كتاب الإرشاد
مقدمة معد الكتاب
إن الحمد لله نحمده ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد:
فهذا شرح نفيس ميسر لكتاب لمعة الاعتقاد للإمام موفق الدين أبي محمد عبدالله ابن أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي رحمه الله، شرحه فضيلة شيخنا العلامة الدكتور: عبدالله بن عبدالرحمن الجبرين حفظه الله تعالى وأمد في عمره، أقدمه لطلاب العلم بعد أن تمت مراجعته من قبل شيخنا -حفظه الله تعالى- فصححه ونقحه وأضاف إليه ما يحتاج من زيادات فخرج بهذه الصورة التي آمل أن يجد فيها قارئه ما يفيده، وكان هذا الكتاب في الأصل عبارة عن دروس ألقاها فضيلة الشيخ في الدورة العلمية لعام 1415هـ بمسجد شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، فقمت بتفريغ الأشرطة وكتابتها، ومن ثم عرضتها على فضيلته وقرأتها عليه فشجعني على تقديمها لإخواني طلاب العلم للاستفادة منها.
أسأل الله أن يوفقني لما فيه الخير والصواب، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
عملي في الكتاب:
1- فرغت الأشرطة التي تم تسجيل الدروس عليها وكتبتها بخط اليد وذلك بمساعدة بعض الإخوان فجزاهم الله خيراً.
2- قمت بقراءة جميع الشرح على فضيلة الشيخ بمنزله العامر بالرياض، كما قرأ -وفقه الله- الصورة النهائية التي اعتمدت في الكتاب والتي بين أيدينا نسختها الآن.
3- في الطباعة وضعت المتن بعد كلمة (قوله) والشرح بعد كلمة (شرح) لأسهل على القارئ الكريم التفريق بين المتن والشرح.
4- رقمت الآيات فوضعت بجانب كل آية اسم السورة ورقم الآية.
5- إذا كان الحديث في الصحيحين أو أحدهما فإنني أقتصر في التخريج على ذلك، أما إذا لم يكن موجوداً فيهما أو في أحدهما فإنني أبحث عنه في سنن أبي داود والترمذي، ثم بعد ذلك فيما يتيسر من كتب الحديث أو غيرها.(1/1)
6- وضعت مقدمة للكتاب كما وضعت خاتمة له.
7- قمت بفهرسة الموضوعات فقط ولم أقم بفهرسة الآيات والأحاديث والآثار والأسماء والكنى لعدم الإطالة وتضخيم الكتاب أكثر مما يجب.
8- اعتمدت في الطباعة بالنسبة للمتن (لمعة الاعتقاد) على الطبعات الآتية وهي:
أ- طبعة دار الهدى بالرياض بتحقيق الشيخ عبدالقادر الأرناؤوط.
ب- طبعة مكتبة ابن تيمية بالقاهرة ومكتبة العلم بجدة بتحقيق الشيخ عبدالقادر الأرناؤوط.
ج- طبعة دار الصميعي بالرياض (تعليقات على لمعة الاعتقاد) وهي عبارة عن أسئلة وأجوبة على اللمعة لفضيلة الشيخ الدكتور: عبدالله بن جبرين وفقه الله.
وما عملت في هذا الكتاب فهو جهد المقل وعمل العاجز، وما ورد فيه من تمام فمن توفيق الله، وما فيه من تقصير فمن نفسي وأستغفر الله منه.
أسأل الله الكريم العظيم أن ينفع بشرح هذا الكتاب كما نفع بأصله وأن يجزي شيخنا الكريم عني خير الجزاء وأن يجعل عملي فيه وفي غيره رفعة في الدرجات في جنات عدن، إنه القدير على ذلك سبحانه وتعالى.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
كتبه الشيخ : محمد بن حمد المنيع
مقدمة الشرح
لفضيلة الشيخ/ د. عبدالله بن جبرين حفظه الله
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد...
لا شك أن أمر العقيدة الإسلامية من أهم الأمور، وأن شأنها عظيم، والاهتمام بأمرها أكيد؛ لأجل ذلك أهتم بها العلماء قديماً وحديثاً، وألفوا المؤلفات التي ضمَّنوها المعتقد المأخوذ من الكتاب والسنة، والذي درج عليه سلف الأمة، وبسطوا في ذلك، واختصروا، وكتبوا، ودرَّسُوا، وقرروا، وكل ذلك نصحاً منهم للأمة حتى تثبت على عقيدة صحيحة ترسخ هذه العقيدة في قلوبها.(1/2)
وفي هذه المقدمة نحب أن نتكلم عن مبدأ العقيدة، وتطوراتها إلى زماننا هذا، مع الإشارة إلى بعض ما كتب في العقيدة، فنقول: العقيدة التي منها هذه الرسالة (لمعة الاعتقاد)، ومنها (العقيدة الواسطية) وغيرها؛ مشتقة من العقد، وذلك أن العقد هو ربط الشيء بعضه ببعض، تقول: عقدت الحبل ببعضه أي وثقته وربطته، وسميت بذلك لأن القلب يعقد عليها عقداً محكماً مبرماً لا سبيل إلى انفكاكه، وذلك لأن أدلتها جلية صحيحة واضحة لا يعتريها شك ولا تغيّر، وأدلتها نصوص قطعية الثبوت، وقطعية الدلالة؛ فلأجل ذلك يعقد عليها القلب، ولا يمكن أن يتزعزع هذا الاعتقاد من القلب إلا إذا كان العقد غير محكم وغير قوي، فإنه عرضة للتزعزع.
ولأجل ذلك كان العلماء، والمسلمون عموماً، يربون أولادهم على العقيدة منذ الطفولة ويلقنونهم كيف عرفوا ربهم، وبأي شيء عرفوه، ولأي شيء خُلقوا، وبأي شيء أُمروا، وأول ما فرض عليهم، وأهم الفرائض، وما إلى ذلك؛ حتى إذا تلقاها الطفل في صغره، وتربى عليها نبت لحمه وعظمه، وعصبه وعقله على هذه العقيدة، فأصبحت راسخة لا تتزعزع، بحيث لو عرضت عليه بعد ذلك شبهات، أو أتى بما يزعزع وبما يفتن، بل لو فتن وحبس وضرب وأوذي فلن يتغير اعتقاده، وذلك للأسباب التالية:
أولاً: أنه تربى عليها عند أبويه، وتلقاها وهو طفل.
ثانياً: أنه ألفى عليها أبويه، وأبواه أنصح الخلق له، وهما يحبان له أن يتربى على الخير.
ثالثاً: أن الأدلة التي تؤيد هذا الاعتقاد أدلة جلية، واضحة في ظهور معناها، صحيحة قطعية الثبوت لا يمكن أن يعتريها شك، أو تغير، فهذا ونحوه مما يبين أهمية هذه العقيدة.(1/3)
بعد ذلك نقول في تطور أمر هذه العقيدة قبل أن نبدأ في شيء من تفاصيلها: معروف أن الرسل كلهم بدأوا رسالتهم بأمر العقيدة التي هي عبادة الله لقوله تعالى: (اعبدوا الله ما لكم من إله غيره)(الأعراف:59) تقريراً للإلهية بأن الله تعالى هو الإله، بحيث يعترفون أن لهم رباً، وأن ربهم هو الله، وأنه الذي له الإلهية وحده، ولا تصلح الإلهية إلا له سبحانه وتعالى.
وهذا مبدأ العقيدة وأساسها كما سيأتي، فالرسل بدأوا بأمر العقيدة، ومنهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بدأ بأمر العقيدة، فبقي عشر سنين بمكة بعد أن أوحي إليه لم يدع إلا إلى العقيدة، وهي معرفة الله وعبادته وأداء حقه، وترك عبادة ما سواه، وإقامة الأدلة التي تثبت لله وحده العبودية وتنفي عن ما سواه أن يكون معبوداً أو إلهاً.
وتطول الأدلة والبراهين على ذلك، ففي كثير من السور المكية يذكر الله عز وجل ما يدل على أنه سبحانه هو الرب، وهو الإله، وهو المعبود وحده، ويقيم على ذلك الأدلة الواضحة التي يراها الإنسان عياناً، ويذكرها ولا يستطيع أن يجحدها أو ينكرها.
فنجد مثلاً في سورة الإنسان قوله تعالى: (هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكورا * إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سمعياً بصيراً * إنا هديناه السبيل)(الإنسان:1-3)، أليس هذا تقريراً للإلهية، وأن الذي خلق الإنسان بعد أن كان معدوماً هو الخالق المنفرد بالخلق؛ تقريراً لأنه هو الخالق وحده، وأنه هو الذي يستحق أن يعبد، ولا يجحده إلا معاند.
ثم السورة التي بعدها فيها أيضاً تقرير ذلك مثل قوله تعالى: (ألم نجعل الأرض كفاتا * أحياءً وأمواتاً)(المرسلات:25-26) إلى آخر الآيات؛ يذكر الله آيات ودلالات على أنه هو المنفرد بالإلهية، وأنه هو المتصرف بالربوبية وحده؛ لأن هذا تصرفه هو وحده الذي انفرد به، فهو أهل أن يكون معبوداً وحده دون ما سواه.(1/4)
كذلك السورة التي بعدها: (ألم نجعل الأرض مهاداً * والجبال أوتاداً)(النبأ:6-7) إلى آخر الآيات تقرير للألوهية، وعرض المعجزات والبراهين التي من تأملها وتعقلها رسخت العقيدة في قلبه؛ بحيث يعرف أن الذي أوجد هذه الكائنات على هذا الإحكام؛ غاية الأحكام أنه أهل أن يعظم، وأهل أن يعبد وحده، وأن يشكر ويذكر، وأن تكون الطاعة له دون ما سواه، وأهل أن يطاع رسله الذين أرسلهم وحمَّلهم رسالته.
وفي السورة التي بعدها يقول تعالى: (أأنتم أشد خلقاً أم السماء بناها * رفع سمكها فسواها)(النازعات:27-28) إلى آخر الآيات، يحتج عليهم بهذا الخلق المحكم العظيم الذي لا يستطيع أي مخلوق أن يغيره عن وضعه. فالذي أوجد هذه المخلوقات هو الإله، وهو الرب، وهو المعبود وحده.
وفي السورة التي بعدها يقول تعالى: (فلينظر الإنسان إلى طعامه * أنا صببنا الماء صباً * ثم شققنا الأرض شقاً)(عبس:24-26) إلى آخر الآيات، وفي هذا يذكر الإنسان بأن الذي فعل هذا هو الله وحده، ولا يستطيع مخلوق مهما كانت قدرته أن يأتي بمثل هذا الأمر الذي يأتي به الله سبحانه.
إذن فهذا يبين أن العقيدة هي أول ما بدأ به نبينا صلى الله عليه وسلم في دعوته، ولما بينه للصحابة اعتقدوا ما اعتقدوه في أمر الإله وحده سبحانه وتعالى من أسمائه وصفاته، ومن براهينه وآياته، ومن نعمه وآلائه على خلقه، واعتقدوا أنه أهل أن يعبد وحده، وأن يشكر، وأن يثنى عليه.
اعتقدوا ذلك ولم ينكروا شيئاً من أمر هذا الاعتقاد، اعتقدوا أن الله ربهم وخالقهم ومدبرهم، اعتقدوا أن الله سبحانه وتعالى فوق عباده، وأنه على عرشه مستو عليه كما يشاء، اعتقدوا أن له الأسماء الحسنى، والصفات العلى إلى آخر أمر العقيدة.(1/5)
ولم يظهر فيما بين الصحابة من ينكر شيئاً من أمر الاعتقاد، ولا ظهر فيما بينهم من يرد شيئاً من دلالة النصوص، وهذا من تزكية الله تعالى لصحابة نبيه صلى الله عليه وسلم؛ إذ لما زكاهم الله تعالى وفضلهم على غيرهم ظهر أثر ذلك، فلم يظهر فيهم، والحمد لله مبتدع، ولا خارجي، ولا قدري، ولا رافضي، ولا معتزلي، ولا أشعري، ولا جبري، ولا مرجئي، ولا صوفي؛ لم يظهر فيهم شيء من هذه البدع، بل كلهم على عقيدة واحدة هي عقيدة أهل السنة، هذا هو ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم.
وبعدما دخل في الإسلام بعض المنافقين من أهل الكتاب وغيرهم بدأ ظهور البدع، ولما ظهرت اهتم الصحابة بإظهار السنن، وأوضحوها بالأدلة القاطعة.
فأول البدع: بدعة الخوارج الذين خرجوا عن الطاعة، وكفروا الصحابة، وكفروا المسلمين، وقتلوا الأبرياء.
وقد كثرت الأحاديث التي تبين شأنهم، ومبدأ أمرهم وصفاتهم، وهي أحاديث صحيحة مخرجة في الصحيحين وفي غيرهما.
لقد أنكر عليهم الصحابة، وبينوا خطأ طريقتهم، ولما كتب المؤلفون فيما بعد كتبوا في الرد عليهم ما يبيَّن خطأهم، وضمنوا ذلك كتب العقيدة.
وبعد ذلك: خرجت القدرية في آخر عهد الصحابة، وقد أدركهم بعض الصحابة كعبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، وغيرهم من الذين تأخر موتهم ومن رؤوس القدرية غيلان القدري ومعبد الجهني؛ خرجوا في آخر عهد الصحابة، وأنكروا علم الله السابق للأشياء قبل وجودها، وقالوا إنما يعلم الأشياء عندما تحدث، وهذا هو معنى قولهم: (إن الأمر أُنف) فشنع عليهم الصحابة، واحتجوا عليهم بالأدلة وبالآيات والأحاديث، وحذروا من طرقهم ومن شأنهم، وقد كانوا قلة مغمورين لا يتفطن لهم ولا يؤبه لهم، وإنما الغلبة لأهل السنة والظهور لهم، والكثرة لهم والحمد لله، بينما هم أفراد لا يسمع لهم إلا من هو ضعيف الإدراك، وضعيف العقل.(1/6)
ثم ظهرت المعتزلة في أول القرن الثاني، اعتزلوا مجلس الحسن البصري، وكان رئيسهم الذي يقال له واصل بن عطاء يجلس يقرر مذهبه، وأخذ يشير لهم الحسن ويقول: هؤلاء المعتزلة اعتزلوا مع واصل، فمن ثم اشتهر هذا المذهب الذي هو مذهب الاعتزال بهذا الاسم.
ولعله تأتي بعض الإشارات إليه فيما بعد، ومع ذلك فإن أهله قلة، ومنهم عمرو ابن عبيد الذي وجد في وسط القرن الثاني وكان يظهر التنسك، ولكنه مبتدع منحرف في باب الاعتقاد.
ثم ظهرت أيضاً: بدعة التعطيل، وما أدراك ما هذه البدعة الشنيعة العظيمة المنكرة؛ إنها بدعة الجهمية الذين أنكروا صفات الله تعالى، وتأولوا نصوصها، وبالغوا في إنكارها، وكان أول من أنكر بعضها (الجعد بن درهم)، وهو الذي قتله خالد القسري في يوم عيد الأضحى، وقصته مشهورة.
ثم إنه تلقاها عنه -أي بدعة التعطيل- الجهم بن صفوان السمر قندي، وهو الذي نشرها ونسبت إليه، وكثر الذين تلقوها عنه، وإن كانوا قلة في ذلك الزمان، ولكن ظهر لهم بعد ذلك أنصار وأعوان، فمنهم بشر المريسي الذي أعلن هذه البدعة؛ بدعة إنكار الصفات، ومنها صفة العلو لله تعالى، وإنكار أن الله متكلم، وأن القرآن ليس كلامه، ونحو ذلك من التعطيل.
ولما كان في آخر القرن الثاني، وأول القرن الثالث، كان وزراء الملوك أغلبهم من اليونان، ومن الترك، وكانوا غالباً من المجوس في عقيدتهم، ومن النصارى، وعندهم من كتب النصارى وكتب الفلاسفة بقايا، فزينوا للخلفاء أن يترجموها إلى اللغة العربية، فترجموا كتباً كثيرة من كتب الفلاسفة والملاحدة، ومن كتب اليونان من نصارى ومجوس ونحوهم.
ولما انتشرت تلك الكتب كان في طياتها التشكيك في الخالق، وفي مبدأ الخلق وفي منتهاه، مما كان سبباً في كثرة الزندقة، فظهر في ذلك الوقت مذهب الزندقة، وهو الذي يسمى بمبدأ الشيوعية فتمكنت الشيوعية وظهرت.(1/7)
ولكن فطن لهم الخليفة المهدي رحمه الله، فقتل منهم خلقاً كثيراً، فكل من اتهم بأنه زنديق منكر للخلق والخالق، أو يذهب مذاهب الفلاسفة في إنكار بدء الخلق وإعادته، ويدعي أن الأمر مسند إلى الطبائع ونحو ذلك؛ أخذه وقتله، ولم يكن يستتيبهم لعلمه أنهم منافقون يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم، وأنهم أظهروا الإسلام وقصدوا من إظهاره إفساد العقائد، حتى يثق الناس بهم ويأخذوا منهم، فإذا أخذوا منهم أعطوهم ما يريدون من التشكيك، ومن الارتباك في أمر العقيدة، حتى يزعزعوا عقيدة الكثير من الناس، هذا هو السبب في فشو هذا المذهب الشيوعي.
ذكر المترجمون للمهدي: أنه أحضر أحدهم لما ثبت عنده أنه زنديق وحكم بقتله، فقال ذلك الزنديق: كيف تفعل بأربعة آلاف حديث كذبتها وبثثتها في المسلمين، فقال المهدي: تعيش لها نقادها، أي أن الله تعالى قد قيض لها علماء ينقحون الأحاديث ويبينون زيفها، ويظهرون ما هو مكذوب ودخيل على السنة، يعني أمثال الأئمة الذين كتبوا في الأحاديث، وبينوا عللها، وبينوا المكذوب منها والموضوع والصحيح والضعيف.
وبكل حال فهذا الوقت انتشر فيه هذا المذهب الشيوعي الخبيث بسبب تعريب هذه الكتب، ومن أثر انتشارها كثرة الخوض في علوم جديدة سماها السلف رحمهم الله (علم الكلام)، هكذا أطلقوا عليه، وقصدوا به العلم الذي يخوض في الأمور الخفية؛ في الجواهر والأعراض والأبعاض، والافتراضات، وما أشبه ذلك.(1/8)
وهذا الكلام هو الذي شغل كثيراً من أهل القرون المتأخرة، بحيث إنهم كرسوا جهودهم في هذا الكلام، وأخذوا يفترضون افتراضات؛ إن كان كذا، فماذا يكون كذا؟، وما هو جوابه، حتى ملؤوا صدور الناس بمالا فائدة فيه، وملؤوا الكتب بما لا أهمية له، فكان ذلك مما حمل العلماء على التحذير من علم الكلام، كقول الشافعي رحمه الله: (حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد، ويطاف بهم في العشائر، ويقال: هذا جزاء من ترك القرآن، وأقبل على الكلام)، وغيره كثير من الذين حذروا من علم الكلام.
ومع الأسف فقد انتشر علم الكلام هذا في كتب الأشاعرة، وفي كتب المعتزلة؛ فحشدوا الكثير منه في كتب التفسير، وفي كتب العقائد، وفي كتب الأصول وما أشبهها، وافترضوا افتراضات لا دليل عليها.
فإذن لا شك أن هذا مما حمل السلف رحمهم الله على أن ينقحوا العقيدة، لما رأوا في القرن الثاني وفي القرن الثالث وما بعده تغير الناس في باب الاعتقاد، لم يكن بدٌ من أن يكتبوا في ذلك، ويقرروا، ويُبدؤا ويعيدوا، ويظهروا المذهب الصحيح والعقيدة السلفية السليمة ويبينوها علناً، حتى لا يقع في خلافها من قصده الحق.
فكتُب السلف في العقيدة كثيرة وشهيرة: منها ما سمي بكتاب الإيمان، متقدماً ومتأخراً ومختصراً ومبسوطاً مثل كتاب الإيمان لابن أبي شيبة، وكتاب الإيمان لأبي عبيد القاسم بن سلام، وكتاب الإيمان لابن منده في ثلاثة أجزاء وكلها مطبوعة.
ومنها ما سموه بكتب السنة؛ كالسنة للإمام أحمد، والسنة لابنه عبدالله، والسنة للخلال، والسنة لابن أبي عاصم، وغيرها.
ومنها ما سموه بالتوحيد ككتاب التوحيد لابن خزيمة، والتوحيد لابن منده.(1/9)
ومنها ما سمي بأسماء أخرى، كالرد على الجهمية والزنادقة فيما شكوا فيه من متشابه القرآن للإمام أحمد، والرد على الجهمية لعثمان ابن سعيد الدارمي، والرد على بشر المريسي للدارمي أيضاً، ومنها ما له أسماء خاصة كالشريعة للآجري، والإبانة لابن بطة (الإبانة الصغرى، والإبانة الكبرى)، وشرح اعتقاد أهل السنة الذي هو من أوسعها للالكائي.
هذه كتب ضمنها مؤلفوها العقيدة، وأرادوا بذلك أن يخلصوا أمر المعتقد حتى لا تضمحل عقيدة أهل السنة.
ومع كثرة هذه الكتب مما ذكرنا، وغيرها كثير، لما انقضى القرن الثالث آخر القرون المفضلة أميتت هذه الكتب مع الأسف، وأصبحت مخزونة لا يعترف بها ولا تُقرأ، ولا تُدرَّس إلا نادراً وبصفة خفية، وتمكن مذهب الأشاعرة ومذهب المعتزلة أيما تمكن، وانتشر الإكباب عليه، وكثرت الدروس والكتب التي تؤلف فيما يتعلق بهذه العقائد؛ عقيدة الأشعرية وعقيدة المعتزلة، وكادت السنة وكتبها أن لا يكون لها ذكر، بل كاد مذهب الإمام أحمد أن يضمحل، ولم يبق أحد عليه إلا قلة.
وفي آخر القرن الرابع وأول القرن الخامس بدأ يظهر مذهب الإمام بسبب القاضي أبي يعلى رحمه الله، فإنه لما اعتنق هذا المذهب وتولى القضاء، وكان عالما جليلا، وكان من أبرز أهل زمانه، ولم يوجد للقضاء من يتولاه مثله أظهر هذا المذهب.
ومع ذلك فإنه هو وأساتذته الذين قرأ عليهم في بعض الكلام قد تأثروا بشبه المتكلمين، ولكن لما كان على مذهب الإمام أحمد لم يرد ما روى عنه، فألف رسالة فيما يتعلق بصفة العلو وأملاها على تلامذته، ولما كتبها وأملاها قامت الدنيا، وأنكر عليه أهل زمانه، وقالوا: القاضي أبو يعلى ممثلٌ، القاضي مشبه، وكادوا يسعون في إبعاده وعزله، فاعتذر أنه إنما نقل كلام غيره، والرد لا يكون عليه بل يكون على غيره، على الذين نقل عنهم؛ وأما هو فإنه ناقل.(1/10)
ولا شك أن هذا دليل على غربة السنة في تلك القرون؛ القرن الرابع والقرن الخامس وما بعدهما. وبالتتبع لهذه القرون: الرابع والخامس والسادس وأغلب السابع لا تجد فيها من هو على مذهب السنة إلا من هو مستخفٍ، ولو كان حنبلياً، وما ذاك إلا أنهم قرؤوا على مشايخ لهم، وأولئك المشايخ قرؤوا علم الكلام على علمائهم، ولما قرأوه تمكن من نفوسهم، وتمكنت هذه الشبهة التي هي إنكار صفة العلو، وإنكار الصفات الذاتية، وإنكار الكثير من الصفات الفعلية، فتمكنت من النفوس، فصار ذلك سبباً في انحرافهم عن عقيدة أهل السنة، وهم السلف والأئمة الأربعة الذين يقتدى بهم في الفروع فإنهم كلهم والحمد لله على معتقد واحد في الأصول.
ومع ذلك يفتخر كثير منهم بانتمائهم إليهم ويخالفونهم في أصل الأصول الذي هو باب العقيدة، فتجدهم يقولون: نحن على مذهب الشافعي، ولكن في باب العقيدة على مذهب الأشعري، ولا يتمسكون بمذهب الأشعري الصحيح، ولا بمذهب غيره من السلف، وإنما بالمذاهب التي تلقوها من مشايخهم المتأخرين، الذين تلقوا هذه العلوم من المتكلمين.
ولا شك أن أولئك لما كثر الخوض منهم في علم الكلام، وفي التدقيق في تلك المسائل الخفية كانت لها نتيجة سيئة، وهي أنها أوقعت كثيراً منهم في الحيرة، تحيروا ماذا يعتقدون؟، وما هي العقيدة التي تنجيهم؟
ذكر شيخ الإسلام في أول الحموية، وابن أبي العز في شرح الطحاوية قصصاً لبعض أولئك الحيارى المتهوكين؛ منها قصة الرازي من علماء المتكلمين وهو أبو عبدالله، ويقال له: ابن الخطيب صاحب التفسير الكبير، وصاحب تأسيس التقديس الذي رد عليه شيخ الإسلام بكتابه (نقض التأسيس) ذكر أنه إما أنشأ أبياتاً، وإما استشهد بها، وهي التي يقول فيها:
نهاية إقدام العقول عقال وأكثر سعي العالمين ضلال
وأرواحنا في وحشة من جسومنا وغاية دنيانا أذى ووبال
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا سوى أن جمعنا فيه قيل و قالوا(1/11)
ثم يقول: (لقد تأملت الطرق الكلامية، والمناهج الفلسفية، فما رأيتها تشفي عليلاً، ولا تروي غليلاً، ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن: اقرأ في الإثبات قوله تعالى: (الرحمن على العرش استوى)(طه:5)، (إليه يصعد الكلم الطيب)(فاطر:10)، واقرأ في النقى (ليس كمثله شيء)، (ولا يحيطون به علماً)(طه:110). ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي)اهـ.
فنحن نقول: ليته بقي على هذا، وليته كتب في هذا، ولكنه أضل بكثير من مؤلفاته مع سعة ما فتح عليه من العلوم.
ومنهم الجويني الذي يقال له: إمام الحرمين، له كتاب مطبوع مشهور في علم الكلام اسمه (الإرشاد) وله كتب غيره؛ ذكروا أنه لما حضره الموت تأسف على حياته، وقال: (لقد خضت البحر الخضم، وتركت أهل الإسلام وعلومهم، وخضت في الذي نهوني عنه، والآن إن لم تدركني رحمة ربي فالويل لابن الجويني، وها أنا أموت على عقيدة عجائز نيسابور).
تمنى في آخر حياته أنه ما خاض في هذه العلوم أصلاً، وكذلك الشهرستاني صاحب الملل والنحل ذكروا عنه أنه يقول: (أكثر الناس شكاً عند الموت أهل الكلام).
وغيرهم كثير؛ هذه نهاية أولئك المتكلمين، ونهاية معلوماتهم.
ومع ذلك وللأسف فالبعض متمسكون بهذه العقائد، ويؤلفون فيها المؤلفات، ويسمونها بمؤلفات التوحيد نظماً ونثراً، مثل العقائد النسفية على مذهب الأشاعرة، ومثل نظم الجوهرة، ومنظومة الشيباني -وإن كانت أخف- ولكن فيها بعض الانحراف القليل. ومثل بدء الأمالي ... إلخ.(1/12)
وهذه العقائد -من عقائد الأشاعرة- مطبوعة في مجموع المتون، ولها شروح مشهورة، هذه العقائد اعتقدوها، وألفوا فيها، واشتهرت بينهم وبين تلامذتهم، ومن كان منهم من أهل الحديث ألف في العقيدة، ولكن لا يجرؤ أن يصرح بمذهب السلف، ويفصح بما عليه الأئمة، ومن أقربهم وأحسنهم الطحاوي صاحب العقيدة المشهورة، وكان شافعياً ثم تحول حنفياً وتعصب للمذهب الحنفي، وألف (العقيدة الطحاوية)، وذكر فهيا بعض العبارات المنكرة التي اشتهرت في زمانه عن المتكلمين، مثل قوله: إن الله منزه عن الحدود والغايات، والأبعاض، والأعراض، لا تحويه الجهات الست كسائر المبتدعات.
والشارح رحمه الله الذي شرحها (ابن أبي العز) كان من أهل السنة، ولكن شرحها كثير من الأشاعرة وسلكوا فيها مسلك المعتزلة أو مسلك الأشاعرة، وحمَّلوها ما لا تطيق، وصرفوا مدلولاتها.
وهكذا الرسالة التي كتبت عن الإمام أبي حنيفة، يمكن أنه أملى بعضها، وأخذها بعض تلامذته وتسمى (الفقه الأكبر)، نقل منها شيخ الإسلام بعض النقول في الحموية، وكذلك ابن أبي العز في شرح الطحاوية.
ولكن يظهر أنه قد دخلها التغيير من بعض المتأخرين الذين انحرفوا في بعض الاعتقاد؛ فأدخلوا فيها كثيراً من التأويلات، وشرحها كثير ممن هو على مذهب الأشاعرة أو مذهب منكري الصفات، وأنكروا ما كان عليه السلف رحمهم الله، ولا شك أن سبب ذلك كثرة ما تلقوه عن مشايخهم الذين كانوا على هذا المذهب الذي هو تأويل وتحريف الصفات وما أشبهها.(1/13)
وهكذا بقيَّةُ هذه العصور، وهذه القرون؛ كان السائد فيها والمنتشر هو المذهب الأشعري، ومعروف أن الأشعري هو أبو الحسن من ذرية أبي موسى؛ عالم مشهور ظهر في القرن الثالث، كان في أول أمره معتزلياً على طريقة أبي هاشم الجبائي وأبي الهذيل العلاف، ونحوهما من المعتزلة، ثم نزل عن هذه العقيدة لما ظهر له تهافتها، وانتحل مذهب الكلابية أتباع عبدالله بن سعيد بن كلاب، وكان ابن كلاب هذا عالماً جدلياً؛ سمي بذلك لأنه إذا احتج كانت حجته قوية بمنزلة كلاب الصناع الحدادين التي تمسك الحديد، أي إنه في قوة جدله واحتجاجه منزلة هذا الكلاب.
ومع ذلك فإنه قد تأول كثيراً من الصفات ولم يثبت إلا بعضها، فانتحل أبو الحسن الأشعري عقيدته في الإقرار بسبع صفات، وإنكار ما سواها، وألف كتباً كثيرة على هذا المذهب، وقضى عليها أكثر عمره، أي نحو أربعين سنة، وهو يؤلف على هذا المذهب، حتى اشتهرت كتبه وتلقاها الجم الكثير والجمع الغفير.
وفي آخر حياة أبي الحسن مَنّ الله عليه ، وقرأ بعض كتب السلف، فرجع عما كان يعتقده إلى مذهب السلف، وألف رسالته المطبوعة التي سماها (الإبانة في أصول الديانة) رسالة مختصرة ألفها على مذهب السلف، وألف أيضاً كتابه (مقالات الإسلاميين) الذي جعله في الفرق.
ولما أتى على مذهب أهل السنة ذكره صريحاً، وذكر عقيدتهم التي يمكن القول أنه نقلها عن كتب الإمام أحمد أو غيره، مما يدل على أنه انتحل عقيدة أهل السنة أخبرا فمقالته عن أهل السنة تدل على أنه منهم بدرجة أنه صرح بقوله: و بما قاله إمام أهل السنة أحمد بن حنبل نضر الله وجهه وجملة مقالنا أنا نقول كذا وكذا، وقد نقله أيضاً ابن القيم في أول كتابه (حادي الأرواح) وفي بعض كتبه.
وبكل حال؛ هذا المذهب الذي عليه الآن الأشاعرة ليس هو حقاً مذهب الأشعري؛ لأن الأشعري قد رجع عنه، إنما هو مذهب الكلابية.(1/14)
هذا بعض ما كان عليه هذا المعتقد في هذه الأزمنة، والحنابلة طوال هذه الأزمنة الغالب أنهم يتتلمذون على أشاعرة، ومنهم الإمام ابن قدامة حيث نجد أن تلامذته ومشايخه وزملاءه في العقيدة من شافعية، ومن حنفية، ومن مالكية على المذهب الأشعري.
ولكن لأبد أنه وصلت إليه كتب الإمام أحمد، وكذلك كتب السلف، فلم يوافق أهل زمانه بل وافق شيخه، ووافق مذهبه الذي هو مذهب الإمام أحمد، فألف كتباً كثرة فيما يتعلق بالعقيدة، منها رسالته التي في إثبات صفة العلو؛ صريحة في أنه يرى إثبات هذه الصفة لله تعالى، ولو أنكرها من أنكرها.
ومنها رسالة في ذم التأويل الذي ابتلي به زملاؤه وأساتذته من الأشاعرة ونحوهم.
ومنها هذه الرسالة التي نحن بصددها: (لمعة الاعتقاد الهادي إلى سبيل الرشاد) سماها لمعة لأنها ذات أدلة صحيحة صريحة مضيئة تلمع لمعاناً كلمعان السرج القوية، وكلمعان النجوم في الليلة المظلمة، يعني أنها ذات أدلة واضحة وذات دلالة لا خفاء فيها في الاعتقاد.
(لمعة الاعتقاد) أي أدلة الاعتقاد التي هي صحيحة ذات لمعان وضياء لا يحتمل الخفاء، ولا يجوز أن يخفي أو تخفى دلالته إلا على عُمي البصائر.
فهذا هو قصده، ولكن إذا قرأتها تجد أنه رحمه الله لم يجرؤ أن يفصح بموجب الأدلة وبدلالتها بل هو يذكر الأدلة، ويورد بعض المعاني، حيث إن أهل زمانه لا يحتملون الإفصاح، وإلا فهو قد أفصح في كتابه (العلو) بإثبات صفة العلو ونحو ذلك، ولكن يخشى أن يشنع عليه أهل زمانه بأنه مشبه، وبأنه ممثل، فألفها واقتصر على ذكر الأدلة، ولكنه مع ذلك ذكر أدلة صريحة واضحة الدلالة لا تحتمل تأويلاً، وقد أبطل التأويل في رسالته الأخرى، وكذلك أيضاً تتبع عقيدة أهل السنة في الصفات، والإيمان، والقدر، والصحابة، وفي إثبات الرؤية. وغير ذلك مما هو من أصل العقيدة، مما يدل على أنه رحمه الله استوفى عقيدة أهل السنة.(1/15)
وقد شُرحت هذه العقيدة من بعض المشايخ المتأخرين، وقد كَتْبتُ عليها شرحاً مختصراً، وهو التعليقات التي كتبناها عليها، وكنت أمليتها في سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة وألف على طلاب معهد إمام الدعوة لما قمت بتدريسها في تلك السنة وفي السنة التي قبلها، وكانوا من طلاب المتوسطة، والغالب أنهم لا يتحملون الإطالة، فأمليتها عليهم كمرجع لهم ليكون موضحاً لدلالتها ونحو ذلك، ثم لم يقدر لي أن أراجعها طوال هذه السنين، وأخذها بعض الأخوة وطبعها ووقع فيها بعض الأخطاء، وبعض ما يحتاج إلى تنبيه.
وقد صححنا بعض المسائل في بعض النسخ، وعلى الذين أخذوها من المكتبات أن يصححوا النقص الذي فيها، أما بقية العلماء، فما أذكر أنها شرحت إلا شرح الشيخ ابن عثيمين متأخراً، وما أذكر أن أحداً اعتنى بها ولا شرحها، ولعل السبب أن علماء الحنابلة رحمهم الله كان جل عملهم واشتغالهم بالمسائل الفقهية. وما اشتغل بالعقائد إلا القلة منهم، ثم في عهد شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، لمَّا أن الله وهبه علماً وقوة وجراءة وحفظاً وذكاءً وقوة أسلوب، ووهبه أيضاً شهرة بين الناس، ومحبةً اشتهر بها في القاصي والداني بما معه من المعلومات - لم يبال بأهل زمانه ولا بمن خالفه بل أفصح بما يعتقده، وجدد عقيدة السلف، وكتب فيها المؤلفات التي لا يستطيع أحد أن يعارضه فيها، وبين فيها ما هو أجلى من الشمس، كما هو مبسوط أو مختصر في مؤلفاته الكبيرة المبسوطة مثل: (منهاج السنة النبوية). فإن نحو ثلثه الأول مناقشة في العقيدة، وفي الأسماء والصفات؛ لأن الرافضي الذي رد عليه بدأها بالرد على أهل السنة أنهم مجسمة، وأنهم مشبهة.
كذلك كتابه (العقل والنقل) الذي طبع في نحو أحد عشر مجلداً، وهو أوضحها وأدلها.
كذلك (نقص التأسيس) والذي طبع بعضه ولعله أن تُطبع بقيته.(1/16)
كذلك رسائله الكثيرة في المجموع نحو أربعة مجلدات، كلها في الأسماء والصفات، من الثالث إلى السادس، وهكذا غيرها؛ لا شك أنه ما أفصح بذلك إلا لأن الله تعالى وهبه علماً وقدرة على البيان، فلم يستطع أهل زمانه أن يقاوموه، فهو الذي جدد مذهب أهل السنة، فرحمه الله وأكرم مثواه.
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله:
الحمد لله المحمود بكل لسان، المعبود في كل زمان، الذي لا يخلو من علمه مكان، ولا يشغله شأن عن شأن، جل عن الأشباه والأنداد، وتنزه عن الصاحبة والأولاد، ونفذ حكمه في جميع العباد، لا تمثله العقول بالتفكير، ولا تتوهمه القلوب بالتصوير (فا طر السموات والأرض جعل لكم من أنفسكم أزواجا ومن الأنعام أزواجاً يذرؤكم فيه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير)(الشورى:11)، له الأسماء الحسنى والصفات العلى (الرحمن على العرش استوى * له ما في السموات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى * وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى)(طه:5-7).
شرح:
نبدأ في شرح هذه المقدمة ثم ما بعدها، فقد ذكرنا في مقدمة الشرح سبب تأليفه لها، وهو أنه فقيه أشغل وقته في الفقه، ويظهر ذلك في مؤلفاته، ولكن لم يمنعه أشتغاله بالفقه أن يكتب في العقيدة، فألف فيها عدة مؤلفات، ولكنها نبذ صغيرة، وهو أبو محمد عبدالله بن محمد بن قدامة المقدسي الحنبلي رحمه الله، صاحب المؤلفات في الفقه؛ كالمغني، والكافي، والمقنع، والعمدة، والروضة، وغيرها من المؤلفات.
يقول في هذه المقدمة: (بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله المحمود بكل لسان، المعبود في كل زمان، الذي لا يخلو من علمه مكان، ولا يشغله شأن عن شأن).
أولاً : ابتدأ كغيره بالبسملة اقتداء بالكتاب العزيز، حيث بدأ بالبسملة، وبدأ بالحمد لله و عملاً بالحديث المشهور: (كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله)، وفي رواية: (بالحمد لله) (فهو أبتر)، أو (أقطع)، أو (أجذم)، والمعنى أنه ناقص البركة.(1/17)
يذكر المؤلفون هذا الحديث في مقدمات شروحهم كما ذكره البهوتي في مقدمة شرحه على زاد المستقنع، وشرحه على الإقناع، وشرحه على المنتهى، وغيره. ثم بعد ذلك ابتدأ بالحمد لله.
والحمد في اللغة : الثناء على الإنسان، كالثناء عليه بخصاله الحميدة، وبعقله، وبديانته، وبأمانته، وبكرمه، وبجوده، وبحلمه، وبصفحه، وبصدقه، يعني بالخصال التي يحمد عليها، التي يبالغ في الثناء عليه لأجلها، فهذا الثناء يسمى حمداً.
فإذا أثنى عليه بأشياء لا صنع له فيها كما لو أثنى عليه بأنه جميل، أو طويل، أو قصير، أو لجمال صورته، وطول قامته، وفصاحته، وذكائه ونحو ذلك، فهذا الثناء يسمى مدحاً.
والفرق بين المدح والحمد:
الحمد: الثناء بالصفات التي تخلق بها، كالصدق، والأمانة، والعلم، والحلم، وما أشبهها.
وأما المدح: فهو الثناء عليه بالصفات التي جبل عليها، ولا صنع له فيها كالجمال، والطول، والخلقة، وما أشبه ذلك.
فالله تعالى يثنى عليه بكل الصفات، فيثنى عليه بصفات الكمال، وبصفات الجمال، وبصفات الأفعال. فيستحق أن يثنى عليه بكل الصفات، فهو أهل للحمد، وهو المستحق له، ولأجل ذلك حمد نفسه في كثير من السور كالفاتحة، وسورة الأنعام، وسورة الكهف، وسورة سبأ، وسورة فاطر، ابتدأها الله بالحمد لله رب العالمين.
وكذلك أخبر بأنه المستحق للحمد، وبأنه يُثنى عليه بالحمد في قوله تعالى: (وقيل الحمد لله رب العالمين)(الزمر:75)، (وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين)(يونس:10)، وغير ذلك، وكثرة ذكر الحمد دليل على أنه ذكرٌ يذكر به الله، ويمدح به، ويثنى عليه به، وأنه يحبه ويحب من يحمده، ويحب من يثني عليه ويثيبهم على ذلك، وأنه أهل للحمد وأهل للثناء.
أما تعريف الحمد في الاصطلاح: فذُكر له تعريفان:(1/18)
التعريف الأول: إن الحمد فعل ينبئ عن تعظيم المنعم بسبب كونه منعماً على الحامد وغيره، وهذا كأنه يختص بحمد المنعم يعني لا يحمد إلا بسبب كونه منعماً، وأن الحمد فعلٌ ينبئ عن تعظيمه.
ولا شك أنه مستحق للتعظيم، ولا شك أن الحمد تعظيم، ولكن الصحيح أن الله تعالى يحمد على كل حال، يحمد على الخير، ويحمد على الضرر، وذلك أنه إنما يسلط الضرر والشر أو البلاء لحِكَمٍ هو أعلم بها، فلأجل ذلك يحمد على الخير، ويحمد على الشر.
ولا يحمد على الشر سواه، وذلك أنه لا يبتلي بالشر كالمصائب والآفات والفقر والأذى والأمراض ونحوها، إلا لحكم ومصالح، فلأجل ذلك تحمده إذا أصابك مرض وألم، وإن أصابك فقر أو أذى فإنك تحمده على ذلك، وإن أصابك سجن أو جلدٌ أو أذى من خلق يسلطهم الله عليك فإنك تحمد الله على ذلك.
وإن كان ذلك لا يستدعي الفرح بذلك، ولا الرضا به، وبكل حال فهذا يبين أن في هذا التعريف شيء من الخلل وهو قولهم: إنه فعل ينبئ عن تعظيم المنعم بسبب كونه منعماً على الحامد، وغيره، فالله تعالى يعظَّم لكونه منعماً، ولكونه مبتلياً.
التعريف الثاني للحمد: أن الحمد ذكر محاسن المحمود مع حبه وتعظيمه وإجلاله.(1/19)
ولعل هذا التعريف أسلم، ولكن الحمد لا يستلزم أن تذكر المحاسن كلها، ولكن إنما يحمد حمداً مطلقاً، فتقول: الحمد لله، ولو لم تذكر محاسنه التي حمدته عليها، فقولهم: ذكر محاسن المحمود، كأنهم يقولون: إن ذلك على وجه الإجمال، نحمده أي نذكر محاسنه سواء بالقلب أو باللسان، فمثلاً في أول سورة الفاتحة ابتدأها الله بقوله تعالى: (الحمد لله رب العالمين)(الفاتحة:1) هذا من محاسنه (الرحمن الرحيم)(الفاتحة:2) هذا من محاسنه (مالك يوم الدين)(الفاتحة:3) هذا من محاسنه، وكذلك في سورة الأنعام: (الحمد لله الذي خلق السموات والأرض)(الأنعام:1)، هذا من محاسنه، وفي أول سورة الكهف (الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب)(الكهف:1) هذا من محاسنه، (ولم يجعل له عوجاً)(الكهف:1) هذا من محاسنه، وأشباه ذلك.
والحمد هو ذكر محاسن المحمود وذكر فضائله، وذكر صفاته الحميدة مع حبه وتعظيمه وإجلاله، أي إن الحمد يستدعي من الحامد هذه الثلاثة: الحب، والتعظيم، والإجلال.
فهذان التعريفان اصطلاحيان للحمد، ولا شك أنه سبحانه أهل الحمد كما شرع ذلك في الصلاة، فالمصلي إذا رفع من الركوع يقول الإمام: سمع الله لمن حمده، والمأمومون والإمام كلهم يحمدون الله، ويقولون: (ربنا ولك الحمد ملء السماوات، وملء الأرض، وملء ما شئت من شيء بعد، أهل الثناء والمجد، لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد) كل ذلك في صفة الحمد.(1/20)
ولا شك أن العبد إذا حمد الله، كان قد عبده بهذه الكلمة (الحمد لله)، واجتمع كونه معظماً له، ومحباً، ومجلاً له بهذه الكلمة، فقد أدى عبادة، وأي عبادة، وإن كان للحمد أيضاً أسباب إذا تجددت نعمة فإنك تحمده عليها ونعم الله تجدد بالغدو والآصال كما في قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله ليرضى عن العبد يأكل الأكلة أو يشرب الشربة فيحمده عليها). وأينا يستغني عن الأكل والشرب في اليوم عدة مرات، إذن فإذا تجددت هذه النعمة، فإنك تحمده عليها.
كذلك أيضاً تقول بعد الفراغ من التخلي: (الحمد لله الذي أذاقني لذته، وأبقى في منفعته، وأذهب عني أذاه)، أو بعد الخروج من الخلاء فتقول: (الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني)، فلا يستغني الإنسان أن يحمد الله في كل الحالات، إذاً فالله تعالى محمود دائماً إما بلسان الحال، وإما بلسان المقال.
وقوله: الحمد لله المحمود بكل لسان، قد تقول: كيف يكون ذلك مع أن كثيراً من الألسن لا يعرفون الله، أولا يعترفون بفضله فضلاً عن أن يحمدوه؟
والجواب: أن الألسن ناطقة بحمده إما بلسان الحال، وإما بلسان المقال، فألسنة الكفرة ولو كانت لا تذكر الله، ولو كانوا ينسبون النعم إلى غير الله، ولو كانوا يكفرون به وبنعمه، ولو كانوا يصرفون العبادة لغيره، ولكن لسان حال أحدهم متعرف بأنه محتاج إلى رب، وأنه لا يستغني عنه طرفة عين، لسان حال أحدهم معترف بأنه مخلوق مفتقر إلى الخلاق، وذلك الخالق له الفضل عليه، فلا بد أن يكون صاحب الفضل أهلاً أن يثنى عليه، وأهلاً أن يحمد إذاً، فهو حامد بلسان حاله شاء أم أبى.(1/21)
فهذا دليل على أن الله تعالى: محمود بكل لسان، من لسان حال، أو لسان مقال، وقد ذكر الله تعالى أن جميع المخلوقات ذليلة له كما في قوله تعالى: (يسبح لله ما في السموات وما في الأرض الملك القدوس العزيز الحكيم)(الجمعة:1)، (ولله يسجد ما في السموات وما في الأرض من دابة)(النحل:49)، (ألم تر أن الله يسجد له من في السموات ومن في الأرض)(الحج:18)، إلى آخر آيات السجود.
والتسبيح لا شك أنه عبادة، وأنها قطعية الحصول، ولو كرهاً، ولهذا قال تعالى في آية الرعد (ولله يسجد من في السموات والأرض طوعاً وكرهاً وظلالهم)(الرعد:15) يعني وإن لم يسجدوا فإنه يسجد ظلالهم، إذا فهم يعترفون شاءوا أم أبوا بأنهم خاضعون وذليلون لله تعالى.
قوله:
الحمد لله بكل لسان، المعبود في كل زمان.
شرح:
لا شك أنه سبحانه مستحق أن يعبد في كل زمان، وما ذاك إلا أنه رب العباد في كل الأزمنة، والرب هو المعبود، ولأجل ذلك أمر عباده بأن يعبدوه لكونه رباً، يقول الله تعالى: (يا أيها الناس اعبدوا ربكم)(البقرة:21) بدأ بكونه رباً، وما دام أن الخلق كلهم مربوبون فإن عليهم أن يعبدوا ربهم، فالرب تعالى معبود في كل زمان. وإن كان هناك من لا يعبد الله عبادة حقيقية كالكفار والمنافقين ونحوهم، ولكنهم في الأصل عبيد لله لا يستغنون عن التعبد له.
وأيضاً فمعلوم أن كل زمان من الأزمنة لا تخلو فيها الأرض عن أن يوجد فيه عباد عابدون، ولو خليت بلاد لم تخل البلاد الأخرى، ولو خلي يوم لم يخل اليوم الثاني، فلابد في زمان وساعة، ومن وجود من يعبد الله، فالله تعالى معبود في كل زمان.
قوله:
الذي لا يخلو من علمه مكان ولا يشغله شأن عن شأن.
شرح:(1/22)
فهذا مبدأ الدخول في الصفات، بدأ في صفات الله تعالى بهذه الجملة: (لا يخلو من علمه مكان) معلوم لكل مؤمن أن ربنا سبحانه وتعالى مطلع علينا وعالم بأحوالنا ويعلم أسرارنا وعلانيتنا فلأجل ذلك يذكر دائماً هذا الأمر مثل قوله تعالى: (ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد)(ق:16) يعلم الله خطرات النفس ووساوس الصدر، وهواجس القلب بل يعلم أخفى من ذلك.
فسر بعض العلماء قوله تعالى: (يعلم السر وأخفى)(طه:7) أن السر: ما أضمره العبد في قلبه ولم يحرك به شفتيه فضلاً عن أن يتكلم به عند أحد، وأخفى من السر هو ما سوف يخطر له فيما بعد، قبل أن يحدث به نفسه، ولكن الله يعلم أنه سيفعله فيما يُستقبل أو سيخطر بباله.
إذاً فالله تعالى، لا يخلو من علمه مكان أية مكان صغير أو كبير يعلم ما يكون فيه، يعلم من يكون في هذا المكان، وعددهم، ونياتهم وأسرارهم، وعلانيتهم، ولا يشغله هذا عن المكان الثاني وعن البلاد الثانية، وعن أهل السماوات وعن أهل الأرض، فإنه كل يوم هو في شأن لا يشغله شأن عن شأن، يعلم كل مكان وما يحدث فيه.
قلت: إن هذا أول ما بدأ في الصفات حيث ذكر علم الله تعالى، وأنه واسع ومحيط بالأشياء، وعليم بها، ويفسر ابن قدامة رحمه الله بهذه الكلمة (الآيات التي فيها المعية) يشير إلى أنها محمولة على العلم كقوله: (وهو معكم أين ما كنتم)(الحديد:4).
ذلك معية العلم والاطلاع والقرب والهيمنة، والقدرة، والنظر، والرؤية، وهو معكم أين ما كنتم يراقب ويطلع عليكم، ويعلم أسراركم، ويعلم أعمالكم، وكذلك قوله تعالى: (ألم تر أن الله يعلم ما في السموات وما في الأرض ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم)(المجادلة:7) يعلم ما يسرونه وما يتناجون به.(1/23)
ولعل ابن قدامة رحمه الله يرد بهذه الجملة على المعتزلة والحلولية والفلاسفة والكثير من الصوفية والجهمية، فهؤلاء عقيدتهم -والعياذ بالله- إنكار صفة العلو، وادعاء أن الله بذاته في كل مكان، فلذلك قال: (لا يخلو من علمه مكان) رداً على من يقول: إنه بذاته في كل مكان، وهذا قول الحلولية الذين يدعون أنه حال بذاته في المخلوقات كلها، وهذا عين الكفر وعين الجحود، فإن الرب تعالى بائن من خلقه مع كونه مستوياً على عرشه.
قوله:
ولا يشغله شأن عن شأن.
شرح:
يقول بعض الخطباء في الثناء على الله تعالى: لا تشتبه عليه اللغات، ولا تغلطه كثرة المسائل مع اختلاف اللغات، وتفنن المسؤولات.
هذا معنى لا يشغله شأن عن شأن، لا يشتغل بسماع هذا عن هذا، بل يدعوه مئات الألوف وألوف الألوف في لحظة واحدة، ويسمع دعاءهم، ويعرف حاجاتهم، ويعرف مطالبهم، ويجيب من يجيبه منهم، ويعطيه سؤله، ولا شك أن هذا يستلزم أنهم يعظمونه إذا عرفوا أنه المستحق لهذا التعظيم، وأنه بهذه الصفة بحيث لا يشغله شأن عن شأن، فإن ذلك يحملهم على أن يطيعوه وأن يعظموه، ويجلوه، ويعتقدوا أنه ربهم ومالكهم، وأنه هو المعبود وحده.
قوله:
جل عن الأشباه والأنداد، وتنزه عن الصاحبة والأولاد.
شرح:
هذه الجملة يؤخذ منها صفات السلب وصفات النفي، فإن صفات الله صفات سلبية، أو صفات ثبوتية، ولكن إذا أتت الصفات السلبية استلزمت الصفات الثبوتية، وإلا فالسلب المحض لا يمدح الله به نفسه حتى يتضمن صفة ثبوت يمتدح بها.(1/24)
فإن المدح إنما هو بالصفات المثبتة لا بالصفات المنفية، فإذا قال مثلاً: جلَّ عن الأشباه والأنداد، وتنزه عن الصاحبة والأولاد، فهذا نفي، وقد نفى الله ذلك عن نفسه في عدة آيات، كقوله تعالى: (ما اتخذ صاحبةً ولا ولداً)(الجن:3()، وكقوله تعالى: (ولم يكن له كفواً أحدا)(الإخلاص:4)، وكقوله تعالى: (فلا تجعلوا لله أنداداً)(البقرة:22)، وكقوله تعالى: (فلا تضربوا لله الأمثال)(النحل:74)، وكقوله تعالى: (ليس كمثله شيء)(الشورى:11)، وكقوله تعالى: (هل تعلم له سمياً)(مريم:65).
هذه كلها نفي وسلب، ولكن يمدح نفسه بهذا السلب لأنه يتضمن ثبوت أضداد هذه الصفات، وكذلك قوله تعالى (ما اتخذ صاحبة ولا ولداًَ)(الجن:3)، وكقوله تعالى: (وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولداً ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل)(الإسراء:111).
كل ذلك يستدعي صفة ثبوتية هي التفرد والوحدانية التي تستلزم الكمال فإنه إذا كان واحداً فرداً صمداً تصمد إليه القلوب، وتتوجه إليه الرغبات، ومع ذلك هو محيط بالمخلوقات، وعالم بها، ومع ذلك هو خالقها، ومدبرها وحده، أليس ذلك دليل العظمة؟ أليس ذلك دليل الكبرياء؟ لا شك أنه إذا تنزه عن أن يحتاج إلى صاحبة -يعني زوجة- لا يحتاج إلى ولد، لم يلد ولم يولد، وقد نزه الله نفسه عن الولد، وأخبر بأن هذه فرية قالها المشركون، وأنها أعظم فرية وأكبرها، قال تعالى: (تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هداً * أن دعوا للرحمن ولداً * وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولداً)(مريم:90-92).
يعني أن مقالتهم هذه تكاد أن تتفطر لها السماوات، وتنشق لها الأرض، وتخر لها الجبال، وتتفطر لها المخلوقات العظيمة لعظم شناعتها، حيث جعلوا لله تعالى ولداً مع أنه مستغن عن الولد والوالد والشريك والنظير والمثيل والند والكفؤ؛ لماذا؟(1/25)
لأن هذه الأشياء تستلزم الحاجة، أو تستلزم المثلية، تستلزم أنه بحاجة إلى الولد كالإنسان الذي بحاجة إلى ولده يسانده ويساعده ويقوم مقامه، ويعينه عند عجزه، ويخلفه بعد موته.
والرب تعالى ليس كذلك، وليس بحاجة إلى الولد ولا إلى الزوجة، ولا إلى شريك، فهو له الكمال المطلق، إذاً فنفي الصاحبة يستلزم عدم الحاجة ويثبت الغني، وكذلك نفي الولد يلزم منه إثبات الكمال، وكذلك نفي الشريك، ونفي الند، ونفي المثيل، وما أشبه ذلك.
وردّ أيضاً على من أثبت ذلك من المشركين ونحوهم كقوله تعالى: (وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله)(التوبة:30)، وقوله تعالى: (وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثاً أشهدوا خلقهم)(الزخرف:19). وقوله تعالى: (فاستفتهم ألربك البنات ولهم البنون * أم خلقنا الملائكة إناثاً وهم شاهدون * ألا إنهم من إفكهم ليقولون * ولد الله وإنهم لكاذبون * اصطفى البنات على البنين * ما لكم كيف تحكمون*(الصافات:149-154)، وكقوله تعالى: (وجعلوا بينه وبين الجنة نسباً)(الصافات:158).
زعم بعض جهلة العرب: أن الملائكة بنات الله، وأن بينه وبين الجنة نسباً، تعالى الله عن قولهم ذلك كله؛ فردّ عليهم، وأثبت وحدانيته، فبذلك نعرف أن كل نفي فإنه يستدعي ثبوتاً، وإلا فالنفي المحض ليس بمدح.
رد شيخ الإسلام رحمه الله في رسالته (التدمرية) في قاعدة من القواعد على من يصف الله تعالى بالصفات السلبية التي هي عدم محض، وكذلك في كثير من كتبه، وأخبر في (الحموية) أن الله بعث رسله بنفي مجمل، وإثبات مفصل، وأن الإثبات يقصد بذاته والصفات الثبوتية مقصودة لذاتها.(1/26)
وأما الصفات السلبية فمقصودة لغيرها، والله تعالى نزه نفسه بقوله تعالى: (ما اتخذ صاحبة ولا ولداً)(الجن:3)، (بديع السموات والأرض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شيء)(الأنعام:101)، فإذا نزه نفسه عن مثل هذا دل على صفة الكمال، وتنزه عن الشركاء والأمثال، وذلك يثبت وحدانيته حتى لا يعبد غيره.
وفي الآية التي في سورة سبأ يقول ابن القيم رحمه الله: إنها قطعت جذور الشرك يعني عروقه، وهي قوله تعالى: (قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير * ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له)(سبأ:22-23).
فنفى أربع حالات:
الملك ملك استقلال، فأما ما تملكه أنت من متاعك أو منزلك فليس ملك استقلال؛ لأنك أنت وهو ملك لربك وخالقك، أي لا يملكون ولو مثقال ذرة، فكيف يُعبدون؟.
وقد يقول قائل: نسلم أنهم لا يملكون، وأن الملك لله، قال تعالى: (لمن الملك اليوم لله الواحد القهار)(غافر:16) لكن يمكن أن يكون لهم شركة أي يمكن أن يكونوا شركاء الله فنفى ذلك بقوله تعالى: (وما لهم فيهما من شرك)(سبأ:22)، ولو شراكة في مثل الذرة.
وقد يقول قائل: نسلم أنهم لا يملكون وليسوا شركاء، ولكن يمكن أنهم أعوان لله، أي أنهم أعانوا لله في إيجاد الموجودات، فنفى ذلك بقوله تعالى: (وما له منهم من ظهير)(سبأ:22)، أي من معين ليس لله تعالى مظاهر ولا مساعد، ولا معين في إيجاد الموجودات بل هو المنفرد بذلك وحده؛ وإذا كان كذلك فإنه المستحق لأن يعبد وحده.
ثم نفى الشفاعة عنده إلا لمن أذن له، حتى لا يقولوا: هؤلاء شفعاؤنا عند الله.(1/27)
فإذا انتفى الشريك وانتفى الولد، وانتفى المعين، ونفيت الصاحبة، ونفي الند والنظير والكفؤ؛ أثبتت صفات الوحدانية والتفرد، فهذا مقتضى هذه الصفة، وهي أننا ننفي هذه النقائص حتى نثبت الوحدانية التي هي صفة كمال لا يشاركه في هذا الكمال ولا في هذه الوحدانية أحد، ولأجل ذلك من أسماء الله (وإلهكم إله واحد)(البقرة:163)، إثبات للوحدانية، وقوله تعالى: (قل هو الله أحد)(سورة الإخلاص:1) إثبات الأحدية، والأحد مبالغة في الوحدانية يعني هي أبلغ من أن يقول: (قل هو الله واحد)أحد: أي منفرد بالأحدية لا يشاركه في هذه الصفة غيره.
فإذا اعتقد المسلم ذلك عرف أنه المستحق لأن يعبد؛ جل وتنزه عن الشريك، وعن الصاحبة، وعن الند، والنظير، والمثيل.
قوله:
نفذ حكمه في جميع العباد.
شرح:
هذه صفة ثبوتية، فبعد ما ذكر الصفات السلبية ذكر الصفة الثبوتية، وهي أن حكمه ذاهب في جميع العباد، قال تعالى: (إن الحكم إلا لله)(يوسف:40): حكمه: أمره وتدبيره وتصرفه، لا راد لحكمه، ولا معقب لحكمه، ولا لقضائه، نفذ حكمه في جميع البلاد، وفي جميع العباد، وله الحجة في ذلك، ولله الحجة البالغة (قل فلله الحجة البالغة)(الأنعام:149)، فكونه يحكم فيهم بما يشاء معناه أنه يتصرف في ملكه لأنهم خلقه، ولأنهم ملكه، ولأنه المتصرف بهم وحده. فإذا كانوا ملكه فلا معقب لحكمه، ولا راد لقضائه، وحكمه نافذ فيهم شاءوا أم أبوا، هذا هو الأصل في أن حكم الله تعالى نافذ في الخلق كلهم أولهم وآخرهم، هذه كما قلنا صفة ثبوتية تثبت أن الحكم لله، ويعرف الفقهاء والأصوليون الحكم بأنه: إثبات أمر لأمر أو نفيه عنه.(1/28)
أما حكم الله تعالى فهو تقديره وتنفيذ قدره، فإذا قدر أمراً نفذ قدره أياً كان تقديره وتدبيره، وتصرفه هذا هو حكمه، ويمكن أن يكون حكمه أمره ونهيه، وإن كان قد يأمر من لا يفعل، فقد أمر الكفار بالإيمان، فما آمنوا، وأمر العصاة بالطاعة فعصوا، فهل يسمى هذا حكماً؟ نسميه حكماً شرعياً لا حكماً قدرياً بمعنى أن الحكم النافذ الذي لابد من وجوده هو الحكم القدري، هو الحكم الذي قضاه وقدره في الأزل، وحكم بوجوده، فلا راد له، وأما الحكم الشرعي وهو أنه شرع هذه الأحكام، وشرع الأوامر والنواهي وشرع الطاعات وحرم المحرمات، فهذا حكم شرعي ينفذ فيمن قدر الله إيمانهم لا فيمن قدر الله عصيانهم.
قوله:
لا تمثله العقول بالتفكير.
شرح:
من هنا أخذ أيضاً يبدأ في الصفات السلبية.
نعرف قبل ذلك أن قاعدة أهل السنة، أن الله تعالى لا يوصف إلا بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم: وذلك لأنه أعلم بنفسه وأعلم بخلقه، ورسوله صلى الله عليه وسلم أعلم بمن أرسله، فيقتصر في بعض الصفات ثبوتية أو سلبية على ما ورد، فقوله: (لا تمثله العقول بالتفكير) معناه أن القلوب تعجز عن أن تصل إلى مثل تمثيله، ولعل الدليل على ذلك قوله تعالى: (ولا يحيطون به علماً)(طه:110) أي مهما فكروا، ومهما سألوا لا يحيطون به علماً، يعجزون عن أن يمثلوا بعقولهم ذاته سبحانه.
كذلك لا تحيط به الظنون ولا العقول بالتفكير، ومن أدلة ذلك قوله: (ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء)(البقرة:255)، أي لا يصلون إلى علم من صفته إلا بما أوصله إليهم، فإذا لم يشأ لن يستطيعوا أن يصلوا إليه وكيف يعلمون صفة ذاته سبحانه مع أنه قد احتجب عن أن تصل إليه العلوم، أو الأوهام، أو التفكيرات، أو نحوها، وأخبر بعدم مماثلته لمخلوقاته بقوله: (ليس كمثله شيء)(الشورى:11).(1/29)
وقد ضرب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله مثلين في التدمرية يبين فيهما عجز الإنسان عن أن يصل تفكيره إلى تكييف الذات الربانية.
المثال الأول: مخلوقات الجنة، مع أنها مخلوقات، ولكن لا ندري ما كيفيتها، قصرت عنها أفهامنا، فقد ذكر الله أن أنهار الجنة تجري في غير أخدود، وهذا لا تدركه أفهامنا ولا تخيلاتنا، كيف يجري الماء على وجه الأرض، ولا يسيح ولا ينبسط في الأرض، أمر الله أعظم، وقدرة الله أعظم، وكذلك جميع ما ذكر في الجنة.
المثال الثاني : الروح التي بها حياة البدن عجزت الظنون عند تفكيرهم فيها، وعجزت العقول عن إدراك ماهيتها، فردوا عقولهم ووقفوا عند قوله تعالى: (قل الروح من أمر ربي)(الإسراء:58)، نحن نعرف أن الإنسان مركب من جسد وروح، فإذا خرجت الروح بقي الجسد جثة ليس فيه روح، وما هي هذه الروح؟ لا ندري عن ماهيتها، ولا ندري ما كيفيتها، عجزنا عن إدراكها، فكذلك بطريق الأولى عجزت عقولنا عن إدراك كيفية ذات الرب سبحانه، فهذا معنى كونه لا تمثله العقول، ولا القلوب بالتفكير، ولا تتوهمه، ولا تتخيله، ولا تصل إلى كيفية ذاته، بل كل ما خطر من صفةٍ للرب في بالك فإنه على خلاف ذلك.
ومهما خطر في بالك أن استواءه كذا، وأن كيفية نزوله كذا، وأن كيفية ذاته كذا وكذا، فإن الرب بخلاف ذلك، ليكون ذلك دليلاً على عجز هذه المخلوقات عن إدراك كنه ذاته، وعن معرفة ماهية ذاته فضلاً عن تحققها.
ومعلوم أن جميع الذين يدينون بالإسلام، أو يدينون بالعبودية لله تعالى؛ مسلم وكتابي وغيرهم، يعتقدون أن هذا الوجود لابد له من موجد، وأن الموجد الذي أوجده واجب الوجود، وقد اطلعنا على ذلك، ولكن باصطلاحات وبعبارات فلسفية منطقية، ويكفي أن نستدل على ذلك بقوله تعالى: (أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون)(الطور:35)، فإذا لم يكونوا خلقوا من غير شيء، ولم يكونوا هم الخالقين تعين أن لهم خالقاً، والخالق لابد أن يكون غنياً عما سواه وما سواه فقير إليه.(1/30)
وإذا كان كذلك فإن الخالق سبحانه لا يمكن أن يشابه المخلوق الذي تعتريه الآفات والتغيرات والنواقص التي تنزه عنها الخالق سبحانه، نزه نفسه عن الموت كما في قوله تعالى: (وتوكل على الحي الذي لا يموت)(الفرقان:58)، ونزه نفسه عن النوم، وعن النعاس، قال تعالى: (لا تأخذه سنة ولا نوم)(البقرة:255)، السنة هي النعاس، وهو مقدمة النوم وما أشبه ذلك.
فهذه صفات تبين تنزهه عن مشابهة المخلوقات ، وتنزهه عن أن تدركه عقول المخلوقين، أن يعرفوا كيفية صفة من صفاته فضلاً عن كيفية ذاته.
ثم استدل بقوله تعالى: (ليس كمثله شيء وهو السميع البصير)(الشورى:11)، فهذه الآية رد الله فيها على الطائفتين الممثلة والمعطلة.
أولها رد على الممثلة: (ليس كمثله شيء) وآخرها (وهو السميع البصير) رد على المعطلة، ولأجل ذلك كان آخرها ثقيلاً على هؤلاء المعطلة حتى روي عن رئيس من رؤسائهم وهو ابن أبي دؤاد أنه قال للخليفة المأمون: أحب أن تكتب على الكعبة، أو على كسوة الكعبة: ليس كمثله شيء وهو العزيز الحكيم، أراد أن يحرف القرآن؛ لأن كلمة وهو السميع البصير، تطعن في معتقد ابن أبي دؤاد الذي ينكر السمع والبصر، بل ينكر كل الصفات الذاتية، والصفات الفعلية، فلذلك ذكر ابن قدامة في مقدمة كتابه هذه الآية (ليس كمثله شيء وهو السميع البصير)(الشورى:11).
والممثلة هم الذين يقولون: إن صفات الله كصفات المخلوقين، فيجعلون لله يداً كيدنا، ولله وجهاً كوجهنا، ولله قدماً كقدمنا، ولله كذا وكذا؛ تعالى الله عن ذلك، فرد الله عليهم بهذه الآية، وبآيات أخرى كقوله تعالى: (هل تعلم له سمياً)(مريم:65) يعني شبيهاً ومثيلاً، وكقوله تعالى: (فلا تضربوا لله الأمثال)(النحل:74)، وينزه الله تعالى نفسه عن أن يكون له مثل.(1/31)
وقد تكلم العلماء على هذه الآية، وقالوا في (كاف) (ليس كمثله): إن الكاف صلة لتأكيد النفي، وأن المراد بالمثل الذات كما يقولون لمن يمدحونه: مثلك لا يغضب، ومثلك يحكم، ومثلك يعطي، يريدون أنت، فالمعنى: ليس كهو شيء، ليس شيء كهو أي مماثلاً له.
وعبر بعضهم بالزيادة في قوله تعالى: (ليس كمثله شيء) أن الكاف زائدة حتى لا يفهم أن لله مثلاً، يعني أنه قد يخاف أن لله تعالى مثلاً، فيقال: ليس مثل مثل الله شيء، والصحيح أنه لا يقال في القرآن زائد، ولا لغو، فالقرآن كله حق، وكل حرف منه فيه فائدة، فإذاً نقول: إن الكاف صلة لتأكيد النفي، نفي المثلية، وسمعت من بعض المشايخ في التعبير عن الزيادة يقال:
وسم ما يزاد لغواً أو صله أو قل مؤكدا وكل قيل له
لكن زائداً ولغواً يجتنب إطلاقه في منزل فذا وجب
يعني أنه يعبر عنها بأربع عبارات: زائد، أو لغو، أو صلة، أو مؤكد، ولكن لا يطلق في القرآن كلمة زائد تنزيهاً للقرآن أن يكون فيه شيء زائد يمكن الاستغناء عنه، ومع ذلك تجدون كثيراً من المفسرين يطلقون فيه الزيادة، ومنهم صاحب تفسير الجلالين جلال الدين المحلي عندما أتى على هذه الآية، قال: الكاف زائدة لأن الله تعالى لا مثل له، فلو قال مؤكدة، أو قال صلة لتقوية النفي لكان أبلغ.
وبكل حال؛ فالآية أفصحت عن نفي المثل لله تعالى، ولكن أفصحت أيضاً عن إثبات صفة السمع وصفة البصر، وتجدون في كتب النفاة تكرار هذه الآية (ليس كمثله شيء)(الشورى:11)، لأنه ليس كمثله شيء، ولا يأتون بأخرها لأنه حجة عليهم، وبكل حال، الأصل أن نصف الله تعالى بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، ونثبت لله صفات الكمال، وننزهه عن صفات النقص.
قوله:
له الأسماء الحسنى والصفات العلى (الرحمن على العرش استوى * له ما في السموات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى * وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى)(طه:5-7).
شرح:(1/32)
هذا من جملة العقيدة ندين بأن له الأسماء الحسنى، والصفات العلى، ونعتقد أن أسماء الله تعالى كلها حسنى، وأن صفاته كلها عُلى أي رفيعة المعنى، ورفيعة المدلول، ذكر الله تعالى: أن له الأسماء الحسنى في ثلاثة مواضع: في سورة الأعراف: (ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها)(الأعراف:180)، وفي سورة طه: (الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى)(طه:8)، وفي سورة الحشر: (هو الله الخالق البارئ المصور له الأسماء الحسنى)(الحشر:24).
يعتقد أهل السنة أن الله تعالى سمَّى نفسه بأسماء وسماه بها رسله عليهم الصلاة والسلام، وأنها كلها حسنى، والحسنى مبالغة في الحسن أي أنها حسنة رفيعة المعنى جليلة القدر.
وقد ورد في الحديث المشهور الذي في الصحيح قوله صلى الله عليه وسلم: (إن لله تسعة وتسعين أسماً، مائة إلا واحداً، من أحصاها دخل الجنة)، ثم في رواية الترمذي وغيره سرد الأسماء إلى أن وصلت إلى تسعة وتسعين، ابتداء بالأسماء التي في آخر سورة الحشر: الرحمن الرحيم الملك القدوس إلى آخرها.
ورجح العلماء أن سردها ليس مرفوعاً، وإنما هو من بعض الرواة جمعوها من القرآن، ومن الأحاديث، وقد تتبعها كثيرٌ من العلماء من الأدلة والنصوص، وجمعوا ما فيها من الأسماء كما فعل ذلك ابن القيم في (الصواعق المرسلة)، وقبله البيهقي في الأسماء والصفات وتبعهما الحافظ الحكمي في (معارج القبول شرح سلم الأصول) وجمعها أيضاً: ابن حزم في (المحلي)، ولكنه اقتصر على ما صح عنده، وأدخل فيها بعض الأسماء التي لم تثبت أنها أسماء؛ أخذ من قوله: (وأنا الدهر) أن الله يسمى بالدهر، وهذا خطأ.
وبكل حال؛ يعتقد المسلمون أن الأسماء كلها حسنى، وأنه يدعى بها، ويعتقد المسلمون أن أسماء الله كثيرة لا تنحصر لأن الله تعالى أجملها في هذه الآيات، ولم يذكر لها عدداَ.(1/33)
وأما الحديث: فليس فيه أنها محصورة في تسعة وتسعين اسماً، وإنما أخبر بأن من أسمائه ومما تسمى به تسعة وتسعين اسماً، اختصت بأن إحصاءها سبب لدخول الجنة، وإلا فلله أسماء كثيرة كما في الحديث الذي في مسند الإمام أحمد أن النبي صلى الله عليه وسلم: علم أصحابه دعاءً يدعون به، وأوله: (اللهم إني عبدك وابن عبدك وابن أمتك ناصيتي بيدك، ماضٍ في حكمك، عدلٌ في قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك).
فأخبر بأن لله أسماء استأثر بها في علم الغيب، فدل على أن أسماء الله ليست محصورة بل هي كثيرة.
ثم المراد بإحصائها في قوله: (من أحصاها دخل الجنة) ليس هو مجرد حفظها لكنه اعتقاد صحتها والعمل بها، واعتقاد مدلولها، فإن كل اسم دال على صفة.
ذكر العلماء أن كل اسم من أسماء الله له ثلاث دلالات: دلالة على الذات، ودلالة على الصفة المشتقة منه، ودلالة على بقية الصفات، وتسمى دلالته على الذات (دلالة مطابقة)، ودلالته على الصفة المستنبطة منه (دلالة تضمن)، والدلالة على بقية الصفات (دلالة التزام).
فمثال ذلك من أسماء الله (الرحمن) كما سمَّي نفسه به في عدة مواضع، هذا الاسم لا ينطبق إلا على الله إذا قيل الرحمن انصرفت الأفهام إلى الرب تعالى، فهو دال على ذات الرب بالمطابقة أي إنه اسم للذات الربانية لا يدل إلا على الله ولا يصح إلا لله تعالى كما إذا قلنا: (محمد) على الإطلاق فإنه ينصرف إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فدلالته دلالة مطابقة.(1/34)
كما أن دلالة الرحمن، والرب، والعزيز على الله تعالى دلالة مطابقة، فالنظر في الرحمن أليس دالاً على صفة؟ إنه مشتق من الرحمة، فدلالته على الرحمة التي هو مشتق منها نسميها دلالة تضمن، أي في ضمن هذا الاسم (الرحمة) كما أن العزيز فيه صفة العزة، والغفور فيه صفة المغفرة، والحكيم فيه صفة الحكمة، والوهاب، والرزاق، والحكم، والعدل كل اسم منها دال على صفة اشتقت منه فهذه دلالة تضمن، أي هذه الصفة في ضمن هذا الاسم.
أما دلالته على بقية الصفات، وعلى بقية الأسماء، فإنك تقول مثلاً: إذا سمي الله تعالى بالعليم فإن ذلك يستلزم الغِنَى والغفران والسمع والبصر، وهكذا يلزم من اتصافه مثلاً بالسميع أن يكون بصيراً، ويلزم من اتصافه بالسميع أن يكون غنياً، وأن يكون رحيماً، وأن يكون حكيماً، لأنه إذا لم يتصف بذلك كان ذلك نقصاً في صفة الرحمة.
أي كيف يكون رحيماً وليس بغني، وكيف يكون رحيماً وليس بعزيز، وكيف يكون رحيماً وليس بسميع بصير، وكيف يكون رحيماً وليس بمتكلم، وكيف يكون رحيماً وليس بحكيم، وهكذا.
فهذه دلالة التزام، إذا آمن المسلم بهذه الأسماء الحسنى، فمعناه أنه يعتقد دلالتها يعتقد أن الله مسمى بالرحمن، وأنه متصف بالرحمة، وتسمى بالعزيز واتصف بالعزة، وتسمى بالحكيم واتصف بالحكمة، وتسمى بالسميع البصير، فيعتقد ذلك كله.
إذا فعل ذلك فقد أحصى هذه الأسماء، وإذا أحصاها واعتقد معناها، لزم من ذلك أن يدين بمقتضاها لأنه إذا دان أن الله سميع وسع سمعه الأصوات، ماذا تكون حالته؟ أليس يخاف الله ويرجوه، وإذا دان أن الله بصير لا يستر بصره حجاب ماذا تكون حالته؟ أليس يراقبه ويعبده؟ ويرجوه ويخافه؟ ويطيعه ويبتعد عن معصيته، إذا فعل ذلك، فإنه تقي نقي يكون ممن يرجى له الجنة والنجاة من عذاب الله، فعرف بذلك أن إحصاءها التزام جميع الطاعات والبعد عن جميع المعاصي.
قوله:
والصفات العلى.
شرح:(1/35)
إن صفات الله تعالى تليق به، وقد وصف نفسه بصفات كلها عُلى، ولكن معلوم أن هذه الصفات تختص بالموصوف بها، فلا يجوز أن تكون كصفات الخلق التي هي ناقصة ويعتريها التغير، ويعتريها الفقد، فكم من إنسان قوي عاقل ذكي، ولكن ينقصه صفات أخرى كالغني أو الجود أو الحكمة، والقوة أي هو ضعيف وفقير وضرير وأصم وأبكم...، فقد تعتري الإنسان صفات النقص، ولكن صفات الله تعالى لا يعتريها نقص ولا تغير بل هي غاية الكمال.
فإذا وصفنا الله تعالى بالسمع والبصر، فإنا نقول: إن سمعه ليس كسمع خلقه، وبصره ليس كبصر الخلق، فالإنسان لا يبصر ما وراء الحجب، ولا ما وراء الحيطان ونحوها، فإنه يستر بصره أدنى ساتر، والرب تعالى: لا يستر بصره حجب، والإنسان سمعه مقصور على ما قرب منه، ولا يسمع ما بعُد، وتشتبه عليه اللغات، وتشتبه عليه الكلمات، والرب تعالى ليس كذلك.
وإذا وصفنا الله تعالى بالصفات الفعلية فإنها كلها صفات رفيعة، إذا وصفناه بأنه هو العلي، فقلنا له العلو بجميع أنواعه: علو ذات، وعلو قدر، وعلو قهر؛ إذا وصفناه بالفوقية. فكذلك إذا وصفناه مثلاً بالغنى وبالعطاء، وبالجود وبالكرم، وبالحلم وبالمغفرة فكلها في غاية الرفعة والمنعة، هذا هو معتقد أهل السنة والجماعة.
وقد خالف في ذلك الأشاعرة مع شيوع مذهبهم وشهرته فهم يقرون بسبع صفات، وهي: السمع، والبصر، والكلام، والقدرة، والعلم، والحياة، والإرادة، وينكرون بقيتها، فلا يقولون: إن الله موصوف بالصفات العلى جميعاً التي وصف بها نفسه، وهذا تنقص لله لأنهم أنكروا صفات أثبتها الله لنفسه، ولكنهم يقرون بالأسماء جميعاً، وإن كانوا ينكرون دلالة بعضها.(1/36)
أما المعتزلة، فإنهم ينكرون الأسماء ويتأولونها أو ينكرون دلالتها فيقولون: إنها مجرد أعلام، كما لو أن إنساناً سمي بعدة أسماء، وتلك الأسماء مجرد أعلام يعرف بها شخص ذلك الرجل، يعني قد يسمى الإنسان بأسماء ولا تنطبق عليه صفاتها، أي ليس كل من سمي سعداً من أهل السعادة، وليس كل من سمي صادقاً يكون من أهل الصدق، وليس كل من سمي طاهراً يكون مطهراً، وليس كل من سمي مباركاً تكون فيه البركة، وقد يسمى الإنسان بسعد، وخالد، وزيد، ويسمى بعدة أسماء ولا تكون معانيها منطبقة أو مجتمعة فيه، وإنما سمي بها حتى يتميز عن غيره كما يوصف بلقب أو بنسب إلى قبيلة، ونسبة إلى بلد، ونحو ذلك فيقال مثلاً سعيد بن زيد بن درهم العبسي الكوفي اسم لشخص واحد سمي به حتى تعرف ذاته.
والمعتزلة يقولون: هذه الأسماء إنما هي لأجل معرفة الذات لا أنها دالة على صفات، ويصرح كثير منهم بنفي الصفات، ويقولون: سميع بلا سمع، بصير بلا بصر، عليم بلا علم، حكيم بلا حكمة، رحيم بلا رحمة، تعالى الله عن قولهم.
وإذا قرأت القرآن تجد أن الله تعالى يختم آية الرحمة باسم الرحيم، ويختم آية النقمة باسم العزيز، أو ما أشبه ذلك؛ مما يدل على أن معانيها مقصودة، هذا ما يدين به المسلمون.
قوله:
(الرحمن على العرش استوى * له ما في السموات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى * وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى)(طه:5-7).
شرح:
هذه الآيات من سورة طه دالة على صفات: الأولى على اسم الرحمن، وأنه على العرش استوى استواء يليق به، (ونؤجل الكلام على الاستواء حتى تأتينا الآيات التي فيها ذكر الصفات ومن جملتها هذه الآية).
(له ما في السموات وما في الأرض)(طه:6) هذه أيضاً من صفات الكمال (له ما في السموات)(طه:6) ملكاً وخلقاً وعبيداً إذا قلت: لماذا عبر بـ(ما) التي لغير العاقل (له ما في السموات) مع أنه ورد في آيات (له من في السموات)(الحج:18).(1/37)
فالجواب أن (ما) قد تأتي للعاقل كقوله تعالى: (والسماء وما بناها)(الشمس:5)، أو أنه عبر بـ(ما) نظراً للكثرة، فإن ما في السماوات وما في الأرض يدخل فيه الدواب والحيوانات، ودواب البحر، ودواب البر، والطيور والوحوش، وجميع المخلوقات، ويدخل فيه النباتات مع اختلافها، ويدخل فيه الجمادات: الجبال والأودية، والدور والقصور والأشجار، وما أشبه ذلك؛ فلذلك قال تعالى: (له ما في السموات وما في الأرض وما بينهما)(طه:6) أي ما بين السماء والأرض من المخلوقات وما بين السماوات من المخلوقات كل ذلك له. ومعنى كونها له، أي ملك له، وهو الذي خلقها وأوجدها، وهو الذي يفنيها إذا شاء، ويغيرها ويبدل فيها ما يشاء؛ ويتصرف فيها كما يشاء، يمنع ويعطي، يريش ويبري، يميت ويحيى، يخفض ويرفع، يصل ويقطع، يتصرف فيها فهي إذاً له؛ أي ملكه.
(له ما في السموات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى)(طه:6)، قيل: الثرى هو التراب الذي فيه النداوة والرطوبة، ففسر ما تحت الثرى تحت التراب، أو ما تحت التراب الندي -بالمياه في جوف الأرض، ولا يعلم ما تحته إلا الله، أو ما تحت الأراضين مع سعتها له كل ذلك.
(وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى)(طه:7) هذا أيضاً من الصفات، يعني أنه سبحانه يعلم سر الأمر وخفيه.
السر: ما يضمره الإنسان و يكنه في نفسه، أخفى من السر: ما لم يخطر في باله، ولكن علم الله أنه سيخطر في باله فيما بعد، وسيحدث به نفسه، أو سيفعله، وإن لم يكن قد نواه يعلم ذلك كأنه قال: إن تجهروا أو تخفوا لا يخفي عليه أمركم، والجهر: هو رفع الصوت، وإن تجهر بالقول يعني وإن جهرت بالقول، أو أسررت به فالجميع مسموع لله تعالى ومعلوم له.
ثم وحد نفسه (الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى)(طه:8) كلمة لا إله إلا الله لها شروط، ولها أركان، ولها دلالات يطول بنا أن نفصلها، وشروحها -والحمد لله- واضحة، ومعناها لا معبود بحق إلا الله.(1/38)
وقد ذكرنا أن الأسماء الحسنى عامة فيما سمى الله به نفسه من الأسماء، أو ورد في الأحاديث الصحيحة
مسألة: في صفات الإحاطة والعلم والقهر
قوله:
أحاط بكل شيء علماً، وقهر كل مخلوق عزة وحكماً، ووسع كل شيء رحمة وحلماً (يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علماً)(طه:110).
شرح:
الصفة الأولى: الإحاطة، هذه أيضاً من صفات الكمال، وهي من الدلالة على صفة العلم ونحوه، يقول الله تعالى في آخر سورة الطلاق: (وأن الله قد أحاط بكل شيء علماً)(الطلاق:12).
والإحاطة في الأصل: هي الاستيلاء على الشيء من كل جهاته، كأنه أُحيط من كل جهاته بحيطان منيعة فاستُولي عليه، ولكن تستعمل بمعنى الإتيان على الشيء من كل جهاته؛ أحطت بهذا يعني وصلت إلى نهايته، أي أتيت عليه حتى استوليت عليه وعرفته وصارت تفاصيله ظاهرة عندي.
فالله تعالى وصف نفسه بصفة الإحاطة، فقال: (والله من ورائهم محيط)(البروج:20) يعني محيط بالخلق أي مستولٍ عليهم، وكذلك محيط بعلومهم، ومحيط بجميع المخلوقات، وما يحصل منها، وأما المخلوقون فعاجزون عن ذلك إلا بما فتحه الله عليهم، قال تعالى: (ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء)(البقرة:255) أي لا يقدرون على أن يحيطوا بشيء من العلوم التي يعلمها، أو التي يمكن تعلمها إلا بما يشاؤه؛ فلا يعلمون المغيبات الخفية بل ولا يعلمون، البعث وما بعده، والحشر وتفاصيله إلا بما علمهم، وبما فتح عليهم.
والحاصل أن الله تعالى موصوف بأنه بكل شيء محيط؛ كما أخبر بذلك في عدة آيات؛ في سورة البروج وفي سورة فصلت، وفي آخر سورة الطلاق ونحوها.(1/39)
هذا معنى الإحاطة، ويدخل في ذلك علوم الخلق أي أنه عالم بهم وبمعلوماتهم، وكذلك أيضا: أنه مع علمه بها فإنه قد أثبتها. وهذان يإتيان إن شاء الله في الكلام على القدر؛ أن الله علم الأشياء قبل وجودها، ثم كتبها في اللوح المحفوظ حيث (قال الله تعالى للقلم: اكتب، فجرى بما هو كائن إلى يوم القيامة)، ومعلوم أنه لا يكتب إلا ما أمره الله به، فكل شيء كائن قد سطر في اللوح المحفوظ، فالله قد أحاط بكل شيء علماً؛ هذه صفة كمال.
الصفة الثانية: العلم، وقوله: (وسع كل شيء رحمة و حلماً)، وسع كل شيء رحمة، ووسع كل شيء حلماً؛ معلوم أن السعة والاتساع والتفسح بمعنى واحد. وسع يعني امدَّ إلى ما لا نهاية له، فالله تعالى وسع سمعه الأصوات، ووسع علمه المعلومات والمخلوقات كلها، ووسعت رحمته المخلوقات يعني اتسعت رحمته، فرحم الخلق كلهم أولهم وآخرهم، وكذلك اتسع حلمه للخلق كلهم فحلم عنهم كما يشاء.
ومعروف أن هذه الصفات الفعلية كصفة الرحمة، وصفة الحلم مما يثبتها أهل السنة، أما الأشاعرة ونحوهم فينكرون الصفات الفعلية كالرحمة والحلم ونحو ذلك.
فمن أسماء الله تعالى: (الحليم) وقد ورد في عدة آيات، منها قوله تعالى: (إنه كان حليماً غفوراً)(الإسراء:44)، والحليم هو الذي لا يعجل، الحليم الذي يحلُم عن الخلق بمعنى أنه لا يعاقبهم؛ أي يعفو عنهم ولا يعاجلهم بالعقوبة. والحليم من الناس هو المتأني؛ يقال: فلان معه حِلْم، يعني تأن في الأمور، وتثبت، وعدم تسرع، وعدم معاجلة بالعقوبة على أية ذنب صغير أو كبير، بل يحلُم عن هذا.
حَلُمت عن فلان لما ظلمني، ولما أساء إليَّ، أنا أحلُم عمن ظلمني؛ لا أستعجل العقوبة لمن أساء إليًّ فالحلم صفة شريفة، وإذا كانت من أفضل الصفات، فالله تعالى متصف بكل الصفات التي هي صفات الكمال هذا هو معنى الحلم.(1/40)
الصفة الثالثة: القهر. وقوله: (وقهر كل مخلوق عزة وحكماً). انظر كيف فرق؛ هناك (رحمة وحلماً) لما ذكر السعة، وهنا (عزة وحكماً) لما ذكر القهر.
القهر هو القوة والغلبة؛ قهرها يعني غلبها وقوي عليها، واستولى عليها، وصارت تحت سلطانه وتحت سيطرته، وتحت تصرفه لا تملك لنفسها أي نوع من أنواع التصرف إلا بإذن الله تعالى؛ فهي مخلوقة وذليلة ومهينة، فالله تعالى هو الذي يتصرف فيها كما يشاء ولا يخرج أحد عن قهر الله.
وإذا قلت: إن هناك من طغى وبغى، وهناك من تجبر وعتا، وهناك من كفر ونفر، وهناك من تعدى طوره؛ فأشن هؤ¥وZqمن قّهر الله، أليسوا مقهورين؛ أليسوا :لينون لçزة اRله ويذلون لها؛ أليسوا مهانين؛ أليسوا مملوكين تحت ملك اJلآ_تعالى؟؛’ فما•ّذا الطغيان؟ وما هذا العسف؟ وما هذا التجبر؟ وما هذا الu_،_الذي صدر ہنه ؟ وما هذک العتو والعدوا_ہعلى عءْد الل_ الذي نچا7ده من کلùفرة ونحوهم€، «ين قهر ا-خالق_تعالى لهم؟_ أين إذmاله _طم؟ أينع ل„يطرة عليهم؟
الجواب: أن هذا لا ينافي كونه سبحانه قاهراً لكل مخلوق قهراً قوياً، وله سبحانه الغلبة والسيطرة على المخلوقات، ولكن تأمل كلامنا السابق عن صفة الحلم، وأنه سبحانه وتعالى يحلُم ولا يعجل، يمهل ولا يهمل، يسمع ويَعلم أفعالهم وتعديهم، ولكنه يمهلهم إلى أجل وإلى حين، فعند ذلك ينتقم منهم، وهو العزيز ذو الانتقام، فلا يغتر الظالم بجبروته، وبقوته وسيطرته، وبما أعطي من القوة؛ فإنه مقهور ومستولى عليه، ولا بد أن يؤخذ الحق منه.
أيحسب الظالم في ظلمه أهمله القادر أم أمهلا
ما أهملهم بل لهم موعد لن يجدوا من دونه موئلا
فلا يحسب أنه مهمل، بل إن الله تعالى يمهل ولا يهمل، يمهلهم إلى أجل؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته). ثم قرأ: (وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد)(هود:102).(1/41)
وقال في حديث آخر: (إذا رأيت الله يعطي العبد من الدنيا على معاصيه ما يحب، فإنما هو استدراج. ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون)(الأنعام،:44).
وقال تعالى: (سنستدرجهم من حيث لا يعلمون * وأملي لهم إن كيدي متين)(القلم:44-45).
فالله تعالى يملي لهم ويمهلهم سنوات وعشرات السنين، ولكن إذا أخذهم أخذهم أخذ عزيز مقتدر، فإما أن يبطش بهم، وإما أن يسلط عليهم من هو أقوى منهم؛ إذاً فهذه الصفة صفة صحيحة ثابتة لله تعالى ندين بها، ولا نقول: إن هناك من خرج عن قهر الله، أو خرج عن غلبة الله، ولا أن هناك من اغتر بنفسه وليس لله قدرة عليه، فلله تعالى قدرة على الجميع.
فالله تعالى قادر على كل شيء، وكل الخلق تحت تصرفه، وفي قبضته، وينتقم منهم إذا شاء، ويسلط عليهم من ينتقم منهم، أو يعمهم بالعقوبة؛ إذاً فلا يغتروا بالإمهال، يا أيها الظالم في فعله يا من تماديت واعتقدت أنك من الناجين لا تغتر بذلك، فالظلم مردود على من ظلم، والله تعالى ينتقم من الظالم ويأخذه أخذ عزيز مقتدر، هذا معنى قوله: (قهر كل مخلوق عزة وحكماً).
قوله تعالى: (يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علماً)(طه:110) هذه الآية مشتملة أيضاً على صفة من الصفات الفعلية الذاتية، فإن العلم صفة ذاتية فعلية بمعنى أن الله لا يمكن أن يتصف بفقد العلم، فالعلم صفة ذاتية لله تعالى. قال سبحانه: (ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير)(الحديد: 22)، معرفة ذلك سهلة يسيرة على الله تعالى، كذلك قال تعالى: (يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم) في عدة آيات.
وقد فسر قوله: (ما بين أيديهم) بأنه ما قد ملكوه (وما خلفهم) ما سوف يحصلون عليه ويتملكون عليه.(1/42)
وفسر (ما بين أيديهم) يعني الخلق الذين قد مضوا، (وما خلفهم) الذين سوف يخلقون فيما بعد، وفسر (ما بين أيديهم) يعني ما أمامهم مما يشاهدونه (وما خلفهم) أي ما وراء ظهورهم مما لا يشاهدونه.
والأقرب أن الآية عامة، وأما الأصل، فإن الله يعلم ما قبلهم وما بعدهم، ويعلم ما أحاطوا به الآن، وما سوف يعلمونه فيما بعد، يعلم ذلك كله.
قوله: (ولا يحيطون به علماً) أي لا يعلمون علماً يقينيا ً بذات الله تعالى أي لا يعلمون علم الرب، وإنما يعلمون من صفاته ما أطلعهم عليه، هذا هو الأصل.
مسألة: طريقة أهل السنة في إثبات الصفات
قوله:
موصوف بما وصف به نفسه في كتابه العظيم وعلى لسان نبيه الكريم.
شرح:
تتكرر هذه العبارة في كتب العقائد، ويدين بها أهل السنة؛ يقولون: إن الله تعالى لا يوصف إلا بما وصف به نفسه في كتابه، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم؛ وإذا قلنا ذلك فإننا نعترف بهذه الصفات التي وصف بها نفسه، ونصفه بها، ولا نتحاشى، بل نجسر عليها ونتكلم بها حيث أنه أخبر بها عن نفسه، ولو كان في ذلك ما يكون، ولو استنكرها من يستنكرها، ولا عبرة بمن يستوحش عندما تذكر صفات الله تعالى كصفة العلو، وصفة الاستواء، وصفة النزول كما يشاء، وصفة اليد، وصفة الوجه، وصفة الرحمة، وصفة المحبة، وما أشبه ذلك.
فالله تعالى قد أثبت هذه الصفات، وكذلك أثبتها نبيه صلى الله عليه وسلم؛ فإذا كانت ثابتة أفلا يثبتها المسلم لا شك أن إثباتها من دين الإسلام، وذلك لأن الدليل عليها قطعي الثبوت، وقطعي الدلالة؛ وهو ما أثبت في القرآن، فهل هناك شيء أصح من القرآن، ثم يليه الكتب الصحيحة كالصحيحين وغيرهما من الكتب التي تعتني بالصحيح.(1/43)
وهذه الكتب مشتملة على صفات ثابتة قطعية الثبوت، ثم هي أيضاً قطعية الدلالة، دلالتها صريحة يعرفها كل عربي فاهم للغة يعرف ما تدل عليه، فمن الذي يشك في أن العرش سرير الملك؟أثبت الله لنفسه العرش فنثبت أن لله عرشاً، وكذلك من الذي يشك أن العلو هو الارتفاع لغة؟ فنثبت لله العلو، ومن الذي يشك في أن السمع هو إدراك الأصوات، وأن البصر هو إدراك المرئيات؟ معروف أن هذه الصفات لفظها واضح من اللغة.
فإذا سمعنا هذه الصفات تجرأنا على أن نثبتها لله ولا نتحاشى، بل نجسر على إثباتها ولو شنّع علينا من شنع، ولو أنكر علينا من أنكر؛ وما ذاك إلا لأن دلالتها واضحة لا تحتمل خفاء، وليس فيها غموض.
فطريقة أهل السنة أن الله لا يوصف إلا بما وصف به نفسه في كتابه، وبما وصفه رسوله وجميع الأنبياء في كتبهم المنزلة وفي شرائعهم وسننهم، وذلك لأنه تعالى أعلم بنفسه، ورسله أعلم بمن أرسلهم، فإذا وصف نفسه بصفة، وأثبتها لنفسه، فكيف ننفيها، وكيف ننكرها؟ ما الدليل على ذلك، وما السبب في ردها؟
لا شك أنها إذا كانت قطعية ورددناها، وقلنا: إن العقل ينكرها ويستبعدها؛ كنا قد حكّمنا العقول في شرع الله، وهذا لا شك أنه جرأة على الله تعالى، وتحكيم للعقل الضعيف الذي يعتريه التغير في ذات الرب تعالى الذي أثبت لنفسه كل كمال، ونفى عن نفسه كل نقص.
وبكل حال؛ فمعنى هذه الجملة: أن الله تعالى موصوف بما وصف به نفسه في كتابه، وبما وصفه به رسول الله صلى الله عليه وسلم في سنته، وأن كل ما ثبت فإننا نقول به.
وأما ما روي من الأدلة التي لم تثبت فلا نقول به لضعف المتمسك، فإذا كان هناك أحاديث ضعيفة مشتملة على بعض الصفات، فلا تثبت بها الصفات، وإنما تثبت الصفات بالأحاديث الصحيحة، ولو لم تبلغ حد التواتر ما دام أنها متلقاة بالقبول، وثابتة بالأسانيد الصحيحة، فإنا نثبت ما دلت عليه.(1/44)
فمثلاً صفة النزول: (ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر ...إلخ)الحديث.
ذكر بعض العلماء أنه مروي عن نحو عشرة من الصحابة من طرق بعضها في الصحيحين، فكيف نردها بمجرد العقول؟ إن كثيراً ممن ينكر الصفات من أشاعرة ونحوهم إذا سمعوا هذا الحديث نفروا منه.
حتى إنه حدثني بعض التلاميذ من الذين اعتقدوا العقيدة الصحيحة أنه تكلم مرة بعد صلاة الجمعة وأخذ يرغب في قيام الليل، وأورد هذا الحديث: (ينزل ربنا تبارك وتعالى إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول: من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له)البخاري ومسلم، فقال: إن هذا فيه حث على قيام الليل، فلما سمع الإمام -وكان أشعرياً- هذا الحديث هرب وخرج استنكاراً له حيث إنهم يقولون: إنه لا يدل على صفة، وإنه لا يستدل به لكونه ليس بمتواتر، ونحو ذلك.
واصطلح هؤلاء الأشاعرة ونحوهم -الذين سموا علمهم بعلم الكلام- على أن الصفات لا تثبت بالأحاديث إلا إذا كانت متواترة، وأما أحاديث الآحاد فلا تقبل في الصفات، لأنهم اصطلحوا على أن المتواتر يفيد اليقين، وأن الآحاد يفيد الظن، وقالوا: لا يمكن أن تكون صفات الله دلالتها دلالة ظن، فلا نثبتها بالأحاديث التي لم تبلغ درجة التواتر، بل نرد كل حديث في الصفات إذا لم يبلغ حد التواتر.(1/45)
ونحن إذا نظرنا لم نجد الأحاديث المتواترة إلا قليلة، مثل أحاديث الشفاعة، مع أن المعتزلة ردوا أحاديث الشفاعة، وقد بلغت حد التواتر، فلم يعملوا باصطلاحهم، وأحاديث النزول ردوها لأنها في نظرهم آحاد، وكذلك بقية الصفات مثل حديث العجب، وحديث الضحك، وحديث النداء، وحديث الكلام، وحديث الصوت؛ كلها ردوها، وقالوا: إنها ظنية لأنها آحاد، فلا نقبل إلا ما هو متواتر، سبحان الله ألستم قبلتموها في الأحكام وفي الأوامر والنواهي، وفي الحلال والحرام فلماذا تقبلونها هنا وتردونها هناك؟ ألستم في هذا كمن يؤمن ببعض الكتاب ويكفر ببعض؟ ألستم كمن يقول: (نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلاً)(النساء:150).
هذه طريقتهم أما طريقتك -أيها المسلم- فإنك تأخذ كل ما ثبت، وأنك تقبله وتتقبله وتؤمن به إيماناً كاملاً حتى لا يعتريك في ثبوته شك، وأنها صفات ثابتة لله تعالى، أثبتها الله الذي هو أعلم بنفسه، وأثبتها له رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي هو أعلم بمرسله.
مسألة: التسليم والقبول لآيات وأحاديث الصفات
قوله:
وكل ما جاء في القرآن، أو صح عن المصطفى عليه السلام من صفة الرحمن وجب الإيمان به، وتلقيه بالتسليم والقبول، وترك التعرض له بالرد والتأويل والتشبيه والتمثيل.
شرح:
هذا الكلام -أيضاً- توضيح لما قبله، يعني: كل ما جاء في القرآن فإنه ثابت قطعي الدلالة من صفات الرب تعالى، وجب قبوله ووجب الإيمان به، وكل ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم من الأحاديث الصحيحة الثابتة، التي تلقتها الأمة بالقبول وجب الإيمان به أيضاً، ووجب اعتقاد مدلوله، ووجب اعتقاد صحته، وأنه صحيح ثابت ليس في شك ولا توقف.(1/46)
ومعلوم أن القرآن لا خلاف في دلالته من حيث الثبوت، ولكن كيف يرده هؤلاء الذين اعتمدوا العقول؟؛ يقولون: إنه قطعي الثبوت، ولكن ليس قطعي الدلالة، فدلالته ظنية لأنها محتملة للتأويل، وإذا تطرق إلى الدليل الاحتمال بطل به الاستدلال، هكذا يعبرون، ونحن نقول: إن احتمالكم الذي تقولونه؛ احتمال ضعيف، احتمال بعيد لا يؤبه له.
مسألة: الكلام في المشكل من النصوص
قوله:
وما أشكل من ذلك وجب إثباته لفظاً وترك التعرض لمعناه، ونرد علمه إلى قائله، ونجعل عهدته على ناقله، اتباعاً لطريق الراسخين في العلم الذين أثنى الله عليهم في كتابه المبين بقوله سبحانه وتعالى: (والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا)(آل عمران: 7).
شرح:
قد تأتي بعض الصفات مشكلة على بعض الناس فيفهم منها التشبيه، أو يفهم شيئاً لا يليق بالله تعالى، ففي هذه الحال نقبلها لفظاً ونعرف أن لها معنى، ولكن نتوقف في الكيفية، ونتوقف عن التقعر في السؤال عن كيفيتها، وننزهها عن أن تكون مماثلة لصفات المخلوق، أو أن يفهم منها نقص في حق الخالق.
وأكثر من يحتج به النفاة من الأشاعرة ونحوهم في نفي الصفات، إذا أثبتناها لهم وقلنا: دل عليها القرآن فما دليلكم في النفي؟، فأكثر ما يحتجون به: أنها تحدث، وأنها تتجدد فيقولون: إن الله منزه عن حلول الحوادث فلا تحل به الحوادث. وهذه أكبر شبهة عندهم، وهذه الجملة لا دليل عليها، فكلمة حلول الحوادث إنما هي اصطلاح اصطلح عليه هؤلاء النفاة فجعلوه دليلاً قاطعاً في نفي الصفات.
فنقول: ما الذي حملكم على أن تقولوا: "ليس محلاً للحوادث أو هو محل للحوادث"؛ أثبتوا الصفات واتركوا "محل الحوادث، أو ليس محل حوادث" وكلُوا أمرها إلى الله تعالى.(1/47)
وقد يوجد بعض الصفات التي يُشكل ظاهرها فيتوقف بعض أهل السنة فيها، ولكنهم يثبتونها حقيقة، وإذا أُوردت عليهم الإشكالات قالوا: ليس لنا تدخل في ذلك. فمثلاً إذا قال النفاة: لو كان على العرش لكان أصغر من العرش، أو أكبر، أو مساوياً؛ وكل ذلك محال -هذا من افتراضاتهم- فنقول: ليس لنا أن نخوض في هذا بل نقول إنه على العرش كما أخبر، ولكن لا نخوض في إشكالاتكم هذه ونحوها، الله تعالى أخبر عن نفسه بهذا وهو أعلم بنفسه.
ومثلاً إذا ذكر النزول وذكر حديث: (إن الله ينزل إلى السماء الدنيا... الحديث) يوردون -أيضاً- إشكالاً؛ ويقولون: معلوم أن العرش فوق المخلوقات وهو سقفها، فعند نزوله؛ هل يخلو منه العرش؟ هل تحصره السماء الدنيا التي ينزل فيها؟ وإلى متى يستمر هذا النزول؟ وهل ينزل العرش معه؟
هذا الافتراضات لا حاجة إليها، ولا نتدخل فيها، هذه إشكالات أوردتموها أنتم ولا حاجة لنا في البحث عنها، نحن نثبت النزول، ولكن كيفيته الله أعلم بها -كما سيأتينا الكلام على النزول إن شاء الله.
كذلك من الصفات التي أدلتها صحيحة، ولكنها مشكلة؛ ومع هذا يجب أن تُثبت، وتفوض كيفيتها إلى الله؛ مثل حديث الصورة (خلق الله آدم على صورته ... الحديث)، فقد كثر الكلام حوله حتى ألفت فيه مؤلفات مفردة، وأثبته الذين كتبوا فيه، فإذا أثبتنا أن الحديث صحيح، وأنه من أحاديث الصفات، قلنا: نثبته، ولكن نتوقف في كيفيته. ونقول: إن الله ليس كمثله شيء، وأنه سبحانه قد أخبر بهذا، وأخبر به رسوله، وليس لنا أن نتقعر في نفي ذلك.(1/48)
وبكل حال ما أشكل من ذلك -كما قال ابن قدامة: (وجب إثباته لفظاً وترك التعرض لمعناه) يعني كيفيته، هذا هو الصحيح، أما معانيه اللغوية فإنها ظاهرة، ونجعل عهدته على ناقليه ونثق بهم ونقول: العهدة والمسؤولية عليهم، وذلك لأنهم هم الذين نقلوا لنا السنة والشريعة، بل هم الذين نقلوا القرآن كله والأحاديث كلها؛ فكيف نرد هذا الحديث وحده، أو هذه السنة وحدها، فالذي نقلها هو الذي نقل غيرها من الأحكام. فنجعل عهدته على ناقله أي المسؤولية عليه إن كان خطأ، ونكل علمه -يعني الكيفية والماهية- إلى قائله؛ أي إلى الله تعالى، وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم، هذا في الشيء الذي يشكل علينا في الكيفيات ونحوها.
هذه طريقة الراسخين في العلم؛ والرسوخ هو التمكن، يقال: رسخ في كذا يعني تمكن فيه، فالراسخ العالم الذي تمكن العلم منه وتمكن من العلم، والمراد بالعلم هنا العلم الصحيح الذي هو ميراث الأنبياء، فهو العلم الذي من علمه وفهمه وأحاط به سمي راسخاً في العلم.
والله تعالى مدح الراسخين في العلم، فقال تعالى: (والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا)(آل عمران:7).
قسم الله تعالى الآيات في أول سورة آل عمران إلى محكمات ومتشابهات، فأخبر بأن أهل الزيغ يتبعون المتشابه، وأن الراسخين يقبلون الجميع: يقبلون المتشابه ويقبلون المحكم، ويقولون: آمنا بالجميع، كل من عند ربنا، ويدعون الله فيقولون: (ربنا لا تزغ قلوبنا)(آل عمران:8) أي لا تجعلنا مثل الذين في قلوبهم زيغ -يعني ميل وانحراف- فنضل عن سبيلك. دعوا الله دعوة صادقة وهم على صواب وعلى حق.
فطريقتهم أنهم يقولون: نؤمن بالمحكم ونعمل به، ونؤمن بالمتشابه ونقبله، ولكن لا نتقعر في معناه ولا نرده ولا نتأوله، ولا نحمله على ما نفهمه من صفات المخلوقين فنكون ممثلين، ولا نتكلف في رده وإبطاله فنلحق بالمعطلين.
مسألة: التأويل المذموم
قوله:(1/49)
وقال في ذم مبتغي التأويل لمتشابه تنزيله: (فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله)(آل عمران:7).
شرح:
هذا ذم لهذه الطائفة الذين هم الزائغون؛ والزيغ هو الميل والانحراف، ويكون في القلب وهو أشده، قال تعالى (فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم والله لا يهدي القوم الفاسقين)(الصف:5) يعني أنهم فعلوا أفعالاً صاروا بها زائغين، يعني مائلين عن الحق؛ فعاقبهم الله تعالى بان أزاغ قلوبهم، والجزاء من جنس العمل.
فهؤلاء الزائغون الذين في قلوبهم زيغ أي ميل عن الحق وانحراف عنه؛ ذمهم الله تعالى: (فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله)(آل عمران:7) يتبعون المتشابه معناه: أنهم إذا وجدوا المتشابه إما أن يطعنوا به في الشريعة ويقولوا: هذه الشريعة تجمع بين الحق والباطل، فيأخذون المتشابه ويجعلونه طعناً في الدين، وإما أنهم يجعلونه عقيدة لهم ولو كان دالاً على التعطيل، أو دالاً على التمثيل، وهذه طريقة زائغة منحرفة.
فالتأويل الذي ذمهم الله به: (ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله)(آل عمران:7) يعني: تحريفه وتصريفه عن دلالته، والفتنة هي الشبهة، أو التشبيه الذي يوقع في الضلال، أو التحريف أو نحو ذلك، والحاصل أنهم يتبعون المتشابه.(1/50)
روي في سبب النزول أن بعض النصارى تمسكوا بالآيات التي فيها ضمائر الجمع فقالوا: هذه دالة على أن الخالق متعدد، مثل قوله: (نحن قسمنا)(الزخرف:32)، (إنا أنزلناه)(القدر:1)، (إنا أعطيناك)(الكوثر:1)، (إنا فتحنا)(الفتح:1)، فقالوا: هذا دليل على أن هناك آلهة كثيرة فيكون عيسى، وأمه، والله؛ هم الذين خلقوا هذا الخلق، فجعلوه من المتشابه، أي أنهم استدلوا بضمائر الجمع على تعدد الآلهة، وهذا خطأ واضح؛ وذلك لأن الله تعالى يذكر نفسه بضمير الجمع للدلالة على التعظيم، فإن الأمير يعظم نفسه فيذكر نفسه بلفظ الجمع: نحن فعلنا، ونحن غزونا، ونحن أمرنا، مع أنه واحد، فالله تعالى أحق بأن يعظم نفسه.
ولكن كيف يتخذون هذا دليلاً على تعدد الآلهة؟ هذا من زيغ في قلوبهم، وهذا ابتغاء للفتنة؛ أن يفتنوا الجهال، وهذا طلب للتشبيه، يعني أنهم يشبهون صفات الخالق بصفات المخلوق أو أنهم يريدون الوقوف على تأويل الكلمات، وبكل حال فهذا من الزيغ، والله تعالى ذم الذين في قلوبهم زيغ بهذه الجملة؛ أنهم يتبعون ما تشابه منه من الآيات.
ويدخل في اتباع المتشابه ما قد يفهمه بعض المعتزلة من الجمل التي في ظاهرها تأييد لمذهبهم، وهو إنكار قدرة الله تعالى، فيتمسكون بالآيات التي فيها تفويض القدرة إلى العباد، ويجعلونها هي المحكم.
بينما الأشاعرة والجبرية ونحوهم يتمسكون بالآيات التي فيها تفويض الأمر إلى الله، وأنه هو الذي فعل ما يشاء، ويجعلونها هي المحكم، ويجعلون المتشابه ما سواها.
والصحيح أن آيات الصفات من المحكم وليست من المتشابه، وذلك بالنسبة إلى مدلولها، أي إنها دالة على صفات، وأن تلك الصفات مفهومة المعنى إلا أن الكيفية التي هي عليها من المتشابه، فالذين يأخذون تلك الآيات ويجعلونها دالة على التشبيه؛ هؤلاء يبتغون الفتنة، ويبتغون تأويله، وكذلك غيرهم، وبكل حال: هذا مقصد سيئ (ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله)(آل عمران:7).
قوله:(1/51)
فجعل ابتغاء التأويل علامة على الزيغ، وقرنه بابتغاء الفتنة في الذم، ثم حجبهم عما أملوه، وقطع أطماعهم عما قصدوه بقوله سبحانه: (وما يعلم تأويله إلا الله)(آل عمران:7).
شرح:
جعل علامة زيغهم أنهم يبتغون تأويله، وكذلك أيضاً: يبتغون الفتنة، وقرن ابتغاء الفتنة بابتغاء التأويل، والفتنة هي فتنة الناس عن دينهم، يريدون أن يفتنوا أهل السنة حتى يضلوهم، يريدون أن يفتنوا الجهلة حتى يخدعوهم عن ما هم عليه، ويصرفوهم إلى معتقدات سيئة، فهذه الفتنة كم افتتن بها من الجهال؟
ولا يزالون إلى هذا اليوم، لا يزال دعاة الضلال يشبهون ويموهون على الجهال حتى يحرفوهم ويصرفوهم عن معتقد أهل السنة، كثير من دعاة الضلال لا يزالون في كل مكان إذا جاءتهم الآيات جعلوها في جانبهم، وأخذوا يفسرون مدلولها على ما يذهبون إليه، وقالوا: هذه دالة على مذهبنا ونحن على حق، أو صواب. وهم في الحقيقة بعيدون عن الصواب، وقصدهم دعوة الناس إلى المعتقد الذي هم عليه؛ وذلك لأن كل من اعتقد عقيدة زين له أنها هي الصواب، فإن كان صوفياً دعا إلى تصوفه، وإن كان قبورياً دعا إلى تعظيم القبور ونحوها، وإن كان معتزلياً أو قدرياً أو جبرياً أو مرجئاً أو رافضياً أو مبتدعاً أي بدعة، فإنه يخيل إليه أن غيره على خطأ، وأنه هو المصيب، فلأجل ذلك: يحرص على أن يجد أدلة يستظهر منها الدلالة على ما هو عليه حتى يفتن الناس.
فمثلاً القبوريون: قد يستدلون بقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة)(المائدة:35) ويقولون: المراد: التوسل بالأموات إلى الله ودعاؤهم ليكونوا وسائط، وهذا من اتباع المتشابه، قال تعالى: (ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله)(آل عمران:7).(1/52)
كذلك قد يستدلون بقوله تعالى: (أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب)(الإسراء:57)، فيقولون: إن هؤلاء ممدوحون أنهم يتوسلون بأيهم أقرب إلى الله تعالى فيبتغون إليه الوسيلة، ولا شك أن هذا صرف للمعنى عن المتبادر منه، فهذا من اتباع المتشابه، وهو أيضاً مما يوقع في الفتنة فالوسيلة هي القربة أي يتوسلون إلى رضاه بالقربات وأنواع الطاعات.
ونجد مثلاً أن المعتزلة قد يستدلون على نفي الرؤية بقوله تعالى: (لا تدركه الأبصار)(الأنعام:103) وبقوله تعالى لموسى (لن تراني)(الأعراف:143) وهذا المتشابه، وسيأتينا الإجابة عنه عند الكلام على الرؤية، فمثل هؤلاء يتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله.
وقد ذكرنا أن أكثر النفاة يعتمدون قوله تعالى في آية الشورى: (ليس كمثله شيء)(الشورى:11) ويجعلونها عمدتهم في نفي الصفات، ويقولون: إذا أثبتنا لله تعالى سمعاً، فقد شبهنا، والله سبحانه ليس كمثله شيء، وكذا إذا أثبتنا له صفة البصر، وغيرها، فيعتقدون أن إثبات الصفات تشبيه، وهذا من ابتغاء الفتنة، وابتغاء التأويل، وهو طريق الذين في قلوبهم زيغ.
فالله تعالى حجبهم عن ما أمّلوه، وقطع أطماعهم عما قصدوه في هذه الآية، يقول تعالى: (وما يعلم تأويله إلا الله)(آل عمران:7) قطع لأطماعهم. والكلام في تفسير هذه الآية معروف في كثير من أصول التفسير، وأصول الفقه ونحوها، وكذا الخلاف: هل الراسخون يعلمون تأويله؟
فقد ذكر ذلك العلماء كثيراً، وتعرض له شيخ الإسلام ابن تيمية في كثير من كتبه، وذكر أن التأويل صار في اصطلاح الناس يطلق على ثلاثة أنواع:(1/53)
النوع الأول: التفسير. وهو اصطلاح بعض العلماء كابن جرير، فلا فرق عنده بين التفسير والتأويل، فهو يقول: القول في تأويل قوله تعالى. ثم يقول: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، أو يقول: وبمثل الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل، ومراده التفسير، وكأنه اصطلح على أن إيضاح المعنى والمراد من الآيات آل إلى كذا وكذا، فسماه تأويلاً بالنسبة إلى ما آل إليه وشرح عليه.
النوع الثاني: أن التأويل معناه حقيقة الشيء وماهيته، وما تؤول إليه ماهية الشيء التي هو عليها هو التأويل، أي ما يؤول إليه وما يرجع إليه كتمثيله وتطبيقه، تقول عائشة رضي الله عنها: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في آخر حياته: (سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي) يتأوله يعني يمثله أو يمتثل الأمر الذي أمر به في قوله: (فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان تواباً)(النصر:3).
والله تعالى يخبر عن مآل الأشياء ويسميها تأويلاً: (ذلك خير وأحسن تأويلاً)(الإسراء:35)، أي مالاً، ومنه قوله تعالى: (هل ينظرون إلا تأويله)(الأعراف:53) المراد حقيقته، تأويل البعث: حصول النشور، والبعث من القبور، وتأويل الجزاء: إعطاء كل ثواب حسناته، أو جزاء سيئاته.
يقال هذا تأويل قوله تعالى: (فأما من أوتي كتابه)(الحاقة:19)، (وأما من أوتي كتابه)(الحاقة:25)، (فمن ثقلت موازينه)(الأعراف:8)، (ومن خفت موازينه)(الأعراف:9) هذا تأويله يعني تحققه، وكذلك تأويل دخول الجنة: كون أهل الجنة يرون ما فيها ويقولون: هذا تأويل ما أخبرنا الله به؛ فتأويل الأشياء: حقائقها وما تؤول إليه.
فهذان معنيان صحيحان؛ أن التأويل يأتي بمعنى التفسير، وأن التأويل يأتي بمعنى حقائق الأشياء وماهيتها.(1/54)
فإذا قيل إن الراسخين يعلمون التأويل؛ فالمراد بالتأويل: التفسير الذي تفسر به الكلمة ويشرح به معناها، وإذا قيل: إن التأويل لا يعلمه إلا الله؛ فالمراد: حقائق الأشياء وماهيتها وما هي عليه، يعني كيفية البعث، وكيفية الحشر، وكيفية نصب الموازين وكيفية نشر الصحف، وماهية تلك الصحف، وما مقدار المسافة، وكم في كل كتاب من صفحة ومن سطر، أو من كلمة. فكيفية ذلك من التأويل الذي لا يعلمه إلا الله تعالى، وهكذا أيضاً: ما أخبر الله به عن الجنة وأنهارها وأشجارها وثمارها وقصورها، كل ذلك من التأويل الذي لا يعلمه إلا الله، يعني ماهيته وكيفيته وحقيقته التي هو عليها.
النوع الثالث: اصطلح المتأخرون من الأصوليين وأهل الكلام على أن التأويل هو صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح بدليل يقترن به، إذا قالوا: هذه الآية تحتاج إلى التأويل أو لابد من التأويل أو نخوض في التأويل؛ فمرادهم بالتأويل هو صرف اللفظ عن ظاهره، فإذا قالوا: (استوى على العرش)، يعني استولى؛ هذا تأويل حملنا عليه الفرار من التجسيم -كما يقولون- أو (استوى على العرش) استوى على الملك؛ هذا تأويل حملنا عليه الفرار من التشبيه.
وهذا اصطلاح جديد حادث في القرون المتأخرة؛ فما كان السلف يعرفون في الاصطلاح أن التأويل هو صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح بدليل يقترن به، بل التأويل عندهم هو المعنيان الأولان، أنه بمعنى التفسير أو أنه بمعنى الحقائق التي يؤول إليها الأمر..
مسألة: قول الإمام أحمد رضي الله عنه في الصفات
قوله:(1/55)
قال الإمام أبو عبدالله أحمد بن محمد بن حنبل رضي الله عنه: في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله ينزل إلى سماء الدنيا) أو (إن الله يرى في القيامة) وما أشبه هذه الأحاديث نؤمن بها، ونصدق بها، لا كيف، ولا معنى ولا نرد شيئاً منها، ونعلم أن ما جاء به الرسول حق، ولا نرد على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا نصف الله بأكثر مما وصف به نفسه بلا حد ولا غاية (ليس كمثله شيء وهو السميع البصير)(الشورى:11).
شرح:
نقل ابن قدامة رحمه الله بعض الآثار عن الأئمة، وقصده بذلك الاستئناس بها وليس اعتمادها، فقد قالها أئمة مقتدى بهم، معروفة مكانتهم، معترف بفضلهم، مشهور علمهم وكتبهم، يترحم عليم ويدعى لهم في كل زمان، فهم أئمة الهدى ومصابيح الدجى الذين بهم قام الكتاب وبه قاموا، وبه نطقوا، وبهم نطق، هؤلاء سرج الأرض، وأئمة الدنيا في زمانهم وبعد زمانهم، فإذا جاءت الآثار عنهم فإنها تكون محل قبول.
هذا الأثر عن الإمام أحمد قد يكون فيه بعض الإشكالات، وهو أثر ثابت عنه، رواه عنه بالإسناد القاضي أبو يعلى الفراء المشهور الحنبلي في كتاب له مطبوع اسمه (إبطال التأويل).
لما سئل الإمام أحمد عن أحاديث الصفات؛ كأحاديث النزول، أو أحاديث الرؤية، وكذلك آيات الصفات -جاء فيها بالصواب، وإن كان لفظاً مجملاً، وقد أفصح فيها رحمه الله بما هو الصواب في كثير من كتبه، وأثبت بأن الله تعالى يُرى حقيقة بالأبصار، وأنه ينزل كما يشاء إلى سماء الدنيا، وأنه على عرشه استوى، وعلى الملك احتوى، وأنه يسمع كل شيء، ولا يستر سمعه شيء، وأنه يرى ولا يستر بصره شيء، ونحو ذلك من الصفات، أثبتها إثباتا حقيقياً.(1/56)
قد يتوقف في بعض الكلمات، ولكن قصده في ذلك الرد على الممثلة الذين يبالغون في الإثبات حتى يخرج بهم هذا الإثبات إلى نوع من التشبيه، فذكر أنا نؤمن بهذه الصفات، ونؤمن بهذه الآيات؛ يعني نصدق بها ونعتقد صحتها، وصحة معناها، ودلالتها، وذلك لأنها كلام الله، أو كلام الرسول صلى الله عليه وسلم؛ صحت عنه، وثبتت عنه، وقد أمرنا باتباعه، وأمرنا بطاعته، وقد عرف نصحه لأمته، وعرف بفصاحته وبيانه وبلاغته.
وإذا اجتمعت فيه هذه الصفات؛ كونه ناصحاً للأمة، حريصاً على نجاتها، وكونه فصيحاً بليغاً يعبر بالكلمات المفهومة التي لا لبس فيها أو خفاء، وكونه قد بلغ كل شيء، وعلم الأمة كل ما يهمهم، وما يحتاجون إليه، وأن هذه البيانات التي رويت عنه ثابتة قطعية الثبوت لا راد لها ولا طعن في أسانيدها؛ فكيف مع ذلك نردها؟.
بل الواجب أن نقبلها، ونجعلها في ضمن معتقدنا، ولكن لا نكيَّفها كما ثبت ذلك عن السلف أنهم قالوا: أمِرُّوها كما جاءت بلا كيف. أي لا تسألوا: عن الكيفية.
والكلمة التي تشكل في هذا الأثر قوله: (لا كيف ولا معنى) ونحن نعتقد أن للصفات معنى، ونعتقد أن المعاني مفهومة، ولذلك فمراده بالمعنى هنا هو الماهية، وقصده أن ماهية تلك الصفة لا نخوض فيها، فلا نقول مثلاً: إن الله تعالى يبصر بعين مركبة من طبقات، ويحيط بها مشافر -مثلاً- وأهداب، ويسمع مثلاً بآذان وبأصمخة، وبكذا وبكذا، ويتكلم مثلاً بقصبة هوائية، وبلسان وشفتين لا نقول مثل هذا، ولكنا إذا أثبتنا الصفات أثبتناها حقيقة دون أن نبحث عن هذا، فلعل هذا هو مراد الإمام أحمد بقوله (لا كيف ولا معنى)، فالكيف مجهول يعني كيفية الصفة، وأما المعنى فهو مفهوم بدلالته اللغوية، وخفي بكيفيته وكنهه، وأما الكلام فهو الكلام المسموع الذي يفهمه من سمعه.(1/57)
فقوله: (لا كيف) على ظاهره، يعني لا نخوض في الكيفية، وقوله: (ولا معنى) يراد به الكنه، أي ولا نتدخل في كنه الصفة وماهيتها، وما هي عليه، وأما المعنى الظاهر الذي تفسر به الكلمة فإنه معلوم للأمة، ولو لم يكن معلوماً لكان يخاطبهم بكلام لا يفهم كأنه أعجمي وهم عرب، وقد نزهه الله تعالى عن ذلك، فقال تعالى: (ولو جعلناه قرآناً أعجمياً لقالوا لو لا فصلت آياته أعجمي وعربي)(فصلت:44)، وأخبر بأنه بلسان عربي مبين، ولما قال المشركون (إنما يعلمه بشر)(النحل:103) رد عليهم بقوله تعالى: (لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين)(النحل:103).
فلا يليق أن يكون الرسول وهو عربي ويخاطب العرب، ثم يخبرهم بشيء لا يدرون معناه، فلا بد أنا نعرف المعنى، ولكن نتوقف عن الكيفية، وعن الماهية، ونتقبل كل ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم: فلا نكون من الذين يقولون: (نؤمن ببعض ونكفر ببعض)(النساء:150)، وهؤلاء ينطبق عليهم قوله تعالى: (أولئك هم الكافرون حقاً)(النساء:151) فالواجب ألا نرد شيئاً من المقالات التي قالها الرسول صلى الله عليه وسلم مع ثبوتها، بل نثبتها، ولا نرد شيئاً ولا نزيد من عند أنفسنا شيئاً لا دليل عليه.
هذه هي طريقة أهل السنة، فطريقتهم نفي التشبيه، وإثبات الصفات بلا تشبيه، عملاً ببعض الآية التي ردت على الطائفتين المتطرفتين؛ طائفة مشبهة رد الله عليهم بقوله تعالى: (ليس كمثله شيء)(الشورى:11)، وطائفة معطلة رد الله عليهم بقوله تعالى: (وهو السميع البصير)(الشورى:11) فكل طائفة منحرفة يوجد ما يبطل قولها في كلام الله تعالى، وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم.
وقوله:
(بلا حد ولا غاية).
شرح:
الحد فيه خلاف؛ فأثبته كثير من العلماء، ونفاه بعضهم، والمراد بالحد: النهاية. فالصحيح أنا نقول: إن الله تعالى: بائن من خلقه، ليس في ذاته شيء من مخلوقاته، ولا في مخلوقاته شيء من ذاته.(1/58)
والذين نفوا الحد فقالوا: ليس لله حدٌ، يعني ليس له نهاية. آل بهم القول إلى أن اعتقدوا معتقد أهل الوحدة الذين قالوا: إن الوجود واحد، وأن وجود هذا هو عين وجود المخلوقات. وهذا قول شنيع تستوحش منه عندما تسمعه.
فإذا وردت الأدلة قلنا بها، وتجرأنا عليها وجسرنا على الكلام بها، ولو أنكر ذلك من أنكر، فلا نرد شيئاً من أجل إنكار هؤلاء، ولا نتأولها تأويلاً يبطل من معناها ما هو صحيح ثابت، ولو شنع من شنع، ولو عابنا، والتشنيع هو الإنكار والعيب كما في البيت الذي قاله الزمخشري -والله حسيبه- عندما يسمع قول أهل السنة: (إن الله استوى بلا كيف، وإن الله ينزل بلا كيف، وإن الله يرى بلا كيف).، قال:
قد شبهوه بخلقه فتخوفوا شنع الورى فتستروا بالبلكفة
سماها (البلكفة) لقولهم (بلا كيف) هكذا قال، ورد عليه علماء أهل السنة بل وعلماء الأشاعرة أيضاً نظماً ونثراً، وذلك لأنه على مذهب المعتزلة، وهو صاحب (الكشاف) التفسير المشهور.
وما دمنا متبعين للدليل فإننا نختص به ويفوت غيرنا، وأما ما أنكره علينا أضدادنا أو عابونا به فإنا لا نبالي بعيبهم وثلبهم، بل نقول: الحق معنا ولو كنتم جميعاً ضدنا وخلافنا؛ فنحن نثبت ما أثبته القرآن الذي دلالته واضحة، وأنتم تتكلفون في نفيه، وفي تحريفه، وتركبون الصعوبات في تأويله وفي صرفه عن ظاهره فتقولون: إن قوله تعالى: (لما خلقت بيدي)(ص:75) أي بنعمتي، أو تقولون في قوله تعالى: (بل يداه مبسوطتان)(المائدة:64) أي قدرته أو ما أشبه ذلك، هذا من التأويل الذي فيه تكلف، وكذلك بقية الصفات.
وهذا الأثر عن الإمام أحمد معمول به، والكلمات التي تنكر مثل قوله: (لا حد ولا غاية) و(لا كيف ولا معنى) محمول محملاً يناسب المقام، أن المراد بالمعنى الكنه، وأن المراد بالحد والغاية المنتهى، لا أنه يريد بذلك التفسير؛ فإنا نفسرها ونفهم مدلولها.
وقوله:(1/59)
ونقول كما قال، ونصفه بما وصف به نفسه لا نتعدى ذلك، ولا يبلغه وصف الواصفين، نؤمن بالقرآن كله محكمه ومتشابهه، ولا نزيل عنه صفة من صفاته لشناعة شنّعت، ولا نتعدى القرآن والحديث، ولا نعلم كيف كنه ذلك إلا بتصديق الرسول صلى الله عليه وسلم وتثبيت القرآن.
شرح:
هذا تكميل الأثر الذي روي عن الإمام أحمد رحمه الله؛ في أنه يثبت أن التمسك يكون بالقرآن، وأن القرآن هو المعتمد، وكذلك الصحيح من السنة، وأن طريقتنا أن نتقبل كل ما جاء به القرآن والسنة، ولا نرد شيئاً من ذلك، وأنا لا نأتي بشيء من قبل أنفسنا، فنكون زدنا في الصفات ما ليس منها، وإنما نقتصر على ما ورد، نصف الله بما ورد، وبما أثبته لنفسه، أو أثبته له من أرسله.
مسألة: قول الإمام الشافعي رضي الله عنه في الصفات
قوله:
قال الإمام أبو عبدالله محمد بن إدريس الشافعي رضي الله عنه: آمنت بالله، وبما جاء عن الله على مراد الله، وآمنت برسول الله، وبما جاء عن رسول الله على مراد رسول الله.
شرح:
الإمام الشافعي مُعترَف بإمامته، وله مكانة عند الأمة، وهو عالم قريش، فتح الله عليه، ورزقه فهماً وإدراكاً ومكانة وشهرة في الأمة، واعتنق مذهبه الفئام من الناس الذين تمذهبوا بمذهبه، وساروا على طريقته في الفروع، ولكن مع الأسف أن كثيراً منهم خالفوه في الأصول فرجحوا عليه (أبا الحسن الأشعري)، وإن كان الأشعري أيضاً قد رجع عما قاله.
فيقال لهم: إن الشافعي رحمه الله في العقيدة على مذهب السنة وعلى مذهب سلف الأمة، فإذا كنتم تقتدون به فعليكم باتباعه، وبما جاء عنه سواء من المجملات، أو المفصلات.(1/60)
وهو في هذا القول يصرح بما يعتقده، وإن كان مجملاً قال: (آمنت بالله، وبما جاء عن الله على مراد الله، وآمنت برسول الله، وبما جاء عن رسول الله على مراد رسول الله) وكلنا نقول ذلك، لكن هل يفهم من قوله (على مراد رسول الله) و(على مراد الله) أنه غير مفهوم، أو أنه لا معنى له، أو أنا لا ندري ما معناه؟ لا يفهم ذلك؛ بل الأصل أن الشافعي وغيره يعرفون أن تلك النصوص لها معان مفهومة، حيث إنها ألفاظ عربية فصيحة ظاهرة لا خفاء فيها، فيعتقدون مدلولها، لكن قولهم (على مراد الله) (على مراد رسول الله) يريدون بذلك الكيفية التي أرادها الله، وخاطبنا رسوله ليفيدنا لا ليضلنا.
أما على طريقة المعتزلة ونحوهم فإنه قد يقال: إن هذا القرآن وهذه السنة ما زادت الأمة إلا حيرة، تعالى الله عن قولهم؛ لأنها أوقعتهم في الشكوك، وحملتهم على أن يتكلفوا في الصرف عن الظاهر، وأن يتأولوها تأويلات بعيدة، ولا شك أنه لم يكن مقصوداً للرسول أن يوقع الناس في الحيرة، ولا أن يكلفهم بالتكليفات التي سلكوها بالتأويلات التي أرادوا بها صرفها عن ظاهرها فإن ذلك غير مقصود.
وبكل حال: لا يفهم من قوله رحمه الله: (على مراد الله) (وعلى مراد رسول الله). أنه من المفوضة بل هو يعلم معانيها، ويؤمن بها ويتحقق دلالتها، ولكن إنما يتوقف عن كيفية تلك الصفات، الكيفية التي هي عليها، فيقول: مراد الله محجوب عنا ومراد رسوله، يعني بماهيتها وكنهها، وما هي عليه.
قوله:
وعلى هذا درج السلف وأئمة الخلف رضي الله عنهم، كلهم متفقون على الإقرار والإمرار والإثبات لما ورد من الصفات في كتاب الله وسنة رسوله من غير تعرض لتأويله..
شرح:(1/61)
درجوا عليه يعني ساروا على هذا، والمراد أنهم على طريقة السلف التي هي تقبل النصوص، والعمل بها، واعتقادها، والإقرار بها، وإمرارها كما جاءت بقولهم: (أمروها كما جاءت)، وإثبات دلالتها، وإثبات معانيها دون أن يصرفوا شيئاً من مدلولها عن ظاهره، ودون أن يحرفوا شيئاً منها، أو يشتغلوا بتحريفه أو بتأويله، أو يردوه (هكذا طريقتهم) ومراده بسلف الأمة أهل القرون الثلاثة المفضلة؛ الصحابة والتابعون وتابعوهم، هؤلاء هم سلف الأمة درجوا على ذلك، والآثار عنهم في ذلك كثيرة.
وقد نقل شيخ الإسلام ابن تيمية في الحموية كثيراً من الآثار عنهم، ولكنها قليلة بالنسبة إلى ما نقله غيره، ومن أراد أن يعرف أقوالهم فليقرأ كتب أهل السنة ككتاب (الشريعة) للآجري، وكتاب (السنة) للخلاّل، وكتاب (السنة) لابن أبي عاصم، و(شرح أصول أهل السنة) للالكائي، وكذلك كتب المتقدمين كالسنة لعبد الله بن الإمام أحمد، ففيها كثير من أقوال هؤلاء الذين أجملهم ابن قدامة.
يقول: (درجوا) يعني ساروا، ونهجو على طريقة هذين الإمامين الإمام أحمد، والإمام الشافعي - واقتصر عليهما، لكن الإمام مالكاً أيضاً مشهور أنه سئل عن آية الاستواء فقال: (الاستواء معلوم، والكيف مجهول .. إلى آخره)، والإمام أبو حنيفة مشهور ما ذكره في كتابه الذي هو (الفقه الأكبر) الذي جُمع من كلامه، وقد نقل عنه شيخ الإسلام في الحموية، ومع أنه موجود لكن مع الأسف فالذين تولوا شرحه أضافوا إليه إضافة أفسدوا بها مقصده.
فهؤلاء هم الأئمة الأربعة المقتدى بهم، وغيرهم من الأئمة الذين في زمانهم هم أيضاً على طريقتهم، فطريقة أهل السنة متفقة مع أئمتهم، وليس للأئمة قول يخرجون به عن قول أهل السنة.(1/62)
ذكر شيخ الإسلام في المناظرة التي حصلت بينه وبين أهل بلده في دمشق لما ناظروه على عقيدته أن السلطان في ذلك الوقت كان هو الذي عقد هذه المناظرة، ولما كان لشيخ الإسلام مكانته وشهرته عند الناس، وشعبيته، أراد السلطان أن يهدئ الوضع فقال لهم: إن هذا على مذهب الإمام أحمد، ومذهب الحنابلة معتبر ومعترف به فاتركوه على مذهبه، اتركوه يقول ما يقول في الأسماء والصفات ما دام أنه مذهب معترف به من المذاهب الأربعة.
ماذا قال شيخ الإسلام؟ قال: لا والله ليس للإمام أحمد اختصاص بهذا القول بل إنه مذهب الأئمة كلهم، وذلك لأن الأصول والعقائد لا يجوز الخلاف فيها، أما الخلاف الذي بين الأئمة الأربعة فإنما هو في الفروع في مسائل العبادات ومسائل الحلال والحرام، ومسائل الأحكام، هذا الذي اختلفوا فيه، فأما الأصول التي هي العقائد والأسماء والصفات فالأئمة الأربعة، والأئمة الذين في زمانهم كالليث في مصر، والأوزاعي في الشام، وسفيان الثوري في العراق، وسفيان ابن عيينة في مكة، وابن أبي ذئب في المدينة، وعبد الرزاق في اليمن، وأشباههم كلهم على المذهب الحق الذي هو العقيدة السلفية عقيدة أهل السنة والجماعة في الأسماء والصفات لا خلاف بينهم في ذلك.
مسألة: الترغيب في السنة والتحذير من البدعة
وقوله:
وقد أمرنا بالاقتفاء لآثارهم والاهتداء بمنارهم، وحذرنا المحدثات، وأخبرنا أنها من الضلالات؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة).
شرح:
الضمائر في (آثارهم ومنارهم) للأئمة المهتدين أئمة الأمة واحدهم إمام، يعني قدوة في الدين كما حكى الله تعالى عنهم: (ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما)(الفرقان:74) أي قدوة وأسوة، وقد أجاب الله دعوتهم - يعني صالحي الأمة- فصاروا أئمة يقتدى بهم.(1/63)
(وآثارهم) ليس المراد مواطئ الأقدام، وإنما المراد ما نقل عنهم، أي ما أثر عنهم، الآثار في الأصل هي بقايا الأقدام، أو مواطئ الأقدام، وتطلق على بقايا العلم كما في قوله تعالى: (أو أثارة من علم)(الأحقاف:4) يعني بقية، ويقول الشاعر:
تلك آثارنا تدل علينا فانظروا بعدنا إلى الآثار
يريد بالآثار المعلومات التي حفظت عنهم، ونقلت عنهم، فأمرنا بتقفي آثارهم يعني باتباعها لأنهم اقتفوا أثر نبيهم صلى الله عليه وسلم.
وأمرنا بأن نستنير بمنارهم، وأصل المنار العلم الكبير، أو النور الظاهر، ولكن هنا يطلق على علومهم التي هي نيرة مضيئة ساطعة يظهر لمن تأملها وضوحها، أمرنا بأن نسير على ذلك المنار، وأن ننهج ذلك المنهج حتى نكون بذلك معهم نسير كما يسيرون ونقف كما يقفون.
الأمر من النبي صلى الله عليه وسلم -في الحديث الذي مر بنا، وهو الحديث المشهور الذي رواه العرباض بن سارية، وفيه: (وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة بليغة، وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون، فقلنا: يا رسول الله، كأنها موعظة مودع فأوصنا، فقال: (أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة، وإن تأمر عليكم عبد حبشي، فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تسمكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة).
وقد شرح هذا الحديث ابن رجب الحنبلي في جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثاً من جوامع الكلم، وذكر جملة من المواعظ التي نقلت عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد أجمل الصحابي رضي الله عنه في هذا الحديث تلك الموعظة، فكأنهم استشعروا أنها توصية أو أنها توديع، فلذلك قالوا: (موعظة مودع) كأنك تودعنا، ويكون ذلك في آخر حياته صلى الله عليه وسلم، ولا نطيل فيما يتعلق بالحديث.(1/64)
ولكن يهمنا قوله صلى الله عليه وسلم: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي) هذا حث على التمسك بها، فإن كلمة عليكم أمر كقوله تعالى: (عليكم أنفسكم)(المائدة:105) فمعناه الزموا سنتي وسيروا عليها، وتمسكوا بها، وانهجوا نهجها، واعملوا بها حسب استطاعتكم، هكذا ذكروا أن هذه اللفظة: (عليكم بكذا) تقتضي الأمر، أو الالزام أن التأكيد فأنت إذا قلت مثلاً: عليك بقراءة القرآن فإنك تحث عليها، أو تنهى عن شيء تقول مثلاً: عليك بالبعد عن الفواحش، فكلمة (عليك بكذا) تقتضي الأمر. وكلمة (إياك وكذا) تقتضي الزجر.
واقتصر على (إياكم ومحدثات الأمور) دون أن ينهى عنها، فلم يقل: اتركوها، ابتعدوا عنها؛ لأن كلمة (إياكم ومحدثات الأمور) أبلغ من اتركوها، وإذا قلت مثلاً: إياك وأصحاب السوء إياك وقرين السوء إياك وجلساء السوء معناه: احذرهم وابتعد عنهم، فإياكم ومحدثات الأمور أي ابتعدوا عنها.
وهنا أيضاً من التأكيد على السنة قوله: (عضوا عليها بالنواجذ) بعد قوله: (تمسكوا بها)، وهذا كله حث على العمل بها، فإن التمسك في الأصل الإمساك باليدين، وقد ينفلت منك الشيء الذي أمسكته بيديك، فتحتاج إلى زيادة توثق، وليس عندك إلا أسنانك بل أقاصي أسنانك، وهي النواجذ (عضوا عليها بالنواجذ) أي مع تمسسككم بها باليدين زيدوا على ذلك العض عليها بأقاصي الأسنان، ليكون ذلك أقرب إلى الثبات عليها، وكأنه استشعر أن هناك من يزعزعك عن هذه السنة، ويسعى في تفلتك منها، ويخذلك لكي تتركها وتتخلى عنها؛ من دعاة السوء والباطل وأهل الشبهات والتشكيكات ونحوهم، فكأنه لما علم كثرة الفتن التي توهن التمسك بالسنة أمر بشدها بقوة، وأمر بإمساكها إمساكاً قوياً.(1/65)
والسنة في الأصل: هي الطريقة التي يسار عليها، وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، هي الشريعة التي بلغها، وتطلق على أقواله وأفعاله وتقريراته، وتطلق على الشريعة التي جاء بها على أنها من دينه الذي أُرسل به، وتطلق على الأحاديث التي هي موضحة للقرآن، فيقال: القرآن هو كتاب الله، والسنة هي أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم.
ولكن الأصل أن السنة هنا هي الشريعة التي كان عليها (عليكم بسنتي) يعني ما أنا عليه وما أعمله، وما أقوله، وما بلغتكم به من هذه الشريعة، سواء في الاعتقادات أو في الأعمال كل ذلك من السنة فسيروا على نهجه، واعملوا بما يعمل به، وبذلك تصلون إلى سبيل النجاة.
والخلفاء الراشدون معروفون، وسموا بذلك لأنهم خلفوا رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ خلفوه في الولاية، وفي التبليغ، وفي الأعمال، فبلغوا ما بلغ -رضي الله عنهم- وساروا على نهجه وألزموا أنفسهم أن لا يتركوا شيئاً مما كان يعمل به النبي صلى الله عليه وسلم إلا عملوه.
التزم بذلك أولهم الذي أطلق عليه خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، واتفق الصحابة على تلقيبه بهذا (خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وقد وافقوا على ذلك، ولم يخالف في زمنه أحد يقول: إنه لا يستحق هذا الاسم، بل المسلمون على وجه الأرض اتفقوا على أن يخلف النبي صلى الله عليه وسلم، أو أن النبي صلى الله عليه و سلم استخلفه إما بالصراحة، وإما بالإشارة.
والخلفاء الراشدون خلافتهم ثلاثون سنة، ورد في حديث سفينة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الخلافة بعدي ثلاثون سنة، ثم تكون ملكاً) وفي حديث آخر (تدور رحى الإسلام لخمس وثلاثين سنة) ولعله إشارة إلى (مقتل عثمان رضي الله عنه)، وما حصل بعده من الفتن.
فنعرف من هذا الحديث أن الخلفاء الراشدين سماهم النبي صلى الله عليه وسلم: خلفاء ووصفهم بثلاث صفات:
الصفة الأولى: (الخلافة)، أي أنهم خلف عنه.
الصفة الثانية: (الراشد).
الصفة الثالثة: (الهداية).(1/66)
وكفى بها تزكية لهم، وحثاً على السير على نهجهم، وشهادة بأنهم أهل حق وصواب، وأن الذين يطعنون فيهم قد خالفوا العقل والنقل، وعاندوا في ترك ما هو أشهر من نار على علم، من السنة التي جاءت في مدحهم وتزكيتهم، مع هذه التزكية من النبي صلى الله عليه وسلم، وتسميتهم خلفاء. فتجدون الرافضة يسبّونهم ويقذعون في سبّهم، وبالأخص الثلاثة أبا بكر وعمر وعثمان، ويشتمونهم، ويدعون أنهم مغتصبون للخلافة، وعلى هذا لا يكون لهذا الحديث -عندهم- فائدة، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وهذا الحديث -أيضاً- إخبار من النبي صلى الله عليه وسلم بأن هناك محدثات، والمحدثات هي المبتدعات، فحذر منها، وأخبر بأن كل محدثة بدعة، ويراد بها ما يضاف إلى الشريعة من الأقوال والأفعال والعقائد، وأنه حادث بعد أن لم يكن، وأنه ضلال (كل بدعة ضلالة)، والضلال هو الضياع، الضال هو التائه الضائع الذي ليس على هدى وليس على بيان.
وتلك البدع والمحدثات كثيرة، ولكن المهم منها ما يتعلق بالعقيدة فإن من عقيدة المسلمين -مثلاً- أن الرب سبحانه وتعالى موصوف بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، ثم حدثت بدعة من فئة تنكر ذلك، وسموا معطلة، فهذه بدعة ضالة.
ومن عقيدة المسلمين؛ أن الإنسان ينسب إليه عمله وليس بمجبور، ثم حدثت بدعة فيها؛ أن الله لا يقدر على أفعال العباد، وهذه بدعة ضلال، ومن عقيدة المسلمين أن الإنسان ينسب إليه عمله ثم حدثت بدعة فيها؛ أن الإنسان ليس له اختيار، وأنه مجبور على فعله، وهذا بدعة ضلال.
وهكذا بقية البدع كبدعة الخوارج، وبدعة المعتزلة، وبدعة التكفير والتفسيق، وما أشبه ذلك، كلها من البدع التي أخبر بها في هذا الحديث (إياكم ومحدثات الأمور)، وليس المقام مقام الكلام على تفنيد البدع، فهي مشهورة في كتب العلماء رحمهم الله.
مسألة: قول ابن مسعود رضي الله عنه في هذا الباب
وقوله:(1/67)
وقال عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: (اتبعوا، ولا تبتدعوا، فقد كفيتم).
شرح:
وهذا أيضاً من الآثار التي يستأنس بها، فابن مسعود رضي الله عنه من أجلاء الصحابة، أسلم قديماً، وهاجر، ونفع الله بعلمه، وزكاه عمر رضي الله عنه، وقال: (كنيف مُلئ علماً)، وأرسله إلى العراق، وكان له تلامذة في الكوفة يأخذون برأيه، وحفظوا عنه علماً جماً، توفي سنة (32هـ) في خلافة عثمان.
قوله: (اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم) اتبعوا من قبلكم؛ يخاطب تلامذته، وتلامذته لم يكونوا من الصحابة ولم يدركوا زمن النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإما أنهم من مسلمة العراق الذين ما أسلموا إلا في خلافة عمر، أو في خلافة عثمان، أو من المهاجرين من أهل اليمن، ونحوهم، فهو يوصي أولئك، فيقول: اتبعوا صحابة نبيكم صلى الله عليه وسلم، واقتدوا بهم، ولا تحدثوا في الدين ما لم يأذن به الله، ولا تشرعوا ما لم يكن في الشريعة ولا تكونوا من الذين قال الله فيهم (شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله)(الشورى:21) فإن الله تعالى أكمل الدين على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم، فلا حاجة إلى بدع تضاف إلى هذه الشريعة، فقد كفيتم، يعني كفاكم من قبلكم حيث حملوا الشريعة، وبينوها وبينوا لكم ما تقولونه بألسنتكم وما تعتقدونه بقلوبكم، وما تعملونه بأبدانكم فيما يتعلق بالعبادات والمعاملات، وفيما يتعلق بالأخبار والنقول، وفي ذلك كفاية.(1/68)
وفي الأثر الآخر أنه قال: (من كان مستناً فليستن بمن قد مات، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة، أولئك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أبر هذه الأمة قلوباً، وأعمقها علماً، وأقلها تكلفاً، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه، ولحمل دينه؛ فاعرفوا لهم حقهم فإنهم كانوا على الهدى المستقيم) تزكية منه رضي الله عنه للصحابة، وأمر لمن بعدهم أن يقتدي بهم، وأن لا يبتدع من قبل نفسه، وكأنه استشعر أن هناك من سوف يقوم ببدع، وقد نقل هو أيضاً تحذيراً عن بعض البدع كبدعة الخوارج، فإنه روى بعض الأحاديث التي فيهم مع كونه مات قبل أن يخرجوا.
ولا شك أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أخبر أصحابه بكثرة البدع وبكثرة الاختلافات، ففي حديث العرباض الذي ذكرنا يقول صلى الله عليه وسلم: (إنه من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيراً) يعني من طالت حياته فسيرى اختلافاً كثيراً، وقد وقع هذا الاختلاف، أوله: خلافهم على عثمان حتى قتلوه، ثم خلافهم فيما بينهم حتى حصلت المعارك، ثم خروج الخوارج، وقتالهم من لقوه من المسلمين، ثم بعد ذلك خروج القدرية وخروج الرافضة، وهكذا البدع التي خرجت.
فابن مسعود رضي الله عنه يقول: اتبعوا من قبلكم ولا تبتدعوا من قبل أنفسكم يعني في الشريعة، وتتعبدوا بالبدع، فقد كفيتم أي قد وضحت الشريعة لكم فاقتصروا عليها.
مسألة: قول عمر بن عبدالعزيز رضي الله عنه في هذا الباب
قوله:
وقال عمر بن عبدالعزيز رضي الله عنه كلاماً معناه: (قف حيث وقف القوم، فإنهم عن علم وقفوا، وببصر نافذ كفُّوا، ولهم على كشفها كانوا أقوى، وبالفضل -لو كان فيها- أحرى، لئن قلتم: حدث بعدهم. فما أحدثه إلا من خالف هديهم، ورغب عن سنتهم، ولقد وصفوا منه ما يشفي، وتكلموا منه بما يكفي، فما فوقهم مُحَسِّر، وما دونهم مُقَصِّر، لقد قصَّر عنهم قوم فجفَوا، وتجاوزهم آخرون فغلوا، وإنهم فيما بين ذلك لعلى هدىً مستقيم).
شرح:(1/69)
عمر بن عبدالعزيز خليفة راشد، ألحقه علماء الأمة بالخلفاء الراشدين مع قصر مدة خلافته (سنتان وبضعة اشهر) كخلافة أبي بكر، ولكن أعاد فيها الحق إلى نصابه، وأبطل البدع والمحدثات، ونصر السنة، وقمع المبتدعة، ورد المظالم، وعدل في الناس، وسار سيرة حسنة حمده عليها جميع المسلمين، ولم ينقم عليه لا من قريب، ولا من بعيد.
وكفى أنه يستشهد بقوله، وذلك لأنه جمع مع الولاية علماً، أي أنه مع قصر عمره من علماء الأمة، وكذلك من مفكريها ومن ذوي الرأي فيها، وكثيراً ما يستشهدون بمقاله، ويروون عنه حكماً وفوائد تدل على حنكة وفضل، ومعرفة بالشريعة وبأهدافها.
يقول في هذا الأثر (قف حيث وقف القوم) يريد بالقوم العلماء الذين قبلهم، يخاطب أهل زمانه إما في خلافته، وإما في إمارته، فقد كان أميراً على المدينة قبل أن يستخلف، أي في زمن الوليد بن عبدالملك، ولاه إمارة المدينة فسار فيهم سيراً حسناً محموداً، فهو يقول: (قف حيث وقف القوم) أي الصحابة، وتلامذة الصحابة؛ العلماء الذين هم علماء الأمة؛ ورثة النبي صلى الله عليه وسلم.
كأنه يقول: لا تتجاوزوهم وتخوضوا في ما لم يخوضوا فيه، ولا تتقعروا وتبحثوا عن أشياء ما أذن الله بها، وليس لكم إلى معرفتها سبيل، فلا تبحثوا في الأمور الغيبية التي حُجبت عنكم، ولا تكثروا من السؤال عن الأشياء التي لا حاجة لكم بها، فقد وقف عنها من قبلكم فما بحثوا في جوهر، ولا عرض، ولا حد، ولا تعاريف، ولا حيز، ولا جهات، ولا أبعاض، ولا مركبات، ولا محدثات وما أشبه ذلك من الأمور التي أحدثتموها.
فإنهم -يعني الصحابة، وتابعيهم- عن علم وقفوا؛ يعني سكتوا عن هذه الأشياء عن علم، عرفوا أن فيها خطراً، فلم يتكلموا فيها، فما وقفوا إلا عن علم قلبي وقر في قلوبهم، (وببصر نافذ كفوا) كف البصر هنا ليس هو بصر العين، ولكنه بصر القلب يعني البصيرة، أي أن ذلك البصر نافذ لهذه العلوم، وقد تخيل ما وراءها من المفاسد.(1/70)
فكر -رضي الله عنه- فعرف أن الصحابة وتلامذتهم كفوا عن الخوض في هذه العلوم -مع قدرتهم عليها- عن علم، لا أنها لم تحدث عندهم بل عرفوا أنها ستكون، ولكنهم وقفوا عنها.
فقد ورد أنه جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إن أحدنا يجد في نفسه؛ لأن يكون حممة أحب إليه من أن يتكلم به، فقال: (الله أكبر الله أكبر الله أكبر، الحمد لله الذي ردّ كيده إلى الوسوسة) وفي رواية أنه قال: (ذاك صريح الإيمان) يعني الذي لا يتكلم بهذه الأشياء التي تخطر في باله، بل يزيلها عن قلبه؛ هذا صريح الإيمان، فإذا جاءتك هذه الخطرات، وهذه الأوهام، والتخيلات، وأبعدتها عن نفسك فإنك متبع لهم (عن علم وقفوا وببصر نافذ كفوا).
ولهم على تجليتها وإظهارها أقدر، لو كان فيها فائدة لتكلموا بها فإنهم علماء وفصحاء، فهم على إظهار الخير الذي فيها أقدر، وهم أولى وأحرى أن يبينوا ما فيها لو كان فيها مصلحة، ولكن علموا أنه لا مصلحة فيها فكفوا عنها.
وإذا قيل: حدثت بعدهم، لو كانوا أدركوها لتكلموا فيها؛ يعني ما أحد تكلم في طبقات السماء مثلاً، ولا في مكونات الأرض، ولا في خلق الروح مثلاً وتكوينها ومن أي شيء خلقت ، ولا في تقسيم الموجودات إلى جواهر وأعراض، ولا في الجسم وما يتركب منه وتعاريفه وما أشبه ذلك، ولا تكلم في زمن الصحابة أيضاً في الأعراض، ولا في الأبعاض، ولا في الطبقات وما أشبه ذلك، فما حدثت هذه العلوم إلا بعدهم.
ما الجواب؟ أجاب رضي الله عنه: (بأن الذين أحدثوها أنقص منهم علماً) ما أحدثها إلا أناس لا علم عندهم كما عند الصحابة، وإلا فإن الصحابة يقدرون أن يخوضوا، وما أحدثها بعدهم إلا من هو دونهم في العلم، وفي المواهب.(1/71)
ثم أخبر بأن الذين بعدهم انقسموا إلى قسمين: قسم قصروا، وقسم غلوا، الذين قصروا كأنهم الذين اقتصروا على ذكر الأحكام فقط، ولم يخوضوا في العلوم الغيبية، ولم يتكلموا فيها معرضين عنها بألسنتهم وبقلوبهم، فهؤلاء مقصرون، والذين غلوا هم الذين توسعوا فيها وتكلموا فيها كلاماً طويلاً، وولدوا فيها توليدات، ووقعوا في آخر أمرهم في حيرة وفي شك، وفي بعد عن الحق، فأدى بهم ذلك إلى أن يموتوا وهم شكاك لا يدرون ما يعتقدونه، فصاروا في طرفي نقيض؛ قوم قصروا، وقوم غلوا..
وتوسط الصحابة، وتوسط الأئمة، فلم يتركوا هذه العلوم جانباً بل تكلموا فيها بما يكفي، وقالوا فيها ما يشفي، وأوضحوا منها ما هو الحق، فأوضحوا للأمة عقيدتهم، أوضحوا للأمة أن تعتقد الأسماء والصفات التي نقلت وثبتت بالأدلة، وأوضحها الله تعالى في الكتاب والسنة، وأن ينزه الله تعالى عن صفات النقص، وأن يُعتقد البعث النشور والجزاء على الأعمال، وأن يدينوا بالعبادات ويتركوا المحرمات، وكفى بذلك بياناً، والذين لم يتكلموا فيها مقصرون.
روي أن بعض التلامذة سألوا ابن المبارك، وقالوا: إنا نكره أن نتكلم في هذه الصفات؛ يعني في إثبات العلو والاستواء، والنزول، وما أشبه ذلك -فقال: أنا أكره منكم لها، ولكن لما جاءت بها النصوص واشتملت عليها الأدلة تجرأنا على الكلام بها، وجسرنا على أن نقولها اعتماداً على الدليل، وكفى بالآيات دليلاً، أو كما قال. فأخبر بأنا قد نتوقف عندما تذكر لنا بعض الصفات التي لا دليل عليها، فإذا وجدنا لها دليلاً تكلمنا عليها بجراءة ولم نخف.(1/72)
فهكذا كان الصحابة رضي الله عنهم، وكان تلامذتهم يتكلمون بالدليل ولا يبالون، وهكذا نقل عنهم عمر بن عبدالعزيز رضي الله عنه: أنهم كانوا وسطاً؛ ليسوا من الذين يعرضون عن هذه الأشياء ولا يذكرونها في عقائدهم، ويستوحشون إذا ذكرت؛ كما نقل أن رجلاً انتفض لما سمع حديثاً في الصفات استنكاراً لذلك، فقال علي: (ما فرق هؤلاء؟ يجدون رقة عند محكمه، ويهلكون عند متشابهه) كأنهم لا يجرؤون على أن يتكلموا بشيء من الآيات والأحاديث التي تشتمل على ذكر صفة من الصفات، والحق أن نتجرأ ونتكلم بها ولا نتردد في إثباتها هذا هو الصواب، ولكن لا نتقعر ونغلو فنتكلم في أشياء لا دليل عليها.
(فما فوقهم محسر) أي الذين يتجاوزونهم، و(ما دونهم مقصر) وهم بين ذلك على هدى مستقيم؛ أي وسط بين طرفين، وهكذا أهل السنة متوسطون بين طرفي نقيض بين ممثلة وبين معطلة.
مسألة: قول الإمام الأوزاعي رضي الله عنه في هذا الباب
قوله:
وقال الإمام أبو عمرو الأوزاعي رضي الله عنه: عليك بآثار من سلف وإن رفضك الناس، وإياك وآراء الرجال وإن زخرفوه لك بالقول.
شرح:
الأوزاعي إمام أهل الشام من كبار تابع التابعين، أدرك كثيراً من علماء التابعين، وكان قدوة وأسوة في علمه رضي الله عنه ورحمه، وكان أيضاً من جهابذة الأمة ومن علمائها الذين حفظ الله بهم السنة في تلك البلاد.
يحثنا -رحمه الله تعالى- في هذا الأثر على أن نتبع آثار من سبق، وإن هجرَنا من هجرَنا؛ (وإن رفضك الناس)، كأنه استشعر أن هناك من يهجر الحق ويهجر أهله الذين يروون أحاديث السنة، وأحاديث الصفات، ويمقتهم ويرميهم بأنهم مشبهة، وبأنهم ممثلة، فيقول: عليك بآثار من سبق، يعني الآثار التي يروونها، والتي يقولونها ويذهبون إليها، ويريد بمن سبق الصحابة، والتابعون من علماء الأمة، عليك بآثارهم؛ اتبع آثارهم وسر على نهجهم.(1/73)
(وإن رفضك الناس)، ولو لقيت هجراناً وإهانة ما دمت على الحق، وما دمت متبعاً لمن هم على الحق، فلا تبال بمن هجرك، أو حقرك، أو مقتك.
(وإياك وآراء الرجال وإن زخرفوها لك بالقول) يعني احذر الآراء، (الآراء) هنا جمع رأي، والقول الذين لا دليل عليه يسمى رأياً، وجمعه أراء، وهي الأقوال التي يقولها بعض الناس بمجرد فكره، وبمجرد نظر يراه لا دليل عليه، فهؤلاء يجب أن نحذرهم ونبتعد عنهم.
وهذا الأثر فيه أن الحق أحق أن يتبع، وأن هناك من يشجع على الباطل ويدعو إليه ويزخرف، ويأتي له بعبارات مشوقة، وما أكثرهم في زماننا، يأتون بكلمات وعبارات مبهرجة يمدحون بها طرقهم، كطرق التصوف مثلا أو التشيع، أو النفي، أو التعطيل ونحو ذلك، ويزعمون أن هذه الطريقة المثلى، وأن سلوكها هو الطريق الأقوم، وأن الذين عليها هم أهل النجاة، وأن من خالفها فهو من أهل الهلاك أو التردي، وما أكثرهم في كل زمان.
مسألة: قول الإمام الأدرمي رضي الله عنه في هذا الباب
قوله:
وقال محمد بن عبدالرحمن الأدرمي لرجل تكلم ببدعة ودعا الناس إليها، هل علمها رسول الله صلى الله عليه و سلم وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي، أو لم يعلموها؟ قال: لم يعلموها. قال: فشيء لم يعلمه هؤلاء علمته أنت؟ قال الرجل: فإني أقول: قد علموها. قال: أفوسعهم أن لا يتكلموا به، ولا يدعوا الناس إليه، أم لم يسعهم؟ قال: بلى وسعهم. قال: فشيء وسع رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفاءه لا يسعك أنت؟ فانقطع الرجل. فقال الخليفة -وكان حاضراً-: لا وسَّع الله على من لم يسعه ما وسعهم. وهكذا من لم يسعه ما وسع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، والتابعين لهم بإحسان، والأئمة من بعدهم، والراسخين في العلم من تلاوة آيات الصفات، وقراءة أخبارها، وإمرارها كما جاءت فلا وسع الله عليه.
شرح:(1/74)
هذه القصة مشهورة في كتب السنة: توجد فيها بطرق كثيرة، وبألفاظ كثيرة كما في كتاب الشريعة (للآجري) وغيره، وفي ترجمة الإمام أحمد (لابن الجوزي)، وفي غيره من كتب أهل السنة. هذا الإمام سماه بعضهم محمد بن عبدالرحمن، وبعضهم سماه عبدالله بن محمد، عالم من علماء الأمة.
ذكروا أنه لما أحضر إلى الخليفة، والخليفة في زمنهم هو الواثق، قال له: ناظر أبا عبدالله يريد المبتدع الخبيث الذي يقال له: أحمد بن أبي دؤاد، وكان هو الذي زين للخلفاء أن يفتنوا العلماء، وأن يلزموهم بهذه البدعة التي هي القول بخلق القرآن، فقال هذا العالم -رحمه الله-: إنه ليس أهلاً أن يناظرني ولا أن أناظره؛ فغضب الخليفة، وقال: أبو عبدالله ليس كفؤاً وليس أهلاً؟ فطمأنه، وقال: مهلاً سوف يظهر الحق ويتبين عند المناظرة، أناظره تمشياً على رغبتك. وقد رويت القصة بألفاظ مطولة، كما في كتاب الشريعة.
وذكروا أنه جيء به موثقاً إلا أنه أصرَّ أن يعلن أن القرآن كلام الله غير مخلوق، فلما أحضر عند الخليفة وبدأ في المناظرة، أتى بما ملخصه أن قال له: هذه البدعة، أو هذه المقالة التي تقول بها أنت، هل علمها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي؛ خلفاء الأمة، الخلفاء الراشدون، خلفاء النبي صلى الله عليه وسلم، الذين زكاهم وشهد لهم بالهداية؛ هل علموها أو لم يعلموها؟
فقال أولاً: ما علموها. فتعجب وقال: كيف تعلمها أنت؟ ولم يعلمها الصحابة والخلفاء الراشدون؟، ولم يعلمها الرسول صلى الله عليه وسلم وعلمتها أنت؟ هل نزل عليك وحي؟ هل أنت رسول من الله تعالى؟ ما الدليل على رسالتك؟ ما هو الوحي الذي نزل عليك حتى تكون أنت أعلم من الرسول، وأعلم من الخلفاء؟ فتحير ابن أبي دؤاد، ولم يجد بداً من أن يقول: بل علموها.(1/75)
فانتقل محمد بن عبالرحمن -رحمه الله- إلى أن يقول له: ما دام أنهم علموها، فهل دعوا إليها، وفتنوا الناس وألزموهم بما ألزمتهم به، وعذبوا من أنكرها وحبسوهم، وأنكروا على من خالفهم، أو لم يدعوا إليها؟
من المعلوم أنهم ما دعوا إليها، بل ولم يشتهر أنهم قالوا: إن القرآن مخلوق، ولم يقل ذلك أحد من الأمة، فقال: لم يدعوا إليها. لابد أن يعترف لأن التواريخ في القصص المشهورة؛ أنهم ما دعوا إليها، ولا فتنوا أحداً، ولا ألزموه أن يقول هذه المقالة الشنيعة التي هي الإلزام بأن القرآن مخلوق، فلما لم يجد بداً التزم واعترف بأنهم ما دعوا إلهيا.
فعند ذلك قال له: فهلا وسعك ما وسعهم ما دام أنهم علموها وسكتوا، وتركوا الناس على معتقداتهم ولم يفتنوا أحداً، ولم يلزموا أحداً، ولم يعذبوا أحداً، ولم يقولوا لهم هذه المقالة باطلة، أو هذه المقالة حق أو نحو ذلك. فاسكت كما سكتوا، ويسعك ما وسعهم، فإن كنت على صواب فصوابك لنفسك، ولا تغير عقائد غيرك، وإن كنت على خطأ فخطؤك على نفسك، أما غيرك فلا تغير عليهم ما دام الرسول وصحابته لم يغيروا عليهم ولم يفتنوهم، فانقطعت حجته عند ذلك.
والخليفة الذي كان قد سبب الفتنة، والذي كان أول من اتصل به ابن أبي دؤاد وبشر المريسي من الخلفاء -هو الخليفة المأمون، وهو ابن هارون الرشيد، هذا الخليفة هو الذي أظهر قوله بخلق القرآن، ودعا إليه، وفتن كثيراً من الأئمة، وجيء بالإمام أحمد إليه، فدعا الله أن لا يريه وجهه، فاستجاب الله دعوته، فمات المأمون قبل أن يصل إليه الإمام أحمد.(1/76)
ولكن تولى الخلافة بعد المأمون أخوه المعتصم، وكلاهما من أولاد الرشيد رحمه الله، وهو رشيد كاسمه؛ كان يغزو سنة ويحج سنة، وكان ينصر السنة كأبيه وجده، ولكن ولداه المأمون والمعتصم اتصل بهما هؤلاء المبتدعة، وزينوا لهما البدعة التي هي إنكار الصفات وإنكار كلام الله تعالى، وإنكار أن يكون القرآن كلامه، والقول بأنه مخلوق، حتى جيء بالإمام أحمد وبقي سجيناً عند المعتصم، وجلد في زمنه عدة مرات، وأطيل تعذيبه، وعذّب عذاباً شديداً، ولكنه تحمل ذلك وصبر.
ثم بعد ثماني سنين مات المعتصم، وتولى بعده ولده الواثق الذي جرت عنده قصة الأدرمي، والواثق ولد المعتصم، والصحيح أنه رجع عن هذه المقالة بسبب هذه الحجة التي احتج بها الأدرمي رحمه الله.
وتولى بعده ولده المتوكل بن الواثق وهو الذي نصر السنة، وأكرم الإمام أحمد، وأعزه ومكنه من أن يظهر السنة، واستدل على أن أباه الواثق قد رجع عن هذه المقالة بقصة الأدرمي معه؛ حيث إنه قال: لا وسع الله على من لم يسعه ما وسع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر وعثمان وعلياً. ما دام أنه وسعهم السكوت، فكيف لا يسعنا؟ الأولى بنا أن نسكت كما سكتوا، وأن نكل الناس إلى ما يعتقدونه من الأدلة.
ومع أن الإمام أحمد -رحمه الله- قد بالغ في ذكر الأدلة التي استدل بها عندهم. وذكر لهم أحاديث وآيات إلا أنهم لم يقتنعوا واستمروا على مقالتهم الباطلة إلى أن ظهر الحق وأعز الله أهله والحمد لله.
مسألة: بعض آيات الصفات
قوله:
فمما جاء من آيات الصفات قوله تعالى: (ويبقى وجه ربك)(الرحمن:27)، وقوله تعالى: (بل يداه مبسوطتان)(المائدة:64).
شرح:
قد عرفنا أن صفات الله تعالى تنقسم إلى قسمين: صفات ذات، وصفات فعل، وأن الصفات الذاتية هي التي تلزم الذات، وتكون ملازمة للموصوف بها دائماً لا تنفك ولا تنفصل في وقت من الأوقات، فهي جزء من ذات الشيء التي هي ماهيته وما يتكون منه.(1/77)
فمثلاً إذا قلنا إن هذا الإنسان الماثل أمامنا يوصف بصفات ذاتية، وبصفات فعلية؛ فسمعه، وبصره، ولسانه، ويده، ورجله، وبطنه، وظهره أجزاء منه، وكذا أجزاؤه الباطنة كقلبه، ورئتيه، وكبده، وأمعائه هي أجزاء منه، فنحن نقول: إن الصفات الملازمة للموصوف هي صفات ذاتية.
فالله سبحانه وتعالى له المثل الأعلى، وقد أخبر عن نفسه بأنه متصف بصفات ملازمة له لا يمكن أن تنفك عنه، فمن ذلك هاتان الآيتان، فصفة الوجه صفة ذاتية؛ لا يمكن أن يكون بلا وجه في وقت من الأوقات، وقد ذكر الله تعالى صفة الوجه في عدة آيات منها هذه الآية: (ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام)(الرحمن:27)، ومنها قوله تعالى: (كل شيء هالك إلا وجهه)(القصص:88).
وترد في مواضع كثيرة كقوله تعالى: (إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى)(الليل:20)، وكقوله تعالى: (إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاءً ولا شكوراً)(الإنسان:9)، وكقوله تعالى: (واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه)(الكهف:28).
وهذه الآيات كلها دالة على صفة الوجه، فإذا أثبته أهل السنة؛ فإنهم يقولون: نثبته كما ورد، ولكن لا نخوض في أكثر من ذلك، ولا نقول: إن وجه الله يشتمل على كذا وكذا، حيث إن ذلك يحتاج إلى دليل. وهذا هو القول الصحيح.
وأما الأحاديث فقد ورد -أيضاَ- فيها كثيراً إثباتُ صفة الوجه كقوله صلى الله عليه وسلم: (وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلى رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن)، وفي الحديث المشهور في الدعاء: (أسألك لذة النظر إلى وجهك) وفي حديث الحجاب يقول صلى الله عليه وسلم: (حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره). وغير ذلك، وهي أحاديث صحيحة مشهورة تلقاها، وتقبلها أهل السنة، وآمنوا بهذه الصفة كما ذكرها الله وأثبتها لنفسه، وقالوا: هذه صفة كمال.(1/78)
وأما قوله تعالى: (ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله)(البقرة:115) فهذه تكلم عليها شيخ الإسلام ابن تيمية، وقال: ليست من آيات الصفات، فإن المراد هنا (فثم وجه الله) أي فثم وجهة الله التي وجهكم إليها لتصلُّوا إليها، فلا يصح استدلال أهل الحلول بها على أن وجه الله في كل مكان -تعالى الله عن قولهم- بل نقول: وجه الله في هذه الآية: الجهة التي يوجه العبد إليها؛ أي فثم الوجهة التي وجهكم إليها، وأمركم بأن تتوجهوا إليها؛ لقول الله تعالى: (ولكل وجهة هو موليها)(البقرة: 148)، ولا يقال: إن هذا تكلف، وإن هذا تأويل، لأن هذا تقتضيه اللغة.
وأما من أنكر صفة الوجه وهم جميع المبتدعة كالمعتزلة، ومن انضم إليهم كالرافضة على عقيدة الاعتزال، وكذلك الخوارج، ومنهم الإباضية - ينفون صفة الوجه لله تعالى، ويفسرونه بالذات، إذا جاءتهم الآيات التي فيها إثبات الوجه قالوا: المراد الذات، قال تعالى: (ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام)(الرحمن:27) أي ذاته (كل شيء هالك إلا وجهه)(القصص:88)أي ذاته.
الجواب: إن هذا وإن كان صحيحاً في اللغة؛ أنه يطلق الجزء على الكل - لكن لا شك أنها دالة على إثبات صفة الوجه، وأنه جزء من الذات، فإن النص على الوجه يدل على ثبوته، والذات تابعة للوجه، ويرد عليهم أيضاً بالأحاديث التي فيها التصريح بالوجه كقوله صلى الله عليه وسلم: (لأحرقت سبحات وجهه)، (إلا رداء الكبرياء على وجهه) فإنها دالة عليه صراحة، ونحن نؤمن بإثبات هذه الصفة ولا نكيفها، ومعلوم أيضاً أنها من صفات الكمال.
وتأولها بعض المتأولين، وقالوا: المراد بالوجه عند العرب الجانب أو ما يعبر عنه بالبعض، أو نحو ذلك، ويقولون مثلاً: وجه هذه المسألة كذا وكذا، أو وجه هذا الجواب كذا وكذا، فيحملونه على أنه: ما يفهم منه، أو ما يفسر به؛ ولكن هذا يصعب عليهم تأويله في الأدلة الكثيرة.(1/79)
ثم الآية الثانية قوله تعالى: (بل يداه مبسوطتان)(المائدة:64) فيها إثبات صفة اليدين، وهي أيضاً صفة ذاتية، ذكرها الله تعالى بالتثنية في هذا الموضع، وذكرها بالتثنية في موضع آخر في قوله تعالى: (ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي)(ص:75) وذكرها بصفة الجمع، ولكن مع ضمير الجمع في قوله تعالى: (أو لم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاماً)(يس:71)، وبصفة الإفراد في قوله تعالى: (تبارك الذي بيده الملك)(تبارك:1)، (بيدك الخير إنك على كل شيء قدير)(آل عمران: 26)، وذكرها بلفظ يمين في قوله تعالى: (والسموات مطويات بيمينه)(الزمر:76) هذا في القرآن.
والسنة المتواترة التي فيها ذكر اليد أو اليدين، أو نحو ذلك كثيرة، وكثيراً ما يحلف النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (والذي نفسي بيده) في عشرات الأحاديث وفي الحديث صلى الله عليه وسلم قوله: (ناصيتي بيدك) كذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن وكلتا يديه يمين).
وهكذا في قوله صلى الله عليه وسلم: (يمين الرحمن ملأى سحاء -إلى أن قال-: وبيده الأخرى الميزان يخفض ويرفع) وذكر قبضه للمخلوقات فقال صلى الله عليه وسلم: (يقبض الله الأرض ويطوي السماء بيمينه ثم يقول: (أنا الملك أين ملوك الأرض؟)، وفي رواية: (ثم يأخذهن بيده اليمنى ثم يقول: أنا الملك. أين الجبارون؟. أين المتكبرون؟، ثم يطوي الأرضين بشماله، ثم يقول: أنا الملك. أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟).
والأحاديث كثيرة في ذلك، وأورد كثيراً منها ابن كثير عند تفسير قوله تعالى: (والأرض جميعاً قبضته يوما القيامة)(الزمر:76) مما يدل على ثبوت هذه الصفة، والطريق فيها أيضاً الطريق في سائر الصفات؛ وهو أن نثبت لله تعالى يداً كما أثبت لنفسه ولكن لا نبالغ فنقول: إنها كأيدي المخلوقين.(1/80)
وورد في بعض الأحاديث ذكر الأصابع: (إن الله يجعل السماوات على إصبع، والأرضين على إصبع، والشجر على إصبع، والماء والثرى على إصبع، وسائر الخلائق على أصبع، فيقول ... الحديث).
فنقتصر أيضاً على ذلك، ولا نقول: إن هذا مشابه لصفات المخلوقين، ولا نقول: إن هذا ضرب مثل؛ كما يقوله النفاة الذين ينكرون هذه الصفات، ويجعلونها أمثلة لهيبة المقام، ويقولون: ذكر اليمين، وذكر القبضة، وذكر هز السماوات، وهز الأرض إنما هو لتهويل المكان ولتهويل الأمر، ولجلب الفزع والخوف في القلوب، ولاهتمام الناس بهول ذلك اليوم، وإلا فليس هناك قبض وليس هناك هز، وليس هناك يمين ولا غيرها. هكذا رأيت في تفسير كثير من الأشاعرة ونحوهم الذين ينكرون هذه الصفات.
ولا شك أن هذا رد للأدلة الواضحة، وتكلف في ردها، ومعلوم أن نبي الله صلى الله عليه وسلم فصيح، يقدر على أن يوضح للناس ما يهمهم وما يعتقدونه، فلو كان المراد أن يهول الأمر لأفصح لهم بذلك، فكونه يقول: )إن الله يقبض السماوات والأرضين، ثم يهزهن) لا شك أن هذا إخبار بشيء واقع ولابد؛ وما ذاك إلا ليبين أن الرب سبحانه وتعالى ذو العظمة، وذو الجلال والكبرياء الذي تصغر عنده المخلوقات والأجرام العلوية، والأجرام السفلية والمخلوقات كلها مع تباعدها وتنائيها -حقيرة وفقيرة وذليلة ومهينة أمام عظمة الباري وجلاله وكبريائه.(1/81)
إذا تصور الإنسان عظمة هذه المخلوقات، ثم حقارتها أمام عظمة الرب سبحانه وتعالى عظم ربه في قلبه وهاب أن يعصيه، وهاب أن يخالف أمره، واستحضر أنه على كل شيء قدير، وأنه لا يتعاظمه شيء، وأن جميع المخلوقات هي ملكه وخلقه وتدبيره، فيكون هذا سبباً في ذكر الأدلة على عظمة الله سبحانه وتعالى، حتى قال ابن عباس رضي الله عنه: (ما السماوات السبع والأرضون السبع في كف الرحمن إلا كخردلة في يد أحدكم) الخردلة التي هي أصغر من حبة الدخن كما هو معروف، فالله تعالى ذكر أنه يقبض السماوات والأرض، وروى ابن عباس ذكر مقدارها في قبضة الرب سبحانه وتعالى، والحاصل أن الكلام على إثبات اليدين.
ونقول لماذا ذكر الله اليد بلفظ مفرد كقوله: (تبارك الذي بيده الملك)(الملك:1)؟
الجواب: أن المراد جنس اليد، فإن الملك الحقيقي بيده سبحانه وتعالى، ولماذا ذكرها بلفظ جمع: (مما عملت أيدينا)(يس:71)؟ فالجواب أن المراد هنا التعظيم، فإنه ذكر نفسه بلفظ الجمع الذي يدل على العظمة، فإنه واحد سبحانه، ولم يقل (أيديه) بل قال: (أيدينا) بضمير الجمع مثل قوله: (إنا خلقنا الإنسان)(الإنسان:2) (إنا) ضمير للجمع، والجمع هنا للتعظيم، فكذلك يقال (أيدينا) للجمع، فالجمع للتعظيم؛ جمع الأيدي وجمع الضمير، فهذا وجه الإفراد ووجه الجمع.
يبقى التثنية في هذه الآية ونحوها، فذكرها بالتثنية دليل على أنها مقصودة، وأن لله تعالى يدين كما وصف نفسه، ودليله في الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: (وكلتا يديه يمين)، فدل على أن العدد مقصود، وأن لله يدين كما وصف نفسه، هذا هو قول أهل السنة.(1/82)
أما النفاة فماذا يقولون؟ تجدون في تفاسير الأشاعرة والمعتزلة ونحوهم -لهذه الآيات عجائب من أمرهم، وقد حكى ابن جرير رحمه الله عند تفسيره هذه الآية في سورة المائدة أقوالاً عنهم، وسماهم: (أهل الجدل)، في قوله: اختلف أهل الجدل في قوله تعالى: (بل يداه مبسوطتان)(المائدة:64). فذكروا أن المراد باليد النعمة، أو أن المراد باليد القدرة، أو أن المراد بذكر اليدين هنا تمثيل للكرم (يداه مبسوطتان) أي هو كريم وجواد يعطي ويكثر العطاء، وأن العرب تذكر اليدين وبسطهما وليس المراد حقيقة البسط، وإنما المراد كثرة العطاء، واستدلوا بقوله تعالى: (ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك)(الإسراء:29) أي مغلولة عن النفقة (ولا تبسطها كل البسط)(الإسراء:29)، أي تنفق نفقة طائلة.
ثم في النهاية قال رحمه الله: والقول الأخير أن اليد صفة من صفات الله. ثم أخذ ينصر هذا القول، ويؤيده، وأنها صفة من صفات الله تعالى أثبتها لنفسه و أثبتها له رسوله صلى الله عليه وسلم.
وذكر أن الله خلق آدم بيده في قوله تعالى: (لما خلقت بيدي)(ص:75) وأن تخصيص آدم بيده دليل على أنها اليد التي هي صفة من صفات الله تعالى. وأنه لو كان المراد خلقت بقدرتي لم يكن لآدم خصوصية، فإن إبليس خلق بقدرة الله، وكذلك الشياطين والجن، والمخلوقات كلها، والملائكة والسماوات والأرض كلها خلقت بقدرة الله، فلا يكون لآدم ميزة على هذه المخلوقات؛ على قولهم هذا.
والصواب أن قوله تعالى: (خلقت بيدي) دلَّ على فضيلة اختص بها، ومن ثم فإن اليد هنا على الحقيقة، وهذا القول هو الأرجح، وأنها صفة من صفات الله أثبتها لنفسه، فلا نخوض في أكثر من ذلك، وننزه الله عن أن يكون مشابهاً للمخلوقات.
مسألة: بعض آيات صفة النفس والمجيء والإتيان
وقوله:(1/83)
وقوله تعالى إخبار عن عيسى عليه السلام أنه قال: (تعلم ما في نفس ولا أعلم ما في نفسك)(المائدة:116)، وقوله تعالى: (وجاء ربك)(الفجر:22)، وقوله تعالى: (هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله)(البقرة:210).
شرح:
قوله: (تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك) فيها إثبات النفس لله تعالى، والنفس حقاً تطلق على الذات، قال الله تعالى: (كتب ربكم على نفسه الرحمة)(الأنعام:54) على نفسه يعني على ذاته، وتقول: جاءني فلان نفسه يعني تأكيداً حتى لا يُتوهم أنه جاءك رسوله أو ابنه، فإثبات النفس على أنها الذات معروف، ويمكن القول بأن قصد عيسى عليه السلام في قوله: (تعلم ما في نفسي) ما في ضميري؛ ما أُسره في نفسي وما أخفيه في قلبي، ومالا أتكلم به بل أحدث به نفسي خفية في قلبي، (ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب).
وبكل حال؛ هذا دليل على إثبات هذه الصفة، وإذا أطلقت النفس على الذات، أو أطلقت على ما في النفس يعني ما هو خفي، وما يضمره الإنسان، أو يخفيه الرب تعالى كان هذا سائغاً، وكان دليلاً واضحاً على إثبات هذه الصفة.
وقد تأولها كثير من المنكرين، وأنكروا إطلاق النفس على الله تعالى، مع أنها أطلقت في القرآن في هذه الآيات وما أشبهها، وكذلك في بعض الأحاديث، ولكن لا عبرة بهم ولا بتأويلاتهم، فنحن نتقبلها، ونكل كيفيتها إلى خالقها، هذا إثبات صفة النفس.
أما الآية التي بعدها: إثبات صفة المجيء (وجاء ربك)(الفجر:22)، وكذلك قوله تعالى: (هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة)(البقرة:210)، ومثلها قوله تعالى: (هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك أو يأتي بعض آيات ربك)(الأنعام: 158).(1/84)
هذه الآيات مما حصل فيها اختلاف كثير وإنكار كبير للمتأخرين من المتكلمين و بالغوا في تأويلها و حرفها عن ظاهرها وتجدهم ينكرون صفتي المجيء والإتيان ونحو ذلك، بل قرأت في تفسير بعض المعتزلة أو الأشاعرة - لمَّا أتى على الآية من سورة البقرة: (هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله) قال: وأما إتيان الله؛ فقد أجمع المسلمون على أن الله منزه عن المجيء والذهاب لأن هذا من شأن المحدثان والمركبات هذا علك منزه عن المجيء و الذهاب.
وسمعت من حكى مناظرة جرت بين سني وبين مبتدع؛ فقال المبتدع: أنا أكفر برب يزول عن مكانه. فقال السني: أنا أؤمن برب يفعل ما يشاء، فجعلوا المجيء والذهاب من صفات المحدثات والمركبات -كما يقولون- ونزهوا الرب عن أمثال هذا. وجعلوا النزول والمجيء والإتيان الذي ذكره الله تعالى أنه زوال عن مكانه وحركة، وجعلوا هذا تشبيهاً لمجيء المخلوق وانتقاله وما أشبه ذلك، ولكن لا إنكار في شيء من ذلك؛ فالأحاديث والآيات صريحة واضحة وليس لنا أن نتدخل في تأويلها، ونسعى في تحريفها.
ثم إن المتأخرين من المتكلمين يقولون في آيات المجيء والإتيان إن فيها قولين:
القول الأول: ينسبونه للسلف، وهو أنهم يعتقدون أن السلف يسكتون ولا يعتقدون فيها مجيئاً حقيقياً بل يسكتون عنها، ويتركون الكلام فيها، ويمرونها دون أن يتكلموا فيها أو يفسروها بأي نوع من أنواع التفسير، وإنما يسكتون عنها دون الخوض فيها، ويقولون: لا تأويل لها ولا تفسير لها ولا نخوض فيها، ولا نتكلم فيها، ولا ندري ما معناها، ولا نبحث في دلالتها. هكذا يزعمون أن السلف على هذه الطريقة.
والقول الثاني: تأويلهم لها بأنواع من التأويلات المتكلفة، وأكثرهم على أن فيها مقدراً تقديره: جاء أمر ربك، أو يأتيهم الله أي أمر الله (أو يأتي ربك)(الأنعام:158) أي أمر ربك.(1/85)
وكان من جملتهم زاهد الكوثري الذي حقق كثيراً من الكتب وأفسدها، فمن جملة ما حققه كتاب "الأسماء والصفات" للبيهقي، فإنه أفسده بتعليقاته عليه، ولما أتى على هذه الآية قال: إن الله يقول في سورة النحل: (هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي أمر ربك)(النحل:33)، قال: ما دام في سورة النحل (أو يأتي أمر ربك) فإنا نقول كذلك في سورة البقرة (هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله)(البقرة:210) أي أمر الله، وكذلك آية الأنعام (هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك) أي أمره؛ وكذلك في سورة الفجر (وجاء ربك)(الفجر:22)، أي جاء أمره فجعل هذا محمولاً على الآية التي في سورة النحل، وقال: إن القرآن يفسر بعضه بعضاً.
ونحن نقول: لا يلزم من إتيان أمر الله في آية سورة النحل عدم إتيانه تعالى في آية أخرى، وإذا أثبتنا لله الإتيان قلنا يجيء كما يشاء، والأحاديث التي في الشفاعة فيها؛ أن بني آدم يطلبون الشفاعة ليأتي الله لفصل القضاء بين عباده، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم: بأنه إذا طلبت منه الشفاعة جاء، فإذا رأى ربه سجد، وأطال السجود، فيقول الله تعالى له: (ارفع رأسك، وسل تعطه، واشفع تشفع .. الحديث).
وذلك دليل على أن الله تعالى يجيء لفصل القضاء مجيئاً يليق بجلاله، ولا يلزم من ذلك تشبيه بالمحدثات والمركبات، فنعتقد هذه الصفة ولا نقيسها على إتيان مخلوقاته بل يأتي الله تعالى ويجيء كما يشاء، ويفصل بين عباده، ولا ينافي ذلك عظمته وجلاله وكبرياءه وصغر المخلوقات بالنسبة إليه، وما ذاك إلا أنا لا نحيط به علماً، ولا نكيفه، ولا نكيف أية صفة هو عليها، هذا هو القول الحق.
وأما الآيات التي فيها إتيان أمر الله كقوله تعالى: (فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا)(الحشر:2)، فالمراد أتاهم الله بعذابه، وذلك لأنه معروف أن الله أرسل إليهم عذاباً؛ وهو الرعب الذي قذفه في قلوبهم، قال تعالى: (وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم)(الحشر:2).(1/86)
مسألة: بعض أيآت صفة الرضا والمحبة والغضب
والسخط والكراهية والمكر
قوله:
وقوله تعالى: (رضي الله عنهم ورضوا عنه)(البينة:8)، وقوله تعالى: (يحبهم ويحبونه)(المائدة:54)، وقوله تعالى: (وغضب الله عليهم)(الفتح:6)، وقوله تعالى: (اتبعوا ما أسخط الله)(محمد:28)، وقوله تعالى: (كره الله انبعاثهم)(التوبة:46).
شرح:
ذكرنا أن صفات الله تعالى: صفات ذاتية، وصفات فعلية، وهذه الآيات اشتملت على الصفات الفعلية، وهي التي يتصف بها إذا شاء، ولا تكون ملازمة للذات دائماً بل يتصف بها إذا شاء، ويتصف بضدها أو بغيرها؛ لأنهما ضدان، فعندنا في هذه الآيات الرضا والغضب؛ وفي آيات كثيرة.
مثال الرضا (رضي الله عنهم ورضوا عنه) في عدة سور، وكذا قوله تعالى: (لقد رضي الله عن المؤمنين)(الفتح:18).
ودائماً عندما نذكر الصحابة نقول: رضي الله عنهم، عملاً بقوله تعالى: (والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه)(التوبة:100)، فرضا الله تعالى صفة من صفاته، ولكنها صفة فعل، يرضى إذا شاء ويغضب إذا شاء.
وقد ذكر الله الغضب في عدة آيات كقوله تعالى: (والخامسة أن غضب الله عليها)(النور:9)، وكقوله تعالى: (وغضب الله عليه ولعنه(النساء:93)، وكقوله تعالى: (وغضب الله عليهم ولعنهم وأعد لهم جهنم وساءت مصيراً)(الفتح:6)، وفي حديث الشفاعة (إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله) فأثبت أن هذا غضب متجدد، وأنه لا يكون بعد هذا اليوم مثله، ودل على أن الغضب صفة فعل يغضب على من يشاء، ويرضى عمن يشاء.
فعلى هذا، فالصفتان، لا يمكن أن يرضى ويغضب في حالة واحدة على شخص واحد، ولا يقال هذا رضي الله عنه وغضب عليه في حالة واحدة، بل رضي عن هذا وغضب على هذا.(1/87)
فالرضا والغضب صفتا فعل، وهذه الصفات التي ذكرت في هذه الآيات كلها من صفات الفعل كقوله تعالى: (كره الله انبعاثهم)(التوبة:46)، (ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه)(محمد:28)حيث أثبت لنفسه صفة السخط وصفة الكراهة، وكقوله تعالى: (باء بسخط من الله)(آل عمران: 162).
و الآيات التي فيها صفات الفعل كثيرة مثل قوله تعالى: (يخادعون الله وهو خادعهم))النساء:142)، فيها صفة المخادعة، قال تعالى: (الله يستهزئ بهم)(البقرة:15)، فيها صفة الاستهزاء، قال تعالى: (فلما آسفونا)(الزخرف:55)، فيها صفة الأسف، قال تعالى: (ومكروا ومكر الله)(آل عمران:54)، (إنهم يكيدون كيداً * وأكيد كيداً)(الطارق:15-16) صفتا المكر والكيد، وأشباهها، كل هذه صفات فعل نثبتها لله كما يشاء، ونقول: إنه يسخط على من يشاء، ويرضى عمن يشاء.
ومثلها أيضاً صفات المحبة، قال تعالى: (يحبهم ويحبونه)(المائدة:54)، وصفات الرحمة في آيات كثيرة، ومنها اشتق اسم الرحمن، ووصف نفسه بالرحمة، قال تعالى: (ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلماً)(غافر:7)، (ورحمتي وسعت كل شيء)(الأعراف:156)، (إن رحمت الله قريب من المحسنين)(الأعراف:56).
فطريقة أهل السنة في هذه الصفات إثباتها ونفي النقص عنها، وذلك لأن الله أخبر بها، والله لا يخبر إلا بما هو حق، ولو كانت قد تستنكر أو تذم في حق الآدمي، كما في الصحيح عن أبي هريرة قال: إن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أوصني، قال: (لا تغضب) فردد مراراً قال: (لا تغضب)، نهاه عن الغضب، والله تعالى يغضب، ولكنه يغضب على من يستحق الغضب، وكذلك مثله السخط، والكراهية مذمومة، ولكن إذا كانت على من يستحق ذلك فهي صفة حق، وهي صفة ثبوتية أثبتها الله لنفسه.(1/88)
وقد كثرت التأويلات من المبتدعة لهذه الصفات، فيقول بعضهم: كيف يستهزئ الله مع أن الاستهزاء جهل. واستدلوا بقوله تعالى -عن موسى-: (قالوا أتتخذنا هزواً قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين)(البقرة:67)، فإذا كان موسى يقول: إن الاستهزاء، أو الهزؤ أو: الهزء، جهل، فكيف يقول الله تعالى: (الله يستهزئ بهم)(البقرة:15).
وكذلك المكر والكيد، والمخادعة، والمقت، والأسف، وما أشبهها - هذه مذمومة للإنسان إذا صدرت منه؛ فإن الله تعالى نهانا بقوله تعالى: (لكيلاً تأسوا على ما فاتكم)(الحديد:23)، فكيف يتصف الله تعالى بها، ولما قال عنهم: (يكيدون كيداً)(الطارق:15)، قال: (وأكيد كيداً)(الطارق:16)، ولما قال: (ومكروا مكراً)(النمل:50)، قال: (ومكرنا مكراً)(النمل:50).
فالجواب: إن هذا من باب المقابلة لفعلهم بمثله، ولكن لا يكون فعل الله مساوياً لفعل العبد، بل صفات الله المذكورة صفات أثبتها لنفسه، وهي لا تكون إلا على من هو أهل لها، ولها آثارها، فإذا قلت: ما هو أثر الغضب؟ الجواب: أنه إذا غضب فإنه يعذب من يغضب عليه، وقد ورد أثر الرضا في أن الله إذا رضي؛ فإنه ينعم على من رضي عنه ويثيبه - في حديث قدسي وإن كان ضعيفاً؛ لكنه يكثر الاستشهاد به للاستئناس بلفظه: (إذا عُصيتُ غضبت، وإذا غضبت لعنت، ولعنتي تبلغ السابع من الولد).
على تقدير أن هذا يُستشهد به، فيه إثبات أثر الغضب، وأثر الرضى، ولو لم يأت في هذا الحديث، ولكن ذلك من مقتضياته، فأنت تقول للإنسان الذي تنصحه: لا تفعل ما يغضب الله، هذا الفعل يغضب الله، فهو يعرف أن الله إذا غضب يعاقب، اتبع ما يرضي الله عليك أو بما يرضى به عنك ربك، فهو يعرف أنه إذا رضي الله عنه أثابه، فهو يحرص على الفعل الذي به يكون ربه راضياً عنه، ويبتعد عن الفعل الذي يكون به الرب عليه غضبان، لأنه يعرف أن في هذا الغضب عذاباً، وفي الرضا ثواباً. إذاً فلهما آثار في الدنيا وفي الآخرة.(1/89)
ويقال كذلك أيضاً في الصفات الأخرى؛ كصفة السخط، وصفة الكراهية، وصفة المقت، وصفة الأسف، وصفة الكيد، ويقال: إن الله يمكر بهؤلاء، يعني يعطيهم ثم يعطيهم، ثم يأخذهم على حين غفلة، فكأنه مكر بهم.
ورد في بعض الآثار؛ لما ذكر تمادي بعض الكفار والعصاة، قال: (مُكر بالقوم ورب الكعبة) يعني خُدعوا بما وسع عليهم، وما توسعوا فيه، مما أوقعهم في الذنوب، إلى أن حصل لهم ما حصل من نزول العذاب بهم بغتة وهم لا يشعرون.
فنستفيد أن هذه الآيات دالة على صفات فعلية، وأنها غير مكيفة، وأن الذين أنكروها وبالغوا في إنكارها ليس معهم إلا أدلة عقلية أجاب عنها شيخ الإسلام؛ كما في أول التدمرية لما قال لهم: أنتم تعترفون بالإرادة، والإرادة هي ميل النفس إلى المراد، وتنكرون الغضب وتقولون: الغضب غليان دم القلب لطلب الانتقام فلماذا فرقتم بينهما قالوا لا نفسر الأراء بأنها ميل القلب إلى المراد، فإن هذه إرادة المخلوق.
قال: فكيف تفسرون الغضب بأنه غليان دم القلب لطلب الانتقام، فإن هذا غضب المخلوق، فقد فرقتم بين متماثلين؛ أثبتم الإرادة ونفيتم الغضب، وكلاهما يفسر عندكم بهذا التفسير الذي هو من خصائص المخلوقين، فانقطعت بذلك حجتهم.
مسألة: بعض أحاديث الصفات
قوله:
ومن السنة، قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى سماء الدنيا)، وقوله: (يعجب ربك من الشاب ليست له صبوة)، وقوله: (يضحك الله إلى رجلين قتل أحدهما الآخر ثم يدخلان الجنة).
شرح:
هذه من أحاديث الصفات الفعلية، فأحاديث النزول ذكر ابن كثير وغيره أنها متواترة، وأكثرها مذكور في كتاب ابن القيم المسمى (الصواعق المرسلة)، وكذلك في كتاب حافظ الحكمي (معارج القبول)، وفي أمهات الكتب - بلفظ (نزل) أو (ينزل)، أو بلفظ (هبط)، أو (يهبط) أو نحو ذلك.(1/90)
ومعلوم أن النزول لا يكون إلا من أعلى، فهي دالة على أن الرب تعالى موصوف بصفة العلو بجميع أنواعه، وأنها صفة ذاتية -كما سيأتي- وأما النزول فإنه صفة فعلية، ينزل إذا شاء، وفي الحديث: أنه ينزل كل ليلة حين يبقى ثلث الليل الآخر، وأنه يقول: (من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له)، يتودد إلى عباده وهو عنهم غني.
وإذا آمنا بهذه الصفة فإننا نكل كيفيتها إلى الله الذي أثبتها لنفسه، ولا نتقعر في ذلك، ولا نبالغ في الإنكار. نقول: ينزل كما يشاء، فإذا قالوا: إن النزول يستدعي الحركة، أو أن يخلو منه العرش، أو أن يكون بعض المخلوقات فوقه، أو أن يكون محصوراً.
قلنا: سبحان الله وبحمده، تعالى الله عن أن تدركه الظنون، وأن تتخيله الأفهام، وأن تمثّله الأوهام، تعالى الله عن ذلك. بل الرب سبحانه وتعالى (ليس كمثله شيء وهو السميع البصير) ونزوله يليق به، ولا يماثل أحداً من خلقه في هذه الصفة.
وقد تكلم على هذا الحديث شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في رسالة مستقلة بعنوان (شرح حديث النزول) وهي رسالة قد تقر ب من ستين صفحة أو أكثر في بعض الطبعات، كلها على هذا الحديث، وما ذاك إلا لكثرة الخوض فيه، حيث رفع إليه هذا السؤال، وكان من جملة ما أشكل على السائل الذي أنكره - قال: إن الليل يختلف باختلاف البلاد، فقد يكون ثلث الليل في هذا البلد ضحى ونهاراً في بلد آخر، فيلزم من ذلك أن يكون النزول مستمراً عند كل أهل جهة في ثلث ليلهم؟
أجاب شيخ الإسلام: أنه لا مانع؛ فإن الله تعالى لا يشغله شأن عن شأن، ولا مانع أن ينزل عند هؤلاء وهؤلاء كما يشاء، وأيضاً يمكن أن يختص النزول ببلاد المسلمين.
وبكل حال؛ نثبت هذه الصفة ولا نردها -لماذا؟- لأن الله تعالى على كل شيء قدير، ولأن الذين نقلوها هم الذين نقلوا جميع الأحكام، فإذا رددناها لزم أن نطعن فيهم وفيما نقلوه، ونخطئهم، ولهذا يقول أبو الخطاب الكلوذاني في عقيدته:(1/91)
قالوا: النزول؟ فقلت: ناقله لنا قوم هم نقلوا شريعة أحمد
قالوا: فكيف نزوله؟ فأجبتهم: لم يُنْقلِ التكييف لي في مسند
يقول: ناقلوه لنا هم الذين نقلوا الشريعة، فيكف نرد هذا النقل ونقبل أمثاله وعشرات الأمثال له؛ لمجرد أن العقل أنكر هذا في زعمكم؛ مع أنه زعم خاطئ؟، وإذا أثبتناه فلا نخوض فيما وراء ذلك -كما تقدم- مع أننا لا نقول: إن نزوله يشبه نزول الإنسان من كذا وكذا؟ فإن هذا خطأ.
وخطَّأ العلماء النقل الذي ذكره ابن بطوطة في رحلته، حيث إنه ذكر أنه وصل إلى دمشق - يقول: فوجدت فيها ابن تيمية، وإذا هو على المنبر يتكلم على النزول، فقال: إن الله ينزل كنزولي هذا - يعني من المنبر- قالوا: هذا كذب على ابن تيمية من ابن بطوطة، فابن تيمية قد تكلم على النزول في هذا الحديث ولم يقل إنه كنزولي من على المنبر، أو نزولي من السطح، أو نحو ذلك، بل قال: ينزل كما يشاء. ثم خطؤوه أيضاً، وقالوا: إن ابن بطوطة لما أتى إلى دمشق كان ابن تيمية قد سجن في القلعة، فكيف رآه؟ مما يدل على أنه كذب هذه الكذبة، أو تلقاها من بعض الكاذبين، فلا يقال: إن ابن تيمية يمثل النزول بنزول الإنسان، وحاشاه من ذلك.
الحديث الثاني: حديث العجب. (يعجب ربك من الشاب ليست له صبوة) هذا الحديث مروي في المسند وفي بعض السنن، وهو مما يستشهد به، وإسناده حسن، ومعناه أن الشاب الذي في سن الشباب عادة يكون له ميل إلى اللهو، وميل إلى اللعب، فإذا منّ الله على بعض الشباب وأقبلوا على العلم وعلى الدين وعلى العبادة، وصدوا عن اللهو وعن اللعب وعن ما يوجبه الصبا، فإن ذلك غاية العجب، وذلك فضل الله عليهم.
الشاهد من الحديث أن الله يعجب، وهي صفة فعلية، لا نكيفها، بل نقول: هي كما يشاء الله تعالى، وقد قرأ بعض القراء السبعة قوله تعالى في سورة الصافات (بل عجبت ويسخرون)(الصافات:12) بضم التاء؛ لإسناد العجب إلى الله، وهي قراءة سبعية.(1/92)
ولما ذكرها ابن جرير في التفسير مع قراءة (بل عجبت) قال: هما قراءتان مستفيضتان في قراءة المسلمين، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب، ولو قال قائل: بأيتهما نزل القرآن؟، قلنا: نزل بهما جميعاً. ففي هذه القراءة أن الله يعجب، وكذلك في قوله تعالى: (وإن تعجب فعجب قولهم)(الرعد:5) أخبر الله أنه عجب؛ يعني إن الله يعجب منهم.
وينكر كثير من الأشاعرة ونحوهم صفة العجب، ويقولون: إن العليم الخبير لا يعجب، ولا يجوز أن يوصف الله بالعجب، فإن العجب إنما هو انتباه شيء في الإنسان وفي القلب يورث دهشة أو نحوها، هذا قولهم، لكن نحن نثبت لله عجباً لا يشبه عجب المخلوقين، وهذه من الصفات الفعلية.
ومثلها أيضاً حديث آخر في السنن؛ وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (عجب ربك من قنوط عباده وقرب غيره، ينظر إليكم أزلين قنطين، فيظل يضحك، يعلم أن فرجكم قريب) فإن في هذا الحديث إثبات صفة العجب، كما إن فيه إثبات صفة الضحك، وفي الحديث الآخر: (يضحك الله إلى رجلين يقتل أحدهما الآخر، كلاهما يدخل الجنة)، قالوا: كيف ذلك؟ قال: يقاتل أهدهما في سبيل الله فيُقتل، ثم يتوب الله على القاتل فيُسلم، ثم يُستشهد)، فكلاهما يدخلان الجنة؛ القاتل والمقتول؛ هذا مما يورث العجب.
فنحن نثبت هذه الصفة، وننفي عنها التشبيه، فالتشبيه يختص بالمخلوقين، ونقول: إن الله تعالى أثبتها لنفسه، ونحن نثبتها دون أن نبالغ في التمثيل، أو نقول عنها ما ليس بحق، ومعلوم أن صفة المخلوق تناسبه؛ فالضحك للمخلوق هو قهقهةٌ وصوت يكون عن شيء يعجبه أو يفرحه أو يسره، ولكن الرب يضحك كما يشاء، بصفة لا نعلمها ولا نعلم كيفيتها.(1/93)
وفي الحديث الطويل الذي ذكره ابن القيم في (زاد المعاد) وأشار إلى أن علامة الصحة عليه، وهو حديث أبي رزين العقيلي، لما قال في أثناء الحديث: (فيضحك الله من قوله)، فقال أبو رزين: أو يضحك الرب؟ قال نعم قال لن نعدم من رب يضحك خيرا أقره النبي صلى الله عليه و سلم على ذلك بكل حال هذه من الصفات الفعلية صفة الضحك لله كما يشاء.
فإذا عرفنا هذه الصفات التي وردت في هذه الأحاديث وفي هذه الآيات وهي كثيرة؛ فموقف أهل السنة منها أنهم يقولون: آمنا بها كما جاءت، نقرها ونمرها، ونثبت حقيقتها ولا نرد شيئاً منها، ولا نتكلف فيها، ولا نقول فيها: إنها صفة نقص، والرب ينزه عنها؛ ولا نقول: إنها تستلزم أنه يتجدد لله شيء، أو ما أشبه ذلك كما يقول هذا الكثير من النفاة وأهل الاعتزال ونحوهم الذين إذا ذكرت لهم هذه الصفات يقولون: إن هذا يستلزم حلول الحوادث بذات الله، وحلول الحوادث ممتنع -تعالى الله أن تحل به الحوادث- وليس في هذا شيء من الحوادث بل الله يفعل ما يشاء، ويضحك إذا شاء، ويرضى إذا شاء، ويغضب إذا شاء، دون أن يكون في شيء من ذلك نقص، أو نسبة نقص إلى الله سبحانه وتعالى.
وقوله:
فهذا وما أشبهه مما صح سنده وعدِّلت رواته، نؤمن به، ولا نرده ولا نجحده، ولا نتأوله بتأويل يخالف ظاهره، ولا نشبهه بصفات المخلوقين ولا بسمات المحدثين، ونعلم أن الله سبحانه وتعالى لا شبيه له ولا نظير (ليس كمثله شيء وهو السميع البصير)(الشورى:11)، وكل ما تخيل في الذهن أو خطر بالبال؛ فإن الله تعالى بخلافه.
شرح:
لما ذكر الأحاديث التي في الصفات والآيات، أخبر بأن هذا ونحوه دلت عليه النصوص التي هي ثابتة يقيناً من الأحاديث الصحيحة -كحديث النزول ونحوه- ومن الآيات، فهذه النصوص نؤمن بها ونتقبلها، ونشهد بصحتها، ونثبتها صفات لله تعالى يقينية حقيقية، ولكن لا نكيفها، ولا نمثلها بصفات المخلوقين، بل ننزه الرب تعالى عن سمات المخلوقين وعن صفات المحدثين.(1/94)
والصفات والسمات متقاربة. فالصفة هي ما يمكن أن ينعت به المنعوت، ولذلك يقولون في النعت إنه صفة. وأما السمة فهي العلامة -اشتقاقاً من الوسم في الدابة-، ويقال: وسمت الدابة سمة، فالسمات هي العلامات، فالله ينزه عن صفات المخلوقين وعن سمات المحدثين.
ومعلوم أن المخلوقين محدثون، فالمخلوق حادث بعد أن كان معدوماً، ويأتي عليه العدم كما كان معدوماً ثم وجد، ثم يموت ثم يوجد، قال تعالى: (وكنتم أمواتاً فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم)(البقرة: 28).
فإذا أتى عليه العدم دل على نقصه، فلا يشبه به الخالق الذي لا يأتي عليه العدم، قال تعالى: (وتوكل على الحي الذي لا يموت)(الفرقان:58)، فهذه الصفات نتقبلها، ولا ننكر شيئاً منها ولا نرده، نتوقف عندها ولا نقول من قبل أنفسنا شيئاً و إذا اثبتناها لم نشبهها بصفات المخلوق فنستحضر هذه الآية (ليس كمثله شيء وهو السميع البصير)(الشورى:11)، وقد تكررت هذه الآية في الشرح لأن فيها رداً على النفاة، ورداً على المشبهة.
ثم ذكر أن كل ما خطر بالبال، وكل ما دار في الخيال، فإن الرب بخلافه، كل ما تصوره المتصور أو تخيله في ذهنه، أو خطر بباله من الهيئات والكيفيات أو الصفات فإن الله تعالى بخلاف ذلك، ولعل الدليل على ذلك قوله تعالى: (ولا يحيطون به علماً)(طه:110)، فإذا كانوا لا يحيطون به علماً فإنهم لو فكروا، وقدروا، ونظروا، وظنوا، وحدسوا، وتخيلوا أن الله تعالى على هذه الهيئة، أو على هذه الصفة فإن كل ذلك ليس بصواب، والله بخلاف ذلك، ولا يحيطون به علماً
مسألة أحاديث صفة الاستواء
قوله:
ومن ذلك قوله تعالى: (الرحمن على العرش استوى)(طه:5)، وقوله تعالى: (أأمنتم من في السماء)(الملك:16)، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ربنا الله الذي في السماء تقدس اسمك)، وقال للجارية: (أين الله؟ قالت: في السماء. قال: أعتقها فإنها مؤمنة) رواه مسلم ومالك بن أنس وغيرهما من الأئمة.
شرح:(1/95)
هذا ابتداء كلام المصنف في صفة العلو، وهي من الصفات الذاتية التي كثر فيها النزاع، وكثر فيها المخالف، وطال فيها الكلام والجدال بين أهل السنة والمبتدعة، وأنكرها أغلب الأشاعرة، والمعتزلة، وغالب الفرق الضالة، وما ذاك إلا أن إثبات صفة العلو في زعمهم يستلزم التحديد، أو التجسيم، ويستلزم التحيز، وهم يستعظمون أن يكون الله في حيز، أو في جهة، أو أن يكون الرب موصوفاً، بأنه في هذه الجهة، يخيل إليهم أنه إذا وصف بذلك فهو محصور، وأن الجهة تحويه، أو نحو ذلك.
ونحن نقول: إنه أثبت لنفسه هذه الصفة، ولا يلزم من ذلك ما تخيلوه، بل هو فوق العباد كلهم، ومع ذلك لا تحويه الجهة التي يشار إليها، وليس هناك محذور من إثبات هذه الجهة، أو هذه الصفة.
الدليل الأول: قوله: (الرحمن على العرش استوى) ذكر العلماء أن صفة العلو دل عليها العقل، وصفة الاستواء دل عليها السمع. فالعقل والفطرة يضطران كل عاقل أن يطلب ربه من فوقه، إذا دعا الله تعالى فإنه يجد من قلبه ارتفاعاً ونظراً إلى العلو ولا يلتفت يمنة ويسرة، ولا يطلب عن يمينه ولا عن يساره، ولا تحت ولا أمام ولا خلف، بل فطرته وعقله تضطره إلى أن يرفع يديه، ويرفع نظره، ويرفع قلبه، ويستحضر أن ربه فوقه. فهذه الفطرة فطرة عقلية لا يستطيع أحد أن يجحدها، بل ذكروا أنها -أيضاً- في البهائم؛ إذا أجدبت الأرض فإنها ترفع رؤوسها إلى السماء تستقي -كما قاله بعضهم- بل إنها فطرة كذلك في الجاهليين -كما ذكر ذلك ابن القيم في اجتماع الجيوش الإسلامية- قال: إنها مقالة معروفة حتى عند الجاهلية في قول بعضهم: (إذا كان ربي في السماء قضاها).(1/96)
وبكل حال فصفة العلو صفة ذاتية، ثم هي أيضاً صفة ثابتة أدلتها متواترة لا مجال لإنكارها إلا مع المكابرة والمعاندة، وقد ذكر العلماء أن الأدلة عليها أنواع كثيرة، وبعض الأنواع أفراده قد تصل إلى عشرين دليلاً أو أكثر، وقد يصل مجموع الأفراد إلى ألف دليل مما يكون سبباً في الاضطرار إلى الإقرار بهذه الصفة، وقد حصرها ابن القيم في واحد وعشرين نوعاً في منظومته النونية الكافية الشافية، ولما قسمها إلى واحد وعشرين نوعاً بدأ بآيات الاستواء.
وآيات الاستواء وردت في سبعة مواضع: في سورة الأعراف، ويونس، والرعد، وطه، والسجدة، والفرقان، وفي سورة الحديد، كلها ذكر فيها الاستواء، وخص الاستواء بالعرش.
وقد ذكر ابن القيم أن هذا إجماع من العلماء من أهل السنة -قال في النونية في الدليل السادس عشر:
هذا وسادس عشرها إجماع أهل العلم، أعني حجة الأزمان
من كل صاحب سنة شهدت له أهل الحديث وشيعة الرحمن
لا عبرةً بمخالف لهم ولو كانوا عديد الشاء والبعران
ثم ذكر تفسيرهم لآيات الاستواء بقوله:
ولهم عبارات عليها أربع قد حصلت للفارس الطعان
وهي استقر، وقد علا، وكذلك ارتفع الذي ما فيه من نكران
وكذاك قد صعد الذي هو رابع وأبو عبيدة صاحب الشيباني
يختار هذا القول في تفسيره أدرى من الجهمي بالقرآن
والأشعري يقول تفسير استوى بحقيقة استولى من البهتان
فذكر أنهم فسروا الاستواء، ثم المشهور عندهم، والكثير منهم يقولون: استوى استواءً يليق بجلاله، ولكن لما كان الاستواء له معان فإنهم فسروه و سيأتي قول الإمام مالك الاستواء معلوم - وإذا كان معلوماً فإنه فصيح وبلغة فصيحة، ولابد أنه مفسر، ولابد أنه مترجم من لغة إلى أخرى، ولابد أن يكون له معنى، فلذلك فسروه بأربع تفسيرات:(1/97)
التفسير الأول: استوى: استقر، وذلك مشهور عنهم، ومع ذلك فالنفاة قد أخذوا يوردون عليه إيرادات وحشية فرضية؛ أوردها ابن خطيب الري الذي هو الرازي صاحب التفسير الكبير، عندما أتى على هذه الآية (ثم استوى على العرش)(الأعراف:54) قال: إن هناك من فسره بالاستقرار وزيّفه بوجوه. ثم أطال في ذكرها، وكذلك صاحب الكشاف الذي هو الزمخشري، ونحوهما من المعتزلة والأشاعرة، ولكن لا عبرة في تزييفهم، فإن تلك التزييفات التي زيفوه بها، والتي طعنوا فيه بها، كلها تخيلات وعقليات لا يلتفت إليها مع وجود النص، ومع الذي تؤيده اللغة الفصحى، وإذا قلنا: استوى، واستقر فلا محذور في ذلك، فالله تعالى مستقر على عرشه، ولكن لا يلزم من ذلك محذور.
والتفسير الثاني: هو الذي يذكره ابن جرير، وابن كثير أيضاً عند تفسير الاستواء، يقول: (ثم استوى على العرش) أي علا. هكذا يقول، وهو صريح في العلو الذي هو العلو الحقيقي.
التفسير الثالث: الارتفاع؛ (استوى على العرش)أي ارتفع.
التفسير الرابع: الصُعود؛ (ثم استوى على العرش) أي صعد، وذكر ابن القيم أن أبا عبيدة يختار هذا القول، وأبو عبيدة هو معمر بن المثنى الشيباني، وهو من علماء اللغة، فسر (استوى) بمعنى صعد، وذكروا عنه أنه نقل عن بعض فصحاء العرب أنه طرق عليه الباب بعض أصحابه، وكان في علية مرتفعاً فقال لهم: استووا. يعني ارتفعوا، فكأنه يقول: إن الاستواء بمعنى الصعود، ومعلوم أيضاً أن الكلمة وردت بعدة عبارات.
فوردت في القرآن غير مقيدة بحرف، قال تعالى: (ولما بلغ أشده واستوى)(القصص:14) لم يكن بعدها حرف، فتفسر هنا بمعنى الكمال يعني كمل.
كما وردت مقيدة بإلى، ومقيدة بعلى؛ قال تعالى: (ثم استوى إلى السماء وهي دخان)(فصلت:11)، (ثم استوى إلى السماء فسواهن)(البقرة:29) هنا قيدت بإلى، وتفسر أيضاً بمعنى ارتفع إليها.(1/98)
وأما إذا قيدت بعلى فلا خلاف أنها بمعنى العلو، ومنه قوله تعالى: (واستوت على الجودي)(هود:44) يعني ارتفعت عليه واستقرت، وهو جبل رفيع لما نضب الماء استوت السفينة على ذلك الجبل، فهاهنا استقرت وصارت مرتفعة فوقه، وكذلك قوله تعالى: (لتستووا على ظهوره)(الزخرف:13)، وكذلك قوله تعالى: (فاستوى على سوقه)(الفتح:29) يعني ارتفع السنبل على سوقه، فعرفنا أن هذا دليل واضح على أنها إذا قيدت بعلى؛ فهي دالة على الارتفاع، إذاً فهي دليل واضح على أن الله فوق العرش كما وصف نفسه.
أما المعتزلة ونحوهم من النفاة فكبرت عليهم هذه الآية فأولوها بعدة تأويلات:
التأويل الأول: يُقال أن الجهم الذي هو رئيسهم لما قرأ هذه الآية وعنده بعض أصحابه قال: لو تمكنت لمحوت هذه الآية من المصاحف، ولما كانت صريحة في الرد عليهم لم يجدوا بداً من الخوض في تأويلها، وأكثرهم فسر استوى باستولى، واستدلوا ببيت يقول فيه الشاعر:
قد استوى بشر على العراق من غير سيف أو دم مهراق
ولا يدري من الذي قال هذا البيت، وبعضهم يقول: إنه للأخطل، والأخطل نصراني لم يدخل في الإسلام، ولو كان عربياً من بني تغلب، ولعل ذلك هو الذي أراده ابن القيم بقوله في النونية:
ودليلهم في ذاك بيت قاله فيما يقال الأخطل النصراني
وفي لامية شيخ الإسلام ابن تيمية يقول فيها:
قبحٌ لمن نبذ الكتاب وراءه وإذا استدل يقول قال الأخطل
ثم نقول: هذا البيت على تقدير صحته، فالاستواء فيه بمعنى العلو، استوى على العراق، يعني استقر على سريرها، فهو دال على العلو، فلا يكون دليلاً على الاستيلاء، ثم نقول: إن الاستيلاء ليس خاصاً بالعرش، وهذا هو الذي ذكره ابن القيم عن الأشعري:
والأشعري يقول تفسير استوى بحقيقة استولى من البهتان(1/99)
الأشعري هو أبو الحسن الذي تنتسب الأشاعرة إلى مذهبه الأوسط، وقد رجع عنه في كتابه (الإبانة). فيقول فيها: إنهم فسروا الاستواء بالاستيلاء، ولو كان الأمر كما يقولون: لم يكن للعرش ميزة؛ فإن الله تعالى مستولٍ على كل شيء، ولا يجوز أن يوصف بأنه استولى على غير العرش، فلا يجوز أن تقول: إن الله استوى على الجبال، إن الله استوى على الأرض، إن الله استوى على الحشوش، إن الله استوى على الأشجار وعلى القصور؛ وحيث إنه خص الاستواء بالعرش فإنه يختص به. فلو كان الاستواء بمعنى الاستيلاء فلماذا يخص العرش وحده؟ الله مستولٍ على الجميع. هذا من جهة، ومن جهة ثانية: فإن الاستيلاء لا يكون إلا بعد منازعة.
سمعت حكاية أن بعض المبتدعة قام في أحد المساجد وأخذ يتكلم عن الاستواء، وأخذ يقرر أن استوى بمعنى استولى، والله هو المستولي واستولى على العرش... ثم إن بعض الحاضرين أمر غلاماً له أن يخرج ويطل من النافذة، ويقول له: قبل أن يستولي على العرش من العرش له؟فبهت ذلك الذي يتكلم، فقالوا له: صحيح هذا السؤال واضح. نحن نقول وغيرنا: لمن كان العرش قبل أن يستولي الله عليه؟ وبهذا نعرف بطلان هذا التفسير.
التأويل الثاني: إن العرش بمعنى الملك، قال تعالى: (ثم استوى على العرش)(يونس:3) أي استوى على الملك، وتفسيرهم العرش بأنه الملك كله إبطال الذي ذكره الله تعالى ووصفه بصفات خاصة، والله تعالى وصف هذا العرش بقوله تعالى: (رب العرش الكريم)(المؤمنون:116)، (رب العرش العظيم)(النمل:26)، (ذو العرش المجيد)(البروج:15)، وذكر أن العرش محمول قال تعالى: (الذين يحملون العرش ومن حوله)(غافر:7)، (ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية)(الحاقة:17)، (وترى الملائكة حافين من حول العرش)(الزمر:75)، (رفيع الدرجات ذو العرش)(غافر:15) في آيات كثيرة أفتبطل هذه كلها؟ ويقال: العرش هو الملك. هذا من الخطأ.(1/100)
زيادة على النصوص الكثيرة التي فيها إثبات حملة العرش، وكيف حملوه وعددهم، وبأي شيء حملوه، وما أشبه ذلك، كل ذلك يدل على أن العرش مخلوق كبير لا يعلم قدره إلا الله تعالى، ورد في بعض الأحاديث أن (الكرسي في العرش كحلقة ملقاة بأرض فلاة) الحلقة هي الحديدة المتلاقية الطرفين، ماذا تشغل من أرض واسعة؟ فكذلك نسبته، مع أن الكرسي قد وسع السماوات والأرض كما نص الله على ذلك.
وروي في حديث مرفوع: (ما السماوات السبع في الكرسي إلا كدراهم سبعة ألقيت في ترس) الترس هو المجن الذي يوضع على الرأس في القتال، ماذا تشغل السبعة فيه؟ فإذا كانت هذه نسبة المخلوقات العلوية والسفلية العظيمة إلى الكرسي، وهذه نسبة الكرسي إلى العرش، فما تكون نسبة العرش وما هو مقداره؟ لا يقدر قدره إلا الله تعالى.
إذاً فهذان تأويلان باطلان، والأول منهما هو الأشهر (استوى) بمعنى استولى، فإنهم زادوا فيها (لاماً) ويسمى هذا تحريفاً لفظياً، وزيادة هذه اللام شبيهة بالنون التي زادها اليهود لما قيل لهم قولوا: (حطة) فقالوا: (حنطة) هكذا شبهها ابن القيم بقوله:
نونُ اليهود ولامُ جهمي هما في وحي ربَّ العرشِ زائدتان
شبهها بنون اليهود، إذاً فنحن نعرف أن هذا النص من الأدلة الواضحة على صفة العلو لله تعالى، ولا نخوض في أكثر من ذلك.
الدليل الثاني: قوله تعالى: (أأمنتم من في السماء)(الملك:16)، (أم أمنتم من في السماء)(الملك:17) الله تعالى قطع الكلام عما بعده في قوله تعالى: (أأمنتم من في السماء) هذا وقف مطلق. (أم أمنتم من في السماء) هذا وقف جائز (أن يرسل عليكم حاصباً) (الملك:17) ولا شك أن هذا دليل واضح على إثبات العلو، و(في السماء) يفسرونها بتفسيرين:(1/101)
التفسير الأول: أن تكون (في) بمعنى على، وهذا مشهور في اللغة كما في قوله تعالى: (أربعين سنة يتيهون في الأرض)(المائدة:26) يعني على الأرض، (أفلم يسيروا في الأرض)(غافر:82)، (قل سيروا في الأرض)(النمل:69)، ليس المراد في جوفها بل المراد عليها، وكذلك قوله عن فرعون (ولأصلبنكم في جذوع النخل)(طه:71)، ليس المراد أنه ينحت لهم ويدخلهم في الجذوع، بل المراد أنه يصلبهم على جذوع النخل، فدل على أن في تأتي بمعنى على: (في السماء)(المالك:17) يعني على السماء.
التفسير الثاني: أن السماء بمعنى العلو، وأن كل ما ارتفع فإنه سماء. يقولون: سما فلان يعني ارتفع، سما هذا البناء ارتفع، هذا بناء سامٍ أي مرتفع، هذا جبل سامٍ أي مرتفع، فالسمو بمعنى الارتفاع.
فإذا قيل: (من في السماء) أي في جهة العلو التي لا يعلم نهايتها وقدرها إلا هو سبحانه -فإن قيل فيها دليل على الحصر؟ -فالجواب ليس معنى (في السماء) أن السماء تحصره، أو تحويه -تعالى الله- بل هو فوقها كما يشاء.
وإذا استدلوا بقوله تعالى: (وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله)(الزخرف:84). وقالوا: هذا دليل على أنه في الأرض كما أنه في المساء. فالجواب عن هذه الآية، وعن الآية التي في سورة الأنعام (وهو الله في السموات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم)(الأنعام:3) أن المراد: الإله في السماوات والإله في الأرض؛ بمعنى المألوه الذي تألهه القلوب، والذي يستحق أن يكون إلهاً معبوداً وحده، وذلك لأنه لم يقف عند (السماء)، بل وصلها، ولم يقل وهو الله في السماء. و هو الذي في السماء و في الأرض بل قال (وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله)(الزخرف:84) يعني: إله في السماء، وإله في الأرض.(1/102)
ويمثل بعضهم ذلك بما إذا قلت مثلاً: فلان أمير في العراق، وأمير في الشام، مع أنه بأحدهما، والمعنى أن إمارته عامة لهذه البلاد، فالله تعالى ألوهيته عامة لأهل السماوات والأرض ولما شاء الله، هذا دليلُ إثبات أنه في السماء.
كما ورد أيضاً في الأحاديث مثل حديث رقية المريض، وهو حديث مشهور رواه أبو داود وغيره، وإن كان في سنده مقال، ولكن شيخ الإسلام يكثر الاستدلال به مما يدل على أن المقال لا يقدح فيه، وفيه (إذا مرض أحدكم، أو مرض أخ له فليقل: ربنا الله الذي في السماء تقدس اسمك، أمرك في السماء والأرض، كما رحمتك في السماء؛ فاجعل رحمتك في الأرض، اغفر لنا حوبنا وخطايانا، أنت رب الطيبين، أنزل رحمة من رحمتك، وشفاء من شفائك على هذا الوجع).
والشاهد قوله: (ربنا الله الذي في السماء)، ولم يقل في السماء والأرض، ولم يقل: (ملكك) كما يعبرون عنه، أو (في السماء سلطانك) كما تقوله النفاة، أو (في السماء أمره) كما يقولونه، والأحاديث في هذا كثيرة.
ومثله قصة الجارية (جاء رجل وقال يا رسول الله: إن علي عتق رقبة، وإن عندي جارية أفأعتقها؟ فقال: ائت بها.. الحديث) فلما جاء بها امتحنها النبي صلى الله عليه وسلم؛ هل هي مؤمنة؟ لأن من شرط العتق أن يكون العتيق مؤمناً لقوله تعالى: (فتحرير رقبة مؤمنة) (النساء:92)، فأول شيء بدأها بقوله: (أين الله)؟ فقالت: في السماء. إما أن ذلك فطرة، وإما أن ذلك عن علم تلقته وتعلمته، قال (من أنا)؟ قالت: أنت رسول الله. فقال: (أعتقها فإنها مؤمنة). زكاها وشهد لها بالإيمان لما اعترفت بأن الله في السماء، فدل على أنه لا يكمل الإيمان إلا بهذا الشرط؛ وهو الاعتقاد أن الله في السماء، ويفيد أن من اعتقد غير ذلك فإنه ناقص الإيمان.(1/103)
ومثل هذا أيضاً قوله صلى الله عليه وسلم: (ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء) أي ربكم الذي في السماء، وقال صلى الله عليه وسلم: (ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء يأتيني خبر السماء صباحاً ومساءً)، والأحاديث كثيرة. والحاصل أن هذا دليل على إثبات العلو، ومحمله كما قلنا.
وقوله:
وقال النبي صلى الله عليه وسلم لحصين: (كم إلهاً تعبد؟ قال: سبعة؛ ستةً في الأرض، وواحداً في السماء. قال: من لرغبتك ولرهبتك؟ قال: الذي في السماء. قال: فاترك الستة واعبد الذي في السماء، وأنا أعلمك دعوتين. فأسلم، وعلمه النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول: اللهم ألهمني رشدي، وقني شر نفسي).
شرح:
هذا حديث مروي في سنن الترمذي في قصة حصين والد عمران بن حصين الأسدي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يسلم، ولكنه لم يسأله عن الرغبة في الإسلام، فسأله كم إلهاً تعبد؟ قال: سبعة -ثم فصل- فقال: ستةً في الأرض، وواحداً في السماء. فقال: من لرغبتك ولرهبتك؟ قال: الذي في السماء. فدعاه إلى الإسلام، وقال له: إذا أسلمت فإني سوف أعلمك كلمتين نافعتين. فأسلم، وعلمه النبي صلى الله عليه وسلم قوله: (اللهم ألهمني رشدي، وقني شر نفسي)، وهذه دعوة عظيمة.
قوله: (من لرغبتك ولرهبتك) يعني من تعده إذا كانت رغبتك ملحة وشديدة، ورهبتك يعني خوفك؛ فالرهبة: الخوف، والرغبة: الرجاء، يعني من الذي ترجوه عندما تحل بك الأزمات أن يفرج عنك، ومن الذي تخافه عندما تفعل المعاصي والمحرمات أن يبطش بك، من الذي تعد للرغبة والرهبة؟ فقال: الذي في السماء. أقره النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك، ولو كان هذا غير جائز لأنكر عليه، ولقال له: هذا تجسيم، أو تشبيه أو إثبات جهة، أو نحو ذلك.(1/104)
فإن المبتدعة يسمون أهل السنة بألقاب ابتدعوها يسمونهم: نوابت، ويسمونهم غثاءً، ومجسمة، وحشوية، ومشبهة، وممثلة وما أشبه ذلك، وهم أولى بتلك الأسماء التي ابتدعوها ونبزوا بها أهل السنة، وعلى كل حال فإن هذا دليل واضح على إقرار النبي صلى الله عليه وسلم لمن يعتقد أن الله في السماء.
وقوله:
وفيما نقل من علامات النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في الكتب المتقدمة: (أنهم يسجدون بالأرض، ويزعمون أن إلههم في السماء).
شرح:
هذا الأثر في صفة هذه الأمة من الآثار التي تنقل عن الكتب المتقدمة وهي من الأخبار التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم وقولوا آمنا بالله وما أنزل ... الآية) ولكنه مطابق للواقع، مطابق لوصف هذه الأمة بأنهم يسجدون في الأرض وإلههم في السماء، ومعلوم أنهم على الأرض وأنهم يسجدون عليها، وأنهم يضعون جباههم عليها تواضعاً لربهم، وأنهم يعتقدون أن ربهم فوقهم.
مسألة: حديث الأوعال
قوله:
وروى أبو داود في سننه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن ما بين سماء إلى سماء مسيرة كذا وكذا..) وذكر الخبر إلى قوله (... وفوق ذلك العرش، والله سبحانه فوق ذلك) فهذا وما أشبهه مما أجمع السلف -رحمهم الله- على نقله وقبوله، ولم يتعرضوا لرده، ولا تأويله، ولا تشبيهه، ولا تمثيله.
سئل الإمام مالك بن أنس رحمه الله فقيل: يا أبا عبدالله، (الرحمن على العرش استوى)(طه:5) كيف استوى؟ فقال: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، ثم أمر بالرجل فأخرج.
شرح:
هذا الحديث يسمى حديث الأوعال، ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية في الواسطية، ولما حصلت المناظرة بينه وبين الأشاعرة في دمشق، وأرادوا أن ينكروا عليه، وكان مما استدل به هذا الحديث الذي ذكر فيه النبي صلى الله عليه وسلم: خلق المخلوقات، ثم قال في آخره: (والعرش فوق ذلك، والله فوق العرش، وهو يعلم ما أنتم عليه).(1/105)
لما ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم السماوات، وذكر البحار التي فوقها، وذكر الأوعال التي هي الملائكة الذين يحملون العرش، قال بعد ذلك: (والعرش فوق ذلك) يعني فوق ظهور الأوعال، مع ذكره لعظم خلقهم، و(والله فوق العرش) دليل صريح بذكر الفوقية.
قالوا: إن الحديث في إسناده عبدالله بن عميرة، وأنه لا يعرف إلا به، ولكن شيخ الإسلام يقول: إن هذا الحديث قد رواه كثير من الأئمة مؤيدين له. ومن جملة من رواه إمام الأئمة ابن خزيمة في كتابه (التوحيد) المطبوع المشهور المحقق؛ ذكر في أول الكتاب أنه لا يروي إلا الأحاديث التي صحت وليس في أسانيدها طعن ولا انقطاع، فهو روى هذا الحديث وسكت عنه، وذلك دليل على ثبوته، وفيه إثبات الفوقية أن الله تعالى فوق العرش الذي هو فوق المخلوقات، ولا دلالة أصرح من هذا الدليل.
(والله فوق العرش، وهو يعلم ما أنتم عليه) يعني أنه مع علوه، فهو سبحانه يطلع عليكم، ولا يخفى عليه منكم خافية، يعلم القريب والبعيد.
وآيات المعية، وآيات القرب كثيرة، وقد ذكر شيخ الإسلام أن ما ذكر في القرآن من علو الله تعالى وفوقيته لا ينافي ما ذكر من قربه ومعيته؛ فإنه سبحانه لا يقاس بخلقه، وليس كمثله شيء، وهو عليٌّ في دنوه، قريب في علوه، نَصفه بأنه هو الأعلى وهو معنا، ومطلع علينا، يرى عباده ويعلم أحوالهم، كما في قوله تعالى: (ونحن أقرب إليه من حبل الوريد)(ق:16)، وفي قوله تعالى: (وما كنا غائبين)(الأعراف:7).
هذه الأدلة ونحوها أدلة صريحة في إثبات العلو، والأدلة كثيرة وقد مر بنا آيات الاستواء، وآيات ذكر السماء، وهذان نوعان من الدليل.(1/106)
والدليل الثالث: آيات العلو كقوله تعالى: (وهو العلي العظيم)(البقرة:255)، (سبح اسم ربك الأعلى)(الأعلى:1)، (إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى)(الليل:20)، (إن الله كان علياً كبيراً)(النساء:34)، (إنه علي حكيم)(الشورى:51) ونحو ذلك، فالعلو ثابت لله تعالى بجميع أنواعه وأنواع العلو ثلاثة: علو القدر، وعلو القهر، وعلو الذات.
ومثله آيات الفوقية، مثل قوله تعالى: (وهو القاهر فوق عباده)(الأنعام:18)، (يخافون ربهم من فوقهم)(النحل:50).
فإذا قال النفاة: إن قوله تعالى: (وهو القاهر فوق عباده) إن الفوقية هنا فوقية الغلبة، يعني الغالب فوق عباده، يعني غالباً لهم وقاهراً لهم، وشبهوا ذلك بقول فرعون: (وإنا فوقهم قاهرون)(الأعراف:127) وكذلك قالوا: إن العلو هنا علو الغلبة، وعلو القهر، وقالوا: إن هذه شبيهة بقول فرعون: (أنا ربكم الأعلى)(النازعات:24).
الجواب أولاً: هذا لا يتأتى في آية: (يخافون ربهم من فوقهم) فإنه صريح في أن الفوقية ثابتة من فوقهم، ويمكن أن يصح في قوله: (وهو القاهر فوق عباده) أنها فوقية القهر وفوقية الغلبة وفوقية القدر، ومع ذلك يلزم من فوقية القهر فوقية الذات، فالله تعالى فوق عباده بذاته، والعلي بقدره، والعلي بقهره، يعني القاهر لهم، والذي هو فوقهم كما يشاء سبحانه وتعالى.
ومثل ذلك آيات الرفع؛ كقوله تعالى: (والعمل الصالح يرفعه)(فاطر:10)، (إني متوفيك ورافعك إلي)(آل عمران:55) ونحوها، وآيات العروج قال تعالى: (تعرج الملائكة والروح إليه)(المعارج:4)، (ثم يعرج إليه)(السجدة:5)، وآيات الصعود قال تعالى: (إليه يصعد الكلم الطيب)(فاطر:10).(1/107)
ومثلها ما ذكر الله عن فرعون أنه أراد الصعود إلى السماء قال تعالى في قصته: (يا هامان ابن لي صرحاً لعلي أبلغ الأسباب * أسباب السموات فأطلع إلى إله موسى)(غافر:36-37) لابد أن موسى أخبره بأن الله في السماء، ولو كان موسى أخبره بأن الله في كل مكان لما تكلف أن يبني الصرح، فهذا دليل على أن الله تعالى أمر موسى بأن يبين له ويعلمه أن الرب تعالى في السماء، فلذلك بنى الصرح محاولا أن يطلع على إله موسى.
ومن الأدلة على ذلك إقرار الأشاعرة بالرؤية؛ رؤية المؤمنين لربهم، ولذلك أنكرها المعتزلة، وقالوا: إنها تستلزم أن الله تعالى في جهة، ونحن نقول: نعم إن الله في جهة العلو.
وبكل حال هذا هو القول الواضح، ومع ذلك فإنهم أنكروا صفة العلو مع كثرة ما عليها من الأدلة ووضوحها، حتى إن بعض الأشاعرة رد على ابن القيم في النونية ومنهم السبكي، ثم إن زاهداً اكلوثري حقق هذا الرد الذي على ابن القيم، وقدم له مقدمة بشعة أخذ يسبه فيهان ويصفه بصفات تصل إلى الكفر -والعياذ بالله- كفّره وفسّقه، وشتمه، ولعنه، ودعا عليه، وشنع به، وما ذاك إلا لأنه يعجز الكوثري وأمثاله أن يتأولوا هذه الأدلة، وأن يردوها، فلما رآها صريحة، ورأى أن الذين ردوا عليه تكلفوا في ذلك، لم يكن بدٌ من أن يحمل عليه.
أما هذا الأثر عن مالك، فهو مشهور عنه أنه جاءه رجل فقال: يا أبا عبدالله: أرأيت قول الله تعالى: (الرحمن على العرش استوى)(طه:5) كيف استوى؟ فأطرق مالك برأسه حتى علاه الرحضاء -يعني العرق- ثم رفع رأسه فقال: (الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وما أراك إلا مبتدعاً) ثم أمر به فأخرج، هكذا رُوي عن مالك رحمه الله واشتهر عنه، وانتشر.(1/108)
وهكذا أيضاً روي عن شيخه ربيعة بن أبي عبدالرحمن؛ من علماء المدينة، وهو من مشاهير العلماء أنه قال في الاستواء: (الاستواء معلوم، والكيف مجهول، ومن الله الرسالة، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التسليم). مقالة يا لها من مقالة حكيم، وعلوم لا تصدر إلى عن علم راسخ.
وقد رُوي هذا عن أم سلمة إحدى أمهات المؤمنين أنها قالت، (الاستواء معلوم، والكيف مجهول .. إلى آخره)، ورواه بعضهم عن أم سلمة مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ولكنه لا يصح مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وصحته إنما هي عن مالك وعن شيخه، ولا شك أن هذا قول الأئمة كلهم؛ يقرون بأن الله تعالى على العرش استوى، وأن الاستواء معلوم غير مجهول، ومعلوم يعني مفهوم له معنى مدرك، معناه واضح يفسر ويبين، ويفهم، ويترجم من لغة إلى لغة.
فله معنى، بخلاف من يقول: إنه لا يعلم معناه، وإنما هو كالألفاظ الأعجمية التي نتكلم بها ولا ندري ما مفادها، أو كالألفاظ ما سمعنا لها أصلاً، ولا يدري معناها فهذا افتراء على مالك، ما دام أنه قال: (معلوم غير مجهول) أي لا أجهله أنا ولا تجهله أنت؛ لأن اللغة الفصيحة، لغة واضحة، إلا أن له كيفية، والكيف مجهول، الكيف غير معقول، الكيفية التي عليها الاستواء هي المجهول.
فلأجل ذلك في اصطلاح أهل السنة يقولون في آيات الصفات: أمروها كما جاءت بلا كيف، اجتنبوا التكييف، ويقولون: نؤمن بما وصف الله به نفسه، وما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، من غير تشبيه ولا تمثيل، ومن غير تكييف ولا تعطيل.
التكييف له أحد معنيين:
الأول: هو السؤال بكيف استوى؟ كيف ينزل؟ كيف علمه؟ كيف يغضب؟ فنقول: لا يجوز التكييف.
الثاني: أن التكييف هو الإخبار بالكيفية؛ أن يقال: كيفية النزول كذا وكذا، كيفية الاستواء كذا وكذا، وهذا أيضاً لا يجوز اعتماده، ولا يجوز العمل به، ولا القول به، بل الله سبحانه وتعالى كما وصف نفسه في صفاته، دون أن يكون له كيفية مفهومة لنا.(1/109)
وأما قوله: (والإيمان به واجب) لأن الله أخبر به في عدة آيات، وكل ما أخبر به وجب التصديق به، ووجب اعتقاده، والسؤال عنه بدعة؛ لأنه من العلم الذي حجبه الله عنا، والسؤال عن الكيفيات بدعة، ولهذا في منظومة أبي الخطاب:
قالوا: فتزعم أن على العرش استوى قلت: الصواب؛ كذاك أخبر سيدي
قالوا: فما معنى استواه أبن لنا فأجبتهم: هذا سؤال المعتدي
فالسؤال عن الكيفية بدعة، ولأجل ذلك أمر بإخراج هذا المبتدع فنعرف من هذا طريقة السلف رحمهم الله في إثبات الصفات، وفي الرد على المبتدعة.
مسألة: إثبات صفة الكلام لله تعالى
قوله:
ومن صفات الله تعالى؛ أنه متكلم بكلام قديم، يُسمِعُه من شاء من خلقه، سَمِعه موسى عليه السلام، من غير واسطة و سمعه جبريل عليه السلام ومن أذن له من ملائكته ورسله، وأنه سبحانه يُكلِّم المؤمنين في الآخرة ويكلِّمونه، ويأذن لهم فيزورونه. قال الله تعالى: (وكلم الله موسى تكليماً)(النساء:164)، وقال سبحانه: (يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي)(الأعراف: 144)، وقال سبحانه: (منهم من كلم الله)(سورة البقرة:253) وقال سبحانه: (وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً أو من وراء حجاب)(الشورى:51).
شرح:
هذه من الأدلة على أن الله تعالى متكلم ويتكلم إذا شاء، والدليل قوله تعالى: (وكلم الله موسى تكليماً) واضح في أن الله كلم موسى وأنه أسمعه كلامَه، وكذلك قوله تعالى: (مِنْهم من كلم الله) يعني موسى أو يعني من الرسل من كلمه الله، وكذلك قوله تعالى: (ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه)(الأعراف:143) إلى قوله تعالى: (وإني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي)(الأعراف:144) واضح في أن الله كلَّمه، وأنه اصطفاه، واختصه برسالته، وبتكليمه له، وأن الله أسمعه الكلام.(1/110)
وقد ذُكر أن أحد الجهمية جاء إلى أبي عمرو بن العلاء - أحد القراء السبعة في العراق- وقال: أريد منك أن تقرأ هذه الآية: (وكلم الله موسى تكليماً)(النساء:164) بنصب (الله)، وقصده أن يكون موسى هو الذي كلم ربه، لا أن الله هو الذي كلم موسى، يريد بذلك نفي كلام الله لموسى، ولكن أبا عمرو رحمه الله قال له: هب أني قرأت أنا أو أنت هذه الآية هكذا؟ فكيف تفعل بقول الله تعالى: (ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه) هل تستطيع أن تغيرها؟ هل تستطيع أن تقدم فيها أو تؤخر؟ فتحير ذلك الجهمي، وعرف أنه لا حيلة له في تغيير هذه الكلمة.
أراد أن يحرفها تحريفاً لفظياً، ويجعل الكلام من موسى لا من الله؛ في قوله تعالى: (وكلم الله موسى تكليماً)، فجاءت هذه الآية التي تبطل تحريفه (وكلمه ربه) فقدم الضمير المفعول به، والرب هو المكلم - فلم يكن له فيها حيلة.
ثم ذكر شيخ الإسلام أن المعتزلة والجهمية تأولوا هذه الكلمة فحرفوها تحريفاً عجيباً؛ فقالوا: التكليم التجريح قال تعالى: (وكلمه ربه)، (منهم من كلم الله)(البقرة:253) يعني جرحه بأظافر الحكمة، وقالوا: إن الجُرح هو الكَلم كما في قوله صلى الله عليه وسلم: (ما من مكلوم يُكلم في سبيل الله إلا جاء يوم القيامة كهيئته حين كُلمِ ؛ لونه لون دم وريحه مسك).(1/111)
فذهبوا مذهباً بعيداً، وفسروا التكليم بأنه التجريح -سبحان الله- وهل التجريح شرف؟ وهل فيه ميزة لموسى؟ ولماذا اختصه بقوله تعالى: (وكلم الله موسى تكليماً) بعد ما ذكر أنه أوحى إلى النبيين بقوله تعالى (إن أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده)(النساء:163)، لو كان ذلك هو التجريح ما كان فيه فضيلة، كيف يكون جرحه بأظافير الحكمة؟ فإن التجريح عذاب سواءً كان حسياً أو معنوياً، ثم يبطله أيضاً قوله تعالى: (إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي)(الأعراف:144) ولم يقل بتكليمي، والكلام واضح في أنه أراد ما سمعه من كلام الله له، فبطل بذلك تأويلهم.
كذلك أيضاً قوله تعالى: (وما كان لبشر أن يكلمه الله وحياً)(الشورى:51) ليس المراد أن يجرحه إلا وحياً، وهل الوحي تجريح بأظافير الحكمة؟ فعرف بذلك أن التكليم هو الكلام، ولهذا قال تعالى: (أو من وراء حجاب)(الشورى:51) يعني أو يْكلِّمه من وراء حجاب كما حصل لموسى.
وقوله:
وقال تعالى: (فلما أتاها نودي يا موسى * إني أنا ربك)(طه:11-12)، وقال تعالى: (إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني)(طه:24)، وغير جائز أن يقول هذا أحد غير الله.
شرح:(1/112)
من الأدلة أيضاً: آيات النداء، فالنداء لا يعرف إلا بالكلام، وقد ذكر الله النداء في عدة آيات، ففي سورة القصص ذكره في ثلاث آيات؛ قال تعالى: (ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون)(القصص:62)، (ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين)(القصص:62) فالنداء لا يكون إلا بصوت، وبكلام مسموع: قال الله تعالى: (وإذ نادى ربك موسى أن ائت القوم الظالمين)(الشعراء:10)، وقال تعالى: (هل أتاك حديث موسى * إذ ناداه ربه بالواد المقدس طوى)(النازعات:15-16)، وفي هذه الآية (فلما أتاها نودي يا موسى * إني أنا ربك فاخلع نعليك) إلى قوله تعالى: (إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري)(طه:11-14)، وكذلك قوله تعالى: (وناديناه من جانب الطور الأيمن وقربناه نجياً)(مريم:52).
فلا شك أن النداء كلام مسموع، فلابد أن يكون كلام الله الذي تكلم به من الكلام المسموع الذي فهمه موسى، ولهذا لما سمع كلام الله سأل النظر إليه، وقال: (رب أرني أنظر إليك)(الأعراف:143) الآية، فدل على أنه سمع كلام الله، ولا شك أن موسى سمع قول الله تعالى: (إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني)(طه:14)، من الذي قال هذا لموسى؟ قالته الشجرة؟
ولما رأى النار فقال: (إني آنست ناراً لعلي آتيكم منها بخبر أو جذوة من النار لعلكم تصطلون)(القصص:29) (فلما جاءها نودي أن بورك من في النار ومن حولها)(النمل:8) يعني سمع نداء الله (أن يا موسى إني أنا الله رب العالمين * وأن ألق عصاك)(القصص:30-31).
هل تقول الشجرة هذا الكلام الذي ذكره الله تعالى: (إني أنا ربك فاخلع نعليك إنك بالواد المقدس طوى * وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى * إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري)(طه:12-14)، (يا موسى إنه أنا الله العزيز الحكيم * وألق عصاك)(النمل:9-10)؟ هذا كلام لا يقوله إلا الرب سبحانه الذي ناداه.
مسألة: إثبات أن القرآن كلام الله حقيقة
وقوله:(1/113)
ومن كلام الله سبحانه القرآن العظيم، وهو كتاب الله المبين، وحبله المتين، وصراطه المستقيم، وتنزيل رب العالمين، نزل به الروح الأمين على قلب سيد المرسلين، بلسان عربي مبين، مُنزَّلٌ غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود.
شرح:
ولما تكلم على أن الله متكلم ويتكلم، كان ولابد من أن يذكر أمثلة من كلامه الذي وصل إلى البشر، وبلا شك أن من أقرب ذلك هذا القرآن الذي بين أيدينا، الذي هو أعظم وأشرف الكتب المنزلة على الأنبياء، ولا شك أنه كلام الله.
ومعلوم أن الله أنزل على الأنبياء كتباً، أنزل على موسى التوراة، وأنزل على عيسى الإنجيل، وأنزل على داود الزبور، وأنزل على إبراهيم صحفاً كما في قوله: (صحف إبراهيم وموسى)(الأعلى:19)، ولا شك أن ذلك كله من كلام الله الذي تكلم به وضمّنه شريعته، وأمره، ونهيه.
وكان من آخر الكتب هذا الكتاب المبين، وهذا الذكر الحكيم الذي وصفه الله بذلك، وصفه بأنه الذكر الحكيم يعني المحكم، وبأنه القرآن المبين يعني البيّن، ووصفه بالهدى، وبالبيان، وبالشفاء، وبالموعظة، وبصفات تدل على عظمته، وعلى عظم مكانته.
وأخبر بأنه منزل من الله بقوله تعالى: (وإنه لتنزيل رب العالمين * نزل به الروح الأمين * على قلبك لتكون من المنذرين * بلسان عربي مبين)(الشعراء:192-195) أنزله الله بلسان عربي حتى يفهمه المُرسل إليهم، قال الله تعالى: (وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه)(إبراهيم:4).
فجعل هذا القرآن بلسان النبي صلى الله عليه وسلم: أي بلسان العرب كما أن الكتب المنزلة قبله أنزلها -سبحانه- بألسنة الذين نزلت عليهم، بالسريانية وبها نزل الإنجيل، وبالعبرانية التي هي لسان اليهود، وأما القرآن فإنه بهذه اللغة الفصيحة بلسان العرب، هذا هو قول أهل السنة: أن القرآن منزل غير مخلوق؛ رداً على الذين يقولون إنه مخلوق.(1/114)
(منه بدأ): يعني تكلم به الرب سبحانه وتعالى، (وإليه يعود) وذلك إذا لم يُعمل به في آخر الزمان يُرفع من الصدور، ويُرفع من الأسطر ومن الكتب، ولا يبقى منه شيء، وهذا معنى قوله: (وإليه يعود)، كما فسر ذلك شيخ الإسلام في بعض كتبه.
فعند أهل السنة والجماعة أن القرآن كلام الله تعالى، وأنه كلام مسموع، أما الأشاعرة فذهبوا إلى أن الكلام معنى قائم بالنفس؛ قالوا: إن عبر عنه بالعربية فهو قرآن، وإن عبر عنه بالعِبرية فهو توراة، وإن عبر عنه بالسُريانية فهو إنجيل؛ هكذا يقولون، وأنكروا أن يكون هذا الكلام الذي بهذه الحروف هو نفس كلام الله، وقالوا: إن كلام الله هو المعنى ليس هو اللفظ، وهذه الحروف التي في هذه المصاحف ليست هي كلام الله، وأرادوا بذلك التستر حتى لا يقولوا: إن القرآن مخلوق، وإلا فقولهم قريب من قول المعتزلة الذين يقولون: إن القرآن مخلوق، وهؤلاء قالوا: إنه كلام الله، ولكن كلام الله المعنى دون اللفظ.
وكثيراً ما يستدلون بالبيت المشهور في كتبهم؛ يقولون: إن الشاعر العربي يقول:
إن الكلام لفي الفؤاد وإنما جُعل اللسان على الفؤاد دليلاً
فيقولون: إن كلام الله هو المعنى دون اللفظ، وإن الكلام في الحقيقة إنما هو ما يقوم بالنفس، وأما ما يسمع بالأذان فلا يسمى كلاماً، وإنما يسمى عبارة أو حكاية، فيقولون: إن القرآن عبارة، أو حكاية عن كلام الله، وليس هو عين كلام الله، هذه عقيدتهم، فكيف نرد عليهم؟
العرب لا ينسبون للساكت كلاماً، ولو كان يزور في نفسه، إنما يُسمى كلاماً بعد ما يُنطق به، فأما قبل أن يُنطق به فلا يسمى كلاماً.
وأما البيت الذي استدلوا به فينسبونه إلى الأخطل وليس بصحيح؛ فلم يوجد في ديوانه، وأكثر الشعراء وعلماء الأدب ينكرون هذا البيت ويقولون: إنه مختلق لا أصل له. ثم رواه بعضهم قائلاً:
إن البيان لفي الفؤاد وإنما جُعل اللسانُ على الفؤاد دليلاً(1/115)
ثم لو قدّرنا أنه صحيح، وأنه من قول الأخطل لم نقبله، وذلك لأن الأخطل نصراني، مشهور بتمسكه بالنصرانية، ويفتخر بها، ويمتنع أن يفعل ما يفعله المسلمون، وقد أشتُهر من شعره قوله:
ولستُ بقائم كالعير يدعو قُبيل الصبح حيَّ على الفلاح
ولستُ بقائدٍ عيساً بكوراً إلى بطحاء مكة للنجاح
ولست بصائم رمضان طوعاً ولست بآكل لحم الأضاحي
ولكني سأشريها شمولاً وأسجدُ عند منبلج الصباح
لا شك أن هذا يدل على كفر صريح، وإذا كان يفتخر بأنه نصراني فكيف يُستشهد بكلامه في أمر يتعلق بالعقيدة؟ ثم -أيضاً- هو يسمى (الأخطل) والخطل هو عيب في الكلام، ثم -أيضاً- هو نصراني؛ والنصارى قد ضلوا في مسمى (الكلام) حيث جعلوا (عيسى) نفس (الكلمة) فإذا كان كذلك فكيف يستشهد بكلام هذا الأخطل النصراني، على أمر من أمور العقيدة.
وقد قال ابن القيم رحمه الله في نونيته:
ودليلهم في ذاك بيت قاله فيما يقال الأخطل النصراني
وكذلك البيت المنسوب إلى شيخ الإسلام -رحمه الله- في العقيدة اللامية التي أولها:
يا سائلي عن مذهبي وعقيدتي رزق الهدى من للهداية يسأل
اسمع كلام محقق في قوله لا ينثني عنه ولا يتبدل
حب الصحابة كلهم لي مذهب ومودة القربى بها أتوسل
ولكلهم قدر وفضل ساطعُ لكنما الصديق منهم أفضل
إلى قوله:
قبح لمن نبذ الكتاب وراءه وإذا استدل يقول: قال الأخطل
قبح له كيف ينبذُ الكتاب ويستدل بقول الأخطل، فعلى هذا كيف يكون كلام الأخطل دليلاً على مسألة الكلام، وأن الكلام هو المعنى دون اللفظ، فالعرب لا تنسب للساكت كلاماً، ولو كان يحدث نفسه، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها؛ ما لم يتكلموا أو يعملوا به)، ولما قال له بعض الصحابة: (إن أحدنا ليجد في نفسه لأن يكون حممة أحب إليه من أن يتكلم به، فقال: (الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة).
مسألة: عقيدة أهل السنة والجماعة في القرآن الكريم
وقوله:(1/116)
وهو سورٌ محكمات، وآيات بيناتٌ، وحروفٌ وكلمات، (من قرأه فأعربه فله بكل حرف عشر حسنات) له أول وآخر، وأجزاء وأبعاض.
شرح:
هذا الوصف مشاهد في مصاحف المسلمين، أنه مائة وأربع عشرة سورة، وأن كل سورة فيها عدة آيات، وأطولها سورة البقرة مائتان وست وثمانون آية، وأقصرها سورة الكوثر ثلاث آيات، وسورة العصر ثلاث آيات، وسورة النصر ثلاث آيات، ومنها ما هو فوق المائتين كالأعراف والشعراء.
الحاصل أنه سور وآيات، وأن الصحابة جزَّءوه إلى ثلاثين جزءاً؛ يعني قسموه تقاسيم متقاربة، وجعلوه ثلاثين جزءاً، وجعلوه أحزاباً؛ كل جزء جعلوه حزبين، ومعروف أيضاً أن بعض العلماء اشتغلوا بعدّ آياته، فذكروا أن آيات القرآن أكثر من ستة آلاف آية، واشتغل بعضهم بعدّ كلماته، والكلمة هي القول المفرد، واشتغل بعضهم بعدّ حروفه؛ أن هذه السورة كذا وكذا حرفاً، وهذه الآية كذا وكذا حرفاً، وهذا دليل على أنه سور، وبكل سورة آيات وأجزاءٌ، وحروف، وكلمات.
(له أول وآخر) بمعنى أن الصحابة اتفقوا على أن أوله سورة الفاتحة، وسموها (فاتحة الكتاب) وهي السبع المثاني، وكذلك كل سورة جعل لها اسم مما اشتملت عليه. كذلك أيضاً له آخر، فآخره سورة الناس، وترتيبه هذا الذي في المصاحف ترتيب من الصحابة، والأكثر من العلماء قال أنه توقيف وأن النبي صلى الله عليه وسلم أوقفهم على هذا الترتيب، وقال: (اجعلوا هذه السورة بعد هذه السورة) أو نحو ذلك.
ومن العلماء من يقول: ترتيب السور باجتهاد من الصحابة، قدموا السبع الطوال، ثم أتبعوها المئين، ثم أتبعوها بالمثاني، ثم أتبعوها بالحواميم، ثم ختموها بالمفصل، وذلك اجتهاد منهم، وقالوا: إن مصاحف الصحابة اختلف فيها الترتيب، ولكن قد عرف أنه كان يُقرأ على زمن النبي صلى الله عليه وسلم: مرتباً، فيدل على أنه كان يقرأ كله، وهذا لا ينافي كونه كلام الله.
وقوله:(1/117)
متلوٌ بالألسنة، محفوظ في الصدور، مسموع بالآذان، مكتوب في المصاحف، فيه محكيم ومتشابه، وناسخ ومنسوخ، وخاص وعام، وأمر ونهي (لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكم حميد)(فصلت:42) وقوله تعالى: (قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً)(الإسراء:88).
شرح:
هذا وصف للقرآن (متلو بالألسن) أي نقرؤه بألسنتنا، ونسمعه بآذاننا قال الله تعالى: (وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا)(الأعراف:204)، (مكتوب في المصاحف) أي نكتبه بأيدينا في المصاحف، ويسطر فيها أسطراً متتابعة، فهو بهذه الصفات لا يخرج عن كونه كلام الله، إذا قرأه القارئ فإنه كلام الله، يقال: هذا يتكلم بكلام الله، ولو كان بعضه حكاية لغيره، فإذا قلنا مثلاً قوله تعالى: (فحشر فنادى * فقال أنا ربكم الأعلى)(النازعات:23-24) قلنا: هذا كلام الله عن فرعون، وإذا قرأنا قوله: (ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين)(الأعراف:17) قلنا: هذا كلام الله عن إبليس، فالحاصل أنه إذا كتب لم يخرج عن كونه كلام الله، وإذا قرئ، وإذا نسخ -بمعنى كُتب ونُقل- من مصحف في مصحف، فكله كلام الله.
وقد اشتمل القرآن على محكم ومتشابه في قوله تعالى: (منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات)(آل عمران:7)، وقد فسر المحكم بأنه الذي ليس فيه نسخ ولا تغيير، وبأنه الذي يفهمه من يسمعه؛ هذا هو المحكم، فآيات الأحكام محكمة ظاهرة الإحكام، وأما المتشابه فهو الذي يشتبه على بعض الناس، وقد تقدم في أول الرسالة ذكر الذين يتبعون ما تشابه منه، وهم أهل الزيغ، وذكرنا أمثلة مما يتشبثون به.(1/118)
وفيه -أي القرآن- (أمر ونهي)؛ الأمر مثل قوله تعالى: (اعبدوا ربكم)(البقرة:21)، والنهي مثل قوله تعالى: (ولا تشركوا به شيئاً)(النساء:36)، وفيه (ناسخ ومنسوخ) يعني آيات منسوخ لفظها، أو منسوخ معناها، وكذلك أيضاً فيه مطلق ومقيد؛ المطلق الذي يحتاج إلى تقييد مثل قوله تعالى: (فتحرير رقبة)(النساء:92).
يعني فيه هذه الكلمات التي تشتمل عليها، وكله لا يخرج عن كونه كلام الله، وصفه الله بقوله تعالى: (وإنه لكتاب عزيز * لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد)(فصلت:41-42) العزيز؛ يعني الجليل، عزيز يعني ذو عزة، وذو قوة، وذو بلاغة، وذو أسلوب قوي، (لا يأتيه الباطل) معناه: لا يتطرق إليه الخطأ من بين يديه ولا من خلفه، من أية جهة لأنه كلام الله، قال تعالى: (تنزيل من حكيم حميد).
وكذلك قوله تعالى: (قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً)(الإسراء:88) لو اجتمع أولهم وآخرهم على أن يعارضوه ويأتوا بقرآن مثله لعجزوا عن ذلك. فهذا تحد من الله وإخبار بأنهم عاجزون، وقد وقع كما أخبر، فدل ذلك على أنه كلام الله.
وقوله:
وهو هذا الكتاب العربي الذي قال فيه الله تعالى على لسان الذين كفروا: (لن نؤمن بهذا القرآن)(سبأ:31)، وقال بعضهم: (إن هذا إلا قول البشر)(المدثر:25) فقال الله سبحانه: (سأصليه سقر)(المدثر:26)، وقال بعضهم: هو شعر. فقال الله تعالى: (وما علَّمناه الشعر وما ينبغي له إن هو إلا ذكر وقرآن مبين)(يس:69)، فلما نفى الله عنه أنه شعر وأثبته قرآناً لم يبق شبهة لذي لب في أن القرآن هو هذا الكتاب العربي الذي هو كلمات، وحروف، وآيات؛ لأن ما ليس كذلك لا يقول أحد: إنه شعر.
شرح:(1/119)
يشير إلى أن القرآن الذي هو كلام الله، هو هذا الموجود الذي في المصاحف، فإنه كلام عربي قال الله تعالى: (ولو جعلناه قرآناً أعجمياً لقالوا لو لا فصلت آياته أعجمي وعربي)(فصلت: 44)، كيف يرسل إلى قوم عرب، ويكون قرآناً أعجمياً؟ وقال تعالى: (لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين)(النحل:103). وصفه بأنه لسان عربي.
ثم حكى الله عن المشركين الذين عارضوه هذه الحكايات فحكى عنهم قولهم أنه أساطير الأولين، لما سمعوا فيه هذه القصص قالوا: إنه أكاذيب الأولين قال تعالى: (وقالوا أساطير الأولين أكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلاً)(الفرقان:5) كيف تملى عليه وهو أمي لا يكتب ولا يقرآ؟ يقول تعالى: (وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون)(العنكبوت:48).
كذلك حكى الله عنهم أنهم قالوا: إنه شعر، إنه كهانة، والشعر معروف أنه له أوزان، وله قواف، والقرآن ليس كذلك، ومعلوم أن الكهنة يستعملون في كلماتهم سجعات متتالية، وليس كذلك القرآن، ولهذا رد الله عليهم بقوله تعالى: (وما هو بقول شاعر قليلاً ما تؤمنون * ولا بقول كاهن قليلاً ما تذكرون)(الحاقة:41-42).
ولما أوردوا هذه الإيرادات على بعض كفار قريش -وهو الوليد بن المغيرة- لم يقنع بها فقالوا: فماذا نقول؟ قال: نقول إنه سحر يؤثر. يعني يُنقل ممن قبله، فقال الله تعالى حاكياً عنه: (فقال إن هذا إلا سحر يؤثر * إن هذا إلا قول البشر * سأصليه سقر)(المدثر:24-26) كيف يكون سحراً يؤثر؟ من أين أثر، ومن أين جاء؟ فتبين أن هذا دليل على أنهم يشيرون إلى القرآن الذي يتلى عليهم؛ لأنه لو كان معنوياً لم يوصف بأنه شعر، ولا أنه سحر، ولا أنه كهانة، ولا أنه أساطير الأولين، ولا أنه افتراه كما في قولهم: (افتراه) يعني كذبه واختلقه، فدل على أنهم يشيرون إلى هذا القرآن.
وقوله:(1/120)
وقال تعالى: (وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله)(البقرة:23)، ولا يجوز أن يتحداهم بالإتيان بمثل ما لا يدري ما هو، ولا يعقل.
شرح:
يشير إلى أن المثل لابد أن يكون معروفاً مشهوراً مشاهداً فقوله تعالى: (فأتوا بسورة من مثله) في سورة البقرة، وفي سورة يونس (فأتوا بسورة مثله)(يونس:38) لو كان المراد المعنى الذي تزعم الأشاعرة أنه (معنى) لم يُعرف المثل لأنهم يقولون: أن القرآن إنما هو (المعنى)، وأما اللفظ فهو تعبير من محمد أو تعبير من جبريل، وهذا خطأ، وإلا لما قال الله تعالى: (فأتوا بسورة مثله).
وقوله:
وقال تعالى: (وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدله قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي)(يونس:15)، فأثبت أن القرآن هو الآيات التي تتلى عليهم وقال تعالى: (بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم)(العنكبوت:49)، وقال تعالى: (إنه لقرآن كريم * في كتاب مكنون * لا يمسه إلا المطهرون)(الواقعة:77-79)، بعد أن أقسم على ذلك، وقال تعالى: (كَهيعص)(مريم:1) (حم * عسق)(الشورى:1-2)، وافتتح تسعاً وعشرين سورة بالحروف المقطعة.
شرح:
هذا دليل على أنه هو هذا القرآن فإن قوله تعالى: (وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدله)(يونس:15) إشارة إلى هذا الذي يسمعونه قال تعالى: (قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلي)(يونس:15) أخبر بأنهم يشيرون إلى شيء (بقرآن غير هذا أو بدله)(يونس:15) فدل على أن هذا هو الذي سمعوه، وهو الذي قرأه عليهم.(1/121)
وكذلك آية سورة العنكبوت (بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم)(العنكبوت:49) يعني: محفوظ في الصدور، في صدور الذين أتوا العلم، فدل على أنهم يسمعون ويفهمون هذه الآيات التي اشتملت عليها هذه السور، فدل على أنه كلام مسموع له أول وآخر، وأنه كلمات وحروف.
وكذلك لما أقسم الله بقوله تعالى: (فلا أقسم بمواقع النجوم * وإنه لقسم لو تعلمون عظيم * إنه لقرآن كريم * في كتاب مكنون)(الواقعة:75-78) يعني مكتوب أصله في اللوح المحفوظ (لا يمسه إلا المطهرون * تنزيل من رب العالمين)(الواقعة:79-80)، هذه الصفات صفات القرآن؛ قرآن كريم، في كتاب مكنون، تنزيل من رب العالمين، لا يمسه إلا المطهرون -لا شك أن هذه كلها صفة للقرآن الذي بين أيدينا، فكيف تكون للمعنى؟ لا شك أنه أراد هذا الكلام المحفوظ المسموع.
وأما قوله: (افتتح تسعاً وعشرين سورة بالحروف المقطعة) يعني مثل (ألم)(البقرة:)، وفي آل عمران، والعنكبوت، والسور التي بعدها، وكذلك (الر) في يونس والسور التي بعدها، و(المص)(الأعراف:1)، وكذلك في السور المتفرقة مثل (طه)(طه:1)، (كهيعص)(مريم:1)، ومجموعها تسع وعشرون سورة افتتحها بالحروف المقطعة.
هذه الحروف لا شك أنها حروف، لأنها تنطق بنفس الكلمة، يعني هو يكتب حرفاً ولكنه ينطق بكلمة، فإن قولك: (ك) - لا يكتب في (ألف) و(فاء) بل يكتب: (ك)، وكذلك (ع) - لا تكتب الياء والنون وإنما تكتب (ع)، فهكذا رويت ونطق بها النبي صلى الله عليه وسلم.
وقوله:
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من قرأ القرآن فأعربه فله بكل حرف منه عشر حسنات، ومن قرأه ولحن فيه؛ فله بكل حرف حسنة) حديث صحيح، وقال عليه الصلاة والسلام (أقرءوا القرآن قبل أن يأتي قوم يُقيمون حروفه إقامة السهم لا يجاوز تراقيهم؛ يتعجلون أجره، ولا يتأجلونه) وقال أبو بكر وعمر رضي الله عنهما: (إعراب القرآن أحب إلينا من حفظ بعض حروفه).(1/122)
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (من كفر بحرف منه فقد كفر به كله). واتفق المسلمون على عد سور القرآن، وآياته، وكلماته، وحروفه، ولا خلاف بين المسلمين في أن من جحد من القرآن سورة أو آية أو كلمة أو حرفاً متفقاً عليه -أنه كافر، وفي هذا حجةٌ قاطعةٌ على أنه حروفٌ.
شرح:
هذه الأدلة أدلة واضحة على أن القرآن فيه كلمات، وحروف، وآيات، ونحوها، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (من قرأ حرفاً من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول (ألم) حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف)رواه الترمذي أخبر بأنه يثاب على هذه الحروف، فدل على أن القرآن هو هذه الحروف، وكذلك (من قرأ القرآن فأعربه)، (من قرأ القرآن ولحن فيه)، (الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه وهو عليه شاق له أجران)، ويقول صلى الله عليه وسلم: (تعاهدوا القرآن فوالذي نفسي بيده لهو أشد تفصياً من الإبل في عقلها)، ويحث صلى الله عليه وسلم على تعلمه وتعليمه بقوله: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه)، ويخبر صلى الله عليه وسلم عن فضل من يحمله (مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن كالأترجة طعمها طيب، وريحها طيب) يعني أنه يقرأ القرآن، وأن القرآن قد امتلأ به قلبه وضميره.
وكذلك ذكر كلام الصحابة في تفضيل إعراب القرآن؛ يعني تجويده، وتحقيق كلماته على كثرة التلاوة، كل ذلك دليل على أنهم فهموا أن القرآن هو هذا المكتوب في المصاحف الذي هو كلمات وحروف.
وكذلك اتفق أهل السنة، واتفق أئمة الأمة على أنه يجوز أن تُعدَّ كلماته، وأن تُعدَّ حروفه، وأن تُعدَّ آياته، وفي ذلك دليل على أن كلام الله هو هذا القرآن الذي فيه حروف، فالإمام الموفق رحمه الله في ذلك يشير إلى أن قول المعتزلة أنه مخلوق قول باطل.(1/123)
وكذلك قول الأشاعرة؛ أن الله لا يتكلم بحرف وصوت قول باطل، فإنهم يريدون بذلك إبطال كون القرآن كلام الله؛ حروفه ومعانيه، فإن كلام الله هو القرآن؛ حروفه ومعانيه، ليس كلام الله الحروف دون المعاني، ولا المعاني دون الحروف.
ولما اشتهر عن شيخ الإسلام رحمه الله أنه يثبت أن الله يتكلم بكلام مسموع، أنكر عليه الأشاعرة، ولما أحضروه في مصر لمجادلته انتصب له أحد علماء الشافعية ووقف خصماً له إذ رئيس القضاة في ذلك الوقت من الحنفية فقال له: أدعي على هذا الفقيه أنه يقول: إن الله يتكلم بحرف وصوت. هكذا نقموا عليه قوله: (إن الله يتكلم بحرف وصوت) كأن هذه كبيرة عندهم، وكأن هذا أكبر الذنوب، وأكبر الكبائر، وأنه كفر، فلم يكن من شيخ الإسلام إلا أنه ذكر لهم الأدلة، وطلب منهم أن يفسروها، فعجزوا عن ذلك. فلبيان بطلان قول الأشاعرة اجتهد الشيخ في هذا الباب في أن يورد كثرة الأدلة التي تثبت أن كلام الله هو هذا القرآن حروفه ومعانيه.
مسألة: رؤية المؤمنين لربهم في الآخرة
قوله:
والمؤمنون يرون ربهم في الآخرة بأبصارهم، ويزورونه، ويُكلمهم، ويُكلمونه، قال الله تعالى: (وجوه يومئذ ناضرة * إلى ربها ناظرة)(القيامة:22-23)، وقال تعالى: (كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون)(المطففين:15) فلما حجب أولئك في حال السخط دل على أن المؤمنين يرونه في حال الرضى، وإلا لم يكن بينهما فرق.
شرح:
هذا ابتداء في مسألة النظر إلى وجه الله، ورؤية الله تعالى، وهي أيضا من المسائل المهمة التي تكلم فيها أهل السنة، وأثبتوها بالأدلة، وخالف فيها المعتزلة خلافاً صريحاً، وخالف فيها الأشاعرة خلافاً معنوياً، وهدى الله أهل السنة لقبولها، ولم يلزمهم محذور من إثباتها، والحمد لله.
أولاً: قد اختلفوا: هل يمكن النظر إلى الله تعالى في الدنيا، وهل رآه النبي صلى الله عليه وسلم؟(1/124)
والصحيح أنه لا يمكن لأحد من البشر أن يرى ربه في الدنيا، ولأجل ذلك لم يتمكن موسى من النظر إلى ربه بعد أن سأل النظر، وأخبره الله بعدم التمكن من ذلك، والدليل قوله تعالى: (ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه قال رب أرني أنظر إليك قال لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر موسى صعقاً فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين)(الأعراف:143.
فهذا دليل على أن البشر لضعف خلقتهم في الدنيا لا يتمكنون من رؤية الله تعالى، والصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم: لم يره رؤية بصرية في الدنيا، ودليل ذلك قوله صلى الله عليه وسلم لما قيل له: هل رأيت ربك؟: (نورٌ أنى أراه) يعني كيف أراه ودونه ذلك النور، وكذلك في رواية (رأيت نوراً) وذلك لأن الله تعالى احتجب عن عباده بالنور.
وفي الحديث الآخر يقول صلى الله عليه وسلم: (حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه)، فالصحيح أنه رآه رؤية قلبية لا رؤية بصرية، والذين أثبتوا الرؤية له استدلوا بقوله تعالى: (ولقد رآه نزلة أخرى * عند سدرة المنتهى)(النجم:13-14)، والصحيح أن الضمير يعود إلى جبريل؛ أي ولقد رأى جبريل نزلة أخرى، وكذلك قوله (ولقد رآه بالأفق المبين)(التكوير:23) الضمير أيضاً يعود إلى جبريل عليه السلام، فإنه الرسول المذكور في قوله تعالى: (إنه لقول رسول كريم * ذي قوة عند ذي العرش مكين * مطاع ثم أمين)(التكوير:19-21) هذه صفات الملك، فالضمير يعود إليه.
وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم أخبر بأنه رأى جبريل على صورته التي خُلق عليها مرتين له ستمائة جناح، قد سد ما بين الأفق، أو قد سد الأفق، وكان ينزل عليه كثيراً، ولكنه يتمثل بصورة دحية الكلبي أو نحوه.(1/125)
وعلى كل حال؛ فإن الرؤية في الدنيا لا دليل عليها، وقد خالف في ذلك المتصوفة، وادعوا أن الأولياء يرون الله عياناً، وأنه يعرج بأرواحهم، وأن أرواحهم تتمكن من النظر إلى ربها، ولأجل ذلك فضَّلوا أولياءهم وسادتهم على الأنبياء بل وعلى الرسل، وعلى الملائكة، وهذا من شطحاتهم. هذا بالنسبة إلى الرؤية في الدنيا.
وأما الرؤية في الآخرة؛ فأثبتها أهل السنة، وأنها رؤية صحيحة، وأن المؤمنين في الجنة يرون الله تعالى، ويزورونه، ويُكلمهم ويُكلمونه، بل ثبت في السنة وفي الأحاديث أن رؤية الله تعالى في الجنة للمؤمنين هي أعظم لذة لهم، وأعظم نعيم، وأعظم سرور يصل إليهم يبهج نفوسهم، وتستنير وتضيء به وجوههم، ويكتسبون أعظم لذة بحيث أنهم لا يلتفتون إلى شيء ما داموا ينظرون إلى ربهم، ويغفلون عن كل نعيم كانوا فيه، فلا ينظرون إلا إلى ربهم حتى يحتجب عنهم، هذا من أعظم لذة لهم، يقول بعض العلماء ولو كان مثالاً دنيوياً:
فلو أني استطعتُ غضضت طرفي فلم أنظر به حتى أراكا
وقد تقدمت الآية التي أوردها الموفق رحمه الله، وهي قوله تعالى: (كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون * كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون * ثم إنهم لصالوا الجحيم)(المطففين: 14-16) وصفهم بهذه الصفة؛ أنهم محجوبون عن ربهم، والحجب هو الحيلولة بينهم وبين ربهم، فلا ينظرون إليه ولا يرونه، ولا يتمتعون برؤيته، ويا لها من عقوبة تصل إليهم، أنهم محجوبون عن ربهم، وذلك أشد العذاب.(1/126)
فكل من حُجب عن رؤية ربه فإنه معذب، فحجبه عن ربه عذاب له وأي عذاب، وقد استدل بهذه الآية الشافعي رحمه الله، وهو أشهر من استنبط منها رؤية المؤمنين لربهم و حيث ثبت أن الكفار محجوبون عن ربهم فأنه يدل على أن المؤمنين من أهل الجنة غير محجوبين عن ربهم بل يرونه فلو كان لا يراه أحد لم يكن هناك فرق بين المؤمنينوالكفار، ولكان الجميع كلهم محجوبين عن ربهم، فالحجاب هو أن يكون بينهم وبينه حاجب، وحاجز لا يرونه، فإذا كان هؤلاء يرونه كانوا غير محجوبين، وهؤلاء لا يرونه فهم المحجوبون، وهذا دليل واضح.
وأما الآية الأولى فهي أصرح الآيات التي استدل بها أهل السنة، وهي قوله تعالى: (كلا بل تحبون العاجلة * وتذرون الآخرة)(القيامة:20-21) يخاطب الكفار: تحبون العاجلة؛ وهي الدنيا، وتذرون الآخرة ولا تتنافسون فيها، ثم ذكر أقسام الناس في قوله تعالى: (وجوه يومئذ ناضرة * إلى ربها ناظرة * ووجوه يومئذ باسرة * تظن أن يفعل بها فاقرة)(القيامة: 22-25)، الوجوه الأولى وصفها بأنها ناضرة؛ أي ذات نضرة وبهاء وسرور، وجوههم مسفرة مستنيرة؛ لأنهم يرون ربهم، (إلى ربها ناظرة) أي تنظر إلى ربها نظر عيان، ففي هذه الآية نسبة الرؤية إلى الوجوه، وذلك لأن الوجوه هي محل النظر، ولما أن نظرت الوجوه إلى ربها أشرقت وأسفرت.
وكثيراً ما يصف الله وجوه أهل الجنة بصفات تظهر عليها، وذلك لأن الوجه هو محل التأثر، وإذا كان مسروراً رأيت وجهه مستنيراً، وإذا كان حزيناً رأيت وجهه مكتئباً، فوصف الله أهل النار بقوله: (وجوه يومئذ خاشعة) (الغاشية:2)يعني ذليلة، ثم قال تعالى: (وجوه يومئذ ناعمة)(الغاشية:8)، يعني منعمة، هكذا وصفهم الله بهذه الآية.
وفي آية أخرى قال تعالى: (وجوه يومئذ مسفرة)(عبس:38) أي أضاءت واستنارات، والإسفار هو الضياء، مسفرة يعني عليها آثار هذه الإضاءة، أما الوجوه الأخرى فإنها قال الله تعالى عنها: (عليها غبرة * ترهقها قترة)(عبس: 40-41).(1/127)
فإذن هذه وجوههم التي وصفها الله أنها ناظرة، والكلمتان في الآيتين لفظهما واحد، ولكن خطهما مختلف (وجوه يومئذ ناضرة)(القيامة:22) مكتوبة بالضاد؛ أي ذات نضرة، مثل قوله تعالى: (ولقاهم نضرة وسروراً)(الإنسان:11) أي ذات نضرة وبهاء وسرور، (إلى ربها ناظرة)(القيامة:23) هذه كتبت بالظاء المشالة؛ من النظر الذي هو المعاينة.
قال بعض العلماء: نظروا إلى ربهم فنضرت وجوههم، يعني استنارت وأسفرت وابتهجت بهذا النعيم. فهذا هو دليلهم، أورد المؤلف رحمه الله هذين الدليلين من القرآن وذكر أن الرؤية تكون في الآخرة.
وقد ورد أيضاً في الأحاديث ما يدل على أن الجميع يرون ربهم يوم القيامة عندما ينزل لفصل القضاء، ويقول: (من كان يعبد شيئاً فليتبعه، فيتبع من كان يعبد الشمس الشمس، ويتبع من كان يعبد القمر القمر، ويتبع من كان يعبد الطواغيت الطواغيت، وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها، فيأتيهم الله في غير الصورة التي يعرفون، فيقول: أنا ربكم) وفي هذا أنهم يرونه جميعاً؛ المنافقون والمؤمنون -كما يشاء. قال تعالى: (يوم يُكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون)(القلم:42) قيل: إنهم يسألونه علامة، فيكشف عن ساق، فعند ذلك يعرفون أنه ربهم فيسجدون.
فهذا قد استدل به على أنهم يرونه في القيامة، ولكن هي رؤية ابتلاء وامتحان، أما الرؤية التي هي رؤية لذة، وبهجة، ونعيم فإنها في الجنة، وقد ذكر العلماء أن المقربين يرون الله بكرة وعشيا، وأن الأبرار يرونه كل جمعة؛ أي في كل أسبوع.
قوله:
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر، لا تضامون في رؤيته). حديث صحيح متفق عليه.
وهذا تشبيه للرؤية بالرؤية لا للمرئي بالمرئي، فإن الله تعالى لا شبيه له ولا نظير.
شرح:(1/128)
ثم ذكر من أدلة الرؤية حديث جرير بن عبدالله قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ نظر إلى القمر ليلة البدر، فقال: (أما إنكم سترون ربكم كما ترون هذا، لا تضامون -أو لا تضاهون- في رؤيته، فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها)(طه:130) فأفعلوا ثم قرأ أو (فسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس و قبل غروبها).
فحديث جرير هذا دليل على رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة، ويريد بالصلاتين صلاتي العصر والفجر، أي حافظوا على هاتين الصلاتين لأن المقربين يرون الله بكرة وعشياً، وقد فُسر بذلك أيضاً قوله تعالى: (ولهم رزقهم فيها بكرة وعشياً)(مريك:62).
وبكل حال فرؤية المؤمنين لربهم من أجل ما أنعم وتفضل به عليهم، هذا هو قول أهل السنة.
وقد استوفى الأئمة الكلام على الرؤية كما في كتاب ابن القيم (حادي الأرواح) الذي كتبه عن أهل الجنة وصفة نعيم الجنة، وفي آخر أبوابه؛ باب في رؤية المؤمنين لربهم، ذكر فيه سبعة أدلة من القرآن وهي:
الدليل الأول: وهو سؤال موسى النظر في قوله تعالى: (رب أرني أنظر إليك)(الأعراف:143) فهو أعلم بما يجوز على ربه من علماء المعتزلة.
الدليل الثاني: قوله تعالى: (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة)(يونس:26)، الزيادة ورد في الحديث أنها (النظر إلى وجه الله)، ولهذا قال تعالى: (ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة)(يونس:26)، الحسنى: الجنة، والزيادة: النظر إلى وجه الله، فإذا نظروا إلى وجهه فلا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة.
الدليل الثالث: قوله تعالى: (ولدينا مزيد)(ق:35)، فُسر المزيد بأنه النظر إلى وجه الله تعالى.
الدليل الرابع: آيات اللقاء، وهي كثيرة كقوله تعالى: (فمن كان يرجو لقاء ربه)(الكهف:110)، اللقاء لا تعرفه العرب إلا أنه المقابلة والنظر، فهو دليل واضح على إثبات الرؤية.(1/129)
الدليل الخامس: قوله تعالى: (لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار)(الأنعام:103)، فهو دليل على إثبات الرؤية -كما سيأتي- مع أن المعتزلة يجعلونه دليلاً على نفي الرؤية.
الدليل السادس والسابع: الآيتان اللتان ذكرهما ابن قدامة رحمه الله، فهذه سبعة أدلة.
وقد أوضح دلالتها، ثم شرع في الأدلة من السنة، وذكر نحو ستين حديثاً أو أكثر ذكرها بأسانيدها وبطرقها، فيها الأحاديث الصحيحة و فيها الأحاديث الحسنة و فيها الأحاديث الضعيفة؛ أي ضعفاً شديداً، ولكنه أوردها للتقوية، وتبعه على ذلك حافظ الحكمي في كتابه المشهور (معارج القبول في شرح سلم الوصول) وهذا الشرح من أنفس الشروح، لما أتى إلى ذكر الجنة، وذكر الرؤية سرد أيضاً الأحاديث، وأسقط منها ما هو شديد الضعف، وفيما ذكره خير كثير، فهذا وجه إثبات هذه الصفة التي هي صفة رؤية المؤمنين لربهم.
وقد جعلها ابن القيم في النونية من أدلة إثبات العلو، قال: من كان يقر بالرؤية لزمه أن يقر بالعلو، فإن المؤمنين عندما يرون ربهم يرونه من فوقهم كما في قوله تعال: (يخافون ربهم من فوقهم)(النحل:50)، ففي الأحاديث أنه يتجلى لهم من فوقهم فيراهم ويرونه، فهو دليل واضح على أنها رؤية حقيقية ينظرون إليه كما يشاء.
فعرفنا بذلك مذهب أهل السنة أنه لا شك أن المؤمنين يرون ربهم من فوقهم، وأنهم يرونه رؤية حقيقة، ورؤية مقابلة كما يشاء، وأن الأدلة واضحة، ومن أصحها حديث جرير لقوله صلى الله عليه وسلم: (كما ترون هذا القمر)، والتشبيه هنا للرؤية، شبه الرؤية بالرؤية، وليس المراد تشبيه الرب تعالى بالقمر، وإنما تشبيه رؤيتهم -لأنها رؤية حقيقة- كرؤيتهم القمر ليلة البدر، ولهذا قال: (لا تضامون في رؤيته) أي لا يلحقكم في رؤيته ضيم؛ وهو الضرر.(1/130)
ثم مع هذه الأدلة التي ذكرنا قد خالف في ذلك المعتزلة فأنكروها صراحة، وخالفوا فيها خلاف عناد؛ لأنها عندهم تستلزم إثبات الجهة أو تستلزم المقابلة، فلم يكن بدُ من أن يردوا الأدلة رداً شنيعاً، ويخالفوها مخالفة واضحة، ولا يزالون على ذلك.
طبع قبل عشر سنوات أو خمسة عشر سنة كتاب اسمه (متشابه القرآن) في مجلدين للقاضي عبدالجبار، وهو من رءوس المعتزلة، وحققه رجل يقال له: (عدنان محمد زرزور)، وذهب إلى ما ذهب إليه القاضي، فإذا أتى إلى آيات العلو، وآيات الاستواء، وآيات الرؤية حرفها، وجعلها من المتشابه وحملها محامل بعيدة، وإذا أتى إلى الآيات التي فيها شبْهُ استدلال لهم يقول: لنا قوله تعالى مثل هذه الآية: (لا تدركه الأبصار)(الأنعام:103).
وورد كتاب -لأحد الإباضية يقال له: أحمد الخليلي، في عُمان- اسمه (الحق الدامغ) انتشر ووزع بكميات لأنه في زعمه وصل إلى الحقيقة، وسقط على المراد، تكلم فيه على مذهبهم في العقيدة في ثلاث مسائل؛ في مسألة الرؤية؛ فينكرها إنكاراً صريحاً، وفي مسألة خلق القرآن؛ فيدعي أنه مخلوق، وفي مسألة إثبات خلق الله لأفعال العباد؛ فينكر قدرة الله على أفعال العباد، ويبالغ في هذه المسائل الثلاث.
والذي يهمنا تأويلهم لآيات الرؤية، وكثيراً ما يورد قوله تعالى: (لا تدركه الأبصار)(الأنعام:103)، ويقال: (الإدراك: اللحاق، لا تلحقه أي لا تراه، فهي دليل على أنها لا تراه، والأبصار معلوم أنها هي الأعين، فإذا كانت لا تدركه أي لا تلحقه؛ فكيف يقال: إنه يرى؟) ويكررون ذلك دائماً.
وإذا نظرنا إلى تفسير أهل السنة رأيناهم يفرقون بين الإدراك وبين الرؤية، وذلك لأن الإدراك هو الإحاطة بالشيء من كل جهاته، وأما الرؤية فإنها رؤيته مع المقابلة حقيقة، والله تعالى ما نفى الرؤية إنما نفى الإدراك، والإدراك شيء زائد على الرؤية.(1/131)
روي أن ابن عباس سئل عن هذه الآية فقال للسائل: ألست ترى القمر؟ قال: بلى، قال: أكله؟ قال: لا. قال: فذلك الإدراك. أي لا ترى القمر كله، إنما ترى ما يقابلك، وأيضاً إنما تراه من بعيد، ولا تتحقق ماهيته، فإذا كان كذلك هل أنت تدري مما هذا القمر؟ ومن أي شيء صنعته؟ ومن أي شيء تركيبه و هل ترابي؟، فإذا كنت لا تراه فإنك لا تدرك ذلك، فنحن نرى القمر ويصل إلينا ضوؤه، ولكن لا ندركه كله، ففرق بين الرؤية و الإدراك.
يدل على ذلك قول الله تعالى: (ولقد أوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي فاضرب لهم طريقاً في البحر يبساً لا تخاف دركاً ولا تخشى)(طه:77) لا تخاف دركاً، فالدرك هو الإحاطة أي، لا تخاف ضرراً من الكفار ونحوهم.
ولما أسرى ببني إسرائيل وخرج بهم من مصر، وانفصلوا، تبعهم فرعون بجنوده، قال تعالى: (فأتبعوهم مشرقين)(الشعراء:60) (فلما تراءى الجمعان)(الشعراء:61) هؤلاء يرون هؤلاء (قال أصحاب موسى إنا لمدركون * قال كلا)(الشعراء:61-62)، ما المراد بمدركون؟ هل المراد بالإدراك النظر؟ فالنظر حاصل لقوله: (تراءى الجمعان:61)، إذن المراد بالإدراك الإحاطة يعني: إنهم سيحيطون بنا، ويمسكوننا، ولا يتركوننا، ولا ننجوا منهم، فقال: (كلا إن معي ربي سيهدين)(الشعراء:62).
فعرف أن هناك فرقاً بين الرؤية وبين الإدراك، فبطل استدلالهم بهذه الآية على نفي الرؤية، واستدل بها أهل السنة على إثبات الرؤية.
يقول ابن القيم: إنها جاءت تمدحاً، فالله تعالى يمدح بها نفسه، ومعلوم أن الله إنما يمدح نفسه بالأمور الثبوتية، وهي الأمور التي فيها إثبات شيء يمدح به، وأما العدم فإنه لا يمدح به، فالنفي المحض لا مدح فيه، فإذا قلنا مثلاً: إن العدم لا يرى. هل هذا مدح له؟ ليس فيه مدح؛ لأن المعدوم ليس بشيء.(1/132)
فإذا كان المعدوم لا يرى، فإن نفي الرؤية ليس فيه مدح، فعرف بذلك أن الآية وردت للتمدح، أثبت الله أن الأبصار لا تحيط به، يعني: متى رأته الأبصار لا تحيط به، أي لا تدرك ماهيته، ولا تدرك كنهه، ولا تدرك كيفية ذاته، وذلك لعظمته التي لا يحيط بها علماً أحدٌ من الخلق (ولا يحيطون به علماً)(طه:110).
إذا فصارت الآية دليلاً على إثبات الرؤية لا على نفيها، لكنهم قوم يجهلون، فلو تأملوا في سياق الآية قول الله تعالى: (ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شيء فاعبدوه وهو على كل شيء وكيل * لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير)(الأنعام:102-103) كل هذا تمدح، فكيف يتمدح بشيء لا فائدة فيه، فنفي الرؤية ليس بمدح؛ لأنه ينطبق على المعدوم، فدل على أنها للتمدح، وأنها تدل على أن الأبصار تنظر إليه، ولكن تعجز عن الإحاطة به لعظمته ولكبريائه ولجلاله، فصارت الآية تدل على إثبات الرؤية لا على نفيها.
وأما الآية الثانية: وهي قصة موسى -عليه السلام-، قال تعالى: (قال رب أرني أنظر إليك قال لن تراني ولكن أنظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني)(الأعراف:143)، أولاً: موسى عليه السلام نبي الله، كلمه الله ، وحمله رسالته، واصطفاه، قال تعالى: (واصطنعتك لنفسي)(طه:41)، وقال تعالى: (إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي)(الأعراف:144)، فهل موسى عليه السلام -وهو نبي الله- يجهل ما يجب على الله، وما يجوز على الله؟ هل يكون المعتزلة أعلم من موسى بربه؟ حاشا وكلا، لا يمكن لموسى أن يجهل وهم يعلمون، إن موسى صلى الله عليه وسلم الذي هو من أولي العزم، ومن أشرف الأنبياء ومن أفضلهم لا يجهل هذا الحكم، فهل يأتي المعتزلة ونحوهم ويعلمون مالا يعلمه موسى؟ هذا من أمحل المحال.(1/133)
ثانياً: قول موسى (رب أرني أنظر إليك)(الأعراف:143) هذا في الدنيا، يعني أراد أن يتمكن من النظر إلى ربه رجاء أن يزيد بذلك يقينه، أو أن يتنعم ويتلذذ بهذا النظر، قال الله له: (لن تراني)(الأعراف:143)، وليس في هذا عتاب.
فالله تعالى قد عاتب نوحاً عليه السلام لما قال: (رب إن ابني من أهلي)(هود:45)، قال الله سبحانه وتعالى: (إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح فلا تسألن ما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين)(هود:46) أنكر على نوح لما سأل: ربي نج ابني الذي غرق في البحر، غرق في الطوفان، ربي إنك قد وعدتني أن تنجيني وأهلي، وإن ابني من أهلي، والله تعالى يقول: (وأهلك إلا من سبق عليه القول منهم)(المؤمنون:27).
فأنكر عليه ذلك ولم ينكر على موسى لما قال: (رب أرني أنظر إليك)(الأعراف:143) بل قال تعالى: (لن تراني)(الأعراف:143) يعني لا تراني في هذه الدنيا، لأن بنية الإنسان في الدنيا ضعيفة لا تتمكن من التمثل أمام عظمة الله تعالى، فخلقنا في هذه الدنيا لا يمكن أن تثبت لجلال الله تعالى.
وقوله تعالى: (ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني)(الأعراف:143) علق الله تعالى رؤيته على ثبوت الجبل، فيمكن أن يثبت الجبل مكانه، والله تعالى يقول؛ إذا ثبت الجبل فإنك ستراني، فإذا كان الثبوت ممكناً فالرؤية ممكنة، والله تعالى يقدر أن يثبت الجبل لبروزه سبحانه ولتجليه، وقد علّق عليه رؤية موسى، فدل على إمكانها. كما أن إمكان الثبوت متحقق، فقوله تعالى: (فلما تجلى ربه للجبل جعله دكاً)(الأعراف:143) تجلى الله تعالى كما يشاء للجبل، فإذا تجلى للجبل أفليس يمكن أن يتجلى لعباده يوم القيامة.(1/134)
الجبل جماد تجلى الله له، ومع ذلك فإن الجبل لما تجلى له آنذاك ذهب حتى قيل: إنه انخسف في الأرض، وذلك لهيبة الله ولجلاله، لما أنه تجلى للجبل جعله دكاء، فالآية دليل على إثبات الرؤية لا على نفيها، وإلا لم يكن موسى عليه السلام سأل الرؤية، وهو من أعلم الخلق بربهم.
ثم إن الخليلي -الذي ذكرناه- في كتابه (الحق الدامغ) تسلط على هذه الآيات التي استدل بها أهل السنة، وحرفها تحريفاً بعيداً حتى إنه هو وغيره في قوله تعالى: (وجوه يومئذ ناضرة * إلى ربها ناظرة)(القيامة:22-23) قالوا: إن الله لم يذكر العيون إنما ذكر الوجوه، وقال بعضهم: النظر ليس هو المعاينة، وإنما هو انتظار الثواب؛ ناظرة للثواب، وتمحل بعضهم، وحرف كلمة (إلى) وقال: الإلي واحد الآلاء يعني النعم، (إلى) أي نعمة ربها ناظرة!!
فمن أين لهم هذا الاستنباط الذي ما تفطن له أحد نم العلماء ولا من السلف؟ إن قولهم: (إلى) أي نعمة ربها ناظرة، تمحل وتكلف وصرف للقرآن عن مدلوله. هذا قوله المعتزلة.
أما الأشاعرة فيتظاهرون بأنهم من أهل السنة، وبأنهم من أتباع الأئمة الأربعة، فمنهم شافعية، ومالكية، وحنفية، وحنابلة، ولا يقدرون أن يصرحوا بالإنكار؛ لأن الشافعية قد اشتهر عن إمامهم أنه أثبت الرؤية وصرح بها، فلا يقدرون على إنكارها، فيثبتون الرؤية، ولكن ليس الرؤية التي هي رؤية الأبصار، إنما يفسرونها بالتجليات التي تتجلى للقلوب، وبالمكاشفات التي تنكشف في الجنة لهم، فيظهر لهم منها يقين وعلم بما كانوا جاهلين، به، وهذا بلا شك قول باطل وإنكار للحقائق، فتجدهم يثبتون الرؤية، ويقررونها في تفاسيرهم على هذا التأويل الباطل.
حتى أكابر الأشاعرة كالرازي، وأبي السعود، والبيضاوي، ونحوهم، عندما تكلموا على هذه الآية: (وجوه يومئذ ناضرة * إلى ربها ناظرة)(القيامة:23)، قالوا: يرى لا في جهة؛ لأننا ننفي الجهة، يرى بلا مقابلة، أو الرؤية بالتجليات أو المكاشفات.(1/135)
فأثبتوا الاسم ولكن لم يثبتوا الحقيقة التي هي رؤية أهل الجنة لربهم كما ترون القمر لا تضامون في رؤيته)، فإن ظاهر الأحاديث أنها رؤية بالأبصار، ونظر إلى وجه ربهم تعالى كما يشاء، فلا يُلتفت إلى إنكار المنكرين مع ورود مثل هذه الأدلة التي لا يجوز ردها ولا التكلف في تأويلها.
مسألة: الإيمان بالقدر
وقوله:
ومن صفات الله تعالى أنه الفعّال لما يريد، لا يكون شيء إلا بإرادته، ولا يخرج شيء عن مشيئته، وليس في العالم شيء يخرج عن تقديره ولا يصدر إلا عن تدبيره. ولا محيد لأحد عن القدر المقدور، ولا يُتجاوز ما خط في اللوح المسطور، أراد ما العالم فاعلوه، ولو عصمهم لما خالفوه، ولو شاء أن يُطيعوه جميعاً لأطاعوه. خلق الخلق وأفعالهم، وقدر أرز اقهم وآجالهم، يهدي من يشاء برحمته، ويُضل من يشاء بحكمته.
شرح:
(أراد ما العالم فاعلوه) يعني جميع ما في الكون وما يحصل من الكائنات، فإنه مراد لله تعالى، ولكن هذه الإرادة تسمى إرادة كونية قدرية؛ لأنها يدخل فيها جميع الكائنات -فهي مرادة لله، فجميع الأفعال التي تحصل والتي تحدث كلها مرادة لله؛ الطاعات، والمعاصي، والمصائب، والحوادث، والأرزاق، والآجال كلها مرادة لله تعالى، داخلة في إرادته، ولا تخرج عن كونها مرادة لله، فطاعات العباد مرادة، ومعاصيهم مرادة، ولكن إرادة المعاصي الموجودة إرادة كونية قدرية.(1/136)
وبهذا نعرف أن الإرادة تنقسم إلى قسمين: إرادة كونية، وإرادة شرعية. فالإرادة الكونية يلزم وقوع مرادها، فكل ما أراده الله كوناً وقدراً فإنه لابد حاصل وواقع، فالمعاصي الموجودة قد أرادها الله كوناً وقدراً، والمصائب الحاصلة قد أرادها الله كوناً وقدراً، والأرزاق الموجودة -ولو كانت حراماً- قد أرادها الله كوناً وقدراً، وكذلك الأولاد ذكوراً وإناثاً، والأرزاق والمكاسب والحرف، والصناعات، والدراسات والعلوم، وكل ما يجري في هذا الكون كله قد أراده الله كوناً وقدراً؛ لأنه فعال لما يريد، فلا يكون في الوجود إلا ما يريد.
ولو عصمهم لما عصوه ولما خالفوه، فهو الذي يهدي من يشاء فضلاً منه ورحمة، ويضل من يشاء عدلاً منه وحكمة، فمن علم الله فيه خيراً وعلم من قلبه إقبالاً وتقبلاً للخير هداه الله وأنار قلبه. ومن علم الله أنه شريرٌ وعلم أنه من أهل الشر، وأنه لا خير فيه حَرمَه الهداية، وحال بينه وبين الإيمان وقسّى قلبه وصده عن الخير (ولا يظلم ربك أحداً)(الكهف:49).
فمن هداه الله فهو فضل منه، ومن أضله فهو عدل منه، ولا أحد يقدر أن يغير ما وقع؛ لقوله تعالى: (ومن يضلل الله فما له من هاد * ومن يهد الله فما له من مضل)(الزمر:36-37)، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم في حديث خطبة الحاجة: (من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له) رواه مسلم فهو يهدي من يشاء ويضل من يشاء.(1/137)
ولكنه سبحانه خلق الخلق، وقسمهم إلى أهل طاعة، وأهل معصية، وعلم أهل الخير من أهل الشر، وعلم من يكون قابلاً للخير أهلاً له، ومن يكون قابلاً للشر أهلاً له، فجعل هؤلاء أشقياء وهؤلاء سعداء، ولله الحجة البالغة يقول الله تعالى: (قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين)(الأنعام:149)، (إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين)(الشعراء:4)؛ يعني لو شاء الله لأنزل عليهم آية فاهتدوا بها كلهم، ولكن علم الله من هو أهل للهدي ومن هو أهل للشقاوة يقول الله تعالى (فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام * ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً)(الأنعام:125).
فإذا هدى الله تعالى هؤلاء، فلابد أن نعتقد أن ذلك فضل منه، وإذا أضل هؤلاء فذلك عدل منه، وأنه لو شاء لهدى الناس كلهم، فلا محيد لأحد عن القضاء الذي قضاه، ولا مخرج له عما حتمه عليه.
وفي حديث القدر يقول صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن عبد حتى يؤمن بالقدر خيره وشره، حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه). أي أن ما تكره من الأمور المقدرة فإنها عن حكمة حصلت، وأن الذي قدرها حكيم يفعل ما يشاء قضاءً وقدراً، وحكمة وشرعاً، لا محيد لأحد عن القضاء المحتوم الذي قدره.
وهذا كله لا ينافي العمل ولا ينافي فعل الأسباب، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما أخبر صحابته بأنه: ما منكم من أحد إلا قد كُتب مقعده من الجنة أو كُتب من النار)، قال رجل: يا رسول الله؛ أفلا نمكث على كتابنا وندع العمل؟، فقال صلى الله عليه وسلم: اعملوا فكل ميسر) فأمر بأن يعمل، وأخبر بأن الإنسان يصير إلى ما قدره الله، فلابد وأن يسير إليه فمن كتبه الله سعيداً فلابد أن يعمل بعمل أهل السعادة ولو في آخر لحظة في حياته، وكذلك من كتبه شقياً.(1/138)
ففي حديث القدر عن ابن مسعود رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فوالذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها).
فالأعمال بالخواتيم، والله تعالى يوفق كل إنسان بأن يختم له من العمل بما هو أهله وما كتبه له؛ ولهذا كان كثير من السلف ومن العلماء يكثرون من الدعاء بحسن الخاتمة؛ لأن الأعمال بخواتيمها.
وقوله:
قال الله تعالى: (لا يسأل عمال يفعل وهم يسألون)(الأنبياء:23)، وقال تعالى: (إنا كل شيء خلقناه بقدر)(القمر:49)، وقال تعالى: (وخلق كل شيء فقدره تقديراً)(الفرقان:2)، وقال تعالى: (ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها)(الحديد:22)، وقال تعالى: (فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجاً)(الأنعام:125).
شرح:
بعض هذه الآيات في القدر الذي هو العلم السابق، وبعضها في القدر الذي هو قدرة الله على كل شيء.
فقوله تعالى: (إنا كل شيء خلقناه بقدر) هذه في العلم السابق، ومعناه أن كل شيء له زمان، وله وقت لا يتجاوزه ولا يتعداه ولا يتغير عن ما هو عليه، فإذا قدر الله تعالى أن هذا الإنسان يولد له كذا فلابد أن يتحقق ذلك الذي قدره الله وأراده؛ ولو حصل ما حصل من العوائق، وكذلك إذا قدر الله أن هذا لا يولد له فإنه لا يولد له ولو فعل ما فعل، وإذا قدر الله أن هذا لا يولد له حتى يفعل السبب الفلاني فإنه يتوقف أن يولد له على فعله ذلك السبب، وقد علم الله أنه يفعله في آخر الأمر أو نحو ذلك.(1/139)
وهكذا إذا قدر الله مثلاً أن هذه الأرض تنبت كذا وكذا شجرة فلابد أن تنبته في الزمن الذي حدد، وأن هذه الشجرة أو هذه النبتة تنبت في اليوم الفلاني وتفنى باليوم الفلاني، وتثمر كذا وكذا، وعلم عدد أوراقها كما في قوله تعالى: (وما تسقط من ورقة إلا يعلمها)(الأنعام:59)، فعلم ذلك وحدوده داخل في هذه الآية: (إنا كل شيء خلقناه بقدر)(القمر:49)؛ أي بمقدار وزمان، محدد أوله وآخره.
كذلك قوله تعالى: (وخلق كل شيء فقدره تقديراً)(الفرقان:2)، أي قدر زمان الذي خلقه، خلق الذراري وقدر أعمالهم وآجالهم، فإذا حملت المرأة أرسل الله الملك فيكتب أجله، وعمله، وشقي أو سعيد، ورزقه حلال أو حرام، وهو في بطن أمه، ولكن هذه كتابة خاصة. وكذلك أيضاً جميع ما يحدث داخلٌ في هذه الآية (وخلق كل شيء فقدره تقديراً) أي حدده وحدد قدرته، وقوته ومبدأه ومنتهاه وما يصير إليه.
وأما قوله تعالى: (لا يُسأل عما يفعل وهم يسألون)(الأنبياء:23)، فهذا القضاء الذي هو العلم السابق، وكذلك القدرة على الأفعال؛ لأنه يفعل الأشياء ولا يسأل عن الحكمة فيها.(1/140)
فمن عقيدة أهل السنة أنهم يسلمون لأمر الله ولو لم يظهر لهم فيه حكمة، فلا يجوز أن تقول: ما فائدة خلق هذه الأشياء؟ أو هذه الأشياء فيها ضرر؛ ليتها لم تخلق، كل هذا لا يجوز؛ لأن في هذا اعتراض على تصرف الخالق، فهو الذي خلق الأقدار حتى إنه أراد التعرف إلى خلقه بإيجاد الضدين؛ فخلق الخير والشر، وخلق الحياة والموت، وخلق المسلم والكافر، وكذلك بقية الأضداد، فلا يجوز أن تقول: لماذا خلق الله البرد والحر؟ لماذا خلق الله السموم القاتلة؟ لماذا خلق الله السباع؟ لماذا خلق الله ذوات السموم كالحيات والعقارب؟، فخلق كل الأشياء لابد أن تكون فيها حكمة ولو لم تكن معلومة لنا، فلا يجوز أن يُعترض على الله تعالى في خلقه فإنه يفعل ما يشاء قال تعالى: (لا يسأل عما يفعل وهم يسألون)(الأنبياء:23)، يدخل في هذه الآية جميع ما أوجده، سواءً من المخلوقات ذوات الأرواح أو من النباتات أو من الأفعال، ولا يقال: لماذا أمر الله بكذا؟، ولماذا حرم كذا؟ ولماذا أوجب كذا؟ كل هذا لا يجوز: (لا يسال عما يفعل وهم يسألون).
أما قوله تعالى: (فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجاً)(الأنعام:125) فهذه الآية في الإرادة الكونية فإن الإرادة كما ذكرنا نوعان: إرادة كونية وإرادة شرعية، فالمعنى أن من أراد الله كوناً وقدراً أن يهديه فإنه يشرح صدره للإسلام، ويكون قلبه منبسطاً إليه، راغباً فيه، محباً له، مقبلاً عليه، متقبلاً له، يرغب فيه ويحبه ويألفه، ويستحسن أفعاله وشرائعه، ويرى كل ما فيه حقاً ومطابقاً وصدقاً ليس فيه شيء لا فائدة فيه ولا أهمية له، فيقبل على الإسلام ويتقبله، فهذا الذي أراد الله به خيراً.(1/141)
قال الله تعالى: (أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه)(الزمر:22)، أخبر بذلك عن نبيه (ألم نشرح لك صدرك)(الشرح:1)، والشرح هنا ليس هو الشق، ولكنه شرح الانبساط، بمعنى أن قلبه يصير مقبلا على الإسلام، ويصير صدره متسعا لتعاليم الإسلام، كأن صدره واسعٌ غاية السعة لأجل ما منّ الله عليه بهذه الهداية.
ثم قال تعالى: (ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً كأنما يصعد في السماء)(الأنعام:125)، أي من أراد الله إضلاله وحال بينه وبين الهداية فإنه يجعل صدره ضيقاً، وليس المراد الضيق الحسي، فإنك إذا رأيت اثنين أحدهما أراد الله أن يشرح صدره، والآخر لم يرد به خيراً بل أراد الله أن يضله، لا تفرق بينهما ظاهراً، فضيق الصدر هنا ضيق معنوي، بمعنى أنه لا يتسع صدره للتعاليم الدينية ولا يحبها ولا يتقبلها ولا يركن إليها؛ إذا أخبر بها ضاق بها ذرعاً وأبغضها ومقتها واحتقرها، وابتعد عنها واستثقلها كأنها جبال تحمل عليه؛ هذا من قضاء الله الذي قدر عليه، كذا جعل صدره ضيقاً حرجاً، والحرج هو الشدة والألم.
(كأنما يصعد في السماء) كأن قلبه يصعد أي يطار به، ويحال بينه وبين أسباب الفرح، لا شك أن هذا أمر الله تعالى؛ فهو الذي هدى هذا وأضل هذا.
وقد ذكرنا أن هدايته لمن يهديه فضل منه، وإضلاله لمن يضله عدل منه:
ما للعباد عليه حقٌ واجبُ كلا ولا سعيٌ لديه ضائع
إن عذبوا فبعدله، أو نُعِّموا فبفضله، وهو الكريم الواسع
هذه الآيات ونحوها فيما يتعلق بالقضاء والقدر، وقد ذكرنا أن الإرادة نوعان: إرادة كونية، وإرادة دينية شرعية، فالإرادة الكونية يلزم وقوع مرادها، والإرادة الشرعية لا يلزم وقوع مرادها؛ فوجود هذه المخلوقات مراد إرادة كونية، نقول مثلاً: إن الله أراد كوناً وقدراً وجود هذا الاجتماع وخلق هؤلاء الأشخاص ونحو ذلك، كل هذا مراد كوناً وقدراً .(1/142)
كذلك أراد كونا وقدراً وجود المبتدعة والكفرة والفجرة والعصاة ونحوهم -ولو شاء ما وجدوا- فهذه إرادة كونية قدرية أزلية سابقة معلومة لله قبل وجودها، ولابد من تحقيق مراد الله الذي أراده في الكون والقدر.
أما الإرادة الشرعية فإنه لا يلزم وجود مرادها، ولكن مرادها محبوب لله تعالى، فالله تعالى أراد من العباد كلهم أن يؤمنوا به ديناً وشرعاً، وأن يعملوا الصالحات وأن يصدقوا الرسل، وأراد منهم أن يتركوا المحرمات و لكن هل وجه هذا المراد كله أو وجد بعضه أراد منهم أن يؤمنوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر، فالذين آمنوا اجتمعت فيهم الإرادتان: إيمانهم الذي حصل مراد كوناً وقدراً لأنه مكتوب، ومراد شرعاً وديناً لأنه محبوب.
كذلك أعمالهم الصالحة التي عملوها كالصلاة والصدقة والجهاد والأذكار والتلاوة مرادة دينا وشرعاً، كما أنها مرادة كوناً وقدراً؛ لأن الله قدر أن هؤلاء يؤمنون ويعملون الصالحات في الأزل، ويكثرون من العبادات، ويتعلمون العلوم النافعة، ويعتقدون العقائد الصالحة؛ أراد ذلك كوناً وقدراً فوجد، وأراده دينا وشرعاً فوجد فيهم.
والإرادة الشرعية مذكورة في قوله تعالى: (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر)(البقرة:185)، وفي قوله تعالى: (يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم حكيم)(النساء:26)، (والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلاً عظيماً)(النساء:27)، (يريد الله أن يخفف عنكم)(النساء:28).(1/143)
كل هذه إرادة شرعية، يعني يريد شرعاً وديناً أن يخفف عنكم، يريد شرعاً وديناً أن يتوب عليكم، فمن تاب الله عليه ووفقه كان هذا مراداً شرعاً وديناً، وكوناً وقدراً، ومن لم يتب لم يوافق الإرادة الشرعية حيث إنه أريد منه التوبة فلم يتب، فتجتمع الإرادتان في إيمان المؤمنين لأنهم حققوا الإرادة الشرعية، وتنفرد الإرادة الكونية في كفر الكافرين لأن الله أراد منهم شرعاً وديناً أن يؤمنوا فلم يؤمنوا، وأراد منهم كوناً وقدراً أن يكفروا فكفروا.
وهذا معتقد أهل السنة أن الله تعالى أراد جميع الكائنات، فلا تخرج عن إرادته ولا عن تكوينه، وأن جميع الكائنات حاصلة بقضائه وقدره، وأنه عالم بها.
وأما قوله تعالى: (ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير)(الحديد:22)، هذه الآية تتعلق بنوع من القدر؛ هذا النوع هو علم الله السابق؛ أنه بكل شيء عليم، وأنه عالم بالأشياء قبل وجودها، وبهذا نعرف أن القدر أربع مراتب:
المرتبة الأولى: العلم، وهو العلم السابق قبل وجود الموجودات، علمها قبل وجودها، فكل شيء يوجد فإنه معلوم لله.
المرتبة الثانية: الكتابة؛ كتبها في اللوح المحفوظ، فكل شيء يحدث فإنه مكتوب.
المرتبة الثالثة: الإرادة؛ فإن الله أرادها وشاءها ولابد من وقوع ما شاءه الله.
المرتبة الرابعة: أن الله أوجدها وخلقها وحقق وجودها.
إذا آمن العبد بذلك كله صدق عليه أنه آمن بالقدر، والمرتبة الأولى وهي العلم؛ ذكروا أنها أربعة أقسام:
الأول: التقدير العام؛ الذي هو العلم بالموجودات كلها من أول ما خلقت إلى ما لا نهاية له.
التقدير الثاني: التقدير العمري؛ وهو ما يكتب للإنسان وهو في بطن أمه.(1/144)
التقدير الثالث: التقدير السنوي؛ وهو أنه في ليلة القدر يقدر الله ما يكون في تلك السنة إلى مثلها مما يكون على وجه الأرض، يكتب في تلك الليلة ما سوف يوجد، وما سوف يحصل؛ يقول الله تعالى: (فيها يفرق كل أمر حكيم * أمراً من عندنا)(الدخان:4-5)، يعني في ليلة القدر، وذلك بعد قوله تعالى: (إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين * فيها يفرق كل أمر حكيم)(الدخان:3-4).
أما التقدير الرابع: فهو التقدير اليومي؛ وهو وقوع ما يحصل في كل يوم، وهو المذكور في قوله تعالى: (كل يوم هو في شأن )(الرحمن:29).
وقوله:
وروى ابن عمر رضي الله عنهما أن جبريل عليه السلام قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (ما الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره. فقال جبريل: صدقت) رواه مسلم.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (آمنت بالقدر خيره وشره وحُلوه ومره). ومن دعاء النبي صلى الله عليه وسلم الذي علمه الحسن بن علي يدعو به في قنوت الوتر: (وقني شر ما قضيت).
شرح:
هذه أدلة على الإيمان بالقدر، فحديث ابن عمر في صحيح مسلم هو أول حديث في كتاب الإيمان، وهو حديث عمر المشهور، وأوله عن يحي بن يعمر قال: (كان أول من قال بالقدر في العراق معبد الجهني، فانطلقت أنا وحُميد بن عبدالرحمن الحميري حاجين أو معتمرين، فقلنا: لو لقينا أحداً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فسألناه عما يقول هؤلاء في القدر، فوفق الله تعالى لنا عبدالله بن عمر داخلاً المسجد، فاكتنفته أنا وصاحبي وظننت أن صاحبي سيكل الكلام إلي، فقلت: يا أبا عبدالرحمن إنه قد ظهر قبلنا أناس يقرؤون القرآن ويتقفرون العلم، وذكر من شأنهم، وأنهم يزعمون أن لا قدر، وأن الأمر أنفُ، فقال: إذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم وأنهم براء مني، والذي نفسي بيده؛ لو أنفق أحدهم مثل أحد ذهباً ما قبله الله منه حتى يؤمن بالقدر...).(1/145)
ثم أنشأ يحدث بهذا الحديث، حديث عمر المشهور إلى قوله: قال: أخبرني عن الإيمان قال: (أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره، قال: صدقت... الحديث).
فهذا دليل على نوع من أنواع القدر، وهو العلم السابق الذي ذكرنا أنه العلم الذي علمه الله قبل وجود المخلوقات، وهو الذين أنكره معبد الجهني وادعى أن الأمر (أُنف) يعني مستأنف، بمعنى أن الله لا يعلم الأشياء حتى تحدث؛ لا يعلم ما سوف يولد لهذا، ولا من سوف يسكن هذه البلدة، ولا متى تعمر هذه البقعة، ولا متى تنبت هذه الشجرة، ولا متى تثمر حتى تخرج ثمارها، وهذا بلا شك تنقص لعلم الله الذي وصف به نفسه بأنه بكل شيء عليم.
ولكن الحديث وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (تؤمن بالقدر خيره وشره) يدخل فيه أيضاً القدر الذي هو الحوادث، وهو أن تؤمن بأنها مقدرة وأن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك. وورد من حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: (لو اجتمعت الأمة على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشي قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك؛ رفعت الأقلام وجفت الصحف.
أما دلالة حديث القنوت الذي أوله: (اللهم أهدني فيمن هديت) إلى قوله: (وقني برحمتك شر ما قضيت فإنك تقضي ولا يقضى عليك) فقد دل على أن الله يقيه من الشر، والدعاء ليس يغير القدر، ولكن الدعاء من القدر، والدعاء نفسه مقدر، وقد جعله الله سبباً لوقوع هذا القدر، فدعاؤنا بقولنا: (وقني شر ما قضيت) أي شر ما تقدره؛ أي ما قد كتب، ومما قدره الله تعالى وكتبه أن العبد سيدعو بهذا الدعاء ويكون سبباً في كشف الشر عنه.
فدل على أن المكتوب لابد من وقوعه، ولابد من حصوله، فما قدر الله فلن يخطئ العبد، لا راد لقضاء الله، ولا معقب لحكمه.
مسألة: جمع أهل السنة بين الشرع والقدر
وقوله:(1/146)
ولا نجعل قضاء الله وقدره حجة لنا في ترك أوامره واجتناب نواهيه، بل يجب أن نؤمن ونعلم أن لله علينا الحجة بإنزال الكتب وبعثه الرسل.
قال الله تعالى: (لئلا يكون للناس على الله حجةُ بعد الرسل)(النساء:165) ونعلم أن الله سبحانه ما أمر ونهى إلا المستطيع للفعل والترك، وأنه لم يجبر أحداً على معصية ولا اضطره إلى ترك طاعة، قال الله تعالى: (لا يكلف الله نفساً إلا وسعها)(البقرة:289).
وقال الله تعالى: (فاتقوا الله ما استقطعتم)(التغابن:16)، وقال تعالى: (اليوم تجزى كل نفس بما كسبت لا ظلم اليوم)(غافر:17). فدل على أن للعبد فعلاً وكسباً يُجزى على حسنه بالثواب وعلى سيئه بالعقاب، وهو واقع بقضاء الله وقدره.
شرح:
مسألة القدر انقسم الناس فيها إلى ثلاثة أقسام:
قسم أنكروا قدرة الله، وقسم احتجوا بالقدر، وقسم توسطوا، ولم يجعلوا القدر حجة لهم على المعاصي، ولكنهم يحتجون به على المصائب بعد حدوثها.
القسم الأول: الذين أنكروا قدرة الله هم المعتزلة، وأصول المعتزلة خمسة، ولهم كتاب مطبوع اسمه (الأصول الخمسة) للقاضي عبد الجبار، وأصولهم الخمسة أسماؤها حسنة، ولكن يدخل تحت تلك الأسماء بدع:
الأصل الأول: التوحيد، ويريدون به نفي الصفات.
والأصل الثاني: العدل، ويريدون به نفي قدرة الله على العباد كما سيأتي.
والأصل الثالث: المنزلة بين المنزلتين، ويريدون به إخراج العاصي من الإيمان وعدم إدخاله في الكفر.
والأصل الرابع: إنفاذ الوعيد، ويريدون به تخليد العصاة في النار.
والأصل الخامس: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويريدون به الخروج على الأئمة العصاة في زعمهم.(1/147)
فالذي يهمنا هو الأصل الثاني، وهو العدل، فالاسم حسن، قال تعالى: (إن الله يأمر بالعدل)(النحل:90)، (وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل)(النساء:58)، ومعروف أن العدل هو التسوية بين الخصمين، والحكم بينهما بحكم وسط لا ظلم فيه ولا جور، ولا ميل مع أحدهما على الآخر كما في قوله تعالى: (اعدلوا هو أقرب للتقوى)(المائدة:8).
ولكن يريدون بالعدل أن الله تعالى لا يقدِّر المعصية على العاصي، ثم يعذبه عليها فإن ذلك يكون ظلماً، ويقولون: إن العبد هو الذي يخلق فعله، وهو الذي يستقل بأفعاله، ولا قدرة لله على فعله، ولا يقدر على أن يهدي أو يضل، ولا يُقبل بقلب هذا، ولا يصد قلب هذا، فالله -عندهم- عاجز عن هذا -تعالى الله عما يقولون- بل العباد أنفسهم هم الذين يستقلون بأفعالهم. فجعلوا العبد خالقاً مع الله، ولهذا يسمون مجوس هذه الأمة؛ لأنهم جعلوا مع الله من يخلق؛ لأن المجوس جعلوا الكون صادراً عن خالقين: النور والظلمة، وأما المعتزلة فجعلوا العباد كلهم يخلقون؛ الطائع يخلق طاعته، والعاصي يخلق معصيته.
وقالوا: إن الله ليس له قدرة عليه بل العاصي يعصي الله، ولو شاء الله أن يرده ما قدر على أن يرده، إذا أراد العبد أن يفعل معصية، وأراد الله أن لا يفعلها غلبت قدرة العبد على قدرة الله، وإذا أراد الله أن تُفعل طاعة من العبد، والعبد أراد أن يفعلها غلبت قدرة العبد على قدرة الله، فهذا في زعمهم سموه عدلاً، حتى لا يعذب الخلق على الأمر الذي خلقه فيهم، هذا قول القدرية وهم المعتزلة.
القسم الثاني: يسمون الجبرية وهم طائفة من الأشاعرة غلوا في إثبات القدر حتى سلبوا العبد قدرته وإرادته، وقالوا: ليس للعبد أية اختيار، بل العبد مجبور على فعله مقسور عليه، ليس لديه أي نظر ولا همة ولا إرادة، ويتمثل بعضهم بقوله:
ألقاه في أليمّ مكتوفاً وقال له: إياك إياك أن تبتل بالماء(1/148)
يقولون: إن الله هو الذي أوقعه في المعصية وخلقها فيه، وقدرها عليه، وألزمه بها، ومع ذلك يقول له: لا تعص، لا تقرب المعصية، لا تفعلها، فهو كمن كُتفت يداه، وألقي في البحر، وقيل له: لا تبل ثيابك بالماء، هذا غير ممكن.
وذكروا أن يهودياً لعله قدري أو من هؤلاء الجبرية جاء إلى شيخ الإسلام ابن تيمية، ورفع إليه أبياتاً يقول في أولها:
أيا علماء الدين ذمي دينكم تحير دلّوه بأوضح حجة
إذا ما قضى ربي بكفري بزعمكم ولم يرضه مني فما وجه حيلتي
دعاني وسدّ الباب دوني فهل إلى دخولي سبيل بيّنوا لي قضيتي
فيقول: هو بمنزلة من دعاني وسد الباب دوني ولا مني على ذلك.
فأجاب شيخ الإسلام نظماً وارتجالاً وجعل يكتب وهو جالس، ويعتقدون أنه يكتب نثراً وإذا هو يكتب نظماً في المنظومة التائية الموجودة في المجلد الثامن من مجموع الفتاوى والتي أولها:
سؤالك يا هذا سؤال معاندٍ مخاصم رب العرش باري البرية
ويدعى خصوم الله يوم معادهم إلى النار طُراً معشر القدرية
سواءٌ نفوه أو سعوا ليخاصموا به الله أو ماروا به في الخليقة
وقد زادت المنظومة على مائة وثلاثين بيتاً، أو نحوها، وبين له: إنك مخصوم، وإنك تقر على نفسك بأنك مخصوم، وإن الذين يحتجون بالقدر متناقضون، فهم يقولون هذه المقالات حتى يحتجوا على فعل المعاصي بوجودها، وأنشد ابن القيم في بعض كتبه قول بعضهم:
وضعوا اللحم للبزا ة على ذروتي عدن
ثم لاموا البزاة إذ أطلقوا لهنّ الرسن
لو أرادوا صيانتي ستروا وجهك الحسن
يقول: إنهم يحتجون بالقدر كما يحتج الزاني مثلاً بأنهم دفعوه إلى الزنا، حيث إن النساء تكشفت أمامه فلم يملك نفسه أن اندفع؛ يقول: "لو أرادوا صيانتي ستروا وجهك الحسن) هكذا يحتجون، ولكن لا حجة لهم في ذلك لأنهم متناقضون.
ذكروا أن سارقاً جيء به إلى عمر رضي الله عنه فأراد أن يقطع يده، فقال ذلك السارق: سرقت بقدر الله فقال عمر: وأنا أقطع يدك بقدر الله؛ يعني هذا قدر وهذا قدر.(1/149)
ولما توجه عمر رضي الله عنه إلى الشام وأقبل عليهم، وذكروا له أن الطاعون وقع في الشام عزم على الرجوع، فقال له أبو عبيدة: أفراراً من قدر الله؟ فقال: نعم، نفر من قدر الله إلى قدر الله. يعني أن فعلنا هذا مقدر ولو فعلنا هذا لكان مقدوراً، فالقدر هو ما نفعله، القدر هو ما يهدينا الله له.
وفي الحديث أن رجلاً قال: يا رسول الله، أرأيت رقى نسترقيها ودواءً نتداوى به وتقاة نتقيها، هل ترد من قدر الله شيئاً؟، فقال: (هي من قدر الله) يعني قدَّر الله هذا المرض، وقدَّر أن العبد يتداوى فيشفى، وهذه الأدوية مكتوب أنها سوف تحصل وهي من قدر الله، جعلها الله تعالى سبباً.
وعلى هذا فلا يجوز الاحتجاج بالقدر على فعل المعاصي، وذلك لأن القدر إنما هو موافقة الأمر والنهي، فالإنسان مأمور بأن يفعل، فإذا فعل فقد وافق القدر، وليس له أن يحتج بالقدر على ترك الفعل أو على فعل المحرم (قل فلله الحجة البالغة)(الأنعام:149).
فكما أن الله تعالى أمرنا بفعل الأسباب الحسية وجعلها من القدر، فكذلك أمرنا بالأفعال المعنوية وجعلها من القدر، فنحن مأمورون مثلا بأن نتكسب ونطلب الرزق، ويكون هذا بقدر كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لو أنكم توكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصاً وتروح بطاناً) فكما أن الطير لا تجلس في وكناتها، ولا في أوكارها، بل تغدو وتذهب وتتطلب الرزق حتى تجده، فالإنسان يسعى ويفعل الأسباب ويكسب، ويطلب الرزق، ويمشي في الأسواق، ويبيع ويشتري ويحترف، وفعل هذا من قدر الله تعالى ومن قضائه المكتوب عليه.(1/150)
وكذلك أيضاً لا يقول: سأسكت فلا أتكلم فإن هذا قدر، نقول له: انطق وتكلم وذلك أيضاً من القدر. ولا يقول: سوف أمسك عن الأكل فإن الله قدر أن أعيش عشت، وإلا فلا، نقول: لا بل أطعم الطعام، وغذ بدنك فإن هذا مما أمرت به، وهو من الأسباب في حياتك، وهو أيضاً من القدر. ولا يقول: لا أتزوج فإن كان الله قدر لي أولاداً حصلوا بدون زواج، نقول: لا، بل تزوج حتى يحصل ما قُدّر لك. وهكذا التعلم وما أشبهه، كلها بقضاء وقدر، ولابد أن يفعل العبد هذه الأسباب حتى يوافق ما قدر الله وما كتبه.
نقول بعد ذلك: إن أهل السنة توسطوا في ذلك فجعلوا للعبد قدرة، وجعلوا لله تعالى قدرة، وقدرة الله تعالى غالبة على قدرة العبد، وبقدرة العبد التي أعطاه الله إياها والتي مكنه بها يحصل الثواب والعقاب على هذه القدرة.
فلا شك أن الإنسان معه قدرة، ومعه تمكن، وأنه لو لا هذه القدرة ما كُلف، وفي الآيات التي تقدمت ذكر الأدلة على ذلك: (لا يكُلف الله نفساً إلى وسعها)(البقرة:286) فلو لم يكن للإنسان قدرة لما كلف، ولهذا لا يكلف المجنون، ولا العاجز، ولا المقعد، ولا المريض، ولا فاقد القدرة.
وقوله تعالى: (فاتقوا الله ما استطعتم)(التغابن:16) يعني أن للعباد استطاعة وقدرة يزاولون بها أعمالهم، وهكذا الآيات التي فيها الأوامر والنواهي التي يوجهها الله إلى العباد: (وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة)(المزمل:20)، (ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق)(الإنعام:151)، ونحو ذلك.(1/151)
ولو لم يكن للعباد قدرة ما وجهت إليهم هذه الأوامر، فدل على أن الله أعطاهم قدرة يزالون بها الأعمال، ويصح بها أن يكونوا مكلفين، ويصح أن تنسب إليهم أفعالهم فيقال: هذا هو القاتل فاقتلوه، هذا هو الزاني فارجموه، هذا هو السارق فاقطعوه، ويقال: هذا هو المصلي يستحق الثواب، هذا هو الصائم له أجر صيامه، هذا هو المتصدق يضاعف الله أجره، فتنسب إليه أفعاله لأنها صدرت منه، وإن كانت مقدرة ومقضية ومخلوقة لله أزلاً، ولكن لما باشرها نسبت إليه فهي أفعاله.
فلا يجوز أن يقال: ليس للعبد أية قدرة أصلاً، فهذا قول الجبرية، ولا يقال: ليس لله قدرة أصلاً فهذا قول المعتزلة، بل لله قدرة عامة وللعبد قدرة خاصة، وقدرة الرب غالبة على قدرة العبد، ودليل ذلك في القرآن قوله تعالى: (لمن شاء منكم أن يستقيم * وما تشاءون إلا أن يشاء الله)(التكوير:28-29)، (فمن شاء ذكره * وما يذكرون إلا أن يشاء الله)(المدثر:55-56)، (فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلاً * وما تشاءون إلا أن يشاء الله)(الإنسان:29-30)، ونحو ذلك من الآيات.
فالاحتجاج بالقدر هو قول المشركين الذين يقولون: (لو شاء الرحمن ما عبدناهم)(الزخرف:20)، (أنطعم من لو يشاء الله أطعمه)(يس:47)، فهؤلاء الجبرية الذين يحتجون بالقدر قولهم موافق لقول المشركين، والغالب أنهم لا يحتجون به إلا عند أهوائهم؛ ولهذا يقول ابن القيم في الميمية.
وعند مراد الله تفنى كميِّت وعند مراد النفس تُسدي وتُلحِمُ
وعند خلاف الأمر تحتج بالقضا ظهيراً على الرحمن للجبر تزعم
يعني تزعم أنك مجبور، فحصل في ذلك تقسيم الطوائف إلى ثلاث:
الذين يقولون: إن العبد هو المستقل بفعله، وهؤلاء هم القدرية، وكذلك ينكرون قدرة الله ويدعون أن الله يعصى قهراً.(1/152)
وطائفة مجبرة؛ الذين ينكرون قدرة العبد أصلاً، ويقولون: ليس له شيء من الفعل، فحركته كحركة المرتعش الذي لا يقدر على إمساك يده، أو حركته كحركة الشجرة التي تحركها الرياح بدون اختيارها فليس له أية قدرة.
وقول أهل السنة: أن له قدرة وإرادة، وأنه بحسبها يثاب ويعاقب، وإن كانت خاضعة لقدرة الله تعالى.
الإيمان قول وعمل
وقوله:
والإيمان قول باللسان، وعمل بالأركان، وعقد بالجنان، يزيد بالطاعة، وينقص بالعصيان.
قال الله تعالى: (وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة)(البينة:5).
فجعل عبادة الله تعالى، وإخلاص القلب، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، كله من الدين.
شرح:
هذا الموضوع يقال له: أسماء الإيمان والدين، ويتعلق به التكفير والتفسيق ونحوه، وهو الذي عند المعتزلة يسمى المنزلة بين المنزلتين؛ وذلك لأن الأمة اختلفوا في مسمى الإيمان فتباينت فيه أقوالهم.
والإيمان في اللغة هو التصديق، ولكن الشرع أضاف إليه إضافات وأدخل فيه الأعمال، وأدخل فيه الأقوال، فأصبح الإيمان شاملاً للعقائد والأقوال والأعمال، أصبح مسمىً شرعياً، وما ذاك إلا أن المسميات الشرعية نقلت من مسماها اللغوي إلى مسمى خاص كسائر المسميات الشرعية.
فالعرب لا تعرف اسم الإيمان إلا أنه التصديق، ولا تعرف اسم الكفر إلا أنه التغطية، تغطية الشيء وستره يسمى عندهم كفراً لقول شاعرهم: (في ليلة كَفَر النجُومَ ظلامها)، ولا تعرف الفسق إلا أنه الخروج، فسقت الرطبة: خرجت من قشرتها، ولا تعرف النفاق إلا أنه الاستخفاء، ولا تعرف الشرك في التجارة أو نحوها، ولا تعرف التوحيد إلا أنه الواحد المفرد.
فجاء الشرع وجعل لهذه الأشياء مسميات شرعية، ونقلها من المسمى اللغوي إلى المسمى الشرعي.(1/153)
فالإيمان: قول باللسان، وعقد بالجنان، وعمل بالأركان، يزيد بالطاعة وينقص بالعصيان، هذا مسمى الإيمان في الشرع أدخل فيه الأعمال وسماه إيماناً كما ستأتي عليه الأدلة إن شاء الله.
أما الكفر: فإنه الخروج من الدين، فجحد الرسالة، وجحد النبوة، وجحد التوحيد وإنكار العبادة يسمى كفراً شرعياً.
أما الفسوق: فهو المعصية؛ لأنها خروج عن الطاعة.
أما النفاق: فهو مسمى شرعي يطلق على إظهار الإيمان وإبطان الكفر.
أما التوحيد: فنقل من مسماه اللغوي إلى مسمى شرعي، وهو إفراد الله بالعبادة.
أما الشرك: فنقل من مسماه اللغوي إلى مسمى شرعي، وجعل اسماً لدعوة الله ودعوة غيره معه، فإشراك غير الله معه في نوع من أنواع العبادة يسمى شركاً.
فهذه مسميات نقلها الشرع وجعلها لمسميات خاصة، والكلام الآن عن الإيمان، وذلك لقدم وقوة الخلاف فيه:
فذهب بعضهم إلى أن الإيمان هو المعرفة، فمن عرف فهو مؤمن عندهم. فهل هذا صحيح؟ الله تعالى رتب على الإيمان الجزاء، رتب عليه الثواب، فكثيراً ما يذكر الله الإيمان ويذكر ثوابه، فهل كل عارف يستحق الثواب؟ معروف أن فرعون عارف قال الله تعالى عن موسى (لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السموات)(الإسراء:102). فهل فرعون مؤمن؟
وكذلك إبليس عارف بالله، وعارف بأن الله ربه هو الخالق، فهل يقال: إنه مؤمن مستحق للثواب؟، وكذلك أيضاً المنافقون؛ كثير منهم عارفون ولكنهم جحدوا عناداً، والمشركون عارفون أيضاً، يقول الله تعالى: (فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون)(الأنعام:33) فهل يقال: إنهم مؤمنون يستحقون ثواب الإيمان؟(1/154)
إذن عرفنا أن هذا القول باطل، وهناك من يقول: إن الإيمان هو مجرد التصديق. وهذا القول مشهور عند الحنفية، وقالوا: إنه مسمى الإيمان في اللغة، ولهم كلام طويل، ولكن نحن نقول: إن الله تعالى قد وصف المؤمنين بصفات زائدة على التصديق، مما يدل على أنه لابد مع التصديق من الأعمال، فلا يكون المؤمن مؤمناً إلا بتلك الأعمال.
الدليل الأول: قوله تعالى: (إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً وعلى ربهم يتوكلون * الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون)(الأنفال:2-3)، فجعل المؤمنين حقاً هم المتصفون بهذه الصفات الخمس، ومنها ما هو عمل بدني كالصلاة، أو عمل مالي كالنفقة، أو عمل قولي كالذكر، أو عمل قلبي كالوجل، فدل على أن الإيمان يعم هذه الأشياء.
الدليل الثاني: قوله تعالى: (إنما يؤمن بآياتنا الذين إذا ذكروا بها خروا سجداً وسبحوا بحمد ربهم وهم لا يستكبرون)(السجدة:15) نفى الإيمان عن غير هؤلاء، فأصبح من الإيمان الخرور سجوداً لله (إذا ذكروا بها خروا سجداً)(السجدة:15)، والتسبيح بحمد الله وعدم الاستكبار والتجافي (تتجافى جنوبهم عن المضاجع)(السجدة:16)، والدعاء (يدعون ربهم خوفاً وطمعاً)(السجدة:16) إلى آخرها، فهذا كله من الإيمان.
الدليل الثالث: قوله تعالى: (إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله)(الحجرات:15) فجعل من الإيمان الجهاد وترك الريب والعمل، فلا شك أن هذا كله دليل على أن الإيمان شيء زائد على التصديق.
إذن فيكون الإيمان مثلما عرفه الموفَّق رحمه الله؛ وهو قول أهل السنة، وقد ذكروا أن البخاري رحمه الله يقول: رويت في هذا الكتاب عن نحو ثلاثمائة من العلماء كلهم يقولون: الإيمان قول وعمل، ويريد بذلك أن مشايخه الذين أخذ عنهم كلهم على هذا القول: (الإيمان قول وعمل).(1/155)
وقد بدأ صحيحه -بعد المقدمة التي هي في الوحي- بكتاب الإيمان، ثم قال: (وهو قول وفعل، يزيد وينقص) ولم يذكر الاعتقاد؛ لأنه لا خلاف في الاعتقاد، ولما لم يكن لا خلاف في الاعتقاد خلاف أغفله، وذكر ما فيه الخلاف؛ وهو القول والفعل، أي أن الإيمان تدخل فيه الأقوال والأفعال، ثم يترتب على ذلك كمال الإيمان ونقصانه وزيادته.
وكثير من الحنفية والأشاعرة ونحوهم يعتقدون أن الإيمان واحد، وأنه لا يتفاوت، وأن الناس فيه مستوون وذلك لأنهم متفاوتون في العقيدة وقوة اليقين، ومتفاوتون في أثر تلك العقيدة على العباد، وإذا كانوا متفاوتين دل على أن الإيمان يتفاوت.
فنحن نعرف أنه قد يكون هناك إنسان رزقه الله علماً وقراءة وتدبراً، أقبل على السنة، وعلى الحديث، وعلى القرآن، وأخذ يتأمل وقامت عنده الأدلة، ورسخت في قلبه أدلة الوحدانية وأدلة الربوبية، وأدلة البعث والنشور، وأدلة الأعمال والأحكام، وأدلة الرسل والإيمان بهم، والملائكة ونحوهم؛ رسخت في قلبه، وكان من آثار رسوخها أن انبعثت جواحه بالعمل فلا ينطق إلا بالذكر و لا يسمع إلا الخير ولا يبصر إلا ما فيه خير، وكان سكوته ذكراً ونطقه ذكراً وعمله خيراً، كل ذلك من آثار ما رسخ في قلبه من تلك الأدلة.
وهناك آخر ما سمع إلا القليل، ولا اهتم إلا بالقليل من السنة، ولم يتعلم إلا أطراف المعلومات، ومع ذلك امتلأ قلبه باللهو والسهو وزينة الدنيا وزخرفها والميل إليها، وامتلأ قلبه بمحبة الشهوات، فإذا رأيته لا ستمعه يذكر الله إلا قليلاً ولا ترى جوارحه تنطلق إلا قليلاً بالأعمال الصالحة، بل وضد ذلك لا يذكر إلا ما يشتهيه وما يميل إليه، ولا ينطلق إلا إلى هوى نفسه، وأعماله الصالحة قليلة، فهل يقال: إن أعمال هذا وأعمال هذا مستويات؟ الذي يقول ذلك ليس له فكر.(1/156)
نعود إلى كلام الموفق رحمه الله، قوله: (إن الإيمان قول باللسان) يدخل في ذلك الأذكار، فهي من الإيمان، فإذا قلت مثلاً: سبحان الله، والحمد لله، والله أكبر، وأستغفر الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، ولا إله إلا الله، وأعوذ بالله، وبسم الله، والله ربنا، فهذا كله من الإيمان وهو قول اللسان.
وكذلك إذا دعوت إلى الله، أو دعوت إلى الخير، وعلّمت الناس، ودعوت إلى كتاب الله والعمل به، فكل نطق تنطق به وهو يدل على الخير فإنه من الإيمان ، يقال: هذه الكلمة إيمان، وهذه التهليلة إيمان، وهذه التسبيحة إيمان، و(اعتقاد بالجنان) أي بالقلب، والاعتقاد: ما عقد عليه القلب وتمسك به، فالعقد أصله انعقاد القلب على الشيء، وعدم التردد في ثبوته، فإذا اعتقد قلبك ثبوت البعث فهذا من الإيمان، وإذا اعتقد قلبك ثبوت عذاب القبر فهذا من الإيمان، وإذا اعتقد قلبك ثبوت الوحي فهذا من الإيمان، وإذا اعتقد قلبك ثبوت الحشر والنشر والجزاء على الأعمال وتفاصيل ذلك فهذا من الإيمان، وإذا اعتقد قلبك ثبوت الملائكة وكثرتهم فهذا من الإيمان، وإذا اعتقد قلبك ثبوت الرسالة وكثرة الرسل فهذا من الإيمان، إلى آخر ذلك؛ كل ما يعقد عليه القلب فإنه من الإيمان.
كذلك أيضاً عمل الجوارح، فالصلاة والصدقات والصيام والطواف والحج والوقوف ورمي الجمرات والجهاد في سبيل الله والأمر بالمعروف والدعوة إلى الله، كل هذه من الإيمان.
والبخاري يبوب على ذلك في صحيحه فيقول: (باب الصلاة من الإيمان، (باب أداء الخمس من الإيمان)، (باب أداء الزكاة من الإيمان)، (باب الصبر من الإيمان)، وهكذا يعدد خصال الخير ويجعلها من الإيمان؛ لأنها من الأعمال بالجوارح، والأعمال بالجوارح من الإيمان.
أما الأدلة على ذلك فمنها قوله تعالى: (وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة)(البينة:5) الدين هو الإيمان، فجعل هذه الخمس من الإيمان:(1/157)
العبادة: يدخل فيها أنواع الطاعة وأنواع القربات كلها من الإيمان.
الإخلاص: إرادة وجه الله تعالى بالعمل وعدم إرادة غيره؛ هذا أيضاً من الإيمان.
الحنيف: هو المقبل على الله المعرض عما سواه، هذا من الإيمان.
الصلاة: من الإيمان.
الزكاة: من الإيمان. وكلها من الدين.
كذلك الإيمان: ذكر أنه يزيد بالطاعة وينقص بالعصيان، وقد تقدم ذكر من ينكر زيادته، وتبين لنا خطؤهم وبعدهم عن الصواب، والأدلة واضحة على ذلك، قال الله تعالى: (الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل)(آل عمران:173).
وفي سورة الأنفال يقول تعالى: (إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً)(الأنفال:2).
وفي سورة الفتح يقول تعالى: (ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم)(الفتح:4) وفي سورة التوبة يقول الله تعالى: (وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيماناً فأما الذين آمنوا فزادتهم إيماناً وهم يستبشرون)(التوبة:124).
والحاصل أن هذا دليل واضح على أن الإيمان يزيد وينقص، وكل شيء قَبِل الزيادة فإنه يقبل النقصان.
والدين يشمل الإسلام والإيمان، كما في حديث جبريل المشهور الذي سأل فيه عن الإسلام، ففسره بالأعمال الظاهرة، ثم سأل عن الإيمان وفسره بالأعمال الباطنة، يعني لما قرن مع الإسلام الإيمان فسر الإسلام بالأعمال الظاهرة والإيمان بأعمال القلب، ثم سأل عن الإحسان، ففسره بالمراقبة والمشاهدة، ثم أخبر بأن هذا كله من الدين قال ((يعلمكم دينكم)) وصار الإسلام و الإيمان والإحسان كله من الدين.
وإذا قلت: هل هناك فرق بين الإسلام والإيمان؟ فيقال: إذا قُرنا جميعاً؛ فإن الإسلام: الأعمال الظاهرة، والإيمان: أعمال القلب، وأما إذا اقتصر على واحد منها، فإنه يعم الجميع.(1/158)
لكن قد يشكل على الإنسان بعض الأدلة مثل قوله تعالى: (قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم)(الحجرات:14)، وقد كثر الكلام حول هذه الآية، ولا إشكال فيها والحمد لله؛ وذلك لأن هؤلاء الأعراب أسلموا، يعني استسلموا ظاهراً، والإيمان لابد أن يصير نابعاً من القلب، وهؤلاء لم يصل الإيمان الحقيقي إلى قلوبهم؛ فلأجل ذلك قال: (ولما يدخل الإيمان في قلوبكم)، فجعلهم مرتابين، أي في قلوبهم ريب، فأثبت لهم الإسلام، ونفى عنهم الإيمان (قل لم تؤمنوا) وذلك لأنهم استسلموا ظاهراً وقلوبهم مترددة، يعبدون الله على حرف، فإن أصابهم خيرٌ اطمأنوا به، وإن أصابتهم فتنة انقلبوا على وجوههم، فهؤلاء نفى عنهم الإيمان؛ لأن الإيمان منبعه من القلب، ويؤثر على الأبدان، يؤثر على السمع وعلى البصر، وعلى اليد وعلى الرجل وعلى اللسان، وهؤلاء إنما أعمالهم ظاهرها أنهم مسلمون، ولكن ليس معهم دافع الإيمان.
أما قوله تعالى (فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين * فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين)(الذاريات:35-36) هم لوط وأهله، فلا شك أن لوطا و أهل بيته ما عدا امرأته جمعوا بين الوصفين أي الإيمان والإسلام، الإيمان الباطن و الإسلام الظاهر و إن كان أحدهما يكفي عن الآخر. و الحاصل إنا إذا رأينا ذكر الإسلام مطلقاً، فسرناه بالإيمان وبالأعمال كلها، وإذا ذُكر الإيمان وحده، فسرناه بالإسلام وبالأعمال كلها، وإذا ذكرا معاً فأحدهما أخص من الآخر، والأعم هو الإسلام، وأخص منه الإيمان، وأخص من الإيمان الإحسان.
وقوله:
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شُعبة فأفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان)، فجعل القول والعمل من الإيمان، وقال تعالى: (فزادتهم إيماناً)(التوبة:124)، وقال: (ليزدادوا إيماناً)(الفتح:4).(1/159)
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله وفي قلبه مثقال برة أو خردلة أو ذرة من الإيمان)، فجعله متفاضلاً.
شرح:
هذه أدلة واضحة الدلالة يستدل بها على أن الأعمال من مسمى الإيمان، وعلى أن الإيمان يزيد وينقص، وعلى أن أهل الإيمان يتفاوتون.
فالدليل الأول: قوله صلى الله عليه وسلم: (الإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة، فأفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان). والشعبة هي القطعة من الشيء إذا رأيته متشعباً؛ في هذا شعبة، وفي هذا شعبة؛ يعني قطع، فإذا اجتمع وتواصل صار كله إيماناً.
من هذا الحديث انطلقت أفكار العلماء في ذكر شعب الإيمان، وأخذوا يعددونها ويذكرون ما وصلوا إليه، وأوسع من كتب في ذلك البيهقي، له كتاب مطبوع في نحو سبعة مجلدات، اسمه (شعب الإيمان) استوفى فيه ما وصل إليه من الأحاديث التي تتعلق بالإيمان، وكتب في ذلك أيضاً بعض العلماء رسالة مختصر في شعب الإيمان، أوصلها إلى سبع وسبعين خصلة، بدأها بالتوحيد أخذاً من هذا الحديث (أعلاها قول لا إله إلا الله) وختمها بالأعمال التي فيها نفع للغير ومنها (إماطة الأذى).
وفيما بين ذلك ذكر الصلاة من الإيمان، والزكاة من الإيمان، والتطوعات من الإيمان، والنهي عن المنكر، وصدق الحديث، وأداء الأمانة، وحسن الخلق، ورد السلام وتشميت العاطس، وعيادة المريض، واتباع الجنائز، وإكرام الضيف، وإحسان الجوار، والرفق بالمملوك، وأخذ يعدد حتى وصل إلى سبع وسبعين خصلة، أراد بذلك أن يطبق هذا الحديث.(1/160)
وهذا بلا شك ردٌ صريح على فقهاء الحنفية الذين يجعلون الإيمان هو التصديق فقط، ويجعلون الأعمال خارجة عن مسماه، ويجعلون الإيمان اسماً لعمل القلب فقط، أو يقين القلب فقط، ويقولون: إن الأعمال ثمرة من ثمراته، والصحيح أن الأعمال داخلة في مسمّى الإيمان، وأنها من جملة الإيمان كما سماها في هذا الحديث، وقسّم خصال الإيمان وشعب الإيمان.
وبكل حال متى استوفى المسلم هذه الخصال وعمل بها؛ سميناه: مؤمناً كامل الإيمان، وإذا نقص منها قلنا: مؤمن ناقص الإيمان، والخلاف هنا مع المعتزلة والخوارج:
فالمعتزلة بمجرد ما يترك خصلة من خصال الإيمان أو يفعل معصية يخرجونه من الإيمان، ولا يدخلونه في الكفر، بل يجعلونه في منزلة بين المنزلتين؛ هذا في الدنيا، ويقولون: لا نحكم عليه بالكفر في الدنيا، بحيث يقتل أو يسبى، بل نقول: لا مؤمن ولا كافر، بل بينهما.
أما الخوارج فيقولون: بمجرد ما يرتكب ذنباً أو يترك طاعة خرج من الإيمان وحل دمه وماله.
وأما أهل السنة فيقولون: إنه مؤمن، ولكن ناقص الإيمان، أو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته، فيسمونه مؤمناً، ولكن مع الإيمان يتصف بالفسق، فلا مانع من أن تقول: مؤمن فاسق، أو مؤمن ناقص الإيمان، أو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته.
لكن هنا دليل استدل به المعتزلة ونحوهم، وهو الحديث الذي في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يزني الزاني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشرب وهو مؤمن، ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن، ولا ينهب نهبه يرفع الناس إليه فيها أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن)الحديث أخرجاه في الصحيحين.(1/161)
فإنه نفى عنه الإيمان، والجواب: إن المراد نفي الإيمان الكامل، فهو معه إيمان ناقص، أو (لا يزني الزاني وهو مؤمن) يعني أنه ليس معه الإيمان الذي يحجزه عن المعاصي بل إيمانه مضطرب، ومختل، وبعض الشراح يقولون: إن الإيمان يخرج منه ويصير عليه كالظلة ما دام متلبساً بمعصيته، ولكن لا يرجع إليه سالماً، بل يرجع إليه مختلاً وناقصاً. وبكل حال هذا دليل واضح على أن أهل الإيمان يتفاوتون.
وأما أدلة زيادته: فذكر منها ابن قدامة ثلاثة أدلة، وذلك لأن القلب تتوارد عليه الأدلة فيزيد الإيمان فيه، وقد يذهب بعضها فينقص، وقد تأتيه شبهة فتنقص اليقين الذين فيه ويبقى ناقصا.
ومن الأدلة أيضاً قوله صلى الله عليه وسلم: (يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله وفي قلبه وزن شعيرة من إيمان، ويخرج من النار من قال: لا إله إلا الله وفي قلبه وزن برة من إيمان، ويخرج من النار من قال: لا إله إلا الله، وفي لقلبه وزن ذرة من إيمان) أليس هذا دليلاً على التفاوت، فبعضهم إيمانه مثقال دينار وهو قطعة من الذهب، وبعضهم مثقال خردلة؛ حبة صغير، وهذا دليل على أنهم متفاوتون، هذا أنقص من هذا، وهذا أزيد من هذا، فدل على أنهم يتفاوتون.
واستدلوا أيضاً بقول النبي صلى الله عليه وسلم؛ مخاطباً للنساء في خطبته يوم العيد: (ما رأيت من ناقصات عقل ودين أغلب لذي لب منكن، قلن: يا رسول الله، وما نقصان العقل والدين، قال: "أما نقصان العقل فشهادة امرأتين تعد شهادة رجل، فهذا نقصان العقل، وتمكث الليالي ما تصلي، وتفطر في رمضان، فهذا نقصان الدين)، فجعل تركها الصلاة -وإن كانت معذورة- نقصاً في دينها، فالرجل يزيد عليها في صلاته في تلك المدة، فدل على أن الإيمان يزيد بالطاعة من الصلاة والصدقة والصيام ونحوها، وينقص بترك الصلاة أو بترك الصيام وما أشبهه.(1/162)
وأهل السنة قالوا: إن المؤمنين يتفاوتون في الإيمان، ولا يكفّرون بالذنوب، بل يعذرون العاصي، ويقولون: إنه مؤمن، ولكنه فاسق، أو عاص، ولو عمل أي عمل ما لم يكن ذلك العمل مخرجاً من الملة.
والأحاديث التي أطلق فيها الكفر على بعض الأعمال يقال: إنه كفر عملي، مثله قوله صلى الله عليه وسلم: (اثنتان في الناس هما بهم كفر: الطعن في النسب والنياحة على الميت). معلوم أن هذه لا تصل إلى الكفر الذي هو الكفر بالله، والذي يبيح الدم والمال، ولكنها كفر عملي فيه شيء من التكذيب في بعض الشريعة.
والأحاديث التي فيها الوعيد على بعض الخصال تسمى أحاديث الوعيد تُجرى على ظاهرها ليكون أبلغ في الزجر، مع العلم بأنها لا تخرج من الملة، ولو كان ظاهرها فيه إخراج من الملة، فإذا سمعنا قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس منا من لطم الخدود، أو شق الجيوب، أو دعا بدعوى الجاهلية)، هل نقول: هذا ليس من المسلمين، مع إنه ما عمل إلا هذا العمل، هل خرج بذلك من الإيمان؟ هذا من أحاديث الوعيد، ونعتقد أنها لا تخرج من الملة، ولكن نمرّه على ظاهره ليكون أبلغ في الزجر.
وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (من غشنا فليس منا) وقوله صلى الله عليه وسلم: (من عقد لحيته، أو تقلد وتراً، أو استنجى برجيع دابة أو عظم؛ فإن محمداً بريء منه)، هل يكون معناه أنه خرج من الدين؟. وهذه الأحاديث كثيرة.
ولذلك فإن الإمام مسلماً رحمه الله بدأ صحيحه بكتاب الإيمان، وأورد فيه مثل هذه الأحاديث التي فيها إشكال على بعض الناس، وفيها شك -للدلالة على أن الإيمان يتفاوت مثل قوله صلى الله عليه وسلم: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان) أخرجه مسلم، أليس فيه دليل على أن الإيمان يتفاوت وأن هناك إيماناً ضعيفاً.(1/163)
كل هذا رد على الذين يقولون: إن الإيمان شيء واحد، وأن نقصانه ذهاب له. وممن كتب في ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية في كتاب (الإيمان)، وهو مطبوع في المجلد السابع من مجموع الفتاوى، ومطبوع أيضاً مفرداً، وكذلك في كتاب الإيمان في صحيح البخاري، وفي أكثر كتب المحدثين، وكذلك الكتب المستقلة؛ ككتاب (الإيمان) لابن أبي شيبة صاحب المصنف، وكتاب (الإيمان) لأبي عبيد القاسم بن سلام، وكتاب (الإيمان) لابن منده، وكلها مطبوعة ميسرة ولله الحمد
مسألة: الإيمان بكل ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم
قوله:
ويجب الإيمان بكل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم وصح به النقل عنه فيما شاهدناه أو غاب عنا؛ نعلم أنه حق وصدق، وسواء في ذلك ما عقلناه أو جهلناه ولم نطلع على حقيقة معناه.
شرح:
هذا مما يتعلق بالعقيدة؛ وهو الإيمان بالغيب، وأول وَصْفٍ وَصَفَ الله به المتقين: الإيمان بالغيب قال تعالى: (هدى للمتقين * الذين يؤمنون بالغيب)(البقرة:2-3)، والغيب كل ما غاب عنا وأخبرنا عنه، وكان الخبر يقيناً؛ أخبر الله به في القرآن أو أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث.
لا شك أن الأخبار الغيبية إخبار عن أمر ما شاهدناه ولا رأيناه، فما هي طريقتنا في ذلك وماذا نفعل؟ علينا أن نصدق به وإن لم تدركه عقولنا أو حواسنا، وكل شيء غاب عنا وأخبرنا عنه بخبر قد يكون غريباً وقد يكون مستبعداً، فإذا كان الخبر من الله أو رسوله وجب التصديق به مهما كان، والأمثلة لذلك كثيرة.
فأولاً: الخبر عن الله تعالى: هذا من الإيمان بالغيب، والخبر عنه بأنه فوق سمواته على عرشه بائن من خلقه، متصف بصفات كذا، منزه عن صفات كذا وكذا، هذا من الإيمان.(1/164)
ثانياً: الخبر عن الرسل: أخبرنا الله، وأخبرنا الرسول عن الرسل بأخبار منها مثلاً: أن آدم خلق من تراب، وأن الله أسجد له ملائكته، وأسكنه جنته، وأن إبليس احتال عليه حتى أخرجه؛ هذا من الإيمان بالغيب، لأننا ما شاهدناه لكن جاءنا الخبر اليقين، فنصدق به ونؤمن به.
ثالثاً: الإخبار عن الملائكة؛ عن كثرتهم، وعن عبادتهم، وعن أعمالهم، وعن أماكنهم، هذا أيضاً من الإيمان بالغيب، نقبله ولو استبعده من استبعده، فإن الأمور الغيبية لا تدرك بالعقول وإنما تدرك بالأخبار، فإذا كان المخبر ممن يجب تصديقه، فالتصديق به داخل في خصال الإيمان فلا يجوز رد شيء من خبره.
ويقال هكذا في بقية الأخبار، وبالأخص ما يكون في الدنيا، فإن الإنسان قد يعجز عن إدراكه، ولكن إذا كان خبراً صحيحاً ثابتاً فلا يجوز رده، ولو كذب بذلك من كذب.
ذكر ابن القيم في كتابه (الروح) عن الفلاسفة أنهم أنكروا عذاب القبر؛ وأن القبر روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النار، وأنه يفسح للميت في قبره مد بصره، أو أنه يضيق عليه حتى تختلف أضلاعه. وأنه يأتيه الملكان فيجلسانه، وأنهما يسألانه، وأنه إذا لم يعرف يضرب بمرزبة من حديد فيصيح صيحة يسمعها كل شيء إلا الإنسان، ولو سمعها الإنسان لصعق، وأنه يفتح له باب إلى الجنة أو باب إلى النار، وأنه يأتيه من روحها وريحانها، فهم ينكرون ذلك ويقولون: هذا لا نحس به، فإننا كشفنا عن الميت فوجدناه على هيئته لم يتحرك ولم يتغير، فأين هذه الأشياء التي تزعمونها؟(1/165)
الجواب: أنكم في دار وهُم في دار، أنتم في دار الدنيا وهم في دار البرزخ، ومن مات فقد قامت قيامته، وليس لكم أن تنكروا الشيء الذي لا تدركونه، فإن إدراك هذه الأشياء إنما هو خاص بمن قد مات، وأما الأحياء فقد حجبت عنهم؟ ولأجل ذلك أخبرنا أن الإنسان لا يسمع هذه الأصوات، وذلك أنه لو سمعها لتكدرت عليه حياته، ولما اطمأن في الدنيا، ولما ركن إلى ملذاته، بل لا يعيش عيشة هنيئة، فلأجل ذلك حجب الله عنا هذه الأشياء فلم نرها.
والأحكام في الآخرة على الأرواح والأبدان، وأما البرزخ فالأحكام على الأرواح، والأبدان تبع لها، ونحن نعلم أن البدن جثة بعد الموت يصير إلى الفناء والعدم، وأما الروح فإنها هي التي تتألم وتتعذب، ونعلم أن الروح لا تدركها أبصارنا كما أننا لا ندرك الجن ولا الشياطين ولا الملائكة ولا نراهم، فإذن كيف تكذبون بشيء لا تحيط به أبصاركم ولا تقدرون على تصوره؟!
فعرفنا بذلك أن واجب الإنسان أن يصدق بالغيب مما أخبر الله به، أو أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم إذا كان يقينا، وسواء أدركته العقول أم قصرت ويدخل في هذا: الإيمان بما وقع للنبي صلى الله عليه وسلم من الوقائع التي قد يستبعدها بعض الناس، وكذلك أيضا ما وقع للأنبياء عليهم السلام قبله، وكذلك ما أخبر به صلى الله عليه وسلم من أشراط الساعة، وما أخبر به من عذاب البرزخ وأموره، وما أخبر الله به من البعث والنشور، والجزاء على الأعمال، والجنة والنار، وما يكون في يوم القيامة. كل ذلك داخل في الإيمان بالغيب؛ وما ذلك إلا لأنه غائب عن الأنظار، وإنما يُعتمد فيه على الخبر.(1/166)
والخبر إذا جاء عن الصادق المصدوق وجب قبوله وتقبله، ولو استبعدته العقول وأحاله من أحاله، وهذا هو مذهب أهل السنة والجماعة بل والمسلمين عامة؛ فإن المسلمين الذين صدقوا الرسول صلى الله عليه وسلم يلزمهم أن يصدقوه بما أخبر به، ولو لم تدركه عقولهم، أما الذين لا يصدقونه مطلقاً، أو يقبلون بعض ما جاء به فهؤلاء ليسوا حقاً من أتباعه.
فمثلاً الفلاسفة الإلهيون، يكذبون بما أخبر الله به من بدء الخلق، وينكرون أن يكون لهذا الخلق أول، أو يكون له آخر، فينكرون أن آدم خلق من تراب، بل يعتقدون أن هذا الجنس من الناس قديم لم يبدأ، ولم يكن له أول، ولم يزل هكذا دائماً وأبداً، ليس له مبتدأ وليس له نهاية، وينكرون قيام الساعة، وينكرون بعث الأجساد، وينكرون انقطاع هذا الجنس من الناس ويقولون: هكذا تبقى هذه الدنيا دائمة؛ أرحام تدفع، وأرض تبلع من غير نهاية، هكذا معتقدهم.
فكذبوا بما أخبر الله به وبما أخبر به رسوله، وما ذاك إلا أنهم لم تصل معرفتهم إلى الإيمان الصحيح، فوقعوا فيما وقعوا فيه من هذا الشك، وهم مثل من قال الله تعالى فيهم أنهم: (في ريبهم يترددون)(التوبة:45).
هذا الفرق بين المسلمين وبين الفلاسفة، وهم يقرون بالإلة، ويقرون بأن هذا الخلق مخلوق وله خالق مدبر، وإن كان اعترافهم بذلك عن طريق العقل لا عن طريق النقل اعترف بذلك كبيرهم الذي يرجعون إليه والذي يقال له: أرسطو، ويسمى عندهم (المعلم الأول)، وله مؤلفات موجودة مطبوعة تباع بأغلى الأثمان مشتملة على هذه العقائد السخيفة، وتبعه من المسلمين أكابر الفلاسفة كابن سينا، ومع الأسف لا يزال مقدساً عند كثير من المنتمين إلى الإسلام، وكذلك الفارابي، وسمي عندهم (المعلم الثاني)، وكلهم من غلاة الفلاسفة الذين ينكرون الغيب.(1/167)
وهناك طائفة (السمنية) ذكروا أنهم ينكرون ما لا يدركون بإحدى الحواس، لا يقرون إلا بما أدركوه بحاسة من الحواس الخمس وهم الذين ناظروا جهماً في ربه، حيث لقي طائفة من السمنية، فسألوه: هل لك رب؟ قال: نعم. فقالوا له: هل رأيت ربك؟ قال: لا. قالوا: هل سمعت صوته وكلامه؟ قال: لا. قالوا: مسسته بيديك؟ قال: لا. قالوا: هل شممت رائحته؟ قال: لا. قالوا: إذن هو معدوم. فبقي متحيراً، ثم إنه تذكر وقال لأحدهم -وهو رئيسهم-: هل لك روح؟ أو هل لك عقل؟ فقال: نعم. قال: هل رأيت عقلك أو روحك؟ قال: لا. قال: هل شممته؟ هل مسسته، أو ذقته؟ هل سمعته؟ قال: لا. فقال: إذاً ليس لك عقل أو ليس لك روح. فعند ذلك رجعوا إلى أن يقولوا هذا القول المبتدع، فاعترفوا بالرب ولكنهم وصفوه بصفات لا يثبت معها إله معبود، أو رب معبود.
هذه الطائفة ينكرون ما سوى المحسوسات، لكن طائفة الفلاسفة أخص من هؤلاء؛ فالفلاسفة قسمان:
أ- فلاسفة طبيعيون؛ وهم الذي ينكرون الخلق والخالق ويقولون: إن هذه طبيعة، وإن هذا الوجود طبيعة، هكذا وجدت ولا يتغير عن الطبيعة وقد أنشد الشيخ الحكمي رحمه الله في قصيدته الجوهرة الفريدة قوله:
ولا نُصيخ لعصري يفوه بما يُناقض الشرع أو إياه يعتقد
يرى الطبيعة في الأشيا مؤثرة أين الطبيعة يا مخذول إذ وجدوا
يقول: أين الطبيعة قبل أن يوجدوا، فهذا من عقائد الفلاسفة الطبائعيين الذي لا يقرون بإله.
ب- فلاسفة إسلاميون كابن سينا، وابن رشد، والفارابي ونحوهم فهؤلاء يقرون بأن هناك إلهاً، ولهذا يسمون الفلاسفة الإلهيون، ولكن معتقدهم أنهم لا يؤمنون بالغيب.
فالمسلمون والحمد لله يعرفون ما يعتقدونه، ويدينون بأن الخلق له خالق، وأن الخالق أمرهم بالأعمال، وأنه يجازيهم على الأعمال، وإذا لم يجازوا في الدنيا فإنهم سوف يلقون جزاءهم في الآخرة، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر.
وقوله:(1/168)
مثل حديث الإسراء والمعراج، وكان يقظةً لا مناماً. فإن قريشاً أنكرته ولم تنكر المنامات.
ومن ذلك (أن ملك الموت لما جاء إلى موسى عليه السلام ليقبض روحه لطمه ففقأ عينه فرجع إلى ربه فردَّ عليه عينه).
شرح:
هذا من الإيمان بالغيب، وهو قصة الإسراء والمعراج، ذكر الإسراء في قوله تعالى: (سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى)(الإسراء:1)في ليلة واحدة من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، مسجد إيليا قال تعالى: (لنريه من آياتنا)(الإسراء:1).
أجمل الإسراء في هذه الآية، وكلمة (بعبده) تدل على أنه أسري بجسده وروحه، فهي تصدق على الجسد والروح، وتدل على أنه يقظة لا مناماً، وذلك لأن قريشاً أنكروا الإسراء؛ لما قال لهم: إنه أسري بي إلى بيت المقدس ثم رجعت، استعظموا ذلك حتى جاءوا إلى أبي بكر وقالوا: إن صاحبك يزعم كذا، وكذا؟ فقال: قد صدق. قالوا: كيف تصدقه؟ قال أصدقه بما هو أبلغ من ذلك في خبر السماء؛ ومن ثم سمي بالصدّيق.
أما الذين إيمانهم ضعيف فقد أرتد بعضهم عندما سمعوا بقصة الإسراء واستبعدوا ذلك، فقريش تقول: كنا نشد الرحال شهراً ذهاباً وشهراً إياباً، فكيف قطعته أنت في ليلة واحدة؟!.
وهذا ليس ببعيد، فقد ذكر في الحديث؟ أنه أسري به على دابة يقال لها: (البراق) وأنها تضع حافرها عند منتهى طرفها -يعني من سرعة سيرها، فلا يستبعد ذلك، وقد وجد في هذه الأزمنة الطائرات التي تقطع هذه المسافة في زمن قليل، فلا يستبعد أن الله تعالى سخر له هذا البراق الذي قطع هذه المسافة في زمن يسير.(1/169)
فالحديث معروف، وقصة الإسراء التي في الصحيحين وفي غيرهما مشتهرة، وأنه صلى الله عليه وسلم أتاه الملك، وأنه أركبه على البراق، وخرج من المسجد الحرام، ووصل إلى مسجد إيليا -المسجد الأقصى- وأنه وجد الأنبياء وأنه أمهم ثم بعد ذلك عرج به إلى السماء. والمعراج أشير إليه بأول سورة النجم، فإن الله تعالى ذكر فيها الإشارة إلى المعراج في قوله تعالى: (ولقد رآه نزلة أخرى * عند سدرة المنتهى * عندها جنة المأوى)(النجم:13-15)، أنه عرج به إلى سدرة المنتهى عندها جنة المأوى وأنه رأى من آيات ربه الكبرى، وأن الله أراه وأطلعه على تلك الآيات، وهذا ما أشير إليه في الأحاديث.
وبكل حال نصدق بالإسراء ولو استبعده من استبعده، فإنه ليس ببعيد، وليس بمستغرب على قدرة الله، فالله على كل شيء قدير، وكما قال أبو بكر: (إني أصدقه في أعجب من ذلك في خبر السماء)، إذا كان الملك ينزل إليه في لحظات، ويقطع هذه المسافة فلا غرابة أن يعرج به و ينزل في جزء من اليلة، لا غرابة في ذلك، فعلى كل حال هذا مما يؤمن به أهل السنة والجماعة، ونعتقد كذلك أنه كان يقظة لا مناماً؛ لأن الإنسان يرى في نومه أنه قطع المسافات، وأنه ذهب إلى كذا، وأنه رجع إلى كذا، وهو لم يزل على فراشه، ولا يستغرب ذلك، فلو كان مناماً لما أنكرته قريش وأكبرته، ولما صار فيه معجزة أو غرابة.
ومن ذلك: لما جاء ملك الموت إلى موسى عليه السلام ليقبض روحه ولطه ففقأ عينه، فرجع ملك الموت إلى ربه تعالى فرد عليه عينه، هذا حديث صحيح فلا طعن فيه، وقد استبعده من استبعده كبعض الفلاسفة وبعض المعتزلة، وقالوا: هذا خبر آحاد ولو كان صحيحاً فلا نقبله، وقالوا:
أولاً: إن الملك ليس من جنس البشر، فكيف مع ذلك تُفقأ عينه؟.
ثانياً: إن الملائكة أرواح فكيف يُتصور أنهم مثل الآدمي؟.(1/170)
وأيضاً: فإن موسى نبي من أشرف الأنبياء ومن أولي العزم، فكيف يجرؤ على ملك الموت ويلطمه بهذه اللطمة إلى أن يفقأ عينه؟، إلى آخر ذلك من الاعتراضات.
قال أحمد شاكر في تعليقه على المسند وغيره: إن موسى رآه داخلاً بيته بدون إذنه في صورة إنسان، فعند ذلك لطمه ظناً منه أنه متلصص، أو أنه داخل لينظر ويتطلع على داخل بيته، وهذا جائز في شرعنا، قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لو أن رجلاً اطلع في بيت قوم بغير إذنهم فقد حل لهم أن يفقؤا عينه) وثبت أن رجلاً اطلع في جُحر في باب رسول الله صلى الله عليه و سلم، ومع الرسول صلى الله عليه وسلم مدرى يحك به رأسه، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لو أعلم أنك تنظرني لطعنت به في عينك.. الحديث).
فيقول: إن هذا الملك تصور بصورة إنسان، ودخل على موسى فظنه موسى من المتلصصين، فعند ذلك فقأ عينه، ولا غرابة في أن موسى غضب لما أخبره بأنه جاء ليقبض روحه فلطمه ففقأ عينه، فرد الله تعالى عين ملك الموت عليه .. إلى تمام الحديث.
وفي بعض الروايات أنه قال صلى الله عليه وسلم: (قال: ارجع إليه فقل له يضع يده على متن ثور فله بما غطت يده بكل شعرة سنة.. قال: أي رب ثم ماذا؟ قال: ثم الموت. قال: فالآن) يعني ما دام الموت لابد منه ولو بعد مئات السنين فالآن قال: (فسال الله أن يدنيه من الأرض المقدسة رمية بحجر) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لو كنت ثم لأريتكم قبره إلى جانب الطريق تحت الكثيب الأحمر). فبكل حال نصدق بهذا ولا غرابة في ذلك.
مسألة: في أشراط الساعة
وقوله:
ومن ذلك: أشراط الساعة، مثل خروج الدجال، ونزول عيسى بن مريم عليه السلام فيقتله، وخروج يأجوج ومأجوج، وخروج الدابة، وطلوع الشمس من مغربها، وأشباه ذلك مما صح به النقل.
شرح:(1/171)
وهذه أيضاً من الأمور الغيبية، وهي أشراط الساعة، والأشراط هي العلامات، كأنها شرط في وجودها، والشرط في اللغة: ما يترتب عليه وجود المشروط وما لا يتم المشروط إلا به، وقد أخبر الله تعالى أن للساعة أشراطاً: قال تعالى: (فهل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة فقد جاء أشراطها)(محمد:18).
ومن أعظم أشراطها بعثة النبي صلى الله عليه وسلم فهو آخر الأنبياء إذ ليس بعده نبي؛ فهو نبي الساعة وثبت عنه أنه قال: "بعثت أنا والساعة كهاتين" وأشار بالسبابة والوسطى. يعني أنه قريب من قيام الساعة، ومع ذلك فقد أخبر بأن بين يدي الساعة علامات؛ منها علامات صغيرة، ومنها علامات كبيرة.
وقد كتب فيها العلماء قديماً وحديثاً، وتوسعوا في علامات الساعة وأشراطها التي أخبر الله تعالى بها أو أخبر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبينوا أنها ثابتة وحقيقية، ولو أنكرها من أنكرها واستبعدها بعض من قصرت أفهامهم وعلومهم.
وممن كتب في أشراط الساعة: ابن كثير رحمه الله في آخر كتابه التاريخ، لما انتهى من البداية أتى بالنهاية، وذكر أشراط الساعة وتكلم عليها، ومع الأسف نسخت طبعة من الطبعات حققها بعض المغرضين من أهل الشام ويقال له (أبو عبية) ثم إنه حرفها، وعلق عليها تعليقات بعيدة، وذلك لأن عقله لم يكن متسعاً لتلك الأمور الغيبية، ولما كثرت عليه تلك الأدلة وتنوعت أخذ يتنوع في بعضها، فبعضها يرده بأن يضعفه ولو كان صحيحاً، وبعضها يرده بأن يحمله محملاً بعيداً، وما أشبه ذلك.(1/172)
فمن أشهر علامات الساعة، أو أشراطها: خروج المسيح الدجال، وقد تكاثرت فيه الأدلة، والأخبار فيه متواترة حتى أمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يستعاذ في الصلاة من فتنة المسيح الدجال، وأخبر بأنواع من فتنته؛ فأخبر بأنه أعور، وأن الله ليس بأعور، وأخبر بأنه يعيث يميناً وشمالاً، وأخبر بمدته التي يمكثها في الأرض، وأخبر بأنه يسير فيها سيراً حثيثاً، وأخبر بأنه يأتي أهل القرية والمدينة فيطيعونه، فإذا أطاعوه وصدقوه أصبحوا وقد نزلت عليهم البركات، والذين يعصونه تنزل عليهم النقمات - وهذه فتنة من الله، وأنه لا يدخل مكة ولا يدخل المدينة ... إلى آخر ذلك، والأحاديث كثيرة.
ثم إن (أبا عبية) حمل الدجال وتأوّله على أنه الشر؛ قال: (الدجال هو الشر أو الشرور، أو المعاصي، أو المخالفات)، وكذب؛ إنه شخص إنسان حي متحرك، فجعله معنوياً، وأخذ يتكلف في رد هذه الأحاديث ويصرفها مصارف بعيدة، وهذا من تحريف الكلم عن مواضعه.
وقد رد على بعض كلماته الشيخ حمود التويجري -رحمه الله- في كتابه المصنف المعروف بـ(إتحاف الجماعة في أشراط الساعة)، المجلد الأول في العلامات الصغيرة، والمجلد الثاني في العلامات الكبيرة، ناقش أبا عبية في بعض ما تأوله و اعتذر بأنه ما وقف إلا على أحد المجلدين؛ على مجلد واحد لأن (أبا عبية) طبع النهاية في مجلدين كبيرين وكلاهما علق عليه بما يفسده. وهذا دليل على أن هناك من قصرت علومهم عن إدراك الأشياء التي لم تتصورها نفوسهم فيتأولونها بهذا التأويل.
وأما أحاديث المسيح عيسى بن مريم عليه السلام فهي أيضاً متواترة ومتكاثرة، وقد أنكرها كثير من هؤلاء المتهوكين وقالوا: إن القرآن دل على أن عيسى قد مات؛ قال الله تعالى: (يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي)(آل عمران:55) وقال تعالى حكاية عن عيسى: (فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم)(المائدة:117).
فإذا كان عيسى عليه السلام قد توفي فكيف يرجع؟ أليس قد مات، وقد انقطع عمره؟(1/173)
وأجاب العلماء: بأن التوفي هنا هو النوم، يعني أنامه، ثم رفعه؛ قال الله تعالى: (وما قتلوه يقيناً * بل رفعه الله إليه)(النساء:157-158) فالقرآن صريح بأنه رفع إليه، أي رفع حياً إلى السماء عندما جاء اليهود ليقتلوه، فشبه لهم؛ نزل شبهه على بعض أصحابه كما في قوله تعالى: (ولكن شبه لهم)(النساء:157) وفُتح له طاق في البيت ورفع إلى السماء. وبقي في السماء حتى ينزل في آخر هذه الدنيا، ويحكم بشريعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وورد في الأحاديث أنه ينزل على المنارة البيضاء التي في المسجد الأموي شرقي دمشق، وأنه يقتل المسيح الدجال فإذا رآه الدجال ذاب كما يذوب الملح في الماء، ويقتله في باب لد - باب هناك في دمشق- هذه الأحاديث فيه متواترة مذكورة في كتب الصحيح، نصدق بها ولا عبرة بمن أنكرها أو استبعدها.
أما خروج يأجوج ومأجوج فقد ذكر في القرآن في قوله تعالى: (حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون)(الأنبياء:96) ذكر في الحديث أنهم خلق لا يحصيهم إلا الله، وأنهم يخرجون إلى الدنيا، وأنهم يستولون على الأرض ويشربون المياه التي يمرون بها، حتى إنهم يمرون ببحيرة طبرية ويشربونها، ويأتي آخرهم ويقول: لقد كان هنا ماء.
وذكر في الحديث: أن عيسى عليه السلام يرغب إلى الله تعالى في أن الله ينجيه منهم، فيموتون فيصبحون فرسى، فيرسل الله عليهم ريحاً فتقذفهم في البحار، وينزل ماء من السماء فيغسل الأرض بعدهم حتى تكون كالزَّلَفَة (أي المرآة)-، ويبارك الله في الرسل، حتى إن الجماعة يشربون من لبن اللقحة فيروون منه، وحتى إن الجماعة يأكلون ويشبعون من الرمانة ويستظلون بقحفها، إلى آخر الحديث الطويل الذي في آخر صحيح مسلم، نصدق بذلك كله ولو استغربه من استغربه.(1/174)
وأما خروج الدابة: فذكر أيضاً في القرآن قال الله تعالى: (وإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من الأرض تكلمهم)(النمل:82) هذه الدابة ورد فيها صفات، ولكن ليست كلها بصحيحة، وإنما الثابت أنها دابة في الأرض مستغربة، وأن هذه الدابة تكلمهم كما أخبر الله تعالى، ولا يدري ماذا تكلم به.
وأما طلوع الشمس من مغربها: ففسر به قول الله تبارك وتعالى: (هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك أو يأتي بعض آيات ربك يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً)(الأنعام:158) وفسر هذا البعض بأنه طلوع الشمس من مغربها، وإذا طلعت آمن الناس كلهم، وذلك يوم لا ينفع نفساً أيمنها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً.
لا شك أن الأحاديث قد ثبتت في ذلك، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها) هذه من أكبر العلامات التي ذكرت في الأحاديث.
وذكر أيضاً في بعض الأحاديث أنه يكون هناك خسف بالمشرق، وخسف في المغرب، وخسف في جزيرة العرب وأنه يكون آخر الآيات نار تخرج من قعر عدن تسوق الناس إلى المحشر تبيت معهم حيث باتوا وتقيل معهم حيث قالوا.
وذكر أيضا من أشراط الساعة، أو من العلامات (نارٌ تخرج من أرض الحجاز تضيء أعناق الإبل ببصرى)، وهذه الآية قد خرجت في القرن السابع، وذكروا أنها ترتفع نحو عشرين ذراعاً أو ثلاثين ذراعاً في السماء، وأنها تشتعل بالحجارة، وإذا ألقي فيها السعف لا تحرقه، دامت أياماً في شرق المدينة، وذكرها المؤرخون كابن كثير وأطال في الكتابة عنها، وأنها من الأشراط التي أخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم .(1/175)
هذه من العلامات الكبيرة التي أخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم وآخر ذلك إخباره بأن الله يرسل ريحاً لينة طيبة وأنها تقبض روح كل مؤمن، وأنه لا يبقى بعد هذه الريح الطيبة إلا شرار الناس في خفة الطير وأحلام السباع، يتهارجون تهارج الحمر، فعليهم تقوم الساعة.
مسألة: في البرزخ والبعث
قوله:
وعذاب القبر ونعيمه حقٌّ، وقد استعاذ منه النبي صلى الله عليه وسلم وأمر به في كل صلاة، وفتنة القبر حق، وسؤال مُنكر ونكير حق، والبعث بعد الموت حق، وذلك حين ينفخ إسرافيل عليه السلام في الصور (ونفخ في الصور فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون)(يس:51).
شرح:
من الإيمان بالغيب: الإيمان بعذاب القبر، مع أن القبر مشاهد نشاهده ونراه، ولكننا لا نشاهد عذابه ولا نعيمه، ولكن لما وردت به الأدلة الصحيحة في السنن وفي الصحاح آمنا به وأيقنا وصدقنا بما جاء في الأحاديث واعتقدنا أن ذلك من الأمور الغيبية.
وقد أطال العلماء في ذكر هذا الركن الذي هو من الإيمان بالغيب، وأوردوا فيه الأحاديث التي صحت عن النبي صلى الله عليه وسلم وأقروها وتكلم عليها العلماء المتقدمون والمتأخرون.
وممن اشتهر بتتبع الأخبار في ذلك من المتقدمين: ابن أبي الدنيا، وله كتب كثيرة مطبوعة في هذا، لكن أكبر كتبه كتاب (القبور)، وكتاب (من عاش بعد الموت)، ثم كتب بعد ذلك ابن القيم كتاب (الروح) وتكلم فيه عن عذاب القبر، وأطال فيه إلى أن ذكر قصصاً وذكر أحكاماً وأحاديث، وذكر فصولاً منوعة، وتكلم عليه أيضاً تلميذه ابن رجب في كتابه الذي سماه (أهوال القبور في أحوال أهلها إلى النشور) وغيرهم، وهكذا في كتب الزهد وكتب المواعظ؛ يذكرون عذاب القبر ونعيمه.(1/176)
والخلاصة أنه ورد في الأحاديث أن القبر روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النار، وأنه يضيق على صاحبه -إن كان شقياً- حتى تختلف فيه أضلاعه، أو يوسع عليه -إن كان سعيداً- حتى يكون مد بصره، وأنه يأتيه الملكان فيه، فإن كان سعيداً بشراه بخير، ويسألانه: من ربك، ومن نبيك، وما دينك؟ فيجيبهم ، وإن كان شقياً لا يجيبهم بل يقول: هاه هاه، لا أدري. وأنهما يضربان الشقي ضربة بمرزبة من حديد لو ضرب بها جبلٌ لصار تراباً، وأنه يصيح صيحة يسمعها كل شيء إلا الثقلان، ولو سمعها الإنسان لصعق.
وأنه يأتيه رجل -إن كان سعيداً- طيب الريح طيب الثياب فيقول: أبشر باليوم الذي يسرك، هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول: من أنت فوجهك الذي يجيء بالخير؟ فيقول: أنا عملك الصالح. فيقول: رب أقم الساعة، وأنه يفتح له باب إلى الجنة فيأتيه من روحها وريحانها، ونحو ذلك من الأحاديث الكثيرة التي تبلغ حد التواتر.
وقد ذكرنا فيما سبق أن الفلاسفة ونحوهم استبعدوا عذاب القبر، قالوا: أولاً: إنه لم يذكر في القرآن، وقالوا: ثانياً: إن العقول تنكره. وذكروا أنهم وضعوا الإنسان في قبره، وحفروا بعد ثلاثة أيام فوجدوه على حاله، ووضعوا الزئبق على صدره فوجدوه كما هو لم يتغير، والزئبق أخف وأسرع حركة، ومع ذلك لم يتغير من مكانه، فكيف يكون مع من يجلس، ويسأل، ويضرب، وينعم وأشباه ذلك؟
فأجابهم العلماء: إن هذا من أمر الغيب وعلينا أن نؤمن به، وإن ما بعد الموت فهو من الآخرة، ونحن من أهل الدنيا، ولسنا بمطلعين ولا مطلعنا الله على أمر الآخرة ونحن في الدنيا، وإن الأحكام بعد الموت تتعلق بالأرواح؛ فإن الأرواح هي التي تتنعم، وهي التي تتألم، وهي التي تصعد وتنزل، وهي التي تسأل وتجيب، وهي التي تنعم أو تعذب، وتجري هذه الأحكام عليها. وقد ذكر ابن القيم أن الروح لها بالبدن خمس اتصالات:(1/177)
الاتصال الأول: عندما كان جنيناً في بطن أمه. فاتصالها به قليل، ولكن يتحرك الجنين في بطن أمه قليلاً.
الاتصال الثاني: بعدما يخرج إلى الدنيا، فهو اتصال كامل وإن كان يعتريه نقص.
الاتصال الثالث: عندما يكون الإنسان نائماً؛ فإن روحه تفارق بدنه، ولكنها لا تكون مفارقة كاملة.
الاتصال الرابع: في البرزخ الذي هو في القبر فهو اتصال ضعيف ولكن ليس بمستحيل.
الاتصال الخامس والأكمل: الاتصال في الآخرة بعدما تعاد الأرواح إلى أجسادها، وتتصل بها اتصالاً كلياً كاملاً.
والأحكام في الدنيا على الأجساد وتتبعها الأرواح، والأحكام في البرزخ على الأرواح وتتبعها الأجساد، والأحكام يوم القيامة على الأرواح وعلى الأجساد.
وأما قولهم: لم يذكر في القرآن عذاب القبر. فأجاب عنه ابن القيم وغيره، وقالوا: إنه قد ذكر في السنة، ونحن نؤمن بالسنة وبما جاء بالقرآن، وأيضاً فقد ورد في القرآن إشارات ودلالات وفسرت بعذاب القبر؛ فذكر الله أن آل فرعون يغدا بهم ويراح على النار في قوله تعالى: (النار يعرضون عليها غدواً وعشياً ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب)(غافر:46) والغدو والعشي في هذه الدنيا، يعني أنهم يعرضون أي أرواحهم تعذب في النار.
كما ذكر الله أنهم سيعذبون مرتين في قوله تعالى: (سنعذبهم مرتين ثم يردون إلى عذاب عظيم)(التوبة:101) المرتان قيل: إنه مرة في الدنيا ومرة في البرزخ، (ثم يردون إلى عذاب عظيم)، هذا في النار بعد البعث، وفسر بذلك أيضاً قوله تعالى: (وإن للذين ظلموا عذاباً دون ذلك)(الطور:47) يعني عذاب القبر؛ هذه إشارات إلى أن عذاب القبر قد ثبت، وأن الإنسان عليه أن يكثر الاستعاذة من عذاب القبر، وعليه أن يصدق به، وإن لم يدركه إحساسه.
ولكن قد تقول: إنه قد يبقى غير مقبور مدة طويلة. فنقول: الذي يبقى هو الجثة، والعذاب والنعيم على الأرواح.
مسألة: في الحساب
وقوله:(1/178)
ويُحشر الناس يوم القيامة حفاة عُراةً غرلاً، فيقفون في موقف القيامة حتى يشفع فيهم نبينا صلى الله عليه وسلم، فيحاسبهم الله تعالى، وتنصب الموازين، وتنشر الدواوين، وتتطاير صحائف الأعمال إلى الأيمان والشمائل (فأما من أوتي كتابه بيمينه * فسوف يحاسب حساباً يسيراً * وينقلب إلى أهله مسروراً * وأما من أوتي كتابه وراء ظهره * فسوف يدعو ثبورا * ويصلى سعيراً)(الانشقاق:7-12).
شرح:
قال بعض العلماء: إن الله تعالى أكثر في ذكر البعث، وأدلته، ومن القرائن التي تدل عليه والمعجزات والآيات والبراهين، وكذلك ما بعده من الجزاء على الأعمال ومن الحشر، والنشر وما إلى ذلك.
ولعل الحكمة من المبالغة في ذلك إقناع المشركين، وذلك لأن المشركين من العرب كانوا ينكرون أشد الإنكار بعث الأجساد، فضلاً عن حساب عليها أو عذاب، فهم يقولون -مثل ما حكى الله عنهم هم والأولون أيضاً بقوله تعالى: (وقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين)(الأنعام:29)، وكذلك حكى الله عنهم قوله تعالى: (إنهم ألفوا آباءهم ضالين * فهم على آثارهم يهرعون)(الصافات:69-70)، فلما وجدوا آباءهم على هذا الأمر الذي هو إنكار البعث، تبعوهم في ذلك، وحكى الله تعالى عنهم قولهم: (أئذا متنا وكنا تراباً وعظاماً أئنا لمبعوثون * أو آباؤنا الأولون * قل نعم وأنتم داخرون)(الصافات:16-18)، أي تبعثون وأنتم ذليلون مهينون.(1/179)
ورد الله على ذلك الكافر الذي جاء ومعه عظم ميت يفتته وقد صار رميماً فقال: أتزعم يا محمد؛ أن هذا يبعث بعد أن صار رميماً تراباً؟ قال: (نعم، يميتك الله، ثم يحييك ثم يحشرك إلى النار) فأنزل الله تعالى قوله: (أو لم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين)(يس:77)، ذكره بخلقه من نطفة، ومع ذلك أصبح خصيماً مبيناً، ثم قال تعالى: (وضرب لنا مثلاً ونسي خلقه)(يس:78)، نسي بدء خلقه الذي كان معدوماً، ثم خلق، ثم أوجد، إلى آخر الآيات التي فيها تذكيره بالبعث وبالآيات الدالة عليه بعد البعث.
وكثيراً ما يذكر الله الآيات التي في الحشر، ويذكر يوم القيامة، ويسميه بعدة أسماء، فيسميه يوم القيامة، ويسميه بالساعة، ويسميه بيوم الحشر؛ لأن الناس يحشرون فيه، ويسميه بالآزفة، والطامة، والحاقة، والواقعة، والصاخة، وكلها أسماء ليوم القيامة وآثارها.
وهذا اليوم ذكر الله عظم شأنه فقال تعالى: (يوم يقوم الناس لرب العالمين)(المطففين:6)، ذكر في الأحاديث أنهم يقومون ويطول قيامهم وأنه يكون طويلاً، قدر في آية أنه ألف سنة مما يقدرون، وفي آية أخرى خمسين ألف سنة في سورة المعارج: (في يوم كان مقدراه خمسين ألف سنة)(المعارج:4)، ثم أخبر بأنه قريب بقوله تعالى: (إنهم يرونه بعيداً * ونراه قريباً * يوم تكون المساء كالمهل)(المعارج:6-8)، أي تذوب كما يذوب المهل، (وتكون الجبال كالعهن)(المعارج:9)، أي تكون كالعهن المنفوش إلى آخر الآيات.(1/180)
فنؤمن بهذا، ونؤمن بأنه بعد البعث يحشر الناس، وأن الأرض تسوى فتزول عنها الجبال التي عليها، وتصبح الجبال كثيباً مهيلاً، ثم بعد ذلك تصبح كأنها العهن؛ وهو القطن المنفوش تطير به الرياح، قال تعالى: (وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب)(النمل:88). وهي تنتقل فلا يبقى لها أثر ولا يبقى لها مكان فينسفها الله تعالى: ثم تسوى بالأرض، يقول الله تعالى: (ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفاً * فيذروها قاعاً صفصفاً)(طه:105-106)، أي الأرض تكون قاعاً صفصفاً مستوياً (لا ترى فيها عوجا ولا أمتاً)(طه:107)، يمدها الله تعالى يقول: (وإذا الأرض مدت * وألقت ما فيها وتخلت)(الانشقاق:3-4)، تمد كما يمد الأديم العكاظي، وتسوى بحيث لا يكون لها مرتفع ولا منخفض.
وبعد ذلك تبقى هكذا، فيجتمع عليها الخلق من أولهم إلى آخرهم؛ يجتمعون كلهم لا يحصي عددهم إلا الله تعالى، يحشرون على هذه الأرض، ثم تنزل ملائكة السماء الدنيا فتحيط بهم، وكذا ملائكة السماء الثانية والثالثة، إلى أن تنزل الملائكة كلهم فيحيطون بهم.
ونؤمن بما ذكره الله من الآيات والأعمال التي فيها، وأنها تنصب الموازين، قال تعالى: (والوزن يومئذ الحق فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون * ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم)(الأعراف:8-9) ذكر الله الوزن في عدة آيات.
وكذلك تنشر الدواوين -الصحائف التي فيها الأعمال- قال تعالى: (ونخرج له يوم القيامة كتاباً يلقاه منشوراً * اقرأ كتابك)(الإسراء:13-14)، (ويقولون يا ويلتنا ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها)(الكهف:49) فيقرءون كتبهم ويجدون فيها أعمالهم التي عملوها كلها، وتتطاير الكتب إلى الأيمان أو الشمائل، قال تعالى: (فمن أوتي كتابه بيمينه فأولئك يقرءون كتابهم ولا يظلمون فتيلا * ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا)(الإسراء:71-72).(1/181)
أما الكتاب الذي يعطى باليمين؛ فمكتون فيه: هذا كتاب من الله لفلان بن فلان، أدخلوه جنة عالية قطوفها دانية، وأنه يشرق وجهه، ومن فرحه يقول: (هاؤم اقرءوا كتابيه)(الحاقة:19). وأما الآخر فيقول: (يا ليتني لم أوت كتابية)(الحاقة:25)، نصدق بهذا كله ولو استبعده من استبعده.
ووقوف الناس وحشرهم في ذلك اليوم ذكره الله في القرآن ذكراً متكرراً متواتراً، وأن الناس بعدما يبعثون يحشرون على أقدامهم؛ يحشرون وهم عراة، وأول من يكسى إبراهيم عليه السلام، ويحشرون وهم حفاة ليس في أرجلهم نعال، وكذلك غرلاً أي غير مختونين كما فسره بذلك ابن كثير.
وكذلك يبعثون بهماً أي سود الأبدان من الشمس، وقيل: إنهم لا يتكلمون أي لا يستطيعون أن يتكلموا، وذلك من الفزع قال تعالى: (لا يحزنهم الفزع الأكبر)(الأنبياء:103)، وقد ذكر الله أنهم لا يتكلمون كما في قوله تعالى: (فلا تسمع إلا همساً)(طه:108)، قيل: الهمس: وطء الأقدام، وقيل: الكلام الخفي، وهذه إشارات إلى ما ذكره الله في القرآن وأوضحه عن البعث والحساب.
مسألة: في الميزان
قوله:
والميزان له كفتان ولسان، يوزن به أعمال العباد (فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون * ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم في جهنم خالدون)(المؤمنون:102-103).
شرح:
مما نؤمن به الميزان، وقد ذكره الله تعالى في عدة سور، فذكره في سورة الأنبياء، قال تعالى: (ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئاً وإن كان مثقال حبة من خردلٍ أتينا بها وكفى بنا حاسبين)(الأنبياء:47)، هذا دليل على أنه ميزان حقيقي توزن به الأعمال، فيظهر فيه خفتها أو ثقلها، ولو كان العمل خفيفاً كحبة الخردل.
وقد ذكر الله أيضاً الذرة في قوله تعالى: (فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره * ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره)(الزلزلة:7-8)، والذرة هي: النملة الصغيرة، وماذا تزن؟(1/182)
وذكر الله الميزان في قوله تعالى: (الوزن يومئذ الحق فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون * ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم)(الأعراف :8-9)، وكذلك ذكره في سورة المؤمنون وفي سورة القارعة، وكذلك وردت الأحاديث في وزن الأعمال.
وختم البخاري صحيحه: ما جاء في الميزان، باب: قول الله تعالى: ((ونضع الموازين القسط ليوم القيامة))(الأنبياء:47)، وأورد بعض الآيات وذكر حديث أبي هريرة: (كلمات خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن؛ سبحان الله العظيم، سبحان الله وبحمده) فاستشهد بقوله: ثقيلتان في الميزان.
وهذه الآيات دليل واضح على إثبات الميزان، وورد في الأحاديث أنه ميزان حقيقي له كفتان، وأنه توزن فيه الأعمال أو غيرها، وأن له لساناً يظهر ميله خفة أو ثقلاً في لسانه، والكفتان اللتان توضع فيهما الأعمال.
ثم اشتهر عن المعتزلة أنهم أنكروا الميزان الحقيقي، وادعوا أن الميزان هو العدل في قوله تعالى: (ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئاً وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين)(الأنبياء:47)، أي العدل وقالوا: لا يحتاج إلى الوزن إلا البقالون ونحوهم، فأما الرب تعالى فليس بحاجة إلى أن ينصب ميزاناً، لأنه يعدل بين عباده، قال تعالى: (ولا يظلم ربك أحداً)(الكهف:49)، فأبطلوا دلالة هذه النصوص الصريحة التي فيها ذكر الميزان كقوله صلى الله عليه وسلم: (والحمد لله تملأ الميزان) ونحو ذلك من الأحاديث.
وأهل السنة أقروا بأنه ميزان حقيقي، وأن الله تعالى ينصبه لكل أحد، وأن كل إنسان له ميزان توزن فيه أعماله، سواءً كان ميزاناً واحداً توزن فيه أعمال العباد، أو موازين متعددة ليكون ذلك أدل على العدل وعلى عدم الظلم، وأنه لا يعذب إلا من استحق العذاب.
وقد اختلف في الموزون ما هو؟، ويمكن أن يعم الوزن جميع ما ورد:(1/183)
القول الأول: أن الأعمال توزن ولو كانت أعراضاً، فإن الله قادرٌ على أن يقلبها أجساماً، فإن الصلاة ليس لها جرم ولكن الله تعالى يقلبها جسماً فتخف أو تثقل.
كما ورد في بعض الأحاديث: (أن الرجل إذا صلى الصلاة وأساء فيها صعدت إلى السماء ولها ظلمة، وتغلق دونها أبواب السماء، وتلعن صاحبها فتقول: ضيعك الله كما ضيعتني، وتلف كما يلف الثوب الخلق فيضرب بها وجه صاحبها، وأما إذا صلى الصلاة فأحسن فيها صعدت إلى السماء ولها نور فتفتح لها أبواب السماء وتقول: حفظك الله كما حفظتني).
فالصلاة عرض ومع ذلك يكون لها هذا الجرم، وكذلك الصيام يكون له جرم يوزن، وكذلك بقية الأعمال يجعلها الله تعالى أجراماً، وهكذا أيضاً الذي له جرم مثل الصدقات، ورد أن الله تعالى يربيها كما يربي أحدكم فلوه أو فصيله، يربي الصدقة ولو كانت يسيرة قليلة حتى تكون مثل الجبل، ثم بعد ذلك توزن وتثقل أو تخف بحسب نية صاحبها.
القول الثاني: أن الذي يوزن هو الصحف؛ أي صحف الأعمال التي كتبها الكتبة فهي التي توزن، ولكنها تخف وتثقل بحسب ما فيها من الأعمال صلاحاً أو فساداً.
واستدل على ذلك بحيث صاحب البطاقة وفيه (إن الله سيخلص رجلاً من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة فينشر عليه تسعة وتسعين سجلاً، كل سجل مثل مد البصر، ثم يقول: أتنكر شيئاً من هذا؟ أظلمتك كتبتي الحافظون؟ يقول: لا يارب. يقول: أفلك عذر؟ فيقول: لا يارب. فيقال: بلى إن لك عندنا حسنة، فإنه لا ظلم عليك اليوم، فتخرج بطاقة فيها: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، فيقول: أحضر وزنك، فيقول: يارب ما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟ فقال: إنك لا تظلم، فتوضع السجلات في كفة وتوضع البطاقة في كفة فطاشت السجلات وثقلت البطاقة).(1/184)
فهذا دليل على أن الأعمال التي تكتب في الصحف توزن؛ أي توزن تلك الصحف، وأن الثقل والخفة بحسب صحة العمل وبحسب الإخلاص فيه. وكما في الحديث الذي فيه قول الله تعالى لموسى: (لو أن السموات السبع والأرضين السبع في كفة، ولا إله إلا الله في كفة، مالت بهن لا إله إلا الله) وهذا في حق من أخلص توحيده، ونطق بهذه الكلمة عن إخلاص وصدق ويقين.
القول الثالث: أن الذي يوزن هو نفس العامل. وقد استدل على ذلك بقوله تعالى: (فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا)(الكهف:105)، أي لا يكون لهم وزن معتبر، أو إذا وزنوا فإنهم يخفون ولا يكون لهم ثقل في الميزان. وفي حديث في سيرة عبدالله بن مسعود؛ أنه صعد مرة على شجرة أراك يقطع منها سواكاً، فعجب الصحابة من دقة ساقيه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنهما في الميزان أثقل من جبل أحد) فأفاد بأن الإنسان يوزن، وأنه يثقل بحسب إيمانه.
وورد قوله صلى الله عليه وسلم: (إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة) يعني أنه لما لم يكن له قدر ولم يكن له عمل صالح خف ميزانه فلم يساو وزن جناح البعوضة.
وبكل حال: لا مانع من أن يوزن العامل، وتوزن الصحف، وتجسد الأعمال فتوزن، ويكون الجميع مما يوزن، ليظهر عدل الله تعالى بين عباده (ولا يظلم ربك أحداً)(الكهف:49).
مسألة: في الحوض
قوله:
ولنبينا محمد صلى الله عليه وسلم: حوض في القيامة (ماؤه أشد بياضاً من اللبن، وأحلى من العسل، وآنيته عدد نجوم السماء، من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبداً).
شرح:
الإيمان بالحوض داخل في الإيمان باليوم الآخر، وما ذلك إلا لأننا نؤمن بكل ما أخبرنا به بعد الموت، وفي يوم القيامة أخبرنا بأنه يكون في الحشر أحوال ومن جملتها الحوض المورود.(1/185)
ومعروف أن الحوض أصله ما يصنعه أهل البوادي من جلود الإبل ويجعلون له أعواداً يعتمد عليها. ثم يصبون فيه الماء لتشرب فيه الإبل أو الأغنام أو نحوها، ويحملونه معهم لكونه خفيفاً.
ويطلق الحوض على كل ما يجمع الماء، والعادة أنه يجتمع في الأحواض وفي المستنقعات وهي الأماكن المنخفضة التي يجتمع فيها ماء المطر ونحوه، وقد تسمى الخزانات التي تستعمل الآن أحواضاً، وهي ما يعرف بالجوابي في قوله تعالى: (وجفان كالجواب)(سبأ:13)، فالجابية هي: مجمع الماء الذي يصلح بآجر أو بجص أو نحوه أو بحجارة حتى لا يُسرب الماء، ويجتمع فيه ماء النواضح الذي ينضح من الآبار، فيكون واسعاً أو ضيقاً على حسب ما يريده أهل الماء، فيسمى هذا حوضاً، فالمجتمع الذي يجتمع فيه الماء هو الحوض.
وقد ورد في حوض النبي صلى الله عليه وسلم أنه مسيرة شهر في شهر؛ يعني طوله مسيرة شهر وكذا عرضه أو طوله، من عدن إلى أيلة الشام يعني من أقصى اليمن إلى أقصى الشام، وهذا مقارب أنه مسيرة شهر أو أكثر من شهر، هذه مسافته.
وماؤه ورد أنه أحلى من العسل وأشد بياضاً من اللبن، وآنيته عدد نجوم السماء -أي كيزانه التي فيه- يصب فيه ميزابان من الجنة، وقد فسر بالكوثر الذي في قوله تعالى: (إنا أعطيناك الكوثر)(الكوثر:1)، وقيل: إن الكوثر نهر في الجنة، وأن هذا الحوض يُمد من ذلك النهر، يصب في هذا الحوض ميزابان من ذلك النهر الذي هو الكوثر.
ويَرِدُ عليه الناس تارة أفراداً ليتمكنوا من الورود ويشربون، ومن شرب منه شربة لا يظمأ بعدها حتى يدخل الجنة، وتارة تذودهم الملائكة إذا كانوا قد غيروا أو بدلوا أو ابتدعوا، ولم يكونوا حقاً من الأمة المحمدية المحققين للاتباع.
والأحاديث في الحوض تزيد على أربعين حديثاً، كما في بعض الكتب التي كتبت في أشراط الساعة، وقد استوفاها ابن كثير في النهاية في آخر التاريخ وغيره، مما يدل على تنوعها وعلى ثبوتها، ويؤخذ من مجموعها ما ذكر من صفة الحوض.(1/186)
مسألة: في الشفاعة
قوله:
والصراط حق يجوزه الأبرار ويزلُّ عنه الفجار، ويشفع نبينا صلى الله عليه وسلم: فيمن دخل النار من أمته من أهل الكبائر، فيخرجون بشفاعته بعدما احترقوا وصاروا فحما وحمماً، فيدخلون الجنة بشفاعته.
ولسائر الأنبياء والمؤمنين والملائكة شفاعات؛ قال الله تعالى: (ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون)(الأنبياء:28) ولا تنفع الكافر شفاعة الشافعين.
شرح:
ذكر الصراط وذكر الشفاعة؛ أما الصراط فورد ذكره في الأحاديث، وكثرت الأحاديث التي تصفه وإن كان في بعضها غرابة أو ضعف، وكثير من الوعاظ يوردون هذه الأحاديث في القصص وفي المواعظ ويتساهلون في روايتها للتخويف بها، والغالب أن ما ورد فيه من المبالغات لا يثبت؛ كالذي روي أن صعوده مسيرة ألف سنة، وأن استواءه مسيرة ألف، وأن الهبوط منه مسيرة ألف عام. هكذا ورد ولكن لم يثبت.
وما ورد أيضاً من أنه أحد من السيف وأدق من الشعرة وأحر من الجمر، وأروغ من الثعلب وهكذا.. فإنه قد دخل في هذا كثير من المبالغات، ووصفه بأنه أحد من السيف وأدق من الشعرة ورد في حديث يمكن اعتباره.
وقد ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر العبور على الصراط، وأن الناس يسيرون عليه على قدر أعمالهم، فمنهم من يمر عليه كالبرق، ومنهم من يمر عليه كالريح و منهم من يمر عليه كأحاور الخيل و الركاب ومنهم من يعدو عدواً و منهم من يمشي مشياً، ومنهم من يزحف زحفاً، وعلى جنبتي الصراط كلاليب مثل شوك السّعدان تخطف من أمرت بخطفه، والأنبياء عليهم السلام على الصراط، ودعواهم: اللهم سلِّمم سلِّم، ولا يتكلم يومئذ إلا الرسل.
هذه الصفات وردت فيه حتى استغرب بعضهم المرور كالبرق، يعني سرعة الذي يمر عليه كأنه البرق، وكالريح التي هي السير الحثيث، وكأجاود الخيل؛ الجواد هو الذي يسير سيراً سريعاً، والحاصل أنه ذكر أنهم يسيرون عليه هكذا؟ أي على قدر أعمالهم وآخرهم الذي يزحف زحفاً.(1/187)
ورد أيضاً تقسيم الأنوار في قوله تعالى: (يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا انظرونا نقتبس من نو ر كم)(الحديد:13) وذلك أنهم يعطون أنواراً يمشون بها، وفي أثناء سيرهم ينطفئ نور المنافقين فيطلبون من المؤمنين أن يعطوهم قبساً يسيرون به، فيقال لهم: ارجعوا وراءكم حيث قسمت الأنوار فالتمسوا نوراً، فإذا رجعوا ضُرب بينهم بسُور له باب كما ذكر في القرآن في قوله تعالى: (قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نوراً فضرب بينهم بسورٍ له باب)(الحديد:13).
وذكر في الحديث أن هذا المرور على متن جهنم، وأنه هو الذي ذكره الله تعالى، وسماه وروداً في قوله تعالى: (وإن منكم إلا واردها)(مريم:71) يعني وارد جهنم، وأنهم إذا مروا عليها فإن من يحس بها هم الفسقة والكفار ونحوهم، وكثير منهم يزل من الصراط ويسقط في النار أو تخطفه تلك الكلاليب وتسقطه في النار، وأما الذين مروا عليها سراعاً فلا يحسون بها بل روي أنها تقول: (جزيا مؤمن فقد أطفأ نورك لهبي).
وإذا دخلوا الجنة قالوا: قد وعدنا ربنا أنا نَرِد النار -كما في قوله تعالى: (وإن منكم إلا واردها) أين هي؟ ما ذكرنا أننا وردناها فيقال لهم: إنكم قد مررتم بها وهي منطفئة، أطفأ لهبها أنواركم فلم تشعروا بها.
الصراط على هذا هو على متْنِ جهنم يمر الناس عليه بأعمالهم، وقال بعض العلماء: إن سيرهم على الصراط الحسي الذي في الآخرة على قدر سيرهم على الصراط المعنوي الذي في الدنيا المذكور في قوله تعالى: (وهديناهما الصراط المستقيم)(الصافات:118)، (وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه)(الأنعام:153)، (صراط الله الذي له ما في السموات وما في الأرض)(الشورى:53).
بعد ذلك ذكر الشفاعة، والناس في الشفاعة ثلاثة أقسام: المشركون، والمعتزلة، وأهل السنة.(1/188)
القسم الأول: المشركون القبوريون. يقولون: إن الأولياء وإن السادة يشفعون لأقاربهم، ولمن دعاهم، ولمن والاهم، ولمن أحبهم، ولأجل ذلك يطلبون منهم الشفاعة، فالمشركون الأولون حكى الله عنهم أنهم قالوا: (هؤلاء شفعاؤنا عند الله)(يونس:18)، يعنون معبوداتهم من الملائكة، ومن الصالحين، ونحوهم: هؤلاء شفعاؤنا عند الله أي يشفعون لنا. وكذلك يقول القبوريون المعاصرون الآن؛ يقولون: إن الأولياء يشفعون لنا، وإننا لا نجرؤ أن نطلب من الله بل نطلب منهم وهم يطلبون من الله، ويقولون: إن النبي صلى الله عليه وسلم وسائر الأنبياء والصالحين أعطاهم الله الشفاعة، ونحن ندعوهم ونقول: اشفعوا لنا كما أعطاكم الله الشفاعة.
ويضربون مثلاً بملوك الدنيا فيقولون: إن ملوك الدنيا لا يوصل إليهم إلا بالشفاعة إذا أردت حاجة فإنك تتوسل بأوليائهم ومقربيهم من وزير وبواب وخادم وولد ونحوهم يشفعون لك حتى يقضي ذلك الملك حاجتك، فهكذا نحن مع الله تعالى نتوسل ونستشفع بأوليائه و بالسادة المقربين عنده، هذا قول المشركين، يبتون شفاعة كل ولي من الأولياء لكل من طلبها منه، وقد وقعوا بهذا في شرك الأولين، وقاسوا الخالق بالمخلوق.
والله تعالى ذكر عن مؤمن يس قوله تعالى: (أأتخذ من دونه آلهة إن يردن الرحمن بضر لا تغن عني شفاعتهم شيئاً)(يس:23)، وذكر الله تعالى أن الكفار اعترفوا على أنفسهم بقولهم: (قالوا لم نك من المصلين ) ولم نك نطعم المسكين * وكنا نخوض مع الخائضين ) وكنا نكذب بيوم الدين * حتى أتانا اليقين * فما تنفعهم شفاعة الشافعين)(المدثر:43-48).(1/189)
القسم الثاني: المعتزلة والخوارج. أنكروا الشفاعة لأنهم يعتقدون أن العصاة وأهل الكبائر مخلدون في النار لا يخرجون منها، وأن كل من عمل كبيرة ومات مصراً عليها فهو مخلدٌ لا تغني عنه الشفاعة ولا تنفعه، ويستدلون بالآيات التي فيها نفي الشفاعة مثل قوله تعالى: (لا تجزي نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها عدل ولا تنفعها شفاعة)(البقرة:123)، ومثل قوله تعالى: (من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة)(البقرة:254)، ويقولون: هذه الآيات تنفي الشفاعة، فليس هناك شفاعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولا لغيره. هذا ما قاله المعتزلة والخوارج بناءً على تخليدهم أهل الكبائر في النار.
القسم الثالث: أهل السنة. يثبتون الشفاعة ولكن بشرطين:
الشرط الأول: الإذن للشافع.
الشرط الثاني: الرضا عن المشفوع.
جمع الله الشرطين في قوله تعالى: (وكم من ملك في السموات لا تغني شفاعتهم شيئاً إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى)(النجم:26) وذكر الإذن في قوله تعالى: (من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه)(البقرة:255)، وفي قوله تعالى: (ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن)(سبأ:23)، (يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضى له قولاً)(طه:109)، وقد تكون هذه الآية جمعت الشرطين، وذكر الرضا في قوله تعالى: (ولا يشفعون إلا لمن ارتضى)(الأنبياء:28).
فهذان شرطان للشفاعة، وهي الشفاعة المثبتة: الإذن للشافع، والرضا عن المشفوع له. والإذن يكون للأنبياء، وعلى رأسهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فإن الناس إذا طلبوا منه الشفاعة لا يبدأ بالشفاعة بل يسجد حتى يقال له: (ارفع رأسك وسل تعط، واشفع تشفع قال: فأرفع رأسي فأقول: أمتي يا رب أمتي يا رب .. الحديث). هذا دليل على أنه لا يشفع إلا من بعد أن يأذن الله له.(1/190)
وأما الرضا فإن الله لا يرضى عن الكفار كما في قوله تعالى: (ولا يرضى لعباده الكفر)(الزمر:7)، فإذا كان لا يرضى لعباده الكفر، ولا يرضى الشرك، فلا يأذن في الشفاعة للكفار، ولا يأذن في الشفاعة للمشركين؛ فالشفاعة خاصة بالموحدين، وحقيقتها أن الله تعالى يكرم أولياءه وأنبياءه لينالوا المقام المحمود ويقول سبحانه وتعالى: (اذهبوا فمن وجدتم في قلبه مثقال دينار من إيمان فأخرجوه .. الحديث).
فيحصل منها تكريم الشافع ورفع منزلته، وأنه يؤتى المقام المحمود الذي وعده الله بقوله تعالى: (عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً)(الإسراء:79) فمن يشفع تعرف منزلتهم وفضيلتهم، كذلك يحصل منها رحمة المشفوع لهم، وإخراجهم من العذاب، تلك فائدة هذه الشفاعة.
وذكر في الأحاديث عدد من الشفاعات، منها ما هو خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم، ومنها ما هو عام، وأشهر الشفاعات هي الشفاعة العظمى يتأخر عنها أولو العزم، حيث إن الناس يأتون لآدم فيعتذر ثم يطلبون الشفاعة من نوح فيعتذر، ثم من إبراهيم، ثم من موسى، ثم من عيسى، وكلهم يعتذر ويذكر له ذنباً حتى يأتوا إلى نبينا صلى الله عليه وسلم فيقول: )أنا لها، أنا لها).
يشفع في أن يأتي الله تعالى لفصل القضاء، أن يفصل بين الناس بعدما طال المقام، وبعدما يملون من المكان، وبعدما تطول إقامتهم ومكثهم، فيقولون: من يشفع لنا إلى ربنا حتى يفصل بين العباد، يتمنون التحول من هذا المكان، فهذه الشفاعة العظمى، وهي من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم.
وله شفاعة ثانية: شفاعته في أن تفتح أبواب الجنّة، فهو أول من يقرع باب الجنّة، وتقول الخزنة،: بك أمرنا أن لا نفتح لأحد قبلك. يشفع في أن يدخل أهل الجنة الجنة.
وله شفاعة ثالثة: في رفع درجات بعض أهل الجنة، يشفع في أن ترفع درجاتهم أو يرفع مقامهم ومكانتهم حتى تكون رفيعة.
وله شفاعة رابعة: الشفاعة في إخراج بعض العصاة من النار.(1/191)
وشفاعة خاصة لعمه أبي طالب بالتخفيف عنه، بعدما كان في الدرك الأسفل من النار فيكون في ضحضاح من النار.
أما الشفاعة التي ليست خاصة له؛ فهي الشفاعة في العصاة الذين دخلوا النار بمعاصيهم؛ في أن يخرجوا منها؛ فإنها تشفع الملائكة والرسل والأنبياء والصالحون (فيقول الله تعالى: اذهبوا فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرة من إيمان فأخرجوه، فيخرجون من عرفوا -قال أبو سعيد: فإن لم تصدقوني فاقرءوا: (إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها)(النساء:40)، فيشفع النبيون والملائكة والمؤمنون، فيقول الجبار: بقيت شفاعتي، فيقبض قبضة من النار فيخرج أقواماً قد امتحشوا فيلقون في نهر بأفواه الجنة؛ يقال له نهر الحياة، فينبتون في حافته كما تنبت الحبة في حميل السيل.. الحديث).
والحاصل أنا نؤمن بهذه الشفاعة ونجعلها مرتبطة بهذين الشرطين، فلا نطلقها كما يطلقها المشركون الذين يطلبون الشفاعة من غير الله، فالشفاعة لا تطلب من المخلوقين، حتى ولا من النبي صلى الله عليه وسلم لا تقل: يا محمد اشفع لنا، ولا يا يوسف، ولا يا عبدالقادر اشفع لنا، ولا يا عيدروس اشفع لنا، ولا يا يوسف، بل نقول: اللهم شفع فينا أنبياءك، اللهم تقبل شفاعة الشافعين فينا، اللهم اجعلنا ممن تناله شفاعة الشافعين، فنطلبها من الله وحده ولا نطلبها من سواه.
مسألة: في الجنة والنار والموت
قوله:
والجنة والنار مخلوقتان لا تفنيان، فالجنة مأوى أوليائه، والنار عقاب لأعدائه، وأهل الجنة فيها مخلدون (إن المجرمين في عذاب جهنم خالدون * لا يفتر عنهم وهم فيه مبلسون)(الزخرف: 74-75) (ويؤتي بالموت في صُورة كبش أملح، ويُذبح بين الجنة والنار، ثم يقال: يا أهل الجنة؛ خلود ولا موت، ويا أهل النار؛ خلود ولا موت).
شرح:(1/192)
الجنة أو النار هي النهاية التي يستقرون فيها الاستقرار الباقي الدائم؛ الذي ليس بعده ظعن ولا ارتحال ولا تحول أبداً، هذه هي النهاية، عندما يفصل بينهم يبقى أهل الجنة في دورهم وفي نعيمهم، ويبقى أهل النار في عذابهم وفي حميمهم وفي آلامهم.
ومذهب أهل السنة؛ أن الجنة والنار مخلوقتان موجودتان الآن، وأنهما في مكان لا يعلمه إلا الله، وذهب بعض المعتزلة إلى أنهما ليستا موجودتين، وقالوا: إن الله ينشؤهما يوم القيامة، وقالوا : لا حاجة لبقائهما الآن ووجودهما معطلتين ألوف السنين لا ينتفع بهما مغلقة أبوابهما، وما الفائدة من خلقهما ومن إيجادهما؟
ولكن حيث إن الأدلة وردت بوجودهما، فإننا نعتقد أنهما موجودتان، فالله تعالى ذكر إعدادها في قوله تعالى: (أعدت للمتقين)(آل عمران:133) أعدت يعني هيئت، فهي معدة الآن، وذكرها في قوله تعالى: (عند سدرة المنتهى * عندها جنة المأوى)(النجم:14-15) فدل على أنها موجودة عند سدرة المنتهى.
وهكذا أيضاً كثيراً ما يذكر النار أعدت لأهلها وهيئت لمن عصى الله تعالى فدل على أنها موجودة، وأيضاً ورد في الحديث أنه (أوقد على النار ألف عام حتى احمرت، ثم أوقد عليها ألف عام حتى ابيضت، ثم أوقد عليها ألف عام حتى اسودت) يدل على أنها موجودة. وهكذا ما ورد أيضاً من صفاتها في القرآن.
والحاصل أن عقيدة أهل السنة أن الجنة والنار موجودتان الآن، وقد تكلم عن ذلك ابن القيم في كتاب "حادي الأرواح" ورجح القول بوجودهما، وتكلم عن جنة آدم التي أسكنها؛ هل هي جنة الخلد أم أنها جنة أخرى؟ وذكر حجج القولين في أول كتابه (حادي الأرواح) وفي أول كتابه (مفتاح دار السعادة) وكأنه يميل إلى أنها جنة دنيوية، وإن لم يصرح بذلك.(1/193)
وأما الجنة الأخروية؛ فإن الله تعالى: وصفها بأوصاف تكون عندما يدخلها أهلها، فذكر أنهارها وأشجارها وغرفها والثمار الدانية التي تكون في متناول كل أحد، واللحوم ومما يشتهون، وما أشبه ذلك مما تلتذ به الأعين وما تشتهيه الأنفس، فيذكر الله تعالى هذا حتى يشوِّق العباد إلى طلبها.
ولما سمع ذلك المشركون أخذوا ينكرون، حتى إن عمرو بن عبد ود لما قابل بعض الصحابة قال: أين جنتكم التي تدعون أن من قتل منكم فيها؟ فقالوا: هي عند الله أو حيث لا يعلمها إلا الله. وقال بعض الصحابة الذين أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم في أحد أن يقولوا: (قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار). فلما ذكر الله أن المؤمنين عند ربهم في الجنة وذكر أن آل فرعون في النار دل على وجود الجنة وعلى وجود النار.
ونؤمن أن لكل منهما أهلاً، وأن الله وعد كلاً منهما بملئها، وقال للجنة: أنت رحمتي أرحم بك من أشاء. وقال للنار: أنت عذابي أعذب بك من أشاء، ولكل واحدة منكما ملؤها.
فأما الجنة فيبقى فيها فضل فينشئ الله لها خلقاً، وأما النار فتأبى حكمته أن يسكنها من لم يكن مستحقاً لها، ومع ذلك يبقى فيها أماكن، ويقول صلى الله عليه وسلم: (لا تزال جهنم تقول: هل من مزيد حتى يضع رب العزة تبارك وتعالى قدمه فيها، فتقول: قط قط، وعزتك. ويزوى بعضها إلى بعض).
فهذا دليل على أنها يكون لها صوت، وأنها لا يعلم قدرها إلا الله مع عظم من يدخلها.
وقد تكلم العلماء في هاتين الدارين؛ الجنة والنار وأطالوا فيهما، ففي الجنة كتب ابن القيم (حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح) ضمنه أبواباً تتضمن كل ما ورد في ذكر الجنة، ومع ذلك فقد ذكر أيضاً في آخر النونية أكثر من ألف بيت فيما يتعلق بالجنة.(1/194)
وأما النار: فكتب فيها كثير من العلماء، ومن أشهر من كتب فيها ابن رجب في كتابه المطبوع (التخويف من النار والتعريف بحال دار البوار) ضمنه أبواباً في ذكر عذابها وحميمها وزقومها وأنهارها، وما يجري فيها ودركاتها، وما أشبه ذلك.
مسألة: في حق الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه
قوله:
ومحمد صلى الله عليه وسلم: خاتم النبيين وسيد المرسلين، لا يصح إيمان أحد حتى يؤمن برسالته، ويشهد بنبوته، ولا يقضى بين الناس في يوم القيامة إلا بشفاعته، ولا يدخل الجنّة أمة إلا بعد دخول أمته، صاحب لواء الحمد، والمقام المحمود، والحوض المورود، وهو إمام النبيين وخطيبهم، وصاحب شفاعتهم.
شرح:
بعدما ذكر ما يتعلق بحق الرب سبحانه وتعالى، ذكر أيضا ً حق النبي صلى الله عليه وسلم، فإن له حقاً على أمته، حقاً نعتقده فيه، وحقاً نعامله به. ولكنه حق يناسبه صلى الله عليه وسلم، فحق الله تعالى يليق به، فلله حق وللنبي صلى الله عليه وسلم حق.
يقول ابن القيم:
للربّ حقٌ ليس يُشبه غيره ولعبده حقٌ هما حقان
لا تجعلوا الحقين حقاً واحداً، أي لا تخلطوا بين الحقين، فحق الله تعالى منه أن نعرفه ونعبده وندعوه ونعظمه ونعتقد صفات كماله ونعوت جلاله. أما حق النبي صلى الله عليه وسلم فهو تصديقه؛ فنشهد بأنه مرسل من ربه، ومن كذب برسالته لم يصح إيمانه؛ وذلك لأن معرفة الله، ومعرفة حقوقه، ومعرفة العبادة ومعرفة الإيمان باليوم الآخر، ومعرفة العبادات كلها، إنما جاءت بواسطته، فهو الذي جاءنا بالقرآن، وهو الذي شرح لنا القرآن، وهو الذي علمنا هذه السنة، وعلمنا كيفية الأعمال؛ إذاً فله حق على أمته أن يشهدوا له بأنه مرسل من ربه، ثم يشهدوا أيضاً بفضله وبمزيته، وبما أعطاه الله من الفضل وفضّله على الأنبياء قبله، والناس بالنسبة إلى حق النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة أقسام: طرفان ووسط:(1/195)
الأول: الذين جفوا في حقه. لا يأخذون من سنته إلا ما يوافق أهواءهم، ولا يعملون من شريعته إلا بما يناسبهم، إذا جاءتهم السنة التي سنها نظروا؛ فإن ناسبتهم أو وافقت ميلهم صدقوها وقبلوها وعملوا بها وإلا نبذوها وطرحوها، فهؤلاء ما صدقوه حق التصديق، حيث إنهم قبلوا بعض الشريعة دن بعض، فأخذوا منها ما يناسب أهواءهم.
وهذا حال من يسمون في هذه الأزمنة بالعلمانيين، فإنهم ولو تسموا بأنهم مسلمون وأتوا بالشهادتين ولكنهم لما طرحوا كثيراً من السنة وتركوا العمل بها أصبحوا غير مصدقين حقاً. فعندما نجادل أحدهم نرى أنه شبه مكذب وإن كان مصدقاً بلسانه، ونقول له: إنك ما اتبعته حق الاتباع. فإذا رأيناه مثلا يحلق لحيته قلنا له: أليس قد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك؟ فيقول ما معناه: إنا نجاري الناس ونأخذ بما عليه أهل زماننا. أليس هذا عصياناً لله ورسوله؟
إذا عصيت الرسول فقد عصيت الله، والله تعالى يقول: (من يطع الرسول فقد أطاع الله)(النساء:80) يعني ومن يعص الرسول فقد عصى الله.
كذلك الذين يبيحون للنساء التبرج وخلع جلباب الحياء، ويخالفون السنة، وما أمر الله به المؤمنات بقوله تعالى:(يدنين عليهن من جلابيبهن)(الأحزاب:59) هؤلاء أيضاً ما صدقوا الرسول حقاً، فكأنهم لم يعملوا بالشريعة حق العمل بل أخذوا منها ما يناسب أهواءهم.
زيادةً على بقية الأعمال التي يعملونها كإباحة الربا، وأكل المال بغير الحق، والتخلف عن صلوات الجماعة ونحوها، والتنقص للأعمال الشرعية كالجهاد والحج والعمرة والتعبد والصيام والصلاة وغير ذلك. فالحاصل أن هذا الطرف يعتبر جافياً في حق النبي صلى الله عليه وسلم(1/196)
الثاني: هم الغلاة: الذين غلوا في حق النبي صلى الله عليه وسلم حتى جعلوه إلهاً أو وصفوه بما لا يتصف به إلا الله تعالى، وما أكثر الكتب التي ألفت في مثال هذا، ومع ذلك انتشرت وتمكنت، وكثر الذين ينشرونها ويذيعونها، وفيها خرافات وأكاذيب، ومع ذلك راجت على ضعفاء البصائر، حتى وقع في ذلك كثير من العلماء المشاهير.
فمنها: (الخصائص الكبرى) للسيوطي؛ ذكر فيها حكايات غريبة وقصصاً لا أصل لها كلها في مدح النبي صلى الله عليه وسلم، ولكنها بعيدة عن الثبوت لا يصدق بمثلها عاقل، وقد اشتهر أن السيوطي ينقل عن غيره من غير تمحيص، فهو كحاطب الليل يأخذ ما وجده -وإن كان من مشاهير العلماء-، وهكذا الشعراني القديم له كتب في مدح النبي صلى الله عليه وسلم وفيها مبالغة وغلو كبير. وكذلك رسالة مشتهرة عند الخرافين واسمها "روض الرياحين" و فيها زيادة في الغلو في مدح النبي صلى الله عليه و سلم و اطرائه بما لا يليق أن يوصف به إلا الله سبحانه وتعالى.
وتبعهم كثير من المتأخرين كالنبهاني، وزيني دحلان، وجميل صدقي الزهاوي، وهكذا جدد هذا ابن علوي في كتابه الذي سماه (الذخائر) فإنه حشد فيه من هذه الحكايات، وإن كان قد عزاها إلى إصولها التي نقلها عنها، ولكن لم يميز بين الصحيح والضعيف، ولم يبين ضعفها، فدعا ذلك إلى تقبل الجهلة والعوام لها، مما يحمل العامة على الغلو والزيادة في الإطراء الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم.(1/197)
لا شك في أن هذا لا يجوز، وقد وردت الأدلة في النهي عن مثل هذا كقوله صلى الله عليه وسلم: لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم فإنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله)، والإطراء معناه المبالغة في المدح. ولما قال له رجل: ما شاء الله وشئت، قال: (بل ما شاء الله وحده). ولما جاءه وفد بني عامر وقالوا له: يا سيدنا، قال لهم: (السيد هو الله) قالوا: وأفضلنا فضلاً وأعظمنا طولاً. قال: (أيها الناس، قولوا بقولكم أو بعض قولكم؛ أنا محمد عبدالله ورسوله، ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله).
ولما جاءه بعض الأعراب وقالوا: هذا رسول الله. ارتعد الأعرابي فزعاً؛ يعتقد أن له شأناً، فأجلسه إلى جنبه وقال: (هون عليك فإني لست بملك، إنما أنا ابن امرأة تأكل القديد)، يريد بذلك تواضعه عليه الصلاة والسلام، وجلس مرة على التراب وقال: (إنما أنا عبد أجلس كما يجلس العبد، وآكل كما يأكل العبد). ونحو ذلك من الأدلة التي يحث فيها على التواضع، لأنه لا يجوز أن يصفوه بما لم يصفه به ربه.
فهذان طرفان؛ الذين جفوا كالعلمانيين، والذين غلوا كالمشركين الذين رفعوه فوق قدره وأوردوا في ذلك الأكاذيب التي يمجها السمع.
مثل الحديث الموضوع الذي يقول: (لو لاك ما خلقت الأفلاك) يعني لو لاك ما خلقت الكون. يرددون مثل هذه الأحاديث، كالحديث الذي فيه: (أن آدم رأى على قائمة العرش مكتوباً لا إله إلا الله محمد رسول الله، وأنه قال: يا رب، أسألك بحق محمد فقال: وما محمد؟ قال: رأيت اسمه مكتوباً معك على العرش، فسألتك به وعرفت أنه لا يكتب إلا من له قدر، فقال: صدقت يا آدم، لو لا محمد ما خلقتك).
حشد ابن علوي وغيره في مؤلفاتهم ما يزعمون به أنهم يقدسون النبي صلى الله عليه وسلم وأن ذلك دليل على محبته. فنقول لهم: إن كنتم تحبونه فاتبعوه، فالمحبة إنما هي في اتباعه لا في تعظيمه وإعطائه شيئاً لا يستحقه إلا الله.(1/198)
القسم الثالث -الذي هو القول الوسط-: هو قول أهل السنة؛ وهو أن تعطيه حقه الذي هو:
أولا ً: الإيمان به. قال الله تعالى: (فآمنوا بالله ورسوله والنور الذي أنزلنا)(التغابن:8) الإيمان به يعني: تصديق رسالته والجزم بصحة ما أرسل به.
ثانياً: محبته. يقول صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين). ومعلوم أن محبته تقتضي السير على نهجه وطريقته.
ثالثاً: الاتباع له. يقول الله تعالى: (فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون)(الأعراف:158)، ويقول تعالى: (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم)(آل عمران:31). فاتباعه هو السير على هديه ونهجه.
رابعاً: طاعته من طاعة الله. يقول تعالى: (من يطع الرسول فقد أطاع الله)(النساء:80)، (ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله ناراً خالداً فيها)(النساء:14)، وطاعته تتمثل في تقبل ما جاء به والعمل به، والابتعاد عما نهى عنه، وقد أمر الله بمثل ذلك كثيراً؛ قال تعالى: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة)(الأحزاب:21)، وقال تعالى: (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا)(الحشر:7)، وحذر من مخالفته أشد التحذير في قوله تعالى: (فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم)(النور:63) يخالفون عن أمره يعني: يرون أمره صريحاً فيخالفون عنه ويتركونه، فهؤلاء توعدهم الله بالفتنة والعذاب. فهذه حقوقه صلى الله عليه وسلم.
أما فضائله التي لا شك في صحتها فمنها: أنه أشرف المرسلين، وأنه خاتم النبيين، وأنه صاحب لواء الحمد؛ اللواء هو الراية التي تكون مرتفعة ويتبعها من يتبعه، فيوم القيامة يعطى لواءً ويتبعه الحامدون، وأنه صاحب المقام المحمود وفسر المقام المحمود بأنه قبول شفاعته عندما يشفع، فيقبل الله شفاعته. فذلك هو الذي يحمده فيه الأولون والآخرون.(1/199)
وأنه سيد الناس يوم القيامة، ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر)، يعني لا أقول ذلك افتخاراً ولكن من باب التحديث بنعمة الله (وأما بنعمة ربك فحدث)(الضحى:11).
والله تعالى قد ذكّره نعمه فقال: (ألم نشرح لك صدرك)(الشرح:1)، (ألم يجدك يتيماً فآوى)(الضحى:6)، (ولسوف يعطيك ربك فترضى)(الضحى:5)، ونحو ذلك من الآيات التي يٌذكره فيها نعمته عليه.
فأهل السنة يذكرون مزاياه الصحيحة وفضائله، ولكن يعلمون أنه لا يصح له بموجبها شيء من حق الله، بل الله تعالى له حق، والنبي صلى الله عليه وسلم له حق؛ فحقه علينا أن نحبه ونتبعه ونتأسى به ونطيعه ونصدق رسالته ونثق بما وعدنا به.
وقد فسرت شهادة أنه رسول الله بأنها طاعته بما أمر، وتصديقه فيما أخبر، واجتناب ما نهى عنه وزجر، وأن لا يعبد الله إلا بما شرع، فهذا هو حق محمد النبي صلى الله عليه وسلم.
مسألة: في أمة محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه
قوله:
أمته خير الأمم، وأصحابه خير أصحاب الأنبياء عليهم السلام، وأفضل أمته أبو بكر الصديق، ثم عمر الفاروق، ثم عثمان ذو النورين، ثم علي المُرتضى؛ رضي الله عنهم أجمعين. لما روى عبدالله ابن عمر رضي الله عنهما قال: (كنا نقول والنبي صلى الله عليه وسلم حيّ: أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي فيبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فلا ينكره). وصحت الرواية عن علي رضي الله عنه أنه قال: (خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر، ثم عمر، ولو شئت سميت الثالث).
وروى أبو الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما طلعت الشمس ولا غربت بعد النبيين والمرسلين غلى أفضل من أبي بكر)، وهو أحق خلق الله بالخلافة بعد النبي صلى الله عليه وسلم لفضله وسابقته، وتقديم النبي صلى الله عليه وسلم له في الصلاة على جميع الصحابة رضي الله عنهم، وإجماع الصحابة على تقديمه ومبايعته، ولم يكن الله ليجمعهم على ضلالة.
شرح:(1/200)
تقدم معرفة حق النبي صلى الله عليه وسلم، وأن من فضله أنه أول من يستفتح باب الجنة، ثم من فضله فضل أمته، فأمته خير الأمم، وورد في الحديث: (إنكم توفون -أي تكملون- سبعين أمة أنتم خيرها وأفضلها عند الله).
وقد ذكر ابن كثير رحمه الله أحاديث فضل هذه الأمة في تفسيره عند قوله تعالى: (كنتم خير أمة أخرجت للناس)(آل عمران:110) فإن هذه الآية نص على أن هذه الأمة خير الأمم؛ لأن نبيها خير الأنبياء، ومن فضلها أنهم يسبقون إلى الخيرات وإلى الجنة، فأول من يدخل الجنة هذه الأمة، وفي الحديث الصحيح يقول صلى الله عليه وسلم: (نحن الآخرون السابقون يوم القيامة) الآخرون وجوداً والسابقون حقيقة إلى دار الكرامة، وذلك لشرف نبيهم، يكون من فضلهم أنهم يدخلون الجنة قبل الأمم السابقة.
ووردت الأدلة الكثيرة في ذلك ومنها ما ورد في الحديث من أنه صلى الله عليه وسلم قال: (عرضت علي الأمم، فجعل يمر النبي ومعه الرجل والنبي ومعه الرجلان، والنبي ومعه الرهط، والنبي وليس معه أحد، ورأيت سواداً كثيراً عظيماً سد الأفق، فرجوت أن تكون أمتي، فقيل: هذا موسى وقومه، ثم قيل لي: انظر، هكذا وهكذا فرأيت سواداً عظيماً، فقيل لي: هؤلاء أمتك ومعهم سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب). وغيرها من الأحاديث التي فيها فضل هذه الأمة وكثرتها.
وقال صلى الله عليه وسلم: (ما من نبي إلا أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إلي فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة). يعني أن آيته ومعجزته هذا القرآن، وذلك لأن الأنبياء الذين قبله إنما كان أتباعهم الذين صدقوهم أتباعاً؛ وذلك لأن الأنبياء الذين قبله إنما كان أتباعهم الذين صدقوهم قلة قليلة.(1/201)
ولو كنا في هذه الأزمنة نجد أن النصارى أكثر من المسلمين وجوداً، ولكن ليسوا حقيقة من أتباع المسيح عليه السلام، بل من الذين يعبدون المسيح ويقولون هو الله أو ابن الله أو ثالث ثلاثة، فالحاصل أن هذه الأمة خير الأمم وأفضلها.
ثم لا شك أيضاً أن الأمة بعضها أفضل من بعض، ولا شك أن أفضل هذه الأمة هم صحابة النبي صلى الله عليه وسلم. أصحابه لهم الميزة ولهم الفضل على من بعدهم. وقد وردت الأدلة تشهد بفضل الصحابة؛ منها قوله تعالى: (والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه)(التوبة:100)، ومنها قوله تعالى: (إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض)(الأنفال:72) إلى قوله تعالى: (والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقاً لهم مغفرة ورزق كريم)(الأنفال:74)، نص في فضل المهاجرين والأنصار، فالذين آووا ونصروا هم الأنصار، والذين هاجروا وجاهدوا هم المهاجرون.
وذكرهم الله تعالى بقوله: (لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة)(التوبة:117)، وكذلك قسمهم إلى ثلاثة أقسام في سورة الحشر في قوله تعالى: (للفقراء المهاجرين)(الحشر:8)، وقوله تعالى: (والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم)(الحشر:9)، ثم قال تعالى: (والذين جاءوا من بعدهم)(الحشر:10).
فهذه آيات استوفت الصحابة رضي الله عنهم وكلها شاهدة بفضلهم، ولو لم يكن من فضلهم إلا أنهم الذين سبقوا إلى الإيمان، وصدقوا الرسول صلى الله عليه وسلم، وأنهم فازوا بصحبته وحملوا شريعته، وتعلموا منه الأحكام ونقلوا إلى الأمة ما تحملوه، ولهم فضل على من بعدهم حيث إنهم حفظوا هذه الشريعة. هذا من جهة.(1/202)
ومن جهة ثانية: لا يدرك فضلهم فيها، وما بذلوه من الأموال والأنفس؛ حيث بذلوا أموالهم في سبيل الله تعالى، ورخصت عندهم بلادهم وأولادهم وأحفادهم وأقاربهم، وكل ما يملكونه أنفقوه كله في سبيل الله تعالى. ثم قاموا بالجهاد مع النبي صلى الله عليه وسلم وكذلك بعده في عهد الخلفاء الراشدين، فتح الله بهم القلوب، وفتح بهم البلاد، وامتدت بهم رقعة الإسلام، وفتحوا أقاصي البلاد وأدانيها، ودعوا إلى الله تعالى، ودخل الناس في دين الله أفواجاً بسبب دعوتهم وإعانة الله تعالى لهم وتوفيقهم، لا شك أن هذا لا يدركهم فيه من بعدهم، وهذا يعمهم جميعاً.
ومعلوم أن هذا الذي أثنى الله به عليهم ثابت لهم، ووعد من الله تعالى، والله لا يخلف الميعاد. ولكن الرافضة يدعون أنهم ارتدوا بعد النبي صلى الله عليه وسلم لما لم يبايعوا علياً، وجحدوا الوصية المزعومة؛ حيث يدّعون أن النبي صلى الله عليه وسلم نص على أن علياً هو الخليفة بعده.
وقد ذكر الله فضل السابقين الأولين، وأن فضل أحدهم لا يدركه من بعدهم، ولهذا سماهم الله السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، وأثنى عليهم، فلا شك أن هذا دليل على تفاضلهم، وأن الذين هاجروا وصبروا على الذل والقلة والفقر، وصبروا على الشدة ولقوا الأذى من المشركين، وتحملوا ذلك كله، وتحملوا مفارقة أبناء بلادهم وأولادهم، أليس هؤلاء أفضل؟ لا شك أنهم امتازوا على غيرهم بميزة لا يدركهم فيها غيرهم.(1/203)
ثم أيضاً تفاوتهم أفراداً؛ فأفضلهم أبو بكر رضي الله عنه خليفة النبي صلى الله عليه وسلم الذي لو تكلمنا عن فضله وميزته وخصائصه لطال بنا المقام. وكذلك خليفته عمر رضي الله عنه، له أيضاً فضل كثير، قد ذكر ابن كثير رحمه الله أنه كتب كتاباً بلغ ثلاثة مجلدات كبار في فضل الشيخين رضي الله عنهما. وابن كثير من المحدثين ومن أهل المعرفة، فلا يذكر إلا ما هو صحيح دون الأحاديث الضعيفة والموضوعة؛ وما ذاك إلا لأن الرافضة كتبوا في فضائل علي مجلدات، ولكنها خرافات مكذوبة لا أصل لها.
رأيت عند بعض الأخوة كتاباً استحضره من إيران، من كتب السير الرافضية بلغ خمسة وثلاثين مجلداً، في سيرة أئمتهم الاثنى عشر، يذكر في فضل كل واحد منهم مجلدين أو ثلاثة، ولكن يعتمدون على أسانيد أينما هي أكاذيب يتصورها ثم يسردها، ويوهم أتباعه أنه ورد في فضلهم هذه القصص وهذه الوقائع، وحصل لهم ما حصل وأنهم تعبدوا بتلك العبادات، وأنهم فتحوا وجاهدوا وعلموا من العلوم كذا وكذا!! إذا قرأها الجاهل خيل له أنهم أولياء وأصفياء وصفوة أهل الأرض، وأنه ما كان ولا يكون مثلهم.
نحن نقول: الأئمة نعترف بفضلهم، ولكن هذه الأكاذيب ليسوا بحاجة إلهيا. فأهل السنة -والحمد لله- لم يرووا في فضل أئمتهم ولا خلفائهم شيئاً من تلك الأكاذيب والموضوعات، ولا يروون إلا بأسانيد موثقة، وإذا كان هناك أسانيد ضعيفة نبهوا على ضعفها.(1/204)
فعقيدتنا أن أفضل الأمة أبو بكر، وذلك لأنه صدِّيق الأمة كما نزل فيه قوله تعالى: (والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون)(الزمر:33) الذي جاء بالصدق هو النبي صلى الله عليه وسلم، وصدق به أبو بكر رضي الله عنه، فلذلك سمي بالصديق لمبالغته في التصديق، وقيل: إن سبب تسميته؛ أنه لما حدث النبي صلى الله عليه وسلم بحادثة الإسراء التي استغربها الكفار، قالوا لأبي بكر: إن صاحبك يزعم أنه أُسري به إلى بيت المقدس ورجع في ليلة. فقال: صدق إني أصدقه بأعظم من ذلك، في خبر السماء؛ فمن ثم سمي بالصديق.
وفضائله مشهورة، ولو لم يكن إلا أنه صاحب النبي صلى الله عليه وسلم. وقد صرح الله تعالى بصحبته في قوله تعالى: (إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا)(التوبة:40) وأي فضيلة أعظم من هذه، (إن الله معناه) المعية الخاصة معية الحفظ والتوفيق، والكلاءة والرعاية، والهداية والإلهام لا يدركها غيره. وهذه الصحبة لا شك أنه امتاز بها، وكذلك الرفقة؛ كونه اختار أن يصحب النبي صلى الله عليه وسلم، وأعطاه إحدى راحلتيه ولكنه بذل الثمن، ثم مشى معه وصار يحرسه في طريقه، ويحرص على أن لا يراه أحد إلى أن وصل إلى المدينة وهو ثاني اثنين إذ هما في الغار.
ثم ما عرف أنه تخلف عن النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة ولا في سرية أبداً، بل دائماً هو في صحبته، وكذلك أيضاً: أنابه الرسول صلى الله عليه وسلم في الحج في سنة تسع من الهجرة، وأمّره على الحجيج وأرسل علياً ليبلغ أول سورة براءة.
والرافضة يقولون: إنه عزله في هذه الغزوة وأمّر علياً، ومن أجل ذلك يعلنون البراءة في اليوم السابع من شهر ذي الحجة وفي المشاعر - يقولون: نحن نبلغ مثل ما بلغ علي هذه البراءة التي يعلنونها قبل يوم التربوية بيوم، وكذبوا على علي رضي الله عنه، فإنه ما بلغها إلا في تلك السنة هو وغيره ممن بلغوها.(1/205)
ومن فضله أن النبي صلى الله عليه وسلم اجتمعوا على بيعتته ورضوا به خليفة وقالوا: رضينا لدنيانا من رضيه النبي صلى الله عليه و سلم استخلفه في الصلاة لما مرض وقال: (مروا أبا بكر فليصل بالناس) فألزمه بأن يصلي بالناس، وصلى بهم عدة أيام واستمر على الصلاة بهم.
ولما توفي صلى الله عليه وسلم لديننا. إذ اختاره لديننا إماماً في الصلاة، فإننا نرضاه أن يكون خليفة لدنيانا وأميراً لشؤوننا.
والأدلة على خلافته كثيرة، والسيوطي رحمه الله في تاريخ الخلفاء استوفى كثيراً من الأدلة التي فيها إشارات أو فيها دلالات واضحة على أنه هو الخليفة، وقد تقدم قوله صلى الله عليه وسلم: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين) ولا شك أنه أولهم، وكذلك ثبت قوله عليه السلام: (اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر).
ثم بعده بالفضل: عمر رضي الله عنه، وسمي الفاروق؛ فاروق الأمة الذي فرق الله بإسلامه بين الحق والباطل، وأظهر الله بإسلامه الإسلام، وقوي المسلمون بعد أن أسلم، وكان صارماً بطلاً شجاعاً قوياً في أمر الله تعالى.
أسلم رضي الله عنه بمكة، ولما أسلم قال للنبي صلى الله عليه وسلم: ألسنا على حق؟ قال: (بلى)، قال: فلماذا نستخفي؟ فشجعهم وخرجوا، وقد كانوا يتعبدون ويصلون في دار ابن أبي الأرقم، فقال: سوف نصلي في المسجد الحرام رغم من أنكر علينا. فخرجوا في صفين، في أحدهما حمزة وفي الآخر عمر، فلما رآهم المشركون أصابهم اليأس والحزن حيث عرفوا أن الإسلام قوي بإسلام عمر رضي الله عنه.
هاجر رضي الله عنه مع جملة من المهاجرين، وصبر ولازم النبي صلى الله عليه وسلم وسافر معه، وصار معه دائماً، وصار قرينه لا يفارقه، وبقي كذلك إلى أن استخلفه أبو بكر لما حضره الموت فقام بالأمر من بعده خير القيام كما هو معروف، ولما توفي دفن إلى جانب النبي صلى الله عليه وسلم.(1/206)
ثم بعده في الفضل: عثمان رضي الله عنه، ولا شك أيضاً أنه من المهاجرين الأولين ومن المسلمين القدامى، ويسمى: (ذو النورين) لأن النبي صلى الله عليه وسلم زوجه أولاً ابنته رقية، وتخلف عن غزوة بدر لتمريضها ثم توفيت، ولما رجع النبي صلى الله عليه وسلم زوجة أختها أم كلثوم، وبقيت أيضاً حتى توفيت عنده، فقال صلى الله عليه وسلم: (لو كان عندنا بنت ثالثة لزوجناها عثمان)، فلم يحظ أحد بمثل ما حظي به، فلذلك سمي: (ذو النورين).
ثم بعده في الفضل: علي رضي الله عنه، ولا شك في صحة خلافته، لما قتل عثمان رضي الله عنه لم يكن هناك أحد أحق بالخلافة من علي، فتمت له البيعة، إلا إنه خرج عليه من خرج للمطالبة بدم عثمان؛ كأهل الشام وأهل العراق ونحوهم، ثم اختلفت الأمة عليه إلى أن قتل.
وهؤلاء هم الخلفاء الراشدون الأربعة، وقد ورد تحديد مدتهم في حديث سفينة في قوله صلى الله عليه وسلم: (الخلافة في أمتي ثلاثون سنة ثم ملك بعد ذلك). والأدلة على ترتيبهم هذه الآثار مثل حديث ابن عمر يقول: (كنا نقول والنبي صلى الله عليه وسلم حي: أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان -يعني في الفضل- فيبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فلا ينكره) يعني نرتبهم نقول: أبو بكر أفضل، ويليه عمر، ويليه عثمان، ولا ينكر ذلك النبي صلى الله عليه وسلم.
والآثار عن علي فيها أنه خطب على المنبر في الكوفة فقال: (أفضل هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر، ثم عمر، ولو شئت لسميت الثالث) قالوا: إنه يريد نفسه أو يريد عثمان. الله أعلم. ولكن مشهور عنه فيما يشبه المتواتر، ومروي عنه من نحو عشرين طريقاً أنه صرح بأن أفضل الأمة أبو بكر، ثم عمر.(1/207)
فأين الرافضة من هذا؟ لا شك أنهم لو كانوا ذوي عقول لقبلوا ما قاله علي؛ الذي هو عندهم الإمام، وهو الخليفة المعتبر بزعمهم، ومع ذلك تأتيهم كلماته الصحيحة الصادقة الثابتة فلا يقبلونها، ويقبلون الأكاذيب التي يبتدعها بعض غلاتهم ويصدقونها، فأين هؤلاء وأين عقولهم؟
لا شك أنا إذا تأملنا ما جاء عنه، وما جاء عن الصحابة، وما جاء في هذه الأحاديث التي فيها فضائل الصحابة رضي الله عنهم وميزتهم وما حباهم الله وما لهم من الفضائل؛ نجد أنها كلها تبطل غلو هؤلاء الرافضة في أهل البيت -كما يقولون- وسبهم وتنقصهم لخلفاء الرسول صلى الله عليه وسلم الذين زكاهم وشهد بفضلهم.
وهذه الأحاديث أيضاً منها ما هو مرفوع كما سمعنا في حديث أبي الدرداء؛ فهو صريح في فضل الشيخين أبي بكر وعمر، وفيه أن الشمس لم تغرب على مثل هذين الشيخين: أبي بكر وعمر رضي الله عنهما.
لا شك أن فضائلهم كثيرة، والمسلم عندما يسمع هذه الفضائل يعرف أن لهم من الفضل ما يحملهم على أن يكونوا أسوة وقدوة، و أنهم تصدق أقوالهم ويقتدى بهم لأنا نزكيهم ونشهد بأنهم حملة العلم وحملة الشريعة والسابقون من هذه الأمة، فلا يجوز أن نسمع لمن يطعن فيهم أو ينتقصهم، ولا أن نرد شيئاً من أقوالهم إلا الأقوال التي يجتهدون فيها ويكونون مخطئين مخالفين لنص صريح لم يبلغهم، فنعتذر عنهم ونقبل الحق ممن جاء به.
قوله:
ثم من بعده عمر رضي الله عنه؛ لفضله وعهد أبي بكر إليه، ثم عثمان رضي الله عنه لتقديم أهل الشورى له، ثم علي رضي الله عنه لفضله وإجماع أهل عصره عليه.
وهؤلاء الخلفاء الراشدون المهديون الذين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضّوا عليها بالنواجذ)، وقال صلى الله عليه وسلم: (الخلافة من بعدي ثلاثون سنة) فكان آخرها خلافة علي رضي الله عنه.
شرح:(1/208)
تقدم ذكر ترتيب الخلفاء رضي الله عنهم، أولاً: ترتيبهم في الفضل، وثانياً: ترتيبهم في الخلافة، والصحيح أن ترتيبهم في الفضل وترتيبهم في الخلافة على حد سواء.
فالخلافة بعد النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر، وأفضل الأمة بعد نبيها صلى الله عليه وسلم أبو بكر فصار أبو بكر هو الأفضل وهو الخليفة. وأفضل الأمة بعد أبي بكر: عمر؛ فقد حاز الفضل بعد أبي بكر -الفضل بمعنى الرتبة والميزة والفضيلة والشرف والأجر على قدر عمله، ولو كان هناك من أسلم قبله. فإن عثمان أسلم قبل عمر وكذلك علي أسلم قبل عمر، والزبير وسعد وغيرهم أسلموا قبله، ولكن إسلامه كان فتحاً ونصراً، و خلافته كانت عزاً للإسلام وتمكيناً له.
والأحاديث التي وردت في فضله لم ترد في غيره، منها قوله صلى الله عليه وسلم: (ما لقيك الشيطان سالكاً فجاً الأسلك فجا غير فجك) يعني أن الشيطان يهرب منه، وفضائله أيضاً كثيرة. فأفضل الأمة بعد أبي بكر عمر، وهو أحق الناس بالخلافة بعد أبي بكر، أو الخلافة الصحيحة بعد أبي بكر خلافة عمر. واقتنع به المسلمون وبايعوه، وتمت البيعة ولم يشذ أحدٌ عن طاعته أو ينكر عليه أو يخرج عن طاعته، وسيرته تدل على أهليته وصلاحه رضي الله عنه.
ثم الخليفة بعد عمر عثمان -كما هو الواقع- وذلك لأن عمر رضي الله عنه جعله من أهل الشورى، وأهل الشورى اتفقوا على تقديمه، وتمت البيعة له، وبايعه علي، وبايعه عبدالرحمن، وسعد، والزبير، وسائر الصحابة وسائر المسلمين، وتمت الخلافة له. إذاً فالخليفة بعد عمر عثمان- رضي الله عنه.
وهل الأفضل بعد عمر -عثمان أو علي؟ فيه خلاف بين العلماء، وسبب الخلاف أن هناك من فضل عثمان على علي؛ واستدل بحديث ابن عمر الذي يقول فيه: (كنا نقول والنبي صلى الله عليه وسلم حي: أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان فيبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فلا ينكره) وجاء الحديث أنه يلي عمر في الأفضلية.(1/209)
ومنهم من فضل علياً على عثمان؛ واستدل بما روي عن علي رضي الله عنه أنه قال: (أفضل هذه الأمة بعد نبيها، أبو بكر، ثم عمر، ولو شئت لسميت الثالث). قالوا: يعني نفسه.
وسأله مرةً ابنه الحسن وقال: (يا أبت؛ من أفضل الناس بعد النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقال: أبو بكر. قال: ثم من؟ قال: عمر. قال: فخشيت أن يقول عثمان؛ فقلت: ثم أنت؟ فقال: ما أبوك إلا رجل من المسلمين). قال ذلك على وجه التواضع منه رضي الله عنه.
فلا شك في فضل الشيخين، ثم اختلف في الثالث؛ فمنهم من ثلث بعلي، ومنهم من ثلث بعثمان، وأما في الخلافة فإنهم مرتبون: أبو بكر الخليفة، ثم يليه عمر، ثم عثمان، ثم علي رضي الله عنهم جميعاً.
وأما حديث سفينة فقد ذكرنا أنه يشير فيه إلى أن الخلافة ثلاثون سنة و لكن إذا عرفنا أن خلافة أبي بكر سنتين ونصفاً، وخلافة و خلافة عثمان اثنتا عشرة سنة فهذه خمس و عشرون سنة إلا أشهر أو خلافة عمر عشر سنوات، وخلافة علي خمس سنوات، فيبقى منها نحو نصف سنة يكملها خلافة الحسن بن علي ستة أشهر، فتكون ثلاثين سنة، وينطبق عليها الحديث (الخلافة ثلاثون سنة ثم تكون ملكاً...).
مسألة: في العشرة المبشرين بالجنة
قوله:
ونشهد للعشرة بالجنة، كما شهد لهم النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (أبو بكر في الجنة، وعمر في الجنة، وعثمان في الجنة، وعلي في الجنة، وطلحة في الجنة، والزبير في الجنة، وسعد في الجنة، وسعيد في الجنة، وعبدالرحمن بن عوف في الجنة، وأبو عبيدة بن الجراح في الجنة).
وكل من شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة شهدنا له بها؛ كقوله: (الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة)، وقوله لثابت بن قيس: (إنه من أهل الجنة) رواه البخاري في المناقب.
شرح:(1/210)
في هذه الفقرة من المتن تزكية لهؤلاء الصحابة رضي الله عنهم، ورد بليغ على من طعن فيهم أو ضللهم -كما ذكرنا عن الرافضة- وقد ذكر شارح الطحاوية أن الرافضة يكرهون اسم العشرة ولا يحبونه، وذلك لأن هؤلاء العشرة عندهم كفار أو ضلال باستثناء علي رضي الله عنه؛ فلأجل ذلك لا يحبون لفظ العشرة، مما يدل على أنهم كفروا جُلَّ الصحابة وما استثنوا منهم إلا أفراداً قليلين.
ولكن رد عليهم شارح الطحاوية مبيناً تناقضهم؛ فذكر أنهم لا يكفرون العشرة إنما يكفرون تسعة منهم، فهم لا يكرهون لفظ التسعة وإنما يكرهون لفظ العشرة، ومع ذلك يُخرجون علياً من هؤلاء العشرة فلا يبقى عندهم إلا التسعة الباقون.
هؤلاء العشرة ثبت فيهم الحديث الذي ساقه ابن قدامة رحمه الله، ورواه الإمام أحمد وغيره عن سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل -وهو أحد العشرة وهو ابن عم عمر بن الخطاب، فعمر هو: عمر بن الخطاب بن نفيل ابن عم زيد بن عمرو بن نفيل- أبو سعيد هذا.
فهؤلاء العشرة من المهاجرين، ومن أشراف قريش ومن مشاهيرهم، وليسوا كلهم من أهل البيت الذين اصطلح الرافضة على أنهم أهل البيت، إذ للرافضة اصطلاح خاص بأهل البيت غير ما هو مقرر عند أهل السنة، فنساء النبي صلى الله عليه وسلم -مثلاً- عندهم لسن من أهل البيت، وعمه العباس وذريته عندهم ليسوا من أهل البيت، مع أن العباس أقرب من علي. وكذلك جعفر وذريته ليسوا من أهل البيت، فأهل البيت عندهم فقط علي والحسن والحسين وذريتهما.
والحاصل أن النبي صلى الله عليه وسلم شهد لهؤلاء العشرة بالجنّة؛ الأربعة الخلفاء والستة الباقون منهم، وقد نظمهم ابن أبي داود في قصيدته المشهورة في قوله:
سعيدٌ وسعدٌ وابن عوفٍ وطلحةٌ وعامرُ فهر والزبير الممدَّحُ
يعني الستة:
فسعيد: هو ابن زيد بن عمرو بن نفيل، وهو راوي الحديث.
وسعد: هو ابن أبي وقاص الزهري، من بني زهرة، وهم أخوال النبي صلى الله عليه وسلم.(1/211)
وعبدالرحمن بن عوف: وهو أيضاً من بني زهرة من أخوال النبي صلى الله عليه وسلم.
وطلحة: هو ابن عبيد الله، من بني تيم الذين منهم أبو بكر رضي الله عنه.
والزبير: هو ابن العوام، من بني أسد بن عبدالعزى بن عبد مناف.
وأما عامر: فهو أبو عبيدة بن الجراح من بني فهر.
وهؤلاء من المهاجرين، ومن أشراف قريش، ومن المسلمين قديماً، شهد لهم النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم في الجنّة، ومعلوم أنه لا يشهد لهم إلا وقد أطلعه الله بأنهم يموتون على الإسلام وعلى السنة، وأنهم يدخلون الجنّة.
ولو كانوا ارتدوا -كما تقول الرافضة - لم يشهد لهم بالجنّة، فالرافضة تدعي أنهم ارتدوا بردهم علياً -كما يقولون- عن حقه الذي هو الولاية، وتدعي أنهم أعداء ألدَّاء لعلي، ثم بعد ذلك تحكم على كل من والاهم بأنه كافر؛ لأنه بزعمهم لا يمكن أن يحب علياً.
وعند الرافضة أنه: لا ولاء إلا ببراء، يقولون: لا يمكن أن نتولى علياً إلا بعد أن نتبرأ من أبي بكر وعمر وعثمان وسعد وسعيد وسائر الصحابة، فإذا توليت هؤلاء فقد آذيت علياً، فأبو بكر عندهم طلب الخلافة واستبدّ بها، وأخذها من صاحبها فلذلك ضللوه وكفروه، وعمر كذلك أيضاً أخذ الخلافة بعد أبي بكر وهي ليست له، وعثمان أخذ الخلافة وهي ليست له، حتى إني قرأت لبعض المتأخرين أنه يمتدح بأن شيعتنا وأنصارنا هم الذين ثاروا على عثمان وقتلوه، وردوا الأمر إلى أهله يعني إلى علي وهو أحق بالخلافة.
أما عبدا لرحمن - فيقولون: إنه الذي أخذ البيعة لعثمان، فيحكمون بأنه مرتد، أما طلحة والزبير؛ فيدعون أنهما قاتلا علياً في وقعة الجمل. والحق أنه عندما قُتل عثمان كان هؤلاء بمكة، فذهبوا إلى العراق ليدركوا قتلة عثمان، ولكن أدركهم علي فحصلت وقعة الجمل، فقتل فيها طلحة والزبير.(1/212)
فكل واحد من هؤلاء يطعنون فيه طعناً، ويدعون فيه دعوى، وأهل السنة يشهدون لهم بالجنّة بسابقتهم وفضلهم، وكذلك بموجب هجرتهم، وبموجب شهادة النبي صلى الله عليه وسلم، وكفى بها شهادة، ولا يعتبرون بكلام من أخل بحقهم أو طعن فيهم.
وهكذا أيضاً نشهد لكل من شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بالجنّة كقوله: (الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنّة) ففي عهد النبي صلى الله عليه وسلم كانا طفلين صغيرين، توفي وهما دون العاشرة، ولكن يبعثون يوم القيامة مع سائر الأمة في سن الشباب، وشهد لهما بأنهما سيدا شباب أهل الجنّة، وشهد لأمهما فاطمة أنها سيدة نساء أهل الجنّة، فنشهد لهما بذلك، ونشهد لأمهما بأنها من أهل الجنّة.
أما قصة ثابت بن قيس: فإنه كان خطيب النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يعلن أمراً من الأمور أو يتكلم بأمر من الأمور أمره بأن يخطب ويضمن خطبته ذلك المعنى، وكان جهوري الصوت، فلما نزل قول الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون)(الحجرات:2) خاف أن تكون هذه الآية تنطبق عليه لأنه كان يرفع صوته؛ كان جهورياً. فجلس يبكي في بيته يومين أو ثلاثة، فافتقده النبي صلى الله عليه وسلم فأرسل إليه، فذكروا له مقالته أنه يقول: إني أرفع صوتي وإني خشيت أن يكون حبط عملي وإني من أهل النار، فرد النبي صلى الله عليه وسلم بعض أصحابه ليقول له: إنك لست من أهل النار ولكنك من أهل الجنّة)، وكانت خاتمته أنه قتل شهيداً في وقعة اليمامة في قتال مسيلمة، فصدق عليه قول الرسول صلى الله عليه وسلم أنه من أهل الجنّة.
أما غيره ممن شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بالجنّة فكثير، فمنهم بلال الذي قال النبي صلى الله عليه وسلم له: (إني سمعت دف نعليك في الجنّة)، وسأله عن أرجى عمله، فهذه أيضاً شهادة لبلال بأنه من أهل الجنة.(1/213)
وكذلك عكاشة بن محصن، لما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم سبعين الألف الذين يدخلون الجنّة بغير حساب، فقال عكاشة: ادع الله يا رسول الله أن أكون منهم. فقال: (اللهم اجعله منهم). وقتل عكاشة في قتال بني أسد الذين ارتدوا، وكان هو من بني أسد، قتل شهيداً فانطبق عليه أنه من الذين قتلوا في سبيل الله.
وغيرهم كثير، ومن أشهرهم عبدالله بن سلام الذي كان من اليهود فأسلم في أول الهجرة، وفي حديث سعد بن أبي وقاص؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يطلع رجل يأكل من هذه القصعة من أهل الجنّة ... فجاء عبدالله ابن سلام)، ثم إن كل من شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بأنه من أهل الجنّة فإنا نشهد له بذلك.
قوله:
ولا نجزم لأحد من أهل القبلة بجنة ولا نار إلا من جزم له الرسول صلى الله عليه وسلم، لكنا نرجو للمحسن، ونخاف على المسيء. ولا نكفر أحداً من أهل القبلة بذنب، ولا نخرجه عن الإسلام بعمل.
شرح:
هذا من جملة العقيدة، يدخلون هذا في أسماء الإيمان والدين، وقد تقدم الكلام على الإيمان، وأن الإيمان قول وعمل واعتقاد؛ قول القلب واللسان، وعمل القلب والجوارح، وأن المؤمنين الذين يدينون بهذا الإيمان نشهد لهم بالإيمان ولو عملوا ما عملوا من المعاصي، فلا نخرجهم من الإيمان، ولكن لا نشهد لهم بالجنّة لا نشهد لأحد معين بالجنّة إلا من شهد له النبي صلى الله عليه وسلم أو ثبت ذلك منه، فقد تقدم ذكر من شهد لهم النبي صلى الله عليه وسلم وهم كثير.(1/214)
ذكر الشيخ ابن سلمان في شرح الواسطية (الكواشف الجلية) أكثر من خمسين ممن وردت فيهم أحاديث تبشرهم بالجنة -وإن كان بعضها فيه ضعف، فنحن لا نشهد لأحد بالجنة إلا من شهد له النبي صلى الله عليه وسلم. ولكن نرجو للمحسنين، فإذا رأينا أهل الإحسان، وأهل الإيمان والتقى، وأهل الخير والصلاح، وأهل الاستقامة، وأهل العقيدة السلفية السليمة، وأهل الأعمال الصاحلة قلنا: نرجوا أن هؤلاء من أهل الجنّة وأن الله لا يشقيهم ولا يحرمهم أجر ثوابهم. فالله تعالى قد وعد - وهو لا يخلف الميعاد بأنه يدخل الجنة أهل الأعمال الصالحة في عدة آيات، كما في قوله تعالى: (والذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون)(البقرة:82)، وفي قوله تعالى: (سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض أعدت للذين آمنوا بالله ورسله)(الحديد:21).
وقد مر بنا بعض من تلك الأدلة، كحديث ابن مسعود المشهور وفيه قوله صلى الله عليه وسلم: (فوالذي نفسي بيده إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها)، وذكر مثل ذلك في عمل أهل النار، وأنه يسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها. فالأعمال بالخواتيم، وهذا هو الذي يحملنا على أننا لا نجزم لمعيّن، ولكن من عرفنا أنه ما ت على الإسلام، وأنه ممن ختم الله له خاتمة حسنة فإننا نرجو له.
وكذلك أيضاً الصحابة الذين مدحهم الله تعالى؛ نثني عليهم ونمدحهم كما مدحهم الله؛ قال الله تعالى (لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة)(الفتح:18)، فهذا فيه أنه رضي عنهم، وهو سبحانه لا يرضى عن القوم الفاسقين، لابد أنه رضي أقوالهم وعلم ما في قلوبهم وأنهم قد فازوا بهذه الميزة.(1/215)
وكذلك أيضاً قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم)، فهذه أيضاً شهادة لأهل بدر، وكانوا ثلاثمائة وبضعة عشر، وأهل بيعة الرضوان ألف وأربعمائة وزيادة. كل هؤلاء زكاهم الله تعالى، وزكاهم النبي صلى الله عليه وسلم.
وهناك أيضاً التزكية العامة في قوله تعالى (والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان زيادة رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً ذلك الفوز العظيم)(التوبة:100)، فهذه الآية دخل فيها ثلاثة أقسام من الصحابة: المهاجرون، والأنصار، والذين جاءوا من بعدهم واتبعوهم بإحسان -دخلوا في هذا الوعد، والله تعالى لا يخلف وعده. هذا فيما يتعلق بالشهادة بالجنّة لمن شهد له الله، أو شهد له النبي صلى الله عليه وسلم.
أما الشهادة بالنار لمعين؛ فلا تجوز أيضاً إلا لمن ورد فيه النص، فقد ورد النص مثلاً في أبي لهب (سيصلى ناراً ذات لهب)(المسد:3)، وكذلك في أبي جهل لما قتل أخذ النبي صلى الله عليه وسلم يوبخه هو ومن معه ويقول: (هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقاً؟ فإني وجدت ما وعدني ربي حقاً)، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم في أبي طالب أنه (في ضحضاح من نار) والحاصل أن من ورد النص بأنه من أهل النار يُشهد له بذلك.
وأما الذين معهم معاص وذنوب، ولكن تلك الذنوب لا تصل إلى حد الكفر ، فإننا لا نكفرهم بهذه الذنوب -كما تقدم- ولا نخرجهم من الإسلام بذنوبهم، بل نخاف على المذنب - ونقول: هؤلاء يخاف عليهم من الذنوب- ولو كانت من الصغائر، ونرجو للمحسنين - ولو كان معهم سيئات، ونخاف على المذنبين- ولو كان لهم حسنات. وخوفنا ورجاؤنا لا نحققه؛ فلا نجزم بأن هذا من أهل النار لأنه عمل هذه السيئات، ولا نجزم بأن هذا من أهل الجنّة لأنه عمل هذه الصالحات، بل الحسنات والسيئات من أسباب دخول الجنّة أو دخول النار.(1/216)
مسألة: في وجوب الجهاد مع كل إمام براً كان أو فاجراً
قوله:
ونرى الحج والجهاد ماضياً مع طاعة كل إمام براً كان أو فاجراً، وصلاة الجمعة خلفهم جائزة. قال أنس: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ثلاث من أصل الإيمان: الكف عمن قال: لا إله إلا الله، ولا نكفره بذنب، ولا نخرجه من الإسلام بعمل. والجهاد ماضٍ منذ بعثني الله عز وجل حتى يقاتل آخر أمتي الدجال -لا يبطله جَوْر جائر ولا عدل عادل، والإيمان بالأقدار) رواه أبو داود.
شرح:
قوله: (ولا نكفر أحداً بذنب، ولا نخرجه من الإسلام بعمل). ذكرنا أن الذنوب يُخاف على أصحابها، فنخاف على أصحاب هذه الذنوب ولكن خوفنا لا يصل إلى الجزم. كذلك أيضاً؛ فإنه لا يخرج من الإسلام بذنب، لا نخرجه من الإسلام بهذا الذنب.
وإذا قيل: ما المراد بأهل القبلة؟ فنقول: هم كل من يستقبلون القبلة التي هي البيت الحرام، سواءً يستقبلونها في صلاتهم أو في أدعيتهم أو يستقبلونها بقلوبهم كما في قوله تعالى: (فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم) (إبراهيم:37)؛ يسمون أهل القبلة لأنهم يهوون إليه، وكذلك سفرهم إليها لأداء المناسك، فهؤلاء أهل القبلة ما دام أنهم يصلون صلاتنا، ويستقبلون قبلتنا، ويأكلون ذبائحنا، ويشهدون بشهادتنا.
لكن إذا حدث عندهم شيء من النقص وشيء من الخلل فلا نخرجهم بهذا النقص ولا بهذا الخلل عن دائرة الإسلام، ولا نشهد لهم بالإيمان بل نقول: هم مسلمون. وإيمانهم الذي معهم قد يكون إيماناً ظاهراً، قد لا يكون محققاً في كل فرد منهم لقوله تعالى في الأعراب: (قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم)(الحجرات:14).
نشهد لهم بأنهم من جملة المسلمين ومن الأمة الإسلامية، ونمتنع عن التكفير أو التنسيق، وكذلك نحث على الأعمال الصالحة وعلى التوبة من الأعمال السيئة.(1/217)
أما الجهاد والحج مع الأئمة؛ فإن هذا أيضاً من جملة عقيدة المسلمين، ويستدل على ذلك بهذا الحديث الذي رواه أبو داود وغيره، وفيه أنه صلى الله عليه وسلم أخبر بأن الجهاد ما ضٍ مع كل بر وفاجر حتى يقاتل آخرٌ الأمة الدجال، وأنه لا يبطله جور جائر ولا عدل عادل.
يعني أن الأمة عليهم أن يجاهدوا من كفر بالله ومن خرج عن الإسلام -ولو كان ذلك القائد أو الأمير أو الوالي عاصياً أو فاسقاً أو مخلاً بشيء من العبادات والطاعات، فإن الجهاد معه فيه نصرٌ للإسلام والمسلمين.
وكذلك الحج؛ فكثيراً ما يكون تحت ولاية بعض الأمراء والعصاة، فيصح الحج مع كل أمير براً كان أو فاجراً، وسبب ذلك أنهم في القرون الماضية كانوا لا يحجون إلا مع أمير يكون على الحجاج ويجتمعون حوله ليأمنوا من قطاع الطريق، ففي الطريق أعراب يقطعون الطريق إذا كان الحجاج متفرقين ليس معهم من يجتمعون معه.فيخرج الحجاج مثلاً من العراق والبحرين والأحساء وما حولها كلهم يجتمعون ويصير عليهم أمير، ويتوجهون إلى الحجاز، ففي أثناء الطريق إذا كانوا متفرقين تقوم عليهم الأعراب وتقاتلهم وتسلبهم رواحلهم وأمتعتهم، فإذا كان معهم أمير يجتمعون عليه هابه الأعراب ولم يقدروا على قتاله، فمن أجل ذلك نقول: إن الحج معه ولو كان عاصياً فيه خير.
فقد يوجد من أمراء الجيوش وأمراء الحجاج من يشرب الخمر، أو يسمع الأغاني ونحوها، أو يؤخر الصلاة عن وقتها كصلاة العصر مثلاً، وما أشبهها، فيقول بعضهم: كيف نحج مع هذا الذي يشرب الخمر؟ نقول: ما دام أن فيه مصلحة وأن فيه نفعاً للمسلمين، حيث يأمنون معه على أنفسهم وعلى مناسكهم، وعبادتهم؛ فإن هذا خير، ووجوده خير من عدمه. مع أن الغالب أن أمير الحاج يكون من المتمسكين والعابدين وأهل الخير والصلاح، أو من العلماء العباد.(1/218)
وهكذا يقال في الجهاد: الأمير الذي يكون على المجاهدين غالباً يكون من أهل الخير والصلاح، ولا شك أن فيه منفعة ومصلحة للمسلمين، وذلك لأن الجهاد فيه إعلاء لكلمة الله تعالى، وفيه رفع للإسلام وإعزاز له.
والغالب أنه إذا كان أميره حازماً شديد البأس قوي التفكير؛ أنه يكون أحزم للجيش وأضبط له، فإنه يحيطهم برعايته ويراقبهم، ويعرف لهم الأماكن التي يسكنون فيها وينزلون فيها، ويدبرهم أحسن تدبير، فينتصرون على عدوهم ويظفرون على من قاتلهم، ويكون ذلك الحازم سبباً في انتصار الإسلام والمسلمين، فإذاً نقاتل معه، ولو حصل منه بعض الخلل ولو ارتكب بعض الذنوب، فإن وجوده خير من عدمه وخير من أن يتفلتوا ويتفرقوا فيظفر بهم الأعداء.
إذاً فالجهاد ما ض خلف كل أمير ومع كل أمير، والحج ماض خلف كل أمير ومع كل أمير؛ براً كان أو فاجراً للمصلحة العامة. ويستثنى من ذلك إذا كان كافراً لقوله صلى الله عليه وسلم: (إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان)، فلا يجوز أن يمكن الكافر الذي أعلن كفره من الغزو مع المسلمين و لو كان قد يقاتل حمية مع المسلمين أو عصبية أو نحو ذلك، لأن الكافر لا يجوز اقراره أو اقرار و لا يته على المسلمين، لأنه لا يُؤمن أن يكون كيده على المسلمين، أما إذا كان عاصياً -مجرد معصية- فالمعاصي والكبائر ونحوها لا يخرج بها صاحبها من الإسلام، بل هو باق على دينه.
وحيث إننا في هذه الأزمنة قد اختلفت الأحوال بالنسبة إلى الحج، فأمنت الطرق -والحمد لله- فصار كل يحج من جهته، ولا يحتاجون إلى أن يكون هناك أمير يجمع الجويش أهل الجنوب من جهتهم، وأهل الشمال من جهتهم، وأهل الشرق، وأهل الغرب، يأتون من طرق مختلفة في البواخر وفي الطائرات وفي السيارات من كل جهة ولا يحتاجون إلى وال.(1/219)
وكذلك أيضاً في نفس المناسك لا حاجة بأن يكون لهم أميرٌ يتبعونه أو يسيرون معه كما كانوا سابقاً؛ ففي حديث ابن عمر أنه سأله سائل وقال: (متى أرمي الجمار؟ قال: إذا رمى إمامك). وهذا يدل على أنهم كانوا يتقيدون بالأمير فلا يرمون إلا إذا رمى، ولا يدفعون إلا إذا دفع، وأما الآن فالأمر فيه سعة ما دام أنهم قد عرفوا المناسك.
أما في الجهاد وسفره فالأمر مختلف، ومعلوم أن هناك جهاداً في كثير من البلاد الإسلامية، وأنهم بحاجة إلى أن يكون عليهم أمير على كل سرية أو على كل جيش يقاتلون به، ولو كان هذا الأمير غير مولى من جهة الأمير العام أو من جهة الملك أو الخليفة إنما هو مولىمن جهته في ولاية خاصة، فإن طاعته في تدبير الجيوش وعدم التفرق تعتبر من طاعة الله، لما في ذلك من المصلحة المحققة التي يتحقق بسببها نصر الإسلام والمسلمين بإذن الله.
مسألة: عقيدة السلف في الصحابة رضي الله عنهم
وما حدث بينهم
قوله:
ومن السُّنَّة تولِّي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومحبتهم وذكر محاسنهم، والترحم عليهم والاستغفار لهم، والكف عن ذكر مساوئهم وما شجر بينهم. واعتقاد فضلهم ومعرفة سابقتهم. قال تعالى: (والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا)(الحشر:10). وقال تعالى: (محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم)(الفتح:29)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تسبوا أصحابي، فإن أحدكم لو أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ مُد أحدهم ولا نصيفه).
شرح:
واجب الصحابة:
أولاً: محبتهم محبة قلبية لسبقهم وإيمانهم وفضلهم على الأمة بعدهم.
ثانياً: الترضي عنهم كما رضي الله عنهم في قوله تعالى: (لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة)(الفتح:18)، وفي قوله تعالى: (رضي الله عنهم ورضوا عنه(التوبة:100).(1/220)
فإذا ذكرت الصحابة تأتي بعدهم بالترضي فتقول: قال أنس رضي الله عنه، قال جابر رضي الله عنه، عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن ابن عباس رضي الله عنهما، وذلك دعاء لهما بالرضى، يعني عنه وعن أبيه أن يتجدد الرضى عنهما وعن الصحابة أجمعين في كل حين، ولك أجر على هذا الترضي.
ثالثاً: ذكر محاسنهم، يعني إفشاءها ونشرها، وذكر فضائلهم، وقد اعتنى العلماء بذلك لما رأوا أن الرافضة يكذبون عليهم ويطعنون فيهم قالوا: لابد أن نهتم بفضائل الصحابة. فالبخاري في صحيحه جعل كتاباً في الفضائل، وابتدأه بفضائل أبي بكر، ثم بفضائل عمر ثم بفضائل عثمان، ثم بفضائل علي، واستمر في ذكر فضائل الصحابة الذين وردت لهم فضائل على شرطه.
وهكذا الإمام مسلم في صحيحه في كتاب فضائل الصحابة رضي الله عنهم سرد الفضائل التي على شرطه، وبدأ بفضائل الخلفاء الراشدين مبتدئاً بأبي بكر رضي الله عنه ومن بعده، واستمر في ذكر فضائل الصحابة رجالاً ونساءً، أفراداً وجماعات. وهكذا الإمام الترمذي في سننه، ذكر فيه فضائل الصحابة وأطال في ذكر فضائلهم ومحاسنهم، وأفردها أيضاً كثير من العلماء، منهم الإمام أحمد له كتاب مطبوع في مجلدين عنوانه (فضائل الصحابة) رضي الله عنهم).
ثم إن فضائلهم التي تذكر جاء كثير منها في القرآن الذي نص على فضلهم.
فمن معتقد أهل السنة والجماعة أن ينشروا فضائل الصحابة، وأن يكثروا من ذكرها، وأن يتبادلوها في المجالس، وأن يتكلموا بها في المحافل وفي المجتمعات، حتى يعرفهم الخاص والعام وحتى تنتشر لهم الذكرى الحسنة، وحتى يكون ذلك رداً وإبطالاً لما يفتريه عليهم أعداؤهم. أما مساوئهم فإننا نكف عنها ولا نتكلم فيها.(1/221)
وقد يقول بعض الأعداء كالرافضة: إنهم فعلوا وإنهم فعلوا؛ ويعدونها مثالب ومعايب يقدحون بها فيهم، ومن قرأ كتب هؤلاء الرافضة رآها ممتلئة بمثل هذه المثالب. وقد بين شيخ الإسلام ابن تيمية في العقيدة الواسطية القول في هذا المساوئ، وذكر أن منها ما هو كذب مفترى لا أصل له فلا يلتفت إليه، ومنها ما هو مغير قد زيد فيه ونقص منه، وغير عن وضعه حتى توهمه من يسمعه أنه مثلبة ومنقصة، وهو في الحقيقة مدح وثناء، ولكن الأعداء يصوغونه بصياغة يؤخذ منها العيب وهو في الحقيقة مدح، والأمثلة على ذلك كثيرة أيضاً.
رأيت لبعض المتأخرين كتاباً في مجلدين ينشره الرافضة ويوزعونه عنوانه (ثم اهتديت) أو (رجال آمنوا)، والعجب من أمره أنه يجعل كثيراً من المحاسن مساوئ، ويدعي أنها مثالب ويبالغ في القدح فيها، فمنها اعتراض عمر رضي الله عنه على صلح الحديبية، فهل هذا يعتبر طعناً فيه؟ إنه تحمس لما رأى الصلح قد تم على تلك الشروط، وكان يحب أن يقتحم المسلمون البلاد وأن يقاتلوا ولو قتلوا، وكان مما ساءه ذلك الشرط الذي فيه؛ أن من جاء مسلماً فإنه يرد. فأخذ الكاتب المذكور يكيل لعمر من السب في اعتراضه على هذا الحكم.
ويقال أيضاً أن علياً رضي الله عنه من جملة الذين اعترضوا في ذلك حتى إنه لما قيل له: (امح "رسول الله"). امتنع عن ذلك وقال: (لا والله لا أمحوك أبداً) مع أن النبي صلى الله عليه وسلم يأمره، ولكن لم يجعلوا هذا الامتناع عيباً. فلا شك أن فعل عمر رضي الله عنه مدحٌ له، لأنه دليل على حماسته ودليل على غيرته، ثم إنه بعد ذلك وافق رأي الرسول صلى الله عليه وسلم ورضي به وقال: (فعملت لذلك أعمالاً).(1/222)
كذلك أيضاً من جملة ما يطعنون به في عمر رضي الله عنه؛ اعتراضه على الكتاب الذي قال النبي صلى الله عليه وسلم في مرض موته: (ائتوني بكتاب أكتبه لكم لا تضلون بعده أبداً) وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد أرهقه المرض، فرفق عمر رضي الله عنه به، وقال: إنه قد بلغ به ما ترون، وعندنا كتاب الله حسبنا.
فالرافضة حملوا على عمر حملة شنعاء، وقالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يريد أن يكتب الولاية لعلي، ولكن عمر خاف أن تكتب لعلي؛ فنهى عن كتابتها، فصده عن أن يكتب هذا الكتاب هكذا حملوه هذا المحمل؛ مع إنه ما فعل ذلك إلا رفقاً بالنبي صلى الله عليه وسلم، فهل يكون هذا قدحاً في عدالته؟ حاشى وكلا، ولكنهم يغيّرون، وبذلك نعرف أن ما يوردونه من المثالب ومن المساوئ مصوغ صياغة فيها قدح مع أنها في الحقيقة مدح.
فنحن نحب الصحابة ونترحم عليهم، ونكف عما شجر بينهم من الاختلاف، والاختلاف الذي حدث بينهم؛ إما اختلاف في المسائل الفقهية، وهذا يحدث كثيراً بين أهل الاجتهاد، ومع ذلك هم متآخون متحابون ولو حصل بينهم شيء من الاختلاف. فقد اختلفوا مثلاً في الحاج: هل يفضل له أن يحرم مفرداً، أو يحرم قارناً، أو يحرم متمتعاً؟ ومع ذلك فهذا الاختلاف ما أدى بهم إلى بغضاء؛ ولا إلى احتقار بعضهم لبعض، ولا إلى مقاطعة، ولكنه من باب الاجتهاد.(1/223)
وهناك مسائل كثيرة وقع فيها اختلاف من جنس هذا، ومثل هذا لا يعد قدحاً فيهم إنما هو اختلاف في مسائل فقهية اختلف فيها أيضاً من بعدهم، وكان سبب الاختلاف كثرة الأدلة وتنوعها، أو النظر فيها. يقول شيخ الإسلام: إنهم في هذه المسائل التي اختلفوا فيها معذورون، فهم إما مجتهدون مصيبون، وإما مجتهدون مخطئون، فإن كانوا مصيبين فلهم أجران، وإن كانوا مخطئين فلهم أجرٌ على الاجتهاد، وخطؤهم مغفور. فإذا كان أحدهم قد صدر منه ذنب حقيقي فيقول شيخ الإسلام: لعله قد تاب منه، والتوبة تجب ما قبلها، أو لعله غفر له بفضل سوابقه، فلهم سوابق لا يدركها من بعدهم، أو لعله غفر له بصحبة النبي صلى الله عليه وسلم والصحبة أيضاً عمل يختص بهم، أو لعله يغفر لهم بشفاعته صلى الله عليه وسلم فإنهم أحق بها من غيرهم؛ وذلك لتميزهم بالصحبة له. وبكل حال فهذا الذي يقال عما صدر منهم.
أما الذي شجر بينهم من القتال -كالذي حصل بين علي ومن خالفه في وقعة الجمل، فنكف عن هذا ونعذرهم. فإن علياً رضي الله عنه قاتلهم لجمع الكلمة، وهم ما قصدوا قتال علي؛ فالزبير، وطلحة، وعائشة ومن معهم قصدوا قتال البغاة، أو الذين قتلوا عثمان رضي الله عنه، هؤلاء يطالبون بقتلة عثمان، وهو يطالب بجمع الكلمة.
وكوقعة صفين التي كانت بين أهل الشام وأهل العراق، والتي قتل فيها خلقُ كثير، هذه أيضاً فتنة من الفتن التي حدثت بينهم، نكف عنها ونقول: إن كلاً منهم مجتهد. وملخصها أن معاوية ومعه عمرو بن العاص، ومعه من معه من الصحابة في جانب يطالبون بدم عثمان ويقولون لعلي: سلّم لنا قتلة عثمان وعليٌّ في جانب يقول لهم: بايعوني حتى تجتمع الكلمة، وحتى تقوى الشوكة، ومن ثم أنا وأنتم نأخذ قتلة عثمان واحداً واحداً.
ولكن اختلفوا على ذلك فحصلت هذه الواقعة، وموقفنا الذي نعتقده أن نكل أمرهم إلى الله فلا نسبهم، بل نعذرهم بهذا الاجتهاد، ولا نعيب واحداً منهم، هذا هو القول الصحيح.(1/224)
والآيات التي وردت في فضلهم -كالآيات التي ساقها المؤلف- تدل على مميزات لهم:
الآية الأولى: قوله تعالى في سورة الحشر: (ربنا أغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنا)(الحشر:10)، فالغل هو الحقد، فكل من جاء بعد الصحابة يمدحهم، ويقول هذه المقالة فإنه من جملة الذين يغفر لهم -إن شاء الله- ويستجاب فيه دعاؤهم.
أما الآية الثانية: في قوله تعالى: (محمدُ رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم)(الفتح:29)، هذا الوصف ميزة لهم وفضيلة: (أشداء على الكفار رحماء بينهم)(الفتح:29).
وقد مدحهم بعض الشعراء بقوله:
في الليل رهبانٌ وعند قتالهم لعدوهم من أشجع الأبطال
ففي الليل رهبان يصلون يتهجدون، وعند لقائهم العدو أبطال وشجعان، فهم فيما بينهم متآخون ومتحابون كما وصفهم الله تعالى بقوله: (فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم)(المائدة:54). وهذه الآية اشتملت على ستة من فضائلهم الكثيرة.
أما الحديث؛ فقد قاله النبي صلى الله عليه وسلم لما وقعت خصومة بين بعض المتقدمين من الصحابة، وبعض المتأخرين، بين خالد بن الوليد وهو من مسلمة الفتح وبين عبدالرحمن بن عوف وهو من المهاجرين الأولين. فقال النبي صلى الله عليه وسلم لخالد بن الوليد رضي الله عنه ومن معه: (لا تسبوا أصحابي -يعني المتقدمين-، فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد -وهو الجبل المعروف في المدينة- ذهبا -لم يقل طعاماً- ما بلغ مد أحدهم -سواء مداً من ذهب، أو مداً من طعام- ولا نصيفه) يعني نصيف المد الذي هو ربع الصاع، والمد ملء الكفين المتوسطتين، ونصفه قد يكون ملء الكف الواحدة أو نحوها، فمتى يدرك أحدٌ فضلهم، ومتى يلحقهم غيرهم؟ رضي الله عنهم.
مسألة: عقيدة السلف في أزواج الرسول صلى الله عليه وسلم
قوله:(1/225)
ومن السنة: الترضي عن أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم أمهات المؤمنين المطهرات المبرآت من كل سوء، أفضلهن خديجة بنت خويلد، وعائشة الصد يقة بنت الصديق التي برّأها الله في كتابه -زوج النبي صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة فمن قذفها بما برّأها الله منه فقد كفر بالله العظيم.
ومعاوية خال المؤمنين، وكاتب وحي الله، أحد خلفاء المسلمين، رضي الله عنهم أجمعين.
شرح:
ذكر أيضاً أن من السنة الترضي عن زوجات النبي صلى الله عليه وسلم، وقد زكاهن الله تعالى وطهرهن، وخيَّرهن، ونزل فيهن ما يدل على فضلهن وعلى سبقهن، وعلى ميزات كثيرة، فمن السنة الترضي عنهن وذكر محاسنهن وفضلهن وميزاتهن.
ومن ذلك أن الله تعالى خيرهن بين الدنيا والآخرة فاخترن الآخرة، وذلك لما نزل قول الله تعالى: (يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحاً جميلاً * وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة فإن الله أعد للمحسنات منكنَّ أجراً عظيماً)(الأجزاء:28-29).
لو قالت إحداهن: أريد الدنيا وأريد زينتها لسرحها سراحاً جميلاً ولفارقها، ولكن كلهن رضين بالخصلة الثانية، أردن الله ورسوله والدار الآخرة، من أجل ذلك صبرن على العيشة الضيقة حتى كان يأتي عليهن شهرٌ أو شهران لا يوقد في بيوتهن نارٌ، إنما هو الأسودان التمر والماء، صبرن على ذلك لأنهن قلن: نريد الله ورسوله والدار الآخرة ولا نريد زينة الدنيا ولا نريد زهرة الدنيا.
وقال تعالى مميزاً لهن: (يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن)(الأحزاب:32)، فهذا فضل لهن (يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين)(الأحزاب:30)، (ومن يقنت منكن لله ورسوله وتعمل صالحاً نؤتها أجرها مرتين)(الأحزاب:31)، ولا شك أنهن حفظن أنفسهن، وأحسن بالأعمال الصالحة، فصار أجرهن مضاعفاً على غيرهن.(1/226)
كما أدبهن الله بآداب حسنة منها قوله تعالى: (وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية)(الأحزاب:33)، (فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض)(الأحزاب:32)، (واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة)(الأحزاب:34)، وهذه الآيات من سورة الأحزاب يخاطب الله بها زوجات النبي صلى الله عليه وسلم، ومنها قوله تعالى في أثناء هذه الآيات: (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً)(الأحزاب:33). فهذه الجملة من الآية في سياق الكلام على زوجات النبي صلى الله عليه وسلم.
فإن قوله تعالى: (فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض وقلن قولاً معروفاً* وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى)(الأحزاب:32-33) كل هذا خطاب لهن، وقوله تعالى: (وأطعن الله ورسوله)(الأحزاب:33) خطاب لهن، أيضاً. ثم قال تعالى: (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً).
نقرر هذا لأن الرافضة يقولون: هذه الجملة لعلي وذريته، وأما الذي قبله والذي بعده فليس هو لهم، فأخرجوا زوجات النبي صلى الله عليه وسلم من هذا الخطاب، ويقولون: لأن الضمير جاء فيها بالمذكر في قوله: (عنكم)، (ويطهركم)، ما قال: عنكن، ولا قال: ويطهركن.
والجواب أن نقول: هذه الآية أولى بها زوجاته صلى الله عليه وسلم، ولكن إنما ذكر الضمير في قوله تعالى: (إنما يريد الله ليذهب عنكم) لأنه أدخل معهن النبي صلى الله عليه وسلم فهو صاحب البيت، (عنكم) يعني عنك يا محمد، وعن زوجاتك، وعن أهل بيتك. فأهل البيت هم محمد وزوجاته، وكذلك أيضاً بناته وأولاده، فكلهم من أهل البيت (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت).(1/227)
فالرافضة يرددون (أهل البيت)، ويخصون أهل البيت بعلي وذريته، ونحن نقول: صحيح أن علياً وذريته من أهل البيت، ولكن ليس هم وحدهم أهل البيت بل هناك غيرهم، فزوجته من أهل البيت، وزوجات عثمان من أهل البيت، وزوجة أبي العاص بن الربيع من أهل البيت، كلهن بناته صلى الله عليه وسلم. فلماذا تختص فاطمة وزوجها بأنهم أهل البيت؟. نعم علي ابن عمه وهو من أهل البيت، وأقرب منه عمه العباس وهو من أهل البيت، وأولاد العباس وأفضلهم عبدالله الذي قال له صلى الله عليه وسلم: (اللهم فقهه في الدين)، كيف لا يكون هؤلاء من أهل البيت؟ وكيف يختص أهل البيت بعلي وبذريته؟!.
نقول: إن هذا تقصير في الفهم فقوله تعالى: (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت) يدخل فيها النبي صلى الله عليه وسلم وزوجاته وبناته وأعمامه وأولاد أعمامه، ومن جملتهم علي وذريته؛ فهم منهم لا أنهم وحدهم أهل البيت.
وزوجات النبي صلى الله عليه وسلم كلهن لهن فضل، ولكن أفضلهن خديجة وعائشة. واختلف العلماء: أيتهما أفضل؟ فالرافضة يفضلون خديجة لأنها أم فاطمة، ويغالون بمدحها. ولكن أهل السنة يقولون: إن خديجة وعائشة متساويتان في الفضل، فخديجة لها ميزة وهي أنها هي السابقة، وهي التي أيدت النبي صلى الله عليه وسلم، وأول من آمن من النساء، وكانت تشجعه على الدعوة، وكانت تهدّئه وتسكن روعة، وتَعده بالخير، وآسته بنفسها ومالها، ورزق منها أولاداً ولم يتزوج عليها في حياتها، ففضلت بهذه المميزات.
وعائشة أيضاً لها ميزات كثيرة، فلو لم يكن من ميزاتها إلا أن الله تعالى أنزل عذرها في القرآن، وطهرها مما رماها به أهل الإفك في قوله تعالى: (إن الذين جاءوا بالإفك عصبةٌ منكم)(النور:11)، ثماني عشرة آية نزلت في عائشة برأتها مما قيل فيها.(1/228)
أما فضائلها الأخرى فلا تحصى فقد كان النبي صلى الله يحبها، جاء إليه عمرو بن العاص فقال: (أي الناس أحب إليك؟ قال: عائشة. قال: فمن الرجال؟ قال: أبوها)، وقال صلى الله عليه وسلم: فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام) وحملت عنه علماً جماً، فهي أكثر نسائه حديثاً.
وكان يخبر بأن الوحي لا ينزل عليه في حجر امرأة إلا في حجرها، وكان يحب وهو في مرض موته أن يمرض في بيتها، ولما رأى زوجاته أنه سأل: (أين أنا؟) قلن له: لك أن تسكن حيث شئت. واستقر في بيت عائشة، وتوفي وهو في حجرها. تقول: (مات بين حاقنتي وذاقنتي) والحاقنة: الترقوة، يعني أنها كانت مسندة له، ودفن في بيتها، وتميزت بأنها بنت الصديق الذي هو أول من آمن من الرجال، والذي استخلفه النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة. فلها هذه الميزات، ومع ما لها من فضائل فإن الرافضة يسبونها سباً شنيعاً!!
ثم ذكر فضل معاوية وسبب ذلك أن الرافضة والزيدية يطعنون فيه. وقد أثنى العلماء عليه وذكروا له منزلة رفيعة، فمنها أنه لما أسلم اتخذه النبي صلى الله عليه وسلم كاتباً للوحي بطلب من أبيه، فكان يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم وائتمنه على ذلك حتى توفي وهو كاتب له، لم ينتقد عليه شيئاً، فهذه من ميزاته أنه من كتّاب الوحي.
وهو خال المؤمنين لأنه أخ لإحدى أمهات المؤمنين وهي أم حبيبة بنت أبي سفيان، وهي التي تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن مات زوجها في الحبشة، وكانت من المسلمات الأوائل، وكانت من المهاجرات إلى الحبشة، أسلمت وأبوها مع ذلك قائد من قوات المشركين. ثم إن الله تعالى هدى أبا سفيان فأسلم وصار يقاتل في سبيل الله، وقال للنبي صلى الله عليه وسلم: اجعلني أميراً أقاتل المشركين كما كنت أقاتل المسلمين. فالتزم بذلك وبدأ يقاتل المشركين في الشام، وفقئت عينه وهو يقاتل في سبيل الله، ثم فقئت عينه الأخرى وهو في سبيل الله فحاز بذلك هذه الفضيلة.(1/229)
ومعاوية أيضاً كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كاتباً له، وبعد ذلك كان أميراً على جيش من الجيوش في الشام في عهد عمر هو وأخوه يزيد بن أبي سفيان، وبعد أن مات أخوه يزيد ولاه عمر قيادة الجيوش بالشام، وأحبه أهل الشام لما رأوا له سيرة حسنة. فلما جاءهم خبر قتل عثمان استاؤوا وكثيراً، وحزنوا على عثمان حزناً شديداً وأخذوا على أنفسهم أن يبذلوا في نصره وفي قتال من قتله المهج والأرواح، فأوفوا بذلك كما هو معروف، وأطاعوا معاوية طاعة تامة حتى نصروه إلى أن أصبح خليفة وأميراً للمؤمنين كما هو الواقع.
مسألة حق ولاة الأمر على رعاياهم
قوله:
ومن السنة: السَّمع والطاعة لأئمة المسلمين وأمراء المؤمنين، برهم وفاجرهم، ما لم يأمروا بمعصية الله، فإنه لا طاعة لأحد في معصية الله.
ومن وَلِيَ الخلافة واجتمع عليه الناس ورضُوا به، أو غلبهم بسيفه حتى صار الخليفة وسُمِّي أمير المؤمنين -وجبت طاعته، وحَرُمت مخالفته والخروج عليه وشق عصا المسلمين.
شرح:
هذا الكلام يتعلق بطاعة ولاة الأمر؛ وهم الأمراء والخلفاء وقادة المسلمين الذين بولايتهم تأمن البلاد ويسود فيها الأمن، وينتصف المظلوم من الظالم، ويؤخذ على يد الظالم، بخلاف ما إذا كان الأمر فوضى.
لا يَصلحُ فوضى لا سراة لهم ولا صلاح إِذا جُهالُهم سَادُوا
تهدى الأمورُ بأهل الرأي إِن صلحت وإن فسدت فبالأشرارِ تَنقادُ
معلوم أن في الفوضى يستبد كل برأيه وينفذ ما يقول، فإن من طبع الناس محبة العتو والعدوان والسلب والنهب والأخذ بغير حق، فيكثر القتل ويكثر النهب ولا يحصل الأمن، وهذا بسبب الفوضى وعدم الولاية.(1/230)
فمن أجل ذلك لم يكن بدٌ من ولاية قوية، معها من السلطة ما تقوى به على قهر الظلم وعلى قهر الاعتداء، فيحصل بهذه الولاية إقامة الحدود، وردع الظالم، وتنفيذ الأوامر، وزجر العصاة، وتنفيذ الجيوش، وضبط الحدود التي هي أطراف البلاد، وملازمة الثغور، والمرابطة عليها وحفظها عن العدو ونحو ذلك، لا يكون هذا كله إلا بتدبير ولاة الأمر.
ولما كان الأمر كذلك؛ وجب السمع والطاعة لولاة الأمور، وجاءت الأدلة الكثيرة في الأمر بالسمع والطاعة، فمر بنا في حديث العرباض أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أوصيكم بالسمع والطاعة وإِن تأمر عليكم عبد حبشي يقودكم بكتاب الله" يعني أنه أسود من أصل الخلقة، والمراد لا تحتقروه لسواده ما دام أنه يقودكم بكتاب الله، فاسمعوا له وأطيعوا ولو كان عبداً.
ومعروف أيضاً أن العبد مشغول بطاعة سيده الذي يملكه، ولكن قد يكون في بعض الإحيان أن بعض الملوك يولي بعض المماليك على بعض الولايات، ويفوض إليه الأوامر فيكتب إلى تلك الجهة أن يسمعوا له ويطيعوا، ولو كان عبداً مملوكاً ولو كان حقيراً حبشياً أسود.
فالجواب أن نسمع ونطيع لكل وال لكن بشرط؛ وهو أن تكون الطاعة في المعروف فإذا كان كذلك فإنا نسمع له ونطيع، وقد ورد في حديث حذيفة بن اليمان أنه قال صلى الله عليه وسلم: "تسمع وتطيع للأمير وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك، فاسمع وأطع"؛ وذلك لأن في السمع والطاعة تمشية لأمور المسلمين، وتسوية للخلاف فيما بينهم، وجمعاً للكلمة وبعداً عن التضاد والفوضى ونحو ذلك، وفي الخروج عليهم، وفي قتلهم أو قتالهم وعدم الطاعة لهم تحصل المفاسد الكثيرة.(1/231)
وفي حديث عبد الله بن حذافة لما أمَّره النبي صلى الله عليه وسلم على سرية وأمَرهم بأن يطيعوه، وفي أثناء الطريق غضب فأمرهم أن يوقدوا ناراً، وأمرهم أن يدخلوها -من شدة غضبه، فقالوا: ما هربنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم إلا هرباً من النار فكيف ندخلها؟! فلم يزل بعضهم يحجز بعضاً حتى خمدت النار وسكن غضبه، فلما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "لو دخلوها ما خرجوا منها. إنما الطاعة في المعروف". يعني أن الذي يطاع فيه هو الذي يكون من المعروف، وأما مثل هذا فإنه منكر.
ولذلك ورد في حديث آخر "فإن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة" إذا أمر أحد الولاة بما هو معصية كقتل بريء مثلاً أو سلب بريء أو اختطاف أو سرقة أو أخذ شيء ونحوه مما يكون الوالي مخطئاً فيه، فلا تجوز طاعته في ذلك. كما أنه لا تجوز أيضاً طاعته إذا أمر بترك الطاعة، كما لو أمر بهدم المساجد أو بناء المشاهد أو إباحة فعل الفواحش والمنكرات وما أشبهها، فلا يجوز أن يطاع في ذلك لأن هذا يصادم الأوامر الشرعية، هذا معنى كونه إنما يطاع في المعروف.
فإذا كان هذا الوالي والياً على المسلمين، وهو مستقيم السيرة والسريرة فيما يظهر، وهو يقصد الحق، فإننا نسمع له ونطيع، ولا يجوز أن نفارقه أو نخرج عليه لما في الخروج عليه من المفاسد.
وإنّ ما حصل في القرون الأولى من المفاسد إنما كان بسبب الذين خرجوا على الأئمة، ففي القرن الأول الذي هو أفضل القرون لما أمّر بنو أمية بعض الأمراء الذين في ولايتهم شيء من الظلم والشدة -ثار عليهم كثير من الأمراء والقواد- كما في فتنة ابن الأشعث، وفتنة ابن المهلب، وفتنة الباهلي ونحوهم، وحصل فيها قتل وقتال وتشريد وظلم وأضرار أضرت بالمسلمين، فالواجب أن نصبر على ما نراه من الضرر ونتحمل ذلك حتى لا تكون فتنة، وحتى ندفع الشر بما هو أسهل منه فيأمن الناس ويحصل لهم الخير والطمأنينة.
مسألة: المبتدعة وموقف أهل السنة والجماعة منهم
وقوله:(1/232)
ومن السنة: هجران أهل البدع، ومباينتهم، وترك الجدال والخصومات في الدين، وترك النظر في كتب المبتدعة والإصغاء إلى كلامهم. وكل محدثة في الدين بدعة، وكل متسم بغير الإسلام والسنة مبتدع كالرافضة، والجهمية، والخوارج، والقدرية، والمرجئة، والمعتزلة والكرامية، والكلابية ونظائرهم، فهذه فرق الضلال وطوائف البدع، أعاذنا الله منها.
شرح:
شرع الموفق رحمه الله في هذه الفقرة يتحدث عن البدع، وهي تارة تكون في العقائد وتارة تكون في الأعمال، ولا شك أن البدع التي في العقائد أشد خطراً من البدع التي في الأعمال، وذلك لأن البدع التي في الأعمال قد يقال: إنها محرمة ولكنها ليست مُكفِّرة؛ لأنها مجال للاجتهاد. ومع ذلك فإنها منكرة لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: (وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة)، ولعموم قوله صلى الله عليه وسلم: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد).
ونحن مأمورون باجتناب البدع كلها وبالابتعاد عنها ولو كانت حقيرة، فإنها منكر. وكان السلف رحمهم الله ينكرون على من أحدث ما لم يسبق إليه، ولو كان يسيراً من الأمور المعتادة، أنكروا على مروان لما قدم الخطبة على الصلاة في صلاة العيد، فإن صلاة العيد تقدم على خطبتيه بخلاف الجمعة، فعدوا هذه بدعة وأنكروها ولكنها بدعة عملية ليست بدعة اعتقادية.
كذلك أنكر العلماء بدعة إحياء المولد؛ وهي إحياء ليلة الثاني عشر من ربيع الأول وقالوا: إنها بدعة مع أنها بدعة عملية، وإن كان للاعتقاد فيها مجالٌ ولكنها تلحق بالأعمال لا بالعقائد، وسبب ذلك أنها محدثة لم يكن لها أصل في الشرع.(1/233)
وكذلك إحياء أول ليلة جمعة من رجب بصلاة -تسمى صلاة الرغائب- لا أصل لها مع أنها صلاة، والذين يفعلونها يقولون: أتنكرون علينا الصلاة وطول القيام وقراءة القرآن وقراءة الأحاديث واستماع الأدعية؟ فنقول لهم: لا ننكر ذلك، ولكن ننكر عليكم تخصيص هذه الليلة دون غيرها، فإن هذا لم يرد به الشرع، فتعبدوا في السنة كلها ولا تخصوا ليلة من الليالي بعبادة ليست مشروعة فيها ولا محددة.
وهكذا البدع كثيرة، وقد استوفاها العلماء في مؤلفاتهم كالشاطبي رحمه الله في (الاعتصام)، وكأبي شامة في الباعث على إنكار البدع والحوادث، وقبلهما ابن وضاح في نبذة مطبوعة اسمها (البدع والنهي عنها) وغيرهم كثير، والكلام على هذه البدع العملية أهون من الكلام على البدع العقدية.
إذ لا شك أن البدع الاعتقادية أشد نكارة وما ذاك إلا أنها تعتمد القدح في الشرع؛ إما قدحاً في كماله، وإما قدحاً في صلاحيته، وإما اطراحاً لبعض تعاليمه. فلأجل ذلك يحذر العلماء من هؤلاء المبتدعة، وينكرون عليهم ويحذرون من قراءة كتبهم، ومن مجالستهم، ومن الانخداع بشبهاتهم، ومن قراءة نشراتهم التي ينشرون فيها ضلالاتهم وبدعهم -حتى لا يقع في شيء من شبهاتهم فيصعب بعد ذلك التخلص مما علق بالقلوب.
وكان السلف رحمهم الله يعرضون عن هؤلاء المبتدعة ويقولون: السكوت عنهم إذلال وإهانة لهم. فإن العالم يحتقر المبتدع ويسكت عنه، ويتركه يهذر ولا يتلفت إليه ولا يستمع له، ولو كان العامة يستجيبون لعلماء أهل السنة إذا حذروهم وقالوا: هذا مبتدع فاحذروه ولا تجالسوه؛ لبقي معزولاً لا أحد يجالسه ولا أحد يستمع منه ولا يناظره.(1/234)
فالعلماء يقولون: نصون علمنا عن أن نجادله أو أن نناظره أو أن نناقشه أو أن نتكلم معه، كما ننصح ونحذّر إخواننا عن أن يجالسوه، حتى يبقى المبتدع معزولاً، وهكذا كان الناس طوال القرون المفضلة؛ كانوا كلما وُجد مبتدع وحاول أن يضل الناس، حذر العلماء منه، وابتعد عنه الناس وتركوه، وتمسكوا بما كان عليه سلف الأمة وجهابذتها.
ولكن مع طول الزمان ومع غربته تمكن هؤلاء المبتدعة، وصار لهم كلمة وأتباع، وقوة ونفوذ، ومقلدون ومذاهب متبعة معترف بها -في زعمهم- لها مكانتها ولها قوتها، فحصل بذلك انخداع الكثير من الجهلة والعوام حتى راجت مؤلفاتهم، فعند ذلك لم ير العلماء بداً من مناقشتهم؛ إما مناقشة علنية حتى ينقطعوا، وإما مناقشة كتابية.
ومثال ذلك مخاصمة محمد بن عبدالرحمن الأدرمي يرحمه الله لذلك المبتدع وهو ابن أبي دؤاد، فقد ناقشه وقطع حجته بكلمات مختصرة، وإن كان المؤلف أوجزها، وقد توسع فيها العلماء الذين يروون بالأسانيد كالآجري في الشريعة ونحوه.
كذلك أيضاً؛ لما اشتهر بشر المريسي بقوله: إن القرآن مخلوق -رأى بعض العلماء أن يخاصموه كما في رسالة (الحيدة) لعبد العزيز الكناني، الذي أعلن مخاصمته له؛ وذلك لأنه أراد أن يظهر نفسه حتى يجتمع مع ذلك المبتدع، فجمعهما الخليفة، وتخاصما بقوة وبجدل، وكان الظهور للكناني رحمه الله، وانقطع بشر ولم يكن معه جواب كاف لإقناع هذا العالم، ثم كتب الكناني تلك المناظرة التي حدثت بينه وبين بشر في هذه الرسالة التي اسمها (الحيدة) وهي رسالة مطبوعة الآن.
ثم تتلمذ على المريسي رجل حنفي ولكنه مبتدع، وهو محمد ابن شجاع الثلجي، ولكنه يخفي ابتداعه، كتب رسالة في عقيدة (بشر) ولم يذكر اسمه، ولكنه معروف، تولى الرد عليها ومناقشتها عالم جليل من علماء أهل السنة وهو عثمان بن سعيد الدارمي في رده المشهور المطبوع باسم (رد الإمام الدارمي عثمان بن سعيد على بشر المريسي العنيد).(1/235)
ومع الأسف فقد كتب زاهد الكوثري رسالة في ترجمة الثلجي، وأثنى عليه وبالغ في الثناء عليه لأنه حنفي، ولم يتعرض لشيء من القدح فيه مع أنه معتزلي جهمي!
فهؤلاء العلماء رأوا أن المجادلة أفضل، لكن هناك من يرى تركها أصلاً، فقد ذكر ابن بطة في كتابه (الإبانة الكبرى) آثاراً كثيرة في النهي عن مجادلة ومخاصمة المبتدعة، والتحذير من مجالستهم ومخاصمتهم ومناظرتهم، وأن في ذلك السلامة، وأن في تركهم والبعد عنهم إهانتهم، وإماتة أقوالهم، ولكن رأى الكثير من العلماء أنه لابد من مناقشتهم حتى يظهر الحق ويستبين.
ووقع لشيخ الإسلام ابن تيمية مناظرات مع الأشاعرة -في زمانه-ومع الصوفية في مصر، ومع كثير من المبتدعة كالبطائحية، لأنه رأى أن ذلك من الضروري حتى يقطع شبههم، لأنهم يشبهون على الناس.
ويمكن مراجعة مناظرة العقيدة الواسطية لشيخ الإسلام ابن تيمية المطبوعة في المجلد الثالث من مجموع الفتاوى بعد ذكر العقيدة. وكذلك مناظراته لما قدم إلى مصر وجادله من جداله في أمور العقيدة، ومناظراته أيضاً في الشام بينه وبين الصوفية الذين يدعون أنهم يدخلون النار ولا تضرهم، فقطعهم وخاصمهم في ذلك وكذّبهم، وهذه المناظرات كلها وقعت وجهاً لوجه.
ولكن هناك ردود احتوتها مؤلفاته، ناقش فيها المبتدعة، مثل كتابه (منهاج السنة) رداً على الرافضة وفيه قمع لهم ودحض لشبهاتهم وإبطال لترهاتهم وأكاذيبهم، يقرأه القارئ فيرى الحق واضحاً جلياً. وكتابه (درء تعارض النقل والعقل)، أو (موافقة صحيح المنقول لصريح المعقول) رداًَ على كثير من الأشاعرة في شبهاتهم، وله كتب كثيرة (كالرد على الاخنائي)، و(الجواب الباهر في الرد على عباد المقابر)، و(الصارم المسلول على شاتم الرسول)، وغيرها.
فالحاصل أن أهل البدع العقدية خطرهم شديد، والإنسان عليه أن يعرف بدعهم ويحذرها، ويعرف أن ما عداها هو السنة والصواب فيتمسك به ويعض عليه بالنواجذ حتى يسلم من هذه الأخطار.(1/236)
ثم مثّل الموفق رحمه الله لهؤلاء المبتدعة، وذكر منهم مشاهيرهم وبدأ بالرافضة الذين يسمون أنفسهم (شيعة) وسبب تسميتهم (رافضة) أنهم في حدود سنة ثمان وعشرين ومائة خرج زيد بن علي بن الحسين ودعا إلى مبايعته، فجاء إليه الرافضة في العراق وقالوا: نبايعك على أن تتبرأ من الشيخين أبي بكر وعمر، فقال: هما صاحبا جدي. فقالوا: إذاً نرفضك. فسموا بالرافضة.
ومعروف أن مذهبهم مبني على الغلو في أهل البيت الذين هم -عندهم- علي وذريته وزوجته فقط وأم زوجته التي هي خديجة، وبالغ بعضهم إلى أن ادعى الولاية لأبيه الذي هو أبو طالب. وقد كتب بعض علماء الرافضة كتاباً نشر قبل أربعين سنة سماه (أبو طالب مؤمن قريش) فتجرأ إلى هذا الحد وأدعى بأنه مؤمن وأنه تقي وأنه مسلم؛ لأجل أنه أبو علي وقد نوقش هذا الكتاب ووجد أنه ليس له مرجع فيما قال، وأن مرجعه الوحيد من كتب الرافضة التي لا أساس ولا صحة لها، فهذا معتقدهم.
ومن بدعهم أنهم لما غلوا في علي كان من لوازم ذلك أن يطعنوا في الخلفاء قبله الذين يدعون أنهم قهروه وقسروه وألزموه بأن يبايع لهم وأن يتنازل عن الخلافة وأنه لا حق له فيها، فادعوا أن أبا بكر وعمر وعثمان ظلموه. فتبرأوا منهم وتبرأوا ممن بايعهم من الصحابة ولم يوالوا من الصحابة إلا عدداً يسيراً، أما بقية الصحابة عندهم فإنهم كفار، لأجل ذلك لا يقبلون أحاديثهم ولو كانت في الصحيحين، هذا مذهب الرافضة.
ثم زادوا على ذلك أنهم طعنوا في القرآن، وادعوا أن الصحابة الذين كتبوه خانوا فيه، وأنهم حذفوا منه ما يتعلق بالولاية وما يتعلق بأهل البيت، وادعوا أن هناك سورة تسمى سورة (الولاية) وهي مصورة في كتاب (الخطوط العريضة) لمحب الين الخطيب رحمه الله، وادعوا أن الصحابة حذفوها، وحذفوا أيضاً أشياء كثيرة من القرآن، حتى ذكروا أنهم حذفوا آية من سورة (ألم نشرح) وقالوا: إنها نزلت (ألم نشرح لك صدرك وجعلنا علياً صهرك)!!!!(1/237)
والحاصل أنهم يطعنون في الخلفاء، وأكثر الصحابة، ويسبونهم ويردّون أحاديثهم ويطعنون في القرآن، ويغلون في حق علي غلواً زائداً حتى عبدوه من دون الله، فجمعوا بين الشرك بعبادة أهل البيت وتعظيمهم التعظيم الزائد، والطعن في القرآن، والطعن في السنة أو ردّها، والطعن في الصحابة وتكفيرهم.
أما بقية الطوائف؛ فهم طوائف مختلفة في المعتقد، نذكر تعريفهم باختصار على ترتيب وجودهم.
فأول من وجد: (الخوارج) الذي خرجوا على علي، وكان من عقيدتهم التكفير بالذنب، فيجعلون الذنب كفراً والعفو ذنباً، ولذلك يستحلون دماء المسلمين، ويقولون: من فعل الكبيرة حل دمه وماله وسبي نسائه وأولاده ونحو ذلك، وقد قاتلهم علي رضي الله عنه، و استمروا موجودين في مدة خلافة بني أمية وهم يقاتلون يقوون تارة ويضعفون تارة إلى أن تفرقوا. ولكن بعد ذلك هدأت حدتهم فلم يقاتلوا، ودخلت فيهم أيضاً بدع أخرى، ويوجد منهم الآن في البلاد الأفريقية الألوف ولكنهم متسترون، ويوجد منهم أيضاً الطائفة الإباضية التي في عمان، ولكنها في الحقيقة معتزلة ولا يطبقون مذهبهم تماماً.
وبعدهم خرجت (القدرية) الذين ينكرون من القدر العلم السابق، وأول من خرج منهم معبد الجهني، ثم غيلان القدري، ينكرون علم الله بالأشياء قبل وجودها يقولون: لا يعلم الأشياء حتى تحدث. وهؤلاء الذين قال فيهم الشافعي: ناظروهم بالعلم فإن أقروا به خُصموا وإن جحدوه كفروا.
ثم حدثت فيهم بدعة أشد من هذه وهي إنكار قدرة الله على الهداية والإضلال، وأن الله ليس على كل شيء قدير، وأنه لا يهدي ولا يضل من يشاء، وهؤلاء هم القدرية الذين أنكروا القدرة. وقال فيهم الإمام أحمد: القدر قدرة الله -يعني من اعترف بأن الله على كل شيء قدير فقد خصم القدرية، خاصموهم بهذه الكلمة قولوا لهم: أليس الله على كل شيء قدير؟ إذاً فكيف يخرج عن قدرته كونه يهدي من يشاء ويضل من يشاء، وله الحكمة في ذلك.(1/238)
ثم خرج بعدهم (المعتزلة) في آخر حياة الحسن البصري، وأولهم واصل بن عطاء الذي ادعى أن العاصي ليس بكافر ولا مسلم بل في منزلة بينهما، واعتزل مجلس الحسن وصار يقرر مذهبه بزاوية من المسجد، وصار الحسن إذا جاءه من يستشيره، أو رأى من أحد بدعة أشار إليه وقال: عند أولئك المعتزلة، اعتزلنا واصل، فمن ثم سُمّوا بالمعتزلة.
وانتشر مذهبهم إلى الآن، وطبعت لهم مؤلفات، وممن اعتنق مذهبهم القاضي عبدالجبار صاحب الكتاب المشهور: (المغني) الذي هو من أشهر كتبهم، مطبوع في نحو أربعة عشر مجلداً، وله مؤلفات أخرى في تقرير مذهبهم.
وقد ذكرنا أن مذهبهم يدور على خمسة أشياء:
- التوحيد: الذي هو نفي الصفات.
- والعدل: الذي هو نفي قدرة الله لأفعال العباد.
- والمنزلة بين المنزلتين: التي هي أن العاصي ليس بمؤمن ولا كافر.
- وإنفاذ الوعيد: الذي هو تخليد العصاة في النار.
- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: الذي هو الخروج على الأئمة. هذا مذهبهم الباطل.
وممن اعتنق مذهبهم من مشاهير اللغويين (الزمخشري) صاحب التفسير المشهور بالكشاف، فإنه معتزلي مبالغ في الاعتزال، ضمّن تفسيره عقيدة الاعتزال.
ثم خرجت بعدهم (الجهمية): ولكن مذهبهم تفرق في عدة فرق، فمن مذهبهم تعطيل الله تعالى عن صفات الكمال، فإنهم نفوا الصفات كلها، بل بالغوا في النفي حتى جعلوها كلها مجازاً، وهم الذين يحذر السلف رحمهم الله -كثيرا- من الانخداع بهم.
ثم إن الجهم الذي تنسب إليه هذه الطائفة اجتمعت فيه ثلاث بدع عقدية هي:
- التعطيل: وهو نفي الصفات.
- والإرجاء، فهو رأس المرجئة، وهو أولهم إذ يقول: لا يضر مع الإيمان ذنب. إذا كنت مؤمناً فاعمل ما شئت من الذنوب. ويقول قائلهم:
فكثر ما استطعت من الخطايا إذا كان القدوم على كريم
فعندهم أن المعاصي لا تضر التوحيد، ومن كان مذنباً -ولو كثرت ذنوبه- فإنه لا يخرج عن كونه مؤمناً كامل الإيمان.(1/239)
- والجبر وهو نوع من البدع في القدر؛ وهو ادعاؤه أن الإنسان مجبور على الذنوب وعلى المعاصي وعلى الكفر، وليس له اختيار أبداً وهم الذين يقول قائلهم:
دعاني وسد الباب دوني فهل إلى دخولي سبيل، بينوا لي حجتي
فهؤلاء رؤوس المبتدعة والفرق: الجهمية المعطلة، والمرجئة، والقدرية، والجبرية، والمعتزلة الذين جمعوا هذه المذاهب ونحوهم.
أما (الكرامية) فهم اتباع محمد بن كرام عالم مشهور إلا أنه مبالغ في الإثبات حتى اتهم بنوع من التمثيل، ولكنه أقرب إلى الحق وأقرب إلى الصواب، وإنما انتقدوه لمبالغته في إثبات الصفات حتى وقع في نوع من التشبيه، ومن مذهبهم أن الإيمان مجرد المعرفة.
أما (الكُلابية) فهم أتباع عبدالله بن سعيد بن كُلاب، وهم الذين يقرون بسبع صفات فقط وهي: السمع والبصر والكلام والحياة والقدرة والإرادة والعلم وينكرون ما عداها، وهو الذي سلك طريقته أبو الحسن الأشعري في وسط عمره، وإلى أبي الحسن هذا ينتسب المذهب المنتشر؛ مذهب الأشاعرة، فالأشاعرة على مذهب ابن كلاب.
وأما فرقة (السالمة) فهي تتبع ابن سالم، ومذهبهم قريب من مذهب الكرّامية أو أشد؛ فهم يقولون بالتشبيه، وأن الله له يدٌ كأيدينا ونحو ذلك.
وبقيت فرقة موجودة بكثرة وهم (الصوفية)، فالصوفية لا شك أنهم كانوا في أول الأمر زهاداً يلبسون الصوف، ولكن حدثت فيهم بدعٌ وأشدها بدعة القول (بوحدة الوجود) وهو أن وجود الخالق عين وجود المخلوق، فهذه البدعة هي التي ضلوا بها عن الطريق، وهي بدعة يعتنقها كثير منهم. وعندهم بدع أخرى ولكنها خفيفة بالنسبة إلى هذه، كبدعة الغناء والسماع والرقص والتمايل والنشيد الموحَّد مثلاً، والذكر المقطوع كذكرهم بكلمة (هو، هو)، وما أشبه ذلك وهم موجودون بكثرة والردود عليهم متوفرة. وبكل حال هؤلاء هم رؤوس المبتدعة، ينبغي للمسلم أن يجتنبهم حتى يسلم في دينه وعرضه.
مسألة: الكلام على الاختلاف في الفروع
وقوله:(1/240)
وأما النسبة إلى إمام في فروع الدين؛ كالطوائف الأربع فليس بمذموم، فإن الاختلاف في الفروع رحمة، والمختلفون فيه محمودون في اختلافهم مثابون في اجتهادهم، واختلافهم رحمة واسعة، واتفاقهم حجة قاطعة.
نسأل الله أن يعصمنا من البدع والفتنة، ويحيينا على الإسلام والسنة، ويجعلنا ممن يتبع الرسول صلى الله عليه وسلم في الحياة، ويحشرنا في زمرته بعد الممات، برحمته وفضله - آمين.
وهذا آخر المعتقد، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً..
شرح:
هذا آخر العقيدة، ختمها بهذه الجملة، وهي حكم الانتساب إلى المذاهب الأربعة الفرعية. وقد ذكرت قريباً أن هذا يعتبر من الفروع لا من الأصول، أو يلحق بأصول الفقه، ولكن هناك من يجعله من أصول العقائد، ويتشدد في النهي عن الانتساب إلى المذهب. فهناك فرق في الهند وفي الباكستان يسمون أنفسهم (أهل الحديث) يشددون على المنتسبين إلى المذاهب، ولكن لا نلومهم؛ لأن هناك من يتعصب عندهم للمذاهب تعصباً زائداً، فآل بهم الأمر إلى أن جعلوا الانتساب إلى المذهب كالانتساب إلى المعتقد. فقالوا: لا يجوز أن تكون جهمياً ولا أن تكون أشعرياً، ولا أن تكون كرّامياً، ولا كٌلابياً، ولا سالمياً، ولا واصلياً، ولا نظامياً، ولا جاحظياً، وما أشبه ذلك، ولا يجوز أن تكون شافعياً، ولا حنبلياً، ولا مالكياً، ولاحنفياً، ولا ثورياً، ولا ليثياً..
وجعلوا الانتساب إلى المذاهب كالانتساب إلى المعتقدات، وهذا خطأ وما ذاك إلا أن أهل المذاهب أولاً كلهم من علماء السنة، وكلهم من أهل الحديث، فتح الله تعالى عليهم ورزقهم فقهاً وفهماً، فجمعوا بين الحفظ والفهم، فأدى بهم اجتهادهم إلى أقوال دونوها في مؤلفاتهم.(1/241)
فأولهم (أبو حنيفة) رحمه الله، كان ذكياً، عنده قوة إدراك، وعنده قوة فهم، فكان يفتي بهذه الفتاوى ويعللها، ويسر الله له تلميذين وهما أبو يوسف، ومحمد بن الحسن، سجلا فتاواه وأقواله في مؤلفات كثيرة، فانتشر مذهبه، وبسبب كتب هذين العالمين تمكن وصار له مذهب متبع، وهو لم يكتب هذه الفتاوى بنفسه، إنما تارة يمليها على التلاميذ، وتارة يكتبونها هم؛ إذا استفادوا منه فائدة كتبوها ثم جمعوها في مؤلف، ثم انتشر هذا المذهب واعتنقه من اعتنقه.
ثم جاء بعده (الإمام مالك)، وألف كتابه (الموطأ) واختار فيه ما اختار، ولما انتشر اعتنقه من اعتنقه، ورأى كثير من العلماء أنه عالم المدينة، وأنه محدث جليل كبير، حتى إن المنصور العباسي في زمانه قال: نريد أن نحمل الناس على العمل بالموطأ كما أن عثمان حملهم على المصحف. فامتنع مالك رحمه الله، وقال: إن الصحابة تفرقوا، وإن عندهم من العلوم ما فاتنا، وليس كل العلم قد حويته، أجل ولا العشر ولو أحصيته. ثم تتلمذ عليه أيضاً تلميذ جمع من فتاواه شيئاً كثيراً في الكتاب الذي اسمه (المدونة) المطبوع في خمسة مجلدات كبار، انتشر مذهبه بسببها في أكثر البلاد المغربية والأفريقية بسب أنهم ذهبوا بكتبه هناك.
ثم جاء بعده (الشافعي) رحمه الله، وألف كتاب (الأم)، و(الرسالة) والرسائل الكثيرة المطبوعة معهما، وهو الذي أملاها أو كتبها، واختصرها بعض تلامذته، فكان ذلك سبباً أيضاً في أن تتلمذ عليه تلامذة كثيرون في الشام وفي مصر، وفي العراق، وفي الحجاز، وفي اليمن وفي كثير من البلاد، وكثر اتباعه الذين على مذهبه بسبب اعتمادهم على هذه المؤلفات.(1/242)
ثم جاء بعده -أو في زمنه- الإمام (أحمد بن حنبل)، وكان رحمه الله لا يحب أن تكتب فتاواه، فلم يكتب في الفقه وإنما كتاباته فيما يتعلق بالحديث أو فيما يتعلق بالعقيدة، ولكن تتلمذ عليه تلامذة محبون له فكانوا يكتبون فتاواه، هذا يكتب مجلداً، وهذا يكتب ورقتين، وهذا يكتب عشرين ورقة، وهذا كتب وهذا كتب، وحتى ذكروا أنه جمع من فتاواه أكثر من ثلاثين مجلداً، ثم جمعها أحد تلاميذهم وهو أبو بكر الخلال صاحب كتاب (السنة) في عشرين مجلداً أخذها من تلامذته.
وجاء أيضاً بعده تلميذ له وهو محمد بن حامد وجمعه أيضاً في مجموع آخر، وكاد مذهب الإمام أحمد أن يضمحل ولا يكون له أتباع إلى أن جاء عهد القاضي أبي يعلى، فاعتنق هذا المذهب، ولما تولى القضاء أظهر هذا المذهب ودعا إليه، وألف فيه المؤلفات، وانتشر المذهب وصار له أتباع من ذلك اليوم وحتى يومنا هذا.
هذه هي المذاهب الأربعة، ولكن هل كان بعضُهم يضلل بعضاً؟، حاشى وكلا، كلهم متآخون ومتحابون ومجتمعون على الحق.
سئل الإمام الشافعي فقيل له: هل نصلي خلف من يقلّد مالكاً؟ فارتعد وقال: ألست أصلي خلف مالك! فمالك شيخ الشافعي الذي أفاده فوائد كثيرة جمة، فأنكر على هذا الذي قال إننا نتورع أن نصلي خلف المالكية لأنهم يخالفوننا في أشياء، والخلافات التي بينهم في الصلاة مثلاً في الجهر بالبسملة أو التلفظ بالنية، أو في بعض الأشياء اليسيرة القليلة، وكذلك بينه وبين الحنفية خلافات لا تبطل بها الصلاة.
مع ذلك كله فإن هؤلاء الأئمة ليسوا هم العلماء كلهم، بل في زمانهم من هو أهلٌ للاتباع وأهلٌ للعلم؛ فالإمام الليث بن سعد عالم مصر كان أيضاً عالماً جليلاً كبيراً، وله أيضاً أتباع، وإن لم يكن له مؤلفات ولا مذهب متبع. وكذلك الإمام الأوزاعي أبو عبدالرحمن عالم الشام في زمانه، وله أيضاً أتباع، وله تلاميذ كثيرون.(1/243)
ولكن المجمع واحد، فكلهم يتبع الآخر إذا ظهر له الحق مع أحدهم، فإنهم يتبرؤن من الخطأ ويقولون لتلامذتهم: إذا اتضح لكم الخطأ في قولنا فلا تتبعوه، اتبعوا الحق وخذوا به.
ذكروا أن الإمام أبا حنيفة يقول: إذا جاء الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلى الرأس والعين، وإذا جاء عن الصحابة فعلى الرأس والعين، وإذا جاء عن التابعين، فنحن رجال وهم رجال؛ وذلك لأنه من التابعين.
واشتهر عن مالك رحمه الله أنه يقول: كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا صاحب هذا القبر. يعترف على نفسه بأن أقواله عرضة للخطأ وعرضة للترك، وإذا اتضح فيها خطأ فلتُترك.
وجاء رجل إلى الشافعي رحمه الله، وسأله عن مسألة فقال: هذه المسألة أفتى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا وكذا. فقال السائل: فما تقول أنت يا أبا عبدالله؛ فغضب الشافعي غضباً شديداً وقال: ويحك أتراني في بيعة؟ أتراني في صومعة؟ أتراني على وسطي زنار؟ أقول لك أفتى فيها رسول الله صلى عليه وسلم وتقول ماذا تقول أنت، أترى أني أخالف فتوى رسول الله صلى الله عليه وسلم! هكذا غيرتهم وحماستهم على السنة النبوية.
كذلك الإمام أحمد رحمه الله اشتهرت مقالته التي يقول فيها: عجبت لقوم عرفوا الإسناد وصحته ويذهبون إلى رأى سفيان، والله تعالى يقول: (فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم)(النور:63) أتدري ما الفتنة؟ الفتنة الشرك، لعله إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك.
هذه مقالتهم التي يحثون فيها على الرجوع إلى السنة، ومع ذلك وللأسف؛ فإن كثيراً من أتباعهم المقلدة صاروا يرون الحق والصواب معهم فقط، ويتعصبون للمذاهب هذا التعصب الذي سبّب الفرقة.(1/244)
فقد نتج عن التعصب لمذهب هذا على هذا؛ أنه حصل بينهم منافسات ومجادلات سواءً في الكتب أو في الأعمال أو نحوها، حتى ذكروا أن المسجد الأموي الذي في دمشق كانت تقام الصلاة فيه أربع مرات يصلي الإمام الحنفي بمن معه، ثم يصلي الشافعي، ثم المالكي، ثم الحنبلي، وهذه تفرقه بين المسلمين.
وهكذا أيضاً قبل مائة وخمسين سنة في الحرم المكي، كان فيه أربع مقامات، فالمقام الحنفي في الجانب الشمالي يصلى فيه الإمام الحنفي و المقام المالكي في الجانب الغربي يصلي فيه الإمام المالكي، والمقام الشافعي في الجانب الجنوبي يصلي فيه الإمام الشافعي، والمقام الحنبلي بالجانب الشرقي في مقام إبراهيم يصلي فيه الإمام الحنبلي، فتقام الصلاة في المسجد الحرام أربع مرات أو يصلي فيه أربعة أئمة! هذا لا شك أنه تعصب مذموم.
ومع الأسف ذكر لنا أن كثيراً من المبتدعة يعيدون الصلاة إذا صلوا خلف إمام الحرم الموجود الآن؛ يقولون: هذا وهابي مبتدع ضال. ولكن هؤلاء ما ضللوه لأجل أنه حنبلي، وإنما من أجل أنه وهابي كما يزعمون.
نحن نقول: الأئمة رحمهم الله مجتهدون ومذاهبهم معترف بها واتفاقهم حجة قاطعة وإجماعهم دليل قوي، واختلافهم رحمة وفيه سعة.
ذكر أن رجلاً جاء إلى الإمام أحمد وقد كتب كتاباً سماه (الاختلاف) قال فيه مثلاً: اختلفوا في المسألة الفلانية فقال الشافعي: كذا، وقال الثوري: كذا، وقال الليث: كذا، وقال مالك: كذا. فسماه (الاختلاف) فأنكر عليه أحمد وقال: لا تسمه بالاختلاف بل سمه بالسعة. يعني إن هذا الاختلاف توسعة على المسلمين حتى إذا عمل أحدهم بهذا القول، وعمل الثاني بهذا القول كان كل منهم على خير.
فهذا ما يتعلق بهذه المذاهب، وهي المذاهب المتبعة، ومن ظهر له الحق في غير مذهبه، فلا ضير عليه أن يتبع الحق ولو خالف مذهب إمامه.. والله تعالى أعلم، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
الخاتمة(1/245)
أحمد ربي وأشكره، وأثني عليه وأستغفره، وأعترف بفضله ولا أكفره، وأشهد أن لا إله إلا الله؛ خلق كل شيء فأحكمه ودبره، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله بلغ ما أوحي إليه وفسره صلى الله عليه وسلم وعلى آله، ومن اقتفى أثره:
أما بعد:
فبنعمة من الله وفضل تم إعداد وتخريج أحاديث شرح لمعة الاعتقاد، وذلك الشرح المبارك النفيس العظيم لفضيلة شيخنا الشيخ الدكتور/ عبدالله بن عبدالرحمن الجبرين حفظه الله تعالى وأمد في عمره ونفع به المسلمين.
وفي نهاية عملي هذا المتواضع أعتذر عما ورد فيه من الخطأ والتقصير؛ حيث إن هذا من طبيعة البشر، فما حصل من صواب فمن الله، وما حصل من خطأ أو تقصير فمن نفسي والشيطان -أعاذنا الله منه- كما أني أشكر كل من أعانني على تخريج وإعداد هذا الكتاب، وعلى رأسهم والدي الكريمان أمد الله في عمريهما -رب ارحمهما كما ربياني صغيراً- وفضيلة شيخنا الكريم الذي تفضل علي بالموافقة لإعداد هذا الشرح النفيس وتخريج أحاديثه، ومن ثم التوجيه والمساندة حتى انتهى الكتاب إلى ما هو عليه الآن، وعائلتي كانت لها اليد الطولي في تهيئة الجو المناسب لي للبحث والمطالعة، كما أني لا أنسى فضل من ساعدني في تفريغ الأشرطة وكتابتها لا حرمه الله الأجر، وكذا إخواني الكرام الذين كانوا دائماً نعم العون -بعد الله- لي في جميع ما احتاجه منهم.
أسأل الله الكريم العظيم رب العرش العظيم أن يجزي كل من أعانني في إخراج الكتاب خير الجزاء، وأن ينفع به، وأن يجعل عملي فيه وفي غيره خالصاً لوجهه الكريم وأن يجعله ذخراً لي يوم لا ينفع مال ولا بنون.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.(1/246)