سلسلة إِتِّباع السلف
الإخلاص والإتباع
{ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا } أخلصه وأصوبه
قال أبو يعلى الحنبلي:
"لو رُحل إلى الصين في طلبها - السنة- لكان قليلا"
تأليف
أبي أنس
مَاجد إسلام البنكاني
القصيدة
أَخْلِصْ واتّبِعِ النورَ تَفُزْ بجوارِ نبيِّي العدنانِ
لا فوْزَ بلا إخلاصَ أخي واحذرْهُ رياءَ الإنسانِ
إنْ تَتَّبعِ السَّنةَ تَكسبْ والبدْعَةَ دربَ الشيطان
قد ضَلَ من ابتدعَ بديني وضلالته في النيران
قصصاً أرويها ثابتةٍ فيها عِبَرٌ يا إخواني
لا نرجو فيها غيرَ رِضا ربِّ الأكوانِ الرَّحْمنِ
عَنْ خَيْرِ قرُونِ الأرضِ خذوا عن صُحْبِةِ خَيْرِ الأقرانِ
مَن نصروا أحمدَ في الدنيا ثم اتّبعوه بإحسانِ
فصلاتي أُتْبِعُها سلامي لنبيِّ الإنْسِ مع الجانِ
ما حَلَّقَ طَيْرٌ في الدنيا أو غَرَّد فوق الأغصانِ
وختامُ القول بحمدِ الله فزيدوا حمداً إخواني
المقدمة
ijk
إنَّ الحمدَ لله نحمَدُه، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلّ له، ومن يُضلل فلا هادي له.
وأشهد أنّ لا إله إلاّ اللهُ وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمداً عبده ورسولُه. +$pkڑ‰r'¯"tƒ الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102) " (1)
$pkڑ‰r'¯"tƒ النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1) ".
__________
(1) سورة آل عمران .(1/1)
$pkڑ‰r'¯"tƒ الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71) " (1)
فإن خير الكلام كلام الله تعالى، وخير الهدى هدي محمد×، وإن شر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار . (2)
أما بعد، فقد قال الله تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ" . (3) بَيّن الله سبحانه وتعالى في هذه الآية أن المحبة هي الإتباع، فالعبادات توقيفية ولا يحق لنا أن نعبد الله تعالى إلا بما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم - من ربه وبما سَنَّهُ لنا، وبالكيفيات التي دلنا عليها ، حيث قال - صلى الله عليه وسلم - كما في حديث عثمان > عن وضوئه - صلى الله عليه وسلم - : "من توضأ نحو وضوئي هذا ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه غفر له ما تقدم من ذنبه" .
وقال عليه الصلاة والسلام "صلوا كما رأيتموني أصلي" .
وقال: "خذو عني مناسككم"، وهكذا في كل العبادات .
__________
(1) سورة الأحزاب .
(2) ) ) وهذه الخطبة تسمى عند العلماء "خطبة الحاجة"، وهي تشرع بين يدي كل خطبة، سواء كانت خطبة جمعة أو عيد أو نكاح أو درس أو محاضرة .
والبدعة : هي الإحداث في الدين فعن عائشة رضي الله عنها، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : "من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد" . أخرجه البخاري برقم (2034) ، وأخرجه مسلم برقم (1718).
وعنها أيضاً قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد" . أخرجه مسلم برقم (1718) . وسيأتي الكلام على هذا الحديث بإذن الله في الفصل الثاني.
(3) سورة آل عمران الآية (31) .(1/2)
فعليك أخي الحبيب أن تعلم أنه على المسلم أن يعبد الله تعالى بما شَرَعَ ، وأن يتبع النبي - صلى الله عليه وسلم - بما ورد عنه وبالكيفية التي وردت عنه، فلا يجوز أن نعتدي في العبادات ولا أن نخالف نبينا عليه الصلاة والسلام، وكل عمل ليس على طريقة النبي - صلى الله عليه وسلم - فهو مردود على صاحبه ولا يقبل .
فعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد". (1)
وفي رواية لمسلم: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو ردّ".
فعلينا أن نعبد الله تعالى بما شَرَعَ لنا، وليس لنا أن نخالف ما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم - ونعمل خلاف سنته، وأنْ نبتدعَ أمراً في الدين لم يسبق له مثيل من السلف الصالح رضوان الله عليهم، لا من الصحابة الكرام، ولا من أئمة الدين.
واعلموا أنّ كلَّ خير في اتباع من سلف .
عن جابر > قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا خطب احمرت عيناه، وعلا صوته، واشتدّ غضبه، كأنه منذر جيش، يقول: صبَّحكم ومسَّاكم، ويقول: "بعثت أنا والساعة كهاتين" ويقرن بين إصبعيه السبابة والوسطى ويقول: "أما بعد، فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة" ثم يقول: "أنا أولى بكل مؤمن من نفسه، من ترك مالاً فلأهله، ومن ترك ديناً أو ضياعاً فإليّ و عليّ". (2)
الضياع : العيال، والمراد: من ترك أطفالاً وعيالاً ذوي ضياع.
وزاد النسائي وابن خزيمة: "وكل ضلالة في النار". (3)
__________
(1) رواه البخاري في كتاب الصلح برقم (2697) ، ومسلم في كتاب الأقضية برقم (1718).
(2) رواه مسلم في كتاب الجمعة برقم (867) .
(3) رواه النسائي (1/234)، وابن خزيمة في صحيحه (3/143/ 1785) وغيرهما، وصححهما الألباني في صحيح الترغيب برقم (50) .(1/3)
وعن أنس بن مالك > قال: قال رسول الله×: "من رَغِبَ عن سنتي فليس مني". (1)
قوله: (رغب)، الرغبة عن الشيء الإعراض عنه إلى غيره، والمراد: من ترك طريقتي وأخذ طريقة غيري فليس مني.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبي $ أنه قال: "إذا مشت أمتي المطيطاء وخدمها أبناء الملوك أبناء فارس والروم سلط شرارها على خيارها". (2)
قوله: "إذا مشت أمتي المطيطا" أي تبختروا في مشيتهم عجباً واستكباراً.
وإنما كان ذلك سبباً للتسلط المذكور لما فيه من التكبر والعجب، وما يترتب على استخدام أبنائهم من إتيانهم في أدبارهم، قالوا وذا من دلائل نبوته فإنه إخبار عن غيب وقع، فإنهم لما فتحوا بلاد فارس والروم وأخذوا مالهم واستخدموا أولادهم سلط عليهم قتلة عثمان فقتلوه، ثم سلط بني أمية على بني هاشم ففعلوا ما فعلوا .
فهذه بعض الأمور تقع من بعض الناس تخالف ما كان عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد لا يعلمون إنهّا تعد من البدع ... وكذلك تكلمنا عن بعض الشركيات التي تقع من البعض وهم لا يعلمون أنها من الشرك، فوجب التنبيه عليها ليكون القارئ الكريم على علم بها وليتجنبها .
كما قال الشاعر الحكيم :
عرفت الشر لا للشر لكن لتوقيه
ومن لا يعرف الخير من الشر يقع فيه .
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب النكاح برقم (5063)، ومسلم في كتاب النكاح برقم (1401)، والحديث قطعه من حديث الرهط الثلاثة الذين سألوا أزواج النبي $ عن عبادته.
(2) صحيح الجامع حديث رقم (801).(1/4)
وكما قال حذيفة بن اليمان >: "كان الناس يسألون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الخير، وكنت أسأل عن الشر مخافة أن يدركني . (1)
أسأل الله العظيم أن يجعل عملنا هذا خالصاً لوجهه الكريم ، وأن ينفعنا به
يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ". (2) إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
و كتب/ أبو أنس العراقي
ماجد بن خنجر البنكاني
5/2/1429هـ
11/2/2008م
ffffff
منهج البحث
اعتمدنا خطة البحث كالتالي :
1- بدأنا بما كان يبدأ به النبي - صلى الله عليه وسلم - في كل خطبة ودرس ومحاضرة ألا وهي خطبة الحاجة.
2- ونبدأ بإذن الله بتعريف الإتباع لغة واصطلاحا ليتم المعنى في ذلك .
3- ونتكلم على موضوع مهم يخص الأمة الإسلامية ويكون فيه النصرة والعزة والتمكين لهذه الأمة ألا وهو موضوع إتباع النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما جاء به عن ربه . ونبينّ أنواع الإتباع .
4- ونتناول في البحث كذلك مخالفة أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - وكيف يكون فيه الذل والهزيمة والهوان، ونبيّن أنواع المخالفات ونضرب لذلك بعض الأمثلة .
5- ونتكلم كذلك على التشبه بالصالحين واتباعهم على نهج الكتاب والسنة، كما نتكلم على التشبه بالكفار وفيما جاء فيه من النهي عن ذلك، مع ذكر بعض الأمثال ليتضح البيان .
6- ويكون اعتمادنا على مصادر البحث كتاب الله تعالى ، وسنة رسوله ×، وأقوال السلف الصالح من هذه الأمة وفي مقدمتهم الصحابة الكرام رضوان الله عليهم.
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه برقم (3411)، باب علامات النبوة في الإسلام، ورقم (6673)، باب كيف الأمر إذا لم تكن جماعة، وأخرجه مسلم في صحيحه برقم (1847)، باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين عند ظهور الفتن وفي كل حال وتحريم الخروج على الطاعة ومفارقة الجماعة.
(2) سورة الشعراء (88-89) .(1/5)
7- وكذلك يكون اعتمادنا على كتب السنة المطهرة، كما يكون اعتمادنا على كتب التفسير في هذا الباب.
8- ونتطرق إلى موضوع العقيدة في هذا الباب والتي يكون فيها النجاة يوم القيامة.
9- ثم نختم البحث بتلخيص ما نكتب في هذا الباب، ونصيحة لكل مسلم يريد وجه الله تعالى ورضاه ومن ثم دخول الجنة. والله الموفق وهو الهادي إلى سواء السبيل .
ffffff
تمهيد
معنى السنة في اللغة: الطريقة .
قال ابن منظور : السُّنَّةُ: الطريقة المحمودة المستقيمة، ولذلك قيل فلان من أَهل السُّنَّة معناه من أَهل الطريقة المستقيمة المحمودة، وهي مأْخوذة من السَّنَنِ وهو الطريق. (1)
وتطلق السنة في الشرع على كل ما جاء عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من قول، أو فعل، أو تقرير، أو صفة، وتطلق السنة على المأمور به.
روى البخاري في صحيحه، عن أنس بن مالك رضي الله عنه، في قصة الرهط الثلاثة الذين قال أحدهم: أما أنا فإني أصلي الليل أبدا ، وقال آخر أنا أصوم الدهر ولا أفطر ، وقال آخر أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدا فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : "أنتم الذين قلتم كذا وكذا ؟ أما والله أتي لأخشاكم لله وأتقاكم له لكني أصوم وأفطر ، وأصلي وأرقد ، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني". (2)
قال ابن حجر : المراد بالسنة الطريقة لا التي تقابل الفرض، والرغبة عن الشيء الإعراض عنه إلى غيره ، والمراد من ترك طريقتي وأخذ بطريقة غيري فليس مني. (3)
وقال الشيخ عبدالمحسن العباد: تطلق السنة على كل ما جاء عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، وفي عرف الفقهاء على المأمور به غير الواجب .
__________
(1) لسان العرب (13/220).
(2) رواه البخاري في صحيحه برقم (4776)، باب الترغيب في النكاح، ورواه مسلم في النكاح برقم (1401)، باب استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه ووجد مؤنة واشتغال من عجز عن المؤن بالصوم .
(3) فتح الباري (9/105).(1/6)
قال الحافظ في الفتح : وفيه - أي حديث عتق بريرة - تسمية الأحكام سنناً وإن كان بعضها واجباً ، وأن تسمية ما دون الواجب سنة، اصطلاح حادث . (1)
فالسنة باعتبارها مصدراً تشريعياً هي: أقوال الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، وأفعاله، وتقريراته. (2)
بعد أن عرفنا السنة لغة واصطلاحاً علينا أن نعرف الشريعة فنقول :
الشريعة لغة في اللغة: تطلق العرب الشريعة في اللغة الابتداء ، تقول شرع فلان في الكتابة أي بدأ .
قال ابن كثير في تفسيره: الشرعة والشريعة هي ما يبتدأ فيه إلى الشيء، ومنه يقال : شرع في كذا أي ابتدأ فيه، كذا الشريعة وهي ما يشرع فيها إلى الماء، أما المنهاج فهو الطريق الواضح السهل، والسنن الطرائق. (3)
أما الشريعة في الاصطلاح هي: كل ما شرعه الله من العقائد والأعمال. (4)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: اسم الشريعة والشرع والشرعة فانه ينتظم كلما شرعه الله من العقائد والأعمال، وقد صنف الشيخ أبو بكر الآجرى كتاب الشريعة، وصنف الشيخ أبو عبدالله ابن بطة كتاب الإبانة عن شريعة الفرقة الناجية وغير ذلك، وإنما مقصود هؤلاء الأئمة في السنة باسم الشريعة العقائد التي يعتقدها أهل السنة من الإيمان مثل اعتقادهم أن الإيمان قول وعمل، وان الله موصوف بما وصف به نفسه ووصفه به رسوله، وأن القرآن كلام الله غير مخلوق، وأن الله خالق كل شيء، وما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وأنه على كل شيء قدير ، وأنهم لا يكفرون أهل القبلة بمجرد الذنوب، ويؤمنون بالشفاعة لأهل الكبائر ونحو ذلك من عقود أهل السنة، فسموا أصول اعتقادهم شريعتهم، وفرقوا بين شريعتهم وشريعة غيرهم . (5)
__________
(1) الفوائد المنتقاة (ص12) .
(2) المدخل إلى الشريعة والفقه الإسلامي (ص123).
(3) تفسير ابن كثير (2/90).
(4) المدخل إلى الشريعة والفقه الإسلامي (ص13).
(5) مجموع الفتاوى (19/306-307).(1/7)
وقال ابن الأثير : وهو ما شَرَع اللّه لِعبادِه من الدِّين : أي سَنَّه لهم وافْترضَه عليهم . (1)
ffffff
سبب اختيار الموضوع
عندما رأينا ابتعاد الناس في هذا الزمان إلا من رحم الله تعالى عن السنة وارتكابهم المخالفات الشرعية وابتداعهم في الدين أموراً لم يفعلها النبي × ولم يأمر بها، ولم يفعلها صحابته الكرام، أحببنا أن نكتب في هذا الموضوع ليكون الناس على علم بها .
ولقد أكمل الله عز وجل هذا الدين، وأتم التشريع، وارتضاه لعباده، وتعبدهم به، حيث قال الله عز وجل : { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي } . الآية .
فقال اليهود عند ذلك: لو علينا أنزلت هذه الآية أكملت لكم دينكم الآية لاتخذنا ذلك اليوم عيداً.
فعن قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب قال: قال رجل من اليهود لعمر بن الخطاب >: يا أمير المؤمنين لو علينا أنزلت هذه الآية +الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا" لا تخذنا ذلك اليوم عيداً، فقال له عمر بن الخطاب: إني أعلم أي يوم أنزلت هذه الآية أنزلت يوم عرفة في يوم الجمعة. (2)
وعن عمار مولى بني هاشم، قال: قرأ ابن عباس رضي الله عنهما:+الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا" (3) . وعنده رجل من أهل الكتاب، فقال: لو علمنا في أي يوم أنزلت هذه الاية جعلناها عيداً . فقال - رضي الله عنه - : لقد نزلت في يوم عرفة يوم الجمعة .
__________
(1) النهاية لابن الأثير (2/1141).
(2) رواه الترمذي في سننه برقم (3043)، قال أبو عيسى هذا حديث حسن صحيح، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي.
(3) سورة المائدة آية (3) .(1/8)
قال ابن كثير: هذه أكبر نعم الله تعالى على هذه الأمة حيث أكمل تعالى لهم دينهم فلا يحتاجون إلى دين غيره ولا إلى نبي غير نبيهم صلوات الله وسلامه عليه ولهذا جعله الله تعالى خاتم الأنبياء وبعثه إلى الإنس والجن فلا حلال إلا ما أحله ولا حرام إلا ما حرمه ولا دين إلا ما شرعه وكل شيء أخبر به فهو حق وصدق لا كذب فيه ولا خلف كما قال تعالى: { وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا } أي صدقا في الأخبار وعدلا في الأوامر والنواهي فلما أكمل لهم الدين تمت عليهم النعمة ولهذا قال تعالى: { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا } أي فارضوه أنتم لأنفسكم فإنه الدين الذي أحبه الله ورضيه وبعث به أفضل الرسل الكرام وأنزل به أشرف كتبه.
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: { اليوم أكملت لكم دينكم } وهو الإسلام أخبر الله نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين أنه قد أكمل لهم الإيمان فلا يحتاجون إلى زيادة أبدا وقد أتمه الله، فلا ينقصه أبدا وقد رضيه الله فلا يسخطه أبدا .
وعن هارون بن عنترة عن أبيه قال: لما نزلت { اليوم أكملت لكم دينكم } وذلك يوم الحج الأكبر بكى عمر فقال له النبي صلى الله عليه وسلم [ما يبكيك؟] قال : أبكاني أنا كنا في زيادة من ديننا فأما إذا أكمل فإنه لم يكمل شيء إلا نقص فقال [صدقت] ويشهد لهذا المعنى الحديث الثابت [إن الإسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا فطوبى للغرباء. (1)
قال محمد بن الحسين هذا بيان لمن عقل، يعلم أنه لا يصح الدين إلا بالتصديق بالقلب، والإقرار باللسان، والعمل بالجوارح، مثل الصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، والجهاد، وما أشبه ذلك.
فالشريعة كاملة وما من مصلحة إلا ودلتنا عليه، ولا تهمل منها شيء.
__________
(1) تفسير ابن كثير (2/19).(1/9)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: والقول الجامع أن الشريعة لا تهمل مصلحة قط بل الله تعالى قد أكمل لنا الدين وأتم النعمة فما من شيء يقرب إلى الجنة إلا وقد حدثنا به النبي صلى الله عليه وسلم وتركنا على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعده إلا هالك لكن ما اعتقده العقل مصلحة وان كان الشرع لم يرد به فأحد الأمرين لازم له إما ان الشرع دل عليه من حيث لم يعلم هذا الناظر أو أنه ليس بمصلحة وان اعتقده مصلحة لأن المصلحة هى المنفعة الحاصلة أو الغالبة وكثير ما يتوهم الناس ان الشىء ينفع فى الدين والدنيا ويكون فيه منفعة مرجوحة بالمضرة، كما قال تعالى في الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما.اهـ. . (1)
وعلينا بالتسليم، والانقياد، والإتباع.
قال محمد بن شهاب الزهري: من الله الرسالة، وعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم البلاغ، وعلينا التسليم.
وقال الله تعالى { ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم } الجن 28. وقال تعالى:
{ أبلغكم رسالات ربي } الأعراف (62 - 68).
وقال كعب بن مالك حين تخلف عن النبي - صلى الله عليه وسلم - { وسيرى الله عملكم ورسوله } .التوبة 94.. (2)
__________
(1) مجموع الفتاوى (11/345).
(2) أخرجه البخاري في صحيحه في أول باب قول الله تعالى { يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالاته } المائدة67 .
قال الشيخ عبدالمحسن العباد كتابه "الحث على اتِّباع السنَّة والتحذير من البدع وبيان خطرها (ص2)" معلقاً على كلام الزهري: فالذي من الله الرسالة، وقد حصل ذلك، كما قال الله عزَّ وجلَّ: ((وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ))، وقال: ((لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ)).
والذي على الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهو البلاغ قد حصل على أكمل الوجوه وأتمِّها، كما قال الله عزَّ وجلَّ: ((فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ))، وقال: ((وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ))، وأمَّا الذي على العباد وهو التسليم والانقياد، فقد انقسم الناس فيه إلى موفَّق متَّبع لسبيل الحقِّ، وغير موفَّق متَّبع للسبل الأخرى، كما قال الله عزَّ وجلَّ: ((وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)).اهـ.(1/10)
قال ابن حجر: هذا وقع في قصة أخرجها الحميدي في النوادر، ومن طريقه الخطيب، قال الحميدي: حدثنا سفيان، قال: قال رجل للزهري يا أبا بكر قول النبي - صلى الله عليه وسلم - ليس منا من شق الجيوب ما معناه فقال الزهري من الله العلم وعلى رسوله البلاغ وعلينا التسليم، وهذا الرجل هو الأوزاعي. أخرجه بن أبي عاصم في كتاب الأدب، وذكر بن أبي الدنيا عن دحيم عن الوليد بن مسلم، عن الأوزاعي، قال: قلت للزهري فذكره قوله: وقال الله تعالى: ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم، وقال أبلغكم رسالات ربي (1)
وقالت عائشة : إذا أعجبك حسن عمل امرئ فقل { اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون } . التوبة (105) ولا يستخفنك أحد.
فنريد من العبد أن يعبد الله على علم وبصيرة من دينه، وأن يتابع المصطفى الخاتم $ في كل أموره، حيث فيه النصرة والعزة، والتمكين، وأن يعيش حياة طيبة. . (2)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وأصل الشر من تقديم الرأي على النص والهوى على الشرع، فمن نوّر الله قلبه فرأى ما في النص والشرع من الصلاح والخير، وإلا فعليه الانقياد لنص رسول الله صلى الله عليه وسلم وشرعه وليس له معارضته برأيه وهواه.اهـ . (3)
ffffff
أهمية الموضوع
تنبيه الناس إلى اتباع سنة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - وعدم الابتداع في الدين، وارتكاب المخالفات، وتجنب البدعة في الدين، وليعلم المسلم أهمية ومكانة السنة التي جاء بها النبي - صلى الله عليه وسلم - من رب العالمين جل في علاه.
والحث على التمسك بكتإب الله عز وجل وسنة رسوله @ وسنة أصحابه } ، وترك البدع، وترك النظر والجدال فيما يخالف فيه الكتاب والسنة، وقول الصحابة } .
__________
(1) فتح الباري (13/504).
(2) أخرجه البخاري في صحيحه في أول باب قول الله تعالى { يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالاته } المائدة67
(3) منهاج السنة النبوية (8/411).(1/11)
عن النواس: "ضرب الله تعالى مثلاً صراطاً مستقيماً، وعلى جنبتي الصراط سوران، فيهما أبواب مفتحة، وعلى الأبواب ستور مرخاة، وعلى باب الصراط داع، يقول: يا أيها الناس! ادخلوا الصراط جميعاً ولا تتعوجوا، وداع يدعو من فوق الصراط، فإذا أراد الإنسان أن يفتح شيئاً من تلك الأبواب قال: ويحك لا تفتحه فإنك إن تفتحه تلجه، فالصراط الإسلام، والسوران حدود الله تعالى، والأبواب المفتحة محارم الله تعالى، وذلك الداعي على رأس الصراط كتاب الله، والداعي من فوق واعظ الله في قلب كل مسلم" . (1)
__________
(1) صحيح الجامع حديث رقم (3887) .(1/12)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: الصراط كتاب الله، والداعى فوق الصراط واعظ الله في قلب كل مؤمن، فقد بين فى هذا الحديث العظيم الذي من عرفه انتفع به انتفاعا بالغا إن ساعده التوفيق واستغنى به عن علوم كثيرة، أن في قلب كل مؤمن واعظ، والوعظ هو الأمر والنهي والترغيب والترهيب، وإذا كان القلب معمورا بالتقوى انجلت له الأمور وانكشفت بخلاف القلب الخراب المظلم، قال حذيفة بن اليمان إن في قلب المؤمن سراجا يزهر، وفى الحديث الصحيح إن الدجال مكتوب بين عينيه كافر يقرؤه كل مؤمن قارىء وغير قارىء (1) فدل على أن المؤمن يتبين له مالا يتبين لغيره ولا سيما فى الفتن وينكشف له حال الكذاب الوضاع على الله ورسوله، فإن الدجال أكذب خلق الله مع أن الله يجري على يدية أمورا هائلة ومخاريق مزلزلة حتى ان من رآه إفتتن به فيكشفها الله للمؤمن حتى يعتقد كذبها وبطلانها، وكلما قوي الايمان فى القلب قوي انكشاف الأمور له وعرف حقائقها من بواطلها وكلما ضعف الايمان ضعف الكشف وذلك مثل السراج القوي والسراج الضعيف فى البيت المظلم، ولهذا قال بعض السلف في قوله نور على نور قال هو المؤمن ينطق بالحكمة المطابقة للحق وإن لم يسمع فيها بالأثر فاذا سمع فيها بالأثر كان نورا على نور فالايمان الذي في قلب المؤمن يطابق نور القرآن فالالهام القلبى تارة يكون من جنس القول والعلم والظن أن هذا القول كذب وأن هذا العمل باطل وهذا أرجح من هذا أو هذا أصوب، وفي الصحيح عن النبى @ قال قد كان فى الأمم قبلكم محدثون فان يكن فى أمتى منهم أحد فعمر (2) ،
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه برقم (5569)، باب الجعد، وأخرجه مسلم في صحيحه برقم (169)، باب ذكر ابن صياد .
(2) أخرجه مسلم في صحيحه برقم (2398)، باب من فضائل عمر رضي الله عنه ..(1/13)
والمحدث هو الملهم المخاطب فى سره، وما قال عمر لشئ إنى لأظنه كذا وكذا إلا كان كما ظنه أن السكينة تنطق على قلبه ولسانه، وأيضا فاذا كانت الأمور الكونية قد تنكشف للعبد المؤمن لقوة إيمانه يقينا وظنا فالأمور الدينية كشفها له أيسر بطريق الأولى فانه إلى كشفها أحوج فالمؤمن تقع فى قلبه أدلة على الأشياء لا عنها فى الغالب فان كل أحد لا يمكنه إبانة المعانى القائمة بقلبه فاذا تكلم الكاذب بين يدي الصادق عرف كذبه من فحوى كلامه فتدخل عليه نخوة الحياء الايمانى فتمنعه البيان ولكن هو فى نفسه قد أخذ حذره منه وربما لوح أو صرح به خوفا من الله وشفقة على خلق الله ليحذروا من روايته أو العمل به، وكثير من أهل الايمان والكشف يلقي الله في قلبه أن هذا الطعام حرام وأن هذا الرجل كافر أو محمود أو ديوث أو لوطي أو خمار أو مغن أو كاذب، من غير دليل ظاهر ، بل بما يلقي الله فى قلبه، وكذلك بالعكس يلقي فى قلبه محبة لشخص، وأنه من أولياء الله، وأن هذا الرجل صالح، وهذا الطعام حلال، وهذا القول صدق، فهذا وأمثاله لا يجوز أن يستعبد في حق أولياء الله المؤمنين المتقين، وقصة الخضر مع موسى هي من هذا الباب وان الخضر علم هذه الأحوال المعينة بما أطلعه الله عليه، وهذا باب واسع المطلوب بسطه قد نبهنا فيه على نكت شريفة تطلعك على ما وراءها. (1)
فليعلم أن إتباع السنة والدعوة إليها أمر عظيم وجليل عند الله سبحانه وتعالى، كما أن فعل البدع والدعوة إليها أمر خطير .
وقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "... ومن سنّ في الإسلام سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء". (2)
__________
(1) مجموع الفتاوى (20/45).
(2) رواه مسلم في كتاب الزكاة برقم (1017)، والنسائي في كتاب الزكاة برقم (75و76).(1/14)
وقال - صلى الله عليه وسلم - : "... ومن دعا إلى ضلالة، كان عليه في الإثم مثل آثام من تبعه ولا ينقص ذلك من آثامهم شيئا". (1)
قال الإمام الشاطبي: ومن ابتدع بدعة ضلالة لا ترضي الله ورسوله كان عليه مثل آثام من عمل بها لا ينقص ذلك من أوزار الناس شيئاً. وغير ذلك من الأحاديث، فليتق الله امرؤ ربه ولينظر قبل الإحداث في أي مزلة يضع قدمه في مصون أمره يثق بعقله في التشريع ويتهم ربه فيما شرع ولا يدري المسكين ما الذي يوضع له في ميزان شيئاته مما ليس في حسابه ولا شعر أنه من عمله فما من بدعة يبتدعها أحد فيعمل بها من بعده إلا كتب عليه إثم ذلك العامل زيادة إلى إثم ابتداعه أولا ثم عمله ثانيا.
وإذا ثبت أن كل بدعة تبتدع فلا تزداد على طول الزمان إلا مضيا ـ حسبما تقدم ـ واشتهارا وانتشارا فعلى وزان ذلك يكون إثم المبتدع لها كما أن من سن سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة وأيضا فإذا كانت كل بدعة يلزمها إماتة سنة تقابلها كان على المبتدع إثم ذلك أيضا فهو إثم زائد على إثم الابتداع وذلك الإثم يتضاعف تضاعف إثم البدعة بالعمل بها لأنها كلما تجددت في قول أو عمل تجددت في قول إماتة السنة كذلك، وأما أن صاحبها ليس له من توبة فلما جاء من قوله عليه الصلاة والسلام : وأما أن المبتدع يلقى عليه الذل في الدنيا والغضب من الله تعالى : فلقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ". (2)
__________
(1) رواه الإمام أحمد في مسنده، ورواه الإمام مسلم في صحيحه في كتاب العلم برقم (2674).
(2) سورة الأعراف آية (152).(1/15)
حسبما جاء في تفسير الآية عن بعض السلف وقد تقدم ووجهه ظاهر لأن المتخذين للعجل إنما ضلوا به حتى عبدوه لما سمعوا من خواره ولما ألقى إليهم السامري فيه فكان في حقهم شبهة خرجوا بها عن الحق الذي كان في أيديهم قال الله تعالى: وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ" فهو عموم فيهم وفيمن أشبههم من حيث كانت البدع كلها افتراء على الله حسبما أخبر في كتابه في قوله تعالى: قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفها بغير علم وحرموا ما رزقهم الله افتراء على الله . فإذا كل من ابتدع في دين الله فهو ذليل حقير بسبب بدعته وإن ظهر لبادي الرأي عزه وجبريته فهم في أنفسهم أذلاء وأيضا فإن الذلة الحاضرة بين أيدينا موجودة في غالب الأحوال ألا ترى أحوال المبتدعة في زمان التابعين وفيما بعد ذلك ؟ حتى تلبسوا بالسلاطين ولاذوا بأهل الدنيا ومن لم يقدر على ذلك استخفى ببدعته وهرب بها عن مخالطة الجمهور وعمل بأعمالها على التقية.(1/16)
وقد أخبر الله أن هؤلاء الذين اتخذوا العجل سينالهم ما وعدهم فأنجز الله وعده فقال: وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباءوا بغضب من الله. وصدق ذلك الواقع باليهود حيثما حلوا في أي مكان وزمان كانوا لا يزالون أذلاء مقهورين: +ذَلِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ". (1) ومن جملة الاعتداء اتخاذهم العجل هذا بالنسبة إلى الذلة، وأما الغضب فمضمون بصادق أن يكون المبتدع داخلا في حكم الغضب والله الواقي بفضله، وأما البعد عن حوض رسول الله $ فلحديث الموطأ :فليذادن رجال عن حوضي كما يذاد البعير الضال. الحديث . (2)
وفي البخاري عن أسماء عن النبي @ أنه قال :أنا على حوضي أنتظر من يرد علي فيؤخذ بناس من دوني فأقول: أمتي لِلَّهِ فيقال: إنك لا تدري مشوا القهقرى]، وفي حديث عبد الله :أنا فرطكم على الحوض ليرفعن إلي رجال منكم حتى إذا تأهبت لأتناولهم اختلجوا دوني فأقول: أي رب! أصحابي يقول : لا تدري ما أحدثوه بعدك.
والأظهر أنهم من الداخلين في غمار هذه الأمة لأجل ما دل على ذلك فيهم وهو الغرة والتحجيل لأن ذلك لا يكون لأهل الكفر المحض كان كفرهم أصلا أو ارتدادا.
__________
(1) سورة البقرة آية (61).
(2) الحديث عن أبي هريرة - رضي الله عنه - : " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى المقبرة، فقال: السلام عليكم دار قوم مؤمنين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، وددت أنا قد رأينا إخواننا، قالوا: أولسنا إخوانك يا رسول الله ؟ قال: أنتم أصحابي، وإخواننا الذين لم يأتوا بعد، فقالوا: كيف تعرف من لم يأت بعد من أمتك يا رسول الله ؟ فقال: أرأيت لو أن رجلا له خيل غر محجلة بين ظهري خيل دهم بهم ألا يعرف خيله ؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: فإنهم يأتون غرا محجلين من الوضوء، وأنا فرطهم على الحوض، ألا ليذادن رجال عن حوضي كما يذاد البعير الضال أناديهم ألا هلم فيقال إنهم قد بدلوا بعدك فأقول سحقاً سحقاً" . رواه مسلم في صحيحه برقم (249).(1/17)
ولقوله: [قد بدلوا بعدك] ولو كان الكفر لقال: قد كفروا بعدك وأقرب ما يحمل عليه تبديل السنة وهو واقع على أهل البدع ومن قال: إنه النفاق فذلك غير خارج عن مقصودنا لأن أهل النفاق إنما أخذوا الشريعة تقية لا تعبدا فوضعوها غير مواضعها وهو عين الابتداع.
ويجري هذا المجرى كل من اتخذ السنة والعمل بها حيلة وذريعة إلى نيل حطام الدنيا لا على التعبد بها لله تعالى لأنه تبديل لها وإخراج لها عن وضعها الشرعي، وأما الخوف عليه من أن يكون كافرا فلأن العلماء من السلف الأول وغيرهم اختلفوا في تكفير كثير من فرقهم مثل الخوارج والقدرية وغيرهم ودل ذلك ظاهر قوله تعالى: { إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء } وقوله: { يوم تبيض وجوه وتسود وجوه } الآية وقد حكم العلماء بكفر جملة منهم كالباطنية وسواهم لأن مذهبهم راجع إلى مذهب الحلولية القائلين بما يشبه قول النصارى في اللاهوت والناسوت والعلماء إذا اختلفوا في أمر: هل هو كفر أم لا؟ فكل عاقل يربأ بنفسه أن ينسب إلى خطه خسف كهذه بحيث يقال له: إن العلماء اختلفوا :هل أنت كافر أم ضال غير كافر؟ أو يقال: إن جماعة من أهل العلم قالوا بكفرك وأنت حلال الدم، وأما أنه يخاف على صاحبها سوء الخاتمة والعياذ بالله فلأن صاحبها مرتكب إثما وعاص لله تعالى حتما ولا تقول الآن: هو عاص بالكبائر أو بالصغائر ، بل نقول: هو مصر على ما نهى الله عنه، والإصرار يعظم الصغيرة إن كانت صغيرة حتى تصير كبيرة، وإن كانت كبيرة فأعظم، ومن مات مصرا على المعصية فيخاف عليه فربما إذا كشف الغطاء وعاين علامات الآخرة استفزه الشيطان وغلبه على قلبه حتى يموت على التغيير والتبديل، وخصوصا حين كان مطيعا له فيما تقدم من زمانه مع حب الدنيا المستولي عليه.(1/18)
قال عبد الحق الإشبيلي: إن سوء الخاتمة لا يكون لمن استقام ظاهره وصلح باطنه ما سمع بهذا قط ولا علم به والحمد لله وإنما يكون لمن كان له فساد في العقل أو إصرار على الكبائر وإقدام على العظائم أو لمن كان مستقيما ثم تغيرت حاله وخرج عن سننه وأخذ في طريق غير طريقه فيكون عمله ذلك سببا لسوء خاتمته وسوء عاقبته والعياذ بالله قال الله تعالى: إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم .
فهذا ظاهر إذا اغتر بالبدعة من حيث هي معصية فإذا نظرنا إلى كونها بدعة فذلك أعظم لأن المبتدع مع كونه مصرا على ما نهي عنه يزيد على المصر بأنه معارض للشريعة بعقله غير مسلم لها في تحصيل أمره معتقدا في المعصية أنها طاعة حيث حسن ما قبحه الشارع وفي الطاعة أنها لا تكون طاعة إلا بضميمه نظره فهو قد قبح ما حسنه الشارع ومن كان هكذا فحقيق بالقرب من سوء الخاتمة إلا ما شاء الله وقد قال تعالى في جملة ذم: { أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون) .
والمكر جلب السوء من حيث لا يفطن له وسوء الخاتمة من مكر الله إذ يأتي الإنسان من حيث لا يشعر به اللهم إنا نسألك العفو العافية
وأما اسوداد وجهه في الآخرة فقد تقدم في ذلك معنى قوله: { يوم تبيض وجوه وتسود وجوه } وفيها أيضا الوعيد بالعذاب لقوله: فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون } وقوله قبل ذلك: وأولئك لهم عذاب عظيم . (1)
فليحذر العبد كل الحذر من ارتكاب البدع أو الدعوة إليها .
قال الإمام الشافعي رحمه الله: لأن يلقي الله العبد بكل ذنب ما خلا الشرك بالله خير له من أن يلقاه بشيء من هذه الأهواء . (2)
__________
(1) كتاب الاعتصام للشاطبي (1/90).
(2) اعتقاد أهل السنة (3/570)، الاعتقاد (1/239)، وتبيين كذب المفتري (1/337)، والإبانة لابن بطة (2/262)، والاعتصام للشاطبي (1/90).(1/19)
وحكى عياض عن مالك من رواية ابن نافع عنه قال: لو أن العبد ارتكب الكبائر كلها دون الإشراك بالله شيئا ثم نجا من هذه الأهواء لرجوت أن يكون في أعلى جنات الفردوس، لأن كل كبيرة بين العبد وربه وهو منها على رجاء وكل هوى ليس هو منه على رجاء إنما يهوي بصاحبه في نار جهنم، وأما البراءة منه ففي قوله: { إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء } ، وفي الحديث :أنا بريء منهم وهم براء مني. (1)
واعلم أن المتمسكين بالسنة قليل، وهم الغرباء الذين أشار إليهم النبي $، ومدحهم، حيث قال: "إن الإسلام بدأ غريبا و سيعود غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء" .
قال المناوي: أي المسلمين المتمسكين بحبله، المتشبثين بذيله الذين كانوا في أول الإسلام ويكونون في آخره، وإنما خصهم بها لصبرهم على أذى الكفار أولاً وآخراً ولزومهم دين الإسلام ذكره ابن الأثير وزاد الترمذي بعد الغرباء الذين يصلحون ما أفسد الناس بعدي من سنتي، وفي خبر آخر قيل من الغرباء قال النزاع من القبائل أي الذين نزعوا عن أهلهم وعشيرتهم قيل وهم أصحاب الحديث يعني كون الإسلام غريب ليس منقصة عليهم بل سبب لتقريبهم في الآخرة . (2)
قال الفضيل بن عياض: إذا رأيت رجلا من أهل السنة فكأنما رأيت رجلا من أصحاب رسول الله $ ، وإذا رأيت رجلا من أهل البدع فكأنما رأيت رجلا من المنافقين، وقال يونس بن عبيد العجب ممن يدعو اليوم إلى السنة وأعجب منه المجيب إلى السنة، وكان ابن عون يقول عند الموت السنة السنة وإياكم والبدع حتى مات. (3)
وخرّج ابن وهب عن عمر بن الخطاب > أنه قال : أصبح أهل الرأي أعداء السنن، أعيتهم الأحاديث أن يعوها، وتفلتت منهم، قال سحنون: يعني البدع.
وفي رواية: إياكم وأصحاب الرأي فإنهم أعداء السنن أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها فقالوا بالرأي فضلوا وأضلوا.
__________
(1) الاعتصام للشاطبي (1/90).
(2) فيض القدير .
(3) شرح السنة (/60) .(1/20)
وفي رواية ل ابن وهب: أن أصحاب الرأي أعداء السنة أعيتهم أن يحفظوها وتفلتت منهم أن يعوها واستحيوا حين يسألوا أن يقولوا: لا نعلم فعارضوا السنن برأيهم فإياكم وإياهم.
قال أبو بكر بن أبي داود: أهل الرأي هم أهل البدع.
وعن ابن عباس < قال: من أحدث رأيا ليس في كتاب الله ولم تمض به سنة من رسول الله $لم يدر ما هو عليه إذا لقي الله عز وجل.
وعن ابن مسعود <: قراؤكم يذهبون ويتخذ الناس رؤساء جهالاً يقيسون الأمور برأيهم. وخرّج ابن وهب وغيره عن عمر بن الخطاب أنه قال: السنة ما سنه الله ورسوله لا تجعلوا حظ الرأي سنة للأمة. (1)
فالله الله في التمسك بالسنة والدعوة إليها ، ونبذ البدع والتحذير منها.
قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى: قبور أهل السنة من أهل الكبائر روضة، وقبور أهل البدعة من الزهاد حفرة؛ فُسّاق أهل السنة أولياء الله، وزُهاد أهل البدعة أعداء الله. (2)
وقال الإمام أحمد بن حنبل أيضاً: مات رجل من أصحابي، فرئي في المنام، فقال: قولوا لأبي عبدالله عليك بالسنة، فإن أول ما سألني ربي عز وجل عن السنة. (3)
وقال أبو العالية: من مات على السنة مستورا فهو صديق، والاعتصام بالسنة نجاة.
وقال سفيان الثوري: من أصغى بإذنه إلى صاحب بدعة خرج من عصمة الله ووكل إليها يعني إلى البدع. (4)
ffffff
الفصل الأول
الإخلاص
الإخلاص هو: كتمان العبادة والحسنات عن الخلق، وهو بذل ما بوسعك لمحبوبك.
والإخلاص: ما أريد به وجه الله تعالى، وهو ضد الرياء .
عن أبي ثمامة قال: قال الحواريون لعيسى عليه السلام: ما الإخلاص لله؟ قال: الذي يعمل العمل لا يحب أن يحمده عليه أحد من الناس.
__________
(1) الاعتصام (/76) .
(2) طبقات الحنابلة (1/184).
(3) شرح السنة (1/60) .
(4) شرح السنة (1/60) .(1/21)
قالوا: فمن المناصح لله؟ قال: الذي يبدأ بحق الله قبل حق الناس، إذا عرض عليه أمران أحدهما للدنيا والآخر للآخرة بدأ بأمر الله قبل أمر الدنيا. (1)
وسئل الحسن عن الاخلاص والرياء؟ فقال: من الإخلاص أن تحب أن تكتم حسناتك، ولا تحب أن تكتم سيئاتك، فإن أظهر الله عليك حسناتك تقول هذا من فضلك وإحسانك وليس هذا من فعلي ولا من صنيعي، وتذكر قوله تعالى: فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا". (2) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ". (3) الآية يؤتون الاخلاص وهم يخافون ألا يقبل منهم، وأما الرياء فطلب حظ النفس من عملها في الدنيا، قيل له كيف يكون هذا؟ قال: من طلب بعمل بينه وبين الله تعالى سوى وجه الله تعالى والدار الآخرة فهو رياء . (4)
وعن سعيد بن عامر، عن حزم القطعي: عن عبد الملك بن عتاب قال: رأيت عامر بن عبد قيس في النوم، فقلت: أي الأعمال وجدت أفضل؟ قال: ما أريد به وجه الله. (5)
قال الجنيد: الإخلاص سر بين الله وبين العبد لا يعلمه ملك فيكتبه ولا شيطان فيفسده ولا هوى فيميله، وقيل لسهل أي شيء أشد على النفس؟ فقال: الإخلاص لأنه ليس لها فيه نصيب، وقال بعضهم الإخلاص أن لا تطلب على عملك شاهداً غير الله، ولا مجازيا سواه، وقال مكحول: ما أخلص عبد قط أربعين يوما إلا ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه، وقال يوسف بن الحسين: أعز شيء في الدنيا الإخلاص وكم أجتهد في إسقاط الرياء عن قلبي فكأنه ينبت على لون آخر، وقال أبو سليمان الداراني: إذا أخلص العبد انقطعت عنه كثرة الوساوس والرياء . (6)
__________
(1) الإخلاص والنية لابن أبي الدنيا .
(2) سورة الكهف آية (110) .
(3) سورة المؤمنون آية (60) .
(4) تفسير القرطبي (11/71).
(5) الإخلاص والنية لابن أبي الدنيا .
(6) مدارج السالكين (2/91-94).(1/22)
وقال ابن قيم الجوزية: الإخلاص تصفية العمل من كل شوب، أي لا يمازج عمله ما يشوبه من شوائب إرادات النفس، إما طلب التزين في قلوب الخلق، وإما طلب مدحهم والهرب من ذمهم، أو طلب تعظيمهم، أو طلب أموالهم، أو خدمتهم، ومحبتهم، وقضائهم حوائجه، أو طلب محبتهم له ذلك من العلل والشوائب التي عقد متفرقاتها هو إرادة ما سوى الله بعمله كائنا ما كان، قال وهو على ثلاث درجات: الدرجة الأولى: إخراج رؤية العمل عن العمل، والخلاص من طلب العوض على العمل، والنزول عن الرضى، ومعناه يعرض للعامل في عمله ثلاث آفات: رؤيته وملاحظته، وطلب العوض عليه ورضاه به وسكونه إليه، ففي هذه الدرجة يتخلص من هذه البلية ،فالذي يخلصه من رؤية عمله مشاهدته لمنة الله عليه وفضله وتوفيقه له، وأنه بالله لا بنفسه، وأنه إنما أوجب. (1)
وقال في موضع آخر: فالصدق والاخلاص هو أن تبذل كلك لمحبوبك وحده، ثم تحتقر ما بذلت في جنب ما يستحقه، ثم لا تنظر إلى بذلك تفريد القصد بالعطش، وتفريد المحبة بالتلف، وتفريد الشهود بالاتصال والعطش، كما قال هو غلبة ولوع بمأمول، والتلف هو المحبة المهلكة، والاتصال سقوط الاغيار عن درجة الاعتبار ، فهذا حكم التفريد في الدرجة الأولى. (2)
فيجب على العبد أن تكون أعماله الظاهرة والباطنة خالصة لله سبحانه وتعالى من غير رياء، ولا سمعة، وأن لا يشرك مع الله أحداً من خلقه.
قال الله تعالى: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء" (3)
__________
(1) مدارج السالكين (2/91-94).
(2) مدارج السالكين (3/423).
(3) سورة البينة (5).(1/23)
قال الطبري في تفسير هذه الآية: يقول تعالى ذكره: وما أمر الله هؤلاء اليهود والنصارى الذين هم أهل الكتاب إلا أن يعبدوا الله مخلصين له الدين، يقول: مفردين له الطاعة لا يخلطون طاعتهم ربهم بشرك، فأشركت اليهود بربها بقولهم إن عُزَيرا ابن الله، والنصارى بقولهم في المسيح مثل ذلك وجحودهم نبوّة محمد $. (1)
وقال السعدي في تفسيره: أي قاصدين بجميع عباداتهم الظاهرة والباطنة وجه الله، وطلب الزلفى لديه، { حُنَفَاءَ } أي: معرضين [مائلين] عن سائر الأديان المخالفة لدين التوحيد. وخص الصلاة والزكاة [بالذكر] مع أنهما داخلان في قوله { لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ } لفضلهما وشرفهما، وكونهما العبادتين اللتين من قام بهما قام بجميع شرائع الدين. (2)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في قوله عز وجل وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء" .
قال: وهذا هو حقيقة قول لا إله إلا الله وبذلك بعث جميع الرسل
وقال تعالى: إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ". (3)
قال السعدي: ولما كان نازلا من الحق، مشتملا على الحق لهداية الخلق، على أشرف الخلق، عظمت فيه النعمة، وجلَّت، ووجب القيام بشكرها، وذلك بإخلاص الدين للّه، فلهذا قال: فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ" أي: أخلص للّه تعالى جميع دينك، من الشرائع الظاهرة، والشرائع الباطنة، الإسلام والإيمان، والإحسان، بأن تفرد اللّه وحده بها، وتقصد به وجهه، لا غير ذلك من المقاصد.
__________
(1) تفسير الطبري .
(2) تيسير الكريم الرحمن .
(3) سورة الزمر آية (2- 3) .(1/24)
أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ" هذا تقرير للأمر بالإخلاص، وبيان أنه تعالى كما أنه له الكمال كله، وله التفضل على عباده من جميع الوجوه، فكذلك له الدين الخالص الصافي من جميع الشوائب، فهو الدين الذي ارتضاه لنفسه، وارتضاه لصفوة خلقه وأمرهم به، لأنه متضمن للتأله للّه في حبه وخوفه ورجائه، وللإنابة إليه في عبوديته، والإنابة إليه في تحصيل مطالب عباده.
وذلك الذي يصلح القلوب ويزكيها ويطهرها، دون الشرك به في شيء من العبادة، فإن اللّه بريء منه، وليس للّه فيه شيء، فهو أغنى الشركاء عن الشرك، وهو مفسد للقلوب والأرواح والدنيا والآخرة، مُشْقٍ للنفوس غاية الشقاء، فلذلك لما أمر بالتوحيد والإخلاص، نهى عن الشرك به، وأخبر بذم من أشرك به فقال: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ" أي: يتولونهم بعبادتهم ودعائهم، [معتذرين] عن أنفسهم وقائلين: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى" أي: لترفع حوائجنا للّه، وتشفع لنا عنده، وإلا، فنحن نعلم أنها، لا تخلق، ولا ترزق، ولا تملك من الأمر شيئا.اهـ. (1)
وقال الله تعالى: قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ" (2)
وقال تعالى: قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَّهُ دِينِي" (3)
قال القرطبي: قوله تعالى: إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق" أي هذا تنزيل الكتاب من الله وقد أنزلناه بالحق : أي بالصدق وليس بباطل وهزل +فاعبد الله مخلصا" فيه مسألتان :
الأولى: (مخلصا) نصب على الحال أي موحدا لا تشرك به شيئا له الدين" أي الطاعة، وقيل: العبادة وهو مفعول به.
__________
(1) تفسير السعدي .
(2) سورة الزمر آية (11) .
(3) سورة الزمر آية (14) .(1/25)
وقال: قوله تعالى: { ألا لله الدين الخالص } أي الذي لا يشوبه شيئ وفي حديث الحسن عن أبي هريرة أن رجلا قال: يا رسول الله إني أتصدق بالشيء وأصنع الشء أريد به وجه الله وثناء الناس فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "والذي نفس محمد بيده لا يقبل الله شيئا شورك فيه] ثم تلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - { ألا لله الدين الخالص } ".
الثانية: قال ابن العربي: هذه الآية دليل على وجوب النية في كل عمل وأعظمه الوضوء الذي هو شطر الإيمان خلافا لأبي حنيفة والوليد بن مسلم عن مالك اللذين يقولان إن الوضوء يكفي من غير نية وما كان ليكون من الإيمان شطرا ولا ليخرج الخطايا من بين الأظافر والشعر بغير نية.اهـ. (1)
وعن النعمان بن بشير قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "وأهوى النعمان بإصبعيه إلى أذنيه" :إن الحلال بين، وإن الحرام بين وبينهما مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه، إلا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب". (2)
قال النووي: أجمع العلماء على عظم موقع هذا الحديث وكثرة فوائده وأنه أحد الأحاديث التي عليها مدار الإسلام، قال جماعة هو ثلث الإسلام وإن الإسلام يدور عليه وعلى حديث الأعمال بالنية، وحديث من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه.
وقال أبو داود السجستاني: يدور على أربعة أحاديث هذه الثلاثة وحديث لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه وقيل حديث ازهد في الدنيا يحبك الله وازهد فيما في أيدي الناس يحبك الناس.
__________
(1) تفسير القرطبي .
(2) أخرجه البخاري برقم (52)، ومسلم في المساقاة باب أخذ الحلال وترك الشبهات برقم (1599) .(1/26)
قال العلماء: وسبب عظم موقعه أنه - صلى الله عليه وسلم - نبه فيه على إصلاح المطعم، والمشرب والملبس، وغيرها، وأنه ينبغي أن يكون حلالاً، وأرشد إلى معرفة الحلال، وأنه ينبغي ترك المشتبهات، فإنه سبب لحماية دينه، وعرضه، وحذر من مواقعة الشبهات، وأوضح ذلك بضرب المثل بالحمى، ثم بين أهم الأمور وهو مراعاة القلب، فقال - صلى الله عليه وسلم - (ألا وإن في الجسد مضغة الخ) فبين - صلى الله عليه وسلم - أن بصلاح القلب يصلح باقي الجسد، وبفساده يفسد باقيه.
وأما قوله - صلى الله عليه وسلم - (الحلال بين والحرام بين) فمعناه أن الأشياء ثلاثة أقسام حلال بين واضح لا يخفى حله كالخبز والفواكه والزيت والعسل والسمن ولبن مأكول اللحم وبيضة وغير ذلك من المطعومات وكذلك الكلام والنظر والمشي وغير ذلك من التصرفات فيها حلال بين واضح لا شك في حله.
وأما الحرام البين فكالخمر والخنزير والميتة والبول والدم المسفوح وكذلك الزنى والكذب والغيبة والنميمة والنظر إلى الأجنبية وأشباه ذلك.
وأما المشتبهات فمعناها أنها ليست بواضحة الحل ولا الحرمة، فلهذا لا يعرفها كثير من الناس ولا يدركون حكمها، وأما العلماء فيعرفون حكمها بنص أو قياس أو استصحاب أو غير ذلك، فإذا تردد الشيء بين الحل والحرمة ولم يكن فيه نص ولا إجماع اجتهد فيه المجتهد فألحقه بأحدهما بالدليل الشرعي فإذا الحقه به صار حلالا، وقد يكون دليله غير خال من الإحتمال البين فيكون الورع تركه ويكون داخلا في قوله - صلى الله عليه وسلم - فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه،
"استبرأ لدينه وعرضه" أي حصل له البراءة لدينه من الذم الشرعي وصان عرضه عن كلام الناس فيه.(1/27)
"ألا وإن لكل ملك حمى وإن حمى الله محارمه": معناه أن ملوك العرب وغيرهم يكون لكل ملك منهم حمى يحميه عن الناس ويمنعهم دخوله فمن دخله أوقع به العقوبة ومن احتاط لنفسه لا يقارب ذلك الحمى خوفا من الوقوع فيه، ولله تعالى أيضا حمى وهي محارمه أي المعاصي التي حرمها الله، كالقتل، والزنى والسرقة، والقذف، والخمر، والكذب، والغيبة، والنميمة، وأكل المال بالباطل، وأشباه ذلك، فكل هذا حمى الله تعالى من دخله بارتكابه شيئا من المعاصي استحق العقوبة، ومن قاربه يوشك أن يقع فيه، فمن احتاط لنفسه لم يقاربه ولم يتعلق بشيء يقربه من المعصية فلا يدخل في شيء من الشبهات.
"ألا وإن في الجسد مضغة": قال أهل اللغة: والمضغة القطعة من اللحم سميت بذلك لأنها تمضغ في الفم لصغرها، قالوا المراد تصغير القلب بالنسبة إلى باقي الجسد مع أن صلاح الجسد وفساده تابعان للقلب. (1)
__________
(1) شرح النووي على مسلم (3/1219).(1/28)
وقال ابن رجب الحنبلي: فيه إشارة إلى أن صلاح حركات العبد بجوارحه، واجتنابه المحرمات واتقاءه للشبهات بحسب صلاح حركة قلبه، فإذا كان قلبه سليما ليس فيه إلا محبة الله ومحبة ما يحبه الله وخشية الوقوع فيما يكرهه صلحت حركات الجوارح كلها ونشأ عن ذلك اجتناب المحرمات كلها، وتوقي للشبهات حذراً من الوقوع في المحرمات، وإن كان القلب فاسداً قد استولى عليه إتباع الهوى وطلب ما يحبه، ولو كرهه الله فسدت حركات الجوارح كلها وانبعثت إلى كل المعاصي والمشتبهات بحسب إتباع هوى القلب، ولهذا يقال القلب ملك الأعضاء وبقية الأعضاء جنوده وهم مع هذا جنود طائعون له منبعثون في طاعته وتنفيذ أوامره لا يخالفونه في شيء من ذلك، فإن كان الملك صالحا كانت هذه الجنود صالحة، وإن كان فاسدا كانت جنوده بهذه المشابهة فاسدة، ولا ينفع عند الله إلا القلب السليم، كما قال تعالى: { يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } . (1)
__________
(1) ) ) الشعراء الآية (88-89) .
والقلب السليم: هو الذي سلم من الشرك، والغل، والحقد، والحسد، والشح، والكبر ، وحب الدنيا والرياسة ، فسلم من كل آفة تبعده من الله، وسلم من كل شبهة تعارض خبره، ومن كل شهوة تعارض أمره، وسلم من كل إرادة تزاحم مراده، وسلم من كل قاطع يقطعه عن الله ، فهذا القلب السليم في جنة معجلة في الدنيا، وفى جنة في البرزخ، وفى جنة يوم المعاد ، ولا يتم له سلامته مطلقا حتى يسلم من خمسة أشياء:
1- ... من شرك يناقض التوحيد .
2- ... وبدعة تخالف السنة
3- ... وشهوة تخالف الأمر .
4- ... وغفلة تناقض الذكر وهو يناقض التجريد .
5- ... والإخلاص يعم .
وهذه الخمسة حجب عن الله وتحت كل واحد منها أنواع كثيرة تتضمن أفراد الأشخاص لا تحصر ، ولذلك اشتدت حاجة العبد بل ضرورته إلى أن يسأل الله أن يهديه الصراط المستقيم فليس العبد أحوج إلى شيء منه إلى هذه الدعوة ، وليس شيء أنفع منها .اهـ. الجواب الكافي (1/84) .(1/29)
وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول في دعائه: اللهم إني أسألك قلباً سليماً، فالقلب السليم هو السالم من الآفات والمكروهات كلها، وهو القلب الذي ليس فيه سوى محبة الله وخشيته، وخشية ما يباعد منه. (1)
وعن ضمرة بن حبيب قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "إن الملائكة يرفعون عمل العبد من عباد الله فيكثرونه، ويزكونه، حتى ينتهوا به حيث شاء الله من سلطانه؛ فيوحي إليهم أنكم حفظة على عمل عبدي، وأنا رقيب على ما في نفسه، إن عبدي هذا لم يخلص لي عمله فاجعلوه في سجين، قال: ويصعدون بعمل العبد من عباد الله، يستقلونه، ويحتقرونه، حتى ينتهوا به حيث شاء الله؛ فيوحي الله إليهم أنكم حفظة على عمل عبدي، وأنا رقيب على ما في نفسه، فضاعفوه له، واجعلوه في عليينِ" . (2)
وعن حمزة من بعض ولد ابن مسعود قال: طوبى لمن أخلص عبادته ودعاءه لله، ولم يشغل قلبه ما تراه عيناه، ولم ينسه ذكره ما تسمع أذناه، ولم يحزن نفسه ما أعطي غيره.
وكان أيوب بن كيسان السختياني يقوم الليل كله، فيخفي ذلك، فإذا كان عند الصبح رفع صوته كأنه قام تلك الساعة. (3)
وعن فضيل: عن السري بن يحي، أن عمر بن عبد العزيز خطب، فحمد الله، ثم خنقته العبرة، ثم قال: يا أيها الناس، أصلحوا آخرتكم يصلح الله لكم دنياكم، وأصلحوا سرائركم يصلح الله لكم علانيتكم.
والله إن عبداً ليس بينه وبين آدم أبٌ له إلا قد مات لمعرق له في الموت، كما يقال لمعرق في الكرم، أي له عرق في ذلك لا محالة.
__________
(1) جامع العلوم والحكم (1/74-76).
(2) أخرجه السيوطي في الدر المنثور .
(3) حلية الأولياء (3/8).(1/30)
وعن ليث: عن أبي العالية قال: اجتمع إلي أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: يا أبا العالية، لا تعمل عملاً تريد به غير الله فتجعل الله ثوابك على من أردت؛ ويا أبا العالية، لا تتكل على غير الله فيكلك الله إلى من توكلت عليه. (1)
وعن ابن محيريز: أن عمر بن الخطاب دعي إلى وليمة فلما أكل وخرج قال: وددت أني لم أحضر هذا الطعام.
قيل له: لم يا أمير المؤمنين؟ قال: إني أظن صاحبكم لم يعمله إلا رياء.
وعن أبي عبد النباجي يقول: خمس خصال بها تمام العمل: الإيمان بمعرفة الله، ومعرفة الحق، وإخلاص العمل لله، والعمل على السنة، وأكل الحلال؛ وذلك أنك إذا عرفت الله ولم تعرف الحق لم تنتفع، وإذا عرفت الحق ولم تعرف الله لم تنتفع، وإن عرفت الله وعرفت الحق ولم تخلص العمل لم تنتفع، وإن عرفت الله وعرفت الحق وأخلصت العمل ولم يكن على السنة لم تنتفع، وإن تمت الأربع ولم يكن الأكل من حلال لم تنتفع. (2)
وقال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ" (3) . أ.هـ. (4)
قال الطبري: يقول تعالى ذكره: وما أرسلنا يا محمد من قبلك من رسول إلى أمة من الأمم إلا نوحي إليه أنه لا معبود في السموات والأرض تصلح العبادة له سواي، فاعْبُدُونِ يقول: فأخلصوا لي العبادة, وأفردوا لي الألوهة. (5)
وقال تعالى: فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا". (6)
__________
(1) الإخلاص والنية لابن أبي الدنيا .
(2) الإخلاص والنية لابن أبي الدنيا .
(3) سورة الأنبياء آية (25).
(4) مجموع الفتاوى .
(5) تفسير الطبري (16/223) .
(6) سورة الكهف آية (110) .(1/31)
قوله: فمن كان يرجو لقاء ربه، قال ابن كثير: أي ثوابه وجزاءه الصالح فليعمل عملا صالحا أي ما كان موافقا لشرع الله ولا يشرك بعبادة ربه أحدا وهو الذي يراد به وجه الله وحده لا شريك له وهذان ركنا العمل المتقبل لا بد أن يكون خالصا لله صوابا على شريعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . (1)
وقال القرطبي: أجمع العلماء على أن هذه الآية من المحكم المتفق عليه ليس منها شئ منسوخ، وكذلك هي في جميع الكتب ولو لم يكن كذلك لعرف ذلك من جهة العقل وإن لم ينزل به الكتاب، وقد مضى معنى العبودية وهي التذلل والإفتقار لمن له الحكم والإختيار، فأمر الله تعالى عباده بالتذلل له والإخلاص فيه، فالآية أصل في خلوص الأعمال لله تعالى وتصفيتها من شوائب الرياء وغيره، قال الله تعالى +فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا". حتى لقد قال بعض علمائنا: إنه من تطهر تبرداً، أو صام محمياً لمعدته، ونوى مع ذلك التقرب لم يجزه لأنه مزج في نية التقرب نية دنياوية وليس لله إلا العمل الخالص، كما قال تعالى: أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ". (2) وقال تعالى: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ". (3) اهـ. (4)
وقال تعالى وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ". (5)
__________
(1) تفسير ابن كثير (3/109) .
(2) سورة الزمر آية (3) .
(3) سورة البينة آية (5) .
(4) تفسير القرطبي (5/180) .
(5) سورة النساء (125) .(1/32)
قال الشنقيطي: ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة أنه لا أحد أحسن دينًا ممن أسلم وجهه للَّه في حال كونه محسنًا ؛ لأن استفهام الإنكار مضمن معنى النفي، وصرّح في موضع آخر أن من كان كذلك فقد استمسك بالعروة الوثقى، وهو قوله تعالى: { وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى } ، ومعنى إسلام وجهه للَّه إطاعته وإذعانه، وانقياده لَّله تعالى بامتثال أمره، واجتناب نهيه في حال كونه محسنًا، أي: مخلصًا عمله للَّه لا يشرك فيه به شيئًا مراقبًا فيه للّهِ كأنه يراه، فإن لم يكن يراه فاللَّه تعالى يراه، والعرب تطلق إسلام الوجه، وتريد به الإذعان والإنقياد التامّ . (1)
__________
(1) أضواء البيان (1/387) .(1/33)
وقال ابن قيم الجوزية: فإسلام الوجه إخلاص القصد، والعمل لله، والإحسان فيه متابعة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وسنته، وقال تعالى: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا". (1) ، وهي الأعمال التي كانت على غير السنة، أو أريد بها غير وجه الله، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لسعد بن أبي وقاص < إنك لن تخلف فتعمل عملا تبتغي به وجه الله تعالى إلا ازددت به خيرا ودرجة ورفعة (2) ،
__________
(1) سورة الفرقان آية (23) .
(2) الحديث عن سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ - رضي الله عنه - ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَعُودُنِي عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ، مِنْ وَجَعٍ اشْتَدَّ بِي، فَقُلْتُ: إِنِّي قَدْ بَلَغَ بِي مِنَ الْوَجَعِ وَأَنَا ذُو مَالٍ، وَلاَ يَرِثُنِي إِلاَّ ابْنَةٌ، أَفَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثَيْ مَالِي قَالَ: لاَ فَقُلْتُ: بِالشَّطْرِ فَقَالَ: لاَ ثُمَّ قَالَ: الثُّلُثُ، وَالثُّلُثُ كَبِيرٌ أَوْ كَثِيرٌ، إنَّكَ أَنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ، وَإِنَّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللهِ إِلاَّ أُجِرْتَ بِهَا حَتَّى مَا تَجْعَلُ فِي فِي امْرَأَتِكَ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ أُخَلَّفُ بَعْدَ أَصْحَابِي قَالَ: إِنَّكَ لَنْ تُخَلَّفَ فَتَعْمَلَ عَمَلاً صَالِحًا إِلاَّ ازْدَدْتَ بِهِ دَرَجَةً وَرِفْعَةً، ثُمَّ لَعَلَّكَ أَنْ تُخَلَّفَ حَتَّى يَنْتَفِعَ بِكَ أَقْوَامٌ وَيُضَرَّ بِكَ آخَرُونَ، اللَّهُمَّ أَمْضِ لأَصْحَابِي هِجْرَتَهُمْ وَلاَ تَرُدَّهُمْ عَلَى أَعْقَابِهِمْ، لكِنَ الْبَائِسُ سَعْدُ ابْنُ خَوْلَةَ، يَرْثِي لَهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ مَاتَ بِمَكَّةَ.أخرجه البخاري كتاب الجنائز (37)، باب رثي النبي - صلى الله عليه وسلم - سعد بن خولة..(1/34)
وفي الصحيح من حديث أنس بن مالك < قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاث لا يغل عليهن قلب مسلم: إخلاص العمل لله، ومناصحة ولاة الأمر ، ولزوم جماعة المسلمين، فإن دعوتهم تحيط من ورائهم (1)
أي لا يبقى فيه غل ولا يحمل الغل مع هذه الثلاثة بل تنفي عنه غله، وتنقيه منه وتخرجه عنه، فإن القلب يغل على الشرك أعظم غل، وكذلك يغل على الغش، وعلى خروجه عن جماعة المسلمين بالبدعة والضلالة، فهذه الثلاثة تملؤه غلا ودغلا ، ودواء هذا الغل واستخراج أخلاطه بتجريد الإخلاص، والنصح، ومتابعة . وفي أثر مروري إلهي الإخلاص سر من سري استودعته قلب من أحببته من عبادي. (2)
وفي مسند الإمام أحمد رحمه الله عن أنس - رضي الله عنه - ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه، ولا يدخل الجنة حتى يأمن جاره بوائقه". (3)
__________
(1) الحديث أخرجه أحمد في مسنده (5/183)، وابن عاصم في (السنة) برقم (94) من حديث أنس بن مالك > وإسناد الحديث صحيح . انظر السلسلة الصحيحة للألباني برقم (404) .
(2) مدارج السالكين (2/91-94).
(3) رواه أحمد، وابن أبي الدنيا في الصمت، كلاهما من رواية علي بن مسعدة، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب، والسلسلة الصحيحة.(1/35)
قال ابن رجب الحنبلي: والمراد باستقامة إيمانه استقامة أعمال جوارحه، فإن أعمال جوارحه لا تستقيم إلا باستقامة القلب، ومعنى استقامة القلب أن يكون ممتلئا من محبة الله تعالى ومحبة طاعته وكراهة معصيته، وقال الحسن لرجل داو قلبك فإن حاجة الله إلى العباد صلاح قلوبهم، يعني أن مراده منهم ومطلوبه صلاح قلوبهم، فلا صلاح للقلوب حتى يستقر فيها معرفة الله، وعظمته، ومحبته وخشيته، ومهابته، ورجاؤه، والتوكل عليه، ويمتلئ من ذلك، وهذا هو حقيقة التوحيد وهو معنى قول لا إله إلا الله، فلا صلاح للقلوب حتى يكون إلهها الذي تألهه وتعرفه وتحبه وتخشاه هو إله واحد لا شريك له، ولو كان في السموات والأرض إله يؤله سوى الله لفسدت بذلك السموات والأرض، كما قال تعالى لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا. الأنبياء، فعلم بذلك أنه لا صلاح للعالم العلوي والسفلي معاً حتى تكون حركات أهلها كلها لله، وحركات الجسد تابعة لحركات القلب وإرادته، فإن كانت حركته وإرادته لله وحده فقد صلح وصلحت حركات الجسد كله، وإن كانت حركة القلب وإراداته لغير الله فسد وفسدت حركات الجسد بحسب فساد حركة القلب. (1)
وعن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئٍ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى ما هاجر إليه، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو إمرأةٍ ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه". (2)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: النية لها ركنان:
أحدهما: أن ينوي العبادة والعمل.
__________
(1) جامع العلوم والحكم (1/74-76).
(2) أخرجه البخاري في الإيمان (54)، ومسلم في الإمارة برقم (1907).(1/36)
و الثاني: أن ينوي المعبود المعمول له فهو المقصود بذلك العمل، والمراد به الذي عمل العمل من أجله كما بينه النبي $ بقوله إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله و رسوله ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه، فميز $ بين من كان عمله لله، ومن كان عمله لمال أو نكاح، والذي يجب أن يكون العمل له هو الله سبحانه وحده لا شريك له، فان هذه النية فرض في جميع العبادات، بل هذه النية أصل جميع الأعمال ومنزلتها منها منزلة القلب من البدن، ولا بد في جميع العبادات أن تكون خالصة لله سبحانه، كما قال تعالى: { إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق فاعبد الله مخلصا له الدين ألا لله الدين الخالص } .
وقال تعالى: { قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين... } (1)
وعن ابن عباس رضي الله عنهما، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال - فيما يَروي عن ربه عز وجل-: "إن الله كتب الحسنات والسيئات، ثم بين ذلك في كتابه، فمن هم بحسنةٍ فلم يعملها كتبها الله عِنْدَه حسنة كاملةً، فإن هم بها فعملها كتبها الله عنده عشر حسناتٍ إلى سَبْع مئة ضعف، إلى أضعاف كثيرة، ومن هم بسيئةٍ فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة، فإن هو هم بها فعملها كتبها الله سيئة واحدة".
زاد في رواية: "أو محاها، ولا يهلك على الله إلا هالك". (2)
__________
(1) شرح العمدة في الفقه (4/576) .
(2) رواه البخاري في كتاب الرقاق برقم (6491)، ومسلم في كتاب الإيمان برقم (131).(1/37)
وفي رواية لمسلم قال: عن محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "قال الله عزوجل: إذا تحدث عبدي بأن يعمل حسنة فأنا أكتبها له حسنة ما لم يعملها، فإذا عملها فأنا أكتبها له بعشر أمثالها، وإذا تحدث عبدي بأن يعمل سيئة فأنا أغفرها له ما لم يعملها، فإذا عملها فأنا أكتبها له بمثلها وإن تركها فاكتبوها له حسنة، إنما تركها من جَراي". (1)
قوله: "من جَراي" أي: من أجلي، وهي بفتح الجيم وتشديد الراء، بالمد والقصر لغتان.
قال ابن رجب الحنبلي رحمه الله: فانظر يا أخي وفقنا الله وإياك إلى عظيم لطف الله تعالى، وتأمل هذه الألفاظ وقوله عنده إشارة إلى الاعتناء بها وقوله كاملة للتأكيد وشدة الاعتناء بها، وقال في السيئة التي هم بها ثم تركها كتبها الله عنده حسنة كاملة فأكدها بكاملة وإن عملها كتبها سيئة واحدة فأكد تقليلها بواحدة ولم يؤكدها بكاملة، فلله الحمد والمنة سبحانه لا نحصي ثناء عليه وبالله التوفيق.اهـ. (2)
قال الفضيل بن عياض رحمه الله تعالى: ترك العمل لأجل الناس رياء ، والعمل لأجل الناس شرك، والإخلاص أن يعافيك الله منهما . (3)
وقال بعض السلف: لا يقبل العمل إلا ما كان خالصاً صواباً.
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لسعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - عندما جاء يعوده: "إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها حتى ما تجعل في فيّ امرأتك". (4)
قوله: (تبتغي بها وجه الله) أي: تقصد بها وجه الله عز وجل.
__________
(1) صحيح مسلم في كتاب الإيمان برقم (129).
(2) جامع العلوم والحكم (1/348).
(3) التبيان في آداب حملة القرآن (1/13).
(4) أخرجه البخاري في كتاب الوصايا برقم (2742)، ومسلم في كتاب الوصية برقم (1628).(1/38)
قوله: "وأنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت بها"، مقيدة بابتغاء وجه الله، وعلق حصول الأجر بذلك وهو المعتبر، ويستفاد منه أن أجر الواجب يزداد بالنية لأن الإنفاق على الزوجة واجب وفي فعله الأجر، فإذا نوى به ابتغاء وجه الله ازداد أجره بذلك، قاله بن أبي جمرة، قال ونبه بالنفقة على غيرها من وجوه البر والإحسان . (1)
وخرج ابن وهب عن سفيان، أنه كان يقول: لا يستقيم قول إلا بعمل، ولا قول وعمل إلا بنية، ولا قول ولا عمل ولا نية إلا موافقاً للسنة.
قال الله تعالى: { لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا } . سورة الملك(2).
قال الفضيل بن عياض رحمه الله أخلصه وأصوبه، فان العمل إذا كان خالصاً ولم يكن صوابا لم يقبل حتى يكون خالصا صوابا، والخالص أن يكون لله، والصواب أن يكون على السنة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله معلقاً على كلام الفضيل:
فالعمل الصالح لا بد أن يراد به وجه الله تعالى، فان الله تعالى لا يقبل من العمل إلا ما أريد به وجهه وحده كما في الصحيح عن النبي قال: "يقول الله أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملا أشرك فيه غير فأنا برئ منه وهو كله للذي أشرك"، وهذا هو التوحيد الذي هو أصل الإسلام وهو دين الله الذي بعث به جميع رسله وله خلق الخلق وهو حقه على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، ولا بد مع ذلك أن يكون العمل صالحا وهو ما أمر الله به ورسوله وهو الطاعة، فكل طاعة عمل صالح، وكل عمل صالح طاعة وهو العمل المشروع المسنون إذ المشروع المسنون هو المأمور به أمر إيجاب أو استحباب، وهو العمل الصالح وهو الحسن وهو البر وهو الخير وضده المعصية والعمل الفاسد والسيئة والفجور والظلم .اهـ. (2)
__________
(1) فتح الباري (5/367).
(2) مجموع الفتاوى (28/134)، الاستقامة (2/227).(1/39)
قال الشعبي: إنا لسنا بالفقهاء ولكنا سمعنا الحديث فرويناه ولكن الفقهاء من إذا علم عمل. (1)
قيل لابن شبرمة حدث تؤجر ، فأنشأ يقول:
يمنوني الأجر الجزيل وليتني نجوت كفافا لا علي ولا ليا . (2)
وقال شعبة:ما أنا مقيم على شيء أخاف أن يدخلني النار غيره يعني الحديث.
وعن أبي بكر الأثرم قال وسمعت أبا عبد الله أحمد بن حنبل ذكر قول شعبة
ما أخاف أن يدخلني النار غيره يعني الحديث ) فقال تعلم أنه كان صادقا في العمل أو نحو هذا . (3)
وعن شبابة قال دخلت على شعبة في يومه الذي مات فيه وهو يبكي فقلت له ما هذا الجزع يا أبا بسطام أبشر فإن لك الإسلام موضعا فقال دعني فلوددت أني وقاد حمام وأني لم أعرف الحديث . (4)
وعن منصور بن زاذان قال نبئت أن بعض من يلقى في النار تتأذى أهل النار بريحه فيقال له ويلك ما كنت تعمل ما يكفينا ما نحن فيه من الشر حتى ابتلينا بك وبنتن ريحك فيقول كنت عالما فلم أنتفع بعلمي. (5)
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى: وينبغي أن يستحضر النية في جميع العبادات (وتكون في القلب) فينوي مثلاً الوضوء وأنه توضأ لله امتثالا لأمر الله فهذه ثلاثة أشياء:
1- نية العبادة .
2- نية أن تكون لله .
3- نية أنه قام بها امتثالا لأمر الله. فهذا أكمل شيء في النية، كذلك في الصلاة وفي كل العبادات.اهـ. (6)
وعن أنس - رضي الله عنه - قال: "رجعنا من غزوة تبوك مع النبي × فقال: إن أقواماً خلفنا بالمدينة ما سلكنا شعباً ولا وادياً إلا وهم معنا حبسهم العذر" (7) .
__________
(1) اقتضاء العلم العمل (1/79).
(2) اقتضاء العلم العمل (1/79).
(3) اقتضاء العلم العمل (1/86).
(4) اقتضاء العلم العمل (1/86).
(5) قال الألباني: ضعيف جدا مقطوع. ضعيف الترغيب رقم (111).
(6) شرح رياض الصالحين (1/10) .
(7) أخرجه البخاري في كتاب الجهاد والسير برقم (2839).(1/40)
وعن أبي عبد الله جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما قال: "كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في غزاة فقال: إن بالمدينة لرجال ما سرتم مسيراً ولا قطعتم وادياً إلا كانوا معكم حبسهم المرض".
وفي رواية: "إلا شركوكم في الأجر". (1) أي شاركه.
قال النووي: وفى هذا الحديث: فضيلة النية في الخير، وأن من نوى الغزو وغيره من الطاعات فعرض له عذر منعه حصل له ثواب نيته، وأنه كلما أكثر من التأسف على فوات ذلك وتمنى كونه مع الغزاة ونحوهم كثر ثوابه والله أعلم.اهـ. (2)
وقال القرطبي: قلت الظاهر من الأحاديث والآي المساواة في الأجر منها قوله عليه السلام: من دل على خير فله مثل أجر فاعله، وقوله: من توضأ وخرج إلى الصلاة فوجد الناس قد صلوا أعطاه الله مثل أجر من صلاها وحضرها، وهو ظاهر قوله تعالى: وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى اللّهِ". (3) ، وبدليل أن النية الصادقة هي أصل الأعمال، فإذا صحت في فعل طاعة فعجز عنها صاحبها لمانع منع منها فلا بعد في مساواة أجر ذلك العاجز لأجر القادر والفاعل، ويزيد عليه لقوله عليه السلام نية المؤمن خير من عمله والله أعلم. (4)
وقال ابن قيم الجوزية: فهذه المعية هي بقلوبهم وهممهم لا كما يظنه طائفة من الجهال أنهم معهم بأبدانهم فهذا محال لأنهم قالوا له: وهم بالمدينة؟ قال: [وهم بالمدينة حبسهم العذر] وكانوا معه بأرواحهم وبدار الهجرة بأشباحهم وهذا من الجهاد بالقلب، وهو أحد مراتبه الأربع وهي: القلب واللسان، والمال، والبدن، وفي الحديث: جاهدوا المشركين بألسنتكم وقلوبكم وأموالكم. (5)
__________
(1) أخرجه مسلم في الإمارة برقم (1911).
(2) شرح النووي على مسلم (13/57) .
(3) سورة النساء آية (100).
(4) تفسير القرطبي (8/293) .
(5) زاد المعاد (3/499) .(1/41)
فإذا نوى الإنسان العمل الصالح ولكنه حبسه العذر فإنه يكتب له أجر ما نوى كاملاً، ويدل أيضاً عليه قوله تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَطَؤُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ". (1)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: فهؤلاء كانوا قاصدين للعمل الذي كانوا يعملونه راغبين فيه لكن عجزوا فصاروا بمنزلة العامل بخلاف من زال عقله فإنه ليس له قصد صحيح ولا عبادة أصلا بخلاف أولئك فإن لهم قصدا صحيحا يكتب لهم به الثواب. (2)
وسئل رحمه الله عن قوله $ نية المرء أبلغ من عمله؟
فأجاب: هذا الكلام قاله غير واحد وبعضهم يذكره مرفوعا وبيانه من وجوه: أحدها أن النية المجردة من العمل يثاب عليها والعمل المجرد عن النية لا يثاب عليه، فإنه قد ثبت بالكتاب والسنة وإتفاق الأئمة أن من عمل الأعمال الصالحة بغير إخلاص لله لم يقبل منه ذلك، وقد ثبت فى الصحيحين من غير وجه عن النبى $ أنه قال من هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة.
__________
(1) سورة التوبة آية (120-121).
(2) الفتاوى الكبرى (1/180) .(1/42)
الثانى: أن من نوى الخير وعمل منه مقدوره وعجز عن إكماله كان له أجر عامل كما فى الصحيحين عن النبى$ أنه قال إن بالمدينة لرجالا ما سرتم مسيرا ولاقطعتم واديا إلا كانوا معكم قالوا وهم بالمدينة قال وهم بالمدينة حبسهم العذر وقد صحح الترمذى حديث أبى كبشة الأنمارى عن النبى $ أنه ذكر أربعة رجال رجل آتاه الله مالا وعلما فهو يعمل فيه بطاعة الله ورجل آتاه الله علما ولم يؤته مالا فقال لو أن لى مثل ما لفلان لعملت فيه مثل ما يعمل فلان قال فهما فى الأجر سواء ورجل آتاه الله مالا ولم يؤته علما فهو يعمل فيه بمعصية الله ورجل لم يؤته الله مالا ولا علما فقال لو أن لى مثل ما لفلان لعملت فيه مثل ما يعمل فلان قال فهما فى الوزر سواء.
وفى الصحيحين عن النبى $ أنه قال من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من إتبعه من غير أن ينقص من أجورهم شىء ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الوزر مثل أوزار من إتبعه من غير أن ينقص من أوزارهم شى ء وفى الصحيحين عنه أنه قال إذا مرض العبد أو سافر كتب له من العمل ما كان يعمله وهو صحيح مقيم وشواهد هذا كثيرة .
الثالث: أن القلب ملك البدن والأعضاء جنوده، فإذا طاب الملك طابت جنوده، وإذا خبث الملك خبثت جنوده، والنية عمل الملك بخلاف الأعمال الظاهرة، فإنها عمل الجنود .
الرابع: أن توبة العاجز عن المعصية تصح عند أهل السنة، كتوبة المجبوب عن الزنا وكتوبة المقطوع اللسان عن القذف وغيره، وأصل التوبة عزم القلب، وهذا حاصل مع العجز.(1/43)
الخامس: أن النية لا يدخلها فساد بخلاف الأعمال الظاهرة فإن النية أصلها حب الله ورسوله وإرادة وجهه وهذا هو بنفسه محبوب لله ورسوله مرضى لله ورسوله والأعمال الظاهرة تدخلها آفات كثيرة ومالم تسلم منها لم تكن مقبولة ولهذا كانت اعمال القلب المجردة أفضل من أعمال البدن المجردة كما قال بعض السلف قوة المؤمن فى قلبه وضعفه فى جسمه وقوة المنافق فى جسمة وضعفه فى قلبه وتفصيل هذا يطول والله أعلم. (1)
وعن أبي هريرة عبد الرحمن بن صخر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "إن الله لا ينظر إلى أجسامكم ولا إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم". (2)
قال المناوي: أي لا يجازيكم على ظاهرها ولا إلى أموالكم الخالية من الخيرات أي لا يثيبكم عليها ولا يقربكم منه ولكن إنما ينظر إلى قلوبكم التي هي محل التقوى، وأوعية الجواهر، وكنوز المعرفة وأعمالكم، فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً.
وذلك لأن النظر في الشاهد دليل المحبة، وترك النظر دليل البغض والكراهية، وميل الناس إلى الصور المعجبة والأموال الفائقة، واللّه منزه عن ذلك، فجعل نظره إلى ما هو السر واللب وهو القلب والعمل.اهـ. (3)
__________
(1) الفتاوى الكبرى (22/244) .
(2) أخرجه مسلم في كتاب البر والصلة برقم (2564).
(3) فيض القدير .(1/44)
وقال ابن قيم الجوزية: إعلم أن الجمال ينقسم قسمين: ظاهر ، وباطن، فالجمال الباطن هو المحبوب لذاته، وهو جمال العلم، والعقل، والجود، والعفة، والشجاعة، وهذا الجمال الباطن هو محل نظر الله من عبده وموضع محبته، كما في الحديث الصحيح: "إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم"، وهذا الجمال الباطن يزين الصورة الظاهرة وإن لم تكن ذات جمال فتكسوا صاحبها من الجمال، والمهابة، والحلاوة بحسب ما اكتست روحه من تلك الصفات، فإن المؤمن يعطى مهابة وحلاوة بحسب إيمانه فمن رآه هابه، ومن خالطه أحبه، وهذا أمر مشهود بالعيان، فإنك ترى الرجل الصالح المحسن ذا الأخلاق الجميلة من أحلى الناس صورة، وإن كان أسود أو غير جميل ولا سيما إذا رزق حظاً من صلاة الليل، فإنها تنور الوجه وتحسنه، وقد كان بعض النساء تكثر صلاة الليل فقيل لها في ذلك؟ فقالت: إنها تحسن الوجه، وأنا أحب أن يحسن وجهي، ومما يدل على أن الجمال الباطن أحسن من الظاهر أن القلوب لا تنفك عن تعظيم صاحبه ومحبته والميل إليه.
وأما الجمال الظاهر فزينة خص الله بها بعض الصور عن بعض، وهي من زيادة الخلق التي قال الله تعالى فيها يزيد في الخلق ما يشاء، قالوا هو الصوت الحسن، والصورة الحسنة، والقلوب كالمطبوعة على محبته كما هي مفطورة على استحسانه، وقد ثبت في الصحيح عنه أنه قال لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر قالوا يا رسول الله الرجل يحب أن تكون نعله حسنة وثوبه حسنا أفذلك من الكبر ؟ فقال: لا إن الله جميل يحب الجمال الكبر بطر الحق وغمط الناس فبطر الحق جحده ودفعه بعد معرفته وغمط الناس النظر إليهم بعين الازدراء والاحتقار والاستصغار لهم ولا بأس بهذا إذا كان لله وعلامته أن يكون لنفسه أشد ازدراء واستصغارا منه لهم فأما إن احتقرهم لعظمة نفسه عنده فهو الذي لا يدخل صاحبه الجنة .(1/45)
وقال: وكما أن الجمال الباطن من أعظم نعم الله تعالى على عبده فالجمال الظاهر نعمة منه أيضا على عبده يوجب شكراً، فإن شكره بتقواه وصيانته ازداد جمالا على جماله وإن استعمل جماله في معاصيه سبحانه قلبه له شيئا ظاهرا في الدنيا قبل الآخرة فتعود تلك المحاسن وحشة وقبحا وشينا وينفر عنه من رآه، فكل من لم يتق الله عز وجل في حسنه وجماله انقلب قبحا وشينا يشينه به بين الناس فحسن الباطن يعلو قبح الظاهر ويستره، وقبح الباطن يعلو جمال الظاهر ويستره.
يا حسن الوجه توق الخنا ... لا تبدلن الزين بالشين
ويا قبيح الوجه كن محسنا ... لا تجمعن بين قبيحين
وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يدعو الناس إلى جمال الباطن بجمال الظاهر ، كما قال جرير بن عبدالله وكان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يسميه يوسف هذه الأمة، قال: قال لي رسول الله أنت امرء قد حسن الله خلقك فأحسن خلقك، وقال بعض الحكماء ينبغي للعبد أن ينظر كل يوم في المرآة فإن رأى صورته حسنة لم يشنها بقبيح فعله، وإن رآها قبيحة لم يجمع بين قبح الصورة وقبح الفعل.
ولما كان الجمال من حيث هو محبوبا للنفوس معظما في القلوب لم يبعث الله نبيا إلا جميل الصورة حسن الوجه كريم الحسب حسن الصوت كذا قال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - أجمل خلق الله وأحسنهم وجها كما قال البراء بن ع(9) - رضي الله عنه - وقد سئل أكان وجه رسول الله مثل السيف قال لا بل مثل القمر، وفي صفته كأن الشمس تجري في وجهه يقول واصفه لم أر قبله ولا بعده مثله.اهـ. (1)
__________
(1) روضة المحبين (1/221- 223).(1/46)
وعن أبي موسى عبد الله بن قيس الأشعري - رضي الله عنه - ، قال: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حمية ويقاتل رياءً أي ذلك في سبيل الله؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله". (1)
وعن عبدالله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "انطلق ثلاثة نفر ممن كان قبلكم حتى آواهم المبيت إلى غار فدخلوه فانحدرت صخرة من الجبل فسدت عليهم الغار فقالوا: إنه لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم، قال رجل منهم: اللهم كان لي أبوان شيخان كبيران وكنت لا أغبق قبلهما أهلاً ولا مالاً فنأى بي طلب الشجر يوماً فلم أرح عليهما حتى ناما فجلبت لهما غبوقهما فوجدتهما نائمين فكرهت أن أوقظهما وأن أغبق قبلهما أهلاً أو مالاً فلبثت والقدح على يدي انتظر استيقاظهما حتى برق الفجر والصبية يتضاغون عند قدمي فاستيقظا فشربا غبوقهما، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرج عنا ما نحن فيه من هذه الصخرة فانفرجت شيئاً لا يستطيعون الخروج منه.
__________
(1) أخرجه البخاري في التوحيد برقم (7458)، ومسلم في كتاب الإمارة برقم (1904).(1/47)
قال الآخر: اللهم إنه كان لي ابنة عم كانت أحب الناس إليّ - وفي رواية - (كنت أحبها أشد ما يحب الرجال النساء) فأردتها على نفسها فامتنعت مني حتى ألمت بها سنة من السنين فجاءتني فأعطيتها عشرين ومائة دينار على أن تخلي ما بيني وبين نفسها ففعلت حتى إذا قدرت عليها - وفي رواية (فلما قعدت بين رجليها) - قالت: اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه فانصرفت عنها وهي أحب الناس إلي وتركت الذهب الذي أعطيتها، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه فانفرجت الصخرة غير أنهم لا يستطيعون الخروج منها، وقال الثالث: اللهم إني استأجرت أجراء وأعطيتهم أجرهم غير رجل واحد ترك الذي له وذهب فثمرت أجره حتى كثرت منه الأموال فجاءني بعد حين فقال: يا عبد الله أد إليَّ أجري فقلت: كل ما ترى من أجرك من الإبل والبقر والغنم والرقيق فقال: يا عبد الله لا تستهزئ بي فقلت: لا أستهزئ بك فأخذه كله فاستاقه فلم يترك منه شيئا، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه فانفرجت الصخرة فخرجوا يمشون". (1)
الغار: النقب في الجبل.
لا أغبق قبلهما، الغبوق: هو الشرب بالعشي والمراد انه كان لا يقدم على أبويه أحداً في طعام ولا شراب.
وقوله: فإذا أرحت عليهم حلبت معناه: إذا أردت الماشية من المرعى إليهم وإلى موضع مبيتها وهو مراحها بضم الميم يقال: أرحت الماشية وروحتها بمعنى. وقوله: فجئت بالحلاب هو: بكسر الحاء وهو الإناء الذي يحلب فيه يسع حلبه ناقة ويقال له المحلب: بكسر الميم قال القاضي: وقد يريد بالحلاب هنا اللبن المحلوب.
قوله: "والصبية يتضاغون" أي: يصيحون ويستغيثون من الجوع.
قوله: "فلم يزل ذلك دأبي" أي: حالي اللازمة. الفرجة: بضم الفاء وفتحها ويقال لها أيضا فرج.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب أحاديث الأنبياء برقم (3465) وفي كتاب البيوع برقم (2215)، ومسلم في كتاب الذكر والدعاء برقم (2743).(1/48)
قوله: "وقعت بين رجليها" أي: جلست مجلس الرجل للوقاع.
قولها: "لا تفض الخاتم إلا بحقه" الخاتم: كناية عن بكارتها.
وقولها بحقه أي: بنكاح لا بزنا.
فيه أن الإخلاص في الأعمال من أسباب تفريج الكروب لأن كل منهم يقول: اللهم إن كنت فعلت ذلك من أجلك فأفرج عنا ما نحن فيه.
قوله: "انظروا أعمالاً عملتموها صالحة فادعوا الله بها لعله يفرجها" قال الإمام النووي رحمة الله تعالى: استدل أصحابنا على أنه يدعو في حال كربه وفي حال دعاء الاستسقاء وغيره بصالح عمله ويتوسل إلى الله تعالى به لأن هؤلاء فعلوه فاستجيب لهم وذكره النبي - صلى الله عليه وسلم - في معرض الثناء عليهم وجميل فضائلهم. أ.هـ. (1)
وسئل الإمام أحمد بن حنبل عن الصدق والإخلاص؟
فقال: بهذا ارتفع القوم.
صام داود بن أبي هند أربعين سنة لا يعلم به أهله ولا أحد، وكان خزازاً، يحمل معه غداءه من عندهم، فيتصدق به في الطريق، ويرجع عشياً فيفطر معهم، فيظن أهل السوق أنه قد أكل في البيت، ويظن أهله أنه قد أكل في السوق. (2)
وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال في حجة الوداع: ((نضّر الله عبدًا سمع مقالتي هذه، فحملها، فرب حامل الفقه فيه غير فقيه، ورب حامل الفقه إلى مَنْ هو أفقه منه، ثلاث لا يغل عليهن صدر مسلم، إخلاص العمل لله - عزّ وجل -، ومناصحة أولي الأمر، ولزوم جماعة المسلمين، فإن دعوتهم تحيط من ورائهم)). (3)
قال في النهاية نَضَره ونضَّره وأنضَره: أي نعمه: ويروى بالتخفيف والتشديد من النضارة وهي في الأصل حسن الوجه والبريق وإنما أراد حسن خلقه وقدره.
__________
(1) شرح مسلم .
(2) صفة الصفوة (3/300) .
(3) أخرجه أحمد في مسنده (5/183) . وابن عاصم في (السنة) برقم (94) من حديث أنس بن مالك، والبزار، وإسناد الحديث صحيح . وصححه الألباني في الترغيب برقم (3)، والسلسلة الصحيحة برقم (404) .(1/49)
قوله: يُغل: هو من الإغلال وهي الخيانة في كل شيء.
وعن مصعب بن سعد عن أبيه < أنه ظن أن له فضلاً على من دونه من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "إنما ينصر الله هذه الأمة بضعيفها بدعوتهم وصلاتهم وإخلاصهم". (1)
قال المنذري: ومعناه أن عبادة الضعفاء ودعاءهم أشد إخلاصا لجلاء قلوبهم من التعلق بزخرف الدنيا وجعلوا همهم واحد، فأجيب دعاؤهم، وزكت أعمالهم.اهـ. (2)
وعن أبي أمامة - رضي الله عنه - قال: "جاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: أرأيت رجلا غزا يلتمس الأجر والذكر ماله؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "لا شيء له" فأعادها ثلاث مرات، ويقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "لا شيء له" ثم قال: "إن الله عزوجل لا يقبل من العمل إلا ما كان له خالصاً وابتغي به وجهه". (3)
__________
(1) رواه النسائي في الجهاد (6/45)، وصححه الألباني في الترغيب برقم (5).
(2) عون المعبود (7/184) .
(3) رواه أبو داود والنسائي بإسناد جيد، وصححه الألباني في الترغيب برقم (6).(1/50)
قال الشيخ سليمان بن عبدالله بن محمد بن عبدالوهاب: يدل على أن نية الجهاد إذا خالطها نية أجرة الخدمة أو أخذ شيء من الغنيمة أو التجارة لم يكن له أجر ويحتمل أن يكون معنى يريد الجهاد أي يريد سفر الجهاد ولم ينو الجهاد انما نوى عرض الدنيا قال ابن رجب وقال الامام أحمد التاجر والمستأجر والمكاري أجرهم على قدر ما يخلص من نيتهم في غزواتهم ولا يكونون مثل من جاهد بنفسه وماله لا يخلط به غيره وقال أيضا فيمن يأخذ جعلا على الجهاد اذا لم يخرج لأجل الدراهم فلا بأس كأنه خرج لدينه فإن أعطي شيئا أخذه وكذا روي عن عبد الله ابن عمرو قال إذا أجمع أحدكم على الغزو فعوضه الله رزقا فلا بأس بذلك وإما أن أحدكم إن أعطي درهما غزا وإن لم يعط درهما لم يغز فلا خير في ذلك قلت هذا يدل على الفرق بين من كانت نية الدنيا مخالطة له من أول مرة بحيث تكون هي الباعث له على العمل أو من جملة ما يبعث عليه من يلتمس الأجر والذكر فهذا الأجر له وبين ما كانت النية خالصة لله من أول مرة ثم عرض له أمر من الدنيا لا يبالي به سواء حصل له أو لم يحصل ليث أجمع على الغزو سواء أعطي أو لم يعط فهذا ونحوه التجارة في الحج كما قال تعالى ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم وعلى هذا ينزل ما روي عن مجاهد أنه قال في حج الجمال وحج الأجير وحج التاجر هو تام لا ينقص من أجورهم شيء أي لأن قصدهم الأصلي كان هو الحج دون التكسب، قال: وأما إن كان أصل العمل لله ثم طرأ عليه نية الرياء، فإن كان خاطراً ودفعه بغير خلاف، وإن استرسل معه فهل يحبط عمله أم لا ويجازى على أصل نيته في ذلك اختلاف بين العلماء من. (1)
وعن أبي الدرداء، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الدنيا ملعونة، ملعون ما فيها إلا ما ابتغي به وجه الله". (2)
__________
(1) شرح كتاب التوحيد (1/470) .
(2) رواه الطبراني بإسناد لا بأس به وحسنه العلامة الألباني في الترغيب.(1/51)
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "إنما يُبعث الناس على نياتهم". (1)
وعن معن بن يزيد رضي الله عنهما قال: "كان أبي يزيد أخرج دنانير يتصدق بها فوضعها عند رجل في المسجد فجئت فأخذتها فأتيته بها فقال: والله ما إياك أردت فخاصمته إلى رسول الله × فقال:"لك ما نويت يا يزيد؟ ولك ما أخذت يا معن!". (2)
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "يغزو جيش الكعبة فإذا كانوا ببيداء من الأرض يُخسَف بأولهم وآخرهم" قالت: قلت: يا رسول الله! كيف يُخسَف بأولهم وآخرهم وفيهم أسواقهم ومن ليس منهم؟ قال: "يخسف بأولهم وآخرهم ثم يبعثون على نياتهم". (3)
أسواقهم: جمع سوق، وهي موضع البياعات، والتقدير أهل أسواقهم الذين يبيعون ويشترون كما في المدن. (4)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وهذا فى ظاهر الأمر وأن قتل وحكم عليه بما يحكم على الكفار فالله يبعثه على نيته كما ان المنافقين منا يحكم لهم فى الظاهر بحكم الاسلام ويبعثون على نياتهم، والجزاء يوم القيامة على ما فى القلوب لا على مجرد الظواهر ولهذا روى ان العباس قال يارسول الله كنت مكرها قال اما ظاهرك فكان علينا واما سريرتك فالى الله. (5)
وقال ابن حجر: ووجه الاستدلال منه هنا أن للنية تأثيراً في العمل لاقتضاء الخبر أن في الجيش المذكور المكره والمختار فإنهم إذا بعثوا على نياتهم وقعت المؤاخذة على المختار دون المكره. (6)
__________
(1) رواه ابن ماجة بإسناد حسن، وصححه الألباني في الترغيب برقم (11).
(2) رواه البخاري في كتاب الزكاة برقم (1422).
(3) أخرجه البخاري في كتاب البيوع برقم (118)، ومسلم في كتاب الفتن برقم (2884).
(4) قاله الألباني .
(5) مجموع الفتاوى (19/225) .
(6) فتح الباري (4/115).(1/52)
وعن أبي كبشة الأنماري - رضي الله عنه - أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "ثلاث أقسم عليهم، وأحدثكم حديثا فاحفظوه، قال: ما نقص مال عبدٍ من صدقةٍ، ولا ظلم عبد مظلمة صبر عليها إلا زاده الله عزاً، ولا فتح عبدٌ باب مسألة إلا فتح الله عليه باب فقر، أو كلمة نحوها، وأحدثكم حديثاً فاحفظوه: إنما الدنيا لأربعة نفر: عبدٌ رزقه الله مالاً وعلماً فهو يتقي فيه ربه، ويصل فيه رحمه، ويعلم لله فيه حقاً، فهذا بأفضل المنازل، وعبد رزقه الله علماً ولم يرزقه مالاً فهو صادق النية، يقول: لو أن لي مالاً لعملت بعمل فلان فهو بنيته، فأجرهما سواء، وعبد رزقه الله مالاً ولم يرزقه علماً يخبط في ماله بغير علم، ولا يتقي فيه ربه، ولا يصل فيه رحمه، ولا يعلم لله فيه حقاً، فهذا بأخبث المنازل، وعبد لم يرزقه الله مالاً، ولا علماً فهو يقول: لو أن لي مالاً لعملت فيه بعمل فلان، فهو بنيته فوزرهما سواء". (1)
__________
(1) رواه أحمد والترمذي واللفظ له وقال: (حديث حسن صحيح) ورواه ابن ماجة، وصححه العلامة الألباني في الترغيب برقم (14).(1/53)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: فهذا التساوى مع الأجر والوزر هو فى حكاية حال من قال ذلك وكان صادقا فيه وعلم الله منه إرادة جازمة لا يتخلف عنها الفعل إلا لفوات القدرة فلهذا إستويا فى الثواب والعقاب، وليس هذه الحال تحصل لكل من قال لو أن لي ما لفلان لفعلت مثل ما يفعل إلا إذا كانت إرادته جازمة يجب وجود الفعل معها إذا كانت القدرة حاصلة وإلا فكثير من الناس يقول ذلك عن عزم لو إقترنت به القدرة لأنفسخت عزيمته كعامة الخلق يعاهدون وينقضون وليس كل من عزم على شىء عزما جازما قبل القدرة عليه وعدم الصوارف عن الفعل تبقى تلك الإرادة ثم القدرة المقارنة للصوارف، كما قال تعالى: ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه فقد رأيتمونه وأنتم تنظرون، وكما قال تعالى: يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون، وكما قال: ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون. (1)
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "من هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة، ومن هم بحسنة فعملها كتبت له عشر حسنات إلى سبع مائة ضعف، ومن هم بسيئة فلم يعملها لم تكتب عليه، وإن عملها كُتِبَت". (2)
سئل شيخ الإسلام ابن تيمية عن قوله إذا هم العبد بالحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة. الحديث، فإذا كان الهم سراً بين العبد وبين ربه فكيف تطلع الملائكة عليه؟
__________
(1) مجموع الفتاوى (10/733-734) .
(2) رواه مسلم.(1/54)
فأجاب: الحمد لله، قد روى عن سفيان بن عيينة فى جواب هذه المسألة، قال: أنه إذا هم بحسنة شم الملك رائحة طيبة، وإذا هم بسيئة شم رائحة خبيثة، والتحقيق أن الله قادر أن يعلم الملائكة بما فى نفس العبد كيف شاء كما هو قادر على أن يطلع بعض البشر على ما في الإنسان، فإذا كان بعض البشر قد يجعل الله له من الكشف ما يعلم به أحياناً ما فى قلب الإنسان، فالملك الموكل بالعبد أولى بأن يعرفه الله ذلك، وقد قيل فى قوله تعالى: ونحن أقرب إليه من حبل الوريد" أن المراد به الملائكة، والله قد جعل الملائكة تلقى فى نفس العبد الخواطر، كما قال عبدالله بن مسعود:إن للملك لمة،وللشيطان لمة، فلمة الملك تصديق بالحق والوعد. (1)
وقال في موضع آخر: فالملك يعلم ما يهم به العبد من حسنة وسيئة، وليس ذلك من علمهم بالغيب الذى اختص الله به، وقد روى عن ابن عيينة أنهم يشمون رائحة طيبة فيعلمون أنه هم بحسنة، ويشمون رائحة خبيثة فيعلمون أنه هم بسيئة، وهم وان شموا رائحة طيبة ورائحة خبيثة فعلمهم لا يفتقر الى ذلك بل ما فى قلب ابن آدم يعلمونه بل ويبصرونه ويسمعون وسوسة نفسه بل الشيطان يلتقم قلبه، فاذا ذكر الله خنس، واذا غفل قلبه عن ذكره وسوس، ويعلم هل ذكر الله أم غفل عن ذكره، ويعلم ما تهواه نفسه من شهوات الغى فيزينها له. (2)
وعن أبي الدرداء - رضي الله عنه - ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :"من أتى فراشه وهو ينوي أن يقوم يصلي من الليل فغلبتْهُ عيناهُ حتى أصبح كُتب له ما نوى وكان نومه صدقةً عليه من ربه". (3)
__________
(1) مجموع الفتاوى (4/253).
(2) مجموع الفتاوى (5/508).
(3) رواه النسائي وابن ماجة، ابن حبان في صحيحه، وصححه الألباني في صحيح سنن النسائي برقم (1787)، وصحيح سنن ابن ماجة برقم (1344)، وصحيح الترغيب برقم (19).(1/55)
قال ابن عبدالبر: وفي هذا الحديث ما يدل على أن المرء يجازى على ما نوى من الخير وإن لم يعمله، كما لو أنه عمله، وأن النية يعطى عليها كالذي يعطى على العمل إذا حيل بينه وبين ذلك العمل وكانت نيته أن يعمله ولم تنصرف نيته حتى غلب عليه بنوم أو نسيان أو غير ذلك من وجوه الموانع، فإذا كان ذلك كتب له أجر ذلك العمل وإن لم يعمله فضلا من الله ورحمة جازى على العمل ثم على النية إن حال دون العمل حائل، وفي مثل هذا الحديث والله أعلم. (1)
قال معاذ > لأبي موسى >: إني أنام وأقوم وأحتسب نومتي كما أحتسب قومتي .
وعن أبي هريرة >، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "قال رجل لأتصدقن بصدقةٍ، فخرج بصدقته فوضعها في يد سارق فأصبحوا يتحدثون: تُصدق الليلة على سارق! فقال: اللهم لك الحمد على سارق! لأتصدقن بصدقة، فخرج بصدقته فوضعها في يد زانية فاصبحوا يتحدثون: تصدق الليلة على زانية! فقال: اللهم لك الحمد على زانية! لأتصدقن بصدقة فخرج بصدقته فوضعها في يد غني فاصبحوا يتحدثون: تصدق الليلة على غني! فقال: اللهم لك الحمد على سارق، وزانية، وغني! فأُتي فقيل له: أما صدقتك على سارق فلعله أن يستعف عن سرقته، وأما الزانية فلعلها أن تستعف عن زناها، وأما الغني فلعله أن يعتبر فينفق مما أعطاه الله، فقيل له: أما صدقتك فقد تُقُبلت..". (2)
__________
(1) التمهيد (12/265).
(2) أخرجه البخاري في كتاب الزكاة برقم (1421)، ومسلم في كتاب الزكاة برقم (1022).(1/56)
فوائد الحديث: فيه دلالة على أن الصدقة كانت عندهم في أيامهم مختصة بأهل الحاجة من أهل الخير، ولهذا تعجبوا من الصدقة على الأصناف الثلاثة، وفيه دليل على أن الله يجزي العبد على حسب نيته في الخير لأن هذا المتصدق لما قصد بصدقته وجه الله تعالى قبلت منه ولم يضره وضعها عند من لا يستحقها، وهذا في صدقة التطوع، وأما الزكاة فلا يجوز دفعها إلى الأغنياء، وفيه اعتبار لمن تصدق عليه بأن يتحول عن الحال المذمومة إلى الحال الممدوحة، ويستعف السارق من سرقته، والزانية من زناها، والغني من إمساكه، وفيه فضل صدقة السر، وفضل الإخلاص، وفيه استحب إعادة الصدقة إذا لم تقع الموقع، وفيه أن الحكم للظاهر حتى يتبين خلافه، وفيه التسليم والرضى وذم التضجر بالقضاء. (1)
وقال سفيان الثوري: ما عالجت شيئا أشد عليَّ من نيتي.
وعن أبي حمزة الثُّمالي، قال: كان علي بن الحسين يحمل جراب الخبز على ظهره بالليل فيتصدّق به، ويقول: "إن صدقة السر تطفئ غضب الربّ عز وجل". (2)
وعن عمرو بن ثابت قال: لما مات علي بن الحسين فغسَّلوه جعلوا ينظرون إلى آثار سود في ظهره، فقالوا: ما هذا؟ فقالوا: كان يحمل جُرُب الدقيق ليلاً على ظهره يعطيه فقراء أهل المدينة! (3)
وعن ابن عائشة قال: قال أبي: سمعت أهل المدينة يقولون: ما فَقَدنا صدقة السرّ حتى مات علي بن الحسين. (4)
وعن سفيان قال: أخبرتني مرّيّة الربيع بن خُثيم قالت: كان عمل الربيع كلُّه سراً، إن كان ليجئُ الرجل وقد نشَر المصحف فيغطيه بثوبه.
وقال ابن الجوزي:كان إبراهيم النخعي إذا قرأ في المصحف فدخل داخل غطاه.
__________
(1) عمدة القاري (8/287) .
(2) رواه الترمذي برقم (664) وابن حبان (816) موارد، والبغوي في شرح السنة (6/133) وغيرهم. الإرواء (885)، المشكاة (1909).
(3) صفة الصفوة: (2/96).
(4) المصدر السابق.(1/57)
وعن جبير بن نفير، أنه سمع أبا الدرداء، وهو في آخر صلاته، وقد فرغ من التشهد، يتعوذ بالله من النفاق، فأكثر التعوذ منه، قال جبير: ومالك يا أبا الدرداء أنت والنفاق؟ فقال: دعنا عنك، دعنا عنك، فوالله إن الرجل ليُقْلَبُ عن دينه في الساعة الواحدة فيخلع منه. (1)
وعن عبد الله بن مبارك قال: قيل لحمدون بن أحمد: ما بال كلام السلف أنفع من كلامنا؟ قال: لأنهم تكلَّموا لعزّ الإسلام ونجاة النفوس ورضا الرحمن، ونحن نتكلم لعز النفوس وطلب الدنيا ورضا الخَلْق. (2)
وذكر ابن أبي الدنيا في كتابه الاخلاص والنية عن إخلاص وعبادة بعض السلف، فقال:
قال علي بن الحسن بن شقيق: لم أر أحداً من الناس أقرأ من ابن المبارك ولا أحسن قراءة، ولا أكثر صلاة منه، كان يصلي الليل كله في السفر وغيره، وإنما ترك النوم في المحمل، لأنه كان يصلي، وكان الناس لا يدرون.
وعن محمد بن الوليد قال: مر عمر بن عبد العزيز برجل في يده حصى يلعب به وهو يقول: اللهم زوجني من الحور العين، فقام عليه عمر فقال: بئس الخاطب أنت، ألا ألقيت الحصى، وأخلصت لله الدعاء.
وعن الأعمش، قال: سمعت إبراهيم يقول: إن الرجل ليعمل العمل الحسن في أعين الناس، أو العمل لا يريد به وجه الله، فيقع له المقت والعيب عند الناس حتى يكون عيباً. وإنه ليعمل العمل أو الأمر يكرهه الناس يريد به وجه الله فيقع له - الحب - والحسن عند الناس.
وعن عبيد بن عمرو: أنه سمع فضالة بن عبيد يقول: لأن أكون أعلم أن الله قد تقبل مني مثقال حبة من خردل أحب إلي من الدنيا وما فيها؛ لأن الله يقول: إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَهُ مِنَ المُتَقين.
وعن سفيان: عن زبيد قال: من كانت سريرته أفضل من علانيته فذلك الفضل، ومن كانت سريرته مثل علانيته فذلك النصف، ومن كانت سريرته دون علانيته فذلك الجور.
__________
(1) سير أعلام النبلاء: 6/383 وقال الذهبي: إسناده صحيح.
(2) صفة الصفوة: 4/122.(1/58)
وعن معقل بن عبيد الله الجزري قال: كانت العلماء إذا التقوا تواصوا بهذه الكلمات، وإذا غابوا كتب بها بعضهم إلى بعض أنه: من أصلح سريرته أصلح الله علانيته، ومن أصلح ما بينه وبين الله كفاه الله ما بينه وبين الناس ومن اهتم بأمر آخرته كفاه الله أمر دنياه.
وعن الأوزاعي: عن بلال بن سعد قال: لا تكن ولياً لله في العلانية وعدوه في السريرة.
وعن الأوزاعي قال: سمعت بلال بن سعد يقول: لا تكن ذا وجهين وذا لسانين؛ تظهر للناس ليحمدوك، وقلبك فاجر.
وعن الربيع قال: وعظ الحسن يوماً، فانتحب رجل؛ فقال الحسن: ليسألنك الله يوم القيامة ما أردت بهذا. عن فضيل بن عياض قال: سمعته يقول: خير العمل أخفاه، أمنعه من الشيطان، وأبعده من الرياء.
عن معمر قال: بكى رجل إلى جنب الحسن فقال: قد كان أحدهم يبكي إلى جنب صاحبه فما يعلم به.
وعن محمد بن واسع قال: لقد أدركت رجالاً كان الرجل يكون رأسه ورأس امرأته على وسادٍ واحد، قد بل ما تحت خده من دموعه لا تشعر به امرأته.
والله لقد أدركت رجالاً كان أحدهم يقوم في الصف، فتسيل دموعه على خده، لا يشعر الذي إلى جنبه.
وعن الزهري: عن عبيد الله بن عبد الله قال: كان لا يعرف البر في عمر، ولا ابن عمر، حتى يقولا أو يعملا.
وعن الحسن قال: إن كان الرجل ليتعبد عشرين سنة ما يعلم به جاره.
قال حماد: ولعل أحدكم يصلي ليلة أو بعض ليلة، فيصبح، وقد طال على جاره.
وعن الحسن قال: إن كان الرجل ليجتمع إليه القوم، أو يجتمعون، يتذاكرون، فتجيء الرجل عبرته فيردها، ثم تجيء فيردها، ثم تجيء فتردها، فإذا خشي أن يفلت قام. عن كهمس بن الحسن، عن بعض أصحابه: أن رجلاً تنفس عند عمر كأنه يتحازن فلكزه عمر، أو قال: لكمه.
وعن الحسن أنه حدث يوماً، أو وعظ فتنفس في مجلسه رجل، فقال الحسن: إن كان لله فقد شهرت نفسك، وإن كان لغير الله هلكت.(1/59)
وعن الحسن قال:إن كان الرجل ليكون عنده الزور فيصلي الصلاة الطويلة أو الكثيرة من الليل ما يعلم بها زوره. عن الحسن قال: إن كان الرجل لتكون له الساعة، يخلو فيها، فيصل، فيوصي أهله، فيقول: إن جاء أحدٌ يطلبني فقولوا: هو في حاجة له.
وعبد المؤمن أبو عبد الله قال: كان لحسان بن أبي سنان في حانوته ستر، فكان يخرج سلة الحساب وينشر حسابه، ويصعد غلاماً على الباب، ويقول: إذا رأيت رجلاً قد أقبل، ترى أنه يريدني فأخبرني. ثم يقوم فيصلي، فإذا جاء رجل أخبره الغلام، فيجلس كأنه على الحساب.
وعن عبد الله بن عيسى قال: أخبرني أبي قال: كان حسان بن أبي سنان يحضر مسجد مالك بن دينار، فإذا تكلم مالك بكى حسان حتى يسيل ما بين يديه، لا يسمع له صوت.
وعن محمد بن عبد الله الزراد قال: ربما اشترى حسان بن أبي سنان أهل بيت الرجل وعياله، ثم يعتقهم جميعاً، ثم لا يتعرف إليهم، ولا يعلمهم من هو.
وعن أبي الطيب موسى بن يسار قال: صحبت محمد بن واسع من مكة إلى البصرة فكان الليل أجمع يصلي في المحمل جالساً يومئ برأسه إيماءً، وكان يأمر الحادي أن يكون خلفه ويرفع صوته حتى لا يفطن له.
وعن محمد بن واسع قال: إن كان الرجل ليبكي عشرين سنة ومعه امرأته ما تعلم به.
وعن ميمون بن مهران قال: تكلم عمر بن عبد العزيز ذات يوم، وعنده رهط من إخوانه، فصح له منطق وموعظةٌ حسنة، فنظر إلى رجل من جلسائه، وهو يخذف دمعته، فقطع دمعته، فقلت له: يا أمير المؤمنين، امض في منطقك فإني أرجو أن يمن الله على من سمعه أو بلغه.
قال: إليك عني، فإن في القول فتنةً، والفعال أولى بالمؤمن من القول.
وعن الأعمش، عن ابن عون: عن إبراهيم قال: كانوا يكرهون إذا اجتمعوا أن يظهر الرجل أحسن ما عنده.(1/60)
قال ابن قيم الجوزية: وقد تنوعت عبارتهم - أي السلف - في الإخلاص والصدق والقصد واحد فقيل هو إفراد الحق سبحانه بالقصد في الطاعة وقيل تصفية الفعل عن ملاحظة المخلوقين وقيل التوقي من ملاحظة الخلق حتى عن نفسك والصدق التنقي من مطالعة النفس فالمخلص لا رياء له والصادق لا إعجاب له ولا يتم الإخلاص إلا بالصدق ولا الصدق إلا بالإخلاص ولا يتمان إلا بالصبر، وقيل من شهد في إخلاصه الإخلاص احتاج إخلاصه إلى إخلاص فنقصان كل مخلص في إخلاصه بقدر رؤية إخلاصه فإذا سقط عن نفسه رؤية الإخلاص صار مخلصا مخلصا وقيل الإخلاص استواء أعمال العبد في الظاهر والباطن والرياء أن يكون ظاهره خيرا من باطنه والصدق في الإخلاص أن يكون باطنه أعمر من ظاهره وقيل الإخلاص نسيان رؤية الخلق بدوام النظر إلى الخالق ومن تزين للناس بما ليس فيه سقط من عين الله، ومن كلام الفضيل ترك العمل من أجل الناس رياء والعمل من أجل الناس شرك والإخلاص أن يعافيك الله منهما. (1)
فالعبادة لا تصح إلا بالإخلاص والمتابعة.
قال ابن قيم الجوزية: فلا يكون العبد متحققا ب إياك نعبد
إلا بأصلين عظيمين:
أحدهما: متابعة الرسول.
والثاني: الإخلاص للمعبود فهذا تحقيق إياك نعبد.
والناس منقسمون بحسب هذين الأصلين أيضا إلى أربعة أقسام:
__________
(1) الإخلاص والنية لابن أبي الدنيا (1/40-50).(1/61)
أحدها: أهل الإخلاص للمعبود والمتابعة وهم أهل إياك نعبد حقيقة فأعمالهم كلها لله وأقوالهم لله وعطاؤهم لله ومنعهم لله وحبهم لله وبغضهم لله فمعاملتهم ظاهرا وباطنا لوجه الله وحده لا يريدون بذلك من الناس جزاء ولا شكورا ولا ابتغاء الجاه عندهم ولا طلب المحمدة والمنزلة في قلوبهم ولا هربا من ذمهم بل قد عدوا الناس بمنزلة أصحاب القبور لا يملكون لهم ضرا ولا نفعا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا فالعمل لأجل الناس وابتغاء الجاه والمنزلة عندهم ورجائهم للضر والنفع منهم لا يكون من عارف بهم ألبتة بل من جاهل بشأنهم وجاهل بربه فمن عرف الناس أنزلهم منازلهم ومن عرف الله أخلص له أعماله وأقواله وعطاءه ومنعه وحبه وبغضه ولا يعامل أحد الخلق دون الله إلا لجهله بالله وجهله بالخلق وإلا فإذا عرف الله وعرف الناس آثر معاملة الله على معاملتهم(1/62)
وكذلك أعمالهم كلها وعبادتهم موافقة لأمر الله ولما يحبه ويرضاه وهذا هو العمل الذي لا يقبل الله من عامل سواه وهو الذي بلا عباده بالموت والحياة لأجله قال الله تعالى: الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وجعل ما على الأرض زينة لها ليختبرهم أيهم أحسن عملا قال الفضيل بن عياض العمل الحسن هو أخلصه وأصوبه قالوا يا أبا علي ما أخلصه وأصوبه قال إن العمل إذا كان خالصا ولم يكن صوابا لم يقبل وإذا كان صوابا ولم يكن خالصا لم يقبل حتى يكون خالصا صوابا والخالص ما كان لله والصواب ما كان على السنة وهذا هو المذكور في قوله تعالى: فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا وفي قوله: ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن فلا يقبل الله من العمل إلا ما كان خالصا لوجهه على متابعة أمره وما عدا ذلك فهو مردود على عامله يرد عليه أحوج ما هو إليه هباء منثورا وفي الصحيح من حديث عائشة عن النبي كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد، وكل عمل بلا اقتداء فإنه لا يزيد عامله من الله إلا بعدا فإن الله تعالى إنما يعبد بأمره لا بالآراء والأهواء.
فصل الضرب الثاني من لا إخلاص له ولا متابعة فليس عمله موافقا لشرع
وليس هو خالصا للمعبود كأعمال المتزينين للناس المرائين لهم بما لم يشرعه الله ورسوله وهؤلاء شرار الخلق وأمقتهم إلى الله عز وجل ولهم أوفر نصيب من قوله: لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ولهم عذاب أليم يفرحون بما أتوا من البدعة والضلالة والشرك ويحبون أن يحمدوا باتباع السنة والإخلاص.
وهذا الضرب يكثر فيمن انحرف من المنتسبين إلى العلم والفقر والعبادة عن الصراط المستقيم فإنهم يرتكبون البدع والضلالات والرياء والسمعة ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوه من الإتباع والإخلاص والعلم فهم أهل الغضب والضلال(1/63)
فصل الضرب الثالث من هو مخلص في أعماله لكنها على غير متابعة الأمر
كجهال العباد والمنتسبين إلى طريق الزهد والفقر وكل من عبد الله بغير أمره واعتقد عبادته هذه قربة إلى الله فهذا حاله كمن يظن أن سماع المكاء والتصدية قربة وأن الخلوة التي يترك فيها الجمعة والجماعة قربة وأن مواصلة صوم النهار بالليل قربة وأن صيام يوم فطر الناس كلهم قربة وأمثال ذلك
فصل الضرب الرابع من أعماله على متابعة الأمر لكنها لغير الله
كطاعة المرائين وكالرجل يقاتل رياء وحمية وشجاعة ويحج ليقال ويقرأ القرآن ليقال فهؤلاء أعمالهم ظاهرها أعمال صالحة مأمور بها لكنها غير صالحة فلا تقبل وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين فكل أحد لم يؤمر إلا بعبادة الله بما أمر والإخلاص له في العبادة وهم أهل إياك نعبد وإياك نستعين. (1)
والمباحات كذلك تنقلب طاعات بالنية الصالحة .
فعن أبي ذر - رضي الله عنه - ، أن ناساً من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - قالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم - يا رسول الله ذهب أهل الدثور بالأجور يصلون كما نصلي ويصومون كما نصوم ويتصدقون بفضول أموالهم قال: "أو ليست قد جعل الله لكم ما تصدقون إن بكل تسبيحة صدقة وكل تكبيرة صدقة وكل تحميدة صدقة وأمر بالمعروف صدقة ونهي عن منكرٍ صدقة، وفي بضع أحدكم صدقة"، قالوا: يا رسول الله يأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: "أرأيتم إن وضعها في حرام أكان عليه وزر فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر" . (2)
شرح وفوائد الحديث :
قوله - صلى الله عليه وسلم - : "وفي بضع أحدكم صدقة" هو بضم الباء ويطلق على الجماع ويطلق على الفرج نفسه وكلاهما تصح إرادته هنا.
__________
(1) مدارج السالكين (1/83-85).
(2) رواه مسلم في كتاب الزكاة برقم (2326)، وأحمد برقم (21090) .(1/64)
وفي هذا دليل على أن المباحات تصير طاعات بالنيات الصادقات، فالجماع يكون عبادة إذا نوى به قضاء حق الزوجة ومعاشرتها بالمعروف الذي أمر الله تعالى به، أو طلب ولد صالح أو إعفاف نفسه، أو إعفاف الزوجة، ومنعهما جميعاً من النظر إلى حرام أو الفكر فيه أو الهم به، أو غير ذلك من المقاصد الصالحة.
قوله: قالوا يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه فيها وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر.
فيه: جواز القياس، وهو مذهب العلماء كافة، ولم يخالف فيه إلا أهل الظاهر ولا يعتد بهم وأما المنقول عن التابعين ونحوهم من ذم القياس فليس المراد به القياس الذي يعتمده الفقهاء المجتهدون، وهذا القياس المذكور في الحديث هو من قياس العكس، واختلف الأصوليون في العمل به، وهذا الحديث دليل لمن عمل به وهو الأصح، والله أعلم.
وفي هذا الحديث: فضيلة التسبيح وسائر الأذكار، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإحضار النية في المباحات، وذكر العالم دليلاً لبعض المسائل التي تخفى، وتنبيه المفتي على مختصر الأدلة، وجواز سؤال المستفتي عن بعض ما يخفى من الدليل إذا علم من حال المسؤول أنه لا يكره ذلك ولم يكن فيه سوء أدب والله أعلم. (1)
وأما الجماع والبَاه، قال ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى: فكان هديُه - صلى الله عليه وسلم - فيه أكمل هدي، يحفَظ به الصحة، وتتم به اللذةُ وسرور النفس، ويحصل به مقاصده التي وضُع لأجلها، فإن الجماعَ وُضِعَ في الأصل لثلاثة أمور هي مقاصده الأصلية:
أحدها: حفظ النسل، ودوام النوع إلى أن تتكامل العُدة التي قدر الله بروزها إلى هذا العالم.
الثاني: إخراج الماء الذي يضر احتباسُه واحتقانُه بجملة البدن.
__________
(1) شرح النووي (7/70) .(1/65)
الثالث: قضاء الوطر، ونيلُ اللذة، والتمتع بالنعمة، وهذه وحدَها هي الفائدة التي في الجنة، إذ لا تناسُلَ هناك، ولا احتقان يستفرِغُه الإنزالُ.
ومن منافعه: غضُّ البصر، وكف النفس، والقدرة على العفة عن الحرام، وتحصيلُ ذلك للمرأة، فهو ينفع نفسه في دنياه وأخراه، وينفع المرأة، ولذلك كان - صلى الله عليه وسلم - يتعاهدُه ويُحبه، ويقول: "حُبِّبَ إليَّ مِن دنياكُمُ: النِّسَاءُ والطيبُ" (1) .
ومن رحمة الله تعالى بنا أن يجري لنا أعمالنا في حال المرض، ويأمر سبحانه وتعالى الملائكة أن تكتب أعمالنا كما هي في حال الصحة.
فعن أبي موسى > قال: قال رسول الله $ "إذا مرض العبد أو سافر كتب له مثل ما كان يعمل مقيماً صحيحاً" . (2)
وعن أبي بكر بن عياش، عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله $: "إذا اشتكى العبدُ المسلمُ، قال الله تعالى للذين يكتبون: اكتبوا له أفضل ما كان يعملُ إذا كان طلقاً حتى أطلقه" . (3)
__________
(1) أخرجه أحمد في المسند برقم (12295 / 4) من حديث أنس رضي الله عنه، وتمامه: ((وجعل قرَّة عيني في الصلاة))، وأخرجه النسائي برقم (3949). صحيح الجامع برقم (3124)، المشكاة (5261). وننبه هنا أنه يروى حديث: حبب إلي من دنياكم ثلاث. لفظ ((ثلاث)) لا يصح لأن الصلاة ليس من أمر أومر الدنيا .
(2) رواه البخاري في كتاب الجهاد برقم (2996).
(3) السلسلة الصحيحة رقم (1232) .(1/66)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وهذه قاعدة الشريعة أن من كان عازماً على الفعل عزما جازما وفعل ما يقدر عليه منه كان بمنزلة الفاعل، فهذا الذي كان له عمل في صحته وإقامته عزمه أنه يفعله وقد فعل في المرض والسفر ما أمكنه فكان بمنزلة الفاعل، كما جاء في السنن فيمن تطهر في بيته ثم ذهب إلى المسجد يدرك الجماعة فوجدها قد فاتت أنه يكتب له أجر صلاة الجماعة، وكما ثبت في الصحيح من قوله إن بالمدينة لرجالاً ما سرتم مسيرا ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم قالوا وهم بالمدينة قال وهم بالمدينة حبسهم العذر (1) وقد قال تعالى لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا". (2) ، فهذا ومثله يبين أن المعذور يكتب له مثل ثواب الصحيح إذا كانت نيته أن يفعل وقد عمل ما يقدر عليه.اهـ. (3)
وقال المناوي: قال البلقيني وغيره: وهذا مقيد بما إذا اتفق له ذلك ولم يعتده وبأن لا يكون سفر معصية وأن لا يكون المرض بفعله وقوله مقيماً هو ما في نسخ صحيحة من البخاري وشرح عليه شارحون قالوا فهما حالان مترادفان أو متداخلان ولف ونشر غير مرتب لأن مقيماً يقابل أو مسافراً وصحيحاً يقابل إذا مرض. (4)
والرياء والكبر من أشد أمراض القلب .
__________
(1) الحديث عن أنس وقد سبق.
(2) سورة النساء آية (95) .
(3) مجموع الفتاوى (23/236) .
(4) فيض القدير .(1/67)
قال ابن قيم الجوزية: ثم إن القلب يعرض له مرضان عظيمان إن لم يتداركهما العبد تراميا به إلى التلف ولا بد وهما الرياء والكبر فدواء الرياء ب إياك نعبد ودواء الكبر ب إياك نستعين، وكثيرا ما كنت أسمع شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه يقول إياك نعبد تدفع الرياء وإياك نستعين تدفع الكبرياء.
فإذا عوفى من مرض الرياء ب إياك نعبد ومن مرض الكبرياء والعجب ب إياك نستعين ومن مرض الضلال والجهل ب اهدنا الصراط المستقيم عوفي من أمراضه وأسقامه ورفل في أثواب العافية وتمت عليه النعمة وكان من المنعم عليهم غير المغضوب عليهم وهم أهل فساد القصد الذين عرفوا الحق وعدلوا عنه والضالين وهم أهل فساد العلم الذين جهلوا الحق ولم يعرفوه، وحق لسورة تشتمل على هذين الشفاءين أن يستشفى بها من كل مرض، ولهذا لما اشتملت على هذا الشفاء الذي هو أعظم الشفاءين كان حصدك الشفاء الأدنى بها أولى كما سنبينه فلا شيء أشفى للقلوب التي عقلت عن الله وكلامه وفهمت عنه فهما خاصا اختصها به من معاني هذه السورة. (1)
أركان علاج القلب قال ابن قيم الجوزية:
فإن هذا الدواء مركب من ستة أجزاء عبودية الله لا غيره بأمره وشرعه لا بالهوى ولا بآراء الرجال وأوضاعهم ورسومهم وأفكارهم بالإستعانة على عبوديته به لا بنفس العبد وقوته وحوله ولا بغيره
فهذه هي أجزاء إياك نعبد وإياك نستعين فإذا ركبها الطبيب اللطيف العالم بالمرض واستعملها المريض حصل بها الشفاء التام وما نقص من الشفاء فهو لفوات جزء من أجزائها أو اثنين أو أكثر
فصل مكانة الخوف للسائر إلى الله تعالى:
القلب في سيره إلى الله عز وجل بمنزلة الطائر فالمحبة رأسه والخوف
__________
(1) مدارج السالكين (1/62).(1/68)
والرجاء جناحاه فمتى سلم الرأس والجناحان فالطير جيد الطيران ومتى قطع الرأس مات الطائر ومتى فقد الجناحان فهو عرضة لكل صائد وكاسر ولكن السلف استحبوا أن يقوى في الصحة جناح الخوف على جناح الرجاء وعند الخروج من الدنيا يقوى جناح الرجاء على جناج الخوف هذه طريقة أبي سليمان وغيره قال : ينبغى للقلب أن تكون الغالب عليه الخوف فإن غلب عليه الرجاء فسد وقال غيره: أكمل الأحوال: اعتدال الرجاء والخوف وغلبة الحب فالمحبة هى المركب والرجاء حاد والخوف سائق والله الموصل بمنه وكرمه. (1)
ffffff
الفصل الثاني
الاتباع
المبحث الأول:
تعريف الإتباع لغة: تَبِعَ الشيءَ تَبَعاً وتَباعاً في الأَفعال وتَبِعْتُ الشيءَ وتتَبَّعه قَفاه وتَطلَّبه مُتَّبعاً له؛ قال القُطامي: وخَيْرُ الأَمْرِ ما اسْتَقْبَلْتَ منه، وليس بأَن تتَبَّعَه اتِّباعا وضَع الاتِّباعَ موضع التتبُّعِ مجازاً. قال سيبويه: وتَبِعْت القوم تَبَعاً وتَباعةً، بالفتح، إِذا مشيت خلفهم أَو مَرُّوا بك فمضَيْتَ معهم. (2)
واصطلاحاً: هو قفو أثر المصطفى - صلى الله عليه وسلم - في كل أمور الحياة .
والبدعة لغة: الشيء الذي يكون أَوّلاً، وفي التنزيل: قُل ما كنتُ بِدْعاً من الرُّسُل؛ أَي ما كنت أَوّلَ من أُرْسِلَ، قد أُرسل قبلي رُسُلٌ كثير. والبِدْعةُ: الحَدَث وما ابْتُدِعَ من الدِّينِ بعد الإِكمال. (3)
والبديع: من أسماء الله تعالى لإبداعهِ الأشياء وإحداثه إياها. وهو البديع الأول قبل كل شيءٍ، ويجوز أن يكون بمعنى مبدع، أو يكون من بدع الخلق أي بدأه، والله تعالى كما قال سبحانه: { بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } .
أي: خالقها ومبدعها ، فهو سبحانه الخالق المخترع لا عن مثال سابق.
__________
(1) مدارج السالكين(1/421).
(2) لسان العرب (3/13) مادة تبع .
(3) لسان العرب (2/276) مادة بدع .(1/69)
قال الإمام الطرطوشي رحمه الله في "الحوادث والبدع"(ص40): "أصل هذه الكلمة من الاختراع، وهو الشيء يحدث من غيرِ أصلٍ سبق، ولا مثال احتذي، ولا ألف مثله، ومنه قوله تعالى: { بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْض } . (1) ، وقوله: { قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ } . (2) ؛ أي: لم أكن أول رسول إلى أهل الأرض".
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وما خالف النصوص فهو بدعة باتفاق المسلمين، وما لم يعلم أنه خالفها فقد لا يسمى بدعة، قال الشافعي رحمه الله: البدعة بدعتان: بدعة خالفت كتاباً وسنة وإجماعاً، وأثراً عن بعض (أصحاب) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فهذه بدعة ضلالة، وبدعة لم تخالف شيئاً من ذلك فهذه قد تكون حسنة لقول عمر : [نعمت البدعة هذه] وهذا الكلام أو نحوه رواه البيهقي بإسناده الصحيح في المدخل، ويروي عن مالك رحمه الله أنه قال: إذا قل العلم ظهر الجفا، وإذا قلت الآثار كثرت الأهواء" . (3)
واصطلاحاً: الشيء الحادث بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يفعله أو يأمر بفعله. قال ابن السكيت: البِدْعةُ كلُّ مُحْدَثةٍ.
قال الشاطبي: البدعة طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشرعية يقصد بالسلوك عليها ما يقصد بالطريقة الشرعية. (4)
__________
(1) سورة البقرة آية (117).
(2) سورة الأحقاف آية (9).
(3) مجموع الفتاوى (20/163).
(4) الاعتصام (1/26). وبهذا التعريف خرجت البدع الدنيوية كالسيارات، والطائرات، وأشباه ذلك، وهي التي تقبل التقسيم إلى الأحكام الخمسة "الوجوب - التحريم - الاستحباب - الكراهة- الإباحة" لا البدعة الدينية.(1/70)
وقال عبدالرحمن عبدالخالق: البدعة: "طريقة مستحدثة في الدين، يراد بها التعبد، تخالف الكتاب، والسنة وإجماع سلف الأمة"، وقد عرفها بذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله حيث يقول: "والبدعة: ما خالف الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة من الاعتقادات والعبادات: كأقوال الخوارج والروافض، والقدرية، والجهمية وكالذين يتعبدون بالرقص، والغناء في المساجد، والذين يتعبدون بحلق اللحى، وأكل الحشيشة، وأنواع ذلك من البدع التي يتعبد بها طوائف من المخالفين للكتاب والسنة. والله أعلم". (1)
وهذا الكلام على قلته جامع مانع في تعريف البدعة من حيث أنها ما خالف القرآن، والسنة، وإجماع سلف الأمة، وذلك في الاعتقادات والعبادات. كأقوال الخوارج القائلين بإخراج المسلم من الإسلام بالمعصية التي لا تبلغ حد الكفر، والشرك، وقتال أهل الإسلام، وترك أهل الأوثان، وغير ذلك من بدعهم، وكذلك بدع الروافض الذين زعموا أن الله نص على اثني عشر إماماً بأعيانهم وأن من خالف ذلك فهو كافر، ونحو ذلك من أقوالهم التي خالفوا فيها القرآن والسنة، والإجماع، وكالقول بنقص القرآن، وتحريفه، والقول بالرجعة، والبداء، وكذلك القدرية في إنكارهم عموم المشيئة، والجهمية في جحدهم معاني الأسماء والصفات، ومثل الصوفية الذين يبيحون السماع، والرقص في المساجد، ومصاحبة الولدان، وأكل الحشيش!!! الخ.
ومثل هذا ما استحدث من وسائل، وأساليب في العلم، والتعلم، والدعوة، كالمدارس، والجامعات، وطبع القرآن، ونشره، وتنظيم الجيوش، والدواوين، وما قد يدخل في المصالح المرسلة، وما لا يتم الو(3) إلا به.
ثم قال: حد البدعة التي يكون بها الرجل من أهل الأهواء.
__________
(1) مجموع الفتاوى (18/346).(1/71)
لا يجوز الحكم على مسلم بأنه مبتدع، إلا إذا جاء، أو اتبع بدعة تخالف الكتاب والسنة. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "والبدعة التي يعد بها الرجل من أهل الأهواء ما اشتهر عند أهل العلم بالسنة مخالفتها للكتاب والسنة كبدعة الخوارج، والروافض، والقدرية، والمرجئة، فإن عبدالله بن المبارك، ويوسف بن أسباط وغيرهما قالوا: "أصول اثنتين وسبعين فرقة هي أربع: الخوارج، والروافض، والقدرية، والمرجئة"، قيل لابن المبارك: فالجهمية؟ قال: ليست الجهمية من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - .
و"الجهمية" نفاة الصفات، الذين يقولون: القرآن مخلوق، وإن الله لا يرى في الآخرة، وإن محمداً لم يعرج به إلى الله، وأن الله لا علم له، ولا قدرة، ولا حياة، ونحو ذلك، كما يقوله المعتزلة، والمتفلسفة، ومن اتبعهم، وقد قال عبدالرحمن بن مهدي: هما صنفان، فاحذروهما: الجهمية، والرافضة. فهذان الصنفان شرار أهل البدع، ومنهم دخلت القرامطة الباطنية كالنصيرية، والإسماعيلية، ومنهم اتصلت الاتحادية، فإنهم من جنس الطائفة الفرعونية".
و"الرافضة" في هذه الأزمان مع الرفض جهمية قدرية، فإنهم ضموا إلى الرفض مذهب المعتزلة، ثم قد يخرجون إلى مذهب الإسماعيلية، ونحوهم من أهل الزندقة، والاتحاد. والله ورسوله أعلم" . (1)
وقال شيخ الإسلام في موضع آخر: فجميع الأدلة الدالة من الكتاب والسنة والإجماع على قبح البدع وكراهتها تحريما أو تنزيها تندرج هذه المشابهات فيها فيجتمع فيها أنها بدعة محدثه ومشابهة للكافرين وكل واحد من الوصفين يوجب النهي إذ المشابهة منهي عنها في الجملة ولو كانت في السلف، والبدعة منهي عنها في الجملة ولو لم يفعلها الكفار، فإذا اجتمع الوصفان صارا علتين مستقلتين في القبح والنهي. (2)
__________
(1) موقف أهل السنة والجماعة من البدع والمبتدعة.
(2) اقتضاء الصراط المستقيم (1/181) .(1/72)
فاتباع النبي $ فيه العزة، والنصرة لهذه الأمة ورفعتها، وفي مخالفة أمره $ الذل، والصغار، والهزيمة .
تعريف السلفية: هي المسلك والطريق على ما كان عليه السلف الصالح الذين هم صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأئمة الهدى من أهل القرون الثلاثة الأولى، فهي نسبة إلى السلف الصالح، فمن سار وسلك منهاج السلف واتبع الكتاب والسنة، ودعا إليهما وعمل بمقتضاهما فيكون بذلك من أهل السنة والجماعة.
قال الذهبي في كتابه سير إعلام النبلاء (21/6): السلفي: بفتحتين، وهو من كان على مذهب السلف.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: فلهذا فإن مذهب السلف لا يكون إلا حقاً، فإن كان موافقاً له باطناً وظاهراً؛ فهو بمنزلة المؤمن الذي هو على الحق باطناً وظاهراً.
وإن كان موافقاً له في الظاهر فقط دون الباطن؛ فهم بمنزلة المنافق، فتُقبَل منه علانيته، وتُوكَل سريرته إلى الله، فإنا لم نؤمر أن ننقب عن قلوب الناس، ولا نشق بطونهم. (1)
وأجابت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والافتاء على سؤال حول معنى السلفية: "س: ما هي السلفية وما رأيكم فيها ؟
ج: السلفية نسبة إلى السلف والسلف هم صحابة رسول الله $ وأئمة الهدى من أهل القرون الثلاثة الأولى { } } الذين شهد لهم رسول الله @ بالخير في قوله: { خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يجئ أقوام تسبق شهادة أحدهم يمينه ويمينه شهادته } . رواه الإمام أحمد في مسنده والبخاري ومسلم. والسلفيون جمع سلفي نسبة إلى السلف (2) ، وقد تقدم معناه وهم الذين ساروا على منهاج السلف من اتباع الكتاب والسنة والدعوة إليهما والعمل بهما فكانوا بذلك أهل السنة والجماعة .
__________
(1) مجموع الفنتاوى لابن تيمية (4/149) .
(2) نجد من يدعي السلفية وعنده الهدي الظاهر ولكن يخالف السلف سواء كان في الأخلاق، أو الأفعال، أو الأقوال للأسف الشديد، والسلف منه بريء، وهو بذلك يعطي صورة مشوهة للسلف الصالح .(1/73)
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم ". (1)
ومن العجيب الغريب أن يُرمَى السلفيون بالحزبية وهم أعداء الحزبية، فالسلفيون لا يتحزبون ولا يتعصبون (2) ،
__________
(1) اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والافتاء عضو نائب رئيس اللجنة الرئيس
عبدالله بن قعود، عبدالله بن غديان، عبدالرزاق عفيفي، عبدالعزيز بن باز الفتوى. رقم { 1361 } { 1/165 } .
(2) هذا وإن مما ابتليت به أمتنا اليوم ذلك التعصب الممقوت لأشخاص معينين، ومعاداة آخرين رغم أنهم من حملة الإسلام، ودعاة القرآن، وإن هذا لنذير هلاك إن لم ننتبه لذلك، ونتدارك أنفسنا بالتآلف فيما بيننا، وترك التحاسد والتباغض، فلقد حذّر سلفنا الكرام من هذا الفعل الذميم، والجرم الشنيع؛ كل ذلك لما يترتب عليه من نتائج فاسدة، وعواقب وخيمة .
قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ ".سورة الأنعام (159). وقال تعالى: مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ". سورة الروم (32) قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ((وليس لأحد أن ينصب للأمة شخصًا يدعو إلى طريقته، ويوالي، ويعادي عليها، غير النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ولا ينصب لهم كلامًا يوالي عليه ويعادي غير كلام الله ورسوله، وما اجتمعت عليه الأمة، بل هذا من فعل أهل البدع الذين ينصبون لهم شخصًا أو كلامًا يفرقون به بين الأمة، يوالون به على ذلك الكلام، أو تلك السُنة، ويعادون)). مجموع الفتاوى (20/164). الفتنة وموقف المسلم منها في ضوء القرآن. عبدالحميد بن عبدالرحمن السحيباني.(1/74)
بل يتبعون كتاب الله وسنة رسوله؟ على فهم السلف الصالح من الصحابة، والتابعين، وأئمة الهدى والدين، كأحمد والشافعي، ومالك، وابن معين، وعبد الرحمن بن مهدي، والبخاري، ومسلم، وإخوانهم من الأئمة، والكتاب والسنة فيهما الهدى والنور والكفاية لمن تدبرهما وتفهم معانيهما، قال الإمام عبدالعزيز بن محمد بن سعود في رسالته إلى أهل الأمصار { ص57 } : "ومن أصغى إلى كلام الله بكلية قلبه وتدبره وتفهمه أغناه عن اتباع الشياطين وشركهم الذي يصد عن ذكر الله، وعن الصلاة، وينبت النفاق في القلب، وكذلك من أصغى إليه، وإلى حديث الرسول، واجتهد في اقتباس الهدى والعلم منهما أغنياه عن البدع، والشرك، والتخرصات، والشطحات، والخيالات التي هي وساوس الشيطان" .
والحزبيون يعرفون هذا تمام المعرفة ويدركونه غاية الإدراك وهم إنما سلكوا هذا المسلك ليلبسوا على الناس، ولكن هيهات؛ فالبينات قائمة فكل تشهد عليه كتبه ومقالاته، فاقرأ واسمع للفريقين لتعرف ما عند هؤلاء وهؤلاء وتعرف من ينصح بالاجتماع ولزوم جماعة المسلمين وإمامهم والرجوع إلى العلماء، ويحذر من التحزب ممن يريد التفريق وشق العصا ويزهد في العلماء وعلمهم، وانظر مواقف هؤلاء ومواقف هؤلاء إبان أزمة الخليج التي كشفت عوار الحزبية في هذه البلاد، فهي دليل من الواقع يا أهل الواقع !!.
ودليل آخر: قلب صفحات الجرائد والمجلات، وانظر من هم الذين يحاربون السلفية؟! تجدهم خليطاً من الصوفية والماتريدية والإخوانية، فياترى ما الذي جمعهم على عداء السلفية؟! إن أعداء السلفية بالأمس هم أعداؤها اليوم، فتنبه.
وأقول: إن الذي يجعل السلفية حزباً من الأحزاب البدعية، وهو سلفي من أهلها إنما يطعن في منهجه الحق ، ويصدق عليه قول الشاعر :
ستَقطَع في الدنيا إذا ما قطعتني يمينك فانظر أيَّ كف تَبدَّلُ(1/75)
والمراد بأهل السنة والجماعة وبيان تطبيقهم: أهل السنة والجماعة هم الذين هداهم الله تعالى لما اختلف فيه من الحق باذنه، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم، وكلنا نعلم أن رسول الله @ بعث بالهدى ودين الحق، الهدى: الذي ليس في ضلالة، ودين الحق: الذي ليس في غواية، وبقي الناس في عهده على هذا المنهاج السليم القويم، وكذلك عامة زمن خلفائه الراشدين، ولكن الأمة بعد ذلك تفرقت تفرقا عظيما متباينا، حتى كانوا على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، وهي ما كان عليه رسول الله@ وأصحابه، بهذا نقول: إن هذه الفرقة هي فرقة أهل السنة والجماعة.
ولابد من الإشارة هنا إلى أنه وإن وردت كلمة (السلفية) في الآثار إلا أنها إذا استخدمت للتحزب والتعصب إلى فريق معين فإنها تكون ممقوتة في الشرع، فقد جاء في السيرة في أحد مغازي النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه اقتتل غلامان: غلام من المهاجرين، وغلام من الأنصار، فنادى المهاجر: يا لَلمهاجرين، ونادى الأنصاري: يا لَلأنصاري، فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((ما هذا، دعوى أهل الجاهلية؟! دعوها فإنها منتنة)) (1) مع أن هذين الاسمين (المهاجرين والأنصار) جاء بهما القرآن، وهما محبوبان لله - تعالى - ولرسوله - صلى الله عليه وسلم - ولمَّا استخدما لنوع من العصبية صار ذلك من فعل الجاهلية، وأخبر - عليه الصلاة والسلام - أن هذه الدعوى منتنة؛ لأنها تدعو إلى التفرق والتفكك. (2)
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب البر والصلة والآداب، باب نصر الأخ ظالمًا أو مظلومًا (4/1998) برقم (2584) من حديث جابر .
(2) (الهوى وأثره في الخلاف) للأستاذ عبدالله الغنيمان ص19 .(1/76)
وقريب من هذا ما حصل لابن عباس - رضي الله عنهما - حين سُئل: أأنت على ملة عليّ، أو على ملة عثمان؟ فقال: لستُ على ملة علي ولا على ملة عثمان، بل أنا على ملة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (1)
ولقد كان من آثار ذلك التحزب الممقوت أنه نشأ فئام من الناس، غَلَوا في طائفة من العلماء، وأعرضوا بكليتهم عن جمع من العلماء والدعاة والمصلحين، من أولئك الرجال الذين يستنار بأقوالهم، ويستفاد من فهومهم، وما ذاك إلا من تلبيس الشيطان عليهم، ثم إن شيوخ هؤلاء لو كانوا عقلاء حقًا لأنكروا عليهم هذا الفعل الذميم، كما كان السلف يفعلون ذلك، فهذا عمر بن الخطاب > يقول على المنبر: ((إذا أصبت فأعينوني، وإذا أخطأت فقوموني)). فقاله له رجل من بين الناس: ((إذا أخطأت قومناك بسيوفنا))! يقول عمر ما قال، ويرضى بالرد، لأنه لا يرضى بتعبيد الناس للناس، ومصادرة عقولهم، وتغييبها عن الساحة، بل يطالبهم بالمشاركة، والناس لا يرضون بالتبعية والعجز، وهكذا تبنى الأمم .
وإن من المؤسف جدًا أنه بلغ من جراء ذلك التحزب لطائفة معينة أن بعضهم قد ضحك الشيطان عليهم، فتركوا الاشتغال بعيوب أنفسهم، وصار همهم الأوحد، وشغلهم الشاغل أن ينصبوا شباكهم لرجال من علماء الإسلام ودعاته، قد سخروا جهودهم وطاقاتهم لخدمة الإسلام وأهله، فأخذ هؤلاء يرمونهم بأبشع الألفاظ، وأخس الأفعال، بل لقد بلغ بهم الخذلان من الله - تعالى - أنهم أخذوا يطلقون لفظ (الكفر) على هؤلاء العلماء والدعاة - عياذًا بالله تعالى.
... وهذا والله من أعظم البلاء الذي أصيب به بعض الناس في هذا العصر، وإنَّ رمي الإنسان بالكفر وهو منه براء جرم عظيم، وخطر كبير، ذلك لأن من رمى أحدًا بالكفر وهو منه بريء - رجع عليه - ولربما خُتم له بالسوء، فمات كافرًا - نعوذ بالله تعالى - من هذه الحال .
__________
(1) (الإبانة) لابن بطة، الحديث رقم (238).(1/77)
ومن هنا فإنه ينبغي أن يفهم جيدًا أنه ليس من حق كل أحد أن يطلق التكفير، أو يتكلم بالتكفير على الجماعات، أو على الأفراد، إذ هو من صلاحيات أهل العلم، الراسخين فيه، الذين يعرفون الإسلام ونواقضه، ويدرسون واقع الناس والمجتمعات، هؤلاء هم أهل الحكم بالتكفير، أما الجهال، وأفراد الناس، وأنصاف المتعلمين فلا يجوز لهم التكفير، وإن لم يتوبوا من هذا الفعل فهم على خطر عظيم (1)
قال عمر رضي الله عنه: لا تختلفوا فإنكم إن اختلفتم كان من بعدكم أشد اختلافا، ولما سمع أبي ابن كعب وابن مسعود يختلفان في صلاة الرجل في الثوب الواحد أو الثوبين. (2)
وعن سُفْيَانُ اَلثَّوْرِيُّ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ اِبْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: "اِتَّبِعُوا وَلَا تَبْتَدِعُوا فَقَدْ كُفِيتُمْ". (3)
وعَنْ عُثْمَانَ بْنِ حَاضِرٍ اَلْأَزْدِيِّ قَالَ: قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ: أَوْصِنِي قَالَ: "عَلَيْكَ بِالِاسْتِقَامَةِ، اِتَّبِعْ وَلَا تَبْتَدِعْ". (4)
آثار البدع على المجتمع:
__________
(1) انظر (مراجعات في فقه الواقع السياسي والفكري)، ص50،51 . و(إلى متى هذا الخلاف)، لفضيلة الشيخ: محمد بن صالح العثيمين ، ص53 .
(2) إعلام الموقعين (1/259).
(3) كتاب أصول السنة لابن زمنين (1ـ3) َبابٌ فِي اَلْحَضِّ عَلَى لُزُومِ اَلسُّنَّةِ وَاتِّبَاعِ اَلْأَئِمَّةِ .
(4) كتاب أصول السنة لابن زمنين (1ـ3) َبابٌ فِي اَلْحَضِّ عَلَى لُزُومِ اَلسُّنَّةِ وَاتِّبَاعِ اَلْأَئِمَّةِ .(1/78)
لاشك أن للبدع آثار تظهر في المجتمعات التي تُقر تلك البدع ولا تنكرها، وليست هذه الآثار تشمل المجتمع كله، بل تخص من يقرّ بالبدعة أو يعمل بها ، أو يدعو إليها ويرغِّب الناس فيها ، ومن يقبل ذلك منه من الناس ، وتظهر هذه الآثار جليَّة على أفراد المبتدعين ومتبعيهم ، الذين هم جزء من المجتمع ، وعدم الإنكار عليهم ومحاربة بدعهم يجعل هذه الآثار تشمل المجتمع كله .
وهذه الآثار والظواهر منها ما يخص أفراد المبتدعين ، ومنها ما يعم مجتمعهم . وهذه الآثار على سبيل الإيجاز هي :
1- اتباع المتشابه :
لأن المبتدع تفسد طبيعته ، ويترك طريق الصواب إلى طريق الضلال ، ويعرف ذلك من سيرتهم ومن منطقهم ، قال تعالى: { وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ } 214.فأول أثر لذلك :اتباع المتشابه ،وقد نَّبه الله سبحانه وتعالى على ذلك بقوله: { فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ } . (1)
ومن أمثلة ذلك : استشهاد الخوارج على إبطال التحكيم بقوله تعالى : { إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ } .
وقد قال صلى الله عليه وسلم : (( فإذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم )).
2- إماتة السنَّة :
ومن الآثار الضارة للبدعة : إماتة السنَّة ؛ لأنَّه ما ظهرت بدعة إلا وماتت سنة من السنن ، لأن البدعة لا تظهر وتشيع إلا بعد تخلي الناس عن السنة الصحيحة ، فظهور البدع علامة دالَّة على ترك السنة .
قال ابن عباس رضي الله عنهما(( ما أتى على الناس عام إلا أحدثوا فيه بدعة وأماتوا فيه سنة، حتى تحيا البدع وتموت السنن)).
3- الجدل :
__________
(1) سورة آل عمران آية (7).(1/79)
من الآثار المترتبة على الوقوع في البدع: الجدل بغير حق، والخصومات في الدين،وقد حذََّّر الله سبحانه وتعالى من ذلك بقوله عز وجل : { وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ } . فقد نهى سبحانه وتعالى عن الفرقة والاختلاف ، بعد مجيء البينات ، الكتاب والسنة؛ حتى لا نكون كالأمم السابقة التي تفرقت واختلفت بسبب بدعهم وأهواءهم .وقال - صلى الله عليه وسلم - :
(( إن الله يرضى لكم ثلاثاً ويكره لكم ثلاثاً ، فيرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً ، وأن تعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا ، ويكره لكم : قيل وقال ، وكثرة السؤال ، وإضاعة المال )) .
وقال - صلى الله عليه وسلم - :((أبغض الرجال إلى الله الألد الخصِم)).
والألد الخصم:أي شديد الخصومة، واللدد: الخصومة الشديدة
4- اتباع الهوى :
ومن آثار البدع :اتباع أهلها لأهوائهم وعدم التقيد بما شرع الله .ولاشك أن هذا عين الضلال،قال تعالى: { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ } ، وقال تعالى : { أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ } .واتباع الهوى أمر باطن لا يظهر،ولكن يتبين بعرض أعمال صاحبه على الشرع ،فعند عرضها على الشرع نرى أنها لا تمثل إلا هوى صاحبها ، ولا تصدر إلا من مبتدع جاهل ، يقول في الأمور بغير علم ، وخاصة أمور الدين .
5- مفارقة الجماعة :
ومن آثار البدع : مفارقة أهلها الجماعة ، وشق عصا الطاعة على جماعة المسلمين؛ لأنهم اعتمدوا على أهوائهم، ومن اتبع هواه خرج عن جادة الصواب ، وقد حذَّر الله من ذلك بقوله عز وجل: { وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ..... } .(1/80)
وقال تعالى: { وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ } ، وقال تعالى: { ..وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ } ، وقال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ } .
وقال - صلى الله عليه وسلم - : (( افترقت اليهود على إحدى أو ثنتين وسبعين فرقة ، وتفرقت النصارى على إحدى أو ثنتين وسبعين فرقة وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة)).
وفي رواية: ((كلها في النار ، إلا واحدة : وهي الجماعة))
فالنبي - صلى الله عليه وسلم - قد أخبر عن وقوع الفرقة في أمته، وسبب هذا الافتراق هو مخالفة أهل الأهواء الضالة؛ كالقدرية، والخوارج، والروافض وأمثالهم؛ ما اتفق عليه أهل السنة والجماعة في أبواب العدل والتوحيد، والوعد والوعيد، والقدر والخير والشر، والإرادة والمشيئة، والرؤية والإدراك، وصفات الله عز وجل وأسمائه .. وغير ذلك ، فسبب مفارقتهم لجماعة المسلمين هو إحداثهم للبدع التي ما أنزل الله بها من سلطان.
6- ضلال الناس:
ومن آثار البدع: أن المبتدعة لا يقتصر ضلالهم على أنفسهم، وإنما يشيعونه بين الناس، ويدعون إليه قولاً وعملاً، بالحجة الباطلة والتأويل الزائغ والهوى المتسلط، فيتحملون إثمهم وإثم من عمل بهذه البدعة إلى يوم القيامة ، قال تعالى: { لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ.... } الآية.
والمبتدعة قد ألَّفُوا الفرق وجمعوا الجماعات، وساروا بهم في بدعهم بغير فهْم، فأول ما يظهر أهل البدع يكونون أفراد، ثم بعد ذلك يتجمع الناس حولهم مفتونين بهم، مدافعين عن ضلالهم، مشيعين ذلك بين الناس، وليس ثمة دليل لديهم إلا اتباع الظن وما تهوى الأنفس، وتقليد أئمتهم المبتدعة.(1/81)
7- الاستمرار في البدع وعدم الرجوع عنها:
ومن آثار البدع : أن صاحب البدعة إذا أصابه مرضها ، لا يرجع عن بدعته، بل يستمر فيها ، مبعدة إياه عن طريق الحق ، حتى يصعب عليه الرجوع والتوبة ، إلا من رحم الله ، وقال - صلى الله عليه وسلم - : (( إن بعدي من أمتي ،- أو سيكون بعدي من أمتي - قوماً يقرأون القرآن ولا يجاوز حلوقهم ، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ، ثم لا يعودون فيه ، هم شرار الخلق والخليقة )) .
فصاحب البدعة لا توبة له عن بدعته ، وإن خرج عنها فإنه يخرج إلى ما هو شر منها ، أو يُظهر الخروج عنها ويصر عليها باطناً ، وعدم توبة صاحب البدعة لها أسباب ، منها :
1. أن الدخول تحت التكاليف في الشريعة صعب على الأنفس ؛ لأنه أمر مخالف للهوى ،ومحاد للشهوات، فيثقل عليها جداً، لأن الحق ثقيل ، والنفس إنما تنشط بما يوافق هواها ، لا بما يخالفه ، وكل بدعة للهوى فيها مدخل ؛لأنها راجعة إلى نظر مخترعها وهواه ، لا إلى نظر الشارع وحجته .
2. أن المبتدع لابد له من تعلق بشبهة دليل ، ينسبها إلى الشارع ، ويدّعي أن ما ذكره هو مقصود الشارع فصار هواه مقصوداً بدليل شرعي في زعمه ، فكيف يمكن الخروج من ذلك ،وداعي الهوى مستمسك بأحسن ما يتمسك به ؟ وهو الدليل الشرعي في الجملة .
3. أن المبتدع يزيد في الاجتهاد لينال في الدنيا التعظيم والمال والجاه ، وغير ذلك من أصناف الشهوات، قال تعالى: { قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً *الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً } .(1/82)
وقال تعالى: { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ* عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ* تَصْلَى نَاراً حَامِيَةً } . (1) فبسبب ما داخل أنفسهم من الهوى يجد المبتدعة في ذلك الالتزام والاجتهاد، خفة ونشاط ، يستسهلون به الصعب، ويرون أعمالهم أفضل من عمل غيرهم { كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ } . (2)
فعلى العبد أن يعبد بما شرع، وأن يترك الأحزاب والجماعات التي تفرق المسلمين، وعليه بإتباع ما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ربه جل في علاه.
قال الله تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ". (3) بيّن الله سبحانه وتعالى في هذه الآية أن المحبة هي الإتباع، فالعبادات توقيفية ولا يحق لنا أن نعبد الله تعالى إلا بما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم - من ربه وبما سَنَّهُ لنا، وبالكيفيات التي دلنا عليها، حيث قال - صلى الله عليه وسلم - كما في حديث عثمان > عن وضوئه - صلى الله عليه وسلم - : "من توضأ نحو وضوئي هذا ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه غفر له ما تقدم من ذنبه"، وقال: "صلوا كما رأيتموني أصلي".
وقال: "خذوا عني مناسككم"، وهكذا في كل العبادات .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: كمال محبة العبد لله وذلك بثلاثة أمور:
1- تكميل هذه المحبة، 2- وتفريعها، 3- ودفع ضدها.
فتكميلها: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما فان محبة الله ورسوله لا يكتفي فيها بأصل الحب بل لا بد أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما.
و تفريعها: أن يحب المرء لا يحبه إلا لله.
__________
(1) سورة الغاشية الآية (2-4) .
(2) البدع الحولية للتويجري.
(3) آل عمران الآية (31) .(1/83)
و دفع ضدها أن يكره ضد الإيمان أعظم من كراهته الإلقاء في النار فإذا كانت محبة الرسول والمؤمنين من محبة الله وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحب المؤمنين الذين يحبهم الله، أنه أكمل الناس محبة لله وأحقهم بأن يحب ما يحبه الله ويبغض ما يبغضه الله، والخلة ليس لغير الله فيها نصيب بل قال لو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا .
علم مزيد مرتبة الخلة على مطلق المحبة.
والمقصود هو إن ا لخلة و المحبة لله تحقيق عبوديته وإنما يغلط من يغلط في هذه من حيث يتوهمون أن العبودية مجرد ذل وخضوع فقط لا محبة معه أو أن المحبة فيها انبساط في الأهواء أو أدلال لا تحتمله الربوبية ولهذا يذكر عن ذي النون أنهم تكلموا عنده في مسألة المحبة فقال امسكوا عن هذه المسألة لا تسمعها النفوس فتدعيها وكره من كره من أهل المعرفة والعلم مجالسة أقوام يكثرون الكلام في المحبة بلا خشية وقال من قال من السلف من عبد الله بالحب وحده فهو زنديق ومن عبده بالرجاء وحده فهو مرجىء ومن عبده بالخوف وحده فهو حرورى ومن عبده بالحب والخوف والرجاء فهو مؤمن موحد. (1)
فيجب أن تكون أعمالنا وأقوالنا خالصة لله تعالى، ووفق الكتاب والسنة.
والمحبة لا تكون إلا بالإتباع والنصرة، وليس بالكلام فقط كما هي طبيعة المنافقين، فتكون نتيجة الإتباع هي المحبة من الله تعالى وغفران الذنوب.
حيث قال الله تعالى كما في الآية السابقة: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ".
فأثابهم على إتباعهم هذا محبته سبحانه لهم، وغفر لهم ذنوبهم، وهذا من فضل الله ومنته على عباده المؤمنين.
__________
(1) مجموع الفتاوى (10/205-206) .(1/84)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: فجعل محبة العبد لربه موجبة لإتباع الرسول - $ -، وجعل متابعة الرسول - $ - سبباً لمحبة الله عبده. (1)
وقال ابن قيم الجوزية: لما كثر المدعون للمحبة طولبوا بإقامة البينة على صحة الدعوى فلو يعطى الناس بدعواهم لادعى الخلي حرفة الشجي فتنوع المدعون في الشهود فقيل: لا تثبت هذه الدعوى إلا ببينة { قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله } آل عمران31 فتأخر الخلق كلهم وثبت أتباع الرسول في أفعاله وأقواله وهديه وأخلاقه فطولبوا بعدالة البينة وقيل: لا تقبل العدالة إلا بتزكية { يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم } المائدة54 فتأخر أكثر المدعين للمحبة وقام المجاهدون فقيل لهم: إن نفوس المحبين وأموالهم ليست لهم فسلموا ما وقع عليه العقد فإن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة وعقد التبايع يوجب التسليم من الجانبين فلما رأى التجار عظمة المشتري وقدر الثمن وجلالة قدر من جرى عقد التبايع على يديه ومقدار الكتاب الذي أثبت فيه هذا العقد عرفوا أن للسلعة قدرا وشأنا ليس لغيرها من السلع فرأوا من الخسران البين والغبن الفاحش أن يبيعوها بثمن بخس دراهم معدودة تذهب لذتها وشهوتها وتبقى تبعتها وحسرتها فإن فاعل ذلك معدود في جملة السفهاء فعقدوا مع المشتري بيعة الرضوان رضى واختيارا من غير ثبوت خيار وقالوا: والله لا نقيلك ولا نستقيلك فلما تم العقد وسلموا المبيع قيل لهم : قد صارت أنفسكم وأموالكم لنا والآن فقد رددناها عليكم أوفر ما كانت وأضعاف أموالكم معها { ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون } آل عمران 69لم نبتع منكم نفوسكم وأموالكم طلبا للربح عليكم بل ليظهر أثر الجود والكرم في قبول المعيب والإعطاء عليه أجل الأثمان ثم جمعنا لكم بين الثمن والمثمن تأمل قصة جابر بن عبد الله وقد اشترى منه $ بعيره ثم وفاه الثمن
__________
(1) مجموع الفتاوى (1/5) .(1/85)
وزاده ورد عليه البعير وكان أبوه قد قتل مع النبي $ في وقعة أحد فذكره بهذا الفعل حال أبيه مع الله وأخبره أن الله أحياه وكلمه كفاحا وقال: يا عبدي تمن علي فسبحان من عظم جوده وكرمه أن يحيط به علم الخلائق فقد أعطى السلعة وأعطى الثمن ووفق لتكميل العقد وقبل المبيع على عيبه وأعاض عليه أجل الأثمان واشترى عبده من نفسه بماله وجمع له بين الثمن والمثمن وأثنى عليه ومدحه بهذا العقد وهو سبحانه الذي وفقه له وشاءه منه.
فحيهلا إن كنت ذا همة فقد ... حدا بك حادي الشوق فاطو المراجلا
وقل لمنادي حبهم ورضاهم ... إذا ما دعا لبيك ألفا كواملا
ولا تنظر الأطلال من دونهم فإن ... نظرت إلى الأطلال عدن حوائلا
ولا تنتظر بالسير رفقة قاعد ... ودعه فإن الشوق يكفيك حاملا
وخذ منهم زادا إليهم وسر على ... طريق الهدى والحب تصبح واصلا
وأحي بذكراهم شراك إذا دنت ... ركابك فالذكرى تعيدك عاملا
وأما تخافن الكلال فقل لها ... أمامك ورد الوصل فابغي المناهلا
وخذ قبسا من نورهم ثم سر به ... فنورهم يهديك ليس المشاعلا
وحى على وادي الأراك فقل به ... عساك تراهم ثم إن كنت قائلا
وإلا ففي نعمان عندي معرف الـ ... أحبة فاطلبهم إذا كنت سائلا
وإلا ففي جمع بليلته فإن ... تفت فمنى يا ويح من كان غافلا
وحي على جنات عدن فإنها ... منازلك الأولى بها كنت نازلا
ولكن سباك الكاشحون لأجل ذا ... وقفت على الأطلال تبكي المنازلا
وحي على يوم المزيد بجنة الـ ... خلود فجد بالنفس إن كنت باذلا
فدعها رسوما دارسات فما بها ... مقيل وجاوزها فليست منازلا
رسوما عفت ينتابها الخلق كم بها ... قتيل وكم فيها لذا الخلق قاتلا
وخذ يمنة عنها على المنهج الذي ... عليه سرى وفد الأحبة آهلا
وقل ساعدي يا نفس بالصبر ساعة ... فعند اللقا ذا الكد يصبح زائلا
فما هي إلا ساعة ثم تنقضي ... ويصبح ذو الأحزان فرحان جاذلا. (1)
__________
(1) زاد المعاد (3/64)(1/86)
وقال الشيخ السعدي في تفسير قوله تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ": وهذه الآية فيها وجوب محبة الله، وعلاماتها، ونتيجتها، وثمراتها، فقال قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ" أي: ادعيتم هذه المرتبة العالية، والرتبة التي ليس فوقها رتبة فلا يكفي فيها مجرد الدعوى، بل لابد من الصدق فيها، وعلامة الصدق إتباع رسوله - صلى الله عليه وسلم - في جميع أحواله، في أقواله وأفعاله، في أصول الدين وفروعه، في الظاهر والباطن، فمن اتبع الرسول دل على صدق دعواه محبة الله تعالى، وأحبه الله وغفر له ذنبه، ورحمه وسدده في جميع حركاته وسكناته، ومن لم يتبع الرسول فليس محبا لله تعالى، لأن محبته لله توجب له إتباع رسوله، فما لم يوجد ذلك دل على عدمها وأنه كاذب إن ادعاها، مع أنها على تقدير وجودها غير نافعة بدون شرطها، وبهذه الآية يوزن جميع الخلق، فعلى حسب حظهم من إتباع الرسول يكون إيمانهم وحبهم لله، وما نقص من ذلك نقص. (1)
وباب القربات يقتصر فيه على النصوص، ولا يتصرف فيه بأنواع الأقيسة والآراء"، وعلى هذا جرى السلَف الصالح رضي الله عنهم من الصحابة والتابعين. (2)
فعن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال:"لو كان الدين بالرأي، لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه وقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمسح على ظاهر خفيه". (3)
وقال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لما قبل الحجر الأسود:"إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقبلك؛ ما قبلتك". (4)
__________
(1) تفسير السعدي .
(2) "علم أصول البدع" لعلي الحلبي (ص70-73) بتصرف.
(3) رواه أبو داود ، وصححه ابن حجر في "التلخيص الحبير" (1/160) والألباني في "صحيح أبي داود" (1/53).
(4) رواه البخاري ومسلم.(1/87)
وقالت امرأة لعائشة رضي الله عنها: أتقضي إحدانا صلاتها إذا طهرت؟
فقالت رضي الله عنها:"أحرورية أنت؟ كنا نحيض في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - فلا يأمرنا به، أو قالت: فلا نفعله" رواه البخاري ومسلم.
وروى الترمذي ( 2738)، والحاكم (4/265-266) وغيرهما بسند حسن عن نافع، أن رجلا عطس إلى جنب ابن عمر رضي الله عنهما، فقال: الحمد لله، والسلام على رسوله! قال ابن عمر:"وأنا أقول: الحمد لله والسلام على رسول الله، وليس هكذا علمنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علمنا أن نقول: الحمد لله على كل حال" .
ثم أخرج البيهقي بسنده عن عمر بن الخطاب أنه قال على المنبر يا أيها الناس إن الرأي إنما كان من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأن الله تعالى كان يريه وإنما هو منا الظن والتكلف. (1)
مراد عمر رضي الله عنه قوله تعالى إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله فلم يكن له رأي غير ما أراه الله إياه وأما ما رأى غيره فظن وتكلف
وعن الأعمش قال: سألت أبا وائل شهدت صفين ؟ قال نعم فسمعت سهل بن حنيف يقول اتهموا رأيكم رأيتني يوم أبي جندل ولو أستطيع أن أرد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - لرددته وما وضعنا أسيافنا على عواتقنا لأمر يفظعنا إلا أسهلن بنا إلى أمر تعرفه غير أمرنا هذا. (2)
__________
(1) جامع بيان العلم (2/64)، مفتاح الجنة (1/15).
(2) أخرجه مسلم في الجهاد والسير باب صلح الحديبية رقم 1785.(1/88)
(صفين) اسم موضع على الفرات وقع فيه الحرب بين معاوية وعلي رضي الله عنهما وهي موقعة مشهورة. (اتهموا رأيكم) يعظ الفريقين أن لا يقاتلوا وأن يتهموا رأيهم في هذا القتال لأن كلا منهما يقاتل عن رأي رآه واجتهاد اجتهده فهو يحذرهم من هذا القتال لأنه قتال الإخوة في الإسلام وكان سهل رضي الله عنه متهما بالتقصير في القتال فأخبرهم أنه لا يقصر في نصرة الجماعة المسلمة كما لم يقصر يوم الحديبية إذ لو استطاع أن ينصر أبا جندل - رضي الله عنه - لنصره حين جاء من مكة مسلما يجر قيوده وكان قد عذب على الإسلام فرده رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأنه جاء بعد عقد الصلح مع قريش . (ما وضعنا أسيافنا على عواتقنا ) ما جردناها في الله تعالى وعواتق جمع عاتق وهو ما بين العنق والمنكب. (يفظعنا) شديد علينا. (أسهلن بنا) أوصلتنا إلى شيء واضح فيه خير . (غير أمرنا هذا) أي إلا هذه الفتنة التي وقعت بين المسلمين فإنها مشكلة علينا فلا ندري على أي شيء يقتل المسلمون فنزع السيف وغمده في هذا الموطن أولى من سله. (1)
وعن الأعمش عن أبي وائل قال: قال سهل بن حنيف: يا أيها الناس اتهموا رأيكم على دينكم لقد رأيتني يوم أبي جندل ولو أستطيع أن أرد أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لرددته وما وضعنا سيوفنا على عواتقنا إلى أمر يفظعنا إلا أسهلن بنا إلى أمر نعرفه غير هذا الأمر .
قال وقال أبو وائل شهدت صفين وبئست صفين. (2)
( بئست صفين) أي بئس ما حصل فيها
وقال عمر - رضي الله عنه - : اتهموا الرأي على الدين فلقد رأيتني أرد أمر الرسول برأيي اجتهادا . (3)
__________
(1) البخاري رقم (3010).
(2) البخاري رقم (3010).
(3) جامع بيان العلم (2/64).(1/89)
وعن عبيد الله بن الزبير قال أنا والله مع عثمان بن عفان بالجحفة إذ قال عثمان وذكر له التمتع بالعمرة إلى الحج أتموا الحج وأخلصوه في شهر الحج فلو أخرتم هذه العمرة حتى تزوروا هذا البيت زورتين كان أفضل فإن الله قد أوسع في الخير فقال له علي عمدت إلى سنة رسول الله $ ورخصة رخص الله للعباد بها في كتابه تضيق عليهم فيها وتنهى عنها وكانت لذي الحاجة ولنائي الدار ثم أهل علي بعمرة وحج معا فأقبل عثمان بن عفان رضي الله عنه على الناس فقال أنهيت عنها إني لم أنه عنها إنما كان رأيا أشرت به فمن شاء أخذه ومن شاء تركه
فهذا عثمان يخبر عن رأيه أنه ليس بلازم للأمة الأخذ به بل من شاء أخذ به ومن شاء تركه بخلاف سنة رسول الله $ فإنه لا يسع أحدا تركها لقول أحد كائنا من كان.
وقال ابن عباس إنما هو كتاب الله وسنة رسول الله $ فمن قال بعد ذلك برأيه فلا أدري أفي حسناته يجد ذلك أم في سيئاته.
وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال من قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار . (1)
وعن ابن أبي مليكة قال: قال أبو بكر رضي الله عنه أي أرض تقلني وأي سماء تظلني إن قلت في آية من كتاب الله برأيي أو بما لا أعلم.
وذكر الحسن بن علي الحلواني حدثنا عارم عن حماد بن زيد عن سعيد بن أبي صدقة عن ابن سيرين قال لم يكن أحد أهيب بما لا يعلم من أبي بكر رضي الله عنه ولم يكن أحد بعد أبي بكر أهيب بما لا يعلم من عمر رضي الله عنه وإن أبا بكر نزلت به قضية فلم يجد في كتاب الله منها أصلا ولا في السنة أثرا فاجتهد برأيه ثم قال هذا رأيي فإن يكن صوابا فمن الله وإن يكن خطأ فمني وأستغفر الله
قال سفيان الثوري ثنا أبو إسحاق الشيباني عن أبي الضحى عن مسروق قال كتب كاتب لعمر بن الخطاب هذا ما رأى الله ورأى عمر فقال بئس ما قلت قل هذا ما رأى عمر فإن يكن صوابا فمن الله وإن يكن خطأ فمن عمر
__________
(1) إعلام الموقعين (1/59)، جامع بيان العلم (2/32)،(1/90)
وقال ابن وهب أخبرني ابن لهيعة عن عبد الله بن أبي جعفر قال: قال عمر ابن الخطاب رضي الله عنه السنة ما سنه الله ورسوله ص
لا تجعلوا خطأ الرأي سنة للأمة
قال ابن وهب وأخبرني ابن لهيعة عن أبي الزناد عن محمد بن إبراهيم التيمي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال أصبح أهل الرأي أعداء السنن أعيتهم أن يعوها وتفلتت منهم أن يرووها فاستبقوها بالرأي
قال ابن وهب وأخبرني عبد الله بن عباس عن محمد بن عجلان عن عبيد الله ابن عمر أن عمر بن الخطاب قال اتقوا الرأي في دينكم وذكر ابن عجلان عن صدقة بن أبي عبد الله أن عمر بن الخطاب كان يقول أصحاب الرأي أعداء السنن أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها وتفلتت منهم أن يعوها واستحيوا حين سئلوا أن يقولوا لا نعلم فعارضوا السنن برأيهم فإياكم وإياهم وذكر ابن الهادي عن محمد بن إبراهيم التيمي قال: قال عمر بن الخطاب إياكم والرأي فإن أصحاب الرأي أعداء السنن أعيتهم الأحاديث أن يعوها وتفلتت منهم أن يحفظوها فقالوا في الدين برأيهم
وقال الشعبي عن عمرو بن حرث قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه إياكم وأصحاب الرأي فإنهم أعداء السنن أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها فقالوا بالرأي فضلوا وأضلوا وأسانيد هذه الآثار عن عمر في غاية الصحة
وقال سعيد بن منصور حدثنا خلف بن خليفة ثنا أبو زيد عن الشعبي قال: قال ابن مسعود إياكم وأرأيت أرأيت فإنما هلك من كان من قبلكم بأرأيت أرأيت ولا تقيسوا شيئا فتزل قدما بعد ثبوتها وإذا سئل أحدكم عما لا يعلم فليقل لا أعلم فإنه ثلث العلم
وصح عنه في المفوضة أنه قال أقول فيها برأيي فإن يكن صوابا فمن الله وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان والله ورسوله بريء منه
وقال عبد الله بن مسعود وقد سئل عن المفوضة أقول فيها برأيي فإن يكن صوابا فمن الله وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان والله ورسوله مني بريء. (1)
__________
(1) إعلام الموقعين (1/54-57)،(1/91)
وقد نهى الأئمة الأربعة عن تقليدهم وذموا من أخذ أقوالهم بغير حجة فقال الشافعي مثل الذي يطلب العلم بلا حجة كمثل حاطب ليل يحمل حزمة حطب وفيه أفعى تلدغه وهو لا يدري. ذكره البيهقي.
وقال إسماعيل بن يحيى المزني في أول مختصره اختصرت هذا من علم الشافعي ومن معنى قوله لأقربه على من أراده مع إعلاميه نهيه عن تقليده وتقليد غيره لينظر فيه لدينه ويحتاط فيه لنفسه.
وقال أبو داود قلت لأحمد الأوزاعي هو أتبع من مالك قال لا تقلد دينك أحدا من هؤلاء ما جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه فخذ به ثم التابعي بعد الرجل فيه مخير
وقد فرق أحمد بين التقليد والإتباع فقال أبو داود سمعته يقول الإتباع
أن يتبع الرجل ما جاء عن النبي ص - وعن أصحابه ثم هو من بعد في التابعين مخير وقال أيضا لا تقلدني ولا تقلد مالكا ولا الثوري ولا الأوزاعي وخذ من
حيث أخذوا وقال من قلة فقه الرجل أن يقلد دينه الرجال. (1)
وقد نص ابن عابدين في الحاشية على أن محمد بن الحسن وأبا يوسف خالفا شيخهما أبا حنيفة في نحو ثلث المذهب اتباعا للحديث . (2)
أول بدعة ظهرت في الإسلام :
وأمَّا أوّل التفرق والابتداع في الإسلام، فكان بعد مقتل عثمان بن عفان>، وافتراق المسلمين، فلما اتفق علي بن أبي طالب ومعاوية رضي الله عنهما على التحكيم، أنكرت الخوارج، وقالوا: لا حكم إلا الله، وفارقوا جماعة المسلمين، فأرسل إليهم ابن عباس رضي الله عنهما فناظرهم فرجع نصفهم، والآخرون أغاروا على ماشية الناس، واستحلوا دماءهم، فقتلوا ابن خباب، وقالوا:كنا قتله، فقاتلهم علي >.
__________
(1) إعلام الموقعين (1/201)،
(2) حاشية ابن عابدين (1/46)، المدخل إلى الشريعة والفقه الإسلامي(334).(1/92)
وأصل مذهب الخوارج تعظيم القرآن وطلب اتباعه، لكن خرجوا عن السنة والجماعة، فهم لا يرون اتباع السنة، التي يظنون أنها تخالف القرآن، كالرجم ونصاب السرقة وغير ذلك .... فضلُّوا، فإن الرسول $ أعلم بما أنزل الله عليه، والله قد أنزل عليه الكتاب والحكمة، وجوزوا على النبي $ أن يكون ظالماً، فلم ينقادوا لحكم النبي $،ولا لحكم الأئمة بعده، بل قالوا: إن عثمان وعلياً ومن والاهما قد حكموا بغير ما أنزل الله { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ } ، فكفَّروا المسلمين بهذا وبغيره، وتكفيرهم وتكفير سائر أهل البدع مبني على مقدمتين باطلتين:
إحداهما: أن هذا يخالف القرآن.
والثانية: أن من خالف القرآن يكفر، ولو كان مخطئاً، أو مذنباً معتقداَ للوجوب والتحريم، وبإزاء الخوارج ظهرت الشيعة. غلوا في الأئمة وجعلوهم معصومين، يعلمون كل شيء، وأوجبوا الرجوع إليهم في جميع ما جاءت به الرسل، فلا يعرجون لا على القرآن ولا على السنة، بل على قول من ظنوه معصوماً .
وانتهى الأمر إلى الائتمام بإمام معدوم لا حقيقة له، فكانوا أضل من الخوارج فإن أولئك يرجعون إلى القرآن وهو حق وإن غلطوا فيه، وهؤلاء لا يرجعون إلى شيء بل إلى معدوم لا حقيقة له، ثم إنما يتمسكون بما ينقل لهم عن بعض الموتى، فيتمسكون بنقل غير مصدق، عن قائل غير معصوم، ولهذا كانوا أكذب الطوائف. والخوارج صادقون فحديثهم من أصح الحديث ، وحديث الشيعة من أكذب الحديث. (1)
الأمر بطاعة الرسول $
أمر الله سبحانه وتعالى عباده المؤمنين بطاعته جل في علاه، وطاعة نبيه $.
قال الله تعالى: وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ". (2)
__________
(1) البدع الحولية للتويجري.
(2) سورة آل عمرن الآية (132) .(1/93)
قال الشيخ السعدي: بفعل الأوامر امتثالا، واجتناب النواهي { لعلكم ترحمون } فطاعة الله وطاعة رسوله، من أسباب حصول الرحمة كما قال تعالى: { ورحمتي
وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة } الآيات. (1)
وقال تعالى: قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن تولوا فإنما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم وإن تطيعوه تهتدوا وما على الرسول إلا البلاغ المبين". (2)
قال ابن كثير: وقوله تعالى: { وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول } أمر بطاعة الله ورسوله فيما شرع وفعل ما به أمر وترك ما عنه نهى وزجر، ثم قال تعالى: { فإن توليتم فإنما على رسولنا البلاغ المبين } أي إن نكلتم عن العمل فإنما عليه ما حمل من البلاغ وعليكم ما حملتم من السمع والطاعة، قال الزهري: من الله الرسالة، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التسليم. (3)
وقال تعالى: وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَاحْذَرُواْ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاَغُ الْمُبِينُ". (4)
قال الشيخ السعدي: طاعة الله وطاعة رسوله واحدة، فمن أطاع الله، فقد أطاع الرسول، ومن أطاع الرسول فقد أطاع الله، وذلك شامل للقيام بما أمر الله به ورسوله من الأعمال، والأقوال الظاهرة والباطنة، الواجبة والمستحبة، المتعلقة بحقوق الله وحقوق خلقه والانتهاء عما نهى الله ورسوله عنه كذلك.
__________
(1) تفسير السعدي.
(2) سورة النور آية (54) .
(3) تفسير ابن كثير (4/381).
(4) سورة المائدة الآية (92) .(1/94)
وهذا الأمر أعم الأوامر، فإنه كما ترى يدخل فيه كل أمر ونهي، ظاهر وباطن، وقوله: { وَاحْذَرُوا } أي: من معصية الله ومعصية رسوله، فإن في ذلك الشر والخسران المبين، { فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ } عما أمرتم به ووقعتم فيما نهيتم عنه { فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ } ، وقد أدى ذلك فإن اهتديتم فلأنفسكم، وإن أسأتم فعليها، والله هو الذي يحاسبكم، والرسول قد أدى ما عليه وما حمل به. (1)
فطاعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيها الفوز والنجاة عند الله تعالى يوم القيامة.
__________
(1) تفسير السعدي.(1/95)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: فإنه لا سعادة للعباد ولا نجاة في المعاد إلا بإتباع رسوله، وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَمَن يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ". (1) فطاعة الله ورسوله قطب السعادة التي عليه تدور، ومستقر النجاة الذي عنه لا تحور، فإن الله خلق الخلق لعبادته كما قال تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ". (2) وإنما تعبدهم بطاعته وطاعة رسوله، فلا عبادة إلا ما هو واجب، أو مستحب في دين الله، وما سوى ذلك فضلال عن سبيله، ولهذا قال $ من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد، أخرجاه في الصحيحين وقال $ في حديث العرباض بن ساريه الذي رواه أهل السنن وصححه الترمذي أنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافا كثيرا فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة، وفي الحديث الصحيح الذي رواه مسلم وغيره أنه كان يقول في خطبته خير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة، وقد ذكر الله طاعة الرسول واتباعه في نحو من أربعين موضعا من القرآن، كقوله تعالى مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ". (3) .اهـ. (4)
وقال تعالى: قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ". (5)
__________
(1) سورة النساء الآية (13-14) .
(2) سورة الذاريات الآية (56) .
(3) سورة النساء الآية (80) .
(4) مجموع الفتاوى (1/4).
(5) سورة آل عمران آية (32).(1/96)
قال الشيخ عبدالرحمن السعدي رحمه الله: وهذا أمر من الله تعالى لعباده بأعم الأوامر، وهو طاعته وطاعة رسوله التي يدخل بها الإيمان والتوحيد، وما هو من فروع ذلك من الأعمال والأقوال الظاهرة والباطنة، بل يدخل في طاعته وطاعة رسوله اجتناب ما نهى عنه، لأن اجتنابه امتثالا لأمر الله هو من طاعته، فمن أطاع الله ورسوله، فأولئك هم المفلحون فإِن تَوَلَّوْاْ" أي: أعرضوا عن طاعة الله ورسوله فليس ثم أمر يرجعون إليه إلا الكفر وطاعة كل شيطان مريد كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَن تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ". (1) فلهذا قال: فإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ" بل يبغضهم ويمقتهم ويعاقبهم أشد العقوبة، وكأن في هذه الآية الكريمة بياناً وتفسيراً لإتباع رسوله، وأن ذلك بطاعة الله وطاعة رسوله، هذا هو الإتباع الحقيقي .اهـ. (2)
وقال الله عز وجل: وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا". (3)
قال ابن رجب الحنبلي: والمعنى قد أفلح من زكى نفسه بطاعة الله، وخاب من دساها بالمعاصي، فالطاعة تزكي النفس وتطهرها فترتفع بها، والمعاصي تدسي النفس وتقمعها فتنخفض وتصير كالذي يدس في التراب. (4)
__________
(1) سورة الحج آية (4) .
(2) تفسير السعدي .
(3) سورة الشمس .
(4) جامع العلوم والحكم (1/220).(1/97)
وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يحث أهله وأصحابه على التمسك بالطاعة ويقول: "اشتروا أنفسكم من الله، لا أغني عنكم من الله شيئاً". (1)
وقال لأهله: "إن أوليائي منكم المتقون يوم القيامة، لا يأتي الناس بالأعمال وتأتون بالدنيا تحملونها على رقابكم فتقولون: يا محمد، فأقول: قد بلغت". (2)
__________
(1) عن أبي هريرة>، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين أنزل عليه { وأنذر عشيرتك الأقربين } الشعراء الآية - 214 يا معشر قريش اشتروا أنفسكم من الله لا أغني عنكم من الله شيئاً، يا بني عبدالمطلب لا أغني عنكم من الله شيئاً، يا عباس بن عبدالمطلب لا أغني عنك من الله شيئاً، يا صفية عمة رسول الله لا أغني عنك من الله شيئاً، يا فاطمة بنت رسول الله سليني بما شئت لا أغني عنك من الله شيئاً. أخرجه البخاري برقم (3336)، ومسلم برقم (351).
(2) صححه الألباني في ظلال الجنة، وفي الأدب المفرد (1/40).
هذا وقد وعظ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - موعظة بليغة، موعظة بليغة، ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، وكأنها موعظة مودع. فعن عبد الرحمن بن عمرو السلمي، وحجر الكلاعي قالا: دخلنا على العرباض بن سارية >، وهو الذي نزلت فيه: ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم الآية. وهو مريض == == فقلنا له: إنا جئناك زائرين وعامدين، ومقتبسين، فقال عرباض >: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى صلاة الغداة، ثم أقبل علينا بوجهه، فوعظنا موعظة بليغة، ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، فقال قائل: يا رسول الله: إن هذه لموعظة مودع، فما تعهد إلينا؟ قال: أوصيكم بتقوى الله عز وجل، والطاعة والسمع، وإن عبداً حبشياً، فإنه من يعش منكم بعدي سيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة الحديث أخرجه الإمام أحمد، والترمذي، وأبو داود، والبيهقي، والحاكم، عن العرباض بن سارية، وصححه الألباني في سنن أبي داود، وصحيح الجامع، وسنن ابن ماجة، وصحيح الترغيب، والسلسلة الصحيحة، وظلال الجنة، وإصلاح المساجد، وتخريج الطحاوية، وتخريج مشكلة الفقر، وصحيح ابن خزيمة، وصلاة التراويح .
وعن أبي أمامة > قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل، ثم قرأ هذه الآية: ما ضربوه لك إلا جدلاً بل هم قوم خصمون .(1/98)
طاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - من طاعة الله تعالى
هذا ومن المعلوم من الدين بالضرورة أن طاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - هي من طاعة الله سبحانه وتعالى .
حيث قال الله تعالى: مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ وَمَن تَوَلَّى فَمَا
أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا". (1)
يعني: إن طاعتكم لمحمد - $ - طاعة لله، { ومن تولى } أعرض عن طاعته، { فما أرسلناك عليهم حفيظا } أي: حافظا لهم من المعاصي حتى لا تقع، أي: ليس عليك بأس لتوليه لأنك لم ترسل عليهم حفيظا من المعاصي. (2)
قال الطبري: وهذا إعذار من الله إلى خلقه في نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - يقول الله تعالى ذكره لهم من يطع منكم أيها الناس محمدا فقد أطاعني بطاعته إياه فاسمعوا قوله وأطيعوا أمره فإنه مهما يأمركم به من شيء فمن أمري يأمركم وما نهاكم عنه من شيء فمن نهيي فلا يقولن أحدكم إنما محمد بشر مثلنا يريد أن يتفضل علينا، ثم قال جل ثناؤه لنبيه ومن تولى عن طاعتك يا محمد فأعرض عنه فإنا لم نرسلك عليهم حفيظا يعني حافظا لما يعملون محاسبا بل إنما أرسلناك لتبين لهم ما نزل إليهم وكفى بنا حافظين لأعمالهم ولهم عليها محاسبين. ونزلت هذه الآية فيما ذكر قبل أن يؤمر بالجهاد. (3)
وقال السعدي: أي: كل مَنْ أطاع رسول الله في أوامره ونواهيه { فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ } تعالى لكونه لا يأمر ولا ينهى إلا بأمر الله وشرعه ووحيه وتنزيله، وفي هذا عصمة الرسول $ لأن الله أمر بطاعته مطلقا، فلولا أنه معصوم في كل ما يُبَلِّغ عن الله لم يأمر بطاعته مطلقا، ويمدح على ذلك. وهذا من الحقوق المشتركة فإن الحقوق ثلاثة: حق لله تعالى لا يكون لأحد من الخلق، وهو عبادة الله والرغبة إليه، وتوابع ذلك. وقسم مختص بالرسول، وهو التعزير والتوقير والنصرة.
__________
(1) سورة النساء الآية (80) .
(2) الوجيز للواحدي (1/277).
(3) تفسير الطبري (5/177) .(1/99)
وقسم مشترك، وهو الإيمان بالله ورسوله ومحبتهما وطاعتهما، كما جمع الله بين هذه الحقوق في قوله: { لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا } فمَنْ أطاع الرسول فقد أطاع الله، وله من الثواب والخير ما رتب على طاعة الله { وَمَنْ تَوَلَّى } عن طاعة الله ورسوله فإنه لا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئًا { فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا } أي: تحفظ أعمالهم وأحوالهم، بل أرسلناك مبلغا ومبينا وناصحا، وقد أديت وظيفتك، ووجب أجرك على الله، سواء اهتدوا أم لم يهتدوا، كما قال تعالى: { فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ } الآية.
ولا بد أن تكون طاعة الله ورسوله ظاهرًا وباطنًا في الحضرة والمغيب. فأما مَنْ يظهر في الحضرة والطاعة والالتزام فإذا خلا بنفسه أو أبناء جنسه ترك الطاعة وأقبل على ضدها، فإن الطاعة التي أظهرها غير نافعة ولا مفيدة، وقد أشبه من قال الله فيهم: { وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ } أي: يظهرون الطاعة إذا كانوا عندك. { فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ } أي: خرجوا وخلوا في حالة لا يطلع فيها عليهم. { بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ } أي: بيتوا ودبروا غير طاعتك ولا ثَمَّ إلا المعصية.
وفي قوله: { بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ } دليل على أن الأمر الذي استقروا عليه غير الطاعة؛ لأن التبييت تدبير الأمر ليلا على وجه يستقر عليه الرأي، ثم توعدهم على ما فعلوا فقال: { وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ } أي: يحفظه عليهم وسيجازيهم عليه أتم الجزاء، ففيه وعيد لهم. (1)
__________
(1) تفسير السعدي (1/292) .(1/100)
فنحن مأمورون بطاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - حيث قال الله تعالى: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا". (1)
وقال الله تعالى: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ". (2)
قال ابن رجب: وفي الجملة فما ورد النص به فليس للمؤمن إلا طاعة الله ورسوله، كما قال تعالى: { وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم } ، وينبغي أن يتلقى ذلك بانشراح الصدر والرضا، فإن ما شرعه الله ورسوله يجب الإيمان والرضا به والتسليم له، كما قال تعالى: { فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما } . (3) ، وأما ما ليس فيه نص من الله ولا رسوله ولا عمن يقتدي بقوله من الصحابة وسلف الأمة فإذا وقع في نفس المؤمن المطمئن قلبه بالإيمان المنشرح صدره بنور المعرفة واليقين منه شيء وحك في صدره بشبهة موجودة ولم يجد من يفتي فيه بالرخصة إلا من يخبر عن رأيه وهو ممن لا يوثق بعلمه وبدينه بل هو معروف بإتباع الهوى فهنا يرجع المؤمن إلى ما حاك في صدره وإن أفتاه هؤلاء المفتون. (4)
وقال تعالى: إنما قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون ومن يطع الله ورسوله ويخشى الله ويتقه فأولئك هم الفائزون". (5)
__________
(1) سورة الأحزاب آية (36).
(2) سورة الحشر آية (7).
(3) سورة النساء آية (65).
(4) جامع العلوم والحكم (1/254) .
(5) سورة النور آية (51-52).(1/101)
قال ابن كثير: والأحاديث والآثار في وجوب الطاعة لكتاب الله، وسنة رسوله وللخلفاء الراشدين والأئمة إذا أمروا بطاعة الله أكثر من أن تحصر في هذا المكان، وقوله ومن يطع الله ورسوله قال قتادة: يطع الله ورسوله فيما أمراه به وترك ما نهياه عنه ويخشى الله فيما مضى من ذنوبه ويتقه فيما يستقبل، وقوله فأولئك هم الفائزون يعني الذين فازوا بكل خير وأمنوا من كل شر في الدنيا والآخرة. (1)
وقال ابن قيم الجوزية: فإن تعظيم الرسول - صلى الله عليه وسلم - وإجلاله ومحبته وطاعته تابع لتعظيم مرسله سبحانه إجلاله ومحبته وطاعته فمحال أن تثبت المحبة والطاعة والتعظيم والإجلال للرسول دون مرسله بل إنما يثبت ذلك له تبعا لمحبة الله وتعظيمه وإجلاله ولهذا كانت طاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - طاعة لله فمن يطع الرسول فقد أطاع الله ومبايعته لله، { إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ } . (2) ومحبته محبة لله، قال الله تعالى: { قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } . (3) وتعظيمه تعظيم لله ونصرته نصرة لله فإنه رسوله وعبده الداعي إليه والى طاعته ومحبته وإجلاله.اهـ. (4)
__________
(1) تفسير ابن كثير (3/300) .
(2) سورة الفتح آية (10).
(3) سورة آل عمران آية (31).
(4) جلاء الأفهام (1/395).(1/102)
وعن أبي نجيح العرباض بن سارية - رضي الله عنه - قال: وعظنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - موعظة بليغة وجلت منها القلوب وذرفت منها العيون فقلنا: يا رسول الله كأنها موعظة مودع فأوصنا قال: "أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن تأمر عليكم عبد وإنه من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة". (1)
النواجذ: بالذال المعجمة: الأنياب، وقيل: الأضراس، ومعناه: إلزموا السنة واحرصوا عليها كما يلزم العاض بنواجذه الشيء حرصا عليه وخوفا من ذهابه. موعظة: هي النصح والتذكير بالعواقب. بليغة: مؤثرة تبلغ سويداء القلب. وجلت: خافت. ذرفت: سالت.
فاعلم وفقني الله وإياك أن النجاة في زمن ووقت الغربة والإختلاف هو بالتزام كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - بفهم أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
عن أبي شريح الخزاعي > قال، خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "أليس تشهدون أن لا إله إلا الله وأني رسول الله" قالوا: بلى: قال: "إن هذا القرآن طرفه بيد الله وطرفه بأيديكم فتمسكوا به، فإنكم لن تضلوا ولن تهلكوا بعده أبداً". (2)
__________
(1) أخرجه أبو داود برقم (4607) والترمذي برقم (2676) وابن ماجة برقم (43 و 44) من طريق عبد الرحمن عن عمرو السلمي، وصححه الألباني في الإرواء (2455) والطحاوية (501)، والترغيب (34) والسنة (31، 54، 1037 - 1045)، والمشكاة (165).
(2) رواه الطبراني بإسناد جيد، قال في المجمع (1/169): (رواه الطبراني في الكبير ورجاله رجال الصحيح)، وصححه الألباني في الترغيب والترهيب برقم (38).(1/103)
وعن أبي هريرة - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يحدث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "يرد على الحوض يوم القيامة رهط من أصحابي فيجلون على الحوض، فأقول يا رب أصحابي، فيقول إنك لا علم لك بما أحدثوا بعدك إنهم ارتدوا على أدبارهم القهقرى". (1)
قال القرطبي: والأحاديث في هذا المعنى كثيرة فمن بدل أو غير أو ابتدع في دين الله ما لا يرضاه الله ولم يأذن به الله فهو من المطرودين عن الحوض المبتعدين منه المسودي الوجوه وأشدهم طردا وإبعادا من خالف جماعة المسلمين وفارق سبيلهم كالخوارج على اختلاف فرقها والروافض على تباين ظلالها والمعتزلة على أصناف أهواءها فهؤلاء كلهم مبدلون ومبتدعون وكذلك الظلمة المسرفون في الجور والظلم وطمس الحق وقتل أهله وإذلالهم والمعلنون بالكبائر المستخفون بالمعاصي وجماعة أهل الزيغ والأهواء والبدع كل يخاف عليهم أن يكونوا عنوا بالآية والخبر كما بينا ولا يخلد في النار إلا كافر جاحد ليس في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان وقد قال ابن القاسم : وقد يكون من غير أهل الأهواء من هو شر من أهل الأهواء وكان يقول : تمام الإخلاص تجنب المعاصي.
الثالثة: قوله تعالى: { فأما الذين اسودت وجوههم } في الكلام حذف أي فيقال لهم { أكفرتم بعد إيمانكم } يعني يوم الميثاق حين قالوا بلى ويقال: هذا لليهود وكانوا مؤمنين بمحمد - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يبعث فلما بعث كفروا به وقال أبو العالية : هذا للمنافقين يقال : أكفرتم في السر بعد أقراركم في العلانية وأجمع أهل العربية على أنه لا بد من الفاء في جوار أما لأن المعنى في قولك أما زيد فمنطلق مهما يكن من شيء فزيد منطلق وأما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة الله هم فيها خالدون.
__________
(1) أخرجه البخاري برقم (6213)، باب في الحوض، ومسلم برقم (249)، باب استحباب إطالة الغرة والتحجيل في الوضوء.(1/104)
وقوله تعالى: { وأما الذين ابيضت وجوههم } هؤلاء أهل طاعة الله عز وجل والوفاء بعهده { ففي رحمة الله هم فيها خالدون } أي في جنته ودار كرامته خالدون باقون جعلنا الله منهم وجنبنا طرق البدع والضلالات ووفقنا لطريق الذين آمنوا وعملوا الصالحات آمين. (1)
وكما أمرنا ربنا سبحانه وتعالى بطاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم - أمرنا كذلك بإتباعه .
قال الله تعالى: قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم". (2)
وقال الله تعالى: { فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون" إلى قوله تعالى { واتبعوه لعلكم تهتدون } . (3)
أي اتبعوا النبي صلى الله عليه وسلم .
وعن ابن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "لكل عمل شرةً، ولكل شرةٍ فترة، فمن كانت فترته إلى سنتي فقد اهتدى، ومن كانت فترته إلى غير ذلك فقد هلك". (4)
الشرة: بكسر الشين المعجمة هو النشاط والهمة.
وعن كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف عن أبيه عن جده - رضي الله عنه - أن رسول الله× قال لبلال بن الحارث يوماً: "اعلم يا بلال" قال: ما أعلم يا رسول الله؟ قال: "اعلم أن من أحيا سنة من سنتي قد أُميتت بعدي كان له من الأجر مثل من عمل بها من غير أن ينقص من أجورهم شيئاً، ومن ابتدع بدعة ضلالة لا يرضاها الله ورسوله كان عليه مثل آثام من عمل بها لا ينقص ذلك من أوزار الناس شيئاً". (5)
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: "الاقتصاد في السنة أحسن من الاجتهاد في البدعة". (6)
__________
(1) تفسير القرطبي (4/162-163).
(2) سورة آل عمران آية (31).
(3) سورة الأعراف (157-158).
(4) رواه ابن حبان، الترغيب (55،56)، السنة (51).
(5) رواه ابن ماجة والترمذي وقال: (حديث حسن).
(6) رواه الحاكم موقوفاً وقال: "إسناده صحيح على شرطهما"، وهو في صحيح الترغيب برقم(37).(1/105)
وعن عابس بن ربيعة قال: "رأيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يُقبل الحجر (يعني الأسود) ويقول: إني لأعلم أنك حجر لا تضرّ ولا تنفع ولولا أني رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقبلك ما قبلتك". (1)
قال الطبري: إنما قال ذلك عمر لأن الناس كانوا حديثي عهد بعبادة الأصنام، فخشي عمر أن يظن الجهال أن استلام الحجر من باب تعظيم الأحجار كما كانت العرب تفعل في الجاهلية، فأراد عمر أن يعلم الناس أن استلامه اتباعٌ لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا لأن الحجر ينفع ويضر بذاته كما كانت الجاهلية تعتقده في الأوثان. أ.هـ. (2)
وعن مجاهد قال: "كنا مع ابن عمر رحمه الله في سفر فمر بمكان فحاد عنه فسئل: لم فعلت ذلك؟ قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعل هذا ففعلت". (3)
وعن ابن عمر رضي الله عنهما: "أنه كان يأتي شجرة بين مكة والمدينة فيقيل تحتها ويخبر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يفعل ذلك". (4)
وعن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من سنَّ سنة حسنة فله أجرها ما عُمل بها في حياته وبعد مماته حتى تترك، ومن سن سنة سيئة فعليه إثمها حتى تترك، ومن مات مرابطاً جرى عليه عمل المرابط حتى يبعث يوم القيامة". (5)
__________
(1) رواه البخاري في كتاب الحج برقم (1597)، ومسلم في كتاب الحج برقم (1270).
(2) فتح الباري (3/463).
(3) رواه أحمد والبزار بإسناد جيد وهو في صحيح الترغيب برقم (43).
(4) رواه البزار بإسناد لا بأس به وصححه الألباني في الترغيب (44).
(5) رواه الطبراني في "الكبير" بإسناد لا بأس به، وحسنه الألباني في الترغيب برقم (62).(1/106)
وعن سهل بن سعد رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن هذا الخير خزائن وتلك الخزائن مفاتيح فطوبى لمن جعله الله عز وجل مفتاحاً للخير مغلاقاً للشر، وويل لعبدٍ جعله الله مفتاحاً للشر مغلاقاً للخير". (1)
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ دَعَا إلى هدَّى كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه، لا ينقص ذلك من أُجورهم شيئاً، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من اتبعه، لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً". (2)
وقد مدح الله سبحانه وتعالى عباده المؤمنين بأنهم إذا دعوا إلى الله ورسوله وليتحاكموا إليه أن يقولوا سمعنا وأطعنا، وهذا من المؤمن بالله واليوم الآخر.
قال الله تعالى: إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ * وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُل لَّا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَّعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ". (3)
__________
(1) رواه ابن ماجة واللفظ له وابن أبي عاصم، وحسنه الألباني في الترغيب برقم (62).
(2) رواه مسلم في كتاب العلم برقم (2674).
(3) سورة النور الآية (51-53) .(1/107)
وقال تعالى: وَلَوْ أَنّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوَاْ أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُواْ مِن دِيَارِكُمْ مّا فَعَلُوهُ إِلاّ قَلِيلٌ مّنْهُمْ وَلَوْ أَنّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لّهُمْ وَأَشَدّ تَثْبِيتاً*وَإِذاً لاَتَيْنَاهُمْ مّن لّدُنّآ أَجْراً عَظِيماً*وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مّسْتَقِيماً* وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرّسُولَ فَأُوْلََئِكَ مَعَ الّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مّنَ النّبِيّينَ وَالصّدّيقِينَ وَالشّهَدَآءِ وَالصّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولََئِكَ رَفِيقاً * ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللّهِ وَكَفَىَ بِاللّهِ عَلِيماً". (1)
قال ابن كثير: يخبر تعالى عن أكثر الناس أنهم لو أمروا بما هم مرتكبونه من المناهي لما فعلوه, لأن طباعهم الرديئة مجبولة على مخالفة الأمر, وهذا من علمه تبارك وتعالى بما لم يكن أو كان, فكيف كان يكون, ولهذا قال تعالى: { ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم } الاَية, قال ابن جرير: حدثني المثنى, حدثني إسحاق, حدثنا أبو زهير عن إسماعيل, عن أبي إسحاق السبيعي, قال: لما نزلت { ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم } الاَية, قال رجل: لو أمرنا لفعلنا, والحمد لله الذي عافانا, فبلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - , فقال: "إن من أمتي لرجالاً الإيمان أثبت في قلوبهم من الجبال الرواسي". وقال السدي: افتخر ثابت بن قيس بن شماس ورجل من اليهود, فقال اليهودي: والله لقد كتب الله علينا القتل فقتلنا أنفسنا، فقال ثابت: والله لو كتب علينا { أن اقتلوا أنفسكم } لفعلنا فأنزل الله هذه الاَية.
__________
(1) سورة النساء الآيات (66-69) .(1/108)
وعن شريح بن عبيد، قال: لما تلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذه الاَية { ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم } الاَية, أشار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيده إلى عبد الله بن رواحة, فقال: "لو أن الله كتب ذلك لكان هذا من أولئك القليل" يعني ابن رواحة, ولهذا قال تعالى: { ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به } أي ولو أنهم فعلوا ما يؤمرون به وتركوا ما ينهون عنه { لكان خيراً لهم } أي من مخالفة الأمر وارتكاب النهي { وأشد تثبيتاً } ، قال السدي: أي وأشد تصديقاً { وإذاً لاَتيناهم من لدنا } أي من عندنا { أجراً عظيماً } يعني الجنة { ولهديناهم صراطاً مستقيماً } أي في الدنيا والاَخرة، ثم قال تعالى: { ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً } ، أي من عمل بما أمره الله به وترك ما نهاه الله عنه ورسوله فإن الله عز وجل يسكنه دار كرامته ويجعله مرافقاً للأنبياء ثم لمن بعدهم في الرتبة وهم الصديقون, ثم الشهداء والصالحون الذين صلحت سرائرهم وعلانيتهم ثم أثنى عليهم تعالى فقال: { وحسن أولئك رفيقاً } وقال البخاري: حدثنا محمد بن عبد الله بن حوشب, حدثنا إبراهيم بن سعد عن أبيه, عن عروة, عن عائشة, قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "ما من نبي يمرض إِلا خير بين الدنيا والاَخرة" وكان في شكواه التي قبض فيها أخذته بحة شديدة فسمعته يقول: "مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين" فعلمت أنه خُيّر, وكذا رواه مسلم من حديث شعبة عن سعد بن إِبراهيم به، وهذا معنى قوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الاَخر "اللهم الرفيق الأعلى" ثلاثاً ثم قضى، عليه أفضل الصلاة والتسليم.اهـ. (1)
__________
(1) تفسير ابن كثير (2/133) .(1/109)
قال أبو إسحاق الرقاشي: علامة محبة الله إيثار طاعته ومتابعة نبيه، ودليله قوله تعالى: قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله.
وقال أبو حمزة البغدادي: من علم طريق الحق سهل عليه سلوكه، ولا دليل على الطريق إلى الله إلا متابعة سنة الرسول $ في أحواله وأفعاله وأقواله.
وقال أبو علي الحسن بن علي الجوزجاني: من علامات السعادة على العبد: تيسير الطاعة عليه، وموافقة السنة في أفعاله، وصحبته لأهل الصلاح، وحسن أخلاقه مع الإخوان، وبذل معروفه للخلق، واهتمامه للمسلمين، ومراعاته لأوقاته.
وسئل كيف الطريق إلى الله؟ فقال: الطرق إلى الله كثيرة وأوضح الطرق وأبعدها عن الشبه إتباع السنة قولاً وفعلاً وعزما وعقداً ونية، لأن الله يقول: { وإن تطيعوه تهتدوا } ، فقيل له: كيف الطريق إلى السنة؟ فقال: مجانبة البدع، وإتباع ما أجمع عليه الصدر الأول من علماء الإسلام، والتباعد عن مجالس الكلام وأهله، ولزوم طريقة الاقتداء، وبذلك أمر النبي $ بقوله تعالى: ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم .
وقال أبو بكر الترمذي: لم يجد أحد تمام الهمة بأوصافها إلا أهل المحبة وإنما أخذوا ذلك بإتباع السنة ومجانبة البدعة فإن محمد $ كان أعلى الخلق كلهم همة وأقربهم زلفى.
وقال أبو الحسن الوراق: لا يصل العبد إلى الله إلا بالله وبموافقة حبيبه $ في شرائعه ومن جعل الطريق إلى الوصول في غير الاقتداء يضل من حيث أنه مهتد وقال : الصدق استقامة الطريق في الدين وإتباع السنة في الشرع وقال: علامة محبة الله متابعة حبيبه @.
ومثله عن إبراهيم القمار قال: علامة محبة الله إيثار طاعته ومتابعة نبيه
وقال أبو محمد بن عبد الوهاب الثقفي: لا يقبل الله من الأعمال إلا ما كان صوابا ومن صوابها إلا ما كان خالصا ومن خالصها إلا ما وافق السنة.
وقال أبو بكر بن سعدان وهو من أصحاب الجنيد وغيره: الاعتصام بالله هو الامتناع من الغفلة والمعاصي والبدع والضلالات(1/110)
وقال أبو عمر الزجاجي وهو من أصحاب الجنيد والثوري وغيرهما: كان الناس في الجاهلية يتبعون ما تستحسنه عقولهم وطبائعهم فجاء النبي $ فردهم إلى الشريعة والإتباع فالعقل الصحيح الذي يستحسن ما يستحسنه الشرع ويستقبح ما يستقبحه.
وقيل لإسماعيل بن محمد السلمي جد أبي عبد الرحمن السلمي، ولقي الجنيد وغيره: ما الذي لا بد للعبد منه؟ فقال: ملازمة العبودية على السنة، ودوام المراقبة.
وقال سهل التستري: كل فعل يفعله العبد بالاقتداء: طاعة كان أو معصية فهو عيش النفس ـ يعني بإتباع الهوى ـ وكل فعل يفعله العبد بالاقتداء فهو عتاب على النفس ـ يعني لأنه لا هوى له فيه ـ وإتباع الهوى هو المذموم ومقصود القوم تركه البتة.
وقال: أصولنا سبعة أشياء: التمسك بكتاب الله، والاقتداء بسنة رسول الله $، وأكل الحلال، وكف الأذى، واجتناب الآثام، والتوبة، وأداء الحقوق. وقال: قد أيس الخلق من هذه الخصال الثلاث: ملازمة التوبة، ومتابعة السنة، وترك أذى الخلق. وسئل عن الفتوة؟ فقال: اتباع السنة.
وقال أبو سليمان الداراني: ربما تقع في قلبي النكتة من نكتة القوم أياما فلا أقبل منه إلا بشاهدين عدلين: الكتاب والسنة.
وقال أحمد بن أبي الحواري: من عمل عملا بلا اتباع سنة فباطل عمله.
وقال أبو حفص الحداد: من لم يزن أفعاله وأحواله في كل وقت بالكتاب والسنة ولم يتهم خواطره فلا تعده في ديوان الرجال.
وسئل عن البدعة؟ فقال: التعدي في الأحكام، والتهاون في السنن، وإتباع الآراء والأهواء، وترك الإتباع والاقتداء، قال: وما ظهرت حالة عالية إلا من ملازمة أمر صحيح.
وسئل حمدون القصار: متى يجوز للرجل أن يتكلم على الناس؟ فقال: إذا تعين عليه أداء فرض من فرائض الله في عمله أو خاف هلاك إنسان في بدعة يرجو أن ينجيه الله منها.
وقال: من نظر في سير السلف عرف تقصيره وتخلفه عن درجات الرجال.
وهذه ـ والله أعلم ـ إشارة إلى المثابرة على الاقتداء بهم فإنهم أهل السنة.(1/111)
وقال أبو القاسم الجنيد لرجل ذكر المعرفة وقال: أهل المعرفة بالله يصلون إلى ترك الحركات من باب البر والتقرب إلى الله، فقال الجنيد: إن هذا قول قوم تكلموا بإسقاط الأعمال عن الله تعالى وإليه يرجعون فيها، قال: ولو بقيت ألف عام لم أنقص من أعمال البر ذرة إلا أن يحال بي دونها.
وقال: الطرق كلها مسدودة على الخلق إلا على من اقتفى أثر الرسول $. وقال: مذهبنا هذا مقيد بالكتاب والسنة.
وقال: من لم يحفظ القرآن ويكتب الحديث لا يقتدى به في هذا الأمر لأن علمنا هذا مقيد بالكتاب والسنة، وقال: هذا مشيد بحديث رسول الله $.
فعليك أخي الحبيب أن تعلم أنه على المسلم أن يعبد الله تعالى بما شَرَعَ ، وأن يتبع النبي - صلى الله عليه وسلم - بما ورد عنه وبالكيفية التي وردت عنه، فلا يجوز أن نعتدي في العبادات ولا أن نخالف نبينا عليه الصلاة والسلام، وكل عمل ليس على طريقة النبي - صلى الله عليه وسلم - فهو مردود على صاحبه ولا يقبل .
المبحث الثاني:
كل عمل خلاف أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - مردود .
لا يجوز فعل أي عبادة إلا بدليل شرعي، لأن العبادة توفيقية،أي نتوقف بعملها حتى تثبت بدليل من الكتاب والسنة، فأي عبادة ليس عليها دليل مردودة على صاحبها وغير مقبولة .
قال الله تعالى: وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا". (1)
__________
(1) سورة النساء آية (115) .(1/112)
قال الإمام الطبري: يعني جلّ ثناؤه بقوله: { وَمَنْ يُشاقِق الرّسُولَ } : ومن يباين الرسول محمداً - صلى الله عليه وسلم - معادياً له, فيفارقه على العداوة له، { مِنْ بَعْدِ ما تَبَيّنَ لَهُ الهُدَى } يعني: من بعد ما تبين له أنه رسول الله, وأن ما جاء به من عند الله يهدى إلى الحقّ, وإلى طريق مستقيم. { وَيَتّبِعْ غيرَ سَبِيلِ المُؤْمِنِينَ } يقول: ويتبع طريقاً غير طريق أهل التصديق, ويسلك منهاجاً غير منهاجهم, وذلك هو الكفر بالله, لأن الكفر بالله ورسوله غير سبيل المؤمنين وغير منهاجهم. { نُوَلّهِ ما تَوَلىّ } يقول: نجعل ناصره ما استنصره واستعان به من الأوثان والأصنام, وهي لا تغنيه، ولا تدفع عنه من عذاب الله شيئاً، ولا تنفعه. (1)
وصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد". (2)
قال ابن قيم الجوزية: وما رده رسول الله $لم يجز لأحد اعتباره ولا الإلزام به وتنفيذه، ومن تفطن لتفاصيل هذه الجملة التي هي من لوازم الإيمان تخلص بها من آصار وأغلال في الدنيا وإثم وعقوبة ونقص ثواب في الآخرة وبالله التوفيق. (3)
وعن عائشة < قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد". (4)
قال النووي: قوله رد قال أهل العربية: الرد هنا بمعنى المردود، ومعناه معتد بة، وهذا الحديث قاعدة عظيمة من قواعد الإسلام وهو من جوامع كلمه - صلى الله عليه وسلم - فإنه صريح في رد كل البدع والمخترعات.
وفي هذا الحديث دليل لمن يقول من الأصوليين أن النهي يقتضي
الفساد.اهـ. (5)
__________
(1) تفسير الطبري .
(2) رواه البخاري في كتاب الصلح ، ومسلم في كتاب الأقضية برقم (1719).
(3) إعلام الموقعين (3/98).
(4) رواه البخاري في كتاب الصلح برقم(2697)، ومسلم في كتاب الأقضية برقم (1718).
(5) شرح النووي على صحيح مسلم (12/16) .(1/113)
وقال الشيخ عبدالرحمن السعدي: وأما حديث عائشة: فإن قوله - صلى الله عليه وسلم - : "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد، أو من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد" فيدل بالمنطوق وبالمفهوم.
أما منطوقه: فإنه يدل على أن كل بدعة أحدثت في الدين ليس لها أصل في الكتاب ولا في السنة، سواء كانت من البدع القولية الكلامية، كالتجهم والرفض والاعتزال وغيرها، أو نم البدع العملية كالتعبد لله بعبادات لم يشرعها الله ولا رسوله، فإن ذلك كله مردود على أصحابه، وأهله مذمومون بحسب بدعهم وبُعدها عن الدين، فمن أخبر بغير ما أخبر الله به ورسوله، أو تعبد بشيء لم يأذن لم يأذن الله به ورسوله ولم يشرعه: فهو مبتدع، ومن حرَّم المباحات، أو تعبد بغير الشرعيات: فهو مبتدع.
وأما مفهوم هذا الحديث: فإن من عمل عملاً، عليه أمر الله ورسوله وهو التعبد لله بالعقائد الصحيحة، والأعمال الصالحة: من واجب ومستحب: فعمله مقبول، وسعيه مشكور.
ويستدل بهذا الحديث على أن كل عبادة فعلت على وجه منهي عنه فإنها فاسدة؛ لأنه ليس عليها أمر الشارع، وأن النهي يقتضي الفساد. وكل معاملة نهى الشارع عنها فإنها لاغية لا يعتد بها. (1)
وقال الألباني: وهذا الحديث قاعدة عظيمة من قواعد الإسلام، وهو من جوامع كلمه - صلى الله عليه وسلم - فإنه صريح في رد وإبطال كل البدع والمحدثات، واللفظ الأول أعم في الرد فإنه يشمل كل عمل بالبدعة ولو كان المحدث لها غيره بخلاف اللفظ الآخر.
وذكر رحمه الله تعالى القواعد والأسس التي تبنى عليها البدعة فقال:
إن البدعة المنصوص على ضلالها من الشارع هي:
أ - كل ما عارض السنة من الأقوال أو الأفعال أو العقائد ولو كانت عن اجتهاد .
ب - كل أمر يتقرب إلى الله به، وقد نهى عنه رسول الله $ .
__________
(1) بهجة قلوب الأبرار وقرة عيون الأخيار في شرح جوامع/ الشيخ عبدالرحمن السعدي .(1/114)
ج - كل أمر لا يمكن أن يشرع إلا بنص أو توقيف، ولا نص عليه فهو بدعة إلا ما كان عن صحابي .
د - ما ألصق بالعبادة من عادات الكفار .
هـ- ما نص على استحبابه بعض العلماء سيما المتأخرين منهم ولا دليل عليه.
و - كل عبادة لم تأت كيفتها إلا في حديث ضعيف أو موضوع .
ز - الغلو في العبادة .
ح - كل عبادة أطلقها الشارع وقيدها الناس ببعض القيود مثل المكان أو الزمان أو صفة أو عدد. اهـ. (1)
فأمر الله ورسوله بالرد على من خالف أمر الله ورسوله، والرد على من خالف أمر الله ورسوله لا يتلقى إلا عمن عرف ما جاء به الرسول وخبره خبرة تامة. قال بعض الأئمة : لا يؤخذ العلم إلا عمن عرف بالطلب .
__________
(1) مختصر أحكام الجنائز (95-96) ، طبعة دار البر دبي .(1/115)
وأمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - نوعان: أمر ظاهر بعمل الجوارح، كالصلاة والصيام والحج والجهاد ونحو ذلك، وأمر باطن تقوم به القلوب، كالإيمان بالله ومعرفته ومحبته وخشيته وإجلاله وتعظيمه والرضا بقضائه والصبر على بلائه، فهذا كله لا يؤخذ إلا ممن عرف الكتاب والسنة، ومن لم يقرأ القرآن ويكتب الحديث لا يقتدى به في علمنا، فمن تكلم على شيء من هذا مع جهله بما جاء على الرسول - صلى الله عليه وسلم - فهو داخل فيمن يفتري على الله الكذب، وفيمن يقول الله على ما لا يعلم، فإن كان مع ذلك لا يقبل الحق ممن ينكر عليه باطله لمعرفته ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - بل ينتقص به وقال: أنا وارث حال الرسول - صلى الله عليه وسلم - والعلماء وارثون علمه، فقد جمع هذا بين افتراء الكذب على الله، والتكذيب بالحق لما جاء به فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكَافِرِينَ". (1) فإن هذا متكبر على الحق والانقياد له، منقاد لهواه وجهله، ضال مضل، وإنما يرث حال الرسول - صلى الله عليه وسلم - من علم حاله، ثم اتبعه، فإن من لا علم له بحاله فمن أين يكون وارثه؟
ومثل هذا لم يكن ظهر في زمن السلف الصالح حتى يجاهدوا فيه حق الجهاد وإنما ظهر في زمن قل فيه العلم وكثر فيه الجهل، ومع هذا فلا بد أن يقيم الله من يبين للأمة ضلاله، وله نصيب من الذل والصغار بحسب مخالفته لأمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - .
__________
(1) سورة الزمر آية (32) .(1/116)
يا لله العجب، لو ادعى معرفة صناعة من صنائع الدنيا - ولم يعرفه الناس بها، ولا شاهدوا عنده آلاتها - لكذبوه في دعواه ولم يأمنوه على أموالهم، ولم يمكنوه أن يعمل فيها ما يدعيه من تلك الصناعة، فكيف بمن يدعي معرفة أمر الرسول $ وما شوهد قط يكتب علم الرسول ولا يجالس أهله ولا يدارسه؟ فلله العجب كيف يقبل أهل العقل دعواه، ويحكمونه في أديانهم، يفسدها بدعواه الكاذبة؟
إن كنت تنوح يا حمام البان للبين ، فأين شاهد الأحزان ؟
أجفانك للدموع أم أجفاني لا يقبل مدع بلا برهان
ومن أعظم ما حصل به الذل من مخالفة أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - ترك ما كان عليه من جهاد أعداء الله، فمن سلك سبيل الرسول - صلى الله عليه وسلم - عز، ومن ترك الجهاد مع قدرته عليه ذل.
وعَنْ عِكْرِمَةَ، عَنْ اِبْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "لَا يَأْتِي عَلَى اَلنَّاسِ عَامٌ إِلَّا أَحْدَثُوا فِيهِ بِدْعَةً، وَأَمَاتُوا فِيهِ سُنَّةً حَتَّى تَحْيَى اَلْبِدَعُ وَتَمُوتُ اَلسُّنَنُ". (1)
__________
(1) كتاب أصول السنة لابن زمنين (1ـ3) َبابٌ فِي اَلْحَضِّ عَلَى لُزُومِ اَلسُّنَّةِ وَاتِّبَاعِ اَلْأَئِمَّةِ ، وخرجه ابن وضاح .(1/117)
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: ومن خرج عما أمره به الرسول من الشريعة وتعبد بالبدعة فلم يحقق شهادة أن محمدا رسول الله وإنما يحقق هذين الأصلين من لم يعبد إلا الله ولم يخرج عن شريعة رسول الله التي بلغها عن الله فإنه قال تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، وقال ما تركت من شيء يقربكم إلى الجنة إلا قد حدثتكم به ولا من شيء يبعدكم عن النار إلا وقد حدثتكم به، وقال ابن مسعود خط لنا رسول الله خطاً وخط خطوطاً عن يمينه وشماله، ثم قال هذا سبيل الله وهذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه ثم قرأ وان هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله فالعبادات والزهادات والمقالات والتورعات الخارجة عن سبيل الله وهو الصراط المستقيم الذي أمرنا الله أن نسأله هدايته وهو ما دل عليه السنة هي سبل الشيطان ولو كان لأحدهم من الخوارق ما كان فليس أحدهم بأعظم من مقدمهم الدجال الذي يقول للسماء أمطري فتمطر وللأرض أنبتي فتنبت وللخربة أظهري كنوزك فتخرج معه كنوز الذهب والفضة وهو مع هذا عدو الله كافر بالله وأولياء الله هم المذكورون في قوله ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون الذين امنوا وكانوا يتقون فهم المؤمنون المتقون والتقوى فعل ما أمر الله به وترك ما نهى الله عنه فمن ترك ما أمر الله واتخذ عبادة نهى الله عنها كيف يكون من هؤلاء، وفى صحيح البخاري عن أبى هريرة > عن النبي $ يقول الله تعالى من عادى لي وليا الحديث فبين سبحانه أنه ما تقرب العبد إلى الله بمثل أداء ما افترض عليه والتقرب بالواجبات فقط طريق المقتصدين أصحاب اليمين ثم التقرب بعد ذلك بما أحبه الله من النوافل هو طريق السابقين المقربين والمحبوبات هي ما أمر الله به ورسوله أمر إيجاب أو أمر استحباب دون ما استحبه الرجل برأيه وهواه والله سبحانه وتعالى أعلم.اهـ. (1)
باب لزوم السنة
__________
(1) مجموع الفتاوى (11/618).(1/118)
عن عبد الرحمن بن أبي عوف، عن المقدام بن معديكرب، عن رسول الله × أنه قال: ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه، لا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول عليكم بهذا القرآن فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه، وما وجدتم فيه من حرام فحرموه، ألا لا يحل لكم لحم الحمار الأهلي، ولا كل ذي ناب من السبع، ولا لقطة معاهد إلا أن يستغني عنها صاحبها، ومن نزل بقوم فعليهم أن يقروه، فإن لم يقروه فله أن يعقبهم بمثل قراه. (1)
وعن عبيد الله بن أبي رافع عن أبيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لا ألفين أحدكم متكئا على أريكته يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به أو نهيت عنه فيقول لا ندري ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه. (2)
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس فيه فهو رد". قال بن عيسى: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "من صنع أمراً على غير أمرنا فهو رد" . (3)
وعن أبي هريرة >، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً. (4)
وعن الزهري، عن عامر بن سعد، عن أبيه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "إن أعظم المسلمين في المسلمين جرماً من سأل عن أمر لم يحرم فحرم على الناس من أجل مسألته. (5)
وقال ابن زمنين َبابٌ فِي اَلْحَضِّ عَلَى لُزُومِ اَلسُّنَّةِ وَاتِّبَاعِ اَلْأَئِمَّةِ:
__________
(1) سنن أبي داود. قال الشيخ الألباني : صحيح.
(2) سنن أبي داود . قال الشيخ الألباني : صحيح.
(3) سنن أبي داود . قال الشيخ الألباني : صحيح .
(4) سنن أبي داود . قال الشيخ الألباني : صحيح .
(5) رواه أبو داود، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود .(1/119)
اِعْلَمْ رَحِمَكَ اَللَّهُ أَنَّ اَلسُّنَّةَ دَلِيلُ اَلْقُرْآنِ، وَأَنَّهَا لَا تُدْرَكُ بِالْقِيَاسِ وَلَا تُؤْخَذُ بِالْعُقُولِ، وَإِنَّمَا هِيَ فِي اَلِاتِّبَاعِ لِلْأَئِمَّةِ وَلِمَا مَشَى عَلَيْهِ جُمْهُورُ هَذِهِ اَلْأُمَّةِ، وَقَدْ ذَكَرَ اَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَقْوَامًا أَحْسَنَ اَلثَّنَاءَ عَلَيْهِمْ فَقَالَ: فَبَشِّرْ عِبَادِيَ َالَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ اَلْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ اَلَّذِينَ هَدَاهُمُ اَللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو اَلْأَلْبَابِ وَأَمَرَ عِبَادَهُ فَقَالَ: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا اَلسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ .
وعن مَنْصُورُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: سَمِعْتُ اَلْحَسَنَ يُحَدِّثُ عَنْ اَلنَّبِيِّ $ قَالَ: مَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي .
وعَنْ اَلْحَسَنِ بْنِ أَبِي اَلْحَسَنِ، أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ $: عَمَلٌ قَلِيلٌ فِي سُنَّةٍ، خَيْرٌ مِنْ عَمَلٍ كَثِيرٍ فِي بِدْعَةٍ
وعن اَلْخَلِيلُ بْنُ مُرَّةَ عَنْ اَلْوَضِينِ بْنِ عَطَاءَ عَنْ مَكْحُولٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ $: اَلسُّنَّةُ سُنَّتَانِ سُنَّةٌ فِي فَرِيضَةٍ اَلْأَخْذُ بِهَا هُدًى وَتَرْكُهَا ضَلَالَةٌ، وَسُنَّةٌ فِي غَيْرِ فَرِيضَةٍ اَلْأَخْذُ بِهَا فَضِيلَةٌ وَتَرْكُهَا لَيْسَ بِخَطِيئَةٍ .
وعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَمْرٍو السُّلَمِيِّ، عَنْ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ $: كُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ(1/120)
وعَنْ اَلْحَسَنِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ $: أَلَا هَلْ عَسَى رَجُلٌ يُكَذِّبُنِي وَهُوَ مُتَّكِئٌ عَلَى حَشَايَاهُ، يَبْلُغُهُ اَلْحَدِيثُ عَنِّي فَيَقُولُ: يَا أَيُّهَا اَلنَّاسُ: كِتَابُ اَللَّهِ: وَدَعُونَا مِنْ حَدِيثِ رَسُولِ اَللَّهِ $ . (1)
وقد سبق حديث: "إذا تبايعتم بالعينة، واتبعتم أذناب البقر ، وتركتم الجهاد في سبيل الله سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه من رقابكم حتى تراجعوا دينكم". (2)
ورأى النبي - صلى الله عليه وسلم - سكة الحرث فقال: "ما دخلت دار قوم إلا دخلها الذل". (3) فمن ترك ما كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - من الجهاد مع قدرته، واشتغل عنه بتحصيل الدنيا من وجوهها المباحة حصل له من الذل، فكيف إذا اشتغل عن الجهاد بجمع الدنيا من وجوهها المحرمة؟. (4)
المراد بالذل ما يلزمهم من حقوق الأرض التي تطالبهم بها الولاة من خراج، أو عشر، فمن أدخل نفسه في ذلك فقد عرضها للذل، أو أنه محمول على من شغله الحرث والزرع عن القيام بالواجبات؛ كالحرب ونحوه، وإلى هذا ذهب البخاري. (5)
ومخالفة الرسول - صلى الله عليه وسلم - على قسمين:
أحدهما: مخالفة من لا يعتقد طاعة أمره كمخالفة الكفار، وأهل الكتاب الذين لا يرون طاعة الرسول، فهم تحت الذلة والصغار، ولهذا أمر الله بقتال أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون، وعلى اليهود الذلة والمسكنة لأن كفرهم بالرسول كفر عناد .
والثاني: وقد روي عن الإمام أحمد أنه قيل له: أن عبد الوهاب الوراق ينكر كذا وكذا، فقال: لا نزال بخير ما دام فينا من ينكر.
__________
(1) كتاب أصول السنة لابن زمنين (1ـ3) .
(2) رواه أبو داود عن ابن عمر، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (423) .
(3) رواه البخاري في صحيحه.
(4) قاله الدكتور مصطفى ديب البغا في تعليقه على صحيح البخاري.
(5) السلسلة الصحيحة رقم (10).(1/121)
ومن هذا الباب قول عمر لمن قال له اتق الله يا أمير المؤمنين فقال: "لا خير فيكم إن لم تقولوها لنا، ولا خير فينا إذا لم نقبلها منكم".
فلا يزال الناس بخير ما كان فيهم الحق وتبيين أوامر الرسول - صلى الله عليه وسلم - التي يخطئ من خالفها، وإن كان معذوراً مجتهداً مغفوراً له، ولهذا مما خص الله به الأمة لحفظ دينها الذي بعث الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن لا تجتمع على ضلالة بخلاف الأمم السالفة .
فههنا أمران أحدهما: أن من خالف أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - في شيء خطأ مع اجتهاده في طاعته ومتابعة أوامره فإنه مغفور له لا ينقص درجته بذلك.
والثاني: أنه لا يمنعنا تعظيمه ومحبته من تبين مخالفة قوله لأمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، ونصيحة الأمة بتبيين أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - .
ونفس ذلك الرجل المحبوب المعظم لو علم أن قوله مخالف لأمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - فإنه يجب من يبين للأمة ذلك ويرشدهم إلى أمر الرسول، ويردهم عن قوله في نفسه، وهذه النكتة تخفى على كثير من الجهال لأسباب.
وظنهم أن الرد على معظم من عالم وصالح تنقص به ، وليس كذلك، وبسبب الغفلة عن ذلك تبدل دين أهل الكتاب فإنهم اتبعوا زلات علمائهم ، وأعرضوا عما جاءت به أنبياءهم، حتى تبدل دينهم واتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله، فأحلوا لهم الحرام وحرموا عليهم الحلال فأطاعوهم ، فكانت تلك عبادتهم إياهم، فكان كلما كان فيهم رئيس كبير معظم مطاع عند الملوك قبل منه كل ما قال، وتحمل الملوك الناس على قوله، وليس فيهم من يرد قوله، ولا يبين مخالفته للدين .(1/122)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ومن خرج عما أمره به الرسول - صلى الله عليه وسلم - من الشريعة وتعبد بالبدعة فلم يحقق شهادة أن محمدا رسول الله وإنما يحقق هذين الأصلين من لم يعبد إلا الله ولم يخرج عن شريعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التي بلغها عن الله فإنه قال تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك وقال ما تركت من شيء يقربكم إلى الجنة إلا قد حدثتكم به ولا من شيء يبعدكم عن النار إلا وقد حدثتكم به، وقال ابن مسعود خط لنا رسول الله خطاً، وخط خطوطا عن يمينه وشماله، ثم قال هذا سبيل الله وهذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه، ثم قرأ : { وان هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله } ، فالعبادات والزهادات والمقالات والتورعات الخارجة عن سبيل الله وهو الصراط المستقيم الذي أمرنا الله أن نسأله هدايته وهو ما دل عليه السنة هي سبل الشيطان ولو كان لأحدهم من الخوارق ما كان فليس أحدهم بأعظم من مقدمهم الدجال الذي يقول للسماء أمطري فتمطر وللأرض أنبتي فتنبت وللخربة أظهري كنوزك فتخرج معه كنوز الذهب والفضة وهو مع هذا عدو الله كافر بالله وأولياء الله هم المذكورون في قوله ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون الذين امنوا وكانوا يتقون فهم المؤمنون المتقون والتقوى فعل ما أمر الله به وترك ما نهى الله عنه فمن ترك ما أمر الله واتخذ عبادة نهى الله عنها كيف يكون من هؤلاء، وفى صحيح البخاري عن أبى هريرة > عن النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول الله تعالى من عادى لي وليا الحديث فبين سبحانه أنه ما تقرب العبد إلى الله بمثل أداء ما افترض عليه، والتقرب بالواجبات فقط طريق المقتصدين أصحاب اليمين ثم التقرب بعد ذلك بما أحبه الله من النوافل هو طريق السابقين المقربين والمحبوبات هي ما أمر الله به ورسوله أمر إيجاب أو أمر استحباب دون ما استحبه الرجل برأيه وهواه،(1/123)
والله سبحانه وتعالى أعلم. (1)
وقال أبو عثمان الجبري: الصحبة مع الله تعالى بحسن الأدب ودوام الهيبة والمراقبة والصحبة مع رسول الله $ بإتباع سنته ولزوم ظاهر العلم والصحبة مع أولياء الله بالاحترام والخدمة إلى آخر ما قال.
ولما تغير عليه الحال مزق ابنه أبو بكر قميصا على نفسه ففتح أبو عثمان عينيه وقال خلاف السنة يا بني في الظاهر علامة رياء في الباطن
وقال: من أمّر السنة على نفسه قولاً وفعلاً نطق بالحكمة، ومن أمّر الهوى على نفسه قولاً وفعلاً نطق بالبدعة، قال الله تعالى: وإن تطيعوه تهتدوا.
وقال محمد بن الفضل البلخي: ذهاب الإسلام من أربعة: لا يعملون بما يعلمون ويعملون بما لا يعلمون ولا يتعلمون ويمنعون الناس من التعلم
هذا ما قال وهو وصف صوفيتنا اليوم عياذا بالله.
وقال: أعرفهم بالله أشدهم مجاهدة في أوامره وأتبعهم لسنة نبيه.
وقال شاة الكرماني: من غض بصره عن المحارم، وأمسك نفسه عن الشبهات، وعمر باطنه بدوام المراقبة، وظاهره بإتباع السنة، وعود نفسه أكل الحلال، لم تخطىء له فراسه.
وسئل عن العافية فقال: العافية أربعة أشياء: دين بلا بدعة، وعمل بلا آفة، وقلب بلا شغل، ونفس بلا شهوة.
وقال: الصبر الثبات على أحكام الكتاب والسنة.
وعن جابر > قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا خطب احمرت عيناه، وعلا صوته، واشتدّ غضبه، كأنه منذر جيش، يقول: صبَّحكم ومسَّاكم، ويقول: "بعثت أنا والساعة كهاتين" ويقرن بين إصبعيه السبابة والوسطى ويقول: "أما بعد، فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة" ثم يقول: "أنا أولى بكل مؤمن من نفسه، من ترك مالاً فلأهله، ومن ترك ديناً أو ضياعاً فإليّ و عليّ". (2)
قوله الضياع: العيال، والمراد: من ترك أطفالاً وعيالاً ذوي ضياع.
__________
(1) مجموع الفتاوى (20/45) .
(2) رواه مسلم في كتاب الجمعة برقم (867)، وابن ماجة وغيرهما.(1/124)
وزاد النسائي وابن خزيمة: "وكل ضلالة في النار". (1)
قوله: إذا خطب احمرت عياه وعلا صوته الخ قال الألباني رحمه الله: يفعل عليه الصلاة والسلام ذلك حال الخطبة إزالة للغفلة من قلوب الناس، ليتمكن فيها كلامه - صلى الله عليه وسلم - كل التمكن، أو ليتوجه فكره إلى الموعظة فتظهر عليها آثار الهيبة الإلهية. أ.هـ. (2)
قوله صبحكم ومساكم: هو بتشديد الباء في الأولى أي: نزل بكم العدو صباحاً، والمراد سينزل وبتشديد السين المهملة في الثاني.
قوله: محدثاتها بفتح الدال، والمراد بها ما لا أصل له في الدين مما أحدث بعده.
ضياعاً بفتح الضاد المعجمة: العيال وأصله مصدره أو بكسرها: جمع ضائع، كجياع جمع جائع، والله أعلم.
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "... ومن سنّ في الإسلام سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء". (3)
وقال - صلى الله عليه وسلم - : "... ومن دعا إلى ضلالة، كان عليه في الإثم مثل آثام من تبعه ولا ينقص ذلك من آثامهم شيئا". (4)
وعن معاوية > قال: قام فينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "ألا إن من كان قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على ثنتين وسبعين ملة، وإن هذه الأمة ستتفرق على ثلاث وسبعين، ثنتان وسبعون في النار، وواحدة في الجنة، وهي الجماعة". (5)
أي: الصحابة كما في بعض الروايات.
__________
(1) رواه النسائي (1/234)، وابن خزيمة في "صحيحه" (3/143/ 1785) وغيرهما، وصححهما الألباني في الترغيب برقم (50).
(2) صحيح الترغيب (1/128).
(3) رواه مسلم في كتاب الزكاة برقم (1017)، والنسائي في كتاب الزكاة برقم (75 و 76).
(4) رواه الإمام أحمد في مسنده، ورواه الإمام مسلم في صحيحه في كتاب العلم برقم (2674).
(5) رواه أحمد، وأبو داود، وقال الألباني "حسن صحيح"، صحيح الترغيب (51)، صحيح الجامع برقم (5343) .(1/125)
وفي رواية: "هي ما أنا عليه وأصحابي". (1)
ورواه أبو داود وزاد في رواية: "وإنه سيخرج في أمتي أقوام تتجارى بهم الأهواء، كما يتجارى الكلب بصاحبه، ولا يبقى من عرق ولا مفصل إلا دخله". (2)
قوله: "كما يتجارى الكلب بصاحبه": بفتح الكاف واللام، قال الخطابي: هو داء يعرض الإنسان من عضة الكلْب الكَلِب، قال: وعلامة ذلك في الكلب أن تحمر عيناه، ولا يزال يُدخل ذنبه بين رجليه، فإذا رأى إنساناً ساوَرَه: أي وثب عليه.
وعَنْ مُجَالِدٍ، عَنْ اَلشَّعْبِيِّ، عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: "لَا يَأْتِي عَلَيْكُمْ عَامٌ إِلَّا اَلَّذِي بَعْدَهُ شرٌّ مِنْهُ، لَا أَعْنِي عَامًا أَخْصَبَ مِنْ عَامٍ وَلَا أَمْطَرَ مِنْ عَامٍ، وَلَكِنْ ذَهَابَ عُلَمَائِكُمْ وَخِيَارِكُمْ، ثُمَّ يُحْدِثُ قَوْمٌ يَقِيسُونَ اَلْأُمُورَ بِرَأْيِهِمْ فَيُهْدَمُ اَلْإِسْلَامُ وَيُثْلَمُ". (3)
وعن أنس بن مالك > قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "إن الله حَجَبَ التوبة عن كلِّ صاحب بدعة حتى يَدَع بِدْعَته". (4)
وعن أنس بن مالك > قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "من رَغِبَ عن سنتي فليس مني". (5)
رغب: الرغبة عن الشيء الإعراض عنه إلى غيره، والمراد: من ترك طريقتي وأخذ طريقة غيري فليس مني.
__________
(1) رواه الترمذي وغيره، السلسلة الصحيحة.
(2) رواه أبو داود برقم (4597) وأحمد (4/102)، وحسنه الألباني في الترغيب (51).
(3) كتاب أصول السنة لابن زمنين (1ـ3).
(4) رواه الطبراني بإسناد حسن، أخرجه في "الأوسط" (5/113/ 4214 - ط)، وصححه الشيخ الألباني في "السلسلة الصحيحة" (1620)، والترغيب (54).
(5) أخرجه البخاري في كتاب النكاح برقم (5063)، ومسلم في كتاب النكاح برقم (1401)، والحديث قطعه من حديث الرهط الثلاثة الذين سألوا أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - عن عبادته.(1/126)
قال ابن حجر: قوله فمن رغب عن سنتي فليس مني، المراد بالسنة الطريقة لا التي تقابل الفرض والرغبة عن الشيء الأعراض عنه إلى غيره والمراد من ترك طريقتي وأخذ بطريقة غيري فليس مني ولمح بذلك إلى طريق الرهبانية فإنهم الذين ابتدعوا التشديد كما وصفهم الله تعالى وقد عابهم بأنهم ما وفوه بما التمزموه وطريقة النبي $ الحنيفية السمحة فيفطر ليتقوى على الصوم وينام ليتقوى على القيام ويتزوج لكسر الشهوة واعفاف النفس وتكثير النسل وقوله فليس مني أن كانت الرغبة. (1)
وعن العرباض بن سارية >، أنه سمع رسول الله × يقول: "لقد تركتكم على مثل البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك". (2)
البيضاء: أي الملة الواضحة التي لا تقبل الشبه أصلاً.
وعن عبد الله بن عمرو { قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "لكل عمل شرَّة، ولكل شِرةٍ فترةٌ، فمن كانت فترتُه إلى سنتي فقد اهتدى، ومن كانت فترته إلى غير ذلك فقد هَلَكَ". (3)
وفي رواية عن أبي هريرة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لكل عمل شرَّةٌ، ولكل شرّة فترة، فإن كان صاحبُها سدّد أو قارب فأرجوه، وإن أشير إليه بالأصابع فلا تعُدّوه". (4)
الشّرَّة: بكسر الشين المعجمة وتشديد الراء، وبعدها تاء تأنيث: هي النشاط والهمة، وشرة الشباب: أوله وحدّته.
__________
(1) فتح الباري (9/105).
(2) رواه ابن أبي عاصم في السنة برقم (48)، وأحمد وابن ماجة والحاكم، وصححه الألباني في صحيح الترغيب برقم (59).
(3) رواه أحمد والطحاوي بإسنادين صحيحين عن عبد الله بن عمرو، وابن أبي عاصم، وابن حبان في "صحيحه"، وصححه الألباني في "تخريج السنة" برقم (51) والترغيب برقم (56).
(4) رواه الترمذي وقال: "حديث حسن صحيح"، ورواه ابن حبان في "صحيحه"، والطحاوي، وصححه الألباني الترغيب (57).(1/127)
وعن أبي برزة > عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنما أخشى عليكم شهوات الغيّ في بطونكم وفروجكم، ومضلات الهوى". (1)
وعن عمرو بن زرارة قال: وقف عليَّ عبد الله - يعني ابن مسعود- وأنا أقُصُّ، فقال: يا عمرو! لقد ابتدعت بدعةً ضلالةً، أو إنّك لأهدى من محمدٍ وأصحابه! فلقد رأيتُهم تفرّقوا عني حتى رأيت مكاني ما فيه أحدٌ. (2)
وعن ابن مسعود > أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ليس من نفس تُقتَل ظلماً إلا كان على ابن آدَمَ الأول كِفلٌ من دَمِها، لأنه أول من سن القتل". (3)
وقال ابن عباس>: عليك بآثار السلف وإن رفضك الناس، وإياك وآراء الرجال وإن زخرفوه لك بالقول. (4)
وقال أبو العالية: تعلموا الإسلام، فإذا تعلمتموه فلا ترغبوا عنه، وعليكم بالصراط المستقيم فإنه الإسلام، ولا تنحرفوا عن الصراط يميناً ولا شمالاً، وعليكم بسنة نبيكم @ والذي عليه أصحابه، فإنا قد قرأنا القرآن من قبل أن يفعلوا الذي فعلوه خمس عشرة سنة، وإياكم وهذه الأهواء التي تلقي بين الناس العداوة والبغضاء. فحدثت به الحسن فقال: صدق ونصح. وحدثت به حفصة بنت سيرين، فقالت: أحدثت بهذا محمداً؟ قلت: لا، قالت: فحدثه إذاً. (5)
__________
(1) رواه أحمد والبزار والطبراني في "معاجمه الثلاثة"، وقال الألباني:"صحيح"،الترغيب برقم (52).
(2) أخرجه الدارمي، والطبراني في "الكبير" وقال الألباني: "صحيح لغيره موقوف" الترغيب (60).
(3) رواه البخاري في كتاب الاعتصام برقم (7321)، وفي كتاب الأنبياء برقم (3335)، ورواه مسلم في كتاب القسامة برقم (1677).
(4) الاعتصام للشاطبي (1/112).
(5) الاعتصام (1/60).(1/128)
وقال محمد بن الحسين: علامة من أراد الله عز وجل به خيراً سلوك هذه الطريق كتاب الله عز وجل، وسنن رسول الله @، وسنن أصحابه } ومن تبعهم بإحسان رحمة الله تعالى عليهم، وما كان عليه أئمة المسلمين في كل بلد إلى آخر ما كان من العلماء، مثل الأوزاعي، وسفيان الثوري، ومالك بن أنس، والشافعي، وأحمد بن حنبل، والقاسم بن سلام، ومن كان على مثل طريقهم، ومجانبة كل مذهب لا يذهب إليه هؤلاء العلماء . (1)
وخرّج ابن المبارك وغيره عن أبي بن كعب أنه قال: عليكم بالسبيل والسنة، فإنه ما على الأرض من عبد على السبيل والسنة ذكر الله ففاضت عيناه من خشية الله فيعذبه الله أبداً، وما على الأرض من عبد على السبيل والسنة ذكر الله في نفسه فاقشعر جلده من خشية الله إلا كان مثله كمثل شجرة قد يبس ورقها فهي كذلك إذا أصابتها ريح شديدة فتحات عنها ورقها إلا حط الله عنه خطاياه كما تحات عن الشجرة ورقها، فإن اقتصادا في سبيل الله وسنة خير من اجتهاد في خلاف سبيل الله وسنة، وانظروا أن يكون عملكم إن كان اجتهاداً واقتصاداً أن يكون على منهاج الأنبياء وسنتهم. (2)
وخرج ابن وهب عنه أيضا قال: من أحدث رأياً ليس في كتاب الله ولم تمض به سنة من رسول الله $ لم يدر ما هو عليه إذا لقي الله عز وجل.
وعن أبي العالية: تعلموا الإسلام فإذا تعلمتموه فلا ترغبوا عنه وعليكم بالصراط المستقيم فإنه الإسلام ولا تحرفوا يمينا ولا شمالا وعليكم بسنة نبيكم وما كان عليه أصحابه من قبل أن يقتلوا صاحبهم ومن قبل أن يفعلوا الذي فعلوا قد قرأنا القرآن من قبل أن يقتلوا صاحبهم ومن قبل أن يفعلوا الذي فعلوا وإياكم وهذه الأهواء التي تلقي بين الناس العداوة والبغضاء فحدث الحسن بذلك فقال: رحمه الله صدق ونصح. (3)
وكان مالك كثيرا ما ينشد :
وخير أمور الدين ما كان سنة وشر الأمور المحدثات البدائع.
__________
(1) الاعتصام (1/60).
(2) الاعتصام (1/60).
(3) أخرجه ابن وضاح وغيره.(1/129)
وعن مقاتل بن حيان قال: أهل هذه الأهواء آفة أمة محمد $ أنهم يذكرون النبي $ وأهل بيته فيتصيدون بهذا الذكر الحسن عند الجهال من الناس فيقذفون بهم في المهالك، فما أشبههم بمن يسقي الصبر باسم العسل ومن يسقي السهم القاتل باسم الترياق! فأبصرهم فإنك إن لا تكن أصبحت في بحر الماء فقد أصبحت في بحر الأهواء الذي هو أعمق غورا ، وأشد اضطرابا ، وأكثر صواعق ، وأبعد مذهبا من البحر ، وما فيه ففلك مطيتك التي تقطع بها سفر الضلال اتباع السنة. (1)
وعن ابن المبارك قال: أعلم أي أخي! إن الموت كرامة لكل مسلم لقي الله على السنة، فإنا لله وإنا إليه راجعون، فإلى الله نشكو وحشتنا، وذهاب الإخوان، وقلة الأعوان، وظهور البدع، وإلى الله نشكو عظيم ما حل بهذه الأمة من ذهاب العلماء وأهل السنة وظهور البدع. (2)
وكان إبراهيم التيمي يقول: اللهم اعصمني بدينك، وبسنة نبيك من الاختلاف في الحق، ومن اتباع الهوى، ومن سبل الضلالة، ومن شبهات الأمور ، ومن الزيغ والخصومات.
وعن عمر بن عبد العزيز رحمه الله كان يكتب في كتبه : إني أحذركم ما مالت إليه الأهواء والزيغ البعيدة.
ولما بايعه الناس صعد على المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس! إنه ليس بعد نبيكم نبي ولا بعد كتابكم كتاب ولا بعد سنتكم سنة ولا بعد أمتكم أمة ألا وإن الحلال ما أحل الله في كتابه على لسان نبيه حلال إلى يوم القيامة ألا وإن الحرام ما حرم الله في كتابه على لسان نبيه حرام إلى يوم القيامة ألا وإني لست بمبتدع ولكني متبع ألا وإني لست بقاض ولكني منفذ ألا وإني لست بخازن ولكني أضع حيث أمرت ألا وإني لست بخيركم ولكني أثقلكم حملا ألا ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ثم نزل.
وفيه: قال عروة بن أذينة عن أذينة يرثيه بها :
وأحييت في الإسلام علما وسنة ولم تبتدع حكما من الحكم أسحما
__________
(1) الاعتصام (1/60).
(2) الاعتصام (1/60).(1/130)
ففي كل يوم كنت تهدم بدعة وتبني لنا من سنة ما تهدما
ومن كلامه الذي عني به ويحفظه العلماء وكان يعجب مالكا جدا وهو أن قال: سن رسول الله $ وولاة الأمر من بعده سننا الأخذ بها تصديق لكتاب الله واستكمال لطاعة الله وقوة على دين الله ليس لأحد تغييرها ولا تبديلها ولا النظر في شيء خالفه من عمل بها مهتد ومن انتصر بها منصور ومن خالفها (1)ع غير سبيل المؤمنين وولاه الله ما تولى واصلاه جهنم وساءت مصيرا، وبحق وكان يعجبهم فإنه كلام مختصر جمع أصولا حسنة من السنة: منها ما نحن فيه لأن قوله: ليس لأحد تغييرها ولا تبديلها ولا النظر في شيء خالفها قطع لمادة الابتداع جملة . (1)
وقوله: من عمل بها مهتد ـ إلى آخر الكلام ـ مدح لمتبع السنة وذم لمن خالفها بالدليل الدال على ذلك وهو قول الله سبحانه وتعالى: { ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا } ومنها ما سنه ولاة الأمر من بعد النبي $ فهو سنة لا بدعة فيه البتة وإن لم يعلم في كتاب الله ولا سنة نبيه $ نص عليه على الخصوص فقد جاء ما يدل عليه في الجملة وذلك نص حديث العرباض بن سارية > حيث قال فيه: [فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين والمهديين تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور ] فقرن عليه السلام ـ كما ترى ـ سنة الخلفاء الراشدين بسنته وإن من اتباع سنته اتباع سنتهم وإن المحدثات خلاف ذلك ليست منها في شيء لأنهم رضي الله عنهم فيما سنوه إما متبعون لسنة نبيهم عليه السلام نفسها وإما متبعون لما فهموا من سنته $ في الجملة والتفصيل على وجه يخفى على غيرهم مثله لا زائد على ذلك .
وقال ذو النون المصري: من علامة حب الله متابعة حبيب الله $ في أخلاقه وأفعاله وأمره وسنته.
__________
(1) الاعتصام (1/60).(1/131)
وقال: إنما دخل الفساد على الخلق من ستة أشياء الأول: ضعف النية بعمل الآخرة والثاني: صارت أبدانهم مهيئة لشهواتهم والثالث: غلبهم طول الأمل مع قصر الأجل والرابع: آثروا رضاء المخلوقين على رضاء الله والخامس: اتبعوا أهواءهم ونبذوا سنة نبيهم $ والسادس: جعلوا زلات السلف حجة لأنفسهم ودفنوا أكثر مناقبهم.
وقال لرجل أوصاه: ليكن آثر الأشياء عندك وأحبها إليك أحكام ما افترض الله عليك واتقاء ما نهاك عنه فإن ما تعبدك الله به خير لك مما تختاره لنفسك من أعمال البر التي تجب عليك وأنت ترى أنها أبلغ لك فيما تريد كالذي يؤدب نفسه بالفقر والتقلل وما أشبه ذلك وإنما للعبد أن يراعي أبدا ما وجب عليه من فرض يحكمه على تمام حدوده وينظر إلى ما نهي عنه فيتقيه على أحكام ما ينبغي، فإن الذي قطع العباد عن ربهم وقطعهم عن أن يذوقوا حلاوة الإيمان وأن يبلغوا حقائق الصدق وحجب قلوبهم عن النظر إلى الآخرة تهاونهم بأحكام ما فرض عليهم في قلوبهم وأسماعهم وأبصارهم وألسنتهم وأيديهم وأرجلهم وبطونهم وفروجهم ولو وقفوا على هذه الأشياء وأحكموها لأدخل عليهم البر إدخالا تعجز أبدانهم وقلوبهم عن حمل ما رزقهم الله من حسن معونته وفوائد كرامته ولكن أكثر القراء والنساك حقروا محقرات الذنوب وتهانوا بالقليل مما هم فيه من العيوب فحرموا ثواب لذة الصادقين في العاجل.
وقال بشر الحافي: رأيت النبي $ في المنام فقال لي: يا بشر! تدري لم رفعك الله بين أقرانك؟ قلت: لا يا رسول الله قال: لاتباعك سنتي وحرمتك للصالحين ونصيحتك لإخوانك ومحبتك لأصحابي وأهل بيتي هو الذي بلغك منازل الأبرار وقال يحيى بن معاذ الرازي: اختلاف الناس كلهم يرجع إلى ثلاثة أصول فلكل واحد منها ضد فمن سقط عنه وقع في ضده: التوحيد وضده الشرك والسنة وضدها البدعة والطاعة وضدها المعصية.(1/132)
وقال أبو بكر الدقاق وكان من أقران الجنيد: كنت مارا في تيه بني إسرائيل فخطر ببالي أن علم الحقيقة مباين لعلم الشريعة فهتف بي هاتف: كل حقيقة لا تتبعها الشريعة فهي كفر.
وقد سبق قول أبو علي الحسن بن علي الجوزجاني: من علامات السعادة على العبد تيسير الطاعة عليه وموافقة السنة في أفعاله وصحبته لأهل الصلاح وحسن أخلاقه مع الإخوان وبذل معروفه للخلق واهتمامه للمسلمين ومراعاته لأوقاته.
وسئل كيف الطريق إلى الله؟ فقال: الطرق إلى الله كثيرة وأوضح الطرق وأبعدها عن الشبه اتباع قولا وفعلا وعزما وعقدا ونية لأن الله يقول: { وإن تطيعوه تهتدوا } فقيل له: كيف الطريق إلى السنة؟ فقال: مجانية البدع واتباع ما أجمع عليه الصدر الأول من علماء الإسلام والتباعد عن مجالس الكلام وأهله ولزوم طريقة الاقتداء .
وقال أبو بكر الترمذي: لم يجد أحد تمام الهمة بأوصافها إلا أهل المحبة وإنما أخذوا ذلك بإتباع السنة ومجانية البدعة فإن محمد $ كان أعلى الخلق كلهم همة وأقربهم زلفى.
وقال أبو الحسن الوراق: لا يصل العبد إلى الله إلا بالله وبموافقة حبيبه $ في شرائعه ومن جعل الطريق إلى الوصول في غير الاقتداء يضل من حيث أنه مهتد وقال: الصدق استقامة الطريق في الدين واتباع السنة في الشرع، وقال: علامة محبة الله متابعة حبيبه $.
ومثله عن إبراهيم القمار قال: علامة محبة الله إيثار طاعته ومتابعة نبيه.
وقال أبو محمد بن عبد الوهاب الثقفي: لا يقبل الله من الأعمال إلا ما كان صواباً، ومن صوابها إلا ما كان خالصاً ومن خالصها إلا ما وافق السنة.
وقال أبو بكر بن سعدان وهو من أصحاب الجنيد وغيره: الاعتصام بالله هو الامتناع من الغفلة والمعاصي والبدع والضلالات.(1/133)
وقال أبو عمر الزجاجي وهو من أصحاب الجنيد والثوري وغيرهما: كان الناس في الجاهلية يتبعون ما تستحسنه عقولهم وطبائعهم فجاء النبي $ فردهم إلى الشريعة والإتباع فالعقل الصحيح الذي يستحسن ما يستحسنه الشرع ويستقبح ما يستقبحه.
وقيل لإسماعيل بن محمد السلمي جد أبي عبد الرحمن السلمي ولقي الجنيد وغيره: ما الذي لا بد للعبد منه؟ فقال: ملازمة العبودية على السنة ودوام المراقبة.
وقال أبو عثمان المغربي التونسي: هي الوقوف مع الحدود لا يقصر فيها ولا يتعداها قال الله تعالى: ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه.
وقال أبو عثمان الجبري: الصحبة مع الله تعالى بحسن الأدب ودوام الهيبة والمراقبة والصحبة مع رسول الله $ بإتباع سنته ولزوم ظاهر العلم والصحبة مع أولياء الله بالاحترام والخدمة إلى آخر ما قال.
ولما تغير عليه الحال مزق ابنه أبو بكر قميصاً على نفسه ففتح أبو عثمان عينيه وقال خلاف السنة يا بني في الظاهر علامة رياء في الباطن.
وقال: من أمّر السنة على نفسه قولا وفعلا نطق بالحكمة ومن أمر الهوى على نفسه قولا وفعلا نطق بالبدعة قال الله تعالى: وإن تطيعوه تهتدوا.
وقال أبو الحسين النوري: من رأيته يدعي مع الله حالة تخرجه عن حد العلم الشرعي فلا تقربن منه.
وقال محمد بن الفضل البلخي: ذهاب الإسلام من أربعة: لا يعملون بما يعلمون ويعملون بما لا يعلمون ولا يتعلمون ويمنعون الناس من التعلم
هذا ما قال وهو وصف صوفيتنا اليوم عياذا بالله
وقال: أعرفهم بالله أشدهم مجاهدة في أوامره وأتبعهم لسنة نبيه.
وقال شاة الكرماني: من غض بصره عن المحارم وأمسك نفسه عن الشبهات وعمر باطنه بدوام المراقبة وظاهره بإتباع السنة وعود نفسه أكل الحلال لم تخطىء له فراسه.
وقال أبو سعيد الحراز: كل باطن يخالفه ظاهر فهو باطل.
وقال بندار بن الحسين: صحبة أهل البدع تورث الإعراض عن الحق.(1/134)
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "والترك الراتب سنة كما أن الفعل الراتب سنة بخلاف ما كان تركه لعدم مقتضٍ أو فوات شرط أو وجود مانع وحدث بعده من المقتضيات والشروط وزوال المانع ما دلت الشريعة على فعله حينئذٍ كجمع القرآن في المصحف وجمع الناس في التراويح على إمامٍ واحدٍ وتعلم العربية وأسماء النقلة للعلم وغير ذلك مما يحتاج إليه في الدين بحيث لا تتم الواجبات أو المستحبات الشرعية إلا به، وإنما تركه الرسول $ لفوات شرطه أو وجود مانع ، فأما ما تركه من جنس العبادات مع أنه لو كان مشروعاً لفعله أو أذن فيه ولفعله الخلفاء بعده والصحابة فيجب القطع بأن فعله بدعة وضلالة ويمتنع القياس في مثله ... وهو مثل قياس صلاة العيدين والاستسقاء والكسوف على الصلوات الخمس في أن يجعل لها أذاناً وإقامة كما فعله المروانية في العيدين"اهـ. (1)
وقال أيضاً: "وما أعرض عنه ولم يفعله مع قيام السبب المقتضي لم يكن عبادة ولا مستحباً"اهـ. (2)
وقال الشاطبي رحمه الله تعالى: "إن سكوت الشارع عن الحكم في مسألةٍ ما أو تركه لأمرٍ على ضربين:
أحدهما: أن يسكت عنه أو يتركه لأنه لا داعية له تقتضيه و لا موجب يقرر لأجله و لا وقع سبب تقريره كالنوازل الحادثة بعد وفاة النبي $ فإنها لم تكن موجودة ثم سكت عنها مع وجودها وإنما حدثت بعد ذلك فاحتاج أهل الشريعة إلى النظر فيها وإجرائها على ما تبين في الكليات التي كمل بها الدين، وإلى هذا الضرب يرجع جميع ما نظر فيه السلف الصالح مما لم يسنه الرسول $ على الخصوص مما هو معقول المعنى كتضمين الصناع ومسألة الحرام والجد مع الإخوة وعول الفرائض ومنه جمع المصحف ثم تدوين الشرائع وما أشبه ذلك مما لم يحتج في زمانه $ إلى تقريره ...
__________
(1) مجموع الفتاوى (26/172) .
(2) مجموع الفتاوى (27/422) .(1/135)
والضرب الثاني: أن يسكت الشارع عن الحكم الخاص أو يترك أمراً ما من الأمور وموجبه المقتضي له قائمٌ وسببه في زمان الوحي وفيما بعده موجود ثابت إلا أنه لم يحدد فيه أمر زائد على ما كان من الحكم العام في أمثاله ولا ينقص منه لأنه لما كان المعنى الموجب لشرعية الحكم العقلي الخاص موجوداً ... كان صريحاً في أن الزائد على ما ثبت هنالك بدعة زائدة ومخالفة مقصد الشارع إذ فهم من مقصده الوقوف عند ما حد هنالك لا الزيادة عليه ولا النقصان منه"اهـ. (1)
فمما تقدم يتبين أن ما تركه الرسول $ مع وجود المقتضي لفعله في عصره وزوال المانع فهو سنة، كما أن فعله بدعة، أما إذا تركه لأن المقتضي لفعله لم يكن موجوداً في عصره، أو كان موجوداً، ولكن وجد مانع فليس من هذا الباب، ونزيد هذه القاعدة بياناً بالأمثلة التالية:
المثال الأول لما كان مقتضاه موجوداً ولكن وجد مانع: (صلاة التراويح) فإن الرسول $ فعلها ثم تركها إلى أن مات وكان المقتضي لفعلها قائماً في وقته $ ولكن وجد مانع وهو خشيته $ أن تفرض ، وهذا المانع زال بموته ، ففعلها بعد موته ليس بدعة.
المثال الثاني لما كان مقتضاه غير موجود في عصره $ ووجد بعده: (جمع القرآن الكريم) فهذا لم يكن المقتضي له موجوداً في عصره $ فإن القرآن كان ينزل عليه منجّماً بحسب الحوادث، وإنما وجد المقتضي لجمعه في عهد أبي بكرٍ > لما استحرّ القتل بالقرّاء يوم اليمامة فجمعه رضي الله عنه بموافقة جميع الصحابة.
المثال الثالث لما كان مقتضاه موجوداً في عصره $ ولم يوجد مانع منه: (الأذان للعيدين) فهذا كان سببه قائماً في عصره ولم يوجد مانع من تشريعه ومع ذلك لم يشرعه ففعله بدعة.
فمما سبق يتبين معنى هذه القاعدة والفرق بين البدع التي أحدثت بعد النبي $ وبين غيرها مما أحدث بعده وليس ببدعة ، وبعد ذلك يقال:
__________
(1) كتاب الاعتصام للشاطبي (1/466).(1/136)
مما لاشك فيه أن وضع خطٍ أو علامةٍ ليعلم من أراد أن يطوف حول البيت بداية الشوط ونهايته كان مقتضاه موجوداً في عهد النبي $ والصحابة بعده ولم يوجد مانع من وضعه إذ إن البيت لم يزل معموراً بالطائفين في وقتهم وبعده وكلهم بحاجةٍ إلى أن يعلموا بداية طوافهم ونهايته والحرص في ذلك الزمان على براءة الذمة وأداء العبادة على وجهها أتم وأبلغ ومع ذلك لم يفعله النبي $ ولا الصحابة من بعده ولا التابعون والأئمة مما يدل على أن فعله غير مشروع بل المشروع إبقاء الأمر كما كان في عصر النبي $ ومضى عليه الصحابة والتابعون والاكتفاء بالحجر الأسود .
قال الشيخ الألباني: ولا بد من كلمة قصيرة بين يدي هذا الفصل فأقول:
إن مما يجب العلم به أن معرفة البدع التي أدخلت في الدين أمر هام جدا ، لأنه لا يتم للمسلم التقرب إلى الله تعالى إلا باجتنابها ، ولا يمكن ذلك إلا بمعرفة مفرداتها إذا كان لا يعرف قواعدها وأصولها ، وإلا وقع في البدعة وهو لا يشعر ، فهي من باب " ما لا يقوم الواجب إلا به فهو واجب " كما يقول علماء الأصول رحمهم الله تعالى . ومثل ذلك معرفة الشرك وأنواعه ، فإن من لا يعرف ذلك وقع فيه ، كما هو مشاهد من كثير من المسلمين الذين يتقربون إلى الله بما هو شرك كالنذر للأولياء والصالحين والحلف بهم والطواف بقبورهم ، وبناء المساجد عليها ، وغير ذلك مما هو معلوم شركه عند أهل العلم ، ولذلك فلا يكفي في التعبد الاقتصار على معرفة السنة فقط ، بل لا بد من معرفة ما يناقضها من البدع ، كما لا يكفي في الإيمان التوحيد ، دون معرفة ما يناقضه من الشركيات ، وإلى هذه الحقيقة أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله :(1/137)
" من قال : لا إله إلا الله ، وكفر بما يعبد من دون الله ، حرم ماله ودمه وحسابه على الله ". رواه مسلم ، فلم يكتف عليه السلام بالتوحيد ، بل ضم إليه الكفر بما سواه ، وذلك يستلزم معرفة الكفر ، وإلا وقع وهو لا يشعر ، وكذلك القول في السنة والبدعة ولا فرق ، ذلك لأن الإسلام قام على أصلين عظيمين :
أن لا نعبد إلا الله، وأن لا نعبده إلا بما شرع الله، فمن أخل بأحدهما فقد أخل بالآخر ، ولم يعبد الله تبارك وتعالى .
وتحقيق القول في هذين الأصلين تجده مبسوطا في كتب شيخي الإسلام ابن تيمية وابن القيم رحمهما الله تعالى .
فثبت مما تقدم أن معرفة البدع أمر لا بد منه، لتسلم عبادة المؤمن من البدعة التي تنافي التعبد الخالص لله تعالى، فالبدع من الشر الذي يجب معرفته لا لإتيانه ، بل لاجتنابه على حد قول الشاعر :
عرفت الشر لا للشر لكن لتوقيه
ومن لا يعرف الشر من الخير يقع فيه
وهذا المعنى مستقى من السنة ، فقد قال حذيفة بن اليمان >: كان الناس يسألون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني، فقلت: يا رسول الله إنا كنا في جاهلية وشر، فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير شر؟ قال: "نعم"، فقلت: هل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: "نعم، وفيه دخن"، قلت: وما دخنه؟ قال: "قوم يستنون بغير سنتي ويهدون بغير هديي ، تعرف منهم وتنكر " ، فقلت : هل بعد ذلك الخير من شر ؟ قال: "نعم دعاة على أبواب جهنم ، من أجابهم إليها قذفوه فيها " .
فقلت : يا رسول الله صفهم لنا. قال: "نعم، قوم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا. . . الحديث" . أخرجه البخاري ومسلم .(1/138)
قلت : ولهذا كان من الضروري جدا تنبيه المسلمين على البدع التي دخلت في الدين وليس الأمر كما يتوهم البعض : أنه يكفي تعريفهم بالتوحيد والسنة فقط ، ولا ينبغي التعرض لبيان الشركيات والبدعيات ، بل يسكت عن ذلك وهذا نظر قاصر ناتج عن قلة المعرفة والعلم بحقيقة التوحيد الذي يباين الشرك ، والسنة التي تباين البدعة ، وهو في الوقت نفسه يدل على جهل هذا البعض بأن البدعة قد يقع فيها حتى الرجل العالم ، وذلك لأن أسباب البدعة كثيرة جدا لا مجال لذكرها الآن ، ولكن أذكر سببا واحدا منها ، وأضرب عليه مثلا ، فمن أسباب الابتداع في الدين الأحاديث الضعيفة والموضوعة ، فقد يخفى على بعض أهل العلم شيء منها ويظنها من الأحاديث الصحيحة فيعمل بها، ويتقرب إلى الله تعالى ، ثم يقلده في ذلك الطلبة والعامة فتصير سنة متبعة . (1)
ffffff
المبحث الثالث:
أهمية وثمرة الاتباع .
للإتباع ثمرة عظيمة وفائدة جليلة ألا وهي محبة الله سبحانه وتعالى .
قال الله تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31) ً". (2)
قال الشنقيطي: قوله- قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ ً"، صرح تعالى في هذه الآية الكريمة : أن اتباع نبيه موجب لمحبته جلّ وعلا ذلك المتبع ، وذلك يدل على أن طاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم - هي عين طاعته تعالى ، وصرح بهذا المدلول في قوله تعالى : مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ" (3) ، وقال تعالى : وَمَا ءاتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُواْ" .
__________
(1) الأجوبة النافعة.
(2) سورة آل عمران.
(3) سورة النساء آية (80) .(1/139)
وقال: يؤخذ من هذه الآية الكريمة أن علامة المحبة الصادقة للَّه ورسوله $ هي اتباعه $، فالذي يخالفه ويدعي أنه يحبه فهو كاذب مفتر؛ إذ لو كان محبًا له لأطاعه، ومن المعلوم عند العامة أن المحبة تستجلب الطاعة، ومنه قول الشاعر: لو كان حبك صادقًا لأطعته إن المحب لمن يحب مطيع . (1)
وأن طاعة الرسول $ فيها الرفعة، وفيها مرافقة الأنبياء، والصديقين، والشهداء، والصالحين.
قال الله تعالى: وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا". (2)
وقال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّهِ". (3)
فجعل تعالى طاعة رسوله طاعته وقرن طاعته بطاعته ووعد على ذلك بجزيل الثواب وأوعد على مخالفته بسوء العقاب وأوجب امتثال أمره واجتناب نهيه.
قال المفسرون والأئمة: طاعة الرسول التزام سنته والتسليم لما جاء به. (4)
فنجاة المرء لا تكون ولا تتحصل في الدنيا والآخرة إلا بإتباع هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى" قيل: ومن يأبى يا رسول الله؟ قال: "من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى". (5)
قوله: إلا من أبى: أي امتنع عن قبول الدعوة، أو عن امتثال الأمر، فإن قلت العاصي يدخل الجنة أيضاً إذ لا يبقى مخلداً في النار، قلت: يعني لا يدخل في
أول الحال، أو المراد بالإباء الامتناع عن الإسلام. (6)
__________
(1) أضواء البيان .
(2) سورة النساء آية (69).
(3) سورة النساء آية (64).
(4) الشفا (2/6).
(5) أخرجه البخاري برقم (6851) .
(6) عمدة القاري (25/27).(1/140)
وقال الطيبي: ومن أبى عطف على محذوف، أي عرفنا الذين يدخلون الجنة والذي أبى لا نعرفه، وكان من حق الجواب أن يقال من عصاني، فعدل إلى ما ذكره تنبيهاً به على أنهم ما عرفوا ذاك ولا هذا، إذ التقدير من أطاعني وتمسك بالكتاب والسنة دخل الجنة، ومن اتبع هواه وزل عن الصواب وخل عن الطريق المستقيم دخل النار فوضع أبى موضعه وضعاً للسبب موضع المسبب. (1)
وقال - صلى الله عليه وسلم - : "وجعل الذلة والصغار على من خالف أمري". (2)
هذا يدل على أن العزة والرفعة في الدنيا والآخرة بمتابعة أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - لامتثال متابعة أمر الله، قال تعالى: مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ" (3)
وقال تعالى: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ" (4) ، وقال تعالى: +مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا". (5)
وقال أبو إسحاق الرقاشي: علامة محبة الله إيثار طاعته ومتابعة نبيه اهـ ودليله قوله تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31) ً". (6)
وقال أبو محمد عبدالله بن منازل: لم يضيع أحد فريضة من الفرائض إلا ابتلاه الله بتضييع السنن ولم يبتل بتضييع السنن أحد إلا يوشك أن يبتلي بالبدع. (7)
واعلم أخي رعاك الله أن طريق الجنة واحد وهو اتباع المصطفى - صلى الله عليه وسلم - ، وباقي الطرق لا تؤدي إليها، والخير كل الخير في اتباع من سلف، والشر كل الشر في اتباع من خلف.
__________
(1) فيض القدير .
(2) رواه أحمد والطبراني وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (2831).
(3) سورة النساء آية (80) .
(4) سورة المنافقون آية (8) .
(5) سورة فاطر آية (10) .
(6) سورة آل عمران.
(7) الاعتصام (1/68) .(1/141)
قال الشيخ عبدالمحسن العباد (1) : واتِّباع سنَّة الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الأخذ بما دلَّ عليه الكتاب والسنَّة كما أنَّه لازمٌ في الأمور العقدية بقوله - صلى الله عليه وسلم - : ((فإنَّه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنَّتي وسنَّة الخلفاء المهديين الراشدين)) الحديث، فهو لازمٌ في الأمور الفرعية التي يسوغ فيها الاجتهاد عند ظهور الدليل، وقد أوصى العلماء من سلف هذه الأمة ـ ومنهم الأئمَّة الأربعة أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد ـ بالأخذ بما دلَّ عليه الدليل، وترك أقوالهم التي قالوها إذا جاء حديثٌ صحيح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بخلافها، وقد اشتهر عن الإمام مالك قوله: ((كلٌّ يؤخذ من قوله ويُردُّ إلاَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ))، وقال الإمام الشافعي رحمه الله: ((أجمع الناسُ على أنَّ من استبانت له سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يكن له أن يَدَعها لقول أحد)) الروح لابن القيم (ص:395 ـ 396).
وقال ابن القيم قبل ذكر هذا الأثر بقليل: ((فمَن عرض أقوال العلماء على النصوص ووزَنَها بها وخالف منها ما خالف النصَّ لم يُهدِر أقوالَهم ولَم يهضِم جانبهم، بل اقتدى بهم؛ فإنَّهم كلَّهم أمروا بذلك، فمتَّبعُهم حقًّا مَن امتثل ما أوصوا به لا مَن خالفهم)).اهـ.
ffffff
المبحث الخامس:
محبة النبي - صلى الله عليه وسلم -
محبة النبي - صلى الله عليه وسلم - بإتباعه، لا بالقول فقط، كما يدعي البعض إتباع المصطفى $ وهو في الحقيقة يخالفه في عمله بل وفي اعتقاده.
__________
(1) "الحث على اتِّباع السنَّة والتحذير من البدع وبيان خطرها (ص15).(1/142)
قال الله تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ". (1) بيّن الله سبحانه وتعالى في هذه الآية أن المحبة هي الإتباع ، فالعبادات توقيفية ولا يحق لنا أن نعبد الله تعالى إلا بما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم - من ربه وبما سَنَّهُ لنا، وبالكيفيات التي دلنا عليها ، حيث قال - صلى الله عليه وسلم - كما في حديث عثمان > عن وضوئه - صلى الله عليه وسلم - : "من توضأ نحو وضوئي هذا ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه غفر له ما تقدم من ذنبه"، وقال: "صلوا كما رأيتموني أصلي".
وقال: "خذوا عني مناسككم"، وهكذا في كل العبادات .
__________
(1) آل عمران الآية (31) .(1/143)
قال ابن رجب الحنبلي: وهل الدين إلا الحب والبغض، قال تعالى قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله، آل عمران فهذا يدل على أن محبة ما يكرهه الله وبغض ما يحبه متابعة للهوى والموالاة على ذلك، والمعاداة عليه من الشرك الخفي ويدل على ذلك قوله قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله، آل عمران، فجعل الله علامة الصدق في محبته إتباع رسوله فدل على أن المحبة لا تتم بدون الطاعة والموافقة، قال الحسن رحمه الله: قال أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : يا رسول الله إنا نحب ربنا حباً شديداً فأحب الله أن يجعل لحبه علماً، فأنزل الله هذه الآية: قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله آل عمران، ومن هنا قال الحسن: أعلم أنك لن تحب الله حتى تحب طاعته، وسئل ذو النون المصري متى أحب ربي، قال: إذا كان ما يبغضه عندك أمر من الصبر، وقال بشر بن السري: ليس من أعلام الحب أن تحب ما يبغضه حبيبك، قال أبو يعقوب النهرجوري: كل من ادعى محبة الله عز وجل ولم يوافق الله في أمره فدعواه باطل، وقال رويم: المحبة الموافقة في كل الأحوال، وقال يحيى بن معاذ: ليس بصادق من ادعى محبة الله ولم يحفظ حدوده، وعن بعض السلف قال: قرأت في بعض الكتب السالفة من أحب الله لم يكن عنده شيء آثر من مرضاته، ومن أحب الدنيا لم يكن عنده شيء آثر من هوى نفسه، وفي السنن عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من أعطى لله ومنع لله، وأحب لله وأبغض لله فقد استكمل الإيمان، ومعنى هذا أن كل حركات القلب والجوارح إذا كانت كلها لله فقد كمل إيمان العبد بذلك باطناً وظاهراً، ويلزم من صلاح حركات القلب صلاح حركات الجوارح، فإذا كان القلب صالحا ليس فيه إلا إرادة الله وإرادة ما يريده لم تنبعث الجوارح إلا فيما يريده الله فسارعت إلى ما فيه رضاه، وكفت عما يكرهه، وعما يخشى أن يكون مما يكرهه، وإن لم يتيقن ذلك، قال الحسن >: ما ضربت ببصري، ولا نطقت بلساني، ولا بطشت(1/144)
بيدي، ولا نهضت على قدمي حتى أنظر أعلى طاعة أو على معصية، فإن كانت طاعة تقدمت، وإن كانت معصية تأخرت، وقال محمد بن الفضل البلخي: ما خطوت منذ أربعين سنة خطوة لغير الله عز وجل، وقيل لداود الطائي: لو تنحيت من الظل إلى الشمس، فقال: هذه خطي لا أدري كيف تكتب، فهؤلاء القوم لما صلحت قلوبهم فلم يبق فيها إرادة لغير الله، صلحت جوارحهم فلم تتحرك إلا لله عز وجل وبما فيه مرضاته، والله أعلم.اهـ. (1)
وقال الآمدي: ووجه الاستدلال به - أي بهذه الآية قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ"- أنه جعل المتابعة له لازمة من محبة الله الواجبة، فلو لم تكن المتابعة له لازمة لزم من عدمها عدم المحبة الواجبة، وذلك حرام بالإجماع .
وأيضا قوله تعالى لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا". (2) ووجه الاحتجاج به أنه جعل التأسي بالنبي عليه السلام من لوازم رجاء الله تعالى واليوم الآخر، ويلزم من عدم التأسي عدم الملزوم وهو الرجاء لله واليوم الآخر، وذلك كفر والمتابعة والتأسي في الفعل على ما بيناه في المقدمة هو أن يفعل مثل ما فعل على الوجه الذي فعل من أجل أنه فعل، وأما الإجماع فهو أن الصحابة كانوا مجمعين على الرجوع إلى أفعاله كرجوعهم إلى تزويجه لميمونة وهو حرام وفي تقبيله عليه السلام للحجر الأسود وجواز تقبيله وهو صائم إلى غير ذلك من الوقائع الكثيرة التي لا تحصى.اهـ. (3)
فالمحبة تكون بالإتباع والنصرة، وليس بالكلام فقط كما هي طبيعة المنافقين، فتكون نتيجة الإتباع هي المحبة من الله تعالى وغفران الذنوب.
__________
(1) جامع العلوم والحكم (1/74-76).
(2) سورة الأحزاب الآية (21) .
(3) الإحكام في أصول الأحكام لعلي بن محمد الآمدي أبو الحسن (1/242- 243).(1/145)
ومن رحمة الله سبحانه وتعالى بعبده أن جعله مع من أحب ومن صاحب من الصالحين في الجنة بإذنه ومنّه وكرمه سبحانه وتعالى.
فعن أنس عن النبي $ قال: "ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار". (1)
وعن أبي وائل عن عبد الله قال: جاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "يا رسول الله كيف ترى في رجل أحب قوما ولما يلحق بهم؟ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : المرء مع من أحب" . (2)
قال أنس: فما فرح المسلمون بشيء بعد الإسلام فرحهم بهذا الحديث، فأنا أحب النبي، وأبا بكر، وعمر، وأرجو أن يجعلني الله معهم وأن لم أعمل عملهم.
__________
(1) رواه البخاري برقم (16)، ومسلم برقم (67).
(2) رواه مسلم برقم (2640) .(1/146)
قال ابن تيمية: وهذا الحديث حق، فإن كون المحب مع المحبوب أمر فطرى لا ذلك وكونه معه هو على محبته إياه، فإن كانت المحبة متوسطة أو قريبا من ذلك كان معه بحسب ذلك، وإن كانت المحبة كاملة كان معه كذلك، والمحبة الكاملة تجب معها الموافقة للمحبوب في محابه إذا كان المحب قادرا عليها، فحيث تخلفت الموافقة مع القدرة يكون قد نقص من المحبة بقدر ذلك، وإن كانت قوما وحب الشيء وإرادته يستلزم بغض ضده وكراهته مع العلم بالتضاد، ولهذا قال تعالى: { لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } . (1) .اهـ. (2)
قال الحسن: لا تغتر بقولك: المرء مع من أحب، أن من أحب قوما اتبع آثارهم، ولن تلحق الأبرار حتى تتبع آثارهم، وتأخذ بهديهم، وتقتدي بسنتهم، وتمسي وتصبح وأنت على مناهجهم، حريصاً أن تكون منهم، وتسلك سبيلهم، وتأخذ طريقتهم، وإن كنت مقصراً في العمل، فإن ملاك الأمر أن تكون على استقامة. أما رأيت اليهود والنصارى وأهل الأهواء الردية يحبون أنبياءهم وليسوا معهم لأنهم خالفوهم في القول والعمل وسلكوا غير طريقهم فصار موردهم النار؟ نعوذ بالله من النار.
كان يونس بن عبيد ينشد :
فإنك من يعجبك لا تك مثله * إذا أنت لم تصنع كما كان يصنع
وجاء في الحديث: "ابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا".
__________
(1) سورة المجادلة آية (22).
(2) مجموع الفتاوى (10/752) .(1/147)
وعن أبي هريرة >، عن النبي $ أنه قال: "إن أناسا من أمتي يأتون بعدي يود أحدهم لو اشترى رؤيتي بأهله وماله". (1)
وفي رواية: "إن قوما يأتون من بعدي يود أحدهم أن يفتدي رؤيتي بأهله وماله". (2)
قوله: "إن أناساً من أمتي" أمة الإجابة، "يأتون بعدي" أي بعد موتي، "يود" أي يحب ويتمنى "أحدهم لو اشترى رؤيتي بأهله وماله" هذا من معجزاته إذ هو إخبار عن غيب وقع وقد وجد في كل عصر من يود ذلك ممن لا يحصى حتى، قال بعض الأكابر: لو حجب عني رسول اللّه $ طرفة عين ما عشت ذلك اليوم. (3)
نعم والله فنحن نود لو اشترينا رؤية النبي $ بأهلنا وأموالنا وبكل ما نملك.
ffffff
المبحث السادس.
حرص الصحابة الكرام على الاتباع وخوفهم من الابتداع:
كان السلف الصالح وفي مقدمتهم الصحابة رضوان الله عليهم أشد اتباعاً للنبي - صلى الله عليه وسلم - وكان يخافون من كل أمر يخالف أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أو لم يفعله هو ولا صحابته الكرام .
فعن هلال بن يساف قال: كنا مع سالم بن عبيد في غزاة فعطس رجل من القوم فقال السلام عليكم فقال سالم: السلام عليك وعلى أمك، فوجد الرجل في نفسه، فقال له سالم كأنك وجدت في نفسك، فقال: ما كنت أحب أن تذكر أمي بخير ولا بشر، فقال سالم : كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سير فعطس رجل من القوم فقال السلام عليك، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : عليك وعلى أمك إذا عطس أحدكم فليقل الحمد لله على كل حال أو قال الحمد لله رب العالمين وليقل له يرحمك الله وليقل هو يغفر الله لكم . (4)
وروى الحسن "أن عمران بن حصين أحرم من مصره فبلغ ذلك عمر فغضب، وقال يتسامع الناس أن رجلاً من أصحاب رسول الله@ أحرم من مصره". (5)
__________
(1) صحيح الجامع حديث رقم (2008).
(2) السلسلة الصحيحة رقم ( 3438 ).
(3) فيض القدير .
(4) موارد الظمآن (1/479)، والترمذي برقم (2740) .
(5) 2)) المغني على مختصر الخرقي (3/184) .(1/148)
وعن نافع: أن رجلا عطس عند عبد الله بن عمر رضي الله عنه فقال الحمد لله والسلام على رسول الله، فقال بن عمر: وأنا أقول الحمد لله والسلام على رسول الله ولكن ليس هكذا علمنا رسول الله $ إذا عطس أحدنا أن يقول الحمد لله على كل حال. (1)
وفي بعض الآثار يقول الله تعالى: "أنا العزيز فمن أراد العز فليطع العزيز".
قال الله تعالى : إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ" (2)
فالذلة والصغار يحصل بمخالفة أمر الله ورسوله.
وعَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ اَلْأَشَجِّ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ اَلْخَطَّابِ > قَالَ: "سَيَأْتِي قَوْمٌ يَأْخُذُونَكُمْ بِمُتَشَابِهِ اَلْقُرْآنِ فَخُذُوهُمْ بِالسُّنَنِ فَإِنَّ أَصْحَابَ اَلسُّنَنِ أَعْلَمُ بِكِتَابِ اَللَّهِ". (3)
وعَنْ صَدَقَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ اَلْخَطَّابِ كَانَ يَقُولُ: "إِنَّ أَصْحَابَ اَلرَّأْيِ أَعْدَاءَ اَلسُّنَنِ أَعْيَتْهُمْ أَنْ يَحْفَظُوهَا وَتَفَلَّتَ مِنْهُمْ أَنْ يَعُوهَا، وَاسْتَحْيَوْا حِينَ سُئِلُوا أَنْ يَقُولُوا: لَا نَعْلَمُ، فَعَارَضُوا اَلسُّنَنَ بِرَأْيِهِمْ". (4)
__________
(1) هذا حديث صحيح الإسناد . المستدرك على الصحيحين (4/295) .
(2) سورة الحجرات آية (13) .
(3) كتاب أصول السنة لابن زمنين (1ـ3).
(4) كتاب أصول السنة لابن زمنين (1ـ3).(1/149)
وعن عمر بن يحيى بن عمرو بن سلمة الهمداني، قال: حدثني أبي قال: كنا نجلس على باب عبد الله بن مسعود قبل صلاة الغداة، فإذا خرج مشينا معه إلى المسجد فجاءنا أبو موسى الأشعري، فقال: أخرج إليكم أبو عبد الرحمن بعد؟ قلنا: لا، فجلس معنا حتى خرج، فلما خرج قمنا إليه جميعا، فقال له أبو موسى: يا أبا عبد الرحمن إني رأيت في المسجد آنفا أمرا أنكرته ولم أر والحمد لله إلا خيرا، قال: فما هو؟ فقال: إن عشت فستراه، قال: رأيت في المسجد قوما حلقا جلوسا ينتظرون الصلاة في كل حلقة رجل وفي أيديهم حصى، فيقول: كبروا مائة فيكبرون مائة، فيقول: هللوا مائة فيهللون مائة، ويقول: سبحوا مائة فيسبحون مائة، قال: فماذا قلت لهم؟ قال: ما قلت لهم شيئا انتظار رأيك، قال: أفلا أمرتهم أن يعدوا سيئاتهم وضمنت لهم أن لا يضيع من حسناتهم شيء، ثم مضى ومضينا معه حتى أتى حلقة من تلك الحلق فوقف عليهم، فقال: ما هذا الذي أراكم تصنعون؟ قالوا: يا أبا عبد الرحمن حصى نعد به التكبير، والتهليل، والتسبيح، قال: فعدوا سيئاتكم، فأنا ضامن أن لا يضيع من حسناتكم شيء، ويحكم يا أمة محمد ما أسرع هلكتكم، هؤلاء صحابة نبيكم × متوافرون، وهذه ثيابه لم تبل وآنيته لم تكسر، والذي نفسي بيده إنكم لعلى ملة هي أهدى من ملة محمد، أو مفتتحو باب ضلالة، قالوا: والله يا أبا عبد الرحمن ما أردنا إلا الخير، قال: وكم من مريد للخير لن يصيبه، إن رسول الله $ حدثنا (فذكر الحديث)، وأيم الله ما أدري لعل أكثرهم منكم ثم تولى عنهم، فقال عمرو بن سلمة: فرأينا عامة أولئك الحلق يطاعنوننا يوم النهروان مع الخوارج .(1/150)
ويستفاد منه أن العبرة ليست بكثرة العبادة وإنما بكونها على السنة بعيدة عن البدعة وقد أشار إلى هذا ابن مسعود > بقوله أيضا اقتصاد في سنة خير من اجتهاد في بدعة . ومنها أن البدعة الصغيرة بريد إلى البدعة الكبيرة . (1)
وعَنْ يَحْيَى بْنِ أُسَيْدٍ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ أَرْسَلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ إِلَى أَقْوَامٍ خَرَجُوا فَقَالَ لَهُ: "إِنْ خَاصَمُوك بِالْقُرْآنِ فَخَاصِمهمْ بِالسُّنَّةِ". (2)
وخرج أبو داود وغيره عن معاذ بن جبل > أنه قال يوما: إن من ورائكم فتنا يكثر فيها المال ويفتح فيه القرآن حتى يأخذه المؤمن والمنافق والرجل والمرأة والصغير والكبير والعبد والحر فيوشك قائل أن يقول ما للناس لا يتبعوني وقد قرأت القرآن؟ ما هم بمتبعي حتى أبتدع لهم غيره وإياكم وما ابتدع فإن ما ابتدع ضلالة وأحذركم زيغة الحكيم فإن الشيطان قد يقول كلمة الضلالة على لسان الحكيم وقد يقول المنافق كلمة الحق.
قال الراوي: قلت لمعاذ: وما يدريني يرحمك الله إن الحكيم قد يقول كلمة ضلالة وإن المنافق قد يقول كلمة الحق؟ قال: بلى! اجتنب من كلام الحكيم غير المشتهرات التي يقال فيها: ما هذه؟ ولا يثنينك ذلك عنه فإنه لعله أن يراجع وتلق الحق إذا سمعته فإن على الحق نوراً.
وفي رواية مكان المشتهرات المشتبهات وفسر بأنه ما تشابه عليك من قول حتى يقال: ما أراد بهذه الكلمة؟ ويريد ـ والله أعلم ـ ما لم يشتمل ظاهره على مقتضى السنة حتى تنكره القلوب ويقول الناس: ما هذه؟ وذلك راجع إلى ما يحذر من زلة العالم حسبما يأتي بحول الله.
__________
(1) (صحيح) أخرجه الدارمي، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (5/11) .
(2) كتاب أصول السنة لابن زمنين (1ـ3).(1/151)
وقيل لإبراهيم بن أدهم: إن الله يقول في كتابه { ادعوني أستجب لكم } ونحن ندعوه منذ دهر فلا يستجيب لنا! فقال: ماتت قلوبكم في عشرة أشياء: أولها عرفتم الله فلم تؤدوا حقه، والثاني: قرأتم كتاب الله ولم تعملوا به، والثالث: ادعيتم حب رسول الله $ وتركتم سنته، والرابع: ادعيتم عداوة الشيطان ووافقتموه، والخامس: قلتم نحب الجنة وما تعملون لها. إلى آخر الحكاية.
ffffff
صور من الإتباع
ننقل لكم بعض المواقف والصور من اتباع الصحابة الكرام رضوان الله عليهم.
عن أنس بن مالك > :أنه رأى في يد رسول الله $ خاتما من ورق يوما واحداً، ثم إن الناس اصطنعوا الخواتيم من ورق ولبسوها، فطرح رسول الله $ خاتمه، فطرح الناس خواتيمهم". (1)
وعن أبي سعيد الخدري >، بينما رسول الله $ يصلي بأصحابه إذ خلع نعليه فوضعها عن يساره فخلع الناس نعالهم، فلما قضى رسول الله $ صلاته، قال: ما حملكم على إلقائكم نعالكم؟ قالوا: رأيناك ألقيت نعليك فألقينا نعالنا، قال: إن جبريل أتاني فأخبرني أن فيهما قذرا". (2)
وفي رواية عنه قال: بينما رسول الله $ يصلي بأصحابه إذ خلع نعليه فوضعهما عن يساره فلما رأى ذلك القوم ألقوا نعالهم فلما قضى رسول الله $ صلاته، قال: "ما حملكم على إلقائكم نعالكم؟" قالوا: رأيناك ألقيت نعليك فألقينا نعالنا، فقال رسول الله $: "إن جبريل أتاني فأخبرني أن فيهما قذرا إذا جاء أحدكم إلى المسجد فلينظر فإن رأى في نعليه قذرا أو أذى فليمسحه وليصل فيهما ". (3)
__________
(1) أخرجه البخاري برقم (5530)، وأخرجه مسلم في اللباس والزينة باب في طرح الخواتم رقم (2093).
(2) رواه أبو داود. السلسلة الصحيحة برقم (284).
(3) رواه أبو داود والدارمي، مشكاة المصابيح برقم (766).(1/152)
وعن شعيب عن أبيه عن جده أن امرأة أتت رسول الله $ ومعها ابنة لها وفي يد ابنتها مسكتان (أي سواران) غليظتان من ذهب فقال لها: أتعطين زكاة هذا؟ قالت: لا قال: أيسرك أن يسورك الله بهما يوم القيامة سوارين من نار؟ قال: فخلعتهما فألقتهما إلى النبي $ وقالت:هما لله عز ولرسوله (1)
وقال البخاري: حدثنا أحمد بن شبيب، حدثنا أبي عن يونس، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة < قالت: يرحم الله نساء المهاجرات الأول لما أنزل الله { وليضربن بخمرهن على جيوبهن } شققن مروطهن فاختمرن بها .
وقال أيضا: حدثنا أبو نعيم، حدثنا إبراهيم بن نافع، عن الحسن بن مسلم، عن صفية بنت شيبة، أن عائشة < كانت تقول: لما نزلت هذه الآية { وليضربن بخمرهن على جيوبهن } أخذن أزرهن فشققنها من قبل الحواشي فاختمرن بها.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا أحمد بن عبد الله بن يونس، حدثنا الزنجي بن خالد، حدثنا عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن صفية بنت شيبة قالت: بينا نحن عند عائشة قالت فذكرنا نساء قريش وفضلهن فقالت عائشة < إن لنساء قريش لفضلا وإني والله مارأيت أفضل من نساء الأنصار أشد تصديقا بكتاب الله ولا إيمانا بالتنزيل لقد أنزلت سورة النور { وليضربن بخمرهن على جيوبهن } انقلب إليهن رجالهن يتلون عليهن ما أنزل الله إليهم فيها ويتلو الرجل على امرأته وابنته وأخته وعلى كل ذي قرابته فما منهن امرأة إلا قامت إلى مرطها المرحل فاعتجرت به تصديقا وإيمانا بما أنزل الله من كتابه فأصبحن وراء رسول الله $ معتجرات كأن على رؤوسهن الغربان ورواه أبو داود من غير وجه عن صفية بنت شيبه به.
__________
(1) أخرجه أبو داود (1/244) والنسائي (1/343) وأبو عبيد في الأموال رقم (1260) وإسناده حسن وصححه ابن الملقن (65/1) وتضعيف ابن الجوزي له في [التحقيق) (6/197/1) مردود عليه. آداب الزفاف (1/184)(1/153)
وقال أبو داود : حدثنا محمد بن كثير أخبرنا سفيان، عن عاصم بن عبيد الله، عن عبيد مولى أبي رهم، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: لقيته امرأة وجد منها ريح الطيب ولذيلها إعصار فقال: يا أمة الجبار جئت من المسجد ؟ قالت: نعم قال لها: وله تطيبت؟ قالت: نعم قال: إني سمعت حبي أبا القاسم - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لا يقبل الله صلاة امرأة تطيبت لهذا المسجد حتى ترجع فتغتسل غسلها من الجنابة".
ورواه ابن ماجه، عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن سفيان هو ابن عيينة به، وروى الترمذي أيضاً من حديث موسى بن عبيدة، عن أيوب بن خالد، عن ميمونة بنت سعد، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "الرافلة في الزينة في غير أهلها كمثل ظلمة يوم القيامة لا نور لها"، ومن ذلك أيضا أنهن ينهين عن المشي في وسط الطريق لما فيه من التبرج.
قال أبو داود: حدثنا التغلبي، حدثنا عبد العزيز يعني ابن محمد، عن ابن أبي اليمان، عن شداد بن أبي عمرو بن حماس، عن أبيه، عن حمزة بن أبي أسيد الأنصاري، عن أبيه أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول وهو خارج من المسجد، وقد اختلط الرجال مع النساء في الطريق فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للنساء "استأخرن فإنه ليس لكن أن تحتضن الطريق عليكن بحافات الطريق"، فكانت المرأة تلصق بالجدار حتى إن ثوبها ليتعلق بالجدار من لصوقها به .
وقوله تعالى: { وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون } أي افعلوا ما أمركم به من هذه الصفات الجميلة والأخلاق الجليلة واتركوا ما كان عليه أهل الجاهلية من الأخلاق والصفات الرذيلة فإن الفلاح كل الفلاح في فعل ما أمر الله به ورسوله وترك ما نهيا عنه والله تعالى هو المستعان. (1)
__________
(1) تفسير ابن كثير (2/125)(1/154)
وقال الإمام أحمد : حدثنا خلف بن الوليد، حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن أبي ميسرة، عن عمر بن الخطاب، أنه قال: لما نزل تحريم الخمر قال : اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافياً، فنزلت الآية التي في البقرة { يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير } فدعي عمر فقرئت عليه، فقال: اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا فنزلت الآية التي في سورة النساء { يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى } فكان منادي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قال: حي على الصلاة نادى: لا يقربن الصلاة سكران فدعي عمر فقرئت عليه فقال : اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا فنزلت الآية التي في المائدة فدعي عمر فقرئت عليه فلما بلغ قول الله تعالى: { فهل أنتم منتهون } قال عمر : انتهينا انتهينا .
وقال الإمام أحمد: حدثنا يعلى، حدثنا محمد بن إسحاق، عن القعقاع بن حكيم، أن عبد الرحمن بن وعلة قال: سألت ابن عباس عن بيع الخمر فقال: كان لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - صديق من ثقيف أو من دوس فلقيه يوم الفتح براوية خمر يهديها إليه فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "يا فلان أما علمت أن الله حرمها ؟" فأقبل الرجل على غلامه فقال: اذهب فبعها فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "يا فلان بماذا أمرته ؟ فقال: أمرته أن يبيعها قال: إن الذي حرم شربها حرم بيعها" فأمر بها فأفرغت في البطحاء .
ورواه مسلم من طريق ابن وهب عن مالك عن زيد بن أسلم ومن طريق ابن وهب أيضا عن سليمان بن بلال عن يحيى بن سعيد كلاهما عن عبد الرحمن بن وعلة عن ابن عباس به ورواه النسائي عن قتيبة عن مالك به.(1/155)
قال الحافظ أبو يعلى الموصلي: حدثنا جعفر بن حميد الكوفي، حدثنا يعقوب القمي، عن عيسى بن جارية، عن جابر بن عبد الله قال: كان رجل يحمل الخمر من خيبر إلى المدينة فيبيعها من المسلمين فحمل منها بمال فقدم بها المدينة فلقيه رجل من المسلمين فقال يا فلان إن الخمر قد حرمت فوضعها حيث انتهى على تل وسجى عليها بأكسية ثم أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال يا رسول الله بلغني أن الخمر قد حرمت ؟ قال أجل "قال لي أن أردها على من ابتعتها منه ؟ قال لا يصلح ردها" قال : لي أن أهديها إلى من يكافئني منها ؟ قال "لا " قال : فإن فيها مالا ليتامى في حجري قال: "إذا أتانا مال البحرين فأتنا نعوض أيتامك من مالهم"، ثم نادى بالمدينة فقال رجل: يا رسول الله الأوعية ننتفع بها ؟ قال: "فحلوا أوكيتها" فانصبت حتى استقرت في بطن الوادي هذا حديث غريب
وقال الإمام أحمد : حدثنا وكيع حدثنا سفيان عن السدي عن أبي هبيرة وهو يحيى بن عباد الأنصاري عن أنس بن مالك أن أبا طلحة سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أيتام في حجره ورثوا خمرا فقال: "أهرقها" قال: أفلا نجعلها خلا ؟ قال "لا" .
ورواه مسلم، وأبو داود، والترمذي من حديث الثوري به نحوه.
فعلى العبد أن يحقق المتابعة لأن العمل لا يقبل إلا ما كان خالصاً صواباً.
جاء في كتاب شرح للبربهاري : قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لا عذر لأحد في ضلاله ركبها حسبها هدى، ولا في هدى تركه حسبه ضلاله، فقد بينت الأمور، وثبتت الحجة، وانقطع العذر، وذلك أن السنة والجماعة قد أحكما أمر الدين كله وتبين للناس، فعلى الناس الاتباع. (1)
قال ابن عثيمين: لا تحقق المتابعة إلا بأمور ستة:
1- الجنس 2- القدر 3- الهيئة 4- الزمان 5- والمكان 6- السبب.
وقال: كل شيء يتقرب به إلى الله لابد أن يكون له أصل من الكتاب والسنة.
__________
(1) شرح السنة (1/22).(1/156)
وقال نرجع إلى "فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي..." الحديث.اهـ. (1)
قال سفيان الثوري: إن استطعت أن لا تحك رأسك إلا بأثر فافعل.
وقال مكحول: السنة سنتان سنة فريضة وسنة غير فريضة، فالسنة الفريضة الأخذ بها فريضة، وتركها كفر ، والسنة غير الفريضة الأخذ بها فضيلة وتركها إلى غير حرج. (2)
ffffff
الفصل الثالث
التمسك بالكتاب والسنة
المبحث الأول:
لزوم الكتاب والسنة وإتباع آثار السلف .
الواجب على المسلم أن يعتصم بالكتاب والسنة، وأن يرجع إليهما في كل شؤون حياته.
قال الله تعالى: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103) ". (3)
قال ابن جرير الطبري رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية: يعني بذلك جل ثناؤه: وتعلقوا بأسباب الله جميعا يريد بذلك تعالى ذكره، وتمسكوا بدين الله الذي أمركم به وعهده الذي عهده إليكم في كتابه إليكم من الألفة والاجتماع على كلمة الحق والتسليم لأمر الله. (4)
وقال ابن كثير: أي بعهد الله, كما قال في الآية بعدها: ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُواْ إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنْ اللّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ". (5) أي بعهد وذمة, وقيل { بحبل من الله } يعني القرآن كما في حديث الحارث الأعور عن علي مرفوعاً في صفة القرآن "هو حبل الله المتين وصراطه المستقيم". (6)
__________
(1) من شريط حرمة شهر رجب .
(2) الاستذكار (2/57).
(3) سورة آل عمران.
(4) تفسير الطبري (3/378).
(5) سورة آل عمران آية (112) .
(6) تفسير ابن كثير (1/680).(1/157)
وقال تعالى: وَأَنْ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153) ". (1)
قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس رضي الله عنهما، في قوله: +ںwur تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ د&خ#خ7y™" وفي قوله: أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ". (2) ونحو هذا في القرآن, قال: أمر الله المؤمنين بالجماعة ونهاهم عن الاختلاف والتفرقة, وأخبرهم أنه إنما هلك من كان قبلهم بالمراء والخصومات في دين الله ونحو هذا, قاله مجاهد وغير واحد.
وقوله تعالى: nqمèخ7¨?$$sù وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ " إنما وحد سبيله لأن الحق واحد, ولهذا جمع السبل لتفرقها وتشعبها، كما قال تعالى: +اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ". (3) .اهـ. (4)
وعن أبي هريرة> قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "إن الله يرضى لكم ثلاثاً ويكره لكم ثلاثاً؛ يرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً، وأن تعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تتفرقوا، ويكره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال". (5)
__________
(1) سورة الأنعام.
(2) سورة الشورى آية (13) .
(3) سورة البقرة آية (257) .
(4) تفسير ابن كثير (2/589).
(5) أخرجه مسلم، وجاءت هذه الثلاثة المكروهة في حديث المغيرة عند البخاري، ومسلم.(1/158)
قال النووي: وأما الاعتصام بحبل الله فهو التمسك بعهده، وهو إتباع كتابه العزيز وحدوده، والتأدب بأدبه، والحبل يطلق على العهد، وعلى الأمان، وعلى الوصلة، وعلى السبب، وأصله من استعمال العرب الحبل في مثل هذه الأمور لاستمساكهم بالحبل عند شدائد أمورهم ويوصلون بها المتفرق، فاستعير إسم الحبل لهذه الأمور، وأما قوله - صلى الله عليه وسلم - ولا تفرقوا فهو أمر بلزوم جماعة المسلمين وتألف بعضهم ببعض، وهذه إحدى قواعد الإسلام، واعلم أن الثلاثة المرضية إحداها: أن يعبدوه، الثانية: أن لا يشركوا به شيئاً، الثالثة: أن يعتصموا بحبل الله ولا يتفرقوا.اهـ. (1)
وقال ابن قيم الجوزية: الاعتصام بحبل الله: هو المحافظة على طاعته مراقبا
لأمره، ويريد بمراقبة الأمر: القيام بالطاعة لأجل أن الله أمر بها وأحبها لا لمجرد العادة، أو لعلة باعثة سوى امتثال الأمر، كما قال طلق بن حبيب > في التقوى: هي العمل بطاعة الله، على نور من الله، ترجو ثواب الله، وترك معصية الله، على نور من الله، تخاف عقاب الله، وهذا هو الإيمان والاحتساب المشار إليه في كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - كقوله: من صام رمضان إيمانا واحتساباً، ومن قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له، فالصيام والقيام: هو الطاعة والإيمان مراقبة الأمر، وإخلاص الباعث: هو أن يكون الإيمان الآمر لا شيء سواه، والاحتساب رجاء ثواب الله، فالاعتصام بحبل الله يحمي من البدعة وآفات العمل والله أعلم.اهـ. (2)
وقال الإمام البربهاري: اعلم أن الإسلام هو السنة والسنة هي الإسلام، ولا يقوم أحدهما إلا بالآخر، فمن السنة لزوم الجماعة، ومن رغب غير الجماعة، وفارقها فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه وكان ضالا مضلا . (3)
__________
(1) شرح النووي على صحيح مسلم (12/10) .
(2) مدارج السالكين (1/461).
(3) شرح السنة (1/21).(1/159)
فعلى العبد أن يجعل من القرآن والسنة دستوراً لحياته، وأن يتحاكم في حال التنازع إلى الكتاب والسنة، والتحاكم والرجوع إليهما من صفات المؤمنين .
قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً". (1)
قال الشيخ السعدي رحمه الله: ثم أمر برد كل ما تنازع الناس فيه من أصول الدين وفروعه إلى الله وإلى الرسول، أي: إلى كتاب الله وسنة رسوله؛ فإن فيهما الفصل في جميع المسائل الخلافية، إما بصريحهما أو عمومهما؛ أو إيماء، أو تنبيه، أو مفهوم، أو عموم معنى يقاس عليه ما أشبهه، لأن كتاب الله وسنة رسوله عليهما بناء الدين، ولا يستقيم الإيمان إلا بهما.
فالرد إليهما شرط في الإيمان فلهذا قال: إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ" فدل ذلك على أن من لم يرد إليهما مسائل النزاع فليس بمؤمن حقيقة، بل مؤمن بالطاغوت، كما ذكر في الآية بعدها { ذَلِكَ } أي: الرد إلى الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً" فإن حكم الله ورسوله أحسن الأحكام وأعدلها وأصلحها للناس في أمر دينهم ودنياهم وعاقبتهم. (2)
فأُمرنا بالرجوع إلى الكتاب والسنة عند التنازع، كما أُمرنا بإتباع ما ورد فيه من تحليل وتحريم وأمر ونهي.
__________
(1) سورة النساء آية (59).
(2) تفسير السعدي (1/282).(1/160)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: قد أمرنا الله تعالى بإتباع ما أنزل إلينا من ربنا وبإتباع ما يأتي منه من الهدى وقد أنزل علينا الكتاب والحكمة كما قال تعالى: { واذكروا نعمة الله عليكم وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به } ، والحكمة من الهدى قال تعالى: { وان تطيعوه تهتدوا } ، والأمر بإتباع الكتاب والقرآن يوجب الأمر بإتباع الحكمة التي بعث بها الرسول وبإتباعه وطاعته مطلقاً . (1)
وعن أبي أيوب الأنصاري > قال: خرج علينا رسول الله × وهو مرعوب فقال: "أطيعوني ما كنت بين أظهركم، وعليكم بكتاب الله، أحِلوا حلاله وحرموا حرامه". (2)
قال المناوي: وبين قوله ما دمت أو كنت بين أظهركم المبادرة إلى امتثال أمره ونهيه من غير نظر فيه ولا عرضه على الكتاب، لأنه لا ينطق عن الهوى، ويخاطب كل قوم وشخص بما يليق بالحال والمكان والزمان، وأما بعده فيجب عند التعارض ونحوه على الصحيح ويراجع الكتاب وينظر في الترجيح، كما أشار إليه قوله (وعليكم بكتاب الله) أي ألزموه، ثم بين وجه لزومه على طريق الاستئناف بقوله (أحلوا حلاله وحرموا حرامه) يعني ما أحله افعلوه جازمين بحله، وما حرمه دعوه، ولا تقربوه، فكأنه يقول ما دمت بين أظهركم فعليكم بإتباع ما أقول وأفعل فإن الكتاب عليّ نزل، وأنا أعلم الخلق، وأما بعدي فألزموا الكتاب، فما أذن في فعله فخذوا به، وما نهى عنه فانتهوا به، وعلم من التقرير المار أن لفظ الظهر مقحم للتأكيد. (3)
__________
(1) مجموع الفتاوى (19/82) .
(2) قال الهيثمي: "رجاله ثقات موثقون وقال المنذري رجاله ثقات". فيض القدير، وقال الألباني: رواه الطبراني في الكبير ورواته ثقات، صحيح الترغيب (38)، والسلسلة الصحيحة برقم (1472)، وصحيح الجامع برقم (1034).
(3) فيض القدير .(1/161)
وعن أبي شريح الخزاعي > قال: خرج علينا رسول الله × فقال: "أليس تشهدون أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله؟" قالوا: بلى. قال: "إن هذا القرآن طرفه بيد الله، وطرفه بأيديكم، فتمسكوا به، فإنكم لن تضلوا ولن تهلكوا بعده أبداً". (1)
وفي رواية عن جبير بن مطعم >: "أبشروا فإن هذا القرآن طرفه بيد الله و طرفه بأيديكم فتمسكوا به فإنكم لن تهلكوا ولن تضلوا بعده أبدا". (2)
قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : "فإن هذا القرآن سبب" أي حبل يرتقى به.
قال ابن الأثير الجزري في "النهاية": أصله من السبب، وهو الحبل الذي يتوصل به إلى الماء، ثم استعير لكل ما يتوصل به إلى شىء، كقوله تعالى +وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ" (3) أي الوصل والمودات.
وقال عمرو بن دينار عن أبي الشعثاء، عن ابن عباس قال: كان أهل الجاهلية يأكلون أشياء ويتركون أشياء تقذرا فبعث الله نبيه صلى الله عليه وسلم وأنزل عليه كتابه وأحل حلاله وحرم حرامه فما أحل فهو حلال وما حرم فهو حرام وما سكت عنه فهو عفو.
وقال عمر بن الخطاب: قد وضحت الأمور وتبينت السنة ولم يترك لأحد منكم متكلم إلا أن يضل عبد. (4)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ومن حكم الكتاب والسنة على نفسه قولا وفعلا ، ونور الله قلبه تبين له ضلال كثير من الناس ممن يتكلم برأيه فيه سعادة النفوس بعد الموت وشقاوتها جريا على منهاج الذين كذبوا بالكتاب وبما أرسل الله به رسله ونبذوا الكتاب وراء ظهورهم واتباعا لما تتلوه الشياطين. (5)
__________
(1) رواه الطبراني في الكبير بإسناد جيد وصححه الألباني في الترغيب برقم (35)، وانظر صحيح الجامع برقم (34)، والصحيحة برقم (713) .
(2) صحيح الجامع برقم (34) .
(3) سورة البقرة آية (166).
(4) إعلام الموقعين .
(5) الصارم المسلول (1/519).(1/162)
وقال ابن قيم الجوزية: وأما الاعتصام به: فهو التوكل عليه والامتناع به والاحتماء به، وسؤاله أن يحمي العبد، ويمنعه، ويعصمه، ويدفع عنه، فإن ثمرة الاعتصام به: هو الدفع عن العبد، والله يدافع عن الذين آمنوا، فيدفع عن عبده المؤمن إذا اعتصم به كل سبب يفضي به إلى العطب، ويحميه منه فيدفع عنه الشبهات، والشهوات، وكيد عدوه الظاهر والباطن، وشر نفسه، ويدفع عنه موجب أسباب الشر بعد انعقادها بحسب قوة الاعتصام به، وتمكنه فتفقد في حقه أسباب العطب فيدفع عنه موجباتها ومسبباتها، ويدفع عنه قدره بقدره، وإرادته بإرادته ويعيذه به منه.
وقال: الاعتصام بالله الترقي عن كل موهوم الموهوم عنده ما سوى الله تعالى، والترقي عنه الصعود من شهود نفعه، وضره، وعطائه، ومنعه، وتأثيره إلى الله تعالى.اهـ. (1)
وقال الأوزاعي، عن عبدة بن أبي لبابة، عن ابن عباس: " من أحدث رأيا ليس من كتاب الله ولم تمض به سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يدر على ما هو منه إذا لقي الله عز وجل". (2)
وقال الزهري: كان محمد بن جبير بن مطعم يحدث أنه كان عند معاوية في وفد من قريش، فقام فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: أما بعد فإنه بلغني أن رجالا منكم يتحدثون أحاديث ليست في كتاب الله ولا تؤثر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأولئك جهالكم، ومعلوم أن القياس خارج عن كليهما. (3)
__________
(1) مدارج السالكين (1/461).
(2) إعلام الموقعين .
(3) مدارج السالكين (1/461).(1/163)
قال الطيبي: من ترك العمل بآية، أو بكلمة من القرآن مما يجب العمل به، أو ترك قراءتها من التكبر كفر، ومن ترك عجزاً، أو كسلاً، أو ضعفا مع اعتقاد تعظيمه فلا إثم عليه، أي بترك القراءة ولكنه محروم، كذا في المرقاة . والقرآن حبل الله المتين طرفه بيد الله وطرفه الآخر بيد المؤمن، فمن استمسك به فتعلم وعمل وعلم مخلصا لله متبعا لهدي كتابه وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - لم يضل أبدا حتى يلقى الله، فهذه بشارة من النبي - صلى الله عليه وسلم - لمن حفظ كتاب الله وعمل به نسأل الله أن يجعلنا منهم .
والحبل مستعار للوصل ولكل ما يتوصل به إلى شيء، أي الوسيلة القوية إلى معرفة ربه وسعادة قربه. (1)
وعن عبد الله بن مسعود > قال: "إن هذا القرآن شافع مشفع، من اتبعه قاده إلى الجنة، ومن تركه أو أعرض عنه (أو كلمة نحوها) زخَّ في قفاه إلى النار". (2)
زخ بالزاي والخاء المعجمتين: أي دفع.
__________
(1) فيض القدير .
(2) رواه البزار موقوفاً على ابن مسعود، صحيح الترغيب (39).(1/164)
قال ابن رجب الحنبلي: والقرآن حجة لك أو حجة عليك، قال الله عز وجل: { وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا } . الإسراء، قال بعض السلف: ما جالس أحد القرآن فقام عنه سالما، بل إما أن يربح، أو أن يخسر، ثم تلا هذه الآية، وروي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : "قال يمثل القرآن يوم القيامة رجلا فيؤتى بالرجل قد حمله فخالف أمره فيتمثل له خصما فيقول يا رب حملته إياي فبئس حاملي تعدي حدودي وضيع فرائضي وركب معصيتي وترك طاعتي فما يزال يقذف عليه بالحجج حتى يقال شأنك به فيأخذه بيده فما يرسله حتى يكبه على منخره في النار ويؤتى بالرجل الصالح كان قد حمله فيمتثل خصما دونه فيقول يا رب حملته إياي فخير حامل حفظ حدودي وعمل بفرائضي واجتنب معصيتي واتبع طاعتي فما يزال يقذف له بالحجج حتى يقال شأنك به فيأخذه بيده فما يرسله حتى يلبسه حلة الإستبرق ويعقد عليه تاج الملك ويسقيه كأس الخمر"، وقال أبو موسى الأشعري: إن هذا القرآن كائن لكم أجرا وكائن عليكم وزرا فاتبعوا القرآن ولا يتبعكم القرآن، فإنه من اتبع القرآن هبط به على رياض الجنة، ومن اتبعه القرآن زج في قفاه فقذفه في النار. (1)
وسبق حديث: ((نضّر الله عبدًا سمع مقالتي هذه، فحملها، فرب حامل الفقه فيه غير فقيه، ورب حامل الفقه إلى مَنْ هو أفقه منه، ثلاث لا يغل عليهن صدر مسلم، إخلاص العمل لله عزّ وجل، ومناصحة أولي الأمر، ولزوم جماعة المسلمين، فإن دعوتهم تحيط من ورائهم)). (2)
__________
(1) جامع العلوم والحكم (1/220).
(2) أخرجه أحمد في مسنده (5/183). وابن أبي عاصم في(السنة) برقم(94) من حديث أنس بن مالك > وإسناد الحديث صحيح. انظر السلسلة الصحيحة للألباني برقم (404).(1/165)
وقد لخص الإمام ابن قيم الجوزية رحمه الله حقيقة الاعتصام بالقرآن بقوله: "وهو تحكيمه دون آراء الرجال ومقاييسهم ، ومعقولاتهم، وأذواقهم وكشوفاتهم ومواجيدهم. فمن لم يكن كذلك فهو مُنسل من هذا الاعتصام. فالدين كله في الاعتصام به وبحبله، علمًا وعملاً، وإخلاصًا واستعانة، ومتابعة، واستمرارًا على ذلك إلى يوم القيامة" (1)
وقال الحافظ ابن حجر في شرح حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: كنا نعطيها في زمان النبي صلى الله عليه وسلم صاعا من طعام أو صاعا من تمر أو صاعا من شعير أو صاعا من زبيب فلما جاء معاوية وجاءت السمراء قال أرى مدا من هذا يعدل مدين.
وفي رواية لمسلم : " فأنكر ذلك أبو سعيد وقال: لا أخرج إلاّ ما كنتُ أُخرج في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ".
قال ابن حجر : وفي حديث أبي سعيد ما كان عليه من شدة الإتباع، والتمسك بالآثار، وترك العدول إلى الإجتهاد مع وجود النص، وفي صنيع معاوية وموافقة الناس له دلالة على جواز الإجتهاد وهو محمود لكنه مع وجود النص فاسد الإعتبار . (2)
وهذا ابن عباس - رضي الله عنهما - يأتيه رجل، ويقول له: أوصني، فيقول >: ((عليك بالاستقامة، واتباع الأثر، وإياك والتبدع)). (3)
... وقال الخشني، ثنا محمد بن بشار، ثنا يحيى بن سعيد القطان، ثنا صالح بن مسلم، قال: قال لي عامر الشعبي يوما وهو آخذ بيدي إنما هلكتم حين تركتم الآثار وأخذتم بالمقاييس. (4)
__________
(1) مدارج السالكين (3/338) .
(2) فتح الباري (3/374).
(3) أخرجه الدارمي في سننه (1/53) . وابن بطة في الإبانة (1/337-339) .
(4) إعلام الموقعين .(1/166)
وهذا الإمام القرطبي رحمه الله يقول وهو يعلق على قوله تعالى: +(#qكJإءtGôم$#ur بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا (#qè%چxےs?" (1) : ((أوجب تعالى علينا التمسك بكتابه، وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - ، والرجوع إليهما عند الاختلاف، وأمر بالاجتماع على الاعتصام بالكتاب والسنة اعتقادًا وعملاً، وذلك سبب اتفاق الكلمة، وانتظام الشتات الذي يتم به مصالح الدنيا والدين)). (2)
... ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ((يجب أن يعلم يقينًا أنه لا يسوغ لأحد كائنًا من كان ما كان يقع في قلبه من غير اعتبار بالكتاب والسنة، وهذا مما اتفق عليه أولياء الله عزّ وجل، ومَنْ خالف في هذا فليس من أولياء الله سبحانه الذين أمر الله بإتباعهم، بل إما أن يكون كافرًا، وإما أن يكون مفرطًا في الجهل، وهذا كثير في كلام المشايخ، كقول الشيخ أبي سليمان الداراني (3) : إنه ليقع في قلبي النكتة من نكت القوم فلا أقبلها إلا بشاهدين: الكتاب والسنة)). (4)
وقال - صلى الله عليه وسلم - : "كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها". (5) وخرج الإمام أحمد وابن حبان من حديث كعب بن عجرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الناس غاديان فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها"، وفي رواية أخرى خرجها الطبراني: "الناس غاديان فبائع نفسه فموبقها وقائد نفسه فمعتقها". (6)
__________
(1) آل عمران : (103) .
(2) تفسير القرطبي (4/105) .
(3) هو عبدالرحمن بن أحمد بن عطية العنسي الداراني، نسبة إلى (داريا) قرية من قرى دمشق، إمام كبير ، وزاهد مشهور ، توفي سنة 215هـ .
(4) الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ص161. وانظر: مجموع الفتاوى(11/623).
(5) رواه مسلم .
(6) صحيح الجامع برقم (925) .(1/167)
قال ابن رجب الحنبلي: ودل الحديث على أن كل إنسان إما ساع في هلاك نفسه، أو في فكاكها، فمن سعى في طاعة الله فقد باع نفسه لله وأعتقها من عذابه، ومن سعى في معصية الله تعالى فقد باع نفسه بالهوان، وأوبقها بالآثام الموجبة لغضب الله وعقابه، قال الله تعالى: +إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ إلى قوله: فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ" (1)
وقال تعالى: +وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَاللّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ" (2)
وقال تعالى: فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُم مِّن دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ" (3) . (4)
وقد ذم الله سبحانه وتعالى الفرقة والاختلاف، فقال تعالى:
{ وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } . (5)
__________
(1) سورة التوبة آية (111) .
(2) سورة البقرة آية (207) .
(3) سورة الزمر آية (15) .
(4) جامع العلوم والحكم (1/220).
(5) سورة آل عمران آية (105-106) .(1/168)
قال الطبري رحمه الله: يعني بذلك جل ثناؤه: { ولا تكونوا } يا معشر الذين آمنوا { كالذين تفرقوا } من أهل الكتاب { واختلفوا } في دين الله وأمره ونهيه { من بعد ما جاءهم البينات } من حجج الله فيما اختلفوا فيه وعلموا الحق فيه فتعمدوا خلافه وخالفوا أمر الله ونقضوا عهده وميثاقه جراءة على الله { وأولئك لهم } يعني: ولهؤلاء الذين تفرقوا واختلفوا من أهل الكتاب من بعد ما جاءهم { عذاب } من عند الله { عظيم } يقول جل ثناؤه: فلا تتفرقوا يا معشر المؤمنين في دينكم تفرق هؤلاء في دينهم ولا تفعلوا فعلهم وتستنوا في دينكم بسنتهم فيكون لكم من عذاب الله العظيم مثل الذي لهم .اهـ. (1)
ثم ذكر عن ابن عباس قوله: { ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا } ونحو هذا في القرآن أمر الله جل ثناؤه المؤمنين بالجماعة فنهاهم عن الاختلاف والفرقة وأخبرهم أنما هلك من كان قبلهم بالمراء والخصومات في دين الله. (2)
وقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (159) ". (3)
__________
(1) تفسير الطبري (3/385).
(2) تفسير الطبري (3/385).
(3) سورة الأنعام .(1/169)
وعن عمر بن الخطاب >، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لعائشة :إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا إنما هم أصحاب البدع وأصحاب الأهواء وأصحاب الضلالة من هذه الأمة يا عائشة إن لكل صاحب ذنب توبة غير أصحاب البدع وأصحاب الأهواء ليس لهم توبة وأنا بريء منهم وهم منا برآء. (1)
وروى ليث بن أبي سليم، عن طاوس، عن أبي هريرة، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأ إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا ِNهks]ƒدٹ" ومعنى { شيعا } فرقا وأحزابا وكل قوم أمرهم واحد يتبع بعضهم رأي بعض فهم شيع + لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ " فأوجب براءته منهم وهو كقوله عليه السلام: [من غشنا فليس منا] أي نحن براء منه. (2)
وقال تعالى: وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ". (3)
قال الطبري: وقوله كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ" يقول: كل طائفة وفرقة من هؤلاء الذين فرقوا دينهم الحق فأحدثوا البدع التي أحدثوا بما لديهم فرحون: يقول: بما هم به متمسكون من المذهب فرحون مسرورون يحسبون أن الصواب معهم دون غيرهم. (4)
__________
(1) قال الشيخ الألباني: إسناده ضعيف رجاله موثوقون، غير مجالد وهو ابن سعيد وليس بالقوى، وبهذا الإسناد أخرجه الطبراني في المعجم الصغير، لكنه لم يصرح بتحديث بقية، ولذلك قال الهيثمي: رواه الطبراني في الصغير وفيه بقية، ومجالد بن سعيد، وكلاهما ضعيف، وقال الحافظ ابن كثير: هو حديث غريب ولا يصح رفعه، ثم بين ذلك فراجعه في تفسير، وقد نقلته في الروض النضير.اهـ. ظلال الجنة.
(2) ذكره القرطبي في تفسيره (7/134)، ولم أجده في كتب الحديث .
(3) سورة الروم آية (31- 32) .
(4) تفسير الطبري (10/185) .(1/170)
وقال البغوي: - قوله -: مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا". أي: صاروا فرقاً مختلفة وهم: اليهود، والنصارى، وقيل: هم أهل البدع من هذه الأمة، كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ" أي: راضون بما عندهم. (1)
وقال الشاطبي: ومعنى صاروا شيعا، أي جماعات بعضهم قد فارق البعض، ليسوا على تآلف، ولا تعاضد، ولا تناصر، بل على ضد ذلك، فإن الإسلام واحد وأمره واحد، فاقتضى أن يكون حكمه على الائتلاف التام لا على الاختلاف، وهذه الفرقة مشعرة بتفرق القلوب المشعر بالعداوة والبغضاء، ولذلك قال:+(#qكJإءtGôم$#ur بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا (#qè%چxےs?" (2) فبين أن التأليف إنما يحصل عند الاتئلاف على التعلق بمعنى واحد، وأما إذا تعلقت كل شيعة بحبل غير ما تعلقت به الأخرى، فلا بد من التفرق وهو معنى قوله تعالى : +br&ur هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153) ". (3) . وإذا ثبت هذا نزل عليه لفظ الحديث واستقام معناه والله أعلم.اهـ. (4)
وقال الله تعالى: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ". (5)
__________
(1) تفسير البغوي المسمى بمعالم التنزيل (1/271).
(2) سورة آل عمران آية (103) .
(3) سورة الأنعام.
(4) الاعتصام للشاطبي (1/432).
(5) سورة القصص آية (50).(1/171)
وروى ابن ماجة وغيره والترمذي بمعناه وصححه، عن العرباض بن سارية قال :"وعظنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - موعظة ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، فقلنا: يا رسول الله إن هذه لموعظة مودع فما تعهد إلينا؟ فقال : قد تركتم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك، من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيراً، فعليكم بما عرفتم من سنتي، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين بعدي، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم والأمور المحدثات، فإن كل بدعة ضلالة، وعليكم بالطاعة، وإن عبداً حبشياً، فإنما المؤمن كالجمل الأنف حيثما قيد انقاد".
وفي رواية: "أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة، وإن كان عبداً حبشياً، فإنه من يعش بعدي يرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين بعدي عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة". (1)
قال ابن دقيق العيد: وقوله [ فعليكم بسنتي ] السنة الطريقة القويمة التي تجرى على السنن وهو السبيل الواضح [وسنة الخلفاء الراشدين المهديين] يعني الذين شملهم الهدى وهم الأربعة بالإجماع: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي رضي الله عنهما أجمعين، وأمر - صلى الله عليه وسلم - بالثبات على سنة الخلفاء الراشدين لأمرين أحدهما: التقليد لمن عجز عن النظر، والثاني: الترجيح لما ذهبوا إليه عند اختلاف الصحابة. (2)
عن ابن عباس رضي الله عنهما قوله: { وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا } ، وقوله: { الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا } . (3)
وقوله: { ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات } . (4)
__________
(1) السلسلة الصحية رقم (2735)، وصحيح الجامع رقم (2549)، وصحيح الترغيب رقم (37)، وصحيح ابن ماجة برقم (40) .
(2) شرح الأربعين النووي لابن دقيق العيد (1/73) .
(3) سورة الأنعام آية (159).
(4) سورة آل عمران آية (105).(1/172)
وقوله: { أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه } . (1) ونحو هذا في القرآن قال: أمر الله المؤمنين بالجماعة، ونهاهم عن الاختلاف والفرقة، وأخبرهم أنه إنما هلك من كان قبلهم بالمراء والخصومات في دين الله. (2)
وروى أبو داود قال: حدثنا ابن كثير ، قال أخبرنا سفيان ، قال: كتب رجل إلى عمر بن عبد العزيز يسأله عن القدر فكتب إليه: أما بعد فإني أوصيك بتقوى الله والاقتصاد في أمره، وإتباع سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وترك ما أحدث المحدثون بعدما جرت به سنته، وكفوا مؤونته، فعليك بلزوم الجماعة، فإنها لك بإذن الله عصمة، ثم اعلم أنه لم يبتدع الناس بدعة إلا قد مضى قبلها ما هو دليل عليها أو عبرة فيها، فإن السنة إنما سنها من قد علم ما في خلافها من الخطأ والزلل والحمق والتعمق، فارض لنفسك ما رضي به القوم لأنفسهم فإنهم على علم وقفوا وببصر نافذ كفوا، وإنهم على كشف الأمور كانوا أقوى وبفضل ما كانوا فيه أولى، فإن كان الهدى ما أنتم عليه فقد سبقتموهم إليه، ولئن قلتم إنما حدث بعدهم، فما أحدثه إلا من اتبع غير سبيلهم ورغب بنفسه عنهم فإنهم هم السابقون قد تكلموا فيه بما يكفي ووصفوا ما يشفي فما دونهم من مقصر وما فوقهم من محسر، وقد قصر قوم دونهم فجفوا وطمح عنهم أقوام فعلوا وإنهم مع ذلك لعلى هدى مستقيم. (3)
__________
(1) سورة الشورى آية (13).
(2) تفسير الطبري (5/225) .
(3) سنن أبو داوود برقم (4612)، وقال الألباني: صحيح مقطوع .(1/173)
وذكر حديث العرباض بن سارية السابق، وقال سهل بن عبد الله الستري: عليكم بالاقتداء بالأثر والسنة، فإني أخاف أنه سيأتي عن قليل زمان إذا ذكر إنسان النبي - صلى الله عليه وسلم - والاقتداء به في جميع أحواله ذموه ونفروا عنه وتبرءوا منه وأذلوه وأهانوه قال سهل: إنما ظهرت البدعة على يدي أهل السنة لأنهم ظاهروهم وقاولوهم فظهرت أقاويلهم وفشت في العامة فسمعه من لم يكن يسمعه فلو تركوهم ولم يكلموهم لمات كل واحد منهم على ما في صدره ولم يظهر منه شيء وحمله معه إلى قبره، وقال سهل: لا يحدث أحدكم بدعة حتى يحدث له إبليس عبادة فيتعبد بها، ثم يحدث له بدعة فإذا نطق بالبدعة ودعا الناس إليها نزع منه تلك الخدمة قال سهل: لا أعلم حديثا جاء في المبتدعة أشد من هذا الحديث. (1)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: فهذا أمر وتحضيض على لزوم سنة الخلفاء، وأمر بالإستمساك بها، وتحذير من المحدثات المخالفة لها، وهذا الأمر منه، والنهي دليل بين في الوجوب، ثم اختص من ذلك قوله: إقتدوا بالذين من بعدي أبى بكر وعمر، فهذان أمر بالإقتداء بهما، والخلفاء الراشدون أمر بلزوم سنتهم. (2)
__________
(1) تفسير القرطبي (7/123) .
(2) مجموع الفتاوى (35/23) .(1/174)
وقال الشيخ عبدالمحسن العباد: فأهل السنة والجماعة هم المتبعون لِما كان عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، ونسبتهم إلى سنة الرسول - صلى الله عليه وسلم - التي حث على التمسك بها بقوله: "فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليه بالنواجذ"، وحذر من مخالفتها بقوله: "وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة"، وقوله: "من رغب عن سنتي فليس مني"، وهذا بخلاف غيرهم من أهل الأهواء والبدع، الذين سلكوا مسالك لم يكن عليها الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، فأهل السنة ظهرت عقيدتهم بظهور بعثته - صلى الله عليه وسلم - ، وأهل الأهواء ولدت عقائدهم بعد زمنه - صلى الله عليه وسلم - ، ومنها ما كان في آخر عهد الصحابة، ومنها ما كان بعد ذلك، والرسول - صلى الله عليه وسلم - أخبر أن من عاش من أصحابه سيُدرك هذا التفرق والاختلاف، فقال: "وإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً"، ثم أرشد إلى سلوك الصراط المستقيم، وهو إتباع سنته وسنة خلفائه الراشدين، وحذر من محدثات الأمور، وأخبر أنها ضلال، وليس من المعقول ولا المقبول أن يُحجب حقٌ وهدى عن الصحابة رضي الله عنهم ويُدخر لأناس يجيئون بعدهم؛ فإن تلك البدع المحدثة كلها شر، ولو كان في شيء منها خير لسبق إليه الصحابة، لكنها شرٌ ابُتلي به كثير ممن جاء بعدهم ممن انحرفوا عما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم، وقد قال الإمام مالك رحمه الله: "لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها"، ولذا فإن أهل السنة ينتسبون إلى السنة, وغيرهم ينتسبون إلى نحلهم الباطلة كالجبرية والقدرية والمرجئة والإمامية الإثنى عشرية، أو إلى أسماء أشخاص معينين، كالجهمية والزيدية والأشعرية والإباضية، ولا يقال إن من هذا القبيل (الوهابية)، نسبة إلى الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، فإن أهل السنة في زمن الشيخ محمد رحمه الله وبعده لا ينتسبون هذه(1/175)
النسبة؛ لأنه رحمه الله لم يأت بشيء جديد فيُنسب إليه، بل هو متبعٌ لما كان عليه السلف الصالح، ومظهرٌ للسنة وناشرٌ لها وداع إليها، وإنما يُطلق هذه النسبة الحاقدون على دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمه الله الإصلاحية للتشويش على الناس، وصرفهم عن إتباع الحق والهدى، وأن يبقوا على ما هم عليه من البدع المحدثة المخالفة لما كان عليه أهل السنة والجماعة.
قال الإمام الشاطبي في الاعتصام:" وقال عبد الرحمن بن مهدي: قد سئل مالك بن أنس عن السنة؟ قال: هي ما لا اسم له غيره السنة، وتلا: ((وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله))".
وقال ابن القيم في مدارج السالكين:"وقد سئل بعض الأئمة عن السنة؟ قال: ما لا اسم له سوى السنة. يعني أن أهل السنة ليس لهم اسم يُنسبون إليه سواها".
وفي كتاب الانتفاء لابن عبد البر: أن رجلاً سأل مالكاً فقال: من أهل السنة؟ قال: "أهل السنة الذين ليس لهم لقبٌ يُعرفون به؛ لا جهمي ولا قدري ولا رافضي".
ولا شك أن الواجب على أهل السنة في كل زمان ومكان التآلف والتراحم فيما بينهم، والتعاون على البر والتقوى. (1)
وقال الزهري: الاعتصام بالسنة نجاة . (2)
وقال أبو العالية: تعلموا الإسلام فإذا تعلمتوه فلا ترغبوا عنه وعليكم بالصراط المستقيم فإنه الإسلام ولا تحرفوا الإسلام يمينا ولا شمالا وعليكم بسنة نبيكم والذي كان عليه أصحابه وإياكم وهذه الأهواء التي تلقي بين الناس العداوة والبغضاء. (3)
وقال سعيد بن جبير : لا يقبل قول إلا بعمل ولا يقبل عمل إلا بقول ولا يقبل قول وعمل إلا بنية ولا يقبل قول وعمل ونية إلا بنية موافقة للسنة. (4)
__________
(1) رفقاً أهل السنة بأهل السنة .
(2) اعتقاد أهل السنة للالكائي (1/56) .
(3) اعتقاد أهل السنة للالكائي (1/94) .
(4) اعتقاد أهل السنة للالكائي (1/94) .(1/176)
وعن أحمد بن صالح قال: قال ابن وهب: كان عند مالك بن أنس فذكرت السنة، فقال مالك: السنة سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق. (1)
ffffff
كلام للحافظ ابن حجر في لزوم ما كان عليه السلف وترك ما أحدثه الخلف .
قال رحمه الله: قال الشافعي: البدعة بدعتان: محمودة، ومذمومة، فما وافق السنة فهو محمود، وما خالفها فهو مذموم، أخرجه أبو نعيم بمعناه من طريق إبراهيم بن الجنيد عن الشافعي، وجاء عن الشافعي أيضا ما أخرجه البيهقي في مناقبه، قال: المحدثات ضربان ما أحدث يخالف كتابا أو سنة أو أثرا أو إجماعا فهذه بدعة الضلال وما أحدث من الخير لا يخالف شيئا من ذلك فهذه محدثة غير مذمومة. انتهى.
وقال: واشتد إنكار السلف لذلك كأبي حنيفة وأبي يوسف، والشافعي وكلامهم في ذم أهل الكلام مشهور وسببه أنهم تكلموا فيما سكت عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه وثبت عن مالك انه لم يكن في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر شيء من الأهواء يعني بدع الخوارج والروافض والقدرية.
إلى أن قال: فالسعيد من تمسك بما كان عليه السلف واجتنب ما أحدثه الخلف . (2)
ffffff
وصايا الأئمة الأربعة بالتعويل على الأدلة لا على أقوالهم (3)
__________
(1) أحاديث ذم الكلام لأبي الفضل المقرئ (5/81).
(2) فتح الباري (13/253).
(3) أنظر أهمية العناية بالتفسير والحديث والفقه للشيخ عبدالمحسن العباد البدر .(1/177)
الأئمة الأربعة أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وغيرهم من أهل العلم مجتهدون، فما أصابوا فيه لهم أجران، أجر الاجتهاد وأجر الإصابة، ومن أخطأ منهم هو مأجور أجراً واحداً على اجتهاده وبذله وسعه لمعرفة الحق، وقد جاء عن الأئمة الأربعة نصوص فيها وصاياهم لغيرهم بأن يأخذوا بما دلت عليه الأدلة ويتركوا أقوالهم، وقد أورد الشيخ صالح الفلاني المتوفى سنة (1218هـ) في كتابه (إيقاظ الهمم) نقولاً عنهم في ذلك: منها قول الإمام أبي حنيفة (ص:50): (( إذا قلت قولاً وكتاب الله يخالفه، قال: اتركوا قولي لكتاب الله، فقيل: إذا كان خبر رسول الله يخالفه؟ قال: اتركوا قولي لخبر رسول الله ، فقيل: إذا كان قول الصحابة يخالفه؟ قال: اتركوا قولي لقول الصحابة )).
وقوله (ص:54): (( لا يحل لأحد أن يأخذ بقولنا ما لم يعرف مأخذه من الكتاب والسّنّة أو إجماع الأمّة أو القياس الجلي في المسألة ))، وقوله (ص:62): (( إذا صحّ الحديث فهو مذهبي )).
ومنها قول الإمام مالك (ص:72): (( إنما أنا بشر أخطىء وأصيب، فانظروا في رأيي، فكل ما وافق الكتاب والسّنّة فخذوه، وكل ما لم يوافق الكتاب والسّنّة فاتركوه )).
ومنها قول الإمام الشافعي (ص:100): (( ما من أحد إلاّ وتذهب عليه سنّةٌ لرسول الله وتعزب عنه، فمهما قلت من قول أو أصلت من أصل فيه عن رسول الله خلاف ما قلت، فالقول ما قاله رسول الله وهو قولي )).
وقوله: (( إذا وجدتم في كتابي خلاف سنّة رسول الله فقولوا بسنّة رسول الله ودعوا ما قلت )).
وقوله (ص: 103): (( أجمع الناس على أن من استبانت له سنّة رسول الله لم يكن له أن يدعها لقول أحد )).
وقوله (ص: 104): (( كل مسألة صحّ فيها الخبر عن رسول الله عند أهل النقل بخلاف ما قلت، فأنا راجع عنها في حياتي وبعد موتي ))، وقوله (ص: 107): (( إذا صحّ الحديث فهو مذهبي )).(1/178)
ومنها قول الإمام أحمد (ص: 113) وقد قيل له: (( الأوزاعي هو أتبع أم مالك؟ قال: لا تقلد دينك أحداً من هؤلاء، ما جاء عن النبي وأصحابه فخذ به، ثم التابعين بعدُ الرجلُ فيهم مخير )).
وقوله: (( لا تقلدني، ولا تقلد مالكاً ولا الشافعي ولا الأوزاعي ولا الثوري، وخذ من حيث أخذوا )).
وانظر مقدمة صفة صلاة النبي للألباني (ص: 23-37)، وهذه النقول عن الأئمة الأربعة رحمهم الله تدل على ورعهم وفقههم وإنصافهم، ومن المتعين على كل ناصح لنفسه الأخذ بهذه الوصايا، وتقدّم قريباً في كلام ابن القيم قوله: (( فمن عرض أقوال العلماء على النصوص ووزنها بها وخالف منها ما خالف النص لم يُهدر أقوالهم ولم يهضم جانبهم، بل اقتدى بهم؛ فإنهم كلهم أمروا بذلك، فمتبعهم حقاً من امتثل ما أوصوا به لا من خالفهم )).
ffffff
باب
البدء بالسنة وعمل الخير ليستن به.
علينا أن نحرص بعمل الخير، ونطبق ما جاء في الكتاب والسنة من أعمال الخير، والتي فيها الأجر العظيم عند الله تعالى، لكي يستن بنا الغير ليأتينا نفس الأجر الذي يأخذنا من فعله بعدنا.(1/179)
عن جرير > قال: كنا في صدر النهار عند رسول الله× فجاءه قوم عراة مجتابي النمار والعباء متقلدي السيوف عامتهم من مضر بل كلهم من مضر فتمعر وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما رأى ما بهم من الفاقة فدخل ثم خرج فأمر بلالاً فأذن وأقام فصلى ثم خطب فقال: يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة إلى قوله: إن الله كان عليكم رقيبا. (1) والآية التي في الحشر: اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغدٍ. (2) تصدق رجل من ديناره، من درهمه، من ثوبه، من صاع بُره، من صاع تمره، حتى قال: ولو بشق تمرة قال: فجاء رجل من الأنصار بصُرَّةٍ كادت كفَّه تعجز عنها، بل قد عجزت. قال: ثم تتابع الناس حتى رأيت كومين من طعام وثياب، حتى رأيت وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتهلل كأنه مذهبه" فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "من سنَّ في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سنَّ في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من غير أن ينقص من أوزارهم شيء". (3)
مجتابي: بالجيم الساكنة ثم تاء مثناة وبعد الألف باء موحدة، الجوب: القطع.
النمار: جمع نمرة وهي كساء من صوف مخطط أي: لابسي النمار قد خرقوها في رؤوسهم.
تمعر: بالعين المهملة المشددة أي تغير.
كأنه مذهبه.. أي: ظهور البشر في وجهه - صلى الله عليه وسلم - حتى استنار وأشرق من السرور. و(المذهبة) صفيحة منقشة بالذهب، أو ورقة من القرطاس مطلية بالذهب، يصف حسنة وتلألؤه.
__________
(1) سورة النساء آية (1).
(2) سورة الحشر آية (18).
(3) رواه مسلم في كتاب الزكاة برقم (1017)، والنسائي وابن ماجة والترمذي.(1/180)
وعن حذيفة > قال: سأل رجل على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأمسك القوم، ثم إن رجلاً أعطاه فأعطى القوم فقال رسول - صلى الله عليه وسلم - : "من سنَّ خيراً فاستُنَّ به كان له أجرُه ومثل أجور من تبعه غير منتقص من أجورهم شيئاً، ومن سنَّ شراً فاستُنَّ به كان عليه وزره ومثل أوزار من تبعه غير منتقص من أوزارهم شيئاً". (1)
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "الدال على الخير كفاعله". (2)
قال النووي: المراد أن له ثواباً كما أن لفاعله ثواباً، ولا يلزم أن يكون قدر ثوابهما سواء، انتهى، وذهب بعض الأئمة إلى أن المثل المذكور في هذا الحديث ونحوه إنما هو بغير تضعيف، وقال القرطبي إنه مثله سواء في القدر والتضعيف، لأن الثواب على الأعمال إنما هو بفضل من الله يهبه لمن يشاء على أي شيء صدر منه خصوصا إذا صحت النية التي هي أصل الأعمال في طاعة عجز عن فعلها لمانع منع منها، فلا بعد في مساواة أجر ذلك العاجز لأجر القادر والفاعل أو يزيد عليه. كذا في السراج المنير. (3)
وعن عبد الله ابن مسعود > في قول الله عز وجل: +عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ". (4) قال: ما قدمت من سنة صالحة يعمل بها من بعده فله أجر من عمل بها من غير أن ينقص من أجورهم شيئاً، وما أخرت من سنة سيئة يعمل بها بعده فإن عليه مثل وزر من عمل بها من غير أن ينقص من أوزارهم شيئاً. (5)
__________
(1) رواه أحمد والحاكم وقال: صحيح الإسناد ورواه ابن ماجة من حديث أبي هريرة وصححه الألباني في الترغيب برقم (59).
(2) السلسلة الصحيحة برقم (4/216)، وصحيح الترغيب والترهيب، وصحيح الجامع برقم (1605).
(3) عون المعبود (14/26-27) .
(4) سورة الانفطار آية (5) .
(5) التمهيد (24/330)، الاستذكار (2/542) .(1/181)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: ولهذا كان المبتدئ بالخير والشر له مثل من تبعه من الأجر والوزر كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة..." الحديث، وذلك لاشتراكهم في الحقيقة، وان حكم الشئ حكم نظيره وشبه الشئ منجذب إليه، فإذا كان هذان داعيين قويين فكيف إذا انضم إليهما داعيان آخران، وذلك إن كثير من أهل المنكر يحبون من يوافقهم على ما هم فيه وببغضون من لا يوافقهم، وهذا ظاهر في الديانات الفاسدة من موالاة كل قوم لموافقيهم ومعاداتهم لمخالفيهم، وكذلك في أمور الدنيا والشهوات كثيرا ما يختارون ويؤثرون من يشاركهم إما للمعاونة على ذلك، كما في المتغلبين من أهل الرياسات وقطاع الطريق ونحوهم، وإما بالموافقة كما في المجمتعين على شرب الخمر فإنهم يختارون أن يشرب كل من حضر عندهم، وإما لكراهتهم امتيازه عنهم بالخير، إما حسدا له على ذلك لئلا بعلو عليهم بذلك ويحمد دونهم، وإما لئلا يكون له عليهم حجة، وإما لخوفهم من معاقبته لهم بنفسه أو بمن يرفع ذلك إليهم ولئلا يكونوا تحت منته وخطره، ونحو ذلك من الأسباب قال الله تعالى: { ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق } ، وقال تعالى في المنافقين: { ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء } ، وقال عثمان بن عفان > ودت الزانية لو زنى النساء كلهن... (1)
__________
(1) مجموع الفتاوى (28/150-151).(1/182)
قال الأمير الصنعاني: واعلم أن السنة لغة الطريقة المعتادة، قال الله تعالى: { سنة الله التي قد خلت } أي طريقته وعادته، ومنه حديث عشر من سنن المرسلين أي من طرائقهم وسماها في القرآن بالحكمة كما قال أئمة التفسير في قوله تعالى: { ويعلمه الكتاب والحكمة } إن المراد بالحكمة هي السنة، وتطلق على الخير والشر ، ومنه حديث من سن في الإسلام خيرا فاستن به كان له أجره ومثل أجور من تبعه من غير أن ينتقص من أجورهم شيئا ومن سن شرا فاستن به الحديث أخرجه أحمد والطبراني في الأوسط والحاكم والضياء عن أبي عبيدة بن حذيفة عن أبيه، وتطلق في عرف المتشرعين على ما يقابل الفرض وعلى ما صدر عنه - صلى الله عليه وسلم - من أقواله وأفعاله وتقريرارته وهذا هو المراد هنا كما يفيده قوله ... فإنها الأقوال والأفعال ... كذلك التقرير فالأقوال ...
فإنه اشتمل النظم على ذكر أقسامها الثلاثة وهكذا عد أقسامها أكثر أئمة الأصول ولم يذكروا الترك لأن التروك داخلة في الأفعال لأنها كف والكف فعل ولا يقال والتقرير كف أيضا فلا حاجة إلى ذكره لأنا نقول إنما قلنا بدخول التروك في الأفعال توجيها لما وقع منهم كعبارة الغاية بلفظ ما صدر عن الرسول من قول أو فعل أو تقرير نعم عبارة جمع الجوامع بلفظة السنة. (1)
ffffff
المبحث الثاني:
عدم اجتماع هذه الأمة على ضلالة:
هذه الأمة عصمها الله عن الاجتماع على ضلالة (2)
__________
(1) أصول الفقه المسمى إجابة السائل شرح بغية الآمل. لمؤلفه محمد بن إسماعيل الأمير الصنعاني.(1/81).
(2) حسنه الألباني في صحيح الجامع حديث رقم (1786) .(1/183)
وقد ثبت في الحديث الصحيح عن النبي $ أنه قال: "إن الله لا يجمع أمتي على ضلالة، ويد الله مع الجماعة، ومَنْ شذّ شذّ إلى النار". (1)
وفي رواية عن أنس>، عن رسول الله ×: "إن الله تعالى قد أجار أمتي أن تجتمع على ضلالة". (2)
قوله: (إن اللّه تعالى قد أجار) في رواية بإسقاط قد (أمتي) قال المناوي: أي حفظ علماءها عن (أن تجتمع على ضلالة) أي محرم، ومن ثم كان إجماعهم حجة قاطعة فإن تنازعوا في شيء ردوه إلى اللّه ورسوله إذ الواحد منهم غير معصوم بل كل أحد يؤخذ منه ويرد عليه إلا الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، ونكر ضلالة لتعم وأفردها لأن الإفراد أبلغ. أخرجه ابن أبي عاصم، وكذا اللالكائي في السنة عن أنس بن مالك، قال ابن حجر: غريب ضعيف لكن له شاهد عند الحاكم من حديث ابن عباس بلفظ لا يجمع اللّه هذه الأمة على ضلالة ويد اللّه مع الجماعة ورجاله رجال الصحيح إلا إبراهيم بن ميمون.اهـ. (3)
وفي الحديث الآخر: لا يجمع الله هذه الأمة على ضلالة أبدًا - قال: يد الله على الجماعة، فاتبعوا السواد الأعظم، فإنه من شذّ شذّ في النار". (4)
__________
(1) رواه أبو داود في كتاب الفتن والملاحم، باب ذكر الفتن ودلائلها (4/98) برقم (4253). والترمذي في كتاب الفتن، باب ما جاء في لزوم الجماعة (4/466) برقم (2167). وابن بطة في الإبانة (1/347،348) برقم (222)، وإسناد الحديث صححه الألباني في تخريج المشكاة ص173، وبداية السول، والحديث من رواية عبدالله بن عباس - رضي الله عنهما - .
(2) حسنه الألباني في صحيح الجامع حديث رقم (1786)، والسلسلة الصحيحة (3/319)، وظلال الجنة، وآداب الزفاف، والحديث حجة بنفسه .
(3) فيض القدير .
(4) رواه اللالكائي في (شرح أصول الاعتقاد) برقم (154) من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما -، وقال محقق الكتاب: سنده حسن .(1/184)
فلا بد أن يكون فيها من يبين أمر الله ورسوله، ولو اجتهدت الملوك على جمع الأمة خلافه لم يتم لهم أمرهم، كما جرى مع المأمون والمعتصم والواثق، حيث اجتهدوا على إظهار القول بخلق القرآن وقتلوا الناس وضربوهم وحبسوهم على ذلك، وأجابهم العلماء تقية وخوفاً، فأقام الله إمام المسلمين في وقتهم أحمد بن حنبل، فرد باطلهم حتى اضمحل أمرهم، وصار الحق هو الظاهر في جميع بلاد الإسلام والسنة، ولم يكن الإمام أحمد يحابي أحداً في مخالفة شيء من أمر الرسول وإن دق، ولو عظم مخالفة في نفوس الخلق، فقد تكلم في بعض أعيان مشايخ العلم والدين لمسألة أخطأها، فحمل أمره حتى لما مات لم يصل عليه إلا نحو أربعة أنفس، وكان كلما تكلم في أحد سقط، لأن كلامه تعظيم لأمر الله ورسوله لا هوى نفسه .(1/185)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وإن ما بعث الله به نبيه محمدا $ من الكتاب والحكمة يجمع مصالح العباد في المعاش والمعاد على أكمل وجه فانه خاتم النبيين ولا نبي بعده، وقد جمع الله في شريعته ما فرقه في شرائع من قبله من الكمال، إذ ليس بعده نبي فكمل به الأمر كما كمل به الدين، فكتابه أفضل الكتب، وشرعه أفضل الشرائع، ومنهاجه أفضل المناهج، وأمته خير الأمم وقد عصمها الله على لسانه فلا تجتمع على ضلالة، ولكن يكون عند بعضها من العلم والفهم ما ليس عند بعض، والعلماء ورثة الأنبياء، وقد قال تعالى: وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ". (1) فهذان نبيان كريمان حكما في قصة فخصَّ الله أحدهما بالفهم ولم يعب الآخر بل أثنى عليهما جميعا بالحكم والعلم، وهكذا حكم العلماء المجتهدين ورثة الأنبياء وخلفاء الرسل العاملين بالكتاب، وهذه القضية التي قضى فيها داود وسليمان لعلماء المسلمين فيها، وما يشبهها أيضا قولان منهم من يقضى بقضاء داود، ومنهم من يقضى بقضاء سليمان، وهذا هو الصواب، وكثير من العلماء أو أكثرهم لا يقول به بل قد لا يعرفه، وقد بسطنا هذا في غير هذا الجواب، والله أعلم بالصواب .اهـ. (2)
ffffff
المبحث الثالث:
النهي عن التشبه بالمشركين
نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن التشبه بالمشركين وأهل الكتاب، ولا يجوز متابعتهم ولا تقليدهم بأي شيء كان.
فعن عبدالله بن عمرو، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "ليس منا من تشبه بغيرنا، لا تشبهوا باليهود والنصارى، فإن تسليم اليهود الإشارة بالأصابع، وتسليم النصارى الإشارة بالأكف". (3)
__________
(1) سورة الأنبياء آية (78) .
(2) مجموع الفتاوى (33/159).
(3) أخرجه الترمذي ، وحسنه الألباني في صحيح الجامع برقم (5434) .(1/186)
وعن عبدالله بن عمر، عن النبي $ أنه قال: "من تشبه بقوم فهو منهم ". (1)
قوله - صلى الله عليه وسلم - :"من تشبه بقوم فهو منهم". هذا يدل على أمرين: أحدهما: التشبه بأهل الشر مثل أهل الكفر والفسوق والعصيان وقد وبخ الله من تشبه بهم في شيء من قبائحهم فقال تعالى: فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا". (2)
قال ابن قيم الجوزية: ونهى عن التشبه بأهل الكتاب وغيرهم من الكفار في مواضع كثيرة لأن المشابهة الظاهرة ذريعة إلى الموافقة الباطنة فأنه إذا أشبه الهدي الهدي أشبه القلب القلب وقد قال - صلى الله عليه وسلم - : "خالف هدينا هدي الكفار"، وفي المسند مرفوعا: من تشبه بقوم فهو منهم. (3)
وقال - صلى الله عليه وسلم - : "إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم". (4)
وفي رواية عنه - صلى الله عليه وسلم - : " غيروا الشيب ولا تشبهوا اليهود". (5)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: فلفظ مخالفة المشركين دليل على أن جنس المخالفة أمر مقصود للشارع وإن عينت هنا في هذا الفعل، فإن تقديم المخالفة علة تقديم العام على الخاص، كما يقال: أكرم ضيفك، أطعمه وحادثه، فأمرك بالإكرام أولا دليل على أن إكرام الضيف مقصود، ثم عينت الفعل الذي يكون إكرامه إكراما له في ذلك الوقت. (6)
وقال - صلى الله عليه وسلم - : "خالفوا المشركين، احفوا الشوارب واعفوا اللحى". (7)
وفي رواية: "جزوا الشوارب وأرخوا اللحى ، خالفوا المجوس". (8)
__________
(1) أخرجه الترمذي ، وحسنه الألباني في صحيح الجامع برقم (6149) .
(2) سورة التوبة آية (69) .
(3) زاد المعاد (1/364) .
(4) رواه البخاري ومسلم .
(5) رواه أحمد والنسائي والترمذي، صحيح الجامع رقم (4167) .
(6) اقتضاء الصراط المستقيم (1/59).
(7) رواه مسلم.
(8) رواه مسلم.(1/187)
وأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالصلاة في النعال مخالفة لأهل الكتاب .
فعن شداد بن أوس عن أبيه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " خالفوا اليهود فإنهم لا يصلون في نعالهم ولا خفافهم " . (1)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وهذا مع أن نزع اليهود نعالهم مأخوذ عن موسى عليه السلام لما قيل له فاخلع نعليك، وعن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحر. رواه مسلم في صحيحه.
وهذا يدل على أن الفصل بين العبادتين أمر مقصود للشارع، وقد صرح بذلك فيما رواه أبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لا يزال الدين ظاهرا ما عجل الناس الفطر لأن اليهود والنصارى يؤخرون، وهذا نص في أن ظهور الدين حاصل بتعجيل الفطر هو لأجل مخالفة اليهود والنصارى.
وإذا كانت مخالفتهم سببا لظهور الدين فإنما المقصود بإرسال الرسل أن يظهر دين الله على الدين كله فتكون نفس مخالفتهم من أكبر مقاصد البعثة .اهـ. (2)
ونهى عن التشبه بهم في أعيادهم وقال عبد الله بن عمر: " من أقام بأرض المشركين يصنع نيروزهم ومهرجانهم وتشبه بهم حتى يموت حشر يوم القيامة معهم " .
وقال الإمام أحمد: " أكره حلق القفا، وهو من فعل المجوس، ومن تشبه بهم فهو منهم.
فالتشبه بالمشركين والمغضوب عليهم والضالين من أهل الكتاب منهي عنه ولا بد من وقوعه في هذه الأمة كما أخبر به الصادق المصدوق - صلى الله عليه وسلم - حيث قال: " لتتبعن سنن من قبلكم شبراً بشبر، وذراعاً بذراع حتى لو دخلوا حجر ضب لدخلتموه ".
__________
(1) صححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (1/176)، وصحيح الجامع برقم (3210)، ومشكاة المصابيح، وصفة الصلاة .
(2) اقتضاء الصراط المستقيم (1/60).(1/188)
قالوا يا رسول الله: اليهود والنصارى؟ قال: "فمن؟". (1)
قال بن بطال: اعلم - صلى الله عليه وسلم - إن أمته ستتبع المحدثات من الأمور والبدع والأهواء، كما وقع للأمم قبلهم، وقد أنذر في أحاديث كثيرة بأن الآخر شر، والساعة لا تقوم إلا على شرار الناس، وان الدين إنما يبقى قائماً عند خاصة من الناس، قلت: وقد وقع معظم ما انذر به - صلى الله عليه وسلم - وسيقع بقية ذلك. (2)
قال ابن عيينة: كان يقال من فسد من علمائنا ففيه شبه من اليهود، ومن فسد من عبادنا ففيه شبه من النصارى.
ووجه هذا أن الله ذم علماء اليهود بأكل السحت، واكل الأموال بالباطل والصد عن سبيل الله، وبقتل النبيين بغير حق، وبقتل الذين يأمرون بالقسط من الناس، وبالتكبر عن الحق وتركه عمداً خوفاً من زوال المأكل والرياسات وبالحسد وبقسوة القلب، وبكتمان الحق، وتلبيس الحق بالباطل، وكل هذه الخصال توجد في علماء السوء من أهل البدع ونحوهم. ولهذا تشبهت الرافضة باليهود في نحو من سبعين خصلة .
وأما النصارى فذمهم الله بالجهل والضلالة، وباللغو في الدين بغير الحق، ورفع المخلوق إلى درجة لا يستحقها، حتى يدعى فيه الإلهية. وإتباع الكبراء في التحليل والتحريم. وكل هذا يجد في جهال المسلمين المنتسبين إلى العبادة من هذه الأمة .
__________
(1) رواه البخاري في كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة برقم (3381)، ومسلم في كتاب العلم برقم (6732). لتتبعن: بفتح اللام، للتأكيد، وفتح التاءين المدغم إحداهما في الأخرى، وكسر الباء الموحدة، وضم العين، وبالنون الثقيلة، وأصله تتبعون من الإتباع، قوله: سنن من كان قبلكم، بفتح السين والنون، أي: طريقة من كان قبلكم، يعني في كل شيء مما نهى الشرع عنه وذمه. عمدة القاري (25/52).
(2) فتح الباري (13/301) .(1/189)
فمنهم من يعبد بالجهل بغير علم، بل يذم العلم وأهله، ومنهم من يغلو في بعض الشيوخ فيدعي فيه الحلول، ومن يدعي الحلول المطلق والاتحاد، ومنهم من يغلو فيمن يعتقده من الشيوخ كما يغلو النصارى في رهبانهم ويعتقدون ان لهم أن يغلو في الدين ما شاؤوا، وأن من رضي عنه غفر له، ولا يبالي بما عمل من عمل، وأن محبتهم لا يضر معها ذنب.
قال ابن قيم الجوزية: نهى عن التشبه بأهل الكتاب في أحاديث كثيرة، كقوله: "إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم"، وقوله: "إن اليهود لا يصلون في نعالهم فخالفوهم"، وقوله في عاشوراء: "خالفوا اليهود، صوموا يوماً قبله، ويوما بعده"، وقوله: "لا تشبهوا بالأعاجم"، وروى الترمذي عنه: "ليس منا من تشبه بغيرنا"، وروى الإمام أحمد عنه: "من تشبه بقوم فهو منهم"، وسر ذلك أن المشابهة في الهدى الظاهر ذريعة إلى الموافقة في القصد والعمل.اهـ. (1)
ffffff
المبحث الرابع:
الأمر بلزوم جماعة المسلمين وإمامهم والتحذير من الفرقة.
إن من أهم الأمور التي ينجو بها المسلم من فتنة الصد عن سبيل الله تعالى، وفتنة الاختلاف والتفرق لزوم الجماعة (2) ، والحذر من أسباب الفرقة والاختلاف.
... وإن في شرع ربِّنا المطهر، المتمثل في الكتاب والسنة ما يدعو إلى لزوم الجماعة بقوة، ويحذر من الاختلاف أيما تحذير.
__________
(1) إعلام الموقعين (3/140) .
(2) المراد بالجماعة هنا: الفرقة الناجية التي أمر الله تعالى بلزومها إذا وقعت الفرقة، وهي السواد الأعظم، الموافقون لما كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - . انظر (وجوب لزوم الجماعة وترك التفرق) لجمال بادي، ص98 .(1/190)
قال ربنا عز وجل: وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ" (1) ، ومما جاء في تفسير الحبل ههنا أنه: لزوم الجماعة (2) ، وقال عبدالله بن المبارك (3) رحمه الله:
إن الجماعة حبل الله فاعتصموا منه بعروته الوثقى لمن دانا (4)
وقال رسول الله: "من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه إلا أن يراجع". (5)
قال الله تعالى: وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ" (6) ، وقال سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ" (7)
__________
(1) سورة آل عمران آية (103).
(2) انظر تفسير الطبري (3/378). والقرطبي (4/102) .
(3) هو عبدالله بن المبارك بن واضح، أبو عبدالرحمن الحنظلي، عالم زمانه، وأحد أعلام الإسلام الكبار، ارتحل طلبًا للعلم إلى الحرمين، والشام، ومصر، والعراق، والجزيرة، وخراسان، وحدّث بأماكن، وصنف المصنفات النافعة، ومناقبه وفضائله كثيرة جدًا، توفي سنة 181هـ. انظر سير أعلام النبلاء (8/378)، وتهذيب التهذيب (3/247).
(4) تفسير القرطبي (4/102) .
(5) صحيح الجامع برقم (2604)، وصحيح الترغيب برقم (5)، والصحيحة برقم (984)، وظلال الجنة برقم (892) .
(6) آل عمران آية (105) .
(7) الأنعام آية (159) .(1/191)
يقول الحافظ ابن كثير - رحمه الله - تعليقًا على الآية الكريمة: ((والظاهر أن الآية عامة في كل من فارق دين الله، وكان مخالفًا له، فإن الله بعث رسوله - صلى الله عليه وسلم - بالهدى ودين الحق، ليظهره على الدين كلِّه، وشرعه واحد، لا اختلاف فيه، ولا افتراق، فمن اختلفوا فيه وكانوا شيعًا وفرقًا كأهل الملل والنحل والأهواء والضلالات، فإن الله قد برَّأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مما هم فيه)) (1)
... وكما جاء القرآن بالتحذير من الفرقة فقد جاء ذلك أيضًا في السنة الشريفة، فقد ثبت في الحديث الصحيح أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من فارق الجماعة شبرًا فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه)) (2)
... وثبت في الحديث الصحيح كذلك: ((من فارق الجماعة فإنه يموت ميتة جاهلية)) (3) ، وفي الحديث الآخر: ((إن الله أمرني بالجماعة، وأنه من خرج من الجماعة شبرًا فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه)) (4)
__________
(1) تفسير ابن كثير (2/196) .
(2) أخرجه الإمام أحمد في المسند (5/180) . والحاكم (1/117) . وأبو داود في كتاب السنة ، باب في قتل الخوارج (4/241) برقم (4758) من حديث أبي ذر > وصححه الألباني. انظر صحيح سنن أبي داود (3/902).
(3) أخرجه أحمد في المسند (2/133) . ابن أبي عاصم في ( السنة ) برقم (91) من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - ، وإسناده حسن ، انظر السلسلة الصحيحة للألباني (2/715) برقم (984) .
(4) أخرجه أحمد في المسند (4/130،202) . واللالكائي في ( شرح أصول الاعتقاد ) برقم (157) ، وقال محقق الكتاب : إن هذا الحديث بمجموع طرقه حسن .(1/192)
وعن عبد الله بن عمر بن الخطاب { قال: "خطبنا عمر بالجابية فقال: يا أيها الناس إني قمت فيكم كمقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فينا فقال: أوصيكم بأصحابي، ثم الذين يلونهم، ثم يفشو الكذب حتى يحلف الرجل ولا يستحلف، ويشهد الشاهد ولا يستشهد، ألا لا يخلون رجل بامرأة إلا كان ثالثهما الشيطان، عليكم بالجماعة وإياكم والفرقة فإن الشيطان مع الواحد وهو مع الاثنين أبعد، من أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة، من سرته حسنته وساءته سيئته فذلكم المؤمن" . (1)
"من خلع يدا من طاعة ؛ لقي الله يوم القيامة ولا حجة له ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية" .
وورد بلفظ : من خرج من الجماعة قيد شبر ؛ فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه حتى يراجعه ومن مات وليس عليه إمامة وجماعة ؛ فإن موتته موتة جاهلية . وقال الحاكم صحيح على شرط الشيخين . ووافقه الذهبي . واعلم أن الوعيد المذكور إنما هو لمن لم يبايع خليفة المسلمين وخرج عنهم وليس كما يتوهم البعض أن يبايع كل شعب أو حزب رئيسه بل هذا هو التفرق المنهي عنه في القرآن الكريم. (2)
وعن النعمان بن بشير > قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "التحدث بنعمة الله شكر، وتركها كفر، ومن لا يشكر القليل لا يشكر الكثير، ومن لا يشكر الناس لا يشكر الله، والجماعة بركة، والفرقة عذاب". (3)
__________
(1) قال الألباني: أخرجه الترمذي (2/25)، والحاكم (1/114)، والبيهقي(1/91) من طريق محمد بن سوقة عن عبد الله بن دينار عنه، وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح غريب". وقال الحاكم:"صحيح على شرط الشيخين"، ووافقه الذهبي. قلت: وهو كما قالا. إرواء الغليل (6/215)، وصحيح الجامع برقم (2546).
(2) السلسلة الصحيحة رقم (984).
(3) صحيح الجامع برقم (3014)، السلسلة الصحيحة برقم(2/272)، صحيح الترغيب.(1/193)
حدثنا عبد الوارث بن سفيان حدثنا قاسم بن أصبغ حدثنا محمد بن إسماعيل الصائغ حدثنا يحيى بن معين بمكة حدثنا غندر حدثنا شعبة عن حبيب بن الزبير قال: سمعت عبد الله بن أبي الهذيل قال كان عمرو بن العاصي يتخولنا فقال رجل من بكر بن وائل لئن لم تنته قريش لنضعن هذا الأمر في جمهور من جماهير العرب غيرهم فقال عمرو بن العاصي كذبت سمعت رسول الله $ يقول قريش ولاة الناس في الخير والشر إلى يوم القيامة وروي من حديث أبي ذر وأبي هريرة وابن عباس بمعنى واحد عن النبي $ أنه قال من خرج من الطاعة وفارق الجماعة فمات فميتته جاهلية وروى ابن عمر عن النبي $ أنه سمعه يقول من نزع يدا من طاعة فلا حجة له ومن مات ولا طاعة عليه كان ميتته ضلالة وروى أبو إدريس الخولاني عن حذيفة قال: قال لي رسول الله $ الزم جماعة المسلمين وإمامهم قلت فإن لم يكن جماعة ولا إمام قال تعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض على شجرة حتى يدركك الموت وأنت كذلك وروى النعمان بن بشير عن النبي $ أنه قال الجماعة رحمة والفرقة عذاب والآثار المرفوعة عن النبي $ في هذا الباب كثيرة جدا وكذلك عن الصحابة أيضا وروى أبو صادق عن علي بن أبي طالب أنه قال إن الإسلام ثلاث أثافي الإيمان والصلاة والجماعة فلا تقبل الصلاة إلا بإيمان ومن آمن صلى وجامع ومن فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه حدثنا عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ حدثنا أحمد بن زهير حدثنا صبيح بن عبد الله الفرغاني قال حدثنا أبو إسحاق الفزاري عن الأوزاعي قال كان يقال خمس كان عليها أصحاب محمد والتابعون لهم بإحسان لزوم الجماعة وإتباع السنة وعمارة المساجد وتلاوة القرآن والجهاد في سبيل الله قال أبو عمر الآثار المرفوعة في هذا الباب كلها تدل على أن مفارقة الجماعة وشق عصا المسلمين والخلاف على السلطان المجتمع عليه ويريق الدم ويبيحه ويوجب قتال من فعل ذلك فإن قيل قد قال رسول الله $ أمرت أن(1/194)
أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها فقد عصموا دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله فمن قال لا إله إلا الله حرم دمه قيل لقائل ذلك لو تدبرت قوله في هذا الحديث إلا بحقها لعلمت أنه خلاف ما ظننت ألا ترى أن أبا بكر الصديق قد رد على عمر ما نزع به من هذا الحديث وقال من حقها الزكاة ففهم عمر ذلك من قوله وانصرف إليه وأجمع الصحابة عليه فقاتلوا مانعي الزكاة كما قاتلوا أهل الردة وسماهم بعضهم أهل ردة على الاتساع لأنهم ارتدوا عن أداء الزكاة ومعلوم مشهور عنهم أنهم قالوا ما تركنا ديننا ولكن شححنا على أموالنا فكما جاز قتالهم عند جميع الصحابة على منعهم الزكاة وكان ذلك عندهم في معنى قوله عليه السلام إلا بحقها فكذلك من شق عصا المسلمين وخالف إمام جماعتهم وفرق كلمتهم لأن الفرض الواجب إجتماع كلمة أهل دين الله المسلمين على من خالف دينهم من الكافرين حتى تكون كلمتهم واحدة وجماعتهم غير مفترقة ومن الحقوق المريقة للدماء المبيحة للقتال الفساد. (1)
وعن عمر بن الخطاب > قال: قال رسول الله $: من أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة فإن الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد.
وقال رسول الله $: "وأنا آمركم بخمس، أمرني الله عز وجل بهن: الجماعة، والسمع والطاعة، والهجرة، والجهاد في سبيل الله عز وجل، فمن فارق الجماعة شبراً فقد خلع ربقة الإسلام من رأسه إلا أن يراجع". (2)
__________
(1) التمهيد (21/281-282).
(2) أخرجه أحمد في المسند برقم (17209)، الترمذي برقم (2863)، وابن خزيمة برقم (1895)، والبيهقي في الكبرى برقم (16390)، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (1724)، والمشكاة برقم (3694)، وصحيح الترغيب برقم (5).(1/195)
وقال - صلى الله عليه وسلم - : "من خرج من الطاعة، وفارق الجماعة فمات؛ مات ميتة جاهلية، ومن قاتل تحت راية عمية يغضب لعصبة أو يدعو إلى عصبة أو ينصر عصبة فقتل؛ فقتلة جاهلية، ومن خرج على أمتي يضرب برها وفاجرها ولا يتحاشى من مؤمنها ولا يفي لذي عهد عهده؛ فليس مني ولست منه". (1)
وعن أبي إدريس الخولاني، أنه سمع حذيفة بن اليمان يقول: كان الناس يسألون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني، فقلت: يا رسول الله إنا كنا في جاهلية وشر فجاءنا الله بهذا الخير فهل بعد هذا الخير من شر؟
قال: نعم .
قلت: وهل بعد ذلك الشر من خير؟
قال: نعم وفيه دخن .
قلت وما دخنه؟
قال: قوم يهدون بغير هديي تعرف منهم وتنكر.
قلت فهل بعد ذلك الخير من شر ؟
قال: نعم دعاة إلى أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها.
قلت: يا رسول الله صفهم لنا؟
فقال هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا.
قلت: فما تأمرني إن أدركني ذلك؟
قال: تلزم جماعة المسلمين وإمامهم.
قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟
قال: فاعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك. (2)
قوله: (أسأله عن الشر): أستوضحه عنه.
(مخافة أن يدركني): خوفا من أن أقع فيه أو أدرك زمنه.
(دخن): من الدخان، وهو الحقد، وقيل الدغل، وقيل فساد في القلب، ومعنى الثلاثة متقارب، يشير إلى أن الخير الذي يجيء بعد الشر لا يكون خيراً خالصاً بل فيه كدر، وقيل المراد بالدخن الدخان، ويشير بذلك إلى كدر الحال، وقيل الدخن: كل أمر مكروه، وقال أبو عبيد: يفسر المراد بهذا الحديث الحديث الآخر: لا ترجع قلوب قوم على ما كانت عليه، وأصله أن يكون في لون الدابة كدورة، فكأن المعنى أن قلوبهم لا يصفو بعضها لبعض .
__________
(1) السلسلة الصحيحة برقم (983).
(2) أخرجه البخاري برقم (3411)، وأخرجه مسلم في الإمارة باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين عند ظهور الفتن رقم (1847).(1/196)
"تعرف منهم وتنكر": أي ترى منهم أشياء موافقة للشرع وأشياء مخالفة له.
قوله: "دعاة" بضم الدال المهملة جمع داع، أي إلى غير الحق.
قوله: "على أبواب جهنم" أطلق عليهم ذلك باعتبار ما يؤول إليه حالهم كما يقال لمن أمر بفعل محرم وقف على شفير جهنم.
"جلدتنا": من أنفسنا وقومنا وقيل هم في الظاهر مثلنا ومعنا وفي الباطن مخالفون لنا في أمورهم وشؤونهم وجلدة الشيء ظاهره، وفيه إشارة إلى أنهم من العرب، وقال الداودي: أي من بني آدم.
ووقع في رواية أبي الأسود: "فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان أنس"، وقوله: جثمان بضم الجيم وسكون المثلثة، هو الجسد، ويطلق على الشخص.
"جماعة المسلمين": عامتهم التي تلتزم بالكتاب والسنة.
"إمامهم": أميرهم العادل الذي اختاروه ونصبوه عليهم.
زاد في رواية أبي الأسود تسمع وتطيع، وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك، وكذا في رواية خالد بن سبيع عند الطبراني: فإن رأيت خليفة فالزمه وإن ضرب ظهرك فان لم يكن خليفة فالهرب.
"تعض بأصل شجرة": أي حتى ولو كان الاعتزال بالعض على أصل شجرة، والعض هو الأخذ بالأسنان والشد عليها، والمراد المبالغة في الاعتزال.(1/197)
وقوله: "وأنت على ذلك" أي العض، وهو كناية عن لزوم جماعة المسلمين، وطاعة سلاطينهم ولو عصوا، قال البيضاوي: المعنى إذا لم يكن في الأرض خليفة فعليك بالعزلة، والصبر على تحمل شدة الزمان، وعض أصل الشجرة كناية عن مكابدة المشقة، كقولهم: فلان يعض الحجارة من شدة الألم، أو المراد اللزوم، كقوله في الحديث الآخر: عضوا عليها بالنواجذ، ويؤيد الأول قوله في الحديث الآخر: فان مت وأنت عاض على جذل خير لك من أن تتبع أحداً منهم، وقال بن بطال: فيه حجة لجماعة الفقهاء في وجوب لزوم جماعة المسلمين، وترك الخروج على أئمة الجور لأنه وصف الطائفة الأخيرة بأنهم دعاة على أبواب جهنم ولم يقل فيهم تعرف وتنكر كما قال في الأولين وهم لا يكونون كذلك إلا وهم على غير حق وأمر مع ذلك بلزوم الجماعة.
قال الطبري: والصواب أن المراد من الخبر لزوم الجماعة الذين في طاعة من اجتمعوا على تأميره، فمن نكث بيعته خرج عن الجماعة.
قال عياض: المراد بالشر الأول الفتن التي وقعت بعد عثمان، والمراد بالخير الذي بعده ما وقع في خلافة عمر بن عبد العزيز، والمراد بالذين تعرف منهم وتنكر الأمراء بعده، فكان فيهم من يتمسك بالسنة والعدل وفيهم من يدعو إلى البدعة ويعمل بالجور، قلت: والذي يظهر أن المراد بالشر الأول ما أشار إليه من الفتن الأولى، وبالخير ما وقع من الاجتماع مع علي ومعاوية، وبالدخن ما كان في زمنهما من بعض الأمراء كزياد بالعراق، وخلاف من خالف عليه من الخوارج، وبالدعاة على أبواب جهنم من قام في طلب الملك من الخوارج وغيرهم، والى ذلك الإشارة بقوله: إلزم جماعة المسلمين وإمامهم يعني ولو جار، ويوضح ذلك رواية أبي الأسود ولو ضرب ظهرك وأخذ مالك، وكان مثل ذلك كثيرا في إمارة الحجاج ونحوه.(1/198)
قال بن أبي جمرة: في الحديث: حكمة الله في عباده كيف أقام كلا منهم فيما شاء فحبب إلى أكثر الصحابة السؤال عن وجوه الخير ليعملوا بها ويبلغوها غيرهم، وحبب لحذيفة السؤال عن الشر ليجتنبه، ويكون سبباً في دفعه عمن أراد الله له النجاة، وفيه: سعة صدر النبي - صلى الله عليه وسلم - ومعرفته بوجوه الحكم كلها حتى كان يجيب كل من سأله بما يناسبه، ويؤخذ منه أن كل من حبب إليه شيء فإنه يفوق فيه غيره، ومن ثم كان حذيفة صاحب السر الذي لا يعلمه غيره حتى خص بمعرفة أسماء المنافقين وبكثير من الأمور الآتية، ويؤخذ منه أن من أدب التعليم أن يعلم التلميذ من أنواع العلوم ما يراه مائلاً إليه من العلوم المباحة فأنه أجدر أن يسرع إلى تفهمه والقيام به، وإن كل شيء يهدي إلى طريق الخير يسمى خيراً، وكذا بالعكس، ويؤخذ منه: ذم من جعل للدين أصلاً خلاف الكتاب والسنة، وجعلهما فرعاً لذلك الأصل الذي ابتدعوه، وفيه: وجوب رد الباطل، وكل ما خالف الهدي النبوي، ولو قاله من قاله من رفيع أو وضيع.اهـ. (1)
__________
(1) فتح الباري لابن حجر .(1/199)
وقال النووي: قوله: (وفيه دخن) قال أبو عبيد وغيره: الدخن بفتح الدال المهملة والخاء المعجمة أصله أن تكون في لون الدابة كدورة إلى سواد قالوا والمراد هنا أن لا تصفو القلوب بعضها لبعض ولا يزول خبثها ولا ترجع إلى ما كانت عليه من الصفا، قال القاضي: قيل المراد بالخير بعد الشر أيام عمر بن عبد العزيز >، قوله بعده: تعرف منهم وتنكر المراد الأمر بعد عمر بن عبد العزيز >، قوله - صلى الله عليه وسلم - : (ويهتدون بغير هديي) الهدى الهيئة والسيرة والطريقة، قوله - صلى الله عليه وسلم - : (دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها) قال العلماء: هؤلاء من كان من الأمراء يدعو إلى بدعة أو ضلال آخر، كالخوارج، والقرامطة، وأصحاب المحنة، وفي حديث حذيفة هذا: لزوم جماعة المسلمين وإمامهم، ووجوب طاعته، وإن فسق وعمل المعاصي من أخذ الأموال وغير ذلك، فتجب طاعته في غير معصية، وفيه: معجزات لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهي هذه الأمور التي أخبر بها، وقد وقعت كلها .اهـ. (1)
قال الشيخ الألباني رحمه الله: فائدة: قلتُ: هذا حديث عظيم الشأن من أعلام نبوته - صلى الله عليه وسلم - ، ونصحه لأمته، ما أحوجَ المسلمين إليه للخلاص من الفرقة والحزبية التي فرقت جمعهم وشتتت شملهم، وأذهبت شوكتهم، فكان ذلك من أسباب تمكن العدو منهم، مصداق قوله تبارك وتعالى: وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ". (2) .اهـ. (3)
قال الحافظ ابن حجر: وفي الحديث: أنّه متى لم يكن للناس إمام فافترقَ الناس أحزاباً، فلا يتبع أحداً في الفرقة ويعتزل الجميع إن استطاع ذلك خشيةً من الوقوع في الشرّ، وعلى ذلك يتنزَّل ما جاء في سائر الأحاديث، وبه يُجْمَع بين ما ظاهره الاختلاف منها.اهـ. (4)
__________
(1) شرح النووي على صحيح مسلم .
(2) سورة الأنفال آية (46) .
(3) نظم الفرائد (2/299) .
(4) فتح الباري (13/37) .(1/200)
وعن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس { في قوله عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا"الآية، وقوله عز وجل: وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ"، وقوله عز وجل: فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ" (1) ، وقوله عز وجل: فتقطعوا أمرهم بينهم زبراً وقوله عز وجل: وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم، وقوله عز وجل: أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه الآية .
وقال ابن عباس - رضي الله عنه - : أمر الله عز وجل المؤمنين بالجماعة ونهاهم عن الاختلاف والفرفة، وأخبرهم أنه إنما هلك من كان قبلهم بالمراء والخصومات في دين الله عز وجل.
وقال محمد بن الحسين: فهذا ما حضرني ذكره مما أمر الله عز وجل به أمة محمد@ أن يلزموا الجماعة، ويحذروا الفرقة، فإن قال قائل: اذكر لنا من سنن رسوله@ أنه حذر أمته ذلك، قيل له: نعم، وواجب عليك أن تسمعه، وتحذر الفرقة، وتلزم الجماعة، وتستعين بالله العظيم جل جلاله على ذلك. (2)
وعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ قَالَ: ثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: خَطَّ لَنَا رَسُولُ اَللَّهِ $ خَطًّا، ثُمَّ قَالَ: "هَذَا سَبِيلُ اَللَّهِ"، ثُمَّ خَطَّ خُطُوطًا عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ وَقَالَ: "هَذِهِ سُبُلٌ عَلَى كُلِّ سَبِيلٍ مِنْهَا شَيْطَانٌ يَدْعُو إِلَيْهِ"، وَقَرَأَ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ.اَلْآيَة. (3)
__________
(1) سورة آل عمران آية (7).
(2) الشريعة (ص5).
(3) أخرجه أحمد، والنسائي، والدارمي، وحسنه الألباني في مشكاة المصابيح، والتوسل، وتخريج الطحاوية.(1/201)
وعن أبي وائل قال: قال: عبدالله >: إن هذا الصراط محتضر يحضره الشياطين، ينادون، يا عبد الله هلم هذا الصراط، ليصدوا عن سبيل الله تعالى، فاعتصموا بحبل الله تبارك وتعالى، فإن حبل الله عز وجل هو كتاب الله جل وعلا.
وعن النواس بن سمعان، عن رسول الله @ قال: ضرب الله مثلا: صراطاً مستقيماً، وعلى جنبتي الصراط سوران فيهما أبواب مفتوحة، وعلى الأبواب ستور مرخاة، وعلى باب الصراط داع يقول: يا أيها الناس، ادخلوا الصراط المستقيم جميعاً ولا تفرقوا، وداع يدعو من فوق الصراط، فإذا أراد الإنسان أن يفتح شيئاً من تلك الأبواب قال له: ويحك، لا تفتحه، فإنك إن تفتحه تلجه، فالصراط: الإسلام، والسوران: حدود الله ، والأبواب المفتحة: محارم الله، وذلك الداعي على رأس الصراط: كتاب الله، والداعي من فوق الصراط: واعظ الله في قلب كل مسلم. (1)
__________
(1) صحيح الجامع رقم (3887)، وصحيح الترغيب، ومشكاة المصابيح.(1/202)
وعن جابر > قال: كنا عند النبي @ فخط خطاً، وخط خطين عن يمينه ، وخط خطين عن يساره ، ثم وضع يده في الخط الأوسط ، فقال: هذا سبيل الله جل وعلا، ثم تلا عليه الصلاة والسلام: وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: فقد بين في هذا الحديث العظيم الذي من عرفه انتفع به انتفاعا بالغاً إن ساعده التوفيق واستغنى به عن علوم كثيرة، أن في قلب كل مؤمن واعظ، والوعظ هو الأمر والنهي والترغيب والترهيب، وإذا كان القلب معمورا بالتقوى انجلت له الأمور وانكشفت بخلاف القلب الخراب المظلم، قال حذيفة بن اليمان: إن في قلب المؤمن سراجا يزهر، وفى الحديث الصحيح: "إن الدجال مكتوب بين عينيه كافر يقرؤه كل مؤمن قارئ وغير قارىء". (1)
__________
(1) الحديث ورد بعدة روايات، رواه البخاري ومسلم وأصحاب السنن، أنظر السلسلة الصحيحة برقم (2457)، وصحيح الجامع برقم (7875) ..(1/203)
فدل على أن المؤمن يتبين له مالا يتبين لغيره ولا سيما في الفتن وينكشف له حال الكذاب الوضاع على الله ورسوله فإن الدجال أكذب خلق الله مع أن الله يجري على يديه أمورا هائلة ومخاريق مزلزلة حتى إن من رآه افتن به فيكشفها الله لمؤمن حتى يعتقد كذبها وبطلانها وكلما قوي الإيمان في القلب قوي انكشاف الأمور له وعرف حقائقها من بواطلها وكلما ضعف الإيمان ضعف الكشف وذلك مثل السراج القوي والسراج الضعيف في البيت المظلم ولهذا قال بعض السلف في قوله نور على نور قال هو المؤمن ينطق بالحكمة المطابقة للحق وإن لم يسمع فيها بالأثر فإذا سمع فيها بالأثر كان نورا على نور فالإيمان الذي في قلب المؤمن يطابق نور القرآن فالإلهام القلبي تارة يكون من جنس القول والعلم والظن أن هذا القول كذب وأن هذا العمل باطل وهذا أرجح من هذا أو هذا أصوب، وفي الصحيح عن النبي × قال قد كان في الأمم قبلكم محدثون فان يكن في أمتي منهم أحد فعمر والمحدث هو الملهم المخاطب في سره وما قال عمر لشئ إني لأظنه كذا وكذا إلا كان كما ظنه أن السكينة تنطق على قلبه ولسانه، وأيضا فإذا كانت الأمور الكونية قد تنكشف للعبد المؤمن لقوة إيمانه يقينا وظنا فالأمور الدينية كشفها له أيسر بطريق الأولى فانه إلى كشفها أحوج فالمؤمن تقع في قلبه أدلة على الأشياء لا عنها في الغالب فان كل أحد لا يمكنه إبانة المعاني القائمة بقلبه فإذا تكلم الكاذب بين يدي الصادق عرف كذبه من فحوى كلامه فتدخل عليه نخوة الحياء الايمانى فتمنعه البيان ولكن هو في نفسه قد أخذ حذره منه وربما لوح أو صرح به خوفا من الله وشفقة على خلق الله ليحذروا من روايته أو العمل به، وكثير من أهل الإيمان والكشف يلقي الله في قلبه أن هذا الطعام حرام، وأن هذا الرجل كافر، أو محمود، أو ديوث، أو لوطي، أو خمار، أو مغن، أو كاذب دليل ظاهر بل بما يلقي الله في قلبه، وكذلك بالعكس يلقي في قلبه محبة لشخص وأنه من أولياء الله(1/204)
وأن هذا الرجل صالح وهذا الطعام حلال، وهذا القول صدق، فهذا وأمثاله لا يجوز أن يستعبد في حق أولياء الله المؤمنين المتقين، وقصة الخضر مع موسى هي من هذا الباب وان الخضر علم هذه الأحوال المعينة بما أطلعه الله عليه، وهذا باب واسع المطلوب بسطه قد نبهنا فيه على نكت شريفة تطلعك على ما وراءها. (1)
__________
(1) مجموع الفتاوى (11/618) .(1/205)
قال الطيبي: هذا يدل على أن قول أبواب مفتحة أنها مردودة غير مغلقة، فالصراط الإسلام، والسوران حدود اللّه تعالى، والأبواب المفتحة محارم اللّه، وذلك الداعي على رأس الصراط كتاب اللّه، والداعي من فوق واعظ اللّه في قلب كل مسلم، قال تعالى: { وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه } الآية. ونظير هذا حديث ألا إن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى اللّه في الأرض محارمه فمن رتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه، فالسور بمنزلة الحمى وحولها بمنزلة الباب، والستور حدود اللّه، الحد الفاصل بين العبد ومحارم اللّه وواعظ اللّه هو لمة الملك في قلب المؤمن، والأخرى لمة الشيطان، وإنما جعل لمة الملك التي هي واعظ اللّه فوق داعي القرآن لأنه إنما ينتفع به إذا كان المحل قابلاً، ولهذا قال تعالى: { هدى للمتقين } ، إنما ضرب المثل بذلك زيادة في التوضيح والتقريب ليصير المعقول محسوساً والمتخيل متحققاً، فإن التمثيل إنما يصار إليه لكشف المعنى الممثل، ورفع الحجاب عنه، وإبرازه في صورة المشاهد ليساعد فيه الوهم العقل، فإن المعنى الصرف إنما يدركه العقل مع منازعة الوهم لأن طبعه الميل إلى الحس وحب المحاكاة، ولذلك شاعت الأمثال في الكتب الإلهية، وفشت في عبارات البلغاء وإشارات الحكماء، قال النووي: سر هذا الحديث أنه أقام الصراط معنى للإسلام، وأقام الداعي معنى للكتاب، والداعي الآخر معنى للعظة في قلب كل مؤمن فأنت على الصراط الدائم وهو الإسلام وسامع النداء القائم وهو القرآن، فإن أنت أقمت حركاتك وسكناتك بمدبرك وخالقك بسقوط من سواه أقامك إليه به، وقمت به إليه بسقوطك عنك فحينئذ يكشف لك اسمه الأعظم الذي لا يخيب من قصده به، قال القاضي: وضرب المثل احتماله من ضرب الخاتم، وأصله وقع الشيء على الشيء . (1)
__________
(1) فيض القدير .(1/206)
وعن ثابت بن قطبة قال: إن عبد الله بن مسعود قال في خطبته: يا أيها الناس، عليكم بالطاعة والجماعة، فإنها حبل الله عز وجل الذي أمر به، وما تكرهون في الجماعة خير مما تحبون في الفرقة.
وعن الشعبي قال: كان يقال: من أراد بحبوحة الجنة فعليه بجماعة المسلمين.
وعن عمرو بن يزيد صاحب الطعام، قال : سمعت الحسن أيام يزيد بن المهلب يقول: - وأتاه رهط - فأمرهم أن يلزموا بيوتهم، ويغلقوا عليهم أبوابهم، ثم قال: والله لو أن الناس إذا ابتلوا من قبل سلطانهم صبروا ما لبثوا أن يرفع الله عز وجل ذلك عنهم، وذلك أنهم يفزعون إلى السيف فيوكلون إليه، ووالله ما جاؤوا بيوم خير قط، ثم تلا: وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون.
وعن أم سلمة <، عن النبي @ قال: يكون أمراء تعرفون وتنكرون، فمن أنكر فقد برىء، ومن كره فقد سلم، ولكن من رضي وتابع ، فقالوا: يا رسول الله: ألا نقاتلهم؟ قال: لا، ما صلوا.
و عن أم سلمة < قالت: إن رسول الله @ قال: يكون عليكم أمراء تعرفون وتنكرون، فمن عرف فقد برىء، ومن كره فقد سلم، ولكن من رضي وتابع، قالوا: أفلا نقاتلهم؟ قال: لا، ما صلوا .
وعن أنس بن مالك > قال: قال رسول الله @: اسمعوا وأطيعوا، وإن استعمل عليكم حبشي كأن رأسه زبيبة. (1)
وعن أبي العالية: تعلموا الإسلام، فإذا تعلمتموه فلا ترغبوا عنه، وعليكم بالصراط المستقيم، فإنه الإسلام ولا تحرفوا يميناً ولا شمالاً، وعليكم بسنة نبيكم، وما كان عليه أصحابه من قبل أن يقتلوا صاحبهم ومن قبل أن يفعلوا الذي فعلوا، قد قرأنا القرآن من قبل أن يقتلوا صاحبهم، ومن قبل أن يفعلوا الذي فعلوا، وإياكم وهذه الأهواء التي تلقي بين الناس العداوة والبغضاء، فحدث الحسن بذلك فقال : رحمه الله صدق ونصح. (2)
وكان مالك كثيرا ما ينشد:
__________
(1) الاعتصام (1/90).
(2) خرجه ابن وضاح وغيره .(1/207)
وخير أمور الدين ما كان سنة ... وشر الأمور المحدثات البدائع.
وقوله $: "إذا بويع لخليفتن فاقتلوا الآخر منهم ". (1)
قال الأوزاعي: عليك بآثار من سلف وان رفضك الناس وإياك ورأي الرجال وان زخرفوه بالقول فان الأمر ينجلي وأنت على طريق مستقيم .
وقال عامر بن يساف: سمعت الأوزاعي يقول إذا بلغك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث فإياك أن تقول بغيره فإنه كان مبلغا عن الله، قال أبو إسحاق الفزاري، عن الأوزاعي: كان يقول خمسة كان عليها الصحابة والتابعون:
1- لزوم الجماعة .
2- واتباع السنة .
3- وعمارة المساجد .
4- والتلاوة .
5- والجهاد .
وقال بن شابور : سمعت الأوزاعي يقول: من أخذ بنوادر العلماء (يعني غرائب) خرج من الإسلام وعن الأوزاعي ما ابتدع رجل بدعة إلا سلب ورعه. (2)
قال ابن تيمية رحمه الله:
غاية الكرامة لزوم الاستقامة
__________
(1) )) رواه مسلم (1853). وقال من جاءكم وأمركم على رجل واحد يريد أن يفرق جماعتكم فاضربوا عنقه بالسيف كائناً من كان، وأمر النبي $ بقتل رجل تعمد عليه الكذب، وسأله ابن الديلمى عمن لم ينته عن شرب الخمر فقال من لم ينته عنها فاقتلوه.
فلهذا ذهب مالك وطائفة من أصحاب أحمد إلى جواز قتل الجاسوس وذهب مالك ومن وافقه من أصحاب الشافعي إلى قتل الداعية إلى البدع وليست هذه القاعدة المختصرة موضع ذلك فان المحتسب ليس له القتل والقطع. فتح الباري (28/109).
وقال ابن قيم الجوزية: سدا لذريعة الفتنة والفرقة، ونهى عن قتال الأمراء والخروج على الأئمة وإن ظلموا وجاروا ما أقاموا الصلاة سدا لذريعة الفساد العظيم والشر الكبير بقتالهم كما هو الواقع فإنه حصل بسبب قتالهم والخروج عليهم من الشرور أضعاف أضعاف ما هم عليه والأمة في تلك الشرور إلى الآن.إغاثة اللهفان (1/369).
(2) تذكرة الحفاظ (1/185).(1/208)
ويظن الجهال أن هذا من كرامات أولياء الله المتقين وإنما هذا مبعد لصاحبه عن الله وهو من أحوال الشياطين فإن قتل المسلم لا يحل إلا بما أحله الله فكيف يكون قتل المعصوم مما يكرم الله به أولياءه؟! وإنما غاية الكرامة لزوم الاستقامة فلم يكرم الله عبدا بمثل أن يعينه على ما يحبه ويرضاه ويزيده مما يقربه إليه ويرفع به درجته وذلك أن الخوارق منها ما هو من جنس العلم كالمكاشفات ومنها ما هو من جنس القدرة والملك كالتصرفات الخارقة للعادات ومنها ما هو من جنس الغنى من جنس ما يعطاه الناس في الظاهر من العلم والسلطان والمال والغنى. (1)
ffffff
الفصل الرابع
بَابٌ
فِي مَحَبَّةِ أَصْحَابِ اَلنَّبِيِّ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
من الأصول المقررة لدى أهل السنة والجماعة حب الصحابة الكرام، والذب عنهم وهو أصل من أصول الإسلام، لأنهم صحابة خاتم الأنبياء عليه الصلاة والسلام، وهم نقلة التشريع، وقد أختارهم الله سبحانه وتعالى لصحبة نبيه - صلى الله عليه وسلم - .
فهم خير الناس جميعاً، وقد مدحهم الله تعالى في كتابه، ورضي عنهم أجمعين.
قال الله تعالى: وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ اتةةب". (2)
__________
(1) أولياء الرحمان وأولياء الشيطان (1/144).
(2) سورة التوبة الآية (100).(1/209)
قال الطبري: يقول تعالى ذكره: والذين سبقوا الناس أولا إلى الإيمان بالله ورسوله { من المهاجرين } الذين هاجروا قومهم وعشيرتهم وفارقوا منازلهم وأوطانهم، { والأنصار } الذين نصروا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أعدائه من أهل الكفر بالله ورسوله، { والذين اتبعوهم بإحسان } يقول: والذين سلكوا سبيلهم في الإيمان بالله ورسوله والهجرة من دار الحرب إلى دار الإسلام طلب رضي الله رضي الله عنهم ورضوا عنه.
ثم قال: ومعنى الكلام: رضي الله عن جميعهم لما أطاعوه وأجابوا نبيه إلى ما دعاهم إليه من أمره ونهيه ورضي عنه السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان لما أجزل لهم من الثواب على طاعتهم إياه وإيمانهم به وبنبيه عليه السلام { وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار } يدخلونها { خالدين فيها } لابثين فيها { أبدا } لا يموتون فيها ولا يخرجون منها ذلك الفوز العظيم. (1)
وقال ابن كثير: وذكر عن الحسن البصري أنه كان يقرؤها برفع الأنصار عطفا على والسابقون الأولون فقد أخبر الله العظيم أنه قد رضي عن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان فياويل من أبغضهم أو سبهم أو أبغض أو سب بعضهم ولا سيما سيد الصحابة بعد الرسول وخيرهم وأفضلهم أعني الصديق الأكبر والخليفة الأعظم أبا بكر بن أبي قحافة > فإن الطائفة المخذولة من الرافضة يعادون أفضل الصحابة ويبغضونهم ويسبونهم عياذاً بالله من ذلك، وهذا يدل على أن عقولهم معكوسة، وقلوبهم منكوسة، فأين هؤلاء من الإيمان بالقرآن إذ يسبون من رضي الله عنهم؟ وأما أهل السنة فإنهم يترضون عمن رضي الله عنه، ويسبون من سبه الله ورسوله، ويوالون من يوالي الله، ويعادون من يعادي الله وهم متبعون لا مبتدعون، ويقتدون ولا يبتدون، ولهذا هم حزب الله المفلحون وعباده المؤمنون.
__________
(1) تفسير الطبري.(1/210)
فالتابعون لهم بإحسان هم المتبعون لآثارهم الحسنة وأوصافهم الجميلة الداعون لهم في السر والعلانية ولهذا قال تعالى:في هذه الآية الكريمة { والذين جاؤوا من بعدهم يقولون } أي قائلين { ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا } أي بغضا وحسدا { للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم } وما أحسن ما استنبط الإمام مالك رحمه الله من هذه الآية الكريمة أن الرافضي الذي يسب الصحابة ليس له في مال الفيء نصيب لعدم اتصافه بما مدح الله به هؤلاء في قولهم { ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم } . (1)
قال الإمام الذهبي: وأما مناقب الصحابة وفضائلهم فأكثر من أن تذكر، وأجمعت علماء السنة أن أفضل الصحابة العشرة المشهود لهم، وأفضل العشرة: أبو بكر، ثم عمر بن الخطاب، ثم عثمان بن عفان، ثم علي بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين، ولا يشك في ذلك إلا مبتدع منافق خبيث. (2)
قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ". (3)
قال ابن قيم الجوزية: قوله تعالى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ"، قال غير واحد من السلف: هم أصحاب محمد $ ولا ريب أنهم أئمة الصادقين، وكل صادق بعدهم فيهم يأتم في صدقه، بل حقيقة صدقه أتباعه لهم، وكونه معهم ومعلوم أن من خالفهم في شئ وإن وافقهم في غيره لم يكن معهم فيما خالفهم فيه، وحينئذ فيصدق عليه أنه ليس معهم، فتنتفي عنه المعية المطلقة وإن ثبت له قسط من المعية فيما وافقهم فيه فلا يصدق عليه أنه معهم بهذا القسط. (4)
__________
(1) تفسير ابن كثير (4/432).
(2) الكبائر للذهبي (1/236) .
(3) سورة التوبة آية (119) .
(4) إعلام الموقعين (4/138) .(1/211)
وقال الإمام البربهاري: والأساس الذي تبنى عليه الجماعة هم أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - رحمهم الله أجمعين، وهم أهل السنة والجماعة، فمن لم يأخذ عنهم فقد ضل وابتدع، وكل بدعة ضلالة، والضلالة وأهلها في النار. (1)
فهم الذين اختارهم الله تعالى لصحبة نبيه $، ومدحهم في كتابه العزيز، ووصفهم بأفضل وصف.
فقال الله تعالى: مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا". (2)
__________
(1) شرح السنة (1/21).
(2) سورة الفتح آية (29) .(1/212)
قال ابن كثير: ومن هذه الآية انتزع الإمام مالك رحمة الله عليه في رواية عنه بتكفير الروافض الذين يبغضون الصحابة رضي الله عنهم، قال: لأنهم يغيظونهم ومن غاظ الصحابة رضي الله عنهم فهو كافر لهذه الآية، ووافقه طائفة من العلماء رضي الله عنهم على ذلك، والأحاديث في فضل الصحابة رضي الله عنهم والنهي عن التعرض لهم بمساءة كثيرة ويكفيهم ثناء الله عليهم ورضاه عنهم، ثم قال تبارك وتعالى: { وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم } من هذه لبيان الجنس { مغفرة } أي لذنوبهم { وأجرا عظيما } أي ثوابا جزيلا ورزقا كريما ووعد الله حق وصدق لا يخلف ولا يبدل وكل من اقتفى أثر الصحابة رضي الله عنهم فهو في حكمهم ولهم الفضل والسبق والكمال الذي لا يلحقهم فيه أحد من هذه الأمة رضي الله عنهم وأرضاهم وجعل جنات الفردوس مأواهم، وقد فعل قال مسلم في صحيحه: حدثنا يحيى بن يحيى حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن أبي صالح
عن أبي هريرة > قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : [لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه]. (1)
قال الإمام الذهبي: وما ذاك إلا لسابقتهم ومجاهدتهم أعداء الله بين يدي رسول الله $ .
ثم قال: وإنما يعرف فضائل الصحابة رضي الله عنهم من تدبر أحوالهم وسيرهم وآثارهم في حياة رسول الله $ وبعد موته من المسابقة إلى الإيمان، والمجاهدة للكفار، ونشر الدين، وإظهار شعائر الإسلام، وإعلاء كلمة الله ورسوله، وتعليم فرائضه وسننه، ولولاهم ما وصل إلينا من الدين أصل، ولا فرع، ولا علمنا من الفرائض والسنن سنة، ولا فرضاً، ولا علمنا من الأحاديث والأخبار شيئاً. (2)
__________
(1) تفسير ابن كثير (4/260).
(2) الكبائر للذهبي (1/236) .(1/213)
وكل مسلم عاقل يعلم أن الصحابة الكرام هم أفضل خلق الله تعالى بعد الأنبياء، وأن قلوبهم أنقى وأتقى قلوباً، بعد قلب النبي $ وقلوب الأنبياء، فهم أبر هذه الأمة قلوباً وأعمقها علماً وأقلها تكلفاً، وأتقاهم لله تعالى، وأكثرهم خشية لله تعالى، وأفضل منا عند الله عز وجل.
قال عبدالله بن مسعود >: "إن الله نظر في قلوب العباد فوجد قلب محمد - صلى الله عليه وسلم - خير قلوب العباد فاصطفاه لنفسه فابتعثه برسالته، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد فوجد قلوب الصحابة خير قلوب العباد فجعلهم الله وزراء نبيه يقاتلون على دينه". (1)
وفي رواية فيها زيادة: "فما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن، وما رآه المسلمون قبيحاً فهو عند الله قبيح". (2)
وذكر قتادة عن عبدالله بن مسعود > قال: "من كان منكم متأسياً فليتأس بأصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - فإنهم كانوا أبرّ هذه الأمة قلوباً وأعمقها علماً وأقلها تكلفاً وأقومها هدياً وأحسنها حالاً ، قوماً اختارهم الله تعالى لصحبة نبيه - صلى الله عليه وسلم - فاعرفوا لهم فضلهم واتبعوهم في آثارهم فإنهم كانوا على الهدى المستقيم". (3)
__________
(1) رواه الإمام مالك في الموطأ (1/355), والإمام أحمد (1/379) من طريق عاصم بن أبي النجود عن زر بن حبيش عن عبدالله وسنده حسن، ورواه الطبراني في الأوسط برقم (3602)، قال الهيثمي في المجمع (1/428): "رواه أحمد والبزار والطبراني في الكبير ورجاله موثقون".
(2) أنظر التخريج السابق .
(3) أخرجه ابن عبدالبر في جامع بيان العلم وفضله وفيه انقطاع، فقد توفي ابن مسعود قبل أن يولد قتادة، ولكن رواه الإمام أحمد في مسنده بسند صحيح .(1/214)
قال شيخ الإسلام رحمه الله: "وقول عبدالله بن مسعود: كانوا أبر هذه الأمة قلوباً وأعمقها علماً وأقلها تكلفاً؛ كلام جامع بيّنَ فيه حسن قصدهم ونياتهم ببر القلوب وبين فيه كمال المعرفة ودقتها بعمق العلم، وبين فيه تيسر ذلك عليهم، وامتناعهم من القول بلا علم بقلة التكلف". (1)
قال الله تعالى: لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى" وقال تعالى: وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ"والسابقون الأولون: الذين أنفقوا من قبل الفتح وقاتلوا والمراد بالفتح: صلح الحديبية فإنه كان من أول فتح مكة وفيه أنزل الله تعالى: إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ". (2) فقالوا: يا رسول الله أو فتح هو؟ قال: "نعم".
__________
(1) منهاج السنة (2/79 ) .
(2) سورة الفتح آية (1ـ2).(1/215)
قال الشيخ السعدي: المراد بالفتح هنا هو فتح الحديبية، حين جرى من الصلح بين الرسول - صلى الله عليه وسلم - وبين قريش مما هو أعظم الفتوحات التي حصل بها نشر الإسلام، واختلاط المسلمين بالكافرين، والدعوة إلى الدين من غير معارض، فدخل الناس من ذلك الوقت في دين الله أفواجا، واعتز الإسلام عزا عظيما، وكان المسلمون قبل هذا الفتح لا يقدرون على الدعوة إلى الدين في غير البقعة التي أسلم أهلها، كالمدينة وتوابعها، وكان من أسلم من أهل مكة وغيرها من ديار المشركين يؤذى ويخاف، فلذلك كان من أسلم قبل الفتح وأنفق وقاتل، أعظم درجة وأجرا وثوابا ممن لم يسلم ويقاتل وينفق إلا بعد ذلك، كما هو مقتضى الحكمة، ولذلك كان السابقون وفضلاء الصحابة، غالبهم أسلم قبل الفتح، ولما كان التفضيل بين الأمور قد يتوهم منه نقص وقدح في المفضول، احترز تعالى من هذا بقوله: { وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى } أي: الذين أسلموا وقاتلوا وأنفقوا من قبل الفتح وبعده، كلهم وعده الله الجنة، وهذا يدل على فضل الصحابة [كلهم]، رضي الله عنهم، حيث شهد الله لهم بالإيمان، ووعدهم الجنة، { وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } فيجازي كلا منكم على ما يعلمه من عمله. (1)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وأفضل السابقين الأولين الخلفاء الأربعة، وأفضلهم أبو بكر ، ثم عمر ، وهذا هو المعروف عن الصحابة والتابعين لهم بإحسان وأئمة الأمة وجماهيرها، وقد دلت على ذلك دلائل بسطناها في منهاج أهل السنة النبوية في نقض كلام أهل الشيعة والقدرية. (2)
__________
(1) تفسير السعدي.
(2) أولياء الرحمن وأولياء الشيطان (1/70).(1/216)
وبالجملة اتفقت طوائف السنة، والشيعة على أن أفضل هذه الأمة بعد نبيها واحد من الخلفاء، ولا يكون من بعد الصحابة أفضل من الصحابة، وأفضل أولياء الله تعالى أعظمهم معرفة بما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - واتباعا له كالصحابة الذين هم أكمل الأمة في معرفة دينه واتباعه، وأبو بكر الصديق أكمل معرفة بما جاء به وعملا به، فهو أفضل أولياء الله إذاكانت أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - أفضل الأمم وأفضلها أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - وأفضلهم أبو بكر >. (1)
قَالَ اَلنَّضْرُ: وَسَمِعْتُ أَبَا قِلَابَةَ يَقُولُ لِأَيُّوبَ: يَا أَيُّوبَ اِحْفَظْ مِنِّي ثَلَاثًا: لَا تُقَاعِدْ أَهْلَ اَلْأَهْوَاءِ، وَلَا تَسْمَعْ مِنْهُمْ، وَلَا تُفَسِّرْ اَلْقُرْآنَ بِرَأْيِكَ، فَإِنَّكَ لَسْتَ مِنْ ذَلِكَ فِي شَيْءٍ، وَانْظُرْ هَؤُلَاءِ اَلرَّهْطَ مِنْ أَصْحَابِ اَلنَّبِيِّ $ فَلَا تَذْكُرُهُمْ إِلَّا بِخَيْرٍ.
وعن جَعْفَرُ بْنُ بُرْقَانَ عَنْ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ قَالَ: ثَلَاثَةٌ اُرْفُضُوهُنَّ مُجَادَلَةُ أَصْحَابِ اَلْأَهْوَاءِ، وَشَتْمُ أَصْحَابِ رَسُولِ اَللَّهِ $ وَالنَّظَرُ فِي اَلنُّجُومِ.
ونقل أبو عبد الله الحاكم، عن يحيى بن آدم قول السلف الصالح : سنة أبي بكر، وعمر رضي الله عنهما، أن المعنى فيه أن يعلم أن النبي $ مات وهو على تلك السنة، وأنه لا يحتاج مع قول النبي $ إلى قول أحد، وما قال صحيح في نفسه فهو مما يحتمله حديث العرباض رضي الله عنه فلا زائد إذا على ما ثبت في السنة النبوية إلا أنه قد يخاف أن تكون منسوخة بسنة أخرى، فافتقر العلماء إلى النظر في عمل الخلفاء بعده لعلموا أن ذلك هو الذي مات عليه النبي $ من غير أن يكون له ناسخ، لأنهم كانوا يأخذون بالأحداث، فالأحداث من أمره، وعلى هذا المعنى بنى مالك بن أنس في احتجاجه بالعمل ورجوعه إليه عند تعارض السنن.
__________
(1) أولياء الرحمن (1/70).(1/217)
وقال أبو بكر الطمستاني: الطريق واضح، والكتاب والسنة قائم بين أظهرنا، وفضل الصحابة معلوم لسبقهم إلى الهجرة ولصحبتهم، فمن صحب منا الكتاب والسنة، وتغرب عن نفسه والخلق، وهاجر بقلبه إلى الله فهو الصادق المصيب. (1)
فإن الصحابة رضوان الله عليهم خير قرون هذه الأمة التي هي خير أمة أخرجت للناس، وهم تلقوا الدين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بلا واسطة ففهموا من مقاصده، وعاينوا من أفعاله، وسمعوا منه شفاها مالم يحصل لمن بعدهم، وكذلك كان يستفيد بعضهم من بعض ما لم يحصل لمن بعدهم، وهم قد فارقوا جميع أهل الأرض، وعادوهم، وهجروا جميع الطوائف وأديانهم، وجاهدوهم بأنفسهم، وأموالهم. (2)
قال البيهقي: و يدخل في جملة حب النبي $ حب أصحابه لأن الله عز و جل أثنى عليهم و مدحهم فقال : مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ". (3)
وقال: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا". (4)
وقال: وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ". (5)
وقال: +وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ". (6)
__________
(1) الاعتصام (1/60-68) .
(2) مجموع الفتاوى (27/389).
(3) سورة الفتح آية (29) .
(4) سورة الفتح آية (18) .
(5) سورة التوبة آية (100) .
(6) سورة الأنفال آية (74) .(1/218)
فإذا انزلوا هذه المنزلة استحقوا على جماعة المسلمين أن يحبوهم، ويتقربوا إلى الله عز وجل بمحبتهم، لأن الله تعالى إذا رضي عن أحد أحبه، وواجب على العبد أن يحب من يحبه مولاه.اهـ. (1)
قال الشيخ سليمان العلوان: فإن من العقائد والأصول المقررة في الإسلام حب الصحابة من المهاجرين، والأنصار، والذين اتبعوهم بإحسان، واعتقاد فضيلتهم، وصدقهم، والترحم على صغيرهم، وكبيرهم، وأولهم، وآخرهم، وصيانة أعراضهم، وحرماتهم، فذلك أمر ضروري، وهو أحد الضروريات الخمس - الدين، والنفس، والنسل، والعقل، والمال - التي جاءت الشريعة بالمحافظة عليها، وضبط حقوقها (2) والأخذ على يد من هتكها، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في مجمع عظيم من أعظم مجامع المسلمين: "إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم بينكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا فليبلغ الشاهد الغائب". رواه البخاري (67) ومسلم (1679) من طريق ابن سيرين عن عبدالرحمن بن أبي بكرة عن أبي بكرة >. (3)
وقد كان السلف الصالح وعلى رأسهم الصحابة الكرام رضوان الله عليهم كانوا يخافون النفاق على أنفسهم، وهم أبعد الناس عن ذلك.
__________
(1) شعب الإيمان (2/191) .
(2) انظر الموافقات (1/31) للشاطبي.
(3) الإستنفار للذب عن الصحابة الكرام.(1/219)
قال ابن أبى مليكة أدركت ثلاثين من أصحاب محمد كلهم يخاف النفاق على نفسه، وعن على أو حذيفة رضي الله عنهما، قال: القلوب أربعة: قلب أجرد فيه سراج يزهر، فذلك قلب المؤمن، وقلب أغلف فذاك قلب الكافر، وقلب منكوس فذاك قلب المؤمن المنافق، وقلب فيه مادتان مادة تمده الإيمان، ومادة تمده النفاق، فأولئك قوم خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً، وإذا عرف هذا علم أن كل عبد ينتفع بما ذكر الله في الإيمان من مدح شعب الإيمان، وذم شعب الكفر، وهذا كما يقول بعضهم في قوله: اهدنا الصراط المستقيم، فيقولون: المؤمن قد هدى إلى الصراط المستقيم فأي فائدة في طلب الهدى، ثم يجيب بعضهم بأن المراد ثبتنا على الهدى، كما تقول العرب للنائم نم حتى آيتك، أو يقول بعضهم إلزم قلوبنا الهدى، فحذف الملزوم، ويقول بعضهم: زدني هدى، وإنما يوردون هذا السؤال لعدم تصورهم الصراط المستقيم الذي يطلب العبد الهداية إليه، فان المراد به العمل بما أمر الله به، وترك ما نهى الله عنه في جميع الأمور. (1)
__________
(1) مجموع الفتاوى (10/106-107).(1/220)
وقال ابن الأثير: ولا خفاء على من كان له قلب، أو ألقى السمع وهو شهيد، أن من تبوأ الدار والإيمان من المهاجرين، والأنصار السابقين إلى الإسلام، والتابعين لهم بإحسان الذين شهدوا الرسول - $ - وسمعوا كلامه، وشاهدوا أحواله، ونقلوا ذلك إلى من بعدهم من الرجال، والنساء من الأحرار، والعبيد، والإماء أولى بالضبط والحفظ، وهم +الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ". (1) بتزكية الله سبحانه وتعالى لهم وثنائه عليهم، ولأن السنن التي عليها مدار تفصيل الأحكام، ومعرفة الحلال والحرام، إلى غير ذلك من أمور الدين، إنما ثبتت بعد معرفة رجال أسانيدها ورواتها، وأولهم والمقدر عليهم أصحاب رسول الله - $- ؛ فإذا جهلهم الإنسان كان بغيرهم أشد جهلاً، وأعظم إنكاراً، فينبغي أن يعرفوا بأنسابهم، وأحوالهم هم، وغيرهم من الرواة، حتى يصح العمل بما رواه الثقات منهم، وتقوم به الحجة ؛ فإن المجهول لا تصح روايته، ولا ينبغي العمل بما رواه، والصحابة يشاركون سائر الرواة في جميع ذلك إلا في الجرح والتعديل ؛ فإنهم كلهم عدول لا يتطرق إليهم الجرح ؛ لأن الله - عز وجل - ورسوله زكياهم وعدلاهم وذلك مشهور لا نحتاج لذكره ويجيء كثير منه في كتابنا هذا فلا نطول به هنا.اهـ. (2)
ffffff
بَابٌ
فِي تَقَدُّمِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ رضي الله عنهم
وَمِنْ قَوْلِ أَهْلِ اَلسُّنَّةِ أَنَّ أَفْضَلَ هَذِهِ اَلْأُمَّةِ بَعْدَ نَبِيِّنَا $ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، وَأَفْضَلَ اَلنَّاسِ بَعْدَهُمَا عُثْمَانُ وَعَلِيٌّ.
__________
(1) سورة الأنعام آية (82) .
(2) أسد الغابة (1/1) .(1/221)
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "اقتدوا باللذين من بعدي من أصحابي: أبي بكر وعمر، واهتدوا بهدي عمار، وتمسكوا بعهد ابن مسعود". (1)
قوله: (اقتدوا باللذين) بفتح الذال (من بعدي من أصحابي أبي بكر وعمر واهتدوا بهدي عمار) بن ياسر: أي سيروا بسيرته واسترشدوا بإرشاده فإنه ما عرض عليه أمران إلا اختار أرشدهما كما يأتي في حديث (وتمسكوا بعهد ابن مسعود) عبداللّه أي ما يوصيكم به، قال التوربشتي: أشبه الأشياء بما يراد من عهده أمر الخلافة فإنه أول من شهد بصحتها وأشار إلى استقامتها قائلاً: ألا نرضى لدنيانا من رضيه لديننا نبيينا كما يومئ إليه المناسبة بين مطلع الخبر وتمامه. (2)
وقال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - : أفضل هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ، وعمر ، ولو شئت أن أسمي لكم الثالث لسميته .
وقال: لا يفضلني أحد على أبي بكر وعمر إلا جلدته جلداً وجيعاً ، وسيكون في آخر الزمان قوم ينتحلون محبتنا والتشيع فينا هم شرار عبد الله الذي يشتمون أبا بكر وعمر . (3)
قال: وقال علي: ولقد جاء سائل فسأل رسول الله $ فأعطاه وأعطاه أبو بكر، وأعطاه عمر، وأعطاه عثمان، فطلب الرجل من رسول الله $ أن يدعوا له فيما أعطوه بالبركة، فقال رسول الله $: "وكيف لا يبارك لك ولم يعطك إلا نبي، أو صديق، أو شهيد ؟". (4)
وعن وهب الخير قال: قال لي علي: يا أبا جحيفة ألا أخبرك بأفضل هذه الأمة بعد نبيها قال: قلت: بلى - قال: ولم أكن أرى أن أحدا أفضل منه - قال: أفضل هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر وبعد أبي بكر عمر وبعدهما آخر ثالث. ولم يسمه. (5)
وأبو بكر الصديق > أفضل خلق الله بعد الأنبياء
__________
(1) الحديث عن ابن مسعود، وحذيفة، وأنس رضي الله عنهم. وصححه الألباني في صحيح الجامع حديث رقم (1144) .
(2) فيض القدير .
(3) تاريخ دمشق (26/343).
(4) مختصر تاريخ دمشق (1/1609).
(5) أسد الغابة (1/1111).(1/222)
هو عبد الله بن أبي قحافة، خليفة النبي $ وصاحبه ورفيقه في الحضر والأسفار والسابق إلى التصديق، المؤيد من الله تعالى بالتوفيق.
وهو الذي كان مع رسول الله $ في الغار .
وهذا بإجماع المفسرين من أهل السنة والجماعة كالطبري وابن كثير والقرطبي وغيرهم .
قال أبو بكر الصديق >:كنت مع النبي $ في الغار،فرفعت رأسي فإذا أنا بأقدام القوم فقلت:يا نبي الله لو أن بعضهم طأطأ بصره رآنا،قال:"اسكت يا أبا بكر،اثنان الله ثالثهما ". (1)
وحين دعاه رسول الله $ إلى الإسلام آمن لساعته ولم يطل التفكير لما كان يعلمه من صدق النبي $ وأمانته، وحسن سجيته وكرم أخلاقه مما يمنعه أن يكذب على الخلق، فكيف يكذب على الله تعالى ؟! .
وكان أول الناس إسلاماً، وأشهرهم تصديقاً برسول الله $ ودعوته، يقول رسول الله $:"ما دعوت أحداً إلى الإسلام إلا كانت له عنه كَبوة، وتردد ونظر، إلا أبا بكر،ما عَتَمَ عنه حين ذكرته، وما تردد فيه". (2)
ولقد أعلن رسول الله $ ذلك بين الناس عندما صعد جبل أُحد مع أبي بكر وعمر وعثمان ، فرجف بهم الجبل ، فقال النبي $ :" اثبت أُحُد فإنما عليك نبي وصدّيق وشهيدان ". (3)
ولهذا كان علي بن أبي طالب > في خلافته يذكر على المنبر ويكرَّر مراراً :"إن الله سمَّى أبا بكر على لسان نبيه صدَّيقاً"، قال النبي $ :" وما نفعني مال أحد قط ما نفعني مال أبي بكر ". (4)
__________
(1) البخاري في المناقب برقم (3922)، ومسلم في فضائل الصحابة برقم (2381).
(2) مختصر تاريخ ابن عساكر(13/44).
(3) البخاري " مع الفتح " (7/22) ، رقم (3675) .
(4) رواه الإمام أحمد في "مسنده " (2/253) ، وقال الهيثمي: رواه أبو يعلى ورجاله رجال الصحيح غير إسحاق بن إسرائيل،وهو ثقة مأمون.مجمع الزوائد (9/36) .(1/223)
وقف النبي $ في أواخر أيامه فخطب الناس وقال :" إن الله تعالى خيّر عبداً بين الدنيا وما عنده ، فاختار ما عنده "، فبكى أبو بكر . قال أبو سعيد راوي الحديث: فعجبنا لبكائه أن يخبر رسول الله $ عن عبدٍ خُيَّر ، فكان رسول الله $ هو المخيَّر ، وكان أبو بكر هو أعلمنا . فقال رسول الله $ :" إنَّ من أمنّ الناس عليَّ في صحبته وماله أبا بكر ، ولو كنت متخذاً خليلاً غير ربي لاتخذت أبا بكر خليلاً ، ولكن أخوة الإسلام ومودته ، لا يبقين في المسجد بابٌ إلا باب أبي بكر ". (1)
ولما كان اليوم الذي قُبض فيه أبو بكر رجّت المدينة بالبكاء ودُهش الناس كيوم قُبض رسول الله $، وجاء علي بن أبي طالب > باكياً مسرعاً وهو يقول :" اليوم انقطعت خلافة النبوة ، حتى وقف على البيت الذي فيه أبو بكر مسجى فقال: رحمك الله يا أبا بكر، كنت أول القوم إسلاماً، وأكملهم إيماناً، وأخوفهم لله، وأشدهم يقيناً، وأعظمهم عناءً، وأحوطهم على الإسلام ، وآمنهم على أصحابه ، وأحسنهم صُحبة ، وأفضلهم مناقب ، وأكثرهم سوابق ، وأرفعهم درجة،وأشبههم برسول الله $ هدياً وخُلقاً وسمتاً وفعلاً ". (2)
وقال لم أشرب الخمر في الجاهلية لأنني كنتُ أصون عرضي،وأحفظ مروءتي،فإن من شرب الخمر كان مضيعاً في عرضه ومروءته
وقد أشار النبي $ بخلافته حيث قال:"مروا أبا بكر يصلي بالناس". (3)
وأتت امرأة للنبي $ فأمرها أن ترجع إليه ، قالت: أرأيت إن جئ ولم أجدك؟ - كأنها تقول الموت - قال $ : "إن لم تجديني فأتي أبا بكر". (4)
__________
(1) البخاري "مع الفتح" (7/12)،رقم(3654)،ومسلم"بشرح النووي"(15/150ـ151).
(2) مختصر تاريخ ابن عساكر(13/126) .
(3) البخاري باب أهل العلم والفضل أحق بالإمامة برقم(678).
(4) رواه البخاري في فضائل الصحابة برقم(3659)،ومسلم في فضائل الصحابة برقم(2386).(1/224)
قال علي >: والذي خلق الحبة وبرأ النسمة إنه لعهدُ النبي الأمي إلي: "لا يحبني إلا مؤمن ولا يبغضني إلا منافق". (1)
قال الإمام الذهبي رحمه الله:فإذا كان هذا قاله النبي $ في حق علي فالصِّدِّيقُ بالأولى والأحرى لأنه أفضل الخلق بعد النبي $ ومذهب عمر وعلي رضي الله عنهما أن من فضل على الصديق أحداً فإنه يجلد حد المفتري. انتهى. (2)
فهم خير خلق الله تعالى بعد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
عَنْ عَبْد الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ اِبْنِ عُمَرَ - >- قَالَ: كُنَّا نُفَاضِلُ وَرَسُولُ اَللَّهِ $ وَأَصْحَابُهُ مُتَوَافِرُونَ، فَنَقُولُ: رَسُولُ اَللَّهِ $ فَأَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَعُثْمَانُ، ثُمَّ نَسَكْتُ.
وعن اَلْفَضْلُ بْنُ مُخْتَارٍ، عَنْ اَلرَّبِيعِ بْنِ صُبَيْحٍ، عَنْ اَلْحَسَنِ، قَالَ: أَدْرَكْتُ عِدَّةً مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اَللَّهِ $ وَهُمْ يُفَضِّلُونَ أَبَا بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَعُثْمَانَ.
وعن أَبُي صَالِحٍ اَلْجُهَنِيُّ قَالَ: قُلْتُ لِشَرِيكٍ مَا تَقُولُ فِيمَنْ فَضَّلَ عَلِيًّا عَلَى أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ? فَقَالَ: أَزْرَى عَلَى اِثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اَللَّهِ $، قَالَ: ثُمَّ ذَهَبْتُ مِنْ فَوْرِي إِلَى سُفْيَانَ اَلثَّوْرِيِّ فَسَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: أَزْرَى عَلَى اِثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اَللَّهِ $ وَمَا أَخْوَفُنِي مَعَ هَذَا أَنْ لَا يَصْعَدَ لَهُ إِلَى اَلسَّمَاءِ تَطَوُّعٌ.
__________
(1) رواه مسلم في الإيمان برقم (78) .
(2) الكبائر (ص 181).(1/225)
وعن سُهَيْلُ بْنُ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ->- قَالَ: كُنَّا مَعْشَرَ أَصْحَابِ اَلنَّبِيِّ$وَنَحْنُ مُتَوَافِرُونَ، نَقُولُ: أَفْضَلُ اَلْأُمَّةِ بَعْدَ نَبِيِّهَا $ أَبُو بَكْرٍ، ثُمَّ عُمَرُ، ثُمَّ عُثْمَانُ، ثُمَّ نَسَكْتُ. (1)
وعن عبيدالله، عن نافع، عن بن عمر قال: كنا نقول في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا نعدل بأبي بكر أحداً، ثم عمر، ثم عثمان، ثم نترك أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - لا تفاضل بينهم. (2)
وعن بن شهاب قال: قال سالم بن عبد الله، إن بن عمر قال: كنا نقول ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - حي أفضل أمة النبي - صلى الله عليه وسلم - بعده أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان رضي الله عنهم أجمعين. (3)
وعن محمد بن الحنفية قال: قلت لأبي أي الناس خير بعد رسول الله × قال: أبو بكر، قال: قلت ثم من؟ قال: ثم عمر، قال: ثم خشيت أن أقول ثم من فيقول عثمان، فقلت: ثم أنت يا أبة؟ قال: ما أنا إلا رجل من المسلمين. (4)
وعن محمد يعني الفريابي قال سمعت سفيان يقول: من زعم أن عليا عليه السلام كان أحق بالولاية منهما فقد خطأ أبا بكر وعمر والمهاجرين والأنصار وما أراه يرتفع له مع هذا عمل إلى السماء. (5)
__________
(1) أنظر الكامل في ضعفاء الرجال (5/63).
(2) قال الشيخ الألباني في صحيح سنن أبي داود: صحيح.
(3) قال الشيخ الألباني في صحيح سنن أبي داود: صحيح.
(4) قال الشيخ الألباني في صحيح سنن أبي داود: صحيح.
(5) قال الشيخ الألباني في سنن أبي داود: صحيح الإسناد مقطوع.(1/226)
وعن اِبْنُ وَضَّاحٍ قَالَ: سَأَلْتُ يُوسُفَ بْنَ عَدِيٍّ فَقُلْتُ لَهُ: أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ أَفْضَلُ هَذِهِ اَلْأُمَّةِ بَعْدَ نَبِيِّهَا? قَالَ: نَعَمْ، وَلَيْسَ يَخْتَلِفُ فِي ذَلِكَ إِلَّا مَنْ لَا يُعْبَأُ بِهِ، وَإِذَا أَرَدْتَ فَضْلَهُمَا فَانْظُرْ إِلَيْهِمَا مِمَّا جَعَلَهُمَا اَللَّهُ مَعَ نَبِيِّهِ فِي قَبْرٍ.
قَالَ يُوسُفُ وَإِنَّمَا وَقَعَ اَلِاخْتِلَافُ فِي اَلتَّفْضِيلِ بَيْنَ عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ، وَأَنَا أَقُولُ: أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ، وَعَلِيٌّ، هَذَا رَأْيِي وَرَأْيُ مَنْ لَقِينَا مِنْ أَهْلِ اَلسُّنَّةِ، وَلَا يَسَعُ اَلْقَوْلُ بِمَا سِوَى ذَلِكَ.
وعَنْ نُعَيْمٍ بْنِ حَمَّادٍ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ اَلْمُبَارَكِ أَنَّهُ قَالَ: نَأْخُذُ بِاجْتِمَاعِ أَصْحَابِ اَلنَّبِيِّ $ وَنَدَعُ مَا سِوَاهُ، وَقَدْ اِجْتَمَعُوا عَلَى أَنَّ عُثْمَانَ خَيْرُهُمْ، فَعُثْمَانُ خَيْرُ هَذِهِ اَلْأُمَّةِ بَعْدَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، وَبَعْدَهُمْ عَلِيٌّ، ثُمَّ خَيْرُ هَذِهِ اَلْأُمَّةِ بَعْدَ هَؤُلَاءِ اَلْأَرْبَعَةِ أَصْحَابُ اَلشُّورَى، ثُمَّ أَهْلُ بَدْرٍ، ثُمَّ اَلْأَوَّلُ فَالْأَوَّلُ مِنْ سَائِرِ أَصْحَابِ اَلنَّبِيِّ $(فَاعْرِفْ) هُمْ حَقَّ سَابِقِهِمْ.
وعن شُعْبَةُ عَنْ عَبْد الْمَلِكِ بْنِ مَيْسَرَةَ عَنْ اَلنَّزَّالِ بْنِ سَبْرَةَ قَالَ: لَمَّا قَدِمَ عَبْد اللهِ مِنْ اَلْمَدِينَةِ بَعْدَ قَتْلِ عُمَرَ قَالَ: أَمَّرْنَا خَيْرَ مَنْ بَقِيَ، وَلَمْ نَأْلُ يَعْنِي عُثْمَانَ.
قَالَ وَهْبٌ: وَقَالَ لِي اِبْنُ وَضَّاحٍ وَهَذَا رَأْيِي.(1/227)
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: وأول بدعة حدثت في الإسلام بدعة الخوارج، والشيعة، حدثتا في أثناء خلافة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، فعاقب الطائفتين، أما الخوارج فقاتلوه، فقتلهم، وأما الشيعة فحرق غاليتهم بالنار، وطلب قتل عبدالله بن سبأ فهرب منه، وأمر بجلد من يفضله على أبي بكر، وعمر وروى عنه من وجوه كثيرة أنه قال خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر، ثم عمر، ورواه عنه البخاري في صحيحه. (1)
ffffff
فضل ومناقب عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -
وأخرج البخاري، عن ابن مسعود > قال: ما زلنا أعزة منذ أسلم عمر.
أي أصبحنا نستطيع أن نظهر ولا نخاف إيذاء المشركين. (2)
وعن أنس بن مالك، عن خباب بن الأرت، قال: سمعت النبي $ يقول: اللهم أعز الإسلام بأحب الرجلين إليك: بعمر بن الخطاب، أو بأبي جهل بن هشام. (3)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وقوة الإيمان أقوى وأكمل من قوة العمل، وصاحب الإيمان يكتب له أجر عمل غيره، وما فعله عمر في سيرته مكتوب مثله لأبى بكر فانه هو الذي استخلفه. (4)
وقال رحمه الله: وظهر من عز الإسلام في إمارته شرقاً وغرباً وفتح الشام، والعراق، ومصر، وكسر عساكر كسرى، وقيصر، ما تحقق به إجابة الدعوة. (5)
وأخرج ابن سعد، والطبراني، عن ابن مسعود > قال: كان إسلام عمر فتحاً، وكانت هجرته نصراً، وكانت إمامته رحمة، ولقد رأيتنا وما نستطيع أن نصلي إلى البيت حتى أسلم عمر، فلما أسلم عمر قاتلهم حتى تركونا فصلينا.
__________
(1) مجموع الفتاوى (3/279).
(2) في صحيحه برقم (3481). تحقيق مصطفى ديب البغا.
(3) مسند البزار برقم (2119)، المستدرك (3/89)، المعجم الأوسط (4752)، وصححه الألباني في مشكاة المصابيح، والسلسلة الصحيحة، وظلال الجنة، وصحيح السيرة النبوية .
(4) مجموع الفتاوى (7/342).
(5) الجواب الصحيح (6/312).(1/228)
وأخرج ابن سعد، والحاكم عن حذيفة قال: لما أسلم عمر كان الإسلام كالرجال المقبل لا يزداد إلا قرباً، فلما قتل عمر كان الإسلام كالرجل المدبر لا يزداد إلا بعداً.
وأخرج الطبراني عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أول من جهر بالإسلام عمر بن الخطاب. إسناده صحيح حسن. (1)
وأخرج ابن سعد عن صهيب قال: لما أسلم عمر > أظهر الإسلام ودعا إليه علانية وجلسنا حول البيت حلقا وطفنا بالبيت وانتصفنا ممن غلظ علينا ورددنا عليه بعض ما يأتي به.
وأخرج ابن سعد، عن أسلم مولى عمر قال: أسلم عمر في ذي الحجة السنة السادسة من النبوة وهو ابن ست وعشرين سنة. (2)
من كلام أبي بكر وعمر رضي الله عنهما في فضل آل البيت
قال أبو بكر رضي الله عنهما: "والذي نفسي بيده لقرابة رسول الله صلى الله عليه أحب إلي أن أصل من قرابتي". (3)
وقال رضي الله عنه: "ارقُبوا محمدا صلى الله عليه وسلم في أهل بيته". (4)
وذكر هذا ابن كثير في تفسيره وقال بعده: "قال عمر بن الخطاب للعباس رضي الله عنهما: والله لإسلامك يوم أسلمت كان أحب إلي من إسلام الخطاب لو أسلم، لأن إسلامك كان أحب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من إسلام الخطاب" .
فحال الشيخين رضي الله عنهما هو الواجب على كل أحد أن يكون كذلك، ولهذا كانا أفضل المؤمنين بعد النبيين والمرسلين رضي الله عنهما وعن سائر الصحابة أجمعين.اهـ. (5)
ffffff
__________
(1) تاريخ الخلفاء (1/100).
(2) تاريخ الخلفاء (1/100).
(3) صحيح البخاري حديث رقم (3998)، ومسلم برقم (1759).
(4) صحيح البخاري حديث رقم (3541).
(5) تفسير ابن كثير (4/142).(1/229)
حكم من طعن بالصحابة الكرام رضوان الله عليهم (1)
فمما يدمي القلب حقاً أن نسمع من يطعن في الصحابة الكرام الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه، واختارهم سبحانه وتعالى لصحبة نبيه $ ، وهم الذين نقلوا التشريع لنا، فسبُّهم هو في الحقيقة طعن في الشريعة وفي دين الله سبحانه وتعالى .
ومات رسول الله $ وهو عنهم راض .
وقد نهى النبي $ عن سب صحابته الكرام، لما لهم من نصرة الدين، فسبهم من أكبر الكبائر وأفجر الفجور.
فعَنْ أَبِي سَعِيدٍ اَلْخُدْرِيِّ وأبي هريرة رضي الله عنهما: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ $: "دَعُوا لِي أَصْحَابِي، لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي، فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَوْ أَنْفَقَ كُلَّ يَوْمٍ مِثْلَ أُحُدٍ لَمْ يَبْلُغْ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ". (2)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وقوله: [لا تسبوا أصحابي] خطاب لكل أحد أن يسب من انفرد عنه بصحبته عليه الصلاة و السلام. (3)
__________
(1) قال الحافظ ابن حجر: واتفق أهل السنة على وجوب منع الطعن على أحد من الصحابة بسبب ما وقع لهم من ذلك ولو عرف المحق منهم لأنهم لم يقاتلوا في تلك الحروب إلا عن اجتهاد وقد عفا الله تعالى عن المخطئ في الاجتهاد بل ثبت أنه يؤجر أجرا واحدا وان المصيب يؤجر أجرين.اهـ. فتح الباري (13/34).
(2) أخرجه البخاري برقم (3470)، وأخرجه مسلم في فضائل الصحابة باب تحريم سب الصحابة رضي الله عنهم رقم (2540).
(3) الصارم المسلول (1/577).(1/230)
قال الدكتور مصطفى ديب البغا: قوله: "ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه" المراد أن القليل الذي أنفقه أحدهم أكثر ثواباً من الكثير الذي ينفقه غيرهم، وسبب ذلك أن إنفاقهم كان مع الحاجة إليه لضيق حالهم، ولأنه كان في نصرته - صلى الله عليه وسلم - وحمايته غالباً، ومثل إنفاقهم في مزيد الفضل وكثير الأجر باقي أعمالهم من جهاد وغيره، لأنهم الرعيل الأول الذي شق طريق الحق والهداية والخير، فكان لهم فضل السبق الذي لا يداينه فضل إلى جانب شرف صحبتهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبذلهم نفوسهم وأرواحهم رخيصة دفاعاً عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونصره لدينه،والنصيف هو النصف. (1)
قال ابن قيم الجوزية: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لا تؤذوني في أصحابي، فو الذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصفيه، قال إذا ذكر أصحابي فأمسكوا، قال أهل العلم: لا يذكرون إلا بأحسن ذكر والسمع والطاعة لأئمة المسلمين وكل من ولي أمر المسلمين عن رضي أو عن غلبة واشتدت وطأته من بر أو فاجر فلا يخرج عليه جار أو عدل ونغزو معه العدو ونحج معه البيت ودفع الصدقات إليهم مجزية إذا طلبوها ونصلي خلفهم الجمعة والعيدين قاله غير واحد من العلماء. (2)
وعن عمر بن الخطاب >، وعبد الله ابن مسعود >، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إذا ذكر أصحابي فأمسكوا، وإذا ذكرت النجوم فأمسكوا، وإذا ذكر القدر فأمسكوا". (3)
قوله: (إذا ذكر أصحابي) بما شجر بينهم من الحروب والمنازعات (فأمسكوا) وجوباً عن الطعن فيهم والخوض في ذكرهم بما لا يليق فإنهم خير الأمة والقرون لما جرى بينهم، (وإذا ذكرت النجوم) أي أحكامها ودلالتها وتأثيراتها (فأمسكوا) عن الخوض فيها لما مرّ . (4)
__________
(1) الجامع الصحيح المختصر للبخاري (3/1343).
(2) اجتماع الجيوش الإسلامية (1/86).
(3) صحيح الجامع برقم (545).
(4) فيض القدير .(1/231)
قال الإمام الذهبي: من ذم أصحاب رسول الله $ بشيء، وتتبع عثراتهم، وذكر عيباً، وأضافه إليهم كان منافقاً، بل الواجب على المسلم حب الله وحب رسوله، وحب ما جاء به، وحب من يقوم بأمره، وحب من يأخذ بهديه ويعمل بسنته، وحب آله وأصحابه، وأزواجه، وأولاده، وغلمانه، وخدامه، وحب من يحبهم، وبغض من يبغضهم، لأن أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله.
قال الشاطبي: عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُقَاتِلٍ قَالَ: قَالَ أَيُّوبُ السَّخْتِيَانِيُّ: مَنْ أَحَبَّ أَبَا بَكْرٍ فَقَدْ أَقَامَ اَلدِّينَ، وَمَنْ أَحَبَّ عُمَرَ فَقَدْ أَوْضَحَ اَلسَّبِيلَ، وَمَنْ أَحَبَّ عُثْمَانَ اِسْتَنَارَ بِنُورِ اَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَمَنْ أَحَبَّ عَلِيًّا فَقَدْ أَخَذَ بِالْعُرْوَةِ اَلْوُثْقَى، وَمَنْ أَحْسَنَ اَلثَّنَاءَ عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اَللَّهِ $ فَقَدْ بَرِئَ مِنْ اَلنِّفَاقِ وَمَنْ يَنْتَقِصُ أَحَدًا مِنْهُمْ أَوْ يُبْغِضُهُ لِشَيْءٍ كَانَ مِنْهُ فَهُوَ مُبْتَدِعٌ مُخَالِفٌ لِلسُّنَّةِ وَالسَّلَفِ اَلصَّالِحِ، وَالْخَوْفُ عَلَيْهِ أَنْ لَا يُرْفَعَ لَهُ عَمَلٌ إِلَى اَلسَّمَاءِ حَتَّى يُحِبَّهُمْ جَمِيعًا وَيَكُونَ قَلْبُهُ لَهُمْ سَلِيمًا. (1)
وروى الخطيب البغدادي بسنده عن أبي زرعة يقول: "إذا رأيت الرجل ينتقص أحدا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاعلم انه زنديق وذلك أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - عندنا حق، والقرآن حق، وإنما أدى إلينا هذا القرآن والسنن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وإنما يريدون أن يجرحوا شهودنا ليبطلوا الكتاب والسنة، والجرح بهم أولى وهم زنادقة".اهـ. (2)
__________
(1) الاعتصام (1/60-68)، الكبائر للذهبي (1/236)، كتاب الشفا (2/47) .
(2) الكفاية في علم الرواية (1/49).(1/232)
وعن اِبْنُ وَضَّاحٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ اَلْأَيْلِيِّ قَالَ: قال مالك بن أنس وغيره: من أبغض الصحابة وسبهم، فليس له في فيء المسلمين حق، ونزع بآية الحشر: وَمَا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَن يَشَاء وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاء مِنكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ" (1) إلى قوله تعالى : وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ". (2) وقال: من غاظه أصحاب محمد -$- فهو كافر، قال الله تعالى: لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ". (3) وقال عبد الله بن المبارك: خصلتان من كانتا فيه نجا: الصدق، وحب أصحاب محمد $ .اهـ. (4)
__________
(1) سورة الحشر آية (6-7) .
(2) سورة الحشر آية (10) .
(3) سورة الفتح آية (29).
(4) كتاب الشفا (2/43) .(1/233)
وقال البيهقي رحمه الله: وإذا ظهر أن حب الصحابة من الإيمان، فحبهم أن يعتقد فضائلهم، ويعترف لهم بها، ويعرف لكل ذي حق منهم حقه، ولكل ذي غنا في الإسلام منهم غناه، ولكل ذي منزله عند رسول الله $ منزلته، وينشر محاسنهم، ويدعو بالخير لهم، ويقتدي بما جاء في أبواب الدين عنهم، ولا يتبع دلاتهم وهفواتهم وتعمد تخير أحد منهم ببينة عنه ويسكت عما لا تقع ضرورة إلى الخوض فيه مما كان بينهم، وبالله التوفيق .اهـ. (1)
ومن سب الصحابة الكرام يستحق لعنة الله والملائكة والناس أجمعين.
فعن ابن عمر >، عن رسول الله $ أنه قال: "لعن الله من سب أصحابي". (2)
وعن ابن عباس رضي الله عنهما، عن رسول الله $ أنه قال: "من سب أصحابي فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين" . (3)
وروي عن أنس > مرفوعاً به، وزاد: "لا يقبل الله منه صرفاً، ولا عدلاً"، قال: والعدل: الفرائض، والصرف: التطوع. (4)
وقد عدّ الإمام الذهبي سب الصحابة الكرام من الكبائر، فقال: "الكبيرة السبعون: سب أحد من الصحابة رضوان الله عليهم".
وقال: فمن طعن فيهم، أو سبهم فقد خرج من الدين، ومرق من ملة المسلمين، لأن الطعن لا يكون إلا عن اعتقاد مساويهم، وإضمار الحقد فيهم، وإنكار ما ذكره الله تعالى في كتابه من ثنائه عليهم، وما لرسول الله $ من ثنائه عليهم، وفضائله، ومناقبهم، وحبهم، ولأنهم أرضى الوسائل من المأثور، والوسائط من المنقول، والطعن في الوسائط طعن في الأصل، والازدراء بالناقل ازدراء بالمنقول، هذا ظاهر لمن تدبره وسلم من النفاق، ومن الزندقة، والإلحاد في عقيدته، وحسبك ما جاء في الأخبار والآثار. (5)
__________
(1) شعب الإيمان (2/191).
(2) )) صحيح الجامع حديث رقم (5111) .
(3) )) صحيح الجامع حديث رقم (6285) .
(4) )) السلسلة الصحيحة .
(5) الكبائر للذهبي (1/236) .(1/234)
وقال إبراهيم النخعي: كان يقال: شتم أبي بكر، وعمر، من الكبائر، وكذلك قال أبو إسحاق السبيعي: شتم أبي بكر وعمر من الكبائر التي قال تعالى: { إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه } النساء 31 وإذا كان شتمهم بهذه المثابة فأقل ما فيه التعزير لأنه مشروع في كل معصية ليس فيها حد و لا كفارة و قد قال $: "انصر أخاك ظالما أو مظلوما" وهذا مما لا نعلم فيه خلافا بين أهل الفقه والعلم من أصحاب رسول الله $ والتابعين لهم بإحسان وسائر أهل السنة والجماعة فإنهم مجمعون على أن الواجب الثناء عليهم، والاستغفار لهم والترحم عليهم والترضي عنهم واعتقاد محبتهم وموالاتهم، وعقوبة من أساء فيهم القول. (1)
قال الرضوي الرافضي: (إن مما لا يختلف فيه اثنان ممن هم على وجه الأرض أن الثلاثة الذين هم في طليعة الصحابة - يعني أبا بكر، وعمر، وعثمان - كانوا عبدة أوثان) (2)
وقال عن أبي بكر >: (كان (3) يصلي خلف رسول الله - $ - والصنم معلق في عنقه يسجد له) .
وقالوا عن عمر >: (إن كفره مساو لكفر إبليس إن لم يكن أشد (4) ، وقال نعمة الله الجزائري الرافضي: (كان عثمان في زمن النبي - $- ممن أظهر الإسلام وأبطن النفاق)
ومثل هذه الألفاظ التي هم أحق بها وأهلها دارجة على ألسنتهم ، ولا تخلو من مثلها ونظائرها مصنفهاتهم فقد اعتادوا الكذب في الأخبار وتلفيق الروايات في سب الصحابة الأبرار، والقدح في عدالتهم وقذفهم بالموبقات ، ورميهم بالمكفرات، ولا سيما الخلفاء الراشدون أبو بكر وعمر وعثمان، فقد جعلوهم عبدة أوثان وأهل كفر ونفاق .
قال بشر بن الحارث: من شتم أصحاب رسول الله - $ - فهو كافر وإن صام وصلى وزعم أنه من المسلمين (5)
__________
(1) الصارم المسلول (1/577).
(2) كذبوا على الشيعة لمحمد الرضوي ص (223) .
(3) الأنوار النعمانية للجزائري (1/53) .
(4) تفسير العياشي (2/223-224) .
(5) الشرح والإبانة للإمام ابن بطة ص (162) .(1/235)
وقال الأوزاعي : من شتم أبا بكر الصديق - > - فقد ارتد عن دينه وأباح دمه (1) .
وقال المروزي: سالت أبا عبدالله - يعني الإمام أحمد - : عمن شتم أبا بكر وعمر وعثمان وعائشة -رضي الله عنهم - فقال : ما أراه على الإسلام. (2)
وقال أبو طالب للإمام أحمد : الرجل يشتم عثمان ؟ فأخبروني أن رجلاً تكلم فيه فقال هذه زندقة ". (3)
فعلينا أن نذب عن صحابة رسول الله $، ونجود بأنفسنا تجاههم، وعلينا أن نرد عن أعراضهم.
ونبصر من كان له قلب ويخشى الله تعالى في السر والعلن.
عن أبي الدرداء > عن النبي $ قال: "من رد عن عرض أخيه، رد الله عن وجهه النار يوم القيامة". (4)
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: من نصر أخاه المسلم بالغيب، نصره الله في الدنيا والآخرة". (5)
وعن أسماء بنت يزيد، عن النبي $ أنه قال: "من ذب عن عرض أخيه بالغيبة كان حقا على الله أن يعتقه من النار" . (6)
هذا بحق أي مؤمن فكيف بالذب عن صحابة رسول الله $
__________
(1) المرجع السابق ص (161) .
(2) المرجع السابق ص (161) .
(3) رواه الخلال (3/493) بسند صحيح .
(4) رواه الترمذي وقال:حديث حسن،وقال الألباني:"صحيح لغيره"الترغيب(284).
(5) رواه ابن أبي الدنيا موقوفا، ورواه بعضهم مرفوعا، السلسلة الصحيحة رقم (1217)، وصحيح الجامع برقم (6574) .
(6) صحيح الجامع حديث رقم (6240) .(1/236)
قوله: "من ذب" قال المناوي أي من دفع، "عن عرض أخيه"، زاد في رواية لمسلم "بالغيبة" قال الطيبي: هو كناية عن الغيبة كأنه قيل من ذب عن غيبة أخيه في غيبته وعلى هذا فقوله بالغيبة ظرف ويجوز كونه حالاً(كان حقاً على اللّه أن يقيه) وفي رواية أن يعتقه "من النار" زاد في رواية { وكان حقاً علينا نصر المؤمنين } قال الطيبي: هو استشهاد لقوله كان حقاً إلخ وفيه أن المستمع لا يخرج من إثم الغيبة إلا بأن ينكر بلسانه فإن خاف فبقلبه فإن قدر على القيام أو قطع الكلام لزمه وإن قال بلسانه اسكت وهو مشتهٍ ذلك بقلبه فذلك نفاق، قال الغزالي: ولا يكفي أن يشير باليد أن اسكت أو بحاجبه أو رأسه وغير ذلك، فإنه احتقار للمذكور، بل ينبغي الذب عنه صريحاً كما دلت عليه الأخبار .
ffffff
الفصل الخامس
صحبة الأخيار والتشبه بهم
التشبه بأهل الخير والتقوى والإيمان والطاعة فهذا حسن مندوب إليه، فعلى العبد أن يختر لنفسه الصحبة الصالحة، ويعرف المرء من خليله، فانظر لنفسك من تخالل، ومن تصاحب .
عن أبي هريرة >، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "الرجل على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل". (1)
قوله: الرجل على دين خليله: أي صاحبه.
وقوله: لينظر أحدكم من يخالل:أي فليتأمل أحدكم بعين بصيرته إلى امرئ، يريد صداقته، فمن رضي دينه، وخلقه صادقه وإلا تجنبه. (2)
__________
(1) رواه أبو داود والترمذي عن أبي هريرة، وحسنه الألباني في صحيح الجامع برقم (3545)، والسلسلة الصحيحة (2/597)، وفي سنن أبي داود (4/259).
قال ابن الجوزي: رأيت نفسي تأنس بخلطاء نسميهم أصدقاء فبحثت بالتجارب عنهم فإذا أكثرهم حساد على النعم، وأعداء لا يسترون زلة، ولا يعرفون لجليس حقاً، ولا يواسون من مالهم صديقا، فتأملت الأمر فإذا الحق سبحانه يغار على قلب المؤمن أن يجعل له شيئا يأنس به، فهو يكدر عليه الدنيا وأهلها ليكون أنسه به. صيد الخاطر (1/443).
(2) فيض القدير .(1/237)
فهذا حث من النبي - صلى الله عليه وسلم - على صحبة الأخيار .
وعن أبي سعيد الخدري، أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لا تصاحب إلا مؤمناً، ولا يأكل طعامك إلا تقي". (1)
قال المناوي: قوله: (لا تصاحب إلا مؤمناً) وكامل الإيمان أولى لأن الطباع سراقة، ومن ثم قيل صحبة الأخيار تورث الخير، وصحبة الأشرار تورث الشر، كالريح إذا مرت على النتن حملت نتناً، وإذا مرت على الطيب حملت طيباً، وقال الشافعي: ليس أحد إلا له محب ومبغض، فإذن لا بد من ذلك فليكن المرجع إلى أهل طاعة اللّه، ومن ثم قيل: ولا يصحب الإنسان إلا نظيره * وإن لم يكونوا من قبيل ولا بلد، وصحبة من لا يخاف اللّه لا يؤمن غائلتها لتغيره بتغير الأعراض، قال تعالى { ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا } ، والطبع يسرق من الطبع من حيث لا يدري.
وقوله: (ولا يأكل طعامك إلا تقي) لأن المطاعمة توجب الألفة وتؤدي إلى الخلطة، بل هي أوثق عرى المداخلة، ومخالطة غير التقي يخل بالدين ويوقع في الشبه والمحظورات، فكأنه ينهى عن مخالطة الفجار إذ لا تخلو عن فساد، إما بمتابعة في فعل، أو مسامحة في إغضاء عن منكر، فإن سلم من ذلك ولا يكاد فلا تخطئه فتنة الغير به، وليس المراد حرمان غير التقي من الإحسان لأن المصطفى - صلى الله عليه وسلم - أطعم المشركين وأعطى المؤلفة المئين بل يطعمه ولا يخالطه، والحاصل أن مقصود الحديث كما أشار إليه الطيبي النهي عن كسب الحرام وتعاطي ما ينفر منه المتقي، فالمعنى لا تصاحب إلا مطيعاً ولا تخالل إلا تقياً. (2)
__________
(1) قال أبو عيسى الترمذي: هذا حديث حسن إنما نعرفه من هذا الوجه، قال الشيخ الألباني: حسن. صحيح سنن الترمذي، صحيح سنن أبي داود، صحيح الترغيب، صحيح الجامع، مشكاة المصابيح، آداب الزفاف.
(2) فيض القدير .(1/238)
ولهذا يجب على المرء الاقتداء بالنبي @ في أقواله وأفعاله وحركاته وسكناته وآدابه وأخلاقه، وذلك مقتضى المحبة الصحيحة، فإن المرء مع من أحب، ولا بد من مشاركته في أصل عمله وان قصر المحب عن درجته.
فعن أبي وائل عن عبد الله قال: جاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "يا رسول الله كيف ترى في رجل أحب قوما ولما يلحق بهم؟ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : المرء مع من أحب" . (1)
__________
(1) رواه مسلم برقم (2640). وقد سبق الكلام على هذا الحديث، وما قاله العلماء من فوائد.(1/239)
ولما سأله ربيعة الأسلمي (1) مرافقته في الجنة قال: فأعني على نفسك بكثرة السجود. (2)
__________
(1) هو ربيعة بن كعب الأسلمي >، من أهل الصفة، كان خادماً لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - صحبه قديما ولازمه حضراً وسفراً، مات سنة ثلاث وستين من الهجرة، وكنيته أبو فراس بكسر الفاء فراء آخره سين مهملة .
(2) عن ربيعة بن كعب قال: كنت أخدم رسول الله نهاري أجمع حتى يصلي عشاء الآخرة، فأجلس ببابه إذا دخل بيته، أقول لعلها أن تحدث لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - حاجة فما أزال أسمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول سبحان الله وبحمده حتى أمل فارجع أو تغلبني عيناي فأرقد، فقال لي يوماً لما يرى من حقي له وخدمتي إياه: يا ربيعة بن كعب سلني أعطك، قال فقلت: أنظر في أمري يا رسول الله ثم أعلمك ذلك، قال: ففكرت في نفسي فعرفت أن الدنيا منقطعة وزائلة وأن لي فيها رزقاً بمبدله ويأتيني، قال فقلت: أسأل رسول الله لآخرتي فانه من الله بالمنزل الذي هو به، قال: فجئته، فقال: ما فعلت يا ربيعة؟ قال: فقلت نعم يا رسول الله، أسألك أن تشفع لي إلى ربك فيعتقني من النار، قال: فقال: من التابعين بهذا يا ربيعة، قال: فقلت لا والذي بعثك بالحق ما أمرني به أحد، ولكنك لما قلت سلني أعطك، وكنت من الله بالمنزل الذي أنت به، نظرت في أمري فعرفت أن الدنيا منقطعة وزائلة وأن لي فيها رزقا سيأتيني، فقلت اسأل رسول الله لآخرتي، قال: فصمت رسول الله طويلاً، ثم قال لي: إني فاعل، فأعني على نفسك بكثرة السجود". رواه أحمد برقم (15769)، ومسلم برقم (1046)، باب بدء الأذان، وأبو داود برقم (1320)، باب نسخ القرآن، والترمذي برقم (3706)، والنسائي برقم (1136)، باب التطبيق، عن ثوبان وأبي الدرداء رضي الله عنهما .(1/240)
قال الشوكاني: قوله: "مرافقتك" فيه دليل على أن من الناس من يكون مع الأنبياء في الجنة، وفيه أيضا جواز سؤال الرتب الرفيعة التي تكبر عن السائل، قوله: أعني على نفسك بكثرة السجود فيه أن السجود من التي يكون بسببها ارتفاع الدرجات عند الله إلى حد لا يناله إلا المقربون، وبه أيضا استدل من قال إن السجود أفضل من القيام . (1)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: فالمصاحبة، والمصاهرة، والمؤاخاة، لا تجوز إلا مع أهل طاعة الله تعالى على مراد الله، ويدل على ذلك الحديث الذي في السنن: لا تصاحب إلا مؤمنا، ولا يأكل طعامك إلا تقي، وفيها المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل. (2)
وعن قتادة عن أنس: أن رجلا من أهل البادية أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال يا رسول الله متى الساعة قائمة؟ قال: (ويلك وما أعددت لها)؟.
قال: ما أعددت لها، إلا أني أحب الله ورسوله.
قال: (إنك مع من أحببت). فقلنا ونحن كذلك؟
قال: (نعم).
ففرحنا يومئذ فرحاً شديداً، فمر غلام للمغيرة، وكان من أقراني.
فقال: (إن أخر هذا فلن يدركه الهرم حتى تقوم الساعة). (3)
(ويلك) الويل في الأصل الهلاك ولا يراد بها هنا معناها الأصلي
غلام مملوك دون البلوغ. (من أقراني) سنه مثل سني.
(أخر) لم يمت في صغره وعاش حتى يهرم.
(هذا) إشارة للغلام.
(الساعة) ساعة الحاضرين عنده - صلى الله عليه وسلم - وقيامها بموتهم. أو المراد المبالغة في قرب قيامها لا التحديد.
فإذا أراد الله بعبد من عبيده خيراً وفقه لمعاشرة أهل السنة، وأهل الستر، والصلاح، والدين، ويرده عن صحبة أهل الهوى والبدع والمخالفين فإنه روى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخال يخالل". (4)
__________
(1) نيل الأوطار (3/92) .
(2) مجموع الفتاوى (15/327) .
(3) رواه البخاري برقم (5815)، ومسلم برقم (2639).
(4) سبق تخريجه .(1/241)
أنشدنا محمد بن طاهر الوزيري، قال: أنشدني المطرفي المطر لبعض الشعراء :
عن المرء لا تسأل وسل عن قربنه فكل قرين بالمقارن مقتدى. (1)
وكانوا ينهون عن صحبة الأشرار، وأن ينقطع العبد عن الله بصحبته الأخيار، فمن صحب الأخيار بمجرد التعظيم لهم والغلو فيهم (2) زائداً غلواً عن الحد وعلق قلبه بهم فقد انقطع عن الله بهم، وإنما المراد من صحبة الأخيار أن يوصلوا من صحبهم إلى الله، ويسلكوا طريقه، ويعلموه دينه.
__________
(1) آداب الصحبة (1/41).
(2) وفي الجملة فهذه الأشياء فتنة للمعظِّم وللمعظَّم لما يخشى عليه من الغلو المدخل في البدعة، وربما يترقى إلى نوع من الشرك، كل هذا إنما جاء من التشبه بأهل الكتاب والمشركين الذي نهيت عنه هذه الأمة. وفي الحديث الذي في السنن: "إن من إجلال الله إكرام ذي الشيبة المسلم، والسلطان المقسط، وحامل القرآن غير الغالي فيه والجافي عنه". فالغلو من صفات النصارى، والجفاء من صفات اليهود، والقصد هو المأمور به. وقد كان السلف الصالح ينهون عن تعظيمهم غاية النهي كأنس والثوري وأحمد، وكان أحمد يقول: من أنا حتى تجيئون إلى؟ اذهبوا اكتبوا الحديث، وكان إذا سئل عن شيء، يقول: سلوا العلماء، وإذا سئل عن شيء من الورع يقول: أنا لا يحل لي أن أتكلم في الورع، لو كان بشر حياً تكلم في هذا.وسئل مرة عن الإخلاص فقال: اذهب إلى الزهاد، إي شيء نحن تجيء إلينا؟ وجاء إليه رجل فمسح يده ثيابه ومسح بهما وجهه، فغضب الإمام أحمد وأنكر ذلك أشد الإنكار وقال: عمن أخذتم هذا الأمر؟(1/242)
فإنما يراد من صحبة الأخيار إصلاح الأعمال، والأحوال، والاقتداء بهم في ذلك، والانتقال من الغفلة إلى اليقظة، ومن البطالة إلى العمل، ومن التخليط إلى التكسب، والقول، والفعل إلى الورع، ومعرفة النفس وآفاتها واحتقارها، فأما من صحبهم وافتخر بصحبتهم وادعى بذلك الدعاوى العريضة وهو مصر على غفلته وكسله وبطالته فهو منقطع عن الله من حيث ظن الوصول إليه، كذلك المبالغة في تعظيم الشيوخ وتنزيلهم منزلة الأنبياء هو المنهي عنه .
وقد كان عمر وغيره من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم يكرهون أن يطلب الدعاء منهم ويقولون "أأنبياء نحن؟ "فدل على أن هذه المنزلة لا تنبغي إلا للأنبياء عليهم السلام، وكذلك التبرك بالآثار فإنما كان يفعله الصحابة } مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يكونوا يفعلونه مع بعضهم ببعض، ولا يفعله التابعون مع الصحابة ، مع علو قدرهم .
فدل على أن هذا لا يفعل إلا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - مثل التبرك بوضوئه، وفضلاته، وشعره، وشرب فضل شرابه وطعامه .
فأما التشبه بأهل الخير في الظاهر، والباطن لا يشبههم فهو بعيد منهم، وإنما القصد بالتشبيه أن يقال عن المتشبه بهم انه منهم وليس منهم من خصال النفاق كما قال بعض السلف: "استعيذوا بالله من خشوع النفاق ان يرى الجسد خاشعاً، والقلب ليس بخاشع" .
كان السلف يجتهدون في أعمال الخير ويعدون أنفسهم من المقصرين المذنبين، ونحن مع إساءتنا نعد أنفسنا من المحسنين.
كان مالك بن دينار يقول: إذا ذكر الصالحون "أف، أف لي، وتوقف".
وقال أيوب: "إذا ذكر الصالحون كنت عنهم بمعزل" .
وقال يونس بن عبيد: "أعد مائة خصلة من خصال الخير ليس منها فيَّ واحدة ".
وقال محمد بن واسع: "لو أن للذنوب رائحة لم يستطع أحد أن يجلس معي".
يا من إذا تشبه بالصالحين فهو عنهم متباعد
وإذا تشبه بالمذنبين فحاله وحالهم واحد
يا من يسمع ما يلين الجوامد وطرفه جامد
وقلبه أقسى من الجلامد(1/243)
يا من يرد قلبه عن التقوى
كيف ينفع الضرب البارد في حديد بارد؟
يا نفس أنى تؤفكينَ ؟ * حتى متى لا ترعوينَ ؟
حتى متى ، لا تعقلينا * وتسمعينا وتبصرينا ؟
يا نفس إن لم تصلحي * فتشبهي بالصالحينا
قال عمر بن الخطاب >: لولا ثلاث لما أحببت البقاء، لولا أن أحمل على جياد الخيل في سبيل الله، ومكابدة الليل، ومجالسة أقوام ينتقون أطايب الكلام كما ينتقي أطايب التمر، يريد > الجهاد، والصلاة، والعلم النافع، وهذه درجات الفضائل وأهلها هم أهل الزلفى والدرجات العليا .
وقال معاذ > عند موته: اللهم إنك تعلم أني لم أكن أحب البقاء لجري الأنهار، ولا لغرس الأشجار، ولا لنكح الأزواج، ولكن لظمأ الهواجر، ومكابدة الليل، ومزاحمة العلماء بالركب عند حلق الذكر. (1)
__________
(1) عن عمرو بن قيس إن معاذ بن جبل لما حضره الموت قال: انظروا أصبحنا؟ قال: فقيل لم تصبح حتى أتي، فقيل: قد أصبحت، قال: أعوذ بالله من ليلة صباحها إلى النار، مرحبا بالموت، مرحبا زائر مغب حبيب، جاء على فاقة، اللهم إنك تعلم أني كنت أخافك فأنا اليوم أرجوك، إني لم أكن أحب الدنيا وطول البقاء فيها، لكراء الأنهار، ولا لغرس الأشجار، ولكن لظمأ == == الهواجر، ولمكابدة الساعات، ومزاحمة العلماء بالركب عند حلق الذكر. تاريخ دمشق (58/450)، المحتضرين (1/110)، الثبات عند الممات لابن الجوزي (1/119).
ولما وقع الطاعون بالشام قال معاذ: اللهم أدخل على آل معاذ نصيبهم من هذا، فطعنت له امرأتان فماتتا، ثم طعن ابنه عبد الرحمن فمات، ثم طعن معاذ بن جبل فجعل يغشى عليه فإذا أفاق قال: اللهم غمني غمك، فوعزتك إنك لتعلم أني أحبك، ثم يغشى عليه، فإذا أفاق قال مثل ذلك.
وقال عمرو بن قيس: إن معاذ بن جبل لما حضره الموت قال: انظروا أصبحنا فقيل: لم نصبح. حتى أتي فقيل: أصبحنا. فقال: أعوذ بالله من ليلة صباحها إلى النار !مرحبا بالموت مرحبا زائر حبيب جاء على فاقة !اللهم تعلم أني كنت أخافك وأنا اليوم أرجوك إني لم أكن أحب الدنيا وطول البقاء فيها لكري الأنهار ولا لغرس الأشجار ولكن لظمإ الهواجر ومكابدة الساعات ومزاحمة العلماء بالركب عند حلق الذكر. وزيادة في إحياء علوم الدين (4/481): ولما اشتد به النزع ونزع نزعا لم ينزعه أحد كان كلما أفاق من غمرة فتح طرفه، ثم قال: رب ما أخنقني خنقك، فوعزتك إنك تعلم أن قلبي يحبك.
وقال الحسن: لما حضر معاذا الموت جعل يبكي فقيل له: أتبكي وأنت صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنت وأنت فقال: ما أبكي جزعا من الموت إن حل بي ولا دنيا تركتها بعدي ولكن إنما هي القبضتان فلا أدري من أي القبضتين أنا.
قيل: كان معاذ ممن يكسر أصنام بني سلمة وقال النبي ×: معاذ أمام العلماء يوم القيامة برتوة أو رتوتين. وقال فروة الأشجعي عن ابن مسعود: إن معاذ بن جبل كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين. فقلت له: إنما قال الله: "إن إبراهيم كان أمة قانتا لله" النحل. فأعاد قوله: إن معاذا كان أمة قانتا لله الآية وقال: ما الأمة وما القانت قلت: الله ورسوله أعلم. قال: الأمة الذي يعلم الخير ويؤتم به والقانت المطيع لله عز وجل وكذلك كان معاذ معلما للخير مطيعا لله عز وجل ولرسوله. أسد الغابة (1/1021-1022).(1/244)
وقوله: ولا يشهد من نفسه إلا أثر النقصان يعني لا يرى نفسه إلا مقصرا والموجب له لهذه الرؤية استعظام مطلوبه، واستصغار نفسه، ومعرفته بعيوبها، وقلة زاده في عينه. (1)
ولما حضرت سلمان الوفاة بكى فقيل له ما يبكيك؟ قال: ما أبكى جزعا على الدنيا ولكن عهد إلينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن تكون بلغة أحدنا من الدنيا كزاد الراكب. فلما مات سلمان نظر في جميع ما ترك فإذا قيمته بضعة عشر درهما.
ولما حضرت بلالا الوفاة قالت امرأته واحزناه فقال بل واطرباه غدا نلقى الأحبة محمدا وحزبه.
وقيل فتح عبد الله بن المبارك عينه عند الوفاة وضحك وقال لمثل هذا فليعمل العاملون.
ولما حضرت إبراهيم النخعي الوفاة بكى فقيل له ما يبكيك قال انتظر من الله رسولا يبشرني بالجنة أو بالنار ولما حضرت ابن المنكدر الوفاة بكى فقيل له ما يبكيك فقال والله ما أبكى لذنب أعلم أني أتيته ولكن أخاف أني أتيت شيئا حسبته هينا وهو عند الله عظيم.
ولما حضرت عامر بن عبد القيس الوفاة بكى فقيل له ما يبكيك قال ما أبكى جزعا من الموت ولا حرصا على الدنيا ولكن ابكي على ما يفوتني من ظمأ الهواجر وعلى قيام الليل في الشتاء ولما حضرت فضيلاً الوفاة غشي عليه ثم فتح عينيه، وقال: وا بعد سفراه، وا قلة زاده.
قال حذيفة حين حضره الموت: مرحبا بالموت وأهلا مرحبا بحبيب جاء على فاقة لا افلح من ندم اللهم أني لم أحب الدنيا لحفر الأنهار ولا لغرس الأشجار ولكن لسهر الليل وظمأ الهواجر وكثرة الركوع والسجود والذكر لله عز وجل كثيرا، والجهاد في سبيله، ومزاحمة العلماء بالركب. (2)
__________
(1) مدارج السالكين(2/281-283) .
(2) تاريخ دمشق (12/299).صفة الصفوة (1/501).
لما حضرت ابن المبارك الوفاة قال لنصر مولاه: اجعل رأسي على التراب، فبكى نصر، فقال له: ما يبكيك؟ قال: ذكرت ما كنت فيه من النعيم وأنت هو ذا تموت فقيراً غريباً، قال: اسكت، فإني سألت الله تعالى أن يحييني حياة الأغنياء، وأن يميتني موت الفقراء، ثم قال له: لقنى ولا تعد علي ما لم أتكلم بكلام ثان. تاريخ دمشق (12/299).صفة الصفوة (1/501). مدارج السالكين(2/281-283) .(1/245)
وعن ابن المبارك رحمه الله قال: اعلم أي أخي! إن الموت كرامة لكل مسلم لقي الله على السنة، فإنا لله وإنا إليه راجعون، فإلى الله نشكو وحشتنا، وذهاب الإخوان، وقلة الأعوان، وظهور البدع، وإلى الله نشكو عظيم ما حل بهذه الأمة من ذهاب العلماء وأهل السنة وظهور البدع. (1)
وقال يحيى بن معاذ: بئس الأخ تحتاج أن تقول له: اذكرني في دعائك، وجمهور الناس اليوم معارف، ويندر منهم صديق في الظاهر، وأما الأخوة والمصافاة فذلك شيء نسخ، فلا تطمع فيه، وما أرى الإنسان يصفو له أخوة من النسب، ولا ولده، ولا زوجته، فدع الطمع في الصفاء، وخذ عن الكل جانباً، وعاملهم معاملة الغرباء، وإياك أن تخدع بمن يظهر لك الود، فإنه مع الزمان يتبين لك الخلل فيما أظهره، وقد قال الفضيل: إذا رأيت أن تصادق صديقاً فأغضبه، فإن رأيته كما ينبغي فصادقه، وهذا اليوم مخاطرة؛ لأنك إذا أغضبت أحداً صار عدواً في الحال والسبب في نسخ حكم الصفاء: أن السلف كانت همتهم الآخرة وحدها، فصفت نيّاتهم في الأخوة، والمخالطة كانت ديناً لا دنيا، والآن فقد استولى حب الدنيا على القلوب، فإن رأيت متعلقاً في باب الدين فاخْبُر تقله.اهـ. (2)
أخبُر: أي تعرفه على حقيقته.
تقله: أي تبغضه وتكرهه .
واحذر أخي من صحبة السوء، وتأثيرهم عليك.
__________
(1) الآداب الشرعية (3/581).
لما حضرت ابن المبارك الوفاة قال لنصر مولاه: اجعل رأسي على التراب، فبكى نصر، فقال له: ما يبكيك؟ قال: ذكرت ما كنت فيه من النعيم وأنت هو ذا تموت فقيراً غريباً، قال: اسكت، فإني سألت الله تعالى أن يحييني حياة الأغنياء، وأن يميتني موت الفقراء، ثم قال له: لقنى ولا تعد علي ما لم أتكلم بكلام ثان. تاريخ دمشق (12/299).صفة الصفوة (1/501). مدارج السالكين(2/281-283) .
(2) الآداب الشرعية (3/581).(1/246)
قال الله تعالى: وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا". (1)
وقال تعالى: قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ". (2)
ffffff
المبحث الثاني
الدين النصيحة .
الواجب على المسلمين التناصح فيما بينهم، وعلى المؤمن أن يكون مرآة لأخيه المؤمن، وعليه أن يذكر أخاه المؤمن في ما يصلح دينه ودنياه .
قال الله تعالى: وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ". (3)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: فإن المتذكر إما أن يتذكر ما يدعوا إلى الرحمة، والنعمة، والثواب، كما يتذكر الإنسان ما يدعوه إلى السؤال فينيب، وإما أن يتذكر ما يقتضي الخوف والخشية فلابد له من الإنابة حينئذ لينجو مما يخاف، ولهذا قيل في فرعون: لعله يتذكر" فينيب، أو يخشى، وكذلك قال له موسى: هل لك إلى أن تزكى وأهديك إلى ربك فتخشى"، فجمع موسى بين الأمرين لتلازمهما.
__________
(1) سورة الصافات آية (15) .
(2) سورة الفرقان آية (27) .
(3) سورة الذاريات آية (55) .(1/247)
و قال في حق الأعمى: وما يدريك لعله يزكى أو يذكر فتنفعه الذكرى"، فذكر الإنتفاع بالذكرى كما قال: وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين"، والنفع نوعان: حصول النعمة، وإندفاع النقمة، ونفس إندفاع النقمة نفع وإن لم يحصل معه نفع آخر، ونفس المنافع التي يخاف معها عذاب نفع، وكلاهما نفع، فالنفع تدخل فيه الثلاثة، والثلاثة تحصل بالذكرى، كما قال تعالى وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ"، وقال: وما يدريك لعله يزكى أو يذكر فتنفعه الذكرى"، وأما ذكر التزكي مع التذكر فهو كما ذكر في قصة فرعون الخشية مع التذكر، وذلك أن التزكي هو الإيمان والعمل الصالح الذي تصير به نفس الإنسان زكية، كما قال في هذه السورة: قد أفلح من تزكى وذكر إسم ربه فصلى"، وقال: قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها". (1)
وقال تعالى: وَإِذَ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ". (2)
وقال تعالى: وتعاونوا على البر والتقوى". (3)
__________
(1) مجموع الفتاوى (16/184).
(2) سورة آل عمران آية (187).
(3) سورة المائدة آية (2) .(1/248)
قال القرطبي: والتعاون على البر والتقوى يكون بوجوه: فواجب على العالم أن يعين الناس بعلمه، فيعلمهم، ويعينهم الغني بماله، والشجاع بشجاعته في سبيل الله، وأن يكون المسلمون متظاهرين كاليد الواحدة، "المؤمنون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم وهم يد على من سواهم" (1) ، ويجب الإعراض عن المتعدي وترك النصر له ورده عما هو عليه ثم نهى فقال: { ولا تعاونوا على الإثم والعدوان } وهو الحكم اللاحق عن الجرائم وعن العدوان وهو ظلم الناس ثم أم بالتقوى وتوعد توعدا مجملا فقال: { واتقوا الله إن الله شديد العقاب.اهـ. (2)
وقال ابن قيم الجوزية: وقد اشتملت هذه الآية على جميع مصالح العباد في معاشهم، ومعادهم فيما بينهم بعضهم بعضا، وفيما بينهم وبين ربهم، فان كل عبد لا ينفك عن هاتين الحالتين وهذين الواجبين: واجب بينه وبين الله، وواجب بينه وبين الخلق.
فأما ما بينه وبين الخلق: من المعاشرة، والمعاونة، والصحبة، فالواجب عليه فيها أن يكون اجتماعه بهم، وصحبته لهم تعاوناً على مرضاة الله وطاعته التي هي غاية سعادة العبد وفلاحه، ولا سعادة له إلا بها، وهي البر والتقوى اللذان هما جماع الدين كله، وإذا أفرد كل واحد من الاسمين دخل في مسمى الآخر إما تضمنا وإما لزوما، ودخوله فيه تضمنا أظهر لان البر جزء مسمى التقوى، وكذلك التقوى فانه جزء مسمى البر، وكون أحدهما لا يدخل في الآخر عند الاقتران لا يدل على انه لا يدخل فيه عند انفراد الآخر. (3)
__________
(1) الحديث رواه النسائي، وأبو داود، والحاكم، وصححه الألباني في صحيح سنن النسائي، وصحيح الجامع، وصحيح أبي داود، وإرواء الغليل، ومشكاة المصابيح.
(2) تفسير القرطبي (6/36) .
(3) زاد المهاجر(1/6).(1/249)
وعن تميم الداري - رضي الله عنه - ، عن النبي @ أنه قال: "الدين النصيحة" ثلاثاً، قيل: لمن يا رسول الله؟ قال: "لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم". (1)
قال ابن دقيق العيد: و [النصيحة] كلمة جامعة معناها إرادة جملة الخير وحيازة لحظ المنصوح له وهي من وجيز الأسماء، ومختصر الكلام.
ومعنى قوله [الدين النصيحة] أي عماد الدين وقوامه: النصيحة كقوله [الحج عرفة] أي عماده ومعظمه، وأما تفسير النصيحة وأنواعها، فقال الخطابي وغيره من العلماء: النصيحة لله تعالى معناها منصرف إلى الإيمان به، ونفي الشرك عنه، وترك الإلحاد وصفاته ووصفه بصفات الكمال والجلال كلها، وتنزيهه عن جميع النقائص، والقيام بطاعته، واجتناب معصيته، والحب فيه والبغض فيه، وجهاد من كفر به، والإعتراف بنعمته والشكر عليها، والإخلاص في جميع الأمور، والدعاء إلى جميع الأوصاف المذكورة، والحث عليها، والتلطف بالناس، قال الخطابي: وحقيقة هذه الأوصاف راجعة إلى العبد في نصحه نفسه، فإن الله سبحانه غني عن نصح الناصح، وأما النصيحة لكتابه سبحانه وتعالى فبالإيمان أن كلام الله تعالى وتنزيله لا يشبهه شئ من كلام الناس ولا يقدر على مثله أحد من الخلق، ثم تعظيمه، وتلاوته حق تلاوته، وتحسينها، والخشوع عندها، وإقامة حروفه في التلاوة، والذب عنه لتأويل المحرفين والتصديق بما فيه، والوقوف مع أحكامه وتفهم علومه وأمثاله والإعتبار بمواضعه، والتفكر في عجائبه، والعمل بمحكمه، والتسليم لمتشابهه، والبحث عن عمومه، والدعاء إليه، وإلى ما ذكرنا من نصيحته.
__________
(1) رواه مسلم برقم (55)، باب بيان أن الدين النصيحة.(1/250)
وأما النصيحة لرسوله - صلى الله عليه وسلم - : فتصديقه على الرسالة، والإيمان بجميع ما جاء به، وطاعته في أمره ونهيه، ونصرته حياً وميتاً، ومعاداة من عاداه، وموالاة من والاه، وإعظام حقه وتوقيره، وإحياء طريقته وسنته، وإجابة دعوته، ونشر سنته، ونفي التهمة عنها، واستئثار علومها، والتفقه في معانيها، والدعاء إليها، والتلطف في تعليمها، وإعظامها، وإجلالها، والتأدب عند قراءتها، والإمساك عن الكلام فيها بغير علم، وإجلال أهلها لانتسابهم إليها، والتخلق بأخلاقه، والتأدب بآدابه، ومحبة أهل بيته وأصحابه، ومجانبة من ابتدع في سنته، أو تعرض لأحد من أصحابه ونحو ذلك.
وأما النصيحة لأئمة المسلمين: فمعاونتهم على الحق وطاعتهم وأمرهم به وتنبيههم وتذكيرهم برفق ولطف وإعلامهم بما غفلوا عنه وتبليغهم من حقوق المسلمين وترك الخروج عليهم بالسيف وتأليف قلوب الناس لطاعتهم والصلاة خلفهم والجهاد معهم وأن يدعو لهم بالصلاح.
وأما نصيحة عامة المسلمين - وهم من عدا ولاة الأمر - فإرشادهم لمصالحهم في آخرتهم ودنياهم وإعانتهم عليها وستر عوراتهم وسد خلاتهم ودفع المضار عنهم وجلب المنافع لهم وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر برفق وإخلاص والشفقة عليهم وتوقير كبيرهم ورحمة صغيرهم وتخولهم بالموعظة الحسنة وترك غشهم وحسدهم وأن يحب لهم ما يحب لنفسه من الخير ويكره لهم ما يكره لنفسه من المكروه والذب عن أموالهم وأعراضهم وغير ذلك من أحوالهم بالقول والفعل وحثهم على التخلق بجميع ما ذكرناه من أنواع النصيحة والله أعلم.
والنصيحة فرض كفاية إذا قام بها من يكفى سقط عن غيره وهي لازمة على قدر الطاقة والنصيحة في اللغة: الإخلاص يقال : نصحت العسل إذا صفيته وقيل غير ذلك والله أعلم وتأليف قلوب الناس لطاعتهم والصلاة خلفهم والجهاد معهم وأن يدعو لهم بالصلاح .اهـ. (1)
__________
(1) شرح الأربعين النووية لابن دقيق العيد (1/31).(1/251)
وقال العلامة ابن رجب الحنبلي رحمه الله في جامعه: "وأما النصيحة لأئمة المسلمين فحب صلاحهم ورشدهم وعدلهم وحب اجتماع الأمة عليهم وكراهية افتراق الأمة عليهم والتدين بطاعتهم في طاعة الله عز وجل والبغض لمن رأى الخروج عليهم وحب إعزازهم في طاعة الله عز وجل"، إلى أن قال رحمه الله: "معاونتهم على الحق وطاعتهم فيه وتذكيرهم به وتنبيههم في رفق ولطف ومجانبة الوثوب عليهم والدعاء لهم بالتوفيق وحث الأغيار على ذلك". (1)
وروى الطبراني عن حذيفة، أن النبي - @- قال: "من لا يهتم بأمر المسلمين فليس منهم، ومن لم يمس ويصبح ناصحاً لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم فليس منهم". (2)
قال ابن بطة: فالله الله يا معاشر المسلمين راقبوا الله في أنفسكم وبالغوا في النصيحة لها والإشفاق عليها، واحذروا مجالسة من يلبس عليكم دينكم ويوقع الشك في قلوبكم ويشككم في ربكم فإن هؤلاء الجهمية والمعتزلة قد اختلفت بهم الأهواء وصيرتهم المذاهب إلى المذاهب القبيحة والآراء فأخذت بهم الطرق إلى المهالك فزاغوا عن سبيل الله إلى حدود الضلال فصاروا زائغين.. (3)
ffffff
الفصل الخامس
موقف أهل السنة والجماعة من البدع والمبتدعة
من المسلمين من يقدم الرأي في الدين المبني على الهوى، والعاطفة، والمتشابه من الكتاب والسنة، ثم إذا وجدوا من يحاجهم من أهل الحديث أتباع السلف الصالح بالمحكم من الكتاب والسنة وبفهم سلف الأمة دافعوا عن رأيهم بشبه يضنونها أدلة، وهي أو هي من خيوط العنكبوت لأنها لا تقوم على علم صحيح مستقىً من كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - بفهم السلف الصالح.
__________
(1) جامع العلوم والحكم (1/222).
(2) الحديث ضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة، وضعيف الترغيب.
(3) الإبانة لابن بطة (3/194).(1/252)
قال سبحانه وتعالى: هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ". (1)
وعَنْ اَلْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اَللَّهِ $ تَلَا هَذِهِ اَلْآيَةَ: { هُوَ اَلَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ اَلْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ اَلْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا اَلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ } . اَلْآيَةَ.
ثُمَّ قَالَ: إِذَا رَأَيْتُمْ اَلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ فَاحْذَرُوهُمْ
ومما جاء عمن بعد الصحابة رضي الله عنهم ما ذكر ابن وضاح عن الحسن قال: صاحب البدعة لا يزداد اجتهادا صياما وصلاة إلا ازداد من الله بعداً.
وعن اِبْنُ وَهْبٍ وَأَخْبَرَنِي اِبْنُ مَهْدِيٍّ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيَّ عَنْ اَلْأَهْوَاءِ أَنَّهَا خَيْرٌ? فَقَالَ: جَعَلَ اَللَّهُ فِي شَيْءٍ مِنْهَا مِثْقَالَ ذَرَّةٍ مِنْ خَيْرٍ، وَمَا هِيَ إِلَّا زِينَةٌ مِنْ اَلشَّيْطَانِ وَمَا اَلْأَمْرُ إِلَّا اَلْأَمْرُ اَلْأَوَّلُ.
وعن مَالِكٌ أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْد الْعَزِيزِ كَانَ يَكْتُبُ فِي كُتُبِهِ أَنِّي أُحَذِّرُكُمْ مَا مالَتْ إِلَيْهِ اَلْأَهْوَاءُ وَالزَّيْغُ اَلْبَعِيدُ.
__________
(1) سورة آل عمران آية (7).(1/253)
قَالَ اِبْنُ وَهْبٍ: وَسَمِعْتُ مَالِكًا يَقُولُهُ، وَسُئِلَ عَنْ خُصُومَةِ أَهْلِ اَلْقَدَرِ وَكَلَامِهِمْ? فَقَالَ: مَا كَانَ مِنْهُمْ عَارِفًا بِمَا هُوَ عَلَيْهِ فَلَا يُوَاضَعُ اَلْقَوْلَ وَيُخْبَرُ بِخَلَاقِهِمْ، وَلَا يُصَلَّى خَلْفَهُمْ وَلَا أَرَى أَنْ يُنَاكَحُوا.
قَالَ اِبْنُ وَهْبٍ: وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: كَانَ ذَلِكَ اَلرَّجُلُ إِذَا جَاءَهُ بَعْضُ أَهْلِ اَلْأَهْوَاءِ قَالَ: أَمَّا أَنَا فَعَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي، وَأَمَّا أَنْتَ فَشَاكٌّ فَاذْهَبْ إِلَى مَنْ هُوَ شَاكٌّ مِثْلُك فَخَاصِمْهُ.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: لا يعتمدون على أحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم - والصحابة والتابعين وأئمة المسلمين، فلا يعتمدون لا على السنة ولا على إجماع السلف وآثارهم وإنما يعتمدون على العقل واللغة وتجدهم لا يعتمدون على كتب التفسير المأثورة والحديث وآثار السلف وإنما يعتمدون على كتب الأدب وكتب الكلام التي وضعتها رؤوسهم، وهذه طريقة الملاحدة أيضا إنما يأخذون ما في كتب الفلسفة وكتب الأدب واللغة وأما كتب القرآن والحديث والآثار فلا يلتقون إليها، هؤلاء يعرضون عن نصوص الأنبياء إذ هي عندهم لا تفيد العلم.اهـ. (1)
وهؤلاء يقدمون العقل على النقل ، ويتبعون الهوى بغير الهدى.
قال تعالى: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ" (2)
وقال: وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ". (3)
قال الشعبي: إنما سمي الهوى هوى لأنه يهوي بصاحبه في النار.
__________
(1) مجموع الفتاوى (7/119).
(2) سورة القصص آية (50).
(3) سورة ص آية (26) .(1/254)
وقال ابن عباس: ما ذكر الله هوى في القرآن إلا ذمه قال الله تعالى:+وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث". (1)
وقال تعالى: وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا". (2) ... (3)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "العلم بحث محقق، ونقل مصدق، وما سوى ذلك هذيان مزوق"
وقال: "العلم نقل عن معصوم، أو قول عليه دليل معلوم". انتهى .
فكم لهم من هذا الهذيان المزعوم الخاوي من العلم المعلوم عن الرسول المعصوم عليه الصلاة والسلام.
قال تعالى: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً". (4)
والتأسي لا يكون بالتقرب إلى الله بفعل ما فعل النبي من الدين فقط بل بترك ما ترك من الدين كما مضى تقرباً إلى الله فإذا كان ذلك كذلك فلنتفقه كيف بنى النبي وأصحابه الدولة الإسلامية القوية من الشرق إلى الغرب التي كانت تدفع فيها الكفار الجزية عن يد وهم صاغرون.
فقد روى البخاري في صحيحة من حديث معاوية مرفوعاً: (من يرد الله به خيراً يفقه في الدين) (5)
__________
(1) سورة الأعراف آية (176).
(2) سورة الكهف آية (28).
(3) تفسير القرطبي (16/144).
(4) سورة الأحزاب آية (21).
(5) عن معاوية رضي الله عنه قال: قال رسول الله $ : "من يرد الله به خيراً يفقه في الدين، إنما أنا قاسم ويعطي الله ولن يزال أمر هذه الأمة مستقيماً حتى تقوم الساعة وحتى يأتي أمر الله". أخرجه البخاري في كتاب العلم برقم (71)، وفي كتاب الاعتصام برقم (7312)، وفي كتاب الخمس (3116)، وأخرجه مسلم في كتاب الزكاة برقم (2386 و 2389).
مفهوم الحديث أنه من لم يتفقه في الدين أي يتعلم قواعد الإسلام لم يرد الله به خيرا ويلهمه برشده بباء موحدة أوله بخط المصنف وفيه كالذي قبله شرف العلم وفضل العلماء وأن التفقه في الدين علامة على حسن الخاتمة وروى البخاري في الصحيح معلقا من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين وإنما العلم بالتعلم . فيض القدير (6/242) .
وهذا الحديث مشتمل على ثلاثة أحكام أحدها فضل التفقه في الدين وثانيها أن المعطي في الحقيقة هو الله وثالثها أن بعض هذه الأمة يبقى على الحق أبدا. اهـ. فتح الباري (1/164) .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى : فكل من أراد الله به خيرا فلا بد أن يفقهه في الدين فمن لم يفقهه في الدين لم يرد به خيرا وليس كل من فقهه في الدين قد أراد به خيرا بل لا بد مع الفقه في الدين من العمل به فالفقه في الدين شرط في حصول الفلاح فلا بد من معرفة الرب تعالى ولا بد مع معرفته من عبادته والنعيم واللذة حاصل بذلك . اهـ . الصفدية (2/266) .(1/255)
والمفهوم المخالف للحديث أن من لم يرد به خيراً لا يفقه في الدين بل قد يصرفه إلى أراء الرجال الغير معصومين كيف بنى النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه رضوان الله عليهم الدولة المسلمة منذ أن كان مهدداً في مكة هو وأصحابه بالتعذيب والطرد والقتل إلى أن فتحت له مكة وكسر الأصنام المنصوبة حول البيت وذلت له رقاب كفار قريش وأخرج الناس أفواجاً من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد.
ومن المسلمين ممن أضلهم الشيطان ينبذون الكتاب والسنة وراء ظهورهم، ويتبعون أهل الكتاب من اليهود والنصارى.
قال الله تعالى: وَلَمَّا جَاءهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ كِتَابَ اللّهِ وَرَاء ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ". (1)
وثبت في الحديث الصحيح عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري، عن النبي $ قال: "لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب تبعتموهم، قلنا يا رسول الله اليهود والنصارى؟ قال: فمن". (2)
__________
(1) سورة البقرة آية (101).
(2) أخرجه البخاري برقم (6889)، وأخرجه مسلم في العلم باب إتباع سنن اليهود والنصارى برقم (2669).(1/256)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: والمسلمون الذين جاءهم كتاب الله القرآن عدل كثير ممن أضله الشيطان من المنتسبين إليهم إلى أن نبذ كتاب الله وراء ظهره واتبع ما تتلوه الشياطين، فلا يعظم من أمر القرآن بموالاته، ويعادي من أمر القرآن بمعاداته، بل يعظم من رآه يأتي ببعض الخوارق التي تأتي بمثلها السحرة، والكهان بإعانة الشياطين لهم، وهي تحصل بما تتلوه الشياطين، ثم منهم من يعرف أن هذا من الشياطين ولكن يعظمه لهواه، ويفضله على طريقة القرآن، وهؤلاء كفار، كالذين قال الله تعالى فيهم: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَؤُلاء أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ سَبِيلاً أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللّهُ وَمَن يَلْعَنِ اللّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا". (1)
__________
(1) سورة النساء آية (51-52).(1/257)
وهؤلاء ضاهوا الذين قال الله تعالى فيهم: وَلَمَّا جَاءهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ". (1) إلى قوله وَلَكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ". (2) ، ومنهم من لا يعرف أنه من الشياطين، وقد يقع في هذا طوائف من أهل الكلام، والعلم، وأهل العبادة والتصوف، حتى جوزوا عبادة الكواكب، والأصنام لما رأوه فيها من الأحوال العجيبة التي تعينهم عليها الشياطين لما يحصل بها بعض أغراضهم من الظلم، والفواحش، فلم يبالوا بشركهم بالله وبكفرهم به، وبكتابه إذا نالوا ذلك، ولم يبالوا بتعليم ذلك للناس، وتعظيمهم له لرئاسة، أو مال ينالونه، وإن كانوا قد علموا الكفر والشرك ودعوا إليه، بل حصل عندهم ريب وشك فيما جاء به الرسول $ واعتقاد أنه خاطب الجمهور بما لا حقيقة له في الباطن للمصلحة، كما يقول ذلك من يقوله من الملاحدة الباطنية، ودخل في رأي هؤلاء طائفة من هؤلاء، وهذا مما ضاهوا به فارس والروم، فإن فارس كانت تعظم الأنوار وتسجد للشمس وللنار، والروم كانوا قبل النصرانية مشركين يعبدون الكواكب والأصنام، فهؤلاء شر من الذين أشبهوا اليهود والنصارى، فإن هؤلاء ضاهوا أهل الكتاب فيما بدل أو نسخ، وهؤلاء ضاهوا من لا كتاب لهم.اهـ. (3)
وقال مالك: لا نصلي خلف المبتدع منهم إلا أن نخافه فنصلي، واختلف في الإعادة، ولا بأس بقتال من دافعك من الخوارج، واللصوص من المسلمين، وأهل الذمة عن نفسك، ومالك، والتسليم للمسلمين لا تعارض برأي، ولا تدافع بقياس، وما تأوله منها السلف الصالح تأولناه، وما عملوا به عملناه، وما تركوه تركناه، ويسعنا أن نمسك عما أمسكوا ونتبعهم. (4)
ffffff
التحذير من أهل البدع وعدم مجالستهم
__________
(1) سورة البقرة آية (89).
(2) سورة البقرة آية (102).
(3) مجموع الفتاوى (8/233-234).
(4) اجتماع الجيوش الإسلامية(1/86).(1/258)
فالواجب علينا أن نفارق كل صاحب بدعة، والداعية لها، ولا يجوز مصاحبتهم، ولا مجالستهم، ولا السلام عليهم. حماية لجناب الشريعة الغراء .
قال الحسن: لا تجادلوا أهل الأهواء ولا تجالسوهم ولا تسمعوا منهم، وقد اتفق أهل الحديث من السلف على هذا. (1)
وقال: لا تجالس صاحب هوى فيقذف في قلبك ما تتبعه عليه فتهلك أو تخالفه فيمرض قلبك.
وسئل الإمام أحمد بن حنبل - رحمه الله - : "الرجل يصوم ويعتكف أحب إليك ، أو يتكلم في أهل البدع ؟ فقال : إذا قام وصلى واعتكف فإنما هو لنفسه ، وإذا تكلم في أهل البدع فإنما هو للمسلمين هذا أفضل".
وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - " أن تحذير الأمة من البدع والقائلين بها واجب باتفاق المسلمين".
وقال أيضاً - رحمه الله - : "إن أهل البدع شر من أهل المعاصي الشهوانية بالسنة والإجماع ، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بقتال الخوارج ونهى عن قتال أئمة الظلم ، وقال في الذي يشرب الخمر : "لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله".
وقال في ذي الخويصرة : " يخرج من ضئضيء هذا أقوام يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم ، يمرقون من الدين- وفي رواية : "من الإسلام " - كما يمرق السهم من الرمية ، يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم ، وصيامه مع صيامهم ، وقراءته مع قراءتهم ، أينما لقيتموهم فاقتلوهم ، فإن في قتلهم أجراً عند الله لمن قتلهم يوم القيامة"،
ثم إن أهل المعاصي ذنوبهم : فعل بعض ما نُهوا عنه : من سرقة ، أو زنا ، أو شرب خمر ، أو أكل مال بالباطل .
وأهل البدع ذنوبهم : ترك ما أمروا به من اتباع السنة وجماعة المؤمنين ، فإن الخوارج أصل بدعتهم أنهم لا يرون طاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - واتباعه فيما خالف ظاهر القرآن عندهم ، وهذا ترك واجب . وكذلك الرافضة لا يرونه عدالة الصحابة ومحبتهم، والاستغفار لهم، وهذا ترك و(3) ...".
__________
(1) إحياء علوم الدين (1/95).(1/259)
وروي في آثار السلف أن الواعظ كان إذا جلس للناس قال العلماء تفقدوا منه ثلاثا فإن كان معتقدا لبدعة فلا تجالسوه فإنه عن لسان الشيطان ينطق وإن كان سيء الطعمة فعن الهوى ينطق فإن لم يكن مكين العقل فإنه يفسد بكلامه أكثر مما يصلح فلا تجالسوه. (1)
وعن فرج ابن فضالة عن كلب بن ميمون عن ميمون بن مهران قال أوصاني عمر ابن عبد العزيز فقال يا ميمون لا تخل بامرأة لا تحل لك وإن أقرأتها القرآن ولا تتبع السلطان وإن رأيت انك تأمره بمعروف أو تنهاه عن منكر ولا تجالس ذا هوى فيلقي في نفسك شيئا يسخط الله به عليك. (2)
قال ابن أبي زمنين في كتابه أصول السنة: قَالَ مُحَمَّدٌ: وَلَمْ يَزَلْ أَهْلُ اَلسُّنَّةِ يَعِيبُونَ أَهْلَ اَلْأَهْوَاءِ اَلْمُضِلَّةِ، وَيَنْهَوْنَ عَنْ مُجَالَسَتِهِمْ وَيُخَوِّفُونَ فِتْنَتَهُمْ وَيُخْبِرُونَ بِخَلَاقِهِمْ، وَلَا يَرَوْنَ ذَلِكَ غِيبَةً لَهُمْ وَلَا طَعْنًا عَلَيْهِمْ.
وعَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ أَنَّهُ قَالَ لِجُلَسَائِهِ فِي أَصْحَابِ اَلْأَهْوَاءِ: إِذَا رَأَيْتُمْ مِنْهُمْ أَحَدًا قَدْ جَلَسَ إِلَيْنَا فَأَعْلِمُونِي بِأَمَارَةٍ أَجْعَلُهَا بَيْنَهُمْ، فَإِذَا جَلَسَ إِلَيْهِ مِنْهُمْ أَحَدٌ فَأَعْلَمُوهُ أَخَذَ نَعْلَيْهِ ثُمَّ قَامَ.
وعن مُصْعَبُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: قَالَ لِي أَبِي: أَيْ بُنَيَّ لَا تُجَالِسْ مَفْتُونًا فَإِنَّهُ لَا يُخْطِئُك مِنْهُ إِحْدَى خَصْلَتَيْنِ، إِمَّا أَنْ يَسْتَزِلَّك، وَإِمَّا أَنْ يُمْرِضَ قَلْبَكَ.
__________
(1) إحياء علوم الدين (2/91).
(2) ذم الهوى لابن الجوزي (1/149).(1/260)
وعَنْ أَيُّوبَ اَلسِّخْتِيَانِيِّ قَالَ: قَالَ أَبُو قِلَابَةَ وَكَانَ مِنْ اَلْفُقَهَاءِ ذَوِي اَلْأَلْبَابِ: لَا تُجَالِسُوا أَهْلَ اَلْأَهْوَاءِ وَلَا تُجَادِلُوهُمْ، فَإِنِّي لَا آمَنُ أَنْ يَغْمِسُوكُمْ فِي ضَلَالَتِهِمْ أَوْ يُلَبِّسُوا عَلَيْكُمْ كَمَا كُنْتُمْ تَعْرِفُونَ.
وعَنْ عَبْد الْمَلِكِ بْنِ عَوْفٍ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ سِيرِينَ كَانَ يَرَى أَنَّ هَذِهِ اَلْآيَةَ نَزَلَتْ فِي أَصْحَابِ اَلْأَهْوَاءِ : { وَإِذَا رَأَيْتَ اَلَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ } .
وعَنْ أَبِي اَلْجَوْزَاءِ قَالَ: لَئِنْ يُجَاوِرُنِي فِي دَارِي هَذِهِ قِرَدَةٌ وَخَنَازِيرُ أَحَبُّ إِلَيَّ مَنْ أَنْ يُجَاوِرَنِي رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ اَلْأَهْوَاءِ، وَلَقَدْ دَخَلُوا فِي هَذِهِ اَلْآيَةِ يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ اَلْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ
وعن سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ قَالَ: حُدِّثْت عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ قَالَ: مَا أَدْرِي أَيُّ اَلنِّعْمَتَيْنِ أَعْظَمُ عَلَيَّ، أَنْ هَدَانِي إِلَى اَلْإِسْلَامِ أَوْ أَنْ جَنَّبَنِي اَلْأَهْوَاءَ.
وعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ وَاسِعٍ عَنْ أَبِي اَلْعَالِيَةِ قَالَ: مَا أَدْرِي أَيُّ اَلنِّعْمَتَيْنِ أَعْظَمُ عَلَيَّ، نِعْمَةٌ أَنْعَمَهَا عَلَيَّ فَأَنْقَذَنِي بِهَا مِنْ اَلشِّرْكِ، أَوْ نِعْمَةٌ أَنْعَمَهَا عَلَيَّ فَأَنْقَذَنِي بِهَا مِنْ الْحَرُورِيَّةِ.(1/261)
وعَنْ سَحْنُونَ عَنْ اِبْنِ اَلْقَاسِمِ قَالَ: قَالَ مَالِكٌ: مَا آيَةُ فِي كِتَابِ اَللَّهِ أَشَدُّ عَلَى أَهْلِ اَلْأَهْوَاءِ مِنْ هَذِهِ اَلْآيَاتِ : { يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا اَلَّذِينَ اِسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا اَلْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ } .
قَالَ مَالِكٌ: فَأَيُّ كَلَامٍ أَبْيَنُ مِنْ هَذَا.
قَالَ اِبْنُ اَلْقَاسِمِ: قَالَ لِي مَالِكٌ: إِنَّ هَذِهِ اَلْآيَةَ لِأَهْلِ اَلْقِبْلَةِ.
وخرج ابن وهب، عن أبي إدريس الخولاني أنه قال: لأن أرى في المسجد نارا لا أستطيع إطفاءها أحب إلي من أن أرى فيه بدعة لا أستطيع تغييرها.
وعن الفضيل بن عياض: اتبع طرق الهدى ولا يضرك قلة السالكين وإياك وطرق الضلالة ولا تغتر بكثرة الهالكين
وعن أيوب السخياني أنه كان يقول: ما ازداد صاحب بدعة اجتهادا إلا ازداد من الله بعداً.
وخرج ابن وهب عن سفيان قال: كان رجل فقيه يقول: ما أحب أني هديت الناس كلهم وأضللت رجلا واحدا.
وذكر الآجري أن ابن سيرين كان يرى أسرع الناس ردة أهل الأهواء
وعن إبراهيم: ولا تكلموهم إني أخاف أن ترتد قلوبكم.
وعن هشام بن حسان قال: لا يقبل الله من صاحب بدعة صياما ولا صلاة ولا حجا ولا جهادا ولا عمرة ولا صدقة ولا عتقا ولا صرفا ولا عدلا ـ زاد ابن وهب عنه ـ وليأتين على الناس زمان يشتبه فيه الحق والباطل فإذا كان ذلك لم ينفع فيه دعاء إلا كدعاء الغرق.
وعن يحيى بن أبي كثير قال: إذا لقيت صاحب بدعة في طريق فخذ في طريق آخر.
وعن بعض السلف: من جالس صاحب بدعة فزعت منه العصمة، ووكل إلى نفسه.
وعن العوام بن حوشب أنه كان يقول لابنه: يا عيسى أصلح قلبك وأقلل مالك وكان يقول: والله لأن أرى عيسى في مجالس أصحاب البرابط والأشربة والباطل أحب إلي من أن أراه يجالس أصحاب الخصومات.
قال ابن وضاح : يعني أهل البدع.(1/262)
وقال يونس بن عبيد: إن الذي تعرض عليه السنة فيقبلها الغريب وأغرب منه صاحبها.
وعن يحيى بن أبي عمر الشيباني قال: كان يقال يأبى لصاحب بدعة بتوبة وما انتقل صاحب بدعة إلا إلى شر منها. (1)
وعن عبد الله بن المبارك عن سفيان الثوري، عن جعفر بن محمد، عن أبيه عن جابر بن عبد الله قال: كان رسول الله $ يقول في خطبته: يحمد الله عز وجل بما هو أهله ثم يقول $: من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، أصدق الحديث كتاب الله عز وجل، وأحسن الهدي هدي محمد $، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار .
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله $: إن أحسن الحديث كتاب الله عز وجل، وخير الهدي هدي محمد $، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة .
وقال رجال لأبي بكر بن عياش: يا أبا بكر من السني؟ قال: الذي إذا ذكرت الأهواء لم يغضب لشيء منها.
وعن مقاتل بن حيان قال: أهل هذه الأهواء آفة أمة محمد $ أنهم يذكرون النبي $ وأهل بيته فيتصيدون بهذا الذكر الحسن عند الجهال من الناس فيقذفون بهم في المهالك فما أشبههم بمن يسقي الصبر باسم العسل ومن يسقي السم القاتل باسم الترياق لِلَّهِ فأبصرهم فإنك إن لا تكن أصبحت في بحر الماء فقد أصبحت في بحر الأهواء الذي هو أعمق غورا وأشد اضطرابا وأكثر صواعق وأبعد مذهبا من البحر وما فيه ففلك مطيتك التي تقطع بها سفر الضلال اتباع السنة.
وعن أبي قلابة: لا تجالسوا أهل الأهواء ولا تجادلوهم فإني لا آمن أن يغمسوكم في ضلالتهم ويلبسوا عليكم ما كنتم تعرفون قال أيوب: وكان ـ والله ـ من الفقهاء ذوي الألباب.
__________
(1) الاعتصام (1/60).(1/263)
وعنه أيضاً: أنه كان يقول: إن أهل الأهواء أهل ضلالة ولا أرى مصيرهم إلا إلى النار فجرتهم فليس منهم أحد ينتحل رأيا ويقول قولا فيتناهى به الأمر دون السيف وإن النفاق كان ضروبا ثم تلا ومنهم من عاهد الله ومنهم الذين يؤذون النبي ومنهم من يلمزك في الصدقات فاختلف قولهم واجتمعوا في الشك والتكذيب وإن هؤلاء اختلف قولهم واجتمعوا في السيف ولا أرى مصيرهم إلا إلى النار . (1)
وقال داود بن أبي هند أوحى الله تبارك وتعالى إلى موسى بن عمران لا تجالس أهل البدع فإن جالستهم فحاك في صدرك شيء مما يقولون أكببتك في نار جهنم.
وقال الفضيل بن عياض: من جلس مع صاحب بدعة لم يعط الحكمة.
وقال: لا تجلس مع صاحب بدعة فإني أخاف أن تنزل عليك اللعنة.
وقال: من أحب صاحب بدعة أحبط الله عمله، وأخرج نور الإسلام من قلبه .
وقال: من جلس مع أصحاب بدعة في طريق فجز في طريق غيره .
وقال : من عظم صاحب بدعة فقد أعان على هدم الإسلام ومن تبسم في وجه مبتدع فقد استخف بما أنزل الله عز وجل على محمد $ ومن زوج كريمته مبتدع فقد قطع رحمها ومن تبع جنازة مبتدع لم يزل في سخط الله حتى يرجع.
وقال: آكل مع يهودي ونصراني ولا آكل مع مبتدع وأحب أن يكون بيني وبين صاحب بدعة حصن من حديد. (2)
وقال: إذا علم الله عز وجل من الرجل أنه مبغض لصاحب بدعة غفر له وإن قل عمله ولا يكن صاحب سنة يمالئ صاحب بدعة إلا نفاقا ومن أعرض بوجهه عن صاحب بدعة ملأ الله قلبه إيمانا ومن انتهر صاحب بدعة آمنه الله يوم الفزع الأكبر ومن أهان صاحب بدعة رفعه الله في الجنة مائة درجة فلا تكن صاحب بدعة في الله أبدا . (3)
وقال رحمه الله:
صاحب البدعة لا تأمنه على دينك، ولا تشاوره في أمرك، ولا تجلس إليه ، فمن جلس إلى صاحب بدعة ورثه الله العمى. (4)
__________
(1) الطبقات الكبرى (7/184).
(2) اعتقاد أهل السنة اللالكائي(4/628).
(3) شرح السنة (1/60) .
(4) شرح اعتقاد أهل السنة والجماعة .(1/264)
قال أبو الحسن الأشعري: ونرى مفارقة كل داعية إلى بدعة، ومجانبة أهل الأهواء. . (1)
وعن الربيع بن سليمان قال: سمعت الشافعي يقول لأن يلقى الله عز وجل العبد بكل ذنب ما خلا الشرك بالله خير له من أن يلقاه بشيء من هذه الأهواء. . (2)
وجاء عن الحسن: لا تجالس صاحب بدعة فإنه يمرض قلبك.
وعن سفيان الثوري: من جالس صاحب بدعة لم يسلم من إحدى ثلاث: إما أن يكون فتنة لغيره وإما أن يقع بقلبه شيء يزل به فيدخله النار وإما أن يقول : والله لا أبالي ما تكلموا به وإني واثق بنفسي فمن يأمن بغير الله طرفة عين على دينه سلبه إياه
وعن يحيى بن أبي كثير قال: إذا لقيت صاحب بدعة في طريق فخذ في طريق آخر.
وعن أيوب قال: كان أبو قلابة يقول: لا تجالسوا أهل الأهواء، ولا تجادلوهم؟ فإني لا آمن أن يغمسوكم في الضلالة، أو يلبسوا عليكم في الدين بعض ما لبس عليهم .
وعن إبراهيم قال: لا تجالسوا أصحاب الأهواء ولا تكلموهم فإني أخاف أن ترتد قلوبكم.
وهذا إبراهيم بن شيبان القرميسيني صحب أبا عبد الله المغربي وإبراهيم الخواص وكان شديدا على أهل البدع متمسكا بالكتاب والسنة لازما لطريق المشايخ والأئمة حتى قال فيه عبد الله بن منازل : إبراهيم بن شيبان حجة الله على الفقراء وأهل الآداب والمعاملات
والآثار في ذلك كثيرة ويعضدها ما روي عنه عليه السلام أنه قال :"المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل". ووجه ذلك ظاهر منبه عليه في كلام أبي قلابة إذ قد يكون المرء على يقين من أمر من أمور السنة فيلقي له صاحب الهوى فيه هوى مما يحتمله اللفظ لا أصل له أو يزيد له فيه قيدا من رأيه فيقبله قلبه فإذا رجع إلى ما كان يعرفه وجده مظلما فإما أن يشعر به فيرده بالعلم أو لا يقدر على رده وأما أن لا يشعر به فيمضي مع من هلك.
__________
(1) الإبانة للأشعري (1/20) .
(2) الإبانة ابن بطة ( 2/262).(1/265)
قال ابن وهب: وسمعت مالكا إذا جاءه بعض أهل الأهواء يقول: أما أنا فعلى بينة من ربي وأما أنت فشاك فاذهب إلى شاك مثلك فخاصمه ثم قرأ :
"قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة ".
فهذا شأن من تقدم من عدم تمكين زائغ القلب أن يسمع كلامه
ومثل رده بالعلم جوابه لمن سأله في قوله: { الرحمن على العرش استوى } كيف استوى؟ فقال له: الاستواء معلوم والكيف مجهول والسؤال عنه بدعة وأراك صاحب بدعة ثم أمر بإخراج السائل.
ومثل ما لا يقدر على رده ما حكى الباجي قال: قال مالك: كان يقال: لا تمكن زائغ القلب من أذنك فإنك لا تدري ما يعلقك من ذلك. (1)
وقال الإمام أحمد: الذي كنا نسمع، وأدركنا عليه من أدركنا من أهل العلم؛ أنهم كانوا يكرهون الكلام والجلوس مع أهل الزيغ، وإنما الأمور في التسليم والانتهاء إلى ما كان في كتاب الله أو سنة رسول الله، لا في الجلوس مع أهل البدع والزيغ لترد عليهم، فإنهم يلبسون عليك وهم لا يرجعون، فالسلامة إن شاء الله في ترك مجالستهم والخوض معهم في بدعهم وضلالتهم. (2)
وقال ابن بطة: فالله الله يا معاشر المسلمين راقبوا الله في أنفسكم وبالغوا في النصيحة لها والإشفاق عليها واحذروا مجالسة من يلبس عليكم دينكم ويوقع الشك في قلوبكم ويشككم في ربكم فإن هؤلاء الجهمية المعتزلة قد اختلفت بهم الأهواء وصيرتهم المذاهب إلى المذاهب القبيحة والآراء فأخذت بهم الطرق إلى المهالك فزاغوا عن سبيل الله إلى حدود الضلال، فصاروا زائغين. (3)
وعن عبد الرزاق، عن معمر، قال: كنت عند ابن طاووس في غدير له، إذ أتاه رجل، يقال له صالح يتكلم في القدر، فتكلم بشئ منه، فأدخل ابن طاووس أصبعيه في أذنيه، وقال لابنه: أدخل أصبعيك في أذنيك واشدد حتى لا تسمع من قوله شيئاً فإن القلب ضعيف . (4)
__________
(1) الاعتصام (1/90).
(2) الإبانة (2/472).
(3) الإبانة (3/194).
(4) الإبانة .(1/266)
وخرج ابن وهب عن أبي إدريس الخولاني أنه قال: لأن أرى في المسجد ناراً لا أستطيع إطفاءها أحب إلي من أن أرى فيه بدعة لا أستطيع تغييرها.
وعن الفضيل بن عياض: اتبع طرق الهدى ولا يضرك قلة السالكين وإياك وطرق الضلالة ولا تغتر بكثرة الهالكين.
وعن الحسن: لا تجالس صاحب هوى فيقذف في قلبك ما تتبعه عليه فتهلك أو تخالفه فيمرض قلبك. (1)
وقال حنبل بن إسحاق: سمعت أبا عبد الله يقول: أهل البدع ما ينبغي لأحد أن يجالسهم ولا يخالطهم ولا يأنس بهم. (2)
وقال أبو القاسم النصر اباذي: بلغني أن الحارث تكلم في شيء من الكلام فهجره أحمد بن حنبل فاختفى، فلما مات لم يصل عليه إلا أربعة نفر، وقال البردعي: سئل أبو زرعة عن المحاسبي وكتبه؟ فقال للسائل: إياك وهذه الكتب، بدع، وضلالات، عليك بالأثر، فإنك تجد فيه ما يغنيك عن هذه الكتب، قيل له: في هذه الكتب عبرة، فقال: من لم يكن له في كتاب الله عبرة فليس له في هذه عبرة، بلغكم أن مالكاً أو الثوري، أو الأوزاعي، أو الأئمة صنفوا كتباً في الخطرات، والوساوس، وهذه الأشياء، هؤلاء قوم قد خالفوا أهل العلم، يأتونا مرة بالمحاسبي، ومرة بعبد الرحيم الديبلي، ومرة بحاتم الأصم، ثم قال: ما أسرع الناس إلى البدع. وروى الخطيب بسند صحيح: أن الإمام أحمد سمع كلام المحاسبي، فقال لبعض أصحابه: ما سمعت في الحقائق مثل كلام هذا الرجل، ولا أرى لك صحبتهم، قلت: إنما نهاه عن صحبتهم لعلمه بقصوره عن مقامهم، فإنه في مقام ضيق لا يسلكه كل واحد، ويخاف على من يسلكه أن لا يوفيه حقه . (3)
__________
(1) الاعتصام (1/60).
(2) الإبانة (2/475).
(3) تهذيب التهذيب (2/117). وتاريخ بغداد (8/216).(1/267)
وعن عبد الله بن صالح، حدثني الليث، أخبرني بن عجلان، عن نافع مولى عبدالله: أن صبيغ العراقي جعل يسأل عن أشياء من القرآن في أجناد المسلمين، حتى قدم مصر، فبعث به عمرو بن العاص إلى عمر بن الخطاب، فلما أتاه الرسول بالكتاب فقرأه، فقال: أين الرجل؟ فقال: في الرحل، قال عمر: أبصر أن يكون ذهب فتصيبك مني به العقوبة الموجعة، فأتاه به، فقال عمر: تسأل محدثة، فأرسل إلى رطائب من جريد، فضربه بها، حتى ترك ظهره وبرة، ثم تركه حتى برأ، ثم عاد له، ثم تركه حتى برأ، فدعا به ليعود له، قال: فقال صبيغ: إن كنت تريد قتلي فاقتلني قتلاً جميلاً، وان كنت تريد أن تداويني فقد والله برئت، فأذن له إلى أرضه، وكتب إلى أبي موسى الأشعري: أن لا يجالسه أحد من المسلمين، فاشتد ذلك على الرجل، فكتب أبو موسى إلى عمر: أن قد حسنت توبته، فكتب عمر: أن يأذن للناس بمجالسته. (1)
ffffff
كل بدعة تميت سنة
قال الإمام البربهاري: واعلم أن الناس لم يبتدعوا بدعة قط حتى تركوا من السنة مثلها، فاحذر المحرمات من الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، والضلالة وأهلها في النار. (2)
وروى أبو إسماعيل الهروي، عن حسان بن عطية قال: ما ابتدع قومٌ في دينهم بدعةً إلا نزع الله مثلها من السنة، ثم لا يردها عليهم إلى يوم القيامة .اهـ. (3)
فأهل البدع هم أضر على الناس من غيرهم.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله " وأئمة أهل البدع أضر على الأمة من أهل الذنوب، ولهذا أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقتل الخوارج، ونهى عن قتال الولاة الظلمة ". (4)
__________
(1) اعتقاد أهل السنة اللالكائي(4/628). سنن الدارمي رقم (148).
(2) شرح السنة (1/22) .
(3) كتاب ذم الكلام وأهله.
(4) مجموع الفتاوى .(1/268)
قال الشيخ عبدالحميد بن عبدالرحمن السحيباني: والتعصب والتحزب شيمتان من شيم الضعف، وخلتان من خلل الجهل، يبتلي بهما الإنسان، فتعميان بصره، وتغشيان على عقله، فلا يرى حسنًا إلا ما حسن في رأيه، ولا صوابًا إلا ما ذهب إليه، أو من يتعصب ويتحزب له .
ولهذا ذمَّ الله - تعالى - ورسوله - صلى الله عليه وسلم - هذه الخصلة، وحذَّرا منها أيما تحذير، قال سبحانه: وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ" (1) ، وقال تعالى: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ بِمَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ نُؤْمِنُ بِمَآ أُنزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَاءهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنبِيَاء اللّهِ مِن قَبْلُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ". (2)
... وثبت في السنة الشريفة أن عدي بن حاتم > (3) قال: أتيت رسول الله $ وفي عنقي صليب من ذهب، فقال لي: ((اطرح هذا الوثن من عنقك))، قال: فطرحته.
قال: وانتهيت إليه وهو يقرأ سورة براءة، وقرأ هذه الآية: اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ". (4)
قال: فقلت: يا رسول الله، إنا لسنا نعبدهم.
__________
(1) سورة البقرة آية (170) .
(2) البقرة آية (91) .
(3) هو الصحابي الجليل عدي بن حاتم بن عبدالله الحشرج الطائي، أسلم في سنة تسع أو عشر من الهجرة، وكان نصرانيًا قبل ذلك، وثبت على إسلامه في الردة، وشهد فتح العراق، ثم سكن الكوفة، وأثر عنه أنه قال: ما أقيمت الصلاة منذ أسلمت إلا وأنا على وضوء، توفي سنة 68هـ، قيل وهو ابن مائة وعشرين سنة .
(4) التوبة : (31) .(1/269)
قال: ((أليس يحرمون ما أحل الله، فتحرمونه، ويحلون ما حرم الله فتستحلونه))؟
قال: قلت: بلى. قال: ((فتلك عبادتهم)). (1)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: أن باب العبادات والديانات والتقربات متلقاة عن الله ورسوله فليس لأحد أن يجعل شيئا عبادة أو قربة إلا بدليل شرعي قال تعالى: { أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين مالم يأذن به الله } ، وقال تعالى: { وان هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله } ، وقال تعالى: { المص كتاب انزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه لتنذر به وذكرى للمؤمنين اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلا ما تذكرون } ، ونظائر ذلك في الكتاب كثير يأمر الله فيه بطاعة رسوله وإتباع كتابه وينهى عن إتباع ما ليس من ذلك. (2)
وقال ابن قيم الجوزية: ومعلوم أنه لا حرام إلا ما حرمه الله ورسوله ولا تأثيم إلا ما أثم الله ورسوله به فاعله كما أنه لا واجب إلا ما أوجبه الله ولا حرام إلا ما حرمه الله ولا دينا إلا ما شرعه الله، فالأصل في العبادات البطلان حتى يقوم دليل على الأمر، والأصل في العقود والمعاملات الصحة حتى يقوم دليل على البطلان والتحريم، والفرق بينهما أن الله سبحانه لا يعبد إلا بما شرعه على ألسنة رسله، فإن العبادة حقه على عباده، وحقه الذي أحقه هو ورضي به وشرعه. (3)
فهذا هو الأصل، ومن قال بغير ذلك يجب هجرانه ومنابذته.
__________
(1) رواه الترمذي في كتاب تفسير القرآن ، باب ومن سورة التوبة ، (5/278) برقم (3095). وحسنه الألباني كما في صحيح سنن الترمذي (3/56) برقم (3306) . الفتنة وموقف المسلم منها في ضوء القرآن.
(2) مجموع الفتاوى (31/36).
(3) إعلام الموقعين (1/344).(1/270)
قال ابن قدامة: ومن السنة هجران أهل البدع، ومباينتهم، وترك الجدال والخصومات في الدين، وترك النظر في كتب المبتدعة، والإصغاء إلى كلامهم، وكل محدثة بدعة، وكل متسم بغير الإسلام مبتدع، كالرافضة، والجهمية، والخوارج، والقدرية، والمرجئة، والمعتزلة، والكرامية، والكلابية، والسالمة، ونظائرهم، فهذه فرق الضلال، وطوائف البدع، أعاذنا الله منها. اهـ. (1)
قال فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين: لأهل البدع علامات منها:
أنهم يتصفون بغير الإسلام، والسنة بما يحدثونه من البدع القولية، والفعلية، والعقيدية، أنهم يتعصبون لآرائهم، فلا يرجعون إلى الحق وإن تبين لهم.
أنهم يكرهون أئمة الإسلام والدين.
ومن طوائفهم:
الرافضة (2) : وهم الذين يغلون في آل البيت ويكفرون من عداهم من الصحابة، أو يفسقونهم، وهم فرق شتى، فمنهم الغلاة الذين ادعوا أن علياً إله، ومنهم دون ذلك، وأول ما ظهرت بدعتهم في خلافة علي بن أبي طالب حين قال له عبدالله بن سبأ: أنت الإله، فأمر علي > بإحراقهم، وهرب زعيمهم عبدالله بن سبأ إلى المدائن، ومذهبهم في الصفات مختلف: فمنهم المشبه، ومنهم المعطل، ومنهم المعتدل، وسموا رافضة لأنهم رفضوا زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب حين سألوه عن أبي بكر، وعمر رضي الله عنهما، فترحم عليهما، وأبعدوا عنه، وسموا أنفسهم شيعة لأنهم يزعمون أنهم يتشيعون لآل البيت وينتصرون لهم، ويطالبون بحقهم في الإمامة .
__________
(1) لمعة الاعتقاد (1/184) .
(2) قال لإمام الشعبي: ائتني بشيعي صغير أُخرج لك منه رافضياً كبيراً، وائتني برافضي صغير أُخرج لك منه زنديقاً كبيراً . لسان الميزان (3/427). الفوائد المنتقاة من فتح الباري لعبدالمحسن العباد ص134.(1/271)
الجهمية: نسبة إلى الجهم بن صفوان الذي قتله سالم أو سلم بن أحوز سنة 121 هـ ومذهبهم في الصفات التعطيل، والنفي، وفي القدر القول بالجبر، وفي الإيمان القول بالإرجاء، وهو أن الإيمان مجرد الإقرار بالقلب وليس القول والعمل من الإيمان، ففاعل الكبيرة عندهم مؤمن كامل الإيمان فهم معطلة، جبرية، مرجئة، وهم فرق كثيرة .
الخوارج (1) : وهم الذين خرجوا لقتال علي بن أبي طالب بسبب التحكيم. مذهبهم التبرؤ من عثمان، وعلي، والخروج على الإمام إذا خالف السنة وتكفير فاعل الكبيرة، وتخليده في النار، وهم فرق عديدة.
__________
(1) أصل بدعة الخوارج أنه لما قَبِلَ عليٌّ رضي الله عنه ومعه التحكيم الذي طلبه أهل الشام خرجوا عن جماعة المسلمين وأنكروا التحكيم وقالوا: لا حكم إلا لله ثم اجتمعوا في مكان يُقال له حروراء ولهذا يقال للخوارج حرورية نسبة إلى ذلك المكان فأرسل إليهم عليٌّ عبدالله بن عباس فناظرهم فرجع كثير منهم . الفوائد المنتقاة من فتح الباري لعبدالمحسن العباد ص134.(1/272)
عن حَمَّادٌ عَنْ أَبِي غَالِبٍ قَالَ: كُنْتُ مَعَ أَبِي أُمَامَةَ وَهُوَ عَلَى حِمَارٍ حَتَّى اِنْتَهَيْنَا إِلَى دَرَجِ مَسْجِدِ دِمَشْقَ فَإِذَا رُؤُوسٌ مِنْ رُؤُوسِ اَلْخَوَارِجِ مَنْصُوبَةٌ، فَقَالَ: مَا هَذِهِ اَلرُّؤُوسُ? فَقَالُوا: رُؤُوسُ خَوَارِجَ جِيءَ بِهَا مِنْ اَلْعِرَاقِ.(1/273)
فَقَالَ: "كِلَابُ أَهْلِ اَلنَّارِ كِلَابُ أَهْلِ اَلنَّارِ، كِلَابُ أَهْلِ اَلنَّارِ شَرُّ قَتْلَى تَحْتَ ظِلِّ اَلسَّمَاءِ شَرُّ قَتْلَى تَحْتَ ظِلِّ اَلسَّمَاءِ شَرُّ قَتْلَى تَحْتَ ظِلِّ اَلسَّمَاءِ طُوبَى لِمَنْ قَتَلَهُمْ أَوْ قَتَلُوهُ، طُوبَى لِمَنْ قَتَلَهُمْ أَوْ قَتَلُوهُ، طُوبَى لِمَنْ قَتَلَهُمْ أَوْ قَتَلُوهُ، ثُمَّ بَكَى قُلْتُ: مَا يُبْكِيكَ? قَالَ: رَحْمَةً لَهُمْ، إِنَّهُمْ كَانُوا مِنْ أَهْلِ اَلْإِسْلَامِ فَخَرَجُوا مِنْ اَلْإِسْلَامِ، ثُمَّ قَرَأَ: { هو اَلَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ اَلْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ اَلْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ } إِلَى آخِرِ اَلْآيَةِ، ثُمَّ قَرَأَ: { وَلَا تَكُونُوا كَاَلَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا } إِلَى قَوْلِهِ: { فَذُوقُوا اَلْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ } فَقُلْتُ: هُمْ هَؤُلَاءِ يَا أَبَا أُمَامَةَ? قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَقُلْتُ شَيْءٌ تَقُولُهُ بِرَأْيِكَ أَمْ سَمِعْتَ رَسُولَ اَللَّهِ $ يَقُولُ? فَقَالَ: إِنِّي إِذًا لَجَرِيءٌ إِنِّي إِذًا لَجَرِيءٌ، إِنِّي إِذًا لَجَرِيءٌ لَقَدْ سَمِعْتُ رَسُولَ اَللَّهِ $ غَيْرَ مَرَّة وَلَا مَرَّتَيْنِ حَتَّى بَلَغَ سَبْعًا، وَوَضَعَ أُصْبُعَهُ فِي أُذُنِيهِ، ثُمَّ قَالَ: وَإِلَّا فَصُمَّتَا، ثُمَّ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اَللَّهِ $ يَقُولُ: تَفَرَّقَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ عَلَى سَبْعِينَ فِرْقَةً، فَوَاحِدَةٌ فِي اَلْجَنَّةِ وَسَايَرُهَا فِي اَلنَّارِ (1)
__________
(1) عن أنس >، عن النبي $ أنه قال: "إن بني إسرائيل افترقت على إحدى وسبعين فرقة، وإن أمتي ستفترق على اثنتين وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة، وهي الجماعة".صحيح الجامع رقم (2042)، وصحيح سنن أبي داود، وصحيح سن ابن ماجة، والسلسلة الصحيحة، وظلال الجنة، وتخريج الطحاوية.(1/274)
فَقُلْتُ: وَلَتَزِيدُ هَذِهِ اَلْأُمَّةُ عَلَيْهِمْ وَاحِدَةً، فَوَاحِدَةٌ فِي اَلْجَنَّةِ وَسَايَرُهَا فِي اَلنَّارِ، فَقُلْتُ: فَمَا تَأْمُرُنِي? قَالَ: عَلَيْكَ بِالسَّوَادِ اَلْأَعْظَمِ قَالَ: فَقُلْتُ فِي اَلسَّوَادِ اَلْأَعْظَمِ مَا قَدْ تَرَى; قَالَ: اَلسَّمْعُ وَالطَّاعَةُ خَيْرٌ مِنْ اَلْفُرْقَةِ وَالْمَعْصِيَةِ
وعن علي > أنه قال: إذا أحدثكم عن رسول الله $ فلأن أخر من السماء أحب إلي من أكذب عليه، وإذا حدثتكم فيما بيني وبينكم فإن الحرب خدعة سمعت رسول الله $ يقول: "يأتي في آخر الزمان قوم حدثاء الأسنان، سفهاء الأحلام، يقولون من خير قول البرية، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، لا يجاوز إيمانهم حناجرهم، فأينما لقيتوهم فاقتلوهم، فإن في قتلهم أجرا لمن قتلهم يوم القيامة" . (1)
وكان أيوب يسمي أصحاب البدع خوارج ويقول: إن الخوارج اختلفوا في الاسم واجتمعوا على السيف.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: والخوارج هم أول من كفر المسلمين يكفرون بالذنوب ويكفرون من خالفهم في بدعتهم ويستحلون دمه وما له وهذه حال أهل البدع يبتدعون بدعة ويكفرون من خالفهم فيها وأهل السنة والجماعة يتبعون الكتاب والسنة ويطيعون الله ورسوله فيتبعون الحق ويرحمون الخلق، وأول بدعة حدثت في الإسلام بدعة الخوارج والشيعة حدثتا في أثناء خلافة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، فعاقب الطائفتين، أما الخوارج فقاتلوه، فقتلهم، وأما الشيعة فحرق غاليتهم بالنار، وطلب قتل عبدالله بن سبأ فهرب منه، وأمر بجلد من يفضله على أبي بكر وعمر وروى عنه من وجوه كثيرة أنه قال خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر ورواه عنه البخاري في صحيحه. (2)
__________
(1) أخرجه البخاري برقم (3415)، وأخرجه مسلم برقم (143).
(2) مجموع الفتاوى (3/279).(1/275)
القدرية: وهم الذين يقولون بنفي القدر عن أفعال العبد، وأن للعبد إرادة وقدرة مستقلين عن إرادة الله وقدرته، وأول من أظهر القول به معبد الجهني في أواخر عصر الصحابة تلقاه عن رجل مجوسي في البصرة.
وهم فرقتان: غلاة وغير غلاة، فالغلاة ينكرون علم الله، وإرادته، وقدرته، وخلقه لأفعال العبد وهؤلاء انقرضوا أو كادوا، وغير الغلاة يؤمنون بأن الله عالم بأفعال العباد، ولكن ينكرون وقوعها بإرادة الله، وقدرته، وخلقه، وهو الذي استقر عليه مذهبهم .
وعَنْ عِمْرَانَ بْنِ اَلْأَمَلِ عَنْ مَكْحُولٍ أَنَّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ رَفَعَ اَلْحَدِيثَ إِلَى اَلنَّبِيِّ $ قَالَ: لُعِنَتْ اَلْقَدَرِيَّةُ وَالْمُرْجِئَةُ عَلَى لِسَانِ سَبْعِينَ نَبِيًّا آخِرُهُمْ مُحَمَّدٌ .
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ عُمَرَ بْنِ اَلْخَطَّابِ، أَنَّ رَسُولَ اَللَّهِ $ قَالَ: لَا تُجَالِسُوا أَصْحَابَ اَلْقَدَرِ وَلَا تُفَاتِحُوهُمْ اَلْحَدِيثَ.
وعن مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي حُمَيْدٍ عَنْ أَبِي حَازِمٍ أَنَّ رَسُولَ اَللَّهِ $ قَالَ: أَصْحَابُ اَلْقَدَرِ مَجُوسُ هَذِهِ اَلْأُمَّةِ
وعَنْ يَزِيدَ اَلْخُرَاسَانِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ وَهْبَ بْنَ مُنَبِّهٍ يَقُولُ: قَرَأْتُ اِثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ كِتَابًا مَا مِنْهَا كِتَابٌ إِلَّا وَحَذَّرَ فِيهِ: مَنْ أَضَافَ إِلَى نَفْسِهِ شَيْئًا مِنْ قَدَرِ اَللَّهِ فَقَدْ كَفَرَ بِاَللَّهِ اَلْعَظِيمِ.(1/276)
قَالَ سَحْنُونُ: وَكَانَ اِبْنُ غَانِمٍ يَقُولُ فِي كَرَاهِيَةِ مُجَالَسَةِ أَهْلِ اَلْأَهْوَاءِ أَرَأَيْتَ أَنَّ أَحَدَكُمْ قَعَدَ إِلَى سَارِقٍ وَفِي كُمِّهِ بِضَاعَةٌ أَمَا كَانَ يَحْتَرِزُ بِهَا مِنْهُ خَوْفًا أَنْ يَنَالَهُ فِيهَا، فَدِينُكُمْ أَوْلَى بِأَنْ تُحْرِزُوهُ وَتَحْفَظُوا بِهِ، قِيلَ وَإِنْ جَاءَ مَعَنَا فِي ثَغْرٍ أَخْرَجْنَاهُمْ مِنْهُ? قَالَ: نَعَمْ، قَالَ سَحْنُونُ وَقَالَ أَشْهَبُ سُئِلَ مَالِكٌ عَنْ اَلْقَدَرِيَّةِ فَقَالَ: قَوْمُ سُوءٍ فَلَا تُجَالِسُوهُمْ، قِيلَ وَلَا يُصَلَّى خَلْفَهُمْ? فَقَالَ: نَعَمْ.
وعن مُسْلِمُ بْنُ خَالِدٍ عَنْ أَبِي اَلزُّبَيْرِ اَلْمَكِّيِّ قَالَ: ذُكِرَ لعَبْد اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ نَاسًا يَتَكَلَّمُونَ فِي اَلْقَدَرِ، فَوُصِفَ لَهُ بَعْضُ مَا يَقُولُونَ، فَقَالَ: أَهَلْ فِي اَلْبَيْتِ مِنْهُمْ أَحَدٌ فَأَقُومُ إِلَيْهِ فَأَفْرُكُ رَقَبَتَهُ?
المرجئة: وهم الذين يقولون بإرجاء العمل عن الإيمان، أي تأخيره عنه، فليس العمل عندهم من الإيمان مجرد الإقرار بالقلب، فالفاسق عندهم مؤمن كامل الإيمان، وإن فعل ما فعل من المعاصي، أو ترك ما ترك من الطاعات، وإذا حكمنا بكفر من ترك بعض شرائع الدين فذلك لعدم الإقرار بقلبه لا لترك هذا العمل، وهذا مذهب الجهمية، وهو مع مذهب الخوارج على طرفي نقيض.(1/277)
وهم ثلاثة أصناف: صنف منهم قالوا بالإرجاء في الإيمان، وبالقدر على مذاهب القدرية، فهم معدودون في القدرية، والمرجئة، كأبي شمر المرجىء، ومحمد بن شبيب البصري، والخالدي، وصنف منهم قالوا بالإرجاء في الإيمان ومالوا إلى قول جهم في الأعمال والأكساب، فهم من جملة الجهمية والمرجئة، وصنف منهم خالصة في الإرجاء من غير قدر، وهم خمس فرق: يونسية، وغسانية، وثوبانية، وتومنية، ومريسية، وأما النجارية فإنها اليوم بالري أكثر من عشر فرق، ومرجعها في الأصل إلى ثلاث فرق: برغونية زغفرانية، ومستدركة، وأما البكرية، والضرارية، فكل واحدة منها فرقة واحدة ليس لها تبع كثير، والجهمية أيضا فرقة واحدة، والكرامية بخراسان ثلاث فرق: حقاقية، وطرايقية، وإسحافية، لكن هذه الفرق الثلاث منها لا يكفر بعضها بعضاً، فعددناها كلها فرقة واحدة، فهذه الجملة التي ذكرناها تشتمل على ثنتين وسبعين فرقة، منها عشرون روافض، وعشرون خوارج، وعشرون قدرية، وعشر مرجئة، وثلاث نجارية، وبكرية، وضرارية، وجهمية، وكرامية، فهذه ثنتان وسبعون فرقة، فأما الفرقة الثالثة والسبعون فهي أهل السنة والجماعة من فريقي الرأي والحديث، دون من يشترى لهو الحديث، وفقهاء هذين الفريقين وقراؤهم ومحدثوهم ومتكلمو أهل الحديث منهم كلهم متفقون على مقالة واحدة في توحيد الصانع وصفاته وعدله وحكمته وفي أسمائه وصفاته وفى أبواب النبوة والإمامة وفي إحكام العقبى وفى سائر أصول الدين وإنما يختلفون في الحلال والحرام من فروع الأحكام وليس بينهم فيما اختلفوا فيه منها تضليل ولا تفسيق وهم الفرقة الناجية ويجمعها الإقرار بتوحيد الصانع وقدمه وقدم صفاته الأزلية وإجازة رؤيته من غير تشبيه ولا تعطيل مع الإقرار بكتب الله ورسله وبتأييد شريعة الإسلام وإباحة ما أباحه القرآن وتحريم ما حرمه القرآن مع قيود ما صح من سنة رسول الله واعتقاد الحشر والنشر وسؤال الملكين في القبر والإقرار بالحوض والميزان فمن قال(1/278)
بهذه الجهة التي ذكرناها ولم يخلط إيمانه بها بشيء من بدع الخوارج والروافض والقدرية وسائر أهل الأهواء فهو من جملة الفرقة الناجية إن ختم الله له بها وقد دخل في هذه الجملة جمهور الأمة وسوادها الأعظم من أصحاب مالك والشافعي وأبى حنيفة والأوزاعى والثوري وأهل الظاهر فهذا بيان ما أردنا بيانه في هذا الباب ونذكر في الباب الذي يليه تفصيل مقالة كل فرقة من فرق الأهواء الذين ذكرناهم إن شاء الله عز وجل. (1)
المعتزلة: المعتزلة فرقة إسلامية نشأت في أواخر العصر الأموي وازدهرت في العصر العباسي ، وقد اعتمدت على العقل المجرد في فهم العقيدة الإسلامية لتأثرها ببعض الفلسفات المستوردة مما أدى إلى انحرافها عن عقيدة أهل السنة والجماعة . وقد أطلق عليها أسماء مختلفة منها : المعتزلة والقدرية والعدلية وأهل العدل والتوحيد والمقصد والوعيدية .
أتباع واصل بن عطاء الذي اعتزل مجلس الحسن البصري، وقرر أن الفاسق في منزلة بين منزلتين لا مؤمن ولا كافر، وهو مخلد في النار، وتابعه في ذلك عمرو بن عبيد. ومذهبهم في الصفات التعطيل كالجهمية، وفي القدر قدرية ينكرون تعلق قضاء الله وقدره بأفعال العبد، وفي فاعل الكبيرة أنه مخلد في النار وخارج من الإيمان في منزلة بين منزلتين الإيمان والكفر، وهم عكس الجهمية في هذين الأصلين.
وفي العهد العباسي برز المعتزلة في عهد المأمون حيث اعتنق الاعتزال عن طريق بشر المريسي وثمامة بن أشرس وأحمد بن أبي دؤاد وهو أحد رؤوس بدعة الاعتزال في عصره ورأس فتنة خلق القرآن ، وكان قاضياً للقضاة في عهد المعتصم .
في فتنة خلق القرآن امتحن الإمام أحمد بن حنبل الذي رفض الرضوخ لأوامر المأمون والإقرار بهذه البدعة ، فسجن وعذب وضرب بالسياط في عهد المعتصم بعد وفاة المأمون وبقي في السجن لمدة عامين ونصف ثم أعيد إلى منزله وبقي فيه طيلة خلافة المعتصم ثم ابنه الواثق .
__________
(1) الفرق بين الفرق .(1/279)
لما تولى المتوكل الخلافة عام 232هـ انتصر لأهل السنة وأكرم الإمام أحمد وأنهى عهد سيطرة المعتزلة على الحكم ومحاولة فرض عقائدهم بالقوة خلال أربعة عشر عاماً .
الكرامية: أتباع محمد بن كرم المتوفى سنة 255 هـ يميلون إلى التشبيه، والقول بالإرجاء وهم طوائف متعددة.
الكرامية بخراسان ثلاثة أصناف حقاقية وطرايقية واسحاقية وهذه الفرق الثلاث لا يكفر بعضها بعضا وان أكفرها سائر الفرق فلهذا عددناها فرقه واحدة وزعيمها المعروف محمد بن كرام كان مطرودا من سخستان إلى غرجستان وكان أتباعه فى وقته أوغاد شورين وافشين ووردوا مع نيسابور في زمان ولاية محمد بن طاهر بن عبد الله بن طاهر وتبعه على بدعته من أهل سواد نيسابور شرذمة من حركة القرى. (1)
السالمة: أتباع رجل يقال له ابن سالم يقولون بالتشبيه.
قال ابن تيمية: كان الناس يصفون السالمية بالحلول فإن أبا طالب من أصحاب أبي الحسن ابن سالم صاحب سهل بن عبد الله التستري. (2)
ffffff
المبحث الرابع
لا غيبة لأهل الأهواء والبدع
من المعلوم أن أهل الأهواء والبدع الداعين إلى بدعهم وينشرونها بين الناس يجب التحذير منهم وبيان ضلالاتهم ولا يُعد هذا من الغيبة المحرمة.
عن موسى بن عبيدة عن سليمان بن مسلم عن الحسن البصري قال: ثلاثة ليست لهم حرمة في الغيبة، أحدهم صاحب بدعة الغالي ببدعته. (3)
وعن عثمان بن مطر عن هشام عن الحسن البصري قال: ليس لصاحب بدعة ولا لفاسق يعلن بفسقه غيبة. (4)
وعن الربيع بن صبيح عن الحسن قال ليس لأهل البدع غيبة. (5)
عن الأعمش عن إبراهيم قال: ليس لصاحب البدعة غيبة . (6)
__________
(1) الفرق بين الفرق(1/202).
(2) درء تعارض العقل والنقل (5/353).
(3) اعتقاد أهل السنة (275) .
(4) اعتقاد أهل السنة (276)، اللالكائي رقم (279و280) .
(5) اعتقاد أهل السنة (277) .
(6) اللالكائي (1/140 رقم (276)، اعتقاد أهل السنة (274) .(1/280)
وعن أبي الفضل أحمد بن عبد الله بن سلمة النيسابوري قال: سمعت محمد بن بندار السباك الجرجاني يقول قلت: لأحمد بن حنبل انه ليشتد على أن أقول فلان ضعيف فلان كذاب، فقال احمد: إذا سكت أنت وسكت أنا فمتى يعرف الجاهل الصحيح من السقيم .
وقال عبد الله بن احمد بن حنبل: قلت لأبى: ما تقول في أصحاب الحديث يأتون الشيخ لعله أن يكون مرجئاً، أو شيعياً، أو فيه شيء من خلاف السنة أيسعني أن أسكت عنه أم أحذر عنه، فقال أبى: إن كان يدعو إلى بدعة وهو إمام فيها ويدعو إليها، قال: نعم تحذر عنه . (1)
ffffff
المبحث الخامس
عقوبة أهل البدع
خرج الآجري عن السائب بن يزيد قال: أتى عمر بن الخطاب فقالوا: يا أمير المؤمنين إنا لقينا رجلا يسأل عن تأويل القرآن فقال: اللهم أمكني منه قال: فبينما عمر ذات يوم يغدي الناس إذ جاءه عليه ثياب وعمامة فتغدى حتى إذا فرغ قال: يا أمير المؤمنين { والذاريات ذروا * فالحاملات وقرا } فقال عمر: أنت هو؟ فقام غليه محسرا عن ذراعيه فلم يزل يجلده حتى سقطت عمامته فقال: والذي نفسي بيده لو وجدتك محلوقا لضربت رأسك ألبسوه ثيابه واحملوه على قتب ثم أخرجوه حتى تقدموا به بلاده ثم ليقم خطيبا ثم ليقل: إن صبيغا طلب العلم فأخطأ فلم يزل وضيعا في قومه حتى هلك وكان سيد قومه. (2)
__________
(1) الكفاية في علم الرواية (1/46) .
(2) الاعتصام (1/60) .(1/281)
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ويجب عقوبة كل من انتسب إليهم أو ذب عنهم أو أثنى عليهم أوعظم كتبهم أو عرف بمساعدتهم ومعاونتهم أو كره الكلام فيهم أو أخذ يعتذر لهم بأن هذا الكلام لا يدرى ما هو أو من قال انه صنف هذا الكتاب وأمثال هذه المعاذير التي لا يقولها إلا جاهل أو منافق بل تجب عقوبة كل من عرف حالهم ولم يعاون على القيام عليهم فإن القيام على هؤلاء من أعظم الواجبات لأنهم أفسدوا العقول والأديان على خلق من المشايخ والعلماء والملوك والأمراء وهم يسعون في الأرض فسادا ويصدون عن سبيل الله . . (1)
وقال: و الداعي إلى البدعة مستحق العقوبة بإتفاق المسلمين وعقوبته تكون تارة بالقتل وتارة بما دونه كما قتل السلف جهم بن صفوان والجعد بن درهم وغيلان القدري وغيرهم ولو قدر أنه لا يستحق العقوبة أولا يمكن عقوبته فلا بد من بيان بدعته والتحذير منها فإن هذا من جملة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر الذي أمر الله به ورسوله. (2)
قال بكر أبو زيد معلقاً على كلام شيخ الإسلام هذا : فرحم الله شيخ الإسلام ابن تيمية وسقاه من سلسبيل الجنة((آمين))، فإن هذا الكلام في غاية من الدقة والأهمية، وهو وإن كان في خصوص مظاهرة الاتحادية لكنه ينتظم جميع المبتدعة، فكل من ظاهر مبتدعاً، فعظّمه أو عظّم كتبه، ونشرها بين المسلمين، ونفخ به وبها، وأشاع ما فيها من بدع وضلال، ولم يكشفه فيما لديه من زيغ واختلال في الاعتقاد، من فعل ذلك فهو مفرط في أمره، واجب قطع شره؛ لئلا يتعدّى إلى المسلمين، وقد ابتلينا بهذا الزمان بأقوام على هذا المنوال، يعظّمون المبتدعة، وينشرون مقالاتهم، ولا يحذرون من سقطاتهم، وما هو عليه من الضلال؛ فاحذروا أبا الجهل المبتدع هذا؛ نعوذ بالله من الشقاء وأهله.اهـ . (3)
__________
(1) مجموع الفتاوى (2/132) .
(2) مجموع الفتاوى (35/414).
(3) هجر المبتدع (48-49).(1/282)
وقال الشاطبي رحمه الله: فإن فرقة النجاة وهم أهل السنة مأمورون بعداوة أهل البدع والتشريد بهم والتنكيل بمن انحاش إلى جهتهم يالقتل فما دونه وقد حذر العلماء من مصاحبتهم ومجالستهم حسبما تقدم وذلك مظنة إلقاء العداوة والبغضاء لكن الدرك فيها على من تسبب في الخوراج عن الجماعة بما أحدثه من اتباع غير سبيل المؤمنين لا على التعادي مطلقا كيف ونحن مأمورون بمعاداتهم وهم مأمورون بموالاتنا والرجوع إلى الجماعة ؟. (1)
وقال رافع بن أشرس: من عقوبة الفاسق المبتدع أن لا تذكر محاسنه. (2)
ffffff
المبحث السادس: هل لأهل البدع توبة؟
عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "إن الله حَجَبَ التوبة عن كلِّ صاحب بدعة حتى يَدَع بِدْعَته". (3)
وعن معاوية بن صالح، أن الحسن بن أبي الحسن، قال: أبى الله تبارك وتعالى أن يأذن لصاحب هوى بتوبة. (4)
وقال الشاطبي: إن الله حجر التوبة على كل صاحب بدعة.
وعن يحيى بن أبي عمرو الشيباني قال : كان يقال يأبى الله لصاحب بدعة بتوبة وما انتقل صاحب بدعة إلا إلى أشر منها.
وعن سلام بن أبي مطيع، قال: قال رجل لأيوب يا أبا بكر إن عمرو بن عبيد قد رجع عن رأيه، قال: أنه لم يرجع، قال بلى يا أبا بكر أنه قد رجع، قال أيوب أنه لم يرجع ثلاث مرات، أما أنه لم يرجع أما سمعت إلى قوله: يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ثم لا يعودون فيه حتى يرجع السهم إلى فوقه. (5)
ونحوه عن طريق علي بن أبي طالب > قال: ما كان رجل على رأي من البدعة فتركه إلا إلى ما هو شر منه.
__________
(1) الاعتصام (1/90) .
(2) شرح علل الترمذي (1/353).
(3) رواه الطبراني بإسناد حسن، أخرجه في "الأوسط" (5/113/ 4214 - ط)، وصححه الشيخ الألباني في "السلسلة الصحيحة" (1620)، والترغيب (54).
(4) اعتقاد أهل السنة (284) .
(5) اعتقاد أهل السنة (286) .(1/283)
وخرج ابن وهب عن عمر بن عبد العزيز ، أنه كان يقول : اثنان لا نعاتبهما : صاحب طمع وصاحب هوى فإنهما لا ينزعان.
وعن ابن شوذب عن كثير أبي سهل، قال: يقال أهل الأهواء لا حرمة لهم. (1)
وعن عبد الصمد مردويه، قال: سمعت الفضيل بن عياض يقول: المؤمن يقف عن الشبهة، ومن دخل على صاحب بدعة فليست له حرمة، وإذا أحب الله عبدا وفقه لعمل صالح فتقربوا إلى الله يحب المساكين. (2)
وعن عبد الله ابن المبارك، عن الأوزاعي، عن عطاء الخراساني قال: ما يكاد الله أن يأذن لصاحب بدعة بتوبة. (3)
وعن عبد العزيز ابن أبي رزمة قال: قال عبد الله بن المبارك: صاحب البدعة على وجهه الظلمة وإن ادهن كل يوم ثلاثين مرة. (4)
وعن ابن شوذب قال: سمعت عبد الله بن القاسم وهو يقول: ما كان عبد على هوى تركه إلا إلى ما هو شر منه، قال: فذكرت ذلك لبعض أصحابنا فقال: تصديقه في حديث عن النبي @: "يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية ثم لا يرجعون إليه حتى يرجع السهم على فوقه" .
وعن أيوب قال: كان رجل يرى رأيا فرجع فأتيت محمدا فرحا بذلك أخبره فقلت: أشعرت أن فلانا ترك رأيه الذي كان يرى؟ فقال: انظر إلام يتحول؟ إن آخر الحديث أشد عليهم من الأول وأوله: "يمرقون من الدين" وآخره: [ثم لا يعودون] وهو حديث أبي ذر أن النبي $ قال: "سيكون من أمتي قوم يقرؤون القرآن ولا يجاوز حلاقيمهم يخرجون من الدين كما يخرج السهم من الرمية ثم لا يعودون فيه هم شر الخلق والخليقة".
فهذه شهادة الحديث الصحيح لمعنى هذه الآثار وحاصلها أنه [لا] توبة لصاحب البدعة عن بدعته فإن خرج عنها فإنما يخرج إلى ما هو شر منها كما في حديث أيوب أو يكون ممن يظهر الخروج عنها وهو مصر عليها بعد كقصة غيلان مع عمر بن عبد العزيز .
__________
(1) اعتقاد أهل السنة (278) .
(2) اعتقاد أهل السنة (281) .
(3) اعتقاد أهل السنة (282) .
(4) اعتقاد أهل السنة (283) .(1/284)
ويدل على ذلك أيضا حديث الفرق إذ قال فيه :"وإنه سيخرج في أمتي أقوام تجارى بهم تلك الأهواء كما يتجارى الكلب بصاحبه لا يبقى منه عرق ولا مفصل إلا دخله" وهذا النفي يقتضي العموم بإطلاق ولكنه قد يحمل على العموم العادي إذ لا يبعد أن يتوب عما رأى ويرجع إلى الحق كما نقل عن عبد الله بن الحسن العنبري وما نقلوه في مناظرة ابن عباس الحرورية الخارجين على علي - رضي الله عنه - وفي مناظرة عمر بن عبد العزيز لبعضهم ولكن الغالب في الواقع الإصرار.
ومن هنالك قلنا: يبعد أن يتوب بعضهم لأن الحديث يقتضي العموم بظاهره وسيأتي بيان ذلك بأبسط من هذا إن شاء الله.
وسبب بعده عن التوبة أن الدخول تحت تكاليف الشريعة صعب على النفس لأنه أمر مخالف للهوى وصاد عن سبيل الشهوات فيثقل عليها جدا لأن الحق ثقيل والنفس إنما تنشط بما يوافق هواها لا بما يخالفه وكل بدعة فللهوى فيها مدخل لأنها راجعة إلى نظر مخترعها لا إلى نظر الشارع فعلى حكم التبع لا بحكم الأصل مع ضميمة أخرى وهي أن المبتدع لا بد له من تعلق بشبهة دليل ينسبها إلى الشارع ويدعي أن ما ذكره هو مقصود الشارع فصار هواه مقصودا بدليل شرعي في زعمه فكيف يمكنه الخروج عن ذلك وداعي الهوى مستمسك بحسن ما يتمسك به؟ وهو الدليل الشرعي في الجملة.
ومن الدليل على ذلك ما روي عن الأوزاعي قال : بلغني أن من ابتدع بدعة ضلالة آلفه الشيطان العبادة أو ألقى عليه الخشوع والبكاء كي يصطاد به وقال بعض الصحابة : أشد الناس عبادة مفتون واحتج بقوله عليه الصلاة والسلام: [يحقر أحدكم صلاته في صلاته وصيامه في صيامه] إلى آخر الحديث.
ويحقق ما قاله الواقع كما نقل في الأخبار عن الخوارج وغيرهم(1/285)
فالمبتدع يزيد في الاجتهاد لينال في الدنيا التعظيم والمال والجاه وغير ذلك من أصناف الشهوات بل التعظيم على شهوات الدنيا ألا ترى إلى انقطاع الرهبان في الصوامع والديارات عن جميع الملذوذات ومقاساتهم في أصناف العبادات والكف عن الشهوات؟ وهم مع ذلك خالدون في جهنم قال الله: { وجوه يومئذ خاشعة * عاملة ناصبة * تصلى نارا حامية } وقال: { قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا * الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا } وما ذاك إلا لخفة يجدونها في ذلك الالتزام ونشاط بداخلهم يستسهلون به الصعب بسبب ما داخل النفس من الهوى فإذا بدا للمبتدع ما هو عليه رآه محبوبا عنده لاستبعاده للشهوات وعمله من جملتها ورآه موافقا للدليل عنده فما الذي يصده عن الاستمساك به والازدياد منه؟ وهو يرى أن أعماله أفضل من أعمال غيره واعتقاد أنه أوفق وأعلى؟ أفيفيد البرهان مطلبا؟ { كذلك يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء.اهـ. (1)
__________
(1) الاعتصام (1/90).(1/286)
وعن عوف بن أبي جميلة عن خالد بن ثابت الربعي قال بلغني أنه كان في بني إسرائيل شاب قد قرأ الكتاب وعلم علما وكان مغمورا وأنه طلب بقراءته الشرف والمال وأنه ابتدع بدعة فأدرك الشرف والمال في الدنيا وأنه لبث كهيئته حتى بلغ سنا وأنه بينما هو نائم ذات ليلة على فراشه إذ تفكر في نفسه فقال هب هؤلاء الناس لا يعلمون أليس الله عز وجل علم ما ابتدعته فقد اقترب الأجل فلو أني تبت فبلغ من اجتهاده في التوبة أنه عمد فخرق ترقوته ثم جعل فيها سلسلة ثم أوثقها إلى آسية من أواسي المسجد وقال لا أبرح مكاني حتى ينزل الله في توبة أو أموت موت الدنيا وكان لا يستنكر الوحي من بني إسرائيل فأوحي وحي الله عز وجل في شأنه أو إلى نبي من الأنبياء إنك لو كنت أصبت ذنبا فيما بيني وبينك لتبت عليك بالغا ما بلغ ولكن كيف بمن أضللت من عبادي فماتوا فأدخلتهم جهنم فلا أتوب عليك . (1)
وقال سفيان الثوري: البدعة أحب إلى إبليس من المعصية؛ فإن المعصية يتاب منها، والبدعة لا يتاب منها. (2)
فموقف السلف من البدع صريح وواضح ،وهو التحذير من البدع والحرص الشديد على التمسك بالسنة والاعتصام بها، ولهذا قال أئمة الإسلام؛ كسفيان الثوري وغيره ،أن البدع أحب إلى إبليس من المعصية ؛لأن البدعة لا يتاب منها ،والمعصية يتاب منها.
ومعنى قولهم أن البدعة لا يتاب منها :أن المبتدع الذي يتخذ ديناً لم يشرعه الله ولا رسوله ،قد زين له سوء عمله فرآه حسناً، فهو لا يتوب ما دام يراه حسناً لأن أول التوبة العلم بأن فعله سيئ ليتوب منه أو بأنه ترك حسناً مأموراً به أمر إيجاب أو استحباب ليتوب ويفعله ، فما دام يرى فعله حسناً وهو سيء في نفسه الأمر فإنه لا يتوب .
__________
(1) اعتقاد أهل السنة (1/141) رقم (287).
(2) مجموع الفتاوى (11/472).(1/287)
ولكن التوبة منه ممكنة وواقعة ، بأن يهديه الله ويرشده حتى يتبين له الحق كما هدى سبحانه وتعالى من هدى من الكفار والمنافقين ، وطوائف من أهل البدع والضلال.
ffffff
وقال ابن أبي زمنين:
بَابٌ فِي
اِسْتِتَابَةِ أَهْلِ اَلْأَهْوَاءِ وَاخْتِلَافِ أَهْلِ اَلْعِلْمِ فِي تَكْفِيرِهِمْ
قَالَ مُحَمَّدٌ: اِخْتَلَفَ أَهْلُ اَلْعِلْمِ فِي تَكْفِيرِ أَهْلِ اَلْأَهْوَاءِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّهُمْ كُفَّارٌ مُخَلَّدُونَ فِي اَلنَّارِ. وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَبْلُغُ بِهِمْ اَلْكُفْرُ وَلَا يُخْرِجُهُمْ عَنْ اَلْإِسْلَامِ وَيَقُولُ: إِنَّهُمْ اَلَّذِينَ عَلَيْهِمْ فَسُوقٌ وَمَعَاصٍ إِلَّا أَنَّهَا أَشَدُّ اَلْمَعَاصِي وَالْفُسُوقِ، وَهَذَا مَذْهَبُ مَشَايِخِنَا بِالْأَنْدَلُسِ، وَاَلَّذِي يَعْتَقِدُونَهُ فِيهِمْ وَكَانُوا يَقُولُونَ لَا يُوَاضِعُ أَحَدٌ مِنْهُ اَلْكَلَامَ وَالِاحْتِجَاجَ وَلَكِنْ يُعَرَّفُ بِرَأْيهِ رَأْيَ اَلسُّوءِ وَيُسْتَتَابُ مِنْهُ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ.(1/288)
وعن اِبْنُ أَبِي اَلزِّنَادِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: خَرَجَتْ حَرُورِيَّةٌ بِالْعِرَاقِ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَأَنَا يَوْمَئِذٍ بِالْعِرَاقِ مَعَ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ اَلْخَطَّابِ، فَكَتَبَ إِلَيْنَا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ يَأْمُرُنَا أَنْ نَدْعُوَهُمْ إِلَى اَلْعَمَلِ بِكِتَابِ اَللَّهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ $ فَلَمَّا أَعْذَرَ فِي دُعَائِهِمْ كَتَبَ إِلَيْهِ أَنْ قَاتِلَهُمْ فَإِنَّ اَللَّهَ وَلَهُ اَلْحَمْدُ لَمْ يَجْعَلْ لَهُمْ سَلَفًا يَحْتَجُّونَ بِهِ عَلَيْنَا، فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ عَبْدُ الْحَمِيدِ جَيْشًا فَهَزَمَتْهُمْ الْحَرُورِيَّةُ، فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ عُمَرُ بَعَثَ إِلَيْهِمْ مَسْلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ فِي جَيْشٍ مِنْ أَهْلِ اَلشَّامِ وَكَتَبَ إِلَى عَبْدِ الْحَمِيدِ أَنَّهُ قَدْ بَلَغَنِي مَا فَعَلَ جَيْشُكَ اَلسُّوءَ وَقَدْ بَعَثْتُ إِلَيْكَ مَسْلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الْحَمِيدِ فَخَلِّ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ فَلَقِيَهُمْ مَسْلَمَةُ فَأَظْفَرَهُ اَللَّهُ عَلَيْهِمْ وَأَظْفَرَهُ بِهِمْ.
وعن مَالِكٌ عَنْ عَمِّهِ قَالَ: سَأَلَنِي عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ فَقَالَ: مَا تَرَى فِي هَؤُلَاءِ اَلْقَدَرِيَّةِ؟ فَقُلْتُ: أَسْتَتِيبُهُمْ فَإِنْ قَبِلُوا ذَلِكَ وَإِلَّا فَأَعْرِضُهُمْ عَلَى اَلسَّيْفِ، فَقَالَ عُمَرُ: وَأَنَا أَرَى ذَلِكَ.(1/289)
وعَنْ يُوسُفَ بْنِ مِهْرَانَ عَنْ اِبْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ اَلْخَطَّابِ عَلَى اَلْمِنْبَرِ وَهُوَ يَقُولُ: "إِنَّهُ سَيَكُونُ قَوْمٌ مِنْ هَذِهِ اَلْأُمَّةِ يُكَذِّبُونَ بِالرَّجْمِ، وَيُكَذِّبُونَ بِالدَّجَّالِ، وَيُكَذِّبُونَ بِطُلُوعِ اَلشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، وَيُكَذِّبُونَ بِعَذَابِ اَلْقَبْرِ، وَيُكَذِّبُونَ بِالشَّفَاعَةِ، وَيُكَذِّبُونَ بِقَوْمٍ يَخْرُجُونَ مِنْ اَلنَّارِ بَعْدَمَا اِمْتَحَشُوا، فَلَئِنْ أَدْرَكْتُهُمْ لِأَقْتُلُنَّهُمْ قَتْلَ عَادٍ وَثَمُودَ. قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: وَمَنْ كَذَّبَ بِعَذَابِ اَلْقَبْرِ أَوْ بِشَيْءٍ مِمَّا ذَكَرَ عُمَرُ فِي حَدِيثِهِ هَذَا: اُسْتُتِيبَ، فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ.
وعَنْ عِيسَى عَنْ اِبْنِ اَلْقَاسِمِ أَنَّهُ قَالَ فِي أَهْلِ اَلْأَهْوَاءِ مِثْلَ اَلْقَدَرِيَّةِ وَالْإِبَاضِيَّةِ وَمَا أَشْبَهُهُمْ مِنْ أَهْلِ اَلْإِسْلَامِ مِمَّنْ هُوَ عَلَى غَيْرِ مَا عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ اَلْمُسْلِمِينَ مِنْ اَلْبِدَعِ وَالتَّحْرِيفِ بِكِتَابِ اَللَّهِ وَتَأْوِيلِهِ عَلَى غَيْرِ تَأْوِيلِهِ، فَإِنَّ أُولَئِكَ يُسْتَتَابُونَ أَظْهَرُوا ذَلِكَ أَمْ أَسَرُّوهُ فَإِنْ تَابُوا وَإِلَّا ضُرِبَتْ رِقَابُهُمْ لِتَحْرِيفِهِمْ كِتَابَ اَللَّهِ، وَخِلَافِهِمْ جَمَاعَةُ اَلْمُسْلِمِينَ وَالتَّابِعِينَ لِرَسُولِ اَللَّهِ $ وَلِأَصْحَابِهِ، وَبِهَذَا عَمِلَتْ أَئِمَّةُ اَلْهُدَى.
وَقَدْ قَالَ عُمَر بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَحِمَهُ اَللَّهُ: اَلرَّأْيُ فِيهِمْ أَنْ يُسْتَتَابُوا فَإِنْ تَابُوا وَإِلَّا عُرِضُوا عَلَى اَلسَّيْفِ وَضُرِبَتْ رِقَابُهُمْ، وَمَنْ قُتِلَ مِنْهُمْ عَلَى ذَلِكَ فَمِيرَاثُهُ لِوَرَثَتِهِ لِأَنَّهُمْ مُسْلِمُونَ إِلَّا أَنَّهُمْ قُتِلُوا لِرَأْيهمْ رَأْيَ اَلسُّوءِ.(1/290)
قَالَ عِيسَى: وَمَنْ قَالَ: إِنَّ اَللَّهَ لَمْ يُكَلِّمْ مُوسَى، اُسْتُتِيبَ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ.
قال ابن زمنين: وَأَرَاهُ مِنْ اَلْحَقِّ اَلْوَاجِبِ، وَهُوَ اَلَّذِي أَدِينُ اَللَّهَ عَلَيْهِ.
وقَالَ اَلْعُتْبِيُّ: وَسُئِلَ سَحْنُونُ عَمَّنْ قَالَ: إِنَّ جِبْرِيلَ أَخْطَأَ بِالْوَحْي، وَإِنَّمَا كَانَ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ إِلَّا أَنَّ جِبْرِيلَ أَخْطَأَ اَلْوَحْي، أَهَلْ يُسْتَتَابُ أَوْ يُقْتَلُ وَلَا يُسْتَتَابُ؟ قَالَ: بَلْ يُسْتَتَابُ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ، قِيلَ: فَإِنْ شَتَمَ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِ اَلنَّبِيِّ $ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ أَوْ عُثْمَانَ أَوْ عَلِيًّا أَوْ مُعَاوِيَةَ أَوْ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ؟ فَقَالَ لِي: أَمَّا إِذَا شَتَمَهُمْ فَقَالَ: إِنَّهُمْ كَانُوا عَلَى ضَلَالٍ وَكُفْرٍ قُتِلَ، وَإِنْ شَتَمَهُمْ بِغَيْرِ هَذَا -كَمَا يَشْتُمُ اَلنَّاسُ- رَأَيْتُ أَنْ يُنَكَّلَ نَكَالًا شَدِيدًا.
وقَالَ مَعْنٌ: وَكَتَبَ إِلَى مَالِكٍ رَجُلٌ مِنْ اَلْعَرَبِ يَسْأَلُ عَنْ قَوْمٍ يُصَلُّونَ رَكْعَتَيْنِ وَيَجْحَدُونَ اَلسُّنَّةَ وَيَقُولُوا: مَا نَجِدُ إِلَّا صَلَاةَ رَكْعَتَيْنِ.
قَالَ مَالِكٌ: أَرَى أَنْ يُسْتَتَابُوا فَإِنْ تَابُوا وَإِلَّا قُتِلُوا.(1/291)
وعَنْ اِبْنِ اَلْقَاسِمِ قَالَ: وَمَنْ سَبَّ أَحَدًا مِنْ اَلْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ مِنْ اَلْمُسْلِمِينَ قُتِلَ وَلَمْ يُسْتَتَبْ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ اَلزِّنْدِيقِ اَلَّذِي لَا يُعْرَفُ لَهُ تَوْبَةٌ، فَلِذَلِكَ لَا يُسْتَتَابُ؛ لِأَنَّهُ يَتُوبُ بِلِسَانِهِ وَيُرَاجِعُ ذَلِكَ فِي سَرِيرَتِهِ فَلَا تُعْرَفُ مِنْهُ تَوْبَةٌ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ سَبَّ رَسُولَ اَللَّهِ $ لِأَنَّ اَللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَقُولُ فِي كِتَابِهِ: { آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ ... } .
وقال: وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ وَقَالَ: { فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } . (1)
قال الأوزاعي في قوله - صلى الله عليه وسلم - : (بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ): أما إنه ما يذهب الإسلام ولكن يذهب أهل السنة حتى ما يبقى في البلد منهم إلا رجل واحد .
وقال يونس بن عبيد: ليس شيء أغرب من السنة وأغرب منها من يعرفها.
وروي عنه أنه قال: أصبح من إذا عرف السنة فعرفها غريباً وأغرب منه من يعرفها.
وعن سفيان الثوري قال : استوصوا بأهل السنة فإنهم غرباء .
ومراد هؤلاء الأئمة بالسنة: طريقة النبي - صلى الله عليه وسلم - التي كان عليها هو وأصحابه السالمة من الشبهات والشهوات .
ولهذا كان الفضيل بن عياض يقول : أهل السنة من عرف ما يدخل في بطنه من حلال .
وذلك لأن أكل الحلال من أعظم خصائل السنة التي كان عليها النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم .
__________
(1) كتاب أصول السنة لابن زمنين (1ـ3) .(1/292)
ثم صار في عرف كثير من العلماء المتأخرين من أهل الحديث وغيرهم السنة عبارة عما سَلِمَ من الشبهات في الاعتقادات خاصة في مسائل الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، وكذلك في مسائل القدر وفضائل الصحابة ، وصنفوا في هذا العلم باسم السنة لأن خطره عظيم والمخالف فيه على شفا هلكة .
وأما السنة الكاملة فهي الطريق السالمة من الشبهات والشهوات كما قال الحسن ويونس بن عبيد وسفيان والفضيل وغيرهم ، ولهذا وُصِفَ أهلُها بالغربة في آخر الزمان لقلتهم وغربتهم فيه ، ولهذا ورد في بعض الروايات كما سبق في تفسير الغرباء : ( قوم صالحون قليل في قوم سوء كثير ، من يعصهم أكثر ممن يطيعهم ) وفي هذا إشارة إلى قلة عددهم وقلة المستجيبين لهم والقابلين منهم وكثرة المخالفين لهم والعاصين لهم .
ولهذا جاء في أحاديث متعددة مدح المتمسك بدينه في آخر الزمان وأنه كالقابض على الجمر ، وأن للعامل منهم أجر خمسين ممن قبلهم ، لأنهم لا يجدون أعواناً في الخير .
وهؤلاء الغرباء قسمان: أحدهما من يُصلح نفسه عند فساد الناس، والثاني من يُصلح ما أفسد الناس وهو أعلى القسمين وهو أفضلهما.
وقد خرج الطبراني وغيره بإسناد فيه نظر من حديث أبي أمامة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : (إن لكل شيء إقبالاً وإدباراً، وإن من إقبال هذا الدين ما كنتم عليه من العمى والجهالة وما بعثني الله به، وإن من إقبال هذا الدين أن تفقه القبيلة بأسرها حتى لا يوجد فيها إلا الفاسق والفاسقان فهما مقهوران ذليلان، إن تكلما قُمِعَا وقُهِرَا واضطُهدا، وإن من إدبار هذا الدين أن تجفو القبيلة بأسرها حتى لا يُرى فيها إلا الفقيه والفقيهان فهما مقهوران ذليلان، إن تكلما فأمرا بالمعروف ونهيا عن المنكر قُمعا واضطُهدا، فهما مقهوران ذليلان لا يجدان على ذلك أعواناً ولا أنصاراً).(1/293)
فوصف في هذا الحديث المؤمن العالم بالسنة الفقيه في الدين بأنه سيكون في آخر الزمان عند فساده مقهوراً ذليلاً لا يجد أعواناً ولا أنصاراً .
فقسم أمير المؤمنين - عمر بن الخطاب >- حملة العلم إلى ثلاثة أقسام: قسم هم أهل الشبهات وهم من لا بصيرة له من حملة العلم ينقدح الشك في قلبه بأول عارض من شبهة ، فتأخذه الشبهة فيقع في الحيرة والشكوك ، ويخرج من ذلك إلى البدع والضلالات .
وقسم هم أهل الشهوات وحظهم نوعان: أحدهما من يطلب الدنيا بنفس العلم، فيجعل العلم آلة لكسب الدنيا، والثاني من همه جمع الدنيا واكتنازها وادخارها، وكل أولئك ليسوا من رعاة الدين وإنما هم كالأنعام، ولهذا شبه الله تعالى من حُمَّل التوراة ثم لم يحملها بالحمار الذي يحمل أسفاراً، وشبه عالم السوء الذي انسلخ من آيات الله وأخلد إلى الأرض واتبع هواه بالكلب، والكلب والحمار أخس الأنعام وأضل سبيلاً .
والقسم الثالث من حملة العلم هم أهله وحملته ورعاته والقائمون بحجج الله وبيناته ، وذكر أنهم الأقلون عدداً ، الأعظمون عند الله قدراً ، إشارة إلى قلة هذا القسم وغربته من حملة أهل العلم .
وقد قسم الحسن البصري - رضي الله عنه - حملة القرآن إلى قريب من هذا التقسيم الذي قسمه علي رضي الله عنه لحملة القرآن .
قال الحسن: قُراء القرآن ثلاثة أصناف: صنف اتخذوه بضاعة فيتأكلون به، وصنف أقاموا حروفه وضيعوا حدوده واستطالوا به على أهل بلادهم واستندوا به لطلب الولاية ، أكثر هذا الضرب من حملة القرآن لا كثرهم الله، وضرب عمدوا إلى دواء القرآن فوضعوه على داء قلوبهم فركدوا به في محاريبهم وحنوا به برانسهم واستشعروا الخوف ، وارتدوا الحزن ، فأولئك الذين يسقي الله بهم الغيث وينصر بهم على الأعداء، والله لهؤلاء الضرب في حملة القرآن أعز من الكبريت الأحمر بين قراء القرآن .(1/294)
فأخبر أن هذا القسم - وهم قراء القرآن - جعلوه دواء لقلوبهم فأثار لهم الخوف والحزن وأعز من الكبريت الأحمر بين قراء القرآن .
فالمؤمن في الدنيا كالغريب المجتاز ببلدة غير مستوطن فيها ، فهو يشتاق إلى بلده وهمه الرجوع إليه والتزود بما يوصله في طريقه إلى وطنه ، ولا يُنافس أهل ذلك البلد المستوطنين فيه في عزهم ، ولا يجزع مما أصابه عندهم من الذل .
قال الفضيل بن عياض: المؤمن في الدنيا مهموم حزين همه مرمة جهازه .
وقال الحسن : المؤمن في الدنيا كالغريب لا يجزع من ذلها ، ولا ينافس في عزها ، له شأن وللناس شأن .
وفي الحقيقة فالمؤمن في الدنيا غريب لأن أباه لما كان في دار البقاء ثم خرج منها فهمه الرجوع إلى مسكنه الأول ، فهو أبداً يحن إلى وطنه الذي أُخرج منه كما يقال : " حب الوطن من الإيمان " وكما قيل :
كم منزل في الأرض يألفه الفتي * وحنينه أبداً لأول منزل
والمؤمنون في هذا القسم أقسام: منهم من قلبه معلق بالجنة، ومنهم من قلبه معلق عند خالقه وهم العارفون، ولعل أمير المؤمنين - رضي الله عنه - إنما أشار إلى هذا القسم . فالعارفون أبدانهم في الدنيا وقلوبهم عند المولى .
وأهل هذا الشأن هم غرباء الغرباء ، غربتهم أعز الغربة ، فإن الغربة عند أهل الطريقة غربتان : ظاهرة وباطنة .
فالظاهرة: غُربة أهل الصلاح بين الفساق، وغربة الصادقين بين أهل الرياء والنفاق، وغربة العلماء بين أهل الجهل وسوء الأخلاق، وغربة علماء الآخرة بين علماء الدنيا الذين سُلبوا الخشية والإشفاق، وغربة الزاهدين بين الراغبين فيما ينفد وليس بباق .
وأما الغربة الباطنة: فغربة الهمة، وهي غربة العارفين بين الخلق كلهم حتى العلماء والعباد والزهاد، فإن أولئك واقفون مع علمهم وعبادتهم وزهدهم، وهؤلاء واقفون مع معبودهم لا يعرجون بقلوبهم عنه .(1/295)
فكان أبو سليمان الداراني يقول في صفتهم : وهمتهم غير همة الناس وإرادتهم الآخرة غير إرادة الناس ، ودعاؤهم غير دعاء الناس .
وسُئل عن أفضل الأعمال فبكى وقال : أن يطلع على قلبك فلا يراك تريد من الدنيا والآخرة غيره .
وقال يحيى بن معاذ : الزاهد غريب الدنيا ، والعارف غريب الآخرة .
يشير إلى أن الزهد غريب بين أهل الدنيا ، والعارف غريب بين أهل الآخرة ، لا يعرفه العباد ولا الزهاد ، وإنما يعرفه من هو مثله وهمته كهمته .
وربما اجتمعت للعارف هذه الغربات كلها أو كثير منها أو بعضها فلا يسأل عن غربته ، فالعارفون ظاهرون لأهل الدنيا والآخرة .
قال يحيى بن معاذ : العابد مشهور والعارف مستور ، وربما خفي حال العارف على نفسه لخفاء حالته وإساءة الظن بنفسه .
وفي حديث سعد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( إن الله يحب العبد الخفي التقي ) .
وفي حديث معاذ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : (إن الله يحب من عباده الأخفياء الأتقياء، الذين إذا خضروا لم يعرفوا، وإذا غابوا لم يفتقدوا، أولئك أئمة الهدى ومصابيح العلم) .
وعن علي بن أبي طالب >: طوبى لكل عبد لم يعرف الناس ولم تعرفه الناس ، وعرفه الله منه برضوان ، أولئك مصابيح الهدى ، تجلى عنهم كل فتنة مظلمة .
وقال ابن مسعود - رضي الله عنه - : كونوا جدد القلوب، خلقان الثياب ، مصابيح الظلام، تخفون عن أهل الأرض وتعرفون في أهل السماء .
فهؤلاء أخص أهل الغربة ، وهم الفرارون بدينهم من الفتن ، وهم النزاع من القبائل الذين يُحشرون مع عيسى عليه السلام ، وهم بين أهل الآخرة أعز من الكبريت الأحمر ، فكيف يكون حالهم بين أهل الدنيا ، وتخفى حالهم غالباً على الفرقتين كما قال :
تواريت عن دهري بظل جناحه * فعيني ترى دهري وليس يراني
ولو تسئل الأيام ما اسمي ؟ لما درت * وأين مكاني ؟ ما عرفن مكاني(1/296)
ومن ظهر منهم للناس فهو بينهم ببدنه ، وقلبه معلق بالنظر الأعلى كما قال أمير المؤمنين رضي الله عنه في وصفهم :
جسمي معي غير أن الروح عندكم * فالجسم في غربة والروح في وطن
وكانت رابعة العدوية - رحمها الله تعالى - تنشد في هذا المعنى :
ولقد جعلتك في الفؤاد محدثي * وأبحت جسمي من أراد جلوسي
فالجسم مني للحبيب مؤانس * وحبيب قلبي في الفؤاد أنيسي
وأكثرهم لا يقوى على مخالطة الخلق فهو يفر إلى الخلوة ليستأنس بحبيبه ، ولهذا كان أكثرهم يطيل الوحدة .
وقيل لبعضهم : ألا تستوحش ؟ قال : كيف أستوحش وهو يقول : أنا جليس من ذكرني ؟. وقال آخر : وهل يستوحش مع الله أحد ؟.
وعن بعضهم : من استوحش من وحدته فذلك لقلة أنسه بربه .
وكان يحيى بن معاذ كثير العزلة والانفراد فعاتبه أخوه فقال له : إن كنت من الناس فلا بد لك من الناس ، فقال : يحيى : إن كنت من الناس فلا بد لك من الله .
وقيل له: إذا هجرت الخلق مع من تعيش؟ قال: مع من هجرتُهم له.
وأنشد إبراهيم بن أدهم:
هجرت الخلق طراً في هواكا * وأيتمت العيال لكي أراكا
فلو قطعتني في الحب إرباً * لما حن الفؤاد إلى سوكا
وعوتب ابن غزوان على خلوته فقال : إني أصبت راحة قلبي في مجالسة من لديه حاجتي
ولغربتهم من الناس ربما نُسب بعضهم إلى الجنون لبعد حاله من أحوال الناس كما كان أويس يُقال ذلك عنه .
وكان أبو مسلم الخولاني كثير اللهج بالذكر لا بفتر لسانه فقال رجل لجلسائه : أمجنون صاحبكم؟ وقال: أبو مسلم: يا ابن أخي لِلَّهِ لكن هذا دواء الجنون . اهـ.كشف الكربة في وصف أهل الغربة لابن رجب الحنبلي.
ffffff
التفريق بين المبتدع الداعي إلى بدعته ومن ليس بداع إليها.(1/297)
هذا ولقد فرق السلف رضوان الله عليهم بين المبتدع الداعي إلى بدعته ومن ليس بداع إليها، فرقوا في الرواية عنه، والسلام عليه حياً، والصلاة عليه ميتاً، وزيارته، ومودته، والاستفادة من علمه في غير هذه البدعة كأن يكون قارئاً للقرآن معلماً له أو عالماً بالأخبار، أو التواريخ ونحو ذلك. قال أبو داود:
"قلت لأحمد لنا أقارب بخراسان يرون الإرجاء فنكتب إلى خراسان نقرئهم السلام؟ قال: سبحان الله لماذا لا تقرئهم؟"
أخبرنا أبو بكر قال حدثنا أبو داود قال: قلت لأحمد: نكلمهم؟ قال: نعم إلا أن يكون داعياً ويخاصم فيه". (1)
قال عبدالله: قلت لأبي: ما تقول في أصحاب الحديث، يأتون الشيخ لعله يكون مرجئا، أو شيعيا، أو فيه شيء من خلاف السنة، أينبغي أن أسكت فلا أحذر عنه، أو أحذر عنه؟ قال: إن كان يدعو إلى بدعة وهو إمام فيها ويدعو إليها تحذر منه. (2)
ويقول شيخ الإسلام في معرض بيان منهج أهل السنة في عدم تأثيم المجتهد وإن أخطأ في اجتهاده:
"ولم يقل أحد من السلف والصحابة والتابعين أن المجتهد الذي استفرغ وسعه في طلب الحق يأثم لا في الأصول ولا في الفروع". (3)
ثم قال بعد ذلك:
"ولهذا يقبلون شهادة أهل الأهواء ويصلون خلفهم، ومن ردها كمالك وأحمد فليس مستلزماً لإثمهما، لكن المقصود إنكار المنكر وهجر من أظهر البدعة، ولهذا فرق أحمد، وغيره بين الداعية للبدعة المظهر لها وغيره، وكذلك قال الخرقي: ومن صلى خلف من يجهر ببدعة أو منكر أعاد". (4)
والشاهد هنا هو قول شيخ الإسلام بأن الإمام أحمد فرق بين الداعية للبدعة المظهر لها وغيره ممن يعتقد هذه البدعة ولا يدعو لها.
خلاصة رأي شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في الصلاة خلف المبتدع.
__________
(1) مسائل الإمام أحمد لأبي داود (ص276).
(2) مسائل الإمام أحمد لأبي داود (ص276)
(3) الفتاوى (13/125).
(4) الفتاوى (13/125)(1/298)
فالواجب على المسلم إذا صار في مدينة من مدائن المسلمين أن يصلي معهم الجمعة والجماعة ويوالي المؤمنين، ولا يعاديهم، وإن رأى بعضهم ضالاً أو غاوياً وأمكن أن يهديه ويرشده فعل ذلك، وإلا فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها، وإذا كان قادراً على أن يولي في إمامة المسلمين الأفضل ولاه، وإن قدر أن يمنع من أظهر البدع والفجور منعه.
وإن لم يقدر على ذلك فالصلاة خلف الأعلم بكتاب الله وسنة نبيه والأسبق إلى طاعة الله ورسوله أفضل، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: [يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا سواء فأقدمهم هجره، فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سناً]. (1)
وإن كان في هجره لمظهر البدعة والفجور مصلحة راجحة هجره، كما هجر النبي - صلى الله عليه وسلم - الثلاثة الذين خُلِّفُوا حتى تاب الله عليهم، وأما إذا وُلِّى غيره بغير إذنه، وليس في ترك الصلاة خلفه مصلحة شرعية كان تفويت هذه الجمعة، والجماعة. جهلاً وضلالاً، وكان قد رَدَّ بدعة ببدعة.
ffffff
حكم الصلاة والترحم على أهل البدع.
خلاصة أقوال أهل العلم وعلماء السلف في الصلاة والترحم على أهل البدع:
1- أن من مات كافراً أصلياً لم يدخل الإسلام، أو دخل في الإسلام ولكنه مات بعد ذلك شاهداً على نفسه بالكفر، أو حكم بردته وخروجه من الدين ومات على ذلك أو كفر ببدعته وأقيمت عليه الحجة بعينه، فإنه لا يجوز الصلاة عليه ولا الترحم عليه وهذا مجمع عليه.
2- أن من مات عاصياً، أو مبتدعاً ولو ببدعة لا تخرج من الدين، فإنه يشرع للإمام، وأهل العلم ترك الصلاة عليه زجراً للناس عن معصيته وبدعته والعياذ بالله.
__________
(1) رواه الإمام مسلم برقم (673،674).(1/299)
3- أن ترك الإمام وبعض أهل العلم للصلاة والترحم على أهل البدع والمعاصي لا يعني تحريم ذلك على الجميع بل تجب الصلاة عليه فرض كفاية، ما دام أنه لم يمت كافراً من الذين حكم بخلودهم في النار خلوداً أبدياً والعياذ بالله.
ترك الصلاة والترحم من بعض العلماء على بعض أهل البدع لا يستلزم تحريم ذلك على الجميع.
واعلم أنه إذا قام بعض العلماء بترك الصلاة والترحم على أهل البدع فليس هذا مانعاً لغيرهم من عموم المسلمين من الصلاة عليهم وطلب الرحمة لهم لأن ما يفعله بعض العلماء قد يكون للزجر. وإذا كان صاحب البدعة لم يمت على بدعة تخرجه من الإسلام وتكفره فإنه يحسن بل يجب وجوباً كفائياً الصلاة عليه.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أيضاً:
"وإذا ترك الإمام، أو أهل العلم والدين (الصلاة) على بعض المتظاهرين ببدعة أو فجور زجراً عنها، لم يكن ذلك محرماً للصلاة عليه والإستغفار له، بل قال النبي - صلى الله عليه وسلم - فيمن كان يمتنع عن الصلاة عليه وهو الغال، وقاتل نفسه والمدين الذي لا وفاء له: (صلوا على صاحبكم) وروي أنه كان يستغفر للرجل في الباطن وإن كان في الظاهر يدع ذلك زجراً عن مثل مذهبه، كما روي في حديث محلم بن جثامة" أ.هـ. (1)
وبالتالي فكل من مات ونحن نعتقد أنه مات على الإسلام وليس على الكفر فلا يترك الصلاة عليه، والترحم عليه، بل يجب وجوباً كفائياً.
وقد فسر شيخ الإسلام رحمه الله هذا الوجوب الكفائي بقوله:
__________
(1) الفتاوى (7/217).(1/300)
"وأما من كان مظهراً للفسق مع ما فيه من الإيمان كأهل الكبائر، فهؤلاء لا بد أن يصلي عليهم بعض المسلمين. ومن امتنع من الصلاة على أحدهم زجراً لأمثاله عن مثل ما فعله، كما امتنع النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة على قاتل نفسه، وعلى الغال، وعلى المدين الذي لا وفاء له، وكما كان كثير من السلف يمتنعون من الصلاة على أهل البدع كان عمله بهذه السنة حسناً. وقد قال لجندب بن عبدالله البجلي ابنه:إني لم أنم البارحة بشماً (أي أنه أكل كثيراً حتى يفسد الطعام في معدته، وهذا معنى البشم) فقال: أما إنك لو مت لم أصل عليك. كأنه يقول: قتلت نفسك بكثرة الأكل. وهذا من جنس هجر المظهرين للكبائر حتى يتوبوا، فإذا كان في ذلك مثل هذه المصلحة الراجحة كان ذلك حسناً، ومن صلى على أحدهم يرجو له رحمة الله، ولم يكن في امتناعه مصلحة راجحة، كان ذلك حسناً، ولو امتنع في الظاهر ودعا له في الباطن ليجمع بين المصلحتين أولى من تفويت إحداهما.
وكل من لم يعلم منه النفاق وهو مسلم يجوز الإستغفار له، والصلاة عليه، بل يشرع ذلك، ويؤمر به. كما قال تعالى: { واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات } . (1) وكل من أظهر الكبائر فإنه تسوغ عقوبته بالهجر وغيره، حتى ممن هجره مصلحة له راجحة فتحصل المصالح الشرعية في ذلك بحسب الإمكان، والله أعلم". (2)
فأما الذي تُترَك الصلاة عليه فهو الكافر بالكلية والذي يموت على كفر معلوم أو نفاق اعتقادي معلوم وفي هذا يقول شيخ الإسلام رحمه الله:
__________
(1) سورة محمد آية (19).
(2) الفتاوى (24/286،287).(1/301)
"وليس في الكتاب والسنة المطهرون للإسلام إلا قسمان: مؤمن أو منافق، فالمنافق في الدرك الأسفل من النار، والآخر مؤمن، ثم قد يكون ناقص الإيمان فلا يتناوله الإسم المطلق، وقد يكون تام الإيمان، وهذا يأتي الكلام عليه إن شاء الله في مسألة الإسلام والإيمان، وأسماء الفساق من أهل الملة، لكن المقصود هنا أنه لا يُجعل أحد بمجرد ذنب أذنبه، ولا ببدعة ابتدعها ولو دعا الناس إليها كافراً في الباطن، إلا إذا كان منافقاً، فأما من كان في قلبه الإيمان بالرسول - صلى الله عليه وسلم - وما جاء به وقد غلط في بعض ما تأوله من البدع، فهذا ليس بكافر أصلاً" . (1)
وهذا بحمد الله هو العدل الذي لا يجوز المحيد عنه.
والإمام أحمد رحمه الله وإن نقل عنه أنه يقول بكفر من قال بخلق القرآن، إلا أنه كذلك دعا للخليفة وغيره ممن ضربوه وحبسوه، واستغفر لهم وحللهم مما فعلوه به من الظلم، ودعوتهم إياه إلى القول بخلق القرآن وهو كفر. ولا شك أنهم لو كانوا مرتدين وكفاراً أو أنه لا يستجيز الصلاة على صاحب البدعة مطلقاً ما ترحم على هؤلاء ولا استغفر لهم فإن الإستغفار للكفار لا يجوز ويحرم بالكتاب والسنة وإجماع المسلمين.
وهذا الذي ذهب إليه الإمام أحمد رحمه الله، وشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله هو الراجح، كذلك من مذهب الإمام الشافعي رحمه الله فإنه رأى الصلاة خلف أهل البدع وأنهم لا يكفرون.
كما نقل ذلك النووي رحمه الله حيث يقول:
__________
(1) انظر الفتاوى (12/489).(1/302)
"وتكره أيضاً خلف المبتدع الذي يكفر ببدعته، وأما الذي يكفر ببدعته، فلا يجوز الإقتداء به، وحكمه ما تقدم في غيره من الكفار ، وعد صاحب (الإفصاح) من يقول بخلق القرآن، أو ينفي شيئاً من صفات الله تعالى، كافراً. وكذا جعل الشيخ أبو حامد، ومتابعوه، والمعتزلة ممن يكفر ، والخوارج، لا يكفرون، ويحكي القول بتكفير من يقول بخلق القرآن، عن الشافعي. وأطلق القفال، وكثيرون من الأصحاب، القول بجواز الإقتداء بأهل البدع، وأنهم لا يكفرون. قال صاحب (العدة): وهو ظاهر مذهب الشافعي.
قلت (أي النووي): هذا الذي قاله القفال، وصاحب (العدة) هو الصحيح، أو الصواب. فقد قال الشافعي رحمه الله: أقبل شهادة أهل الأهواء، إلا الخطابية، لأنهم يرون الشهادة بالزور لموافقيهم. ولم يزل السلف والخلف على الصلاة خلف المعتزلة، وغيرهم، ومناكحتهم، وموارثتهم، وإجراء أحكام المسلمين عليهم. وقد تأول الإمام الحافظ الفقيه، أبو بكر البيهقي، وغيره من أصحابنا المحققين، ما جاء عن الشافعي وغيره من العلماء، من تكفير القائل بخلق القرآن على كفران النعم، لا كفر الخروج من الملة، وحملهم علي هذا التأويل، ما ذكرته من إجراء أحكام المسلمين عليهم. والله أعلم". (1)
ffffff
وسائل الوقاية من البدع
للوقاية من البدع وسائل عدة ، نذكر منها على سبيل الإيجاز :
1- الاعتصام بالكتاب والسنة ،- بالإضافة إلى نشر ذلك وتبليغه للناس على أكبر قدر ممكن -:
وقد جاءت أوامر الاعتصام بالكتاب والسنة صريحة في ذلك ، منها :
__________
(1) روضة الطالبين (1/355 طبع المكتب الإسلامي).(1/303)
قوله تعالى: { وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا } 239. وحبل الله هو القرآن240، وقال تعالى : { كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ } 241، وقال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ } 242، وقال تعالى : { ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا } 243. والآيات كثيرة في هذا الباب وحصرها ليس من السهولة بمكان ، والقصد التنبيه لا الحصر .
وقال - صلى الله عليه وسلم - : (( لا حسد إلا في اثنتين: رجل علَّمه الله القرآن فهو يتلوه آناء الليل وآناء النهار ، فسمعه جار له فقال : ليتني أوتيت مثلما أوتي فلان فعملت مثل ما يعمل ....)) الحديث .
وقال - صلى الله عليه وسلم - : (( خيركم من تعلم القرآن وعلمه )). وفي رواية: ((إن أفضلكم من تعلم القرآن وعلمه )).
وقال - صلى الله عليه وسلم - : (( تعاهدوا القرآن ، فو الذي نفسي بيده لهو بيده لهو أشد تفصيا من الإبل في عقولها )) .
وقال - صلى الله عليه وسلم - : ((ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب، ويتدارسونه بينهم ، إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة ، وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده ....)).
وقال تعالى : { بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ } .
والسنة بيان القرآن ، فكما تجب المحافظة على الكتاب - كما تقدم من الأدلة السابقة - فكذلك تجب المحافظة على بيانه . فالسنة - وهي بيان الكتاب - لا تقل أهمية عن القرآن .
وقد بين الرسول - صلى الله عليه وسلم - وجوب تبليغ السنة ونشرها على أوسع نطاق ممكن ، فقال عليه الصلاة والسلام :(1/304)
((بلغوا عني ولو آية ، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج ، ومن كذب عليّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار )).
وقال - صلى الله عليه وسلم - : (( ليبلغ الشاهد الغائب )).
وقال - صلى الله عليه وسلم - : (( فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين ، عضوا عليها بالنواجذ ، وإياكم ومحدثات الأمور ، فإن كل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة )).
وقال - صلى الله عليه وسلم - : (( نضر الله امرءاً سمع منا حديثاً فحفظه حتى يبلغه غيره )).
فما تقدَّم من النصوص يدلُّ على وجوب الاعتصام بالكتاب والسنة، ونشر سنته - صلى الله عليه وسلم - وتبليغها ؛ لأنَّ في ذلك وقاية من إحداث البدع وظهورها .
2- تطبيق السنة في سلوك الفرد وسلوك المجتمع :
وذلك بتطبيق ما علمه الإنسان من السنة على سلوكه في جميع مجالات الحياة، فتطبيق السنة يجعل البدعة أمراً منكراً في المجتمع، تظهر ملامحها البشعة ومظهرها السيء ، وتدل بنفسها على ما تحمله من قبح وتهديد للإسلام والمسلمين ، فيجعل الناس ينفرون من البدع ، لعدم قبول الناس وموافقتهم لمرتكب البدعة ، ولما كان الصحابة - رضوان الله عليهم - يطبقون السنة في جميع تصرفاتهم وأفعالهم لم تظهر فيهم البدع ، وإذا ظهرت قُضي عليها مباشرة ؛ لأن المبتدع بفعله البدعة قد شذَّ عن المجتمع الذي يعيش فيه ، فتكون مقامته سهلة ، ولكن في آخر الزمان يختلف الوضع ، فيكون المتمسك بدين الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - كالقابض على الجمر ، ويكون حيداً غريباً في مجتمعه ،كما قال عليه الصلاة والسلام : (( بدأ الإسلام غريباً وسيعود كما بدأ غريباً ، فطوبى للغرباء )).
3- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر :
البدع في بدايتها تكون صغيرة ثم تكبر ، يبدعها فرد وسرعان ما يلتف حوله أهل الأهواء ، لموافقة هذه البدعة أهواءهم وشهوة أنفسهم ، أو أن هذه البدعة تريحهم من بعض تكاليف الشرع . فما هو الموقف الواجب اتخاذه ؟.(1/305)
الجواب على ذلك هو : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . وقد أوجبه الله علينا بقوله تعالى : { وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } 256. فقد أوجب الله علينا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على الكفاية . فلا يجب على كل أحد بعينه ، فإذا لم يقم به يقوم بواجبه ، أثم كل قادر بحسب قدرته ؛ إذ هو واجب على كل إنسان بحسب قدرته ، كما قال صلى الله عليه وسلم :(( من رأى منكم منكراً فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه ، وذلك أضعف الإيمان ))
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الصفات التي جعل الله بها أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - خير الأمم ، قال تعالى: { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ.. } 259.
قال أبو هريرة - رضي الله عنه - : (( { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } تأتون بهم في السلاسل في أعناقهم حتى يدخلون في الإسلام ))260.
وفي قول أبو هريرة- رضي الله عنه- ما يدل على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بمعناهما الشامل ، يدخل فيهما الجهاد في سبيل الله والعمل على تبليغ رسالة الإسلام بشتى الوسائل الممكنة .
وقد جعل الله سبحانه وتعالى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من صفات المؤمنين ، ومما يتميزون به على غيرهم ، كما جعل الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف من صفات المنافقين ومما يميزهم عن غيرهم .
فقال تعالى في وصف المؤمنين { وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ } 261.(1/306)
وقال جل وعلا واصفاً المنافقين : { الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ } 262.
ولا شك أن التحذير من البدع والنهي عنها من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وأن إحداث البدع ودعوة الناس إليها من الأمر بالمنكر الذي هو من خصائص المنافقين ومن تبعهم .
وقد نص الله سبحانه وتعالى على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من خصائص الرسالة المحمدية ، وأهدافها البارزة ، قال تعالى : { الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ...... } 263.
وقد أرشد الرسول - صلى الله عليه وسلم - في عدة أحاديث إلى عموم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وشموله لكل مسلم، فقال-عليه السلام-:((من رأى منكم منكراً فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان)).
وجعل-عليه الصلاة والسلام- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من واجب الجالسين على الطريق ، وبين أن ذلك من حقوق الطريق ، فقال عليه الصلاة والسلام : (( إياكم والجلوس على الطرقات )) . فقالوا : مالنا بد ، إنَّما هي مجالسنا نتحدث فيها ، قال : فإذا أتيتم إلى المجالس فأعطوا الطريق حقها )) . فقالوا : وما حق الطريق ؟.قال:((غض البصر ، وكف الأذى، وردّ السلام ، وأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر )).
وقال صلى الله عليه وسلم :(( إنكم منصورون ومصيبون ومفتوح لكم ، فمن أدرك ذاك منكم فليتق الله وليأمر بالمعروف ولينه عن المنكر ، ومن يكذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار )) .(1/307)
وقال عليه الصلاة والسلام : (( مثل القائم على حدود الله ، والمدهن فيها ، كمثل قوم استهموا على سفينة في البحر، فأصاب بعضهم أعلاها ، وأصاب بعضهم أسفلها ، فكان الذين في أسفلها يصعدون فيستقون الماء ، فيصيبون على الذين في أعلاها، فقال الذين في أعلاها :لا ندعكم تصعدون فتؤذوننا ، فقال الذين في أسفلها: فإنا ننقبها في أسفلها فنستقي ، فإن أخذوا على أيديهم فمنعوهم نجوا جميعاً ، وإن تركوهم غرقوا جميعاً)).
ففي هذا الحديث تحذير منه - صلى الله عليه وسلم - عن عاقبة السكوت عن المنكرات والبدع، وقد مثَّل النبي - صلى الله عليه وسلم - بركاب السفينة - وما أحسن التمثيل - فإن سكوت المسلمين عن أهل المنكر والمبتدعة ، يؤدي إلى تفشي هذه المنكرات والبدع في المجتمعات ، مما يجعلهم مستحلين للعقوبة ، فإذا نزلت العقوبة شملت الفاعل والراضي بالفعل ، فالأول لمباشرته المنكر ، والثاني لسكوته عن الإنكار .
وقد قال عليه الصلاة والسلام : (( والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقاباً منه فتدعونه فلا يستجيب لكم )) .
ولكن قد يستدل بعض الناس بقوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ } 270 ، على أن الإنسان ليس مسئولاً إلا عن نفسه وتصرفاته ، ولا شأن له بالآخرين وما يفعلونه .
فالجواب على ذلك ما قاله أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - قال :(( يا أيها الناس لِلَّهِ إنكم تقرأون هذه الآية: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ } ، وإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (( إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه )).(1/308)
فما تقدَّم من الآيات والأحاديث يدلُّ على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب على كل شخص ؛ لا بعينه وإنَّما على الكفاية على حسب قدرته وطاقته ، وأنه من خصائص أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - وأن تركه من خصائص المنافقين ، وإذا ترك الناس الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فقد جنوا على أنفسهم ، وصاروا مستحقين للعقوبة .
ولا شك أن البدع من أكبر المنكرات التي يجب النهي عنها ، وأن التهاون في ذلك يساعد على انتشار البدع ، وتمسك الناس بها ، واعتقادهم أن هذه البدع لو كانت أمراً منكراً لنهى عنه الناس عامة والعلماء خاصة، وأن سكوت العلماء عن الإنكار دليل على موافقة هذا الأمر المبتدع للشرع ،إذ لو كان مخالفاً لحصل الإنكار.
فالأمر بالمعروف وهو لزوم الكتاب والسنة ،والنهي عن المنكر من البدع والمعاصي ؛ من أهم أسباب الوقاية من البدع ، وله دور كبير في ذلك . جعلنا الله وإياكم من الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر ، مخلصين ذلك لله وحده ، والله أعلم .
4- القضاء على أسباب البدع :
وأسباب البدع سبق وتكلمنا عنها ، ويكون القضاء عليها بأمور عدة ، منها :
أ- منع العامة من القول في الدين ، وعدم اعتبار آرائهم مهما كانت مناصبهم فيه .
ب- الرد على ما يوجه إلى الدين من حملات ظاهرة أو خفية ، وكشف مظاهر الابتداع ، وتسليط الضوء عليها من القرآن والسنة لمنعها من التغلغل والانتشار .
جـ- الاحتراز من كل خروج عن حدود السنة مهما قلّ أثره أو صغر أمره .
د- صدّ تيارات الفكر العقائدي والتي لا حاجة للمسلم فيها ،بل وردّ النصّ بالتحذير منها ،كآراء غير المسلمين فيها يتصل بالعقيدة ، أو الأمور الغيبة ونحوها .
قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ }(1/309)
قال تعالى: { وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ. }
وقال - صلى الله عليه وسلم - :((لتتبعن سنن من كان قبلكم شبراً شبراً وذراعاً ذراعاً حتى لو دخلوا جحر ضبِّ تبعتموهم)) قلنا: يا رسول!اليهود والنصارى؟.قال:((فمن ؟)).
فحذر النبي - صلى الله عليه وسلم - من اتباع سننهم والوقوع فيما وقعوا فيه، وتقليدهم من غير تبصر، وهذا علم من أعلام نبوته.فواقع الحال يشهد بأنا أصبحنا نقلدهم في كثير من الأشياء، حتى صار المسلمون يقيمون الاحتفالات بأعياد النصارى ، ونحو ذلك من التقليد الأعمى في كثير من الأمور، وقد ألف بعض العلماء المعاصرين كتاباً ذكر فيه جملة من الأمور التي وقع فيها المسلمون من مشابهة المشركين.
فكثير من البدع إنما أحدثت تقليداً لليهود والنصارى وغيرهم .
هـ- الاعتماد على الكتاب والسنة فقط في أمور العقيدة التي لا مجال للاجتهاد والاستحسان والقياس فيها وعدم الاعتماد على ما يعده بعض أهل الضلال مستنداً كالعقل ونحوه، وما هو أوهى من ذلك كالمنامات ونحوها .
و- ترك الخوض في المتشابه؛ لأن الخوض فيه علامة على أهل الزيغ والبدع . وسبب كل بلاء ومصيبة دخلت على المسلمين .
فما ذكرناه هو بعض الأمور التي في اتباعها أثر كبير في القضاء على أسباب البدع ، وهذه الأمور لا تحقق الهدف لوحدها ، وإنما لا من احتساب العلماء وطلاب العلم وبذل وسعهم ، في تطبيقها والدعوة إليها ، وحثّ على الالتزام بها . لكي تؤدي الغرض المطلوب ، والهدف المقصود ، والله الهادي إلى سواء السبيل . (1)
__________
(1) البدع الحولية للتويجري.(1/310)
قال ابن قيم الجوزية: وقال لي شيخ الإسلام رضي الله عنه وقد جعلت أورد عليه إيرادا بعد إيراد لا تجعل قلبك للإيرادات والشبهات مثل السفنجة فيتشربها فلا ينضح إلا بها ولكن اجعله كالزجاجة المصمتة تمر الشبهات بظاهرها ولا تستقر فيها فيراها بصفائه ويدفعها بصلابته وإلا فإذا أشربت قلبك كل شبهة تمر عليها صار مقرا للشبهات أو كما قال.
الشرح:
غالبا هذا من نقص العقل يمكن نيته زينة وهو حبيب لكن عنده نقص في عقله يصير كل ما يورد عليه يصير يعرف ويش رأسه وكل مسألة تحمله وتذهب به ويصير نقص في العقل.
فما اعلم إني انتفعت بوصية في دفع الشبهات كانتفاعي بذلك وإنا سميت الشبهة شبهة لاشتباه الحق بالباطل فيها فإنها تلبس ثوب الحق على جسم الباطل وأكثر الناس أصحاب حسن ظاهر فينظر الناظر فيما ألبسته من اللباس فيعتقد صحتها وأما صاحب العلم واليقين.
الشرح:
المسافر لو رأى في طريق كل شيء يقتله لو رأى كل أفعى أو عقرب وما شابه ذلك لم يصل للمكان الذي يطلبه وإلى غايته ، وهذا مثل السفنجة.
ومن رزقه الله بصيرة فهو يكشف به حقيقة ما تحت تلك الألفاظ من الحق والباطل ولا تغتر باللفظ كما قيل في هذا المعنى. (1)
وقال الذهبي في الميزان في ترجمة محمد بن عمر الزمخشري : صالح لكنه داعية إلى الاعتزال أجارنا الله فكن حذراً من كشافه. (2)
ffffff
التحذير من فتنة التجريح والتبديع (3)
من بعض أهل السنة في هذا العصر
__________
(1) الفوائد .
(2) ميزان الاعتدال (3/351).
(3) هذا الموضوع للشيخ عبدالمحسن العباد حفظه الله في كتابه الحث على اتِّباع السنَّة والتحذير من البدع وبيان خطرها (ص25).(1/311)
وقريبٌ من بدعة امتحان الناس بالأشخاص ما حصل في هذا الزمان من افتتان فئة قليلة من أهل السنَّة بتجريح بعض إخوانهم من أهل السنة وتبديعهم، وما ترتَّب على ذلك من هجر وتقاطع بينهم وقطع لطريق الإفادة منهم، وذلك التجريح والتبديع منه ما يكون مبنيًّا على ظنِّ ما ليس ببدعة بدعة، ومن أمثلة ذلك أنَّ الشيخين الجليلين عبد العزيز بن باز وابن عثيمين ـ رحمهما الله ـ قد أفتيا جماعة بدخولها في أمر رأيَا المصلحة في ذلك الدخول، ومِمَّن لم يُعجبهم ذلك المفتَى به تلك الفئة القليلة، فعابت تلك الجماعة بذلك، ولَم يقف الأمر عند هذا الحدِّ، بل انتقل العيب إلى مَن يتعاون معها بإلقاء المحاضرات، ووصفه بأنَّه مُميِّع لمنهج السلف، مع أنَّ هذين الشيخين الجليلين كانا يُلقيان المحاضرات على تلك الجماعة عن طريق الهاتف.(1/312)
ومن ذلك أيضاً حصول التحذير من حضور دروس شخص؛ لأنَّه لا يتكلَّم في فلان الفلاني أو الجماعة الفلانية، وقد تولَّى كبر ذلك شخص من تلاميذي بكلية الشريعة بالجامعة الإسلامية، تخرَّج منها عام (1395 ـ 1396هـ)، وكان ترتيبه الرابع بعد المائة من دفعته البالغ عددهم (119) خرِّيجاً، وهو غير معروف بالاشتغال بالعلم، ولا أعرف له دروساً علميَّة مسجَّلة، ولا مؤلَّفاً في العلم صغيراً ولا كبيراً، وجلُّ بضاعته التجريح والتبديع والتحذير من كثيرين من أهل السنَّة، لا يبلغ هذا الجارحُ كعبَ بعض مَن جرَحهم لكثرة نفعهم في دروسهم ومحاضراتهم ومؤلفاتهم، ولا ينتهي العجب إذا سمع عاقل شريطاً له يحوي تسجيلاً لمكالمة هاتفية طويلة بين المدينة والجزائر، أكل فيها المسئول لحومَ كثير من أهل السنَّة، وأضاع فيها السائل مالَه بغير حقٍّ، وقد زاد عدد المسئول عنهم في هذا الشريط على ثلاثين شخصاً، فيهم الوزير والكبير والصغير، وفيهم فئة قليلة غير مأسوف عليهم، وقد نجا مِن هذا الشريط مَن لم يُسأل عنه فيه، وبعض الذين نجوا منه لم ينجوا من أشرطة أخرى له، حوتها شبكة المعلومات الإنترنت، والواجب عليه الإمساك عن أكل لحوم العلماء وطلبة العلم، والواجب على الشباب وطلاَّب العلم ألاَّ يلتفتوا إلى تلك التجريحات والتبديعات التي تضرُّ ولا تنفع، وأن يشتغلوا بالعلم النافع الذي يعود عليهم بالخير والعاقبة الحميدة في الدنيا والآخرة، وقد قال الحافظ ابن عساكر ـ رحمه الله ـ في كتابه تبيين كذب المفتري (ص:29): (( واعلم ـ يا أخي! وفَّقنا الله وإياك لمرضاته، وجعلنا مِمَّن يَخشاه ويتَّقيه حق تقاته ـ أنَّ لحوم العلماء رحمة الله عليهم مسمومة، وعادة الله في هتك أستار منتقصيهم معلومة ))، وقد أوردتُ في رسالتي (( رفقاً أهل السنَّة بأهل السنَّة )) جملة كبيرة من الآيات والأحاديث والآثار في حفظ اللسان من الوقيعة في أهل السنَّة، ولا سيما أهل العلم منهم، ومع ذلك(1/313)
لَم تُعجب هذا الجارح، ووصفها بأنَّها غير مؤهَّلة للنشر، وحذَّر منها ومن نشرها، ولا شكَّ أنَّ مَن يقف على هذا الجرح ويطَّلع على الرسالة يجد أنَّ هذا الحكم في واد والرسالة في واد آخر، وأنَّ الأمر كما قال الشاعر:
قد تُنكر العينُ ضوء الشمس من رمَد ** ويُنكر الفمُ طعمَ الماء من سَقَمِ
وأمَّا قول التلميذ الجارح لرسالة (( رفقاً أهل السنَّة بأهل السنَّة )): (( فمثلاً في كلام أنَّ منهج الشيخ عبد العزيز بن باز ومنهج الشيخ ابن عثيمين على خلاف منهج أهل السنَّة الآخرين، هذا خطأ لا شك، يعني لا يُكثرون الردود ويردون على المخالف، هذا لو صحَّ هو خلاف منهج أهل السنَّة والجماعة، وهو طعن في الشيخين في الحقيقة، وفي غيرهم مِمَّن يمكن أن يُقال عنه هذا الكلام!!! )).
فالجواب عنه من وجوه:
الوجه الأول: أنَّه ليس في الرسالة أنَّ الشيخ عبد العزيز بن باز ـ رحمه الله ـ لا يكثر الردود، بل ردوده كثيرة، وقد جاء في الرسالة (ص:51): (( أن يكون الردُّ برفق ولين ورغبة شديدة في سلامة المخطئ من الخطأ، حيث يكون الخطأ واضحاً جليًّا، وينبغي الرجوع إلى ردود الشيخ عبد العزيز بن باز ـ رحمه الله ـ للاستفادة منها في الطريقة التي ينبغي أن يكون الردُّ عليها )).
الوجه الثاني: أنَّني لَم أتعرَّض لذكر منهج الشيخ ابن عثيمين ـ رحمه الله ـ في الردود؛ لأنِّي لا أعرف له مؤلَّفاً صغيراً أو كبيراً في الردود، وسألتُ أحدَ تلاميذه الملازمين له عن ذلك، فأخبرني أنَّه لا يعلم له شيئاً من الردود، وذلك لا يقدح فيه؛ لأنَّه مشغول بتقرير العلم ونشره والتأليف.(1/314)
الوجه الثالث: أنَّ منهج الشيخ عبد العزيز بن باز ـ رحمه الله ـ يختلف عن منهج التلميذ الجارح ومَن يشبهه؛ لأنَّ منهج الشيخ يتَّسم بالرِّفق واللِّين والحرص على استفادة المنصوح والأخذ بيده إلى طريق السلامة، وأمَّا الجارحُ ومَن يشبهه فيتَّسمُ بالشدَّة والتنفير والتحذير، وكثيرون مِن الذين جرحهم في أشرطته كان يُثني عليهم الشيخ عبد العزيز ويدعو لهم ويحثُّهم على الدعوة وتعليم الناس، ويَحثُّ على الاستفادة منهم والأخذ عنهم.
والحاصلُ أنَّنِي لَم أنسب إلى الشيخ عبد العزيز ابن باز ـ رحمه الله ـ عدم الردِّ على غيره، وأمَّا ابن عثيمين فلَم أتعرَّض له بذكر في قضيَّة الردود، وأنَّ ما ذكره الجارحُ غير مطابق لِمَا في الرسالة، وهو من أوضح الأدلة على تخبُّطه وعدم تثبُّته، وإذا كان هذا منه في كلام مكتوب، فكيف يكون الحال فيما لا كتابة فيه؟!
وأمَّا قول جارح الرسالة: (( وأنا في الحقيقة قد قرأتُ الرسالةَ، وعرفت موقفَ أهل السنَّة منها، ولعلَّكم رأيتم الردودَ من بعض العلماء والمشايخ، وما أظنُّ الردودَ تقف عند ذلك، إنَّما هناك مَن سَيَرُدُّ أيضاً؛ لأنَّه كما يقول الشاعر:
جاء شقيق عارض رمحه **إنَّ بني عمِّك فيهم رماح )).
كذا: عارضٌ، والصواب عارضاً.
فالجواب: أنَّ أهل السنَّة الذين عناهم هم الذين يختلف منهجهم عن منهج الشيخ عبد العزيز ـ رحمه الله ـ الذي أشرتُ إليه قريباً، وهو بهذا الكلام يستنهض هِمَمَ مَن لم يعرفهم للنيل من الرسالة بعد أن استنهض هِمَم مَن يعرفهم، وأنا في الحقيقة لَم أعرض رمحاً، وإنَّما عرضتُ نصحاً لم يقبله الجارحُ ومَن يشبهه؛ لأنَّ النصحَ للمنصوح يشبه الدواءَ للمريض، ومن المرضى مَن يستعمل الدواء وإن كان مُرًّا؛ لِمَا يُؤَمِّله من فائدة، ومن المنصوحين من يصدُّه الهوى عن النصح لا يقبله، بل ويُحذِّر منه، وأسأل الله للجميع التوفيق والهدايةَ والسلامةَ من كيد الشيطان ومكره.(1/315)
وقد شارك التلميذَ الجارح ثلاثةٌ: اثنان في مكة والمدينة، وهما من تلاميذي في الجامعة الإسلامية بالمدينة، أولهما تخرَّج عام (1384 ـ 1385هـ)، والثاني عام (1391 ـ 1392هـ)، وأمَّا الثالث ففي أقصى جنوب البلاد، وقد وصف الثاني والثالث مَن يُوزِّع الرسالةَ بأنَّه مبتدع، وهو تبديع بالجملة والعموم، ولا أدري هل علموا أو لم يعلموا أنَّه وزَّعها علماء وطلبة علم لا يُوصَفون ببدعة، وآملُ منهم تزويدي بالملاحظات التي بنوا عليها هذا التبديع العام إن وُجدت للنظر فيها.
وللشيخ عبد الرحمن السديس إمام وخطيب المسجد الحرام خطبة ألقاها من منبر المسجد الحرام حذَّر فيها من وقيعة أهل السنَّة بعضهم في بعض، نلفتُ الأنظارَ إليها؛ فإنَّها مهمَّة ومفيدة.
وأسأل الله عزَّ وجلَّ أن يوفِّق الجميعَ لِمَا يُرضيه وللفقه في الدِّين والثبات على الحقِّ، والاشتغال بما يعني عمَّا لا يعني، إنَّه وليَّ ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم وبارك على نبيِّنا محمد وعلى آله وصحبه.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وإذا كان النصح واجباً في المصالح الدينية الخاصة والعامة، مثل نقلة الحديث الذين يغلطون أو يكذبون، كما قال يحي بن سعيد سألت مالكا والثورى، والليث بن سعد أظنه، والأوزاعي عن الرجل يتهم في الحديث أو لا يحفظ، فقالوا بين أمره وقال بعضهم لأحمد ابن حنبل انه يثقل على أن أقول فلان كذا وفلان كذا فقال إذا سكت أنت وسكت أنا فمتى يعرف الجاهل الصحيح من السقيم.(1/316)
ومثل أئمة البدع من أهل المقالات المخالفة للكتاب والسنة أو العبادات المخالفة للكتاب والسنة فان بيان حالهم وتحذير الأمة منهم واجب باتفاق المسلمين حتى قيل لأحمد بن حنبل الرجل يصوم ويصلى ويعتكف أحب إليك أو يتكلم في أهل البدع فقال إذا قام وصلى واعتكف فإنما هو لنفسه وإذا تكلم في أهل البدع فإنما هو للمسلمين هذا أفضل فبين أن نفع هذا عام للمسلمين في دينهم من جنس الجهاد في سبيل الله إذ تطهير سبيل الله ودينه ومنهاجه وشرعته ودفع بغى هؤلاء وعدوانهم على ذلك واجب على الكفاية باتفاق المسلمين ولولا من يقيمه الله لدفع ضرر هؤلاء لفسد الدين وكان فساده أعظم من فساد استيلاء العدو من أهل الحرب فان هؤلاء إذا استولوا لم يفسدوا القلوب وما فيها من الدين إلا تبعا وأما أولئك فهم يفسدون القلوب ابتداء . (1)
وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم وذلك أن الله يقول في كتابه لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب فأخبر انه أنزل الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وانه أنزل الحديد كما ذكره فقوام الدين بالكتاب الهادي والسيف الناصر وكفى بربك هاديا ونصيرا والكتاب هو الأصل ولهذا أول ما بعث الله رسوله أنزل عليه الكتاب ومكث بمكة لم يأمره بالسيف حتى هاجر وصار له أعوان على الجهاد وأعداء الدين نوعان الكفار والمنافقون وقد أمر الله نبيه بجهاد الطائفتين في قوله جاهد الكفار والمنافقين وأغلظ عليهم في آيتين من القرآن، فإذا كان أقوام منافقون يبتدعون بدعا تخالف الكتاب ويلبسونها على الناس ولم تبين للناس فسد أمر الكتاب وبدل الدين كما فسد دين أهل الكتاب قبلنا بما وقع فيه من التبديل الذي لم ينكر على أهله.
__________
(1) مجموع الفتاوى (28/231-232).(1/317)
وإذا كان أقوام ليسوا منافقين لكنهم سماعون للمنافقين قد التبس عليهم أمرهم حتى ظنوا قولهم حقا وهو مخالف للكتاب وصاروا دعاة إلى بدع المنافقين كما قال تعالى لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم فلا بد أيضا من بيان حال هؤلاء بل الفتنة بحال هؤلاء أعظم فان فيهم إيمانا يوجب موالاتهم وقد دخلوا في بدع من بدع المنافقين التي تفسد الدين فلا بد من التحذير من تلك البدع وان اقتضى ذلك ذكرهم وتعيينهم بل ولو لم يكن قد تلقوا تلك البدعة عن منافق لكن قالوها ظانين أنها هدى وإنها خير وإنها دين ولم تكن كذلك لوجب بيان حالها ولهذا وجب بيان حال من يغلط في الحديث والرواية ومن يغلط في الرأي والفتيا ومن يغلط في الزهد والعبادة. (1)
ffffff
الفصل السادس
ومن تمام النصح وتكملة للفائدة ندعو الناس إلى اجتناب البدع المنكرة ونبذ كل إحداث في الدين وليس منه.
فهذه بعض الأمور تقع من بعض الناس تخالف ما كان عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد لا يعلمون إنهّا تعد من البدع ... وكذلك ننبه عن بعض الشركيات التي تقع من البعض وهم لا يعلمون أنها من الشرك فوجب التنبيه عليها ليكون المسلم الكريم على علم بها وليتجنبها .
كما قال الشاعر الحكيم :
عرفت الشر لا للشر لكن لتوقيه
ومن لا يعرف الخير من الشر يقع فيه .
وكما قال حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه - : "كان الناس يسألون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الخير، وكنت أسأل عن الشر مخافة أن يدر كني .
الابتداع في العقيدة .
1- "لا حول لله يارب". أو "لا حول الله يارب" .
انتشرت بين الناس كلمة لا حول لله يارب ، وهذه اللفظة حرام وقد تؤدي إلى الكفر والعياذ بالله ، وهم لا يعلمون، وتعني هذا الكلمة أن الله ليس له حول يعني أن الله عاجز ، تعالى الله .
__________
(1) مجموع الفتاوى (28/231-232).(1/318)
والصحيح أن يقول : "لا حول ولا قوة إلا بالله". وهي كنز من كنوز الجنة، كما أخبر بذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
2- "الله في كل مكان" أو "ما في غيرو".
كذلك ينتشر بين الناس كلمة "الله في كل مكان" أو "ما في غيرو" ، وهذا أيضاً حرام لأن هذه الكلمة تعني أن الله يحل في كل شيء حتى في النجاسات والعياذ بالله وتعالى الله عما يقولون علواً كبيراً ، ولكن الصحيح أن نقول أن الله معنا بعلمه وهو على عرشه فوق السماء السابعة ، وهذا هو مذهب أهل السنة والجماعة .
3- الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - عند حدوث بعض النعم .
كذلك ينتشر بين الناس أيضاً الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - عند حدوث بعض النعم أو رؤية بعض الأشياء كرؤية طفل جميل أو عودة التيار الكهربائي بعد انقطاعه مثلاً ، وهذا لا يجوز لأن الذي يصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم - عند رؤية بعض الأشياء لسان حاله يقول أن الذي خلق هذه الأشياء النبي - صلى الله عليه وسلم - ولكن الذي يأتي بهذه النعم هو الله سبحانه وتعالى وليس النبي - صلى الله عليه وسلم - .
والصحيح أن نقول عند حدوث هذه النعم : الحمد لله أو الحمد لله رب العالمين ، أو سبحان الله .
4- "الله أبو الكل" .
يصدر من بعض الناس كلمة [الله أبو الكل] وهذا خطأ وفيه تعدي على الله تعالى ، وهذه صفة نقص لا تنبغي لله تعالى ، حيث تعني هذه الكلمة أن لله أولاداً ونحن أولاده تعالى الله عن ذلك، حيث قال عن نفسه : { لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ } . وممكن أن تستبدل بقول: "الله رب الكل" .(1/319)
5- "الله وإيدك" .كذلك يقول بعض الناس لمن يعرض عليهم مساعدة أو إعانة : الله وإيدك أو الله وأنت، أو بالله وبيك، وهذا حرام لأن حرف الواو هذا هو واو الشراكة كأنك تقول الله وإيدك يعينوني أو يساعدوني، أو تقول داخل على الله وعليك ، فهذا كله حرام ويُعد من الألفاظ الشركية ، ولكن الصحيح أن تقول : الفضل لله وحده، أو الله ثم إيدك ، أو الله ثم أنت ، أو داخل على الله ثم عليك .
6- "شاءت الظروف أو شاءت الأقدار ".
يتفوه البعض وللأسف الشديد بكلمة محرمة شرعاً، وتُعد من الشرك اللفظي وهي: "شاءت الظروف" أو "شاءت الأقدار" وهذا حرام لأن الذي يشاء ويفعل هو الله تعالى وليس الظروف أو الأقدار ، يقول الله تعالى : { إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ } . (1)
والصحيح هو أن تقول: شاء الله، أو قدر الله ، أو قدر الله وما شاء فعل .
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: قوله: "شاءت الأقدار" و "شاءت الظروف" ألفاظ منكرة، لأن الظروف جمع ظرف وهو الأزمان، والزمن لا مشيئة له، وإنما الذي يشاء هو الله عزوجل، نعم لو قال إنسان : "اقتضى قدر الله كذا وكذا" فلا بأس به، أما المشيئة فلا يجوز أن تضاف للأقدار لأن المشيئة هي الإرادة، ولا إرادة للوصف ، وإنما الإرادة للموصوف.اهـ. (2)
7- تلطيخ البيت أو السيارة بالدم .
__________
(1) سورة القمر الآية (49) .
(2) ) ) السنن والبدع المتعلقة بالألفاظ والمفاهيم الخاطئة للشيخ ابن عثيمين (ص76) .(1/320)
يقوم بعض الناس عند شرائهم بيتاً، أو سيارة، أو ما شابه ذلك بذبح شاة وتلطيخ هذه الأشياء بدم الذبيحة اعتقاداً منهم بأن هذا الفعل يبعد العين عنها أو لا يحصل له شيء، وهذا حرام بل شرك لأن الذي يبعد العين ويحمي من الشر هو الله تعالى لأنه هو الذي خلق هذه الأشياء ، ويكون هذا الذبح لغير الله تعالى ولا يجوز الأكل منه ، والصحيح هو أن يذبح شاة لوجه الله تعالى شكراً له سبحانه على هذه النعمة التي منحها لك، دون تلطيخ هذه النعمة بالدم .
8- تسمية اليهود بـ (إسرائيل) .
كثير من الناس وللأسف الشديد يسمون اليهود بإسرائيل، حتى وصل الأمر بإطلاق السب والشتم على إسرائيل كأن يقولوا إسرائيل الخبيثة أو كذا من إسرائيل وهذا كله غير جائز لأن إسرائيل هو يعقوب عليه السلام والصحيح نسميهم كما سماهم الله تعالى بـ ((اليهود)).
9- قول : أعوذ بالله من كلمة أنا .
يقول البعض عند قوله (أنا) : أعوذ بالله من كلمة أنا، لأنهم يعتقدون أن إبليس هو الذي قال أنا، وهذا خطأ ولا أصل له، وهذه اللفظة ليس فيها شيء، وقد ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال كلمة أنا في أحاديث كثيرة، منها :
عن أنس - رضي الله عنه - ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "أنا أكثر الأنبياء تبعا يوم القيامة و أنا أول من يقرع باب الجنة". (1)
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "أنا أبو القاسم الله يعطي و أنا أقسم" . (2)
و عن رجل من الأنصار، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "أنا أتقاكم لله و أعلمكم بحدود الله" . (3)
وغيرها كثير ، وكذلك ثبتت هذه اللفظة عن الصحابة الكرام .
10 - قول : لا حياء في الدين .
__________
(1) رواه مسلم .
(2) صحيح الجامع حديث رقم (1447) .
(3) صحيح الجامع حديث رقم (1448) .(1/321)
كثير من الناس يتلفظ بكلمة : (لا حياء في الدين) عندما يريد السؤال عن أمور دينه أو عن غيره ، وهذا خطأ لأن هذه الكلمة تعني أن الدين ليس فيها حياء بل أن الحياء شعبة من شعب الإيمان كما بين ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، والصحيح أن نقول : "لا يمنع الحياء من التفقه في الدين" كما ورد في الحديث : "إن الله تعالى لا يستحي من الحق" . (1) .
و"رَحِمَ اللهُ نساءَ الأنصار كان لا يمنعهن الحياء أن يتفقهن في دين الله" .
11- قول : الله يظلم من ظلمك .
يقع من بعض الناس قول : الله يظلم من ظلمك عندما يسمع أن فلاناً من الناس ظُلم أو يقول الله يظلم من ظلمني عندما يُظلم، وهذا الكلام حرام ولا ينبغي لأن الله لا يظلم وهو منزهٌ عن الظلم سبحانه وتعالى .
قال الله تعالى : { وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً } . (2)
وعن أبي ذر - رضي الله عنه - ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما يروي عن ربه عز وجل أنه قال: "يا عبادي إني حَرمتُ الظلمَ على نفسي، وجعلته بينكم محرماً، فلا تظالموا" (3) .
والصحيح أن نقول : الله يأخذ حقي منك، أو حسبي الله ونعم الوكيل وما شابه ذلك .
12- قول : لا أرحمك ولا أجعل الله يرحمك ، أو لا أرحمك ولا أخلي رحمة الله تنزل عليك.
يتلفظ بعض الناس بقول محرم شرعا من حيث لا يشعر فيقول : لا أرحمك ولا أجعل الله يرحمك! وهذا محرم ولا يجوز لأن معنى هذا الكلام أن هذا العبد الضعيف ممكن أن يمنع الله تعالى من نزول رحمته على عبده!!! وهل لمخلوق أن يمنع الله تعالى من شيء؟! حاشا لله تعالى وهو على كل شيء قدير جل جلاله .
والصحيح أن ترشده إلى الصواب، وأن تمنع القائل من هذه الكلمة .
__________
(1) الحديث أخرجه النساني والبيهقي وتكملته : ((ولا تأوا النساء في أدبارهن))، أنظر صحيح الجامع برقم (1852) .
(2) سورة الكهف الآية (49) .
(3) رواه مسلم برقم (2577)، باب تحريم الظلم، ورواه الترمذي وابن ماجة.(1/322)
13- قول البعض : "الله يقول : اسع يا عبد وأنا أعينك" .
نسمع البعض يتفوه بكلام ليس عليه دليل لا من الكتاب ولا السنّة المطهرة، ومن ذلك قول البعض : اسع يا عبد وأنا أعينك وينسب هذا القول لله تعالى!! وهذا الكلام خطأ وتقول على ما لم يقل، فهذا الكلام لا هي آية ولا حديث فمن أين جاءوا به؟!! .
والصحيح أن تعالى يقول: { هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15) } . (1)
14- الحلف بالنبي - صلى الله عليه وسلم - .
الحلف بالنبي - صلى الله عليه وسلم - أو بأي مخلوق حرام وهو من الشرك القولي وقد نهانا النبي - صلى الله عليه وسلم - من الحلف بغير الله تعالى ، ومن ذلك الحلف بالحياة، كأن يقول: (وحياتك) أو (وحياة فلان) وغير ذلك من الحلف بغير الله، أو بالأب كأن يقول وأبي وما شابه ذلك .
فعن ابن عمر رضي الله عنهما: أنه أدرك عمر بن الخطاب في ركب وهو يحلف بأبيه فناداهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: "ألا إن الله تعالى ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم فمن كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت". (2)
ومن حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك كما جاء عن ابن عمر رضي الله عنهما، روى الترمذي: "أن ابن عمر سمع رجلاً يقول: لا والكعبة. فقال ابن عمر: لا يُحلف بغير الله فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك". (3)
وعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: "لأن أحلف بالله كاذباً أحبُّ إليَّ من أن أحلف بغيره وأنا صادق". (4)
__________
(1) سورة الملك .
(2) رواه البخاري في كتاب الأدب برقم (6108)، ومسلم في كتاب الأيمان برقم (1646).
(3) رواه أحمد برقم (6036)، والترمذي برقم (1535) وقال: حديث حسن ، وأبو داود برقم (3251)، والحاكم، وصححه الألباني في صحيح برقم (6204) .
(4) صحيح الترغيب رقم (2953).(1/323)
15- الحلف بالأمانة .
كذلك يكثر بين الناس الحلف بالأمانة، وقد ثبت النهي عن الحلف بالأمانة: فعن بريدة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " من حلف بالأمانة فليس منا". (1)
16- تعليق التمائم والحروز.
تعليق التمائم حرام سواء وضعها على الصدر، أو في اليد، أو علقها في محل العمل، أو السيارة، أو البيت، ومنهم من يعلق قدم الفرس أو النعال وما شابه ذلك، فهذا كله حرام وهو من الشرك .
فعن عقبة بن عامر: أنه جاء ركب عشرة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فبايع تسعة، وأمسك عن رجل منهم، فقالوا: ما شأنه؟ فقال: "إن في عضده تميمة"، فقطع الرجل التميمة، فبايعه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم قال: "من علّق فقد أشرك". (2)
وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - : أنه دخل على امرأته وفي عنقها شيء معقود، فجذبه فقطّعه، ثم قال: لقد أصبح آل عبد الله أغنياء أن يشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا، ثم قال: سمعت رسول لله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إن الرقي والتمائم والتولة شرك".
قالوا: يا أبا عبد الرحمن! هذه الرقي والتمائم قد عرفناهما، فما التولة؟ قال: شيءٌ تصنعه النساء يتحبّبن
إلى أزواجهن". (3)
التولة: بكسر التاء وبفتح الواو: شيء شبيه بالسحر أو من أنواعه، تفعله المرأة ليحبِّبها إلى زوجها.
وعن عيسى بن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: دخلت على عبد الله بن حكيم أبي معبد الجهني نعوده وبه حمرةٌ، فقلت: ألا تعلِّق شيئا؟ فقال: الموت أقرب من ذلك، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "من تعلَّق شيئا وكل إليه".
__________
(1) رواه أبو داود برقم (3253) واللفظ له، ورواه أحمد برقم (22471)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود، وصحيح الجامع برقم (5436) ورقم (6203).
(2) صحيح الترغيب (3455).
(3) صحيح الترغيب (3457).(1/324)
ورواه الترمذي إلا أنه قال: فقلنا: ألا تعلّق شيئا؟ فقال: الموت أقرب من ذلك. (1)
قال الخطابي: التميمة: يقال إنها خرزة كانوا يعلقونها، يرون أنها ترفع عنهم الآفات، واعتقاد هذا الرأي جهل وضلالة، إذ لا مانع إلا الله، ولا دافع غيره. أ.هـ (2)
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله : الصحيح أن تعليق التمائم ولو من القرآن ومن الأحاديث النبوية أنه محرم، وذلك لأنه لم يرد عن النبي عليه الصلاة والسلام وكل شيء لم يرد عن الرسول عليه الصلاة والسلام فيما يتخذ سبباً فإنه لاغ غير معتبر لأن مسبب الأسباب هو الله عزوجل إذا لم نعلم هذا السبب لا من جهة الشرع ولا من جهة التجارب والحس والواقع فإنه لا يجوز أن نعتقده سبباً، فالتمائم على القول الراجح محرمة، سواء كانت من القرآن أو من غير القرآن، وإذا أصيب الإنسان بشيء فليتخذ أحداً يقرأ عليه كما كان جبريل عليه السلام يرقي النبي عليه الصلاة والسلام ، وكان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يرقي أصحابه أيضاً ، وهذا هو المشروع .اهـ. (3)
وكذلك لا يجوز تعليق التمائم والحروز على الحيوانات .
فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لا تصحب الملائكة رفقة فيها كلب و لا جرس" . (4)
قال المناوي: "قال ابن العربي المالكي: لا يجوز بحال لأنها أصوات الباطل وشعار الكفار اهـ .
وذكر الرفقة في الحديث غالبي فلو سافر وحده كره له صحبة الجرس والكلب لوجود المعنى ولا يختص الحكم بجرس الإبل والخيل والبغال والحمر كذلك بل وعنق الرجل كما ذكره الزين العراقي". فيض القدير . وعن ابن عمر: "لا تصحب الملائكة رفقة فيها جلجل" . (5)
__________
(1) صحيح الترغيب (3456).
(2) صحيح الترغيب (3/348).
(3) فتاوى إسلامية (1/95) الشيخ ابن عثيمين .
(4) رواه مسلم برقم (2113)، باب كراهة الكلب والجرس في السفر .
(5) صحيح الجامع حديث رقم (7343) .(1/325)
وعن أم حبيبة: "لا تصحب الملائكة رفقة فيها جرس" . (1)
وسئل الشيخ ابن جبرين هل وضع الحروز والتمائم للحيوانات بدعة: فقال : نعم بدعة ووسيلة إلى الشرك لقوله:"لا تبقين في رقبة بعير قلادة من وتر إلا قطعت" (2)
ولقوله: "من علق ودعة فلا ودع الله له ومن علق تميمة فلا تمم الله له". (3)
وقوله:"من تعلق شيئا وكل إليه". (4)
وقوله:"من علق تميمة فقد أشرك". (5)
فهذه أدلة تدل على أن الحروز التي تعلق في الرقاب على الدواب لاعتقاد أنها تدفع الضرر أوترفعه فهي حرام لأنها شرك أووسيلة من وسائله.والله أعلم. (6)
17- صب الماء عند السفر .
نلاحظ أن بعض النساء يقمن بصب الماء عند سفر ولدها أو أحد أقربائها ظناً منها أن هذا الفعل يحميه من كل مكروه يحصل له في السفر حتى يرجع! وهذا خطأ وربما يخدش في العقيدة لأن الحافظ هو الله تعالى وهو الذي يقدر الأمور فيجب علينا أن لا نشرك به شيئاً .
والصحيح هو أن تقوم هذه المرأة بتوديع ولدها أو قريبها كما علمنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وثبت ذلك عنه في السنّة المطهرة : "استودع الله دينكم وأمانتكم وخواتيم أعمالكم" . (7)
18- قولهم : عمر بن عبد العزيز خامس الخلفاء .
__________
(1) صحيح الجامع حديث رقم (7342) .
(2) الحديث عن أبي بشير رواه البخاري برقم(3005)، ومسلم برقم(2115)
(3) رواه أحمد وابن حبان والحاكم في المستدرك، ضعفه الألباني في ضعيف الجامع برقم (5703) .
(4) صحيح الجامع برقم(6394)،وصحيح سنن الترمذي برقم(1691).
(5) صحيح الجامع. حديث رقم (6394)، والصحيحة برقم(492).
(6) البدع والمحدثات وما لا أصل له (ص417) .
(7) رواه أبو داود والحاكم ، وكذا النسائي في اليوم والليلة، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (4657) .(1/326)
كثير من الناس الخواص منهم والعوام عندما يذكرون الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى ورضي عنه يقولون خامس الخلفاء وهذا خطأ وفيه ظلم لبعض الصحابة رضوان الله عليهم وذلك لسببين : أما الأول : خامس الخلفاء هو الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما فإذا قلنا عمر بن عبد العزيز الخليفة الخامس أسقطنا خلافة الحسن والخليفة السادس هو معاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنه - .
ثانياً هذه المقولة أتتنا في الحقيقة من الشيعة الروافض لأنهم بقولهم عمر خامس الخلفاء يطعنون بخلافة الحسن وخلافة معاوية ويعتبرون خلافتهما ظلماً وعدواناً وغير شرعية !! فنحن بقولنا عمر خامس الخلفاء نوافقهم من حيث لا نشعر ولا نقصد فنريد مع سلامة النوايا سلامة الأقوال والله أعلم .
19- الاحتفال بعيد رأس السنة .
كثير من المسلمين نراهم يحتفلون مع النصارى بما يسمى بعيد رأس السنة الميلادية ، بل يهنئ بعضهم البعض !، ظنا منهم أن ذلك جائز وما علموا أنهم وقعوا في أمر محظور شرعا ، لأن مجرد تهنئتهم على ما يفعلونه فهذا بمثابة إقرار لهم على ما يفعلون .
وهذا لا يجوز لسببين : أما الأول : أن في الإسلام عيدين فقط، عيد الفطر ، وعيد الأضحى، فلا يجوز إبتداع عيد آخر ، ولم يرد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنه فعله ولا صحابته الكرام رضوان الله عليهم ، والسبب الثاني : أن عيد رأس السنة هو عيد النصارى فهم يحتفلون به، وهو من أكبر شعائر دينهم دين الصليب فكيف نحتفل معهم بهذا العيد ؟!!! (فَلْيُتَنَبَّه) .
20- الأكل والشرب على الجرائد والمجلات .(1/327)
من الغريب أننا نرى بعض أخواننا المسلمين يأكلون ويشربون على الجرائد والمجلات وهذه الجرائد والمجلات تحتوي على أسم الله تعالى كأن يكون فيها بسم الله، أو عبد الرحمن ، أو عبد الله وما شابه ذلك ، أو يكون فيها آية أو حديث شريف . بل ويقوم البعض بمسح الزجاج أو غيره بهذا الجرائد ، وهذا كله لا يجوز لأن فيه إهانة لأِسم الله سبحانه وتعالى ، وبعد فراغهم من استعمالهم لها يلقونها في حاويات القمامة فهل هذا يليق بأسماء الله وعظيم سلطانه ؟!!!
21- قول البعض : ما صدقت على الله .
عندما يحصل بعض الناس على ما يريد يقول : ما صدقت على الله أن أحصلها أو تكون لي أو ما شابه ذلك، وهذا اللفظ خطأ، تعني هذه الكلمة أني ما صدقت أن الله يفعل كذا لِلَّهِ فهذا لا يكون في حق الله تعالى لأن الله على كل شيء قدير .
أما إذا كان لا يقصد ذلك ويقصد أنه ما صدقت يقع في ذهني ذلك فلا بأس بها مع أن تركها أولى لكي لا يفهم منها، ولو تقول بدلها: ما صدقت أن فلان يفعل لي كذا تكون أهون .
ولكن الصحيح تقول: الحمد لله على هذه النعمة ، أو تشكر الله على كل ما يعطيك.
وسئل الشيخ ابن عثيمين عن عبارة: "ما صدقت على الله أن يكون كذا وكذا"؟
فأجاب بقوله: يقول الناس ما صدقت على الله أن يكون كذا وكذا، ويعنون ما توقعت وما ظننت أن يكون هكذا، وليس المعنى ما صدقت أن الله يفعل لعجزه عنه مثلاً، فالمعنى أنه ما كان يقع هذا الأمر، هذا المراد بهذا التعبير، فالمعنى إذن صحيح لكن اللفظ فيه إيهام، وعلى هذا يكون تجنب هذا اللفظ أحسن لأنه موهم، ولكن التحريم صعب أن نقول حرام مع وضوح المعنى وأنه لا يقصد به إلا ذلك. اهـ. (1)
22- تسمية ملك الموت بـ (عزرائيل) .
__________
(1) ) ) السنن والبدع المتعلقة بالألفاظ والمفاهيم الخاطئة للشيخ ابن عثيمين (ص15-16) .(1/328)
من الناس من يسمي ملك الموت عليه السلام بعزرائيل ، وهذا غير صحيح ولم يرد في كتاب الله تعالى ولا في سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . والصحيح أن اسمه هو ملك الموت عليه السلام، كما قال الله تعالى في كتابه الكريم { قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (11) } . (1)
23- كل الطرق تؤدي إلى روما .
بعض الناس يتلفظ بقول لا يعلم معناه ولا خطره مثل قول "كل الطرق تؤدي إلى روما"، هذا القول خطأ وهي مقولة نصرانية تبشيرية، معناه أن الإنسان من أي طريق يذهب مصيره إلى روما، أي يتنصر ويكون نصرانيا .
فعلى المسلم أن يتحرز من كلامه ويتأكد منه قبل أن ينطقه ويتلفظ به ، وفقنا الله وإياكم لإتباع السنة الصحيحة وعمل الخير .
24- الوقوف تعظيماً لأي سلام أو علم .
لا يجوز الوقوف تعظيماً لأي سلام كان أو علم كما يحصل في كثير من البلدان وخاصة في المدارس، وهذه الأمور من البدع المنكرة المنافية لكمال التوحيد .
قالت اللجنة الدائمة: لا يجوز للمسلم القيام إعظاماً لأي علم وطني أو سلام وطني بل هو من البدع المنكرة التي لم تكن في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا في عهد خلفائه الراشدين رضي الله عنهم وهي منافية لكمال العقيدة الواجب وإخلاص التعظيم لله وحده، وذريعة إلى الشرك، وفيها مشابهة للكفار وتقليد لهم في عاداتهم القبيحة ومجاراة لهم في غلوهم في رؤسائهم ومراسيمهم وقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن مشابهتهم أو التشبه بهم . وبالله التوفيق، وصلى الله على نبيا محمد وآله وصحبه وسلم . (2)
25- الوقوف مع الصمت تحية للشهداء أو الوجهاء ونحوهم .
كذلك لا يجوز الوقوف مع الصمت كتحية للشهداء أو غيره، كما لا يجوز الوقوف تعظيماً لأي شخص كان سواء كان من الوجهاء أو غيره.
__________
(1) ) ) سورة السجدة الآية (11) .
(2) )) اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء فتوى رقم (2123) .(1/329)
وفي سؤال للجنة الدائمة ونصه: يذكر لنا أن هيئة الأمم المتحدة لما علمت بخبر موت رئيس دولة عضو في هيئة الأمم ظلوا واقفين ساعة كاملة حزناً على المقتول، فما رأيكم في ذلك؟
جواب: ما يفعله بعض الناس من الوقوف زمناً مع الصمت تحية للشهداء أو الوجهاء أو تشريفاً وتكريماً لأرواحهم من المنكرات والبدع المحدثة التي لم تكن في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا في عهد أصحابه ولا السلف الصالح ولا تتفق مع آداب التوحيد ولا إخلاص التعظيم لله بل اتبع فيها بعض جهلة المسلمين بدينهم من ابتدعها من الكفار وقلدوهم في عاداتهم القبيحة وغلوهم في رؤسائهم ووجهائهم أحياءً وأمواتاً وقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن مشابهتهم .
والذي عرف في الإسلام من حقوق أهله الدعاء لأموات المسلمين والصدقة عنهم وذكر محاسنهم والكف عن مساويهم .. إلى كثير من الآداب التي بينها الإسلام وحث المسلم على مراعاتها مع إخوانه أحياءً وأمواتاً وليس منها الوقوف حداداً مع الصمت تحية للشهداء أو الوجهاء بل هذا مما تأباه أصول الإسلام .اهـ. (1)
27 - محبة القيام .
كما أنه لا يجوز لأحد أن يحب أن يتمثل له الناس قياماً، وقد ورد الوعيد الشديد في ذلك.فعن معاوية - رضي الله عنه - ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "من أحب أن يتمثل له الرجال قياما فليتبوأ مقعده من النار" . (2)
قال النووي: ومعنى الحديث زجر المكلف أن يحب قيام الناس له ولا تعرض فيه للقيام بنهي ولا بغيره والمنهي عنه محبة القيام له فلو لم يخطر بباله فقاموا له أو لم يقوموا فلا لوم عليه وإن أحبه أثم قاموا أو لا فلا يصح الاحتجاج به لترك القيام ولا يناقضه ندب القيام لأهل الكمال ونحوهم. اهـ.
28 - الكتابة على البراويز (لفظ الجلالة (الله) وبجانبها لفظة (محمد) - صلى الله عليه وسلم - .
__________
(1) ) ) فتاوى إسلامية (2/49) اللجنة الدائمة .
(2) ) ) صحيح الجامع حديث رقم (5957) .(1/330)
كثيراً ما نجد على الجدران برواز وفيه لفظ الجلالة وبجانبها لفظة محمد - صلى الله عليه وسلم - وهذا لا يجوز لأنه جعل محمداً - صلى الله عليه وسلم - نداً لله تعالى ومساوياً له، وجعل المخلوق نداً للخالق تبارك وتعالى .
وسئل الشيخ ابن عثيمين عن هذا فأجاب بقوله: موضعها ليس بصحيح لأن هذا يجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - نداً لله مساوياً له، ولو أن أحداً رأى هذه الكتابة وهو لا يدري من المسمى بهما لأيقن أنهما متساويان متماثلان، فيجب إزالة اسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويبقى النظر في كتابة ((الله)) وحدها، فإنها كلمة يقولها الصوفية ويجعلونها بدلاً عن الذكر، يقولون: "الله الله الله"، وعلى هذه فتلغى أيضاً، فلا يكتب ((الله))، ولا ((محمد)) على الجدران، ولا في الرقاع ولا في غيره . (1)
29 استقبال القبر في الصلاة أو الدعاء مع استدبار الكعبة!
من المعلوم من الدين بالضرورة أن الدعاء لا يكون إلا لله والاستغاثة لا تكون إلا بالله سبحانه وتعالى، والدعاء هو طلب من الله تعالى لقضاء الحوائج فلا يكون ذلك الطلب إلا من الله تعالى .ومع ذلك نرى بعض الناس هداهم الله يستقبلون القبر ويستدبرون الكعبة بحيث يكون القبر أمامه والكعبة خلف ظهره ويدعوا الأموات من الأنبياء والصالحين وغيرهم، وهذا فعل شنيع ومذموم ويؤدي للكفر والخروج من الملة إن اعتقد ذلك والعياذ بالله.
والصحيح عدم استقبال القبر ولا الدعاء عنده بل القبور تزار فقط للعبرة والسلام على أهلها والدعاء لهم، كما ثبت ذلك في السنة المطهرة .
30 - إلصاق البطن أو الظهر بجدار القبر الشريف أو التمسح به.
__________
(1) ) ) السنن والبدع المتعلقة بالألفاظ والمفاهيم الخاطئة للشيخ ابن عثيمين (ص44).(1/331)
كذلك إلصاق البطن أو الظهر بجدار القبر أو التمسح به لا يجوز، بل هو جهل وضلال، وهذا كله من الأمور التي حذر منها الشارع الحكيم أشد التحذير، والشافي هو الله، والرازق هو الله سبحانه، والذي يقضي الحوائج هو الله تعالى، فالله جل في علاه هو رب السموات والأرض وهو المدبر لها، وكل الخلق فقراء له .
31 - إرسال الرقاع فيها الحوائج إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - .
من الناس من يكتب على ورقة بعض الأمور من الرزق أو الشفاء وما شابه ذلك ويرسلها إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ويرميها على قبره!، فليعلم كل من يعمل هذا العمل بأنه شرك وجهل وضلال، وهو مخالف لكتاب الله تعالى وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - حيث أن هذه الأمور لا يقدر عليها إلا رب السموات والأرض فهو الرازق وهو الشافي وهو القادر سبحانه وتعالى ، كما ذكرنا آنفاً .
15- النهي عن الحلف بغير الله تعالى
عن ابن عمر رضي الله عنهما: أنه أدرك عمر بن الخطاب في ركبٍ وهو يحلف بأبيه فناداهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: "ألا إن الله تعالى ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم فمن كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت". (1) ومن حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك كما جاء عن ابن عمر رضي الله عنهما، روى الترمذي: "أن ابن عمر سمع رجلاً يقول: لا والكعبة. فقال ابن عمر: لا يُحلف بغير الله فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك". (2)
ومنه الحلف بملة غير ملة الاسلام
__________
(1) رواه البخاري في كتاب الأدب برقم (6108)، ومسلم في كتاب الأيمان برقم (1646).
(2) رواه الترمذي برقم (1535)، وأحمد برقم(6036)، وأبو داودبرقم (3251)، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (6204) .(1/332)
فعن ثابت بن الضحاك - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "من حلف بملةٍ غير الاسلام كاذباً فهو كما قال". (1)
ومنه الحلف بالطلاق: لقد شاع على ألسنة بعض الناس الحلف بالطلاق، مثل أن يقول: علي الطلاق لأفعلن كذا، أو علي الطلاق ثلاثاً لا أفعله ونحو ذلك.
قال الشيخ ابن عثيمين في جواب له: أما أن يحلفوا بالطلاق مثل عليّ الطلاق أن تفعل كذا، أو علي الطلاق ألا تفعل كذا، أو أن فعلت كذا فامرأتي طالق، أو إن لم تفعل فامرأتي طالق، وما أشبه ذلك من الصيغ فإن هذا خلاف ما أرشد إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وقد قال كثير من أهل العلم بل أكثر أهل العلم: إنه إذا حنث في ذلك فإن الطلاق يلزمه وتطلق منه امرأته، وإن كان القول الراجح أن الطلاق إذا استعمل استعمال اليمين بأن كان القصد منه الحث على الشيء أو المنع منه أو التصديق أو التكذيب أو التوكيد، فإن حكمه حكم اليمين لقول الله تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1) قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ } . (2)
فجعل الله التحريم يميناَ، ولقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى" وهذا لم ينو الطلاق إنما نوى اليمين أو نوى معنى اليمين، فإذا حنث فإنه يجزيه كفارة يمين، وهذا هو القول الراجح. (3) أ.هـ
ومنه الحلف بالأمانة: فعن بريدة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "من حلف بالأمانة فليس منا". (4)
__________
(1) رواه البخاري في كتاب الأيمان برقم (6552)، ومسلم في كتاب الإيمان برقم (110).
(2) سورة التحريم الآية (1-2).
(3) فتاوى الشيخ ابن عثيمين (2/796).
(4) رواه أحمد برقم(22471)،وأبو داود برقم (3253)،وصححه الألباني في سنن أبي داود(3253)(1/333)
ومن ذلك الحلف بالنبي، وبالحياة،كأن يقول: (وحياتك) أو (وحياة فلان) وغير ذلك من الحلف بغير الله.
وعن بريدة - رضي الله عنه - قال، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "من حلف فقال: إني برئ من الإسلام، فإن كان كاذباً فهو كما قال، وإن كان صادقاً فلن يرجع إلى الاسلام سالماً". (1)
وعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: "لأن أحلف بالله كاذباً أحبُّ إليَّ من أن أحلف بغيره وأنا صادق". (2)
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من حلف على يمين فهو كما حلف، إن قال: هو يهودي فهو يهودي، وإن قال: هو نصراني، فهو نصراني، وإن قال: هو برئ من الاسلام، فهو برئٌ من الإسلام، ومن دعى دعاء الجاهلية، فإنّه من جثا جهنم" قالوا: يا رسول الله! وإن صام وصلى؟ قال: "وإن صام وصلى". (3)
جثا : جمع جثوة بالضم : وهو الشيء المجموع.
- - -
الابتداع في الطهارة .
1- "كلمة زمزم للمتوضئ ".
نجد بعض الناس عندما يرون شخصاً ما يتوضأ يقولون له : "زمزم" أو من زمزم . وهو يرد عليهم جمعاً .
وهذه بدعةٌ أماتت سنة ، بدل من أن يسلم عليه ويتبع في ذلك السنة والتي هي إفشاء السلام ويؤجر على ذلك وهم بدورهم يردون عليه السلام، ليؤجروا، فحرم نفسه من الأجر العظيم في طرحه السلام وحرم هؤلاء من الأجر كذلك عند ردهم السلام .
2- التلفظ بالنية .
يتلفظ البعض بالنية عند الوضوء كما يتلفظ بالنية في الصلاة، وهذا خطأ بل النية محلها القلب
النية ركن في العبادات وبدونها يبطل العمل، ولكن النية تكون في القلب ولا يجوز التلفظ بها، قال ابن قدامة رحمه الله: "فإن النية محلها القلب والله عالم بها". (4)
وهكذا في كل العبادات التي يُتَعَبَد اللهُ تعالى بها .
__________
(1) صحيح الترغيب رقم (2955).
(2) صحيح الترغيب رقم (2953).
(3) صحيح الترغيب (2956).
(4) ) ) المغني (3/131) .(1/334)
وسئل الشيخ ابن باز عن حكم التلفظ بالنية في الصلاة والوضوء والطواف والسعي؟
فأجاب رحمه الله: حكم ذلك أنه بدعة لأنه لم ينقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا عن أصحابه، فوجب تركه، والنية محلها القلب فلا حاجة مطلقا إلى التلفظ بالنية والله ولي التوفيق. (1)
3- الأذكار أثناء الوضوء .
البعض يتلفظ بأذكار أثناء الوضوء كأن يقول : اللهم اجعل في قلبي نورا ومن فوقي نورا، وما شابه ذلك ، وهذا خطأ وليس عليه من دليل من الكتاب والسنة . قال ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى: وأما الأذكار التي يقولها العامة عند كل وضوء فلا أصل لها عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ولا عن أحد من الصحابة والتابعين، ولا الأئمة الأربعة،وفيها حديث كذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أهـ (2)
4- عدم غسل اليدين في الوضوء بصورة صحيحة.
يقوم بعض المصلين عند الوضوء بغسل اليدين دون الكفين فيقوم بغسل الساعد مع المرفق ويظن أن هذا هو الوضوء الصحيح ظناً منه أن الكفين قد غسلهما عند البدء في الوضوء، وهذا خطأ لأن غسل الكفين في البدء سنّة ، ولا يجزئ غسلهما في البدء، لأن الله تعالى يقول : { فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ } . (3) فيجب غسلهما لأنهما داخلتان في مسمى اليدين، واليدان هما الكفان، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - عندما يقطع يد السارق يقطع الكف ، وكذلك عندما علمنا النبي - صلى الله عليه وسلم - الوضوء غسل الكفين .
وكذلك يجب غسل نهاية المرفقين من الخلف بصورة صحيحة فإنها منطقة غير مرئية وهي خشنة لا يتخللها الماء بسهولة .
__________
(1) ) ) كتاب الدعوة الشيخ ابن باز (1/51) .
(2) ) ) الوابل الصيب .
(3) ) ) سورة المائدة الآية (6) .(1/335)
قال القرطبي : اتفق العلماء على أن غسل اليدين والذراعين من فروض الوضوء لقوله تعالى وأيديكم إلى المرافق واختلفوا في إدخال المرافق فيها فذهب الجمهور ومالك والشافعي وأبو حنيفة إلى وجوب إدخالها . (1)
فالصحيح هو عندما يقوم بغسل اليدين يبدأ بالكفين مع المرفقين .
5- "مسح الرقبة في الوضوء" .
بعض المصلين يمسح رقبته في الوضوء وهذا غير وارد لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يفعلهُ ولم يأمر به ولا فعله صحابته الكرام . ويفعَلْهُ الأحناف ولكن ليس عليه دليل صحيح من السنة المطهرة .
وسئل شيخ الإسلام ابن تيمية هل صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه مسح على عنقه في الوضوء، أو أحد من الصحابة رضي الله عنهم؟.
فأجاب: لم يصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه مسح على عنقه في الوضوء، بل ولا روي عنه ذلك في حديث صحيح، بل الأحاديث الصحيحة التي فيها صفة وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يمسح على عنقه؛ ولهذا لم يستحب ذلك جمهور العلماء كمالك والشافعي وأحمد في ظاهر مذهبهم، ومن استحبه فاعتمد فيه على أثر يروى عن أبي هريرة رضي الله عنه، أو حديث يضعف نقله: "أنه مسح رأسه حتى بلغ القذال"، ومثل ذلك لا يصلح عمدة، ولا يعارض ما دلت عليه الأحاديث، ومن ترك مسح العنق فوضوؤه صحيح باتفاق العلماء. والله أعلم. اهـ. (2)
6- ترك المضمضة والاستنشاق في الغسل .
من الناس من يغتسل غسل جنابة أو غسل جمعة ولا يتمضمض ولا يسنتشق ويقول أنا متوضئ لأنني نويت الوضوء ويصلي! وهذا خطأ لأن المضمضة والاستنشاق من واجبات الوضوء وبدونهما يكون الوضوء ناقص وغير صحيح .
والصحيح هو أن ينوي الوضوء ويقوم بالمضمضة والاستنشاق .
7- ترك المسح على الخف والجورب المخرق .
__________
(1) ) ) بداية المجتهد (1/8) .
(2) ) ) مجموع الفتاوى (21/122) .(1/336)
من الناس من يعتقد عدم جواز المسح على الجورب أو الخف التي يكون فيه ثقوب أو شقوق، وهذا غير صحيح بل الصحيح هو المسح عليهما، وهذا الذي عليه السلف الصالح .
قال الإمام سفيان الثوري : امسح عليها ما تعلقت به رجلك، وهل كانت خفاف المهاجرين والأنصار إلا مخرقة مشققة، مرقعة. (1)
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: ويجوز المسح على اللفائف في أحد الوجهين، حكاه ابن تميم وغيره، وعلى الخف المخرق ما دام اسمه باقياً، والمشي فيه ممكن، وهو قديم الشافعي، واختيار أبي البركات وغيره من العلماء . (2)
الابتداع في الصلاة .
1- قراءة القرآن أو التسابيح وما شابه ذلك قبل الأذان.
لا ينبغي قراءة القرآن الكريم ولا شي من التسبيح أو التهليل وغيره قبل الأذان من قبل المؤذن كما يفعله البعض، وهو من البدع لأنه لم يرد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ولم يفعله أحد من صحابته الكرام، ولا أحد من السلف الصالح رضوان الله عليهم .
والصحيح هو أن يتلفظ بألفاظ الأذان فقط ولا يزيد عليه، كما كان بلال، وابن أم مكتوم وغيرهم من المؤذنين رضي الله عنهم في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يؤذنون بدون زيادة لا قبل ولا بعد الأذان .
2- الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - في السماعة بعد الأذان
__________
(1) ) ) مصنف عبد الرزاق (1/194) برقم (753) .
(2) ) ) الاختيارات العلمية (4/390)، نقلا عن كتاب السنن والمبتدعات (ص52).(1/337)
نسمع بعض المؤذنين بعد أن ينتهوا من الأذان يصلون على النبي - صلى الله عليه وسلم - في السماعة وهذا خلاف ما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم - وخلاف ما علمه - صلى الله عليه وسلم - لبلال - رضي الله عنه - ، وبلال ومن معه من المؤذنين في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن بعدهم لم يفعلوا ذلك، كما أسلفنا، بل النبي - صلى الله عليه وسلم - قال للسامعين عند انتهاء الأذان ثم صلوا علي، فالصلاة والسلام عليه - صلى الله عليه وسلم - بعد الانتهاء من الأذان للسامعين ويكون في أنفسهم دون الجهر بصوت عالٍ ، ودليل ذلك حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث قال : "إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ثم صلوا علي فإنه من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشراً ثم سلوا الله لي الوسيلة فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله وأرجو أن أكون أنا هو فمن سأل الله لي الوسيلة حلت له شفاعتي". (1)
فالخطاب للجميع وليس فقط للمؤذن .
3- مسح العينين عند الأذان .
يقوم بعض الناس بتقبيل الإبهامين ثم يمسح بهما العينين عند سماعهم المؤذن لاعتقادهم أن هذا الفعل يطهر العيون وهذه بدعة ليس عليها دليل لا من الكتاب ولا السنة ولا فعل السلف الصالح رضوان الله عليهم .
والصحيح هو الترديد فقط مع المؤذن كما ثبت ذلك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
فعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - : "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عَرَّسَ ذات ليلة، فأذَّن بلال فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "من قال مثل مقالته وشهد مثل شهادته فله الجنة". (2)
__________
(1) رواه مسلم في كتاب الصلاة برقم (847). والحديث عن عبد الله بن عمرو .
(2) رواه أبو يعلى عن أنس، وحسنه الشيخ الألباني في صحيح الترغيب برقم (248).(1/338)
وكذلك صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "من قال حين يسمعُ المؤذن: وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأن محمداً عبدُهُ ورسولهُ ، رضيت بالله رباً ، وبمحمدٍ - صلى الله عليه وسلم - رسولاً ، وبالإسلام ديناً ، غُفِرَ لَهُ ذَنبُهُ" (1) .
وفي رواية لمسلم : "غُفِرَ له ما تقدم من ذنبه". (2)
4- قول الإمام "صلوا صلاة مودع" عند تسوية الصفوف، أو يقول : تزاحموا تراحموا.
بعض الأئمة إذا أقيمت الصلاة ينظر في الصف ويقول: "صلوا صلاة مودع"، أو يقول: تزاحموا تراحموا، وهذا من الخطأ الذي يقع فيه بعض أئمة المساجد ولم يرد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه فعل ذلك .
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: لم يرد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يقول للناس عند تسوية الصف "صلوا صلاة مودع" بل كان يأمرهم أن يستووا وأن يقيموا صفوفهم ويبين لهم أن تسوية الصف من تمام الصلاة، وأما "صلوا صلاة مودع" فلم ترد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، لكن وردت عن بعض العلماء فيما كتبوا أنه ينبغي للإنسان أن يتقن صلاته حتى كأنه يصلي صلاة مودع، لأن من يصلي صلاة مودع سوف يتقنها إذ أنه لا يدري هل يعود للصلاة مرة أخرى أو لا يعود، وأما أن يقولها الإمام فهذا من البدع وننصح الأئمة بعدم ذكر هذا القول لأنه من البدع . (3)
5- قول: "أقامها وأدامها" .
عند قول المؤذن في إقامة الصلاة : قد قامت الصلاة ، نسمع البعض يقول : أقامها الله وأدامها ، وهذا الفعل بدعة محدثة ولا دليل عليها .
والصحيح أن يقول كما يقول المؤذن في الأذان والإقامة لأن الإقامة أذان . كما أفتى بذلك بعض العلماء .
6- سدل اليدين في الصلاة .
__________
(1) رواه مسلم في كتاب الصلاة برقم (849). والحديث عن سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - .
(2) رواه مسلم في كتاب الصلاة برقم (849).
(3) اللقاء الشهري (19/27) الشيخ ابن عثيمين .(1/339)
بعض المصلين عندما يصلي يسدل يديه ولا يتكتف وهذا خلاف السنة الواردة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
بوب البخاري باب وضع اليمنى على اليسرى.
ثم ساق حديث عن مالك، عن أبي حازم، عن سهل بن سعد قال: "كان الناس يؤمرون أن يضع الرجل اليد اليمنى على ذراعه اليسرى في الصلاة ".
قال أبو حازم:لا أعلمه إلا ينمي ذلك إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - . (1)
7- وضع اليدين على السرة أو تحتها .
نشاهد بعض المصلين من يضع يديه على سرته أو تحتها وهذا خلاف المسنون عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حيث كان - صلى الله عليه وسلم - يضع يده اليمنى على اليسرى على صدره .
فعن وائل بن حجر - رضي الله عنه - قال: "صليت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فوضع يده اليمنى على يده اليسرى على صدره" . (2)
8- المصافحة بعد انتهاء الصلاة، وقو ل تقبل الله
نرى بعض المصلين يصافح الذي بجانبه بعد الانتهاء من الصلاة وبعضهم يزيد تقبل الله ، وهذا خلاف سنة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - وابتداع في الدين ولو كان هذا خيراً لسبقنا إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولدلنا عليه .
قال الشيخ ابن جبرين: اعتاد بعض [الناس] المصافحة بعد التسليم من صلاة الجماعة مباشرة وقبل الأذكار ثم يقول : "تقبل الله" فيرد الثاني بقول : "منا ومنك" أو يقول الأول : "حرماً" ويرد الثاني بقوله: "جمعاً" وكل هذا لا أصل له بل السنة عقب السلام البدء بالاستغفار ثم الأذكار الواردة بعده ثم التسبيح والتحميد والتكبير إلى آخره . (3)
9- تخصيص الدعاء بعد الصلاة .
__________
(1) الحديث رواه البخاري في صحيحه برقم (707) .
(2) رواه ابن خزيمة في صحيحه برقم (479)، وانظر السنن والمبتدعات في العبادات (ص119) .
(3) البدع والمحدثات وما لا أصل له (ص521)، ط دار ابن خزيمة.(1/340)
يخصص البعض الدعاء بعد انتهاء الصلاة وهذا خلاف السنة ، بل السنة هي أن تدعو بين الأذان والإقامة، فعن أنس - رضي الله عنه - : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "الدعاء بين الأذان والإقامة لا يرد". (1)
وعن سهل بن سعد - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "ساعتان لا يرد على داع دعوته حين تقام الصلاة وفي الصف في سبيل الله". (2)
والخلاصة : فأن الدعاء في كل وقت جائز ولا مانع فيه ما لم يُوَقَّتْ بوقتٍ لم يخصصه الشرع .
10- الصلاة قبل خطبة الجمعة ، ويعتبروها سنة الجمعة القبلية .
يظن بعض الأخوة أنّ للجمعة سنّةً قبليةً ، وهذا خلاف ما كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وما كان عليه أصحابه رضي الله عنهم ، إذ أنّ هذه الصلاة ليس لها وقت كي تصلّى فيه سواءً أكان هناك أذان واحدٌ كما هو الأمر في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ، أو أذانان كما في عهد عثمان - رضي الله عنه - إذ أنّ السنة القبلية تصلّى ما بين الأذان والإقامة، وهذا غير حاصل يوم الجمعة لارتقاء الخطيب على المنبر قبل الأذان ثم ينزل لكي يصلي الجمعة علماً بأن الثاني الذي كان على عهد عثمان - رضي الله عنه - كان قبل دخول الوقت بكثير ولا سنّة قبلية في هذا الوقت .
11- رفع الخطيب يديه للدعاء على المنبر .
بعض الخطباء من يرفع يديه للدعاء على المنبر يوم الجمعة، ومنهم من يقول إني داعٍ فأمنوا .
وهذا لا أصل له بل السنة خلافه .
__________
(1) رواه أبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن خزيمة، وابن حبان، إرواء الغليل رقم (244).
(2) رواه أبو داود وابن خزيمة وابن حبان، صحيح الترغيب برقم (254) و (262).(1/341)
فعن عمارة بن رؤيبة قال: "رأى بشر بن مروان على المنبر رافعا يديه فقال: قبح الله هاتين اليدين لقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما يزيد على أن يقول بيده هكذا وأشار بإصبعه المسبحة" . (1)
قال النووي: فيه أن السنة أن لا يرفع اليد في الخطبة
وهو قول مالك وأصحابنا وغيرهم.شرح النووي(6/162).
وقال الإمام الزهري رحمه الله : رفع الأيدي يوم الجمعة مُحْدث .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: ويكره للإمام رفع يديه حال الدعاء في الخطبة، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما كان يشير بأصبعه إذا دعا . الاختيارات العلمية (48) .
12- قول المأموم أصلي كذا وكذا .
نرى بعض المصلين عندما يقف خلف الإمام لصلاة الجماعة وقبل تكبيرة الإحرام يقول : نويت أصلي كذا وكذا أ, أصلي خلف الإمام أربع ركعات مقتدياً إلخ . وهذا كله غير وارد وخلاف السنة وليس عليه دليل . والصحيح أن ينوي صلاة الفرض جماعة والنية محلها لقلب ولا تحتاج إلى تلفظ أصلاً ، لأن النيّة معناها القصد دون التلفظ والزيادة .
13- النوم بعد صلاة الاستخارة .
يعتقد البعض أن من صلى الاستخارة عليه أن ينام لكي يرى شيئاً في منامه وهذا خطأ ، ولكن الصحيح هو إن الله تعالى إنْ عَلِم أنَّ في هذا العمل الذي استخرت من أجله خيراً ييسره لك وإن علم خلاف ذلك يصرفه عنك ويبدلك خيراً منه، أو يجد ممن صلى الاستخارة انشراحاً في الصدر .
والخلاصة أنّ المسلم إذا همّ بأمر صلّى ودعا دعاء الاستخارة وأقدم على الأمر فإن تيسَّر له فبها، وإلا فإن الله تعالى قد صرفه عنه وأبدله خير منه .
14- نظر المأموم في المصحف .
__________
(1) رواه مسلم برقم (874)، باب تخفيف الصلاة والخطبة .(1/342)
يعمد بعض المصلين إلى النظر في المصحف أثناء قراءة الإمام في صلاة التراويح ، ومن الغريب أن نرى بعض المأمومين في مكة المكرمة يحمل المصحف أثناء الصلاة وينظر فيه وهو خارج المسجد الحرام أو بعيداً عن إمامه القريب من الكعبة!!! وهذا الفعل غير جائز وليس عليه دليل من السنة المطهرة أولاً ، وثانياً يذهب الخشوع في نفس الوقت .
والصحيح هو الاستماع للإمام، وتذكر وقوفك بين يدي الله تعالى، والتدبر في الآيات التي يتلوها والتفكر بها وكل هذا يجلب الخشوع . فإذا قال أنا أراجع حفظي مع الإمام، نقول المراجعة لا تكون في الصلاة بل خارج الصلاة أما داخل الصلاة ليس لك إلا الاستماع ومتابعة الإمام .
15- مفارقة الإمام في صلاة التراويح .
عند انتهاء إمام المسجد من صلاة التراويح وتسليمه من الصلاة نرى البعض يقف ليأتي بركعة ليشفع صلاته، ونقول هذا خطأ وخلاف السنة لعدة أمور : الأول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "إنما جعل الإمام ليؤتم به"، فهو خالف الإمام ، الثاني : تفويت أمرٍ عظيم وهو قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : "إن الرجل إذا صلى مع الإمام حتى ينصرف حُسِبت له قيام ليلة".. (1)
ثالثاً : فعله هذا ربما يكون فيه رياء وكأنه يقول للناس أنا أصلي في الليل، فنقول له سلم مع إمامك وصلِّ في الليل ولكن لا توتر مرة أخرى لأنك أوترت، حيث قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "لا وتران في ليلة". (2)
16- تراجع المأموم خطوة خلف الإمام .
إذا دخل رجل متأخر عن الصلاة وقد فاتته الجماعة يقتدي برجل يصلي فيصلي بجانبه ولكن نراه يتأخر عنه خطوة للوراء، وهذا خطأ والأصل هو أن يقف بجانبه لا يتأخر عنه ولا يتقدم .
__________
(1) أخرجه أصحاب السنن وغيرهم، وصححه الألباني في : صلاة التراويح (ص 16/17)، وصحيح أبي داود (1245)، والإرواء (447).
(2) ) ) صحيح الجامع برقم (7567) .(1/343)
والثابت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " أنه - صلى الله عليه وسلم - أدار ابن عباس وجابراً إلى يمينه لما وقفا عن يساره".رواه مسلم(ص128).
قال الشيخ الألباني رحمه الله في الإرواء:"فائدة : احتج المصنف رحمه الله بالحديثين على أن الرجل الواحد يقف عن يمين الإمام محاذياً . يعني غير متقدم عليه لا متأخر عنه وهو مما بوب البخاري على حديث ابن عباس فقال :" باب يقوم عن يمين الإمام بحذائه سواء إذا كان اثنين" وفعل ذلك بعض السلف فراجع "فتح الباري" ( 2/ 160 ) أو "الأحاديث الصحيحة" لنا رقم ( 141 ) و ( 606 )".اهـ. (1)
17- الاحتفال بليلة السابع والعشرين من رمضان.
يتسابق البعض في الاحتفال في ليلة السابع والعشرين من رمضان وبعضهم يشعل الشموع والبعض يضربون بالدفوف وينشدون الأناشيد، وهذا كله لا يجوز وهو من البدع والإحداث في الدين، لأن الله تعالى غيب عنا ليلة القدر والأصل هو قيام الليالي العشر الأخيرة كلها من صلاة وذكر ودعاء وغيرها من العبادات وفق ما جاء به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعمل صحابته الكرام رضوان الله عليهم جميعاً هذا هو التسابق الحقيقي .
وفي جواب للجنة الدائمة عن هذا الموضوع فقالت: وأما الاحتفال بليلة سبع وعشرين على أنها ليلة القدر فهو مخالف لهدي الرسول - صلى الله عليه وسلم - فإنه لم يحتفل بليلة القدر فالاحتفال بها بدعة. (2) .
18- إهداء ثواب بعض العبادات كالصلاة وقراءة القرآن إلى أموات المسلمين .
يقوم البعض بالصلاة أو قراءة القرآن ويقولون نهدي ثوابها لفلان الميت، ونقول هذا ليس عليه دليل ولا فعله أحد من السلف .
__________
(1) ) ) إرواء الغليل ( 2/ 323 ) ..
(2) ) ) اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء فتوى رقم (167).(1/344)
قال الله تعالى : { وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى } . (1) وثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : لا يصلي أحد عن أحد ، لكن يصوم ويحج ويتصدق .
أمّا إذا قرأت القرآن وقلت: اللهمّ اكتب لفلان مثل أجري أو نحو ذلك فهو من قبيل الدعاء، وهذا جائز وبخاصة للأبوين، أمّا كلمة نهدي لروح فلان الفاتحة ونحوها فهذا لم يرد . والله أعلم .
19- قولهم عن المسجد الأقصى: (ثالث الحرمين) .
يطلق كثير من الناس على المسجد الأقصى بالحرم ويقولون: ثالث الحرمين الشريفين، وهذا خطأ ، لأنه لا يوجد دليل على ذلك، ثم إن الحرمين مكة والمدينة فقط. لأن الحرم معناهُ : ما حُرِّمَ فيه شيءٌ كقطع شجرٍ أو نحوه وهذا غير حاصل في المسجد الأقصى طهره الله تعالى من أيدي الغاصبين .
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: واعلم أنه لا يوجد في الدنيا إلا حرمان: حرم مكة وحرم المدينة .
وأما بيت المقدس فلا يسمى حرماً، وما يوجد في بعض التعبيرات ثالث الحرمين الموهمة لكون بيت المقدس حرماً فهي عبارة ينبغي تجنبها .واختلف العلماء في وادي وج في الطائف، والصحيح أنه ليس بحرم . الشرح الممتع (3/271).
وبالمناسبة يطلق البعض على المصلى أي محل الصلاة الذي يكون في المسجد الجامع بـ (الحرم) وهذا خطأ كذلك .
20 - مسح الوجه باليدين بعد الدعاء
من الناس من يمسح وجهه بيديه بعد الدعاء وهذا خطأ، إنما ورد في حديث ضعيف فلا يصح الاستدلال به،
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لا تستروا الجدر من نظر في كتاب أخيه بغير إذنه ، فإنما ينظر في النار ، سلوا الله ببطون أكفكم ولا تسألوه بظهورها، فإذا فرغتم فامسحوا بها وجوهكم".ضعيف.
__________
(1) ) ) سورة النجم الآية (39-40) .(1/345)
وفي رواية عنه، : "سلوا الله ببطون أكفكم و لا تسألوه بظهورها فإذا فرغتم فامسحوا بها وجوهكم" . (1)
قال الألباني في الإرواء: "تنبيه : أورد المصنف هذا الحديث والذي قبله مستدلاً بهما على أن المصلي يمسح وجهه بيديه هنا في دعاء القنوت وخارج الصلاة وإذا عرفت ضعف الحديث فلا يصح الاستدلال بهما لا سيما ومذهب أحمد على خلاف ذلك كما رأيت .
__________
(1) ) ) رواه أبو داود والبيهقي كلاهما في الصلاة، قال المناوي: إن أبا داود نفسه إنما خرجه مقروناً ببيان حاله فقال: روي هذا من غير طريق عن ابن عباس يرفعه وكلها واهية وهذا الطريق أمثلها وهو ضعيف اهـ . انظر ضعيف الجامع رقم (3274) .(1/346)
وقال البيهقي: فأما من مسح اليدين بالوجه عند الفراغ من الدعاء فلست أحفظه عن أحد من السلف في دعاء القنوت وإن كان يروى عن بعضهم في الدعاء خارج الصلاة وقد روى فيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديث فيه ضعف، وهو مستعمل عند بعضهم خارج الصلاة، وأما في الصلاة فهو عمل لم يثبت بخبر صحيح ولا أثر ثابت ولا قياس فالأولى أن لا يفعله، ويقتصر على ما فعله السلف - رضي الله عنه - من رفع اليدين دون مسحها بالوجه في الصلاة، ورفع اليدين في قنوت النازلة ثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في دعائه على المشركين الذين قتلوا السبعين قارئاً ، أخرجه الإمام أحمد ( 3/ 137) والطبراني في الصغير ( ص111) من حديث أنس بسند صحيح . وثبت مثله عن عمر وغيره في قنوت الوتر . وأما مسحهما بالوجه في القنوت فلم يرد مطلقاً لا عنه - صلى الله عليه وسلم - ولا عن أحد من أصحابه فهو بدعة بلا شك وأما مسحهما خارج الصلاة فليس فيه إلا هذا الحديث والذي قبله ولا يصح القول بأن أحدهما يقوي الآخر بمجموع طرقهما ـ كما فعل المناوي ـ لشدة الضعف الذي في الطرق ولذلك قال النووي في" المجموع" لا يندب تبعاً لإبن عبد السلام وقال : لا يفعله إلا جاهل . ومما يؤيد عدم مشروعيته أن رفع اليدين في الدعاء قد جاء في أحاديث كثيرة صحيحة وليس في شيء منها مسحها بالوجه فذلك يدل ـ إن شاء الله على نكارته وعدم مشروعيته".اهـ.إرواء الغليل (2/ 181،182) .
الابتداع في الصيام .
1- صيام ليلة النصف من شعبان وإحيائها بالعبادة.
يبادر بعض الناس في ليلة النصف من شعبان بالصيام وإحيائها بالعبادة ، وهذا مخالف لسنة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - لأنه لم يأتِ دليل واحد في هذا الخصوص لا من فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا من قوله ولا من فعل صحابته الكرام رضوان الله عليهم .(1/347)
ولكن ورد في حق ليلة النصف من شعبان حديث حسن ، فعن أبي ثعلبة : "إن الله يطلع على عباده في ليلة النصف من شعبان فيغفر للمؤمنين و يملي للكافرين و يدع أهل الحقد بحقدهم حتى يدعوه" . . (1)
وفي رواية عن أبي موسى: "إن الله تعالى ليطلع في ليلة النصف من شعبان فيغفر لجميع خلقه إلا لمشرك أو مشاحن" . (2)
فالواجب علينا أن نطهر قلوبنا من الغل والحقد والحسد، وأن نصطلح مع من خاصمنا ونتسامح فيما بينا لأن الشيطان حريص على التحريش والتشاحن بين الأخوة، فقد ثبت ذلك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فعن جابر - رضي الله عنه - قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول:"إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب ولكن في التحريش بينهم" . (3)
2- الإمساك في الأذان الأول من الفجر .
ينتشر بين الناس الإمساك عند الأذان الأول من الفجر في رمضان وهذا الفعل خلاف السنة ، والصحيح هو جواز الأكل والشرب إلى حين يؤذن لصلاة الفجر .
وكذلك نجد بعض الناس لا يفطر إلا عند اشتباك النجوم ، أي في الليل وهذا خطأ وخلاف السنة بل السنة أن يعجل الفطر كما أن الأفضل أن يؤخر السحور .
3- التقاويم التي فيها إمساكية شهر رمضان .
يسارع البعض في شهر رمضان بعمل تقاويم ويكون فيها إمساكية لشهر رمضان ويكون وقت الإمساك قبل الفجر بدقائق، وهذا العمل خطأ ولا يجوز وهذه الإمساكيات بدعة لأن الله تعالى يقول: { وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ } . سورة البقرة (187) .
__________
(1) صحيح الجامع حديث رقم (771) .
(2) صحيح الجامع حديث رقم (1819)، ورقم (4268) .
(3) رواه مسلم في صحيحه برقم (2812) ، باب تحريش الشيطان وبعثه سراياه لفتنة الناس وأن مع كل إنسان قرينا .(1/348)
وسئل الشيخ ابن عثيمين عن هذا فأجاب:بل هذا من البدع وليس له أصل من السنة، بل السنة على خلافه؛ لأن الله قال في كتابه العزيز: { وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ } ،وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - :"إن بلالاً يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى تسمعوا أذان ابن أم مكتوم؛ فإنه لا يؤذن حتى يطلع الفجر" . (1)
وهذا الإمساك الذي يصنعه بعض الناس زيادة على ما فرض الله عزوجل فيكون باطلاً وهو من التنطع في دين الله ، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "هلك المتنطعون هلك المتنطعون هلك المتنطعون" (2) .اهـ. (3)
4- قول (رمضان كريم) .
قول بعض الناس عن شهر رمضان ((رمضان كريم)) هذا القول خطأ لأنه جعل رمضان هو الذي يُعطي العطاء حتى يكون كريماً، وإنما الذي يُعطي هو الله ، وهو سبحانه وضع فيه الفضل وجعله شهراً فاضلاً ووقتاً لأداء ركن من أركان الإسلام والله سبحانه هو الذي جعله كريماً .
5- قرع الطبول لتذكير الناس بالسحور.
يقوم البعض بقرع الطبول في وقت السحر لتذكير الناس بالسحور وهذا الفعل غير جائز لأمرين : أحدهما أن الطبل محرم شرعاً وقد نهى عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وثانياً : أن هذا الأمر لم يفعله الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولا صحابته الكرام .
6- رمي المدفع لتنبيه الناس على الفطور .
__________
(1) رواه البخاري برقم (6821)، باب ما جاء في إجازة خبر الواحد الصدوق في الأذان والصلاة والصوم والفرائض والأحكام، ومسلم برقم (1092)، باب بيان أن الدخول في الصوم يحصل بطلوع الفجر وأن له الأكل وغيره حتى يطلع الفجر وبيان صفة الفجر الذي تتعلق به الأحكام من الدخول في الصوم ودخول وقت صلاة الصبح وغير ذلك
(2) رواه مسلم برقم (2670)، باب هلك المتنطعون .
(3) السنن والبدع المتعلقة بالألفاظ والمفاهيم الخاطئة للشيخ ابن عثيمين(62) .(1/349)
وكذلك في وقت الأفطار وقد غاب قرص الشمس نسمع دوي المدفع لإعلام الناس بالإفطار وهذا الفعل كذلك غير جائز لعدم وروده عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا سلفنا الصالح رضوان الله عليهم .
7- عدم استخدام الطيب أثناء الصيام .
يظن عامة الناس بأن استخدام الطيب (العطر) أثناء الصيام يفطر لِلَّهِ وهذا خطأ وليس عليه دليل بل ثبت العكس من هذا ، وهو استخدام النبي - صلى الله عليه وسلم - للطيب في كل وقت ، وكذلك صحابته الكرام .
8- من أكل أو شرب ناسيا أفطر .
يظن الكثير من الناس أن الذي يأكل أو يشرب ناسياً في صيام النافلة يفسد صومه ويفطر، والصحيح أن الذي يأكل أو يشرب ناسياً ليس عليه شيء ويتم صومه سواء كان نافلة أو فرضاً . فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال :"إذا نسي فأكل وشرب فليتم صومه فإنما أطعمه الله وسقاه". (1)
ولم يَسْتَثْنِ النبي - صلى الله عليه وسلم - صيام النافلة من هذا الحديث بل الأمر عام في الفريضة والنافلة، وهذا ما قرره المحققون من أهل الحديث .
9- عدم استخدام السواك أثناء الصيام .
وكذلك انتشر بين الناس عدم التسوك [ أي استخدام السواك] بعد الظهر في حال الصيام ، وهذا كذلك خطأ والصحيح هو جواز التسوك في كل وقت ، وهذا الذي كان يفعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصحابته الكرام .
وننبه على أن السواك الذي فيه مادة أخرى كبعض النكهات التي تضاف إليه في هذه الأيام وغالباً ما يكون مغلفاً من بعض الشركات التي تضيف إليه هذه المواد ، نقول على المتسوك في حال الصيام أن يبصق هذه المواد بعد التسوك ولا يبلعها ، لأن هذه المواد تفطر الصائم . والله أعلم .
10- قول البعض : اللهم لك صمت وعلى رزقك أفطرت .
__________
(1) رواه البخاري برقم (1831) ، ومسلم برقم (1155) .(1/350)
الدعاء المأثور والثابت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند الإفطار هو "ذهب الظمأ ، وابتلت العروق وثبت الأجر إن شاء الله". فعن ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أفطر قال: "ذهب الظمأ ، وابتلت العروق وثبت الأجر إن شاء الله" . . (1)
وأما ما يتلفظ به البعض :"اللهم لك صمت وعلى رزقك أفطرت".
وفي لفظ : "بسم الله اللهم لك صمت ، وعلى رزقك أفطرت" . (2)
11- إخراج زكاة الفطر نقوداً .
يقوم كثير من الناس بإخراج زكاة الفطر في رمضان نقوداً وهذا خطأ، بل لا يعتبر أنه زكى والله أعلم .
والصحيح يكون إخراجها طعاماً، وهذا هو الثابت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعن صحابته الكرام .
فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: فرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صدقة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث وطعمة للمساكين فمن أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات. (3)
قال الإمام مالك رحمه الله في المدونة: "ولا يجزئ أن يجعل الرجل مكان زكاة الفطر عرضا من العرض قال وليس كذلك أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - ".
وقال الإمام الشافعي رحمه الله في الأم: "ولا يؤدي ما يخرجه من الحب لا يؤدي إلا الحب نفسه لا يؤدي سويقاً ولا دقيقاً ولا يؤدي قيمته ولا يؤدي أهل البادية من شيء يقتاتونه من الغث والحنظل وغيره من ثمره لا تجوز في زكاة ويكلفون أن يؤدوا من قوت أقرب البلاد إليهم".
__________
(1) وهو حديث حسن . كما في الإرواء (4/39) .
(2) وهو حديث ضعيف ، ضعفه الألباني في ضعيف سنن أبي داود، وفي ضعيف الجامع برقم (631) و(4349) و(4350) .
(3) رواه أبو داود وابن ماجة، والحاكم وقال: صحيح على شرط البخاري، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب برقم (1085).(1/351)
وفي (مسائل عبد الله) للإمام أحمد بن حنبل، قال: سمعت أبي يكره أن يعطي القيمة في زكاة الفطر، ويقول : أخشى إن أعطي القيمة ألا يجزئه . (1)
وقال الإمام النووي في شرحه على صحيح مسلم: "ولم يجز عامة الفقهاء إخراج القيمة".
وقال ابن قدامة المقدسي في المغني: "ومن أعطى القيمة لم يجزؤه، قال أبو داود: (قيل لأحمد وأنا أسمع أعطي دراهم -يعني في صدقة الفطر- قال أخاف أن لا يجزؤه خلاف سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " .
12- صوم يوم الشك احتياطا.
لا يجوز صوم الشك وهو خلاف السنة،بل نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك.
فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لا يتقدمن أحدكم رمضان بصوم يوم أو يومين إلا أن يكون رجل كان يصوم صومه فليصم ذلك اليوم" . (2)
قال النووي رحمه الله: "فيه التصريح بالنهى عن استقبال رمضان بصوم يوم ويومين لمن لم يصادف عادة له أو يصله بما قبله فان لم يصله ولا صادف عادة فهو حرام، هذا هو الصحيح في مذهبنا لهذا الحديث، وللحديث الآخر في سنن أبي داود وغيره : إذا انتصف شعبان فلا صيام حتى يكون رمضان فان وصله بما قبله أو صادف عادة له فان كانت عادته صوم يوم الاثنين ونحوه فصادفه فصامه تطوعا بنية ذلك جاز لهذا الحديث، وسواء في النهى عندنا لمن لم يصادف عادته ولا وصله يوم الشك وغيره فيوم الشك داخل في النهي .اهـ. (3)
الابتداع في الحج .
1- اعتقاد زيارة النبي - صلى الله عليه وسلم - أنها من مناسك الحج ، أو شد الرحال من بلاد بعيدة لزيارة القبر النبوي .
__________
(1) مسائل عبد الله (ص647) .
(2) رواه البخاري برقم (1815)، باب لا يتقدمن رمضان بصوم يوم ولا يومين، ومسلم برقم (1082)، باب لا تقدموا رمضان بصوم يوم ولا يومين .
(3) شرح النووي على صحيح مسلم (7/194) .(1/352)
يظن كثير من الناس أن زيارة قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - من مناسك الحج والعمرة ، وهذا خطأ لأن زيارة قبر النبي ليس لها علاقة بمناسك الحج أو العمرة ، كذلك لا يجوز أن يقصد الحاج أو المعتمر عند ذهابه للحج أو العمرة زيارة قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن ذلك حيث قال : "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد : المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى".. (1) ، فقال مسجدي ولم يقل قبري . وكذلك ثبت النهي عن التخصيص لزيارة قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - .
فعن أبي هريرة - رضي الله عنهم - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "لا تجعلوا بيوتكم قبورا و لا تجعلوا قبري عيدا و صلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم" . (2)
أما لو سافر المسلم إلى المسجد النبوي وصلى فيه للأجر العظيم ، ثم زار قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - ، أو مسجد قباء ، أو شهداء أحد ، أو البقيع أو غير ذلك فهذا لا بأس به .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "لو سافر إلى المسجد النبوي ، ثم ذهب منه إلى قباء ، فهذا يستحب ، كما يستحب زيارة قبور البقيع ، وشهداء أحد" .اهـ . (3)
وتروى أحاديث غير ثابتة ولا تصح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما بين ذلك علماؤنا الأجلاء ، منها :
ا- "من حج فزار قبري بعد وفاتي كان كمن زارني في حياتي" . (4)
قال المناوي : "قال البيهقي : تفرد به حفص بن سليمان وهو ضعيف وقال ابن عدي : حفص هذا هو القارئ ضعفوه جداً مع إمامته في القراءة ورمي
بالكذب والوضع ورواه الدارقطني باللفظ المزبور عن ابن عمر وأعله بأن فيه حفص بن أبي داود ضعفوه ، ومن ثم أورده ابن الجوزي في الموضوع" .اهـ (5)
__________
(1) ) ) رواه البخاري برقم (1189) ، ومسلم برقم (1397) .
(2) ) ) صحيح الجامع حديث رقم (7226).
(3) ) ) مجموع الفتاوى (27/22) .
(4) ) ) انظر ضعيف الجامع حديث رقم : (5553) .
(5) ) ) فيض القدير .(1/353)
وقال عنه الشيخ الألباني رحمه الله تعالى : "موضوع" . (1)
وعلى هذا الحديث الذي لا يصح والمكذوب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذهب جمع من الصوفية إلى أن الهجرة إليه ميتاً كمن هاجر إليه حياً . وأطال في الرد على شيخ الإسلام ابن تيمية من حرمة السفر لزيارته حتى على الرجال .
ب- وحديث : "من زار قبري وجبت له شفاعتي" . (2)
قال ابن القطان : وفيه عبد اللّه بن عمر العمري، قال أبو حاتم : مجهول وموسى بن هلال البصري، قال العقيلي: لا يصح حديثه ولا يتابع عليه ، وقال ابن القطان: فيه ضعيفان .
وقال النووي في المجموع : ضعيف جداً .
وقال الغرياني: فيه موسى بن هلال العبدي ، قال العقيلي: لا يتابع على حديثه . وقال أبو حاتم: مجهول.
وقال السبكي : بل حسن أو صحيح .
قال ابن حجر : حديث غريب خرجه ابن خزيمة في صحيحه . وقال في القلب في سنده شيء وأنا أبرأ إلى اللّه من عهدته قال أعني ابن حجر : وغفل من زعم أن ابن خزيمة صححه .اهـ (3)
ج- "من صلى علي عند قبري سمعته و من صلى علي نائيا أبلغته" . (4) قال العقيلي: حديث لا أصل له .
وقال ابن دحية: موضوع تفرد به محمد بن مروان السدي قال: وكان كذاباً. وأورده ابن الجوزي في الموضوعات.
وفي الميزان : ابن مروان السدي تركوه واتهم بالكذب ثم أورد له هذا الخبر .
2- الوصية لمن أراد الحج أو العمرة بالسلام على النبي - صلى الله عليه وسلم - .
__________
(1) ) ) انظر ضعيف الجامع حديث رقم : (5553) .
(2) ) ) وقال الشيخ الألباني : موضوع انظر ضعيف الجامع رقم (5607).
(3) ) ) فيض القدير للمناوي .
(4) ) ) قال عنه العلامة الألباني رحمه الله تعالى : موضوع ، انظر ضعيف الجامع حديث رقم (5670).(1/354)
كذلك ينتشر بين الناس عندما يرونَ شخصاً ما ذاهباً للحج أو العمرة يوصيه بالسلام على النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث يقول له : سلم على الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، وهذا خطأ لأنك لو سلمت على النبي - صلى الله عليه وسلم - في أي مكان فَسَيَصِلُ إليه، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "صلوا في بيوتكم ولا تجعلوا بيوتكم مقابر لعن الله يهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد وصلوا عليَّ فإن صلاتكم تبلغني حيثما كنتم" (1) .
3- الزغاريد عند القبر .
تقوم بعض النسوة بالزغاريد عند زيارتهن قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - وهذا الفعل غير جائز ويجب على العبد المسلم التأدب مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حياته وفي مماته وهذه الزغاريد هي من الأمور المحرمة.
قال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3) } . (2) زيارة المساجد السبعة .
يقوم كثير مِنَ الحجاج أو المعتمرين بالذهاب لأماكن يقال لها المساجد السبع، وهذا خطأ وهذا الفعل خلاف فعل السلف لأنه لا توجد أماكن تزار في المدينة غير أحد للعبرة والسلام على شهداء أحد ، وكذلك مسجد قباء لأن الركعتين فيه تعدل أجر عمرة ، حيث كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخرج كل سبت إليه للصلاة فيه لأنه ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أن صلاة في مسجد قباء تعدل أجر عمرة .
__________
(1) فضل الصلاة (ص30) وقال الألباني: صحيح . وانظر صحيح الجامع حديث رقم (7226).، وقد سبق .
(2) سورة الحجرات .(1/355)
فعن سهل بن حنيف قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "من تطهر في بيته ثم أتى مسجد قباء فصلى فيه كان له كأجر عمرة". (1)
وعن أسيد بن ظهير الأنصاري - رضي الله عنه - ،عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "صلاة في مسجد قباء كعمرة". (2)
والبقيع للتذكرة والسلام على أهل المقبرة ، ولا نعلم أماكن تزار غير هذه الأماكن وليس عليها دليل.
أما إذا زارها أو غيرها للمعرفة لا للتعبد فجائزُ . والله أعلم .
4- التلفظ بالنية .
من البدع الأكثر انتشاراً بين الحجاج التلفظ بالنية، وهذا لم يرد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه تلفظ بالنية ولا صحابته الكرام، بل كل عبادة تكون النية فيها محلها لقلب ولا تحتاج إلى تلفظ أصلاً ، لأن النيّة معناها القصد دون التلفظ والزيادة كما أسلفنا .
وسمع ابن عمر رضي الله عنهما رجلاً عند إحرامه يقول: "اللهم إني أريد الحج والعمرة، فقال له: أتعلم الناس، أو ليس الله يعلم ما في نفسك". (3)
5- التلبية الجماعية .
بعض الحجاج يلبون بصوت جماعي، فيتقدم واحد منهم أو يكون في الوسط أو في الخلف ويلبي ثم يتبعونه بصوت واحد، وهذا لم يرد عن السلف الصالح بل هو مخالف لهم .قال أنس بن مالك - رضي الله عنه - : كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - يعني في حجة الوداع - فمنا المكبر ، ومنا المهلل، ومنا الملبَّي".
قال الشيخ ابن عثيمين : وهذا هو المشروع للمسلمين أن يلبي كل واحد بنفسه وألا يكون له تعلق بغيره . (4)
__________
(1) رواه ابن ماجة عن أبي أمامة ابن سهل بن حنيف، ورواه أحمد والنسائي والحاكم وقال: صحيح الإسناد، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجة برقم (1160)، وصحيح الجامع برقم (6030)، وصحيح الترغيب (1181).
(2) رواه ابن ماجة (1411) والترمذي وقال: حديث حسن صحيح، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجة برقم (1159) ، وصحيح الترغيب برقم (1180).
(3) ) ) جامع العلوم والحكم (ص20) .
(4) فقه العبادات (ص343) .(1/356)
6- صلاة ركعتين للإحرام .
كذلك أنتشر وشاع بين الحجاج أو المعتمرين أن يصلوا ركعتين بعد الغسل ولبس الإحرام ويقولون هذه سنة الإحرام! من أين جاءوا بهذه السنة؟ فلم يثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه فعلها، بل الصحيح هو أن يصلي الحاج أو المعتمر ركعتين بعد غسله ووضوئه سنة وضوء، أو تحية مسجد إذا دخل المسجد الذي في الميقات .
7- الوقوف طويلا على الخط الأسود .
من السنة تقبيل الحجر الأسود وإذا لم يتمكن من التقبيل يلمسه وإذا لم يستطع يشير إليه ويقبل يده ،ولكن نجد البعض يقف طويلاً على الخط الأسود الموازي للحجر والذي منه يبتدئ الطواف ويقبل يديه كثيراً وهذا خطأ أولاً وفيه أذية للناس ثانياً لأن وقوفهم يعرقل الطائفين ويسبب زحمة شديدة وإرباكاً لهم .
8- كشف الكتف في غير الطواف .
من المعلوم أن كشف الكتف في حال الطواف فقط والذي يسمى بالاضطباع ولكن البعض يبقي الكتف مكشوفاً لنهاية أداء العمرة أو الحج وحتى في الصلاة يكون الكتف مكشوفاً وهذا خطأ وخلاف السنّة بل الاضطباع يكون فقط أثناء الطواف .
9- المزاحمة في تقبيل الحجر الأسود .
كما أسلفنا أن تقبيل الحجر الأسود من السنة الواردة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولكن لا ينبغي مزاحمة الناس وأذيتهم من أجل تقبيل الحجر، لأن تقبيل الحجر مندوب وأذية الناس حرام فكيف يرتكب الحرام من أجل فعل المندوب!!!.
10- تقبيل الركن اليماني .
نشاهد بعض الحجاج أو المعتمرين يقبل الركن اليماني من الكعبة، وهذا الفعل غير مشروع ولا يجوز لأنه لم يفعله النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يأمر به .(1/357)
قال الشيخ ابن عثيمين: تقبيل الركن اليماني لم يثبت عن رسول - صلى الله عليه وسلم - ، والعبادة إذا لم تثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهي بدعة وليست بقربة، وعلى هذا فلا يُشرع للإنسان أن يقبِّل الركن اليماني لأن ذلك لم يثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإنما ورد فيه حديث ضعيف لا تقوم به الحجة .اهـ. (1)
11- الدعاء الجماعي أثناء الطواف ، وتخصيص كل شوط بدعاء .
بعض الطائفين يقومون بالدعاء الجماعي أثناء الطواف ويترأسهم أحدهم ويقرأ من كتاب ولكل شوط دعاء معين هو بدوره يقرأ الدعاء بصوت مرتفع وهم يرددون خلفه ، وهذا من البدع المحدثة التي لم يفعلها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا صحابته الكرام هذا أولاً ، وثانياً الصوت المرتفع أثناء الطواف يشوش على بقية الطائفين وكذلك المصلين القريبين منهم ، ويذهب الخشوع في نفس الوقت .
والصحيح هو أن يكون الدعاء على انفراد كل على حدى يدعو في نفسه ويناجي ربه سبحانه وتعالى، ولا يوجد دعاء مخصوص لكل شوط .
12- تخصيص كل شوط في السعي بدعاء معين .
وكذلك لا يجوز تخصيص كل شوط في السعي بدعاء معين كما يفعل كثير من الناس .
__________
(1) فقه العبادات (ص348) .(1/358)
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: بعض الناس يسعون يخصصون كل شوط بدعاء معين، وقد سبق أن هذا من البدع، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يخصص كل شوط بدعاء معين، لا في الطواف ولا في السعي أيضاً، وإ ... ذا كان هذا من البدع فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : "كل بدعة ضلالة". (1) ، وعليه فاللائق بالمؤمن أن يدع هذه الأدعية، وأن يشتغل بالدعاء الذي يرغبه ويريده، يدعوا بما شاء من خيري الدنيا والآخرة، ويذكر الله، ويقرأ القرآن وما أشبه ذلك من الأقوال المقربة إلى الله سبحانه وتعالى، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:"إنما جعل الطواف بالبيت، وبالصفا والمروة، ورمي الجمار لإقامة ذكر الله". (2)
13- التقاط الصور عند جبل أحد أو عرفة أو في أي مكان آخر .
يتزاحم بعض الناس على التقاط الصور الفوتغرافية سواء كان في جبل أحد أو في عرفة أو في أي مكان آخر وهذا كله من البدع المحدثة ، وهنا مسألتان ومخالفتان: الأولى: مزاحمة الناس وأذيتهم حرام ولا تجوز.
الثانية: ثبت التحريم والنهي عن التصاوير. فعن عائشة رضي الله عنها: أنها اشترت نمرقة فيها تصاوير، فقام النبي - صلى الله عليه وسلم - بالباب فلم يدخل، فقلت أتوب إلى الله مما آذيت. قال: "ما هذه النمرقة؟" قالت: لتجلس عليها وتوسدها. قال: "إن أصحاب هذه الصور يعذبون يوم القيامة، يقال لهم أحيوا ما خلقتم، وإن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه الصورة" (3) .
__________
(1) رواه مسلم برقم (867) .
(2) فقه العبادات (ص362) .
(3) رواه البخاري برقم (5957)، ومسلم برقم (2107) .(1/359)
وعنها رضي الله عنها قالت: قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من سفر، وقد سترت بقرام لي على سهوة لي فيها تماثيل، فلما رآه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هتكه، وقال: "أشد الناس عذاباً يوم القيامة الذين يضاهون بخلق الله"قالت فجعلناه وسادة أووسادتين" (1)
أما الصور التي تكون على النقود أو الأوراق الرسمية كجواز السفر ونحوه، فلها حكم الضرورة، ولا تدخل في النهي والله أعلم.
14- غسل حصى الجمار .
بعض الحجاج يقومون بغسل الحصى التي يرمون بها الجمار، وهذا لم يثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ولم يعرف عن السلف رضوان الله عليهم .
وسئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله عن حكم غسل حصى الجمار؟ فقال : لا يغسل، بل إذا غسله الإنسان على سبيل التعبد لله كان هذا بدعة، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يفعله . (2)
15- كلمة (حجي) لمن ذهب للحج .
16- يطلق بعض الناس على من ذهب للحج لقب (حجي) وهذا اللقب خطأ لأنها لم تثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا عن صحابته الكرام .
17- تزيين بيت الحاج .
ينتشر بين بعض الناس تزيين بيت الحاج عند رجوعه من الحج ، وهذا مخالف للشرع الحنيف ومخالف لسنة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - ويكون فيه رياء كذلك .
18- لزوم الحجاج بيوتهم أسبوعاً بعد الحج .
بعض الحجاج يمكثون في بيوتهم أسبوعاً أو أكثر بعد عودتهم من الحج فيتركون بذلك صلاة الجماعة وقضاء حوائجهم وهذا مخالف لهدي النبي - صلى الله عليه وسلم - وهذا من الأمور المحرمة لتركهم صلاة الجماعة .
وأجابت اللجنة الدائمة عن هذا السؤال فقالت :ليس ذلك بسنة، بل هو بدعة ومن ادعى أنه سنة فقد أخطأ، وأما جلوسهم في بيوتهم عن أداء الصلاة في الجماعة في المسجد فلا يجوز إلا لعذر شرعي، وليس ما ذكر بعذر، فهم آثمون في تخلفهم عن الصلاة .
__________
(1) رواه البخاري برقم (5954)، ومسلم برقم (2107) .
(2) فقه العبادات (646) .(1/360)
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم . (1)
19- العمرة في رجب .
يقوم كثير من الناس بالعمرة في شهر رجب ظناً منهم بأن العمرة في رجب أفضل ولها مَزِيَّةٌ خاصة وهذا خطأ وليس عليه دليل من السنة ولا من فعل السلف ، بل شهر رجب حاله حال الأشهر الباقية ، ولكن ثبت أن العمرة في شهر رمضان لها مَزِيَّةٌ خاصة حيث إنّها تعدل حجة مع النبي - صلى الله عليه وسلم - كما أخبر بذلك . فعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "عمرة في رمضان تعدل حجةً أو حجة معي". (2)
الابتداع في الأعياد .
1- المولد النبوي .
لم يثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا عن صحابته الكرام أنهم احتفلوا بمولده - صلى الله عليه وسلم - ، بل ولم يثبت ذلك عن السلف الصالح، ومن المعلوم أن أهل الكتاب هم الذين يحتفلون بعيد الميلاد، وهذا من تنطعاتهم وتراتهم وهو مما سول لهم الشيطان بذلك، وقد أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمخالفتهم . فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال:قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :خالفوا المشركين (3)
وفي رواية عن أبي هريرة - صلى الله عليه وسلم - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "خالفوا المجوس". (4)
2- الاحتفال بالإسراء والمعراج .
كذلك لم يثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا صحابته الكرام أنهم احتفلوا برحلة الإسراج والمعراج، ومن قال بذلك فعليه بالدليل، ولا دليل صحيح عليه .
بل لا يعلم متى هي في أي شهر أو يوم .
__________
(1) اللجنة الدائمة للبحوث العلمية السؤال الرابع من الفتوى رقم(5741)
(2) أخرجه البخاري (3/603 فتح)، ومسلم برم (222)، (1256).
(3) رواه البخاري في كتاب النكاح برقم (5553)، باب تقليم الأظفار، ومسلم في كتاب السلام برقم (260)، باب خصال الفطرة .
(4) رواه ومسلم في كتاب السلام برقم (260)، باب خصال الفطرة .(1/361)
والصحيح لم يرد وقت معين لهذه الرحلة المباركة الثابتة في الكتاب والسنة المطهرة .
ونقل ابن قيم الجوزية عن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أنه قال: "لم يقم دليل معلوم لا عن شهرها، ولا عشرها، ولا على عينها، بل النقول في ذلك منقطعة مختلفة، ليس فيها ما يُقطع" .
وقال: ولا كان الصحابة والتابعون لهم بإحسان يقصدون تخصيص ليلة الإسراء بأمر من الأمور، ولا يذكرونها، ولهذا لا يُعرف أي ليلة كانت، وإن كان الإسراء من أعظم فضائله - صلى الله عليه وسلم - ، ومع هذا فلم يُشرع تخصيص ذلك الزمان، ولا ذلك المكان بعبادة شرعية".اهـ . (1)
3- التكبير الجماعي وتخصيصه بعد الصلاة فقط
من السنة أن يكبر العبد المسلم في العيدين ، ولكن يكون التكبير انفرادياً كل على حِدَة ولا يكون جماعياً ، وهذا هو فعل الصحابة الكرام رضوان الله عليهم . ولا يكون التكبير بعد الصلوات فقط بل في كل وقت وفي أي مكان سواء كان في السوق أو في المسجد أو في البيت وما شابه ذلك . ولا يترنمون بالتكبير ولم يجري عليه فعل السلف الصالح رضوان الله عليهم .
4- الاختلاط في العيد .
يقع بعض الناس في العيد في بعض المخالفات الشرعية، ومن هذه المخالفات اختلاط الرجال بالنساء كأن يزور الرجل بعض أقاربه ويسلم على بعض النساء وبالعكس ، كأن يقوم هو بالسلام والمصافحة على بنت عمه أو بنت خاله أو بنت خالته أو أخت زوجته وما شابه ذلك وغالبا ما يكون هناك اختلاط! وهذا كله مخالف لشرع الله تعالى وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، وقد حذر النبي - صلى الله عليه وسلم - من هذا الأمر أشد التحذير (فتنبه) . فعن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "إياكم والدخول على النساء"، فقال رجل من الأنصار: أفرأيت الحموُ؟ قال: "الحموُ الموتُ" (2) .
__________
(1) زاد المعاد (1/57) .
(2) رواه البخاري في كتاب النكاح برقم (5232)، ومسلم في كتاب السلام برقم (2172).(1/362)
5- زيارة المقابر .
بعض الناس يخصصون أول يوم من العيد لزيارة المقبرة وهذا الفعل خطأ وخلاف السنة المطهرة ، لأن هذا اليوم هو يوم فرح ، ثم لم يفعله النبي - صلى الله عليه وسلم - ولاصحابته الكرام رضوان الله عليهم ، والصحيح هو زيارة المقابر في أي وقت كان للتذكرة وللسلام على أهل المقابر من المسلمين.
6- توزيع الحلويات وإشعال الشموع في المقابر وتوزيع الطعام يوم العيد .
وكذلك يقوم بعض الناس عند زيارتهم المقبرة في يوم العيد بإشعال الشموع وتوزيع الحلويات والطعام وهذا الفعل لم يثبت فيه شيء عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
5- الاحتفال بعيد الأم وعيد الميلاد .
ومن الأمور التي لا أصل لها في شرعنا الحنيف إقامة الحفلات والمناسبات بما يسمى بعيد الأم أو عيد الميلاد وهذا كله منهي عنه ولم يأتِ به نص شرعي قط
ولا أدري كيف يتسنى لهم إقامة هذه الأعياد وقد قال - صلى الله عليه وسلم - : "من أحدث في أمرنا هذا فهو رد". (1)
وفي جواب للشيخ ابن عثيمين رحمه الله عن حكم الاحتفال بما يسمى بعيد الأم، فقال:
__________
(1) رواه البخاري برقم (6918)، باب إذا اجتهد العامل أو الحاكم، ومسلم برقم (1718)، باب نقض الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور.(1/363)
إن كل الأعياد التي تخالف الأعياد الشرعية كلها يكون بدع حادثة لم تكن معروفة في عهد السلف الصالح وربما يكون منشؤها من غير المسلمين أيضاً، فيكون فيها مع البدعة مشابهة أعداء الله سبحانه وتعالى، والأعياد الشرعية معروفة عند أهل الإسلام؛ وهي عيد الفطر، وعيد الأضحى، وعيد الأسبوع "يوم الجمعة" وليس في الإسلام أعياد سوى هذه الأعياد الثلاثة، وكل أعياد أحدثت سوى ذلك فإنها مردود على محدثيها وباطلة في شريعة الله سبحانه وتعالى، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : "من أحدث في أمرنا هذا فهو رد" . (1)
أي مردود عليه غير مقبول عند الله، وفي لفظ: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد". (2)
__________
(1) رواه البخاري برقم (6918)، باب إذا اجتهد العامل أو الحاكم فأخطأ خلاف الرسول علم فحكمه مردود لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد، ومسلم برقم (1718)، باب نقض الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور
(2) رواه ومسلم برقم (1718)، باب نقض الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور .(1/364)
وإذا تبين ذلك فإنه لا يجوز في العيد الذي ذكر في السؤال والمسمى عيد الأم، ولا يجوز فيه إحداث شيء من شعائر العيد؛ كإظهار الفرح والسرور، وتقديم الهدايا وما أشبه ذلك، والواجب على المسلم أن يعتز بدينه ويفتخر به وأن يقتصر على ما حده الله تعالى لعباده فلا يزيد فيه ولا ينقص منه، والذي ينبغي للمسلم أيضاً ألا يكون إمَّعَة يتبع كل ناعق بل ينبغي أن يُكوِّن شخصيته بمقتضى شريعة الله تعالى حتى يكون متبوعاً لا تابعاً، وحتى يكون أسوة لا متأسياً، لأن شريعة الله والحمد لله، كاملة من جميع الوجوه كما قال تعالى: { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا } . (1) والأم أحق من أن يحتفى بها يوما واحداً في السنة، بل الأم لها الحق على أولادها أن يرعوها، وأن يعتنوا بها، وأن يقوموا بطاعتها في غير معصية الله عزوجل في كل زمان ومكان .اهـ. (2) وقال رحمه الله في جواب آخر عن حكم إقامة أعياد الميلاد للأولاد أو بمناسبة الزواج؟
فقال: ... وأما أعياد الميلاد للشخص أو أولاده، أو مناسبة زواج ونحوها فكلها غير مشروعة وهي للبدعة أقرب من الإباحة . (3)
ومن العجب العجاب أن يفرح المرء بانقضاء عمره وقربه من الموت وهو لم يقدم شيئاً يلاقي به ربَّه سبحانه وتعالى والأمر كما قيل : يا ابن آدم إنما أنت أيام فإذا ذهبَ يومٌ فقد ذهبَ بعضُك، فالحزن على فوات العمر أقرب إلى الفرح به وهذا للمطيعين فكيف الحال لغيرهم.
الابتداع في النكاح .
__________
(1) سورة المائدة الآية (3) .
(2) مجموع فتاوى ورسائل فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين رقم (353).
(3) مجموع فتاوى ورسائل فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين رقم(2/302)(1/365)
هناك بعض الأمور تقع من بعض الناس بل غالب الناس في أمور الزواج ولم يثبت فيها شيء لا في كتاب الله تعالى، ولا في سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، ولم يتعارف عليها سلفنا الصالح رضوان الله عليهم، نود أن نبيّن بعضها .
1- المؤخر في مهر المرأة .
تعارف الناس على أمر عند تحديد المهر للمرأة وهو طلب المؤخر، ويعتقدون كذلك أن المؤخر لا تأخذه المرأة إلا عند الطلاق بل ويضعون المؤخر خوفاً من طلاق المرأة وهذا كله من الأمور المحدثة التي لم يأمر بها ربنا في كتابه ولا في سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ولم يفعلها أحد من الصحابة الكرام رضوان الله تعالى عليهم أجمعين.
ويجوز مادام هناك اتفاق، أما الغصب على ذلك فلا يجوز .
ونقول الأصل أن هناك مهر واحد للمرأة تأخذه عند عقد النكاح أما بالنسبة للمؤخر فهو من ضمن المهر المقدم، كأن يقول ولي المرأة أن عليك مهر كذا ويتفقون عليه، ويقول له قسم تدفعه الآن وقسم ترجأه بعد فترة، فهو بذمة الرجل يدفعه في حالة وجودها عنده أو عند طلاقه لها لأنه من مهر المرأة .
2- قراءة الفاتحة عند عقد القران .
يقوم أولياء الرجل والمرأة بقراءة سورة الفاتحة عند عقد القران، ويسمون هذه الخطبة بـ (قراءة الفاتحة)، وهذا الأمر محدث ولم يثبت في السنة المطهرة، وكذلك لم يتعارف عليه سلفنا الصالح .
والصحيح هو عند عقد النكاج البدء بخطبة الحاجة والثناء على الله تعالى بما منّ علينا بنعم عظيمة ومن ضمنها النكاح بأن رزق الرجل المرأة ورزق المرأة الرجل، بدون قراءة الفاتحة .
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله : ليس هذا بمشروع بل هذا بدعة، وقراءة الفاتحة أو غيرها من السور المعينة لا تقرأ إلا في الأماكن التي شرعها الشرع فإن قرئت في غير الأماكن تعبداً فإنها تعتبر من البدع ... (1)
3- تسمية المرأة المعقود عليها بالخطيبة .
__________
(1) ) ) سؤال وجواب من برنامج نور على الدرب (2/84) الشيخ ابن عثيمين .(1/366)
تعارف الناس على تسمية المرأة المعقود عليها بالخطيبة، وهذا العرف خطأ، والصحيح هو أن المرأة المعقود عليها وكتب كتابها هي بمثابة الزوجة شرعاً لأنه تمت موافقة ولي الأمر ، والإيجاب والقبول، وتسمية المهر، وكذلك الشهود، فتصبح بذلك زوجة وليست خطيبة، ولكن لا يدخل بها أو يجامعها إلا بعد أعلان النكاح لكي لا يترتب على ذلك مفاسد .
4- الدبلة .
كذلك من الأمور المبتدعة التي انتشرت بين الناس الدبلة يلبسها الرجل والمرأة في حال الخطبة أو الزواج ، وهذه لم يثبت فيها شيء عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا عن صحابته الكرام .
هذا إذا كانت الدبلة من فضة بالنسبة للرجل، فكيف إذا كانت من ذهب فتكون حراماً وبدعة في نفس الوقت .
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: والدبلة: خاتم يشترى عند الزواج يوضع في يد الزوج، وإذا ألقاه الزوج، قالت المرأة: إنه لا يحبها، فهم يعتقدون فيه النفع والضرر، ويقولون: إنه ما دام في يد الزوج، فإنه يعني أن العلاقة بينهما ثابتة، والعكس بالعكس، فإذا وجدت هذه النية، فإنه من الشرك الأصغر، وإن لم توجد هذه النية - وهي بعيدة ألا تصحبها ـ، ففيه تشبه بالنصارى، فإنها مأخوذة منهم.
وإن كانت من الذهب، فهي بالنسبة للرجل فيها محذور ثالث، وهو لبس الذهب، فهي إما من الشرك، أو مضاهاة النصارى، أو تحريم النوع إن كانت للرجال، فإن خلت من ذلك، فهي جائزة لأنها خاتم من الخواتم.
وقوله: "شرك"، هل هي شرك أصغر أو أكبر؟
نقول: بحسب ما يريد الإنسان منها إن اتخذها معتقداً أن المسبب للمحبة هو الله، فهي شرك أصغر، وإن اعتقد أنها تفعل بنفسها، فهي شرك أكبر . (1)
__________
(1) ) ) القول المفيد شرح كتاب التوحيد للشيخ ابن عثيمين رحمه الله (1/129).(1/367)
وقال في فتاوى منار الإسلام: "أما لبس خاتم الفضة للرجل من حيث هو خاتم لا باعتقاد أنه دبلة تربط بين الزوج وزوجته، فإن هذا لا بأس به ، لأن الخاتم من الفضة للرجال جائز، والخاتم من الذهب محرم على الرجل، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى خاتماً في يد أحد الصحابة رضي الله عنهم فطرحه، وقال : "يعمد أحدكم إلى جمرة من النار فيضعها في يده" (1) ،
والله الموفق".اهـ. (2)
5- الحلف بالطلاق .
لقد شاع على ألسنة بعض الناس الحلف بالطلاق، مثل أن يقول: علي الطلاق لأفعلن كذا، أو علي الطلاق ثلاثاً لا أفعله ونحو ذلك.
__________
(1) تتمة الحديث: فقيل للرجل بعد ما ذهب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : خُذْ خاتمك وانتفع به. قال: لا والله لا آخذه وقد طرحه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . رواه مسلم في كتاب اللباس والزينة برقم (2090) .
(2) ) ) فتاوى منار الإسلام لابن عثيمين (3/713) .(1/368)
قال الشيخ ابن عثيمين في جواب له: أما أن يحلفوا بالطلاق مثل عليّ الطلاق أن تفعل كذا، أو علي الطلاق ألا تفعل كذا، أو أن فعلت كذا فامرأتي طالق، أو إن لم تفعل فامرأتي طالق، وما أشبه ذلك من الصيغ فإن هذا خلاف ما أرشد إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وقد قال كثير من أهل العلم بل اكثر أهل العلم: إنه إذا حنث في ذلك فإن الطلاق يلزمه وتطلق منه امرأته، وإن كان القول الراجح أن الطلاق إذا استعمل استعمال اليمين بأن كان القصد منه الحث على الشيء أو المنع منه أو التصديق أو التكذيب أو التوكيد، فإن حكمه حكم اليمين لقول الله تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1) قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (2) } . (1) فجعل الله التحريم يميناَ، ولقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى" وهذا لم ينو الطلاق إنما نوى اليمين أو نوى معنى اليمين، فإذا حنث فإنه يجزيه كفارة يمين، وهذا هو القول الراجح. (2) أ.هـ
6- مصافحة المرأة الأجنبية .
من الأمور المنتشرة بين العامة إلا من رحم الله مصافحة المرأة الأجنبية ، وهذا خلاف ما عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . فعن عائشة رضي الله عنها قالت: "والله ما مست يد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يد امرأة أنه بايعهن بالكلام". (3)
بل ثبت النهي عن مس المرأة الأجنبية .
__________
(1) سورة التحريم الآية (1-2).
(2) فتاوى الشيخ ابن عثيمين (2/796).
(3) رواه البخاري برقم (4983)،باب إذا أسلمت المشركة أو النصرانية تحت الذمي أو الحربي .(1/369)
فعن معقل بن يسار - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "لأن يطعن في رأس أحدكم بمخيط من حديد خير له من أن يمس امرأة لا تحل له". (1) قال المناوي: - قوله- "لأن يطعن في رأس أحدكم بمخيط" بكسر الميم وفتح الياء وهو ما يخاط به كالإبرة والمسلة ونحوها "من حديد" خصه لأنه أصلب من غيره وأشد بالطعن وأقوى في الإيلام "خير له من يمس امرأة لا تحل له" أي لا يحل له نكاحها وإذا كان هذا في مجرد المس الصادق بما إذا كان بغير شهوة فما بالك بما فوقه من القبلة والمباشرة في ظاهر الفرج . فيض القدير.
كتاب القرآن والأدب .
20- قراءة القرآن في مكبرات الصوت قبل الجمعة .
في بعض المساجد من البلاد الإسلامية يقوم البعض بقراءة القرآن الكريم في السماعة، وهذا من البدع المحدثة لأنها لم ترد عن أحد من السلف ويكون فيه تشويش على من في المسجد .
قال الشيخ ابن باز رحمه الله: لا نعلم لذلك أصلا لا من الكتاب ولا من السنة ولا من عمل الصحابة ولا السلف الصالح رضي الله عن الجميع ويعتبر ذلك حسب الطريقة المذكورة من الأمور المحدثة التي ينبغي تركها لأنه أمر محدث ولأنه قد يشغل المصلين والقراء عن صلاتهم وقراءتهم والله سبحانه وتعالى أعلم وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه . (2)
21- قول: "صدق الله العظيم" بعد قراءة القرآن.
قول صدق الله العظيم بعد قراءة القرآن الكريم بدعة وليس عليه دليل من الكتاب والسنة، ولم يفعله السلف الصالح رضوان الله عليهم .
__________
(1) صحيح الجامع حديث رقم (5045).
(2) كتاب الدعوة (1/131) الشيخ ابن ياز.(1/370)
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله : قول صدق الله العظيم بعد قراءة القرآن الكريم لا أصل له من السنة ولا عمل الصحابة رضي الله عنهم، وإنما حدث أخيراً ، ولا ريب أن قول القائل: "صدق الله العظيم: ثناء على الله عزوجل فهو عبادة، فإنه لا يجوز أن نتعبد لله به إلا بدليل من الشرع وإذا لم يكن هناك دليل من الشرع كان ختم التلاوة به غير مشروع ولا مسنون، فلا يسن للإنسان عند انتهاء القرآن الكريم أن يقول: "صدق الله العظيم".
فإن قال قائل: أفليس الله يقول: { قُلْ صَدَقَ اللَّهُ } . آل عمران (95) فالجواب: بلى قد قال الله ذلك ونحن نقول صدق الله لكن هل قال الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - إذا أنهيتم القراءة فقولوا صدق الله العظيم، وقد صح عن النبي عليه الصلاة والسلام، أنه قال كان يقرأ ولم ينقل عنه كان يقول صدق الله العظيم، وقرأ عليه ابن مسعود - رضي الله عنه - من سورة النساء حتى بلغ { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً } .النساء (41) فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - "حسبك" ولم يقل قل صدق الله العظيم ولا قال ابن مسعود أيضاً، وهذا دليل على أن قول القائل عند انتهاء القراءة (صدق الله العظيم) ليس بمشروع . نعم لو فرض أن شيئاً وقع مما أخبر الله به ورسوله - صلى الله عليه وسلم - فقلت صدق الله واستشهدت بآية من القرآن الكريم هذا لا بأس لأن هذا من باب التصديق لكلام الله عزوجل كما لو رأيت شخصاً منشغلاً بأولاده عن طاعة ربه فقلت صدق الله العظيم { إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ } . التغابن (15)وما أشبه ذلك مما يستشهد به، فهذا لا بأس به. (1) وكذلك نصَّ القراء على ذلك لعدم ورودها عن المصطفى - صلى الله عليه وسلم - .
22- وضع المصحف في السيارة أو في مكان العمل دفعاً للعين أو توقياً للخطر أو للتبرك .
__________
(1) ) ) فتاوى إسلامية الشيخ ابن عثيمين (4/17) .(1/371)
يعمد البعض إلى وضع المصحف في السيارة أو في مكان العمل بنية التبرك أو دفع العين أو للرزق وما شابه ذلك، وهذا من البدع المحدثة . وقد كره الإمام سفيان الثوري رحمه الله تعليق المصاحف . (1)
وقال الشيخ ابن عثيمين : حكم وضع المصحف في السيارة دفعاً للعين أو توقياً للخطر بدعة فإن الصحابة رضي الله عنهم لم يكونوا يحملون المصحف دفعاً للخطر أو للعين وإذا كان بدعةً فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : "كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار" . (2) . (3)
23- قراءة الفاتحة عند الخطبة أو الزواج أو عند افتتاح الندوات .
تقدم الكلام على هذا الموضوع في كتاب النكاح ما يغني عن الكلام هنا .
24- جمع القراءة بالقراءات في الصلاة أو التلاوة .
ومن بدع القراء أن يجمع أكثر من قراءة في صلاة واحدة أو في التلاوة .
وسئل شيخ الإسلام ابن تيمية عن جمع القراءات السبع هل هو سنة أم بدعة؟
فأجاب: جمعها في الصلاة، أو في التلاوة فهو بدعة مكروهة، وأما جمعها لأجل الحفظ والدرس فهو من الاجتهاد الذي فعله طوائف في القراءة . (4)
25- قراءة القرآن بصوت واحد جماعة .
ومن البدع المحدثة في الدين قراءة القرآن جماعة وبصوت واحد، فلم يفعلها أحد السلف، إلا أن يكون على وجه الحفظ والتعليم كما في مجالس تحفيظ وتعليم القرآن الكريم ففي هذه الحالة تجوز .
26- حمد الله بعد التجشوء والتعوذ بعد التثاؤب
إذا تجشأ أحدهم حمد الله، وإذا تثاءب تعوّذ بالله، وهذا لم يرد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه شيء، ولا عن صحابته الكرام.
__________
(1) ) ) أخرجه أبو داود في المصاحف (ص179) .
(2) ) ) صحيح سنن النسائي رقم (1487) .
(3) ) ) سؤال على الهاتف الشيخ ابن عثيمين ، البدع والمحدثات وما لا أصل له (ص259) ط دار ابن خزيمة .
(4) ) ) مجموع الفتاوى (13/404) .(1/372)
والصحيح أن التجشؤ لم يكن فيه ذكر معين، وكذلك التثاؤب لم يرد فيه ذكر معين، بل عليه وضع اليد على الفم عند التثاؤب وهذه هي السنة .
فعن أبي سعيد - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "إذا تثاءب أحدكم في الصلاة فليكظم ما ستطاع فإن الشيطان يدخل" . (1)
27- أطال الله عمرك أو يا طويل العمر.
معناه أن تدعو الله أن يطول عمره، هذه اللفظة خطأ لأنه لا يدرى ربما يطول عمره ويعمل السيئات أو يكفر والعياذ بالله لأن الحي لا تؤمن عليه الفتنة .
ولكن لو قال أطال الله عمرك بطاعته أو طول الله عمرك بطاعته هذا أفضل. وكذلك لو قال: بارك الله في عمرك.
وسئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله عن عبارة (أطال الله بقاؤك، أو طال عمرك" ؟ فأجاب:
لا ينبغي أن يطلق القول بطول البقاء لأن طول البقاء قد يكون خيراً وقد يكون شراً، فإن شر الناس من طال عمره وساء عمله، وعلى هذا فلو قال أطال الله بقاءك على طاعته ونحوه فلا بأس بذلك . (2)
28- خير الأسماء ما حُمِّد وعُبِّد
عندما تقول لشخص سمي ولدك فلان يقول لك (خير الأسماء ما حمد وعبد) وينسبون هذا القول إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وهذا خطأ وليس بحديث ولم يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بل الثابت عنه أنه قال: "أحب الأسماء إلى الله عبد الله و عبد الرحمن" . (3)
وفي رواية عن أنس: "أحب الأسماء إلى الله عبد الله و عبد الرحمن و الحارث" . (4)
__________
(1) ) ) رواه مسلم وأبو داود .
(2) ) ) السنن والبدع المتعلقة بالألفاظ والمفاهيم الخاطئة للشيخ ابن عثيمين(21).
(3) ) ) رواه مسلم في كتاب الآداب برقم (2131)، باب النهي عن التكني بأبي القاسم وبيان ما يستحب من الأسماء.
(4) ) ) صحيح الجامع حديث رقم (162).(1/373)
قال الشيخ ابن عثيمين: وما اشتهر بين العامة من قولهم: "خير الأسماء ما حمد وعبد" ونسبتهم ذلك إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فليس ذلك بصحيح، أي ليس نسبته إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - صحيحة فإنه لم يرد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بهذا اللفظ وإنما ورد: "أحب الأسماء إلى الله عبد الله و عبد الرحمن" . (1)
الابتداع في الجنائز .
1- قول البعض عند وفاة شخص { يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً } (2)
عندما يتوفى شخص ما يبادر بعض الناس بالنعي ويقول { يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً } وهذا تألي على الله تعالى ولا يجوز لأنه ما أدراه أن هذا الميت فيه هذه الصفات وأن الله قد رضي عنه! .
وسئل الشيخ ابن عثيمين عن هذا السؤال، فأجاب:
هذا لا يجوز أن يُطلق على شخص بعينه، لأن هذه شهادة بأنه من هذا الصنف . (3)
2- قراءة القرآن عند الميت حتى يباشر بغسله .
توجد عادة عند بعض الناس وهي قراءة القرآن عند رأس الميت حتى يباشر بغسله وكذلك يقرأ القرآن عند الميت بعد غسله حتى يُصلى عليه ، فهذه العادة أو هذا العمل ليس عليه دليل لا من الكتاب الكريم ولا السنة المطهرة ولا من فعل السلف الصالح .قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله :وأما قراءة الفاتحة على الميت فهي بدعة على بدعة ، فما كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يعزي بقراءة الفاتحة ولا بغيرها من القرآن .لقاء الباب المفتوح (12/16) .
3- تلقين الميت .
__________
(1) ) ) السنن والبدع المتعلقة بالألفاظ والمفاهيم الخاطئة للشيخ ابن عثيمين (78).
(2) ) ) سورة الفجر الآية (27- 28) .
(3) ) ) السنن والبدع المتعلقة بالألفاظ والمفاهيم الخاطئة للشيخ ابن عثيمين(43).(1/374)
يقوم بعض الحاضرين بتلقين الميت بعد دفنه بالشهادتين بقوله : إذا جاءك الملكان يسألانك فقل ربي الله ونبي محمد - صلى الله عليه وسلم - وكتابي القرآن إلخ .
وهذا الأمر من البدع التي حذر منها الشارع الحكيم ولم يثبت فيها دليل لا من الكتاب ولا من السنة بل الدليل ضد ذلك .قال الله تعالى: { وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى } . النجم (39-40) .
قال ابن قيم الجوزية: ولم يكن يجلس يقرأ عند القبر، ولا يلقن الميت كما يفعله الناس اليوم . (1) 4- اصطفاف أهل الميت في المقبرة بعد دفن ميتهم وتقديم التعازي لهم
يقوم البعض بعد الانتهاء من دفن ميتهم بالاصطفاف ليأتي الناس إليهم لسلام عليهم وهذا ليس من الهدي النبوي، ولكن نقول إنَّ التعزية تكون في أي مكان ، وكذلك فإنَّ الميت بعد دفنه يكون أحوج إلى الدعاء لأنه في هذا الوقت يُسأل من قبل الملائكة ، كما أخبر بذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
5- نقش أسم الميت وتاريخ موته على القبر .
لا ينبغي عمل أي شيء على القبر إلاما ثبت في السنة المطهرة، فمن الناس من يقوم بكتابة أسم المتوفى وتاريخ الوفاة وربما يكتب شيء من تاريخ حياته، بل والبعض يكتب هذا تزكية له، وهذا كله خلاف السنة .
فعن جابر - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :"نهى أن يكتب على القبر شيء". (2)
__________
(1) ) ) زاد المعاد (1/522) .
(2) ) ) قال المناوي: البيهقي والحاكم في الجنائز عن جابر، قال الحاكم: على شرط مسلم، ورواه عنه الترمذي أيضاً بلفظ نهى أن تجصص القبور وأن يكتب عليها وأن توطأ وقال: حسن صحيح . صحيح الجامع حديث رقم (6843) .(1/375)
قال المناوي: فتكره الكتابة عليه ولو اسم صاحبه في لوح أو غيره عند الثلاثة خلافاً للحنفية وقول الحاكم العمل على خلافه فالأئمة من الشرق إلى الغرب مكتوب على قبورهم وهو عمل أخذه الخلف عن السلف:رده الذهبي بأنه لا طائل تحته ولا نعلم صحبياً فعله بل شيء أحدثه التابعون ولم يبلغهم النهي .
والصحيح هو عدم كتابة شيء ويكون القبر تراباً فقط وبدون بناء وكتابة .
6- رفع القبر والبناء عليه وتجصيصه .
كذلك لا يجوز رفع القبور وبناءها وتجصيصها لأن هذا لم يثبت كذلك في السنة بل الثابت النهي عن ذلك . فعن جابر - رضي الله عنه - : "نهى أن يقعد على القبر و أن يجصص أو يبنى عليه" . (1)
قال ابن القيم: والمساجد المبنية على القبور يجب هدمها حتى تسوى الأرض إذ هي أولى بالهدم من مسجد الضرار الذي هدمه النبي - صلى الله عليه وسلم - وكذا القباب والأبنية التي على القبور وهي أولى بالهدم من بناء الغاصب اهـ.
7- الاجتماع للعزاء .
من البدع التي تكون في العزاء الاجتماع عند أهل الميت للعزاء من أجل أن يصبر بعضهم بعضاً .
وهذا الفعل غير مشروع ولم يكن عليه السلف الصالح .
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى في جوابه على سؤال:هل اجتماع أهل الميت في بيت واحد من أجل العزاء ومن أجل أن يصبر بعضهم بعضاً لا بأس به؟
فأجاب رحمه الله: الاجتماع في بيت الميت ليس له أصل من عمل السلف الصالح وليس بمشروع ، ولا سيما إذا اقترن بذلك إشغال الأضواء وصف الكراسي، وإظهار البيت وكأنه في ليلة زفاف عرس، فإن هذا من البدع التي قال عنها النبي - صلى الله عليه وسلم - : "كل بدعة ضلالة" (2) .اهـ. كتاب البدع والمحدثات وما لا أصل له (ص272) .
8- تحديد التعزية بثلاثة أيام .
__________
(1) ) ) صحيح الجامع رقم (6841) .
(2) ) ) رواه مسلم برقم (867).(1/376)
منتشر عند بعض الناس تحديد التعزية بثلاثة أيام فقط ويقولون لو رأيت الذي مات له ميت بعد الثلاثة أيام لا تعزيه ، وينتشر بينهم حديث كما يدعون : "لا عزاء بعد الثلاث" ، وهذا ليس بحديث والسنة خلاف ذلك بل الصحيح هو أن تعزيه في أي وقت كان وفي أي مكان دون تحديد للوقت .
قال الشيخ الألباني رحمه الله : وأمّا حديث: "لا عزاء فوق ثلاث" الذي يتداوله العوام فلا يُعرفُ له أصل (1) .
9- وضع الزهور على قبر الميت .
وقد انتشر بين الناس مسألة وضع الزهور على القبر وهذا الفعل لا يجوز لعدة أمور : منها : أنه من بدع النصارى .
ثانياً : وضع أي شيء على القبر يؤذي الميت ، ثالثاً : من استدل بوضع النبي - صلى الله عليه وسلم - لجريد النخل على القبرين مخطئٌ من وجهين : 1- هذا خاص بالنبي - صلى الله عليه وسلم - حيث قال : "إني مررت بقبرين يعذبان فأحببت بشفاعتي أن يرفه عنهما ما دام الغصنان رطبين" .
2- وضع النبي - صلى الله عليه وسلم - للغصنين لأنه علم أنهما يعذبان ، فالذي يضع الزهور أو أي شيء كأنه يقول بأن ميته يعذب وهذا حرام وتألٍ على الله تعالى لأنه ما أدراه بأنه يعذب؟ ويكون هذا اتهاماً للميت بالعذاب.
10- توزيع الحلويات عن الميت وتخصيصه في المقبرة .
يقوم البعض بتوزيع الحلويات عن ميتهم وخصوصاً في اليوم السابع أو بعده، وهذا كله غير جائز ولم يفعله أحد من السلف ، والصحيح عليهم بالدعاء له بالمغفرة والرحمة لأنه أحوج إلى الدعاء، والدعاء يصل للميت بالاتفاق ، وكذلك على أولاده أن يتصدقوا عن ميتهم ، وهذا كله خير له ورفع درجته بإذن الله تعالى .
وتوزيع هذه الأشياء وغيرها إذا كانت من أولاده فجائزة ولكن من غير تخصيص في مكان كالمقبرة ونحو ذلك .
11- لبس السواد .
__________
(1) ) ) أحكام الجنائز (ص209) .(1/377)
ترتدي بعض النساء ثياب السواد عند الحداد على الميت وهذا غير جائز لأنه يعتبر من باب التسخط على قدر الله تعالى وعدم الرضى ، والصواب هو لبس ما ليس فيه زينة من الألوان ولا يشترط الأسود فقط .
12- إعفاء اللحية على الميت .
لقد حذر النبي - صلى الله عليه وسلم - من نثر الشعر في المصيبة وأخذ العهد على ذلك ، لأنه من السخط وعدم الرضا على قدر الله تعالى .فعن أسيد بن أبي أسيد التابعي عن امرأة من المبايعات قالت: "كان فيما أخذ علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المعروف الذي أخذ علينا، أن لا نخمش وجها، ولا ندعو ويلاً، ولا نشق جيباً، ولا ننشر شعراً". (1)
ويدخل في الباب كذلك الشباب الذين يعفون اللحى في حال المصيبة وفي غير المصيبة يحلقونها ، فهم آثمون لحلقهم اللحى لأن إعفاء اللحية واجبة ، وآثمون كذلك لإعفائها في وقت المصيبة من باب نثر الشعر الذي هو من باب التسخط على أقدار الله تعالى .
13- قولهم : الفاتحة على روح فلان .
يكثر بين الناس قراءة الفاتحة على الأموات والأغرب منه يقولون الفاتحة على روح النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وهذا الفعل عبادة والعبادة توقيفية ، أي العبادة لا تكون إلا من عند الله تعالى سواء أكان في الكتاب أو في السنة يعني لا نقوم بأي عمل حتى يكون لنا فيه دليل من الكتاب أو السنة ، وهذا الفعل ليس عليه دليل بل الدليل خلافه وليس للإنسان إلا ما قدم من عمل صالح ، قال الله تعالى : { وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى } . (2) ،وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :"إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاثة: إلا من صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له". (3)
__________
(1) رواه أبو داود، وصححه الألباني في صحيح الترغيب برقم (3535).
(2) ) ) سورة النجم (39).
(3) رواه مسلم في كتاب الوصية برقم (1631) ، باب ما يلحق الإنسان من الثواب بعد وفاته .(1/378)
قال الإمام النووي رحمه الله: "قال العلماء: معنى الحديث أن عمل الميت ينقطع بموته وينقطع تجدد الثواب له إلا في هذه الأشياء الثلاثة لكونه كان سببها فإن الولد من كسبه ، وكذلك العلم الذي خلفه من تعليم أو تصنيف، وكذلك الصدقة الجارية،وهي الوقف.شرح النووي(11/85).
فخلاصة القول نقول : الدعاء من الغريب جائز بالاتفاق ولكن قولهم الفاتحة على روح فلان وقراءتها لم يثبت فيها دليل . والله أعلم .
14- الجهر بالذكر عند تشييع الجنازة، وقول :لا إله إلا الله ، أو وحدوا الله .
نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن تتبع الجنازة بصوت أو نار (1) وكان أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يكرهون رفع الصوت عند الجنائز . (2)
فنرى البعض يرفعون أصواتهم بالذكر عند تشييع الجنازة كقولهم قولوا لا إله إلا الله .
قال الشيخ الألباني: ولأن فيه تشبيهاً بالنصارى فإنهم يرفعون أصواتهم بشيء من أناجيلهم وأذكارهم مع التمطيط والتلحين والتحزين .
وقال: وأقبح من ذلك تشييعها بالعزف على الآلات الموسيقية أمامها عزفاً حزيناً كما يُفعل في بعض البلاد الإسلامية تقليداً للكفار . والله المستعان . اهـ . (3) .
15- جعل الوسادة تحت رأس الميت .
يضع البعض الوسادة تحت رأس الميت وهذا الفعل غير وارد عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا صحابته الكرام، ولا دليل عليه .
16- نصب حجرين على قبر المرأة .
يتم وضع حجرين على قبر المرأة لتمييزه عن قبر الرجل ، وهذا من البدع التي أحدثها بعض الناس ، وكذلك الكتابة على القبر ككتابة الاسم أو تاريخ الوفاة وما شابه ذلك وهذا كله من البدع المحدثة .
__________
(1) ) ) أنظر أحكام الجنائز للشيخ الألباني رحمه الله (ص91) .
(2) ) ) قال الألباني: أخرجه البيهقي(4/74)،وابن المبارك في الزهد(83)، وأبو نعيم (9/58) بسند رجاله ثقات . أحكام الجنائز الألباني(ص92) .
(3) ) ) أحكام الجنائز للشيخ الألباني رحمه الله تعالى (ص92) .(1/379)
وقال الشوكاني: "قال الإمام يحيى فأما نصب حجرين على المرأة وواحدة على الرجل فبدعة" . (1)
17- حفر القبر قبل الموت استعداداً له .
يستعد البعض في حفر قبورهم قبل الوفاة فهل علم هذا الشخص أنه سيموت في هذا المكان أو البلدة ، وإذا مات في بلد آخر ليس من السنة نقله إلى المكان الذي حفر فيه القبر .
18- قول : انتقل إلى رحمة الله، أو المرحوم .
يطلق البعض عبارات على الشخص الذي يموت كأن يقول أحدهم انتقل فلان إلى رحمة الله أو المرحوم فلان وما شابه ذلك ، فما أدرى هذا القائل بأن هذا الميت قد رُحم وكيف تجزم بأن الله رحمه .
لكن إذا قصد القائل بالدعاء له أي يدعو الله بأن يجعله من المرحومين أو من المغفور لهم فهذا لا بأس به والله أعلم .
19- الإعلان عن الوفاة وقراءة آية قبله .
نسمع بعض الناس يعلن عن وفاة شخص وخصوصا عن طريق سماعات المسجد ويقوم بقراءة آية: { كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ } ، ويقول انتقل فلان إلى رحمة الله، أو إلى جوار ربه، وما شابه ذلك، وهذا من البدع المحدثة التي لم تثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا عن صحابته الكرام .
ولكن يجوز ذلك لأعلام الناس لكي يقوموا بواجبه من غسل ونحوه، ولكن ليس في سماعات المساجد أو الجرائد ونحوها .
20- صنع الطعام لضيافة الواردين للعزاء .
يقوم بعض الناس عند وفاة شخص لهم بصنع الطعام لمن يأتي معزياً لهم وهذا خلاف السنة، بل السنة أن يصنع الطعام لأهل الميت كما أرشد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لذلك عند وفاة جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه واستشهاده في غزوة مؤتة، فعن عبد الله بن جعفر قال : لما نعي جعفر قال النبي - صلى الله عليه وسلم - :"اصنعوا لآل جعفر طعاماً فقد أتاهم أمر يشغلهم" (2) .
21- قراءة القرآن على الميت واعطاء الأجرة على ذلك .
__________
(1) ) ) نيل الأوطار (4/132) .
(2) ) ) أنظر أحكام الجنائز للشيخ الألباني رحمه الله (ص211) .(1/380)
تبين فيما مرَّ بأن قراءة القرآن على الميت غير مشروعة فهي بدعة لا ينبغي فعلها ..
فعليه لا يجوز أن يدعى رجل بأجرة أو بغير أجرة لهذا الغرض .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "استئجار الناس ليقرءوا، ويهدوه إلى الميت ليس بمشروع، ولا استحبه أحد من العلماء، فإن القرآن الذي يصل ما قُريء لله، فإذا كان قد استؤجر للقراءة لله، والمستأجر لم يتصدق عن الميت، بل استأجر من يقرأ عبادة لله عزوجل لم يصل إليه" .اهـ. (1)
22- قولهم : "دُفن في مثواه الأخير"
هذه المقولة لا تجوز وهي حرام شرعاً وتتضمن إنكار البعث، حيث أن مفهوم هذه العبارة بأن هذا الميت قد انتقل إلى مثواه ومنزله الأخير أي القبر وبذلك ينكر البعث لأن المكان الأخير هو أما إلى الجنة أو إلى النار والعياذ بالله . وكما أن القبر هو مرحلة بين الدنيا والآخرة .
وسئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله ما حكم قولهم (دُفن في مثواه الأخير) ؟
فأجاب بقوله: قول القائل دفن في مثواه الأخير حرام و لا يجوز، لأنك إذا قلت في مثواه الأخير فمقتضاه أن القبر آخر شيء له، وهذا يتضمن إنكار البعث، ومن المعلوم لعامة المسلمين أن القبر ليس آخر شيء إلا عند الذين لا يؤمنون باليوم الآخر، فالقبر آخر شيء عندهم، أما المسلم فليس آخر شيء عنده القبر. وقد سمع أعرابي رجلاً يقرأ قوله تعالى : { أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ } التكاثر. فقال: والله ما الزائر بمقيم، لأن الذي يزور يمشي فلا بد من بعث، وهذا صحيح .ولهذا يجب تجنب هذه العبارة فلا يقال عن القبر: إنه المثوى الأخير .
23- استلام القبر (الضريح) وتقبيله .
لا يجوز استلام القبر (الضريح) ولا تقبيله ولا الاستغاثة به ولا الدعاء عنده وكل هذه الأمور من الأفعال الشركية والعياذ بالله ، والاعتقاد بها يخرج العبد من الملة نسأل الله أن يجنبنا الفتن وأن يعصمنا من الزلل .
__________
(1) ) ) مجموع الفتاوى (18/299) .(1/381)
23- قولهم في التعزية : أعطاك عمرة ، أو البقية في حياتك.
من الألفاظ المنهي عنها قول المعزي لأهل الميت أو قول بعضهم البعض: أعطاك عمرة، أو البقية في حياتكم أو في حياتك، والبقاء لا يكون إلا لله تعالى.
والناس يقولونها ويقصدون بها أن ما تبقى من حياتهِ التي لم يكملها الميت فهي في حياتك، وهذا خطأ عظيم لأن أجله قد انتهى وأن عمره قد انقضى فلا بقية فيه أصلاً .
والصحيح أن يقول : لله ما أخذ وَلَهُ ما أعطى وكل شيء عنده بأجل مسمى فلتصبر ولتحتسب .
24- قراءة سورة يس على المحتضر أو على القبر .
قراءة سورة يس على القبر لا يصح فيها دليل وهذا الفعل من البدع التي نهى عنها الشارع الحكيم .
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله :
قراءة سورة يس على القبر بدعة لا أصل لها، وكذلك قراءة القرآن بعد الدفن ليست بسنة؛ بل هي بدعة ، وذلك لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه، وقال : "استغفروا لأخيكم، واسألوا له التثبيت فإنه الآن يُسأل". (1) ولم يرد عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يقرأ على القبر ولا أمر به. (2)
- - -
خلاصة ما ورد في هذه الكتاب
أولاً: أهل السنة والجماعة لا شك أنهم الفرقة الناجية والطائفة المنصورة المتمسكون بكتاب الله سبحانه وتعالى وبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبإجماع هذه الأمة المرحومة خير أمة أخرجت للناس وجماعتها وهم حراس الدين، الظاهرون على الحق إلى قيام الساعة.
ثانياً: كل ما خالف الكتاب والسنة والإجماع فهو بدعة وما لم يخالف الكتاب ولا السنة ولا الإجماع فليس ببدعة.
ثالثاً: البدع التي ظهرت في المسلمين كثيرة أصولها القديمة خمس هي: الخروج، والرفض، والتجهم، والإرجاء والقدر.
__________
(1) ) ) رواه أبو داود برقم (3221) ، والحاكم في المستدرك (1/370)، صحيح الجامع رقم (945) و (4760)، وصحيح سنن أبي دلود برقم (2758) .
(2) ) ) فتاوى التعزية لابن عثيمين (ص35) .(1/382)
رابعاً: اتبع أهل السنة والجماعة السياسة الحكيمة في القضاء على البدع، وتقليل شرها ما أمكن ذلك.
فمن خلفاء الإسلام الراشدين من قاتلهم، كما قاتل أبو بكر رضي الله عنه مانعي الزكاة الذين أقروا بالصلاة وسائر فروض الإسلام وأنكروا فرض الزكاة، وكما قاتل علي بن أبي طالب رضي الله عنه الخوارج لما أظهروا بدعتهم، وقاتلوا المسلمين وكفروهم، وكذلك حرق رضي الله عنه من ادعوا فيه الألوهية وقالوا له أنت هو!! أنت الله!!
فقال قولته المشهورة:
لما رأيت الأمر أمراً منكراً أججت ناري ودعوت قَمْبرَا
ومن بعده قتل خلفاء بني أمية الخوارج وكثيراً من الزنادقة، ومدعي النبوة، وأهل التأويل الباطل كالجعد بن درهم، وجهم بن صفوان...
وقتل خلفاء بني العباس كثيراً من رؤوس البدع والزندقة، والوضاعين، كالحلاج وغيره.
وقام علماء أهل السنة بما أوجب الله عليهم من البيان وإيضاح المحجة، والرد على كل البدع: عقائديةً وعمليةً.
وكذلك أمروا باعتزال رؤوس البدع والضلالات لحصر شر بدعتهم، وإماتتها....
وتركوا الصلاة عليهم أحياناً زجراً لأتباعهم وكان لهم مواقف وضوابط في قبول شهادتهم ورواياتهم عن الرسول صلى الله عليه وسلم.
هذا مع نظر أهل السنة والجماعة الثاقب في إعلاء منار الدين ونصرة رسالة رسول رب العالمين..
وبالجملة فقد كان موقف أهل السنة والجماعة مع البدع والمبتدعة هادفاً إلى نصر الدين وإيضاح الحق، وعدم إلباس الصراط المستقيم بصراط الذين غضب الله عليهم والضالين...(1/383)
خامساً: كثيراً ما يصدر كلام فيه خشونة وجرح من بعض العلماء الثقات في أقرانهم من العلماء الثقات كذلك، ويكون ذلك مرجعه أحياناً إلى الحسد، أو سرعة الغضب، أو التعجل في الحكم، ومثل هذا الكلام يُطوَى ولا يروى ونَقْلُنا هنا للفصل الخاص بذلك مما ذكره ابن عبدالبر في كتابه (جامع بيان العلم وفضله) إنما هو لتأصيل هذه القاعدة وهي أن قدح الأفراد والثقات بعضهم لبعض يجب رده وتركه.. ولا يجوز التعويل عليه.. وجعله قاعدة عامة في جواز الوقيعة في أهل العلم، أو التأسي بمن وقع ذلك منهم، أو جرح من أردنا جرحه لأن من أخذ كلام عالمٍ ثقةٍ في عالمٍ ثقةٍ فإنه لن يسلم له أحد في نهاية المطاف.
وهذا يؤدي حتماً إلى الزيغ والضلال.
سادساً: نشأ في المسلمين اليوم من لا يفرق بين السنة والبدعة، ولا يعرف المصالح الشرعية، فجعل البدعة اللغوية التي لم تخالف كتاباً ولا سنة ولا إجماعاً كالبدعة الشرعية، ولم يفرق بين بدعة صغرى وبدعة كبرى،ووضع أصولاً من أصول الضلال زعمها أصولاً.(1/384)
قال الشيخ عبدالمحسن العباد البدر في كتابه أثر العبادات في حياة المسلم: ثمَّ إنَّ العبادة لا بدَّ في قبولها من شرطين؛ أحدهما: إخلاص العمل لله، والثاني: تجريد المتابعة لرسول الله ، فلا بدَّ من تجريد الإخلاص لله وحده، فلا يُشرَكُ مع الله غيره، ولا يُصرفُ من أنواع العبادة شيء لغير الله سبحانه وتعالى، و لا بد من تجريد المتابعة للرسول ، فلا يُعبد الله إلاَّ وفقاً لما جاء به الرسول الكريم صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، وهذا هو مقتضى شهادة أن لا إله إلا الله وشهادة أنَّ محمداً رسول الله؛ لأنَّ مقتضى أشهد أن لا إله إلا الله إخلاص العمل لله وحده، فلا يُصرف شيء من أنواع العبادة لغيره، بل تكون العبادات كلُّها خالصةً لوجهه سبحانه وتعالى، ومقتضى أشهد أن محمداً رسول الله أن تكون العبادةُ وفقاً لِمَا جاء عن الرسول الكريم ، فلا يُعبد الله بالبدع والمحدثات والمنكرات التي ما أنزل الله تعالى بها من سلطان، بل تكون العبادة وفقاً للسنة، ولما جاء به الرسول الكريم .
والحاصلُ أنَّ مقتضى أشهد أن لا إله إلا الله إخلاص العمل لله، ومقتضى أشهد أنَّ محمداً رسول الله تجريد المتابعة لرسول الله ، فلا بدَّ في أيِّ عملٍ من الأعمال أن يكون لله خالصاً وأن يكون لسنة نبيه محمدٍ موافقاً ومطابقاً، فإذا اختلَّ أحَدُ هذين الشرطين بأن فُقد الإخلاصُ، أو فُقدت المتابعةُ، أو فُقِدَا معاً فإنَّ العملَ مردودٌ على صاحبه، ولا يقبل عند الله عز وجل، قال تعالى في بيان ردّ العمل بسبب عدم الإخلاص: { !$uZّBد‰s%ur 4'n<خ) $tB (#qè=دJtم ô`دB 9@yJtم çm"oYù=yèyfsù [ن!$t6yd #·'qèWY¨B } ، وقال الرسول الكريم في بيان ردِّ العمل إذا كان مبنياً على بدعة: (( مَن أحدثَ في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردٌّ )) رواه البخاري
(2697)، ومسلم (1718) من حديث عائشة رضي الله عنها، وفي لفظ لمسلم: (( مَن عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو ردٌّ )).(1/385)
وقال عليه الصلاة والسلام: (( فإنَّه مَن يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسُنَّتِي وسُنَّة الخلفاء المهديين الراشدين تَمسَّكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإيّاكم ومحدثات الأمور، فإنَّ كلَّ محدثة بدعة، وكلَّ بدعة ضلالة )) رواه أبو داود (4607)، والترمذي (2676) من حديث العرباض ابن سارية، وقال الترمذي: (( حديث حسن صحيح )).
وقد بَيَّن عليه الصلاة والسلام في حديث الثلاث وسبعين فرقة الذين يَدخل منهم النار اثنتان وسبعون فرقة، وفرقةٌ واحدة تنجو، بَيَّن عليه الصلاة والسلام أنَّ هذه الفرقة الناجية هم الذين كانوا على ما كان عليه رسول الله وأصحابُه الكرام رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم.
وقال الإمام مالك بن أنس رحمة الله عليه: (( لن يصلح آخر هذه الأمّة إلاَّ بما صلح به أوّلها ))، وقال رحمه الله: (( مَن ابتدع في الإسلام بدعةً يراها حسنة فقد زعم أنَّ محمداً خان الرسالة؛ لأنَّ الله يقول:
{ tPِquّ9$# àMù=yJّ.r& ِNن3s9 ِNن3oYƒدٹ } فما لَم يكن يومئذ ديناً فلا يكون اليوم ديناً )). الاعتصام للشاطبي (1/28).
ولا يكفي أن يقول الإنسانُ أنا أعمل بهذا العمل وإن لَم يأتِ عن النَّبِيِّ ؛ لأنَّ قصدي طيبٌ وقصدي حسنٌ، والدليل على هذا أنَّ النَبِيَّ عليه الصلاة والسلام لَمَّا بلغه أنَّ رجلاً من أصحابه الكرام ذبح أُضحيتَه قبل صلاة العيد قال له عليه الصلاة والسلام: (( شاتُك شاةُ لحم )) أي: ليست أضحية؛ لأنَّها لم تقع طبقاً للسُّنَّة، إذ إنَّ السُّنَّةَ أن يبدأ ذبح الأضاحي بعد صلاة العيد، أما الذبح قبل الصلاة فإنَّه يكون في غير وقته فلا يعتبر، والحديث أخرجه البخاري (5556)، ومسلم (1961)، وقال الحافظ في شرحه في الفتح (10/17): (( قال الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة: وفيه أنَّ العمل وإن وافق نيَّةً حسنة لم يصح إلاَّ إذا وقع على وفق الشرع )).(1/386)
ومِمَّا يوضح ذلك أيضاً أنَّ عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، صاحب الرسول الله جاء إلى أُناس وقد تَحلَّقوا في المسجد، ومع كل واحد منهم عدد من الحصى، وفيهم رجل يقول سبِّحوا مائة، هلِّلوا مائة، كبِّروا مائة، فيعدون بالحصى حتى يأتوا بهذا الذِّكر، يعدونه بذلك الحصى، فوقف على رؤوسهم عبد الله بن مسعود رضي الله عنه فقال: (( ما هذا الذي أراكم تصنعون؟ قالوا: يا أبا عبد الرحمن! حصى نعدُّ به التكبيرَ والتهليلَ والتسبيحَ، قال: فعُدوا سيئاتكم فأنا ضامن أن لا يضيع من حسناتكم شيء، ويحكم يا أمّة محمد! ما أسرع هلكتكم! هؤلاء صحابة نبيكم متوافرون، وهذه ثيابُه لم تَبْلَ، وآنيتُه لم تكسر، والذي نفسي بيده إنكم لعلَى مِلَّة هي أهدى من مِلَّة محمد أو مفتتحو باب ضلالة؟! قالوا: والله يا أبا عبد الرحمن! ما أردنا إلا الخير، قال: وكم من مريد للخير لن يصيبه ))، هذا الأثر رواه الدارمي في سننه (1/68 - 69)، وأورده الألباني في السلسلة الصحيحة (2005).
وأمّا الآثار المترتبة على العبادات فمنها؛ انشراحُ الصدر، وراحةُ البال، وسَعةُ الرزق، وسلامةُ الإنسان وارتياحُه واطمئنانُه.اهـ.
ربنا أغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم.
*************
الخاتمة
أخي الفاضل أختي الفاضلة بعد أن علمنا الإخلاص والإتباع وأهميته في حياة المسلم وثمرته، فعلينا أن نجد ونتابع رسولنا الكريم $ في كل عبادة نتقرب بها إلى الله تعالى.
عن ابن المبارك قال: أعلم أي أخي! إن الموت كرامة لكل مسلم لقي الله على السنة، فإنا لله وإنا إليه راجعون، فإلى الله نشكو وحشتنا، وذهاب الإخوان، وقلة الأعوان، وظهور البدع، وإلى الله نشكو عظيم ما حل بهذه الأمة من ذهاب العلماء وأهل السنة وظهور البدع.
فالله الله بالتمسك بالكتاب والسنة بفهم سلف الأمة.(1/387)
ونسأل الله لنا ولكم الإخلاص والقبول في العمل وتطبيق شرع ربنا كما علمنا نبينا - صلى الله عليه وسلم - وعلى فهم سلفنا رضوان الله عليهم جميعاً .
وبهذا تم الكتاب والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات ، وأرجو الله أن تكونوا قد انتفعتم به، وأن تعملوا به.وأن يعم به النفع.
وسبحانك اللهم وبحمدك أشهد إن لا إله ألا أنت أستغفرك وأتوب إليك .
و كتب/ أبو أنس العراقي
ماجد بن خنجر البنكاني
ffffff
مصادر الكتاب
1- القرآن الكريم .
2- موطأ الإمام مالك .
3- مسند الإمام أحمد .
4- صحيح البخاري .
5- صحيح مسلم .
6- مستدرك الحاكم .
7- سنن الدارمي .
8- مسند أبي يعلى .
9- فتح الباري .
10- شرح صحيح مسلم للنووي .
11- تفسير الطبري .
12- تفسير القرآن العظيم لابن كثير .
13- تفسير القرطبي .
14- تفسير الجلالين .
15- أحكام القرآن .
16- تفسير السعدي .
17- طبقات المفسرين للداودي .
18- مصنف عبد الرزاق .
19- مصنف ابن أبي شيبة .
20- مجمع الزوائد للهيثمي .
21- مستدرك الحاكم .
22- عمل اليوم والليلة لابن السني .
23- شعب الإيمان للبيهقي .
24- موارد الظمآن .
25- فيض القدير .
26- سنن النسائي .
27- سنن أبي داود .
28- زوائد البوصيري .
29- المنة الكبرى شرح السنن الصغرى للبيهقي .
30- معالم السنن على حاشية سنن أبي داود .
31- المعجم الكبير .
32- المعجم الأوسط .
33- المعجم الصغير .
34- الطحاوي في مشكل الآثار .
35- جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر .
36- مسند البزار .
37- الأدب المفرد للبخاري .
38- تذكرة الحفاظ .
39- مسند الحارث زوائد الهيثمي .
40- مسند الشهاب للقضاعي .
41- السنن الواردة في الفتن .
42- الترغيب والترهيب .
43- المحلى لابن حزم .
44- عون المعبود .
45- رياض الصالحين .
46- شرح رياض الصالحين لابن عثيمين . طبعة مكتبة الأنصار مصر .
47- مسند الطيالسي .
48- مسند الشاميين .
49- الفردوس بمأثور الخطاب .(1/388)
50- الطبقات الكبرى .
51- كشف المشكل .
52- أسد الغابة .
53- مقدمة المجموع شرح المهذب .
54- السنة لابن أبي عاصم .
55- مجموع الفتاوى .
56- الفتاوى الكبرى .
57- الصارم المسلول .
58- الأمالي للمحاملي .
59- جامع الأصول .
60- حلية الأولياء .
61- كتاب الزهد لعبد الله بن المبارك .
62- كتاب الزهد لهناد .
63- كتاب الزهد لوكيع .
64- كتاب الصمت لابن أبي الدنيا .
65- كتاب ذم الغيبة لابن أبي الدنيا .
66- السلسلة الصحيحة .
67- التعليقات الحسان .
68- صحيح الجامع للألباني .
69- ضعيف الترغيب .
70- صحيح الترغيب .
71- صحيح الترمذي .
72- صحيح ابن ماجة .
73- صحيح ابن خزيمة .
74- مشكاة المصابيح .
75- الروض النضير .
76- إرواء الغليل .
77- صحيح موارد الظمآن .
78- فضل الصلاة .
79- صفة الصلاة .
80- حجاب المرأة المسلمة .
81- آداب الزفاف .
82- مختصر الشمائل المحمدية للترمذي.
83- الثمر المستطاب .
84- أحكام الجنائز .
85- العلل المتناهية لابن الجوزي .
86- الرجال الذين ترجم لهم الألباني في الإرواء .
87- تحفة الأحوذي .
88- الفتوحات .
89- حادي الأرواح .
90- القصيدة النونية .
91- الجواب الكافي
92- زاد المعاد .
93- الطب النبوي .
94- مدارج السالكين .
95- الآداب الشرعية لابن مفلح . طبعة الرسالة .
96- مفتاح دار السعادة .
97- الأمالي للمحاملي .
98- الأحاديث المختارة .
99- معالم التنزيل للبغوي.
100- شرح السنة للبغوي .
101- مكارم الأخلاق للخرائطي .
102- كتاب الزهد لابن أبي عاصم .
103- كتاب الزهد لعبد الله بن المبارك .
104- سير أعلام النبلاء .
105- تلبيس إبليس .
106- وكتاب الناسخ والمنسوخ بتحقيق محمد صالح المديفر .
107- التذكرة في أحوال الموتى والآخرة للقرطبي .
108- تاريخ ابن عساكر .
109- تهذيب الأسماء واللغات .
110- كتاب الأذكار للنووي .
111- نيل الأوطار .
112- إرشاد العباد للاستعداد ليوم المعاد .(1/389)
113- مختصر الإتقان في علوم القرآن .
114- فتاوى اللجنة الدائمة .
115- القول المفيد شرح كتاب التوحيد للعلامة ابن عثيمين .
116- كتاب العلم لابن عثيمين .
117- تنبيه الأفهام شرح عمدة الأحكام لابن عثيمين .
118- فتاوى الشيخ محمد بن عثيمين . ط دار عالم الكتب .
119- الشرح الممتع على زاد المستقنع .
120- موسوعة الآداب الإسلامية لعبد العزيز ندا .
121- جواهر السنة في إعفاء اللحية .
122- الاختيارات العلمية .
123- إتحاف ذوي الألباب بما في الأقوال والأفعال من الثواب .
124- تحذير الأنام بما في الأقوال والأفعال من الآثام .
125- آداب اللسان فيما يخص اللسان من خير أو شر في ضوء الكتاب والسنة وأقوال السلف .
126- نزْهَة العِبَاد بِفَوَائِد زَاد المعَادْ .
127- اللؤلؤ والمرجان بوصف الجنة والحور الحسان .
128- صحيح الطب النبوي .
129- رحلة العلماء في طلب العلم .
130- كتاب الإبداعات الطبية لرسول الإنسانية .
131- كتاب العلاج بالأغذية الطبيعية والأعشاب .
132- غذاؤك حياتك .
133- أسرار التداوي بالأعشاب .
134- رسالة في المعاني المستنبطة .
135- معجم البلدان .
136- النهاية في غريب الحديث .
137- الغريب لابن سلام .
138- شرح السنة للبربهاري .
139- بدائع الفوائد .
140- حلية الأولياء .
141- صفة الصفوة .
142- لسان العرب .
143- القاموس المحيط .
144- معجم مقاييس اللغة .
145- مختار الصحاح .
146- الفائق .
147- التعاريف للمناوي .
148- معجم البلدان لياقوت الحموي .
149- معجم ما استعجم للأندلسي .
- - -(1/390)