأرواح التي تقترن بالكهان والعرافين من أصناف الشياطين فيكون لها حكمها؛ فلا يجوز سؤالها ولا استحضارها ولا تصديقها؛ بل كل ذلك محرم ومنكر بل وباطل - لما سمعت من الأحاديث والآثار في ذلك، ولأن ما ينقلونه عن هذه الأرواح يعتبر من علم الغيب؛ وقد قال الله سبحانه: {قُلْ لاَ يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَْرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ} [النَّمل:65].
وقد تكون هذه الأرواح هي الشياطين المقترنة بالأموات الذين طلبوا أرواحهم فتخبر بما تعلمه من حال الميت في حياته مدعية أنها روح الميت الذي كانت مقترنة به؛ فلا يجوز تصديقها ولا استحضارها ولا سؤالها - كما تقدم الدليل على ذلك، وما يحضره ليس إلا الشياطين والجن يستخدمهم مقابل ما يتقرب به إليهم من العبادة التي لا يجوز صرفها لغير الله؛ فيصل بذلك إلى حد الشرك الأكبر الذي يخرج صاحبه من الملة. نعوذ بالله من ذلك.
ولقد أصدرت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في دار الإفتاء السعودية فتوى عن التنويم المغناطيسي الذي هو أحد أنواع تحضير الأرواح هذا نصها:
(التنويم المغناطيسي ضرب من ضروب الكهانة؛ باستخدام جني يسلطه المنوِّم على المنوَّم فيتكلم بلسانه ويكسبه قوة على بعض الأعمال بسيطرته عليه إن صدق مع المنوَّم وكان طوعًا له مقابل ما يتقرب به المنوَّم إليه، ويجعل ذلك الجني المنوَّم طوع إرادة المنوِّم؛ يقوم بما يطلبه منه من الأعمال بمساعدة الجني له إن صدق ذلك الجني مع المنوِّم. وعلى ذلك يكون استغلال التنويم المغناطيسي واتخاذه طريقًا أو وسيلة للدلالة على مكان سرقة أو ضالة أو علاج مريض أو القيام بأي عمل آخر بواسطة المنوم: غير جائز؛ بل هو شرك؛ لما تقدم، ولأنه التجاء إلى غير الله فيما هو من وراء الأسباب العادية التي جعلها الله سبحانه إلى المخلوقات وأباحها لهم) انتهى كلام اللجنة.
وممن كشف حقيقة هذه الدعوى الباطلة: الدكتور محمد محمد حسين في كتابه: الروحية الحديثة حقيقتها وأهدافها، وكان ممن خدع بهذه الشعوذة زمنًا طويلاً ثم هداه الله إلى(1/315)
الحق وكشف زيف تلك الدعوى بعد أن توغل فيها ولم يجد فيها سوى الخرافات والدجل، وقد ذكر أن المشتغلين بتحضير الأرواح يسلكون طرقًا مختلفة: منهم المبتدئون الذين يعتمدون على كوب صغير أو فنجان ينتقل بين حروف قد رسمت فوق منضدة وتتكون إجابات الأرواح المستحضرة حسب زعمهم - من مجموع الحروف بحسب ترتيب تنقله فيها. ومنهم من يعتمد على طريقة السلة يوضع في طرفها قلم يكتب الإجابات على أسئلة السائلين، ومنهم من يعتمد على وسيط كوسيط التنويم المغناطيسي.
وذكر أنه يشك في مدعي تحضير الأرواح؛ وأن وراءهم من يدفعهم بدليل الدعاية التي عملت لهم فتسابقت إلى تتبع أخبارهم ونشر ادعاءاتهم صحف ومجلات لم تكن من قبل تنشط لشيء يمس الروح أو الحياة الآخرة ولم تكن في يوم من الأيام داعية إلى الدين أو الإيمان بالله، وذكر أنهم يهتمون بإحياء الدعوة الفرعونية وغيرها من الدعوات الجاهلية. كما ذكر أن الذين روجوا لأصل هذه الفكرة هم أناس فقدوا عزيزًا عليهم فيغرون أنفسهم بالأوهام، وأن أشهر من روج لهذه البدعة المسمى أوليفر لودج الذي فقد ابنه في الحرب العالمية الأولى، ومثله مؤسس الروحية في مصر أحمد فهمي أبو الخير الذي مات ابنه عام 1937م، وكان رزق به بعد طول انتظار.
وذكر الدكتور محمد محمد حسين أنه مارس هذه البدعة؛ فبدأ بطريقة الفنجان والمنضدة فلم يجد فيها ما يبعث على الاقتناع، وانتهى إلى مرحلة الوسيط وحاول مشاهدة ما يدعونه من تجسيد الروح أو الصوت المباشر ويرونه دليل دعواهم فلم ينجح هو ولا غيره؛ لأنه لا وجود لذلك في حقيقة الأمر وإنما هي ألاعيب محكمة تقوم على حيل خفية بارعة ترمي إلى هدم الأديان، وأصبحت الصهيونية العالمية الهدامة ليست بعيدة عنها، ولما لم يقتنع بتلك الأفكار الفاسدة وكشف حقيقتها انسحب منها وعزم على توضيح الحقيقة للناس ويقول إن هؤلاء المنحرفين لا يزالون بالناس حتى يستلوا من صدورهم الإيمان وما استقر في نفوسهم من عقيدة ويسلمونهم إلى خليط مضطرب من الظنون والأوهام، ومدعو تحضير الأرواح لا يثبتون للرسل صلوات الله وسلامه عليهم(1/316)
إلا صفة الوساطة الروحية - كما قال زعيمهم آرثر فندلاي في كتابه: (على حافة العالم الأثيري) عن الأنبياء: هم وسطاء في درجة عالية من درجات الوساطة، والمعجزات التي جرت على أيديهم ليست إلا ظواهر روحية كالظواهر التي تحدث في حجرة تحضير الأرواح.
ويقول الدكتور حسين: إنهم إذا فشلوا في تحضير الأرواح قالوا: الوسيط غير ناجح أو مجهد، أو إن شهود الجلسة غير متوافقين، أو إن بينهم من حضر إلى الاجتماع شاكًا أو متحديًا. ومن بين مزاعمهم الباطلة: أنهم زعموا أن جبريل عليه السلام يحضر جلساتهم ويباركها، قبحهم الله. انتهى المقصود من كلام الدكتور محمد محمد حسين.
ومما ذكرناه في أول الجواب وما ذكرته اللجنة والدكتور محمد محمد حسين في التنويم المغناطيسي: يتضح بطلان ما يدعيه محادثو الأرواح من كونهم يحضرون أرواح الموتى ويسألونهم عما أرادوه، ويعلم أن هذه كلها أعمال شيطانية وشعوذة باطلة داخلة فيما حذر منه النبي - صلى الله عليه وسلم - من سؤال الكهنة والعرافين وأصحاب التنجيم ونحوهم.
والواجب على المسؤولين في الدول الإسلامية منع هذا الباطل والقضاء عليه وعقوبة من يتعاطاه حتى يكف عنه، كما أن الواجب على رؤساء تحرير الصحف الإسلامية أن لا ينقلوا هذا الباطل وأن لا يدنسوا به صحفهم، وإذا كان لابد من نقل فليكن نقل الرد والتزييف والإبطال والتحذير من ألاعيب الشياطين من الإنس والجن ومكرهم وخداعهم وتلبيسهم على الناس. والله يقول الحق وهو يهدي السبيل، وهو المسؤول سبحانه أن يصلح أحوال المسلمين ويمنحهم الفقه في الدين ويعيذهم من خداع المجرمين وتلبيس أولياء الشياطين، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد ". (1)
__________
(1) - وانظر فتاوى الشبكة الإسلامية (1/ 4452):حقائق حول تحضير الأرواح. وفتاوى موقع الألوكة (/ 1):
العنوان: حكم ما يُسمَّى بعلم تحضير الأرواح والتنويم المغناطيسي رقم الفتوى:1772 وفتاوى واستشارات الإسلام اليوم (2/ 470):تحضير الأرواح (النورانية) ومجموع فتاوى ابن باز (3/ 309):حكم ما يسمى بعلم تحضير الأرواح وموقع الإسلام سؤال وجواب (1/ 534):حكم ما يسمى بعلم تحضير الأرواح(1/317)
4 - حكم التنويم المغناطيسي:
لقد تباينت الفتاوى حول التنويم المغناطيسي، وسبب تباينها يكمن في التصنيف الذي يوضع فيه التنويم المغناطيسي، فمن صنفه في مجال الكهانة والسحر واستخدام الجان قال بمنعه دون تفصيل، ومن صنفه في مجال الإيحاءات والمجالات العلمية والنفسية قال بحليته إذا استخدم فيما هو خير كالعلاج ونحوه، وننقل هنا فتويين يبينان هذا الاختلاط.
الفتوى الأولى: فتوى هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية (1):
السؤال: ما حكم الإسلام في التنويم المغناطيسي وبه تقوى قدرة المنوم على الإيحاء بالمنوم وبالتالي السيطرة عليه وجعله يترك محرماً أو يشفى من مرض عصبي أو يقوم بالعمل الذي يطلب المنوم؟ فتقول فتوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في دار الإفتاء السعودية عن التنويم المغناطيسي: التنويم المغناطيسي ضرب من ضروب الكهانة باستخدام جني يسلطه المنوِّم على المنوَّم فيتكلم بلسانه ويكسبه قوة على بعض الأعمال بسيطرته عليه إن صدق مع المنوم وكان طوعاً له مقابل ما يتقرب به المنوم إليه ويجعل ذلك الجني المنوم طوع إرادة المنوم يقوم بما يطلبه منه من الأعمال بمساعدة الجني له إن صدق ذلك الجني مع المنوم، وعلى ذلك يكون استغلال التنويم المغناطيسي واتخاذه طريقاً أو وسيلة للدلالة على مكان سرقة أو ضالة أو علاج مريض أو القيام بأي عمل آخر بواسطة المنوم غير جائز، بل هو شرك لما تقدم، ولأنه التجاء إلى غير الله فيما هو من وراء الأسباب العادية التي جعلها الله سبحانه إلى المخلوقات وأباحها لهم. انتهى كلام اللجنة."
الفتوى الثانية: (من موقع الإسلام اليوم)،السؤال: ما حكم التنويم المغناطيسي في العلاج الطبي؟ علماً أن دراسة التنويم المغناطيسي جزء من المنهج الدراسي في الطب، وقد قرأت فتوى أنه حرام، على أساس أنه يتعلق بالجن، وقرأت أيضاً عن هذا العلاج كثيراً، وكله يتركز على أمور نفسية لا علاقة لها بالجن والسحر؟ الجواب: الحمد لله ... وبعد:
يمكن إيجازه فيما يلي:
__________
(1) - رقم 1779 في المجلد الأول (العقيدة) صفحة 399 الطبعة الثانية 1412هـ وفتاوى الإسلام سؤال وجواب (ص:909):سؤال رقم 12631 - حكم العلاج بالتنويم المغناطيسي وفتاوى موقع الألوكة (/ 1):العنوان: حكم الاستعانة بالجن في معرفة المغيَّبات والتنويم المغناطيسي رقم الفتوى:1204(1/318)
1) أن المسمى الصحيح لهذا التنويم هو (التنويم الإيحائي).
2) أن بعض الفتاوى التي صدرت في حكم التنويم المغناطيسي إنما كانت بناءً على ممارسات غير صحيحة، وغير داخلة في مسمى التنويم الإيحائي، (المغناطيسي) فالإخبار بالغيبيات واستعمال الجن ينكرها من يمارس هذا النوع من أطباء ومختصين.
3) أن التنويم الإيحائي (المغناطيسي) مجال علمي معروف، ومهمته العلاجية معروفة، وله قواعد وأسس، وتحقق به إنجازات طبية معروفة.
4) أن التنويم الإيحائي يراد منه إقناع المريض بالعلاج الذي كان يرفضه في أحواله الاعتيادية، وكذلك يُراد من هذا التنويم تشكيل قناعة جديدة إيجابية لدى المريض حتى يتجاوز قناعته السلبية.
5) أن هناك ممارسات اختلطت بالتنويم الإيحائي (المغناطيسي) عند الأداء، وهذه الممارسات احتوت على أمور محرمة، فبدا للناس منها أن هذا التنويم محرم، والحرمة إنما جاءت من الممارسات لا من التنويم كما يحصل في (السيرك) من استعمال السحر والشعوذة.
6) أن التنويم الإيحائي باعتباره نوعاً من المعالجة يمكن أن يستخدم في الخير ويمكن أن يستخدم في الشر، فالإقناع بفكرة ما يعتمد على مشروعية هذه الفكرة أو عدم مشروعيتها فإن كانت الفكرة حسنة جازت المعالجة، وإلا فلا. والله أعلم. (1)
فإذا تأملنا هاتين الفتويين عرفنا أن التنويم المغناطيسي يطلق على نوعين من الممارسات يختلف كل منهما عن الآخر اختلافاً كبيراً، وأمكننا -حينئذ- القول إن التنويم المغناطيسي إذا قام على استخدام الجن كان حراماً، ولو كان المراد منه خيراً. (2)
وإذا كان التنويم المغناطيسي يقوم على الإيحاء والممارسات النفسية كان مباحاً إذا استخدم فيما هو خير، وحراماً إذا استخدم في الشر. والله أعلم." (3)
__________
(1) - العنوان التنويم المغناطيسي في العلاج الطبي، المجيب د. عبد الرحمن بن أحمد بن فايع الجرعي عضو هيئة التدريس بجامعة الملك خالد، التاريخ 29/ 7/1426هـ و (15/ 30):التنويم المغناطيسي في العلاج الطبي
(2) - ولك أن تراجع في استخدام الجن في الخير الفتوى رقم:7369 فتاوى الشبكة الإسلامية (1/ 4444):من قال إنه يتعامل مع الجن في أمور الخير
(3) - فتاوى الشبكة الإسلامية (12/ 12098):حكم التنويم المغناطيسي [تَارِيخُ الْفَتْوَى] 05 ذو القعدة 1428 برقم (101320)(1/319)
تخلي الشياطين عن أتباعها:
هؤلاء الذين يُدعون بالروحانيين، ويزعمون أنهم يحضرون الأرواح ويعالجون بها كاذبون، وما هذه الأرواح إلا شياطين، وقد تتخلى الشياطين عن هؤلاء فتذلهم وتخذلهم، نشرت جريدة القبس الكويتية مقالاً جاء فيه (1):" بريطانيا بأسرها تتحدث هذه الأيام عن العالم الروحاني (بيتر غودوين) الذي كان يتمتع بمواهب (روحانية) خارقة، يستطيع بوساطتها أن يشفي المرضى من الأمراض المستعصية، ويكشف الأشياء المفقودة، ويسخر الأرواح لخدمة الإنسان.
وكان (بيتر غودوين) يتمتع بقدرة فريدة يستطيع بوساطتها أن يوجد في أكثر من مكان في وقت واحد، فقد كان يشاهده أصدقاؤه في لندن مثلاً، ويشاهده آخرون في اللحظة نفسها في ليفربول، وآخرون في مانشستر، بينما يؤكد فريق رابع أنه لم يكن في هذا المكان ولا ذلك، وإنما كان يجلس في منزله بين زوجته وأولاده.
وأحياناً كانت أجساده الأثيرية المختلفة تتجمع في مكان واحد، فيكون جالساً بين أصدقائه مثلاً، وفجأة ... تدخل عليهم جميع شخصياته الأخرى ... وتشاركهم الجلسة ... فتأتي شخصيته الثانية والثالثة، والرابعة والخامسة، ويصبح (بيتر غودوين) عبارة عن خمس شخصيات تجالس الحضور، وتتحدث إليهم، أو تتحدث بعضها مع بعض ... ،بينما يكون الجميع مبهورين ... ،وفجأة خسر (بيتر غودوين) كلّ شيء وتحول إلى إنسان عادي، ولم يعد قادراً على شفاء المرضى، ولا اكتشاف الأشياء المفقودة، ولاكشف المستقبل، ولا تسخير الأرواح لخدمة الناس.
وقد بدأت مأساة (غودوين) في السنة الماضية عندما حاول استغلال المواهب التي منحت له لتحقيق مكاسب مادية ... ،وهو ينظر الآن إلى الماضي القريب ويقول: إن ما حدث لي لم يكن في الحسبان، فقد غضبت الأرواح مني، وسلبتني بركتها." (2)
__________
(1) - ملحق جريدة القبس، تاريخ 12/ 6/1978م.
(2) - انظر كتاب عالم الجن والشياطين للأشقر رحمه الله(1/320)
المبحث الرابع عشر
كيف نقي أنفسُنا من كيد الشيطان؟
أولاً: الحذر والحيطة:
هذا العدو الخبيث الماكر حريص على إضلال بني آدم، وقد علمنا أهدافه ووسائله في الإضلال، فبمقدار علمك بهذا العدو: أهدافه ووسائله والسبل التي يضلنا بها تكون نجاتنا منه، أما إذا كان الإنسان غافلاً عن هذه الأمور فإن عدوه يأسره ويوجهه الوجهة التي يريد.
وقد صور ابن الجوزي هذا الصراع بين الإنسان والشيطان تصويراً بديعاً حيث يقول:" واعلم أن القلب كالحصن، وعلى ذلك الحصن سور، وللسور أبواب وفيه ثلم (1)،وساكنه العقل، والملائكة تتردد على ذلك الحصن، وإلى جانبه ربض (2) فيه الهوى، والشياطين تختلف إلى ذلك الربض من غير مانع، والحرب قائمة بين أهل الحصن وأهل الربض، والشياطين لا تزال تدور حول الحصن تطلب غفلة الحارس والعبور من بعض الثلم.
فينبغي للحارس أن يعرف جميع أبواب الحصن الذي قد وكل بحفظه وجميع الثلم، وألا يفتر عن الحراسة لحظة، فإن العدو لا يفتر. قال رجل للحسن البصري: أينام إبليس؟ قال: لو نام لوجدنا راحة.
وهذا الحصن مستنير بالذكر مشرق بالإيمان، وفيه مرآة صقيلة يتراءى فيها صورة كل ما يمرّ به، فأول ما يفعل الشيطان في الربض إكثار الدخان، فتسودّ حيطان الحصن، وتصدأ المرآة، وكمال الفكر يرد الدخان، وصقل الذكر يجلو المرآة، وللعدو حملات، فتارة يحمل فيدخل الحصن، فيكر عليه الحارس فيخرج، وربما دخل فعاث (3)،وربما أقام لغفلة
__________
(1) - الثلمة في السور: الموضع المتهدم منه.
(2) - الربض: المكان الذي يُؤوى إليه.
(3) - عاث يعيث عيثا أفسد.(1/322)
الحراس، وربما ركدت الريح الطاردة للدخان، فتسود حيطان الحصن، وتصدأ المرآة فيمر الشيطان ولا يدري به، وربما جرح الحارس لغفلته، وأسر واستخدم، وأقيم يستنبط الحيل في موافقة الهوى ومساعدته، وأسر واستخدم وأقيم يستنبط الحيل فِي موافقة الهوى ومساعدته وربما صار كالفقيه في الشر قال بعض السلف رأيت الشَّيْطَان فَقَالَ لي قد كنت ألقى الناس فأعلمهم فصرت ألقاهم فأتعلم منهم وربما هجم الشَّيْطَان عَلَى الذكي الفطن ومعه عروس الهوى قد جلاها فيتشاغل الفطن بالنظر إليها فيستأسره وأقوى القيد الذي يوثق به الأسرى الجهل وأوسطه فِي القوي الهوى وأضعفه الغفلة وما دام درع الإيمان عَلَى المؤمن فَإِن نبل العدو لا يقع فِي مقتل." (1)
وعَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -:" قَالَ الشَّيْطَانُ - لَعَنَهُ اللهُ -:لَنْ يَسْلَمَ مِنِّي صَاحِبُ الْمَالِ مِنْ إِحْدَى ثَلَاثٍ، أَغْدُو عَلَيْهِ بِهِنَّ وَأَرُوحُ بِهِنَّ: أَخْذُهُ الْمَالَ مِنْ غَيْرِ حِلِّهِ، وَإِنْفَاقُهُ فِي غَيْرِ حَقِّهِ، وَأُحَبِّبُهُ إِلَيْهِ فَيَمْنَعُهُ مِنْ حَقِّهِ " (2)
وقَالَ أَبُو غَسَّانَ النَّهْدِيُّ: سَمِعْتُ الْحَسَنَ بْنَ صَالِحٍ، يَقُولُ: «إِنَّ الشَّيْطَانَ لَيَفْتَحُ لِلْعَبْدِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ بَابًا مِنَ الْخَيْرِ يُرِيدُ بِهِ بَابًا مِنَ السُّوءِ» (3)
وعَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: فَحَدَّثَنِي مَعْبَدُ بْنُ كَعْبِ بْنِ مَالِكِ بْنِ أَبِي كَعْبِ بْنِ الْقَيْنِ، أَخُو بَنِي سَلِمَةَ، أَنَّ أَخَاهُ عُبَيْدَ اللهِ بْنَ كَعْبٍ، وَكَانَ مِنْ أَعْلَمِ الأَنْصَارِ، حَدَّثَهُ أَنَّ أَبَاهُ كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ، وَكَانَ كَعْبٌ مِمَّنْ شَهِدَ الْعَقَبَةَ، وَبَايَعَ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بِهَا، قَالَ: خَرَجْنَا فِي حُجَّاجِ قَوْمِنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَقَدْ صَلَّيْنَا وَفَقِهْنَا وَمَعَنَا الْبَرَاءُ بْنُ مَعْرُورٍ كَبِيرُنَا وَسَيِّدُنَا، فَلَمَّا تَوَجَّهْنَا لِسَفَرِنَا وَخَرَجْنَا مِنَ الْمَدِينَةِ، قَالَ الْبَرَاءُ لَنَا: يَا هَؤُلاَءِ، إِنِّي قَدْ رَأَيْتُ وَاللَّهِ رَأْيًا، وَإِنِّي وَاللَّهِ مَا أَدْرِي تُوَافِقُونِي عَلَيْهِ أَمْ لاَ، قَالَ: قُلْنَا لَهُ: وَمَا ذَاكَ؟ قَالَ: قَدْ رَأَيْتُ أَنْ لاَ أَدَعَ هَذِهِ الْبَنِيَّةِ مِنِّي بِظَهْرٍ، يَعْنِي الْكَعْبَةَ، وَأَنْ أُصَلِّيَ إِلَيْهَا، قَالَ: فَقُلْنَا: وَاللَّهِ مَا بَلَغَنَا أَنَّ نَبِيَّنَا يُصَلِّي إِلاَّ إِلَى الشَّامِ، وَمَا نُرِيدُ أَنْ نُخَالِفَهُ، فَقَالَ: إِنِّي أُصَلِّي إِلَيْهَا، قَالَ: فَقُلْنَا لَهُ: لَكِنَّا لاَ نَفْعَلُ، فَكُنَّا إِذَا حَضَرَتِ الصَّلاَةُ صَلَّيْنَا إِلَى الشَّامِ وَصَلَّى إِلَى الْكَعْبَةِ، حَتَّى قَدِمْنَا مَكَّةَ، قَالَ
__________
(1) - تلبيس إبليس (ص:36)
(2) - المعجم الكبير للطبراني (1/ 136) (288) حسن لغيره
(3) - حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (7/ 331) صحيح(1/323)
أَخِي: وَقَدْ كُنَّا عِبْنَا عَلَيْهِ مَا صَنَعَ، وَأَبَى إِلاَّ الإِِقَامَةَ عَلَيْهِ، فَلَمَّا قَدِمْنَا مَكَّةَ قَالَ: يَا ابْنَ أَخِي انْطَلِقْ إِلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -،فَاسْأَلْهُ عَمَّا صَنَعْتُ فِي سَفَرِي هَذَا، فَإِنَّهُ وَاللَّهِ قَدْ وَقَعَ فِي نَفْسِي مِنْهُ شَيْءٌ لَمَّا رَأَيْتُ مِنْ خِلاَفِكُمْ إِيَّايَ فِيهِ، قَالَ: فَخَرَجْنَا نَسْأَلُ عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -،وَكُنَّا لاَ نَعْرِفُهُ لَمْ نَرَهُ قَبْلَ ذَلِكَ، فَلَقِيَنَا رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، فَسَأَلْنَاهُ عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -،فَقَالَ: هَلْ تَعْرِفَانِهِ؟ قَالَ: قُلْنَا: لاَ، قَالَ: فَهَلْ تَعْرِفَانِ الْعَبَّاسَ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ عَمَّهُ؟ قُلْنَا: نَعَمْ، قَالَ: وَكُنَّا نَعْرِفُ الْعَبَّاسَ، كَانَ لاَ يَزَالُ يَقْدَمُ عَلَيْنَا تَاجِرًا، قَالَ: فَإِذَا دَخَلْتُمَا الْمَسْجِدَ فَهُوَ الرَّجُلُ الْجَالِسُ مَعَ الْعَبَّاسِ، قَالَ: فَدَخَلْنَا الْمَسْجِدَ فَإِذَا الْعَبَّاسُ جَالِسٌ، وَرَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مَعَهُ جَالِسٌ فَسَلَّمْنَا، ثُمَّ جَلَسْنَا إِلَيْهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لِلْعَبَّاسِ: هَلْ تَعْرِفُ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ يَا أَبَا الْفَضْلِ؟ قَالَ: نَعَمْ هَذَا الْبَرَاءُ بْنُ مَعْرُورٍ سَيِّدُ قَوْمِهِ، وَهَذَا كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ، قَالَ: فَوَاللَّهِ مَا أَنْسَى قَوْلَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -:الشَّاعِرُ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَقَالَ الْبَرَاءُ بْنُ مَعْرُورٍ: يَا نَبِيَّ اللهِ إِنِّي خَرَجْتُ فِي سَفَرِي هَذَا، وَهَدَانِي اللَّهُ لِلإِِسْلاَمِ، فَرَأَيْتُ أَنْ لاَ أَجْعَلَ هَذِهِ الْبَنِيَّةَ مِنِّي بِظَهْرٍ، فَصَلَّيْتُ إِلَيْهَا، وَقَدْ خَالَفَنِي أَصْحَابِي فِي ذَلِكَ، حَتَّى وَقَعَ فِي نَفْسِي مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ، فَمَاذَا تَرَى يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: لَقَدْ كُنْتَ عَلَى قِبْلَةٍ لَوْ صَبَرْتَ عَلَيْهَا قَالَ: فَرَجَعَ الْبَرَاءُ إِلَى قِبْلَةِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَصَلَّى مَعَنَا إِلَى الشَّامِ، قَالَ: وَأَهْلُهُ يَزْعُمُونَ أَنَّهُ صَلَّى إِلَى الْكَعْبَةِ حَتَّى مَاتَ، وَلَيْسَ ذَلِكَ كَمَا قَالُوا، نَحْنُ أَعْلَمُ بِهِ مِنْهُمْ، قَالَ: وَخَرَجْنَا إِلَى الْحَجِّ، فَوَاعَدْنَا رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - الْعَقَبَةَ مِنْ أَوْسَطِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، فَلَمَّا فَرَغْنَا مِنَ الْحَجِّ، وَكَانَتِ اللَّيْلَةُ الَّتِي وَعَدْنَا رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -،وَمَعَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ حَرَامٍ أَبُو جَابِرٍ سَيِّدٌ مِنْ سَادَتِنَا، وَكُنَّا نَكْتُمُ مَنْ مَعَنَا مِنْ قَوْمِنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ أَمْرَنَا فَكَلَّمْنَاهُ، وَقُلْنَا لَهُ: يَا أَبَا جَابِرٍ، إِنَّكَ سَيِّدٌ مِنْ سَادَتِنَا، وَشَرِيفٌ مِنْ أَشْرَافِنَا، وَإِنَّا نَرْغَبُ بِكَ عَمَّا أَنْتَ فِيهِ أَنْ تَكُونَ حَطَبًا لِلنَّارِ غَدًا، ثُمَّ دَعَوْتُهُ إِلَى الإِِسْلاَمِ، وَأَخْبَرْتُهُ بِمِيعَادِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -،فَأَسْلَمَ وَشَهِدَ مَعَنَا الْعَقَبَةَ، وَكَانَ نَقِيبًا، قَالَ: فَنِمْنَا تِلْكَ اللَّيْلَةَ مَعَ قَوْمِنَا فِي رِحَالِنَا حَتَّى إِذَا مَضَى ثُلُثُ اللَّيْلِ خَرَجْنَا مِنْ رِحَالِنَا لِمِيعَادِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -،نَتَسَلَّلُ مُسْتَخْفِينَ تَسَلُّلَ الْقَطَا حَتَّى اجْتَمَعْنَا فِي الشِّعْبِ عِنْدَ الْعَقَبَةِ، وَنَحْنُ سَبْعُونَ رَجُلاً، وَمَعَنَا امْرَأَتَانِ مِنْ نِسَائِهِمْ نَسِيبَةُ بِنْتُ كَعْبٍ أُمُّ عُمَارَةَ إِحْدَى نِسَاءِ بَنِي مَازِنِ بْنِ(1/324)
النَّجَّارِ، وَأَسْمَاءُ بِنْتُ عَمْرِو بْنِ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ إِحْدَى نِسَاءِ بَنِي سَلِمَةَ، وَهِيَ أُمُّ مَنِيعٍ، قَالَ: فَاجْتَمَعْنَا بِالشِّعْبِ نَنْتَظِرُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -،حَتَّى جَاءَنَا وَمَعَهُ يَوْمَئِذٍ عَمُّهُ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ عَلَى دِينِ قَوْمِهِ، إِلاَّ أَنَّهُ أَحَبَّ أَنْ يَحْضُرَ أَمْرَ ابْنِ أَخِيهِ، وَيَتَوَثَّقُ لَهُ، فَلَمَّا جَلَسْنَا كَانَ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أَوَّلَ مُتَكَلِّمٍ، فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الْخَزْرَجِ، قَالَ: وَكَانَتِ الْعَرَبُ مِمَّا يُسَمُّونَ هَذَا الْحَيَّ مِنَ الأَنْصَارِ الْخَزْرَجَ أَوْسَهَا وَخَزْرَجَهَا، إِنَّ مُحَمَّدًا مِنَّا حَيْثُ قَدْ عَلِمْتُمْ، وَقَدْ مَنَعْنَاهُ مِنْ قَوْمِنَا مِمَّنْ هُوَ عَلَى مِثْلِ رَأْيِنَا فِيهِ، وَهُوَ فِي عِزٍّ مِنْ قَوْمِهِ، وَمَنَعَةٍ فِي بَلَدِهِ، قَالَ: فَقُلْنَا: قَدْ سَمِعْنَا مَا قُلْتَ، فَتَكَلَّمْ يَا رَسُولَ اللهِ، فَخُذْ لِنَفْسِكَ، وَلِرَبِّكَ مَا أَحْبَبْتَ، قَالَ: فَتَكَلَّمَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -،فَتَلاَ وَدَعَا إِلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَرَغَّبَ فِي الإِِسْلاَمِ، قَالَ: أُبَايِعُكُمْ عَلَى أَنْ تَمْنَعُونِي مِمَّا تَمْنَعُونَ مِنْهُ نِسَاءَكُمْ، وَأَبْنَاءَكُمْ قَالَ: فَأَخَذَ الْبَرَاءُ بْنُ مَعْرُورٍ بِيَدِهِ ثُمَّ قَالَ: نَعَمْ وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَنَمْنَعَنَّكَ مِمَّا نَمْنَعُ مِنْهُ أُزُرَنَا، فَبَايِعْنَا يَا رَسُولَ اللهِ، فَنَحْنُ أَهْلُ الْحُرُوبِ، وَأَهْلُ الْحَلْقَةِ، وَرِثْنَاهَا كَابِرًا عَنْ كَابِرٍ، قَالَ: فَاعْتَرَضَ الْقَوْلَ، وَالْبَرَاءُ يُكَلِّمُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَبُو الْهَيْثَمِ بْنُ التَّيِّهَانِ حَلِيفُ بَنِي عَبْدِ الأَشْهَلِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الرِّجَالِ حِبَالاً، وَإِنَّا قَاطِعُوهَا، يَعْنِي الْعُهُودَ، فَهَلْ عَسَيْتَ إِنْ نَحْنُ فَعَلْنَا ذَلِكَ، ثُمَّ أَظْهَرَكَ اللَّهُ أَنْ تَرْجِعَ إِلَى قَوْمِكَ، وَتَدَعَنَا؟ قَالَ: فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -،ثُمَّ قَالَ: بَلِ الدَّمَ الدَّمَ، وَالْهَدْمَ الْهَدْمَ أَنَا مِنْكُمْ، وَأَنْتُمْ مِنِّي أُحَارِبُ مَنْ حَارَبْتُمْ، وَأُسَالِمُ مَنْ سَالَمْتُمْ، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -:أَخْرِجُوا إِلَيَّ مِنْكُمْ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا يَكُونُونَ عَلَى قَوْمِهِمْ، فَأَخْرَجُوا مِنْهُمْ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا مِنْهُمْ تِسْعَةٌ مِنَ الْخَزْرَجِ، وَثَلاَثَةٌ مِنَ الأَوْسِ وَأَمَّا مَعْبَدُ بْنُ كَعْبٍ فَحَدَّثَنِي فِي حَدِيثِهِ، عَنْ أَخِيهِ، عَنْ أَبِيهِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: كَانَ أَوَّلَ مَنْ ضَرَبَ عَلَى يَدِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - الْبَرَاءُ بْنُ مَعْرُورٍ، ثُمَّ تَتَابَعَ الْقَوْمُ، فَلَمَّا بَايَعَنَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - صَرَخَ الشَّيْطَانُ مِنْ رَأْسِ الْعَقَبَةِ بِأَبْعَدِ صَوْتٍ سَمِعْتُهُ قَطُّ: يَا أَهْلَ الْجُبَاجِبِ، وَالْجُبَاجِبُ: الْمَنَازِلُ، هَلْ لَكُمْ فِي مُذَمَّمٍ وَالصُّبَاةُ مَعَهُ؟ قَدْ أَجْمَعُوا عَلَى حَرْبِكُمْ، قَالَ عَلِيٌّ، يَعْنِي ابْنَ إِسْحَاقَ مَا يَقُولُهُ عَدُوُّ اللهِ مُحَمَّدٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -:هَذَا أَزَبُّ الْعَقَبَةِ هَذَا ابْنُ أَزْيَبَ، اسْمَعْ أَيْ عَدُوَّ اللهِ أَمَا وَاللَّهِ، لأَفْرُغَنَّ لَكَ ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -:ارْفَعُوا إِلَى رِحَالِكُمْ قَالَ: فَقَالَ لَهُ الْعَبَّاسُ بْنُ(1/325)
عُبَادَةَ بْنِ نَضْلَةَ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَئِنْ شِئْتَ لَنَمِيلَنَّ عَلَى أَهْلِ مِنًى غَدًا بِأَسْيَافِنَا، قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -:لَمْ أُؤمَرْ بِذَلِكَ قَالَ: فَرَجَعْنَا فَنِمْنَا حَتَّى أَصْبَحْنَا، فَلَمَّا أَصْبَحْنَا غَدَتْ عَلَيْنَا جُلَّةُ قُرَيْشٍ حَتَّى جَاؤُونَا فِي مَنَازِلِنَا، فَقَالُوا: يَا مَعْشَرَ الْخَزْرَجِ، إِنَّهُ قَدْ بَلَغَنَا أَنَّكُمْ قَدْ جِئْتُمْ إِلَى صَاحِبِنَا هَذَا تَسْتَخْرِجُونَهُ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِنَا، وَتُبَايِعُونَهُ عَلَى حَرْبِنَا، وَاللَّهِ إِنَّهُ مَا مِنَ الْعَرَبِ أَحَدٌ أَبْغَضَ إِلَيْنَا أَنْ تَنْشَبَ الْحَرْبُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ مِنْكُمْ، قَالَ: فَانْبَعَثَ مَنْ هُنَالِكَ مِنْ مُشْرِكِي قَوْمِنَا، يَحْلِفُونَ لَهُمْ بِاللَّهِ مَا كَانَ مِنْ هَذَا شَيْءٌ، وَمَا عَلِمْنَاهُ، وَقَدْ صَدَقُوا لَمْ يَعْلَمُوا مَا كَانَ مِنَّا، قَالَ: فَبَعْضُنَا يَنْظُرُ إِلَى بَعْضٍ، قَالَ: وَقَامَ الْقَوْمُ وَفِيهِمُ الْحَارِثُ بْنُ هِشَامِ بْنِ الْمُغِيرَةِ الْمَخْزُومِيُّ، وَعَلَيْهِ نَعْلاَنِ جَدِيدَانِ، قَالَ: فَقُلْتُ كَلِمَةً كَأَنِّي أُرِيدُ أَنْ أُشْرِكَ الْقَوْمَ بِهَا فِيمَا قَالُوا: مَا تَسْتَطِيعُ يَا أَبَا جَابِرٍ، وَأَنْتَ سَيِّدٌ مِنْ سَادَتِنَا أَنْ تَتَّخِذَ نَعْلَيْنِ مِثْلَ نَعْلَيْ هَذَا الْفَتَى مِنْ قُرَيْشٍ، فَسَمِعَهَا الْحَارِثُ فَخَلَعَهُمَا، ثُمَّ رَمَى بِهِمَا إِلَيَّ، فَقَالَ: وَاللَّهِ لَتَنْتَعِلَنَّهُمَا قَالَ: يَقُولُ أَبُو جَابِرٍ: أَحْفَظْتَ، وَاللَّهِ، الْفَتَى، فَارْدُدْ عَلَيْهِ نَعْلَيْهِ، قَالَ: فَقُلْتُ: وَاللَّهِ لاَ أَرُدَّهُمَا، فَأْلٌ وَاللَّهِ صَالْحٌ، وَاللَّهِ لَئِنْ صَدَقَ الْفَأْلُ لأَسْلُبَنَّهُ." (1)
ثانياً: الالتزام بالكتاب والسنّة:
أعظم سبيل للحماية من الشيطان هو الالتزام بالكتاب والسنة علماً وعملاً، فالكتاب والسنة جاءا بالصراط المستقيم، والشيطان يجاهد كي يخرجنا عن هذا الصراط قال تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام:153].
لقد دَلَّ اللهُ تَعَالَى العِبَادَ عَلَى الصِّرَاطِ المُسْتَقِيمِ المُوصِلِ إِلَيْهِ تَعَالَى، وَدَعَاهُمْ إلى اتِّبَاعِهِ، فَقَالَ لَهُمْ: إنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً لاَ عِوَجَ فِيهِ، فَعَلَيْكُمْ أِنْ تَتَّبِعُوهُ إِنْ كُنْتُمْ تُرِيدُونَ الهِدَايَةَ، وَالفَوْزَ بِرِضَا رَبِّكُمْ وَرِضْوَانِهِ.
__________
(1) - مسند أحمد (عالم الكتب) (5/ 425) (15798) 15891 صحيح
قط: بمعنى أبدا، وفيما مضى من الزمان = الجُبَاجِب: هي جمع جُبْجُب وهو المسْتَوى من الأرض ليس بحَزْن، وهي أسْماء منازل بِمنًى=الأَزَب: منْ أسْماءِ الشَّيَاطِينِ= مال: اتجه(1/326)
فَاتَّبِعُوا سَبِيلَ اللهِ يَا أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ، لأنَّهُ سَبيلٌ وَاضِحٌ وَاحِدٌ، وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ المُتَفَرِّقَةَ المُضِلَّةَ، حَتَّى لا تَتَفَرَّقُوا شِيَعاً وَأَحْزَاباً، وَتَبْعُدُوا عَنْ صِرَاطِ اللهِ السَّوِيِّ. (1)
عَنْ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: خَطَّ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -،خَطًّا بِيَدِهِ، ثُمَّ قَالَ:" هَذَا سَبِيلُ اللهِ مُسْتَقِيمًا "،قَالَ: ثُمَّ خَطَّ عَنْ يَمِينِهِ، وَشِمَالِهِ، ثُمَّ قَالَ:" هَذِهِ السُّبُلُ، لَيْسَ مِنْهَا سَبِيلٌ إِلَّا عَلَيْهِ شَيْطَانٌ يَدْعُو إِلَيْهِ " ثُمَّ قَرَأَ: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ) [الأنعام:153] (2)
وعَنْ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ الْأَنْصَارِيِّ، عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:" ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا، وَعَلَى جَنْبَتَيْ الصِّرَاطِ سُورَانِ، فِيهِمَا أَبْوَابٌ مُفَتَّحَةٌ، وَعَلَى الْأَبْوَابِ سُتُورٌ مُرْخَاةٌ، وَعَلَى بَابِ الصِّرَاطِ دَاعٍ يَقُولُ: أَيُّهَا النَّاسُ، ادْخُلُوا الصِّرَاطَ جَمِيعًا، وَلَا تَتَعَرَّجُوا، وَدَاعٍ يَدْعُو مِنْ فَوْقِ الصِّرَاطِ، فَإِذَا أَرَادَ يَفْتَحُ شَيْئًا مِنْ تِلْكَ الْأَبْوَابِ، قَالَ: وَيْحَكَ لَا تَفْتَحْهُ، فَإِنَّكَ إِنْ تَفْتَحْهُ تَلِجْهُ، وَالصِّرَاطُ الْإِسْلَامُ، وَالسُّورَانِ: حُدُودُ اللهِ، وَالْأَبْوَابُ الْمُفَتَّحَةُ: مَحَارِمُ اللهِ، وَذَلِكَ الدَّاعِي عَلَى رَأْسِ الصِّرَاطِ: كِتَابُ اللهِ، وَالدَّاعِي مِنِ فَوْقَ الصِّرَاطِ: وَاعِظُ اللهِ فِي قَلْبِ كُلِّ مُسْلِمٍ " (3)
وعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ:" كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَخَطَّ خَطًّا، وَخَطَّ خَطَّيْنِ عَنْ يَمِينِهِ، وَخَطَّ خَطَّيْنِ عَنْ يَسَارِهِ، ثُمَّ وَضَعَ فِي الْخَطِّ الْأَوْسَطِ، فَقَالَ: «هَذَا سَبِيلُ اللَّهِ»،ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ} [الأنعام:153] " (4)
إن هذا الدين شريعته كعقيدته في تقرير صفة الشرك أو صفة الإسلام. بل إن شريعته من عقيدته في هذه الدلالة .. بل إن شريعته هي عقيدته .. إذ هي الترجمة الواقعية لها .. كما تتجلى هذه الحقيقة الأساسية من خلال النصوص القرآنية، وعرضها في المنهج القرآني ..
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد (ص:943،بترقيم الشاملة آليا)
(2) - مسند أحمد ط الرسالة (7/ 436) (4437) صحيح
(3) - مسند أحمد ط الرسالة (29/ 181) (17634) صحيح لغيره
(4) - تفسير ابن أبي حاتم، الأصيل - مخرجا (5/ 1421) (8101) صحيح لغيره(1/327)
وهذه هي الحقيقة التي زحزح مفهوم «الدين» في نفوس أهل هذا الدين عنها زحزحة مطردة خلال قرون طويلة، بشتى الأساليب الجهنمية الخبيثة .. حتى انتهى الأمر بأكثر المتحمسين لهذا الدين - ودعك من أعدائه والمستهترين الذين لا يحفلونه - أن تصبح قضية الحاكمية في نفوسهم قضية منفصلة عن قضية العقيدة! لا تجيش لها نفوسهم كما تجيش للعقيدة! ولا يعدون المروق منها مروقا من الدين، كالذي يمرق من عقيدة أو عبادة! وهذا الدين لا يعرف الفصل بين العقيدة والعبادة والشريعة. إنما هي الزحزحة التي زاولتها أجهزة مدربة، قرونا طويلة، حتى انتهت مسألة الحاكمية إلى هذه الصورة الباهتة حتى في حس أشد المتحمسين لهذا الدين! وهي هي القضية التي تحتشد لها سورة مكية - موضوعها ليس هو النظام وليس هو الشريعة، إنما موضوعها هو العقيدة - وتحشد لها كل هذه المؤثرات، وكل هذه التقريرات بينما هي تتصدى لجزئية تطبيقية من تقاليد الحياة الاجتماعية. ذلك أنها تتعلق بالأصل الكبير .. أصل الحاكمية .. وذلك أن هذا الأصل الكبير يتعلق بقاعدة هذا الدين وبوجوده الحقيقي ..
إن الذين يحكمون على عابد الوثن بالشرك، ولا يحكمون على المتحاكم إلى الطاغوت بالشرك. ويتحرجون من هذه ولا يتحرجون من تلك .. إن هؤلاء لا يقرأون القرآن. ولا يعرفون طبيعة هذا الدين .. فليقرأوا القرآن كما أنزله اللّه وليأخذوا قول اللّه بجد: «وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ».
وإن بعض هؤلاء المتحمسين لهذا الدين ليشغلون بالهم وبال الناس ببيان إن كان هذا القانون، أو هذا الإجراء، أو هذا القول، منطبقا على شريعة اللّه أو غير منطبق .. وتأخذهم الغيرة على بعض المخالفات هنا وهناك .. كأن الإسلام كله قائم، فلا ينقص وجوده وقيامه وكماله إلا أن تمتنع هذه المخالفات! هؤلاء المتحمسون الغيورون على هذا الدين، يؤذون هذا الدين من حيث لا يشعرون. بل يطعنونه الطعنة النجلاء بمثل هذه الاهتمامات الجانبية الهزيلة .. إنهم يفرغون الطاقة العقدية الباقية في نفوس الناس في هذه الاهتمامات الجانبية الهزيلة .. إنهم يؤدون شهادة ضمنية لهذه الأوضاع الجاهلية. شهادة بأن هذا الدين قائم فيها، لا ينقصه ليكمل إلا أن تصحح هذه المخالفات. بينما الدين(1/328)
كله متوقف عن «الوجود» أصلا، ما دام لا يتمثل في نظام وأوضاع، الحاكمية فيها للّه وحده من دون العباد.
إن وجود هذا الدين هو وجود حاكمية اللّه. فإذا انتفى هذا الأصل انتفى وجود هذا الدين .. وإن مشكلة هذا الدين في الأرض اليوم، لهي قيام الطواغيت التي تعتدي على ألوهية اللّه، وتغتصب سلطانه، وتجعل لأنفسها حق التشريع بالإباحة والمنع في الأنفس والأموال والأولاد .. وهي هي المشكلة التي كان يواجهها القرآن الكريم بهذا الحشد من المؤثرات والمقررات والبيانات، ويربطها بقضية الألوهية والعبودية، ويجعلها مناط الإيمان أو الكفر، وميزان الجاهلية أو الإسلام.
إن المعركة الحقيقية التي خاضها الإسلام ليقرر «وجوده» لم تكن هي المعركة مع الإلحاد، حتى يكون مجرد «التدين» هو ما يسعى إليه المتحمسون لهذا الدين! ولم تكن هي المعركة مع الفساد الاجتماعي أو الفساد الأخلاقي - فهذه معارك تالية لمعركة «وجود» هذا الدين! .. لقد كانت المعركة الأولى التي خاضها الإسلام ليقرر «وجوده» هي معركة «الحاكمية» وتقرير لمن تكون .. لذلك خاضها وهو في مكة. خاضها وهو ينشئ العقيدة، ولا يتعرض للنظام والشريعة. خاضها ليثبت في الضمير أن الحاكمية للّه وحده لا يدعيها لنفسه مسلم ولا يقر مدعيها على دعواه مسلم .. فلما أن رسخت هذه العقيدة في نفوس العصبة المسلمة في مكة، بسر اللّه لهم مزاولتها الواقعية في المدينة .. فلينظر المتحمسون لهذا الدين ما هم فيه وما يجب أن يكون. بعد أن يدركوا المفهوم الحقيقي لهذا الدين! (1)
إنه صراط واحد - صراط اللّه - وسبيل واحدة تؤدي إلى اللّه .. أن يفرد الناس اللّه - سبحانه - بالربوبية، ويدينوا له وحده بالعبودية وأن يعلموا أن الحاكمية للّه وحده وأن يدينوا لهذه الحاكمية في حياتهم الواقعية .. هذا هو صراط اللّه وهذا هو سبيله .. وليس وراءه إلا السبل التي تتفرق بمن يسلكونها عن سبيله. «ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ
__________
(1) - في ظلال القرآن للسيد قطب - ت- علي بن نايف الشحود (ص:1651)(1/329)
تَتَّقُونَ» .. فالتقوى هي مناط الاعتقاد والعمل. والتقوى هي التي تفيء بالقلوب إلى السبيل .. (1)
فاتباع ما جاءنا من عند الله من عقائد وأعمال وأقوال وعبادات وتشريعات، وترك كل ما نهى عنه، يجعل العبد في حرز من الشيطان، ولذلك قال سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (208) فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (209)} [البقرة: 208، 209].
يَدْعُو اللهُ المُؤْمِنينَ إِلَى الأَخْذِ بِجَمِيعِ عُرَى الإِسْلاَمِ وَشَرَائِعِهِ، وَالعمَلِ بِجَمِيعِ أَوَامِرِهِ، وَتَرْكِ زَوَاجِرِهِ، وَيُرشِدُهُمْ تَعَالَى إِلَى أَنَّهُ مِنْ شَأنِ المُؤْمِنينَ الاتِّفَاقُ والاتِّحَادُ، لاَ التَّفَرُّقُ وَالانْقِسَامُ.
ثُمَّ يَأْمُرُ اللهُ تَعَالَى المُؤْمِنينَ بِأَنْ يَجْتَنِبُوا مَا يَأْمُرُهُمْ بِهِ الشَّيْطَانُ لأَنَّهُ يَأْمُرُ بِالسُّوءِ وَالفَحْشَاءِ، وَيَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ، وَلِهذَا كَانَ الشَّيْطَانُ عَدُوّاً بَيِّنَ العَدَاوَةِ لِلإِنْسَانِ. فََإِنْ عَدَلْتُمْ عَنِ الحَقِّ، وَحِدْتُمْ عَنِ الصِّراطِ المُسْتَقِيمِ الذِي دَعَاكُمُ اللهُ إِلَيهِ، وَهُوَ السِّلْمُ، وَسِرْتُمْ فِي طَرِيقِ الشَّيْطَانِ، وَهُوَ طَرِيقُ الخِلاَفِ وَالافْتِرَاقِ، بَعْدَمَا قَامَتِ الحُجَّةُ عَلَى أَنّ صِرَاطَ اللهِ هُوَ طَرِيقُ الحَقِّ، فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ فِي انتِقَامِهِ، لاَ يَفُوتُهُ هَارِبٌ، وَلاَ يَغْلِبُهُ غَالِبٌ، حَكِيمٌ فِي أَحْكَامِهِ، وَفِي نَقْضِهِ وَإِبْرَامِهِ. (2)
إنها دعوة للمؤمنين باسم الإيمان. بهذا الوصف المحبب إليهم، والذي يميزهم ويفردهم، ويصلهم بالله الذي يدعوهم .. دعوة للذين آمنوا أن يدخلوا في السلم كافة.
وأول مفاهيم هذه الدعوة أن يستسلم المؤمنون بكلياتهم لله، في ذوات أنفسهم، وفي الصغير والكبير من أمرهم. أن يستسلموا الاستسلام الذي لا تبقى بعده بقية ناشزة من تصور أو شعور، ومن نية أو عمل، ومن رغبة أو رهبة، لا تخضع لله ولا ترضى بحكمه
__________
(1) - في ظلال القرآن للسيد قطب - ت- علي بن نايف الشحود (ص: 1672)
(2) - أيسر التفاسير لأسعد حومد (ص: 215، بترقيم الشاملة آليا)(1/330)
وقضاه. استسلام الطاعة الواثقة المطمئنة الراضية. الاستسلام لليد التي تقود خطاهم وهم واثقون أنها تريد بهم الخير والنصح والرشاد وهم مطمئنون إلى الطريق والمصير، في الدنيا والآخرة سواء.
وتوجيه هذه الدعوة إلى الذين آمنوا إذ ذاك تشي بأنه كانت هنالك نفوس ما تزال يثور فيها بعض التردد في الطاعة المطلقة في السر والعلن. وهو أمر طبيعي أن يوجد في الجماعة إلى جانب النفوس المطمئنة الواثقة الراضية .. وهي دعوة توجه في كل حين للذين آمنوا ليخلصوا ويتجردوا وتتوافق خطرات نفوسهم واتجاهات مشاعرهم مع ما يريد اللّه بهم، وما يقودهم إليه نبيهم ودينهم، في غير ما تلجلج ولا تردد ولا تلفت.
والمسلم حين يستجيب هذه الاستجابة يدخل في عالم كله سلم وكله سلام. عالم كله ثقة واطمئنان، وكله رضى واستقرار. لا حيرة ولا قلق، ولا شرود ولا ضلال. سلام مع النفس والضمير. سلام مع العقل والمنطق. سلام مع الناس والأحياء. سلام مع الوجود كله ومع كل موجود. سلام يرف في حنايا السريرة. وسلام يظلل الحياة والمجتمع. سلام في الأرض وسلام في السماء. وأول ما يفيض هذا السلام على القلب يفيض من صحة تصوره للّه ربه، ونصاعة هذا التصور وبساطته ..
إنه إله واحد. يتجه إليه المسلم وجهة واحدة يستقر عليها قلبه فلا تتفرق به السبل، ولا تتعدد به القبل ولا يطارده إله من هنا وإله من هناك - كما كان في الوثنية والجاهلية - إنما هو إله واحد يتجه إليه في ثقة وفي طمأنينة وفي نصاعة وفي وضوح.
وهو إله قوي قادر عزيز قاهر .. فإذا اتجه إليه المسلم فقد اتجه إلى القوة الحقة الوحيدة في هذا الوجود.
وقد أمن كل قوة زائفة واطمأن واستراح. ولم يعد يخاف أحدا أو يخاف شيئا، وهو يعبد اللّه القوي القادر العزيز القاهر. ولم يعد يخشى فوت شيء. ولا يطمع في غير من يقدر على الحرمان والعطاء.(1/331)
وهو إله عادل حكيم، فقوته وقدرته ضمان من الظلم، وضمان من الهوى، وضمان من البخس. وليس كآلهة الوثنية والجاهلية ذوات النزوات والشهوات. ومن ثم يأوي المسلم من إلهه إلى ركن شديد، ينال فيه العدل والرعاية والأمان.
وهو رب رحيم ودود. منعم وهاب. غافر الذنب وقابل التوب. يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء.
فالمسلم في كنفه آمن آنس، سالم غانم، مرحوم إذا ضعف، مغفور له متى تاب ..
وهكذا يمضي المسلم مع صفات ربه التي يعرفه بها الإسلام فيجد في كل صفة ما يؤنس قلبه، وما يطمئن روحه، وما يضمن معه الحماية والوقاية والعطف والرحمة والعزة والمنعة والاستقرار والسلام
كذلك يفيض السلام على قلب المسلم من صحة تصور العلاقة بين العبد والرب. وبين الخالق والكون.
وبين الكون والإنسان .. فاللّه خلق هذا الكون بالحق وخلق كل شيء فيه بقدر وحكمة. وهذا الإنسان مخلوق قصدا، وغير متروك سدى، ومهيأ له كل الظروف الكونية المناسبة لوجوده، ومسخر له ما في الأرض جميعا.
وهو كريم على اللّه، وهو خليفته في أرضه. واللّه معينه على هذه الخلافة. والكون من حوله صديق مأنوس، تتجاوب روحه مع روحه، حين يتجه كلاهما إلى اللّه ربه. وهو مدعو إلى هذا المهرجان الإلهي المقام في السماوات والأرض ليتملاه ويأنس به. وهو مدعو للتعاطف مع كل شيء ومع كل حي في هذا الوجود الكبير، الذي يعج بالأصدقاء المدعوين مثله إلى ذلك المهرجان! والذين يؤلفون كلهم هذا المهرجان! والعقيدة التي تقف صاحبها أمام النبتة الصغيرة، وهي توحي إليه أن له أجرا حين يرويها من عطش، وحين يعينها على النماء، وحين يزيل من طريقها العقبات .. هي عقيدة جميلة فوق أنها عقيدة كريمة. عقيدة تسكب في روحه السلام وتطلقه يعانق الوجود كله ويعانق كل موجود ويشيع من حوله الأمن والرفق، والحب والسلام.(1/332)
والاعتقاد بالآخرة يؤدي دوره الأساسي في إفاضة السلام على روح المؤمن وعالمه ونفي القلق والسخط والقنوط .. إن الحساب الختامي ليس في هذه الأرض والجزاء الأوفى ليس في هذه العاجلة .. إن الحساب الختامي هناك والعدالة المطلقة مضمونة في هذا الحساب. فلا ندم على الخير والجهاد في سبيله إذا لم يتحقق في الأرض أو لم يلق جزاءه. ولا قلق على الأجر إذا لم يوف في هذه العاجلة بمقاييس الناس، فسوف يوفاه بميزان اللّه. ولا قنوط من العدل إذا توزعت الحظوظ في الرحلة القصيرة على غير ما يريد، فالعدل لا بد واقع. وما اللّه يريد ظلما للعباد.
والاعتقاد بالآخرة حاجز كذلك دون الصراع المجنون المحموم الذي تداس فيه القيم وتداس فيه الحرمات.
بلا تحرج ولا حياء. فهناك الآخرة فيها عطاء، وفيها غناء، وفيها عوض عما يفوت. وهذا التصور من شأنه أن يفيض السلام على مجال السباق والمنافسة وأن يخلع التجمل على حركات المتسابقين وأن يخفف السعار الذي ينطلق من الشعور بأن الفرصة الوحيدة المتاحة هي فرصة هذا العمر القصير المحدود! ومعرفة المؤمن بأن غاية الوجود الإنساني هي العبادة، وأنه مخلوق ليعبد اللّه .. من شأنها - ولا شك - أن ترفعه إلى هذا الأفق الوضيء. ترفع شعوره وضميره، وترفع نشاطه وعمله، وتنظف وسائله وأدواته. فهو يريد العبادة بنشاطه وعمله وهو يريد العبادة بكسبه وإنفاقه وهو يريد العبادة بالخلافة في الأرض وتحقيق منهج اللّه فيها. فأولى به ألا يغدر ولا يفجر وأولى به ألا يغش ولا يخدع وأولى به ألا يطغى ولا يتجبر وأولى به ألا يستخدم أداة مدنسة ولا وسيلة خسيسة. وأولى به كذلك ألا يستعجل المراحل، وألا يعتسف الطريق، وألا يركب الصعب من الأمور. فهو بالغ هدفه من العبادة بالنية الخالصة والعمل الدائب في حدود الطاقة .. ومن شأن هذا كله ألا تثور في نفسه المخاوف والمطامع، وألا يستبد به القلق في أية مرحلة من مراحل الطريق.
فهو يعبد في كل خطوة وهو يحقق غاية وجوده في كل خطرة، وهو يرتقي صعدا إلى اللّه في كل نشاط وفي كل مجال.(1/333)
وشعور المؤمن بأنه يمضي مع قدر اللّه، في طاعة اللّه، لتحقيق إرادة اللّه .. وما يسكبه هذا الشعور في روحه من الطمأنينة والسلام والاستقرار والمضي في الطريق بلا حيرة ولا قلق ولا سخط على العقبات والمشاق وبلا قنوط من عون اللّه ومدده وبلا خوف من ضلال القصد أو ضياع الجزاء .. ومن ثم يحس بالسلام في روحه حتى وهو يقاتل أعداء اللّه وأعداءه. فهو إنما يقاتل للّه، وفي سبيل اللّه، ولإعلاء كلمة اللّه ولا يقاتل لجاه أو مغنم أو نزوة أو عرض ما من أعراض هذه الحياة.
كذلك شعوره بأنه يمضي على سنة اللّه مع هذا الكون كله. قانونه قانونه، ووجهته وجهته. فلا صدام ولا خصام، ولا تبديد للجهد ولا بعثرة للطاقة. وقوى الكون كله تتجمع إلى قوته، وتهتدي بالنور الذي يهتدي به، وتتجه إلى اللّه وهو معها يتجه إلى اللّه.
والتكاليف التي يفرضها الإسلام على المسلم كلها من الفطرة ولتصحيح الفطرة. لا تتجاوز الطاقة ولا تتجاهل طبيعة الإنسان وتركيبه ولا تهمل طاقة واحدة من طاقاته لا تطلقها للعمل والبناء والنماء ولا تنسى حاجة واحدة من حاجات تكوينه الجثماني والروحي لا تلبيها في يسر وفي سماحة وفي رخاء .. ومن ثم لا يحار ولا يقلق في مواجهة تكاليفه. يحمل منها ما يطيق حمله، ويمضي في الطريق إلى اللّه في طمأنينة وروح وسلام.
والمجتمع الذي ينشئه هذا المنهج الرباني، في ظل النظام الذي ينبثق من هذه العقيدة الجميلة الكريمة، والضمانات التي يحيط بها النفس والعرض والمال .. كلها مما يشيع السلم وينشر روح السلام.
هذا المجتمع المتواد المتحاب المترابط المتضامن المتكافل المتناسق. هذا المجتمع الذي حققه الإسلام مرة في أرقى وأصفى صوره. ثم ظل يحققه في صور شتى على توالي الحقب، تختلف درجة صفائه، ولكنه يظل في جملته خيرا من كل مجتمع آخر صاغته الجاهلية في الماضي والحاضر، وكل مجتمع لوثته هذه الجاهلية بتصوراتها ونظمها الأرضية! هذا المجتمع الذي تربطه آصرة واحدة - آصرة العقيدة - حيث تذوب فيها الأجناس والأوطان، واللغات والألوان، وسائر هذه الأواصر العرضية التي لا علاقة لها بجوهر الإنسان ..(1/334)
هذا المجتمع الذي يسمع اللّه يقول له: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (10) سورة الحجرات .. والذي يرى صورته في قول رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِى تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى». (1) ..
هذا المجتمع الذي من آدابه: {وَإِذَا حُيِّيْتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا} (86) سورة النساء .. {وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} (18) سورة لقمان .. {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} (34) سورة فصلت .. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (11) سورة الحجرات .. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ} (12) سورة الحجرات ..
هذا المجتمع الذي من ضماناته: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} (6) سورة الحجرات .. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ} (12) سورة الحجرات
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (27) سورة النور .. وقول رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «لاَ تَحَاسَدُوا وَلاَ تَنَاجَشُوا وَلاَ تَبَاغَضُوا وَلاَ تَدَابَرُوا وَلاَ يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا. الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لاَ يَظْلِمُهُ وَلاَ يَخْذُلُهُ وَلاَ يَحْقِرُهُ. التَّقْوَى
__________
(1) - صحيح مسلم- المكنز - (6751)(1/335)
هَا هُنَا».وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ «بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ». (1) ..
ثم هذا المجتمع النظيف العفيف الذي لا تشيع فيه الفاحشة ولا يتبجح فيه الإغراء، ولا تروج فيه الفتنة، ولا ينتشر فيه التبرج، ولا تتلفت فيه الأعين على العورات، ولا ترف فيه الشهوات على الحرمات، ولا ينطلق فيه سعار الجنس وعرامة اللحم والدم كما تنطلق في المجتمعات الجاهلية قديما وحديثا .. هذا المجتمع الذي تحكمه التوجيهات الربانية الكثيرة، والذي يسمع اللّه - سبحانه - يقول: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (19) سورة النور .. {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ} (2) سورة النور .. {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (4) سورة النور
{قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} (30) سورة النور .. {وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاء وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (31) سورة النور
والذي يخاطب فيه نساء النبي - أطهر نساء الأرض في أطهر بيت في أطهر بيئة في أطهر زمان {يَا نِسَاء النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاء إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ
__________
(1) - صحيح مسلم- المكنز - (6706)(1/336)
فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَّعْرُوفًا (32) وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33)} سورة الأحزاب ..
وفي مثل هذا المجتمع تأمن الزوجة على زوجها، ويأمن الزوج على زوجته، ويأمن الأولياء على حرماتهم وأعراضهم، ويأمن الجميع على أعصابهم وقلوبهم. حيث لا تقع العيون على المفاتن، ولا تقود العيون القلوب إلى المحارم. فإما الخيانة المتبادلة حينذاك وإما الرغائب المكبوتة وأمراض النفوس وقلق الأعصاب .. بينما المجتمع المسلم النظيف العفيف آمن ساكن، ترف عليه أجنحة السلم والطهر والأمان!
وأخيرا إنه ذلك المجتمع الذي يكفل لكل قادر عملا ورزقا، ولكل عاجز ضمانة للعيش الكريم، ولكل راغب في العفة والحصانة زوجة صالحة، والذي يعتبر أهل كل حي مسؤولين مسؤولية جنائية لومات فيهم جائع حتى ليرى بعض فقهاء الإسلام تغريمهم بالدية.
والمجتمع الذي تكفل فيه حريات الناس وكراماتهم وحرماتهم وأموالهم بحكم التشريع، بعد كفالتها بالتوجيه الرباني المطاع. فلا يؤخذ واحد فيه بالظنة، ولا يتسور على أحد بيته، ولا يتجسس على أحد فيه متجسس، ولا يذهب فيه دم هدرا والقصاص حاضر ولا يضيع فيه على أحد ماله سرقة أو نهبا والحدود حاضرة.
المجتمع الذي يقوم على الشورى والنصح والتعاون. كما يقوم على المساواة والعدالة الصارمة التي يشعر معها كل أحد أن حقه منوط بحكم شريعة اللّه لا بإرادة حاكم، ولا هوى حاشية، ولا قرابة كبير.
وفي النهاية المجتمع الوحيد بين سائر المجتمعات البشرية، الذي لا يخضع البشر فيه للبشر. إنما يخضعون حاكمين ومحكومين للّه ولشريعته وينفذون حاكمين ومحكومين حكم اللّه وشريعته. فيقف الجميع على قدم المساواة الحقيقية أمام اللّه رب العالمين وأحكم الحاكمين، في طمأنينة وفي ثقة وفي يقين ..(1/337)
هذه كلها بعض معاني السلم الذي تشير إليه الآية وتدعو الذين آمنوا للدخول فيه كافة. ليسلموا أنفسهم كلها للّه فلا يعود لهم منها شيء، ولا يعود لنفوسهم من ذاتها حظ إنما تعود كلها للّه في طواعية وفي انقياد وفي تسليم ..
ولا يدرك معنى هذا السلم حق إدراكه من لا يعلم كيف تنطلق الحيرة وكيف يعربد القلق في النفوس التي لا تطمئن بالإيمان، في المجتمعات التي لا تعرف الإسلام، أو التي عرفته ثم تنكرت له، وارتدت إلى الجاهلية، تحت عنوان من شتى العنوانات في جميع الأزمان .. هذه المجتمعات الشقية الحائرة على الرغم من كل ما قد يتوافر لها من الرخاء المادي والتقدم الحضاري، وسائر مقومات الرقي في عرف الجاهلية الضالة التصورات المختلة الموازين.
وحسبنا مثل واحد مما يقع في بلد أوربي من أرقى بلاد العالم كله وهو «السويد».حيث يخص الفرد الواحد من الدخل القومي ما يساوي خمسمائة جنيه في العام. وحيث يستحق كل فرد نصيبه من التأمين الصحي وإعانات المرض التي تصرف نقدا والعلاج المجاني في المستشفيات. وحيث التعليم في جميع مراحله بالمجان، مع تقديم إعانات ملابس وقروض للطلبة المتفوقين وحيث تقدم الدولة حوالي ثلاثمائة جنيه إعانة زواج لتأثيث البيوت .. وحيث وحيث من ذلك الرخاء المادي والحضاري العجيب ..
ولكن ماذا؟ ماذا وراء هذا الرخاء المادي والحضاري وخلو القلوب من الإيمان باللّه؟
إنه شعب مهدد بالانقراض، فالنسل في تناقص مطرد بسبب فوضى الاختلاط! والطلاق بمعدل طلاق واحد لكل ست زيجات بسبب انطلاق النزوات وتبرج الفتن وحرية الاختلاط! والجيل الجديد ينحرف فيدمن على المسكرات والمخدرات ليعوض خواء الروح من الإيمان وطمأنينة القلب بالعقيدة. والأمراض النفسية والعصبية والشذوذ بأنواعه تفترس عشرات الآلاف من النفوس والأرواح والأعصاب .. ثم الانتحار .. والحال كهذا في أمريكا .. والحال أشنع من هذا في روسيا ..
إنها الشقوة النكدة المكتوبة على كل قلب يخلو من بشاشة الإيمان وطمأنينة العقيدة. فلا يذوق طعم السلم الذي يدعى المؤمنون ليدخلوا فيه كافة، ولينعموا فيه بالأمن والظل(1/338)
والراحة والقرار: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً .. وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ. إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ» ..
ولما دعا اللّه الذين آمنوا أن يدخلوا في السلم كافة ... حذرهم أن يتبعوا خطوات الشيطان. فإنه ليس هناك إلا اتجاهان اثنان. إما الدخول في السلم كافة، وإما اتباع خطوات الشيطان. إما هدى وإما ضلال. إما إسلام وإما جاهلية. إما طريق اللّه وإما طريق الشيطان. وإما هدى اللّه وإما غواية الشيطان .. وبمثل هذا الحسم ينبغي أن يدرك المسلم موقفه، فلا يتلجلج ولا يتردد ولا يتحير بين شتى السبل وشتى الاتجاهات.
إنه ليست هنالك مناهج متعددة للمؤمن أن يختار واحدا منها، أو يخلط واحدا منها بواحد .. كلا! إنه من لا يدخل في السلم بكليته، ومن لا يسلم نفسه خالصة لقيادة اللّه وشريعته، ومن لا يتجرد من كل تصور آخر ومن كل منهج آخر ومن كل شرع آخر .. إن هذا في سبيل الشيطان، سائر على خطوات الشيطان ..
ليس هنالك حل وسط، ولا منهج بين بين، ولا خطة نصفها من هنا ونصفها من هناك! إنما هناك حق وباطل. هدى وضلال. إسلام وجاهلية. منهج اللّه أو غواية الشيطان. واللّه يدعو المؤمنين في الأولى إلى الدخول في السلم كافة ويحذرهم في الثانية من اتباع خطوات الشيطان. ويستجيش ضمائرهم ومشاعرهم، ويستثير مخاوفهم بتذكير هم بعداوة الشيطان لهم، تلك العداوة الواضحة البينة، التي لا ينساها إلا غافل. والغفلة لا تكون مع الإيمان. ثم يخوفهم عاقبة الزلل بعد البيان: «فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ» ..
وتذكيرهم بأن اللّه «عَزِيزٌ» يحمل التلويح بالقوة والقدرة والغلبة، وأنهم يتعرضون لقوة اللّه حين يخالفون عن توجيهه .. وتذكير هم بأنه «حَكِيمٌ» .. فيه إيحاء بأن ما اختاره لهم هو الخير، وما نهاهم هو الشر، وأنهم يتعرضون للخسارة حين لا يتبعون أمره ولا ينتهون عما نهاهم عنه .. فالتعقيب بشطريه يحمل معنى التهديد والتحذير في المقام .. (1)
__________
(1) - في ظلال القرآن للسيد قطب - ت- علي بن نايف الشحود (ص:437)(1/339)
وقد أمرهم بالعمل بجميع شعب الإيمان وشرائع الإسلام ما استطاعوا، ونهاهم عن اتباع خطوات الشيطان، فالذي يدخل في الإسلام مبتعد عن الشيطان وخطواته، والذي يترك شيئاً من الإسلام فقد اتبع بعض خطوات الشيطان، ولذلك كان تحليل ما حرم الله، وتحريم ما أحل الله، أو الأكل من المحرمات والخبائث، كل ذلك من اتباع خطوات الشيطان التي نهينا عنها: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168) إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (169)} [البقرة:168،169].
يَمْتَنُّ اللهُ تَعَالَى جَدُّهُ عَلَى النَّاسِ بِمَا أَبَاحَ لَهُمْ مِنَ الأَكْلِ مِمَّا فِي الأَرْضِ مِنْ أَصْنَافِ المَأْكُولاَتِ حَلاَلاً طَيِّباً وَيَنْهَاهُمْ عَنِ اتِّبَاعِ سِيرَةِ الشَّيطَانِ فِي الإِغْوَاءِ وَالإِضْلاَلِ، وَالوَسْوَسَةِ بِالسُّوءِ وَالفَحْشَاءِ، وَعَنِ اتِّبَاعِ مَسْلَكِهِ وَطَرَائِقِهِ فِيمَا أَضَلَّ بِهِ أَتْبَاعَهُ مِنْ تَحْرِيمِ البَحَائرِ وَالسَّوائِبِ وَالوَصَائِلِ وَغَيرِهَا مِمَّا كَانَ زَيَّنَهُ لِلْمُشْرِكِينَ فِي الجَاهِلِيَّةِ، لأَنَّ الشَّيطَانَ عَدُوٌّ مُبِينُ العَدَاوَةِ للإِنْسَانِ.
والشَّيطَانُ العَدُوُّ يُوَسْوِسُ لِلْكَفَرَةِ وَالمُشْرِكِينَ، وَيَحثُّهُمْ عَلَى الإِتيانِ بِالأَعْمَالِ السَّيِّئَةِ المُنْكَرَةِ، وَالفَوَاحِشِ، وَالقَوْلِ عَلَى اللهِ في دِينِهِ مَا لا يُعْلَمُ عِلْمَ اليَقِين أَنَّهُ شَرَعَهُ للناَّسِ، مِنْ عَقَائِدَ وَشَعَائِرَ دِينِيَّةٍ، أَوْ تَحْلِيلِ مَا الأَصْلُ فِيهِ التَّحْرِيمُ. (1)
إن الالتزام بالكتاب والسنة قولاً وعملاً يطرد الشيطان ويغيظه أعظم إغاظة، روى مسلم في صحيحه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -:" إِذَا قَرَأَ ابْنُ آدَمَ السَّجْدَةَ فَسَجَدَ اعْتَزَلَ الشَّيْطَانُ يَبْكِي، يَقُولُ: يَا وَيْلَهُ - وَفِي رِوَايَةِ أَبِي كُرَيْبٍ: يَا وَيْلِي - أُمِرَ ابْنُ آدَمَ بِالسُّجُودِ فَسَجَدَ فَلَهُ الْجَنَّةُ، وَأُمِرْتُ بِالسُّجُودِ فَأَبَيْتُ فَلِيَ النَّارُ ". (2)
__________
(1) - صحيح مسلم (1/ 87) 133 - (81)
[ش (إذا قرأ ابن آدم السجدة) معناه آية السجدة (يا ويله) هو من آداب الكلام وهو أنه إذا عرض في الحكاية عن الغير ما فيه سوء واقتضت الحكاية رجوع الضمير إلى المتكلم صرف الحاكي الضمير عن نفسه تصاونا عن صورة إضافة السوء إلى نفسه]
(2) - أيسر التفاسير لأسعد حومد (ص:3501،بترقيم الشاملة آليا)(1/340)
" قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْفَضْلُ بْنُ زِيَادٍ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدَ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ حَنْبَلٍ يَقُولُ: نَظَرْتُ فِي الْمُصْحَفِ فَوَجَدْتُ فِيهِ طَاعَةَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي ثَلَاثَةٍ وَثَلَاثِينَ مَوْضِعًا، ثُمَّ جَعَلَ يَتْلُو: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:63] وَجَعَلَ يُكَرِّرُهَا، وَيَقُولُ: وَمَا الْفِتْنَةُ الشِّرْكُ، لَعَلَّهُ أَنْ يَقَعَ فِي قَلْبِهِ شَيْءٌ مِنَ الزَّيْغِ فَيَزِيغَ فَيُهْلِكَهُ، وَجَعَلَ يَتْلُو هَذِهِ الْآيَةَ: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [النساء:65]،وَقَالَ: وَسَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، يَقُولُ: «مَنْ رَدَّ حَدِيثَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -،فَهُوَ عَلَى شَفَا هَلَكَةٍ» قَالَ الشَّيْخُ:" فَاللَّهَ اللَّهَ إِخْوَانِي احْذَرُوا مُجَالَسَةَ مَنْ قَدْ أَصَابَتْهُ الْفِتْنَةُ فَزَاغَ قَلْبُهُ، وَعَشِيَتْ بَصِيرَتُهُ، وَاسْتَحْكَمَتْ لِلْبَاطِلِ نُصْرَتُهُ، فَهُوَ يَخْبِطُ فِي عَشْوَاءَ، وَيَعْشُو فِي ظُلْمَةٍ أَنْ يُصِيبَكُمْ مَا أَصَابَهُمْ فَافْزَعُوا إِلَى مَوْلَاكُمُ الْكَرِيمِ فِيمَا أَمَرَكُمْ بِهِ مِنْ دَعْوَتِهِ، وَحَضَّكُمْ عَلَيْهِ مِنْ مَسْأَلَتِهِ، فَقُولُوا: {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران:8] " (1)
وقَالَ رَجُلٌ لِمَالِكِ بْنِ أَنَسٍ: أُحْرِمُ مِنْ مَسْجِدِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَوْ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ؟،فَقَالَ لَهُ: «بَلْ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ»،فَقَالَ الرَّجُلُ: فَإِنِّي أَحْرَمْتُ أَنَا مِنْ مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: فَقَالَ مَالِكٌ:" {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:63] " (2)
قال الشاطبي:" فَأَنْتَ تَرَى أَنَّهُ خَشِيَ عَلَيْهِ الْفِتْنَةَ فِي الْإِحْرَامِ مِنْ مَوْضِعٍ فَاضِلٍ لَا بُقْعَةَ أَشْرَفَ مِنْهُ، وَهُوَ مَسْجِدُ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَمَوْضِعُ قَبْرِهِ، لَكِنَّهُ أُبْعِدَ مِنَ الْمِيقَاتِ فَهُوَ زِيَادَةٌ فِي التَّعَبِ قَصْدًا لِرِضَا اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَبَيَّنَ أَنَّ مَا اسْتَسْهَلَهُ مِنْ ذَلِكَ الْأَمْرِ الْيَسِيرِ فِي بَادِئِ الرَّأْيِ يَخَافُ عَلَى صَاحِبِهِ الْفِتْنَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْعَذَابَ فِي الْآخِرَةِ، وَاسْتَدَلَّ بِالْآيَةِ. فَكُلُّ مَا كَانَ مِثْلَ ذَلِكَ دَاخِلٌ ـ عِنْدَ مَالِكٍ ـ فِي مَعْنَى الْآيَةِ " (3)
__________
(1) - الإبانة الكبرى لابن بطة (1/ 261) (97)
(2) - الاعتصام للشاطبي (ص:174) وموسوعة مواقف السلف في العقيدة والمنهج والتربية (3/ 4) والإبانة الكبرى لابن بطة (1/ 261) (98) والمدخل إلى السنن الكبرى للبيهقي (ص:200) (236) وحلية الأولياء وطبقات الأصفياء (6/ 326) صحيح
(3) - الاعتصام للشاطبي (ص:535)(1/341)
قال ابن بطة رحمه الله:" فَالَّذِي ذَكَرْتُهُ رَحِمَكُمُ اللَّهُ فِي هَذَا الْبَابِ مِنْ طَاعَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَحَضَضْتُ عَلَيْهِ مِنَ اتِّبَاعِ سُنَّتِهِ، وَاقْتِفَاءِ أَثَرِهِ مُوَافِقٌ كُلُّهُ لِكِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ، وَهُوَ طَرِيقُ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْأَئِمَّةِ الْمَهْدِيِّينَ وَالصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَعَلَيْهِ كَانَ السَّلَفُ الصَّالِحُ مِنْ فُقَهَاءِ الْمُسْلِمِينَ، وَهِيَ سَبِيلُ الْمُؤْمِنِينَ، الَّتِي مَنِ اتَّبَعَ غَيْرَهَا وَلَّاهُ اللَّهُ مَا تَوَلَّى وَأَصْلَاهُ جَهَنَّمَ، وَسَاءَتْ مَصِيرًا. فَإِذَا سَمِعَ أَحَدُكُمْ حَدِيثًا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - رَوَاهُ الْعُلَمَاءُ، وَاحْتَجَّ بِهِ الْأَئِمَّةُ الْعُقَلَاءُ، فَلَا يُعَارِضْهُ بِرَأْيِهِ، وَهَوَى نَفْسِهِ، فَيُصِيبَهُ مَا تَوَعَّدَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهِ، فَإِنَّهُ قَالَ تَعَالَى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:63]،وَهَلْ تَدْرِي مَا الْفِتْنَةُ هَاهُنَا؟ هِيَ وَاللَّهِ الشِّرْكُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ، وَالْكُفْرُ بَعْدَ الْإِيمَانِ، فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ} [البقرة:193] يَقُولُ: حَتَّى لَا يَكُونَ شِرْكٌ فَإِنَّهُ قَالَ تَعَالَى: {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} [البقرة:191] يَقُولُ: الشِّرْكُ بِاللَّهِ أَشَدُّ مِنْ قَتْلِكُمْ لَهُمْ، ثُمَّ قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء:115] أَعَاذَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكُمْ مِنْ هَذِهِ الْأَهْوَالِ وَوَفَّقْنَا وَإِيَّاكُمْ لِصَالِحِ الْأَعْمَالِ " (1)
وفي شرح أصول الاعتقاد (2):" يَقُولُ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - فِيمَا يَحُثُّ عَلَى اتِّبَاعِ دِينِهِ، وَالِاعْتِصَامِ بِحَبْلِهِ، وَالِاقْتِدَاءِ بِرَسُولِهِ - صلى الله عليه وسلم -: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [آل عمران:103]،وَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} [الزمر:55]،وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام:153]،وَقَالَ: {فَبَشِّرْ عِبَادِي الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو
__________
(1) - الإبانة الكبرى لابن بطة (1/ 268)
(2) - شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (1/ 20)(1/342)
الْأَلْبَابِ} [الزمر:17]،وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران:31]،وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108].
ثُمَّ أَوْجَبَ اللَّهُ طَاعَتَهُ وَطَاعَةَ رَسُولِهِ، فَقَالَ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ} [الأنفال:20]،وَقَالَ تَعَالَى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء:80]،وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور:54]،وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:71]،وَقَالَ: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} [النور:52]،وَقَالَ تَعَالَى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء:59]،قِيلَ فِي تَفْسِيرِهَا: إِلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.
ثُمَّ حَذَّرَ مِنْ خِلَافِهِ وَالِاعْتِرَاضِ عَلَيْهِ، فَقَالَ: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65]،وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} [الأحزاب:36]،وَقَالَ تَعَالَى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:63].
وعن خَالِدَ بْنِ مَعْدَانَ، قال: حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَمْرٍو السُّلَمِيُّ، وَحُجْرُ بْنُ حُجْرٍ الْكَلَاعِيُّ، قَالَا: أَتَيْنَا الْعِرْبَاضَ بْنَ سَارِيَةَ، وَهُوَ مِمَّنْ نَزَلَ فِيهِ: {وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ} [التوبة:92]،فَسَلَّمْنَا وَقُلْنَا: أَتَيْنَاكَ زَائِرَيْنَ وَمُقْتَبِسَيْنِ، فَقَالَ الْعِرْبَاضُ: صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الصُّبْحَ ذَاتَ يَوْمٍ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا فَوَعَظَنَا مَوْعِظَةً بَلِيغَةً، ذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ، وَوَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ، فَقَالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَأَنَّ هَذِهِ مَوْعِظَةَ مُوَدِّعٍ، فَمَاذَا تَعْهَدُ إِلَيْنَا؟ قَالَ: «أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ، وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، وَإِنْ عَبْدًا حَبَشِيًّا مُجَدَّعًا، فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا، فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ(1/343)
الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ، فَتَمَسَّكُوا بِهَا، وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ». (1)
ثالثاً: الالتجاء إلى الله والاحتماء به:
خير سبيل للاحتماء من الشيطان وجنده هو الالتجاء إلى الله والاحتماء بجنابه، والاستعاذة به من الشيطان، فإنه عليه قادر. فإذا أجار عبده فأنى يخلص الشيطان إليه، قال تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200) إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ (201)} [الأعراف:199 - 201].
أَعْرِضْ أَيُّهَا النَّبِيُّ عَنِ الجَاهِلِينَ، وَسِرْ فِي سَبِيلِ الدَّعْوةِ، وَخُذِ النَّاسَ بِمَا يَسْهُلُ عَلَيْهِمْ، وَأَمُرْهُمْ بِكُلِّ أَمْرٍ مُسْتَحْسَنٍ تَعْرِفُهُ العُقُولُ، وَتُدْرِكُهُ الأَفْهَامُ.
فَإِذَا مَا اسْتَثَارَ الشَّيْطَانُ غَضَبَكَ لِيَصُدَّكَ عَنِ الإِعْرَاضِ عَنِ الجَاهِلِينَ، وَيَحْمِلَكَ عَلَى مُجَارَاتِهِمْ وَمُجَازَاتِهِمْ، فَاسْتَعِذْ بِاللهِ، وَاسْتَجِرْ بِهِ مِنْ نَزْغَ الشَّيْطَانِ، إِنَّهُ سَميعٌ لِجَهْلِ الجَاهِلِينَ عَلَيْكَ، عَلِيمٌ بِمَا يُذْهِبُ عَنْكَ نَزْغَ الشَّيطَانِ.
يَقُولُ اللهُ تَعَالَى إِنَّ المُتَّقِينَ الصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا أَلَمَّ بِهِمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ بَوَسْوَسَتِهِ إِلَيْهِمْ لِيَحْمِلَهُمْ عَلَى المَعْصِيَةِ، أَوْ لِيُوقِعَ بَيْنَهُمُ العَدَاوَةَ وَالبَغْضَاءَ ... تَذَكَّرُوا أَنَّ هَذَا مِنْ فِعْلِ الشَّيْطَانِ عَدُوِّهِمْ وَتَذَكَّرُوا أَنَّ رَبَّهُمْ قَدْ حَذَّرَهُمْ مِنَ الشَّيْطَانِ وَنَزْغِهِ، وَسْوَسَتِهِ، فَتَابُوا وَأَنَابُوا وَاسْتَعَاذُوا بِاللهِ، وَرَجَعُوا إِلَيْهِ، فَإِذَا هُمْ قَدِ اسْتَقَامُوا وَصَحَوْا (مُبْصِرُونَ). (2)
خذ العفو الميسر الممكن من أخلاق الناس في المعاشرة والصحبة، ولا تطلب إليهم الكمال، ولا تكلفهم الشاق من الأخلاق. واعف عن أخطائهم وضعفهم ونقصهم .. كل
__________
(1) - صحيح ابن حبان - مخرجا (1/ 178) (5) صحيح
قَالَ أَبُو حَاتِمٍ فِي قَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم -: «فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي» عِنْدَ ذِكْرِهِ الِاخْتِلَافَ الَّذِي يَكُونُ فِي أُمَّتِهِ بَيَانٌ وَاضِحٌ أَنَّ مَنْ وَاظَبَ عَلَى السُّنَنِ، قَالَ بِهَا، وَلَمْ يُعَرِّجْ عَلَى غَيْرِهَا مِنَ الْآرَاءِ مِنَ الْفِرَقِ النَّاجِيَةِ فِي الْقِيَامَةِ، جَعَلَنَا اللَّهُ مِنْهُمْ بِمَنِّهِ
(2) - أيسر التفاسير لأسعد حومد (ص:1154،بترقيم الشاملة آليا)(1/344)
أولئك في المعاملات الشخصية لا في العقيدة الدينية ولا في الواجبات الشرعية. فليس في عقيدة الإسلام ولا شريعة اللّه يكون التغاضي والتسامح.
ولكن في الأخذ والعطاء والصحبة والجوار. وبذلك تمضي الحياة سهلة لينة. فالإغضاء عن الضعف البشري، والعطف عليه، والسماحة معه، واجب الكبار الأقوياء تجاه الصغار الضعفاء. ورسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - راع وهاد ومعلم ومرب. فهو أولى الناس بالسماحة واليسر والإغضاء .. وكذلك كان - صلى الله عليه وسلم - .. لم يغضب لنفسه قط. فإذا كان في دين اللّه لم يقم لغضبه شيء! .. وكل أصحاب الدعوة مأمورون بما أمر به رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم -.فالتعامل مع النفوس البشرية لهدايتها يقتضي سعة صدر، وسماحة طبع، ويسرا وتيسيرا في غير تهاون ولا تفريط في دين اللّه ..
«وأمر بالعرف» .. وهو الخير المعروف الواضح الذي لا يحتاج إلى مناقشة وجدال والذي تلتقي عليه الفطر السليمة والنفوس المستقيمة ..
والنفس حين تعتاد هذا المعروف يسلس قيادها بعد ذلك، وتتطوع لألوان من الخير دون تكليف وما يصد النفس عن الخير شيء مثلما يصدها التعقيد والمشقة والشد في أول معرفتها بالتكاليف! ورياضة النفوس تقتضي أخذها في أول الطريق بالميسور المعروف من هذه التكاليف حتى يسلس قيادها وتعتاد هي بذاتها النهوض بما فوق ذلك في يسر وطواعية ولين ..
«وأعرض عن الجاهلين» .. من الجهالة ضد الرشد، والجهالة ضد العلم .. وهما قريب من قريب ..
والإعراض يكون بالترك والإهمال والتهوين من شأن ما يجهلون به من التصرفات والأقوال والمرور بها مر الكرام وعدم الدخول معهم في جدال لا ينتهي إلى شيء إلا الشد والجذب، وإضاعة الوقت والجهد ..
وقد ينتهي السكوت عنهم، والإعراض عن جهالتهم إلى تذليل نفوسهم وترويضها، بدلا من الفحش في الرد واللجاج في العناد. فإن لم يؤد إلى هذه النتيجة فيهم، فإنه يعزلهم عن الآخرين الذين في قلوبهم خير. إذ يرون صاحب الدعوة محتملا معرضا عن اللغو، ويرون(1/345)
هؤلاء الجاهلين يحمقون ويجهلون فيسقطون من عيونهم ويعزلون! وما أجدر صاحب الدعوة أن يتبع هذا التوجيه الرباني العليم بدخائل النفوس! ولكن رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - بشر. وقد يثور غضبه على جهالة الجهال وسفاهة السفهاء وحمق الحمقى .. وإذا قدر عليها رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - فقد يعجز عنها من وراءه من أصحاب الدعوة ..
وعند الغضب ينزغ الشيطان في النفس، وهي ثائرة هائجة مفقودة الزمام! .. لذا يأمره ربه أن يستعيذ باللّه لينفثئ غضبه، ويأخذ على الشيطان طريقه: «وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ» .. وهذا التعقيب: «إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ» .. يقرر أن اللّه سبحانه سميع لجهل الجاهلين وسفاهتهم عليم بما تحمله نفسك من أذاهم .. وفي هذا ترضية وتسرية للنفس .. فحسبها أن الجليل العظيم يسمع ويعلم! وماذا تبتغي نفس بعد ما يسمع اللّه ويعلم ما تلقى من السفاهة والجهل وهي تدعو إليه الجاهلين؟! ثم يتخذ السياق القرآني طريقا آخر للإيحاء إلى نفس صاحب الدعوة بالرضى والقبول، وذكر اللّه عند الغضب لأخذ الطريق على الشيطان ونزغه اللئيم: «إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ» .. وتكشف هذه الآية القصيرة عن إيحاءات عجيبة، وحقائق عميقة، يتضمنها التعبير القرآني المعجز الجميل .. إن اختتام الآية بقوله: «فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ» ليضيف معاني كثيرة إلى صدر الآية. ليس لها ألفاظ تقابلها هناك .. إنه يفيد أن مس الشيطان يعمي ويطمس ويغلق البصيرة. ولكن تقوى اللّه ومراقبته وخشية غضبه وعقابه ..
تلك الوشيجة التي تصل القلوب باللّه وتوقظها من الغفلة عن هداه .. تذكر المتقين. فإذا تذكروا تفتحت بصائرهم وتكشفت الغشاوة عن عيونهم: «فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ» .. إن مس الشيطان عمى، وإن تذكر اللّه إبصار .. إن مس الشيطان ظلمة، وإن الاتجاه إلى اللّه نور .. إن مس الشيطان تجلوه التقوى، فما للشيطان على المتقين من سلطان .. (1)
__________
(1) - في ظلال القرآن للسيد قطب - ت- علي بن نايف الشحود (ص:1896)(1/346)
وقد أمر الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - بالاستعاذة بالله من همزات الشياطين وحضورهم: {وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (97) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (98)} [المؤمنون:97،98].
وَاسْتَعِذْ باللهِ مِنَ الشَّيَاطِينِ، ومِنْ هَمَزَاتِهِم، ودَفَعَاتِهِم، ونَفْثِهِم، ونَفْخِهم، لأَنَّهُمْ لاَ تَنْفَعُ مَعَهُم الحِيَلُ، ولا يَنْقَادُونَ بالمَعْرُوف، والنَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - مَعْصُومٌ مِنْها، ولكنَّ ذلك زِيَادَةٌ في التَّوَقِّي، وتَعْلِيمٌ لأُمَّتِه أَنْ يَتَحَصَّنُوا باللهِ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّياطِينِ في كُلِّ حِينٍ.
وقُلْ أَعوذُ بِكَ رَبِّي أَنْ تَحْضُرَنِي الشَّياطِينُ في شَيْءٍ مِنْ أمْرِي، وأَغُوذُ بِكَ مِنْ غَمْزَاتِهِم ونَخْسَاتِهم. ويُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ الاسْتِعَاذَةُ هُنَا مِنْ حُضُورِهم إيَّاه سَاعَةَ الوَفَاةِ. وكَانَ الرَّسُولُ يَسْتِعِيذُ بِاللهِ مِنْ أنْ تَحْضُرَهُ، الشَّياطِينُ فِي عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِهِ، ولاسِيَّما حِينَ الصَّلاةِ، وقِرَاءَةِ القُرْآنِ، وحُلُولِ الأَجَلِ. (1)
وهمزات الشياطين: نزغاتهم ووساوسهم، فالله يأمرنا بالاستعاذة به من العدو الشيطاني لا محالة؛ إذ لا يقبل مصانعة ولا إحساناً، ولا يبتغي غير هلاك ابن آدم، لشدة العداوة بينه وبين آدم.
يقول ابن كثير في تفسيره:" والاستعاذة هِيَ الِالْتِجَاءُ إِلَى اللَّهِ وَالِالْتِصَاقُ بِجَنَابِهِ مِنْ شَرِّ كُلِّ ذِي شَرٍّ، وَالْعِيَاذَةُ تَكُونُ لِدَفْعِ الشَّرِّ، وَاللِّيَاذُ يَكُونُ لِطَلَبِ جَلْبِ الْخَيْرِ كَمَا قَالَ الْمُتَنَبِّي:
يَا مَنْ أَلُوذُ بِهِ فِيمَا أُؤَمِّلُهُ ... وَمَنْ أَعُوذُ بِهِ مِمَّنْ أُحَاذِرُهُ
لَا يَجْبُرُ النَّاسُ عَظْمًا أَنْتَ كَاسِرُهُ ... وَلَا يَهِيضُونَ عَظْمًا أَنْتَ جَابِرُهُ
وَمَعْنَى أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، أَيْ: أَسْتَجِيرُ بِجَنَابِ اللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ أَنْ يَضُرَّنِي فِي دِينِي أَوْ دُنْيَايَ، أَوْ يَصُدَّنِي عَنْ فِعْلِ مَا أُمِرْتُ بِهِ، أَوْ يَحُثَّنِي عَلَى فِعْلِ مَا نُهِيتُ عَنْهُ؛ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يكفُّه عَنِ الْإِنْسَانِ إِلَّا اللَّهُ؛ وَلِهَذَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِمُصَانَعَةِ شَيْطَانِ الْإِنْسِ وَمُدَارَاتِهِ بِإِسْدَاءِ الْجَمِيلِ إِلَيْهِ، لِيَرُدَّهُ طَبْعُهُ عمَّا هُوَ فِيهِ مِنَ الْأَذَى، وَأَمَرَ
__________
(1) - تفسير ابن كثير ت سلامة (1/ 114)(1/347)
بِالِاسْتِعَاذَةِ بِهِ مِنْ شَيْطَانِ الْجِنِّ لِأَنَّهُ لَا يَقْبَلُ رَشْوَةً وَلَا يُؤَثِّرُ فِيهِ جَمِيلٌ؛ لِأَنَّهُ شِرِّيرٌ بِالطَّبْعِ وَلَا يَكُفُّهُ عَنْكَ إِلَّا الَّذِي خَلَقَهُ .. " (1)
وقد كان - صلى الله عليه وسلم - يكثر من الاستعاذة بربه من الشيطان بصيغ مختلفة، فعَنِ ابْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «إِذَا اسْتَفْتَحَ الصَّلَاةَ قَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الشَّيْطَانِ: مِنْ هَمْزِهِ، وَنَفْخِهِ، [وَنَفْثِهِ]». (2)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: إِنَّ الْمُؤْمِنَ لَيُنْضِي شَيَاطِينَهُ، كَمَا يُنْضِي أَحَدُكُمْ بَعِيرَهُ فِي السَّفَرِ. (3)
مواضع الاستعاذة:
1 - الاستعاذة عند دخول الخلاء:
وكان إذا دخل الخلاء يستعيذ من الشياطين ذكورهم وإناثهم، كما في الصحيحين ع عَنْ عَبْدِ العَزِيزِ بْنِ صُهَيْبٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسًا، يَقُولُ: كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا دَخَلَ الخَلاَءَ قَالَ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الخُبُثِ وَالخَبَائِثِ». (4)
وعَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -،قَالَ: «إِنَّ هَذِهِ الْحُشُوشَ مُحْتَضَرَةٌ، فَإِذَا دَخَلَهَا أَحَدُكُمْ، فَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْخُبُثِ، وَالْخَبَائِثِ». (5)
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد (ص:3501،بترقيم الشاملة آليا)
(2) - صحيح ابن حبان - مخرجا (5/ 78) (1779) صحيح قَالَ عَمْرٌو: «هَمْزُهُ: الْمُوتَةُ، وَنَفْخُهُ: الْكِبْرُ، وَنَفْثُهُ: الشِّعْرُ»
(3) - مسند أحمد (عالم الكتب) (3/ 398) (8940) 8927 - والصَّحِيحَة (3586) حسن
(ينضي شيطانه) أي: يُهْزِلُهُ ويجعله نضوا , أي مهزولا لكثرة إذلاله له , وجعله أسيرا تحت قهره وتصرفه , ومن أعز سلطان الله أعزه الله , وسَلَّطَهُ على عدوه. فيض القدير - (ج 2 / ص 488)
والمراد أن من شأن المؤمن مخالفة الشياطين وتصغيرهم، وفي التشبيه تنبية على أن حق المؤمن أن يغلب على الشيطان حتى يكون الشيطان تحته مطيعاً له كالدابة، والله تعالى أعلم.
(4) - صحيح البخاري (1/ 41) (142) وصحيح مسلم (1/ 283) 122 - (375)
[(الخلاء) أصله المكان الخالي والمراد موضع قضاء الحاجة كالمرحاض وغيره سمي بذلك لخلوه في غير أوقات قضاء الحاجة. (الخبث والخبائث) جمع خبث وخبيثة أي ذكور الشياطين وإناثهم وقيل المراد كل شيء مكروه ومذموم]
(5) - صحيح ابن حبان - مخرجا (4/ 255) (1408) صحيح
قَالَ أَبُو حَاتِمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «الْخُبُثُ جَمْعُ الذُّكُورِ مِنَ الشَّيَاطِينِ، وَالْخَبَائِثُ جَمْعُ الْإِنَاثِ مِنْهُمْ، يُقَالُ خَبِيثٌ وَخَبِيثَانِ، وَخُبُثٌ وَخَبِيثَةٌ، وَخَبِيثَتَانِ وَخَبَائِثُ»
"غالب مَا يُوجد الْجِنّ فِي مَوَاضِع النجسات كالحمامات والحشوش والمزابل والقمامين والشيوخ الَّذين تقرن بهم الشَّيَاطِين وَتَكون أَحْوَالهم شيطانية لَا رحمانية يأوون كثيرا إِلَى هَذِه الْأَمَاكِن الَّتِي هِيَ مأوى الشَّيَاطِين " آكام المرجان في أحكام الجان (ص:49)(1/348)
2 - الاستعاذة عند الغضب:
عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ صُرَدٍ، قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَرَجُلاَنِ يَسْتَبَّانِ، فَأَحَدُهُمَا احْمَرَّ وَجْهُهُ، وَانْتَفَخَتْ أَوْدَاجُهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -:" إِنِّي لَأَعْلَمُ كَلِمَةً لَوْ قَالَهَا ذَهَبَ عَنْهُ مَا يَجِدُ، لَوْ قَالَ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ، ذَهَبَ عَنْهُ مَا يَجِدُ " فَقَالُوا لَهُ: إِنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: تَعَوَّذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ، فَقَالَ: وَهَلْ بِي جُنُونٌ" (1)
وعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ: اسْتَبَّ رَجُلَانِ عِنْدَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَغَضِبَ أَحَدُهُمَا، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -:" إِنِّي لَأَعْلَمُ كَلِمَةً لَوْ قَالَهَا لَذَهَبَ غَيْظُهُ: أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ " (2)
وعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، قَالَ: اسْتَبَّ رَجُلَانِ عِنْدَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -،فَغَضِبَ أَحَدُهُمَا غَضَبًا شَدِيدًا، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - «إِنِّي لَأَعْلَمُ كَلِمَةً لَوْ قَالَهَا لَأَذْهَبَ اللهُ عَنْهُ مَا يَجِدُ»،فَقِيلَ لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -:مَا هِيَ؟ فَقَالَ: «اللهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ» (3)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَخْبِرْنِي بِعَمَلٍ يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ، وَلَا تُكْثِرْ عَلَيَّ، لَعَلِّي أَعْقِلُ. قَالَ: «لَا تَغْضَبْ» (4)
__________
(1) - صحيح البخاري (4/ 124) (3282) وصحيح مسلم (4/ 2015) 110 - (2610)
[ش (يستبان) يشتم كل واحد منهما الآخر. (أوداجه) جمع ودج وهو عرق يكون على جانب العنق وانتفاخها كناية عن شدة الغضب ودليل عليه. (ما يجد) أي ما فيه من الغضب. (هل بي جنون) أي حتى أتعوذ؟ قال النووي رحمه الله تعالى في شرح مسلم وأما قول هذا الرجل الذي اشتد غضبه هل ترى بي من جنون؟ فهو كلام من لم يفقه في دين الله تعالى ولم يتهذب بأنوار الشريعة المكرمة وتوهم أن الاستعاذة مختصة بالجنون ولم يعلم أن الغضب من نزعات الشيطان ولهذا يخرج به الإنسان عن اعتدال حاله ويتكلم بالباطل ويفعل المذموم وينوي الحقد والبغض وغير ذلك من القبائح المترتبة على الغضب. ثم قال ويحتمل أن هذا القائل .. كان من المنافقين أو من جفاة الأعراب والله أعلم]
(2) - السنن الكبرى للنسائي (9/ 150) (10149 - 10151) صحيح
(3) - المعجم الكبير للطبراني (20/ 140) (287 - 289) صحيح -يتمزع: التمزيع: التفريق، وفلان يتمزع من الغيظ، أي يتقطع.
(4) -مساوئ الأخلاق للخرائطي (ص:150) (315) صحيح(1/349)
وعَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِهِ: {إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ} [الأعراف: 201] قَالَ: «هُوَ الْغَضَبُ» (1)
وعَنْ رَجُلٍ، مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَوْصِنِي. قَالَ: «لَا تَغْضَبْ» قَالَ الرَّجُلُ: فَفَكَّرْتُ حِينَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَإِذَا الْغَضَبُ يَجْمَعُ الشَّرَّ كُلَّهُ" (2)
3 - الاستعاذة عند الجماع:
وحثنا على الاستعاذة حين يأتي الرجل أهله، فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، يَبْلُغُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا أَتَى أَهْلَهُ قَالَ بِاسْمِ اللَّهِ، اللَّهُمَّ جَنِّبْنَا الشَّيْطَانَ وَجَنِّبِ الشَّيْطَانَ مَا رَزَقْتَنَا، فَقُضِيَ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ لَمْ يَضُرُّهُ» متفق عليه (3)
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: " لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَأْتِيَ أَهْلَهُ، فَقَالَ: بِاسْمِ اللَّهِ، اللَّهُمَّ جَنِّبْنَا الشَّيْطَانَ وَجَنِّبِ الشَّيْطَانَ مَا رَزَقْتَنَا، فَإِنَّهُ إِنْ يُقَدَّرْ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ فِي ذَلِكَ لَمْ يَضُرُّهُ شَيْطَانٌ أَبَدًا " (4)
4 - الاستعاذة عند نزول وادٍ أو منزل:
وإذا نزل المرء وادياً أو منزلاً، فعليه أن يستعيذ بالله، لا كما كان يفعل أهل الجاهلية يستعيذون بالجن والشياطين، فيقول قائلهم: أعوذ بزعيم هذا الوادي من سفهاء قومه، فكانت العاقبة أن استكبرت الجن وآذتهم، كما حكى الله عنهم ذلك في سورة
__________
(1) -مساوئ الأخلاق للخرائطي (ص: 150) (316) حسن مقطوع
(2) -مساوئ الأخلاق للخرائطي (ص: 149) (313) صحيح
(3) - صحيح البخاري (1/ 40) (141) وصحيح مسلم (2/ 1058) 116 - (1434)
[(يبلغ به النبي) أي يرفع الحديث ويصل به إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وليس موقوفا على ابن عباس. (إذا أتى أهله) جامع زوجته والوقاع الجماع. (ما رزقتنا) أي من ولد]
أَيْ: لَمْ يَضُرّ الْوَلَد الْمَذْكُور , بِحَيْثُ يَتَمَكَّن مِنْ إِضْرَاره فِي دِينه أَوْ بَدَنه، وَلَيْسَ الْمُرَاد رَفْع الْوَسْوَسَة مِنْ أَصْلهَا , وقِيلَ لِأَبِي عَبْد اللَّه يَعْنِي الْمُصَنِّف: مَنْ لَا يُحْسِن الْعَرَبِيَّة يَقُولهَا بِالْفَارِسِيَّةِ؟ , قَالَ: نَعَمْ. فتح الباري لابن حجر - (ح141)
(4) - صحيح البخاري (9/ 119) (7396)(1/350)
الجن: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} [الجن:6]؛أي الجن زادت الإنس رهقاً.
وقد علمنا الرسول - صلى الله عليه وسلم - كيف نستعيذ بالله عندما ننزل منزلاً فعَنْ خَوْلَةَ بِنْتِ حَكِيمٍ، أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:" لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا نَزَلَ مَنْزِلًا قَالَ: أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللهِ التَّامَّاتِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ لَمْ يَضُرَّهُ فِي ذَلِكَ الْمَنْزِلِ شَيْءٌ حَتَّى يَرْتَحِلَ مِنْهُ ". (1)
وعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَائِشٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -:" مَنْ نَزَلَ مَنْزِلًا، فَقَالَ: أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللهِ التَّامَّاتِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ، لَمْ يَرَ فِي مَنْزِلِهِ ذَلِكَ شَيْئًا يَكْرَهُهُ حَتَّى يَرْتَحِلَ عَنْهُ " قَالَ سُهَيْلٌ: قَالَ أَبِي: فَلَقِيتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَائِشٍ فِي الْمَنَامِ، فَقُلْتُ لَهُ: حَدَّثَكَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - هَذَا الْحَدِيثَ؟ قَالَ: نَعَمْ." (2)
وعَنْ خَوْلَةَ بِنْتِ حَكِيمٍ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -:" مَنْ نَزَلَ مَنْزِلًا فَقَالَ: أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللهِ التَّامَّاتِ كُلِّهَا مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ لَمْ يَضُرَّهُ فِي مَنْزِلِهِ ذَلِكَ شَيْءٌ حَتَّى يَظْعَنَ عَنْهُ " (3)
وعن سَعْدَ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، قال: سَمِعْتُ خَوْلَةَ بِنْتَ حَكِيمٍ السُّلَمِيَّةَ، تَقُولُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ:" مَنْ نَزَلَ مَنْزِلًا ثُمَّ قَالَ: أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللهِ التَّامَّاتِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ، لَمْ يَضُرَّهُ شَيْءٌ، حَتَّى يَرْتَحِلَ مِنْ مَنْزِلِهِ ذَلِكَ " (4)
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ الْمَازِنِيِّ قَالَ: خَرَجْتُ مِنْ حِمْصَ " فَآوَانِيَ اللَّيْلُ إِلَى الْبَقِيعَةِ قَالَ: فَنَزَلْتُ فَحَضَرَنِي مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ فَقَرَأْتُ هَذِهِ الْآيَةَ مِنَ الْأَعْرَافِ {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} الآية قَالَ: فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ احْرُسُوهُ الْآنَ حَتَّى يُصْبِحَ. قَالَ: فَلَمَّا أَصْبَحْتُ رَكِبْتُ دَابَّتِي " (5)
__________
(1) - مسند أحمد ط الرسالة (45/ 290) (27310) صحيح
(2) - معرفة الصحابة لأبي نعيم (4/ 1862) (4688) صحيح
(3) - مسند أحمد ط الرسالة (45/ 90) (27123) صحيح لغيره
(4) - صحيح مسلم (4/ 2080) 54 - (2708)
[ش (بكلمات الله التامات) قيل معناه الكاملات التي لا يدخل فيها نقص ولا عيب وقيل النافعة الشافية وقيل المراد بالكلمات هنا القرآن]
(5) - الآحاد والمثاني لابن أبي عاصم (3/ 49) (1352) فيه ضعف(1/351)
وعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كُنَّا إِذَا نزلنَا منزلا سبحنا حَتَّى نحط الرّحال" (1)
وعَنْ قَتَادَةَ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ: «كُنَّا إِذَا نَزَلْنَا مَنْزِلًا سَبَّحْنَا حَتَّى نَحِلَّ الرِّحَالَ» قَالَ شُعْبَةُ: «تَسْبِيحًا بِاللِّسَانِ» (2)
وعَنْ شُعْبَةَ قَالَ: أَخْبَرَنِي حَمْزَةُ، رَجُلٌ مِنْ بَنِي ضَبَّةَ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسًا يَقُولُ: «كُنَّا إِذَا نَزَلْنَا مَنْزِلًا لَمْ نَزَلْ نُسَبِّحُ حَتَّى تُحَلَّ الرِّحَالُ» (3)
وعَنْ عُتْبَةَ بْنِ غَزْوَانَ، عَنْ نَبِيِّ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:" إِذَا أَضَلَّ أَحَدُكُمْ شَيْئًا أَوْ أَرَادَ أَحَدُكُمْ عَوْنًا وَهُوَ بِأَرْضٍ لَيْسَ بِهَا أَنِيسٌ، فَلْيَقُلْ: يَا عِبَادَ اللهِ أَغِيثُونِي، يَا عِبَادَ اللهِ أَغِيثُونِي، فَإِنَّ لِلَّهِ عِبَادًا لَا نَرَاهُمْ " وَقَدْ جُرِّبَ ذَلِكَ" (4)
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:" إِنَّ لِلَّهِ مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَكْتُبُونَ مَا يَقَعُ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَرَقِ الشَّجَرِ، فَإِنْ أَصَابَتْ أَحَدًا مِنْكُمْ عَرْجَةً أَوِ احْتَاجَ إِلَى عَوْنٍ بِفَلَاةٍ مِنَ الْأَرْضِ فَلْيَقُلْ: أَعِينُوا عِبَادَ اللَّهِ رَحِمَكُمُ اللَّهُ، فَإِنَّهُ يُعَانُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ ".هَذَا مَوْقُوفٌ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، مُسْتَعْمَلٌ عِنْدَ الصَّالِحِينَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ لِوُجُودِ صِدْقِهِ عِنْدَهُمْ فِيمَا جَرَّبُوا. وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ" (5)
__________
(1) - الأحاديث المختارة = المستخرج من الأحاديث المختارة مما لم يخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما (6/ 114) (2108) إِسْنَاده صَحِيحٌ
(2) - المعجم الأوسط (2/ 98) (1376) صحيح
(3) - مصنف عبد الرزاق الصنعاني (5/ 167) (9263) صحيح لغيره
(4) - المعجم الكبير للطبراني (17/ 117) (290) وبنحوه عن ابن مسعود المعجم الكبير للطبراني (10/ 217) (10518) وعن ابن عباس مصنف ابن أبي شيبة -طبعة الدار السلفية الهندية (10/ 390) (30339) حسن لغيره
(5) - الآداب للبيهقي (ص:269) (657) وشعب الإيمان (1/ 325) (165) ومصنف ابن أبي شيبة -طبعة الدار السلفية الهندية (10/ 390) (30339) صحيح موقوف، ومثله لا يقال بالرأي، وقد ورد مرفوعا
وإسناده حسن، ورجح الشيخ ناصر الدين الألباني -رحمه الله- في الضعيفة (656) الموقوف لأن حاتم بن إسماعيل قال فيه النسائي: ليس بالقوي، وقال غيره كانت فيه غفلة، ولذلك قال فيه الحافظ: صحيح الكتاب صدوق يهم، وقال في جعفر بن عون: صدوق .. ا هـ بل ذهب أبعد من ذلك عندما زعم أن ابن عباس ربما أخذه عن مسلمة أهل الكتاب
أقول: وهذا كلام فيه نظر. أما حاتم بن إسماعيل فقال عنه الذهبي في الكاشف: ثقة (841) وفي التهذيب: قال أحمد: هو أحب إلى من الدراودي وزعموا أن حاتما كان فيه غفلة، إلا أن كتابه صالح، وقال أبو حاتم: هو أحب إلى من سعيد بن سالم وقال النسائي: ليس به بأس، وقال ابن سعد: كان ثقة مأمونا كثير الحديث، ووثقه ابن حبان، وقال العجلي: ثقة، وكذا قال إسحاق بن منصور عن يحيى بن معين، وقال ابن المديني: روى جعفر عن أبيه أحاديث مراسيل أسندها، وقرأت بخط الذهبي في الميزان قال النسائي: ليس بالقوي ا هـ 2/ 128 - 129 وبهذا يتبين لك ضعف ما قاله في حق هذا الرجل فهو ثقة كما قال الذهبي. ولا يجوز الاعتماد على المختصرات في مثل هذه الأمور، فالحديث حسن(1/352)
وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -:" إِذَا انْفَلَتَتْ دَابَّةُ أَحَدِكُمْ بِأَرْضِ فَلَاةٍ فَلْيُنَادِ: يَا عِبَادَ اللهِ، احْبِسُوا عَلَيَّ، يَا عِبَادَ اللهِ احْبِسُوا عَلَيَّ؛ فَإِنَّ لِلَّهِ فِي الْأَرْضِ حَاضِرًا سَيَحْبِسُهُ عَلَيْكُمْ " (1)
وعَنْ أَبَانَ بْنِ صَالِحٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -،قَالَ: إذَا نَفَرَتْ دَابَّةُ أَحَدِكُمْ، أَوْ بَعِيرُهُ بِفَلاةٍ مِنَ الأَرْضِ لاَ يَرَى بِهَا أَحَدًا فَلْيَقُلْ: أَعِينُوا عِبَادَ اللهِ، فَإِنَّهُ سَيُعَانُ. (2)
وهذا النداء يشملُ الإنس والجن والملائكة، بل وغيرهم من مخلوقات الله تعالى، فالكلُّ عبيده فهو قادر على تسخيرهم لعباده المؤمنين عند حاجتهم لذلك. حيث يجوز الاستعانة بخلق الله على العموم، إنسا كانوا أم جنا أم ملائكة أو حتى حيوانا في الأمور الجائزة عند الاضطرار فقط، كما ورد في خبر سفينة الصحابي، فعَنْ سَفِينَةَ قَالَ: كُنْتُ فِي الْبَحْرِ، فَانْكَسَرَتْ سَفِينَتُنَا فَلَمْ نَعْرِفِ الطَّرِيقَ، فَإِذَا أَنَا بِالْأَسَدِ قَدْ عَرَضَ لَنَا، فَتَأَخَّرَ أَصْحَابِي فَدَنَوْتُ مِنْهُ، فَقُلْتُ: أَنَا سَفِينَةُ صَاحِبُ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَقَدْ أَضْلَلْنَا الطَّرِيقَ، فَمَشَى بَيْنَ يَدَيَّ حَتَّى أَوْقَفَنَا عَلَى الطَّرِيقِ، ثُمَّ تَنَحَّى وَدَفَعَنِي كَأَنَّهُ يُرِينِي الطَّرِيقَ، فَظَنَنْتُ أَنَّهُ يُوَدِّعُنَا. رَوَاهُ الْبَزَّارُ، وَالطَّبَرَانِيُّ بِنَحْوِهِ إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: فَانْكَسَرَتْ سَفِينَتِي
__________
(1) - المعجم الكبير للطبراني (10/ 217) (10518) حسن لغيره
وفي سنده: معروف بن حسان السمرقندي مجهول. وقد استنكر حديثه عن عمر بن ذر ابن عدي 6/ 325 وليس هذا منه. وأعل بالانقطاع بين عبد الله بن بريدة وابن مسعود وهذا غير صحيح، فبعد الرجوع لترجمته في التهذيب لم يذكر أحد منهم أنه لم يسمع من ابن مسعود علما أنه ولد لثلاث خلون من خلافة عمر بالكوفة وابن مسعود ذهب إلى الكوفة، فلا شيء يمنع سماعه منه راجع التهذيب 5/ 157 - 158.
وله طريق آخر عن ابن إسحاق عن أبان بن صالح مرسلا وإسناده صحيح وزعم الشيخ ناصر الدين الألباني -رحمه الله- أنه معضل علماً أن أبان روى عن أنس وسمع منه حيث ولد سنة 60 هـ راجع التهذيب 1/ 94 - 95.
وأعله الشيخ ناصر الدين الألباني -رحمه الله- في ضعيفته (655) بعلة أخرى وهي عنعنة ابن إسحاق وتدليسه، وقد بينا بطلان هذه التهمة على ابن إسحاق عند الحديث رقم (529) وأنه ليس مدلساً فالحديث حسن لغيره، وذكره ابن القيم في الوابل الصيب من الكلم الطيب (ص:125) وسكت عليه، ويشهد له حديث ابن عباس
(2) - مصنف ابن أبي شيبة -طبعة الدار السلفية الهندية (10/ 424) (30438) صحيح مرسل(1/353)
الَّتِي كُنْتُ فِيهَا، فَرَكِبْتُ لَوْحًا مِنْ أَلْوَاحِهَا فَطَرَحَنِي اللَّوْحُ فِي أَجَمَةٍ فِيهَا الْأَسَدُ، فَأَقْبَلَ إِلَيَّ يُرِيدُنِي، فَقُلْتُ: يَا أَبَا الْحَارِثِ، أَنَا سَفِينَةُ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَطَأْطَأَ رَأْسَهُ وَأَقْبَلَ إِلَيَّ فَدَفَعَنِي بِمِنْكَبِهِ" (1).
5 - التعوذ بالله من الشيطان عند سماع نهيق الحمار:
عَنِ ابْنِ صُهَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ صُهَيْبٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «إِذَا نَهِقَ الْحِمَارُ فَتَعَوَّذُوا بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ» (2)
وعَنِ ابْنِ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: لَا أُرَاهُ إِلَّا رَفَعَهُ، قَالَ: «إِيَّاكُمْ وَالْخُرُوجَ بَعْدَ هَدْأَةِ اللَّيْلِ، فَإِنَّ لِلَّهِ دَوَابَّ يَبُثُّهَا فِي الْأَرْضِ تَفْعَلُ مَا تُؤْمَرُ بِهِ، فَإِذَا سَمِعَ أَحَدُكُمْ نَهِيقَ حِمَارٍ، أَوْ نُبَاحَ كَلْبٍ فَلْيَسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُمْ يَرَوْنَ مَا لَا تَرَوْنَ» (3)
وعن عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ: «أَقِلُّوا الْخُرُوجَ بَعْدَ هَدْأَةِ الرِّجْلِ يَا مَعْشَرَ الْإِسْلَامِ , فَإِنَّ لِلَّهِ دَوَابَّ يَبُثُّهَا فِي الْأَرْضِ تَفْعَلُ مَا تُؤْمَرُ، وَأَيُّكُمْ سَمِعَ نُهَاقَ حِمَارٍ أَوْ نُبَاحَ كَلْبٍ فَلْيَسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ فَإِنَّهُنَّ يَرَوْنَ مَا لَا تَرَوْنَ» (4)
__________
(1) - مسند البزار (3838) والمعجم الكبير للطبراني ج7،ص80 رقم6432 والمستدرك للحاكم (4235،6550) وصححه، ووافقه الذهبي ودلائل النبوة للبيهقي (2293).مجمع الزوائد (15972):"رواه البزار والطبراني ورجالهما وُثِّقُوا".قلت: وهو حديث حسن.
قلت: إذا كان الإنسان يتعامل مع الجن فإنها تعينه وتساعده وكلاهما على باطل، فكيف إذا كان من عباد الله الصالحين فكيف لا يساعده عباد الله الصالحون وقت الاضطرار؟!! وهم موجودون دائما أيضا
فالصواب من القول أنه كما يوجد بين أولياء الشيطان من يساعد ويعين بعضهم بعضا، فكذلك يوجد بين أولياء الرحمن من هذا القبيل، وهي نوع من الكرامة بيقين، وقد ذكرت أمثلة كثيرة لذلك في كتابي ((الخلاصة في شرح حديث الولي))
(2) - المعجم الكبير للطبراني (8/ 39) (7312) والصحيحة (1426) وصحيح الجامع (816) صحيح لغيره
(3) - جامع معمر بن راشد (11/ 46) (19872) صحيح لغيره
(4) - المسند للشاشي (3/ 130) (1198) صحيح لغيره(1/354)
وعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «أَقِلُّوا الْخُرُوجَ بَعْدَ هُدُوءٍ، فَإِنَّ لِلَّهِ دَوَابَّ يَبُثُّهُنَّ، فَمَنْ سَمِعَ نُبَاحَ الْكَلْبِ، أَوْ نُهَاقَ حِمَارٍ، فَلْيَسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، فَإِنَّهُمْ يَرَوْنَ مَا لَا تَرَوْنَ» (1)
وعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إِذَا سَمِعْتُمْ نُبَاحَ الْكِلَابِ أَوْ نُهَاقَ الْحَمِيرِ مِنَ اللَّيْلِ، فَتَعَوَّذُوا بِاللَّهِ، فَإِنَّهُمْ يَرَوْنَ مَالَا تَرَوْنَ، وَأَجِيفُوا الْأَبْوَابَ، وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَفْتَحُ بَابًا أُجِيفَ وَذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَغَطُّوا الْجِرَارَ، وَأَوْكِئُوا الْقِرَبَ وَأَكْفِئُوا الْآنِيَةَ» (2)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم -،قَالَ: «إِذَا سَمِعْتُمْ صِيَاحَ الدِّيَكَةِ فَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ، فَإِنَّهَا رَأَتْ مَلَكًا، وَإِذَا سَمِعْتُمْ نَهِيقَ الحِمَارِ فَتَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ، فَإِنَّهُ رَأَى شَيْطَانًا» (3)
6 - التعوذ حين قراءَة القرآن:
قال تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100)} [النحل:98 - 100].
يَأْمُرُ اللهُ تَعَالَى رَسُولَهُ - صلى الله عليه وسلم - وَعِبَادَهُ المُؤْمِنِينَ، عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِأَنْ يَسْتَعِيذُوا بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، إِذَا أَرَادُوا قِرَاءَةَ القُرْآنِ.
وَيُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى: أَنَّ الشَّيْطَانَ لاَ سُلْطَةَ لَهُ وَلاَ سُلْطَانَ عَلَى المُؤْمِنِينَ المُتَوَّكِلِينَ عَلَى اللهِ، وَلاَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَحْمِلَهُمْ عَلَى ارْتِكَابِ ذَنْبٍ لاَ يَتُوبُونَ مِنْهُ.
إِنَّمَا تَسَلُّطُهُ بِالغَوَايَةِ وَالضَّلاَلَةِ يَكُونُ عَلَى الذِينَ يَجْعَلُونَهُ نَصِيراً فَيُحِبُّونَهُ وَيُطِيعُونَهُ، وَيَسْتَجِيبُونَ لِدَعْوَتِهِ، وَالذِينَ هُمْ بِسَبَبِ إِغْوَائِهِ يُشْرِكُونَ بِرَبِّهِمْ. (4)
__________
(1) - الأدب المفرد مخرجا (ص:422) (1233) صحيح
(2) - الأدب المفرد مخرجا (ص:423) (1234) صحيح
(3) - صحيح البخاري (4/ 128) (3303) وصحيح مسلم (4/ 2092) 82 - (2729)
[ش (نهيق الحمار) صوته المنكر]
(4) - أيسر التفاسير لأسعد حومد (ص:1999،بترقيم الشاملة آليا)(1/355)
والاستعاذة باللّه من الشيطان الرجيم تمهيد للجو الذي يتلى فيه كتاب اللّه، وتطهير له من الوسوسة واتجاه بالمشاعر إلى اللّه خالصة لا يشغلها شاغل من عالم الرجس والشر الذي يمثله الشيطان.
فاستعذ باللّه من الشيطان الرجيم .. «إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ» فالذين يتوجهون إلى اللّه وحده، ويخلصون قلوبهم للّه، لا يملك الشيطان أن يسيطر عليهم، مهما وسوس لهم فإن صلتهم باللّه تعصمهم أن ينساقوا معه، وينقادا إليه. وقد يخطئون، لكنهم لا يستسلمون، فيطردون الشيطان عنهم ويثوبون إلى ربهم من قريب .. «إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ» أولئك الذين يجعلونه وليهم ويستسلمون له بشهواتهم ونزواتهم، ومنهم من يشرك به. فقد عرفت عبادة الشيطان وعبادة إله الشر عند بعض الأقوام. على أن اتباعهم للشيطان نوع من الشرك بالولاء والاتباع. (1)
وقد بين ابن القيم الحكمة في الاستعاذة بالله من الشيطان حين قراءَة القرآن، فقال:
1 - " إن القرآن شفاء لما في الصدور يذهب لما يلقيه الشيطان فيها من الوساوس والشهوات والإرادات الفاسدة، فهو دواء لما أمره الشيطان فيها، فأمر أن يطرد مادة الداء، ويخلي منه القلب، ليصادف الداء محلاً خالياً، فيتمكن منه، ويؤثر فيه، كما قيل:
أَتَانِى هَوَاهَا قَبْلَ أَنْ أَعْرِفَ الْهَوى ... فَصَادَفَ قَلْباً خَالِياً فَتَمَكّنَا
فيجيء هذا الدواء الشافي إلى القلب، وقد خلا من مزاحم ومضاد له، فينجع فيه.
2 - ومنها: أن القرآن مادة الهدى والعلم والخير في القلب، كما أنّ الماء مادة النبات، والشيطان نار يحرق النبات أولاً فأولاً، فكلما أحسّ بنبات الخير من القلب، سعى في إفساده وإحراقه، فأمر أن يستعيذ بالله - عزّ وجلّ - منه، لئلا يفسد عليه ما يحصل له بالقرآن.
والفرق بين هذا الوجه والوجه الذي قبله أن الاستعاذة في الوجه الأول لأجل حصول فائدة القرآن، وفي الوجه الثاني لأجل بقائها وحفظها.
__________
(1) - في ظلال القرآن للسيد قطب - ت- علي بن نايف الشحود (ص:2851)(1/356)
3 - ومنها: أن الملائكة تدنو من قارئ القرآن، وتستمع لقراءته، كما في حديث أسيد بن حضير لما كان يقرأ ورأى مثل الظلة فيها المصابيح، فقال عليه الصلاة والسلام: (تلك الملائكة) (1)،والشيطان ضد الملك وعدوه، فأمر القارئ أن يطلب من الله تعالى مباعدة عدوه عنه، حتى يحضره خاص ملائكته، فهذه منزلة لا يجتمع فيها الملائكة والشياطين.
4 - ومنها: أن الشيطان يجلب على القارئ بخيله ورجله، حتى يشغله عن المقصود بالقرآن، وهو تدبره وتفهمه ومعرفة ما أراد المتكلم به سبحانه، فيحرص بجهده على أن يحول بين قلبه وبين مقصود القرآن، فلا يكمل انتفاع القارئ به، فأمر عند الشروع في القراءة أن يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم.
5 - ومنها: أن القارئ يناجي الله تعالى بكلامه، والله أشد أذناً للقارئ الحسن الصوت بالقرآن من صاحب القينة إلى قينته (2)،والشيطان إنما قراءَته الشعر والغناء، فأمر القارئ أن يطرده بالاستعاذة عند مناجاة الله تعالى واستماع الربّ قراءَته.
6 - ومنها: أن الله سبحانه أخبر أنّه ما أرسل من رسول ولا نبي إلا إذا تمنّى ألقى الشيطان في أمنيته، والسلف كلهم على أن المعنى: إذا تلا ألقى الشيطان في تلاوته ... ،فإذا كان هذا مع الرسل عليهم الصلاة والسلام فكيف بغيرهم. ولهذا يغلط الشيطان القارئ تارة، ويخلط عليه القراءَة، ويشوشها عليه، فيخبط عليه لسانه، أو يشوش عليه ذهنه وقلبه، فإذا حضر عند القراءَة، لم يعدم منه القارئ هذا أو هذا، وربما جمعها له.
7 - ومنها: أن الشيطان أحرص ما يكون على الإنسان عندما يهم بالخير، أو يدخل فيه، فهو يشتد عليه حينئذ؛ ليقطعه عنه " (3)
__________
(1) - عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: كَانَ مُطَرِّفُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشِّخِّيرِ وَصَاحِبٌ لَهُ سَرَيَا فِي لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ، فَإِذَا طَرْفُ سَوْطِ أَحَدِهِمَا عِنْدَهُ ضَوْءٌ، فَقَالَ لِصَاحِبِهِ: أَمَا إِنَّا لَوْ حَدَّثْنَا النَّاسَ بِهَذَا كَذَّبُونَا، قَالَ مُطَرِّفٌ: الْمُكَذِّبُ أَكْذَبُ. يَقُولُ: الْمُكَذِّبُ بِنِعْمَةِ اللَّهِ أَكْذَبُ، وَمُطَرِّفُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ كَانَ مِنْ كِبَارِ التَّابِعِينَ، وَإِنَّمَا أَوْرَدْتُهُ عَقِيبَ حَدِيثِ الصَّحَابَةِ لَكوْنِهِ شَبِيهًا بِمَا أُكْرِمُوا بِهِ. وَقَدْ رُوِّينَا نُزُولَ الْمَلَائِكَةِ لِلْقُرْآنِ عِنْدَ قِرَاءَةِ أُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ؛ وَذَلِكَ أَنَّهُ رَأَى مِثْلَ الظُّلَّةِ فِيهَا أَمْثَالُ الْمَصَابِيحِ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «تِلْكَ الْمَلَائِكَةُ أَتَتْ لِصَوْتِكَ».الاعتقاد للبيهقي (ص:311) صحيح
(2) - عَنْ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لَلَّهُ أَشَدُّ أَذَنَا إِلَى الرَّجُلِ الْحَسَنِ الصَّوْتِ بِالْقُرْآنِ، مِنْ صَاحِبِ الْقَيْنَةِ إِلَى قَيْنَتِهِ».صحيح ابن حبان - مخرجا (3/ 31) (754) حسن
(3) - إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان (1/ 92)(1/357)
7 - تعويذ الأبناء والأهل:
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُعَوِّذُ الحَسَنَ وَالحُسَيْنَ، وَيَقُولُ:" إِنَّ أَبَاكُمَا كَانَ يُعَوِّذُ بِهَا إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ: أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّةِ، مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ وَهَامَّةٍ، وَمِنْ كُلِّ عَيْنٍ لاَمَّةٍ ". (1)
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يُعَوِّذُ الْحَسَنَ، وَالْحُسَيْنَ أُعِيذُكُمَا بِكَلِمَاتِ اللهِ التَّامَّةِ مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ , وَهَامَّةٍ , وَمِنْ كُلِّ عَيْنٍ لَامَّةٍ هَكَذَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ - صلى الله عليه وسلم - يُعَوِّذُ ابْنَيْهِ إِسْمَاعِيلَ , وَإِسْحَاقَ صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِمَا " (2)
قال أبو بكر ابن الأنباري:" الهامة: واحد الهوام، ويقال: هي كل نسمة تهم بسوء، واللامة: الملمة، وإنما قال: لامة ليوافقه لفظ هامة، فيكون أخف على اللسان " (3)
8 - عند النوم وعند الاستيقاظ من النوم:
عَنْ أَزْهَرَ بْنِ سَعِيدٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا أُمَامَةَ يَقُولُ: إِنَّ الشَّيْطَانَ يَأْتِي إِلَى فِرَاشِ أَحَدِكُمْ بَعْدَمَا يَفْرِشُهُ أَهْلُهُ وَيُهَيِّئُونَهُ، فَيُلْقِي عَلَيْهِ الْعُودَ أَوِ الْحَجَرَ أَوِ الشَّيْءَ، لِيُغْضِبَهُ عَلَى أَهْلِهِ، فَإِذَا وَجَدَ ذَلِكَ فَلَا يَغْضَبْ عَلَى أَهْلِهِ، قَالَ: لِأَنَّهُ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ" (4)
وعَنْ عَمْرِو بْنِ عَاصِمٍ الثَّقَفِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ، يَقُولُ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَخْبِرْنِي مَا أَقُولُ إِذَا أَصْبَحْتُ، وَإِذَا أَمْسَيْتُ، قَالَ: «قُلِ: اللَّهُمَّ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، رَبَّ كُلِّ شَيْءٍ وَمَلِيكَهُ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ نَفْسِي، وَمِنْ شَرِّ الشَّيْطَانِ وَشِرْكِهِ» قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «قُلْهُ إِذَا أَصْبَحْتَ وَإِذَا أَمْسَيْتَ وَإِذَا أَخَذْتَ مَضْجَعَكَ» (5)
__________
(1) - صحيح البخاري (4/ 147) (3371)
[ش (يعوذ) من التعويذ وهو الالتجاء والاستجارة. (التامة) الكاملة في فضلها وبركتها ونفعها. (هامة) كل حشرة ذات سم وقيل مخلوق يهم بسوء. (لامة) العين التي تصيب بسوء وتجمع الشر على المعيون. وقيل هي كل داء وآفة تلم بالإنسان]
(2) - شرح مشكل الآثار (7/ 325) (2885) صحيح
(3) - تلبيس إبليس:47.
(4) - الأدب المفرد مخرجا (ص:407) (1191) حسن
(5) - صحيح ابن حبان - مخرجا (3/ 242) (962) صحيح(1/358)
وعَنْ أَبِي الْأَزْهَرِ الْأَنْمَارِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ إذَا أَخَذَ مَضْجَعَهُ مِنَ اللَّيْلِ قَالَ:" بِسْمِ اللهِ وَضَعْتُ جَنْبِي اللهُمَّ اغْفِرْ ذَنْبِي وَأَخْسِئْ شَيْطَانِي وَفُكَّ رِهَانِي وَثَقِّلْ مِيزَانِي وَاجْعَلْنِي فِي النَّدِيِّ الْأَعْلَى " (1)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللهِ، عَلِّمْنِي كَلِمَاتٍ أَقُولُهُنَّ إِذَا أَصْبَحْتُ وَإِذَا أَمْسَيْتُ قَالَ:" قُلِ: اللهُمَّ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ رَبَّ كُلِّ شَيْءٍ وَمَلِيكَهُ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ نَفْسِي وَشَرِّ الشَّيْطَانِ وَشِرْكِهِ «قُلْهَا إِذَا أَصْبَحْتَ وَإِذَا أَمْسَيْتَ، وَإِذَا أَوَيْتَ إِلَى فِرَاشِكَ» (2)
وعَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: النَّوْمُ عِنْدَ الذِّكْرِ مِنَ الشَّيْطَانِ، إِنْ شِئْتُمْ فَجَرِّبُوا، إِذَا أَخَذَ أَحَدُكُمْ مَضْجَعَهُ وَأَرَادَ أَنْ يَنَامَ فَلْيَذْكُرِ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ" (3)
وعَنْ جَابِرٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - " إِذَا اسْتَيْقَظَ الْإِنْسَانُ مِنْ مَنَامِهِ ابْتَدَرَهُ مَلَكٌ وَشَيْطَانٌ، فَيَقُولُ الْمَلَكُ: افْتَحْ بِخَيْرٍ، وَيَقُولُ الشَّيْطَانُ: افْتَحْ بِشَرٍّ، فَإِذَا قَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَحْيَا نَفْسِي بَعْدَ مَوْتِهَا، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي {يُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [الحج:65]،وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي {يُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} طَرَدَ الْمَلَكُ الشَّيْطَانَ وَظَلَّ يَكْلَؤُهُ " (4)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «إِذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ مَنَامِهِ فَلْيَتَوَضَّأْ، وَلْيَسْتَنْثِرْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَبِيتُ عَلَى خَيَاشِيمِهِ» (5)
__________
(1) - شرح مشكل الآثار (1/ 104) (112) والمعجم الكبير للطبراني (22/ 298) (759) وسنن أبي داود (4/ 313) (5054) صحيح
أخسىء: خسأت الكلب: إذا طردته.=فك رهاني: الفك: التخليص. والرهان: جمع رهن. وأراد به: تخليصه مما نفسه مرتهنة به من حقوق الله تعالى.=الندي الأعلى: الندي: النادي، المجلس يجتمع فيه القوم، فإذا تفرقوا عنه فليس بناد ولا ندي. والمراد بالندي الأعلى: مجتمع الملائكة المقربين. ولهذا وصفه بالعلو.
(2) - السنن الكبرى للنسائي (7/ 137) (7644) صحيح
(3) - الأدب المفرد مخرجا (ص:414) (1208) صحيح
(4) - الدعاء للطبراني (ص:110) (286) صحيح -يكلؤه أَي يَحْرُسهُ ويحفظ
(5) - صحيح مسلم (1/ 212) 23 - (238)
[ش (خياشيمه) قال العلماء الخيشوم أعلى الأنف وقيل هو الأنف كله وقيل هي عظام رقاق لينة في أقصى الأنف بينه وبين الدماغ وقيل غير ذلك وهو اختلاف متقارب المعنى](1/359)
قَالَ (الكلاباذي) رحمه الله: " يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِبُعْدِهِ مِنْ مَوَاضِعِ التَّقَيُّدِ؛ فَإِنَّ الْعَيْنَ بَابُ النَّظَرِ إِلَى خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إِنَّ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ}، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} [الذاريات: 21]، وَقَالَ - صلى الله عليه وسلم -: «النَّظَرُ إِلَى الْكَعْبَةِ عِبَادَةٌ»، فَهِيَ بَابُ الْعَبْرَةِ، وَالْفَمُ بَابُ الذِّكْرِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأعراف: 69]، وَالْأُذُنُ بَابُ سَمَاعِ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَسَمَاعُ الْعِلْمِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [الزمر: 18]، وَلَيْسَ فِي الْخَيَاشِيمِ شَيْءٌ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اقْتِرَابُ الشَّيْطَانِ مِنَ الْإِنْسَانِ، وَمَوْضِعُ مَدْخَلِهِ فِيهِ إِمَّا عَنْ طَرِيقِ الْوَسْوَسَةِ، أَوْ جَرَيَانِهِ فِيهِ، فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنِ ابْنِ آدَمَ مَجْرَى الدَّمِ»، وَقَالَ فِي التَّثَاؤُبِ: «التَّثَاؤُبُ [ص: 108] فِي الصَّلَاةِ مِنَ الشَّيْطَانِ، فَإِذَا تَثَاءَبَ أَحَدُكُمْ فِي الصَّلَاةِ، فَلْيَكْظِمْ مَا اسْتَطَاعَ»، وَقَالَ: «فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَضْحَكُ فِي جَوْفِهِ»، فَأَخْبَرَ أَنَّ الشَّيْطَانَ يَدْخُلُ فِي جَوْفِ الْإِنْسَانِ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَدْخَلُهُ فِيهِ مِنْ طَرِيقِ الْخَيَاشِيمِ مِنْ طَرِيقِ الْوَسْوَسَةِ، وَهُوَ بَابٌ ظَاهِرٌ، وَيَقُولُ النَّاسُ لِمَنِ اسْتَخَفَّهُ أَمْرٌ، أَوْ ظَهَرَ فِيهِ كِبْرٌ: نَفَخَ الشَّيْطَانُ فِي مَنْخَرِهِ. وَقَالَ الْحَجَّاجُ فِي خُطْبَتِهِ: يَا أَهْلَ الْعِرَاقِ يَا أَهْلَ الشِّقَاقِ وَالنِّفَاقِ، قَدْ نَفَخَ الشَّيْطَانُ فِي مَنَاخِرِكُمْ، حَتَّى قُلْتُمْ: مَا بِالْحَجَّاجِ فَمَهْ، وَهَلْ يَرْجُو الْحَجَّاجُ الْخَيْرَ كُلَّهُ إِلَّا بَعْدَ الْمَوْتِ؟ وَهُوَ بَابٌ ظَاهِرٌ يَعْنِي الْخَيْشُومَ، لَيْسَ لَهُ طَبَقٌ، وَالْعَيْنُ وَالْفَمُ لَهُمَا طَبَقَانِ، وَمَا دُونَ الْإِزَارِ فَمَسْتُورٌ مِنَ الْمُسْلِمِ، وَلَا يَجِدُ الْعَدُوُّ إِلَيْهِ سَبِيلًا، كَمَا لَا يَجِدُ إِلَى السِّقَاءِ إِذَا أُوكِيَ، وَإِلَى الْبَابِ إِذَا غُلِّقَ. (1)
وعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «أَغْلِقُوا الْأَبْوَابَ، وَأَوْكُوا السِّقَاءَ، وَأَكْفِئُوا الْإِنَاءَ، وَخَمِّرُوا الْإِنَاءَ، وَأَطْفِئُوا الْمِصْبَاحَ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَفْتَحُ غَلَقًا، وَلَا يَحُلُّ وِكَاءً، وَلَا يَكْشِفُ إِنَاءً، وَإِنَّ الْفُوَيْسِقَةَ تُضْرِمُ عَلَى النَّاسِ بَيْتَهُمْ» (2)
__________
(1) - بحر الفوائد المسمى بمعاني الأخبار للكلاباذي (ص: 108)
(2) - الأدب المفرد مخرجا (ص: 419): (1221) صحيح(1/360)
وعَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إِذَا نِمْتَ فَأَغْلِقِ الْبَابَ، وَأَوْكِ السِّقَاءِ، وَخَمِّرِ الْإِنَاءَ، وَأَطْفِئِ السِّرَاجَ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَفْتَحُ غَلَقًا سُدَّ، وَلَا يَحُلُّ وِكَاءً، وَلَا يَكْشِفُ إِنَاءً، وَإِنَّ الْفُوَيْسِقَةَ تَضْرِمُ عَلَى النَّاسِ بُيُوتَهُمْ، فَإِنْ لَمْ تَجِدْ مَا تُخَمِّرُهُ بِهِ، فَأَعْرِضْ عَلَيْهِ وَلَوْ بِعُودٍ، وَاذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى» (1)
9 - التعوذ من الشيطان حتى آخر لحظة في الحياة:
إن الشيطان يحرص على إضلال العبد ويستمر في ذلك حتى عند الموت، فعَنْ أَبِي الْيَسَرِ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ التَّرَدِّي، وَالْهَدْمِ، وَالْغَرَقِ، وَالْحَرِيقِ، وَأَعُوذُ بِكَ أَنْ يَتَخَبَّطَنِي الشَّيْطَانُ عِنْدَ الْمَوْتِ، وَأَعُوذُ بِكَ أَنْ أَمُوتَ فِي سَبِيلِكَ مُدْبِرًا، وَأَعُوذُ بِكَ أَنْ أَمُوتَ لَدِيغًا» (2)
وعَنْ أَبِي الْيَسَرِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَدْعُو فَيَقُولُ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْهَرَمِ، وَالتَّرَدِّي، وَالْهَدْمِ، وَالْغَمِّ، وَالْحَرِيقِ، وَالْغَرَقِ، وَأَعُوذُ بِكَ أَنْ يَتَخَبَّطَنِي الشَّيْطَانُ عِنْدَ الْمَوْتِ، وَأَنْ أُقْتَلَ فِي سَبِيلِكَ مُدْبِرًا، وَأَعُوذُ بِكَ أَنْ أَمُوتَ لَدِيغًا» (3)
وعَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ السُّلَمِيِّ، هَكَذَا قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْهَدْمِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ التَّرَدِّي، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الْغَرَقِ، وَالْحَرِيقِ، وَأَعُوذُ بِكَ أَنْ يَتَخَبَّطَنِي الشَّيْطَانُ عِنْدَ الْمَوْتِ، وَأَعُوذُ بِكَ أَنْ أَمُوتَ فِي سَبِيلِكَ مُدْبِرًا، وَأَعُوذُ بِكَ أَنْ أَمُوتَ لَدِيغًا» (4)
وعَنْ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " احْضَرُوا مَوْتَاكُمْ وَلَقِّنُوهُمْ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَبَشِّرُوهُمْ بِالْجَنَّةِ، فَإِنَّ الْحَلِيمَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ يَتَحَيَّرُونَ عِنْدَ ذَلِكَ الْمَصْرَعِ، وَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَأَقْرَبُ مَا يَكُونُ مِنِ ابْنِ آدَمَ عِنْدَ ذَلِكَ الْمَصْرَعِ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيدِهِ، لَمُعَايَنَةِ
__________
(1) - بحر الفوائد المسمى بمعاني الأخبار للكلاباذي (ص: 108) صحيح
(2) - سنن النسائي (8/ 283) (5532) صحيح
يتخبطني: تخبطه الشيطان: إذا صرعه ولعب به، والخبط باليدين كالرمح بالرجلين. =مدبرا: المدبر: المنهزم في الجهاد، المولي دبره. =لديغا: اللديغ: الملدوغ، فعيل بمعنى: مفعول.
(3) - سنن النسائي (8/ 282) (5531) صحيح
(4) - سنن النسائي (8/ 283) (5533) صحيح(1/361)
مَلَكِ الْمَوْتِ أَشَدُّ مِنْ أَلْفِ ضَرْبَةٍ بِالسَّيْفِ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيدِهِ، لَا تَخْرُجُ نَفْسُ عَبْدٍ مِنَ الدُّنْيَا حَتَّى يَأْلَمَ كُلُّ عِرْقٍ مِنْهُ عَلَى حِيَالِهِ " (1)
وعَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سَمِعْتُ الْحَارِثَ بْنَ الْخَزْرَجِ الْأَنْصَارِيَّ يَقُولُ: حَدَّثَنِي أَبِي: أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَطْلُبُ إِلَى مَلَكِ الْمَوْتِ عَلَيْهِ السَّلَامُ عِنْدَ رَأْسِ رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ فَقَالَ: «يَا مَلَكَ الْمَوْتَ ارْفُقْ بِصَاحِبِي، فَإِنَّهُ مُؤْمِنٌ» قَالَ مَلَكُ الْمَوْتِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: يَا مُحَمَّدُ طِبْ نَفْسًا وَقَرَّ عَيْنًا، فِإِنِّي بِكُلِّ مُؤْمِنٍ رَفِيقٌ، وَاعْلَمْ يَا مُحَمَّدُ أَنِي لَأَقْبِضُ رُوحَ ابْنِ آدَمَ، فَإِذَا صَرَخَ صَارِخٌ مِنْ أَهْلِهِ قُمْتُ فِي جَانِبِ الدَّارِ، وَمَعِي رُوحُهُ، فَقُلْتُ: مَا هَذَا الصِّيَاحُ؟ فَوَاللَّهِ مَا ظَلَمْنَاهُ، ولَاَ سَبَقْنَا أَجَلَهُ ولَاَ اسْتَعْجَلْنَا قَدَرَهُ، وَمَا لَنَا فِي قَبْضِهِ مِنْ ذَنْبٍ، فَإِنْ تَرْضُوا بِمَا يَصْنَعُ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ وَتَصْبِرُوا تُؤْجَرُو، وَإِنْ أَنْتُمْ تَجْزَعُونَ وَتَسْخَطُونَ تَأْثَمُونَ، وَتُؤْزَرُونَ وَمَا لَكُمْ عِنْدَنَا مِنْ عُتْبَى، وَإِنَّ لَنَا عِنْدَكُمْ لَبُغْيَةُ عَوْدَةٍ، فَالْحَذَرَ الْحَذَرَ وَالنَّجَاةَ النَّجَاةَ، وَمَا مِنْ أَهْلِ بَيْتِ شَعْرٍ وَلَا مَدَرٍ وَلَا سَهْلٍ وَلَا جَبَلٍ وَلَا بَحْرٍ إِلَّا وَأَنَا أَتَصَفَّحُهُمْ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ حَتَّى إِنِّي لَأَعْرَفُ بِصَغِيرِهِمْ وَكَبِيرِهِمْ مِنْهُمْ بِأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهِ لَوْ أَرَدْتُ أَنْ أَقْبِضَ رُوحَ بَعُوضَةٍ مَا قَدَرْتُ حَتَّى يَكُونَ الَّلُه عَزَّ وَجَلَّ هُوَ الْآمِرَ بِقَبْضِهَا "قَالَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ: بَلَغَنِي أَنَّهُ يتَصَفَّحُهُمْ عِنْدَ مَوَاقِيتِ الصَّلَوَاتِ فَإِذَا حَضَرَ عَبْدًا الْمَوْتُ فَمَنْ كَانَ يُحَافِظُ عَلَى الصَّلَاةِ دَنَا مِنْهُ الْمَلكُ وَتَبَاعَدَ الشَّيْطَانُ وَلَقَّنَهُ مَلَكُ الْمَوْتِ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّلُه فِي ذَلِكَ الْحَالِ " (2)
وعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: «كَانَتْ قَرْيَتَانِ إِحْدَاهُمَا صَالِحَةٌ، وَالْأُخْرَى ظَالِمَةٌ، فَخَرَجَ رَجُلٌ مِنَ الْقَرْيَةِ الظَّالِمَةِ يُرِيدُ الْقَرْيَةَ الصَّالِحَةَ، فَأَتَاهُ الْمَوْتُ حَيْثُ شَاءَ اللَّهُ، فَاخْتَصَمَ فِيهِ الْمَلَكُ وَالشَّيْطَانُ، فَقَالَ الشَّيْطَانُ: وَاللَّهِ مَا عَصَانِي قَطُّ، فَقَالَ الْمَلَكُ: إِنَّهُ قَدْ خَرَجَ يُرِيدُ التَّوْبَةَ، فَقَضَى بَيْنَهُمَا أَنْ يَنْظُرَ إِلَى أَيِّهِمَا أَقْرَبُ، فَوَجَدُوهُ أَقْرَبَ إِلَى الْقَرْيَةِ الصَّالِحَةِ بِشِبْرٍ فَغُفِرَ لَهُ»، قَالَ مَعْمَرٌ: «وَسَمِعْتُ مَنْ يَقُولُ: قَرَّبَ اللَّهُ إِلَيْهِ الْقَرْيَةَ الصَّالِحَةَ» (3)
__________
(1) - حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (5/ 186) فيه ضعف
(2) - الآحاد والمثاني لابن أبي عاصم (4/ 251) (2254) حسن
(3) - جامع معمر بن راشد (11/ 284) (20550) صحيح(1/362)
وعَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ يَقُولُ: " بَيْنَمَا رَجُلٌ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ فِي قَوْمٍ كُفَّارٍ، وَكَانَ فِيمَا يَلِيهِمْ قَوْمٌ صَالِحُونَ، فَقَالَ الرَّجُلُ: طَالَمَا كُنْتُ فِي كُفْرِي، وَاللَّهِ لَآتِيَنَّ هَذِهِ الْقَرْيَةَ - يَعْنِي الصَّالِحَةَ - فَأَكُونَنَّ رَجُلًا مِنْهُمْ، فَانْطَلَقَ، فَأَدْرَكَهُ أَجَلُهُ، وَاحْتَجَّ فِيهِ الْمَلَكُ وَالشَّيْطَانُ، قَالَ هَذَا: أَنَا أَوْلَى بِهِ، وَقَالَ هَذَا: أَنَا أَوْلَى بِهِ، فَقَيَّضَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُمَا بَعْضَ جُنُودِهِ، فَقَالَ: قِيسُوا مَا بَيْنَ الْقَرْيَتَيْنِ، فَإِلَى أَيَّتِهِمَا كَانَ أَقْرَبَ، فَهُوَ مِنْ أَهْلِهَا، فَقَاسُوا مَا بَيْنَهُمَا، فَكَانَ أَقْرَبَ إِلَى الْقَرْيَةِ الصَّالِحَةِ بِشِبْرٍ، فَكَانَ مِنْهُمْ " (1)
وقَالَ صَالِحُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ: لَمَّا حَضَرَتْ أَبِي الْوَفَاةُ فَجَلَسْتُ عِنْدَهُ وَالْخِرْقَةُ بِيَدِي أَشَدُّ بِهَا لِحْيَتِهِ قَالَ: فَجَعَلَ يَغْرِقُ ثُمَّ يُفِيقُ وَيَفْتَحُ عَيْنَيْهِ، وَيَقُولُ بِيَدِهِ هَكَذَا: " لَا بَعْدُ لَا بَعْدُ لَا بَعْدُ فَفَعَلَ هَذَا مَرَّةً، وَثَانِيَةً فَلَمَّا كَانَ فِي الثَّالِثَةِ قُلْتُ: يَا أَبَة إِيشْ هَذَا الَّذِي لَهَجْتَ بِهِ فِي هَذَا الْوَقْتِ؟ فَقَالَ: يَا بُنَيَّ، أَمَا تَدْرِي قُلْتُ: لَا فَقَالَ: إِبْلِيسُ - لَعَنَهُ اللهُ - قَائِمٌ بِحِذَائِي عَاضٌّ عَلَى أَنَامِلِهِ يَقُولُ: يَا أَحْمَدُ فُتَّنِي فَأَقُولُ لَا حَتَّى أَمُوتَ ". (2)
وعَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ قَالَ: " تَبَدَّى إِبْلِيسُ لِرَجُلٍ عِنْدَ الْمَوْتِ فَقَالَ: نَجَوْتَ قَالَ مَا نَجَوْتُ وَمَا أَمِنْتُكَ بَعْدُ " (3)
وعَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ رَفِيعٍ قَالَ: إِذَا عُرِجَ بِرُوحِ الْمُؤْمِنِ إِلَى السَّمَاءِ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ: سُبْحَانَ الَّذِي نَجَّى هَذَا الْعَبْدَ مِنَ الشَّيْطَانِ، يَا وَيْحَهُ كَيْفَ نَجَا؟ " (4)
قلت: قال تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم: 27]
فَهُوَ تَعَالَى قَدْ ثَبَّتَهُمْ بِالكَلِمَةِ الطَّيِّبَةِ التِي ذَكَرَهَا اللهُ مُدَّةَ حَيَاتِهِمْ - إِذَا أَرَادَ أَحَدٌ فِتْنَتَهُمْ وَصَرْفَهُمْ عَنش الإِيمَانِ - كَمَا يُثَبِّتُهُمْ بَعْدَ المَوْتِ فِي القَبْرِ.
__________
(1) - الزهد والرقائق لابن المبارك والزهد لنعيم بن حماد (1/ 372) (1057) صحيح موقوف ومثله لا يقال بالرأي
(2) - شعب الإيمان (2/ 257) (826) وحلية الأولياء وطبقات الأصفياء (9/ 183) صحيح
(3) - شعب الإيمان (2/ 257) (827) فيه جهالة
(4) - الزهد لأحمد بن حنبل (ص: 138) (937) صحيح مقطوع
وقد وقع خطأ فاحش في السند فجاء سريج بن يونس حَدَّثَنَا عُيَيْنَةُ، عَنْ عَبْدِ الْوَاحِدِ، عَنْ مَالِكِ بْنِ مِغْوَلٍ، والصواب عنبسة بن عبد الواحد عن مالك بن مغول(1/363)
أَمَّا الكُفَّارُ الظَّالِمُونَ، الذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بِتَبْدِيلِ فِطْرَةِ اللهِ التِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا، وَعَدَمِ اهْتِدَائِهِمْ إِلَى القَوْلِ الثَّابِتِ، فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى يُضِلُّهُمْ عَنِ الحَقِّ. وَاللهُ تَعَالَى بِيَدِهِ الهِدَايَةُ وَالضَّلاَلُ. (1)
10 - إخراج الصدقة يطرد وسوسة الشيطان:
عَنِ ابْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ , - صلى الله عليه وسلم -: لا يُخْرِجُ رَجُلٌ شَيْئًا مِنَ الصَّدَقَةِ حَتَّى يَفُكَّ عَنْهَا لَحْيَيْ سَبْعِينَ شَيْطَانًا. (2)
وعَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: «مَا عَلَى الْأَرْضِ مِنْ صَدَقَةٍ تَخْرُجُ حَتَّى تُفَكَّ عَنْهَا لِحَى سَبْعِينَ شَيْطَانًا، كُلُّهُمْ يَنْهَاهُ عَنْهَا» (3)
11 - عند دخول المسجد:
عَنْ حَيْوَةَ بْنِ شُرَيْحٍ، قَالَ: لَقِيتُ عُقْبَةَ بْنَ مُسْلِمٍ، فَقُلْتُ لَهُ: بَلَغَنِي أَنَّكَ حَدَّثْتَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ كَانَ إِذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ قَالَ: «أَعُوذُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ، وَبِوَجْهِهِ الْكَرِيمِ، وَسُلْطَانِهِ الْقَدِيمِ، مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ»، قَالَ: أَقَطْ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: فَإِذَا قَالَ: ذَلِكَ قَالَ الشَّيْطَانُ: حُفِظَ مِنِّي سَائِرَ الْيَوْمِ " (4)
12 - التعوذ عند الليل وفي السفر وعند النزول في منزل:
عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا غَزَا أَوْ سَافَرَ فَأَدْرَكَهُ اللَّيْلُ، قَالَ: «يَا أَرْضُ، رَبِّي وَرَبُّكِ اللهُ، أَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شَرِّكِ، وَشَرِّ مَا فِيكِ، وَشَرِّ مَا خَلَقَ
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد (ص: 1778) بترقيم الشاملة آليا
(2) - أمالي ابن بشران - الجزء الثاني (ص: 347) (1651) صحيح، وقد ضعفه عدد من العلماء لأن الأعمش لم يسمعه من سليمان بن بريدة، وفاتهم أنه رواه عن عبد الله بن السائب وهو ثقة عن ابن بريدة ووهم الألباني رحمه الله فصححه فبي صَحِيح الْجَامِع (5814) والصحيحة (1268) دون أن ينتبه لما ذكر.
وقوله: "لَحْيَي سبعين شيطاناً"، اللَّحْيُ: منبِت اللِّحْية من الإنسان وغيره، أو العظمان اللذان فيهما الأسنان من كل ذي لَحْي.
(3) - الزهد والرقائق لابن المبارك والزهد لنعيم بن حماد (1/ 228) (649) حسن موقوف وهو بمعنى المرفوع
(4) - سنن أبي داود (1/ 127) (466) صحيح
وَسُلْطَانِهِ الْقَدِيمِ: الْأَزَلِيّ الْأَبَدِيّ. = الرَّجِيمِ: الْمَطْرُود مِنْ بَاب اللَّه، أَوْ الْمَشْتُوم بِلَعْنَةِ اللَّه = الشَّيْطَان الْمُرَاد: هُو قَرِينه الْمُوَكَّل بإِغْوَائِهِ.(1/364)
فِيكِ، وَشَرِّ مَا عَلَيْكِ، أَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شَرِّ كُلِّ أَسَدٍ، وَأَسْوَدَ وَحَيَّةٍ وَعَقْرَبٍ وَمِنْ سَاكِنِ الْبَلَدِ، وَمِنْ شَرِّ وَالِدٍ وَمَا وَلَدَ» (1)
وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا سَافَرَ فَأَقْبَلَ اللَّيْلُ قَالَ: «يَا أَرْضُ، رَبِّي وَرَبُّكِ اللهُ، أَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شِرِّكِ، وَمِنْ شَرِّ مَا فِيكِ، وَشَرِّ مَا خَلَقَ فِيكِ، وَشَرِّ مَا يَدِبُّ عَلَيْكِ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ أَسَدٍ وَأَسْوَدٍ، مِنَ الْحَيَّةِ وَالْعَقْرَبِ، وَمَنْ سَاكِنِ الْبَلَدِ، وَمَنْ وَالِدٍ وَمَا وَلَدٍ» (2)
13 - التعوذ عند دخول بلد:
عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي مَرْوَانَ , عَنْ أَبِيهِ أَنَّ كَعْبًا , حَدَّثَهُ أَنَّ صُهَيْبًا صَاحِبَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - حَدَّثَهُ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - لَمْ يَرَ قَرْيَةً يُرِيدُ دُخُولَهَا إِلَّا قَالَ حِينَ يَرَاهَا: " اللهُمَّ رَبَّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَمَا أَظْلَلْنَ , وَرَبَّ الْأَرَضِينَ السَّبْعِ وَمَا أَقْلَلْنَ وَرَبَّ الشَّيَاطِينِ وَمَا أَضْلَلْنَ , وَرَبَّ الرِّيَاحِ وَمَا ذَرَيْنَ فَإِنَّا نَسْأَلُكَ خَيْرَ هَذِهِ الْقَرْيَةِ , وَخَيْرَ أَهْلِهَا وَنَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّهَا وَشَرِّ أَهْلِهَا وَشَرِّ مَا فِيهَا " (3)
وعَنْ أَبِي سُهَيْلِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ كَانَ يَسْمَعُ قِرَاءَةَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَهُوَ يَؤُمُّ النَّاسَ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ دَارِ أَبِي جَهْمٍ، وَقَالَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ: وَالَّذِي فَلَقَ الْبَحْرَ لِمُوسَى، لَإنَّ صُهَيْبًا حَدَّثَنِي، أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لَمْ يَرَ قَرْيَةً يُرِيدُ دُخُولَهَا إِلَّا قَالَ حِينَ يَرَاهَا: «اللهُمَّ رَبَّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَمَا أَظْلَلْنَ، وَرَبَّ الْأَرَضِينَ السَّبْعِ وَمَا أَقْلَلْنَ، وَرَبَّ الشَّيَاطِينِ وَمَا أَضْلَلْنَ، وَرَبَّ الرِّيَاحِ وَمَا ذَرَيْنَ، فَإِنَّا نَسْأَلُكَ خَيْرَ هَذِهِ الْقَرْيَةِ، وَخَيْرَ أَهْلِهَا، وَنَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّهَا، وَشَرِّ أَهْلِهَا وَشَرِّ مَا فِيهَا» وَحَلَفَ كَعْبٌ بِالَّذِي فَلَقَ الْبَحْرَ لِمُوسَى، لَإِنَّهَا كَانَتْ دَعَوَاتُ دَاوُدَ حِينَ يَرَى الْعَدُوَّ (4)
__________
(1) - السنن الكبرى للنسائي (7/ 203) (7813) حسن
(2) - السنن الكبرى للنسائي (9/ 208) (10322) حسن
(3) - السنن الكبرى للبيهقي (5/ 414) (10320) صحيح
(4) - السنن الكبرى للنسائي (9/ 200) (10301) صحيح(1/365)
14 - التعوذ عند ركوب الدابة:
عَنْ أَبِي لَاسٍ الْخُزَاعِيِّ , قَالَ: حَمَلَنَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى إِبِلِ مِنْ إِبِلِ الصَّدَقَةِ ضِعَافٍ لِلْحَجِّ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ مَا نَرَى أَنْ تَحْمِلَنَا هَذِهِ , فَقَالَ: " مَا مِنْ بَعِيرٍ إِلَّا عَلَى ذِرْوَتِهِ شَيْطَانٌ , فَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ إِذَا رَكِبْتُمُوهَا كَمَا أَمَرَكُمْ , ثُمَّ امْتَهِنُوهَا لِأَنْفُسِكُمْ فَإِنَّمَا يَحْمِلُ اللهُ " (1)
وعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ , قَالَ: " إِذَا رَكِبَ الرَّجُلُ الدَّابَّةَ فَلَمْ يَذْكُرِ اسْمَ اللهِ رَدِفَهُ الشَّيْطَانُ , فَقَالَ لَهُ: تَغَنَّ , فَإِنْ لَمْ يُحْسِنْ , قَالَ لَهُ: تَمَنَّ " (2)
وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ شَرَاحِيلَ قَالَ: سَمِعْتُ عُقْبَةَ بْنَ عَامِرٍ، يَقُولُ: قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «مَا مِنْ رَاكِبٍ يَخْلُو فِي مَسِيرِهِ بِاللهِ وَذِكْرِهِ إِلَّا رَدَفَهُ مَلَكٌ، وَلَا يَخْلُو بِشِعْرٍ وَنَحْوِهِ إِلَّا رَدَفَهُ شَيْطَانٌ» (3)
15 - التعوذ من شر شياطين الإنس والجن:
عَنْ أَبِي ذَرٍّ، قَالَ: دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ وَرَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فِيهِ فَجِئْتُ فَجَلَسْتُ إِلَيْهِ قَالَ: «يَا أَبَا ذَرٍّ تَعَوَّذْ بِاللهِ مِنْ شَرِّ شَيَاطِينِ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ» قُلْتُ: وَلِلْإِنْسِ شَيَاطِينُ؟ قَالَ: «نَعَمْ» (4)
16 - الأذان عند تغول الغيلان:
عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «عَلَيْكُمْ بِالدُّلْجَةِ، فَإِنَّ الْأَرْضَ تُطْوَى بِاللَّيْلِ، فَإِذَا تَغَوَّلَتْ لَكُمُ الْغِيلَانُ فَنَادُوا بِالْأَذَانِ» (5)
وعَنِ الْحَسَنِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إِذَا أَخْصَبْتُمْ فَأَمْكِنُوا الدَّوَابِّ أَسْنِمَتَهَا، وَلَا تَعْدُوا الْمَنَازِلَ، وَإِذَا أَجْدَبْتُمْ فَسِيرُوا، وَعَلَيْكُمْ بِالدُّلْجَةِ، فَإِنَّ الْأَرْضَ تُطْوَى بِاللَّيْلِ، وَلَا تَنْزِلُوا عَلَى
__________
(1) - السنن الكبرى للبيهقي (5/ 414) (10319) والآداب للبيهقي (ص: 263) (641) حسن - امتهن الشيء: ابتذله واستخدمه
(2) - السنن الكبرى للبيهقي (5/ 413) (10318) صحيح موقوف -"ردفه الشيطانُ": أى ركب خلفه.
(3) - المعجم الكبير للطبراني (17/ 324) (895) صحيح
(4) - السنن الكبرى للنسائي (7/ 230) (7891) وبغية الباحث عن زوائد مسند الحارث (1/ 195) (53) وغاية المقصد فى زوائد المسند 2 (1/ 438) (3588) حسن لغيره
(5) - السنن الكبرى للنسائي (9/ 349) (10725) وكشف الأستار عن زوائد البزار- مؤسسة الرسالة (4/ 34) (3129) حسن لغيره(1/366)
جَوَادِّ الطَّرِيقِ، فَإِنَّهَا مَأْوَى الْحَيَّاتِ وَالسِّبَاعِ، وَإِيَّاكُمْ وَقَضَاءَ الْحَاجَةِ عَلَيْهَا فَإِنَّهَا مِنَ الْمَلَاعِنِ، وَإِذَا تَغَوَّلَتِ الْغِيلَانُ لَكُمْ فَأَذِّنُوا» (1)
وعَنْ أُسَيْرِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: ذُكِرَ عِنْدَ عُمَرَ، الْغِيلَانُ فَقَالَ: «إِنَّهُ لَا يَتَحَوَّلُ شَيْءٌ عَنْ خَلْقِهِ الَّذِي خُلِقَ لَهُ، وَلَكِنْ فِيهِمْ سَحَرَةٌ مِنْ سَحَرَتِكُمْ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَأَذِّنُوا» (2)
17 - النهي عن الوحدة في السفر والمبيت:
عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: خَرَجَ رَجُلٌ مِنْ خَيْبَرَ، فَاتَّبَعَهُ رَجُلانِ وَآخَرُ يَتْلُوهُمَا، يَقُولُ: ارْجِعَا ارْجِعَا، حَتَّى رَدَّهُمَا، ثُمَّ لَحِقَ الْأَوَّلَ فَقَالَ: إِنَّ هَذَيْنِ شَيْطَانَانِ، وَإِنِّي لَمْ أَزَلْ بِهِمَا حَتَّى رَدَدْتُهُمَا، فَإِذَا أَتَيْتَ رَسُولَ اللهِ فَأَقْرِئْهُ السَّلامَ، وَأَخْبِرْهُ أَنَّا هَاهُنَا فِي جَمْعِ صَدَقَاتِنَا، وَلَوْ كَانَتْ تَصْلُحُ لَهُ، لَبَعَثْنَا بِهَا إِلَيْهِ. قَالَ: فَلَمَّا قَدِمَ الرَّجُلُ الْمَدِينَةَ، أَخْبَرَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فَعِنْدَ ذَلِكَ " نَهَى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنِ الْخَلْوَةِ " (3)
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ رَجُلًا خَرَجَ فَتَبِعَهُ رَجُلانِ، وَرَجُلٌ يَتْلُوهُمَا، يَقُولُ: ارْجِعَا، قَالَ: فَرَجَعَا، قَالَ: فَقَالَ لَهُ: إِنَّ هَذَيْنِ شَيْطَانَانِ، وَإِنِّي لَمْ أَزَلْ بِهِمَا حَتَّى رَدَدْتُهُمَا، فَإِذَا أَتَيْتَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَأَقْرِئْهُ السَّلامَ، وَأَعْلِمْهُ أَنَّا فِي جَمْعِ صَدَقَاتِنَا، وَلَوْ كَانَتْ تَصْلُحُ لَهُ، لَأَرْسَلْنَا بِهَا إِلَيْهِ، قَالَ: " فَنَهَى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، عِنْدَ ذَلِكَ عَنِ الْخَلْوَةِ " (4)
وعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، أَنَّ رَجُلًا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ صَحِبْتَ؟» فَقَالَ: مَا صَحِبْتُ أَحَدًا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «الرَّاكِبُ شَيْطَانٌ، وَالرَّاكِبَانِ شَيْطَانَانِ، وَالثَّلَاثَةُ رَكْبٌ» (5)
__________
(1) - مصنف عبد الرزاق الصنعاني (5/ 160) (9247) صحيح مرسل
(2) - مصنف عبد الرزاق الصنعاني (5/ 162) (9249) صحيح
(3) - مسند أحمد ط الرسالة (4/ 451) (2719) صحيح
(4) - مسند أحمد ط الرسالة (4/ 308) (2510) صحيح لغيره(1/367)
وعَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: «لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي الوَحْدَةِ مَا أَعْلَمُ، مَا سَارَ رَاكِبٌ بِلَيْلٍ وَحْدَهُ» (1)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: الشَّيْطَانُ يَهِمُّ بِالْوَاحِدِ وَالاثْنَيْنِ، فَإِذَا كَانُوا ثَلاثَةً لَمْ يَهِمَّ بِهِمْ. (2)
وعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «الشَّيْطَانُ يَهُمُّ بِالْوَاحِدِ وَالْاثْنَيْنِ، فَإِذَا كَانُوا ثَلَاثَةً لَمْ يَهُمَّ بِهِمْ» (3)
وعَنِ ابْنِ عُمَرَ، " أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عَنِ الْوَحْدَةِ، أَنْ يَبِيتَ الرَّجُلُ وَحْدَهُ أَوْ يُسَافِرَ وَحْدَهُ " (4)
18 - التعوذ من الشيطان الخواطر الشيطانية:
عَنْ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " إِنَّ لِلشَّيْطَانِ لِمَّةً، وَلِلْمَلَكِ لِمَّةً، فَأَمَّا لِمَّةُ الشَّيْطَانِ فَإِيعَادٌ بِالشَّرِّ، وَتَكْذِيبٌ بِالْحَقِّ، وَأَمَّا لِمَّةُ الْمَلَكِ فَإِيعَادٌ بِالْخَيْرِ، وَتَصْدِيقٌ بِالْحَقِّ، فَمَنْ وَجَدَ مِنْ ذَلِكَ فَلْيَعْلَمْ أَنَّهُ مِنَ اللهِ، فَلْيَحْمَدِ اللهَ، وَمَنْ وَجَدَ مِنَ الْآخَرِ فَلْيَتَعَوَّذْ مِنَ الشَّيْطَانِ، ثُمَّ قَرَأَ {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا} [البقرة: 268] (5)
وعَنِ الْمُسَيَّبِ بْنِ رَافِعٍ، حَدَّثَنِي أَبُو إِيَاسٍ الْبَجَلِيُّ قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ، يَقُولُ: مَنْ تَطَاوَلَ تَنْظِيمًا خَفَضَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَمَنْ تَوَاضَعَ لِلَّهِ تَخَشُّعًا رَفَعَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَإِنَّ لِلْمَلِكِ لُمَّةً وَلِلشَّيْطَانِ لُمَّةً، فَلُمَّةُ الْمَلِكِ إِيعَادٌ بِالْخَيْرِ وَتَصْدِيقٌ بِالْحَقِّ، فَإِذَا
__________
(1) - المستدرك على الصحيحين للحاكم (2/ 112) (2495) صحيح
قَالَ أبُو سُليْمان الْخطابِيّ: مَعْنَاهُ، واللهُ أعْلمُ، أَن التفرُّد والذهاب وَحده فِي الأرْض من فعل الشّيْطان، أوْ هُو شَيْء يحملهُ عليْهِ الشّيْطان، فَقيل على هَذَا: إِن فَاعله شيْطان.
قَالَ الإِمامُ: معنى الْحدِيث عِنْدِي مَا رُوِي عنْ سعِيد بْن الْمُسيِّبِ، مُرسلا، عنْ رسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «الشّيْطانُ يهُمُّ بالواحِدِ وبالاثْنيْنِ، فَإِذا كانُوا ثَلَاثَة لمْ يهمُمْ بِهِمْ» شرح السنة للبغوي (11/ 22)
(2) - صحيح البخاري (4/ 58) (2998) [ش (ما في الوحدة) الانفراد. (ما أعلم) من المخاطر]
(7) - كشف الأستار عن زوائد البزار- مؤسسة الرسالة (2/ 277) (1698) ومسند البزار = البحر الزخار (14/ 253) (7834) حسن
(3) - موطأ مالك ت عبد الباقي (2/ 978) (36) صحيح مرسل
(4) - مسند أحمد ط الرسالة (9/ 466) (5650) وسلسلة الأحاديث الصحيحة وشيء من فقهها وفوائدها (1/ 129) (60) وصححه وقال الشيخ شعيب إنه شاذ!!
(5) - الزهد لأحمد بن حنبل (ص: 129) (854) صحيح موقوف(1/368)
رَأَيْتُمْ ذَلِكَ فَاحْمَدُوا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ، وَلُمَّةُ الشَّيْطَانِ إِيعَادٌ بِالشَّرِّ وَتَكْذِيبٌ بِالْحَقِّ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ ذَلِكَ فَتَعَوَّذُوا بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ " (1)
وعَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: إِنَّ لِلْمَلِكِ لَمَّةً، وَإِنَّ لِلشَّيْطَانِ لَمَّةً، فَلَمَّةُ الْمَلِكِ إِيعَادٌ بِالْخَيْرِ وَتَصْدِيقٌ بِالْحَقِّ، فَمَنْ وَجَدَهَا فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ، وَلَمَّةُ الشَّيْطَانِ إِيعَادٌ بِالشَّرِّ، وَتَكْذِيبٌ بِالْحَقِّ، فَمَنْ وَجَدَهَا فَلْيَسْتَعِذْ بِاللَّهِ. (2)
19 - التعوذ من الشيطان في الصلاة:
عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، أَنَّهُ كَانَ يَتَعَوَّذُ فِي الصَّلاَةِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ مِنْ نَفْخِهِ وَنَفْثِهِ وَهَمْزِهِ" (3)
وعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ، يَقُولُ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، وَهَمْزِهِ، وَنَفْخِهِ، وَنَفْثِهِ» قَالَ: " فَهَمْزُهُ: الْمَوْتَةُ، وَنَفْثُهُ: الشِّعْرُ، وَنَفْخُهُ: الْكِبْرِيَاءُ. (4)
أشياء أخرى تدفع الشيطان:
1 - قراءة سورتي الفلق والناس:
وخير ما يتعوذ به المتعوذون سورتا الفلق والناس، فعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ الْجُهَنِيِّ قَالَ: بَيْنَا أَنَا أَقُودُ بِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - رَاحِلَتَهُ فِي غَزْوَةٍ إِذْ قَالَ: «يَا عُقْبَةُ، قُلْ فَاسْتَمَعْتُ»، ثُمَّ قَالَ: «يَا عُقْبَةُ، قُلْ فَاسْتَمَعْتُ»، فَقَالَهَا الثَّالِثَةَ، فَقُلْتُ: مَا أَقُولُ؟، فَقَالَ: «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ» فَقَرَأَ السُّورَةَ حَتَّى خَتَمَهَا، ثُمَّ قَرَأَ: «قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ» وَقَرَأْتُ مَعَهُ حَتَّى خَتَمَهَا، ثُمَّ قَرَأَ «قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ» فَقَرَأْتُ مَعَهُ حَتَّى خَتَمَهَا، ثُمَّ قَالَ: «مَا تَعَوَّذَ بِمِثْلِهِنَّ أَحَدٌ» (5)
__________
(1) - السنن الكبرى للنسائي (10/ 37) (10985) صحيح
اللمة: المرة الواحدة من الإلمام، وهو القرب من الشيء، والمراد بها: الهمة التي تقع في القلب من فعل الخير والشر والعزم عليه.
(2) - الزهد لأبي داود (ص: 164) (164) صحيح موقوف
(3) - مسند أبي الطيالسي -طبعة دار هجر - مصر (1/ 210) (369) صحيح
(4) - المستدرك على الصحيحين للحاكم (1/ 325) (749) والسنن الكبرى للبيهقي (2/ 54) (2356) صحيح
(5) - سنن النسائي (8/ 251) (5430) صحيح(1/369)
وعَنْ مُعَاذِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: أَصَابَنَا طَشٌّ وَظُلْمَةٌ، فَانْتَظَرْنَا رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لِيُصَلِّيَ بِنَا، ثُمَّ ذَكَرَ كَلَامًا مَعْنَاهُ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لِيُصَلِّيَ بِنَا، فَقَالَ: «قُلْ» فَقُلْتُ: مَا أَقُولُ؟، قَالَ: «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، وَالْمُعَوِّذَتَيْنِ حِينَ تُمْسِي، وَحِينَ تُصْبِحُ، ثَلَاثًا يَكْفِيكَ كُلَّ شَيْءٍ» (1)
وعَنْ مُعَاذِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خُبَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كُنْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي طَرِيقِ مَكَّةَ، فَأَصَبْتُ خُلْوَةً مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَدَنَوْتُ مِنْهُ، فَقَالَ: «قُلْ» فَقُلْتُ: مَا أَقُولُ؟، قَالَ: «قُلْ» قُلْتُ: مَا أَقُولُ؟، قَالَ: «قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ حَتَّى خَتَمَهَا»، ثُمَّ قَالَ: «قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ حَتَّى خَتَمَهَا»، ثُمَّ قَالَ: «مَا تَعَوَّذَ النَّاسُ بِأَفْضَلَ مِنْهُمَا» (2)
وعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ الْجُهَنِيِّ، قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «قُلْ» قُلْتُ: وَمَا أَقُولُ؟ قَالَ: «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ، قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ» فَقَرَأَهُنَّ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، ثُمَّ قَالَ: «لَمْ يَتَعَوَّذِ النَّاسُ بِمِثْلِهِنَّ، أَوْ لَا يَتَعَوَّذُ النَّاسُ بِمِثْلِهِنَّ» (3)
وعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، قَالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ رَاكِبٌ فَوَضَعْتُ يَدَيَّ عَلَى قَدَمِهِ فَقُلْتُ: أَقْرِئْنِي سُورَةَ هُودٍ أَوْ سُورَةَ يُوسُفَ، فَقَالَ: «لَنْ تَقْرَأَ شَيْئًا أَبْلَغَ عِنْدَ اللهِ مِنْ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ» (4)
وعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ: أَقْرِئْنِي مِنْ سُورَةِ يُوسُفَ أَوْ سُورَةِ هُودٍ قَالَ: «يَا عُقْبَةُ، اقْرَأْ بِقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ فَإِنَّكَ لَنْ تَقْرَأَ سُورَةً أَحَبَّ إِلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَأَبْلَغَ عِنْدَهُ مِنْهَا، فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ لَا تَفُوتَكَ فَافْعَلْ» (5)
وعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ، أَخْبَرَنِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ ابْنَ عَابِسٍ الْجُهَنِيِّ أَخْبَرَه، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ لَهُ: " يَا ابْنَ عَابِسٍ أَلَا أَدُلُّكَ - أَوْ قَالَ: - أَلَا أُخْبِرُكَ
__________
(1) - سنن النسائي (8/ 250) (5428) حسن
(2) - سنن النسائي (8/ 250) (5429) صحيح
(3) - سنن النسائي (8/ 251) (5431) صحيح
(4) - السنن الكبرى للنسائي (7/ 196) (7790) صحيح
(5) - السنن الكبرى للنسائي (7/ 196) (7791) صحيح(1/370)
بِأَفْضَلِ مَا يَتَعَوَّذُ بِهِ الْمُتَعَوِّذُونَ؟ " قَالَ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: «قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ، وَقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ هَاتَيْنِ السُّورَتَيْنِ» (1)
وعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، قَالَ: بَيْنَا أَقُودُ بِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي نَقَبٍ مِنْ تِلْكَ النِّقَابِ إِذْ قَالَ: «أَلَا تَرْكَبُ يَا عُقْبَةُ؟» فَأَجْلَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ أَرْكَبْ مَرْكَبَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، ثُمَّ قَالَ: «أَلَا تَرْكَبُ يَا عُقْبَةُ؟» فَأَشْفَقْتُ أَنْ يَكُونَ مَعْصِيَةً، فَنَزَلَ وَرَكِبْتُ هُنَيْهَةً، وَنَزَلْتُ، وَرَكِبَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، ثُمَّ قَالَ: «أَلَا أُعَلِّمُكَ سُورَتَيْنِ مِنْ خَيْرِ سُورَتَيْنِ قَرَأَ بِهِمَا النَّاسُ؟» فَأَقْرَأَنِي قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ، وَقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ، فَأُقِيمَتِ الصَّلَاةُ، فَتَقَدَّمَ فَقَرَأَ بِهِمَا، ثُمَّ مَرَّ بِي، فَقَالَ: «كَيْفَ رَأَيْتَ يَا عُقْبَةَ بْنَ عَامِرٍ؟ اقْرَأْ بِهِمَا كُلَّمَا نِمْتَ وَقُمْتَ» (2)
وعَنِ الْقَاسِمِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ: سَمِعْتُ عُقْبَةَ بْنَ عَامِرٍ، يَقُولُ: «إِنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَرَأَ بِالْمُعَوِّذَتَيْنِ فِي صَلَاةٍ» وَقَالَ لِي: «اقْرَأْ بِهِمَا كُلَّمَا نِمْتَ، وَكُلَّمَا قُمْتَ» (3)
وعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، قَالَ: بَيْنَا أَقُودُ بِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - رَاحِلَتَهُ فِي غَزْوَةٍ إِذْ قَالَ: «يَا عُقْبَةُ، قُلْ» قَالَ: فَاسْتَمَعْتُ ثُمَّ قَالَ: «يَا عُقْبَةُ، قُلْ» فَاسْتَمَعْتُ فَقَالَهَا الثَّالِثَةَ فَقُلْتُ: مَا أَقُولُ؟ فَقَالَ: «قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ» فَقَرَأَ السُّورَةَ حَتَّى خَتَمَهَا، ثُمَّ قَرَأَ «قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ» وَقَرَأْتُ مَعَهُ حَتَّى خَتَمَهَا، ثُمَّ قَرَأَ «قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ» فَقَرَأْتُ مَعَهُ حَتَّى خَتَمَهَا، ثُمَّ قَالَ: «مَا تَعَوَّذَ بِمِثْلِهِنَّ أَحَدٌ» (4)
وعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، قَالَ: كُنْتُ أَمْشِي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ: «يَا عُقْبَةُ، قُلْ» فَقُلْتُ: مَاذَا أَقُولُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَسَكَتَ عَنِّي، ثُمَّ قَالَ: «يَا عُقْبَةُ قُلْ» قُلْتُ: مَاذَا أَقُولُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَسَكَتَ عَنِّي، فَقُلْتُ: اللَّهُمَّ ارْدُدْهُ عَلَيَّ، فَقَالَ: «يَا عُقْبَةُ قُلْ» قُلْتُ: مَاذَا أَقُولُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: «قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ»، فَقَرَأْتُهَا حَتَّى أَتَيْتُ عَلَى آخِرِهَا، ثُمَّ قَالَ: «قُلْ» قُلْتُ: مَاذَا أَقُولُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ» فَقَرَأْتُهَا حَتَّى أَتَيْتُ عَلَى
__________
(1) - سنن النسائي (8/ 251) (5432) صحيح
(2) - سنن النسائي (8/ 253) (5437) حسن
(3) - السنن الكبرى للنسائي (7/ 197) (7795) صحيح
(4) - السنن الكبرى للنسائي (7/ 198) (7797و7803) حسن(1/371)
آخِرِهَا، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عِنْدَ ذَلِكَ: «مَا سَأَلَ سَائِلٌ بِمِثْلِهِمَا، وَلَا اسْتَعَاذَ مُسْتَعِيذٌ بِمِثْلِهِمَا» (1)
وعَنْ مُعَاذِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ خُبَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كُنْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي طَرِيقِ مَكَّةَ، فَأَصَبْتُ خُلْوَةً مِنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَدَنَوْتُ مِنْهُ فَقَالَ لِي: «قُلْ» فَقُلْتُ: مَا أَقُولُ؟ قَالَ: «قُلْ» قُلْتُ: مَا أَقُولُ؟ قَالَ: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ حَتَّى خَتَمَهَا ثُمَّ قَالَ:" قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ حَتَّى خَتَمَهَا ثُمَّ قَالَ لِي: «مَا تَعَوَّذَ النَّاسُ بِأَفْضَلَ مِنْهُمَا» (2)
وعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «اقْرَأْ يَا جَابِرُ» قُلْتُ: وَمَا أَقْرَأُ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي؟ قَالَ:" اقْرَأْ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ، وَقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ فَقَرَأْتُهُمَا فَقَالَ: «اقْرَأْ بِهِمَا وَلَنْ تَقْرَأَ بِمِثْلِهِمَا» (3)
وعَنْ رَجُلٍ، قَالَ: كَانَ فِي مَسِيرٍ وَفِي الظُّهْرِ قِلَّةٌ وَالنَّاسُ يَعْتَقِبُونَ فَحَانَتْ نَزْلَةُ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَنَزْلَتِي فَلَحِقَنِي مِنْ بَعْدِي فَضَرَبَ مَنْكِبَيَّ، وَقَالَ:" قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ فَقُلْتُ: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ فَقَرَأَهَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَقَرَأْتُهَا مَعَهُ ثُمَّ قَالَ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الناس فَقَرَأَهَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَقَرَأْتُهَا معه فقال: «إِذَا صَلَّيْتُ فَاقْرَأْ بِهِمَا؛ فَإِنَّكَ لَنْ تَقْرَأَ بِمِثْلِهِمَا» (4)
وعَنْ مُعَاذِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: أَصَابَنَا طَشٌّ وَظُلْمَةٌ فَانْتَظَرْنَا رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لَيُصَلِّيَ لَنَا، ثُمَّ ذَكَرَ كَلَامًا مَعْنَاهُ، فَخَرَجَ فَقَالَ: «قُلْ» قُلْتُ: مَا أَقُولُ؟ قَالَ: {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] وَالْمُعَوِّذَتَيْنِ حِينَ تُمْسِي، وَتُصْبِحُ ثَلَاثًا يَكْفِيكَ كُلَّ شَيْءٍ " (5)
وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ، قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَتَعَوَّذُ مِنْ عَيْنِ الْإِنْسَانِ، وَعَيْنِ الْجَانِّ، حَتَّى نَزَلَتِ الْمُعَوِّذَتَانِ، فَلَمَّا نَزَلَتَا أَخَذَ بِهِمَا وَتَرَكَ مَا سِوَاهُمَا» (6)
__________
(1) - سنن النسائي (8/ 253) (5438) صحيح
(2) - السنن الكبرى للنسائي (7/ 201) (7809) صحيح
(3) - السنن الكبرى للنسائي (7/ 200) (7805 و7808) صحيح
(4) - السنن الكبرى للنسائي (7/ 202) (7810) صحيح
(5) - السنن الكبرى للنسائي (7/ 202) (7811) حسن
(6) - السنن الكبرى للنسائي (7/ 200) (7804 و7877) صحيح(1/372)
2 - الإكثار من قول لا إله إلا الله:
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: " مَنْ قَالَ: لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، فِي يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ، كَانَتْ لَهُ عَدْلَ عَشْرِ رِقَابٍ، وَكُتِبَتْ لَهُ مِائَةُ حَسَنَةٍ، وَمُحِيَتْ عَنْهُ مِائَةُ سَيِّئَةٍ، وَكَانَتْ لَهُ حِرْزًا مِنَ الشَّيْطَانِ يَوْمَهُ ذَلِكَ حَتَّى يُمْسِيَ، وَلَمْ يَأْتِ أَحَدٌ بِأَفْضَلَ مِمَّا جَاءَ بِهِ، إِلَّا أَحَدٌ عَمِلَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ " (1)
وعَنْ أَبِي أَيُّوبَ، أَنَّهُ قَالَ وَهُوَ فِي أَرْضِ الرُّومِ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " مَنْ قَالَ غُدْوَةً: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ عَشْرَ مَرَّاتٍ، كَتَبَ اللهُ لَهُ عَشْرَ حَسَنَاتٍ، وَمَحَا عَنْهُ عَشْرَ سَيِّئَاتٍ، وَكُنَّ لَهُ بِقَدْرِ عَشْرِ رِقَابٍ، وَأَجَارَهُ اللهُ مِنَ الشَّيْطَانِ، وَمَنْ قَالَهَا عَشِيَّةً كَانَ لَهُ مِثْلُ ذَلِكَ " (2)
وعَنْ أَبِي عَيَّاشٍ الزُّرَقِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " مَنْ قَالَ إِذَا أَصْبَحَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، كَانَ لَهُ كَعَدْلِ رَقَبَةٍ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ، وَكُتِبَ لَهُ بِهَا عَشْرُ حَسَنَاتٍ، وَحُطَّ عَنْهُ بِهَا عَشْرُ سَيِّئَاتٍ، وَكَانَ فِي حِرْزٍ مِنَ الشَّيْطَانِ حَتَّى يُمْسِيَ، وَإِذَا أَمْسَى مِثْلُ ذَلِكَ حَتَّى يُصْبِحَ فَرَأَى رَجُلٌ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فِيمَا يَرَى النَّائِمُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إنَّ أَبَا عَيَّاشٍ يَرْوِي عَنْكَ كَذَا وَكَذَا؟ فَقَالَ: «صَدَقَ أَبُو عَيَّاشٍ» (3)
وعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرٍ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ مَرَّ عَلَى عُثْمَانَ وَهُوَ جَالِسٌ فِي الْمَسْجِدِ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ، فَدَخَلَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ فَاشْتَكَى ذَلِكَ إِلَيْهِ، فَقَالَ: مَرَرْتُ عَلَى عُثْمَانَ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ وَلَمْ يَرُدَّ عَلَيَّ. قَالَ: فَأَيْنَ هُوَ؟ قَالَ: هُوَ فِي الْمَسْجِدِ قَاعِدٌ، قَالَ: فَانْطَلَقْنَا إِلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَرُدَّ عَلَى أَخِيكَ حِينَ سَلَّمَ عَلَيْكَ؟ قَالَ: وَاللَّهِ مَا شَعَرْتُ أَنَّهُ سَلَّمَ، مَرَّ بِي وَأَنَا أُحَدِّثُ نَفْسِي فَلَمْ أَشْعُرْ أَنَّهُ سَلَّمَ. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَمَاذَا تُحَدِّثُ نَفْسَكَ؟ قَالَ: خَلَا بِيَ الشَّيْطَانُ فَجَعَلَ يُلْقِي فِي نَفْسِي أَشْيَاءَ مَا أُحِبُّ
__________
(1) - صحيح البخاري (4/ 126) (3293) وصحيح مسلم (4/ 2071) 28 - (2691)
[(عدل) مثل. (رقاب) جمع رقبة إي إنسان مملوك عبد أو أمة والمراد ثواب عتقهم]
(2) - السنن الكبرى للنسائي (9/ 16) (9768) صحيح
(3) - السنن الكبرى للنسائي (9/ 17) (9771) صحيح(1/373)
أَنِّي تَكَلَّمْتُ بِهَا وَأَنَّ لِي مَا عَلَى الْأَرْضِ، قُلْتُ فِي نَفْسِي حِينَ أَلْقَى الشَّيْطَانُ ذَلِكَ فِي نَفْسِي: يَا لَيْتَنِي سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَا الَّذِي يُنْجِينَا مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ الَّذِي يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِي أَنْفُسِنَا؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَإِنِّي وَاللَّهِ قَدِ اشْتَكَيْتُ ذَلِكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، وَسَأَلْتُهُ: مَا الَّذِي يُنْجِينَا مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ الَّذِي يُلْقِي الشَّيْطَانُ مِنْهُ فِي أَنْفُسِنَا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «يُنْجِيكُمْ مِنْ ذَلِكَ أَنْ تَقُولُوا مِثْلَ الَّذِي أَمَرْتُ بِهِ عَمِّي عِنْدَ الْمَوْتِ فَلَمْ يَفْعَلْ» (1)
وعن حُصَيْنَ، قَالَ: سَمِعْتُ مُجَاهِدًا يَقُولُ: " قَلَّ مَا ذَكَرَ الشَّيْطَانَ قَوْمٌ إِلَّا حَضَرَهُمْ، فَإِذَا سَمِعَ أَحَدًا يَلْعَنُهُ قَالَ: لَقَدْ لَعَنْتَ مُلَعَّنًا. وَلَا شَيْءَ أَقْطَعُ لِظَهْرِهِ مَنْ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ " (2)
3 - كثرة ذكر الله عز وجل:
عن الْحَارِثَ الْأَشْعَرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ: " أَمَرَنِي بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ وَأَمَرَكُمْ أَنْ تَعْمَلُوا بِهِنَّ: أَوَّلُهُنَّ أَنْ تَعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَإِنَّ مَثَلَ مَنْ أَشْرَكَ بِاللَّهِ كَمَثَلِ رَجُلٍ اشْتَرَى عَبْدًا مِنْ خَالِصِ مَالِهِ بِذَهَبٍ أَوْ وَرِقٍ، فَقَالَ: هَذِهِ دَارِي وَهَذَا عَمَلِي، فَاعْمَلْ وَأَدِّ إِلَيَّ، فَجَعَلَ الْعَبْدُ يَعْمَلُ وَيُؤَدِّي إِلَى غَيْرِ سَيِّدِهِ، فَأَيُّكُمْ يَسُرُّهُ أَنْ يَكُونَ عَبْدُهُ كَذَلِكَ؟ وَأَمَرَكُمْ بِالصَّلَاةِ وَأَمَرَكُمْ بِالصِّيَامِ، وَإِنَّ مَثَلَ ذَلِكَ كَمَثَلِ رَجُلٍ كَانَتْ مَعَهُ صُرَّةٌ فِيهَا مِسْكٌ، وَمَعَهُ عِصَابَةٌ كُلُّهُمْ يُعْجِبُهُ أَنْ يَجِدَ رِيحَهَا، وَإِنَّ الصِّيَامَ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ، وَأَمَرَكُمْ بِالصَّدَقَةِ وَإِنَّ مَثَلَ ذَلِكَ كَمَثَلِ رَجُلٍ أَسَرَهُ الْعَدُوُّ وَقَامُوا إِلَيْهِ فَأَوْثَقُوا يَدَهُ إِلَى عُنُقِهِ، فَقَالَ: هَلْ فِيكُمْ أَنْ أَفْدِيَ نَفْسِي مِنْكُمْ؟ قَالَ: فَجَعَلَ يُعْطِيهِمُ الْقَلِيلَ وَالْكَثِيرَ لِيَفُكَّ نَفْسَهُ مِنْهُمْ، وَأَمَرَكُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ كَثِيرًا، وَإِنَّ مَثَلَ ذَلِكَ كَمَثَلِ رَجُلٍ
__________
(1) - مسند أبي يعلى الموصلي (1/ 121) (133) والأحاديث المختارة = المستخرج من الأحاديث المختارة مما لم يخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما (1/ 79) (6) حسن لغيره
(2) - الصمت لابن أبي الدنيا (ص: 205) (379) صحيح مقطوع(1/374)
طَلَبَهُ الْعَدُوُّ سِرَاعًا فِي أَثَرِهِ، حَتَّى أَتَى عَلَى حِصْنٍ حَصِينٍ، فَأَحْرَزَ نَفْسَهُ فِيهِ، كَذَلِكَ الْعَبْدُ لَا يُحْرِزُ نَفْسَهُ مِنَ الشَّيْطَانِ إِلَّا بِذِكْرِ اللَّهِ " (1)
وعَنِ الْحَارِثِ الْأَشْعَرِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: " إِنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَى يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا عَلَيْهِمَا السَّلَامُ بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ أَنَّ يَعْمَلَ بِهِنَّ، وَيَأْمُرَ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يَعْمَلُوا بِهِنَّ، وَكَأَنَّهُ أَبْطَأَ بِهِنَّ، فَأَتَاهُ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ أَمَرَكَ بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ أَنْ تَعْمَلَ بِهِنَّ، وَتَأْمُرَ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يَعْمَلُوا بِهِنَّ، فَإِمَّا أَنْ تُخْبِرَهُمْ، وَإِمَّا أَنْ أُخْبِرَهُمْ، قَالَ: يَا أَخِي لَا تَفْعَلْ فَإِنِّي أَخَافُ إِنْ سَبَقْتَنِي بِهِنَّ أَنْ يُخْسَفَ بِي وَأُعَذَّبَ. قَالَ: فَجَمَعَ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ حَتَّى امْتَلَأَ الْمَسْجِدُ، وَقَعَدُوا عَلَى الشُّرُفَاتِ ثُمَّ خَطَبَهُمْ، فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَيَّ بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ أَنْ أَعْمَلَ بِهِنَّ، وآمُرَ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يَعْمَلُوا بِهِنَّ: أُولَاهُنَّ أَنْ لَا تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا، فَإِنَّ مَثَلَ مَنْ أَشْرَكَ بِاللَّهِ كَمَثَلِ رَجُلٍ اشْتَرَى عَبْدًا مِنْ خَالِصِ مَالِهِ بِذَهَبٍ، أَوْ وَرِقٍ، ثُمَّ أَسْكَنَهُ دَارًا، فَقَالَ: اعْمَلْ، وَارْفَعْ، إِلَيَّ فَجَعَلَ يَعْمَلُ وَيَرْفَعُ إِلَى غَيْرِ سَيِّدِهِ، فَأَيُّكُمْ يَرْضَى أَنْ يَكُونَ عَبْدُهُ كَذَلِكَ، فَإِنَّ اللَّهَ خَلَقَكُمْ وَرَزَقَكُمْ فَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَإِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَلَا تَلْتَفِتُوا، فَإِنَّ اللَّهَ يُقْبِلُ بِوَجْهِهِ إِلَى وَجْهِ عَبْدِهِ مَا لَمْ يَلْتَفِتْ، وَأَمَرَكُمْ بِالصِّيَامِ وَمَثَلُ ذَلِكَ كَمَثَلِ رَجُلٍ فِي عِصَابَةٍ مَعَهُ صُرَّةُ مِسْكٍ، كُلُّهُمْ يُحِبُّ أَنْ يَجِدَ رِيحَهَا، وَإِنَّ رِيحَ الصِّيَامِ كَرِيحِ الْمِسْكِ، وَأَمَرَكُمْ بِالصَّدَقَةِ وَمَثَلُ ذَلِكَ كَمَثَلِ رَجُلٍ أَسَرَهُ الْعَدُوُّ، فَأَوْثَقُوا يَدَهُ إِلَى عُنُقِهِ وَقَرَّبُوهُ لِيَضْرِبُوا عُنُقَهُ فَجَعَلَ يَقُولُ: هَلْ لَكُمْ أَنْ أَفْدِيَ نَفْسِي مِنْكُمْ، وَجَعَلَ يُعْطِي الْقَلِيلَ، وَالْكَثِيرَ حَتَّى فَدَى نَفْسَهُ، وَأَمَرَكُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ كَثِيرًا، وَمَثَلُ ذِكْرِ اللَّهِ كَمَثَلِ رَجُلٍ طَلَبَهُ الْعَدُوُّ سِرَاعًا فِي أَثَرِهِ حَتَّى أَتَى حِصْنًا حَصِينًا، فَأَحْرَزَ نَفْسَهُ فِيهِ، وَكَذَلِكَ الْعَبْدُ لَا يَنْجُو مِنَ الشَّيْطَانِ إِلَّا بِذِكْرِ اللَّهِ " (2)
__________
(1) - أمثال الحديث لأبي الشيخ الأصبهاني (ص: 389) (336) وصحيح ابن حبان - مخرجا (14/ 124) (6233) صحيح -الشُّرف: المكان المرتفع. =ورِق: فضة. =أحرز: حمى ومنع. = أحْرَزْت الشيء: إذا حَفظْتَه أو ضَمَمْته إليك أو صُنْتَه عن الأخْذ = يحرز: يحمي ويمنع ويحفظ
(2) - المستدرك على الصحيحين للحاكم (1/ 582) (1534) صحيح.(1/375)
4 - قراءة آية الكرسي:
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: وَكَّلَنِي رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بِحِفْظِ زَكَاةِ رَمَضَانَ، فَأَتَانِي آتٍ يَحْثُو مِنَ الطَّعَامِ، فَأَخَذْتُهُ فَقُلْتُ: لَأَرْفَعَنَّكَ إِلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: إِنِّي مُحْتَاجٌ وَعَلَيَّ عِيَالٌ وَبِي حَاجَةٌ شَدِيدَةٌ، فَخَلَّيْتُ عَنْهُ، فَلَمَّا أَصْبَحْتُ قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «يَا أَبَا هُرَيْرَةَ مَا فَعَلَ أَسِيرُكَ الْبَارِحَةَ؟» قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، شَكَى حَاجَةً شَدِيدَةً وَعِيَالًا، فَرَحِمْتُهُ فَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ، فَقَالَ: «أَمَا إِنَّهُ قَدْ كَذَبَكَ، وَسَيَعُودُ» فَعَرَفْتُ أَنَّهُ سَيَعُودُ لِقَوْلِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: إِنَّهُ سَيَعُودُ، فَرَصَدْتُهُ فَجَاءَ يَحْثُو مِنَ الطَّعَامِ فَقُلْتُ: لَأَرْفَعَنَّكَ إِلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: دَعْنِي فَإِنِّي مُحْتَاجٌ وَعَلَيَّ عِيَالٌ وَلَا أَعُودُ، فَرَحِمْتُهُ فَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ، فَأَصْبَحَتْ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، مَا فَعَلَ أَسِيرُكَ الْبَارِحَةَ؟» قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، شَكَا حَاجَةً وَعِيَالًا، فَرَحِمْتُهُ فَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ، فَقَالَ: أَمَا إِنَّهُ كَذَبَكَ، وَسَيَعُودُ " فَرَصَدْتُهُ الثَّالِثَةَ فَجَاءَ يَحْثُو مِنَ الطَّعَامِ فَأَخَذْتُهُ فَقُلْتُ: لَأَرْفَعَنَّكَ إِلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - هَذَا آخِرُ ثَلَاثِ مَرَّاتٍ تَزْعُمُ أَنَّكَ لَا تَعُودُ ثُمَّ تَعُودُ، قَالَ: دَعْنِي أُعَلِّمْكَ كَلِمَاتٍ يَنْفَعُكَ اللهُ بِهَا، قُلْتُ: مَا هِيَ؟ قَالَ: إِذَا أَوَيْتَ إِلَى فِرَاشِكَ فَاقْرَأْ آيَةَ الْكُرْسِيِّ {اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة: 255] حَتَّى تَخْتِمَ الْآيَةَ، فَإِنَّهُ لَنْ يَزَالَ عَلَيْكَ مِنَ اللهِ حَافِظٌ، وَلَا يَقْرَبُكَ شَيْطَانٌ حَتَّى تُصْبِحَ، فَأَصْبَحْتُ فَقَالَ لِي رَسُولُ اللهِ: «مَا فَعَلَ أَسِيرُكَ الْبَارِحَةَ؟» قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، زَعَمَ أَنَّهُ يُعَلِّمُنِي كَلِمَاتٍ يَنْفَعُنِي اللهُ بِهَا فَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ، قَالَ: «مَا هِيَ؟» قَالَ لِي: إِذَا أَوَيْتَ إِلَى فِرَاشِكَ فَاقْرَأْ آيَةَ الْكُرْسِيِّ مِنْ أَوَّلِهَا حَتَّى تَخْتِمَهَا {اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة: 255] وَقَالَ: لَنْ يَزَالَ عَلَيْكَ مِنَ اللهِ حَافِظٌ وَلَا يَقْرَبُكَ الشَّيْطَانُ حَتَّى تُصْبِحَ، وَكَانُوا أَحْرَصَ شَيْءٍ عَلَى الْخَيْرِ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «أَمَا إِنَّهُ كَذُوبٌ وَقَدْ صَدَقَكَ، تَعْلَمُ مَنْ تُخَاطِبُ مُنْذُ ثَلَاثٍ، يَا أَبَا هُرَيْرَةَ؟» فَقُلْتُ: لَا، قَالَ: «ذَلِكَ الشَّيْطَانُ» (1)
وعن ابْنِ أُبَيٍّ أَنَّ أَبَاهُ، أَخْبَرَهُ: أَنَّهُ كَانَ لَهُمْ جُرْنٌ فِيهِ تَمْرٌ، وَكَانَ أُبَيٌّ يَتَعَاهَدُهُ فَوَجَدَهُ يَنْقُصُ، فَحَرَسَهُ فَإِذَا هُوَ بِدَابَّةٍ تُشْبِهُ الْغُلَامَ الْمُحْتَلِمَ، قَالَ: فَسَلَّمَتْ فَرَدَّ السَّلَامَ، فَقُلْتُ: مَنْ أَنْتَ، أَجِنٌّ أَمْ إِنْسٌ؟ قَالَ: جِنٌّ، قَالَ: فَنَاوِلْنِي يَدَكَ، فَنَاوَلَنِي يَدَهُ، فَإِذَا يَدُ كَلْبٍ وَشَعْرُ
__________
(1) - السنن الكبرى للنسائي (9/ 351) (10729) صحيح ورواه البخاري معلقا بصيغة الجزم انظر روايات الحديث في المسند الجامع (17/ 792) (14473)(1/376)
كَلْبٍ، قَالَ: هَكَذَا خَلْقُ الْجِنِّ، قَالَ: لَقَدْ عَلِمْتَ الْجِنَّ، مَا فِيهِمْ أَشَدُّ مِنِّي، قَالَ لَهُ أُبَيٌّ: مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا صَنَعْتَ؟ قَالَ: بَلَغَنَا أَنَّكَ رَجُلٌ تُحِبُّ الصَّدَقَةَ فَأَحْبَبْنَا أَنْ نُصِيبَ مِنْ طَعَامِكَ، قَالَ أُبَيٌّ: فَمَا الَّذِي يُجِيرُنَا مِنْكُمْ؟ قَالَ: هَذِهِ الْآيَةُ آيَةُ الْكُرْسِيِّ، ثُمَّ غَدَا أُبَيٌّ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «صَدَقَ الْخَبِيثُ» (1)
وعن مُحَمَّدِ بْنِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: كَانَ لِجَدِّي جُرْنٌ مِنْ تَمْرٍ، فَجَعَلَ يَجِدُهُ يَنْقُصُ فَحَرَسَهُ ذَاتَ لَيْلَةٍ، فَإِذَا هُوَ بِدَابَّةٍ شِبْهُ الْغُلَامِ الْمُحْتَلِمِ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ فَرَدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ، فَقَالَ: مَنْ أَنْتَ، أَجِنٌّ أَمْ إِنْسٌ؟ قَالَ: لَا بَلْ جِنٌّ، قَالَ: أَعْطِنِي يَدَكَ، فَإِذَا يَدُ كَلْبٍ وَشَعْرُ كَلْبٍ، قَالَ: هَكَذَا خَلْقُ الْجِنِّ، قَالَ: قَدْ عَلِمْتَ الْجِنَّ، مَا فِيهِمْ رَجُلٌ أَشَدُّ مِنِّي، قَالَ: مَا شَأْنُكَ؟ قَالَ: أُنْبِئْتُ أَنَّكَ رَجُلٌ تُحِبُّ الصَّدَقَةَ فَأَحْبَبْنَا أَنْ نُصِيبَ مِنْ طَعَامِكَ، قَالَ: مَا يُجِيرُنَا مِنْكُمْ؟ قَالَ: هَذِهِ الْآيَةُ الَّتِي فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ {اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ} [البقرة: 255] إِذَا قُلْتَهَا حِينَ تُصْبِحُ أُجِرْتَ مِنَّا إِلَى أَنْ تُمْسِيَ، وَإِذَا قُلْتَهَا حِينَ تُمْسِي أُجِرْتَ مِنَّا إِلَى أَنْ تُصْبِحَ، فَغَدَا أُبَيٌّ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَأَخْبَرَهُ خَبَرَهُ قَالَ: «صَدَقَ الْخَبِيثُ» (2)
وعَنْ أَبِي أُسَيْدٍ السَّاعِدِيِّ الْخَزْرَجِيِّ: أَنَّهُ قَطَعَ ثَمَرَةَ حَائِطِهِ فَجَعَلَهُ فِي غُرْفَةٍ فَكَانَتِ الْغُولُ تُخَالِفُهُ إِلَى مَشْرَبَتِهِ، فَتَسْرِقُ ثَمَرَهُ وَتُفْسِدُ عَلَيْهِ، فَشَكَا ذَلِكَ إِلَى النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: تِلْكَ الْغُولُ فَاسْتَمِعْ مِنْهَا فَإِذَا سَمِعْتَ اقْتِحَامَهَا [قَالَ: يَعْنِي وَجْبَهَا فَقُلْ: بِاسْمِ الله أجيب رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَفَعَلَ. فقالت: ياأسيد إِنْ تُكَلِّفْنِي أَذْهَبُ إِلَى نَبِيِّ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَأُعْطِيكَ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لا أُخَالِفُكَ إِلَى بَيْتِكَ، وَلا أَسْرِقُ ثَمَرَكَ، وَأَدُلُّكَ عَلَى آيَةٍ تَقْرَؤُهَا عَلَى بَيْتِكَ فَلا تُخَالِفُ أَهْلَكَ، وَتَقْرَؤُهَا عَلَى إِنَائِكَ فَلا يكشف غطاؤه. قال: فأعطته الْمَوْثِقَ الَّذِي رَضِيَ بِهِ مِنْهَا، وَقَالَ الآيَةَ التي قالت: أدلك على آيَةَ الْكُرْسِيِّ. ثُمَّ حَلَّتْ اسْتِهَا تَضْرُطُ. فَأَتَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَصَّ عَلَيْهِ قصتها حين ولت وله ضَرِيطٌ. قَالَ: صَدَقَتْ وَهِيَ كَذُوبٌ. " (3)
__________
(1) - السنن الكبرى للنسائي (9/ 352) (10730) صحيح
(2) - السنن الكبرى للنسائي (9/ 352) (10731) صحيح
(3) - مكائد الشيطان (ص: 32) (13) حسن(1/377)
وعَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ قَالَ: خَرَجَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ إِلَى حَائِطٍ لَهُ فَسَمِعَ فِيهِ جَلَبَةً فَقَالَ: مَا هَذَا؟ قَالَ رَجُلٌ مِنَ الْجِنِّ: أَصَابَتْنَا السَّنَةُ فَأَرَدْنَا أَنْ نُصِيبَ مِنْ ثِمَارِكُمْ أَفَتَطِيبُونَهُ؟ قَالَ: نَعَمْ، ثُمَّ خَرَجَ الليلة التالية، فسمع فيه أيضا جَلَبَةً، فَقَالَ: مَا هَذَا؟ قَالَ: رَجُلٌ مِنَ الْجِنِّ أَصَابَتْنَا السَّنَةُ فَأَرَدْنَا أَنْ نُصِيبَ مِنْ ثِمَارِكُمْ أَفَتَطِيبُونَهُ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَقَالَ لَهُ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ: أَلا تُخْبِرُنِي مَا الَّذِي يُعِيذُنَا منكم؟ قال: آية الكرسي. (1)
وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كَانَ لِي طَعَامٌ فَتَبَيَّنْتُ فِيهِ النُّقْصَانَ فَكُنْتُ فِي اللَّيْلِ، فَإِذَا غُولٌ قَدْ سَقَطَتْ عَلَيْهِ، فَقَبَضْتُ عَلَيْهَا. فَقُلْتُ: لَا أُفَارِقُكَ، حَتَّى أَذْهَبَ بِكِ إِلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَتْ: إِنِّي امْرَأَةٌ كَثِيرَةُ الْعِيَالِ لَا أَعُودُ. فَحَلَفَتْ لِي فَخَلَّيْتُهَا فَجِئْتُ، فَأَخْبَرْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ لِي النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: كَذَبْتَ وَهِيَ كَذُوبٌ، وَتَبَيَّنَ لِي النُّقْصَانُ، قَالَ: فَإِذَا هِيَ قَدْ وَقَعَتْ عَلَى الطَّعَامِ فَأَخَذْتُهَا. فَقَالَتْ لِي كَمَا قَالَتْ لِي فِي الْأُولَى. وَحَلَفَتْ أَنْ لَا تَعُودَ، فَجِئْتُ فَأَخْبَرْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: كَذَبَتْ، وَهِيَ كَذُوبٌ. ثُمَّ تَبَيَّنَ لِي النُّقْصَانُ، فَكَمَنْتُ لَهَا، فَأَخَذْتُهَا فَقُلْتُ: لَا أُفَارِقُكِ أَوْ أَذْهَبُ بِكِ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -. فَقَالَتْ: ذَرْنِي حَتَّى أُعَلِّمَكَ شَيْئًا، إِذَا قُلْتَهُ لَمْ يَقْرَبْ مَتَاعَكَ أَحَدٌ مِنَّا. إِذَا أَوَيْتَ إِلَى فِرَاشِكَ فَاقْرَأَ عَلَى نَفْسِكَ وَمَالِكَ آيَةَ الْكُرْسِيِّ فَخَلَّيْتُهَا. فَجِئْتُ، فَأَخْبَرْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ صَدَقْتَ وَهِيَ كَذُوبٌ، صَدَقَتْ وَهِيَ كَذُوبٌ. (2)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: " مَنْ قَرَأَ حم المُؤْمِنَ {حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2) غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3)} [غافر: 1 - 3] وَآيَةَ الكُرْسِيِّ حِينَ يُصْبِحُ حُفِظَ بِهِمَا حَتَّى يُمْسِيَ، وَمَنْ قَرَأَهُمَا حِينَ يُمْسِي حُفِظَ بِهِمَا حَتَّى يُصْبِحَ " (3)
وقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: لَقِيَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - رَجُلا مِنَ الْجِنِّ، فَصَارَعَهُ، فَصَرَعَهُ الإِنْسِيُّ، فَقَالَ لَهُ الْجِنِّيُّ: عَاوِدْنِي. فَعَاوَدَهُ، فَصَرَعَهُ الإِنْسِيُّ، فَقَالَ لَهُ الإِنْسِيُّ: إِنِّي لأَرَاكَ ضَئِيلا شَخِيتًا، كَأَنَّ ذُرَيْعَتَيْكَ: ذُرَيْعَا كَلْبٍ؛ أَفَكَذَلِكَ أَنْتُمْ مَعَاشِرَ الْجِنِّ، أَمْ أَنْتَ مِنْهُمْ كَذَا؟!
__________
(1) - مكائد الشيطان (ص: 35) (15) حسن
(2) - دلائل النبوة للبيهقي محققا (7/ 111) صحيح لغيره
(3) - سنن الترمذي ت شاكر (5/ 157) (2879) ضعيف(1/378)
قال: لا والله إني مِنْهُمْ لضليع، وَلَكِنْ عَاوِدْنِي الثَّالِثَةَ، فَإِنْ صَرَعْتَنِي عَلَّمْتُكَ شَيْئًا يَنْفَعُكَ. قَالَ: فَعَاوَدَهُ، فَصَرَعَهُ؛ قَالَ: هَاتِ عَلِّمْنِي. قَالَ: هَلْ تَقْرَأُ آيَةَ الْكُرْسِيِّ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَإِنَّكَ لا تَقْرَأُهَا فِي بَيْتٍ إِلا خَرَجَ مِنْهُ الشَّيْطَانُ، ثُمَّ لا يَدْخُلُهُ حَتَّى تُصْبِحَ. فَقَالَ رَجُلٌ فِي الْقَوْمِ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ! مَنْ ذَاكَ الرَّجُلُ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم -؛ هُوَ عُمَرُ؟ فَقَالَ: مَنْ يَكُونُ هُوَ إِلا عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ؟! (1)
5 - قراءة سورة البقرة:
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: «لَا تَجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ مَقَابِرَ، إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْفِرُ مِنَ الْبَيْتِ الَّذِي تُقْرَأُ فِيهِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ» (2)
وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لَا أَلْفَيَنَّ أَحَدَكُمْ يَضَعُ إِحْدَى رِجْلَيْهِ عَلَى الْأُخْرَى، يَتَغَنَّى وَيَدَعُ سُورَةَ الْبَقَرَةِ يَقْرَؤُهَا، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْفُرُ مِنَ الْبَيْتِ تُقْرَأُ فِيهِ الْبَقَرَةُ، وَإِنَّ أَصْفَرَ الْبُيُوتِ الْجَوْفُ الصِّفْرُ مِنْ كِتَابِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ» (3)
وقَالَ عَبْدُ اللهِ: «جَرِّدُوا الْقُرْآنَ لِيَرْبُوَ فِيهِ صَغِيرُكُمْ، وَلَا يَنْأَى عَنْهُ كَبِيرُكُمْ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَفِرُّ مِنَ الْبَيْتِ يُسْمَعُ تُقْرَأُ فِيهِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ» (4)
وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: إِنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ سَنَامًا وَسَنَامُ الْقُرْآنِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ، وَإِنَّ الشَّيْطَانَ إِذَا سَمِعَ سُورَةَ الْبَقَرَةِ تُقْرَأُ خَرَجَ مِنَ الْبَيْتِ الَّذِي يُقْرَأُ فِيهِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ. (5)
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: «اقْرَءُوا سُورَةَ الْبَقَرَةِ فِي بُيُوتِكُمْ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَدْخُلُ بَيْتًا يُقْرَأُ فِيهِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ». (6)
__________
(1) - المجالسة وجواهر العلم (6/ 147) (2475) والمعجم الكبير للطبراني (9/ 165) (8824) وسنن الدارمي (4/ 2129) (3424) صحيح لغيره-الضَّئِيلُ: الدَّقِيقُ، وَالشَّخِيتُ: الْمَهْزُولُ، وَالضَّلِيعُ: جَيِّدُ الْأَضْلَاعِ، وَالْخَبَجُ: الرِّيحُ "
(2) - صحيح مسلم (1/ 539) 212 - (780)
(3) - السنن الكبرى للنسائي (9/ 353) (10733) حسن
(4) - السنن الكبرى للنسائي (9/ 353) (10734) صحيح موقوف ومثله لا يقال بالرأي
(5) - المستدرك على الصحيحين -دار المعرفة بيروت (1/ 561) (2060) صحيح
(6) -المستدرك على الصحيحين للحاكم (1/ 749) (2062) صحيح(1/379)
وقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: «إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ مَأْدُبَةُ اللهِ، فَمَنِ اسْتَطَاعَ أَنْ يَتَعَلَّمَ مِنْهُ شَيْئًا فَلْيَفْعَلْ، فَإِنَّ أَصْفَرَ الْبُيُوتِ مِنَ الْخَيْرِ الَّذِي لَيْسَ فِيهِ مِنْ كِتَابِ اللهِ شَيْءٌ، وَإِنَّ الْبَيْتَ الَّذِي لَيْسَ فِيهِ مِنْ كِتَابِ اللهِ شَيْءٌ كَخَرَابِ الْبَيْتِ الَّذِي لَا عَامِرَ لَهُ، وَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَخْرُجُ مِنَ الْبَيْتِ الَّذِي تُسْمَعُ فِيهِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ» (1)
وعَن أنس قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -: إِن الشَّيْطَان يخرج من الْبَيْت إِذا سمع سُورَة الْبَقَرَة تقْرَأ فِيهِ" (2)
وعَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَقُولُ: «أَلَا إِنَّ أَصْفَرَ الْبُيُوتِ مِنَ الْخَيْرِ بَيْتٌ صِفْرٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، إِنَّ الشَّيْطَانَ لَيَخْرُجُ مِنَ الْبَيْتِ أَنْ يَسْمَعَ سُورَةَ الْبَقَرَةِ تُقْرَأُ فِيهِ» (3)
وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لَا أَلْفَيَنَّ أَحَدَكُمْ يَضَعُ إِحْدَى رِجْلَيْهِ عَلَى الْأُخْرَى، يَتَغَنَّى وَيَدَعُ سُورَةَ الْبَقَرَةِ يَقْرَؤُهَا، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْفُرُ مِنَ الْبَيْتِ تُقْرَأُ فِيهِ الْبَقَرَةُ، وَإِنَّ أَصْفَرَ الْبُيُوتِ الْجَوْفُ الصِّفْرُ مِنْ كِتَابِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ» (4)
وعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ سَنَامًا، وَإِنَّ سَنَامَ الْقُرْآنِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ، مَنْ قَرَأَهَا فِي بَيْتِهِ لَيْلًا لَمْ يَدْخُلِ الشَّيْطَانُ بَيْتَهُ ثَلَاثَ لَيَالٍ، وَمَنْ قَرَأَهَا نَهَارًا لَمْ يَدْخُلِ الشَّيْطَانُ بَيْتَهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ». (5)
6 - قراءة أواخر سورة البقرة:
عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ قَرَأَ بِالْآيَتَيْنِ مِنْ آخِرِ سُورَةِ البَقَرَةِ فِي لَيْلَةٍ كَفَتَاهُ» (6)
__________
(1) -حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (1/ 130) صحيح
(2) -فضائل القرآن للفريابي (ص: 180) (75) صحيح لغيره
(3) - الزهد والرقائق لابن المبارك والزهد لنعيم بن حماد (1/ 273) (791) صحيح مرسل
(4) - السنن الكبرى للنسائي (9/ 353) (10733) حسن
(5) - صحيح ابن حبان - مخرجا (3/ 59) (780) صحيح دون ذكر الثلاث
(6) - صحيح البخاري (6/ 188) (5009) وصحيح مسلم (1/ 555) 256 - (808)(1/380)
وعَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، أَنَّ نَبِيَّ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ يَوْمًا: " إِنَّ اللهَ كَتَبَ كِتَابًا قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بِأَلْفَيْ سَنَةٍ، وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: بِأَلْفَيْ عَامٍ، فَهُوَ عِنْدَهُ عَلَى الْعَرْشِ، وَأَنَّهُ أَنْزَلَ مِنْ ذَلِكَ الْكِتَابِ آيَتَيْنِ خَتَمَ بِهِمَا سُورَةَ الْبَقَرَةِ، وَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَلِجُ بَيْتًا قُرِئَتَا فِيهِ ثَلَاثَ لَيَالٍ " خَالَفَهُ أَشْعَثُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ " (1)
وعَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: «إِنَّ اللهَ كَتَبَ كِتَابًا قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بِأَلْفَيْ عَامٍ، فَأَنْزَلَ مِنْهُ آيَتَيْنِ خَتَمَ بِهِمَا سُورَةَ الْبَقَرَةِ، فَلَا تُقْرَآنِ فِي دَارٍ ثَلَاثَ لَيَالٍ فَيَقْرَبُهَا شَيْطَانٌ» (2)
وعَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: إِنَّ اللَّهَ خَتَمَ سُورَةَ الْبَقَرَةِ بِآيَتَيْنِ أَعْطَانِيهِمَا مِنْ كَنْزِهِ الَّذِي تَحْتَ الْعَرْشِ فَتَعَلَّمُوهُنَّ، وَعَلِّمُوهُنَّ نِسَاءَكُمْ، فَإِنَّهَا صَلاَةٌ، وَقُرْآنٌ، وَدُعَاءٌ ". (3)
وعَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ الدُّؤَلِيِّ قَالَ: قُلْتُ لِمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ: حَدِّثْنِي عَنْ قِصَّةِ الشَّيْطَانِ حِينَ أَخَذْتَهُ، فَقَالَ جَعَلَنِي رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى صَدَقَةِ الْمُسْلِمِينَ، فَجَعَلْتُ التَّمْرَ فِي غُرْفَةٍ، فَوَجَدْتُ فِيهَا نُقْصَانًا، فَأَخْبَرْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: هَذَا الشَّيْطَانُ يَأْخُذُهُ. قَالَ: فَدَخَلْتُ الْغُرْفَةَ فَأَغْلَقْتُ الْبَابَ عَلَيَّ فَجَاءَتْ ظُلْمَةٌ عَظِيمَةٌ فَغَشِيَتِ الْبَابَ، ثُمَّ تَصَوَّرَ فِي صُورَةِ فِيلٍ، ثُمَّ تَصَوَّرَ فِي صُورَةٍ أُخْرَى، فَدَخَلَ مِنْ شَقِّ الْبَابِ، فَشَدَدْتُ إِزَارِي عَلَيَّ، فَجَعَلَ يَأْكُلُ مِنَ التَّمْرِ، قَالَ: فَوَثَبْتُ عَلَيْهِ فَضَبَطْتُهُ فَالْتَفَّتْ يَدَايَ عَلَيْهِ، فَقُلْتُ: يَا عَدُوَّ اللهِ. فَقَالَ: خَلِّ عَنِّي فَإِنِّي كَبِيرٌ ذُو عِيَالٍ كَثِيرٍ، وَأَنَا فَقِيرٌ، مِنْ جِنِّ نَصِيبِينَ، وَكَانَتْ لَنَا هَذِهِ الْقَرْيَةُ، قَبْلَ أَنْ يُبْعَثَ صَاحِبُكُمْ، فَلَمَّا بُعث أُخرجنا منها، فخلّ عني فَلَنْ أَعُودَ إِلَيْكَ، فَخَلَّيْتُ عَنْهُ، وَجَاءَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَأَخْبَرَ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بِمَا كَانَ، فَصَلَّى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - الصُّبْحَ، فَنَادَى مُنَادٍ بِهِ: أَيْنَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ. فَقُمْتُ إِلَيْهِ. فَقَالَ: رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مَا فَعَلَ أَسِيرُكَ يَا مُعَاذُ؟ فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ: أَمَا إِنَّهُ سَيَعُودُ فَعُدْ. قَالَ: فَدَخَلْتُ الْغُرْفَةَ، وَأَغْلَقْتُ عَلَيَّ الْبَابُ، فَدَخَلَ مِنْ شَقِّ الْبَابِ، فَجَعَلَ يَأْكُلُ مِنَ التَّمْرِ، فَصَنَعْتُ بِهِ كَمَا صَنَعْتُ فِي
__________
(1) - السنن الكبرى للنسائي (9/ 354) (10736) صحيح
(2) - السنن الكبرى للنسائي (9/ 354) (10737) صحيح
(3) - المستدرك على الصحيحين -دار المعرفة بيروت (1/ 562) (2066) صحيح(1/381)
الْمَرَّةِ الْأُولَى. فَقَالَ: خَلِّ عَنِّي فَإِنِّي لَنْ أَعُودَ إِلَيْكَ. فَقُلْتُ: يَا عَدُوَّ اللهِ. أَلَمْ تَقُلْ لَا أَعُودُ. قَالَ: فَإِنِّي لَا أَعُودُ، وَآيَةُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَقْرَأُ أَحَدٌ مِنْكُمْ خَاتِمَةَ الْبَقَرَةِ فَيَدْخُلَ أَحَدٌ مِنَّا فِي بَيْتِهِ تِلْكَ اللَّيْلَةَ " (1)
7 - الآذان:
عَنْ سُهَيْلٍ، قَالَ: أَرْسَلَنِي أَبِي إِلَى بَنِي حَارِثَةَ، قَالَ: وَمَعِي غُلَامٌ لَنَا - أَوْ صَاحِبٌ لَنَا - فَنَادَاهُ مُنَادٍ مِنْ حَائِطٍ بِاسْمِهِ قَالَ: وَأَشْرَفَ الَّذِي مَعِي عَلَى الْحَائِطِ فَلَمْ يَرَ شَيْئًا، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِأَبِي فَقَالَ: لَوْ شَعَرْتُ أَنَّكَ تَلْقَ هَذَا لَمْ أُرْسِلْكَ، وَلَكِنْ إِذَا سَمِعْتَ صَوْتًا فَنَادِ بِالصَّلَاةِ فَإِنِّي سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ الشَّيْطَانَ إِذَا نُودِيَ بِالصَّلَاةِ وَلَّى وَلَهُ حُصَاصٌ» (2)
وعَنِ الْحَسَنِ، أَنَّ عُمَرَ بَعَثَ رَجُلًا إِلَى سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، فَلَمَّا كَانَ ببعض الطريق، عَرَضَتْ لَهُ الْغُولُ: فَلَمَّا قَدِمَ عَلَى سَعْدٍ قَصَّ عَلَيْهِ الْقِصَّةَ فَقَالَ: أَلَمْ أَقَلْ لَكُمْ إِنَّا كُنَّا إِذَا تَغَوَّلَتْ لَنَا الْغُولُ أَنْ نُنَادِيَ بِالْأَذَانِ، فَلَمَّا رَجَعَ إِلَى عُمَرَ، فَبَلَغَ قَرِيبًا مِنْ ذَلِكَ الْمَكَانِ عَرَضَ لَهُ يَسِيرُ مَعَهُ، فَذَكَرَ مَا قَالَ لَهُ سَعْدٌ فَنَادَى بِالْأَذَانِ، فَذَهَبَ عَنْهُ فَإِذَا سَكَتَ عَرَضَ لَهُ، فَإِذَا أَذَّنَ ذَهَبَ عَنْهُ. " (3)
__________
(1) - دلائل النبوة للبيهقي محققا (7/ 109) ومكائد الشيطان (ص: 33) (14) حسن
(2) - صحيح مسلم (1/ 291) 18 - (389)
التثويب: إقامة الصلاة هاهنا، وهو في موضع آخر قول المؤذن في أذان الفجر: «الصلاة خير من النوم» والأصل فيه الترجيع. =خطر هذا الشيء في نفسي: إذا دار في خاطري، والمراد: أن الشيطان يعرض بين المرء ونفسه، فيسول له الأماني ويحدثه الأحاديث. =الحصاص: الضراط مع شدة العدو، وقيل: هو أن ينصب أذنيه ويرفع ذنبه، ثم يعدو.
(3) -دلائل النبوة للبيهقي محققا (7/ 104) فيه انقطاع - تغولت: تلونت في صور مختلفة(1/382)
8 - قراءة القرآن تعصم من الشياطين:
قال تعالى: {وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا (45) وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا (46)} [الإسراء: 45، 46] (1)
وَإِذَا قَرَأْتَ، يَا مُحَمَّدَ، القُرْآنَ عَلَى هَؤُلاَءِ المُشْرِكِينَ، جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَهُمْ حِجَاباً مَسْتُوراً عَنِ الأَبْصَارِ، يَمْنَعُ وُصُولَ الهُدَى إِلَى قُلُوبِهِمْ، وَذَلِكَ عُقُوبَةً لَهُمْ عَلَى كُفْرِهِمْ، وَاقْتِرَافِهِمِ المُنْكَرِ وَالمَعَاصِي، التِي تَجْعَلُ القُلُوبَ مُظْلِمَةً، وَتَضَعُ عَلَيْهَا أَغْشِيَّةً تَحْجِبُ عَنْهَا الهُدَى.
وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَغْطِيَّةً (أَكِنَّةً) تَغْشَى عَلَيْهَا فَلاُ يَفْقَهُونَ مِنَ القُرْآنِ الذِي تَقْرَؤُهُ شَيْئاً، وَجَعْلَنَا فِي آذَانِهِمْ صَمَماً ثَقِيلاً يَمْنَعُهُمْ مِنَ السَّمْعِ، وَلِذَلِكَ فَإِنَّهُمْ لاَ يَنْتَفِعُونَ بِهِ، وَإِذَا تَلَوْتَ مِنَ القُرْآنِ مَا يَتَّحَدَّثُ عَنْ وَحْدَانِيَّةِ اللهِ تَعَالَى أَدْبَرُوا رَاجِعِينَ نَافِرِينَ مِنْهُ، لأَنَّهُمْ يُرِيدُونَ سَمَاعَ ذِكْرِ آلِهَتِهِمْ: اللاَّتِ وَالعُزَّى .. (2)
وعَنْ قَيْسِ بْنِ الْحَجَّاجِ قَالَ: قَالَ شَيْطَانِي: دَخَلْتُ فيك وأنا مثل الجذور، وَأَنَا فِيكَ الْيَوْمَ مِثْلُ الْعُصْفُورِ. قَالَ: قُلْتُ: وَلِمَ ذَاكَ؟ قَالَ: تُذِيبُنِي بِكِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وجل. (3)
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: شَيْطَانُ الْمُؤْمِنِ مَهْزُولٌ. (4)
وعَنْ أَبِي خَالِدٍ الْوَالِبِي قَالَ: خَرَجْتُ وَافِدًا إِلَى عُمَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَمَعِي أَهْلِي فَنَزَلْنَا مَنْزِلا، وَأَهْلِي خَلْفِي فَسَمِعْتُ أَصْوَاتَ الْغِلْمَانِ، وَجَلَبَتَهُمْ، فَرَفَعْتُ صَوْتِي بِالْقُرْآنِ فَسَمِعْتُ وَجْبَةَ شَيْءٍ طُرِحَ، فَسَأَلْتُهُمْ فَقَالُوا: أَخَذَتْنَا الشَّيَاطِينُ فَلَعِبَتْ بِنَا فَلَمَّا رَفَعْتَ صَوْتَكَ بِالْقُرْآنِ أَلْقَوْنَا وَذَهَبُوا. (5)
__________
(1) - موقع الإسلام سؤال وجواب (1/ 543): كيف نحمي أنفسنا من أذى الجن والأذكار للنووي 114، 115 ط مصطفى الحلبي والموسوعة الفقهية الكويتية - وزارة الأوقاف الكويتية (16/ 95 - 98): الأَْذْكَارُ الَّتِي يُعْتَصَمُ بِهَا مِنَ الشَّيَاطِينِ مَرَدَةِ الْجِنِّ وَيُسْتَدْفَعُ بِهَا شَرُّهُمْ
(2) -أيسر التفاسير لأسعد حومد (ص: 2075، بترقيم الشاملة آليا)
(3) -مكائد الشيطان (ص: 40) (18) حسن مقطوع
(4) -مكائد الشيطان (ص: 41) (19) صحيح موقوف
(5) -مكائد الشيطان (ص: 42) (21) وفيه جهالة(1/383)
9 - قول: لا حول ولا قوة إلا بالله ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن:
وعَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ قَالَ: قَالَ: رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: " مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَخْرُجُ مِنْ بَيْتِهِ يُرِيدُ سَفَرًا أَوْ غَيْرَهُ، فَقَالَ حِينَ يَخْرُجُ: بِسْمِ اللَّهِ، آمَنْتُ بِاللَّهِ، اعْتَصَمْتُ بِاللَّهِ، تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ، لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، إِلَا رُزِقَ خَيْرَ ذَلِكَ الْمَخْرَجِ، وَصُرِفَ عَنْهُ شَرُّ ذَلِكَ الْمَخْرَجِ" (1)
وعَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: إِنِّي لَأَسِيرُ بِتُسْتَرَ فِي طَرِيقٍ مِنْ طُرُقِهَا زَمَنَ فُتِحَتْ إِذْ قُلْتُ: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ فَسَمِعَنِي هِرْبَذٌ مِنْ أُولَئِكَ الْهَرَابِذَةِ، فَقَالَ: مَا سَمِعْتُ هَذَا الْكَلَامَ مِنْ أَحَدٍ مُذْ سَمِعْتُهُ مِنَ اللَّهِ. قَالَ: قُلْتُ: وَكَيْفَ ذَاكَ؟ قَالَ: إِنِّي كُنْتُ رَجُلًا أَفِدُ عَلَى الْمُلُوكِ أَفِدِ عَلَى كِسْرَى وَقَيْصَرَ فَوَفَدْتُ عَامًا عَلَى كِسْرَى فَخَلَفَنِي فِي أَهْلِي شَيْطَانٌ تَصَوَّرَ عَلَى صُورَتِي فَلَمَّا قَدِمْتُ لَمْ يُهَشَّ إِلَيَّ أَهْلِي كَمَا يَهَشُّ أَهْلُ الْغَائِبِ إِلَى غَائِبِهِمْ، فَقُلْتُ: مَا شَأْنُكُمْ؟ قَالُوا: إِنَّكَ لَمْ تَغِبْ. قُلْتُ: وَكَيْفَ ذَاكَ؟ قَالَ: وَظَهَرَ لِي الشَّيْطَانُ , فَقَالَ: اخْتَرْ إِمَّا أَنْ يَكُونَ لَكَ مِنْهَا يَوْمٌ وَلِي يَوْمٌ وَإِلَّا أَهْلَكْتُكَ. قَالَ: فَاخْتَرْتُ أَنْ يَكُونَ لَهُ يَوْمٌ وَلِي يَوْمٌ فَأَتَانِي يَوْمًا , فَقَالَ: إِنَّهُ مِمَّنْ يَسْتَرِقُ السَّمْعَ وَإِنَّ اسْتِرَاقَ السَّمْعِ بَيْنَنَا نُوَبٌ وَإِنَّ نَوْبَتِي اللَّيْلَةَ فَهَلْ لَكَ أَنْ تَجِيءَ مَعَنَا؟ قَالَ: قُلْتُ: نَعَمْ فَلَمَّا أَمْسَى أَتَانِي فَحَمَلَنِي عَلَى ظَهْرِهِ فَإِذَا لَهُ مَعْرَفَةٌ كَمَعْرَفَةِ الْخِنْزِيرِ , فَقَالَ لِي: اسْتَمْسِكْ فَإِنَّكَ تَرَى أُمُورًا وَأَهْوَالًا فَلَا تُفَارِقْنِي فَتَهْلِكَ. قَالَ: ثُمَّ عَرَجُوا حَتَّى لَصِقُوا بِالسَّمَاءِ. قَالَ: فَسَمِعْتُ قَائِلًا يَقُولُ: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ مَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ وَمَا لَا يَشَاءُ اللَّهُ لَا يَكُونُ. قَالَ: فَلِيحَ بِهِمْ فَوَقَعُوا مِنْ وَرَاءِ الْعُمْرَانِ فِي غِيَاضٍ وَشَجَرٍ قَالَ: وَحَفِظْتُ الْكَلِمَاتِ فَلَمَّا أَنْ أَصْبَحْتُ أَتَيْتُ أَهْلِي فَكَانَ إِذَا جَاءَ قُلْتُهُنَّ فَيَضْطَرِبُ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ كُوَّةِ الْبَيْتِ فَلَمْ أَزَلْ أَقُولُهُنَّ حَتَّى انْقَطَعَ عَنِّي" (2)
وعن عَمْرَو بْنِ مَالِكٍ النُّكْرِيِّ، سَمِعْتُ أَبَا الْجَوْزَاءِ يَقُولُ:: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنَّ الشَّيْطَانَ لازِمٌ بِالْقَلْبِ، مَا يَسْتَطِيعُ صَاحِبُهُ أَنْ يَذْكُرَ اللَّهَ تَعَالَى. أَمَا تَرَوْنَهُمْ فِي مَجَالِسِهِمْ، وَأَسْوَاقِهِمْ، يَأْتِي عَلَى أَحَدِهُمْ عَامَّةُ يَوْمِهِ لا يذكر الله تعالى إلا حالفا، ماله مِنَ
__________
(1) - الدعاء للمحاملي (ص: 38) (1) وتهذيب الآثار مسند علي (3/ 98) (167) ومسند أحمد ط الرسالة (1/ 513) (471) حسن لغيره
(2) - الإشراف في منازل الأشراف لابن أبي الدنيا (ص: 311) (442) والهواتف = هواتف الجنان لابن أبي الدنيا (ص: 83) (91) ومعرفة الصحابة لأبي نعيم (1/ 371) (1127) صحيح موقوف(1/384)
الْقَلْبِ طَرْدٌ إِلا قَوْلُهُ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ. ثُمَّ قَرَأَ: {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا} [الإسراء: 46]. (1)
10 - الوضوء والاغتسال من الغضب:
عَنْ عَطِيَّةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ الْغَضَبَ مِنَ الشَّيْطَانِ، وَإِنَّ الشَّيْطَانَ خُلِقَ مِنَ النَّارِ، وَإِنَّمَا تُطْفَأُ النَّارُ بِالْمَاءِ، فَإِذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَتَوَضَّأْ» (2)
وعَنْ أَبِي مُسْلِمٍ الْخَوْلَانِيِّ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ أَنَّهُ خَطَبَ النَّاسَ وَقَدْ حَبَسَ الْعَطَاءَ شَهْرَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً، فَقَالَ لَهُ أَبُو مُسْلِمٍ: " يَا مُعَاوِيَةُ، إِنَّ هَذَا الْمَالَ لَيْسَ بِمَالِكَ وَلَا مَالِ أَبِيكَ وَلَا مَالِ أُمِّكَ. فَأَشَارَ مُعَاوِيَةُ إِلَى النَّاسِ أَنِ امْكُثُوا، وَنَزَلَ فَاغْتَسَلَ، ثُمَّ رَجَعَ، فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ أَبَا مُسْلِمٍ ذَكَرَ أَنَّ هَذَا الْمَالَ لَيْسَ بِمَالِ أَبِي وَلَا مَالِ أُمِّي، وَصَدَقَ أَبُو مُسْلِمٍ، وَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «الْغَضَبُ مِنَ الشَّيْطَانِ، وَالشَّيْطَانُ مِنَ النَّارِ، وَالْمَاءُ يُطْفِئُ النَّارَ»، فَإِذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَغْتَسِلْ. اغْدُوا عَلَى أُعْطِيَاتِكُمْ عَلَى بَرَكَةِ اللَّهِ " (3)
وعَنْ خَيْثَمَةَ قَالَ: " كَانُوا يَقُولُونَ: إِنَّ الشَّيْطَانَ يَقُولُ: كَيْفَ يَغْلِبُنِي ابْنُ آدَمَ؟ إِذَا رَضِيَ كُنْتُ فِي قَلْبِهِ، وَإِذَا غَضِبَ طِرْتُ حَتَّى أَكُونَ فِي رَأْسِهِ " (4)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: أَوْصِنِي، قَالَ: «لاَ تَغْضَبْ» فَرَدَّدَ مِرَارًا، قَالَ: «لاَ تَغْضَبْ» (5)
__________
(1) - مكائد الشيطان (ص: 44) (23) صحيح
(2) - سنن أبي داود (4/ 249) (4784) حسن
(3) - شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (8/ 1525) (2775) وحلية الأولياء وطبقات الأصفياء (2/ 130) وأخرجه ابن عساكر (59/ 169) ضعيف
(4) - الزهد والرقائق لابن المبارك والزهد لنعيم بن حماد (1/ 354) (996) صحيح مقطوع
(5) - صحيح البخاري (8/ 28) (6116)(1/385)
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " قالَ ابن التِّين: جَمَعَ - صلى الله عليه وسلم - فِي قَولُه: "لا تَغضَب " خَير الدُّنيا والآخِرَة لأَنَّ الغَضَب يَئُولُ إِلَى التَّقاطُع ومَنع الرِّفق، ورُبَّما آلَ إِلَى أَن يُؤذِي المَغضُوب عَلَيهِ فَيُنتَقَص ذَلِكَ مِنَ الدِّين.
وقالَ البَيضاوِيّ: لَعَلَّهُ لَمّا رَأَى أَنَّ جَمِيع المَفاسِد الَّتِي تَعرِض لِلإِنسانِ إِنَّما هِيَ مِن شَهوته ومِن غَضَبه، وكانَت شَهوة السّائِل مَكسُورَة فَلَمّا سَأَلَ عَمّا يَحتَرِز بِهِ عَن القَبائِح نَهاهُ عَن الغَضَب الَّذِي هُو أَعظَم ضَرَرًا مِن غَيره، وأَنَّهُ إِذا مَلَكَ نَفسه عِندَ حُصُوله كانَ قَد قَهَرَ أَقوى أَعدائِهِ انتَهَى.
ويَحتَمِل أَن يَكُون مِن باب التَّنبِيه بِالأَعلَى عَلَى الأَدنَى، لأَنَّ أَعدَى عَدُوّ لِلشَّخصِ شَيطانه ونَفسه، والغَضَب إِنَّما يَنشَأ عَنهُما، فَمَن جاهَدَهُما حَتَّى يَغلِبهُما مَعَ ما فِي ذَلِكَ مِن شِدَّة المُعالَجَة كانَ لِقَهرِ نَفسه عَن الشَّهوة أَيضًا أَقوى.
وقالَ ابن حِبّان بَعد أَن أَخرَجَهُ: أَرادَ لا تَعمَل بَعد الغَضَب شَيئًا مِمّا نَهَيت عَنهُ، لا أَنَّهُ نَهاهُ عَن شَيء جُبِلَ عَلَيهِ ولا حِيلَة لَهُ فِي دَفعه.
وقالَ بَعض العُلَماء: خَلَقَ الله الغَضَب مِنَ النّار وجَعَلَهُ غَرِيزَة فِي الإِنسان، فَمَهما قَصَدَ أَو نُوزِعَ فِي غَرَض ما اشتَعَلَت نار الغَضَب وثارَت حَتَّى يَحمَرّ الوجه والعَينانِ مِنَ الدَّم؛ لأَنَّ البَشَرَة تَحكِي لَون ما وراءَها، وهَذا إِذا غَضِبَ عَلَى مَن دُونه واستَشعَرَ القُدرَة عَلَيهِ، وإِن كانَ مِمَّن فَوقه تَولَّدَ مِنهُ انقِباض الدَّم مِن ظاهِر الجِلد إِلَى جَوف القَلب فَيَصفَرّ اللَّون حُزنًا، وإِن كانَ عَلَى النَّظِير تَرَدَّدَ الدَّم بَينَ انقِباض وانبِساط فَيَحمَرّ ويَصفَرّ ويَتَرَتَّب عَلَى الغَضَب تَغَيُّر الظّاهِر والباطِن كَتَغَيُّرِ اللَّون والرِّعدَة فِي الأَطراف وخُرُوج الأَفعال عَن غَير تَرتِيب واستِحالَة الخِلقَة حَتَّى لَو رَأَى الغَضبان نَفسه فِي حال غَضَبه لَكانَ غَضَبه حَياء مِن قُبح صُورَته واستِحالَة خِلقَته، هَذا كُلّه فِي الظّاهِر، وأَمّا الباطِن فَقُبحه أَشَدُّ مِنَ الظّاهِر؛ لأَنَّهُ يُولِّد الحِقد فِي القَلب والحَسَد وإِضمار السُّوء عَلَى اختِلاف أَنواعه، بَل أَولَى شَيء يَقبُح مِنهُ باطِنه، وتَغَيُّر ظاهِره ثَمَرَة تَغَيُّر باطِنه، وهَذا كُلّه أَثَره فِي الجَسَد.(1/386)
وأَمّا أَثَره فِي اللِّسان فانطِلاقه بِالشَّتمِ والفُحش الَّذِي يَستَحيِي مِنهُ العاقِل ويَندَم قائِله عِندَ سُكُون الغَضَب ويَظهَر أَثَر الغَضَب أَيضًا فِي الفِعل بِالضَّربِ أَو القَتل، وإِن فاتَ ذَلِكَ بِهَرَبِ المَغضُوب عَلَيهِ رَجَعَ إِلَى نَفسه فَيُمَزِّق ثَوبه ويَلطِم خَدَّهُ، ورُبَّما سَقَطَ صَرِيعًا، ورُبَّما أُغمِيَ عَلَيهِ، ورُبَّما كَسَرَ الآنِيَة وضَرَبَ مَن لَيسَ لَهُ فِي ذَلِكَ جَرِيمَة.
ومَن تَأَمَّلَ هَذِهِ المَفاسِد عَرَفَ مِقدار ما اشتَمَلَت عَلَيهِ هَذِهِ الكَلِمَة اللَّطِيفَة مِن قَوله - صلى الله عليه وسلم - " لا تَغضَب " مِنَ الحِكمَة واستِجلاب المَصلَحَة فِي دَرء المَفسَدَة مِمّا يَتَعَذَّر إِحصاؤُهُ والوُقُوف عَلَى نِهايَته، وهَذا كُلّه فِي الغَضَب الدُّنيَوِيّ لا الغَضَب الدِّينِيّ كَما تَقَدَّمَ تَقرِيره فِي الباب الَّذِي قَبله، ويُعِين عَلَى تَرك الغَضَب استِحضار ما جاءَ فِي كَظم الغَيظ
مِنَ الفَضل، وما جاءَ فِي عاقِبَة ثَمَرَة الغَضَب مِنَ الوعِيد، وأَن يَستَعِيذ مِنَ الشَّيطان كَما تَقَدَّمَ فِي حَدِيث سُلَيمان بن صُرَد، وأَن يَتَوضَّأ كَما تَقَدَّمَت الإِشارَة إِلَيهِ فِي حَدِيث عَطِيَّة، واللَّهُ أَعلَمُ. " (1)
11 - إمْسَاك فضول النّظر وَالْكَلَام وَالطَّعَام ومخالطة النَّاس فَإِن الشَّيْطَان إِنَّمَا يتسلط على ابْن آدم من هَذِه الْأَبْوَاب الْأَرْبَعَة:
عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَنْظُرُ إِلَى مَحَاسِنِ امْرَأَةٍ أَوَّلَ مَرَّةٍ، ثُمَّ يَغُضُّ بَصَرَهُ إِلَّا أَحْدَثَ اللهُ لَهُ عِبَادَةً يَجِدُ حَلَاوَتَهَا " (2)
وعَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «النَّظْرَةُ سَهْمٌ مَسْمُومٌ مِنْ سِهَامِ الشَّيْطَانِ فَمَنْ تَرَكَهَا مَخَافَتِي أَعْقَبْتُهُ عَلَيْهَا إِيمَانًا يَجِدُ طَعْمَهُ فِي قَلْبِهِ» (3)
وعَنْ حُذَيْفَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «النَّظْرَةُ سَهْمٌ مِنْ سِهَامِ إِبْلِيسَ مَسْمُومَةٌ فَمَنْ تَرَكَهَا مِنْ خَوْفِ اللَّهِ أَثَابَهُ جَلَّ وَعَزَّ إِيمَانًا يَجِدُ حَلَاوَتَهُ فِي قَلْبِهِ» (4)
__________
(1) - فتح الباري شرح صحيح البخاري- ط دار المعرفة (10/ 520)
(2) - مسند أحمد ط الرسالة (36/ 610) (22278) ضعيف
قال ابن كثير: "ورُوي هَذَا مَرْفُوعًا عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَحُذَيْفَةَ، وَعَائِشَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَلَكِنْ فِي إِسْنَادِهَا ضَعْفٌ، إِلَّا أَنَّهَا فِي التَّرْغِيبِ، وَمِثْلُهُ يُتَسَامَحُ فِيهِ. تفسير ابن كثير ت سلامة (6/ 43)
(3) - مسند الشهاب القضاعي (1/ 196) (293) ضعيف
(4) - المستدرك على الصحيحين للحاكم (4/ 349) (7875) ضعيف(1/387)
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: " الشَّيْطَانُ مِنَ الرَّجُلِ فِي ثَلَاثَةِ مَنَازِلَ: فِي بَصَرِهِ وَقَلْبِهِ وذَكَرِهِ وَهُوَ مِنَ الْمَرْأَةِ فِي ثَلَاثَةِ مَنَازِلَ: فِي بَصَرِهَا وَقَلْبِهَا وَعُجُزِهَا " (1)
وعن ابْنُِ عَبَّاسٍ في قوله تعالى: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر: 19] قَالَ: «الرَّجُلُ يَكُونُ فِي الْقَوْمِ فَتَمُرُّ بِهِمِ الْمَرْأَةُ، فَيُرِيهِمْ أَنَّهُ يَغُضُّ بَصَرَهُ عَنْهَا، فَإِنْ رَأَى مِنْهُمْ غَفَلَةً نَظَرَ إِلَيْهَا، فَإِنْ خَافَ أَنْ يَفْطِنُوا بِهِ غَضَّ بَصَرَهُ عَنْهَا، وَقَدِ اطَّلَعَ اللَّهُ مِنْ قَلْبِهِ أَنَّهُ وَدَّ أَنَّهُ نَظَرَ إِلَى عَوْرَتِهَا» (2)
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي الْهُذَيْلِ الْعَنَزِيِّ قَالَ: عَادَ عَبْدُ اللَّهِ رَجُلًا مَرِيضًا فَرَأَى رَجُلًا يَنْظُرُ إِلَى امْرَأَةِ الْمَرِيضِ , فَقَالَ: يَا هَذَا لَوْ ذَهَبَتْ عَيْنَاكَ كَانَ خَيْرًا لَكَ " (3)
12 - عدم الخوف من الشيطان إذا رآه:
عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: كُنْتُ أَلْقَى مِنْ رُؤْيَةِ الْغُولِ وَالشَّيَاطِينِ بَلاَءً وَأَرَى خَيَالاً، فَسَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ؟ فَقَالَ: أَخْبِرنِي عَلَى مَا رَأَيْتَ، وَلاَ تُفْرَقنَّ مِنْهُ، فَإِنَّهُ يَفْرَقُ مِنْكَ كَمَا تَفْرَقُ مِنْهُ، وَلاَ تَكُنْ أَجْبَنَ السَّوَادَيْنِ، قَالَ مُجَاهِدٌ: فَرَأَيْتُهُ فَأَسْنَدْتُ عَلَيْهِ بِعَصَا حَتَّى سَمِعْتُ وَقْعَتَهُ. (4)
وعَنْ مُجَاهِدٍ: بَيْنَا أَنَا أُصَلِّي، إِذْ قَامَ مِثْلُ الْغُلامِ ذَاتَ لَيْلَةٍ، فَشَدَدْتُ عَلَيْهِ لِآخُذَهُ، فَوَثَبَ، فَوَقَعَ خَلْفَ الْحَائِطِ، حَتَّى سَمِعْتُ وَقْعَتَهُ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّهُمْ يَهَابُونَكُمْ كَمَا تَهَابُونَهُمْ مِنْ أَجْلِ مُلْكِ سُلَيْمَانَ. (5)
وعَنْ مُجَاهِدٍ، أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ الشَّيْطَانَ يَتَّقِيكُمْ كَمَا تَتَّقُونَهُ، فَإِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَلَا تَهَابُوهُ فَيَرْكَبَكُمْ، وَلَكِنْ شُدُّوا عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يَهْرَبُ» (6)
__________
(1) - الزهد لوكيع (ص: 796) (485) والزهد لهناد بن السري (2/ 651) حسن
(2) - مصنف ابن أبي شيبة (4/ 7) (17228) فيه انقطاع
(3) - الزهد لهناد بن السري (2/ 650) حسن
(4) - المصنف ابن أبي شيبة -طبعة الدار السلفية الهندية (7/ 420) (24069) صحيح
(5) - تاريخ الإسلام ت تدمري (7/ 237) صحيح
(6) - الآثار لأبي يوسف (ص: 128) (585) صحيح مقطوع -الهيبة: من هابَ الشَّيءَ يَهابُه إذا خَافَهُ وإذا وَقَّرَهُ وعَظَّمَه.(1/388)
13 - تصفيد مردة الجن في رمضان:
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: " إِذَا كَانَ أَوَّلُ لَيْلَةٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ صُفِّدَتِ الشَّيَاطِينُ، وَمَرَدَةُ الجِنِّ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النَّارِ، فَلَمْ يُفْتَحْ مِنْهَا بَابٌ، وَفُتِّحَتْ أَبْوَابُ الجَنَّةِ، فَلَمْ يُغْلَقْ مِنْهَا بَابٌ، وَيُنَادِي مُنَادٍ: يَا بَاغِيَ الخَيْرِ أَقْبِلْ، وَيَا بَاغِيَ الشَّرِّ أَقْصِرْ، وَلِلَّهِ عُتَقَاءُ مِنَ النَّارِ، وَذَلكَ كُلُّ لَيْلَةٍ " (1)
وعن أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إِذَا دَخَلَ شَهْرُ رَمَضَانَ فُتِّحَتْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ جَهَنَّمَ، وَسُلْسِلَتِ الشَّيَاطِينُ» (2)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ لِأَصْحَابِهِ يُبَشِّرُهُمْ: " قَدْ جَاءَكُمْ رَمَضَانُ شَهْرٌ مُبَارَكٌ افْتَرَضَ اللهُ عَلَيْكُمْ صِيَامَهُ، يُفْتَحُ فِيهِ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ، وَيُغْلَقُ فِيهِ أَبْوَابُ الْجَحِيمِ، وَيُغَلُّ فِيهِ الشَّيَاطِينُ، فِيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ مِنْ حُرِمَ خَيْرَهَا فَقَدْ حُرِمَ " (3)
وعَنْ عَرْفَجَةَ، قَالَ: كُنَّا عِنْدَ عُتْبَةَ بْنِ فَرْقَدٍ، وَهُوَ يُحَدِّثُنَا عَنْ رَمَضَانَ، إِذْ دَخَلَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَسَكَتَ عُتْبَةُ بْنُ فَرْقَدٍ، قَالَ: يَا أَبَا عَبْدَ اللهِ حَدِّثْنَا عَنْ رَمَضَانَ، كَيْفَ سَمِعْتَ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ فِيهِ؟ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: " رَمَضَانُ شَهْرٌ مُبَارَكٌ يُفْتَحُ فِيهِ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ، وَيُغْلَقُ فِيهِ أَبْوَابُ السَّعِيرِ، وَتُصَفَّدُ فِيهِ الشَّيَاطِينُ، وَيُنَادِي مُنَادٍ كُلَّ لَيْلَةٍ: يَا بَاغِيَ الْخَيْرِ هَلُمَّ إِلَى الْخَيْرِ، وَيَا بَاغِيَ الشَّرِّ أَقْصِرْ "
قَالَ الشَّيْخُ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللهُ: قَالَ الْحَلِيمِيُّ: " وَتَصْفِيدُ الشَّيَاطِينِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ أَيَّامُهُ خَاصَّةً، وَأَرَادَ الشَّيَاطِينُ الَّتِي هِيَ تَسْتَرِقُ السَّمْعَ أَلَا تَرَاهُ، قَالَ: مَرَدَةُ الشَّيَاطِينِ؛ لِأَنَّ شَهْرَ رَمَضَانَ كَانَ وَقْتًا لِنُزُولِ الْقُرْآنِ إِلَى السَّمَاءِ
__________
(1) - سنن الترمذي ت شاكر (3/ 58) (682) صحيح
[ش (إذا كانت) أي وجدت وتحققت. على أن السكون نام. (صفدت) أي شدت وأوثقت بالأغلال. (مردة) جمع مارد. وهو العاتي الشديد. (يا باغي الخير أقبل) معناه يا طالب الخير أقبل على فعل الخير. (ويا باغي الشر أقصر) معناه يا طالب الشر أمسك وتب فإنه أوان قبول التوبة].
(2) - صحيح البخاري (3/ 25) (1899) وصحيح مسلم (2/ 758) 2 - (1079)
(فتحت) المراد حقيقة الفتح وقيل هو كناية عن كثرة الطاعات. (أبواب السماء) المراد بالسماء الجنة لأنها يصعد منها إلى الجنة لأنها فوق السماء وسقفها عرش الرحمن. (سلست الشياطين) شدت بالسلاسل ومنعت من الوصول إلى بغيتها من إفساد المسلمين بالقدر الذي كانت تفعله في غير رمضان]
(3) - شعب الإيمان (5/ 218) (3328) صحيح(1/389)
الدُّنْيَا، وَكَانَتِ الْحِرَاسَةُ قَدْ وَقَعَتْ بالشُّهُبِ كَمَا قَالَهُ: {وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ} [الصافات: 7] فَزِيدَ التَّصْفِيدُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ مُبَالَغَةٌ فِي الْحِفْظِ، وَاللهُ أَعْلَمُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ أَيَّامُهُ وَبَعْدَهُ، وَالْمَعْنَى أَنَّ الشَّيَاطِينَ لَا يَخْلُصُونَ فِيهِ من إِفْسَادِ النَّاسِ إِلَى مَا يَخْلُصُونَ إِلَيْهِ فِي غَيْرِهِ لِاشْتِغَالِ أَكْثَرِ الْمُسْلِمِينَ بِالصِّيَامِ الَّذِي فِيهِ قَمْعُ الشَّهَوَاتِ، وَبِقِراءَةِ الْقُرْآنِ وَسَائِرِ الْعِبَادَاتِ وَاللهُ أَعْلَمُ " (1)
14 - اتقاء وسواس الوضوء:
عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إِنَّ لِلْوُضُوءِ شَيْطَانًا يُقَالَ لَهُ وَلَهَانُ، فَاتَّقُوا وَسْوَاسَ الْمَاءِ» (2)
وعَنِ الْحَسَنِ، قَالَ: " شَيْطَانُ الْوُضُوءِ يُدْعَى الْوَلَهَانُ يَضْحَكُ بِالنَّاسِ فِي الْوُضُوءِ ".
وعَنْ يُونُسَ قَالَ: كَانَ يُقَالُ: إِنَّ لِلْمَاءِ وَسْوَاسًا فَاتَّقُوا وَسْوَاسَ الْمَاءِ. (3)
15 - النهي عن البول في الجحر:
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَرْجِسَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى أَنْ يُبَالَ فِى الْجُحْرِ. قَالَ قَالُوا لِقَتَادَةَ مَا يُكْرَهُ مِنَ الْبَوْلِ فِى الْجُحْرِ قَالَ كَانَ يُقَالُ إِنَّهَا مَسَاكِنُ الْجِنِّ. (4)
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَرْجِسَ، أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لَا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي جُحْرٍ» قَالُوا لِقَتَادَةَ: وَمَا يُكْرَهُ مِنَ الْبَوْلِ فِي الْجُحْرِ؟ قَالَ: يُقَالَ إِنَّهَا مَسَاكِنُ الْجِنِّ" (5)
__________
(1) - شعب الإيمان (5/ 219) (3329) وسنن النسائي (4/ 130) (2108) صحيح
(2) - صحيح ابن خزيمة (1/ 63) (122) ضعيف جدا وصح وقفه
(3) - السنن الكبرى للبيهقي (1/ 304) (950) صحيح مقطوع
[ش (ولهان) مصدر " وله ". إذا تحير الشيطان لإلقاء الناس في التحير سمي بهذا الإسم. (وسواس الماء) أي وسواس يفضي إلى كثرة إراقة الماء حالة الوضوء والاستنجاء. أو المراد بالوسواس التردد في طهارة الماء ونجاسته بلا طهور علامات النجاسة].
(4) - سنن أبي داود - دار الكتاب العربي (1/ 12) (29) وسنن النسائي (1/ 33) (34) صحيح
(5) - سنن النسائي (1/ 33) (34) صحيح - (فِي الْجُحْرِ) أَيِ الثَّقْبِ لِأَنَّهُ مَأْوَى الْهَوَامِّ الْمُؤْذِيَةِ فَلَا يُؤْمَنُ أَنْ يُصِيبَهُ مَضَرَّةٌ مِنْهَا (قَالَ) هِشَامٌ الدَّسْتُوَائِيُّ (مَا يُكْرَهُ) مَا اسْتِفْهَامِيَّةٌ أَيْ لِمَ يُكْرَهْ (إِنَّهَا) أَيِ الْجِحَرَةُ وَالْجِحَرَةُ جَمْعُ جُحْرٍ كَالْأَجْحَارِ"عون المعبود وحاشية ابن القيم (1/ 33)(1/390)
16 - الذكر الجماعي:
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَوْ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا شَكَّ الْأَعْمَشُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: إِنَّ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مَلَائِكَةً سَيَّاحِينَ فِي الْأَرْضِ فَضْلًا عَنْ كِتَابِ النَّاسِ إِذَا وَجَدُوا قَوْمًا يَذْكُرُونَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ تَنَادَوْا هَلُمُّوا إِلَى بُغْيَتِكُمْ فَيَحُفُّونَ بِهِمْ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: «أَيُّ شَيْءٍ تَرَكْتُمْ عِبَادِي يَصْنَعُونَ؟» فَيَقُولُونَ: تَرَكْنَاهُمْ يَحْمَدُونَكَ وَيُمَجِّدُونَكَ وَيَذْكُرُونَكَ، فَيَقُولُ: «هَلْ رَأَوْنِي؟» فَيَقُولُونَ: لَا، فَيَقُولُ: «كَيْفَ لَوْ رَأَوْنِي»، فَيَقُولُونَ: لَوْ رَأَوْكَ كَانُوا أَشَدَّ تَحْمِيدًا وَتَمْجِيدًا وَذِكْرًا، فَيَقُولُ: «مَا يَسْأَلُونِي؟» فَيَقُولُونَ: يَسْأَلُونَكَ الْجَنَّةَ، فَيَقُولُ: «وَهَلْ رَأَوْهَا؟» فَيَقُولُونَ: لَا، فَيَقُولُ: «فَكَيْفَ لَوْ رَأَوْهَا»، فَيَقُولُونَ: لَوْ رَأَوْهَا لَكَانُوا أَشَدَّ لَهَا طَلَبًا وَأَشَدَّ عَلَيْهَا حِرْصًا، فَيَقُولُ: «فَمِنْ أَيِّ شَيْءٍ يَتَعَوَّذُونَ؟» فَيَقُولُونَ: مِنَ النَّارِ، فَيَقُولُ: «وَهَلْ رَأَوْهَا؟» فَيَقُولُونَ: لَا، فَيَقُولُ: «فَكَيْفَ لَوْ رَأَوْهَا»، فَيَقُولُونَ: لَوْ رَأَوْهَا لَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهَا هَرَبًا وَأَشَدَّ مِنْهَا تَعَوُّذًا وَخَوْفًا، فَيَقُولُ: «فَإِنَّى أُشْهِدُكُمْ أَنِّي غَفَرْتُ لَهُمْ»، فَيَقُولُونَ: فَإِنَّ فِيهِمْ فُلَانًا الْخَطَّاءَ لَمْ يُرِدْهُمْ إِنَّمَا جَاءَ لِحَاجَةٍ، فَيَقُولُ: «هُمُ الْقَوْمُ لَا يَشْقَى بِهِمْ جَلِيسُهُمْ» (1)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: " إِنَّ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مَلَائِكَةً فَضْلًا عَنْ كُتَّابِ النَّاسِ يَطُوفُونَ فِي الطُّرُقِ وَيَلْتَمِسُونَ أَهْلَ الذِّكْرِ فَإِذَا وَجَدُوا قَوْمًا يَذْكُرُونَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ تَنَادَوْا هَلُمُّوا إِلَى حَاجَتِكُمْ فَتَحُفُّهُمْ بِأَجْنِحَتِهَا إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا، فَيَسْأَلُهُمْ رَبُّهُمْ عَزَّ وَجَلَّ وَهُوَ أَعْلَمُ بِهِمْ: مَا يَقُولُ عِبَادِي؟ فَيَقُولُونَ: يُكَبِّرُونَكَ وَيُسَبِّحُونَكَ وَيَحْمَدُونَكَ وَيُمَجِّدُونَكَ، قَالَ: فَهَلْ رَأَوْنِي؟ فَيَقُولُونَ: لَا، وَاللَّهِ يَا رَبِّ مَا رَأَوْكَ، فَيَقُولُ: فَكَيْفَ لَوْ أَنَّهُمْ رَأَوْنِي، فَيَقُولُونَ: لَوْ رَأَوْكَ كَانُوا أَشَدَّ لَكَ عِبَادَةً وَأَشَدَّ تَحْمِيدًا وَأَكْثَرَ تَسْبِيحًا، قَالَ: فَيَقُولُ: مَا يَسْأَلُونِي؟ قَالَ: فَيُقَالُ: يَسْأَلُونَكَ الْجَنَّةَ، فَيَقُولُ: فَكَيْفَ لَوْ رَأَوْهَا، فَيَقُولُونَ: لَوْ رَأَوْهَا كَانُوا أَشَدَّ حِرْصًا وَأَشَدَّ لَهَا طَلَبًا وَأَعْظَمَ فِيهَا رَغْبَةً، فَيَقُولُ: وَمِمَّا يَتَعَوَّذُونَ؟ فَيَقُولُونَ: مِنَ النَّارِ، فَيَقُولُ: هَلْ رَأَوْهَا؟ فَيَقُولُونَ: مَا رَأَوْهَا، فَيَقُولُ: كَيْفَ لَوْ رَأَوْهَا، فَيَقُولُونَ: لَوْ رَأَوْهَا كَانُوا أَشَدَّ مِنْهَا فِرَارًا وَأَشَدَّ
__________
(1) - الدعاء للطبراني (ص: 530) (1894) صحيح مشهور(1/391)
لَهَا مَخَافَةً، فَيَقُولُ: فَإِنِّي أُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ، فَيَقُولُ مَلَكٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ: فِيهِمْ فُلَانٌ لَيْسَ مِنْهُمْ إِنَّمَا جَاءَ لِحَاجَةٍ، قَالَ: إِنَّهُمُ الْجُلَسَاءُ لَا يَشْقَى بِهِمْ جَلِيسُهُمْ " (1)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ يَذْكُرُونَ اللَّهَ تَعَالَى إِلَّا حَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ، وَتَغَشَّتْهُمُ الرَّحْمَةُ، وَنَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ، وَذَكَرَهُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِيمَنْ عِنْدَهُ» (2)
وعَنِ الْأَغَرِّ، قَالَ: أَشْهَدُ عَلَى أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُمَا شَهِدَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ: " لِأَهْلِ ذِكْرِ اللَّهِ أَرْبَعٌ: تَنْزِلُ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ، وَتَحُفُّ بِهِمُ الْمَلَائِكَةُ، وَتَغْشَاهُمُ الرَّحْمَةُ، وَيَذْكُرُهُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي مَلَأٍ عِنْدَهُ " (3)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُمَا شَهِدَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَا قَعَدَ قَوْمٌ يَذْكُرُونَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ إِلَّا حَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ، وَتَنَزَّلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ، وَتَغَشَّتْهُمُ الرَّحْمَةُ، وَذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ» (4)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَشْهَدَانِ بِهِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَا جَلَسَ قَوْمٌ مَجْلِسًا فَيَذْكُرُونَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فِيهِ إِلَّا حَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ، وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ، وَتَنَزَّلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ، وَذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ» (5)
وعَنِ الْأَغَرِّ أَبِي مُسْلِمٍ، قَالَ: أَشْهَدُ أَنِّي سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ، وَأَبَا سَعِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَشْهَدَانِ أَنَّهُمَا سَمِعَا رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «لَمْ يَقْعُدْ قَوْمٌ يَذْكُرُونَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ إِلَّا حَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ، وَنَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ، وَتَغَشَّتْهُمُ الرَّحْمَةُ، وَذَكَرَهُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِيمَنْ عِنْدَهُ» (6)
__________
(1) - الدعاء للطبراني (ص: 531) (1895 - 1897) صحيح
(2) - الدعاء للطبراني (ص: 531) (1898) صحيح
(3) - الدعاء للطبراني (ص: 532) (1899) صحيح
(4) - الدعاء للطبراني (ص: 532) (1900) صحيح
(5) - الدعاء للطبراني (ص: 532) (1901) صحيح
(6) - الدعاء للطبراني (ص: 532) (1902) صحيح(1/392)
وعَنِ الْأَغَرِّ أَبِي مُسْلِمٍ، أَنَّهُ قَالَ: أَشْهَدُ عَلَى أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّهُمَا شَهِدَا عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ: «لَا يَقْعُدُ قَوْمٌ يَذْكُرُونَ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ إِلَّا حَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ، وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ، وَنَزَلَتْ عَلَيْهِمِ السَّكِينَةُ، وَذَكَرَهُمُ اللهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ» (1)
وعَنِ الْأَغَرِّ، قَالَ: أَشْهَدُ عَلَى أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُمَا قَالَا: نَشْهَدُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ: " لِأَهْلِ ذِكْرِ اللَّهِ أَرْبَعُ خِصَالٍ: تَغْشَاهُمُ الرَّحْمَةُ، وَتَنْزِلُ بَيْنَهُمُ السَّكِينَةُ، وَتَحُفُّ بِهِمُ الْمَلَائِكَةُ، وَيَذْكُرُهُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِيمَنْ عِنْدَهُ " (2)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا، نَفَّسَ اللهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ، يَسَّرَ اللهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا، سَتَرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَاللهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ، وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا، سَهَّلَ اللهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ، وَمَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللهِ، يَتْلُونَ كِتَابَ اللهِ، وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ، إِلَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمِ السَّكِينَةُ، وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ وَحَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ، وَذَكَرَهُمُ اللهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ، وَمَنْ بَطَّأَ بِهِ عَمَلُهُ، لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ» (3)
وعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، رضي الله عنه قَالَ: إِنَّ الشَّيْطَانَ أَطَافَ بِأَهْلِ مَجْلِسِ ذِكْرٍ لِيَفْتِنَهُمْ، فَلَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَهُمْ، فَأَتَى عَلَى حَلَقَةٍ يَذْكُرُونَ الدُّنْيَا، فَأَغْرَى بَيْنَهُمْ حَتَّى اقْتَتَلُوا، فَقَامَ أَهْلُ الذِّكْرِ فَحَجَزُوا بَيْنَهُمُ فَتَفَرَّقُوا " (4)
17 - التفقه في دين الله:
عَنْ مُجَاهِدٍ، أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ، يَقُولُ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: «فَقِيهٌ وَاحِدٌ أَشَدُّ عَلَى الشَّيْطَانِ مَنْ أَلْفِ عَابِدٍ» (5)
__________
(1) - صحيح مسلم (4/ 2074) 39 - (2700)
(2) - الدعاء للطبراني (ص: 533) (1906) صحيح
(3) - صحيح مسلم (4/ 2074) 38 - (2699)
[ش (ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه) معناه من كان عمله ناقصا لم يلحقه بمرتبة أصحاب الأعمال فينبغي أن لا يتكل على شرف النسب وفضيلة الآباء ويقصر في العمل]
(4) - الزهد لأحمد بن حنبل (ص: 129) (855) صحيح
(5) - ترتيب الأمالي الخميسية للشجري (1/ 65) (232) وجامع بيان العلم وفضله (1/ 125) (121 - 125) وشعب الإيمان (3/ 233) (1587) من طرق عن ابن عباس وأبي هريرة من طرق صحيح لغيره
وظن الشيخ ناصر رحمه الله أن روح بن جناح قد تفرد به، ولكن تابعه أخوه مروان بن جناح وهو ثقة، وابن جريج، غير شاهد حديث أبي هريرة(1/393)
وعَنْ أَبِي أُمَامَةَ البَاهِلِيِّ، قَالَ: ذُكِرَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - رَجُلَانِ أَحَدُهُمَا عَابِدٌ وَالآخَرُ عَالِمٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «فَضْلُ العَالِمِ عَلَى العَابِدِ كَفَضْلِي عَلَى أَدْنَاكُمْ» ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ وَأَهْلَ السَّمَوَاتِ وَالأَرَضِينَ حَتَّى النَّمْلَةَ فِي جُحْرِهَا وَحَتَّى الحُوتَ لَيُصَلُّونَ عَلَى مُعَلِّمِ النَّاسِ الخَيْرَ» (1)
وعَنْ كَثِيرِ بْنِ قَيْسٍ، قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ أَبِي الدَّرْدَاءِ فِي مَسْجِدِ دِمَشْقَ، فَأَتَاهُ رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا أَبَا الدَّرْدَاءِ، أَتَيْتُكَ مِنَ الْمَدِينَةِ، مَدِينَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -؛ لِحَدِيثٍ بَلَغَنِي أَنَّكَ تُحَدِّثُ بِهِ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: قَالَ: فَمَا جَاءَ بِكَ تِجَارَةٌ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: وَلَا جَاءَ بِكَ غَيْرُهُ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا، سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ، وَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا رِضًا لِطَالِبِ الْعِلْمِ، وَإِنَّ طَالِبَ الْعِلْمِ يَسْتَغْفِرُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، حَتَّى الْحِيتَانِ فِي الْمَاءِ، وَإِنَّ فَضْلَ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِ الْقَمَرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ، إِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ، إِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا، إِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ، فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ» (2)
قَالَ فِي الْفَتْحِ: وَالْمُرَادُ بِالْعِلْمِ الْعِلْمُ الشَّرْعِيُّ الَّذِي يُفِيدُ مَا يَجِبُ عَلَى الْمُكَلَّفِ مِنْ أَمْرِ دِينِهِ فِي عِبَادَاتِهِ وَمُعَامَلَاتِهِ وَالْعِلْمُ بِاللَّهِ وَصِفَاتِهِ وَمَا يَجِبُ لَهُ مِنَ الْقِيَامِ بِأَمْرِهِ وَتَنْزِيهِهِ عَنِ النَّقَائِصِ وَمَدَارُ ذَلِكَ عَلَى التَّفْسِيرِ وَالْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ.
__________
(1) - سنن الترمذي ت شاكر (5/ 50) (2685) صحيح
(2) - سنن ابن ماجه (1/ 81) (223) صحيح لغيره
(فما جاء بك تجارة) بتقدير حرف الاستفهام. = تضع أجنحتها لطالب العلم: معنى وضع أجنحة الملائكة لطالب العلم: التواضع والخشوع، تعظيما لطالب العلم وتوقيرا، لقوله تعالى: {واخفض لهما جناح الذل من الرحمة} (الإسراء: 24) وقيل: وضع الجناح معناه الكف عن الطيران، أراد: أن الملائكة لا تزال عنده، لقوله -صلى الله عليه وسلم-: «ما من قوم يذكرون الله عز وجل إلا حفتهم الملائكة» وقيل: معناه بسط الجناح وفرشه لطالب العلم، لتحمله عليها، وتبلغه حيث يريد، ومعناه: المعونة. = (لم يورثوا) من التوريث. (بحظ وافر) أي بنصيب تام.(1/394)
قَالَ زَيْنُ الْعَرَبِ وَغَيْرُهُ: قِيلَ مَعْنَاهُ أَنَّهَا تَتَوَاضَعُ لِطَالِبِهِ تَوْقِيرًا لِعِلْمِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذل من الرحمة أَيْ تَوَاضَعْ لَهُمَا، أَوِ الْمُرَادُ الْكَفُّ عَنِ الطَّيَرَانِ وَالنُّزُولُ لِلذِّكْرِ، أَوْ مَعْنَاهُ الْمَعُونَةُ وَتَيْسِيرُ الْمُؤْنَةِ بِالسَّعْيِ فِي طَلَبِهِ أَوِ الْمُرَادُ تَلْيِينُ الْجَانِبِ وَالِانْقِيَادُ وَالْفَيْءُ عَلَيْهِ بِالرَّحْمَةِ وَالِانْعِطَافُ أَوِ الْمُرَادُ حَقِيقَتُهُ وَإِنْ لَمْ تُشَاهَدْ وَهِيَ فَرْشُ الْجَنَاحِ وَبَسْطُهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ لِتَحْمِلَهُ عَلَيْهَا وَتُبَلِّغَهُ مقعده من البلاد قاله القارىء (وَإِنَّ الْعَالِمَ لَيَسْتَغْفِرُ لَهُ) قَالَ الْخَطَّابِيُّ: إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَدْ قَيَّضَ لِلْحِيتَانِ وَغَيْرِهَا مِنْ أَنْوَاعِ الْحَيَوَانِ الْعِلْمَ عَلَى أَلْسِنَةِ الْعُلَمَاءِ أَنْوَاعًا مِنَ الْمَنَافِعِ وَالْمَصَالِحِ وَالْأَرْزَاقِ فَهُمُ الَّذِينَ بَيَّنُوا الْحُكْمَ فِيمَا يَحِلُّ وَيَحْرُمُ مِنْهَا وَأَرْشَدُوا إِلَى الْمَصْلَحَةِ فِي بَابِهَا وَأَوْصَوْا بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهَا وَنَفْيِ الضَّرَرِ عَنْهَا فَأَلْهَمَهَا اللَّهُ الِاسْتِغْفَارَ لِلْعُلَمَاءِ مُجَازَاةً عَلَى حُسْنِ صَنِيعِهِمْ بِهَا وَشَفَقَتِهِمْ عَلَيْهَا (وَالْحِيتَانُ) جَمْعُ الْحُوتِ (لَيْلَةَ الْبَدْرِ) أَيْ لَيْلَةَ الرَّابِعَ عَشَرَ (لَمْ يُوَرِّثُوا) بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ مِنَ التَّوْرِيثِ (وَرَّثُوا الْعِلْمَ) لِإِظْهَارِ الْإِسْلَامِ وَنَشْرِ الْأَحْكَامِ (فَمَنْ أَخَذَهُ) أَيْ أَخَذَ الْعِلْمَ مِنْ مِيرَاثِ النُّبُوَّةِ (أَخَذَ بِحَظٍّ) أَيْ بِنَصِيبٍ (وَافِرٍ) كَثِيرٍ كَامِلٍ". (1)
وعَنْ بَعْضِ الْبَصْرِيِّينَ قَالَ:: كَانَ عَالِمٌ وَعَابِدٌ مُتَوَاخِيَيْنِ فِي اللَّهِ، فَقَالَتِ الشَّيَاطِينُ لإِبْلِيسَ: إِنَّا لا نَقْدِرُ عَلَى أَنْ نُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا. فَقَالَ إِبْلِيسُ لَعَنَهُ اللَّهُ: أَنَا لَهُمَا. فَجَلَسَ بِطَرِيقِ الْعَابِدِ إِذْ أَقْبَلَ الْعَابِدُ حَتَّى إِذَا دَنَا مِنْ إِبْلِيسَ قَامَ إِلَيْهِ فِي مِثَالِ شَيْخٍ كَبِيرٍ بَيْنَ عَيْنَيْهِ أَثَرُ السُّجُودِ. فَقَالَ لِلْعَابِدِ: إِنَّهُ قَدْ حَاكَ فِي صَدْرِي شَيْءٌ أَحْبَبْتُ أَنْ أَسْأَلَكَ عَنْهُ. فَقَالَ لَهُ الْعَابِدُ: سَلْ، فَإِنْ يَكْنُ عِنْدِي عِلْمٌ، أَخْبَرْتُكَ عَنْهُ. فَقَالَ لَهُ إِبْلِيسُ: هَلْ يَسْتَطِيعُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَجْعَلَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَالْجِبَالَ وَالشَّجَرَ وَالْمَاءَ فِي بَيْضَةٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَزِيدَ فِي الْبَيْضَةِ شَيْئًا، وَمِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ هَذَا شَيْئًا؟ فَقَالَ لَهُ الْعَابِدُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ هَذَا شَيْئًا، وَمِنْ غَيْرِ أَنْ يَزِيدَ فِي هَذَا شَيْئًا كَالْمُتَعَجِّبِ، فَوَقَفَ الْعَابِدُ فَقَالَ لَهُ إِبْلِيسُ: امْضِهِ، ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَى أَصْحَابِهِ فَقَالَ: أَمَّا هَذَا فَقَدْ أَهْلَكْتُهُ جَعَلْتُهُ شَاكًّا فِي اللَّهِ تَعَالَى.
ثُمَّ جَلَسَ عَلَى طَرِيقِ الْعَالِمِ فَإِذَا هُوَ مُقْبِلٌ حَتَّى إِذَا دَنَا مِنْ إِبْلِيسَ قَامَ إِلَيْهِ إِبْلِيسُ فَقَالَ: يَا هَذَا إِنَّهُ قَدْ حَاكَ فِي صَدْرِي شَيْءٌ أَحْبَبْتُ أَنْ أَسْأَلَكَ عَنْهُ. فَقَالَ لَهُ الْعَالِمُ: سَلْ، فَإِنْ يَكُنْ
__________
(1) - عون المعبود وحاشية ابن القيم (10/ 52 - 53)(1/395)
عِنْدِي عِلْمٌ أَخْبَرْتُكَ. فَقَالَ لَهُ إِبْلِيسُ: هَلْ يَسْتَطِيعُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَجْعَلَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَالْجِبَالَ وَالشَّجَرَ وَالْمَاءَ فِي بَيْضَةٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَزِيدَ فِي الْبَيْضَةِ شَيْئًا، وَمِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ هَذَا شَيْئًا؟ فَقَالَ لَهُ الْعَالِمُ: نَعَمْ. قَالَ: فَرَدَّ عَلَيْهِ إِبْلِيسُ كَالْمُنْكِرِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَزِيدَ فِي هَذَا شَيْئًا، وَمِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ هَذَا شَيْئًا؟ فَقَالَ لَهُ الْعَالِمُ: نَعَمْ بِانْتِهَارٍ، وَقَالَ: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يقول له كن فيكون}. فَقَالَ إِبْلِيسُ لأَصْحَابِهِ: مِنْ قِبَلِ هَذَا أُتِيتُمْ. (1)
18 - عدم النوم بين الظل والشمس: عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ يَقُولُ: «الْقُعُودُ بَيْنَ الظِّلِّ وَالشَّمْسِ هُوَ مَقْعَدُ الشَّيْطَانِ»
وعَنْ قَتَادَةَ قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يَقْعُدَ الرَّجُلُ بَيْنَ الظِّلِّ وَالشَّمْسِ»
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: «حَرْفُ الظِّلِّ مَجْلِسُ الشَّيْطَانِ»
وعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، قَالَ: «حَرْفُ الظِّلِّ مَقِيلُ الشَّيْطَانِ»
وعَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ، قَالَ: «حَدُّ الظِّلِّ وَالشَّمْسِ مَقَاعِدُ الشَّيْطَانِ»
وعَنْ عِكْرِمَةَ: فِي الَّذِي يَقْعُدُ بَيْنَ الظِّلِّ وَالشَّمْسِ، قَالَ: «ذَلِكَ مَقْعَدُ الشَّيْطَانِ»
وعَنِ ابْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «أَنَّهُ نَهَى أَنْ يُقْعَدَ بَيْنَ الظِّلِّ وَالشَّمْسِ»
وعَنْ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: «الْقُعُودُ بَيْنَ الظِّلِّ وَالشَّمْسِ مَقْعَدُ الشَّيْطَانِ» (2)
وعَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي قَيْسُ بْنُ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: جَاءَ أَبِي وَرَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَخْطُبُ فَقَامَ فِي الشَّمْسِ، فَأَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فتحول إلى الظل" (3)
19 - عدم غرز الضفيرة في الخلف أثناء الصلاة:
فعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيُّ، أَنَّهُ رَأَى أَبَا رَافِعٍ مَوْلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وَحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ يُصَلِّي غَرَزَ ضَفِيرَتَهُ فِي قَفَاهُ، فَحَلَّهَا أَبُو رَافِعٍ، فَالْتَفَتَ الْحَسَنُ إِلَيْهِ مُغْضَبًا، فَقَالَ أَبُو رَافِعٍ: أَقْبِلْ عَلَى
__________
(1) - مكائد الشيطان (ص: 50) (30) وفيه جهالة
(2) - الأدب لابن أبي شيبة (ص: 299) (297 - 304) صحيحة موقوفة ومرفوعة
الفيء: الظل بعد الزوال = قلص: انحصر وانزوى
(3) - صحيح ابن حبان - محققا (7/ 39) (2800) صحيح(1/396)
صَلَاتِكَ وَلَا تَغْضَبْ، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «ذَلِكَ كِفْلُ الشَّيْطَانِ»، يَقُولُ: مَقْعَدُ الشَّيْطَانِ، يَعْنِي مَغْرَزَ ضَفْرَتِهِ. " (1)
20 - العدل في القضاء: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ اللَّهَ مَعَ القَاضِي مَا لَمْ يَجُرْ، فَإِذَا جَارَ تَخَلَّى عَنْهُ وَلَزِمَهُ الشَّيْطَانُ» (2)
وعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ: اخْتَصَمَ إِلَيْهِ مُسْلِمٌ وَيَهُودِيٌّ، فَرَأَى عُمَرُ أَنَّ الْحَقَّ لِلْيَهُودِيِّ، فَقَضَى لَهُ. فَقَالَ لَهُ الْيَهُودِيُّ: وَاللَّهِ لَقَدْ قَضَيْتَ بِالْحَقِّ. فَضَرَبَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ بِالدِّرَّةِ، ثُمَّ قَالَ: وَمَا يُدْرِيكَ؟ فَقَالَ لَهُ الْيَهُودِيُّ: إِنَّا نَجِدُ أَنَّهُ لَيْسَ قَاضٍ يَقْضِي بِالْحَقِّ، إِلَّا كَانَ عَنْ يَمِينِهِ مَلَكٌ، وَعَنْ شِمَالِهِ مَلَكٌ، يُسَدِّدَانِهِ وَيُوَفِّقَانِهِ لِلْحَقِّ مَا دَامَ مَعَ الْحَقِّ، فَإِذَا تَرَكَ الْحَقَّ عَرَجَا وَتَرَكَاهُ " ... (3)
__________
(1) - صحيح ابن حبان - مخرجا (6/ 56) (2279) حسن
معرز ضفره: مغرز الضفرة: هو أصل الضفيرة مما يلي الرأس. =كفل الشيطان: مقعده، وأصل الكفل: أن يجمع الكساء على سنام البعير، ثم يركب عليه، وإنما أمره بإرسال شعره ليسقط معه على الموضع الذي يسجد عليه ويصلي فيه، فيجد معه، ويدل عليه الحديث الآخر: «أمرت أن أسجد على سبعة آراب، ولا أكف شعرا ولا ثوبا». جامع الأصول في أحاديث الرسول ط مكتبة الحلواني الأولى (5/ 527)
(2) - سنن الترمذي ت شاكر (3/ 610) (1330) حسن
(مَعَ الْقَاضِي) أَيْ بِالنُّصْرَةِ وَالْإِعَانَةِ (مَا لَمْ يَجُرْ) بِضَمِّ الْجِيمِ أَيْ مَا لَمْ يَظْلِمْ (تَخَلَّى عَنْهُ) أَيْ خَذَلَهُ وَتَرَكَ عَوْنَهُ (وَلَزِمَهُ الشَّيْطَانُ) لَا يَنْفَكُّ عَنْ إِضْلَالِهِ .. " تحفة الأحوذي (4/ 467)
(3) - موطأ مالك ت عبد الباقي (2/ 719) (2) صحيح
" وَقَوْلُ الْيَهُودِيِّ إنَّا نَجِدُ أَنَّهُ لَيْسَ قَاضٍ يَقْضِي بِالْحَقِّ إلَّا كَانَ عَنْ يَمِينِهِ مَلَكٌ وَعَنْ شِمَالِهِ مَلَكٌ يُسَدِّدَانِهِ وَيُوَفِّقَانِهِ لِلْحَقِّ مَا دَامَ مَعَ الْحَقِّ فَإِذَا تَرَكَ عَرَجَا وَتَرَكَاهُ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ الْيَهُودِيُّ أَنَّهُ يَقْطَعُ بِأَنَّ الْحَقَّ لَهُ وَأَنَّهُ مِمَّنْ قَدْ شَاهَدَ الْحُكْمَ بِمِثْلِهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ أَوْ أَنَّهُ مِنْ الْحُقُوقِ الَّتِي لَا تَخْتَلِفُ فِيهَا الشَّرَائِعُ، فَاسْتَدَلَّ عَلَى اجْتِهَادِ عُمَرَ وَقَصْدِهِ الْحَقَّ بِأَنْ حَكَمَ لَهُ بِمَا يَعْرِفُ هُوَ أَنَّهُ حَقُّهُ وَعَلِمَ ذَلِكَ بِمَا زَعَمَ أَنَّهُ يَجِدُهُ فِي كُتُبِهِمْ مِنْ أَنَّ الْحَاكِمَ إذَا قَضَى بِالْحَقِّ يُرِيدُ قَصْدَهُ وَبَيَّنَهُ بِحُكْمِهِ كَانَ مَعَهُ مَلَكَانِ يُسَدِّدَانِهِ إلَيْهِ، وَأَنَّهُ إنْ زَاغَ عَنْ ذَلِكَ عَرَجَا وَتَرَكَاهُ فَلَا يُوَفَّقُ لِلْحَقِّ فَأَمْسَكَ عَنْهُ عُمَرُ بَعْدَ ذَلِكَ إمَّا تَصْدِيقًا لَهُ وَإِمَّا أَنَّهُ قَدْ بَلَغَ مِنْ أَدَبِهِ مَا أَقْنَعَهُ وَمَا قَالَهُ الْيَهُودِيُّ لَا يَبْعُدُ. وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [المائدة: 49] "المنتقى شرح الموطإ (5/ 188)(1/397)
21 - السجود لله بعد قراءة آية السجدة:
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " إِذَا قَرَأَ ابْنُ آدَمَ السَّجْدَةَ فَسَجَدَ اعْتَزَلَ الشَّيْطَانُ يَبْكِي، يَقُولُ: يَا وَيْلَهُ - وَفِي رِوَايَةِ: يَا وَيْلِي - أُمِرَ ابْنُ آدَمَ بِالسُّجُودِ فَسَجَدَ فَلَهُ الْجَنَّةُ، وَأُمِرْتُ بِالسُّجُودِ فَأَبَيْتُ فَلِيَ النَّارُ " (1)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: " إِذَا قَرَأَ ابْنُ آدَمَ السَّجْدَةَ فَسَجَدَ، اعْتَزَلَ الشَّيْطَانُ يَبْكِي، وَقَالَ: وَيْلٌ لَهُ، وَيْلٌ لَهُ، أُمِرَ هَذَا بِالسُّجُودِ، فَأَطَاعَ، فَلَهُ الْجَنَّةُ، وَأُمِرْتُ بِالسُّجُودِ، فَعَصَيْتُ، فَلِيَ النَّارُ " (2)
وعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: إِنَّ الشَّيْطَانَ إِذَا رَأَى ابْنَ آدَمَ سَاجِدًا صَاحَ وَرَنَّ، وَقَالَ: لَهُ الْوَيْلُ، أُمِرَ ابْنُ آدَمَ بِالسُّجُودِ فَأَطَاعَ، فَلَهُ الْجَنَّةُ، وَأُمِرْتُ بِالسُّجُودِ فَعَصَيْتُ، فَلِيَ النَّارُ " (3)
22 - رصُّ الصفوف في الصلاة حتى لا يدخل الشيطان:
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «رُصُّوا صُفُوفَكُمْ وَقَارِبُوا بَيْنَهَا وَحَاذُوا بِالْأَعْنَاقِ، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنِّي لَأَرَى الشَّيْطَانَ يَدْخُلُ مِنْ خَلَلِ الصَّفِّ كَأَنَّهَا الْحَذَفُ» (4)
__________
(1) - صحيح مسلم (1/ 87) 133 - (81)
[ش (إذا قرأ ابن آدم السجدة) معناه آية السجدة (يا ويله) هو من آداب الكلام وهو أنه إذا عرض في الحكاية عن الغير ما فيه سوء واقتضت الحكاية رجوع الضمير إلى المتكلم صرف الحاكي الضمير عن نفسه تصاونا عن صورة إضافة السوء إلى نفسه]
قَوْلُهُ (يَا وَيْلَهُ) الضَّمِيُرُ لِلشَّيْطَانِ جَعَلَ نَفْسَهُ غَائِبًا طَرْدًا لَهُ وَغَضَبًا عَلَيْهِ حَيْثُ أَوْقَعَتْهُ فِي هَذَا الْمَهْلَكِ وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْحَاكِي لِكَلَامِهِ حَكَاهُ غَائِبًا احْتِرَازًا عَنِ الْإِيهَامِ الْقَبِيحِ وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الضَّمِيْرَ لِابْنِ آدَمَ فَهَذَا مِنْهُ دُعَاءٌ عَلَيْهِ بِسَبَبِ مُبَاشَرَتِهِ الْخَيْرَ عَلَى مُقْتَضَى خُبْثِ طَبْعِهِ وَقَوْلُهُ فَلَهُ الْجَنَّةُ أَيْ عَلَى الطَّاعَةِ. حاشية السندي على سنن ابن ماجه (1/ 325)
(2) - الزهد والرقائق لابن المبارك والزهد لنعيم بن حماد (1/ 349) (981) صحيح
(3) - الزهد والرقائق لابن المبارك والزهد لنعيم بن حماد (1/ 455) (1286) وتعظيم قدر الصلاة لمحمد بن نصر المروزي (1/ 328) (317) والمعجم الكبير للطبراني (9/ 290) (9463) حسن
(4) - سنن أبي داود (1/ 179) (667) صحيح
و"الحذف" قال البغوي: غنم سود صغار، واحدتها: حذفة، وفي رواية: "كأنها بنات حذف"، ويروى "أولاد الحذف"، قيل: ما أولاد الحذف؟ قال: ضأن سود جرد صغار تكون باليمن.(1/398)
كيف تصنع بالشيطان إذ سوّل لك الخطايا؟
حكي عن أحد علماء السلف أنه قال لتلميذه: " ما تصنع بالشيطان إذا سوّل لك الخطايا؟ قال: أجاهده. قال: فإن عاد؟ قال: أجاهده. قال: فإن عاد؟ قال: أجاهده.
قال هذا يطول، أرأيت إن مررت بغنم فنبحك كلبها، أو منعك من العبور ما تصنع؟ قال: أكابده جهدي وأرده. قال: هذا أمر يطول، ولكن استعن بصاحب الغنم يكفّه عنك،. " (1)
وهذا فقه عظيم من هذا العالم الجليل، فإن الاحتماء بالله، والالتجاء إليه، هو السبيل القوي الذي يطرد الشيطان ويبعده، وهذا ما فعلته أم مريم إذ قالت: {وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [آل عمران: 36].
لماذا لا يذهب الشيطان عندما يستعيذ منه الإنسان؟
يقول بعض الناس: إننا نستعيذ بالله، ومع ذلك فإننا نحسُّ بالشيطان يوسوس لنا، ويحرضنا على الشر، ويشغلنا في صلاتنا.
والجواب: أن الاستعاذة كالسيف في يد المقاتل، فإن كانت يده قوية، أصاب من عدوه مقتلاً، وإلا فإنه قد لا يؤثر فيه، ولو كان السيف صقيلاً حديداً.
وكذلك الاستعاذة إذا كانت من تقيّ ورع كانت ناراً تحرق الشيطان، وإذا كانت من مخلط ضعيف الإيمان فلا تؤثر في العدو تأثيراً قوياً.
قال أبو الفرج ابن الجوزي رحمه الله: " واعلم أن مثل إبليس مع المتقي والمخلط، كرجل جالس بين يديه طعام ولحم، فمرّ به كلب، فقال له: اخسأ، فذهب. فمرّ بآخر بين يديه طعام ولحم فكلّما أخسأه (طرده) لم يبرح. فالأول مثل المتقي يمر به الشيطان، فيكفيه في طرده الذكر، والثاني مثل المخلط لا يفارقه الشيطان لمكان تخليطه، نعوذ بالله من الشيطان ". (2)
__________
(1) - تلبيس إبليس (ص: 35)
(2) - تلبيس إبليس (ص: 35)(1/399)
فعلى المسلم الذي يريد النجاة من الشيطان وأحابيله أن يشتغل بتقوية إيمانه، والاحتماء بالله ربه، والالتجاء إليه، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
رابعاً: الاشتغال بذكر الله:
ذكر الله من أعظم ما ينجي العبد من الشيطان، فعَنْ زَيْدِ بْنِ سَلَّامٍ، أَنَّ أَبَا سَلَّامٍ، حَدَّثَهُ أَنَّ الحَارِثَ الأَشْعَرِيَّ، حَدَّثَهُ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " إِنَّ اللَّهَ أَمَرَ يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ أَنْ يَعْمَلَ بِهَا وَيَأْمُرَ بني إسرائيل أَنْ يَعْمَلُوا بِهَا، وَإِنَّهُ كَادَ أَنْ يُبْطِئَ بِهَا، فَقَالَ عِيسَى: إِنَّ اللَّهَ أَمَرَكَ بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ لِتَعْمَلَ بِهَا وَتَأْمُرَ بني إسرائيل أَنْ يَعْمَلُوا بِهَا، فَإِمَّا أَنْ تَأْمُرَهُمْ، وَإِمَّا أَنَا آمُرُهُمْ، فَقَالَ يَحْيَى: أَخْشَى إِنْ سَبَقْتَنِي بِهَا أَنْ يُخْسَفَ بِي أَوْ أُعَذَّبَ، فَجَمَعَ النَّاسَ فِي بَيْتِ المَقْدِسِ، فَامْتَلَأَ المَسْجِدُ وَقَعَدُوا عَلَى الشُّرَفِ، فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ أَنْ أَعْمَلَ بِهِنَّ، وَآمُرَكُمْ أَنْ تَعْمَلُوا بِهِنَّ: أَوَّلُهُنَّ أَنْ تَعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَإِنَّ مَثَلَ مَنْ أَشْرَكَ بِاللَّهِ كَمَثَلِ رَجُلٍ اشْتَرَى عَبْدًا مِنْ خَالِصِ مَالِهِ بِذَهَبٍ أَوْ وَرِقٍ، فَقَالَ: هَذِهِ دَارِي وَهَذَا عَمَلِي فَاعْمَلْ وَأَدِّ إِلَيَّ، فَكَانَ يَعْمَلُ وَيُؤَدِّي إِلَى غَيْرِ سَيِّدِهِ، فَأَيُّكُمْ يَرْضَى أَنْ يَكُونَ عَبْدُهُ كَذَلِكَ؟ وَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَكُمْ بِالصَّلَاةِ، فَإِذَا صَلَّيْتُمْ فَلَا تَلْتَفِتُوا فَإِنَّ اللَّهَ يَنْصِبُ وَجْهَهُ لِوَجْهِ عَبْدِهِ فِي صَلَاتِهِ مَا لَمْ يَلْتَفِتْ، وَآمُرُكُمْ بِالصِّيَامِ، فَإِنَّ مَثَلَ ذَلِكَ كَمَثَلِ رَجُلٍ فِي عِصَابَةٍ مَعَهُ صُرَّةٌ فِيهَا مِسْكٌ، فَكُلُّهُمْ يَعْجَبُ أَوْ يُعْجِبُهُ رِيحُهَا، وَإِنَّ رِيحَ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ المِسْكِ، وَآمُرُكُمْ بِالصَّدَقَةِ فَإِنَّ مَثَلَ ذَلِكَ كَمَثَلِ رَجُلٍ أَسَرَهُ العَدُوُّ، فَأَوْثَقُوا يَدَهُ إِلَى عُنُقِهِ وَقَدَّمُوهُ لِيَضْرِبُوا عُنُقَهُ، فَقَالَ: أَنَا أَفْدِيهِ مِنْكُمْ بِالقَلِيلِ وَالكَثِيرِ، فَفَدَى نَفْسَهُ مِنْهُمْ، وَآمُرُكُمْ أَنْ تَذْكُرُوا اللَّهَ فَإِنَّ مَثَلَ ذَلِكَ كَمَثَلِ رَجُلٍ خَرَجَ العَدُوُّ فِي أَثَرِهِ سِرَاعًا حَتَّى إِذَا أَتَى عَلَى حِصْنٍ حَصِينٍ فَأَحْرَزَ نَفْسَهُ مِنْهُمْ، كَذَلِكَ العَبْدُ لَا يُحْرِزُ نَفْسَهُ مِنَ الشَّيْطَانِ إِلَّا بِذِكْرِ اللَّهِ "، قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «وَأَنَا آمُرُكُمْ بِخَمْسٍ اللَّهُ أَمَرَنِي بِهِنَّ، السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ وَالجِهَادُ وَالهِجْرَةُ وَالجَمَاعَةُ، فَإِنَّهُ مَنْ فَارَقَ الجَمَاعَةَ قِيدَ شِبْرٍ فَقَدْ خَلَعَ رِبْقَةَ الإِسْلَامِ مِنْ عُنُقِهِ إِلَّا أَنْ يَرْجِعَ، وَمَنْ ادَّعَى دَعْوَى(1/400)
الجَاهِلِيَّةِ فَإِنَّهُ مِنْ جُثَا جَهَنَّمَ»، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَإِنْ صَلَّى وَصَامَ؟ قَالَ: «وَإِنْ صَلَّى وَصَامَ، فَادْعُوا بِدَعْوَى اللَّهِ الَّذِي سَمَّاكُمُ المُسْلِمِينَ المُؤْمِنِينَ، عِبَادَ اللَّهِ». (1)
يقول ابن القيم: " فلو لم يكن في الذكر إلا هذه الخصلة الواحدة لكان حقيقاً بالعبد أن لا يفتر لسانه من ذكر الله تعالى، وأن لا يزال لهجاً بذكره، فإنّه لا يحرز نفسه من عدوه إلا بالذكر، ولا يدخل عليه العدو إلا من باب الغفلة، فهو يرصده، فإذا غفل، وثب عليه وافترسه، وإذا ذكر الله تعالى، انخنس عدو الله وتصاغر، وانقمع، حتى يكون كالوَصع [طائر أصغر من العصفور]، وكالذباب، ولهذا سمي (الوسواس الخناس)؛ لأنه يوسوس في صدور الناس، فإذا ذكر الله خنس، أي كف وانقبض. عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ} [الناس: 4] قَالَ: الشَّيْطَانُ جَاثِمٌ عَلَى قَلْبِ ابْنِ آدَمَ، فَإِذَا سَهَى وَغَفَلَ وَسْوَسَ، فَإِذَا ذَكَرَ اللَّهَ خَنَسَ. ". (2)
ويقول ابن القيم: " الشياطين قد احتوشت العبد وهم أعداؤه، فما ظنك برجل قد احتوشه أعداؤه المحنقون عليه غيظاً، وأحاطوا به، وكل منهم يناله بما يقدر عليه من الشرّ والأذى، ولا سبيل إلى تفريق جمعهم عنه إلا بذكر الله عزّ وجلّ ". (3)
عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ، قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: " إِنِّي رَأَيْتُ الْبَارِحَةَ عَجَبًا، رَأَيْتُ رَجُلًا مِنْ أُمَّتِي قَدِ احْتَوَشَتْهُ مَلَائِكَةٌ، فَجَاءَهُ وُضُوؤُهُ فَاسْتَنْقَذَهُ مِنْ ذَلِكَ، وَرَأَيْتُ رَجُلًا مِنْ أُمَّتِي قَدِ احْتَوَشَتْهُ الشَّيَاطِينُ، فَجَاءَهُ ذِكْرُ اللَّهِ فَخَلَّصَهُ مِنْهُمْ، وَرَأَيْتُ رَجُلًا مِنْ أُمَّتِي يَلْهَثُ عَطَشًا مِنَ الْعَطَشِ فَجَاءَهُ صِيَامُ رَمَضَانَ فَسَقَاهُ، وَرَأَيْتُ رَجُلًا مِنْ أُمَّتِي بَيْنَ يَدَيْهِ ظُلْمَةٌ، وَمِنْ خَلْفِهِ ظُلْمَةٌ، وَعَنْ يَمِينِهِ ظُلْمَةٌ، وَعَنْ شِمَالِهِ ظُلْمَةٌ، وَمِنْ فَوْقِهِ ظُلْمَةٌ، وَمِنْ تَحْتِهِ
__________
(1) - سنن الترمذي ت شاكر (5/ 148) (2863) صحيح
العصابة: الجماعة من الناس، قيل: تبلغ الأربعين. =الرِّبقة: في الأصل: حبل فيه عرى كثيرة تشد به الغنم، الواحدة منها ربقة، فاستعار للإسلام ربقة، يعني بها: العروة يشد بها المسلم نفسه من عرى الإسلام. =جثى: جمع جثوة بالضم، وهي الشيء المجموع من جماعات جهنم، هذا فيمن رواها مخففة، ومن رواها «جُثِّي» - مشددة - فإنه أراد الذين يجثون على الركب، واحدها: جاث، من قوله تعالى: {حول جهنم جثيّا} [مريم: 68] قال الهروي: وهذا أحب إلى أبي عبيد. جامع الأصول في أحاديث الرسول ط مكتبة الحلواني الأولى (9/ 547)
(2) - الزهد لأبي داود (ص: 295) (337) صحيح
(3) - الوابل الصيب من الكلم الطيب (ص: 36)(1/401)
ظُلْمَةٌ، فَجَاءَهُ حَجُّهُ وَعُمْرَتُهُ فَاسْتَخْرَجَاهُ مِنَ الظُّلْمَةِ، وَرَأَيْتُ رَجُلًا مِنْ أُمَّتِي جَاءَهُ مَلَكُ الْمَوْتِ يَقْبِضُ رُوحَهُ، فَجَاءَهُ بِرُّهُ بِوَالِدَيْهِ فَرَدُّ عَنْهُ، وَرَأَيْتُ رَجُلًا مِنْ أُمَّتِي يُكَلِّمُ الْمُؤْمِنِينَ وَلَا يُكَلِّمُوهُ، فَجَاءَتْهُ صِلَةُ الرَّحِمِ فَقَالَتْ: إِنَّ هَذَا وَاصِلٌ كَانَ وَاصِلًا لِرَحِمِهِ، فَكَلَّمَهُمْ وَكَلَّمُوهُ وَصَارَ مَعَهُمْ، وَرَأَيْتُ رَجُلًا مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي النَّاسَ وَهُمْ حِلَقٌ، فَكُلَّمَا أَتَى عَلَى حَلْقَةٍ طُرِدَ، فَجَاءَهُ اغْتِسَالُهُ مِنَ الْجَنَابَةِ فَأَخَذَهُ بِيَدِهِ فَأَجْلَسَهُ مَعَهُمْ، وَرَأَيْتُ رَجُلًا مِنْ أُمَّتِي يَتَّقِي وَهَجَ النَّارِ بِيَدَيْهِ عَنْ وَجْهِهِ، فَجَاءَتْهُ صَدَقَتُهُ وَصَارَتْ ظِلًّا عَلَى رَأْسِهِ وَسِتْرًا عَلَى وَجْهِهِ، وَرَأَيْتُ رَجُلًا مِنْ أُمَّتِي جَاءَتْهُ زَبَانِيَةُ الْعَذَابِ، فَجَاءَهُ أَمْرُهُ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهْيُهُ عَنِ الْمُنْكَرِ فَاسْتَنْقَذَهُ مِنْ ذَلِكَ، وَرَأَيْتُ رَجُلًا مِنْ أُمَّتِي هَوَى فِي النَّارِ، فَجَاءَتْهُ دُمُوعُهُ الَّتِي بَكَى مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ فَأَخْرَجَتْهُ مِنَ النَّارِ، وَرَأَيْتُ رَجُلًا مِنْ أُمَّتِي قَدْ هَوَتْ صَحِيفَتُهُ إِلَى شِمَالِهِ، فَجَاءَهُ خَوْفُهُ مِنَ اللَّهِ فَأَخَذَ صَحِيفَتَهُ فَجَعَلَهَا فِي يَمِينِهِ، وَرَأَيْتُ رَجُلًا مِنْ أُمَّتِي يَرْعَدُ كَمَا تَرْعَدُ السَّعَفَةُ، فَجَاءَهُ حُسْنُ ظَنِّهِ بِاللَّهِ فَسَكَّنَ رِعْدَتَهُ، وَرَأَيْتُ رَجُلًا مِنْ أُمَّتِي يَزْحَفُ عَلَى الصِّرَاطِ مَرَّةً، وَيَجْثُو مَرَّةً، وَيَتَعَلَّقُ مَرَّةً، فَجَاءَتْهُ صَلَاتُهُ عَلَيَّ فَأَخَذَتْ بِيَدِهِ فَأَقَامَتْهُ عَلَى الصِّرَاطِ حَتَّى جَاوَزَ، وَرَأَيْتُ رَجُلًا مِنْ أُمَّتِي انْتَهَى إِلَى أَبْوَابِ الْجَنَّةِ فَغُلِّقَتِ الْأَبْوَابُ دُونَهُ، فَجَاءَتْهُ شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَأَخَذَتْهُ بِيَدِهِ فَأَدْخَلَتْهُ الْجَنَّةَ " (1)
وعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ، قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ذَاتَ يَوْمٍ وَنَحْنُ فِي الْمَسْجِدِ بِالْمَدِينَةِ فَقَالَ: " إِنِّي رَأَيْتُ الْبَارِحَةَ عَجَبًا، رَأَيْتُ رَجُلًا مِنْ أُمَّتِي جَاءَ مَلَكُ الْمَوْتِ يَقْبِضُ رُوحَهُ، فَجَاءَهُ بِرُّهُ بِوَالِدَيْهِ فَرَدَّ عَنْهُ، وَرَأَيْتُ رَجُلًا مِنْ أُمَّتِي قُسِطَ عَلَيْهِ عَذَابُ الْقَبْرِ، فَجَاءَ وُضُوؤُهُ فَاسْتَنْقَذَهُ مِنْ ذَلِكَ، وَرَأَيْتُ رَجُلًا مِنْ أُمَّتِي يَلْهَثُ عَطَشًا، كُلَّمَا وَرَدَ حَوْضًا مُنِعَ، فَجَاءَهُ صِيَامُهُ رَمَضَانَ فَاسْتَنْقَذَهُ وَسَقَاهُ وَأَرْوَاهُ، وَرَأَيْتُ رَجُلًا مِنْ أُمَّتِي وَالنَّبِيُّونَ قُعُودٌ حِلَقًا حِلَقًا فَجَاءَهُ غُسْلُهُ مِنَ الْجَنَابَةِ فَأَخَذَ بِيَدِهِ فَأَقْعَدَهُ إِلَى جَانِبِي، وَرَأَيْتُ رَجُلًا مِنْ أُمَّتِي بَيْنَ يَدَيْهِ ظُلْمَةٌ، وَمِنْ خَلْفِهِ ظُلْمَةٌ، وَعَنْ يَمِينِهِ ظُلْمَةٌ، وَعَنْ يَسَارِهِ
__________
(1) - الأحاديث الطوال للطبراني (ص: 273) حسن
الجُنُب: الذي يجب عليه الغُسْل بالجِماع وخُروجِ المّنيّ، والجنَابة الاسْم، وهي في الأصل: البُعْد. وسُمّي الإنسان جُنُبا لأنه نُهِيَ أن يَقْرَب مواضع الصلاة ما لم يَتَطَهَّر. وقيل لمُجَانَبَتِه الناسَ حتى يَغْتَسل = الارتعاد: الرجفة والاضطرب من الخوف = السعف: هو ورق النخل وجريده = جاوز الشيء: مر عليه وعبره وتخطاه(1/402)
ظُلْمَةٌ، وَمِنْ فَوْقِهِ ظُلْمَةٌ، وَمِنْ تَحْتِهِ ظُلْمَةٌ، وَهُوَ مُتَحَيِّرٌ فِي الظُّلْمَةِ؛ فَجَاءَهُ حَجُّهُ وَعُمْرَتُهُ فَاسْتَخْرَجَاهُ مِنَ الظُّلْمَةِ وَأَدْخَلَاهُ النُّورَ، وَرَأَيْتُ رَجُلًا مِنْ أُمَّتِي لَا يُكَلِّمُ الْمُؤْمِنِينَ وَلَا يُكَلِّمُونَهُ، فَجَاءَهُ صِلَتُهُ لِلرَّحِمِ فَقَالَتْ: يَا مَعْشَرَ الْمُؤْمِنِينَ، كَلِّمُوهُ؛ فَإِنَّهُ كَانَ يَصِلُ رَحِمَهُ؛ فَكَلَّمَهُ الْمُؤْمِنُونَ، فَكَانَ مَعَهُمْ، وَرَأَيْتُ رَجُلًا مِنْ أُمَّتِي يَقِي وَهَجَ النَّارِ عَنْ وَجْهِهِ، فَجَاءَتْهُ صَدَقَتُهُ فَكَانَتْ سِتْرًا عَلَى وَجْهِهِ، وَظِلًّا عَلَى رَأْسِهِ، وَرَأَيْتُ رَجُلًا مِنْ أُمَّتِي أَخَذَتْهُ الزَّبَانِيَةُ بِكُلِّ مَكَانٍ، فَجَاءَ أَمْرُهُ بِالْمَعْرُوفِ، وَنَهْيُهُ عَنِ الْمُنْكَرِ، فَاسْتَنْقَذَهُ مِنْ أَيْدِيهِمْ، وَأَدْخَلُوهُ مَعَ المَلَائِكَةِ الرَّحْمَةِ، فَصَارَ مَعَهُمْ، وَرَأَيْتُ رَجُلًا مِنْ أُمَّتِي جَاثِيًا عَلَى رُكْبَتَيْهِ، بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ حِجَابٌ، فَجَاءَ حُسْنُ خُلُقِهِ فَأَدْخَلَهُ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَرَأَيْتُ رَجُلًا مِنْ أُمَّتِي قَدْ هَوَتْ صَحِيفَتُهُ قِبَلَ شِمَالِهِ، فَجَاءَ خَوْفُهُ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَأَخَذَ صَحِيفَتَهُ فَجَعَلَهَا فِي يَمِينِهِ، وَرَأَيْتُ رَجُلًا مِنْ أُمَّتِي قُرِّبَ إِلَى الْمِيزَانِ، فَخَفَّتْ مَوَازِينُهُ، فَجَاءَ أَفْرَاطُهُ فَثَقَّلُوا مِيزَانَهُ، يَعْنِي أَطْفَالَهُ، وَرَأَيْتُ رَجُلًا مِنْ أُمَّتِي قَائِمًا عَلَى شَفِيرِ جَهَنَّمَ، فَجَاءَ وَجَلُهُ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَاسْتَنْقَذَهُ مِنْ ذَلِكَ وَمَضَى، وَرَأَيْتُ رَجُلًا مِنْ أُمَّتِي قَائِمًا عَلَى الصِّرَاطِ يَرْعَدُ كَمَا تَرْعَدُ السَّعَفَةُ فِي رِيحٍ عَاصِفٍ، فَجَاءَ حُسْنُ ظَنِّهِ بِاللَّهِ فَسَكَّنَ رَوْعَتَهُ فَمَضَى عَلَى الصِّرَاطِ، وَرَأَيْتُ رَجُلًا مِنْ أُمَّتِي يَزْحَفُ عَلَى الصِّرَاطِ، زَحْفًا أَحْيَانًا وَيَجْثُو أَحْيَانًا، فَجَاءَتْهُ صَلَاتُهُ عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَأَخَذَتْ بِيَدِهِ فَأَقَامَتْهُ عَلَى قَدَمَيْهِ وَمَضَى عَلَى الصِّرَاطِ، وَرَأَيْتُ رَجُلًا مِنْ أُمَّتِي انْتَهَى إِلَى بَابِ الْجَنَّةِ فَغُلِّقَتِ الْأَبْوَابُ دُونَهُ، فَجَاءَتْ شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَفُتِحَتْ لَهُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ، وَرَأَيْتُ رَجُلًا مِنْ أُمَّتِي هَوَى فِي النَّارِ فَجَاءَتْ دُمُوعُهُ الَّتِي بَكَى مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَاسْتَنْقَذَتْهُ مِنَ النَّارِ، وَرَأَيْتُ رَجُلًا مِنْ أُمَّتِي احْتَوَشَتْهُ مَلَائِكَةُ الْعَذَابِ، فَجَاءَتْ صَلَاتُهُ فَاسْتَنْقَذَتْهُ مِنْ أَيْدِيهِمْ " (1)
وكان شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه يعظم شأن هذا الحديث، وبلغني عنه أنه كان يقول: شواهد الصحة عليه، والمقصود منه قوله - صلى الله عليه وسلم - «وَرَأَيْتُ رَجُلًا مِنْ أُمَّتِي
__________
(1) - أمالي ابن بشران - الجزء الأول (ص: 118) (249) حسن
الجثو: الجلوس على الركبتين = الوجل: الخوف والخشية والفزع = السعف: هو ورق النخل وجريده = الروعة: المرّةُ الواحدة من الرَّوع، الفَزَع(1/403)
احْتَوَشَتْهُ الشَّيَاطِينُ فَجَاءَهُ ذِكْرُ اللَّهِ فَخَلَّصَهُ مِنْ أَيْدِيهِمْ،» فهذا مطابق لحديث الحارث الأشعري الذي شرحناه في هذه الرسالة وقوله فيه: «وَآمُرُكُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ فَإِنَّ مَثَلَ ذَلِكَ كَمَثَلِ رَجُلٍ طَلَبَهُ الْعَدُوُّ سِرَاعًا فِي أَثَرِهِ، فَأَتَى عَلَى حُصَيْنٍ، فَأَحْرَزَ نَفْسَهُ فِيهِ، فَكَذَلِكَ الْعَبْدُ لَا يُحْرِزُ نَفْسَهُ مِنَ الشَّيْطَانِ إِلَّا بِذِكْرِ اللَّهِ» فكذلك الشيطان لا يحرز العباد أنفسهم منه إلا بذكر الله عز وجل.
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ إِذَا خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ، فَقَالَ: «بِسْمِ اللَّهِ، تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ، لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، فَيُقَالُ لَهُ: حَسْبُكَ قَدْ كُفِيتَ وَهُدِيتَ وَوُقِيتَ؛ فَيَلْقَى الشَّيْطَانُ شَيْطَانًا آخَرَ فَيَقُولُ لَهُ: كَيْفَ لَكَ بِرَجُلٍ قَدْ كُفِيَ وَهُدِيَ وَوُقِيَ». (1)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: " إِذَا أَرَادَ أَحَدُكُمْ أَنْ يَخْرُجَ مِنَ الْمَسْجِدِ فَلْيَقُلْ: بِسْمِ اللَّهِ، تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ، لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، قَالَ: يَقُولُ الشَّيْطَانُ: لَيْسَ بَيْنِي وَبَيْنَ هَذَا عَمَلٌ " (2)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ قَالَ فِي يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ، لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، كَانَ لَهُ عَدْلُ عَشْرِ رِقَابٍ، وَكُتِبَتْ لَهُ مِائَةُ حَسَنَةٍ، وَمُحِيَ عَنْهُ مِائَةُ سَيِّئَةٍ، وَكُنَّ لَهُ حِرْزًا مِنَ الشَّيْطَانِ، سَائِرَ يَوْمِهِ إِلَى اللَّيْلِ، وَلَمْ يَأْتِ أَحَدٌ بِأَفْضَلَ مِمَّا أَتَى بِهِ، إِلَّا مَنْ قَالَ أَكْثَرَ» (3)
وعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غَنْمٍ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ: " مَنْ قَالَ قَبْلَ أَنْ يَنْصَرِفَ وَيَثْنِيَ رِجْلَهُ مِنْ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ، وَالصُّبْحِ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، بِيَدِهِ الْخَيْرُ، يُحْيِي وَيُمِيتُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ عَشْرَ مَرَّاتٍ، كُتِبَ لَهُ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ عَشْرُ حَسَنَاتٍ، وَمُحِيَتْ عَنْهُ عَشْرُ سَيِّئَاتٍ، وَرُفِعَ لَهُ عَشْرُ دَرَجَاتٍ، وَكَانَتْ حِرْزًا مِنْ كُلِّ
__________
(1) - صحيح ابن حبان - مخرجا (3/ 104) (822) صحيح
وصرح ابن جريج بالتحديث عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة في الأحاديث المختارة -مكتبة النهضة الحديثة (4/ 372) (1540)
(2) - الدعاء للطبراني (ص: 151) (428) حسن لغيره
(3) - سنن ابن ماجه (2/ 1248) (3798) صحيح [ش - (سائر يومه) أي بقية يومه أو كله.](1/404)
مَكْرُوهٍ، وَحِرْزًا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، وَلَمْ يَحِلَّ لِذَنْبٍ يُدْرِكُهُ إِلَّا الشِّرْكَ، وَكَانَ مِنْ أَفْضَلِ النَّاسِ عَمَلًا، إِلَّا رَجُلًا يَفْضُلُهُ، يَقُولُ: أَفْضَلَ مِمَّا قَالَ " (1)
وعن شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أُمَّ سَلَمَةَ تُحَدِّثُ أَنَّ فَاطِمَةَ جَاءَتْ تَشْتَكِي الْخِدْمَةَ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ مَجَلَتْ يَدَايَ مِنَ الرَّحَى الْخُبْزُ مَرَّةً، وَالْعَجِينُ مَرَّةً، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " إِنْ يَرْزُقُكِ اللهُ شَيْئًا يَأْتِيكِ، سَأَدُلُّكِ عَلَى شَيْءٍ خَيْرٍ مِنْ ذَلِكَ إِذَا لَزِمْتِ مَضْجَعَكِ، فَسَبِّحِي اللهَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَاحْمَدِي اللهَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَكَبِّرِي أَرْبَعًا وَثَلَاثِينَ، فَذَلِكَ خَيْرٌ لَكِ مِنَ الْخَادِمِ، وَإِذَا صَلَّيْتِ صَلَاةَ الصُّبْحِ فَقُولِي: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ يُحْيِي وَيُمِيتُ بِيَدِهِ الْخَيْرُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ عَشْرَ مَرَّاتٍ بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ، وَعَشْرَ مَرَّاتٍ بَعْدَ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ، فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ تُكْتَبُ عَشْرَ حَسَنَاتٍ وَتَحُطُّ عَشْرَ سَيِّئَاتٍ، وَكُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ كَعِتْقِ رَقَبَةٍ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ، لَا يَحِلُّ بِذَنْبٍ كُتِبَ ذَلِكَ الْيَوْمَ إِلَّا مَحَتْهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الشِّرْكُ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَهِيَ تَحْرُسُكِ مَا بَيْنَ أَنْ تَقُولِيهِ غُدْوَةً إِلَى أَنْ تَقُولِيهِ عَشِيَّةً مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ، وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ " (2)
وعَنِ ابْنِ عَجْلانَ، قَالَ: حدَّثَنِي عَوْنُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، أَنَّ رَجُلاً أَتَى ابْنَ مَسْعُودٍ فَقَالَ: إنِّي أُرِيدُ سَفَرًا فَأَوْصِنِي، فَقَالَ: إذَا تَوَجَّهْت فَقُلْ: بِسْمِ اللهِ حَسْبِي اللَّهُ وَتَوَكَّلْت عَلَى اللهِ فَإِنَّك إذَا قُلْتَ: بِسْمِ اللهِ، قَالَ الْمَلَكُ: هُدِيَتْ وَإِذَا قُلْتَ: حَسْبِي اللَّهُ، قَالَ الْمَلَك، حُفِظْت، وَإِذَا قُلْتَ: تَوَكَّلْت عَلَى اللهِ، قَالَ الْمَلَكُ: كُفِيت. (3)
وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: " «إِذَا وَضَعْتَ جَنْبَكَ عَلَى الْفِرَاشِ، وَقَرَأْتَ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ وَقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، فَقَدْ أَمِنْتَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِلَّا الْمَوْتَ» " .. (4)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: وَكَّلَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِحِفْظِ زَكَاةِ رَمَضَانَ، فَأَتَانِي آتٍ فَجَعَلَ يَحْثُو مِنَ الطَّعَامِ فَأَخَذْتُهُ، وَقُلْتُ: وَاللَّهِ لَأَرْفَعَنَّكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: إِنِّي
__________
(1) - مسند أحمد ط الرسالة (29/ 512) (17990) حسن
(2) - المعجم الكبير للطبراني (23/ 339) (787) حسن
(3) - مصنف ابن أبي شيبة -دار القبلة (15/ 309) (30225) فيه انقطاع
(4) - مسند البزار -مكتبة العلوم والحكم - المدينة المنورة (14/ 12) (7393) ضعيف(1/405)
مُحْتَاجٌ، وَعَلَيَّ عِيَالٌ وَلِي حَاجَةٌ شَدِيدَةٌ، قَالَ: فَخَلَّيْتُ عَنْهُ، فَأَصْبَحْتُ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، مَا فَعَلَ أَسِيرُكَ البَارِحَةَ»، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، شَكَا حَاجَةً شَدِيدَةً، وَعِيَالًا، فَرَحِمْتُهُ، فَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ، قَالَ: «أَمَا إِنَّهُ قَدْ كَذَبَكَ، وَسَيَعُودُ»، فَعَرَفْتُ أَنَّهُ سَيَعُودُ، لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِنَّهُ سَيَعُودُ، فَرَصَدْتُهُ، فَجَاءَ يَحْثُو مِنَ الطَّعَامِ، فَأَخَذْتُهُ، فَقُلْتُ: لَأَرْفَعَنَّكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: دَعْنِي فَإِنِّي مُحْتَاجٌ وَعَلَيَّ عِيَالٌ، لاَ أَعُودُ، فَرَحِمْتُهُ، فَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ، فَأَصْبَحْتُ، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، مَا فَعَلَ أَسِيرُكَ»، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ شَكَا حَاجَةً شَدِيدَةً، وَعِيَالًا، فَرَحِمْتُهُ، فَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ، قَالَ: «أَمَا إِنَّهُ قَدْ كَذَبَكَ وَسَيَعُودُ»، فَرَصَدْتُهُ الثَّالِثَةَ، فَجَاءَ يَحْثُو مِنَ الطَّعَامِ، فَأَخَذْتُهُ، فَقُلْتُ: لَأَرْفَعَنَّكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ، وَهَذَا آخِرُ ثَلاَثِ مَرَّاتٍ، أَنَّكَ تَزْعُمُ لاَ تَعُودُ، ثُمَّ تَعُودُ قَالَ: دَعْنِي أُعَلِّمْكَ كَلِمَاتٍ يَنْفَعُكَ اللَّهُ بِهَا، قُلْتُ: مَا هُوَ؟ قَالَ: إِذَا أَوَيْتَ إِلَى فِرَاشِكَ، فَاقْرَأْ آيَةَ الكُرْسِيِّ: {اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلَّا هُوَ الحَيُّ القَيُّومُ} [البقرة: 255]، حَتَّى تَخْتِمَ الآيَةَ، فَإِنَّكَ لَنْ يَزَالَ عَلَيْكَ مِنَ اللَّهِ حَافِظٌ، وَلاَ يَقْرَبَنَّكَ شَيْطَانٌ حَتَّى تُصْبِحَ، فَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ، فَأَصْبَحْتُ فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَا فَعَلَ أَسِيرُكَ البَارِحَةَ»، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، زَعَمَ أَنَّهُ يُعَلِّمُنِي كَلِمَاتٍ يَنْفَعُنِي اللَّهُ بِهَا، فَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ، قَالَ: «مَا هِيَ»، قُلْتُ: قَالَ لِي: إِذَا أَوَيْتَ إِلَى فِرَاشِكَ فَاقْرَأْ آيَةَ الكُرْسِيِّ مِنْ أَوَّلِهَا حَتَّى تَخْتِمَ الآيَةَ: {اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلَّا هُوَ الحَيُّ القَيُّومُ} [البقرة: 255]، وَقَالَ لِي: لَنْ يَزَالَ عَلَيْكَ مِنَ اللَّهِ حَافِظٌ، وَلاَ يَقْرَبَكَ شَيْطَانٌ حَتَّى تُصْبِحَ - وَكَانُوا أَحْرَصَ شَيْءٍ عَلَى الخَيْرِ - فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «أَمَا إِنَّهُ قَدْ صَدَقَكَ وَهُوَ كَذُوبٌ، تَعْلَمُ مَنْ تُخَاطِبُ مُنْذُ ثَلاَثِ لَيَالٍ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ»، قَالَ: لاَ، قَالَ: «ذَاكَ شَيْطَانٌ» (1)
__________
(1) - صحيح البخاري (3/ 101) (2311) معلقا ودلائل النبوة للبيهقي محققا (7/ 107) وتغليق التعليق (3/ 295) (2311) صحيح
[ش (آت) اسم فاعل من أتى وأصله آتي فحذفت الياء لالتقاء الساكنين. (يحثو) يأخذ بكفيه. (علي عيال) نفقة عيال وهم الزوجة والأولاد ومن في نفقة المرء. (أسيرك) سمي أسيرا لأنه ربطه بحبل وكانت عادة العرب أن تربط الأسير إذا أخذته بحبل. (البارحة) أقرب ليلة مضت. (فرصدته) ترقبته. (آية الكرسي) الآية التي يذكر فيها كرسي الرحمن جل وعلا وهي قوله تعالى {الله لا إله إلا هو الحي القيوم}. إلى آخر الآية / البقرة 255 /. (وكانوا) أي الصحابة يحرصون على تعلم الخير فيأخذونه حيثما صدر ويبذلون في سبيله كل شيء من متاع الدنيا. (قد صدقك) أخبرك بما يوافق الواقع والحق. (وهو كذوب) من شأنه وخلقه كثرة الكذب]
وفِي الْحَدِيث مِنْ الْفَوَائِد أَنَّ الشَّيْطَان قَدْ يَعْلَم مَا يَنْتَفِع بِهِ الْمُؤْمِن، وَأَنَّ الْحِكْمَة قَدْ يَتَلَقَّاهَا الْفَاجِر فَلَا يَنْتَفِعُ بِهَا , وَتُؤْخَذ عَنْهُ فَيَنْتَفِع بِهَا، وَأَنَّ الشَّخْص قَدْ يَعْلَم الشَّيْء وَلَا يَعْمَل بِهِ , وَأَنَّ الْكَافِر قَدْ يَصْدُق بِبَعْضِ مَا يَصْدُق بِهِ الْمُؤْمِن , وَلَا يَكُون بِذَلِكَ مُؤْمِنًا، وَبِأَنَّ الْكَذَّاب قَدْ يَصْدُق، وَبِأَنَّ الشَّيْطَان مِنْ شَأْنه أَنْ يَكْذِب، وَأَنَّهُ قَدْ يَتَصَوَّر بِبَعْضِ الصُّوَر فَتُمْكِن رُؤْيَته، وَأَنَّ قَوْله تَعَالَى (إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ) مَخْصُوص بِمَا إِذَا كَانَ عَلَى صُورَته الَّتِي خُلِقَ عَلَيْهَا، وَأَنَّ الْجِنّ يَأْكُلُونَ مِنْ طَعَام الْإِنْس، وَأَنَّهُمْ يَظْهَرُونَ لِلْإِنْسِ لَكِنْ بِالشَّرْطِ الْمَذْكُور، وَأَنَّهُمْ يَتَكَلَّمُونَ بِكَلَامِ الْإِنْس، وَأَنَّهُمْ يَسْرِقُونَ وَيَخْدَعُونَ، وَفِيهِ فَضْل آيَة الْكُرْسِيّ وَفَضْل آخَر سُورَة الْبَقَرَة، وَفِيهِ أَنَّ السَّارِق لَا يُقْطَع فِي الْمَجَاعَة، وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون الْقَدْر الْمَسْرُوق لَمْ يَبْلُغ النِّصَاب وَلِذَلِكَ جَازَ لِلصَّحَابِيِّ الْعَفْو عَنْهُ قَبْل تَبْلِيغه إِلَى الشَّارِع , وَفِيهِ قَبُول الْعُذْر وَالسَّتْر عَلَى مَنْ يُظَنّ بِهِ الصِّدْق. وفِيهِ اطِّلاع النَّبِيّ صَلَّى الله عَلَيهِ وسَلَّمَ عَلَى المُغَيَّبات. ووقَعَ فِي حَدِيث مُعاذ بن جَبَل أَنَّ جِبرِيل عَلَيهِ السَّلام جاءَ إِلَى النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - فَأَعلَمَهُ بِذَلِكَ. وفِيهِ جَواز جَمع زَكاة الفِطر قَبل لَيلَة الفِطر وتَوكِيل البَعض لِحِفظِها وتَفرِقَتها"فتح الباري شرح صحيح البخاري- ط دار المعرفة (4/ 489)، قلت: وفيه منقبة لأبي هريرة رضي الله عنه وحبه لطلب العلم.(1/406)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّهُ كَانَ عَلَى تَمْرِ الصَّدَقَةِ، فَوَجَدَ أَثَرَ كَفٍّ كَأَنَّهُ قَدْ أُخِذَ مِنْهُ، فَذَكَرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: " أَتُرِيدُ أَنْ تَأْخُذَهُ؟ قُلْ: سُبْحَانَ مَنْ سَخَّرَكَ لِمُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - " قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَقُلْتُ، فَإِذَا أَنَا بِهِ قَائِمٌ بَيْنَ يَدَيَّ، فَأَخَذْتُهُ لِأَذْهَبَ بِهِ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: إِنَّمَا أَخَذْتُهُ لِأَهْلِ بَيْتٍ فُقَرَاءَ مِنَ الْجِنِّ، وَلَنْ أَعُودَ، قَالَ: فَعَادَ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: «أَتُرِيدُ أَنْ تَأْخُذَهُ؟» فَقُلْتُ: نَعَمْ، فَقَالَ: «قُلْ سُبْحَانَ مَنْ سَخَّرَكَ لِمُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم -» فَقُلْتُ، فَإِذَا أَنَا بِهِ، فَأَرَدْتُ لِأَذْهَبَ بِهِ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَعَاهَدَنِي أَنْ لَا يَعُودَ فَتَرَكْتُهُ، ثُمَّ عَادَ، فَذَكَرْتُهُ لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: أَتُرِيدُ أَنْ تَأْخُذَهُ؟ " فَقُلْتُ: نَعَمْ، فَقَالَ: " قُلْ: سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَكَ لِمُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - " فَقُلْتُ: فَإِذَا أَنَا بِهِ، قُلْتُ: عَاهَدْتَنِي فَكَذَبْتَ وَعُدْتَ، لَأَذْهَبَنَّ بِكَ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ: خَلِّ عَنِّي أُعَلِّمْكَ كَلِمَاتٍ، إِذَا قُلْتَهُنَّ لَمْ يَقْرَبْكَ ذَكَرٌ وَلَا أُنْثَى مِنَ الْجِنِّ، فَقُلْتُ: وَمَا هَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتُ؟ قَالَ: آيَةُ الْكُرْسِيِّ اقْرَأْهَا عِنْدَ كُلِّ صَبَاحٍ وَمَسَاءٍ، قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَخَلَّيْتُ عَنْهُ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: «أَوَمَا عَلِمْتَ أَنَّهُ كَذَلِكَ؟» (1)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: وَكَّلَنِي رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بِحِفْظِ زَكَاةِ رَمَضَانَ، فَأَتَانِي آتٍ يَحْثُو مِنَ الطَّعَامِ، فَأَخَذْتُهُ فَقُلْتُ: لَأَرْفَعَنَّكَ إِلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: إِنِّي مُحْتَاجٌ وَعَلَيَّ عِيَالٌ وَبِي
__________
(1) - السنن الكبرى للنسائي (9/ 350) (10728) صحيح(1/407)
حَاجَةٌ شَدِيدَةٌ، فَخَلَّيْتُ عَنْهُ، فَلَمَّا أَصْبَحْتُ قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «يَا أَبَا هُرَيْرَةَ مَا فَعَلَ أَسِيرُكَ الْبَارِحَةَ؟» قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، شَكَى حَاجَةً شَدِيدَةً وَعِيَالًا، فَرَحِمْتُهُ فَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ، فَقَالَ: «أَمَا إِنَّهُ قَدْ كَذَبَكَ، وَسَيَعُودُ» فَعَرَفْتُ أَنَّهُ سَيَعُودُ لِقَوْلِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: إِنَّهُ سَيَعُودُ، فَرَصَدْتُهُ فَجَاءَ يَحْثُو مِنَ الطَّعَامِ فَقُلْتُ: لَأَرْفَعَنَّكَ إِلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: دَعْنِي فَإِنِّي مُحْتَاجٌ وَعَلَيَّ عِيَالٌ وَلَا أَعُودُ، فَرَحِمْتُهُ فَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ، فَأَصْبَحَتْ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، مَا فَعَلَ أَسِيرُكَ الْبَارِحَةَ؟» قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، شَكَا حَاجَةً وَعِيَالًا، فَرَحِمْتُهُ فَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ، فَقَالَ: أَمَا إِنَّهُ كَذَبَكَ، وَسَيَعُودُ " فَرَصَدْتُهُ الثَّالِثَةَ فَجَاءَ يَحْثُو مِنَ الطَّعَامِ فَأَخَذْتُهُ فَقُلْتُ: لَأَرْفَعَنَّكَ إِلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - هَذَا آخِرُ ثَلَاثِ مَرَّاتٍ تَزْعُمُ أَنَّكَ لَا تَعُودُ ثُمَّ تَعُودُ، قَالَ: دَعْنِي أُعَلِّمْكَ كَلِمَاتٍ يَنْفَعُكَ اللهُ بِهَا، قُلْتُ: مَا هِيَ؟ قَالَ: إِذَا أَوَيْتَ إِلَى فِرَاشِكَ فَاقْرَأْ آيَةَ الْكُرْسِيِّ {اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة: 255] حَتَّى تَخْتِمَ الْآيَةَ، فَإِنَّهُ لَنْ يَزَالَ عَلَيْكَ مِنَ اللهِ حَافِظٌ، وَلَا يَقْرَبُكَ شَيْطَانٌ حَتَّى تُصْبِحَ، فَأَصْبَحْتُ فَقَالَ لِي رَسُولُ اللهِ: «مَا فَعَلَ أَسِيرُكَ الْبَارِحَةَ؟» قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، زَعَمَ أَنَّهُ يُعَلِّمُنِي كَلِمَاتٍ يَنْفَعُنِي اللهُ بِهَا فَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ، قَالَ: «مَا هِيَ؟» قَالَ لِي: إِذَا أَوَيْتَ إِلَى فِرَاشِكَ فَاقْرَأْ آيَةَ الْكُرْسِيِّ مِنْ أَوَّلِهَا حَتَّى تَخْتِمَهَا {اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة: 255] وَقَالَ: لَنْ يَزَالَ عَلَيْكَ مِنَ اللهِ حَافِظٌ وَلَا يَقْرَبُكَ الشَّيْطَانُ حَتَّى تُصْبِحَ، وَكَانُوا أَحْرَصَ شَيْءٍ عَلَى الْخَيْرِ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «أَمَا إِنَّهُ كَذُوبٌ وَقَدْ صَدَقَكَ، تَعْلَمُ مَنْ تُخَاطِبُ مُنْذُ ثَلَاثٍ، يَا أَبَا هُرَيْرَةَ؟» فَقُلْتُ: لَا، قَالَ: «ذَلِكَ الشَّيْطَانُ» (1)
وعَنْ جَابِرٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: " إِذَا آوَى الْإِنْسَانُ إِلَى فِرَاشِهِ ابْتَدَرَهُ مَلَكٌ وَشَيْطَانٌ، فَيَقُولُ الْمَلَكُ: اخْتِمْ بِخَيْرٍ، وَيَقُولُ الشَّيْطَانُ: اخْتِمْ بِشَرٍّ، فَإِنْ ذَكَرَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ حَتَّى تَغْلِبَهُ عَيْنُهُ طَرَدَ الْمَلَكُ الشَّيْطَانَ وَبَاتَ يَكْلَؤُهُ " (2)
وعَنْ جَابِرٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " إِذَا أَوَى أَحَدُكُمْ إِلَى فِرَاشِهِ ابْتَدَرَهُ مَلَكٌ وَشَيْطَانٌ، يَقُولُ الشَّيْطَانُ: افْتَحْ بِشْرٍ، وَيَقُولُ الْمَلَكُ: افْتَحْ بِخَيْرٍ، فَإِنْ ذَكَرَ اللَّهَ ذَهَبَ
__________
(1) - السنن الكبرى للنسائي (9/ 351) (10729) صحيح
(2) - الدعاء للطبراني (ص: 90) (221) صحيح(1/408)
الشَّيْطَانُ وَبَاتَ الْمَلَكُ يَكْلَؤُهُ، وَإِذَا اسْتَيْقَظَ ابْتَدَرَهُ مَلَكٌ وَشَيْطَانٌ، يَقُولُ الشَّيْطَانُ: افْتَحْ بِشَرٍّ، وَيَقُولُ الْمَلَكُ: افْتَحْ بِخَيْرٍ، فَإِنْ قَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي رَدَّ إِلَيَّ نَفْسِي بَعْدَ مَوْتِهَا وَلَمْ يُمِتْهَا فِي نَوْمِهَا، الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي يُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ، إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ، الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي يُحْيِي الْمَوْتَى، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، فَإِنْ خَرَّ مِنْ دَابَّةٍ مَاتَ شَهِيدًا، وَإِنْ قَامَ فَصَلَّى صَلَّى فِي الْفَضَائِلِ " (1)
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، يَبْلُغُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا أَتَى أَهْلَهُ قَالَ بِاسْمِ اللَّهِ، اللَّهُمَّ جَنِّبْنَا الشَّيْطَانَ وَجَنِّبِ الشَّيْطَانَ مَا رَزَقْتَنَا، فَقُضِيَ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ لَمْ يَضُرُّهُ» (2)
وعَنْ أَبِي أُمَامَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: " لَا يَعْجِزَنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا أَتَى أَهْلَهُ أَنْ يَقُولَ: بِسْمِ اللهِ، اللهُمَّ جَنِّبْنِي، وَجَنِّبْ مَا رَزَقْتَنِي الشَّيْطَانَ الرَّجِيمَ، فَإِنْ قُدِّرَ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ لَمْ يَضُرَّهُ شَيْطَانٌ أَبَدًا " (3)
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: " لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَأْتِيَ أَهْلَهُ، فَقَالَ: بِاسْمِ اللَّهِ، اللَّهُمَّ جَنِّبْنَا الشَّيْطَانَ وَجَنِّبِ الشَّيْطَانَ مَا رَزَقْتَنَا، فَإِنَّهُ إِنْ يُقَدَّرْ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ فِي ذَلِكَ لَمْ يَضُرُّهُ شَيْطَانٌ أَبَدًا " (4)
وعَنْ حُسَيْنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبَانٍ، قَالَ: بَيْنَمَا رَجُلٌ فِي الْمَسْجِدِ يُصَلِّي، إِذَا هُوَ بِشَيْءٍ إِلَى جَنْبِهِ فَهِيلَ مِنْهُ، فَقَالَ: لَيْسَ عَلَيْكَ مِنِّي بَأْسٌ، إِنَّمَا جِئْتُكَ فِي اللَّهِ، ائْتِ عُرْوَةَ، فَاسْأَلْهُ مَا الَّذِي يَتَعَوَّذُ مِنَ الْأَبَالِسِ؟ قَالَ: قُلْ: «آمَنْتُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ وَحْدَهُ، وَكَفَرْتُ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ، وَاعْتَصَمْتُ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى، الَّتِي لَا انْفِصَامَ لَهَا، وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ، حَسْبِيَ اللَّهُ وَكَفَى، سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ دَعَا، لَيْسَ وَرَاءَ اللَّهِ مَرْمَى» (5)
__________
(1) - الدعوات الكبير (1/ 537) (418) صحيح
(2) - صحيح البخاري (1/ 40) (141) وصحيح مسلم (2/ 1058) 116 - (1434)
[(يبلغ به النبي) أي يرفع الحديث ويصل به إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وليس موقوفا على ابن عباس. (إذا أتى أهله) جامع زوجته والوقاع الجماع. (ما رزقتنا) أي من ولد]
(3) - المعجم الكبير للطبراني (8/ 208) (7839) صحيح لغيره
(4) - صحيح البخاري (9/ 119) (7396)
(5) - العدة للكرب والشدة لضياء الدين المقدسي (ص: 79) (36) ضعيف(1/409)
وعَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ، - صلى الله عليه وسلم - قَالَتْ: عَلَّمَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَلِمَاتٍ، وَقَالَ: " إِذَا أَخَذْتِ مَضْجَعَكِ فَقُولِي: الْحَمْدُ لِلَّهِ الْكَافِي، سُبْحَانَ اللَّهِ الْأَعْلَى، حَسْبِيَ اللَّهُ وَكَفَى، مَا شَاءَ اللَّهُ قَضَى، سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ دَعَا، لَيْسَ مِنَ اللَّهِ مَلْجَأٌ، وَلَا وَرَاءَ اللَّهِ مُلْتَجَأٌ، تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ، {مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [هود: 56]، {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيُّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا} [الإسراء: 111]. ثُمَّ قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَقُولُهَا عِنْدَ مَنَامِهِ، ثُمَّ يَنَامُ وَسَطَ الشَّيَاطِينِ وَالْهَوَامِّ فَتَضُرُّهُ» (1)
وعَنْ سُهَيْلٍ، قَالَ: أَرْسَلَنِي أَبِي إِلَى بَنِي حَارِثَةَ، قَالَ: وَمَعِي غُلَامٌ لَنَا - أَوْ صَاحِبٌ لَنَا - فَنَادَاهُ مُنَادٍ مِنْ حَائِطٍ بِاسْمِهِ قَالَ: وَأَشْرَفَ الَّذِي مَعِي عَلَى الْحَائِطِ فَلَمْ يَرَ شَيْئًا، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِأَبِي فَقَالَ: لَوْ شَعَرْتُ أَنَّكَ تَلْقَ هَذَا لَمْ أُرْسِلْكَ، وَلَكِنْ إِذَا سَمِعْتَ صَوْتًا فَنَادِ
بِالصَّلَاةِ فَإِنِّي سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ الشَّيْطَانَ إِذَا نُودِيَ بِالصَّلَاةِ وَلَّى وَلَهُ حُصَاصٌ» (2)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ أَدْبَرَ الشَّيْطَانُ، وَلَهُ ضُرَاطٌ، حَتَّى لاَ يَسْمَعَ التَّأْذِينَ، فَإِذَا قَضَى النِّدَاءَ أَقْبَلَ، حَتَّى إِذَا ثُوِّبَ بِالصَّلاَةِ أَدْبَرَ، حَتَّى إِذَا قَضَى التَّثْوِيبَ أَقْبَلَ، حَتَّى يَخْطِرَ بَيْنَ المَرْءِ وَنَفْسِهِ، يَقُولُ: اذْكُرْ كَذَا، اذْكُرْ كَذَا، لِمَا لَمْ يَكُنْ يَذْكُرُ حَتَّى يَظَلَّ الرَّجُلُ لاَ يَدْرِي كَمْ صَلَّى " (3)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إِنَّ الشَّيْطَانَ إِذَا سَمِعَ النِّدَاءَ بِالصَّلَاةِ أَحَالَ لَهُ ضُرَاطٌ حَتَّى لَا يَسْمَعَ صَوْتَهُ. فَإِذَا سَكَتَ رَجَعَ فَوَسْوَسَ فَإِذَا سَمِعَ الْإِقَامَةَ ذَهَبَ حَتَّى لَا يَسْمَعَ صَوْتَهُ فَإِذَا سَكَتَ رَجَعَ فَوَسْوَسَ». (4)
وعَنْ يَحْيَى بْنِ جَعْدَةَ، قَالَ: كَانَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ يفْزَعُ مِنَ اللَّيْلِ حَتَّى يَخْرُجَ وَمَعَهُ سَيْفُهُ، فَخُشِيَ عَلَيْهِ أَنْ يُصِيبَ أَحَدًا، فَشَكَا ذَلِكَ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: إِنَّ جِبْرِيلَ قَالَ
__________
(1) - عمل اليوم والليلة لابن السني (ص: 667) ضعيف
(2) - صحيح مسلم (1/ 291) (18 - (389)
(3) - صحيح مسلم (1/ 291) (18 - (389)
(4) - صحيح مسلم (1/ 291) 16 - (389) [ش (أحال) ذهب هاربا](1/410)
لِي: إِنَّ عِفْرِيتًا مِنَ الْجِنِّ يَكِيدُكَ، فَقُلْ: أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللهِ التَّامَّةِ الَّتِي لاَ يُجَاوِزُهنَّ بَرٌّ، وَلاَ فَاجِرٌ مِنْ شَرِّ مَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ، وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا، وَمِنْ شَرِّ مَا ذَرَأَ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا، وَمِنْ شَرِّ فِتَنِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَمِنْ شَرِّ كُلِّ طَارِقٍ إِلاَّ طَارِقًا يَطْرُقُ بِخَيْرٍ يَا رَحْمَنُ، فَقَالَهُنَّ خَالِد، فَذَهَب ذَلِكَ عَنهُ. (1)
وعَنْ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ قَالَ: كُنْتُ أَفْزَعُ بِاللَّيْلِ، فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فَقُلْتُ: إِنِّي أَفْزَعُ بِاللَّيْلِ فَآخُذُ سَيْفِي، فَلَا أَلْقَى شَيْئًا إِلَّا ضَرَبْتُهُ بِسَيْفِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «أَلَا أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ عَلَّمَنِيَ الرُّوحُ الْأَمِينُ؟» فَقُلْتُ: بَلَى. فَقَالَ: «قُلْ: أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ الَّتِي لَا يُجَاوِزُهُنَّ بِرٌّ وَلَا فَاجِرٌ، مِنْ شَرِّ مَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ، وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا، وَمِنْ شَرِّ فِتَنِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَمِنْ كُلِّ طَارِقٍ إِلَّا طَارِقٌ يَطْرُقُ بِخَيْرٍ، يَا رَحْمَنُ»، فَقَالَهَا، فَذَهَبَتْ عَنْهُ» (2)
وعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ، قَالَ: حدَّثَنَا مَكْحُولٌ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لَمَّا دَخَلَ مَكَّةَ تَلَقَّتْهُ الْجِنَّ بِالشَّرَرِ يَرْمُونَهُ، فَقَالَ جِبْرِيل: يَا مُحَمَّدُ، تَعَوَّذ بِهَؤُلاَءِ الْكَلِمَاتِ: فَزُجِرُوا عَنْهُ، فَقَالَ: أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللهِ التَّامَّاتِ الَّتِي لاَ يُجَاوِزهُنَّ بَرٌّ، وَلاَ فَاجِرٌ مِنْ شَرِّ مَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ، وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا، وَمِنْ شَرِّ مَا بُثَّ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا، وَمِنْ شَرِّ فِتَنِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَمِنْ شَرِّ كُلِّ طَارِقٍ إَلاَّ طَارِقًا يَطْرُقُ بِخَيْرٍ يَا رَحْمَنُ. (3)
وقَالَ أَبُو التَّيَّاحِ: سَأَلَ رَجُلٌ عَبْدَ اللهِ بْنَ خَنْبَشٍ: كَيْفَ صَنَعَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - حِينَ كَادَتْهُ الشَّيَاطِينُ؟ قَالَ: جَاءَتِ الشَّيَاطِينُ إِلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنَ الأَوْدِيَةِ، وَتَحَدَّرَتْ عَلَيْهِ مِنَ الْجِبَالِ، وَفِيهِمْ شَيْطَانٌ مَعَهُ شُعْلَةٌ مِنْ نَارٍ، يُرِيدُ أَنْ يُحَرِّقَ بِهَا رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَأُرْعِبَ مِنْهُ؟ قَالَ جَعْفَرٌ: أَحْسَبُهُ جَعَلَ يَتَأَخَّرُ، وَجَاءَ جِبْرِيلُ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، قُلْ، قَالَ: وَمَا أَقُولُ؟ قَالَ: قُلْ: أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللهِ التَّامَّاتِ الَّتِي لاَ يُجَاوِزُهُنَّ بَرٌّ، وَلاَ فَاجِرٌ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ، وَذَرَأَ وَبَرَأَ، وَمِنْ شَرِّ مَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ، وَمِنْ شَرِّ مَا يَعْرُجُ فِيهَا، وَمِنْ شَرِّ مَا ذَرَأَ فِي
__________
(1) - صحيح البخاري (1/ 125) (608) وصحيح مسلم (1/ 291) 19 - (389)
[(وله ضراط) تمثيل لشدة خوفه عند إدباره أو يكون ذلك حقيقة لشدة خوفه أيضا. (ثوب) أقم للصلاة وهو المراد هنا. (النداء) الأذان. (يخطر) يوسوس ويشغل المصلي عما هو فيه]
(2) - المعجم الأوسط (5/ 315) (5415) حسن لغيره
(3) - مصنف ابن أبي شيبة -دار القبلة (12/ 107) (24066) صحيح لغيره(1/411)
الأَرْضِ، وَمِنْ شَرِّ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا، وَمِنْ شَرِّ فِتَنِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَمِنْ شَرِّ كُلِّ طَارِقٍ إِلاَّ طَارِقًا يَطْرُقُ بِخَيْرٍ يَا رَحْمَنُ، قَالَ: فَطُفِئَتْ نَارُ الشَّيَاطِينَ، وَهَزَمَهُمَ اللَّهُ. (1)
وعَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، قَالَ: سَمِعْتُ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الشَّامِ يُقَالُ لَهُ الْعَبَّاسُ يُحَدِّثُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُخْبِرُ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: لَمَّا كَانَ لَيْلَةُ الْجِنِّ أَقْبَلَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ فِي يَدِهِ شُعْلَةٌ مِنَ النَّارِ، فَجَعَلَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَقْرَأُ الْقُرْآنَ فَلَا يَزْدَادُ إِلَّا قُرْبًا، فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: أَلَا أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ تَقُولُهُنَّ يُنْكَبُ مِنْهَا لَفِيهِ، وَتُطْفَأُ شُعْلَتُهُ؟ قُلْ: أَعُوذُ بِوَجْهِ اللَّهِ الْكَرِيمِ، وَبِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ الَّتِي لَا يُجَاوِزُهُنَّ بَرٌّ وَلَا فَاجِرٌ مِنْ شَرِّ مَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ، وَمِنْ شَرِّ مَا يَعْرُجُ فِيهَا. وَمِنْ شَرِّ مَا ذَرَأَ فِي الْأَرْضِ، وَمِنْ شَرِّ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا، وَمِنْ شَرِّ فِتَنِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَمِنْ شَرِّ طَوَارِقِ اللَّيْلِ، وَمِنْ شَرِّ كُلِّ طَارِقٍ إِلَّا طَارِقًا يَطْرُقُ بِخَيْرٍ يَا رَحْمَنُ. فَقَالَهَا، فَانْكَبَّ لَفِيهِ وَطُفِئَتْ شُعْلَتُهُ. (2)
وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لَيْلَةَ الْجِنِّ وَهُوَ مَعَ جِبْرِيلَ وَأَنَا مَعَهُ، فَجَعَلَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَقْرَأُ، وَجَعَلَ الْعِفْرِيتُ يَدْنُو وَيَزْدَادُ قُرْبًا، فَقَالَ جِبْرِيلُ لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: " أَلَا أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ تَقُولُهُنَّ فَيُكَبُّ الْعِفْرِيتُ لِوَجْهِهِ، وَتُطْفَأُ شُعْلَتُهُ، قُلْ: أَعُوذُ بِوَجْهِ اللهِ الْكَرِيمِ، وَكَلِمَاتِهِ التَّامَّاتِ الَّتِي لَا يُجَاوِزُهُنَّ بَرٌّ وَلَا فَاجِرٌ، مِنْ شَرِّ مَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ، وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا، وَمِنْ شَرِّ مَا ذَرَأَ فِي الْأَرْضِ، وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا، وَمِنْ فِتَنِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَمِنْ شَرِّ طَوَارِقِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِلَّا طَارِقًا يَطْرُقُ بِخَيْرٍ، يَا رَحْمَنُ، فَكُبَّ الْعِفْرِيتُ لِوَجْهِهِ، وَانْطَفَأَتْ شُعْلَتُهُ " (3)
خامساً: لزوم جماعة المسلمين:
ومما يبعد المسلم عن الوقوع في أحابيل الشيطان أن يعيش في ديار الإسلام، ويختار لنفسه الفئة الصالحة التي تعينه على الحق، وتحضّه عليه، وتذكره بالخيرات، فإن في الاتحاد والتجمع قوة وأي قوة، قال ابن بطة: " اعْلَمُوا يَا إِخْوَانِي وَفَّقَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكُمْ لِلسَّدَادِ
__________
(1) - مصنف ابن أبي شيبة -دار القبلة (12/ 109) (24068) وصحيح الجامع (74) صحيح لغيره
(2) - الأسماء والصفات للبيهقي (2/ 96) (663) صحيح لغيره
(3) - السنن الكبرى للنسائي (9/ 349) (10726) صحيح(1/412)
وَالِائْتِلَافِ، وَعَصَمَنَا وَإِيَّاكُمْ مِنَ الشَّتَاتِ وَالِاخْتِلَافِ، أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ أَعْلَمَنَا اخْتِلَافَ الْأُمَمِ الْمَاضِينَ قَبْلَنَا وَإِنَّهُمْ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا فَتَفَرَّقَتْ بِهِمُ الطُّرُقُ حَتَّى صَارَ بِهِمُ الِاخْتِلَافُ إِلَى الِافْتِرَاءِ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَالْكَذِبِ عَلَيْهِ وَالتَّحْرِيفِ لِكِتَابِهِ، وَالتَّعْطِيلِ لِأَحْكَامِهِ، وَالتَّعَدِّي لِحُدُودِهِ، وَأَعْلَمَنَا تَعَالَى أَنَّ السَّبَبَ الَّذِي أَخْرَجَهُمْ إِلَى الْفُرْقَةِ بَعْدَ الْأُلْفَةِ، وَالِاخْتِلَافِ بَعْدَ الِائْتِلَافِ، هُوَ شِدَّةُ الْحَسَدِ مِنْ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ، وَبَغْيِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ، فَأَخْرَجَهُمْ ذَلِكَ إِلَى الْجُحُودِ بِالْحَقِّ بَعْدَ مَعْرِفَتِهِ، وَرَدِّهِمُ الْبَيَانَ الْوَاضِحَ بَعْدَ صِحَّتِهِ، وَكُلُّ ذَلِكَ وَجَمِيعُهُ قَدْ قَصَّهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْنَا، وَأَوْعَزَ فِيهِ إِلَيْنَا، وَحَذَّرَنَا مِنْ مُوَاقَعَتِهِ، وَخَوَّفَنَا مِنْ مُلَابَسَتِهِ، وَلَقَدْ رَأَيْنَا ذَلِكَ فِي كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ عَصْرِنَا، وَطَوَائِفَ مِمَّنْ يَدَّعِي أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ مِلَّتِنَا، وَسَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْ نَبَأِ مَا قَدْ أَعْلَمَنَاهُ مَوْلَانَا الْكَرِيمُ، وَمَا قَدْ عَلِمَهُ إِخْوَانُنَا مِنْ أَهْلِ الْقُرْآنِ، وَأَهْلِ الْعِلْمِ، وَكَتَبَةِ الْحَدِيثِ وَالسُّنَنِ، وَمَا يَكُونُ فِيهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ بَصِيرَةٌ لِمَنْ عَلِمَهُ، وَنَسِيَهُ، وَلِمَنْ غَفَلَهُ أَوْ جَهِلَهُ، وَيَمْتَحِنُ اللَّهُ بِهِ مَنْ خَالَفَهُ وَجَحَدَهُ، بِأَلَّا يَجْحَدَهُ إِلَّا الْمُلْحِدُونَ، وَلَا يُنْكِرَهُ إِلَّا الزَّائِغُونَ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [البقرة: 213]، وَقَالَ تَعَالَى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} [البقرة: 253] وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [آل عمران: 19]، وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [الأنعام: 159] وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى(1/413)
جَاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [يونس: 93]، وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ} [الشورى: 14]، وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة: 5] " قَالَ الشَّيْخُ: " إِخْوَانِي فَهَذَا نَبَأُ قَوْمٍ فَضَلَّهُمُ اللَّهُ وَعَلَّمَهُمْ وَبَصَّرَهُمْ وَرَفَعَهُمْ، وَمَنَعَ ذَلِكَ آخَرِينَ إِصْرَارُهُمْ عَلَى الْبَغِيِّ عَلَيْهِمْ، وَالْحَسَدُ لَهُمْ إِلَى مُخَالَفَتِهِمْ، وَعَدَاوَتِهِمْ، وَمُحَارَبَتِهِمْ، فَاسْتَنْكَفُوا أَنْ يَكُونُوا لِأَهْلِ الْحَقِّ تَابِعِينَ، وَبِأَهْلِ الْعِلْمِ مُقْتَدِينَ فَصَارُوا أَئِمَّةً مُضِلِّينَ وَرُؤَسَاءَ فِي الْإِلْحَادِ مَتْبُوعِينَ رُجُوعًا عَنِ الْحَقِّ، وَطَلَبَ الرِّيَاسَةِ، وَحُبًّا لِلِاتِّبَاعِ وَالِاعْتِقَادِ. وَالنَّاسُ فِي زَمَانِنَا هَذَا أَسْرَابٌ كَالطَّيْرِ، يَتْبَعُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا لَوْ ظَهَرَ لَهُمْ مَنْ يَدَّعِي النُّبُوَّةَ مَعَ عِلْمِهِمْ بِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - خَاتَمُ الْأَنْبِيَاءِ، أَوْ مَنْ يَدَّعِي الرُّبُوبِيَّةَ، لَوَجَدَ عَلَى ذَلِكَ أَتْبَاعًا وَأَشْيَاعًا فَقَدْ ذَكَرْتُ مَا حَضَرَنِي مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي عَابَ اللَّهُ فِيهَا الْمُخْتَلِفِينَ، وَذَمَّ بِهَا الْبَاغِينَ، وَأَنَا الْآنَ أَذْكُرُ لَكَ الْآيَاتِ مِنَ الْقُرْآنِ الَّتِي حَذَّرَنَا فِيهَا رَبُّنَا وَتَعَالَى مِنَ الْفُرْقَةِ وَالِاخْتِلَافِ، وَأَمَرَنَا بِلُزُومِ الْجَمَاعَةِ وَالِائْتِلَافِ، نَصِيحَةً لِإِخْوَانِنَا وَشَفَقَةً عَلَى أَهْلِ مَذْهَبِنَا. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ} إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، ثُمَّ حَذَّرَنَا مِنْ مُوَاقَعَةِ مَا أَتَاهُ مَنْ قَبْلَنَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فَيُصِيبَنَا مَا أَصَابَهُمْ، فَقَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران: 105] فَأَخْبَرَنَا أَنَّهُمْ عَنِ الْحَقِّ رَجَعُوا، وَمِنْ بَعْدِ الْبَيَانِ اخْتَلَفُوا، وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام: 153] وَقَالَ تَعَالَى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ} [الشورى: 13]، وَقَالَ تَعَالَى: {مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا(1/414)
تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [الروم: 31] فَهَلْ بَقِيَ رَحِمَكُمُ اللَّهُ أَوْضَحُ مِنْ هَذَا الْبُرْهَانِ أَوْ أَشْفَى مِنْ هَذَا الْبَيَانِ، وَقَدْ أَعْلَمَنَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ قَدْ خَلَقَ خَلْقًا لِلِاخْتِلَافِ وَالْفُرْقَةِ، وَحَذَّرْنَا أَنْ نَكُونَ كُهْمٌ لَهُمْ، وَاسْتَثْنَى أَهْلَ رَحْمَتِهِ لِنُوَاظِبَ عَلَى الْمَسْأَلَةِ أَنْ يَجْعَلَنَا مِنْهُمْ فَقَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [هود: 118] ثُمَّ حَذَّرَ نَبِيَّهُ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يَتَّبِعَ أَهْلَ الْأَهْوَاءِ الْمُخْتَلِفِينَ وَآرَاءَ الْمُتَقَدِّمِينَ، فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [المائدة: 49]، وَقَالَ: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة: 48]، وَقَالَ: {وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ وَآتَيْنَاهُمْ بَيَّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ} [الجاثية: 16]، وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ فِيمَا ذَمَّ بِهِ الْمُخَالِفِينَ: فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [المؤمنون: 53] "
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} [الأنعام: 68]، وَقَوْلِهِ: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ} [آل عمران: 7]، وَقَوْلِهِ: {وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام: 153]، وَقَوْلِهِ: {أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى: 13]، وَقَوْلِهِ: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا} [الأنعام: 159]، وَقَوْلِهِ: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا} [آل عمران: 105]، وَقَوْلِهِ: {وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ} [الأنبياء: 93]. وَنَحْوُ هَذَا فِي الْقُرْآنِ(1/415)
كَثِيرٌ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: «أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى الْمُؤْمِنِينَ بِالْجَمَاعَةِ، وَنَهَاهُمْ عَنِ الِاخْتِلَافِ وَالْفُرْقَةِ، وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَهُمْ بِالْمِرَاءِ وَالْخُصُومَاتِ فِي دِينِ اللَّهِ» " (1)
وعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ: خَطَبَ عُمَرُ النَّاسَ بِالْجَابِيَةِ فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَامَ فِي مِثْلِ مَقَامِي هَذَا ثُمَّ قَالَ: «أَحْسِنُوا إِلَى أَصْحَابِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ يَفْشُو الْكَذِبُ حَتَّى إِنَّ الرَّجُلَ لَيَحْلِفَ عَلَى الْيَمِينِ قَبْلَ أَنْ يُسْتَحْلَفَ عَلَيْهَا، وَيَشْهَدُ عَلَى الشَّهَادَةِ قَبْلَ أَنْ يُسْتَشْهَدَ عَلَيْهَا، فَمَنْ أَرَادَ مِنْكُمْ أَنْ يَنَالَ بُحْبُوحَةَ الْجَنَّةِ فَلْيَلْزَمِ الْجَمَاعَةَ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ مَعَ الْوَاحِدِ، وَهُوَ مِنَ الِاثْنَيْنِ أَبَعْدُ، أَلَا لَا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ، فَإِنَّ ثَالِثَهُمَا الشَّيْطَانُ، أَلَا وَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ تَسُوءُهُ سَيِّئَتُهُ، وَتَسُرُّهُ حَسَنَتُهُ فَهُوَ مُؤْمِنٌ» (2)
وعن ابْنِ الزُّبَيْرِ قالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ يَخْطُبُ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَخْطُبُ فَقَالَ: «أَكْرِمُوا أَصْحَابِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ يَظْهَرُ الْكَذِبُ حَتَّى يَشْهَدَ الرَّجُلُ وَلَا يُسْتَشْهَدْ، وَيَحْلِفَ الرَّجُلُ، وَلَا يُسْتَحْلَفَ، فَمَنْ أَحَبَّ مِنْكُمْ بُحْبُحَةَ الْجَنَّةِ فَلْيَلْزَمِ الْجَمَاعَةَ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ مَعَ الْوَاحِدِ وَهُوَ مِنَ الِاثْنَيْنِ أَبَعْدُ، وَلَا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ، فَإِنَّ ثَالِثَهُمَا الشَّيْطَانُ، وَمَنْ سَرَّتْهُ حَسَنَتُهُ وَسَاءَتْهُ سَيِّئَتُهُ فَهُوَ مُؤْمِنٌ» (3)
وعَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ لَمَّا قَدِمَ الشَّامَ قَامَ فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَامَ فِينَا كَقِيَامِي فِيكُمْ فَقَالَ: «أَكْرِمُوا أَصْحَابِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ يَظْهَرُ الْكَذِبُ، فَيَحْلِفُ الرَّجُلُ وَلَا يُسْتَحْلَفُ، وَيَشْهَدُ وَلَا يُسْتَشْهَدُ، فَمَنْ أَرَادَ بُحْبُحَةَ الْجَنَّةِ فَلْيَلْزَمِ الْجَمَاعَةَ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ مَعَ الْفَذِّ، وَهُوَ مِنَ الِاثْنَيْنِ أَبَعْدُ، وَلَا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ لَا تَحِلُّ لَهُ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ ثَالِثُهُمَا» (4)
وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: خَطَبَنَا عُمَرُ بِالْجَابِيَةِ فَقَالَ: إِنِّي قُمْتُ فِيكُمْ كَمَقَامِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فِينَا فَقَالَ: «أُوصِيكُمْ بِأَصْحَابِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ يَفْشُو الْكَذِبُ حَتَّى يَحْلِفَ
__________
(1) -الإبانة الكبرى لابن بطة (1/ 270)
(2) - السنن الكبرى للنسائي (8/ 284) (9175) صحيح
يفشو: فشا الشيء إذا ظهر وانتشر. =بُحْبُوحَة: بحبوحة الجنة: وسطها، وبحبوحة كل شيء وسطه وخياره.
(3) - السنن الكبرى للنسائي (8/ 285) (9178) صحيح
(4) - السنن الكبرى للنسائي (8/ 286) (9180) صحيح لغيره(1/416)
الرَّجُلُ، وَلَا يُسْتَحْلَفُ، وَحَتَّى يَشْهَدَ وَلَا يُسْتَشْهَدُ عَلَيْكُمْ بِالْجَمَاعَةِ، وَإِيَّاكُمْ وَالْفُرْقَةَ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ مَعَ الْوَاحِدِ وَهُوَ مِنَ الِاثْنَيْنِ أَبَعْدُ، لَا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ ثَلَاثَ مِرَارٍ إِلَّا كَانَ ثَالِثَهُمَا شَيْطَانٌ، مَنْ أَرَادَ بُحْبُوحَةَ الْجَنَّةِ فَلْيَلْزَمِ الْجَمَاعَةَ، مَنْ سَرَّتَهُ حَسَنَتْهُ وَسَاءَتْهُ سَيِّئَتُهُ فَذَلِكَ الْمُؤْمِنُ» (1)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «تَرْكُ السُّنَّةِ الْخُرُوجُ مِنَ الْجَمَاعَةِ». (2)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " الصَّلَاةُ الْمَكْتُوبَةُ إِلَى الصَّلَاةِ الَّتِي قَبْلَهَا كَفَّارَةٌ، وَالْجُمُعَةُ إِلَى الْجُمُعَةِ الَّتِي قَبْلَهَا كَفَّارَةٌ مَا بَيْنَهُمَا، وَالشَّهْرُ إِلَى الشَّهْرِ يَعْنِي شَهْرَ رَمَضَانَ إِلَى شَهْرِ رَمَضَانَ كَفَّارَةُ مَا بَيْنَهُمَا إِلَّا مِنْ ثَلَاثٍ: الْإِشْرَاكُ بِاللهِ، وَتَرْكُ السُّنَّةِ، وَنَكْثُ الصَّفْقَةِ " قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَعَلِمْتُ أَنَّ ذَلِكَ لِأَمْرٍ حَدَثَ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَمَّا الْإِشْرَاكُ بِاللهِ فَقَدْ عَرَفْنَاهُ، فَمَا نَكْثُ الصَّفْقَةِ، وَتَرْكُ السُّنَّةِ؟ قَالَ: " أَمَّا نَكْثُ الصَّفْقَةِ: فَأَنْ تُبَايِعَ رَجُلًا بِيَمِينِكَ، ثُمَّ تُخَالِفُ إِلَيْهِ فَتُقَابِلُهُ بِسَيْفِكَ، وَأَمَّا تَرْكُ السُّنَّةِ: فَالْخُرُوجُ مِنَ الْجَمَاعَةِ " (3)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَنْ تَرَكَ الطَّاعَةَ وَفَارَقَ الْجَمَاعَةَ، ثُمَّ مَاتَ، فَقَدْ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً» (4)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَنِ اعْتَرَضَ أُمَّتِي لَا يَحْتَشِمُ مِنْ بَرِّهَا، وَلَا فَاجِرِهَا، وَلَا يَفِي لِذِي عَهْدِهَا، فَلَيْسَ مِنِّي، وَمَنْ خَالَفَ الطَّاعَةَ، وَفَارَقَ الْجَمَاعَةَ، فَمَاتَ فَمِيتَتُهُ جَاهِلِيَّةٌ، وَمَنْ قُتِلَ تَحْتَ رَايَةٍ عِمِّيَّةٍ يَدْعُو إِلَى عَصَبِيَّةٍ أَوْ يَغْضَبُ لِلْعَصَبِيَّةِ، فَمَاتَ فَمِيتَتُهُ جَاهِلِيَّةٌ» (5)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ، وَخَرَجَ عَنِ الطَّاعَةِ، فَمَاتَ فَمِيتَتُهُ جَاهِلِيَّةٌ، وَمَنْ خَرَجَ عَلَى أُمَّتِي يَضْرِبُ بَرَّهَا، وَفَاجِرَهَا، لَا يُحَاشِي
__________
(1) - السنن الكبرى للنسائي (8/ 286) (9181) صحيح
(2) - الإبانة الكبرى لابن بطة (1/ 281) (107) صحيح
(3) - شعب الإيمان (5/ 231) (3348) صحيح
(4) - الإبانة الكبرى لابن بطة (1/ 282) (108) صحيح
(5) -الإبانة الكبرى لابن بطة (1/ 282) (110) صحيح(1/417)
مُؤْمِنًا لِإِيمَانِهِ، وَلَا يَفِي لِذِي عَهْدٍ بِعَهْدِهِ، فَلَيْسَ مِنْ أُمَّتِي، وَمَنْ قُتِلَ تَحْتَ رَايَةٍ عِمِّيَّةٍ يَغْضَبُ لِلْعَصَبِيَّةِ أَوْ يُقَاتِلُ لِلْعَصَبِيَّةِ، فَقِتْلَتُهُ جَاهِلِيَّةٌ» (1)
وعَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «الْجَمَاعَةُ رَحْمَةٌ، وَالْفُرْقَةُ عَذَابٌ» (2)
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَقُولُ: «إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَجَارَ أُمَّتِي أَنْ تَجْتَمِعَ عَلَى ضَلَالَةٍ». (3)
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ , قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ أُمَّتِي لَا يَجْتَمِعُونَ عَلَى ضَلَالَةٍ» (4)
وعَنْ عَلِيٍّ، قَالَ: «مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ شِبْرًا، فَقَدْ خَلَعَ رِبْقَةَ الْإِسْلَامِ مِنْ عُنُقِهِ» (5)
وعَنْ عَلِيٍّ، قَالَ: إنَّ الإسْلامَ ثَلاثُ أَثَافِيِ: الإِيمَانُ وَالصَّلاةُ وَالْجَمَاعَةُ، فَلا تُقْبَلُ صَلاةٌ إلاَّ بِإِيمَانٍ، وَمَنْ آمَنَ صَلَّى وَمَنْ صَلَّى جَامَعَ، وَمَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ قَيْدَ شِبْرٍ فَقَدْ خَلَعَ رِبْقَةَ الإسْلامِ مِنْ عُنُقِهِ. (6)
وعَنْ سَعْدِ بْنِ حُذَيْفَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: «مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ شِبْرًا، فَقَدْ خَلَعَ رِبْقَةَ الْإِسْلَامِ مِنْ عُنُقِهِ» (7)
وعَنِ الْحَارِثِ الْأَشْعَرِيِّ، أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " وَأَنَا آمُرُكُمْ بِخَمْسٍ: بِالسَّمْعِ، وَالطَّاعَةِ، وَالْجَمَاعَةِ، وَالْهِجْرَةِ، وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَمَنْ خَرَجَ مِنَ الْجَمَاعَةِ قَيْدَ شِبْرٍ فَقَدْ خَلَعَ رِبْقَةَ الْإِسْلَامِ مِنْ رَأْسِهِ إِلَّا أَنْ يُرَاجِعَ " (8)
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «الْزَمُوا هَذِهِ الطَّاعَةَ وَالْجَمَاعَةَ فَإِنَّهُ حَبْلُ اللَّهِ الَّذِي أَمَرَ بِهِ، وَأَنَّ مَا تَكْرَهُونَ فِي الْجَمَاعَةِ خَيْرٌ مِمَّا تُحِبُّونَ فِي الْفُرْقَةِ، وَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَخْلُقْ شَيْئًا قَطُّ إِلَّا جَعَلَ لَهُ مُنْتَهَى، وَإِنَّ هَذَا الدِّينَ قَدْ تَمَّ وَإِنَّهُ صَائِرٌ إِلَى
_________
(1) - الإبانة الكبرى لابن بطة (1/ 284) (112) صحيح
(2) - السنة لابن أبي عاصم (1/ 41) (83) صحيح لغيره
(3) - الإبانة الكبرى لابن بطة (1/ 281) (107) صحيح
(4) - الفقيه والمتفقه للخطيب البغدادي (1/ 410) حسن
(5) - الإبانة الكبرى لابن بطة (1/ 290) (121) حسن لغيره
(6) - مصنف ابن أبي شيبة -دار القبلة (15/ 625) (31066) حسن
(7) - الإبانة الكبرى لابن بطة (1/ 290) (122 و123) حسن
(8) - الإبانة الكبرى لابن بطة (1/ 292) (125) صحيح(1/418)
نُقْصَانَ، وَإِنَّ أَمَارَةَ ذَلِكَ أَنْ تُقْطَعَ الْأَرْحَامُ، وَيُؤْخَذَ الْمَالُ بِغَيْرِ حَقِّهِ، وَيُسْفَكَ الدِّمَاءُ وَيَشْتَكِي ذُو الْقَرَابَةِ قَرَابَتَهُ، وَلَا يَعُودُ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ، وَيَطُوفُ السَّائِلُ بَيْنَ الْجُمُعَتَيْنِ لَا يُوضَعُ فِي يَدِهِ شَيْءٌ، فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ خَارَتْ خُوَارَ الْبَقَرِ يَحْسَبُ كُلُّ النَّاسِ إِنَّمَا خَارَتْ مِنْ قِبَلِهِمْ، فَبَيْنَمَا النَّاسُ كَذَلِكَ إِذْ قَذَفَتِ الْأَرْضُ بِأَفْلَاذِ كَبِدِهَا مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ لَا يَنْفَعُ بَعْدَ ذَلِكَ شَيْءٌ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ» (1)
وعَنْ ثَابِتِ بْنِ قُطْبَةَ , قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ مَسْعُودٍ وَهُوَ يَخْطُبُ وَهُوَ يَقُولُ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ عَلَيْكُمْ بِالطَّاعَةِ وَالْجَمَاعَةِ , فَإِنَّهُمَا السَّبِيلُ فِي الْأَصْلِ إِلَى حَبْلِ اللَّهِ الَّذِي أَمَرَ بِهِ , وَإِنَّ مَا تَكْرَهُونَ فِي الْجَمَاعَةِ خَيْرٌ مِمَّا تُحِبُّونَ فِي الْفُرْقَةِ» (2)
والجماعة جماعة المسلمين، وإمام المسلمين، الذي يحكم المسلمين بالكتاب والسنة أي بما أنزل الله تعالى، ولا قيمة للجماعة في الإسلام ما لم تلتزم بالحق: الكتاب والسنة، فعَنْ مَعْدَانَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ الْيَعْمَرِيُّ قَالَ: قَالَ لِي أَبُو الدَّرْدَاءِ، أَيْنَ مَسْكَنُكَ؟ فَقُلْتُ: فِي قَرْيَةٍ دُوَيْنَ حِمْصَ، فَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «مَا مِنْ ثَلَاثَةٍ فِي قَرْيَةٍ وَلَا بَدْوٍ لَا تُقَامُ فِيهِمُ الصَّلَاةُ إِلَّا قَدِ اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ، فَعَلَيْكَ بِالْجَمَاعَةِ فَإِنَّمَا يَأْكُلُ الذِّئْبُ الْقَاصِيَةَ» قَالَ السَّائِبُ يَعْنِي بِالْجَمَاعَةِ الْجَمَاعَةَ فِي الصَّلَاةِ " (3)
وعن الْأَزْهَرَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ لُحَيٍّ أَبُو عَامِرٍ الْهَوْزَنِيُّ، قَالَ: حَجَجْتُ مَعَ مُعَاوِيَةَ فَلَمَّا قَدِمَ مَكَّةَ أُخْبِرَ أَنَّ بِهَا قَاصًّا يُحَدِّثُ بِأَشْيَاءَ تُنْكَرُ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ مُعَاوِيَةُ فَقَالَ: أُمِرْتَ بِهَذَا؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَمَا حَمَلَكَ عَلَيْهِ؟ قَالَ: عِلْمٌ نَنْشُرُهُ، فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ: لَوْ كُنْتُ تَقَدَّمْتُ إِلَيْكَ لَفَعَلْتُ بِكَ، انْطَلِقْ فَلَا أَسْمَعُ أَنَّكَ حَدَّثْتَ شَيْئًا فَلَمَّا صَلَّى الظُّهْرَ قَعَدَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: يَا مَعْشَرَ الْعَرَبِ، وَاللَّهِ لَئِنْ لَمْ تَقُومُوا بِمَا جَاءَ بِهِ نَبِيُّكُمْ - صلى الله عليه وسلم -، فَغَيْرُكُمْ مِنَ النَّاسِ أَحْرَى أَنْ لَا يَقُومَ بِهِ إِلَّا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَامَ فِينَا يَوْمًا فَقَالَ: «إِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ افْتَرَقُوا عَلَى اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ مِلَّةً - يَعْنِي
_________
(1) - المستدرك على الصحيحين للحاكم (4/ 598) (8663) وحلية الأولياء وطبقات الأصفياء (9/ 249) صحيح
(2) - شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (1/ 121) (158 و159) صحيح
(3) - السنن الكبرى للنسائي (1/ 445) (922) صحيح(1/419)
الْأَهْوَاءَ - وَإِنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ سَتَفْتَرِقُ عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ مِلَّةً، - يَعْنِي الْأَهْوَاءَ - اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِي النَّارِ وَوَاحِدَةٌ فِي الْجَنَّةِ وَهِيَ الْجَمَاعَةُ فَاعْتَصِمُوا بِهَا فَاعْتَصِمُوا بِهَا» (1)
وعَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَامَ حِينَ صَلَّى الظُّهْرَ بِالنَّاسِ بِمَكَّةَ فَقَالَ: أَلَا إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَامَ فِينَا فَقَالَ: «أَلَا إِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ افْتَرَقُوا عَلَى اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ مِلَّةً، وَإِنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ سَتَفْتَرِقُ عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ، اثْنَتَانِ وَسَبْعُونَ فِي النَّارِ وَوَاحِدَةٌ فِي الْجَنَّةِ، وَهِيَ الْجَمَاعَةُ» (2)
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «لَيَأْتِيَنَّ عَلَى أُمَّتِى مَا أَتَى عَلَى بَنِى إِسْرَائِيلَ حَذْوَ النَّعْلِ بِالنَّعْلِ حَتَّى إِنْ كَانَ مِنْهُمْ مَنْ أَتَى أُمَّهُ عَلاَنِيَةً لَكَانَ فِى أُمَّتِى مَنْ يَصْنَعُ ذَلِكَ وَإِنَّ بَنِى إِسْرَائِيلَ تَفَرَّقَتْ عَلَى ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ مِلَّةً وَتَفْتَرِقُ أُمَّتِى عَلَى ثَلاَثٍ وَسَبْعِينَ مِلَّةً كُلُّهُمْ فِى النَّارِ إِلاَّ مِلَّةً وَاحِدَةً قَالُوا وَمَنْ هِىَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ مَا أَنَا عَلَيْهِ وَأَصْحَابِى». (3)
وعَنْ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: خَطَّ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -،خَطًّا بِيَدِهِ، ثُمَّ قَالَ:" هَذَا سَبِيلُ اللهِ مُسْتَقِيمًا "،قَالَ: ثُمَّ خَطَّ عَنْ يَمِينِهِ، وَشِمَالِهِ، ثُمَّ قَالَ:" هَذِهِ السُّبُلُ، لَيْسَ مِنْهَا سَبِيلٌ إِلَّا عَلَيْهِ شَيْطَانٌ يَدْعُو إِلَيْهِ " ثُمَّ قَرَأَ: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ) [الأنعام:153] (4)
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: خَطَّ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمًا خَطًّا، فَقَالَ: «هَذَا سَبِيلُ اللَّهِ» ثُمَّ خَطَّ خُطُوطًا عَنْ يَمِينِ الْخَطِّ وَيَسَارِهِ، وَقَالَ: «هَذِهِ سُبُلٌ عَلَى كُلِّ سَبِيلٍ مِنْهَا شَيْطَانٌ يَدْعُو إِلَيْهِ» ثُمَّ تَلَا: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ} [الأنعام:153]
_________
(1) - السنة للمروزي (ص: 19) (50) حسن
ستفترق: قال الخطابي: قوله - صلى الله عليه وسلم -: «ستفترق أمتي» فيه دلالة على أن هذه الفرق غير خارجة عن الملة والدين، إذ جعلهم من أمته. = يتجارى الكلب: التجاري، تفاعل من الجري، وهو الوقوع في الأهواء الفاسدة، والتداعي فيها، تشبيها بجري الفرس، والكلب: داء معروف يعرض للكلب، إذا عض حيوانا عرض له أعراض رديئة فاسدة قاتلة، فإذا تجارى بالإنسان وتمادى هلك. جامع الأصول في أحاديث الرسول ط مكتبة الحلواني الأولى (10/ 32)
(2) - الشريعة للآجري (1/ 314) (29) صحيح
(3) - سنن الترمذى- المكنز - (2853) قَالَ أَبُو عِيسَى: هَذَا حَدِيثٌ مُفَسَّرٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ
(4) - مسند أحمد ط الرسالة (7/ 436) (4437) وتفسير ابن كثير ت سلامة (3/ 365) صحيح(1/420)
فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ يَعْنِي الْخُطُوطَ الَّتِي عَنْ يَسَارِهِ وَيَمِينِهِ" (1)
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: خَطَّ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - خَطًّا وَخَطَّ عَنْ يَمِينِ الْخَطِّ وَعَنْ شِمَالِهِ خُطَطًا، ثُمَّ قَالَ: «هَذَا صِرَاطُ اللَّهِ مُسْتَقِيمًا، وَهَذِهِ السُّبُلُ عَلَى كُلِّ سَبِيلٍ مِنْهَا شَيْطَانٌ
يَدْعُو إِلَيْهِ» ثُمَّ قَرَأَ: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام:153] " (2)
وعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -،فَخَطَّ خَطًّا هَكَذَا أَمَامَهُ، فَقَالَ: «هَذَا سَبِيلُ اللَّهِ» وَخَطَّيْنِ عَنْ يَمِينِهِ، وَخَطَّيْنِ عَنْ شِمَالِهِ، وَقَالَ: «هَذِهِ سُبُلُ الشَّيْطَانِ»،ثُمَّ وَضَعَ يَدَهُ فِي الْخَطِّ الْأَوْسَطِ، ثُمَّ قَالَ هَذِهِ الْآيَةَ:" {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام:153] (3)
وعَنِ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:" ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا، وَعَلَى جَنَبَتَيْ الصِّرَاطِ سُورٌ، وَأَبْوَابٌ مُفَتَّحَةُ، وَعَلَى الْأَبْوَابِ سُتُورٌ مُرْخَاةٌ، وَعَلَى بَابِ الصِّرَاطِ دَاعٍ يَقُولُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ ادْخُلُوا الصِّرَاطَ جَمِيعًا، وَلَا تُعَوِّجُوا، وَدَاعٍ يَدْعُو مِنْ فَوْقِ الصِّرَاطِ، فَإِذَا أَرَادَ فَتْحَ شَيْءٍ مِنْ تِلْكَ الْأَبْوَابِ قَالَ: وَيْحَكَ لَا تَفْتَحْهُ، فَإِيَّاكَ أَنْ تَفْتَحَهُ، فَالصِّرَاطُ الْإِسْلَامُ، وَالسُّورُ حُدُودُ اللَّهِ، وَالْأَبْوَابُ الْمُفَتَّحَةُ مَحَارِمُ اللَّهِ، وَذَلِكَ الدَّاعِي عَلَى الصِّرَاطِ كِتَابُ اللَّهِ، وَالدَّاعِي فَوْقَ الصِّرَاطِ وَاعِظُ اللَّهِ فِي قَلْبِ كُلِّ مُسْلِمٍ " (4)
_________
(1) - الإبانة الكبرى لابن بطة (1/ 294) (127) صحيح
(2) - الإبانة الكبرى لابن بطة (1/ 292) (126) صحيح
(3) - مسند أحمد ط الرسالة (23/ 417) (15277) والإبانة الكبرى لابن بطة (1/ 295) (129) صحيح لغيره
(4) - الإبانة الكبرى لابن بطة (1/ 296) (131) صحيح(1/421)
وعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إِنَّ الشَّيْطَانَ ذِئْبُ الْإِنْسَانِ كَذِئْبِ الْغَنَمِ، يَأْخُذُ الْقَاصِيَةَ وَالشَّارِدَةَ، وَإِيَّاكُمْ وَالشِّعَابَ، وَعَلَيْكُمْ بِالْعَامَّةِ، وَالْجَمَاعَةِ وَالْمَسَاجِدِ» (1)
وعَنْ أَبِي وَائِلٍ، قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: «إِنَّ هَذَا الصِّرَاطَ مُحْتَضَرٌ يَحْتَضِرُهُ الشَّيَاطِينُ يُنَادُونَ يَا عَبْدَ اللَّهِ هَلُمَّ هَذَا الصِّرَاطَ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ، فَإِنَّ حَبْلَ اللَّهِ هُوَ كِتَابُ اللَّهِ» (2)
وعَنْ عَرْفَجَةَ بْنِ ضُرَيْحٍ الْأَشْجَعِيِّ، قَالَ رَأَيْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ يَخْطُبُ النَّاسَ، فَقَالَ: «إِنَّهُ سَيَكُونُ بَعْدِي هَنَاتٌ وَهَنَاتٌ، فَمَنْ رَأَيْتُمُوهُ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ أَوْ يُرِيدُ أَنْ يُفَرِّقُ أَمْرَ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - كَائِنًا مَنْ كَانَ فَاقْتُلُوهُ، فَإِنَّ يَدَ اللهِ عَلَى الْجَمَاعَةِ، وَإِنَّ الشَّيْطَانَ مَعَ مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ يَرْكُضُ» (3)
وعَنْ عَرْفَجَةَ، أَوْ أُسَامَةَ بْنِ شَرِيكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّهَا سَتَكُونُ هَنَاتٌ وَهَنَاتٌ، فَمَنْ جَاءَكُمْ يُفَرِّقُ بَيْنَ جَمَاعَتِكُمْ، فَاضْرِبُوا عُنُقَهُ كَائِنًا مَنْ كَانَ» (4)
_________
(1) - المعجم الكبير للطبراني (20/ 164) (344) والمنتخب من مسند عبد بن حميد ت صبحي السامرائي (ص:69) (114) وشعب الإيمان (4/ 338) (2600) صحيح لغيره
قال المناوي في الفيض 2/ 350:إن الشيطان ذئب الإنسان كذئب الغنم أي مفسد للإنسان أي بإغوائه ومهلك له كذئب أرسل في قطيع من الغنم يأخذ الشاة القاصية أي البعيدة عن صواحباتها وهو حال من الذئب والعامل معنى التشبيه وهو تمثيل مثل حالة مفارقة الجماعة واعتزاله عنهم ثم تسلط الشيطان عليه بحالة شاة شاذة عن الغنم ثم افتراس الذئب إياها بسبب انقطاعها ووصف الشاة بصفات ثلاث فالشاذة هي النافرة والقاضية هي التي قصدت البعد لا عن تنفير والناحية بحاء مهملة التي غفل عنها وبقيت في جانب منها فإن الناحية هي التي صارت من ناحية الأرض ولما انتهى التمثيل حذر فقال وإياكم والشعاب أي احذروا التفرق والاختلاف 0وعليكم بالجماعة تقرير بعد تقرير وتأكيد بعد تأكيد أي الزموها وكونوا مع السواد الأعظم فإن من شذ شذ إلى النار والعامة أي السواد الأعظم من المؤمنين والمسجد أي لزومه"
راجع التفاصيل في كتابي ((الخلاصة في أحاديث الطائفة المنصورة)) وكتابي ((المفصل في تخريج حديث افتراق الأمة)) وكلاهما في مكتبة صيد الفوائد وغيرها
(2) - الإبانة الكبرى لابن بطة (1/ 299) (135) صحيح
(3) - السنن الكبرى للنسائي (3/ 428) (3469) صحيح
(4) - الإبانة الكبرى لابن بطة (1/ 302) (139) صحيح(1/422)
وعَنْ أُسَامَةَ بْنِ شَرِيكٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «يَدُ اللهِ عَلَى الْجَمَاعَةِ، فَإِذَا شَذَّ الشَّاذُّ مِنْهُمُ اخْتَطَفَهُ الشَّيْطَانُ كَمَا يَخْتَطِفُ الذِّئْبُ الشَّاةَ مِنَ الْغَنَمِ» (1)
وعَنْ نَافِعٍ، قَالَ: جَاءَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ إِلَى عَبْدِ اللهِ بْنِ مُطِيعٍ حِينَ كَانَ مِنْ أَمْرِ الْحَرَّةِ مَا كَانَ، زَمَنَ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ، فَقَالَ: اطْرَحُوا لِأَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ وِسَادَةً، فَقَالَ: إِنِّي لَمْ آتِكَ لِأَجْلِسَ، أَتَيْتُكَ لِأُحَدِّثَكَ حَدِيثًا سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُهُ: سَمِعْتُ
رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنْ خَلَعَ يَدًا مِنْ طَاعَةٍ، لَقِيَ اللهَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا حُجَّةَ لَهُ، وَمَنْ مَاتَ وَلَيْسَ فِي عُنُقِهِ بَيْعَةٌ، مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً» (2)
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْأَشْتَرِ فَقَالَ: وَاللَّهِ إِنِّي لَعِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُطِيعٍ حِينَ هَاجَ هَيْجَةَ النَّاسِ مَعَ ابْنِ الزُّبَيْرِ عَلَى يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ إِذْ دَخَلَ عَلَيْهِ ابْنُ عُمَرَ فَأَمَرَ بِوِسَادَةٍ فَبُسِطَتْ لَهُ، فَقَالَ: إِنِّي لَمْ آتِكَ لِأَجْلِسَ، وَلَكِنِّي أَرَدْتُ أَنْ أُحَدِّثَكَ عَمَّا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَشْهَدُ لَسَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنْ خَلَعَ الطَّاعَةَ لَقِيَ اللَّهَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا حُجَّةَ لَهُ، وَمَنْ مَاتَ لَا طَاعَةَ عَلَيْهِ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً»،قَالَ ثُمَّ انْصَرَفَ (3)
وَقَدْ كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَجَمَاعَاتُ أَهْلِ بَيْتِ النُّبُوَّةِ مِمَّنْ لَمْ يَنْقُضِ الْعَهْدَ، وَلَا بَايَعَ أَحَدًا بَعْدَ بَيْعَتِهِ لِيَزِيدَ، فعَنْ نَافِعٍ قَالَ: لَمَّا خَلَعَ النَّاسُ يَزِيدَ بْنَ مُعَاوِيَةَ جَمَعَ ابْنُ عُمَرَ بَنِيهِ وَأَهْلَهُ، ثُمَّ تَشَهَّدَ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّا قَدْ بَايَعْنَا هَذَا الرَّجُلَ عَلَى بَيْعِ اللهِ وَرَسُولِهِ، وَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: إِنَّ الْغَادِرَ يُنْصَبُ لَهُ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُقَالُ: هَذِهِ غَدْرَةُ فُلاَنٍ، وَإِنَّ مِنْ أَعْظَمِ الْغَدْرِ أَنْ لاَ يَكُونَ الإِِشْرَاكُ بِاللَّهِ تَعَالَى، أَنْ يُبَايِعَ
_________
(1) - المعجم الكبير للطبراني (1/ 186) (489) وشرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (1/ 110) (144) حسن لغيره
(2) - صحيح مسلم (3/ 1478) 58 - (1851)
(3) - مسند عبد الله بن عمر للطرسوسي (ص:28) (27) صحيح
قَوْلُهُ: «مَنْ خَلَعَ يَدًا مِنْ طَاعَةٍ» يُرِيدُ أَخْرَجَ نَفْسَهُ مِنْ طَاعَةِ سُلْطَانِهِ، وَعَدَا عَلَيْهِمْ بِالشَّرِّ "غريب الحديث لإبراهيم الحربي (3/ 1053)(1/423)
رَجُلٌ رَجُلاً عَلَى بَيْعِ اللهِ وَرَسُولِهِ، ثُمَّ يَنْكُثَ بَيْعَتَهُ، فَلاَ يَخْلَعَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمْ يَزِيدَ، وَلاَ يُشْرِفَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمْ فِي هَذَا الأَمْرِ، فَيَكُونَ صَيْلَمٌ بَيْنِي وَبَيْنَهُ. (1)
قَالَ ابن كثير:" وَمَشَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُطِيعٍ وَأَصْحَابُهُ إِلَى مُحَمَّدِ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ فَأَرَادُوهُ عَلَى خَلْعِ يَزِيدَ، فَأَبَى، فَقَالَ ابْنُ مُطِيعٍ: إِنَّ يَزِيدَ يَشْرَبُ الْخَمْرَ وَيَتْرُكُ الصَّلَاةَ وَيَتَعَدَّى حُكْمَ الْكِتَابِ. فَقَالَ لَهُمْ: مَا رَأَيْتُ مِنْهُ مَا تَذْكُرُونَ، وَقَدْ حَضَرْتُهُ وَأَقَمْتُ عِنْدَهُ، فَرَأَيْتُهُ مُوَاظِبًا عَلَى الصَّلَاةِ، مُتَحَرِّيًا لِلْخَيْرِ، يَسْأَلُ عَنِ الْفِقْهِ، مُلَازِمًا لِلسُّنَّةِ. قَالُوا: فَإِنَّ ذَلِكَ كَانَ مِنْهُ تَصَنُّعًا لَكَ. فَقَالَ: وَمَا الَّذِي خَافَ مِنِّي أَوْ رَجَا حَتَّى يُظْهِرَ إِلَيَّ الْخُشُوعَ؟! أَفَأَطْلَعَكُمْ عَلَى مَا
تَذْكُرُونَ مِنْ شُرْبِ الْخَمْرِ؟ فَلَئِنْ كَانَ أَطْلَعَكُمْ عَلَى ذَلِكَ إِنَّكُمْ لَشُرَكَاؤُهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَطْلَعَكُمْ فَمَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَشْهَدُوا بِمَا لَمْ تَعْلَمُوا. قَالُوا: إِنَّهُ عِنْدَنَا لَحَقٌّ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ رَأَيْنَاهُ. فَقَالَ لَهُمْ: قَدْ أَبَى اللَّهُ ذَلِكَ عَلَى أَهْلِ الشَّهَادَةِ، فَقَالَ: {إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف:86].وَلَسْتُ مِنْ أَمْرِكُمْ فِي شَيْءٍ. قَالُوا: فَلَعَلَّكَ تَكْرَهُ أَنْ يَتَوَلَّى الْأَمْرَ غَيْرُكَ، فَنَحْنُ نُوَلِّيكَ أَمْرَنَا. قَالَ: مَا أَسْتَحِلُّ الْقِتَالَ عَلَى مَا تُرِيدُونَنِي عَلَيْهِ تَابِعًا وَلَا مَتْبُوعًا. قَالُوا: فَقَدْ قَاتَلْتَ مَعَ أَبِيكَ. قَالَ جِيئُونِي بِمِثْلِ أَبِي أُقَاتِلُ عَلَى مِثْلِ مَا قَاتَلَ عَلَيْهِ. فَقَالُوا: فَمُرِ ابْنَيْكَ أَبَا هَاشِمٍ وَالْقَاسِمَ بِالْقِتَالِ مَعَنَا. قَالَ: لَوْ أَمَرْتُهُمَا قَاتَلْتُ. قَالُوا: فَقُمْ مَعَنَا مَقَامًا تَحُضُّ النَّاسَ فِيهِ عَلَى الْقِتَالِ. قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ! آمُرُ النَّاسَ بِمَا لَا أَفْعَلُهُ وَلَا أَرْضَاهُ؟! إِذَا مَا نَصَحْتُ لِلَّهِ فِي عِبَادِهِ. قَالُوا: إِذًا نُكْرِهُكَ. قَالَ: إِذًا آمُرُ النَّاسَ بِتَقْوَى اللَّهِ، وَأَلَّا يُرْضُوا الْمَخْلُوقَ بِسَخَطِ الْخَالِقِ. وَخَرَجَ إِلَى مَكَّةَ. (2)
_________
(1) - مسند أحمد (عالم الكتب) (2/ 334) (5088) صحيح
(2) - البداية والنهاية ط هجر (11/ 459) والعواصم من القواصم ط الأوقاف السعودية (ص:227) والعواصم من القواصم ط دار الجيل (ص:233)
* إن الذين نسبوا ليزيد ما لا يحل هم - الرافضة للتوصل إلى التشكيك بالقرآن من وراء الطعن بمعاوية ومن بعده الخلفاء الذين ولوه وأقروه على الحكم، وهم نقلة القرآن وحفظته.
* لقد كان يزيد غائبا عن الشام حينما مات أبوه فلما وصل دمشق جددت له البيعة، ثم جمع الناس في الجامع وخطب فيهم مما يدل على تقواه قائلا بعد حمد الله والثناء عليه: أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ مُعَاوِيَةَ كَانَ عَبْدًا مِنْ عَبِيدِ اللَّهِ، أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ، ثُمَّ قَبَضَهُ إِلَيْهِ، وَهُوَ خَيْرٌ مِمَّنْ بَعْدَهُ، وَدُونَ مَنْ قَبْلَهُ، وَلَا أُزَكِّيهِ عَلَى اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، هُوَ أَعْلَمُ بِهِ، إِنْ عَفَا عَنْهُ فَبِرَحْمَتِهِ، وَإِنْ عَاقَبَهُ فَبِذَنْبِهِ، وَقَدْ وَلِيتُ الْأَمْرَ مِنْ بَعْدِهِ، وَلَسْتُ آسَى عَلَى طَلَبٍ، وَلَا أَعْتَذِرُ مِنْ تَفْرِيطٍ، وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ شَيْئًا كَانَ. وَقَالَ لَهُمْ فِي خُطْبَتِهِ هَذِهِ: وَإِنَّ مُعَاوِيَةَ كَانَ يُغْزِيكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، وَإِنِّي لَسْتُ حَامِلًا أَحَدًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْبَحْرِ، وَإِنَّ مُعَاوِيَةَ كَانَ يُشَتِّيكُمْ بِأَرْضِ الرُّومِ، وَلَسْتُ مُشَتِّيًا أَحَدًا بِأَرْضِ الرُّومِ، وَإِنَّ مُعَاوِيَةَ كَانَ يُخْرِجُ لَكُمُ الْعَطَاءَ أَثْلَاثًا، وَأَنَا أَجْمَعُهُ لَكُمْ كُلَّهُ. قَالَ: فَافْتَرَقَ النَّاسُ عَنْهُ وَهُمْ لَا يُفَضِّلُونَ عَلَيْهِ أَحَدًا."العواصم من القواصم ط دار الجيل (ص:233) والبداية والنهاية ط هجر (11/ 459)
وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الْبَاقِرُ: لَمْ يَخْرُجْ أَحَدٌ مِنْ آلِ أَبِي طَالِبٍ وَلَا مِنْ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أَيَّامَ الْحَرَّةِ، وَلَمَّا قَدِمَ مُسْلِمُ بْنُ عُقْبَةَ الْمَدِينَةَ أَكْرَمَ أَبِي وَأَدْنَى مَجْلِسَهُ، وَأَعْطَاهُ كِتَابَ أَمَانٍ.
وَرَوَى الْمَدَائِنِيُّ، أَنَّ مُسْلِمَ بْنَ عُقْبَةَ بَعَثَ رَوْحَ بْنَ زِنْبَاعٍ إِلَى يَزِيدَ بِبِشَارَةِ الْحَرَّةِ، فَلَمَّا أَخْبَرَهُ بِمَا وَقَعَ قَالَ: وَاقَوْمَاهُ. ثُمَّ دَعَا الضَّحَّاكَ بْنَ قَيْسٍ الْفِهْرِيَّ فَقَالَ لَهُ: تَرَى مَا لَقِيَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ، فَمَا الرَّأْيُ الَّذِي يُجْبِرُهُمْ؟ قَالَ: الطَّعَامُ وَالْأَعْطِيَةُ. فَأَمَرَ بِحَمْلِ الطَّعَامِ إِلَيْهِمْ، وَأَفَاضَ عَلَيْهِمْ أَعْطِيَتَهُ. وَهَذَا خِلَافُ مَا ذَكَرَهُ كَذَبَةُ الرَّوَافِضِ عَنْهُ مِنْ أَنَّهُ شَمِتَ بِهِمْ وَشَفَى بِقَتْلِهِمْ .. " البداية والنهاية ط هجر (11/ 654)(1/424)
وعَنْ عَاصِمٍ الْأَحْوَلِ، قَالَ: قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ:" تَعَلَّمُوا الْإِسْلَامَ، فَإِذَا تَعَلَّمْتُمُ الْإِسْلَامَ فَلَا تَرْغَبُوا عَنْهُ يَمِينًا وَلَا شِمَالًا، وَعَلَيْكُمْ بِالصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، وَعَلَيْكُمْ بِسُنَّةِ نَبِيِّكُمْ، وَالَّذِي كَانَ عَلَيْهِ أَصْحَابُهُ، وَإِيَّاكُمْ وَهَذِهِ الْأَهْوَاءَ الَّتِي تُلْقِي بَيْنَ النَّاسِ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ، فَحَدَّثْتُ الْحَسَنَ، فَقَالَ: صَدَقَ وَنَصَحَ، فَحَدَّثْتُ بِهِ حَفْصَةَ بِنْتَ سِيرِينَ، فَقَالَتْ: يَا بُنَيَّ أَنْتَ حَدَّثْتَ بِهَذَا مُحَمَّدًا؟ قُلْتُ: لَا، قَالَتْ: فَحَدِّثْهُ إِذًا " (1)
سادساً: كشف مخططات الشيطان ومصائده:
عَنِ ابْنِ حَلْبَسٍ قَالَ: حُدِّثْنَا عَنْ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «إِنَّ الشَّيْطَانَ مَعَ الدُّنْيَا، وَمَكْرُهُ مَعَ الْمَالِ، وَتَزْيِينُهُ عِنْدَ الْهَوَى، وَاسْتِكْمَالُهُ عِنْدَ الشَّهَوَاتِ» (2)
فعلى المسلم أن يتعرف على سبله ووسائله في الإضلال، ويكشف ذلك للناس، وقد فعل ذلك القرآن، وقام بهذه المهمة الرسول - صلى الله عليه وسلم - خير قيام، فالقرآن عرفنا الأسلوب الذي أغوى الشيطان به آدم. والرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يعرف الصحابة كيف يسترق الشيطان السمع، ويلقي بالكلمة التي سمع في أذن الكاهن أو الساحر ومعها مائة كذبة، يبين ذلك لهم كي لا ينخدعوا بأمثال هؤلاء، وبين لهم كيف يوسوس لهم ويشغلهم في صلاتهم وعبادتهم، وكيف يحاول الشيطان أن يوهمهم بأن وضوءهم قد فسد، والأمر ليس
_________
(1) - الإبانة الكبرى لابن بطة (1/ 300) (136) صحيح مقطوع
(2) - الزهد لأحمد بن حنبل (ص:79) (489) ومكائد الشيطان (ص:78) (58) حسن مقطوع(1/425)
كذلك، وكيف يفرق بين المرء وزوجه، وكيف يوسوس للمرء، فيقول له: من خلق كذا؟ من خلق كذا؟ حتى يقول: من خلق ربك؟
سابعاً: مخالفة الشيطان:
يأتي الشيطان في صورة ناصح يحرص على الإنسان كما سبق، فعلى المرء أن يخالف ما يأمر به، ويقول له: لو كنت ناصحاً أحداً لنصحت نفسك، فقد أوقعت نفسك في النار، وجلبت لها غضب الجبّار، فكيف ينصح غيره من لا ينصح نفسه.
عَنِ الْحَسَنِ، قَالَ:" مَا مِنْ أَحَدٍ عَمِلَ عَمَلًا إِلَّا سَارَ فِي قَلْبِهِ سَوْرَتَانِ، فَإِذَا كَانَتِ الْأُولَى مِنْهُمَا لِلَّهِ فَلَا تَهِيدَنَّهُ الْآخِرَةُ "
قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ:" يَقُولُ لَا يَصْرِفَنَّهُ عَنْ ذَلِكَ وَلَا يُزِيلُهُ وَالَّذِي أَرَادَ الْحَسَنُ بِقَوْلِهِ فَلَا تَهِيدَنَّهُ الْآخِرَةُ، يَقُولُ: إِذًا يَقُولُ: إِذَا صَحَّتْ نِيَّتُهُ فِي الْأَوَّلِ مَا يُرِيدُ الْأَمْرَ مِنَ الْبِرِّ فَعَرَضَ لَهُ الشَّيْطَانُ، فَقَالَ: إِنَّكَ تُرِيدُ بِهَذِهِ الرِّيَاءَ فَلَا يَمْنَعَنَّهُ مِنْ ذَلِكَ الْأَمْرِ الَّذِي قَدْ تَقَدَّمَتْ فِيهِ نِيَّتُهُ، وَهَذَا شَبِيهٌ بِالْحَدِيثِ الْآخَرِ إِذَا أَتَاكَ الشَّيْطَانُ وَأَنْتَ تُصَلِّي، فَقَالَ إِنَّكَ تُرَائِي فَزِدْهَا طُولًا " (1)
وعن سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ قال: لَقِيَ عِيسَى بن مَرْيَمَ عَلَيْهِمَا السَّلامُ إِبْلِيسَ فَقَالَ لَهُ إِبْلِيسُ: أَنْتَ الَّذِي بَلَغَ مِنْ عِظَمِ رُبُوبِيَّتِكَ، أَنَّكَ تَكَلَّمْتَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا، وَلَمْ يَتَكَلَّمْ فِيهِ أَحَدٌ قَبْلَكَ؟ قَالَ: بَلِ الرُّبُوبِيَّةُ وَالْعَظَمَةُ لِلإِلَهِ الذي أنطقني، ثم يميتني ثم يحيني.
قَالَ: فَأَنْتَ الَّذِي بَلَغَ مِنْ عِظَمِ رُبُوبِيَّتِكَ أنك تحي الْمَوْتَى؟ قَالَ: بَلِ الرُّبُوبِيَّةُ للَّهِ الَّذِي يُمِيتُنِي، ويميت من أحييت ثم يحيني.
قَالَ: وَاللَّهِ إِنَّكَ لإِلَهٌ فِي السَّمَاءِ وَإِلَهٌ فِي الأَرْضِ.
قَالَ: فَصَكَّهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ بِجَنَاحِهِ صَكَّةً فَمَا تَنَاهَى دُونَ قَرْنِ الشَّمْسِ، ثُمَّ صَكَّهُ أُخْرَى فَمَا تَنَاهَى دُونَ الْعَيْنِ الْحَامِيَةِ، ثُمَّ صَكَّهُ صَكَّةً فَأَدْخَلَهُ بِحَارَ السَّابِعَةِ
_________
(1) - شعب الإيمان (9/ 186) (6474) صحيح مقطوع(1/426)
فَأَسَاخَهُ فِيهَا حَتَّى وَجَدَ طَعْمَ الْحَمْأَةِ، فَخَرَجَ مِنْهَا وَهُوَ يَقُولُ: مَا لَقِيَ أَحَدٌ من أحد ما لقيت منك يا ابن مريم. (1)
وعَنْ أَبِي عُثْمَانَ قَالَ: كَانَ عِيسَى عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ يُصَلِّي عَلَى رَأْسِ جَبَلٍ فَأَتَاهُ إِبْلِيسُ فَقَالَ: أَنْتَ الَّذِي تَزْعُمُ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ بِقَضَاءٍ وَقَدَرٍ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: أَلْقِ نَفْسَكَ مِنَ الجبل وقل: قدر علي. قال: يالعين! اللَّهُ يَخْتَبِرُ الْعِبَادَ، وَلَيْسَ لِلْعِبَادِ أَنْ يَخْتَبِرُوا الله عز وجل." (2)
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ فِي ذِي الْكِفْلِ قَالَ: قَالَ نَبِيٌّ مِنَ الأَنْبِيَاءِ لِمَنْ مَعَهُ: هَلْ مِنْكُمْ مَنْ يَكْفُلُ لِي أَلا يَغْضَبَ، وَيَكُونَ مَعِي فِي دَرَجَتِي، وَيَكُونَ بَعْدِي فِي قَوْمِي؟ فَقَالَ شَابٌّ مِنَ الْقَوْمِ: أَنَا. ثُمَّ أَعَادَ عَلَيْهِ. فَقَالَ الشَّابُّ: أَنَا، فَلَمَّا مَاتَ قَامَ الشَّابُّ بَعْدَهُ فِي مَقَامِهِ فَأَتَاهُ
إِبْلِيسُ لِيُغْضِبَهُ. فَقَالَ الرَّجُلُ: اذْهَبْ مَعَهُ فَجَاءَ فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ لَمْ يَرَ شَيْئًا، ثُمَّ أَتَاهُ فَأَرْسَلَ مَعَهُ آخَرَ فَجَاءَ فَقَالَ: لَمْ أَرَ شَيْئًا. ثُمَّ أَتَاهُ فَأَخَذَهُ بِيَدِهِ، فَانْفَلَتَ مِنْهُ. فَسُمِّيَ ذَا الْكِفْلِ لأَنَّهُ كَفَلَ أَلا يَغْضَبَ. (3)
وعَنِ الْحَارِثِ بْنِ قَيْسٍ الْجُعْفِيِّ قَالَ:" إِذَا كُنْتَ فِي أَمْرِ الْآخِرَةِ فَتَمَكَّثْ وَإِذَا كُنْتَ فِي أَمْرِ الدُّنْيَا فَتَوَخَّ وَإِذَا هَمَمْتَ بِخَيْرٍ فَلَا تُؤَخِّرْهُ وَإِذَا أَتَاكَ الشَّيْطَانُ وَأَنْتَ تُصَلِّي فَقَالَ: إِنَّكَ تُرَائِي فَزِدْهَا طُولًا " (4)
وعَنِ الْحُرَيْثِ بْنِ قَيْسٍ قَالَ:" إِذَا أَرَدْتَ أَمْرًا مِنَ الْخَيْرِ فَلَا تُؤَخِّرْهُ لِغَدٍ، وَإِذَا كُنْتَ فِي أَمْرِ الْآخِرَةِ فَامْكُثْ مَا اسْتَطَعْتَ، وَإِذَا كُنْتَ فِي أَمْرِ الدُّنْيَا فَتَوَحَّ، وَإِذَا كُنْتَ فِي الصَّلَاةِ فَقَالَ لَكَ الشَّيْطَانُ: إِنَّكَ تُرَائِي، فَزِدْهَا طُولًا " (5) وهذا فقه جيد منه، رحمه الله.
_________
(1) - مكائد الشيطان (ص:76) (54) صحيح مقطوع
(2) - مكائد الشيطان (ص:77) (56) حسن مقطوع
(3) - مكائد الشيطان (ص:73) (51) صحيح مقطوع
(4) - الزهد لأحمد بن حنبل (ص:291) (2092) صحيح مقطوع
(5) - الزهد والرقائق لابن المبارك والزهد لنعيم بن حماد (1/ 12) (35) والسنن الكبرى للنسائي (10/ 406) (11856) صحيح مقطوع(1/427)
وإذا علمنا أنّ أمراً ما يحبّه الشيطان، ويتصف به، فعلينا أن نخالفه، فمثلاً الشيطان يأكل بشماله، ويشرب بشماله، ويأخذ بشماله، لذا وجبت علينا مخالفته. فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لِيَأْكُلْ أَحَدُكُمْ بِيَمِينِهِ، وَلْيَشْرَبْ بِيَمِينِهِ، وَلْيَأْخُذْ بِيَمِينِهِ، وَلْيُعْطِ بِيَمِينِهِ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَأْكُلُ بِشِمَالِهِ، وَيَشْرَبُ بِشِمَالِهِ، وَيُعْطِي بِشِمَالِهِ، وَيَأْخُذُ بِشِمَالِهِ» (1)
ورغّبنا الرسول - صلى الله عليه وسلم - في القيلولة، معلّلاً ذلك بأن الشياطين لا تقيل، فعَن أنس، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:قيلوا فإن الشياطين لا تقيل .. (2)
وحذرنا القرآن من الإسراف، وقد عدّ المبذرين إخوان الشياطين، وما ذلك إلا لأن الشياطين تحب إضاعة المال وإنفاقه في غير وجهه. قال تعالى: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا (27)} [الإسراء:26،27]
بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ اللهُ تَعَالَى بِرَّ الوَالِدَيْنِ، عَطَفَ عَلَى ذِكْرِ الإِحْسَانِ إِلَى الأَقَارِبِ، وَإلى صِلَةِ الأَرْحَامِ، وَالتَّصَدُّقِ عَلَى الفُقَرَاءِ، وَالمَسَاكِينِ، وَأَبْنَاءِ السَّبِيلِ العَابِرِينَ، الَّذِينَ انْقَطَعَتْ نَفَقَتُهُمْ.
وَالمُبَذِّرُونَ هُمْ قُرَنَاءَ الشَّيَاطِينَ فِي السَّفْهِ وَالتَّبْذِيرِ وَتَرْكِ طَاعَةِ اللهِ، وَارْتِكَابِ مَعْصِيَتِهِ، وَكَانَ الشَّيْطَانُ كَفُوراً بِنِعْمَةِ رَبِّهِ، جَحُوداً بِهَا، لأَنَّهُ أَنْكَرَ نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْهِ وَلَمْ يَعْمَلْ بِطَاعَتِهِ. (3)
ومن الإسراف الإكثار من الأثاث والفراش الذي لا لزوم له، روى مسلم في صحيحه عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ لَهُ: «فِرَاشٌ لِلرَّجُلِ، وَفِرَاشٌ لِامْرَأَتِهِ، وَالثَّالِثُ لِلضَّيْفِ، وَالرَّابِعُ لِلشَّيْطَانِ». (4)
_________
(1) - سنن ابن ماجه (2/ 1087) (3266) صحيح
(2) - الطب النبوي لأبي نعيم الأصفهاني (1/ 261) (151) حسن - قال: نام وسط النهار
(3) - أيسر التفاسير لأسعد حومد (ص:2056،بترقيم الشاملة آليا)
(4) - صحيح مسلم (3/ 1651) 41 - (2084)
قَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الْخَطَّابِيُّ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُسْتَحَبَّ فِي أَدَبِ السُّنَّةِ أَنْ يَبِيتَ الرَّجُلُ وَحْدَهُ عَلَى فِرَاشٍ، وَزَوْجَتُهُ عَلَى فِرَاشٍ آخَرَ، وَلَوْ كَانَ الْمُسْتَحَبُّ لَهُمَا أَنْ يَبِيتَا مَعًا عَلَى فِرَاشٍ وَاحِدٍ، لَكَانَ لَا يُرَخَّصُ لَهُ فِي اتِّخَاذِ فِرَاشَيْنِ لِنَفْسِهِ وَلِزَوْجَتِهِ، وَهُوَ إِنَّمَا يُحَسِّنُ لَهُ مَذْهَبَ الاقْتِصَادِ، وَالاقْتِصَادُ أَقَلُّ مَا تَدْعُو إِلَيْهِ الْحَاجَةُ. شرح السنة للبغوي (12/ 55)(1/428)
ومن هذا المنطلق أمرنا الرسول - صلى الله عليه وسلم - بأن نميط الأذى عن اللقمة التي تسقط من أحدنا، ولا نتركها للشيطان، فعَنْ جَابِرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «إِنَّ الشَّيْطَانَ يَحْضُرُ أَحَدَكُمْ عِنْدَ كُلِّ شَيْءٍ مِنْ شَأْنِهِ، حَتَّى يَحْضُرَهُ عِنْدَ طَعَامِهِ، فَإِذَا سَقَطَتْ مِنْ أَحَدِكُمُ اللُّقْمَةُ، فَلْيُمِطْ مَا كَانَ بِهَا مِنْ أَذًى، ثُمَّ لِيَأْكُلْهَا، وَلَا يَدَعْهَا لِلشَّيْطَانِ، فَإِذَا فَرَغَ فَلْيَلْعَقْ أَصَابِعَهُ، فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي فِي أَيِّ طَعَامِهِ تَكُونُ الْبَرَكَةُ». (1)
مراكب الشيطان:
هذه الخيول والدواب التي يقامر عليها ويراهن عليها تعدّ من مراكب الشياطين، فعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -،قَالَ:" الْخَيْلُ ثَلَاثَةٌ، فَفَرَسٌ لِلرَّحْمَنِ، وَفَرَسٌ لِلْإِنْسَانِ، وَفَرَسٌ لِلشَّيْطَانِ، فَأَمَّا فَرَسُ الرَّحْمَنِ: فَالَّذِي يُرْبَطُ فِي سَبِيلِ اللهِ، فَعَلَفُهُ وَرَوْثُهُ
وَبَوْلُهُ، وَذَكَرَ مَا شَاءَ اللهُ، وَأَمَّا فَرَسُ الشَّيْطَانِ: فَالَّذِي يُقَامَرُ أَوْ يُرَاهَنُ عَلَيْهِ، وَأَمَّا فَرَسُ الْإِنْسَانِ: فَالْفَرَسُ يَرْتَبِطُهَا الْإِنْسَانُ يَلْتَمِسُ بَطْنَهَا، فَهِيَ تَسْتُرُ مِنْ فَقْرٍ " (2)
وعَنْ خَبَّابِ بْنِ الْأَرَتِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -:" الْخَيْلُ ثَلَاثٌ فَفَرَسٌ لِلرَّحْمَنِ، وَفَرَسٌ لِلْإِنْسَانِ، وَفَرَسٌ لِلشَّيْطَانِ، فَأَمَّا فَرَسُ الرَّحْمَنِ: فَمَا اتُّخِذَ فِي سَبِيلِ اللهِ وقُوتِلَ عَلَيْهِ أَعْدَاءُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَأَمَّا فَرَسُ الْإِنْسَانِ: فَمَا اسْتُبْطِنَ وَتُحُمِّلَ عَلَيْهِ، وَأَمَّا فَرَسُ الشَّيْطَانِ: فَمَا رُوهِنَ عَلَيْهِ وقُومِرَ عَلَيْهِ " (3)
_________
(1) - صحيح مسلم (3/ 1607) 135 - (2033)
(2) - مسند أحمد ط الرسالة (6/ 298) (3756) صحيح
قال السندي: قوله: وذكر ما شاء الله: الظاهر أنه كناية عما عده مع العلف، والخبر مقدر لظهوره، وجاء في حديث أبي هريرة، أي: حسنات، ويحتمل أنه كناية عن الخير، فإنه نسيه، فكنى عنه بذلك، والله تعالى أعلم، فالذي يقامر أو يَرْهَن عليه، أي: اتخذه لذلك فقط، وإلا فإذا اتخذه لله يجوز عليه المراهنة، ويكون مِن قبيل: (وأعِدُّوا لهم ما استطعتم) [الأنفال:60]،والله تعالى أعلم
(3) - المعجم الكبير للطبراني (4/ 80) (3707) ضعيف(1/429)
العجلة من الشيطان:
من الصفات التي يحبها الشيطان العجلة؛ لأنها توقع الإنسان في كثير من الأخطاء، عَنْ أَنَسٍ، عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ، قَالَ:" التَّأَنِّي مِنَ اللهِ، وَالْعَجَلَةُ مِنَ الشَّيْطَانِ، وَمَا شَيْءٌ أَكْثَرُ مَعَاذِيرَ مِنَ اللهِ وَمَا مِنْ شَيْءٍ أَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنَ الْحَمْدِ " (1)
وعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «الْأَنَاةُ مِنَ اللَّهِ، وَالْعَجَلَةُ مِنَ الشَّيْطَانِ» (2)
فعلينا أن نخالف الشيطان في ذلك، ونتبع ما يرضي الرحمن، فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - لِلْأَشَجِّ أَشَجِّ عَبْدِ الْقَيْسِ:" إِنَّ فِيكَ لَخَصْلَتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللَّهُ: الْحِلْمُ وَالْأَنَاةُ " (3)
التثاؤب:
ومما يحبه الشيطان من الإنسان التثاؤب؛ ولذا أمرنا الرسول - صلى الله عليه وسلم - بكظمه ما استطعنا، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «التَّثَاؤُبُ مِنَ الشَّيْطَانِ، فَإِذَا تَثَاءَبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَكْظِمْ مَا اسْتَطَاعَ» (4)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -:" إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ العُطَاسَ، وَيَكْرَهُ التَّثَاؤُبَ، فَإِذَا عَطَسَ فَحَمِدَ اللَّهَ، فَحَقٌّ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ سَمِعَهُ أَنْ يُشَمِّتَهُ، وَأَمَّا التَّثَاؤُبُ: فَإِنَّمَا هُوَ مِنَ الشَّيْطَانِ، فَلْيَرُدَّهُ مَا اسْتَطَاعَ، فَإِذَا قَالَ: هَا، ضَحِكَ مِنْهُ الشَّيْطَانُ " (5)
وذلك لأن التثاؤب علامة الكسل، والشيطان يعجبه ويفرحه من الإنسان كسله وفتوره؛ إذ بذلك يقل عمله وبذله الذي يرفعه عند ربه.
_________
(1) - شعب الإيمان (6/ 211) (4058) حسن
(2) - مكارم الأخلاق للطبراني (ص:321) (27) حسن لغيره
(3) - الأدب المفرد مخرجا (ص:206) (586) وصحيح مسلم (1/ 48) 26 - (18)
(4) - صحيح مسلم (4/ 2293) 56 - (2994)
[ش (إذا تثاءب أحدكم) وقع ههنا في بعض النسخ تثاءب بالمد مخففا وفي أكثرها تثاوب الواو وكذا وقع في الروايات الثلاث بعد هذه تثاوب بالواو قال القاضي قال ثابت ولا يقال تثاءب بالمد مخففا بل تثأب بتشديد الهمزة قال ابن دريد أصله من تثأب الرجل بالتشديد فهو متثئب إذا استرخى وكسل قال الجوهري يقال تثاءبت بالمد مخففا على تفاعلت ولا يقال تثاوب (فليكظم) الكظم هو الإمساك قال العلماء أمر بكظم التثاؤب ورده ووضع اليد على الفم لئلا يبلغ الشيطان مراده من تشويه صورته ودخوله فمه وضحكه منه]
(5) - صحيح البخاري (8/ 49) (6223) [ش (العطاس) اندفاع الهواء من الأنف بعنف وصوت لعارض. (يشمته)](1/430)
تعس الشيطان:
عَنْ أَبِي الْمَلِيحِ، عَنْ رِدْفِ، رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - نَحْوَ إِنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:" إِذَا عَثَرَتْ بِكَ الدَّابَّةُ فَلَا تَقُلْ: تَعِسَ الشَّيْطَانُ، فَإِنَّهُ يَتَعَاظَمُ حَتَّى يَصِيرَ مِثْلَ الْبَيْتِ، وَيَقُولُ: بِقُوَّتِي صَنَعَتُهُ، وَلَكِنْ قُلْ: بِاسْمِ اللهِ، فَإِنَّهُ يَتَصَاغَرُ حَتَّى يَصِيرَ مِثْلَ الذُّبَابِ " (1)
وعَنْ أَبِي الْمَلِيحِ بْنِ أُسَامَةَ، عَنْ أَبِيهِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: كُنْتُ رَدِيفَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَعَثَرَ بَعِيرُنَا فَقُلْتُ: تَعِسَ الشَّيْطَانُ، فَقَالَ لِي النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -:لاَ تَقُلْ تَعِسَ الشَّيْطَانُ، فَإِنَّهُ يَسْتَعْظِمُ حَتَّى يَكُونَ مِثْلَ الْبَيْتِ وَيَقْوَى، وَلَكِنْ قُلْ بِسْمِ اللهِ، فَإِذَا قُلْتَ: بِسْمِ اللهِ تَصَاغَرَ حَتَّى يَصِيرَ مِثْلَ الذُّبَابِ. (2)
قال الطحاوي:" فَقَالَ قَائِلٌ فَقَدْ رَوَيْتُمْ عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ قَوْلِهِ لِعُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ لَمَّا ذُكِرَ لَهُ أَنَّ الشَّيْطَانَ يُلَبِّسُ عَلَيْهِ قِرَاءَتَهُ وَصَلَاتَهُ أَنْ يَخْسَأَهُ وَذَلِكَ مُثْبِتٌ مِنْهُ لَهُ
وَذَكَرَ فِي ذَلِكَ ما روي عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ إنَّ الشَّيْطَانَ يَأْتِينِي فَيُلَبِّسُ عَلَيَّ قِرَاءَتِي قَالَ:" ذَاكَ شَيْطَانٌ يُقَالُ لَهُ خَنْزَبٌ فَإِذَا أَتَاكَ فَاخْسَأْهُ فَفَعَلْتُ فَذَهَبَ عَنِّي "
وفي رواية: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ حَالَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ صَلَاتِي وَقِرَاءَتِي قَالَ:" ذَاكَ شَيْطَانٌ يُقَالُ لَهُ خَنْزَبٌ فَإِذَا حَسَسْتَهُ فَتَعَوَّذْ بِاللهِ وَاتْفُلْ عَنْ يَسَارِكَ ثَلَاثًا "
فَقَالَ هَذَا الْمُعَارِضُ فَهَلْ تَجِدُونَ وَجْهًا يُخَرِّجُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْحَدِيثَيْنِ مَعْنًى غَيْرَ مَعْنَى الْآخَرِ حَتَّى يَنْتَفِيَ عَنْهُمَا التَّضَادُّ وَالِاخْتِلَافُ. فَكَانَ جَوَابَنَا لَهُ فِي ذَلِكَ أَنَّ سُلْطَانَ الشَّيْطَانِ عَلَى بَنِي آدَمَ هُوَ وَسْوَسَتُهُ إيَّاهُمْ وَإِيقَاعُهُ فِي قُلُوبِهِمْ مَا لَا يُحِبُّونَ وَإِنْسَاؤُهُ إيَّاهُمْ مَا يَذْكُرُونَ وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ اللهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ صَاحِبِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: {فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ} [الكهف:63] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ} [يوسف:42] فِي قِصَّةِ نَبِيِّهِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَشْيَاءُ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ، [ص:346] وَلَمْ يُجْعَلْ لَهُ سُلْطَانٌ
_________
(1) - السنن الكبرى للنسائي (9/ 205) (10312) صحيح
(2) - المستدرك على الصحيحين -دار المعرفة بيروت (4/ 292) (7793) صحيح
تعس: أي خاب وخسر.=تصاغر: من الصغار، وهو الذل والهوان، أو هو من الصغر، أي: صار صغيرا بعد عظمه.(1/431)
فِي إعْثَارِ دَوَابِّهِمْ وَلَا فِي اسْتِهْلَاكِ أَمْوَالِهِمْ وَأُمِرُوا عِنْدَ ذَلِكَ أَنْ يَسْتَعِيذُوا بِاللهِ تَعَالَى مِنْهُ فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل:98].فَلَمَّا كَانَ مِنْ رِدْفِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - عِنْدَ عُثُورِ جَمَلِهِ أَوْ حِمَارِهِ قَوْلُهُ: تَعِسَ الشَّيْطَانُ , وَالتَّعْسُ: هُوَ السُّقُوطُ عَلَى أَنَّهُ جُعِلَ ذَلِكَ فِعْلًا لِلشَّيْطَانِ لِسُؤَالِهِ بِقَوْلِ: تَعِسَ الشَّيْطَانُ , أَنْ يَفْعَلَ بِهِ مِثْلَ ذَلِكَ نَهَاهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لِأَنَّهُ بِذَلِكَ مُوقِعٌ لِلشَّيْطَانِ أَنَّ ذَلِكَ الْفِعْلَ كَانَ مِنْهُ وَلَمْ يَكُنْ مِنْهُ إنَّمَا كَانَ مِنَ اللهِ جَلَّ وَعَزَّ وَأَمَرَهُ أَنْ يَكُونَ مَكَانَ ذَلِكَ بِسْمِ اللهِ حَتَّى لَا يَكُونَ عِنْدَ الشَّيْطَانِ أَنَّهُ كَانَ مِنْهُ عِنْدَهُ فِي ذَلِكَ فِعْلٌ وَلَمَّا كَانَ مِنْ تَشَكِّي عُثْمَانَ إلَيْهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنَ الشَّيْطَانِ مَا شَكَاهُ إلَيْهِ مِنْهُ مِمَّا هُوَ مَوْهُومٌ مِنْهُ أَنْ يَفْعَلَهُ بِهِ ; لِأَنَّهُ مِنْ سُلْطَانِهِ عَلَى بَنِي آدَمَ أَمَرَهُ أَنْ يَخْسَأَهُ , وَهُوَ الْإِبْعَادُ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ} فَخَرَجَ مَعْنَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ بِمَا لَا مُضَادَّةَ فِيهِ لِمَا فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ مِنْهُمَا وَبِاللهِ التَّوْفِيقُ". (1)
ثامناً: التوبة والاستغفار:
ومما يواجه به العبد كيد الشيطان أن يسارع بالتوبة والأوبة إلى الله إذا أغواه الشيطان، وهذا دأب عباد الله الصالحين، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الأعراف:201].
يَقُولُ اللهُ تَعَالَى إِنَّ المُتَّقِينَ الصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا أَلَمَّ بِهِمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ بَوَسْوَسَتِهِ إِلَيْهِمْ لِيَحْمِلَهُمْ عَلَى المَعْصِيَةِ، أَوْ لِيُوقِعَ بَيْنَهُمُ العَدَاوَةَ وَالبَغْضَاءَ ... تَذَكَّرُوا أَنَّ هَذَا مِنْ فِعْلِ الشَّيْطَانِ عَدُوِّهِمْ وَتَذَكَّرُوا أَنَّ رَبَّهُمْ قَدْ حَذَّرَهُمْ مِنَ الشَّيْطَانِ وَنَزْغِهِ، وَسْوَسَتِهِ، فَتَابُوا وَأَنَابُوا وَاسْتَعَاذُوا بِاللهِ، وَرَجَعُوا إِلَيْهِ، فَإِذَا هُمْ قَدِ اسْتَقَامُوا وَصَحَوْا (مُبْصِرُونَ) (2)
وهذا يدل على أن الشيطان يكاد يجعل الإنسان في عماية لا يرى الحق ولا يبصره بما يلقيه عليه من غشاوة، وما يغشي به القلب من الشبهات والشكوك. عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، رَضِيَ
_________
(1) - شرح مشكل الآثار (1/ 343) فما بعدها
(2) - أيسر التفاسير لأسعد حومد (ص:1156،بترقيم الشاملة آليا)(1/432)
اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: إِنَّ الشَّيْطَانَ قَالَ: وَعِزَّتِكَ يَا رَبِّ لاَ أَبْرَحُ أُغْوِي عِبَادَكَ مَا دَامَتْ أَرْوَاحُهُمْ فِي أَجْسَادِهِمْ، فَقَالَ الرَّبُّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: وَعِزَّتِي وَجَلاَلِي لاَ أَزَالُ أَغْفِرُ لَهُمْ مَا اسْتَغْفَرُونِي." (1)
وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ:" إِنَّ إِبْلِيسَ قَالَ لِرَبِّهِ: بِعِزَّتِكَ وَجَلَالِكَ لَا أَبْرَحُ أُغْوِي بَنِي آدَمَ مَا دَامَتِ الْأَرْوَاحُ فِيهِمْ، فَقَالَ لَهُ اللهُ: فَبِعِزَّتِي وَجَلَالِي لَا أَبْرَحُ أَغْفِرُ لَهُمْ مَا اسْتَغْفَرُونِي " (2)
وعَنْ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ كَرِيزٍ الْخُزَاعِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:" مَا رُئِيَ الشَّيْطَانُ يَوْمًا هُوَ أَصْغَرُ فِيهِ وَلَا أَدْحَرُ وَلَا أَحْقَرُ وَلَا أَغْيَظُ مِنْهُ فِي يَوْمِ عَرَفَةَ؛ وَمَا ذَلِكَ إِلَّا مِمَّا يَرَى مِنْ تَنَزُّلِ الرَّحْمَةِ وَتَجَاوُزِ اللهِ عَنِ الذُّنُوبِ الْعِظَامِ إِلَّا مَا رُئِيَ يَوْمَ
بَدْرٍ. فَقِيلَ: وَمَا الَّذِي رَأَى يَوْمَ بَدْرٍ؟ قَالَ: أَمَا إِنَّهُ قَدْ رَأَى جِبْرِيلَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَهُوَ يَزَعُ الْمَلَائِكَةَ " (3)
وعَنْ وُهَيْبِ بْنِ الْوَرْدِ , قَالَ:" بَلَغَنَا أَنَّ الْخَبِيثَ، إِبْلِيسَ تَبَدَّى لِيَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَامُ , فَقَالَ لَهُ: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَنْصَحَكَ فَقَالَ: كَذَبْتَ أَنْتَ لَا تَنْصَحُنِي وَلَكِنْ أَخْبِرْنِي عَنْ بَنِي آدَمَ، فَقَالَ: هُمْ عِنْدَنَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَصْنَافٍ:
أَمَّا صِنْفٌ مِنْهُمْ فَهُمْ أَشَدُّ الْأَصْنَافِ عَلَيْنَا نُقْبِلَ حَتَّى نَفْتِنَهُ وَنَسْتَمْكَنَ مِنْهُ ثُمَّ يَفْرُغُ إِلَى الِاسْتِغْفَارِ وَالتَّوْبَةُ فَيفْسِدُ عَلَيْنَا كُلَّ شَيْءٍ أَدْرَكْنَا مِنْهُ، ثُمَّ نَعُودُ لَهُ فَيَعُودُ، فَلَا نَحْنُ نَيْأَسَ مِنْهُ وَلَا نَحْنُ نُدْرِكَ مِنْهُ حَاجَتَنَا، فَنَحْنُ مِنْ ذَلِكَ فِي عَنَاءٍ.
وَأَمَّا الصِّنْفُ الْآخَرُ فَهُمْ فِي أَيْدِينَا بِمَنْزِلَةِ الْكُرَةِ فِي أَيْدِي صِبْيَانِكُمْ نُلْقِيهِمْ كَيْفَ شِئْنَا قَدْ كَفَوْنَا أَنْفُسَهَمْ.
_________
(1) - المستدرك على الصحيحين -دار المعرفة بيروت (4/ 261) (7672) حسن
(2) - مسند أحمد ط الرسالة (17/ 344) (11244) حسن
(3) - موطأ مالك ت عبد الباقي (1/ 422) (245) وأخبار مكة للفاكهي (4/ 321) (2762) صحيح مرسل
الدحر: الطرد والإبعاد.=وزعت القوم أزعهم، أي كففتهم، والوازع: الذي يتقدم الصف فيصلحه ويقدم ويؤخر، ووزعت الجيش: إذا حبست أولهم على آخرهم.(1/433)
وَأَمَّا الصِّنْفَ الْآخَرَ فَهُمْ مِثْلُكَ مَعْصُومُونَ لَا نَقْدِرُ مِنْهُمْ عَلَى شَيْءٍ. فَقَالَ لَهُ يَحْيَى: عَلَى ذَلِكَ هَلْ قَدَرْتَ مِنِّي عَلَى شَيْءٍ , قَالَ: لَا إِلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً فَإِنَّكَ قَدَّمْتَ طَعَامًا تَأْكُلُهُ فَلَمْ أَزَلْ أُشَهِّيهِ إِلَيْكَ حَتَّى أَكَلْتَ أَكْثَرَ مِمَّا تُرِيدُ فَنِمْتَ تِلْكَ اللَّيْلَةَ , وَلَمْ تَقُمْ إِلَى الصَّلَاةِ كَمَا كُنْتَ تَقُومَ إِلِيَهَا. قَالَ: فَقَالَ لَهُ يَحْيَى: لَا جَرَمَ لَا شَبِعْتَ مِنْ طَعَامٍ أَبَدًا حَتَّى أَمُوتَ. فَقَالَ لَهُ الْخَبِيثُ: لَا جَرَمَ لَا نَصَحْتَ آدَمِيًّا بَعْدَكَ " (1)
وعن ثَابِتَ الْبُنَانِيِّ، قَالَ:" بَلَغَنِي أَنَّ إِبْلِيسَ ظَهْرَ لِيَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَامُ فَرَأَى عَلَيْهِ مَعَالِيقَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ فَقَالَ يَحْيَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: يَا إِبْلِيسُ مَا هَذِهِ الْمَعَالِيقُ الَّتِي أَرَى عَلَيْكَ؟ قَالَ: هَذِهِ الشَّهَوَاتِ الَّتِي أُصِيبَ بِهِنَّ ابْنُ آدَمَ قَالَ: فَهَلْ لِي فِيهَا مِنْ شَيْءٍ؟ قَالَ: رُبَّمَا شَبِعْتَ فَثَقَّلْنَاكَ عَنِ الصَّلَاةِ وَعَنِ الذِّكْرِ قَالَ: هَلْ غَيْرُ ذَلِكَ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ لَا أَمْلَأَ بَطْنِي مِنَ الطَّعَامِ أَبَدًا، قَالَ إِبْلِيسُ: وَلِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ لَا أَنْصَحَ مُسْلِمًا أَبَدًا " (2)
وعن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خُبَيْقٍ قَالَ: لَقِيَ يَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّا عَلَيْهِمَا الصَّلاةُ وَالسَّلامُ إِبْلِيسَ فِي صُورَتِهِ فَقَالَ لَهُ: يَا إِبْلِيسُ أَخْبِرْنِي مَا أَحَبُّ النَّاسِ إِلَيْكَ وَأَبْغَضُ النَّاسِ إِلَيْكَ؟ قَالَ: أَحَبُّ النَّاسِ إِلَيَّ الْمُؤْمِنُ الْبَخِيلُ، وَأَبْغَضُهُمْ إِلَيَّ الْفَاسِقُ السَّخِيُّ. قَالَ يَحْيَى: وَكَيْفَ ذَلِك؟ قَالَ: لأَنَّ الْبَخِيلَ قَدْ كَفَانِي بُخْلَهُ، وَالْفَاسِقُ السَّخِيُّ أَتَخَوَّفُ أَنْ يَطَّلِعَ اللَّهُ عليه في سخاه فَيَقْبَلَهُ، ثُمَّ وَلَّى وَهُوَ يَقُولُ: لَوْلا أَنَّكَ يَحْيَى لَمْ أُخْبِرْكَ. (3)
هذه حال عباد الله: الرجوع من قريب، والتوبة والإنابة إلى الله، ولهم في ذلك أسوة بأبيهم آدم، فإنه لما أكل من الشجرة، تلقى من ربه كلمات فتاب عليه، وتوجه آدم وزوجه إلى الله قائلين: {قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:23].
_________
(1) - حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (8/ 148) ومكائد الشيطان (ص:74) (52) صحيح مقطوع
(2) - حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (2/ 328) والزهد لأحمد بن حنبل (ص:65) (393) صحيح مقطوع
لا جرم: هذه كلمة تَرِد بمعْنى تَحْقِيق الشَّيء. وقد اخْتُلف في تقديرها، فقِيل: أصْلُها التَّبْرِئة بمعنى لا بُدَّ، ثم اسْتُعْمِلت في معْنى حَقًّا. وقيل جَرَم بمعْنى كسَبَ. وقيل بمعْنى وجَبَ وحُقَّ.
(3) - مكائد الشيطان (ص:75) (53)(1/434)
قَالَ آدَمُ وَزَوْجُهُ نَادِمَيْنِ مُتَضَرِّعَيْنِ: رَبَّنَا إِنَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا بِطَاعَتِنَا لِلشَّيْطَانِ، وَمَعْصِيَتِنا لأَمْرِكَ، وَقَدْ أَنْذَرْتَنَا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا مَا ظَلَمْنَا بِهِ أَنْفُسَنَا، وَتَرْحَمْنَا بِالرِّضا عَنَّا، وَتُوَفِقْنَا لِلهِدَايَةِ، وَتَرْكِ الظُّلْمِ، لَنَكُونَنَّ مِنَ الخَاسِرِينَ لأَنْفُسِنَا. (1)
إنها خصيصة «الإنسان» التي تصله بربه، وتفتح له الأبواب إليه .. الاعتراف، والندم، والاستغفار، والشعور بالضعف، والاستعانة به، وطلب رحمته. مع اليقين بأنه لا حول له ولا قوة إلا بعون اللّه ورحمته .. وإلا كان من الخاسرين ..
وهنا تكون التجربة الأولى قد تمت. وتكشفت خصائص الإنسان الكبرى. وعرفها هو وذاقها. واستعد - بهذا التنبيه لخصائصه الكامنة - لمزاولة اختصاصه في الخلافة وللدخول في المعركة التي لا تهدأ أبدا مع عدوه .. «قالَ: اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ، وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ. قالَ: فِيها تَحْيَوْنَ، وَفِيها تَمُوتُونَ، وَمِنْها تُخْرَجُونَ» ..
لقد هبطوا جميعا إلى الأرض .. آدم وزوجه، وإبليس وقبيله. هبطوا ليصارع بعضهم بعضا، وليعادي بعضهم بعضا ولتدور المعركة بين طبيعتين وخليقتين: إحداهما ممحضة للشر، والأخرى مزدوجة الاستعداد للخير والشر وليتم الابتلاء، ويجري قدر اللّه بما شاء.
وكتب على آدم وذريته أن يستقروا في الأرض ويمكنوا فيها، ويستمتعوا بما فيها إلى حين. وكتب عليهم أن يحيوا فيها ويموتوا ثم يخرجوا منها فيبعثوا .. ليعودوا إلى ربهم فيدخلهم جنته أو ناره، في نهاية الرحلة الكبرى .. وانتهت الجولة الأولى لتتبعها جولات وجولات، ينتصر فيها الإنسان ما عاذ بربه. وينهزم فيها ما تولى عدوه. (2)
أما أولياء الشيطان فهم كما قال الله فيهم: {وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ} [الأعراف:202].
وَإِخْوَانُ الشَّيَاطِينِ مِنَ الكُفَّارِ، وَهُمُ الجَاهِلُونَ الذِينَ لاَ يَتَّقُونَ اللهَ، تَتَمَكَّنُ الشَّيَاطِينِ مِنْ إِغْوَائِهِمْ فَيَمُدُّونَهُمْ فِي غَيِّهِمْ وَفَسَادِهِمْ، وَيَزِيدُونَهُمْ ضَلاَلاً، وَلاَ يَكُفُّونَ عَنْ ذَلِكَ وَلاَ
_________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد (ص:978،بترقيم الشاملة آليا)
(2) - في ظلال القرآن للسيد قطب - ت- علي بن نايف الشحود (ص:1715)(1/435)
يُقَصِّرُونَ فِيهِ، لأَنَّهُمْ لاَ يَذْكُرُونَ اللهَ إِذَا شَعَرُوا بِالنُّزُوغِ إِلى الشَّرِّ وَلاَ يَسْتَعِيذُونَ بِاللهِ مِنْ نَزْغِ الشَّيْطَانِ وَمَسِّهِ. (1)
وهم أتباعهم والمستمعون لهم، القابلون لأوامرهم يمدونهم في الغيّ: أي بالتزيين والتحسين للذنوب والمعاصي، بلا كلل ولا ملل. كقوله: {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا} [مريم:83].
أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ سَلَّطَ الشَّيَاطِينَ عَلَى الكَافِرِينَ وَالمُشْرِكِينَ، لِيَغْوُوهُمْ، وَيُغْرُوهُمْ بِارْتِكَابِ المَعَاصِي، وَيَهِيجُوهُمْ لِلْوُقُوعِ فِيهَا؟ (2)
تاسعاً: إزالة اللبس والغموض الذي يدخل الشيطان منه إلى النفوس:
لا تقف مواقف الشبهة، وإذا حدث ذلك فَوَضّحْ للناس حالك، حتى لا تدع للشيطان فرصة الوسوسة في صدور المسلمين، ولك أسوة في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذا. فقد روى
البخاري ومسلم عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ حُيَيٍّ، قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مُعْتَكِفًا فَأَتَيْتُهُ أَزُورُهُ لَيْلًا، فَحَدَّثْتُهُ ثُمَّ قُمْتُ فَانْقَلَبْتُ، فَقَامَ مَعِي لِيَقْلِبَنِي، وَكَانَ مَسْكَنُهَا فِي دَارِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، فَمَرَّ رَجُلاَنِ مِنَ الأَنْصَارِ، فَلَمَّا رَأَيَا النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَسْرَعَا، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «عَلَى رِسْلِكُمَا إِنَّهَا صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيٍّ» فَقَالاَ سُبْحَانَ اللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ:" إِنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنَ الإِنْسَانِ مَجْرَى الدَّمِ، وَإِنِّي خَشِيتُ أَنْ يَقْذِفَ فِي قُلُوبِكُمَا سُوءًا، أَوْ قَالَ: شَيْئًا " (3)
وعَنْ عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ، أَنَّ صَفِيَّةَ - زَوْجَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَخْبَرَتْهُ: أَنَّهَا جَاءَتْ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - تَزُورُهُ، وَهُوَ مُعْتَكِفٌ فِي المَسْجِدِ، فِي العَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ، ثُمَّ قَامَتْ تَنْقَلِبُ، فَقَامَ مَعَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -،حَتَّى إِذَا بَلَغَ قَرِيبًا مِنْ بَابِ المَسْجِدِ، عِنْدَ بَابِ أُمِّ سَلَمَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -،مَرَّ بِهِمَا رَجُلاَنِ مِنَ الأَنْصَارِ، فَسَلَّمَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -،ثُمَّ نَفَذَا، فَقَالَ لَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «عَلَى رِسْلِكُمَا»،قَالاَ: سُبْحَانَ اللَّهِ يَا رَسُولَ، اللَّهِ وَكَبُرَ عَلَيْهِمَا ذَلِكَ، فَقَالَ رَسُولُ
_________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد (ص:1157،بترقيم الشاملة آليا)
(2) - أيسر التفاسير لأسعد حومد (ص:2333،بترقيم الشاملة آليا)
(3) - صحيح البخاري (4/ 124) (3281) وصحيح مسلم (4/ 1712) 24 - (2175)
[ش (ليقلبني) أي ليردني إلى منزلي (على رسلكما) هو بكسر الراء وفتحها لغتان والكسر أفصح وأشهر أي على هينتكما في المشي فما هنا شيء تكرهانه](1/436)
اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ الشَّيْطَانَ يَبْلُغُ مِنَ الإِنْسَانِ مَبْلَغَ الدَّمِ، وَإِنِّي خَشِيتُ أَنْ يَقْذِفَ فِي قُلُوبِكُمَا شَيْئًا» (1)
وعَنْ أَنَسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ مَعَ إِحْدَى نِسَائِهِ، فَمَرَّ بِهِ رَجُلٌ فَدَعَاهُ، فَجَاءَ، فَقَالَ: «يَا فُلَانُ هَذِهِ زَوْجَتِي فُلَانَةُ» فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ مَنْ كُنْتُ أَظُنُّ بِهِ، فَلَمْ أَكُنْ أَظُنُّ بِكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنَ الْإِنْسَانِ مَجْرَى الدَّمِ» (2)
قَالَ الْخَطَّابِيُّ: وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنَ الْعِلْمِ اسْتِحْبَابُ أَنْ يَحْذَرَ الإِنْسَانُ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ مِنَ الْمَكْرُوهِ مِمَّا تَجْرِي بِهِ الظُّنُونُ وَيَخْطُرُ بِالْقُلُوبِ، وَأَنْ يَطْلُبَ السَّلامَةَ مِنَ النَّاسِ بِإِظْهَارِ الْبَرَاءَةِ مِنَ الرِّيَبِ، وَيُحْكَى فِي هَذَا عَنِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: خَافَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يَقَعَ فِي قُلُوبِهِمَا شَيْءٌ مِنْ أَمْرٍ فَيَكْفُرَا، وَإِنَّمَا قَالَهُ - صلى الله عليه وسلم - شَفَقَةً مِنْهُ عَلَيْهِمَا لا عَلَى نَفْسِهِ." (3)
_________
(1) -صحيح البخاري (4/ 82) (3101) [ش (نفذا) مضيا في طريقهما وتجاوزاه. (شيئا)]
لَمْ يَنْسُبْهُمَا النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - إِلَى أَنَّهُمَا يَظُنَّانِ بِهِ سُوءًا لِمَا تَقَرَّرَ عِنْده مِنْ صِدْقِ إِيمَانِهِمَا، وَلَكِنْ خَشِيَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُوَسْوِسَ لَهُمَا الشَّيْطَان ذَلِكَ , لِأَنَّهُمَا غَيْرُ مَعْصُومَيْنِ , فَقَدْ يُفْضِي بِهِمَا ذَلِكَ إِلَى الْهَلَاكِ , فَبَادَرَ إِلَى إِعْلَامهمَا حَسْمًا لِلْمَادَّةِ , وَتَعْلِيمًا لِمَنْ بَعْدَهُمَا إِذَا وَقَعَ لَهُ مِثْل ذَلِكَ كَمَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى، فَقَدْ رَوَى الْحَاكِم أَنَّ الشَّافِعِيّ كَانَ فِي مَجْلِس اِبْن عُيَيْنَةَ فَسَأَلَهُ عَنْ هَذَا الْحَدِيث , فَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إِنَّمَا قَالَ لَهُمَا ذَلِكَ لِأَنَّهُ خَافَ عَلَيْهِمَا الْكُفْرَ إِنْ ظَنَّا بِهِ التُّهْمَةَ , فَبَادَرَ إِلَى إِعْلَامِهِمَا نَصِيحَةً لَهُمَا قَبْل أَنْ يَقْذِفَ الشَّيْطَانُ فِي نُفُوسهمَا شَيْئًا يَهْلِكَانِ بِهِ , وَفِي الْحَدِيث مِنْ الْفَوَائِد جَوَاز اِشْتِغَال الْمُعْتَكِفِ بِالْأُمُورِ الْمُبَاحَةِ مِنْ تَشْيِيعِ زَائِرِهِ وَالْقِيَام مَعَهُ وَالْحَدِيث مَعَ غَيْره، وَإِبَاحَة خَلْوَةِ الْمُعْتَكِفِ بِالزَّوْجَةِ، وَزِيَارَة الْمَرْأَة لِلْمُعْتَكِفِ، وَبَيَان شَفَقَتِهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى أُمَّته وَإِرْشَادهمْ إِلَى مَا يَدْفَع عَنْهُمْ الْإِثْم , وَفِيهِ التَّحَرُّز مِنْ التَّعَرُّض لِسُوءِ الظَّنّ وَالِاحْتِفَاظ مِنْ كَيَدِ الشَّيْطَان وَالِاعْتِذَار، قَالَ اِبْن دَقِيق الْعِيد: وَهَذَا مُتَأَكِّد فِي حَقّ الْعُلَمَاء وَمَنْ يُقْتَدَى بِهِ , فَلَا يَجُوز لَهُمْ أَنْ يَفْعَلُوا فِعْلًا يُوجِب سُوء الظَّنّ بِهِمْ وَإِنْ كَانَ لَهُمْ فِيهِ مَخْلَص , لِأَنَّ ذَلِكَ سَبَبٌ إِلَى إِبْطَال الِانْتِفَاع بِعِلْمِهِمْ، وَمِنْ ثَمَّ قَالَ بَعْض الْعُلَمَاء: يَنْبَغِي لِلْحَاكِمِ أَنْ يُبَيِّن لِلْمَحْكُومِ عَلَيْهِ وَجْه الْحُكْم إِذَا كَانَ خَافِيًا نَفْيًا لِلتُّهْمَةِ , وَفِيهِ جَوَازُ خُرُوجِ الْمَرْأَةِ لَيْلًا. فتح الباري لابن حجر - (ج 6 / ص 326)
(2) -صحيح مسلم (4/ 1712) 23 - (2174) والأدب المفرد مخرجا (ص:438) (1288)
[ش (هذه زوجتي) هكذا هو في جميع النسخ زوجتي وهي لغة صحيحة وإن كان الأشهر حذفها وبالحذف جاءت آيات القرآن والإثبات كثير أيضا (إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم) قال القاضي وغيره قيل هو على ظاهره وأن الله تعالى جعل له قوة وقدرة على الجري في باطن الإنسان في مجاري دمه وقيل هو الاستعارة لكثرة إغوائه ووسوسته فكأنه لا يفارق الإنسان كما لا يفارقه دمه وقيل إنه يلقي وسوسته في مسام لطيفة من البدن فتصل وسوسته إلى القلب]
(3) - تلبيس إبليس (ص:33)(1/437)
ومما أرشدنا الله إليه القول الحسن مع الآخرين حتى لا يدخل الشيطان بيننا وبين إخواننا، فيوقع العداوة بيننا والبغضاء، قال تعالى: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا} [الإسراء:53].
يَأْمُرُ اللهُ تَعَالَى رَسُولَهُ الكَرِيمَ بِأَنْ يَنْصَحَ المُؤْمِنِينَ بِأَنْ يَقُولُوا فِي مُخَاطَبَاتِهِمْ، وَمُحَاوَرَتِهِم الكَلاَمِيَّةِ، العِبَارَاتِ الأَحْسَنِ، وَالكَلِمَاتِ الأَطْيَبِ، فَإِنَّهُمْ إِنْ لَمْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ نَزَعَ الشَّيْطَانُ بَيْنَهُمْ، وَأَوْقَعَ بَيْنَهُمُ الشَّرَّ وَالمُخَاصَمَةَ، وَالعَدَاوَةَ وَالبَغْضَاءَ، فَهُوَ عَدٌّو لِذُرِّيَّةِ آدَمَ، ظَاهِرُ العَدَاوَةِ سَافِرُهَا. (1)
وهذا أمر تساهل فيه بعض الناس، فتراهم يقولون الكلام الموهم الذي يحتمل وجوهاً عدة بعضها سيِّء، وقد يرمي أحدهم أخاه بألفاظ يكرهها، ويناديه بألقاب يمقتها، فيكون ذلك مدخلاً للشيطان، فيفرق بينهما، ويحل العداء محل الوفاق والألفة. (2)
النفس البشرية في معترك الصراع:
في ختام هذا الفصل أحب أن أثبت مبحثاً مهماً من كلام ابن القيم صوّر فيه - رحمه الله - حقيقة الصراع وطبيعته، يقول ابن القيم ما ملخصه:" إن الله سبحانه وتعالى خلق هذا الآدمي واختاره من بين سائر البرية، وجعل قلبه محل كنوزه من الإيمان والتوحيد والإخلاص والمحبة والحياء والتعظيم والمراقبة، وجعل ثوابه إذا قدم عليه أكمل الثواب وأفضله، وهو النظر إلى وجهه والفوز برضوانه ومجاورته في جنته، وكان مع ذلك قد ابتلاه بالشهوة والغضب والغفلة، وابتلاه بعدوه إبليس لا يفتر عنه" (3).
ثم يقول ابن القيم ما نصه:" فهو (أي الشيطان) يدخل عليه من الأبواب التي هي من نفسه وطبعه، فتميل نفسه معه؛ لأنه يدخل عليها بما تحب، فيتفق هو ونفسه وهواه على العبد: ثلاثة مسلَّطون آمرون، فيبعثون الجوارح في قضاء وطرهم، والجوارح آلة منقادة، فلا يمكنها إلا الانبعاث، فهذا شأن هذه الثلاثة، وشأن الجوارح، فلا تزال الجوارح في طاعتهم كيف أمروا وأين يمموا.
_________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد (ص:2083،بترقيم الشاملة آليا)
(2) - انظر كتاب عالم الجن والشياطين: أسلحة المؤمن في حربه مع الشيطان
(3) - الوابل الصيب من الكلم الطيب (ص:17)(1/438)
هذا مقتضى حال العبد، فاقتضت رحمة ربه العزيز الرحيم به أن أعانه بجند آخر، وأمدّه بمدد آخر، يقاوم به هذا الجند الذي يريد هلاكه، فأرسل إليه رسوله، وأنزل عليه كتابه، وأيده بملك كريم يقابل عدوه الشيطان، فإذا أمره الشيطان بأمر، أمره الملك بأمر ربّه، وبين له ما في طاعة العدو من الهلاك، فهذا يلم به مرة، وهذا مرة، والمنصور من نصره الله عز وجل، والمحفوظ من حفظه الله تعالى.
وجعل الله له مقابل نفسه الأمارة نفساً مطمئنة، إذا أمرته النفس الأمارة بالسوء، نهته عنه النفس المطمئنة، وإذا نهته الأمارة عن الخير، أمرته به النفس المطمئنة، فهو يطيع هذه
مرة، وهذه مرة، وهو الغالب عليه منهما، وربما انقهرت إحداهما بالكلية قهراً لا تقوم معه أبداً.
وجعل له مقابل الهوى الحامل له على طاعة الشيطان والنفس الأمارة نوراً وبصيرة، وعقلاً يرده عن الذهاب مع الهوى، فكلما أراد أن يذهب مع الهوى، ناداه العقل والبصيرة والنور: الحذر الحذر، فإن المهالك والمتالف بين يديك، وأنت صيد الحرامية، وقطّاع الطريق، إن سرت خلف هذا الدليل.
فهو يطيع الناصح مرة، فيبين له رشده ونصحه، ويمشي خلف دليل الهوى مرة، فيقطع عليه الطريق، ويؤخذ ماله، وتسلب ثيابه، فيقول: ترى من أين أتيت؟
والعجب أنه يعلم من أين أُتي، ويعرف الطريق التي قطعت عليه، وأخذ فيها، ويأبى إلا سلوكها، لأنّ دليله تمكن منه، وتحكم فيه، وقوي عليه، ولو أضعفه بالمخالفة له، وزجره إذا دعاه، ومحاربته إذا أراد أخذه، لم يتمكن منه، ولكن هو مكنه من نفسه، وهو أعطاه يده.
فهو بمنزلة الرجل يضع يده في يد عدوه، فيباشره ثم يسومه سوء العذاب، فهو يستغيث فلا يغاث، فهكذا يستأسر للشيطان والهوى ولنفسه الأمارة، ثم يطلب الخلاص، فيعجز عنه.
فلما أن بُلي العبد بما بُلي به، أعين بالعساكر والعدد والحصون، وقيل: قاتل عدوك وجاهده، فهذه الجنود خذ منها ما شئت، وهذه الحصون تحصن بأي حصن شئت منها، ورابط إلى الموت، فالأمر قريب، ومدة المرابطة يسيرة جداً، فكأنك بالملك الأعظم(1/439)
وقد أرسل إليك رسله، فنقلوك إلى داره، واسترحت من هذا الجهاد، وفرق بينك وبين عدوك، وأطلقت في دار الكرامة تتقلب فيها كيف شئت، وسجن عدوك في أصعب الحبوس وأنت تراه.
فالسجن الذي كان يريد أن يودعك فيه قد أدخله وأغلقت عليه أبوابه، وأيس من الروح والفرج، وأنت فيما اشتهت نفسك، وقرّت عينك، جزاءً على صبرك في تلك المدة اليسيرة، ولزومك الثغر للرباط، وما كانت إلا ساعة ثمّ انقضت، وكأن الشدة لم تكن.
فإن ضعفت النفس عن ملاحظة قصر الوقت وسرعة انقضائه، فليتدبر قوله عز وجل: (كأنَّهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلاَّ ساعةً من نَّهار) [الأحقاف:35] وقوله عز وجل: (كأنَّهم يوم يرونها لم يلبثوا إلاَّ عشيَّةً أو ضُحَاهَا) [النازعات:46]،وقوله عزّ وجلّ: (قال كم لبثتم في الأرض عدد سنين - قالوا لبثنا يوماً أو بعض يومٍ فَاسْأَل العادين - قال إن لبثتم إلاَّ قليلاً لو أنَّكم كنتم تعلمون) [المؤمنون:112 - 114]،وقوله تعالى: (يوم ينفخ في الصُّور ونحشر المجرمين يومئذٍ زرقاً - يتخافتون بينهم إن لبثتم إلاَّ عشراً - نحن أعلم بما يقولون إذ يقول أمثلهم طريقةً إن لبثتم إلاَّ يوماً) [طه:102 - 104
عن أَبِي سَعِيدٍ، قَالَ: خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - خُطْبَةً بَعْدَ الْعَصْرِ إِلَى مُغَيْرِبَانِ الشَّمْسِ، حَفِظَهَا مَنْ حَفِظَهَا، وَنَسِيَهَا مَنْ نَسِيَهَا، فَقَالَ: «أَلَا إِنَّ الدُّنْيَا خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ، وَإِنَّ اللَّهَ مُسْتَخْلِفُكُمْ فِيهَا فَيَنْظُرُ كَيْفَ تَعْمَلُونَ، أَلَا فَاتَّقُوا الدُّنْيَا، وَاتَّقُوا النِّسَاءَ، أَلَا إِنَّ بَنِي آدَمَ خُلِقُوا عَلَى طَبَقَاتٍ شَتَّى، مِنْهُمْ مَنْ يُولَدُ مُؤْمِنًا، وَيَحْيَا مُؤْمِنًا، وَيَمُوتُ مُؤْمِنًا، وَمِنْهُمْ مَنْ يُولَدُ كَافِرًا، وَيَحْيَا كَافِرًا، وَيَمُوتُ كَافِرًا، وَمِنْهُمْ مَنْ يُولَدُ كَافِرًا، وَيَحْيَا كَافِرًا، وَيَمُوتُ مُؤْمِنًا، وَمِنْهُمْ مَنْ يُولَدُ مُؤْمِنًا، وَيَحْيَا مُؤْمِنًا، وَيَمُوتُ كَافِرًا، أَلَا إِنَّ خَيْرَ التُّجَّارِ مَنْ كَانَ حَسَنَ الْقَضَاءِ حَسَنَ الطَّلَبِ، أَلَا وَشَرُّ التُّجَّارِ مَنْ كَانَ سَيِّئَ الْقَضَاءِ سَيِّئَ الطَّلَبِ، فَإِذَا كَانَ حَسَنَ الْقَضَاءِ سَيِّئَ الطَّلَبِ، أَوْ حَسَنَ الطَّلَبِ سَيِّئَ الْقَضَاءِ فَإِنَّهَا بِهَا، أَلَا وَإِنَّ شَرَّ الرِّجَالِ مَنْ كَانَ سَرِيعَ الْغَضَبِ بَطِيءَ الْفَيْءِ، أَلَا وَخَيْرُ الرِّجَالِ مَنْ كَانَ بَطِيءَ الْغَضَبِ سَرِيعَ الْفَيْءِ، فَإِذَا كَانَ سَرِيعَ الْغَضَبِ سَرِيعَ الْفَيْءِ فَإِنَّهَا بِهَا، وَإِذَا كَانَ بَطِيءَ الْغَضَبِ(1/440)
بَطِيءَ الْفَيْءِ فَإِنَّهَا بِهَا، أَلَّا إِنَّ الْغَضَبَ جَمْرَةٌ تَوَقَّدُ فِي جَوْفِ ابْنِ آدَمَ، أَلَمْ تَرَ إِلَى حُمْرَةِ عَيْنَيْهِ، وَانْتِفَاخِ أَوْدَاجِهِ، فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ فَالْأَرْضَ الْأَرْضَ، أَلَا إِنَّ لِكُلَّ غَادِرٍ لِوَاءً بِقَدْرِ غَدْرَتِهِ» قَالَ الْحَسَنُ: يُنْصَبُ عِنْدَ اسْتِهِ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ ثُمَّ قَالَ: «أَلَا وَلَا غَادِرَ أَعْظَمُ غَدْرًا مِنْ أَمِيرِ عَامَّةٍ، أَلَا لَا يَمْنَعَنَّ رَجُلًا مَهَابَةُ النَّاسِ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِحَقٍّ إِذَا
عَلِمَهُ، أَلَا إِنَّهُ لَمْ يَبْقَ مِنَ الدُّنْيَا فِيمَا مَضَى مِنْهَا إِلَّا كَمَا بَقِّيَ مِنْ يَوْمِكُمْ هَذَا فِيمَا مَضَى مِنْهُ» (1)
وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: لَمْ يَزَلِ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُحَدِّثُنَا حَتَّى لَمْ يَبْقَ إِلَّا حُمْرَةٌ عَلَى سَعَفِ النَّخْلِ، فَقَالَ: «إِنَّهُ لَمْ يَبْقَ مِنَ الدُّنْيَا فِيمَا مَضَى إِلَّا كَمَا بَقِيَ مِنْ يَوْمِكُمْ هَذَا» (2)
عن يَعْقُوبَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنِ أَبِيهِ قَالَ: خَطَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ هَذِهِ الْخُطْبَةَ وَكَانَ آخِرَ خُطْبَةٍ خَطَبَهَا، حَمِدَ اللهَ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: «إِنَّكُمْ لَمْ تُخْلَقُوا عَبَثًا، وَلَمْ تَتْرُكُوا سُدًى، وَإِنَّ لَكُمْ مَعَادًا يَنْزِلُ اللهُ فِيهِ لِيحْكُمَ بَيْنَكُمْ، وَيفْصِلَ بَيْنَكُمْ، وَخَابَ وَخَسِرَ مَنْ خَرَجَ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ، وَحُرِمَ جَنَّةً عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ، أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّهُ لَا يَأْمَنُ غَدًا إِلَّا مَنْ حَذِرَ اللهَ الْيَوْمَ وَخَافَهُ، وَبَاعَ نَافِدًا بِبَاقٍ، وَقَلِيلًا بِكَثِيرٍ، وَخَوْفًا بِأَمَانٍ، أَلَا تَرَوْنَ أَنَّكُمْ فِي أَسْلَابِ الْهَالِكِينَ، وَسَتَصِيرُ مِنْ بَعْدِكُمْ لِلْبَاقِينَ، وَكَذَلِكَ حَتَّى تُرَدُّوا إِلَى خَيْرِ الْوَارِثِينَ، ثُمَّ إِنَّكُمْ تُشَيِّعُونَ كُلَّ يَوْمٍ غَادِيًا وَرَائِحًا، قَدْ قَضَى نَحْبَهُ، وَانْقَضَى أَجَلُهُ، حَتَّى تُغَيِّبُوهُ فِي صَدْعٍ مِنَ الْأَرْضِ، فِي شِقِّ صَدْعٍ، ثُمَّ تَتْرُكُوهُ غَيْرَ مُمَهَّدٍ وَلَا مُوَسَّدٍ، فَارَقَ الْأَحْبَابَ، وَبَاشَرَ التُّرَابَ، وَوُجِّهَ لِلْحِسَابِ، مُرْتَهَنٌ بِمَا عَمِلَ، غَنِيٌّ عَمَّا تَرَكَ، فَقِيرٌ إِلَى مَا قَدَّمَ، فَاتَّقُوا اللهَ وَمُوَافَاتِهِ، وَحُلُولَ الْمَوْتِ بِكُمْ، أَمَا وَاللهِ إِنِّي لَأَقُولُ هَذَا وَمَا أَعْلَمُ عِنْدَ أَحَدٍ مِنَ الذُّنُوبِ أَكْثَرُ مِمَّا عِنْدِي، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ وَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ يُبَلِّغُنَا حَاجَتَهُ لَا يَسَعُ لَهُ مَا عِنْدَنَا إِلَّا تَمَنَّيْتُ أَنْ يَبْدَأَ بِي وَبِخَاصَّتِي، حَتَّى يَكُونَ عَيْشُنَا وَعَيْشُهُ وَاحِدًا، أَمَا وَاللهِ لَوْ أَرَدْتُ غَيْرَ هَذَا مِنْ غَضَارَةِ الْعَيْشِ لَكَانَ اللِّسَانُ بِهِ ذَلُولًا، وَكُنْتُ بِأَسْبَابِهِ عَالِمًا، وَلَكِنْ
_________
(1) - مسند أبي داود الطيالسي (3/ 615) (2270) حسن
(2) - الزهد لابن أبي عاصم (ص:95) (189) صحيح(1/441)
سَبَقَ مِنَ اللهِ كِتَابٌ نَاطِقٌ، وَسُنَّةٌ عَادِلَةٌ، دَلَّ فِيهَا عَلَى طَاعَتِهِ، وَنَهَى فِيهَا عَنْ مَعْصِيتِهِ، ثُمَّ رَفَعَ طَرْفَ رِدَائِهِ فَبَكَى وَأَبْكَى مَنْ حَوْلَهُ» (1)
والمقصود أن الله - عزّ وجلّ - قد أمد العبد في هذه المدة اليسيرة بالجنود، والعدد، والأمداد، وبين له بماذا يحرز نفسه من عدوه، وبماذا يَفتَكّ نفسه إذا أسر.
وعَنْ زَيْدِ بْنِ سَلَّامٍ، أَنَّ أَبَا سَلَّامٍ، حَدَّثَهُ أَنَّ الحَارِثَ الأَشْعَرِيَّ، حَدَّثَهُ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:" إِنَّ اللَّهَ أَمَرَ يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ أَنْ يَعْمَلَ بِهَا وَيَأْمُرَ بني إسرائيل أَنْ يَعْمَلُوا بِهَا، وَإِنَّهُ كَادَ أَنْ يُبْطِئَ بِهَا، فَقَالَ عِيسَى: إِنَّ اللَّهَ أَمَرَكَ بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ لِتَعْمَلَ بِهَا وَتَأْمُرَ بني إسرائيل أَنْ يَعْمَلُوا بِهَا، فَإِمَّا أَنْ تَأْمُرَهُمْ، وَإِمَّا أَنَا آمُرُهُمْ، فَقَالَ يَحْيَى: أَخْشَى إِنْ سَبَقْتَنِي بِهَا أَنْ يُخْسَفَ بِي أَوْ أُعَذَّبَ، فَجَمَعَ النَّاسَ فِي بَيْتِ المَقْدِسِ، فَامْتَلَأَ المَسْجِدُ وَقَعَدُوا عَلَى الشُّرَفِ، فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ أَنْ أَعْمَلَ بِهِنَّ، وَآمُرَكُمْ أَنْ تَعْمَلُوا بِهِنَّ: أَوَّلُهُنَّ أَنْ تَعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَإِنَّ مَثَلَ مَنْ أَشْرَكَ بِاللَّهِ كَمَثَلِ رَجُلٍ اشْتَرَى عَبْدًا مِنْ خَالِصِ مَالِهِ بِذَهَبٍ أَوْ وَرِقٍ، فَقَالَ: هَذِهِ دَارِي وَهَذَا عَمَلِي فَاعْمَلْ وَأَدِّ إِلَيَّ، فَكَانَ يَعْمَلُ وَيُؤَدِّي إِلَى غَيْرِ سَيِّدِهِ، فَأَيُّكُمْ يَرْضَى أَنْ يَكُونَ عَبْدُهُ كَذَلِكَ؟ وَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَكُمْ بِالصَّلَاةِ، فَإِذَا صَلَّيْتُمْ فَلَا تَلْتَفِتُوا فَإِنَّ اللَّهَ يَنْصِبُ وَجْهَهُ لِوَجْهِ عَبْدِهِ فِي صَلَاتِهِ مَا لَمْ يَلْتَفِتْ، وَآمُرُكُمْ بِالصِّيَامِ، فَإِنَّ مَثَلَ ذَلِكَ كَمَثَلِ رَجُلٍ فِي عِصَابَةٍ مَعَهُ صُرَّةٌ فِيهَا مِسْكٌ، فَكُلُّهُمْ يَعْجَبُ أَوْ يُعْجِبُهُ رِيحُهَا، [ص:149] وَإِنَّ رِيحَ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ المِسْكِ، وَآمُرُكُمْ بِالصَّدَقَةِ فَإِنَّ مَثَلَ ذَلِكَ كَمَثَلِ رَجُلٍ أَسَرَهُ العَدُوُّ، فَأَوْثَقُوا يَدَهُ إِلَى عُنُقِهِ وَقَدَّمُوهُ لِيَضْرِبُوا عُنُقَهُ، فَقَالَ: أَنَا أَفْدِيهِ مِنْكُمْ بِالقَلِيلِ وَالكَثِيرِ، فَفَدَى نَفْسَهُ مِنْهُمْ، وَآمُرُكُمْ أَنْ تَذْكُرُوا اللَّهَ فَإِنَّ مَثَلَ ذَلِكَ كَمَثَلِ رَجُلٍ خَرَجَ العَدُوُّ فِي أَثَرِهِ سِرَاعًا حَتَّى إِذَا أَتَى عَلَى حِصْنٍ حَصِينٍ فَأَحْرَزَ نَفْسَهُ مِنْهُمْ، كَذَلِكَ العَبْدُ لَا يُحْرِزُ نَفْسَهُ مِنَ الشَّيْطَانِ إِلَّا بِذِكْرِ اللَّهِ "،قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «وَأَنَا آمُرُكُمْ بِخَمْسٍ اللَّهُ أَمَرَنِي بِهِنَّ، السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ وَالجِهَادُ وَالهِجْرَةُ وَالجَمَاعَةُ، فَإِنَّهُ مَنْ فَارَقَ الجَمَاعَةَ قِيدَ شِبْرٍ فَقَدْ خَلَعَ رِبْقَةَ
_________
(1) - حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (5/ 295) وقصر الأمل لابن أبي الدنيا (ص:66) (72) وترتيب الأمالي الخميسية للشجري (2/ 6) (1397) صحيح(1/442)
الإِسْلَامِ مِنْ عُنُقِهِ إِلَّا أَنْ يَرْجِعَ، وَمَنْ ادَّعَى دَعْوَى الجَاهِلِيَّةِ فَإِنَّهُ مِنْ جُثَا جَهَنَّمَ»،فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَإِنْ صَلَّى وَصَامَ؟ قَالَ: «وَإِنْ صَلَّى وَصَامَ، فَادْعُوا بِدَعْوَى اللَّهِ الَّذِي سَمَّاكُمُ المُسْلِمِينَ المُؤْمِنِينَ، عِبَادَ اللَّهِ» (1)
والالتفات المنهي عنه في الصلاة قسمان؛ أحدهما: التفات القلب عن الله عزّ وجلّ إلى غير الله تعالى. والثاني: التفات البصر. وكلاهما منهي عنه. ولا يزال الله مقبلاً على عبده ما دام
العبد مقبلاً على صلاته، فإذا التفت بقلبه أو بصره، أعرض الله تعالى عنه. فعَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنِ الِالْتِفَاتِ فِي الصَّلاَةِ؟ فَقَالَ: «هُوَ اخْتِلاَسٌ يَخْتَلِسُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ صَلاَةِ العَبْدِ» (2)
وفي أثر عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا قَامَ إِلَى الصَّلاةِ أَحْسِبُهُ قَالَ: قَائِمًا هُوَ بَيْنَ يَدْيِ الرَّحْمَنِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، فَإِذَا الْتَفَتَ يَقُولُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: إِلَى مَنْ تَلْفِتُ؟ إِلَى خَيْرٍ مِنِّي؟ أَقْبِلْ يَا ابْنَ آدَمَ إِلَيَّ، فَأَنَا خَيْرٌ مِمَّنْ تَلْفِتُ إِلَيْهِ ". (3)
ومثل من يلتفت في صلاته ببصره أو بقلبه مثلُ رجل قد استدعاه السلطان، فأوقفه بين يديه، وأقبل يناديه ويخاطبه، وهو في خلال ذلك يلتفت عن السلطان يميناً وشمالاً، وقد انصرف قلبه عن السلطان، فلا يفهم ما يخاطبه به؛ لأن قلبه ليس حاضراً معه، فما ظنّ هذا الرجل أن يفعل به السلطان؟ أفليس أقل المراتب في حقّه أن ينصرف من بين يديه ممقوتاً مبعداً قد سقط من عينيه؟.
فهذا المصلي لا يستوي والحاضر القلب المقبل على الله تعالى في صلاته، الذي قد أشعر قلبه عظمة من هو واقف بين يديه، فامتلأ قلبه من هيبته، وذلت عنقه له، واستحيى من ربه تعالى أن يقبل على غيره، أو يلتفت عنه. وبين صلاتيهما كما بين السماء والأرض، عَنْ حَسَّانِ بْنِ عَطِيَّةَ قَالَ: «إِنَّ الرَّجُلَيْنِ لَيَكُونَانِ فِي صَلَاةٍ وَاحِدَةٍ، وَإِنَّ بَيْنَهُمَا مِنَ الْفَضْلِ
_________
(1) - سنن الترمذي ت شاكر (5/ 148) (2863) صحيح
(2) - صحيح البخاري (1/ 150) (751) [ش (اختلاس) خطف بسرعة. (يختلسه الشيطان) يظفر به عند الالتفات]
(3) - كشف الأستار عن زوائد البزار- مؤسسة الرسالة (1/ 268) (553) ضعيف(1/443)
لَكَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ» ثُمَّ فَسَّرَ ذَلِكَ «أَنَّ أَحَدَهُمَا يَكُونُ مُقْبِلًا عَلَى اللَّهِ بِقَلْبِهِ، وَالْآخَرَ سَاهٍ غَافِلٌ» (1)
وإذا أقبل على الخالق عزّ وجلّ، وبينه وبينه حجاب الشهوات والوساوس، والنفس مشغوفة بها، ملأى منها، فكيف يكون ذلك إقبالاً وقد ألهته الوساوس والأفكار، وذهبت به كل مذهب؟
والعبد إذا قام في الصلاة غار الشيطان منه، فإنه قد قام في أعظم مقام، وأقربه وأغيظه للشيطان، وأشده عليه، فهو يحرص ويجتهد كل الاجتهاد أن لا يقيمه فيه، بل لا يزال به يعده ويمنّيه وينسيه، ويجلب عليه بخيله ورجله حتى يهوّن عليه شأن الصلاة، فيتهاون بها فيتركها.
فإن عجز عن ذلك منه، وعصاه العبد، وقام في ذلك المقام، أقبل عدو الله تعالى حتى يخطر بينه وبين نفسه، ويحول بينه وبين قلبه، فيذكره في الصلاة، ما لم يكن يذكر قبل دخوله فيها، حتى ربما كان قد نسي الشيء والحاجة، وأيس منها، فيذكره إياها في الصلاة ليشغل قلبه بها، ويأخذه عن الله عزّ وجلّ، فيقوم فيها بلا قلب، فلا ينال من إقبال الله تعالى وكرامته وقربه ما يناله المقبل على ربه عزّ وجلّ بقلبه في صلاته؛ فينصرف من صلاته مثل ما دخل فيها بخطاياه وذنوبه وأثقاله، لم تخف عنه بالصلاة، فإن الصلاة إنما تكفر سيئات من أدى حقها، وأكمل خشوعها، ووقف بين يدي الله تعالى بقلبه وقالبه.
فهذا إذا انصرف منها وجد خفة من نفسه، وأحسَّ بأثقال قد وضعت عنه، فوجد نشاطاً وراحة وروحاً، حتى يتمنَّى أنه لم يكن خرج منها، لأنها قرة عينيه، ونعيم روحه، وجنة قلبه، ومستراحه في الدنيا، فلا يزال كأنه في سجنٍ وضيقٍ حتى يدخل فيها، فيستريح بها، لا منها، فالمحبون يقولون: نصلي فنستريح بصلاتنا، كما قال إمامهم وقدوتهم ونبيهم: (يَا بِلاَلُ، أَرِحْنَا بِالصَّلاَةِ.) (2)
ولم يقل: أرحنا منها، وقال - صلى الله عليه وسلم -: (وَجُعِلَ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلاَةِ.) (3)
_________
(1) - الزهد والرقائق لابن المبارك والزهد لنعيم بن حماد (2/ 24) صحيح
(2) - مسند أحمد (عالم الكتب) (7/ 653) (23088) 23476 - صحيح
(3) - مسند أحمد (عالم الكتب) (4/ 330) (12293) 12318 - صحيح(1/444)
فمن جعلت قرة عينه في الصلاة، كيف تقر عينه - صلى الله عليه وسلم - بدونها، وكيف يطيق الصبر عنها؟
وقد روي أن العبد إذا قام يصلي، قال الله عز وجل:" ارفعوا الحجب، فإذا التفت، قال: أرخوها "،وقد فُسِّر هذا الالتفات بالتفات القلب عن الله عزّ وجلّ إلى غيره، فإذا التفت إلى غيره، أرخى الحجاب بينه وبين العبد، فدخل الشيطان، وعرض عليه أمور الدنيا، وأراه إياها في صورة المرآة، وإذا أقبل بقلبه على الله ولم يلتفت، لم يقدر
الشيطان على أن يتوسط بين الله - تعالى - وبين ذلك القلب، وإنما يدخل الشيطان إذا وقع الحجاب، فإن فرَّ إلى الله تعالى، وأحضر قلبه فرَّ الشيطان، فإن التفت حضر الشيطان، فهو هكذا شأنه وشأن عدوه في الصلاة.
كيف يجعل المصلي قلبه حاضراً في الصلاة؟
وإنما يقوى العبد على حضوره في الصلاة واشتغاله فيها بربه عزّ وجلّ، إذا قهر شهوته وهواه، وإلا فقلب قد قهرته الشهوة، وأسره الهوى، ووجد الشيطان فيه مقعداً تمكن فيه، كيف يخلص من الوساوس والأفكار؟!
والقلوب ثلاثة: قلب خالٍ من الإيمان وجميع الخير، فذلك قلب مظلم قد استراح الشيطان من إلقاء الوساوس إليه؛ لأنه قد اتخذه بيتاً ووطناً، وتحكم فيه بما يريد، وتمكن منه غاية التمكن.
القلب الثاني: قلب قد استنار بنور الإيمان، وأوقد فيه مصباحه، لكن عليه ظلمة الشهوات وعواصف الأهوية، فللشيطان هناك إقبال وإدبار، ومجالات ومطامع، فالحرب دول وسجال.
وتختلف أحوال هذا الصنف بالقلة والكثرة، فمنهم مَنْ أوقات غلبته لعدوه أكثر، ومنهم مَنْ أوقات غلبة عدوه له أكثر، ومنهم من هو تارة وتارة.
القلب الثالث: قلب محشو بالإيمان قد استنار بنور الإيمان، وانقشعت عنه حجب الشهوات، وأقلعت عنه تلك الظلمات، فلنوره في صدره إشراق، ولذلك الإشراق إيقاد لو دنا منه الوسواس لاحترق به، فهو كالسماء التي حرست بالنجوم، فلو دنا منها الشيطان يتخطاها لرجم فاحترق، وليست السماء بأعظم حرمة من المؤمن، وحراسة الله تعالى له(1/445)
أتم من حراسة السماء، والسماء متعبد الملائكة، ومستقرّ الوحي، وفيها أنوار الطاعات، وقلب المؤمن مستقر التوحيد والمحبة، والمعرفة والإيمان، وفيه أنوارها، فهو حقيق أن يحرس ويحفظ من كيد العدو، فلا ينال منه شيئاً إلا خطفة.
وقد مثّل ذلك بمثال حسن، وهو ثلاثة بيوت:
بيت الملك فيه كنوزه وذخائره وجواهره.
وبيت للعبد فيه كنوز العبد، وذخائره، وجواهره، وليس جواهر الملك وذخائره.
وبيت خال صفر لا شيء فيه، فجاء اللص يسرق من أحد البيوت، فمن أيها يسرق؟
فإن قلت: من البيت الخالي، كان محالاً؛ لأن البيت الخالي ليس فيه شيء يسرق، ولهذا قيل لابن عباس رضي الله عنهما: إن اليهود تزعم أنها لا توسوس في صلاتها، فقال: وما يصنع الشيطان بالقلب الخراب؟
وإن قلت: يسرق من بيت الملك، كان ذلك كالمستحيل الممتنع، فإن عليه من الحرس واليزَك (بالتركية- بمعنى المنع والحظر والزجر) ما لا يستطيع اللص الدنو منه، كيف وحارسه الملك بنفسه، وكيف يستطيع اللص الدنو منه وحوله من الحرس والجند ما حوله؟ فلم يبق للص إلا البيت الثالث، فهو الذي يشنُّ عليه الغارات.
فيلتأمل اللبيب هذا المثال، ولينزله على القلوب، فإنها على منواله.
فقلب خلا من الخير كله، وهو قلب الكافر والمنافق، فذلك بيت الشيطان، قد أحرزه لنفسه واستوطنه، واتخذه سكناً ومستقراً، فأيُّ شيء يسرق منه، وفيه خزائنه وذخائره وشكوكه وخيالاته ووساوسه؟
وقلب قد امتلأ من جلال الله - عزّ وجلّ - وعظمته ومحبته ومراقبته والحياء منه، فأي شيطان يجترئ على هذا القلب؟ وإن أراد سرقة شيء منه، فماذا يسرق؟ وغايته أن يظفر في الأحايين منه بخطفة ونهب يحصل له على غرة من العبد وغفلة لا بد له منها، إذ هو بشر، وأحكام البشرية جارية عليه من الغفلة والسهو والذهول وغلبة الطبع.
وقلب فيه توحيد الله تعالى، ومعرفته، ومحبته، والإيمان به، والتصديق بوعده، وفيه شهوات النفس وأخلاقها، ودواعي الهوى والطبع.(1/446)