|
المؤلف : محمد منير بن عبده أغا النقلي الدمشقي الأزهرى (المتوفى : 1367هـ)
الناشر : دار ابن كثير دمشق- بيروت
مصدر الكتاب : موقع مكتبة المدينة الرقمية
http://www.raqamiya.org
[ الكتاب مفهرس موضوعيا وترقيمه موافق للمطبوع ومذيل بتخريجات وأحكام على الأحاديث]
مقدمة
...
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وبعد:
فهذا كتاب "الإتحافات السنية بالأحاديث القدسية" نقدمه للناس في وقت يحتاج الناس إلى معرفة الأحاديث القدسية، وما أكثرها، وكثير من الناس بل ومن طلاب العلم يظن أننا إذا قلنا: هذا حديث قدسي، أنه حديث صحيح، وهذا غير صحيح. فكم من الأحاديث القدسية فيها ضعف، وربما كانت شديدة الضعف أو موضوعة، فهي كالأحاديث النبوية سواء بسواء؛ لذلك كان لابد من البحث عنها، والنظر في أسانيدها، والتحقيق فيها، والحكم عليها حسب قواعد علم مصطلح الحديث، فقد تكون صحيحة، وقد تكون حسنة، وقد تكون موضوعة.
والحافظ المناوي الذي جمع هذه الأحاديث لم يجمعها على أنها صحيحة، بل جمعها جمعًا بغض النظر عن صحتها، وحسنها، وضعفها بل على أنها أحاديث قدسِّية فقط، والشيخ محمد منير بن عبده آغا الدمشقي الذي شرحها لم يتعرض للأحاديث من جهة صحتها وضعفها،
(1/1)
وإنما شرح ألفاظا ومعانيها، وترجم لبعض الرواة كما ذكر رحمه الله تعالى في شرحه لهذه الأحاديث: أنه وجد بعض الأحاديث تحتاج إلى شرح وإيضاح، وعلَّق عليها قدر الحاجة الماسة، وعرَّف الحديث القدسي، وبيَّن الفرق بينه وبين القرآن الكريم؛ ليكون القارئ على بصيرة من أمره.
وقد رتبه المؤلف المناوي على حروف المعجم تسهيلًا لطلاب العلم، فجزى الله تعالى خيرًا المؤلف، والشارح.
هذا وقد قمنا بتخريج الأحاديث القدسية التي جمعها المؤلف المناوي، كما خرجنا الأحاديث التي استشهد بها الشارح صاحب كتاب النفحات السلفية بشرح الأحاديث القدسية الشيخ محمد منير الدمشقي، وترجمنا بعض الأعلام باختصار نرجو الله تعالى أن يجعل عملنا هذا خالصًا لوجهه الكريم وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
عبد القادر الأرناؤوط وطالب عواد
(1/2)
ترجمة المؤلف
هو زين الدين محمد عبد الرؤوف بن تاج العارفين بن علي بن زين العابدين الحدادي ثم المناوي القاهري. له مؤلفات كثيرة، منها الكبير والصغير، والتام والناقص، عاش في القاهرة، وتوفي بها، من تصانيفه: كنوز الحقائق في الحديث، والتيسير شرح الجامع الصغير، اختصره من شرحه الكبير "فيض القدير شرح الجامع الصغير" و"شرح الشمائل" للترمذي، و "الكواكب الدرية في تراجم السادة الصوفية" و"الجواهر المضيئة في الآداب السلطانية" وغيرها من الكتب، منها ما قد طبُع، ومنها ما لم يُطبع.
وكتاب "الإتحافات السنية في الأحاديث القدسية" وهو كتابنا هذا، وهو متساهل في الصحيح والحسن، يعلم ذلك من يطالع كتابه "فيض القدير شرح الجامع الصغير". وهو من كبار علماء مصر، انزوى للبحث والتصنيف، وكان قليل الطعام، كثير السهر، وقد مرض في آخر عمره، وضعفت أطرافه، فكان ولده يستملي منه تآليفه.
توفي سة "1030"هـ رحمه الله تعالى رحمة واسعة، وأسكنه فسيح جناته.
(1/3)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي شرحَ قلوبَ أحبابه بأحاديثه القدسية، والصلاة والسلام على خاتم أنبيائه الناطق بالحكمة، وجوامع الكلم الكلية، وآله وصحبه الباذلين جهدهم في نشرالعلوم، والمشاريع الشرعية، والعرفية.
أما بعد: فيقول أفقر الورى إلى ربه الغني محمد منير بن عبده آغا الدمشقي الأزهري: طلب مني جماعة من طلبة العلم في المعاهد الدينية أن أختار لهم كتابًا في الأحاديث القدسية، وأنشره كي ينتفعوا به مع بيان مخرج الحديث، فنقبت عن ذلك مدة، فعثرت على رسالة الشيخ الوالي المحدث عبد الرؤوف المناوي الحدادي والد محمد تاج الدين في دار الكتب المصرية، فندبت أحد علماء الأزهر إلى نقلها عن أصلها، وبعد أن تمَّ ذلك قابلتها وصححتها، ولما وجدت فيها بعض أحاديث تحتاج إلى شرح، وإيضاح علقت عليها بقدر الحاجة الماسة لذلك، وأرجو الله أن يوفقني إلى نشر الكتب النافعة التي تنهض بالأمة، وتذكرها بسلفها، وما كانوا عليه من المجد، والعز، والسيطرة على غالب ممالك المعمورة.
وأذكرُ هنا تعريف الحديث القدسي، والفرق بينه وبين الحديث النوبي، وبينه وبين القرآن الحكيم؛ ليكون القارئ على بصيرة منها.
(1/5)
أقول:
الحديث القدسي: هو ما أخبرَ الله تعالى به نبيه بإلهام، أو مقام، فأخبر الرسول عليه الصلاة والسلام عن ذلك المعنى بعبارة من نفسه.
والحديث النبوي: ما يضاف إلى النبي صلى الله عليه وسلم لفظًا ومعنى، فيقال: حديث نبوي، ولا يقال له: حديث قدسي.
والقرآن :هو اللفظ المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم للإعجاز بسورة منه، المتعبد بتلاوته. وفرَّق الفقهاء بينها: بأن القرآن معجز، وكونه معجزة باقية على ممرِّ الدهور محفوظة من التغيير والتبديل.
وحرمة مسه للمحدِث وتلاوته لنحو الجنب، وروايته عند الإمام أحمد، وكراهته عند الشافعية، وتسمية الجملة منه آية وسورة، ويعطى قارئه بكل حرف عشر حسنات، وأن الصلاة لا تكون إلا بالقرآن، وأن جاحد القرآن يكفر بخلاف جاحد الحديث القدسي، والنبوي، وأنه لابد فيه من كون جبريل عليه السلام واسطة بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين الله تعالى، بخلاف الحديث القدسي، وغير ذلك مما هو مذكرو في محالِّه، والله أعلم.
وقال ملاَّ علي القارئ عليه رحمة الباري: الحديث القدسي: ما يرويه صدر الرواة وبدر الثقات، عليه أفصل الصلوات، وأكمل التحيات عن الله تبارك وتعالى تارةً بواسطة جبرائيل عليه السلام، وتارة بالوحي، والإلهام، والمنام مفوضًا إليه التعبير بأي عبارة شاء من أنواع الكلام.
"تنبيه" وجد في خطبة هذه الرسالة لمحمد المدعو: تاج الدين بن المناوي الحدادي، وفي طرة الرسالة:-جمع الحقير الفقير الراجي فضل ربه القدير محمد المدعو تاج الدين المناوي الحدادي- وفي فهرس دار الكتب المصرية: محمد تاج الدين بن علي بن زيد العابدين - وفي "كشف الظنون" هو للشيخ محمد المعروف بعبد الرؤوف المناوي الحدادي المتوفي سنة "1035"، أوَّله: الحمد لله الذي نزَّل أهل الحديث أعلى منازل
(1/6)
الشرف...إلخ، وهذا كله خلاف الحقيقة، والصواب - على ما يظهر من ترجمة الحافظ: عبد الرؤوف بن تاج العارفين علي بن زين العابدين الحدادي ثم المناوي القاهري - إنه لعبد الرؤوف، إلا أنه لم يكمله، بل تركه مسودة، فجاء ولده المدعو: تاج الدين، وأكمله بعد أن بيضه، ونسبه إلى نفسه؛ لأن والده عبد الرؤوف عجز في آخر عمره بسبب الأمراض من تكميل كثير من مؤلفاته -على ما جاء في كتاب "خلاصة الأثر" فكان ولده محمد تاج الدين يستملي منه التآليف، ويسطِّرها؛ لذلك نسب ولده: محمد تاج الدين هذه الرسالة لنفسه في خطبتها، وهذا ما اهتديت إليه بعد بحث عميق، والله هو الهادي للصواب، وإليه المرجع والمآب.
(1/7)
شرح حديث: ابن آدم! أنزلت عليك سبع آيات
...
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدُ لله الذي نزَّل أهل الحديث أعلى منازل التشريف، والصلاة والسلام على سيدنا محمد النبي الشريف، العفيف، وآله، وصحبه، المعصومين في المقال عن التبديلِ والتحريف.
وبعد: يقولُ العبدُ الضعيف، الراجي عفو ربه الرؤوف اللطيف محمد المدعو: تاج الدين المناوي الحدادي، كفاه الله شر المناوي، والمعادي:
هذا كتاب أوردت فيه ما وقفت عليه من الأحاديث القدسية، الواردة على لسان خير البرية، مرتبًِا له على حروف المعجم، سائلاً الله أن يغفر لي ما ارتكبته من الزلل، ويرحم، إنه على ما يشاء قدير، وبالإجابة جدير، وسمَّيته "الإتحافات السنية بالأحاديث القدسية".
1- قال الله تعالى : "ابن آدم! أنزلت عليك سبع آيات: ثلاث لي، وثلاث لك، وواحدة بيني وبينك، فأما التي لي: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} والتي بيني وبينك: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} ، منك العبادة وعليَّ العون، وأما التي لك ، {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ، صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ}
"1. رواه الطبراني في معجمه الأوسط عن أبي بن كعب.
ش- خاطب الله عباده بخطاب عام شامل المؤمن، والكافر، الذكر، والأنثى، الحر، والعبد بقوله: ابن آدم" أي: أن الله سبحانه وتعالى أنزل سبع آياتٍ: ثلاثًا
ـــــــ
1 رواه الطبراني في الأوسط رقم "6411" وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد "2/ 112" وقال: رواه الطبراني في الأوسط وفيه سليمان بن أرقم متروك. فالحديث ضعيف.
(1/8)
مختصةً بالله تعالى، أولها: الحمد لله، الحمد والثناء على الحقيقة لا يكون إلا لله جلَّ اسمه، وتنزهت صفاته، فكل فرد من أفراد الحمد إنما هو لله سبحانه، وتعالى حقيقة؛ لأن النعم منه وإليه.
والثانية: الرحمن الرحيم، يعني: أن هذين الوصفين هما من خواص أسمائه ونعوت جلاله، فهو جل جلاله: الرحمن؛ أي: المنعم بجلائل النعم، والرحيم بدقائقها.
قال أبو علي الفارسي1: الرحمن: اسم عام في جميع أنواع الرحمة، يختص به تعالى، والرحيم: إنما هو في جهة المؤمنين، قال الله تعالى: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} [الأحزاب: 43].
والثالثة: مالك يوم الدين؛ أي: مالك يوم الحساب والجزاء، يوم يدين الله العبادَ بأعمالهم، ويجازي كل عامل بما عمله، واكتسبه.
وثلاثًا مشتركة بين الرب تعالت أسماؤه، وبين العبد، وهي: إياك نعبد وإياك نستعين ألَّا نعبد إلا إياك، ولا نستعين إلا بك، فنخصك بالعبادة والاستعانة في جميع الأمور، لا نفعل عبادة ما إلا لذاتك وعظمة جلالك، فكل عبادة لغيرك أو فيها غيرك شرك، ومردودة على صاحبها، والاستعانة، والالتجاء والمعونة لا تكون إلا بك جل اسمك، وعزَّ ثناؤك، ومنك، فمن استعان بغيرك، وأشرك معك غيرك، فقد أشرك، وجحد نعماءك، وضل سواء الطريق. منك العبادة وعلي العون، أي: فعلى العبد المخلوق القيام بالعبادة التي أمره الله جل ذكره بها وحضه عليها، ومنه طالبها، ومن الله جل جلاله المعونة، والتسديد، والقدرة عليها، وتسهيلها، والتوفيق لها، والتيسير لفعلها، والمحافظة عليها.
وأما التي هي خاصة بالعبد: فاهدنا الصرط المستقيم... إلخ؛ بأن يدعو الله سبحانه في السراء، والضراء بأن يهديه إلى دين الحق الواضح؛ الذي لا اعوجاج فيه، والصراط السوي الذي هو دين الإسلام: الدين الخالص، الدين المشتمل على سعادة الدارين. صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين، والصديقين، والشهداء، والصالحين. غير المغضوب عليهم الذي فسدت إرادتهم، فعلموا الحق وعدلوا عنها،
ـــــــ
1 أبو علي الفارسي: هو الحسين بن أحمد بن عبد الغفار الفارسي الأصل، أحد الأئمة في علم العربية. ولد في "فسا" من أعمال فارس، دخل بغداد سنة "307" وتجول في البلدان، وقدم حلب سنة "341" هـ فأقام مدة عند سيف الدولة، وعاد إلى فارس فصحب عضد الدولة، وتوفي سنة "377"هـ.
(1/9)
ولا صراطَ الضالين الذين فقدوا العلم فهم هائمون في الضلالة، لا يهتدون إلى الحق. اللهم أصلحْ حال الأمة الإسلامية، واهدهم للتمسك بالكتاب الحكيم، وسنة من هو بالمؤمنين رحيم!
(1/10)
شرح حديث: ابن آدم! تفرغ لعبادتي أملأ صدرك غنى
...
2- "ابن آدم! تفرَّغ لعبادتي أملأ صدرك غنىً، وأسدَّ فقرك. وإلا تفعل؛ ملأت صدرك شغلًا، ولم أسدْ فقرك "1. رواه الترمذي، والبيهقي عن أبي هريرة.
ش- أمرٌ من الله تعالى لعباده أن يفرِّغوا قلوبهم إلى عبادته تعالى، ولا يشغلوها بالسوى فتملأ صدورهم غنى، فلا ينظرون إلى الدنيا وزهرتها، ولا إلى ما في أيدي الناس. بل الدنيا بأيديهم دون قلوبهم يأخذون الزاد للآخرة، كمثل المسافر ليس له من سفره إلا المرور إلى مقصده، وهذه طريقة السلف الصالح، والقرون الأُول. ويسد فقره بأن لا يحتاج إلى أحد، وتشبع نفسه، وتزهد في الدنيا، وإن لم يفعل ما أمره الله به من ذلك ملأ الله صدره شغلًا؛ بأن يكون همُّه الدنيا، لا يشبع من حطامها؛ لانهماكه فيها، وشرهه،لم يسد فقره، بل يكون دائمًا محتاجًا فيها، ظاهر الفقر، وإن كان لديه مال كثير. فاسأل الله السلامة من الدنيا والميل إليها.
ـــــــ
1 رواه أحمد في المسند "3/ 358". والترمذي رقم "2468" في صفة القيامة.
وقال الترمذي هذا حديث حسن غريب. وابن ماجه رقم "4107". في الزهد. باب الهمِّ بالدنيا. والبيهقي في الشعب رقم "10339" والحاكم في المستدرك "2/ 443" وصححه، ووافقه الذهبي، وابن حبان رقم "2477" موارد. من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. نقول وهو حديث صحيح.
(1/10)
شرح حديث: ابن آدم! اذكرني بعد الفجر
...
3- "ابن آدم! اذكرني بعد الفجر، وبعد العصر ساعةً أكفكَ ما بينهما" 1. رواه مسلم في الزهد، وأبو نعيم عن أبي هريرة.
ـــــــ
1 رواه عبد الله في زوائد الزهد لأحمد ص "37". وقال حدثنا عبد الله بن سندل، حدثنا ابن المبارك عن جبير عن الحسن عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يذكر عن ربه عز وجل. والحسن لم يسمع من أبي هريرة رضي الله عنه كما قال غير واحد. وانظر التهذيب.
ورواه أبو نعيم في الحلية "8/ 213" وقال أبو نعيم: غريب من حديث الحسن عن أبي هريرة: نقول: وهو حديث ضعيف.
(1/10)
شرح حديث: ابن آدم! اكفني أول النهار أربع ركعات
...
4- "ابن آدم! اكفني أول النهار أربع ركعات أكفك بهن آخر يومك" 1
ـــــــ
1 رواه أحمد في المسند "4/ 153". وأبو يعلى رقم "1757". وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد "2/ 235" وقال: رواه أحمد، وأبو يعلى، ورجاله ورجال الصحيح. وهو حديث صحيح.
(1/10)
شرح حديث: ابن آدم! صل لي أربع ركعات من أول النهار
...
5- "ابن آدم! صلِ لي أربع ركعات من أول النهار أكفك آخره" 1. رواه أحمد عن أبي مرة الطائفي.
ـــــــ
1 رواه أحمد في المسند "5/ 287". وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد "2/ 236" وقال رواه أحمد، ورجاله رجال الصحيح نقول: وهو حديث صحيح. من حديث أبي مرة الطائفي رضي الله عنه.
(1/11)
شرح حديث: ابن آدم! عندك ما يكفيك
...
6- "ابن آدم! عندك ما يكفيك، وأنت تطلب ما يطغيك، لا بقليل تقنع، ولا من كثير تشبع، إذا أصبحت معافى في جسدك، آمنًا في سربك، عندك قوت يومك فعلى الدنيا العفاء" 1. رواه ابن عدي، والبيهقي عن ابن عمر.
ش - أي: يابن آدم عندك ما يسد حاجتك على وجه الكفاف، وأنت تحاول أخذ ما يطغيك، ويحملك على الظلم، ومجاوزة الحدود الشرعية، والحقوق المرعية. يابن آدم لا بقليل من الرزق تقنع؛ أي: ترضى، وتكتفي بما قسم لك، ولا من كثير تشبع، بل لا تزال شرهًا، نهمًا، تتطلع لما في أيدي الناس. يابن آدم إذا أصبحت؛ أي: دخلت في وقت الصباح والحال أنك معافى، أي: سالماً من الآلام، والآثام في جسمك، وبدنك، آمنًا في سربك -بكسر وسكون، أي: نفسك- أو بفتح وسكون- مذهبك وملكك. عندك قوت يومك، وهو ما يقوم بكفايتك في يومك، وليلتك، أو ما يسد الرمق، فعلى الدنيا العفاء -بفتح العين المهملة- أي: الهلاك، والدروس، وذهاب الأثر.
قال الزمخرشي2: ومنه قولهم: عليه العفاء: إذا دعا عليه ليعفو أثره والمعنى: إذا
ـــــــ
1 رواه البيهقي في الشعب رقم "10360". وأبو نعيم في الحلية "6/ 98" والطبراني في الأوسط "8875". وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد "10/ 289" وقال رواه الطبراني في الأوسط وفيه أبو بكر الداهري وهو ضعيف: أقول: الداهري قال الذهبي في الكنى ليس بثقة ولا مأمون، وقال الجوزجاني: كذاب. وقال العقيلي: لا يقيم الحديث، ويحدث ببواطيل عن الثقات.
2 الزمخشري: أبو القاسم محمود بن عمر بن محمد الزمخشري الخوارزمي النحوي صاحب "الكشاف" "والمفصَّل" كان رأسًا في البلاغة والعربية. توفي رحمه الله سنة "538"هـ.
(1/11)
شرح حديث: أحب ما تعبدني به عبدي النصح
...
7- "أحب ما تعبدني به عبدي النُّصح -وفي رواية- لكل مسلم" 1. رواه أحمد عن أبي أمامة الباهلي، والحكيم، وأبونعيم.
ـــــــ
1 رواه أحمد في المسند "5/ 254". وابن المبارك في الزهد رقم "204". وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد "1/ 87" وقال: رواه أحمد، وفيه عبيد الله ابن زحر، عن علي بن يزيد، وكلاهما ضعيف.
(1/13)
شرح حديث: أحب عبادي إلي أعجلهم فطراً
...
8- "أحب عبادي إليَّ أعجلهم فطرًا" 1. رواه أحمد، والحكيم، وأبو نعيم عن أبي أمامة، والترمذي عن أبي هريرة.
ـــــــ
1 رواه أحمد في المسند "2/ 237" ورقم "7241". والترمذي رقم "700". وابن خزيمة "2062". وابن حبان رقم "3507 و 3508". والبغوي رقم "1733" من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وفي إسناده قرة. وهو ابن عبد الرحمن المعافري المصري. وهو متفق على ضعفه. والحديث إسناده ضعيف.
(1/13)
شرح حديث: إذا ابتليت عبدي المؤمن
...
9- "إذا ابتليت عبدي المؤمن؛ فصبر، فلم يشكني إلى عُوَّاده؛ أطلقته من أساري، ثم أبدلته لحمًا خيرًا من لحمه، ودمًا خيراً من دمه، ثم يستأنف العمل" 1. رواه الحاكم عن أبي هريرة.
ش- الابتلاء: الاختبار، والامتحان، والتجربة. قال القتيببي: يقال من الخير: أبليتُه أبليه إبلاءً ومن الشر: بلوته أبلوه بلاء. والمعروف أن الابتلاء يكون في الخير والشر معًا من غير فرق بين فعليهما، ومنه قوله تعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء: 35]، والعوَّاد: الزوار، وكل من أتاك مرة بعد أخرى فهو عائد، وإن اشتُهر ذلك في عيادة المريض. والمعنى -والله أعلم- : أن العبد المؤمن إذا ابتلاه الله بإحدى بلايا الدنيا، فليصبر، وليحتسب بالله في أجره، وإذا اجتمع بأحد من أصدقائه وأوليائه فلا يظهر له الجزع، والضجر، والألم، وأنه أصيب بكذا، وكذا؛ لأن
ـــــــ
1 رواه الحاكم في المستدرك "1/ 349". وصححه، ووافقه الذهبي. ومن طريقه البيهقي في سننه "3/ 375" من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. نقول وهو حديث صحيح.
(1/13)
شرح حديث: إذا ابتليت عبدي بحيبيتيه
...
10- "إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه ثم صبر؛ عوضته عنهما الجنة" يعني: عينيه. رواه أحمد عن أنس1، والطبراني عن جرير2.
ش- حبيبتيه: تثنية حبيبة، والمراد بهما: عيناه، وأطلق عليهما ذلك لأنهما أحب أعضاء الإنسان إليه، وأنفعهما، وليس الابتلاء بالعمى لسخط، بل لدفع مكروه يكون بالبصر، ولتكفير ذنوب، وليبلغه إلى درجة لم يكن يبلغها بعمله.
وسبب الحديث: ما أخرجه البيهقي عن أنس أيضًا بلفظ: "قال: مرَّ بنا ابنُ أمِّ مكتوم، فسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا أحدثكم بما حدثني جبريل: إن الله يقول: حق علي من أخذت كريمتيه أن ليس له جزاءٌ إلا الجنة" 3. ورواه البيهقي أيضًا عن أنس بلفظ: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "حدثني جبريل عن ربِّ العالمين: أنه قال: جزاء من أخذت كريمتيه الخلود في داري، والنظر إلى وجهي" 4 وعبرَّ هنا بكريمتيه؛ لكرمهما
ـــــــ
1 رواه أحمد في المسند "3/ 165"، والبخاري رقم "5653" في المرضى: باب فضل من ذهب بصره، والترمذي رقم "2403"، والبيهقي في السنن "3/ 375" من حديث أنس رضي الله عنه.
2 رواه الطبراني في الأوسط "5571": والكبير رقم "2263". وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد "2/ 309" وقال: رواه الطبراني في الأوسط، والكبير. وفيه حصين بن عمر ضعفه أحمد وغيره. ووثقه العجلي. من حديث جرير بن عبد الله رضي الله عنه، ويشهد له ما قبله.
3 رواه البيهقي في الشعب رقم "9963". وفي إسناده هلال بن سويد واهٍ. ويقال: هو أبو ظلال، من حديث أنس رضي الله عنه، والحديث ضعيف الإسناد.
4 رواه البيهقي في الشعب رقم "9960". بلفظ المؤلف وفي إسناده أبو ظلال واهٍ ضعفه أبو داود، والنسائي، وابن عدي. والحديث ضعيف الإسناد. ورواه الطبراني في الأوسط رقم "8855"، وأبو يعلى رقم "4211" بنحوه، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد "2/ 309" وقال: رواه الطبراني في الأوسط. وفيه أشرس بن الربيع، ولم أجد من ذكره. وأبو ظلال ضعفه أبو داود، والنسائي، وابن عدي، ووثقه ابن حبان، فالحديث ضعيف الإسناد.
(1/14)
عند الإنسان، لما فيهما من المنافع، ولذلك نفى المولى تعالى ذكره الحرج عمن فقدهما، ومما يناسب المقام قول حَبْر الأمة عبد الله بن العباس رضي الله عنهما لما عُمِي في آخر عمره:
إن يأخذ الله من عينيَّ نورهما ... ففي فؤادي وقلبي منهما نورُ
قلبي ذكي وعقلي غير ذي دَخلٍ ... وفي فمي صارمٌ كالسيف مشهورُ
(1/15)
شرح حديث إذا ابتليت عبداً من عبادي مؤمناً
...
11- "إذا ابتليت عبدًا من عبادي مؤمنًا، فحمدني على ما ابتليته، فأجروا له ما كنتم تجرون له" 1. وهو صحيح. رواه أحمد، والطبراني في المعاجم الثلاثة عن أبي الأشعث الصنعاني.
ش- في الحديث دلالة على أن العمل الذي يعمله المبتلى قبل ابتلائه مكتوب له، ومدخر عند الله ثوابه، لا ينقطع بابتلائه، كقيام الليل، والأوراد، وغير ذلك مما كان
ـــــــ
1 رواه أحمد في المسند "4/ 123" وأبو نعيم في الحلية "9/ 309-310" عن إسماعيل بن عياش، عن راشد بن داود عن أبي الأشعث الأصبهاني: أنه راح إلى مسجد دمشق. وهجَّر بالرواح فلقي شداد بن أوس والصنابحي معه - فقلت: أين تريدان يرحمكما الله؟ قالا: نريدها هنا إلى أخ لنا مريض نعوده فانطلقت معهما حتى دخلا على ذلك الرجل، فقالا له: كيف أصبحت؟ قال: أصبحت بنعمة؛ قال له شداد: أبشر بكفارات السيئات، وحط الخطايا. فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الله عز وجل يقول: "إني إذا ابتليت عبدًا من عبادي مؤمنًا فحمدني على ما ابتليته فإنه يقوم من مضجعه ذلك كيوم ولدته أمه من الخطايا. ويقول الرب عز وجل: "أنا قيدت عبدي، وابتليته، وأجروا له كما كنتم تجرون له. وهو صحيح". وفي إسناده راشد ابن داود. وهو الصنعاني الدمشقي فيه خلاف. وثقة ابن معين، ودحيم، وابن حبان، وقال البخاري: فيه نظر. وقال في التقريب: صدوق له أوهام. نقول فالحديث حسن بطرقه، وشواهده.
(1/15)
يعتادُه قبل أن يحل به الابتلاء، فسبحانك يا رب من خالق كريم، وإله بعبادك رؤوف رحيم!
(1/16)
شرح حديث: إذا تقرب إلي العبد شبرا
...
12- "إذا تقرَّب إليَّ العبد شبرًا تقربت إليه ذراعًا، وإذا تقرب إلي ذراعًا تقربت منه باعًا، وإذا أتى إلي مشيًا أتيته هرولةً" 1. رواه البخاري عن أنس وأبي هريرة، وأبو عوانة والطبري عن سلمان.
هذا الحديث يدل على أن الله سبحانه وتعالى يتصف بالتقرب، والهرولة، وللعلماء في ذلك مذهبان: مذهب أهل الرعيل الأول من لدن الصحابة إلى آخر القرون الثلاثة المشهود لها بالخيرية، وهو أن الله تعالى وتبارك متصف بجميع ما ورد في الكتاب الحكيم، وما جاء في السنة الصحيحة السمحة التي ليلها كنهارها، وعلى الخلق أن تُؤمن بذلك، وتقربلسانها، وتعتقد بجنانها: أن الرب تعالت أسماؤه، وتنزهت صفاته يتصف بها اتصاف ربٍ خالقٍ ليس كمثله شيء، وليس كمثلها شيء، ولا شك، ولاريب أن ما اتصف به خالقنا، ورازقنا يغاير ما اتَّصف به العبد المخلوق المربوب؛ لأن الله تعالى قد أطلق كثيرًا من الأوصاف على ذاته المقدسة في القرآن المجيد التي ليس كمثلها شيء، وأطلقها نفسها على عبده المخلوق الضعيف - راجع كتاب "التوحيد لابن خزيمة" تجد ما يسرك، ويذهب ما اختلج في ضميرك- وإني لأعجب كل العجب من بعض علمائنا المتقدمين، وأساطين المحققين؛ كيف يفرون كل الفرار عندما يسمعون مثل هذه الألفاظ، وأنها تسند إلى الله جل ذكره، وتعالت أسماؤه حقيقة، ويجتهدون لتأويلها طاقتهم، ويوردون تشكيكات، واحتمالات توقع العامي في أمر دينه، وتذهب به المذاهب، وتصرفه عما فُطِر عليه. وماذا عليهم لو وافقوا علماء السلف في ذلك، ووصفوا الله بما وصف به نفسه في محكم تنزيله، وعلى لسان رسوله وحبيبه محمد سيد الأولين، والآخرين، وعليه كان الصحابة أجمعون حقيقة لا مجازًا.
وقالوا عند ذكر كل صفة من صفات الرب الحكيم: ليس كمثله شيء، وهو السميع العليم، وليس كذلك في جانب صفات المخلوق الحادث، فإن صفاته لها مثل، وتتغير، وتتفاوت، ويرطأ عليها ما يضعفها، أو يزيدها قوة إلى غير ذلك مما نشاهده، ونراه.
ـــــــ
1 رواه أحمد في المسند "3/ 130". والبخاري رقم "7536" من حديث أنس رضي الله عنه. ورواه البخاري رقم "7537" من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(1/16)
وهاك جملة من كلام المؤوِّلين لذلك؛ تحاميًا من الوقوع في التشبيه على ظنهم، وفرارًا من اعتقاد أن الرَّب يتصف بصفات هي تشبه صفات العبيد على زعمهم، فرحم الله المتقدمين، وغفر ما للمتأخرين!
قال الحافظ خاتمة المتأخرين ابن حجر العسقلاني في كتابه "فتح الباري بشرح صحيح الإمام البخاري" عند الكلام على هذا الحديث في باب: ذكر النبي صلى الله عليه وسلم وروايته عن ربه: قال ابن بطال1: وصف سبحانه وتعالى نفسه بأنه يتقرب إلى عبده، ووصف العبد بالتقرب إليه، ووصفه بالإتيان والهرولة، كل ذلك يحتمل الحقيقة والمجاز، فحملها على الحقيقة يقتضي قطع المسافات، وتداني الأجسام، وذلك في حقه تعالى محال، فلما استحالت الحقيقة تعين المجاز لشهرته في كلام العرب، فيكون وصف العبد بالتقرب إليه شبرًا، وذراعًا، وإتيانه، ومشيه معناه: التقرب إليه بطاعته، وأداء مفترضاته، ونوافله، ويكون تقربه سبحانه من عبده، وإتيانه المشي عبارة عن إثابته على طاعته، وتقربه من رحمته، ويكون قوله: أتيته هرولة؛ أي: أتاه ثوابي مسرعًا. ونُقِل عن الطبري أنه إنما مثل القليل من الطاعة بالشبر منه، والضعف من الكرامة والثواب بالذراع، فجعل ذلك دليلًا على مبلغ كرامته لمن أدمن على طاعته: أن ثواب عمله له على عمله الضعف، وأن الكرامة مجاوزة حده إلى ما يثيبه الله تعالى. وقال ابن التين: القرب هنا نظير ما تقدم في قوله تعالى: {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} [النجم: 9] فإن المراد به: قرب الرتبة، وتوفير الكرامة، والهرولة؛ كناية عن سرعة الرحمة إليه ورضا الله عن العبد، وتضعيف الأجر. قال: والهرولة ضرب من المشي السريع، وهي دون العدو. وقال صاحب "المشارق": المراد بما جاء في هذا الحديث: سرعة قبول توبة الله لعبد، أو تيسير طاعته، وتقويته عليها، وتمام هدايته، وتوفيقه، والله أعلم بمراده. وقال الراغب: قرب العبد لله من التخصيص بكثير من الصفات التي يصح أن يوصف الله بها وإن لم تكن على الحد الذي يوصف به الله تعالى، نحو: الحكمة، والعلم، والرحمة، وغيرها، وذلك يحصل بإزالة القاذروات المعنوية من الجهل، والطيش، والغضب، وغيرها بقدر طاقة البشر. وهو قرب روحاني، لا بدني، وهو المراد بقوله: إذا تقرب العبد مني شبرًا تقربت منه ذراعًا. اهـ. وهنا كلام كثير للعلماء المتأخرين،
ـــــــ
1 ابن بطال: هو العلامة أبوالحسن، علي بن خلف بن بطال البكري القرطبي، ويعرف بابن اللحام من كبار المالكية، شارح صحيح البخاري. قال ابن بشكوال كان من أهل العلم والمعرفة توفي سنة "449"هـ.
(1/17)
كالفخر الرازي، وإمام الحرمين، وأضرابهما.
وأغرب من ذلك، أني لازمت شيخًا جليلًا كان يدعو إلى السنة، ومذهب السلف، وينفرمن البدع، وكان حريصًا على ذلك سالكًا مهيع التقشف، ولباس الصوف، وله تلاميذ، وأصحاب في مصر وغيرها كثيرون، ولهم هيئات، وسمات، وكل يدعو إلى ما يدعو إليه ذلك الشيخ، ولكن من الأسف عندما قرب أجله، وحانت منيته ألف كتابًا في التوحيد هدم فيه ماكان بناه مدة حياته، ورجح فيه مذهب الخلف وادَّعى: أن السلف أوَّلوا، ولم يُبينوا، وأما الخلف: فأولوا، وبينوا إلى غير ذلك مما زحزح مركزه من قلوب خواص أصحابه، وسقط من أعينهم، وكسد سوقُ الكتاب، فرحمه الله، وغفر له!
(1/18)
شرح حديث: إذا ابتليت عبداً من عبادي مؤمناً فحمدني
...
13- "إذا ابتليت عبدًا من عبادي مؤمنًا فحمدني، وصبر على ما ابتليته؛ فإنه يقوم من مضجعه ذلك كيوم ولدته أمه من الخطايا، ويقول الرب للحفظة: إني قيَّدت عبدي هذا، وابتليته، فأجروا عليه ما كنتم تجرون له قبل ذلك من الأجر 1 وهو صحيح" . رواه أحمد، وأبو يعلى، وحميد بن زنجويه، وأبو نعيم، وابن عساكر عن شداد بن أوس.
ش- قوله: "مؤمنًا" قيد في ذلك؛ لأن من اتَّصف بالإيمان؛ عمل بأحكامه من صلاةٍ، وصيامٍ، وحجٍ، وزكاة...إلخ، ولا جدال في أن من كان كذلك، وابتلي بأشياء منعته من أداءِ نوافله، وأوراده لجدير باستحقاق الثواب حين كان صحيحًا سليمًا.
ـــــــ
1 رواه أحمد في المسند "4/ 123". والطبراني في الكبير رقم "7136".
وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد "2/ 303, 304" وقال: رواه أحمد.
والطبراني في الكبير والأوسط. كلهم من رواية إسماعيل بن داود عن راشد الصنعاني. وهو ضعيف في غير الشاميين. نقول: والحديث حسن بطرقه، وشواهده.
(1/18)
شرح حديث: إذا وجهت إلى عبد من عبيدي
...
14- "إذا وجهت إلى عبدٍ من عبيد؛ مصيبة في يديه، أو ماله، أو ولده، ثم استقبل ذلك بصبر جميل استحييت منه يوم القيامة أن أنصب له
(1/18)
شرح حديث: إذا ذكرني عبدي خالياً
...
15- "إذا ذكرني عبدي خاليًا ذكرته خاليًا، وإذا ذكرني في ملأٍ ذكرته في ملأٍ خير من الملأ الذي ذكرني فيه" . رواه الطبراني عن ابن عباس1.
ش- قوله: خاليًا، أي: منفردًا، ليس معه أحد إما سرًا في نفسه، أو جهرًا، والملأ -مهموز- جمعه أملاء: الجماعة، وقد جاء تفسيره في كثير من كتب اللغة "كالنهاية" وغيره: أشراف القوم، ورؤساؤهم، ومقدموهم الذي يرجع إلى قولهم، وعلله بعضهم بقوله: سموا بذلك لملاءتهم بما يلتمس عندهم من المعروف، وجودة الرأي، أو لأنهم يملؤون العيون أبهةً، والصدور هيبة، والأنسب بالمقام هنا أن يفسر بالأعم، ولا يخفى على العاقل ما في هذا الحديث من اعتناء الرب تباركت أسماؤه، وتنزهت صفاته بعبده المؤمن الذاكر اللهم اجعلنا من الذاكرين الله في السرِّ والجهر!
ـــــــ
1 رواه الطبراني في الكبير رقم "12484". والبزار رقم "3065". وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد "10/ 78" وقال: رواه البزار ورجاله ورجال الصحيح غير بشر بن معاذ العقدي، وهو ثقة. نقول: وهو حديث صحيح بطرقه وشواهده.
(1/19)
شرح حديث: إذا بلغ عبدي أربعين سنة
...
16- "إذا بلغ عبدي أربعين سنة؛ عافيته من البلايا الثلاث: من الجنون، والجذام، والبرص. وإذا بلغ خمسين سنة؛ حاسبته حسابًا يسيرًا، وإذا بلغ
(1/19)
شرح حديث: إذا أحب عبدي لقائي
...
17- "إذا أحب عبدي لقائي؛ أحببت لقاءه، وإذا كره لقائي؛ كرهت لقاءه" 1. رواه مالك، والبخاري، والنسائي عن أبي هريرة.
ش- فيه إثبات صفة المحبة لله تعالى، وكذلك الكراهة، وفيهما ما تقدم من الاختلاف بين العلماء في ذلك من إبقائهما على حقيقتهما مع التنزيه، أو تأويلهما بأن المحبة إرادة الخير للعبد، وهدايته إليه، وإنعامه عليه. وكذلك يقال في الكراهة، والأسلم التفويض كما هو مذهب السلف، وفيه ترغيب المؤمن بأن يحب الموت؛ لأنه لقاء الله، فيلاحظ العبد لقاء الله فيجتهد في الطاعات، ويكثر من النوافل، ليكون أبيض
ـــــــ
1 رواه أحمد في المسند "2/ 418" ورقم "9410". والبخاري رقم "7504".ومالك في الموطأ "1/ 240". والنسائي في المجتبي "4/ 10". وابن حبان رقم "363". والبغوي رقم "1448". من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(1/20)
الوجه نقي العمل، ذا صفاتٍ حميدة فيستحق الإنعام؛ وإن كان كل ذلك بفضل الله، وإحسانه.
(1/21)
شرح حديث: إذا قبضْتُ كريمة عبدي
...
18- "إذا قبضت كريمة عبدي، وهو بها ضنين، فحمدني على ذلك؛ لم أرضَ له ثوابًا دون الجنة" 1. رواه الطبراني، وابن حبان، وأبو نعيم عن العرباض بن سارية.
ـــــــ
1 رواه ابن حبان رقم "2931". وإسناده حسن، ورواه البزار رقم "771"، والطبراني في الكبير "18 و254و257" بإسنادين. وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد "2/ 309" وقال: رواه البزار والطبرني في الكبير، وفيه أبو بكر بن أبي مريم ضعيف من حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه. نقول: وهو حديث حسن بطرقه وشواهده.
(1/21)
شرح حديث: إذا أخذت كريمتي عبدي في الدنيا
...
19- "إذا أخذت كريمتي عبدي في الدنيا؛ لم يكن له جزاء عندي إلا الجنة، إذا حمدني عليهما" 1. رواه الترمذي عن أنس.
ـــــــ
1 رواه الترمذي رقم "2403" وقال الترمذي: وفي الباب عن أبي هريرة، وزيد ابن أرقم. قال أبو عيسى: هذا الحديث حسن غريب من هذا الوجه. وأبو ظلال اسمه هلال. نقول: وهو حديث صحيح بطرقه، وشواهده.
(1/21)
شرح حديث: إذا أخذت كريمتي عبدي، فصبر
...
20- "إذا أخذت كريمتي عبدي، فصبر، واحتسب؛ لم أرَ له ثوابًا دون الجنة" 1. رواه البخاري عن أنس، وأحمد عن أبي أمامة2.
ش- تقدم شرح الحديث، وعبرَّ هنا في الحديث الأول بالكريمة بالإفراد، وفي الثاني بالتثنية -كريمتي- وفي الثالث كذلك. الكريمة: العين، وعبر عنها بذلك لأنها أكرم الأعضاء، وأنفعها للإنسان. وقوله: ضنين؛ أي: بخيل. ففيه حث على الصبر إذا
ـــــــ
1 رواه البخاري رقم "5653" في المرضى. والبيهقي في السنن "3/ 375" من حديث أنس رضي الله عنه.
2 رواه أحمد في المسند "5/ 258"، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد "3/ 308" وقال: رواه أحمد، والطبراني في الكبير، وفيه إسماعيل بن عياش، وفيه كلام. أقول: إسماعيل بن عياش، قال في التقريب: صدوق في روايته عن أهل بلده، مخلِّط في غيرهم. والحديث حسن بطرقه، وشواهده.
(1/21)
شرح حديث: إذا هم عبدي بحسة، ولم يعملها
...
21- "إذا همَّ عبدي بحسنةٍ، ولم يعملها؛ كتبتها له حسنة، فإن عملها؛ كتبتها عشرحسنات إلى سبعمئة ضعف، وإذا هم بسيئة ولم يعملها، لم أكتبها عليه، فإن عملها؛ كتبتها سيئةً واحدةً" 1. رواه الشيخان، والترمذي، وابن حبان عن أبي هريرة.
ـــــــ
1 رواه أحمد في المسند "2/ 434" و "411". ومسلم رقم "130" في الإيمان. وابن حبان رقم "384" من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(1/22)
شرح حديث: إذا هم عبدي بسيئة
...
22- "إذا هم عبدي بسيئة، فلم يعملها؛ فاكتبوها له حسنة، فإن عملها؛ فاكتبوها له سيئة، فإن تاب منها؛ فامحوها عنه، وإذا هم عبدي بحسنة فلم يعملها؛ فاكتوبها له حسنة، فإن عملها؛ فاكتبوها بعشرة أمثالها إلى سبعمئة ضعف" 1. رواه ابن حبان عن أبي الدرداء.
ـــــــ
1 رواه ابن حبان رقم "381" وفي إسناده زكريا بن يحيى الوقار، ذكره ابن حبان في الثقات، وقال يخطئ، ويخالف. وأورده ابن أبي حاتم "3/ 601" ولم يذكره فيه جرحًا، ولا تعديلًا، وضعفه ابن يونس وغيره، وكذبه صالح جزرة. وقال ابن عدي: يضع الحديث. من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وليس من حديث أبي الدرداء كما أشار المؤلف رحمه الله.
(1/22)
شرح حديث: إذا هم عبدي بسيئة
...
23- "إذا هم عبدي بسيئة؛ فلا تكتبوها عليه، فإن عملها؛ فاكتبوها سيئة، وإذا هم بحسنة فلم يعملها؛ فاكتبوها حسنة، فإذا عملها؛ فاكتبوها عشرًا" 1، رواه الشيخان عنه.
ش- الهمُّ: ترجيحُ قصد الفعل، تقول، هممتُ بكذا: أي قصدته بهمتي، وهو فوق مجرد خطور الشيء بالقلب. قال ابن فارس: الهم: ما هممت به، وهممت بالشيء همًا من باب قتل: إذا أردته، ولم تفعله، ووقع لمسلم في رواية همام عن أبي هريرة بلفظ: "إذا تحدث" وهو محمول على حديث النفس، لتوافق الروايات الأخرى. قال الحافظ ابن حجر: ولكن ليس قيدًا في كتابة الحسنة، بل بمجرد الإرادة تكتب الحسنة، نعم ورد ما يدل على أن مطلق الهم والإرادة لا يكفي، فعند أحمد،
ـــــــ
1 رواه مسلم رقم "128" في الإيمان من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(1/22)
شرح حديث: إذا اشتكى عبدي فأظهر المرض
...
24- "إذا اشتكى عبدي فأظهر المرض من قبل ثلاثٍ فقد شكاني" 1. رواه الطبراني في الأوسط عنه.
ش- الشكوى والشكاة والشكاية: المرض، والمعنى: إذا مرض العبد فأظهر مرضه، وأخبر به من يراه، أو يزروه قبل ثلاث أيام؛ فقد شكا مولاه الرحيم إلى عبده الضعيف، وأخبر بما يقاسيه من ألم المرض الذي أوجده فيه ربه، وخالقه، وليس هذا حال المؤمن القوي الإيمان بل حال ضعفاء القلوب. اللهم اجعلنا من عبادك الصابرين في السراء والضراء!
ـــــــ
1 رواه الطبراني في الأوسط رقم "879"، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد "2/ 295"، وقال: رواه الطبراني في الأوسط، وفيه عبد الرحمن بن عبد الله بن العمري، وهو متروك.
(1/30)
شرح حديث: أربع خصال: واحدة فيما بيني وبينك
...
25- "أربع خِصال: واحدة فيما بيني وبينك، وواحدة فيما بينك وبين عبادي، وواحدة لي، وواحدة لك. فأما التي لي: فتعبدني لا تشرك بي شيئًا. وأما التي لك: فما عملت من خير جزيتك به، وأما التي بيني وبينك: فمنك الدعاء، وعليَّ الإجابة. وأما التي بينك وبين عبادي: ترضى لهم ما ترضى لنفسك" 1. رواه أبو نعيم عن أنس.
ش- في الحديث أربع خصال: الخصلة الأولى تختص بالله جل ذكره، أعني: العبادة، وهي في اللغة من الذلة، يقال: طريق معبد، وبعير معبد؛ أي: مذلل، وفي الشرع عبارة عما يجمع كمال المحبة، والخضوع، والخوف. قال الراغب الأصفهاني
ـــــــ
1 رواه أبو يعلى رقم "2757"، والبزار رقم "19"، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد "1/ 51" وقال: رواه أبو يعلى، والبزار. وفي إسناده: صالح المري ضعيف. وأورده الحافظ ابن حجر في المطالب العالية رقم "3286". وعزاه إلى أبي يعلى. نقول: وإسناده ضعيف.
(1/30)
شرح حديث: اذكروني بطاعتي أذكركم
...
26- "اذكروني بطاعتي؛ أذكركم بمغفرتي فمن ذكرني وهو مطيع؛ فحق علي أن أذكره وهومني بمغفرتي، ومن ذكرني وهو لي عاصٍ، فحق علي أن أذكره وهو لي بمَقتٍ" 1. رواه الديلمي، وابن عساكر عن أبي هند الرازي.
ش- أمر الله تعالى عبيده بأن يذكروه وهم متلبسون بالطاعة؛ ليكون الذكر مقبولًا يُثاب عليه، ويدخر لديه {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ ، إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 88-89] ثم فصل ذلك في الحديث بأن العبد إذا ذكر خالقه وهو مطيع؛ فحق على الرب تباركت أسماؤه أن يذكره وهومن حزب أولياء الله تعالى وذاكريه بالمغفرة؛ بحيث إذا بدرت منه بادرة، أو وقع في هفوة يغفرها له ويسامحه. وإذا ذكره العبد وهو عاصٍ فحقَّ على الله جل ذكره أن يذكره وهو -مملوك لله عبده- بمقت. والمقت في الأصل أشد البغض، وهذه من الصفات التي سبق الكلام فيها في حديث: "إذا تقرب...إلخ" رقم"12"فارجع إليه.
ـــــــ
1 رواه الديلمي في مسند الفردوس رقم "4441"من حديث أبي هند الرازي، وإسناده ضعيف. وذكره السيوطي في الدر المنثور"1/ 148"فانظره.
(1/35)
شرح حديث: اشتد غضبي على من ظلم
...
27- "اشتدَّ غضبي على من ظلم من لا يجد له ناصرًا غيري" . رواه الطبراني في الكبير، والقضاعي عن علي1.
ـــــــ
1 رواه القضاعي في مسند الشهاب" 1452". والطبراني في الصغير"71"، والأوسط رقم" 2228"، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد "4/ 206"وقال: رواه الطبراني في الأوسط والصغير، وفيه مسعر بن الحجاج النهدي كذا هو في الطبراني، ولم أجد إلا مسعر بن يحيى النهدي. ضعفه الذهبي بخبر ذكره. نقول: والحديث ضعيف الإسناد.
(1/35)
شرح حديث: اطلبوا الخير عند الرحماءمن أمتي
...
28- "اطْلبُوا الخير عند الرحماء من أمتي؛ تعيشوا في أكنافهم؛ فإن فيهم رحمتي، ولا تطلبوه من القاسية قلوبهم؛ فإن فيهم سَخَطي" 1. رواه القضاعي عن أبي سعيد.
ش- الرحماء: جمع رحيم، وهو مبالغة راحم، والأكناف: جمع كنف بالتحريك: الجانب، والناحية، وهذا ترغيب في أن يكون الإنسان رحيمًا، فيكون له حمىً، وظل، وجانب يلجأ إليه البشر، ويحتمون فيه؛ لأن الله سبحانه وتعالى وضع رحمته فيه. وفيه ذمٌ للقاسية قلوبهم، المنزوع منهم الرحمة، والحال فيهم سخط الله وعقابه. والمعنى: اطلبوا الخير عند الرحماء الرقيقة قلوبهم، السهلة عريكتهم، فإنكم إن فعلتم ذلك؛
ـــــــ
1 رواه القضاعي في مسند الشهاب رقم"700"، والديلمي في مسند الفردوس رقم"4516"، والطبراني في الأوسط رقم"4717". وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد"8/ 195"وقال: رواه الطبراني في الأوسط، وفيه محمد بن مروان السدي الصغير متروك. نقول: الحديث ضعيف
(1/36)
عشتم في أكنافهم؛ لأن فيهم رحمة الله تعالى، وكرمه، وجوده. ولا تطلبوه من القاسية قلوبهم، الغليظة أفئدتهم، فإنكم لا تنجحوا، ولا تحظوا ببغيتكم؛ لأن الله جل ذكره وضع فيهم سخطه، وكراهته، وشدة غضبه. اللهم اجعلنا من الرحماء الذين يعيشون تحت كنفك، وظلك!
(1/37)
شرح الحديث: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت
...
29- "أعددت لعبادي الصالحين مالا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر" . رواه أحمد، والشيخان، والترمذي، وابن ماجه عن أبي هريرة1، والطبراني في الأوسط عن أنس2، وابن جرير عن أبي سعيد3، وعن قتادة مرسلًا.
ش- أعددت: هيأت لعبادي الصالحين شيئًا لم تر العيون مثله، ولا سمعت الآذان به، ولا خطر على قلب أحد من البشر، ولا شك أن نعيم الجنة وتحفها شيء لا يمكن للإنسان أن يصفه؛ لأنه باقٍ لا يلحقه التغيير، والانحلال، ولا العطب، والاضمحلال، بخلاف ملذات الدنيا، ونعيمها، فإنها سريعة الفناء، قليل الانتفاع بها. قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: سبب هذا الحديث: أن موسى عليه السلام سأل ربه: من أعظم أهل الجنة منزلة؟ قال: "غرست كرامتهم بيدي، وختمت عليها، فلا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر" أخرجه مسلم، والترمذي من طريق الشعبي
ـــــــ
1 رواه أحمد في المسند "2/ 313"، والدرامي "2/ 335"، والبخاري" 3244"في بدء الخلق ورقم" 4779"في التفسير، ومسلم رقم "2824"في الجنة والترمذي رقم "3197"في التفسير، وابن ماجه رقم"4328" حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
2 رواه الطبراني في الأوسط رقم"1659". وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد"10/ 413 "وقال: رواه الطبراني في الأوسط. وفيه محمد بن مصعب القرقساني. وهو ضعيف، من حديث أنس رضي الله عنه. ويشهد له ما قبله.
3 رواه البزار رقم "3515". وقال: لا نعلم رواه بهذا الإسناد إلَّا سلام. وكان بصريًا من خيار الناس وعقلائهم. ورواه أبو نعيم في صفة الجنة رقم"121". وحلية الأولياء"2/ 262".وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد"10/ 413"وقال: رواه الطبراني في الأوسط. والبزار، ورجال البزار رجال الصحيح، من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، ويشهد له ما قبله.
(1/37)
سمعت المغيرة بن شعبة على المنبر رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم: "أنَّ موسى سأل ربه" 1 فذكر الحديث بطوله.
ـــــــ
1 رواه مسلم رقم"189"في الإيمان. باب أدنى أهل الجنة منزلة فيها. والترمذي رقم" 3198"في التفسير، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وابن حبان رقم"6216"من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه.
(1/38)
شرح حديث: افترضت على أمتك خمس صلوات
...
30- "افترضت على أُمَّتك خمسَ صلواتٍ، وعهدت عندي عهدًا أنه من حافظ عليهن لوقتهن؛ أدخلته الجنة، ومن لم يُحافظ عليهنَّ؛ فلا عهد له عندي" 1. رواه ابن ماجه، وأبو نعيم عن قتادة.
ش- العهد الموثق ووضعه لما من شأنه أن يراعى، ويتعهد، كالقول، والقرار، واليمين، والوصية، والضمان، والحفظ، والزمان، والأمر، يقال: عهد الأمير إلى فلان بكذا: إذا أمره، ويقال للنار من حيث أنها تراعى بالرجوع إليها، وللتاريخ لأنه يحفظ، وقوله: "ومن لم يحافظ عليهن" أي: على الصلوات الخمس بأن ضيعها كلها، أو بعضها، وذلك يصدق على من أخَّر صلاة واحدة عن وقتها المضروب لها، فلا عهد له عند الله في دخول الجنة، قال السندي في تعليقه على سنن ابن ماجه: بل أمره مفوض إلى الله في تعذيبه، أو إدخاله الجنة، وفي الزوائد: في إسناده نظر من أجل ضُبارة ودويد. انتهى.
ـــــــ
1 رواه ابن ماجه رقم"1403"باب ما جاء في أن الصلاة كفارة من حديث أبي قتادة بن ربعي. وهو حديث حسن، ويشهد له ما رواه أبو داود، والنسائي. وابن حبان من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه مرفوعًا: "خمس صلوات افترضهن الله على العباد، فمن جاء بهن ولم يضيع منهن شيئًا استخفافًا لحقهن، كان له عهد عند الله أن يدخله الجنة. ومن لم يأت بهن؛ فليس له عهد، إن شاء عذبه، وإن شاء أدخله الجنة" ، وهو حديث صحيح.
(1/38)
شرح حديث: أعددت لعبادي الذين آمنوا
...
31- "أعددت لعبادي الذين آمنوا، وعملوا الصالحات ما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر" 1. رواه ابن جرير عن أنس بلاغًا.
ـــــــ
1 ذكره ابن كثير في تفسير قوله تعالى: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} وقال: قال ابن جرير: حدثني العباس بن أبي طالب. حدثنا معلي بن أسد. حدثنا سلام بن أبي مطيع. عن قتادة، عن عقبة بن عبد الغافر، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. وذكره. وليس من حديث أنس كما أشار المؤلف رحمه الله. وفي إسناده سلام بن أبي مطيع. قال الذهبي في الميزان"2/ 181"ليس بمستقيم الحديث عن قتادة خاصة وهذا منه.
(1/38)
شرح حديث: إن السموات والأرض ضعفت عن أن تسعني
...
32- "إنَّ السموات والأرض ضَعُفتْ عن أن تسعني، ووسعني قلب المؤمن" 1. رواه أحمد عن وهب بن منبه.
ش- هذا إشارة إلى أن المؤمن أفضل من السموات والأرض؛ لأن قلبه أوسع منهما، وفيه ما تقدم والخلاف في ذلك بين السلف، والخلف. فعلى الإنسان أن يؤمن بذلك، ويسلم.
ـــــــ
1 لم نجده بهذا اللفظ، وهو بمعنى ما يروى: قال الله تعالى: "لم تسعني أرضي ولا سمائي ووسعني قلب عبدي المؤمن الوادع" قال الحافظ العراقي في تخريجه للإحياء"3/ 15"لم أر له أصلًا.
(1/39)
شرح حديث: إن الذي قال: مطرنا بنوء كذا وكذا
...
33- "إن الذي قال: مُطرنا بنوءِ كذا وكذا؛ فقدكفر بي، وآمن بذلك النجم، وإن الذي يقول: إن الله سقانا؛ فقد آمن بي، وكفر بذلك النجم" 1. رواه الطبراني في الأوسط عن ابن مسعود.
ش- النوء: النجم إذا مال للمغيب، والجمع: أنواء، ونوآن -بضم الأول- حكاه ابن جني مثل: عبد، وعبدان، وبطن، وبطنان. قال حسان بن ثابت شاعر الإسلام رضي الله عنه:
ويثربُ تعلم أنَّا بها ... إذا قحط الغيث نوآتها
ـــــــ
1 رواه الطبراني في الأوسط رقم"6186". وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد"8/ 114و115"وقال: رواه الطبراني في الأوسط، وفيه مسلم بن خالد الزنجي، وثَّقه جماعة، وضعفه غيرهم، ومحمد بن ماهان مجهول، ومحمد بن حنيفة الواسطي قال الدارقطني: ليس بالقوي من حديث عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه. وإسناده ضعيف. لكن يشهد له ما رواه البخاري ومسلم عن زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه.
(1/39)
شرح حديث: إن أحب عبادي إلي أعجلم فطراً
...
34- "إن أحب عبادي إليَّ أعجلهم فطرًا" ، رواه أحمد، والترمذي عن أبي هريرة1.
ش- فيه استحباب تعجيل الفطر للصائم رمضان كان أو غيره، وورد في ذلك أحاديث، منها ما رواه سهل بن سعد: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يزال الناس بخير ما عجَّلوا الفطر" 2 أخرجه الشيخان في صحيحيهما وغيرهما، وعن أبي ذر: أن
ـــــــ
1 رواه أحمد في المسند رقم"8342"، والترمذي رقم"700"في الصوم. والبغوي رقم"1733"، وابن حبان رقم"3507و3508"، والبيهقي في السنن" 4/ 237". وابن خزيمة رقم"2062". من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وفي إسناده قرة بن عبد الرحمن ضعيف. والوليد بن مسلم وقد عنعن. لكن يتقوى بشواهده التي بعده.
2 رواه أحمد في المسند" 5/ 331". والبخاري رقم"1957". والترمذي رقم"699". وابن حبان رقم"3502"وابن ماجه رقم"1697"من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه.
(1/41)
النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تزال أمتي بخير ما أخرُّوا السحور وعجلو الفطر" 1 أخرجه أحمد، وجاء في سنن أبي داود ما بين حكمة ذلك، فقد روى بسنده عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يزال الدين ظاهرًا ما عجَّل الناس الفطر؛ لأن اليهود والنصارى يؤخرون" 2، ففي هذا إشارة إلى أن هذا الفعل دخل فيه التحريف من أهل الكتاب، فبمخالفتهم ورد تحريفهم قيام الملة، والله أعلم.
ـــــــ
1 رواه أحمد في المسند"5/ 146 و172"من حديث أبي ذر رضي الله عنه. وفي إسناده ابن لهيعة ضعيف، وسليمان بن أبي عثمان مجهول. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد"3/ 154": رواه أحمد وفيه سليمان بن أبي عثمان مجهول.
2 رواه أحمد في المسند"2/ 450"وأبو داود رقم"2353"، وابن ماجه رقم "1698"، وابن حبان رقم"3503"، والحاكم في المستدرك"1/ 431 "وصححه، ووافقه الذهبي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وهو حديث حسن.
(1/42)
شرح حديث: إن أوليائي من عبادي
...
35- " إن أوليائي من عبادي، وأحبَّائي من خلقي الذين يُذكرون بذكري، وأُذكر بذكرهم" 1. روه الطبراني في الكبير والحكيم، وأبو نعيم عن عمرو بن الجموح.
ش- هذا ترغيب في ذكر الله تعالى، وبيان منزلة أولياء الله تعالى وأحبابه، أسأل الله تعالى أن يجعلنا منهم، ومعنى -والله أعلم- الذين يُذكرون بذكري: أن الناس إذا رأوا من كان مستقيمًا في عمله، مواظبًا على صلواته، وصيامه، مقبلًا على مرضاة ربه؛ ذكروا الله تعالى، وقالوا: لا إله إلا الله، سبحانه القادر، جلَّ الخالق، عز الموفق، وإذا ذكر الناس الله؛ ذكروهم لمحاسن أوصافهم، وجمال صفاتهم، وحسن سيرتهم.
ـــــــ
1 رواه أبو نعيم في الحلية"1/ 6"من حديث عمرو بن الجموح رضي الله عنه، وفي إسناده رشدين بن سعد ضعفه الكثيرون. وقال ابن معين: ليس بشيء. وقال أبو حاتم: منكر الحديث. وقال النسائي: متروك. وأبو منصور مولى الأنصار، قاضي إفريقية، ذكره البخاري، وقال: إن حديثه مرسل؛ يعني: إنه لم يلقَ عمرو بن الجموح.
(1/42)
شرح حديث: إن بيوتي في الأرض المساجد
...
36- "إنَّ بُيُوتي في الأرض المساجد، وإن زُوَّاري فيها عمارها" 1. رواه أبو نعيم عن أبي سعيد الخدري.
ش- البيوت: الأماكن التي يصطفيها المولى جل ذكره لتنزلات رحمته، وصعود
وهبوط ملائكته في الأرض، والمساجد: جمع مسجد، وهو بيت الصلاة، وإن زوار الله -تنزهت ذاته، وتباركت أسماؤه- في هذه البيوت عمارها الذين يقيمون فيها الصلوات، ويحيون فيها السنن، ويمنعون البدع، ويذكرون الله تعالى، ويتدارسون العلم، أولئك الزوار حقًا.
ـــــــ
1 ذكره الغزالي في الإحياء "1/ 152"وقال العراقي في تخريجه: رواه أبو نعيم في الحلية من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. وإسناده ضعيف.
(1/43)
شرح حديث: إن عبداً أصححت له بدنه
...
37- "إنَّ عبدًا أصححتُ له بدنه، وأوسعتُ عليه في الرزق، ثم لم يَفِد إليَّ بعد أربعة أعوام لمحروم" 1. رواه الطبراني في الأوسط، وأبو يعلى عن أبي الدرداء.
ـــــــ
1 رواه الطبراني في الأوسط رقم"490"،وعبد الرزاق في المصنف رقم"8826 "من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. وهو حديث صحيح بطرقه، وشواهده.
(1/43)
شرح حديث: إن عبداً أصححت له جسمه
...
38- "إنَّ عبدًا أصححت له جسمه، وأوسعت عليه في معيشته، فمضى عليه خمسة أعوام لا يَفِد إلي لمحروم" . رواه ابن حبان، وأبو يعلى عن أبي سعيد1. وابن عساكر عن أبي هريرة2.
ش- الوفد: هم القوم يجتمعون، ويردون البلاد، واحدهم: وافد. وكذلك الذين
ـــــــ
1 رواه ابن حبان رقم "3703"، وأبو يعلى رقم"103"، والبيهقي في السنن" 5/ 262"من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. وهو حديث صحيح.
2 رواه البيهقي في السنن "5/ 262". وابن عدي في الكامل "4/ 1396. "والعقيلي في الضعفاء" 2/ 206و207"من طريق الوليد بن مسلم عن صدقة ابن يزيد، عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه. وصدقة بن يزيد ضعفه أحمد. وقال أبو حاتم: صالح. وقال أبو زرعة: ثقة، فالحديث صحيح بطرقه، وشواهده، ويشهد له ما قبله.
(1/43)
شرح حديث: إن عبدي المؤمن بمنزلة كل خير
...
39- "إنَّ عبدي المؤمن بمنزلة كل خير، يحمدني وأنا أنزع نفسه من بين جنبيه" 1. رواه أحمد عن أبي هريرة.
ش- يعني: أنَّ العبدَ المؤمن يحمد الله سبحانه وتعالى في كل حال، في السراء، والضراء، فهو بمنزلة الخير، لا يأتي إلا بنفع، وفائدة، ومع هذا فإن الله جل ذكره ينزع نفس عبده من بين جنبيه؛ أي: يقبض روحه إليه إذا حان أجله، وهو صار لأمر ربه، مستسلم لقضائه؛ وهذا مثل للعبد الحقيقي، فإنه لا يرى من مولاه إلا كل خير، ولا يفتر عن عبادته في كل حال؛ لأن حق المولى لا يقدَّر بزمن، ولا عمل، لاسيما أن الله جل ذكره الذي أوجد عبده من العدم، وألبسه حلة {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين: 4] وأسبغ نعمة ظاهرةً وباطنةً. اللهم وفقنا لطاعتك! وزاد المدني في كتابه: الإتحافات السنية في آخرالحديث، ورواه البيهقي في شعب الإيمان.
ـــــــ
1 رواه أحمد في المسند"2/ 341"، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد"10/ 96 "وقال: رواه أحمد، ورجاله رجال الصحيح، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وهو حديث صحيح.
(1/44)
شرح حديث: إن عبدي كل عبدي الذي يذكرني
...
40- "إنَّ عبدي كلَّ عبدي الذي يذكرني وهو مُلاقٍ قِرْنه" 1. رواه الترمذي عن عمارة بن زعكرة.
ش- القرن -بكسر الأول وسكون ثانيه-: الكفء، والنظير في الشجاعة والحرب، ويجمع على أقران، والمعنى: أن عبدي الحقيقي، الذي أخلص في العبادة، ولم يغفل عن ذكري، هو من ذكرني في ساحة القتال مع قرنه، وخصمه؛ ويستنقذ روحه من براثن عدوه، فهو في هذه اللحظة إذا ذكر الله سبحانه وتعالى؛ فإنه لا ينساه، ولا يغفل عن ذكره في
ـــــــ
1 رواه الترمذي رقم "3576"من حديث عمارة بن زعكرة رضي الله عنه، وإسناده ضعيف.
(1/44)
شرح حديث: إن لعبدي علي عهداً إن أقام الصلاة
...
41- "إن لعبدي علي عهدًا إن إقامَ الصلاة لوقتها ألا أعذِّبه، وأن أدخله الجنة بغَيْر حساب" 1. رواه الحاكم عن عائشة.
ش- العهد: الموثق، وتقدَّم تفسيره في شرح الحديث"30"، وإقامة الصلاة لوقتها: المحافظة عليها في أوقاتها المشروعة. وأل في الصلاة للعهد، وهي الصلاة الكاملة، المستوفية للأركان، والشروط، والسنن، والمستحبات. ولا شك أن من أتى بها كذلك يكون عبدًا مؤمنًا حقًا، فيجتنب المنهيات، ويفعل المأموريات، يشغل نفسه في طاعات ربه؛ لأن الله تعالى يقول في كتابه المنزل على رسوله المكرم: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت: 45] ومن كان هذا حاله؛ فإنه حقيق ألا يعذب بعذاب الله، وأن يدخل الجنة بغير حساب، والله أعلم، وهنا عزا المصنف الحديث إلى الحاكم، وظاهره إلى كتابه المستدرك، وليس كذلك، بل ذكره في تاريخه كما بينه المدني في كتابه.
ـــــــ
1 ذكره المتقي الهندي في كنز العمال ج/7/رقم "19036"وقال: رواه الحاكم في تاريخه عن عائشة رضي الله عنها.
(1/45)
شرح حديث: إنا أنزلنا المال لإقام الصلاة
...
42- "إنَّا أنزلنا المال لإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، ولوكان لابن آدم وادٍ لأحب أن يكون له ثان، ولو كان له واديان لأحب أن يكون لهما ثالث، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، ثم يتوب الله على من تاب" 1. رواه أحمد، والطبراني في الكبير عن أبي واقد الليثي.
ش- يعني: أن الله سبحانه وتعالى أنزل المال، وأوجده، وجعله بين يدي خلقه؛ ليقيموا به شعائر الدين، ويظهروا معًالم الشرع من صلاة، وزكاة، وغيرهما لا أن يضعوا ما رزقهم الله من المال في غير موضعه، يصرفوه في الملاهي والملذات، وفي
ـــــــ
1 روه أحمد في المسند"5/ 218و 219"والطبراني في الكبير رقم"3300و 3301"والبيهقي في الشعب رقم"10277 و10278" وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد"7/ 140"وقال: رواه أحمد والطبراني في الكبير، ورجال أحمد رجال الصحيح. نقول: وهو حديث صحيح بطرقه وشواهده.
(1/45)
شرح حديث: إنك إن ذهبت تدعو على آخر
...
43- "إنَّك إن ذهبت تدعو على آخر من أجل أنه ظلمك، وإنَّ آخر يدعو عليك إنك ظلمته، فإن شئت استجبنا لك، وعليك، وإن شئت أخَّرتكما إلى يوم القيامة، فأوسعكما عفوي" 1. رواه الحاكم عن أنس.
ش- فيه: أن الله سبحانه وتعالى حليم ورؤوف بعباده يحب تأخير الجزاء إلى الآخرة، ولا يجازي عبده عقب ارتكابه الجُرم؛ ليشمله عفوه جل، وعز يوم القيامة، ويثيب صاحب الحق بحسب مظلمته، وتعدي الغير عليه. وفيه أيضًا: أن الله تبارك يستجيب للمظلوم، ويحبس شكايته عنده ذخرًا له في وقت يكون أحوج ما يكون إليه. سبحانك يا رب ما أحلمك بعبادك، وأرأفك بهم!.
ـــــــ
1 ذكره المتقي الهندي في كنز العمال ج/3/رقم "7017"وقال: رواه الحاكم في تاريخه من حديث أنس رضي الله عنه. وفي إسناده إبراهيم بن زيد الأسلمي. قال ابن حبان: واهٍ.
(1/46)
شرح حديث: إنما أتقبل الصلاة ممن تواضع
...
44- "إنما أتقبَّل الصلاة ممن تواضع بها لعظمتي، ولم يستطلْ على خلقي، ولم يبت مُصرًا على معصيتي، وقطع نهاره في ذكري، ورحم المسكين، وابن السبيل، والأرملة، ورحم المصاب. ذلك نوره كنور الشمس. أكلؤُهُ بعزتي، وأستحفظه بملائكتي، أجعل له في الظلمة نورًا،
(1/46)
شرح حديث: إني أنا الله لا إله إلا أنا
...
45- "إني أنا الله لا إله إلا أنا، من أقرَّ لي بالتوحيد؛ دخل حصني، ومن دخل حصني؛ أمن من عذابي" 1. رواه الشيرازي في الألقاب عن علي.
ش- التوحيد: إفراد الله جل وعلا بالتأثير والضُّرِّ، والنفع، والرزق، والخلق، والإيجاد إلى غير ذلك مما لم يمكن لغير الله أن يتصف به. والحصن: المكان الذي لا يقدر عليه لارتفاعه، ومنعته، وجمعه: حصون. والمعنى والله أعلم: أن العبد إذا اعتقد، وأقر لله سبحانه وتعالى بالوحدانية؛ أي: في ذاته، وصفاته، وأفعاله؛ أمن من عذاب الله جل ذكره؛ لأنه دخل في حصنه، وحماه الذي لا يصل إليه أحد، ولا يلحق من ولجه أذى.
ـــــــ
1 رواه أبو نعيم في الحلية"3/ 191"من حديث علي رضي الله عنه، وفي إسناده "أبو الصلت عبد السلام بن صالح الهروي" وثقة يحيى على تشيع فيه، وتكلم فيه الساجي، والنسائي، وأبو حاتم، والجرجاني. وابن عدي. والدارقطني وقال أبو زرعة: لا أحدِّث عنه، ولا أرضاه. قال ابن حبان لا يجوز الاحتجاج به، وقال محمد بن طاهر: كذَّاب، فالحديث ضعيف جدًا.
(1/48)
شرح حديث: إني إذا أخذت كريمتى عبد
...
46- "إني إذا أخذت كريمتي عبدٍ، فصبر، واحتسب؛ لم أرضَ له ثوابًا دون الجنة" 1. رواه ابن ماجه، وأبو يعلى، والطبراني عن ابن عباس.
ـــــــ
1رواه أبو يعلى رقم "2365" وابن حبان رقم"2930". وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد"2/ 308"وقال: رواه أبو يعلى والطبراني في الكبير والأوسط، ورجال أبي يعلى رجال الصحيح. وذكره الحافظ في المطالب العالية برقم "2428"وقال: رواه أبو يعلى. نقول: وإسناده صحيح.
(1/48)
شرح حديث: إن أوليائي من عبادي
...
47- "إن أوليائي من عبادي، وأحبائي من خلقي، الذين يذكرون
(1/48)
شرح حديث: إني حرمت الظلم على نفسي
...
48- "إني حرَّمت الظلم على نفسي وجعلته محرمًا بينكم، فلا تظالموا! يا عبادي! كلكم ضالٌ إلا من هديته، فاستهدوني؛ أهدكم. يا عبادي! كلكم جائع إلا من أطعمته، فاستطعموني؛ أطعمكم. يا عبادي! كلكم عار إلا من كسوته، فاستكسوني؛ أكسكم. يا عبادي! إنكم تخطئون بالليل والنهار، وأنا أغفر الذنوب جميعًا غير الشرك، فاستغفروني؛ أغفر لكم. يا عبادي! إنكم لن تبلغوا ضري، فتضروني، ولن تبلغوا نفعي؛ فتنفعوني. يا عبادي! لو أن أولكم، وآخركم، وإنسكم، وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم؛ ما زاد ذلك في ملكي شيئًا. يا عبادي! لو أن أولكم، وآخركم، وإنسكم، وجنكم، قاموا في صعيد واحد، فسألوني، فأعطيت كل إنسان مسألته؛ ما نقص ذلك مما عندي شيئًا إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر. يا عبادي! إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرًا؛ فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك؛ فلا يلومن إلا نفسه" 1. رواه مسلم، وأبو عوانة، وابن حبان، والحاكم عن أبي ذر.
ش- هذا الحديث شريف القدر، عظيم المنزلة، جليل الموقع، جامع لفوائد شتى، قد تضمن من قواعد الدين العظيمة: من العلوم، والأعمال، والأصول، والفروع، وغير ذلك مما لا يحصره قلم، ولا يحصيه عاد؛ لذلك كان الإمام أحمد بن
ـــــــ
1 رواه مسلم رقم"2577"في البر والصلة، باب تحريم الظلم. والبخاري في الأدب المفرد رقم"490". والحاكم في المستدرك"1/ 241".والبيهقي في السنن الكبرى"6/ 93 "من حديث أبي ذر رضي الله عنه.
(1/49)
حنبل رضي الله عنه يقول: هو أشرف حديث لأهل الشام، وكان أبو إدريس الخولاني1 إذا حدَّث به جثا على ركبته، كما ذكره مسلم في صحيحه، وراويه هو إمام أهل الصوفية الذي قيل فيه: "ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء أصدق لهجةً منه" 2 فالله سبحانه وتعالى نفى الظلم عن نفسه بقوله: "إني حرمت الظلم على نفسي" أي: لا يليق، ولا ينبغي أن أتَّصف به، وهو مستحيل في حقه تعالى؛ لأن الظلم قبيح، ونفاه الباري تعالى في غير موضع من كتابه، فقال: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ} [النحل: 118] وقال: {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف: 18] وقال: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت: 46] وقال: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا} [النساء: 77] ونفى تبارك ذكره إرادته الظلم أيضًا بقوله: {وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ} [آل عمران: 108] وقوله: {وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ} [غافر: 31] ونفى خوف العباد له بقوله: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْمًا وَلا هَضْمًا } [طه: 112] قال أهل التفسير من السلف في هذه الآية: لا يخاف أن يظلم فيحمل عليه سيئات غيره، ولا يهضم، فينقص من حسناته، يعني: أن المحسن لا يظلم في الآخرة فينقصه الله جل ذكره من إحسانه، أو يجعله لغيره، ولا يظلم مسيئًا فيجعل عليه سيئات غيره، بل لها ما كسبت، وعليها ما اكتسبت. وقد أفاد هذا المعنى قوله تعالى: {أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى ، وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى ، أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ، وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى ، وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى ، ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى} [النجم: 36 - 41]. وللعلماء في تفسير الظلم المنفي هنا أقوال، وتنازع، فبعضهم قد شذ، وبعضهم قد غلا، وتجاوز، والقول الوسط في ذلك ما أشرنا إليه
ـــــــ
1 أبو إدريس الخولاني، هو عائذ الله بن عبد الله، بن عمرو بن إدريس بن عائذ بن عبد الله بن عتبة، قاضي دمشق، وعالمها، وواعظها، ولد عام الفتح، وحدث عن أبي ذر، وأبي الدرداء، وحذيفة، حدث عنه أبوسلام الأسود، ومحول، وله جلالة عجيبة، توفي رحمه الله سنة"80"هـ.
2 رواه الترمذي رقم"3804". باب مناقب أبي ذر رضي الله عنه. وهو حديث حسن.
(1/50)
قبل، وهو: أنَّ الظلم الذي حرمه الله على نفسه، ونفى إرادته كما تقدَّم هو مثل أن يترك حسنات المحسن، فلا يجزيه بها، ويعاقب البريء على ما لم يفعل من السيئات، ويعاقب هذا بذنب غيره، أو يحكم بين الناس بغير القسط، ونحو ذلك من الأفعال التي يُنزَه الرب عنها لقسطه، وعدله، وهو قادر عليها، وإنما استحق الحمد، والثناء؛ لأنه ترك الظلم، وهو قادر عليه، وكما أن الله سبحانه وتعالى منزه عن صفات النقص، والعيب، فهو أيضًا منزه عن أفعال النقص، والعيب.
وقوله: " وجعلته بينكم محرمًا فلا تظالموا" -هو بفتح التاء- وتخفيف الظاء في الأصول المعتبرة، ونقل ابن حجر: أنه روي مشددًا، والأشهر تخفيفها؛ أي: جعلت الظلم بينكم يا عبادي محرمًا، فلا يظلم بعضكم بعضًا، والخطاب للثقلين؛ لاختصاصهم بالتكليف، وتعاقب التقوى والفجور، ولأن ما بعده من الألفاظ كالطعام، والكسوة ينص على ذلك، وهذه الجملة تجمع الدين كله، فإن ما نهى الله عنه راجع إلى الظلم، وكل ما أمر به راجع إلى العدل ولهذا قال تعالى في كتابه الحكيم: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ} [الحديد: 25].
وقال الإمام تقي الدين بن تيمية في شرح هذا الحديث: فأخبر أنه جل ذكره أرسل الرسل، وأنزل الكتاب والميزان لأجل قيام الناس بالقسط، وذكر أنه أنزل الحديد الذي به ينصر هذا الحق، فالكتاب يهدي، والسيف ينصر، وكفى بربك هاديًا ونصيرًا، ولهذا كان قوام الناس بأهل الكتاب، وأهل الحديد، كما قال من قال من السلف: صنفان إذا صلحوا صلح الناس: الأمراء، والعلماء، وقالوا في قوله تعالى: {وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء :59] أقوالًا تجمع العلماء، والأمراء، ولهذا نص أحمد، وغيره على دخول الصنفين في هذا الآية؛ إذ كل منهما تجب طاعته فيما يقول به من طاعة الله، وكان نواب رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته كعلي، ومعاذ، وأبي موسى، وعتاب بن أسيد، وعثمان بن أبي العاص، وأمثالهم يجمعون الصنفين، وكذلك خلفاؤه من بعده كأبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، ونوابهم، ولهذا كانت السنة: أن الذي يصلي بالناس هو صاحب الكتاب، والذي يقوم بالجهاد هو صاحب الحديد. انتهى.
وقال العلامة السعد في شرح الأربعين النووية: إذا الظالم ينحط عن رتبة النبوة {قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة: 124] وعن درجة الولاية: {أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود: 18] وعن مرتبة السلطنة "بيت الظالم خراب ولو بعد حين" وعن نظر الخلائق
(1/51)
"جبلت القلوب على حبِّ من أحسن إليها، وبُغض من أساء إليها" 1 وعن حظ نفسه وتبقى خسارته في الدنيا، والعقبى {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ} [الزخرف: 76] وفي الترمذي مرفوعًا: "ثلاثة لا ترد دعوتهم: الصائم حتى يفطر، والإمام العادل، ودعوة المظلوم يرفعها الله فوق الغمام، وتفتح لها أبواب السماء، ويقول الرب: وعزتي وجلالي لأنصرنَّك ولو بعد حين"2، وحُكِي: أن الأمير نوحًا لما وضع الخراج على أهل سمرقند، بعث بريدًا إلى أميرها، فأحضر الأئمة، والمشايخ، وأعيان البلد، وقرأ عليهم الكتاب، فقال الفقيه أبو منصور الماتريدي للبريد: قد أديت رسالة الأمير، فاردد إليه الجواب، وقل له: زدنا ظلمًا حتى نزيد في دعاء الليل، ثم تفرقوا فلم تذهب إلا أيام حتى وجدوه قتيلًا وفي بطنه زج رمح مكتوب:
بغى والبغي سهامٌ تنتظر ... أتته من أيدي المنايا والقَدَر
سهامٌ أيدي القانتاتِ في السَّحر ... يرمين عن قوسٍ لها الليل وَتَر
ولا شك أنَّ كلَّ خيرٍ وصلاح داخل في القسط والعدل، وكل شر وفسادٍ داخل في الظلم، والظلم يتفاوت، وبعضه أشد ضررًا من بعض، فهو في جميع أنواعه وأفراده ممنوع، ينفر عنه الطبع السليم، وتأباه الفطرة، وكذلك يمتنع عمومًا من حيث متعلقه، سواء كان الظلم ظلمًا لمسلم، أو لكافر، قريبٍ، أو بعيدٍ، صاحب، أو عدو، اعتدى عليك أم لم يعتد. فهو محرم في كل شيء، ولكل أحد. قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ} [المائدة:
ـــــــ
1 رواه القضاعي في مسند الشهاب رقم"599 و600"وأبو نعيم في الحلية"4/ 121"والبيهقي في الشعب"8984"وابن عدي في الكامل"2/ 287"من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه مرفوعًا، وفي إسناده إسماعيل الخياط قال فيه أحمد: روى أحاديث موضوعة عن فطر وغيره، وتركناه، وقال ابن حبان: كان يضع الحديث على الثقات. وقال أبو داود: كان كذابًا، ورواه البيهقي موقوفًا رقم "8983". والحديث ضعيف جدًا مرفوعًا، وموقوفًا.
2 رواه أحمد في المسند "2/ 304 و 445و477"، وابن حبان رقم"3428"، وابن ماجه رقم"1752"، وابن خزيمة رقم "1901"، والترمذي رقم" 3592"من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وإسناده ضعيف ولبعض فقراته شواهد.
(1/52)
8] أي: يحملنكم بغض قوم وهم الكفار على عدم العدل {عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8] وقال تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] وقال تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40] وقال تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل: 126].
وقوله: "يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته" إلخ، بعد ما ذكر جل شأنه في أول الحديث ما أوجبه من العدل، وحرمه من الظلم على نفسه، وعلى عباده عمومًا عقب ذلك بذكر إحسانه إلى عباده، وإنعامه عليهم مع غناه عنهم، وفقرهم إليه، وأنهم لا يقدرون على جلب منفعة لأنفسهم، ولا دفع مضرة إلا أن يكون هو الميسر لذلك، وأمر عباده أن يسألوه ذلك، وأخبر أنهم لا يقدرون على نفعه، ولا ضره مع عظم ما يوصل إليهم من النعماء، ويدفع عنهم من البلاء، وجلب المنفعة ودفع المضرة إما أن يكونا في الدين، أو في الدنيا، فصارت أربعة أقسام: الهداية، والمغفرة، وهما جلب المنفعة. ودفع المضرة في الدين والكسوة، والطعام، وهما جلب المنفعة ودفع المضرة في الدنيا، وإن شئت قلت: الهداية، والمغفرة يتعلقان بالقلب الذي هو ملك البدن، وهو الأصل في الأعمال الإرادية. والطعام، والكسوة يتعلقان بالبدن؛ الطعام لجلب المنفعة، واللباس لدفع المضرة. وفتح الأمر بالهداية، فإنها وإن كانت الهداية النافعة هي المتعلقة بالدين، فكل أعمال الناس تابعة لهدي الله إياهم، والله أعلم، أفاده الإمام المجتهد ابن تيمية في شرحه مع بسط. وقوله: "كلكم ضال" أي: من شأنكم، وجبلتكم الضلالة كما روي: "أن الله خلق الخلق في ظلمة الطبيعة، فألقى عليهم من نوره... إلخ" 1 أي: في ظلمة الطبيعة من الميل إلى الشهوات، والركون إلى المحسوسات، والغفلة عن أسرار عالم الغيب ومالك السموات، فألقى عليهم من نوره، أي: بسبب ما نصب لهم من الحجج النيرة، فمن أصابه من ذلك النور؛ اهتدى، ومن أخطأه؛ ظل عن الطريق المستقيم، وغوى.
فالناس خلقوا لا يهتدون إلى طريق الصواب والنهج السَّويِّ إلا بمرشدٍ، وهادٍ. فمن هداه الله يشرح صدره، وينور قلبه ويصفي استعداده عما ينافي قبول الحق والصراط المستقيم من ظلمات الشكوك: والشبه، واتِّباع الهوى، والعمل بالبدع التي
ـــــــ
1 رواه أحمد في المسند"2/ 176"ورقم"6644"مطولًا. والترمذي رقم "2644"وابن أبي عاصم في السنة"241". وابن حبان رقم"6169"من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه، وهو حديث صحيح.
(1/53)
تصادم الشرع الشريف، فإن كل بدعة ضلالة، وكلَّ ضلالةٍ في النار. كما أخبر بذلك شفيع المذنبين من النار، فينبت فيه شجر التصديق، والإيقان بما جاء به سيد ولد عدنان من أصول الدين، وفروعه، فينمو بأغصان الطاعات في كل حين، ووقت، ثم يثمر بثمار المشاهدة والتجليات، وعلم اليقين، فيرى الحق حقًا فيتبعه، ويرى الباطل باطلًا فيجتنبه، وهذا لا ينافي قوله صلى الله عليه وسلم: "كل مولود يولد على الفطرة..." 1 الحديث، فإن هذه ظلمة طارئة على الفطرة الأولى، كما يشير إليه ما روي: "خلق الله الخلق على معرفته، فاغتالتهم الشياطين" وقال ابن المبارك رضي الله عنه: يولد على ما يصير إليه من سعادة، أو شقاوة، فمن علم أنه يصير مسلمًا موحدًا؛ ولد على فطرة الإسلام، والتوحيد، ومن علم أنه يصير كافرًا جاحدًا نعماء ربه؛ ولد على فطرة الكفر. ويستدل ذلك بقوله تعالى، وهو أصدق القائلين: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} [التغابن: 2]. وقوله: "فاستهدوني أهدكم" أي: اطلبوا مني الهداية الموصلة إليَّ؛ مع أنه سبحانه يهدي من يشاء بحسن الرعاية، وجميل العناية إظهار الافتقار، والإشعار بأنه لا هداية قبل سؤاله إياه، فربما قال: إنما أوتيته على علم عندي، فيضل بذلك، ويشقى، فإذا سأل ربه الأمور الدنيوية، والأخروية،؛ فقد اعترف على نفسه بالعبودية، ولمولاه بالربوبية، وهذا مقام شريف، ومشهد لطيف، وفيه دليل لأهل السنة والجماعة على أن المتهدي من هداه الله تعالى، وبإرادته اهتدى من اهتدى لا بما سواه، وأن غير المهتدي لم يُرِد الله هدايته، فلم يهتد لذلك، ولو أرادها له لاهتدى؛ قال الله تعالى: {فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنعام: 35] وقال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [الأنعام: 35] وقال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا} [الأنعام: 107] وقال تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا} [الأنعام: 125] وقال تعالى: {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا} [الكهف: 17] إلى غير ذلك من الآي، والله أعلم.
وقوله في الحديث: "يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته" لما فرغ من الامتنان بالأمور الدينية شرع في الامتنان في الأمور الدنيوية، فقال: ... إلخ، وكرر النداء.
ـــــــ
1 رواه أحمد في المسند"2/ 393"والبخاري رقم"1359"في الجنائز، ورقم" 1385و 4775 "ومسلم رقم"2658"، والترمذي رقم"2138". وابن حبان رقم"128"من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(1/54)
زيادةً في تشريفهم، وتعظيمهم، ولذا أضافهم إلى نفسه جل شأنه. قال الإمام العلامة تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية في شرحه: فينقضي أصلين عظيمين: وجوب التوكل على الله في الرزق المتضمن جلب المنفعة كالطعام، ودفع المضرة كاللباس. وأنه لا يقدر غير الله على الإطعام والكسوة قدر مطلقة، وإنما القدرة التي تحصل لبعض العباد تكون على بعض أسباب ذلك ولهذا قال: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233] وقال: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ} [النساء: 5] فالمأمور به هو المقدور لعباد. وكذلك قوله: {أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ ، يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ ، أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ} [البلد: 14- 16] وقوله: {وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} [الحج: 36] وقوله: {وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} [الحج: 28] وقال: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ} [يس: 47] فذمَّ من يترك المأمور به اكتفاءً بما يجري به القدر. ومن هنا يعرف: أن السبب المأمور به، أو المباح لا ينافي وجوب التوكل على الله في وجود السبب: بل الحاجة والفقر إلى الله ثابتة مع فعل السبب؛ إذ ليس في المخلوقات ما هو وحده سبب تام لحصول المطلوب، ولهذا لا يجب أن تقترن الحوادث بما قد يجعل سببًا إلا بمشيئة الله تعالى؛ فإنه ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، فمن ظن الاستغناء بالسبب عن التوكل؛ فقد ترك ما أوجب الله عليه من التوكل، وأخل بواجب التوحيد، ولهذا يُخذل أمثال هؤلاء إذا اعتمدوا على الأسباب، فمن رجا نصرًا، أو رزقاً من غير الله خذله الله، كما قال علي رضي الله عنه: لا يرجونَّ عبد إلا ربه، ولا يخافن إلا ذنبه، وقد قال تعالى: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [فاطر: 2] إلخ ما قال؛ يعني: أن الله جل ذكره خلق الخلق كلهم ذوي فقر إلى الطعام، فكل طاعم كان جائعًا حتى يطعمه الله، يسوق الرزق إليه، وتصحيح الآلات التي هيأها له، فلا يظن ذو الثروة: أن الرزق الذي في يده وقد رفعه إلى فيه أطعمه إياه أحد غير الله تعالى. وفيه أيضًا: أدب الفقراء، كأنه قال: لا تطلبوا الطعام من غيري فإن هؤلاء الذين تطلبون منهم أنا الذي أطعمهم، فاستطموني أطعمكم، وكذلك ما بعده أفاده الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد1 في شرحه، والله أعلم.
ـــــــ
1 تقي الدين بن دقيق العيد: هو الإمام محمد بن علي بن وهب ولد في شعبان سنة "625"هـ بناحية "ينبع" على البحر الأحمر. قال ابن سيد الناس: لم أر مثله فيمن رأيت، ولا حملت عن أجل منه، توفي رحمه الله سنة"702"هـ.
(1/55)
قوله: "تخطئون" بضم التاء، وسكون الخاء المعجمة، وكسر الطاء المشالة، هذه هي الرواية المشهورة. وروي بفتح أوله، وثالثه. والخطأ يطلق على معان، قال الراغب في مفرداته: الخطأ: العدول عن الجهة، وذلك أضرب؛ أحدها: أن يريد غير ما تحسن إرادته، فيفعله، وهذا هو الخطأ التام المأخوذ به الإنسان، يقال: خطئ يخطأ، خطأً، وخطاءة -أي: بكسر الأول فيهما- والثاني: أن يريد ما يحسن فعله، ولكن يقع منه خلاف ما يريد، فيقال: أخطأ إخطاء، فهو مخطئ، وهذا قد أصاب في الإرادة، وأخطأ في الفعل. والثالث: أن يريد ما لا يحسن فعله، ويتفق منه خلافه، فهذا مخطئ في الإرادة، ومصيب في الفعل، فهو مذموم بقصده، وغير محمود على فعله.
وجملة الأمر: أن من أراد شيئًا، فاتفق منه غيره، يقال: أخطأ، وإن وقع منه كما أراده؛ يقال: أصاب. وقد يقال لمن فعل فعلًا لا يحسن، أو أراد إرادة لا تجعل: أنه أخطأ؛ ولهذا يقال: أصاب الخطأ، وأخطأ الصواب، وأصاب الصواب، وأخطأ الخطأ، وهذه اللفظة مشتركة كما ترى، مترددة بين معان يجب لمن يتحرى الحقائق أن يتأملها. انتهى بنوع تصرف.
وقوله: "بالليل والنهار": أن في ساعاتهما، وأوقاتهما، وقدم الليل على النهار؛ لأن الليل ظلمة، وهي الأصل، والنور طارئ عليها يسترها، ولأن المقام يقتضي تقديمه ؛ إذا أكثر المعاصي والآثام تعمل في الليل. والاستغفار من الذنوب: طلب تقديمه؛ إذا أكثر المعاصي والآثام تعمل في الليل. والاستغفار من الذنوب: طلب المغفرة، والعبد أحوج شيء إليه لما تقدم. وقد جاء في القرآن الحكيم ذكر الاستغفار، والتوبة، والأمر بهما، والحث عليهما في غير آية، فلا حاجة إلى إيرادها خوف الإطالة. وأما من الحديث النبوي، فلا مانع من ذكر نبذة من ذلك.
روي الترمذي، وابن ماجه من حديث أنس بن مالك خادم الرسول صلى الله عليه وسلم عن النبي عليه الصلاة والسلام قال: "كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون" 1 وأخرج البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "والله إني لأستغفر الله، وأتوب إليه كل يوم مئة مرة" 2 وأخرج أيضًا من حديث الأغرِّ المزني
ـــــــ
1 رواه الترمذي رقم"2501"، والدارمي"2/ 303"، وابن ماجه رقم" 2451"من حديث أنس رضي الله عنه وإسناده حسن.
2 رواه الترمذي رقم"3255"في التفسير من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: وهو حديث صحيح. وليس في البخاري كما أشار المؤلف.
(1/56)
سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول : "يا أيها الناس! توبوا إلى ربكم، واستغفروه، فإني أتوب إلى الله، وأستغفره كل يوم مئة مرَّة" 1 وخرج الإمام أحمد بن حنبل من حديث حذيفة قال: "كان في لساني ذربٌ -أي: حاد اللسان، لا أبالي بما أقول- على أهلي لم أعده إلى غيره، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: أين أنت من الاستغفار يا حذيفة! إني لأستغفر الله كل يوم مئة مرة" 2، وخرج الإمام أحمد بن حنبل، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه من حديث ابن عمر قال: إن كنا لنعد لرسول الله صلى الله عليه وسلم في المجلس الواحد مئة مرة يقول: "رب اغفر لي وتب علي، إنك أنت التواب الرحيم!" 3.
والمغفرة العامة لجميع الذنوب نوعان؛ أحدهما: المغفرة لمن تاب، كما في قوله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر: 53] إلى قوله: {ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ} فهذا السياق مع سبب نزول الآية يبين: أن المعنى: لا ييأس مذنب من مغفرة الله تعالى، ولو كانت ذنوبه ما كانت؛ فإن الله جل ذكره لا يتعاظمه ذنب من أن يغفره لعبده التائب. وقد دخل في هذا العموم الشرك وغيره من الذنوب؛ فإن الله تعالى يغفر ذلك لمن تاب منه؛ ويؤيد ذلك قوله تعالى: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التوبة: 5] وقال في الآية الأخرى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} [التوبة: 11] وقال: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ} [المائدة: 73] إلى قوله {أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 74] قال الإمام
ـــــــ
1 رواه مسلم رقم"2702". والبخاري في الأدب والمفرد رقم"621". والبغوي رقم "1288". وابن حبان رقم"929"رضي الله عنه. والنسائي في عمل اليوم والليلة رقم"466" من حديث الأغر المزني رضي الله عنه.
2 رواه أحمد في المسند "5/ 394 و 396" من حديث حذيفة رضي الله عنه، وهو حديث صحيح.
3 رواه أحمد في المسند"2/ 21"والبخاري في الأدب المفرد رقم"618". وأبو داود ورقم "1516". والترمذي رقم"3434"، وابن ماجه رقم"3814"، وابن حبان رقم"927"من حديث ابن عمر رضي الله عنه وهو حديث صحيح.
(1/57)
تقي الدين أحمد بن تيمية: وهذا القول الجامع بالمغفرة لكلِّ ذنبٍ للتائب منه، كما دل عليه القرآن، والحديث هو الصواب عند جماهير أهل العلم، وإن كان من الناس من يستثني بعض الذنوب، كقول بعضهم: إن توبة الداعية إلى البدع لا تقبل باطنًا للحديث الإسرائيلي الذي منه: "فكيف من أضللت" وهذا غلط، فإن الله قد بين في كتابه، وسنة رسوله أن يتوب على أئمة الكفر الذين هم أعظم من أئمة البدع، وقد قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ} [البروج: 10] قال: الحسن البصري: انظروا إلى هذا الكرم: عذبوا أولياءه، وفتنوهم، ثم هو يدعوهم إلى التوبة، كذلك توبة القاتل وغيره إلى آخر ما قال.
وثانيهما: المغفرة بمعنى تخفيف العذاب، أو بمعنى تأخيره إلى أجلٍ مسمى، وهذا عام مطلقًا، لهذا شفع النبي صلى الله عليه وسلم في عمه أبي طالب مع موته على الشرك فنقل من غمرةٍ من نار حتى جعل في ضحضاح من نار، في قدميه نعلان من نار يغلي منهما دماغه. قال: "لولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار "1 على هذا المعنى دل قوله تبارك وتعالى: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا} [فاطر: 45] وقوله جل ذكره: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [التوبة: 30] وغير ذلك من الآيات. قال العلامة الحافظ تقي الدين بن دقيق العيد في شرح الأربعين حديثًا النووية: في هذا الكلام من التوبيخ ما يستحي منه كل مؤمن.
وكذلك: أن الله خلق الليل؛ ليطاع فيه، ويعبد بالإخلاص، حيث تسلم الأعمال فيه غالبًا من الرياء والنفاق، أفلا يستحي المؤمن ألا ينفق الليل فيما خلق له من الطاعات حتى يخطئ فيه، ويعصي الله تعالى في مواطنه؛ وأما النهار: فإنه خلق مشهودًا من الناس فينبغي من كل فطن أن يطيع الله فيه أيضًا، لا يتظاهر بين الناس بالمخالفة، وكيف يحسن بالمؤمن أن يخطئ سرًا أو جهرًا؛ لأنه سبحانه وتعالى قد قال بعد ذلك: "وأنا أغفر الذنوب جميعًا" فذكر الذنوب بالألف واللام التي للتعريف، وأكدها بقوله:
ـــــــ
1 رواه مسلم رقم"209" في الإيمان. باب شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لأبي طالب من حديث العباس رضي الله عنه.
(1/58)
"جميعًا"، وإنما قال ذلك قبل أمره إيانا بالاستغفار؛ لئلا يقنط أحد من رحمة الله لعظم ذنبٍ ارتكبه. انتهى.
وقوله: "يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري..." إلخ. الضرُّ -يفتح أوله، ويضم-: الضرر، ضد النفع، وهو منصوب بنزع الخافض، أو لن تصلوا إلى ضرري، كذا في بعض شروح الأربعين؛ قال الأزهري: كل ما كان سوء حال وفقر، وشدة في بدن؛ فهو ضر بالضم؛ وما كان ضد النفع؛ فهو بفتحها. انتهى.
ولما كانت الجبلة والعادة في الخلق أن يوصل بعضهم إلى بعض نفعًا، أو ضرًا، وكان هذا مألوفًا لهم فيما بينهم، فإذا رأيت إحسانًا من أحد، أو إساءة من أحد إليك فتجتهد لأن توصل إليه نظير صنعه من خير، أو شر، أو منفعة، أو مضرة فالناس وراء المنافع أيًا كان وكل بحسبه، أراد المولى جل ذكره أن يبين لخلقه وعبيده: أنه سبحانه لا يصله شيء من طاعتكم، فينتفع به، ولا يصله شيء من معصيتكم فتضرونه به؛ بل أعمالكم الطيبة الصالحة تثابون عليها يوم القيامة، وتنتفعون بها في الآخرة، وكذلك أعمالكم الخبيثة، فإنكم تجازون عليها يوم الموقف الأعظم، وتعذبون بسبب ما ارتكبتموه من الأمور المخلة، فليجتهد كل إنسان: ويدخر لنفسه من الأعمال الصالحات ما يعود نفعه عليه في وقت شدة حاجته إليه، وليجهد نفسه على منعها من ارتكاب ما يخل بالآداب الإنسانية، والقواعد الشرعية لئلا يكون وزر ذلك عليه في يوم لا شفيع يشفع إلا بإذن الله سبحانه وتعالى. قال قتادة: إن الله لم يأمر العباد بما أمرهم به لحاجته إليهم، ولا نهاهم عنه بخلًا به عليهم، ولكن أمرهم بما فيه صلاحهم، ونهاهم عما فيه فسادهم.
وقد ورد في ذلك آيات كثيرة، منها قوله تعالى: {وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدً ا} [النساء: 131]أي: لم يزل كذلك. وقال حاكيًا عن موسى: {وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ} [إبراهيم: 8] وقال: {وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا} [آل عمران: 176] وقال: {وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا} [آل عمران: 144] وقال: {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 97] وقال تعالى: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} [الحج: 37] والمعنى والله أعلم: أنه تعالى يحب من عباده أن يتقوه، ويطيعوه، كما أنه يكره منهم أن يعصوه. ولهذا يفرح بتوبة التائبين أشد من فرح من ضلت راحلته التي عليها طعامه، وشرابه بفلاة من الأرض، وطلبها حتى أعيا، وأيس منها، واستسلم للموت، وأيس من الحياة، ثم غلبته عيناه فنام، واستيقظ، فإذا
(1/59)
هي قائمة عنده. وهذا أعلى ما يتصوره المخلوق من الفرح والسرور، وهذا كله مع غناه عن طاعات عباده، وتوبتهم إليه، وأنه إنما يعود نفعها إليها دونه، ولكن هذا من كمال جوده، وإحسانه إلى عباده، ومحبته لنفعهم، ورفع الضر عنهم، فهو يحب من عباده أن يعرفوه، ويحبوه، ويخافوه، ويتقوه، ويطيعوه، ويتقربوا إليه، ويحب أن يعلموا أنه لا يغفر الذنوب أحد غيره، وأنه قادر على مغفرة ذنوب عباده، كما في رواية عبد الرحمن بن غنم عن أبي ذر لهذا الحديث: "من علم منكم أني ذو قدرة على المغفرة ثم استغفرني؛ غفرت له، ولا أبالي" 1. وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: "واللهِ لله أرحم بعباده من الوالدة بولدها" 2.
وقوله: "يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم...إلخ" بعد ما ذكر الله تعالى أنه جل ذكره لا ينتفع من عباده بطاعتهم إياه، ولا يحصل له ضرر بسبب عصيانهم إياه، بل الانتفاع والضرر عائدان عليهم، ومجازون بذلك، عقب ذلك بأن ملكه جل ثناؤه لا يزيد بطاعة الخلق، ولو كانوا كلهم بررة، أتقياء، قلوبهم على قلب أتقى رجل منهم، كذلك لا ينقص ملكه بمعصية العاصين، ولو كان جميع الإنس والجن عصاة، فجرة، قلوبهم على قلب أفجر رجل منهم، فإنه سبحانه الغني بذاته عمن سواه، وله الكمال المطلق في ذاته، وصفاته، وأفعاله، فملكه ملك كامل لا نقص فيه بوجه من الوجوه على أي وجه كان، وفيه دليل على أن الأصل في التقوى والفجور هي القلوب، فإذا بر القلب، واتقى؛ برت الجوارح، وإذا فجر القلب؛ فجرت الجوارح. أفاده الحافظ ابن رجب في جامع العلوم والحكم بنوع تصرف.
وقوله: "ولو أن أولكم، وآخركم، وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني... إلخ" الصعيد: وجه الأرض، وظاهرها؛ أي: في مقام واحد. وقوله: فسألوني؛ أي: في تلك الحالة بألسنة مختلفة حوائج مؤتلفة. قال السعد: وقيد السؤال بالاجتماع في صعيد واحد؛ لأن تزاحم الأسئلة، وترادف الناس في السؤال مع كثرتهم، وكثرة مطالبهم؛ بما يضجر المسؤول منه، ويدهشه، وذلك يوجب حرمانهم، وتخييبهم؛ أي: تعسر إنجاح مطالبهم، وإسعاف مآرابهم. وليس كذلك في حقه
ـــــــ
1 رواه أحمد في المسند"5/ 154"والترمذي رقم"2497"في صفة القيامة من حديث أبي ذر رضي الله عنه نقول في إسناده ضعف وأكثره في صحيح مسلم رقم"2577"
2 رواه البخاري رقم"5999"ومسلم رقم"2754"في الفضائل من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
(1/60)
سبحانه، وتعالى. وفيه إشارة إلى كمال قدرته سبحانه وتعالى، وكمال ملكه، وأن ملكه وخزائنه لا تنفد، ولا تنقص بالعطاء. ولو أعطى الأولين والآخرين من الجن والإنس جميع ما سألوه في مقام واحد. وفي ذلك حث الخلق على سؤاله، وإنزال حوائجهم به. روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا دعا أحدكم فلا يقل: اللهم اغفر لي إن شئت! ولكن ليعزم، وليعظم الرغبة، فإن الله لا يتعاظمه شيء" 1. وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يد الله ملأى، لا يغيضها نفقة سحاء الليل والنهار، أفرأيتم ما أنفق ربكم منذ خلق السموات والأرض؛ فإنه لم يغض ما في يمينه" 2. وقوله: "لا يغيضها" أي: ينقصها، وقال أبو سعيد الخدري: إذا دعوتم الله؛ فارفعوا في المسألة، فإن ما عنده لا ينفده شيء، وإذا دعوتم؛ فاعزموا، فإن الله لا مستكره له.
وقوله: "لم ينقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أُدخِل البحر" المخيط، والخياط: ما يخاط به، وهي الإبرة، إذا الفعال، والمفعل، والمفعال من صيغ الآلات التي يفعل بها، كالمسعر، والحلاب، والميشار، وهو بكسر الميم، وإسكان الخاء، وفتح الياء. وقوله: "أدخل البحر" بصيغة المجهول، ونصب البحر على ثاني المفعول، وهذا التشبيه من باب تشبيه المفعول بالمحسوس للتفهيم، وقوله ذلك لتحقيق أن ما عنده لا ينقص البتة، كما قال تعالى: {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} [النحل: 96] فإن البحر إذا غمست فيه إبرة، ثم أخرجت لم تنقص من البحر بذلك شيئًا، وكذلك لو فرض: أنه شرب منه عصفور مثلًا، فإنه لا ينقص من البحر البتة، ولهذا ضرب الخضر لموسى عليهما السلام هذا المثل في نسبة علمهما إلى علم الله عز وجل، وذلك لأن البحر لا يزال تمده مياه الدنيا، وأنهارها الجارية، فمهما أخذ منه لم ينقصه شيء؛ لأنه يمده ما هو أزيد مما أخذ منه، وهكذا طعام الجنة وما فيها، فإنه لا ينقص، كما قال تعالى: {وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ ، لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ} [الواقعة: 32- 33] وقد تبين في الحديث الذي خرَّجه الترمذي، وابن ماجه السب الذي لأجله
ـــــــ
1 رواه البخاري رقم"6338"من حديث أنس رضي الله عنه ومسلم رقم" 2679"والبخاري في الأدب المفرد رقم"607"من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
2 رواه البخاري رقم"7411".ومسلم رقم"933". والترمذي رقم "3048 "من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(1/61)
لا ينقص ما عند الله بالعطاء بقوله: "ذلك بأني جواد، واجد، ماجد، أفعل ما أريد، عطائي كلام، وعذابي كلام، إنما أمري لشيء إذا أردت إنما أقول له كُنْ، فيكون"1.
وقال بعضهم في ذلك:
لا تخضعنَّ لمخلوق على طمعٍ ... فإن ذلك مضرٌ منك بالدين
واسترزق اللهَ مما في خزائنِه ... فإنَّما هي بين الكاف والنون
لما بين الله جل جلاله كمال قدرته، وتمام ملكه، وسعه نعمائه، وقوة نفوذه؛ أراد أن يبين لخلقه: أنه تعالى ذكره مع كونه موصوفًا بهذه الصفات الفائقة الحد، والحصر، فلا يترك لعبد من عباده عملًا من الأعمال قل، أو كثر، صغر، أو عظم خيرًا، أو شرًا إلا أحصاه، وكتبه عليه، ثم يرد عليه جزاء ذلك، ويوفيه له على حسبه تامًا لا ينقص منه شيئًا.
قال الإمام العلامة أبو العباس تقي الدين أحمد بن تيمية في شرح هذه الجملة: فبين: أنه محسن إلى عباده في الجزاء على أعمالهم الصالحة إحسانًا يستحق به الحمد؛ لأنه هو المنعم بالأمر بها، والإرشاد إليها، والإعانة عليها، ثم إحصائها، ثم توفية جزائها، فكل ذلك فضل منه، وإحسان؛ إذ كل نعمة منه فضل، وكل نقمة منه عدل، وهو وإن كان قد كتب على نفسه الرحمة، وكان حقًا عليه نصر المؤمنين، كما تقدم بيانه؛ فليس وجوب ذلك كوجوب حقوق الناس بعضهم على بعض الذي يكون عدلًا، لا فضلًا؛ لأن ذلك إنما يكون لكون بعض الناس أحسن إلى البعض، واستحق المعاوضة، وكان إحسانه إليه بقدرة المحسن دون المحسن إليه، ولهذا لم يكن المتعوضان ليخص أحدهما بالتفضل على الآخر لتكافئهما، وهو قد بين في الحديث: أن العباد لم يبلغوا ضره، فيضروه، ولن يبلغوا نفعه، فينفعوه، فامتنع حينئذ أن يكون لأحد من جهة نفسه عليه حق، بل هو الذي أحق الحق على نفسه بكلماته، فهو المحسن بالإحسان، وبإحقاقه، وكتابته على نفسه، فهو في كتابة الرحمة على نفسه، وإحقاقه نصر عباده المؤمنين، ونحو ذلك محسن إحسانًا مع إحسان، ليتدبر اللبيب هذه التفاصيل التي يتعين بها فصل الخطاب في هذه المواضع التي عظم فيها الاضطراب فمن بين موجب على ربه بالمنع أن يكون محسنًا متفضلًا، ومن بين مسو بين عدله
ـــــــ
1 رواه أحمد في المسند"5/ 154"والترمذي رقم"2497"وابن ماجه رقم" 4257" من حديث أبي ذر رضي الله عنه، وإسناده ضعيف، وغالب فقراته في مسلم.
(1/62)
وإحسانه، وما تنزه عنه من الظلم والعدوان، وجاعل الجميع نوعًا واحدًا، وكل ذلك حَيدٌ عن سنن الصراط المستقيم، والله يقول الحق، وهو يهدي السبيل.
وكما بين أنه محسن في الحسنات، متمٌ إحسانه بإحصائها، والجزاء عليها؛ بين أنه عادل في الجزاء على السيئات، فقال: "ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه" كما تقدم بيانه في مثل قوله: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} [هود: 101] وعلى هذا الأصل استقرت الشريعة الموافقة لفطرة الله التي فطر الناس عليها كما في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري عن شداد بن أوس، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " سيد الاستغفار أن يقول العبد: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي، وأبوء بذنبي، فاغفر لي؛ فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت" 1. ففي قوله: "أبوء لك بنعمتك علي" اعتراف بنعمته عليه في الحسنات، وغيرها. وقوله: "وأبوء بذنبي" اعتراف منه بأنه مذنب، ظالم لنفسه، وبهذا يصير العبد شكورًا لربه، مستغفرًا لذنبه، يستوجب مزيد الخير، وغفران الشر من الشكور والغفور الذي يشكر اليسير من العمل، ويغفر الكثير من الزلل.
وقد ورد في إحصاء أعمال العباد وتوفيتهم إياها بالجزاء عليها آيات كثيرة، منها قوله تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ}
[الزلزلة: 7-8] وقوله: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا} [آل عمران: 30] وقوله: { وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف: 49] وقوله: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ} [المجادلة: 6] إلى غير ذلك.
وقوله: "ثم أوفيكم إياها" الظاهر: أن المراد توفيتها يوم القيامة، كما قال تعالى في كتابه الحكيم: {وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران: 185] ويحتمل أن المراد: يوفى عباده جزاء أعمالهم في الدنيا، والآخرة كما في قوله تعالى: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} [النساء: 123] وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه فسَّر ذلك بأن
ـــــــ
1 رواه أحمد في المسند" 4/ 122و124".والبخاري رقم"6306"في الدعوات و"6323"وفي الأدب المفرد رقم"617" والنسائي "8/ 279"و "280"في الاستعاذة. والترمذي رقم"3393". والبغوي رقم"1308" وابن حبان رقم" 932" من حديث شداد بن أوس رضي الله عنه.
(1/63)
المؤمنين يجازون بسيائتهم في الدنيا، وتدخر لهم حسناتهم في الآخرة، فيوفون أجورهم، وأما الكافر: فإنه يعجَّل له في الدنيا ثواب حسناته، وتدَّخر له سيئاته، فيعاقب بها في الآخرة، ويوفيه جزاءها من خير، أو شر، فالشر يجازى به مثله من غير زيادة إلا أن يعفو الله عنه، والخير تضاعف الحسنة عنه بعشرة أمثالها إلى سبعمئة ضعف إلى أضعاف كثيرة لا يعلم قدرها إلا الله، كما قال تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10] أفاده الحافظ ابن رجب.
وقله: "فمن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه" أي: فمن وجد ما يثاب عليه من الخير فليحمد الله تعالى على توفيقه لطاعته، وليعلم أنه من فضل الله ورحمته، ومن وجد غير ذلك الخير -وهو الشر- أو ما لا ثواب عليه؛ فلا يلومن إلا نفسه ولذا ورد: "ليس بتحسر أهل الجنة يوم القيامة إلا على ساعة مرت بهم ولم يذكروا الله تعالى فيها" 1، فمن وجد غير محض الخير، ولو لم يكن صريح الشر؛ ينبغي أن يلوم نفسه في مقام المراقبة، وحال المحاسبة، ولذا قال الشيخ البستي:
زيادةُ المرءِ في دنياه نقصان ... وربحُه غير محضِ الخير خُسران
فلا يلومن إلا نفسه لبقائها على الظلمة الأصلية لها، فآثرت شهواتها، ومستلذاتها على رضا خالقها، ورازقها، فكفرت بنعمه، ولم تذعن لحكمه، فاستحقت أن يعاملها ربها بمقتضى عدله، وأن يحرمها من أيادي كرمه وفضله.
ففي الحديث إشارة إلى أن الخير كله فضل من الله على عبده من غير استحقاق، والشر كله من عند ابن آدم من اتباع هوى نفسه، كما قال عز وجل: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء: 79] فالله سبحانه وتعالى إذا أراد توفيق عبد، وهدايته أعانه، ووفقه لطاعته، وكان ذلك فضلاً منه ورحمة؛ وإذا أراد خذلان عبد وكَّله إلى نفسه، وخلى بينه وبينها، فأغواه الشيطان لغفلته عن ذكر الله فاتبع هواه، وكان أمره فرطًا. وكان ذلك عدلًا منه، فإن الحجة قائمة على العبد بإنزال الكتب، وإرسال الرسل، فما بقي لأحد من الناس على الله حجة بعد الرسل...إلخ.
وقوله: "فمن وجد خيرًا.. إلخ" يحتمل أن يكون ذلك في الدنيا، ويحتمل أن يكون ذلك في الآخرة. أما الأول فيكون حينئذ مأمورًا بالحمد لله على ما وجده من جزاء
ـــــــ
1 رواه ابن السُّني رقم "3"والطبراني في الكبير رقم "20/ 93"من حديث معاذ ابن جبل رضي الله عنه وهو حديث حسن.
(1/64)
الأعمال الصالحة الذي عجَّل له في الدنيا، كما قال الله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97] ويكون مأمورًا بلوم نفسه على ما فعلت من الذنوب التي وجد عاقبتها في الدنيا، كما قال الله تعالى: {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [السجدة: 21] فالمؤمن إذا أصابه في الدنيا بلاء؛ رجع إلى نفسه باللوم، ودعاه ذلك إلى الرجوع إلى الله بالتوبة، والاستغفار. روى الإمام أحمد في مسنده، وأبو داود في سننه عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قال: "إن المؤمن إذا أصابه سقم، ثم عافاه الله منه؛ كان كفارة لما مضى من ذنوبه، وموعظة له فيما يستقبل من عمره. وإن المنافق إذا مرض، وعُوفي؛ كان كالبعير عقله أهله، وأطلقوه، لا يدري بما عقلوه، ولا بما أطلقوه" 1.
وإن كان المراد الثاني كان إخبارًا منه بأن الذي يجدون الخير في الآخرة يحمدون الله على ذلك، وأن من وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه حين لا ينفعه اللوم، فيكون الكلام لفظه لفظ الأمر، ومعناه الخير، كقوله صلى الله عليه وسلم: "من كذب علي متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار" . والمعنى: أن الكاذب عليه صلى الله عليه وسلم يبتوأ مقعده من النار. وفي هذا الباب آيات، وأحاديث كثيرة في هذا المعنى، وفيما ذكرناه كفاية لمن ألقى السمع وهو شهيد. والله أعلم.
ـــــــ
1 رواه أبو داود رقم "3089"في الجنائز، وإسناده ضعيف.
(1/65)
شرح حديث: إني لأهم بأهل الأرض عذابا
...
49- "إني لأهم بأهل الأرض عذابًا، فإذا نظرت إلى عمَّار بيوتي، والمستغفرين بالأسحار؛ صرفت عذابي عنهم" 1 . رواه البيهقي عن أنس.
ش- عمار البيوت تقدم الكلام عليه قبل، وهم المصلون في المساجد، المحافظون على الصلوات في الجماعات. والأسحار: وقت السحر، وهو اختلاط ظلام آخر الليل بضياء النهار. والمعنى: أن الله سبحانه وتعالى ليعزم بتعذيب المخالفين من أهل الأرض بسب ما ارتكبوه من الآثام والمعاصي، فينظر إلى المصلي، وعمار
ـــــــ
1رواه البيهقي في الشعب رقم"9051"وابن عدي في الكامل"4/ 60". وفي إنساده صالح بن بشير المري ضعيف. من حديث أنس رضي الله عنه نقول وإسناده ضعيف.
(1/65)
بيوته، والمستغفرين وقت السَّحر فيحمله على العفو، فيصرف عذابه عنهم إكرامًا للمطيعين تفضلًا منه، وإحسانًا.
(1/66)
شرح حديث إني لأستحي من عبدي وأمتي
...
50- " إني لأستحي من عبدي وأَمَتِي يشيبان في الإسلام، فتشيب لحية عبدي، ورأس أمتي في الإسلام، أعذبهما في النار بعد ذلك" 1. رواه أبو يعلى عنه.
ش- الشيب: ابيضاض في الشعر المسود. والمراد به هنا -والله أعلم-: بلوغ سن الكبر؛ لأن الإنسان قد يشيب وهو حدث السن، وليس مرادًا هنا. والأمة: المرأة.
والمعنى: أن الله سبحانه وتعالى يستحي أن يعذب عبده، وأمته إذا شابا في الإسلام، فكيف لا يستحي العبد والأمة أن يعصيا الله وهما على هذه الحالة؟! ففيه توبيخ، واستنكار فعل من هذا حاله. وذكر المدني في كتابه حديثًا آخر، ولفظه: "وعزتي وجلالي، وجودي، وفاقه خلقي، وارتفاعي، وعز مكاني لأستحيي من عبدي، وأمتي يشيبان في الإسلام" ثم بكى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقيل: يا رسول الله ما يبكيك؟ قال: "أبكي ممن يستحي الله منه، ولا يستحي من الله" أخرجه ابن حبان في الضعفاء، والبيهقي في الزهد. والرافعي عن أنس، وأورده ابن الجوزي في الموضوعات. والله أعلم.
ـــــــ
1 رواه أبو يعلى رقم "2764"، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد"5/ 159 "وقال: رواه أبو يعلى، وفيه: نوح بن ذكوان، وغيره من الضعفاء. نقول: وفي إسناده أيضًا سويد بن سعيد ضعيف، وعنعنه الحسن البصري، فالحديث ضعيف.
(1/66)
شرح حديث: إني لست على كل كلام الحكيم أقبل
...
51- "إني لست على كل كلم الحكيم أقبل، ولكن أقبل على همه، وهواه فيما يحب الله ويرضى، جعلت حكمته حمدًا لله ووقارًا وإن لم يتكلم"1 . رواه ابن النجار عن المهاجر بن حبيب.
ش- الحكيم: قال صاحب النهاية: فعيل بمعنى فاعل، أو هو الذي يحكم الأشياء، ويتقنها فهو فعيل بمعنى مفعل. وقيل: الحكيم: ذو الحكمة، والحكمة: عبارة عن معرفة أفضل الأشياء بأفضل العلوم، ويقال لمن يحسن دقائق الصناعات،
ـــــــ
1ذكره المتقي الهندي ج/3/ ورقم "7241"وقال: رواه ابن النجار عن المهاجر بن حبيب، وإسناده ضعيف، وهو مرسل.
(1/66)
شرح حديث: إني والجن والإنس في نبأ عظيم
...
52- " إني والجن والإنس في نبأٍ عظيمٍ، أخلق، ويُعبد غيري، وأرزق، ويشكر غيري" 1 . رواه البيهقي، والحاكم عن معاذ، والديلمي وابن عساكر عن أبي الدرداء.
ش-أصل الجن- بفتح الأول- : ستر الشيء عن الحاسة. يقال: جنة الليل، وأجنة، وجن عليه، فجنه، وأجنه: جعل له ما يجنه، كقولك: قبرته، وأقبرته، وسقيته، وأسقيته، وجن عليه كذا: ستر عليه. قال الراغب: والجن -بكسر أوله- يقال على وجهين؛ أحدهما: للروحانيين المستترة عن الحواس كلها بإزاء الإنس، فعلى هذا تدخل فيه الملائكة، والشياطين، فكل ملائكة جن، وليس كل جن ملائكة، وعلى هذا قال أبو صالح: الملائكة كلها جن. وقيل: بل الجن بعض الروحانيين، وذلك أن
ـــــــ
1 رواه البيهقي في الشعب رقم "4563"والديلمي رقم"4506"من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه. وإسناده منقطع؛ لأن عبد الرحمن بن جبير وشريح من عبيد لم يدركا أبا الدرداء.
(1/68)
الروحانيين ثلاثة: أخيار: وهم الملائكة، وأشرار: وهم الشياطين، وأوساط: فيهم أخيار، وأشرار وهم الجن، ويدل على ذلك قوله تعالى: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ} [الجن: 1] إلى قوله عز وجل: {وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ} [الجن: 14]. والإنس: البشر، أو خلاف الجن والملك، وسمي الإنسان بذلك؛ لأنه خلق خلقه لا قوام له إلا بأنس بعضهم ببعض، ولهذا قيل: الإنسان مدني بالطبع حيث إنه لا قوام لبعضهم إلا ببعض ولا يمكنه أن يقوم بجميع أسبابه. وقيل: سُمِّي بذلك؛ لأنه عهد إليه فنسى.
والنبأ: خبر ذو فائدة عظيمة، يحصل به علم، أو غلبة ظن، ولا يقال للخبر في الأصل نبأ حتى يتضمن هذه الأشياء الثلاثة، وحق الخبر الذي يقال فيه نبأ أن يتعرى عن الكذب، كالتواتر، وخبر الله تعالى، وخبر النبي صلى الله عليه وسلم، ولتضمن النبأ معنى الخبر يقال: أنبأته بكذا، كقوله: أخبرته بكذا، ولتضمنه معنى العلم قيل: أنبأته كذا، كقولك: أعلمته كذا، قال الله تعالى في كتابه الحكيم: {قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ ، أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ} [ص: 67-68] وقال: {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ} [النبأ: 1] والله أعلم. أفاده الراغب.
ولامعنى: أن الله جل جلاله مع خلقه من إنس وجن في نبأ وخير عظيم، وعجب عجبًا، فالله يخلق الخلق من عباد، وجماد، وشجر، وحيوان ويقدر لهم الآجال والأرزاق، ويعبدون غيره من صنم، ووثن، وحجر، ونار، وشمس، وقمر، وهوى، وشيطان، يسدي نعمه على خلقه، ويشكرون غيره، ولا ينظرون إلى نعمائه. إن هذا العمل لفعل مستبعد عند العقلاء، ومنكر فظيع عند أهل الذكاء، فهل يليق بعاقل أن يمرح في نعماء مولاه ولا يعبده، وهل يستحسن ممن عرف يمينه من شماله، وميز بينهما أن يرتفع في رزق الله جل ثناؤه ولا يشكره، بل يشكر غيره، إن هذا لبهتان عظيم.
وقوله: "رواه البيهقي.. إلخ" البيهقي: هو الإمام الحافظ أبو بكر أحمد بن الحسين بن علي، الذي قيل في وصفه: ما من شافعي إلا وللشافعي فضل عليه غير البيهقي؛ فإن له المنة والفضل على الشافعي لكثرة تصانيفه في نصرة مذهبه، وبسط موجزه، وتأييد آرائه، توفي رحمه الله تعالى سة 458هـ.
والحاكم: هو الإمام الحافظ المحيط بالسنة أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن حمدوية بن الضبي الطهماني النيسابوري الشهير بالحكم، ويعرف بابن البيّع، وهو من المؤلفين العظام، له المستدرك، وتاريخ نيسابور، والإكليل، والأمالي، وغير ذلك من نفائس الكتب، أخذ العلم عن ألفي شيخ توفي سنة 405هـ.
والديلمي: نسبة إلى ديلم، وهي بلاد معروفة، وهو الإمام الحافظ شهردار بن
(1/69)
شيرويه الهمذاني المتوفى سنة 558هـ قال الحافظ عبدالرؤوف المناوي في شرحه الجامع الصغير -مسند الفردوس المسمى بمأثور الخطاب المخرج على كتاب الشهاب-: والفردوس للإمام عماد الإسلام أبي شجاع الديلمي، ألفه محذوف الأسانيد، مرتبًا على الحروف؛ ليسهل حفظه، وأعلم بإزائها بالحروف للمخرجين، ومسنده لولده سيد الحفاظ أبي منصور بن شيرويه خرج مسند كل حديث تحته، وسماه: إبانة الشبه في معرفة كيفية الوقوف على ما في كتاب الفردوس من علامات الحروف. انتهى.
وابن عساكر: هو الإمام الحافظ الكبير فخر الأمة ثقة الدين أبو القاسم علي بن الحسن بن هبة الله بن عبد الله بن الحسين الدمشقي الشافعي، صاحب التصانيف المفيدة النافعة، كتاريخ دمشق، والأطراف، المتوفى سنة 571هـ.
(1/70)
شرح حديث: أنا الرحمن خلقت الرحم
...
53- "أنا الرحمن خلقت الرَّحم، وشققت لها اسمًا من اسمي، فمن وصلها، وصلته، ومن قطعها، قطعته، ومن ثبَّتها، ثبَّته، إن رحمتي سبقت غضبي". رواه أحمد، والبخاري، وأبو داود، والترمذي، وابن حبان، والحاكم، والبيهقي عن ابن عوف1: والحاكم، والخرائطي، والخطيب، عن أبي هريرة2.
ش- الرحم -بفتح الراء وكسر الحاء المهملة-: يطلق على الأقارب، وهم من بينه وبين الآخر نسب سواء كان يرثه أم لا، سواء كان ذا محرم أم لا، وقيل: هم المحارم فقط، والأول هو المرجع؛ لأن الثاني يستلزم خروج أولاد الأعمام، وأولاد الأخوال من ذوي الأرحام؛ وليس كذلك.
ووصل الرحم كناية عن الإحسان إلى الأقربين من ذوي النسب والأصهار،
ـــــــ
1 رواه أحمد في المسند"1/ 194"، والبخاري في الأدب المفرد"53". والحميدي رقم"65"وأبو داود رقم"1694". والترمذي رقم"1907". والحاكم "4/ 158". والبغوي في شرح السنة"2433"، وابن حبان رقم" 443"من حديث عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه. وهو حديث صحيح.
2 رواه أحمد في المسند"2/ 498"، والحاكم في المستدرك"4/ 157". وصححه الحاكم؛ ووافقه الذهبي، وهو كما قالا. من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(1/70)
والتعطُّف عليهم، والرفق بهم، والرعاية لأحوالهم، وكذلك إن بعدوا، أو أساؤوا، وقطع الرحم ضد ذلك كله، يقال: وصل رحمه، يصلها، وصلًا، وصِلةً، والهاء فيها عوض من الواو المحذوفة فكأنه بالإحسان إليهم قد وصل بينه وبينهم من علاقة القرابة والصهر، ومعنى شققت لها اسمًا من اسمي: أي: أخرجت، وأخذت لها اسمًا من اسمي الرحمن، فلها به علقة.
وقوله: "ومن ثبتها ثبته" هو من التثبيت، وهو بمعنى وصلها، وفيه تكرار مع ما قبله، وفي نسخة: "ومن بتها" بالباء الموحدة، من البت، وهو القطع، وهي موافقة لما في كتاب الإتحافات السنية للمدني. والله أعلم.
ففي الحديث تعظيم أمر صلة الرحم، والعطف عليهم، وتفقد أحوالهم، وكل شخص بحسب ما يليق بحاله. قال القرطبي: الرحم التي توصل عامة وخاصة، فالعامة: رحم الدين. وتجب مواصلتها بالتوادد، والتناصح، والعدل، والإنصاف، والقيام بالحقوق الواجبة والمستحبة. وأما الرحم الخاصة: فتزيد النفقة على القريب، وتفقد أحوالهم، والتغافل عن زلاتهم، وتفاوت مراتب استحقاقهم في ذلك. قال الإمام الحافظ ابن أبي جمرة1: تكون صلة الرحم بالمال، وبالعون على الحاجة، وبدفع الضرر، وبطلاقة الوجه، وبالدعاء، والمعنى الجامع: إيصال ما أمكن من الخير، ودفع ما أمكن من الشر بحسب الطاقة، وهذا إنما يستمر إذا كان أهل الرحم أهل استقامة، فإن كانوا كفارًا، أو فجارًا؛ فمقاطعتهم في الله هي صلتهم بشرط بذل الجهد في وعظهم، ثم إعلامهم إذا أصروا أن ذلك بسب تخلفهم عن الحق، ولا تسقط مع ذلك صلتهم بالدعاء لهم بظهر الغيب، أو يعودوا إلى الطريق المثلى. والله أعلم.
وقد جاء في كثير من الأحاديث أن صلة الأرحام من أفضل الأعمال، منها: ما رواه الإمام أحمد في مسنده من حديث معاذ بن أنس الجهني عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أفضل الفضائل أن تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتصفح عمن شتمك" 2 وروي
ـــــــ
1 ابن أبي جمرة - هو عبد الله بن سعد بن أبي جمرة، من العلماء بالحديث من آثاره مختصر الجامع الصحيح للبخاري. وشرح بهجة النفوس في سفرين توفي رحمه الله سنة "695"
2 رواه أحمد في المسند" 3/ 438"، والطبراني في الكبير"20/ 188"وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد"8/ 189"وقال: رواه الطبراني وفيه زبان بن فائد: ضعيف. أقول: وفي إسناده أيضًا ابن لهيعة ضعيف. من حديث معاذ بن أنس الجهني.
(1/71)
الحاكم من حديث عقبة بن عامر الجهني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا عقبة! ألا أخبرك بأفضل أخلاق أهل الدنيا والآخرة؟ تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتعفو عمن ظلمك" 1.
وقول المصنف: رواه أحمد، والبخاري؛ أي: رواه أحمد في المسند، والبخاري في الأدب المفرد، وعزا هذا الحديث الحافظ ابن حجر في الفتح إلى أصحاب السنن.
وأحمد رحمه الله تعالى: هو الإمام الحافظ، الورع، الزاهد، المجتهد، رأس أهل السنة والجماعة، ومؤسس المذهب الحنبلي، من أجمعت الأمة على جلالته، وأمانته، وحفظه، وإتقانه، شيخ الإسلام أبو عبد الله أحمد بن حنبل، المتوفى سنة 241هـ.
وقوله: "البخاري": هو الإمام الحافظ أمير المؤمنين في الحديث، وقائد علمه، من أجمعت الأئمة على توثيقه، وأمانته، وتبحره، أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بردزبة البخاري الجعفي المتوفى سنة 256 هـ وأغلب ما يعزى إليه في هذا الكتاب هو إلى صحيحه وجامعه.
وأبو داود: هو الإمام الورع، المتقن، الحافظ سليمان بن الأشعث السجستاني، صاحب السنن، المتوفى سنة 275هـ.
وابن حبان: هو الإمام الحافظ العلامة أبو حاتم محمد بن حبان بن أحمد بن حبان بن معاذ التميمي البستي، صاحب التصانيف العظيمة، المتوفى سنة 354هـ.
والخرائطي: هو الإمام الحافظ أبو بكر محمد بن جعفر السائي، المتوفى سنة 337هـ وكتابه هذا الذي روى فيه هذا الحديث اسمه: مساوئ الأخلاق، نص على ذلك محمد المدني في كتاه.
والخطيب: هو الإمام، الحافظ، المصنف، المؤرخ، محدِّث الشام والعراق
ـــــــ
1 رواه أحمد في المسند "4/ 148" والطبراني في الكبير"17/ 270"، والحاكم في المستدرك"4/ 162"، وسكت عليه الذهبي. وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد" 8/ 188"وقال: رواه أحمد، والطبراني، وأحد إسنادي أحمد ثقات. من حديث عقبة بن عامر، نقول: وهو حديث حسن بطرقه وشواهد.
(1/72)
أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت بن أحمد بن مهدي البغدادي، المتوفى سنة 364هـ.
(1/73)
شرح حديث: أنا الله خلقت العباد بعلمي
...
54- "أنا الله، خلقت العباد بعلمي، فمن أردت به خيرًا؛ منحته خُلُقًا حسنًا، ومن أردت به سوءًا؛ منحته خلقًا سيئًا" 1. رواه أبو الشيخ عن ابن عمر.
ش- الخُلق- بضم الخاء المعجمة، وضم اللام-: السجية، والعادة، والطبيعة، والدين، والمروءة، وجمعه: أخلاق. قال صاحب النهاية: وحقيقته: أنه لصورة الإنسان الباطنة، وهي نفسه، وأوصافها، ومعانيها المختصة بها بمنزلة الخلق لصورته الظاهرة، وأوصافها، ومعانيها، ولهما أوصاف حسنة وقبيحة. والثواب، والعقاب مما يتعلقان بأوصاف الصورة الباطنة أكثر مما يتعلقان بأوصاف الصورة الظاهرة، ولذا تكررت الأحاديث في مدح حُسن الخلق في غير موضع، كقوله صلى الله عليه وسلم: "أكثر ما يدخل الناس الجنة تقوى الله وحسن الخلق" 2 وقوله: "أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا" 3 وقوله: "إن العبد ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم، القائم" 4 وقوله: "بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق" 5 وأحاديث من هذا النوع كثيرة. وكذلك جاء في ذم سوء الخلق أحاديث كثيرة، وفي حديث عائشة: "كان صلى الله عليه وسلم خلقه القرآن" 6 أي: كان متمسكًا
ـــــــ
1 ذكره المتقي الهندي في كنز العمال ج/3/ ورقم "5234"وقال: رواه أبو الشيخ من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
2 رواه أحمد في المسند"2/ 291و392" والترمذي "2004"في البر والصلة، والحاكم في المستدرك "4/ 324"وصححه، ووافقه الذهبي. وابن ماجه رقم "4246"في الزهد، وابن حبان رقم "476"من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وإسناده حسن.
3 رواه أحمد في المسند" 2/ 250" وأبو داود رقم "4682"في السنة، والترمذي رقم" 1162" في الرضاع، والبغوي في شرح السنة رقم"3495"من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وهو حديث صحيح.
4 رواه أحمد في المسند "6/ 90و94"، وأبو داود رقم "4798"في الأدب، والحاكم" 1/ 60" من حديث عائشة رضي الله عنها، وهو حديث صحيح.
5 رواه الحاكم في المستدرك "2/ 613"وصححه الحاكم، وقال في التلخيص: على شرط مسلم. وهو كما قالا.
6 رواه أحمد في المسند "6/ 91." ومسلم رقم" 746"من حديث عائشة رضي الله عنها.
(1/73)
بآدابه، وأوامره، ونواهيه، وما يشتمل عليه من المكارم، والمحاسن، والألطاف، وفي حديث عمر: من تخلَّق للناس بما يعلم الله أنه ليس من نفسه شانه الله. أي: تكلف أن يظهر من خلقه خلاف ما ينطوي عليه، مثل: تصنع، وتجمل: إذا أظهر الصنيع، والجميل.
وقد رُوي عن السلف في تفسير حسن الخلق أقوال نسأل الله تعالى أن يكمل أخلاقنا به، رُوي عن الحسن أنه قال: حسن الخلق: الكرم، والبذلة، والاحتمال. وعن الشعبي1 قال: حُسن الخلق: البذلة. والعطية. والبشر الحسن. وكان الشعبي رضي الله عنه كذلك، وعن ابن المبارك قال: هو بسط الوجه، وبذل المعروف، وكف الأذى، وسُئِل سلام بن أبي مطيع2 عن حسن الخلق، فأنشد شعرًا:
تراه إذا ما جئته متهللًا ... كأنك تعطيه الذي أنت سائلهُ
ولو لم يكن في كفه غير روحه ... لجاد بها فليتق الله سائلُه
هو البحرُ من أي النواحي أتيته ... فلُجَّتُه المعروف والجود ساحلُه
وقال الإمام أحمد: حُسن الخلق ألا تغضب، ولا تحقد، وعنه: أنه قال: حسن الخلق أن تحتمل ما يكون من الناس، وقال إسحاق بن راهوية3:هو بسط الوجه،
ـــــــ
1 الشعبي- هو عامر بن شراحيل بن عبد بن ذي كبار، الإمام علامة العصر، أبو عمرو الهمداني ثم الشعبي، مولده في إمرة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، رأى عليًا رضي الله عنه وصلى خلفه، حدث عن سعد بن أبي وقاص، وأبي هريرة. قال ابن عيينة: علماء الناس ثلاثة: ابن عباس في زمانه، والشعبي في زمانه، والثوري في زمانه. توفي رحمه الله سنة "103"هـ.
2 سلام بن أبي مطيع، وهو الإمام الثقة القدوة، أبو سعيد الخزاعي، مولاهم البصري، قال أحمد بن حنبل: ثقة، صاحب سنة، تُوفي رحمه الله وهو مقبل من مكة سنة "164"هـ.
3 إسحاق بن إبراهيم بن راهويه هو الإمام الكبير شيخ المشرق، سيد الحُفَّاظ، أبو يعقوب، مولده في سنة إحدى وستين ومئة. سمع من ابن المبارك، وعبيدة بن حميد، وعبد الرحمن بن مهدي، حدث عن بقية بن الوليد، ويحيى بن آدم، وأحمد بن حنبل. وهما من أقرانه. ومحمد بن إسماعيل البخاري. ومسلم بن الحجاج في صحيحيهما، قال سعيد على وجه الأرض مثل إسحاق. تُوفي رحمه الله ليلة نصف شعبان سنة "288"هـ.
(1/74)
وألا تغضب، ونحو ذلك، قال محمد بن نصر1: وقال بعض أهل العلم: حُسن الخلق: كظم الغيظ لله، وإظهار الطلاقة، والبشر إلا للمبتدع والفاجر، والعفو عن الزَّالين إلا تأديبًا، وإقامة الحد، وكف الأذى عن كل مسلم ومعاهد إلا تغيير، منكر وأخذًا بمظلمة المظلوم من غير تعد.
وقوله: "منحته" أي: أعطيته، والمعنى أن الله جل جلاله يخبرنا: أنه تعالى خلق الخلق بعلمه، لا يعزُب عن علمه شيء -في السموات ولا في الأرض- فمن أراد به خيرًا من الناس؛ منحه، وأعطاه خلقًا حسنًا، فيستعمل خلقه الحسن في معاملاته بينه وبين إخوانه المخلوقين، فلا يوصل إليهم أذى، بل يسعى لمنفعتهم أينما وُجدوا، وحيث كانوا، ومن أراد الله به سوءًا؛ منحه، وأعطاه خلقًا سيئًا، فيستعمله بينه وبين المخلوقات، فتصدر عنه المساوئ، والنقائص، والإضرار بالناس، فتجد غالب أفعاله، وأكثر عمله في غير منفعة وثمرة مفيدة. أرجو الله سبحانه وتعالى أن يهدينا لطرق السداد، ويسهل لنا مناهج الخير والفلاح.
وقوله: "رواه أبو الشيخ" هو الإمام حافظ أصبهان، ومسند زمانه أبو محمد عبد الله بن محمد بن جعفر بن حيان -بالحاء المهملة والياء التحتية- الأنصاري، صاحب المصنفات النافعة، ويُعرف بأبي الشيخ، المتوفى سنة 369هـ، وهو غير ابن حبان-بالباء الموحدة.
ـــــــ
1 محمد بن نصر بن الحجاج المروزي الإمام، شيخ الإسلام، أبو عبد الله الحافظ، مولده في بغداد سنة "202"هـ، ومسكنه في سمرقند سمع يحيى بن يحيى التميمي، وإسحاق بن راهوية. حدث عنه أبو العباس السراج، قال أبو بكر الصيرفي: لو لم يصنف إلا كتاب القسامة لكان من أفقه الناس، كيف وقد وصنف سواه؟ توفي رحمه الله سنة "294"هـ.
(1/75)
شرح حديث: أن الله، لا إلا أنا
...
55- "أنَا الله، لا إله إلا أنا، خلقت الشر، وقدَّرته، فويل لمن خلقت له الشر، وأجريت الشر على يديه" 1 . رواه ابن النجار عن أبي أمامة.
ـــــــ
1 ذكره المتقي الهندي في كنز العمال "ج/1/ 587"وقال: رواه ابن النجار عن أبي أمامة رضي الله عنه وذكره الغزالي في الإحياء"4/ 335"وقال: رواه ابن شاهين في شرح السنة عن أبي أمامة رضي الله عنه "وإسناده ضعيف".
(1/75)
ش- الشُّر: السوء، والفساد، والظلم، والجمع: شرور، ومقابله الخير. قال الراغب الأصفهاني: الشر الذي يرغب عنه الكل، كما أن الخير هوالذي يرغب فيه الكل، كالعقل مثلًا، والعدل، والفضل، والشيء النافع، وقال العلامة أبو بكر بن قيم الجوزيه: الشر يُقَال على شيئين: على الألم، وعلى ما يفضي إليه، وليس له مسمى سوى ذلك، فالشرور هي الآلام، وأسبابها، فالمعاصي، والكفر، والشرك، وأنواع الظلم هي شرور؛ وإن كان لصاحبها فيها نوع غرض، ولذَّة، لكنها شرور؛ لأنها أسباب الآلام، ومفضية إليها، كإفضاء سائرالأسباب إلى مسبباتها، فترتب الألم عليها، كترتب الموت على تناول السموم القاتلة، وعلى الذبح والإحراق بالنار، والخنق بالحبل، وغير ذلك من الأسباب التي تصيبه مفضية إلى مسبباتها، ولا بد ما لم يمنع السببية مانع، أو يعارض السبب ما هو أقوى منه وأشد اقتضاء لضده كما يعارض سبب المعاصي قوة الإيمان، وعظمة الحسنات الماضية، وكثرتها، فيزيد في كميتها، وكيفيتها على أسباب العذاب، فيدفع الأقوى للأضعف، وهذا شأن جميع الأسباب المتضادة، كأسباب الصحة، والمرض، وأسباب الضعف، والقوة.
والشر يضاف إلى الله جل ذكره إيجادًا، وخلقًا لا فعلًا، وصفةً. وإلى الخلق فعلًا، وصفة، لا خلقًا وإيجادًا، والشر مسند إلى المخلوق المفعول، لا إلى خلق الرب تعالى الذي هو فعله وتكوينه ، فإنه لا شر فيه بوجه ما، فإن الشر لا يدخل في شيء من صفاته، ولا في أفعاله، كما لا يلحق ذاته تبارك وتعالى، فإن ذاته لها الكمال المطلق الذي لا نقص فيه بوجه من الوجوه. وأوصافه كذلك لها الكمال المطلق، والجلال التام، ولا عيب فيها، ولا نقص بوجه ما، وكذلك أفعاله كلها خيرات محضة، لا شر فيا أصلًا، ولو فعل الشر سبحانه لاشتقَّ له منه اسمًا ولم تكن أسماؤه كلها حسنى، ولعاد إليه منه حكم، تعالى وتقدس عن ذلك. وما يفعله من العدل بعباده، وعقوبة من يستحق العقوبة منهم هوخيرمحض؛ إذ هو محض العدل، والحكمة، وإنما يكون شرًا بالنسبة إليهم، فالشروقع في تعلقه بهم، وقيامه بهم، لا في فعله القائم به تعالى.
ونحن لا ننكر أن الشر يكون في مفعولاته المنفصلة، فإنه خالق الخير،والشر، ولكن هنا أمران ينبغي أن يكونا منك على بال؛ أحدهما: أن ما هو شر، أو متضمن
(1/76)
للشر، فإنه لا يكون إلا مفعولًا منفصلًا لا يكون وصفًا له، ولا فعلًا من أفعاله. والثاني: أن كونه شرًا هو أمر نسبي إضافي، فهو خير من جهة تعلق فعل الرب، وتكوينه به، وشرمن جهة نسبته إلى من هو شر في حقه، فله وجهان، وهو من أحدهما خير، وهوالوجه الذي نسب منه إلى الخالق سبحانه وتعالى خلقًا وتكوينًا ومشيئة لما فيه من الحكمة البالغة التي استأثر بعلمها، وأطلع من شاء من خلقه على ما شاء منها وأكثر الناس تضيق عقولهم عن مبادئ معرفتها، فضلاً عن حقيقتها، فيكفيهم الإيمان المجمل بأن الله سبحانه الغني الحميد. وفاعل الشرلا يفعله لحاجته المنافية لغناه، أو لنقصه وعيبه المنافي لحمده، فيستحيل صدور الشر من الغني الحميد فعلًا، وإن كان هو الخالق للخير والشر، فقد عرفت أن كونه شرًا هو أمر إضافي، وهو في نفسه خير من جهة نسبته إلى خالقه، ومبدعه، فلا تغفل عن هذا الموضوع؛ فإنه يفتح لك بابًا عظيمًا من معرفة الرب، ومحبته، ويزيل عنك شبهات حارت فيها عقول أكثر الفضلاء. انتهى.
وانظر إلى كلام صاحب الشريعة الغراء صلوات الله وسلامه عليه، كيف نزه ربه ومولاه عن ذلك! بقوله: "لبيك وسعديك والخير في يديك والشر ليس إليك" 1 قال العلامة أبو السعادات الحافظ مجد الدين بن الأثير2 في هذا الحديث: وهذا الكلام إرشاد إلى استعمال الأدب في الثناء على الله تعالى، وأن تُضاف إليه محاسن الأشياء دون مساويها، وليس المقصود نفي شيء عن قدرته وإثباته لها، فإن هذا في الدعاء مندوب إليه، يقال: يا رب السماء والأرض، ولا يقال يا رب الكلاب والخنازير وإن كان هو ربها. ومنه قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف: 180] اهـ.
وقوله: "وقدرته" من التقدير، وهو الحكم من الله سبحانه وتعالى بأن يكون كذا، أو لا يكون كذا، والقدر بفتح الدال وإسكانها لغتان مشهورتان، حكاهما ابن قتيبة عن
ـــــــ
1 رواه مسلم رقم "771"، والترمذي رقم "3417و 3418"، من حديث علي رضي الله عنه.
2 أبو السعادات - هو المبارك بن محمد بن محمد بن عبد الكريم بن عبد الواحد الشيباني الجزري، ثم الموصلي الشافعي، ولد سنة"544" هـ نشأ بالجزيرة، ولقن بها دروسه الأولى. من مصنفاته "جامع الأصول في أحاديث الرسول" صلى الله عليه وسلم. و"النهاية في غريب الحديث والأثر" تُوفي رحمه الله سنة"606"هـ رحمه الله.
(1/77)
الكسائي، وقالهما غيره، وهو اسم لما صدر مقدرًا عن فعل القادر، يُقال: قدرت الشيء، وقدرته-بالتخفيف والتثقيل- بمعنى واحد.
قال الإمام العلامة محيي الدين النووي -رحمه الله تعالى- في شرح مسلم: واعلم أن مذهب أهل الحق إثبات القدر، ومعناه: أن الله تبارك وتعالى قدَّرالأشياء في القدم، وعلم سبحانه أنها ستقع في أوقات معلومة عنده سبحانه وتعالى، وعلى صفات مخصوصة، فهي تقع على حسب ما قدرها سبحانه وتعالى. وأنكرت القدرية هذا، وزعمت أنه سبحانه وتعالى لم يقدرها، ولم يتقدم علمه سبحانه وتعالى بها، وأنها مستأنفة العلم -إنما يعلمها سبحانه بعد وقوعها- وكذبوا على الله سبحانه وتعالى وجل عن أقوالهم الباطلة علوًا كبيرًا، وسُمِّيت هذه الفرقة قدرية لإنكارهم القدر. قال أصحاب المقالات من المتكلمين: وقد انقرضت القدرية القائلون بهذا القول الشنيع الباطل، ولم يبق أحد من أهل القبلة عليه، وصارت القدرية في الأزمان المتأخرة تعتقد إثبات القدر، ولكن يقولون: الخير من الله والسر من غيره، تعالى الله عن قولهم. والله أعلم.
واعلم: أن العبد وإن كان في الواقع مقدرًا عليه فعل المعصية، ولا بدَّ من وقوعه البتة إلا أنه لم يفعله ولم يقدم على فعله إنجازًا لذلك، وامتثالًا لما قدر عليه، بل فعل ذلك مختارًا، ظاهرًا، ميالًا لما تهواه نفسه وشهواته، لذلك كان مسؤولًا عنه، معاقبًا عليه. قال العلامة أبو بكر بن قيم في "فوائده": رُبَّ ذو إرادة أمر عبدًا ذا إرادة، فإن وفقه، وأراد من نفسه أن يعينه، ويلهمه؛ فعل ما أمر به، وإن خذله، وخلاه وإرادته ونفسه من هذه الحيثية لا يختار إلا ما تهواه نفسه وطبعه، فهو من حيث هو إنسان لا يريد إلا ذلك، ولذلك ذمة الله تعالى في كتابه من هذه الحيثية، ولم يمدحه إلا بأمر زائد على تلك الحيثية، وهو كونه مسلمًا، ومؤمنًا، وصابرًا، ومحسنًا، وشكورًا، وتقيًا، وبرًا، ونحو ذلك وهذا أمر زائد على مجرد كونه إنسانًا، وإرداته صالحة، ولكن لا يكفي مجرد صلاحيتها إن لم تؤيد بقدرٍ زائدٍ على ذلك، وهو التوفيق، كما أنه لا يكفي في الرؤية مجرد صلاحية العين للإدراك إن لم يحصل سبب آخر من النور المنفصل عليها.
وقوله: "فويل" قال الأصمعي1: ويل: قبح، وقد يستعمل عن التحسر، ومن
ـــــــ
1 الأصمعي: وهو الإمام العلامة الحافظ حجة الأدب لسان العرب أبو سعيد عبد الملك بن قريب بن عبد الملك بن علي بن أصمع الأصمعي البصري اللغوي الأخباري، قال الربيع: سمعت الشافعي يقول: ما عبر أحد عن العرب بأحسن من عبارة الأصمعي توفي سنة "225"هـ.
(1/78)
قال: ويل وادٍ في جهنم؛ فإنه لم يرد أن ويلًا في اللغة هو موضع لهذا، وإنما أراد: من قال الله تعالى ذلك فيه؛ فقد استحق مقرًا من النار، وثبت ذلك له.
وقوله: "وأجريت الشر على يديه" أي: أظهرته على يديه.
وقوله: "رواه ق" القاف إشارة إلى البيهقي، وقد تقدمت ترجمته قريباً. والله أعلم.
(1/79)
شرح حديث: أنا الله، لا إله إلا أنا، مالك الملك
...
56- "أنا الله، لا إله إلا أنا، مالك الملك، ومليك الملوك، قلوب الملوك في يدي، وإن العباد إذا أطاعوني؛ حولت قلوب ملوكهم عليهم بالرأفة، والرحمة، وإن العباد إذا عصوني؛ حوَّلت قلوبهم عليهم بالسخط والنقمة، فساموهم سوء العذاب، فلا تشغلو أنفسكم بالدعاء على الملوك، ولكن اشغلوا أنفسكم بالذكر، والتقرب؛ أكفكم ملوككم" 1. رواه الطبراني في الأوسط عن أبي الدرداء.
ش- قوله: "مالك الملك" وفي نسخة المدني: "ملك الملك" وهو تحريف، قال العلامة شهاب الدين الآلوسي2 في تفسير قوله تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ} [آل عمران: 26] الملك: بالضم-على ما ذكره بعض أئمة التحقيق نسبة بين من قام به ومن تعلق، وإن شئت قلت: صفة قائمة بذاته، متعلقة بالغير تعلق التصرف التام المقتضي استغناء المتصرف، وافتقار المتصرف فيه، ولهذا لم يصح على الإطلاق إلا الله تعالى جدُّه، وهو أخص من المِلك-بالكسر؛ لأنه تعلق باستيلاءٍ مع ضبط وتمكن من التصرف في الموضوع اللغوي وبزيادة كونه حقاً في الشرع من غير نظر إلى استغناء، وافتقار، فمالك الملك: هو الملك الحقيقي المتصرف بما شاء، كيف شاء، إيجادًا، وإعدامًا، إحياء وإماتة، وتعذيبًا، وإثابة من غير مشارك، ولا ممانع، ولهذا لا ُيقال: مالك الملك إلا على ضرب من التجوز. وحمل الملك على هذا المعنى أوفق بمقام
ـــــــ
1 رواه الطبراني في الأوسط رقم "8962" وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد "5/ 249"وقال: رواه الطبراني في الأوسط. وفيه. وهب بن راشد. وهو متروك. نقول: وفي إسناده أيضاً المقدام بن داود. قال النسائي: متروك.
2 الآلوسي هو محمود بن عبد الله الحسيني الآلوسي. شهاب الدين أبو الثناء، مفسر محدث: من المجددين توفي رحمه الله سنة "1270"هـ.
(1/79)
المدح. انتهى. والملك -بفتح الميم وكسر اللام وتخفف-: من تولى السلطة. وجمعه: ملوك.
وقوله "حولت" بالحاء المهملة؛ أي: غيرت، وحركت، والسخط - بفتح السين وضمها-: الغضب الشديد المقتضي للعقوبة. والنقمة -بكسر النون-: العقوبة.
والسوم: أصله الذهاب لطلب، ويستعمل الذاب وحده تارة، ومنه السائمة، وللطلب أخرى، ومنه: السوم في البيع، ويقال: سامه: كلفه العمل الشاق، والسوء: مصدر ساء، يسوء يراد به السيء، ويستعمل في كل ما يقبح، كأعوذ بالله تعالى من سوء الخلق، وسوء العذاب: أفظعه، وأشده بالنسبة إلى سائره.
والمعنى: أن الله تباركت أسماؤه، وتنزهت صفاته يخبرنا أنه مالك الملك، ومالك الملوك، ليس لأحد تصرف في الحقيقة، وإنما المتصرف في الملك والملكوت هو الله وحده، فإذا سكنت الرعية إلى ما جاءت به الأنبياء، وعملوا بقوانين الشريعة، وتمسكوا بمبادئها، وأظهروا العدل والمساواة، فرحم الكبير الصغير، ووفر الصغير الكبير، ووصلوا الأرحام، وأعانوا المظلومين على خصومهم، وضربوا على أيدي الظالمين بسياط من حديد حتى يفيؤوا إلى الحق، ويتوبوا، وينوبوا إلى الله جل ذكره، فإذا فعلوا ذلك؛ حركت قلوب ملوكهم عليهم، وهديتها، ووفقتها للعطف على الرعية، والرحمة بعبادي الصالحين المطيعين، فلا يرى الملك، أو السلطان له لذة إلا السهر على رعيته، والنظر في مصالحهم، ومنافعهم، والأمن على أرواحهم وأموالهم، ويراقب العدو، ويستعد له، ولا يغفل عنه، فهمه راحة الرعية، واطمئنانها، وإن العباد إذا عصوا الله تعالى، وخالفوا سنن رسله وأنبيائه، وعبثوا بالأحكام، وأظهروا الفسوق، والفواحش، وتعاملوا بالربا، وفشا الزنى، وحقر صغيرهم كبيرهم، وترك علماؤهم الوعظ، والتذكير، وصار أكبر همهم جمع الأموال التي هي حطام الدنيا، وغفلوا عن مصيرهمم، ومآلهم، حَّرك الله عليهم قلوب ملوكهم بالغضب عليهم، والتنكيل بهم، فلا يلذ لملكهم إلا ما يؤذيهم، ويضر بمصالحهم ومنافعهم، كما أخبر الله تعالى في القرآن الحكيم بقوله: {وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ} "البقرة: 49" وإذا علموا عبادي ذلك - أي: أن كل شيء من حركة، وسكون بيدي، وكل ما يقع في ملكي فأنا المتصرف فيه، المنفرد بخلقه، وإيجاده، لا يشاركني أحد فيه، فلا تشغلوا أنفسكم بالدعاء على
(1/80)
الملوك إذا فعلوا ذلك بكم من سيئات الأعمال، وقبائح الأقوال، والتنكيل بكم، وهضم حقوقكم، واستيلاء قويكم على ضعيفكم، والاستبداد بكم، وحبس حريتكم، وغصب أموالكم؛ لأنه لا ينفعكم الدعاء، ولا ينصركم ربُّ الأرض والسماء؛ لأنه لا فعل لملككم، وسلطانكم أو لا قدرة له على ذلك حقيقة، بل أنا الله الذي أقدرته على ذلك، وسلطته عليكم بحسب أعمالكم السيئة، ومخالفتكم لأحكامي وخروجكم على أمنائي، وعدم امتثالكم قوانين شرعي، وأخذكم بسنن أنبيائي.
والذي ينفعكم، ويدفع عنكم ما أنتم فيه؛ هو الإنابة إلي، والتوبة ممااقترفتموه من الذنوب والمعاصي، وإخلاص نياتكم في أعمالكم، ورد المظالم إلى أهلها، وإطاعه أنبيائكم، وامتثال أوامر علمائكم أهل التقوى والصلاح، وتشييد دعائم شريعتكم بإظهارها، والعمل بأحكامها، وعدم شغل أنفسكم بما لا يعنيكم، بل اشغلوا أنفسكم بالذكر الكثير الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم، الثابت بالأحاديث الصحيحة، دون أوراد المشايخ أرباب الطرق القاطعة. يعني: وتقربوا إلي بالأعمال الصالحات؛ أكفكم ملوككم السوء، وأعصمكم من العدو، وأغدق عليكم الخيرات والأرزاق، وأوفقكم للمبرات، وأبارك لكم في الأولاد والأموال.
وإذا عرفت هذا تعلم أن ما حصل للمسلمين من التقهقر، والانحطاط في جميع الحالات إنما هو بسبب ما وقع منهم من المخالفات، وتقليد الأوربيين في مساويهم من الشرور، والفسوق، والخلاعة، وحروجهم عن أحكام شريعتهم الغرَّاء، وعدم تأسيهم بسيد الأنبياء والأولياء، وإظهار محاسن دينهم القويم، وكله حسن لا سيء فيه على الإطلاق كما هو ظاهر في القرآن الحكيم وسنن من بالمؤمنين رؤوف رحيم، اللهم اهد أمراءنا، وعلماءنا، ووفقهم لما يرضيك يا رب العالمين!
وقوله: "رواه الطبراني" هو الإمام الحافظ، الحجة، المتقن، أبو القاسم سليمان بن أحمد بن أيوب بن مطير الشامي، اللَّخمي، الطبراني، المتوفى سنة"360"هـ.
وقوله: "في الأوسط" هو اسم كتاب له في الحديث يسمى المعجم الأوسط، وله المعجم الكبير، والصغير، والأخير طبع في الهند سنة "1311"هـ، وانظر الكلام على المعاجم في كتاب النموذج صفحة 505
(1/81)
شرح حديث: أنا العزيز، من أراد عز الدارين
...
57- "أنا العزيز، من أراد عِزَّ الدارين؛ فليطع العزيز"1 . رواه الخطيب البغدادي عن أنس.
ش- العزيز: مِن عزَّ الشيء، يعز بكسر العين- أي: لا مثيل له، ولا نظير، من عزَّ الطعام في البلد: إذا تعذر وجوده عند الطلب "أو من عز يعز - بضم العين - بمعنى الغالب الذي لا يغلب، ويقهر، ولا يقهر، أو من عز يعز - بفتح العين -: إذا اشتد وقوي. أو يكون عزيز بمعنى المعز، فعيل بمعنى مفعل، كالأليم بمعنى المؤلم، والوجيع بمعنى الموجع، وعلى الأول فلفظ العزيز يرجع إلى التنزيه، والثاني، والثالث إلى صفة من صفات الذات، وهي: القدرة، والرابع إلى صفات الفعل. ومنه: العِزة، وهي حالة مانعة للإنسان من أن يغلب. ومدح الله سبحانه وتعالى بالعزة تارة وذم بها تارة أخرى. فمن الأول قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} "المنافقون:8" وقال تعالى: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ} "الصافات: 180" ومن الثاني قوله تعالى: {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ} "ص:2" وبيان ذلك: أن العزة التي هي لله جل وعلا، ولرسوله صلى الله عليه وسلم، وللمؤمنين رضوان الله عليهم هي الدائمة الباقية؛ التي هي العزة الحقيقة. والعزة التي هي للكافرين، والمخالفين هي التعزز، وهو في الحقيقة ذل، كما قال عليه الصلة والسلام: "كلُّ عزٍّ ليس بالله فهو ذل" .
قال الإمام أبو حامد الغزالي في كتابه "المقصد الأسني" شرح أسماء الله الحسنى: العزيز: هو الذي يقل وجود مثله، وتشتدُّ الحاجة إليه، ويصعب الوصول إليه، فما لم تجتمع هذه المعاني الثلاثة فيه لم يطلق عليه اسم العزيز، فكم من شيء يقل وجوده ولكن لا يحتاج إليه فلا يسمى عزيزًا، وقد يكون بحيث لا مثل له ويحتاج إليه جدًا، ولكن يسهل الوصول إليه فلا يسمى عزيزًا، كالشمس، فإنه لا مثل لها، والانتفاع بها المعاني الثلاثة في شيء فهو العزيز؛ ثم في كل واحد من هذه المعاني الثلاثة كمال
ـــــــ
1 ذكره السيوطي في اللآلئ المصنوعة "1/ 23"وفي إسناده سعيد بن هبيرة كان يحدث بالموضوعات عن الثقات، وذكره ابن عراق في تنزيه الشريعة "1/ 138 "وقال: لا يصح. وقال: في إحدى طريقيه داود بن عفان، وفي الأخرى سعيد بن هبيرة العامري. وذكره الشوكاني في الفوائد المجموعة ص "488"وقال: رواه الخطيب عن أنس مرفوعًا، وفي إسناده داود بن عفان بن حبيب النيسابوري كان يضع الحديث.
(1/82)
ونقصان، فالكمال في قلة الوجود: أنه يرجع إلى واحدة؛ إذ لا أقل من الواحد، ويكون بحيث يستحيل وجود مثله، وليس هذا إلا لله، فإن الشمس وإن كانت واحدة في الوجود ولكنها ليست واحدة في الإمكان؛ لأنه لا يمكن وجود مثلها. وأما كونه منتفعًا به، فالكمال فيه أن يكون جميع المنافع حاصلة منه، ولا يحصل من غيره، وما ذاك إلا لله سبحانه وتعالى، فإنه هو المبدئ لوجود جميع الممكنات، فإنه سبحانه هو الذي يحتاج إليه كل شيء في ذاته، وصفاته، وبقائه. أما صعوبة الوصول إليه؛ فالكمال فيه هو ألا يكون لأحد قدرة عليه، وتكون قدرته على الكل حاصلة، والحق كذلك؛ لأنه لا سبيل للعقول إلى الإحاطة بكنه صمدتيه، ولا سبيل للأبصار إلى الإحاطة بعظيم جلالة، ولا سبيل لأحد من الخلق إلى القيام بشكر آلائه ونعمائه، فثبت أن كمال هذه الصفات حاصلة لله سبحانه وتعالى لا لغيره، فوجب القطع بأنه سبحانه وتعالى هو العزيز المطلق. والله أعلم.
والمعنى: أن الله جل ذكره يخبر أنه العزيز الغالب، الذي لا يغلبه أحد، ولا يقهره شيء، بل هو القاهر فوق عباده، يفعل ما يشاء، ومن أراد من عباده عِزَّ الحياة الدنيا والآخرة؛ فليطعه يكن عزيزًا قويًا غالبًا، وذلك بأن يجتنب المنهيات، ويفعل المأمورات، ولا يقول إلا خيرًا. اللهم وفقنا لذلك، واهدِ العصاة من عبيدك يا رب!
(1/83)
شرح حديث: أنا أغني الشركاء عن الشرك
...
58- " أنا أغني الشركاء عن الشرك، فمن عمل عملا أشرك فيه غيري؛ فأنا منه بريء، وهو للذي أشرك" 1 . رواه مسلم، وابن ماجه عن أبي هريرة
ـــــــ
1 رواه أحمد في المسند "1/ 301 و 435"ومسلم رقم "2985"في الزهد، وأبو داود الطيالسي رقم "2559" وابن ماجه رقم "4202"من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(1/83)
شرح حديث: أنا أغني الشركاء عن الشرك من عمل عملا
...
59- "أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملًا أشرك معي فيه غيري؛ تركته وشركه" . رواه مسلم، وابن ماجه عن أبي هريرة
ش- الغني-بكسر الغين المعجمة مقصورًا- يُقال على أضرب، أحدها: عدم الحاجات، والفاعل منه: هو الذي لا يحتاج إلى أحد في شيء، وكل أحد يحتاج إليه هو الغني المطلق، ولا يشارك الله فيه غيره، ومنه قوله تعالى: {وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر:15] والثاني: قلة الحاجات، وهو المشار إليه بقوله تعالى: {وَوَجَدَكَ عَائِلًا
(1/83)
شرح حديث: أنا ثالث الشريكين ما لم يخن أحدهما صاحبه
...
60- "أنا ثالث الشريكين ما لم يخن أحدهما صاحبه؛ فإذا خانه؛ خرجت من بينهما"1 . رواه أبو داود، والحاكم عن أبي هريرة.
ـــــــ
1 رواه أبو داود رقم "3383"والحاكم في المستدرك"2/ 52"والبيهقي في السنن 6"/ 78." والدارقطني في السنن "3/ 53"من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وإسناده ضعيف.
(1/85)
ش- الشَّركةُ فيها أربع لغات: فتح الشين، وكسر الراء، وكسر الشين، وسكون الراء، وقد تحذف الهاء مع ذلك، وهي لغةً: الاختلاط، وشرعًا: ثبوت الحق في شيء لاثنتين فأكثر على جهة الشيوع. وقد تحدث الشركة قهرًا كالإرث، أو باختيار كالشركاء، والخيانة معلومة.
قوله: "أنا ثالث الشريكين" أي: معهما بالحفظ والبركة، أحفظ أموالهما، وأدر عليهما الرزق والخير في معاملتهما.
قال العلامة الطيبي1 رحمه الله: الشركة عبارة عن اختلاط أموالهم بعضهم ببعض، بحيث لا يتميز، وشركة الله تعالى إياهما على الاستعارة، كأنه تعالى جعل البركة، والفضل، والربح بمنزلة المال المخلوط، وجعله ثالثًا لهما. قوله: "خرجت من بينهما" ترشيح للاستعارة انتهى.
والحديث سكت عنه أبو داود. انظر حكم ما سكت عنه أبو داود في كتاب نموذج من الأعمال الخيرية ص 615، قال الزركشي في تخريج أحاديث الرافعي: هذا الحديث صححه الحاكم، وأعلَّه ابن القطان بالجهل بحال سعيد بن حيان والد أبي حيان؛ فإنه لا يعرف له حال، ولا يعرف راوٍ عنه غير ابنه، وقال الحافظ ابن حجر: ذكره ابن حبَّان في الثقات، وذكر: أنه روى عنه أيضًا الحارث بن يزيد.
ـــــــ
1 الطيبي: هو الحسين بن محمد بن عبد الله الطيبي. من علماء الحديث والتفسير والبيان، تُوفي سة 743هـ.
(1/86)
شرح حديث: أنا أكرم، وأعظم عفوا من أن أستر
...
61- "أنا أكرم، وأعظم عفوًا من أن أستر على مسلم في الدنيا، وأفضحه بعد أن سترته، ولا أزال أغفر لعبدي ما استغفرني " 1. رواه الحكيم عن الحسن مرسلًا، والعقيلي عن أنس.
ـــــــ
1رواه الحكيم الترمذي في نوادر الأصول ص"138"عن الحسن مرسلًا، وابن عساكر "10/ 214"عن أنس رضي الله عنه، وفي إسناده سويد بن عبد العزيز قال أحمد: متروك الحديث. فالحديث ضعيف.
(1/86)
ش- قوله"أكرم وأعظم " هما على صيغة أفعل التفضيل، وليس على بابها، والعفو: المحو، والإزالة. يُقال: عفت الدِّيار: إذا درست، وذهبت آثارها، وفي العرف: ترك المكافأة عند المقدرة قولًا وفعلًا، وقيل: هو السكون عند الأحوال المحركة للانتقام، فعلى هذا: العفو في حق الله تعالى عبارة عن إزالة آثار الذنوب بالكلية فيمحوها من ديوان الكرام الكاتبين، ولا يطالبه بها يوم القيامة، وينسيها من قلوبهم لئلا يخجلوا عند تذكيرها، ويثبت مكان كل سيئة حسنة، والعفو أبلغ من المغفرة؛ لأن الغفران يشعر بالستر، والعفو يشعر بالمحو، والمحو أبلغ من الستر، والعفو من أخلاق الأنبياء، والعلماء، والأصفياء، وقد جاء في العفو آيات منها: قال الله تعالى: {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} [النور:22] وقال تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا} [الفرقان:63] وقال تعالى: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى:40] وفي الباب أحاديث كثيرة، وهو يجمع أشرف وأكرم الخصال، وأفضل شمائل الجلال، وأعلى مراتب الكمال، وركن متين، وحصن حصين، من استند إليه، واعتمد عليه استنارت له الظلم، وأمن من عثرات القدم، وعُصِم من مواقع الندم.
ومما يُحكَى عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرَّم الله وجهه: أنه دعا غلامًا له؛ فلم يجبه، ودعاه ثانيًا، فلم يجبه، وهكذا ثالثًا، فقام إليه، فرآه مضطجعًا، فقال: يا غلام! أما سمعت الصوت؟ فقال: بلى سمعت! قال: فما منعك من الإجابة؟ فقال ثقتي بحلمك، واتكالي على عفوك، فقال عليُّ رضي الله عنه: أنت حر لوجه الله تعالى.
وقوله: "رواه الحكيم عن الحسن" والحكيم: هو الإمام الحافظ أبو عبد الله محمد ابن الحسن بن بشر الزاهد المؤذن المشهور بالحكيم الترمذي، صاحب كتاب: "نوادر الأصول" المتوفى مقتولًا ببلخ في حدود العشرين والثلاثمائة، وعاش نحوًا من تسعين سة، وقال صاحب "كشف الظنون": المتوفى شهيدًا سنة خمس وخمسين ومئتين، وهو وهم منه؛ لأن الحافظ شمس الدين الذهبي صرح في كتابه" تذكرة الحفاظ": أنه قدم نيسابور سة خمس وثمانين ومئتين، وذكر الحافظ ابن حجر في كتابه "لسان الميزان" أنه عاش إلى حدود العشرين والثلاثمئة؛ لأن ابن الأنباري ذكر أنه سمع منه سنة ثماني عشرة وثلاثمئة، وقيل: إنه قتل خمس وتسعين ومئتين. والحسن هو: الإمام شيخ الإسلام، ورئيس الزهاد، ورأس التابعين أبو سعيد الحسن بن أبي الحسن البصري، المتوفى سنة عشر ومئة، وقد ذكرت له ترجمة واسعة في كتابي "نموذج من الأعمال الخيرية في إدارة الطباعة المنيرية" فطالعها تجد فيها ما يبهرك.
(1/87)
والعقيلي هو:الإمام الحافظ أبو جعفر محمد بن عمرو بن موسى بن حماد العقيلي، هو صاحب كتاب "الضعفاء الكبير" المتوفى سنة اثنتين وعشرين وثلاثمئة.
(1/88)
شرح حديث: أنا أهل أن أتقي فلا يجعل معي إله
...
62- "أنا أهلُ أن أُتَّقى فلا يجعل معي إله، فمن اتقى أن يجعل معي إلها؛ فأنا أهل أن أغفر له" 1. رواه أحمد، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، والبزار، وأبو يعلى، والحاكم عن أنس.
قوله: "أن أتقى" والتقوى في اللغة كما قال السيد الشريف: بمعنى الاتِّقاء، وهو اتخاذ الوقاية. وعند أهل الحقيقة: هو الاحتراز بطاعة الله عن عقوبته، وهو صيانة النفس عما تستحق به من فعل أو ترك. والتقوى في الطاعة يراد بها الإخلاص، وفي المعصية يراد بها الترك والحذر. وقيل: أن ينفي العبد ما سوى الله تعالى. وقيل: المحافظة على آداب الشريعة، وقيل: في مجانية كل ما يبعدك عن الله تعالى. وقيل: ترك حظوظ النفس، ومباينة النهي، وقيل: ألا ترى في نفسك شيئًا سوى الله. وقيل: ألا ترى نفسك خيرًا من أحد. وقيل: ترك ما دون الله. والمتبع عندهم هو الذي ألقى متابعة الهوى، وقيل: الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم قولًا وفعلًا، وأصل التقوى أن يجعل العبد بينه وبين ما يخافه ويحذره وقاية تقيه منه، فتقوى العبد لربه أن يجعل بينه وبين ما يخشاه من ربه من غضبه وسخطه وعقابه وقايةً تقيه من ذلك، وهو فعل طاعته، واجتناب معاصيه. وأفضل صفة يتَّصف بها الإنسان التقوى؛ لأن بها نجاحه، ودخوله في كنف الرحمن، لا يحتجب منهم، ولا يستتر، وقد جاء تفسيرها وصفة أهلها عن السلف الصالح رضي الله عنهم، فنورد لك جملة صالحة لعلي أكون أنا وأنت ممن يتقي الله في جهره وسرِّه، فأقول، وبالله التوفيق:
قال حَبْر الأمة "ابن عباس" رضي الله عنهما: المتَّقون الذي يحذرون من الله عقوبته في
ـــــــ
1 رواه أحمد في المسند "3/ 243"، والدارمي "2/ 302"، وابن ماجه رقم "4299"، والحاكم في المستدرك "2/ 508"،وصححه، ووافقه الذهبي، والترمذي رقم "3328"، وابن أبي عاصم في السنن رقم "969"من حديث أنس رضي الله عنه. وفي إسناده سهيل بن أبي حزم القطعي ضعيف. وللحديث شاهد من حديث عبد الله بن دينار. قال سمعت أبا هريرة، وابن عمر، وابن عباس رضي الله عنهم يقولون فذكروه مرفوعًا نحوه، أخرجه ابن مردويه كما في الدر المنثور "6/ 278"فهو به حسن.
(1/88)
ترك ما يعرفون من الهدى، ويرجون رحمته في التصديق بما جاء به. وقال الحسن البصري التابعي الجليل: المتقون اتقوا ما حرَّم الله عليهم، وأدوا ما افترض الله عليهم، وقال طلق بن حبيب1: التقوى أن تعمل بطاعة الله، على نور من الله، ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله، على نور من الله، تخاف عقاب الله.
وقال عمر بن عبد العزيز: ليس تقوى الله بصيام النهار، ولا بقيام الليل، والتخليط فيما بين ذلك خيرًا، فهو خير إلى خير. وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: تمام التقوى أن يتَّقي الله العبد حتى يتقيه من مثقال ذرة، وحتى يترك بعض ما يرى أنه حلال خشية أن يكون حرامًا ما يكون حجابًا بينه وبني الحراك، فإن الله قد بين للعباد الذي يصيرهم إليه، فقال :{فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} [الزلزلة:7-8] فلا تحقرنَّ شيئًا من الخير أن تفعله، ولا شيئًا من الشر أن تنقيه، وقال موسى بن أعين:2 المتقون تنزهوا عن أشياء من الحلال مخافة أن يقعوا في الحرام، فسماهم الله متقين، وقال الثوري3 رحمه الله: إنما سُموا متقين لأنهم اتقوا ما لا يتقى، فهو سبحانه أهل أن يُتقى، ويُخشى، ويُهاب، ويُجل، ويُعظم في صدور عباده حتى يعبدوه، ويطيعوه لما يستحقه من الإجلال، والإكرام، وصفات الكبرياء، والعظمة، وقوة البطش، وشدذَّة البأس. اللهم إني أسألك أن توفقنا للتقوى، وتحيل بيننا وبين معاصيك، يا أرحم الراحمين!
ـــــــ
1 طلق بن حبيب: المصري زاهد كبير. من العلماء العاملين، حدَّث عن ابن عباس وابن الزبير، وجندب بن سفيان. روى عن منصور، والأعمش، وجماعة. كان طيب الصوت بالقرآن، برًا بوالديه، قال أبو زرعة: طلق سمع من ابن عباس رضي الله عنهما. وهو ثقة مرجئ. مات قبل المئة.
2 موسى بن أعين: هو الإمام الحجة أبو سعيد الحراني. روي عن عطاء بن السائب. وليث وعبد الكريم الجزري: ومعمر، وخلق، وعن يحيى بن يحيى، وثقه أبو حاتم وغيره، توفي سنة "177"هـ.
3 سفيان الثوري- هو سفيان بن سعيد بن مسروق بن حبيب بن رافع بن عبد الله بن موهبة. هو شيخ الإسلام، الإمام الحافظ. سيد العلماء العاملين في زمانه، مصنف كتاب "الجامع" قال ابن معين وابن عيينة، ويحيى بن معين: سفيان الثوري أمير المؤمنين في الحديث. وقد ساد الناس بالعلم والورع توفي رحمه الله في شعبان سنة "161"هـ.
(1/89)
وقد وصىَّ الله جلَّ جلاله عباده بالتقوى في مواضع كثيرة من الذكر الحكيم وحثهم، وأمرهم بها، منها قوله: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء: 131] وقال الله تعالى :{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحشر: 18] وقال تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [المائدة:96] وقال تعالى :{وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} "آل عمران: 131" وقال تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} [البقرة:281] وقال عزَّ وجلَّ: {وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً} [البقرة:48]فأُضيفت تارةً إلى الله سبحانه وتعالى، وتارةً أضيفت إلى عقاب الله، وإلى مكانه، كالنار، أو زمانه، كيوم القيامة.
وكذلك جاء في أحاديث كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم الوصية لأمته، منها: ما رواه الإمام أحمد بن حنبل من حديث دراج عن أبي الهيثم عن أبي ذر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: "أوصيك بتقوى الله في سرأمرك وعلانيته.." 1 .،الحديث: وخرَّج الإمام حافظ المغرب يوسف أبو عمر بن عبد البر في كتاب التمهيد بإسنادٍ فيه نظر، عن أنس قال: "بعث النبي صلى الله عليه وسلم مُعاذاً إلى اليمن فقال: "يا معاذُ، اتقِ الله، وخالق الناس بخلق حسن.... الحديث" وكان صلى الله عليه وسلم إذا بعث أميراً على سرية أوصاه في خاصة نفسه بتقوى الله وبمن معه من المسلمين خيراًَ، ولما خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع يوم النحر وصى الناس بتقوى الله، وبالسمع، والطاعة لأئمتهم، ولما وعظ الناس قالوا له: كأنها موعظة مودع، فأوصِنا. قال: "أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة" 2. وفي حديث أبي ذر الطويل الذي خرجه ابن حبان، وغيره: قلت: يا رسول الله أوصني! قال: "أوصيك بتقوى الله، فإنه رأس الأمر كله" 3. وخرَّج الإمام أحمد من حديث أبي سعيد
ـــــــ
1 رواه أحمد في المسند "5/ 181"، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد "3/ 93"وقال: رواه أحمد، ورجاله ثِقات من حديث أبي ذر رضي الله عنه. أقول: وفي إسناده ابن لهيعة لين الحديث، ودراج عن أبي الهيثم ضعيف. والحديث بهذا السند ضعيف.
2 رواه أحمد في المسند"4/ 126و 127"وأبو داود رقم "4607"، وابن أبي عاصم في السنة رقم" 32و 57" والترمذي رقم "2676"، وابن ماجه رقم "44"، وابن حبان رقم "5"من حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه وإسناده صحيح.
3 رواه ابن حبان رقم"361" وأبو نعيم في الحلية "1/ 166و 167"وإسناده ضعيف. ولقوله صلى الله عليه وسلم: "أوصيك بتقوى الله فإنه رأس الأمر كله" شاهد أخرجه الطبراني في الكبير رقم "1651"والقضاعي في مسند الشهاب رقم" 740". فهو به حسن.
(1/90)
الخدري: قال: قال: يا رسول الله أوصني! قال: "أوصيك بتقوى الله، فإنه رأس كل شيء..." 1 الحديث، وروي الترمذي عن يزيد بن سلمة: أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم قال: يا رسول الله!إني سمعت منك حديثاً كثيراً، فأخاف أن ينسي أوله آخره، فحدثني بكلمة تكون جماعاً" قال "اتق الله فيما تعلم" 2.
وكذلك الصحابة رضي الله عنهم كان يوصي بعضهم بالتقوى، ومن جاء بعدهم من التابعين، فمن ذلك ما نقل عن الخليفة الأول أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه كان يقول في خطبته: أما بعد: فإني أوصيكم بتقوى الله، وأن تثنوا عليه بما هو أهله، وأن تخلطوا الرغبة في الرهبة، وتجمعوا الإلحاف في المسألة، فإن الله عز وجل أثنى على زكريا وأهل بيته فقال: { إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [النساء:90]، ولما حضرته الوفاة وعهد إلى عمر؛ دعاه، فوصاه بوصيته، وأول ما قال له: اتقِ الله يا عمر! وكتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى ابنه عبد الله: أما بعد: فإني أوصيك بتقوى الله عز وجل، فإنه من اتقاه؛ وقاه ومن أقرضه؛ جزاه، ومن شكره؛ زاده، واجعل التقوى نصب عينيك وجلاء قلبك.
واستعمل علي بن أبي طالب رجلاًعلى سرِّية، فقال له: أوصيك بتقوى الله عز وجل التي لايقبل غيرها، ولا يرحم إلا أهلها، ولا يثيب إلا عليها؛ فإنَّ الواعظين بها كثير، والعاملين بها قليل، جعلنا الله وإياك من المتقين. ولما ولِّي؛ خطب، فحمد الله، وأثنى عليه، وقال
ـــــــ
1 رواه أحمد في المسند "3/ 82". وأبو يعلى رقم "1000"، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد "4/ 215"وقال: رواه أحمد. ورجاله ثقات، وفي إسناد أبي يعلى ليث بن أبي سليم مدلس: أقول: والحديث حسن بطرقه وشواهده.
2 رواه الترمذي رقم "2684"في العلم. باب ما جاء في فضل الفقه على العبادة، وقال الترمذي: هذا حديث إسناده ليس بمتصل، وهو عندي مرسل، ولم يدرك عندي ابن أشوع يزيد بن سلمة، ابن أشوع اسمه: سعيد بن أشوع. والحديث ضعيف.
(1/91)
أوصيكم بتقوى الله عز وجل، فإن تقوى الله عز وجل خلف من كل شيء، وليس من تقوى الله خلف.
وقال رجل ليونس بن عبيد: أوصني، فقال: أوصيك بتقوى الله والإحسان فإن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون. وقال له رجل -يريد الحج- : أوصني. فقال له: اتق الله، فمن اتَّقى الله؛ فلا وحشة عليه.
وقيل لرجل من التابعين عند موته: أوصنا. فقال: أوصيكم بخاتمة سورة النحل {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل: 128] وكتب رجل من السلف إلى أخٍ له: أوصيك بتقوى الله، فإنها من أكرم ما أسررت، وأزين ما أظهرت، وأفضل ما ادخرت، أعاننا الله وإياك عليها، وأوجب لنا ولك ثوابها. وكتب رجل منهم إلى أخ له: أوصيك وأنفسنا بالتقوى، فإنها خير زاد الآخرة والأولى، واجعلها إلى كل خير سبيلك، ومن كل شر مر بك، فقد تكفل الله عز وجل لأهلها بالنجاة مما يحذرون، والرزق من حيث لا يحتسبون. وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلمن، أنه كان يقول في دعائه: "اللهم إني أسألك الهدى، والتقى، والعفاف، والغني "1، أفاد ذلك كله الحافظ ابن رجب في كتابه: "جامع العلوم والحكم".
والمعنى: أن الله سبحانه وتعالى حقيق أن يتقيه العباد، فلا يجعلون له شريكًا؛ لأنه لا إله غيره، ولو أشرك العبد أحدًا مع الله لفعل محالًا، وحقيق أن يطيعوه، ويعبدوه؛ لأنه أهل أن يغفرَ لهم ذنوبهم، ويقبل توبة من أناب إليه. روى الإمام أحمد في مسنده بسنده عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم {هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ} وقال: " قال ربكم: أنا أهل أن أتقى فلا يجعل معي إله فمن اتَّقى أن يجعل معي إلهًا؛ كان أهلًا أن أغفر له" 2 رواه الترمذي، وابن ماجه من حديث زيد بن الحباب، والنسائي من حديث المعافى بن عمران كلاهما عن سهيل بن عبد الله القطيعي به، وقال الترمذي: حسن غريب، وسهيل ليس بالقوي.
ورواه ابن أبي حاتم عن أبيه، عن هدبة بن خالد، عن سهيل به؛ وهكذا رواه أبو
ـــــــ
1 رواه أحمد في المسند"6/ 411و416و437"، مسلم رقم "2721"في الذكر والدعاء، والترمذي رقم"3489"، وابن ماجه رقم "3832 "وابن حبان رقم "900"من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
2 رواه أحمد في مسند "3/ 342" والترمذي "3335" وابن ماجه رقم "4299"من حديث أنس رضي الله عنه. وإسناده ضعيف.
(1/92)
يعلى، والبزار، والبغوي، وغيرهم من حديث سهيل القطيعي به، والله أعلم.
وقوله: والنسائي هو: الإمام الحافظ شيخ الإسلام أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب بن علي بن سنان بن بحر الخراساني النَّسائي، القاضي، صاحب أحمد السنن الأربعة المشهورة، المولود سنة خمس عشرة ومئتين، والمتوفى بفلسطين يوم الإثنين لثلاث عشرة خلت من صفر سنة ثلاث وثلاثمئة.
والبزار هو: الحافظ العلامة أبو بكر أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البصري، والبزار صاحب المسند المعلل، المتوفى بالرملة سنة اثنين وتسعين ومئتين.
وأبو يعلى هو: الحافظ الثقة، محدث الجزيرة أحمد بن علي بن المثني بن يحيى بن عيسى بن هلال التميمي صاحب المسند الكبير، المتوفى سنة سبع وثلاثمئة.
(1/93)
شرح حديث: أنا خلقت الخير والشر
...
63- "أنا خلقت الخير، والشَّر، فطوبى لمن قدَّرت على يده الخير! وويل لمن قدرت على يده الشر!" 1. رواه الطبراني في الكبير عن ابن عباس.
ش- تقدم الحديث برقم "55"بلفظ "أنا الله لا إله إلا أنا خلقت الشر وقدرته.. الخ" فانظر شرحه هناك، والطبراني سبقت ترجمته أيضًا.
ـــــــ
1 رواه الطبراني في الكبير "12/ 173"ورقم "12797"عن أحمد بن سلم العميري عن مالك بن يحيى بن عمرو بن مالك النُّكري عن أبيه عن جده عمرو بن مالك عن أبي الجوزاء عن ابن عباس مرفوعًا. وهذا إسناد ضعيف جدًا مسلسل بالضعفاء. عمرو بن مالك قال الحافظ: صدوق له أوهام -يحيى ابن عمرو بن مالك قال الحافظ ضعيف ويقال إن حماد بن زيد كذَّبه- مالك ابن يحيى بن عمرو ضعيف جدًا قال البخاري فيه نظر. والحديث ضعيف جدًا.
(1/93)
شرح حديث: أنا خير قسيم لمن أشرك بي
...
64- "أنا خير قسيم لمن أشرك بي، من أشرك بي شيئًا؛ فإن عمله قليله وكثيره لشريكه الذي أشرك به، وأنا عنه غني" 1. رواه أحمد، والطيالسي، والطبراني في الكبير عن شداد بن أوس.
ـــــــ
1 رواه أحمد في المسند "4/ 125". والطيالسي رقم "1120". وأبو نعيم في الحلية" 1/ 269". وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد "10/ 221"وقال رواه أحمد وفيه شهر بن حوشب وثقة أحمد وغيره، وضعفه غير واحد. نقول: في إسناده شهر بن حوشب قال الحافظ ابن حجر في التقريب كثير الإرسال والأوهام فالحديث إسناده ضعيف.
(1/93)
65- "أنا خير شريك، فمن أشرك معي شريكًا، فهو للشريك، يا أيها الناس! أخلصوا أعمالكم لله؛ فإن الله لا يقبل من الأعمال إلا ما خَلُص له، ولا تقولوا: هذا لله وللرحم، فإنها لرَحمه، وليس لله منها شيء، ولا تقولوا: هذا لله ولوجوهكم؛ فإنها لوجوهكم، وليس لله فيها شيء" 1.
رواه البزار عن الضحاك.
ش- قوله في الحديث الأول: "قسيم" فعيل بمعنى فاعل، أي: مقاسم، والشرك أنواع، كما بينه حديث الإمام أحمد عن شداد بن أوس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من صلى يرائي؛ فقد أشرك، فإن الله عز وجل يقول: أنا خير قسيم لمن أشرك بي شيئًا فإن جدة عمله؛ قليله وكثيره لشريكه الذي أشرك به، وأنا عنه غني" 2.
والمعنى: أن الله تبارك وتعالت صفاته يخبرنا: أنه لا يقبل عمل عامل منا من ذكر وأنثى إذا كان عمله مشوباً بشرك، ولم يكن خالصًا لله تعالى من جميع أنواع الشرك، كالكبر، والسمعة، وغير ذلك؛ فإن العمل تارة يكون لغير الله، كمن يعمل رياءً محضاً، بحيث لا يراد به سوى مرئيات المخلوقين؛ لغرض دنيوي، كحال المنافقين في صلاتهم. قال الله تعالى في وصفهم: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ} [النساء: 142] وقال الله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ} وكذلك وصف الله تبارك وتعالى الكفار بالرِّياء المحض في قوله: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَراً وَرِئَاءَ النَّاسِ} [الأنفال: 47] وهذا الرياء المحض لا يكاد يصدر من مؤمن في فرض الصلاة
ـــــــ
1 رواه البزار رقم "3567"، والدارقطني في السنن "1/ 51". وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد "10/ 221"، وقال: رواه البزار عن شيخه إبراهيم بن مجشر. وثقه ابن حبان وغيره. وفيه ضعف، وبقية رجاله رجال الصحيح. أقول: "إبراهيم بن مجشر البغدادي" قال أبو العباس السراج: سمعت الفضل بن سهل يتكلم فيه، ويكذبه. وقال ابن عقدة: فيه نظر. وقال الحاكم: سكتوا عليه. وقال ابن عدي: يسرق الحديث. وفي لسان الميزان: فالحديث ضعيف الإسناد. والضَّحاك بن قيس الفهري قال المنذري: مختلف في صحبته، وقال الحافظ في التقريب: صحابي صغير.
2 رواه أحمد في المسند "4/ 126". والحاكم في المستدرك "4/ 329". وصححه. وسكت عليه الذهبي من حديث شداد بن أوس رضي الله عنه نقول: إسناده ضعيف.
(1/94)
والصيام، وقد يصدر في الصدقة الواجبة، والحج، وغيرهما من الأعمال الظاهرة؛ التي يتعدى نفعها، فإن الإخلاص فيها عزيز، وهذا العمل لا يشك مسلم أنه حابط، وأن صاحبه يستحق المقت من الله والعقوبة.
وتارة يكون العمل لله، ويشاركه الرياء، فإن شاركه من أصله؛ فالنصوص الصحيحة تدل على بطلانه أيضًا، وحبوطه، ومنها: حديث الكتاب. والله أعلم.
قوله في الحديث الأول: "رواه الطيالسي" هو الإمام الحافظ الثقة سليمان بن داود بن الجارود أبو داود الطيالسي، صاحب المسند المطبوع في الهند، المتوفى سنة ثلاث أو أربع ومئتين بالبصرة. انظر الكلام على مسنده في كتاب "نموذج من الأعمال الخيرية" ص485.
(1/95)
66- "أنا ربكم، أنا أهل أن أُتَّقى، فلا تجعلوا معي إلهًا، فمن اتَّقى أن يجعل معي إلهًا؛ فأنا أهل أن أغفر له". رواه أحمد، والترمذي عنه1.
ش- تقدم ذكر الحديث برقم 62 بتغيير بعض ألفاظه، فارجع إليه.
ـــــــ
1 تقدم تخريجه.
(1/95)
67- "أنا عند ظن عبدي بي، فليظن بي ما شاء" 1. رواه مسلم، والحاكم عن وائلة. وابن أبي الدنيا، والحكيم عن أبي هريرة2.
ـــــــ
1 رواه أحمد في المسند "3/ 491"، وابن حبان رقم "633و634"والحاكم في المستدرك "4/ 240"من حديث وائلة بن الأسقع رضي الله عنه وإسناده صحيح.
2 رواه أحمد في المسند "2/ 315و445"، والبخاري رقم "7505"، ومسلم رقم" 2675"، والبغوي في شرح السنة "1225"، وابن حبان رقم "639"من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(1/95)
68- "أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني " . رواه مسلم، والحاكم عن أنس.
(1/95)
69- "أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا دعاني " . رواه أحمد عنه1
ـــــــ
1رواه أحمد في المسند "3/ 210 و277". وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد "2/ 319"وقال: رواه أحمد وفيه ابن لهيعة. وفيه كلام من حديث أنس رضي الله عنه، نقول:ويشهد له ما قبله.
(1/95)
70- "أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه حين يذكرُني، فإن ذكرني في نفسه؛ ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأٍ؛ ذكرته في ملأ خيرٍ منه" 1. رواه البيهقي عن أبي هريرة.
ـــــــ
1 رواه أحمد في المسند "2/ 516و517"، والبخاري رقم "7405"، ومسلم رقم" 2675 و21" في الذكر، والترمذي رقم"3603"، وابن ماجه رقم "3822"، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(1/96)
71- "أنا عند ظن عبدي بي إن ظن خيرًا؛ فخيرٌ، وإن ظن شرًا؛ فشٌر " . رواه الطبراني1 وابن حبان عن واثلة بن الأسقع.
ـــــــ
1 تقدم تخريجه.
(1/96)
72- "أنا عند ظن عبدي بي، فليظن بي ما شاء" . رواه ابن أبي الدنيا، والحكيم عن أبي هريرة.
(1/96)
73- "أنا عند ظن عبدي بي إن ظن خيرًا فله؛ وإن ظن شرًا؛ فله " . رواه أحمد، ومسلم، والطبراني، وابن النجار عن أبي هريرة1، ورواه الطبراني في الأوسط، أبو نعيم عن واثلة.
ش- الحديث الأول فيه الأمرُ بالظن بالله سبحانه وتعالى مطلقًا؛ أي: في حال الذكر، أو الدعاء. والثاني مقيد بحال الذكر، وكذلك الرابع، والثالث بحال الدعاء، والحديث الخامس فيه تفصيل الظن بحسبه إن كان خيرًا؛ فيجزي بذلك، وإن كان شرًا؛ فيجده كذلك.
والظن يطلق على معانٍ، قال أبو عبد الله الدامغاني في كتابه "الوجوه والنظائر لألفاظ كتاب الله العزيز ومعانيها": الظن على أربعة أوجهٍ، فوجه منها الظن بمعنى اليقين قوله تعالى في البقرة: {إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} [البقرة:230] وكقوله في ص :{وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ} [ص:24] يعني: علم داود بما آتيناه. وقال في الحاقة :{إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ} [الحاقة:20] يقول: أيقنت. والوجه الثاني: الظن بمعنى الشك قوله تعالى في الجاثية: {إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنَّاً} [الجاثية:32] يعني: ما نشك إلا شكًا. والوجه الثالث: ظن بمعنى حسب قوله تعالى: {إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ} [الانشقاق]:
ـــــــ
1 رواه أحمد في المسند "2/ 391"، وابن حبان رقم "639"وهو حديث صحيح بطرقه وشواهده.
(1/96)
74- "أنا مع عبدي إذ هو ذكرني، وتحركت بي شفتاه " . رواه أبو داود،
(1/102)
والحاكم، وابن حبان عن أبي الدرداء1. والقضاعي، والحاكم، وابن حبان عن أنس وغيره وأحمد، وابن ماجه، والحاكم، وابن حبان عن أبي هريرة2.
ش- قوله: "أنا مع عبدي" المعيِّة الله أعلم بحقيقتها، نسلم لفظها، ونكل المعنى إلى الله جلَّ، وعلا، وهذا مذهب سلف الأمة. وقد تقدم الكلام على مثل ذلك، فارجع إليه، وقوله: "إذ": ظرف زمان. وشفتاه: تثنية شفة بفتح أوله، وأصلها شفة، وهي معلومة. والمعنى -والله أعلم-: أن الله سبحانه وتعالى مع عبده وقت ذكره خالقه وبارئه وتحرَّكت شفتا العبد بذكره، وهو يدل على أن الذكر الجهري أرجح من الذكر الخفي، وقد تقدم الكلام على ذلك قريبًا.
وقوله: "والقضاعي" هو المحدث شهاب الدين أبوعبد الله محمد بن سلامة بن جعفر بن علي القضاعي نسبة إلى قضاعه شعب من معد بن عدنان. ويُقال: هو من حمير، وهو الأكثر، والأصح. كان قاضي مصرومحدثها، توفي سنة أربع وخمسين وأربعمئة. وباقي التراجم تقدَّم شرحها.
ـــــــ
1 رواه الحكام في المستدرك"1/ 496"، وصححه ووافقه الذهبي من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه وهو كما قالا.
2 رواه أحمد في المسند "2/ 540"، والبخاري معلقًا بصيغة الجزم باب "43"في التوحيد، وابن ماجه رقم "3792"في الأدب. والبغوي في شرح السنة "1242". والحاكم 1"/ 496"وصححه، وافقه الذهبي. وابن حبان رقم "815"من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وهو حديث صحيح.
(1/103)
75- "أنتقم ممن أبْغُضُ بمن أبغض، ثم أُصيِّر كلاًّ إلى النار" 1. رواه الطبراني في الأوسط عن جابر.
ش- الانتقام: افتعال، والمنتقم هو المبالغ في العقوبة لمن يشاء، وهو مفتعل، من: نقم، ينقم : إذا بلغت به الكراهة حد السخط. ومن أسمائه الحسنى جل جلاله: المنتقم، قال في "لوامع البينات"، المنتقم: مشتق من الانتقام، ولا يُسمى التعذيب بالانتقام إلا بشرائط ثلاثة: الأول: أن تبلغ الكراهة إلى حد السخط. الثاني: أن تحصل
ـــــــ
1رواه الطبراني في الأوسط رقم "3358"، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد" 7/ 289 "،وقال: رواه الطبراني في الأوسط، وفيه أحمد بن بكر البالسي ضعيف. من حديث جابر رضي الله عنه نقول: وإسناده ضعيف.
(1/103)
تلك العقوبة بعد مدَّة. الثالث: أن يقضي ذلك التعذيب نوعًا من التشفي، وهذا القيد لا يحصل إلا في حق الخالق، أما في حق الخلق. فهو محال.
واعلم أنَّ الانتقام أشد من المعالجة بالعقوبة، فإن المذنب إذ عوجل بالعقوبة لم يتمكن في المعصية، فلم يستوجب غاية النكال في العقوبة، وإليه الإشارة بقوله تعالى: {فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ} [الزخرف:55] وأيضًا قد سمى الله تعالى تكرار إيجاب الكفارة في تكرار المحرم أخذ الصيد انتقامًا قال: {وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ} [المائدة:95] وهو قريب من قوله: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا} [النساء:160] الآية، أما حظ العبد منه: فقال الغزالي: انتقام العبد إنما يكون محمودًا إذا انتقم من الأعداء، وأعدى عدوه نفسه التي بين جنبيه، فلا جرم يجب عليه أن ينتقم منها.
والبغضُ: تقدَّم الكلام عليه، فأغنى عن إعادته، وقوله: "أنتقم ممن أبغض" يعني: أن الله سبحانه وتعالى يُعاقب من يبغضه بارتكاب المعاصي، وسوء الأعمال بمن يبغض من خلقه كذلك؛ أي: أن الله تبارك اسمه يولي الظالمين بعضهم بعضًا، وهكذا نطقت الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية بذلك، والشاهد يؤيدالواقع، فإن غالب الأمم الإسلامية في عصرنا الحاضر يتولاها الظالمون، وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون. نسأل الله السلامة من الحرب الحاضرة التي وقعت في شهر رجب سنة ثمان وخمسين وثلاثمئة وألف من الهجرة النبوية على صاحبها ألف صلاة وتحية، بين الألمان، وبولندة، ودخلت معها الروس بزعم أنها تحامي عن الأقلية الروسية الموجودة فيها، ولربما تشترك فيها باقي الأمم الغربية والشرقية، ولا ينفع المسلمين في هذه الظروف إلا تحابيهم، وتوادهم، ومعاونة بعضهم بعضًا، وعلى الأغنياء أن يواسوا الفقراء؛ والأقوياء يساعدوا الضعفاء. ورجوعهم إلى الله عز وجل بالتوبة، والإنابة، والإخلاص في الأعمال، والإقلاع عن المعاصي، والمفاسد، والتباعد عن الشقاق، والفتن، والتحفز للأخذ بيد المظلوم من الظالم الغاشم المستبد، فلعل ذلك بكفل لنا النجاح إن شاء الله تعالى، ويسلمنا.
(1/104)
انطلقوا يا ملائكتى إلى عبدي فصبوا عليه البلاء صبا
...
76- "انطلقوا يا ملائكتي إلى عبدي، فصبواعليه البلاء صبًا! فيصبون عليه البلاء، فيحمد الله، فيرجعون، فيقولون: يا ربنا صببنا عليه البلاء كما أمرتنا! فيقول: ارجعوا فإني أحب أن أسمع صوته" 1.
ـــــــ
1 رواه الطبراني في الكبير رقم"7697" وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 2"/290"وقال: رواه الطبراني في الكبير وفي إسناده عفير بن معدان ضعيف. من حديث أبي أمامة رضي الله عنه، نقول: وإسناده ضعيف.
(1/104)
رواه الطبراني في الكبيرعن أبي أمامة.
ش- الصبُّ: السكب، وصب الماء: إراقته من أعلى، والبلاء، والابتلاء، تقدم تفسيرهما، فارجع إليه. والمراد بالصب هنا: العرض، والإلقاء؛ أي: اعرضوا، وألقوا ياملائكتي على عبدي فلان البلاء ليُختبر، ويُمتحن؛ ليظهر خيره، أو شره لغيره، وقد سمي الله تعالى التكاليف الشرعية بلاءً؛ لأن التكاليف كلها مشاق على الأبدان، فصارت من هذا الوجه بلاء، ولأنها اختبارات، قال الله عز وجل: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ} [محمد:31] والقرآن والسنة مملوءان بذلك، واختبار الله تعالى للعباد تارةً يكون بالمسارِّ ليشكروا، وتارة بالمضارِّ ليصبروا، فصارت المحنة والمنحة -جميعا- بلاءً، فالمنحة مقتضية للشكر، والمحنة مقتضية للصبر، قال عمر بن الخطاب: بُلينا بالضراء فصبرنا، وبلينا بالسَّراء فلم نصبر. قال الراغب الأصفهاني: إذا قيل: ابتلي فلان كذا، وأبلاه، فذلك يتضمن أمرين، أحدهما: تعرف حاله والوقوف على ما يجهل من أمره، والثاني: ظهور جودته ورداءته، وربما قصد به الأمران، وربما يقصد به أحدهما، فإذا قيل في الله تعالى: بلى كذا. أو أبلاه؛ فليس المراد منه إلا ظهور جودته، ورداءته دون التعرف لحاله، والوقوف على ما يجهل من أمره؛ إذ كان الله علام الغيوب، وعلى هذا قوله عز وجل: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} [البقرة:124] ولا شك أن إضافة العبد إليه عز وجل هنا لتعظيمه وتشريفه؛ إذ بيَّن أن العبد المصبوب عليه البلاء حمد الله، وأثنى عليه بما هو أهله، فكان قابلاً للبلاء، متعرضًا له بدون أن يظهر إساءته، أو كراهيته له، بل يتسع صدره له، وهو حامد شاكر، مظهرالثناء على الله، والرضا به، ومعافاة غيره عن الابتلاء بمثل ذلك ممن ليس كذلك، فعلى المؤمن العاقل أن يتلقى البلاء، والمصائب بكل حواسه بصدررحب، وقلب مطمئن بالإيمان، ومفعمٍ بالرضا، والصبر، والاحتساب، فيزول ذلك عنه قريبًا بدون أن يمسَّه أذى. فنسأل الله أن يوفقنا للصبر عند الصدمة الأولى، ويختم لنا بالسعادة الأبدية! وقد جاء في الصبر على الابتلاء آيات كثيرة، وإنَّ لمن صبر ثوابًا عظيمًا لا يقدر قدره، وكذلك الأحاديث الصحيحة جاءت في الحث على الصبر إذا ابتلي، وأن له ثوابًا عظيمًا. والله أعلم.
(1/105)
77- "أَنْفِق؛أُنْفِق عليك" 1. رواه أحمد، والشيخان عن أبي هريرة.
ش- قوله: "أنفق" الأولى بفتح الهمزة، وسكون النون، وكسرالفاء: أمر بالإنفاق، وقوله: "أنفق عليك" بضم الهمزة، وسكون النون: جواب الأمر؛ والإنفاق:إخراج المال من اليد،ومنه: نفق البيع؛ أي: خرج من يد البائع إلى المشتري، ونفقت الدابة: خرجت روحها، ونفق الزاد: فني، والإنفاق قد يكون في المال، وفي غيره. وقد يكون واجبًا، وتطوعًا، والكل مطلوب.
والمعنى: أن الله سبحانه وتعالى أمر عبده أن ينفق في المصالح الخيرية، والمشاريع الحيوية، مما أنعم الله عليه، وجعله حاكمًا عليه، وتحت يده من نقدٍ، أو عرض تجارة، أو غير ذلك مما يحوزه الإنسان، ويملكه؛ لأن المال كله من الله سبحانه وتعالى، رزقه عبده ليصرفه في منافع المسلمين إذا زاد عن كفايته، وكفاية من يلزمه نفقته شرعًا أخذًا من أدلة أخرى معلومة مقيدة بذلك، ولا ريب أن الإنفاق على الأهل والأقارب غيراللازمة نفقتهم أولى، وأفضل من النفقة على غيرهم، والأفضل والأحرى صرف المال على الفقراء والمساكين المتمسكين بشعائر دينهم من صلاة، وصيام، وزكاة، وغير ذلك من فرائض الإسلام، وأركانه، وواجباته، ولأن تقديمهم بذلك لذلك أردعُ لغيرالمتمسِّكين، وأرغب لهم في التمسك لذلك، ويراعى في ذلك ما كان نفعه أعم، وفائدته أشمل، وثمرته أعظم، وقوله: "أنفق عليك" أي: أعوضه لك، وأعطيك خلفه، بل أكثرأضعافاً مضاعفة، قال الله تعالى: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ} [سبأ:39] ، ولم يقيده بمقدار. نسأل الله الهداية إلى الشرع الشريف، والعمل بأحكامه.
روي البخاري مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان، فيقول أحدهما، اللهم أعط منفقًا خلفًا! ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكا تلفًا!" 2
ـــــــ
1 رواه أحمد في المسند "264/2"،والبخاري رقم"7496" ومسلم رقم"993"من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
2 رواه البخاري رقم "1442"في الزكاة ومسلم رقم "1010"في الزكاة من حديث أبي هريرة.
(1/106)
حديث شريف: أيما عبد من عبادي يخرج مجاهدا في سبيلي
...
78- "أيُّما عبدٍ من عبادي يخرج مجاهدًا في سبيلي ابتغاءَ
(1/106)
مرضاتي؛ ضمنت له أن أُرْجعه -إن رجعْتُه- بما أصاب من أجر، أوغنيمة، وإن قبضته أن أغفر له، وأرحمه، وأُدْخله الجنة" 1. رواه أحمد، والترمذي، والطبراني عن ابن عمر.
ش- الجهاد تكلمنا عليه في تعليقنا على "مختصر شعب الإيمان" صفحة 75 فارجع إليه؛ تجد ما يسرك. وقوله: "في سبيلي" السبيل: الطريق الذي فيه سهولة، وجمعه: ُسُبل. والمراد به هنا: الطريق الذي عبَّده المولى جلَّ، وعلا، وشرعه لعباده، وسهله، وأحكمه، لا طريق غيره مما يخالفه.
وقوله: "ابتغاء مرضاتي" الابتغاء: طلب الشيء، فتارة يكون لله، وتارة لغيره، فما كان لله سبحانه وتعالى أُثيبَ عليه صاحبُه. وقيل: وما كان لغيره جل، وعز؛ أُحبِط، وعوقب، أو لا ثواب فيه. والغنيمة: ما أصيب من أموال أهل الحرب.
والحديث عزاه المنذري إلى النسائي أيضًا، وروي مالك، والبخاريُّ، والنسائي: "تكفل الله لمن جاهد في سبيله لا يخرجه من بيته إلا الجهاد في سبيله، وتصديق بكلماته بأن يدخله الجنة، أو يردَّه إلى مسكنه، مع ما نال: من أجر، أوغنيمة" 2.
والمعنى: أن الله تقدَّست أسماؤه يخبرنا أن من خرج من عباده مجاهدًا في سبيله، قاصداً بذلك مرضاة الله عز وجل ورضاه، لا أمرًا آخر، يضمن له إن رجع وعاش أن يرجعه إلى وطنه بما؛ أي: بالذي أصاب من أجرأوغنيمة، وإن لم يرجع بأن قبضه الله تعالى وتوفاه شهيدًا في ميدان القتال، أو حتف أنفه، أن يغفر له جل ذكره ذنوبه -إن كانت له ذنوب- ويرحمه، ويدخله جنته؛ لجوده بنفسه، وبذله إياها في رضا الذي خلقه، وهذا غاية ما يرجوه العبد، ففيه الحَثُّ على الجهاد بأقسامه كلها، وأن تكون نيته خالصة لإعلاء كلمة الله جل ذكره، وانتشار الإسلام، وهدم الكفر وأهله. والله أعلم.
ـــــــ
1 رواه أحمد في المسند "2/ 117"ورقم "5977". والنسائي "6/ 18"من حديث ابن عمر رضي اله عنه، وإسناده صحيح.
2 رواه مالك هي الموطأ "2/ 433و444"،والبخاري رقم "3123". ومسلم رقم" 1876" من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(1/107)
79- "أيُّما مؤمن عطس ثلاث عطسات متواليات؛ إلا كان الإيمان ثابتًا
(1/107)
في قلبه" 1. رواه الديلميُّ عن أنس: أنه عليه الصلاة والسلام: قال: "أخبرني جبريل عليه السلام عن الله: أيُّما" إلى آخره.
ش - العطاس -بضم العين المهملة- معروف. ومتواليات: متتابعات، والمعنى: إذا عطس الإنسان ثلاث عطسات متتابعات، لا يفصل بينها فاصل، فحمد الله؛ فإن إيمانه يثبت في قلبه، ولا يتزلزل.
والحديث رواه الديلمي في مسند الفردوس، وهو مملوء من الأحاديث الضعيفة، والواهية.
وتقدم ذكر ترجمة الديلمي في نهاية شرح حديث رقم "52"فارجع إليه.
ـــــــ
1 ذكره المتقي الهندي في كنز العمال ج/9/ ورقم "2580" وقال: رواه الديلمي عن أنس رضي الله عنه. وإسناده ضعيف.
(1/108)
80- "إنِّي أنا الله لا إله إلا أنا، سبقت رحمتي غضبي، فمن شهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبدُه ورسوله؛ فله الجنة" 1. رواه الديلمي عن ابن عباس أنه قال: أول شيء خطَّه الله في الكتاب الأول.. إلى آخره.
ش - الرحمة في الأصل: رقة في القلب تقتضي الإحسان، والعطف، والحنان على المرحوم، فتحركه إلى قضاء حاجته، والتلطف به، وقد يستعمل تارة في الرِّقة المجردة، وتارة في الإحسان المجرد عن الرقة، نحو: رحم الله فلانًا. فإذا وصف به الباري تباركت أسماؤه، وتنزهت صفاته، فلا يراد به إلا الإحسان المجرد دون الرقة، وعلى هذا: فإن الرحمة من الله تعالى: إنعام وإفضال، ومن الآدميين: رقة، وتعطف، فالله سبحانه وتعالى ركز في طبائع الناس الرقة، وتفرد بالإحسان؛ ورحمة الله سبحانة في الدنيا عامة للمؤمنين والكافرين، وفي الآخرة مختصة بالمؤمنين، قال الله تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} [ألأعراف:156] والغضب: تكلمت عليه في شرح الحديث "27"فارجع إليه. والمعنى: أن الله سبحانه أخبر أنه الإله المنفرد بالألوهية، وقد سبقت رحمته، وإحاسنه، ولطفه غضبه وانتقامه ممن أساء لنفسه، وخالف مولاه، واتبع شيطانه، وهواه. وأن من شهد لله جلَّ ذكره بالوحدانية المطلقة، ولرسوله محمد صلى الله عليه وسلم بالرسالة والعبودية له الجنة، يدخله الله من أي باب شاء.
ـــــــ
1رواه الديلمي في مسند الفردوس رقم "1 "من حديث ابن عباس رضي الله عنهما وإسناده ضعيف.
(1/108)
وهذا مقيَّد بمن واظب على المأمورات، واجتنب المنهيات، كما يؤخذ من أدلة أخرى، لا تخفى على المطلع.
وسند الحديث -والله أعلم- كسابقه.
(1/109)
81- "الرَّحِم شُجنة مني، فمن وصلها؛ وصلته، ومن قطعها؛ قطعته" 1 رواه الطبراني، وأبو يعلى عن عامر بن ربيعة.
ش - الرحم: تقدم الكلام عليه، فلا حاجة إلى الإعادة. وقوله: "شجنة" بكسر أوله وضمه، وسكون ثانيه هي في الأصل: عروق الشجر المشتبكة، والمراد بها هنا: القرابة المشتبكة كاشتباك العروق. شبهه بذلك مجازًا، واتساعًا، وباقي الكلام على الحديث تقدم غير مرة، فارجع إليه.
ـــــــ
1 رواه أبو يعلى رقم"7198" والبزار رقم "1882".وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد "8/ 105"وقال: رواه الطبراني وأبو يعلى بنحوه، والبزار، وفيه عاصم بن عبيد الله ضعفه الجمهور. وقال العجلي: لا بأس به، نقول: وفي إسنادهما أيضاً شريك القاضي ضعيف، فالحديث ضعيف.
(1/109)
82- "الحسنة بعشر أمثالها، أو أزيد، والسيئة واحدة، أو أغفرها، ولو لقيني بقراب الأرض خطايا؛ لم يشرك بي شيئًا؛ لقيته بقرابها مغفرة" 1. رواه مسلم. وأبو نعيم عن أبي ذر.
ش- تقدَّم الكلام على بعض معانيه. وقُراب بضم القاف، وحُكِي كسرها: مصدر قارب، يقارب؛ أي: بما يقارب ملأها. والمعنى: أن الله تبارك وتعالى يخبرنا بأن الحسنة الواحدة إذا فعلها العبد لا تقل عن ثواب عشرة أمثالها إلى مالانهاية قدرًا وكمية. وإذا فعل السيئة الواحدة لا يزيد عليها عقابها عن حسنة مثلها، هذا إذا حاسبه الله عليها، وعاقبه. وإذا شاء عز وجل غفرها له، ولو أن العبد لقي الله تعالى ذكره بما يقارب ملء الأرض خطايا، وذنوبًا، ولم يشرك اله تعالى فيها شيء؛ لقيه مولاه وباريه بما يقرب ملأها مغفرة. وهو حث على الإنابة إليه تعالى، وعدم القنوط من رحمته،
ـــــــ
1 رواه بلفظ المؤلف أحمد في المسند"5/ 108". والحاكم في المستدرك "4 /241"من حديث أبي ذر رضي الله عنه، وإسناده حسن، ورواه مسلم رقم "2687"، وابن ماجه رقم "3821"من حديث أبي ذر رضي الله عنه بأطول منه.
(1/109)
الحسنة عشر وأزيد والسئية واحدة
...
83- "الحسنة عشر، وأزيد، والسيئة واحدة، وأمحوها، والصوم لي، وأنا أجزي به. الصوم جُنَّة من عذاب الله كمِجَن السلاح من السيف" 1. رواه البغوي عن رجل.
ش- الصوم معناه في اللغة: مطلق الإمساك، وفي الشرع: إمساك مخصوص، بأن يكف فمه، ودبره عن إيصال شيء إلى الداخل، وفرجه عن الوصال من طلوع الفجر إلى أذان المغرب. وقوله: "جنة" بضم الجيم، وتشديد النون المفتوحة: ما يجنك؛ أي: يسترك ويقيك. والمجن -بكسر الميم، وفتح الجيم، وتشديد النون-: الترس. والمعنى: أن الصوم لله جل ذكره؛ لأنه لا أحد يطلع عليه إلا الله؛ لأنه عمل مستور؛ لذلك أضافه إلى نفسه، ولما كان كذلك: فالله جل ذكره يجزي به بنفسه، وإن كانت باقي الأعمال كذلك إلا أن الله سبحانه يعتني به زيادة من غيره من الأعمال بدون أن يُطلع أحداً على ثوابه، فإن فيه تهذيب النفس، وتشبيهها بالملائكة، وهو وقاية للنفس، تحفظها من الوقوع في المكاره، كما أن الترس يتقي به المحارب سلاح خصمه، كالسيف وغيره، فانظر كيف يبين لنا الشارع المنافع التي تنقذنا من الآفات، وكيف نتقي المعاصي والمخالفات إذا هجمت علينا، وقائدها إبليس الرجيم، والنفس الأمارة بالسوء، والهوى المتبع. نسأل الله أن يلهمنا ما يدفع الشيطان وجنوده بكثرة التعبد، والانكباب على الأعمال الصالحة، والمشاريع الخيرية.
ـــــــ
1 ذكره المتقي الهندي في كنز العمال ج8 رقم"26623"وقال: رواه البغوي عن رجل، نقول: وإسناده ضعيف.
(1/110)
84- "الحسنة بعشر، والسيئة بواحدة، أو أغفرها، ولو لقيني بقراب الأرض خطيئة. ومن همَّ بحسنة فلم يعملها؛ كتبت له حسنة، ومن هم بسيئة فلم يعملها؛ لم يكتب عليه شيء، ومن تقرب مني شبرًا، تقربت منه ذراعًا، ومن تقرب مني ذراعًا؛ تقربت منه باعًا" 1. رواه الطبراني عن أبي ذر.
ـــــــ
1 رواه أحمد في المسند"5/ 153و 169". ومسلم رقم "2687" والطيالسي رقم "464"من حديث أبي ذر رضي الله عنه.
(1/110)
85- "الصوم جُنَّة من النار، ولي الصوم، وأنا أجزي به، يَدعُ شهوته، وطعامه، وشرابه من أجلي، لَخَلُوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك" 1. رواه البغوي، والطبراني، وعبدان عن بشير بن الخصاصية.
ـــــــ
1 رواه الطبراني في الكبير رقم"1235"من حديث بشير بن الخصاصية رضي الله عنه، وفي إسناده جري بن كليب، وثقه قتادة. وضعفه غيره. ويشهد له ما بعده.
(1/111)
86- "الصوم جنة يَسْتجنُّ بها عبدي من النار"1. رواه الطبراني في الكبير، والبيهقي عن أبي هريرة.
ـــــــ
1 رواه البيهقي في الشعب "3569". من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وإسناده حسن.
(1/111)
87- "الصيام جنة يستجن بها العبد من النار، والصوم لي، وأنا أجزي به، يدع طعامه، وشرابه من أجلي. والذي نفسي بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك!" 1. رواه الطبراني في الكبير عن بشير بن الخصاصية، وأبي هريرة.
ـــــــ
1رواه الطبراني في الكبير رقم"1235"وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد "3/ 180 "وقال: حديث أبي هريرة في الصحيح بنحو هذا ورواه الطبراني في الكبير. وجُري بن كليب: وثقه قتادة. وضعفه غيره. ويشهد له ما قبله.
(1/111)
88- "الصيام جنة يستجن بها العبد من النار، وهو لي، وأنا أجزي به" 1. رواه أحمد، والبيهقي عن جابر.
ـــــــ
1 رواه أحمد في المسند"3/ 396". والبيهقي في الشعب رقم "3570"وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد "3/ 180"وقال: رواه أحمد. وإسناده حسن.
(1/111)
89- "الصيام لي، وأنا أجزي به" 1 رواه البزار عن أبي هريرة.
ـــــــ
1 رواه البزار رقم "965"وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد "3/ 182"وقال: هو في الصحيح باختصار. رواه البزار. ورجاله موثقون. من حديث أبي هريرة رضي الله عنه نقول: وهو حديث صحيح.
(1/111)
90- "العِزُّ إزاري، والكبرياء ردائي، فمن نازعني منهما شيئًا؛ عذبته " . رواه مسلم عن أبي سعيد1. وسمويه عنه، وعن أبي هريرة معناه، والطبراني في الأوسط، والصغير عن علي2.
ـــــــ
1 رواه البخاري في الأدب المفرد رقم "552". ومسلم رقم "2620"في البر والصلة من حديث أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهم.
2 رواه الطبراني في الصغير رقم "331". والأوسط رقم "3380"وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد "1/ 99"وقال: رواه الطبراني في الأوسط والصغير، وفيه عبد الله بن الزبير والد أبي أحمد: ضعفه أبو زرعة، وغيره. أقول: وهو حديث صحيح بطرقه وشواهده.
(1/112)
91- "الكبرياء ردائي، فمن نازعني ردائي؛ قصمته " . رواه الحاكم عن أبي هريرة1.
ـــــــ
1رواه الحاكم في المستدرك "1/ 69"وصححه، ووافقه الذهبي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وهو حديث صحيح.
(1/112)
92- "الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري، فمن نازعني واحدًا منهما؛ قذفته في النار" 1. رواه أحمد، وأبو داود، وابن ماجه عن أبي هريرة.
ش- العز بكسر العين المهملة ضد الذل- والعزة: القوة، وهي حالة مانعة للإنسان من أن يُغلَب. والإزار: الثوب الذي يتزر به. والكبرياء: العظمة، والملك. والرداء:
ـــــــ
1 رواه أحمد في المسند "2/ 248و414". وأبو داود رقم "4174". وابن ماجه رقم" 4174" من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وهو حديث صحيح.
(1/112)
93- "المُتحابُّون في جلالي لهم منابر من نور، يغبُطهم النبيون، والشهداء" 1. رواه الترمذي عن معاذ.
ـــــــ
1 رواه الترمذي رقم "2390"وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وهو كما قال: من حديث معاذ رضي الله عنه.
(1/113)
94- "المتحابون لجلالي في ظِلِّ عرشي يوم لا ظل إلا ظلي" 1. رواه
ـــــــ
1 رواه أحمد في المسند "4/ 128". وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد" 10/ 279 "وقال: رواه أحمد، والطبراني وإسنادهما جيد. من حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه، وإسناده حسن.
(1/113)
95- "النظرة سهم من سهام إبليس، من تركها من مخافتي؛ أبدلتهُ إيمانًا يجد حلاوته في قلبه" 1. رواه الطبراني والحاكم عن ابن مسعود.
ش- النظرة - بفتح أوله، وسكون ثانيه من النظر للمرأة - والنظر: تقليب البصر والبصيرة لإدراك الشيء، ورؤيته، وقد يراد به التأمل، والفحص، وقد يراد به المعرفة الحاصلة بعد الفحص، وهو الروية. يقال: نظرت فلم تنظر؛ أي: لم تتأمل، ولم تترو، والسهم واحد النبل، وهو مركب النصل، و ما يرمى به، وما يضرب به من القداح ونحوه. والجمع: أسهم، وسهام. زاد الحافظ المنذري في "الترغيب والترهيب" في هذا الحديث "سهم مسموم...إلخ" وقال في آخره: رواه الطبراني، والحاكم من حديث حذيفة، وقال: صحيح الإسناد: وقال الحافظ: خرَّجاه من رواية عبد الرحمن بن إسحاق الواسطي، وهو واه. انتهى.
ـــــــ
1 رواه الطبراني في الكبير "10363".وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد "8/ 63 "وقال: رواه الطبراني، وفيه عبد الرحمن بن إسحاق الواسطي ضعيف أقول: وقال أحمد ليس شيء منكر الحديث، وقال أبو حاتم منكر الحديث. والحديث ضعيف. ورواه الحاكم في المستدرك "4/ 313"وصححه وقال الذهبي في التلخيص إسحاق بن عبد القرشي واه. وعبد الرحمن الواطسي ضعفوه. والقضاعي في مسند الشهاب رقم "293"من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. وفي إسناده عبد الرحمن بن إسحاق ضعيف.
(1/115)
والمعنى: أن الله تباركت أسماؤه، وتنزهت صفاته يخبرنا: أن النظرة. الواحدة من الإنسان إلى المرأة الأجنبية، أو الصبي الأمر للتلذذ والاستمتاع، و إلى أموال الناس شرها، وبغضًا، وحسدًا سهم مسموم من سهام إبليس اللعين، يسلط على العبد، فيصيب به قلب المؤمن، فيصليه نار المعصية، والمخالفة، ويبعد عن الله جل ذكره، فمن جاهد نفسه، وترك هذه النظرة ؛مخافة الله عز وجل؛ فإن الله سيبدله إيماناً، ويقيناً، يجد حلاوته في قلبه، فليختبر الإنسان بين مطاوعته نفسه، وإعطائها حظها، فيتعرض لسموم إبليس وجنوده، وبين أن يكف نفسه، وهواه، فلا ينظر إلى ما تقدم ذكره، فيستجلب رضا الرحمن، ويتعرض لثوابه، واللذة القلبية الإيمانية التي حلت في قلبه إعراضًا عن المعصية، وعدم التفاتٍ إلى ما ترغب فيه النفس.
وقد وردت أحاديث كثيرة في هذا الباب تحث الإنسان في أن يغض طرفه عن النظر إلى ما لا يحل، فمن ذلك: ما روي عن أبي أمامة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما من مسلم ينظر إلى محاسن امرأة ثم يغض بصره إلا أحدث الله له عبادة يجد حلاوتها في قلبه"1 رواه أحمد، والطبراني إلا أنه قال: "ينظر إلى امرأة أول رمقة" والبيهقي، وقال: إنما أراد إن صح -والله أعلم- أن يقع بصره عليها من غير قصد، فيصرف بصره عنها تورعًا، وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: " يا علي، إن لك كَنزًا في الجنة، وإنك ذو قرنيها، فلا تتبع النظرة النظرة، فإنما لك الأولى، وليست لك الآخرة"2 رواه الإمام أحمد. وقوله: "ذو قرنيها" أي: ذو قرني هذه الأمة، وذاك لأنه كان له شجتان في قرني رأسه، إحداهما من ابن ملجم لعنة الله، والأخرى من عمرو بن ود. والله أعلم.
ـــــــ
1 رواه أحمد في المسند"5/ 264". والطبراني في الكبير رقم" 7842". وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد "8/ 63"وقال: رواه أحمد، والطبراني، وفيه علي بن يزيد الألهاني متروك أقول: وفي إسناده أيضًا: عبيد الله بن زخر ضعيف، فالحديث ضعيف.
2 رواه الحاكم في المستدرك "3/ 123"وصححه، ووافقه الذهبي، وهو كما قالا من حديث علي رضي الله عنه، ورواه أحمد في المسند"5/ 353" وأبو داود رقم" 2149". والترمذي رقم "2778"من حديث بريدة رضي الله عنه وهو حديث حسن.
(1/116)
بسم الله الرحمن الرحيم إن من استسلم لقضائي
...
96- "بسم الله الرحمن الرحيم: إن من استشلم لقضائي، ورضي
(1/116)
بحكمي، وصبر على بلائي؛ بعثته يوم القيامة مع الصِّدِّيقين"1. رواه الديلمي عن ابن عباس رضي الله عنهما: "أنه قال: إن أول شيء كتبه الله في اللوح المحفوظ: بسم الله... إلى آخره".
ش- الاستسلام: الإذعان، والانقياد، والقضاء -كما قال الراغب-: فصل الأمر قولاً كان ذلك، أو فعلًا، وكل واحد منهما على وجهين: إلهي، وبشري، فمن القول الإلهي قوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء:23] أي: أمر بذلك. وقال تعالى: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرائيلَ فِي الْكِتَابِ} [الإسراء:4] فهذا قضاء بالإعلام والفصل في الحكم؛ أي: أعلمناهم، وأوحينا إليهم وحياً جزماً. وعلى هذا {وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلاءِ مَقْطُوعٌ} [الحجر: 66] ومن الفعل الإلهي قوله: {وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ} [غافر:20]وقوله: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ} [فصلت:12]إشارة إلى إيجاده الإبداعي، والفراغ منه، ومن القول البشري: نحو: قضى الحاكم بكذا؛ فإن حكم الحاكم يكون بالقول. ومن الفعل البشري: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ} [البقرة:200] و {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ}
[الحج:29].
وقال صاحب النهاية: أصل القضاء القطع، والفصل، يقال: قضى، يقضي، قضاء فهو قاض: أي: حكم، وفصل، وقضاء الشيء: إحكامه، وإمضاؤه، والفراغ منه، فيكون بمعنى الخلق. وقال الأزهري: القضاء في اللغة على وجوه، مرجعها إلى انقطاع الشيء، وتمامه، وكل ما أحكم عمله، أو أتم، أو أدين أو أوجب، أو أعلم، أو أنفذ، أو أمضي، فقد قضي، والحكم بالشيء: أن تقضي بأنه كذا، أو ليس بكذا، سواء ألزمت ذلك غيرك، أو لم تلزمه. والصبر والبلاء تقدم تعريفهما. والقيامة عبارة عن قيام الساعة المذكورة في قوله تعالى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ} [الروم:12] {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين:6] والقيامة: أصلها ما يكون من الإنسان من القيام دفعة واحدة، أدخل فيها الهاء تنبيهًا على وقوعها دفعة، وقوله: "الصديقين" جمع صِدِّيق، وهو من كثر منه الصدق، وقيل: بل يقال لمن لا يكذب قط، وقيل: بل لمن لا يتأتى منه الكذب لتعوده الصدق. وقيل: بل لمن صدق بقوله واعتقاده، وحقق صدقه بفعله.
ـــــــ
1 ذكره المتقي الهندي في كنز العمال ج/3/ ورقم"8659"وقال: رواه ابن النجار من حديث علي رضي الله عنه. وفي إسناده موسى بن طريف الأسدي، وهو زائغ ضعيف. والحديث ضعيف.
(1/117)
والمعنى: أنَّ من استسلم، وانقاد، وأذعن لقضاء الله جل ذكره، ورضي بحكمه، وصبر على ما ابتلاه الله به من البلايا، والمصائب، ولم يقل ما يغضب الباري تعالى، بل قابل ذلك بالحمد، والشكر؛ بعثه الله يوم القيامة يوم العرض على رب الأرباب يوم يعض الكافر على يديه ويقول: يا ليتني كنت ترابًا، {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ ، وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ ، وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ ، لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس: 34-37] يوم حشر الأشباح مع الأرواح، يوم المحاسبة والمجازاة؛ مع الصديقين الذين صدقوا الله ورسوله، وعملوا ما أمروا به حقًا، واتبعوا سنن المصطفى صلى الله عليه وسلم، وصدقوا بما جاء به الشرع المنيف دين الإسلام. اللهم اجعلنا منهم يا أرحم الراحمين!
(1/118)
تعجز يا بن آدم أن تصلى أول النهار أربع ركعات
...
97- "تعجز يابن آدم أن تصلي أول النهار أربع ركعاتٍ؛ أكفك آخر يومك" 1. رواه البغوي عن أبي مرة الطائفي.
ش-العَجْز-بفتح العين المهملة، وسكون الجيم- نقيض الحزم، يقال: عجز عن الأمر يعجز -بكسرالجيم- وعجز عجزًا فيهما. والعجز الضعف وصار في التعاريف اسمًا للقصور عن فعل الشيء وهو ضد القدرة. والمراد بالصلاة أول النهار صلاة النفل، وقيل: صلاة الفجر وسنته، وهو بعيد.
وفيه الحث على الصلاة النافلة قبل الظهر، فإنها تكفي الإنسان دفع ما يعرض له باقي اليوم مما يضر الإنسان ويؤذيه آخر يومه ذلك، وقد تقدم الحديث في أول الكتاب.
ـــــــ
1 رواه أحمد في المسند "5/ 287". وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد "2/ 236" وقال: رواه أحمد، ورجاله رجال الصحيح من حديث أبي مرة الطائفي رضي الله عنه. وهو حديث صحيح.
(1/118)
98- "توسَّعت على عبادي بثلاث خصال: بعثت الدابة على القمح والشعير، ولولا ذلك لكنزهما الناس، وتغيير الجسد بعد الموت، ولولا ذلك لما دفن حميم حميمه، وسلبت حزن الحزين، وإلا ما كان يسلو"1. رواه ابن عساكر عن زيد بن أرقم.
ـــــــ
1 رواه ابن عساكر "27/ 258" والديلمي رقم "8100". وابن عراق في تنزيه الشريعة "1/ 193"من حديث زيد بن أرقم رضي الله عنه. وإسناده ضعيف.
(1/118)
99- "ثلاث من حافظ عليهن؛ كان وليي حقًا، ومن ضيَّعهن؛ كان عدوي حقًا: الصلاة، والصوم، والغسل من الجنابة"1. رواه البيهقي عن الحسن مرسلًا، وابن النجار عن أنس.
ش- الولي: ضد العدو. وهو فعيل إما بمعنى مفعول، وهو من يتولى الله أمره، وحفظه على التوالي، فلا يكله إلى نفسه طرفة عين، قال الله تعالى في كتابه الحكيم: {إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ} [الأعراف:196] وإما بمعنى فاعل، وهو من يتولى عبادة الله، وطاعته، ويتوالى عليه من غيرتخلل بمعصية، وكلا الوصفين شرط في الولاية، كما ذكره القشيري2، والمراد به هنا: من حافظ على ثلاث: الصلاة، والصوم، والغسل من الجنابة. والعدو: ضد الولي. والصلاة، والصيام: تقدم الكلام عليهما قبل. والغسل -بضم الغين المعجمة-: إراقة الماء على
ـــــــ
1 رواه الطبراني في الأوسط رقم"8961". وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد "1/ 193"وقال: رواه الطبراني في الأوسط. وفيه عدي بن الفضل ضعيف! من حديث أنس رضي الله عنه. وإسناده ضعيف.
2 القشيري: هو الإمام الزاهد، القدوة، الأستاذ أبو القاسم عبد الكريم بن هوازن بن عبد الملك القشيري، الخراساني، النيسابوري، الشافعي، المفسر، صاحب الرسالة. ولد سة 375هـ قال القاضي ابن خلكان: كان أبو القاسم علاة في الفقه والتفسير، والحديث، والأصول، والأدب: توفي رحمه الله سنة 465هـ.
(1/120)
جميع البدن، ودلكه، وتعميمه مع النية، والجنابة: أمرمعنوي يقوم بالإنسان بسبب الجماع، أو نزول المني منه، وهي في الأصل: البعد؛ لأن الجنب -الذي يجب عليه الغسل بالجماع وخروج المني- نهي أن يقرب مواضع الصلاة ما لم يتطهر. وقوله "مرسلًا": يعني: أن الحديث روي مرسلًا. والمرسل: ما سقط منه الصحابي؛ لأن الحسن البصري رضي الله عنه تابعي، ولا يصح الاحتجاج بالحديث المرسل، ورواه ابن النجار عن أنس، فهو مرفوع من طريقه، والله أعلم، والمحافظة على هذه الأشياء: المواظبة، والاستمرار عليها.
والمعنى: أن الله جل ذكره يُخبرنا أن ثلاث أمورمن حافظ عليهن، أي: من أتى بهن، واستمر عليهن بدون تركهن مرة واحدة؛ كان ولي الله حقًا، وتولي الله أموره، وكان ناصرًا له، فيكلؤه بعنايته، ويوفقه للأعمال الصالحة، فلا يأتي إلا بخير؛ الأمر الأول: الصلاة؛ بأن يأتي بها مستجمعة الأركان، والشرائط، والمندوبات، في أول أوقاتها المحددة لها شرعًا -وهي أفضل الأعمال بعد الشهادتين، وأول ما يحاسب به العبد يوم القيامة- كما ورد الحديث بذلك عن أنس.
والثاني: الصوم؛ بأن يمسك عن الأكل، والشرب، والجماع من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، ويمسك نفسه عن الفحش، وما يستقبح من الأعمال، والألفاظ المؤذية بحيث إذا آذاه أحد، أو شتمه، أو سابه، أو قاتله؛ فلا يرد عليه، بل يقول له: إني صائم، إني صائم، كما ورد في الحديث القدسي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قال الله عز وجل: كل عمل ابن آدم له إلا الصيام، فإنه لي، وأنا أجزي به، والصيام جنة، فإذا كان يوم صوم أحدكم، فلا يرفث، ولا يصخب، فإن سابه أحد، أو قاتله؛ فليقل: إني صائم، إني صائم" 1 رواه البخاري، واللفظ له، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه.
الثالث: الغسل من الجنابة؛ بأن يصب الماء على بدنه، ويعم جميع أعضائه إذا جامع امرأته، أو احتلم في منامه، أو إذا نظر فأمنى مع المحافظة على ذلك، وينوي بقلبه ذلك.
فمن ترك أحد هذه الثلاثة عامدًا متعمدًا؛ فقد برئت منه ذمة الإسلام، وخرج من
ـــــــ
1 رواه البخاري رقم "1904" ومسلم رقم "1151" والنسائي "4/ 163و164" من حديث أبي هريرة.
(1/121)
ربقة الإيمان، وأصبح كافراً؛ بحيث إذا مات لا يُصلى عليه، ولا يُدفن في قبور المسلمين، وأرى أن ناساً كثيرين ممن ينتسب إلى العلم في عصرنا الحاضر يتهاونون بإحدى هذه الأمور، ورأيت أحد الناس ممن لنا به صلة واطلاع يترك الصلاة عامداً متعمداً، والصوم في شهر رمضان، ويحمل زوجته على الفطر فتارة تأبى عليه ذلك، وتقوى، وتغلبه، فلا تطاوعه، وتظل صائمة، وتارة يسيطر عليها، ويغلبها فتفطره ولا يغتسل من الجنابة بشهادة زوجته بذلك، فإنِّا لله، وإنِّا إليه راجعون.
فاللهم اهد قومي فإنهم ارتكبوا كل معصية من المعاصي التي كانت الأمم تؤاخذ بواحدة منها، وتؤخذ أخذ عزيز مقتدر، فما أرحمك بأمة محمد صلى الله عليه وسلم! وعدم أخذك إياهم بجريمتهم، كما كنت تفعل بالأمم المتقدمة إكراماً لرسولك ونبيك!
(1/122)
100- "ثلاثة أنا خصْمهم يوم القيامة: رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حراً، ثم أكل ثمنة، ورجل استأجر حرًا فاستوفى منه، ولم يعطه أجره" 1. رواه أحمد. والبخاري عن أبي هريرة.
ش - الخصم: مصدر خصمته -أي: نازعته- خصمًا، يقال: خاصمته، وخصمته، مخاصمة، وخصامًا، ثم سمي المخاصم خصمًا، واستعمل للواحد، والجمع، وربما ثني، وقال الهروي: الواحد بكسر أوله، وقال الفراء: الأول قول يتعلق كل واحد بخصم الآخر؛ أي: جانبه، وأن يجذب كل واحد خصم الجوالق من جانب. والغدر: الإخلال بالشيء، وتركه، والغدر يقال لترك العهد ونقضه، ومنه قيل: فلان غادر، جمعه: غدرة، وغدَّار: كثير الغدر. والحر خلاف العبد. وقال الخطابي: اعتباد الحر يقع بأمرين: أن يعتقه، ثم يكتم ذلك، أو يجحد، والثاني: أن يستخدمه كرهاً بعد العتق. والأول أشدهما. وقال الحافظ ابن حجر: وحديث الباب - أعني: هذا، أشد؛ لأن فيه مع كتم العتق، أو جحده العمل بمقتضى ذلك من البيع، وأكل الثمن، فمن ثم كان الوعيد عليه أشد.
والمعنى: أن الله سبحانه يخبرنا أن ثلاثة من العباد يكون خصمهم يوم القيامة بسبب ما ارتكبوه من الآثام الفظيعة، والظلم المتناهي؛ الأول: رجل، وعبد من عباده أعطى
ـــــــ
1 رواه أحمد في المسند "2/ 358". والبخاري رقم "2227". وابن ماجه رقم "2442"من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(1/122)
به ثم غدر؛ أي: أعطى يمينه به؛ أي: عاهد عهدًا، وحلف بالله على ذلك، ثم نقضه. ولا شك أن الغدر من أكبر الصفات المذمومة، والمفاسد العظيمة، وليس من أخلاق المؤمن الغدر، بل الوفاء بالعهد، وإمضاؤه؛ لأن في نقضه إخلالًا بنظام الحياة العامة، والقوانين الدستورية، ويفسد على المرء تدبيره لمصلحته نفسه، وغيره، وإضرارًا بمن عاهده، ثم نقض عهده، فلذلك جاء في القرآن الحكيم الحث على إمضاء العهود، والوفاء بها، والتزامها، وعدم نقضها أيا كانت، ولو مع قوم غير مسلمين؛ بشرط أن لا يُخلُّوا بشروطها بالإتيان بما ينافيها مما يضر بصالح المعاهد، ويضعفه، ويحل عزائمه، ويقوى أعداءه عليه. قال تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} [النحل:91] وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ}
[المائدة:1] وقال تعالى: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً} [الإسراء:34] وروي البخاري، ومسلم عن عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الغادر يرفع له لواء يوم القيامة يقال: هذه غدرة فلان بن فلان" 1 وما أصعب هذا التشهير بالغادر على رؤوس الأشهاد يوم القيامة! حيث العالم كله مجتمع، ويرون حالته، وما هو عليه من التشنيع، والخزي، والتوبيخ، والتعذيب. ولا ريب أن هذه الحالة ،هي أفظع حالة يراها الخلق؛ لأن الغدر أكبر جريمة ترتكب، وصاحبه مهان، ذليل، حقير، تستنفر منه الطباع الحساسة، وتستقبحه العقول السليمة الراقية.
وأصبح في عصرنا الحاضر الغدر منتشرًا، فلا تخلوا عائلة منه، فإن قيِّم العائلة يعطي زوجته، وأولاده، أو أخته، أو أحد أقاربه العهود، والمواثيق، والأيمان الغليظة أنه سيعطي فلانًا كذا، وفلانة كذا، ويكتب لفلان كذا، ويحيى فلانا كذا، ثم يصبح ثاني الأيام، أو بعد أيام، أو أشهر، وينقض العهد، ويعبث بالأيمان، والمواثيق، ولا يعبأ بما هدده الشارع به، وأمره بالنزاهة، والوفاء به، وكذا تجد الغدر في القرى، والأرياف، سواء كانت قريبة إلى المدن العامرة منتشراً، وكذلك في المدن الكبيرة، والصغيرة، وكلما ارتقت أهل المدينة في المدنية، والترفه، والتأنق الحديث كلما ازداد الغدر، وتنوع، واختير له أساليب جديدة مموهة، وآلات اصطناعية مشوهة، حتى صار
ـــــــ
1 رواه أحمد في المسند "2/ 16 و29و48". والبخاري رقم "3188"في الجزية والموادعة و "6177"في الأدب. ومسلم رقم "1735" والترمذي رقم "1581"وابن حبان رقم "7343"من حديث ابن عمر رضي الله عنه.
(1/123)
عادةً بألفها الكبراء، والعظماء، والقواد، والرؤساء، والملوك، والوزراء، فأمسى الإنسان ولا يثق بشخص مطلقًا، وضاعت الذمم، والشخصيات، وأصبح الوفاء بالعهود والأيمان في احتضار، وقريباً سيُشيَّع.
اللهم ارحم عبادك، وأرشدهم إلى الأخلاق المرضية، وحببهم في الأعمال الصالحة، والأفعال المجيدة، وألهمهم الرأفة، والرحمة، والشفقة بإخوانهم ؛ليأمَنوا شرهم!
واعلم أن سبب الحرب التي قامت الآن في شهر رجب سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة وألف الهجرية نقض العهود الملتزمة، والعبث بالقوانين الوضعية الدولية، وغصب بلاد الضعفاء، والاستيلاء على أموالهم، واستعبادهم، والقضاء على استقلالهم، وما أخذ بلاد الحبشة وألبانيا وبولاندة ببعيد، فأسأل الله حسن العاقبة!
الثاني: رجل من عباده باع حرًا، وأكل ثمنه بأن اعتبده محررًا، إما أن يعتقه، ثم يكتم ذلك، أو يجحده، وإما أن يستخدمه كرهًا بعد العتق، وبيعه. قال ابن حزم: إن الحر كان يُباع في الدَّين حتى نزلت: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة:280]واستقر الإجماع على المنع، وخصَّ الأكل بالذكر؛ لأنه أعظم مقصود، هذا الزجر العظيم لمن استعبد رجلًا واحدًا فما بالك فيمن استعبد ممالك، وعبادًا، واغتصب حقوقهم واستولى على أموالهم وتجارتهم، وقضى على استقلالهم؟!
الثالث: رجل استأجر أجيرًا، وعاملًا بأجر مخصوص، وعمل كذلك، فاستوفى منه عمله، ولم يعطه أجره، وهذا يصدق بأن استخدمه، وأعطاه أقل مما يستحق، أو منعه أجره، ولم يعطه شيئًا منه، وهذا أيضًا من باب التعبد، والاستخدام بغير أجرة،ولأنه استوفى منفعته بغير عوض، فهو ظالم له، وقد ورد الترغيب بإعطاء الأجير أجره قبل أن يجف عرقه. رواه ابن ماجه، والطبراني وغيرهما.
فإن قيل: هؤلاء كلهم ظلمة، والله سبحانه وتعالى خصم لجميع الظالمين، فما وجه التصريح بهذا الحديث؛ بأن الله خصْمٌ لهم؟ والجواب: والله عز، وجل وإن كان كذلك إلا أنه أراد التشديد على هؤلاء بالتصريح لفظاعة أمر ذلك في هذه الأشياء، واستقباحه. والله أعلم.
(1/124)
101- "ثنتان لم يكن لك واحدة منهما: جعلت لك نصيبًا حين أخذت
(1/124)
بكظمك؛ لأُطَهرك، وأزكيك. وصلاة عبادي عليك بعد انقضاء أجلك" 1. رواه عبد بن حميد عن ابن عمر.
ش - الكظم -بالتحريك- هو مخرج النفس من الخلق وانقطاعه، والمعنى: أن الله سبحانه وتعالى منح عباده خصلتين ليس لأحد خلقه تأثير فيهما. إحداهما: جعل الله للعبد نصيبًا من ماله حين تخرج روحه، وينقطع نفسه لتطهير العبد به، وانتفاعه بعد موته، وتزكيته نفسه، والثانية: جعل صلاة العباد على الميت بعد انقضاء أجله زكاة له، وطهرًا أيضًا ينتفع بها يوم الحساب والجزاء. فانظر ما أكرم المولى وأرافه بعباده! وما أسوأ العبد المرتكب الذنوب! وما أهمله لأوامر ربه وخالقه! أليس الأجدر به أن يكون ملتزمًا لأحكام شرعه،وسنن نبيه صلى الله عليه وسلم، فلا يأتي إلا ما شُرع، وأُبيح له، ويتجنب المكروه والمبغوض، والممقوت لباريه ومولاه؟ اللهم اهدنا سبيل الصواب ووفقنا لما تحبه وترضاه يا أرحم الراحمين!
ـــــــ
1 رواه عبد بن حميد رقم"771"في المنتخب وابن ماجه رقم "2710"من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، وإسناده ضعيف. ورواه الديلمي في مسند الفردوس رقم "8101"من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وإسناده صحيح.
(1/125)
102- " حقَّت محبتي للمتحابين في، وحقت محبتي للمتواصلين في، وحقت محبتي للمتناصحين في، وحقت محبتي للمتزاورين في، وحقت محبتي للمتباذلين في. المتحابون في على منابر من نور، يغبطهم بمكانهم النبيون، والصديقون، والشهداء" 1. رواه أحمد، وابن حبان، والحاكم، والقضاعي عن عبادة بن الصامت.
ش- حقت: وجبت. والمحبة: إرادة ما تراه، أو تظنه خيرًا، أو: تعظيم في القلب يمنع الانقياد لغير محبوبه. وقد عرفها القوم وأهل التحقيق وعبَّروا عنها بعبارات كثيرة كل واحد نطق بحسب ذوقه، وانفسح بمقدار شوقه، وهي من الأمور الوجدانية الذوقية؛ التي إنما تعلم بآثارها، وعلاماتها، فكل من أدرك بعض علاماتها عبَّر بحسب ما أدركه، وهي وراء ذلك كله.
ـــــــ
1 رواه أحمد في المسند"5/ 239"، وابن حبان رقم "577". والترمذي رقم"2390 "في الزهد، من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه، وإسناده صحيح.
(1/125)
والمتحابون: تقدَّم الكلام عليه، والمتواصلون: جمع متواصل، وهو من كان بينك وبينه مواصلة، ووصلة، والوصل: ضد الهجران، يقال: وصلت الشيء بغيره، وصلاً، فاتصل به، ووصلته، وصلًا، وصلة: ضد هجرته. والمتناصحون: جمع متناصح، يقال: انتصح فلان: قَبِل النصيحة، وانتصحني فإني لك ناصح، وتنصح تشبه بالتنصح واستنصحه: عدَّه نصيحًا. والنصيحة: كلمة يُعبر بها عن جملة، هي إرادة الخير للمنصوح له، وليس يمكن أن يعبر هذا المعنى بكلمة واحدة تجمع معناه غيرها، وأصل النصح في اللغة: الخلوص، يقال: نصحته، ونصحت له. والمتزاورون: جمع متزاور. وتزوار القوم: زار بعضهم بعضًا. واستزاره: سأله أن يزوره. والمتباذلون: جمع متباذل، بذل الشيء: أعطاه، وجاد به عن طيب نفس، أي: الذين يجود أحدهم بمال، أو غيره لأخيه في الله، والآخر كذلك. وقوله: "يغبطهم" تقدم الكلام عليه. وقوله: "النبيون، والصديقون، والشهداء" قد ذكر قريباً، فارجع إليه، فلا حاجة إلى الإعادة، وتراجم رواة الحديث تقدم الكلام عليها كل راو في محله. والله أعلم.
والمعنى: أن الله تبارك اسمه، وتعاظمت صفاته أخبرنا: أن محبته قد وجبت لأنواع خمسة؛ الأول: المتحابون في الله عز وجل، يعني: أن أحدهم أحب الآخر لوجه الله جلَّ، وعلا، لا لعلة دنيوية، ولا منفعة عظيمة أخروية، والمحبة تنقسم بحسب ثمرتها وآثارها إلى قسمين: مشتركة، وخاصة.
فالمشتركة ثلاثة أنواع؛ أحدهما: محبة طبيعية مشتركة، كمحبة الجائع للطعام، والظمآن للماء، وغير ذلك. وهذه لا تستلزم التعظيم. والنوع الثاني: محبة رحمة وإشفاق، كمحبة الوالد لولده الطفل، ونحوها، وهذه أيضًا لا تستلزم التعظيم. والنوع الثالث: محبة أُنْسٍ، وإلفٍ، وهي محبة المشتركين في صناعة، أو علم، أو مرافقة، أو تجارة، أو سفر بعضهم بعضًا، وكمحبة الإخوة بعضهم بعضًا، فهذه الأنواع الثلاثة هي المحبة التي تصلح للخلق بعضهم من بعض، ووجودها فيهم لا يكون شركًا في محبة الله سبحانه وتعالى، ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب الحلواء، والعسل، وكان أحب الشراب إليه الحلو البارد، وكان أحب اللحم إليه الذراع. وكان يحب نساءه، وكان يحب أصحابه، وأحبهم إليه الصديق.
وأما المحبة الخاصة :التي لا تصلح إلا لله وحده، ومتى أحب العبد بها غيره كان شركًا لا يغفره الله: فهي محبة العبودية المستلزمة للذل، والخضوع، والتعظيم، وكمال الطاعة، وإيثاره على غيره، فهذه المحبة لا يجوز تعلقها بغير الله أصلًا، وهي التي سوَّى المشركون بين آلهتهم وبين الله فيها، كما قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ
(1/126)
دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة:165].
الثاني: المتواصلون في الله عزَّ وجل، أي: وصل بعضهم بعضًا، ولم ينقطع عن أخيه في الله، ولم يهجره، وهذا يصدق بأن أحسن إليه، ومنحه صلته، وبره، واستمر على مواصلته قاصدًا بذلك وجه الله سبحانه وتعالى. أو: وصله بمودته، ومحبته، والتقرب إليه بمحاسن كلامه، وطوائف أحاديثه، واستمر على ذلك، ولم يهجره، ويقطعه، ويقصد في ذلك كله وجه الله، ورضاه.
الثالث: المتناصحون في الله جلَّ جلاله؛ بأن ينصح أحدهم الآخر في شخصه، وماله، وولده، وأهله، وأقاربه، ويتحرى ذلك بفعل، أو قول فيه صلاح صاحبه والنصيحة من أهم أمور الدين، وأعظمه، وبها يُقوَّم اعوجاج الخلق، وتصلح حالهم؛ لأن المؤمن للمؤمن كالمرآة، يرى عيوبه، ويكشفها، فعليه أن ينصحه، ويبذل جهده في نصيحته وإن كانت ثقيلة على المنصوح أحيانًا. قال الله تعالى: {لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ} [الأعراف:79] وهي واجبة على كل مسلم لكل مسلم. قال النبي صلى الله عليه وسلم: "الدين النصيحة، الدين النصيحة، الدين النصيحة. قلنا: لمن يا رسول الله؟! قال: لله عز وجل، ولكتابه، ولرسوله صلى الله عليه وسلم، ولأئمة المسلمين، وعامتهم" 1 رواه مسلم. وروري البخاري ومسلم عن جرير بن عبد الله قال: "بايعت النبي صلى الله عليه وسلم على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والنصح لكل مسلم" 2 وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "حق المؤمن على المؤمن ست، فذكر منها: وإذا استنصحك فانصح له" 3 وأفضل النصيحة ما كانت سرًا، وقُصد بها وجه الله.
النواع الرابع: المتزاورون في الله عز، وجل؛ أي: الذين يزورون الناس، والناس يزورونهم في بيوتهم، أو في مجتمعاتهم المشروعة، أو مكان عملهم سواء كان قريبًا،
ـــــــ
1 رواه أحمد في المسند "4/ 102"، ومسلم رقم "55"في الإيمان، والنسائي "7/ "156 والبغوي رقم "3514"، وابن حبان رقم "4575"من حديث تميم الداري رضي الله عنه.
2 رواه أحمد في المسند "4/ 356". والبخاري رقم "57و524" ومسلم رقم "56 "والترمذي رقم "1925". وابن حبان رقم "4545"من حديث جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه.
3 رواه مسلم رقم "2163"من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(1/127)
أو بعيدًا، ذا رحم، أو صاحب، وصديق، ولا يقصدون بذلك إلا التقرُّب إلى الله جل ذكره، والزلفى إليه.
وقد وردت أحاديث كثيرة في فضل الزيارة، وما للزائر من الخير العظيم: روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنَّ رجلًا زار أخًا له في قرية فأرصد الله تعالى على مدرجته ملكًا، فلما أتى عليه قال: أين تريد؟ قال: أريد أخًا لي في هذه القرية. قال: هل لك عليه من نعمة تربُّها؟ قال: لا، غير أني أحببته في الله. قال: فإني رسول الله إليك؛ بأن الله قد أحبك كما أحببته فيه" 1 والمدرجة بفتح الميم والراء: الطريق، وأرصده: أعد له ملكًا يقعد له على الطريق يترقبه. وقوله: "تربها" أي: تقوم بها، وتسعى في صلاحها.
وروي البزار وأبو يعلى بإسناد جيد عن أنس رضي الله عنه؛ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما من عبد أتي أخاه يزوره في الله إلا ناداه من السماء: أن طِبت، وطابت لك الجنة، وإلا قال الله في ملكوت عرشه: عبدي زار فيَّ وعليَّ قراه، فلم يرضَ له بثواب دون الجنة" 2 فهؤلاء وجبت لهم محبة الله عز وجل، والمحب مع من أحب يوم القيامة. نسأل الله أن يجعلنا منهم، وأن يهدينا طريقهم!
النوع الخامس: المتباذلون في الله؛ أي: من بذل ماله، وجاهه، وما يقدر عليه، وأعطاه، وسمح به لأخيه المؤمن المستحق عن طيب نفس ابتغاء مرضاة الله، ولم يقصد بذلك سوى وجه الله تبارك وتعالى. قال الباجي: أي: الذين يبذلون أنفسهم في مرضاته من الإنفاق على جهاده عدوه، وغير ذلك مما أمروا به. والله أعلم.
والحديث رواه أيضًا مالك في الموطأ مطولًا.
ـــــــ
1 رواه أحمد في المسند "2/ 292و408"، والبخاري في الأدب المفرد رقم"530"، ومسلم رقم"2567"، والبغوي في شرح السنة رقم "3465"وابن حبان رقم "572" من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
2 رواه أبو يعلى رقم "4140". والبزار رقم "1918". وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد "8/ 173"وقال: رواه البزار وأبو يعلى ورجال أبي يعلى رجال الصحيح غير ميمون بن عجلون وهو ثقة. من حديث أنس رضي الله عنه ويشهد له ما قبله.
(1/128)
103 "حقَّت محبتي للمتحابين في، أظلهم في ظل العرش يوم القيامة
(1/128)
يوم لا ظلَّ إلا ظلي" 1. رواه ابن أبي الدنيا عن عبادة بن الصامت.
ـــــــ
1 رواه ابن أبي الدنيا في كتاب الإخوان من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه وهو حديث صحيح، ويشهد له ما بعده.
(1/129)
104- "حقَّت محبتي للذين يتصادقون من أجلي، وحقت محبتي للذين يتناصرون من أجلي، ولا من مؤمن ولا مؤمنة يقدم لله ثلاثة أولاد من صلبه لم يبلغوا الحِنث إلا أدخله الله الجنة بفضل رحمته إياهم" 1. رواه الطبراني في الأوسط، والصغير عن عمرو بن عنبسة.
ش- الحديث الأول: تقدَّم الكلام عليه غير مرة، فلا حاجة للتكرار، وقوله في الحديث الثاني: "حقت محبتي للذين يتصادقون من أجلي" فحقت: وجبت. المحبة: تقدم الكلام عليها قريبًا، والذين تصادقوا، أي: صادق بعضهم بعضًا لله، لا لأمر دنيوي، ولا لغرض أخروي. والصدق ضد الكذب. يقال: صدق في الحديث، يصدق -بالضم- صدقًا. وصدقه الحديث، وتصادقا في الحديث، وفي المودة. والمصدِّق: الذي يصدقك في حديثك. والصداقة، والمصادقة: المخالَّة. والمتناصرون: الذين ينصر بعضهم بعضًا، ويتناصروا يقال: تناصرالقوم: نصر بعضهم بعضًا، واستنصره على عدوه: سأله أن ينصره عليه. والنصر: العون؛ والصُّلب: الظهر. والحنث: الإثم، والذنب.
والمعنى: أن الله جل ثناؤه أخبر: أن محبته وجبت للمتحابين فيه، ويظلهم، ويقيهم من هول يوم القيامة، وشدة حره، وعذابه في ظل العرش يوم لا ظل يقي الناس من شدة ذلك اليوم إلا ظله، وقد تقدم الكلام على المحبة تفصيلًا غير مرة، فارجع إليه. ووجبت محبة الله أيضاً لمن تصادق مع أخيه لله، ومن أجله، جل جلاله، ووجبت محبته تعالى للمتناصرين من أجله. وإن المؤمن، أو المؤمنة إذا قدم لله ثلاثة أولاد من صلبه، أي: أولاد حقيقة لهم، لا أنهم ربوهم صغارًا، وجعلوهم أبناء لهم حسب التربية. وهل يدخل في ذلك أولاد الأولاد؟ فيه خلاف. ويخرج بهذا القيد أولاد
ـــــــ
1 رواه أحمد في المسند "4/ 386"،ورواه الطبراني في الأوسط رقم"9080". والصغير رقم "1097". وذكره الهيمثي في مجمع الزوائد"10/ 279"وقال: رواه الطبراني في الثلاثة وأحمد بنحوه ورجاله أحمد ثقات. نقول: وهو حديث حسن بطرقه وشواهده.
(1/129)
البنات قولًا واحدًا. وهؤلاء الأولاد صغار، لم يبلغوا مبلغ الرجال، ويجري عليهم القلم، فيكتب عليهم الحنث، والإثم، والذنب، إلا أدخلهم الله جل ذكره الجنة ؛بفضل رحمته إياهم، لا بفضل صبرهم وشكرهم؛ لأن الذي وفقهم للصبر، والشكر هو الله سبحانه وتعالى، والله عدل، ذو رحمة واسعة، وكرم متناه. وقد ورد في حديث آخر: أن من فقد له ولدان أيضًا له الجنة. وروي البخاري في صحيحه عن أبي سعيد رضي الله عنه: "إن النساء قلن للنبي صلى الله عليه وسلم: اجعل لنا يوماً، فوعظهن، فقال: أيُّما امرأة مات لها ثلاثة من الولد؛ كانوا لها حجابًا من النار. قالت امرأة: واثنان؟ قال: واثنان" 1 وفي رواية للنسائي: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من احتسب ثلاثة من صلبه دخل الجنة. فقامت امرأة، فقالت: أواثنان؟ فقال: أواثنان. قالت المرأة: يا ليتني قلت: واحدًا" 2 والله أعلم.
ـــــــ
1 رواه أحمد في المسند"3/ 34". والبخاري رقم "100"في العلم. ومسلم رقم" "2634. والبغوي رقم "1546"من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
2 رواه النسائي في السنن رقم"1872"من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. وهو حديث صحيح.
(1/130)
105- "حسنة ابن آدم عشر، وأزيده، والسيئة واحدة وأغفرها" 1. رواه أبو نعيم عن أبي ذر.
ـــــــ
1رواه أبو نعيم في الحلية "7/ 148"من حديث أبي ذر رضي الله عنه. وإسناده حسن.
(1/130)
خلفت الخير والشر
...
106- "خلقت الخير والشر، فطوبي لمن خلقته للخير، وأجريت الخيرعلى يديه، وويل لمن خلقته للشر، وأجريت الشر على يديه"1. رواه ابن شاهين عن أبي أمامة.
ـــــــ
1ذكره الغزالي في الإحياء"4/ 345"وقال الحافظ العراقي في تخريجه: أخرجه ابن شاهين في شرح السنة من حديث أبي أمامة رضي الله عنه، وإسناده ضعيف.
(1/130)
107- "خلقت بضع عشرة وثلاثمئة خُلُق، من جاء بخلق منها مع شهادة أن لا إله إلا الله؛ دخل الجنة"1. روه الطبراني في الأوسط عن أنس.
ـــــــ
1 رواه الطبراني في الأوسط رقم "1097". وفي إسناده أحمد بن عبد الرحمن. ابن يزيد: قال أبو عروبة ليس بمؤتمن على دينه. وأبو الدهماء البصري قال ابن حبان: كان ممن يروي المقلوبات. وأبو ظلال القسملي ضعيف. من حديث أنس رضي الله عنه نقول: وإسناده ضعيف جدًا.
(1/130)
108- "سبقت رحمتي غضبي" 1. رواه مسلم عن أبي هريرة.
ش - تقدَّم الكلام على الحديث الأول غير مرة، وقوله: "أوأزيد" على صيغة المتكلم، ويصح أن يكون على صيغة التفضيل إلا أن قوله بعد "وأغفرها" يبعده. والحديث الثاني: ذكرنا شرحه، فارجع إليه، والحديث الثالث: تقدم ذكرمثله، وتكلمت على الخلق، وما جاء في مدحه، والحديث الرابع: تقدم الكلام على مثله، فارجع إليه، وقوله في الحديث الثالث: "بضع عشرة" البضع -بكسر الباء الموحدة، وقيل: بفتحها، وسكون الضاد المعجمة-: ما بين الثلاث إلى التسع.
وروى الحكيم الترمذي في كتابه "سلوة العارفين وبستان الموحدين" عن عبد الله بن راشد قال: حدثني مولاي عن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن لله مئة وسبعة عشر خلقًا، من أتى بواحدة منهن دخل الجنة"2. وعن مروان يقول: سمعت عثمان بن عفان يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن لله تعالى مئة وسبعة عشر خلقًا، من جاء بخلق منها دخل الجنة بغير حساب" فقلنا: بينها لنا! قال: كظم الغيظ، والعفو عند المقدرة، والصلة عند القطيعة، والحلم عند السَّفه، والوقار عند الطيش، ووفاء الحق عند الجحود. والإطعام عند الجوع، والعطية عند المنع، والإصلاح عند الفساد، والتجاوز عن المسيء، والعطف على الظالم، وقبول المعذرة، والإنابة للحق، والتجافي عن دار الغرور، وترك التمادي في الباطل. ألا وليس في أخلاق الله شيء أحب إليه من الجود، والكرم، فإذا أراد الله بعبد خيرًا وفقه لأخلاقه، فتخلق بها، وإذا أراد الله بعبد شرًا خلَّى بينه وبين أخلاق إبليس، وإنَّ من أخلاق إبليس أن يغضب فلا يرضى، وأن يسمع فيحقد، وشراهية النفس، وهنتها، وأخذ ما ليس لها، ونزفها إلى اللهو والباطل.
ـــــــ
1 رواه مسلم رقم "2751"من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
2 رواه البزار رقم "36"وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد "1/ 36" وقال: رواه أبو يعلى في المسند الكبير، وفيه عبد الله بن راشد، وهو ضعيف. من حديث عثمان رضي الله عنه نقول: وإسناده ضعيف.
(1/131)
قال أبو عبد الله: فالأخلاق موضوعة في الطبع ومعقلها في الصدر، والأخلاق منها ما هو جبلِّي تفضل الله بها على عبيده على قدرمنازلهم عنده، فمنح أنبياءه منها، فمنهم من أعطاه منها خمسًا، ومنهم من أعطاه منها عشرًا، أوعشرين، وأكثر من ذلك، وأقل، فمن زاده منها؛ ظهر حسن معاملته ربه، وحسن معاملته خَلْقه على قدر تلك الأخلاق، ومن نقصه منها، ظهرعليه ذلك؛ ولهذا ورد في الحديث الذي رواه مالك في الموطأ: "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق" فأخبرنا بقوله هذا: أن الرسل قد مضت، ولم تتمم هذه الأخلاق، كأنه بقيت عليهم من هذا العدد بقية، فأمرأن يتممها، فأعلمنا في قوله هذا: أن تلك الأخلاق التي كانت في الرسل فيه، ثم هو مبعوث لإتمام ما بقى منها ليقدم على الله جل ذكره بجميع أخلاقه التي ذكرها، فلا يجوز لنا أن نتوهم عليه أنه بعث لأمر، فقدم على ربه وهو غيرمتمم له. ومنها ما يكون بطرق الكسب والتعود، وتكلف النفس، وبعثها على ذلك حتى تعتاد نفسه ذلك، ومن كان هذا حاله كان تخلفه طهارة لصدره وقلبه من دنس الخلق السيئ الذي هو ضد هذا الخلق، فإذا تطهر من سيء الأخلاق لتخلقه بمحاسن الأخلاق بجهد، وكدٍّ شكر الله له ذلك، وأدخله الجنة برحمته وعفوه.
(1/132)
109- "شتمني ابن آدم، وما ينبغي له أن يشتُمَني! وكذبني، وما ينبغي له أن يكذبني! أما شتمه إياي: فقوله: إن لي ولداً، وأنا الله الواحد الصمد، لم ألد، ولم أولد، ولم يكن لي كفوًا أحد. وأما تكذيبه إياي: فقوله: ليس يعيدني كما بدأني، وليس أول الخلق بأهون علي من إعادته "1. رواه أحمد، والنسائي، والبخاري عن أبي هريرة.
ش- الشتم: السبُّ، وهو الوصف بما يقتضي النقص، والاسم: الشتيمة. والتشاتم: التسابُّ. والمشاتمة: المسابة. والصمد: السيد الذي يصمد إليه في الأمر. وقيل: الصمد؛ الذي ليس بأجوف، وما ليس بأجوف شيئان؛ أحدهما: لكونه أدون من الإنسان كالجمادات، والثاني: أعلى منه، وهو الباري، والملائكة، وإذا أردت تفسيرًا واسعًا في ذلك فعليك بتفسير سورة الإخلاص للإمام ابن تيمية، فإنك تجد ما يسرك. والإعادة: بدء الشيء، وإرجاعه ثانيًا. والمعيد: الذي يعيد الخلق بعد
ـــــــ
1 رواه أحمد في المسند "2/ 317"ورقم"8220". والبخاري رقم "4975".وابن حبان رقم "848". من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(1/132)
الحياة إلى الممات في الدنيا، وبعد الممات إلى الحياة يوم القيامة. وأهون: أسهل، يقال: هان الأمر على فلان: سهل.
والمعنى -والله أعلم-: أن الله عز وجل أخبرنا: أن ابن آدم يشتمه، وينتقصه، بقول لا يليق به، وما ينبغي له أن يشتمه ويتنقصه؛ لأنه خالقه، وباريه، وموجده من العدم بقوله: "كن"، وتولى خلقه في الرحم من مَني إلى نطفه، إلى علقة، إلى مضغة، ثم ينفخ فيه الروح إلى أن يخرج من بطن أمه، ثم يضع في قلب والديه الرأفة، والرحمة، والحنان، فيقبلان على تربيته، والمحافظة عليه إلى أن يفطم، وبعد ذلك ينتقل من طور إلى طور، ومن حال إلى حال، وكل ذلك يراعيه، ويكلؤه، ويقدر له رزقاً، وسعادة، ويسهل له الطرق، ويضمن له العيش، ويكلفه بأمور سهلة يطيقها كل إنسان، حتى إذا ما واظب عليها، وأتى بها تامة مرضية كان له ثوابها، وأجزي على عملها، ورفعت منزلته في الدنيا، ويوم القيامة يدخله الجنة، وينعم عليه بما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، ومع هذا فإن ابن آدم ينسى هذا كله، ويقابل مولاه بالشتم، والسب، والتكذيب بقوله: لله ولد، وبقوله: ليس يعيدني كما بدأني أول مرة، والمراد بابن آدم: بعض بني آدم، وهم من أنكر البعث من العرب وغيرهم من عباد الأوثان، والدهرية، ومن أدعى أن لله ولداً من العرب أيضًا، ومن اليهود، والنصارى. قال قتادة: إن مشركي العرب قالوا: الملائكة بنات الله، وقالت اليهود: عزيز ابن الله وقالت النصارى: المسيح ابن الله، فأكذبهم الله سبحانه، وبين أنه منزه عن ذلك، وأنه الواحد الأحد الصمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحد، وأنه جل ذكره يعيده كما خلقه وبدأه أول مرة، وليس الخلق ابتداء بأهون عليه من الإعادة، بل بالنظر للعادة الجارية المعلومة للعباد أن الإعادة أسهل وأهون من البداءة، وإيجاد الشيء ابتداءً، وعليه: فلا يحق ولا يصح أن يستبعد بعض بني آدم ذلك، بل يستقر به، ويستملحه، ويقربه بدون دليل؛ لأن البداءة هي البعيدة عن العقل، والمستغربة، وهذا بالنسبة للمخلوق؛ وأما بالنسبة للخالق: فليست إحدى الحالتين بأسهل وأهون عليه من الأخرى، بل يقول للشيء: كن، فيكون، فسورة الإخلاص أعظم سورة تنزه الله جل وعلا، وتثبت عقائد التوحيد، وتهدم عقائد الشرك بجميع أنواعه، لذلك أفردها بعض الأئمة بتأليف خاص بها، كشيخ الإسلام تقي الدين بن تيمية، وطبعناه، والحمد لله. فيخبرنا الله تعالى أنه الواحد؛ أي: وحدة حقيقية غير قابلة للتعدد والكثرة في ذاته، ولا في ربوبيته، ولا في ألوهيته، ولا في ملكه، فهو غير مركب من أصلين، كما زعمت الثانوية، ولا من ثلاثة أصول، أو أقانيم، كما يزعم المثلثون من قدماء وثنيي
(1/133)
الهند وغيرهم، وتبعهم على ذلك النَّصارى على خلاف أصل دين موسى، وعيسى، ومن قبلهما من النبيين عليهم الصلاة والتسليم، وأنه الصمد القادر على قضاء كل ما يحتاج إليه عباده من الحاجات. وكفايتهم جميع ما يعجزون عنه من المهمات بما يسخره لهم من الأسباب، وما يهديهم من سننه فيها.
قال صديقنا المرحوم الأستاذ السيد رشيد رضا صاحب مجلة المنار: فلو كان مبتدعة عبادة القبور وأسرى الخرافات يفقهون معنى هذه الكلمة، ويؤمنون بها إيمانًا إذعانياً صحيحاً يملك قلوبهم لما صمد أحد منهم إلى قبر أحد من الصالحين، ولا إلى رجل حيٍّ من المعتقدين، ولا إلى دجال يدعي استخدام الجان، وتسخير الشياطين ؛ليقضي له ما عجز عنه من منافعه ومصالحه، أو من دفع الأذى عن نفسه، وأهله، وولده؛ فإن هؤلاء الأحياء الدجالين كالموتى من الصالحين عاجزون كلهم عما يظنه الجاهلون فيهم من التصرف في عالم الغيب والشهادة، وقيد يغترون ببعض ما يجهلون حقيقته من شعوذة، وحِيل، أو مصادفات يوجد أمثالها عند أمثالهم من جميع أهل الملل، ولكن هذا الغرور لا سلطان له على الموحدين المؤمنين بوحدانية الله تعالى.
وقوله: "لم ألد ولم أولد" أي: لم يصدر عنه ولد، ولم يصدرهو جل وعلا من شيء؛ لاستحالة نسبة العدم إليه سابقًا ولاحقًا. والوالدية والمولودية متلازمان؛ إذ المعهود أن ما يلد يولد، ومالا، فلا. والاعتراف بهذا هو الاعتراف بذاك؛ لأنه ليس بمخلوق له مزاج وجنس نشأ عن غيره، ونشأت غيره عنه، فتكون الربوبية، والألوهية أسرة، وعشيرة كسائر الأحياء الحادثة التي يتوقف وجود بعضها على بعض، بل هو أحد لا شيء قبله ولده، ولا شيء مثله ولد منه، فيحل محله، بل هو أزلي، سرمدي، منزه عن مشابهة كل ما في العالم من الأجناس المتسلسة من الأفراد البسيطة والمركبة. والله غني عن الوالدية والمولودية، وهما نقص في حقه، يستلزمان الحاجة، وينافيان الربوبية، والألوهية.
فإن قيل: لِمَ قدَّم ذكر نفي الولد مع أن الوالد مقدم؟ وجوابه: أن قُدِم للاهتمام لأجل ما كان يقوله الكفار من المشركين: إن الملائكة بنات الله. واليهود: عزيز ابن الله. والنصارى: المسيح ابن الله، ولم يدع أحد: أن له والدًا، فلهذا السبب بدأ بالأهم، فقال: لم ألد ولم أولد. وقوله: "ولم يكن له كفوًا أحد" أي: لم يكافئني أحد، ولم يماثلني، ويشاكلني من صاحبة وغيرها، والكفء: النظير المكافئ. والله أعلم.
(1/134)
110- "صِلُوا أرحامكم؛ فإنه أبقى لكم في الحياة الدنيا، وخير لكم في آخرتكم"1. رواه عبد بن حميد عن ابن عباس.
ـــــــ
1 رواه عبد بن حميد في المنتخب له رقم" 577"من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. وفي إسناده إبراهيم بن الحكم بن أبان الدني، قال الحافظ في التقريب: ضعيف وَصَل مراسيل.
(1/135)
111- "عبدي! إذا ذكرتني خاليًا؛ ذكرتك خاليًا، وإذا ذكرتني في ملأ ذكرتك في ملأ خير منهم، وأكبر" 1. رواه البيهقي عن ابن عباس.
ـــــــ
1رواه البيهقي في شعب الإيمان رقم"551"من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. وهو حديث صحيح.
(1/135)
عبدي! ما عبدتني ورجوتني
...
112- "عبدي ! ماعبدتني، ورجوتني؛ فإني غافر لك على ما كان فيك. ويا عبدي! إن لقيتني بقراب الأرض خطيئةً ما لم تشرك بي لقيتك بقرابها مغفرةً" 1. رواه أحمد عن أبي ذر.
ش- الحديث الأول: تقدم الكلام فيه على صلة الأرحام، وزاد في هذا الحديث قوله: "فإنه أبقى لكم في الحياة... إلخ" ولا شك أن الإحسان إلى الأهل والأقارب يجعل للإنسان المحسن ذكرى وحياة في الدنيا، فيبقى ذكره، وإحسانه خالداً في حال حياته، وبعد مماته يذكر بخير، وهو خير أيضًا له في الآخرة؛ لأن له أجرًا مخصوصًا يثاب عليه، ودرجات مخصوصة أيضًا يفوز بها يوم التفاخر بالأعمال، فأحسنُ ذكري تبقى للإنسان من وصل رحمه، وأحسن إليه، واستفقده في السراء والضراء، وأعانه بما يقدر عليه، وكل إنسان بحسبه وطاقته، لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها. والحديث
ـــــــ
1 رواه الطبراني في الكبير "12346". والصغير رقم "820". وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد "10/ 215"وقال: رواه الطبراني في الثلالة. وفيه إبراهيم بن إسحاق الضبي. وقيس بن الربيع، وكلاهما مختلف فيه. وبقية رجاله رجال الصحيح من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، ولم نجده من حديث أبي ذر كما أشار المؤلف، وللحديث شواهد يعتضد بها.
(1/135)
113- "عبدي المؤمن أحب إلي من بعض ملائكتي" 1. رواه الطبراني في الأوسط عن أبي هريرة.
ش- المؤمن: من آمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر قولًا وفعلًا، واعتقادًا. والإيمان: التصديق، والإذعان مع طمأنينةٍ وتحقيق بما تقدم، وأحب: أفعل تفضيل؛ أي: أكثر حبًا من غيره، والملائكة: جمع ملك وهي أجسام نورانية، لطيفة، مبرأة من كدورات نفسانية، وظلمات حيوانية، مقتدرة على تشكلات مختلفة، معصومون عن المخالفة، منهم وسائط بين الله وبين أنبيائه المبعوثين إلى الخليقة. ومنهم المُوكَّل بحمل العرش، ومنهم الموكل بالصور، ومنهم الموكل بالموت، ومنهم الراكع يسبح الله وينزهه، ومنهم الساجد كذلك، ولكل مقام معلوم، ومرام مقسوم، لا يأكلون، ولا يشربون، نعم غذاؤهم التسبيح، والتهليل، والتكبير، وإلى غير ذلك من أنواع العبادة، وفي حديث مسلم عن عائشة رضي الله عنها مرفوعًا: "خَلَقتُ الملائكة من نور، وخلقت الجن من مارج من نار، وخلق آدم مما وصف لكم" 2.
والمعنى: أن الله تبارك وتعالى يخبر أن عبده المؤمن؛ الذي آمن بالله، وأذعن، وانقاد لما جاءت به الشريعة الإسلامية، وعمل بأحكام دينه، وأخلص العمل لله في سره، وجهره، لا مطلق العبد المؤمن بدليل إضافته إليه عز وجل إضافة تشريف وإعظام. فلا يصح أن يضاف العبد إلى الله تعالى إلا إذا كان مستجمعًا صفات الكمال،
ـــــــ
1 رواه الطبراني في الأوسط رقم "6634"وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد "10/ 215"وفيه أبو المهزم، وهو متروك.
2 رواه أحمد في المسند"6/ 153 و168"ومسلم رقم "2996"من حديث عائشة رضي الله عنها.
(1/136)
ومتجنبًا صفات النقصان، أحب إليه وأشد حبًا له من بعض ملائكته. وهذا يدل على أن بعض الآدميين أفضل من بعض الملائكة، وهو القول الراجح. وقد تقدم الكلام على أفضلية الملائكة مطلقًا، وأقوال العلماء في ذلك في شرح الحديث رقم "70 "فارجع إليه والله أعلم.
(1/137)
114- "على العاقل أن يكون له ثلاث ساعات: ساعة يناجي فيها ربه، وساعة يحاسب فيها نفسه، وساعة يخلو فيها بمطعمه ومشربه"1. رواه ابن حبان عن أبي ذر.
ش- العاقل: من اتَّصف بالعقل، وهو غريزة يتهيأ بها الإنسان إلى فهم الخطاب، وهو مناط التكليف، وبه يدرك الإنسان ما ينفعه، ويضره، ويميز به بين الغث والثمين، ويعقل صاحبه عن التورط في المهالك؛ أي: يحبسه، ويمنعه في الوقوع فيما لاخير فيه، وبه يتميز الإنسان عن سائرالحيوان، وكلما كمل عقل الإنسان ازداد الإنسان كمالًا، ورفعة، ووجاهة بين الناس:
إذا تم عقل المرء تمت أموره ... وتمت أمانيه، وتم بناؤه
والمادِّيون يعدون العقل نتيجة الشعور الموجود في الإنسان، والروح نتيجةالتركيب الإنساني على مثال روح الحيوان، ولكن أرقى من روح الحيوان؛ لقبول الإنسان الرقي دون الحيوان، ولما اكتشف علم التنويم المغناطيسي، وفن استحضار الأرواح أثبتا أن للإنسان روحًا متمتعة بخصائص عالية، يحجبها هذا الجسد عن الظهور.
واختلف الناس في محل العقل هل هو في القلب، أو في الدماغ؟ قال إمام الحرمين: فذهب أصحابنا من المتكلمين: أنه في القلب، وبه قال جمهور المتكلمين، وهو قول الفلاسفة. وقالت الأطباء: هو في الدماغ، وهو محكي عن أبي حنيفة. احتجَّ أصحابنا بقول الله تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا} [الحج:46] وقوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ} [ق:37] وبقوله صلى الله عليه وسلم: "ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب" 2 فجعل صلى الله عليه وسلم صلاح الجسد وفساده تابعًا للقلب مع أن الدماغ من جملة
ـــــــ
1 رواه ابن حبان رقم "361"، وأبو نعيم في الحلية "1/ 166و168"في حديث طويل، وإسناده ضعيف.
2 رواه البخاري رقم"52". ومسلم رقم "1599". وابن حبان رقم "721"من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه.
(1/137)
الجسد. واحتجَّ القائلون بالدماغ بأنه إذا فسد الدماغ فسد العقل. والجواب: أن الله تعالى أجرى العادة بفساد العقل عند فساد الدماغ، مع أن العقل ليس فيه، ولاامتناع في هذا.
وهو قسمان: غريزي ومكتسب. فالغريزي-أي: الجبلي، والطبيعي- هو:العقل الحقيقي، وله حد يتعلق به التكليف، لا يجاوزه إلى زيادة، ولا يقصرعنه إلى نقصان. والمكتسب هو نتيجة العقل الغريزي، وهونهاية المعرفة، وصحة السياسة، وإصابة الفكرة، وليس لهذا حد ومنتهى يقف عنده؛ لأنه ينمي، ويزيد إن استعمل، وينقص إن أهمل، وهولا ينفك عن العقل الغريزي؛ لأنه نتيجة منه، وقد ينفك العقل الغريزي عن العقل المكتسب لعدم استعماله، أو لاتباعه الهوى، فيكون صابحه مسلوب الفضائل، موفور الرذائل، كالأحمق الذي لا تجد له فضيلة، والأحمق الذي قلما يخلو من رذيلة.
والساعات: جمع ساعة، وهوالوقت من ليل، أو نهار. والعرب تطلقها وتريديها الحين والوقت وإن قلَّ. والمناجاة: المساررة. يقال: نجوته نجوًا؛ أي: ساررته، وكذا ناجيته. وانتجى القوم، وتناجوا: تسارُّوا؛ وانتجاه: خصَّه بمناجاته، والاسم: النجوى.
وقوله: "رواه ابن حبان" تقدمت ترجمته.
والمعنى: أن الله سبحانه وتعالى يخبرنا: أن على العاقل المتَّصف بالصفات المميزة له عن الحيوان أن يجعل له في يومه وليلته ثلاث ساعات، وأوقات، ساعة منها يجعلها للمناجاة؛ بأن يناجي ربه، ويتكلم بكلام خفي وسرعن الناس؛ لأن هذه الحالة أقرب إلى قبول المطالب، والدعوات، وأبعد عن الرياء، والسمعة؛ بأن يسأل الله جل ذكره التوفيق للطاعات، وتسهيل الطرق الصعبة، وإبعاده عن المعاصي والرذائل، وحفظه من المصائب، والبلايا، وأن يختم له بسعادة الدارين، وأن يصلح حاله، وحال إخوانه المؤمنين، وأن يرفع البأس، والظلم، والاستبداد، والمطامع من أعدائه المستبدين بالضعيف، والغاصبين حقه، وأن يغلَّ أيدي وألسنة المذبذبين الذي يظهرون الإسلام والإيمان وحب أهلهما؛ وهم في الحقيقة جواسيس للأجانب بأجر تافه، يستبدلون عرض هذه الدنيا بالنعيم الأبدي، والخير السرمدي، والأجر العظيم الذي لا ينقطع، فهم أسوأ الناس في الدنيا الزائلة، ولهم يوم القيامة الخزي، والعار، وأشد العذاب.
(1/138)
وساعةً يخلو فيها بنفسه، ويحاسبها على ماعملته من خيرٍ وشرٍ في ذلك اليوم، فإذا اقترفت ذنبًا؛ فيندم عليه، ويستغفر الله سبحانه وتعالى، ويتوب إلى الله جل ذكره، ويرجع إليه، ويعزم ألا يعود إلى مثله أبدًا، ويخاطب نفسه، ويوبخها، وإذا لم تعمل سيئة، بل كان عملها دائرًا بين الأعمال الخيرية، والخواطرالإصلاحية؛ فيحمد الله تعالى على أن وفقه إلى ذلك، ويرجو منه استدامة التوفيق، والإعانة على البر والتقوى. ويحث نفسه على زيادة العمل، ويرغبها، ويشوقها بأن كثرة العمل البار يستوجب زيادة الثواب، ويرفع منزلة العبد إلى أن يكون مع النبيين، والشهداء، والصالحين. فعليك بالمداومة على ذلك، والزيادة منه. وساعة يخلوالإنسان فيها بمطعمه،ومشربه؛ أي: بما يقويه على الأعمال الصالحة من مطعم، ومشرب، وملبس، وينوي بذلك التقوى بهذه الأشياء على طاعة الله تبارك وتعالى، والقيام بأداء الواجبات والمندوبات، فتكون هذه الأشياء المباحة مشروعة، ومسنونة، فيُثاب عليها، ويجزى بها، ولا شك أن المطعم، والمشرب، والملبس من الأمور الضرورية للإنسان؛ التي تُصان بها حياته، وجسمه، وتحفظها من الانحلال، والتغير، والضعف، وهذا بالنسبة لما يقومها ويبقيها من القوت الضروري، والمشرب، والملبس كذلك، وما زادعن القوت الضروري؛ فيكون مباحاً ما لم يؤد إلى ضرر بالجسم، أو العقل، فيكون ممنوعًا منه شرعًا، وطبًا. وأضيف المطعم والمشرب إليه إشارة إلى أن المطعم، والمشرب، والملبس الذي يختص بالشخص مما يملكه بإذن شرعي، ويكون حلالًا؛ أي: لا يطعم إلا مما أباحه الشرع، وجوَّزه، وكذلك المشرب، والملبس، وهذه هي الحياة الطبية، وصاحبها دائمًا في نعيم، وراحة فكر، وصحة جسم، فنسأل الله أن يوفقنا لأن نغلب أنفسنا، ونصيرها مركبًا تطيعنا في كل أمر، ونحظى بالصحة، والهناء في الدنيا، والسرور، والثواب، والجزاء في دار الآخرة!
(1/139)
115- "قسَّمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد: الحمد لله رب العالمين؛ قال الله: حمدني عبدي، فإذا قال: الرحمن الرحيم؛ قال الله: أثنى علي عبدي، فإذا قال العبد: مالك يوم الدين؛ قال: مجدني عبدي، وإذا قال: إياك نعبد وإياك نستعين؛ قال: هذا بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل، فإذا قال: اهدنا الصراط...إلى آخره،
(1/139)
قال: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل"1. رواه أحمد، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن حبان، وابن ماجه، عن أبي هريرة.
ش- القسم: بفتح أوله، وسكون ثانيه: مصدر قسم الشيء، فانقسم؛ أي: إفراز النصيب، والقسم -بكسر أوله وسكون ثانيه- الحظ، والنصيب من الخير، فيقال: هذا قسمي، والجمع أقسام، وقسمة الميراث،والغنيمة: تفريقهما على أربابهما. والصلاة: هي العبادة المخصوصة المشتملة على التكبير،والتسبيح ،والقراءة، وأصلها: الدعاء، وهي من العبادات التي لم تنفك شريعة منها، وإن اختلفت صورها بحسب شرع فشرع، ولهذا قال الله عز وجل: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء:103] والمراد بها هنا: قراءة الفاتحة؛ لاشتمالها عليها من إطلاق الكل وإرادة الجزء، كما يدل عليه تمام الحديث، والحديث الذي في أول الكتاب جاء مصرحًا بذلك، وقد تقدم ذكره، وذكرنا ما يتعلق به إجمالًا، ونذكر الآن ما يتمم ذلك.
والمعنى: أن الله تباركت أسماؤه، وتنزهت صفاته أخبرنا: أن الفاتحة التي اشتملت عليها الصلاة، وقسمها بينه عزوجل وبين عبده نصفين، فيصح أن تكون القسمة من جهة المعنى دون اللفظ؛ لأن نصف الدعاء يزيدعلى نصف الثناء، ونصفها الأول تحميد لله تعالى ذكره، وتمجيد له، وثناء عليه. ونصفها الثاني سؤال، وتضرع، وافتقار، ويحتمل أن تكون باعتبار اللفظ؛ لأنها سبع آيات بدليل حديث أول الكتاب، قال الله تعالى: "ابن آدم أنزلت عليك سبع آيات: ثلاث لي، وثلاث لك، وواحدة بيني وبينك... الحديث" فثلاث منها ثناء، وثلاث دعاء، والآية المتوسطة نصفها ثناء، ونصفها دعاء، فنصفها لله عز وجل خاص به، وهي الثلاث الآيات الأول، ونصفها للعبد خاص به، وهو من {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] إلى آخر السورة.
وقوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] بين الله عزوجل وبين عبده. قال أستاذنا الجليل الشيخ محمود محمد خطاب السبكي2 رحمه الله تعالى في
ـــــــ
1 رواه مسلم رقم "395"في الصلاة، والموطأ "1/ 584"، وأبو داود رقم "819و820". والترمذي رقم "2954و2955". والنسائي" 2/ 135و136"في الافتتاح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
2 محمود بن محمد بن أحمد بن خطاب السبكي -أبو محمد فقيه مالكي، أزهري، له كتب منها: "إرشاد الخلق إلى دين الحق" و"تحفة الأبصار والبصائر" توفي رحمه الله"1352"هـ.
(1/140)
شرحه على سنن أبي داود: وإضافة العبد إلى ربه؛ لتحققه بصفة العبودية، وقيامه بحق الربوبية، وشهوده لآثارهما وأسرارهما في صلاته التي هي معراج الأرواح، وروح الأشباح، وغرس تجليات الأسرار، التي يتحلى بها الأحرار عن الأغيار. ولما كان وصف العبودية غاية الكمال؛ إذ به ينصرف الإنسان من الخلق إلى الحق؛ وصف الله تعالى به نبينا محمدًا صلى الله عليه وسلم في مقام الكرامة، فقال: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا} "الإسراء:1" {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ} [الفرقان:1] وقال: {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} [النجم:10] وقوله في الحديث: "ولعبدي ما سأل" أي:أن الله عز وجل وعد عبده إذا سأله شيئا أن يعطيه، ويمنحه إياه، ويجيب دعاءه بشرط أن يكون مشروعًا، غير مشتمل على ما يمنع شرعًا، وعقلًا. وقوله: "إذا قال العبد:الحمد لله رب العالمين" بيان للصلاة التي قسمها عز وجل بينه وبين عبده، وبيان لمعنى القسمة لها، فذكر صلى الله عليه وسلم ما يقول الله تعالى عند قراءة العبد كل آية منها، وأعلم العبد: أنه يسمع قراءته، وحمده، وثناءه عليه، وتمجيده إياه، ودعاءه، ورغبته سماعاً يليق بعظمته وجلاله، فكل حمد، وثناء يصدر عن نعمة ما فهو له تعالى؛ لأنه مصدر كل نعمة في الكون تستوجب الحمد، ومنها نعمة الخلق، والإيجاد، والتربية، والتنمية، وهو الرحمن، كثير الرحمة، وغزيرها التي وسعت كل شيء، ورحيم بعبادي، يعفو، ويصفح، يكرم، ويحلم، وهو المالك ليوم الدين، له السلطان المطلق، والسيادة التي لا نزاع فيها حقيقة لا ادِّعاء، والعالم كله يكون فيه خاضعاً لعظمته ظاهرًا وباطنًا، يرجو رحمته ويخاف عذابه ذلك اليوم يوم الجزاء، يوم الحساب، يوم العرض على رب الأرباب، يوم تظهر فيه الأعمال، ويقول كل شخص: نفسي! نفسي! يوم لا يملك الإنسان شيئًا، بل الأمر كله يومئذ لله. قال الله تعالى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ ، ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ ، يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} [الانفطار: 17- 19] أخرج ابن جرير، والحاكم، وصححه عن ابن مسعود وناس من الصحابة: أنهم فسروا يوم الدين بيوم الحساب، وكذا رواه ابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عباس، وأخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد. وابن جرير عن قتادة قال: يوم الدين يوم يدين الله العباد بأعمالهم. وهو الذي يعبد وبه يستعان؛ أي: لا يعبد غيره، ولا يستعان استعانة حقيقة إلا به، والعبادة أقصى غايات الخضوع والتذلل، فاجتث الله بقوله ذلك جذور الشرك والوثنية التي كانت فاشية في جميع الأمم الغابرة، وهي اتخاذ أولياء من دون الله، تعتقد لهم السلطة الغيبية، ويدعون لذلك من دون الله: ويستعان بهم على قضاء الحوائج في الدنيا، ويتقرب بها إلى الله زلفى. وجميع ما في القرآن من آيات التوحيد، ومقارعة المشركين، هو تفصيل لهذا الإجمال. وقوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6]
(1/141)
6" الهداية: الإرشاد، أوالتوفيق، أوالإلهام، أوالدلالة. والصراط: الطريق. والمستقيم: الواضح الذي لااعوجاج فيه -وهو دين الإسلام- ممن أنعم الله عليه من النبيين والصديقين، والشهداء، والصالحين، غير طريق المغضوب عليهم، ولا الضالين، أي: غير المنعم عليهم، وهما فريقان: فريق ضل عن صراط الله، وفريق جحد، وعائد من يدعو إليه، فكان محفوفاً بالغضب الإلهي، والخزي في هذه الحياة الدنيا، وهما: اليهود والنصارى. اللهم اهدِ الخلق لأقْوَم الطرق، وأوضحها، وأسهلها، وهو دين الإسلام الذي ليله كنهاره، لا يضل عنه إلا هالك. وفي هذا القدر كفاية. والله أعلم.
(1/142)
116- "عبادٌ لي يلبسون للناس مُسُوك الضأن، وقلوبهم أمرُّ من الصبر، وألسنتهم أحلى من العسل، يختلون الناس بدينهم، أبي يغترُّون، أم علي يجترئون؟ فبي أقسمت: لألبسنَّهم فتنة تذرُالحليم فيهم حيران"1. رواه ابن عساكرعن عائشة.
ش- المسوك- جمع مسك بفتح أوله، وسكون ثانيه-: الجلود، جمع جلد. والضأن: ذوات الصوف من الغنم، الواحدة: ضائنة، والذكر ضائن، وهو ضد الماعز. والقلوب: جمع قلب، وهو الفؤاد، وسُمي قلباً لكثرة تقلبه. ويعبر بالقلب عن المعاني التي تختص به الروح، والعلم، والشجاعة، وغير ذلك. والصبر -بفتح الصاد وكسر الباء الموحدة في الأشهر وسكونها للتخفيف لغة قليلة-: الدواء المر المعروف، ويختلون: يطلبون طلب خداع ومراوغة، يقال: خلته، ويختله: إذا خدعه، وراوغه. وختل الذئب الصيد: إذا تخفى له. والدين: يقال للطاعة، والجزاء، واستعير للشريعة. ويعترون: يخدعون، يقال: اغتر الرجال، واغتر بالشيء: خدع به. ويجترئون يقدمون بجرأة؛ أي: شجاعة. والجريئ -بالمد- : المقدام، وجرأة عليه تجرئه، فاجترأ، واجترأ على القول: أسرع بالهجوم عليه من غير توقف، والاسم: الجرأة، والقسم -بفتح أوله وثانيه-: اليمين. وأقسم: حلف. واللبس: الخلط، والتشبه، والتشكيك. والفتنة: الابتلاء، والامتحان، والاختبار. وتذر: تدع. والحليم: العالم العاقل. والحلم: الأناة، والتثبت في الأمور. والحيران: الذي لا يدري وجه الصواب. ورجل حائر بائر:إذا لم يتجه لشيء.
ـــــــ
1 ذكره المتقي الهندي في كنز العمال "10/ 29055"وقال: رواه ابن عساكر من حديث عائشة رضي الله عنها، وإسناده ضعيف.
(1/142)
وقوله: "رواه ابن عساكر" تقدَّمت ترجمته. وضعف الحديث لا يخفى. والله أعلم.
والمعنى: أن من عباد الله جل ذكره عباداً يظهرون للناس، ويلبسون جلود الشياه، وهو كناية عن إظهار اللين في كلامهم، وحنانهم، وحسن أخلاقهم، وهم في الحقيقة ذئاب، قلوبهم التي يعقلون بها أمرمن الصبر. وألسنتهم بين الناس أحلى من العسل، تشتهي أن تسمع منهم، وتجالسهم، ولا تفارقهم، يختلون الناس بدينهم، ويخدعونهم، ويطلبون بذلك عمل الدنيا بالآخرة، ويراوغونهم كما يرواغ الذئب الصيد إذا تخفى له، وهذا غرور منهم بالله عز وجل، واغترار به، وجرأة عليه جل ذكره؛ لأن الخلق خلقه، والعباد عبيده، فكيف يقدمون على هذه الأعمال، ولا يبالون بأن لهذه الخلائق رباً، وإلهاً، وخالقاً يحفظهم من أمثال هؤلاء المحتالين الذئاب، فيخبرالله بأنه أقسم، وحلف ليلبسنهم، ويخلطن عليهم، ويوقعهم في الشكوك جزاء فعلهم ذلك، فتنة، وابتلاء، وامتحاناً تذر، وتترك العاقل العالم المتثبت في الأمور متحيراً، لا يقدر على دفعها، فكيف بغير الحليم؟! ويصدق هذا على من يتظاهر بالدين، والتقوى، ويلين للناس في الكلام، والأخلاق، ويتساهل في أحكام الدين، فترغب فيه العوام ،ويقبلون عليه، ويصيرون من حزبه، فتجلب له الأموال، ويحظى بالرئاسة والوجاة وكثرة الأتباع، وهو في الحقيقة جهول غشاش؛ لأن ما يدعو إليه ظاهراً إنما هو لغرض دنيوي، ومن حطام الدنيا، لذلك تجد قلوبهم غير موافقة لعملهم؛ لأن ألسنتهم في الأقوال، والدعاوي أحلى من العسل، وقلوبهم، وأفئدتهم خالية من الإخلاص، والورع، والنية الصالحة، فهي أمر من الصبر، فنسأل الله أن يهيديهم لأقوم الطرق، وأحسنها، ويصدق أيضًا على من يدعي الولاية، والخلافة من عوام الجهال، ويدعون الناس إلى الانضمام لشيعتهم، ويحسنون لهم كثيراً من البدع والخرافات، ويضللون طريق الهدى عليهم بألسنة أحلى من العسل، وقلوبهم أمر من الصبر المعروف، يخدعونهم بلين أقوالهم لينجذبوا إليهم، ويصيروا عبيداً لهم، يأتمرون بأمرهم، وينتهون بنهيهم، فهؤلاء أيضاً يغترون بالله عز، وجل، ويجترئون عليه، فلهم فتنة يلبس الله عليهم فيها، تترك الحليم العاقل العالم حيران، لا يدري ما يفعل، فما بالك بغيره؟! والله أعلم.
(1/143)
117- "علامة معرفتي في قلوب عبادي حسن موقع قدري ألا
(1/143)
أُشْتَكي، وألا أُسْتَبطأ، وأن أُسْتَحيا"1. رواه الديلمي عن أبي هريرة.
ش- العلامة: السمة، جمعها: عَلام، وعلامات. والعلامة أيضا: الفصل بين الأرضين، وشيء منصوب في الطريق يهتدي به، والمعرفة، والعرفان: إدراك الشيء بتفكر، وتدبرلأثره، وهو أخص من العلم. ويضاده: الإنكار. والقدر -بفتحات، وقد يسكن داله -مصدر: قدر، يقدر، وهو ما قضاه الله تعالى، وحكم به من الأمور، وقوله: "ألااشتكى" أي: لا يشكو العبد من الله تعالى وحكمه. وألا استبطأ: أي يستبطئ العبد مولاه بأن دعاه، وانتظر الإجابة، وقال: إن الله جل ذكره استبطأ إجابتي وأخرها مثلاً، يقال: بطؤ، وتباطأ: تحرى، وتكلف ذلك، واستبطأ طلبه، وأبطأ: صارذا بطء، ويقال: بطاه وأبطأه، وقوله: "وألاأستحيا" يجوز أن يكون من الاستحياء: طلب الحياء، وأن يكون من الاستحياء: الاستبقاء، ولعل الأول أقرب إلى ألفاظ الحديث.
والمعنى: أن الله جل ذكره أخبر أن علامة معرفته جل،وعز في قلوب عباده حسن موقع قدره، وحكمه، وقضائه عندهم، حيث إنَّ أحدهم إذا أصابهم شيء من بلايا الدنيا، وامتحاناتها، واختباراتها يصبر، ويصمد لها، ولا يشكو الله سبحانه وتعالى إلى غيره، ولا يشتكي أيضاً إذا مسَّه أذى في جسده، وماله، وأولاده، وأقاربه، بل يرضى بقضاء الله سبحانه، وحكمه، ولا يقول إلا خيراً، ويحمد الله جل ذكره، ويصبر لحكمه، وقضائه، ففعل هذا يدل: أنه عرف الله، وآمن بقضائه، وقدره.
وقدر الله يجب الإيمان به كله، خيره وشره، حلوه ومره، نفعه وضره. ومذهب أهل الحق إثبات القدر، والإيمان به كله. وقد جاء من النصوص القطعيات في القرآن العزيز والسنن الصحيحة المشهورات في إثابته ما لا يحصى من الدلالات، وذهبت القدرية إلى إنكاره، وأن الأمر أنف- أي: مستأنف، لم يسبق به علم الله - عالى الله عن قولهم الباطل علوا كبيراً، وقد جاء في الحديث تسميتهم: مجوس هذه الأمة؛ لكونهم جعلوا الأفعال للفاعلين، فزعموا، أن الله تعالى يخلق الخير، وأن العبد يخلق الشر، جل الله عن قولهم الباطل.
وكذلك إذا طلب من الله شيئًا؛ فلا يلح في الطلب، ولا يستأخره، ويستطبئه،
ـــــــ
1 رواه الديلمي في مسند الفردوس رقم "4452". من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وإسناده ضعيف.
(1/144)
ويقول: إن الله تعالى أخَّر طلبي، ولم يجعل لي، ولربما ظن أن تأخير الله في طلبه وإجابته عدم قدرته عليه، واستطاعته، فيقع في الهلاك. نسأل الله العافية.
وألا يستحي أحدنا من الله جل ذكره، فيقدم على المعاصي، ولا يبالي؛ لأن المستحي ينقطع بحيائه عن المعاصي، وإن لم يكن تقيةً، وأن الحياء من الله فوق ذلك.
روى الترمذي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "استحيوا من الله حق الحياء. قال: قلنا يا نبي الله! إنا لنستحي والحمد لله! قال: ليس ذلك، ولكن الاستحياء من الله حق الحياء: أن تحفظ الرأس وما وعى، وتحفظ البطن وما حوى، ولتذكر الموت، والبلى، ومن أراد الآخرة ترك زينة الدنيا، فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء" 1 وروى ابن ماجه بسنده عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله عز وجل إذا أراد أن يهلك عبدًا نزع منه الحياء، فإذا نزع منه الحياء لم تلقه إلا مقيتًا ممقتًا،فإذا لم تلقه إلا مقيتًا ممقتا؛ نزعت منه الأمانة، فإذا نزعت منه الأمانة؛ لم تلقه إلا خائنًا مخونًا؛ فإذا لم تلقه إلا خائنًا مخونًا؛ نزعت منه الرحمة، فإذا نزعت منه الرحمة؛ لم تلقه إلا رجيمًا ملعنًا، نزعت منه ربقة الإسلام"2 والربقة بكسر الراء وفتحها: واحدة الربق، وهي عرا في حبل تشد به إليهم، وتستعار لغيره. وروي البخاري، ومسلم عن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الحياء لا يأتي إلا بخير" وفي رواية لمسلم: "الحياء خير كله" 3 وروى الحاكم، وقال: صحيح على شرط الشيخين عن ابن عمر رضي الله
ـــــــ
1 رواه الترمذي رقم "2460". والحاكم في المستدرك "4/ 323 "وصححه. ووافقه الذهبي من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وفي سنده الصباح بن محمد بن أبي حازم العجلي الأحمسي الكوفي ضعيف، وللحديث شاهد من حديث عائشة رضي الله عنها، رواه الطبراني فهو به حسن.
2 رواه ابن ماجه رقم "4054"في الفتن. باب ذهاب الأمانة. من حديث ابن عمر رضي الله عنه. وإسناده ضعيف جدًا.
3 رواه البخاري رقم "6117"في الأدب، ومسلم رقم" 97"في الحياء، وأبو داود رقم" "4796 في الأدب، ومسلم رقم "97"في الحياء، وأبو داود رقم "4796"في الأدب من حديث عمران بن الحصين رضي الله عنه.
(1/145)
عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الحياء والإيمان قرناء جميعًا، فإذا رفع أحدهما؛ رفع الآخر" 1.
هذا أحد احتمالين في قوله: "وأن لاأستحيا" وهو الأقرب، ويحتمل أن يكون من الاستحياء: الاستبقاء؛ أي: يعتقد الشخص، أو يظن: أن الله سبحانه وتعالى غير باقٍ؛ لأن إجابته تأخرت، أوطال مرضه، وأزمن، وهو يدعو الله أن يشفيه من ذلك، ويذهب ما به من البلاء، وفي القلب من الحديث شيء. والله أعلم.
ـــــــ
1 رواه الحاكم في المستدرك "1/ 22"وصححه، ووافقه الذهبي من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما. وهو حديث صحيح.
(1/146)
118- "عبدي! أنا عند ظنك بي، وأنا معك إذا دعوتني" 1. رواه الحاكم عن أنس.
ش- الحديث تقدم ذكره، وشرحه، فارجع إليه.
ـــــــ
1 رواه الحاكم في المستدرك 1"/ 497". وصححه ووافقه الذهبي من حديث أنس رضي الله عنه. وهو حديث صحيح.
(1/146)
119- "قال الله للنفس: اخرجي، قالت: لا أخرج إلا وأنا كارهة. قال: اخرجي وإن كرهت" 1. رواه البزار، والديلمي عن أبي هريرة.
ش- النفس- بفتح أوله وسكون ثانيه- الروح يقال: خرجت نفسه. والنفس: الدم، يقال: سالت نفسه. والنفس: الجسد. ونفس الشيء: عينه، والمراد به هنا: الروح، والروح للحيوان مذكر، وجمعه: أرواح. قال ابن الأنباري، وابن الأعرابي: الروح: والنفس واحد، غير أن العرب تُذَّكر الروح، وتؤنث النفس. وقال الأزهري أيضًا: الروح مذكر. وقال صاحب المحكم، والجوهري: الروح يذكر، ويؤنث. وكأن التأنيث على معنى النفس؛ قال بعضهم: الروح: النفس، فإذا انقطع عن الحيوان فارقته الحياة. وقالت الحكماء: الروح: هو الدم، ولهذا تنقطع الحياة بنزفه، وصلاح البدن، وفساده بصلاح هذا الروح وفساده.
ومذهب أهل السنة: أن الروح هو النفس الناطقة، المستعدَّة للبيان وفهم
ـــــــ
1 رواه البزار رقم "783" والبخاري في الأدب رقم "219". وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد "2/ 325"وقال: رواه البزار، ورجاله ثقات من حديث أبي هريرة رضي الله عنه نقول: وهو حديث صحيح.
(1/146)
120- "كذَّبني ابن آدم، ولم يكن له ذلك، وشتمني، ولم يكن له ذلك، فأما تكذيبه إياي: فزعم أني لا أقدر أن أعيده كما كان. وأما شتمه إياي: فقوله: لي ولد، فسبحاني أنْ أتَّخذ صاحبة، ولا ولدًا" 1. رواه البخاري عن ابن عباس.
ـــــــ
1 رواه البخاري رقم "4482" من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
(1/148)
121- "كذبني عبدي، ولم يكن له أن يكذبني" 1 رواه ابن خزيمة عن أنس.
ـــــــ
1 لم نجده في صحيح أبي خزيمة كما أشار المؤلف. ولم نجده من حديث أنس فيما بين أيدينا من المصادر، وهو حديث صحيح بمعنى الذي قبله.
(1/148)
122- "كل عمل ابن آدم له إلا الصيام، فإنه لي وأنا أجزي به، والصيام جُنة، وإذا كان يوم صوم أحدكم؛ فلا يرفث، ولا يصخب، وإن سابَّه أحد، أو قاتله؛ فليقل: إني امرؤ صائم، والذي نفس محمد بيده لخلوف فَمُ الصائم أطيب عند الله من ريح المسك! وللصائم فرحتان يفرحهما؛ إذا أفطر فرح بفطره، وإذا لقي ربه فرح بصومه" 1. رواه الشيخان، والنسائي، وابن حبان عن أبي هريرة.
ـــــــ
1 رواه أحمد في المسند"2/ 273"، والبخاري رقم"1904"في الصوم، ومسلم رقم" 1151"والنسائي "4/ 163و164". وابن حبان رقم "3423"من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(1/148)
123- "كل عمل ابن آدم هو له إلا الصوم هو لي، وأنا أجزي به، وللصائم فرحتان: فرحة حين يفطر، وفرحة حين يلقى ربه، ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك". رواه الطبراني في الكبير عن ابن مسعود. والطبراني، وابن النجار عن ابن مسعود1،
ـــــــ
1 رواه الطبراني في الكبير رقم "10078و 10198"بلفظ المؤلف وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد"3/ 179"وقال: رواه أحمد، والطبراني في الكبير، وأسانيد الطبراني بعض طرقها رجالها رجال الصحيح. ورواه أحمد في المسند رقم "4256". وفي إسناده ابن مسلم الهجري ضعيف. وعمرو بن مجمع ضعيف، نقول: ويشهد له ما قبله.
(1/148)
124- "لأنتقمنَّ من الظالم في عاجله وآجله، ولأنتقمن ممن رأى مظلومًا، فقَدِر أن ينصره، فلم ينصره " . رواه أبو الشيخ عن ابن عباس1 والطبراني عن أبي الدرداء.
ـــــــ
1رواه الطبراني في الأوسط رقم" 36"، والكبير رقم"10652"وفي إسناده أحمد بن محمد بن يحيى له مناكير. وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 7/ 267 وقال: رواه الطبراني في الكبير والأوسط، وفيه من لم أعرفهم، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، نقول: وإسناده ضعيف.
(1/150)
ش- الانتقام: تقدَّم تفسيره في شرح الحديث رقم "75"والظلم أيضًا تقدم، فارجع إليهما. والعاجل: الحاضر، والعَجَل والعجلة: ضد البطء، وعاجله بذنبه؛ إذا أخذه به، ولم يمهله، والآجل: ضد العاجل.
والمعنى: أن الله -سبحانه وتعال- أخبر لينتقمن من الظالم، ويعاقبنه في عاجله، أي: في الدنيا، وآجله؛ أي: في الآخرة؛ لأن الظالم أضر بنفسه، فأوردها المهالك. والظلم جاءت جميع الشرائع باستقباحه، والتنفير منه، واستفظاعِه، وجاء في القرآن الحكيم آيات كثيرة تندد بالظالم، وتتوعده بالعذاب الأليم في الدنيا، والآخرة. قال الله تعالى: { وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [آل عمران:192] وقال تعالى: {وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} [الشورى:8] وقال تعالى: { مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ} [غافر: 18] وقال تعالى: {وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} [هود:113] وقال عز وجل: { فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:45].
وكذلك وردت أحاديث في ذلك، منها: الحديث القدسي الذي تقدم ذكره: "إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته محرمًا بينكم، فلا تظالموا.... الحديث" وذكرنا شرحه هناك مستوفى، فارجع إليه، ومنها: ما رواه مسلم، وغيره عن جابر رضي الله عنه: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: اتقوا الظلم؛ فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشح؛ فإن الشح أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم" 1 وروى البخاري، ومسلم، والترمذي عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله ليملي للظالم، فإذا أخذه لم يفلته، ثم قرأ: { وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} 2 "هود:102" وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث معاذاً إلى اليمن، فقال: "اتقِ دعوة المظلوم.
ـــــــ
1 رواه مسلم رقم"2578"في البر والصلة. باب تحريم الظلم. من حديث جابر رضي الله عنه.
2 رواه البخاري رقم "4686"في التفسير، ومسلم رقم "2583"في البر والصلة، والترمذي رقم "3109"، وابن ماجه رقم "4018"من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.
(1/151)
فإنها ليس بينها وبين الله حجاب" 1 رواه البخاري، ومسلم، وأبو داود، والنسائي في حديث، والترمذي مختصرًا هكذا، واللفظ له، ومطولًا كالجماعة.
وكذلك توعد الله في هذا الحديث بالانتقام، والعذاب من قدر على نصر المظلوم، وتباطأ عنه، ولم ينصره. وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا. قالوا: يا رسول الله! هذا ننصره مظلوماً، فكيف ننصره ظالمًا؟ فقال: تأخذ فوق يديه" 2 رواه البخاري، ومسلم ، والترمذي. وروى أبو داود عن جابر، وأبي طلحة رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما من مسلم يخذل امرأ مسلمًا في موضع تنتهك فيه حرمته وينتقصُ فيه من عرضه إلا خذله الله في موطن يحب فيه نصرته. وما من امرىءٍ ينصر مسلمًا في موضع ينتقص فيه من عرضه، وينتهك فيه من حرمته إلا نصره الله في موطن يحب فيه نصرته"3 وعن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يحقره، التقوى هاهنا، التقوى هاهنا -يشيرإلى صدره- بحسب امرئ من الشر أن يحتقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام: دمه، وعرضه، وماله" 4 رواه مسلم.
وحديث الباب ذكره المنذري في "الترغيب والترهيب" وقال: رواه أبو الشيخ أيضاً، فيه رواية أحمد بن محمد بن يحيى، وفيه نظر عن أبيه. وجد المهدي هو: محمد بن عبد الله بن عباس، وروايته عن ابن عباس مرسلة. والله أعلم.
ـــــــ
1 رواه البخاري رقم "1458"في الزكاة، ومسلم رقم "19و31"في الإيمان، وأبو داود رقم "1584"في الزكاة. والترمذي رقم "625"، وابن ماجه رقم "1783"، وابن حبان رقم "156"من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
2 رواه أحمد المسند "3/ 201"، والبخاري رقم "2443و2444"، والترمذي رقم" 2255"وابن حبان رقم "5167"من حديث أنس رضي الله عنه.
3 رواه أحمد في المسند "4/ 30". وأبو داود رقم "4884"في الأدب من حديث جابر وأبي طلحة رضي الله عنهم. وإسناده ضعيف.
4 رواه مسلم رقم "2564". والبغوي في شرح السنة رقم "3549"من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(1/152)
125- "لست بناظر في حق عبدي حتى ينظر عبدي في حقي"1
ـــــــ
1رواه الطبراني في الكبير "12/ 12922". وأبو نعيم في الحلية "2/ 304 "والديلمي في مسند الفردوس "5/ 8132". وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد "1/ 51"وقال: رواه الطبراني في الكبير. وفي إسناده سلام الطويل متروك الحديث. ولم أر من وثقة. نقول: في إسناده سلام الطويل متروك. وزيد العمي ضعيف. وعصمة بن سليمان ترجم له الحافظ في اللسان ونقل عن البيهقي قوله فيه: لا يحتج به. فالإسناد ضعيف جدًا.
(1/152)
رواه الطبراني في الكبيرعن ابن عباس.
ش- معنى ألفاظه ظاهرة، والمعنى: أن الله -تبارك وتعالى- أخبرنا أنه لا ينظر في حق عبده، ومصالحه حتى ينظر العبد في حق مولاه جل وعز، وحق الله سبحانه وتعالى ينقسم إلى قسمين؛ الأول: يتعلق بالأعمال، والأفعال الظاهرة من صلاة، وصيام، وحج، وزكاة، واجتناب الكبائر، والتباعد من الصغائر، ومعاونة العباد، والإحسان إليهم، وغير ذلك مما جاءت به الشريعة الغرَّاء.
والقسم الثاني: يتعلق بالاعتقاد، والأعمال الباطنة، كاعتقاد أنَّ الله واحد، أحد، فرد، صمد، لم يلد، ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحد. ليس كمثله شيء، وهو السميع البصير، وأن الله أرسل رسلًا وأنبياء لإرشاد الخلق، وتبيين طرق الحق، يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، فيذعن العبد لهم، وينقاد، ويؤمن بما جاؤوا به إجمالًا، وتفضيلًا، ويؤمن بالكتب المنزلة على الرسل جميعًا، وأنها من عند الله جل، وعز إجمالًا وتفصيلًا، ويؤمن بالقدر خيره، وشره من الله تعالى، وحكمه، وقضائه.
وحق العبد: أن يتولى الله رعاية عبده، وحفظه، وستره، ويضمن له الرزق، ويوفقه لصالح الأعمال، ويحببه إلى خلقه، ويسهل له الأمور، ويكثر له الحسنات، ويمحو عنه السيئات، ويعفو عن مساويه، ويرفع منزلته دنيا وأخرى، ويدخله الجنة، وينعم عليه بأشياء كثيرة مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطرعلى قلب بشر.
فمتى قام العبد بحقوق الله جل ذكره، وتعالت أسماؤه؛ تجلى الله جل، وعلا على عبده، وأسدل عليه نعمه، وبره، وإحسانه، ووفقه لما يرضى، ويحب، فعلى الإنسان ألا يغفل عن الأعمال الصالحة، ويضيع وقته في قيل وقال، وإذا شتم هذا، وظلم ذاك، وجار، فإنه يأتي يوم القيامة وهو صفر اليدين من الحسنات، فيلقي عذاب ربه، وحتف نفسه.
اللهم إني أسألك أن توفقنا إلى صالح الأعمال، وتجنبنا مسويها؛ إنك على ما تشاء قدير!
(1/153)
126- "لقد خلقتُ خلقًا ألسنتهم أحلى من العسل، وقلوبهم أمرُّ من الصبر، فبي حلفت لأتيحنَّهم فتنةً تدع الحليم منهم حيران، فبي يغترون، أم علي يجترئون؟"1. رواه الترمذي عن ابن عمر.
ـــــــ
1 رواه الترمذي رقم"2406و2407"في الزهد من حديث ابن عمر رضي الله عنه. وإسناده ضعيف.
(1/154)
127- "لو أن عبدي استقبلني بقراب الأرض ذُنُوبًا، لا يشرك بي شيئًا؛ استقبلته بقرابها مغفرة" 1. رواه الطبراني عن أبي الدرداء.
ش- الحديث الأول: تقدَّم ذكر مثله مع تغيير في بعض ألفاظه. وقوله: "لأتيحنهم": لأقدرن، وأنزلن بهم فتنة. يُقال: أتاح الله لفلان كذا: أي قدره له، وأنزله به. وتاح له الشيء. وباقي الشرح تقدم، والحديث الثاني: تقدم برقم"112" فارجع إليه. والله أعلم.
ـــــــ
1 ذ كره الهيثمي في مجمع الزوائد "10/ 215"وقال: رواه الطبراني وفيه من لم أعرفهم. من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه نقول وهو حديث حسن بشواهده.
(1/154)
128- "لو أن عبادي أطاعوني؛ لأسقيتهم المطر بالليل، ولأطلعت عليهم الشمس بالنهار، ولما أسمعتهم صوت الرعد"1. رواه أحمد، والبزار، والحاكم عن أبي هريرة.
ش- السقي، والسقيا: أن يعطيه ما يشرب. والإسقاء: أن يجعل له ذلك حتى يتناوله كيف شاء، فالإسقاء أبلغ من السقي؛ لأن الإسقاء هو أن تجعل له ما سقي منه، ويشرب. قاله الراغب في مفرداته. والمطر: الماء المنكسب، وماء السحاب، وجمعه: أمطار، والرعد صوت السحاب، وروي: أنه ملك يسوق السحاب. وقيل: رعدت السماء، وبرقت، وأرعدت، وأبرقت. ويكنى بها عن التهدد.
ـــــــ
1 رواه أحمد في المسند" 2/ 259"ورقم "8708"، وأبو داود الطيالسي رقم "2586"، والحاكم في المستدرك "4/ 256"،وقال: صحيح الإسناد، وتعقبه الذهبي بقوله: صدقة ضعفوه. والبزار رقم "664"من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، نقول: وإسناده ضعيف
(1/154)
129- "لم يلتحف العباد بلحافٍ أبلغ عندي من قلة الطُّعم"1. رواه الديلمي عن ابن عباس.
ش- التحف بالثوب: تغطى به، واللحاف: ما يلتحف به. وكل شيء تغطيت به فقد التحفت به، وجمعه: لحف، والملحفة -بكسرأوله-: هي الملاءة التي تلتحف بها المرأة؛ والطعم-بالضم-: الأكل، وبالفتح: ما يؤديه ذوق الشيء من حلاوة، ومرارة، وغيرهما، وله حاصل.
والمعنى: أن الله تبارك اسمه أخبرنا:أن العباد لم يلتحفوا،ويتغطوا بلحاف،وغطاء يقيهم شدة البرد، ويدفع عنهم الأذى، ويحفظ صحتهم، ويقيها من الآلام والأمراض، والعلل أبلغ، وأحفظ، وأشد وقياة عند الله من قلة الطعام، فإن في قلة الطعام راحة للجسم، والعقل، وحفظهما من الأسقام، وقد جاء القرآن بذمِّ الشبع والإسراف في تناول الطعام والشراب، قال اله تعالى :{وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف:31] وبين الشرع أن شر وعاء ملأه ابن آدم بطنه، وأنه يكفيه ثلث للطعام، وثلث للشراب، وثلث لنفسه إذا كان لا محالة فاعلًا. روي الترمذي،
ـــــــ
1 رواه الديلمي في مسند الفردوس رقم "4465" من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وإسناده ضعيف.
(1/155)
وابنُ ماجه، وابنُ حبَّان في صحيحه من حديث المقدام بن معد يكرب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما ملأ آدمي وعاءً شرًا من بطنه، بحسب ابن آدم لقيمات يُقِمْن صلبه، فإن كان لا محالة فاعلًا فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنفسه" 1.
وإنما كان ملء البطن شرًا لما فيه من المفاسد الظاهرة، دينية، ودنيوية، فالشبع يورث البلاء، ويعوق الذهن عن التفكير الصحيح، وهو أيضًا مداعاة الكسل، والنوم، فمن أكل كثيرًا نام كثيرًا، ومن نام كثيرًا ضيع وقته، وقتله، وهو رأس ماله في الحياة العملية، فيخسر كثيرًا من مصالحه الدينية، والدنيوية.
ومن وصايا لقمان لابنه:يا بني! إذا امتلأت المعدة؛ نامت الفكرة، وخرست الحكمة وقعدت الأعضاء عن العبادة. هذا حال الشبع.
وأما حال الإقلال من الطعام والشراب: فالقلب يصفو، والقريحة تنتقد، والبصيرة تنفذ، والشهوة مغلوبة، والنفس مقهورة على أمرها، وقد أرشدنا صاحب الرسالة عليه أفضل الصلاة والتسليم إلى المقدار المناسب في الطعام، وهوما يقيم الحياة، ويحفظ الصحة، ويمكن الإنسان من القيام بواجبه الشخصي، والمشترك، وإن كان لابد مكثرًا منه يجعل ثلثي المعدة للطعام والشراب، ويترك ثلثها الباقي خاليًا حتى يتمكن من النفس بسهولة؛ وذلك أن البطن إذا امتلأت ضغطت على الحجاب الحاجز، فضغطت على الرئتين، فضاقت مجاري التنفس الذي هو ضروري لإصلاح الدم الفاسد، وتحويله إلى دم صالح تقوم به حياة الإنسان، وتحفظ صحته، ولذلك جاء الترغيب في الصوم، وأن الله يجزي به بنفسه؛ لأن أكبر مهذب للإنسان هو الصوم؛ لتقليل الطعام فيه، والله أعلم.
ـــــــ
1 رواه أحمد في المسند"4/ 132"، والترمذي رقم "2380"، وابن ماجه رقم "3349"، وابن حبان رقم"5236"، والحاكم "4/ 121و331"وصححه؛ ووافقه الذهبي من حديث المقدام بن معد يكرب رضي الله عنه. وهو كما قالا.
(1/156)
130- "ليس كل مصلٍ يصلي. إنما أتقبَّل الصلاة ممن تواضع لعظمتي، وكف شهواته عن محارمي، ولم يصر على معصيتي، وآوى الغريب، كل ذلك. وعزتي وجلالي إن نور وجهه لأضوأ عندي من نور الشمس! على أن أجعل الجهالة له علماً، والظلمة نورًا، يدعوني فألبيه، ويسألني فأعطيه، ويقسم علي فأبره، أكلؤه بقوتي، وأستحفظه ملائكتي،
(1/156)
مثله عندي كمثل الفردوس لايتسنى ثمرها، ولا يتغير حالها"1. رواه الديلمي عن حارثة بن وهب.
ش- التواضع: التذلل، والخشوع، يقال:تواضع لله: خشع، وذلَّ، والعظمة بفتحتين: الكبرياء. والكف: الترك، والمنع. والشهوات: جمع شهوة، وأصلها: نزوع النفس إلى ما تريده. وذلك في الدنيا ضربان: صادقة، وكاذبة، فالصادقة: ما يختل البدن من دونه، كشهوة الطعام عند الجوع، والكاذبة ما لا يختل من دونه. وقد يسمى المشتهي: شهوة، وقد يقال للقوة التي تشتهي الشيء: شهوة. والمحارم: تطلق على المعاصي، وعلى المنهيات، وعلى ترك المأمورات. والإصرار: التزام الشيء، والمداومة عليه. وأكثر ما يستعمل في الشروالذنوب. وآوى إلى كذا: انضم إليه. وآواه-بالمد-: رق له، ورحمه، وضمه إليه، وأنزله عنده. والغريب: الوحيد الذي لا أهل له، والبعيد عن الوطن، والأقارب، والأنصار. وبرَّ في قسمه، وأبر: صدق، وأبرالله حجه: قبله. وأكلؤه: أحرسه، والكلاءة: الحراسة. والفردوس: الحديقة، والبستان، يذكَّر، ويؤنث، عربية، واشتقاقها من الفردسة، وقيل لغة رومية، نقلت إلى العربية، والجمع فراديس.
والمعنى: أخبر الله تبارك وتعالى أن ليس كل مصلٍ إذا صلى له ثواب صلاته، وتقبل، بل لها شروط، وأركان، وسنن، ومستحبات، وهيئات. هذا كله ظاهرًا. ولها شروط باطنًا، منها: التواضع لله، والخشوع، وكف نفسه من الوقوع في شهواتها، والنظر إلى المحارم، فمن أتى بها كلها؛ قبلت صلاته، وجوزي عليها، وظهرت علامة ذلك عليه. قال الله تبارك وتعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت:45] ،ولا شك أن الصلاة التي تنهى عن ذلك هي الصلاة المقبولة ظاهرًا، وباطنًا، فلذلك كل شخص تجده يصلى، ويكثر الصلاة، وهو مرتكب الذنوب، والآثام؛ فإنه لم يأت بها كما أمر، فإنه وإن أحسن الظاهر؛ فإنه لم يحسن الباطن، وقد مدح الله في كتابه الحكيم الخاشعين في الصلاة، قال: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ، الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون:1-2] قال ابن لهيعة:عن عطاء بن يساررحمه الله تعالى عن سعيد بن جبير: {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون:2] يعني: متواضعين، لا يعرف من عن يمينه، ولا من عن شماله، ولا يلتفت من الخشوع لله عز وجل.
ـــــــ
1 رواه الديلمي في مسند الفردوس "4469"من حديث حارثة بن وهب رضي الله عنه. وإسناده ضعيف.
(1/157)
وخرَّج الإمام أحمد، والنسائي، والترمذي من حديث الفضل بن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الصلاة مثنى مثنى، تشهد في كل ركعتين، وتخشع، وتضرع، وتمسكن، وتقنع يديك -يقول ترفعهما إلى ربك عز وجل- وتقول: يا رب! يارب! يارب! فمن لم يفعل ذلك؛ فهي خداج"1 الخداج: النقصان، ومعناه هنا: أنه ناقص من الأجروالفضيلة، وكذلك الإصرار، والاستمرار على المعاصي، والتزامها؛ فإنه بسبب رفض الصلاة، وعدم قبولها. ويؤدي الغريب، ويحسن إليه، كل ذلك يفعله العبد لله عز وجل. ثم أقسم المولى جل وعز بعزته وجلاله: أن من كان موصوفاً بهذه الصفات الحميدة يكون نور وجهه أضوأ عنده من نور الشمس، ويجعل له الجهالة -إذا كان جاهلًا- علمًا، أو إذا كان عالماً يزده علمًا، ويجعل له الظلمة نورًا، فلا يرى ظلمة أمامه لا ليلًا، ولا نهاراً، فمن كان متصفًا بذلك يدعو الله جل وعز، فيجاب دعاؤه، ويلبي، ويسأل، فيعطى، ويقسم على الله جل علاه، فيبر قسمه، ويصدق يمينه، وزيادة على ذلك فإن الله عز وجل يكلؤه، ويحرسه بقوته، وحوله، ويستحفظه ملائكته، ويكون مثله عند الله كمثل جنة الفردوس، لا يتغير حالها، ولا يتلف ثمرها، أي: أن الله سبحانه وتعالى يجعله مقبولًا لكل أحد قلبًا، وقالبًا، ومن أين أتيته؛ وجدته نافعاً ذا فائدة دينية، ودنيوية. اللهم وفقنا لذلك يا رب!
والحديث ذكره الحافظ المنذري بألفاظ قريبة من هذا من رواية ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قال الله عز وجل: إنما أتقبل الصلاة ممن تواضع بها لعظمتي، ولم يستطل على خلقي، ولم يبت مصرًا على معصيتي، وقطع النهار في ذكري، ورحم المسكين، وابن السبيل، والأرملة، ورحم المصاب، وذلك نوره كنور الشمس، أكلؤه بعزتي، وأستحفظه ملائكتي، أجعل له في الظلمة نورًا، وفي الجهالة حلمًا، ومثله في خلقي كمثل الفردوس في الجنة "2 رواه البزار من رواية عبد الله بن واقد الحراني، وبقية رواته ثقات.
ـــــــ
1 رواه أحمد في المسند"4/ 167"، والترمذي رقم "385"في الصلاة، باب ما جاء في التخشع في الصلاة من حديث الفضل بن عباس. وإسناده ضعيف ورواه أحمد في المسند "4/ 167"، وأبو داود رقم" 1296"،وابن ماجه رقم "1325"من حديث المطلب بن ربيعة. رضي الله عنه. وإسناده ضعيف أيضاً.
2 تقدم تخريجه.
(1/158)
لو لا أن الذنب خير لعبدي المؤمن
...
131- "لولا أن الذنب خير لعبدي المؤمن من العُجْبِ ما خليت
(1/158)
بين عبدي المؤمن وبين الذَّنب" 1. رواه أبو الشيخ عن كليب الجهني.
ش- الذنب: يستعمل في كل فعل يستوخم عقباه اعتبارًا بذنب الشيء، ولهذا يسمى الذنب: تبعةاعتبارًا لما يحصل من عاقبته، وجمع الذنب: ذنوب، والعجب -بضم الغين المهملة وسكون الجيم-: يُقال: فلان أعجب بنفسه وبرأيه -على ما لم يسم فاعله- فهو معجب بفتح الجيم، والاسم: العجب بضم العين: الزهو، والكبر، وإنكار ما يرد على الإنسان. ويظن بنفسه ما ليس عند غيره، فيرى رأيه صوابًا، ورأي غيره خطأ، وخلاه: تركه، وخاليته: تاركته.
وأبو الشيخ: تقدمت ترجمته، وكليب الجهني هو صحابي.
والمعنى -والله أعلم-: أن الله سبحانه وتعالى يخبرنا: أن الذنب للعبد المؤمن خير له من العجب، ولولا ذلك لما خلى الله جل ذكره بين عبده المؤمن وبين الذنب، بأن كفه، وأمسكه، وحفظه عن اقتراف ذنب ما؛ لأن العبد إذا أذنب ذنبًا صغيرًا كان أو كبيرًا، يشعر بأنه عمل عملًا سيئًا، وخالف سيده، وأغضب خالقه، واقترف ما يستحق الذم، واللوم عليه من مولاه، فيتراجع، ويصغر في نفسه، وينقبض، ويرى نفسه مخطئة، فيعالج طرق الرضا، ويطرق باب الصلح، ويتذلل، ويتواضع لمولاه؛ ليقبل، ولا يؤاخذ بذنبه، ويعفو عن ذلك، ويسامح فمن هذا ما رواه مسلم في صحيحه وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا؛ لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون، فيستغفرون الله، فيغفر لهم" 2 وأما إذا لم يقترف ذنبًا، ولم يقدم على معصية، وداوم على البروالتقوى، فينظر إلى غيره ممن غرق في بحارالمعاصي، أوأتى مخالفة، أو ارتكب محظورًا؛ فإنه يرى نفسه خالية من كل ذلك، فيدخله العجب، فلا يلجأ إلى بارئه، ويستفتح بابه، ويسأله، ويتواضع له، ويتذلل، فلا تظهر عظمة الربِّ وجلاله، ويخفى سرُّ الألوهية.
روى البزار عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قال: "لوم لم تذنبوا لخشيت عليكم ما هو أكبر من ذلك: العجب، العجب" 3 لأن صاحب الذنب لا يأمن من مكر
ـــــــ
1 ذكره المتقي الهندي في كنز العمال جـ/3/ رقم "7672"وقال: رواه أبو الشيخ من حديث كليب الجهني. رضي الله عنه.
2 رواه مسلم رقم "2749"في التوبة من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
3 رواه البزار رقم "3666"، والقضاعي في مسند الشهاب رقم "1447"،=
وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد"10/ 269"وقال: رواه البزار. وإسناده جيد. نقول: في إسناده سلام بن أبي الصهباء، قال البخاري: منكر الحديث وضعفه يحيى، وحسَّن حديثه أحمد. وقال البزار: وهو مشهور روى عنه عفان، والمتقدمون، نقول: وللحديث شواهد يحسن بها إن شاء الله.
(1/159)
الله وعذابه كما قدمنا آنفًا، ولا يرى له منة، وحقًا عند الله تعالى، بل يكون دائمًا في خوف، ووجل من ذنبه،راجيًا عفو مولاه؛ لأنه يعرف عصيانه، فيرجو له التوبة، والمعجب مغرور بعلمه، وعمله، فتوبته بعيدة، فهو من قبيل {وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [ألكهف:104] فالعجب يصرف وجه العبد عن الله، والذنب يصرفه إليه؛ لأن العجب ينتج الاستكبار، والذنب ينتج الاضطرار، ويؤدي إلى الافتقار. وخير أوصاف العبد: افتقاره، واضطرارها إلى ربه، وعلى هذا يظهر لك سر الحديث، وما اشتمل عليه من الكنوز، والله أعلم.
(1/160)
132- "ما تقرب إلي العبد بمثل أداء فرائضي، وإنه ليتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته؛ كنت رجله التي يمشي بها، ويده التي يبطش بها، ولسانه الذي ينطق به، وقلبه الذي يعقل به، إن سألني أعطيته، وإن دعاني أجبته" 1. رواه ابن السني عن ميمونة.
ش- التقرب: طلب القربة، وأخذ المثوبة. والفرائض: جمع فريضة، بمعنى مفروضة، وأصل الفرض:القطع، وفي الشرع: ما أوجبه الله تعالى، وألزمه عباده، وهو أعم من أن يكون فرض عين، أو كفاية، والنوافل: جمع نافلة: الزيادة، والتنقل: التطوع. والحب: تقدم الكلام عليه غير مرة. والبطش: الأخذ بعنف. والقلب: تقدم الكلام عليه.
والمعنى: أن الله عز وجل أخبر أن العبد لم يتقرب إلى الله، ويتطلب القربة من رحمته، والمثوبة من عنايته به بوسيلة عمل إليه جل ذكره من الذي فرضه عليه، وألزمه به، وقدره، ويشمل ذلك فعل الواجبات، وترك المحرمات؛ لأن ذلك كله من فرائض
ـــــــ
1 رواه أبو يعلى رقم "7087". وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد"10/ 270"وقال: رواه أبو يعلى، وفيه يوسف بن خالد السمتي، وهو كذاب. نقول: ويشهد له حديث أبي هريرة عند البخاري رقم" 6502".
(1/160)
الله التي افترضها على عباده. قال الحافظ زين الدين بن رجب1: وأداء الفرائض أفضل الأعمال، كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أفضل الأعمال أداء ما افترض الله، والورع عما حرم الله، وصدق النية فيما عند الله. وقال عمر بن عبد العزيز في خطبته: أفضل العبادات أداء الفرائض، واجتناب المحارم، وذلك أن الله تعالى إنما افترض على عباده هذه الفرائض ليقربهم عنده، ويوجب لهم رضوانه، ورحمته. وأعظم فرائض البدن التي تقرب إليه الصلاة، كما قال تعالى: {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} [العلق:19] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد "2 وقال: "إذا كان أحدكم يصلي؛ فإنما يناجي ربه، وربه بينه وبين القبلة" وقال: "إن الله ينصب وجهه لوجه عبده في صلاته ما لم يلتفت" 3 ومن الفرائض المقربة إلى الله تعالى عدل الراعي في رعيته سواء كانت رعيته عامة كالحاكم أو خاصة كعدل آحاد الناس في أهله وولده كما قال صلى الله عليه وسلم: "كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته" 4 وروى الترمذي عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن أحب العباد إلى الله يوم القيامة وأدناهم إليه
ـــــــ
1 الحافظ زين الدين بن رجب: هو الإمام الحافظ العلامة، زين الدين: عبد الرحمن بن أحمد بن عبد الرحمن بن محمد بن أبي البركات مسعود السلامي البغدادي، ثم الدمشقي الحنبلي الشهير بابن رجب ولد في بغداد سنة "736"هـ، له تصانيف كثيرة، منها "شرح علل الترمذي" ومجموعة رسائل يتضمن كل منها شرح حديث واحد طبع منها: "الحكم الجديرة بالإذاعة من قول النبي صلى الله عليه وسلم: بعثت بالسيف بين يدي الساعة". وشرح حديث "ما ذئبان جائعان أُرسلا في غنم"، "واختيار الأولى في شرح اختصام الملأ الأعلى" توفي رحمه الله سنة "795"هـ.
2 رواه مسلم رقم "482 "في الصلاة وأبو داود رقم "875"في الصلاة. والنسائي "2/ 226"من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
3 رواه أحمد في المسند "5/ 172"، وأبو داود رقم "909"في الصلاة، والنسائي "3/ 8"في السهو، والحاكم "1/ 296"وصححه ووافقه الذهبي من حديث أبي ذر رضي الله عنه مرفوعًا بلفظ: "لا يزال الله مقبلًا على العبد وهو في صلاته ما لم يلتفت، فإذا التفت؛ انصرف عنه" وهو حديث صحيح.
4 رواه البخاري رقم "5188"في النكاح. ومسلم رقم "1819". والترمذي رقم"1705". من حديث ابن عمر رضي الله عنه.
(1/161)
مجلسًا إمامٌ عادلٌ"1 هذه درجة أولى للعبد المؤمن، فإذا قام بأداء الفرائض؛ سقط عنه الطلب، وخلص من ربقة التكليف.
والدرجة الثانية هي أرقى من الأولى، وأرفع، وحال صاحبها أعلى، وهو من أتى بالفرائض، وقام بها تمامًا، وزاد عليها -تقربًا إلى الله جل، وعز- النوافل والطاعات الزئادة عن الفرائض والواجبات، واجتهد فيها، وانكفَّ عن دقائق المكروهات، وهذه درجة السابقين المقربين، ومن أعظم ما يقترب به العبد إلى مولاه من النوافل كثرة تلاوة القرآن، وسماعه بتفكر،وتدبر،وتفهم. روى الترمذي عن أبي أمامة مرفوعًا: "ما تقرب العبد إلى الله تعالى بمثل ما خرج منه"2 يعني: القرآن، ومن ذلك كثرة ذكر الله الذي يتواطأعليه القلب، واللسان. روي البزار في مسنده عن معاذ رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله! أخبرني بأفضل الأعمال، وأقربها إلى الله تعالى.قال: "أن تموت ولسانك رطب من ذكر الله تعالى" 3 ومتى أكثر العبد من فعل الطاعات، والبعد عن المخالفات؛ أوجب ذلك حب الله، فيحبه الله، ومتى أحبه الله؛ رزقه محبته، وطاعته، والاشتغال بذكره، وخدمته، فيصيرالشخص لا يرى إلا الله، ولا يسمع إلا بالله، ولا يمشي إلا لله، ولا ينطق إلا بالله، ولا ينظر إلا بالله، ولا يبطش إلا بالله... إلخ. قال الحافظ ابن رجب: المراد من هذا الكلام - أي قوله تعالى: "كنت رجله التي يمشي بها" إلخ-: أن من اجتهد بالتقرب إلى الله تعالى بالفرائض، ثم بالنوافل قربه إليه، فيمتلئ قلبه بمعرفة الله تعالى، ومحبته، وعظمته، وخوفه، ومهابته، وإجلاله، والأنس به، والشوق؛ حتى يصير في قلبه من المعرفة مشاهدًا له بعين البصيرة كما قيل:
ـــــــ
1 رواه الترمذي رقم "1329"في الأحكام. باب ما جاء في الإمام العادل، وإسناده ضعيف.
2 رواه أحمد في المسند "5/ 268". والترمذي رقم "2913"وقال الترمذي: حديث غريب، لا نعرفه إلا من هذا الوجه. وبكر بن خنيس تكلم فيه ابن المبارك، وتركه في آخر عمره نقول: وإسناده ضعيف.
3 رواه البزار رقم "3059"، وابن حبان في صحيحه "818"،وابن السني رقم "2 "والطبراني في الكبير"20/ 106و107". وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد "10/ 74"وقال: رواه البزار وإسناده حسن. من حديث معاذ رضي الله عنه، نقول: وهو حديث حسن، وله شواهد.
(1/162)
ساكن في القلب يعمُره ... لست أنساه فأذكره
غاب عن سمعي وعن بصري ... فسويد القلب يبصرُه
قال الفضيل بن عياض1: إن الله تعالى يقول: "كذب من ادَّعى محبتي، ونام عني. أليس كل محب يحب خلوة محبوبه؟ ها أنا مطَّلع على أحبابي، وقد مثلوني بين أعينهم، وخاطبوني على المشاهدة، وكلموني بحضور، غدًا أقرأعينهم في جناتي" ومن أشار إلى غير هذا فإنما يشير إلى الإلحاد من الحلول والاتحاد والله ورسوله بريئان منه، وإذا وصل العبد إلى هذه المنزلة اقتضى أنه إذا سأل الله شيئًا أعطاه إياه، وإذا دعاه بشيء أجاب دعاءه، فيصير مجاب الدعوة لكرامته على الله تعالى، وقد كان كثير من السلف الصالح من الصحابة وغيرهم مجاب الدعوة، ولولا الإطالة لسردت لك جملة صالحة من ذلك. والله أعلم.
ـــــــ
1 الفضيل بن عياض هو: أبو الفضل عياض بن موسى بن عياض بن عمرو بن موسى بن عياض بن محمد بن عبد الله بن موسى بن عياض اليحصبي الإمام العلامة - يكنى: أبا الفضل سبتى الدار والميلاد، أندلسي الأصل، له تصانيف كثيرة منها: "كمال المعلم في شرح صحيح مسلم" و "الشفا بتعريف حقوق المصطفى صلى الله عليه وسلم". أبدع فيه كل الإبداع. ولد في سبتة في شهر شعبان سنة "496 "هـ وتوفي رحمه الله بمراكش سنة "544"هـ رحمه الله.
(1/163)
133- "ما تقرب إلي عبدي المؤمن بمثل الزهد في الدنيا، ولا تعبدني بمثل أداء ما افترضته"1. رواه القضاعي عن ابن عباس.
ش- زهد في الشيء: تركه، وأعرض عنه؛ فهو زاهد، والجمع زهاد. والدنيا: عبارة عن الأعيان الثابتة، وهي: الأرض، وما عليها من المواليد الثلاثة، وهي: الجمادات، والنباتات، والحيوانات، مما للإنسان فيها حظ، ولذة مالية، أو جاهية، وله في صلاحها شغل لحظه، أو لحظ غيره، فيندرج فيه الحرف، والصناعات. وقد تقدم معنى التقريب إلى الله عز وجل في الحديث المتقدم، وقد ذكرنا: أن الله جل ذكره يتصف بالتقرب، وأتينا هناك بما يشفي الصدر.
والمعنى -والله أعلم-: أن الله عز وجل يخبرنا بأن العبد المؤمن ما تقرب إليه جل،
ـــــــ
1 رواه القضاعي رقم "1458"من حديث ابن عباس. وفي إسناده جويبر متروك، وفيه انقطاع بين ابن عباس، والضحاك. والحديث ضعيف.
(1/163)
وعزَّ بعمل مثل الزهد في الدنيا، ولا تعبد الله تعالى بمثل أداء الفرائض. أما الزهد في الدنيا فقد جاء القرآن بالحث عليه، وتحبيبه إلى خلقه، ومدحه، والتنفير من ضده، وذم الرغبة في الدنيا. قال الله تعالى: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ، وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [الأعلى:16-17] ،وقال تعالى: {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} [النحل: 96] وقال تعالى: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلادِ} [الحديد:20] ،وقال تعالى: {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى} [النساء:77] ،وقال تعالى: {وَلا تَمُدَّنَ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [ طه: 131] وقال تعالى: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران:185] ، والقرآن مليء بذلك.
ومن الأحاديث: ما رواه ابن ماجه وغيره عن أبي العباس سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! دلني على عمل إذا عملته أحبني الله، وأحبني الناس فقال: "ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما عند الناس يحبك الناس" 1 وهو حديث حسن، رواه بأسانيد حسنة، كما قال النووي رحمه الله. وروي مسلم في صحيحه عن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أنه مرَّ بالسوق والناس مكتنفوه، فمر بجِديٍ أسك ميت، فتناوله، فأخذ بأذنه، فقال: أيكم يحب أن هذا له بدرهم؟ فقالوا: ما نحب أنه لنا بشيء! وما نصنع به؟! قال: أتحبون أنه لكم؟ قالوا: والله لو كان حياً لما رغبنا فيه؛ لأنه أسك، فكيف وهو ميت؟! فقال: والله للدنيا أهون على الله من هذا عليكم" 2. وقوله: أسك؛ أي: مصطلم الأذنين، مقطوعهما.
وخرَّج الترمذي من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء" 3.
ـــــــ
1 رواه ابن ماجه رقم"4102"والقضاعي في مسند الشهاب رقم "643"والحاكم "4/ 313"، والطبراني في الكبير رقم"5972"من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه. وفي إسناده خالد بن عمرو، قال أحمد وابن معين: أحاديثه موضوعة. وقال البخاري وأبو زرعة: منكر الحديث. وضعفه أبو داود والنسائي. وقول الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد رده الإمام الذهبي بقوله: خالد بن عمرو القرشي وضاع. نقول: وقد حسن الحديث النووي والعراقي بشواهده.
2 رواه مسلم رقم "2957"في الزهد والرقائق، وأبو داود رقم "186"في الطهارة من حديث جابر رضي الله عنه.
3 رواه الترمذي رقم "2321". وابن ماجه رقم "2410"من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه. وهو حديث حسن.
(1/164)
وقد أكثر الناس الكلام في الزهد، وكل أشار إلى ذوقه، ونطق عن حاله وشاهده، وقد سُئِل الرسول صلى الله عليه وسلم عن الزهد فأجاب: خرَّج الترمذي،وابن ماجه من رواية عمرو بن واقد عن يونس بن حليس، عن أبي إدريس الخولاني، عن أبي ذر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الزهادة في الدنيا ليست بتحريم الحلال، ولا إضاعة المال، ولكن الزهادة في الدنيا ألا تكون بما في يدك أوثق مما في يد الله، وأن تكون في ثواب المصيبة إذا أنت أصبت بها أرغب فيها لو أنها بقيت لك"1 قال الترمذي: غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وعمرو بن واقد منكرالحديث، والصحيح وقفه كما رواه الإمام أحمد في كتاب الزهد.
وقال سفيان الثوري: الزُهد في الدنيا: قصر العمل ليس بأكل الغليظ، ولا لبس العباء. وقال ابن الجلاء2: الزهد: هو النظر إلى الدنيا بعين الزوال، فتصغر في عينك، فيسهل عليك الإعراض عنها. وقال الجنيد3: الزهد: خلو القلب عما خلت منه اليد. وقال الإمام أحمد: الزهد في الدنيا: قصر الأمل. وعنه رواية أخرى: أنه عدم فرحه بإقبالها، وحزنه على إدبارها، فإنه سئل عن الرجل يكون معه ألف دينار هل يكون زاهدًا؟ فقال: نعم على شريطة ألا يفرح إذا زادت، ولا يحزن إذا نقصت. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه: الزهد: ترك ما لا ينفع في الآخرة، والورع:
ـــــــ
1 رواه الترمذي رقم "2341"في الزهد. وابن ماجه رقم "4100". وقال الترمذي هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه. نقول: في إسناده عمرو بن واقد منكر الحديث، والحديث ضعيف جدًا.
2 ابن الجلاء: شيخ الشام، أبو عبد الله أحمد بن يحيى، وقيل: محمد بن يحيى، صحب والده، وذا النون المصري وحكى عنه. قال ابن الجلاء: كان أبي يعظ، فيقع كلامه في القلوب فسمي: جلاء القلوب. توفي سنة "136"هـ.
3 الجنيد: هو شيخ الصوفية، الجنيد بن محمد بن الجنيد النهاوندي، ثم البغدادي القواريري الخراز، حدث عنه جعفر الخلدي وغيره. وقال ابن المناوي: سمع الكثير، وشاهد الصالحين، وأهل المعرفة، ورزق الذكاء، وصواب الجواب، لم ير في زمانه مثله في عفة وعزوف عن الدنيا. توفي رحمه الله سة "297"هـ.
(1/165)
ترك ما تخاف ضرره في الآخرة. قال تلميذه العلامة شمس الدين بن قيم الجوزية في كتابه: "مدارك السالكين": هذه العبارة من أحسن ما قيل في الزهد، والورع، وأجمعها. قال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله: الزهد على ثلاثة أوجه: ترك الحرام، وهو زهد العوام. والثاني: ترك الفضول من الكلام، وهو زهد الخواص. والثالث: ترك ما يشغل عن الله، وهو زهد العارفين. ومتعلق الزهد ستة أشياء، لا يستحق العبد اسم الزهد حتى يزهد فيها، وهي المال، والصور، والرياسة، والناس، والنفس، وكل ما دون الله عز وجل، وليس المراد رفضها من الملك، بل المراد رفضها من القلب، فقد كان نبيا الله: سليمان، وداود عليهما السلام من أزهد أهل زمانهما، ولهما من المال والملك والنساء مالهما. وكان نبينا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم من أزهد البشرعلى الإطلاق وله تسع نسوة. وكان علي بن أبي طالب كرم اله وجهه، وعبد الرحمن بن عوف، والزبير، وعثمان من الزهاد مع ما لهم من الأموال، وكان الحسن بن علي رضي الله عنهما من الزهاد مع أنه كان من أكثر الأمة محبة للنساء، ونكاحًا لهن ،وأغناها. وكان عبد الله بن المبارك من الأئمة الزهاد مع مال كثير، وكذلك الليث بن سعد1، وسفيان من أئمة الزهاد، وكان له رأس مال يقول: لولا هو لتمندل بنا هؤلاء.
قال الحافظ زين الدين بن رجب: واعلم: أن الذم الوارد في الكتاب والسنة للدنيا ليس هو راجعًا إلى زمانها الذي هو: الليل، والنهار المتعاقبان إلى يوم القيامة، فإن الله تعالى جعلها خلفةً لمن أراد أن يذكر،أو أراد شكورًا. ويروى عن عيسى عليه السلام: أنه قال: "إن هذا الليل والنهار خزانتان، فانظروا ما تضعون فيهما" وكان يقول عليه الصلاة والسلام: اعملوا، الليل لما خلق له، والنهار لما خلق له. وقال مجاهد2: ما من يوم إلا يقول: ابن آدم! قد دخلت عليك اليوم، ولن أرجع إليك بعد اليوم، فانظر ماذا تعمل في، فإذا انقضى طوى، ثم يختم عليه، فلا يفض حتى يكون
ـــــــ
1 الليث بن سعد بن عبد الرحمن: الإمام الحافظ شيخ الإسلام. وعالم الديار المصرية. أبو الحارث الفهمي. مولى خالد بن ثابت بن ظاعن، سمع عطاء ابن أبي رباح. وابن أبي مليكة. توفي رحمه الله "175"هـ.
2 مجاهد بن جبر: الإمام شيخ القراء، والمفسرين. أبو الحجاج المكي الأسود مولى السائب بن أبي السائب المخزومي روي عن ابن عباس فأكثر وأطاب. وعنه أخذ القرآن، والتفسير، والفقه. وعن أبي هريرة. وعائشة. وسعد بن أبي وقاص. توفي رحمه الله وهو ساجد سنة "102"هـ.
(1/166)
هو الله الذي يفضه يوم القيامة، ولا الليل إلا تكون كذلك، وقد أنشد بعض السلف:
إنما الدنيا إلى الجنة والنار طريق ... والليالي مَتجرُ الإنسان والأيام سوق
وليس الذم راجعًا إلى مكان الدنيا الذي هوالأرض؛ التي جعلها الله لبني آدم مهادًا ومسكنًا، ولا إلى ما أودع الله من الجبال، والبحار، والأنهار، والمعادن، ولا إلى ما أنبته فيها من الزرع، والشجر، ولا إلى ما بث فيها من الحيوانات، وغير ذلك، فإن ذلك كله من نعم الله على عباده ؛لما لهم فيه من المنافع، ولهم فيه من الاعتبار، والاستدلال على وحدانية صانعه، وقدرته، وعظمته؛ وإنما الذم راجع إلى أفعال بني آدم الواقعة في الدنيا؛ لأن غالبها واقع على غير الوجه الذي تحمد عاقبته، بل يقع على ما تضر عاقبته، أو لا تنفع، كما قال عز وجل: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً} [الحديد:20].
فائدة اختلف الناس في الزهد هل هو ممكن في هذه الأزمنة،أم لا؟ فقال بعضهم: الزهد لا يكون إلا في الحلال، ولا حلال في الدنيا، فلا زهد. وقال بعضهم: بل الحلال موجود فيها، وفيها الحرام كثيرًا، وعلى تقدير ألا يكون فيها الحلال فهذا أدعى إلى الزهد فيها، وتناول ما يتناوله المضطر منها، كتناوله للميتة، والدم، ولحم الخنزير. وفي ذلك كفاية. والله أعلم.
(1/167)
134- "ما غضبت على أحد غضبي على عبدٍ أتى معصية، فتعاظمها في جنب عفوي، فلو كنت معجلاً العقوبة، أو كانت العجلة من شأني لعجلتها للقانطين من رحمتي، ولولم أرحم عبادي إلا من خوفهم من الوقوف بين يدي لشكرت ذلك لهم، وجعلت ثوابهم منه الأمن لِما خافوا"1. رواه الرافعي عن ناجية بن محمد بن المنتجع عن جده.
ش- الغضب تقدم الكلام عليه في شرح الحديث "27"والقانطين جمع قانط: اليائس، والقنوط: اليأس من الخير، يقال: قنط يقنط بفتح الماضي وكسرالمضارع - قنوتا. وقنط يقنط -بكسر الماضي وفتح المضارع- والشكر: تصور النعمة
ـــــــ
1 ذكره المتقي الهندي في كنز العمال جـ/4/ رقم"10418"وقال: رواه الديلمي، وهو في "المنتخب" عن المنتجع. والحديث ضعيف لجهالة حال ناجية بن محمد المنتجع، ولعله لا تثبت لجده هذا صحبة.
(1/167)
وإظهارها، ويضادُّه الكفر، وهو نسيان النعمة، وسترها، والثواب: المجازاة. يقال: أثابه يثيبه، إثابة، والاسم: الثواب. ويكون في الخير والشر إلا أنه بالخير أخص، وأكثر استعمالًا. والأمن: طمأنينة النفس، وزوال الخوف، وباقي ألفاظ الحديث منها ما تقدم الكلام عليه، ومنها ما هو ظاهر.
والمعنى: أن الله تبارك، وتعالى يخبرنا على لسان نبيه المصطفى صلى الله عليه وسلم: أنه ما غضب علي أحد من عباده غضبه على عبد أتى معصية من المعاصي صغيرة، أو كبيرة، فتعاظمها في جنب عفو الباري تعالى، وقنط من رحمته. فلو كان الله سبحانه معجلًا العقوبة لأحد من الناس، أو كانت العجلة من شأنه عزوجل؛ لعجل العقوبة للقانطين من رحمة الله.
ففيه حث على المبادرة إلى الله تعالى بعد فعل الذنب، واقتراف المعصية، بالإنابة إليه، واعتقاد الرجاء، والعفو، واستبعاد القنوط، واليأس من رحمة الله وعفوه.
وقد جاء القرآن الحكيم ببيان أن باب الله مفتوح للعصاة، والمذنبين، والمقصرين على أنفسهم مهما بلغت ذنوبهم سوى الشر، وحض المذنبين على الإنابة والرجوع إلى الله، وعدم القنوط واليأس من رحمة الله تعالى، فمن ذلك قوله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:54] وقال تعالى: {قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ ، قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ} [الحجر:55-56] وقال تعالى: {إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف:87] وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:116].
وقد تقدم أحاديث في هذا الكتاب منها: ما رواه أحمد عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال الله تعالى: "عبدي ! ما عبدتني ورجوتني فإني غافر لك على ما كان فيك، ويا عبدي! إن لقيتني بقراب الأرض خطيئة ما لم تشرك بي لقيتك بقرابها مغفرة" 1 وروى الترمذي -وقال: حديث حسن- عن أنس رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: قال الله تعالى: "يا بن آدم! إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك ما كان منك، ولا أبالي. يابن آدم! لو بلغت ذنوبك عنان السماء، ثم استغفرتني غفرت لك.
ـــــــ
1 رواه أحمد في المسند "5 /147". من حديث أبي ذر رضي الله عنه، وهو حديث صحيح.
(1/168)
يا ابن آدم! لو أتيتني بقراب الأرض خطايا، ثم لقيتني لا تشرك بي شيئًا؛ لأتيتك بقُرابها مغفرة" 1. وروى ابن ماجه بإسناد جيد عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لوأخطأتم حتى تبلغ خطاياكم السماء، ثم تبتم لتاب عليكم" 2. وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: "كان فيمن كان قبلكم رجل قتل تسعة وتسعين نفساً، فسأل عن أعلم أهل الأرض، فدُلَّ على راهب، فأتاه، فقال: إنه قتل تسعة وتسعين نفسًا، فهل له من توبة؟ فقال: لا. فقتله، فكمل به مئة، ثم سأل عن أعلم أهل الأرض، فدل على رجل عالم، فقال: إنه قتل مئة نفس، فهل له من توبة؟ فقال: نعم، من يحول بينه وبين التوبة؟ انطلق إلى أرض كذا، وكذا، فإن بها أناساًً يعبدون الله، فاعبد الله معهم، ولا ترجع إلى أرضك، فإنها أرض سوء. فانطلق حتى إذا نصف الطريق أتاه الموت، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة، وملائكة العذاب، فقالت ملائكة الرحمة: جاء تائبًا مقبلًا بقلبه إلى الله وقالت ملائكة العذاب: إنه لم يعمل خيرًا قط، فأتاه ملك في صورة آدمي، فجعلوه بينهم، فقال: قيسوا ما بين الأرضين فإلى أيتهما كان أدنى؛ فهو له، فقاسوا، فوجوده أدنى إلى الأرض التي أراد، فقبضته ملائكة الرحمة". وفي رواية: "فأوحى الله إلى هذه أن تباعدي، وإلى هذه أن تقربي؛ وقال: قيسوا بينها. فوجدوه إلى هذه أقرب بشبر، فغفر له" 3. وفي رواية قال قتادة قال الحسن: "ذكر لنا أنه لما أتاه ملك الموت نأى بصدره نحوها". رواه البخاري، ومسلم، وابن ماجه بنحوه.
وقوله: "ولو لم أرحم عبادي إلا من خوفهم...إلخ" أي: أن الله سبحانه يخبرنا: أنه لو لم يرحم عباده إلا من خوفهم من الوقوف بين يديه؛ لشكر ذلك لهم، وجعل ثوابهم ذلك الأمن لما خافوا.
ـــــــ
1 رواه الترمذي رقم "3534"في الدعوات باب رقم "106" وقال الترمذي حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه. أقول: وفي إسناده كثير من فائد لم يوثقه غير ابن حبان. وللحديث شواهد يتقوى به. فهو بها حسن.
2 رواه ابن ماجه رقم"4248". وذكره الغزالي في الإحياء "4/ 12"وقال العراقي في تخريجه: إسناده حسن وله شاهد من حديث أنس رضي الله عنه.
3 رواه أحمد في المسند "3/ 20 و72"، والبخاري رقم "3470"، ومسلم رقم" 2766". وابن ماجه رقم"2622"من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
(1/169)
ففيه الترغيب في التوبة، والرجوع إلى الله سبحانه وتعالى، ولاسيما الخائفين من الله تعالى الذين أذنبوا، وخافوا من الوقوف بين يدي الله جل ذكره يوم الموقف الأكبر، اليوم الذي تظهر فيه عورات الناس، ويشرف المطيع، ويذل فيه العاصي غير التائب من الذنب. روى الترمذي، وقال: حديث حسن غريب، والبيهقي عن أنس رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "يقول الله عز وجل: أخرجوا من النار من ذكرني يومًا أوخافني في مقام"1.
وقوله: "رواه الرافعي" هو العالم الفقيه عبد الكريم بن محمد بن عبد الكريم الرفاعي، القزويني، الشافعي، كان من أئمة الشافعية أصحاب التآليف القيمة منها: المحرر في فقه الشافعية، والتدوين في أخبار قزوين، ولعله روى الحديث فيه، وفتح العزيز-وشرعنا بطبعه، وتم منه مع المجموعة شرح المهذب 12 جزءًا ونسأل الله الإتمام- كان له مجلس بقزوين في التفسير، والحديث، وتوفي فيها سنة ثلاث وعشرين وستمئة والله أعلم.
ـــــــ
1 رواه الترمذي رقم "2597"في صفة جهنم. والبيهقي في الشعب رقم "740"من حديث أنس رضي الله عنه. وإسناده ضعيف.
(1/170)
135- "ما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فأكون سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ولسانه الذي ينطق به، وقلبه الذي يعقل به، فإذا دعاني أجبته، وإذا سألني أعطيته، وإنْ استنصرني نصرته، وأحب ما تعبدني عبدي به النصح لي"2. رواه الطبراني في الكبيرعن أبي أمامة.
ش- تقدم شرح الحديث غير مرة بألفاظ متقاربة من هذا مع زيادة، ونقص فيها، فلا حاجة للإعادة، وهنا زيادة فيه لفظ: "النصح لي" فلا بأس من الكلام عليه بما يناسبه، فنقول:
النصح في اللغة: الخلوص. يقال: نصحته، ونصحت له، والنصح: تحري فعل،
ـــــــ
1 رواه الترمذي رقم "2597"في صفة جهنم. والبيهقي في الشعب رقم "740"من حديث أنس رضي الله عنه. وإسناده ضعيف.
2 رواه الطبراني في الكبير "7833 و7880"وفي الأولى عبيد لله بن زحر. ضعيف. وفي الثانية عثمان بن أبي العاتكة. ضعيف، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد"
2/ 248"وقال: رواه الطبراني، وفي الفريقين علي بن زيد ضعيف. من حديث أبي أمامة رضي الله عنه. نقول إسناده ضعيف. ولبعض فقرائه شواهد.
(1/170)
أو قول فيه صلاح صاحبه، وهو من قولهم: نصحت لهم الود؛ أي: أخلصته. وناصح العسل: خالصه. أو من قولهم: نصحت الجلد: خطته. والناصح: الخياط. والنصاح: الخيط. والنصيحة: كلمة يُعبَّر بها عن جملة، هي إرادة الخير للمنصوح له، وليس يمكن أن يعبرهذا المعنى بكلمة واحدة تجمع معناه غيرها.
وقد جاء القرآن يحكي نصح الأنبياء لقومهم، قال حكاية عن صالح عليه الصلاة والسلام: {فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ} [الأعراف:79] وقال تعالى حكاية عن نبي الله شعيب عليه الصلاة والسلام: {فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ} [الأعراف:93] وقال تعالى: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة:91] يعني: أن من تخلف عن الجهاد لعذر؛ فلا حرج عليه بشرط أن يكون ناصحاً لله ورسوله في تخلفه، فإن المنافقين كانوا يظهرون الأعذار كاذبين، غير ناصحين لله ورسوله، وقال تعالى حكاية عن نبي الله نوح عليه السلام: {أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:62] وقال تعالى حكاية عن نبي الله هود عليه السلام :{أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ} "الأعراف:68" وقال تعالى حكاية عن إخوة يوسف: {قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ} [يوسف:11].
وروى مسلم في صحيحه عن أبي رقية تميم بن أوس الداري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الدين النصيحة -ثلاثًا- قلنا: لمن يا رسول الله؟! قال: لله عز وجل، ولكتابه، ولرسوله صلى الله عليه وسلم، ولأئمة المسلمين، وعامتهم" 1 وروى الإمام أحمد من حديث أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال الله عز وجل: "أحب ما تعبدني به عبدي النصح لي" 2 وهو قطعة من حديث الكتاب، وقد ورد في أحاديث كثيرة النصح للمسلمين عموماً، وفي بعضها النصح لولاة الأمور، وفي بعضها نصح ولاة الأمور لرعايهم، وفي بعضها النصح لله وحده جلَّ عزه، كما في حديث الكتاب، وفي الصحيحين عن
ـــــــ
1 رواه أحمد في المسند "4/ 102"، ومسلم رقم "55" في الإيمان، وأبو داود رقم "4944" والنسائي "7/ 156و157"من حديث تميم الداري رضي الله عنه.
2 تقدم تخريجه.
(1/171)
جرير بن عبد الله قال: بايعت النبي صلى الله عليه وسلم على إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، والنصح لكل مسلم1. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله يرضى لكم ثلاثاً: يرضى لكم أن تعبدوه، ولا تشركوا به شيئاً، وأن تعتصموا بحبل الله جميعاً، ولا تفرقوا، وأن تناصحوا من ولاَّه الله أمركم" 2 وقد تقدم ذكر الآيات الدالة على نصيحة الأنبياء لأممهم.
والنصح لله هو: أن يقوم العبد بأداء واجباته على أكمل وجوهها- وهو: أن يعبد الله كأنه يراه- فلا يكمل النصح لله بدون ذلك، ومن النصيحة صحة الاعتقاد في وحدانيته، وإخلاص النية في عبادته، ووصفه بصفات الكمال والجلال، واعتقاد ما جاء به القرآن والسنة الصحيحة من الصفات بدون تأويل، ولا تشبيه، وتنزيهه عما يضادها، ويخالفها، وتجنب معاصيه، والقيام بطاعته ومحابه بوصف الإخلاص، والحب فيه، والبغض فيه، وجهاد من كفر به تعالى، وكراهية أهل البدع والأهواء وما ضاهى ذلك، والحث عليه.
ولما ذكر النصح والنصيحة هنا، وبينا النصح لله جل وعز، فلا بأس من إيراد جملة تتعلق بنصيحة الرسول عليه الصلاة والسلام، ونصيحة خلقه إتماماً للفائدة فأقول:
النصيحة لرسول الله صلى الله عليه وسلم: الإيمان به، وبما جاء به، وتوقيره، وتبجيله، والتمسك بطاعته، وإحياء سننه، وانتشار علومه، ونشرها، ومعاداة من عاداه، وموالاة من والاه ووالاها، والتخلُّق بأخلاقه، والتأدب بآدابه، ومحبة آله وأصحابه، ونحو ذلك.
والنصيحة لأئمة المسلمين: معاونتهم على الحق، وطاعتهم فيه، وتذكيرهم به، وتنبيههم في رفق ولطف، ومجانبة الوثوب عليهم، والدعاء لهم بالتوفيق، وحث الأغيار على ذلك.
والنصيحة لعامة المسلمين: إرشادهم إلى مصالحهم، وتعليمهم أمور دينهم
ـــــــ
1 رواه أحمد في المسند "4/ 365"،والبخاري رقم"57"في الإيمان و"524" في مواقيت الصلاة ومسلم رقم "56"، والترمذي رقم "1925"من حديث جرير بن عبد الله رضي الله عنه.
2 رواه أحمد في المسند "2/ 327 و360"، ومسلم رقم "1715"،والبخاري في الأدب المفرد رقم" 442"، وابن حبان رقم"3388"من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(1/172)
ودنياهم، وسترُ عوراتهم، وسدُّ خلاتهم، ونصرتهم على أعدائهم، والذبُّ عنهم، ومجانبة الغش والحسد لهم، وأن يحب لهم ما يحب لنفسه، ويكره لهم ما يكره لنفسه. والله أعلم.
(1/173)
136- "مُرُوا بالمعروف، وانهوا عن المنكر من قبل أن تدعوني فلا أجيب لكم، وتسألوني فلا أعطيكم، وتستنصروني فلا أنصركم"1. رواه الديلمي عن عائشة.
ش- يُقال: أمره بكذا: طلب فعله منه. والاسم: الأمر، واحد الأوامر. والمعروف: هو اسمٌ جامع لكل ما عُرف من طاعة الله، والتقرب إليه، والإحسان إلى الناس، وكل ما ندب إليه الشرع. والنهي: ضد الأمر، ونهاه عن كذا، ينهاه، نهياً، وانتهى عنه، وتناهى؛ أي: كف، وتناهوا عن المنكر: نهى بعضهم بعضاً. والمنكر: كل فعل تحكم العقول الصحيحة بقبحه، أو تتوقف في استقباحه واستحسانه العقول، فتحكم بقبحه الشريعة، وهو ضد المعروف.
والمعنى -والله أعلم- أن: الله عزَّ، وجل أمرنا أن نأمر بالمعروف، وننهى عن المنكر؛ لئلا يأتي يوم، فتفشو فيه المعاصي، والمنكرات، ولا آمر، ولا ناهي، وتتسلط علينا الآفات، والبلايا، والمصائب بترك ذلك، فندعو الله جل ذكره فلا يجيب لنا دعاء، ونسأله كشف ذلك، فلا نعطى، ونستنصر بالله عز وجل من عدونا، وما حلَّ بنا، فلا ينصرنا، ولا يلتفت إلينا.
وقد جاء الحث بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والتنفير من ترك ذلك، وتهديد من تركه في آيات كثيرة من القرآن الحكيم، وأحاديث تبلغ حد التواتر، فمن الآيات قوله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران:104] وقال تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} [المائدة:78] وقال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ
ـــــــ
1 رواه أحمد في المسند "6/ 159". وابن حبان رقم "290":والديلمي رقم"5555 "وابن ماجه رقم"4004"مختصراً، والبزار رقم "3305"، وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد"7/ 266"وقال: رواه أحمد والبزار. وفيه عاصم بن عمر أحد المجاهيل. من حديث عائشة رضي الله عنها نقول إسناده ضعيف وهو حديث حسن بشواهده.
(1/173)
وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [التوبة:71] وقال تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه:132] وقال تعالى:
{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110] وقال تعالى حكاية عن لقمان: { يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْبِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [لقمان:17] وقال تعالى في وصف المؤمنين: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ} [الأعراف: 157]وقال تعالى في وصفهم أيضاً: {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [التوبة:112].
ومِن الأحاديث النبوية ما رواه مسلم، والترمذي، وابن ماجه، والنسائي عن أبي سعيد الخدري، ولفظه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من رأى منكم منكراً فغيَّره بيده؛ فقد برئ، ومن لم يستطع أن يغيره بيده، فغيره بلسانه؛ فقد برئ، ومن لم يستطع أن يغيره بلسانه، فغيره بقلبه؛ فقد برئ، وذلك أضعف الأيمان" 1. وروى مسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما من نبي بعثه الله في أمته قبلي إلا كان له من أمته حواريُّون وأصحاب يأخذون بسنته، ويقتدون بأمره، ثم إنها يخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده؛ فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه؛ فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه؛ فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل" 2. والحواري هو الناصر للرجل، والمختص به، والمعين، والمصافي. وروى الترمذي -وقال حديث حسن غريب- عن حذيفة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "والذي نفسي بيده لتأمُرنَّ بالمعروف، ولتنهوُنَّ عن المنكر، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقاباً منه، ثم تدعوه فلا يستجيب لكم" 3.
ـــــــ
1 رواه أحمد في المسند"3/ 10"، ومسلم رقم "49و79"في الإيمان، وأبو داود رقم" 1140و4340"في الملاحم، وابن ماجه رقم"1275"، وابن حبان رقم "306و307 "من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
2 رواه مسلم رقم "50"في الإيمان. باب كون النهي عن المنكر من الإيمان.
3 رواه الترمذي رقم"2170"في الفتن. وفي سنده عبد الله بن عبد الرحمن الأنصاري الأشهلي الراوي عن حذيفة لم يوثقه غير ابن حبان. وللحديث شواهد، يتقوى بها، فهو بها حسن.
(1/174)
وعن جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما من رجل يكون في قومٍ يعمل فيهم بالمعاصي، يقدرون على أن يغيروا عليه، ولا يغيرون إلا أصابهم الله منهم بعقابٍ قبل أن يموتوا" 1 رواه أبو داود عن أبي إسحاق قال: أظنه عن ابن جرير عن جرير، ولم يسمِّ ابنه. ورواه ابن ماجه، وابن حبان في صحيحه والأصبهاني، وغيرهم عن أبي إسحاق عن عبد الله بن جرير عن أبيه، وروى أبو الشيخ في كتاب الثواب، والبيهقي في الزهد الكبير، وغيره عن دُّرة بنت أبي لهب رضي الله عنها، قالت: قلت: يا رسول الله ! من خير الناس؟ قال: "أتقاهم للرب عز وجل، وأوصلهم للرحم، وآمرهم بالمعروف، وأنهاهم عن المنكر" 2. وروى الأصبهاني عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أيها الناس! مروا بالمعروف، وانهوا عن المنكر قبل أن تدعوا الله فلا يستجيب لكم، وقبل أن تستغفروه فلا يغفر لكم. إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يدفعُ رزقاً، ولا يُقَرِّب أجلاً، وإن الأحبار من اليهود، والرهبان من النصارى لمَّا تركوا الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر لعنهم الله على لسان أنبيائهم، ثم عموا بالبلاء"3 وروى الإمام أحمد، والترمذيُّ - واللفظ له، وابن حبان في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ليس منا من لم يرحم صغيرنا، ويوقر كبيرنا، ويأمر بالمعروف وينه عن المنكر"4.
والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر من أعظم وظائف الشرع المحمدي، وهو وظيفة الأنبياء والرسل، ومن بعدهم العلماء قادة الأمة، ومعلموها، أهل الفراسة، والذكاء، وفيهما تتفاضل الأمم، قال الله تعالى: { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ
ـــــــ
1 رواه أبو داود رقم "4339"في الملاحم. وابن ماجه رقم "4009"في الفتن. من حديث جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه. وهو حديث حسن.
2 رواه أحمد في المسند"6/ 432"، والطبراني في الكبير "24/ 257و258"من حديث درة بنت أبي لهب رضي الله عنها. وإسناده حسن.
3 رواه الأصبهاني في الترغيب والترهيب رقم "299"من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، وإسناده ضعيف.
4 رواه أحمد في المسند "1/ 257". وابن حبان رقم "458". والبزار رقم"1956". من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وإسناده ضعيف.
(1/175)
بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110] فوصف أمة محمد صلى الله عليه وسلم بأنها خيرأمة أُخرجت للناس، وعلل ذلك بأنها تأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر، وتؤمن بالله جل وعز، فإنها خيرأمة لأجل ذلك، ولا شك أن الأمم الغابرة كانوا يتساهلون في الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ويسكتون على من فعل ذلك، ولذلك شنَّع عليهم الباري تعالى في القرآن الحكيم في غيرآية، وقد تقدم ذكر بعضها أول الشرح، ولا شك أن هذين الوصفين من أهم الأمور التي تحفظ الأمة من التدهور، والسقوط، وتنتشر فيها المعاصين ويكثر الفساد، والفساق، وتذهب ثروة البلاد، وتنحط الأخلاق، وانظر إلى حال الأمة الإسلامية في بدء ظهورها، وبعد أن تكونت، وانتظمت، وأصبحت أمة، ودولة يخاف قوتها وبطشها جميع الأمم المعاصرة لها، كالروم، والفرس اللتين كانتا أعظم الأمم في عصرهما، فاجتثت الدولة الإسلامية أصولهما، وقهرتهما، وذلتهما في أقرب وقت، وأقل زمن، وذلك بسبب التآلف، والتحابب بين المسلمين، واتِّحاد كلمتهم وصفوفهم، وانتشار الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر في الجميع، لا فرق بين عالم، وجاهل، بين كبير، وصغير، وبين عظيم، وحقير، لذلك نجحت الأمة الإسلامية، وتقهقرت الأمم الأخرى؛ لسلب المزايا منها التي وجدت في الشريعة الإسلامية، ولم تزل، كذلك حتى قل الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وهاب العلماء نصيحة ملوكهم، وإرشاد أمرائهم، ففشت المعاصي، وعمَّ الفساد، وتسلط العدو، ووقع الغلاء، والقحط، وكثرت المصائب، والبلايا، وندعو الله فلا يستجيب لنا، ونستنصره على عدونا، فلا ينصرنا، ونسأله فلا نعطى، وأكره العلماء على عدم النصيحة لملوكهم وأمرائهم استبداد رؤساء بني أمية، ومن سارعلى طريقهم ممن بعدهم، وقد كان أول أمير منهم أظهر هذه الفتنة والبدعة الشنعاء جهرةً عبد الملك بن مروان؛ إذ قال على المنبر: من قال لي اتقِ الله ضربت عنقه. وقال صديقنا الأستاذ المرحوم الشيخ رشيد رضا1: فقد كانت شجرة
ـــــــ
1 رشيد رضا - هو محمد بن رشيد بن علي رضا بن محمد شمس الدين بن محمد بهاء الدين بن منلا. البغدادي الأصل، الحسيني النسب، صاحب مجلة المنار وأحد رجال الإصلاح الإسلامي. وُلِد ونشأ في القلمون من أعمال طرابلس الشام أنشأ مدرسة "الدعوة والإرشاد" رحل إلى الهند. والحجازوأوروبا. وعاد. توفي فجأة في سيارة، بينما كان راجعاً بها من السويس إلى القاهرة، ودُفن بالقاهرة سنة "1354 "هـ.
(1/176)
بنى مروان الخبيثة هي التي سنَّت في هذه الأمة سنة الاستبداد، فما زال يَعظْمُ، ويتفاقم حتى سلب الأمة أفضل مزاياها في دينها ودنياها بعد الإيمان. انتهى.
وقد أصبحنا في زمن القابض على دينه كالقابض على الجمر، فانظر إلى حصول الفساد في جميع الأقطار الإسلامية، من فشو الربا، والزنى، والقمار بأنواعه بترخيص من الحكومات المحلية، وإباحة ذلك رسمياً والكذب، واللواط، والسرقات وقطع الأشجار، وحرق الزروع، وإفساد ما بين المرأة وزوجها، وما بين الوالد وولده، وما بين الأخ وأخيه، وما بين الصاحب وصاحبه، والغيبة، والنميمة، وتبرج النساء، وخلع عذار الحياء. ووجودهن في حمامات البحر مختلطين بالرجال الأجانب الفجرة الفسقة، والاجتماع بدورالملاهي، والسينما، والنوادي، وغير ذلك مما يوجب غضب الله تعالى وسخطه، فنسأل الله السلامة، وتغيير الحال إلى أصلح، وإرجاع العباد إلى مجد سلفهم، وما كانوا عليه من الحمية، والشهامة، والتقوى، والمهابة، وغير ذلك من صفات المؤمنين الذين قال الله تعالى في حقهم ما قال في غير آية. ولا تكون الأمة خير الأمم إلا إذا كانت متصفة بهذه الأصول الثلاثة: الإيمان بالله تعالى قلباً وقالباً، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر. وإذا فقدت هذه الأصول، أو بعضها؛ لا تكون كذلك. ولا تحفظ، ولا تدوم إلا بإقامة هذه الأصول الثلاثة، ولذلك اشترط على هذه الأمة أن يكون من غرضها في الدفاع عن نفسها، وحفظ وجودها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كأنها لولا ذلك لا تكون مستحقةً للبقاء في الأرض، وأكد الأمر بهذه الفريضة في آيات سورة آل عمران بما لا يعرف له نظير في كتاب من الكتب السابقة، ولم تقم به أمة من الأمم على هذا الوجه.
إن الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر يحتاجان إلى تحمل مكاره، وصبر على أذى في سبيلهما، فمن قام بذلك فلا يسخط، ولا يمل، ولا يغضب، بل يواصل ذلك بصدر رحب، وأخلاق حميدة، ولسان طلق، وقلب مفعم بالإيمان، والصدق، والإخلاص، ويلين للناس جانبه؛ حتى يتمكن من إزالة المنكر بطرق مفيدة، وسبل سهلة، ويكون أسلوبه ذا فنون وأنواع؛ ليقنع صاحب المنكر، ويستولي على قلبه ولُبِّه، ويستعمل له الأدلة الوافية كل بحسبه، وينزل الناس منازلهم.
قال الحافظ ابن رجب: اعلم: أن الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر تارةً يحمل عليه رجاء ثواب الله، وتارة خوف العقاب في تركه، وتارة الغضب لله على انتهاك محارمه، وتارة النصيحة للمؤمنين، والرحمة لهم، ورجاء إنقاذهم مما أوقعوا أنفسهم فيه من التعرض لعقوبة الله وغضبه في الدنيا والآخرة، وتارة يحمل عليه إجلال الله،
(1/177)
وإعظامُه، ومحبتُه، وأنه أهل أن يُطاع، ويذكر، فلا يُنسى، ويشكر، فلا يكفر، وأنه يفتدى من انتهاك محارمه بالنفوس والأموال، كما قال بعض السلف: وددت أن الخلق كلهم أطاعوا الله، وأن لحمي قُرِض بالمقاريض.
وكان عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز1 يقول لأبيه: وددت أنِّي غَلَت بي وبك القدور في الله تعالى. ومن لحظ هذا المقام والذي قبله هان عليه كل ما يلقى من الأذى في الله تعالى، وربما دعا لمن آذاه، كما قال ذلك النبي صلى الله عليه وسلم لما ضربه قومه، فجعل يمسح الدم عن وجهه، ويقول: "رب اغفر لقومي، فإنهم لا يعلمون" وبكل حال فتبين الرفق في الإنكار. قال سفيان الثوري: لا يأمربالمعروف، ولا ينهى عن المنكرإلا من كان فيه ثلاث خصال: رفيق بما يأمر، ورفيق بما ينهى، عدل بما يأمر، عدل بما ينهى، عالم بما يأمر، عالم بما ينهى. وقال أحمد: الناس محتاجون إلى مداراةٍ ورفق، الأمر بالمعروف بلاغلظة إلا رجل معلن بالفسق، فلا حرمة له. قال: وكان أصحاب ابن مسعود إذا مروا بقوم يرون منهم ما يكرهون يقولون: مهلاً رحمكم الله! مهلا رحمكم الله! وقال أحمد: يأمر بالرفق، والخضوع، فإن أسمعوه ما يكره لا يغضب، فيكون يريد أن ينتصر لنفسه. وقد ذكر الحافظ المنذري في كتابه "الترغيب والترهيب" حديث الكتاب عن عائشة رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يا أيها الناس! إن الله يقول لكم: مروا بالمعروف، وانهوا عن المنكر قبل أن تدعوا فلا أجيب لكم، وتسألوني فلا أعطيكم، وتستنصروني فلا أنصركم"2 رواه ابن ماجه، وابن حبان في صحيحه.
ـــــــ
1 عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز. أمير أموي عاش ملازماً أباه، مات قبيل وفاته، وكان من أحب الناس إليه قال ابن عبد الحكم: أعان الله عمر بن عبد العزيز بثلاثة أحدهم ابنه عبد الملك، توفي رحمه الله سنة "101"هـ.
2 رواه ابن حبان رقم "290"، وابن ماجه رقم "4004"في الفتن من حديث عائشة رضي الله عنها. وإسناده ضعيف. وهو حديث حسن بشواهده.
(1/178)
137- "من آذى لي ولياً؛ فقد استحل محاربتي، وما تقرَّب إلى عبدي بمثل أداء الفرائض، وما يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبِّه، فإذا أحببته؛ كنت عينه التي يبصر بها، وأذنه التي يسمع بها، ورجله التي يمشي بها، وفؤاده الذي يعقل به، ولسانه الذي يتكلم به، إن سألني أعطيته، وإنْ
(1/178)
دعاني أجبتُه، وما تردَّدت عن شيء أنا فاعله ترددي عن وفاته؛ لأنه يكره الموت، وأكره مساءته"1. رواه أحمد، والحكيم، وأبو يعلى، والطبراني، وأبو نعيم، وابن عساكر عن عائشة.
ش- الأذى: ما يصل إلى الحيوان من الضرر؛ إما بنفسه، أو جسمه، أو تبعاته، دنيوياً كان، أوأخروياً يُقال: آذيته أؤذيه، إيذاءً وأذيةً وأذى، وأذى الرجل أذى: وصل إليه المكروه، والولي: تقدم الكلام عليه في شرح الحديث رقم"99". واستحلَّ الشيء: عدَّه حلالاً، وباقي ألفاظ الحديث تقدم الكلام عليه غير مرة، فلاحاجة للإعادة.
والمعنى: أن الله جل، وعز يخبرنا: أن من آذى وليًا من أولياء الله بأي نوع من أنواع الأذى؛ فقد استحل محاربة الله، وتعرض لها، وعدها حلالاً، والمراد بالولي هنا كما قال النووي رحمه الله تعالى: المؤمن. قال الله تعالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة:257] وقال الحافظ ابن حجر في الفتح: المراد بولي الله: العالم بالله، المواظب على طاعته، المخلص في عبادته. وهو أوجه بدليل ما ذكر من ألفاظ الحديث بعده، ووصف الله أولياءه في كتابه الحكيم، قال: { أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ، الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ ، لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [يونس:62-64] فكيف يليق بعاقل أن يتعرض لمحاربة الله جل ذكره؟! واقتراف المعاصي؛محاربةً لله تعالى. قال الحسن: ابن آدم! هل لك بمحاربة الله من طاقة؛ فإن من عصى الله؛ فقد حاربه، وكلما كان الذنب أقبح؛ كانت المحاربة لله أشد، ولهذا سمى الله تعالى أكلة الربا، وقطاع الطريق محاربين لله تعالى ورسوله؛ لعظم ظلمهم لعباده، وسعيهم بالفساد في بلاده، وكذلك معاداة أوليائه، فإنه تعالى يتولى نصرة أوليائه، ويحبهم، ويؤيدهم، فمن عاداهم؛ فقد عادى الله تعالى، وحاربه، وتعرض لهلاك نفسه. وخرج الترمذي وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الله الله في أصحابي! لا تتخذونهم غرضاً، فمن آذاهم؛ فقد آذاني؛ ومن آذاني فقد آذى الله، ومن آذى الله؛ يوشك أن يأخذه"2.
ـــــــ
1 رواه أحمد في المسند"6/ 256"،وابن أبي الدنيا في الأولياء "45"، وأبو نعيم في الحلية "1/ 5"من حديث عائشة رضي الله عنها، وإسناده ضعيف.
2 رواه الترمذي رقم "3862"في المناقب، والبغوي في شرح السنة رقم "3860"، وابن أبي عاصم في السنة رقم" 992"، وابن حبان رقم"7256"من حديث عبد الله بن معقل رضي الله عنه. وإسناده ضعيف.
(1/179)
ولما ذكر الله تعالى من آذى أولياءه فقد استحلَّ محاربته؛ وصف أولياءه الذي يحرم إيذاؤهم، وتجب موالاتهم، والتحبب إليهم، فذكر ما يُقرِّب إليه تعالى... إلخ. ثم ذكر حال العبد والموت النازل به، وكراهته لذلك، فقال: "وما ترددت عن شيء أنا فاعله...إلخ" قال الحافظ ابن حجر في الفتح نقلاً عن أئمة الحديث في إشكال هذا الحديث. قال الخطابي: التردد في حق الله غير جائز، والبداء عليه في الأمور غير سائغ، ولكن له تأويلان؛ أحدهما: أن العبد قد يشرف على الهلاك في أيام عمره من داء يصيبه، وفاقة تنزل به، فيدعو الله، فيشفيه منها، ويدفع عنه مكروهها، فيكون ذلك من فعله كتردد من يريد أمراً، ثم يبدو له فيه، فيتركه، ويعرض عنه ولابد له من لقائه إذا بلغ الكتاب أجله؛ لأن الله قد كتب الفناء على خلقه، واستأثر بالبقاء لنفسه. والثاني: أن يكون معناه ما رددت رسلي في شيء أنا فاعله كترددي إياهم في نفس المؤمن، كما روى في قصة موسى، وما كان من لطمه عين ملك الموت، وتردده إليه مرة بعد أخرى. قال: وحقيقة المعنى على الوجهين: عطف الله على العبد. ولطفه به، وشفقته عليه، وقال الكلاباذي -ماحاصله-: أنه عبَّر عن صفة الفعل بصفة الذات؛ أي: عن الترديد بالتردد، وجعل متعلق الترديد اختلاف أحوال العبد من ضعف، ونصب إلى أن تنتقل محبته في الحياة إلى محبته للموت، فيقبض على ذلك. قال: وقد يحدث الله في قلب عبده من الرغبة فيما عنده، والشوق إليه، والمحبة للقائه ما يشتاق معه إلى الموت فضلاً عن إزالة الكراهة عنه، فأخبر: أنه يكره الموت ويسوءه، ويكره الله مساءته، فيزيل عنه كراهية الموت لما يورده عليه من الأحوال، فيأتيه الموت وهو له مؤثر، وإليه مشتاق. قال: وقد ورد تفعيل بمعنى فعل، مثل تفكر وفكر، وتدبر ودبر، وتهدد وهدد والله أعلم.
وعن بعضهم: يحتمل أن يكون تركيب الولي يحتمل أن يعيش خمسين سنة، وعمره الذي كتب له سبعون، فإذا بلغها فمرض دعا الله بالعافية، فيجيبه عشرين أخرى مثلاً، فعبرعن قدر التركيب، وعما انتهى إليه بحسب الأجل المكتوب بالتردد، وعبر ابن الجوزي عن الثاني بأن التردد للملائكة الذين يقبضون الروح، وأضاف الحق ذلك لنفسه، لأن ترددهم عن أمره قال: وهذا التردد ينشأ عن إظهار الكراهة. فإن قيل إذا أمر الملك بالقبض؛ كيف يقع منه التردد؟ فالجواب: أنه يتردد فيما لم يجد له فيه
(1/180)
الوقت، كأن يُقال: لا تقبض روحه إذا رضي. ثم ذكر جواباً ثالثاً، وهو: احتمال أن يكون معنى التردد: اللطف به، كأن الملك يؤخر القبض، فإنه إذا نظر إلى قدر المؤمن، وعظم المنفعة به لأهل الدنيا؛ احترمه، فلم يبسط يده إليه، فإذا ذكر أمر ربه؛ لم يجد بداً من امتثاله، وجواباً رابعاً، وهو: أن يكون هذا خطاباً لنا بما نعقل، والرب منزه عن حقيقته، بل هو من جنس قوله: "ومن أتاني يمشي أتيته هرولة" فكما أن أحدنا يريد أن يضرب ولده تأديباً، فتمنعه المحبة، وتبعثه الشفقة، فيتردد بينهما، ولو كان غيرالوالد كالمعلم لم يتردد، بل كان يبادرإلى ضربه لتأديبه، فأريد تفهيمنا تحقيق المحبة للولي بذكرالتردد، وجوزالكرماني احتمالاً آخر، وهو: أن المراد: أنه يقبض روح المؤمن بالتأني والتدريج، بخلاف سائر الأمور، فإنها تحصل بمجرد قوله: "كن" سريعاً دفعة، وقال في قوله تعالى: "فإنه يكره الموت وأنا أكره مساءته" أسند البيهقي في الزهد عن الجنيد سيد الطائفة، قال: الكراهة هنا لما يلقى المؤمن من الموت وصعوبته وكربه، وليس المعنى: أني أكره له الموت؛ لأن الموت يورده إلى رحمة الله ومغفرته. انتهى. وعبَّر بعضهم عن هذا بأن الموت حتمٌ مقضيٌ، وهو مفارقة الروح للجسد، ولا تحصل غالباً إلا بألم عظيم جداً، كما جاء عن عمرو بن العاص: أن ابنه سأله -وهو يموت- عن حقيقة الموت، فقال: والله لكأن جنبي في تخت،ولكأني أتنفس من خرم إبرة،وكأن غصن الشوك يجر به من قامتي إلى هامتي، وعن كعب أن عمر سأله عن الموت، فوصفه له بنحو هذا، فلما كان الموت بهذا الوصف، والله يكره أذى المؤمن، على ذلك الكراهة. ويحتمل أن تكون المساءة بالنسبة إلى طول الحياة؛ لأنها تؤدي إلى أرذل العمر، وتنكس الخلق، والرد إلى أسفل سافلين.
وجوَّز الكرماني1 أن يكون المراد: أكره كرهه الموت، فلا أسرع بقبض روحه، فأكون كالمتردد، قال الشيخ أبو الفضل بن عطاء في هذا الحديث عظم قدرالولي لكونه خرج عن تدبيره إلى تدبير ربه، وعن انتصاره لنفسه إلى انتصارالله له، وعن حوله وقوته بصدق توكله. انتهى. قال الحافظ ابن رجب: وأما الأنبياء فلا يُقبضون حتى يخبروا. قال الحسن: لما كرهت الأنبياء الموت؛ هوَّن الله عليهم بلقائه لما أحبوه من تحفة وكرامة، حتى إن نفس أحدهم تنزع من بين جنبيه، وهو يحب ذلك لما قد مثل له، وقالت عائشة: ما أغبط أحداً يهون الله عليه الموت بعد الذي رأيت من شدة موت
ـــــــ
1 تقدم التعريف به.
(1/181)
رسول الله صلى الله عليه وسلم1 قالت: وكان عنده قدح من ماء فيدخل يده في القدح، ثم يمسح وجهه بالماء، ويقول: "اللهم أعنِّي على سكرات الموت" قالت: وجعل يقول: "لا إله إلا الله، إن للموت سكرات"2! وجاء في حديث مرسل: أنه صلى الله عليه وسلك كان يقول: "اللهم إنك تأخذ الروح من بين العصب، والقصب، والأنامل؛اللهم فأعني على الموت وهونه علي!". وقد كان بعض السلف يستحب أن يجهد عند الموت، كما قال عمر بن عبد العزيز: ما أحب أن تهون علي سكرات الموت، إنه لآخر ما يكفر به عن المؤمن. وقال النخعي3: كانوا يستحبون أن يجهدوا عند الموت، وكان بعضهم يخشى من تشديد الموت أن يُفتن، وإذا أراد الله أن يهوِّن على العبد الموت هونه عليه. في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن المؤمن إذا حضره الموت بُشِّر برضوان من الله، وكرامة، فليس شيء أحب إليه مما أمامه، وأحب لقاء الله، فأحب الله لقاءه"4، قال ابن مسعود: إذا جاء ملك الموت لقبض روح المؤمن قال له: إن ربك يقرئك السلام. وقال محمد بن كعب5. يقول له ملك الموت: السلام عليك يا ولي الله! الله يقرئك السلم، ثم قال:
ـــــــ
1 رواه الترمذي رقم "989"في الجنائزوالنسائي رقم "980"في الجنائز من حديث عائشة رضي الله عنها. وإسناده حسن.
2 رواه الترمذي رقم"978"، وابن ماجه رقم "1623"في الجنائز من حديث عائشة رضي الله عنها. وإسناده ضعيف.
3 النخعي: هو المحدث العالم، أبوعلي الحسن بن علي محمد بن مصعب النخعي البغدادي. سمع سويد بن سعيد وطائفة. وعنه الطستي. وأبو بكر بن خلاد، والطبراني، وخلق.
4 رواه أحمد في المسند "5/ 321"، والدرامي رقم 2"/ 708"، والبخاري "502"في الرقاق، ومسلم رقم" 2683"والترمذي رقم"1066"في الجنائز. من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه.
5 محمد بن كعب القرظي: الإمام العلامة الصادق أبو حمزة، وقيل: أبو عبد الله القرظي المدني. من حلفاء الأوس وكان أبوه كعب من سبي بني قريظة سكن الكوفة ثم المدينة، حدث عن أبي هريرة، ومعاوية، وابن عباس وطائفة. وهو يرسل كثيراً، وكان من أوعية العلم. توفي رحمه الله سنة "108"هـ. قال العجلي: ثقة، مكي، تابعي، رجل صالح، عالم بالقرآن.
(1/182)
{الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ} وقال زيد بن أسلم1: تأتي الملائكة للمؤمن إذا احتضر، وتقول له: لاتخف مما أنت قادم عليه، فيذهب الله خوفه ولا تحزن على الدنيا، وأهلها، وأبشر بالجنة! فيموت، وقد جاءته البشرى، وخرج البزار من حديث عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله أضن بموت عبده المؤمن من أحدكم بكريمة ماله حتى يقبضه على فراشه"2 وقال زيد بن أسلم: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن لله عباداً هم أهل المعافاة في الدنيا والآخرة" وقال ثابت البناني3: إن لله عباداً يضن بهم في الدنياعلى القتل والأوجاع، يطيل الله أعمارهم، ويحسن أرزاقهم، ويميتهم على فرشهم، وبطبعهم بطبائع الشهداء. وخرَّجه ابن أبي الدنيا، والطبراني مرفوعاً من وجوه ضعيفة.
وفي بعض ألفاظها، أن ضنائن من خلقه، يأبى بهم عن البلاء، يحييهم في عافية، ويميتهم في عافية، ويدخلهم في الجنة في عافية.
قال ابن مسعود وغيره: إن موت الفجأة تخفيف عن المؤمن.
وقال أبو ثعلبة الخشني: إني لأرجو ألا يخنقني كما أراكم تُخْنقون عند الموت. وكان ليلةً في داره فسمعوه ينادي يا عبد الرحمن! وكان عبد الرحمن قد قُتِل مع
ـــــــ
1 زيد بن أسلم: الإمام الحجة، القدوة: أبو عبد الله العدوي، العمري، المدني، الفقيه. حدث عن والده أسلم مولى عمر، وعن عبد الله بن عمر، وجابر بن عبد الله، حدث عنه مالك بن أنس، وسفيان الثوري، والأوزاعي وكان له حلقة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم. توفي رحمه الله سنة "136"هـ.
2 رواه البزار رقم "42"، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد"1/ 83"وقال: رواه البزار، وفيه عبد الرحمن بن زياد الإفريقي. ضعفه أحمد، وأكثر الناس، ورجحه بعضهم على ابن لهيعة. من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما. وإسناده ضعيف.
3 ثابت البناني: هو ثابت بن أسلم البناني: الإمام القدوة شيخ الإسلام أبو محمد البناني. وبنان هم بنو سعد بن لؤي بن غالب، ولد في خلافة معاوية، وحدث عن عبد الله بن معقل المدني، وعن عبد الله الزبير، وكان من أئمة العلم. حدَّث عنه عطاء بن أبي رباح، وقتادة، ومعمر. توفي رحمه الله سنة "186"هـ.
(1/183)
رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أتى مسجد بيته، فصلى، فقُبض وهو ساجد. وقبض جماعة من السلف في الصلاة وهم سجود.
وكان بعضهم يوماً قاعداً مع أصحابه فقال: لبيك، ثم خرَّ ميتاً.
وكان بعضهم جالساً مع أصحابه، فسمعوا صوتاً يقول، يا فلان أجب، والله آخر ساعتك من الدنيا! فوثب، فقال: هذا والله منادي الموت، فودَّع أصحابه، وسلم عليهم، ثم انطلق نحو الصوت، وهويقول: سلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين، ثم انقطع عنهم الصوت، فتتبعوا أثره، فوجدوه ميتاً.
وكان آخر جالسًا يكتب الحديث، فوضع القلم من يده، ورفع يديه يدعو الله، فمات. رحمه الله تعالى. انتهى. والله أعلم.
(1/184)
138- " من أهان لي ولياً فقد بارزته بالمحاربة، وما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي في قبض نفس عبدي المؤمن، يكره الموت، وأكره مساءته، ولابد له منه" 1. رواه البخاري عن أبي هريرة.
ش- هذا الحديث مختصر، ورواه البخاري أيضاًعن أبي هريرة مطولاً بألفاظ قريبة من ألفاظ الحديث السابق، وأعاد المصنف ذكره هنا؛ لأن لفظه السابق: "من آذى" وهذا: "من أهان لي" ينبه على أن الإيذاء سواء كان مشتملاً على إهانة أم لا يعد محاربةً لله تعالى، وثانياً: أن الرواة له مختلفة. والله أعلم.
ـــــــ
1 رواه البخاري رقم"6502"من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وهو بلفظ "من عادى لي ولياً فقد بادرني بالمحاربة".
(1/184)
139- "من ترك الخمر وهو يقدر عليه، لأسقينه منه في حظيرة القدس، ومن ترك الحرير وهو يقدر عليه؛ لأكسونه إياه في حظيرة القدس" 2. رواه البزار عن أنس.
ـــــــ
1 رواه البزار رقم"2939"، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد" 5/ 76"وقال: رواه البزار، وفيه شعيب بن بيان، قال الذهبي صدوق. وضعفه الجوزجاني، والعقيلي. نقول: والحديث حسن.
(1/184)
140- "من عادى لي وليًا، فقد آذنته بالحرب، وما تقرَّب إلي عبدي بشيء أحب مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته؛ كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطيَّنه، وإن استعاذ بي لأعيذَّنه، وما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفسِ المؤمن، يكره الموت، وأنا أكره مساءته" 1. رواه البخاري عن أبي هريرة.
الحديث تكرر ذكره غير مرة إما لزيادة بعض ألفاظٍ، أو اختلاف في اللفظ، أو في السند، وهنا فيه: "إن استعاذ بي لأعيذنَّه" بدل قوله: "وإن دعاني أجبته" يقال: عذت به، أعوذ، عوذًا، وعياذًا، ومعاذًا: أي لجأت إليه. والمعاذ: المصدر، والمكان، والزمان، والعوذ: الالتجاء إلى الغير، والتعلق به. والله أعلم.
ـــــــ
1 رواه البخاري رقم "6503"، وأبو نعيم في الحلية"1/ 4"والبيهقي في الزهد"690 "والسنن "3/ 346 و10/ 219"،والبغوي في شرح السنة"1248"من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وهو صحيح بطرقه وشواهده.
(1/192)
141- "من عادى لي ولياً فقد ناصبني بالمحاربة، وما ترددت عن شيء أنا فاعله كتردُّدي عن موت المؤمن يكره الموت، وأنا أكره مساءته، وربما سألني وليي المؤمن الغنى فأصرفه من الغنى إلى الفقر، ولو صرفته إلى الغنى
(1/192)
من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب
...
No pages
(1/)